بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

الكاساني

خطبة الكتاب للمصنف

[خُطْبَةُ الْكِتَابِ لِلْمُصَنِّفِ] (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) خُطْبَةُ الْكِتَابِ لِلْمُصَنِّفِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْقَادِرِ الْقَوِيِّ الْقَاهِرِ الرَّحِيمِ الْغَافِرِ الْكَرِيمِ السَّاتِرِ ذِي السُّلْطَانِ الظَّاهِرِ، وَالْبُرْهَانِ الْبَاهِرِ، خَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَالِكِ كُلِّ مَيِّتٍ، وَحَيٍّ، خَلَقَ فَأَحْسَنَ، وَصَنَعَ فَأَتْقَنَ، وَقَدَرَ فَغَفَرَ، وَأَبْصَرَ فَسَتَرَ، وَكَرَمَ فَعَفَا، وَحَكَمَ فَأَخْفَى، عَمَّ فَضْلُهُ، وَإِحْسَانُهُ، وَتَمَّ حُجَّتُهُ، وَبُرْهَانُهُ، وَظَهَرَ أَمْرُهُ، وَسُلْطَانُهُ فَسُبْحَانَهُ مَا أَعْظَمَ شَأْنَهُ، وَالصَّلَاةُ، وَالسَّلَامُ عَلَى الْمَبْعُوثِ بَشِيرًا، وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا فَأَوْضَحَ الدَّلَالَةَ، وَأَزَاحَ الْجَهَالَةَ، وَفَلَّ السَّفَهَ، وَثَلَّ الشُّبَهَ: مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ، وَعَلَى آلِهِ الْأَبْرَارِ، وَأَصْحَابِهِ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ. (وَبَعْدُ) فَإِنَّهُ لَا عِلْمَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ، وَصِفَاتِهِ أَشْرَفُ مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِعِلْمِ الْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ، وَعِلْمِ الشَّرَائِعِ، وَالْأَحْكَامِ، لَهُ بَعَثَ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِالْعَقْلِ الْمَحْضِ دُونَ مَعُونَةِ السَّمْعِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} [البقرة: 269] وَقِيلَ: فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ هُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي دِينٍ، وَلَفَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ مِنْ الشَّامِ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: مَا أَقْدَمَك قَالَ: قَدِمْت لِأَتَعَلَّمَ التَّشَهُّدَ فَبَكَى عُمَرُ حَتَّى ابْتَلَّتْ لِحْيَتُهُ ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو مِنْ اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَك أَبَدًا. وَالْأَخْبَارُ، وَالْآثَارُ فِي الْحَضِّ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْعِلْمِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَقَدْ كَثُرَ تَصَانِيفُ مَشَايِخِنَا فِي هَذَا الْفَنِّ قَدِيمًا، وَحَدِيثًا، وَكُلُّهُمْ أَفَادُوا، وَأَجَادُوا غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَصْرِفُوا الْعِنَايَةَ إلَى التَّرْتِيبِ فِي ذَلِكَ سِوَى أُسْتَاذِي وَارِثِ السُّنَّةِ، وَمُوَرِّثِهَا الشَّيْخِ الْإِمَامِ الزَّاهِدِ عَلَاءِ الدَّيْنِ رَئِيسِ أَهْلِ السُّنَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَاقْتَدَيْت بِهِ فَاهْتَدَيْت إذْ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ، وَالْمَقْصُودُ الْكُلِّيُّ مِنْ التَّصْنِيفِ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ هُوَ تَيْسِيرُ سَبِيلِ الْوُصُولِ إلَى الْمَطْلُوبِ عَلَى الطَّالِبِينَ، وَتَقْرِيبُهُ إلَى أَفْهَامِ الْمُقْتَبِسِينَ، وَلَا يَلْتَئِمُ هَذَا الْمُرَادُ إلَّا بِتَرْتِيبٍ تَقْتَضِيهِ الصِّنَاعَةُ، وَتُوجِبُهُ الْحِكْمَةُ، وَهُوَ التَّصَفُّحُ عَنْ أَقْسَامِ الْمَسَائِلِ، وَفُصُولِهَا، وَتَخْرِيجِهَا عَلَى قَوَاعِدِهَا، وَأُصُولِهَا لِيَكُونَ أَسْرَعَ فَهْمًا، وَأَسْهَلَ ضَبْطًا، وَأَيْسَرَ حِفْظًا فَتَكْثُرُ الْفَائِدَةُ، وَتَتَوَفَّرُ الْعَائِدَةُ فَصَرَفْت الْعِنَايَةَ إلَى ذَلِكَ، وَجَمَعْت فِي كِتَابِي

كتاب الطهارة

هَذَا جُمَلًا مِنْ الْفِقْهِ مُرَتَّبَةً بِالتَّرْتِيبِ الصِّنَاعِيِّ، وَالتَّأْلِيفِ الْحُكْمِيِّ الَّذِي تَرْتَضِيهِ أَرْبَابُ الصَّنْعَةِ، وَتَخْضَعُ لَهُ أَهْلَ الْحِكْمَةِ مَعَ إيرَادِ الدَّلَائِلِ الْجَلِيَّةِ، وَالنُّكَتِ الْقَوِيَّةِ بِعِبَارَاتٍ مُحْكَمَةِ الْمَبَانِي مُؤَيَّدَةِ الْمَعَانِي، وَسَمَّيْته (الْفِقْهَ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ) إذْ هِيَ صَنْعَةٌ بَدِيعَةٌ، وَتَرْتِيبٌ عَجِيبٌ، وَتَرْصِيفٌ غَرِيبٌ لِتَكُونَ التَّسْمِيَةُ مُوَافِقَةً لِلْمُسَمَّى، وَالصُّورَةُ مُطَابِقَةً لِلْمَعْنَى وَافَقَ شَنٌّ طَبَقَهُ وَافَقَهُ فَاعْتَنَقَهُ فَأَسْتَوْفِقُ اللَّهَ تَعَالَى لِإِتْمَامِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْمُرَادِ، وَالزَّادِ لِلْمُرْتَادِ، وَمُنْتَهَى الطَّلَبِ، وَعَيْنُهُ تُشْفِي الْجَرَبَ، وَالْمَأْمُولُ مِنْ فَضْلِهِ، وَكَرَمِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ وَارِثًا فِي الْغَابِرِينَ، وَلِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخَرِينَ، وَذِكْرًا فِي الدُّنْيَا، وَذُخْرًا فِي الْعُقْبَى، وَهُوَ خَيْرُ مَأْمُولٍ، وَأَكْرَمُ مَسْئُولٍ. [كِتَابُ الطَّهَارَةِ] [تَفْسِيرُ الطَّهَارَةِ] (كِتَابُ الطَّهَارَةِ) : الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ، فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا، فِي تَفْسِيرِ الطَّهَارَةِ، وَالثَّانِي، فِي بَيَانِ أَنْوَاعِهَا (أَمَّا) تَفْسِيرُهَا: فَالطَّهَارَةُ لُغَةً، وَشَرْعًا هِيَ النَّظَافَةُ، وَالتَّطْهِيرُ، وَالتَّنْظِيفُ، وَهُوَ إثْبَاتُ النَّظَافَةِ فِي الْمَحَلِّ، وَأَنَّهَا صِفَةٌ تَحْدُثُ سَاعَةً فَسَاعَةً، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ حُدُوثُهَا بِوُجُودِ ضِدِّهَا، وَهُوَ الْقَذَرُ، فَإِذَا زَالَ الْقَذَرُ، وَامْتَنَعَ حُدُوثُهُ بِإِزَالَةِ الْعَيْنِ الْقَذِرَةِ، تَحْدُثُ النَّظَافَةُ، فَكَانَ زَوَالُ الْقَذَرِ مِنْ بَابِ زَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ حُدُوثِ الطَّهَارَةِ، لَا أَنْ يَكُونَ طَهَارَةً، وَإِنَّمَا سُمِّيَ طَهَارَةً تَوَسُّعًا لِحُدُوثِ الطَّهَارَةِ عِنْدَ زَوَالِهِ. [فَصْلٌ بَيَانُ أَنْوَاعِ الطَّهَارَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِهَا: فَالطَّهَارَةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: طَهَارَةٌ عَنْ الْحَدَثِ، وَتُسَمَّى طَهَارَةً حُكْمِيَّةً، وَطَهَارَةٌ عَنْ الْخَبَثِ، وَتُسَمَّى طَهَارَةً حَقِيقِيَّةً أَمَّا الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَدَثِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الْوُضُوءُ، وَالْغُسْلُ، وَالتَّيَمُّمُ. [بَيَانُ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ] (أَمَّا) الْوُضُوءُ: فَالْكَلَامُ فِي الْوُضُوءِ فِي مَوَاضِعِ تَفْسِيرِهِ، وَفِي بَيَانِ أَرْكَانِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْأَرْكَانِ، وَفِي بَيَانِ سُنَنِهِ، وَفِي بَيَانِ آدَابِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْقُضُهُ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْوُضُوءُ اسْمٌ لِلْغَسْلِ وَالْمَسْحِ، لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] أَمَرَ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَمَسْحِ الرَّأْسِ. فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَعْنَى الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ فَالْغَسْلُ هُوَ إسَالَةُ الْمَائِعِ عَلَى الْمَحَلِّ، وَالْمَسْحُ هُوَ الْإِصَابَةُ، حَتَّى لَوْ غَسَلَ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ، وَلَمْ يُسِلْ الْمَاءَ، بِأَنْ اسْتَعْمَلَهُ مِثْلَ الدُّهْنِ، لَمْ يَجُزْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ وَعَلَى هَذَا قَالُوا: لَوْ تَوَضَّأَ بِالثَّلْجِ، وَلَمْ يَقْطُرْ مِنْهُ شَيْءٌ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ قَطَرَ قَطْرَتَانِ، أَوْ ثَلَاثٌ، جَازَ لِوُجُودِ الْإِسَالَةِ، وَسُئِلَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ عَنْ التَّوَضُّؤِ بِالثَّلْجِ، فَقَالَ: ذَلِكَ مَسْحٌ، وَلَيْسَ بِغَسْلٍ، فَإِنْ عَالَجَهُ حَتَّى يَسِيلَ يَجُوزُ وَعَنْ خَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ أَنَّهُ قَالَ: يَنْبَغِي لِلْمُتَوَضِّئِ فِي الشِّتَاءِ أَنْ يَبُلَّ أَعْضَاءَهُ شِبْهَ الدُّهْنِ، ثُمَّ يُسِيلَ الْمَاءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَتَجَافَى عَنْ الْأَعْضَاءِ فِي الشِّتَاءِ. مَطْلَبُ غَسْلِ الْوَجْهِ (وَأَمَّا) أَرْكَانُ الْوُضُوءِ فَأَرْبَعَةٌ: (أَحَدُهَا) : غَسْلُ الْوَجْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَدَّ الْوَجْهِ، وَذَكَرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ مِنْ قِصَاصِ الشَّعْرِ إلَى أَسْفَلِ الذَّقَنِ، وَإِلَى شَحْمَتَيْ الْأُذُنَيْنِ، وَهَذَا تَحْدِيدٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ تَحْدِيدُ الشَّيْءِ بِمَا يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ لُغَةً؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ اسْمٌ لِمَا يُوَاجِهُ الْإِنْسَانَ، أَوْ مَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ فِي الْعَادَةِ، وَالْمُوَاجَهَةُ تَقَعُ بِهَذَا الْمَحْدُودِ، فَوَجَبَ غَسْلُهُ قَبْلَ نَبَاتِ الشَّعْرِ، فَإِذَا نَبَتَ الشَّعْرُ يَسْقُطُ غَسْلُ مَا تَحْتَهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ: إنَّهُ لَا يَسْقُطُ غَسْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ الشَّعْرُ كَثِيفًا يَسْقُطُ، وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا لَا يَسْقُطُ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مَا تَحْتَ الشَّعْرِ بَقِيَ دَاخِلًا تَحْتَ الْحَدِّ بَعْدَ نَبَاتِ الشَّعْرِ، فَلَا يَسْقُطُ غَسْلُهُ وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ السُّقُوطَ لِمَكَانِ الْحَرَجِ،، وَالْحَرَجُ فِي الْكَثِيفِ لَا فِي الْخَفِيفِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْوَاجِبَ غَسْلُ الْوَجْهِ، وَلَمَّا نَبَتَ الشَّعْرُ خَرَجَ مَا تَحْتَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَجْهًا، لِأَنَّهُ لَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ، فَلَا يَجِبُ غُسْلُهُ، وَخَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَعَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا، لِأَنَّ السُّقُوطَ فِي الْكَثِيفِ لَيْسَ لِمَكَانِ الْحَرَجِ، بَلْ لِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَجْهًا لِاسْتِتَارِهِ بِالشَّعْرِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي الْخَفِيفِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ غَسْلُ مَا تَحْتَ الشَّارِبِ وَالْحَاجِبَيْنِ. وَأَمَّا الشَّعْرُ الَّذِي يُلَاقِي الْخَدَّيْنِ، وَظَاهِرَ الذَّقَنِ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزُفَرَ، أَنَّهُ إذَا مَسَحَ مِنْ لِحْيَتِهِ ثُلُثًا، أَوْ رُبُعًا جَازَ، وَإِنْ مَسَحَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ لَمْ

يَمْسَحْ شَيْئًا مِنْهَا جَازَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مَرْجُوعٌ عَنْهَا،، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ؛ لِأَنَّ الْبَشَرَةَ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ وَجْهًا، لِعَدَمِ مَعْنَى الْمُوَاجَهَةِ لِاسْتِتَارِهَا بِالشَّعْرِ، فَصَارَ ظَاهِرُ الشَّعْرِ الْمُلَاقِي لَهَا هُوَ الْوَجْهُ، لِأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ تَقَعُ إلَيْهِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: وَإِنَّمَا مَوَاضِعُ الْوُضُوءِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَالظَّاهِرُ هُوَ الشَّعْرُ لَا الْبَشَرَةُ، فَيَجِبُ غَسْلُهُ، وَلَا يَجِبُ غَسْلُ مَا اسْتَرْسَلَ مِنْ اللِّحْيَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ (لَهُ) أَنَّ الْمُسْتَرْسِلَ تَابِعٌ لِمَا اتَّصَلَ، وَالتَّبَعُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَصْلِ. وَ (لَنَا) أَنَّهُ إنَّمَا يُوَاجِهُ إلَى الْمُتَّصِلِ عَادَةً، لَا إلَى الْمُسْتَرْسِلِ، فَلَمْ يَكُنْ الْمُسْتَرْسِلُ وَجْهًا، فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ، وَيَجِبُ غَسْلُ الْبَيَاضِ الَّذِي بَيْنَ الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَا تَحْتَ الْعِذَارِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ مَعَ أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْوَجْهِ، فَلَأَنْ لَا يَجِبَ غَسْلُ الْبَيَاضِ أَوْلَى، وَلَهُمَا أَنَّ الْبَيَاضَ دَاخِلٌ فِي حَدِّ الْوَجْهِ، وَلَمْ يُسْتَرْ بِالشَّعْرِ فَبَقِيَ وَاجِبَ الْغَسْلِ كَمَا كَانَ، بِخِلَافِ الْعِذَارِ. وَإِدْخَالُ الْمَاءِ فِي دَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّ دَاخِلَ الْعَيْنِ لَيْسَ بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ حَرَجًا، وَقِيلَ: إنَّ مَنْ تَكَلَّفَ لِذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ كُفَّ بَصَرُهُ، كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. مَطْلَبُ غَسْلِ الْيَدَيْنِ (وَالثَّانِي) غَسْلُ الْيَدَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ. وَالْمِرْفَقَانِ يَدْخُلَانِ فِي الْغَسْلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَدْخُلَانِ، وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ مِنْ الْمِرْفَقِ، يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ مَوْضِعِ الْقَطْعِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمِرْفَقَ غَايَةً، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَا جُعِلَتْ لَهُ الْغَايَةُ، كَمَا لَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ تَحْتَ الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] . (وَلَنَا) أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِغَسْلِ الْيَدِ، وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْإِبِطِ، وَلَوْلَا ذِكْرُ الْمِرْفَقِ لَوَجَبَ غَسْلُ الْيَدِ كُلِّهَا، فَكَانَ ذِكْرُ الْمِرْفَقِ لِإِسْقَاطِ الْحُكْمِ عَمَّا وَرَاءَهُ، لَا لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَيْهِ، لِدُخُولِهِ تَحْتَ مُطْلَقِ اسْمِ الْيَدِ، فَيَكُونُ عَمَلًا بِاللَّفْظِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمِرْفَقَ لَا يَصْلُحُ غَايَةً لِحُكْمٍ ثَبَتَ فِي الْيَدِ، لِكَوْنِهِ بَعْضَ الْيَدِ، بِخِلَافِ اللَّيْلِ فِي بَابِ الصَّوْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا ذِكْرُ اللَّيْلُ لَمَا اقْتَضَى الْأَمْرُ إلَّا وُجُوبَ صَوْمِ سَاعَةٍ، فَكَانَ ذِكْرُ اللَّيْلِ لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَيْهِ؛ عَلَى أَنَّ الْغَايَاتِ مُنْقَسِمَةٌ، مِنْهَا مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَا ضُرِبَتْ لَهُ الْغَايَةُ، وَمِنْهَا مَا يَدْخُلُ، كَمَنْ قَالَ: رَأَيْتُ فُلَانًا مِنْ رَأْسِهِ إلَى قَدَمِهِ، وَأَكَلْتُ السَّمَكَةَ مِنْ رَأْسِهَا إلَى ذَنَبِهَا، دَخَلَ الْقَدَمُ، وَالذَّنَبُ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْغَايَةُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي يَجِبُ، فَيُحْمَلُ عَلَى الثَّانِي احْتِيَاطًا، عَلَى أَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ دُخُولَ الْمَرَافِقِ فِي الْأَمْرِ بِالْغَسْلِ، وَاحْتَمَلَ خُرُوجَهَا عَنْهُ صَارَ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ. وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا بَلَغَ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْوُضُوءِ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَيْهِمَا» فَكَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ، وَالْمُجْمَلُ إذَا الْتَحَقَ بِهِ الْبَيَانُ يَصِيرُ مُفَسَّرًا مِنْ الْأَصْلِ. مَطْلَبُ مَسْحِ الرَّأْسِ (وَالثَّالِثُ) : مَسْحُ الرَّأْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ بِالْفِعْلِ لَا يُوجِبُ التَّكْرَارَ،، وَاخْتُلِفَ فِي الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ مَسْحُهُ، ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ، وَقَدَّرَهُ بِثَلَاثِ أَصَابِعِ الْيَدِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِالرُّبْعِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا مِقْدَارَ النَّاصِيَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَمْسَحَ جَمِيعَ الرَّأْسِ، أَوْ أَكَثْرَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا مَسَحَ مَا يُسَمَّى مَسْحًا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ. وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الرَّأْسَ، وَالرَّأْسُ اسْمٌ لِلْجُمْلَةِ، فَيَقْتَضِي وُجُوبَ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ، وَحَرْفُ الْبَاءِ لَا يَقْتَضِي التَّبْعِيضَ لُغَةً، بَلْ هُوَ حَرْفُ إلْصَاقٍ، فَيَقْتَضِي إلْصَاقَ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْمَسْحُ بِالرَّأْسِ، وَالرَّأْسُ اسْمٌ لِكُلِّهِ، فَيَجِبُ مَسْحُ كُلِّهِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا مَسَحَ الْأَكْثَرَ جَازَ لِقِيَامِ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِالْمَسْحِ بِالرَّأْسِ، وَالْمَسْحُ بِالشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي اسْتِيعَابَهُ فِي الْعُرْفِ، يُقَالُ: (مَسَحْتُ يَدِي بِالْمِنْدِيلِ) ، وَإِنْ لَمْ يَمْسَحْ بِكُلِّهِ، وَيُقَالُ: " كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَضَرَبْتُ بِالسَّيْفِ "، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ بِكُلِّ الْقَلَمِ، وَلَمْ يَضْرِبْ بِكُلِّ السَّيْفِ، فَيَتَنَاوَلُ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. (وَلَنَا) أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَسْحِ يَقْتَضِي آلَةً، إذْ الْمَسْحُ لَا يَكُونُ إلَّا بِآلَةٍ، وَآلَةُ الْمَسْحِ هِيَ أَصَابِعُ الْيَدِ عَادَةً، وَثَلَاثُ أَصَابِعِ الْيَدِ أَكْثَرُ الْأَصَابِعِ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، فَصَارَ كَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الثَّلَاثِ وَقَالَ: " وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ بِثَلَاثِ أَصَابِعِ أَيْدِيكُمْ ". وَأَمَّا وَجْهُ التَّقْدِيرِ بِالنَّاصِيَةِ فَلِأَنَّ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ لَيْسَ بِمُرَادٍ مِنْ الْآيَةِ بِالْإِجْمَاعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ إلَّا قَلِيلًا مِنْهُ جَائِزٌ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ الرَّأْسِ، وَلَا عَلَى بَعْضٍ مُطْلَقٍ، وَهُوَ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ مَاسِحَ

شَعْرَةٍ، أَوْ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ لَا يُسَمَّى مَاسِحًا فِي الْعُرْفِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى مِقْدَارٍ يُسَمَّى الْمَسْحُ عَلَيْهِ مَسْحًا فِي الْمُتَعَارَفِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ. وَقَدْ رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ بَالَ، وَتَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ» فَصَارَ فِعْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ، إذْ الْبَيَانُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ تَارَةً، وَبِالْفِعْلِ أُخْرَى، كَفِعْلِهِ فِي هَيْئَةِ الصَّلَاةِ، وَعَدَدِ رَكَعَاتِهَا، وَفِعْلِهِ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ مِقْدَارَ النَّاصِيَةِ بِبَيَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَجْهُ التَّقْدِيرِ بِالرُّبْعِ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ اعْتِبَارُ الرُّبْعِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، كَمَا فِي حَلْقِ رُبْعِ الرَّأْسِ أَنَّهُ يَحِلُّ بِهِ الْمُحْرِمُ، وَلَا يَحِلُّ بِدُونِهِ، وَيَجِبُ الدَّمُ إذَا فَعَلَهُ فِي إحْرَامِهِ، وَلَا يَجِبُ بِدُونِهِ، وَكَمَا فِي انْكِشَافِ الرُّبْعِ مِنْ الْعَوْرَةِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَمَا دُونَهُ لَا يَمْنَعُ، كَذَا هَهُنَا، وَلَوْ وَضَعَ ثَلَاثَ أَصَابِعَ وَضْعًا، وَلَمْ يَمُدَّهَا جَازَ عَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ الْأَصْلِ، وَهِيَ التَّقْدِيرُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ، وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ النَّاصِيَةِ: وَالرُّبْعُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى ذَلِكَ الْقَدْرَ. وَلَوْ مَسَحَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ مَنْصُوبَةٍ غَيْرِ مَوْضُوعَةٍ وَلَا مَمْدُودَةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ، وَلَوْ مَدَّهَا حَتَّى بَلَغَ الْقَدْرَ الْمَفْرُوضَ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا مَسَحَ بِأُصْبُعٍ، أَوْ بِأُصْبُعَيْنِ، وَمَدَّهُمَا حَتَّى بَلَغَ مِقْدَارَ الْفَرْضِ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ إنَّ الْمَاءَ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا حَالَةَ الْمَسْحِ كَمَا لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا حَالَةَ الْغَسْلِ، فَإِذَا مَدَّ فَقَدْ مَسَحَ بِمَاءٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ، فَجَازَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ سُنَّةَ الِاسْتِيعَابِ تَحْصُلُ بِالْمَدِّ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا بِالْمَدِّ لَمَا حَصَلَتْ، لِأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَصِيرَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِأَوَّلِ مُلَاقَاتِهِ الْعُضْوَ، لِوُجُودِ زَوَالِ الْحَدَثِ، أَوْ قَصْدِ الْقُرْبَةِ، إلَّا أَنَّ فِي بَابِ الْغَسْلِ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ أَعْطَى لَهُ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَأْخُذَ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْعُضْوِ مَاءً جَدِيدًا، وَفِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى، فَلَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْمَسْحِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْسَحَ دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْمَدِّ لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ، فَظَهَرَ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ، وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى إقَامَةِ سُنَّةِ الِاسْتِيعَابِ، فَلَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ كَمَا فِي الْغَسْلِ. وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَعَادَهَا إلَى الْمَاءِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ جَازَ، هَكَذَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّوَادِرِ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْمَسْحُ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ. وَقَدْ وُجِدَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ رَأْسَهُ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْمَسْحِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلُ الْمَسْحِ رَأْسًا، وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ بِبَطْنِهَا، وَبِظَهْرِهَا، وَبِجَانِبِهَا لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْمَسْحِ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَإِيصَالُ الْمَاءِ إلَى أُصُولِ الشَّعْرِ لَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَرَجًا فَأُقِيمَ الْمَسْحُ عَلَى الشَّعْرِ مَقَامَ الْمَسْحِ عَلَى أُصُولِهِ، وَلَوْ مَسَحَ عَلَى شَعْرِهِ وَكَانَ شَعْرُهُ طَوِيلًا فَإِنْ مَسَحَ عَلَى مَا تَحْتَ أُذُنِهِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ مَسَحَ عَلَى مَا فَوْقَهَا جَازَ، لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الشَّعْرِ كَالْمَسْحِ عَلَى مَا تَحْتَهُ، وَمَا تَحْتَ الْأُذُنِ عُنُقٌ، وَمَا فَوْقَهُ رَأْسٌ. وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَالْقَلَنْسُوَةِ، لِأَنَّهُمَا يَمْنَعَانِ إصَابَةَ الْمَاءِ الشَّعْرَ، وَلَا يَجُوزُ مَسْحُ الْمَرْأَةِ عَلَى خِمَارِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا أَدْخَلَتْ يَدَهَا تَحْتَ الْخِمَارِ، وَمَسَحَتْ بِرَأْسِهَا وَقَالَتْ: بِهَذَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا إذَا كَانَ الْخِمَارُ رَقِيقًا يُنْفِذُ الْمَاءَ إلَى شَعْرِهَا، فَيَجُوزُ لِوُجُودِ الْإِصَابَةِ. وَلَوْ أَصَابَ رَأْسَهُ الْمَطَرُ مِقْدَارَ الْمَفْرُوضِ أَجْزَأَهُ مَسَحَهُ بِيَدِهِ أَوْ لَمْ يَمْسَحْهُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي الْمَسْحِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ وُصُولُ الْمَاءِ إلَى ظَاهِرِ الشَّعْرِ، وَقَدْ وُجِدَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. مَطْلَبُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ (وَالرَّابِعُ) غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] بِنَصْبِ اللَّامِ مِنْ الْأَرْجُلِ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] كَأَنَّهُ قَالَ: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ، وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ. وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَقَالَتْ الرَّافِضَةُ الْفَرْضُ هُوَ الْمَسْحُ لَا غَيْرُ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْمَسْحِ، وَالْغَسْلِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَأَصْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْآيَةَ قُرِئَتْ بِقِرَاءَتَيْنِ، بِالنَّصْبِ، وَالْخَفْضِ فَمَنْ قَالَ بِالْمَسْحِ أَخَذَ بِقِرَاءَةِ الْخَفْضِ، فَإِنَّهَا تَقْتَضِي كَوْنَ الْأَرْجُلِ مَمْسُوحَةً لَا مَغْسُولَةً؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى الرَّأْسِ، وَالْمَعْطُوفُ يُشَارِكُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، ثُمَّ وَظِيفَةُ الرَّأْسِ الْمَسْحُ، فَكَذَا وَظِيفَةُ

الرِّجْلِ، وَمِصْدَاقُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْكَلَامِ عَامِلَانِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: {فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] وَالثَّانِي: حَرْفُ الْجَرِّ، وَهُوَ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: {بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ، وَالْبَاءُ أَقْرَبُ فَكَانَ الْخَفْضُ أَوْلَى، وَمَنْ قَالَ بِالتَّخْيِيرِ يَقُولُ: إنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ قَدْ ثَبَتَ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قُرْآنًا، وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ مُوجِبَيْهِمَا، وَهُوَ وُجُوبُ الْمَسْحِ، وَالْغَسْلِ، إذْ لَا قَائِلَ بِهِ فِي السَّلَفِ، فَيُخَيَّرُ الْمُكَلَّفُ، إنْ شَاءَ عَمِلَ بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ فَغَسَلَ، وَإِنْ شَاءَ بِقِرَاءَةِ الْخَفْضِ فَمَسَحَ، وَأَيُّهُمَا فَعَلَ يَكُونُ إتْيَانًا بِالْمَفْرُوضِ، كَمَا فِي الْأَمْرِ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَمَنْ قَالَ بِالْجَمْعِ يَقُولُ: الْقِرَاءَتَانِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ آيَتَيْنِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا جَمِيعًا مَا أَمْكَنَ، وَأَمْكَنَ هَهُنَا لِعَدَمِ التَّنَافِي، إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْغَسْلِ، وَالْمَسْحِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. (وَلَنَا) قِرَاءَةُ النَّصْبِ، وَأَنَّهَا تَقْتَضِي كَوْنَ، وَظِيفَةِ الْأَرْجُلِ الْغَسْلَ، لِأَنَّهَا تَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْمَغْسُولَاتِ، وَهِيَ الْوَجْهُ، وَالْيَدَانِ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْمَغْسُولِ يَكُونُ مَغْسُولًا تَحْقِيقًا لِمُقْتَضَى الْعَطْفِ، وَحُجَّةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وُجُوهٌ:. أَحَدُهَا: مَا قَالَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ مُحْكَمَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْأَرْجُلِ مَعْطُوفَةً عَلَى الْمَغْسُولَاتِ، وَقِرَاءَةُ الْخَفْضِ مُحْتَمَلَةٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الرُّءُوسِ حَقِيقَةً، وَمَحَلُّهَا مِنْ الْإِعْرَابِ الْخَفْضُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْوَجْهِ، وَالْيَدَيْنِ حَقِيقَةً، وَمَحَلُّهَا مِنْ الْإِعْرَابِ النَّصْبُ، إلَّا أَنَّ خَفْضَهَا لِلْمُجَاوَرَةِ، وَإِعْطَاءُ الْإِعْرَابِ بِالْمُجَاوَرَةِ طَرِيقَةٌ شَائِعَةٌ فِي اللُّغَةِ بِغَيْرِ حَائِلٍ، وَبِحَائِلٍ، أَمَّا بِغَيْرِ الْحَائِلِ فَكَقَوْلِهِمْ: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ وَمَاءُ شَنٍّ بَارِدٍ، وَالْخَرِبُ نَعْتُ الْجُحْرِ لَا نَعْتُ الضَّبِّ، وَالْبُرُودَةُ نَعْتُ الْمَاءِ لَا نَعْتُ الشَّنِّ، ثُمَّ خُفِضَ لِمَكَانِ الْمُجَاوَرَةِ. وَأَمَّا مَعَ الْحَائِلِ، فَكَمَا قَالَ تَعَالَى {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17] إلَى قَوْلِهِ: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] لِأَنَّهُنَّ لَا يُطَافُ بِهِنَّ، وَكَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ: فَهَلْ أَنْتَ إنْ مَاتَتْ أَتَانُكَ رَاكِبٌ ... إلَى آلِ بِسْطَامٍ بْنِ قَيْسٍ فَخَاطِبُ فَثَبَتَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْخَفْضِ مُحْتَمَلَةٌ، وَقِرَاءَةَ النَّصْبِ مُحْكَمَةٌ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ أَوْلَى إلَّا أَنَّ فِي هَذَا إشْكَالًا، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي حَدِّ التَّعَارُضِ لِأَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ مُحْتَمَلَةٌ أَيْضًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْأَرْجُلِ مَعْطُوفَةً عَلَى الْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الرَّأْسِ. وَالْمُرَادُ بِهَا الْمَسْحُ حَقِيقَةً، لَكِنَّهَا نُصِبَتْ عَلَى الْمَعْنَى لَا عَلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّ الْمَمْسُوحَ بِهِ مَفْعُولٌ بِهِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] . وَالْإِعْرَابُ قَدْ يَتْبَعُ اللَّفْظَ، وَقَدْ يَتْبَعُ الْمَعْنَى، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: مُعَاوِيَةَ إنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ ... فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا نَصَبَ الْحَدِيدَ عَطْفًا عَلَى الْجِبَالِ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ، مَعْنَاهُ فَلَسْنَا الْجِبَالَ، وَلَا الْحَدِيدَ، فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقِرَاءَتَيْنِ مُحْتَمَلَةً فِي الدَّلَالَةِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَيُطْلَبُ التَّرْجِيحُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَّ الْحُكْمَ فِي الْأَرْجُلِ إلَى الْكَعْبَيْنِ، وَوُجُوبُ الْمَسْحِ لَا يَمْتَدُّ إلَيْهِمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْغَسْلَ يَتَضَمَّنُ الْمَسْحَ، إذْ الْغَسْلُ إسَالَةٌ، وَالْمَسْحُ إصَابَةٌ، وَفِي الْإِسَالَةِ إصَابَةٌ، وَزِيَادَةٌ، فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ عَمَلًا بِالْقِرَاءَتَيْنِ مَعًا، فَكَانَ أَوْلَى. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ رَوَى جَابِرٌ،، وَأَبُو هُرَيْرَةَ،، وَعَائِشَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَغَيْرُهُمْ، أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى قَوْمًا تَلُوحُ أَعْقَابُهُمْ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَقَالَ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ، أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ» . وَرُوِيَ «أَنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ» وَعِيدٌ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِتَرْكِ الْمَفْرُوضِ، وَكَذَا نَفْيُ قَبُولِ صَلَاةِ مَنْ لَا يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ فِي وُضُوئِهِ، فَدَلَّ أَنَّ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَسَلَ رِجْلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ» ، لَا يَجْحَدُهُ مُسْلِمٌ، فَكَانَ قَوْلُهُ، وَفِعْلُهُ بَيَانُ الْمُرَادِ بِالْآيَةِ، فَثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْمُتَّصِلَةِ، وَالْمُنْفَصِلَةِ أَنَّ الْأَرْجُلَ فِي الْآيَةِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْمَغْسُولِ لَا عَلَى الْمَمْسُوحِ، فَكَانَ وَظِيفَتُهَا الْغَسْلَ لَا الْمَسْحَ، عَلَى أَنَّهُ إنْ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فَالْحُكْمُ فِي تَعَارُضِ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْحُكْمِ فِي تَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا مُطْلَقًا يُعْمَلُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ لِلتَّنَافِي يُعْمَلُ بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْغَسْلِ، وَالْمَسْحِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ، وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الْمَسْحِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْغَسْلَ يَتَضَمَّنُ الْمَسْحَ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَيُعْمَلُ بِهِمَا فِي الْحَالَتَيْنِ، فَتُحْمَلُ قِرَاءَةُ النَّصْبِ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ الرِّجْلَانِ بَادِيَتَيْنِ، وَتُحْمَلُ قِرَاءَةُ الْخَفْضِ عَلَى مَا إذَا كَانَتَا مَسْتُورَتَيْنِ بِالْخُفَّيْنِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَعَمَلًا بِهِمَا

فصل المسح على الخفين

بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّخْيِيرِ بَاطِلٌ عِنْدَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا فِي الْجُمْلَةِ. وَعِنْدَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ أَصْلًا، وَرَأْسًا لَا يُخَيَّرُ أَيْضًا، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، ثُمَّ الْكَعْبَانِ يَدْخُلَانِ فِي الْغَسْلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَدْخُلَانِ، وَالْكَلَامُ فِي الْكَعْبَيْنِ عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي الْمِرْفَقَيْنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. ، وَالْكَعْبَانِ هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ فِي أَسْفَلِ السَّاقِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْأَصْحَابِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ لِأَنَّ الْكَعْبَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا عَلَا وَارْتَفَعَ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْكَعْبَةُ كَعْبَةً، وَأَصْلُهُ مِنْ كَعْبِ الْقَنَاةِ، وَهُوَ أُنْبُوبُهَا سُمِّيَ بِهِ لِارْتِفَاعِهِ. وَتُسَمَّى الْجَارِيَةُ النَّاهِدَةُ الثَّدْيَيْنِ كَاعِبًا لِارْتِفَاعِ ثَدْيَيْهَا، وَكَذَا فِي الْعُرْفِ يُفْهَمُ مِنْهُ النَّاتِئُ، يُقَالُ ضَرَبَ كَعْبَ فُلَانٍ، وَفِي الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ: «أَلْصِقُوا الْكِعَابَ بِالْكِعَابِ» وَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ إلَّا فِي النَّاتِئِ، وَمَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ الْمِفْصَلُ الَّذِي عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، إنَّمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي مَسْأَلَةِ الْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، أَنَّهُ يَقْطَعُ الْخُفَّ أَسْفَلَ الْكَعْبِ، فَقَالَ: إنَّ الْكَعْبَ هَهُنَا الَّذِي فِي مِفْصَلِ الْقَدَمِ فَنَقَلَ هِشَامٌ ذَلِكَ إلَى الطَّهَارَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إذَا كَانَتَا بَادِيَتَيْنِ لَا عُذْرَ بِهِمَا، فَأَمَّا إذَا كَانَتَا مَسْتُورَتَيْنِ بِالْخُفِّ، أَوْ كَانَ بِهِمَا عُذْرٌ مِنْ كَسْرٍ، أَوْ جُرْحٍ، أَوْ قُرْحٍ، فَوَظِيفَتُهُمَا الْمَسْحُ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَالثَّانِي: فِي الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ. [فَصْلٌ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ] (فَصْلٌ) أَمَّا الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ مُدَّتِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْقُضُهُ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا انْتَقَضَ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ جَائِزٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلَّا شَيْئًا قَلِيلًا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّافِضَةِ وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُقِيمِ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَنْكَرَ الْمَسْحَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] فَقِرَاءَةُ النَّصْبِ تَقْتَضِي وُجُوبَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ مُطْلَقًا عَنْ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَرْجُلَ مَعْطُوفَةً عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَهِيَ مَغْسُولَةٌ، فَكَذَا الْأَرْجُلُ، وَقِرَاءَةُ الْخَفْضِ تَقْتَضِي وُجُوبَ الْمَسْحِ عَلَى الرِّجْلَيْنِ لَا عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ فَقَالَ: «وَاَللَّهِ مَا مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْخُفَّيْنِ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ» ، وَلَأَنْ أَمْسَحَ عَلَى ظَهْرِ عِيرٍ فِي الْفَلَاةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ رِوَايَةٍ قَالَ: لَأَنْ أَمْسَحَ عَلَى جِلْدِ حِمَارٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا» ، وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلِ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ،، وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَصَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ، وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبِي عُمَارَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حَتَّى قَالَ أَبُو يُوسُفَ: خَبَرُ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِمِثْلِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ إذَا وَرَدَتْ كَوُرُودِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَكَذَا الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ قَوْلًا، وَفِعْلًا، حَتَّى رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ سَبْعِينَ بَدْرِيًّا مِنْ الصَّحَابَةِ كُلُّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلِهَذَا رَآهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ شَرَائِطِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَقَالَ فِيهَا: أَنْ تُفَضِّلَ الشَّيْخَيْنِ، وَتُحِبَّ الْخَتَنَيْنِ، وَأَنْ تَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَنْ لَا تُحَرِّمَ نَبِيذَ التَّمْرِ؛ يَعْنِي: الْمُثَلَّثَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا قُلْتُ: بِالْمَسْحِ حَتَّى جَاءَنِي فِيهِ مِثْلُ ضَوْءِ النَّهَارِ فَكَانَ الْجُحُودُ رَدًّا عَلَى كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَنِسْبَةَ إيَّاهُمْ إلَى الْخَطَأِ، فَكَانَ بِدْعَةً، فَلِهَذَا قَالَ الْكَرْخِيُّ: أَخَافُ الْكُفْرَ عَلَى مَنْ لَا يَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ الْمَسْحَ لَا خُلْفَ فِيهِ مَا مَسَحْنَا وَدَلَّ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى أَنَّ خِلَافَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَكَادُ يَصِحُّ؛ وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ لَمْ تَخْتَلِفْ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَسَحَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، أَوْ بَعْدَهَا، وَلَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، حَتَّى قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: حَدَّثَنِي سَبْعُونَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُمْ رَأَوْهُ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ» . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

بيان مدة المسح

مَسَحَ بَعْدَ الْمَائِدَةِ» . وَرُوِيَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقِيلَ: لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقِيلَ لَهُ: أَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ؟ فَقَالَ: وَهَلْ أَسْلَمْتُ إلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ؟ وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قُرِئَتْ بِقِرَاءَتَيْنِ فَنَعْمَلُ بِهِمَا فِي حَالَيْنِ، فَنَقُولُ وَظِيفَتُهُمَا الْغَسْلُ إذَا كَانَتَا بَادِيَتَيْنِ، وَالْمَسْحُ إذَا كَانَتَا مَسْتُورَتَيْنِ بِالْخُفِّ، عَمَلًا بِالْقِرَاءَتَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ مَسَحَ عَلَى خُفِّهِ إنَّهُ مَسَحَ عَلَى رِجْلِهِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: ضَرَبَ عَلَى رِجْلِهِ، وَإِنْ ضَرَبَ عَلَى خُفِّهِ، وَالرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ تَصِحَّ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى عِكْرِمَةَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَتْ رِوَايَتُهُ عَطَاءً قَالَ كَذَبَ عِكْرِمَةُ وَرَوَى عَنْهُ عَطَاءٌ، وَالضَّحَّاكُ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خِلَافَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ يَثْبُتْ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُخَالِفُ النَّاسَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَلَمْ يَمُتْ حَتَّى تَابَعَهُمْ. وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ مَالِكٍ، فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَسْحَ شُرِعَ تَرَفُّهًا، وَدَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ، فَيَخْتَصُّ شَرْعِيَّتُهُ بِمَكَانِ الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ السَّفَرُ. (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا» ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الِاعْتِبَارِ غَيْرُ سَدِيدٍ، لِأَنَّ الْمُقِيمَ يَحْتَاجُ إلَى التَّرَفُّهِ، وَدَفْعِ الْمَشَقَّةِ، إلَّا إنَّ حَاجَةَ الْمُسَافِرِ إلَى ذَلِكَ أَشَدُّ، فَزِيدَتْ مُدَّتُهُ لِزِيَادَةِ التَّرْفِيهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [بَيَان مُدَّة الْمَسْح] مَطْلَبُ بَيَانِ مُدَّةِ الْمَسْحِ (وَأَمَّا بَيَانُ مُدَّةِ الْمَسْحِ) فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِمُدَّةٍ؟ قَالَ عَامَّتُهُمْ: إنَّهُ مُقَدَّرٌ بِمُدَّةٍ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَفِي حَقِّ الْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيَهَا. وَقَالَ مَالِكٌ إنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ كَمْ شَاءَ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَسَعْدٍ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ مُؤَقَّتٌ وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَزَيْدٍ بْنِ ثَابِتٍ، وَسَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ بَلَغَ بِالْمَسْحِ سَبْعًا» . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَأَلَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ وَقَدْ قَدِمَ مِنْ الشَّامِ: مَتَى عَهْدُكَ بِالْمَسْحِ؟ قَالَ: سَبْعًا فَقَالَ عُمَرُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَصَبْتَ السُّنَّةَ (وَبَلَغَ بِالْمَسْحِ سَبْعًا) ، فَهُوَ غَرِيبٌ، فَلَا يُتْرَكُ بِهِ الْمَشْهُورُ مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا أَنَّهُ بَلَغَ بِالْمَسْحِ ثَلَاثًا، ثُمَّ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ احْتَاجَ إلَى الْمَسْحِ سَبْعًا فِي مُدَّةِ الْمَسْحِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَقَدْ رَوَى جَابِرُ الْجُعْفِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ، وَلَيْلَةٌ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْخَبَرِ الْمَشْهُورِ، فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: " مَتَى عَهْدُكَ بِلُبْسِ الْخُفِّ؟ " ابْتِدَاءَ اللُّبْسِ أَيْ مَتَى عَهْدُكَ بِابْتِدَاءِ اللُّبْسِ؟ ، وَإِنْ كَانَ تَخَلَّلَ بَيْنَ ذَلِكَ نَزْعُ الْخُفِّ. ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي اعْتِبَارِ مُدَّةِ الْمَسْحِ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ يُعْتَبَرُ؟ فَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ، فَيَمْسَحُ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ إلَى وَقْتِ الْحَدَثِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ اللُّبْسِ، فَيَمْسَحُ مِنْ وَقْتِ اللُّبْسِ إلَى وَقْتِ اللُّبْسِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الْمَسْحِ، فَيَمْسَحُ مِنْ وَقْتِ الْمَسْحِ إلَى وَقْتِ الْمَسْحِ حَتَّى لَوْ تَوَضَّأَ بَعْدَ مَا انْفَجَرَ الصُّبْحُ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، وَصَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ أَحْدَثَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، فَعَلَى قَوْلِ الْعَامَّةِ يَمْسَحُ إلَى مَا بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي إنْ كَانَ مُقِيمًا، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا يَمْسَحُ إلَى مَا بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ وَقْتَ اللُّبْسِ، يَمْسَحُ إلَى مَا بَعْدِ انْفِجَارِ الصُّبْحِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي إنْ كَانَ مُقِيمًا، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا إلَى مَا بَعْدِ انْفِجَارِ الصُّبْحِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ وَقْتَ الْمَسْحِ يَمْسَحُ إلَى مَا بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي إنْ كَانَ مُقِيمًا. وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا يَمْسَحُ إلَى مَا بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَالصَّحِيحُ اعْتِبَارُ وَقْتِ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ؛ لِأَنَّ الْخُفَّ جُعِلَ مَانِعًا مِنْ سِرَايَةِ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ، وَمَعْنَى الْمَنْعِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْحَدَثِ، فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ ضُرِبَتْ تَوْسِعَةً، وَتَيْسِيرًا لِتَعَذُّرِ نَزْعِ الْخُفَّيْنِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَالْحَاجَةُ إلَى التَّوْسِعَةِ عِنْدَ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى النَّزْعِ عِنْدَهُ، وَلَوْ تَوَضَّأَ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ، فَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، لَا تَتَحَوَّلُ مُدَّتُهُ إلَى مُدَّةِ مَسْحِ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ لَمَّا تَمَّتْ سَرَى الْحَدَثُ السَّابِقُ إلَى الْقَدَمَيْنِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا الْمَسْحَ صَارَ الْخُفُّ رَافِعًا لِلْحَدَثِ لَا مَانِعًا، وَلَيْسَ هَذَا عَمَلَ الْخُفِّ فِي الشَّرْعِ. وَإِنْ سَافَرَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ، فَإِنْ سَافَرَ قَبْلَ الْحَدَثِ، أَوْ بَعْدَ

الْحَدَثِ، قَبْلَ الْمَسْحِ، تَحَوَّلَتْ مُدَّتُهُ إلَى مُدَّةِ السَّفَرِ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ الْمَسْحِ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَتَحَوَّلُ، وَلَكِنَّهُ يَمْسَحُ تَمَامَ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، وَيَنْزِعُ خُفَّيْهِ، وَيَغْسِلُ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ مُدَّةَ السَّفَرِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا، وَلَيْلَةً» ، وَلَمْ يُفَصِّلْ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيَهَا» ، وَهَذَا مُسَافِرٌ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمُقِيمَ وَقَدْ بَطَلَتْ الْإِقَامَةُ بِالسَّفَرِ، هَذَا إذَا كَانَ مُقِيمًا فَسَافَرَ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مُسَافِرًا فَأَقَامَ فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ مُدَّةِ السَّفَرِ نَزَعَ خُفَّيْهِ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ، لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ أَقَامَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ مُدَّةَ السَّفَرِ فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ تَمَامِ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ، أَوْ أَكْثَرَ، فَكَذَلِكَ يَنْزِعُ خُفَّيْهِ، وَيَغْسِلُ رِجْلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَسَحَ لَمَسَحَ، وَهُوَ مُقِيمٌ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أَقَامَ قَبْلَ تَمَامِ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ أَتَمَّ يَوْمًا، وَلَيْلَةً؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ مُقِيمٌ فَيُتِمُّ مُدَّةَ الْمُقِيمِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْدِيرِ مُدَّةِ الْمَسْحِ بِيَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ، وَبِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيهَا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ، فِي حَقِّ الْأَصِحَّاءِ. فَأَمَّا فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ، كَصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ، وَالِاسْتِحَاضَةِ، وَمَنْ بِمِثْلِ حَالِهِمَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ زُفَرَ وَأَمَّا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ فَيَخْتَلِفُ الْجَوَابُ، إلَّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَ الْعُذْرِ إذَا تَوَضَّأَ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَمَّا إنْ كَانَ الدَّمُ مُنْقَطِعًا وَقْتَ الْوُضُوءِ، وَاللُّبْسِ وَأَمَّا إنْ كَانَ سَائِلًا فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا وَأَمَّا إنْ كَانَ مُنْقَطِعًا وَقْتَ الْوُضُوءِ، سَائِلًا وَقْتَ اللُّبْسِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ سَائِلًا وَقْتَ الْوُضُوءِ، مُنْقَطِعًا وَقْتَ اللُّبْسِ، فَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا فِي الْحَالَيْنِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَصِحَّاءِ؛ لِأَنَّ السَّيَلَانَ وُجِدَ عَقِيبَ اللُّبْسِ، فَكَانَ اللُّبْسُ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ، فَمَنَعَ الْخُفُّ سِرَايَةَ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمَيْنِ مَا دَامَتْ الْمُدَّةُ بَاقِيَةً. وَأَمَّا فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّهُ يَمْسَحُ مَا دَامَ الْوَقْتُ بَاقِيًا، فَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ نَزَعَ خُفَّيْهِ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ، عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَسْتَكْمِلُ مُدَّةَ الْمَسْحِ كَالصَّحِيحِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ طَهَارَةَ صَاحِبِ الْعُذْرِ طَهَارَةٌ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا؛ لِأَنَّ السَّيَلَانَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِهَا، فَحَصَلَ اللُّبْسُ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ، فَأُلْحِقَتْ بِطَهَارَةِ الْأَصِحَّاءِ. (وَلَنَا) أَنَّ السَّيَلَانَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فِي الْوَقْتِ، بِدَلِيلِ أَنَّ طَهَارَتَهُ تُنْتَقَضُ بِالْإِجْمَاعِ إذَا خَرَجَ الْوَقْتُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْحَدَثُ، فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ صَارَ مُحْدِثًا مِنْ وَقْتِ السَّيَلَانِ. وَالسَّيَلَانُ كَانَ سَابِقًا عَلَى لُبْسِ الْخُفِّ، وَمُقَارِنًا لَهُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ اللُّبْسَ حَصَلَ لَا عَلَى الطَّهَارَةِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ السَّيَلَانَ ثَمَّةَ وُجِدَ عَقِيبَ اللُّبْسِ، فَكَانَ اللُّبْسُ حَاصِلًا عَنْ طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ. (وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْمَسْحِ) فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَاسِحِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَمْسُوحِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَاسِحِ أَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لَابِسُ الْخُفَّيْنِ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ عِنْدَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ اللُّبْسِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ اللُّبْسِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحْدِثَ إذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ أَوَّلًا، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ أَتَمَّ الْوُضُوءَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ، ثُمَّ أَحْدَثَ جَازَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ عِنْدَنَا، لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَهُوَ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ وَقْتَ اللُّبْسِ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ عِنْدَهُ شَرْطٌ، فَكَانَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مُقَدَّمًا عَلَى الْأَعْضَاءِ الْأُخَرِ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، فَلَمْ تُوجَدْ الطَّهَارَةُ وَقْتَ اللُّبْسِ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَوَضَّأَ فَرَتَّبَ، لَكِنَّهُ غَسَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ وَلَبِسَ الْخُفَّ، ثُمَّ غَسَلَ الْأُخْرَى وَلَبِسَ الْخُفَّ، قِيلَ: " لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ، وَإِنْ وُجِدَ التَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ " لَكِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ لُبْسِهِمَا، حَتَّى لَوْ نَزَعَ الْخُفَّ الْأَوَّلَ ثُمَّ لَبِسَهُ جَازَ الْمَسْحُ، لِحُصُولِ اللُّبْسِ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمَسْحَ شُرِعَ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْمَسْحِ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ، فَأَمَّا عِنْدَ الْحَدَثِ قَبْلَ اللُّبْسِ فَلَا حَاجَةَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْغَسْلُ، وَكَذَا لَا حَاجَةَ بَعْدَ اللُّبْسِ قَبْلَ الْحَدَثِ، لِأَنَّهُ طَاهِرٌ، فَكَانَ الشَّرْطُ كَمَالَ الطَّهَارَةِ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ وَقَدْ وُجِدَ. وَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ وَهُوَ مُحْدِثٌ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَخَاضَ الْمَاءَ حَتَّى أَصَابَ الْمَاءُ رِجْلَيْهِ فِي دَاخِلِ الْخُفِّ، ثُمَّ أَحْدَثَ جَازَ لَهُ الْمَسْحُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَهُوَ كَمَالُ الطَّهَارَةِ عِنْدَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ، وَهُوَ كَمَالُ الطَّهَارَةِ عِنْدَ اللُّبْسِ، وَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ وَهُوَ مُحْدِثٌ، ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَمَّ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ بِالْإِجْمَاعِ، أَمَّا عِنْدَنَا فَلِانْعِدَامِ الطَّهَارَةِ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِانْعِدَامِهَا عِنْدَ اللُّبْسِ. وَلَوْ أَرَادَ

المسح على الجورب

الطَّاهِرُ أَنْ يَبُولَ، فَلَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ بَالَ، جَازَ لَهُ الْمَسْحُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ، وَسُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ هَذَا فَقَالَ: " لَا يَفْعَلُهُ إلَّا فَقِيهٌ ". وَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ عَلَى طَهَارَةِ التَّيَمُّمِ، ثُمَّ وُجِدَ الْمَاءُ، نَزَعَ خُفَّيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ عَلَى التَّيَمُّمِ، إذْ رُؤْيَةُ الْمَاءِ لَا تُعْقَلُ حَدَثًا، لِأَنَّهُ امْتَنَعَ ظُهُورُ حُكْمِهِ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَاءِ، فَعِنْدَ وُجُودِهِ ظَهَرَ حُكْمُهُ فِي الْقَدَمَيْنِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا الْمَسْحَ لَجَعَلْنَا الْخُفَّ رَافِعًا لِلْحَدَثِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ عَلَى طَهَارَةِ نَبِيذِ التَّمْرِ ثُمَّ أَحْدَثَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً مُطْلَقًا تَوَضَّأَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ؛ لِأَنَّهُ طَهُورٌ مُطْلَقٌ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَإِنْ وَجَدَ مَاءً مُطْلَقًا، نَزَعَ خُفَّيْهِ، وَتَوَضَّأَ، وَغَسَلَ قَدَمَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَهُورٍ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَكَذَلِكَ لَوْ تَوَضَّأَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ، وَتَيَمَّمَ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ أَحْدَثَ. وَلَوْ تَوَضَّأَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، وَلَمْ يَتَيَمَّمْ، حَتَّى أَحْدَثَ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ، وَيَمْسَحُ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ، وَيُصَلِّي لِأَنَّ سُؤْرَ الْحِمَارِ، إنْ كَانَ طَهُورًا فَالتَّيَمُّمُ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ الطَّهُورُ هُوَ التُّرَابُ، فَالْقَدَمُ لَا حَظَّ لَهَا مِنْ التَّيَمُّمِ. وَلَوْ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى جَبَائِرِ قَدَمَيْهِ، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ أَحْدَثَ، أَوْ كَانَتْ إحْدَى رِجْلَيْهِ صَحِيحَةً، فَغَسَلَهَا، وَمَسَحَ عَلَى جَبَائِرِ الْأُخْرَى، وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ أَحْدَثَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَرَأَ الْجُرْحُ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ كَالْغَسْلِ لِمَا تَحْتَهَا، فَحَصَلَ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ، كَمَا لَوْ أَدْخَلَهُمَا مَغْسُولَتَيْنِ حَقِيقَةً فِي الْخُفِّ وَإِنْ كَانَ بَرَأَ الْجُرْحُ، نَزَعَ خُفَّيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ، فَظَهَرَ أَنَّ اللُّبْسَ حَصَلَ لَا عَلَى طَهَارَةٍ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ فِي الزِّيَادَاتِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْحَدَثُ خَفِيفًا، فَإِنْ كَانَ غَلِيظًا، وَهُوَ الْجَنَابَةُ، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا الْمَسْحُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ يَأْمُرُنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا كُنَّا سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيَهَا، لَا عَنْ جَنَابَةٍ، لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ نَوْمٍ» ،، وَلِأَنَّ الْجَوَازَ فِي الْحَدَثِ الْخَفِيفِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ، وَيَغْلِبُ وُجُودُهُ فَيَلْحَقُهُ الْحَرَجُ، وَالْمَشَقَّةُ فِي نَزْعِ الْخُفِّ، وَالْجَنَابَةُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهَا، فَلَا يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِي النَّزْعِ. الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَمْسُوحِ، فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ خُفًّا يَسْتُرُ الْكَعْبَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَمَا يَسْتُرُ الْكَعْبَيْنِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْخُفِّ، وَكَذَا مَا يَسْتُرُ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْجِلْدِ مِمَّا سِوَى الْخُفِّ، كَالْمُكَعَّبِ الْكَبِيرِ، وَالْمِيثَمِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْخُفِّ. [الْمَسْح عَلَى الْجَوْرَب] مَطْلَبُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوَارِبِ وَأَمَّا الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، فَإِنْ كَانَا مُجَلَّدَيْنِ، أَوْ مُنَعَّلَيْنِ، يُجْزِيهِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُجَلَّدَيْنِ، وَلَا مُنَعَّلَيْنِ، فَإِنْ كَانَا رَقِيقَيْنِ يَشِفَّانِ الْمَاءَ، لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَا ثَخِينَيْنِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِهِمَا فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى جَوْرَبَيْهِ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ قَالَ لِعُوَّادِهِ: " فَعَلْتُ مَا كُنْت أَمْنَعُ النَّاسَ عَنْهُ " فَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى رُجُوعِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوَارِبِ، وَإِنْ كَانَتْ مُنَعَّلَةً، إلَّا إذَا كَانَتْ مُجَلَّدَةً إلَى الْكَعْبَيْنِ، احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ» ؛ وَلِأَنَّ الْجَوَازَ فِي الْخُفِّ لِدَفْعِ الْحَرَجِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ بِالنَّزْعِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْجَوْرَبِ، بِخِلَافِ اللِّفَافَةِ، وَالْمُكَعَّبِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِي نَزْعِهِمَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَبَتَ نَصًّا، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، فَكُلُّ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْخُفِّ فِي إدْمَانِ الْمَشْيِ عَلَيْهِ، وَإِمْكَانِ قَطْعِ السَّفَرِ بِهِ، يَلْحَقُ بِهِ، وَمَا لَا، فَلَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَيْرَ الْمُجَلَّدِ، وَالْمُنَعَّلِ، مِنْ الْجَوَارِبِ لَا يُشَارِكُ الْخُفَّ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ، عَلَى أَنَّ شَرْعَ الْمَسْحِ إنْ ثَبَتَ لِلتَّرْفِيهِ، لَكِنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّرْفِيهِ، فِيمَا يَغْلِبُ لُبْسُهُ، وَلُبْسُ الْجَوَارِبِ مِمَّا لَا يَغْلِبُ، فَلَا حَاجَةَ فِيهَا إلَى التَّرْفِيهِ، فَبَقِيَ أَصْلُ الْوَاجِبِ بِالْكِتَابِ، وَهُوَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ. (وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا كَانَا مُجَلَّدَيْنِ، أَوْ مُنَعَّلَيْنِ، وَبِهِ نَقُولُ: وَلَا عُمُومَ لَهُ، لِأَنَّهُ حِكَايَةُ حَالٍ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الرَّقِيقَ مِنْ الْجَوَارِبِ؟ وَأَمَّا الْخُفُّ الْمُتَّخَذُ مِنْ اللَّبَدِ، فَلَمْ يَذْكُرُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ،، وَقِيلَ: " إنَّهُ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا "، وَقِيلَ: " إنْ كَانَ يُطِيقُ السَّفَرَ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا " وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. (وَأَمَّا) الْمَسْحُ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ مِنْ الْجِلْدِ، فَإِنْ لَبِسَهُمَا فَوْقَ الْخُفَّيْنِ جَازَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَبِسَ الْجُرْمُوقَ وَحْدَهُ، قِيلَ: " إنَّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ "، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ بَدَلٌ عَنْ الْغَسْلِ؛ فَلَوْ جَوَّزْنَا الْمَسْحَ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ، لَجَعَلْنَا لِلْبَدَلِ بَدَلًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْت «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ»

وَلِأَنَّ الْجُرْمُوقَ يُشَارِكُ الْخُفَّ فِي إمْكَانِ قَطْعِ السَّفَرِ بِهِ، فَيُشَارِكُهُ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا شَارَكَهُ فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ، وَلِأَنَّ الْجُرْمُوقَ فَوْقَ الْخُفِّ، بِمَنْزِلَةِ خُفٍّ ذِي طَاقَيْنِ، وَذَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، فَكَذَا هَذَا وَقَوْلُهُ: " الْمَسْحُ عَلَيْهِ بَدَلٌ عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ " مَمْنُوعٌ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ عَنْ الْغَسْلِ، قَائِمٌ مَقَامَهُ، إلَّا إنَّهُ إذَا نَزَعَ الْجُرْمُوقَ لَا يَجِبُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ، لِوُجُودِ شَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ بَدَلٌ عَنْ الْغَسْلِ، قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَهُوَ الْخُفُّ. ثُمَّ إنَّمَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ عِنْدَنَا، إذَا لَبِسَهُمَا عَلَى الْخُفَّيْنِ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ، فَإِنْ أَحْدَثَ ثُمَّ لَبِسَ الْجُرْمُوقَيْنِ، لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا، سَوَاءٌ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَوْ لَا أَمَّا إذَا مَسَحَ فَلِأَنَّ حُكْمَ الْمَسْحِ اسْتَقَرَّ عَلَى الْخُفِّ، فَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى غَيْرِهِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَمْسَحْ فَلِأَنَّ ابْتِدَاءَ مُدَّةِ الْمَسْحِ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ وَقَدْ انْعَقَدَ فِي الْخُفِّ فَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْجُرْمُوقِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْجُرْمُوقِ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ لِتَعَذُّرِ النَّزْعِ، وَهُنَا لَا حَاجَةَ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، ثُمَّ لُبْسُ الْجُرْمُوقِ، فَلَمْ يَجُزْ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا لَبِسَهُمَا عَلَى الْحَدَثِ، كَذَا هَذَا. وَلَوْ مَسَحَ عَلَى الْجُرْمُوقَيْنِ ثُمَّ نَزَعَ أَحَدَهُمَا، مَسَحَ عَلَى الْخُفِّ الْبَادِي، وَأَعَادَ الْمَسْحَ عَلَى الْجُرْمُوقِ الْبَاقِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ، وَزُفَرُ: " يَمْسَحُ عَلَى الْخُفِّ الْبَادِي، وَلَا يُعِيدُ الْمَسْحَ عَلَى الْجُرْمُوقِ الْبَاقِي ". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْزِعُ الْجُرْمُوقَ الْبَاقِي، وَيَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ الْجُرْمُوقَ بِالْخُفِّ، وَلَوْ نَزَعَ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ، يَنْزِعُ الْآخَرَ، وَيَغْسِلُ الْقَدَمَيْنِ، كَذَا هَذَا وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ، وَزُفَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَسْحِ عَلَى الْجُرْمُوقِ، وَبَيْنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ ابْتِدَاءً، بِأَنْ كَانَ عَلَى أَحَدِ الْخُفَّيْنِ جُرْمُوقٌ دُونَ الْآخَرِ، فَكَذَا بَقَاءٌ، وَإِذَا بَقِيَ الْمَسْحُ عَلَى الْجُرْمُوقِ الْبَاقِي، فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الرِّجْلَيْنِ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ، بِمَنْزِلَةِ عُضْوٍ وَاحِدٍ، لَا يَحْتَمِلُ التَّجْزِيء، فَإِذَا اُنْتُقِضَتْ الطَّهَارَةُ فِي إحْدَاهُمَا بِنَزْعِ الْجُرْمُوقِ، تُنْتَقَضُ فِي الْأُخْرَى ضَرُورَةً، كَمَا إذَا نَزَعَ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ، وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْقُفَّازَيْنِ،، وَهُمَا لِبَاسَا الْكَفَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، لِتَعَذُّرِ النَّزْعِ، وَلَا حَرَجَ فِي نَزْعِ الْقُفَّازَيْنِ. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ بِالْخُفِّ خَرْقٌ كَثِيرٌ، فَأَمَّا الْيَسِيرُ، فَلَا يَمْنَعُ الْمَسْحَ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُمْنَعَ قَلِيلُهُ، وَكَثِيرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ،، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، الْخَرْقُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْمَسْحِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، بَعْدَ أَنْ كَانَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْخُفِّ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَمَا دَامَ اسْمُ الْخُفِّ لَهُ بَاقِيًا، يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ الْقَدَمِ، وَإِنْ قَلَّ وَجَبَ غَسْلُهُ لِحُلُولِ الْحَدَثِ بِهِ، لِعَدَمِ الِاسْتِتَارِ بِالْخُفِّ، وَالرِّجْلُ فِي حَقِّ الْغَسْلِ غَيْرُ مُتَجَزِّئَةٍ، فَإِذَا وَجَبَ غَسْلُ بَعْضِهَا، وَجَبَ غَسْلُ كُلِّهَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِالْمَسْحِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ خِفَافَهُمْ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ الْخُرُوقِ، فَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَيَانًا أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْخُرُوقِ لَا يَمْنَعُ الْمَسْحَ؛ وَلِأَنَّ الْمَسْحَ أُقِيمَ مَقَامَ الْغَسْلِ تَرَفُّهًا، فَلَوْ مَنَعَ قَلِيلَ الِانْكِشَافِ، لَمْ يَحْصُلْ التَّرْفِيهُ لِوُجُودِهِ فِي أَغْلَبِ الْخِفَافِ، وَالْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، هُوَ قَدْرُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، فَإِنْ كَانَ الْخَرْقُ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، مَنَعَ، وَإِلَّا فَلَا. ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ أَصَابِعُ الْيَدِ، وَأَصَابِعُ الرِّجْلِ، ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ مِنْ أَصْغَرِ أَصَابِعِ الرِّجْلِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثُ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ، وَإِنَّمَا قُدِّرَ بِالثَّلَاثِ لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ إذَا انْكَشَفَ، مَنَعَ مِنْ قَطْعِ الْأَسْفَارِ. وَالثَّانِي أَنَّ الثَّلَاثَ أَصَابِعَ أَكْثَرُ الْأَصَابِعِ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، ثُمَّ الْخَرْقُ الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ مُنْفَتِحًا، بِحَيْثُ يَظْهَرُ مَا تَحْتَهُ مِنْ الْقَدَمِ مِقْدَارَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، أَوْ يَكُونَ مُنْضَمًّا لَكِنَّهُ يَنْفَرِجُ عِنْدَ الْمَشْيِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُنْضَمًّا لَا يَنْفَرِجُ عِنْدَ الْمَشْيِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، كَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُنْفَتِحًا، أَوْ يَنْفَتِحُ عِنْدَ الْمَشْيِ، لَا يُمْكِنُ قَطْعُ السَّفَرِ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ، يَمْنَعُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْخَرْقُ فِي ظَاهِرِ الْخُفِّ، أَوْ فِي بَاطِنِهِ، أَوْ مِنْ نَاحِيَةِ الْعَقِبِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ بَدَا ثَلَاثٌ مِنْ أَنَامِلِهِ، اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَمْنَعُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَمْنَعُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَوْ انْكَشَفَتْ الظِّهَارَةُ، وَفِي دَاخِلِهِ بِطَانَةٌ مِنْ جِلْدٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ الْقَدَمُ، يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، هَذَا إذَا كَانَ الْخَرْقُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ، يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي خُفٍّ وَاحِدٍ، يُجْمَعُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، فَإِنْ بَلَغَ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، يَمْنَعُ، وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ كَانَ فِي خُفَّيْنِ لَا يُجْمَعُ وَقَالُوا فِي النَّجَاسَةِ، إنْ كَانَتْ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ مَنَعَتْ جَوَازَ

فصل مقدار المسح

الصَّلَاةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْخَرْقَ إنَّمَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْمَسْحَ لِظُهُورِ مِقْدَارِ فَرْضِ الْمَسْحِ، فَإِذَا كَانَ مُتَفَرِّقًا، فَلَمْ يَظْهَرْ مِقْدَارُ فَرْضِ الْمَسْحِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْمَانِعُ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي النَّجَاسَةِ هُوَ كَوْنُهُ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ، وَمَعْنَى الْحَمْلِ مُتَحَقِّقٌ سَوَاءٌ كَانَ فِي خُفٍّ وَاحِدٍ، أَوْ فِي خُفَّيْنِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَمْسَحَ عَلَى ظَاهِرِ الْخُفِّ، حَتَّى لَوْ مَسَحَ عَلَى بَاطِنِهِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعَنْهُ أَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْبَاطِنِ لَا يَجُوزُ، وَالْمُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا الْجَمْعُ بَيْنَ الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ فِي الْمَسْحِ، إلَّا إذَا كَانَ عَلَى بَاطِنِهِ نَجَاسَةٌ. وَحَكَى إبْرَاهِيمُ بْنُ جَابِرٍ فِي كِتَابِ الِاخْتِلَافِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى أَسْفَلِ الْخُفِّ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا لَوْ مَسَحَ عَلَى الْعَقِبِ، أَوْ عَلَى جَانِبِيِّ الْخُفِّ، أَوْ عَلَى السَّاقِ لَا يَجُوزُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِالْمَسْحِ عَلَى ظَاهِرِ الْخُفَّيْنِ» . ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ بَاطِنُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ دُونَ بَاطِنِهِمَا، وَلِأَنَّ بَاطِنَ الْخُفِّ لَا يَخْلُو عَنْ لَوْثٍ عَادَةً، فَالْمَسْحُ عَلَيْهِ يَكُونُ تَلْوِيثًا لِلْيَدِ، وَلِأَنَّ فِيهِ بَعْضَ الْحَرَجِ، وَمَا شُرِعَ الْمَسْحُ إلَّا لِدَفْعِ الْحَرَجِ،، وَلَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ كَمَا لَا تُشْتَرَطُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ. وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْغَسْلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْغَسْلِ، بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ. وَكَذَا فِعْلُ الْمَسْحِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِهِ بِدُونِهِ أَيْضًا، بَلْ الشَّرْطُ إصَابَةُ الْمَاءِ، حَتَّى لَوْ خَاضَ الْمَاءَ، أَوْ أَصَابَهُ الْمَطَرُ، جَازَ عَنْ الْمَسْحِ، وَلَوْ مَرَّ بِحَشِيشٍ مُبْتَلٍّ، فَأَصَابَ الْبَلَلُ ظَاهِرَ خُفَّيْهِ، إنْ كَانَ بَلَلَ الْمَاءِ أَوْ الْمَطَرِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ بَلَلَ الطَّلِّ قِيلَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الطَّلَّ لَيْسَ بِمَاءٍ. [فَصْلٌ مِقْدَارُ الْمَسْحِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مِقْدَارُ الْمَسْحِ، فَالْمِقْدَارُ الْمَفْرُوضُ هُوَ مِقْدَارُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ طُولًا، وَعَرْضًا، مَمْدُودًا، أَوْ مَوْضُوعًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، الْمَفْرُوضُ هُوَ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ، كَمَا قَالَ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ أَوْ أُصْبُعَيْنِ، وَمَدَّهُمَا حَتَّى بَلَغَ مِقْدَارَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِزُفَرَ كَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، وَلَوْ مَسَحَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ مَنْصُوبَةٍ غَيْرِ مَوْضُوعَةٍ، وَلَا مَمْدُودَةٍ، لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَلَوْ مَسَحَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَعَادَهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ إلَى الْمَاءِ يَجُوزُ كَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، ثُمَّ الْكَرْخِيُّ اعْتَبَرَ التَّقْدِيرَ فِيهِ بِأَصَابِعِ الرِّجْلِ. فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي مُخْتَصَرِهِ، إذَا مَسَحَ مِقْدَارَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِ الرِّجْلِ أَجْزَأَهُ، فَاعْتُبِرَ الْمَمْسُوحُ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ يَقَعُ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ ثَلَاثَةَ أَصَابِعَ وَضْعًا أَجْزَأَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ فِيهِ بِأَصَابِعِ الْيَدِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ: لَكِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ خُطُوطًا بِالْأَصَابِعِ وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّفْسِيرِ لِلْمَسْحِ أَنَّهُ الْخُطُوطُ بِالْأَصَابِعِ، وَالْأَصَابِعُ اسْمُ جَمْعٍ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ، فَكَانَ هَذَا تَقْدِيرًا لِلْمَسْحِ بِثَلَاثِ أَصَابِعِ الْيَدِ، وَلِأَنَّ الْفَرْضَ يَتَأَدَّى بِهِ بِيَقِينٍ، لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ مَحْسُوسٌ، فَأَمَّا أَصَابِعُ الرِّجْلِ فَمُسْتَتِرَةٌ بِالْخُفِّ، فَلَا يُعْلَمُ مِقْدَارُهَا إلَّا بِالْحِرْزِ، وَالظَّنِّ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِأَصَابِعِ الْيَدِ أَوْلَى. [فَصَلِّ بَيَانُ مَا يَنْقُضُ الْمَسْحَ] مَطْلَبُ نَوَاقِضِ الْمَسْحِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَنْقُضُ الْمَسْحَ، وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا انْتَقَضَ فَالْمَسْحُ يُنْتَقَضُ بِأَشْيَاءَ (مِنْهَا) انْقِضَاءُ مُدَّةِ الْمَسْحِ، وَهِيَ يَوْمٌ، وَلَيْلَةٌ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ، وَفِي حَقِّ الْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيهَا لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُوَقَّتَ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ، فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ، يَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي إنْ كَانَ مُحْدِثًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا، يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ لَا غَيْرُ، وَيُصَلِّي. (وَمِنْهَا) نَزْعُ الْخُفَّيْنِ، لِأَنَّهُ إذَا نَزَعَهُمَا فَقَدْ سَرَى الْحَدَثُ السَّابِقُ إلَى الْقَدَمَيْنِ، ثُمَّ إنْ كَانَ مُحْدِثًا، يَتَوَضَّأُ بِكَمَالِهِ، وَيُصَلِّي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ لَا غَيْرُ، وَلَا يَسْتَقْبِلُ الْوُضُوءَ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ مِثْلُ قَوْلِنَا. وَفِي قَوْلٍ يَسْتَقْبِلُ الْوُضُوءَ وَجْهُهُ أَنَّ الْحَدَثَ قَدْ حَلَّ بِبَعْضِ أَعْضَائِهِ، وَالْحَدَثُ لَا يَتَجَزَّأُ فَيَتَعَدَّى إلَى الْبَاقِي (وَلَنَا) أَنَّ الْحَدَثَ السَّابِقَ هُوَ الَّذِي حَلَّ بِقَدَمَيْهِ وَقَدْ غَسَلَ بَعْدَهُ سَائِرَ الْأَعْضَاءِ، وَبَقِيَتْ الْقَدَمَانِ فَقَطْ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا غَسْلُهُمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَكَذَلِكَ إذَا نَزَعَ أَحَدَهُمَا أَنَّهُ يُنْتَقَضُ مَسْحُهُ فِي الْخُفَّيْنِ، وَعَلَيْهِ نَزْعُ الْبَاقِي، وَغَسْلُهُمَا لَا غَيْرُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا، وَالْوُضُوءُ بِكَمَالِهِ إنْ كَانَ مُحْدِثًا وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: فِي قَوْلٍ مِثْلُ قَوْلِنَا، وَفِي قَوْلٍ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذْ لَا يُعْقَلُ حَدَثًا، وَفِي قَوْلٍ يَسْتَقْبِلُ الْوُضُوءَ وَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْحَدَثَ لَا يَتَجَزَّأُ فَحُلُولُهُ بِالْبَعْضِ كَحُلُولِهِ

شرط جواز المسح

بِالْكُلِّ. وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الطَّهَارَةَ إذَا تَمَّتْ لَا تُنْتَقَضُ إلَّا بِالْحَدَثِ، وَنَزْعُ الْخُفِّ لَا يُعْقَلُ حَدَثًا (وَلَنَا) أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ سِرَايَةِ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ اسْتِتَارُهَا بِالْخُفِّ وَقَدْ زَالَ بِالنَّزْعِ فَسَرَى الْحَدَثُ السَّابِقُ إلَى الْقَدَمَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ فَإِذَا وَجَبَ غَسْلُ إحْدَاهُمَا وَجَبَ الْأُخْرَى وَلَوْ أَخْرَجَ الْقَدَمَ إلَى السَّاقِ اُنْتُقِضَ مَسْحُهُ، لِأَنَّ إخْرَاجَ الْقَدَمِ إلَى السَّاقِ إخْرَاجٌ لَهَا مِنْ الْخُفِّ، وَلَوْ أَخْرَجَ بَعْضَ قَدَمِهِ، أَوْ خَرَجَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ أَخْرَجَ أَكْثَرَ الْعَقِبِ مِنْ الْخُفِّ اُنْتُقِضَ مَسْحُهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ أَخْرَجَ أَكْثَرَ الْقَدَمِ مِنْ الْخُفِّ اُنْتُقِضَ، وَإِلَّا، فَلَا، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ بَقِيَ فِي الْخُفِّ مِقْدَارُ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَسْحُ بَقِيَ الْمَسْحُ، وَإِلَّا اُنْتُقِضَ وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّهُ يَسْتَمْشِي فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْمَشْيُ الْمُعْتَادُ بَقِيَ الْمَسْحُ، وَإِلَّا فَيُنْتَقَضُ. وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ اعْتِبَارُ أَكْثَرِ الْقَدَمِ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ يَتَعَذَّرُ بِخُرُوجِ أَكْثَرِ الْقَدَمِ، وَلَا بَأْسَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ لُبْسِ الْخُفِّ هُوَ الْمَشْيُ فَإِذَا تَعَذَّرَ الْمَشْيُ انْعَدَمَ اللُّبْسُ فِيمَا قُصِدَ لَهُ؛؛ وَلِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ. مَطْلَبُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ (وَأَمَّا) الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ. وَفِي بَيَانِ صِفَةِ هَذَا الْمَسْحِ أَنَّهُ وَاجِبٌ أَمْ لَا؟ ، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْقُضُهُ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا اُنْتُقِضَ، وَفِي بَيَانِ مَا يُفَارِقُ فِيهِ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ جَائِزٌ،، وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كُسِرَ زَنْدِي يَوْمَ أُحُدٍ فَسَقَطَ اللِّوَاءُ مِنْ يَدِي فَقَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اجْعَلُوهَا فِي يَسَارِهِ فَإِنَّهُ صَاحِبُ لِوَائِي فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَصْنَعُ بِالْجَبَائِرِ؟ فَقَالَ: امْسَحْ عَلَيْهَا» شُرِعَ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ عِنْدَ كَسْرِ الزَّنْدِ فَيَلْحَقُ بِهِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْجُرْحِ، وَالْقُرْحِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا شُجَّ فِي وَجْهِهِ يَوْمَ أُحُدٍ دَاوَاهُ بِعَظْمٍ بَالٍ، وَعَصَبَ عَلَيْهِ، وَكَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْعِصَابَةِ» ، وَلَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ؛ لِأَنَّ فِي نَزْعِهَا حَرَجًا وَضَرَرًا. [شَرْط جَوَازِ الْمَسْح] مَطْلَبُ شَرْطِ جَوَازِ الْمَسْحِ (وَأَمَّا) شَرَائِطُ جَوَازِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْغَسْلُ مِمَّا يَضُرُّ بِالْعُضْوِ الْمُنْكَسِرِ وَالْجُرْحِ وَالْقُرْحِ، أَوْ لَا يَضُرُّهُ الْغَسْلُ لَكِنَّهُ يُخَافُ الضَّرَرَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى بِنَزْعِ الْجَبَائِرِ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّهُ، وَلَا يُخَافُ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَسْقُطُ الْغَسْلُ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ لِمَكَانِ الْعُذْرِ، وَلَا عُذْرَ ثُمَّ إذَا مَسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ، وَالْخِرَقِ الَّتِي فَوْقَ الْجِرَاحَةِ جَازَ لِمَا قُلْنَا فَأَمَّا إذَا مَسَحَ عَلَى الْخِرْقَةِ الزَّائِدَةِ عَنْ رَأْسِ الْجِرَاحَةِ وَلَمْ يَغْسِلْ مَا تَحْتَهَا فَهَلْ يَجُوزُ؟ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ،، وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كَانَ حَلَّ الْخِرْقَةَ، وَغَسَلَ مَا تَحْتَهَا مِنْ حَوَالَيْ الْجِرَاحَةِ مِمَّا يَضُرُّ بِالْجُرْحِ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْخِرْقَةِ الزَّائِدَةِ، وَيَقُومُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا مَقَامَ غَسْلِ مَا تَحْتَهَا كَالْمَسْحِ عَلَى الْخِرْقَةِ الَّتِي تُلَاصِقُ الْجِرَاحَةَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالْجُرْحِ عَلَيْهِ أَنْ يَحِلَّ، وَيَغْسِلَ حَوَالَيْ الْجِرَاحَةِ، وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ. وَمِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمَسْحُ عَلَى عَيْنِ الْجِرَاحَةِ مِمَّا يَضُرُّ بِهَا، فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهَا لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ إلَّا عَلَى نَفْسِ الْجِرَاحَةِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْجَبِيرَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ عَلَى الْجَبِيرَةِ لِلْعُذْرِ، وَلَا عُذْرَ. وَلَوْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ عَلَى رَأْسِهِ، وَبَعْضُهُ صَحِيحٌ، فَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ قَدْرَ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَسْحُ، وَهُوَ قَدْرُ ثَلَاثِ أَصَابِعَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ مِنْ مَسْحِ الرَّأْسِ هُوَ هَذَا الْقَدْرُ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ الرَّأْسِ صَحِيحٌ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ، وَعِبَارَةُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ فِي مِثْلِ هَذَا " إنْ ذَهَبَ عَيْرٌ فَعَيْرٌ فِي الرِّبَاطِ " وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَمْسَحْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ، وَعَدَمَهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَمْسَحُ عَلَى الْجَبَائِرِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لَا؟ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ، وَذَلِكَ يَضُرُّهُ أَجْزَأَهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: إذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ لَمْ يَجُزْ، فَخَرَجَ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي صُورَةٍ، وَخَرَجَ جَوَابُهُمَا فِي صُورَةٍ أُخْرَى، فَلَمْ يَتَبَيَّنْ الْخِلَافُ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ يَضُرُّهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْمَسْحُ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ، فَالْمَسْحُ أَوْلَى وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَضُرُّهُ فَقَدْ حَقَّقَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الِاخْتِلَافَ، فَقَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهَكَذَا ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ، وَيَعْقُوبَ، وَعِنْدَهُمَا وَاجِبٌ، وَحُجَّتُهُمَا مَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ بِقَوْلِهِ: امْسَحْ عَلَيْهَا» ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفَرْضِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ. وَحَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَلَا تَثْبُتُ الْفَرْضِيَّةُ بِهِ وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إذَا كَانَ الْمَسْحُ لَا يَضُرُّهُ يَجِبُ بِلَا خِلَافٍ وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ حِكَايَةِ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَالَ: " إنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ " عَنَى بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ عِنْدَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَفْرُوضَ اسْمٌ لِمَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَوُجُوبُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ ثَبَتَ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَنَّهُ مِنْ الْآحَادِ فَيُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ. وَمَنْ قَالَ إنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ وَاجِبٌ عِنْدَهُمَا فَإِنَّمَا عَنَى بِهِ وُجُوبَ الْعَمَلِ لَا الْفَرْضِيَّةَ، وَعَلَى هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ لِأَنَّهُمَا يَقُولَانِ بِفَرْضِيَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ لِانْعِدَامِ دَلِيلِ الْفَرْضِيَّةِ، بَلْ بِوُجُوبِهِ مِنْ حَيْثُ الْعَمَلُ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوب فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا الْفَرْضِيَّةُ تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ زَائِدٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ بِوُجُوبِهِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَالْجَوَازُ، وَعَدَمُ الْجَوَازِ يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى الْوُجُوبِ، وَعَدَمُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَلَوْ تَرَكَ الْمَسْحَ عَلَى بَعْضِ الْجَبَائِرِ، وَمَسَحَ عَلَى الْبَعْضِ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ: إنْ مَسَحَ عَلَى الْأَكْثَرِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، بِخِلَافِ مَسْحِ الرَّأْسِ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الْأَكْثَرُ لِأَنَّ هُنَاكَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالتَّقْدِيرِ، فَلَا تُشْتَرَطُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمُقَدَّرِ، وَهَهُنَا لَا تَقْدِيرَ مِنْ الشَّرْعِ بَلْ وَرَدَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ ضَرْبِ حَرَجٍ فَأُقِيمَ الْأَكْثَرُ مَقَامَ الْجَمِيعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبُ نَوَاقِضِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَنْقُضُ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ،، وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا انْتَقَضَ فَسُقُوطُ الْجَبَائِرِ عَنْ بُرْءٍ يَنْقُضُ الْمَسْحَ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْجَبَائِرَ إذَا سَقَطَتْ فَإِمَّا أَنْ تَسْقُطَ لَا عَنْ بُرْءٍ أَوْ عَنْ بُرْءٍ. وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ سَقَطَتْ لَا عَنْ بُرْءٍ فِي الصَّلَاةِ مَضَى عَلَيْهَا، وَلَا يَسْتَقْبِلُ، وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ يُعِيدُ الْجَبَائِرَ إلَى مَوْضِعِهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْمَسْحِ، وَكَذَلِكَ إذَا شَدَّهَا بِجَبَائِرَ أُخْرَى غَيْرَ الْأُولَى، بِخِلَافِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا سَقَطَ الْخُفُّ فِي حَالِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ، وَإِنْ سَقَطَ خَارِجَ الصَّلَاةِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغَسْلُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ سُقُوطَ الْغَسْلِ لِمَكَانِ الْحَرَجِ كَمَا فِي النَّزْعِ، فَإِذَا سَقَطَ فَقَدْ زَالَ الْحَرَجُ، وَهَهُنَا السُّقُوطُ بِسَبَبِ الْعُذْرِ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ فَكَانَ الْغَسْلُ سَاقِطًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْمَسْحُ، وَالْمَسْحُ قَائِمٌ، وَإِنَّمَا زَالَ الْمَمْسُوحُ، كَمَا إذَا مَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَلَقَ الشَّعْرَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إعَادَةُ الْمَسْحِ، وَإِنْ زَالَ الْمَمْسُوحُ كَذَلِكَ هَهُنَا. وَإِنْ سَقَطَتْ عَنْ بُرْءٍ فَإِنْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُحْدِثٌ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ تَوَضَّأَ، وَغَسَلَ مَوْضِعَ الْجَبَائِرِ إنْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا غَسَلَ مَوْضِعَ الْجَبَائِرِ لَا غَيْرُ، لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ فَبَطَلَ حُكْمُ الْبَدَلِ فِيهِ، فَوَجَبَ غَسْلُهُ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْغَسْلِ، وَهُوَ الطَّهَارَةُ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ قَائِمٌ لِانْعِدَامِ مَا يَرْفَعُهَا، وَهُوَ الْحَدَثُ، فَلَا يَجِبُ غَسْلُهَا، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الصَّلَاةِ يَسْتَقْبِلُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ وَلَوْ مَسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ وَصَلَّى أَيَّامًا، ثُمَّ بَرَأَتْ جِرَاحَتُهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا صَلَّى بِالْمَسْحِ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ الْجَبْرُ عَلَى الْجُرْحِ، وَالْقُرْحِ يُعِيدُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْكَسْرِ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا عُذْرٌ نَادِرٌ، فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عِنْدَ زَوَالِهِ كَالْمَحْبُوسِ فِي السِّجْنِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَوَجَدَ تُرَابًا نَظِيفًا أَنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ، ثُمَّ يُعِيدُ إذَا خَرَجَ مِنْ السِّجْنِ كَذَلِكَ هَهُنَا. (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ» ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ مَعَ حَاجَتِهِ إلَى الْبَيَانِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُفَارِقُ فِيهِ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ (فَمِنْهَا) : أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِالْأَيَّامِ، بَلْ هُوَ مُؤَقَّتٌ بِالْبُرْءِ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُؤَقَّتٌ بِالْأَيَّامِ لِلْمُقِيمِ يَوْمٌ، وَلَيْلَةٌ، وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيهَا؛ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ بِالشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ وَقَّتَ هُنَاكَ بِقَوْلِهِ: " يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا، وَلَيْلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا " وَلَمْ يُؤَقِّتْ هَهُنَا بَلْ أَطْلَقَ بِقَوْلِهِ: " امْسَحْ عَلَيْهَا ". (وَمِنْهَا) : أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ لِوَضْعِ الْجَبَائِرِ، حَتَّى لَوْ وَضَعَهَا، وَهُوَ مُحْدِثٌ، ثُمَّ تَوَضَّأَ جَازَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَتُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ لِلُبْسِ الْخُفَّيْنِ، حَتَّى لَوْ لَبِسَهُمَا، وَهُوَ مُحْدِثٌ، ثُمَّ تَوَضَّأَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ كَالْغَسْلِ لِمَا تَحْتَهَا، فَإِذَا مَسَحَ عَلَيْهَا فَكَأَنَّهُ غَسَلَ مَا تَحْتَهَا لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْغَسْلِ، وَالْخُفُّ جُعِلَ مَانِعًا مِنْ نُزُولِ الْحَدَثِ بِالْقَدَمَيْنِ لَا رَافِعًا لَهُ

فصل شرائط أركان الوضوء

وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ لَابِسُ الْخُفِّ عَلَى طَهَارَةٍ وَقْتَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ. (وَمِنْهَا) : أَنَّهُ إذَا سَقَطَتْ الْجَبَائِرُ لَا عَنْ بُرْءٍ لَا يُنْتَقَضُ الْمَسْحُ، وَسُقُوطُ الْخُفَّيْنِ أَوْ سُقُوطُ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ انْتِقَاضَ الْمَسْحِ لِمَا بَيَّنَّا [فَصْلٌ شَرَائِطُ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ أَرْكَانِ الْوُضُوءِ (فَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ، حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّوَضُّؤُ بِمَا سِوَى الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ كَالْخَلِّ، وَالْعَصِيرِ، وَاللَّبَنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْغَسْلُ بِالْمَاءِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] نَقَلَ الْحُكْمَ إلَى التُّرَابِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنْقُولَ مِنْهُ هُوَ الْغَسْلُ بِالْمَاءِ، وَكَذَا الْغَسْلُ الْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْغَسْلِ الْمُعْتَادِ، وَهُوَ الْغَسْلُ بِالْمَاءِ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْمَاءِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ الْمُقَيَّدِ، وَالْمَاءُ الْمُطْلَقُ هُوَ الَّذِي تَتَسَارَعُ أَفْهَامُ النَّاسِ إلَيْهِ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ، كَمَاءِ الْأَنْهَارِ، وَالْعُيُونِ، وَالْآبَارِ، وَمَاءِ السَّمَاءِ، وَمَاءِ الْغُدْرَانِ، وَالْحِيَاضِ، وَالْبِحَارِ، فَيَجُوزُ الْوُضُوءُ بِذَلِكَ كُلِّهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي مَعْدِنِهِ، أَوْ فِي الْأَوَانِي؛ لِأَنَّ نَقْلَهُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان لَا يَسْلُبُ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَاءِ عَنْهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَذْبًا أَوْ مِلْحًا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمِلْحَ يُسَمَّى مَاءً عَلَى الْإِطْلَاقِ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ، أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ» ، وَالطَّهُورُ هُوَ الطَّاهِرُ فِي نَفْسِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] . وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ الْبَحْرِ فَقَالَ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ الْمِيَاهِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْفَلَوَاتِ، وَمَا يَنُوبُهَا مِنْ الدَّوَابِّ، وَالسِّبَاعِ فَقَالَ: لَهَا مَا أَخَذَتْ فِي بُطُونِهَا، وَمَا أَبْقَتْ فَهُوَ لَنَا شَرَابٌ، وَطَهُورٌ» «، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ مِنْ آبَارِ الْمَدِينَةِ» . مَطْلَبُ الْمَاءِ الْمُقَيَّدِ (وَأَمَّا) الْمُقَيَّدُ فَهُوَ مَا لَا تَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْأَفْهَامُ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ، وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يُسْتَخْرَجُ مِنْ الْأَشْيَاءِ بِالْعِلَاجِ كَمَاءِ الْأَشْجَارِ، وَالثِّمَارِ، وَمَاءِ الْوَرْدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ،، وَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ إذَا خَالَطَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ كَاللَّبَنِ، وَالْخَلِّ، وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ زَالَ عَنْهُ اسْمُ الْمَاءِ بِأَنْ صَارَ مَغْلُوبًا بِهِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْمَاءِ الْمُقَيَّدِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الَّذِي خَالَطَهُ مِمَّا يُخَالِفُ لَوْنُهُ لَوْنَ الْمَاءِ كَاللَّبَنِ، وَمَاءِ الْعُصْفُرِ، وَالزَّعْفَرَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ فِي اللَّوْنِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُخَالِفُ الْمَاءَ فِي اللَّوْنِ، وَيُخَالِفُهُ فِي الطَّعْمِ كَعَصِيرِ الْعِنَبِ الْأَبْيَضِ، وَخَلِّهِ تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ فِي الطَّعْمِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُخَالِفُهُ فِيهِمَا تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ فِي الْأَجْزَاءِ. فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْأَجْزَاءِ؟ لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَقَالُوا: حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَاءِ الْمَغْلُوبِ احْتِيَاطًا هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الَّذِي خَالَطَهُ مِمَّا يُقْصَدُ مِنْهُ زِيَادَةُ نَظَافَةٍ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُقْصَدُ مِنْهُ ذَلِكَ، وَيُطْبَخُ بِهِ أَوْ يُخَالِطُ بِهِ كَمَاءِ الصَّابُونِ، وَالْأُشْنَانِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، وَإِنْ تَغَيَّرَ لَوْنُ الْمَاءِ، أَوْ طَعْمُهُ، أَوْ رِيحُهُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْمَاءِ بَاقٍ، وَازْدَادَ مَعْنَاهُ، وَهُوَ التَّطْهِيرُ، وَكَذَلِكَ جَرَتْ السُّنَّةُ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ بِالْمَاءِ الْمَغْلِيِّ بِالسِّدْرِ، وَالْحُرُضِ فَيَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ إلَّا إذَا صَارَ غَلِيظًا كَالسَّوِيقِ الْمَخْلُوطِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْمَاءِ، وَمَعْنَاهُ أَيْضًا. وَلَوْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ بِالطِّينِ أَوْ بِالتُّرَابِ، أَوْ بِالْجِصِّ، أَوْ بِالنُّورَةِ أَوْ بِوُقُوعِ الْأَوْرَاقِ، أَوْ الثِّمَارِ فِيهِ، أَوْ بِطُولِ الْمُكْثِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ اسْمُ الْمَاءِ، وَبَقِيَ مَعْنَاهُ أَيْضًا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الضَّرُورَةِ الظَّاهِرَةِ لِتَعَذُّرِ صَوْنِ الْمَاءِ عَنْ ذَلِكَ. وَقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ لِتَغَيُّرِ طَعْمِ الْمَاءِ، وَصَيْرُورَتِهِ مَغْلُوبًا بِطَعْمِ التَّمْرِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الْمَاءِ الْمُقَيَّدِ، وَبِالْقِيَاسِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ تَرَكَ الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ، وَهُوَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَجَوَّزَ التَّوَضُّؤَ بِهِ. وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَوَجَدَ نَبِيذَ التَّمْرِ تَوَضَّأَ بِهِ، وَلَمْ يَتَيَمَّمْ، وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَإِنْ تَيَمَّمَ مَعَهُ أَحَبُّ إلَيَّ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَرَوَى نُوحٌ فِي الْجَامِعِ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ يَتَيَمَّمُ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ، كَذَا قَالَ نُوحٌ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] نَقَلَ الْحُكْمَ مِنْ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ إلَى التُّرَابِ فَمَنْ نَقَلَهُ إلَى النَّبِيذِ، ثُمَّ مِنْ

النَّبِيذِ إلَى التُّرَابِ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ، وَهَؤُلَاءِ طَعَنُوا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) : أَنَّهُمْ قَالُوا: رَوَاهُ أَبُو فَزَارَةَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبُو فَزَارَةَ هَذَا كَانَ نَبَّاذًا بِالْكُوفَةِ، وَأَبُو زَيْدٍ مَجْهُولٌ (وَمِنْهَا) : أَنَّهُ قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: هَلْ كُنْتَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ: لَيْتَنِي كُنْتُ. وَسُئِلَ تِلْمِيذُهُ عَلْقَمَةُ هَلْ كَانَ صَاحِبُكُمْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ: وَدِدْنَا أَنَّهُ كَانَ (وَمِنْهَا) : أَنَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَرَدَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ، وَمِنْ شَرْطِ ثُبُوتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَنْ لَا يُخَالِفَ الْكِتَابَ، فَإِذَا خَالَفَ لَمْ يَثْبُتْ أَوْ ثَبَتَ لَكِنَّهُ نُسِخَ بِهِ، لِأَنَّ لَيْلَةَ الْجِنِّ كَانَتْ بِمَكَّةَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَامَ هَهُنَا دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ، وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْآخَرُ يَقْتَضِي وُجُوبَ التَّيَمُّمِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] ، وَالْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ وَاجِبٌ إذَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا. وَهَهُنَا أَمْكَنَ، إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ، وَالتَّيَمُّمِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُلُوسًا فِي بَيْتٍ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لِيَقُمْ مِنْكُمْ مَنْ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ فَقُمْتُ، وَفِي رِوَايَةٍ فَلَمْ يَقُمْ مِنَّا أَحَدٌ، فَأَشَارَ إلَيَّ بِالْقِيَامِ فَقُمْتُ، وَدَخَلْتُ الْبَيْتَ، فَتَزَوَّدْتُ بِإِدَاوَةٍ مِنْ نَبِيذٍ فَخَرَجْتُ مَعَهُ فَخَطَّ لِي خَطًّا وَقَالَ: إنْ خَرَجْتَ مِنْ هَذَا لَمْ تَرَنِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقُمْتُ قَائِمًا، حَتَّى انْفَجَرَ الصُّبْحُ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ عَرِقَ جَبِينُهُ، كَأَنَّهُ حَارَبَ جِنًّا، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ مَسْعُودٍ هَلْ مَعَكَ مَاءٌ أَتَوَضَّأُ بِهِ؟ فَقُلْتُ لَا إلَّا نَبِيذَ تَمْرٍ فِي إدَاوَةٍ فَقَالَ ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ، وَمَاءٌ طَهُورٌ فَأَخَذَ ذَلِكَ، وَتَوَضَّأ بِهِ، وَصَلَّى الْفَجْرَ» . وَكَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يُجَوِّزُونَ التَّوَضُّؤَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «نَبِيذُ التَّمْرِ وُضُوءُ مَنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ» . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «تَوَضَّئُوا بِنَبِيذِ التَّمْرِ، وَلَا تَتَوَضَّئُوا بِاللَّبَنِ» . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفِينَةٍ فِي الْبَحْرِ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَفَنِيَ مَاؤُهُمْ، وَمَعَهُمْ نَبِيذُ التَّمْرِ فَتَوَضَّأَ بَعْضُهُمْ بِنَبِيذِ التَّمْرِ، وَكَرِهَ التَّوَضُّؤَ بِمَاءِ الْبَحْرِ، وَتَوَضَّأَ بَعْضُهُمْ بِمَاءِ الْبَحْرِ، وَكَرِهَ التَّوَضُّؤَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَهَذَا حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ مَنْ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ كَانَ يَعْتَقِدُ جَوَازَ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ بِنَبِيذِ التَّمْرِ لِكَوْنِهِ وَاجِدًا لِلْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَمَنْ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالنَّبِيذِ كَانَ لَا يَرَى مَاءَ الْبَحْرَ طَهُورًا، أَوْ كَانَ يَقُولُ هُوَ مَاءُ سَخْطَةٍ، وَنِقْمَةٍ، كَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ قَوْلُهُ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صِفَةِ الْبَحْرِ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . فَتَوَضَّأَ بِنَبِيذِ التَّمْرِ لِكَوْنِهِ عَادِمًا لِلْمَاءِ الطَّاهِرِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ مَوْرِدَ الشُّهْرَةِ، وَالِاسْتِفَاضَةِ حَيْثُ عَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ فَصَارَ مُوجِبًا عِلْمًا اسْتِدْلَالِيًّا كَخَبَرِ الْمِعْرَاجِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ، وَشَرِّهِ مِنْ اللَّهِ، وَأَخْبَارِ الرُّؤْيَةِ، وَالشَّفَاعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ الرَّاوِي فِي الْأَصْلِ وَاحِدًا، ثُمَّ اشْتَهَرَ، وَتَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ، وَمِثْلُهُ مِمَّا يُنْسَخُ بِهِ الْكِتَابُ مَعَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ نَبِيذِ التَّمْرِ فِي الْأَسْفَارِ يَسْبِقُ عَدَمَ الْمَاءِ عَادَةً؛ لِأَنَّهُ أَعْسَرُ وُجُودًا، وَأَعَزُّ إصَابَةً مِنْ الْمَاءِ فَكَانَ تَعْلِيقُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِعَدَمِ الْمَاءِ تَعْلِيقًا بِعَدَمِ النَّبِيذِ دَلَالَةً، فَكَأَنَّهُ قَالَ: " فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً وَلَا نَبِيذَ تَمْرٍ فَتَيَمَّمُوا " إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ لِثُبُوتِهِ عَادَةً. يُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ فَتَاوَى نُجَبَاءِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي زَمَانٍ انْسَدَّ فِيهِ بَابُ الْوَحْيِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْرَفَ النَّاسِ بِالنَّاسِخِ، وَالْمَنْسُوخِ، فَبَطَلَ دَعْوَى النَّسْخِ، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الطَّعْنِ فِي الرَّاوِي، أَمَّا أَبُو فَزَارَةَ فَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ، فَلَا مَطْعَنَ لِأَحَدٍ فِيهِ، وَأَمَّا أَبُو زَيْدٍ فَقَدْ قَالَ صَاعِدٌ، وَهُوَ مِنْ زُهَّادِ التَّابِعِينَ: وَأَمَّا أَبُو زَيْدٍ فَهُوَ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ فَكَانَ مَعْرُوفًا فِي نَفْسِهِ، وَبِمَوْلَاهُ فَالْجَهْلُ بِعَدَالَتِهِ لَا يَقْدَحُ فِي رِوَايَتِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ غَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا طَعْنٌ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَكُنْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجِنِّ دَعْوَى بَاطِلَةٌ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّهُ تَرَكَهُ فِي الْخَطِّ، وَكَذَا رُوِيَ كَوْنُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَبَرٍ آخَرَ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ أَحْجَارًا لِلِاسْتِنْجَاءِ فَأَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: إنَّهَا

رِجْسٌ أَوْ رِكْسٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَقْوَامًا مِنْ الزُّطِّ بِالْعِرَاقِ قَالَ: مَا أَشْبَهَ هَؤُلَاءِ بِالْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنِّ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالْكُوفَةِ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ بِهَؤُلَاءِ مِنْ الْجِنِّ الَّذِينَ رَأَيْتُهُمْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجِنِّ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُ، وَأَنَّ عَلْقَمَةَ قَالَ: وَدِدْنَا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي خَاطَبَ فِيهَا الْجِنَّ أَيْ لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُ وَقْتَ خِطَابِهِ الْجِنَّ، وَوَدِدْنَا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ وَقْتَ مَا خَاطَبَ الْجِنَّ. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي جَوَازِ الِاغْتِسَالِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ عُرِفَ بِالنَّصِّ، وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْوُضُوءِ دُونَ الِاغْتِسَالِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ تَفْسِيرِ نَبِيذِ التَّمْرِ الَّذِي فِيهِ الْخِلَافُ، وَهُوَ أَنْ يُلْقَى شَيْءٌ مِنْ التَّمْرِ فِي الْمَاءِ فَتَخْرُجُ حَلَاوَتُهُ إلَى الْمَاءِ،، وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي تَفْسِيرِ نَبِيذِ التَّمْرِ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْجِنِّ فَقَالَ: تُمَيْرَاتٌ أَلْقَيْتُهَا فِي الْمَاءِ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تَطْرَحُ التَّمْرَ فِي الْمَاءِ الْمِلْحِ لِيَحْلُوَ، فَمَا دَامَ حُلْوًا رَقِيقًا، أَوْ قَارِصًا يُتَوَضَّأُ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ غَلِيظًا كَالرُّبِّ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا إنْ كَانَ رَقِيقًا لَكِنَّهُ غَلَا، وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْكِرًا، وَالْمُسْكِرُ حَرَامٌ، فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيذَ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ رَقِيقًا حُلْوًا، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ الْغَلِيظُ، وَالْمُرُّ، هَذَا إذَا كَانَ نِيئًا، فَإِنْ كَانَ مَطْبُوخًا أَدْنَى طَبْخَةٍ فَمَا دَامَ حُلْوًا أَوْ قَارِصًا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَإِنْ غَلَا، وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْكَرْخِيِّ، وَأَبِي طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ يَجُوزُ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي طَاهِرٍ لَا يَجُوزُ وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ اسْمَ النَّبِيذِ كَمَا يَقَعُ عَلَى النِّيءِ مِنْهُ يَقَعُ عَلَى الْمَطْبُوخِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ إذَا اخْتَلَطَ بِهِ الْمَائِعَاتُ الطَّاهِرَةُ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا إذَا كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا، وَهَهُنَا أَجْزَاءُ الْمَاءِ غَالِبَةٌ عَلَى أَجْزَاءِ التَّمْرِ فَيَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي طَاهِرٍ أَنَّ الْجَوَازَ عُرِفَ بِالْحَدِيثِ، وَالْحَدِيثُ وَرَدَ فِي النِّيءِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيذِ فَقَالَ: تُمَيْرَاتٌ أَلْقَيْتُهَا فِي الْمَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّ الْمَائِعَ الطَّاهِرَ إذَا اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ لَا يَمْنَعُ التَّوَضُّؤَ بِهِ " فَنَعَمْ إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الْمَاءِ أَصْلًا فَأَمَّا إذَا غَلَبَ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَلَا، وَهَهُنَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الطَّعْمِ، وَاللَّوْنِ، وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ مِنْ حَيْثُ الْأَجْزَاءِ، فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، وَهَذَا أَقْرَبُ الْقَوْلَيْنِ إلَى الصَّوَابِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ وَجَعَلَهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي شُرْبِهِ فَقَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ كَمَا يَجُوزُ شُرْبُهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ شُرْبُهُ، وَأَبُو يُوسُفَ فَرَقَّ بَيْنَ الْوُضُوءِ، وَالشُّرْبِ فَقَالَ: يَجُوزُ شُرْبُهُ، وَلَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَرَى التَّوَضُّؤَ بِالنِّيءِ الْحُلْوِ مِنْهُ، فَبِالْمَطْبُوخِ الْمُرِّ أَوْلَى وَأَمَّا نَبِيذُ الزَّبِيبِ، وَسَائِرُ الْأَنْبِذَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيِّ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِالْأَنْبِذَةِ كُلِّهَا نِيئًا كَانَ النَّبِيذُ أَوْ مَطْبُوخًا، حُلْوًا كَانَ أَوْ مُرًّا قِيَاسًا عَلَى نَبِيذِ التَّمْرِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْجَوَازَ فِي نَبِيذِ التَّمْرِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى الْجَوَازَ إلَّا بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَهَذَا لَيْسَ بِمَاءٍ مُطْلَقٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا الْجَوَازَ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي نَبِيذِ التَّمْرِ خَاصَّةً فَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ طَاهِرًا، فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ النَّجِسِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّى الْوُضُوءَ طَهُورًا، وَطَهَارَةً بِقَوْلِهِ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ» وَقَوْلِهِ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهَارَةٍ» ، وَيَسْتَحِيلُ حُصُولُ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ النَّجِسِ، وَالْمَاءُ النَّجِسُ مَا خَالَطَهُ النَّجَاسَةُ، وَسَنَذْكُرُ بَيَانَ الْقَدْرِ الَّذِي يُخَالِطُ الْمَاءَ مِنْ النَّجَاسَةِ فَيُنَجِّسُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ طَهُورًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ ثُمَّ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ» ، وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلطَّاهِرِ فِي ذَاتِهِ الْمُطَهِّرِ لِغَيْرِهِ. فَلَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَيَجُوزُ بِالْمَاءِ الْمَكْرُوهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ إذَا وُجِدَ غَيْرُهُ، وَلَا يَجُوزُ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مَشْكُوكُ فِي طَهُورِيَّتِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ فِي طَهَارَتِهِ، وَسَنُفَسِّرُهُ، وَنَسْتَوْفِي الْكَلَامَ فِيهِ إذَا انْتَهَيْنَا إلَى بَيَانِ حُكْمِ الْأَسْآرِ عِنْدَ بَيَانِ أَنْوَاعِ الْأَنْجَاسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) النِّيَّةُ فَلَيْسَتْ مِنْ الشَّرَائِطِ، وَكَذَلِكَ التَّرْتِيبُ فَيَجُوزُ الْوُضُوءُ

فصل سنن الوضوء

بِدُونِ النِّيَّةِ وَمُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ عِنْدنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ الشَّرَائِطِ لَا يَجُوزُ بِدُونِهِمَا، وَكَذَلِكَ إيمَانُ الْمُتَوَضِّئِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ وُضُوئِهِ عِنْدَنَا فَيَجُوزُ وُضُوءُ الْكَافِرِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ شَرْطٌ، فَلَا يَجُوزُ وُضُوءُ الْكَافِرِ، وَكَذَلِكَ الْمُوَالَاةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ شَرْطٌ، وَسَنَذْكُرُ هَذِهِ الْمَسَائِلَ عِنْدَ بَيَانِ سُنَنِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ السُّنَنِ عِنْدَنَا لَا مِنْ الْفَرَائِضِ، فَكَانَ إلْحَاقُهَا بِفَصْلِ السُّنَنِ أَوْلَى. [فَصْلٌ سُنَنُ الْوُضُوءِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سُنَنُ الْوُضُوءِ فَكَثِيرَةٌ بَعْضُهَا قَبْلَ الْوُضُوءِ، وَبَعْضُهَا فِي ابْتِدَائِهِ، وَبَعْضُهَا فِي أَثْنَائِهِ، (أَمَّا) الَّذِي هُوَ قَبْلَ الْوُضُوءِ (فَمِنْهَا) : الِاسْتِنْجَاءُ بِالْأَحْجَارِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا،، وَسَمَّى الْكَرْخِيُّ الِاسْتِنْجَاءَ اسْتِجْمَارًا إذْ هُوَ طَلَبُ الْجَمْرَةِ، وَهِيَ الْحَجَرُ الصَّغِيرُ، وَالطَّحَاوِيُّ سَمَّاهُ اسْتِطَابَةً، وَهِيَ طَلَبُ الطِّيبِ، وَهُوَ الطَّهَارَةُ، وَالِاسْتِنْجَاءُ هُوَ طَلَبُ طَهَارَةِ الْقُبُلِ، وَالدُّبُرِ مِنْ النَّجْوِ، وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْبَطْنِ، أَوْ مَا يَعْلُو، وَيَرْتَفِعُ مِنْ النَّجْوَةِ، وَهِيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ. (وَالْكَلَامُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ) فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْتَنْجَى بِهِ، وَفِي بَيَان مَا يُسْتَنْجَى مِنْهُ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالِاسْتِنْجَاءُ سُنَّةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ الِاسْتِنْجَاءَ أَصْلًا جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا، وَلَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ، وَالْكَلَامُ فِيهِ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ أَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ عَفْوٌ فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِعَفْوٍ، ثُمَّ نَاقَضَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ فَقَالَ: إذَا اسْتَنْجَى بِالْأَحْجَارِ، وَلَمْ يَغْسِلْ مَوْضِعَ الِاسْتِنْجَاءِ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ تَيَقُّنًا بِبَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَةِ، إذْ الْحَجَرُ لَا يَسْتَأْصِلُ النَّجَاسَةَ، وَإِنَّمَا يُقَلِّلُهَا وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ، ثُمَّ ابْتِدَاءُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لَيْسَ بِفَرْضٍ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ نَفَى الْحَرَجَ فِي تَرْكِهِ، وَلَوْ كَانَ فَرْضًا لَكَانَ فِي تَرْكِهِ حَرَجٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ " وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ فِي الْمَفْرُوضِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ، وَالْمُسْتَحَبِّ، إلَّا أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الِاسْتِنْجَاءَ أَصْلًا، وَصَلَّى يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ جُعِلَ عَفْوًا فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ دُونَ الْكَرَاهَةِ، وَإِذَا اسْتَنْجَى زَالَتْ الْكَرَاهَةُ لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْأَحْجَارِ أُقِيمَ مَقَامَ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ شَرْعًا لِلضَّرُورَةِ إذْ الْإِنْسَانُ قَدْ لَا يَجِدُ سُتْرَةً، أَوْ مَكَانًا خَالِيًا لِلْغَسْلِ، وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ فَأُقِيمَ الِاسْتِنْجَاءُ مَقَامَ الْغَسْلِ فَتَزُولُ بِهِ الْكَرَاهَةُ كَمَا تَزُولُ بِالْغَسْلِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَنْجِي بِالْأَحْجَارِ» ، وَلَا يُظَنُّ بِهِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُسْتَنْجَى بِهِ فَالسُّنَّةُ هُوَ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ مِنْ الْأَحْجَارِ وَالْأَمْدَارِ، وَالتُّرَابِ، وَالْخِرَقِ الْبَوَالِي. وَيُكْرَهُ بِالرَّوْثِ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْجَاسِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ أَحْجَارِ الِاسْتِنْجَاءِ أَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَمَى بِالرَّوْثَةِ، وَعَلَّلَ بِكَوْنِهَا نَجَسًا، فَقَالَ: إنَّهَا رِجْسٌ» أَوْ رِكْسٌ، أَيْ: نَجَسٌ. وَيُكْرَهُ بِالْعَظْمِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ، وَالرِّمَّةِ وَقَالَ: مَنْ اسْتَنْجَى بِرَوْثٍ، أَوْ رِمَّةٍ فَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَسْتَنْجُوا بِالْعَظْمِ وَلَا بِالرَّوْثِ فَإِنَّ الْعَظْمَ زَادُ إخْوَانِكُمْ الْجِنِّ، وَالرَّوْثُ عَلَفُ دَوَابِّهِمْ» فَإِنَّ فِعْلَ ذَلِكَ يُعْتَدُّ بِهِ عِنْدَنَا، فَيَكُونُ مُقِيمًا سُنَّةً، وَمُرْتَكِبًا كَرَاهَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ جِهَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، فَيَكُونُ بِجِهَةِ كَذَا، وَبِجِهَةِ كَذَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، حَتَّى لَا تَجُوزَ صَلَاتُهُ إذَا لَمْ يَسْتَنْجِ بِالْأَحْجَارِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالْأَحْجَارِ فَيُرَاعَى عَيْنُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ؛، وَلِأَنَّ الرَّوْثَ نَجَسٌ فِي نَفْسِهِ، وَالنَّجَسُ كَيْفَ يُزِيلُ النَّجَاسَةَ؟ (وَلَنَا) أَنَّ النَّصَّ مَعْلُولٌ بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ وَقَدْ حَصَلَتْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَمَا تَحْصُلُ بِالْأَحْجَارِ، إلَّا أَنَّهُ كُرِهَ بِالرَّوْثِ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِعْمَالِ النَّجَسِ، وَإِفْسَادِ عَلَفِ دَوَابِّ الْجِنِّ، وَكُرِهَ بِالْعَظْمِ لِمَا فِيهِ مِنْ إفْسَادِ زَادِهِمْ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ، فَكَانَ النَّهْيُ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِهِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ لَا فِي عَيْنِهِ، فَلَا يُمْنَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ وَقَوْلُهُ: " الرَّوْثُ نَجَسٌ فِي نَفْسِهِ " مُسَلَّمٌ، لَكِنَّهُ يَابِسٌ لَا يَنْفَصِلُ مِنْهُ شَيْءٌ إلَى الْبَدَنِ فَيَحْصُلُ بِاسْتِعْمَالِهِ نَوْعُ طَهَارَةٍ بِتَقْلِيلِ النَّجَاسَةِ. وَيُكْرَهُ الِاسْتِنْجَاءُ بِخِرْقَةِ الدِّيبَاجِ وَمَطْعُومِ الْآدَمِيِّ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لِمَا فِيهِ مِنْ إفْسَادِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَكَذَا بِعَلَفِ الْبَهَائِمِ، وَهُوَ الْحَشِيشُ؛ لِأَنَّهُ تَنْجِيسٌ لِلطَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ.

وَالْمُعْتَبَرُ فِي إقَامَةِ هَذِهِ السُّنَّةِ عِنْدَنَا هُوَ الْإِنْقَاءُ دُونَ الْعَدَدِ، فَإِنْ حَصَلَ بِحَجَرٍ وَاحِدٍ كَفَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِالثَّلَاثِ زَادَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْعَدَدُ مَعَ الْإِنْقَاءِ شَرْطٌ، حَتَّى لَوْ حَصَلَ الْإِنْقَاءُ بِمَا دُونِ الثَّلَاثِ كَمَّلَ الثَّلَاثَ، وَلَوْ تَرَكَ لَمْ يُجْزِهِ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ» أَمْرٌ بِالْإِيتَارِ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ. (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ «ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَهُ أَحْجَارَ الِاسْتِنْجَاءِ فَأَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَرَمَى الرَّوْثَةَ» ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ حَجَرًا ثَالِثًا، وَلَوْ كَانَ الْعَدَدُ فِيهِ شَرْطًا لَسَأَلَهُ إذْ لَا يُظَنُّ بِهِ تَرْكُ الْوَاجِبِ؛ وَلِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ هُوَ التَّطْهِيرُ وَقَدْ حَصَلَ بِالْوَاحِدِ، وَلَا يَجُوزُ تَنْجِيسُ الطَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةِ. (وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَحُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْإِيتَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً، عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِيتَارِ لَيْسَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ فَإِذَا حَصَلَتْ بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَيَنْتَهِي حُكْمُ الْأَمْرِ، وَكَذَا اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ وَاحِدٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فِي تَحْصِيلِ مَعْنَى الطَّهَارَةِ. وَيَسْتَنْجِي بِيَسَارِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْكُلُ بِيَمِينِهِ، وَيَسْتَجْمِرُ بِيَسَارِهِ، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْكُلُ بِيَمِينِهِ، وَيَسْتَنْجِي بِيَسَارِهِ» ، وَلِأَنَّ الْيَسَارَ لِلْأَقْذَارِ. وَهَذَا إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ الَّتِي عَلَى الْمَخْرَجِ قَدْرَ الدِّرْهَمِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَزُولُ إلَّا بِالْغَسْلِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَزُولُ بِالْأَحْجَارِ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ النَّجَسُ الْمَخْرَجَ فَإِنْ تَعَدَّاهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمُتَعَدِّي أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ يَجِبُ غَسْلُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا تَجَاوَزَتْ مَخْرَجَهَا وَجَبَ غَسْلُهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافَ أَصْحَابِنَا لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ النَّجَاسَةِ لَيْسَ بِعَفْوٍ، وَهَذَا كَثِيرٌ، وَلَهُمَا أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي عَلَى الْمَخْرَجِ قَلِيلٌ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ كَثِيرًا بِضَمِّ الْمُتَعَدِّي إلَيْهِ، وَهُمَا نَجَاسَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ فِي الْحُكْمِ، فَلَا يَجْتَمِعَانِ أَلَا يُرَى أَنَّ إحْدَاهُمَا تَزُولُ بِالْأَحْجَارِ، وَالْأُخْرَى لَا تَزُولُ إلَّا بِالْمَاءِ، وَإِذَا اخْتَلَفَتَا فِي الْحُكْمِ يُعْطَى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهَا، وَهِيَ فِي نَفْسِهَا قَلِيلَةٌ فَكَانَتْ عَفْوًا. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُسْتَنْجَى مِنْهُ فَالِاسْتِنْجَاءُ مَسْنُونٌ مِنْ كُلِّ نَجَسٍ يَخْرُجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ لَهُ عَيْنٌ مَرْئِيَّةٌ كَالْغَائِطِ، وَالْبَوْلِ، وَالْمَنِيِّ، وَالْوَدْيِ، وَالْمَذْيِ، وَالدَّمِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لِلتَّطْهِيرِ بِتَقْلِيلِ النَّجَاسَةِ، وَإِذَا كَانَ النَّجِسُ الْخَارِجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ عَيْنًا مَرْئِيَّةً تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّطْهِيرِ بِالتَّقْلِيلِ، وَلَا اسْتِنْجَاءَ فِي الرِّيحِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَيْنٍ مَرْئِيَّةٍ. مَطْلَبٌ فِي السِّوَاكِ (وَمِنْهَا) السِّوَاكُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ؛، وَلِأَنَّهُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، وَمَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ» عَزَّ وَجَلَّ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالسِّوَاكِ، حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُدْرِدَنِيَ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ «طَهِّرُوا مَسَالِكَ الْقُرْآنِ بِالسِّوَاكِ» ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَاكَ بِأَيِّ سِوَاكٍ كَانَ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا، مَبْلُولًا أَوْ غَيْرَ مَبْلُولٍ، صَائِمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ صَائِمٍ، قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ نُصُوصَ السِّوَاكِ مُطْلَقَةٌ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُكْرَهُ السِّوَاكُ بَعْدَ الزَّوَالِ لِلصَّائِمِ لِمَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ. (وَأَمَّا) الَّذِي هُوَ فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ (فَمِنْهَا) النِّيَّةُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هِيَ فَرِيضَةٌ، وَالْكَلَامُ فِي النِّيَّةِ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ، وَالْعِبَادَةِ غَيْرُ لَازِمٍ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَازِمٌ، وَلِهَذَا صَحَّ مِنْ الْكَافِرِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ» ، وَالْإِيمَانُ عِبَادَةٌ فَكَذَا شَطْرُهُ، وَلِهَذَا كَانَ التَّيَمُّمُ عِبَادَةً، حَتَّى لَا يَصِحَّ بِدُونِ النِّيَّةِ، وَأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْوُضُوءِ، وَالْخَلَفُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] أَمْرٌ بِالْغَسْلِ، وَالْمَسْحِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] نَهَى الْجُنُبَ عَنْ قُرْبَانِ الصَّلَاةِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَابِرَ سَبِيلٍ إلَى غَايَةِ الِاغْتِسَالِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ، فَيَقْتَضِي انْتِهَاءَ حُكْمِ النَّهْي عِنْدَ الِاغْتِسَالِ الْمُطْلَقِ، وَعِنْدَهُ لَا يَنْتَهِي إلَّا عِنْدَ

التسمية في الوضوء

اغْتِسَالٍ مَقْرُونٍ بِالنِّيَّةِ، وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ؛ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ آيَةِ الْوُضُوءِ {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] ، وَحُصُولُ الطَّهَارَةِ لَا يَقِفُ عَلَى النِّيَّةِ بَلْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلطَّهَارَةِ، وَالْمَاءُ مُطَهِّرٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ، أَوْ رِيحَهُ، أَوْ لَوْنَهُ» . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلطَّاهِرِ، فِي نَفْسِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ عَلَى مَا عُرِفَ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَمَلُ الْمَاءِ خِلْقَةً، وَفِعْلُ اللِّسَانِ فَضْلٌ فِي الْبَابِ، حَتَّى لَوْ سَالَ عَلَيْهِ الْمَطَرُ أَجْزَأَهُ عَنْ الْوُضُوءِ، وَالْغَسْلِ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُمَا النِّيَّةُ، إذْ اشْتِرَاطُهَا لِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّازِمَ لِلْوُضُوءِ مَعْنَى الطَّهَارَةِ، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ مِنْ الزَّوَائِدِ، فَإِنْ اتَّصَلَتْ بِهِ النِّيَّةُ يَقَعُ عِبَادَةً، وَإِنْ لَمْ تَتَّصِلْ بِهِ لَا يَقَعُ عِبَادَةً لَكِنَّهُ يَقَعُ، وَسِيلَةً إلَى إقَامَةِ الصَّلَاةِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ. (وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ شَطْرُ الصَّلَاةِ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطِ الْإِيمَان؛ لِصِحَّةِ الْإِيمَانِ بِدُونِهِ، وَلَا شَطْرِهِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالْوُضُوءُ لَيْسَ مِنْ التَّصْدِيقِ فِي شَيْءٍ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ شَطْرُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يُذْكَرُ عَلَى إرَادَةِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ قَبُولَهَا مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] ، أَيْ صَلَاتَكُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَهَكَذَا نَقُولُ فِي التَّيَمُّمِ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ تَتَّصِلْ بِهِ النِّيَّةُ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِهِ، لَا لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ، بَلْ لِانْعِدَامِ حُصُولِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ جُعِلَتْ طَهَارَةً عِنْدَ مُبَاشَرَةِ فِعْلٍ لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ فَإِذَا عَرِيَ عَنْ النِّيَّةِ لَمْ يَقَعْ طَهَارَةً، بِخِلَافِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، فَلَا يَقِفُ عَلَى النِّيَّةِ. [التَّسْمِيَة فِي الْوُضُوء] مَطْلَبٌ فِي التَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ (النِّيَّةِ وَمِنْهَا) : التَّسْمِيَةُ وَقَالَ مَالِكٌ إنَّهَا فَرْضٌ إلَّا إذَا كَانَ نَاسِيًا فَتُقَامُ التَّسْمِيَةُ بِالْقَلْبِ مَقَامَ التَّسْمِيَةِ بِاللِّسَانِ دَفْعًا لِلْحَرِجِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ» . (وَلَنَا) أَنَّ آيَةَ الْوُضُوءِ مُطْلَقَةٌ عَنْ شَرْطِ التَّسْمِيَةِ فَلَا تُقَيَّدُ إلَّا بِدَلِيلٍ صَالِحٍ لِلتَّقْيِيدِ؛، وَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْمُتَوَضِّئِ هُوَ الطَّهَارَةُ، وَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ لَا يَقْدَحُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ خُلِقَ طَهُورًا فِي الْأَصْلِ، فَلَا تَقِفُ طَهُورِيَّتُهُ عَلَى صُنْعِ الْعَبْدِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ تَوَضَّأَ، وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ طَهُورًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَمَنْ تَوَضَّأَ، وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ كَانَ طَهُورًا لِمَا أَصَابَ الْمَاءَ مِنْ بَدَنِهِ» ، وَالْحَدِيثُ مِنْ جُمْلَةِ الْآحَادِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ، وَهُوَ مَعْنَى السُّنَّةِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» ، وَبِهِ نَقُولُ: " إنَّهُ سُنَّةٌ " لِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهَا عِنْدَ افْتِتَاحِ الْوُضُوءِ، وَذَلِكَ دَلِيلُ السُّنِّيَّةِ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ» ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّ التَّسْمِيَةَ يُؤْتَى بِهَا قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ أَوْ بَعْدَهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: قَبْلَهُ لِأَنَّهَا سُنَّةُ افْتِتَاحِ الْوُضُوءِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَعْدَهُ لِأَنَّ حَالَ الِاسْتِنْجَاءِ حَالُ كَشْفِ الْعَوْرَةِ، فَلَا يَكُونُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ. مَطْلَبٌ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ (وَمِنْهَا) : غَسْلُ الْيَدَيْنِ إلَى الرُّسْغَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ لِلْمُسْتَيْقِظِ مِنْ مَنَامِهِ وَقَالَ قَوْمٌ: إنَّهُ فَرْضٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ فَرْضٌ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ فَرْضٌ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ خَاصَّةً، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسَنَّ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْغَمْسِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْغَسْلِ فَرْضًا. (وَلَنَا) أَنَّ الْغَسْلَ لَوْ وَجَبَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَجِبَ مِنْ الْحَدَثِ، أَوْ مِنْ النَّجَسِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغَسْلُ مِنْ الْحَدَثِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ غَسْلَ الْعُضْوِ عِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ مِنْ مَنَامِهِ مَرَّةً، وَمَرَّةً عِنْدَ الْوُضُوءِ، لَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْغَسْلَ عِنْدَ الْحَدَثِ مَرَّتَيْنِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ النَّجَسَ غَيْرُ مَعْلُومٍ بَلْ هُوَ مَوْهُومٌ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ. «فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى تَوَهُّمِ النَّجَاسَةِ، وَاحْتِمَالِهَا فَيُنَاسِبُهُ النَّدْبُ إلَى الْغُسْلِ، وَاسْتِحْبَابُهُ لَا الْإِيجَابُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الطَّهَارَةُ، فَلَا تَثْبُتُ النَّجَاسَةُ بِالشَّكِّ، وَالِاحْتِمَالِ، فَكَانَ الْحَدِيثُ مَحْمُولًا عَلَى نَهْيِ التَّنْزِيهِ لَا التَّحْرِيمِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي وَقْتِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ أَنَّهُ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ أَوْ بَعْدَهُ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ قَبْلَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَعْدَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَبْلَهُ، وَبَعْدَهُ تَكْمِيلًا لِلتَّطْهِيرِ. مَطْلَبٌ فِي الِاسْتِنْجَاءِ

الترتيب في الوضوء

(وَمِنْهَا) : الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَمُعَاوِيَةُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَعَلْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ دَوَاءً، وَطَهُورًا، وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ، وَيَقُولُ: إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانَ يَبْعَرُ بَعْرًا، وَأَنْتُمْ تَثْلِطُونَ ثَلْطًا فَأَتْبِعُوا الْحِجَارَةَ الْمَاءَ، وَهُوَ كَانَ مِنْ الْآدَابِ فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ، وَغَسَلَ مَقْعَدَهُ بِالْمَاءِ ثَلَاثًا» ، وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] فِي أَهْلِ قِبَا سَأَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَأْنِهِمْ، فَقَالُوا: إنَّا نُتْبِعُ الْحِجَارَةَ الْمَاءَ. ثُمَّ صَارَ بَعْدَ عَصْرِهِ مِنْ السُّنَنِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ كَالتَّرَاوِيحِ، وَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ يَغْسِلَ بِيَسَارِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْيَمِينُ لِلْوَجْهِ، وَالْيَسَارُ لِلْمَقْعَدِ» ، ثُمَّ الْعَدَدُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْإِنْقَاءُ، فَإِنْ لَمْ يَكْفِهِ الْغَسْلُ ثَلَاثًا يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مُوَسْوَسًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ عَلَى السَّبْعِ لِأَنَّ قَطْعَ الْوَسْوَسَةِ وَاجِبٌ، وَالسَّبْعُ هُوَ نِهَايَةُ الْعَدَدِ الَّذِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِي الْغَسْلِ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ وُلُوغِ الْكَلْبِ. مَطْلَبٌ فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِنْجَاءِ (وَأَمَّا) كَيْفِيَّةُ الِاسْتِنْجَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُرْخِيَ نَفْسَهُ إرْخَاءً تَكْمِيلًا لِلتَّطْهِيرِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْتَدِئَ بِأُصْبُعٍ، ثُمَّ بِأُصْبُعَيْنِ ثُمَّ بِثَلَاثٍ أَصَابِعَ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَنْدَفِعُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَنْجِيسُ الطَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِبُطُونِ الْأَصَابِعِ لَا بِرُءُوسِهَا كَيْلَا يُشْبِهَ إدْخَالَ الْأُصْبُعِ فِي الْعَوْرَةِ، وَهَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَفْعَلُ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ الرَّجُلُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَنْجِيَ بِرُءُوسِ الْأَصَابِعِ؛ لِأَنَّ تَطْهِيرَ الْفَرْجِ الْخَارِجِ فِي بَابِ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَالْجَنَابَةِ وَاجِبٌ، وَفِي بَابِ الْوُضُوءِ سُنَّةٌ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِرُءُوسِ الْأَصَابِعِ. (وَأَمَّا) الَّذِي هُوَ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ (فَمِنْهَا) : الْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ وَقَالَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: وَهُمَا فَرْضَانِ فِي الْوُضُوءِ، وَالْغَسْلِ جَمِيعًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سُنَّتَانِ فِيهِمَا جَمِيعًا فَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ احْتَجُّوا بِمُوَاظَبَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمَا فِي الْوُضُوءِ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ عَنْ الْجَنَابَةِ يَتَعَلَّقُ بِالظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، وَدَاخِلُ الْأَنْفِ، وَالْفَمِ مِنْ الْبَوَاطِنِ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ. (وَلَنَا) أَنَّ الْوَاجِبَ فِي بَابِ الْوُضُوءِ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَمَسْحُ الرَّأْسِ، وَدَاخِلُ الْأَنْفِ، وَالْفَمِ لَيْسَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَمَّا مَا سِوَى الْوَجْهِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا الْوَجْهُ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ عَادَةً، وَدَاخِلُ الْأَنْفِ، وَالْفَمُ لَا يُوَاجَهُ إلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ، فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ، بِخِلَافِ بَابِ الْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ تَطْهِيرُ الْبَدَنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ، أَيْ طَهِّرُوا أَبْدَانَكُمْ فَيَجِبُ غَسْلُ مَا يُمْكِن غَسْلُهُ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ ظَاهِرًا كَانَ أَوْ بَاطِنًا، وَمُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمَا فِي الْوُضُوءِ دَلِيلُ السُّنِّيَّةِ دُونَ الْفَرْضِيَّةِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى سُنَنِ الْعِبَادَاتِ. (وَمِنْهَا) : التَّرْتِيبُ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْمَضْمَضَةِ عَلَى الِاسْتِنْشَاقِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى التَّقْدِيمِ (وَمِنْهَا) : إفْرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَاءٍ عَلَى حِدَةٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ السُّنَّةُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمَاءٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمَاءَ بِكَفِّهِ فَيَتَمَضْمَضُ بِبَعْضِهِ، وَيَسْتَنْشِقُ بِبَعْضِهِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ» . (وَلَنَا) أَنَّ الَّذِينَ حَكَوْا وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاءً جَدِيدًا؛ وَلِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ مُنْفَرِدَانِ فَيُفْرَدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَاءٍ عَلَى حِدَةٍ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَمَا رَوَاهُ مُحْتَمَلٌ، يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ بِمَاءٍ وَاحِدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِمَاءٍ عَلَى حِدَةٍ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ، أَوْ يُرَدُّ الْمُحْتَمَلُ إلَى الْمُحْكَمِ - وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا - تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ. (وَمِنْهَا) : الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ بِالْيَمِينِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَضْمَضَةُ بِالْيَمِينِ، وَالِاسْتِنْشَاقُ بِالْيَسَارِ؛ لِأَنَّ الْفَمَ مَطْهَرَةٌ، وَالْأَنْفَ مَقْذَرَةٌ، وَالْيَمِينُ لِلْإِطْهَارِ، وَالْيَسَارُ لِلْأَقْذَارِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَن بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ اسْتَنْثَرَ بِيَمِينِهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: جَهِلْتَ السُّنَّةَ، فَقَالَ الْحَسَنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَيْفَ أَجْهَلُ، وَالسُّنَّةُ خَرَجَتْ مِنْ بُيُوتِنَا؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْيَمِينُ لِلْوَجْهِ، وَالْيَسَارُ لِلْمَقْعَدِ» . (وَمِنْهَا) : الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، إلَّا فِي حَالِ الصَّوْمِ فَيُرْفَقُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ «بَالِغْ فِي الْمَضْمَضَةِ، وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا فَارْفُقْ» ، وَلِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِيهِمَا مِنْ بَابِ التَّكْمِيلِ فِي التَّطْهِيرِ، فَكَانَتْ مَسْنُونَةً إلَّا فِي حَالِ الصَّوْمِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْرِيضِ الصَّوْمِ لِلْفَسَادِ. [التَّرْتِيب فِي الْوُضُوء] مَطْلَبٌ فِي التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ. (وَمِنْهَا) : التَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ؛

الموالاة في الوضوء

لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاظَبَ عَلَيْهِ، وَمُوَاظَبَتُهُ عَلَيْهِ دَلِيلُ السُّنَّةِ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ فَرْضٌ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَمْرَ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْغَسْلِ، وَالْمَسْحِ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ بِحَرْفِ الْوَاوِ، وَأَنَّهَا لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَكِنَّ الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ، فَيُحْمَلُ عَلَى التَّرْتِيبِ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَيْثُ غَسَلَ مُرَتِّبًا فَكَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِأَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ (وَلَنَا) أَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ. وَالْجُمَعُ بِصِفَةِ التَّرْتِيبِ جَمْعٌ مُقَيَّدٌ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَفِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ، وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، لَكِنْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَمْعٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُرَتَّبٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ عَمَلًا بِمُوَافَقَةِ الْكِتَابِ، كَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَوْ الظِّهَارِ أَنَّهُ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَا لَا يَنْفِي أَنْ تَكُونَ الرَّقَبَةُ الْمُطْلَقَةُ مُرَادَةً مِنْ النَّصِّ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْمُؤْمِنَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ رَقَبَةٌ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مُؤْمِنَةٌ، كَذَا هَهُنَا. وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ لِلتَّطْهِيرِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالتَّطْهِيرُ لَا يَقِفُ عَلَى التَّرْتِيبِ لِمَا مَرَّ. [الموالاة فِي الْوُضُوء] مَطْلَبُ الْمُوَالَاةِ فِي الْوُضُوءُ. (وَمِنْهَا) : الْمُوَالَاةُ، وَهِيَ أَنْ لَا يَشْتَغِلُ الْمُتَوَضِّئُ بَيْنَ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ بِعَمَلٍ لَيْسَ مِنْهُ؛، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ، وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْمُوَالَاةِ: أَنْ لَا يَمْكُثَ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ مِقْدَارَ مَا يَجِفُّ فِيهِ الْعُضْوُ الْمَغْسُولُ، فَإِنْ مَكَثَ تَنْقَطِعُ الْمُوَالَاةُ، وَعِنْدَ مَالِكٍ هِيَ فَرْضٌ، وَقِيلَ: إنَّهُ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَالْكَلَامُ فِي الطَّرَفَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي التَّرْتِيبِ، فَافْهَمْ. مَطْلَبُ التَّثْلِيثِ فِي الْغَسْلِ. (وَمِنْهَا) : التَّثْلِيثُ فِي الْغَسْلِ، وَهُوَ أَنْ يَغْسِلَ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَقَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ، وَتَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ: هَذَا وُضُوءُ مَنْ يُضَاعِفُ اللَّهُ لَهُ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ، وَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَقَالَ: هَذَا وُضُوئِي، وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا، أَوْ نَقَصَ فَقَدْ تَعَدَّى وَظَلَمَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «فَمَنْ زَادَ، أَوْ نَقَصَ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ» وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: زَادَ عَلَى مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ، وَنَقَصَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: زَادَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، وَلَمْ يَنْوِ ابْتِدَاءَ الْوُضُوءِ، وَنَقَصَ عَنْ الْوَاحِدَةِ،، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاعْتِقَادِ دُونَ نَفْسِ الْفِعْلِ، مَعْنَاهُ فَمَنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ، أَوْ نَقَصَ عَنْ الثَّلَاثِ بِأَنْ لَمْ يَرَ الثَّلَاثَ سُنَّةً؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَرَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةً فَقَدْ ابْتَدَعَ فَيَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ، حَتَّى لَوْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ، أَوْ نَقَصَ وَرَأَى الثَّلَاثَ سُنَّةً لَا يَلْحَقُهُ هَذَا الْوَعِيدُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ مِنْ بَابِ الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ إذَا نَوَى بِهِ، وَأَنَّهُ نُورٌ عَلَى نُورٍ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوُضُوءَ مَرَّتَيْنِ سَبَبًا لِتَضْعِيفِ الثَّوَابِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِاعْتِقَادَ لَا نَفْسَ الزِّيَادَةِ، وَالنُّقْصَانِ. مَطْلَبُ الْبُدَاءَةِ بِالْيَمِينِ. (وَمِنْهَا) الْبُدَاءَةُ بِالْيَمِينِ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ سُنَّةٌ فِي الْوُضُوءِ، وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى التَّنَعُّلَ، وَالتَّرَجُّلَ. (وَمِنْهَا) : الْبُدَاءَةُ فِيهِ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. (وَمِنْهَا) : تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ بَعْدَ إيصَالِ الْمَاءِ إلَى مَا بَيْنَهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَلِّلُوا أَصَابِعَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُخَلِّلَهَا نَارُ جَهَنَّمَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «خَلِّلُوا أَصَابِعَكُمْ لَا تُخَلِّلُهَا نَارُ جَهَنَّمَ» ، وَلِأَنَّ التَّخْلِيلَ مِنْ بَابِ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ فَكَانَ مَسْنُونًا، وَلَوْ كَانَ فِي أُصْبُعِهِ خَاتَمٌ فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحْرِيكِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّحْرِيكِ لِيَصِلَ الْمَاءُ إلَى مَا تَحْتَهُ. مَطْلَبُ الِاسْتِيعَابِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ. (وَمِنْهَا) : الِاسْتِيعَابُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، وَهُوَ أَنْ يَمْسَحَ كُلَّهُ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ كِلْتَيْهِمَا أَقْبَلَ بِهِمَا، وَأَدْبَرَ» ، وَعِنْدَ مَالِكٍ فَرْضٌ وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ. (وَمِنْهَا) : الْبُدَاءَةُ بِالْمَسْحِ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: السُّنَّةُ الْبُدَاءَةُ مِنْ الْهَامَةِ، فَيَضَعُ يَدَيْهِ عَلَيْهَا فَيَمُدُّهُمَا إلَى مُقَدَّمِ الرَّأْسِ، ثُمَّ يُعِيدُهُمَا إلَى الْقَفَا. وَهَكَذَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبْتَدِئُ بِالْمَسْحِ مِنْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ، وَلِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الْمَغْسُولَاتِ الْبُدَاءَةُ بِالْغَسْلِ مِنْ أَوَّلِ الْعُضْوِ فَكَذَا فِي الْمَمْسُوحَاتِ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَمْسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً،، وَالتَّثْلِيثُ مَكْرُوهٌ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ هِيَ التَّثْلِيثُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَمْسَحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِمَاءٍ وَاحِدٍ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَكَيَا وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَسَلَا ثَلَاثًا، وَمَسَحَا بِالرَّأْسِ ثَلَاثًا، وَلِأَنَّ هَذَا رُكْنٌ أَصْلِيٌّ فِي الْوُضُوءِ فَيُسَنُّ فِيهِ التَّثْلِيثُ قِيَاسًا عَلَى الرُّكْنِ الْآخَرَ، وَهُوَ الْغَسْلُ، بِخِلَافِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ

فصل آداب الوضوء

بِرُكْنٍ أَصْلِيٍّ بَلْ ثَبَتَ رُخْصَةً، وَمَبْنَى الرُّخْصَةِ عَلَى الْخِفَّةِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، وَرَأَيْتُهُ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَرَأَيْتُهُ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَمَا رَأَيْتُهُ مَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ عَلَّمَ النَّاسَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَسَحَ مَرَّةً وَاحِدَةً (وَأَمَّا) حِكَايَةُ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَالْمَشْهُورُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا مَسَحَا مَرَّةً وَاحِدَةً، كَذَا ذَكَرَ أَبُو دَاوُد، فِي سُنَنِهِ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ، وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَكَذَا رَوَى عَبْدُ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي رَحْبَةِ الْكُوفَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَمَسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلْيَنْظُرْ إلَى وُضُوئِي هَذَا. وَلَوْ ثَبَتَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ بِمَاءٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ سُنَّةٌ عِنْدَنَا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ وَلِأَنَّ التَّثْلِيثَ بِالْمِيَاهِ الْجَدِيدَةِ تَقْرِيبٌ إلَى الْغَسْلِ فَكَانَ مُخِلًّا بِاسْمِ الْمَسْحِ، وَاعْتِبَارُهُ بِالْغَسْلِ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَسْحَ بُنِيَ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَالتَّكْرَارُ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ، فَلَا يَلِيقُ بِالْمَسْحِ، بِخِلَافِ الْغَسْلِ، وَالثَّانِي: أَنَّ التَّكْرَارَ فِي الْغَسْلِ مُفِيدٌ لِحُصُولِ زِيَادَةِ نَظَافَةٍ، وَوَضَاءَةٍ لَا تَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِتَكْرَارِ الْمَسْحِ، فَبَطَلَ الْقِيَاسُ. مَطْلَبُ مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ (وَمِنْهَا) : أَنْ يَمْسَحَ الْأُذُنَيْنِ ظَاهِرَهُمَا، وَبَاطِنَهُمَا بِمَاءِ الرَّأْسِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ أَنْ يَأْخُذَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاءً جَدِيدًا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمَا عُضْوَانِ مُنْفَرِدَانِ، وَلَيْسَا مِنْ الرَّأْسِ حَقِيقَةً، وَحُكْمًا، أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَإِنَّ الرَّأْسَ مَنْبَتُ الشَّعْرِ، وَلَا شَعْرَ عَلَيْهِمَا. وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهِمَا لَا يَنُوبُ عَنْ مَسْحِ الرَّأْسِ، وَلَوْ كَانَا فِي حُكْمِ الرَّأْسِ لَنَابَ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا عَنْ مَسْحِ الرَّأْسِ كَسَائِرِ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ أُذُنَيْهِ بِمَاءٍ مَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ» . وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ بَيَانَ الْخِلْقَةِ، بَلْ بَيَانَ الْحُكْمِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنُوبُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا عَنْ مَسْحِ الرَّأْسِ لِأَنَّ وُجُوبَ مَسْحِ الرَّأْسِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ. وَكَوْنُ الْأُذُنَيْنِ مِنْ الرَّأْسِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ، فَلَوْ نَابَ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا عَنْ مَسْحِ الرَّأْسِ لَجَعَلْنَاهُمَا مِنْ الرَّأْسِ قَطْعًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَصَارَ هَذَا كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَطِيمُ مِنْ الْبَيْتِ فَالْحَدِيثُ يُفِيدُ كَوْنَ الْحَطِيمِ مِنْ الْبَيْتِ، حَتَّى يُطَافَ بِهِ كَمَا يُطَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَكَوْنُ الْحَطِيمِ مِنْ الْبَيْتِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إنَّمَا يَجِبُ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ إبْطَالَ الْعَمَلِ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، أَمَّا إذَا تَضَمَّنَ فَلَا، كَذَلِكَ هَهُنَا. (وَأَمَّا) تَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ مِنْ الْآدَابِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ سُنَّةٌ، هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْآثَارِ لِأَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ، وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ فِي لِحْيَتِهِ كَأَنَّهَا أَسْنَانُ الْمِشْطِ» ، وَلَهُمَا أَنَّ الَّذِينَ حَكَوْا وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا خَلَّلُوا لِحَاهُمْ، وَمَا رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ فَهُوَ حِكَايَةُ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ اتِّفَاقًا لَا بِطَرِيقِ الْمُوَاظَبَةِ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى السُّنَّةِ. مَطْلَبُ مَسْحِ الرَّقَبَةِ (وَأَمَّا) مَسْحُ الرَّقَبَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ: إنَّهُ سُنَّةٌ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ إنَّهُ أَدَبٌ. [فَصْلٌ آدَابُ الْوُضُوءِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا آدَابُ الْوُضُوءِ (فَمِنْهَا) : أَنْ لَا يَسْتَعِينَ الْمُتَوَضِّئُ عَلَى وُضُوئِهِ بِأَحَدٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الْجَنُوبِ أَنَّهُ قَالَ «رَأَيْتُ عَلِيًّا يَسْتَقِي مَاءً لِوُضُوئِهِ فَبَادَرْتُ أَسْتَقِي لَهُ، فَقَالَ مَهْ يَا أَبَا الْجَنُوبِ فَإِنِّي رَأَيْتُ عُمَرَ يَسْتَقِي مَاءً لِوُضُوئِهِ فَبَادَرْتُ أَسْتَقِي لَهُ، فَقَالَ: مَهْ يَا أَبَا الْحَسَنِ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَقِي مَاءً لِوُضُوئِهِ فَبَادَرْتُ أَسْتَقِي لَهُ، فَقَالَ: مَهْ يَا عُمَرُ إنِّي لَا أُرِيدُ أَنْ يُعِينَنِي عَلَى صَلَاتِي أَحَدٌ» . (وَمِنْهَا) : أَنْ لَا يُسْرِفَ فِي الْوُضُوءِ وَلَا يُقَتِّرَ، وَالْأَدَبُ فِيمَا بَيْنَ الْإِسْرَافِ، وَالتَّقْتِيرِ، إذْ الْحَقُّ بَيْنَ الْغُلُوِّ، وَالتَّقْصِيرِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا» . (وَمِنْهَا) : دَلْكُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ خُصُوصًا فِي الشِّتَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَتَجَافَى عَنْ الْأَعْضَاءِ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَدْعُوَ عِنْدَ كُلِّ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ بِالدَّعَوَاتِ الْمَأْثُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَأَنْ يَشْرَبَ فَضْلَ وُضُوئِهِ قَائِمًا، إذَا لَمْ يَكُنْ صَائِمًا، ثُمَّ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَيَقُولَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيَمْلَأَ الْآنِيَةَ عِدَّةً لِوُضُوءٍ آخَرَ، وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّهُ فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فصل بيان ما ينقض الوضوء

وَلَكِنْ لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ السُّنَّةِ، وَالْأَدَبِ أَنَّ السُّنَّةَ مَا، وَاظَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَتْرُكْهُ إلَّا مَرَّةً، أَوْ مَرَّتَيْنِ لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي،، وَالْأَدَبُ مَا فَعَلَهُ مَرَّةً، أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَلَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَاَلَّذِي يَنْقُضُهُ الْحَدَثُ. وَالْكَلَامُ فِي الْحَدَثِ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ مَاهِيَّتِه، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ حُكْمِهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْحَدَثُ هُوَ نَوْعَانِ: حَقِيقِيٌّ، وَحُكْمِيٌّ أَمَّا الْحَقِيقِيُّ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: هُوَ خُرُوجُ النَّجَسِ مِنْ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ الدُّبُرِ وَالذَّكَرِ أَوْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ الْجُرْحِ، وَالْقُرْحِ، وَالْأَنْفِ مِنْ الدَّمِ، وَالْقَيْحِ، وَالرُّعَافِ، وَالْقَيْءِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْخَارِجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ مُعْتَادًا كَالْبَوْلِ، وَالْغَائِطِ، وَالْمَنِيِّ، وَالْمَذْيِ، وَالْوَدْيِ، وَدَمِ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، أَوْ غَيْرَ مُعْتَادٍ كَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ،. وَقَالَ زُفَرُ: ظُهُورُ النَّجَسِ مِنْ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ وَقَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلٍ: هُوَ خُرُوجُ النَّجَسِ الْمُعْتَادِ مِنْ السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ، فَلَمْ يَجْعَلْ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ حَدَثًا لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُعْتَادٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ السَّبِيلَيْنِ فَلَيْسَ بِحَدَثٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ مَالِكٍ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَمُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ» وَقَوْلُهُ «لِلْمُسْتَحَاضَةِ تَوَضَّئِي، وَصَلِّي، وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ قَطْرًا» وَقَوْلُهُ تَوَضَّئِي فَإِنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَقْتَضِي كَوْنَ الْخُرُوجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ حَدَثًا لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُعْتَادِ، وَغَيْرِ الْمُعْتَادِ لِمَا يُذْكَرُ، فَالْفَصْلُ يَكُونُ تَحَكُّمًا عَلَى الدَّلِيلِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَهُوَ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَاءَ فَغَسَلَ فَمَهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَتَوَضَّأُ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: هَكَذَا الْوُضُوءُ مِنْ الْقَيْءِ» . وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ حِينَ طُعِنَ كَانَ يُصَلِّي، وَالدَّمُ يَسِيلُ مِنْهُ، وَلِأَنَّ خُرُوجَ النَّجَسِ مِنْ الْبَدَنِ زَوَالُ النَّجَسِ عَنْ الْبَدَنِ، وَزَوَالُ النَّجَسِ عَنْ الْبَدَنِ كَيْفَ يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْبَدَنِ مَعَ أَنَّهُ لَا نَجَسَ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ حَقِيقَةً، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي السَّبِيلَيْنِ إلَّا أَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ عُرِفَ بِالنَّصِّ غَيْرُ مَعْقُولٍ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَرَفْتُ لَهُ غَرْفَةً، فَأَكَلَهَا، فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ فَقُلْتُ: الْوُضُوءَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا عَلَيْنَا الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ لَيْسَ مِمَّا يَدْخُلُ وَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِكُلِّ مَا يَخْرُجُ أَوْ بِمُطْلَقِ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمَخْرَجِ، إلَّا أَنَّ خُرُوجَ الطَّاهِرِ لَيْسَ بِمُرَادٍ، فَبَقِيَ خُرُوجُ النَّجَسِ مُرَادًا. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ قَاءَ، أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ، وَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ» ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي فَصْلَيْنِ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِ النَّجَسِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، وَفِي جَوَازِ الْبِنَاءِ عِنْدَ سَبْقِ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ «تَوَضَّئِي فَإِنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ» أَمَرَهَا بِالْوُضُوءِ، وَعَلَّلَ بِانْفِجَارِ دَمِ الْعِرْقِ، لَا بِالْمُرُورِ عَلَى الْمَخْرَجِ، وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ» ، وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا الْبَابِ وَرَدَتْ مَوْرِدَ الِاسْتِفَاضَةِ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ عَشَرَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا مِثْلَ مَذْهَبِنَا، وَهُمْ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ وَثَوْبَانُ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَقِيلَ فِي التَّاسِعِ، وَالْعَاشِرِ: إنَّهُمَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَهَؤُلَاءِ فُقَهَاءُ الصَّحَابَةِ مُتَّبِعٌ لَهُمْ فِي فَتْوَاهُمْ، فَيَجِبُ تَقْلِيدُهُمْ، وَقِيلَ: إنَّهُ مَذْهَبُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، وَلِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ إنَّمَا كَانَ حَدَثًا؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَنْجِيسَ ظَاهِرِ الْبَدَنِ لِضَرُورَةِ تَنَجُّسِ مَوْضِعِ الْإِصَابَةِ، فَتَزُولُ الطَّهَارَةُ ضَرُورَةً، إذْ النَّجَاسَةُ، وَالطَّهَارَةُ ضِدَّانِ، فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَمَتَى زَالَتْ الطَّهَارَةُ عَنْ ظَاهِرِ الْبَدَنِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ مُنَاجَاةٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَجِبُ تَطْهِيرُهُ بِالْمَاءِ لِيَصِيرَ أَهْلًا لَهَا، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مُحْتَمَلٌ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَاءَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ. وَكَذَا اسْمُ الْوُضُوءِ يَحْتَمِلُ غَسْلَ الْفَمِ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ، أَوْ مَحْمَلُهُ عَلَى مَا قُلْنَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الطَّعْنِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ بَعْدَ الطَّعْنِ مَعَ سَيَلَانِ الدَّمِ، وَصَلَّى. وَبِهِ نَقُولُ، كَمَا فِي الْمُسْتَحَاضَةِ وَقَوْلُهُ: " إنَّ خُرُوجَ النَّجَسِ عَنْ الْبَدَنِ زَوَالُ النَّجَسِ عَنْ الْبَدَنِ " فَكَيْفَ يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ؟ مُسَلَّمٌ أَنَّهُ يَزُولُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ نَجَاسَةِ الْبَاطِنِ، لَكِنْ يَتَنَجَّسُ بِهِ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي زَالَ إلَيْهِ أَوْجَبَ زَوَالَ الطَّهَارَةِ عَنْهُ، وَالْبَدَنُ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ، وَالنَّجَاسَةِ لَا يَتَجَزَّأُ، وَالْعَزِيمَةُ هِيَ غَسْلُ كُلِّ الْبَدَنِ، إلَّا أَنَّهُ أُقِيمَ غَسْلُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ مَقَامَ غَسْلِ كُلِّ

الْبَدَنُ رُخْصَةً، وَتَيْسِيرًا، وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ مَعْقُولٌ فَيَتَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ. وَقَوْلُهُ لَا نَجَاسَةَ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ حَقِيقَةً مَمْنُوعٌ بَلْ عَلَيْهَا نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ الْحِسُّ لَا يُدْرِكُهَا، وَهِيَ نَجَاسَةُ الْحَدَثِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ. وَإِذَا عَرَفْنَا مَاهِيَّةَ الْحَدَثِ نُخَرِّجُ عَلَيْهِ الْمَسَائِلَ (فَنَقُولُ) إذَا ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ عَلَى رَأْسِ الْمَخْرَجِ انْتَقَضَتْ الطَّهَارَةُ لِوُجُودِ الْحَدَثِ، وَهُوَ خُرُوجُ النَّجَسُ، وَهُوَ انْتِقَالُهُ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَخْرَجِ عُضْوٌ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا انْتَقَلَتْ النَّجَاسَةُ إلَيْهِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَإِنَّ مَوْضِعَ الْبَوْلِ الْمَثَانَةُ، وَمَوْضِعَ الْغَائِطِ مَوْضِعٌ فِي الْبَطْنِ يُقَالُ لَهُ قُولُونٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْخَارِجُ قَلِيلًا، أَوْ كَثِيرًا سَالَ عَنْ رَأْسِ الْمَخْرَجِ، أَوْ لَمْ يَسِلْ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا الْمَنِيُّ، وَالْمَذْيُ، وَالْوَدْيُ، وَدَمُ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسُ، وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ لِأَنَّهَا كُلَّهَا أَنْجَاسٌ لِمَا يُذْكَر فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْأَنْجَاسِ وَقَدْ انْتَقَلَتْ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ فَوَجَدَ خُرُوجَ النَّجَسِ مِنْ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ فَيَكُونُ حَدَثًا إلَّا أَنَّ بَعْضَهَا يُوجِبُ الْغُسْلَ، وَهُوَ الْمَنِيُّ، وَدَمُ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسُ، وَبَعْضُهَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ، وَهُوَ الْمَذْيُ، وَالْوَدْيُ، وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ لِمَا يُذْكَرُ إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى، وَكَذَلِكَ خُرُوجُ الْوَلَدِ، وَالدُّودَةِ، وَالْحَصَا، وَاللَّحْمِ، وَعُودِ الْحُقْنَةِ بَعْدَ غَيْبُوبَتِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ. وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَةٌ فِي أَنْفُسِهَا لَكِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ نَجَسٍ يَخْرُجُ مَعَهَا، وَالْقَلِيلُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ خَارِجٌ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَا الرِّيحُ الْخَارِجَةُ مِنْ الدُّبُرِ، لِأَنَّ الرِّيحَ، وَإِنْ كَانَتْ جِسْمًا طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ قَلِيلِ نَجَسٍ يَقُومُ بِهِ لِانْبِعَاثِهِ مِنْ مَحَلِّ الْأَنْجَاسِ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا وُضُوءَ إلَّا مِنْ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ فَيَقُولُ أَحْدَثْت أَحْدَثْت فَلَا يَنْصَرِفَنَّ، حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا» . (وَأَمَّا) الرِّيحُ الْخَارِجَةُ مِنْ قُبُلِ الْمَرْأَةِ، أَوْ ذَكَرِ الرَّجُلِ فَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا الْوُضُوءُ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ فِيهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُفْضَاةً فَيَخْرُجُ مِنْهَا رِيحٌ مُنْتِنَةٌ فَيُسْتَحَبُّ لَهَا الْوُضُوءُ وَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَسْلَكُ النَّجَاسَةِ كَالدُّبُرِ فَكَانَتْ الرِّيحُ الْخَارِجَةُ مِنْهُمَا كَالْخَارِجَةِ مِنْ الدُّبُرِ فَيَكُونُ حَدَثًا وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الرِّيحَ لَيْسَتْ بِحَدَثٍ فِي نَفْسِهَا لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ، وَخُرُوجُ الطَّاهِرِ لَا يُوجِبُ انْتِقَاضَ الطَّهَارَةِ، وَإِنَّمَا انْتِقَاضُ الطَّهَارَةِ بِمَا يَخْرُجُ بِخُرُوجِهَا مِنْ أَجْزَاءِ النَّجَسِ، وَمَوْضِعُ الْوَطْءِ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ لَيْسَ بِمَسْلَكِ الْبَوْلِ فَالْخَارِجُ مِنْهُ مِنْ الرِّيحِ لَا يُجَاوِرُهُ النَّجَسُ، وَإِذَا كَانَتْ مُفْضَاةً فَقَدْ صَارَ مَسْلَكُ الْبَوْلِ، وَمَسْلَكُ الْوَطْءِ مَسْلَكًا وَاحِدًا فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الرِّيحَ خَرَجَتْ مِنْ مَسْلَكِ الْبَوْلِ فَيُسْتَحَبُّ لَهَا الْوُضُوءُ، وَلَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ الثَّابِتَةَ بِيَقِينٍ لَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهَا بِالشَّكِّ، وَقِيلَ إنَّ خُرُوجَ الرِّيحِ مِنْ الذَّكَرِ لَا يُتَصَوَّرُ، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَاجٌ يَظُنُّهُ الْإِنْسَانُ رِيحًا هَذَا حُكْمُ السَّبِيلَيْنِ. فَأَمَّا حُكْمُ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ مِنْ الْجُرْحِ، وَالْقُرْحِ فَإِنْ سَالَ الدَّمُ وَالْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ عَنْ رَأْسِ الْجُرْحِ، وَالْقُرْحِ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْحَدَثِ، وَهُوَ خُرُوجُ النَّجَسِ، وَهُوَ انْتِقَالُ النَّجَسِ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُنْتَقَضُ لِانْعِدَامِ الْخُرُوجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُنْتَقَضُ سَوَاءٌ سَالَ، أَوْ لَمْ يَسِلْ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَ فَلَوْ ظَهَرَ الدَّمُ عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ، وَلَمْ يَسِلْ لَمْ يَكُنْ حَدَثًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَكُونُ حَدَثًا سَالَ أَوْ لَمْ يَسِلْ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَدَثَ الْحَقِيقِيَّ عِنْدَهُ هُوَ ظُهُورُ النَّجَسِ مِنْ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ وَقَدْ ظَهَرَ وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ ظُهُورَ النَّجَسِ اُعْتُبِرَ حَدَثًا فِي السَّبِيلَيْنِ سَالَ عَنْ رَأْسِ الْمَخْرَجِ أَوْ لَمْ يَسِلْ فَكَذَا فِي غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ. (وَلَنَا) أَنَّ الظُّهُورَ مَا اُعْتُبِرَ حَدَثًا فِي مَوْضِعٍ مَا، وَإِنَّمَا اُنْتُقِضَتْ الطَّهَارَةُ فِي السَّبِيلَيْنِ إذَا ظَهَرَ النَّجَسُ عَلَى رَأْسِ الْمَخْرَجِ لَا بِالظُّهُورِ بَلْ بِالْخُرُوجِ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا كَذَا هَهُنَا، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّمَ إذَا لَمْ يَسِلْ كَانَ فِي مَحَلِّهِ، لِأَنَّ الْبَدَنَ مَحَلُّ الدَّمِ، وَالرُّطُوبَاتِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ مُسْتَتِرًا بِالْجَلْدَةِ. وَانْشِقَاقُهَا يُوجِبُ زَوَالَ السُّتْرَةِ لَا زَوَالَ الدَّمِ عَنْ مَحَلِّهِ، وَلَا حُكْمَ لِلنَّجَسِ مَا دَامَ فِي مَحَلِّهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَ مَا فِي الْبَطْنِ مِنْ الْأَنْجَاسِ فَإِذَا سَالَ عَنْ رَأْسِ الْجُرْحِ فَقَدْ انْتَقَلَ عَنْ مَحَلِّهِ فَيُعْطِي لَهُ حُكْمَ النَّجَاسَةِ، وَفِي السَّبِيلَيْنِ وُجِدَ الِانْتِقَالُ لِمَا ذَكَرْنَا. وَعَلَى هَذَا خُرُوجُ الْقَيْءِ مِلْءَ الْفَمِ أَنَّهُ يَكُونُ حَدَثًا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ لَا يَكُونُ حَدَثًا، وَعِنْدَ زُفَرَ يَكُونُ حَدَثًا قَلَّ، أَوْ كَثُرَ، وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْفَمَ لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ، عِنْدَهُ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّائِمَ إذَا تَمَضْمَضَ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ فَإِذَا، وَصَلَ الْقَيْءُ إلَيْهِ فَقَدْ

ظَهَرَ النَّجَسُ مِنْ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ فَيَكُونُ حَدَثًا، وَإِنَّا نَقُولُ لَهُ مَعَ الظَّاهِرِ حُكْمُ الظَّاهِرِ كَمَا ذَكَرَهُ زُفَرُ وَلَهُ مَعَ الْبَاطِنِ حُكْمُ الْبَاطِنِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّائِمَ إذَا ابْتَلَعَ رِيقَهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ، فَلَا يَكُونُ الْخُرُوجُ إلَى الْفَمِ حَدَثًا، لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ بَعْضِ الْبَاطِنِ إلَى بَعْضٍ، وَإِنَّمَا الْحَدَثُ هُوَ الْخُرُوجُ مِنْ الْفَمِ؛ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ، وَالْخُرُوجُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْقَلِيلِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ رَدُّهُ، وَإِمْسَاكُهُ، فَلَا يَخْرُجُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ بَلْ بِالْإِخْرَاجِ، فَلَا يُوجَدُ السَّيَلَانُ، وَيَتَحَقَّقُ فِي الْكَثِيرِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ، وَإِمْسَاكُهُ فَكَانَ خَارِجًا بِقُوَّةِ نَفْسِهِ لَا بِالْإِخْرَاجِ فَيُوجَدُ السَّيَلَانُ. ثُمَّ نَتَكَلَّمُ فِي الْمَسْأَلَةِ ابْتِدَاءً فَحُجَّةُ زُفَرَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْقَلْسُ حَدَثٌ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، وَلِأَنَّ الْحَدَثَ اسْمٌ لِخُرُوجِ النَّجَسِ وَقَدْ وُجِدَ لِأَنَّ الْقَلِيلَ خَارِجٌ نَجِسٌ كَالْكَثِيرِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْقَلِيلُ، وَالْكَثِيرُ كَالْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «عَدَّ الْأَحْدَاثَ جُمْلَةً وَقَالَ فِيهَا أَوَدُّ سَعَةً تَمْلَأُ الْفَمَ» ، وَلَوْ كَانَ الْقَلِيلُ حَدَثًا لِعِدَّةٍ عِنْدَ عَدِّ الْأَحْدَاثِ كُلِّهَا (وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْقَيْءُ مِلْءُ الْفَمِ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَهُوَ الْقَيْءُ مِلْءُ الْفَمِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ صِيَانَةً لَهُمَا عَنْ التَّنَاقُضِ وَقَوْلُهُ وُجِدَ خُرُوجُ النَّجَسِ فِي الْقَلِيلِ قُلْنَا إنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَفِي قَلِيلِ الْقَيْءُ ضَرُورَةٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو مِنْهُ خُصُوصًا حَالَ الِامْتِلَاءِ، وَمِنْ صَاحِبِ السُّعَالِ، وَلَوْ جُعِلَ حَدَثًا لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مَا جَعَلَ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْقَلِيلِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَيْءُ مَرَّةً صَفْرَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ طَعَامًا أَوْ مَاءً صَافِيًا، لِأَنَّ الْحَدَثَ اسْمٌ لِخُرُوجِ النَّجَسِ، وَالطَّعَامِ، أَوْ الْمَاءِ نَجَسًا لِاخْتِلَاطِهِ بِنَجَاسَاتِ الْمِعْدَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَفْسِيرَ مِلْءِ الْفَمِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ هُوَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْكَلَامِ، وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ هُوَ أَنْ يَعْجَزَ عَنْ إمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ مَا قَدَرَ عَلَى إمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ فَخُرُوجُهُ لَا يَكُون بِقُوَّةِ نَفْسِهِ بَلْ بِالْإِخْرَاجِ، فَلَا يَكُونُ سَائِلًا، وَمَا عَجَزَ عَنْ إمْسَاكِهِ وَرَدِّهِ فَخُرُوجُهُ يَكُونُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ سَائِلًا، وَالْحُكْمُ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّيَلَانِ، وَلَوْ قَاءَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ مِرَارًا هَلْ يُجْمَعُ، وَيُعْتَبَرُ حَدَثًا لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ يُجْمَعُ، وَإِلَّا، فَلَا، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِسَبَبِ غَثَيَانٍ وَاحِدٍ يُجْمَعُ، وَإِلَّا، فَلَا وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ يُجْمَعُ كَيْفَمَا كَانَ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَجْلِسَ جُعِلَ فِي الشَّرْعِ جَامِعًا لِأَشْيَاءَ مُتَفَرِّقَةٍ كَمَا فِي بَاب الْبَيْعِ، وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَظْهَرُ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمَجْلِسِ اعْتِبَارُ الْمَكَانِ، وَاعْتِبَارَ الْغَثَيَانِ اعْتِبَارُ السَّبَبِ، وَالْوُجُودُ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ لَا إلَى الْمَكَانِ. وَلَوْ سَالَ الدَّمُ إلَى مَا لَانَ مِنْ الْأَنْفِ أَوْ إلَى صِمَاخِ الْأُذُنِ يَكُونُ حَدَثًا لِوُجُودِ خُرُوجِ النَّجَسِ، وَهُوَ انْتِقَالُ الدَّمِ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ أَقْلَفَ خَرَجَ الْبَوْلُ أَوْ الْمَذْيُ مِنْ ذَكَرِهِ، حَتَّى صَارَ فِي قُلْفَتِهِ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ إذَا خَرَجَ الْمَذْي، أَوْ الْبَوْلُ مِنْ فَرْجِهَا، وَلَمْ يَظْهَرْ، وَلَوْ حَشَا الرَّجُلُ إحْلِيلَهُ بِقُطْنَةٍ فَابْتَلَّ الْجَانِبُ الدَّاخِلُ مِنْهَا لَمْ يُنْتَقَضْ وُضُوءُهُ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَإِنْ تَعَدَّتْ الْبَلَّةُ إلَى الْجَانِبِ الْخَارِجِ يُنْظَرَ إنْ كَانَتْ الْقُطْنَةُ عَالِيَةً أَوْ مُحَاذِيَةً لِرَأْسِ الْإِحْلِيلِ يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ لِتَحَقُّقِ الْخُرُوجِ. وَإِنْ كَانَتْ مُتَسَفِّلَةً لَمْ يُنْتَقَضْ، لِأَنَّ الْخُرُوجَ لَمْ يَتَحَقَّقْ، وَلَوْ حَشَتْ الْمَرْأَةُ فَرْجَهَا بِقُطْنَةٍ فَإِنْ وَضَعَتْهَا فِي الْفَرْجِ الْخَارِجِ فَابْتَلَّ الْجَانِبُ الدَّاخِلُ مِنْ الْقُطْنَةِ كَانَ حَدَثًا، وَإِنْ لَمْ يَنْفُذْ إلَى الْجَانِبِ الْخَارِجِ لَا يَكُونُ حَدَثًا، لِأَنَّ الْفَرْجَ الْخَارِجَ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَلْيَتَيْنِ مِنْ الدُّبُرِ فَوُجِدَ الْخُرُوجُ، وَإِنْ وَضَعَتْهَا فِي الْفَرْجِ الدَّاخِلِ فَابْتَلَّ الْجَانِبُ الدَّاخِلُ مِنْ الْقُطْنَةِ لَمْ يَكُنْ حَدَثًا لِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَإِنْ تَعَدَّتْ الْبِلَّةُ إلَى الْجَانِبِ الْخَارِجِ فَإِنْ كَانَتْ الْقُطْنَةُ عَالِيَةً، أَوْ مُحَاذِيَةً لِجَانِبِ الْفَرْجِ كَانَ حَدَثًا لِوُجُودِ الْخُرُوجِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَسَفِّلَةً لَمْ يَكُنْ حَدَثًا لِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ تَسْقُطْ الْقُطْنَةُ فَإِنْ سَقَطَتْ الْقُطْنَةُ فَهُوَ حَدَثٌ، وَحَيْضٌ فِي الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ ابْتَلَّ الْجَانِبُ الْخَارِجُ، أَوْ الدَّاخِلُ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ. وَلَوْ كَانَ فِي أَنْفِهِ قُرْحٌ فَسَالَ الدَّمُ عَنْ رَأْسِ الْقُرْحِ يَكُونُ حَدَثًا، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجُ مِنْ الْمَنْخَرِ لِوُجُودِ السَّيَلَانِ عَنْ مَحَلِّهِ، وَلَوْ بَزَقَ فَخَرَجَ مَعَهُ الدَّمُ إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْبُزَاقِ لَا يَكُونُ حَدَثًا، لِأَنَّهُ مَا خَرَجَ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلدَّمِ يَكُونُ حَدَثًا، لِأَنَّ الْغَالِبَ إذَا كَانَ هُوَ الْبُزَاقُ لَمْ يَكُنْ خَارِجًا بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ سَائِلًا، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الدَّمُ كَانَ خُرُوجُهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَكَانَ سَائِلًا، وَإِنْ كَانَا سَوَاءً

فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونُ حَدَثًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ حَدَثًا وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُمَا إذَا اسْتَوَيَا احْتَمَلَ أَنَّ الدَّمَ خَرَجَ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ، وَاحْتَمَلَ أَنَّهُ خَرَجَ بِقُوَّةِ الْبُزَاقِ، فَلَا يُجْعَلُ حَدَثًا بِالشَّكِّ، وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا إذَا اسْتَوَيَا تَعَارَضَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدَهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ فَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَ نَفْسِهِ فَيُعْتَبَرُ خَارِجًا بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ سَائِلًا، وَالثَّانِي أَنَّ الْأَخْذَ بِالِاحْتِيَاطِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا. وَلَوْ ظَهَرَ الدَّمُ عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ فَمَسَحَهُ مِرَارًا فَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ تَرَكَهُ لَسَالَ يَكُونُ حَدَثًا، وَإِلَّا، فَلَا، لِأَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّيَلَانِ، وَلَوْ أَلْقَى عَلَيْهِ الرَّمَادَ، أَوْ التُّرَابَ فَتَشَرَّبَ فِيهِ، أَوْ رَبَطَ عَلَيْهِ رِبَاطًا فَابْتَلَّ الرِّبَاطُ، وَنَفَذَ قَالُوا: يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّهُ سَائِلُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الرِّبَاطُ ذَا طَاقَيْنِ فَنَفَذَ إلَى أَحَدِهِمَا لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ سَقَطَتْ الدُّودَةُ أَوْ اللَّحْمُ مِنْ الْفَرْجِ لَمْ يَكُنْ حَدَثًا، وَلَوْ سَقَطَتْ مِنْ السَّبِيلَيْنِ يَكُونُ حَدَثًا، وَالْفَرْقُ أَنَّ الدُّودَةَ الْخَارِجَةَ مِنْ السَّبِيلِ نَجِسَةٌ فِي نَفْسِهَا لِتَوَلُّدِهَا مِنْ الْأَنْجَاسِ وَقَدْ خَرَجَتْ بِنَفْسِهَا، وَخُرُوجُ النَّجِسِ بِنَفْسِهِ حَدَثٌ بِخِلَافِ الْخَارِجَةِ مِنْ الْقُرْحِ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ نَفْسُهَا لِأَنَّهَا تَتَوَلَّدُ مِنْ اللَّحْمِ، وَاللَّحْمُ طَاهِرٌ، وَإِنَّمَا النَّجَسُ مَا عَلَيْهَا مِنْ الرُّطُوبَاتِ، وَتِلْكَ الرُّطُوبَاتُ خَرَجَتْ بِالدَّابَّةِ لَا بِنَفْسِهَا فَلَمْ يُوجَدْ خُرُوجُ النَّجَسِ، فَلَا يَكُونُ حَدَثًا. وَلَوْ خَلَّلَ أَسْنَانَهُ فَظَهَرَ الدَّمُ عَلَى رَأْسِ الْخِلَالِ لَا يَكُونُ حَدَثًا، لِأَنَّهُ مَا خَرَجَ بِنَفْسِهِ، وَكَذَا لَوْ عَضَّ عَلَى شَيْءٍ فَظَهَرَ الدَّمُ عَلَى أَسْنَانِهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ سَعَطَ فِي أَنْفِهِ وَوَصَلَ السَّعُوطُ إلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْأَنْفِ أَوْ إلَى الْأُذُنِ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّ الرَّأْسَ لَيْسَ مَوْضِعَ الْأَنْجَاسِ، وَلَوْ عَادَ إلَى الْفَمِ، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِمَا قُلْنَا وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْقَيْءِ، لِأَنَّ مَا وَصَلَ إلَى الرَّأْسِ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْفَمِ إلَّا بَعْدَ نُزُولِهِ فِي الْجَوْفِ. وَلَوْ قَاءَ بَلْغَمًا لَمْ يَكُنْ حَدَثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ حَدَثًا فَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ لَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّ جَوَابَ أَبِي يُوسُفَ فِي الصَّاعِدِ مِنْ الْمَعِدَةِ، وَهُوَ حَدَثٌ عِنْدَ الْكُلِّ وَجَوَابُهُمَا فِي الْمُنْحَدِرِ مِنْ الرَّأْسِ، وَهُوَ لَيْسَ بِحَدَثٍ عِنْدَ الْكُلِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْمُنْحَدَرِ مِنْ الرَّأْسِ اتِّفَاقٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ. وَفِي الصَّاعِدِ مِنْ الْمَعِدَةِ اخْتِلَافٌ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ نَجَسٌ لِاخْتِلَاطَهِ بِالْأَنْجَاسِ، لِأَنَّ الْمَعِدَةَ مَعْدِنُ الْأَنْجَاسِ فَيَكُونُ حَدَثًا كَمَا لَوْ قَاءَ طَعَامًا أَوْ مَاءً، وَلَهُمَا أَنَّهُ شَيْءٌ صَقِيلٌ لَا يَلْتَصِقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَنْجَاسِ فَكَانَ طَاهِرًا عَلَى أَنَّ النَّاسَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَادُوا أَخْذَ الْبَلْغَمِ بِأَطْرَافِ أَرْدِيَتِهِمْ، وَأَكْمَامِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَذَكَرَ أَبُو مَنْصُورٍ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ جَوَابَ أَبِي يُوسُفَ فِي الصَّاعِدِ مِنْ الْمَعِدَةِ، وَأَنَّهُ حَدَثٌ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهُ نَجَسٌ وَجَوَابُهُمَا فِي الصَّاعِدِ مِنْ حَوَاشِي الْحَلْقِ، وَأَطْرَافِ الرِّئَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ صَافِيًا غَيْرَ مَخْلُوطٍ بِشَيْءٍ مِنْ الطَّعَامِ، وَغَيْرِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَصْعَدْ مِنْ الْمَعِدَةِ، فَلَا يَكُونُ نَجَسًا، فَلَا يَكُونُ حَدَثًا، وَإِنْ كَانَ مَخْلُوطًا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَعِدَ مِنْهَا فَكَانَ نَجِسًا فَيَكُونُ حَدَثًا، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. وَأَمَّا إذَا قَاءَ دَمًا فَلَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ نَصًّا، وَذَكَرَ الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَكُونُ حَدَثًا قَلِيلًا كَانَ، أَوْ كَثِيرًا جَامِدًا كَانَ، أَوْ مَائِعًا. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْهُمَا أَنَّهُ إنْ كَانَ مَائِعًا يَنْقُضُ قَلَّ، أَوْ كَثُرَ، وَإِنْ كَانَ جَامِدًا لَا يَنْقُضُ مَا لَمْ يَمْلَأْ الْفَمَ وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا مَا لَمْ يَمْلَأْ الْفَمَ كَيْفَمَا كَانَ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا صَحَّحُوا رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ، وَحَمَلُوا رِوَايَةَ الْحَسَنِ، وَالْمُعَلَّى فِي الْقَلِيلِ مِنْ الْمَائِعِ عَلَى الرُّجُوعِ. وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ شَيْخُنَا، لِأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِأُصُولِ أَصْحَابِنَا فِي اعْتِبَارِ خُرُوجِ النَّجَسِ، لِأَنَّ الْحَدَثَ اسْمٌ لَهُ، وَالْقَلِيلُ لَيْسَ بِخَارِجٍ لِمَا مَرَّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فَإِنَّهُ قَالَ، وَإِذَا قَلَسَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ لَمْ يُنْتَقَضْ الْوُضُوءُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الدَّمِ، وَغَيْرِهِ، وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا حَقَّقُوا الِاخْتِلَافَ، وَصَحَّحُوا قَوْلَهُمَا، لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي الْقَلِيلِ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْقَيْءِ أَنْ يَكُونَ حَدَثًا لِوُجُودِ الْخُرُوجِ حَقِيقَةً، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْفَمَ لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْقَلِيلِ لِأَجْلِ الْحَرَجِ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ وُجُودُهُ. وَلَا حَرَجَ فِي اعْتِبَارِ الْقَلِيلِ مِنْ الدَّمِ، لِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ بَلْ يَنْدُرُ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الْأَصِحَّاءِ. (وَأَمَّا) أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ كَالْمُسْتَحَاضَةِ، وَصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ، وَالْمَبْطُونِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ، وَمَنْ بِهِ رُعَافٌ دَائِمٌ أَوْ رِيحٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّنْ لَا يَمْضِي عَلَيْهِ وَقْتُ

صَلَاةٍ إلَّا، وَيُوجَدُ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ الْحَدَثِ فِيهِ فَخُرُوجُ النَّجَسِ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يَكُونُ حَدَثًا فِي الْحَالِ مَا دَامَ وَقْتُ الصَّلَاةِ قَائِمًا، حَتَّى أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ لَوْ تَوَضَّأَتْ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَلَهَا أَنْ تُصَلِّيَ مَا شَاءَتْ مِنْ الْفَرَائِضِ، وَالنَّوَافِلِ مَا لَمْ يَخْرُجْ الْوَقْتُ، وَإِنْ دَامَ السَّيَلَانِ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ كَانَ الْعُذْرُ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ كَالِاسْتِحَاضَةِ، وَسَلَسِ الْبَوْلِ، وَخُرُوجِ الرِّيحِ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ فَرْضٍ، وَيُصَلِّي مَا شَاءَ مِنْ النَّوَافِلِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ» فَمَالِكٌ عَمِلَ بِمُطْلَقِ اسْمِ الصَّلَاةِ، وَالشَّافِعِيُّ قَيَّدَهُ بِالْفَرْضِ لِأَنَّهُ الصَّلَاةُ الْمَعْهُودَةَ، وَلِأَنَّ طَهَارَةَ الْمُسْتَحَاضَةِ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ قَارَنَهَا مَا يُنَافِيهَا، أَوْ طَرَأَ عَلَيْهَا، وَالشَّيْءُ لَا يُوجَدُ، وَلَا يَبْقَى مَعَ الْمُنَافِي إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الْمُنَافِي لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى الْأَدَاءِ، وَالضَّرُورَةِ إلَى أَدَاءِ فَرْضِ الْوَقْتِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْأَدَاءِ ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ فَظَهَرَ حُكْمُ الْمُنَافِي، وَالنَّوَافِلُ اتِّبَاعُ الْفَرَائِضِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِتَكْمِيلِ الْفَرَائِضِ جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِيهَا فَكَانَتْ مُلْحَقَةٌ بِأَجْزَائِهَا، وَالطَّهَارَةُ الْوَاقِعَةُ لِصَلَاةٍ، وَاقِعَةٌ لَهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا بِخِلَافِ فَرْضٍ آخَرَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَبَعٍ بَلْ هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ. (وَلَنَا) مَا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ» ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَلِأَنَّ الْعَزِيمَةَ شَغْلُ جَمِيعِ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَإِحْرَازًا لِلثَّوَابِ عَلَى الْكَمَالِ إلَّا أَنَّهُ جَوَّزَ تَرْكَ شَغْلِ بَعْضِ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ رُخْصَةً، وَتَيْسِيرًا فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةً تَمْكِينًا مِنْ اسْتِدْرَاكِ الْفَائِتِ بِالْقَضَاءِ، وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْقِوَامِ، وَجُعِلَ ذَلِكَ شَغْلًا لِجَمِيعِ الْوَقْتِ حُكْمًا فَصَارَ وَقْتُ الْأَدَاءِ شَرْعًا بِمَنْزِلَةِ وَقْتِ الْأَدَاءِ فِعْلًا ثُمَّ قِيَامُ الْأَدَاءِ مُبْقٍ لِلطَّهَارَةِ فَكَذَلِكَ الْوَقْتُ الْقَائِمُ مَقَامَهُ، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الصَّلَاةِ يَنْصَرِفُ إلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَعْهُودِ الْمُتَعَارَفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ» وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى صَلَوَاتٍ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ» ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَالصَّلَاةُ الْمَعْهُودَةُ هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي الْيَوْمِ، وَاللَّيْلَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ فِي الْيَوْمِ، وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهَا الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، أَوْ لِكُلِّ فَرْضٍ تَقْضِي لَزَادَ عَلَى الْخَمْسِ بِكَثِيرٍ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ تُذْكَرُ عَلَى إرَادَةِ وَقْتِهَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ التَّيَمُّمِ «أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمَتْ، وَصَلَّيْت» . وَالْمُدْرَكُ هُوَ الْوَقْتُ دُونَ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ فِعْلُهُ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا، أَيْ: لِوَقْتِ الصَّلَاةِ، وَيُقَالُ آتِيك لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، أَيْ لِوَقْتِهَا فَجَازَ أَنْ تُذْكَرَ الصَّلَاةُ، وَيُرَادُ بِهَا وَقْتُهَا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ الْوَقْتُ، وَيُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ فَيُحْمَلُ الْمُحْتَمَلَ عَلَى الْمُحْكَمِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ صِيَانَةً لَهُمَا عَنْ التَّنَاقُضِ، وَإِنَّمَا تَبْقَى طَهَارَةُ صَاحِبِ الْعُذْرِ فِي الْوَقْتِ إذَا لَمْ يُحْدِثْ حَدَثًا آخَرَ أَمَّا إذَا أَحْدَثَ حَدَثًا آخَرَ، فَلَا تَبْقَى، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ فِي الدَّمِ السَّائِلِ لَا فِي غَيْرِهِ فَكَانَ هُوَ فِي غَيْرِهِ كَالصَّحِيحِ قَبْلَ الْوُضُوءِ، وَكَذَلِكَ إذَا تَوَضَّأَ لِلْحَدَثِ أَوْ لَا، ثُمَّ سَالَ الدَّمُ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْوُضُوءَ لَمْ يَقَعْ لِعَدَمِ الْعُذْرِ فَكَانَ عَدَمًا فِي حَقِّهِ. وَكَذَا إذَا سَالَ الدَّمُ مِنْ أَحَدِ مَنْخَرَيْهِ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ سَالَ مِنْ الْمَنْخَرِ الْآخَرَ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ، لِأَنَّ هَذَا حَدَثٌ جَدِيدٌ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الطَّهَارَةِ فَلَمْ تَقَعُ الطَّهَارَةُ لَهُ فَكَانَ هُوَ، وَالْبَوْلُ، وَالْغَائِطُ سَوَاءً فَأَمَّا إذَا سَالَ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ انْقَطَعَ أَحَدُهُمَا فَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ مَا بَقِيَ الْوَقْتُ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ حَصَلَتْ لَهُمَا جَمِيعًا. وَالطَّهَارَةُ مَتَى وَقَعَتْ لِعُذْرٍ لَا يَضُرُّهَا السَّيَلَانُ مَا بَقِيَ الْوَقْتُ فَبَقِيَ هُوَ صَاحِبَ عُذْرٍ بِالْمَنْخَرِ الْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا حُكْمُ صَاحِبُ الْقُرُوحِ إذَا كَانَ الْبَعْضُ سَائِلًا ثُمَّ سَالَ الْآخَرُ، أَوْ كَانَ الْكُلُّ سَائِلًا فَانْقَطَعَ السَّيَلَانُ عَنْ الْبَعْضِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ أَنَّهَا تُنْتَقَضُ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَمْ عِنْدَ دُخُولِهِ أَمْ أَيَّهُمَا كَانَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ تُنْتَقَضُ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا غَيْرُ وَقَالَ زُفَرُ عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَا غَيْرُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ عِنْدَ أَيِّهِمَا كَانَ، وَثَمَرَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ لَا تَظْهَرُ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُوجَدَ الْخُرُوجُ بِلَا دُخُولٍ كَمَا إذَا تَوَضَّأَتْ فِي وَقْتِ الْفَجْرِ، ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَإِنَّ طَهَارَتَهَا تُنْتَقَضُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تُنْتَقَضُ لِعَدَمِ الدُّخُولِ، وَالثَّانِي أَنْ يُوجَدَ الدُّخُولُ بِلَا خُرُوجٍ كَمَا إذَا تَوَضَّأَتْ قَبْلَ الزَّوَالِ، ثُمَّ زَالَتْ الشَّمْسُ فَإِنَّ

طَهَارَتَهَا لَا تُنْتَقَضُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَزُفَرَ تُنْتَقَضُ لِوُجُودِ الدُّخُولِ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِ الْمُنَافِي لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَلَا يَسْقُطُ، وَبِهِ يَحْتَجُّ أَبُو يُوسُفَ فِي جَانِبِ الدُّخُولِ، وَفِي جَانِبِ الْخُرُوجِ يَقُولُ كَمَا لَا ضَرُورَةَ إلَى إسْقَاطِ اعْتِبَارِ الْمُنَافِي قَبْلَ الدُّخُولِ لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ بَعْدَ الْخُرُوجِ فَيَظْهَرُ حُكْمُ الْمُنَافِي، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَقْتَ الْأَدَاءِ شَرْعًا أُقِيمَ مَقَامَ وَقْتِ الْأَدَاءِ فِعْلًا لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْمَعْنَى، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ وَقْتِ الطَّهَارَةِ عَلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ حَقِيقَةً فَكَذَا لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهَا عَلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ شَرْعًا، حَتَّى يُمْكِنُهُ شَغْلُ جَمِيعِ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ انْعَدَمَتْ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَظَهَرَ حُكْمُ الْحَدَثِ، وَمَشَايِخُنَا أَدَارُوا الْخِلَافَ عَلَى الدُّخُولِ، وَالْخُرُوجِ فَقَالُوا: تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهَا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، أَوْ بِدُخُولِهِ لِتَيْسِيرِ الْحِفْظِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ لَا لِأَنَّ لِلْخُرُوجِ، أَوْ الدُّخُولِ تَأْثِيرًا فِي انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ تَوَضَّأَ صَاحِبُ الْعُذْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ أَوْ لِصَلَاةِ الضُّحَى وَصَلَّى هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَزُفَرَ فَلَا يُشْكِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِوُجُودِ الدُّخُولِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ هَذِهِ طَهَارَةً وَقَعَتْ لِصَلَاةٍ مَقْصُودَةٍ فَتُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ وَقْتِهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ لِأَنَّ هَذِهِ الطَّهَارَةَ إنَّمَا صَحَّتْ لِلظُّهْرِ لِحَاجَتِهِ إلَى تَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ عَلَى وَقْتِ الظُّهْرِ عَلَى مَا مَرَّ فَيَصِحُّ بِهَا أَدَاءُ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَالضُّحَى، وَالنَّفَلُ كَمَا إذَا تَوَضَّأَ لِلظُّهْرِ قَبْلَ الْوَقْتِ، ثُمَّ دَخَلَ الْوَقْتُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهَا الظُّهْرَ، وَصَلَاةً أُخْرَى فِي الْوَقْتِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ تَوَضَّأَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَصَلَّى، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا آخَرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ لِلْعَصْرِ وَدَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ عَلَى قَوْلِهِمَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ قَدْ صَحَّتْ لِجَمِيعِ وَقْتِ الظُّهْرِ فَتَبْقَى مَا بَقِيَ الْوَقْتُ، فَلَا تَصِحُّ الطَّهَارَةُ الثَّانِيَةُ مَعَ قِيَامِ الْأُولَى بَلْ كَانَتْ تَكْرَارًا لِلْأُولَى فَالْتَحَقَتْ الثَّانِيَةُ بِالْعَدَمِ فَتُنْتَقَضُ الْأَوْلَى بِخُرُوجِ الْوَقْتِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ عَلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، حَتَّى يَشْتَغِلَ جَمِيعَ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ، وَالطَّهَارَةُ الْوَاقِعَةُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ عَدَمٌ فِي حَقِّ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَإِنَّمَا تُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ طَهَارَةُ الظُّهْرِ لَا طَهَارَةُ الْعَصْرِ. وَلَوْ تَوَضَّأَتْ مُسْتَحَاضَةٌ وَدَمُهَا سَائِلٌ، أَوْ سَالَ بَعْدَ الْوُضُوءِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَقْبِلَ، لِأَنَّ طَهَارَتَهَا تُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ لِمَا بَيَّنَّا فَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ انْتَقَضَتْ طَهَارَتُهَا فَتُنْتَقَضُ صَلَاتُهَا، وَلَا تَبْنِي لِأَنَّهَا صَارَتْ مُحْدِثَةً عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ مِنْ حِينِ دُرُورِ الدَّمِّ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَلَوْ تَوَضَّأَتْ، وَالدَّمُ مُنْقَطِعٌ، وَخَرَجَ الْوَقْتُ، وَهِيَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ قَبْلَ سَيَلَانِ الدَّمِ، ثُمَّ سَالَ الدَّمُ تَوَضَّأَتْ، وَبَنَتْ، لِأَنَّ هَذَا حَدَثٌ لَاحِقٌ، وَلَيْسَ بِسَابِقٍ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ كَانَتْ صَحِيحَةً لِانْعِدَامِ مَا يُنَافِيهَا وَقْتَ حُصُولِهَا وَقَدْ حَصَلَ الْحَدَثُ لِلْحَالِ مُقْتَصِرًا غَيْرَ مُوجِبٍ ارْتِفَاعَ الطَّهَارَةِ مِنْ الْأَصْلِ، وَلَوْ تَوَضَّأَتْ، وَالدَّمُ سَائِلٌ، ثُمَّ انْقَطَعَ، ثُمَّ صَلَّتْ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ، وَدَخَلَ وَقْتُ صَلَاةِ أُخْرَى ثُمَّ سَالَ الدَّمُ أَعَادَتْ الصَّلَاةَ الْأُولَى. لِأَنَّ الدَّمَ لَمَّا انْقَطَعَ، وَلَمْ يَسِلْ، حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الطَّهَارَةُ طَهَارَةَ عُذْرٍ فِي حَقِّهَا لِانْعِدَامِ الْعُذْرِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا صَلَّتْ بِلَا طَهَارَةٍ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ. هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ حُكْمُ صَاحِبِ الْعُذْرِ، وَأَمَّا حُكْمُ نَجَاسَةِ ثَوْبِهِ فَنَقُولُ إذَا أَصَابَ ثَوْبَهُ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ يَجِبُ غَسْلُهُ إذَا كَانَ الْغَسْلُ مُفِيدًا بِأَنْ كَانَ لَا يُصِيبُهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى لَوْ لَمْ يَغْسِلْ، وَصَلَّى لَا يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لَا يَجِبُ مَا دَامَ الْعُذْرُ قَائِمًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِنَا، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ يَقُولُ يَجِبُ غَسْلُهُ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ مَشَايِخِنَا لِأَنَّ حُكْمَ الْحَدَثِ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ، وَنَجَاسَةُ الثَّوْبِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْهَا عَفْوٌ، فَلَا يُلْحَقُ بِهِ. (وَأَمَّا) الْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ فَنَوْعَانِ أَيْضًا أَحَدُهُمَا أَنْ يُوجَدَ أَمْرٌ يَكُونُ سَبَبًا لِخُرُوجِ النَّجَسِ الْحَقِيقِيِّ غَالِبًا فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ احْتِيَاطًا، وَالثَّانِي أَنْ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَكِنَّهُ جُعِلَ حَدَثًا شَرْعًا تَعَبُّدًا مَحْضًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا الْمُبَاشَرَةُ الْفَاحِشَةُ وَهُوَ أَنْ يُبَاشِرَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِشَهْوَةٍ، وَيَنْتَشِرَ لَهَا، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ، وَلَمْ يَرَ بَلَلًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ يَكُونُ حَدَثًا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ حَدَثًا، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهَلْ

تُشْتَرَطُ مُلَاقَاةُ الْفَرْجَيْنِ، وَهِيَ مُمَاسَّتُهُمَا عَلَى قَوْلِهِمَا لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا، وَشَرَطَهُ فِي النَّوَادِرِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ مُلَاقَاةَ الْفَرْجَيْنِ أَيْضًا وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا يُقَامُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ فِي مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى الْمُسَبِّبِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ، وَالْوُقُوفُ عَلَى الْمُسَبَّبِ هَهُنَا مُمْكِنٌ بِلَا حَرَجٍ، لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ يَقِظَةٍ فَيُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى إقَامَةِ السَّبَبِ مَقَامَهَا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ أَنَّ «أَبَا الْيُسْرِ بَائِعُ الْعَسَلِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنِّي أَصَبْت مِنْ امْرَأَتِي كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْجِمَاعَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأْ، وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» ، وَلِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَا تَخْلُو عَنْ خُرُوجِ الْمَذْيِ عَادَةً إلَّا إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَفَّ لِحَرَارَةِ الْبَدَنِ فَلَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ، أَوْ غَفَلَ عَنْ نَفْسِهِ لِغَلَبَةِ الشَّبَقِ فَكَانَتْ سَبَبًا مُفْضِيًا إلَى الْخُرُوجِ، وَإِقَامَةُ السَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ طَرِيقَةٌ مَعْهُودَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ خُصُوصًا فِي أَمْرٍ يُحْتَاطُ فِيهِ كَمَا يُقَامُ الْمَسُّ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي حَقِّ ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بَلْ يُقَامُ نَفْسُ النِّكَاحِ مَقَامَهُ، وَيُقَامُ نَوْمُ الْمُضْطَجِعِ مَقَامَ الْحَدَثِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ كَذَا هَهُنَا. وَلَوْ لَمَسَ امْرَأَتَهُ بِشَهْوَةٍ، أَوْ غَيْرِ شَهْوَةِ فَرْجِهَا أَوْ سَائِرِ أَعْضَائِهَا مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ وَلَمْ يُنْشَرْ لَهَا لَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ يَكُونُ حَدَثًا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ بِأَنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، أَوْ كَانَتْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَفِي قَوْلٍ يَكُونُ حَدَثًا كَيْفَمَا كَانَ بِشَهْوَةٍ أَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، وَهَلْ تُنْتَقَضُ طَهَارَةُ الْمَلْمُوسَةِ لَا شَكَّ أَنَّهَا لَا تُنْتَقَضُ عِنْدَنَا، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ احْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] وَالْمُلَامَسَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ اللَّمْسِ، وَاللَّمْسُ وَالْمَسُّ وَاحِدٌ لُغَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن: 8] . وَحَقِيقَةُ اللَّمْسِ لِلَّمْسِ بِالْيَدِ، وَلِلْجِمَاعِ مَجَازٌ، أَوْ هُوَ حَقِيقَةٌ لَهُمَا جَمِيعًا لِوُجُودِ الْمَسِّ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ آلَةُ الْمَسِّ فَكَانَ الِاسْمُ حَقِيقَةً لَهُمَا لِوُجُودِ مَعْنَى الِاسْمِ فِيهِمَا. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى اللَّمْسَ حَدَثًا حَيْثُ أَوْجَبَ بِهِ إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ، وَهِيَ التَّيَمُّمُ (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ هَذِهِ الْحَادِثَةِ فَقَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّلَاةِ، وَلَا يَتَوَضَّأُ» ، وَلِأَنَّ الْمَسَّ لَيْسَ بِحَدَثٍ بِنَفْسِهِ، وَلَا سَبَبٌ لِوُجُودِ الْحَدَثِ غَالِبًا فَأَشْبَهَ مَسَّ الرَّجُلِ الرَّجُلَ، وَالْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ، وَلِأَنَّ مَسَّ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ فَلَوْ جُعِلَ حَدَثًا لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ اللَّمْسِ الْجِمَاعُ، وَهُوَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ. وَذَكَرَ ابْنُ السِّكِّيتِ فِي إصْلَاحِ الْمَنْطِقِ أَنَّ اللَّمْسَ إذَا قُرِنَ بِالنِّسَاءِ يُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ تَقُولُ الْعَرَبُ لَمَسْت الْمَرْأَةَ، أَيْ: جَامَعْتهَا عَلَى أَنَّ اللَّمْسَ يَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ إمَّا حَقِيقَةً، أَوْ مَجَازًا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَلَوْ مَسَّ ذَكَرَهُ بِبَاطِنِ كَفِّهِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ لَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُنْتَقَضُ احْتَجَّ بِمَا رَوَتْ بُسْرَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا مَسَّ الذَّكَرِ حَدَثًا، حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا أُبَالِي مَسِسْته، أَوْ أَرْنَبَةَ أَنْفِي وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِلرَّاوِي إنْ كَانَ نَجَسًا فَاقْطَعْهُ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ بِنَفْسِهِ، وَلَا سَبَبٌ لِوُجُودِ الْحَدَثِ غَالِبًا فَأَشْبَهَ مَسَّ الْأَنْفِ، وَلِأَنَّ مَسَّ الْإِنْسَانِ ذَكَرَهُ مِمَّا يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَلَوْ جُعِلَ حَدَثًا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ، وَمَا رَوَاهُ فَقَدْ قِيلَ أَنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فَشَاوَرَ مَنْ بَقِيَ مِنْ الصَّحَابَةِ فَقَالُوا: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا، وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَوْ ثَبَتَ لَاشْتَهَرَ، وَلَوْ ثَبَتَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى غَسْلِ الْيَدَيْنِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْأَحْجَارِ دُونَ الْمَاءِ فَإِذَا مَسُّوهُ بِأَيْدِيهِمْ كَانَتْ تَتَلَوَّثُ خُصُوصًا فِي أَيَّامِ الصَّيْفِ فَأَمَرَ بِالْغَسْلِ لِهَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الْإِغْمَاءُ وَالْجُنُونُ وَالسُّكْرُ الَّذِي يَسْتُرُ الْعَقْلَ أَمَّا الْإِغْمَاءُ فَلِأَنَّهُ فِي اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ، وَاسْتِطْلَاقِ الْوِكَاءِ فَوْقَ النَّوْمِ مُضْطَجِعًا، وَذَلِكَ حَدَثٌ فَهَذَا أَوْلَى. وَأَمَّا الْجُنُونُ فَلِأَنَّ الْمُبْتَلَى بِهِ يُحْدِثُ حَدَثًا، وَلَا يَشْعُرُ بِهِ فَأُقِيمَ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ، وَالسُّكْرُ الَّذِي يَسْتُرُ الْعَقْلَ فِي مَعْنَى الْجُنُونِ فِي عَدَمِ التَّمْيِيزِ وَقَدْ انْضَافَ إلَيْهِ اسْتِرْخَاءُ الْمَفَاصِلِ، وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ بَيْنَ الِاضْطِّجَاعِ، وَالْقِيَامِ، لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ حَالٍ، وَحَالٍ. (وَمِنْهَا) النَّوْمُ مُضْطَجِعًا فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا بِلَا

خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنْ النَّظَّامُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ، وَلَا عِبْرَةَ بِخِلَافِهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ، وَخُرُوجِهِ عَنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَامَ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى غَطَّ، وَنَفَخَ، ثُمَّ قَالَ: لَا وُضُوءَ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا، أَوْ قَاعِدًا، أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا إنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا فَإِنَّهُ إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ» نَصَّ عَلَى الْحُكْمِ، وَعَلَّلَ بِاسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ، وَكَذَا النَّوْمُ مُتَوَرِّكًا بِأَنْ نَامَ عَلَى أَحَدِ وِرْكَيْهِ؛ لِأَنَّ مَقْعَدَهُ يَكُونُ مُتَجَافِيًا عَنْ الْأَرْضِ فَكَانَ فِي مَعْنَى النَّوْمِ مُضْطَجِعًا فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِوُجُودِ الْحَدَثِ بِوَاسِطَةِ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ، وَزَوَالُ مَسْكَةُ الْيَقَظَةِ فَأَمَّا النَّوْمُ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ فَأَمَّا إنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ حَدَثًا سَوَاءٌ غَلَبَهُ النَّوْمُ، أَوْ تَعَمَّدَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ النَّوْمِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَلَا أَدْرِي أَسَأَلْته عَنْ الْعَمْدِ، أَوْ الْغَلَبَةِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ إنْ نَامَ مُتَعَمِّدًا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّوْمَ حَدَثٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ إلَّا إذَا كَانَ قَاعِدًا مُسْتَقِرًّا عَلَى الْأَرْضِ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ أَنَّهُ قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيَهَا إذَا كُنَّا سَفْرًا إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ لَكِنْ مِنْ نَوْمٍ، أَوْ بَوْلٍ، أَوْ غَائِطٍ» فَقَدْ جُعِلَ النَّوْمُ حَدَثًا عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْعَيْنَانِ وِكَاءُ الِاسْتِ فَإِذَا نَامَتْ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءَ» أَشَارَ إلَى كَوْنِ النَّوْمِ حَدَثًا حَيْثُ جَعَلَهُ عِلَّةَ اسْتِطْلَاقِ الْوِكَاءِ. (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ نَفَى الْوُضُوءَ فِي النَّوْمِ فِي غَيْرِ حَالِ الِاضْطِجَاعِ، وَأَثْبَتَهُ فِيهَا بِعِلَّةِ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ، وَزَوَالِ مَسْكَةِ الْيَقَظَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ فِيهَا بَاقٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ، وَفِي الْمَشْهُورِ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا نَامَ الْعَبْدُ فِي سُجُودِهِ يُبَاهِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَلَائِكَتَهُ فَيَقُولُ: اُنْظُرُوا إلَى عَبْدِي رُوحُهُ عِنْدِي وَجَسَدُهُ فِي طَاعَتِي» . وَلَوْ كَانَ النَّوْمُ فِي الصَّلَاةِ حَدَثًا لِمَا كَانَ جَسَدُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيمَا رُوِيَ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ النَّوْمِ يَنْصَرِفُ إلَى النَّوْمِ الْمُتَعَارَفِ، وَهُوَ نَوْمُ الْمُضْطَجِعِ، وَكَذَا اسْتِطْلَاقُ الْوِكَاءِ يَتَحَقَّقُ بِهِ لَا بِكُلِّ نَوْمٍ وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي النَّوْمِ حَالَة الْقِيَامِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ أَنْ يَكُونَ حَدَثًا لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِوُجُودِ الْحَدَثِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ حَالَةَ الْغَلَبَةِ لِضَرُورَةِ التَّهَجُّدِ نَظَر لِلْمُتَهَجِّدِينَ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْغَلَبَةِ دُونَ التَّعَمُّدِ. (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّ الِاسْتِمْسَاكَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ بَاقٍ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَ قَاعِدًا مُسْتَقِرًّا عَلَى الْأَرْضِ غَيْرَ مُسْتَنِدٍ إلَى شَيْءٍ لَا يَكُونُ حَدَثًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُودِ الْحَدَثِ غَالِبًا، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا، أَوْ عَلَى هَيْئَةِ الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ غَيْرَ مُسْتَنِدٍ إلَى شَيْءٍ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ وَالْعَامَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالَةِ الصَّلَاةِ، وَغَيْرِهَا، وَلِأَنَّ الِاسْتِمْسَاكَ فِيهَا بَاقٍ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْأَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ فِي النَّوْمِ عَلَى هَيْئَةِ السُّجُودِ خَارِجَ الصَّلَاةِ مَا ذَكَرَهُ الْقُمِّيُّ أَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَكِنْ يُنْظَرُ فِيهِ إنْ سَجَدَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ بِأَنْ كَانَ رَافِعًا بَطْنَهُ عَنْ فَخْذَيْهِ مُجَافِيًا عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ لَا يَكُونُ حَدَثًا، وَإِنْ سَجَدَ لَا عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ بِأَنْ أَلْصَقَ بَطْنَهُ بِفَخِذَيْهِ، وَاعْتَمَدَ عَلَى ذِرَاعَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ يَكُونُ حَدَثًا، لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الِاسْتِمْسَاكَ بَاقٍ، وَالِاسْتِطْلَاقَ مُنْعَدِمٌ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي بِخِلَافِهِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ بِالنَّصِّ، وَلَوْ نَامَ مُسْتَنِدًا إلَى جِدَارٍ، أَوْ سَارِيَةٍ، أَوْ رَجُلٍ، أَوْ مُتَّكِئًا عَلَى يَدَيْهِ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ أُزِيلَ السَّنَدُ لَسَقَطَ يَكُونُ حَدَثًا، وَإِلَّا، فَلَا، وَبِهِ أَخَذَ كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا وَرَوَى خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّنْ اسْتَنَدَ إلَى سَارِيَةٍ، أَوْ رَجُلٍ فَنَامَ وَلَوْلَا السَّارِيَةُ وَالرَّجُلُ لَمْ يَسْتَمْسِكْ. قَالَ إذَا كَانَتْ أَلْيَتُهُ مُسْتَوْثِقَةً مِنْ الْأَرْضِ، فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ، وَبِهِ أَخَذَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى، وَلَوْ نَامَ قَاعِدًا مُسْتَقِرًّا عَلَى الْأَرْضِ فَسَقَطَ، وَانْتَبَهَ فَإِنْ انْتَبَهَ بَعْدَمَا سَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ نَائِمٌ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ النَّوْمِ مُضْطَجِعًا، وَإِنْ قَلَّ، وَإِنْ انْتَبَهَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ جَنْبُهُ إلَى الْأَرْضِ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ لِانْعِدَامِ النَّوْمِ مُضْطَجِعًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ لِزَوَالِ الِاسْتِمْسَاكِ بِالنَّوْمِ حَيْثُ سَقَطَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ انْتَبَهَ قَبْلَ أَنْ يُزَايِلَ مَقْعَدُهُ الْأَرْضَ لَمْ يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ، وَإِنْ زَايَلَ مَقْعَدُهُ قَبْلَ

القهقهة في الصلاة

أَنْ يَنْتَبِهَ اُنْتُقِضَ وُضُوءُهُ. [الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ] (وَأَمَّا) الثَّانِي فَهُوَ الْقَهْقَهَةُ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ، وَهِيَ الصَّلَاةُ الَّتِي لَهَا رُكُوعٌ، وَسُجُودٌ، فَلَا يَكُونُ حَدَثًا خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَلَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ. وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَكُونَ حَدَثًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَلَا خِلَافَ فِي التَّبَسُّمِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الضَّحِكُ يَنْقُضُ الصَّلَاةَ، وَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ» ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْحَدَثُ حَقِيقَةً، وَلَا مَا هُوَ سَبَبُ وُجُودِهِ، وَالْوُضُوءُ لَا يُنْتَقَضُ إلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْتَقَضْ بِالْقَهْقَهَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَفِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَلَا يُنْقَضُ بِالتَّبَسُّمِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ فِي الْمَشَاهِيرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يُصَلِّي فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فِي عَيْنَيْهِ سَوْءٌ فَوَقَعَ فِي بِئْرٍ عَلَيْهَا خُصْفَةٌ فَضَحِكَ بَعْضُ مَنْ خَلْفِهِ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ قَالَ مَنْ قَهْقَهَ مِنْكُمْ فَلْيُعِدْ الْوُضُوءَ، وَالصَّلَاةَ، وَمِنْ تَبَسَّمَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ» طَعَنَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَدِيث مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِئْرٌ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالصَّحَابَةِ الضَّحِكُ خُصُوصًا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا الطَّعْنُ فَاسِدٌ لِأَنَّا مَا رَوَيْنَا الصَّلَاةَ كَانَتْ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى أَنَّهُ كَانَتْ فِي الْمَسْجِدِ حَفِيرَةٌ يُجْمَعُ فِيهَا مَاءُ الْمَطَرِ، وَمِثْلُهَا يُسَمَّى بِئْرًا. وَكَذَا مَا رَوَيْنَا أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ، أَوْ الْعَشَرَةَ الْمُبَشِّرِينَ أَوْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، أَوْ فُقَهَاءَ الصَّحَابَةِ، وَكِبَارَ الْأَنْصَارِ هُمْ الَّذِينَ ضَحِكُوا بَلْ كَانَ الضَّاحِكُ بَعْضُ الْأَحْدَاثِ، أَوْ الْأَعْرَابِ، أَوْ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَيْهِمْ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَدِيثُ جَابِرٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا دُونِ الْقَهْقَهَةِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ مَعَ أَنَّهُ قِيلَ إنَّ الضَّحِكَ مَا يُسْمِعُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ، وَلَا يُسْمِعُ جِيرَانَهُ، وَالْقَهْقَهَةُ مَا يُسْمِعُ جِيرَانَهُ، وَالتَّبَسُّمُ مَا لَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ، وَلَا جِيرَانَهُ وَقَوْلُهُ لَمْ يُوجَدْ الْحَدَثُ، وَلَا سَبَبُ وُجُودِهِ مُسَلَّمٌ لَكِنْ هَذَا حُكْمُ عُرْفٍ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ بِانْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِالْقَهْقَهَةِ فِي صَلَاةٍ مُسْتَتِمَّةِ الْأَرْكَانِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. وَرُوِيَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ أَنَّهُ قَالَ «مَا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا تَبَسَّمَ، وَلَوْ فِي الصَّلَاةِ» . وَرُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبَسَّمَ فِي صَلَاتِهِ فَلَمَّا فَرَغَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَتَانِي جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ مَنْ صَلَّى عَلَيْك مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا» ، وَلَوْ قَهْقَهَ الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ جَمِيعًا فَإِنْ قَهْقَهَ الْأَمَامُ أَوَّلًا انْتَقَضَ وَضْؤُهُ دُونَ الْقَوْمِ، لِأَنَّ قَهْقَهَتَهُمْ لَمْ تُصَادِفْ تَحْرِيمَةَ الصَّلَاةِ لِفَسَادِ صَلَاتِهِمْ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَجَعَلْت قَهْقَهْتُمْ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ قَهْقَهَ الْقَوْمُ أَوَّلًا، ثُمَّ الْإِمَامُ انْتَقَضَ طَهَارَةُ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ قَهْقَهَتَهُمْ حَصَلَتْ فِي الصَّلَاةِ أَمَّا الْقَوْمُ، فَلَا إشْكَالَ. وَأَمَّا الْإِمَامُ فَلِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ خَارِجًا مِنْ الصَّلَاةِ بِخُرُوجِ الْقَوْمِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَهْقَهُوا مَعًا لِأَنَّ قَهْقَهَةَ الْكُلِّ حَصَلَتْ فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا تَغْمِيضُ الْمَيِّتِ وَغَسْلِهِ وَحَمْلُ الْجِنَازَةِ وَأَكْلُ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ وَالْكَلَامُ الْفَاحِشِ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَدَثًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُّ ذَلِكَ حَدَثٌ وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ غَمَّضَ مَيِّتًا فَلْيَتَوَضَّأْ، وَمَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَ جِنَازَةً فَلْيَتَوَضَّأْ» ، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ لِلْمُتَسَابَّيْنِ إنَّ بَعْضَ مَا أَنْتُمَا فِيهِ لَشَرٌّ مِنْ الْحَدَثِ فَجَدِّدَا الْوُضُوءَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ» ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ خَاصَّةً. وَرُوِيَ «تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ» (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّمَا عَلَيْنَا الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ لَيْسَ مِمَّا يَدْخُلُ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ، يَعْنِي: الْخَارِجَ النَّجِسَ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْحَدَثَ هُوَ خُرُوجُ النَّجَسِ حَقِيقَةً، أَوْ مَا هُوَ سَبَبُ الْخُرُوجِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حِينَ بَلَغَهُ حَدِيثُ حَمْلِ الْجِنَازَةِ فَقَالَ أَنَتَوَضَّأُ مِنْ مَسِّ عِيدَانٍ يَابِسَةٍ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا يَغْلِبُ وُجُودُهَا فَلَوْ جُعِلَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَدَثًا لَوَقَعَ النَّاسِ فِي الْحَرَجِ، وَمَا رَوَوْا أَخْبَارَ آحَادٍ وَرَدَتْ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَيَغْلِبُ وُجُودُهُ، وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ دَلِيلُ عَدَمِ الثُّبُوتِ إذْ لَوْ ثَبَتَ لَاشْتَهَرَ بِخِلَافِ خَبَرِ الْقَهْقَهَةِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَشَاهِيرِ مَعَ أَنَّهُ مَا وَرَدَ فِيمَا لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، لِأَنَّ الْقَهْقَهَةَ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ، وَلَوْ ثَبَتَ مَا رَوَوْا فَالْمُرَادُ مِنْ الْوُضُوءِ بِتَغْمِيضِ الْمَيِّتِ غَسْلُ الْيَدِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لَا يَخْلُو عَنْ قَذَارَةٍ عَادَةً، وَكَذَا بِأَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَلِهَذَا خَصَّ لَحْمَ الْإِبِلِ فِي رِوَايَةٍ؛ لِأَنَّ لَهُ

مِنْ اللُّزُوجَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، وَهَكَذَا رُوِيَ «أَنَّهُ أَكَلَ طَعَامًا فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَقَالَ هَكَذَا الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ» ، وَالْمُرَادُ مِنْ حَدِيثِ الْغُسْلِ فَلْيَغْتَسِلْ إذَا أَصَابَتْهُ الْغَسَّالَاتُ النَّجِسَةُ وَقَوْلُهُ فَلْيَتَوَضَّأْ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ لِلْمُحْدِثِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إنَّمَا نَدَبَتْ الْمُتَسَابَّيْنِ إلَى تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ تَكْفِيرًا لِذَنْبِ سَبِّهِمَا. وَمَنْ تَوَضَّأَ، ثُمَّ جَزَّ شَعْرَهُ، أَوْ قَلَّمَ ظُفْرَهُ، أَوْ قَصَّ شَارِبَهُ، أَوْ نَتَفَ إبِطَيْهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي قَلْمِ الظُّفْرِ وَجَزِّ الشَّعْرِ وَقَصِّ الشَّارِبِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ مَا حَصَلَ فِيهِ التَّطْهِيرُ قَدْ زَالَ، وَمَا ظَهَرَ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ التَّطْهِيرُ فَأَشْبَهَ نَزْعَ الْخُفَّيْنِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْوُضُوءَ قَدْ تَمَّ؛ فَلَا يُنْتَقَضُ إلَّا بِالْحَدَثِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ يَحِلُّ ظَاهِرَ الْبَدَنِ. وَقَدْ زَالَ الْحَدَثُ عَنْ الظَّاهِرِ إمَّا بِالْغَسْلِ، أَوْ بِالْمَسْحِ، وَمَا بَدَا لَمْ يَحِلَّهُ الْحَدَثُ السَّابِقُ، وَبَعْدَ بُدُوِّهِ لَمْ يُوجَدْ حَدَثٌ آخَرُ، فَلَا تُعْقَلُ إزَالَتُهُ بِخِلَافِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، لِأَنَّ الْوُضُوءِ هُنَاكَ لَمْ يَتِمَّ، لِأَنَّ تَمَامَهُ بِغَسْلِ الْقَدَمَيْنِ، وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَقَامَ غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ لِضَرُورَةِ تَعَذُّرِ النَّزْعِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَإِذَا نَزَعَ زَالَتْ الضَّرُورَةُ فَوَجَبَ غَسْلُ الْقَدَمَيْنِ تَتْمِيمًا لِلْوُضُوءِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ نَتْفَ الْإِبِطِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا يَظْهَرُ بِالنَّتْفِ مَحَلًّا لِحُلُولِ الْحَدَثِ فِيهِ بِخِلَافِ قَلْمِ الْأَظْفَارِ، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ مَنْ مَسَحَ إبِطَيْهِ فَلْيَتَوَضَّأْ، وَتَأْوِيلُهُ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ لِتَلَوُّثِهِمَا بِعَرَقِهِ. وَلَوْ مَسَّ كَلْبًا، أَوْ خِنْزِيرًا، أَوْ وَطِئَ نَجَاسَةً لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الْحَدَثِ حَقِيقَةً، وَحُكْمًا إلَّا أَنَّهُ إذَا الْتَزَقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ يَجِبُ غَسْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَإِلَّا، فَلَا. وَمَنْ أَيْقَنَ بِالطَّهَارَةِ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ فَهُوَ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِالْحَدَثِ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ فَهُوَ عَلَى الْحَدَثِ، لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ الْمُتَوَضِّئُ إذَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ دَخَلَ الْخَلَاءَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَشَكَّ أَنَّهُ خَرَجَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَهَا، أَوْ بَعْدَ مَا قَضَاهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَا خَرَجَ إلَّا بَعْدَ قَضَائِهَا، وَكَذَلِكَ الْمُحْدِثُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ جَلَسَ لِلْوُضُوءِ، وَمَعَهُ الْمَاءُ، وَشَكَّ فِي أَنَّهُ تَوَضَّأَ، أَوْ قَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ، فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَقُومُ مَا لَمْ يَتَوَضَّأْ، وَلَوْ شَكَّ فِي بَعْضِ وُضُوئِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَا شَكَّ غَسَلَ الْمَوْضِعَ الَّذِي شَكَّ فِيهِ، لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الْحَدَثِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَفِي شَكِّ مَنْ غَسَلَهُ. وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَوَّلَ مَا شَكَّ أَنَّ الشَّكَّ فِي مِثْلِهِ لَمْ يَصِرْ عَادَةً لَهُ؛ لَا أَنَّهُ لَمْ يَبْتَلَّ بِهِ قَطُّ، وَإِنْ كَانَ يَعْرِضُ لَهُ ذَلِكَ كَثِيرًا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَسْوَسَةٌ، وَالسَّبِيلُ فِي الْوَسْوَسَةِ قَطْعُهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَغَلَ بِذَلِكَ لَأَدَّى إلَى أَنْ يَتَفَرَّعَ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَلَوْ تَوَضَّأَ، ثُمَّ رَأَى الْبَلَلَ سَائِلًا مِنْ ذَكَرِهِ أَعَادَ الْوُضُوءَ لِوُجُودِ الْحَدَثِ، وَهُوَ سَيَلَانُ الْبَوْلِ، وَإِنَّمَا قَالَ رَآهُ سَائِلًا لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْبَلَلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَاءِ الطَّهَارَةِ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ بَوْلٌ ظَهَرَ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَائِلًا، وَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ يُرِيه ذَلِكَ كَثِيرًا، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ بَوْلٌ، أَوْ مَاءٌ مَضَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْوَسْوَسَةِ فَيَجِبُ قَطْعُهَا وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ فَيَقُولُ أَحْدَثْت أَحْدَثْت، فَلَا يَنْصَرِفْ، حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا» . وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْضَحَ فَرْجَهُ، أَوْ إزَارَهُ بِالْمَاءِ إذَا تَوَضَّأَ قَطْعًا لِهَذِهِ الْوَسْوَسَةِ، حَتَّى إذَا أَحَسَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَحَالَهُ إلَى ذَلِكَ الْمَاءِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَنْضَحُ إزَارَهُ بِالْمَاءِ إذَا تَوَضَّأَ» ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ «نَزَلَ عَلَيَّ جِبْرِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه، وَأَمَرَنِي بِذَلِكَ» . مَطْلَبُ مَسِّ الْمُصْحَفِ (وَأَمَّا) الثَّانِي، وَهُوَ بَيَانُ حُكْمِ الْحَدَثِ فَلِلْحَدَثِ أَحْكَامٌ، وَهِيَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْمُحْدِثِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ لِفَقْدِ شَرْطِ جَوَازِهَا، وَهُوَ الْوُضُوءُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِوُضُوءٍ» ، وَلَا مَسُّ الْمُصْحَفِ مِنْ غَيْرِ غُلَافٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُبَاحُ لَهُ مَسُّ الْمُصْحَفِ مِنْ غَيْرِ غُلَافٍ وَقَاسَ الْمَسَّ عَلَى الْقِرَاءَةِ فَقَالَ: يَجُوزُ لَهُ الْقِرَاءَةُ فَيَجُوزُ لَهُ الْمَسُّ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ» ، وَلِأَنَّ تَعْظِيمَ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ مِنْ التَّعْظِيمِ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِيَدٍ حَلَّهَا حَدَثٌ، وَاعْتِبَارُ الْمَسِّ بِالْقِرَاءَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ، لِأَنَّ حُكْمَ الْحَدَثِ لَمْ يَظْهَرْ فِي الْفَمِ وَظَهَرَ فِي الْيَدِ بِدَلِيلٍ أَنَّهُ افْتَرَضَ غَسْلَ الْيَدِ، وَلَمْ يَفْتَرِضْ غَسْلَ الْفَمِ فِي الْحَدَثِ فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ، وَلَا مَسُّ الدَّرَاهِمِ الَّتِي عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُصْحَفِ كَحُرْمَةِ مَا كُتِبَ مِنْهُ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْكِتَابَةُ فِي الْمُصْحَفِ، وَعَلَى الدَّرَاهِمِ، وَلَا مَسُّ كِتَابِ التَّفْسِيرِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَسِّهِ مَاسًّا لِلْقُرْآنِ. وَأَمَّا مَسُّ كِتَابِ الْفِقْهِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ

فصل الغسل

وَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ. وَإِنْ طَافَ جَازَ مَعَ النُّقْصَانِ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ شَبِيهٌ بِالصَّلَاةِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَلَاةٍ حَقِيقِيَّةٍ فَلِكَوْنِهِ طَوَافًا حَقِيقَةً يَحْكُمُ بِالْجَوَازِ، وَلِكَوْنِهِ شَبِيهًا بِالصَّلَاةِ يُحْكَمَ بِالْكَرَاهَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْغِلَافَ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَفْسِيرَهُ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْجِلْدُ الْمُتَّصِلُ بِالْمُصْحَفِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْكُمُّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الْغِلَافُ الْمُنْفَصِلُ عَنْ الْمُصْحَفِ، وَهُوَ الَّذِي يُجْعَلُ فِيهِ الْمُصْحَفُ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْجِلْدِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الثَّوْبِ، وَهُوَ الْخَرِيطَةُ، لِأَنَّ الْمُتَّصِلَ بِهِ تَبَعٌ لَهُ فَكَانَ مَسُّهُ مَسًّا لِلْقُرْآنِ، وَلِهَذَا لَوْ لِبَيْعِ الْمُصْحَفُ دَخَلَ الْمُتَّصِلُ بِهِ فِي الْبَيْعِ، وَالْكُمُّ تَبَعٌ لِلْحَامِلِ فَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ فَلَيْسَ بِتَبَعٍ، حَتَّى لَا يَدْخُلَ فِي بَيْعِ الْمُصْحَفِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّمَا يُكْرَهُ لَهُ مَسُّ الْمَوْضِعِ الْمَكْتُوبِ دُونَ الْحَوَاشِي، لِأَنَّهُ لَمْ يَمَسَّ الْقُرْآنَ حَقِيقَةً، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْرَهُ مَسُّ كُلِّهِ، لِأَنَّ الْحَوَاشِيَ تَابِعَةٌ لِلْمَكْتُوبِ فَكَانَ مَسُّهَا مَسًّا لِلْمَكْتُوبِ، وَيُبَاحُ لَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ لَا يَحْجِزُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إلَّا الْجَنَابَةُ» . وَيُبَاحُ لَهُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ وُفُودَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، وَالصَّلَاةُ حَتَّى يَجِبَ قَضَاؤُهُمَا بِالتَّرْكِ لِأَنَّ الْحَدَثَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ أَدَاءِ الصَّوْمِ، فَلَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ وُجُوبِهِ، وَلَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ أَدَائِهَا، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ رَفْعُهُ بِالطَّهَارَةِ. [فَصْلٌ الْغُسْلُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْغُسْلُ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الْغُسْلِ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ سُنَنِ الْغُسْلِ، وَفِي بَيَانِ آدَابِهِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْمَاءِ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ، وَفِي بَيَانِ صِفَة الْغُسْلِ الْمَشْرُوعِ. (أَمَّا) تَفْسِيرُهُ فَالْغُسْلُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْمَاءِ الَّذِي يُغْتَسَلُ بِهِ لَكِنْ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ يُرَادُ بِهِ غَسْلُ الْبَدَنِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ الْغَسْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ الْإِسَالَةُ، حَتَّى لَا يَجُوزُ بِدُونِهَا. (وَأَمَّا) رُكْنُهُ فَهُوَ إسَالَةُ الْمَاءِ عَلَى جَمِيعِ مَا يُمْكِنُ إسَالَتُهُ عَلَيْهِ مِنْ الْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ مَرَّةً وَاحِدَةً حَتَّى لَوْ بَقِيَتْ لُمْعَةٌ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ لَمْ يَجُزْ الْغُسْلُ، وَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ، أَيْ: طَهِّرُوا أَبْدَانَكُمْ، وَاسْمُ الْبَدَنِ يَقَعُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ فَيَجِبُ تَطْهِيرُ مَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ مِنْهُ بِلَا حَرَجٍ، وَلِهَذَا وَجَبَتْ الْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ فِي الْغُسْلِ، لِأَنَّ إيصَالَ الْمَاءِ إلَى دَاخِلِ الْفَمِ، وَالْأَنْفِ مُمْكِنٌ بِلَا حَرَجٍ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبَانِ فِي الْوُضُوءِ لَا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ بَلْ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ غَسْلُ الْوَجْهِ، وَلَا تَقَعُ الْمُوَاجِهَةُ إلَى ذَلِكَ رَأْسًا، وَيَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى أَثْنَاءِ اللِّحْيَةِ كَمَا يَجِبُ إلَى أُصُولِهَا، وَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى أَثْنَاءِ شَعْرِهَا إذَا كَانَ مَنْقُوضًا كَذَا ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ. وَأَمَّا إذَا كَانَ شَعْرُهَا ضَفِيرًا فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا إيصَالُ الْمَاءِ إلَى أَثْنَائِهِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ أَلَا فَبُلُّوا الشَّعْرَ، وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ» . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجِبُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «أُمَّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنِّي أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ إذَا اغْتَسَلْت فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفِيضِي الْمَاءَ عَلَى رَأْسِك، وَسَائِرِ جَسَدِك، وَيَكْفِيك إذَا بَلَغَ الْمَاءُ أُصُولَ شَعْرِك» ، وَلِأَنَّ ضَفِيرَتَهَا إذَا كَانَتْ مَشْدُودَةً فَتَكْلِيفُهَا نَقْضُهَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ، وَلَا حَرَجَ حَالَ كَوْنِهَا مَنْقُوضَةٌ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ. وَيَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى دَاخِلِ السُّرَّةِ لِإِمْكَانِ الْإِيصَالِ إلَيْهَا بِلَا حَرَجٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُدْخِلَ أُصْبُعَهُ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ غَسْلُ الْفَرْجِ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ غَسْلُهُ بِلَا حَرَجٍ. وَكَذَا الْأَقْلَفُ يَجِبُ عَلَيْهِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى الْقُلْفَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجِبُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِإِمْكَانِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ. (وَأَمَّا) شُرُوطُهُ فَمَا ذَكَرْنَا فِي الْوُضُوءِ. (وَأَمَّا) سُنَنُهُ فَهِيَ أَنْ يَبْدَأَ فَيَأْخُذَ الْإِنَاءَ بِشِمَالِهِ، وَيَكْفِيهِ عَلَى يَمِينِهِ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ إلَى الرُّسْغَيْنِ ثَلَاثًا، ثُمَّ يُفْرِغُ الْمَاءَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ، حَتَّى يُنَقِّيَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا إلَّا أَنَّهُ لَا يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ، حَتَّى يُفِيضَ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ، وَسَائِرِ جَسَدِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ يَتَنَحَّى فَيَغْسِلُ قَدَمَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا قَالَتْ: «وَضَعْتُ غُسْلًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَغْتَسِلَ مِنْ الْجَنَابَةِ فَأَخَذَ الْإِنَاءَ بِشِمَالِهِ، وَأَكْفَأَهُ عَلَى يَمِينِهِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَنْقَى

فَرْجَهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ مَالَ بِيَدِهِ إلَى الْحَائِطِ فَدَلَّكَهَا بِالتُّرَابِ ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ، ثُمَّ أَفَاضَ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ، وَسَائِرِ جَسَدِهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ» فَالْحَدِيثُ مُشْتَمِلٌ عَلَى بَيَانِ السُّنَّةِ، وَالْفَرِيضَةِ جَمِيعًا. وَهَلْ يَمْسَحُ رَأْسَهُ عِنْدَ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ عَلَى الْغُسْلِ ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَمْسَحُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَمْسَحُ لِأَنَّ تَسْيِيلَ الْمَاءِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ يُبْطِلُ مَعْنَى الْمَسْحِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ لِأَنَّ التَّسْيِيلَ مِنْ بَعْدُ لَا يُبْطِلُ التَّسْيِيلَ مِنْ قَبْلُ، وَالصَّحِيحُ. جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِتَقْدِيمِ الْوُضُوءِ عَلَى الْإِفَاضَةِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ عَلَى مَا رَوَيْنَا، وَالْوُضُوءُ اسْمٌ لِلْمَسْحِ، وَالْغُسْلِ جَمِيعًا إلَّا أَنَّهُ يُؤَخِّرُ غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي تَقْدِيمِ غَسْلِهِمَا لِأَنَّهُمَا يَتَلَوَّثَانِ بِالْغُسَالَاتِ مِنْ بَعْدُ، حَتَّى لَوْ اغْتَسَلَ عَلَى مَوْضِعٍ لَا يَجْتَمِعُ الْغُسَالَةُ تَحْتَ قَدَمِهِ كَالْحَجَرِ، وَنَحْوِهِ لَا يُؤَخِّرُ لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّلَوُّثِ، وَلِهَذَا قَالُوا فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ: إنَّهُ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ عِنْدَ التَّوْضِئَةِ، وَلَا يُؤَخِّرُ غَسْلَهُمَا، لِأَنَّ الْغُسَالَةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى التَّخْتِ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ اسْتَدَلَّ بِتَأْخِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ عِنْدَ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ عَلَى الْإِفَاضَةِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ نَجَسٌ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ نَجَسًا لَمْ يَكُنْ لِلتَّحَرُّجِ عَنْ الطَّاهِرِ مَعْنَى فَجَعَلُوهُ حُجَّةَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَلَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ حُجَّةٍ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يَتَحَرَّجُ عَنْ النَّجَسِ يَتَحَرَّجُ عَنْ الْقَذَرِ خُصُوصًا الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ، وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ قَدْ أُزِيلَ إلَيْهِ قَذَرُ الْحَدَثِ، حَتَّى تَعَافُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) آدَابُهُ فَمَا ذَكَرْنَا فِي الْوُضُوءِ. وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْمَاءِ الَّذِي يَغْتَسِلُ بِهِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَقَالَ: أَدْنَى مَا يَكْفِي فِي الْغُسْلِ مِنْ الْمَاءِ صَاعٌ، وَفِي الْوُضُوءِ مُدٌّ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ فَقِيلَ لَهُ: إنْ لَمْ يَكْفِنَا فَغَضِبَ وَقَالَ: لَقَدْ كَفَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ، وَأَكْثَرُ شَعْرًا» ، ثُمَّ إنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ الصَّاعَ فِي الْغُسْلِ، وَالْمُدَّ فِي الْوُضُوءِ مُطْلَقًا عَنْ الْأَحْوَالِ، وَلَمْ يُفَسِّرْهُ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: هَذَا التَّقْدِيرُ فِي الْغُسْلِ إذَا لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْوُضُوءِ، وَالْغُسْلِ فَأَمَّا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا يَحْتَاجُ إلَى عَشْرَةِ أَرْطَالٍ رَطْلَانِ لِلْوُضُوءِ، وَثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ لِلْغُسْلِ. وَقَالَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ إنَّ الصَّاعَ كَافٍ لَهُمَا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْوُضُوءِ إنْ كَانَ الْمُتَوَضِّئُ مُتَخَفِّفًا، وَلَا يَسْتَنْجِي يَكْفِيهِ رَطْلٌ وَاحِدٌ لِغَسْلِ الْوَجْهِ، وَالْيَدَيْنِ، وَمَسْحِ الرَّأْسِ، وَإِنْ كَانَ مُتَخَفِّفًا، وَيَسْتَنْجِي يَكْفِيهِ رَطْلَانِ رَطْلٌ لِلِاسْتِنْجَاءِ وَرَطْلٌ لِلْبَاقِي، ثُمَّ هَذَا التَّقْدِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ الصَّاعِ، وَالْمُدِّ فِي الْغُسْلِ، وَالْوُضُوءِ لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ عَنْهُ أَوْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ بَيَانُ مِقْدَارِ أَدْنَى الْكِفَايَةِ عَادَةً حَتَّى إنَّ مَنْ أَسْبَغَ الْوُضُوءَ، وَالْغُسْلَ بِدُونِ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ. وَإِنْ لَمْ يَكْفِهِ زَادَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ طِبَاعَ النَّاسِ، وَأَحْوَالَهُمْ تَخْتَلِفُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَتَوَضَّأُ بِثُلُثَيْ مُدٍّ» لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا لَا إسْرَافَ فِيهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، وَيَصُبُّ صَبًّا فَاحِشًا فَقَالَ: إيَّاكَ، وَالسَّرَفَ فَقَالَ: أَوَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْ كُنْت عَلَى ضِفَّةِ نَهْرٍ جَارٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «، وَلَوْ كُنْت عَلَى شَطِّ بَحْرٍ» . (وَأَمَّا) صِفَةُ الْغُسْلِ فَالْغُسْلُ قَدْ يَكُونُ فَرْضًا وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا وَقَدْ يَكُونُ سُنَّةٌ وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا أَمَّا الْغُسْلُ الْوَاجِبُ فَهُوَ غُسْلُ الْمَوْتَى. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَهُوَ غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَالْعِيدَيْنِ، وَعِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَهُنَا نَذْكُرُ الْمُسْتَحَبَّ، وَالْفَرْضَ. (أَمَّا) الْمُسْتَحَبُّ فَهُوَ غُسْلُ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ مَنْ جَاءَهُ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ» ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ النَّدْبُ، وَالِاسْتِحْبَابُ هَذَا إذَا لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ جُنُبٌ فَأَسْلَمَ فَأَمَّا إذَا عَلِمَ كَوْنَهُ جُنُبًا فَأَسْلَمَ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَلْزَمُهُ الِاغْتِسَالُ أَيْضًا لِأَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ مِنْ الْقُرُبَاتِ، وَالْغُسْلُ يَصِيرُ قُرْبَةً بِالنِّيَّةِ، فَلَا يَلْزَمُهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الْجَنَابَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الْحَدَثِ، حَتَّى يَلْزَمَهُ الْوُضُوءُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَذَا الْجَنَابَةُ، وَعَلَى هَذَا غُسْلُ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ عِنْدَ الْبُلُوغِ، وَالْإِفَاقَةِ. (وَأَمَّا) الْغُسْلُ الْمَفْرُوضُ فَثَلَاثَةٌ: الْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ، وَالْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ أَمَّا الْجَنَابَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ، أَيْ: اغْتَسِلُوا وقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] ،

وَالْكَلَامُ فِي الْجَنَابَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ مَا تَثْبُتُ بِهِ الْجَنَابَةُ، وَيَصِيرُ الشَّخْصُ بِهِ جُنُبًا، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجَنَابَةِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالْجَنَابَةُ تَثْبُتُ بِأُمُورٍ بَعْضُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ (أَمَّا) الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا خُرُوجُ الْمَنِيِّ عَنْ شَهْوَةٍ دَفْقًا مِنْ غَيْرِ إيلَاجٍ بِأَيِّ سَبَبٍ حَصَلَ الْخُرُوجُ كَاللَّمْسِ، وَالنَّظَرِ، وَالِاحْتِلَامِ، حَتَّى يَجِبَ الْغُسْلُ بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» ، أَيْ: الِاغْتِسَالُ مِنْ الْمَنِيِّ، ثُمَّ إنَّمَا وَجَبَ غَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَلَمْ يَجِبْ بِخُرُوجِ الْبَوْلِ، وَالْغَائِطِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ لَا غَيْرَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ بِإِنْزَالِ الْمَنِيِّ اسْتِمْتَاعٌ بِنِعْمَةٍ يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَهُوَ اللَّذَّةُ فَأَمَرَ بِغَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ شُكْرًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ، وَهَذَا لَا يَتَقَرَّرُ فِي الْبَوْلِ، وَالْغَائِطِ، وَالثَّانِي أَنَّ الْجَنَابَةَ تَأْخُذُ جَمِيعَ الْبَدَنِ ظَاهِرَهُ، وَبَاطِنَهُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ الَّذِي هُوَ سَبَبُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاسْتِعْمَالٍ لِجَمِيعِ مَا فِي الْبَدَنِ مِنْ الْقُوَّةِ، حَتَّى يَضْعُفُ الْإِنْسَانُ بِالْإِكْثَارِ مِنْهُ، وَيَقْوَى بِالِامْتِنَاعِ فَإِذَا أَخَذَتْ الْجَنَابَةُ جَمِيعَ الْبَدَنِ الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ وَجَبَ غَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَلَا كَذَلِكَ الْحَدَثُ فَإِنَّهُ لَا يَأْخُذُ إلَّا الظَّاهِرَ مِنْ الْأَطْرَافِ، لِأَنَّ سَبَبَهُ يَكُونُ بِظَوَاهِرِ الْأَطْرَافِ مِنْ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَلَا يَكُونَانِ بِاسْتِعْمَالِ جَمِيعِ الْبَدَنِ فَأَوْجَبَ غَسْلَ ظَوَاهِرِ الْأَطْرَافِ لَا جَمِيعَ الْبَدَنِ، وَالثَّالِثُ أَنَّ غَسْلَ الْكُلِّ، أَوْ الْبَعْضِ وَجَبَ وَسِيلَةً إلَى الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ خِدْمَةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى، وَالْقِيَامُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَعْظِيمِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي عَلَى أَطْهُرْ الْأَحْوَالِ، وَأَنْظَفِهَا لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى التَّعْظِيمِ، وَأَكْمَلَ فِي الْخِدْمَةِ، وَكَمَالُ النَّظَافَةِ يَحْصُلُ بِغَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَهَذَا هُوَ الْعَزِيمَةُ فِي الْحَدَثِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ فَاكْتَفَى فِيهِ بِأَيْسَرِ النَّظَافَةِ، وَهِيَ تَنْقِيَةُ الْأَطْرَافِ الَّتِي تَنْكَشِفُ كَثِيرًا، وَتَقَعُ عَلَيْهَا الْأَبْصَارُ أَبَدًا، وَأُقِيمَ ذَلِكَ مَقَامَ غَسْلِ كُلِّ الْبَدَنِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَتَيْسِيرًا فَضْلًا مِنْ اللَّهِ، وَنِعْمَةً، وَلَا حَرَجَ فِي الْجَنَابَةِ لِأَنَّهَا لَا تَكْثُرُ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى الْعَزِيمَةِ، وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي الِاحْتِلَامِ لِمَا رُوِيَ عَنْ «أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مِثْلَ مَا يَرَى الرَّجُلُ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ كَانَ مِنْهَا مِثْلُ مَا يَكُونُ مِنْ الرَّجُلِ فَلْتَغْتَسِلْ» . وَرُوِيَ أَنَّ «أُمَّ سُلَيْمٍ كَانَتْ مُجَاوِرَةً لِأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَكَانَتْ تَدْخُلُ عَلَيْهَا فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأُمُّ سُلَيْمٍ عِنْدَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمَرْأَةُ إذَا رَأَتْ أَنَّ زَوْجَهَا يُجَامِعُهَا فِي الْمَنَامِ أَتَغْتَسِلُ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ تَرِبَتْ يَدَاك يَا أُمَّ سُلَيْمٍ فَضَحِكَتْ النِّسَاءُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ، وَإِنَّا إنْ نَسْأَلْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا يُشْكِلُ عَلَيْنَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ نَكُونَ فِيهِ عَلَى عَمًى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَلْ أَنْتِ يَا أُمَّ سَلَمَةَ تَرِبَتْ يَدَاك يَا أُمَّ سُلَيْمٍ عَلَيْهَا الْغُسْلُ إذَا وَجَدَتْ الْمَاءَ» . وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ فِي نَوَادِرِهِ إذَا احْتَلَمَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَخْرُجْ الْمَاءُ مِنْ إحْلِيلِهِ لَا غُسْلَ عَلَيْهِ وَالْمَرْأَةُ إذَا احْتَلَمَتْ وَلَمْ يَخْرُجْ الْمَاءُ إلَى ظَاهِرِ فَرْجِهَا اغْتَسَلَتْ، لِأَنَّ لَهَا فَرْجَيْنِ، وَالْخَارِجُ مِنْهُمَا لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ، حَتَّى يُفْتَرَضَ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ فِي الْجَنَابَةِ، وَالْحَيْضِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الْمَاءَ إذَا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، وَلَمْ يَخْرُجْ، حَتَّى لَوْ كَانَ الرَّجُلُ أَقْلَفَ فَبَلَغَ الْمَاءُ قُلْفَتَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، وَالثَّانِي إيلَاجُ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ فِي السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ سَوَاءٌ أَنْزَلَ، أَوْ لَمْ يُنْزِلْ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يُوجِبُونَ الْغُسْلَ، وَالْأَنْصَارُ لَا، بَعَثُوا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَتْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ، وَغَابَتْ الْحَشَفَةُ وَجَبَ الْغُسْلُ أَنْزَلَ، أَوْ لَمْ يُنْزِلْ» فَعَلْت أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاغْتَسَلْنَا فَقَدْ رَوَتْ قَوْلًا، وَفِعْلًا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ قَالَ فِي الْإِكْسَالِ يُوجِبُ الْحَدَّ أَفَلَا يُوجِبُ صَاعًا مِنْ مَاءٍ، وَلِأَنَّ إدْخَالَ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ الْمُعْتَادِ مِنْ الْإِنْسَانِ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْمَنِيِّ عَادَةً فَيُقَامُ مَقَامَهُ احْتِيَاطًا، وَكَذَا الْإِيلَاجُ فِي السَّبِيلِ الْآخَرِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْإِيلَاجِ فِي السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ بِدُونِ الْإِنْزَالِ أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْحَدَّ أَفَلَا يُوجِبُ صَاعًا مِنْ مَاءٍ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّمَا لَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ احْتِيَاطًا، وَالِاحْتِيَاطُ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ، وَلِأَنَّ الْإِيلَاجَ فِيهِ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْمَنِيِّ عَادَةً مِثْلَ الْإِيلَاجِ فِي السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ، وَالسَّبَبُ

يَقُومُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ خُصُوصًا فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ، وَلَا غُسْلَ فِيمَا دُونِ الْفَرْجِ بِدُونِ الْإِنْزَالِ، وَكَذَا الْإِيلَاجُ فِي الْبَهَائِمِ لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ مَا لَمْ يُنْزِلْ، وَكَذَا الِاحْتِلَامُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَفِي الْبَهِيمَةِ لَيْسَ نَظِيرَ الْفِعْلِ فِي فَرْجِ الْإِنْسَانِ فِي السَّبَبِيَّةِ، وَكَذَا الِاحْتِلَامُ فَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ حَقِيقَةُ الْإِنْزَالِ. (وَأَمَّا) الْمُخْتَلَفُ فِيهِ (فَمِنْهَا) أَنْ يَنْفَصِلَ الْمَنِيُّ لَا عَنْ شَهْوَةٍ وَيَخْرُجُ لَا عَنْ شَهْوَةٍ بِأَنْ ضَرَبَ عَلَى ظَهْرِهِ ضَرْبًا قَوِيًّا، أَوْ حَمَلَ حَمْلًا ثَقِيلًا، فَلَا غُسْلَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِيهِ الْغُسْلُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» أَيْ: الِاغْتِسَالُ مِنْ الْمَنِيِّ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي الْمَنَامِ يُجَامِعُهَا زَوْجُهَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَجِدُ لَذَّةً؟ فَقِيلَ: نَعَمْ فَقَالَ: عَلَيْهَا الِاغْتِسَالُ إذَا وَجَدَتْ الْمَاءَ» ، وَلَوْ لَمْ يَخْتَلِفْ الْحُكْمُ بِالشَّهْوَةِ، وَعَدَمِهَا لَمْ يَكُنْ لِلسُّؤَالِ عَنْ اللَّذَّةِ مَعْنًى؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الِاغْتِسَالِ مُعَلَّقٌ بِنُزُولِ الْمَنِيِّ، وَأَنَّهُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْمُنْزَلِ عَنْ شَهْوَةٍ لِمَا نَذْكُرُ فِي تَفْسِيرِ الْمَنِيِّ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ مِنْ الْمَاءِ الْمَاءُ الْمُتَعَارَفُ، وَهُوَ الْمُنْزَلُ عَنْ شَهْوَةٍ لِانْصِرَافِ مُطْلَقِ الْكَلَامِ إلَى الْمُتَعَارَفِ (وَمِنْهَا) أَنْ يَنْفَصِلَ الْمَنِيُّ عَنْ شَهْوَةٍ وَيَخْرُجُ لَا عَنْ شَهْوَةٍ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْغُسْلَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُوجِبُ فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمَا الِانْفِصَالُ عَنْ شَهْوَةٍ، وَعِنْدَهُ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الِانْفِصَالُ مَعَ الْخُرُوجِ عَنْ شَهْوَةٍ، وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا إذَا احْتَلَمَ الرَّجُلُ فَانْتَبَهَ وَقَبَضَ عَلَى عَوْرَتِهِ، حَتَّى سَكَنَتْ شَهْوَتُهُ، ثُمَّ خَرَجَ الْمَنِيُّ بِلَا شَهْوَةٍ، وَالثَّانِي إذَا جَامَعَ فَاغْتَسَلَ قَبْلَ أَنْ يَبُولَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ بَقِيَّةُ الْمَنِيِّ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ جَانِبَ الِانْفِصَالِ يُوجِبُ الْغُسْلَ وَجَانِبَ الْخُرُوجِ يَنْفِيهِ، فَلَا يَجِبُ مَعَ الشَّكِّ، وَلَهُمَا أَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ الْوُجُوبَ، وَالْعَدَمَ فَالْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ أَوْلَى احْتِيَاطًا. (وَمِنْهَا) أَنَّهُ إذَا اسْتَيْقَظَ فَوَجَدَ عَلَى فَخِذِهِ أَوْ عَلَى فِرَاشِهِ بَلَلًا عَلَى صُورَةِ الْمَذْيِ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ الِاحْتِلَامَ فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجِبُ، وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنِيًّا أَنَّ عَلَيْهِ الْغُسْلُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ عَنْ احْتِلَامٍ، وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ إنْ كَانَ وَدْيًا لَا غُسْلَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بَوْلٌ غَلِيظٌ. وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ عَلَى فِرَاشِهِ مَنِيًّا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَكَانَ يَقِيسُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَذْيَ يُوجِبُ الْوُضُوءَ دُونَ الِاغْتِسَالِ، وَلَهُمَا مَا رَوَى إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا رَأَى الرَّجُلُ بَعْدَ مَا يَنْتَبِهُ مِنْ نَوْمِهِ بَلَّةً، وَلَمْ يَذْكُرْ احْتِلَامًا اغْتَسَلَ، وَإِنْ رَأَى احْتِلَامًا، وَلَمْ يَرَ بَلَّةً، فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ» ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَلِأَنَّ الْمَنِيَّ قَدْ يَرِقُّ بِمُرُورِ الزَّمَانِ فَيَصِيرُ فِي صُورَةِ الْمَذْيِ وَقَدْ يَخْرُجُ ذَائِبًا لِفَرْطِ حَرَارَةِ الرَّجُلِ، أَوْ ضَعْفِهِ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِيجَابِ ثُمَّ الْمَنِيُّ خَاثِرٌ أَبْيَضُ يَنْكَسِرُ مِنْهُ الذَّكَرُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ: إنَّ لَهُ رَائِحَةَ الطَّلْعِ، وَالْمَذْيُ رَقِيقٌ يَضْرِبُ إلَى الْبَيَاضِ يَخْرُجُ عِنْدَ مُلَاعَبَةِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ، وَالْوَدْيُ رَقِيقٌ يَخْرُجُ بَعْدَ الْبَوْلِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا فَسَرَّتْ هَذِهِ الْمِيَاهَ بِمَا ذَكَرْنَا وَلَا غُسْلَ فِي الْوَدْيِ وَالْمَذْيِ أَمَّا الْوَدْيُ فَلِأَنَّهُ بَقِيَّةُ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْمَذْيُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «كُنْت فَحْلًا مَذَّاءً فَاسْتَحْيَيْت أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَكَانِ ابْنَتِهِ تَحْتِي فَأَمَرْت الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسَأَلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي، وَفِيهِ الْوُضُوءُ» نَصَّ عَلَى الْوُضُوءِ، وَأَشَارَ إلَى نَفْيِ وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ بِعِلَّةِ كَثْرَةِ الْوُقُوعِ بِقَوْلِهِ كُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي. (وَأَمَّا) الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجَنَابَةِ فَمَا لَا يُبَاحُ لِلْمُحْدِثِ فِعْلُهُ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ بِدُونِ غِلَافِهِ، وَمَسِّ الدَّرَاهِمِ الَّتِي عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْجَنَابَةَ أَغْلَظُ الْحَدَثَيْنِ، وَلَوْ كَانَتْ الصَّحِيفَةُ عَلَى الْأَرْضِ فَأَرَادَ الْجُنُبُ أَنْ يَكْتُبَ الْقُرْآنَ عَلَيْهَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَامِلٍ لِلصَّحِيفَةِ، وَالْكِتَابَةُ تُوجَدُ حَرْفًا حَرْفًا. وَهَذَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَقَالَ مُحَمَّدٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَكْتُبَ، لِأَنَّ كِتَابَةَ الْحُرُوفِ تَجْرِي مَجْرَى الْقِرَاءَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ الْكَافِرَ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ لِأَنَّ الْكَافِرَ نَجَسٌ فَيَجِبُ تَنْزِيهُ الْمُصْحَفِ عَنْ مَسِّهِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا اغْتَسَلَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْحَدَثُ وَقَدْ زَالَ بِالْغُسْلِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ نَجَاسَةُ اعْتِقَادِهِ، وَذَلِكَ فِي قَلْبِهِ لَا فِي يَدِهِ، وَلَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْجَنَابَةَ أَحَدُ الْحَدَثَيْنِ فَيُعْتَبَرُ بِالْحَدَثِ الْآخَرِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْقِرَاءَةِ كَذَا

الْجَنَابَةُ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَحْجِزُهُ شَيْءٌ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إلَّا الْجَنَابَةُ» ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ، وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ» ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الِاعْتِبَارِ فَاسِدٌ، لِأَنَّ أَحَدَ الْحَدَثَيْنِ حَلَّ الْفَمَ، وَلَمْ يَحِلَّ الْآخَرَ، فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَيَسْتَوِي فِي الْكَرَاهَةِ الْآيَةُ التَّامَّةُ، وَمَا دُونَ الْآيَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا بَأْسَ بِقِرَاءَةِ مَا دُونَ الْآيَةِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْقِرَاءَةِ لِتَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، وَمُحَافَظَةً عَلَى حُرْمَتِهِ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ فَيُكْرَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ لَكِنْ إذَا قَصَدَ التِّلَاوَةَ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِأَنْ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ لِافْتِتَاحِ الْأَعْمَالِ تَبَرُّكًا، أَوْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ لِلشُّكْرِ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْجُنُبُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ ذَلِكَ، وَتُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الْمُغْتَسَلِ وَالْمَخْرَجِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْضِعُ الْأَنْجَاسِ. فَيَجِبُ تَنْزِيهُ الْقُرْآنِ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا فِي الْحَمَّامِ فَتُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تُكْرَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ نَجَسٌ عِنْدَهُمَا فَأَشْبَهَ الْمُخْرَجَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ طَاهِرٌ، فَلَا تُكْرَهُ وَلَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ يَتَيَمَّمُ، وَيَدْخُلُ سَوَاءٌ كَانَ الدُّخُولُ لِقَصْدِ الْمُكْثِ أَوْ لِلِاجْتِيَازِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُبَاحُ لَهُ الدُّخُولُ بِدُونِ التَّيَمُّمِ إذَا كَانَ مُجْتَازًا، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ الصَّلَاةِ مَكَانُهَا، وَهُوَ الْمَسْجِدُ كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَابِرُ سَبِيلٍ هُوَ الْمَارُّ يُقَالُ: عَبَرَ، أَيْ: مَرَّ نَهْيُ الْجُنُبِ عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ بِدُونِ الِاغْتِسَالِ. وَاسْتَثْنَى عَابِرِي السَّبِيلِ، وَحُكْمُ الْمُسْتَثْنَى يُخَالِفُ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَيُبَاحُ لَهُ الدُّخُولُ بِدُونِ الِاغْتِسَالِ (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «سُدُّوا الْأَبْوَابَ فَإِنِّي لَا أُحِلُّهَا لِجُنُبٍ، وَلَا لِحَائِضٍ» ، وَالْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنْ الْمَسَاجِدِ نَفَى الْحِلَّ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُجْتَازِ، وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ، وَأَنَّ عَابِرَ السَّبِيلِ هُوَ الْمُسَافِرُ الْجُنُبُ الَّذِي لَا يَجِدُ الْمَاءَ فَيَتَيَمَّمُ فَكَانَ هَذَا إبَاحَةَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ الْمُسَافِرِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ، وَبِهِ نَقُولُ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى لِأَنَّ فِيهِ بَقَاءَ اسْمِ الصَّلَاةِ عَلَى حَالِهَا فَكَانَ أَوْلَى، أَوْ يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ، فَلَا تَبْقَى الْآيَةُ حُجَّةً لَهُ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَإِنْ طَافَ جَازَ مَعَ النُّقْصَانِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُحْدِثِ إلَّا أَنَّ النُّقْصَانَ مَعَ الْجَنَابَةِ أَفْحَشُ لِأَنَّهَا أَغْلَظُ، وَيَصِحُّ مِنْ الْجُنُبِ أَدَاءُ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطُ جِوَازِ الصَّلَاةِ دُونَ الصَّوْمِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ كِلَاهُمَا، حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُمَا بِالتَّرْكِ، لِأَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الصَّوْمِ بِلَا شَكٍّ، وَيَصِحُّ أَدَاؤُهُ مَعَ الْجَنَابَةِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا مَعَ قِيَامِ الْجَنَابَةِ، لِأَنَّ فِي وُسْعِهِ رَفْعَهَا بِالْغُسْلِ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ، وَلَا بَأْسَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَنَامَ وَيُعَاوِدَ أَهْلَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ «أَيَنَامُ أَحَدُنَا، وَهُوَ جُنُبٌ قَالَ: نَعَمْ، وَيَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ» ، وَلَهُ أَنْ يَنَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنَامُ، وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً» ، وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ فِي النَّوْمِ ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ، أَوْ يَشْرَبَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَمَضْمَضَ، وَيَغْسِلَ يَدَيْهِ. ثُمَّ يَأْكُلَ، وَيَشْرَبَ، لِأَنَّ الْجَنَابَةَ حَلَّتْ الْفَمَ فَلَوْ شَرِبَ قَبْلَ أَنْ يَتَمَضْمَضَ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا فَيَصِيرُ شَارِبًا بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَيَدُهُ لَا تَخْلُو عَنْ نَجَاسَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَغْسِلَهَا، ثُمَّ يَأْكُلَ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ ثَمَنُ مَاءِ الِاغْتِسَالِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجِبُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ غَنِيَّةً أَوْ فَقِيرَةً غَيْرَ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ فَقِيرَةً يُقَالُ: لِلزَّوْجِ إمَّا أَنْ تَدَعَهَا حَتَّى تَنْتَقِلَ إلَى الْمَاءِ، أَوْ تَنْقُلَ الْمَاءَ إلَيْهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْمَاءِ الَّذِي لِلشُّرْبِ، وَذَلِكَ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا. (وَأَمَّا) الْحَيْضُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] أَيْ: يَغْتَسِلْنَ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُسْتَحَاضَةِ «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك» أَيْ: أَيَّامَ حَيْضِك ثُمَّ اغْتَسِلِي، وَصَلِّي، وَلَا نَصَّ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ النِّفَاسِ، وَإِنَّمَا عُرِفَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً عَلَى خَبَرٍ مِنْ الْبَابِ. لَكِنَّهُمْ تَرَكُوا نَقْلَهُ اكْتِفَاءً بِالْإِجْمَاعِ عَنْ نَقْلِهِ لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ أَقْوَى، وَيَجُوزُ أَنَّهُمْ قَاسُوا عَلَى دَمِ الْحَيْضِ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمًا خَارِجًا مِنْ الرَّحِمِ فَبَنَوْا الْإِجْمَاعَ عَلَى الْقِيَاسِ إذْ الْإِجْمَاعُ

فصل الحيض وأحكامه

يَنْعَقِدُ عَنْ الْخَبَرِ، وَعَنْ الْقِيَاسِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. [فَصْلٌ الْحَيْضِ وَأَحْكَامُهُ] (فَصْلٌ) : ثُمَّ الْكَلَامُ يَقَعُ فِي تَفْسِيرِ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَالِاسْتِحَاضَةِ، وَأَحْكَامِهَا (أَمَّا) الْحَيْضُ فَهُوَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِدَمٍ خَارِجٍ مِنْ الرَّحِمِ لَا يَعْقُبُ الْوِلَادَةَ مُقَدَّرٌ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ لَوْنِ الدَّمِ، وَحَالِهِ، وَمَعْرِفَةِ خُرُوجِهِ، وَمِقْدَارِهِ، وَوَقْتِهِ (أَمَّا) لَوْنُهُ فَالسَّوَادُ حَيْضٌ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَلِكَ الْحُمْرَةُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: دَمُ الْحَيْضِ هُوَ الْأَسْوَدُ فَقَطْ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لَفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ حِينَ كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً «إذَا كَانَ الْحَيْضُ فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ فَأَمْسِكِي عَنْ الصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي، وَصَلِّي» . (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] جَعَلَ الْحَيْضَ أَذًى، وَاسْمُ الْأَذَى لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْأَسْوَدِ. وَرُوِيَ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَبْعَثْنَ بِالْكُرْسُفِ إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَكَانَتْ تَقُولُ: لَا حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ، أَيْ: الْبَيَاضَ الْخَالِصَ كَالْجِصِّ. فَقَدْ أَخْبَرَتْ أَنَّ مَا سِوَى الْبَيَاضِ حَيْضٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا إنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ حُكْمٌ لَا يُدْرَكُ بِالِاجْتِهَادِ، وَلِأَنَّ لَوْنَ الدَّمِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَغْذِيَةِ، فَلَا مَعْنَى لِلْقَصْرِ عَلَى لَوْنٍ وَاحِدٍ، وَمَا رَوَاهُ غَرِيبٌ فَلَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلْمَشْهُورِ مَعَ مَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَيَّامَ حَيْضِهَا بِلَوْنِ الدَّمِ فَبَنَى الْحُكْمَ فِي حَقِّهَا عَلَى اللَّوْنِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهَا وَغَيْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَعْلَمُ أَيَّامَ الْحَيْضِ بِلَوْنِ الدَّمِ، وَأَمَّا الْكُدْرَةُ فَفِي آخِرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَكَذَا فِي أَوَّلِ الْأَيَّامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَكُونُ حَيْضًا، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْحَيْضَ هُوَ الدَّمُ الْخَارِجُ مِنْ الرَّحِمِ لَا مِنْ الْعِرْقِ، وَدَمُ الرَّحِمِ يَجْتَمِعُ فِيهِ فِي زَمَانِ الطُّهْرِ ثُمَّ يَخْرُجُ الصَّافِي مِنْهُ، ثُمَّ الْكَدِرُ، وَدَمُ الْعِرْقِ يَخْرُجُ الْكَدِرُ مِنْهُ أَوَّلًا، ثُمَّ الصَّافِي فَيُنْظَرُ إنْ خَرَجَ الصَّافِي، أَوَّلًا عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ الرَّحِمِ فَيَكُونُ حَيْضًا، وَإِنْ خَرَجَ الْكَدِرُ أَوَّلًا عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ الْعِرْقِ فَلَا يَكُونُ حَيْضًا. (وَلَنَا) مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَقَوْلُهُ إنَّ كُدْرَةَ دَمِ الرَّحِمِ تَتْبَعُ صَافِيَهُ مَمْنُوعٌ، وَهَذَا أَمْرٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ بَلْ قَدْ يَتْبَعُ الصَّافِي الْكَدِرَ خُصُوصًا فِيمَا كَانَ الثُّقْبُ مِنْ الْأَسْفَلِ. وَأَمَّا التُّرْبَةُ فَهِيَ كَالْكُدْرَةِ. وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهَا فَقَدْ كَانَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ يَقُولُ إذَا رَأَتْ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْحَيْضِ ابْتِدَاءً كَانَ حَيْضًا أَمَّا إذَا رَأَتْ فِي آخِرِ أَيَّامِ الطُّهْرِ، وَاتَّصَلَ بِهِ أَيَّامَ الْحَيْضِ لَا يَكُونُ حَيْضًا. وَالْعَامَّةُ عَلَى أَنَّهَا حَيْضٌ كَيْفَمَا كَانَتْ. وَأَمَّا الْخُضْرَةُ فَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مِثْلُ الْكُدْرَةِ فَكَانَتْ عَلَى الْخِلَافِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْكَدِرَةُ، وَالتُّرْبَةُ، وَالصُّفْرَةُ، وَالْخُضْرَةُ إنَّمَا تَكُونُ حَيْضًا عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ الْعَجَائِزِ فَأَمَّا فِي الْعَجَائِزُ فَيُنْظَرُ إنْ وَجَدْتَهَا عَلَى الْكُرْسُفِ، وَمُدَّةُ الْوَضْعِ قَرِيبَةٌ فَهِيَ حَيْضٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْوَضْعِ طَوِيلَةً لَمْ يَكُنْ حَيْضًا؛ لِأَنَّ رَحِمَ الْعَجُوزِ يَكُونُ مُنْتِنًا فَيَتَغَيَّرُ الْمَاءُ لِطُولِ الْمُكْثِ، وَمَا عَرَفْت مِنْ الْجَوَابِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ فِي الْحَيْضِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِيهَا فِي النِّفَاسِ لِأَنَّهَا أُخْتُ الْحَيْضِ. (وَأَمَّا) خُرُوجُهُ فَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ بَاطِنِ الْفَرْجِ إلَى ظَاهِرِهِ إذْ لَا يَثْبُتُ الْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ، وَالِاسْتِحَاضَةُ إلَّا بِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ فِي الِاسْتِحَاضَةِ كَذَلِكَ فَأَمَّا الْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ فَإِنَّهُمَا يَثْبُتَانِ إذَا أَحَسَّتْ بِبُرُوزِ الدَّمِ، وَإِنْ لَمْ يَبْرُزْ وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَالِاسْتِحَاضَةِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ لَهُمَا أَعْنِي: الْحَيْضَ، وَالنِّفَاسَ وَقْتًا مَعْلُومًا فَتَحْصُلُ بِهِمَا الْمَعْرِفَةُ بِالْإِحْسَاسِ، وَلَا كَذَلِكَ الِاسْتِحَاضَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا وَقْتَ لَهَا تُعْلَمُ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْخُرُوجِ، وَالْبُرُوزِ لِيُعْلَمَ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ فُلَانَةَ تَدْعُو بِالْمِصْبَاحِ لَيْلًا فَتَنْظُرُ إلَيْهَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كُنَّا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا نَتَكَلَّفُ لِذَلِكَ إلَّا بِالْمَسِّ» وَالْمَسُّ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْخُرُوجِ، وَالْبُرُوزِ. (وَأَمَّا) مِقْدَارُهُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي أَصْلِ التَّقْدِيرِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ أَمْ لَا، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا هُوَ مُقَدَّرٌ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ مُقَدَّرٌ وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَلَيْسَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ، وَلَا لِأَكْثَرِهِ غَايَةٌ، وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] جَعَلَ الْحَيْضَ أَذًى مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، وَلِأَنَّ الْحَيْضَ اسْمُ الدَّمِ الْخَارِجِ مِنْ الرَّحِمِ، وَالْقَلِيلُ خَارِجٌ مِنْ الرَّحِمِ كَالْكَثِيرِ، وَلِهَذَا لَمْ يُقَدِّرْ: دَمَ النِّفَاسِ، وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَقَلُّ مَا يَكُونُ الْحَيْضُ لِلْجَارِيَةِ الثَّيِّبِ، وَالْبِكْرِ جَمِيعًا

ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ مِنْ الْحَيْضِ عَشْرَةُ أَيَّامٍ، وَمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ» ، وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ. وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: الْحَيْضُ ثَلَاثٌ أَرْبَعٌ خَمْسٌ سِتٌّ ثَمَانٌ تِسْعٌ عَشْرٌ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَالتَّقْدِيرُ الشَّرْعِيُّ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ الْمُقَدَّرِ حُكْمُ الْمَقْدُور بِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخَبَرَ الْمَشْهُورَ، وَالْإِجْمَاعَ خَرَجَا بَيَانًا لِلْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالنِّفَاسِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ هُنَاكَ عُرِفَ خَارِجًا مِنْ الرَّحِمِ بِقَرِينَةِ الْوَلَدِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا. (وَأَمَّا) الثَّانِي فَذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيهَا، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي النَّوَادِرِ يَوْمَانِ، وَأَكْثَرُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيْلَتَيْهِمَا الْمُتَخَلَّلَتَيْنِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَوْمٌ، وَلَيْلَةٌ فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ يَوْمٌ بِلَا لَيْلَةٍ، وَاحْتَجَّ بِمَا احْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْقَلِيلِ حَيْضًا؛ لِأَنَّ أَقْبَالَ النِّسَاءِ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ لَوَثٍ عَادَةً فَيُقَدَّرُ بِالْيَوْمِ، أَوْ بِالْيَوْمِ، وَاللَّيْلَةِ، لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِقْدَارٍ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ، وَحُجَّتُنَا مَا ذَكَرْنَا مَعَ مَالِكٍ، وَحُجَّةُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَكْثَرَ الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ كُلِّهِ، وَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ غَيْرُ سَدِيدٍ فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ إقَامَةُ يَوْمَيْنِ، وَأَكْثَرُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَقَامَ الثَّلَاثَةِ لَجَازَ إقَامَةُ يَوْمَيْنِ مَقَامَ الثَّلَاثَةِ لِوُجُودِ الْأَكْثَرِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ دُخُولَ اللَّيَالِي ضَرُورَةُ دُخُولِ الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ لَا مَقْصُودًا، وَالضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِاللَّيْلَتَيْنِ الْمُتَخَلَّلَتَيْنِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ دُخُولَ اللَّيَالِي تَحْتَ اسْمِ الْأَيَّامِ لَيْسَ مِنْ طَرِيقِ الضَّرُورَةِ بَلْ يَدْخُلُ مَقْصُودًا لِأَنَّ الْأَيَّامَ إذَا ذُكِرَتْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَتَنَاوَلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي لُغَةً فَكَانَ دُخُولًا مَقْصُودًا لَا ضَرُورَةً. (وَأَمَّا) أَكْثَرُ الْحَيْضِ فَعَشْرَةُ أَيَّامٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: خَمْسَةَ عَشْرَةَ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «تَقْعُدُ إحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تَصُومُ، وَلَا تُصَلِّي» ، ثُمَّ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ الَّذِي تُصَلِّي فِيهِ، وَهُوَ الطُّهْرُ خَمْسَةَ عَشْرَ كَذَا الشَّطْرُ الْآخَرُ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الشَّهْرَ مَقَامَ حَيْضٍ، وَطُهْرٍ فِي حَقِّ الْآيِسَةِ، وَالصَّغِيرَةِ فَهَذَا يَقْتَضِي انْقِسَامَ الشَّهْرِ عَلَى الْحَيْضِ، وَالطُّهْرِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ طُهْرًا، وَنِصْفُهُ حَيْضًا، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَاجِمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الشَّطْرِ الْمَذْكُورِ النِّصْفَ لِأَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهَا لَا تَقْعُدُ نِصْفَ عُمْرِهَا لَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَقْعُدُ حَالَ صِغَرِهَا، وَإِيَاسِهَا، وَكَذَا زَمَانُ الطُّهْرَ يَزِيدُ عَلَى زَمَانِ الْحَيْضِ عَادَةً فَكَانَ الْمُرَادُ مَا يُقَرِّبُ مِنْ النِّصْفِ، وَهُوَ عَشْرَةٌ، وَكَذَا لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ انْقِسَامِ الشَّهْرِ عَلَى الطُّهْرِ، وَالْحَيْضِ أَنْ تَكُونَ مُنَاصَفَةً إذْ قَدْ تَكُونُ الْقِسْمَةُ مُثَالَثَةً فَيَكُونُ ثُلُثُ الشَّهْرِ لِلْحَيْضِ، وَثُلُثَاهُ لِلطُّهْرِ، وَإِذَا عَرَفَتْ مِقْدَارَ الْحَيْضِ. لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الطُّهْرِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُقَابِلُ الْحَيْضَ، وَأَقَلُّهُ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا عِنْدَنَا إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ الْقَاضِي، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ تِسْعَةَ عَشْرَ يَوْمًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مِثْلَ قَوْلِنَا وَقَالَ مَالِكٌ: عَشْرَةُ أَيَّامِ وَجْهُ قَوْلٍ أَبِي حَازِمٍ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الشَّهْرَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَيْضِ، وَالطُّهْرِ عَادَةً وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ عَشْرَةً فَيَبْقَى مِنْ الشَّهْرِ عِشْرُونَ إلَّا أَنَّا نَقَصْنَا يَوْمًا لِأَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَنْقُصُ بِيَوْمٍ. (وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا قُلْنَا، وَنَوْعٌ مِنْ الِاعْتِبَارِ بِأَقَلَّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، لِأَنَّ لِمُدَّةِ الطُّهْرِ شَبَهًا بِمُدَّةِ الْإِقَامَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ بِالطُّهْرِ تَعُودُ إلَى مَا سَقَطَ عَنْهَا بِالْحَيْضِ كَمَا أَنَّ الْمُسَافِرَ بِالْإِقَامَةِ يَعُودُ إلَى مَا سَقَطَ عَنْهُ بِالسَّفَرِ، ثُمَّ أَقَلُّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا كَذَا أَقَلُّ الطُّهْرِ. وَمَا قَالَاهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَحِيضُ فِي الشَّهْرِ عَشَرَةً لَا مَحَالَةَ، وَلَوْ حَاضَتْ عَشَرَةً لَا تَطْهُرُ عِشْرِينَ لَا مَحَالَةَ بَلْ قَدْ تَحِيضُ ثَلَاثَةً، وَتَطْهُرُ عِشْرِينَ وَقَدْ تَحِيضُ عَشَرَةً، وَتَطْهُرُ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَأَمَّا أَكْثَرُ الطُّهْرِ، فَلَا غَايَةَ لَهُ، حَتَّى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا طَهُرَتْ سِنِينَ كَثِيرَةً فَإِنَّهَا تَعْمَلُ مَا تَعْمَلُ الطَّاهِرَاتُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ فِي بَنَاتِ آدَمَ أَصْلٌ، وَالْحَيْضُ عَارِضٌ فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ الْعَارِضُ يَجِبُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الْأَصْلِ، وَإِنْ طَالَ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ. وَهُوَ أَنَّ أَكْثَرَ الطُّهْرِ الَّذِي يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ عِنْدَ الِاسْتِمْرَارِ كَمْ هُوَ قَالَ أَبُو عِصْمَةَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْمَرْوَزِيِّ: وَأَبُو حَازِمٍ الْقَاضِي إنَّ الطُّهْرَ وَإِنْ طَالَ يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ، حَتَّى إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَاضَتْ خَمْسَةً، وَطَهُرَتْ سِتَّةً ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ يُبْنَى الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهِ فَتَقْعُدُ خَمْسَةً، وَتُصَلِّي سِتَّةً، وَكَذَا لَوْ رَأَتْ أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَيْدَانِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ بُخَارَى: إنَّ أَكْثَرَ الطُّهْرِ

النفاس وأحكامه

الَّذِي يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَإِذَا كَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَا يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ، وَإِذَا لَمْ يَصْلُحُ لَهُ تَرُدُّ أَيَّامَهَا إلَى الشَّهْرِ فَتَقْعُدُ مَا كَانَتْ رَأَتْ فِيهِ مِنْ خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَتُصَلِّي بَقِيَّةَ الشَّهْرِ هَكَذَا دَأْبُهَا وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ، وَأَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ أَكْثَرُ الطُّهْرِ الَّذِي يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْعَادَةِ سَبْعَةٌ، وَخَمْسُونَ يَوْمًا، وَإِذَا زَادَ عَلَيْهِ تَرُدُّ أَيَّامَهَا إلَى الشَّهْرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَكْثَرُهُ شَهْرٌ، وَإِذَا زَادَ عَلَيْهِ تَرُدُّ إلَى الشَّهْرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَبْعَةٌ، وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ تُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ. (وَأَمَّا) وَقْتُهُ فَوَقْتُهُ حِينَ تَبْلُغُ الْمَرْأَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَصَاعِدًا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ، فَلَا يَكُونُ الْمَرْئِيُّ فِيمَا دُونَهُ حَيْضًا وَإِذَا بَلَغَتْ تِسْعًا كَانَ حَيْضًا إلَى أَنْ تَبْلُغَ حَدَّ الْإِيَاسِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ فِي حَدِّهِ، وَلَوْ بَلَغَتْ ذَلِكَ وَقَدْ انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ، ثُمَّ رَأَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ حَيْضًا، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَكُونُ حَيْضًا، وَمَوْضِعُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ كُلِّهِ كِتَابِ الْحَيْضِ. (وَأَمَّا) النِّفَاسُ فَهُوَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِلدَّمِ الْخَارِجِ مِنْ الرَّحِمِ عَقِيبِ الْوِلَادَةِ، وَسُمِّيَ نِفَاسًا إمَّا لِتَنَفُّسِ الرَّحِمِ بِالْوَلَدِ أَوْ بِخُرُوجِ النَّفْسِ، وَهُوَ الْوَلَدُ أَوْ الدَّمُ، وَالْكَلَامُ فِي لَوْنِهِ، وَخُرُوجِهِ كَالْكَلَامِ فِي دَمِ الْحَيْضِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. [النِّفَاس وَأَحْكَامُهُ] (وَأَمَّا) الْكَلَامُ فِي مِقْدَارِهِ فَأَقَلُّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِلَا خِلَافٍ حَتَّى أَنَّهَا إذَا وَلَدَتْ، وَنَفِسَتْ وَقْتَ صَلَاةٍ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ، لِأَنَّ النِّفَاسَ دَمُ الرَّحِمِ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ الْقَلِيلُ مِنْهُ خَارِجًا مِنْ الرَّحِمِ، وَهُوَ شَهَادَةُ الْوِلَادَةِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ لَمْ يُوجَدْ فِي بَابِ الْحَيْضِ فَلَمْ يُعْرَفْ الْقَلِيلُ مِنْهُ أَنَّهُ مِنْ الرَّحِمِ فَلَمْ يَكُنْ حَيْضًا عَلَى أَنَّ قَضِيَّةَ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَتَقَدَّرُ أَقَلُّ الْحَيْضِ أَيْضًا كَمَا قَالَ مَالِكٌ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا التَّقْدِيرَ، ثَمَّ بِالتَّوْقِيفِ، وَلَا تَوْقِيفَ هَهُنَا، فَلَا يَتَقَدَّرُ فَإِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ اغْتَسَلَتْ، وَصَلَّتْ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ مُعَاوَدَةَ الدَّمِ مَوْهُومٌ، فَلَا يُتْرَكُ الْمَعْلُومُ بِالْمَوْهُومِ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَقَلِّ النِّفَاسِ فَذَاكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا طَلُقَتْ بَعْدَ مَا وَلَدَتْ، ثُمَّ جَاءَتْ وَقَالَتْ: نَفِسْت ثُمَّ طَهُرْت، ثَلَاثَةَ أَطْهَارٍ وَثَلَاثَ حِيَضٍ فَبِكَمْ تُصَدَّقُ فِي النِّفَاسِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُصَدَّقُ إذَا ادَّعَتْ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ أَحَدَ عَشْرَ يَوْمًا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُصَدَّقُ فِيمَا ادَّعَتْ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) أَكْثَرُ النِّفَاسِ فَأَرْبَعُونَ يَوْمًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ سِتُّونَ يَوْمًا، وَلَا دَلِيلَ لَهُمَا سِوَى مَا حُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: سِتُّونَ يَوْمًا، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ الشَّعْبِيِّ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَكْثَرُ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا» . [الِاسْتِحَاضَة وَأَحْكَامُهَا] وَأَمَّا الِاسْتِحَاضَةُ فَهِيَ مَا انْتَقَصَ عَنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ، وَمَا زَادَ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، ثُمَّ الْمُسْتَحَاضَةُ نَوْعَانِ مُبْتَدَأَةٌ، وَصَاحِبَةُ عَادَةٍ وَالْمُبْتَدَأَةُ نَوْعَانِ مُبْتَدَأَةٌ بِالْحَيْضِ، وَمُبْتَدَأَةٌ بِالْحَبَلِ، وَصَاحِبَةُ الْعَادَةِ نَوْعَانِ صَاحِبَةُ الْعَادَةِ فِي الْحَيْضِ، وَصَاحِبَةُ الْعَادَةِ فِي النِّفَاسِ. (أَمَّا) الْمُبْتَدَأَةُ بِالْحَيْضِ، وَهِيَ الَّتِي اُبْتُدِئَتْ بِالدَّمِ، وَاسْتَمَرَّ بِهَا فَالْعَشَرَةُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ حَيْضٌ؛ لِأَنَّ هَذَا دَمٌ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ، وَأَمْكَنَ جَعْلُهُ حَيْضًا فَيُجْعَلُ حَيْضًا، وَمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ يَكُونُ اسْتِحَاضَةً، لِأَنَّهُ لَا مَزِيدَ لِلْحَيْضِ عَلَى الْعَشَرَةِ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَهْرٍ. (وَأَمَّا) صَاحِبَةُ الْعَادَّةِ فِي الْحَيْض إذَا كَانَتْ عَادَتُهَا عَشْرَةً فَزَادَ الدَّمُ عَلَيْهَا فَالزِّيَادَةُ اسْتِحَاضَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسَةً فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا حَيْضٌ مَعَهَا إلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُبْتَدَأَةِ بِالْحَيْضِ، وَإِنْ جَاوَزَ الْعَشَرَةَ فَعَادَتُهَا حَيْضٌ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا اسْتِحَاضَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا» أَيْ: أَيَّامُ حَيْضِهَا، وَلِأَنَّ مَا رَأَتْ فِي أَيَّامِهَا حَيْضٌ بِيَقِينٍ، وَمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ اسْتِحَاضَةٌ بِيَقِينٍ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يُلْحَقَ بِمَا قَبْلَهُ فَيَكُونُ حَيْضًا، فَلَا تُصَلِّي، وَبَيْنَ أَنْ يُلْحَقَ بِمَا بَعْدَهُ فَيَكُونُ اسْتِحَاضَةً فَتُصَلِّي، فَلَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ بِالشَّكِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِأَنْ كَانَتْ تَرَى شَهْرًا سِتًّا، وَشَهْرًا سَبْعًا فَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالرَّجْعَةِ بِالْأَقَلِّ، وَفِي حَقِّ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَالْغَشَيَانِ بِالْأَكْثَرِ فَعَلَيْهَا إذَا رَأَتْ سِتَّةَ أَيَّامٍ فِي الِاسْتِمْرَارِ أَنْ تَغْتَسِلَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ لِتَمَامِ السَّادِسِ، وَتُصَلِّيَ فِيهِ، وَتَصُومَ إنْ كَانَ دَخَلَ عَلَيْهَا شَهْرُ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّابِعُ حَيْضًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونُ فَدَارَ الصَّلَاةُ، وَالصَّوْمُ بَيْنَ الْجَوَازِ مِنْهَا، وَالْوُجُوبِ عَلَيْهَا فِي الْوَقْتِ فَيَجِبُ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ احْتِيَاطًا لِأَنَّهَا إنْ فَعَلَتْ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَوْلَى أَنْ تَتْرُكَ، وَعَلَيْهَا ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ، لِأَنَّ تَرْكَ الرَّجْعَةِ مَعَ

ثُبُوتِ حَقِّ الرَّجْعَةِ أَوْلَى مِنْ إثْبَاتِهَا مِنْ غَيْرِ حَقِّ الرَّجْعَةِ. وَأَمَّا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَالْغَشَيَانِ فَتَأْخُذُ بِالْأَكْثَرِ لِأَنَّهَا إنْ تَرَكَتْ التَّزَوُّجَ مَعَ جَوَازِ التَّزَوُّجِ أَوْلَى مِنْ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِدُونِ حَقِّ التَّزَوُّجِ، وَكَذَا تَرْكُ الْغَشَيَانِ مَعَ الْحِلِّ أَوْلَى مِنْ الْغَشَيَانِ مَعَ الْحُرْمَةِ فَإِذَا جَاءَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ ثَانِيًا، وَتَقْضِيَ الْيَوْمَ الَّذِي صَامَتْ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ، لِأَنَّ الْأَدَاءَ كَانَ وَاجِبًا، وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي السُّقُوطِ إنْ لَمْ تَكُنْ حَائِضًا فِيهِ صَحَّ صَوْمُهَا، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ، فَلَا يَسْقُطُ الْقَضَاءُ بِالشَّكِّ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ طَاهِرَةً فِي هَذَا الْيَوْمِ فَقَدْ صَلَّتْ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا فِيهِ فَلَا صَلَاةَ عَلَيْهَا لِلْحَالِّ، وَلَا الْقَضَاءِ فِي الثَّانِي. وَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسَةً فَحَاضَتْ سِتَّةً، ثُمَّ حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى سَبْعَةً، ثُمَّ حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى سِتَّةً فَعَادَتُهَا سِتَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى يُبْنَى الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهَا أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّ الْعَادَةَ تَنْتَقِلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَإِنَّمَا يُبْنَى الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهَا. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ أَيْضًا فَلِأَنَّ الْعَادَةَ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَنْتَقِلُ إلَّا بِالْمَرَّتَيْنِ فَقَدْ رَأَتْ السِّتَّةَ مَرَّتَيْنِ فَانْتَقَلَتْ عَادَتُهَا إلَيْهَا هَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ كُلَّمَا عَاوَدَهَا الدَّمُ فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ فَحَيْضُهَا ذَلِكَ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ فِي شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ حَيْضَتَانِ، وَطُهْرَانِ لِأَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةٌ، وَأَقَلَّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ سُؤَالًا وَقَالَ أَرَأَيْت لَوْ رَأَتْ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ خَمْسَةً ثُمَّ طَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشْرَ، ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ خَمْسَةً أَلَيْسَ قَدْ حَاضَتْ فِي شَهْرَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَجَابَ فَقَالَ: إذَا ضَمَمْت إلَيْهِ طُهْرًا آخَرَ كَانَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَالشَّهْرُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى ذَلِكَ، وَحُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَتْ: إنِّي حِضْت فِي شَهْرٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِشُرَيْحٍ مَاذَا تَقُولُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إنْ أَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً مِنْ بِطَانَتِهَا مِمَّنْ يُرْضَى بِدِينِهِ، وَأَمَانَتِهِ قُبِلَ مِنْهَا فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالون، وَهِيَ بِالرُّومِيَّةِ حَسَنٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ شُرَيْحٌ بِذَلِكَ تَحْقِيقَ النَّفْيِ أَنَّهَا لَا تَجِدُ ذَلِكَ، وَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] أَيْ: لَا يَدْخُلُونَهَا رَأْسًا. وَدَمُ الْحَامِلِ لَيْسَ بِحَيْضٍ، وَإِنْ كَانَ مُمْتَدًّا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ حَيْضٌ فِي حَقِّ تَرْكِ الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَحُرْمَةِ الْقُرْبَانِ لَا فِي حَقِّ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لَفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ أَقْبَلَ قُرْؤُك فَدَعِي الصَّلَاةَ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالٍ، وَحَالٍ، وَلِأَنَّ الْحَامِلَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً أَوْ آيِسَةً، أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، وَالْحَامِلُ لَيْسَتْ بِصَغِيرَةٍ، وَلَا آيِسَةٍ فَكَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ إلَّا أَنَّ حَيْضَهَا لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ فَرَاغُ الرَّحِمِ، وَحَيْضُهَا لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. (وَلَنَا) قَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الْحَامِلُ لَا تَحِيضُ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قَالَتْهُ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ الْحَيْضَ اسْمٌ لِلدَّمِ الْخَارِجِ مِنْ الرَّحِمِ، وَدَمُ الْحَامِلِ لَا يَخْرُجُ مِنْ الرَّحِمِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَبِلَتْ يَنْسَدُّ فَمُ الرَّحِمِ، فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَا يَكُونُ حَيْضًا (وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ أَنَّ دَمَ الْحَامِلِ قُرْءٌ، وَالْكَلَامُ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْءٍ مَا ذَكَرْنَا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَتَنَاوَلُ حَالَةَ الْحَبْلِ. (وَأَمَّا) الْمُبْتَدَأَةُ بِالْحَبَلِ، وَهِيَ الَّتِي حَبِلَتْ مِنْ زَوْجِهَا قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ إذَا وَلَدَتْ فَرَأَتْ الدَّمَ زِيَادَةً عَلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ لِلنِّفَاسِ كَالْعَشَرَةِ لِلْحَيْضِ ثُمَّ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَشَرَةِ فِي الْحَيْضِ اسْتِحَاضَةٌ فَكَذَا الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فِي النِّفَاسِ. (وَأَمَّا) صَاحِبَةُ الْعَادَةِ فِي النِّفَاسِ إذَا رَأَتْ زِيَادَتَهَا عَلَى عَادَتِهَا فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَرْبَعِينَ فَالزِّيَادَةُ اسْتِحَاضَةٌ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَمَا زَادَ يَكُونُ نِفَاسًا إلَى الْأَرْبَعِينَ فَإِنْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ تُرَدُّ إلَى عَادَتِهَا فَتَكُونُ عَادَتُهَا نِفَاسًا، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا يَكُونُ اسْتِحَاضَةً، ثُمَّ يَسْتَوِي الْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ خَتْمُ عَادَتِهَا بِالدَّمِ، أَوْ بِالطُّهْرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ كَانَ خَتْمُ عَادَتِهَا بِالدَّمِ فَكَذَلِكَ. وَأَمَّا إذَا كَانَ بِالطُّهْرِ، فَلَا، لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَرَى خَتْمَ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ بِالطُّهْرِ إذَا كَانَ بَعْدَهُ دَمٌ، وَمُحَمَّدٌ لَا يَرَى ذَلِكَ، وَبَيَانُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ إذَا كَانَتْ عَادَتُهَا فِي النِّفَاسِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَانْقَطَعَ دَمُهَا عَلَى رَأْسِ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَطَهُرَتْ عَشْرَةَ أَيَّامٍ تَمَامَ عَادَتِهَا فَصَلَّتْ، وَصَامَتْ ثُمَّ عَاوَدَهَا الدَّمُ، وَاسْتَمَرَّ بِهَا حَتَّى جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ ذَكَرَ أَنَّهَا مُسْتَحَاضَةً فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِينَ، وَلَا يُجْزِيهَا صَوْمُهَا فِي الْعَشَرَةِ الَّتِي صَامَتْ فَيَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ قَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ: هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ يَسْتَقِيمُ فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ فَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ

يَرَى خَتْمَ النِّفَاسِ بِالطُّهْرِ إذَا كَانَ بَعْدَهُ دَمٌ فَيُمْكِنُ جَعْلُ الثَّلَاثِينَ نِفَاسًا لَهَا عِنْدَهُ. وَإِنْ كَانَ خَتْمُهَا بِالطُّهْرِ، وَمُحَمَّدٌ لَا يَرَى خَتْمَ النِّفَاسِ، وَالْحَيْضِ بِالطُّهْرِ فَنِفَاسُهَا فِي هَذَا الْفَصْلِ عِنْدَهُ عِشْرُونَ يَوْمًا فَلَا يَلْزَمُهَا قَضَاءُ مَا صَامَتْ فِي الْعَشَرَةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ الْعِشْرِينَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَمَا تَرَاهُ النُّفَسَاءُ مِنْ الدَّمِ بَيْنَ الْوِلَادَتَيْنِ فَهُوَ دَمٌ صَحِيحٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَزُفَرَ فَاسِدٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا وَلَدَتْ، وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ آخَرُ فَالنِّفَاسُ مِنْ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَزُفَرَ مِنْ الْوَلَدِ الثَّانِي، وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالْوَلَدِ الثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَزُفَرَ أَنَّ النِّفَاسَ يَتَعَلَّقُ بِوَضْعِ مَا فِي الْبَطْنِ كَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْوَلَدِ الْأَخِيرِ كَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّهَا بَعْدُ حُبْلَى، وَكَمَا لَا يُتَصَوَّرُ انْقِضَاءُ عِدَّةِ الْحَمْلِ بِدُونِ وَضْعِ الْحَمْلِ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ النِّفَاسِ مِنْ الْحُبْلَى، لِأَنَّ النِّفَاسَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ، وَلِأَنَّ النِّفَاسَ مَأْخُوذٌ مِنْ تَنَفُّسِ الرَّحِمِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ عَلَى الْكَمَالِ إلَّا بِوَضْعِ الْوَلَدِ الثَّانِي فَكَانَ الْمَوْجُودُ قَبْلَ وَضْعِ الْوَلَدِ الثَّانِي نِفَاسًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَلَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ عَنْهَا بِالشَّكِّ كَمَا إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا وَاحِدًا وَخَرَجَ بَعْضُهُ دُونَ الْبَعْضِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ النِّفَاسَ إنْ كَانَ دَمًا يَخْرُجُ عَقِيبَ النَّفْسِ فَقَدْ وُجِدَ بِوِلَادَةِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ دَمًا يَخْرُجُ بَعْدَ تَنَفُّسِ الرَّحِمِ فَقَدْ وُجِدَ أَيْضًا بِخِلَافِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَالنِّفَاسُ يَتَعَلَّقُ بِتَنَفُّسِ الرَّحِمِ، أَوْ بِخُرُوجِ النَّفْسِ وَقَدْ وُجِدَ أَوْ يَقُولُ: بَقَاءُ الْوَلَدِ فِي الْبَطْنِ لَا يُنَافِي النِّفَاسَ لِانْفِتَاحِ فَمِ الرَّحِمِ فَأَمَّا الْحَيْضُ مِنْ الْحُبْلَى فَمُمْتَنِعٌ لِانْسِدَادِ فَمِ الرَّحِمِ، وَالْحَيْضُ اسْمٌ لِدَمٍ يَخْرُجُ مِنْ الرَّحِمِ فَكَانَ الْخَارِجُ دَمَ عِرْقٍ لَا دَمَ رَحِمٍ. (وَأَمَّا) قَوْلُهُمَا وُجِدَ تَنَفُّسُ الرَّحِمِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَمَمْنُوعٌ بَلْ وُجِدَ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ لِوُجُودِ خُرُوجِ الْوَلَدِ بِكَمَالِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ بَعْضُ الْوَلَدِ، لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنْهُ إنْ كَانَ أَقَلُّهُ لَمْ تَصِرْ نُفَسَاءَ حَتَّى قَالُوا: يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُصَلِّيَ، وَتَحْفِرَ لَهَا حَفِيرَةً، لِأَنَّ النِّفَاسَ يَتَعَلَّقُ بِالْوِلَادَةِ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ الْأَقَلَّ يُلْحَقُ بِالْعَدَمِ بِمُقَابَلَةِ الْأَكْثَرِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَارِجُ أَكْثَرَهُ فَالْمَسْأَلَةُ مَمْنُوعَةٌ، أَوْ هِيَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ فَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَقَدْ وُجِدَتْ الْوِلَادَةُ عَلَى طَرِيقِ الْكَمَالِ فَالدَّمُ الَّذِي يَعْقُبُهُ يَكُونُ نِفَاسًا ضَرُورَةً وَالسِّقْطُ إذَا اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ فَهُوَ مِثْلُ الْوَلَدِ التَّامِّ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْوِلَادَةِ مِنْ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَصَيْرُورَةِ الْمَرْأَةِ نُفَسَاءَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ وَلَدًا مَخْلُوقًا عَنْ الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ اسْتَبَانَ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ لِأَنَّا لَا نَدْرِي ذَاكَ هُوَ الْمَخْلُوقُ مِنْ مَائِهِمَا، أَوْ دَمٍ جَامِدٍ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيَّةِ اسْتَحَالَ إلَى صُورَةِ لَحْمٍ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْوِلَادَةِ. (وَأَمَّا) أَحْوَالُ الدَّمِ فَنَقُولُ: الدَّمُ قَدْ يُدَرُّ دُرُورًا مُتَّصِلًا وَقَدْ يُدَرُّ مَرَّةً، وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى، وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ اسْتِمْرَارًا مُتَّصِلًا، وَالثَّانِي مُنْفَصِلًا (أَمَّا) الِاسْتِمْرَارُ الْمُتَّصِلُ فَحُكْمُهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنْ يُنْظَرَ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُبْتَدَأَةٌ فَالْعَشَرَةُ مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ حَيْضٌ، وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ طُهْرُهَا هَكَذَا إلَى أَنْ يُفَرِّجَ اللَّهُ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ صَاحِبَةَ عَادَةٍ فَعَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ حَيْضُهَا، وَعَادَتُهَا فِي الطُّهْرِ طُهْرُهَا، وَتَكُونُ مُسْتَحَاضَةً فِي أَيَّامِ طُهْرِهَا. (وَأَمَّا) الِاسْتِمْرَارُ الْمُنْفَصِلُ فَهُوَ أَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ مَرَّةً دَمًا وَمَرَّةً طُهْرًا هَكَذَا فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إذَا كَانَ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا يَكُونُ فَاصِلًا بَيْن الدَّمَيْنِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا يُجْعَلُ ذَلِكَ حَيْضًا، وَإِنْ أَمْكَنَ جَعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ حَيْضًا، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا لَا يُجْعَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا، وَكَذَا لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَكُونُ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الدَّمَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ الطُّهْرِ الْمُتَخَلِّلُ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشْرَ يَوْمًا يَكُونُ طُهْرًا فَاسِدًا وَلَا يَكُونُ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ بَلْ يَكُونُ كُلُّهُ كَدَمٍ مُتَوَالٍ، ثُمَّ يُقَدَّرُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا يُجْعَلُ حَيْضًا، وَالْبَاقِي يَكُونُ اسْتِحَاضَةً وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّمَ إذَا كَانَ فِي طَرَفَيْ الْعَشَرَةِ فَالطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ بَيْنَهُمَا لَا يَكُونُ فَاصِلًا، وَيُجْعَلُ كُلُّهُ كَدَمٍ مُتَوَالٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الدَّمُ فِي طَرَفَيْ الْعَشَرَةِ كَانَ الطُّهْرُ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا يُجْعَلُ ذَلِكَ حَيْضًا، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا، وَهُوَ أَوَّلُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُ أَحَدِهِمَا حَيْضًا لَا يُجْعَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّمَ إذَا كَانَ فِي طَرَفَيْ الْعَشَرَةِ، وَكَانَ بِحَالٍ لَوْ جُمِعَتْ الدِّمَاءُ الْمُتَفَرِّقَةُ تَبْلُغُ

فصل في التيمم

حَيْضًا لَا يَصِيرُ الطُّهْرُ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ. وَيَكُونُ كُلُّهُ حَيْضًا، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ جُمِعَ لَا يَبْلُغُ حَيْضًا يَصِيرُ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا يُجْعَلُ ذَلِكَ حَيْضًا، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا وَلَا يُجْعَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَكُونُ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ، وَكُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَالِي، وَإِذَا كَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَانَ فَاصِلًا بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا جُعِلَ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا لَا يُجْعَلُ حَيْضًا، وَاخْتَارَ مُحَمَّدٌ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ مَذْهَبًا فَقَالَ: الطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ بَيْنَ الدَّمَيْنِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يُعْتَبَرُ فَاصِلًا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الدَّمَيْنِ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ الْمُتَوَالِي، وَإِذَا كَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَهُوَ طُهْرٌ كَثِيرٌ فَيُعْتَبَرُ لَكِنْ يُنْظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ كَانَ الطُّهْرُ مِثْلَ الدَّمَيْنِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ الدَّمَيْنِ فِي الْعَشَرَةِ لَا يَكُونُ فَاصِلًا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الدَّمَيْنِ يَكُونُ فَاصِلًا، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا جُعِلَ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْضًا يُجْعَلُ أَسْرَعُهُمَا حَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا حَيْضًا لَا يُجْعَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَيْضًا، وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَتَفْسِيرُهَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) حُكْمُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَمَنْعُ جَوَازِ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَمَسِّ الْمُصْحَفِ إلَّا بِغِلَافٍ، وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجُنُبِ إلَّا أَنَّ الْجُنُبَ يَجُوزَ لَهُ أَدَاءُ الصَّوْمِ مَعَ الْجَنَابَةِ وَلَا يَجُوزُ لِلْحَائِضِ، وَالنُّفَسَاءِ لِأَنَّ الْحَيْضَ، وَالنِّفَاسَ أَغْلَظُ مِنْ الْحَدَثِ، أَوْ بِأَنَّ النَّصَّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَقْعُدُ إحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي» ، أَوْ ثَبَتَ مَعْلُولًا بِدَفْعِ الْحَرَجِ؛ لِأَنَّ دُرُورَ الدَّمِ يُضْعِفُهُنَّ مَعَ أَنَّهُنَّ خُلِقْنَ ضَعِيفَاتٍ فِي الْجِبِلَّةِ فَلَوْ كُلِّفْنَ بِالصَّوْمِ لَا يَقْدِرْنَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ إلَّا بِحَرَجٍ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْجَنَابَةِ، وَلِهَذَا الْجُنُبُ يَقْضِي الصَّلَاةَ، وَالصَّوْمَ، وَهُنَّ لَا يَقْضِينَ الصَّلَاةَ، لِأَنَّ الْحَيْضَ يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ إلَى الْعَشَرَةِ فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهَا صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ فَتُحْرَجُ فِي قَضَائِهَا وَلَا حَرَجَ فِي قَضَاءِ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ عَشْرَةِ أَيَّامٍ فِي السَّنَةِ، وَكَذَا يَحْرُمُ الْقُرْبَانُ فِي حَالَتَيْ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ وَلَا يَحْرُمُ قُرْبَانُ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَجْنَبَتْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ، وَمِثْلُ هَذَا لَمْ يَرِدْ فِي الْجَنَابَةِ بَلْ وَرَدَتْ الْإِبَاحَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] أَيْ: الْوَلَدَ فَقَدْ أَبَاحَ الْمُبَاشَرَةَ، وَطَلَبَ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ بِالْجِمَاعِ مُطْلَقًا عَنْ الْأَحْوَالِ. (وَأَمَّا) حُكْمُ الِاسْتِحَاضَةِ فَالْمُسْتَحَاضَةُ حُكْمُهَا حُكْمُ الطَّاهِرَاتِ غَيْرَ أَنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا. [فَصْلٌ فِي التَّيَمُّمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا التَّيَمُّمُ فَالْكَلَامُ فِي التَّيَمُّمِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ مَعْنَاهُ لُغَةً، وَشَرْعًا، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُتَيَمَّمُ بِهِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ التَّيَمُّمِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ التَّيَمُّمِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُتَيَمَّمُ مِنْهُ، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْقُضُهُ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ التَّيَمُّمَ مِنْ الْحَدَثِ جَائِزٌ عُرِفَ جَوَازُهُ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] وَقِيلَ: إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلتَّعْرِيسِ فَسَقَطَ مِنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قِلَادَةٌ لِأَسْمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَلَمَّا ارْتَحَلُوا ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَعَثَ رَجُلَيْنِ فِي طَلَبِهَا فَأَقَامَ يَنْتَظِرُهُمَا فَعَدِمَ النَّاسُ الْمَاءَ، وَحَضَرَتْ صَلَاةُ الْفَجْرِ فَأَغْلَظَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَالَ لَهَا: حَبَسْت الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ الْآيَةَ فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ يَرْحَمُك اللَّهُ يَا عَائِشَةُ مَا نَزَلَ بِك أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إلَّا جَعَلَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ فَرَجًا. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَلَمَّا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ أَوْ يُحْدِثْ» وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا، وَطَهُورًا أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمْتُ، وَصَلَّيْتُ» . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ» ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي جَوَازِهِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَقَالَ عَلِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جَائِزٌ وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لَا يَجُوزُ وَقَالَ الضَّحَّاكُ رَجَعَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ هَذَا. وَحَاصِلُ

فصل أركان التيمم

اخْتِلَافِهِمْ رَاجِعٌ إلَى تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] ، أَوْ لَمَسْتُمْ فَعَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَوَّلَا ذَلِكَ بِالْجِمَاعِ وَقَالَا: كَنَّى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْوَطْءِ بِالْمَسِيسِ، وَالْغَشَيَانِ، وَالْمُبَاشَرَةِ، وَالْإِفْضَاءِ، وَالرَّفَثِ، وَعُمَرُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ أَوَّلَاهُ بِالْمَسِّ بِالْيَدِ فَلَمْ يَكُنْ الْجُنُبُ دَاخِلًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَبَقِيَ الْغُسْلُ وَاجِبًا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ، وَأَصْحَابُنَا أَخَذُوا بِقَوْلِ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ لِمُوَافَقَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ: لِلْجُنُبِ مِنْ الْجِمَاعِ أَنْ يَتَيَمَّمَ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ» ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ «رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّا قَوْمٌ نَسْكُنُ الرِّمَالَ وَلَا نَجِدُ الْمَاءَ شَهْرًا، أَوْ شَهْرَيْنِ، وَفِينَا الْجُنُبُ، وَالنُّفَسَاءُ، وَالْحَائِضُ فَكَيْفَ نَصْنَعُ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْكُمْ بِالْأَرْضِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَلَيْكُمْ بِالصَّعِيدِ» ، وَكَذَا حَدِيثُ عَمَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ مِنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ لِمَا رُوِينَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْجَنَابَةِ فَكَانَ وُرُودُ النَّصِّ فِي الْجَنَابَةِ وُرُودًا فِيهِمَا دَلَالَةٌ، وَلِلْمُسَافِرِ أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ الْمَاءَ وَقَالَ مَالِكٌ يُكْرَهُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ اخْتَلَفَ فِيهِ كِبَارُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَكَانَ الْجِمَاعُ اكْتِسَابًا لِسَبَبِ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ فَيُكْرَهُ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «قُلْت: لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَأُجَامِعُ امْرَأَتِي، وَأَنَا لَا أَجِدُ الْمَاءَ فَقَالَ جَامِعْ امْرَأَتَك، وَإِنْ كُنْت لَا تَجِدُ الْمَاءَ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ فَإِنَّ التُّرَابَ كَافِيك» . (وَأَمَّا) بَيَانُ مَعْنَاهُ فَالتَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ الْقَصْدُ يُقَالُ: تَيَمَّمَ، وَيَمَّمَ إذَا قَصَدَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَمَا أَدْرِي إذَا يَمَّمْت أَرْضًا ... أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي أَأَلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيهِ ... أَمْ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي قَوْلُهُ: يَمَّمْت أَيْ: قَصَدْت، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِعْمَالِ الصَّعِيدِ فِي عُضْوَيْنِ مَخْصُوصَيْنِ عَلَى قَصْدِ التَّطْهِيرِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ نَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ أَرْكَان التَّيَمُّمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُهُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الرُّسْغَيْنِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْآبَاطِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: ضَرْبَتَانِ يَمْسَحُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْوَجْهَ، وَالذِّرَاعَيْنِ جَمِيعًا وَقَالَ ابْنَ سِيرِينَ: ثَلَاثُ ضَرَبَاتٍ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ وَضَرْبَةٌ أُخْرَى لَهُمَا جَمِيعًا وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هُوَ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ يَسْتَعْمِلُهَا فِي وَجْهِهِ، وَيَدَيْهِ، وَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] أَمْرٌ بِالتَّيَمُّمِ، وَفَسَّرَهُ بِمَسْحِ الْوَجْهِ، وَالْيَدَيْنِ بِالصَّعِيدِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الضَّرْبَةِ، وَالضَّرْبَتَيْنِ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، وَبِهِ يَحْتَجُّ الزُّهْرِيُّ فَيَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِمَسْحِ الْيَدِ، وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْآبَاطِ وَلَوْلَا ذِكْرُ الْمَرَافِقِ غَايَةً لِلْأَمْرِ بِالْغَسْلِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ لَوَجَبَ غَسْلُ هَذَا الْمَحْدُودِ، وَالْغَايَةُ ذُكِرَتْ فِي الْوُضُوءِ دُونَ التَّيَمُّمِ. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجْنَبَ فَتَمَعَّكَ فِي التُّرَابِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَا عَلِمْت أَنَّهُ يَكْفِيك الْوَجْهُ، وَالْكَفَّانِ» . (وَلَنَا) الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِمَسْحِ الْيَدِ، فَلَا يَجُوزُ التَّقْيِيدُ بِالرُّسْغِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَقَدْ قَامَ دَلِيلُ التَّقْيِيدِ بِالْمِرْفَقِ، وَهُوَ أَنَّ الْمِرْفَقَ جُعِلَ غَايَةً لِلْأَمْرِ بِالْغُسْلِ، وَهُوَ الْوُضُوءُ، وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ، وَالْبَدَلُ لَا يُخَالِفُ الْمُبْدَلَ فَذِكْرُ الْغَايَةِ هُنَاكَ يَكُونُ ذِكْرًا هَهُنَا دَلَالَةً، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ التَّيَمُّمَ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلتَّكْرَارِ لِأَنَّ النَّصَّ إنْ كَانَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلتَّكْرَارِ أَصْلًا نَصًّا فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لَهُ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ خَلْفٌ عَنْ الْوُضُوءِ وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ مَاءٍ وَاحِدٍ فِي عُضْوَيْنِ فِي الْوُضُوءِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ تُرَابٍ وَاحِدٍ فِي عُضْوَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ، لِأَنَّ الْخَلْفَ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ، وَكَذَا هِيَ حُجَّةٌ عَلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَابْنِ سِيرِينَ، لِأَنَّ اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِمَسْحِ الْوَجْهِ، وَالْيَدَيْنِ فَيَقْتَضِي وُجُودَ فِعْلِ الْمَسْحِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرَّةً وَاحِدَةً، لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَفِيمَا قَالَاهُ تَكْرَارٌ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ إلَّا بِدَلِيلٍ صَالِحٍ لِلزِّيَادَةِ (وَأَمَّا) السُّنَّةُ فَمَا

فصل في كيفية التيمم

رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ» ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الْكُلِّ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ فَفِيهِ تَعَارُضٌ، لِأَنَّهُ رُوِيَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يَكْفِيك ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ» ، وَالْمُتَعَارِضُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً. [فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ التَّيَمُّمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّيَمُّمِ فَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ التَّيَمُّمِ فَقَالَ: التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ، فَقُلْت لَهُ: كَيْفَ هُوَ؟ فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا، وَأَدْبَرَ، ثُمَّ نَفَضَهُمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ أَعَادَ كَفَّيْهِ عَلَى الصَّعِيدِ ثَانِيًا فَأَقْبَلَ بِهِمَا، وَأَدْبَرَ، ثُمَّ نَفَضَهُمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِذَلِكَ ظَاهِرَ الذِّرَاعَيْنِ، وَبَاطِنَهُمَا إلَى الْمِرْفَقَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يَنْبَغِي أَنْ يَمْسَحَ بِبَاطِنِ أَرْبَعِ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُسْرَى ظَاهِرَ يَدِهِ الْيُمْنَى مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْمِرْفَقِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِكَفِّهِ الْيُسْرَى دُونَ الْأَصَابِعِ بَاطِنَ يَدِهِ الْيُمْنَى مِنْ الْمِرْفَقِ إلَى الرُّسْغِ، ثُمَّ يُمِرُّ بِبَاطِنِ إبْهَامِهِ الْيُسْرَى عَلَى ظَاهِرِ إبْهَامِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَفْعَلُ بِالْيَدِ الْيُسْرَى كَذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَمْسَحُ بِالضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ بِبَاطِنِ كَفِّهِ الْيُسْرَى مَعَ الْأَصَابِعِ ظَاهِرَ يَدِهِ الْيُمْنَى إلَى الْمِرْفَقِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِ أَيْضًا بَاطِنَ يَدِهِ الْيُمْنَى إلَى أَصْلِ الْإِبْهَامِ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِيَدِهِ الْيُسْرَى كَذَلِكَ وَلَا يَتَكَلَّفُ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِرَازِ عَنْ اسْتِعْمَالِ التُّرَابِ الْمُسْتَعْمَلِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ الَّذِي عَلَى الْيَدِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالْمَسْحِ، حَتَّى لَا يَتَأَدَّى فَرْضُ الْوَجْهِ، وَالْيَدَيْنِ بِمَسْحَةٍ وَاحِدَةٍ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَنْفُضُهُمَا نَفْضَةً. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْفُضُهُمَا نَفْضَتَيْنِ، وَقِيلَ: إنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ اخْتِلَافًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النَّفْضِ تَنَاثُرُ التُّرَابِ صِيَانَةً عَنْ التَّلَوُّثِ الَّذِي يُشْبِهُ الْمُثْلَةَ، إذْ التَّعَبُّدُ وَرَدَ بِمَسْحِ كَفٍّ مَسَّهُ التُّرَابُ عَلَى الْعُضْوَيْنِ لَا تَلْوِيثُهُمَا بِهِ، فَلِذَلِكَ يَنْفُضُهُمَا، وَهَذَا الْغَرَضُ قَدْ يَحْصُلُ بِالنَّفْضِ مَرَّةً وَقَدْ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالنَّفْضِ مَرَّتَيْنِ عَلَى قَدْرٍ مَا يَلْتَصِقُ بِالْيَدَيْنِ مِنْ التُّرَابِ؛ فَإِنْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِنَفْضَةٍ وَاحِدَةٍ اكْتَفَى بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ نَفَضَ نَفْضَتَيْنِ. (وَأَمَّا) اسْتِيعَابُ الْعُضْوَيْنِ بِالتَّيَمُّمِ فَهَلْ هُوَ مِنْ تَمَامِ الرُّكْنِ؟ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْأَصْلِ نَصًّا، لَكِنَّهُ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا تَرَكَ ظَاهِرَ كَفَّيْهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَنَصَّ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ مَوَاضِعِ التَّيَمُّمِ قَلِيلًا، أَوْ كَثِيرًا لَا يَجُوزُ، وَذَكَرَ الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا يَمَّمَ الْأَكْثَرَ جَازَ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ هَذَا مَسْحٌ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ الِاسْتِيعَابُ كَمَسْحِ الرَّأْسِ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَسْحِ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ تَعَلَّقَ بِاسْمِ الْوَجْهِ، وَالْيَدِ، وَأَنَّهُ يَعُمُّ الْكُلَّ، وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ، وَالِاسْتِيعَابُ فِي الْأَصْلِ مِنْ تَمَامِ الرُّكْنِ، فَكَذَا فِي الْبَدَلِ، وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَلْزَمُ تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ وَنَزْعُ الْخَاتَمِ، وَلَوْ تُرِكَ لَمْ يَجُزْ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ لَا يَلْزَمُ، وَيَجُوزُ، وَيَمْسَحُ الْمِرْفَقَيْنِ مَعَ الذِّرَاعَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ مِنْ الْمِرْفَقِ يَمْسَحُ مَوْضِعَ الْقَطْعِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْوُضُوءِ وَقَدْ مَرَّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ رُكْنِ التَّيَمُّمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ قَدْرَ مَا يَكْفِي الْوُضُوءَ أَوْ الْغُسْلَ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي تَفُوتُ إلَى خَلْفٍ، وَمَا هُوَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] شَرَطَ عَدَمَ وِجْدَانِ الْمَاءِ لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ، أَوْ يُحْدِثْ» جَعَلَهُ وُضُوءَ الْمُسْلِمِ إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ، أَوْ الْحَدَثِ؛، وَالْمَمْدُودُ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ وَلَا وُجُودَ لِلشَّيْءِ مَعَ وُجُودِ مَا يَنْتَهِي وُجُودُهُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ أَوْ يُحْدِثْ» ، وَلِأَنَّهُ بَدَلٌ، وَوُجُودُ الْأَصْلِ يَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْبَدَلِ، ثُمَّ عَدَمُ الْمَاءِ نَوْعَانِ: عَدَمٌ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ، وَالْمَعْنَى، وَعَدَمٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ. (أَمَّا) الْعَدَمُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْمَعْنَى فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ بَعِيدًا، عَنْهُ وَلَمْ يُذْكَرْ حَدُّ الْبُعْدِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِالْمِيلِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِيلًا فَصَاعِدًا، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ، وَالْمِيلُ ثُلُثُ فَرْسَخٍ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إنْ كَانَ الْمَاءُ أَمَامَهُ يَعْتَبِرُ مِيلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَةً، أَوْ يَسْرَةً يُعْتَبَرُ مِيلًا وَاحِدًا وَبَعْضُهُمْ فَصَلَ بَيْنَ الْمُقِيمِ، وَالْمُسَافِر، فَقَالُوا: إنْ كَانَ مُقِيمًا يَعْتَبِرُ قَدْرَ مِيلٍ كَيْفَمَا كَانَ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَالْمَاءُ عَلَى يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَمَامَهُ يَعْتَبِرُ مِيلَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ

أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَاءُ بِحَيْثُ لَوْ ذَهَبَ إلَيْهِ لَا تَنْقَطِعُ عَنْهُ جَلَبَةُ الْعِيرِ، وَيُحِسُّ أَصْوَاتَهُمْ، أَوْ أَصْوَاتَ الدَّوَابِّ فَهُوَ قَرِيبٌ، وَإِنْ كَانَ يَغِيبُ عَنْهُ ذَلِكَ فَهُوَ بَعِيدٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْمَاءِ فَهُوَ قَرِيبٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْمَعُ فَهُوَ بَعِيدٌ، وَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْرَ فَرْسَخٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِقْدَارَ مَا لَا يَسْمَعُ الْأَذَانَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ مِقْدَارَ مَا لَا يَسْمَعُ لَوْ نُودِيَ مِنْ أَقْصَى الْمِصْرِ فَهُوَ بَعِيدٌ، وَأَقْرَبُ الْأَقَاوِيلِ اعْتِبَارُ الْمِيلِ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ. وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى عَلَى أَثَرِ الْآيَةِ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلَا حَرَجَ فِيمَا دُونَ الْمِيلِ فَأَمَّا الْمِيلُ فَصَاعِدًا، فَلَا يَخْلُو عَنْ حَرَجٍ، وَسَوَاءٌ خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ لِلسَّفَرِ، أَوْ لِأَمْرٍ آخَرَ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: " لَا يَتَيَمَّمُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَصَدَ سَفَرًا " وَأَنَّهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ مَا لَهُ ثَبَتَ الْجَوَازُ، وَهُوَ دَفْعُ الْحَرَجِ لَا يُفْصَلُ بَيْنَ الْمُسَافِرِ، وَغَيْرِهِ، هَذَا إذَا كَانَ عَلِمَ بِبُعْدِ الْمَاءِ بِيَقِينٍ، أَوْ بِغَلَبَةِ الرَّأْي أَوْ أَكْبَرِ الظَّنِّ، أَوْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ رَجُلٌ عَدْلٌ. وَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّ الْمَاءَ قَرِيبٌ مِنْهُ إمَّا قَطْعًا أَوْ ظَاهِرًا، أَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ لَمْ يُوجَدْ، وَهُوَ عَدَمُ الْمَاءِ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ. هَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ إذَا كَانَ الْمَاءُ عَلَى مِيلٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَلْزَمْهُ طَلَبُهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ أَتَيْتَ الْمَاءَ، وَإِنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ. هَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَبْلُغُ بِالطَّلَبِ مِيلًا، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَبْلُغُ بِهِ مِيلًا، فَإِنْ طَلَبَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ، وَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ،، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَطْلُبُ قَدْرَ مَا لَا يَضُرُّ بِنَفْسِهِ، وَرُفْقَتِهِ بِالِانْتِظَارِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بِقُرْبٍ مِنْ الْعُمْرَانِ يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ، حَتَّى لَوْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ ظَهَرَ الْمَاءُ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْعُمْرَانَ لَا يَخْلُو عَنْ الْمَاءِ ظَاهِرًا، وَغَالِبًا، وَالظَّاهِرُ مُلْحَقٌ بِالْمُتَيَقَّنِ، وَفِي الْأَحْكَامِ وَلَوْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ قُرْبِ الْمَاءِ فَلَمْ يَسْأَلْهُ، حَتَّى تَيَمَّمَ وَصَلَّى، ثُمَّ سَأَلَهُ فَإِنْ لَمْ يُخْبِرْهُ بِقُرْبِ الْمَاءِ فَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِقُرْبِ الْمَاءِ تَوَضَّأَ، وَأَعَادَ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَاءَ بِقُرْبٍ مِنْهُ وَلَوْ سَأَلَهُ لَأَخْبَرَهُ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ، وَهُوَ عَدَمُ الْمَاءِ، وَإِنْ سَأَلَهُ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَمْ يُخْبِرْهُ، حَتَّى تَيَمَّمَ، وَصَلَّى ثُمَّ أَخْبَرَهُ بِقُرْبِ الْمَاءِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَنِّتَ لَا قَوْلَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ يُخْبِرُهُ بِقُرْبِ الْمَاءِ وَلَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَيْضًا قُرْبُ الْمَاءِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ، وَيَسَارِهِ قَدْرَ غَلْوَةٍ، حَتَّى لَوْ تَيَمَّمَ، وَصَلَّى قَبْلَ الطَّلَبِ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْمَاءَ قَرِيبٌ مِنْهُ فَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَمْ تَجُزْ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] وَهَذَا يَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ الطَّلَبِ، فَكَانَ الطَّلَبُ شَرْطًا، وَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْعُمْرَانِ. (وَلَنَا) أَنَّ الشَّرْطَ عَدَمُ الْمَاءِ وَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ، إذْ الْمَفَازَةُ مَكَانُ عَدَمِ الْمَاءِ غَالِبًا بِخِلَافِ الْعُمْرَانِ. وَقَوْلُهُ: " الْوُجُودُ يَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ الطَّلَبِ مِنْ الْوَاجِدِ " مَمْنُوعٌ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُعَرِّفْهَا» وَلَا طَلَبَ مِنْ الْمُلْتَقِطِ؛ وَلِأَنَّ الطَّلَبَ لَا يُفِيدُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى طَمَعٍ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ،، وَرُبَّمَا يَنْقَطِعُ عَنْ أَصْحَابِهِ فَيَلْحَقُهُ الضَّرَرُ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَى طَمَعٍ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ، فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ فِي الْأَمَالِي: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الْمُسَافِرِ لَا يَجِدُ الْمَاءَ أَيَطْلُبُ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ، وَيَسَارِهِ؟ قَالَ: إنْ طَمِعَ فِي ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ وَلَا يَبْعُدُ فَيَضُرُّ بِأَصْحَابِهِ إنْ انْتَظَرُوهُ أَوْ بِنَفْسِهِ إنْ انْقَطَعَ عَنْهُمْ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ الْبُعْدِ، وَالْقُرْبِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ زُفَرَ فَلَا عِبْرَةَ لِلْبُعْدِ، وَالْقُرْبِ فِي هَذَا الْبَابِ بَلْ الْعِبْرَةُ لِلْوَقْتِ بَقَاءً، وَخُرُوجًا، فَإِنْ كَانَ يَصِلُ إلَى الْمَاءِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يُجْزِيهِ التَّيَمُّمُ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ بَعِيدًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِلُ إلَيْهِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ قَرِيبًا، وَالْمَسْأَلَةُ نَذْكُرُهَا بَعْدُ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) الْعَدَمُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ فَهُوَ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِمَانِعٍ مَعَ قُرْبِ الْمَاءِ مِنْهُ، نَحْوَ مَا إذَا كَانَ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ وَلَمْ يَجِدْ آلَةَ الِاسْتِقَاءِ فَيُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لَمْ يَكُنْ وَاجِدًا لَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ، وَكَذَا إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ عَدُوٌّ أَوْ لُصُوصٌ، أَوْ سَبْعٌ، أَوْ حَيَّةٌ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ إذَا أَتَاهُ؛ لِأَنَّ إلْقَاءَ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ حَرَامٌ فَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَكَذَا إذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ، وَهُوَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْعَطَشَ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الصَّرْفِ إلَى الْعَطَشِ، وَالْمُسْتَحَقُّ كَالْمَصْرُوفِ فَكَانَ عَادِمًا لِلْمَاءِ مَعْنًى. وَسُئِلَ

نَصْرُ بْنُ يَحْيَى عَنْ مَاءٍ مَوْضُوعٍ فِي الْفَلَاةِ فِي الْجُبِّ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَيَكُونُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَتَيَمَّمَ أَوْ يَتَوَضَّأَ بِهِ؟ قَالَ: يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِلْوُضُوءِ، وَإِنَّمَا وُضِعَ لِلشُّرْبِ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَيُسْتَدَلُّ بِكَثْرَتِهِ عَلَى أَنَّهُ وُضِعَ لِلشُّرْبِ، وَالْوُضُوءِ جَمِيعًا فَيَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ، وَكَذَا إذَا كَانَ بِهِ جِرَاحَةٌ، أَوْ جُدَرِيٌّ أَوْ مَرَضٌ يَضُرُّهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فَيَخَافُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ يَتَيَمَّمُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ، حَتَّى يَخَافَ التَّلَفَ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ شَرْطُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ إلَّا عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] إلَى قَوْلِهِ {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] أَبَاحَ التَّيَمُّمَ لِلْمَرِيضِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَرَضٍ، وَمَرَضٍ، إلَّا أَنَّ الْمَرَضَ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لَيْسَ بِمُرَادٍ فَبَقِيَ الْمَرَضُ الَّذِي يَضُرُّ مَعَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ مُرَادًا بِالنَّصِّ. وَرُوِيَ أَنَّ «وَاحِدًا مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْنَبَ، وَبِهِ جُدَرِيٌّ فَاسْتَفْتَى أَصْحَابَهُ فَأَفْتَوْهُ بِالِاغْتِسَالِ، فَاغْتَسَلَ، فَمَاتَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ هَلَّا سَأَلُوا إذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، كَانَ يَكْفِيهِ التَّيَمُّمُ» ، وَهَذَا نَصٌّ؛ وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَرَضِ سَبَبُ الْمَوْتِ، وَخَوْفُ الْمَوْتِ مُبِيحٌ فَكَذَا خَوْفُ سَبَبِ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ خَوْفُ الْمَوْتِ بِوَاسِطَةٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَثَّرَ فِي إبَاحَةِ الْإِفْطَارِ، وَتَرْكِ الْقِيَامِ بِلَا خِلَافٍ، فَهَهُنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَالْوُضُوءُ شَرْطٌ، فَخَوْفُ زِيَادَةِ الْمَرَضِ لَمَّا أَثَّرَ فِي إسْقَاطِ الرُّكْنِ فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ فِي إسْقَاطِ الشَّرْطِ أَوْلَى وَلَوْ كَانَ مَرِيضًا لَا يَضُرُّهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لَكِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ لَهُ خَادِمٌ وَلَا مَالٌ يَسْتَأْجِرُ بِهِ أَجِيرًا فَيُعِينُهُ عَلَى الْوُضُوءِ أَجْزَأْهُ التَّيَمُّمُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَفَازَةِ؛ أَوْ فِي الْمِصْرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ مُتَحَقِّقٌ، وَالْقُدْرَةُ مَوْهُومَةٌ فَوُجِدَ شَرْطُ الْجَوَازِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ لَا يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعَ الْيَدِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَجِدُ أَحَدًا مِنْ قَرِيبٍ، أَوْ بَعِيدٍ يُعِينُهُ، وَكَذَا الْعَجْزُ لِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ بِخِلَافِ مَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ، وَلَوْ أَجْنَبَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ لَوْ اغْتَسَلَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَسْخِينِ الْمَاءِ وَلَا عَلَى أُجْرَةِ الْحَمَّامِ فِي الْمِصْرِ أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ لَا يُجْزِئُهُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ فِي الْمِصْرِ وُجُودُ الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ، وَالدِّفْءِ فَكَانَ الْعَجْزُ نَادِرًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ بَعَثَ سَرِيَّةً، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ فَلَمَّا رَجَعُوا شَكَوْا مِنْهُ أَشْيَاءَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُمْ قَالُوا: صَلَّى بِنَا، وَهُوَ جُنُبٌ، فَذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْنَبْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَخِفْتُ عَلَى نَفْسِي الْهَلَاكَ لَوْ اغْتَسَلْتُ فَذَكَرْتُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فَتَيَمَّمْتُ، وَصَلَّيْتُ بِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا تَرَوْنَ صَاحِبَكُمْ كَيْفَ نَظَرَ لِنَفْسِهِ وَلَكُمْ» وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ وَلَمْ يَسْتَفْسِرْهُ إنَّهُ كَانَ فِي مَفَازَةٍ، أَوْ مِصْرٍ، وَلِأَنَّهُ عَلَّلَ فِعْلَهُ بِعِلَّةٍ عَامَّةٍ، وَهِيَ خَوْفُ الْهَلَاكِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَصْوَبَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَالْحُكْمُ يَتَعَمَّمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ وَقَوْلُهُمَا: " إنَّ الْعَجْزَ فِي الْمِصْرِ نَادِرٌ " فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ الْغُرَبَاءِ لَيْسَ بِنَادِرٍ، عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا تَحَقَّقَ الْعَجْزُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، حَتَّى لَوْ قَدَرَ عَلَى الِاغْتِسَالِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لَا يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ وَلَوْ كَانَ مَعَ رَفِيقِهِ مَاءٌ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ عَلِمَ بِهِ، وَلَكِنْ لَا ثَمَنَ لَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ السُّؤَالُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَاءَ مَبْذُولٌ فِي الْعَادَةِ لِقِلَّةِ خَطَرِهِ فَلَمْ يَعْجِزْ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَجْزَ مُتَحَقِّقٌ، وَالْقُدْرَةُ مَوْهُومَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مِنْ أَعَزِّ الْأَشْيَاءِ فِي السَّفَرِ، فَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْبَذْلِ، فَإِنْ سَأَلَهُ فَلَمْ يُعْطِهِ أَصْلًا أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ قَدْ تَقَرَّرَ، وَكَذَا إنْ كَانَ يُعْطِيهِ بِالثَّمَنِ وَلَا ثَمَنَ لَهُ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَ لَهُ ثَمَنٌ وَلَكِنْ لَا يَبِيعُهُ إلَّا بِغَبْنٍ فَاحِشٍ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ وَلَوْ بِجَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ تِجَارَةٌ رَابِحَةٌ. (وَلَنَا) أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ إلَّا بِإِتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ، وَحُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ» ، وَلِهَذَا أُبِيحَ لَهُ الْقِتَالُ دُونَ مَالِهِ كَمَا أُبِيحَ لَهُ دُونَ نَفْسِهِ، ثُمَّ خَوْفُ فَوَاتِ بَعْضِ النَّفْسِ مُبِيحٌ لِلتَّيَمُّمِ فَكَذَا فَوَاتُ بَعْضِ الْمَالِ

بِخِلَافِ الْغَبْنِ الْيَسِيرِ فَإِنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِمَا يُذْكَرُ، ثُمَّ قَدْرُ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ فِي هَذَا الْبَابِ مُقَدَّرٌ بِتَضْعِيفِ الثَّمَنِ، وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ فَقَالَ: إنْ كَانَ الْمَاءُ يُشْتَرَى فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِدِرْهَمٍ، وَهُوَ لَا يَبِيعُهُ إلَّا بِدِرْهَمٍ، وَنِصْفٍ يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَبِيعُ إلَّا بِدِرْهَمَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ، وَإِنْ كَانَ يَبِيعُهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى بَدَلِهِ مِنْ غَيْرِ إتْلَافٍ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ، كَمَنْ قَدَرَ عَلَى ثَمَنِ الرَّقَبَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَبِيعُ إلَّا بِغَبْنٍ يَسِيرٍ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ اعْتِبَارًا بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَهُوَ زِيَادَةٌ مُتَيَقَّنٌ بِهَا، لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً، وَمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ يَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِلَافِهِمْ فَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هُوَ زِيَادَةٌ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ، فَلَمْ تَكُنْ زِيَادَةً مُتَحَقِّقَةً، فَلَا تُعْتَبَرُ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي جَامِعِهِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا رَأَى مَعَ رَفِيقِهِ مَاءً كَثِيرًا وَلَا يَدْرِي أَيُعْطِيهِ أَمْ لَا؟ أَنَّهُ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ قَدْ صَحَّ، فَلَا يَنْقَطِعُ بِالشَّكِّ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ سَأَلَهُ، فَإِنْ أَعْطَاهُ تَوَضَّأَ، وَاسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ، لِأَنَّ الْبَذْلَ بَعْدَ الْفَرَاغِ دَلِيلُ الْبَذْلِ قَبْلَهُ، وَإِنْ أَبَى فَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ قَدْ تَقَرَّرَ، فَإِنْ أَعْطَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُنْتَقَضْ مَا مَضَى؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ اسْتَحْكَمَ بِالْإِبَاءِ، وَيَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ لِصَلَاةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِبَاءِ ارْتَفَضَ بِالْبَذْلِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي رَجُلَيْنِ مَعَ أَحَدِهِمَا إنَاءٌ يَغْتَرِفُ بِهِ مِنْ الْبِئْرِ وَوَعَدَ صَاحِبَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْإِنَاءَ قَالَ: يَنْتَظِرُ، وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ فَكَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِالْوَعْدِ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ظَاهِرًا، فَيُمْنَعُ الْمَصِيرُ إلَى التَّيَمُّمِ، وَكَذَا إذَا وَعَدَ الْكَاسِي الْعَارِيَ أَنْ يُعْطِيَهُ الثَّوْبَ إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ تُجْزِهِ الصَّلَاةُ عُرْيَانًا لِمَا قُلْنَا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ مُسَافِرٌ تَيَمَّمَ، وَفِي رَحْلِهِ مَاءٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، حَتَّى صَلَّى، ثُمَّ عَلِمَ بِهِ أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَمْ يُجْزِهِ، وَيَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ نَاسِيًا، أَوْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ نَجِسٍ نَاسِيًا، ثُمَّ تَذَكَّرَهُ لَا يُجْزِئُهُ، وَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِأَبِي يُوسُفَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ نَسِيَ مَا لَا يُنْسَى عَادَةً، لِأَنَّ الْمَاءَ مِنْ أَعَزِّ الْأَشْيَاءِ فِي السَّفَرِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِصِيَانَةِ نَفْسِهِ عَنْ الْهَلَاكِ فَكَانَ الْقَلْبُ مُتَعَلِّقًا بِهِ فَالْتَحَقَ النِّسْيَانُ فِيهِ بِالْعَدَمِ، وَالثَّانِي أَنَّ الرَّحْلَ مَوْضِعُ الْمَاءِ عَادَةً غَالِبًا لِحَاجَةِ الْمُسَافِرِ إلَيْهِ فَكَانَ الطَّلَبُ وَاجِبًا فَإِذَا تَيَمَّمَ قَبْلَ الطَّلَبِ لَا يُجْزِئُهُ كَمَا فِي الْعُمْرَانِ وَلَهُمَا أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ قَدْ تَحَقَّقَ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ، وَالنِّسْيَانِ، فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ كَمَا لَوْ حَصَلَ الْعَجْزُ بِسَبَبِ الْبُعْدِ أَوْ الْمَرَضِ أَوْ عَدَمِ الدَّلْوِ، وَالرَّشَا وَقَوْلُهُ: " نَسِيَ مَا لَا يُنْسَى عَادَةً " لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ جِبِلَّةٌ فِي الْبَشَرِ خُصُوصًا إذَا مَرَّ بِهِ أَمْرٌ يَشْغَلُهُ عَمَّا وَرَاءَهُ، وَالسَّفَرُ مَحَلُّ الْمَشَقَّاتِ، وَمَكَانُ الْمَخَاوِفِ، فَنِسْيَانُ الْأَشْيَاءِ فِيهِ غَيْرُ نَادِرٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " الرَّحْلُ مَعْدِنُ الْمَاءِ، وَمَكَانُهُ " فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْغَالِبَ فِي الْمَاءِ الْمَوْضُوعِ فِي الرَّحْلِ هُوَ النَّفَاذُ لِقِلَّتِهِ، فَلَا يَكُونُ بَقَاؤُهُ غَالِبًا فَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ ظَاهِرًا، بِخِلَافِ الْعُمْرَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ الْمَاءِ غَالِبًا وَلَوْ صَلَّى عُرْيَانًا، أَوْ مَعَ ثَوْبٍ نَجِسٍ، وَفِي رَحْلِهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، ثُمَّ عَلِمَ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَلَهُ رَقَبَةٌ قَدْ نَسِيَهَا، وَصَامَ قِيلَ: إنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ ثَمَّةَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَرَضَ عَلَيْهِ رَقَبَةً كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ، وَيُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ، وَبِالنِّسْيَانِ لَا يَنْعَدِمُ الْمِلْكُ، وَهَهُنَا الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ، وَبِالنِّسْيَانِ زَالَتْ الْقُدْرَةُ، أَلَا تَرَى لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْمَاءُ لَا يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ؛ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَلَوْ وَضَعَ غَيْرُهُ فِي رَحْلِهِ مَاءً، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى، ثُمَّ عَلِمَ لَا رِوَايَةَ لِهَذَا أَيْضًا وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّ لَفْظَ الرِّوَايَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ فِي رَحْلِهِ مَاءٌ فَيَنْسَى، وَالنِّسْيَانُ يَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْعِلْمِ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ جُعِلَ عُذْرًا عِنْدَهُمَا فَبَقِيَ مَوْضِعٌ لَا عِلْمَ فِيهِ أَصْلًا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ عُذْرًا عِنْدَ الْكُلِّ. وَلَفْظُ الرِّوَايَةِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ، فَإِنَّهُ قَالَ: مُسَافِرٌ تَيَمَّمَ وَمَعَهُ مَاءٌ فِي رَحْلِهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ حَالَةَ النِّسْيَانِ، وَغَيْرَهَا. وَلَوْ ظَنَّ أَنَّ مَاءَهُ قَدْ فَنِيَ فَتَيَمَّمَ، وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ لَا يُجْزِئُهُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَبْطُلُ بِالظَّنِّ فَكَانَ الطَّلَبُ وَاجِبًا، بِخِلَافِ النِّسْيَانِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَضْدَادِ الْعِلْمِ وَلَوْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ ظَهْرِهِ مَاءٌ، أَوْ كَانَ مُعَلَّقًا فِي عُنُقِهِ فَنَسِيَهُ فَتَيَمَّمَ، ثُمَّ تَذَكَّرَ لَا يُجْزِئُهُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ

النِّسْيَانَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ نَادِرٌ وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ مُعَلَّقًا عَلَى الْإِكَافِ، فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ رَاكِبًا أَوْ سَائِقًا فَإِنْ كَانَ رَاكِبًا فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ فِي مُؤَخَّرِ الرَّحْلِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَإِنْ كَانَ فِي مُقَدَّمِ الرَّحْلِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ نِسْيَانَهُ نَادِرٌ، وَإِنْ كَانَ سَائِقًا فَالْجَوَابُ عَلَى الْعَكْسِ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مُؤَخَّرِ الرَّحْلِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ يَرَاهُ، وَيُبْصِرُهُ فَكَانَ النِّسْيَانُ نَادِرًا، وَإِنْ كَانَ فِي مُقَدَّمِ الرَّحْلِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ. الْمَحْبُوسُ فِي الْمِصْرِ فِي مَكَان طَاهِرٍ يَتَيَمَّمُ، وَيُصَلِّي، ثُمَّ يُعِيدُ إذَا خَرَجَ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ حَقِيقَةً بِسَبَبِ الْحَبْسِ، فَأَشْبَهُ الْعَجْزَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ، وَنَحْوِهِ، فَصَارَ الْمَاءُ عَدَمًا مَعْنًى فِي حَقِّهِ، فَصَارَ مُخَاطَبًا بِالصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ، فَالْقُدْرَةُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ الْمُؤَدَّاةَ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَكَمَا فِي الْمَحْبُوسِ فِي السَّفَرِ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَادِمٍ لِلْمَاءِ حَقِيقَةً، وَحُكْمًا أَمَّا، الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرَةٌ. وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الْحَبْسَ إنْ كَانَ بِحَقٍّ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إزَالَتِهِ بِإِيصَالِ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَالظُّلْمُ لَا يَدُومُ، فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَلْ يُرْفَعُ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ، فَلَا يَكُونُ التُّرَابُ طَهُورًا فِي حَقِّهِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَجْزَ لِلْحَالِ قَدْ تَحَقَّقَ إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ، فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى رَفْعِهِ إذَا كَانَ بِحَقٍّ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ يُدْفَعُ وَلَهُ وِلَايَةُ الدَّفْعِ بِالرَّفْعِ إلَى مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ فَأُمِرَ بِالصَّلَاةِ احْتِيَاطًا لِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْجَوَازِ ثَابِتٌ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْعَجْزِ يَكْفِي لِتَوْجِيهِ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ، وَأُمِرَ بِالْقَضَاءِ فِي الثَّانِي؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ عَدَمِ الْجَوَازِ ثَابِتٌ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَقِيقَةً الْقُدْرَةُ دُونَ الْعَجْزِ الْحَالِي، فَيُؤْمَرُ بِالْقَضَاءِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ، وَأَخْذًا بِالثِّقَةِ، وَالِاحْتِيَاطِ، وَصَارَ كَالْمُقَيَّدِ أَنَّهُ يُصَلِّي قَاعِدًا، ثُمَّ يُعِيدُ إذَا أُطْلِقَ، كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ الْمَحْبُوسِ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ انْضَافَ إلَى الْمَنْعِ الْحَقِيقِيِّ السَّفَرُ، وَالْغَالِبُ فِي السَّفَرِ عَدَمُ الْمَاء. (وَأَمَّا) الْمَحْبُوسُ فِي مَكَان نَجِسٍ لَا يَجِدُ مَاءً وَلَا تُرَابًا نَظِيفًا فَإِنَّهُ لَا يُصَلِّي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ ثُمَّ يُعِيدُ إذَا خَرَجَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ، وَذُكِرَ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ عَجَزَ عَنْ حَقِيقَةِ الْأَدَاءِ فَلَمْ يَعْجَزْ عَنْ التَّشَبُّهِ فَيُؤْمَرُ بِالتَّشَبُّهِ كَمَا فِي بَابِ الصَّوْمِ وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّمَا يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ عَلَى مَذْهَبِهِ إذَا كَانَ الْمَكَانُ رَطْبًا، أَمَّا إذَا كَانَ يَابِسًا فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِرُكُوعٍ، وَسُجُودٍ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُ أَنَّهُ يُومِئُ كَيْفَمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ لَصَارَ مُسْتَعْمِلًا لِلنَّجَاسَةِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ أَهْلَ مُنَاجَاتِهِ الطَّاهِرَ لَا الْمُحْدِثَ، وَالتَّشَبُّهُ إنَّمَا يَصِحُّ مِنْ الْأَهْلِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَائِضَ لَا يَلْزَمُهَا التَّشَبُّهُ فِي بَابِ الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ حَصَلَتْ الطَّهَارَةُ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ أَهْلًا مِنْ وَجْهٍ فَيُؤَدِّي الصَّلَاةَ ثُمَّ يَقْضِيهَا احْتِيَاطًا مُسَافِرٌ مَرَّ بِمَسْجِدٍ فِيهِ عَيْنُ مَاءٍ، وَهُوَ جُنُبٌ وَلَا يَجِدُ غَيْرَهُ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ مَانِعَةٌ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ عِنْدَنَا عَلَى كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَ الدُّخُولُ عَلَى قَصْدِ الْمُكْثِ أَوْ الِاجْتِيَازِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَكَانَ عَاجِزًا عَنْ اسْتِعْمَالِ هَذَا الْمَاءِ فَكَانَ هَذَا الْمَاءُ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فِي حَقِّ جَوَازِ التَّيَمُّمِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّيَمُّمِ، ثُمَّ وُجُودُ الْمَاءِ إنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ التَّيَمُّمِ إذَا كَانَ الْقَدْرُ الْمَوْجُودُ يَكْفِي لَلْوُضُوءِ إنْ كَانَ مُحْدِثًا،، وَلِلِاغْتِسَالِ إنْ كَانَ جُنُبًا، فَإِنْ كَانَ لَا يَكْفِي لِذَلِكَ فَوُجُودُهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّيَمُّمِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُمْنَعُ قَلِيلُهُ، وَكَثِيرُهُ؛ حَتَّى إنَّ الْمُحْدِثَ إذَا وَجَدَ مِنْ الْمَاءِ قَدْرَ مَا يَغْسِلُ بَعْضَ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ عِنْدَنَا مَعَ قِيَامِ ذَلِكَ الْمَاءِ، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ مَعَ قِيَامِهِ، وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ إذَا وَجَدَ مِنْ الْمَاءِ قَدْرَ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ لَا غَيْرُ أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا بَعْدَ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ حَتَّى يَصِيرَ عَادِمًا لِلْمَاءِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] ذَكَرَ الْمَاءَ نَكِرَةً فِي مَحَلِّ النَّفْيِ فَيَقْتَضِي الْجَوَازَ عِنْدَ عَدَمِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَاءِ؛، وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ الْحُكْمِيَّةَ، وَهِيَ الْحَدَثُ تُعْتَبَرُ بِالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْمَاءِ مَا يُزِيلُ بِهِ بَعْضَ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ يُؤْمَرُ بِالْإِزَالَةِ كَذَا هُنَا. (وَلَنَا) إنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْغُسْلُ الْمُبِيحُ لِلصَّلَاةِ، وَالْغُسْلُ الَّذِي لَا يُبِيحُ الصَّلَاةَ وُجُودُهُ، وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَوْ كَانَ الْمَاءُ نَجِسًا؛ وَلِأَنَّ الْغُسْلَ إذَا لَمْ يُفِدْ الْجَوَازَ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِهِ سَفَهًا مَعَ أَنَّ فِيهِ تَضْيِيعَ

الْمَاءِ وَأَنَّهُ حَرَامٌ فَصَارَ كَمَنْ وَجَدَ مَا يُطْعِمُ بِهِ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ فَنُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَا يُؤْمَرُ بِإِطْعَامِ الْخَمْسَةِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فَكَذَا هَذَا، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُؤَدِّي إلَى تَضْيِيعِ الْمَالِ لِحُصُولِ الثَّوَابِ بِالتَّصَدُّقِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ لِمَا قُلْنَا فَهَهُنَا أَوْلَى، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْمُقَيَّدُ، وَهُوَ الْمَاءُ الْمُفِيدُ لِإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْغُسْلِ بِهِ، كَمَا يُقَيَّدُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ؛ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْمَاءِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ. وَالْمُتَعَارَفُ مِنْ الْمَاءِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَكْفِي لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إلَيْهِ، وَاعْتِبَارُهُ بِالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي الْأَحْكَامِ، فَإِنَّ قَلِيلَ الْحَدَثِ كَكَثِيرِهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْجَوَازِ بِخِلَافِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، فَيَبْطُلُ الِاعْتِبَارُ، وَلَوْ تَيَمَّمَ الْجُنُبُ ثُمَّ أَحْدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَعَهُ مِنْ الْمَاءِ قَدْرُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ الْأَوَّلَ أَخْرَجَهُ مِنْ الْجَنَابَةِ إلَى أَنْ يَجِدَ مِنْ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِ لِلِاغْتِسَالِ، فَهَذَا مُحْدِثٌ وَلَيْسَ بِجُنُبٍ، وَمَعَهُ مِنْ الْمَاءِ قَدْرُ مَا يَكْفِيهِ لِلْوُضُوءِ، فَيَتَوَضَّأُ بِهِ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ مَرَّ عَلَى الْمَاءِ فَلَمْ يَغْتَسِلْ، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ وَمَعَهُ مِنْ الْمَاءِ قَدْرُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ يَتَيَمَّمُ؛ لِأَنَّهُ بِمُرُورِهِ عَلَى الْمَاءِ عَادَ جُنُبًا كَمَا كَانَ فَعَادَتْ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى، وَلَا يَنْزِعُ الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَدَمَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلتَّيَمُّمِ، فَإِنْ تَيَمَّمَ، ثُمَّ أَحْدَثَ. وَقَدْ حَضَرَتْهُ صَلَاةٌ أُخْرَى وَعِنْدَهُ مِنْ الْمَاءِ قَدْرُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ تَوَضَّأَ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ لِمَا مَرَّ، وَنَزَعَ خُفَّيْهِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِمُرُورِهِ بِالْمَاءِ عَادَ جُنُبًا فَسَرَى الْحَدَثُ السَّابِقُ إلَى الْقَدَمَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ بِبَعْضِ أَعْضَاءِ الْجُنُبِ جِرَاحَةٌ، أَوْ جُدَرِيٌّ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الصَّحِيحُ غَسَلَ الصَّحِيحَ وَرَبَطَ عَلَى السَّقِيمِ الْجَبَائِرَ، وَمَسَحَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ السَّقِيمَ تَيَمَّمَ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ، وَلَا يَغْسِلُ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِمَا مَرَّ؛ وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ مُمْتَنِعٌ إلَّا فِي حَالِ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ مُحْدِثًا وَبِبَعْضِ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ جِرَاحَةٌ، أَوْ جُدَرِيٌّ؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ اسْتَوَى الصَّحِيحُ وَالسَّقِيمُ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يَغْسِلُ الصَّحِيحَ، وَيَرْبِطُ الْجَبَائِرَ عَلَى السَّقِيمِ، وَيَمْسَحُ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ فِي هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ كَالْغَسْلِ لِمَا تَحْتَهَا، وَهَذَا الشَّرْطُ الَّذِي ذَكَرْنَا لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ، وَهُوَ عَدَمُ الْمَاءِ فِيمَا وَرَاءَ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، فَأَمَّا فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلْ الشَّرْطُ فِيهِمَا خَوْفُ الْفَوْتِ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ، حَتَّى لَوْ حَضَرَتْهُ الْجِنَازَةُ وَخَافَ فَوْتَ الصَّلَاةِ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى، وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَتَيَمَّمُ اسْتِدْلَالًا بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: إذَا فَجَأَتْكَ جِنَازَةٌ تَخْشَى فَوْتَهَا وَأَنْت عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ؛ فَتَيَمَّمَ لَهَا، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِثْلُهُ؛ وَلِأَنَّ شَرْعَ التَّيَمُّمِ فِي الْأَصْلِ لِخَوْفِ فَوَاتِ الْأَدَاءِ، وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ تَفُوتُ فَضِيلَةُ الْأَدَاءِ فَقَطْ، فَأَمَّا الِاسْتِدْرَاكُ بِالْقَضَاءِ فَمُمْكِنٌ، وَهَهُنَا تَفُوتُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ أَصْلًا فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ وَلِيُّ الْمَيِّتِ لَا يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْإِعَادَةِ، فَلَا يَخَافُ الْفَوْتَ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِيهِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا تُقْضَى عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ تُقْضَى عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ قَائِمٌ، وَهُوَ الظُّهْرُ وَبِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، لِأَنَّهَا تَفُوتُ إلَى خَلَفٍ، وَهُوَ الْقَضَاءُ، وَالْفَائِتُ إلَى خَلَفٍ قَائِمٌ مَعْنًى، وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ لَا يُخَافُ فَوْتُهَا رَأْسًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَدَائِهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ مُطْلَقَةً عَنْ الْوَقْتِ، وَكَذَا إذَا خَافَ فَوْتَ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ يَتَيَمَّمُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا بِالْقَضَاءِ؛ لِاخْتِصَاصِهَا بِشَرَائِطَ يَتَعَذَّرُ تَحْصِيلُهَا لِكُلِّ فَرْدٍ. هَذَا إذَا خَافَ فَوْتَ الْكُلِّ فَإِنْ كَانَ يَرْجُو أَنْ يُدْرِكَ الْبَعْضَ لَا يَتَيَمَّمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَدْرَكَ الْبَعْضَ يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الْبَاقِي وَحْدَهُ، وَلَوْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ مُتَيَمِّمًا، ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ جَازَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا بِالتَّيَمُّمِ بِإِجْمَاعٍ مِنْ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ ذَهَبَ وَتَوَضَّأَ لَبَطَلَتْ صَلَاتُهُ مِنْ الْأَصْلِ لَبُطْلَانِ التَّيَمُّمِ فَلَا يُمْكِنُهُ الْبِنَاءُ. وَأَمَّا إذَا شَرَعَ فِيهَا مُتَوَضِّئًا، ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَإِنْ كَانَ يَخَافُ أَنَّهُ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ زَالَتْ الشَّمْسُ تَيَمَّمَ وَبَنَى، وَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ زَوَالَ الشَّمْسِ فَإِنْ كَانَ يَرْجُو أَنَّهُ لَوْ تَوَضَّأَ يُدْرِكُ شَيْئًا مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ تَوَضَّأَ وَلَا يَتَيَمَّمُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفُوتُ لِأَنَّهُ إذَا أَدْرَكَ الْبَعْضَ يُتِمُّ الْبَاقِي وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَرْجُوَ إدْرَاكَ الْإِمَامِ يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا

يُبَاحُ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَوْ ذَهَبَ وَتَوَضَّأَ لَا تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ إتْمَامُ الْبَقِيَّةِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَاحِقٌ وَلَا عِبْرَةَ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ خَوْفِ الْفَوْتِ أَصْلًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَخَافُ الْفَوْتَ بِسَبَبِ الْفَسَادِ؛ لِازْدِحَامِ النَّاسِ، فَقَلَّمَا يَسْلَمُ عَنْ عَارِضٍ يُفْسِدُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ، فَكَانَ فِي الِانْصِرَافِ لِلْوُضُوءِ تَعْرِيضُ صَلَاتِهِ لِلْفَسَادِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ فَيَتَيَمَّمُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) النِّيَّةُ وَالْكَلَامُ فِي النِّيَّةِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا - فِي بَيَانِ أَنَّهَا شَرْطُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهَا أَمَّا الْأَوَّلُ - فَالنِّيَّةُ شَرْطُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: " لَيْسَتْ بِشَرْطٍ " وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ التَّيَمُّمَ خَلْفٌ وَالْخَلْفُ، لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ فِي الشُّرُوطِ، ثُمَّ الْوُضُوءُ يَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ كَذَا التَّيَمُّمُ. (وَلَنَا) أَنَّ التَّيَمُّمَ لَيْسَ بِطَهَارَةٍ حَقِيقِيَّةٍ وَإِنَّمَا جُعِلَ طَهَارَةً عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالنِّيَّةِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ حَقِيقِيَّةٌ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْحَاجَةُ لَيَصِيرَ طَهَارَةً فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ النِّيَّةُ، وَلِأَنَّ مَأْخَذَ الِاسْمِ دَلِيلُ كَوْنِهَا شَرْطًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ الْقَصْدِ، وَالنِّيَّةُ هِيَ الْقَصْدُ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهَا، فَأَمَّا الْوُضُوءُ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْوَضَاءَةِ وَأَنَّهَا تَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ فِي التَّيَمُّمِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إذَا نَوَى الطَّهَارَةَ، أَوْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ. وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي التَّيَمُّمِ نِيَّةُ التَّطْهِيرِ وَإِنَّمَا يَجِبُ نِيَّةُ التَّمْيِيزِ، وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْحَدَثَ، أَوْ الْجَنَابَةَ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَهُمَا يَقَعُ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّمْيِيزِ بِالنِّيَّةِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ؛ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ نِيَّةِ الْفَرْضِ لِأَنَّ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ يَتَأَدَّيَانِ عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَإِنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ رَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْجُنُبَ إذَا تَيَمَّمَ يُرِيدُ بِهِ الْوُضُوءَ أَجْزَأَهُ عَنْ الْجَنَابَةِ، وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ افْتِقَارَ التَّيَمُّمِ إلَى النِّيَّةِ لِيَصِيرَ طَهَارَةً إذْ هُوَ لَيْسَ بِتَطْهِيرٍ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا جُعِلَ تَطْهِيرًا شَرْعًا لِلْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ تُعْرَفُ بِالنِّيَّةِ، وَنِيَّةُ الطَّهَارَةِ تَكْفِي دَلَالَةً عَلَى الْحَاجَةِ وَكَذَا نِيَّةُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا جَوَازَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِ الطَّهَارَةِ فَكَانَتْ دَلِيلًا عَلَى الْحَاجَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى نِيَّةِ التَّمْيِيزِ أَنَّهُ لِلْحَدَثِ أَوْ لِلْجَنَابَةِ. وَلَوْ تَيَمَّمَ وَنَوَى مُطْلَقَ الطَّهَارَةِ أَوْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ؛ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا لَا يَجُوزُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُبِيحَ لَهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ فَلَأَنْ يُبَاحَ لَهُ مَا دُونَهَا أَوْ مَا هُوَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا أَوْلَى. وَكَذَا لَوْ تَيَمَّمَ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَوْ لِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ أَوْ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِأَنْ كَانَ جُنُبًا جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا وَهُوَ مِنْ جِنْسِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَكَانَ نِيَّتُهَا عِنْدَ التَّيَمُّمِ كَنِيَّةِ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا إذَا تَيَمَّمَ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ أَوْ لَمْسِ الْمُصْحَفِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْمَسْجِدِ وَمَسَّ الْمُصْحَفِ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ بِنَفْسِهِ، وَلَا هُوَ؛ مِنْ جِنْسِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ؛ فَيَقَعُ طَهُورًا لِمَا أَوْقَعَهُ لَهُ لَا غَيْرُ. (وَمِنْهَا) الْإِسْلَامُ فَإِنَّهُ شَرَطَ وُقُوعَهُ صَحِيحًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى لَا يَصِحَّ تَيَمُّمُ الْكَافِرِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْإِسْلَامَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا تَيَمَّمَ يَنْوِي الْإِسْلَامَ جَازَ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ، وَجْهُ رِوَايَتِهِ أَنَّ الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ نِيَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالْإِسْلَامُ رَأْسُ الْعِبَادَةِ فَيَصِحُّ تَيَمُّمُهُ لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا تَيَمَّمَ لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ فَكَانَ تَيَمُّمُهُ لِلصَّلَاةِ سَفَهًا فَلَا يُعْتَبَرُ. (وَلَنَا) أَنَّ التَّيَمُّمَ لَيْسَ بِطَهُورٍ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا جُعِلَ طَهُورًا لِلْحَاجَةِ إلَى فِعْلٍ لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ، وَالْإِسْلَامُ يَصِحُّ بِدُونِ الطَّهَارَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُجْعَلَ طَهُورًا فِي حَقِّهِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ طَهُورٌ حَقِيقَةً فَلَا تُشْتَرَطُ لَهُ الْحَاجَةُ لِيَصِيرَ طَهُورًا وَلِهَذَا لَوْ تَيَمَّمَ مُسْلِمٌ بِنِيَّةِ الصَّوْمِ لَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ عِبَادَةً فَكَذَا هَهُنَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ بِاشْتِغَالِهِ بِالتَّيَمُّمِ لَمْ يَرْتَكِبْ نَهْيًا، وَهَهُنَا ارْتَكَبَ أَعْظَمَ نَهْيٍ؛ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ مَا اشْتَغَلَ صَارَ بَاقِيًا عَلَى الْكُفْرِ مُؤَخِّرًا لِلْإِسْلَامِ، وَتَأْخِيرُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَعْظَمِ الْعِصْيَانِ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ ذَاكَ فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ هَذَا أَوْلَى مُسْلِمٌ تَيَمَّمَ، ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - لَمْ يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ، حَتَّى لَوْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ، وَعِنْدَ زُفَرَ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ؛ حَتَّى لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَالْإِسْلَامُ عِنْدَنَا شَرْطُ وُقُوعِ التَّيَمُّمِ صَحِيحًا لَا شَرْطُ بَقَائِهِ عَلَى الصِّحَّةِ. وَعِنْدَ زُفَرَ هُوَ شَرْطُ بَقَائِهِ عَلَى الصِّحَّةِ أَيْضًا، فَزُفَرُ يَجْمَعُ بَيْنَ حَالَةِ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ بِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ جُعِلَ طَهُورًا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَهُورٍ حَقِيقَةً لِمَكَانِ الْحَاجَةِ إلَى مَا لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ مِنْ الصَّلَاةِ

فصل بيان ما يتيمم به

وَغَيْرِهَا، وَذَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْكَافِرِ فَلَا يَبْقَى طَهَارَةً فِي حَقِّهِ، وَلِهَذَا لَمْ تَنْعَقِدْ طَهَارَةٌ مَعَ الْكُفْرِ فَلَا تَبْقَى طَهَارَةٌ مَعَهُ. (وَلَنَا) أَنَّ التَّيَمُّمَ وَقَعَ طَهَارَةً صَحِيحَةً فَلَا يَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الرِّدَّةِ فِي إبْطَالِ الْعِبَادَاتِ، وَالتَّيَمُّمُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ عِنْدَنَا لَكِنَّهُ طَهُورٌ، وَالرِّدَّةُ لَا تُبْطِلُ صِفَةَ الطَّهُورِيَّةِ كَمَا لَا تُبْطِلُ صِفَةَ الْوُضُوءِ، وَاحْتِمَالُ الْحَاجَةِ بَاقٍ، لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالثَّابِتُ بِيَقِينٍ يَبْقَى لِوَهْمِ الْفَائِدَةِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ طَهَارَةً مَعَ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ جَعْلَهُ طَهَارَةً لِلْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ زَائِلَةٌ لِلْحَالِ بِيَقِينٍ، وَغَيْرُ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ لِوَهْمِ الْفَائِدَةِ مَعَ مَا أَنَّ رَجَاءَ الْإِسْلَامِ مِنْهُ عَلَى مُوجِبِ دِيَانَتِهِ وَاعْتِقَادِهِ مُنْقَطِعٌ، وَالْجَبْرُ عَلَى الْإِسْلَامِ مُنْعَدِمٌ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ التُّرَابُ طَاهِرًا فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالتُّرَابِ النَّجِسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] وَلَا طِيبَ مَعَ النَّجَاسَةِ وَلَوْ تَيَمَّمَ بِأَرْضِ قَدْ أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ فَجَفَّتْ وَذَهَبَ أَثَرُهَا لَمْ يَجُزْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى ابْنُ الْكَاسِّ النَّخَعِيّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ النَّجَاسَةَ قَدْ اسْتَحَالَتْ أَرْضًا بِذَهَابِ أَثَرِهَا؛ وَلِهَذَا جَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا؛ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهَا أَيْضًا (وَلَنَا) أَنَّ إحْرَاقَ الشَّمْسِ وَنَسْفَ الْأَرْضِ أَثَرُهَا فِي تَقْلِيلِ النَّجَاسَةِ دُونَ اسْتِئْصَالِهَا. وَالنَّجَاسَةُ وَإِنْ قَلَّتْ تُنَافِي وَصْفَ الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَكُنْ إتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَلَمْ يَجُزْ، فَأَمَّا النَّجَاسَةُ الْقَلِيلَةُ فَلَا تَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْتَبَرَ الْقَلِيلُ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ الْبَعْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّجَاسَةَ الْقَلِيلَةَ لَوْ وَقَعَتْ فِي الْإِنَاءِ تَمْنَعُ جَوَازَ الْوُضُوءِ بِهِ، وَلَوْ أَصَابَتْ الثَّوْبَ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَلَوْ تَيَمَّمَ جُنُبٌ أَوْ مُحْدِثٌ مِنْ مَكَان، ثُمَّ تَيَمَّمَ غَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ الْمُسْتَعْمَلَ مَا الْتَزَقَ بِيَدِ الْمُتَيَمِّمِ الْأَوَّلِ لَا مَا بَقِيَ عَلَى الْأَرْضِ، فَنُزِّلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ مَاءٍ فَضَلَ فِي الْإِنَاءِ بَعْدَ وُضُوءِ الْأَوَّلِ أَوْ اغْتِسَالِهِ بِهِ، وَذَلِكَ طَهُورٌ فِي حَقِّ الثَّانِي كَذَا هَذَا. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُتَيَمَّمُ بِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُتَيَمَّمُ بِهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ بِالتُّرَابِ وَالرَّمْلِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالتُّرَابِ خَاصَّةً وَهُوَ قَوْلُهُ الْآخَرُ، ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الصَّعِيدَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: هُوَ وَجْهُ الْأَرْضِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُوَ التُّرَابُ الْمُنْبِتُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ فَسَّرَ الصَّعِيدَ بِالتُّرَابِ الْخَالِصِ، وَهُوَ مُقَلِّدٌ فِي هَذَا الْبَابِ؛ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ، وَالصَّعِيدُ الطَّيِّبُ هُوَ الَّذِي يَصْلُحُ لِلنَّبَاتِ وَذَلِكَ هُوَ التُّرَابُ دُونَ السَّبِخَةِ وَنَحْوِهَا، (وَلَهُمَا) أَنَّ الصَّعِيدَ مُشْتَقٌّ مِنْ الصُّعُودِ وَهُوَ الْعُلُوُّ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَهُوَ الصَّاعِدُ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: إنَّهُ اسْمٌ لِمَا تَصَاعَدَ، حَتَّى قِيلَ لِلْقَبْرِ صَعِيدٌ لِعُلُوِّهِ وَارْتِفَاعِهِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِالتُّرَابِ بَلْ يَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْأَرْضِ، فَكَانَ التَّخْصِيصُ بِبَعْضِ الْأَنْوَاعِ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقِ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَكَيْفَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّعِيدَ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَنْوَاعِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «عَلَيْكُمْ بِالْأَرْضِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَقَالَ «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» وَاسْمُ الْأَرْضِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِهَا، ثُمَّ قَالَ: «أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمْتُ وَصَلَّيْتُ» . وَرُبَّمَا تُدْرِكُهُ الصَّلَاةُ فِي الرَّمْلِ، وَمَا لَا يَصْلُحُ لِلْإِنْبَاتِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِسَبِيلٍ مِنْ التَّيَمُّمِ بِهِ وَالصَّلَاةِ مَعَهُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، (وَأَمَّا) قَوْلُهُ سَمَّاهُ طَيِّبًا فَنَعَمْ لَكِنَّ الطَّيِّبَ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الطَّاهِرِ وَهُوَ الْأَلْيَقُ هَهُنَا؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ مُطَهِّرًا، وَالتَّطْهِيرُ لَا يَقَعُ إلَّا بِالطَّاهِرِ مَعَ أَنَّ مَعْنَى الطَّهَارَةِ صَارَ مُرَادًا بِالْإِجْمَاعِ، حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ النَّجِسِ فَخَرَجَ غَيْرُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا، الْمُشْتَرَكُ لَا عُمُومَ لَهُ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ جِنْسِ الْأَرْضِ، فَكُلُّ مَا يَحْتَرِقُ بِالنَّارِ فَيَصِيرُ رَمَادًا كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَنَحْوِهِمَا، أَوْ مَا يَنْطَبِعُ وَيَلِينُ كَالْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالزُّجَاجِ، وَعَيْنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَنَحْوِهَا فَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، وَمَا كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ جِنْسِهَا، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، الْتَزَقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ أَوْ لَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا الْتَزَقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، فَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِعْمَالِ جُزْءٍ مِنْ الصَّعِيدِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يَلْتَزِقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ، (وَعِنْدَ) أَبِي حَنِيفَةَ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ: مَسُّ وَجْهِ الْأَرْضِ بِالْيَدَيْنِ وَإِمْرَارُهُمَا عَلَى الْعُضْوَيْنِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالْجِصِّ وَالنُّورَةِ

فصل في بيان ما يتيمم منه

وَالزِّرْنِيخِ وَالطِّينِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ، وَالْكُحْلِ وَالْحَجَرِ الْأَمْلَسِ وَالْحَائِطِ الْمُطَيَّنِ وَالْمُجَصَّصِ وَالْمِلْحِ الْجَبَلِيِّ دُونَ الْمَائِيِّ وَالْمَرْدَاسِنْجِ الْمَعْدِنِيِّ وَالْآجُرِّ وَالْخَزَفِ الْمُتَّخَذِ مِنْ طِينٍ خَالِصٍ، وَالْيَاقُوتِ وَالْفَيْرُوزَجِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْأَرْضِ النَّدِيَّةِ وَالطِّينِ الرَّطْبِ،. (وَعِنْدَ) مُحَمَّدٍ إنْ الْتَزَقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْهَا بِأَنْ كَانَ عَلَيْهَا غُبَارٌ أَوْ كَانَ مَدْقُوقًا يَجُوزُ، وَإِلَّا فَلَا، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ اسْتِعْمَالُ الصَّعِيدِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَلْتَزِقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْهُ، فَأَمَّا ضَرْبُ الْيَدِ عَلَى مَا لَهُ صَلَابَةٌ وَمَلَاسَةٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالِ جُزْءٍ مِنْهُ، فَضَرْبٌ مِنْ السَّفَهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الِالْتِزَاقِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَقَوْلُهُ: " الِاسْتِعْمَالُ شَرْطٌ " مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى التَّغْيِيرِ الَّذِي هُوَ شَبِيهُ الْمُثْلَةِ، وَعَلَامَةِ أَهْلِ النَّارِ وَلِهَذَا أَمَرَ بِنَفْضِ الْيَدَيْنِ بَلْ الشَّرْطُ إمْسَاسُ الْيَدِ الْمَضْرُوبَةِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ عَلَى الْوَجْهِ، وَالْيَدَيْنِ تَعَبُّدًا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى لِحِكْمَةٍ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا، وَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالرَّمَادِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَشَبِ، وَكَذَا بِاللَّآلِئِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْقُوقَةً أَوْ لَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ بَلْ هِيَ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْحَيَوَانِ. وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالْغُبَارِ بِأَنْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ لِبَدٍ أَوْ صُفَّةِ سَرْجٍ فَارْتَفَعَ غُبَارًا، وَكَانَ عَلَى الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ أَوْ عَلَى الْحِنْطَةِ أَوْ الشَّعِيرِ أَوْ نَحْوِهَا غُبَارٌ فَتَيَمَّمَ بِهِ أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُجْزِيهِ، وَبَعْضُ الْمَشَايِخِ قَالُوا إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الصَّعِيدِ يَجُوزُ عِنْدَهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْحَالَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ وَلَيْسَ عِنْدِي مِنْ الصَّعِيدِ، وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ وَهُوَ اسْمُ لِلتُّرَابِ الْخَالِصِ، وَالْغُبَارُ لَيْسَ بِتُرَابٍ خَالِصٍ بَلْ هُوَ تُرَابٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَلَا يَجُوزُ بِهِ التَّيَمُّمُ، (وَلَهُمَا) أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ إلَّا أَنَّهُ لَطِيفٌ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ، كَمَا يَجُوزُ بِالْكَثِيفِ بَلْ أَوْلَى. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ بِالْجَابِيَةِ فَمُطِرُوا فَلَمْ يَجِدُوا مَاءً يَتَوَضَّئُونَ بِهِ وَلَا صَعِيدًا يَتَيَمَّمُونَ بِهِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لِيَنْفُضْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ أَوْ صُفَّةَ سَرْجِهِ، وَلْيَتَيَمَّمْ وَلْيُصَلِّ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلَوْ كَانَ الْمُسَافِرُ فِي طِينٍ وَرَدْغَةٍ لَا يَجِدُ مَاءً وَلَا صَعِيدًا، وَلَيْسَ فِي ثَوْبِهِ وَسَرْجِهِ غُبَارٌ لَطَّخَ ثَوْبَهُ أَوْ بَعْضَ جَسَدِهِ بِالطِّينِ، فَإِذَا جَفَّ تَيَمَّمَ بِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَيَمَّمَ بِالطِّينِ مَا لَمْ يَخَفْ ذَهَابَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَلْطِيخَ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيَصِيرُ بِمَعْنَى الْمُثْلَةِ. وَإِنْ كَانَ لَوْ تَيَمَّمَ بِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الطِّينَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ. وَمَا فِيهِ مِنْ الْمَاءِ مُسْتَهْلَكٌ، وَهُوَ يَلْتَزِقُ بِالْيَدِ فَإِنْ خَافَ ذَهَابَ الْوَقْتِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى عِنْدَهُمَا، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُصَلِّي بِغَيْرِ تَيَمُّمٍ بِالْإِيمَاءِ، ثُمَّ يُعِيدُ إذَا قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ أَوْ التُّرَابِ كَمَا لِمَحْبُوسٍ فِي الْمَخْرَجِ إذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا نَظِيفًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يُتَيَمَّمُ مِنْهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُتَيَمَّمُ مِنْهُ فَهُوَ الْحَدَثُ وَالْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا دَلَائِلَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ مِنْ الْحَدَثِ فِي صَدْرِ فَصْلِ التَّيَمُّمِ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ مِنْ الْجَنَابَةِ، وَتَرْجِيحَ قَوْلِ الْمُجَوِّزِينَ لِمُعَاضَدَةِ الْأَحَادِيثِ إيَّاهُ، وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ مُلْحَقَانِ بِالْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي مَعْنَاهَا مَعَ أَنَّهُ ثَبَتَ جَوَازُ التَّيَمُّمِ مِنْهُمَا لِعُمُومِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ وَقْتِ التَّيَمُّمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ التَّيَمُّمِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا - فِي بَيَانِ أَصْلِ الْوَقْتِ، وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ، (أَمَّا) الْأَوَّلُ - فَالْأَوْقَاتُ كُلُّهَا وَقْتٌ لِلتَّيَمُّمِ حَتَّى يَجُوزَ التَّيَمُّمُ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقَبْلَ دُخُولِهِ، وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ أَمْ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ؟ فَعِنْدَنَا بَدَلٌ مُطْلَقٌ، وَعِنْدَهُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ، وَسَنَذْكُرُ تَفْسِيرَ الْبَدَلِ الْمُطْلَقِ وَالضَّرُورِيِّ وَدَلِيلَهُ فِي بَيَانِ صِفَةِ التَّيَمُّمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) الثَّانِي - وَهُوَ بَيَانُ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ لِلتَّيَمُّمِ، فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْمُسَافِرَ إذَا كَانَ عَلَى طَمَعٍ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ يُؤَخِّرُ التَّيَمُّمَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى طَمَعٍ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَا يُؤَخَّرُ. وَهَكَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَلَى طَمَعٍ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، أَخَّرَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ مِقْدَارَ مَا لَوْ لَمْ يَجِدُ الْمَاءَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى طَمَعٍ لَا يُؤَخِّرُ وَيَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي فِي الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُؤَخِّرَ التَّيَمُّمَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا

فصل في صفة التيمم

كَانَ يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ فِي آخِرِهِ أَوْ لَا يَرْجُو. وَهَذَا لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ بَلْ يَجْعَلُ رِوَايَةَ الْمُعَلَّى تَفْسِيرًا لِمَا أَطْلَقَهُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، مِثْلُ الزُّهْرِيِّ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُمْ قَالُوا: يُؤَخِّرُ التَّيَمُّمَ إلَى آخِرَ الْوَقْتِ إذَا كَانَ يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: لَا يُؤَخِّرُ مَا لَمْ يَسْتَيْقِنْ بِوُجُودِ الْمَاءِ فِي آخِرَ الْوَقْتِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ فِي وَسَطِ الْوَقْتِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي مُسَافِرٍ أَجْنَبَ يَتَلَوَّمُ إلَى آخِرَ الْوَقْتِ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهَا أَصْلٌ وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا؛ وَالتَّيَمُّمُ طَهَارَةٌ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً؛ فَإِذَا كَانَ يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ فِي آخِرَ الْوَقْتِ كَانَ فِي التَّأْخِيرِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِأَكْمَلِ الطَّهَارَتَيْنِ فَكَانَ التَّأْخِيرُ مُسْتَحَبًّا، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُرْجَ لَا يُسْتَحَبُّ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي التَّأْخِيرِ، وَلَوْ تَيَمَّمَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَصَلَّى فَإِنْ كَانَ عَالِمًا أَنَّ الْمَاءَ قَرِيبٌ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ أَقَلُّ مِنْ مِيلٍ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ، وَإِنْ كَانَ مِيلًا فَصَاعِدًا جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَذْهَبَ وَيَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ لِمَا يُذْكَرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِقُرْبِ الْمَاءِ أَوْ بُعْدِهِ تَجُوزُ صَلَاتُهُ، سَوَاءٌ كَانَ يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ فِي آخِرَ الْوَقْتِ أَوْ لَا، سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الطَّلَبِ أَوْ قَبْلَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْعَدَمَ ثَابِتٌ ظَاهِرًا، وَاحْتِمَالُ الْوُجُودِ احْتِمَالٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَلَا يُعَارِضُ الظَّاهِرَ، وَلَوْ أَخْبَرَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَنَّ الْمَاءَ بِقُرْبٍ مِنْهُ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ أَقَلُّ مِنْ مِيلٍ لَكِنَّهُ يَخَافُ لَوْ ذَهَبَ إلَيْهِ وَتَوَضَّأَ تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ عَنْ وَقْتِهَا، لَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ وَيَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ خَارِجَ الْوَقْتِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ الْقُرْبُ وَالْبَعْدُ لَا الْوَقْتُ، وَعِنْدَ زُفَرَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْوَقْتُ لَا قُرْبُ الْمَاءِ وَبُعْدُهُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ التَّيَمُّمَ شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ، فَكَانَ الْمَنْظُورُ إلَيْهِ هُوَ الْوَقْتُ فَيَتَيَمَّمُ كَيْ لَا تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ عَنْ الْوَقْتِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْعِيدَيْنِ. (وَلَنَا) أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا تَفُوتُهُ أَصْلًا بَلْ إلَى خَلْفٍ وَهُوَ الْقَضَاءُ، وَالْفَائِتُ إلَى خَلْفٍ قَائِمٌ مَعْنًى بِخِلَافِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّهَا تَفُوتُ أَصْلًا لِمَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ فَجَازَ التَّيَمُّمُ فِيهَا لِخَوْفِ الْفَوَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي صِفَةُ التَّيَمُّمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ التَّيَمُّمِ فَهِيَ أَنَّهُ بَدَلٌ بِلَا شَكٍّ، لِأَنَّ جَوَازَهُ مُعَلَّقٌ بِحَالِ عَدَمِ الْمَاءِ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْبَدَلِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - الْخِلَافُ فِيهِ مَعَ غَيْرِ أَصْحَابِنَا، وَالثَّانِي مَعَ أَصْحَابِنَا، (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ وَلَيْسَ بِبَدَلٍ ضَرُورِيٍّ وَعَنَوْا بِهِ أَنَّ الْحَدَثَ يَرْتَفِعُ بِالتَّيَمُّمِ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَاءِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ، إلَّا أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الصَّلَاةُ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: التَّيَمُّمُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ، وَعَنَى بِهِ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الصَّلَاةُ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ حَقِيقَةً لِلضَّرُورَةِ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَجْهُ قَوْلِهِ: لِتَصْحِيحِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يُزِيلُ هَذَا الْحَدَثَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ رَأَى الْمَاءَ تَعُودُ الْجَنَابَةُ وَالْحَدَثُ، مَعَ أَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ لَيْسَتْ بِحَدَثٍ، فَعُلِمَ أَنَّ الْحَدَثَ لَمْ يَرْتَفِعْ لَكِنْ أُبِيحَ لَهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ لِلضَّرُورَةِ كَمَا فِي الْمُسْتَحَاضَةِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ، وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ أَوْ يُحْدِثْ» فَقَدْ سَمَّى التَّيَمُّمَ وُضُوءًا وَالْوُضُوءُ مُزِيلٌ لِلْحَدَثِ وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» ، وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلْمُطَهِّرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ يَزُولُ بِالتَّيَمُّمِ إلَّا أَنَّ زَوَالَهُ مُؤَقَّتٌ إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ، فَإِذَا وُجِدَ الْمَاءُ يَعُودُ الْحَدَثُ السَّابِقُ لَكِنْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمَاضِي، فَلَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُبْنَى التَّيَمُّمُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مُطْلَقٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَيَجُوزُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ، وَعِنْدَهُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ فَتَتَقَدَّرُ بَدَلِيَّتُهُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَعَلَى هَذَا يُبْنَى أَيْضًا أَنَّهُ إذَا تَيَمَّمَ فِي الْوَقْتِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا شَاءَ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ أَوْ يُحْدِثْ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ فَرْضًا آخَرَ غَيْرَ مَا تَيَمَّمَ لِأَجْلِهِ، وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ النَّوَافِلَ لِكَوْنِهَا تَابِعَةً لِلْفَرَائِضِ، وَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ لَا يَقِفُ عَلَى وُجُودِ عِلَّةٍ عَلَى حِدَةٍ أَوْ شَرْطٍ عَلَى حِدَةٍ فِيهِ، بَلْ وُجُودُ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ يَكْفِي لِثُبُوتِهِ فِي التَّبَعِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَعَلَى هَذَا يَبْنِي أَنَّهُ إذَا تَيَمَّمَ لِلنَّفْلِ

فصل في بيان ما ينقض التيمم

يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ النَّفَلَ وَالْفَرْضَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَدَاءُ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ التَّبَعَ لَا يَسْتَتْبِعُ الْأَصْلَ، وَعَلَى هَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِصَلَاةِ النَّافِلَةِ رَأْسًا؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ وَالضَّرُورَةُ فِي الْفَرَائِضِ لَا فِي النَّوَافِلِ، وَعِنْدَنَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ مُطْلَقَةٌ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَى إسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ نَفْسِهِ بِهِ يَحْتَاجُ إلَى إحْرَازِ الثَّوَابِ لِنَفْسِهِ، وَالْحَاجَةُ إلَى إحْرَازِ الثَّوَابِ حَاجَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ الطَّهَارَةُ لِأَجْلِهِ؛ وَلِهَذَا اُعْتُبِرَتْ طَهَارَةُ الْمُسْتَحَاضَةِ فِي حَقِّ النَّوَافِلِ بِلَا خِلَافٍ كَذَا هَهُنَا، (وَأَمَّا) الْخِلَافُ الَّذِي مَعَ أَصْحَابِنَا فِي كَيْفِيَّةِ الْبَدَلِيَّةِ فَهُوَ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ التُّرَابَ بَدَلٌ عَنْ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَالْبَدَلِيَّةُ بَيْنَ التُّرَابِ وَبَيْنَ الْمَاءِ أَوْ التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَالْبَدَلِيَّةُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إنَّ التُّرَابَ بَدَلٌ عَنْ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَالْبَدَلِيَّةُ بَيْنَ التُّرَابِ وَالْمَاءِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَالْبَدَلِيَّةُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ لِتَصْحِيحِ أَصْلِهِ بِالْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ» الْحَدِيثُ سَمَّى التَّيَمُّمَ وُضُوءًا دُونَ التُّرَابِ، وَهُمَا احْتَجَّا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ: تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] أَقَامَ الصَّعِيدَ مَقَامَ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِهِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ» وَقَالَ «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا أَمَّ الْمُتَوَضِّئِينَ جَازَتْ إمَامَتُهُ إيَّاهُمْ، وَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُتَوَضِّئِينَ مَاءٌ فِي قَوْلِ، أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ مَاءٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُمْ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُمْ مَاءٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ، كَانَ مَعَهُمْ مَاءٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَمَّا كَانَتْ الْبَدَلِيَّةُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ فَالْمُقْتَدِي إذَا كَانَ عَلَى وُضُوءٍ لَمْ يَكُنْ تَيَمُّمُ الْإِمَامِ طَهَارَةً فِي حَقِّهِ، لِوُجُودِ الْأَصْلِ فِي حَقِّهِ، فَكَانَ مُقْتَدِيًا بِمَنْ لَا طَهَارَةَ لَهُ فِي حَقِّهِ فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، كَالصَّحِيحِ إذَا اقْتَدَى بِصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ، لِأَنَّ طَهَارَةَ الْإِمَامِ لَيْسَتْ بِطَهَارَةٍ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي، فَلَمْ تُعْتَبَرْ طَهَارَتُهُ فِي حَقِّهِ فَكَانَ مُقْتَدِيًا بِمَنْ لَا طَهَارَةَ لَهُ فِي حَقِّهِ، فَلَمْ يَجُزْ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ كَذَا هَذَا، وَلَمَّا كَانَتْ الْبَدَلِيَّةُ بَيْنَ التُّرَابِ وَبَيْنَ الْمَاءِ عِنْدَهُمَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُقْتَدِينَ مَاءٌ كَانَ التُّرَابُ طَهَارَةً مُطْلَقَةً فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ، فَيَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ فَصَارَ كَاقْتِدَاءِ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ بِخِلَافِ صَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ؛ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ ضَرُورِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ يُقَارِنُهَا أَوْ يَطْرَأُ عَلَيْهَا فَلَا تُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ، وَإِذَا كَانَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَقَدْ فَاتَ الشَّرْطُ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِينَ فَلَا يَبْقَى التُّرَابُ طَهُورًا فِي حَقِّهِمْ، فَلَمْ تَبْقَ طَهَارَةُ الْإِمَامِ طَهَارَةً فِي حَقِّهِمْ فَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمُتَيَمِّمُ إذَا أَمَّ الْمُتَوَضِّئِينَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مَاءٌ، ثُمَّ رَأَى وَاحِدٌ مِنْهُمْ الْمَاءَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْإِمَامُ وَالْآخَرُونَ، حَتَّى فَرَغُوا فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَفْسُدُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَضِّئٌ فِي نَفْسِهِ، فَرُؤْيَةُ الْمَاءِ لَا تَكُونُ مُفْسِدَةً فِي حَقِّهِ، وَإِنَّمَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَهِيَ صَحِيحَةٌ،. (وَلَنَا) أَنَّ طَهَارَةَ الْإِمَامِ جُعِلَتْ عَدَمًا فِي حَقِّهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ، إذْ لَا يَبْقَى الْخَلْفُ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ فَصَارَ مُعْتَقِدًا فَسَادَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَالْمُقْتَدِي إذَا اعْتَقَدَ فَسَادَ صَلَاةِ الْإِمَامِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمْ الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى الْإِمَامُ إلَى جِهَةٍ وَالْمُقْتَدِي إلَى جِهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ إمَامَهُ يُصَلِّي إلَى جِهَةٍ أُخْرَى لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ كَذَا هَذَا، ثُمَّ نَتَكَلَّمُ فِي الْمَسْأَلَةِ ابْتِدَاءً: فَحُجَّةُ مُحَمَّدٍ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا يَؤُمُّ الْمُتَيَمِّمُ الْمُتَوَضِّئِينَ، وَلَا الْمُقَيَّدُ الْمُطْلَقِينَ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَحُجَّتُهُمَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سَرِيَّةٍ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فَهُوَ مَذْهَبُهُ وَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْمَسْأَلَةُ إذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَا يَكُونُ قَوْلُ الْبَعْضِ حُجَّةً عَلَى الْبَعْضِ، عَلَى أَنَّ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَؤُمُّ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ أَمَّ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ» ثُمَّ لَوْ أَمَّ جَازَ كَذَا هَذَا. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ فَاَلَّذِي يَنْقُضُهُ نَوْعَانِ: عَامٌّ، وَخَاصٌّ أَمَّا الْعَامُّ فَكُلُّ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مِنْ الْحَدَثِ الْحَقِيقِيِّ وَالْحُكْمِيِّ يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا الْخَاصُّ: وَهُوَ مَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ عَلَى الْخُصُوصِ

فَوُجُودُ الْمَاءِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ وَجَدَهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِمَّا إنْ وَجَدَهُ فِي الصَّلَاةِ، وَإِمَّا إنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا فَإِنْ وَجَدَهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ التَّيَمُّمُ بِوُجُودِ الْمَاءِ أَصْلًا، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الطَّهَارَةَ بَعْدَ صِحَّتِهَا لَا تُنْقَضُ إلَّا بِالْحَدَثِ، وَوُجُودُ الْمَاءِ لَيْسَ بِحَدَثٍ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ، وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ أَوْ يُحْدِثْ» جَعَلَ التَّيَمُّمَ وُضُوءَ الْمُسْلِمِ إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ، وَالْمَمْدُودُ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ خَلْفٌ عَنْ الْوُضُوءِ وَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى الْخَلْفِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَخْلَافِ مَعَ أُصُولِهَا. وَقَوْلُهُ: " وُجُودُ الْمَاءِ لَيْسَ بِحَدَثٍ، " مُسَلَّمٌ وَعِنْدَنَا أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ لَا يَصِيرُ مُحْدِثًا بِوُجُودِ الْمَاءِ، بَلْ الْحَدَثُ السَّابِقُ يَظْهَرُ حُكْمُهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ ذَلِكَ الْحَدَثِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ. ثُمَّ وُجُودُ الْمَاءِ نَوْعَانِ: وُجُودُهُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْمَعْنَى: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ الِاسْتِعْمَالِ لَهُ، وَأَنَّهُ يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ وَوُجُودُهُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ دُونَ الْمَعْنَى: وَهُوَ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَهَذَا لَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ، حَتَّى لَوْ مَرَّ الْمُتَيَمِّمُ عَلَى الْمَاءِ الْكَثِيرِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ، أَوْ كَانَ غَافِلًا أَوْ نَائِمًا لَا يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَكَذَا لَوْ مَرَّ عَلَى مَاءٍ فِي مَوْضِعٍ لَا يَسْتَطِيعُ النُّزُولَ إلَيْهِ؛ لِخَوْفِ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ لَا يُنْتَقَضُ تَيَمُّمُهُ، كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ وَقَالَ: هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ. وَكَذَا إذَا أَتَى بِئْرًا وَلَيْسَ مَعَهُ دَلْوٌ أَوْ رِشَاءٌ أَوْ وَجَدَ مَاءً وَهُوَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْعَطَشَ؛ لَا يُنْتَقَضُ تَيَمُّمُهُ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا لَوْ وَجَدَ مَاءً مَوْضُوعًا فِي الْفَلَاةِ فِي جُبٍّ أَوْ نَحْوِهِ، عَلَى قِيَاسِ مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ؛ لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِلسُّقْيَا دُونَ الْوُضُوءِ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَيُسْتَدَلُّ بِالْكَثْرَةِ عَلَى أَنَّهُ مُعَدٌّ لِلشُّرْبِ وَالْوُضُوءِ جَمِيعًا؛ فَيُنْتَقَضُ تَيَمُّمُهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا مَنَعَ وُجُودُهُ التَّيَمُّمَ نَقَضَ وُجُودُهُ التَّيَمُّمَ وَمَا لَا فَلَا. ثُمَّ وُجُودُ الْمَاءِ إنَّمَا يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ إذَا كَانَ الْقَدْرُ الْمَوْجُودُ يَكْفِي لِلْوُضُوءِ أَوْ الِاغْتِسَالِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَكْفِي لَا يُنْقَضُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ يَنْقُضُ وَالْخِلَافُ فِي الْبَقَاءِ كَالْخِلَافِ فِي الِابْتِدَاءِ وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ فِي بَيَانِ الشَّرَائِطِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ لَوْ أَنَّ خَمْسَةً مِنْ الْمُتَيَمِّمِينَ وَجَدُوا مِنْ الْمَاءِ مِقْدَارَ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ أَحَدُهُمْ اُنْتُقِضَ تَيَمُّمُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَاجِدًا لِلْمَاءِ صُورَةً وَمَعْنًى فَيَنْتَقِضُ تَيَمُّمُهُمْ جَمِيعًا؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ بِيَقِينٍ وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فَيَنْتَقِضُ تَيَمُّمُهُمْ احْتِيَاطًا وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ مَاءٌ فَقَالَ: أَبَحْتُ لَكُمْ هَذَا الْمَاءَ يَتَوَضَّأُ بِهِ أَيُّكُمْ شَاءَ، وَهُوَ قَدْرُ مَا يَكْفِي لِوُضُوءِ أَحَدِهِمْ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُمْ جَمِيعًا لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَالَ: هَذَا الْمَاءُ لَكُمْ لَا يَنْتَقِضُ تَيَمُّمُهُمْ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا تَصِحُّ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ رَأْسًا. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَالْهِبَةُ وَإِنْ صَحَّتْ وَأَفَادَتْ الْمِلْكَ لَكِنْ لَا يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا يَكْفِي لِوُضُوئِهِ، فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، حَتَّى أَنَّهُمْ لَوْ أَذِنُوا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْوُضُوءِ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى مَا يَكْفِي لِلْوُضُوءِ وَعِنْدَهُ الْهِبَةُ فَاسِدَةٌ فَلَا يَصِحُّ الْإِذْنُ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ فِي الزِّيَادَاتِ: مُسَافِرٌ مُحْدِثٌ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَمَعَهُ مَا يَكْفِي لِأَحَدِهِمَا غَسَلَ بِهِ الثَّوْبَ وَتَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْحَدَثَ أَغْلَظُ النَّجَاسَتَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّلَاةَ مَعَ الثَّوْبِ النَّجِسِ جَائِزَةٌ فِي الْجُمْلَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا جَوَازَ لَهَا مَعَ الْحَدَثِ بِحَالٍ. (وَلَنَا) أَنَّ الصَّرْفَ إلَى النَّجَاسَةِ يَجْعَلُهُ مُصَلِّيًا بِطَهَارَتَيْنِ حَقِيقِيَّةٍ وَحُكْمِيَّةٍ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ بِطَهَارَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَجِبُ أَنْ يَغْسِلَ ثَوْبَهُ مِنْ النَّجَاسَةِ، ثُمَّ يَتَيَمَّمَ وَلَوْ بَدَأَ بِالتَّيَمُّمِ لَا يَجْزِيهِ وَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى مَاءٍ وَلَوْ تَوَضَّأَ بِهِ تَجُوزُ بِهِ صَلَاتُهُ. وَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنْ وَجَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ، وَتَوَضَّأَ بِهِ وَاسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ عِنْدَنَا، وَلِلشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: فِي قَوْلٍ مِثْلُ قَوْلِنَا، وَفِي قَوْلٍ يَقْرُبُ الْمَاءُ مِنْهُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ وَيَبْنِيَ وَفِي قَوْلٍ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ أَظْهَرُ أَقْوَالِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ قَدْ صَحَّ فَلَا يَبْطُلُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ، كَمَا إذَا رَأَى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ وَهَذَا، لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ لَيْسَ بِحَدَثٍ وَالْمَوْجُودُ لَيْسَ إلَّا الرُّؤْيَةُ فَلَا تَبْطُلُ

الصَّلَاةُ، وَإِذَا لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ فَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ تُعْجِزُهُ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَلَا يَكُونُ وَاجِدًا لِلْمَاءِ مَعْنًى، كَمَا إذَا كَانَ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ وَلَمْ يَجِدْ آلَةَ الِاسْتِقَاءِ. (وَلَنَا) أَنَّ طَهَارَةَ التَّيَمُّمِ انْعَقَدَتْ مَمْدُودَةً إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا فَتَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ، فَلَوْ أَتَمَّهَا لَأَتَمَّ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ تَبْقَ حُرْمَةُ الصَّلَاةِ. وَقَوْلُهُ: إنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ لَيْسَتْ بِحَدَثٍ فَلَا تُبْطِلُ الطَّهَارَةَ قُلْنَا: بَلَى، وَعِنْدَنَا لَا تَبْطُلُ بَلْ تَنْتَهِي لِكَوْنِهَا مُؤَقَّتَةً إلَى غَايَةِ الرُّؤْيَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمُتَيَمِّمَ لَا يَصِيرُ مُحْدِثًا بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ عِنْدَنَا، بَلْ بِالْحَدَثِ السَّابِقُ عَلَى الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَة فِي الصَّلَاةِ الَّتِي لَمْ تُؤَدَّ فَظَهَرَ أَثَرُ الْحَدَثِ السَّابِقِ وَصَارَ كَخُرُوجِ الْوَقْتِ فِي حَقِّ الْمُسْتَحَاضَةِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ وَذَلِكَ يُبْطِلُ حُكْمَ الْبَدَلِ كَالْمُعْتَدَّةِ بِالْأَشْهُرِ إذَا حَاضَتْ. وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، أَوْ بَعْدَ مَا سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ وَعَادَ إلَى السُّجُودِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ وَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ، وَهَذِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَعْرُوفَةِ بِالِاثْنَا عَشْرِيَّةَ وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُصَلِّي مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ لَوْ وُجِدَ فِي أَثْنَائِهَا لَا يُفْسِدُهَا إنْ وُجِدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، مِثْلُ الْكَلَامِ وَالْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْقَهْقَهَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَفْسُدُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ بِالسَّلَامِ لَيْسَ بِفَرْضٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ فَرْضٌ عَلَى مَا يُذْكَرُ. وَأَمَّا مَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْمُصَلِّي بَلْ هُوَ مَعْنًى سَمَاوِيٌّ لَكِنَّهُ لَوْ اعْتَرَضَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، فَإِذَا وُجِدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ هَلْ يُفْسِدُهَا؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُفْسِدُهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يُفْسِدُهَا، وَذَلِكَ كَالْمُتَيَمِّمِ يَجِدُ مَاءً، وَالْمَاسِحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا انْقَضَى وَقْتُ مَسْحِهِ، وَالْعَارِي يَجِدُ ثَوْبًا، وَالْأُمِّيِّ يَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ، وَصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ يَنْقَطِعُ عَنْهُ السَّيَلَانُ، وَصَاحِبُ التَّرْتِيبِ إذَا تَذَكَّرَ فَائِتَةً، وَدُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَسُقُوطِ الْخُفِّ عَنْ الْمَاسِحِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ وَاسِعًا بِدُونِ فِعْلِهِ، وَطُلُوعِ الشَّمْسِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِمُصَلِّي الْفَجْرِ وَالْمُومِئِ إذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ، وَالْقَارِئِ إذَا اسْتَخْلَفَ أُمِّيًّا، وَالْمُصَلِّي بِثَوْبٍ فِيهِ نَجَاسَةٌ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً لِيَغْسِلَهُ فَوُجِدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَقَاضِي الْفَجْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ، وَالْمُصَلِّي إذَا سَقَطَ الْجَبَائِرُ عَنْهُ عَنْ بُرْءٍ. وَقَضِيَّةُ التَّرْتِيبِ ذِكْرُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مَوْضِعِهَا وَإِنَّمَا جَمَعْنَاهَا اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ وَتَيْسِيرًا لِلْحِفْظِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ حَاصِلَ الِاخْتِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ خُرُوجَ الْمُصَلِّي مِنْ الصَّلَاةِ بِفِعْلِهِ فَرْضٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ انْتَهَتْ بِالْقُعُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ لِانْتِهَاءِ أَرْكَانِهَا «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ: إذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ فَعَلْتَ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ» وَالصَّلَاةُ بَعْدَ تَمَامِهَا لَا تَحْتَمِلُ الْفَسَادَ، وَلِهَذَا لَا تَفْسُدُ بِالسَّلَامِ وَالْكَلَامِ وَالْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْقَهْقَهَةِ، وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ بِفِعْلِهِ لَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ الصَّلَاةَ بِالتَّمَامِ، وَلَا تَمَامَ يَتَحَقَّقُ مَعَ بَقَاءِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ، وَكَذَا إصَابَةُ لَفْظِ السَّلَامِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الشَّيْءِ وَانْتِهَاءَهُ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ مُحَالٌ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ قَهْقَهَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَنْتَقِضُ طَهَارَتُهُ؛ لِأَنَّ انْتِقَاضَهَا يَعْتَمِدُ قِيَامَ التَّحْرِيمَةِ، وَأَنَّهَا قَائِمَةٌ، فَأَمَّا فَسَادُ الصَّلَاةِ فَيَسْتَدْعِي بَقَاءَ التَّحْرِيمَةِ مَعَ بَقَاءِ الرُّكْنِ وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لِمَا بَيَّنَّا؛ وَلِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ ضِدُّ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهَا، وَضِدُّ الشَّيْءِ كَيْفَ يَكُونُ رُكْنًا لَهُ؟ وَلِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْصُلُ الْخُرُوجُ بِالْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْقَهْقَهَةِ وَالْكَلَامِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ حَرَامٌ وَمَعْصِيَةٌ فَكَيْفَ تَكُونُ فَرْضًا؟ . وَالْوَجْهُ لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي عِدَّةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ غَيْرِ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ لَيْسَ لِوُجُودِ هَذِهِ الْعَوَارِضِ، بَلْ بِوُجُودِهَا يَظْهَرُ أَنَّهَا كَانَتْ فَاسِدَةً، (وَبَيَانُ) ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ صَارَ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الَّتِي لَمْ تُؤَدَّ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ الْحَدَثُ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُزِيلُهُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ التُّرَابَ لَيْسَ بِطَهُورٍ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الْحَدَثِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ لِلْحَرَجِ كَيْ لَا تَجْتَمِعَ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ فَيُخْرَجَ فِي قَضَائِهَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْحَدَثِ السَّابِقِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَلَا حَرَجَ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي لَمْ تُؤَدَّ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ غَيْرُ مُؤَدَّاةٍ فَإِنَّ تَحْرِيمَةَ الصَّلَاةِ بَاقِيَةٌ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَا الرُّكْنُ الْأَخِيرُ بَاقٍ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ طَالَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الرُّكْنِ كَالْقِرَاءَةِ إذَا طَالَتْ فَظَهَرَ

فِيهَا حُكْمُ الْحَدَثِ السَّابِقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الشُّرُوعَ فِيهَا لَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ اعْتَرَضَ هَذَا الْمَعْنَى فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ انْقِضَاءُ مُدَّةِ الْمَسْحِ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْقَضَى وَقْتُ الْمَسْحِ صَارَ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ قَدْ وُجِدَ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُزِيلُهُ عَنْ الْقِدَمِ حَقِيقَةً، لَكِنْ الشَّرْعُ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْحَدَثِ فِيمَا أَدَّى مِنْ الصَّلَاةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ فَالْتَحَقَ الْمَانِعُ بِالْعَدَمِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ. وَلَا حَرَجَ فِيمَا لَمْ يُؤَدَّ فَظَهَرَ حُكْمُ الْحَدَثِ السَّابِقِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا سَقَطَ خُفُّهُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ وَكَذَا صَاحِبُ الْجُرْحِ السَّائِلِ، وَمَنْ هُوَ بِمِثْلِ حَالِهِ، وَكَذَا الْمُصَلِّي إذَا كَانَ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَلَمْ يَجِدْ الْمَاءَ لِيَغْسِلَهُ فَوُجِدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ النَّجَاسَةَ إنَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُهَا لِمَا قُلْنَا مِنْ الْجُرْحِ، وَلَا حَرَجَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا الْعَارِي إذَا وَجَدَ ثَوْبًا، وَالْمُومِئُ إذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ، وَالْأُمِّيُّ إذَا تَعَلَّمَ الْقِرَاءَةَ؛ لِأَنَّ السَّتْرَ وَالْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ فَرْضٌ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهَا، وَالسُّقُوطُ عَنْ هَؤُلَاءِ لِلْعَجْزِ وَقَدْ زَالَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ قَضَاءُ الْكُلِّ كَالْمَرِيضِ الْعَاجِزِ عَنْ الصَّوْمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ عِنْدَ حُدُوثِ الْقُدْرَةِ لَكِنْ سَقَطَ؛ لِأَجْلِ الْحَرَجِ وَلَا حَرَجَ فِي حَقِّ هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا هِيَ لَيْسَتْ نَظِيرَ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ ثَمَّةَ أَصْلًا وَهَهُنَا حَصَلَتْ الْقُدْرَةُ فِي جُزْءٍ مِنْهَا، وَعَلَى هَذَا صَاحِبُ التَّرْتِيبِ إذَا تَذَكَّرَ فَائِتَةً؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ أَدَّى الْوَقْتِيَّةَ قَبْلَ وَقْتِهَا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ قَضَاءُ الْكُلِّ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلْحَرَجِ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ، وَلَا حَرَجَ فِي حَقِّ هَذِهِ الصَّلَاةِ. وَعَلَى هَذَا الْمُصَلِّي إذَا سَقَطَتْ الْجَبَائِرُ عَنْ يَدِهِ عَنْ بُرْءٍ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ وَاجِبٌ عَلَى الْقَادِرِ، وَإِنْ سَقَطَ عَنْهُ لِلْعَجْزِ، فَإِذَا زَالَ الْعَجْزُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ مَا مَضَى بَعْدَ الْبُرْءِ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلْحَرَجِ، وَفِيهِ هَذِهِ الصَّلَاة لَا حَرَجَ. وَأَمَّا قَاضِي الْفَجْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ فَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَخْرُجُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّتِهِ كَامِلٌ وَالْمُؤَدَّى فِي هَذَا الْوَقْتِ نَاقِصٌ؛ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَالْكَامِلُ لَا يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ فَلَا يَقَعُ قَضَاءً وَلَكِنَّهُ يَقَعُ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ فِيهِ جَائِزٌ فَيَنْقَلِبُ تَطَوُّعًا وَعَلَى هَذَا مُصَلِّي الْفَجْرِ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ كَامِلًا، لِأَنَّ الْوَقْتَ النَّاقِصَ قَلِيلٌ لَا يَتَّسِعُ لِلْأَدَاءِ فَلَا يَجِبُ نَاقِصًا بَلْ كَامِلًا فِي غَيْرِ الْوَقْتِ النَّاقِصِ، فَإِذَا أَتَى بِهِ فِيهِ صَارَ نَاقِصًا فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَامِلُ بِخِلَافِ صَلَاةِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ الْوَقْتَ النَّاقِصَ مِمَّا يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فِيهِ فَيَجِبُ نَاقِصًا وَقَدْ أَدَّاهُ نَاقِصًا فَهُوَ الْفَرْقُ. وَأَمَّا دُخُولُ وَقْتِ الْعَصْرِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَيَخْرُجُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ: أَنَّ الظُّهْرَ هُوَ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ فِي كُلِّ يَوْمٍ عُرِفَ وُجُوبُهُ بِالدَّلَائِلِ الْمُطْلَقَةِ، وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ إلَى الرَّكْعَتَيْنِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ عَرَفْنَاهَا بِالنُّصُوصِ الْخَاصَّةِ غَيْرِ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى، وَالْوَقْتُ مِنْ شَرَائِطِهِ، فَمَتَى لَمْ يُوجَدْ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ هَذَا نَظِيرَ الْمَخْصُوصِ عَنْ الْأَصْلِ فَلَمْ يَجُزْ. فَظَهَرَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الظُّهْرُ فَعَلَيْهِ أَدَاءُ الظُّهْرِ بِخِلَافِ الْكَلَامِ وَالْقَهْقَهَةِ وَالْحَدَثِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ الْفَسَادَ لِوُجُودِ هَذِهِ الْعَوَارِضِ؛ لِأَنَّهَا نَوَاقِضُ الصَّلَاةِ وَقَدْ صَادَفَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَأَوْجَبَ فَسَادَ ذَلِكَ الْجُزْءِ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ تَسْتَغْنِي الصَّلَاةُ عَنْهَا، فَكَانَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ، فَاقْتَصَرَ الْفَسَادُ عَلَيْهَا بِخِلَافِ مَا إذَا اعْتَرَضَتْ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا أَوْجَبَتْ فَسَادَ ذَلِكَ الْجُزْءِ الْأَصْلِيِّ، وَلَا وُجُودَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِهِ، فَلَا يُمْكِنُهُ الْبِنَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ بِتَمَامِ الصَّلَاةِ وَبِوُجُودِ هَذِهِ الْعَوَارِضِ، تَبَيَّنَ أَنَّهَا مَا كَانَتْ صَلَاةً إذْ لَا وُجُودَ لِلصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ وَمَعَ فَقْدِ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِهَا. وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ وَكَذَا الصَّلَاةُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ مَخْصُوصَةٌ عَنْ هَذَا النَّصِّ بِالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ النُّقْصَانِ وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ مَخْصُوصَةٌ عَنْ هَذَا النَّصِّ بِالدَّلَائِلِ الْمُطْلَقَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِوُجُوبِ الظُّهْرِ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَى مَا مَرَّ، هَذَا إذَا وَجَدَ فِي الصَّلَاةِ مَاءً مُطْلَقًا. ، فَإِنْ وَجَدَ سُؤْرَ حِمَارٍ مَضَى عَلَى صَلَاتِهِ، لِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ وَشُرُوعُهُ فِي الصَّلَاةِ قَدْ صَحَّ فَلَا يَقْطَعُ بِالشَّكِّ، بَلْ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا تَوَضَّأَ بِهِ وَأَعَادَ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُطَهَّرًا فِي نَفْسِهِ مَا جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ مُطَهَّرٍ فِي نَفْسِهِ جَازَتْ بِهِ صَلَاتُهُ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْجَوَازِ فَيُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ احْتِيَاطًا. وَإِنْ وَجَدَ نَبِيذَ التَّمْرِ انْتَقَضَ تَيَمُّمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ عِنْدَ عَدَمِهِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَنْتَقِضُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ طَهُورًا أَصْلًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ، ثُمَّ يُعِيدُهَا كَمَا فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ هَذَا كُلُّهُ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ،. فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إعَادَةُ مَا صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ فِي

فصل في الطهارة الحقيقية

الْوَقْتِ فَكَذَلِكَ عِنْد عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُعِيدُ وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الْوَقْتَ أُقِيمَ مَقَامَ الْأَدَاءِ شَرْعًا كَمَا فِي الْمُسْتَحَاضَةِ فَكَانَ الْوُجُودُ فِي الْوَقْتِ كَالْوُجُودِ فِي أَثْنَاءِ الْأَدَاءِ حَقِيقَةً؛ وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ بَطَلَ الْبَدَلُ كَالشَّيْخِ الْفَانِي إذَا فَدَى أَوْ أَحَجَّ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ وَالْحَجِّ بِنَفْسِهِ،. (وَلَنَا) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ جَوَازَ التَّيَمُّمِ بِعَدَمِ الْمَاءِ، فَإِذَا صَلَّى حَالَةَ الْعَدَمِ فَقَدْ أَدَّى الصَّلَاةَ بِطَهَارَةٍ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا فَيُحْكَمُ بِصِحَّتِهَا فَلَا مَعْنَى لِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ «رَجُلَيْنِ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ تَيَمَّمَا مِنْ جَنَابَةٍ وَصَلَّيَا وَأَدْرَكَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ وَلَمْ يُعِدْ الْآخَرُ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي أَعَادَ: أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أُوتِيتَ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ عَنْكَ» . أَيْ كَفَتْكَ جَزَى وَأَجْزَأَ مَهْمُوزًا بِمَعْنَى الْكِفَايَةِ، وَهَذَا يَنْفِي وُجُوبَ الْإِعَادَةِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ اعْتِبَارِ الْوُجُودِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ بِالْوُجُودِ فِي الصَّلَاةِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَدَثَ الْحَقِيقِيَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ لَا يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ كَذَا هَذَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ فَنَعَمْ، لَكِنْ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ لَا تُبْطِلُ حُكْمَ الْبَدَلِ، كَالْمُعْتَدَّةِ بِالْأَشْهُرِ إذَا حَاضَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ، بِخِلَافِ الشَّيْخِ الْفَانِي إذَا أَحَجَّ رَجُلًا بِمَالِهِ وَفَدَى عَنْ صَوْمِهِ، ثُمَّ قَدَرَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْإِحْجَاجِ وَالْفِدْيَةِ مُعَلَّقٌ بِالْيَأْسِ عَنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ وَالصَّوْمِ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا قَدَرَ بِنَفْسِهِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَأْسَ، فَأَمَّا جَوَازُ التَّيَمُّمِ فَمُعَلَّقٌ بِالْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَالْعَجْزُ كَانَ مُتَحَقِّقًا عِنْدَ الصَّلَاةِ، وَبِوُجُودِ الْمَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا عَجْزَ فَهُوَ الْفَرْقُ. [فَصْلٌ فِي الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ - وَهِيَ الطَّهَارَةُ عَنْ النَّجِسِ - فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا - فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْأَنْجَاسِ وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ الْمِقْدَارِ الَّذِي يَصِيرُ الْمَحَلُّ بِهِ نَجِسًا شَرْعًا وَالثَّالِثُ - فِي بَيَانِ مَا يَقَعُ بِهِ تَطْهِيرُ النَّجِسِ. (وَأَمَّا) أَنْوَاعُ الْأَنْجَاسِ فَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: أَنْ كُلَّ مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِمَّا يَجِبُ بِخُرُوجِهِ الْوُضُوءُ أَوْ الْغُسْلُ فَهُوَ نَجِسٌ، مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْوَدْيِ وَالْمَذْيِ وَالْمَنِيِّ، وَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالِاسْتِحَاضَةِ وَالدَّمِ السَّائِلِ مِنْ الْجُرْحِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ مِلْءَ الْفَمِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِخُرُوجِ ذَلِكَ مُسَمًّى بِالتَّطْهِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ آيَةِ الْوُضُوءِ: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] وَقَالَ فِي الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وَقَالَ فِي الْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضِ: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وَالطَّهَارَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ نَجَاسَةٍ. وَقَالَ تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] ، وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ تَسْتَخْبِثُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَالتَّحْرِيمُ - لَا لِلِاحْتِرَامِ - دَلِيلُ النَّجَاسَةِ؛ وَلِأَنَّ مَعْنَى النَّجَاسَةِ مَوْجُودٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إذْ النَّجِسُ اسْمٌ لِلْمُسْتَقْذَرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا تَسْتَقْذِرُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ لِاسْتِحَالَتِهِ إلَى خُبْثٍ وَنَتْنِ رَائِحَةٍ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلَّا فِي الْمَنِيِّ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ زَعَمَ أَنَّهُ طَاهِرٌ (وَاحْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرْكًا وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ أَيْ فِي حَالِ صَلَاتِهِ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا صَحَّ شُرُوعُهُ فِي الصَّلَاةِ مَعَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعِيدَ، وَلَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا الْإِعَادَةُ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْمَنِيُّ كَالْمُخَاطِ فَأَمِطْهُ عَنْكَ وَلَوْ بِالْإِذْخِرِ شَبَّهَهُ بِالْمُخَاطِ، وَالْمُخَاطُ لَيْسَ بِنَجِسٍ كَذَا الْمَنِيُّ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ بِإِمَاطَتِهِ لَا لِنَجَاسَتِهِ بَلْ لِقَذَارَتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ أَصْلُ الْآدَمِيِّ الْمُكَرَّمِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كَانَ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ مِنْ النُّخَامَةِ، فَمَرَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: مَا تَصْنَعُ يَا عَمَّارُ؟ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا نُخَامَتُكَ وَدُمُوعُ عَيْنَيْكَ وَالْمَاءُ الَّذِي فِي رِكْوَتِكَ إلَّا سَوَاءٌ، إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ: بَوْلٍ، وَغَائِطٍ، وَقَيْءٍ، وَمَنِيٍّ، وَدَمٍ» أَخْبَرَ أَنَّ الثَّوْبَ يُغْسَلُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لَا مَحَالَةَ، وَمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ يَكُونُ نَجِسًا فَدَلَّ أَنَّ الْمَنِيَّ نَجِسٌ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا: «إذَا رَأَيْتِ الْمَنِيَّ فِي ثَوْبِك فَإِنْ كَانَ رَطْبًا فَاغْسِلِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَحُتِّيهِ» وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَلَا يَجِبُ إلَّا إذَا كَانَ نَجِسًا؛ وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ بِخُرُوجِهِ أَغْلَظُ الطَّهَارَتَيْنِ وَهِيَ الِاغْتِسَالُ، وَالطَّهَارَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ نَجَاسَةٍ، وَغِلَظُ الطَّهَارَةِ يَدُلَّ عَلَى غِلَظِ النَّجَاسَةِ كَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَلِأَنَّهُ يَمُرُّ بِمِيزَابِ النَّجَسِ فَيَنْجَسُ

بِمُجَاوَرَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَجِسًا بِنَفْسِهِ وَكَوْنُهُ أَصْلَ الْآدَمِيِّ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ نَجِسًا كَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ قَلِيلًا وَلَا عُمُومَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ حِكَايَةُ حَالٍ، أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى مَا قُلْنَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَتَشْبِيهُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إيَّاهُ بِالْمُخَاطِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي الصُّورَةِ لَا فِي الْحُكْمِ لِتَصَوُّرِهِ بِصُورَةِ الْمُخَاطِ، وَالْأَمْرُ بِالْإِمَاطَةِ بِالْإِذْخِرِ لَا يَنْفِي الْأَمْرَ بِالْإِزَالَةِ بِالْمَاءِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَقْدِيمِ الْإِمَاطَةِ كَيْ لَا تَنْتَشِرَ النَّجَاسَةُ فِي الثَّوْبِ فَيَتَعَسَّرُ غَسْلُهُ. (وَأَمَّا) الدَّمُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ وَالْقَيْءُ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ وَهُوَ قِيَاسُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِخُرُوجِهِ الْوُضُوءُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نَجِسٌ، هُوَ يَقُولُ: إنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ نَجِسٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ بِمَسْفُوحٍ بِنَفْسِهِ، وَالنَّجِسُ هُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] وَالرِّجْسُ: هُوَ النَّجِسُ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا مُحَرَّمَ سِوَاهَا فَيَقْتَضِي أَنْ لَا نَجِسَ سِوَاهَا إذْ لَوْ كَانَ لَكَانَ مُحَرَّمًا، إذْ النَّجَسُ مُحَرَّمٌ، وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَوَجْهٌ آخَرَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ أَنَّهُ نَفَى حُرْمَةَ غَيْرِ الْمَذْكُورِ، وَأَثْبَتَ حُرْمَةَ الْمَذْكُورِ، وَعَلَّلَ لِتَحْرِيمِهِ بِأَنَّهُ رِجْسٌ - أَيْ نَجِسٌ - وَلَوْ كَانَ غَيْرُ الْمَذْكُورِ نَجِسًا لَكَانَ مُحَرَّمًا؛ لِوُجُودِ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا مُحَرَّمَ سِوَى الْمَذْكُورِ فِيهِ، وَدَمُ الْبَقِّ وَالْبَرَاغِيثِ لَيْسَ بِنَجِسٍ عِنْدَنَا، حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيل لَا يُنَجِّسُهُ، وَلَوْ أَصَابَ الثَّوْبَ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ نَجِسٌ لَكِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي الثَّوْبِ لِلضَّرُورَةِ، (وَاحْتَجَّ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ السَّائِلِ وَغَيْرِهِ، وَالْحُرْمَةُ - لَا لِلِاحْتِرَامِ - دَلِيلُ النَّجَاسَةِ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الْآيَةَ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا، وَلِأَنَّ صِيَانَةَ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي عَنْهَا مُتَعَذِّرَةٌ فَلَوْ أُعْطِيَ لَهَا حُكْمَ النَّجَاسَةِ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ، وَأَنَّهُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا بِالنَّصِّ، وَبِهَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدِ وَهُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَدَمُ الْأَوْزَاغِ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ سَائِلٌ، وَكَذَا الدِّمَاءُ السَّائِلَةُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ لِمَا قُلْنَا، بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَجِسًا مِنْ الْآدَمِيِّ الْمُكَرَّمِ فَمِنْ غَيْرِهِ أَوْلَى. (وَأَمَّا) دَمُ السَّمَكِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ نَجِسٌ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الدِّمَاءِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ طَاهِرٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى إبَاحَةِ تَنَاوُلِهِ مَعَ دَمِهِ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا أُبِيحَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَمٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ مَاءٌ تَلَوَّنَ بِلَوْنِ الدَّمِ؛ لِأَنَّ الدَّمَوِيَّ لَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ، وَالدَّمُ الَّذِي يَبْقَى فِي الْعُرُوقِ وَاللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْفُوحٍ وَلِهَذَا حَلَّ تَنَاوُلُهُ مَعَ اللَّحْمِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ مَعْفُوٌّ فِي الْأَكْلِ غَيْرُ مَعْفُوٍّ فِي الثِّيَابِ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ فِي الْأَكْلِ وَإِمْكَانِهِ فِي الثَّوْبِ. (وَمِنْهَا) مَا يَخْرُجُ مِنْ أَبْدَانِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ الْبَهَائِمِ مِنْ الْأَبْوَالِ وَالْأَرْوَاثِ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ، (أَمَّا) الْأَبْوَالُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ بَوْلَ كُلِّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ، وَاخْتُلِفَ فِي بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ نَجِسٌ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ طَاهِرٌ حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ لَا يُفْسِدُهُ، وَيُتَوَضَّأُ مِنْهُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ، (وَاحْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَبَاحَ لِلْعُرَنِيِّينَ شُرْبَ أَبْوَالِ إبِلِ الصَّدَقَةِ وَأَلْبَانِهَا» مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» وَقَوْلِهِ: «لَيْسَ فِي الرِّجْسِ شِفَاءٌ» فَثَبَتَ أَنَّهُ طَاهِرٌ (وَلَهُمَا) حَدِيثُ عَمَّارٍ «إنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا الْبَوْلَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَنْزِهُوا مِنْ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وقَوْله تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطِّبَاعَ السَّلِيمَةَ تَسْتَخْبِثُهُ، وَتَحْرِيمُ الشَّيْءِ - لَا لِاحْتِرَامِهِ وَكَرَامَتِهِ - تَنْجِيسٌ لَهُ شَرْعًا؛ وَلِأَنَّ مَعْنَى النَّجَاسَةِ فِيهِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الِاسْتِقْذَارُ الطَّبِيعِيُّ لِاسْتِحَالَتِهِ إلَى فَسَادٍ وَهِيَ الرَّائِحَةُ الْمُنْتِنَةُ، فَصَارَ كَرَوْثَةِ وَكَبَوْلِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ ذَكَرَ قَتَادَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِشُرْبِ أَلْبَانِهَا دُونَ أَبْوَالِهَا» فَلَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ، عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ شِفَاءَهُمْ فِيهِ، وَالِاسْتِشْفَاءُ بِالْحَرَامِ جَائِزٌ عِنْدَ التَّيَقُّنِ لِحُصُولِ الشِّفَاءِ فِيهِ، كَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ، وَالْخَمْرِ عِنْد الْعَطَشِ، وَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ وَإِنَّمَا لَا يُبَاحُ بِمَا لَا يُسْتَيْقَنُ حُصُولُ الشِّفَاءِ بِهِ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُبَاحُ شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي لِحَدِيثِ

الْعُرَنِيِّينَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُبَاحُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِشْفَاءَ بِالْحَرَامِ الَّذِي لَا يُتَيَقَّنُ حُصُولُ الشِّفَاءِ بِهِ حَرَامٌ، وَكَذَا بِمَا لَا يُعْقَلُ فِيهِ الشِّفَاءُ وَلَا شِفَاءَ فِيهِ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَ شِفَاءَ أُولَئِكَ فِيهِ عَلَى الْخُصُوصِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْأَرْوَاثُ فَكُلُّهَا نَجِسَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ زُفَرُ رَوْثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، (وَاحْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ أَنَّ الشُّبَّانَ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي مَنَازِلِهِمْ وَفِي السَّفَرِ كَانُوا يَتَرَامَوْنَ بِالْجِلَّةِ وَهِيَ الْبَعْرَةُ الْيَابِسَةُ، وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمَا مَسُّوهَا، وَعَلَّلَ مَالِكٌ بِأَنَّهُ وَقُودُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَسْتَعْمِلُونَهُ اسْتِعْمَالَ الْحَطَبِ. (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَبَ مِنْهُ أَحْجَارَ الِاسْتِنْجَاءِ، فَأُتِيَ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَمَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ: إنَّهَا رِكْسٌ» أَيْ نَجَسٌ؛ وَلِأَنَّ مَعْنَى النَّجَاسَةِ مَوْجُودٌ فِيهَا وَهُوَ الِاسْتِقْذَارُ فِي الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ؛ لِاسْتِحَالَتِهَا إلَى نَتِنٍ وَخُبْثِ رَائِحَةٍ مَعَ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ، فَكَانَتْ نَجِسَةً. (وَمِنْهَا) خُرْءُ بَعْضِ الطُّيُورِ مِنْ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الطُّيُورَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ لَا يَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ وَنَوْعٌ يَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ. (أَمَّا) مَا لَا يَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ كَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ فَخُرْؤُهُمَا نَجِسٌ؛ لِوُجُودِ مَعْنَى النَّجَاسَةِ فِيهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُسْتَقْذَرًا لِتَغَيُّرِهِ إلَى نَتْنٍ وَفَسَادِ رَائِحَةٍ فَأَشْبَهَ الْعَذِرَةَ، وَفِي الْإِوَزِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ، رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ نَجِسٌ، (وَمَا) يَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ نَوْعَانِ أَيْضًا: مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، كَالْحَمَامِ، وَالْعُصْفُورِ، وَالْعَقْعَقِ، وَنَحْوِهَا، وَخُرْؤُهَا طَاهِرٌ، عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ نَجِسٌ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الطَّبْعَ قَدْ أَحَالَهُ إلَى فَسَاد فَوُجِدَ مَعْنَى النَّجَاسَةِ، فَأَشْبَهَ الرَّوْثَ وَالْعَذِرَةَ. (وَلَنَا) إجْمَاعُ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُمْ اعْتَادُوا اقْتِنَاءَ الْحَمَامَاتِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسَاجِدِ الْجَامِعَةِ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهَا تَذْرِقُ فِيهَا، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ مَعَ الْأَمْرِ بِتَطْهِيرِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [البقرة: 125] وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ حَمَامَةً ذَرَقَتْ عَلَيْهِ فَمَسَحَهُ وَصَلَّى، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْعُصْفُورِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مُجَرَّدَ إحَالَةِ الطَّبْعِ لَا يَكْفِي لِلنَّجَاسَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَحِيلِ نَتْنٌ وَخُبْثُ رَائِحَةٍ تَسْتَخْبِثُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ، وَذَلِكَ مُنْعَدِمٌ هَهُنَا عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكَانَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ غَيْرَ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّهَا تَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا يُمْكِنُ صِيَانَةُ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي عَنْهُ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ لِلضَّرُورَةِ كَدَمِ الْبَقِّ وَالْبَرَاغِيثِ وَحَكَى مَالِكٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْإِجْمَاعَ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ فَلَئِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْإِجْمَاعُ مِنْ حَيْثُ الْقَوْلُ يَثْبُتُ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ وَهُوَ مَا بَيَّنَّا. وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالصَّقْرِ وَالْبَازِي وَالْحِدَأَةِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، خَرْؤُهَا طَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ وُجِدَ مَعْنَى النَّجَاسَةِ فِيهِ؛ لِإِحَالَةِ الطَّبْعِ إيَّاهُ إلَى خُبْثٍ وَنَتْنِ رَائِحَةٍ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمَأْكُولِ مِنْ الْبَهَائِمِ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إسْقَاطِ اعْتِبَارِ نَجَاسَتِهِ لِعَدَمِ الْمُخَالَطَةِ؛ لِأَنَّهَا تَسْكُنُ الْمُرُوجَ وَالْمَفَاوِزَ بِخِلَافِ الْحَمَامِ وَنَحْوِهِ، (وَلَهُمَا) أَنَّ الضَّرُورَةَ مُتَحَقِّقَةٌ لِأَنَّهَا تَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ فَيَتَعَذَّرُ صِيَانَةُ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي عَنْهَا، وَكَذَا الْمُخَالَطَةُ ثَابِتَةٌ بِخِلَافِ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَذْرِقَانِ فِي الْهَوَاءِ فَكَانَتْ الصِّيَانَةُ مُمْكِنَةً، وَخُرْءُ الْفَأْرَةِ نَجِسٌ؛ لِاسْتِحَالَتِهِ إلَى خُبْثٍ وَنَتْنِ رَائِحَةٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّوْبِ الَّذِي أَصَابَهُ بَوْلُهَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِ بَلْخٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ اُبْتُلِيتُ بِهِ لَغَسَلْتُهُ فَقِيلَ لَهُ: مَنْ لَمْ يَغْسِلْهُ وَصَلَّى فِيهِ؟ فَقَالَ: لَا آمُرُهُ بِالْإِعَادَةِ. وَبَوْلُ الْخَفَافِيشِ وَخُرْؤُهَا لَيْسَ بِنَجِسٍ؛ لِتَعَذُّرِ صِيَانَةِ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا تَبُولُ فِي الْهَوَاءِ وَهِيَ فَأْرَةٌ طَيَّارَةُ فَلِهَذَا تَبُولُ. (وَمِنْهَا) الْمَيْتَةُ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْمَيْتَاتِ أَنَّهَا نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا - مَا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ وَالثَّانِي مَا لَهُ دَمٌ سَائِلٌ. (أَمَّا) الَّذِي لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ: فَالذُّبَابُ وَالْعَقْرَبُ وَالزُّنْبُورُ وَالسَّرَطَانُ وَنَحْوُهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ نَجِسٌ، إلَّا الذُّبَابَ وَالزُّنْبُورَ فَلَهُ فِيهِمَا قَوْلَانِ، (وَاحْتَجَّ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وَالْحُرْمَةُ لَا لِلِاحْتِرَامِ - دَلِيلُ النَّجَاسَةِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَوْتُ كُلِّ حَيَوَانٍ لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ فِي الْمَاءِ لَا يُفْسِدُهُ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَامْقُلُوهُ، ثُمَّ اُنْقُلُوهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءٌ وَفِي الْآخَرِ دَوَاءٌ» وَهُوَ يُقَدِّمُ الدَّاءَ عَلَى الدَّوَاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ

الذُّبَابَ مَعَ ضَعْفِ بِنْيَتِهِ إذَا مَقَلَ فِي الطَّعَامِ الْحَارِّ يَمُوتُ، فَلَوْ أَوْجَبَ التَّنْجِيسُ لَكَانَ الْأَمْرُ بِالْمَقْلِ أَمْرًا بِإِفْسَادِ الْمَالِ وَإِضَاعَتِهِ، مَعَ نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَأَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ، وَحَاشَا أَنْ يَتَنَاقَضَ كَلَامُهُ، وَلِأَنَّا لَوْ حَكَمْنَا بِنَجَاسَتِهَا لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ صَوْنُ الْأَوَانِي عَنْهَا فَأَشْبَهَ مَوْتَ الدُّودَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ عَنْ الْخَلِّ فِيهِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَحَلَّ الضَّرُورَةِ وَالْحَرَجِ، مَعَ مَا أَنَّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ مَخْصُوصَانِ عَنْ النَّصِّ إذْ هُمَا مَيْتَتَانِ بِنَصِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُخَصِّصُ انْعِدَامُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ هَهُنَا مُنْعَدِمٌ. (وَأَمَّا) الَّذِي لَهُ دَمٌ سَائِلٌ فَلَا خِلَافَ فِي الْأَجْزَاءِ الَّتِي فِيهَا دَمٌ مِنْ اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ وَالْجِلْدِ وَنَحْوِهَا أَنَّهَا نَجِسَةٌ؛ لِاحْتِبَاسِ الدَّمِ النَّجِسِ فِيهَا، وَهُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ. (وَأَمَّا) الْأَجْزَاءُ الَّتِي لَا دَمَ فِيهَا فَإِنْ كَانَتْ صُلْبَةً كَالْقَرْنِ وَالْعَظْمِ وَالسِّنِّ وَالْحَافِرِ، وَالْخُفِّ وَالظِّلْفِ وَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ، وَالْعَصَبِ وَالْإِنْفَحَةِ الصُّلْبَةِ، فَلَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَيْتَاتُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وَالْحُرْمَةُ - لَا لِلِاحْتِرَامِ - دَلِيلُ النَّجَاسَةِ، وَلِأَصْحَابِنَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ بِمَيْتَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ مِنْ الْحَيَوَانِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا زَالَتْ حَيَاتُهُ لَا بِصُنْعِ أَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ، أَوْ بِصُنْعٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ وَلَا حَيَاةَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَا تَكُونُ مَيْتَةً، وَالثَّانِي - أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَاتِ لَيْسَتْ لِأَعْيَانِهَا بَلْ لِمَا فِيهَا مِنْ الدِّمَاءِ السَّائِلَةِ وَالرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ وَلَمْ تُوجَدْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَعَلَى هَذَا مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ مِنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ وَإِنْ كَانَ الْمُبَانُ جُزْءًا فِيهِ دَمٌ كَالْيَدِ وَالْأُذُنِ وَالْأَنْفِ وَنَحْوِهَا، فَهُوَ نَجِسٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَمٌ كَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالظُّفُرِ وَنَحْوِهَا، فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ. وَأَمَّا الْإِنْفَحَةُ الْمَائِعَةُ وَاللَّبَنُ فَطَاهِرَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ نَجِسَانِ، (لَهُمَا) أَنَّ اللَّبَنَ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ صَارَ نَجِسًا لِمُجَاوَرَةِ النَّجَسِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] . وَصَفَ اللَّبَنَ مُطْلَقًا بِالْخُلُوصِ وَالسُّيُوغِ مَعَ خُرُوجِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ، وَذَا آيَةُ الطَّهَارَةِ وَكَذَا الْآيَةُ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الِامْتِنَانِ وَالْمِنَّةِ فِي مَوْضِعِ النِّعْمَةِ تَدُلُّ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُخَالِطْهُ النَّجِسُ، إذْ لَا خُلُوصَ مَعَ النَّجَاسَةِ، ثُمَّ مَا ذَكَرنَا مِنْ الْحُكْمِ فِي أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ الَّتِي لَا دَمَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ الْآدَمِيِّ وَالْخِنْزِيرِ، فَأَمَّا حُكْمُهَا فِيهِمَا: فَأَمَّا الْآدَمِيُّ: فَعَنْ أَصْحَابِنَا فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ نَجِسَةٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَالصَّلَاةُ مَعَهَا إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَزْنًا أَوْ عَرَضًا عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ يُفْسِدُهُ وَفِي رِوَايَةٍ طَاهِرٌ وَهِيَ الصَّحِيحَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا دَمَ فِيهَا، وَالنَّجِسُ هُوَ الدَّمُ؛ وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً مِنْ الْكَلْبِ نَجِسَةً مِنْ الْآدَمِيِّ الْمُكَرَّمِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَيَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِهَا احْتِرَامًا لِلْآدَمِيِّ، كَمَا إذَا طُحِنَ سِنُّ الْآدَمِيِّ مَعَ الْحِنْطَةِ أَوْ عَظْمُهُ لَا يُبَاحُ تَنَاوُلُ الْخُبْزِ الْمُتَّخَذِ مِنْ دَقِيقِهَا لَا لِكَوْنِهِ نَجِسًا بَلْ تَعْظِيمًا لَهُ كَيْ لَا يَصِيرَ مُتَنَاوَلًا مِنْ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ كَذَا هَذَا. (وَأَمَّا) الْخِنْزِيرُ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ رِجْسًا فَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ شَعْرِهِ وَسَائِرِ أَجْزَائِهِ، إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ فِي شَعْرِهِ لِلْخَرَّازِينَ لِلضَّرُورَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ أَيْضًا نَصًّا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، وَلَوْ وَقَعَ شَعْرُهُ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ، رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُنَجِّسُ الْمَاءَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُنَجِّسُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الْمَاءِ كَشَعْرِ غَيْرِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ مِنْهُ طَاهِرَةٌ؛ لِانْعِدَامِ الدَّمِ فِيهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَجِسَةٌ؛ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْخِنْزِيرِ لَيْسَتْ لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّمِ وَالرُّطُوبَةِ بَلْ لَعَيْنِهِ. (وَأَمَّا) الْكَلْبُ فَالْكَلَامُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ أَمْ لَا وَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِيهِ فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَقَدْ أَلْحَقَهُ بِالْخَنَازِيرِ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ فَقَدْ جَعَلَهُ مِثْلَ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ سِوَى الْخِنْزِيرِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِمَا نَذْكُرُ. (وَمِنْهَا) سُؤْرُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْأَسْآرِ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ طَاهِرٌ مُتَّفَقٌ عَلَى طَهَارَتِهِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَنَوْعٌ مُخْتَلَفٌ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ، وَنَوْعٌ مَكْرُوهٌ، وَنَوْعٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ. (أَمَّا) السُّؤْرُ الطَّاهِرُ الْمُتَّفَقُ عَلَى طَهَارَتِهِ فَسُؤْرُ الْآدَمِيِّ بِكُلِّ حَالٍ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ مُشْرِكًا، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا حَائِضًا أَوْ جُنُبًا، إلَّا فِي حَالِ شُرْبِ الْخَمْرِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أُتِيَ بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ بَعْضَهُ وَنَاوَلَ الْبَاقِيَ أَعْرَابِيًّا كَانَ عَلَى

يَمِينِهِ فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَهُ أَبَا بَكْرٍ فَشَرِبَ» . وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «شَرِبَتْ مِنْ إنَاءٍ فِي حَالِ حَيْضِهَا فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَهُ عَلَى مَوْضِعِ فَمِهَا حُبًّا لَهَا فَشَرِبَ» ؛ وَلِأَنَّ سُؤْرَهُ مُتَحَلِّبٌ مِنْ لَحْمِهِ - وَلَحْمُهُ طَاهِرٌ - فَكَانَ سُؤْرُهُ طَاهِرًا إلَّا فِي حَالِ شُرْبِ الْخَمْرِ؛ لِنَجَاسَةِ فَمِهِ، وَقِيلَ: هَذَا إذَا شَرِبَ الْمَاءَ مِنْ سَاعَتِهِ، فَأَمَّا إذَا شَرِبَ الْمَاءَ بَعْدَ سَاعَةٍ مُعْتَبَرَةٍ ابْتَلَعَ بُزَاقَهُ فِيهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَكُونُ طَاهِرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - خِلَافًا لَهُمَا - بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا - إزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ عَنْ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ بِمَا سِوَى الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ وَالثَّانِيَةُ - إزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بِالْغَسْلِ فِي الْأَوَانِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَبُو يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى، وَمَعَ مُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، لَكِنْ اتَّفَقَ جَوَابُهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ الصَّبَّ شَرْطٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَلَمْ يُوجَدْ. وَالثَّانِي - أَنَّ مَا سِوَى الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ لَيْسَ بِطَهُورٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ كَرِهُوا سُؤْرَ الْمُشْرِكِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] وَعِنْدَنَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى نَجَاسَةِ خُبْثِ الِاعْتِقَادِ؛ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانُوا مُشْرِكِينَ» ، وَلَوْ كَانَ عَيْنُهُمْ نَجِسًا لَمَا فَعَلَ مَعَ أَمْرِهِ بِتَطْهِيرِ الْمَسْجِدِ، وَإِخْبَارِهِ عَنْ انْزِوَاءِ الْمَسْجِدِ مِنْ النُّخَامَةِ مَعَ طَهَارَتِهَا وَكَذَا سُؤْرُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الْأَنْعَامِ وَالطُّيُورِ إلَّا الْإِبِلَ الْجَلَّالَةَ وَالْبَقَرَةَ الْجَلَّالَةَ وَالدَّجَاجَةَ الْمُخَلَّاةَ؛ لِأَنَّ سُؤْرَهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ لَحْمِهِ، وَلَحْمُهُ طَاهِرٌ. وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ بِسُؤْرِ بَعِيرٍ أَوْ شَاةٍ» ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ سُؤْرُ الْإِبِلِ الْجَلَّالَةِ وَالْبَقَرَةِ الْجَلَّالَةِ وَالدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ؛ لِاحْتِمَالِ نَجَاسَةِ فَمِهَا وَمِنْقَارِهَا؛ لِأَنَّهَا تَأْكُلُ النَّجَاسَةَ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ مَحْبُوسَةً لَا يُكْرَهُ، (وَصِفَةُ) الدَّجَاجَةِ الْمَحْبُوسَةِ أَنْ لَا يَصِلَ مِنْقَارُهَا إلَى مَا تَحْتَ قَدَمَيْهَا فَإِنْ كَانَ يَصِلُ فَهِيَ مُخَلَّاةٌ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ بَحْثِ النَّجَاسَةِ قَائِمٌ. وَأَمَّا سُؤْرُ الْفَرَسِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ طَاهِرٌ؛ لِطَهَارَةِ لَحْمِهِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ: - كَمَا فِي لَحْمِهِ - فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ نَجِسٌ كَلَحْمِهِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ طَاهِرٌ كَلَحْمِهِ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ كَرَاهَةَ لَحْمِهِ لَا لِنَجَاسَتِهِ بَلْ لِتَقْلِيلِ إرْهَابِ الْعَدُوِّ، وَآلَةِ الْكَرِّ وَالْفَرِّ، وَذَلِكَ مُنْعَدِمٌ فِي السُّؤْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) السُّؤْرُ الْمُخْتَلَفُ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ فَهُوَ سُؤْرُ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ وَسَائِرِ سِبَاعِ الْوَحْشِ، فَإِنَّهُ نَجِسٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ: طَاهِرٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ سُؤْرُ السِّبَاعِ كُلِّهَا طَاهِرٌ سِوَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ. (أَمَّا) الْكَلَامُ مَعَ مَالِكٍ فَهُوَ يَحُجُّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] أَبَاحَ الِانْتِفَاعَ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ إلَّا بِالطَّاهِرِ، إلَّا أَنَّهُ حَرَّمَ أَكْلَ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ، وَحُرْمَةُ الْأَكْلِ لَا تَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ كَالْآدَمِيِّ، وَكَذَا الذُّبَابُ وَالْعَقْرَبُ وَالزُّنْبُورُ وَنَحْوُهَا طَاهِرَةٌ وَلَا يُبَاحُ أَكْلُهَا، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ مَعَ طَهَارَتِهِ تَعَبُّدًا، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَاغْسِلُوهُ ثَلَاثًا، وَفِي رِوَايَةٍ خَمْسًا، وَفِي رِوَايَةٍ سَبْعًا» وَالْأَمْرُ بِالْغَسْلِ لَمْ يَكُنْ تَعَبُّدًا، إذْ لَا قُرْبَةَ تَحْصُلُ بِغَسْلِ الْأَوَانِي؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْصِدْ صَبَّ الْمَاءِ فِيهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَلْزَمُهُ الْغَسْلُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لِنَجَاسَتِهِ؛ وَلِأَنَّ سُؤْرَ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ مُتَحَلِّبٌ مِنْ لُحُومِهَا، وَلُحُومُهَا نَجِسَةٌ وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْ سُؤْرِهَا وَصِيَانَةِ الْأَوَانِي عَنْهَا؛ فَيَكُونُ نَجِسًا ضَرُورَةً. (وَأَمَّا) الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَهُوَ يَحْتَجُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ فَقِيلَ: أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتْ الْحُمُرُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَبِمَا أَفْضَلَتْ السِّبَاعُ كُلُّهَا» وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الْمِيَاهِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَمَا يَرِدُهَا مِنْ السِّبَاعِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَنَا شَرَابٌ وَطَهُورٌ» وَهَذَا نَصٌّ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُمَا وَرَدَا حَوْضًا فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِصَاحِبِ الْحَوْضِ: أَتَرِدُ السِّبَاعُ حَوْضَكُمْ؟ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ لَا تُخْبِرُنَا وَلَوْ لَمْ يَتَنَجَّسْ الْمَاءُ الْقَلِيلُ بِشُرْبِهَا مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لِلسُّؤَالِ وَلَا لِلنَّهْيِ مَعْنًى؛ وَلِأَنَّ هَذَا حَيَوَانٌ غَيْرُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَيُمْكِنُ صَوْنُ الْأَوَانِي عَنْهَا، وَيَخْتَلِطُ بِشُرْبِهَا لُعَابُهَا بِالْمَاءِ، وَلُعَابُهَا نَجِسٌ؛ لِتَحَلُّبِهِ مِنْ لَحْمِهَا وَهُوَ نَجِسٌ، فَكَانَ سُؤْرُهَا نَجِسًا كَسُؤْرِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ بِخِلَافِ الْهِرَّةِ، لِأَنَّ صِيَانَةَ الْأَوَانِي عَنْهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ لَحْمِ السِّبَاعِ، أَوْ السُّؤَالُ وَقَعَ عَنْ الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ وَبِهِ نَقُولُ: إنَّ مِثْلَهَا لَا يَنْجَسُ. (وَأَمَّا) السُّؤْرُ الْمَكْرُوهُ فَهُوَ سُؤْرُ سِبَاعِ الطَّيْرِ، كَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَالْحِدَأَةِ وَنَحْوِهَا

اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا اعْتِبَارًا بِلَحْمِهَا كَسُؤْرِ سِبَاعِ الْوَحْشِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهَا تَشْرَبُ بِمِنْقَارِهَا - وَهُوَ عَظْمٌ جَافٌّ فَلَمْ يَخْتَلِطْ لُعَابُهَا بِسُؤْرِهَا بِخِلَافِ سُؤْرِ سِبَاعِ الْوَحْشِ؛ وَلِأَنَّ صِيَانَةَ الْأَوَانِي عَنْهَا مُتَعَذِّرَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَنْقَضُّ مِنْ الْهَوَاءِ فَتَشْرَبُ بِخِلَافِ سِبَاعِ الْوَحْشِ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْجِيَفَ وَالْمَيْتَاتِ فَكَانَ مِنْقَارُهَا فِي مَعْنَى مِنْقَارِ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ، (وَكَذَا) سُؤْرُ سَوَاكِنِ الْبُيُوتِ كَالْفَأْرَةِ وَالْحَيَّةِ وَالْوَزَغَةِ وَالْعَقْرَبِ وَنَحْوِهَا، (وَكَذَا) سُؤْرُ الْهِرَّةِ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِغَيْرِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَرَاهَةَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ، (وَاحْتَجَّا) بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصْغِي لَهَا الْإِنَاءَ فَتَشْرَبَ مِنْهُ، ثُمَّ يَشْرَبُ وَيَتَوَضَّأُ بِهِ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْهِرَّةُ سَبُعٌ» وَهَذَا بَيَانُ حُكْمِهَا. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ ثَلَاثًا، وَمِنْ وُلُوغِ الْهِرَّةِ مَرَّةً» وَالْمَعْنَى فِي كَرَاهَتِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَهُوَ أَنَّ الْهِرَّةَ نَجِسَةٌ لِنَجَاسَةِ لَحْمِهَا، لَكِنْ سَقَطَتْ نَجَاسَةُ سُؤْرِهَا؛ لِضَرُورَةِ الطَّوَافِ فَبَقِيَتْ الْكَرَاهَةُ لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَهُوَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَى عَنْهَا النَّجَاسَةَ بِقَوْلِهِ: «الْهِرَّةُ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ» وَلَكِنَّ الْكَرَاهَةَ لِتَوَهُّمِ أَخْذِهَا الْفَأْرَةَ فَصَارَ فَمُهَا كَيَدِ الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ نَوْمِهِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ السِّبَاعِ، ثُمَّ نُسِخَ عَلَى مَذْهَبِ الطَّحَاوِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّ تِلْكَ الْهِرَّةَ لَمْ يَكُنْ عَلَى فَمِهَا نَجَاسَةٌ - عَلَى مَذْهَبِ الْكَرْخِيِّ - أَوْ يُحْمَلُ فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، وَعَلَى هَذَا تَنَاوُلُ بَقِيَّةِ طَعَامٍ أَكَلَتْهُ وَتَرَكَهَا لِتَلْحَسَ الْقِدْرَ إنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى تَعْلِيمِ الْجَوَازِ وَلَوْ أَكَلَتْ الْفَأْرَةَ، ثُمَّ شَرِبَتْ الْمَاءَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ شَرِبَتْهُ عَلَى الْفَوْرِ تَنَجَّسَ الْمَاءُ وَإِنْ مَكَثَتْ، ثُمَّ شَرِبَتْ لَا يَتَنَجَّسُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَتَنَجَّسُ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلَيْنِ فِي سُؤْرِ شَارِبِ الْخَمْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) السُّؤْرُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ فَهُوَ سُؤْرُ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ فِي جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى الْكَرْخِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ سُؤْرَهُمَا نَجِسٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ظَاهِرُ وَجْهِ قَوْلِهِ أَنَّ عَرَقَهُ طَاهِرٌ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ مُعْرَوْرِيًا وَالْحَرُّ حَرُّ الْحِجَازِ فَقَلَّمَا يَسْلَمُ الثَّوْبُ مِنْ عَرَقِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ» فَإِذَا كَانَ الْعَرَقُ طَاهِرًا فَالسُّؤْرُ أَوْلَى وَجْهُ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي سُؤْرِهِ النَّجَاسَةُ؛ لِأَنَّ سُؤْرَهُ لَا يَخْلُو عَنْ لُعَابِهِ، وَلُعَابُهُ مُتَحَلِّبٌ مِنْ لَحْمِهِ، وَلَحْمُهُ نَجِسٌ، فَلَوْ سَقَطَ اعْتِبَارُ نَجَاسَتِهِ إنَّمَا يَسْقُطُ لِضَرُورَةِ الْمُخَالَطَةِ، وَالضَّرُورَةُ مُتَعَارِضَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُخَالِطَةِ كَالْهِرَّةِ وَلَا فِي الْمُجَانِبَةِ كَالْكَلْبِ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي سُقُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْآثَارَ تَعَارَضَتْ فِي طَهَارَةِ سُؤْرِهِ وَنَجَاسَتِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْحِمَارُ يَعْتَلِفُ الْقَتَّ وَالتِّبْنَ فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّهُ رِجْسٌ وَكَذَا تَعَارَضَتْ الْأَخْبَارُ فِي أَكْلِ لَحْمِهِ وَلَبَنِهِ، رُوِيَ فِي بَعْضِهَا النَّهْيُ، وَفِي بَعْضِهَا الْإِطْلَاقُ، وَكَذَا اعْتِبَارُ عَرَقِهِ يُوجِبُ طَهَارَةَ سُؤْرِهِ، وَاعْتِبَارُ لَحْمِهِ وَلَبَنِهِ يُوجِبُ نَجَاسَتَهُ، وَكَذَا تَحَقَّقَ أَصْلُ الضَّرُورَةِ لِدَوَرَانِهِ فِي صَحْنِ الدَّارِ وَشُرْبُهُ فِي الْإِنَاءِ يُوجِبُ طَهَارَتَهُ، وَتَقَاعُدُهَا عَنْ ضَرُورَةِ الْهِرَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَعْلُو الْغُرَفَ وَلَا يَدْخُلُ - الْمَضَايِقَ - يُوجِبُ نَجَاسَتَهُ، وَالتَّوَقُّفُ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ، فَلِذَلِكَ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ فَأَوْجَبْنَا الْجَمْعَ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ التَّوَضُّؤِ بِهِ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ التَّوَضُّؤَ بِهِ لَوْ جَازَ لَا يَضُرُّهُ التَّيَمُّمُ، وَلَوْ لَمْ يَجُزْ التَّوَضُّؤُ بِهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ بِالتَّيَمُّمِ، فَلَا يَحْصُلُ الْجَوَازُ بِيَقِينٍ إلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَأَيُّهُمَا قُدِّمَ جَازَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ، حَتَّى يُقَدَّمَ الْوُضُوءُ عَلَى التَّيَمُّمِ لِيَصِيرَ عَادِمًا لِلْمَاءِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إنْ كَانَ طَاهِرًا فَقَدْ تَوَضَّأَ بِهِ قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ وَقَدْ أَتَى بِهِ فَإِنْ قِيلَ: فِي هَذَا تَرْكُ الِاحْتِيَاطِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ نَجِسًا تَتَنَجَّسُ بِهِ أَعْضَاؤُهُ وَثِيَابُهُ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْحَدَثَ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا تَحْصُلُ الطَّهَارَةُ بِالشَّكِّ، وَالْعُضْوُ وَالثَّوْبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِالشَّكِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الشَّكُّ فِي طَهُورِيَّتِهِ، ثُمَّ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ جَعَلَ هَذَا الْجَوَابَ فِي سُؤْرِ الْأَتَانِ، وَقَالَ فِي سُؤْرِ الْفَحْلِ: إنَّهُ نَجِسٌ، لِأَنَّهُ يَشُمُّ الْبَوْلَ فَتَتَنَجَّسُ شَفَتَاهُ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ

أَمْرٌ مَوْهُومٌ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي إزَالَةِ الثَّابِتِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ جَعَلَ الْأَسْآرَ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ، أَرْبَعَةٌ مِنْهَا مَا ذَكَرْنَا وَجُعِلَ الْخَامِسُ مِنْهَا السُّؤْرَ النَّجِسَ الْمُتَّفَقَ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَهُوَ سُؤْرُ الْخِنْزِيرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْخِنْزِيرِ خِلَافَ مَالِكٍ كَمَا فِي الْكَلْبِ فَانْحَصَرَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى أَرْبَعَةٍ. (وَمِنْهَا) الْخَمْرُ وَالسَّكْرُ أَمَّا الْخَمْرُ؛ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ رِجْسًا فِي آيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَقَالَ: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] وَالرِّجْسُ: هُوَ النَّجِسُ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَرَامٌ وَالْحُرْمَةُ - لَا لِلِاحْتِرَامِ - دَلِيلُ النَّجَاسَةِ. (وَمِنْهَا) غُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّ غُسَالَةَ النَّجَاسَةِ نَوْعَانِ: غُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَغُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَهِيَ الْحَدَثُ أَمَّا غُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَهِيَ مَا إذَا غُسِلَتْ النَّجَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَالْمِيَاهُ الثَّلَاثُ نَجِسَةٌ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهَا إذْ لَا يَخْلُو كُلُّ مَاءٍ عَنْ نَجَاسَةٍ فَأَوْجَبَ تَنْجِيسَهَا وَحُكْمُ الْمِيَاهِ الثَّلَاثِ فِي حَقِّ الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ التَّوَضُّؤِ بِهَا، وَالْمَنْعُ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِالثَّوْبِ الَّذِي أَصَابَتْهُ سَوَاءٌ لَا يَخْتَلِفُ وَأَمَّا فِي حَقِّ تَطْهِيرِ الْمَحَلِّ الَّذِي أَصَابَتْهُ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُهَا، حَتَّى قَالَ مَشَايِخُنَا: إنَّ الْمَاءَ الْأَوَّلَ إذَا أَصَابَ ثَوْبًا لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْعَصْرِ، وَالْغَسْلِ مَرَّتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَالْمَاءُ الثَّانِي يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ مَرَّةً بَعْدَ الْعَصْرِ، وَالْمَاءُ الثَّالِثُ يَطْهُرُ بِالْعَصْرِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ كُلِّ مَاءٍ حِينَ كَانَ فِي الثَّوْبِ الْأَوَّلِ كَانَ هَكَذَا، فَكَذَا فِي الثَّوْبِ الَّذِي أَصَابَهُ، وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ بِالدَّلْوِ الْمَنْزُوحِ مِنْ الْبِئْرِ النَّجِسَةِ إذَا صُبَّ فِي بِئْرٍ طَاهِرَةٍ أَنَّ الثَّانِيَةَ تَطْهُرُ بِمَا تَطْهُرُ بِهِ الْأُولَى كَذَا هَذَا، وَهَلْ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْغُسَالَةِ فِيمَا سِوَى الشُّرْبِ وَالتَّطْهِيرِ مِنْ بَلِّ الطِّينِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَغَيَّرَ طَعْمُهَا أَوْ لَوْنُهَا أَوْ رِيحُهَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَغَيَّرَ دَلَّ أَنَّ النَّجَسَ غَالِبٌ فَالْتَحَقَ بِالْبَوْلِ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَغَيَّرْ دَلَّ أَنَّ النَّجَسَ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الطَّاهِرِ، وَالِانْتِفَاعُ بِمَا لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ مُبَاحٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَلَى هَذَا إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ فَمَاتَتْ فِيهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ جَامِدًا تُلْقَى الْفَأْرَةُ وَمَا حَوْلَهَا وَيُؤْكَلُ الْبَاقِي، وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا لَا يُؤْكَلُ وَلَكِنْ يُسْتَصْبَحُ بِهِ وَيُدْبَغُ بِهِ الْجِلْدُ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَيَنْبَغِي لِلْبَائِعِ أَنْ يُبَيِّنَ عَيْبَهُ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ وَبَاعَهُ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّهُ وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهِ. (وَاحْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوا الْبَاقِيَ، وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا فَأَرِيقُوهُ» وَلَوْ جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ لَمَا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهِ وَلِأَنَّهُ نَجِسٌ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَلَا بَيْعُهُ كَالْخَمْرِ،. (وَلَنَا) مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: تُلْقَى الْفَأْرَةُ وَمَا حَوْلَهَا وَيُؤْكَلُ الْبَاقِي، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ السَّمْنُ ذَائِبًا؟ فَقَالَ: لَا تَأْكُلُوا وَلَكِنْ انْتَفِعُوا بِهِ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ؛ وَلِأَنَّهَا فِي الْجَامِدِ لَا تُجَاوِرُ إلَّا مَا حَوْلَهَا وَفِي الذَّائِبِ تُجَاوِرُ الْكُلَّ، فَصَارَ الْكُلُّ نَجِسًا، وَأَكْلُ النَّجِسِ لَا يَجُوزُ فَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِمَا لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ فَمُبَاحٌ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ وَأَمْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِلْقَاءِ مَا حَوْلَهَا فِي الْجَامِدِ، وَإِرَاقَةُ الذَّائِبِ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى لِبَيَانِ حُرْمَةِ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الِانْتِفَاعِ بِالسَّمْنِ هُوَ الْأَكْلُ وَالْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْجَامِدِ وَالذَّائِبِ: أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ لِوُقُورِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَا يَسْتَوِي مِنْ سَاعَتِهِ، فَهُوَ جَامِدٌ، وَإِنْ كَانَ يَسْتَوِي مِنْ سَاعَتِهِ فَهُوَ ذَائِبٌ، وَإِذَا دُبِغَ بِهِ الْجِلْدُ يُؤْمَرُ بِالْغَسْلِ، ثُمَّ إنْ كَانَ يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ يُغْسَلُ وَيُعْصَرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْعَصِرُ لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَبَدًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُغْسَلُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ نَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) غُسَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَهِيَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فَالْكَلَامُ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا - فِي صِفَتِهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ؟ وَالثَّانِي - فِي أَنَّهُ فِي أَيِّ حَالٍ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؟ وَالثَّالِثُ - فِي أَنَّهُ بِأَيِّ سَبَبٍ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؟ (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي ظَاهِر الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ؟ وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ أَظْهَرُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْهُ أَنَّهُ نَجِسٌ، غَيْرَ أَنَّ الْحَسَنَ رَوَى عَنْهُ أَنَّهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً يُقَدَّرُ فِيهِ بِالدِّرْهَمِ وَبِهِ أَخَذَ وَأَبُو يُوسُفَ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً يُقَدَّرُ فِيهِ بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ وَبِهِ أَخَذَ وَقَالَ زُفَرُ: إنْ كَانَ الْمُسْتَعْمِلُ مُتَوَضِّئًا فَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ طَاهِرٌ وَطَهُورٌ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَهُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ وَهُوَ أَحَدُ أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ، وَفِي

قَوْلٍ لَهُ أَنَّهُ طَاهِرٌ وَطَهُورٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، ثُمَّ مَشَايِخُ بَلْخٍ حَقَّقُوا الْخِلَافَ فَقَالُوا: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ نَجِسٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ، وَمَشَايِخُ الْعِرَاقِ لَمْ يُحَقَّقُوا الْخِلَافَ فَقَالُوا: إنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، حَتَّى رُوِيَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي حَازِمٍ الْعِرَاقِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّا نَرْجُو أَنْ لَا تَثْبُتَ رِوَايَةُ نَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ طَهُورٌ؛ وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ» وَلَمْ يُوجَدْ التَّغَيُّرُ بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مَاءٌ طَاهِرٌ لَاقَى عُضْوًا طَاهِرًا فَلَا يَصِيرُ نَجِسًا كَالْمَاءِ الطَّاهِرِ إذَا غُسِلَ بِهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَاقَى مَحَلًّا طَاهِرًا أَنَّ أَعْضَاءَ الْمُحْدِثِ طَاهِرَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، أَمَّا الْحَقِيقَةُ؛ فَلِانْعِدَامِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ حِسًّا وَمُشَاهَدَةً. وَأَمَّا الْحُكْمُ؛ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَمُرُّ فِي بَعْضِ سِكَكِ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَقْبَلَهُ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، فَارَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَافِحَهُ فَامْتَنَعَ وَقَالَ: إنِّي جُنُبٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجَسُ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ، فَقَالَتْ: إنِّي حَائِضٌ، فَقَالَ: لَيْسَتْ حَيْضَتُكِ فِي يَدِكِ؛» وَلِهَذَا جَازَ صَلَاةُ حَامِلِ الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ، وَحَامِلُ النَّجَاسَةِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَكَذَلِكَ عَرَقُهُ طَاهِرٌ وَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ وَإِذَا كَانَتْ أَعْضَاءُ الْمُحْدِثِ طَاهِرَةً كَانَ الْمَاءُ الَّذِي لَاقَاهَا طَاهِرًا ضَرُورَةً لِأَنَّ الطَّاهِرَ لَا يَتَغَيَّرُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ إلَّا بِانْتِقَالِ شَيْءٍ مِنْ النَّجَاسَةِ إلَيْهِ، وَلَا نَجَاسَةَ فِي الْمَحَلِّ عَلَى مَا مَرَّ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الِانْتِقَالُ فَبَقِيَ طَاهِرًا، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ مُحَمَّدٌ لِإِثْبَاتِ الطَّهَارَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ؛ لِأَنَّا تَعَبَّدْنَا بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ شَرْعًا غَيْرَ مَعْقُولِ التَّطْهِيرِ؛ لِأَنَّ تَطْهِيرَ الطَّاهِرِ مُحَالٌ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ الَّذِي لَا يَقُومُ بِهِ خَبَثٌ، وَلَا مَعْنَى يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَقَدْ قَامَ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ أَحَدُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ؛ فَلِأَنَّهُ أُقِيمَ بِهِ قُرْبَةٌ إذَا تَوَضَّأَ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ عِنْدَهُ وَقَدْ ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ أَنَّ الْوُضُوءَ سَبَبٌ لِإِزَالَةِ الْآثَامِ عَنْ الْمُتَوَضِّئِ لِلصَّلَاةِ، فَيَنْتَقِلُ ذَلِكَ إلَى الْمَاءِ، فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ نَوْعُ خُبْثٍ كَالْمَالِ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهِ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ الصَّدَقَةُ غُسَالَةَ النَّاسِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ؛ فَلِأَنَّهُ قَامَ بِهِ مَعْنًى مَانِعٌ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْحَدَثُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ عِنْدَهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ. وَقَدْ انْتَقَلَ الْحَدَثُ مِنْ الْبَدَنِ إلَى الْمَاءِ، ثُمَّ الْخُبْثُ وَالْحَدَثُ وَإِنْ كَانَا مِنْ صِفَاتِ الْمَحَلِّ، وَالصِّفَاتُ لَا تَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ لَكِنْ أُلْحِقَ ذَلِكَ بِالْعَيْنِ النَّجِسَةِ الْقَائِمَةِ بِالْمَحَلِّ حُكْمًا وَالْأَعْيَانُ الْحَقِيقِيَّةُ قَابِلَةٌ لِلِانْتِقَالِ فَكَذَا مَا هُوَ مُلْحَقٌ بِهَا شَرْعًا، وَإِذَا قَامَ بِهَذَا الْمَاءِ أَحَدُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ لَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، فَيَقْتَصِرُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ مَا لَا يُعْقَلُ مِنْ الْأَحْكَامِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ إلَّا إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَمْ يُوجَدْ أَوْجُهٌ رِوَايَةِ النَّجَاسَةِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلَنَّ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ» حَرُمَ الِاغْتِسَالُ فِي الْمَاءِ الْقَلِيل؛ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ الِاغْتِسَالَ فِي الْمَاءِ الْكَثِير لَيْسَ بِحَرَامٍ، فَلَوْلَا أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ يَنْجَسُ بِالِاغْتِسَالِ بِنَجَاسَةِ الْغُسَالَةِ لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ مَعْنًى، لِأَنَّ إلْقَاءَ الطَّاهِرِ فِي الطَّاهِرِ لَيْسَ بِحَرَامٍ، أَمَّا تَنْجِيسُ الطَّاهِرِ فَحَرَامٌ فَكَانَ هَذَا نَهْيًا عَنْ تَنْجِيسِ الْمَاءِ الطَّاهِرِ بِالِاغْتِسَالِ، وَذَا يَقْتَضِي التَّنْجِيسَ بِهِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَهْيٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إخْرَاجِ الْمَاءِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطَهِّرًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَذَلِكَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَاءُ الْقَلِيلُ إنَّمَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُطَهِّرًا بِاخْتِلَاطِ غَيْرِ الْمُطَهَّرِ بِهِ إذَا كَانَ الْغَيْرُ غَالِبًا عَلَيْهِ، كَمَاءِ الْوَرْدِ وَاللَّبَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مَغْلُوبًا فَلَا. وَهَهُنَا الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ مَا يُلَاقِي الْبَدَنَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَعْمَلِ فَكَيْفَ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطَهِّرًا؟ فَأَمَّا مُلَاقَاةُ النَّجَسِ الطَّاهِرِ فَتُوجِبُ تَنْجِيسَ الطَّاهِرِ؛ وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الطَّاهِرِ لِاخْتِلَاطِهِ بِالطَّاهِرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا فَيُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ الْكُلِّ، فَثَبَتَ أَنَّ النَّهْيَ لِمَا قُلْنَا وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَهْيٌ؛ لِأَنَّ أَعْضَاءَ الْجُنُبِ لَا تَخْلُوَ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَذَا يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْحَدِيثُ مُطْلَقٌ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِهِ؛ وَلِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الِاغْتِسَالِ يَنْصَرِفُ إلَى الِاغْتِسَالِ الْمَسْنُونِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَسْنُونُ مِنْهُ هُوَ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ عَنْ الْبَدَنِ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ، عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي عَلَى الْبَدَنِ اُسْتُفِيدَ بِالنَّهْيِ عَنْ الْبَوْلِ فِيهِ

فَوَجَبَ حَمْلُ النَّهْيِ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ - عَلَى مَا ذَكَرْنَا - صِيَانَةً لِكَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ عَنْ الْإِعَادَةِ الْخَالِيَةِ عَنْ الْإِفَادَة؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا تَسْتَخْبِثُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ فَكَانَ مُحَرَّمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَالْحُرْمَةُ - لَا لِلِاحْتِرَامِ - دَلِيلُ النَّجَاسَةِ؛ وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي السَّفَرِ وَمَعَهُ مَاءٌ يَكْفِيهِ لِوُضُوئِهِ وَهُوَ بِحَالٍ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْعَطَشَ يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ. وَلَوْ بَقِيَ الْمَاءُ طَاهِرًا بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ لَمَا أُبِيحَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيَأْخُذَ الْغُسَالَةَ فِي إنَاءٍ نَظِيفٍ وَيُمْسِكُهَا لِلشُّرْبِ، وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْمُحْدِثِ خَاصَّةً وَالثَّانِي: يَعُمُّ الْفَصْلَيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ الْحَدَثَ هُوَ خُرُوجُ شَيْءٍ نَجِسٍ مِنْ الْبَدَنِ وَبِهِ يَتَنَجَّسُ بَعْضُ الْبَدَنِ حَقِيقَةً فَيَتَنَجَّسُ الْبَاقِي تَقْدِيرًا؛ وَلِهَذَا أُمِرْنَا بِالْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ؛ وَسُمِّيَ تَطْهِيرًا، وَتَطْهِيرُ الطَّاهِرِ لَا يُعْقَلُ، فَدَلَّ تَسْمِيَتُهَا تَطْهِيرًا عَلَى النَّجَاسَةِ تَقْدِيرًا؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ، وَلَوْلَا النَّجَاسَةُ الْمَانِعَةُ مِنْ التَّعْظِيمِ لَجَازَتْ، فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى أَعْضَاءِ الْمُحْدِثِ نَجَاسَةً تَقْدِيرِيَّةً، فَإِذَا تَوَضَّأَ انْتَقَلَتْ تِلْكَ النَّجَاسَةُ إلَى الْمَاءِ فَيَصِيرُ الْمَاءُ نَجِسًا تَقْدِيرًا وَحُكْمًا، وَالنَّجَسُ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا وَقَدْ يَكُونُ حُكْمِيًّا كَالْخَمْرِ وَالثَّانِي - مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُزِيلُ نَجَاسَةَ الْآثَامِ وَخُبْثِهَا فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ خُبْثِ الْخَمْرِ إذَا أَصَابَ الْمَاءَ يُنَجِّسُهُ كَذَا هَذَا، ثُمَّ إنَّ أَبَا يُوسُفَ جَعَلَ نَجَاسَتَهُ خَفِيفَةً؛ لِعُمُومِ الْبَلْوَى فِيهِ؛ لِتَعَذُّرِ صِيَانَةِ الثِّيَابِ عَنْهُ وَلِكَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ خِفَّةً فِي حُكْمِهِ وَالْحَسَنُ جَعَلَ نَجَاسَتَهُ غَلِيظَةً؛ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ حُكْمِيَّةٌ؛ وَأَنَّهَا أَغْلَظُ مِنْ الْحَقِيقَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عُفِيَ عَنْ الْقَلِيلِ مِنْ الْحَقِيقِيَّةِ دُونَ الْحُكْمِيَّةِ بِأَنْ بَقِيَ عَلَى جَسَدِهِ لَمْعَةٌ يَسِيرَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي أَنَّ التَّوَضُّؤَ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا بَأْسَ بِهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَذَرٌ، فَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّهُ نَجِسٌ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَعَلَى رِوَايَةِ النَّجَاسَةِ لَا يُشْكِلُ. وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الطَّهَارَةِ؛ فَلِأَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ طَبْعًا فَيَجِبُ تَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عَنْهُ كَمَا يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْ الْمُخَاطِ وَالْبَلْغَمِ، وَلَوْ اخْتَلَطَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ بِالْمَاءِ الْقَلِيلِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ وَإِنْ قَلَّ وَهَذَا فَاسِدٌ، أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّهُ طَاهِرٌ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ فَلَا يُغَيِّرُهُ عَنْ صِفَةِ الطَّهُورِيَّةِ كَاللَّبَنِ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْقَلِيلَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ يُجْعَلُ عَفْوًا؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ سُئِلَ عَنْ الْقَلِيلِ مِنْهُ: لَا بَأْسَ بِهِ وَسُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ الْقَلِيلِ فَقَالَ: وَمَنْ يَمْلِكُ نَشْرَ الْمَاءِ؟ وَهُوَ مَا تَطَايَرَ مِنْهُ عِنْدَ الْوُضُوءِ وَانْتَشَرَ أَشَارَ إلَى تَعَذُّرِ التَّحَرُّزِ عَنْ الْقَلِيلِ، فَكَانَ الْقَلِيلُ عَفْوًا، وَلَا تَعَذُّرَ فِي الْكَثِيرِ فَلَا يَكُونُ عَفْوًا، ثُمَّ الْكَثِيرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ مَا يَغْلِبُ عَلَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَعِنْدَهُمَا أَنْ يَتَبَيَّنَ مَوَاقِعَ الْقَطْرَةِ فِي الْإِنَاءِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ حَالِ الِاسْتِعْمَالِ وَتَفْسِيرُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ: مَا زَايَلَ الْبَدَنَ وَاسْتَقَرَّ فِي مَكَان وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى: أَنَّ الْمَاءَ إذَا زَالَ عَنْ الْبَدَنِ لَا يَنْجَسُ مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ فِي الْإِنَاءِ، وَهَذَا مَذْهَبُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فَأَمَّا عِنْدَنَا فَمَا دَامَ عَلَى الْعُضْوِ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ فِيهِ لَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا، وَإِذَا زَايَلَهُ صَارَ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ فِي الْإِنَاءِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا مَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ أَخَذَهُ مِنْ لِحْيَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ فِي الْإِنَاءِ، وَذَكَرَ فِي بَابِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَنَّ مَنْ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَبَقِيَ فِي كَفِّهِ بَلَلٌ فَمَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ لَا يُجْزِيهِ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ هَذَا مَاءٌ قَدْ مَسَحَ بِهِ مَرَّةً أَشَارَ إلَى صَيْرُورَتِهِ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ فِي الْإِنَاءِ، وَقَالُوا فِيمَنْ تَوَضَّأَ وَبَقِيَ عَلَى رِجْلِهِ لَمْعَةٌ فَغَسَلَهَا بِبَلَلٍ أَخَذَهُ مِنْ عُضْوٍ آخَرَ: لَا يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الِاسْتِقْرَارُ عَلَى الْمَكَانِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ مَا قُلْنَا. (أَمَّا) سُفْيَانُ فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِمَسَائِلَ زَعَمَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ (مِنْهَا) : إذَا تَوَضَّأَ أَوْ اغْتَسَلَ وَبَقِيَ عَلَى يَدِهِ لَمْعَةٌ فَأَخَذَ الْبَلَلَ مِنْهَا فِي الْوُضُوءِ أَوْ مِنْ أَيِّ عُضْوٍ كَانَ فِي الْغُسْلِ وَغَسَلَ اللَّمْعَةَ يَجُوزُ. (وَمِنْهَا) : إذَا تَوَضَّأَ وَبَقِيَ فِي كَفِّهِ بَلَلٌ فَمَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ يَجُوزُ، وَإِنْ زَايَلَ الْعُضْوَ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ فِيهِ لِعَدَمِ الِاسْتِقْرَارِ فِي مَكَان. (وَمِنْهَا) : إذَا مَسَحَ أَعْضَاءَهُ بِالْمِنْدِيلِ وَابْتَلَّ، حَتَّى صَارَ كَثِيرًا فَاحِشًا أَوْ تَقَاطَرَ الْمَاءُ عَلَى ثَوْبٍ مِقْدَارَ الْكَثِيرِ الْفَاحِشِ جَازَتْ الصَّلَاةُ مَعَهُ وَلَوْ أُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ عِنْدَ الْمُزَايَلَةِ لَمَا جَازَتْ. (وَلَنَا) أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَصِيرَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِنَفْسِ الْمُلَاقَاةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ صَيْرُورَتِهِ مُسْتَعْمَلًا وَهُوَ إزَالَةُ الْحَدَثِ أَوْ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ. وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْعُضْوِ جُزْءٌ مِنْ الْمَاءِ، إلَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ حَرَجًا، فَالشَّرْعُ أَسْقَطَ

اعْتِبَارَ حَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةً أَوْ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ حُكْمًا، كَمَا فِي الْجَنَابَةِ ضَرُورَةَ دَفْعِ الْحَرَجِ، فَإِذَا زَايَلَ الْعُضْوَ زَالَتْ الضَّرُورَةُ فَيَظْهَرُ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ بِقَضِيَّةِ الْقِيَاسِ. وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى (وَأَمَّا) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَقَدْ ذَكَرَ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ أَنَّهَا عَلَى التَّفْصِيلِ: إنْ لَمْ يَكُنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ يَجُوزُ، أَمَّا إذَا كَانَ اسْتَعْمَلَهُ لَا يَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي الْمَغْسُولَاتِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْغُسْلِ إنَّمَا تَأَدَّى بِمَاءٍ جَرَى عَلَى عُضْوِهِ لَا بِالْبِلَّةِ الْبَاقِيَةِ، فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْبِلَّةُ مُسْتَعْمَلَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَعْمَلَهُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ حَيْثُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْحِ يَتَأَدَّى بِالْبِلَّةِ وَتَفْصِيلُ الْحَاكِم مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا، وَمَا مُسِحَ بِالْمِنْدِيلِ أَوْ تَقَاطَرَ عَلَى الثَّوْبِ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ نَجِسًا لَكِنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِ نَجَاسَتِهِ هَهُنَا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ سَبَبِ صَيْرُورَةِ الْمَاءِ مُسْتَعْمَلًا، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْمَاءُ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ، أَوْ بِإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إلَّا بِإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إلَّا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ نَصًّا لَكِنَّ مَسَائِلَهُمْ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ زَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ الصَّلَاةِ إلَى الْمَاءِ وَاسْتِخْبَاثِ الطَّبِيعَةِ إيَّاهُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا إذَا عَرَفْنَا هَذَا، فَنَقُولُ: إذَا تَوَضَّأَ بِنِيَّةِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ نَحْوُ الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِلَا خِلَافٍ؛ لِوُجُودِ السَّبَبَيْنِ وَهُوَ إزَالَةُ الْحَدَثِ وَاقَامَةُ الْقُرْبَةِ جَمِيعًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ؛ لِوُجُودِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ لِكَوْنِ الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ نُورًا عَلَى نُورٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِانْعِدَامِ إزَالَةِ الْحَدَثِ. وَلَوْ تَوَضَّأَ أَوْ اغْتَسَلَ لِلتَّبَرُّدِ فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِوُجُودِ إزَالَةِ الْحَدَثِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِعَدَمِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالِاتِّفَاقِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأُصُولِ، وَلَوْ تَوَضَّأَ بِالْمَاءِ الْمُقَيَّدِ كَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ التَّوَضُّؤَ بِهِ غَيْرُ جَائِزٍ، فَلَمْ يُوجَدْ إزَالَةُ الْحَدَثِ وَلَا إقَامَةُ الْقُرْبَةِ، وَكَذَا إذَا غَسَلَ الْأَشْيَاءَ الطَّاهِرَةَ مِنْ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ وَالْأَوَانِي وَالْأَحْجَارِ وَنَحْوِهَا، أَوْ غَسَلَ يَدَهُ مِنْ الطِّينِ وَالْوَسَخِ، وَغَسَلَتْ الْمَرْأَةُ يَدَهَا مِنْ الْعَجِينِ أَوْ الْحِنَّاءِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ غَسَلَ يَدَهُ لِلطَّعَامِ أَوْ مِنْ الطَّعَامِ لِقَصْدِ إقَامَةِ السُّنَّةِ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِأَنَّ إقَامَةَ السُّنَّةِ قُرْبَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوُضُوءُ قَبْلَ الطَّعَامِ بَرَكَةٌ، وَبَعْدَهُ يَنْفِي اللَّمَمَ» وَلَوْ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَ بِالزِّيَادَةِ ابْتِدَاءً الْوُضُوءَ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَرَادَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْوُضُوءِ الْأَوَّلِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ مِنْ بَابِ التَّعَدِّي بِالنَّصِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي مَعْنَى الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ فَكَانَتْ قُرْبَةٌ. وَلَوْ أَدْخَلَ جُنُبٌ أَوْ حَائِضٌ أَوْ مُحْدِثٌ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا وَلَيْسَ عَلَيْهَا قَذَرٌ، أَوْ شَرِبَ الْمَاءَ مِنْهُ، فَقِيَاسُ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنْ يَفْسُدَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَفْسُدُ وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ الْحَدَثَ زَالَ عَنْ يَدِهِ بِإِدْخَالِهَا فِي الْمَاءِ وَكَذَا عَنْ شَفَتِهِ فَصَارَ مُسْتَعْمَلًا، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «كُنْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَغْتَسِلُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ» وَرُبَّمَا كَانَتْ تَتَنَازَعُ فِيهِ الْأَيْدِي وَرَوَيْنَا أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّهَا كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْ إنَاءٍ وَهِيَ حَائِضٌ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْإِنَاءِ، وَكَانَ يَتَتَبَّعُ مَوَاضِعَ فَمِهَا حُبًّا لَهَا» ؛ وَلِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ إصَابَةِ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى الْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ وَالشُّرْبِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ لَا يَمْلِكُ الْإِنَاءَ لِيَغْتَرِفَ الْمَاءَ مِنْ الْإِنَاءِ الْعَظِيمِ، وَلَا كُلُّ أَحَدٍ يَمْلِكُ أَنْ يَتَّخِذَ آنِيَةً عَلَى حِدَةٍ لِلشُّرْبِ فَيَحْتَاجُ إلَى الِاغْتِرَافِ بِالْيَدِ وَالشُّرْبِ مِنْ كُلِّ آنِيَةٍ، فَلَوْ لَمْ يَسْقُطْ اعْتِبَارُ نَجَاسَةِ الْيَدِ وَالشَّفَةِ؛ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ، حَتَّى لَوْ أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِيهِ يَفْسُدُ الْمَاءُ؛ لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فِي الْإِنَاءِ؛ وَلَوْ أَدْخَلَهَا فِي الْبِئْرِ لَمْ يُفْسِدْهُ؛ كَذَا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي الْبِئْرِ لِطَلَبِ الدَّلْوِ فَجُعِلَ عَفْوًا، وَلَوْ أَدْخَلَ فِي الْإِنَاءِ أَوْ الْبِئْرِ بَعْضَ جَسَدِهِ سِوَى الْيَدِ وَالرِّجْلِ أَفْسَدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ مَسْأَلَةُ الْبِئْرِ إذَا انْغَمَسَ الْجُنُبُ فِيهَا لِطَلَبِ الدَّلْوِ لَا بِنِيَّةِ الِاغْتِسَالِ، وَلَيْسَ عَلَى

بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُنْغَمِسَ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ أَوْ حُكْمِيَّةٌ كَالْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَنْغَمِسَ لِطَلَبِ الدَّلْوِ، أَوْ لِلتَّبَرُّدِ، أَوْ لِلِاغْتِسَالِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ حُكْمَانِ: حُكْمُ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْبِئْرِ، وَحُكْمُ الدَّاخِلِ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ طَاهِرًا - وَانْغَمَسَ لِطَلَبِ الدَّلْوِ أَوْ لِلتَّبَرُّدِ - لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِعَدَمِ إزَالَةِ الْحَدَثِ وَإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ، وَإِنْ انْغَمَسَ فِيهَا لِلِاغْتِسَالِ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ؛ لِوُجُودِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِانْعِدَامِ إزَالَةِ الْحَدَثِ، وَالرَّجُلُ طَاهِرٌ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَاهِرًا، فَإِنْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَهُوَ جُنُبٌ أَوْ لَا فَانْغَمَسَ فِي ثَلَاثَةِ آبَارٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ طَاهِرًا بِالْإِجْمَاعِ، وَيَخْرُجُ مِنْ الثَّالِثَةِ طَاهِرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَالْمِيَاهُ الثَّلَاثَةُ نَجِسَةٌ لَكِنَّ نَجَاسَتَهَا عَلَى التَّفَاوُتِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْمِيَاهُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ، وَالرَّجُلُ نَجِسٌ سَوَاءٌ انْغَمَسَ لِطَلَبِ الدَّلْوِ أَوْ التَّبَرُّدِ أَوْ الِاغْتِسَالِ، وَعِنْدَهُمَا إنْ انْغَمَسَ لِطَلَبِ الدَّلْوِ أَوْ التَّبَرُّدِ فَالْمِيَاهُ بَاقِيَةٌ عَلَى حَالِهَا، وَإِنْ كَانَ الِانْغِمَاسُ لِلِاغْتِسَالِ فَالْمَاءُ الرَّابِعُ فَصَاعِدًا مُسْتَعْمَلٌ؛ لِوُجُودِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى يَدِهِ نَجَاسَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَقَطْ فَإِنْ أَدْخَلَهَا لِطَلَبِ الدَّلْوِ أَوْ التَّبَرُّدِ يَخْرُجُ مِنْ الْأُولَى طَاهِرًا، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِزَوَالِ الْجَنَابَةِ بِالِانْغِمَاسِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ نَجِسٌ وَلَا يَخْرُجُ طَاهِرًا أَبَدًا. وَأَمَّا حُكْمُ الْمِيَاهِ: فَالْمَاءُ الْأَوَّلُ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِوُجُودِ إزَالَةِ الْحَدَثِ، وَالْبَوَاقِي عَلَى حَالِهَا؛ لِانْعِدَامِ مَا يُوجِبُ الِاسْتِعْمَالَ أَصْلًا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْمِيَاهُ كُلُّهَا عَلَى حَالِهَا، أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِدْ إقَامَةُ الْقُرْبَةِ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ تَرَكَ أَصْلَهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا يَذْكُرُ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْهُ أَنَّ الْمِيَاهَ كُلَّهَا نَجِسَةٌ، وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَطْهُرُ النَّجَسُ بِوُرُودِهِ عَلَى الْمَاءِ الْقَلِيلِ، كَمَا يَطْهُرُ بِوُرُودِ الْمَاءِ عَلَيْهِ بِالصَّبِّ سَوَاءٌ كَانَ حَقِيقِيًّا أَوْ حُكْمِيًّا عَلَى الْبَدَنِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ، غَيْرَ أَنَّ النَّجَاسَةَ الْحَقِيقِيَّةَ لَا تَزُولُ إلَّا بِالْمُلَاقَاةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَالْحُكْمِيَّةُ تَزُولُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَطْهُرُ النَّجَسُ عَنْ الْبَدَنِ بِوُرُودِهِ عَلَى الْمَاءِ الْقَلِيلِ الرَّاكِدِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَهُ فِي الثَّوْبِ قَوْلَانِ، أَمَّا الْكَلَامُ فِي النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي الطَّرَفَيْنِ فَسَيَأْتِي فِي بَيَانِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّطْهِيرُ، وَأَمَّا النَّجَاسَةُ الْحُكْمِيَّةُ فَالْكَلَامُ فِيهَا عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي الْحَقِيقَةِ، فَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: الْأَصْلُ أَنَّ مُلَاقَاةَ أَوَّلِ عُضْوِ الْمُحْدِثِ الْمَاءَ يُوجِبُ صَيْرُورَتَهُ مُسْتَعْمَلًا، فَكَذَا مُلَاقَاةُ أَوَّلِ عُضْوِ الطَّاهِرِ الْمَاءَ عَلَى قَصْدِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ، وَإِذَا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ لَا تَتَحَقَّقُ طَهَارَةُ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَذَا الْأَصْلِ، إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ لِاغْتِرَافِ الْمَاءِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا، وَلَا يَزُولُ الْحَدَثُ إلَى الْمَاءِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَهَهُنَا ضَرُورَةٌ؛ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى إخْرَاجِ الدِّلَاءِ مِنْ الْآبَارِ فَتُرِكَ أَصْلُهُ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا الْمَاءَ لَوْ صَارَ مُسْتَعْمَلًا إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ، وَلَوْ أَزَالَ الْحَدَثَ لَتَنَجَّسَ، وَلَوْ تَنَجَّسَ لَا يُزِيلُ الْحَدَثَ، وَإِذَا لَمْ يَزُلْ الْحَدَثُ بَقِيَ طَاهِرًا، وَإِذَا بَقِيَ طَاهِرًا يُزِيلُ الْحَدَثَ فَيَقَعُ الدَّوْرُ فَقَطَعْنَا الدَّوْرَ مِنْ الِابْتِدَاءِ فَقُلْنَا: إنَّهُ لَا يُزِيلُ الْحَدَثَ عَنْهُ، فَبَقِيَ هُوَ بِحَالِهِ، وَالْمَاءُ عَلَى حَالِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ: إنَّ النَّجَاسَةَ تَزُولُ بِوُرُودِ الْمَاءِ عَلَيْهَا، فَكَذَا بِوُرُودِهَا عَلَى الْمَاءِ؛ لِأَنَّ زَوَالَ النَّجَاسَةِ بِوَاسِطَةِ الِاتِّصَالِ وَالْمُلَاقَاةِ بَيْنَ الطَّاهِرِ وَالنَّجَسِ مَوْجُودَةٌ فِي الْحَالَيْنِ، وَلِهَذَا يَنْجَسُ الْمَاءُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا فِي النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، إلَّا أَنَّ حَالَةَ الِاتِّصَالِ لَا يُعْطَى لَهَا حُكْمُ النَّجَاسَةِ، وَالِاسْتِعْمَالُ لِضَرُورَةِ إمْكَانِ التَّطْهِيرِ، وَالضَّرُورَةُ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الصَّبِّ، إذْ كُلُّ وَاحِدٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَامْتَنَعَ ظُهُورُ حُكْمِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَيَظْهَرُ حُكْمُهُ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَدْخَلَ رَأْسَهُ أَوْ خُفَّهُ أَوْ جَبِيرَتَهُ فِي الْإِنَاءِ وَهُوَ مُحْدِثٌ، قَالَ أَبُو يُوسُفُ: يُجْزِئُهُ فِي الْمَسْحِ وَلَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا سَوَاءٌ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ؛ لِوُجُودِ أَحَدِ سَبَبَيْ الِاسْتِعْمَالِ وَإِنَّمَا كَانَ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْحِ يَتَأَدَّى بِإِصَابَةِ الْبَلَّةِ إذْ هُوَ اسْمٌ لِلْإِصَابَةِ دُونَ الْإِسَالَةِ، فَلَمْ يَزُلْ شَيْءٌ مِنْ الْحَدَثِ إلَى الْمَاءِ الْبَاقِي فِي الْإِنَاءِ، وَإِنَّمَا زَالَ إلَى الْبَلَّةِ، وَكَذَا إقَامَةُ الْقُرْبَةِ تَحْصُلُ بِهَا فَاقْتَصَرَ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ عَلَيْهَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ لَمْ يَنْوِ الْمَسْحَ يُجْزِئُهُ وَلَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ إقَامَةُ الْقُرْبَةِ فَقَدْ مَسَحَ بِمَاءٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ فَاجْزَأْهُ، وَإِنْ نَوَى الْمَسْحَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ:

فصل في بيان المقدار الذي يصير به المحل نجسا

لَا يُجْزِئُهُ وَيَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَاقَى رَأْسُهُ الْمَاءَ عَلَى قَصْدِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ صَيَّرَهُ مُسْتَعْمَلًا، وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِالْمُلَاقَاةِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا يَأْخُذُ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا قَبْلَهُ فَيُجْزِئُهُ الْمَسْحُ بِهِ جُنُبٌ عَلَى يَدِهِ قَذَرٌ فَأَخَذَ الْمَاءَ بِفَمِهِ وَصَبَّهُ عَلَيْهِ، رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَعْمَلًا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ عَنْ الْفَمِ، وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْآثَارِ أَنَّهُ يَطْهُرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِهِ قُرْبَةٌ فَلَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ الْمِقْدَارِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ الْمَحَلُّ نَجِسًا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ الْمِقْدَارِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ الْمَحَلُّ نَجِسًا شَرْعًا: فَالنَّجَسُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَقَعَ فِي الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ وَالْخَلِّ وَنَحْوِهِمَا، وَإِمَّا أَنْ يُصِيبَ الثَّوْبَ وَالْبَدَنَ وَمَكَانَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ، فَإِنْ كَانَ جَارِيًا، فَإِنْ كَانَ النَّجَسُ غَيْرَ مَرْئِيٍّ كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهِمَا لَا يَنْجَسُ، مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، وَيَتَوَضَّأُ مِنْهُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النَّجَسُ أَوْ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا صَبَّ خَابِيَةً مِنْ الْخَمْرِ فِي الْفُرَاتِ، وَرَجُلٌ آخَرَ - أَسْفَلَ مِنْهُ - يَتَوَضَّأُ إنْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ يَجُوزُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَاهِلِ بَالَ فِي الْمَاءِ الْجَارِي، وَرَجُلٌ أَسْفَلَ مِنْهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْجَارِي مِمَّا لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ، فَالْمَاءُ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِهِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَالْمَاءُ طَاهِرٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً كَالْجِيفَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْمَاءِ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ مِنْ أَسْفَلِ الْجِيفَةِ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ بِيَقِينٍ، وَالنَّجَسُ لَا يَطْهُرُ بِالْجَرَيَانِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ وَإِنْ كَانَ أَقَلُّهُ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ، وَالْأَكْثَرُ يَجْرِي عَلَى الطَّاهِرِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ مِنْ أَسْفَلِ الْجِيفَةِ؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ يَجْرِي عَلَيْهَا النِّصْفُ أَوْ دُونَ النِّصْفِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجُوزَ التَّوَضُّؤُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ فَلَا يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ نَجِسًا بِالشَّكِّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ احْتِيَاطًا، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ النَّجَسُ عِنْدَ الْمِيزَابِ وَالْمَاءُ يَجْرِي عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَتْ الْأَنْجَاسُ مُتَفَرِّقَةً عَلَى السَّطْحِ وَلَمْ تَكُنْ عِنْدَ الْمِيزَابِ، ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ نَجِسًا مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَاءِ الْجَارِي. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي جَانِبٍ مِنْ السَّطْحِ أَوْ جَانِبَيْنِ مِنْهُ لَا يَنْجَسُ الْمَاءُ، وَيَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي ثَلَاثَةِ جَوَانِبَ يَنْجَسُ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي مَاءِ الْمَطَرِ إذَا مَرَّ بِعَذِرَاتٍ، ثُمَّ اسْتَنْقَعَ فِي مَوْضِعٍ فَخَاضَ فِيهِ إنْسَانٌ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى لَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا مَرَّ أَكْثَرُهُ عَلَى الطَّاهِرِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي حَدِّ الْجَرَيَانِ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ يَجْرِيَ بِالتِّبْنِ وَالْوَرَقِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ وَضَعَ رَجُلٌ يَدَهُ فِي الْمَاءِ عَرْضًا لَمْ يَنْقَطِعْ جَرَيَانُهُ فَهُوَ جَارٍ وَإِلَّا فَلَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ كَانَ بِحَالٍ لَوْ اغْتَرَفَ إنْسَانٌ الْمَاءَ بِكَفَّيْهِ لَمْ يَنْحَسِرْ وَجْهُ الْأَرْضِ بِالِاغْتِرَافِ فَهُوَ جَارٍ وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ: مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ جَارِيًا فَهُوَ جَارٍ، وَمَا لَا فَلَا؛ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ، وَإِنْ كَانَ رَاكِدًا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ: إنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجَسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ أَصْلًا سَوَاءٌ كَانَ جَارِيًا أَوْ رَاكِدًا، وَسَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ. وَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: إنْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا يَنْجَسُ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَا يَنْجَسُ، لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ قَالَ مَالِكٌ: إنْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ فَهُوَ قَلِيلٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَهُوَ كَثِيرٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ كَثِيرٌ، وَالْقُلَّتَانِ عِنْدَهُ خَمْسُ قِرَبٍ، كُلُّ قِرْبَةٍ خَمْسُونَ مَنًّا فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مَنًّا وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَ بِحَالٍ يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فَهُوَ قَلِيلٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُصُ فَهُوَ كَثِيرٌ. فَأَمَّا أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ فَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» (وَاحْتَجَّ) مَالِكٌ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ» وَهُوَ تَمَامُ الْحَدِيثِ، أَوْ بَنَى الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ (وَاحْتَجَّ) الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَا يَحْمِلُ خَبَثًا» أَيْ يَدْفَعُ الْخَبَثَ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَرَادَ بِالْقُلَّتَيْنِ قِلَالَ هَجَرَ، كُلُّ قُلَّةٍ يَسَعُ فِيهَا قِرْبَتَانِ وَشَيْءٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ شَيْءٌ مَجْهُولٌ فَقَدَّرْتُهُ بِالنِّصْفِ احْتِيَاطًا. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسَنَّ

يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ، حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ لَا يَنْجَسُ بِالْغَمْسِ لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ وَالِاحْتِيَاطِ؛ لِوَهْمِ النَّجَاسَةِ مَعْنًى، وَكَذَا الْأَخْبَارُ مُسْتَفِيضَةٌ بِالْأَمْرِ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ لَوْنَهُ وَلَا طَعْمَهُ وَلَا رِيحَهُ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلَنَّ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ دَائِمٍ وَدَائِمٍ وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ تَنْجِيسِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْبَوْلَ وَالِاغْتِسَالَ فِيمَا لَا يَتَنَجَّسُ لِكَثْرَتِهِ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ، فَدَلَّ عَلَى كَوْنِ الْمَاءِ الدَّائِمِ مُطْلَقًا مُحْتَمِلًا لِلنَّجَاسَةِ، إذْ النَّهْيُ عَنْ تَنْجِيسِ مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّجَاسَةَ ضَرْبٌ مِنْ السَّفَهِ، وَكَذَا الْمَاءُ الَّذِي يُمْكِنُ الِاغْتِسَالُ فِيهِ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ، وَالْبَوْلُ وَالِاغْتِسَالُ فِيهِ لَا يُغَيِّرُ لَوْنَهُ وَلَا طَعْمَهُ وَلَا رِيحَهُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا أَمَرَا فِي زِنْجِيٍّ وَقَعَ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ بِنَزْحِ مَاءِ الْبِئْرِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ فِي الْمَاءِ، وَكَانَ الْمَاءُ أَكْثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ، وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا قُلْنَا، وَعُرِفَ بِهَذَا الْإِجْمَاعِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ هُوَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ الْجَارِي، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ غَيْرُ ثَابِتٍ؛ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ إذَا وَرَدَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ يُرَدُّ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ قَالَ: لَا يَثْبُتُ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ وَقَالَ: لَا يَكَادُ يَصِحُّ لِوَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَقْدِيرِ الْمَاءِ؛ وَلِهَذَا رَجَعَ أَصْحَابُنَا فِي التَّقْدِيرِ إلَى الدَّلَائِلِ الْحِسِّيَّةِ دُونَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْخُلُوصِ فَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْخُلُوصُ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ حُرِّكَ طَرَفٌ مِنْهُ يَتَحَرَّكُ الطَّرْفُ الْآخَرُ فَهُوَ مِمَّا يَخْلُصُ. وَإِنْ كَانَ لَا يَتَحَرَّكُ فَهُوَ مِمَّا لَا يَخْلُصُ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ التَّحْرِيكِ، فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّحْرِيكُ بِالِاغْتِسَالِ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّحْرِيكُ بِالْوُضُوءِ - وَفِي رِوَايَةٍ بِالْيَدِ - مِنْ غَيْرِ اغْتِسَالٍ وَلَا وُضُوءَ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فَالشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ الْبُخَارِيُّ اعْتَبَرَ الْخُلُوصَ بِالصَّبْغِ، وَأَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ اعْتَبَرَهُ بِالتَّكْدِيرِ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيُّ اعْتَبَرَهُ بِالْمِسَاحَةِ فَقَالَ: إنْ كَانَ عَشْرًا فِي عَشْرٍ فَهُوَ مِمَّا لَا يَخْلُصُ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فَهُوَ مِمَّا يَخْلُصُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ اعْتَبَرَهُ بِالْعَشَرَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِخَمْسَةَ عَشَرَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ فَقَالَ: إنْ كَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ أَرْجُو أَنْ يَجُوزَ، وَإِنْ كَانَ عِشْرِينَ فِي عِشْرِينَ لَا أَجِدُ فِي قَلْبِي شَيْئًا. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِمَسْجِدِهِ فَكَانَ مَسْجِدُهُ ثَمَانِيًا فِي ثَمَانٍ، وَبِهِ أَخَذَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَقِيلَ: كَانَ مَسْجِدُهُ عَشْرًا فِي عَشْرٍ، وَقِيلَ: مَسَحَ مَسْجِدَهُ فَوَجَدَ دَاخِلَهُ ثَمَانِيًا فِي ثَمَانٍ، وَخَارِجَهُ عَشْرًا فِي عَشْرٍ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ: لَا عِبْرَةَ لِلتَّقْدِيرِ فِي الْبَابِ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ هُوَ التَّحَرِّي، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ النَّجَاسَةَ خَلَصَتْ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ مِنْهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهَا لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِغَالِبِ الرَّأْيِ، وَأَكْبَرُ الظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ وَاجِبٌ، أَلَا يُرَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ يُقْبَلُ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُفِيدُ بِرَدِّ الْيَقِينِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْغَدِيرِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَوْ حُرِّكَ طَرَفٌ مِنْهُ لَا يَتَحَرَّكُ الطَّرَفُ الْآخَرُ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ: إنَّهُ إنْ كَانَ فِي غَالِبِ الرَّأْيِ أَنَّهَا وَصَلَتْ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ مِنْهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَنَّهَا لَمْ تَصِلْ يَجُوزُ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي الْمِيزَابِ إذَا سَالَ عَلَى إنْسَانٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ غَالِبُ ظَنِّهِ أَنَّهُ نَجِسٌ يَجِبُ غَسْلُهُ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ قَلْبُهُ عَلَى شَيْءٍ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْحُكْمِ، وَلَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَغْسِلَ وَأَمَّا حَوْضُ الْحَمَّامِ الَّذِي يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ أَوْ تَوَضَّأَ إنْسَانٌ، رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَاءُ يَجْرِي مِنْ الْمِيزَابِ وَالنَّاسُ يَغْتَرِفُونَ مِنْهُ لَا يَصِيرُ نَجِسًا، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْجَارِي، وَلَوْ تَنَجَّسَ الْحَوْضُ الصَّغِيرُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، ثُمَّ بُسِطَ مَاؤُهُ حَتَّى صَارَ لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ الْمَبْسُوطَ هُوَ الْمَاءُ النَّجَسُ وَقِيلَ فِي الْحَوْضِ الْكَبِيرِ وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ، ثُمَّ قَلَّ مَاؤُهُ، حَتَّى صَارَ يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ: إنَّهُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَمِعَ هُوَ الْمَاءُ الطَّاهِرُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ وَاعْتَبَرَ حَالَةَ الْوُقُوعِ. وَلَوْ وَقَعَ فِي هَذَا الْقَلِيلِ نَجَاسَةٌ، ثُمَّ عَاوَدَهُ الْمَاءُ، حَتَّى امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ: لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا دَخَلَ الْمَاءُ فِيهِ صَارَ نَجِسًا. وَلَوْ أَنَّ حَوْضَيْنِ صَغِيرَيْنِ يَخْرُجُ الْمَاءُ مِنْ

أَحَدِهِمَا وَيَدْخُلُ فِي الْآخَرِ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ إنْسَانٌ فِي خِلَالِ ذَلِكَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ جَارٍ حَوْضٌ حُكِمَ بِنَجَاسَتِهِ، ثُمَّ نَضَبَ مَاؤُهُ وَجَفَّ أَسْفَلُهُ، حَتَّى حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ ثُمَّ دَخَلَ فِيهِ الْمَاءُ ثَانِيًا هَلْ يَعُودُ نَجِسًا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا الْأَرْضُ إذَا أَصَابَتْهَا النَّجَاسَةُ فَجَفَّتْ وَذَهَبَ أَثَرُهَا، ثُمَّ عَاوَدَهَا الْمَاءُ، وَكَذَا الْمَنِيُّ إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ فَجَفَّ وَفُرِكَ، ثُمَّ أَصَابَهُ بَلَلٌ، وَكَذَا جِلْدُ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَ دِبَاغَةً حُكْمِيَّةً بِالتَّشْمِيسِ وَالتَّرْتِيبِ، ثُمَّ أَصَابَهُ الْمَاءُ فَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا الْبِئْرُ إذَا تَنَجَّسَتْ فَغَارَ مَاؤُهَا وَجَفَّ أَسْفَلُهَا، ثُمَّ عَاوَدَهَا الْمَاءُ فَقَالَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى: هُوَ طَاهِرٌ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ هُوَ نَجِسٌ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَجْهُ قَوْلِ نُصَيْرٍ أَنَّ تَحْتَ الْأَرْضِ مَاءٌ جَارٍ فَيَخْتَلِطُ الْغَائِرُ بِهِ، فَلَا يُحْكَمُ بِكَوْنِ الْعَائِدِ نَجِسًا بِالشَّكِّ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ مَا نَبَعَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاءٌ جَدِيدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ الْمَاءُ النَّجَسُ فَلَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ بِالشَّكِّ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْوَطُ، وَالْأَوَّلُ أَوْسَع، هَذَا إذَا كَانَ الْمَاءُ الرَّاكِدُ لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ طُولٌ بِلَا عَرْضٍ كَالْأَنْهَارِ الَّتِي فِيهَا مِيَاهٌ رَاكِدَةٌ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ طُولُ الْمَاءِ مِمَّا لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، وَكَانَ يَتَوَضَّأُ فِي نَهْرِ بَلْخٍ وَيُحَرِّكُ الْمَاءَ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ إجْرَائِي إيَّاهُ، وَبَيْنَ جَرَيَانِهِ بِنَفْسِهِ، فَعَلَى قَوْلِهِ لَوْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ لَا يَنْجَسُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ. وَعَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيُّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ فِيهِ، وَعَلَى قَوْلِهِ لَوْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ أَوْ بَالَ فِيهِ إنْسَانٌ أَوْ تَوَضَّأَ، إنْ كَانَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ يَنْجَسُ مِقْدَارُ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ، وَإِنْ كَانَ فِي وَسَطِهِ يَنْجَسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِقْدَارُ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ فَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو نَصْرٍ أَقْرَبُ إلَى الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعَرْضِ يُوجِبُ التَّنْجِيسَ وَاعْتِبَارُ الطُّولِ لَا يُوجِبُ، فَلَا يَنْجَسُ بِالشَّكِّ، وَمَا قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الطُّولِ إنْ كَانَ لَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ فَاعْتِبَارُ الْعَرْضِ يُوجِبُ، فَيُحْكَمُ بِالنَّجَاسَةِ احْتِيَاطًا وَأَمَّا الْعُمْقُ فَهَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ؟ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ أَصْحَابَنَا اعْتَبَرُوا الْبَسْطَ دُونَ الْعُمْقِ، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ رَفَعَ إنْسَانٌ الْمَاءَ بِكَفَّيْهِ انْحَسَرَ أَسْفَلُهُ، ثُمَّ اتَّصَلَ لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَا يَنْحَسِرُ أَسْفَلُهُ لَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ مِنْهُ وَقِيلَ: مِقْدَارُ الْعُمْقِ أَنْ يَكُونَ زِيَادَةً عَلَى عَرْضِ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ الْمِثْقَالِ، وَقِيلَ: أَنْ يَكُونَ قَدْرَ شِبْرٍ، وَقِيلَ: قَدْرُ ذِرَاعٍ، ثُمَّ النَّجَاسَةُ إذَا وَقَعَتْ فِي الْحَوْضِ الْكَبِيرِ كَيْف يُتَوَضَّأُ مِنْهُ؟ فَنَقُولُ: النَّجَاسَةُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مَرْئِيَّةً، أَوْ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مَرْئِيَّةً كَالْجِيفَةِ وَنَحْوِهَا، ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ، وَلَكِنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَتْرُكُ مِنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ قَدْرَ الْحَوْضِ الصَّغِيرِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ، كَذَا فَسَّرَهُ فِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِالنَّجَاسَةِ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ وَشَكَكْنَا فِيمَا وَرَاءَهُ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِيمَنْ اسْتَنْجَى فِي مَوْضِعٍ مِنْ حَوْضِ الْحَمَّامِ: لَا يُجْزِيهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قَبْلَ تَحْرِيكِ الْمَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ كَانَ إلَّا إذَا تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَاءِ الْجَارِي. وَلَوْ وَقَعَتْ الْجِيفَةُ فِي وَسَطِ الْحَوْضِ - عَلَى قِيَاسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ - إنْ كَانَ بَيْنَ الْجِيفَةِ وَبَيْنَ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ الْحَوْضِ مِقْدَارَ مَا لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ، يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ فِيهِ وَإِلَّا فَلَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ بِأَنْ بَالَ فِيهِ إنْسَانٌ أَوْ اغْتَسَلَ جُنُبٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ قَالَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ: إنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَرْئِيَّةِ، حَتَّى لَا يَتَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ، وَإِنَّمَا يَتَوَضَّأُ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَرْئِيَّةِ بِخِلَافِ الْمَاءِ الْجَارِي؛ لِأَنَّهُ يَنْقُلُ النَّجَاسَةَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ، فَلَمْ يُسْتَيْقَنْ بِالنَّجَاسَةِ فِي مَوْضِعِ الْوُضُوءِ وَمَشَايِخُنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَصَلُوا بَيْنَهُمَا، فَفِي غَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ أَنَّهُ يُتَوَضَّأُ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ كَانَ، كَمَا قَالُوا جَمِيعًا فِي الْمَاءِ الْجَارِي، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَرْئِيَّةِ لَا يَسْتَقِرُّ فِي مَكَان وَاحِدٍ بَلْ يَنْتَقِلُ لِكَوْنِهِ مَائِعًا سَيَّالًا بِطَبْعِهِ، فَلَمْ نَسْتَيْقِنْ بِالنَّجَاسَةِ فِي الْجَانِبِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ مِنْهُ، فَلَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ إنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ - بِخِلَافِ الْمَرْئِيَّةِ - وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَاءُ فِي الْحَوْضِ غَيْرَ جَامِدٍ، فَإِنْ كَانَ جَامِدًا وَثُقِبَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِالْجَمْدِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ فَإِنْ كَانَ الثَّقْبُ وَاسِعًا، بِحَيْثُ لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَوْضِ الْكَبِيرِ، وَإِنْ كَانَ الثَّقْبُ صَغِيرًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى وَأَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ

لَا: خَيْرَ فِيهِ وَسُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ: أَلَيْسَ الْمَاءُ يَضْطَرِبُ تَحْتَهُ؟ وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ؛ وَهَذَا أَوْسَعُ وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ وَقَالُوا: إذَا حُرِّكَ مَوْضِعُ الثَّقْبِ تَحْرِيكًا بَلِيغًا يُعْلَمُ عِنْدَهُ أَنَّ مَا كَانَ رَاكِدًا ذَهَبَ عَنْ هَذَا الْمَكَانِ، وَهَذَا مَاءٌ جَدِيدٌ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ، فَالْمَاءُ الْقَلِيلُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَوَانِي أَوْ فِي الْبِئْرِ أَوْ فِي الْحَوْضِ الصَّغِيرِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْأَوَانِي فَهُوَ نَجِسٌ كَيْفَمَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ مُتَجَسِّدَةً أَوْ مَائِعَةً؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي الْأَوَانِي لِإِمْكَانِ صَوْنِهَا عَنْ النَّجَاسَاتِ، حَتَّى لَوْ وَقَعَتْ بَعْرَةٌ أَوْ بَعْرَتَانِ فِي الْمَحْلَبِ عِنْدَ الْحَلْبِ، ثُمَّ رُمِيَتْ مِنْ سَاعَتِهَا لَمْ يَنْجَسْ اللَّبَنُ، كَذَا رَوَى عَنْهُ خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ، وَنُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى وَمُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ، لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبِئْرِ فَالْوَاقِعُ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ النَّجَاسَاتِ، فَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا فَإِمَّا إنْ أُخْرِجَ حَيًّا، وَإِمَّا إنْ أُخْرِجَ مَيِّتًا، فَإِنْ أُخْرِجَ حَيًّا فَإِنْ كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ كَالْخِنْزِيرِ يُنَجِّسُ جَمِيعَ الْمَاءِ وَفِي الْكَلْبِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ فِي كَوْنِهِ نَجِسَ الْعَيْنِ، فَمَنْ جَعَلَهُ نَجِسَ الْعَيْنِ اسْتَدَلَّ بِمَا ذُكِرَ فِي الْعُيُونِ عَنْ أَبِي يُوسُفِ أَنَّ الْكَلْبَ إذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ فَانْتَفَضَ، فَأَصَابَ إنْسَانًا مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ. وَذَكَرَ فِي الْعُيُونِ أَيْضًا أَنَّ كَلْبًا لَوْ أَصَابَهُ الْمَطَرُ فَانْتَفَضَ، فَأَصَابَ إنْسَانًا مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ إنْ كَانَ الْمَطَرُ الَّذِي أَصَابَهُ وَصَلَ إلَى جِلْدِهِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَصَابَهُ وَإِلَّا فَلَا، وَنَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ قَالَ: وَلَيْسَ الْمَيِّتُ بِأَنْجَسَ مِنْ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، فَدَلَّ أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ نَجِسَ الْعَيْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيُضْمَنُ مُتْلَفُهُ، وَنَجِسُ الْعَيْنِ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ، وَلَا مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ كَالْخِنْزِيرِ، دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ، وَنَجِسُ الْعَيْنِ لَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ كَالْخِنْزِيرِ، وَكَذَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ وَقَعَا فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ، ثُمَّ خَرَجَا أَنَّهُ يُعْجَنُ بِذَلِكَ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ مَشَايِخُنَا فِيمَنْ صَلَّى وَفِي كُمِّهِ جَرْوُ كَلْبٍ: إنَّهُ تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَقَيَّدَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ الْجَوَازَ بِكَوْنِهِ مَسْدُودَ الْفَمِ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، وَهَذَا أَقْرَبُ الْقَوْلَيْنِ إلَى الصَّوَابَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَجِسَ الْعَيْنِ فَإِنْ كَانَ آدَمِيًّا لَيْسَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَلَا حُكْمِيَّةٌ - وَقَدْ اسْتَنْجَى - لَا يُنْزَحُ شَيْءٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِزَوَالِ الْحَدَثِ أَوْ بِقَصْدِ الْقُرْبَةِ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنْجِيًا يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ؛ لِاخْتِلَاطِ النَّجَسِ بِالْمَاءِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حُكْمِيَّةٌ بِأَنْ كَانَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَجْعَلُ هَذَا الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا لَا يُنْزَحُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ طَهُورٌ، وَكَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ مُسْتَعْمَلًا وَجَعَلَ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرًا؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُسْتَعْمَلِ أَكْثَرُ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ طَهُورًا مَا لَمْ يَكُنْ الْمُسْتَعْمَلُ غَالِبًا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ صَبَّ اللَّبَنَ فِي الْبِئْرِ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ بَالَتْ شَاةٌ فِيهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ هَذَا الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا وَجَعَلَ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ نَجِسًا، يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ كَمَا لَوْ وَقَعَتْ فِيهَا قَطْرَةٌ مِنْ دَمٍ أَوْ خَمْرٍ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُحْدِثًا يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا يُنْزَحُ كُلُّهُ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُشْكِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ صَارَ هَذَا الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا لَا يَجِبُ نَزْحُ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ طَهُورًا كَمَا كَانَ، وَإِنْ صَارَ مُسْتَعْمَلًا فَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَسَنِ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ نَزْحُ جَمِيعِ الْمَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَافِرِ إذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ: يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ بَدَنَهُ لَا يَخْلُو مِنْ نَجَاسَةٍ حَقِيقِيَّةٍ أَوْ حُكْمِيَّةٍ، حَتَّى لَوْ تَيَقَّنَّا بِطَهَارَتِهِ بِأَنْ اغْتَسَلَ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ مِنْ سَاعَتِهِ لَا يُنْزَحُ مِنْهَا شَيْءٌ وَأَمَّا سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ فَإِنْ عُلِمَ بِيَقِينٍ أَنَّ عَلَى بَدَنِهَا نَجَاسَةً أَوْ عَلَى مَخْرَجِهَا نَجَاسَةً تَنَجَّسَ الْمَاءُ؛ لِاخْتِلَاطِ النَّجَسِ بِهِ سَوَاءٌ وَصَلَ فَمُهُ إلَى الْمَاءِ أَوْ لَا، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْعِبْرَةُ لِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَحُرْمَتِهِ إنْ كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ لَا يَنْجَسُ وَلَا يُنْزَحُ شَيْءٌ، سَوَاءٌ وَصَلَ لُعَابُهُ إلَى الْمَاءِ أَوْ لَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولَ اللَّحْمِ يَنْجَسُ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ مَخْرَجِهِ نَجَاسَةٌ أَوْ لَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُعْتَبَرَ هُوَ السُّؤْرُ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِلْ فَمُهُ إلَى الْمَاءِ لَا يُنْزَحُ شَيْءٌ، وَإِنْ وَصَلَ فَإِنْ كَانَ سُؤْرُهُ طَاهِرًا فَالْمَاءُ طَاهِرٌ وَلَا يُنْزَحُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَالْمَاءُ نَجِسٌ وَيُنْزَحُ كُلُّهُ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُنْزَحَ عَشْرُ دِلَاءٍ، وَإِنْ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ فَالْمَاءُ

كَذَلِكَ وَيُنْزَحُ كُلّه كَذَا ذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي الْفَأْرَةِ نَزْحُ عِشْرِينَ، وَفِي الْهِرَّةِ نَزْحُ أَرْبَعِينَ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ أَعْظَمَ جُثَّةً كَانَ أَوْسَعَ فَمًا وَأَكْثَرَ لُعَابًا وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى أَهْلِ بَلْخٍ: إذَا وَقَعَتْ وَزَغَةٌ فِي بِئْرٍ فَأُخْرِجَتْ حَيَّةً يُسْتَحَبُّ نَزْحُ أَرْبَعِ دِلَاءٍ إلَى خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ أَنَّهُ يُنَجِّسُ الْمَاءَ؛ لِأَنَّهَا تَبُولُ بَيْنَ أَفْخَاذِهَا فَلَا تَخْلُوَ عَنْ الْبَوْلِ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا؛ لِأَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً. وَقَدْ ازْدَادَ خِفَّةً بِسَبَبِ الْبِئْرِ فَيُنْزَحُ أَدْنَى مَا يُنْزَحُ مِنْ الْبِئْرِ وَذَلِكَ عِشْرُونَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ؛ لِاسْتِوَاءِ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ وَالْغَلِيظَةِ فِي حُكْمِ تَنْجِيسِ الْمَاءِ، هَذَا كُلُّهُ إذَا خَرَجَ حَيًّا فَإِنْ خَرَجَ مَيِّتًا، فَإِنْ كَانَ مُنْتَفِخًا أَوْ مُتَفَسِّخًا نُزِحَ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفِخًا وَلَا مُتَفَسِّخًا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَجَعَلَهُ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ: فِي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا أَوْ ثَلَاثُونَ، وَفِي الدَّجَاجِ وَنَحْوِهِ أَرْبَعُونَ أَوْ خَمْسُونَ، وَفِي الْآدَمِيِّ وَنَحْوِهِ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَعَلَهُ خَمْسَ مَرَاتِبَ: فِي الْحَمَامَةِ وَنَحْوِهَا يُنْزَحُ عَشْرُ دِلَاءٍ، وَفِي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا عِشْرُونَ، وَفِي الْحَمَامِ وَنَحْوِهِ ثَلَاثُونَ، وَفِي الدَّجَاجِ وَنَحْوِهِ أَرْبَعُونَ، وَفِي الْآدَمِيّ وَنَحْوِهِ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ. وَقَوْلُهُ: فِي الْكِتَابِ يُنْزَحُ فِي الْفَأْرَةِ عِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثُونَ، وَفِي الْهِرَّةِ أَرْبَعُونَ أَوْ خَمْسُونَ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّخْيِيرَ بَلْ أَرَادَ بِهِ عِشْرِينَ وُجُوبًا وَثَلَاثِينَ اسْتِحْبَابًا، وَكَذَا فِي الْأَرْبَعِينَ وَالْخَمْسِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِاخْتِلَافِ الْحَيَوَانَاتِ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، فَفِي الصَّغِيرِ مِنْهَا يُنْزَحُ الْأَقَلُّ وَفِي الْكَبِيرِ يُنْزَحُ الْأَكْثَرُ، وَالْأَصْلُ فِي الْبِئْرِ أَنَّهُ وُجِدَ فِيهَا قِيَاسَانِ أَحَدُهُمَا: مَا قَالَهُ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ أَنَّهُ يُطَمُّ وَيُحْفَرُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْزَحَ جَمِيعُ الْمَاءِ لَكِنْ يَبْقَى الطِّينُ وَالْحِجَارَةُ نَجِسًا، وَلَا يُمْكِنُ كَبُّهُ لِيُغْسَلَ، وَالثَّانِي: مَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الْجَارِي؛ لِأَنَّهُ يَنْبُعُ مِنْ أَسْفَلِهِ وَيُؤْخَذُ مِنْ أَعْلَاهُ، فَلَا يَنْجَسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ كَحَوْضِ الْحَمَّامِ إذَا كَانَ يُصَبُّ الْمَاءُ فِيهِ مِنْ جَانِبٍ وَيُغْتَرَفُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ بِإِدْخَالِ الْيَدِ النَّجِسَةِ فِيهِ، ثُمَّ قُلْنَا: وَمَا عَلَيْنَا لَوْ أَمَرْنَا بِنَزْحِ بَعْضِ الدِّلَاءِ؟ وَلَا نُخَالِفُ السَّلَفَ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ بِالْخَبَرِ وَالْأَثَرِ وَضَرْبٍ مِنْ الْفِقْهِ الْخَفِيِّ، أَمَّا الْخَبَرُ فَمَا رَوَى الْقَاضِي أَبُو جَعْفَرٍ الْأُسْرُوشَنِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي الْبِئْرِ: يُنْزَحُ مِنْهَا عِشْرُونَ، وَفِي رِوَايَةٍ يُنْزَحُ ثَلَاثُونَ دَلْوًا» وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: يُنْزَحُ عِشْرُونَ وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثُونَ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي دَجَاجَةٍ مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ: يُنْزَحُ مِنْهَا أَرْبَعُونَ دَلْوًا، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا أَمَرَا بِنَزْحِ جَمِيعِ مَاءِ زَمْزَمَ حِين مَاتَ فِيهَا زِنْجِيٌّ وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْفِقْهُ الْخَفِيُّ فَهُوَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَمًا مَسْفُوحًا وَقَدْ تَشَرَّبَ فِي أَجْزَائِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَنَجَّسَهَا. وَقَدْ جَاوَرَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَاءَ، وَالْمَاءُ يَتَنَجَّسُ أَوْ يَفْسُدُ بِمُجَاوَرَةِ النَّجَسِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا جَاوَرَ النَّجَسَ نَجِسٌ بِالشَّرْعِ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ يُقَوَّرُ مَا حَوْلَهَا وَيُلْقَى، وَيُؤْكَلُ الْبَاقِي» فَقَدْ حَكَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَجَاسَةِ جَارِ النَّجَسِ وَفِي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا مَا يُجَاوِرُهَا مِنْ الْمَاءِ مِقْدَارُ مَا قَدَّرَهُ أَصْحَابُنَا، وَهُوَ عِشْرُونَ دَلْوًا أَوْ ثَلَاثُونَ؛ لِصِغَرِ جُثَّتِهَا، فَحُكِمَ بِنَجَاسَةِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ مَا وَرَاءَ هَذَا الْقَدْرِ لَمْ يُجَاوِرْ الْفَأْرَةَ، بَلْ جَاوَرَ مَا جَاوَرَ الْفَأْرَةَ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِتَنْجِيسِ جَارِ النَّجَسِ، لَا بِتَنْجِيسِ جَارِ جَارِ النَّجِسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ بِطَهَارَةِ مَا جَاوَرَ السَّمْنَ الَّذِي جَاوَرَ الْفَأْرَةَ، وَحَكَمَ بِنَجَاسَةِ مَا جَاوَرَ الْفَأْرَةَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ جَارَ جَارِ النَّجَسِ لَوْ حُكِمَ بِنَجَاسَتِهِ؛ لَحُكِمَ أَيْضًا بِنَجَاسَةِ مَا جَاوَرَ جَارَ جَارِ النَّجَسِ، ثُمَّ هَكَذَا إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَيُؤَدِّي إلَى أَنَّ قَطْرَةً مِنْ بَوْلٍ أَوْ فَأْرَةٍ لَوْ وَقَعَتْ فِي بَحْرٍ عَظِيمٍ أَنْ يَتَنَجَّسَ جَمِيعُ مَائِهِ؛ لِاتِّصَالٍ بَيْنَ أَجْزَائِهِ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ، وَفِي الدَّجَاجَةِ وَالسِّنَّوْرِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ الْمُجَاوَرَةُ أَكْثَرُ؛ لِزِيَادَةِ ضَخَامَةٍ فِي جُثَّتِهَا فَقُدِّرَ بِنَجَاسَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَالْآدَمِيُّ وَمَا كَانَتْ جُثَّتُهُ مِثْلَ جُثَّتِهِ كَالشَّاةِ وَنَحْوِهَا يُجَاوِرُ جَمِيعَ الْمَاءِ فِي الْعَادَةِ؛ لِعِظَمِ جُثَّتِهِ فَيُوجِبُ تَنْجِيسَ جَمِيعِ الْمَاءِ، وَكَذَا إذَا تَفَسَّخَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْوَاقِعَاتِ أَوْ انْتَفَخَ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَخْرُجُ الْبِلَّةُ مِنْهَا؛ لِرَخَاوَةٍ فِيهَا فَتُجَاوِرُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْمَاءِ، وَقِيلَ: ذَلِكَ لَا يُجَاوِرُ إلَّا قَدْرَ مَا ذَكَرْنَا؛ لِصَلَابَةٍ فِيهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا وَقَعَ فِي

الْبِئْرِ ذَنَبُ فَأْرَةٍ يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ بِلَّةٍ فَيُجَاوِرُ أَجْزَاءَ الْمَاءِ فَيُفْسِدُهَا، هَذَا إذَا كَانَ الْوَاقِعُ وَاحِدًا فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا: يُنْزَحُ عِشْرُونَ إلَى الْأَرْبَعِ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ إلَى التِّسْعِ، فَإِذَا بَلَغَتْ عَشْرًا يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَأْرَتَيْنِ: يُنْزَحُ عِشْرُونَ، وَفِي الثَّلَاثِ أَرْبَعُونَ، وَإِذَا كَانَتْ الْفَأْرَتَانِ كَهَيْئَةِ الدَّجَاجِ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ. هَذَا إذَا كَانَ الْوَاقِعُ فِي الْبِئْرِ حَيَوَانًا فَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ مِنْ الْأَنْجَاسِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَجْسِدًا أَوْ غَيْرَ مُسْتَجْسِدٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَجْسِدٍ كَالْبَوْلِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ خَلَصَتْ إلَى جَمِيعِ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَجْسِدًا، فَإِنْ كَانَ رَخْوًا مُتَخَلْخِلَ الْأَجْزَاءِ كَالْعَذِرَةِ وَخُرْءِ الدَّجَاجِ وَنَحْوِهِمَا يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا؛ لِأَنَّهُ لِرَخَاوَتِهِ يَتَفَتَّتُ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْمَاءِ فَتَخْتَلِطُ أَجْزَاؤُهُ بِأَجْزَاءِ الْمَاءِ فَيُفْسِدُهُ، وَإِنْ كَانَ صُلْبًا نَحْوَ بَعْرِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَنْجَسَ الْمَاءُ قَلَّ الْوَاقِعُ فِيهِ أَوْ كَثُرَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إنْ كَانَ قَلِيلًا لَا يَنْجَسُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يَنْجَسُ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، وَالصَّحِيحِ وَالْمُنْكَسِرِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ رَطْبًا يَنْجَسُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَإِنْ كَانَ مُنْكَسِرًا يَنْجَسُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْكَسِرًا لَا يَنْجَسُ مَا لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا، وَتَكَلَّمُوا فِي الْكَثِيرِ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ يُغَطِّيَ جَمِيعَ وَجْهِ الْمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رُبْعُ وَجْهِ الْمَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الثَّلَاثُ كَثِيرٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي بَعْرَةٍ أَوْ بَعْرَتَيْنِ وَقَعَتَا فِي الْمَاءِ لَا يَفْسُدُ الْمَاءُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الثَّلَاثَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ كَثِيرٌ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ بْنِ سَلَمَةَ: إنْ كَانَ لَا يَسْلَمُ كُلُّ دَلْوٍ عَنْ بَعْرَةٍ أَوْ بَعْرَتَيْنِ فَهُوَ كَثِيرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْكَثِيرُ مَا اسْتَكْثَرَهُ النَّاظِرُ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ يَابِسًا لَا يَنْجَسُ صَحِيحًا كَانَ أَوْ مُنْكَسِرًا، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَإِنْ كَانَ رَطْبًا وَهُوَ قَلِيلٌ لَا يَمْنَعُ لِلضَّرُورَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الرَّوْثِ الْيَابِسِ إذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ، ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْ سَاعَتِهِ لَا يَنْجَسُ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ لِلْمَشَايِخِ فِي الْقَلِيلِ مِنْ الْبَعْرِ الْيَابِسِ الصَّحِيحِ طَرِيقَتَيْنِ إحْدَاهُمَا: أَنَّ لِلْيَابِسِ صَلَابَةً، فَلَا يَخْتَلِطُ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ بِأَجْزَاءِ الْمَاءِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الرَّطْبَ يَنْجَسُ بِاخْتِلَاطِ رُطُوبَتِهِ بِأَجْزَاءِ الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ وَالْحَاكِمِ فِي الْإِشَارَاتِ، وَكَذَا الْيَابِسُ الْمُنْكَسِرُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا الرَّوْثُ، لِأَنَّهُ شَيْءٌ رَخْوٌ يُدَاخِلُهُ الْمَاءُ، لِتَخَلْخُلِ أَجْزَائِهِ فَتَخْتَلِطُ أَجْزَاؤُهُ بِأَجْزَاءِ الْمَاءِ، وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ الْيَابِسِ الصَّحِيحِ لَا يَنْجَسُ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْكَثِيرَ يَنْجَسُ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَثُرَتْ تَقَعُ الْمُمَاسَّةُ بَيْنَهُمَا؛ فَيَصْطَكُّ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ فَتَتَفَتَّتُ أَجْزَاؤُهَا فَتَنْجَسُ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ آبَارَ الْفَلَوَاتِ لَا حَاجِزَ لَهَا عَلَى رُءُوسِهَا، وَيَأْتِيهَا الْأَنْعَامُ فَتُسْقَى فَتَبْعَرُ، فَإِذَا يَبِسَتْ الْأَبْعَارُ عَمِلَتْ فِيهَا الرِّيحُ فَأَلْقَتْهَا فِي الْبِئْرِ، فَلَوْ حُكِمَ بِفَسَادِ الْمِيَاهِ لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى سُكَّانِ الْبَوَادِي ، وَمَا ضَاقَ أَمْرُهُ اتَّسَعَ حُكْمُهُ، فَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ: الْكَثِيرُ مِنْهُ يُفْسِدُ الْمِيَاهَ؟ لِانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ فِي الْكَثِيرِ، وَكَذَا الرَّطْبُ؛ لِأَنَّ الرِّيحَ تَعْمَلُ فِي الْيَابِسِ دُونَ الرَّطْبِ لِثِقَلِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ أَنَّ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ سَوَاءٌ؛ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَأَمَّا الْيَابِسُ الْمُنْكَسِرُ فَلَا يَفْسُدُ إذَا كَانَ قَلِيلًا؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ فِي الْمُنْكَسِرِ أَشَدُّ، وَالرَّوْثُ إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَتَقَدَّرُ بِهَذِهِ الضَّرُورَةِ فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الْبَعْرِ، هَذَا فِي آبَارِ الْفَلَوَاتِ، (وَأَمَّا) الْآبَارُ الَّتِي فِي الْمِصْرِ فَاخْتَلَفَ فِيهَا الْمَشَايِخُ، فَمَنْ اعْتَمَدَ مَعْنَى الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةَ لَا يُفَرِّقُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ وَمَنْ اعْتَبَرَ الضَّرُورَةَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ آبَارَ الْأَمْصَارِ لَهَا رُءُوسٌ حَاجِزَةٌ فَيَقَعُ الْأَمْنُ عَنْ الْوُقُوعِ فِيهَا، وَلَوْ انْفَصَلَتْ بَيْضَةٌ مِنْ دَجَاجَةٍ فَوَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ مِنْ سَاعَتِهَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ، فِيهِ قَالَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى: يُنْتَفَعُ بِالْمَاءِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ عَلَيْهَا قَذَرًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَتْ رَطْبَةً أَفْسَدَتْ، وَإِنْ كَانَتْ يَابِسَةً فَوَقَعَتْ فِي الْمَاءِ أَوْ فِي الْمَرَقَةِ لَا تُفْسِدُهُمَا، وَهِيَ حَلَالٌ اشْتَدَّ قِشْرُهَا أَوْ لَمْ يَشْتَدَّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: إنْ اشْتَدَّ قِشْرُهَا تَحِلُّ وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ، سَقَطَتْ السَّخْلَةُ مِنْ أُمِّهَا وَهِيَ مُبْتَلَّةٌ فَهِيَ نَجِسَةٌ، حَتَّى لَوْ حَمَلَهَا الرَّاعِي فَأَصَابَ بَلَلُهَا الثَّوْبَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مَنَعَ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَلَوْ وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَفْسَدَتْ الْمَاءَ، وَإِذَا يَبِسَتْ فَقَدْ طَهُرَتْ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ مُوَافِقُ قَوْلِهِمَا، فَأَمَّا فِي قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْبَيْضَةُ طَاهِرَةٌ، رَطْبَةً كَانَتْ أَوْ يَابِسَةً، وَكَذَا السَّخْلَةُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي مَكَانِهَا وَمَعْدِنِهَا كَمَا قَالَ فِي

الْإِنْفَحَةِ إذَا خَرَجَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ، جَامِدَةً كَانَتْ أَوْ مَائِعَةً، وَعِنْدَهُمَا، إنْ كَانَتْ مَائِعَةً فَنَجِسَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ جَامِدَةً تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَلَوْ وَقَعَ عَظْمُ الْمَيْتَةِ فِي الْبِئْرِ فَإِنْ كَانَ عَظْمُ الْخِنْزِيرِ أَفْسَدَهُ كَيْفَمَا كَانَ. وَأَمَّا عَظْمُ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ لَحْمٌ أَوْ دَسَمٌ يُفْسِدُ الْمَاءَ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَشِيعُ فِي الْمَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ يُفْسِدْ؛ لِأَنَّ الْعَظْمَ طَاهِرٌ بِئْرٌ وَجَبَ مِنْهَا نَزْحُ عِشْرِينَ دَلْوًا، فَنُزِحَ الدَّلْوُ الْأَوَّلُ وَصُبَّ فِي بِئْرٍ طَاهِرَةٍ، يُنْزَحُ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا: أَنَّ الْبِئْرَ الثَّانِيَةَ تَطْهُرُ بِمَا تَطْهُرُ بِهِ الْأُولَى حِينَ كَانَ الدَّلْوُ الْمَصْبُوبُ فِيهَا، وَلَوْ صُبَّ الدَّلْوُ الثَّانِي يُنْزَحُ تِسْعَةَ عَشْرَ دَلْوًا، وَلَوْ صُبَّ الدَّلْوُ الْعَاشِرُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ - يُنْزَحُ عَشَرَةُ دِلَاءٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَحَدَ عَشْرَ دَلْوًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْأُولَى سِوَى الْمَصْبُوبِ، وَمِنْ الثَّانِيَةِ مَعَ الْمَصْبُوبِ، وَلَوْ صُبَّ الدَّلْوُ الْأَخِيرُ يَنْزَحُ دَلْوًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْأُولَى بِهِ، وَلَوْ أُخْرِجَتْ الْفَأْرَةُ وَأُلْقِيَتْ فِي بِئْرٍ طَاهِرَةٍ، وَصُبَّ فِيهَا أَيْضًا عِشْرُونَ دَلْوًا مِنْ مَاءِ الْأُولَى تُطْرَحُ الْفَأْرَةُ وَيُنْزَعُ عِشْرُونَ دَلْوًا؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْأُولَى بِهِ، فَكَذَا الثَّانِيَةُ. بِئْرَانِ وَجَبَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نَزْحُ عِشْرِينَ، فَنُزِحَ عِشْرُونَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَصُبَّ فِي الْأُخْرَى، يُنْزَحُ عِشْرُونَ، وَلَوْ وَجَبَ مِنْ إحْدَاهُمَا نَزْحُ عِشْرِينَ وَمِنْ الْأُخْرَى، نَزْحُ أَرْبَعِينَ، فَنُزِحَ مَا وَجَبَ مِنْ إحْدَاهُمَا وَصُبَّ فِي الْأُخْرَى، يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَا وَجَبَ مِنْ النَّزَحِ مِنْهَا، وَإِلَى مَا صُبَّ فِيهَا، فَإِنْ كَانَا سَوَاءً تَدَاخَلَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ دَخَلَ الْقَلِيلُ فِي الْكَثِيرِ، وَعَلَى هَذَا ثَلَاثَةُ آبَارٍ وَجَبَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ نَزْحُ عِشْرِينَ، فَنُزِحَ الْوَاجِبُ مِنْ الْبِئْرَيْنِ وَصُبَّ فِي الثَّالِثَةِ، يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ، فَلَوْ وَجَبَ مِنْ إحْدَاهُمَا نَزْحُ عِشْرِينَ وَمِنْ الْأُخْرَى نَزْحُ أَرْبَعِينَ فَصُبَّ الْوَاجِبَانِ فِي بِئْرٍ طَاهِرَةٍ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ؛ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْأَصْلِ، وَلَوْ نُزِحَ دَلْوٌ مِنْ الْأَرْبَعِينَ وَصُبَّ فِي الْعِشْرِينَ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صُبَّ فِي بِئْرٍ طَاهِرَةٍ نُزِحَ كَذَلِكَ، فَكَذَا هَذَا، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ يُنْزَحُ الْوَاجِب وَالْمَصْبُوبُ جَمِيعًا فَقِيلَ لَهُ: إنَّ مُحَمَّدًا رَوَى عَنْكَ الْأَكْثَرَ فَأَنْكَرَ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي جُبِّ مَاءٍ وَمَاتَتْ فِيهَا يُهْرَاقُ كُلُّهُ، وَلَوْ صُبَّ مَاؤُهُ فِي بِئْرٍ طَاهِرَةٍ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُنْزَحُ الْمَصْبُوبُ وَعِشْرُونَ دَلْوًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَنْظُرُ إلَى مَاءِ الْجُبِّ فَإِنْ كَانَ عِشْرِينَ دَلْوًا أَوْ أَكْثَرَ نُزِحَ ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ نُزِحَ عِشْرُونَ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ فِي الْبِئْرِ نَجَاسَةُ الْفَأْرَةِ. فَأْرَةٌ مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ وَأُخْرِجَتْ، فَجَاءُوا بِدَلْوٍ عَظِيمٍ يَسَعُ عِشْرِينَ دَلْوًا بِدَلْوِهِمْ، فَاسْتَقَوْا مِنْهَا دَلْوًا وَاحِدًا أَجْزَأَهُمْ وَطَهُرَتْ الْبِئْرُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ قَدْرُ مَا جَاوَرَ الْفَأْرَةَ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُنْزَحَ ذَلِكَ بِدَلْوٍ وَاحِدٍ، وَبَيْنَ أَنْ يُنْزَحَ بِعِشْرِينَ دَلْوًا وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ يَقُولُ: لَا يَطْهُرُ إلَّا بِنَزْحِ عِشْرِينَ دَلْوًا؛ لِأَنَّ عِنْدَ تَكْرَارِ النَّزْحِ يَنْبُعُ الْمَاءُ مِنْ أَسْفَلِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ أَعْلَاهُ فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الْجَارِي، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِدَلْوٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا، وَلَوْ صُبَّ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْبِئْرِ يُنْزَحُ كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُنْزَحُ عِشْرُونَ دَلْوًا، كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَالطَّاهِرُ إذَا اخْتَلَطَ بِالطَّهُورِ لَا يُغَيِّرُهُ عَنْ صِفَةِ الطَّهُورِيَّةِ، إلَّا إذَا غَلَبَ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ طَهَارَتَهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهَا؛ لِكَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَاد بِخِلَافِ الْمَائِعَاتِ، فَيُنْزَحُ أَدْنَى مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَذَلِكَ عِشْرُونَ احْتِيَاطًا، وَلَوْ نُزِحَ مَاءُ الْبِئْرِ وَبَقِيَ الدَّلْوُ الْأَخِيرُ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ، أَوْ انْفَصَلَ وَنُحِّيَ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ، أَوْ انْفَصَلَ وَلَمْ يُنَحَّ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ. فَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ، حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّوَضُّؤُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النَّجَسَ لَمْ يَتَمَيَّزْ مِنْ الطَّاهِرِ، وَإِنْ انْفَصَلَ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ وَنُحِّيَ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ طَهُرَ؛ لِأَنَّ النَّجَسَ قَدْ تَمَيَّزَ مِنْ الطَّاهِرِ، وَأَمَّا إذَا انْفَصَلَ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ وَلَمْ يُنَحَّ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ وَالْمَاءُ يَتَقَاطَرُ فِيهِ لَا يَطْهُرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَطْهُرُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ قَوْلَهُ: مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّجَسَ انْفَصَلَ مِنْ الطَّاهِرِ، فَإِنَّ الدَّلْوَ الْأَخِيرَ تَعَيَّنَ لِلنَّجَاسَةِ شَرْعًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا نُحِّيَ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ يَبْقَى الْمَاءُ طَاهِرًا، وَالْمَاءُ يَتَقَاطَرُ فِيهَا مِنْ الدَّلْوِ سَقَطَ اعْتِبَارُ نَجَاسَتِهِ شَرْعًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ ، إذْ لَوْ أَعْطَى لِلْقَطَرَاتِ حُكْمَ النَّجَاسَةِ لَمْ يَطْهُرْ بِئْرٌ أَبَدًا، وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى الْحُكْمِ بِطَهَارَةِ الْآبَارِ بَعْدَ وُقُوعِ النَّجَاسَاتِ فِيهَا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ إلَّا بَعْدَ انْفِصَالِ النَّجَسِ عَنْهَا، وَهُوَ مَاءُ الدَّلْوِ الْأَخِيرِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الِانْفِصَالُ إلَّا بَعْدَ تَنْحِيَةِ الدَّلْوِ عَنْ الْبِئْرِ؛ لِأَنَّ مَاءَهُ مُتَّصِلٌ بِمَاءِ الْبِئْرِ وَلَمْ

يُوجَدْ فَلَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ مُنْفَصِلًا لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ؛ لِأَنَّ الْقَطَرَاتِ تَقْطُرُ فِي الْبِئْرِ، فَإِذَا كَانَ مُنْفَصِلًا كَانَ لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ فَتَنَجَّسَ الْبِئْرُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ قَلِيلٌ، وَالنَّجَاسَةُ - وَإِنْ قَلَّتْ - مَتَى لَاقَتْ مَاءً قَلِيلًا تُنَجِّسُهُ، فَكَانَ هَذَا تَطْهِيرًا لِلْبِئْرِ أَوَّلًا، ثُمَّ تَنْجِيسًا لَهُ ثَانِيًا، وَإِنَّهُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ، وَسُقُوطُ اعْتِبَارِ نَجَاسَةِ الْقَطَرَاتِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِأَنْ يُعْطَى لِهَذَا الدَّلْوِ حُكْمُ الِانْفِصَالِ بَعْدَ انْعِدَامِ التَّقَاطُرِ بِالتَّنْحِيَةِ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى تَنْجِيسِ الْبِئْرِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِطَهَارَتِهَا. لَوْ تَوَضَّأَ مِنْ بِئْرٍ، وَصَلَّى أَيَّامًا، ثُمَّ وَجَدَ فِيهَا فَأْرَةً، فَإِنْ عَلِمَ وَقْتَ وُقُوعِهَا أَعَادَ الصَّلَاةَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ نَجِسٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُعِيدَ شَيْئًا مِنْ الصَّلَوَاتِ مَا لَمْ يَسْتَيْقِنْ بِوَقْتِ وُقُوعِهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إنْ كَانَتْ مُنْتَفِخَةً أَوْ مُتَفَسِّخَةً أَعَادَ صَلَاةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُنْتَفِخَةٍ وَلَا مُتَفَسِّخَةٍ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعِيدُ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَلَوْ اطَّلَعَ عَلَى نَجَاسَةٍ فِي ثَوْبِهِ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ وَلَمْ يَتَيَقَّنْ وَقْتَ إصَابَتِهَا لَا يُعِيدُ شَيْئًا مِنْ الصَّلَاةِ، كَذَا ذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ، وَهُوَ رِوَايَةُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ طَرِيَّةً يُعِيدُ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ يَابِسَةً يُعِيدُ صَلَاةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا. وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كَانَ دَمًا لَا يُعِيدُ، وَإِنْ كَانَ مَنِيًّا يُعِيدُ مِنْ آخِرِ مَا احْتَلَمَ؛ لِأَنَّ دَمَ غَيْرِهِ قَدْ يُصِيبُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِصَابَةَ لَمْ تَتَقَدَّمْ زَمَانَ وُجُودِهِ، فَأَمَّا مَنِيُّ غَيْرِهِ فَلَا يُصِيبُ ثَوْبَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنِيُّهُ فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِ سَبَبِ خُرُوجِهِ، حَتَّى أَنَّ الثَّوْبَ لَوْ كَانَ مِمَّا يَلْبِسُهُ هُوَ وَغَيْرُهُ يَسْتَوِي فِيهِ حُكْمُ الدَّمِ وَالْمَنِيِّ، وَمَشَايِخُنَا قَالُوا فِي الْبَوْلِ: يُعْتَبَرُ مِنْ آخَرِ مَا بَالَ، وَفِي الدَّمِ مِنْ آخِرِ مَا رَعَفَ وَفِي الْمَنِيّ مِنْ آخِرِ مَا احْتَلَمَ أَوْ جَامَعَ، وَجْهُ الْقِيَاسِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ تَيَقَّنَ طَهَارَةَ الْمَاءِ فِيمَا مَضَى، وَشَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَمَاتَتْ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا وَقَعَتْ مَيِّتَةً بِأَنْ مَاتَتْ فِي مَكَان آخَرَ، ثُمَّ أَلْقَاهَا بَعْضُ الطُّيُورِ فِي الْبِئْرِ، عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ قَوْلِي مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، إلَى أَنْ كُنْتُ يَوْمًا جَالِسًا فِي بُسْتَانِي فَرَأَيْتُ حِدَأَةً فِي مِنْقَارِهَا جِيفَةٌ فَطَرَحَتْهَا فِي بِئْرٍ، فَرَجَعْتُ عَنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الشَّكُّ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ فِيمَا مَضَى، فَلَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ، وَصَارَ كَمَا إذَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةً وَلَا يَعْلَمُ وَقْتَ إصَابَتِهَا أَنَّهُ لَا يُعِيدُ شَيْئًا مِنْ الصَّلَوَاتِ، كَذَا هَذَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ وُقُوعَ الْفَأْرَةِ فِي الْبِئْرِ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا، وَالْمَوْتُ مَتَى ظَهَرَ عَقِيبَ سَبَبٍ صَالِحٍ يُحَالُ بِهِ عَلَيْهِ، كَمَوْتِ الْمَجْرُوحِ فَإِنَّهُ يُحَالُ بِهِ إلَى الْجَرْحِ، وَإِنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ مَوْتُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ. وَإِذَا حِيلَ بِالْمَوْتِ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَاءِ فَأَدْنَى مَا يَتَفَسَّخُ فِيهِ الْمَيِّتُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ؛ وَلِهَذَا يُصَلِّي عَلَى قَبْرِ مَيِّتٍ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَتَوَهَّمَ الْوُقُوعَ بَعْدَ الْمَوْتِ إحَالَةً بِالْمَوْتِ إلَى سَبَبٍ لَمْ يَظْهَرْ، وَتَعْطِيلٌ لِلسَّبَبِ الظَّاهِرِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، فَبَطَلَ اعْتِبَارُ الْوَهْمِ، وَالْتَحَقَ الْمَوْتُ فِي الْمَاءِ بِالْمُتَحَقِّقِ، إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلُ الْمُعَايَنَةِ بِالْوُقُوعِ فِي الْمَاءِ مَيِّتًا، فَحِينَئِذٍ يُعْرَفُ بِالْمُشَاهَدَةِ أَنَّ الْمَوْتَ غَيْرُ حَاصِلٍ بِهَذَا السَّبَبِ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مُنْتَفِخَةً، فَلِأَنَّا إذَا أَحَلْنَا بِالْمَوْتِ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَاءِ وَلَا شَكَّ أَنَّ زَمَانَ الْمَوْتِ سَابِقٌ عَلَى زَمَانِ الْوُجُودِ، خُصُوصًا فِي الْآبَارِ الْمُظْلِمَةِ الْعَمِيقَةِ الَّتِي لَا يُعَايَنُ مَا فِيهَا، وَلِذَا يُعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ الْوَاقِعَ لَا يَخْرُجُ بِأَوَّلِ دَلْوٍ، فَقُدِّرَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى الْمَقَادِيرِ الْمُعْتَبَرَةِ، (وَالْفَرْقُ) بَيْنَ الْبِئْرِ وَالثَّوْبِ عَلَى رِوَايَةِ الْحَاكِمِ أَنَّ الثَّوْبَ شَيْءٌ ظَاهِرٌ، فَلَوْ كَانَ مَا أَصَابَهُ سَابِقًا عَلَى زَمَانِ الْوُجُودِ لَعُلِمَ بِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانَ، فَكَانَ عَدَمُ الْعِلْمِ قَبْلَ ذَلِكَ دَلِيلُ عَدَمِ الْإِصَابَةِ - بِخِلَافِ الْبِئْرِ عَلَى مَا مَرَّ - وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا عَجَنَ بِذَلِكَ الْمَاءِ أَنَّهُ يُؤْكَلُ خُبْزُهُ عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُؤْكَلُ، وَإِذَا لَمْ يُؤْكَلْ مَاذَا يَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ مَشَايِخُنَا: يُطْعَمُ لِلْكِلَابِ؛ لِأَنَّ مَا تَنَجَّسَ بِاخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِهِ - وَالنَّجَاسَةُ مَعْلُومَةٌ - لَا يُبَاحُ أَكْلُهُ، وَيُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِيمَا وَرَاءَ الْأَكْلِ، كَالدُّهْنِ النَّجَسِ أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ اسْتِصْبَاحًا إذَا كَانَ الطَّاهِرُ غَالِبًا فَكَذَا هَذَا وَبِئْرُ الْمَاءِ إذَا كَانَتْ بِقُرْبٍ مِنْ الْبَالُوعَةِ لَا يَفْسُدُ الْمَاءُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، وَقَدَّرَ أَبُو حَفْصٍ الْمَسَافَةَ بَيْنَهُمَا بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ وَأَبُو سُلَيْمَانَ بِخَمْسَةٍ، وَذَا لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ؛ لِتَفَاوُتِ الْأَرَاضِي فِي الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ، وَلَكِنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْأَغْلَبِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ بَعْدَ هَذَا التَّقْدِيرِ: لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةُ أَذْرُعٍ وَلَكِنْ يُوجَدَ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْخُلُوصِ، وَعَدَمِ الْخُلُوصِ، وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِظُهُورِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْآثَارِ وَعَدَمِهِ، ثُمَّ الْحَيَوَانُ إذَا مَاتَ فِي الْمَائِعِ الْقَلِيلِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ لَهُ

دَمٌ سَائِلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بَرِّيًّا أَوْ مَائِيًّا، وَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ مَاتَ فِي الْمَاءِ أَوْ فِي غَيْرِ الْمَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ، كَالذُّبَابِ وَالزُّنْبُورِ وَالْعَقْرَبِ وَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ وَنَحْوِهَا لَا يُنَجِّسُ بِالْمَوْتِ، وَلَا يُنَجِّسُ مَا يَمُوتُ فِيهِ مِنْ الْمَائِعِ، سَوَاءٌ كَانَ مَاءً أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ، كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ وَالْعَصِيرِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ كَانَ بَرِّيًّا أَوْ مَائِيًّا كَالْعَقْرَبِ الْمَائِيِّ وَنَحْوِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ السَّمَكُ طَافِيًا أَوْ غَيْرَ طَافٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ شَيْئًا يَتَوَلَّدُ مِنْ الْمَائِعِ كَدُودِ الْخَلِّ، أَوْ مَا يُبَاحُ أَكْلُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ لَا يَنْجَسُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَهُ فِي الذُّبَابِ وَالزُّنْبُورِ قَوْلَانِ، (وَيَحْتَجُّ) بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] ، ثُمَّ خَصَّ مِنْهُ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ بِالْحَدِيثِ، وَالذُّبَابَ وَالزُّنْبُورَ بِالضَّرُورَةِ. (وَلَنَا) مَا ذَكَرْنَا أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَةِ لَيْسَتْ لِعَيْنِ الْمَوْتِ، فَإِنَّ الْمَوْتَ مَوْجُودٌ فِي السَّمَكِ وَالْجَرَادِ وَلَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ، وَلَكِنْ لِمَا فِيهَا مِنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَلَا دَمَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ فَإِنْ كَانَ بَرِّيًّا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ وَيُنَجِّسُ الْمَائِعَ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَاءً أَوْ غَيْرَهُ، وَسَوَاءٌ مَاتَ فِي الْمَائِعِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، ثُمَّ وَقَعَ فِيهِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الدَّمَوِيَّةِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ السَّائِلَ نَجِسٌ فَيُنَجِّسُ مَا يُجَاوِرُهُ، إلَّا الْآدَمِيَّ إذَا كَانَ مَغْسُولًا؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَائِيًّا كَالضُّفْدَعِ الْمَائِيِّ وَالسَّرَطَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ مَاتَ فِي الْمَاءِ لَا يُنَجِّسُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ حَيَّةً مِنْ حَيَّاتِ الْمَاءِ مَاتَتْ فِي الْمَاءِ، إنْ كَانَتْ بِحَالٍ لَوْ جُرِحَتْ لَمْ يَسِلْ مِنْهَا الدَّمُ لَا تُوجِبُ التَّنْجِيسَ، وَإِنْ كَانَتْ لَوْ جُرِحَتْ لَسَالَ مِنْهَا الدَّمُ تُوجِبُ التَّنْجِيسَ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا عَلَّلَ بِهِ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ - وَهُمْ مَشَايِخُ بَلْخٍ - فَهِمُوا مِنْ تَعْلِيلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ صِيَانَةُ الْمِيَاهِ عَنْ مَوْتِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ فِيهَا؛ لِأَنَّ مَعْدِنَهَا الْمَاءُ، فَلَوْ أَوْجَبَ مَوْتُهَا فِيهَا التَّنْجِيسَ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ ، وَبَعْضُهُمْ - وَهُمْ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ - فَهِمُوا مِنْ تَعْلِيلِهِ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ تَعِيشُ فِي الْمَاءِ لَا يَكُونُ لَهَا دَمٌ، إذْ الدَّمَوِيُّ لَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ لِمُخَالَفَةٍ بَيْنَ طَبِيعَةِ الْمَاءِ وَبَيْنَ طَبِيعَةِ الدَّمِ، فَلَمْ تَتَنَجَّسْ فِي نَفْسِهَا؛ لِعَدَمِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، فَلَا تُوجِبُ تَنْجِيسَ مَا جَاوَرَهَا ضَرُورَةً، وَمَا يُرَى فِي بَعْضِهَا مِنْ صُورَةِ الدَّمِ فَلَيْسَ بِدَمٍ حَقِيقَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّمَكَ يَحِلُّ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ مَعَ أَنَّ الذَّكَاةَ شُرِعَتْ لِإِرَاقَةِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَلِذَا، إذَا شَمَسَ دَمُهُ يَبْيَضُّ، وَمِنْ طَبْعِ الدَّمِ أَنَّهُ إذَا شَمَسَ اسْوَدَّ، وَإِنْ مَاتَ فِي غَيْرِ الْمَاءِ فَعَلَى قِيَاسِ الْعِلَّةِ الْأُولَى يُوجِبُ التَّنْجِيسَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ صِيَانَةُ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ عَنْ مَوْتِهَا فِيهَا، وَعَلَى قِيَاسِ الْعِلَّةِ الثَّانِيَةِ لَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ لِانْعِدَامِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ فِيهَا. وَرُوِيَ عَنْ نُصَيْرِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ، وَأَبَا مُعَاذٍ عَنْ الضُّفْدَعِ يَمُوتُ فِي الْعَصِيرِ فَقَالَا: يُصَبُّ وَسَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ وَمُحَمَّدَ بْنَ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ فَقَالَا: لَا يُصَبُّ وَعَنْ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: يَفْسُدُ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُفْسِدُ الْمَاءَ لَا يُفْسِدُ غَيْرَ الْمَاءِ، وَهَكَذَا رَوَى هِشَامُ عَنْهُمْ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْفِقْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ بَيْنَ الْمُتَفَسِّخِ وَغَيْرِهِ فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ شُرْبُ الْمَائِعِ الَّذِي تَفَسَّخَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ أَجْزَاءِ مَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ، ثُمَّ الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْمَائِيِّ وَالْبَرِّيِّ أَنَّ الْمَائِيَّ: هُوَ الَّذِي لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْمَاءِ، وَالْبَرِّيَّ: هُوَ الَّذِي لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْبَرِّ وَأَمَّا الَّذِي يَعِيشُ فِيهِمَا جَمِيعًا كَالْبَطِّ وَالْإِوَزِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا مَاتَ فِي غَيْرِ الْمَاءِ يُوجِبُ التَّنْجِيسَ؛ لِأَنَّ لَهُ دَمًا سَائِلًا وَالشَّرْعُ لَمْ يُسْقِطْ اعْتِبَارَهُ، حَتَّى لَا يُبَاحَ أَكْلُهُ بِدُونِ الذَّكَاةِ بِخِلَافِ السَّمَكِ، وَإِنْ مَاتَ فِي الْمَاءِ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَفْسُدُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِي الْمَائِعِ. فَأَمَّا إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ أَوْ الْبَدَنَ أَوْ مَكَانَ الصَّلَاةِ، أَمَّا حُكْمُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ فَنَقُولُ: وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ النَّجَاسَةُ لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ غَلِيظَةً، أَوْ خَفِيفَةً قَلِيلَةً، أَوْ كَثِيرَةً، أَمَّا النَّجَاسَةُ الْقَلِيلَةُ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ خَفِيفَةً أَوْ غَلِيظَةً اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَمْنَعَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ، إلَّا إذَا كَانَتْ لَا تَأْخُذُهَا الْعَيْنُ، أَوْ مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقَةِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ، كَمَا أَنَّ الطَّهَارَةَ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ - وَهِيَ الْحَدَثُ - شَرْطٌ، ثُمَّ هَذَا الشَّرْطُ يَنْعَدِم بِالْقَلِيلِ مِنْ الْحَدَثِ بِأَنْ بَقِيَ عَلَى جَسَدِهِ لُمْعَةٌ، فَكَذَا بِالْقَلِيلِ مِنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْقَلِيلِ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ فَقَالَ: إذَا كَانَ مِثْلَ ظُفْرِي هَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ النَّجَاسَةِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، فَإِنَّ

الذُّبَابَ يَقَعْنَ عَلَى النَّجَاسَةِ، ثُمَّ يَقَعْنَ عَلَى ثِيَابِ الْمُصَلِّي وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى أَجْنِحَتِهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ، فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ عَفْوًا لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْبَلْوَى فِي الْحَدَثِ مُنْعَدِمَةٌ؛ وَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بِدُونِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْأَحْجَارِ لَا يَسْتَأْصِلُ النَّجَاسَةَ، حَتَّى لَوْ جَلَسَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ أَفْسَدَهُ، فَهُوَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ النَّجَاسَةِ عَفْوٌ؛ وَلِهَذَا قَدَّرْنَا بِالدِّرْهَمِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ عَنْ مَوْضِعِ خُرُوجِ الْحَدَثِ، كَذَا قَالَهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ: إنَّهُمْ اسْتَقْبَحُوا ذِكْرَ الْمَقَاعِدِ فِي مَجَالِسِهِمْ، فَكَنَّوْا عَنْهُ بِالدِّرْهَمِ تَحْسِينًا لِلْعِبَارَةِ وَأَخْذًا بِصَالِحِ الْأَدَبِ وَأَمَّا النَّجَاسَةُ الْكَثِيرَةُ فَتَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ النَّجَاسَةِ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ: إذَا بَلَغَ مِقْدَارَ الدِّرْهَمِ فَهُوَ كَثِيرٌ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا يَمْنَعُ، حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ. وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ عَدَّ مِقْدَارَ ظُفُرٍ مِنْ النَّجَاسَةِ قَلِيلًا، حَيْثُ لَمْ يَجْعَلْهُ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ، وَظُفْرُهُ كَانَ قَرِيبًا مِنْ كَفِّنَا فَعُلِمَ أَنَّ قَدْرَ الدِّرْهَمِ عَفْوٌ؛ وَلِأَنَّ أَثَرَ النَّجَاسَةِ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ عَفْوٌ، وَذَلِكَ يَبْلُغُ قَدْرَ الدِّرْهَمِ خُصُوصًا فِي حَقِّ الْمَبْطُونِ، وَلِأَنَّ فِي دِينِنَا سَعَةً، وَمَا قُلْنَاهُ أَوْسَعُ فَكَانَ أَلْيَقَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ صَرِيحًا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ، مِنْ حَيْثُ الْعَرْضِ وَالْمِسَاحَةِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْوَزْنِ وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ: الدِّرْهَمُ الْكَبِيرُ: مَا يَكُونُ عَرْضَ الْكَفِّ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ ظُفْرَهُ كَانَ كَعَرْضِ كَفِّ أَحَدِنَا، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ مِقْدَارَ مِسَاحَةِ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ الدِّرْهَمَ الْكَبِيرَ الْمِثْقَالَ فَهَذَا يُشِيرُ إلَى الْوَزْنِ. وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَر الْهِنْدُوَانِيُّ: لَمَّا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا فَنُوَفِّقُ وَنَقُولُ: أَرَادَ بِذِكْرِ الْعَرْضِ تَقْدِيرَ الْمَائِعِ، كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهِمَا، وَبِذِكْرِ الْوَزْنِ تَقْدِيرُ الْمُسْتَجْسِدِ كَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَزْنًا تُمْنَعُ؛ وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَأَمَّا حَدُّ الْكَثِيرِ مِنْ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ فَهُوَ الْكَثِيرُ الْفَاحِشُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الْكَثِيرِ الْفَاحِشِ فَكَرِهَ أَنْ يَحِدَّ لَهُ حَدًّا، وَقَالَ: الْكَثِيرُ الْفَاحِشُ مَا يَسْتَفْحِشُهُ النَّاسُ وَيَسْتَكْثِرُونَهُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: شِبْرٌ فِي شِبْرٍ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا. وَرُوِيَ عَنْهُ ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ، وَرُوِيَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الثَّوْبِ، وَرُوِيَ نِصْفُ الثَّوْبِ، ثُمَّ فِي رِوَايَةٍ نِصْفُ كُلِّ الثَّوْبِ، وَفِي رِوَايَةٍ نِصْفُ طَرَفٍ مِنْهُ، أَمَّا التَّقْدِيرُ بِأَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ؛ فَلِأَنَّ الْكَثْرَةَ وَالْقِلَّةَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ لَا يَكُونُ الشَّيْءُ قَلِيلًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِمُقَابَلَتِهِ كَثِيرٌ، وَكَذَا لَا يَكُونُ كَثِيرًا إلَّا وَأَنْ يَكُونَ بِمُقَابَلَتِهِ قَلِيلٌ، وَالنِّصْفُ لَيْسَ بِكَثِيرٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مُقَابِلَتِهِ قَلِيلٌ؛ فَكَانَ الْكَثِيرُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ؛ لِأَنَّ بِمُقَابَلَتِهِ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ وَأَمَّا التَّقْدِيرُ، بِالنِّصْفِ فَلِأَنَّ الْعَفْوَ هُوَ الْقَلِيلُ، وَالنِّصْفُ لَيْسَ بِقَلِيلٍ، إذْ لَيْسَ بِمُقَابَلَتِهِ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ. وَأَمَّا التَّقْدِيرُ بِالشِّبْرِ فَلِأَنَّ أَكْثَرَ الضَّرُورَةِ تَقَعُ لِبَاطِنِ الْخِفَافِ. وَبَاطِنُ الْخُفَّيْنِ شِبْرٌ فِي شِبْرٍ. وَأَمَّا التَّقْدِيرُ بِالذِّرَاعِ فَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ فِي ظَاهِرِ الْخُفَّيْنِ وَبَاطِنِهِمَا، وَذَلِكَ ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: الرُّبُعَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ لِلرُّبْعِ حُكْمُ الْكُلِّ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ حَقِيقَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ الدِّرْهَمَ جُعِلَ حَدًّا فَاصِلًا بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ شَرْعًا مَعَ انْعِدَامِ مَا ذَكَرَ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّقْدِيرُ بِالدِّرْهَمِ فِي بَعْضِ النَّجَاسَاتِ؛ لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهَا عَنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، فَقُدِّرَ بِمَا هُوَ كَثِيرٌ فِي الشَّرْعِ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ وَهُوَ الرُّبْعُ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي تَفْسِيرِ الرُّبْعِ قِيلَ: رُبْعُ جَمِيعِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُمَا قَدَّرَاهُ بِرُبْعِ الثَّوْبِ، وَالثَّوْبُ اسْمٌ لِلْكُلِّ وَقِيلَ: رُبْعُ كُلِّ عُضْوٍ وَطَرَفٍ أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ مِنْ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ وَالذَّيْلِ، وَالْكُمِّ وَالدِّخْرِيصِ؛ لِأَنَّ كُلَّ قِطْعَةٍ مِنْهَا قَبْلَ الْخِيَاطَةِ كَانَ ثَوْبًا عَلَى حِدَةٍ، فَكَذَا بَعْدَ الْخِيَاطَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَفْسِيرَ النَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ وَالْخَفِيفَةِ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ النَّجَاسَةَ الْغَلِيظَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: مَا وَرَدَ نَصٌّ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ عَلَى طَهَارَتِهِ، مُعَارِضًا لَهُ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ وَالْخَفِيفَةُ مَا تَعَارَضَ نَصَّانِ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْغَلِيظَةُ: مَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَالْخَفِيفَةُ: مَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نَجَاسَتِهِ وَطَهَارَتِهِ، (إذَا) عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ فَالْأَرْوَاثُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ نَصٌّ يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهَا، وَهُوَ مَا رَوَيْنَا عَنْ «ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَبَ مِنْهُ لَيْلَةَ الْجِنِّ أَحْجَارَ الِاسْتِنْجَاءِ

فَأُتِيَ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَمَى بِالرَّوْثَةِ، وَقَالَ: إنَّهَا رِجْسٌ أَوْ رِكْسٌ - أَيْ نَجِسٌ» - وَلَيْسَ لَهُ نَصٌّ مُعَارِضٌ، وَإِنَّمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِطَهَارَتِهَا بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَالِاجْتِهَادُ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ، فَكَانَتْ نَجَاسَتُهَا غَلِيظَةً. وَعَلَى قَوْلِهِمَا نَجَاسَتُهَا خَفِيفَةٌ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَبَوْلُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً بِالْإِجْمَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ، (أَمَّا) عِنْدَهُ فَلِانْعِدَامِ نَصٍّ مُعَارِضٍ لِنَصِّ النَّجَاسَةِ، (وَأَمَّا) عِنْدَهُمَا فَلِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَبَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً بِالِاتِّفَاقِ، أَمَّا عِنْدَهُ فَلِتَعَارُضِ النَّصَّيْنِ، وَهُمَا حَدِيثُ الْعُرَنِيِّينَ مَعَ حَدِيثِ عَمَّارٍ وَغَيْرِهِ فِي الْبَوْلِ مُطْلَقًا. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ، (وَأَمَّا) الْعَذِرَاتُ وَخُرْءُ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ، فَنَجَاسَتُهَا غَلِيظَةٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ، هَذَا عَلَى وَجْهِ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ، (وَأَمَّا) الْكَلَامُ فِي الْأَرْوَاثِ عَلَى طَرِيقَةِ الِابْتِدَاءِ، فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي الْأَرْوَاثِ ضَرُورَةً، وَعُمُومُ الْبَلِيَّةِ لِكَثْرَتِهَا فِي الطُّرُقَاتِ، فَتَتَعَذَّرُ صِيَانَةُ الْخِفَافِ وَالنِّعَالِ عَنْهَا - وَمَا عَمَّتْ بَلِيَّتُهُ خَفَّتْ قَضِيَّتُهُ - بِخِلَافِ خُرْءِ الدَّجَاجِ وَالْعَذِرَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَلَّمَا يَكُونُ فِي الطُّرُقِ، فَلَا تَعُمُّ الْبَلْوَى بِإِصَابَتِهِ، وَبِخِلَافِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تُنَشِّفُهُ الْأَرْضُ وَيَجِفُّ بِهَا فَلَا تَكْثُرُ إصَابَتُهُ الْخِفَافَ وَالنِّعَالَ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الرَّوْثِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَاحِشًا، وَقِيلَ: إنَّ هَذَا آخِرُ أَقَاوِيلِهِ حِينَ كَانَ بِالرَّيِّ، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ بِهَا فَرَأَى الطُّرُقَ وَالْخَانَاتِ مَمْلُوءَةً مِنْ الْأَرْوَاثِ، وَلِلنَّاسِ فِيهَا بَلْوَى عَظِيمَةٌ فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ: إنَّ طِينَ بُخَارَى إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَاحِشًا؛ لِبَلْوَى النَّاسِ فِيهِ لِكَثْرَةِ الْعَذِرَاتِ فِي الطُّرُقِ؛ وَأَبُو حَنِيفَةَ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] جَمَعَ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ لِكَوْنِهِمَا نَجِسَيْنِ، ثُمَّ بَيْنَ الْأُعْجُوبَةِ لِلْخَلْقِ فِي إخْرَاجِ مَا هُوَ نِهَايَةٌ فِي الطَّهَارَةِ - وَهُوَ اللَّبَنُ - مِنْ بَيْنِ شَيْئَيْنِ نَجِسَيْنِ، مَعَ كَوْنِ الْكُلِّ مَائِعًا فِي نَفْسِهِ؛ لِيُعْرَفَ بِهِ كَمَالُ قُدْرَتِهِ، وَالْحَكِيمُ إنَّمَا يَذْكُرُ مَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي النَّجَاسَةِ؛ لِيَكُونَ إخْرَاجُهُ مَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي الطَّهَارَةِ، مِنْ بَيْنِ مَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي النَّجَاسَةِ نِهَايَةٌ فِي الْأُعْجُوبَةِ، وَآيَةٌ لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ؛ وَلِأَنَّهَا مُسْتَخْبَثَةٌ طَبْعًا، وَلَا ضَرُورَةَ فِي إسْقَاطِ اعْتِبَارِ نَجَاسَتِهَا؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَثُرَتْ فِي الطُّرُقَاتِ فَالْعُيُونُ تُدْرِكُهَا فَيُمْكِنُ صِيَانَةُ الْخِفَافِ وَالنِّعَالِ، كَمَا فِي بَوْلِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَالْأَرْضُ وَإِنْ كَانَتْ تُنَشِّفُ الْأَبْوَالَ فَالْهَوَاءُ يُجَفِّفُ الْأَرْوَاثَ، فَلَا تَلْتَزِقُ بِالْمَكَاعِبِ وَالْخِفَافِ، عَلَى أَنَّا اعْتَبَرْنَا مَعْنَى الضَّرُورَةِ بِالْعَفْوِ عَنْ الْقَلِيلِ مِنْهَا - وَهُوَ الدِّرْهَمُ فَمَا دُونَهُ - فَلَا ضَرُورَةَ فِي التَّرْقِيَةِ بِالتَّقْدِيرِ بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَنَّ ثَوْبًا أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ - وَهِيَ كَثِيرَةٌ - فَجَفَّتْ، وَذَهَبَ أَثَرُهَا، وَخَفِيَ مَكَانُهَا؛ غُسِلَ جَمِيعُ الثَّوْبِ وَكَذَا لَوْ أَصَابَتْ أَحَدَ الْكُمَّيْنِ وَلَا يَدْرِي أَيَّهُمَا هُوَ؛ غَسَلَهُمَا جَمِيعًا، وَكَذَا إذَا رَاثَتْ الْبَقَرَةُ أَوْ بَالَتْ فِي الْكَدِيسِ وَلَا يُدْرَى مَكَانَهُ؛ غَسَلَ الْكُلَّ احْتِيَاطًا، وَقِيلَ: إذَا غَسَلَ مَوْضِعًا مِنْ الثَّوْبِ - كَالدِّخْرِيصِ وَنَحْوِهِ - وَأَحَدِ الْكُمَّيْنِ وَبَعْضًا مِنْ الْكَدِيسِ يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْبَاقِي، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ، وَلَوْ كَانَ الثَّوْبُ طَاهِرًا فَشَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يَرْفَعُ الْيَقِينَ، وَكَذَا إذَا كَانَ عِنْدَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ فَشَكَّ فِي وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ ثِيَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا، إلَّا الْإِزَارُ وَالسَّرَاوِيلُ فَإِنَّهُ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهِمَا وَتَجُوزُ، (أَمَّا) الْجَوَازُ؛ فَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الثِّيَابِ هُوَ الطَّهَارَةَ، فَلَا تَثْبُتُ النَّجَاسَةُ بِالشَّكِّ؛ وَلِأَنَّ التَّوَارُثَ جَارٍ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّلَاةِ فِي الثِّيَابِ الْمَغْنُومَةِ مِنْ الْكَفَرَةِ قَبْلَ الْغَسْلِ. وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فِي الْإِزَارِ وَالسَّرَاوِيلِ فَلِقُرْبِهِمَا مِنْ مَوْضِعِ الْحَدَثِ - وَعَسَى لَا يَسْتَنْزِهُونَ مِنْ الْبَوْلِ - فَصَارَ شَبِيهَ يَدِ الْمُسْتَيْقِظِ وَمِنْقَارِ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فِي الْكَرَاهَةِ خِلَافًا، عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُكْرَهُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يُكْرَهُ. وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ الشَّرَابِ فِي أَوَانِي الْمَجُوسِ فَقَالَ: إنْ لَمْ تَجِدُوا مِنْهَا بُدًّا فَاغْسِلُوهَا، ثُمَّ اشْرَبُوا فِيهَا» وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْغَسْلِ؛ لِأَنَّ ذَبَائِحَهُمْ مَيْتَةٌ، وَأَوَانِيهِمْ قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ دُسُومَةٍ مِنْهَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي ثِيَابِ الْفَسَقَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ لَا يَتَوَقَّوْنَ إصَابَةَ الْخَمْرِ ثِيَابَهُمْ فِي حَالِ الشُّرْبِ. وَقَالُوا فِي الدِّيبَاجِ الَّذِي يَنْسِجُهُ أَهْلُ فَارِسٍ: إنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ فِيهِ الْبَوْلَ عِنْدَ النَّسْجِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَزِيدُ فِي بِرِيقِهِ، ثُمَّ لَا يَغْسِلُونَهُ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ يُفْسِدُهُ فَإِنْ صَحَّ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ

الصَّلَاةُ مَعَهُ. (وَأَمَّا) حُكْمُ مَكَانِ الصَّلَاةِ فَالْمُصَلِّي لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْأَرْضِ، أَوْ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْبِسَاطِ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَكَانِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهِ بِقُرْبٍ مِنْهُ، وَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً، فَإِنْ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْأَرْضِ، وَالنَّجَاسَةُ بِقُرْبٍ مِنْ مَكَانِ الصَّلَاةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ قَلِيلَةً كَانَتْ أَوْ كَثِيرَةً؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْجَوَازِ طَهَارَةُ مَكَانِ الصَّلَاةِ. وَقَدْ وُجِدَ، لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَبْعُدَ عَنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَكَانِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً تَجُوزُ عَلَى أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَتْ؛ لِأَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ عَفْوٌ فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ تَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا تَجُوزُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ أَدَّى رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ مَعَ النَّجَاسَةِ فَلَا يَجُوزُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى الثَّوْبِ، أَوْ الْبَدَنِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْقِيَامِ. (وَلَنَا) أَنَّ وَضْعَ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ لَيْسَ بِرُكْنٍ، وَلِهَذَا لَوْ أَمْكَنَهُ السُّجُودُ بِدُونِ الْوَضْعِ يُجْزِئُهُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَضَعْ أَصْلًا، وَلَوْ تَرَكَ الْوَضْعَ جَازَتْ صَلَاتُهُ، فَهَهُنَا أَوْلَى، وَهَكَذَا نَقُولُ فِيمَا إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى مَوْضِعِ الْقِيَامِ: إنَّ ذَلِكَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ، غَيْرَ أَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَلَا يَثْبُتُ الْجَوَازُ بِدُونِهِ بِخِلَافِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ لَابِسَ الثَّوْبِ صَارَ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ مُسْتَعْمِلًا لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَتَحَرَّكُ بِتَحَرُّكِهِ وَتَمْشِي بِمَشْيِهِ لِكَوْنِهَا تَبَعًا لِلثَّوْبِ، أَمَّا هَهُنَا بِخِلَافِهِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ الْقَدَمَيْنِ، فَإِنْ قَامَ عَلَيْهَا وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ لَمْ تَجُزْ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ، فَلَا يَصِحُّ بِدُونِ الطَّهَارَةِ، كَمَا لَوْ افْتَتَحَهَا مَعَ الثَّوْبِ النَّجَسِ، أَوْ الْبَدَنِ النَّجِسِ، وَإِنْ قَامَ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إلَى مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ. وَقَامَ عَلَيْهَا أَوْ قَعَدَ، فَإِنْ مَكَثَ قَلِيلًا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ أَطَالَ الْقِيَامَ فَسَدَتْ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ، فَلَا يَصِحُّ بِدُونِ الطَّهَارَةِ، فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ الصَّلَاةَ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ، وَمَا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ إنْ كَانَ قَلِيلًا يَكُونُ عَفْوًا وَإِلَّا فَلَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى مَوْضِعِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ حَيْثُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ أَطَالَ الْوَضْعَ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ مَقْصُودًا بَلْ مِنْ تَوَابِعِهَا، فَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الصَّلَاةِ تَبَعًا لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ؛ لِوُجُودِ الطَّهَارَةِ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ السُّجُودِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفَرْضَ هُوَ السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ. وَقَدْرُ الْجَبْهَةِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ فَلَا يَكُونُ عَفْوًا وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فَرْضَ السُّجُودِ يَتَأَدَّى بِمِقْدَارِ أَرْنَبَةِ الْأَنْفِ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ فَيَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ وَإِنْ كَانَ يَتَأَدَّى بِمِقْدَارِ الْأَرْنَبَةِ عِنْدَهُ، وَلَكِنْ إذَا وَضَعَ الْجَبْهَةَ مَعَ الْأَرْنَبَةِ يَقَعُ الْكُلُّ فَرْضًا، كَمَا إذَا طَوَّلَ الْقِرَاءَةَ زِيَادَةً عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ، وَمِقْدَارُ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ فَلَا يَكُونُ عَفْوًا، ثُمَّ قَوْلُهُ: إذَا سَجَدَ عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ لَمْ تَجُزْ أَيْ صَلَاتُهُ، كَذَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمْ يُجِزْ سُجُودَهُ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا تَفْسُدُ، حَتَّى لَوْ أَعَادَ السُّجُودَ عَلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ السُّجُودَ عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ؛ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْجَوَازِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ، فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ عَلَيْهِ، وَسَجَدَ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السَّجْدَةَ أَوْ رُكْنًا آخَرَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ؛ صَارَ فِعْلًا كَثِيرًا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَذَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ إحْدَى الْقَدَمَيْنِ عَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ أَدْنَى الْقِيَامِ هُوَ الْقِيَامُ بِإِحْدَى الْقَدَمَيْنِ - وَإِحْدَاهُمَا طَاهِرَةٌ - فَيَتَأَدَّى بِهِ الْفَرْضُ فَكَانَ وَضْعُ الْأُخْرَى فَضْلًا بِمَنْزِلَةِ وَضْعِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَضَعَهُمَا جَمِيعًا يَتَأَدَّى الْفَرْضُ بِهِمَا، كَمَا فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى مَا مَرَّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْأَرْضِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يُصَلِّي عَلَى بِسَاطٍ فَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَكَانِ الصَّلَاةِ - وَهِيَ كَثِيرَةٌ - فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَرْضِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ الْبِسَاطُ كَبِيرًا بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَ طَرَفٌ مِنْهُ لَا يَتَحَرَّكُ الطَّرَفُ الْآخَرُ يَجُوزُ، وَإِلَّا فَلَا. كَمَا إذَا تَعَمَّمَ بِثَوْبٍ، وَأَحَدُ طَرَفَيْهِ مُلْقًى عَلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ نَجِسٌ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَا يَتَحَرَّكُ بِتَحَرُّكِهِ جَازَ

فصل بيان ما يقع به التطهير

وَإِنْ كَانَ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ لَا يَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا بِخِلَافِ الْعِمَامَةِ، (وَالْفَرْقُ) أَنَّ الطَّرَفَ النَّجِسَ مِنْ الْعِمَامَةِ إذَا كَانَ يَتَحَرَّكُ بِتَحَرُّكِهِ، صَارَ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ مُسْتَعْمِلًا لَهَا، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْبِسَاطِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ يَدَيْهِ أَوْ رُكْبَتَيْهِ عَلَى الْمَوْضِعِ النَّجِسِ مِنْهُ يَجُوزُ؟ ، وَلَوْ صَارَ حَامِلًا لَمَا جَازَ، وَلَوْ صَلَّى عَلَى ثَوْبٍ مُبَطَّنٍ ظِهَارَتُهُ طَاهِرَةٌ، وَبِطَانَتُهُ نَجِسَةٌ، رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَكَذَا ذَكَرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ وَفَّقَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَقَالَ: جَوَابُ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا كَانَ مَخِيطًا غَيْرَ مُضَرَّبٍ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبَيْنِ، وَالْأَعْلَى مِنْهُمَا طَاهِرٌ، وَجَوَابُ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا كَانَ مَخِيطًا مُضَرَّبًا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ وَاحِدٍ ظَاهِرُهُ طَاهِرٌ، وَبَاطِنُهُ نَجِسٌ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّقَ فِيهِ الِاخْتِلَافَ فَقَالَ: عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ. وَعَلَى هَذَا إذَا صَلَّى عَلَى حَجَرِ الرَّحَا، أَوْ عَلَى بَابٍ، أَوْ بِسَاطٍ غَلِيظٍ، أَوْ عَلَى مُكَعَّبٍ ظَاهِرُهُ طَاهِرٌ، وَبَاطِنُهُ نَجِسٌ يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ، فَأَبُو يُوسُفَ نَظَرَ إلَى اتِّحَادِ الْمَحَلِّ فَقَالَ: الْمَحَلُّ مَحَلٌّ وَاحِدٌ فَاسْتَوَى ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ، كَالثَّوْبِ الصَّفِيقِ، وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ الْوَجْهَ الَّذِي يُصَلَّى عَلَيْهِ فَقَالَ: إنَّهُ صَلَّى فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ، وَلَيْسَ هُوَ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ فَتَجُوزُ، كَمَا إذَا صَلَّى عَلَى ثَوْبٍ تَحْتَهُ ثَوْبٌ نَجِسٌ بِخِلَافِ الثَّوْبِ الصَّفِيقِ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ وَإِنْ كَانَ صَفِيقًا فَالظَّاهِرُ نَفَاذُ الرُّطُوبَاتِ إلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا لَا تُدْرِكُهُ الْعَيْنُ لِتَسَارُعِ الْجَفَافِ إلَيْهِ، وَلَوْ أَنَّ بِسَاطًا غَلِيظًا، أَوْ ثَوْبًا مُبَطَّنًا مُضَرَّبًا وَعَلَى كِلَا وَجْهَيْهِ نَجَاسَةٌ أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ فِي مَوْضِعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، لَكِنَّهُمَا لَوْ جُمِعَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ، عَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ يُجْمَعُ، وَلَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، وَنَجَاسَةٌ وَاحِدَةٌ، وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ لَا يُجْمَعُ، وَتَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَلَوْ كَانَ ثَوْبًا صَفِيقًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ النَّفَاذُ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُدْرِكُهُ الْحِسُّ، فَاجْتَمَعَ فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ نَجَاسَتَانِ لَوْ جُمِعَتَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ فَيَمْنَعُ الْجَوَازَ، وَلَوْ أَنَّ ثَوْبًا، أَوْ بِسَاطًا أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ وَنَفَذَتْ إلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ، وَإِذَا جُمِعَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يُجْمَعُ بِالْإِجْمَاعِ، أَمَّا عَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَنَجَاسَةٌ وَاحِدَةٌ. وَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي يُصَلَّى عَلَيْهِ أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَكَذَا إذَا كَانَ الثَّوْبُ مُبَطَّنًا مُضَرَّبًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا يُجْمَعُ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا قُلْنَا. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَقَعُ بِهِ التَّطْهِيرُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَقَعُ بِهِ التَّطْهِيرُ فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا - فِي بَيَانِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّطْهِيرُ وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ طَرِيقِ التَّطْهِيرِ بِالْغَسْلِ، وَالثَّالِثُ - فِي بَيَانِ شَرَائِطِ التَّطْهِيرِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَمَا يَحْصُلُ بِهِ التَّطْهِيرُ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا الْمَاءُ الْمُطْلَقُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَالْحُكْمِيَّةُ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمَاءَ طَهُورًا بِقَوْلِهِ {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وَكَذَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ، أَوْ طَعْمَهُ، أَوْ رِيحَهُ» وَالطَّهُورُ: هُوَ الطَّاهِرُ فِي نَفْسِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ، وَكَذَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْوُضُوءَ وَالِاغْتِسَالَ بِالْمَاءِ طَهُورًا بِقَوْلِهِ فِي آخَرِ آيَةِ الْوُضُوءِ: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] . وَقَوْلِهِ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وَيَسْتَوِي الْعَذْبُ وَالْمِلْحُ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ. وَأَمَّا مَا سِوَى الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ بِهَا الطَّهَارَةُ الْحُكْمِيَّةُ، وَهِيَ زَوَالُ الْحَدَثِ، وَهَلْ تَحْصُلُ بِهَا الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَهِيَ زَوَالُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ عَنْ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: تَحْصُلُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تَحْصُلُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، فَقَالَ فِي الثَّوْبِ: تَحْصُلُ وَفِي الْبَدَنِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْمَاءِ وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ طَهُورِيَّةَ الْمَاءِ عُرِفَتْ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ بِأَوَّلِ مُلَاقَاتِهِ النَّجَسَ صَارَ نَجِسًا، وَالتَّطْهِيرُ بِالنَّجَسِ لَا يَتَحَقَّقُ كَمَا إذَا غُسِلَ بِمَاءٍ نَجِسٍ، أَوْ بِالْخَمْرِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ نَجَاسَةِ الْمَاءِ حَالَةَ الِاسْتِعْمَالِ، وَبَقَاؤُهُ طَهُورًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَلْحَقْ بِهِ فِي إزَالَةِ الْحَدَثِ، (وَلَهُمَا) أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّطْهِيرُ، وَهَذِهِ الْمَائِعَاتُ تُشَارِكُ الْمَاءَ فِي التَّطْهِيرِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا كَانَ مُطَهِّرًا لِكَوْنِهِ مَائِعًا رَقِيقًا يُدَاخَلُ أَثْنَاءَ الثَّوْبِ، فَيُجَاوِرُ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ، فَيُرَقِّقُهَا إنْ كَانَتْ كَثِيفَةً، فَيَسْتَخْرِجُهَا

بِوَاسِطَةِ الْعَصْرِ، وَهَذِهِ الْمَائِعَاتُ فِي الْمُدَاخَلَةِ، وَالْمُجَاوَرَةِ، وَالتَّرْقِيقِ، مِثْلُ الْمَاءِ فَكَانَتْ مِثْلَهُ فِي إفَادَةِ الطَّهَارَةِ بَلْ أَوْلَى، فَإِنَّ الْخَلَّ يَعْمَلُ فِي إزَالَةِ بَعْضِ أَلْوَانٍ لَا تَزُولُ بِالْمَاءِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى التَّطْهِيرِ أَبْلَغُ، (وَأَمَّا) قَوْلُهُمْ: إنَّ الْمَاءَ بِأَوَّلِ مُلَاقَاةِ النَّجَسِ صَارَ نَجِسًا مَمْنُوعٌ، وَالْمَاءُ قَطُّ لَا يَصِيرُ نَجِسًا، وَإِنَّمَا يُجَاوِرُ النَّجَسَ فَكَانَ طَاهِرًا فِي ذَاتِهِ فَصَلُحَ مُطَهِّرًا، وَلَوْ تُصُوِّرَ تَنَجُّسُ الْمَاءِ فَذَلِكَ بَعْدَ مُزَايَلَتِهِ الْمَحَلَّ النَّجِسَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَنَا بِالتَّطْهِيرِ، وَلَوْ تَنَجَّسَ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ لَمَا تُصُوِّرَ التَّطْهِيرُ، فَيَقَعُ التَّكْلِيفُ بِالتَّطْهِيرِ عَبَثًا، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْحَدَثِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالتَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ هُنَاكَ تَعَبُّدًا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ التَّعَبُّدِ، وَهَذَا إذَا كَانَ مَائِعًا يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَنْعَصِرُ، مِثْلُ الْعَسَلِ وَالسَّمْنِ وَالدُّهْنِ وَنَحْوِهَا، لَا تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ أَصْلًا؛ لِانْعِدَامِ الْمَعَانِي الَّتِي يَقِفُ عَلَيْهَا زَوَالُ النَّجَاسَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. (وَمِنْهَا) : الْفَرْكُ، وَالْحَتُّ بَعْدَ الْجَفَافِ فِي بَعْضِ الْأَنْجَاسِ فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ، (وَبَيَانُ) هَذِهِ الْجُمْلَةِ: إذَا أَصَابَ الْمَنِيُّ الثَّوْبَ وَجَفَّ وَفُرِكَ طَهُرَ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَطْهُرَ إلَّا بِالْغَسْلِ، وَإِنْ كَانَ رَطْبًا لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «إذَا رَأَيْتِ الْمَنِيَّ فِي ثَوْبِكِ إنْ كَانَ رَطْبًا فَاغْسِلِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَافْرُكِيهِ» ؛ وَلِأَنَّهُ شَيْءٌ غَلِيظٌ لَزِجٌ لَا يَتَشَرَّبُ فِي الثَّوْبِ إلَّا رُطُوبَتُهُ، ثُمَّ تَنْجَذِبُ تِلْكَ الرُّطُوبَةُ بَعْدَ الْجَفَافِ فَلَا يَبْقَى إلَّا عَيْنُهُ، وَأَنَّهَا تَزُولُ بِالْفَرْكِ بِخِلَافِ الرَّطْبِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ وَإِنْ زَالَتْ بِالْحَتِّ فَأَجْزَاؤُهَا الْمُتَشَرِّبَةُ فِي الثَّوْبِ قَائِمَةٌ، فَبَقِيَتْ النَّجَاسَةُ، وَإِنْ أَصَابَ الْبَدَنَ، فَإِنْ كَانَ رَطْبًا لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ؛ لِمَا بَيَّنَّا؛ وَإِنْ جَفَّ فَهَلْ يَطْهُرُ بِالْحَتِّ؟ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَطْهُرُ وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَطْهُرَ فِي الثَّوْبِ إلَّا بِالْغَسْلِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَاهُ بِالْحَدِيثِ، وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي الثَّوْبِ بِالْفَرْكِ فَبَقِيَ الْبَدَنُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَرْكَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِي الثَّوْبِ يَكُونُ وَارِدًا فِي الْبَدَنِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَدَنَ أَقَلُّ تَشَرُّبًا مِنْ الثَّوْبِ، وَالْحَتُّ فِي الْبَدَنِ يَعْمَلُ عَمَلَ الْفَرْكِ فِي الثَّوْبِ فِي إزَالَةِ الْعَيْنِ. (وَأَمَّا) سَائِرُ النَّجَاسَاتِ إذَا أَصَابَتْ الثَّوْبَ أَوْ الْبَدَنَ وَنَحْوَهُمَا فَإِنَّهَا لَا تَزُولُ إلَّا بِالْغَسْلِ، سَوَاءٌ كَانَتْ رَطْبَةً أَوْ يَابِسَةً، وَسَوَاءٌ كَانَتْ سَائِلَةً أَوْ لَهَا جُرْمٌ وَلَوْ أَصَابَ ثَوْبَهُ خَمْرٌ، فَأَلْقَى عَلَيْهَا الْمِلْحَ، وَمَضَى عَلَيْهِ مِنْ الْمُدَّةِ مِقْدَارُ مَا يَتَخَلَّلُ فِيهَا، لَمْ يُحْكَمْ بِطَهَارَتِهِ، حَتَّى يَغْسِلَهُ. وَلَوْ أَصَابَهُ عَصِيرٌ، فَمَضَى عَلَيْهِ مِنْ الْمُدَّةِ مِقْدَارُ مَا يَتَخَمَّرُ الْعَصِيرُ فِيهَا، لَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ، وَإِنْ أَصَابَ الْخُفَّ أَوْ النَّعْلَ وَنَحْوَهُمَا، فَإِنْ كَانَتْ رَطْبَةً لَا تَزُولُ إلَّا بِالْغَسْلِ كَيْفَمَا كَانَتْ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ عَلَى التُّرَابِ كَيْفَمَا كَانَتْ مُسْتَجْسِدَةً أَوْ مَائِعَةً، وَإِنْ كَانَتْ يَابِسَةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا جُرْمٌ كَثِيفٌ كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَالْمَاءِ النَّجِسِ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا جُرْمٌ كَثِيفٌ فَإِنْ كَانَ مَنِيًّا فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِالْحَتِّ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ كَالْعَذِرَةِ وَالدَّمِ الْغَلِيظِ وَالرَّوْثِ يَطْهُرُ بِالْحَتِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَمَا قَالَاهُ اسْتِحْسَانٌ، وَمَا قَالَهُ قِيَاسٌ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ غَيْرَ الْمَاءِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْإِزَالَةِ، وَكَذَا الْقِيَاسُ فِي الْمَاءِ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، إلَّا أَنَّهُ يُجْعَلُ طَهُورًا لِلضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِالْمَاءِ، فَلَا ضَرُورَةَ فِي غَيْرِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي إزَالَةِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ وَالسَّائِلِ وَفِي الثَّوْبِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمَنِيِّ، إلَّا أَنَّا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَلَعَ نَعْلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، خَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ قَالَ: مَا بَالُكُمْ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ؟ فَقَالُوا: خَلَعْتَ نَعْلَيْكَ فَخَلَعْنَا نِعَالَنَا فَقَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ وَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهِمَا أَذًى، ثُمَّ قَالَ: إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيُقَلِّبْ نَعْلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ بِهِمَا أَذًى فَلْيَمْسَحْهُمَا بِالْأَرْضِ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَهُمَا طَهُورٌ» ، وَهَذَا نَصٌّ وَالْفِقْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَحَلَّ إذَا كَانَ فِيهِ صَلَابَةٌ نَحْوُ الْخُفِّ وَالنَّعْلِ، لَا تَتَخَلَّلُ أَجْزَاءُ النَّجَاسَةِ فِيهِ لِصَلَابَتِهِ، وَإِنَّمَا تَتَشَرَّبُ مِنْهُ بَعْضَ الرُّطُوبَاتِ، فَإِذَا أَخَذَ الْمُسْتَجْسِدَ فِي الْجَفَافِ جُذِبَتْ تِلْكَ الرُّطُوبَاتُ إلَى نَفْسِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَكُلَّمَا ازْدَادَ يُبْسًا ازْدَادَ جَذْبًا، إلَى أَنْ يَتِمَّ الْجَفَافُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ، أَوْ يَبْقَى شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَإِذَا جَفَّ الْخُفُّ، أَوْ مَسَحَهُ عَلَى الْأَرْضِ تَزُولُ الْعَيْنُ بِالْكُلِّيَّةِ، بِخِلَافِ حَالَةِ الرُّطُوبَةِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ وَإِنْ زَالَتْ فَالرُّطُوبَاتُ بَاقِيَةٌ، لِأَنَّهُ خُرُوجُهَا بِالْجَذْبِ بِسَبَبِ الْيُبْسِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَبِخِلَافِ السَّائِلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْجَاذِبُ - وَهُوَ الْعَيْنُ الْمُسْتَجْسِدَةُ - فَبَقِيَتْ الرُّطُوبَةُ الْمُتَشَرِّبَةُ فِيهِ، فَلَا يَطْهُرُ بِدُونِ الْغَسْلِ، وَبِخِلَافِ

الثَّوْبِ فَإِنَّ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ تَتَخَلَّلُ فِي الثَّوْبِ كَمَا تَتَخَلَّلُ رُطُوبَاتُهَا لِتَخَلْخُلِ أَجْزَاءِ الثَّوْبِ، فَبِالْجَفَافِ انْجَذَبَتْ الرُّطُوبَاتُ إلَى نَفْسِهَا، فَتَبْقَى أَجْزَاؤُهَا فِيهِ فَلَا تَزُولُ بِإِزَالَةِ الْجُرْمِ الظَّاهِرِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ، وَصَارَ كَالْمَنِيِّ إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْفَرْكِ عِنْدَ الْجَفَافِ؛ لِأَنَّ الْمَنِيَّ شَيْءٌ لَزِجٌ لَا يُدَاخِلُ أَجْزَاءَ الثَّوْبِ. وَإِنَّمَا تَتَخَلَّلُ رُطُوبَاتُهُ فَقَطْ، ثُمَّ يَجْذِبُهَا الْمُسْتَجْسِدُ عِنْدَ الْجَفَافِ فَيَطْهُرُ فَكَذَلِكَ هَذَا، وَالثَّانِي - أَنَّ إصَابَةَ هَذِهِ الْأَنْجَاسِ الْخِفَافِ وَالنِّعَالِ مِمَّا يَكْثُرُ، فَيُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا بِالْمَسْحِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ بِخِلَافِ الثَّوْبِ، وَالْحَرَجُ فِي الْأَرْوَاثِ لَا غَيْرُ، وَإِنَّمَا سَوَّى فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بَيْنَ الْكُلِّ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَكَذَا مَعْنَى الْحَرَجِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، وَلَوْ أَصَابَهُ الْمَاءُ بَعْدَ الْحَتِّ وَالْمَسْحِ يَعُودُ نَجِسًا، هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ النَّجَاسَةِ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ إذَا تَشَرَّبَ فِيهِ النَّجَسُ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَصْرَ، لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَبَدًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُنْقَعُ فِي الْمَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، إلَّا أَنَّ مُعْظَمَ النَّجَاسَةِ قَدْ زَالَ، فَجُعِلَ الْقَلِيلُ عَفْوًا فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ لِلضَّرُورَةِ، لَا أَنْ يَطْهُرَ الْمَحَلُّ حَقِيقَةً، فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ الْمَاءُ فَهَذَا مَاءٌ قَلِيلٌ جَاوَرَهُ قَلِيلُ نَجَاسَةٍ فَيُنَجِّسُهُ، وَأَطْلَقَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ إذَا حُتَّ طَهُرَ، وَتَأْوِيلُهُ فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ، وَلَوْ أَصَابَتْ النَّجَاسَةُ شَيْئًا صُلْبًا صَقِيلًا، كَالسَّيْفِ وَالْمِرْآةِ وَنَحْوِهِمَا يَطْهُرُ بِالْحَتِّ، رَطْبَةً كَانَتْ أَوْ يَابِسَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُ فِي أَجْزَائِهِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَظَاهِرُهُ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ وَالْحَثِّ وَقِيلَ: إنْ كَانَتْ رَطْبَةً لَا تَزُولُ إلَّا بِالْغَسْلِ، وَلَوْ أَصَابَتْ النَّجَاسَةُ الْأَرْضَ فَجَفَّتْ وَذَهَبَ أَثَرُهَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تَجُوزُ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَلَوْ تَيَمَّمَ بِهَذَا التُّرَابِ لَا يَجُوزُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِيمَا تَقَدَّمَ. (وَلَنَا) طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَطْهُرْ حَقِيقَةً لَكِنْ زَالَ مُعْظَمُ النَّجَاسَةِ عَنْهَا، وَبَقِيَ شَيْءٌ قَلِيلٌ فَيُجْعَلُ عَفْوًا لِلضَّرُورَةِ، فَعَلَى هَذَا إذَا أَصَابَهَا الْمَاءُ تَعُودُ نَجِسَةً لِمَا بَيَّنَّا. وَالثَّانِي - أَنَّ الْأَرْضَ طَهُرَتْ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ مَنْ طَبْعِ الْأَرْضِ أَنَّهَا تُحِيلُ الْأَشْيَاءَ، وَتُغَيِّرُهَا إلَى طَبْعِهَا، فَصَارَتْ تُرَابًا بِمُرُورِ الزَّمَانِ، وَلَمْ يَبْقَ نَجِسٌ أَصْلًا، فَعَلَى هَذَا إنْ أَصَابَهَا لَا تَعُودُ نَجِسَةً، وَقِيلَ: إنَّ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ لِأَبِي يُوسُفَ، وَالثَّانِي لِمُحَمَّدٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا تَغَيَّرَتْ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَتَبَدَّلَتْ أَوْصَافُهَا، تَصِيرُ شَيْئًا آخَرَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، فَيَكُونُ طَاهِرًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَصِيرُ شَيْئًا آخَرَ فَيَكُونُ نَجِسًا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ بَيْنَهُمَا. (مِنْهَا) : الْكَلْبُ إذَا وَقَعَ فِي الْمَلَّاحَةِ، وَالْجَمْدِ، وَالْعَذِرَةُ إذَا أُحْرِقَتْ بِالنَّارِ وَصَارَتْ رَمَادًا، وَطِينُ الْبَالُوعَةِ إذَا جَفَّ وَذَهَبَ أَثَرُهُ وَالنَّجَاسَةُ إذَا دُفِنَتْ فِي الْأَرْضِ وَذَهَبَ أَثَرُهَا بِمُرُورِ الزَّمَانِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ قَائِمَةٌ، فَلَا تَثْبُتُ الطَّهَارَةُ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ النَّجِسَةِ، وَالْقِيَاسُ فِي الْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَ أَنْ لَا يَطْهُرَ، لَكِنْ عَرَفْنَاهُ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، بِخِلَافِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ فَإِنَّ عَيْنَ الْجِلْدِ طَاهِرَةٌ، وَإِنَّمَا النَّجَسُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الرُّطُوبَاتِ، وَأَنَّهَا تَزُولُ بِالدِّبَاغِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَمَّا اسْتَحَالَتْ، وَتَبَدَّلَتْ أَوْصَافُهَا وَمَعَانِيهَا خَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا نَجَاسَةً؛ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِذَاتٍ مَوْصُوفَةٍ، فَتَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ الْوَصْفِ، وَصَارَتْ كَالْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَتْ. (وَمِنْهَا) الدِّبَاغُ لِلْجُلُودِ النَّجِسَةِ، فَالدِّبَاغُ تَطْهِيرٌ لِلْجُلُودِ كُلِّهَا إلَّا جِلْدَ الْإِنْسَانِ وَالْخِنْزِيرِ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، لَكِنْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْجَامِدِ، لَا فِي الْمَائِعِ، بِأَنْ يُجْعَلَ جِرَابًا لِلْحُبُوبِ دُونَ الزِّقِّ لِلْمَاءِ وَالسَّمْنِ وَالدِّبْسِ، وَقَالَ عَامَّةُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ إلَّا جِلْدُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ كَمَا قُلْنَا إلَّا فِي جِلْدِ الْكَلْبِ؛ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ عِنْدَهُ كَالْخِنْزِيرِ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» وَاسْمُ الْإِهَابِ يَعُمُّ الْكُلَّ إلَّا فِيمَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِهِ، (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» كَالْخَمْرِ تُخَلَّلُ فَتَحِلُّ وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِفِنَاءِ قَوْمٍ فَاسْتَسْقَاهُمْ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ مَاءٌ؟ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إلَّا فِي قِرْبَةٍ لِي مَيْتَةً فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَسْتِ دَبَغْتِيهَا؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ فَقَالَ: دِبَاغُهَا طَهُورُهَا» ؛ وَلِأَنَّ نَجَاسَةَ الْمَيْتَاتِ لِمَا فِيهَا مِنْ الرُّطُوبَاتِ وَالدِّمَاءِ السَّائِلَةِ وَأَنَّهَا تَزُولُ بِالدِّبَاغِ فَتَطْهُرُ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ إذَا غُسِلَ؛ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِلُبْسِ جِلْدِ الثَّعْلَبِ، وَالْفَنَكِ، وَالسَّمُّورِ وَنَحْوِهَا، فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَدَلَّ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْإِهَابَ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِجِلْدٍ لَمْ يُدْبَغْ، كَذَا قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ: إلَّا جِلْدَ الْإِنْسَانِ

وَالْخِنْزِيرِ، جَوَابُ ظَاهِرِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْجُلُودَ كُلَّهَا تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ؛ لِأَنَّ نَجَاسَتَهُ لَيْسَتْ لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّمِ وَالرُّطُوبَةِ بَلْ هُوَ نَجِسُ الْعَيْنِ، فَكَانَ وُجُودُ الدِّبَاغِ - فِي حَقِّهِ - وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقِيلَ: إنَّ جِلْدَهُ لَا يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَ؛ لِأَنَّ لَهُ جُلُودًا مُتَرَادِفَةً، بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ كَمَا لِلْآدَمِيِّ. وَأَمَّا جِلْدُ الْإِنْسَانِ فَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَ وَتَنْدَفِعُ رُطُوبَتُهُ بِالدَّبْغِ يَنْبَغِي أَنْ يَطْهُرَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ لَكِنْ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ احْتِرَامًا لَهُ وَأَمَّا جِلْدُ الْفِيلِ فَذَكَرَ فِي الْعُيُونِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَطْهُرُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، ثُمَّ الدِّبَاغُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: حَقِيقِيٍّ، وَحُكْمِيٍّ، فَالْحَقِيقِيُّ: هُوَ أَنْ يُدْبَغَ بِشَيْءٍ لَهُ قِيمَةٌ كَالْقَرْظِ وَالْعَفْصِ وَالسَّبْخَةِ وَنَحْوِهَا، وَالْحُكْمِيُّ: أَنْ يُدْبَغَ بِالتَّشْمِيسِ وَالتَّتْرِيبِ وَالْإِلْقَاءِ فِي الرِّيحِ، وَالنَّوْعَانِ مُسْتَوِيَانِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ إلَّا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَصَابَهُ الْمَاءُ بَعْدَ الدِّبَاغِ الْحَقِيقِيِّ لَا يَعُودُ نَجِسًا، وَبَعْدَ الدِّبَاغِ الْحُكْمِيِّ فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَطْهُرُ الْجِلْدُ إلَّا بِالدِّبَاغِ الْحَقِيقِيِّ، وَأَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْحُكْمِيَّ فِي إزَالَةِ الرُّطُوبَاتِ، وَالْعِصْمَةِ عَنْ النَّتِنِ، وَالْفَسَادِ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، مِثْلُ الْحَقِيقِيِّ، فَلَا مَعْنَى لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الذَّكَاةُ فِي تَطْهِيرِ الذَّبِيحِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهَا أَنَّ الْحَيَوَانَ إنْ كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ فَذُبِحَ طَهُرَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ إلَّا الدَّمَ الْمَسْفُوحَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولَ اللَّحْمِ فَمَا هُوَ طَاهِرٌ مِنْ الْمَيْتَةِ، مِنْ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا دَمَ فِيهَا، كَالشَّعْرِ وَأَمْثَالِهِ، يَطْهُرُ مِنْهُ بِالذَّكَاةِ عِنْدَنَا. وَأَمَّا الْأَجْزَاءُ الَّتِي فِيهَا الدَّمُ كَاللَّحْمِ وَالشَّحْمِ وَالْجِلْدِ فَهَلْ تَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ، اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ جِلْدَهُ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَطْهُرُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الذَّكَاةَ لَمْ تُفِدْ حِلًّا فَلَا تُفِيدُ طُهْرًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَثَرَ الذَّكَاةِ يَظْهَرُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَصْلًا، - وَهُوَ حِلُّ تَنَاوُلِ اللَّحْمِ - وَفِي غَيْرِهِ تَبَعًا فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهَا فِي الْأَصْلِ كَيْفَ يَظْهَرُ فِي التَّبَعِ؛ فَصَارَ كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ مَجُوسِيٌّ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ» أَلْحَقَ الذَّكَاةَ بِالدِّبَاغِ، ثُمَّ الْجِلْدُ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ كَذَا بِالذَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ تُشَارِكُ الدِّبَاغَ فِي إزَالَةِ الدِّمَاءِ السَّائِلَةِ، وَالرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ، فَتُشَارِكُهُ فِي إفَادَةِ الطَّهَارَةِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ فَغَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْجِلْدِ حُكْمٌ مَقْصُودٌ فِي الْجِلْدِ، كَمَا أَنَّ تَنَاوُلَ اللَّحْمِ حُكْمٌ مَقْصُودٌ فِي اللَّحْمِ، وَفِعْلُ الْمَجُوسِيِّ لَيْسَ بِذَكَاةٍ؛ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الذَّكَاةِ، فَلَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ فَتَعَيَّنَ تَطْهِيرُهُ بِالدِّبَاغِ، وَاخْتَلَفُوا فِي طَهَارَةِ اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فَقَالَ: كُلُّ حَيَوَانٍ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ؛ يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَطْهُرُ لَحْمُهُ وَشَحْمُهُ وَسَائِرُ أَجْزَائِهِ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ اسْمٌ لِجُمْلَةِ الْأَجْزَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَمَشَايِخِ بَلْخٍ: إنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ، فَأَمَّا اللَّحْمُ وَالشَّحْمُ وَنَحْوُهُمَا فَلَا يَطْهُرُ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ؛ لِمَا مَرَّ أَنَّ النَّجَاسَةَ لِمَكَانِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَقَدْ زَالَ بِالذَّكَاةِ. (وَمِنْهَا) نَزْحُ مَا وَجَبَ مِنْ الدِّلَاءِ، أَوْ نَزْحُ جَمِيعِ الْمَاءِ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ مِنْ الْآدَمِيِّ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ فِي تَطْهِيرِ الْبِئْرِ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالْخَبَرِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ إذَا وَجَبَ نَزْحُ جَمِيعِ الْمَاءِ مِنْ الْبِئْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُسَدَّ جَمِيعُ مَنَابِعِ الْمَاءِ إنْ أَمْكَنَ، ثُمَّ يُنْزَحُ مَا فِيهَا مِنْ الْمَاءِ النَّجَسِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَدُّ مَنَابِعِهِ لِغَلَبَةِ الْمَاءِ - رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِائَةُ دَلْوٍ. وَرُوِيَ مِائَتَا دَلْوٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِائَتَا دَلْوٍ، أَوْ ثَلَاثُمِائَةِ دَلْوٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ: يُحْفَرُ بِجَنْبِهَا حَفِيرَةً مِقْدَارَ عَرْضِ الْمَاءِ، وَطُولِهِ وَعُمْقِهِ، ثُمَّ يُنْزَحُ مَاؤُهَا وَيُصَبُّ فِي الْحَفِيرَةِ، حَتَّى تَمْتَلِئَ فَإِذَا امْتَلَأَتْ حُكِمَ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُرْسَلُ فِيهَا قَصَبَةٌ، وَيُجْعَلُ لِمَبْلَغِ الْمَاءِ عَلَامَةٌ، ثُمَّ يُنْزَحُ مِنْهَا عَشَرَةُ دِلَاءٍ مَثَلًا، ثُمَّ يُنْظَرُ كَمْ انْتَقَصَ فَيُنْزَحُ بِقَدْرِ ذَلِكَ وَالْأَوْفَقُ فِي الْبَابِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّهُ يُؤْتَى بِرَجُلَيْنِ لَهُمَا بَصَارَةٌ فِي أَمْرِ الْمَاءِ فَيُنْزَحُ بِقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ مَا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي الدَّلْوِ الَّذِي يُنْزَحُ بِهِ الْمَاءُ النَّجِسُ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بِئْرٍ دَلْوُهَا، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ دَلْوٌ يَسَعُ قَدْرَ صَاعٍ، وَقِيلَ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. وَأَمَّا حُكْمُ طَهَارَةِ الدَّلْوِ وَالرِّشَاءِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الدَّلْوِ الَّذِي يُنْزَحُ بِهِ الْمَاءُ النَّجِسُ مِنْ الْبِئْرِ أَيُغْسَلُ أَمْ لَا؟ قَالَ: لَا بَلْ يُطَهِّرُهُ مَا طَهَّرَ الْبِئْرَ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ إذَا طَهُرَتْ الْبِئْرُ يَطْهُرُ الدَّلْوُ وَالرِّشَاءُ، كَمَا يَطْهُرُ طِينُ الْبِئْرِ وَحَمْأَتُهُ؛ لِأَنَّ نَجَاسَتَهُمَا بِنَجَاسَةِ الْبِئْرِ، وَطَهَارَتُهُمَا يَكُونُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ

فصل طريق التطهير بالغسل

أَيْضًا، كَالْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَ فِي دَنٍّ، أَنَّهُ يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الدَّنِّ. (وَمِنْهَا) : تَطْهِيرُ الْحَوْضِ الصَّغِيرِ إذَا تَنَجَّسَ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ: لَا يَطْهُرُ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَاءُ فِيهِ، وَيَخْرُجَ مِنْهُ مِثْلُ مَا كَانَ فِيهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَصِيرُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِهِ ثَلَاثًا. وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ: إذَا دَخَلَ فِيهِ الْمَاءُ الطَّاهِرُ، وَخَرَجَ بَعْضُهُ، يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَا تَسْتَبِينَ فِيهِ النَّجَاسَةُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَاءً جَارِيًا، وَلَمْ يُسْتَيْقَنْ بِبَقَاءِ النَّجَسِ فِيهِ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ، وَقِيلَ: إذَا خَرَجَ مِنْهُ مِقْدَارُ الْمَاءِ النَّجَسِ يَطْهُرُ، كَالْبِئْرِ إذَا تَنَجَّسَتْ، أَنَّهُ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا بِنَزْحِ مَا فِيهَا مِنْ الْمَاءِ وَعَلَى هَذَا حَوْضُ الْحَمَّامِ أَوْ الْأَوَانِي إذَا تَنَجَّسَ. [فَصْلٌ طَرِيقُ التَّطْهِيرِ بِالْغَسْلِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا طَرِيقُ التَّطْهِيرِ بِالْغَسْلِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ النَّجِسَ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ فِي الْمَاءِ الْجَارِي، وَكَذَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ، وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ فِي الْأَوَانِي، بِأَنْ غَسَلَ الثَّوْبَ النَّجَسَ أَوْ الْبَدَنَ النَّجَسَ فِي ثَلَاثِ إجَّانَاتٍ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يَطْهُرُ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْإِجَّانَةِ الثَّالِثَةِ طَاهِرًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَطْهُرُ الْبَدَنُ وَإِنْ غُسِلَ فِي إجَّانَاتٍ كَثِيرَةٍ مَا لَمْ يُصَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ، وَفِي الثَّوْبِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى حُصُولَ الطَّهَارَةِ بِالْغَسْلِ بِالْمَاءِ أَصْلًا، لِأَنَّ الْمَاءَ مَتَى لَاقَى النَّجَاسَةَ تَنَجَّسَ، سَوَاءٌ وَرَدَ الْمَاءُ عَلَى النَّجَاسَةِ، أَوْ وَرَدَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى الْمَاءِ، وَالتَّطْهِيرُ بِالنَّجِسِ لَا يَتَحَقَّقُ، إلَّا أَنَّا حَكَمْنَا بِالطَّهَارَةِ؛ لِحَاجَةِ النَّاسِ تَطْهِيرِ الثِّيَابِ وَالْأَعْضَاءِ النَّجِسَةِ، وَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِالْحُكْمِ بِالطَّهَارَةِ عِنْدَ وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ، فَبَقِيَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: أَنَّ فِي الثَّوْبِ ضَرُورَةٌ، إذْ كُلُّ مَنْ تَنَجَّسَ ثَوْبُهُ لَا يَجِدُ مَنْ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الصَّبُّ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَغَسْلُهُ، فَتَرَكَ الْقِيَاسَ فِيهِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ؛ وَلِهَذَا جَرَى الْعُرْفُ بِغَسْلِ الثِّيَابِ فِي الْأَوَانِي، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْعُضْوِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ غَسْلُهُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ، فَبَقِيَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقِيَاسَ مَتْرُوكٌ فِي الْفَصْلَيْنِ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ فِي الْمَحَلَّيْنِ، إذْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَصَابَتْ النَّجَاسَةُ بَعْضَ بَدَنِهِ يَجِدُ مَاءً جَارِيًا، أَوْ مَنْ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ وَقَدْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الصَّبِّ بِنَفْسِهِ. وَقَدْ تُصِيبُ النَّجَاسَةُ مَوْضِعًا يَتَعَذَّرُ الصَّبُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ دَمِيَ فَمُهُ أَوْ أَنْفُهُ لَوْ صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ لَوَصَلَ الْمَاءُ النَّجِسُ إلَى جَوْفِهِ، أَوْ يَعْلُو إلَى دِمَاغِهِ، وَفِيهِ حَرَجٌ بَيِّنٌ، فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِعُمُومِ الضَّرُورَةِ مَعَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْقِيَاسِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجَسُ أَصْلًا، مَا دَامَ عَلَى الْمَحَلِّ النَّجَسِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا كَانَ عَلَى يَدِهِ نَجَاسَةٌ فَأَدْخَلَهَا فِي جُبٍّ مِنْ الْمَاءِ، ثُمَّ فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ هَكَذَا لَوْ كَانَ فِي الْخَوَابِي خَلٌّ نَجِسٌ - وَالْمَسْأَلَة بِحَالِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - يَخْرُجُ مِنْ الثَّالِثَةِ طَاهِرًا خِلَافًا لَهُمَا، بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةَ تُزِيلُ النَّجَاسَةَ الْحَقِيقِيَّةَ عَنْ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالصَّبُّ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تُزِيلُ أَصْلًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُزِيلُ لَكِنْ بِشَرْطِ الصَّبِّ، وَلَمْ يُوجَدْ فَاتَّفَقَ جَوَابُهُمَا بِنَاءً عَلَى أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ فَمِنْهَا الْعَدَدُ فِي نَجَاسَةٍ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ عِنْدَنَا، وَالْجُمْلَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّجَاسَةَ نَوْعَانِ: حَقِيقِيَّةٌ، وَحُكْمِيَّةٌ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ النَّجَاسَةَ الْحُكْمِيَّةَ - وَهِيَ الْحَدَثُ وَالْجِنَايَةِ - تَزُولُ بِالْغَسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَدُ. وَأَمَّا النَّجَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ، كَالْبَوْلِ وَنَحْوِهِ، ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا تَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ ثَلَاثًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً اعْتِبَارًا بِالْحَدَثِ، إلَّا فِي وُلُوغِ الْكَلْبِ فِي الْإِنَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِالْغَسْلِ سَبْعًا إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ بِالْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ قَالَ: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ ثَلَاثًا» فَقَدْ أَمَرَ بِالْغَسْلِ ثَلَاثًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرْئِيٍّ وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَذَلِكَ عِنْدَمَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ؛ لِقَلْعِ عَادَةِ النَّاسِ فِي الْإِلْفِ بِالْكِلَابِ، كَمَا أَمَرَ بِكَسْرِ الدِّنَانِ وَنَهَى عَنْ الشُّرْبِ فِي ظُرُوفِ الْخَمْرِ حِينَ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ، فَلَمَّا تَرَكُوا الْعَادَةَ أَزَالَ ذَلِكَ كَمَا فِي الْخَمْرِ، دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ، أَوْ أُخْرَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» وَفِي بَعْضِهَا: «وَعَفِّرُوا الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ» وَذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ بِالْإِجْمَاعِ. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسَنَّ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ، حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» أَمْرَ بِالْغَسْلِ ثَلَاثًا عِنْدَ

تَوَهُّمِ النَّجَاسَةِ، فَعِنْدَ تَحَقُّقِهَا أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَزُولُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّجَاسَةَ الْمَرْئِيَّةَ فَقَطْ لَا تَزُولُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، فَكَذَا غَيْرُ الْمَرْئِيَّةِ، وَلَا فَرْقَ سِوَى أَنَّ ذَلِكَ يُرَى بِالْحِسِّ، وَهَذَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْحَدَثِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ ثَمَّةَ لَا نَجَاسَةَ رَأْسًا، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا وُجُوبَ الْغَسْلِ نَصًّا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَالنَّصُّ وَرَدَ بِالِاكْتِفَاءِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَقَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ» ، ثُمَّ التَّقْدِيرُ بِالثَّلَاثِ عِنْدَنَا لَيْسَ بِلَازِمٍ، بَلْ هُوَ مُفَوَّضٌ إلَى غَالِبِ رَأْيِهِ، وَأَكْبَرِ ظَنِّهِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ بِالتَّقْدِيرِ بِالثَّلَاثِ بِنَاءً عَلَى غَالِبِ الْعَادَاتِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّهَا تَزُولُ بِالثَّلَاثِ؛ وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ هُوَ الْحَدُّ الْفَاصِلُ لِإِبْلَاءِ الْعُذْرِ، كَمَا فِي قِصَّةِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ مَعَ مُوسَى حَيْثُ قَالَ لَهُ مُوسَى فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ: {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76] وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً كَالدَّمِ وَنَحْوِهِ، فَطَهَارَتُهَا زَوَالُ عَيْنِهَا، وَلَا عِبْرَةَ فِيهِ بِالْعَدَدِ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ فِي الْعَيْنِ فَإِنْ زَالَتْ الْعَيْنُ زَالَتْ النَّجَاسَةُ، وَإِنْ بَقِيَتْ بَقِيَتْ، وَلَوْ زَالَتْ الْعَيْنُ وَبَقِيَ الْأَثَرُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَزُولُ أَثَرُهُ لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ، مَا لَمْ يَزُلْ الْأَثَرُ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ لَوْنُ عَيْنِهِ، لَا لَوْنُ الثَّوْبِ، فَبَقَاؤُهُ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ مِمَّا لَا يَزُولُ أَثَرُهُ، لَا يَضُرُّ بَقَاءُ أَثَرِهِ عِنْدَنَا، وَعَنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ مَا دَامَ الْأَثَرُ بَاقِيًا وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ بِالْمِقْرَاضِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْأَثَرِ دَلِيلُ بَقَاءِ الْعَيْنِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِلْمُسْتَحَاضَةِ: «حُتِّيهِ، ثُمَّ اقْرُضِيهِ، ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ، وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ» وَهَذَا نَصٌّ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا لَمْ يُكَلِّفْنَا غَسْلَ النَّجَاسَةِ إلَّا بِالْمَاءِ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي طَبْعِ الْمَاءِ قَلْعُ الْآثَارِ دَلَّ عَلَى أَنَّ بَقَاءِ الْأَثَرِ فِيمَا لَا يَزُولُ أَثَرُهُ لَيْسَ بِمَانِعٍ زَوَالَ النَّجَاسَةِ. وَقَوْلُهُ: بَقَاءُ الْأَثَرِ دَلِيلُ بَقَاءِ الْعَيْنِ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَلَا يَضُرُّكِ بَقَاءُ أَثَرِهِ» ، وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْنَا إلَّا بِالْغَسْلِ بِالْمَاءِ، وَلَمْ يُكَلِّفْنَا تَعَلُّمَ الْحِيَلِ فِي قَلْعِ الْآثَارِ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ، وَالْقَلِيلُ مِنْ النَّجَاسَةِ عَفْوٌ عِنْدَنَا؛ وَلِأَنَّ إصَابَةَ النَّجَاسَةِ الَّتِي لَهَا أَثَرٌ بَاقٍ كَالدَّمِ الْأَسْوَدِ الْعَبِيطِ مِمَّا يَكْثُرُ فِي الثِّيَابِ خُصُوصًا فِي حَقِّ النِّسْوَانِ، فَلَوْ أُمِرْنَا بِقَطْعِ الثِّيَابِ؛ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ، وَأَنَّهُ مَدْفُوعٌ وَكَذَا يُؤَدِّي إلَى إتْلَافِ الْأَمْوَالِ، وَالشَّرْعُ نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَأْمُرُنَا بِهِ؟ . (وَمِنْهَا) الْعَصْرُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْعَصْرَ، وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي تَنَجَّسَ إمَّا إنْ كَانَ شَيْئًا لَا يُتَشَرَّبُ فِيهِ أَجْزَاءُ النَّجِسِ أَصْلًا، أَوْ كَانَ شَيْئًا يُتَشَرَّبُ فِيهِ شَيْءٌ يَسِيرٌ، أَوْ كَانَ شَيْئًا يُتَشَرَّبُ فِيهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُتَشَرَّبُ فِيهِ شَيْءٌ أَصْلًا، كَالْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْحَجَرِ وَالصُّفْرِ، وَالنُّحَاسِ وَالْخَزَفِ الْعَتِيقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَطَهَارَتُهُ بِزَوَالِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ، أَوْ الْعَدَدُ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُتَشَرَّبُ فِيهِ شَيْءٌ قَلِيلٌ، كَالْبَدَنِ وَالْخُفِّ وَالنَّعْل فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَسْتَخْرِجُ ذَلِكَ الْقَلِيلَ فَيُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُتَشَرَّبُ فِيهِ كَثِيرٌ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ عَصْرُهُ كَالثِّيَابِ، فَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً فَطَهَارَتُهُ بِالْغَسْلِ وَالْعَصْرِ إلَى أَنْ تَزُولَ الْعَيْنُ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ فَطَهَارَتُهُ بِالْغَسْلِ ثَلَاثًا، وَالْعَصْرِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَسْتَخْرِجُ الْكَثِيرَ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْعَصْرِ، وَلَا يَتِمُّ الْغَسْلُ بِدُونِهِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالْعَصْرِ فِي الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ، وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ عِنْدَنَا بَيْنَ بَوْلِ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَوْلُ الصَّبِيِّ يَطْهُرُ بِالنَّضْحِ مِنْ غَيْرِ عَصْرٍ، (وَاحْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يُنْضَحُ بَوْلُ الصَّبِيِّ، وَيُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ» . (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ بَوْلٍ وَبَوْلٍ، وَمَا رَوَاهُ غَرِيبٌ فَلَا يُقْبَلُ، خُصُوصًا إذَا خَالَفَ الْمَشْهُورَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ عَصْرُهُ، كَالْحَصِيرِ الْمُتَّخَذِ مِنْ الْبُورِيِّ وَنَحْوِهِ، أَيْ مَا لَا يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ إنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُتَشَرَّبْ فِيهِ، بَلْ أَصَابَ ظَاهِرَهُ يَطْهُرُ بِإِزَالَةِ الْعَيْنِ، أَوْ بِالْغَسْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَيْرِ عَصْرٍ، فَأَمَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ تَشَرَّبَ فِيهِ فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُنْقَعُ فِي الْمَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَيُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَطْهُرُ أَبَدًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ: الْخَزَفُ الْجَدِيدُ إذَا تَشَرَّبَ فِيهِ النَّجِسُ، وَالْجِلْدُ إذَا دُبِغَ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ، وَالْحِنْطَةُ إذَا تَشَرَّبَ فِيهَا النَّجَسُ وَانْتَفَخَتْ أَنَّهَا لَا تَطْهُرُ أَبَدًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُنْقَعُ فِي الْمَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَتُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَكَذَا السِّكِّينُ إذَا مُوِّهَ بِمَاءٍ نَجِسٍ، وَاللَّحْمُ إذَا طُبِخَ بِمَاءٍ نَجِسٍ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: يُمَوَّهُ السِّكِّينُ، وَيُطْبَخُ اللَّحْمُ بِالطَّاهِرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: لَا يَطْهُرُ أَبَدًا وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا دَخَلَتْ فِي الْبَاطِنِ يَتَعَذَّرُ اسْتِخْرَاجُهَا إلَّا بِالْعَصْرِ، وَالْعَصْرُ مُتَعَذِّرٌ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: إنْ تَعَذَّرَ الْعَصْرُ فَالتَّجْفِيفُ مُمْكِنٌ، فَيُقَامُ التَّجْفِيفُ مَقَامَ الْعَصْرِ

كتاب الصلاة

دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ أَقْيَسُ، وَمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ أَوْسَعُ، وَلَوْ أَنَّ الْأَرْضَ أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ رَطْبَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ رِخْوَةً يُصَبُّ عَلَيْهَا الْمَاءُ، حَتَّى يَتَسَفَّلَ فِيهَا فَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِهَا شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَتَسَفَّلَتْ الْمِيَاهَ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْعَدَدُ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَمَا فِي غَالِبِ ظَنِّهِ أَنَّهَا طَهُرَتْ، وَيَقُومُ التَّسَفُّلُ فِي الْأَرْضِ مَقَامَ الْعَصْرِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْعَصْرَ، وَعَلَى قِيَاسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُصَبُّ الْمَاءُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيَتَسَفَّلُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ صُلْبَةً فَإِنْ كَانَتْ صَعُودًا يُحْفَرُ فِي أَسْفَلِهَا حَفِيرَةٌ، وَيُصَبُّ الْمَاءُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيُزَالُ عَنْهَا إلَى الْحَفِيرَةِ، ثُمَّ تَكْبَرُ الْحَفِيرَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَوِيَةً بِحَيْثُ لَا يَزُولُ الْمَاءُ عَنْهَا لَا تُغْسَلُ، لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْغَسْلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا كُوثِرَتْ بِالْمَاءِ طَهُرَتْ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ بَاقٍ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ تُقْلَبَ فَيُجْعَلُ أَعْلَاهَا أَسْفَلَهَا، وَأَسْفَلُهَا أَعْلَاهَا لِيَصِيرَ التُّرَابُ الطَّاهِرُ وَجْهَ الْأَرْضِ، هَكَذَا رُوِيَ أَنَّ «أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُحْفَرَ مَوْضِعُ» بَوْلِهِ، فَدَلَّ أَنَّ الطَّرِيقَ مَا قُلْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الصَّلَاةِ] يُحْتَاجُ لِمَعْرِفَةِ مَسَائِلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ إلَى مَعْرِفَة (أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ) ، وَمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ كُلُّ نَوْعٍ مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ، وَالْأَرْكَانِ، وَالشَّرَائِطِ وَالْوَاجِبَاتِ، وَالسُّنَنِ، وَمَا يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ فِيهِ وَمَا يُكْرَهُ، وَمَا يُفْسِدُهُ، وَمَعْرِفَةُ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ أَوْ فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الصَّلَاةُ فِي الْأَصْلِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: فَرْضٍ، وَوَاجِبٌ، وَسُنَّةٌ، وَنَافِلَةٌ وَالْفَرْضُ نَوْعَانِ: فَرْضُ عَيْنٍ، وَفَرْضُ كِفَايَةٍ وَفَرْضُ الْعَيْنِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الصَّلَوَاتُ الْمَعْهُودَةُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَالثَّانِي: صَلَاةُ الْجُمُعَةِ أَمَّا الصَّلَوَاتُ الْمَعْهُودَةُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ. فِي بَيَانِ أَصْلِ فَرْضِيَّتِهَا، وَفِي بَيَانِ عَدَدِهَا، وَفِي بَيَانِ عَدَدِ رَكَعَاتِهَا، وَفِي بَيَانِ أَرْكَانِهَا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْأَرْكَانِ، وَفِي بَيَانِ وَاجِبَاتِهَا، وَفِي بَيَانِ سُنَنِهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ وَمَا يُكْرَهُ فِيهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُهَا، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهَا؛ إذَا فَسَدَتْ؛ أَوْ فَاتَتْ عَنْ أَوْقَاتِهَا؛ أَوْ فَاتَ شَيْءٌ مِنْ صَلَاةٍ مِنْ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ عَنْ الْجَمَاعَةِ؛ أَوْ عَنْ مَحَلِّهِ الْأَصْلِيِّ، وَنَذْكُرُهُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ أَمَّا فَرْضِيَّتُهَا فَثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْمَعْقُولِ. (أَمَّا) الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ: تَعَالَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] أَيْ فَرْضًا مُؤَقَّتًا. وقَوْله تَعَالَى: وَ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ، وَمُطْلَقُ اسْمِ الصَّلَاةِ يَنْصَرِفُ إلَى الصَّلَوَاتِ الْمَعْهُودَةِ وَهِيَ الَّتِي تُؤَدَّى فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] الْآيَةَ يَجْمَعُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لِأَنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ تُؤَدَّى فِي أَحَدِ طَرَفَيْ النَّهَارِ، وَصَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ يُؤَدَّيَانِ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ إذْ النَّهَارُ قِسْمَانِ: غَدَاةٌ وَعَشِيٌّ، وَالْغَدَاةُ: اسْمٌ لِأَوَّلِ النَّهَارِ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ وَمَا بَعْدَهُ الْعَشِيُّ، حَتَّى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْعَشِيُّ فَأَكَلَ بَعْدَ الزَّوَالِ يَحْنَثُ؛ فَدَخَلَ فِي طَرَفَيْ النَّهَارِ ثَلَاثُ صَلَوَاتٍ، وَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] الْمَغْرِبُ، وَالْعِشَاءُ لِأَنَّهُمَا يُؤَدَّيَانِ فِي زُلَفٍ مِنْ اللَّيْلِ وَهِيَ سَاعَاتُهُ. وَقَوْلُهُ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] وَقِيلَ: دُلُوكُ الشَّمْسِ: زَوَالُهَا، وَغَسَقُ اللَّيْلِ: أَوَّلُ ظُلْمَتِهِ فَيَدْخُلُ فِيهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. وَقَوْلُهُ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ: أَيْ وَأَقِمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ، وَهُوَ صَلَاةُ الْفَجْرِ فَثَبَتَتْ فَرْضِيَّةُ ثَلَاثِ صَلَوَاتٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَفَرْضِيَّةُ صَلَاتَيْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ آخَرَ. وَقِيلَ دُلُوكُ الشَّمْسِ غُرُوبُهَا فَيَدْخُلُ فِيهِ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَتَدْخُلُ صَلَاةُ الْفَجْرِ فِي قَوْلِهِ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، وَفَرْضِيَّةُ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ آخَرَ وقَوْله تَعَالَى {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: حِينَ تُمْسُونَ: الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، وَحِينَ تُصْبِحُونَ: الْفَجْرُ، وَعَشِيًّا: الْعَصْرُ، وَحِينَ تُظْهِرُونَ: الظُّهْرُ ذَكَرَ التَّسْبِيحَ وَأَرَادَ بِهِ الصَّلَاةَ أَيْ صَلُّوا لِلَّهِ إمَّا لِأَنَّ التَّسْبِيحَ مِنْ لَوَازِمِ الصَّلَاةِ، أَوْ لِأَنَّهُ تَنْزِيهٌ، وَالصَّلَاةُ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا تَنْزِيهُ الرَّبِّ - عَزَّ وَجَلَّ - لِمَا فِيهَا مِنْ إظْهَارِ الْحَاجَاتِ إلَيْهِ وَإِظْهَارِ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ. وَفِيهِ وَصْفٌ لَهُ بِالْجَلَالِ، وَالْعَظَمَةِ، وَالرِّفْعَةِ، وَالتَّعَالِي عَنْ الْحَاجَةِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ: إنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَرْضِيَّةَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَلَوْ كَانَتْ

أَفْهَامُهُمْ مِثْلَ أَفْهَامِ أَهْلِ زَمَانِنَا لَمَا فَهِمُوا مِنْهَا سِوَى التَّسْبِيحِ الْمَذْكُورِ. وقَوْله تَعَالَى {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130] قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ فَسَبِّحْ، أَيْ فَصَلِّ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ: هُوَ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا هُوَ: صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقَوْلُهُ: وَأَطْرَافَ النَّهَارِ عَلَى التَّكْرَارِ وَالْإِعَادَةِ تَأْكِيدًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ذِكْرَ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى عَلَى التَّأْكِيدِ لِدُخُولِهَا تَحْتَ اسْمِ الصَّلَوَاتِ، كَذَا هَهُنَا. وقَوْله تَعَالَى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36] قِيلَ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ هَهُنَا هُمَا الصَّلَاةُ، وَقِيلَ: الذِّكْرُ: سَائِرُ الْأَذْكَارِ، وَالتَّسْبِيحُ: الصَّلَاةُ. وَقَوْلُهُ: بِالْغُدُوِّ: صَلَاةُ الْغَدَاةِ، وَالْآصَالِ: صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقِيلَ: الْآصَالِ هُوَ: صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَيُحْتَمَلُ الْعَصْرُ وَالظُّهْرُ لِأَنَّهُمَا يُؤَدَّيَانِ فِي الْأَصِيلِ، وَهُوَ الْعَشِيُّ، وَفَرْضِيَّةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ عُرِفَتْ بِدَلِيلٍ آخَرَ (وَأَمَّا) السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» . وَرُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ صَلَوَاتٍ» وَعَنْ عُبَادَةَ أَيْضًا أَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ فَمَنْ أَتَى بِهِنَّ وَلَمْ يُضَيِّعْ مِنْ حَقِّهِنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ؛ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ؛ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ؛ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ» ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّةِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ إنَّمَا وَجَبَتْ شُكْرًا لِلنِّعَمِ مِنْهَا: نِعْمَةُ الْخِلْقَةِ؛ حَيْثُ فَضَّلَ الْجَوْهَرَ الْإِنْسِيَّ بِالتَّصْوِيرِ عَلَى أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَأَحْسَنِ تَقْوِيمٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] وَقَالَ {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] حَتَّى لَا تَرَى أَحَدًا يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ عَلَى غَيْرِ هَذَا التَّقْوِيمِ، وَالصُّورَةِ الَّتِي أُنْشِئَ عَلَيْهَا وَمِنْهَا: نِعْمَةُ سَلَّامَةِ الْجَوَارِحِ عَنْ الْآفَاتِ إذْ بِهَا يَقْدِرُ عَلَى إقَامَةِ مَصَالِحِهِ، أَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ إنْعَامًا مَحْضًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ النِّعْمَةِ فِي خِدْمَةِ الْمُنْعِمِ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ، إذْ شُكْرُ النِّعْمَةِ: اسْتِعْمَالُهَا فِي خِدْمَةِ الْمُنْعِمِ ثُمَّ الصَّلَاةُ تَجْمَعُ اسْتِعْمَالَ جَمِيعِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ مِنْ الْقِيَامِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالْقُعُودِ وَوَضْعِ الْيَدِ مَوَاضِعَهَا وَحِفْظِ الْعَيْنِ، وَكَذَا الْجَوَارِحُ الْبَاطِنَةُ مِنْ شَغْلِ الْقَلْبِ بِالنِّيَّةِ، وَإِشْعَارِهِ بِالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَإِحْضَارِ الذِّهْنِ، وَالْعَقْلِ بِالتَّعْظِيمِ، وَالتَّبْجِيلِ؛ لِيَكُونَ عَمَلُ كُلِّ عُضْوٍ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَمِنْهَا: نِعْمَةُ الْمَفَاصِلِ اللَّيِّنَةِ، وَالْجَوَارِحِ الْمُنْقَادَةِ الَّتِي بِهَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا فِي الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ مِنْ الْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ، وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالصَّلَاةُ تَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَأُمِرْنَا بِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ النِّعَمِ الْخَاصَّةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي خِدْمَةِ الْمُنْعِمِ؛ شُكْرًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ فَرْضٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَمِنْهَا: أَنَّ الصَّلَاةَ - وَكُلَّ عِبَادَةٍ - خِدْمَةُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَخِدْمَةُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ لَا تَكُونُ إلَّا فَرْضًا، إذْ التَّبَرُّعُ مِنْ الْعَبْدِ عَلَى مَوْلَاهُ مُحَالٌ، وَالْعَزِيمَةُ هِيَ شَغْلُ جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ بِالْعِبَادَاتِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ جَعَلَ لِعَبْدِهِ أَنْ يَتْرُكَ الْخِدْمَةَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ رُخْصَةً حَتَّى لَوْ شَرَعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّرْكُ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَعَ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ، وَتَرَكَ الرُّخْصَةَ؛ فَيَعُودُ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ، يُحَقِّقُ مَا ذَكَرْنَا: أَنَّ الْعَبْدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إظْهَارِ سِمَةِ الْعُبُودِيَّةِ؛ لِيُخَالِفَ بِهِ مَنْ اسْتَعْصَى مَوْلَاهُ، وَأَظْهَرَ التَّرَفُّعَ عَنْ الْعِبَادَةِ، وَفِي الصَّلَاةِ إظْهَارُ سِمَةِ الْعُبُودِيَّةِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ الْمَوْلَى جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَحْنِيَةِ الظَّهْرِ لَهُ، وَتَعْفِيرِ الْوَجْهِ بِالْأَرْضِ، وَالْجُثُوِّ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالْمَدْحِ لَهُ. وَمِنْهَا: أَنَّهَا مَانِعَةٌ لِلْمُصَلِّي عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي؛ لِأَنَّهُ إذَا أَقَامَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ خَاشِعًا مُتَذَلِّلًا مُسْتَشْعِرًا هَيْبَةَ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ خَائِفًا تَقْصِيرَهُ فِي عِبَادَتِهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ عَصَمَهُ ذَلِكَ عَنْ اقْتِحَامِ الْمَعَاصِي وَالِامْتِنَاعُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ فَرْضٌ وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وقَوْله تَعَالَى {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] وَمِنْهَا: أَنَّهَا جُعِلَتْ مُكَفِّرَةً لِلذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا وَالزَّلَّاتِ وَالتَّقْصِيرِ، إذْ الْعَبْدُ فِي أَوْقَاتِ

فصل عدد فروض الصلاة

لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ لَا يَخْلُو عَنْ ذَنْبٍ، أَوْ خَطَأٍ، أَوْ زَلَّةٍ، أَوْ تَقْصِيرٍ فِي الْعِبَادَةِ، وَالْقِيَامِ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ، وَإِنْ جَلَّ قَدْرُهُ وَخَطَرُهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؛ إذْ قَدْ سَبَقَ إلَيْهِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ النِّعَمِ، وَالْإِحْسَانِ مَا لَوْ أَخَذَ بِشُكْرِ ذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَدَاءِ شُكْرِ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُؤَدِّيَ شُكْرَ الْكُلِّ؛ فَيَحْتَاجَ إلَى تَكْفِيرِ ذَلِكَ، إذْ هُوَ فَرْضٌ فَفُرِضَتْ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ تَكْفِيرًا لِذَلِكَ. [فَصْلٌ عَدَد فُرُوض الصَّلَاة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا عَدَدُهَا فَالْخَمْسُ، ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، (أَمَّا) الْكِتَابُ فَمَا تَلَوْنَا مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا فَرْضِيَّةُ خَمْسِ صَلَوَاتٍ وقَوْله تَعَالَى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَوَاتِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَعَطَفَ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى عَلَيْهَا، وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ فَهَذَا يَقْتَضِي جَمْعًا يَكُونُ لَهُ وُسْطَى. وَالْوُسْطَى غَيْرُ ذَلِكَ الْجَمْعِ، وَأَقَلُّ جَمْعٍ يَكُونُ لَهُ وُسْطَى، وَالْوُسْطَى غَيْرُ ذَلِكَ الْجَمْعِ هُوَ الْخَمْسُ لِأَنَّ الْأَرْبَعَ وَالسِّتَّ لَا وُسْطَى لَهُمَا، وَكَذَا هُوَ شَفْعٌ إذْ الْوَسَطُ مَا لَهُ حَاشِيَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الشَّفْعِ، وَالثَّلَاثُ لَهُ وُسْطَى لَكِنَّ الْوُسْطَى لَيْسَ غَيْرَ الْجَمْعِ إذْ الِاثْنَانِ لَيْسَا بِجَمْعٍ صَحِيحٍ، وَالسَّبْعَةُ وَكُلُّ وِتْرٍ بَعْدَهَا لَهُ وُسْطَى لَكِنَّهُ لَيْسَ بِأَقَلِّ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ الْخَمْسَةَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ. وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» وَالْأُمَّةُ أَجْمَعَتْ عَلَى هَذَا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ: إنَّ الْوِتْرَ سُنَّةٌ لِمَا أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ، وَالسُّنَنَ الْمُتَوَاتِرَةَ وَالْمَشْهُورَةَ مَا أَوْجَبَتْ زِيَادَةً عَلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ فَالْقَوْلُ بِفَرْضِيَّةِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ يَكُونُ قَوْلًا بِفَرْضِيَّةِ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ، وَأَنَّهُ خِلَافُ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَلَا يَلْزَمُ هَذَا أَبَا حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِفَرْضِيَّةِ الْوِتْرِ وَإِنَّمَا يَقُولُ بِوُجُوبِهِ (وَالْفَرْقُ) بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ عَدَدُ رَكَعَاتِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا عَدَدُ رَكَعَاتِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ فَالْمُصَلِّي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا فَإِنْ كَانَ مُقِيمًا فَعَدَدُ رَكَعَاتِهَا سَبْعَةَ عَشَرَ: رَكْعَتَانِ، وَأَرْبَعٌ، وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثٌ، وَأَرْبَعٌ، عَرَفْنَا ذَلِكَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُهُ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَدَدُ رَكَعَاتِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ فَكَانَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مُجْمَلَةً فِي حَقِّ الْمِقْدَارِ. ثُمَّ زَالَ الْإِجْمَالُ بِبَيَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا وَفِعْلًا كَمَا فِي نُصُوصِ الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَعَدَدُ رَكَعَاتِهَا فِي حَقِّهِ إحْدَى عَشْرَةَ عِنْدَنَا: رَكْعَتَانِ، وَرَكْعَتَانِ، وَرَكْعَتَانِ، وَثَلَاثُ وَرَكْعَتَانِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَبْعَةَ عَشَرَ كَمَا فِي حَقِّ الْمُقِيمِ. [فَصْلٌ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ] (فَصْلٌ) : وَالْكَلَامُ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ يَقَعُ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: فِي بَيَانِ الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ مَا يَصِيرُ الْمُقِيمُ بِهِ مُسَافِرًا وَالثَّالِثُ: فِي بَيَانِ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمُسَافِرُ مُقِيمًا، وَيَبْطُلُ بِهِ السَّفَرُ وَيَعُودُ إلَى حُكْمِ الْإِقَامَةِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ رَكْعَتَانِ لَا غَيْرُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَرْبَعٌ كَفَرْضِ الْمُقِيمِ إلَّا أَنَّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَقْصُرَ رُخْصَةً، مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ لَقَّبَ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّ الْقَصْرَ عِنْدَنَا عَزِيمَةٌ، وَالْإِكْمَالَ رُخْصَةٌ وَهَذَا التَّلْقِيبُ عَلَى أَصْلِنَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ لَيْسَتَا قَصْرًا حَقِيقَةً عِنْدَنَا بَلْ هُمَا تَمَامُ فَرْضِ الْمُسَافِرِ، وَالْإِكْمَالُ لَيْسَ رُخْصَةً فِي حَقِّهِ بَلْ هُوَ إسَاءَةٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ فَقَدْ أَسَاءَ وَخَالَفَ السُّنَّةَ، وَهَذَا لِأَنَّ الرُّخْصَةَ اسْمٌ لِمَا تَغَيَّرَ عَنْ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ لِعَارِضٍ إلَى تَخْفِيفٍ وَيُسْرٍ لِمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَعْنَى التَّغْيِيرِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ رَأْسًا إذْ الصَّلَاةُ فِي الْأَصْلِ فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ جَمِيعًا لِمَا يُذْكَرْ ثُمَّ زِيدَتْ رَكْعَتَانِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَأُقِرَّتْ الرَّكْعَتَانِ عَلَى حَالِهِمَا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ كَمَا كَانَتَا فِي الْأَصْلِ فَانْعَدَمَ مَعْنَى التَّغْيِيرِ أَصْلًا فِي حَقِّهِ. وَفِي حَقِّ الْمُقِيمِ وُجِدَ التَّغْيِيرُ لَكِنْ إلَى الْغِلَظِ وَالشِّدَّةِ لَا إلَى السُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ، وَالرُّخْصَةُ تُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رُخْصَةً فِي حَقِّهِ حَقِيقَةً، وَلَوْ سُمِّيَ فَإِنَّمَا سُمِّيَ مَجَازًا لِوُجُودِ بَعْضِ مَعَانِي الْحَقِيقَةِ وَهُوَ التَّغْيِيرُ. (احْتَجَّ) الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] ، وَلَفْظُ لَا جُنَاحَ تُسْتَعْمَلُ

فِي الْمُبَاحَاتِ وَالْمُرَخَّصَاتِ دُونَ الْفَرَائِضِ وَالْعَزَائِمِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِشَطْرِ الصَّلَاةِ أَلَا فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» وَالْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ يَكُونُ مُخْتَارًا فِي قَبُولِ الصَّدَقَةِ كَمَا فِي التَّصَدُّقِ مِنْ الْعِبَادِ وَلِأَنَّ الْقَصْرَ ثَبَتَ نَظَرًا لِلْمُسَافِرِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ فِي السَّفَرِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْمَشَقَّاتِ الْمُتَضَاعِفَةِ، وَالتَّخْفِيفُ فِي التَّخْيِيرِ فَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى الْقَصْرِ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى الْإِكْمَالِ كَمَا فِي الْإِفْطَارِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ تَامٌّ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَرُوِيَ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، وَرَوَى الْفَقِيهُ الْجَلِيلُ أَبُو أَحْمَدَ الْعِيَاضِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هَكَذَا. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: فُرِضَتْ الصَّلَاةُ فِي الْأَصْلِ رَكْعَتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِبَ فَإِنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ ثُمَّ زِيدَتْ فِي الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ فِي السَّفَر عَلَى مَا كَانَتْ وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِبَ» . وَلَوْ كَانَ الْقَصْرُ رُخْصَةً وَالْإِكْمَالُ هُوَ الْعَزِيمَةُ لَمَا تَرَكَ الْعَزِيمَةَ إلَّا أَحْيَانًا، إذْ الْعَزِيمَةُ أَفْضَلُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَخْتَارُ مِنْ الْأَعْمَالِ إلَّا أَفْضَلَهَا وَكَانَ لَا يَتْرُكُ الْأَفْضَلَ إلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ تَعْلِيمًا لِلرُّخْصَةِ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ فَأَمَّا تَرْكُ الْأَفْضَلِ أَبَدًا وَفِيهِ تَضْيِيعُ الْفَضِيلَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ فَمِمَّا لَا يُحْتَمَلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصَرَ بِمَكَّةَ وَقَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ: «أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» فَلَوْ جَازَ الْأَرْبَعُ لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ يَغْتَنِمُ زِيَادَةَ الْعَمَلِ فِي الْحَرَمِ لِمَا لِلْعِبَادَةِ فِيهِ مِنْ تَضَاعُفِ الْأَجْرِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إمَامًا وَخَلْفَهُ الْمُقِيمُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُتِمَّ أَرْبَعًا كَيْ لَا يَحْتَاجَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ إلَى التَّفَرُّدِ وَلِيَنَالُوا فَضِيلَةَ الِائْتِمَامِ بِهِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، وَحَيْثُ لَمْ يَفْعَلْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا. وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِمِنًى فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قَالَ لَهُمْ إنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ تَأَهَّلَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» فَدَلَّ إنْكَارُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَاعْتِذَارُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْفَرْضَ مَا قُلْنَا إذْ لَوْ كَانَ الْأَرْبَعُ عَزِيمَةً لَمَا أَنْكَرَتْ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ وَلَمَا اعْتَذَرَ هُوَ إذْ لَا يُلَامُ عَلَى الْعَزَائِمِ وَلَا يُعْتَذَرُ عَنْهَا فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مَا قُلْنَا. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ أَيْ: خَالَفَ السُّنَّةَ اعْتِقَادًا لَا فِعْلًا وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلَيْنِ سَأَلَاهُ وَكَانَ أَحَدُهُمَا يُتِمُّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ وَالْآخَرُ يَقْصُرُ عَنْ حَالِهِمَا فَقَالَ لِلَّذِي قَصَرَ: أَنْتَ أَكْمَلْتَ وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَنْتَ قَصَرْتَ. وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا أَصْلُ الْقَصْرِ لَا صِفَتُهُ وَكَيْفِيَّتُهُ، وَالْقَصْرُ قَدْ يَكُونُ عَنْ الرَّكَعَاتِ وَقَدْ يَكُونُ عَنْ الْقِيَامِ إلَى الْقُعُودِ وَقَدْ يَكُونُ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى الْإِيمَاءِ لِخَوْفِ الْعَدُوِّ لَا بِتَرْكِ شَطْرِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ مُبَاحٌ مُرَخَّصٌ عِنْدَنَا فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ مَعَ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ لَيْسَ هُوَ الْقَصْرُ عَنْ الرَّكَعَاتِ " وَهُوَ تَرْكُ شَطْرِ الصَّلَاةِ "؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْقَصْرَ بِشَرْطِ الْخَوْفِ وَهُوَ خَوْفُ فِتْنَةِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] وَالْقَصْرُ عَنْ الرَّكَعَاتِ لَا يَتَعَلَّقُ بِشَرْطِ الْخَوْفِ بَلْ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَالْحَدِيثُ دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْقَبُولِ فَلَا يَبْقَى لَهُ خِيَارُ الرَّدِّ شَرْعًا إذْ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَقَوْلُهُ: " الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ يَكُونُ مُخْتَارًا فِي الْقَبُولِ " قُلْنَا: مَعْنَى قَوْلِهِ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ أَيْ: حَكَمَ عَلَيْكُمْ عَلَى أَنَّ التَّصَدُّقَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ الْإِسْقَاطِ كَالْعَفْوِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ تَرْفِيهًا بِقَصْرِ شَطْرِ الصَّلَاةِ، بَلْ لَمْ يُشْرَعْ فِي السَّفَرِ إلَّا هَذَا الْقَدْرُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ، وَلِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " لَا تَقُولُوا قَصْرًا فَإِنَّ الَّذِي فَرَضَهَا فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا هُوَ الَّذِي فَرَضَهَا فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ " وَلَيْسَ إلَى الْعِبَادِ إبْطَالُ قَدْرِ الْعِبَادَاتِ الْمُوَظَّفَةِ عَلَيْهِمْ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الْمَغْرِبَ أَرْبَعًا أَوْ الْفَجْرَ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ؟ كَذَا هَذَا وَلَا قَصْرَ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ بِسُقُوطِ شَطْرِ الصَّلَاةِ، وَبَعْدَ سُقُوطِ الشَّطْرِ مِنْهُمَا لَا يَبْقَى نِصْفٌ مَشْرُوعٌ بِخِلَافِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَكَذَا لَا قَصْرَ فِي السُّنَنِ وَالتَّطَوُّعَاتِ؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ بِالتَّوْقِيفِ، وَلَا تَوْقِيفَ

فصل بيان ما يصير به المقيم مسافرا

ثَمَّةَ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ بِتَرْكِ السُّنَنِ فِي السَّفَرِ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ أُتِيتَ بِالسُّنَنِ فِي السَّفَرِ لَأَتْمَمْتُ الْفَرِيضَةَ " وَذَلِكَ عِنْدَنَا مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْخَوْفِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ الْمُكْثُ لِأَدَاءِ السُّنَنِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُبْنَى أَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ اخْتَارَ الْأَرْبَعَ لَا يَقَعُ الْكُلُّ فَرْضًا، بَلْ الْمَفْرُوضُ رَكْعَتَانِ لَا غَيْرُ، وَالشَّطْرُ الثَّانِي يَقَعُ تَطَوُّعًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَقَعُ الْكُلُّ فَرْضًا حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْعُدْ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهَا الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ فِي حَقِّهِ وَهِيَ فَرْضٌ، وَعِنْدَهُ لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهَا الْقَعْدَةُ الْأَوْلَى عِنْدَهُ وَهِيَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فِي الْمَكْتُوبَاتِ بِلَا خِلَافٍ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُبْنَى اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَقْتِ وَفِي خَارِجِ الْوَقْتِ وَفِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَاقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ يَجُوزُ فِي الْوَقْتِ وَلَا يَجُوزُ فِي خَارِجِ الْوَقْتِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ قَدْ تَقَرَّرَ رَكْعَتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْمُقِيمِ، فَكَانَتْ الْقَعْدَةُ الْأُولَى فَرْضًا فِي حَقِّهِ، فَيَكُونُ هَذَا اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعْدَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْوَقْتِ وَلَا فِي اقْتِدَاءِ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ، وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ أَوْ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فِي صَلَاةٍ ذَاتِ رَكْعَتَيْنِ فَرْضٌ. وَقَدْ فَاتَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّدَارُكَ بِالْقَضَاءِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْأَرْبَعُ عِنْدَهُ لَكِنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فَرْضٌ عِنْدَهُ، وَلَوْ اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ فِي الظُّهْرِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا عَلَى نَفْسِهِ فِي الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَ مَا خَرَجَ الْوَقْتُ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُصَلِّي أَرْبَعًا وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ هِيَ رَكْعَتَانِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا صَارَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ لِلْمُقِيمِ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ وَقَدْ بَطَلَتْ التَّبَعِيَّةُ بِبُطْلَانِ الِاقْتِدَاءِ، فَيَعُودُ حُكْمُ الْأَصْلِ لَمَّا كَانَتْ الْعَزِيمَةُ هِيَ الْأَرْبَعُ وَإِنَّمَا أُبِيحَ الْقَصْرُ رُخْصَةً فَإِذَا اقْتَدَى بِالْمُقِيمِ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ فَتَأَكَّدَ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْأَرْبَعِ فَلَا تَجُوزُ لَهُ الرُّخْصَةُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَسْتَوِي فِي الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ عَلَى الْمُسَافِرِ مِنْ الصَّلَاةِ سَفَرُ الطَّاعَةِ مِنْ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ، وَسَفَرُ الْمُبَاحِ كَسَفَرِ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهِ، وَسَفَرُ الْمَعْصِيَةِ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَالْبَغْيِ وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَثْبُتُ رُخْصَةُ الْقَصْرِ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ رُخْصَةَ الْقَصْرِ تَثْبُتُ تَخْفِيفًا أَوْ نَظَرًا عَلَى الْمُسَافِرِ، وَالْجَانِي لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ وَالتَّخْفِيفَ. (وَلَنَا) أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ مُسَافِرٍ وَمُسَافِرٍ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِعُمُومِهَا وَإِطْلَاقِهَا، وَيَسْتَوِي فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ صَلَاةُ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، فَالْخَوْفُ لَا يُؤَثِّرُ فِي نُقْصَانِ الْعَدَدِ مُقِيمًا كَانَ الْخَائِفُ أَوْ مُسَافِرًا وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ اعْتِبَارِ بَعْضِ مَا يُنَافِي الصَّلَاةَ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْمَشْيِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا: فَاَلَّذِي يَصِيرُ الْمُقِيمُ بِهِ مُسَافِرًا نِيَّةُ مُدَّةِ السَّفَرِ وَالْخُرُوجُ مِنْ عُمْرَانِ الْمِصْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: مُدَّةُ السَّفَرِ وَأَقَلُّهَا غَيْرُ مُقَدَّرٍ عِنْدَ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ، وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ مُقَدَّرٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّقْدِيرِ قَالَ أَصْحَابُنَا: مَسِيرُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ سَيْرَ الْإِبِلِ وَمَشْيَ الْأَقْدَامِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَوْمَانِ وَأَكْثَرُ الثَّالِثِ، وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَدَّرَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَرْسَخًا وَجَعَلَ لِكُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ فَرَاسِخَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِثَلَاثِ مَرَاحِلَ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَرْبَعَةُ بُرُدٍ كُلُّ بَرِيدٍ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا، وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ، قِيلَ: سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْقَافِلَةَ لَا تَقْطَعُ فِي يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ فَرَاسِخَ، وَقِيلَ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَثْبَتُ أَقْوَالِهِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمَيْنِ، أَمَّا أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ فَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] عَلَّقَ الْقَصْرَ بِمُطْلَقِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ فَالتَّقْدِيرُ تَقْيِيدٌ لِمُطْلَقِ الْكِتَابِ وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا» جَعَلَ لِكُلِّ مُسَافِرٍ أَنْ يَمْسَحَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا وَلَنْ يُتَصَوَّرَ أَنْ يَمْسَحَ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا وَمُدَّةُ السَّفَرِ أَقَلُّ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ

ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ» فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْمُدَّةُ مُقَدَّرَةً بِالثَّلَاثِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الثَّلَاثِ مَعْنًى، وَالْحَدِيثَانِ فِي حَدِّ الِاسْتِفَاضَةِ وَالِاشْتِهَارِ فَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِهِمَا إنْ كَانَ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ نَسْخًا مَعَ مَا أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ فِي الْأَرْضِ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ السَّيْرِ فِيهَا مُسَافِرًا، يُقَالُ ضَرَبَ فِي الْأَرْضِ أَيْ: سَارَ فِيهَا مُسَافِرًا، فَكَانَ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ عِبَارَةً عَنْ سَيْرٍ يَصِيرُ الْإِنْسَانُ بِهِ مُسَافِرًا لَا مُطْلَقَ السَّيْرِ، وَالْكَلَامُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَصِيرُ مُسَافِرًا بِسَيْرٍ مُطْلَقٍ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمُدَّةِ؟ وَكَذَا مُطْلَقُ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ يَقَعُ عَلَى سَيْرٍ يُسَمَّى سَفَرًا، وَالنِّزَاعُ فِي تَقْدِيرِهِ شَرْعًا وَالْآيَةُ سَاكِتَةٌ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِالتَّقْدِيرِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ " وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ " (وَاحْتَجَّ) مَالِكٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِيمَا دُونَ مَكَّةَ إلَى عُسْفَانَ» وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ وَهُوَ غَرِيبٌ فَلَا يُقْبَلُ خُصُوصًا فِي مُعَارَضَةِ الْمَشْهُورِ. (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الرُّخْصَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ لِضَرْبِ مَشَقَّةٍ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُسَافِرُونَ وَهِيَ مَشَقَّةُ الْحَمْلِ، وَالسَّيْرِ، وَالنُّزُولِ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَحْتَاجُ إلَى حَمْلِ رَحْلِهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَحَطِّهِ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ وَالسَّيْرِ، وَهَذِهِ الْمَشَقَّاتُ تَجْتَمِعُ فِي يَوْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ يَحُطُّ الرَّحْلَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي يَحْمِلُهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَالسَّيْرُ مَوْجُودٌ فِي الْيَوْمَيْنِ بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِيهِ إلَّا مَشَقَّةُ السَّيْرِ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ الرَّحْلَ مِنْ وَطَنِهِ وَيَحُطُّهُ فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ فَيُقَدَّرُ بِيَوْمَيْنِ لِهَذَا. (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِكْمَالِ كَانَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَلَا يَجُوزُ رَفْعُهُ إلَّا بِمِثْلِهِ، وَمَا دُونَ الثَّلَاثِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالثَّلَاثُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ رَفْعُهُ بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى يَبْطُلُ بِمَنْ سَافَرَ يَوْمًا عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ مَشَقَّةُ الْحَمْلِ وَالْحَطِّ وَالسَّيْرِ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَمَعَ هَذَا لَا يَقْصُرُ عِنْدَهُ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِاجْتِمَاعِ الْمَشَقَّاتِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مَشَقَّةُ حَمْلِ الرَّحْلِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ وَالسَّيْرُ وَحَطُّهُ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَمَشْيِ الْأَقْدَامِ؛ لِأَنَّهُ الْوَسَطُ؛ لِأَنَّ أَبْطَأَ السَّيْرِ سَيْرُ الْعَجَلَةِ، وَالْأَسْرَعَ سَيْرُ الْفَرَسِ وَالْبَرِيدِ، فَكَانَ أَوْسَطُ أَنْوَاعِ السَّيْرِ سَيْرَ الْإِبِلِ وَمَشْيَ الْأَقْدَامِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا» وَلِأَنَّ الْأَقَلَّ وَالْأَكْثَرَ يَتَجَاذَبَانِ فَيَسْتَقِرُّ الْأَمْرُ عَلَى الْوَسَطِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ سَارَ فِي الْمَاءِ يَوْمًا وَذَلِكَ فِي الْبَرِّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ أَنَّهُ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلْإِسْرَاعِ، وَكَذَا لَوْ سَارَ فِي الْبَرِّ إلَى مَوْضِعٍ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ وَأَنَّهُ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَالْمَشْيِ الْمُعْتَادِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ يَقْصُرُ اعْتِبَارًا لِلسَّيْرِ الْمُعْتَادِ، وَعَلَى هَذَا إذَا سَافَرَ فِي الْجِبَالِ وَالْعَقَبَاتِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِيهَا لَا فِي السَّهْلِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِمَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ بِالْمَرَاحِلِ فِي السَّهْلِ وَالْجَبَلِ وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ ثُمَّ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ ذَلِكَ السَّيْرُ الْمُعْتَادُ فِيهِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ فَيُرْجَعُ إلَيْهِمْ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، وَالتَّقْدِيرُ بِالْفَرَاسِخِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطَّرِيقِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا خَرَجَ إلَى مِصْرٍ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ قَصَرَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ قَصَرَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ لَمْ يَقْصُرْ وَيَكُونُ كَالْعَاصِي فِي سَفَرِهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِالسَّفَرِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ وَقَدْ وُجِدَ وَالثَّانِي: نِيَّةُ مُدَّةِ السَّفَرِ لِأَنَّ السَّيْرَ قَدْ يَكُونُ سَفَرًا وَقَدْ لَا يَكُونُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَخْرُجُ مِنْ مِصْرِهِ إلَى مَوْضِعٍ لِإِصْلَاحِ الضَّيْعَةِ ثُمَّ تَبْدُو لَهُ حَاجَةٌ أُخْرَى إلَى الْمُجَاوَزَةِ عَنْهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مُدَّةُ سَفَرٍ ثُمَّ وَثُمَّ إلَى أَنْ يَقْطَعَ مَسَافَةً بَعِيدَةً أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ لَا لِقَصْدِ السَّفَرِ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ لِلتَّمْيِيزِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي النِّيَّةِ هُوَ نِيَّةُ الْأَصْلِ دُونَ التَّابِعِ حَتَّى يَصِيرَ الْعَبْدُ مُسَافِرًا بِنِيَّةِ مَوْلَاهُ، وَالزَّوْجَةُ بَنِيَّةِ الزَّوْجِ، وَكُلُّ مَنْ لَزِمَهُ طَاعَةُ غَيْرِهِ كَالسُّلْطَانِ وَأَمِيرِ الْجَيْشِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ. وَأَمَّا الْغَرِيمُ مَعَ صَاحِبِ الدَّيْنِ: فَإِنْ كَانَ مَلِيًّا فَالنِّيَّةُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَالْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ مُفْلِسًا فَالنِّيَّةُ إلَى الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ فَكَانَ تَابِعًا لَهُ وَالثَّالِثُ: الْخُرُوجُ مِنْ عُمْرَانِ الْمِصْرِ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا بِمُجَرَّدِ نِيَّةِ السَّفَرِ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ عُمْرَانِ الْمِصْرِ وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ مِنْ الْبَصْرَةِ يُرِيدُ الْكُوفَةَ صَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا ثُمَّ نَظَرَ إلَى خُصٍّ أَمَامَهُ وَقَالَ: لَوْ جَاوَزْنَا الْخُصَّ صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ إذَا كَانَتْ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَزْمِ عَفْوٌ، وَفِعْلُ السَّفَرِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمِصْرِ فَمَا لَمْ يَخْرُجْ لَا يَتَحَقَّقُ قِرَانُ النِّيَّةِ بِالْفِعْلِ فَلَا يَصِيرُ

مُسَافِرًا. وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَوْضِعٍ صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ حَيْثُ يَصِيرُ مُقِيمًا لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ هُنَاكَ قَارَنَتْ الْفِعْلَ " وَهُوَ تَرْكُ السَّفَرِ "؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْفِعْلِ فِعْلٌ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وَسَوَاءً خَرَجَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَوْ فِي وَسَطِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ حَتَّى لَوْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ لِأَدَاءِ رَكْعَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ فِي ظَاهِرِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ: إنَّمَا يَقْصُرُ إذَا خَرَجَ قَبْلَ الزَّوَالِ، فَأَمَّا إذَا خَرَجَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَإِنَّهُ يُكْمِلُ الظُّهْرَ، وَإِنَّمَا يَقْصُرُ الْعَصْرَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا مَضَى مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِيهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِكْمَالُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ وَإِنْ مَضَى دُونَ ذَلِكَ، اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِيهِ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ لِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ لَا غَيْرُ أَوْ لِلتَّحْرِيمَةِ فَقَطْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ يُصَلِّي أَرْبَعًا. (أَمَّا) الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَوْ فِي آخِرِهِ فَعِنْدَهُمْ تَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَكُلَّمَا دَخَلَ الْوَقْتُ أَوْ مَضَى مِنْهُ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ لِأَدَاءِ الْأَرْبَعِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَلَا يَسْقُطُ شَطْرُهَا بِسَبَبِ السَّفَرِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا إذَا صَارَتْ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ ثُمَّ سَافَرَ لَا يَسْقُطُ الشَّطْرُ كَذَا هَهُنَا، وَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا لَا تَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ عَلَى التَّعْيِينِ وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ إلَى الْمُصَلِّي مِنْ حَيْثُ الْفِعْلِ حَتَّى أَنَّهُ إذَا شَرَعَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ يَجِبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَا إذَا شَرَعَ فِي وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ، وَمَتَى لَمْ يُعَيِّنْ بِالْفِعْلِ حَتَّى بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي فِيهِ أَرْبَعًا وَهُوَ مُقِيمٌ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْيِينُ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلْأَدَاءِ فِعْلًا حَتَّى يَأْثَمَ بِتَرْكِ التَّعْيِينِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَيَّنُ لِلْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ شَرْعًا حَتَّى لَوْ صَلَّى فِيهِ التَّطَوُّعَ جَازَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَدَاءُ الْأَرْبَعِ وَاجِبًا قَبْلَ الشُّرُوعِ فَإِذَا نَوَى السَّفَرَ وَخَرَجَ مِنْ الْعُمْرَانِ حَتَّى صَارَ مُسَافِرًا تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْوَقْتُ فَاضِلًا عَلَى الْأَدَاءِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ رَكْعَتَيْنِ فِي جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْفِعْلِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ يَتَعَيَّنُ آخِرَ الْوَقْتِ لِوُجُوبِ تَعْيِينِهِ لِلْأَدَاءِ فِعْلًا، وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْوَقْتُ فَاضِلًا عَلَى الْأَدَاءِ وَلَكِنَّهُ يَسَعُ لِلرَّكْعَتَيْنِ يَتَعَيَّنُ لِلْوُجُوبِ وَيُبْنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: الطَّاهِرَةُ إذَا حَاضَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَوْ نَفِسَتْ وَالْعَاقِلُ إذَا جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ وَالْمُسْلِمُ إذَا ارْتَدَّ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ الْفَرْضَ لَا يَلْزَمُهُمْ الْفَرْضُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَيَّنُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ عِنْدَنَا إذَا لَمْ يُوجَدْ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ فَيَسْتَدْعِي الْأَهْلِيَّةَ فِيهِ لِاسْتِحَالَةِ الْإِيجَابِ عَلَى غَيْرِ الْأَهْلِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَعِنْدَهُمْ يَلْزَمُهُمْ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُمْ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ، وَالْأَهْلِيَّةُ ثَابِتَةٌ فِي أَوَّلِهِ، وَدَلَائِلُ هَذَا الْأَصْلِ تُعْرَفُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَوْ صَلَّى الصَّبِيُّ الْفَرْضَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ بَلَغَ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَكَذَا إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ بَلَغَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَا يُجْزِيهِ عَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ كَانَ نَظَرًا لَهُ، وَالنَّظَرُ هُنَا لِلْوُجُوبِ كَيْ لَا تَلْزَمَهُ الْإِعَادَةُ فَأَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ حَيْثُ صَحَّتْ مِنْهُ نَظَرًا لَهُ وَهُوَ الثَّوَابُ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ بِالْمِيرَاثِ إنْ لَمْ يَزُلْ بِالْوَصِيَّةِ. (وَلَنَا) أَنَّ فِي نَفْسِ الْوُجُوبِ ضَرَرًا فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الصَّبِيِّ كَمَا لَوْ لَمْ يَبْلُغْ فِيهِ وَإِنَّمَا انْقَلَبَ نَفْعًا لِحَالَةٍ اتَّفَقَتْ " وَهِيَ الْبُلُوغُ فِيهِ " وَأَنَّهُ نَادِرٌ فَبَقِيَ عَدَمُ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ فِي الْأَصْلِ الْمُسْلِمُ إذَا صَلَّى ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - ثُمَّ أَسْلَمَ فِي الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الْحَجُّ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217] عَلَّقَ حَبْطَ الْعَمَلِ بِالْمَوْتِ عَلَى الرِّدَّةِ دُونَ نَفْسِ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ حَصَلَتْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقُرْبَةِ فَلَا يُبْطِلُهَا كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] وقَوْله تَعَالَى {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] عَلَّقَ حَبْطَ الْعَمَلِ بِنَفْسِ الْإِشْرَاكِ بَعْدَ الْإِيمَانِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَنَقُولُ: مَنْ عَلَّقَ حُكْمًا بِشَرْطَيْنِ وَعَلَّقَهُ بِشَرْطٍ فَالْحُكْمُ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ التَّعْلِيقَيْنِ وَيَنْزِلُ عِنْدَ أَيِّهِمَا وُجِدَ كَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حَرٌّ إذَا جَاءَ يَوْمُ الْخَمِيسِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَنْتَ حَرٌّ إذَا جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لَا يَبْطُلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بَلْ إذَا جَاءَ يَوْمُ الْخَمِيسِ عَتَقَ وَلَوْ كَانَ بَاعَهُ فَجَاءَ يَوْمُ الْخَمِيسِ وَلَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَجَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ عَتَقَ بِالتَّعْلِيقِ الْآخَرِ. وَأَمَّا التَّيَمُّمُ: فَهُوَ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ طَهَارَةٌ وَأَثَرُ الرِّدَّةِ فِي إبْطَالِ الْعِبَادَاتِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ مَعَ الْكُفْرِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ هَهُنَا مُتَحَقِّقَةٌ وَالرِّدَّةُ لَا تُبْطِلُهَا لِكَوْنِهِ مَجْبُورًا عَلَى الْإِسْلَامِ فَبَقِيَتْ

الْحَاجَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي فَصْلِ التَّيَمُّمِ (وَأَمَّا) الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَبِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلِفٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَهُوَ مِقْدَارُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، قَالَ الْكَرْخِيُّ وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ بِمِقْدَارِ التَّحْرِيمَةِ وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجِبُ إلَّا إذَا بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُؤَدَّى فِيهِ الْفَرْضُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُدُورِيُّ وَبُنِيَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: الْحَائِضُ إذَا طَهُرَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ أَوْ سَافَرَ الْمُقِيمُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَا يَجِبُ الْفَرْضُ وَلَا يَتَغَيَّرُ إلَّا إذَا بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْأَدَاءُ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ يَجِبُ الْفَرْضُ وَيَتَغَيَّرُ الْأَدَاءُ وَإِنْ بَقِيَ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ لِلتَّحْرِيمَةِ فَقَطْ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْأَدَاءِ، وَأَدَاءُ كُلِّ الْفَرْضِ فِي هَذَا الْقَدْرِ لَا يُتَصَوَّرُ فَاسْتَحَالَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ. (وَلَنَا) أَنَّ آخِرَ الْوَقْتِ يَجِبُ تَعْيِينُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ لِلْأَدَاءِ فِعْلًا عَلَى مَا مَرَّ، فَإِنْ بَقِيَ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ لِكُلِّ الصَّلَاةِ يَجِبُ تَعْيِينُهُ لِكُلِّ الصَّلَاةِ فِعْلًا بِالْأَدَاءِ، وَإِنْ بَقِيَ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ لِلْبَعْضِ وَجَبَ تَعْيِينُهُ لِذَلِكَ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ كُلِّ الْوَقْتِ لِكُلِّ الْعِبَادَةِ تَعْيِينُ كُلِّ أَجْزَائِهِ لِكُلِّ أَجْزَائِهَا ضَرُورَةً، وَفِي تَعْيِينِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ لِجُزْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ فَائِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَتَجَزَّأُ فَإِذَا وَجَبَ الْبَعْضُ فِيهِ وَجَبَ الْكُلُّ فِيمَا يَتَعَقَّبُهُ مِنْ الْوَقْتِ إنْ كَانَ لَا يَتَعَقَّبُهُ وَقْتٌ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ تَعَقَّبَهُ يَجِبُ الْكُلُّ لِيُؤَدَّى فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ الْوَقْتِ إلَّا قَدْرُ مَا يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ وَجَبَ تَحْصِيلُ التَّحْرِيمَةِ ثُمَّ تَجِبُ بَقِيَّةُ الصَّلَاةِ لِضَرُورَةِ وُجُوبِ التَّحْرِيمَةِ فَيُؤَدِّيهَا فِي الْوَقْتِ الْمُتَّصِلِ بِهِ فِيمَا وَرَاءَ الْفَجْرِ، وَفِي الْفَجْرِ يُؤَدِّيهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى التَّدْرِيجِ الَّذِي ذَكَرْنَا قَدْ تَقَرَّرَ وَقَدْ عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ فَيَقْضِي، وَهَذَا بِخِلَافِ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ رَمَضَانَ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْوَقْتَ مِعْيَارٌ لِلصَّوْمِ فَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَصْلُحُ لِلْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ الْعِبَادَةِ بَلْ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ الْوَقْتِ مُتَعَيَّنٌ لِلْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ الْعِبَادَةِ ثُمَّ الثَّانِي مِنْهُ لِلثَّانِي مِنْهَا وَالثَّالِثُ لِلثَّالِثِ وَهَكَذَا فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ الْعِبَادَةِ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي أَوْ الْخَامِسِ مِنْ الْوَقْتِ وَلَا الْجُزْءِ الْخَامِسِ مِنْ الْعِبَادَةِ مِنْ الْجُزْءِ السَّادِسِ مِنْ الْوَقْتِ فَإِذَا فَاتَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ الْوَقْتِ وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ فَلَمْ يَجِبْ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ الْعِبَادَةِ لِاسْتِحَالَةِ الْوُجُوبِ عَلَى غَيْرِ الْأَهْلِ فَبَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ أَسْلَمَ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي أَوْ الْعَاشِرِ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ الصَّوْمِ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِوُجُوبِهِ فِيهِ. وَلِأَنَّ وُجُوبَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الصَّوْمِ فِي جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ وَهُوَ مَحَلُّ أَدَائِهِ وَالْجُزْءُ الثَّانِي مِنْ الْيَوْمِ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ الْعِبَادَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الْجُزْءِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا وَلَا أَدَاءً بِخِلَافِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلَّ جُزْءٍ مُطْلَقٍ مِنْ الْوَقْتِ يَصْلُحُ أَنْ يَجِبَ فِيهِ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ الصَّلَاةِ، إذْ التَّحْرِيمَةُ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَيْسَ بِمِعْيَارٍ لِلصَّلَاةِ فَهُوَ الْفَرْقُ - وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ - ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِمِقْدَارِ التَّحْرِيمَةِ فِي حَقِّ الْحَائِضِ إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشْرًا فَأَمَّا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ إذَا طَهُرَتْ وَعَلَيْهَا مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا تَغْتَسِلُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا مِنْ الْوَقْتِ مَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَغْتَسِلَ فِيهِ أَوْ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَحَرَّمَ لِلصَّلَاةِ فَلَيْسَ عَلَيْهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ أَيَّامَهَا إذَا كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ لَا يُحْكَمُ بِخُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِ الدَّمِ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ، أَوْ يَمْضِي عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ تَصِيرُ تِلْكَ الصَّلَاةُ دَيْنًا عَلَيْهَا، وَإِذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشَرَةً بِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ يُحْكَمُ بِخُرُوجِهَا عَنْ الْحَيْضِ فَإِذَا أَدْرَكَتْ جُزْءًا مِنْ الْوَقْتِ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ سَوَاءً تَمَكَّنَتْ مِنْ الِاغْتِسَالِ أَوْ لَمْ تَتَمَكَّنْ بِمَنْزِلَةِ كَافِرٍ أَسْلَمَ وَهُوَ جُنُبٌ أَوْ صَبِيٍّ بَلَغَ بِالِاحْتِلَامِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ سَوَاءً تَمَكَّنَ مِنْ الِاغْتِسَالِ فِي الْوَقْتِ أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَيْضَ هُوَ خُرُوجُ الدَّمِ فِي وَقْتٍ مُعْتَادٍ فَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِزَوَالِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا انْعَدَمَ حَقِيقَةً انْعَدَمَ حُكْمًا إلَّا أَنَّا لَا نَحْكُمُ بِخُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. قَالَ الشَّعْبِيُّ حَدَّثَنِي بِضْعَةَ عَشَرَ نَفَرًا مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ الزَّوْجَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ وَكَانَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ نَفْسَ الِانْقِطَاعِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَثِيرًا مَا يَتَخَلَّلُ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ فَشُرِطَتْ زِيَادَةُ

فصل بيان ما يصير المسافر به مقيما

شَيْءٍ لَهُ أَثَرٌ فِي التَّطْهِيرِ وَهُوَ الِاغْتِسَالُ أَوْ وُجُوبُ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الطُّهْرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشْرًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْإِجْمَاعَ وَمِثْلَ هَذَا الدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ مُنْعَدِمَانِ وَلِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ لَنَا أَنَّ الْحَيْضَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسْتَقْصَى فِي كِتَابِ الْحَيْضِ وَهَلْ يُبَاحُ لِلزَّوْجِ قِرَانُهَا قَبْلَ الِاغْتِسَالِ؟ إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشْرًا؟ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ يُبَاحُ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يُبَاحُ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ، وَإِذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَا يُبَاحُ لِلزَّوْجِ قُرْبَانُهَا قَبْلَ الِاغْتِسَالِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِذَا مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَقْرَبَهَا عِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ خِلَافًا لِزُفَرَ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَصِيرُ الْمُسَافِرُ بِهِ مُقِيمًا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَصِيرُ الْمُسَافِرُ بِهِ مُقِيمًا: فَالْمُسَافِرُ يَصِيرُ مُقِيمًا بِوُجُودِ الْإِقَامَةِ، وَالْإِقَامَةُ تَثْبُتُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: صَرِيحُ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي مَكَان وَاحِدٍ صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: نِيَّةُ الْإِقَامَةِ وَنِيَّةُ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، وَاتِّحَادُ الْمَكَانِ، وَصَلَاحِيَتُهُ لِلْإِقَامَةِ. (أَمَّا) نِيَّةُ الْإِقَامَةِ: فَأَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ دَخَلَ مِصْرًا وَمَكَثَ فِيهِ شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ لِانْتِظَارِ الْقَافِلَةِ أَوْ لِحَاجَةٍ أُخْرَى يَقُولُ: أَخْرُجُ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا وَلَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ: إذَا أَقَامَ أَكْثَرَ مِمَّا أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَبُوكَ كَانَ مُقِيمًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ. وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ بِتَبُوكَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَفِي قَوْلٍ: إذَا أَقَامَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ كَانَ مُقِيمًا وَلَا يُبَاحُ لَهُ الْقَصْرُ (احْتَجَّ) لِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِقَامَةَ مَتَى وُجِدَتْ حَقِيقَةً يَنْبَغِي أَنْ تَكْمُلَ الصَّلَاةُ قَلَّتْ الْإِقَامَةُ أَوْ كَثُرَتْ؛ لِأَنَّهَا ضِدُّ السَّفَرِ، وَالشَّيْءُ يَبْطُلُ بِمَا يُضَادُّهُ إلَّا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ بِتَبُوكَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقَصَرَ الصَّلَاةَ» فَتَرَكْنَا هَذَا الْقَدْرَ بِالنَّصِّ فَنَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ فِيمَا وَرَاءَهُ. وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَبْطُلَ السَّفَرُ بِقَلِيلِ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ قَرَارٌ وَالسَّفَرُ انْتِقَالٌ، وَالشَّيْءُ يَنْعَدِمُ بِمَا يُضَادُّهُ فَيَنْعَدِمَ حُكْمُهُ ضَرُورَةً، إلَّا أَنَّ قَلِيلَ الْإِقَامَةِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ عَادَةً فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْقَلِيلِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْكَثِيرِ، وَالْأَرْبَعَةُ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْكَثِيرِ أَنْ يَكُونُ جَمْعًا، وَالثَّلَاثَةُ وَإِنْ كَانَتْ جَمْعًا لَكِنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ فَكَانَتْ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ مِنْ وَجْهٍ، فَلَمْ تَثْبُتْ الْكَثْرَةُ الْمُطْلَقَةُ فَإِذَا صَارَتْ أَرْبَعَةً صَارَتْ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِزَوَالِ مَعْنَى الْقِلَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ. (وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَقَامَ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى نَيْسَابُورَ شَهْرَيْنِ وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ شَهْرًا وَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَعَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ أَقَامَ بِخَوَارِزْمَ سَنَتَيْنِ وَكَانَ يَقْصُرُ. وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُصَلِّي إلَّا الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» وَالْقِيَاسُ بِمُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ (وَأَمَّا) مُدَّةُ الْإِقَامَةِ: فَأَقَلُّهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا عِنْدَنَا. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: أَقَلُّهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، وَحُجَّتُهُمَا مَا ذَكَرْنَا، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِينَ الْمُقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ النُّسُكِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» فَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ تُوجِبُ حُكْمَ الْإِقَامَةِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمَا قَالَا: إذَا دَخَلْتَ بَلْدَةً وَأَنْتَ مُسَافِرٌ وَفِي عَزْمِكَ أَنْ تُقِيمَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْمِلْ الصَّلَاةَ وَإِنْ كُنْتَ لَا تَدْرِي مَتَى تَظْعَنُ فَأَقْصِرْ وَهَذَا بَابٌ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَادِيرِ، وَلَا يُظَنُّ بِهِمَا التَّكَلُّمُ جُزَافًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا قَالَاهُ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَأَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَصْحَابِهِ دَخَلُوا مَكَّةَ صَبِيحَةَ الرَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَمَكَثُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَالْيَوْمَ الْخَامِسَ وَالْيَوْمَ السَّادِسَ وَالْيَوْمَ السَّابِعَ فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَةُ الْيَوْمِ الثَّامِنِ وَهُوَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ خَرَجُوا إلَى مِنًى، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ وَقَدْ وَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى إقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ» دَلَّ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْأَرْبَعَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُشِيرُ إلَى تَقْدِيرِ أَدْنَى مُدَّةِ الْإِقَامَةِ بِالْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ حَاجَتَهُمْ تَرْتَفِعُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فَرَخَّصَ بِالْمُقَامِ ثَلَاثًا لِهَذَا لَا لِتَقْدِيرِ

الْإِقَامَةِ. (وَأَمَّا) اتِّحَادُ الْمَكَانِ: فَالشَّرْطُ نِيَّةُ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ فِي مَكَان وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ قَرَارٌ وَالِانْتِقَالُ يُضَادُّهُ وَلَا بُدَّ مِنْ الِانْتِقَالِ فِي مَكَانَيْنِ وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: إذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي مَوْضِعَيْنِ فَإِنْ كَانَ مِصْرًا وَاحِدًا أَوْ قَرْيَةً وَاحِدَةً صَارَ مُقِيمًا؛ لِأَنَّهُمَا مُتَّحِدَانِ حُكْمًا، أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ إلَيْهِ مُسَافِرًا لَمْ يَقْصُرْ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَهُوَ نِيَّةُ كَمَالِ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ فِي مَكَان وَاحِدٍ فَصَارَ مُقِيمًا وَإِنْ كَانَا مِصْرَيْنِ نَحْوَ مَكَّةَ وَمِنًى أَوْ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ أَوْ قَرْيَتَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مِصْرٌ وَالْآخَرُ قَرْيَةٌ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا؛ لِأَنَّهُمَا مَكَانَانِ مُتَبَايِنَانِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ إلَيْهِ الْمُسَافِرُ يَقْصُرُ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ " وَهُوَ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا " فَلَغَتْ نِيَّتُهُ، فَإِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِاللَّيَالِيِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وَيَخْرُجَ بِالنَّهَارِ إلَى الْمَوْضِعِ الْآخَرِ فَإِنْ دَخَلَ أَوَّلًا الْمَوْضِعَ الَّذِي نَوَى الْمُقَامَ فِيهِ بِالنَّهَارِ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا، وَإِنْ دَخَلَ الْمَوْضِعَ الَّذِي نَوَى الْإِقَامَةَ فِيهِ بِاللَّيَالِيِ يَصِيرُ مُقِيمًا، ثُمَّ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمَوْضِعِ الْآخَرِ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ إقَامَةِ الرَّحْلِ حَيْثُ يَبِيتُ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قِيلَ لِلسُّوقِيِّ أَيْنَ تَسْكُنُ؟ يَقُولُ فِي مَحَلَّةِ كَذَا وَهُوَ بِالنَّهَارِ يَكُونُ بِالسُّوقِ، وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ أَنَّ الْحَاجَّ إذَا دَخَلَ مَكَّةَ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ وَنَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ دَخَلَ قَبْلَ أَيَّامِ الْعَشْرِ لَكِنْ بَقِيَ إلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَنَوَى الْإِقَامَةَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى عَرَفَاتٍ فَلَا تَتَحَقَّقُ نِيَّةُ إقَامَتِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَلَا يَصِحُّ، وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ تَفَقُّهِ عِيسَى بْنِ أَبَانَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا بِطَلَبِ الْحَدِيثِ، قَالَ: فَدَخَلْتُ مَكَّةَ فِي أَوَّلِ الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مَعَ صَاحِبٍ لِي، وَعَزَمْتُ عَلَى الْإِقَامَةِ شَهْرًا فَجَعَلْتُ أُتِمُّ الصَّلَاةَ فَلَقِيَنِي بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ: أَخْطَأْتَ فَإِنَّكَ تَخْرُجُ إلَى مِنًى وَعَرَفَاتٍ فَلَمَّا رَجَعْتُ مِنْ مِنًى بَدَا لِصَاحِبِي أَنْ يَخْرُجَ وَعَزَمْتُ عَلَى أَنْ أُصَاحِبَهُ وَجَعَلْتُ أَقْصُرُ الصَّلَاةَ فَقَالَ لِي صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَخْطَأْتَ فَإِنَّكَ مُقِيمٌ بِمَكَّةَ فَمَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْهَا لَا تَصِيرُ مُسَافِرًا فَقُلْت: أَخْطَأْتُ فِي مَسْأَلَةٍ فِي مَوْضِعَيْنِ فَدَخَلْتُ مَجْلِسَ مُحَمَّدٍ وَاشْتَغَلْتُ بِالْفِقْهِ وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا هَذِهِ الْحِكَايَةَ لِيُعْلَمَ مَبْلَغُ عِلْمِ الْفِقْهِ فَيَصِيرُ مَبْعَثُةُ لِلطَّلَبَةِ عَلَى طَلَبِهِ. (وَأَمَّا) الْمَكَانُ الصَّالِحُ لِلْإِقَامَةِ: فَهُوَ مَوْضِعُ اللُّبْثِ وَالْقَرَارِ فِي الْعَادَةِ نَحْوُ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، وَأَمَّا الْمَفَازَةُ وَالْجَزِيرَةُ وَالسَّفِينَةُ فَلَيْسَتْ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ، حَتَّى لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا يَصِيرُ مُقِيمًا كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ وَالتُّرْكُمَانِ إذَا نَزَلُوا بِخِيَامِهِمْ فِي مَوْضِعٍ وَنَوَوْا الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا صَارُوا مُقِيمِينَ، فَعَلَى هَذَا إذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَصِيرُ مُقِيمًا كَمَا فِي الْقَرْيَةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُمْ لَمْ يَصِيرُوا مُقِيمِينَ فَعَلَى هَذَا إذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فِيهِ لَا يَصِحُّ. " ذِكْرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْعُيُونِ " فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا فِي الْمَفَازَةِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ قَوْمٌ وَطَنُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ بِالْخِيَامِ وَالْفَسَاطِيطِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، وَعَلَى هَذَا الْإِمَامُ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ مَعَ الْجُنْدِ وَمَعَهُمْ أَخْبِيَةٌ وَفَسَاطِيطُ فَنَوَوْا الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي الْمَفَازَةِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ مَوْضِعُ الْقَرَارِ، وَالْمَفَازَةُ لَيْسَتْ مَوْضِعَ الْقَرَارِ فِي الْأَصْلِ، فَكَانَتْ النِّيَّةُ لَغْوًا. وَلَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَوَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى إقَامَةِ خَمْسَ عَشَرَ يَوْمًا لَمْ تَصِحَّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ، وَيَقْصُرُونَ، وَكَذَا إذَا نَزَلُوا الْمَدِينَةَ وَحَاصَرُوا أَهْلَهَا فِي الْحِصْنِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانُوا فِي الْأَخْبِيَةِ وَالْفَسَاطِيطِ خَارِجَ الْبَلْدَةِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْأَبْنِيَةِ صَحَّتْ نِيَّتُهُمْ وَقَالَ زُفَرُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا: إنْ كَانَتْ الشَّوْكَةُ وَالْغَلَبَةُ لِلْمُسْلِمِينَ صَحَّتْ نِيَّتُهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْعَدُوِّ لَمْ تَصِحَّ (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الشَّوْكَةَ إذَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ يَقَعُ الْأَمْنُ لَهُمْ مِنْ إزْعَاجِ الْعَدُوِّ إيَّاهُمْ فَيُمْكِنَهُمْ الْقَرَارُ ظَاهِرًا، فَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ صَادَفَتْ مَحَلِّهَا فَصَحَّتْ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: إلَّا بِنِيَّةِ مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ فَتَصِحُّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِيهَا بِخِلَافِ الصَّحْرَاءِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ وَقَالَ: إنَّا نُطِيلُ الثَّوَاءَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ فَقَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى أَهْلِكَ؛ وَلِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ نِيَّةُ الْقَرَارِ وَإِنَّمَا تَصِحُّ فِي مَحَلٍّ صَالِحٍ لِلْقَرَارِ، وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ مَوْضِعَ قَرَارِ الْمُسْلِمِينَ الْمُحَارِبِينَ لِجَوَازِ أَنْ يُزْعِجَهُمْ الْعَدُوُّ سَاعَةً فَسَاعَةً لِقُوَّةٍ تَظْهَرُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ سِجَالٌ أَوْ تَنْفُذُ لَهُمْ فِي الْمُسْلِمِينَ حِيلَةٌ؛ لِأَنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ فَلَمْ تُصَادِفْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَلَغَتْ؛ وَلِأَنَّ غَرَضَهُمْ مِنْ الْمُكْثِ هُنَالِكَ: فَتْحُ الْحِصْنِ دُونَ التَّوَطُّنِ، وَتَوَهُّمُ انْفِتَاحِ الْحِصْنِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ قَائِمٌ فَلَا

تَتَحَقَّقُ نِيَّتُهُمْ إقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا حَارَبَ أَهْلُ الْعَدْلِ الْبُغَاةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ مِصْرٍ أَوْ حَاصَرُوهُمْ وَنَوَوْا الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي الْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ وَالتُّرْكُمَانِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ فِي بُيُوتِ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكُونُونَ مُقِيمِينَ أَبَدًا وَإِنْ نَوَوْا الْإِقَامَةَ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ الْمَفَازَةَ لَيْسَتْ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ مُقِيمُونَ؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ الْإِقَامَةُ فِي الْمَفَاوِزِ دُونَ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، فَكَانَتْ الْمَفَاوِزُ لَهُمْ كَالْأَمْصَارِ وَالْقُرَى لِأَهْلِهَا وَلِأَنَّ الْإِقَامَةَ لِلرَّجُلِ أَصْلٌ وَالسَّفَرُ عَارِضٌ وَهُمْ لَا يَنْوُونَ السَّفَرَ بَلْ يَنْتَقِلُونَ مِنْ مَاءٍ إلَى مَاءٍ وَمِنْ مَرْعًى إلَى مَرْعًى حَتَّى لَوْ ارْتَحَلُوا عَنْ أَمَاكِنِهِمْ وَقَصَدُوا مَوْضِعًا آخَرَ بَيْنَهُمَا مُدَّةُ سَفَرٍ صَارُوا مُسَافِرِينَ فِي الطَّرِيقِ. ثُمَّ الْمُسَافِرُ كَمَا يَصِيرُ مُقِيمًا بِصَرِيحِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي مَكَان وَاحِدٍ صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا خَارِجَ الصَّلَاةِ يَصِيرُ مُقِيمًا بِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، سَوَاءً نَوَى الْإِقَامَةَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي وَسَطِهَا أَوْ فِي آخِرِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ الْوَقْتِ بَاقِيًا وَإِنْ قَلَّ، وَسَوَاءً كَانَ الْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا أَوْ مُقْتَدِيًا مَسْبُوقًا أَوْ مُدْرِكًا إلَّا إذَا أَحْدَثَ الْمُدْرِكُ أَوْ نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَتَوَضَّأَ أَوْ انْتَبَهَ بَعْدَ مَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ الصَّلَاةِ وَنَوَى الْإِقَامَةَ فَإِنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ نِيَّةُ الِاسْتِقْرَارِ، وَالصَّلَاةُ لَا تُنَافِي نِيَّةَ الِاسْتِقْرَارِ فَتَصِحُّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِيهَا فَإِذَا كَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا وَالْفَرْضُ لَمْ يُؤَدَّ بَعْدُ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلتَّغْيِيرِ فَيَتَغَيَّرُ بِوُجُودِ الْمُغَيَّرِ " وَهُوَ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ "، وَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ أَوْ أُدِّيَ الْفَرْضُ لَمْ يَبْقَ مُحْتَمِلًا لِلتَّغْيِيرِ فَلَا يَعْمَلُ الْمُغَيَّرُ فِيهِ، وَالْمُدْرِكُ الَّذِي نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ أَوْ أَحْدَثَ وَذَهَبَ لِلْوُضُوءِ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ؟ فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ فَقَدْ اسْتَحْكَمَ الْفَرْضُ وَلَمْ يَبْقَ مُحْتَمِلًا لِلتَّغْيِيرِ فِي حَقِّهِ فَكَذَا فِي حَقِّ اللَّاحِقِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ إذَا صَلَّى الْمُسَافِرُ رَكْعَةً ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي الْوَقْتِ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَرْضَ فِي الْوَقْتِ قَابِلٌ لِلتَّغْيِيرِ. وَكَذَا لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ مَا صَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ؛ لِأَنَّ فَرْضَ السَّفَرِ قَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَلَمْ يُسَلِّمْ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْمَكْتُوبَةِ بَعْدُ إلَّا أَنَّهُ يُعِيدُ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَفْلٌ فَلَا يَنُوبُ عَنْ الْفَرْضِ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي الشَّفْعِ الْأَخِيرِ إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ، فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ قَدْ اسْتَحْكَمَ بِخُرُوجِهِ مِنْهُ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ وَلَكِنَّهُ يُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِتَكُونَ الرَّكْعَتَانِ لَهُ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَتْرَاءِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَوْ أَفْسَدَ تِلْكَ الرَّكْعَةَ فَفَرْضُهُ تَامٌّ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الشَّفْعِ الثَّانِي عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الْمَظْنُونِ، هَذَا إذَا قَعَدَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْعُدْ وَنَوَى الْإِقَامَةَ وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ لِمَا قُلْنَا، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ عَادَ إلَى الْقَعْدَةِ وَإِنْ أَقَامَ صُلْبَهُ لَا يَعُودُ، كَالْمُقِيمِ إذَا أَقَامَ مِنْ الثَّالِثَةِ إلَى الرَّابِعَةِ، وَهُوَ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الشَّفْعِ الْأَخِيرِ بِالْخِيَارِ. وَكَذَا إذَا قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ حَتَّى نَوَى الْإِقَامَةَ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ وَعَلَيْهِ إعَادَةُ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ لِمَا مَرَّ، فَإِنْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ لَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِي حَقِّ هَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ فَرْضِيَّتَهَا قَدْ فَسَدَتْ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ تَمَّ شُرُوعُهُ فِي النَّفْلِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ أَوْ بِتَمَامِ فِعْلِ النَّفْلِ، وَتَمَامُ فِعْلِ الصَّلَاةِ بِتَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ، وَلِهَذَا لَا تُسَمَّى صَلَاةً بِدُونِهِ، وَإِذَا صَارَ شَارِعًا فِي النَّفْلِ صَارَ خَارِجًا عَنْ الْفَرْضِ ضَرُورَةً لَكِنْ بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَيُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِيَكُونَ الْأَرْجَحُ لَهُ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بِالثَّلَاثِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ارْتَفَعَتْ التَّحْرِيمَةُ بِفَسَادِ الْفَرْضِيَّةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ انْقِلَابُهُ تَطَوُّعًا مُسَافِرٌ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَوْ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ أَوْ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ أَنْ يُقَيِّدَهَا بِالسَّجْدَةِ تَحَوَّلَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَيَقْرَأُ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ قَضَاءً عَنْ الْأُولَيَيْنِ، وَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَلَوْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ تَفْسُدُ

صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ يُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِيَكُونَ الرَّكْعَتَانِ لَهُ تَطَوُّعًا عَلَى قَوْلِهِمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ عَلَى مَا مَرَّ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ ظُهْرَ الْمُسَافِرِ كَفَجْرِ الْمُقِيمِ، ثُمَّ الْفَجْرُ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ يَفْسُدُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا أَوْ فِي إحْدَاهُمَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ إصْلَاحُهُ إلَّا بِالِاسْتِقْبَالِ، فَكَذَا الظُّهْرُ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ إذْ لَا تَأْثِيرَ لِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي رَفْعِ صِفَةِ الْفَسَادِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُفْسِدَ لَمْ يَتَقَرَّرْ؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ خُلُوُّ الصَّلَاةِ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ بِغَرَضِ أَنْ يَلْحَقَهَا مُدَّةُ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ بِخِلَافِ الْفَجْرِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ تَقَرَّرَ الْمُفْسِدُ إذْ لَيْسَ لَهَا هَذِهِ الْعَرَضِيَّةُ، وَكَذَا إذَا قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ وَلَوْ قَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَهْوٌ فَنَوَى الْإِقَامَةَ لَمْ يَنْقَلِبْ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَسَقَطَ عَنْهُ السَّهْوُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَلَوْ سَجَدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً لِسَهْوِهِ أَوْ سَجَدَهُمَا ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا بِالْإِجْمَاعِ، وَيُعِيدُ السَّجْدَتَيْنِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ السَّلَامِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ وَهُوَ: أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ إذَا سَلَّمَ يَخْرُجُ مِنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خُرُوجًا مَوْقُوفًا، إنْ عَادَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَصَحَّ عَوْدُهُ إلَيْهِمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ لَمْ يَخْرُجْ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ خَرَجَ حَتَّى لَوْ ضَحِكَ بَعْدَمَا سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لَا تَنْتَقِضُ طَهَارَتُهُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ سَلَامُهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ أَصْلًا حَتَّى لَوْ ضَحِكَ قَهْقَهَةً بَعْدَ السَّلَامِ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ عَمَلَ سَلَامِ مَنْ عَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ؛ لِأَنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ يُؤْتَى بِهِمَا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُمَا شُرِعَتَا لِجَبْرِ النُّقْصَانِ وَإِنَّمَا يَنْجَبِرَانِ لَوْ حَصَلَتَا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا يَسْقُطَانِ إذَا وُجِدَ بَعْدَ الْقُعُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ مَا يُنَافِي التَّحْرِيمَةَ وَلَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُمَا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ إلَّا بَعْدَ بُطْلَانِ عَمَلِ هَذَا السَّلَامِ فَصَارَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ انْعَدَمَ حَقِيقَةً كَانَتْ التَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةً، فَكَذَا إذَا الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ السَّلَامَ جُعِلَ مُحَلِّلًا فِي الشَّرْعِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ، وَالتَّحْلِيلُ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ وَلِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْقَوْمِ فَكَانَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، وَأَنَّهُ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ عَمَلَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِحَاجَةِ الْمُصَلِّي إلَى جَبْرِ النُّقْصَانِ، وَلَا يَنْجَبِرُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْجَابِرِ فِي التَّحْرِيمَةِ لِيُلْحِقَ الْجَابِرَ بِسَبَبِ بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ بِمَحَلِّ النُّقْصَانِ فَيَنْجَبِرَ النُّقْصَانُ فَبَقَّيْنَا التَّحْرِيمَةَ مَعَ وُجُودِ الْمُنَافِي لَهَا لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ فَإِنْ اشْتَغَلَ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَصَحَّ اشْتِغَالُهُ بِهِمَا تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ إلَى إبْقَاءِ التَّحْرِيمَةِ فَبَقِيَتْ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَغِلْ لَمْ تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ، فَعَمَلَ السَّلَامُ فِي الْإِخْرَاجِ عَنْ الصَّلَاةِ وَإِبْطَالِ التَّحْرِيمَةِ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ: وُجِدَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ هَهُنَا وَالتَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ كَمَا لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَ مَا عَادَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وُجِدَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ هَهُنَا وَالتَّحْرِيمَةُ مُنْقَطِعَةٌ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهَا مَعَ وُجُودِ الْمُنَافِي لِضَرُورَةِ الْعَوْدِ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، وَالْعَوْدُ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ هَهُنَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ كَانَتْ بَاقِيَةً فَتَبَيَّنَ أَنَّ فَرْضَهُ صَارَ أَرْبَعًا وَهَذَا وَسَطُ الصَّلَاةِ، وَالِاشْتِغَالُ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُمَا آخِرُ الصَّلَاةِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّوَقُّفِ هَهُنَا، فَلَا يَتَوَقَّفُ، بِخِلَافِ مَا إذَا اقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ مَوْقُوفٌ، إنْ اشْتَغَلَ بِالسَّجْدَتَيْنِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ صَحِيحًا، وَإِنْ لَمْ يَشْتَغِلْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّوَقُّفِ هُنَاكَ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ صَحِيحٌ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْمُنَافِي لِلضَّرُورَةِ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَجَدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً لِلسَّهْوِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ أَوْ سَجَدَ السَّجْدَتَيْنِ جَمِيعًا حَيْثُ يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي إلَى أَنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لَا يُعْتَدُّ بِهِمَا لِحُصُولِهِمَا فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ صَحَّ اشْتِغَالُهُ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ كَانَتْ بَاقِيَةً فَوُجِدَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ، وَالتَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةٌ فَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا، وَإِذَا تَغَيَّرَ أَرْبَعًا تَبَيَّنَ أَنَّ السَّجْدَةَ حَصَلَتْ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ فَيَبْطُلُ اعْتِبَارُهَا وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ أَنَّهَا مَا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً مُعْتَدًّا بِهَا حِينَ حَصَلَتْ بَلْ بَطَلَ اعْتِبَارُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقْتَ حُصُولِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ مُقْتَصِرًا عَلَى الْحَالِ. فَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَبِخِلَافِهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا انْعَقَدَ صَحِيحًا ثُمَّ انْفَسَخَ بِمَعْنًى يُوجِبُ انْفِسَاخَهُ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَنْعَقِدْ مِنْ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ ثَبَتَ الْحُكْمُ عِنْدَ انْعِقَادِهِ

وَانْتَفَى بَعْدَ انْفِسَاخِهِ، وَفِي الثَّانِي لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ أَصْلًا نَظِيرُهُ مَنْ اشْتَرَى دَارًا فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَرَدَّهَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي حَتَّى انْفَسَخَ الْبَيْعُ لَا تَبْطُلُ شُفْعَةُ الشَّفِيعِ الَّذِي كَانَ ثَبَتَ بِالْبَيْعِ، وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّ بَدَلَ الدَّارِ كَانَ حُرًّا ظَهَرَ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْبَيْعَ مَا كَانَ مُنْعَقِدًا، وَفِي بَابِ الْفَسْخِ لَا يَظْهَرُ، فَكَذَا هَهُنَا وَيُعِيدُ السَّجْدَتَيْنِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ جَابِرًا قَبْلَ السَّلَامِ فَفِي وَسَطِ الصَّلَاةِ أَوْلَى، فَيُعَادُ لِتَحْقِيقِ مَا شُرِعَ لَهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ السَّلَامِ الْأَوَّلِ حَيْثُ تَصِحُّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ بَاقِيَةٌ بِيَقِينٍ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: لَا تَوَقُّفَ فِي الْخُرُوجِ عَنْ التَّحْرِيمَةِ بِسَلَامِ السَّهْوِ عِنْدَهُمَا بَلْ يَخْرُجُ جَزْمًا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَإِنَّمَا التَّوَقُّفُ فِي عَوْدِ التَّحْرِيمَةِ ثَانِيًا إنْ عَادَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ يَعُودُ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا أَسْهَلُ لِتَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ، وَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّوَقُّفَ فِي بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ وَبُطْلَانِهَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ تَحْرِيمَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا بَطَلَتْ لَا تَعُودُ إلَّا بِالْإِعَادَةِ وَلَمْ تُوجَدْ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. (وَالثَّانِي) وُجُودُ الْإِقَامَةِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ: وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْأَصْلُ مُقِيمًا فَيَصِيرَ التَّبَعُ أَيْضًا مُقِيمًا بِإِقَامَةِ الْأَصْلِ، كَالْعَبْدِ يَصِيرُ مُقِيمًا بِإِقَامَةِ مَوْلَاهُ، وَالْمَرْأَةِ بِإِقَامَةِ زَوْجِهَا، وَالْجَيْشِ بِإِقَامَةِ الْأَمِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي التَّبَعِ ثَبَتَ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ وَلَا تُرَاعَى لَهُ عِلَّةٌ عَلَى حِدَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْلِ التَّبَعِ أَصْلًا وَأَنَّهُ قَلْبُ الْحَقِيقَةِ (وَأَمَّا) الْغَرِيمُ مَعَ صَاحِبِ الدَّيْنِ: فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي السَّفَرِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَدْيُونُ مَلِيًّا فَالْمُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ وَلَا يَصِيرُ تَبَعًا لِصَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ تَخْلِيصُ نَفْسِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ مُفْلِسًا فَالْمُعْتَبَرُ نِيَّةُ صَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ مُلَازَمَتِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَ الدَّيْنِ، فَكَانَتْ نِيَّتُهُ لَغْوًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، ثُمَّ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ إنَّمَا يَصِيرُ التَّبَعُ مُقِيمًا بِإِقَامَةِ الْأَصْلِ وَتَنْقَلِبُ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا إذَا عَلِمَ التَّبَعُ بِنِيَّةِ إقَامَةِ الْأَصْلِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ فَلَا، حَتَّى لَوْ صَلَّى التَّبَعُ صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِنِيَّةِ إقَامَةِ الْأَصْلِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَتُهَا. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ وَإِنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ فِي اللُّزُومِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ ضَرَرًا فِي حَقِّهِ وَحَرَجًا، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ عَزْلُ الْوَكِيلِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ كَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا يُبْنَى أَيْضًا اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ أَنَّهُ يَصِحُّ، وَيَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا يَنْقَلِبُ وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً فَصَاعِدًا يَنْقَلِبْ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَإِنْ أَدْرَكَ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَا يَنْقَلِبُ بِأَنْ اقْتَدَى بِهِ فِي السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ أَوْ بَعْدَ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْهَا، وَالصَّحِيحُ: قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اقْتَدَى بِهِ صَارَ تَبَعًا لَهُ؛ لِأَنَّ مُتَابَعَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» وَالْأَدَاءُ " أَعْنِي الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ " مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ إلَى الْكَمَالِ إذَا وُجِدَ دَلِيلُ التَّغْيِيرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَتَغَيَّرُ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي الْوَقْتِ؟ وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا دَلِيلُ التَّغْيِيرِ " وَهُوَ التَّبَعِيَّةُ "، فَيَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا فَصَارَ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي مِثْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَصَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا اقْتَدَى بِهِ خَارِجَ الْوَقْتِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ خَارِجَ الْوَقْتِ مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ وَأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ لَمْ يَتَغَيَّرْ لِعَدَمِ دَلِيلِ التَّغْيِيرِ فَلَا يَتَغَيَّرُ الْقَضَاءُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَإِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فَرْضُهُ بِالِاقْتِدَاءِ بَقِيَتْ صَلَاتُهُ رَكْعَتَيْنِ، وَالْقَعْدَةُ فَرْضٌ فِي حَقِّهِ نَفْلٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَلَوْ صَحَّ الِاقْتِدَاءُ كَانَ هَذَا اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعْدَةِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ فِي رُكْنٍ مِنْهَا، وَمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ فَوُجُودُ الْمُغَيِّرِ فِي جُزْئِهَا كَوُجُودِهِ فِي كُلِّهَا، وَلَوْ أَنَّ مُقِيمًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ فَلَمَّا قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ جَاءَ مُسَافِرٌ وَاقْتَدَى بِهِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يَصِحُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ تَقَرَّرَ رَكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَالْقِرَاءَةُ فَرْضٌ عَلَيْهِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ نَفْلٌ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ فَيَكُونُ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ فَإِنْ صَلَّاهُمَا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ (وَأَمَّا) اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ فَيَصِحُّ فِي الْوَقْتِ وَخَارِجَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ فِي الْحَالَتَيْنِ وَاحِدَةٌ، وَالْقَعْدَةُ فَرْضٌ فِي حَقِّهِ نَفْلٌ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي، وَاقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ جَائِزٌ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَكَذَا فِي بَعْضِهَا فَهُوَ الْفَرْقُ، ثُمَّ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ لَا يُسَلِّمُ الْمُقِيمُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَرْطُ الصَّلَاةِ فَلَوْ سَلَّمَ لَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَلَكِنَّهُ يَقُومُ وَيُتِمُّهَا أَرْبَعًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ الْمُسَافِرِ إذَا سَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْمُقِيمِينَ

خَلْفَهُ " أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ " اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا قِرَاءَةَ عَلَى الْمُقْتَدِي فِي بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ إذَا كَانَ مُدْرِكًا أَيْ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ شَفْعٌ أَخِيرٌ فِي حَقِّهِ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا سَهَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ. وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ إلَى الْعَكْسِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِالْمُنْفَرِدِ فِي حَقِّ السَّهْوِ فَكَذَا فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ، وَلَا قِرَاءَةَ عَلَى الْمُنْفَرِدِ فِي الشَّفْعِ الْأَخِيرِ، ثُمَّ الْمُقِيمُونَ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ يُصَلُّونَ وُحْدَانًا، وَلَوْ اقْتَدَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ مِنْهُمْ تَامَّةٌ وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِينَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ اقْتَدُوا فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الِانْفِرَادُ، وَلَوْ قَامَ الْمُقِيمُ إلَى إتْمَامِ صَلَاتِهِ ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يُقَيِّدْ هَذَا الْمُقِيمُ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ رَفَضَ ذَلِكَ وَتَابَعَ إمَامَهُ حَتَّى لَوْ لَمْ يَرْفُضْ وَسَجَدَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ صَارَتْ أَرْبَعًا تَبَعًا لِإِمَامِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَا يَخْرُجُ عَنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ عَلَى وَجْهِ النَّفْلِ فَلَا يَنُوبُ عَنْ الْفَرْضِ، وَلَوْ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ أَتَمَّ صَلَاتَهُ وَلَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ حَتَّى لَوْ رَفَضَ ذَلِكَ وَتَابَعَ الْإِمَامَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ اقْتَدَى فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الِانْفِرَادُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. وَعَلَى هَذَا إذَا اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَا يَبْطُلُ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ فِي خَارِجِ الْوَقْتِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ وَصَارَ تَبَعًا لَهُ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُقِيمِينَ، وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ وُجُوبُ الرَّكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَهَذَا قَدْ صَارَ مُقِيمًا، وَصَلَاةُ الْمُقِيمِ لَا تَصِيرُ رَكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ كَمَا إذَا صَارَ مُقِيمًا بِصَرِيحِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ، وَلَوْ نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ ثُمَّ انْتَبَهَ أَتَمَّهَا أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ الْمُدْرِكَ يُصَلِّي مَا نَامَ عَنْهُ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ وَقَدْ انْقَلَبَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ، وَالتَّبَعِيَّةُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مُقْتَدِيًا بِهِ عَلَى مَا مَرَّ وَلَوْ تَكَلَّمَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَوْ قَبْلَ خُرُوجِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا أَمَّ قَوْمًا مُقِيمِينَ وَمُسَافِرِينَ فِي الْوَقْتِ فَأَحْدَثَ وَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا مِنْ الْمُقِيمِينَ صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ. وَلَا تَنْقَلِبُ صَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ أَرْبَعًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُمْ أَرْبَعًا. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُمْ صَارُوا مُقْتَدِينَ بِالْمُقِيمِ حَتَّى تُعَلَّقَ صَلَاتُهُمْ بِصَلَاتِهِ صِحَّةً وَفَسَادًا، وَالْمُسَافِرُ إذَا اقْتَدَى بِالْمُقِيمِ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا كَمَا لَوْ اقْتَدَى بِهِ ابْتِدَاءً؛ وَلِأَنَّ فَرْضَهُمْ لَوْ لَمْ يَنْقَلِبْ أَرْبَعًا لَمَا جَازَ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ الْأُولَى فِي حَقِّ الْإِمَامِ نَفْلٌ وَفِي حَقِّ الْمُسَافِرِينَ فَرْضٌ فَيَصِيرُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعْدَةِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ خَارِجَ الْوَقْتِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمُقِيمَ إنَّمَا صَارَ إمَامًا بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْإِمَامَ عَجَزَ عَنْ الْإِتْمَامِ بِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي مِقْدَارِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، إذْ الْخَلَفُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْأَصْلِ كَأَنَّهُ هُوَ فَكَانُوا مُقْتَدِينَ بِالْمُسَافِرِ مَعْنًى فَلِذَلِكَ لَا تَنْقَلِبُ صَلَاتُهُمْ أَرْبَعًا وَصَارَتْ الْقَعْدَةُ الْأُولَى عَلَيْهِ فَرْضًا؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُسَافِرِ مُؤَدٍّ صَلَاتَهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قُدِّمَ مُسَافِرٌ فَنَوَى الْمُقَدَّمُ الْإِقَامَةَ لَا يَنْقَلِبُ فَرْضُ الْمُسَافِرِينَ لِمَا قُلْنَا، وَإِذَا صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ يَنْبَغِي أَنْ يُتِمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَهِيَ رَكْعَتَانِ وَيَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَلَا يُسَلِّمَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مُقِيمٌ بَقِيَ عَلَيْهِ شَطْرُ الصَّلَاةِ فَتَفْسُدَ صَلَاتُهُ بِالسَّلَامِ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَخْلِفُ رَجُلًا مِنْ الْمُسَافِرِينَ حَتَّى يُسَلِّمَ بِهِمْ ثُمَّ يَقُومُ هُوَ وَبَقِيَّةُ الْمُقِيمِينَ وَيُصَلُّونَ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ وُحْدَانًا؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ اللَّاحِقِينَ. وَلَوْ اقْتَدَى بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ مِنْهُمْ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِينَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الِانْفِرَادُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا صَلَّى بِمُسَافِرِينَ رَكْعَةً فِي الْوَقْتِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ يُصَلِّي بِهِمْ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ هَهُنَا أَصْلٌ وَقَدْ تَغَيَّرَتْ صَلَاتُهُ بِوُجُودِ الْمُغَيِّرِ " وَهُوَ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ " فَتَتَغَيَّرُ صَلَاةُ الْقَوْمِ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ خَلَفَ عَنْ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ مُؤَدٍّ صَلَاتَهُ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا أَمَّ قَوْمًا مُسَافِرِينَ وَمُقِيمِينَ فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ تَكَلَّمَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسَافِرِينَ خَلْفَهُ أَوْ قَامَ فَذَهَبَ ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ فَإِنَّهُ يَتَحَوَّلُ فَرْضُهُ وَفَرْضُ الْمُسَافِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَرْبَعًا لِوُجُودِ الْمُغَيِّرِ فِي مَحِلِّهِ، وَصَلَاةُ مَنْ تَكَلَّمَ تَامَّةٌ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي وَقْتٍ لَوْ تَكَلَّمَ فِيهِ إمَامُهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ فَكَذَا صَلَاةُ الْمُقْتَدِي إذَا كَانَ بِمِثْلِ حَالِهِ، وَلَوْ تَكَلَّمَ بَعْدَ مَا نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ انْقَلَبَتْ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا تَبَعًا لِلْإِمَامِ فَحَصَلَ كَلَامُهُ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ فَسَادُهَا

وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ رَكْعَتَانِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقِيمًا تَبَعًا. وَقَدْ زَالَتْ التَّبَعِيَّةُ بِفَسَادِ الصَّلَاةِ فَعَادَ حُكْمُ الْمُسَافِرِينَ فِي حَقِّهِ. (وَأَمَّا) الثَّالِثُ: فَهُوَ الدُّخُولُ فِي الْوَطَنِ، فَالْمُسَافِرُ إذَا دَخَلَ مِصْرَهُ صَارَ مُقِيمًا، سَوَاءٌ دَخَلَهَا لِلْإِقَامَةِ أَوْ لِلِاجْتِيَازِ أَوْ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ، وَالْخُرُوجِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْرُجُ مُسَافِرًا إلَى الْغَزَوَاتِ ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَا يُجَدِّدُ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ» . وَلِأَنَّ مِصْرَهُ مُتَعَيَّنٌ لِلْإِقَامَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ، وَإِذَا قَرُبَ مِنْ مِصْرِهِ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَهُوَ مُسَافِرٌ مَا لَمْ يَدْخُلْ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ قَدِمَ الْكُوفَةَ مِنْ الْبَصْرَةِ صَلَّى صَلَاةَ السَّفَرِ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَى أَبْيَاتِ الْكُوفَةِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ لِلْمُسَافِرِ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ مَا لَمْ تَدْخُلْ مَنْزِلَكَ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مَوْضِعٌ لَوْ خَرَجَ إلَيْهِ عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ يَصِيرُ مُسَافِرًا فَلَأَنْ يَبْقَى مُسَافِرًا بَعْدَ وُصُولِهِ إلَيْهِ أَوْلَى، وَذُكِرَ فِي الْعُيُونِ أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْكَافِرَ إذَا خَرَجَا إلَى السَّفَرِ فَبَقِيَ إلَى مَقْصِدِهِمَا أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ فَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ - فَإِنَّ الصَّبِيَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا وَالْكَافِرَ الَّذِي أَسْلَمَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ قَصْدَ السَّفَرِ صَحِيحٌ مِنْ الْكَافِرِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُصَلِّي لِكُفْرِهِ فَإِذَا أَسْلَمَ زَالَ الْمَانِعُ، فَأَمَّا الصَّبِيُّ: فَقَصْدُهُ السَّفَرَ لَمْ يَصِحَّ، وَحِينَ أَدْرَكَ لَمْ يَبْقَ إلَى مَقْصِدِهِ مُدَّةُ السَّفَرِ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا ابْتِدَاءً. وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ أَنَّ مَنْ قَدِمَ مِنْ السَّفَرِ فَلَمَّا انْتَهَى قَرِيبًا مِنْ مِصْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى بُيُوتِ مِصْرِهِ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ ثُمَّ أَحْدَثَ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَجِدْ الْمَاءَ فَدَخَلَ الْمِصْرَ لِيَتَوَضَّأَ - إنْ كَانَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا فَحِينَ انْتَهَى إلَى بُيُوتِ مِصْرِهِ صَارَ مُقِيمًا، وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا وَهُوَ مُدْرِكٌ فَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ مَا صَارَ مُقِيمًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَاللَّاحِقُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ يَصِيرُ مُقِيمًا، فَكَذَا إذَا دَخَلَ مِصْرَهُ، وَإِنْ كَانَ فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ حِينَ انْتَهَى إلَى بُيُوتِ مِصْرِهِ لَا تَصِحُّ نِيَّةُ إقَامَتِهِ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ تَصِيرُ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا بِالدُّخُولِ إلَى مِصْرِهِ، وَكَذَا بِنِيَّتِهِ الْإِقَامَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُغَيِّرَ مَوْجُودٌ وَالْوَقْتَ بَاقٍ، فَكَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلتَّغْيِيرِ، أَرْبَعًا؛ وَلِأَنَّ هَذَا إنْ اُعْتُبِرَ بِمَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ يَتَغَيَّرْ فَرْضُهُ وَإِنْ اُعْتُبِرَ بِالْمَسْبُوقِ يَتَغَيَّرْ. (وَلَنَا) أَنَّ اللَّاحِقَ لَيْسَ بِمُنْفَرِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ عَلَيْهِ وَلَا سُجُودَ سَهْوٍ؟ وَلَكِنَّهُ قَاضٍ مِثْلَ مَا انْعَقَدَ لَهُ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَ هَذِهِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ، وَبِفَرَاغِ الْإِمَامِ فَاتَ الْأَدَاءُ مَعَهُ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَالْقَضَاءُ لَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ خَلَفٌ فَيُعْتَبَرُ بِحَالِ الْأَصْلِ وَهُوَ صَلَاةُ الْإِمَامِ، وَقَدْ خَرَجَ الْأَصْلُ عَنْ احْتِمَالِ التَّغْيِيرِ وَصَارَ مُقِيمًا عَلَى وَظِيفَةِ الْمُسَافِرِينَ، وَلَوْ تَغَيَّرَ الْخَلَفُ لَانْقَلَبَ أَصْلًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ مَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ الْأَدَاءُ مَعَ الْإِمَامِ فَلَمْ يَصِرْ قَضَاءً فَيَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ، وَبِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ؛ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ مَا سُبِقَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ أَدَاءَهُ مَعَ الْإِمَامِ، وَالْوَقْتُ بَاقٍ فَتَغَيَّرَ ثُمَّ إنَّمَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُ الْمُسَافِرِ بِصَيْرُورَتِهِ مُقِيمًا بِدُخُولِهِ مِصْرَهُ إذَا دَخَلَهُ فِي الْوَقْتِ، فَأَمَّا إذَا دَخَلَهُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا يَتَغَيَّرُ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ فَرْضُ السَّفَرِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِالدُّخُولِ فِي الْمِصْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِصَرِيحِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ، وَبِالْإِقَامَةِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ؟ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. مَطْلَبٌ فِي أَنَّ الْأَوْطَانَ ثَلَاثَةٌ (ثُمَّ) الْأَوْطَانُ ثَلَاثَةٌ: وَطَنٌ أَصْلِيٌّ: وَهُوَ وَطَنُ الْإِنْسَانِ فِي بَلْدَتِهِ أَوْ بَلْدَةٍ أُخْرَى اتَّخَذَهَا دَارًا وَتَوَطَّنَ بِهَا مَعَ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَلَيْسَ مِنْ قَصْدِهِ الِارْتِحَالُ عَنْهَا بَلْ التَّعَيُّشُ بِهَا. (وَوَطَنُ) الْإِقَامَةِ: وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَمْكُثَ فِي مَوْضِعٍ صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ. (وَوَطَنُ) السُّكْنَى: وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْإِنْسَانُ الْمُقَامَ فِي غَيْرِ بَلْدَتِهِ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَالْفَقِيهُ الْجَلِيلُ أَبُو أَحْمَدَ الْعِيَاضِي قَسَّمَ الْوَطَنَ إلَى قِسْمَيْنِ وَسَمَّى أَحَدَهُمَا وَطَنَ قَرَارٍ، وَالْآخَرَ مُسْتَعَارًا، فَالْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ يَنْتَقِضُ بِمِثْلِهِ لَا غَيْرُ وَهُوَ: أَنْ يَتَوَطَّنَ الْإِنْسَانُ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى وَيَنْقُلَ الْأَهْلَ إلَيْهَا مِنْ بَلْدَتِهِ فَيَخْرُجَ الْأَوَّلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَطَنًا أَصْلِيًّا، حَتَّى لَوْ دَخَلَ فِيهِ مُسَافِرًا لَا تَصِيرُ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا، وَأَصْلُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَكَانَ لَهُمْ بِهَا أَوْطَانٌ أَصْلِيَّةٌ، ثُمَّ لَمَّا هَاجَرُوا وَتَوَطَّنُوا بِالْمَدِينَةِ وَجَعَلُوهَا دَارًا لِأَنْفُسِهِمْ انْتَقَضَ وَطَنُهُمْ الْأَصْلِيُّ بِمَكَّةَ، حَتَّى كَانُوا إذَا أَتَوْا مَكَّةَ يُصَلُّونَ صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ صَلَّى بِهِمْ: «أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» ؛ وَلِأَنَّ الشَّيْءَ جَازَ أَنْ يُنْسَخَ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ الْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ وَدَارٌ فِي بَلْدَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ نِيَّةِ

أَهْلِهِ الْخُرُوجُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ هُوَ يَنْتَقِلُ مِنْ أَهْلٍ إلَى أَهْلٍ فِي السَّنَةِ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ مُسَافِرًا مِنْ بَلْدَةٍ فِيهَا أَهْلُهُ وَدَخَلَ فِي أَيِّ بَلْدَةٍ مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي فِيهَا أَهْلُهُ فَيَصِيرُ مُقِيمًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ، وَلَا يَنْتَقِضُ الْوَطَنُ الْأَصْلِيُّ بِوَطَنِ الْإِقَامَةِ وَلَا بِوَطَنِ السُّكْنَى؛ لِأَنَّهُمَا دُونَهُ، وَالشَّيْءَ لَا يُنْسَخُ بِمَا هُوَ دُونَهُ، وَكَذَا لَا يُنْتَقَضُ بِنِيَّةِ السَّفَرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ وَطَنِهِ حَتَّى يَصِيرَ مُقِيمًا بِالْعَوْدِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ، لِمَا ذَكَرْنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الْمَدِينَةِ مُسَافِرًا وَكَانَ وَطَنُهُ بِهَا بَاقِيًا حَتَّى يَعُودَ مُقِيمًا فِيهَا مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ النِّيَّةِ» . (وَوَطَنُ) الْإِقَامَةِ يُنْتَقَضُ بِالْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ؛ لِأَنَّهُ فَوْقَهُ، وَبِوَطَنِ الْإِقَامَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ، وَالشَّيْءُ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ بِمِثْلِهِ، وَيُنْتَقَضُ بِالسَّفَرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَوَطُّنَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَيْسَ لِلْقَرَارِ وَلَكِنْ لِحَاجَةٍ، فَإِذَا سَافَرَ مِنْهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فَصَارَ مُعْرِضًا عَنْ التَّوَطُّنِ بِهِ، فَصَارَ نَاقِضًا لَهُ دَلَالَةً، وَلَا يُنْتَقَضُ وَطَنُ الْإِقَامَةِ بِوَطَنِ السُّكْنَى؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ فَلَا يَنْسَخُهُ. (وَوَطَنُ) السُّكْنَى يُنْتَقَضُ بِالْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ، وَبِوَطَنِ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّهُمَا فَوْقَهُ، وَبِوَطَنِ السُّكْنَى؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ، وَبِالسَّفَرِ لِمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ وَطَنِ الْإِقَامَةِ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَيْنِ: فِي رِوَايَةٍ: إنَّمَا يَصِيرُ الْوَطَنُ وَطَنَ إقَامَةٍ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَقَدَّمَهُ سَفَرٌ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ وَبَيْنَ هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي تَوَطَّنَ فِيهِ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا. فَأَمَّا بِدُونِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ لَا يَصِيرُ وَطَنَ إقَامَةٍ، وَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي مَكَان صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ، حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ الْمُقِيمَ إذَا خَرَجَ مِنْ مِصْرِهِ إلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا لَا لِقَصْدِ السَّفَرِ، وَنَوَى أَنْ يَتَوَطَّنَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا تَصِيرُ تِلْكَ الْقَرْيَةُ وَطَنَ إقَامَةٍ لَهُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ سَفَرٍ لِانْعِدَامِ تَقَدُّمِ السَّفَرِ، وَكَذَا إذَا قَصَدَ مَسِيرَةَ سَفَرٍ وَخَرَجَ حَتَّى وَصَلَ إلَى قَرْيَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ مَسِيرَةُ مَا دُونَ السَّفَرِ، وَنَوَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا يَصِيرُ مُقِيمًا، وَلَا تَصِيرُ تِلْكَ الْقَرْيَةُ وَطَنَ إقَامَةٍ لَهُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ: يَصِيرُ مُقِيمًا مِنْ غَيْرِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ يُخَرَّجُ بَعْضُ الْمَسَائِلِ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْهُلَ تَخْرِيجُ الْبَاقِي خُرَاسَانِيٌّ قَدِمَ الْكُوفَةَ وَنَوَى الْمُقَامَ بِهَا شَهْرًا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إلَى الْحِيرَةِ وَنَوَى الْمُقَامَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْحِيرَةِ يُرِيدُ الْعَوْدَ إلَى خُرَاسَانَ وَمَرَّ بِالْكُوفَةِ - فَإِنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ كَانَ وَطَنَ إقَامَةٍ، وَقَدْ انْتَقَضَ بِوَطَنِهِ بِالْحِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ وَطَنُ إقَامَةٍ أَيْضًا. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وَطَنَ الْإِقَامَةِ يُنْتَقَضُ بِمِثْلِهِ، وَكَذَا وَطَنُهُ بِالْحِيرَةِ اُنْتُقِضَ بِالسَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ وَطَنُ إقَامَةٍ، فَكَمَا خَرَجَ مِنْ الْحِيرَةِ عَلَى قَصْدِ خُرَاسَانَ صَارَ مُسَافِرًا، وَلَا وَطَنَ لَهُ فِي مَوْضِعٍ فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يَدْخُلَ بَلْدَتَهُ بِخُرَاسَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَوَى الْمُقَامَ بِالْحِيرَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِالْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ لَمْ يَبْطُلْ بِالْخُرُوجِ إلَى الْحِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَطَنٍ مِثْلَهُ وَلَا سَفَرٍ فَيَبْقَى وَطَنُهُ بِالْكُوفَةِ كَمَا كَانَ. وَلَوْ أَنَّ خُرَاسَانِيًّا قَدِمَ الْكُوفَةَ وَنَوَى الْمُقَامَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ ارْتَحَلَ مِنْهَا يُرِيدُ مَكَّةَ، فَقَبْلَ أَنْ يَسِيرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَكَرَ حَاجَةً لَهُ بِالْكُوفَةِ فَعَادَ - فَإِنَّهُ يَقْصُرُ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ قَدْ بَطَلَ بِالسَّفَرِ كَمَا يَبْطُلُ بِوَطَنٍ مِثْلِهِ. وَلَوْ أَنَّ كُوفِيًّا خَرَجَ إلَى الْقَادِسِيَّةِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إلَى الْحِيرَةِ، ثُمَّ عَادَ مِنْ الْحِيرَةِ يُرِيدُ الشَّامَ فَمَرَّ بِالْقَادِسِيَّةِ قَصَرَ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْقَادِسِيَّةِ وَالْحِيرَةِ سَوَاءٌ، فَيَبْطُلُ الْأَوَّلُ بِالثَّانِي، وَلَوْ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْقَادِسِيَّةِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْحِيرَةِ، ثُمَّ يَرْتَحِلَ إلَى الشَّامِ صَلَّى بِالْقَادِسِيَّةِ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْقَادِسِيَّةِ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِمِثْلِهِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ فِي الزِّيَادَاتِ (وَأَمَّا) الرَّابِعُ فَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْعَوْدِ لِلْوَطَنِ: وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا خَرَجَ مِنْ مِصْرِهِ بِنِيَّةِ السَّفَرِ ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ، وَلَيْسَ بَيْنَ هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي بَلَغَ وَبَيْنَ مِصْرِهِ مَسِيرَةُ سَفَرٍ يَصِيرُ مُقِيمًا حِينَ عَزَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْعَوْدِ إلَى مِصْرِهِ قَصْدُ تَرْكِ السَّفَرِ بِمَنْزِلَةِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَصَحَّ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِصْرِهِ مُدَّةُ سَفَرٍ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا؛ لِأَنَّهُ بِالْعَزْمِ عَلَى الْعَوْدِ قَصَدَ تَرْكَ السَّفَرِ إلَى جِهَةٍ. وَقَصَدَ السَّفَرَ إلَى جِهَةٍ، فَلَمْ يَكْمُلْ الْعَزْمُ عَلَى الْعَوْدِ إلَى السَّفَرِ لِوُقُوعِ التَّعَارُضِ، فَبَقِيَ مُسَافِرًا كَمَا كَانَ. وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ مِصْرِهِ مُسَافِرًا فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَافْتَتَحَهَا، ثُمَّ أَحْدَثَ فَلَمْ يَجِدْ الْمَاءَ هُنَالِكَ فَنَوَى أَنْ يَدْخُلَ مِصْرَهُ وَهُوَ قَرِيبٌ فَحِينَ نَوَى ذَلِكَ صَارَ مُقِيمًا مِنْ سَاعَتِهِ دَخَلَ مِصْرَهُ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَصَدَ الدُّخُولَ فِي الْمِصْرِ بِنِيَّةِ تَرْكِ السَّفَرِ فَحَصَلَتْ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ فَصَحَّتْ، فَإِذَا دَخَلَهُ صَلَّى أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ تِلْكَ صَلَاةُ

فصل أركان الصلاة

الْمُقِيمِينَ، فَإِنْ عَلِمَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْمِصْرَ أَنَّ الْمَاءَ أَمَامَهُ فَمَشَى إلَيْهِ فَتَوَضَّأَ - صَلَّى أَرْبَعًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ بِالنِّيَّةِ صَارَ مُقِيمًا، فَبِالْمَشْيِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ أَمَامَهُ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا فِي حَقِّ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَإِنْ حَصَلَتْ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِفِعْلِ السَّفَرِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ مُسَافِرًا لَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ عَمَلٌ، فَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ مَنَعَتْهُ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْعَمَلِ شَرْعًا، بِخِلَافِ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّهَا تَرْكُ السَّفَرِ، وَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ لَا تَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَوْ تَكَلَّمَ حِينَ عَلِمَ بِالْمَاءِ أَمَامَهُ، أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا حَتَّى فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فِي مَكَانِهِ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقِيمًا، وَلَوْ مَشَى أَمَامَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسَافِرًا ثَانِيًا بِالْمَشْيِ إلَى الْمَاءِ بِنِيَّةِ السَّفَرِ خَارِجَ الصَّلَاةِ، فَيُصَلِّي صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ، بِخِلَافِ الْمَشْيِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ أَخْرَجَتْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَفَرًا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. [فَصْلٌ أَرْكَانُ الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا أَرْكَانُهَا فَسِتَّةٌ: مِنْهَا الْقِيَامُ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مُتَرَكِّب مِنْ مَعَانٍ مُتَغَايِرَةٍ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْمُرَكَّبِ عَلَيْهَا عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا كَانَ كُلُّ مَعْنًى مِنْهَا رُكْنًا لِلْمُرَكَّبِ كَأَرْكَانِ الْبَيْتِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ، وَالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي بَابِ الْبَيْعِ فِي الْمَشْرُوعَاتِ وَكُلُّ مَا يَتَغَيَّرُ الشَّيْءُ بِهِ، وَلَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ - كَانَ شَرْطًا، كَالشُّهُودِ فِي بَابِ النِّكَاحِ فَهَذَا تَعْرِيفُ الرُّكْنِ وَالشَّرْطِ بِالتَّحْدِيدِ. وَأَمَّا تَعْرِيفُهُمَا بِالْعَلَامَةِ فِي هَذَا الْبَابِ: فَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدُومُ مِنْ ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ إلَى انْتِهَائِهَا كَانَ شَرْطًا، وَمَا يَنْقَضِي ثُمَّ يُوجَدُ غَيْرُهُ فَهُوَ رُكْنٌ، وَقَدْ وُجِدَ حَدُّ الرُّكْنِ وَعَلَامَتُهُ فِي الْقِيَامِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وُجِدَ مَعَ الْمَعَانِي الْأُخَرِ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الصَّلَاةِ، وَكَذَا لَا يَدُومُ مِنْ أَوَّلِ الصَّلَاةِ إلَى آخِرِهَا، بَلْ يَنْقَضِي ثُمَّ يُوجَدُ غَيْرُهُ فَكَانَ رُكْنًا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ: الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ (وَمِنْهَا) الرُّكُوعُ، (وَمِنْهَا) السُّجُودُ، لِوُجُودِ حَدِّ الرُّكْنِ وَعَلَامَتِهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] ، وَالْقَدْرُ الْمَفْرُوضُ مِنْ الرُّكُوعِ أَصْلُ الِانْحِنَاءِ وَالْمَيْلِ، وَمِنْ السُّجُودِ أَصْلُ الْوَضْعِ، فَأَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ عَلَيْهِمَا فَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَرْضٌ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ لَيْسَ بِفَرْضٍ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ فَرْضٌ، وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ عِنْدَ ذِكْرِ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ وَذِكْرِ سُنَنِهَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاخْتُلِفَ فِي مَحَلِّ إقَامَةِ فَرْضِ السُّجُودِ، قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: هُوَ بَعْضُ الْوَجْهِ. وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: السُّجُودُ فَرْضٌ عَلَى الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةِ: الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ» وَفِي رِوَايَةٍ «عَلَى سَبْعَةِ آرَابٍ: الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ» . (وَلَنَا) أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِالسُّجُودِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ عُضْوٍ، ثُمَّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَعْيِينِ بَعْضِ الْوَجْهِ فَلَا يَجُوزُ تَعْيِينُ غَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ فَنَحْمِلُهُ عَلَى بَيَانِ السُّنَّةِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ الْجَبْهَةُ أَوْ الْأَنْفُ غَيْرَ عَيْنٍ، حَتَّى لَوْ وَضَعَ أَحَدَهُمَا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ يُجْزِيهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ الْجَبْهَةَ وَحْدَهَا جَازَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَلَوْ وَضَعَ الْأَنْفَ وَحْدَهُ يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: هُوَ الْجَبْهَةُ عَلَى التَّعْيِينِ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ السُّجُودَ عَلَيْهَا حَالَ الِاخْتِيَارِ لَا يُجْزِيهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ الْأَنْفَ وَحْدَهُ فِي حَالِ الْعُذْرِ يُجْزِيهِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا حَالَةَ الِاخْتِيَارِ. احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَكِّنْ جَبْهَتَكَ وَأَنْفَكَ مِنْ الْأَرْضِ» ، أَمَرَ بِوَضْعِهِمَا جَمِيعًا، إلَّا أَنَّهُ إذَا وَضَعَ الْجَبْهَةَ وَحْدَهَا وَقَعَ مُعْتَدًّا بِهِ؛ لِأَنَّ الْجَبْهَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ، وَالْأَنْفُ تَابِعٌ، وَلَا عِبْرَةَ لِفَوَاتِ التَّابِعِ عِنْدَ وُجُودِ الْأَصْلِ؛ وَلِأَنَّهُ أَتَى بِالْأَكْثَرِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ السُّجُودُ مُطْلَقًا عَنْ التَّعْيِينِ ثُمَّ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَعْيِينِ بَعْضِ الْوَجْهِ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَنَا؛ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الْوَجْهِ وَمَا سِوَى هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ مِنْ الْوَجْهِ غَيْرُ مُرَادٍ، وَالْأَنْفُ بَعْضُ الْوَجْهِ كَالْجَبْهَةِ وَلَا إجْمَاعَ عَلَى تَعْيِينِ الْجَبْهَةِ فَلَا يَجُوزُ تَعْيِينُهَا، وَتَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ فَنَحْمِلُهُ عَلَى بَيَانِ السُّنَّةِ احْتِرَازًا عَنْ الرَّدِّ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. هَذَا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ: فَإِنْ كَانَ عَجْزُهُ عَنْهُ بِسَبَبِ الْمَرَضِ بِأَنْ كَانَ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ - يَسْقُطُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ الْفِعْلِ لَا يُكَلَّفُ بِهِ، وَكَذَا إذَا خَافَ زِيَادَةَ الْعِلَّةِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ وَفِيهِ أَيْضًا حَرَجٌ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ يُصَلِّي قَاعِدًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، فَإِنْ عَجَزَ

عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يُصَلِّي قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ، وَيَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْقُعُودِ يَسْتَلْقِي وَيُومِئُ إيمَاءً؛ لِأَنَّ السُّقُوطَ لِمَكَانِ الْعُذْرِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْعُذْرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103] قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ الذِّكْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْآيَةِ هُوَ الصَّلَاةُ أَيْ: صَلُّوا، وَنَزَلَتْ الْآيَةُ فِي رُخْصَةِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ أَنَّهُ يُصَلِّي قَائِمًا إنْ اسْتَطَاعَ، وَإِلَّا فَقَاعِدًا، وَإِلَّا فَمُضْطَجِعًا، كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَرِضْتُ فَعَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِكَ تُومِئُ إيمَاءً» ، وَإِنَّمَا جُعِلَ السُّجُودُ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ فِي الْإِيمَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَاءَ أُقِيمَ مَقَامَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَأَحَدَهُمَا أَخْفَضُ مِنْ الْآخَرِ، كَذَا الْإِيمَاءُ بِهِمَا وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي صَلَاةِ الْمَرِيضِ: «إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَسْجُدَ أَوْمَأَ وَجَعَلَ سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّجُودِ فَلْيَجْعَلْ سُجُودَهُ رُكُوعًا وَرُكُوعَهُ إيمَاءً» وَالرُّكُوعُ أَخْفَضُ مِنْ الْإِيمَاءِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الصَّلَاةِ مُسْتَلْقِيًا جَوَابُ الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَاتِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ إنْ عَجَزَ عَنْ الْقُعُودِ يُصَلِّي عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ وَوَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. (وَجْهُ) هَذَا الْقَوْلِ قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103] . وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «فَعَلَى جَنْبِكَ تُومِئُ إيمَاءً» ؛ وَلِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِمَا قُلْنَا، وَلِهَذَا يُوضَعُ فِي اللَّحْدِ هَكَذَا لِيَكُونَ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ. فَأَمَّا الْمُسْتَلْقِي يَكُونُ مُسْتَقْبِلَ السَّمَاءِ وَإِنَّمَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ رِجْلَاهُ فَقَطْ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ فِي الْمَرِيضِ: إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ قَاعِدًا فَعَلَى الْقَفَا يُومِئُ إيمَاءً، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَاَللَّهُ أَوْلَى بِقَبُولِ الْعُذْرِ» ، وَلِأَنَّ التَّوَجُّهَ إلَى الْقِبْلَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فَرْضٌ وَذَلِكَ فِي الِاسْتِلْقَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَاءَ هُوَ تَحْرِيكُ الرَّأْسِ، فَإِذَا صَلَّى مُسْتَلْقِيًا يَقَعُ إيمَاؤُهُ إلَى الْقِبْلَةِ، وَإِذَا صَلَّى عَلَى الْجَنْبِ يَقَعُ مُنْحَرِفًا عَنْهَا، وَلَا يَجُوزُ الِانْحِرَافُ عَنْ الْقِبْلَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَخْذَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَوْلَى. وَقِيلَ: إنَّ الْمَرَضَ الَّذِي كَانَ بِعِمْرَانَ كَانَ بَاسُورًا، فَكَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَلْقِيَ عَلَى قَفَاهُ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ الِاضْطِجَاعُ، يُقَالُ: فُلَانٌ وَضَعَ جَنْبَهُ إذَا نَامَ وَإِنْ كَانَ مُسْتَلْقِيًا، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِالْحَدِيثِ، عَلَى أَنَّ الْآيَةَ وَالْحَدِيثَ دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ مُسْتَلْقٍ فَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى الْجَنْبِ؛ لِأَنَّ الظَّهْرَ مُتَرَكِّبٌ مِنْ الضُّلُوعِ فَكَانَ لَهُ النِّصْفُ مِنْ الْجَنْبَيْنِ جَمِيعًا، وَعَلَى مَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ يَكُونُ عَلَى جَنْبٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَقْرَبَ إلَى مَعْنَى الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ فَكَانَ أَوْلَى. وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَضْعِ فِي اللَّحْدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمَيِّتِ فِي اللَّحْدِ فِعْلٌ يُوجِبُ تَوْجِيهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ لِيُوضَعَ مُسْتَلْقِيًا، فَكَانَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الْوَضْعِ عَلَى الْجَنْبِ فَوُضِعَ كَذَلِكَ. وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْقُعُودِ، لَكِنْ نُزِعَ الْمَاءُ مِنْ عَيْنَيْهِ فَأُمِرَ أَنْ يَسْتَلْقِيَ أَيَّامًا عَلَى ظَهْرِهِ وَنُهِيَ عَنْ الْقُعُودِ وَالسُّجُودِ - أَجْزَأَهُ أَنْ يَسْتَلْقِيَ وَيُصَلِّيَ بِالْإِيمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُجْزِئُهُ، (وَاحْتُجَّ) بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ طَبِيبًا قَالَ لَهُ بَعْدَمَا كُفَّ بَصَرُهُ: لَوْ صَبَرْتَ أَيَّامًا مُسْتَلْقِيًا صَحَّتْ عَيْنَاكَ، فَشَاوَرَ عَائِشَةَ وَجَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلَمْ يُرَخِّصُوا لَهُ فِي ذَلِكَ وَقَالُوا لَهُ: أَرَأَيْتَ لَوْ مِتَّ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ كَيْفَ تَصْنَعُ بِصَلَاتِكَ. (وَلَنَا) أَنَّ حُرْمَةَ الْأَعْضَاء كَحُرْمَةِ النَّفْسِ، وَلَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبْعٍ لَوْ قَعَدَ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالِاسْتِلْقَاءِ، فَكَذَا إذَا خَافَ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ صِدْقُ ذَلِكَ الطَّبِيبِ فِيمَا يَدَّعِي، ثُمَّ إذَا صَلَّى الْمَرِيضُ قَاعِدًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَوْ بِإِيمَاءٍ كَيْفَ يَقْعُدُ؟ أَمَّا فِي حَالِ التَّشَهُّدِ: فَإِنَّهُ يَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ لِلتَّشَهُّدِ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا فِي حَالِ الْقِرَاءَةِ وَفِي حَالِ الرُّكُوعِ: رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقْعُدُ كَيْفَ شَاءَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ إنْ شَاءَ مُحْتَبِيًا، وَإِنْ شَاءَ مُتَرَبِّعًا، وَإِنْ شَاءَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كَمَا فِي التَّشَهُّدِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا افْتَتَحَ تَرَبَّعَ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ فَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَجَلَسَ عَلَيْهَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَتَرَبَّعُ عَلَى حَالِهِ، وَإِنَّمَا يُنْقَضُ ذَلِكَ إذَا أَرَادَ السَّجْدَةَ وَقَالَ زُفَرُ يَفْتَرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ وَالصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ عُذْرَ الْمَرَضِ أَسْقَطَ عَنْهُ الْأَرْكَانَ فَلَأَنْ يُسْقِطَ عَنْهُ الْهَيْئَاتِ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ دُونَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يُصَلِّي قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ، وَإِنْ صَلَّى قَائِمًا

بِالْإِيمَاءِ أَجْزَأَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِئهُ إلَّا أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا، (وَاحْتَجَّا) بِمَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا» ، عَلَّقَ الْجَوَازَ قَاعِدًا بِشَرْطِ الْعَجْزِ عَنْ الْقِيَامِ، وَلَا عَجْزَ؛ وَلِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالْإِيمَاءُ حَالَةَ الْقِيَامِ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ كَانَ الرَّجُلُ فِي طِينٍ وَرَدْغَةٍ رَاجِلًا، أَوْ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ وَهُوَ رَاجِلٌ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي قَائِمًا بِالْإِيمَاءِ، كَذَا هَهُنَا. (وَلَنَا) أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ كَانَ عَنْ الْقِيَامِ أَعْجَزَ؛ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ الْقُعُودِ إلَى الْقِيَامِ أَشَقُّ مِنْ الِانْتِقَالِ مِنْ الْقِيَامِ إلَى الرُّكُوعِ، وَالْغَالِبُ مُلْحَقٌ بِالْمُتَيَقَّنِ فِي الْأَحْكَامِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْأَمْرَيْنِ، إلَّا أَنَّهُ مَتَى صَلَّى قَائِمًا جَازَ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّفَ فِعْلًا لَيْسَ عَلَيْهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَكَلَّفَ الرُّكُوعَ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَذَا هَهُنَا؛ وَلِأَنَّ السُّجُودَ أَصْلٌ وَسَائِرَ الْأَرْكَانِ كَالتَّابِعِ لَهُ، وَلِهَذَا كَانَ السُّجُودُ مُعْتَبَرًا بِدُونِ الْقِيَامِ كَمَا فِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَلَيْسَ الْقِيَامُ مُعْتَبَرًا بِدُونِ السُّجُودِ بَلْ لَمْ يُشْرَعْ بِدُونِهِ، فَإِذَا سَقَطَ الْأَصْلُ سَقَطَ التَّابِعُ ضَرُورَةً، وَلِهَذَا سَقَطَ الرُّكُوعُ عَمَّنْ سَقَطَ عَنْهُ السُّجُودُ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الرُّكُوعِ، وَكَانَ الرُّكُوعُ بِمَنْزِلَةِ التَّابِعِ لَهُ، فَكَذَا الْقِيَامُ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ أَشَدُّ تَعْظِيمًا وَإِظْهَارًا لِذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ الْقِيَامِ، ثُمَّ لَمَّا جُعِلَ تَابِعًا لَهُ وَسَقَطَ بِسُقُوطِهِ فَالْقِيَامُ أَوْلَى، إلَّا أَنَّهُ لَوْ تَكَلَّفَ وَصَلَّى قَائِمًا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنْ لَا يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِدُونِ السُّجُودِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْأَصْلُ فَكَذَا التَّابِعُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ: إنَّ الْعَجْزَ شَرْطٌ لَكِنَّهُ مَوْجُودٌ هَهُنَا نَظَرًا إلَى الْغَالِبِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْغَالِبَ هُوَ الْعَجْزُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالْقُدْرَةُ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ، وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ، ثُمَّ الْمَرِيضُ إنَّمَا يُفَارِقُ الصَّحِيحَ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْهُ، فَأَمَّا فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْمُفَارَقَةَ لِلْعُذْرِ، فَتَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْعُذْرِ، حَتَّى لَوْ صَلَّى قَبْلَ وَقْتِهَا أَوْ بِغَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِمَا لَمْ يَجْزِهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا أَوْمَأَ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ فَتَسْقُطُ بِالْعَجْزِ كَالْقِيَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا سَقَطَتْ فِي حَقِّ الْأُمِّيِّ؟ وَكَذَا إذَا صَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ مُتَعَمِّدًا لِذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَطَأً مِنْهُ أَجْزَأَهُ، بِأَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْهَا فَتَحَرَّى وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ، كَمَا فِي حَقِّ الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ وَجْهُ الْمَرِيضِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَهُوَ لَا يَجِدُ مَنْ يُحَوِّلُ وَجْهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ يُصَلِّي كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ إلَّا ذَلِكَ، وَهَلْ يُعِيدُهَا إذَا بَرِئَ؟ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ أَنَّهُ يُعِيدُهَا وَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الْجَوَابِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ تَحْصِيلِ الشَّرَائِطِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْعَجْزِ عَنْ تَحْصِيلِ الْأَرْكَانِ، وَثَمَّةَ لَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ فَهَهُنَا أَوْلَى وَلَوْ كَانَ بِجَبْهَتِهِ جُرْحٌ لَا يَسْتَطِيعُ السُّجُودَ عَلَى الْجَبْهَةِ لَمْ يُجْزِهِ الْإِيمَاءُ، وَعَلَيْهِ السُّجُودُ عَلَى الْأَنْفِ؛ لِأَنَّ الْأَنْفَ مَسْجِدٌ كَالْجَبْهَةِ خُصُوصًا عِنْدَ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا مَرَّ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى السُّجُودِ عَلَيْهِ فَلَا يُجْزِئُهُ الْإِيمَاءُ. وَلَوْ عَجَزَ عَنْ الْإِيمَاءِ وَهُوَ تَحْرِيكُ الرَّأْسِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ: يُومِئُ بِالْحَاجِبَيْنِ أَوَّلًا، فَإِنْ عَجَزَ فَبِالْعَيْنَيْنِ، فَإِنْ عَجَزَ فَبِقَلْبِهِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: يُومِئُ بِعَيْنَيْهِ وَبِحَاجِبَيْهِ وَلَا يُومِئُ بِقَلْبِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الصَّلَاةَ فَرْضٌ دَائِمٌ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْعَجْزِ، فَمَا عَجَزَ عَنْهُ يَسْقُطُ وَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ بِقَدْرِهِ، فَإِذَا قَدَرَ بِالْحَاجِبَيْنِ كَانَ الْإِيمَاءُ بِهِمَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ إلَى الرَّأْسِ، فَإِنْ عَجَزَ الْآنَ يُومِئُ بِعَيْنَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ، وَجَمِيعُ الْبَدَنِ ذُو حَظٍّ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ كَذَا الْعَيْنَانِ، فَإِنْ عَجَزَ فَبِالْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ ذُو حَظٍّ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ النِّيَّةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ صِحَّتِهَا؟ فَعِنْدَ الْعَجْزِ تَنْتَقِلُ إلَيْهِ. (وَجْهُ) قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ تُؤَدَّى بِالْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ، فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَلَيْسَ بِذِي حَظٍّ مِنْ أَرْكَانِهَا بَلْ هُوَ ذُو حَظٍّ مِنْ الشَّرْطِ وَهُوَ النِّيَّةُ، وَهِيَ قَائِمَةٌ أَيْضًا عِنْدَ الْإِيمَاءِ فَلَا يُؤَدَّى بِهِ الْأَرْكَانُ وَالشَّرْطُ جَمِيعًا. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْمَرِيضِ إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ قَاعِدًا فَعَلَى الْقَفَا يُومِئُ إيمَاءً، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَاَللَّهُ أَوْلَى بِقَبُولِ الْعُذْرِ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مَعْذُورٌ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ الْإِيمَاءُ بِمَا ذَكَرْتُمْ لَمَا كَانَ مَعْذُورًا، وَلِأَنَّ الْإِيمَاءَ لَيْسَ بِصَلَاةٍ حَقِيقَةٍ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ التَّنَفُّلُ بِهِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَلَوْ كَانَ صَلَاةً لَجَازَ كَمَا لَوْ تَنَفَّلَ قَاعِدًا إلَّا أَنَّهُ أُقِيمَ مَقَامَ الصَّلَاةِ بِالشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِالْإِيمَاءِ بِالرَّأْسِ فَلَا يُقَامُ غَيْرُهُ مُقَامَهُ، ثُمَّ إذَا سَقَطَتْ عَنْهُ الصَّلَاةُ بِحُكْمِ

الْعَجْزِ فَإِنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ وَقْتَ الْقَضَاءِ. وَأَمَّا إذَا بَرِئَ أَوْ صَحَّ فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَوْ أَقَلَّ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْجِزُهُ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ فَيُؤَاخَذُ بِقَضَائِهَا، بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُعْجِزُهُ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ فَيَمْنَعُ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ الْفَوَائِتَ دَخَلَتْ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ، وَقَدْ فَاتَتْ لَا بِتَضْيِيعِهِ الْقُدْرَةَ بِقَصْدِهِ، فَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لَوَقَعَ فِي الْحَرَجِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَالَ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ الْعِلْمِ أَوْ الْجَهْلِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْحَرَجِ لَا يَخْتَلِفُ، وَلِهَذَا سَقَطَتْ عَنْ الْحَائِضِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحَيْضُ يُعْجِزُهَا عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ، وَعَلَى هَذَا إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَقَلَّ ثُمَّ أَفَاقَ قَضَى مَا فَاتَهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَقَالَ بِشْرٌ: الْإِغْمَاءُ لَيْسَ بِمُسْقِطٍ حَتَّى يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ، وَإِنْ طَالَتْ مُدَّةُ الْإِغْمَاءِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْإِغْمَاءُ يُسْقِطُ إذَا اسْتَوْعَبَ وَقْتَ صَلَاةٍ كَامِلًا وَتُذْكَرُ هَذِهِ الْمَسَائِلُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عِنْدَ بَيَانِ مَا يُقْضَى مِنْ الصَّلَاةِ الَّتِي فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا وَمَا لَا يُقْضَى مِنْهَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَلَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ قَاعِدًا وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ صَحَّ وَقَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ فَإِنْ كَانَ شُرُوعُهُ بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ بُنِيَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُف - اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَسْتَقْبِلُ قِيَاسًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ الْقَائِمَ لَا يَقْتَدِي بِالْقَاعِدِ فَكَذَا لَا يَبْنِي أَوَّلَ صَلَاتِهِ عَلَى آخِرِهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ فَيَجُوزُ الْبِنَاءُ، وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا وَإِنْ كَانَ شُرُوعُهُ بِالْإِيمَاءِ يَسْتَقْبِلُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَبْنِي؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الرَّاكِعِ السَّاجِدِ بِالْمُومِئِ، فَيَجُوزُ الْبِنَاءُ، وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ عَلَى مَا يُذْكَرُ. (وَأَمَّا) الصَّحِيحُ إذَا شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ عَرَضَ لَهُ مَرَضٌ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ عَلَى حَسَبِ إمْكَانِهِ قَاعِدًا أَوْ مُسْتَلْقِيًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا صَارَ إلَى الْإِيمَاءِ يَسْتَقْبِلُ؛ لِأَنَّهُمَا فَرْضَانِ مُخْتَلِفَانِ فِعْلًا فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُمَا بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ كَالظُّهْرِ مَعَ الْعَصْرِ، وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ آخِرِ الصَّلَاةِ عَلَى أَوَّلِ الصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ بِنَاءِ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَثَمَّةَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُومِئِ بِالصَّحِيحِ لِمَا يُذْكَرُ فَيَجُوزُ الْبِنَاءُ هَهُنَا؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ بَنَى لَصَارَ مُؤَدِّيًا بَعْضَ الصَّلَاةِ كَامِلًا وَبَعْضَهَا نَاقِصًا، وَلَوْ اسْتَقْبَلَ لَأَدَّى الْكُلَّ نَاقِصًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى. وَلَوْ رُفِعَ إلَى وَجْهِ الْمَرِيضِ وِسَادَةٌ أَوْ شَيْءٌ فَسَجَدَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُومِئَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ فِي حَقِّهِ الْإِيمَاءُ وَلَمْ يُوجَدْ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُفْعَلَ هَذَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ فَوَجَدَهُ يُصَلِّي كَذَلِكَ فَقَالَ: إنْ قَدَرْتَ أَنْ تَسْجُدَ عَلَى الْأَرْضِ فَاسْجُدْ وَإِلَّا فَأَوْمِ بِرَأْسِكَ. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ دَخَلَ عَلَى أَخِيهِ يَعُودُهُ فَوَجَدَهُ يُصَلِّي وَيُرْفَعُ إلَيْهِ عُودٌ فَيَسْجُدُ عَلَيْهِ، فَنَزَعَ ذَلِكَ مِنْ يَدِ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ وَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ عَرَضَ لَكُمْ الشَّيْطَانُ، أَوْمِ لِسُجُودِك. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى ذَلِكَ مِنْ مَرِيضٍ فَقَالَ: أَتَتَّخِذُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى؟ ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ يُنْظَرْ: إنْ كَانَ يَخْفِضُ رَأْسَهُ لِلرُّكُوعِ شَيْئًا ثُمَّ لِلسُّجُودِ ثُمَّ يُلْزَقُ بِجَبِينِهِ يَجُوزُ لِوُجُودِ الْإِيمَاءِ لَا لِلسُّجُودِ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَإِنْ كَانَتْ الْوِسَادَةُ مَوْضُوعَةً عَلَى الْأَرْضِ وَكَانَ يَسْجُدُ عَلَيْهَا - جَازَتْ صَلَاتُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَسْجُدُ عَلَى مِرْفَقَةٍ مَوْضُوعَةٍ بَيْنَ يَدَيْهَا لِرَمَدٍ بِهَا، وَلَمْ يَمْنَعْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ الصَّحِيحُ إذَا كَانَ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَهُوَ خَارِجُ الْمِصْرِ وَبِهِ عُذْرٌ مَانِعٌ مِنْ النُّزُولِ عَنْ الدَّابَّةِ، مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ أَوْ السَّبُعِ، أَوْ كَانَ فِي طِينٍ أَوْ رَدْغَةٍ يُصَلِّي الْفَرْضَ عَلَى الدَّابَّةِ قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ مِنْ غَيْرِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اعْتِرَاضِ هَذِهِ الْأَعْذَارِ عَجَزَ عَنْ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْأَرْكَانِ مِنْ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ عَجَزَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ، وَيُومِئُ إيمَاءً، لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُومِئُ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَيَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ» لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى الدَّابَّةِ بِجَمَاعَةٍ سَوَاءٌ تَقَدَّمَهُمْ الْإِمَامُ أَوْ تَوَسَّطَهُمْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَجُوزَ اقْتِدَاؤُهُمْ بِالْإِمَامِ إذَا كَانَتْ دَوَابُّهُمْ بِالْقُرْبِ مِنْ دَابَّةِ الْإِمَامِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ فُرْجَةٌ إلَّا بِقَدْرِ الصَّفِّ بِالْقِيَاسِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ اتِّحَادَ الْمَكَانِ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ لِيَثْبُتَ اتِّحَادُ الصَّلَاتَيْنِ تَقْدِيرًا بِوَاسِطَةِ اتِّحَادِ الْمَكَانِ، وَهَذَا مُمْكِنٌ عَلَى الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ جُعِلَ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ شَرْعًا، وَكَذَا فِي الصَّحْرَاءِ تُجْعَلُ الْفُرُجُ الَّتِي بَيْنَ

الصُّفُوفِ مَكَانَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا تُشْغَلُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَيْضًا فَصَارَ الْمَكَانُ مُتَّحِدًا، وَلَا يُمْكِنُ عَلَى الدَّابَّةِ لِأَنَّهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهَا بِالْإِيمَاءِ مِنْ غَيْرِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ، فَلَمْ تَكُنْ الْفُرَجُ الَّتِي بَيْنَ الصُّفُوفِ وَالدَّوَابِّ مَكَانَ الصَّلَاةِ فَلَا يَثْبُتُ اتِّحَادُ الْمَكَانِ تَقْدِيرًا، فَفَاتَ شَرْطُ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ فَلَمْ يَصِحَّ، وَلَكِنْ تَجُوزُ صَلَاةُ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ حَتَّى لَوْ كَانَا عَلَى دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَحْمَلٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي شِقَّيْ مَحْمَلٍ وَاحِدٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي شِقٍّ عَلَى حِدَةٍ، فَاقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ جَازَ لِاتِّحَادِ الْمَكَانِ وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى أَيِّ دَابَّةٍ كَانَتْ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَأْكُولَةَ اللَّحْمِ أَوْ غَيْرَ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى حِمَارِهِ وَبَعِيرِهِ. وَلَوْ كَانَ عَلَى سَرْجِهِ قَذَرٌ جَازَتْ صَلَاتُهُ، كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ، وَعَنْ أَبِي حَفْصٍ الْبُخَارِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ الْجُلُوسِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ الرِّكَابَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا تَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالصَّلَاةِ عَلَى الْأَرْضِ وَأَوَّلَا الْعُذْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ بِالْعُرْفِ، وَعِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا تَجُوزُ - كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْأَصْلِ - لِتَعْلِيلِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالدَّابَّةُ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا فِي بَطْنِهَا مِنْ النَّجَاسَاتِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا، ثُمَّ إذَا لَمْ يُمْنَعْ الْجَوَازُ فَهَذَا أَوْلَى وَالثَّانِي - أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا مِنْ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ - مَعَ أَنَّ الْأَرْكَانَ أَقْوَى مِنْ الشَّرَائِطِ - فَلَأَنْ يَسْقُطَ شَرْطُ طَهَارَةِ الْمَكَانِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَكَانِ إنَّمَا تُشْتَرَطُ لِأَدَاءِ الْأَرْكَانِ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يُؤَدِّي عَلَى مَوْضِعِ سَرْجِهِ وَرِكَابَيْهِ هَهُنَا رُكْنًا لِيَشْتَرِطَ طَهَارَتَهَا؛ إنَّمَا الَّذِي يُوجَدُ مِنْهُ الْإِيمَاءُ، وَهُوَ إشَارَةٌ فِي الْهَوَاءِ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ طَهَارَةُ مَوْضِعِ السَّرْجِ وَالرِّكَابَيْنِ، وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى الدَّابَّةِ لِخَوْفِ الْعَدُوِّ كَيْفَمَا كَانَتْ الدَّابَّةُ وَاقِفَةً أَوْ سَائِرَةً؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إلَى السَّيْرِ، فَأَمَّا لِعُذْرِ الطِّينِ وَالرَّدْغَةِ فَلَا يَجُوزُ إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ سَائِرَةً؛ لِأَنَّ السَّيْرَ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ فِي الْأَصْلِ فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَلَمْ تُوجَدْ وَلَوْ اسْتَطَاعَ النُّزُولَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقُعُودِ لِلطِّينِ وَالرَّدْغَةِ يَنْزِلُ وَيُومِئُ قَائِمًا عَلَى الْأَرْضِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْقُعُودِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّجُودِ يَنْزِلُ وَيُصَلِّي قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ؛ لِأَنَّ السُّقُوطَ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الصَّلَاةُ فِي السَّفِينَةِ إذَا صَلَّى فِيهَا قَاعِدًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَنْ يَجُوزَ إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْقِيَامِ وَالسَّفِينَةُ جَارِيَةٌ، وَلَوْ قَامَ يَدُورُ رَأْسُهُ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ فِي السَّفِينَةِ أَنَّ السَّفِينَةَ لَا تَخْلُو أَمَّا إنْ كَانَتْ وَاقِفَةً أَوْ سَائِرَةً، فَإِنْ كَانَتْ وَاقِفَةً فِي الْمَاءِ أَوْ كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً عَلَى الْأَرْضِ جَازَتْ الصَّلَاةُ فِيهَا وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا إذَا اسْتَقَرَّتْ كَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْأَرْضِ، وَلَا تَجُوزُ إلَّا قَائِمًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ مُتَوَجِّهًا إلَى الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِ الْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ. وَإِنْ كَانَتْ مَرْبُوطَةً غَيْرَ مُسْتَقِرَّةٍ عَلَى الْأَرْضِ فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا قَاعِدًا؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَقِرَّةً عَلَى الْأَرْضِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الدَّابَّةِ، وَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْفَرْضِ عَلَى الدَّابَّةِ مَعَ إمْكَانِ النُّزُولِ كَذَا هَذَا وَإِنْ كَانَتْ سَائِرَةً فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْخُرُوجُ إلَى الشَّطِّ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ دَوَرَانَ الرَّأْسِ فِي السَّفِينَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْقُعُودِ، وَهُوَ آمِنٌ عَنْ الدَّوْرَانِ فِي الشَّطِّ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ وَصَلَّى فِيهَا قَائِمًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَجْزَأَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي السَّفِينَةِ قُعُودًا، وَلَوْ شِئْنَا لَخَرَجْنَا إلَى الْحَدِّ؛ وَلِأَنَّ السَّفِينَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ سَيْرَهَا غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ، بِخِلَافِ الدَّابَّةِ فَإِنَّ سَيْرَهَا مُضَافٌ إلَيْهِ، وَإِذَا دَارَتْ السَّفِينَةُ وَهُوَ يُصَلِّي يَتَوَجَّهُ إلَى الْقِبْلَةِ حَيْثُ دَارَتْ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِ هَذَا الشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ تَعَذُّرٍ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُهُ، بِخِلَافِ الدَّابَّةِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَا إمْكَانَ وَأَمَّا إذَا صَلَّى فِيهَا قَاعِدًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْقِيَامِ - بِأَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَدُورُ رَأْسُهُ لَوْ قَامَ - وَعَنْ الْخُرُوجِ إلَى الشَّطِّ - أَيْضًا - يُجْزِئُهُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ تَسْقُطُ بِعُذْرِ الْعَجْزِ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقُعُودِ بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ فَصَلَّى بِالْإِيمَاءِ لَا يُجْزِئُهُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا عُذْرَ وَأَمَّا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ أَوْ عَلَى الْخُرُوجِ إلَى الشَّطِّ فَصَلَّى قَاعِدًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - وَقَدْ أَسَاءَ -، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُجْزِئُهُ. (وَاحْتَجَّا) بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا» ، وَهَذَا مُسْتَطِيعٌ لِلْقِيَامِ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَعَثَ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى الْحَبَشَةِ أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي السَّفِينَةِ قَائِمًا إلَّا أَنْ يَخَافَ الْغَرَقَ، وَلِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِعُذْرٍ وَلَمْ يُوجَدْ. (وَلِأَبِي) حَنِيفَةَ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي كِتَابِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ الصَّلَاةِ فِي

السَّفِينَةِ فَقَالَا: إنْ كَانَتْ جَارِيَةً يُصَلِّي قَاعِدًا، وَإِنْ كَانَتْ رَاسِيَةً يُصَلِّي قَائِمًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ أَوْ لَا؛ وَلِأَنَّ سَيْرَ السَّفِينَةِ سَبَبٌ لِدَوَرَانِ الرَّأْسِ غَالِبًا، وَالسَّبَبَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ إذَا كَانَ فِي الْوُقُوفِ عَلَى الْمُسَبِّبِ حَرَجٌ، أَوْ كَانَ الْمُسَبِّبُ بِحَالٍ يَكُونُ عَدَمُهُ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ، فَأَلْحَقُوا النَّادِرَ بِالْعَدَمِ، وَلِهَذَا أَقَامَ أَبُو حَنِيفَةَ الْمُبَاشَرَةَ الْفَاحِشَةَ مَقَامَ خُرُوجِ الْمَذْيِ، لِمَا أَنَّ عَدَمَ الْخُرُوجَ عِنْدَ ذَلِكَ نَادِرٌ وَلَا عِبْرَةَ بِالنَّادِرِ، وَهَهُنَا عَدَمُ دَوْرَانِ الرَّأْسِ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ وَصَارَ كَالرَّاكِبِ عَلَى الدَّابَّةِ وَهِيَ تَسِيرُ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْقِيَامُ لِتَعَذُّرِ الْقِيَامِ عَلَيْهَا غَالِبًا، كَذَا هَذَا، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ دُونَ الْوُجُوبِ، فَإِنْ صَلَّوْا فِي السَّفِينَةِ بِجَمَاعَةٍ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ، وَلَوْ اقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ فِي سَفِينَةٍ أُخْرَى فَإِنْ كَانَتْ السَّفِينَتَانِ مَقْرُونَتَيْنِ - جَازَ لِأَنَّهُمَا بِالِاقْتِرَانِ صَارَتَا كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَتَا مُنْفَصِلَتَيْنِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ تَخَلُّلَ مَا بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ النَّهْرِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فِي سَفِينَةٍ وَالْمُقْتَدُونَ عَلَى الْحَدِّ وَالسَّفِينَةُ وَاقِفَةٌ فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ طَرِيقٌ أَوْ مِقْدَارُ نَهْرٍ عَظِيمٍ - لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ لِأَنَّ الطَّرِيقَ وَمِثْلَ هَذَا النَّهْرِ يَمْنَعَانِ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ لِمَا بَيَّنَّا فِي مَوْضِعِهِ، وَمَنْ وَقَفَ عَلَى سَطْحِ السَّفِينَةِ يَقْتَدِي بِالْإِمَامِ فِي السَّفِينَةِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَامَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ السَّفِينَةَ كَالْبَيْتِ، وَاقْتِدَاءَ الْوَاقِفِ عَلَى السَّطْحِ بِمَنْ هُوَ فِي الْبَيْتِ صَحِيحٌ إذَا لَمْ يَكُنْ أَمَامَ الْإِمَامِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُهُ كَذَا هَهُنَا. (وَمِنْهَا) - الْقِرَاءَةُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِوُجُودِ حَدِّ الرُّكْنِ وَعَلَامَتِهِ وَهُمَا مَا بَيَّنَّا، وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ فِي حَالِ الصَّلَاةِ، وَالْكَلَامُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الْأَصْلِ يَقَعُ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا - فِي بَيَانِ فَرْضِيَّةِ أَصْلِ الْقِرَاءَةِ وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ مَحَلِّ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالثَّالِثُ - فِي بَيَانِ قَدْرِ الْقِرَاءَةِ. (وَأَمَّا) الْأَوَّلُ فَالْقِرَاءَةُ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَهُمَا اسْمٌ لِلْأَفْعَالِ لَا لِلْأَذْكَارِ، حَتَّى قَالَا: يَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ تَكْبِيرٍ، (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] مُجْمَلٌ بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِعْلِهِ، ثُمَّ قَالَ «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَالْمَرْئِيُّ هُوَ الْأَفْعَالُ دُونَ الْأَقْوَالِ؛ فَكَانَتْ الصَّلَاةُ اسْمًا لِلْأَفْعَالِ، وَلِهَذَا تَسْقُطُ عَنْ الْعَاجِزِ عَنْ الْأَفْعَالِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْأَذْكَارِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْقَلْبِ لَا يَسْقُطُ وَهُوَ الْأَخْرَسُ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» . وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» فَالرُّؤْيَةُ أُضِيفَتْ إلَى ذَاتِهِ لَا إلَى الصَّلَاةِ، فَلَا يَقْتَضِي كَوْنَ الصَّلَاةِ مَرْئِيَّةً، وَفِي كَوْنِ الْأَعْرَاضِ مَرْئِيَّةً اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْكَلَامِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا جَائِزَةُ الرُّؤْيَةِ. وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ جَائِزُ الرُّؤْيَةِ، يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْكَلَامِ، عَلَى أَنَّا نَجْمَعُ بَيْنَ الدَّلَائِلِ فَنُثْبِتُ فَرْضِيَّةَ الْأَقْوَالِ بِمَا ذَكَرْنَا، وَفَرْضِيَّةَ الْأَفْعَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَسُقُوطُ الصَّلَاةِ عَنْ الْعَاجِزِ عَنْ الْأَفْعَالِ لِكَوْنِ الْأَفْعَالِ أَكْثَرَ مِنْ الْأَقْوَالِ، فَمَنْ عَجَزَ عَنْهَا فَقَدْ عَجَزَ عَنْ الْأَكْثَرِ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، وَكَذَا الْقِرَاءَةُ فَرْضٌ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا قِرَاءَةَ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لِظَاهِرِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ أَيْ لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةٌ، إذْ الْأَعْجَمُ اسْمٌ لِمَنْ لَا يَنْطِقُ. (وَلَنَا) مَا تَلَوْنَا مِنْ الْكِتَابِ وَرَوَيْنَا مِنْ السُّنَّةِ، وَفِي الْبَابِ نَصٌّ خَاصٌّ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيَّيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَا غَيْرُ وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ صَحَّ رُجُوعُهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ وَقَالَ: أَقْرَأُ خَلْفَ إمَامِي؟ فَقَالَ: أَمَّا فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَنَعَمْ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَعْنَاهُ لَا تَسْمَعُ فِيهَا قِرَاءَةً وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، وَهَذَا إذَا كَانَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا، فَأَمَّا الْمُقْتَدِي فَلَا قِرَاءَةَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ يُخَافِتُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَهُ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ قَوْلَانِ، (وَاحْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ صَلَاةً عَلَى حِدَةٍ؛ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَا تَسْقُطُ بِالِاقْتِدَاءِ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ

وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] أَمْرٌ بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ، وَالِاسْتِمَاعُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا عِنْدَ الْمُخَافَتَةِ بِالْقِرَاءَةِ فَالْإِنْصَاتُ مُمْكِنٌ فَيَجِبُ بِظَاهِرِ النَّصِّ، وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَرَكُوا الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَإِمَامُهُمْ كَانَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ بِأَمْرِهِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثٍ مَشْهُورٍ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» الْحَدِيثُ أَمْرٌ بِالسُّكُوتِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَعِنْدَنَا «لَا صَلَاةَ بِدُونِ قِرَاءَةٍ» أَصْلًا، وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِي لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ بِدُونِ قِرَاءَةٍ أَصْلًا، بَلْ هِيَ صَلَاةٌ بِقِرَاءَةٍ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ قِرَاءَةٌ لِلْمُقْتَدِي، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» ، ثُمَّ الْمَفْرُوضُ هُوَ أَصْلُ الْقِرَاءَةِ عِنْدَنَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ عَيْنًا فِي الْأُولَيَيْنِ فَلَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ وَلَكِنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي بَيَانِ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ (وَأَمَّا) بَيَانُ مَحَلِّ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ فَمَحَلُّهَا الرَّكْعَتَانِ الْأُولَيَانِ عَيْنًا فِي الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَكْعَتَانِ مِنْهَا غَيْرُ عَيْنٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقُدُورِيُّ وَأَشَارَ فِي الْأَصْلِ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ يَقْضِيهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ، فَقَدْ جَعَلَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قَضَاءً عَنْ الْأُولَيَيْنِ فَدَلَّ أَنَّ مَحَلَّهَا الْأُولَيَانِ عَيْنًا. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْمَفْرُوضُ هُوَ الْقِرَاءَةُ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي كُلِّ رَكْعَةٍ احْتَجَّ الْحَسَنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَإِذَا قَرَأَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ امْتَثَلَ أَمْرَ الشَّرْعِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» ، أَثْبَتَ الصَّلَاةَ بِقِرَاءَةٍ وَقَدْ وُجِدَتْ الْقِرَاءَةُ فِي رَكْعَةٍ فَثَبَتَتْ الصَّلَاةُ ضَرُورَةً، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ الشَّافِعِيُّ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: اسْمُ الصَّلَاةِ يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ رَكْعَةٍ فَلَا تَجُوزُ كُلُّ رَكْعَةٍ إلَّا بِقِرَاءَةٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» ؛ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَرْضٌ فِي النَّفْلِ فَفِي الْفَرْضِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى؛ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ سَائِرُ الْأَرْكَانِ مِنْ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَرْضٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَكَذَا الْقِرَاءَةُ، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ مَالِكٌ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: الْقِرَاءَةُ فِي الْأَكْثَرِ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْقِرَاءَةِ فِي الْكُلِّ تَيْسِيرًا. (وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْمَغْرِبِ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ فَقَضَاهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ وَجَهَرَ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَقَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَجَهَرَ، وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَا يَقُولَانِ: الْمُصَلِّي بِالْخِيَارِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ، وَسَأَلَ رَجُلٌ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَقَالَتْ: لِيَكُنْ عَلَى وَجْهِ الثَّنَاءِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُ ذَلِكَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ ذِكْرٌ يُخَافِتُ بِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا تَكُونُ فَرْضًا، كَثَنَاءِ الِافْتِتَاحِ، وَهَذَا لِأَنَّ مَبْنَى الْأَرْكَانِ عَلَى الشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ، وَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَرْضًا لَمَا خَالَفَتْ الْأُخْرَيَانِ الْأُولَيَيْنِ فِي الصِّفَةِ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ وَأَمَّا الْآيَةُ فَنَحْنُ مَا عَرَفْنَا فَرْضِيَّةَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَالثَّانِي أَنَّا مَا عَرَفْنَا فَرْضِيَّتَهَا بِنَصِّ الْأَمْرِ بَلْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ تَكْرَارٌ لِلْأُولَى، وَالتَّكْرَارُ فِي الْأَفْعَالِ إعَادَةٌ مِثْلُ الْأَوَّلِ، فَيَقْتَضِي إعَادَةَ الْقِرَاءَةِ، بِخِلَافِ الشَّفْعِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَكْرَارِ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ بَلْ هُوَ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: الصَّلَاةُ فِي الْأَصْلِ رَكْعَتَانِ، زِيدَتْ فِي الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ فِي السَّفَرِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الشَّفْعَانِ فِي وَصْفِ الْقِرَاءَةِ مِنْ حَيْثُ الْجَهْرُ وَالْإِخْفَاءُ، وَفِي قَدْرِهَا وَهُوَ قِرَاءَةُ السُّورَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال، عَلَى أَنَّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَيَانَ فَرْضِيَّةِ الْقِرَاءَةِ وَلَيْسَ فِيهِمَا بَيَانُ قَدْرِ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ. وَقَدْ خَرَجَ فِعْلُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مِقْدَارٍ فَيُجْعَلُ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ، حَتَّى أَنَّ فَسَادَ الشَّفْعِ الثَّانِي لَا يُوجِبُ فَسَادَ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْفَرْضِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - وَأَمَّا فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَلَوْ سَبَّحَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثَ تَسْبِيحَاتٍ مَكَانَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَوْ سَكَتَ - أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، وَلَا يَكُونُ مُسِيئًا إنْ كَانَ عَامِدًا، وَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ سَاهِيًا، كَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ

قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالسُّكُوتِ، وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ إنْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ عَامِدًا كَانَ مُسِيئًا، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا فَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: إنَّ الْمُصَلِّيَ بِالْخِيَارِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ وَهَذَا بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ فَالْمَرْوِيُّ عَنْهُمَا كَالْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَأَمَّا) بَيَانُ قَدْرِ الْقِرَاءَةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا - فِي بَيَانِ الْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ أَصْلُ الْجَوَازِ وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ الْقَدْرِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْكَرَاهَةِ وَالثَّالِثُ - فِي بَيَانِ الْقَدْرِ الْمُسْتَحَبِّ (أَمَّا) الْكَلَامُ فِيمَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَفِيمَا يُكْرَهُ فَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَهَهُنَا نَذْكُرُ الْقَدْرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ أَصْلُ الْجَوَازِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَدَّرَ أَدْنَى الْمَفْرُوضِ بِالْآيَةِ التَّامَّةِ، طَوِيلَةً كَانَتْ أَوْ قَصِيرَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] . وَقَوْلِهِ {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21] ، وَقَوْلِهِ {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر: 22] رِوَايَةٍ الْفَرْضُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بَلْ هُوَ عَلَى أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ، سَوَاءٌ كَانَتْ آيَةً أَوْ مَا دُونَهَا بَعْدَ أَنْ قَرَأَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِرَاءَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ قُدِّرَ الْفَرْضُ بِآيَةٍ طَوِيلَةٍ كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَآيَةِ الدَّيْنِ، أَوْ ثَلَاثِ آيَاتٍ قِصَارٍ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَأَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] فَهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْعُرْفَ، وَيَقُولَانِ: مُطْلَقُ الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَأَدْنَى مَا يُسَمَّى الْمَرْءُ بِهِ قَارِئًا فِي الْعُرْفِ أَنْ يَقْرَأَ آيَةً طَوِيلَةً أَوْ ثَلَاثَ آيَاتٍ قِصَارٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَحْتَجُّ بِالْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ أَمْرٌ بِمُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ، وَقِرَاءَةُ آيَةٍ قَصِيرَةٍ قِرَاءَةٌ وَالثَّانِي - أَنَّهُ أَمْرٌ بِقِرَاءَةِ مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ وَعَسَى لَا يَتَيَسَّرُ إلَّا هَذَا الْقَدْرُ. وَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَقْيَسُ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ أَيْ الْجَمْعِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ السُّوَرَ فَيَضُمُّ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ، وَيُقَالُ قَرَأْتُ الشَّيْءَ قُرْآنًا أَيْ جَمَعْتُهُ، فَكُلُّ شَيْءٍ جَمَعْتُهُ فَقَدْ قَرَأْتُهُ. وَقَدْ حَصَلَ مَعْنَى الْجَمْعِ بِهَذَا الْقَدْرِ لِاجْتِمَاعِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ التَّكَلُّمِ، وَكَذَا الْعُرْفُ ثَابِتٌ، فَإِنَّ الْآيَةَ التَّامَّةَ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْقُرْآنِ فِي الْعُرْفِ. فَأَمَّا مَا دُونَ الْآيَةِ فَقَدْ يُقْرَأُ لَا عَلَى سَبِيلِ الْقُرْآنِ فَيُقَالُ: بِسْمِ اللَّهِ، أَوْ الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ قَدَّرْنَا بِالْآيَةِ التَّامَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِتَسْمِيَتِهِ قَارِئًا فِي الْعُرْفِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى - فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ عُرْفُ النَّاسِ وَقَدْ قَرَّرَ الْقُدُورِيُّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْمَفْرُوضَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ. وَقَالَ: الْمَفْرُوضُ مُطْلَقُ الْقِرَاءَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، وَلِهَذَا يَحْرُمُ مَا دُونَ الْآيَةِ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَقْرَأُ لَا عَلَى قَصْدِ الْقُرْآنِ وَذَا لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ، فَإِنَّ الْآيَةَ التَّامَّةَ قَدْ تُقْرَأُ لَا عَلَى قَصْدِ الْقُرْآنِ فِي الْجُمْلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ قَدْ تُذْكَرُ لِافْتِتَاحِ الْأَعْمَالِ لَا لِقَصْدِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ آيَةٌ تَامَّةٌ؟ وَكَلَامُنَا فِيمَا إذَا قَرَأَ عَلَى قَصْدِ الْقُرْآنِ فَيَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْجَوَازُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعُرْفُ لِمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ الْجَوَازُ كَمَا يَثْبُتُ بِالْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ يَثْبُتُ بِالْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لَا يُحْسِنُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ يُحْسِنُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ يَجُوزُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ أَحْسَنَ أَوْ لَمْ يُحْسِنْ، وَإِذَا لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ يُسَبِّحُ وَيُهَلِّلُ عِنْدَهُ وَلَا يَقْرَأُ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَأَصْلُهُ قَوْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] ، أَمَرَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ، فَهُمْ قَالُوا: إنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُنَزَّلُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2] ، فَلَا يَكُونُ الْفَارِسِيُّ قُرْآنًا فَلَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ، وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ، وَالْإِعْجَازُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ يَزُولُ بِزَوَالِ النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ فَلَا يَكُونُ الْفَارِسِيُّ قُرْآنًا لِانْعِدَامِ الْإِعْجَازِ، وَلِهَذَا لَمْ تُحَرَّمْ قِرَاءَتُهُ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ فَقَدْ عَجَزَ عَنْ مُرَاعَاةِ لَفْظِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ مَعْنَاهُ لِيَكُونَ التَّكْلِيفُ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ فَلَا يُؤْمَرُ بِقِرَاءَتِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّ الْوَاجِبَ فِي الصَّلَاةِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَفْظٌ دَالٌّ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - الَّذِي هُوَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ لِمَا يَتَضَمَّنُ مِنْ الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ، لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ، وَمَعْنَى الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] . وَقَالَ: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى} [الأعلى: 18] {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا كَانَ فِي كُتُبِهِمْ بِهَذَا اللَّفْظِ بَلْ بِهَذَا الْمَعْنَى. (وَأَمَّا) قَوْلُهُمْ: إنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُنَزَّلُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ - (فَالْجَوَابُ) عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَوْنَ الْعَرَبِيَّةِ قُرْآنًا لَا يَنْفِي

أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا قُرْآنًا، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَفْيُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَرَبِيَّةَ سُمِّيَتْ قُرْآنًا لِكَوْنِهَا دَلِيلًا عَلَى مَا هُوَ الْقُرْآن، وَهِيَ الصِّفَةُ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ الْكَلَامِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ عَلَى إرَادَةِ تِلْكَ الصِّفَةِ دُونَ الْعِبَارَاتِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمَعْنَى الدَّلَالَةِ يُوجَدُ فِي الْفَارِسِيَّةِ فَجَازَ تَسْمِيَتُهَا قُرْآنًا، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا} [فصلت: 44] أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ عَبَّرَ عَنْهُ بِلِسَانِ الْعَجَمِ كَانَ قُرْآنًا وَالثَّانِي: إنْ كَانَ لَا يُسَمَّى غَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ قُرْآنًا لَكِنَّ قِرَاءَةَ الْعَرَبِيَّةَ مَا وَجَبَتْ لِأَنَّهَا تُسَمَّى قُرْآنًا بَلْ لِكَوْنِهَا دَلِيلًا عَلَى مَا هُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِاَللَّهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ عَرَبِيَّةً لَا يَتَأَدَّى بِهَا كَلَامُ اللَّهِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، فَضْلًا مِنْ أَنْ تَكُونَ قُرْآنًا وَاجِبًا، وَمَعْنَى الدَّلَالَةِ لَا يَخْتَلِفُ فَلَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ، وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ عِنْدَهُمَا تُفْتَرَضُ الْقِرَاءَةُ بِالْفَارِسِيَّةِ عَلَى غَيْرِ الْقَادِرِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، وَعُذْرُهُمَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْقُرْآنِ وَإِنَّهُ قُرْآنٌ عِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، فَإِذَا زَالَ اللَّفْظُ لَمْ يَكُنْ الْمَعْنَى قُرْآنًا فَلَا مَعْنَى لِلْإِيجَابِ، وَمَعَ ذَلِكَ وَجَبَ، فَدَلَّ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ؛ وَلِأَنَّ غَيْرَ الْعَرَبِيَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا لَمْ يَكُنْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَصَارَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَهُوَ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَالْقَوْلُ بِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِمَا هُوَ مُفْسِدٌ غَيْرُ سَدِيدٍ. (وَأَمَّا) قَوْلُهُمْ: إنَّ الْإِعْجَازَ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ لَا يَحْصُلُ بِالْفَارِسِيَّةِ - فَنَعَمْ لَكِنَّ قِرَاءَةَ مَا هُوَ مُعْجِزُ النَّظْمِ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ وَرَدَ بِمُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ لَا بِقِرَاءَةِ مَا هُوَ مُعْجِزٌ، وَلِهَذَا جَوَّزَ قِرَاءَةَ آيَةٍ قَصِيرَةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هِيَ مُعْجِزَةً مَا لَمْ تَبْلُغْ ثَلَاثَ آيَاتٍ، وَفَصْلُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ مَمْنُوعٌ. وَلَوْ قَرَأَ شَيْئًا مِنْ التَّوْرَاةِ أَوْ الْإِنْجِيلِ أَوْ الزَّبُورِ فِي الصَّلَاةِ إنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّفٍ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَخْبَرَ عَنْ تَحْرِيفِهِمْ بِقَوْلِهِ: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46] ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَقْرُوءَ مُحَرَّفٌ فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، فَلَا يُحْكَمُ بِالْجَوَازِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا تَشَهَّدَ أَوْ خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ. وَلَوْ أَمَّنَ بِالْفَارِسِيَّةِ، أَوْ سَمَّى عِنْدَ الذَّبْحِ بِالْفَارِسِيَّةِ، أَوْ لَبَّى عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْفَارِسِيَّةِ، أَوْ بِأَيِّ لِسَانٍ كَانَ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ أَذَّنَ بِالْفَارِسِيَّةِ قِيلَ: إنَّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الْإِعْلَامُ، حَتَّى لَوْ وَقَعَ بِهِ الْإِعْلَامُ يَجُوزُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّهَا سُنَّةٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ؟ . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ: «إذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنْ آخِرِ السَّجْدَةِ وَقَعَدْتَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ» ، عَلَّقَ تَمَامَ الصَّلَاةِ بِالْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَأَرَادَ بِهِ تَمَامَ الْفَرَائِضِ إذْ لَمْ يَتِمَّ أَصْلُ الْعِبَادَةِ بَعْدُ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا تَمَامَ قَبْلَهَا إذْ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عُدِمَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ فَسُبِّحَ بِهِ فَرَجَعَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا لَمَا رَجَعَ كَمَا فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى، وَلِأَنَّ حَدَّ الرُّكْنِ مَوْجُودٌ فِيهَا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهَا اسْمُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْهَا الصَّلَاةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْكِتَابِ، لَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ الْقَدْرُ الْمَفْرُوضُ مِنْ الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ هُوَ قَدْرُ التَّشَهُّدِ، حَتَّى لَوْ انْصَرَفَ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ هَذَا الْقَدْرَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ» ، عَلَّقَ تَمَامَ الصَّلَاةِ بِالْقَعْدَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَدَلَّ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الِانْتِقَالُ مِنْ رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الرُّكْنِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الرُّكْنِ فَهَذِهِ السِّتَّةُ أَرْكَانُ الصَّلَاةِ، إلَّا أَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأُوَلَ مِنْ الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ دُونَ الْبَاقِيَتَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَعْدَةُ مِنْ الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ أَيْضًا، وَإِلَيْهِ مَالَ عِصَامُ بْنُ يُوسُفَ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا فَرْضٌ تَنْعَدِمُ الصَّلَاةُ بِانْعِدَامِهَا كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِرُكْنٍ أَصْلِيٍّ؛ لِأَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمُتَرَكِّبِ مِنْ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ بِدُونِ الْقُعُودِ، وَلِهَذَا يَتَوَجَّهُ النَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ غُرُوبِهَا وَوَقْتَ الزَّوَالِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ الْقَعْدَةُ، وَلَوْ أَتَى بِمَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَا يَحْنَثُ، وَلِأَنَّ الْقَعْدَةَ بِنَفْسِهَا غَيْرُ صَالِحَةٍ لِلْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الِاسْتِرَاحَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَرْكَانِ فَتَمَكَّنَ الْخَلَلُ فِي كَوْنِهَا رُكْنًا أَصْلِيًّا، فَلَمْ تَكُنْ هِيَ مِنْ الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ لِلصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ فُرُوضِهَا حَتَّى لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ

فصل شرائط أركان الصلاة

بِدُونِهَا، وَيُشْتَرَطُ لَهَا مَا يُشْتَرَطُ لِسَائِرِ الْأَرْكَانِ فَأَمَّا التَّحْرِيمَةُ فَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا بَلْ هِيَ شَرْطٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رُكْنٌ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَإِلَيْهِ مَالَ عِصَامُ بْنُ يُوسُفَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِحْرَامُ فِي بَابِ الْحَجِّ أَنَّهُ شَرْطٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ رُكْنٌ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ أَنَّ عِنْدَنَا يَجُوزُ بِنَاءُ النَّفْلِ عَلَى الْفَرْضِ بِأَنْ يُحْرِمَ لِلْفَرْضِ وَيَفْرُغَ مِنْهُ وَيَشْرَعَ فِي النَّفْلِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمَةٍ جَدِيدَةٍ، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ لَمَّا كَانَتْ شَرْطًا جَازَ أَنْ يَتَأَدَّى النَّفَلُ بِتَحْرِيمَةِ الْفَرْضِ كَمَا يَتَأَدَّى بِطَهَارَةٍ وَقَعَتْ لِلْفَرْضِ وَعِنْدَهُ لَمَّا كَانَتْ رُكْنًا وَقَدْ انْقَضَى الْفَرْضُ بِأَرْكَانِهِ فَتَنْقَضِي التَّحْرِيمَةُ أَيْضًا. (وَجْهُ) قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ حَدَّ الرُّكْنِ مَوْجُودٌ فِيهَا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا وُجِدَتْ عَلَامَةُ الْأَرْكَانِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَدُومُ بَلْ تَنْقَضِي، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا مَا يُشْتَرَطُ لِسَائِرِ الْأَرْكَانِ بِخِلَافِ الشُّرُوطِ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] عَطَفَ الصَّلَاةَ عَلَى الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمَةُ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ مُقْتَضَى الْعَطْفِ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ أَنْ تُوجَدَ الصَّلَاةُ عَقِيبَ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَلَوْ كَانَتْ التَّحْرِيمَةُ رُكْنًا لَكَانَتْ الصَّلَاةُ مَوْجُودَةً عِنْدَ الذِّكْر لِاسْتِحَالَةِ انْعِدَامِ الشَّيْءِ فِي حَالِ وُجُودِ رُكْنِهِ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَالثَّانِي - أَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَتْ التَّحْرِيمَةُ رُكْنًا لَا يَتَحَقَّقُ الْمُغَايَرَةُ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ بَعْضَ الصَّلَاةِ، وَبَعْضُ الشَّيْءِ لَيْسَ غَيْرُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَيْنَهُ، وَكَذَا الْمَوْجُودُ فِيهَا حَدَّ الشَّرْطِ لَا حَدُّ الرُّكْنِ، فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ الصَّلَاةَ بِهَا، وَلَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا مَعَ سَائِرِ الشَّرَائِطِ فَكَانَتْ شَرْطًا، وَكَذَا عَلَامَةُ الشُّرُوطِ فِيهَا مَوْجُودَةٌ، فَإِنَّهَا بَاقِيَةٌ بِبَقَاءِ حُكْمِهَا وَهُوَ وُجُوبُ الِانْزِجَارِ عَنْ مَحْظُورَاتِ الصَّلَاةِ، عَلَى أَنَّ الْعَلَامَةَ إذَا خَالَفَتْ الْحَدَّ لَا يَبْطُلُ بِهِ الْحَدُّ، بَلْ يَظْهَرُ أَنَّ الْعَلَامَةَ كَاذِبَةٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ يُشْتَرَطُ لَهَا مَا يُشْتَرَطُ لِسَائِرِ الْأَرْكَانِ فَمَمْنُوعٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ لَهَا بَلْ، لِلْقِيَامِ الْمُتَّصِلِ بِهَا، وَالْقِيَامُ رُكْنٌ، حَتَّى أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا بِالرُّكْنِ جَوَّزْنَا تَقْدِيمَهُ عَلَى الْوَقْتِ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْأَرْكَانِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الشَّرَائِطِ أَنَّهَا نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَعُمُّ الْمُنْفَرِدَ وَالْمُقْتَدِيَ جَمِيعًا، وَهُوَ شَرَائِطُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَنَوْعٌ يَخُصُّ الْمُقْتَدِيَ، وَهُوَ شَرَائِطُ جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ فِي صَلَاتِهِ. (أَمَّا) شَرَائِطُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ: (فَمِنْهَا) الطَّهَارَةُ بِنَوْعَيْهَا مِنْ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْحُكْمِيَّةِ، وَالطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ طَهَارَةُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَمَكَانِ الصَّلَاةِ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَالطَّهَارَةُ الْحُكْمِيَّةُ هِيَ طَهَارَةُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ عَنْ الْحَدَثِ، وَطَهَارَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ عَنْ الْجَنَابَةِ. (أَمَّا) طَهَارَةُ الثَّوْبِ وَطَهَارَةُ الْبَدَنِ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] ، وَإِذَا وَجَبَ تَطْهِيرُ الثَّوْبِ فَتَطْهِيرُ الْبَدَنِ أَوْلَى. (وَأَمَّا) الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] إلَى قَوْلِهِ: {لِيُطَهِّرَكُمْ} [الأنفال: 11] . وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ» ، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهَارَةٍ» وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ» . وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ أَلَا فَبِلُّوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ» ، وَالْإِنْقَاءُ هُوَ التَّطْهِيرُ، فَدَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ الْحَقِيقِيَّةَ عَنْ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَالْحُكْمِيَّةَ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ، وَالْمَعْقُولُ كَذَا يَقْتَضِي مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا - أَنَّ الصَّلَاةَ خِدْمَةُ الرَّبِّ وَتَعْظِيمُهُ - جَلَّ جَلَالُهُ - وَعَمَّ نَوَالُهُ -، وَخِدْمَةُ الرَّبِّ وَتَعْظِيمُهُ بِكُلِّ الْمُمْكِنِ فَرْضٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقِيَامَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ - تَعَالَى - بِبَدَنٍ طَاهِرٍ وَثَوْبٍ طَاهِرٍ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ يَكُونُ أَبْلَغَ فِي التَّعْظِيمِ وَأَكْمَلَ فِي الْخِدْمَةِ مِنْ الْقِيَامِ بِبَدَنٍ نَجِسٍ وَثَوْبٍ نَجِسٍ وَعَلَى مَكَان نَجِسٍ، كَمَا فِي خِدْمَةِ الْمَمْلُوكِ فِي الشَّاهِدِ، وَكَذَلِكَ الْحَدَثُ وَالْجَنَابَةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَجَاسَةً مَرْئِيَّةً فَهِيَ نَجَاسَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ تُوجِبُ اسْتِقْذَارَ مَا حَلَّ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَافِحَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - امْتَنَعَ وَقَالَ: إنِّي جُنُبٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَانَ قِيَامُهُ مُخِلًّا بِالتَّعْظِيمِ؟ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ نَجَاسَةٌ رَأْسًا فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ الدَّرَنِ وَالْوَسَخِ؛ لِأَنَّهَا أَعْضَاءٌ بَادِيَةٌ عَادَةً فَيَتَّصِلُ بِهَا الدَّرَنُ وَالْوَسَخُ، فَيَجِبُ غَسْلُهَا تَطْهِيرًا لَهَا مِنْ الْوَسَخِ، وَالدَّرَنِ فَتَتَحَقَّقُ الزِّينَةُ وَالنَّظَافَةُ، فَيَكُونُ أَقْرَبَ إلَى التَّعْظِيمِ وَأَكْمَلَ فِي الْخِدْمَةِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ بَيْنَ يَدَيْ الْمُلُوكِ لِلْخِدْمَةِ فِي الشَّاهِدِ أَنَّهُ يَتَكَلَّفُ لِلتَّنْظِيفِ وَالتَّزْيِينِ، وَيَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ تَعْظِيمًا لِلْمَلِكِ. وَلِهَذَا كَانَ الْأَفْضَلُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَحْسَنِ ثِيَابِهِ وَأَنْظَفِهَا الَّتِي أَعَدَّهَا لِزِيَارَةِ الْعُظَمَاءِ،

وَلِمَحَافِلِ النَّاسِ، وَكَانَتْ الصَّلَاةُ مُتَعَمِّمًا أَفْضَلَ مِنْ الصَّلَاةِ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ، لِمَا أَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الِاحْتِرَامِ وَالثَّانِي - أَنَّهُ أَمْرٌ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ مِنْ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ تَذْكِيرًا لِتَطْهِيرِ الْبَاطِنِ مِنْ الْغِشِّ وَالْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَآثِمِ، فَأَمَرَ لَا لِإِزَالَةِ الْحَدَثِ تَطْهِيرًا؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْحَدَثِ لَا يُنَافِي الْعِبَادَةَ وَالْخِدْمَةَ فِي الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ؟ وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - الَّذِي هُوَ رَأْسُ الْعِبَادَاتِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَدَثَ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ وَلَا سَبَبِ مَأْثَمٍ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي فِي بَاطِنِهِ أَسْبَابُ الْمَآثِمِ، فَأَمَرَ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ دَلَالَةً وَتَنْبِيهًا عَلَى تَطْهِيرِ الْبَاطِنِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَتَطْهِيرُ النَّفَسِ عَنْهَا وَاجِبٌ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ وَالثَّالِثُ - أَنَّهُ وَجَبَ غَسْلُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ شُكْرًا لِنِعْمَةٍ وَرَاءَ النِّعْمَةِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهَا الصَّلَاةُ، وَهِيَ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ وَسَائِلُ إلَى اسْتِيفَاءِ نِعَمٍ عَظِيمَةٍ، بَلْ بِهَا تُنَالُ جُلُّ نِعَمِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَالْيَدُ بِهَا يَتَنَاوَلُ وَيَقْبِضُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَالرِّجْلُ يَمْشِي بِهَا إلَى مَقَاصِدِهِ، وَالْوَجْهُ وَالرَّأْسُ مَحَلُّ الْحَوَاسِّ وَمَجْمَعُهَا الَّتِي بِهَا يُعْرَفُ عِظَمُ نِعَمِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ الْعَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْفَمِ وَالْأُذُنِ، الَّتِي بِهَا الْبَصَرُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَالسَّمْعُ، الَّتِي بِهَا يَكُونُ التَّلَذُّذُ وَالتَّشَهِّي وَالْوُصُولُ إلَى جَمِيعِ النِّعَمِ، فَأَمَرَ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ شُكْرًا لِمَا يُتَوَسَّلُ بِهَا إلَى هَذِهِ النِّعَمِ وَالرَّابِعُ - أَمَرَ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ تَكْفِيرًا لِمَا ارْتَكَبَ بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ مِنْ الْإِجْرَامِ، إذْ بِهَا يَرْتَكِبُ جُلَّ الْمَآثِمِ مِنْ أَخْذِ الْحَرَامِ، وَالْمَشْيِ إلَى الْحَرَامِ، وَالنَّظَرِ إلَى الْحَرَامِ، وَأَكْلِ الْحَرَامِ، وَسَمَاعِ الْحَرَامِ مِنْ اللَّغْوِ وَالْكَذِبِ، فَأَمَرَ بِغَسْلِهَا تَكْفِيرًا لِهَذِهِ الذُّنُوبِ. وَقَدْ وَرَدَتْ الْأَخْبَارُ بِكَوْنِ الْوُضُوءِ تَكْفِيرًا لِلْمَآثِمِ فَكَانَتْ مُؤَيِّدَةً لِمَا قُلْنَا. (وَأَمَّا) طَهَارَةُ مَكَانِ الصَّلَاةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: {وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] ، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّلَاةَ خِدْمَةُ الرَّبِّ - تَعَالَى - وَتَعْظِيمُهُ، وَخِدْمَةُ الْمَعْبُودِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْعِبَادَةِ وَتَعْظِيمُهُ بِكُلِّ الْمُمْكِنِ فَرْضٌ، وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ أَقْرَبُ إلَى التَّعْظِيمِ، فَكَانَ طَهَارَةُ مَكَانِ الصَّلَاةِ شَرْطًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَزْبَلَةِ، وَالْمَجْزَرَةِ، وَمَعَاطِنِ الْإِبِلِ، وَقَوَارِعِ الطَّرِيقِ، وَالْحَمَّامِ، وَالْمَقْبَرَةِ، وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ - تَعَالَى -» أَمَّا مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ فَلِكَوْنِهِمَا مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ. وَأَمَّا مَعَاطِنُ الْإِبِلِ فَقَدْ قِيلَ إنَّ مَعْنَى النَّهْيِ فِيهَا أَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ النَّجَاسَاتِ عَادَةً، لَكِنَّ هَذَا يُشْكِلُ بِمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ» مَعَ أَنَّ الْمَعَاطِنَ وَالْمَرَابِضَ فِي مَعْنَى النَّجَاسَةِ سَوَاءٌ، وَقِيلَ: مَعْنَى النَّهْيِ أَنَّ الْإِبِلَ رُبَّمَا تَبُولُ عَلَى الْمُصَلِّي فَيُبْتَلَى بِمَا يُفْسِدُ صَلَاتَهُ، وَهَذَا لَا يُتَوَهَّمُ فِي الْغَنَمِ وَأَمَّا قَوَارِعُ الطُّرُقِ فَقِيلَ إنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ الْأَرْوَاثِ وَالْأَبْوَالِ عَادَةً، فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ وَالضَّيِّقِ، وَقِيلَ: مَعْنَى النَّهْيِ فِيهَا أَنَّهُ يَسْتَضِرُّ بِهِ الْمَارَّةُ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا لَا يُكْرَهُ، وَحَكَى ابْنُ سِمَاعَةَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ يُصَلِّي عَلَى الطَّرِيقِ فِي الْبَادِيَةِ وَأَمَّا الْحَمَّامُ فَمَعْنَى النَّهْيِ فِيهِ أَنَّهُ مَصَبُّ الْغُسَالَاتِ وَالنَّجَاسَاتِ عَادَةً، فَعَلَى هَذَا لَوْ صَلَّى فِي مَوْضِعِ الْحَمَّامِيِّ لَا يُكْرَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَى النَّهْيِ فِيهِ أَنَّ الْحَمَّامَ بَيْتُ الشَّيْطَانِ، فَعَلَى هَذَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ، سَوَاءٌ غُسِلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ أَوْ لَمْ يُغْسَلْ وَأَمَّا الْمَقْبَرَةُ فَقِيلَ: إنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْبِيهِ بِالْيَهُودِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، فَلَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي بَعْدِي مَسْجِدًا» . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ إلَى قَبْرٍ فَنَادَاهُ: الْقَبْرَ الْقَبْرَ، فَظَنَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ يَقُولُ: الْقَمَرَ الْقَمَرَ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ، فَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى تَنَبَّهَ فَعَلَى هَذَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ وَتُكْرَهُ، وَقِيلَ مَعْنَى النَّهْيِ أَنَّ الْمَقَابِرَ لَا تَخْلُو عَنْ النَّجَاسَاتِ؛ لِأَنَّ الْجُهَّالَ يَسْتَتِرُونَ بِمَا شَرُفَ مِنْ الْقُبُورِ فَيَبُولُونَ وَيَتَغَوَّطُونَ خَلْفَهُ، فَعَلَى هَذَا لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِانْعِدَامِ طَهَارَةِ الْمَكَانِ وَأَمَّا فَوْقَ بَيْتِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَمَعْنَى النَّهْيِ عِنْدَنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ مَنْهِيٌّ عَنْ الصُّعُودِ عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ التَّعْظِيمِ، وَلَا يُمْنَعُ جَوَازُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا النَّهْيُ لِلْإِفْسَادِ، حَتَّى لَوْ صَلَّى عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ وَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ عِنْدَهُ وَسَنَذْكُرُ الْكَلَامَ فِيمَا بَعْدُ وَلَوْ صَلَّى فِي بَيْتٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَمَّا إنْ كَانَتْ التَّمَاثِيلُ مَقْطُوعَةَ الرُّءُوسِ أَوْ لَمْ تَكُنْ مَقْطُوعَةَ الرُّءُوسِ، فَإِنْ كَانَتْ مَقْطُوعَةَ الرُّءُوسِ فَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا بِالْقَطْعِ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ تَمَاثِيلَ

وَالْتَحَقَتْ بِالنُّقُوشِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُهْدِيَ إلَيْهِ تُرْسٌ فِيهِ تِمْثَالُ طَيْرٍ فَأَصْبَحُوا وَقَدْ مُحِيَ وَجْهُهُ» . وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَذِنَ لَهُ فَقَالَ كَيْفَ أَدْخُلُ وَفِي الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ تَمَاثِيلُ خُيُولٍ وَرِجَالٍ؟ فَإِمَّا أَنْ تُقْطَعَ رُءُوسُهَا أَوْ تُتَّخَذُ وَسَائِدَ فَتُوطَأُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَقْطُوعَةَ الرُّءُوسِ فَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ أَوْ فِي السَّقْفِ أَوْ عَنْ يَمِينِ الْقِبْلَةِ أَوْ عَنْ يَسَارِهَا، فَأَشَدُّ ذَلِكَ كَرَاهَةً أَنْ تَكُونَ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَلَوْ كَانَتْ فِي مُؤْخِرِ الْقِبْلَةِ، أَوْ تَحْتَ الْقَدَمِ لَا يُكْرَهُ لِعَدَمِ التَّشَبُّهِ فِي الصَّلَاةِ بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَكَذَا يُكْرَهُ الدُّخُولُ إلَى بَيْتٍ فِيهِ صُوَرٌ عَلَى سَقْفِهِ أَوْ حِيطَانِهِ أَوْ عَلَى السُّتُورِ وَالْأُزُرِ وَالْوَسَائِدِ الْعِظَامِ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: إنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ أَوْ صُورَةٌ، وَلَا خَيْرَ فِي بَيْتٍ لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَكَذَا نَفْسُ التَّعْلِيقِ لِتِلْكَ السُّتُورِ وَالْأُزُرِ عَلَى الْجِدَارِ، وَوَضْعُ الْوَسَائِدِ الْعِظَامِ عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ لِمَا فِي هَذَا الصَّنِيعِ مِنْ التَّشْبِيهِ بِعُبَّادِ الصُّوَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهَا. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِي وَأَنَا مُسْتَتِرَةٌ بِسِتْرٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَتَغَيَّرَ لَوْنُ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى عَرَفْتُ الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهِ، فَأَخَذَهُ مِنِّي وَهَتَكَهُ بِيَدِهِ فَجَعَلْنَاهُ نُمْرُقَةً أَوْ نُمْرُقَتَيْنِ» وَإِنْ كَانَتْ الصُّوَرُ عَلَى الْبُسُطِ وَالْوَسَائِدِ الصِّغَارِ وَهِيَ تُدَاسُ بِالْأَرْجُلِ لَا تُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إهَانَتِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا حَدِيثُ جِبْرِيلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وَلَوْ صَلَّى عَلَى هَذَا الْبِسَاطِ فَإِنْ كَانَتْ الصُّورَةُ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِعِبَادَةِ الصُّوَرِ وَالْأَصْنَامِ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ أَمَامَهُ فِي مَوْضِعٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ يَحْصُلُ بِتَقْرِيبِ الْوَجْهِ مِنْ الصُّورَةِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ فِي مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِهَانَةِ دُونَ التَّعْظِيمِ، هَذَا إذَا كَانَتْ الصُّورَةُ كَبِيرَةً، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً لَا تَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ بَعِيدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ يَعْبُدُ الصَّنَمَ لَا يَعْبُدُ الصَّغِيرَ مِنْهَا جِدًّا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى خَاتَمِ أَبِي مُوسَى ذُبَابَتَانِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا وُجِدَ خَاتَمُ دَانْيَالَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ عَلَى فَصِّهِ أَسَدَانِ بَيْنَهُمَا رَجُلٌ يَلْحَسَانِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ حَالِهِ، أَوْ لِأَنَّ التِّمْثَالَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا كَانَ حَلَالًا، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13] ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْكَرَاهَةِ فِي صُورَةِ الْحَيَوَانِ. فَأَمَّا صُورَةُ مَا لَا حَيَاةَ لَهُ كَالشَّجَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ؛ لِأَنَّ عَبَدَةَ الصُّوَرِ لَا يَعْبُدُونَ تِمْثَالَ مَا لَيْسَ بِذِي رُوحٍ، فَلَا يَحْصُلُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ، وَكَذَا النَّهْيُ إنَّمَا جَاءَ عَنْ تَصْوِيرِ ذِي الرُّوحِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ صَوَّرَ تِمْثَالَ ذِي الرُّوحِ كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فَأَمَّا لَا نَهْيَ عَنْ تَصْوِيرِ مَا لَا رُوحَ لَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ نَهَى مُصَوِّرًا عَنْ التَّصْوِيرِ؛ فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ وَهُوَ كَسْبِي؟ فَقَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ فَعَلَيْكَ بِتِمْثَالِ الْأَشْجَارِ وَيُكْرَهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَةُ الْمَسْجِدِ إلَى حَمَّامٍ أَوْ قَبْرٍ أَوْ مَخْرَجٍ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ يَجِبُ تَعْظِيمُهَا، وَالْمَسَاجِدُ كَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36] {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور: 37] ، وَمَعْنَى التَّعْظِيمِ لَا يَحْصُلُ إذَا كَانَتْ قِبْلَةُ الْمَسْجِدِ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ الْأَقْذَارِ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ، فَأَمَّا مَسْجِدُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَكُونَ قِبْلَتُهُ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حُرْمَةُ الْمَسَاجِدِ، حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهُ، وَكَذَا لِلنَّاسِ فِيهِ بَلْوَى بِخِلَافِ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ. وَلَوْ صَلَّى فِي مِثْلِ هَذَا الْمَسْجِدِ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَلَى قَوْلِ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ: لَا تَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا، الْمُصَلِّي فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ أَوْ صَلَّى وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ مَغْصُوبٌ لَا تَجُوزُ عِنْدَهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَتَأَدَّى بِمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. (وَلَنَا) أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَبَيْنَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ حَائِلٌ مِنْ بَيْتٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ حَاصِلٌ، فَالتَّحَرُّزُ عَنْهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ (وَمِنْهَا) سَتْرُ الْعَوْرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا} [الأعراف: 31] ، قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ: الزِّينَةُ: مَا يُوَارِي الْعَوْرَةَ، وَالْمَسْجِدُ: الصَّلَاةُ، فَقَدْ أَمَرَ بِمُوَارَاةِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ لِلْحَائِضِ إلَّا بِخِمَارٍ» ، كَنَى بِالْحَائِضِ عَنْ الْبَالِغَةِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ دَلِيلُ الْبُلُوغِ، فَذَكَرَ الْحَيْضَ وَأَرَادَ بِهِ الْبُلُوغَ لِمُلَازَمَةٍ بَيْنَهُمَا، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأَمَةِ؛ وَلِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ حَالَ الْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ، وَأَنَّهُ فُرِضَ عَقْلًا وَشَرْعًا،

وَإِذَا كَانَ السَّتْرُ فَرْضًا كَانَ الِانْكِشَافُ مَانِعًا جَوَازَ الصَّلَاةِ ضَرُورَةً، وَالْكَلَامُ فِي بَيَانِ مَا يَكُونُ عَوْرَةً وَمَا لَا يَكُونُ مَوْضِعُهُ كِتَابُ الِاسْتِحْسَانِ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى بَيَانِ الْمِقْدَارِ الَّذِي يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ فَنَقُولُ: قَلِيلُ الِانْكِشَافِ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ خَرْقٍ عَادَةً وَالْكَثِيرُ يَمْنَعُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَقَدَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ الْكَثِيرَ بِالرُّبْعِ فَقَالَا: الرُّبْعُ وَمَا فَوْقَهُ مِنْ الْعُضْوِ كَثِيرٌ وَمَا دُونَ الرُّبْعِ قَلِيلٌ وَأَبُو يُوسُفَ جَعَلَ الْأَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ كَثِيرًا، وَمَا دُونَ النِّصْفِ قَلِيلًا، وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي النِّصْفِ، فَجَعَلَهُ فِي حُكْمِ الْقَلِيلِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَفِي حُكْمِ الْكَثِيرِ فِي الْأَصْلِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِنْ الْمُتَقَابِلَاتِ، فَإِنَّمَا تَظْهَرُ بِالْمُقَابَلَةِ، فَمَا كَانَ مُقَابِلُهُ أَقَلَّ مِنْهُ فَهُوَ كَثِيرٌ، وَمَا كَانَ مُقَابِلُهُ أَكْثَرَ مِنْهُ فَهُوَ قَلِيلٌ. (وَلَهُمَا) أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الرُّبْعَ مَقَامَ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ، كَمَا فِي حَلْقِ الرَّأْسِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ، وَمَسْحِ رُبْعِ الرَّأْسِ كَذَا هَهُنَا، إذْ الْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الِاحْتِيَاطِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِنْ أَسْمَاءِ الْمُقَابَلَةِ فَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِمُقَابِلِهِ فَنَقُولُ: الشَّرْعُ قَدْ جَعَلَ الرُّبْعَ كَثِيرًا فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَلَزِمَ الْأَخْذُ بِهِ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ، ثُمَّ كَثِيرُ الِانْكِشَافِ يَسْتَوِي فِيهِ الْعُضْوُ الْوَاحِدُ وَالْأَعْضَاءُ الْمُتَفَرِّقَةُ، حَتَّى لَوْ انْكَشَفَ مِنْ أَعْضَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ مَا لَوْ جُمِعَ لَكَانَ كَثِيرًا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَوْرَةُ الْغَلِيظَةُ وَهِيَ الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ، وَالْخَفِيفَةُ كَالْفَخْذِ وَنَحْوِهِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَدَّرَ الْعَوْرَةَ الْغَلِيظَةَ بِالدِّرْهَمِ تَغْلِيظًا لِأَمْرِهَا، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْعَوْرَةَ الْغَلِيظَةَ كُلُّهَا لَا تَزِيدُ عَلَى الدِّرْهَمِ فَتَقْدِيرُهَا بِالدِّرْهَمِ يَكُونُ تَخْفِيفًا لِأَمْرِهَا لَا تَغْلِيظًا لَهُ، فَتَنْعَكِسُ الْقَضِيَّةُ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْغَلِيظَةِ وَالْخَفِيفَةِ وَاحِدٌ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي امْرَأَةٍ صَلَّتْ فَانْكَشَفَ شَيْءٌ مِنْ شَعْرِهَا، وَشَيْءٌ مِنْ ظَهْرِهَا، وَشَيْءٌ مِنْ فَرْجِهَا، وَشَيْءٌ مِنْ فَخْذِهَا: أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ جُمِعَ بَلَغَ الرُّبْعَ مَنَعَ أَدَاءَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ لَا يَمْنَعُ، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ وَالْخَفِيفَةِ وَاعْتَبَرَ فِيهَا الرُّبْعَ، فَثَبَتَ أَنَّ حُكْمَهَا لَا يَخْتَلِفُ، وَأَنَّ الْخِلَافَ فِيهِمَا وَاحِدٌ وَهَذَا فِي حَالَةِ الْقُدْرَةِ فَأَمَّا فِي حَالَةِ الْعَجْزِ فَالِانْكِشَافُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، بِأَنْ حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ وَهُوَ عُرْيَانٌ لَا يَجِدُ ثَوْبًا لِلضَّرُورَةِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبٌ نَجِسٌ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ الرُّبْعُ مِنْهُ طَاهِرًا، وَإِمَّا أَنْ كَانَ كُلُّهُ نَجِسًا فَإِنْ كَانَ رُبْعُهُ طَاهِرًا لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الرُّبْعَ فَمَا فَوْقَهُ فِي حُكْمِ الْكَمَالِ، كَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ وَحَلْقِ الْمُحْرِمِ رُبْعَ الرَّأْسِ، وَكَمَا يُقَالُ: رَأَيْتُ فُلَانًا وَإِنْ عَايَنَهُ مِنْ إحْدَى جِهَاتِهِ الْأَرْبَعِ، فَجُعِلَ كَأَنَّ الثَّوْبَ كُلَّهُ طَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ نَجِسًا أَوْ الطَّاهِرُ مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ الرُّبْعِ - فَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، إنْ شَاءَ صَلَّى عُرْيَانًا، وَإِنْ شَاءَ مَعَ الثَّوْبِ، لَكِنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ أَفْضَلُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُجْزِئُهُ إلَّا مَعَ الثَّوْبِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ تَرْكَ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ فَرْضٌ، وَسَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ، إلَّا أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ أَهَمُّهُمَا وَآكَدُهُمَا؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ فِي الْأَحْوَالِ أَجْمَعِ، وَفَرْضِيَّةُ تَرْكِ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ مَقْصُورَةٌ عَلَى حَالَةِ الصَّلَاةِ، فَيُصَارُ إلَى الْأَهَمِّ، فَتُسْتَرُ الْعَوْرَةُ، وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ، وَيَتَحَمَّلُ اسْتِعْمَالَ النَّجَاسَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى عُرْيَانًا كَانَ تَارِكًا فَرَائِضَ مِنْهَا سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَالْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَلَوْ صَلَّى فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ كَانَ تَارِكًا فَرْضًا وَاحِدًا وَهُوَ تَرْكُ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ فَقَطْ، فَكَانَ هَذَا الْجَانِبُ أَهْوَنَ. وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ شَيْئَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا» ، فَمَنْ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا. (وَلَهُمَا) أَنَّ الْجَانِبَيْنِ فِي الْفَرْضِيَّةِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ عَلَى السَّوَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ عُرْيَانًا لَا تَجُوزُ مَعَ الثَّوْبِ الْمَمْلُوءِ نَجَاسَةً، وَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ أَحَدِ الْفَرْضَيْنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا بِتَرْكِ الْآخَرِ؟ فَسَقَطَتْ فَرْضِيَّتُهُمَا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ، فَيُخَيَّرُ فَيُجْزِئُهُ كَيْفَمَا فَعَلَ، إلَّا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ أَفْضَلُ لِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ (وَمِنْهَا) اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] . وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ، وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَيَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ» ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ لِلصَّلَاةِ شَرْطٌ زَائِدٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِقْبَالُ فِيمَا هُوَ رَأْسُ الْعِبَادَاتِ وَهُوَ الْإِيمَانُ، وَكَذَا فِي عَامَّةِ الْعِبَادَاتِ مِنْ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَإِنَّمَا عُرِفَ شَرْطًا فِي بَابِ الصَّلَاةِ شَرْعًا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ بِقَدْرِ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ،

وَفِيمَا وَرَاءَهُ يُرَدُّ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، ثُمَّ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الشَّرْطِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الِاسْتِقْبَالِ أَوْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إلَى الْقِبْلَةِ إنْ كَانَ فِي حَالِ مُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ فَإِلَى عَيْنِهَا، أَيْ: أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ مِنْ جِهَاتِ الْكَعْبَةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ مُنْحَرِفًا عَنْهَا غَيْرَ مُتَوَجِّهٍ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ، وَفِي وُسْعِهِ تَوْلِيَةُ الْوَجْهِ إلَى عَيْنِهَا فَيَجِبُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ نَائِيًا عَنْ الْكَعْبَةِ غَائِبًا عَنْهَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إلَى جِهَتِهَا، وَهِيَ الْمَحَارِيبُ الْمَنْصُوبَةُ بِالْإِمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا لَا إلَى عَيْنِهَا، وَتُعْتَبَرُ الْجِهَةُ دُونَ الْعَيْنِ. كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالرَّازِي، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَفْرُوضُ إصَابَةُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ حَتَّى قَالُوا: " إنَّ نِيَّةَ الْكَعْبَةِ شَرْطٌ " وَجْهُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ قَوْله تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالِ الْمُشَاهَدَةِ وَالْغَيْبَةِ؛ وَلِأَنَّ لُزُومَ الِاسْتِقْبَالِ لِحُرْمَةِ الْبُقْعَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْعَيْنِ لَا فِي الْجِهَةِ؛ وَلِأَنَّ قِبْلَتَهُ لَوْ كَانَتْ الْجِهَةَ لَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ إذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ الْجِهَةَ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِظُهُورِ خَطَئِهِ فِي اجْتِهَادِهِ بِيَقِينٍ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، فَدَلَّ أَنَّ قِبْلَتَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَيْنُ الْكَعْبَةِ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي. (وَجْهُ) قَوْلِ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ، وَإِصَابَةُ الْعَيْنِ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهَا فَلَا تَكُونُ مَفْرُوضَةً؛ وَلِأَنَّ قِبْلَتَهُ لَوْ كَانَتْ عَيْنَ الْكَعْبَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالتَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ لَتَرَدَّدَتْ صَلَاتُهُ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَصَابَ عَيْنَ الْكَعْبَةِ بِتَحَرِّيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ عَيْنَ الْكَعْبَةِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ، إلَّا أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا وَإِنَّهُ خِلَافُ الْمَذْهَبِ الْحَقِّ. وَقَدْ عُرِفَ بُطْلَانُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، أَمَّا إذَا جُعِلَتْ قِبْلَتُهُ الْجِهَةَ وَهِيَ الْمَحَارِيبُ الْمَنْصُوبَةُ لَا يُتَصَوَّرُ ظُهُورُ الْخَطَأِ، فَنَزَلَتْ الْجِهَةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَنْزِلَةَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ فِي حَالِ الْمُشَاهَدَةِ، وَلِلَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يَجْعَلَ أَيَّ جِهَةٍ شَاءَ قِبْلَةً لِعِبَادِهِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] ؛ وَلِأَنَّهُمْ جَعَلُوا عَيْنَ الْكَعْبَةِ قِبْلَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالتَّحَرِّي، وَأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَجَرُّدِ شَهَادَةِ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ، وَالْجِهَةُ صَارَتْ قِبْلَةً بِاجْتِهَادِهِمْ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا مِنْ النُّجُومِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكَانَ فَوْقَ الِاجْتِهَادِ بِالتَّحَرِّي، وَلِهَذَا إنَّ مَنْ دَخَلَ بَلْدَةً وَعَايَنَ الْمَحَارِيبَ الْمَنْصُوبَةَ فِيهَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي، وَكَذَا إذَا دَخَلَ مَسْجِدًا لَا مِحْرَابَ لَهُ وَبِحَضْرَتِهِ أَهْلُ الْمَسْجِدِ - لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ عِلْمًا بِالْجِهَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْأَمَارَاتِ فَكَانَ فَوْقَ الثَّابِتِ بِالتَّحَرِّي، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِي الْمَفَازَةِ، وَالسَّمَاءُ مُصْحِيَةٌ، وَلَهُ عِلْمٌ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالنُّجُومِ عَلَى الْقِبْلَةِ - لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فَوْقَ التَّحَرِّي. وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ نِيَّةَ الْكَعْبَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، بَلْ الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَنْوِيَ الْكَعْبَةَ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا تُحَاذِيَ هَذِهِ الْجِهَةُ الْكَعْبَةَ فَلَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهَا تَنَاوَلَتْ حَالَةَ الْقُدْرَةِ، وَالْقُدْرَةَ حَالَ مُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ لَا حَالَ الْبُعْدِ عَنْهَا، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ الِاسْتِقْبَالَ لِحُرْمَةِ الْبُقْعَةِ، أَنَّ ذَلِكَ حَالَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ إلَيْهَا دُونَ حَالِ الْعَجْزِ عَنْهُ وَأَمَّا إذَا كَانَ عَاجِزًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ عَاجِزًا بِسَبَبِ عُذْرٍ مِنْ الْأَعْذَارِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْقِبْلَةِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ عَجْزُهُ بِسَبَبِ الِاشْتِبَاهِ، فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا لِعُذْرٍ مَعَ الْعِلْمِ بِالْقِبْلَةِ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ وَيَسْقُطَ عَنْهُ الِاسْتِقْبَالُ، نَحْوَ أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْعَدُوِّ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، أَوْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَثِبُ عَلَيْهِ الْعَدُوُّ، أَوْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، أَوْ السَّبْعُ، أَوْ كَانَ عَلَى لَوْحٍ مِنْ السَّفِينَةِ فِي الْبَحْرِ لَوْ وَجَّهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ يَغْرَقُ غَالِبًا، أَوْ كَانَ مَرِيضًا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِنَفْسِهِ إلَى الْقِبْلَةِ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يُحَوِّلَهُ إلَيْهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ زَائِدٌ فَيَسْقُطُ عِنْدَ الْعَجْزِ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا بِسَبَبِ الِاشْتِبَاهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَفَازَةِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، أَوْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقِبْلَةِ، فَإِنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْهَا لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي لِمَا قُلْنَا، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ، فَإِنْ لَمْ يَسْأَلْ وَتَحَرَّى وَصَلَّى فَإِنْ أَصَابَ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ جَازَ لَهُ التَّحَرِّي؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَالْإِمْكَانِ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إلَّا التَّحَرِّي فَتَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ بِالتَّحَرِّي لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] . وَرُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحَرَّوْا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ

وَصَلَّوْا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ فَإِذَا صَلَّى إلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ صَلَّى إلَى الْجِهَةِ بِالتَّحَرِّي أَوْ بِدُونِ التَّحَرِّي فَإِنْ صَلَّى بِدُونِ التَّحَرِّي فَلَا يَخْلُو مِنْ أَوْجُهٍ: أَمَّا إنْ كَانَ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ وَلَمْ يَشُكَّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ، أَوْ خَطَرَ بِبَالِهِ وَشَكَّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَصَلَّى مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ، أَوْ تَحَرَّى وَوَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى جِهَةٍ فَصَلَّى إلَى جِهَةٍ أُخْرَى لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا التَّحَرِّي أَمَّا إذَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ وَلَمْ يَشُكَّ وَصَلَّى إلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ فَالْأَصْلُ هُوَ الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْجِهَةِ قِبْلَةٌ بِشَرْطِ عَدَمِ دَلِيلٍ يُوَصِّلُهُ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ مِنْ السُّؤَالِ أَوْ التَّحَرِّي، وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ شَاكًّا، فَإِذَا مَضَى عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ صَارَتْ الْجِهَةُ الَّتِي صَلَّى إلَيْهَا قِبْلَةً لَهُ ظَاهِرًا، فَإِنْ ظَهْرَ أَنَّهَا جِهَةُ الْكَعْبَةِ تَقَرَّرَ الْجَوَازُ، فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ بِأَنْ انْجَلَى الظَّلَامُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ، أَوْ تَحَرَّى وَوَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي صَلَّى إلَيْهَا إنْ كَانَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ يُعِيدُ، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ يَسْتَقْبِلُ؛ لِأَنَّ مَا جُعِلَ حُجَّةً بِشَرْطِ عَدَمِ الْأَقْوَى يَبْطُلُ عِنْدَ وُجُودِهِ، كَالِاجْتِهَادِ إذَا ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ. وَأَمَّا إذَا شَكَّ وَلَمْ يَتَحَرَّ وَصَلَّى إلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ فَالْأَصْلُ هُوَ الْفَسَادُ، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الصَّوَابَ فِي غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي صَلَّى إلَيْهَا إمَّا بِيَقِينٍ أَوْ بِالتَّحَرِّي تَقَرَّرَ الْفَسَادُ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّ الْجِهَةَ الَّتِي صَلَّى إلَيْهَا قِبْلَةٌ إنْ كَانَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ وَلَا يُعِيدُ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَكَّ فِي جِهَةِ الْكَعْبَةِ وَبَنَى صَلَاتَهُ عَلَى الشَّكِّ احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الْجِهَةُ الَّتِي صَلَّى إلَيْهَا قِبْلَةً وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا تَكُونَ، فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ قِبْلَةً يَظْهَرُ أَنَّهُ صَلَّى إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهَا كَانَتْ قِبْلَةً يَظْهَرُ أَنَّهُ صَلَّى إلَى الْقِبْلَةِ فَلَا يُحْكَمُ بِالْجَوَازِ فِي الِابْتِدَاءِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، بَلْ يُحْكَمُ بِالْفَسَادِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْعَدَمُ بِحُكْمِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى إلَى الْقِبْلَةِ بَطَلَ الْحُكْمُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَثَبَتَ الْجَوَازُ مِنْ الْأَصْلِ. وَأَمَّا إذَا ظَهَرَ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُف أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ لِمَا قُلْنَا، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَسْتَقْبِلُ؛ لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي الصَّلَاةِ بِنَاءً عَلَى الشَّكِّ، وَمَتَى ظَهَرَتْ الْقِبْلَةُ إمَّا بِالتَّحَرِّي أَوْ بِالسُّؤَالِ مِنْ غَيْرِهِ صَارَتْ حَالَتُهُ هَذِهِ أَقْوَى مِنْ الْحَالَةِ الْأُولَى، وَلَوْ ظَهَرَتْ فِي الِابْتِدَاءِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ إلَّا إلَى هَذِهِ الْجِهَةَ، فَكَذَا إذَا ظَهَرَتْ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ وَصَارَ كَالْمُومِئِ إذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ لِمَا ذَكَرْنَا، كَذَا هَذَا. وَأَمَّا إذَا تَحَرَّى وَوَقَعَ تَحَرِّيهِ إلَى جِهَةٍ فَصَلَّى إلَى جِهَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ فَإِنْ أَخْطَأَ لَا تُجْزِيهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ أَصَابَ فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ، (وَوَجْهُهُ) أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّحَرِّي هُوَ الْإِصَابَةُ وَقَدْ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ فَيُحْكَمُ بِالْجَوَازِ، كَمَا إذَا تَحَرَّى فِي الْأَوَانِي فَتَوَضَّأَ بِغَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ التَّحَرِّي ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ يُجْزِيهِ، كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقِبْلَةَ حَالَةَ الِاشْتِبَاهِ هِيَ الْجِهَةُ الَّتِي مَالَ إلَيْهَا الْمُتَحَرِّي، فَإِذَا تَرَكَ الْإِقْبَالَ إلَيْهَا فَقَدْ أَعْرَضَ عَمَّا هُوَ قِبْلَتُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ، كَمَنْ تَرَكَ التَّوَجُّهَ إلَى الْمَحَارِيبِ الْمَنْصُوبَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْأَوَانِي؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ التَّوَضُّؤُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ حَقِيقَةً وَقَدْ وُجِدَ فَأَمَّا إذَا صَلَّى إلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ بِالتَّحَرِّي ثُمَّ ظَهَرَ خَطَؤُهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ اسْتَدَارَ إلَى الْقِبْلَةِ، وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ لَمَّا بَلَغَهُمْ نَسْخُ الْقِبْلَةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ اسْتَدَارُوا كَهَيْئَتِهِمْ وَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِعَادَةِ؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ الْمُؤَدَّاةَ إلَى جِهَةِ التَّحَرِّي مُؤَدَّاةٌ إلَى الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْقِبْلَةُ حَالَ الِاشْتِبَاهِ، فَلَا مَعْنَى لِوُجُوبِ الِاسْتِقْبَالِ؛ وَلِأَنَّ تَبَدُّلَ الرَّأْيِ فِي مَعْنَى انْتِسَاخِ النَّصِّ، وَذَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعَمَلِ بِالْمَنْسُوخِ فِي زَمَانِ مَا قَبْلَ النَّسْخِ، كَذَا هَذَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ صَلَّى يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً يُجْزِيهِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ صَلَّى مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةِ يُجْزِيهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجْزِيهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَبَهَتْ الْقِبْلَةُ عَلَى قَوْمٍ فَتَحَرَّوْا وَصَلُّوا بِجَمَاعَةٍ جَازَتْ صَلَاةُ الْكُلِّ عِنْدَنَا إلَّا صَلَاةَ مَنْ تَقَدَّمَ عَلَى إمَامِهِ أَوْ عَلِمَ بِمُخَالَفَتِهِ إيَّاهُ. (وَجْهِ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ صَلَّى إلَى الْقِبْلَةِ بِالِاجْتِهَادِ. وَقَدْ ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ فَيَبْطُلُ، كَمَا إذَا تَحَرَّى وَصَلَّى فِي ثَوْبٍ عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ طَاهِرٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ نَجِسٌ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ وَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، كَذَا هَهُنَا. (وَلَنَا) أَنَّ قِبْلَتَهُ حَالَ الِاشْتِبَاهِ هِيَ الْجِهَةُ الَّتِي تَحَرَّى إلَيْهَا. وَقَدْ صَلَّى إلَيْهَا فَتُجْزِيهِ كَمَا إذَا صَلَّى إلَى الْمَحَارِيبِ الْمَنْصُوبَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قِبْلَتُهُ هِيَ جِهَةُ التَّحَرِّي النَّصُّ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] ، قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: ثَمَّةَ قِبْلَةُ

اللَّهِ، وَقِيلَ: ثَمَّةَ رِضَاءُ اللَّهِ، وَقِيلَ: ثَمَّةَ وَجْهُ اللَّهِ الَّذِي وَجَّهَكُمْ إلَيْهِ إذْ لَمْ يَجِئْ مِنْكُمْ التَّقْصِيرُ فِي طَلَبِ الْقِبْلَةِ، وَأَضَافَ التَّوَجُّهَ إلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُمْ وَقَعُوا فِي ذَلِكَ بِفِعْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِغَيْرِ تَقْصِيرٍ كَانَ مِنْهُمْ فِي الطَّلَبِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ أَكَلَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ تِمَّ عَلَى صَوْمِكَ فَإِنَّمَا أَطْعَمَكَ اللَّهُ وَسَقَاكَ، وَإِنْ وُجِدَ الْأَكْلُ مِنْ الصَّائِمِ حَقِيقَةً لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا فِيهِ أَضَافَ فِعْلَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَصَيَّرَهُ مَعْذُورًا كَأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ، كَذَلِكَ هَهُنَا إذَا كَانَ تَوَجُّهُهُ إلَى هَذِهِ الْجِهَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ حَيْثُ أَتَى بِجَمِيعِ مَا فِي وُسْعِهِ وَإِمْكَانِهِ، أَضَافَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَلِكَ إلَى ذَاتِهِ وَجَعَلَهُ مَعْذُورًا كَأَنَّهُ تَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ (وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى إصَابَةِ عَيْنِ الْكَعْبَةِ وَلَا إلَى إصَابَةِ جِهَتِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِعَدَمِ الدَّلَائِلِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهَا، وَالْكَلَامُ فِيهِ، وَالتَّكْلِيفُ بِالصَّلَاةِ مُتَوَجِّهٌ، وَتَكْلِيفُ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الْوُسْعُ مُمْتَنِعٌ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إلَّا الصَّلَاةُ إلَى جِهَةِ التَّحَرِّي فَتَعَيَّنَتْ هَذِهِ قِبْلَةً لَهُ شَرْعًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْجِهَةُ حَالَةَ الْعَجْزِ مَنْزِلَةَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ، وَالْمِحْرَابِ حَالَةَ الْقُدْرَةِ، وَإِنَّمَا عُرِفَ التَّحَرِّي شَرْطًا نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لَا لِإِصَابَةِ الْقِبْلَةِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا أَخْطَأَ قِبْلَتَهُ؛ لِأَنَّ قِبْلَتَهُ جِهَةُ التَّحَرِّي وَقَدْ صَلَّى إلَيْهَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُنَاكَ هُوَ الصَّلَاةُ بِالثَّوْبِ الطَّاهِرِ حَقِيقَةً لَكِنَّهُ أُمِرَ بِإِصَابَتِهِ بِالتَّحَرِّي، فَإِذَا لَمْ يُصِبْ انْعَدَمَ الشَّرْطُ فَلَمْ يَجُزْ، أَمَّا هَهُنَا فَالشَّرْطُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَقِبْلَتُهُ هَذِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَقَدْ اسْتَقْبَلَهَا، فَهُوَ الْفَرْقُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَيَخْرُجُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا الصَّلَاةُ بِمَكَّةَ خَارِجَ الْكَعْبَةِ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي حَالِ مُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ إلَّا إلَى عَيْنِ الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّ قِبْلَتَهُ حَالَةَ الْمُشَاهَدَةِ عَيْنُ الْكَعْبَةِ بِالنَّصِّ، وَيَجُوزُ إلَى أَنَّ الْجِهَاتِ مِنْ الْكَعْبَةِ شَاءَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِجُزْءٍ مِنْهَا لِوُجُودِ تَوْلِيَةِ الْوَجْهِ شَطْرَ الْكَعْبَةِ، فَإِنْ صَلَّى مُنْحَرِفًا عَنْ الْكَعْبَةِ غَيْرَ مُوَاجِهٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ التَّوَجُّهَ إلَى قِبْلَتِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَشَرَائِطُ الصَّلَاةِ لَا تَسْقُطُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. (ثُمَّ) إنْ صَلُّوا بِجَمَاعَةٍ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ صَلُّوا مُتَحَلِّقِينَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ، وَإِمَّا أَنْ صَلُّوا إلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مُصْطَفِّينَ فَإِنْ صَلَّوْا إلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُسْتَقْبِلًا جُزْءًا مِنْ الْكَعْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَصْطَفُّوا زِيَادَةً عَلَى حَائِطِ الْكَعْبَةِ، وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَا تَجُوزُ صَلَاةُ مَنْ جَاوَزَ الْحَائِطَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ حَالَةَ الْمُشَاهَدَةِ اسْتِقْبَالُ عَيْنِهَا وَإِنْ صَلَّوْا حَوْلَ الْكَعْبَةِ مُتَحَلِّقِينَ جَازَ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ تُؤَدَّى هَكَذَا مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَالْأَفْضَلُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقِفَ فِي مَقَامِ إبْرَاهِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه -، ثُمَّ صَلَاةُ الْكُلِّ جَائِزَةٌ سَوَاءٌ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى الْكَعْبَةِ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ أَبْعَدَ، إلَّا صَلَاةَ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْكَعْبَةِ مِنْ الْإِمَامِ فِي الْجِهَةِ الَّتِي يُصَلِّي الْإِمَامُ إلَيْهَا بِأَنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِمَامِ بِحِذَائِهِ فَيَكُونُ ظَهْرُهُ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ، أَوْ كَانَ عَلَى يَمِينِ الْإِمَامِ أَوْ يَسَارِهِ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَيَكُونُ ظَهْرُهُ إلَى الصَّفِّ الَّذِي مَعَ الْإِمَامِ وَوَجْهُهُ إلَى الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى إمَامِهِ لَا يَكُونُ تَابِعًا لَهُ فَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْكَعْبَةِ مِنْ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي يُصَلِّي إلَيْهَا الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقَابِلِ لِلْإِمَامِ، وَالْمُقَابِلُ لِغَيْرِهِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونُ تَابِعًا لَهُ بِخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا إذَا قَامَتْ امْرَأَةٌ بِجَنْبِ الْإِمَامِ فِي الْجِهَةِ الَّتِي يُصَلِّي إلَيْهَا الْإِمَامُ وَنَوَى الْإِمَامُ إمَامَتَهَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ لِوُجُودِ الْمُحَاذَاةِ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْقَوْمِ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَلَوْ قَامَتْ فِي الصَّفِّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْإِمَامِ لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهَا فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهَا خَلْفَ الْإِمَامِ، وَفَسَدَتْ صَلَاةُ مَنْ عَلَى يَمِينِهَا وَيَسَارِهَا وَمَنْ كَانَ خَلْفَهَا عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ وَلَوْ كَانَتْ الْكَعْبَةُ مُنْهَدِمَةً فَتَحَلَّقَ النَّاسُ حَوْلَ أَرْضِ الْكَعْبَةِ وَصَلَّوْا هَكَذَا، أَوْ صَلَّى مُنْفَرِدًا مُتَوَجِّهًا إلَى جُزْءٍ مِنْهَا - جَازَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُ الْبَيْتِ وَالْبَيْتُ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ وَالْبِنَاءِ جَمِيعًا إلَّا إذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ تَوَابِعِ الْبَيْتِ فَيَكُونُ مُسْتَقْبِلًا لِجُزْءٍ مِنْ الْبَيْتِ مَعْنًى. (وَلَنَا) إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى الْبُقْعَةِ حِينَ رُفِعَ الْبِنَاءُ فِي عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ حِينَ بَنَى الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه، وَفِي عَهْدِ الْحَجَّاجِ حِينَ أَعَادَهُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَتْ صَلَاتُهُمْ مَقْضِيَّةً بِالْجَوَازِ، وَبِهِ تُبُيِّنَ أَنَّ الْكَعْبَةَ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ سَوَاءٌ كَانَ ثَمَّةَ بِنَاءٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَقَدْ وُجِدَ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ تَرْكُ اتِّخَاذِ السُّتْرَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِقْبَالِ الصُّورَةِ

وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رُفِعَ الْبِنَاءُ فِي عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَمَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِتَعْلِيقِ الْأَنْطَاعِ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ لِيَكُونَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ السُّتْرَةِ لَهُمْ، وَعَلَى هَذَا إذَا صَلَّى عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُجْزِيهِ بِدُونِ السُّتْرَةِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَعْبَةَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ، وَلِأَنَّ الْبِنَاءَ لَا حُرْمَةَ لَهُ لِنَفْسِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ نَفَلَ إلَى عَرْصَةٍ أُخْرَى وَصَلَى إلَيْهَا لَا يَجُوزُ، بَلْ كَانَتْ حُرْمَتُهُ لِاتِّصَالِهِ بِالْعَرْصَةِ الْمُحْتَرَمَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ جَازَتْ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي إلَى الْبِنَاءِ بَلْ إلَى الْهَوَاءِ، دَلَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْعَرْصَةِ وَالْهَوَاءِ دُونَ الْبِنَاءِ، هَذَا إذَا صَلَّوْا خَارِجَ الْكَعْبَةِ فَأَمَّا إذَا صَلَّوْا فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ فَالصَّلَاةُ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ جَائِزَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، نَافِلَةً كَانَتْ أَوْ مَكْتُوبَةً. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْمَكْتُوبَةِ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ إنْ كَانَ مُسْتَقْبِلًا جِهَةً كَانَ مُسْتَدْبِرًا جِهَةً أُخْرَى، وَالصَّلَاةُ مَعَ اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ لَا تَجُوزُ فَأَخَذْنَا بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْمَكْتُوبَاتِ، فَأَمَّا فِي التَّطَوُّعَاتِ فَالْأَمْرُ فِيهَا أَوْسَعُ وَصَارَ كَالطَّوَافِ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُ جُزْءٍ مِنْ الْكَعْبَةِ غَيْرَ عَيْنٍ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ الْجُزْءُ قِبْلَةً لَهُ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ، وَمَتَى صَارَتْ قِبْلَةً فَاسْتِدْبَارُهَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ يَكُونُ مُفْسِدًا فَأَمَّا الْأَجْزَاءُ الَّتِي لَمْ يَتَوَجَّهْ إلَيْهَا لَمْ تَصِرْ قِبْلَةً فِي حَقِّهِ، فَاسْتِدْبَارُهَا لَا يَكُونُ مُفْسِدًا، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنَّ مَنْ صَلَّى فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ رَكْعَةً إلَى جِهَةٍ وَرَكْعَةً إلَى جِهَةٍ أُخْرَى لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَدْبِرًا عَنْ الْجِهَةِ الَّتِي صَارَتْ قِبْلَةً فِي حَقِّهِ بِيَقِينٍ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَالِانْحِرَافُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ، بِخِلَافِ النَّائِي عَنْ الْكَعْبَةِ إذَا صَلَّى بِالتَّحَرِّي إلَى الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ بِأَنْ صَلَّى رَكْعَةً إلَى جِهَةٍ ثُمَّ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى فَصَلَّى رَكْعَةً إلَيْهَا هَكَذَا جَازَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ الِانْحِرَافُ عَنْ الْقِبْلَةِ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ الْجِهَةَ الَّتِي تَحَرَّى إلَيْهَا مَا صَارَتْ قِبْلَةً لَهُ بِيَقِينٍ بَلْ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، فَحِينَ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى صَارَتْ قِبْلَتُهُ هَذِهِ الْجِهَةَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَمْ يَبْطُلْ مَا أَدَّى بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مَا أَمْضَى بِالِاجْتِهَادِ لَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ، فَصَارَ مُصَلِّيًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا إلَى الْقِبْلَةِ فَلَمْ يُوجَدْ الِانْحِرَافُ عَنْ الْقِبْلَةِ بِيَقِينٍ، فَهُوَ الْفَرْقُ ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ صَلَّوْا فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ مُتَحَلِّقِينَ أَوْ مُصْطَفِّينَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَإِنْ صَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ مُتَحَلِّقِينَ جَازَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَصَلَاةُ مَنْ وَجْهُهُ إلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ، أَوْ إلَى يَمِينِ الْإِمَامِ، أَوْ إلَى يَسَارِهِ، أَوْ ظَهْرُهُ إلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ، وَكَذَا صَلَاةُ مَنْ وَجْهُهُ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِقْبَالِ الصُّورَةِ الصُّورَةَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ سُتْرَةٌ. وَأَمَّا صَلَاةُ مَنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِمَامِ وَظَهْرُهُ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ، وَصَلَاةُ مَنْ كَانَ مُسْتَقْبِلًا جِهَةَ الْإِمَامِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْحَائِطِ مِنْ الْإِمَامِ فَلَا تَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّا، وَهَذَا بِخِلَافِ جَمَاعَةٍ تَحَرَّوْا فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَاقْتَدُوا بِالْإِمَامِ حَيْثُ لَا تَجُوزُ صَلَاةُ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِمَامِ فِي جِهَتِهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ اعْتَقَدَ الْخَطَأَ فِي صَلَاةِ إمَامِهِ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ إمَامَهُ غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لِلْقِبْلَةِ فَلَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ. وَأَمَّا هَهُنَا فَمَا اعْتَقَدَ الْخَطَأَ فِي صَلَاةِ إمَامِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الْكَعْبَةِ قِبْلَةٌ بِيَقِينٍ فَصَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، فَهُوَ الْفَرْقُ وَإِنْ صَلَّوْا مُصْطَفِّينَ خَلْفَ الْإِمَامِ إلَى جِهَةِ الْإِمَامِ فَلَا شَكَّ أَنَّ صَلَاتَهُمْ جَائِزَةٌ، وَكَذَا إذَا كَانَ وَجْهُ بَعْضِهِمْ إلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ وَظَهْرُ بَعْضِهِمْ إلَى ظَهْرِهِ لِوُجُودِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَالْمُتَابَعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ خَلْفَ الْإِمَامِ لَا أَمَامَهُ، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْإِمَامَ إذَا نَوَى إمَامَةَ النِّسَاءِ فَقَامَتْ امْرَأَةٌ بِحِذَائِهِ مُقَابِلَةً لَهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ لِأَنَّهَا فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهَا خَلْفَ الْإِمَامِ، وَتَفْسُدُ صَلَاةُ مَنْ كَانَ عَنْ يَمِينِهَا وَيَسَارِهَا وَخَلْفِهَا فِي الْجِهَةِ الَّتِي هِيَ فِيهَا، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ حِينَ دَخَلَهَا رَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ فِيهَا، وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ صَلَّى فِيهَا رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ (وَمِنْهَا) الْوَقْتُ لِأَنَّ الْوَقْتَ كَمَا هُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فَهُوَ شَرْطٌ لِأَدَائِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] ، أَيْ فَرْضًا مُؤَقَّتًا حَتَّى لَا يَجُوزَ أَدَاءُ الْفَرْضِ قَبْلَ وَقْتِهِ إلَّا صَلَاةُ الْعَصْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ عَلَى مَا يُذْكَرُ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَصْلِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وَفِي بَيَانِ حُدُودِهَا بِأَوَائِلِهَا وَأَوَاخِرِهَا وَفِي بَيَانِ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَحَبَّةِ مِنْهَا، وَفِي بَيَانِ الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ لِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَأَصْلُ أَوْقَاتِهَا عُرِفَ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114]

، وقَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] . وقَوْله تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه: 130] ، فَهَذِهِ الْآيَاتُ تَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ فَرْضِيَّةِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ، وَبَيَانِ أَصْلِ أَوْقَاتِهَا لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (وَأَمَّا) بَيَانُ حُدُودِهَا بِأَوَائِلِهَا وَأَوَاخِرِهَا فَإِنَّمَا عُرِفَ بِالْأَخْبَارِ أَمَّا الْفَجْرُ فَأَوَّلُ وَقْتِ صَلَاةِ الْفَجْرِ حِينَ يَطْلُعَ الْفَجْرُ الثَّانِي، وَآخِرُهُ حِينَ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْفَجْرِ حِينَ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَآخِرُهُ حِينَ تَطْلُعَ الشَّمْسُ» ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْفَجْرِ الثَّانِي لِأَنَّ الْفَجْرَ الْأَوَّلَ هُوَ الْبَيَاضُ الْمُسْتَطِيلُ يَبْدُو فِي نَاحِيَةٍ مِنْ السَّمَاءِ - وَهُوَ الْمُسَمَّى ذَنَبَ السِّرْحَانِ عِنْدَ الْعَرَبِ - ثُمَّ يَنْكَتِمُ، وَلِهَذَا يُسَمَّى فَجْرًا كَاذِبًا؛ لِأَنَّهُ يَبْدُو نُورُهُ ثُمَّ يَخْلُفُ وَيَعْقُبُهُ الظَّلَامُ، وَهَذَا الْفَجْرُ لَا يَحْرُمُ بِهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِينَ، وَلَا يَخْرُجُ بِهِ وَقْتُ الْعِشَاءِ، وَلَا يَدْخُلُ بِهِ وَقْتُ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَالْفَجْرُ الثَّانِي وَهُوَ الْمُسْتَطِيرُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ لَا يُزَالُ يَزْدَادُ نُورُهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيُسَمَّى هَذَا فَجْرًا صَادِقًا؛ لِأَنَّهُ إذَا بَدَأَ نُورُهُ يَنْتَشِرُ فِي الْأُفُقِ وَلَا يَخْلُفُ، وَهَذَا الْفَجْرُ يَحْرُمُ بِهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ، وَيَخْرُجُ بِهِ وَقْتُ الْعِشَاءِ، وَيَدْخُلُ بِهِ وَقْتُ الْفَجْرِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْفَجْرُ فَجْرَانِ، فَجْرٌ مُسْتَطِيلٌ يَحِلُّ بِهِ الطَّعَامُ، وَتَحْرُمُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَفَجْرٌ مُسْتَطِيرٌ يَحْرُمُ بِهِ الطَّعَامُ وَتَحِلُّ فِيهِ الصَّلَاةُ» ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْفَجْرِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ الْفَجْرُ الثَّانِي لَا الْأَوَّلُ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ لَكِنْ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ فِي الْأُفُقِ» . وَرُوِيَ «لَا يَغُرَّنَّكُمْ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ وَلَكِنْ كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ» أَيْ الْمُنْتَشِرُ فِي الْأُفُقِ. وَقَالَ الْفَجْرُ هَكَذَا وَمَدَّ يَدَهُ عَرْضًا لَا هَكَذَا وَمَدَّ يَدَهُ طُولًا؛ وَلِأَنَّ الْمُسْتَطِيلَ لَيْلٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِتَعَقُّبِ الظَّلَامِ إيَّاهُ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَقْتُ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا» ، فَدَلَّ الْحَدِيثَانِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الْفَجْرِ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ. (وَأَمَّا) أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ فَحِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ بِلَا خِلَافٍ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ» . وَأَمَّا آخِرُهُ فَلَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ نَصًّا، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْهُ إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ وَلَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ حَتَّى يَصِيرَ الظِّلُّ قَامَتَيْنِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِآخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ وَالشَّافِعِيِّ، وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو وَعَنْهُ إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ، وَلَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ يَصِرْ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ بَيْنَ وَقْتِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَقْتٌ مُهْمَلٌ كَمَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْهُ، فَإِنَّهُ رُوِيَ فِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَآخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ وَهَذَا يَنْفِي الْوَقْتَ الْمُهْمَلَ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ زَوَالِ الشَّمْسِ، رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: حَدُّ الزَّوَالِ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَإِذَا مَالَتْ الشَّمْسُ عَنْ يَسَارِهِ فَهُوَ الزَّوَالُ، وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِي مَعْرِفَةِ الزَّوَالِ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ: أَنَّهُ يَغْرِزُ عُودًا مُسْتَوِيًا فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ، وَيَجْعَلُ عَلَى مَبْلَغِ الظِّلِّ مِنْهُ عَلَامَةً فَمَا دَامَ الظِّلُّ يَنْتَقِصُ مِنْ الْخَطِّ فَهُوَ قَبْلَ الزَّوَالِ، فَإِذَا وَقَفَ لَا يَزْدَادُ وَلَا يَنْتَقِصُ فَهُوَ سَاعَةُ الزَّوَالِ، وَإِذَا أَخَذَ الظِّلُّ فِي الزِّيَادَةِ فَالشَّمْسُ قَدْ زَالَتْ. وَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ فَيْءِ الزَّوَالِ فَخُطَّ عَلَى رَأْسِ مَوْضِعِ الزِّيَادَةِ خَطًّا فَيَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْخَطِّ إلَى الْعَوْدِ فَيْءُ الزَّوَالِ فَإِذَا صَارَ ظِلَّ الْعُودِ مِثْلَيْهِ مِنْ رَأْسِ الْخَطِّ لَا مِنْ الْعُودِ خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَدَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَإِذَا صَارَ ظِلُّ الْعُودِ مِثْلَيْهِ مِنْ رَأْسِ الْخَطِّ خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَدَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ عِنْدَهُمْ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمْ حَدِيثَ إمَامَةِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ فَصَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ، وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَصَلَّى بِي الْمَغْرِبَ حِينَ غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَصَلَّى بِي الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، وَصَلَّى بِي الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ الثَّانِي، وَصَلَّى بِي الظُّهْرَ

فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، وَصَلَّى بِي الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فِي الْوَقْتِ الَّذِي صَلَّى بِي الْيَوْمَ الْأَوَّلَ، وَصَلَّى بِي الْعِشَاءَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ، وَصَلَّى بِي الْفَجْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ أَسْفَرَ النَّهَارُ، ثُمَّ قَالَ: الْوَقْتُ مَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ» ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ فَدَلَّ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعَصْرِ هَذَا فَكَانَ هُوَ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ ضَرُورَةً وَالثَّانِي - أَنَّ الْإِمَامَةَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَانَتْ لِبَيَانِ آخِرِ الْوَقْتِ، وَلَمْ يُؤَخِّرْ الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي إلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ فَدَلَّ أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ مَا ذَكَرْنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: إنَّ «مَثَلَكُمْ وَمَثَلَ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ الْأُمَمِ مَثَلُ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الْفَجْرِ إلَى الظُّهْرِ بِقِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ، ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الظُّهْرِ إلَى الْعَصْرِ بِقِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ بِقِيرَاطَيْنِ؟ فَعَمِلْتُمْ أَنْتُمْ فَكُنْتُمْ أَقَلَّ عَمَلًا وَأَكْثَرَ أَجْرًا» . فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْعَصْرِ أَقْصَرُ مِنْ مُدَّةِ الظُّهْرِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَقْصَرَ أَنْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» ، وَالْإِبْرَادُ يَحْصُلُ بِصَيْرُورَةِ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، فَإِنَّ الْحَرَّ لَا يَفْتُرُ خُصُوصًا فِي بِلَادِهِمْ، عَلَى أَنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ وَقْتِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ التَّعَارُضِ مَوْضِعُ الشَّكِّ، وَغَيْرُ الثَّابِتِ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ، فَإِنْ قِيلَ: لَا يَبْقَى وَقْتُ الظُّهْرِ بِالشَّكِّ أَيْضًا فَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَذَلِكَ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو أَخْذًا بِالْمُتَيَقَّنِ فِيهِمَا، وَالثَّانِي أَنَّ مَا ثَبَتَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ، وَغَيْرُ الثَّابِتِ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ، وَخَبَرُ إمَامَةِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَنْسُوخٌ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، فَإِنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فِي الْوَقْتِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى تَغَايُرِ وَقْتَيْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَكَانَ الْحَدِيثُ مَنْسُوخًا فِي الْفَرْعِ، وَلَا يُقَالُ: مَعْنَى مَا وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ أَيْ بَعْدَ مَا صَارَ، وَمَعْنَى مَا وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ أَيْ قَرُبَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مَنْسُوخًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا نِسْبَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْغَفْلَةِ وَعَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ، أَوْ إلَى التَّسَاهُلِ فِي أَمْرِ تَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَتَرْكُ ذَلِكَ مُبْهَمًا مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ مِنْهُ أَوْ دَلِيلٍ يُمْكِنُ الْوُصُولُ بِهِ إلَى الِافْتِرَاقِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَمِثْلُهُ لَا يُظَنُّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَأَمَّا) أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: خَالَفْتُ أَبَا حَنِيفَةَ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ فَقُلْتُ: أَوَّلُهُ إذَا دَارَ الظِّلُّ عَلَى قَامَةٍ اعْتِمَادًا عَلَى الْآثَارِ الَّتِي جَاءَتْ، وَآخِرُهُ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ فِي قَوْلٍ: إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ يَخْرُجُ وَقْتُ الْعَصْرِ وَلَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْمَغْرِبِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا وَقْتٌ مُهْمَلٌ، وَفِي قَوْلٍ إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ يَخْرُجُ وَقْتُهُ الْمُسْتَحَبُّ وَيَبْقَى أَصْلُ الْوَقْتِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، وَآخِرُهَا حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ فَاتَهُ الْعَصْرُ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَكَأَنَّمَا وَتَرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» . (وَأَمَّا) أَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ فَحِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ، وَكَذَا حَدِيثُ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَلَّى الْمَغْرِبَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي الْيَوْمَيْنِ جَمِيعًا، وَالصَّلَاةُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ كَانَتْ بَيَانًا لِأَوَّلِ الْوَقْتِ. وَأَمَّا آخِرُهُ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقْتُهَا مَا يَتَطَهَّرُ الْإِنْسَانُ وَيُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، حَتَّى لَوْ صَلَّاهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ قَضَاءً لَا أَدَاءً عِنْدَهُ لِحَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْمَرَّتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. (وَلَنَا) أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَأَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ، وَآخِرُهُ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبْ الشَّفَقُ» ، وَإِنَّمَا لَمْ يُؤَخِّرْهُ جِبْرِيلُ عَنْ أَوَّلِ الْغُرُوبِ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ عَنْ أَوَّلِ الْغُرُوبِ مَكْرُوهٌ إلَّا لِعُذْرٍ، وَأَنَّهُ جَاءَ لِيُعَلِّمَهُ الْمُبَاحَ مِنْ الْأَوْقَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُؤَخِّرْ الْعَصْرَ إلَى الْغُرُوبِ

مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ إلَيْهِ؟ وَكَذَا لَمْ يُؤَخِّرْ الْعِشَاءَ إلَى مَا بَعْدَ ثُلُثِ اللَّيْلِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَقْتُ الْعِشَاءِ بِالْإِجْمَاعِ. (وَأَمَّا) أَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ فَحِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، لِمَا رُوِيَ فِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الشَّفَقِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ الْبَيَاضُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمُعَاذٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ هُوَ الْحُمْرَةُ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ رِوَايَةُ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمْ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْمَغْرِبَ وَأَخَّرُوا الْعِشَاءَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْعِشَاءَ بَعْدَ مُضِيِّ ثُلُثِ اللَّيْلِ» ، فَلَوْ كَانَ الشَّفَقُ هُوَ الْبَيَاضُ لَمَا كَانَ مُؤَخِّرًا لَهَا، بَلْ كَانَ مُصَلِّيًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْبَيَاضَ يَبْقَى إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ خُصُوصًا فِي الصَّيْفِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ النَّصُّ وَالِاسْتِدْلَالُ. (أَمَّا) النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] ، جَعَلَ الْغَسَقَ غَايَةً لِوَقْتِ الْمَغْرِبِ، وَلَا غَسَقَ مَا بَقِيَ النُّورُ الْمُعْتَرِضُ. وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: آخِرُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ وَبَيَاضُهُ، وَالْمُعْتَرِضُ نُورُهُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حِينَ يَسْوَدُّ الْأُفُقُ، وَإِنَّمَا يَسْوَدُّ بِإِخْفَائِهَا بِالظَّلَامِ. (وَأَمَّا) الِاسْتِدْلَال فَمِنْ وَجْهَيْنِ: لُغَوِيٍّ، وَفِقْهِيٍّ، أَمَّا اللُّغَوِيُّ فَهُوَ أَنَّ الشَّفَقَ اسْمٌ لِمَا رَقَّ، يُقَالُ: ثَوْبٌ شَفِيقٌ أَيْ رَقِيقٌ، إمَّا مِنْ رِقَّةِ النَّسْجِ وَإِمَّا لِحُدُوثِ رِقَّةٍ فِيهِ مِنْ طُولِ اللُّبْسِ، وَمِنْهُ الشَّفَقَةُ وَهِيَ رِقَّةُ الْقَلْبِ مِنْ الْخَوْفِ أَوْ الْمَحَبَّةِ، وَرِقَّةُ نُورِ الشَّمْسِ بَاقِيَةٌ مَا بَقِيَ الْبَيَاضُ. وَقِيلَ الشَّفَقُ اسْمٌ لِرَدِيءِ الشَّيْءِ وَبَاقِيهِ، وَالْبَيَاضُ بَاقِي آثَارِ الشَّمْسِ وَأَمَّا الْفِقْهِيُّ فَهُوَ أَنَّ صَلَاتَيْنِ تُؤَدَّيَانِ فِي أَثَرِ الشَّمْسِ وَهُمَا الْمَغْرِبُ مَعَ الْفَجْرِ، وَصَلَاتَيْنِ تُؤَدَّيَانِ فِي وَضَحِ النَّهَارِ وَهُمَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، فَيَجِبُ أَنْ يُؤَدِّيَ صَلَاتَيْنِ فِي غَسَقِ اللَّيْلِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الشَّمْسِ وَهُمَا الْعِشَاءُ وَالْوِتْرُ، وَبَعْدَ غَيْبُوبَةِ الْبَيَاضِ لَا يَبْقَى أَثَرٌ لِلشَّمْسِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْبَيَاضَ يَغِيبُ قَبْلَ مُضِيِّ ثُلُثِ اللَّيْلِ غَالِبًا وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ فَحِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ الصَّادِقُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَلَّى فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ مُضِيِّ ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِآخِرِ الْوَقْتِ، وَفِي قَوْلٍ يُؤَخِّرُ إلَى آخِرِ نِصْفِ اللَّيْلِ بِعُذْرِ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَّرَ لَيْلَةً إلَى النِّصْفِ ثُمَّ قَالَ: هُوَ لَنَا بِعُذْرِ السَّفَرِ (وَلَنَا) مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ، وَآخِرُهُ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ وَقْتُ صَلَاةٍ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُ أُخْرَى» وَقَّتَ عَدَمَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ إلَى غَايَةِ خُرُوجِ وَقْتِ صَلَاةٍ أُخْرَى، فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ الدُّخُولُ عِنْدَ الْخُرُوجِ لَمْ يَتَوَقَّفْ؛ وَلِأَنَّ الْوِتْرَ مِنْ تَوَابِعِ الْعِشَاءِ وَيُؤَدَّى فِي وَقْتِهَا، وَأَفْضَلُ وَقْتِهَا السَّحَرُ دَلَّ أَنَّ السَّحَرَ آخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ؛ وَلِأَنَّ أَثَرَ السَّفَرِ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ لَا فِي زِيَادَةِ الْوَقْتِ، وَإِمَامَةُ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ تَعْلِيمًا لِآخِرِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ ثُلُثُ اللَّيْلِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَحَبَّةِ فَالسَّمَاءُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ مُصْحِيَةً أَوْ مُغَيِّمَةً فَإِنْ كَانَتْ مُصْحِيَةً فَفِي الْفَجْرِ الْمُسْتَحَبُّ آخِرُ الْوَقْتِ، وَالْأَسْفَارُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ أَفْضَلُ مِنْ التَّغْلِيسِ بِهَا فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَالصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ، إلَّا فِي حَقِّ الْحَاجِّ بِمُزْدَلِفَةَ فَإِنَّ التَّغْلِيسَ بِهَا أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: إنْ كَانَ مِنْ عَزْمِهِ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَبْدَأَ بِالتَّغْلِيسِ بِهَا وَيَخْتِمَ بِالْإِسْفَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَزْمِهِ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فَالْإِسْفَارُ أَفْضَلُ مِنْ التَّغْلِيسِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: التَّغْلِيسُ بِهَا أَفْضَلُ فِي حَقِّ الْكُلِّ وَجُمْلَةُ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُ أَنَّ أَدَاءَ الْفَرْضِ لِأَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ وَحْدَهُ مَا دَامَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ الْوَقْتِ، (وَاحْتَجَّ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] ، وَالتَّعْجِيلُ مِنْ بَابِ الْمُسَارَعَةِ إلَى الْخَيْرِ، وَذَمَّ اللَّهُ - تَعَالَى - أَقْوَامًا عَلَى الْكَسَلِ فَقَالَ: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142] ، وَالتَّأْخِيرُ مِنْ الْكَسَلِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ: الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:: «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَآخِرُ الْوَقْتِ عَفْوُ اللَّهِ» أَيْ يُنَالُ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَيُنَالُ بِأَدَائِهَا فِي آخِرِهِ عَفْوُ اللَّهِ - تَعَالَى - وَاسْتِيجَابُ الرِّضْوَانِ خَيْرٌ مِنْ اسْتِيجَابِ الْعَفْوِ؛ لِأَنَّ الرِّضْوَانَ أَكْبَرُ الثَّوَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] ، وَيُنَالُ بِالطَّاعَاتِ، وَالْعَفْوُ يُنَالُ بِشَرْطِ سَابِقِيَّةِ الْجِنَايَةِ. وَرُوِيَ فِي الْفَجْرِ خَاصَّةً عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ

يُصَلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَنْصَرِفْنَ وَمَا يُعْرَفْنَ مِنْ شِدَّةِ الْغَلَسِ. (وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» رَوَاهُ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةً قَبْلَ مِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاتَيْنِ: صَلَاةُ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ بِمُزْدَلِفَةَ فَإِنَّهُ قَدْ غَلَّسَ بِهَا فَسُمِّيَ التَّغْلِيسُ بِالْفَجْرِ صَلَاةً قَبْلَ الْمِيقَاتِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْعَادَةَ كَانَتْ فِي الْفَجْرِ الْإِسْفَارُ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ: مَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى شَيْءٍ كَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى تَأْخِيرِ الْعَصْرِ وَالتَّنْوِيرِ بِالْفَجْرِ؛ وَلِأَنَّ فِي التَّغْلِيسِ تَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ لِكَوْنِهِ وَقْتَ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ، وَفِي الْإِسْفَارِ تَكْثِيرُهَا فَكَانَ أَفْضَلَ، وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ الْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ فِي الصَّيْفِ لِاشْتِغَالِ النَّاسِ بِالْقَيْلُولَةِ؛ وَلِأَنَّ فِي حُضُورِ الْجَمَاعَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ ضَرْبَ حَرَجٍ خُصُوصًا فِي حَقِّ الضُّعَفَاءِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلِّ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ» ؛ وَلِأَنَّ الْمُكْثَ فِي مَكَانِ صَلَاةِ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ وَمَكَثَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ أَرْبَعَ رِقَابٍ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ» وَقَلَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْرَازِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ عِنْدَ التَّغْلِيسِ؛ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَمْكُثُ فِيهَا لِطُولِ الْمُدَّةِ، وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إحْرَازِهَا عِنْدَ الْإِسْفَارِ فَكَانَ أَوْلَى، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الدَّلَائِلِ الْجَمِيلَةِ فَنَقُولُ بِهَا فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، لَكِنْ قَامَتْ الدَّلَائِلُ فِي بَعْضِهَا عَلَى أَنَّ التَّأْخِيرَ أَفْضَلُ لِمَصْلَحَةٍ وُجِدَتْ فِي التَّأْخِيرِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، ثُمَّ الْأَمْرُ بِالْمُسَارَعَةِ يَنْصَرِفُ إلَى مُسَارَعَةٍ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَدَاءَ قَبْلَ الْوَقْتِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُسَارَعَةٌ لِمَا لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهَا؟ وَقِيلَ فِي الْحَدِيثِ: إنَّ الْعَفْوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْفَضْلِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] أَيْ الْفَضْلَ، فَكَانَ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ مَنْ أَدَّى الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْأَوْقَاتِ فَقَدْ نَالَ رِضْوَانَ اللَّهِ، وَأَمِنَ مِنْ سَخَطِهِ وَعَذَابِهِ؛ لِامْتِثَالِهِ أَمْرَهُ وَأَدَائِهِ مَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَدَّى فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَقَدْ نَالَ فَضْلَ اللَّهِ، وَنَيْلُ فَضْلِ اللَّهِ لَا يَكُونُ بِدُونِ الرِّضْوَانِ فَكَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَفْضَلَ مِنْ تِلْكَ وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَالصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَاتِ إسْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَلَاةِ الْفَجْرِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنْ ثَبَتَ التَّغْلِيسُ فِي وَقْتٍ فَلِعُذْرِ الْخُرُوجِ إلَى سَفَرٍ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ كُنَّ النِّسَاءُ يَحْضُرْنَ الْجَمَاعَاتِ ثُمَّ أُمِرْنَ بِالْقَرَارِ فِي الْبُيُوتِ، اُنْتُسِخَ ذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - وَأَمَّا فِي الظُّهْرِ فَالْمُسْتَحَبُّ هُوَ آخِرُ الْوَقْتِ فِي الصَّيْفِ وَأَوَّلُهُ فِي الشِّتَاءِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ يُصَلِّي وَحْدَهُ يُعَجِّلْ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي بِالْجَمَاعَةِ يُؤَخِّرْ يَسِيرًا لِمَا ذَكَرْنَا. وَرُوِيَ عَنْ خَبَّابُ بْنِ الْأَرَتِّ أَنَّهُ قَالَ: شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا فَلَمْ يُشْكِنَا، فَدَلَّ أَنَّ السُّنَّةَ فِي التَّعْجِيلِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» ؛ وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ فِي الصَّيْفِ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا تَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ لِاشْتِغَالِ النَّاسِ بِالْقَيْلُولَةِ، وَإِمَّا الْإِضْرَارُ بِهِمْ لِتَأَذِّيهِمْ بِالْحَرِّ. وَقَدْ انْعَدَمَ هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ فِي الشِّتَاءِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ مَعْنَى الْمُسَارَعَةِ إلَى الْخَيْرِ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ: «إذَا كَانَ الصَّيْفُ فَأَبْرِدْ بِالظُّهْرِ فَإِنَّ النَّاسَ يُقِيلُونَ فَأَمْهِلْهُمْ حَتَّى يُدْرِكُوا، وَإِذَا كَانَ الشِّتَاءُ فَصَلِّ الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ فَإِنَّ اللَّيَالِيَ طِوَالٌ» وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ خَبَّابُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا تَرْكَ الْجَمَاعَةِ أَصْلًا فَلَمْ يَشْكُهُمْ لِهَذَا، عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَلَمْ يُشْكِنَا أَيْ يَدَعْنَا فِي الشِّكَايَةِ بَلْ أَزَالَ شَكْوَانَا بِأَنْ أَبْرَدَ بِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (وَأَمَّا) الْعَصْرُ فَالْمُسْتَحَبُّ فِيهَا هُوَ التَّأْخِيرُ مَا دَامَتْ الشَّمْسُ بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَمْ يَدْخُلْهَا تَغْيِيرٌ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ جَمِيعًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّعْجِيلُ أَفْضَلُ لِمَا ذَكَرْنَا. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ فِي حُجْرَتِي» ، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْعَصْرَ فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلَى الْعَوَالِي وَيَنْحَرُ الْجَزُورَ وَيَطْبُخُ الْقُدُورَ وَيَأْكُلُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ» . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ» ، وَهَذَا مِنْهُ بَيَانُ تَأْخِيرِهِ لِلْعَصْرِ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ الْعَصْرَ لِأَنَّهَا تُعْصَرُ أَيْ تُؤَخَّرُ؛ وَلِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ تَكْثِيرُ النَّوَافِلِ؛ لِأَنَّ النَّافِلَةَ بَعْدَهَا مَكْرُوهَةٌ فَكَانَ التَّأْخِيرُ أَفْضَلَ، وَلِهَذَا

كَانَ التَّعْجِيلُ فِي الْمَغْرِبِ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّ النَّافِلَةَ قَبْلَهَا مَكْرُوهَةٌ؛ وَلِأَنَّ الْمُكْثَ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ مَكَثَ فِي الْمَسْجِدِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ ثَمَانِيًا مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ» ، وَإِنَّمَا يُتَمَكَّنُ مِنْ إحْرَازِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ بِالتَّأْخِيرِ لَا بِالتَّعْجِيلِ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَمْكُثُ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَدْ كَانَتْ حِيطَانُ حُجْرَتِهَا قَصِيرَةً فَتَبْقَى الشَّمْسُ طَالِعَةً فِيهَا إلَى أَنْ تَتَغَيَّرَ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ الصَّيْفِ وَمِثْلُهُ يَتَأَتَّى لِلْمُسْتَعْجِلِ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ لِعُذْرٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْمَغْرِبُ فَالْمُسْتَحَبُّ فِيهَا التَّعْجِيلُ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ جَمِيعًا، وَتَأْخِيرُهَا إلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ مَكْرُوهٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْمَغْرِبَ وَأَخَّرُوا الْعِشَاءَ» ؛ وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ سَبَبٌ لِتَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ وَالتَّأْخِيرَ سَبَبٌ لِتَقْلِيلِهَا؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَشْتَغِلُونَ بِالتَّعَشِّي وَالِاسْتِرَاحَةِ فَكَانَ التَّعْجِيلُ أَفْضَلَ، وَكَذَا هُوَ مِنْ بَابِ الْمُسَارَعَةِ إلَى الْخَيْرِ فَكَانَ أَوْلَى (وَأَمَّا) الْعِشَاءُ الْمُسْتَحَبُّ فِيهَا التَّأْخِيرُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ فِي الشِّتَاءِ، وَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، وَيُكْرَهُ التَّأْخِيرُ عَنْ النِّصْفِ وَأَمَّا فِي الصَّيْفِ فَالتَّعْجِيلُ أَفْضَلُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْمُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ لِمَا ذُكِرَ، وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ حِينَ يَسْقُطُ الْقَمَرُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ يَكُونُ وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَخَّرَ الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجَ فَوَجَدَ أَصْحَابَهُ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَهُ فَقَالَ: أَمَا إنَّهُ لَا يَنْتَظِرُ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَحَدٌ غَيْرُكُمْ وَلَوْلَا سَقَمُ السَّقِيمِ وَضَعْفُ الضَّعِيفِ لَأَخَّرْتُ الْعِشَاءَ إلَى هَذَا الْوَقْتِ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَخَّرْتُ الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ» . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: " أَنْ صَلِّ الْعِشَاءَ حِينَ يَذْهَبُ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، فَإِنْ نِمْتَ فَلَا نَامَتْ عَيْنَاكَ " وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ، وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ عَنْ النِّصْفِ الْأَخِيرِ تَعْرِيضٌ لَهَا لِلْفَوَاتِ، فَإِنْ لَمْ يَنَمْ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ثُمَّ نَامَ فَغَلَبَهُ النَّوْمُ فَلَا يَسْتَيْقِظُ فِي الْمُعْتَادِ إلَى مَا بَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ، وَتَعْرِيضُ الصَّلَاةِ لِلْفَوَاتِ مَكْرُوهٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ عَجَّلَ فِي الشِّتَاءِ رُبَّمَا يَقَعُ فِي السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَنَامُونَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ لِطُولِ اللَّيَالِي فَيَشْتَغِلُونَ بِالسَّمَرِ عَادَةً، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَأَنْ يَكُونَ اخْتِتَامُ صَحِيفَتِهِ بِالطَّاعَةِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْمَعْصِيَةِ، وَالتَّعْجِيلُ فِي الصَّيْفِ لَا يُؤَدِّي إلَى هَذَا الْقَبِيحِ لِأَنَّهُمْ يَنَامُونَ لِقِصَرِ اللَّيَالِي فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُسَارَعَةُ إلَى الْخَيْرِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى زَمَانِ الصَّيْفِ أَوْ عَلَى حَالِ الْعُذْرِ. وَكَانَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ يَقُولُ: الْأَوْلَى تَعْجِيلُهَا لِلْآثَارِ، وَلَكِنْ لَا يُكْرَهُ التَّأْخِيرُ مُطْلَقًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُذْرَ لِمَرَضٍ وَلِسَفَرٍ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ لِلْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ فِعْلًا، وَلَوْ كَانَ الْمَذْهَبُ كَرَاهَةَ التَّأْخِيرِ مُطْلَقًا لَمَا أُبِيحَ ذَلِكَ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، كَمَا لَا يُبَاحُ تَأْخِيرُ الْعَصْرِ إلَى تَغَيُّرِ الشَّمْسِ، هَذَا إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُتَغَيِّمَةً فَالْمُسْتَحَبُّ فِي الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ هُوَ التَّأْخِيرُ، وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ التَّعْجِيلُ، وَإِنْ شِئْت أَنْ تَحْفَظَ هَذَا فَكُلُّ صَلَاةٍ فِي أَوَّلِ اسْمِهَا (عَيْنٌ) تُعَجَّلُ، وَمَا لَيْسَ فِي أَوَّلِ اسْمِهَا (عَيْنٌ) تُؤَخَّرُ، أَمَّا التَّأْخِيرُ فِي الْفَجْرِ فَلِمَا ذَكَرْنَا؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ غَلَّسَ بِهَا فَرُبَّمَا تَقَعُ قَبْلَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ، وَكَذَا لَوْ عَجَّلَ الظُّهْرَ فَرُبَّمَا يَقَعُ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَلَوْ عَجَّلَ الْمَغْرِبَ عَسَى يَقَعُ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَلَا يُقَالُ لَوْ أَخَّرَ رُبَّمَا يَقَعُ فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ عِنْدَ التَّعَارُضِ لِلتَّأْخِيرِ لِيَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ الْفَرْضِ بِيَقِينٍ وَأَمَّا تَعْجِيلُ الْعَصْرِ عَنْ وَقْتِهَا الْمُعْتَادِ فَلِئَلَّا يَقَعَ فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ وَهُوَ وَقْتُ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ وَلَيْسَ فِيهِ وَهْمُ الْوُقُوعِ قَبْلَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ قَدْ أُخِّرَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَتُعَجَّلُ الْعِشَاءُ كَيْ لَا تَقَعَ بَعْدَ انْتِصَافِ اللَّيْلِ، وَلَيْسَ فِي التَّعْجِيلِ تَوَهُّمُ الْوُقُوعِ قَبْلَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ قَدْ أُخِّرَ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّأْخِيرَ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا أَفْضَلُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ الْجَلِيلِ أَبِي أَحْمَدَ الْعِيَاضِيِّ وَعَلَّلَ وَقَالَ: إنَّ فِي التَّأْخِيرِ تَرَدُّدًا بَيْنَ وَجْهَيْ الْجَوَازِ إمَّا الْقَضَاءُ وَإِمَّا الْأَدَاءُ، وَفِي التَّعْجِيلِ تَرَدُّدٌ بَيْنَ وَجْهَيْ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ فَكَانَ التَّأْخِيرُ أَوْلَى وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ فَرْضَيْنِ فِي وَقْتِ أَحَدِهِمَا إلَّا بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ فَيُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَةَ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ، اتَّفَقَ عَلَيْهِ رُوَاةُ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ فَعَلَهُ، وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَطَرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ

فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَطَرِ، (وَاحْتُجَّ) بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْمَعُ بِعَرَفَةَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبِمُزْدَلِفَةَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي السَّفَرِ كَيْ لَا يَنْقَطِعَ بِهِ السَّيْرُ، وَفِي الْمَطَرِ كَيْ تَكْثُرَ الْجَمَاعَةُ، إذْ لَوْ رَجَعُوا إلَى مَنَازِلِهِمْ لَا يُمْكِنُهُمْ الرُّجُوعُ فَيَجُوزُ الْجَمْعُ بِهَذَا كَمَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بِعَرَفَةَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبِمُزْدَلِفَةَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. (وَلَنَا) أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا مِنْ الْكَبَائِرِ فَلَا يُبَاحُ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَطَرِ كَسَائِرِ الْكَبَائِرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ الْكَبَائِرِ» ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ عُرِفَتْ مُؤَقَّتَةً بِأَوْقَاتِهَا بِالدَّلَائِلِ الْمَقْطُوعِ بِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ، فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهَا عَنْ أَوْقَاتِهَا بِضَرْبٍ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ أَوْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، مَعَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ وَالْمَطَرَ لَا أَثَرَ لَهُمَا فِي إبَاحَةِ تَفْوِيتِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ مَعَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْعُذْرِ؟ وَالْجَمْعُ بِعَرَفَةَ مَا كَانَ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْوُقُوفِ وَالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُضَادُّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ، بَلْ ثَبَتَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ وَالتَّوَاتُرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلُحَ مُعَارِضًا لِلدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، وَكَذَا الْجَمْعُ بِمُزْدَلِفَةَ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِالسَّيْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إبَاحَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فِي خَبَرِ الْآحَادِ فَلَا يُقْبَلُ فِي مُعَارَضَةِ الدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، مَعَ أَنَّهُ غَرِيبٌ وَرَدَ فِي حَادِثَةٍ تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى، وَمِثْلُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا ثُمَّ هُوَ مُؤَوَّلٌ وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِعْلًا لَا وَقْتًا، بِأَنْ أَخَّرَ الْأُولَى مِنْهُمَا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ثُمَّ أَدَّى الْأُخْرَى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ فَوَقَعَتَا مُجْتَمِعَتَيْنِ فِعْلًا، كَذَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي سَفَرٍ وَقَالَ: هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ مِنْ غَيْرِ مَطَرٍ وَلَا سَفَرٍ» وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِعْلًا، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِعْلًا ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا فَعَلَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِعْلًا ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا فَعَلَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا الْوَقْتُ الْمَكْرُوهُ لِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ فَهُوَ وَقْتُ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ لِلْمَغِيبِ لِأَدَاءِ صَلَاةِ الْعَصْرِ، يُكْرَهُ أَدَاؤُهَا عِنْدَهُ لِلنَّهْيِ عَنْ عُمُومِ الصَّلَوَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ: مِنْهَا - إذَا تَضَيَّفَتْ الشَّمْسُ لِلْمَغِيبِ عَلَى مَا يُذْكَرُ. وَقَدْ وَرَدَ وَعِيدٌ خَاصٌّ فِي أَدَاءِ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَجْلِسُ أَحَدُكُمْ حَتَّى إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ قَالَهَا ثَلَاثًا» ، لَكِنْ يَجُوزُ أَدَاؤُهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ حَتَّى يَسْقُطَ الْفَرْضُ عَنْ ذِمَّتِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الْفَرْضِ وَقْتَ الِاسْتِوَاءِ قَبْلَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْضَ قَبْلَهُ، وَكَذَا لَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الْفَجْرِ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عِنْدَنَا، حَتَّى لَوْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَفْسُدُ وَيَقُولُ: إنَّ النَّهْيَ عَنْ النَّوَافِلِ لَا عَنْ الْفَرَائِضِ بِدَلِيلِ أَنَّ عَصْرَ يَوْمِهِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ. (وَنَحْنُ) نَقُولُ النَّهْيُ عَامٌّ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ أَيْضًا لِمَا يُذْكَرُ فِي قَضَاءِ الْفَرَائِضِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفَجْرَ لَا تَفْسُدُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ لَكِنَّهُ يَصْبِرُ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ فَيُتِمَّ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا كَذَلِكَ لَكَانَ مُؤَدِّيًا بَعْضَ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ، وَلَوْ أَفْسَدْنَا لَوَقَعَ الْكُلُّ خَارِجَ الْوَقْتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَالْفَرْقُ) بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُؤَدِّي الْعَصْرَ إذَا غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. (وَمِنْهَا) - النِّيَّةُ وَإِنَّهَا شَرْطُ صِحَّةِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَةُ إخْلَاصُ الْعَمَلِ بِكُلِّيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] ، وَالْإِخْلَاصُ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ لَهُ» . وَقَالَ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» ، وَالْكَلَامُ فِي النِّيَّةِ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا - فِي تَفْسِيرِ النِّيَّةِ، وَالثَّانِي - فِي كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ، وَالثَّالِثُ - فِي وَقْتِ النِّيَّةِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالنِّيَّةُ هِيَ الْإِرَادَةُ، فَنِيَّةُ الصَّلَاةِ هِيَ إرَادَةُ الصَّلَاةِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ، وَالْإِرَادَةُ عَمَلُ الْقَلْبِ. (وَأَمَّا) كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ فَالْمُصَلِّي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إمَامًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْتَدِيًا. فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا إنْ كَانَ

يُصَلِّي التَّطَوُّعَ تَكْفِيهِ نِيَّةُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِصَلَاةِ التَّطَوُّعِ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ لِيَحْتَاجَ إلَى أَنْ يَنْوِيهَا، فَكَانَ شَرْطُ النِّيَّةِ فِيهَا لِتَصِيرَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا تَصِيرُ لِلَّهِ تَعَالَى بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا يَتَأَدَّى صَوْمُ النَّفْلِ خَارِجَ رَمَضَانَ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ. وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي الْفَرْضَ لَا يَكْفِيهِ نِيَّةُ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضِيَّةَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَنْوِيَهَا فَيَنْوِيَ فَرْضَ الْوَقْتِ أَوْ ظُهْرَ الْوَقْتِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَلَا تَكْفِيهِ نِيَّةُ مُطْلَقِ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ غَيْرَهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ مَشْرُوعَةٌ فِي الْوَقْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَكْفِيهِ نِيَّةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؛ لِأَنَّ ظُهْرَ الْوَقْتِ هُوَ الْمَشْرُوعُ الْأَصْلِيُّ فِيهِ، وَغَيْرَهُ عَارِضٌ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ، كَمُطْلَقِ اسْمِ الدِّرْهَمِ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى نَقْدِ الْبَلَدِ، وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَحْتَاجُ مَعَ نِيَّةِ ظُهْرِ الْوَقْتِ إلَى نِيَّةِ الْفَرْضِ، وَهَذَا بَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَوَى الظُّهْرَ فَقَدْ نَوَى الْفَرْضَ، إذْ الظُّهْرُ لَا يَكُونُ إلَّا فَرْضًا، وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ، وَصَلَاةَ الْعِيدَيْنِ، وَصَلَاةَ الْجِنَازَةِ، وَصَلَاةَ الْوِتْرِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ يَحْصُلُ بِهَذَا وَإِنْ كَانَ إمَامًا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فَيَنْوِي مَا يَنْوِي الْمُنْفَرِدُ، وَهَلْ يُحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْإِمَامَةِ؟ أَمَّا نِيَّةُ إمَامَةِ الرِّجَالِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا وَيَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ بِدُونِ نِيَّةِ إمَامَتِهِمْ. وَأَمَّا نِيَّةُ إمَامَةِ النِّسَاءِ فَشَرْطٌ لِصِحَّةِ اقْتِدَائِهِنَّ بِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُنَّ بِهِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِزُفَرَ، قَاسَ إمَامَةَ النِّسَاءِ بِإِمَامَةِ الرِّجَالِ، وَهُنَاكَ النِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ كَذَا هَذَا، وَهَذَا الْقِيَاسُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ اقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ فَرُبَّمَا تُحَاذِيهِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ فَيَلْحَقُهُ الضَّرَرُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَشَرْطُ نِيَّةَ اقْتِدَائِهَا بِهِ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ الضَّرَرُ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِهِ وَرِضَاهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْعَدِمٌ فِي جَانِبِ الرِّجَالِ، وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ صِيَانَتِهَا عَنْ النَّوَاقِضِ، وَلَوْ صَحَّ اقْتِدَاؤُهَا بِهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الصِّيَانَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَأْتِي فَتَقْتَدِي بِهِ ثُمَّ تُحَاذِيهِ فَتُفْسِدُ صَلَاتَهُ. وَأَمَّا فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ فَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: إنَّ نِيَّةَ إمَامَتِهِنَّ شَرْطٌ فِيهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَيْسَتْ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّهَا لَوْ شُرِطَتْ لَلَحِقَهَا الضَّرَرُ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَحْدَهَا، وَلَا تَجِدُ إمَامًا آخَرَ تَقْتَدِي بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الْوُقُوفِ بِجَنْبِ الْإِمَامِ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ لِازْدِحَامِ النَّاسِ فَصَحَّ اقْتِدَاؤُهَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُنْفَرِدُ، وَيَحْتَاجُ لِزِيَادَةِ نِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ بِالِاقْتِدَاءِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَشَرَطَ نِيَّةَ الِاقْتِدَاءِ حَتَّى يَكُونَ لُزُومُ الضَّرَرِ مُضَافًا إلَى الْتِزَامِهِ، ثُمَّ تَفْسِيرُ نِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ هُوَ أَنْ يَنْوِيَ فَرْضَ الْوَقْتِ وَالِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ فِيهِ، أَوْ يَنْوِيَ الشُّرُوعَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ، أَوْ يَنْوِيَ الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ فِي صَلَاتِهِ، وَلَوْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ وَلَمْ يُعَيِّنْ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَلَا نَوَى فَرْضَ الْوَقْتِ هَلْ يُجْزِيهِ عَنْ الْفَرْضِ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ اقْتِدَاءَهُ بِهِ يَصِحُّ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ جَمِيعًا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ، مَعَ أَنَّ النَّفَلَ أَدْنَاهُمَا، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَدْنَى مَا لَمْ يُعَيِّنْ الْأَعْلَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُتَابَعَةِ وَالشَّرِكَةِ فَيَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ، وَلَا مُسَاوَاةَ إلَّا إذَا كَانَتْ صَلَاتُهُ مِثْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْفَرْضِ، إلَّا إذَا نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِهِ فِي النَّفْلِ. وَلَوْ نَوَى صَلَاةَ الْإِمَامِ وَلَمْ يَنْوِ الِاقْتِدَاءَ بِهِ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى أَنْ يُصَلِّيَ مِثْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الِانْفِرَادِ. وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِلْإِمَامِ فَلَا تَتَعَيَّنُ جِهَةُ التَّبَعِيَّةِ بِدُونِ النِّيَّةِ. مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: إذَا انْتَظَرَ تَكْبِيرَ الْإِمَامِ ثُمَّ كَبَّرَ بَعْدَهُ كَفَاهُ عَنْ نِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ انْتِظَارَهُ تَكْبِيرَةَ الْإِمَامِ قَصَدَ مِنْهُ الِاقْتِدَاءَ بِهِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ النِّيَّةِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الِانْتِظَارَ مُتَرَدِّدٌ قَدْ يَكُونُ لِقَصْدِ الِاقْتِدَاءِ. وَقَدْ يَكُونُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ فَلَا يَصِيرُ مُقْتَدِيًا بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ. وَلَوْ اقْتَدَى بِإِمَامٍ يَنْوِي صَلَاتَهُ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهَا الظُّهْرُ أَوْ الْجُمُعَةُ - أَجْزَأَهُ أَيَّهُمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ بَنَى صَلَاتَهُ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْإِمَامِ، وَالْعِلْمُ فِي حَقِّ الْأَصْلِ يُغْنِي عَنْ الْعِلْمِ فِي حَقِّ التَّبَعِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَدِمَا مِنْ الْيَمَنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِمَ أَهْلَلْتُمَا؟ فَقَالَا: بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَوَّزَ ذَلِكَ لَهُمَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وَقْتَ الْإِهْلَالِ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَلَكِنَّهُ نَوَى الظُّهْرَ وَالِاقْتِدَاءَ فَإِذَا هِيَ جُمُعَةٌ - فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ نَوَى غَيْرَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَتَغَايُرُ الْفَرْضَيْنِ يَمْنَعُ

صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ عَلَى مَا نَذْكُرُ. وَلَوْ نَوَى صَلَاةَ الْإِمَامِ وَالْجُمُعَةِ فَإِذَا هِيَ الظُّهْرُ جَازَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى صَلَاةَ الْإِمَامِ فَقَدْ تَحَقَّقَ الْبِنَاءُ فَلَا يُعْتَبَرُ مَا زَادَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَنْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِهَذَا الْإِمَامِ وَعِنْدَهُ أَنَّهُ زَيْدٌ فَإِذَا هُوَ عَمْرٌو كَانَ اقْتِدَاؤُهُ صَحِيحًا، بِخِلَافِ مَا إذَا نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِزَيْدٍ وَالْإِمَامُ عَمْرٌو ثُمَّ الْمُقْتَدِي إذَا وَجَدَ الْإِمَامَ فِي حَالِ الْقِيَامِ يُكَبِّرُ لِلِافْتِتَاحِ قَائِمًا، ثُمَّ يُتَابِعُهُ فِي الْقِيَامِ وَيَأْتِي بِالثَّنَاءِ وَإِنْ وَجَدَهُ فِي الرُّكُوعِ يُكَبِّرُ لِلِافْتِتَاحِ قَائِمًا، ثُمَّ يُكَبِّرُ أُخْرَى مَعَ الِانْحِطَاطِ لِلرُّكُوعِ، وَيُتَابِعُهُ فِي الرُّكُوعِ، وَيَأْتِي بِتَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَإِنْ وَجَدَهُ فِي الْقَوْمَةِ الَّتِي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَوْ فِي الْقَعْدَةِ الَّتِي بَيْن السَّجْدَتَيْنِ يُتَابِعُهُ فِي ذَلِكَ وَيَسْكُتُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمَسْبُوقَ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي مِقْدَارِ التَّشَهُّدِ إلَى قَوْلِهِ: " وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " وَهَلْ يُتَابِعُهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ لَا يُتَابِعُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ مُؤَخَّرٌ إلَى الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَهَذِهِ قَعْدَةٌ أُولَى فِي حَقِّهِ، وَرَوَى إبْرَاهِيمُ بْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: يَدْعُوَ بِالدَّعَوَاتِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَدْعُو بِالدَّعَوَاتِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَسْكُتُ وَعَنْ هِشَامٍ مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ وَمُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ يُكَرِّرُ التَّشَهُّدَ إلَى أَنْ يُسَلِّمَ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ قَعْدَةٌ أُولَى فِي حَقِّهِ، وَالزِّيَادَةَ عَلَى التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى غَيْرُ مَسْنُونَةٍ، وَلَا مَعْنَى لِلسُّكُوتِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا الِاسْتِمَاعُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكَرِّرَ التَّشَهُّدَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. (وَأَمَّا) بَيَانُ وَقْتِ النِّيَّةِ فَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ مُخَالِطًا لِنِيَّتِهِ إيَّاهَا، أَيْ مُقَارِنًا أَشَارَ إلَى أَنَّ وَقْتَ النِّيَّةِ وَقْتُ التَّكْبِيرِ، وَهُوَ عِنْدَنَا مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْحَتْمِ وَالْإِيجَابِ، فَإِنَّ تَقْدِيمَ النِّيَّةِ عَلَى التَّحْرِيمَةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا إذَا لَمْ يُوجَد بَيْنَهُمَا عَمَلٌ يَقْطَعُ أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ، وَالْقِرَانُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْقِرَانُ شَرْطٌ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْإِخْلَاصِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشُّرُوعِ لَا قَبْلَهُ، فَكَانَتْ النِّيَّةُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ هَدْرًا، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي بَابِ الصَّوْمِ، إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ الْقِرَانُ هُنَاكَ لِمَكَانِ الْحَرَجِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ وَقْتُ غَفْلَةٍ وَنَوْمٍ، وَلَا حَرَجَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ. (وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْقِرَانِ، وَقَوْلُهُ: «لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» مُطْلَقًا أَيْضًا، وَعِنْدَهُ لَوْ تَقَدَّمَتْ النِّيَّةُ لَا يَكُونُ لَهُ مَا نَوَى، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ شَرْطَ الْقِرَانِ لَا يَخْلُو عَنْ الْحَرَجِ فَلَا يُشْتَرَطُ كَمَا فِي بَابِ الصَّوْمِ، فَإِذَا قَدَّمَ النِّيَّةَ وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِعَمَلٍ يَقْطَعُ نِيَّتَهُ يُجْزِئُهُ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ يُرِيدُ الْحَجَّ فَأَحْرَمَ وَلَمْ تَحْضُرْهُ نِيَّةُ الْحَجِّ عِنْدَ الْإِحْرَامِ يُجْزِئُهُ، وَذُكِرَ فِي كِتَابِ التَّحَرِّي أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ زَكَاةَ مَالِهِ يُرِيدُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَدَفَعَ وَلَمْ تَحْضُرْهُ نِيَّةٌ عِنْدَ الدَّفْعِ أَجْزَأَهُ، وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ تَوَضَّأَ يُرِيدُ الصَّلَاةَ فَلَمْ يَشْتَغِلْ بِعَمَلٍ آخَرَ وَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ - جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ عَرِيَتْهُ النِّيَّةُ وَقْتَ الشُّرُوعِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ يُرِيدُ الْفَرْضَ فِي الْجَمَاعَةِ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ كَبَّرَ وَلَمْ تَحْضُرهُ النِّيَّةُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ - أَنَّهُ يَجُوزُ. قَالَ الْكَرْخِيُّ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا خَالَفَ أَبَا يُوسُفَ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا عَزَمَ عَلَى تَحْقِيقِ مَا نَوَى فَهُوَ عَلَى عَزْمِهِ وَنِيَّتِهِ إلَى أَنْ يُوجَدَ الْقَاطِعُ وَلَمْ يُوجَدْ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الْإِخْلَاصِ يَحْصُلُ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ؛ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ وَقْتَ الشُّرُوعِ تَقْدِيرًا عَلَى مَا مَرَّ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِحَالٍ لَوْ سُئِلَ عِنْدَ الشُّرُوعِ: أَيُّ صَلَاةٍ تُصَلِّي؟ يُمْكِنُهُ الْجَوَابُ عَلَى الْبَدِيهَةِ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ يُجْزِئُهُ وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ نَوَى بَعْدَ التَّكْبِيرِ لَا يَجُوزُ، إلَّا مَا رَوَى الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ إذَا نَوَى وَقْتَ الثَّنَاءِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الثَّنَاءَ مِنْ تَوَابِعِ التَّكْبِيرِ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقِرَانِ لِمَكَانِ الْحَرَجِ، وَالْحَرَجُ يَنْدَفِعُ بِتَقْدِيمِ النِّيَّةِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى التَّأْخِيرِ. وَلَوْ نَوَى بَعْدَ قَوْلِهِ: " اللَّهُ " قَبْلَ قَوْلِهِ: " أَكْبَرُ " - لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ يَصِحُّ بِقَوْلِهِ: " اللَّهُ " لِمَا يُذْكَرُ، فَكَأَنَّهُ نَوَى بَعْدَ التَّكْبِيرِ وَأَمَّا نِيَّةُ الْكَعْبَةِ فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا شَرْطٌ؛ لِأَنَّ التَّوَجُّهَ إلَى الْكَعْبَةِ هُوَ الْوَاجِبُ فِي الْأَصْلِ. وَقَدْ عَجَزَ عَنْهُ بِالْبُعْدِ فَيَنْوِيهَا بِقَلْبِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّ قِبْلَتَهُ حَالَةَ الْبُعْدِ جِهَةُ الْكَعْبَةِ وَهِيَ الْمَحَارِيبُ لَا عَيْنُ الْكَعْبَةِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَلَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ أَتَى بِهِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ تَرَكَهُ لَا يَضُرُّهُ وَإِنْ نَوَى مَقَامَ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَلَمْ يَنْوِ الْكَعْبَةَ - لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْكَعْبَةِ، وَعَنْ الْفَقِيهِ الْجَلِيلِ أَبِي أَحْمَدَ الْعِيَاضِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ نَوَى مَقَامَ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: إنْ

كَانَ هَذَا الرَّجُلُ لَمْ يَأْتِ مَكَّةَ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْبَيْتَ وَالْمَقَامَ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَى مَكَّةَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ الْمَقَامَ غَيْرُ الْبَيْتِ. (وَمِنْهَا) - التَّحْرِيمَةُ وَهِيَ تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ وَإِنَّهَا شَرْطُ صِحَّةِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ وَأَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَيَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَكْبِيرٍ، فَزَعَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْعَالٌ وَلَيْسَتْ بِأَذْكَارٍ حَتَّى أَنْكَرَ افْتِرَاضَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. (وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ، وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَيَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ» ، نَفَى قَبُولَ الصَّلَاةِ بِدُونِ التَّكْبِيرِ، فَدَلَّ عَلَى كَوْنِهِ شَرْطًا، لَكِنْ إنَّمَا يُؤْخَذُ هَذَا الشَّرْطُ عَلَى الْقَادِرِ عَنْ الْعَاجِزِ، فَلِذَلِكَ جَازَتْ صَلَاةُ الْأَخْرَسِ؛ وَلِأَنَّ الْأَفْعَالَ أَكْثَرُ مِنْ الْأَذْكَارِ فَالْقَادِرُ عَلَى الْأَفْعَالِ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْأَكْثَرِ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، فَكَأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَذْكَارِ تَقْدِيرًا، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ صِفَةِ الذِّكْرِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ بِكُلِّ ذِكْرٍ هُوَ ثَنَاءٌ خَالِصٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - يُرَادُ بِهِ تَعْظِيمُهُ لَا غَيْرُ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ الْأَكْبَرُ، اللَّهُ الْكَبِيرُ، اللَّهُ أَجَلُّ، اللَّهُ أَعْظَمُ، أَوْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ أَوْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ اسْمٍ ذُكِرَ مَعَ الصِّفَةِ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: الرَّحْمَنُ أَعْظَمُ، الرَّحِيمُ أَجَلُّ، سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ أَوْ لَا يُحْسِنُ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَصِيرُ شَارِعًا إلَّا بِأَلْفَاظٍ مُشْتَقَّةٍ مِنْ التَّكْبِيرِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ الْأَكْبَرُ، اللَّهُ الْكَبِيرُ. إلَّا إذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ، أَوْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الشُّرُوعَ بِالتَّكْبِيرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِيرُ شَارِعًا إلَّا بِلَفْظَيْنِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ الْأَكْبَرُ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَصِيرُ شَارِعًا إلَّا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ، وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَيَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ» ، نَفَى الْقَبُولَ بِدُونِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ عَيْنِ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ دُونَ التَّعْلِيلِ، إذْ التَّعْلِيلُ لِلتَّعْدِيَةِ لَا لِإِبْطَالِ حُكْمِ النَّصِّ كَمَا فِي الْأَذَانِ، وَلِهَذَا لَا يُقَامُ السُّجُودُ عَلَى الْخَدِّ وَالذَّقَنِ مَقَامَ السُّجُودِ عَلَى الْجَبْهَةِ وَبِهَذَا يَحْتَجُّ الشَّافِعِيُّ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: فِي الْأَكْبَرِ أَتَى بِالْمَشْرُوعِ وَزِيَادَةِ شَيْءٍ، فَلَمْ تَكُنْ الزِّيَادَةُ مَانِعَةً، كَمَا إذَا قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، فَأَمَّا الْعُدُولُ عَمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ وَأَبُو يُوسُفَ يَحْتَجُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَالتَّكْبِيرُ حَاصِلٌ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّ أَكْبَرَ هُوَ الْكَبِيرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] أَيْ هَيِّنٌ عَلَيْهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، إذْ لَيْسَ شَيْءٌ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، بَلْ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى دُخُولِهَا تَحْتَ قُدْرَتِهِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَالتَّكْبِيرُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْكِبْرِيَاءِ، وَالْكِبْرِيَاءُ تُنْبِئُ عَنْ الْعَظَمَةِ وَالْقِدَمِ، يُقَالُ: هَذَا أَكْبَرُ الْقَوْمِ أَيْ أَعْظَمُهُمْ مَنْزِلَةً وَأَشْرَفُهُمْ قَدْرًا، وَيُقَال: هُوَ أَكْبَرُ مِنْ فُلَانٍ أَيْ أَقْدَمُ مِنْهُ فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَقَامَهُ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَعْنَى، إلَّا أَنَّا حَكَمْنَا بِالْجَوَازِ إذَا لَمْ يُحْسِنْ، أَوْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ تُفْتَتَحُ بِالتَّكْبِيرِ لِلضَّرُورَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ احْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ ذِكْرُ اسْمِ الرَّبِّ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ عَقَّبَ الصَّلَاةَ الذِّكْرَ بِحَرْفٍ يُوجِبُ التَّعْقِيبَ بِلَا فَصْلٍ، وَالذِّكْرُ الَّذِي تَتَعَقَّبُهُ الصَّلَاةُ بِلَا فَصْلٍ هُوَ تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ، فَقَدْ شَرَعَ الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ بِمُطْلَقِ الذِّكْرِ فَلَا يَجُوزُ التَّقْيِيدُ بِاللَّفْظِ الْمُشْتَقِّ مِنْ الْكِبْرِيَاءِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُطْلَقُ الذِّكْرِ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ ذِكْرٌ بِلَفْظٍ خَاصٍّ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ مَعْلُولٌ بِهِ لِأَنَّا إذَا عَلَّلْنَاهُ بِمَا ذُكِرَ بَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ مِنْ حَيْثُ اشْتِرَاطُ مُطْلَقِ الذِّكْرِ، وَلَوْ لَمْ نُعَلِّلْ احْتَجْنَا إلَى رَدِّهِ أَصْلًا لِمُخَالَفَتِهِ الْكِتَابَ، فَإِذًا تَرْكُ التَّعْلِيلِ هُوَ الْمُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ حُكْمِ النَّصِّ دُونَ التَّعْلِيلِ، عَلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ، قَالَ تَعَالَى: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] ، أَيْ عَظِّمْهُ تَعْظِيمًا. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف: 31] ، أَيْ عَظَّمْنَهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] أَيْ فَعَظِّمْ، فَكَانَ الْحَدِيثُ وَارِدًا بِالتَّعْظِيمِ، وَبِأَيِّ اسْمٍ ذَكَرَ فَقَدْ عَظَّمَ اللَّهَ - تَعَالَى -، وَكَذَا مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ - تَعَالَى - فَقَدْ عَظَّمَهُ وَنَزَّهَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَسِمَاتِ الْحَدَثِ، فَصَارَ وَاصِفًا لَهُ بِالْعَظَمَةِ وَالْقِدَمِ، وَكَذَا إذَا هَلَّلَ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَصَفَهُ بِالتَّفَرُّدِ وَالْأُلُوهِيَّةِ فَقَدْ وَصَفَهُ بِالْعَظَمَةِ وَالْقِدَمِ لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ الْإِلَهِيَّة دُونَهُمَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُمْ السُّجُودُ عَلَى الْخَدِّ مَقَامَ السُّجُودِ عَلَى الْجَبْهَةِ لِلتَّفَاوُتِ فِي التَّعْظِيمِ كَمَا فِي الشَّاهِدِ، بِخِلَافِ الْأَذَانِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ هُوَ الْإِعْلَامُ، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْمَشْهُورَةِ الْمُتَعَارَفَةِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى لَوْ حَصَلَ الْإِعْلَامُ بِغَيْرِ هَذِهِ

الْأَلْفَاظِ يَجُوزُ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُنْتَقَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَوْ الرَّحْمَنُ أَكْبَرُ سَوَاءٌ قَوْله تَعَالَى: {أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ} [الإسراء: 110] ، وَلِهَذَا يَجُوزُ الذَّبْحُ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ، أَوْ بِاسْمِ الرَّحِيمِ، فَكَذَا هَذَا، وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ مَذْهَبَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَلَنَا بِهِمْ أُسْوَةٌ هَذَا إذَا ذَكَرَ الِاسْمَ وَالصِّفَةَ، فَأَمَّا إذَا ذَكَر الِاسْمَ لَا غَيْرَ بِأَنْ قَالَ: " اللَّهُ " لَا يَصِيرُ شَارِعًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا، وَكَذَا رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالِاسْمِ وَالصِّفَةِ فَلَا يَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّصَّ مَعْلُولٌ بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِالِاسْمِ الْمُجَرَّدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا بِقَوْلِهِ: " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ "، وَالشُّرُوعُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ: " اللَّهُ " لَا بِالنَّفْيِ، وَلَوْ قَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي " لَا يَصِيرُ شَارِعًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْلِصْ تَعْظِيمًا لِلَّهِ - تَعَالَى - بَلْ هُوَ لِلْمَسْأَلَةِ وَالدُّعَاءِ دُونَ خَالِصِ الثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ. وَلَوْ قَالَ: " اللَّهُمَّ " اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ لِاخْتِلَافِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي مَعْنَاهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِيرُ شَارِعًا؛ لِأَنَّ الْمِيمَ فِي قَوْلِهِ اللَّهُمَّ بَدَلٌ عَنْ النِّدَاءِ، كَأَنَّهُ قَالَ: " يَا اللَّهُ ". وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِيرُ شَارِعًا؛ لِأَنَّ الْمِيمَ فِي قَوْلِهِ: " اللَّهُمَّ " بِمَعْنَى السُّؤَالِ، مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ آمِنَّا بِخَيْرٍ، أَيْ أَرِدْنَا بِهِ فَيَكُونُ دُعَاءً لَا ثَنَاءً خَالِصًا كَقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِالْفَارِسِيَّةِ بِأَنْ قَالَ: خداي بزر كنر أَوْ خداي بزرك - يَصِيرُ شَارِعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ شَارِعًا إلَّا إذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ. وَلَوْ ذَبَحَ وَسَمَّى بِالْفَارِسِيَّةِ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، فَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فِي مُرَاعَاةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ لَفْظَةُ التَّكْبِيرِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» ، وَهِيَ لَا تَحْصُلُ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَفِي بَابِ الذَّبْحِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ هُوَ مُطْلَقُ الذِّكْرِ بِقَوْلِهِ: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] وَذَا يَحْصُلُ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ فَجَوَّزَ النَّقْلَ إلَى لَفْظٍ آخَرَ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَمْ يُجَوِّزْ النَّقْلَ إلَى الْفَارِسِيَّةِ فَقَالَ: الْعَرَبِيَّةُ لِبَلَاغَتِهَا وَوَجَازَتِهَا تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ لَا تَدُلُّ عَلَيْهَا الْفَارِسِيَّةُ، فَتَحْتَمِلُ الْخَلَلَ فِي الْمَعْنَى عِنْدَ النَّقْلِ مِنْهَا إلَى الْفَارِسِيَّةِ، وَكَذَا لِلْعَرَبِيَّةِ مِنْ الْفَضِيلَةِ مَا لَيْسَ لِسَائِرِ الْأَلْسِنَةِ، وَلِهَذَا كَانَ الدُّعَاءُ بِالْعَرَبِيَّةِ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ، وَلِذَلِكَ خَصَّ اللَّهُ - تَعَالَى - أَهْلَ كَرَامَتِهِ فِي الْجَنَّةِ بِالتَّكَلُّمِ بِهَذِهِ اللُّغَةِ؛ فَلَا يَقَعُ غَيْرُهَا مِنْ الْأَلْسِنَةِ مَوْقِعَ كَلَامِ الْعَرَبِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يُحْسِنْ جَازَ لِمَكَانِ الْعُذْرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ اعْتَمَدَ كِتَابَ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي اعْتِبَارِ مُطْلَقِ الذِّكْرِ، وَاعْتُبِرَ مَعْنَى التَّعْظِيمِ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْفَارِسِيَّةِ ثُمَّ شَرْطُ صِحَّةِ التَّكْبِيرِ أَنْ يُوجَدَ فِي حَالَةِ الْقِيَامِ فِي حَقِّ الْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ، سَوَاءٌ كَانَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا أَوْ مُقْتَدِيًا، حَتَّى لَوْ كَبَّرَ قَاعِدًا ثُمَّ قَامَ لَا يَصِيرُ شَارِعًا، وَلَوْ وَجَدَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ أَوْ الْقُعُودِ يَنْبَغِي أَنْ يُكَبِّرَ قَائِمًا ثُمَّ يَتْبَعَهُ فِي الرُّكْنِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَلَوْ كَبَّرَ لِلِافْتِتَاحِ فِي الرُّكْنِ الَّذِي هُوَ فِيهِ لَا يَصِيرُ شَارِعًا لِعَدَمِ التَّكْبِيرِ قَائِمًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. (وَمِنْهَا) - تُقَدَّمُ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ الَّتِي يَتَذَكَّرُهَا إذَا كَانَتْ الْفَوَائِتُ قَلِيلَةً، وَفِي الْوَقْتِ سَعَةٌ، هُوَ شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ، فَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ بِمُسْقِطٍ، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَصْلًا، وَيَجُوزُ أَدَاءُ الْوَقْتِيَّةِ قَبْلَ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا - فِي اشْتِرَاطِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّرْتِيبِ، وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهُ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا - التَّرْتِيبُ فِي أَدَاءِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَالثَّانِي - التَّرْتِيبُ فِي قَضَاءِ الْفَائِتَةِ وَأَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ، وَالثَّالِثُ - التَّرْتِيبُ فِي الْفَوَائِتِ، وَالرَّابِعُ - التَّرْتِيبُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا شَرْطُ جَوَازِ أَدَائِهَا، حَتَّى لَا يَجُوزَ أَدَاءُ الظُّهْرِ فِي وَقْتِ الْفَجْرِ، وَلَا أَدَاءُ الْعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ لَا تَجِبُ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا، وَأَدَاءُ الْوَاجِبِ قَبْلَ وُجُوبِهِ مُحَالٌ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ. (أَمَّا) التَّرْتِيبُ بَيْنَ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ وَأَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ شَرْطٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِشَرْطٍ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ صَارَ لِلْوَقْتِيَّةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَيَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي وَقْتِهَا كَمَا فِي حَالِ ضِيقِ الْوَقْتِ وَكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ وَالنِّسْيَانِ. (وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلِيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «لَا وَقْتَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ، فَقَدْ جَعَلَ وَقْتَ التَّذَكُّرِ وَقْتَ الْفَائِتَةِ» ، فَكَانَ أَدَاءُ الْوَقْتِيَّةِ قَبْلَ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ أَدَاءً قَبْلَ وَقْتِهَا فَلَا يَجُوزُ

وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلَمْ يَذْكُرْهَا إلَّا وَهُوَ مَعَ الْإِمَامِ فَلِيُصَلِّ مَعَ الْإِمَامِ وَلِيَجْعَلْهَا تَطَوُّعًا، ثُمَّ لِيَقْضِ مَا تَذَّكَّر ثُمَّ لِيُعِدْ مَا كَانَ صَلَّاهُ مَعَ الْإِمَامِ» ، وَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ تَفْسُدُ الْفَرْضِيَّةُ لِلصَّلَاةِ إذَا تَذَكَّرَ الْفَائِتَةَ فِيهَا، وَيَلْزَمهُ الْإِعَادَةُ، بِخِلَافِ حَالِ ضِيقِ الْوَقْتِ وَكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ وَالنِّسْيَانِ؛ لِأَنَّا إنَّمَا عَرَفْنَا كَوْنَ هَذَا الْوَقْتِ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَعَرَفْنَا كَوْنَهُ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، وَالِاشْتِغَالُ بِالْفَائِتَةِ عِنْد ضِيقِ الْوَقْتِ إبْطَالُ الْعَمَلِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ تَفْوِيتٌ لِلْوَقْتِيَّةِ عَنْ الْوَقْتِ، وَكَذَا عِنْدَ كَثْرَةِ الْفَوَائِتِ؛ لِأَنَّ الْفَوَائِتَ إذَا كَثُرَتْ تَسْتَغْرِقُ الْوَقْتَ فَتَفُوتُ الْوَقْتِيَّةُ عَنْ وَقْتِهَا؛ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا جَعَلَ الْوَقْتَ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ لِتَدَارُكِ مَا فَاتَ فَلَا يَصِيرُ وَقْتًا لَهَا عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِ صَلَاةٍ أُخْرَى وَهِيَ الْوَقْتِيَّةُ؛ وَلِأَنَّ جَعْلَ الشَّرْعِ وَقْتَ التَّذَكُّرِ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى وَقْتٍ لَيْسَ بِمَشْغُولٍ؛ لِأَنَّ الْمَشْغُولَ لَا يَشْغَلُ، كَمَا انْصَرَفَ إلَى وَقْتٍ لَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهِ. (وَأَمَّا) النِّسْيَانُ فَلِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ جَعَلَ وَقْتَ التَّذَكُّرِ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ، وَلَا تَذَكُّرَ هَهُنَا فَلَمْ يَصِرْ الْوَقْتُ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ فَبَقِيَ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ فَأَمَّا هَهُنَا فَقَدْ وُجِدَ التَّذَكُّرُ فَكَانَ الْوَقْتُ لِلْفَائِتَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا إبْطَالُ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، بَلْ هُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الدَّلَائِلِ، إذْ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْ الصَّلَوَاتِ عَنْ وَقْتِهَا، وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا شُغْلُ مَا هُوَ مَشْغُولٌ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الْوَقْتِيَّةَ وَقَضَى الْفَائِتَةَ تَبَيَّنَ أَنَّ وَقْتَ الْوَقْتِيَّةِ مَا اتَّصَلَ بِهِ الْأَدَاءُ، وَأَنَّ مَا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَقْتًا لَهَا بَلْ كَانَ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَلَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ. فَأَمَّا عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ - وَإِنْ لَمْ يَتَّصِل بِهِ أَدَاءُ الْوَقْتِيَّةِ - لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ مَا كَانَ وَقْتًا لَهُ حَتَّى تَصِيرَ الصَّلَاةُ فَائِتَةً وَتَبْقَى دَيْنًا عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ التَّرْتِيبُ فِي الْفَوَائِتِ أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْوَقْتِيَّةِ وَالْفَائِتَةِ - عِنْدنَا - يَجِبُ مُرَاعَاتُهُ بَيْنَ الْفَوَائِتِ إذَا كَانَتْ الْفَوَائِتُ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ - عِنْدَنَا أَيْضًا -؛ لِأَنَّ قِلَّةَ الْفَوَائِتِ لَمْ تَمْنَعْ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ فِي الْأَدَاءِ فَكَذَا فِي الْقَضَاءِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ قَضَاهُنَّ بَعْدَ هَوِيٍّ مِنْ اللَّيْلِ عَلَى التَّرْتِيبِ ثُمَّ قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَيُبْنَى عَلَى هَذَا إذَا تَرَكَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ مِنْ يَوْمَيْنِ مُخْتَلِفِينَ، وَلَا يَدْرِي أَيَّتُهُمَا أَوْلَى - فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى؛ لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَمْرٌ لَا سَبِيلَ إلَى الْوُصُولِ إلَيْهِ بِيَقِينٍ وَهُوَ التَّرْتِيبُ فَيُصَارُ إلَى التَّحَرِّي؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ انْعِدَامِ الْأَدِلَّةِ قَامَ مَقَامَ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، كَمَا إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَإِنْ مَالَ قَلْبُهُ إلَى شَيْءٍ عَمِلَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ كَالثَّابِتِ بِالدَّلِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ قَلْبُهُ عَلَى شَيْءٍ وَأَرَادَ الْأَخْذَ بِالثِّقَةِ يُصَلِّيهِمَا ثُمَّ يُعِيدُ مَا صَلَّى أَوَّلًا أَيَّتُهُمَا كَانَتْ، إلَّا أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِالظُّهْرِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَسْبَقُ وُجُوبًا فِي الْأَصْلِ، فَيُصَلِّي الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ ثُمَّ الظُّهْرَ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ لَوْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي فَاتَتْ أَوَّلًا فَقَدْ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا وَجَازَتْ وَكَانَتْ الظُّهْرُ الَّتِي أَدَّاهَا بَعْدَ الْعَصْرِ ثَانِيَةً نَافِلَةً لَهُ، وَلَوْ كَانَتْ الْعَصْرُ هِيَ الْمَتْرُوكَةُ أَوَّلًا كَانَتْ الظُّهْرُ الَّتِي أَدَّاهَا قَبْلَ الْعَصْرِ نَافِلَةً لَهُ، فَإِذَا أَدَّى الْعَصْرَ بَعْدَهَا فَقَدْ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا وَجَازَتْ، ثُمَّ إذَا أَدَّى الظُّهْرَ بَعْدَهَا وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا وَجَازَتْ فَيَعْمَلُ كَذَلِكَ لِيَخْرُجَ عَمَّا عَلَيْهِ بِيَقِينٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا نَأْمُرهُ إلَّا بِالتَّحَرِّي، كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْثِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ إذَا اسْتَقَرَّ قَلْبُهُ عَلَى شَيْءٍ كَيْفَ يَصْنَعُ عِنْدَهُمَا، وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ صَدْرُ الدِّينِ أَبُو الْمُعِينِ أَنَّهُ يُصَلِّي كُلَّ صَلَاةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقِيلَ: لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الِاسْتِحْبَابَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُمَا مَا بَيَّنَّا الِاسْتِحْبَابَ، وَذِكْرُ عَدَمِ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَى قَوْلِهِمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ مَا أَوْجَبَ الْإِعَادَةَ. (وَجْهٌ) قَوْلُهُمَا: أَنَّ الْوَاجِبَ فِي مَوْضِعِ الشَّكِّ وَالِاشْتِبَاهِ هُوَ التَّحَرِّي وَالْعَمَلُ بِهِ لَا الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ يَعْمَلُ بِالتَّحَرِّي وَلَا يَأْخُذُ بِالْيَقِينِ بِأَنْ يُصَلِّي صَلَاةً وَاحِدَةً أَرْبَعَ مَرَّاتٍ إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ؟ وَكَذَا مَنْ شَكَّ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا يَتَحَرَّى وَلَا يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَهُوَ الْأَقَلُّ كَذَا هَذَا؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّمَا يُصَلِّي مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ، وَالتَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَ بَدَأَ بِإِحْدَاهُمَا لَمْ يَعْلَمْ يَقِينًا أَنَّ عَلَيْهِ صَلَاةً أُخْرَى قَبْلَ هَذِهِ لِتَصِيرَ هَذِهِ مُؤَدَّاةٌ قَبْلَ وَقْتِهَا فَسَقَطَ عَنْهُ التَّرْتِيبُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَهْمَا أَمْكَنَ الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ كَانَ أَوْلَى إلَّا إذَا تَضَمَّنَ فَسَادًا كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ، فَإِنَّ الْأَخْذَ بِالثِّقَةِ ثَمَّةَ يُؤَدِّي إلَى الْفَسَادِ

حَيْثُ يَقَعُ ثَلَاثٌ مِنْ الصَّلَوَاتِ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ بِيَقِينٍ، وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ بِيَقِينٍ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَيَتَعَذَّرُ الْعَمَلُ بِالْيَقِينِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ وَهَهُنَا لَا فَسَادَ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ يُصَلِّي إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ مَرَّتَيْنِ فَتَكُونُ إحْدَاهُمَا تَطَوُّعًا، وَكَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ إنَّمَا لَا يُبْنَى عَلَى الْأَقَلِّ لِاحْتِمَالِ الْفَسَادِ لِجَوَازِ أَنَّهُ قَدْ صَلَّى أَرْبَعًا فَيَصِيرُ بِالْقِيَامِ إلَى الْأُخْرَى تَارِكًا لِلْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَهِيَ فَرْضٌ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَلَوْ أُمِرَ بِالْقَعْدَةِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالرَّكْعَةِ لَحَصَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَهَهُنَا يَصِيرُ آتِيًا بِالْوَاجِبِ وَهُوَ التَّرْتِيبُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَضَمَّنَ فَسَادًا، فَكَانَ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ أَوْلَى، وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا فَاتَتْهُ وَاحِدَةٌ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَلَا يَدْرِي أَيَّتُهَا هِيَ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ احْتِيَاطًا كَذَا هَهُنَا. (وَأَمَّا) قَوْلُهُمَا حِينَ بَدَأَ بِإِحْدَاهُمَا لَا يَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ عَلَيْهِ أُخْرَى قَبْلَ هَذِهِ فَكَانَ التَّرْتِيبُ عَنْهُ سَاقِطًا فَنَقُولُ: حِينَ صَلَّى هَذِهِ يَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ عَلَيْهِ أُخْرَى لَكِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا سَابِقَةٌ عَلَى هَذِهِ أَوْ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا، فَإِنْ كَانَتْ سَابِقَةً عَلَيْهَا لَمْ تَجُزْ الْمُؤَدَّاةُ لِعَدَمِ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُؤَدَّاةُ سَابِقَةً جَازَتْ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْجَوَازِ فَصَارَتْ الْمُؤَدَّاةُ أَوَّلَ مَرَّةٍ دَائِرَةً بَيْنَ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْوَاجِبُ بِيَقِينٍ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي الْجَوَازِ فَيُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ شَكَّ فِي ثَلَاثِ صَلَوَاتٍ الظُّهْرُ مِنْ يَوْمٍ، وَالْعَصْرُ مِنْ يَوْمٍ، وَالْمَغْرِبُ مِنْ يَوْمٍ - ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَ الْفَوَائِتِ يَزِيدُ - عَلَى هَذَا - سِتَّ صَلَوَاتٍ، فَصَارَتْ الْفَوَائِتُ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ فَلَا يَجِبُ اعْتِبَارُ التَّرْتِيبِ فِي قَضَائِهَا، فَيُصَلِّي أَيَّةَ صَلَاةٍ شَاءَ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ عَلَى مَا يُذْكَرُ، وَالتَّرْتِيبُ عِنْدَ النِّسْيَانِ سَاقِطٌ فَكَانَتْ الْمُؤَدَّيَاتُ بَعْدَ الْفَائِتَةِ فِي أَنْفُسِهَا جَائِزَةً لِسُقُوطِ التَّرْتِيبِ، فَبَقِيَتْ الْفَوَائِتُ فِي أَنْفُسِهَا فِي حَدِّ الْقِلَّةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ التَّرْتِيبِ فِيهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ سَبْعَ صَلَوَاتٍ: يُصَلِّي الظُّهْرَ أَوَّلًا، ثُمَّ الْعَصْرَ، ثُمَّ الظُّهْرَ، ثُمَّ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ الظُّهْرَ، ثُمَّ الْعَصْرَ، ثُمَّ الظُّهْرَ، مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ بِيَقِينٍ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْتَبِرَ الْفَائِتَتَيْنِ إذَا انْفَرَدَتَا فَيُعِيدَهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا، ثُمَّ يَأْتِي بِالثَّالِثَةِ، ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ الثَّالِثَةِ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ فِي الصَّلَاتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَتْ الْفَوَائِتُ أَرْبَعًا بِأَنْ تَرَكَ الْعِشَاءَ مِنْ يَوْمٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يُصَلِّي سَبْعَ صَلَوَاتٍ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَغْرِبِ، ثُمَّ يُصَلِّي الْعِشَاءَ، ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَهَا سَبْعَ صَلَوَاتٍ مِثْلَ مَا كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الرَّابِعَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فِي الِاحْتِيَاطِ هَهُنَا حَرَجٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّهُ إذَا فَاتَتْهُ خَمْسُ صَلَوَاتٍ: الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ مِنْ أَيَّامٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ أَوَّل يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إحْدَى وَثَلَاثِينَ صَلَاةً وَفِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى، فَالْجَوَابُ أَنَّ بَعْضَ مَشَايِخِنَا قَالُوا: إنَّ مَا قَالَاهُ هُوَ الْحُكْمُ الْمُرَادُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْقَضَاءِ مَعَ الِاحْتِمَالِ، إلَّا أَنَّ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ احْتِيَاطٌ لَا حَتْمٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا بَلْ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي حُكْمِ الْمُرَادِ، وَإِعَادَةُ الْأُولَى وَاجِبَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْقَضَاءِ وَاجِبٌ فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَقِيقَةً وَلَهُ طَرِيقٌ فِي الْجُمْلَةِ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ مَشَقَّةٍ لَكِنَّهُ مِمَّا لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْجَوَابِ فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ بِأَنْ صَلَّى أَيَّامًا وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ أَنَّهُ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا، ثُمَّ تَذَكَّرَ الْفَوَائِتَ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ التَّرْتِيبَ فَأَمَّا إذَا كَانَ ذَاكِرًا لِلْفَوَائِتِ حَتَّى صَلَّى أَيَّامًا مَعَ تَذَكُّرِهَا ثُمَّ نَسِيَ سَقَطَ التَّرْتِيبُ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْفَوَائِتَ صَارَتْ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّيَاتِ بَعْدَ الْفَوَائِتِ عِنْدَهُمَا فَاسِدَةٌ إلَى السِّتِّ وَإِذَا فَسَدَتْ كَثُرَتْ الْفَوَائِتُ فَسَقَطَ التَّرْتِيبُ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ أَيَّةَ صَلَاةٍ شَاءَ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى التَّحَرِّي وَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَة لَا يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّيَاتِ عِنْدَهُ تَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ إذَا بَلَغَتْ مَعَ الْفَائِتَةِ سِتًّا، وَإِذَا انْقَلَبَتْ إلَى الْجَوَازِ بَقِيَتْ الْفَوَائِتُ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ التَّرْتِيبِ فِيهَا، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ النَّظَرُ إلَى الْفَوَائِتِ فَمَا دَامَتْ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ وَجَبَ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِيهَا، وَإِذَا كَثُرَتْ سَقَطَ التَّرْتِيبُ فِيهَا؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْفَوَائِتِ تُسْقِطُ التَّرْتِيبَ فِي الْأَدَاءِ فَلَأَنْ يَسْقُطَ فِي الْقَضَاءِ أَوْلَى، هَذَا إذَا شَكَّ فِي صَلَاتَيْنِ فَأَكْثَرَ، فَأَمَّا إذَا شَكَّ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَاتَتْهُ وَلَا يَدْرِي أَيَّةَ صَلَاةٍ هِيَ - يَجِبُ عَلَيْهِ التَّحَرِّي لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ قَلْبُهُ عَلَى شَيْءٍ يُصَلِّي خَمْسَ صَلَوَاتٍ لِيَخْرُجَ عَمَّا عَلَيْهِ بِيَقِينٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ: إنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يَنْوِي بِهِمَا الْفَجْرَ، وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ أُخَرَ بِتَحْرِيمَةٍ عَلَى حِدَةٍ يَنْوِي بِهَا الْمَغْرِبَ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا يَنْوِي بِهَا مَا فَاتَتْهُ، فَإِنْ كَانَتْ الْفَائِتَةُ ظُهْرًا أَوْ عَصْرًا أَوْ عِشَاءً انْصَرَفَتْ هَذِهِ إلَيْهَا وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يُصَلِّي أَرْبَعًا يَنْوِي بِهَا مَا

عَلَيْهِ لَكِنْ بِثَلَاثِ قَعَدَاتٍ فَيَقْعُدُ، عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَالثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ وَهُوَ قَوْلُ بِشْرٍ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْمَتْرُوكَةُ فَجْرًا لَجَازَتْ لِقُعُودِهِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَالثَّانِي يَكُونُ تَطَوُّعًا، وَلَوْ كَانَتْ الْمَغْرِبَ لَجَازَتْ لِقُعُودِهِ عَلَى ثَلَاثٍ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ كَانَتْ كُلُّهَا فَرْضًا وَخَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ، إلَّا أَنَّ مَا قُلْنَاهُ أَحْوَطُ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ أُخْرَى كَانَ تَرَكَهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَلَوْ نَوَى مَا عَلَيْهِ يَنْصَرِفُ إلَى تِلْكَ الصَّلَاةِ أَوْ يَقَعُ التَّعَارُضُ فَلَا يَنْصَرِفُ إلَى هَذِهِ الَّتِي يُصَلِّي، فَيُعِيدُ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِيَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ مَا عَلَيْهِ بِيَقِينٍ، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ صُلْبِ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ وَلَمْ يَدْرِ أَيَّةَ صَلَاةٍ هِيَ - يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لِأَنَّهَا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَصَارَ الشَّكُّ فِيهَا كَالشَّكِّ فِي الصَّلَاةِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بِهِ التَّرْتِيبُ فَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ وَأَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ يَسْقُطُ بِأَحَدِ خِصَالٍ ثَلَاثٍ: أَحَدُهَا - ضِيقُ الْوَقْتِ بِأَنْ يَذْكُرَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ بِحَيْثُ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَائِتَةِ يَخْرُجُ الْوَقْتُ قَبْلَ أَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ، سَقَطَ عَنْهُ التَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِي مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فِيهَا إبْطَالُ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَوْ تَذَّكَّر صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ بَعْدَ مَا تَغَيَّرَتْ الشَّمْسُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَلَا يُجْزِئُهُ قَضَاءُ الظُّهْرِ، لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ قَضَاءَ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ قَضَاءُ الْكَامِلِ بِالنَّاقِصِ، بِخِلَافِ عَصْرِ يَوْمِهِ. وَأَمَّا إذَا تَذَكَّرَهَا قَبْلَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ لَكِنَّهُ بِحَالٍ لَوْ اشْتَغَلَ بِقَضَائِهَا لَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتٌ مَكْرُوهٌ - لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ الْعَصْرَ قَبْلَ أَنْ يُرَاعِيَ التَّرْتِيبَ فَيَقْضِيَ الظُّهْرَ ثُمَّ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ خُرُوجَ الْوَقْتِ، فَلَمْ يَتَضَيَّقِ الْوَقْتُ فَبَقِيَ وُجُوبُ التَّرْتِيبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا. بَلْ يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ فَيُصَلِّي الْعَصْرَ قَبْلَ الظُّهْرِ ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ وَقَالَ: هَذَا عِنْدِي عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ تَذَكَّرَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الْفَجْرَ وَلَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ يَخَافُ فَوْتَ الْجُمُعَةِ، وَلَا يَخَافُ فَوْتَ الْوَقْتِ: عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يُصَلِّي الْفَجْرَ ثُمَّ الظُّهْرَ، فَلَمْ يَجْعَلَا فَوْتَ الْجُمُعَةِ عُذْرًا فِي سُقُوطِ التَّرْتِيبِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ الْفَجْرَ، فَجَعَلَ فَوْتَ الْجُمُعَةِ عُذْرًا فِي سُقُوطِ التَّرْتِيبِ، فَكَذَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، عَلَى قَوْلِهِمَا يَجِبُ أَنْ لَا يَجُوزَ الْعَصْرُ وَعَلَيْهِ الظُّهْرُ فَيُصَلِّيَ الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ. وَلَوْ افْتَتَحَ الْعَصْرَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَهُوَ ذَاكِرٌ أَنَّ عَلَيْهِ الظُّهْرَ وَأَطَالَ الْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتٌ مَكْرُوهٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي الْعَصْرِ مَعَ تَرْكِ الظُّهْرِ لَمْ يَصِحَّ، فَيَقْطَعُ ثُمَّ يَفْتَتِحُهَا ثَانِيًا ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ بَعْدَ الْغُرُوبِ. وَلَوْ افْتَتَحَهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ عَلَيْهِ الظُّهْرَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ حَتَّى دَخَلَ وَقْتٌ مَكْرُوهٌ ثُمَّ تَذَكَّرَ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ لِلتَّرْتِيبِ قَدْ وُجِدَ عِنْد افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَاخْتِتَامِهَا، وَهُوَ النِّسْيَانُ وَضِيقُ الْوَقْتِ وَلَوْ افْتَتَحَ الْعَصْرَ فِي حَالِ ضِيقِ الْوَقْتِ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلظُّهْرِ فَلَمَّا صَلَّى مِنْهَا رَكْعَةً أَوْ رَكْعَتَيْنِ غَرَبَتْ الشَّمْسُ - الْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ الْعَصْرُ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ قَدْ زَالَ وَهُوَ ضِيقُ الْوَقْتِ فَعَادَ التَّرْتِيبُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَمْضِي فِيهَا ثُمَّ يَقْضِي الظُّهْرَ ثُمَّ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ ذَكَرَهُ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ. (وَالثَّانِي) - النِّسْيَانُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ جَعَلَ وَقْتَ التَّذَكُّرِ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ، وَلَا تَذَكُّرَ هَهُنَا، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى الْمَغْرِبَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ: رَآنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ صَلَّيْتُ الْعَصْرَ؟ فَقَالُوا: لَا فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُعِدْ الْمَغْرِبَ» ، وَلَوْ وَجَبَ التَّرْتِيبُ لَأَعَادَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَصَلَّى الْعَصْرَ بِوُضُوءٍ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِمَا صَنَعَ فَأَعَادَ الظُّهْرَ وَلَمْ يُعِدْ الْعَصْرَ، وَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْعَصْرَ تُجْزِئُهُ أَعَادَ الْعَصْرَ وَلَمْ يُعِدْ الْمَغْرِبَ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الظُّهْرِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَالِامْتِنَاعَ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ فَوَاتِ شَرْطِ أَهْلِيَّةِ الصَّلَاةِ، فَحِينَ صَلَّى الْعَصْرَ صَلَّى وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الظُّهْرَ غَيْرُ جَائِزَةٍ. وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّهَا جَائِزَةٌ لَمْ يَكُنْ هَذَا الظَّنُّ مُعْتَبَرًا؛ لِأَنَّهُ نَشَأَ عَنْ جَهْلٍ، وَالظَّنُّ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا نَشَأَ عَنْ دَلِيلٍ أَوْ شُبْهَةِ دَلِيلٍ، وَلَمْ يُوجَدْ فَكَانَ هَذَا جَهْلًا مَحْضًا، فَقَدْ صَلَّى الْعَصْرَ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ عَلَيْهِ الظُّهْرَ فَكَانَ مُصَلِّيًا الْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ فَلَمْ يَجُزْ، وَلَوْ صَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ إعَادَتِهِمَا جَمِيعًا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ عَلَيْهِ الظُّهْرَ فَصَارَ الْمَغْرِبُ فِي، وَقْتِ الظُّهْرِ فَلَمْ يَجُزْ فَأَمَّا لَوْ كَانَ أَعَادَ الظُّهْرَ وَلَمْ يُعِدْ الْعَصْرَ فَظَنَّ جَوَازَهَا ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ - فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ الْعَصْرِ وَلَا يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ الْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّ ظَنَّهُ أَنَّ عَصْرَهُ جَائِزٌ ظَنٌّ مُعْتَبَرٌ؛ لِأَنَّهُ نَشَأَ عَنْ شُبْهَةِ دَلِيلٍ، وَلِهَذَا خَفِيَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فَحِين

صَلَّى الْمَغْرِبَ صَلَّاهَا وَعِنْدَهُ أَنْ لَا عَصْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا بِجَمِيعِ أَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا الْمُخْتَصَّةِ بِهَا، إنَّمَا خَفِيَ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى شُبْهَةِ دَلِيلٍ، وَمَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَعِنْدَهُ أَنْ لَا عَصْرَ عَلَيْهِ - حُكِمَ بِجَوَازِ الْمَغْرِبِ كَمَا لَوْ كَانَ نَاسِيًا لِلْعَصْرِ، بَلْ هَذَا فَوْقَ النِّسْيَانِ؛ لِأَنَّ ظَنَّ النَّاسِي لَمْ يَنْشَأْ عَنْ شُبْهَةِ دَلِيلٍ بَلْ عَنْ غَفْلَةٍ طَبِيعِيَّةٍ، وَهَذَا الظَّنُّ نَشَأَ عَنْ شُبْهَةِ دَلِيلٍ فَكَانَ هَذَا فَوْقَ ذَلِكَ، ثُمَّ هُنَاكَ حُكِمَ بِجَوَازِ الْمَغْرِبِ فَهَهُنَا أَوْلَى، ثُمَّ الْعِلْمُ بِالْفَائِتَةِ كَمَا هُوَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ فَالْعِلْمُ بِوُجُوبِهَا حَالَ الْفَوَاتِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ قَضَائِهَا، حَتَّى أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمَكَثَ فِيهَا سَنَةً وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ فَلَمْ يُصَلِّ ثُمَّ عَلِمَ - لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ: عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا. وَلَوْ كَانَ هَذَا ذِمِّيًّا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ (وَجْهٌ) قَوْلُ زُفَرَ: أَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ الْتَزَمَ أَحْكَامَهُ، وَوُجُوبُ الصَّلَاةِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فَيَلْزَمُهُ، وَلَا يَسْقُطُ بِالْجَهْلِ، كَمَا لَوْ كَانَ هَذَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. (وَلَنَا) أَنَّ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُنِعَ عَنْهُ الْعِلْمُ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْعِلْمِ فِي حَقِّهِ، وَلَا وُجُوبَ عَلَى مَنْ مُنِعَ عَنْهُ الْعِلْمُ كَمَا لَا وُجُوبَ عَلَى مَنْ مُنِعَ عَنْهُ الْقُدْرَةُ بِمَنْعِ سَبَبِهَا، بِخِلَافِ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَ الْعِلْمَ حَيْثُ لَمْ يَسْأَلْ الْمُسْلِمِينَ عَنْ شَرَائِعِ الدِّينِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ السُّؤَالِ، وَالْوُجُوبُ مُتَحَقِّقٌ فِي حَقِّ مَنْ ضَيَّعَ الْعِلْمَ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ مَنْ ضَيَّعَ الْقُدْرَةَ، وَلَمْ يُوجَدْ التَّضْيِيعُ هَهُنَا إذْ لَا يُوجَدُ فِي الْحَرْبِ مَنْ يَسْأَلهُ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى لَوْ وُجِدَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَيُؤَاخَذُ بِالْقَضَاءِ إذَا عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَ الْعِلْمَ وَمَا مُنِعَ مِنْهُ كَاَلَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ زُفَرُ أَنَّهُ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: نَعَمْ لَكِنْ حُكْمًا لَهُ سَبِيلُ الْوُصُولِ إلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ، فَإِنْ بَلَّغَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِيمَا يَتْرُكُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ لَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يُخْبِرْهُ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ مُلْزِمٌ، وَمِنْ أَصْلِهِ اشْتِرَاطُ الْعَدَدِ فِي الْخَبَرِ الْمُلْزِمِ، كَمَا فِي الْحَجْرِ عَلَى الْمَأْذُونِ، وَعَزْلِ الْوَكِيلِ، وَالْإِخْبَارِ بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ الْأَصَحُّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَأْمُورٌ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِالتَّبْلِيغِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَءًا سَمِعَ مِنَّا مَقَالَةً فَوَعَاهَا كَمَا سَمِعَهَا ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا» ، فَهَذَا الْمُبَلِّغُ نَظِيرُ الرَّسُولِ مِنْ الْمُوَلِّي وَالْمُوَكِّلِ، وَخَبَرُ الرَّسُولِ هُنَاكَ مُلْزِمٌ فَهَهُنَا كَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَالثَّالِثُ) - كَثْرَةُ الْفَوَائِتِ، وَقَالَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ: التَّرْتِيبُ لَا يَسْقُطُ بِكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ حَتَّى إنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً فَصَلَّى فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلْفَائِتَةِ فَصَلَاةُ عُمُرِهِ عَلَى الْفَسَادِ مَا لَمْ يَقْضِ الْفَائِتَةَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمُوجِبَ لِلتَّرْتِيبِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ قَلِيلِ الْفَائِتِ وَكَثِيرِهِ؛ وَلِأَنَّ كَثْرَةَ الْفَوَائِتِ تَكُونُ عَنْ كَثْرَةِ تَفْرِيطِهِ فَلَا يُسْتَحَقُّ بِهِ التَّخْفِيفُ. (وَلَنَا) أَنَّ الْفَوَائِتَ إذَا كَثُرَتْ لَوْ وَجَبَ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ مَعَهَا لَفَاتَتْ الْوَقْتِيَّةِ عَنْ الْوَقْتِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ إبْطَالُ مَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي حَدِّ أَدْنَى الْفَوَائِتِ الْكَثِيرَةِ: فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنْ تَصِيرَ الْفَوَائِتُ سِتًّا، فَإِذَا خَرَجَ وَقْتُ السَّادِسَةِ سَقَطَ التَّرْتِيبُ حَتَّى يَجُوزَ أَدَاءُ السَّابِعَةِ قَبْلَهَا. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ أَنْ تَصِيرَ الْفَوَائِتُ خَمْسًا، فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ السَّادِسَةِ سَقَطَ التَّرْتِيبُ حَتَّى يَجُوزَ أَدَاءُ السَّادِسَةِ وَعَنْ زُفَرَ أَنَّهُ يَلْزَمهُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِي صَلَاةِ شَهْرٍ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ شَهْرٍ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ حَدَّ الْكَثْرَةِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى شَهْرٍ. (وَجْهُ) مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْكَثِيرَ فِي كُلِّ بَابٍ كُلُّ جِنْسِهِ، كَالْجُنُونِ إذَا اسْتَغْرَقَ الشَّهْرَ فِي بَابِ الصَّوْمِ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْفَوَائِتَ لَا تَدْخُلُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ بِدُخُولِ وَقْتِ السَّادِسَةِ، وَإِنَّمَا تَدْخُلُ بِخُرُوجِ وَقْتِ السَّادِسَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَصِيرُ مُكَرَّرَةً، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ صَلَاةً ثُمَّ صَلَّى بَعْدهَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلْفَائِتَةِ فَإِنَّهُ يَقْضِيهِنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ بَعْد، وَمُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ وَاجِبَةٌ عِنْدَ قِلَّةِ الْفَوَائِتِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُ الْوَقْتِ وَقْتًا لَهُنَّ عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى إخْرَاجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ، فَصَارَ مُؤَدِّيًا كُلَّ صَلَاةٍ مِنْهَا فِي وَقْتِ الْمَتْرُوكَةِ. وَالْمَتْرُوكَةُ قَبْلَ الْمُؤَدَّاةِ، فَصَارَ مُؤَدِّيًا الْمُؤَدَّاةَ قَبْلَ وَقْتِهَا - فَلَمْ يَجُزْ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ يَقْضِي الْمَتْرُوكَةَ وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ السَّادِسَةَ جَائِزَةٌ، وَلَوْ لَمْ يَقْضِهَا حَتَّى صَلَّى السَّابِعَةَ فَالسَّابِعَةُ جَائِزَةٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ السَّابِعَةِ وَهِيَ الْمُؤَدَّاةُ السَّادِسَةُ لَمْ يُجْعَلْ وَقْتًا لِلْفَوَائِتِ

لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ وَقْتًا لَهُنَّ لَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ لِاسْتِيعَابِ تِلْكَ الْفَوَائِتِ هَذَا الْوَقْتَ وَفِيهِ إبْطَالُ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَبَقِيَ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ، فَإِذَا أَدَّاهَا حُكِمَ بِجَوَازِهَا لِحُصُولِهَا فِي وَقْتِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْمُؤَدَّيَاتُ بَعْدَ الْمَتْرُوكَةِ خَمْسًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ الْوَقْتُ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ فَيُجْعَلُ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ، ثُمَّ إذَا صَلَّى السَّابِعَةَ تَعُودُ الْمُؤَدَّيَاتُ الْخَمْسُ إلَى الْجَوَازِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْفَائِتَةِ وَحْدَهَا اسْتِحْسَانًا، وَعَلَى قَوْلِهِمَا عَلَيْهِ قَضَاءُ الْفَائِتَةِ وَخَمْسُ صَلَوَاتٍ بَعْدَهَا، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَعَلَى هَذَا إذَا تَرَكَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ ثُمَّ صَلَّى السَّادِسَةَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلْفَوَائِتِ فَالسَّادِسَةُ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، حَتَّى لَوْ صَلَّى السَّابِعَةَ تَنْقَلِبُ السَّادِسَةُ إلَى الْجَوَازِ عِنْدَهُ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْخَمْسِ وَعِنْدَهُمَا لَا تَنْقَلِبُ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ السِّتِّ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ صَلَاةً ثُمَّ صَلَّى شَهْرًا وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلْفَائِتَةِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لَا غَيْرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ قَضَاءُ الْفَائِتَةِ وَخَمْسٍ بَعْدَهَا، إلَّا عَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ الْفَائِتَةِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ يُعِيدُ الْفَائِتَةَ وَجَمِيعَ مَا صَلَّى بَعْدَهَا مِنْ صَلَاةِ الشَّهْرِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: " وَاحِدَةٌ تُصَحِّحُ خَمْسًا وَوَاحِدَةٌ تُفْسِدُ خَمْسًا "؛ لِأَنَّهُ إنْ صَلَّى السَّادِسَةَ قَبْلَ الْقَضَاءِ صَحَّ الْخَمْسُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ قَضَى الْمَتْرُوكَةَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّي السَّادِسَةَ فَسَدَتْ الْخَمْسُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ كُلَّ مُؤَدَّاةٍ إلَى الْخَمْسِ حَصَلَتْ فِي وَقْتِ الْمَتْرُوكَةِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقْتًا لِلْمَتْرُوكَةِ لِكَوْنِ الْمَتْرُوكَةِ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ، وَوَقْتُ الْمَتْرُوكَةِ قَبْلَ وَقْتِ هَذِهِ الْمُؤَدَّاةِ، فَحَصَلَتْ الْمُؤَدَّاةُ قَبْلَ وَقْتِهَا فَفَسَدَتْ، فَلَا مَعْنَى بَعْدَ ذَلِكَ لِلْحُكْمِ بِجَوَازِهَا وَلَا لِلْحُكْمِ بِتَوَقُّفِهَا لِلْحَالِ. (وَأَمَّا) وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ، قَالَ مَشَايِخُ بَلْخٍ: إنَّا وَجَدْنَا صَلَاةً بَعْدَ الْمَتْرُوكَةِ جَائِزَةً وَهِيَ السَّادِسَةُ. وَقَدْ أَدَّاهَا عَلَى نَقْصِ التَّرْكِيبِ وَتَرْكِ التَّأْلِيفِ، فَكَذَا يُحْكَمُ بِجَوَازِ مَا قَبْلِهَا وَإِنْ أَدَّاهَا عَلَى تَرْكِ التَّأْلِيفِ وَنَقْصِ التَّرْكِيبِ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ وَاهِيَةٌ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ السَّادِسَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلِهَا فِي الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا، بَلْ مَعَ قِيَامِ الْمَعْنَى الْمُفَرِّقِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَقْتَ السَّادِسَةِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْمَتْرُوكَةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا، وَوَقْتُ كُلِّ صَلَاةٍ مُؤَدَّاةٍ قَبْلَ السَّادِسَةِ وَقْتٌ لِلْمَتْرُوكَةِ، فَكَانَ أَدَاءُ السَّادِسَةِ أَدَاءً فِي وَقْتِهَا فَجَازَتْ، وَأَدَاءُ كُلِّ مُؤَدَّاةٍ أَدَاءٌ قَبْلَ وَقْتِهَا فَلَمْ تَجُزْ. (وَقَالَ) مَشَايِخُ الْعِرَاقِ: إنَّ الْكَثْرَةَ عِلَّةُ سُقُوطِ التَّرْتِيبِ، فَإِذَا أَدَّى السَّادِسَةَ فَقَدْ ثَبَتَتْ الْكَثْرَةُ وَهِيَ صِفَةٌ لِلْكُلِّ لَا مَحَالَةَ، فَاسْتَنَدَتْ إلَى أَوَّلِ الْمُؤَدَّيَاتِ فَنَسْتَنِدُ لِحُكْمِهَا فَيَثْبُتُ الْجَوَازُ لِلْكُلِّ، وَهَذِهِ نُكْتَةٌ ضَعِيفَةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ وَإِنْ صَارَتْ صِفَةً لِلْكُلِّ لَكِنَّهَا تَثْبُتُ لِلْحَالِ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ أَوَّلَ الْمُؤَدَّيَاتِ كَمَا أُدِّيَتْ تَثْبُتُ لَهَا صِفَةُ الْكَثْرَةِ قَبْل وُجُودِ مَا يَتَعَقَّبُهَا لِاسْتِحَالَةِ كَثْرَةِ الْوُجُودِ بِمَا هُوَ فِي حَيِّزِ الْعَدَمِ بَعْد، وَلَوْ اتَّصَفَتْ هِيَ بِالْكَثْرَةِ، وَلَا تَتَّصِفُ الذَّاتُ بِهَا وَحْدَهَا لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الْوَاحِدِ كَثِيرًا بِمَا يَتَعَقَّبُهَا مِنْ الْمُؤَدَّيَاتِ، وَتِلْكَ مَعْدُومَةً فَيُؤَدِّي إلَى اتِّصَافِ الْمَعْدُومِ بِالْكَثْرَةِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَدَلَّ أَنَّ صِفَةَ الْكَثْرَةِ تَثْبُت لِلْكُلِّ مُقْتَصِرًا عَلَى وُجُودِ الْأَخِيرَةِ مِنْهَا، كَمَا إذَا خَلَقَ اللَّهُ - تَعَالَى - جَوْهَرًا وَاحِدًا لَمْ يَتَّصِفْ بِكَوْنِهِ مُجْتَمِعًا، فَلَوْ خُلِقَ مُنْضَمًّا إلَيْهِ جَوْهَرٌ آخَرُ لَا يُطْلَقُ اسْمُ الْمُجْتَمِعِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقْتَصِرًا عَلَى الْحَالِ لِمَا بَيَّنَّا فَكَذَا هَذَا، عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا هَذِهِ الدَّعْوَى الْمُمْتَنِعَةَ عَلَى طَرِيقِ الْمُسَاهَلَةِ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّاةَ الْأُولَى وَإِنْ اتَّصَفَتْ بِالْكَثْرَةِ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهَا لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ بِجَوَازِهَا وَسُقُوطِ التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ التَّرْتِيبِ كَانَ مُتَعَلِّقًا لِمَعْنًى وَهُوَ اسْتِيعَابُ الْفَوَائِتِ وَقْتَ الصَّلَاةِ، وَتَفْوِيتُ الْوَقْتِيَّةِ عَنْ وَقْتِهَا عِنْدَ وُجُوبِ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فَلَمْ تَجِبْ الْمُرَاعَاةُ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ مَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ بِمَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِد، وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْعَدِمٌ فِي الْمُؤَدَّيَاتِ الْخَمْسِ، وَإِنْ اتَّصَفَتْ بِالْكَثْرَةِ، وَلِأَنَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ، فَإِنَّ الْجَوَازَ وَسُقُوطَ التَّرْتِيبِ بِسَبَبِ صِفَةِ كَثْرَةِ الْفَوَائِتِ، وَمَتَى حُكِمَ بِالْجَوَازِ لَمْ تَبْقَ كَثْرَةُ الْفَوَائِتِ فَيَجِيءُ التَّرْتِيبُ، وَمَتَى جَاءَ التَّرْتِيبُ جَاءَ الْفَسَادُ، فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ غَيْرُ صَحِيحَيْنِ. وَالْوَجْهُ الصَّحِيحُ لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْمُعِينِ وَهُوَ أَنَّ أَدَاءَ السَّادِسَةِ مِنْ الْمُؤَدَّيَاتِ حَصَلَ فِي وَقْتٍ هُوَ وَقْتُهَا بِالدَّلَائِلِ أَجْمَعِ وَلَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْفَائِتَةِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِي جَعْلِ هَذَا الْوَقْتِ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ إبْطَالَ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ فَسَقَطَ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَصْلًا، وَانْتَهَى مَا هُوَ وَقْتُ الْفَائِتَةِ، فَإِذَا قُضِيَتْ الْفَائِتَةُ بَعْدَ

أَدَاءِ السَّادِسَةِ مِنْ الْمُؤَدَّيَاتِ الْتَحَقَتْ بِمَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ وَهُوَ وَقْتُهَا الْأَصْلِيُّ؛ لِأَنَّهَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَحَلٍّ فَالْتِحَاقُهَا بِمَحَلِّهَا أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ لَا مُزَاحِمَ لَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتٌ مُتَعَيَّنٌ لَهُ، وَلَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ مُزَاحِمٌ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ خَمْسِ صَلَوَاتٍ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ فِي الْقَضَاءِ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ، فَالْتِحَاقُهَا بِوَقْتٍ لَا مُزَاحِمَ لَهَا فِيهِ أَوْلَى. (وَالثَّانِي) - أَنَّ ذَلِكَ وَقْتُهُ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، وَهَذَا وَقْتُ غَيْرِهِ بِالدَّلِيلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ وَقْتًا لَهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَيُرَجَّحُ ذَلِكَ عَلَى هَذَا فَالْتَحَقَتْ بِمَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ حُكْمًا، وَالثَّابِتُ حُكْمًا كَالثَّابِتِ حَقِيقَةً، وَإِذَا الْتَحَقَتْ بِمَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخَمْسَ الْمُؤَدَّيَاتِ أُدِّيَتْ فِي أَوْقَاتِهَا فَحُكِمَ بِجَوَازِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا قُضِيَتْ الْمَتْرُوكَةُ قَبْلَ أَدَاءِ السَّادِسَةِ؛ لِأَنَّهَا قُضِيَتْ فِي وَقْتٍ هُوَ وَقْتُهَا مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ أَوْجَبَ كَوْنَهُ وَقْتًا لَهَا، فَإِذَا قُضِيَتْ فِيمَا هُوَ وَقْتُهَا ظَاهِرًا تَتَقَرَّرُ فِيهِ وَلَا تَلْتَحِقُ بِمَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ الْمُؤَدَّيَاتِ الْخَمْسَ أُدِّيَتْ بَعْدَ الْفَائِتَةِ، بَلْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا أُدِّيَتْ قَبْلَ الْفَائِتَةِ لِاسْتِقْرَارِ الْفَائِتَةِ بِمَحَلِّ قَضَائِهَا وَعَدَمِ الْتِحَاقِهَا بِمَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ، فَحُكِمَ بِفَسَادِ الْمُؤَدَّيَاتِ، وَبِخِلَافِ حَالِ النِّسْيَانِ وَضِيقِ الْوَقْتِ إذَا أَدَّى الْوَقْتِيَّةَ ثُمَّ قَضَى الْفَائِتَةَ، حَيْثُ لَا تَجِبُ إعَادَةُ الْوَقْتِيَّةِ، وَلَوْ الْتَحَقَتْ الْفَائِتَةُ بِمَحِلِّهَا الْأَصْلِيِّ لَوَجَبَ إعَادَةُ الْوَقْتِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا حَصَلَتْ قَبْلَ وَقْتِ الْفَائِتَة؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمُؤَدَّى حَصَلَ فِي وَقْتٍ هُوَ وَقْتٌ لَهَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ عَلَى مَا مَرَّ، فَأَدَاءُ الْفَائِتَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُ هَذَا الْوَقْتَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِلْمُؤَدَّاةِ، فَتَقَرَّرَتْ الْمُؤَدَّاةُ فِي مَحَلِّهَا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَالْتَحَقَتْ الْفَائِتَةُ فِي حَقِّ الْمُؤَدَّاةِ بِصَلَاةِ وَقْتِهَا بَعْدَ وَقْتِ الْمُؤَدَّاةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي إفْسَادِ الْمُؤَدَّاةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَامَ الْمُصَلِّي وَقَرَأَ وَسَجَدَ ثُمَّ رَكَعَ حَيْثُ لَمْ يَلْتَحِقْ الرُّكُوعُ بِمَحَلِّهِ وَهُوَ قَبْلَ السُّجُودِ حَتَّى كَانَ لَا يَجِبُ إعَادَةُ السُّجُودِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَلْتَحِقْ حَتَّى يَجِبَ إعَادَةُ السُّجُودِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُجْعَلُ حَاصِلًا فِي مَحَلِّهِ أَنْ لَوْ وُجِدَ شَيْءٌ آخَرُ فِي مَحَلِّهِ بَعْدَهُ وَوَقَعَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُعْتَبَرًا فِي نَفْسِهِ، فَإِذَا حَصَلَ هَذَا الْتَحَقَ بِمَحَلِّهِ، وَهُنَاكَ السُّجُودُ وَقَعَ قَبْلَ أَوَانِهِ فَمَا وَقَعَ مُعْتَبَرًا، فَلَغَا، فَبَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الرُّكُوعُ حَاصِلًا فِي مَحَلِّهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِ السَّجْدَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَحَلِّهَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (وَقَالُوا) فِيمَنْ تَرَكَ صَلَوَاتٍ كَثِيرَةً مَجَانَةً ثُمَّ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ وَاشْتَغَلَ بِأَدَاءِ الصَّلَوَاتِ فِي مَوَاقِيتِهَا قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ شَيْئًا مِنْ الْفَوَائِتِ، فَتَرَكَ صَلَاةً ثُمَّ صَلَّى أُخْرَى وَهُوَ ذَاكِرٌ لِهَذِهِ الْفَائِتَةِ الْحَدِيثَةِ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَيَجْعَلُ الْفَوَائِتَ الْكَثِيرَةَ الْقَدِيمَةَ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجُوزَ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ لِكَثْرَةِ الْفَوَائِتِ، وَتُضَمُّ هَذِهِ الْمَتْرُوكَةُ إلَى مَا مَضَى، إلَّا أَنَّ الْمَشَايِخَ اسْتَحْسَنُوا فَقَالُوا: إنَّهُ لَا يَجُوزُ احْتِيَاطًا زَجْرًا لِلسُّفَهَاءِ عَنْ التَّهَاوُنِ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ، وَلِئَلَّا تَصِيرَ الْمَقْضِيَّةُ وَسِيلَةً إلَى التَّخْفِيفِ، ثُمَّ كَثْرَةُ الْفَوَائِتِ كَمَا تُسْقِطُ التَّرْتِيبَ فِي الْأَدَاءِ تُسْقِطُهُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا عَمِلَتْ فِي إسْقَاطِ التَّرْتِيبِ فِي غَيْرِهَا فَلَأَنْ تَعْمَلَ فِي نَفْسِهَا أَوْلَى، حَتَّى لَوْ قَضَى فَوَائِتَ الْفَجْرِ كُلَّهَا، ثُمَّ الظُّهْرَ كُلَّهَا، ثُمَّ الْعَصْرَ كُلَّهَا هَكَذَا - جَازَ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ تَرَكَ صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَصَلَّى مِنْ الْغَدِ مَعَ كُلِّ صَلَاةِ صَلَاةً قَالَ: الْفَوَائِتُ كُلُّهَا جَائِزَةٌ سَوَاءٌ قَدَّمَهَا أَوْ أَخَّرَهَا. وَأَمَّا الْوَقْتِيَّةُ فَإِنْ قَدَّمَهَا لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ مَتَى صَلَّى وَاحِدَةً مِنْهَا صَارَتْ الْفَوَائِتُ سِتًّا، لَكِنَّهُ مَتَى قَضَى فَائِتَةً بَعْدَهَا عَادَتْ خَمْسًا ثَمَّ، وَثَمَّ فَلَا تَعُودُ إلَى الْجَوَازِ، وَإِنْ أَخَّرَهَا لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا الْعِشَاءُ الْأَخِيرَةُ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا قَضَى فَائِتَةً عَادَتْ الْفَوَائِتُ أَرْبَعًا وَفَسَدَتْ الْوَقْتِيَّةُ، إلَّا الْعِشَاءُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّاهَا وَعِنْدَهُ أَنَّ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ قَدْ قَضَاهُ فَأَشْبَهَ النَّاسِي. (وَأَمَّا) التَّرْتِيبُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ شَرْطٌ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ: إذَا أَدْرَكَ أَوَّلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ ثُمَّ نَامَ خَلْفَهُ أَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَسَبَقَهُ الْإِمَامُ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ انْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ أَوْ عَادَ مِنْ وُضُوئِهِ - فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ مَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِهِ ثُمَّ يُتَابِعَ إمَامَهُ لِمَا يَذْكُرُ، وَلَوْ تَابَعَ إمَامَهُ أَوَّلًا ثُمَّ قَضَى مَا فَاتَهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ جَازَ عِنْدنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ إذَا زَحَمَهُ النَّاسُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَدَاءِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَبَقِيَ قَائِمًا، وَأَمْكَنَهُ أَدَاءُ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ الْإِمَامِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّي الْأُولَى، ثُمَّ قَضَى الْأُولَى بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يُجْزِئُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَذَكَّرَ سَجْدَةً فِي الرُّكُوعِ وَقَضَاهَا، أَوْ سَجْدَةً فِي السَّجْدَةِ وَقَضَاهَا - فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ الرُّكُوعَ أَوْ السُّجُودَ الَّذِي هُوَ فِيهِمَا. وَلَوْ اعْتَدَّ بِهِمَا وَلَمْ يُعِدْ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْتَدَّ بِهِمَا وَعَلَيْهِ إعَادَتُهُمَا. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْمَأْتِيَّ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعَ وَقَعَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ

فَلَا يَقَعُ مُعْتَدًّا بِهِ، كَمَا إذَا قَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ وَجَبَ عَلَيْهِ إعَادَةُ السُّجُودِ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا. (وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ أَمْرٌ بِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ فِيمَا أَدْرَكَ بِحَرْفِ الْفَاءِ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْقِيبِ بِلَا فَصْلٍ، ثُمَّ أَمْرٌ بِقَضَاءِ الْفَائِتَةِ، وَالْأَمْرُ دَلِيلُ الْجَوَازِ، وَلِهَذَا يَبْدَأُ الْمَسْبُوقُ بِمَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِيهِ لَا بِمَا سَبَقَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ صَلَاتِهِ وَقَدْ أَخَّرَهُ، وَالثَّانِي - أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْأَمْرِ بِحَرْفِ الْوَاو، وَأَنَّهُ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، فَأَيُّهُمَا فَعَلَ يَقَعُ مَأْمُورًا بِهِ فَكَانَ مُعْتَدًّا بِهِ، إلَّا أَنَّ الْمَسْبُوقَ صَارَ مَخْصُوصًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ سُنَّةً حَسَنَةً فَاسْتَنُّوا بِهَا» ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِظَاهِرِهِ، وَبِضَرُورَتِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ، فَإِسْقَاطُ التَّرْتِيبِ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ إسْقَاطٌ فِيمَا هُوَ مِنْ أَجْزَائِهَا ضَرُورَةٌ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِالسُّجُودِ قَبْلَ الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ لِتَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ الرُّكُوعِ عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانَ شَرَائِطِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَهِيَ الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ الَّتِي تَعُمُّ الْمُنْفَرِدَ وَالْمُقْتَدِيَ جَمِيعًا، (فَأَمَّا) الَّذِي يَخُصُّ الْمُقْتَدِيَ وَهُوَ شَرَائِطُ جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ فِي صَلَاتِهِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا - فِي بَيَانِ رُكْنِ الِاقْتِدَاءِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ. (وَأَمَّا) رُكْنُهُ فَهُوَ نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ وَقَدْ ذُكِرَ تَفْسِيرُهَا فِيمَا تَقَدَّمَ. (وَأَمَّا) شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا - الشِّرْكَةُ فِي الصَّلَاتَيْنِ وَاتِّحَادُهُمَا سَبَبًا وَفِعْلًا وَوَصْفًا؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِنَاءُ التَّحْرِيمَةِ عَلَى التَّحْرِيمَةِ، فَالْمُقْتَدِي عَقَدَ تَحْرِيمَتَهُ لِمَا انْعَقَدَتْ لَهُ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ، فَكُلَّمَا انْعَقَدَتْ لَهُ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ جَازَ الْبِنَاءُ مِنْ الْمُقْتَدِي، وَمَا لَا فَلَا، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالشِّرْكَةِ فِي الصَّلَاتَيْنِ، وَاتِّحَادُهُمَا مِنْ الْوُجُوهِ الَّذِي وَصَفْنَا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ مَسَائِلُ: الْمُقْتَدِي إذَا سَبَقَ الْإِمَامَ بِالِافْتِتَاحِ لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ وَهُوَ الْبِنَاءُ لَا يُتَصَوَّرَ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الْعَدَمِ مُحَالٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» ، وَمَا لَمْ يُكَبِّرْ الْإِمَامُ لَا يَتَحَقَّقُ الِائْتِمَامُ بِهِ، وَكَذَا إذَا كَبَّرَ قَبْلَهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَوْ جَدَّدَ التَّكْبِيرَ بَعْدَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ بِنِيَّةِ الدُّخُولِ فِي صَلَاتِهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاطِعًا لِمَا كَانَ فِيهِ شَارِعًا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ، كَمَنْ كَانَ فِي النَّفْلِ فَكَبَّرَ وَنَوَى الْفَرْضَ يَصِيرُ خَارِجًا مِنْ النَّفْلِ دَاخِلًا فِي الْفَرْضِ، وَكَمَنْ بَاعَ بِأَلْفٍ ثُمَّ أَلْفَيْنِ كَانَ فَسْخًا لِلْأَوَّلِ وَعَقْدًا آخَرَ كَذَا هَذَا، وَلَوْ لَمْ يُجَدِّدْ حَتَّى لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ هَلْ يَصِيرُ شَارِعًا فِي صَلَاةِ نَفْسِهِ؟ أَشَارَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إلَى أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَ فِيمَا إذَا جَدَّدَ التَّكْبِيرَ وَنَوَى الدُّخُولَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ فَقَالَ: التَّكْبِيرُ الثَّانِي قَطْعٌ لِمَا كَانَ فِيهِ، وَأَشَارَ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ قَهْقَهَ لَا تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ، ثُمَّ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ حَمَلَ اخْتِلَافَ الْجَوَابِ عَلَى اخْتِلَافِ مَوْضُوعِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ إذَا كَبَّرَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الْإِمَامَ كَبَّرَ فَيَصِيرَ مُقْتَدِيًا بِمَنْ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ، كَالْمُقْتَدِي بِالْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ، وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يُكَبِّرْ فَيَصِيرُ شَارِعًا فِي صَلَاةِ نَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّقَ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّهُ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِمَنْ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي صَلَاةِ نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ اقْتَدَى بِمُشْرِكٍ أَوْ جُنُبٍ أَوْ بِمُحْدِثٍ، وَهَذَا لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ غَيْرُ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ لَوْ اسْتَأْنَفَ التَّكْبِيرَ نَاوِيًا الشُّرُوعَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ صَارَ شَارِعًا مُسْتَأْنِفًا، وَاسْتِقْبَالُ مَا هُوَ فِيهِ لَا يُتَصَوَّرُ، دَلَّ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ غَيْرُ تِلْكَ الصَّلَاةِ، فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي إحْدَاهُمَا بِنِيَّةِ الْأُخْرَى. (وَجْهُ) مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ نَوَى شَيْئَيْنِ: الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ، وَالِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ فَبَطَلَتْ إحْدَى نِيَّتَيْهِ وَهِيَ نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُصَادِفْ مَحَلَّهَا فَتَصِحُّ الْأُخْرَى وَهِيَ نِيَّةُ الصَّلَاةِ، وَصَارَ كَالشَّارِعِ فِي الْفَرْضِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اقْتَدَى بِالْمُشْرِكِ وَالْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فَصَارَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ مُلْغِيًا صَلَاتَهُ. وَأَمَّا هَذَا فَمِنْ أَهْلِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَالصَّلَاةُ خَلْفَهُ مُعْتَبَرَةٌ فَلَمْ يَصِرْ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ مُلْغِيًا صَلَاتَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَبَّرَ الْمُقْتَدِي وَعَلِمَ أَنَّهُ كَبَّرَ قَبْلَ الْإِمَامِ، فَأَمَّا إذَا كَبَّرَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ كَبَّرَ قَبْلَ الْإِمَامِ أَوْ بَعْدَهُ، ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْهَارُونِيَّاتِ وَجَعَلَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَبَّرَ قَبْلَ الْإِمَامِ لَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَبَّرَ بَعْدَ الْإِمَامِ يَصِيرُ شَارِعًا فِي صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ حُجَّةٌ عِنْدَ عَدَمِ الْيَقِينِ بِخِلَافِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ رَأْيُهُ

عَلَى شَيْءٍ فَالْأَصْلُ فِيهِ هُوَ الْجَوَازُ مَا لَمْ يَظْهَرْ أَنَّهُ كَبَّرَ قَبْلَ الْإِمَامِ بِيَقِينٍ، وَيُحْمَلُ عَلَى الصَّوَابِ احْتِيَاطًا مَا لَمْ يَسْتَيْقِنْ بِالْخَطَأِ، كَمَا قُلْنَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ وَلَمْ يَشُكَّ أَنَّ الْجِهَةَ الَّتِي صَلَّى إلَيْهَا قِبْلَةٌ أَمْ لَا: إنَّهُ يَقْضِي بِجَوَازِهَا مَا لَمْ يَظْهَرْ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ، وَكَذَا فِي بَابِ الزَّكَاةِ، كَذَلِكَ هَهُنَا. وَلَوْ كَبَّرَ الْمُقْتَدِي مَعَ الْإِمَامِ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ طَوَّلَ قَوْلَهُ حَتَّى فَرَغَ الْمُقْتَدِي مِنْ قَوْلِهِ: " اللَّهُ أَكْبَرُ " قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ الْإِمَامُ مِنْ قَوْلِهِ: " اللَّهُ " لَمْ يَصِرْ شَارِعًا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ، كَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ، وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِالِاتِّفَاقِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلِأَنَّهُ يَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: " اللَّهُ " وَحْدَهُ، فَإِذَا فَرَغَ الْمُقْتَدِي مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ صَارَ شَارِعًا فِي صَلَاةِ نَفْسِهِ فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ الشُّرُوعَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّعْتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِي ذِكْرِهِمَا، فَإِذَا سَبَقَ الْإِمَامَ بِالِاسْمِ حَصَلَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي ذِكْرِ النَّعْتِ لَا غَيْرَ، وَهُوَ غَيْرُ كَافٍ لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ اللَّابِسِ بِالْعَارِي؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ مَا انْعَقَدَتْ بِهَا الصَّلَاةُ مَعَ السِّتْرِ فَلَا يُقْبَلُ الْبِنَاءُ لِاسْتِحَالَةِ الْبِنَاءِ عَلَى الْعَدَمِ، وَلِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ لَا صِحَّةَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِهَا فِي الْأَصْلِ، إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ اعْتِبَارُ هَذَا الشَّرْطِ فِي حَقِّ الْعَارِي لِضَرُورَةِ الْعَدَمِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي، فَلَا يَظْهَرُ سُقُوطُ الشَّرْطِ فِي حَقِّهِ فَلَمْ تَكُنْ صَلَاةً فِي حَقِّهِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ وَهُوَ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الْعَدَمِ مُسْتَحِيلٌ. وَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الصَّحِيحِ بِصَاحِبِ الْعُذْرِ الدَّائِمِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ مَا انْعَقَدَتْ لِلصَّلَاةِ مَعَ انْقِطَاعِ الدَّم فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ، وَلِأَنَّ النَّاقِضَ لِلطَّهَارَةِ مَوْجُودٌ، لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْعُذْرِ لِلْعُذْرِ، وَلَا عُذْرَ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي. فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ، وَالْمُتَكَلِّمِ بِالْأَخْرَسِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ مَا انْعَقَدَتْ لِلصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ مِنْ الْمُقْتَدِي، وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ لَكِنَّهُ سَقَطَ عَنْ الْأُمِّيِّ وَالْأَخْرَسِ لِلْعُذْرِ، وَلَا عُذْرَ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي. وَكَذَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْأُمِّيِّ بِالْأَخْرَسِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِنَاءُ التَّحْرِيمَةِ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ وَلَا تَحْرِيمَةَ مِنْ الْإِمَامِ أَصْلًا فَاسْتَحَالَ الْبِنَاءُ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ صَلَاتَهُ بِلَا تَحْرِيمَةٍ لِلضَّرُورَةِ، وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهَا فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ عَنْ الْأَخْرَسِ لِلْعُذْرِ وَلَا عُذْرَ فِي حَقِّ الْأُمِّيِّ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى التَّحْرِيمَةِ، فَنَزَلَ الْأُمِّيُّ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى التَّحْرِيمَةِ مِنْ الْأَخْرَسِ مَنْزِلَةَ الْقَارِئِ مِنْ الْأُمِّيِّ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّحْرِيمَةِ جَازَ اقْتِدَاؤُهُ بِالْأَخْرَسِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّرَجَةِ. وَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ مَنْ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ بِالْمُومِئِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ فَرْضَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ سَقَطَ إلَى خَلْفٍ وَهُوَ الْإِيمَاءُ، وَأَدَاءُ الْفَرْضِ بِالْخَلْفِ كَأَدَائِهِ بِالْأَصْلِ، وَصَارَ كَاقْتِدَاءِ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ وَالْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ. (وَلَنَا) أَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ انْعَقَدَتْ لِلصَّلَاةِ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالْإِيمَاءُ - وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ فِيهِ بَعْضُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِمَا أَنَّهُمَا لِلِانْحِنَاءِ وَالتَّطَأْطُؤِ، وَقَدْ وُجِدَ أَصْلُ الِانْحِنَاءِ وَالتَّطَأْطُؤِ فِي الْإِيمَاءِ فَلَيْسَ فِيهِ كَمَالُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ - تَنْعَقِدُ تَحْرِيمَتُهُ لِتَحْصِيلِ وَصْفِ الْكَمَالِ، فَلَمْ يُمْكِنُ بِنَاءُ كَمَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا صِحَّةَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ، وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْ الْمُومِئِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي، فَلَمْ يَكُنْ مَا أَتَى بِهِ الْمُومِئُ صَلَاةً شَرْعًا فِي حَقِّهِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الْبِنَاءُ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ خَلْفٌ لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ تَحْصِيلُ بَعْضِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، إلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى بِتَحْصِيلِ بَعْضِ الْفَرْضِ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ لَا أَنْ يَكُونَ خَلْفًا، بِخِلَافِ الْمَسْحِ مَعَ الْغَسْلِ، وَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خَلْفٌ فَأَمْكَنَ أَنْ يُقَامَ مَقَامَ الْأَصْلِ، وَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ مِنْ يُومِئُ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا بِمَنْ يُومِئُ مُضْطَجِعًا؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ مَا انْعَقَدَتْ لِلْقِيَامِ أَوْ الْقُعُودِ فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ، ثُمَّ صَلَاةُ الْإِمَامِ صَحِيحَةٌ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ كُلِّهَا إلَّا فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الْأُمِّيَّ إذَا أَمَّ الْقَارِئَ أَوْ الْقَارِئَ وَالْأُمِّيِّينَ فَصَلَاةُ الْكُلِّ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ صَلَاةُ الْإِمَامِ الْأُمِّيِّ وَمَنْ لَا يَقْرَأُ تَامَّةٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِمَامَ صَاحِبُ عُذْرٍ اقْتَدَى بِهِ مَنْ هُوَ بِمِثْلِ حَالِهِ وَمَنْ لَا عُذْرَ لَهُ - فَتَجُوزُ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ هُوَ بِمِثْلِ حَالِهِ، كَالْعَارِي إذَا أَمَّ الْعُرَاةَ وَاللَّابِسِينَ، وَصَاحِبُ الْجُرْحِ السَّائِلِ يَؤُمُّ الْأَصِحَّاءَ وَأَصْحَابَ الْجِرَاحِ، وَالْمُومِئِ إذَا أَمَّ الْمُومِئِينَ وَالرَّاكِعِينَ وَالسَّاجِدِينَ أَنَّهُ تَصِحُّ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَمَنْ بِمِثْلِ حَالِهِ، كَذَا هَهُنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ طَرِيقَتَانِ

فِي الْمَسْأَلَةِ: إحْدَاهُمَا - مَا ذَكَرَهُ الْقُمِّيُّ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ لِأَدَاءِ هَذِهِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ - فَالْأُمِّيُّ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ صَلَاتَهُ بِقِرَاءَةٍ، بِأَنْ يُقَدِّمَ الْقَارِئَ فَيَقْتَدِيَ بِهِ فَتَكُونَ قِرَاءَتُهُ قِرَاءَةً لَهُ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ تَرَكَ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا فَفَسَدَتْ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْذَارِ؛ لِأَنَّ لُبْسَ الْإِمَامِ يَكُونُ لُبْسًا لِلْمُقْتَدِي، وَكَذَا رُكُوعُ الْإِمَامِ وَسُجُودُهُ، وَلَا يَنُوبُ عَنْ الْمُقْتَدِي، وَوُضُوءُ الْإِمَامِ لَا يَكُونُ وُضُوءً لِلْمُقْتَدِي فَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى إزَالَةِ الْعُذْرِ بِتَقْدِيمِ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ، وَلَا يَلْزَم عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَا إذَا كَانَ الْأُمِّيُّ يُصَلِّي وَحْدَهُ وَهُنَاكَ قَارِئٌ يُصَلِّي تِلْكَ الصَّلَاةَ، حَيْثُ تَجُوزُ صَلَاةُ الْأُمِّيِّ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَجْعَلَ صَلَاتَهُ بِقِرَاءَةٍ بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِالْقَارِئِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَمْنُوعَةٌ، وَذَكَرَ أَبُو حَازِمٍ الْقَاضِي أَنَّ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَجُوزُ صَلَاةُ الْأُمِّيِّ، هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَلِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ صَلَاتَهُ بِقِرَاءَةٍ إذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْ الْقَارِئِ رَغْبَةٌ فِي أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ حَيْثُ اخْتَارَ الِانْفِرَادَ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. (وَالطَّرِيقَةُ) الثَّانِيَةُ - مَا ذَكَرَهُ غَسَّانُ وَهُوَ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقِرَاءَةِ، فَإِذَا صَلَّوْا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ كَالْقَارِئِينَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ التَّحْرِيمَةَ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي التَّحْرِيمَةِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُفْتَقِرَةٍ إلَى الْقِرَاءَةِ فَانْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقِرَاءَةِ لِاشْتِرَاكِهَا بَيْنَ الْقَارِئِينَ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ عِنْدَ أَوَانِ الْقِرَاءَةِ تَفْسُدُ لِانْعِدَامِ الْقِرَاءَةِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْذَارِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ التَّحْرِيمَةَ لَمْ تَنْعَقِدْ مُشْتَرَكَةً؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ اللَّابِسِ لَمْ تَنْعَقِدْ إذَا اقْتَدَى بِالْعَارِي لِافْتِقَارِهَا إلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَإِلَى ارْتِفَاعِ سَائِرِ الْأَعْذَارِ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ مُشْتَرَكَةً، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُفْتَقِرَةٍ إلَى الْقِرَاءَةِ فَانْعَقَدَتْ تَحْرِيمَةُ الْقَارِئِ مُشْتَرَكَةً فَانْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقِرَاءَةِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ تَحْرِيمَةُ الْأُمِّيِّ لَمْ تَنْعَقِدْ مُوجِبَةً لِلْقِرَاءَةِ لِانْعِدَامِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَارِئِ فِيهَا، أَمَّا هَهُنَا فَبِخِلَافِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا اقْتَدَى الْقَارِئُ بِالْأُمِّيِّ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ، حَيْثُ لَا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ، وَلَوْ صَحَّ شُرُوعٌ فِي الِابْتِدَاءِ لَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ شَارِعًا فِي صَلَاةٍ لَا قِرَاءَةَ فِيهَا، وَالشُّرُوعُ كَالنَّذْرِ، وَلَوْ نَذَرَ صَلَاةً بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ لَا يَلْزَمهُ شَيْءٌ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، فَكَذَلِكَ إذَا شَرَعَ فِيهَا. وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِالْكَافِرِ، وَلَا اقْتِدَاءُ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ إمَامَةِ الرِّجَالِ فَكَانَتْ صَلَاتُهَا عَدَمًا فِي حَقِّ الرَّجُلِ، فَانْعَدَمَ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ وَهُوَ الْبِنَاءُ. وَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الرَّجُلِ بِالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً. وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ بِالْمَرْأَةِ لِاسْتِوَاءِ حَالِهِمَا، إلَّا أَنَّ صَلَاتَهُنَّ فُرَادَى أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ جَمَاعَتَهُنَّ مَنْسُوخَةٌ. وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ إذَا نَوَى الرَّجُلُ إمَامَتَهَا، وَعِنْدَ زُفَرَ نِيَّةُ الْإِمَامَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عَلَى مَا مَرَّ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا إذَا وَقَفَتْ خَلْفَ الْإِمَامِ جَازَ اقْتِدَاؤُهَا بِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهَا، ثُمَّ إذَا وَقَفَتْ إلَى جَنْبِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهَا خَاصَّةً لَا صَلَاةُ الرَّجُلِ، وَإِنْ كَانَ نَوَى إمَامَتَهَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الرَّجُلِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا إذَا وَقَفَتْ خَلْفَهُ كَانَ قَصْدُهَا أَدَاءَ الصَّلَاةِ لَا إفْسَادَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، فَلَا تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْإِمَامَةِ، وَإِذَا قَامَتْ إلَى جَنْبِهِ فَقَدْ قَصَدَتْ إفْسَادَ صَلَاتِهِ فَيُرَدُّ قَصْدُهَا بِإِفْسَادِ صَلَاتِهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَدْ نَوَى إمَامَتَهَا فَحِينَئِذٍ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ لِهَذَا الضَّرَرِ. وَكَذَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهَا بِالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ رَجُلًا فَاقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَاقْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ بِالْمَرْأَةِ جَائِزٌ أَيْضًا، لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْخُنْثَى أَنْ يَتَقَدَّمَ وَلَا يَقُومَ فِي وَسَطِ الصَّفِّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا فَتَفْسُدَ صَلَاتُهُ بِالْمُحَاذَاةِ، وَكَذَا تُشْتَرَطُ نِيَّةُ إمَامَةِ النِّسَاءِ لِصِحَّةِ اقْتِدَائِهِنَّ بِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ. وَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ بِالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ امْرَأَةً، وَالْمُقْتَدِي رَجُلًا، فَيَكُونَ اقْتِدَاءُ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ فَلَا يَجُوزُ احْتِيَاطًا. (وَأَمَّا) الِاقْتِدَاءُ بِالْمُحْدِثِ أَوْ الْجُنُبِ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ ثُمَّ عَلِمَ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ كَمَا فِي الْكَافِرِ، لَكِنِّي تَرَكْتُ الْقِيَاسَ بِالْأَثَرِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ صَلَّى بِقَوْمٍ ثُمَّ تَذَكَّرَ جَنَابَةً أَعَادَ وَلَمْ يُعِيدُوا» . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ ثُمَّ تَذَكَّرَ جَنَابَةً فَأَعَادَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْإِعَادَةِ. وَقَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ صَلَّى بِقَوْمٍ ثُمَّ تَذَكَّرَ جَنَابَةً أَعَادَ وَأَعَادُوا» ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَتَّى ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ يَوْمًا ثُمَّ

عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ جُنُبًا فَأَمَرَ مُؤَذِّنَهُ أَنْ يُنَادِيَ: أَلَا إنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ جُنُبًا فَأَعِيدُوا صَلَاتَكُمْ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ وَهُوَ الْبِنَاءُ هَهُنَا لَا يَتَحَقَّقُ لِانْعِدَامِ تَصَوُّرِ التَّحْرِيمَةِ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى بُدُوِّ الْأَمْرِ قَبْلَ تَعَلُّقِ صَلَاةِ الْقَوْمِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ الْمَسْبُوقَ كَانَ إذَا شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ قَضَى مَا فَاتَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يُتَابِعُ الْإِمَامَ، حَتَّى تَابَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَوْ مُعَاذٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَضَى مَا فَاتَهُ فَصَارَ شَرِيعَةً بِتَقْرِيرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْعَارِي بِاللَّابِسِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ انْعَقَدَتْ لِمَا يَبْنِي عَلَيْهِ الْمُقْتَدِي؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَأْتِي بِمَا يَأْتِي بِهِ الْمُقْتَدِي وَزِيَادَةً فَيُقْبَلُ الْبِنَاءُ، وَكَذَا اقْتِدَاءُ الْعَارِي بِالْعَارِي لِاسْتِوَاءِ حَالِهِمَا فَتَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ فِي التَّحْرِيمَةِ، ثُمَّ الْعُرَاةُ يُصَلُّونَ قُعُودًا بِإِيمَاءٍ، وَقَالَ بِشْرٌ: يُصَلُّونَ قِيَامًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ تَحْصِيلِ شَرْطِ الصَّلَاةِ وَهُوَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ. وَقَدَرُوا عَلَى تَحْصِيلِ أَرْكَانِهَا، فَعَلَيْهِمْ الْإِتْيَانُ بِمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَسَقَطَ عَنْهُمْ مَا عَجَزُوا عَنْهُ، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ صَلَّوْا قُعُودًا تَرَكُوا أَرْكَانًا كَثِيرَةً وَهِيَ: الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَإِنْ صَلَّوْا قِيَامًا تَرَكُوا فَرْضًا وَاحِدًا وَهُوَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، فَكَانَ أَوْلَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى الْجَنْبِ» ، فَهَذَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُصَلِّي قَائِمًا فَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ قَائِمًا. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكِبُوا الْبَحْرَ فَانْكَسَرَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ، فَخَرَجُوا مِنْ الْبَحْرِ عُرَاةً، فَصَلَّوْا قُعُودًا بِإِيمَاءٍ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: " الْعَارِي يُصَلِّي قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ " وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ لِلصَّلَاةِ قَاعِدًا تَرْجِيحًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ لَوْ صَلَّى قَاعِدًا فَقَدْ تَرَكَ فَرْضَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ وَمَا تَرَكَ فَرْضًا آخَرَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ أَدَّى فَرْضَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِبَعْضِهِمَا وَهُوَ الْإِيمَاءُ، وَأَدَّى فَرْضَ الْقِيَامِ بِبَدَلِهِ وَهُوَ الْقُعُودُ، فَكَانَ فِيهِ مُرَاعَاةُ الْفَرْضَيْنِ جَمِيعًا، وَفِيمَا قُلْتُمْ إسْقَاطُ أَحَدِهِمَا أَصْلًا وَهُوَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى، وَالثَّانِي - أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ أَهَمُّ مِنْ أَدَاءِ الْأَرْكَانِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَالْأَرْكَانَ فَرَائِضُ الصَّلَاةِ لَا غَيْرِهَا، وَالثَّانِي - أَنَّ سُقُوطَ هَذِهِ الْأَرْكَانِ إلَى الْإِيمَاءِ جَائِزٌ فِي النَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ كَالْمُتَنَفِّلِ عَلَى الدَّابَّةِ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ لَا تَسْقُطُ فَرْضِيَّتُهُ قَطُّ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَكَانَ أَهَمَّ، فَكَانَ مُرَاعَاتُهُ أَوْلَى، فَلِهَذَا جَعَلْنَا الصَّلَاةَ قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ أَوْلَى، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ صَلَّى قَائِمًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَرَكَ فَرْضًا آخَرَ فَقَدْ كَمَّلَ الْأَرْكَانَ الثَّلَاثَةَ وَهِيَ: الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى تَكْمِيلِ هَذِهِ الْأَرْكَانِ، فَصَارَ تَارِكًا لِفَرْضِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ أَصْلًا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، فَجَوَّزْنَا لَهُ ذَلِكَ لِوُجُودِ أَصْلِ الْحَاجَةِ، وَحُصُولِ الْغَرَضِ، وَجَعَلْنَا الْقُعُودَ بِالْإِيمَاءِ أَوْلَى لِكَوْنِ ذَلِكَ الْفَرْضِ أَهَمَّ، وَلِمُرَاعَاةِ الْفَرْضَيْنِ جَمِيعًا مِنْ وَجْهٍ. وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوا مِنْ الْمَعْنَى وَتَعَلُّقُهُمْ بِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ حُكْمًا، حَيْثُ اُفْتُرِضَ عَلَيْهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ، ثُمَّ لَوْ كَانُوا جَمَاعَةً يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فُرَادَى؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ صَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ: فَإِنْ قَامَ الْإِمَامُ وَسَطَهُمْ احْتِرَازًا عَنْ مُلَاحَظَةِ سَوْأَةِ الْغَيْرِ فَقَدْ تَرَكَ سُنَّةَ التَّقَدُّمِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَالْجَمَاعَةُ أَمْرٌ مَسْنُونٌ، فَإِذَا كَانَ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِارْتِكَابِ بِدْعَةٍ، وَتَرْكِ سُنَّةٍ أُخْرَى - لَا يُنْدَبُ إلَى تَحْصِيلِهَا، بَلْ يُكْرَهُ تَحْصِيلُهَا وَإِنْ تَقَدَّمَهُمْ الْإِمَامُ وَأَمَرَ الْقَوْمَ بِغَضِّ أَبْصَارِهِمْ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَا يَسْلَمُونَ عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْمُنْكَرِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ قَلَّمَا يُمْكِنُهُمْ غَضُّ الْبَصَرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقَعُ عَلَى عَوْرَةِ الْإِمَامِ، مَعَ أَنَّ غَضَّ الْبَصَرِ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهٌ أَيْضًا، نَصَّ عَلَيْهِ الْقُدُورِيُّ لِمَا يُذْكَرُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ أَنْ يَنْظُرَ فِي كُلِّ حَالَةٍ إلَى مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ لِيَكُونَ الْبَصَرُ ذَا حَظٍّ مِنْ أَدَاءِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَالْأَطْرَافِ، وَفِي غَضِّ الْبَصَرِ فَوَاتُ ذَلِكَ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى تَحْصِيلِ الْجَمَاعَةِ إلَّا بِارْتِكَابِ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ فَتَسْقُطَ الْجَمَاعَةُ عَنْهُمْ، فَلَوْ صَلَّوْا مَعَ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ فَالْأَوْلَى لِإِمَامِهِمْ أَنْ يَقُومَ وَسَطَهُمْ لِئَلَّا يَقَعَ بَصَرُهُمْ عَلَى عَوْرَتِهِ، فَإِنْ تَقَدَّمَهُمْ جَازَ أَيْضًا، وَحَالُهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَحَالِ النِّسَاءِ فِي الصَّلَاةِ، إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُصَلِّينَ وَحْدَهُنَّ، وَإِنْ صَلَّيْنَ بِجَمَاعَةٍ قَامَتْ إمَامَتُهُنَّ وَسَطَهُنَّ، وَإِنْ تَقَدَّمَتْهُنَّ جَازَ، فَكَذَلِكَ حَالُ الْعُرَاةِ. وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ صَاحِبِ الْعُذْرِ بِالصَّحِيحِ وَبِمَنْ هُوَ بِمِثْلِ حَالِهِ، وَكَذَا اقْتِدَاءُ الْأُمِّيِّ بِالْقَارِئِ وَبِالْأُمِّيِّ لِمَا مَرَّ، وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُومِئِ بِالرَّاكِعِ السَّاجِدِ وَبِالْمُومِئِ لِمَا مَرَّ، وَيَسْتَوِي الْجَوَاب،

بَيْنَمَا إذَا كَانَ الْمُقْتَدِي قَاعِدًا يُومِئُ بِالْإِمَامِ الْقَاعِد الْمُومِئ، وَبَيْنَمَا إذَا كَانَ قَائِمًا وَالْإِمَامُ قَاعِدٌ، وَلِأَنَّ هَذَا الْقِيَامَ لَيْسَ بِرُكْنٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ؟ فَكَانَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ. وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ عَلَى الْخُفِّ لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ بَدَلٌ عَنْ الْغَسْلِ، وَبَدَلُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ أَوْ تَعَذُّرِ تَحْصِيلِهِ، فَقَامَ الْمَسْحُ مَقَامَ الْغَسْلِ فِي حَقِّ تَطْهِيرِ الرِّجْلَيْنِ لِتَعَذُّرِ غَسْلِهِمَا عِنْدَ كُلِّ حَدَثٍ خُصُوصًا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ عَلَى مَا مَرَّ، فَانْعَقَدَتْ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ لِلصَّلَاةِ مَعَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ لِانْعِقَادِهَا لِمَا هُوَ بَدَلٌ عَنْ الْغَسْلِ، فَصَحَّ بِنَاءُ تَحْرِيمَةِ الْمُقْتَدِي عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ، وَلِأَنَّ طَهَارَةَ الْقَدَمِ حَصَلَتْ بِالْغَسْلِ السَّابِقِ، وَالْخُفُّ مَانِعٌ سِرَايَةَ الْحَدَثِ إلَى الْقَدَمِ، فَكَانَ هَذَا اقْتِدَاءُ الْغَاسِلِ بِالْغَاسِلِ فَصَحَّ، وَكَذَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ عَلَى الْجَبَائِرِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْمَسْحِ قَائِمٌ مَقَامَهُ، فَيُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ فِيهِ. وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ. وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْقَائِمِ الَّذِي يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ بِالْقَاعِدِ الَّذِي يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ اقْتِدَاءُ الْقَائِمِ الْمُومِئِ بِالْقَاعِدِ الْمُومِئِ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا» أَيْ لِقَائِمٍ، لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَمَّ لِجَالِسٍ جَازَ، وَلِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ أَعْلَى حَالًا مِنْ الْإِمَامِ فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ كَاقْتِدَاءِ الرَّاكِعِ السَّاجِدِ بِالْمُومِئِ، وَاقْتِدَاءِ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ. (وَفِقْهُهُ) مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَبْنِي تَحْرِيمَتَهُ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ، وَتَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ مَا انْعَقَدَتْ لِلْقِيَامِ بَلْ انْعَقَدَتْ لِلْقُعُودِ فَلَا يُمْكِنُ بِنَاءُ الْقِيَامِ عَلَيْهَا، كَمَا لَا يُمْكِنُ بِنَاءُ الْقِرَاءَةِ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْأُمِّيِّ، وَبِنَاءُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْمُومِئِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ أَنَّ «آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ قَاعِدًا وَأَصْحَابُهُ خَلْفَهُ قِيَامٌ يَقْتَدُونَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ضَعُفَ فِي مَرَضِهِ قَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلِيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِحَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: قُولِي لَهُ إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إذَا وَقَفَ فِي مَكَانِكَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ فَلَوْ أَمَرْتَ غَيْرَهُ فَقَالَتْ حَفْصَةُ ذَلِكَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْتُنَّ صُوَيْحِبَاتُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَلَمَّا افْتَتَحَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصَّلَاةَ وَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ وَهُوَ يُهَادَى بَيْنَ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ، وَرِجْلَاهُ يَخُطَّانِ الْأَرْضَ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِسَّهُ تَأَخَّرَ، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَلَسَ يُصَلِّي، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاتِهِ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ، يَعْنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَسْمَعُ تَكْبِيرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُكَبِّرُ، وَالنَّاسُ يُكَبِّرُونَ بِتَكْبِيرِ أَبِي بَكْرٍ» ، فَقَدْ ثَبَتَ الْجَوَازُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَوَهَّمُ وُرُودُ النَّسْخِ عَلَيْهِ، وَلَوْ تُوُهِّمَ وُرُودُ النَّسْخِ يَثْبُتُ الْجَوَازُ مَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسْخُ، فَإِذَا لَمْ يُتَوَهَّمُ وُرُودُ النَّسْخِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْقُعُودَ غَيْرُ الْقِيَامِ، وَإِذَا أُقِيمَ شَيْءٌ مَقَامَ غَيْرِهِ جُعِلَ بَدَلًا عَنْهُ، كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ مَعَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ بِدَلِيلِ الْحُكْمِ وَالْحَقِيقَةِ. (أَمَّا) الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّ الْقِيَامَ اسْمٌ لِمَعْنَيَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَهُمَا الِانْتِصَابَانِ فِي النِّصْفِ الْأَعْلَى وَالنِّصْفِ الْأَسْفَلِ، فَلَوْ تَبَدَّلَ الِانْتِصَابُ فِي النِّصْفِ الْأَعْلَى بِمَا يُضَادُّهُ وَهُوَ الِانْحِنَاءُ سُمِّيَ رُكُوعًا لِوُجُودِ الِانْحِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الِانْحِنَاءِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ النِّصْفِ الْأَسْفَلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ وِفَاقًا، فَأَمَّا هُوَ فِي اللُّغَةِ فَاسْمٌ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ فَحَسْبُ وَهُوَ الِانْحِنَاءُ، وَلَوْ تَبَدَّلَ الِانْتِصَابُ فِي النِّصْفِ الْأَسْفَلِ بِمَا يُضَادُّهُ وَهُوَ انْضِمَامُ الرِّجْلَيْنِ وَإِلْصَاقُ الْأَلْيَةِ بِالْأَرْضِ يُسَمَّى قُعُودًا، فَكَانَ الْقُعُودُ اسْمًا لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَهُمَا الِانْتِصَابُ فِي النِّصْفِ الْأَعْلَى وَالِانْضِمَامُ وَالِاسْتِقْرَارُ عَلَى الْأَرْضِ فِي النِّصْفِ الْأَسْفَلِ، فَكَانَ الْقُعُودُ مُضَادًّا لِلْقِيَامِ فِي أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ، وَكَذَا الرُّكُوعُ، وَالرُّكُوعُ مَعَ الْقُعُودِ يُضَادُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ صِفَةُ النِّصْفِ الْأَعْلَى، وَاسْمُ الْمَعْنَيَيْنِ يَفُوتُ بِالْكُلِّيَّةِ بِوُجُودِ مُضَادِّ أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ كَالْبُلُوغِ وَالْيُتْمِ، فَيَفُوتُ الْقِيَامُ بِوُجُودِ الْقُعُودِ أَوْ الرُّكُوعِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ: مَا قُمْتُ بَلْ قَعَدْتُ، وَمَا أَدْرَكْتُ الْقِيَامَ بَلْ أَدْرَكْتُ الرُّكُوعَ - لَمْ يُعَدَّ مُنَاقِضًا فِي كَلَامِهِ. وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ مَا صَارَ الْقِيَامُ لِأَجْلِهِ طَاعَةً يَفُوتُ عِنْدَ الْجُلُوسِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ إنَّمَا صَارَ طَاعَةً لِانْتِصَابِ نِصْفِهِ الْأَعْلَى، بَلْ لِانْتِصَابِ رِجْلَيْهِ، لِمَا يَلْحَقُ رِجْلَيْهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ بِالْكُلِّيَّةِ يَفُوتُ عِنْدَ الْجُلُوسِ، فَثَبَتَ حَقِيقَةً

وَحُكْمًا أَنَّ الْقِيَامَ يَفُوتُ عِنْدَ الْجُلُوسِ فَصَارَ الْجُلُوسُ بَدَلًا عَنْهُ، وَالْبَدَلُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ أَوْ تَعَذُّرِ تَحْصِيلِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ، وَلِهَذَا جَوَّزْنَا اقْتِدَاءَ الْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ لِقِيَامِ الْمَسْحِ مَقَامَ الْغَسْلِ فِي حَقِّ تَطْهِيرِ الرِّجْلَيْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْغَسْلِ لِكَوْنِهِ بَدَلًا عَنْهُ، فَكَانَ الْقُعُودُ مِنْ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ الْقِيَامِ وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، فَجُعِلَتْ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ مُنْعَقِدَةً لِلْقِيَامِ لِانْعِقَادِهَا لِمَا هُوَ بَدَلُ الْقِيَامِ، فَصَحَّ بِنَاءُ قِيَامِ الْمُقْتَدِي عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ، بِخِلَافِ اقْتِدَاءِ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ مَا هُوَ بَدَلُ الْقِرَاءَةِ بَلْ سَقَطَتْ أَصْلًا، فَلَمْ تَنْعَقِدْ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ لِلْقِرَاءَةِ، فَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ أَمَّا هَهُنَا لَمْ يَسْقُطْ الْقِيَامُ أَصْلًا بَلْ أُقِيمَ بَدَلُهُ مَقَامَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اضْطَجَعَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْقُعُودِ لَا يَجُوزُ؟ وَلَوْ كَانَ الْقِيَامُ يَسْقُطُ أَصْلًا مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ - وَذَا لَيْسَ وَقْتَ وُجُوبِ الْقُعُودِ بِنَفْسِهِ - كَانَ يَنْبَغِي أَنَّهُ لَوْ صَلَّى مُضْطَجِعًا يَجُوزُ، وَحَيْثُ لَمْ يَجُزْ دَلَّ أَنَّهُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ لِسُقُوطِ الْقِيَامِ إلَى بَدَلِهِ، وَجُعِلَ بَدَلَهُ كَأَنَّهُ عَيْنُ الْقِيَامِ، وَبِخِلَافِ اقْتِدَاءِ الرَّاكِعِ السَّاجِدِ بِالْمُومِئِ، لِمَا مَرَّ أَنَّ الْإِيمَاءَ لَيْسَ عَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، بَلْ هُوَ تَحْصِيلُ بَعْضِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ كَمَالُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَلَمْ تَنْعَقِد تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ لِلْفَائِتِ، وَهُوَ الْكَمَالُ فَلَمْ يُمْكِنْ بِنَاءُ كَمَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ. وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَقَطَ عَنْ فَرَسٍ فَجُحِشَ جَنْبُهُ فَلَمْ يَخْرُجْ أَيَّامًا، وَدَخَلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ فَوَجَدُوهُ يُصَلِّي قَاعِدًا فَافْتَتَحُوا الصَّلَاةَ خَلْفَهُ قِيَامًا، فَلَمَّا رَآهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: " اسْتِنَانٌ بِفَارِسَ وَالرُّومِ "؟ وَأَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا» ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: اسْتِنَانٌ بِفَارِسَ وَالرُّومِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ؟ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ كَانَ التَّكَلُّمُ فِي الصَّلَاةِ مُبَاحًا، وَمَا رَوَيْنَا آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا، فَانْتَسَخَ قَوْلُهُ السَّابِقُ بِفِعْلِهِ الْمُتَأَخِّرِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِمَالِكٍ (احْتَجَّ) الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِشَاءَ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّيهَا بِقَوْمِهِ فِي بَنِي سَلِمَةَ، وَمُعَاذٌ كَانَ مُتَنَفِّلًا وَكَانَ يُصَلِّي خَلْفَهُ الْمُفْتَرِضُونَ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُصَلِّي صَلَاةَ نَفْسِهِ لَا صَلَاةَ صَاحِبِهِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَفْعَلَ الْعَبْدُ فِعْلَ غَيْرِهِ، فَيَجُوزُ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، سَوَاءٌ وَافَقَ فِعْلَ إمَامِهِ أَوْ خَالَفَهُ، وَلِهَذَا جَازَ اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْخَوْفَ وَجَعَلَ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ، وَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ شَطْرَ الصَّلَاةِ لِيَنَالَ كُلُّ فَرِيقٍ فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ، وَلَوْ جَازَ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرَضِ بِالْمُتَنَفِّلِ لَأَتَمَّ الصَّلَاةَ بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى ثُمَّ نَوَى النَّفَلَ وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِيَنَالَ كُلُّ طَائِفَةٍ فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى الْمَشْيِ وَأَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ لَيْسَتْ مِنْ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ مَا انْعَقَدَتْ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ، وَالْفَرْضِيَّةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صِفَةً زَائِدَةً عَلَى ذَاتِ الْفِعْلِ فَلَيْسَتْ رَاجِعَةً إلَى الذَّاتِ أَيْضًا، بَلْ هِيَ مِنْ الْأَوْصَافِ الْإِضَافِيَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ الْبِنَاءُ مِنْ الْمُقْتَدِي، بِخِلَافِ اقْتِدَاءِ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ؛ لِأَنَّ النَّفْلِيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ بَلْ هِيَ عَدَمٌ، إذْ النَّفَلُ عِبَارَةٌ عَنْ أَصْلٍ لَا وَصْفَ لَهُ فَكَانَتْ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ مُنْعَقِدَةً لِمَا يَبْنِي عَلَيْهِ الْمُقْتَدِي وَزِيَادَةً فَصَحَّ الْبِنَاءُ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ مَعْنَاهُ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُصَلِّي صَلَاةَ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: نَعَمْ، لَكِنَّ إحْدَاهُمَا بِنَاءٌ عَلَى الْأُخْرَى، وَتَعَذَّرَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْبِنَاءِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفَرْضَ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَنْوِي النَّفَلَ ثُمَّ يُصَلِّي بِقَوْمِهِ الْفَرْضَ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَلَغَهُ طُولُ قِرَاءَتِهِ: «إمَّا أَنْ تُخَفِّفَ بِهِمْ، وَإِلَّا فَاجْعَلْ صَلَاتَكَ مَعَنَا» ، عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ كَانَ تَكْرَارُ الْفَرْضِ مَشْرُوعًا، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. اقْتِدَاءُ الْبَالِغِينَ بِالصِّبْيَانِ فِي الْفَرَائِضِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الصَّبِيِّ لَا يَقَعُ فَرْضًا فَكَانَ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَصِحُّ. (وَاحْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ سَلَمَةَ كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَمَاعَةٍ، فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ فِي الْفَرَائِضِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حِينَ لَمْ تَكُنْ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي مُتَعَلِّقَةً بِصَلَاةِ الْإِمَامِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ نُسِخَ. وَأَمَّا فِي التَّطَوُّعَاتِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ فِي التَّرَاوِيحِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ

ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، لَا فِي الْفَرِيضَةِ وَلَا فِي التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الصَّبِيِّ انْعَقَدَتْ لِنَفْلٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ بِالْإِفْسَادِ، وَنَفْلُ الْمُقْتَدِي الْبَالِغِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْإِفْسَادِ فَلَا يَصِحُّ الْبِنَاءُ، وَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُؤَدِّبَ وَلَدَهُ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ إذَا عَقَلَهُمَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا سَبْعًا، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا إذَا بَلَغُوا عَشْرًا» ، وَلَا يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَنَذْكُرُ حَدَّ الْبُلُوغِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ احْتَلَمَ الصَّبِيُّ لَيْلًا ثُمَّ تَنَبَّهَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ - قَضَى صَلَاةَ الْعِشَاءِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِبُلُوغِهِ بِالِاحْتِلَامِ. وَقَدْ انْتَبَهَ وَالْوَقْتُ قَائِمٌ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْتَبِهْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ بَلَغَ بِالِاحْتِلَامِ لَكِنَّهُ نَائِمٌ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْخِطَابُ، وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ احْتَلَمَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيُحْتَمَلُ قَبْلَهُ، فَلَا تَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ بِالشَّكِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَيْهِ صَلَاةُ الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا اُحْتُمِلَ أَنَّهُ احْتَلَمَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَاحْتُمِلَ بَعْدَهُ فَالْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ أَحْوَطُ، وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ مُصَلِّي الظُّهْرِ بِمُصَلِّي الْعَصْرِ، وَلَا اقْتِدَاءُ مَنْ يُصَلِّي ظُهْرًا بِمَنْ يُصَلِّي ظُهْرَ يَوْمٍ غَيْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ عِنْدَنَا لِاخْتِلَافِ سَبَبِ وُجُوبِ الصَّلَاتَيْنِ وَصِفَتِهِمَا، وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ، لِمَا مَرَّ. وَرُوِيَ عَنْ أَفْلَحَ بْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ وَلَمْ أَكُنْ صَلَّيْتُ الظُّهْرَ، فَوَجَدْتُ النَّاسَ فِي الصَّلَاةِ فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ فِي الظُّهْرِ، فَدَخَلْتُ مَعَهُمْ وَنَوَيْتُ الظُّهْرَ، فَلَمَّا فَرَغُوا عَلِمْتَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْعَصْرِ، فَقُمْتُ وَصَلَّيْتُ الظُّهْرَ ثُمَّ صَلَّيْتُ الْعَصْرَ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَوَجَدَتْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَافِرِينَ فَأَخْبَرْتُهُمْ بِمَا فَعَلْتُ، فَاسْتَصْوَبُوا ذَلِكَ وَأَمَرُوا بِهِ، فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مَا قُلْنَا، وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ النَّاذِرِ بِالنَّاذِرِ: بِأَنْ نَذَرَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَاقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فِيمَا نَذَرَ،. وَكَذَا إذَا شَرَعَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَحْدَهُ، ثُمَّ أَفْسَدَهَا عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَاقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّلَاتَيْنِ مُخْتَلِفٌ، وَهُوَ نَذْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَشُرُوعُهُ، فَاخْتَلَفَ الْوَاجِبَانِ وَتَغَايَرَا، وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ لِمَا بَيَّنَّا، بِخِلَافِ اقْتِدَاءِ الْحَالِفِ بِالْحَالِفِ حَيْثُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ تَحْقِيقُ الْبِرِّ لَا نَفْسُ الصَّلَاةِ فَبَقِيَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ فِي حَقِّ نَفْسِهَا نَفْلًا، فَكَانَ اقْتِدَاءَ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُتَنَفِّلِ فَصَحَّ وَكَذَا لَوْ اشْتَرَكَا فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ بِأَنْ اقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ فِيهَا، ثُمَّ أَفْسَدَاهَا حَتَّى وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِمَا، فَاقْتَدَى أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ فِي الْقَضَاءِ جَازَ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَاحِدًا مَعْنًى فَصَحَّ الِاقْتِدَاءُ، ثُمَّ إذَا لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْفَرْضَيْنِ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ جَائِزَةٌ كَيْفَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِصَلَاةِ الْمُقْتَدِي. وَأَمَّا صَلَاةُ الْمُقْتَدِي إذَا فَسَدَتْ عَنْ الْفَرْضِيَّةِ هَلْ يَصِيرُ شَارِعًا فِي التَّطَوُّعِ؟ ذُكِرَ فِي بَابِ الْحَدَثِ فِي الرَّجُلِ إذَا كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ - وَقَدْ نَوَى إمَامَةَ النِّسَاءِ - فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ وَاقْتَدَتْ بِهِ فَرْضًا آخَرَ - لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهَا بِهِ - وَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي التَّطَوُّعِ، حَتَّى لَوْ حَاذَتْ الْإِمَامَ لَمْ تُفْسِدْ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ، فَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا ذُكِرَ فِي بَابِ الْأَذَان قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَمَا ذُكِرَ فِي بَابِ الْحَدَثِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَجَعَلُوهُ فَرْعِيَّةَ مَسْأَلَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْفَجْرِ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ بَقِيَ فِي التَّطَوُّعِ عِنْدَهُمَا، إلَّا أَنَّهُ يَمْكُثُ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ ثُمَّ يَضُمُّ إلَيْهَا مَا يُتِمُّهَا فَيَكُونَ تَطَوُّعًا، وَعِنْدَهُ يَصِيرُ خَارِجًا مِنْ الصَّلَاةِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَكَذَا إذَا كَانَ فِي الظُّهْرِ فَتَذَكَّرَ أَنَّهُ نَسِيَ الْفَجْرَ - يَنْقَلِبُ ظُهْرُهُ تَطَوُّعًا عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِيرُ خَارِجًا مِنْ الصَّلَاةِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ نَوَى فَرْضًا عَلَيْهِ وَلَمْ يَظْهَرْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضٌ فَلَا يَلْغُو نِيَّةَ الْفَرْضِ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَلْغُ نِيَّةَ الْفَرْضِ لَمْ يَصِرْ شَارِعًا فِي النَّفْلِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُخَالِفُ فَرْضُهُ فَرْضَ الْإِمَامِ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ، فَلَمْ يَصِرْ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ أَصْلًا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْفَرْضِ لَغَتْ أَصْلًا كَأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ بَنَى أَصْلَ الصَّلَاةِ وَوَصْفَهَا عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَبِنَاءُ الْأَصْلِ صَحَّ وَبِنَاءُ الْوَصْفِ لَمْ يَصِحَّ، فَلَغَا بِنَاءُ الْوَصْفِ وَبَقِيَ بِنَاءُ الْأَصْلِ، وَبُطْلَان بِنَاءِ الْوَصْفِ لَا يُوجِبُ بُطْلَان بِنَاءِ الْأَصْلِ لِاسْتِغْنَاءِ الْأَصْلِ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ، فَيَصِيرُ هَذَا اقْتِدَاءَ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ، وَأَنَّهُ جَائِز. وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ مُحَمَّدٍ

فِي رَجُلَيْنِ يُصَلِّيَانِ صَلَاةً وَاحِدَةً مَعًا، وَيَنْوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَؤُمَّ صَاحِبَهُ فِيهَا أَنَّ صَلَاتَهُمَا جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ صَلَاةِ الْإِمَامِ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِصَلَاةِ غَيْرِهِ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْمُنْفَرِدِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ. وَلَوْ اقْتَدَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ فِيهَا فَصَلَاتُهُمَا فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي مُتَعَلِّقَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا إمَامَ هَهُنَا. (وَمِنْهَا) - أَنْ لَا يَكُونَ الْمُقْتَدِي عِنْدَ الِاقْتِدَاءِ مُتَقَدِّمًا عَلَى إمَامِهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيُجْزِئُهُ إذَا أَمْكَنَهُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ يُوجِبُ الْمُتَابَعَةَ فِي الصَّلَاةِ، وَالْمَكَانُ لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ فَلَا يَجِبُ الْمُتَابَعَةُ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي مَقَامِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْقَوْمُ صَفٌّ حَوْلَ الْبَيْتِ؟ وَلَا شَكَّ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ قَبْلَ الْإِمَامِ. (وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ مَعَ الْإِمَامِ مَنْ تَقَدَّمَهُ» ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا تَقَدَّمَ الْإِمَامَ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُهُ، أَوْ يَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ وَرَاءَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ لِيُتَابِعَهُ، فَلَا يُمْكِنُهُ الْمُتَابَعَةُ؛ وَلِأَنَّ الْمَكَانَ مِنْ لَوَازِمِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ نَهْرٌ أَوْ طَرِيقٌ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ لِانْعِدَامِ التَّبَعِيَّةِ فِي الْمَكَانِ؟ كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّ وَجْهَهُ إذَا كَانَ إلَى الْإِمَامِ لَمْ تَنْقَطِعْ التَّبَعِيَّةُ، وَلَا يُسَمَّى قَبْلَهُ بَلْ هُمَا مُتَقَابِلَانِ، كَمَا إذَا حَاذَى إمَامَهُ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ الْقَبْلِيَّةَ إذَا كَانَ ظَهْرُهُ إلَى الْإِمَامِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَكَذَا لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ. (وَمِنْهَا) - اتِّحَادُ مَكَانِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَلِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ يَقْتَضِي التَّبَعِيَّةَ فِي الصَّلَاةِ، وَالْمَكَانُ مِنْ لَوَازِمِ الصَّلَاةِ فَيَقْتَضِي التَّبَعِيَّةَ فِي الْمَكَانِ ضَرُورَةً، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَكَانِ تَنْعَدِمُ التَّبَعِيَّةُ فِي الْمَكَانِ فَتَنْعَدِمُ التَّبَعِيَّةُ فِي الصَّلَاةِ لِانْعِدَامِ لَازِمِهَا؛ وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَكَانِ يُوجِبُ خَفَاءَ حَالِ الْإِمَامِ عَلَى الْمُقْتَدِي فَتَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْمُتَابَعَةُ الَّتِي هِيَ مَعْنَى الِاقْتِدَاءِ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ عَامٌّ يَمُرُّ فِيهِ النَّاسُ أَوْ نَهْرٌ عَظِيمٌ لَا يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَكَانَيْنِ عُرْفًا مَعَ اخْتِلَافِهِمَا حَقِيقَةً فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ، وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ:: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ نَهْرٌ أَوْ طَرِيقٌ أَوْ صَفٌّ مِنْ النِّسَاءِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ» ، وَمِقْدَارُ الطَّرِيقِ الْعَامُّ ذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى أَنَّهُ سُئِلَ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ عَنْ مِقْدَارِ الطَّرِيقِ الَّذِي يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ فَقَالَ: مِقْدَارُ مَا تَمُرُّ فِيهِ الْعَجَلَةُ وَتَمُرُّ فِيهِ الْأَوْقَارُ، وَسُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ عَنْهُ فَقَالَ: مِقْدَارُ مَا يَمُرُّ فِيهِ الْجَمَلُ. وَأَمَّا النَّهْرُ الْعَظِيمُ فَمَا لَا يُمْكِنُ الْعُبُورُ عَلَيْهِ إلَّا بِعِلَاجٍ كَالْقَنْطَرَةِ وَنَحْوِهَا، وَذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الطَّرِيقِ مَا تَمُرُّ فِيهِ الْعَجَلَةُ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ طَرِيقَةٌ لَا طَرِيقٌ، وَالْمُرَادُ بِالنَّهْرِ مَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْجَدْوَلِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً عَلَى الطَّرِيقِ جَازَ الِاقْتِدَاءُ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ الصُّفُوفِ أَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمَرَّ النَّاسِ فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقًا بَلْ صَارَ مُصَلًّى فِي حَقِّ هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى النَّهْرِ جِسْرٌ وَعَلَيْهِ صَفٌّ مُتَّصِلٌ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِطٌ، ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَهَذَا فِي الْحَاصِلِ عَلَى وَجْهَيْنِ: إنْ كَانَ الْحَائِطُ قَصِيرًا ذَلِيلًا بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ الرُّكُوبِ عَلَيْهِ كَحَائِطِ الْمَقْصُورَةِ - لَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ التَّبَعِيَّةَ فِي الْمَكَانِ، وَلَا يُوجِبُ خَفَاءَ حَالِ الْإِمَامِ. وَلَوْ كَانَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ حَائِطٌ: إنْ كَانَ طَوِيلًا وَعَرِيضًا لَيْسَ فِيهِ ثُقْبٌ - يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ثُقْبٌ لَا يَمْنَعُ مُشَاهَدَةَ حَالِ الْإِمَامِ - لَا يَمْنَعُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا: فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ بَابٌ مَفْتُوحٌ أَوْ خَوْخَةٌ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ رِوَايَتَانِ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى الَّتِي قَالَ لَا يَصِحُّ - أَنَّهُ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُ إمَامِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ الْمُتَابَعَةُ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الْوُجُودُ، وَهُوَ مَا ظَهَرَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقِفُ فِي مَقَامِ إبْرَاهِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - وَبَعْضُ النَّاسِ يَقِفُونَ وَرَاءَ الْكَعْبَةِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ حَائِطُ الْكَعْبَةِ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا صَفٌّ مِنْ النِّسَاءِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ؛ وَلِأَنَّ الصَّفَّ مِنْ النِّسَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِطِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ فُرْجَةٌ، وَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ فِي أَقْصَى الْمَسْجِدِ وَالْإِمَامُ فِي الْمِحْرَابِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ عَلَى تَبَاعُدِ أَطْرَافِهِ جُعِلَ فِي الْحُكْمِ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ وَلَوْ وَقَفَ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَاقْتَدَى بِالْإِمَامِ: فَإِنْ كَانَ وُقُوفُهُ خَلْفَ الْإِمَامِ أَوْ بِحِذَائِهِ أَجْزَأَهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى سَطْحٍ وَاقْتَدَى بِالْإِمَامِ وَهُوَ فِي جَوْفِهِ؛ وَلِأَنَّ سَطْحَ الْمَسْجِدِ تَبَعٌ

فصل واجبات الصلاة

لِلْمَسْجِدِ، وَحُكْمُ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ فَكَأَنَّهُ فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ، وَهَذَا إذَا كَانَ لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُ إمَامِهِ، فَإِنْ كَانَ يَشْتَبِهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ وُقُوفُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِمَامِ لَا يُجْزِئْهُ لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَى سَطْحٍ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ، مُتَّصِلٍ بِهِ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ، فَاقْتَدَى بِهِ - صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مَكَانَ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. (وَلَنَا) أَنَّ السَّطْحَ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِسَطْحِ الْمَسْجِدِ كَانَ تَبَعًا لِسَطْحِ الْمَسْجِدِ، وَتَبَعُ سَطْحِ الْمَسْجِدِ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ اقْتِدَاؤُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ كَاقْتِدَائِهِ وَهُوَ فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُ الْإِمَامِ. وَلَوْ اقْتَدَى خَارِجَ الْمَسْجِدِ بِإِمَامٍ فِي الْمَسْجِدِ: إنْ كَانَتْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً جَازَ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِحُكْمِ اتِّصَالِ الصُّفُوفِ يَلْتَحِقُ بِالْمَسْجِدِ هَذَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ: فَإِنْ كَانَتْ الْفُرْجَةُ الَّتِي بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ قَدْرَ الصَّفَّيْنِ فَصَاعِدًا - لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ أَوْ النَّهْرِ الْعَظِيمِ فَيُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَكَانِ وَذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى أَنَّهُ سُئِلَ أَبُو نَصْرٍ عَنْ إمَامٍ يُصَلِّي فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ كَمْ مِقْدَارُ مَا بَيْنَهُمَا حَتَّى يَمْنَعَ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ؟ قَالَ إذَا كَانَ مِقْدَارُ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْطَفَّ فِيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ صَلَّى فِي مُصَلَّى الْعِيدِ؟ قَالَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ. وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ يُصَلِّي عَلَى دُكَّانٍ وَالْقَوْمُ أَسْفَلَ مِنْهُ أَوْ عَلَى الْقَلْبِ - جَازَ وَيُكْرَهُ. (أَمَّا) الْجَوَازُ فَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْطَعُ التَّبَعِيَّةَ وَلَا يُوجِبُ خَفَاءَ حَالِ الْإِمَامِ، (وَأَمَّا) الْكَرَاهَةُ فَلِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْمَكَانِ، وَلِمَا يُذْكَرُ فِي بَيَانِ مَا يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَفْعَلَهُ فِي صَلَاتِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَانْفِرَادُ الْمُقْتَدِي خَلْفَ الْإِمَامِ عَنْ الصَّفِّ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَل: يَمْنَعُ، (وَاحْتَجُّوا) بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ» ، وَعَنْ وَابِصَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي فِي حُجْرَةٍ مِنْ الْأَرْضِ فَقَالَ: أَعِدْ صَلَاتَكَ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ» . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «أَقَامَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْيَتِيمَ وَرَاءَهُ وَأَقَامَ أُمِّي أُمَّ سُلَيْمٍ وَرَاءَنَا» جَوَّزَ اقْتِدَاءَهَا بِهِ عَنْ انْفِرَادِهَا خَلْفَ الصُّفُوفِ، وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مُحَاذَاةَ الْمَرْأَةِ مُفْسِدَةٌ صَلَاةَ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهَا خَلْفَهُمَا مَعَ نَهْيِهِ عَنْ الِانْفِرَادِ خَلْفَ الصَّفِّ، فَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ صِيَانَةً لِصَلَاتِهِمَا. وَرُوِيَ أَنَّ «أَبَا بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاكِعٌ فَكَبَّرَ وَرَكَعَ وَدَبَّ حَتَّى الْتَحَقَ بِالصُّفُوفِ، فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ أَوْ قَالَ: لَا تَعْدُ» جَوَّزَ اقْتِدَاءَهُ بِهِ خَلْفَ الصَّفِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ بِجَنْبِهِ كَانَ مُحْدِثًا تَجُوزُ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ حَقِيقَةً، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ، وَالْأَمْرُ بِالْإِعَادَةِ شَاذٌّ، وَلَوْ ثَبَتَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ مَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ، وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: فِي حُجْرَةٍ مِنْ الْأَرْضِ، أَيْ نَاحِيَةٍ، لَكِنَّ الْأَوْلَى عِنْدَنَا أَنْ يَلْتَحِقَ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ إنْ وَجَدَ فُرْجَةً ثُمَّ يُكَبِّرُ، وَيُكْرَهُ لَهُ الِانْفِرَادُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ نَذْكُرهُ فِي بَيَانِ مَا يُكْرَهُ فِعْلُهُ فِي الصَّلَاةِ. وَلَوْ انْفَرَدَ ثُمَّ مَشَى لِيَلْحَقَ بِالصَّفِّ ذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ إنْ مَشَى فِي صَلَاتِهِ مِقْدَارَ صَفٍّ وَاحِدٍ لَا تَفْسُدُ، وَإِنْ مَشَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَسَدَتْ، وَكَذَلِكَ الْمَسْبُوقُ إذَا قَامَ إلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ فَتَقَدَّمَ حَتَّى لَا يَمُرَّ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَنَّهُ إنْ مَشَى قَدْرَ صَفٍّ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَسَدَتْ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي الصَّحْرَاءِ وَمَشَى مِقْدَارَ صَفٍّ وَوَقَفَ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَقَدَّرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِمَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَبَعْضُهُمْ بِمِقْدَارِ الصَّفَّيْنِ، إنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ. [فَصْلٌ وَاجِبَاتُ الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وَاجِبَاتُهَا فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَبَعْضُهَا فِي الصَّلَاةِ، وَبَعْضُهَا عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَبَعْضُهَا فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ بَعْد الْخُرُوجِ مِنْهَا. (أَمَّا) الَّذِي قَبْلَ الصَّلَاةِ فَاثْنَانِ: أَحَدُهُمَا - الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ. وَالْكَلَامُ فِي الْأَذَانِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ وُجُوبِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ، وَفِي بَيَانِ سَبَبِهِ، وَفِي بَيَانِ مَحَلِّ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى السَّامِعِينَ عِنْدَ سَمَاعِهِ. (وَأَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَر مُحَمَّدٌ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّ أَهْلَ بَلْدَةٍ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِ الْأَذَانِ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَرَكَهُ وَاحِدٌ ضَرَبْتُهُ وَحَبَسْتُهُ، وَإِنَّمَا يُقَاتَلُ وَيُضْرَبُ

فصل بيان كيفية الأذان

وَيُحْبَسُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: إنَّهُمَا سُنَّتَانِ مُؤَكَّدَتَانِ، لِمَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْمٍ صَلَّوْا الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ فِي الْمِصْرِ بِجَمَاعَةٍ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ: فَقَدْ أَخْطَئُوا السُّنَّةَ وَخَالَفُوا وَأَثِمُوا، وَالْقَوْلَانِ لَا يَتَنَافَيَانِ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ وَالْوَاجِبَ سَوَاءٌ خُصُوصًا السُّنَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَسَعُ تَرْكُهَا، وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ أَسَاءَ؛ لِأَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ يُوجِبُ الْإِسَاءَةَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَهَذَا أَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ سَمَّاهُ سُنَّةً، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِالْوَاجِبِ حَيْثُ قَالَ: أَخْطَئُوا السُّنَّةَ وَخَالَفُوا وَأَثِمُوا؟ وَالْإِثْمُ إنَّمَا يَلْزَمُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ. وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ الْأَصْلُ فِي بَابِ الْأَذَانِ - فَإِنَّهُ رَوَى «أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأَنْ تَفُوتَهُمْ الصَّلَاةُ مَعَ الْجَمَاعَةِ لِاشْتِبَاهِ الْوَقْتِ عَلَيْهِمْ وَأَرَادُوا أَنْ يَنْصِبُوا لِذَلِكَ عَلَامَةً، قَالَ بَعْضُهُمْ: نَضْرِبُ بِالنَّاقُوسِ فَكَرِهُوا ذَلِكَ لِمَكَانِ النَّصَارَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَضْرِبُ بِالشَّبُّورِ فَكَرِهُوا ذَلِكَ لِمَكَانِ الْيَهُودِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نُوقِدُ نَارًا عَظِيمَةً فَكَرِهُوا ذَلِكَ لِمَكَانِ الْمَجُوسِ، فَتَفَرَّقُوا مِنْ غَيْرِ رَأْيٍ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، فَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ مَنْزِلَهُ فَقَدَّمَتْ امْرَأَتُهُ الْعَشَاءَ فَقَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَهُمُّهُمْ أَمْرُ الصَّلَاةِ، إلَى أَنْ قَالَ: كُنْتُ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إذْ رَأَيْتُ نَازِلًا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ وَبِيَدِهِ نَاقُوسٌ، فَقُلْتُ لَهُ: أَتَبِيعُ مِنِّي هَذَا النَّاقُوسَ؟ فَقَالَ: مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ فَقُلْتُ: أَذْهَبُ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَضْرِبَ بِهِ لِوَقْتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّك إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ؟ فَقُلْت: نَعَمْ فَوَقَفَ عَلَى حَذْمِ حَائِطٍ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ - الْأَذَانَ الْمَعْرُوفَ - إلَى آخِرِهِ، قَالَ: ثُمَّ مَكَثَ هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ زَادَ فِي آخِرِهِ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ مَرَّتَيْنِ، قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّهُ لَرُؤْيَا حَقٍّ، فَأَلْقِهَا إلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى وَأَمَدُّ صَوْتًا مِنْكَ، وَمُرْهُ يُنَادِي بِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَذَانَ بِلَالٍ خَرَجَ مِنْ الْمَنْزِلِ يَجُرُّ ذَيْلَ رِدَائِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ طَافَ بِي اللَّيْلَةَ مِثْلُ مَا طَافَ بِعَبْدِ اللَّهِ إلَّا أَنَّهُ سَبَقَنِي بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَإِنَّهُ لَأَثْبَتُ» . فَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يُلْقِيَ الْأَذَانَ إلَى بِلَالٍ وَيَأْمُرَهُ يُنَادِيَ بِهِ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَلَا مَعْنَى لِلْإِنْكَارِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ أَصْلَ الْأَذَانِ رُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ الْأَذَانِ وَإِنْ كَانَ رُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ لَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا شَهِدَ بِحَقِيقَةِ رُؤْيَاهُ ثَبَتَتْ حَقِيقَتُهَا، وَلَمَّا أَمَرَهُ بِأَنْ يَأْمُرَ بِلَالًا يُنَادِيَ بِهِ ثَبَتَ وُجُوبُهُ لِمَا بَيَّنَّا؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاظَبَ عَلَيْهِ فِي عُمْرِهِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَمُوَاظَبَتُهُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ مَهْمَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلُ عَدَمِ الْفَرْضِيَّةِ، وَقَدْ قَامَ هَهُنَا. [فَصْلٌ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْأَذَانِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْأَذَانِ فَهُوَ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ، وَنَقَّصَ الْبَعْضُ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُخْتَمُ الْأَذَانُ بِقَوْلِهِ: " اللَّهُ أَكْبَرُ "، اعْتِبَارًا لِلِانْتِهَاءِ بِالِابْتِدَاءِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَفِيهِ الْخَتْمُ (بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) وَأَصْلُ الْأَذَانِ ثَبَتَ بِحَدِيثِهِ، فَكَذَا قَدْرُهُ، وَمَا يَرْوُونَ فِيهِ مِنْ الْحَدِيثِ فَهُوَ غَرِيبٌ فَلَا يُقْبَلُ خُصُوصًا فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَالِاعْتِمَادُ فِي مِثْلِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَهُوَ مَا رَوَيْنَا. وَقَالَ مَالِكٌ: يُكَبِّرُ فِي الِابْتِدَاءِ مَرَّتَيْنِ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - اعْتِبَارًا بِكَلِمَةِ الشَّهَادَتَيْنِ حَيْثُ يُؤْتَى بِهَا مَرَّتَيْنِ. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَفِيهِ التَّكْبِيرُ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ بِصَوْتَيْنِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ مُؤَذِّنِ مَكَّةَ أَنَّهُ قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَذَانَ تِسْعَةَ عَشْرَ كَلِمَةً، وَالْإِقَامَةَ سَبْعَةَ عَشْرَ كَلِمَةً، وَإِنَّمَا يَكُون كَذَلِكَ إذَا كَانَ التَّكْبِيرُ فِيهِ مَرَّتَيْنِ. وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَنَقُولُ: كُلُّ تَكْبِيرَتَيْنِ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ عِنْدَنَا، فَكَأَنَّهُمَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ فَيَأْتِي بِهِمَا مَرَّتَيْنِ كَمَا يَأْتِي بِالشَّهَادَتَيْنِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهِ تَرْجِيعٌ وَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُؤَذِّنُ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَيَقُولَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مَرَّتَيْنِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ، يَخْفِضُ بِهِمَا صَوْتَهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَيْهِمَا وَيَرْفَعُ بِهِمَا صَوْتَهُ. (وَاحْتُجَّ) بِحَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: ارْجِعْ فَمُدَّ بِهِمَا صَوْتَكَ. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَلَيْسَ فِيهِ

تَرْجِيعٌ، وَكَذَا لَمْ يَكُنْ فِي آذَانِ بِلَالٍ وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ تَرْجِيعٌ. (وَأَمَّا) حَدِيثُ «أَبِي مَحْذُورَةَ فَقَدْ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّهُ لَمَّا أَذَّنَ وَكَانَ حَدِيثَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بِصَوْتَيْنِ وَمَدَّ صَوْتَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ إلَى الشَّهَادَتَيْنِ خَفَضَ بِهِمَا صَوْتَهُ، بَعْضُهُمْ قَالُوا: إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَخَافَةَ الْكُفَّارِ، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: إنَّهُ كَانَ جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ، وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَجْهَرُ بِسَبِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا بَلَغَ إلَى الشَّهَادَتَيْنِ اسْتَحْيَا فَخَفَضَ بِهِمَا صَوْتَهُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَرَكَ أُذُنَهُ وَقَالَ: ارْجِعْ وَقُلْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَمُدَّ بِهِمَا صَوْتَكَ غَيْظًا لِلْكُفَّارِ» . (وَأَمَّا) الْإِقَامَةُ فَمَثْنَى مَثْنَى عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ كَالْأَذَانِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فُرَادَى فُرَادَى إلَّا قَوْلُهُ: " قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ " فَإِنَّهُ يَقُولُهَا مَرَّتَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، (وَاحْتَجَّا) بِمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ بِلَالًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُمِرَ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآمِرَ كَانَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَلَنَا) حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ أَتَى بِالْأَذَانِ وَمَكَثَ هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ زَادَ فِي آخِرِهِ مَرَّتَيْنِ (قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ) ، وَرَوَيْنَا فِي حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ " وَالْإِقَامَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً "، وَإِنَّمَا تَكُونُ كَذَلِكَ إذَا كَانَتْ مَثْنَى. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ: كَانَ النَّاسُ يَشْفَعُونَ الْإِقَامَةَ حَتَّى خَرَجَ هَؤُلَاءِ يَعْنِي بَنِي أُمَيَّةَ فَأَفْرَدُوا الْإِقَامَةَ وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ، وَأَشَارَ إلَى كَوْنِ الْإِفْرَادِ بِدْعَةً، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّفْعِ وَالْإِيتَارِ فِي حَقِّ الصَّوْتِ وَالنَّفَسِ دُونَ حَقِيقَةِ الْكَلِمَةِ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) التَّثْوِيبُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا - فِي تَفْسِيرِ التَّثْوِيبِ فِي الشَّرْعِ، وَالثَّانِي - فِي الْمَحَلِّ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ، وَالثَّالِثُ - فِي وَقْتِهِ (أَمَّا) الْأَوَّلُ - فَقَدْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ كَيْفَ التَّثْوِيبُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ؟ قَالَ: كَانَ التَّثْوِيبُ الْأَوَّلُ بَعْدَ الْأَذَانِ " الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ " فَأَحْدَثَ النَّاسُ هَذَا التَّثْوِيبَ وَهُوَ حَسَنٌ، فَسَّرَ التَّثْوِيبَ، وَبَيَّنَ وَقْتَهُ، وَلَمْ يُفَسِّرْ التَّثْوِيبَ الْمُحْدَثَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ وَقْتَهُ، وَفَسَّرَ ذَلِكَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَبَيَّنَ وَقْتَهُ فَقَالَ: التَّثْوِيبُ الَّذِي يَصْنَعُهُ النَّاسُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ " مَرَّتَيْنِ - حَسَنٌ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ مُحْدَثًا لِأَنَّهُ أُحْدِثَ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ، وَوَصَفَهُ بِالْحَسَنِ لِأَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوهُ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ» . (وَأَمَّا) مَحَلُّ التَّثْوِيبِ فَمَحَلُّ الْأَوَّلِ هُوَ صَلَاةُ الْفَجْرِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ بِالتَّثْوِيبِ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ أَيْضًا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْقَدِيمِ، وَأَنْكَرَ التَّثْوِيبَ فِي الْجَدِيدِ رَأْسًا. (وَجْهُ) قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذَا وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ كَوَقْتِ الْفَجْرِ فَيَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ إعْلَامٍ كَمَا فِي وَقْتِ الْفَجْرِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً وَلَيْسَ فِيهَا التَّثْوِيبُ، وَكَذَا لَيْسَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ ذِكْرُ التَّثْوِيبِ. (وَلَنَا) مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ بِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا بِلَالُ ثَوِّبْ فِي الْفَجْرِ وَلَا تُثَوِّبْ فِي غَيْرِهَا» ، فَبَطَلَ بِهِ الْمَذْهَبَانِ جَمِيعًا، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ «بِلَالًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ فَوَجَدَهُ رَاقِدًا فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَحْسَنَ هَذَا اجْعَلْهُ فِي أَذَانِكَ» ، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كَانَ التَّثْوِيبُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ " وَتَعْلِيمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا مَحْذُورَةَ، وَتَعْلِيمُ الْمَلَكِ كَانَ تَعْلِيمَ أَصْلِ الْأَذَانِ لَا مَا يُذْكَرُ فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِعْلَامِ، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الِاعْتِبَارِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْقَاتِ، مَعَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَعَنْ السَّمَرِ بَعْدَهَا، فَالظَّاهِرُ هُوَ التَّيَقُّظُ. (وَأَمَّا) التَّثْوِيبُ الْمُحْدَثُ فَمَحَلُّهُ صَلَاةُ الْفَجْرِ أَيْضًا، وَوَقْتُهُ مَا بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَقُولَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ عَلَى مَا بُيِّنَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، غَيْرَ أَنَّ مَشَايِخَنَا قَالُوا: لَا بَأْسَ بِالتَّثْوِيبِ الْمُحْدَثِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لِفَرْطِ غَلَبَةِ الْغَفْلَةِ عَلَى النَّاسِ فِي زَمَانِنَا، وَشِدَّةِ رُكُونِهِمْ إلَى الدُّنْيَا، وَتَهَاوُنِهِمْ بِأُمُورِ الدِّينِ، فَصَارَ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فِي زَمَانِنَا مِثْلَ الْفَجْرِ فِي زَمَانِهِمْ، فَكَانَ زِيَادَةُ الْإِعْلَامِ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، فَكَانَ مُسْتَحْسَنًا، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يَقُولَ الْمُؤَذِّنُ: " السَّلَامُ عَلَيْكَ

فصل بيان سنن الأذان

أَيُّهَا الْأَمِيرُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، الصَّلَاةَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ "؛ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِزِيَادَةِ شُغْلٍ بِسَبَبِ النَّظَرِ فِي أُمُورِ الرَّعِيَّةِ، فَاحْتَاجُوا إلَى زِيَادَةِ إعْلَامٍ نَظَرًا لَهُمْ، ثُمَّ التَّثْوِيبُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ عَلَى مَا يَتَعَارَفُونَهُ: إمَّا بِالتَّنَحْنُحِ، أَوْ بِقَوْلِهِ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، أَوْ قَامَتْ قَامَتْ، أَوْ بايك نماز بايك كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ بُخَارَى؛ لِأَنَّهُ الْإِعْلَامُ، وَالْإِعْلَامُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمَا يَتَعَارَفُونَهُ. (وَأَمَّا) وَقْتُهُ فَقَدْ بَيَّنَّا وَقْتَ التَّثْوِيبِ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ جَمِيعًا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ بَيَانُ سُنَنِ الْأَذَانِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ سُنَنِ الْأَذَانِ فَسُنَنُ الْأَذَانِ فِي الصَّلَاةِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْأَذَانِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى صِفَاتِ الْمُؤَذِّنِ. (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْأَذَانِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا - أَنْ يَجْهَرَ بِالْأَذَانِ فَيَرْفَعَ بِهِ صَوْتَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الْإِعْلَامُ يَحْصُلُ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَلِّمْهُ بِلَالًا فَإِنَّهُ أَنْدَى وَأَمَدُّ صَوْتًا مِنْكَ؟ وَلِهَذَا كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ أَسْمَعَ لِلْجِيرَانِ كَالْمِئْذَنَةِ وَنَحْوِهَا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْهِدَ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ حُدُوثُ بَعْضِ الْعِلَلِ كَالْفَتْقِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِأَبِي مَحْذُورَةَ أَوْ لِمُؤَذِّنِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حِينَ رَآهُ يُجْهِدَ نَفْسَهُ فِي الْأَذَانِ: أَمَا تَخْشَى أَنْ يَنْقَ طِعَ مُرَيْطَاؤُكَ وَهُوَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى الْعَانَةِ، وَكَذَا يَجْهَرُ بِالْإِقَامَةِ لَكِنْ دُونَ الْجَهْرِ بِالْأَذَانِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْإِعْلَامِ بِهَا دُونَ الْمَقْصُودِ مِنْ الْأَذَانِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ كَلِمَتَيْ الْأَذَانِ بِسَكْتَةٍ، وَلَا يَفْصِلَ بَيْنَ كَلِمَتَيْ الْإِقَامَةِ بَلْ يَجْعَلُهَا كَلَامًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْأَوَّلِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْفَصْلِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْإِقَامَةِ يَحْصُلُ بِدُونِهِ. (وَمِنْهَا) - أَنْ يَتَرَسَّلَ فِي الْأَذَانِ وَيَحْدِرَ فِي الْإِقَامَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَاحْذِمْ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَاحْذِفْ» وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لِإِعْلَامِ الْغَائِبِينَ بِهُجُومِ الْوَقْتِ، وَذَا فِي التَّرَسُّلِ أَبْلَغُ، وَالْإِقَامَةُ لِإِعْلَامِ الْحَاضِرِينَ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِالْحَدْرِ، وَلَوْ تَرَسَّلَ فِيهِمَا أَوْ حَدَرَ أَجْزَأَهُ لِحُصُولِ أَصْلِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ: الْإِعْلَامُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يُرَتِّبَ بَيْنَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، حَتَّى لَوْ قَدَّمَ الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ تَرَكَ الْمُقَدَّمَ ثُمَّ يُرَتِّبُ وَيُؤَلِّفُ وَيُعِيد الْمُقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَلَغَا، وَكَذَلِكَ إذَا ثَوَّبَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْفَجْرِ فَظَنَّ أَنَّهُ فِي الْإِقَامَةِ فَأَتَمَّهَا، ثُمَّ تَذَكَّرَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ - فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْإِقَامَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ، وَدَلِيلُ كَوْنِ التَّرْتِيبِ أَنَّ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ رَتَّبَ، وَكَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْ مُؤَذِّنَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمَا رَتَّبَا؛ وَلِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الصَّلَاةِ فَرْضٌ، وَالْأَذَانُ شَبِيهٌ بِهَا فَكَانَ التَّرْتِيبُ فِيهِ سُنَّةً (وَمِنْهَا) أَنْ يُوَالِيَ بَيْنَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ وَالَى وَعَلَيْهِ عَمَلُ مُؤَذِّنَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أَذَّنَ فَظَنَّ أَنَّهُ الْإِقَامَةُ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ مَا فَرَغَ - فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ الْأَذَانَ، وَيَسْتَقْبِلَ الْإِقَامَةَ مُرَاعَاةً لِلْمُوَالَاةِ وَكَذَا إذَا أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ وَظَنَّ أَنَّهُ فِي الْأَذَانِ، ثُمَّ عَلِمَ - فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْإِقَامَةَ لِمَا قُلْنَا، وَعَلَى هَذَا إذَا غُشِيَ عَلَيْهِ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ سَاعَةً، أَوْ مَاتَ، أَوْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ، أَوْ أَحْدَثَ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ، ثُمَّ جَاءَ - فَالْأَفْضَلُ هُوَ الِاسْتِقْبَالُ لِمَا قُلْنَا، وَالْأَوْلَى لَهُ إذَا أَحْدَثَ فِي أَذَانِهِ أَوْ إقَامَتِهِ أَنْ يُتِمَّهَا ثُمَّ يَذْهَبَ وَيَتَوَضَّأ وَيُصَلِّيَ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ مَعَ الْحَدَثِ جَائِزٌ، فَالْبِنَاءُ أَوْلَى. وَلَوْ أَذَّنَ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَإِنْ شَاءُوا أَعَادُوا؛ لِأَنَّهُ عِبَادَتُهُ مَحْضَة، وَالرِّدَّةُ مُحْبِطَةٌ لِلْعِبَادَاتِ، فَيَصِيرُ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ وَإِنْ شَاءُوا اعْتَدُّوا بِهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ وَكَذَا يُكْرَهُ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَذَانِهِ أَوْ إقَامَتِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ سُنَّةِ الْمُوَالَاةِ؛ وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ كَالْخُطْبَةِ فَلَا يَسَعُ تَرْكُ حُرْمَتِهِ وَيُكْرَهُ لَهُ رَدُّ السَّلَامِ فِي الْأَذَانِ لِمَا قُلْنَا، وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ إلَى الْفَرَاغِ مِنْ الْأَذَانِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَأْتِي بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ هَكَذَا فَعَلَ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَلَوْ تَرَكَ الِاسْتِقْبَالَ يُجْزِيهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ، لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، إلَّا أَنَّهُ إذَا انْتَهَى إلَى الصَّلَاةِ وَالْفَلَاحِ حَوَّلَ وَجْهَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، كَذَا فَعَلَ النَّازِلُ مِنْ السَّمَاءِ، وَلِأَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلْقَوْمِ فَيُقْبِلُ بِوَجْهِهِ إلَيْهِمْ إعْلَامًا لَهُمْ، كَالسَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدَمَاهُ مَكَانَهُمَا لِيَبْقَى مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ كَمَا فِي السَّلَامِ وَالصَّلَاةِ، وَيُحَوِّلَ وَجْهَهُ مَعَ بَقَاءِ الْبَدَنِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ كَذَا هَهُنَا وَإِنْ كَانَ فِي الصَّوْمَعَةِ: فَإِنْ كَانَتْ ضَيِّقَةً لَزِمَ مَكَانَهُ، لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إلَى الِاسْتِدَارَةِ وَإِنْ كَانَتْ وَاسِعَةً فَاسْتَدَارَ فِيهَا لِيُخْرِجَ رَأْسَهُ مِنْ نَوَاحِيهَا فَحَسَنٌ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَعَةَ إذَا كَانَتْ مُتَّسِعَةً فَالْإِعْلَامُ لَا يَحْصُلُ

بِدُونِ الِاسْتِدَارَةِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرَ جَزْمًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْأَذَانُ جَزْمٌ. (وَمِنْهَا) تَرْكُ التَّلْحِينِ فِي الْأَذَانِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ: إنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ ابْنِ عُمَرَ: إنِّي أَبْغَضُكَ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: لِمَ قَالَ: لِأَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُغَنِّي فِي أَذَانِكَ، يَعْنِي التَّلْحِينَ، أَمَّا التَّفْخِيمُ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إحْدَى اللُّغَتَيْنِ. (وَمِنْهَا) الْفَصْلُ - فِيمَا سِوَى الْمَغْرِبِ - بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ الْمَطْلُوبَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْفَصْلِ، وَالْفَصْلُ - فِيمَا سِوَى الْمَغْرِبِ - بِالصَّلَاةِ أَوْ بِالْجُلُوسِ مَسْنُونٌ، وَالْوَصْلُ مَكْرُوهٌ، وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِبِلَالٍ: «إذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدِرْ» ، وَفِي رِوَايَةٍ فَاحْذِفْ، وَفِي رِوَايَةٍ «فَاحْذِمْ، وَلْيَكُنْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ مِقْدَارُ مَا يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ، وَالشَّارِبُ مِنْ شُرْبِهِ، وَالْمُعْتَصِرُ إذَا دَخَلَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَلَا تَقُومُوا فِي الصَّفِّ حَتَّى تَرَوْنِي» ؛ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لِاسْتِحْضَارِ الْغَائِبِينَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِمْهَالِ لِيَحْضُرُوا، ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِقْدَارُ الْفَصْلِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفَجْرِ قَدْرُ مَا يَقْرَأُ عِشْرِينَ آيَةً، وَفِي الظُّهْرِ قَدْرَ مَا يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ، وَفِي الْعَصْرِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ، وَفِي الْمَغْرِبِ يَقُومُ مِقْدَارَ مَا يَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ، وَفِي الْعِشَاءِ كَمَا فِي الظُّهْرِ وَهَذَا لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ مِقْدَارَ مَا يُحْضِرُ الْقَوْمَ مَعَ مُرَاعَاةِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَلَا يُفْصَلُ فِيهَا بِالصَّلَاةِ عِنْدنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْصَلُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ إلَّا الْمَغْرِبَ» ، وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ مَبْنَى الْمَغْرِبِ عَلَى التَّعْجِيلِ لِمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَنْ تَزَالَ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ» ، وَالْفَصْلُ بِالصَّلَاةِ تَأْخِيرٌ لَهَا، فَلَا يُفْصَلُ بِالصَّلَاةِ، وَهَلْ يُفْصَلُ بِالْجُلُوسِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُفْصَلُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: يُفْصَلُ بِجَلْسَةٍ خَفِيفَةٍ كَالْجَلْسَةِ الَّتِي بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفَصْلَ مَسْنُونٌ، وَلَا يُمْكِنُ بِالصَّلَاةِ، فَيُفْصَلُ بِالْجَلْسَةِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفَصْلَ بِالْجَلْسَةِ تَأْخِيرٌ لِلْمَغْرِبِ، وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَفْصِلْ بِالصَّلَاةِ فَبِغَيْرِهَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْوَصْلَ مَكْرُوهٌ، وَتَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ أَيْضًا مَكْرُوهٌ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ الْكَرَاهَتَيْنِ يَحْصُلُ بِسَكْتَةٍ خَفِيفَةٍ، وَبِالْهَيْئَةِ مِنْ التَّرَسُّلِ وَالْحَذْفِ، وَالْجَلْسَةُ لَا تَخْلُو عَنْ أَحَدِهِمَا، وَهِيَ كَرَاهَةُ التَّأْخِيرِ فَكَانَتْ مَكْرُوهَةً (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى صِفَاتِ الْمُؤَذِّنِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا: (مِنْهَا) - أَنْ يَكُونَ رَجُلًا، فَيُكْرَهُ أَذَانُ الْمَرْأَةِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ؛ لِأَنَّهَا إنْ رَفَعَتْ صَوْتَهَا فَقَدْ ارْتَكَبَتْ مَعْصِيَةً، وَإِنْ خَفَضَتْ فَقَدْ تَرَكَتْ سُنَّةَ الْجَهْرِ؛ وَلِأَنَّ أَذَانَ النِّسَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي السَّلَفِ فَكَانَ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ» ، وَلَوْ أَذَّنَتْ لِلْقَوْمِ أَجْزَأَهُمْ حَتَّى لَا تُعَادَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ: الْإِعْلَامُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ وَكَذَا أَذَانُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا حَتَّى لَا يُعَادَ ذَكَرَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ: الْإِعْلَامُ، لَكِنَّ أَذَانَ الْبَالِغِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ فِي مُرَاعَاةِ الْحُرْمَةِ أَبْلَغُ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ مَنْ لَمْ يَحْتَلِمْ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَعْتَدُّونَ بِأَذَانِهِ، وَأَمَّا أَذَانُ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَلَا يُجْزِئُ وَيُعَادُ؛ لِأَنَّ مَا يَصْدُرُ لَا عَنْ عَقْلٍ لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَصَوْتِ الطُّيُورِ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، فَيُكْرَهُ أَذَانُ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ وَتَأْذِينُهُمَا تَرْكٌ لِتَعْظِيمِهِ، وَهَلْ يُعَادُ؟ ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعَادَ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ كَلَامِ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ هَذَيَانٌ، فَرُبَّمَا يُشْتَبَهُ عَلَى النَّاسِ فَلَا يَقَعُ بِهِ الْإِعْلَامُ. (وَمِنْهَا) - أَنْ يَكُونَ تَقِيًّا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ» ، وَالْأَمَانَةُ لَا يُؤَدِّيهَا إلَّا التَّقِيُّ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالسُّنَّةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:: «يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ، وَيُؤَذِّنُ لَكُمْ خِيَارُكُمْ» ، وَخِيَارُ النَّاسِ الْعُلَمَاءُ؛ وَلِأَنَّ مُرَاعَاةَ سُنَنِ الْأَذَانِ لَا يَتَأَتَّى إلَّا مِنْ الْعَالِمِ بِهَا، وَلِهَذَا إنَّ أَذَانَ الْعَبْدِ وَالْأَعْرَابِيِّ وَوَلَدِ الزِّنَا، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ، لَكِنَّ غَيْرَهُمْ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَتَفَرَّغُ لِمُرَاعَاةِ الْأَوْقَاتِ لِاشْتِغَالِهِ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ الْجَهْلُ، وَكَذَا الْأَعْرَابِيُّ وَوَلَدُ الزِّنَا الْغَالِبُ عَلَيْهِمَا الْجَهْلُ. (وَمِنْهَا) - أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، حَتَّى كَانَ الْبَصِيرُ أَفْضَلَ مِنْ الضَّرِيرِ؛ لِأَنَّ الضَّرِيرَ لَا عِلْمَ لَهُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ وَالْإِعْلَامَ بِدُخُولِ الْوَقْتِ مِمَّنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالدُّخُولِ - مُتَعَذِّرٌ

لَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ أَذَّنَ يَجُوزُ لِحُصُولِ الْإِعْلَامِ بِصَوْتِهِ، وَإِمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى الْمَوَاقِيتِ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ مُؤَذِّنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ أَعْمَى. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ مُوَاظِبًا عَلَى الْأَذَانِ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الْإِعْلَامِ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ بِصَوْتِ الْمُوَاظِبِ أَبْلَغُ مِنْ حُصُولِهِ بِصَوْتِ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُمْ بِصَوْتِهِ، فَكَانَ أَفْضَلَ وَإِنْ أَذَّنَ السُّوقِيُّ لِمَسْجِدِ الْمَحَلَّةِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَغَيْرُهُ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ - يَجُوزُ؛ لِأَنَّ السُّوقِيَّ يُحْرَجُ فِي الرُّجُوعِ إلَى الْمَحَلَّةِ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ لِحَاجَتِهِ إلَى الْكَسْبِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَجْعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبِلَالٍ: «إذَا أَذَّنْتَ فَاجْعَلْ أُصْبُعَيْكَ فِي أُذُنَيْكَ، فَإِنَّهُ أَنْدَى لِصَوْتِكَ وَأَمَدُّ بَيَّنَ الْحُكْمَ وَنَبَّهَ عَلَى الْحِكْمَةِ» وَهِيَ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَجْزَأَهُ لِحُصُولِ أَصْلِ الْإِعْلَامِ بِدُونِهِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ يَجْعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَإِنْ جَعَلَ يَدَيْهِ عَلَى أُذُنَيْهِ فَحَسَنٌ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ جَعَلَ إحْدَى يَدَيْهِ عَلَى أُذُنِهِ فَحَسَنٌ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ عَلَى الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ فَإِتْيَانُهُ مَعَ الطَّهَارَةِ أَقْرَبُ إلَى التَّعْظِيمِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ بِأَنْ كَانَ مُحْدِثًا يَجُوزُ، وَلَا يُكْرَهُ حَتَّى يُعَادَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعَادُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ لِلْأَذَانِ شَبَهًا بِالصَّلَاةِ، وَلِهَذَا يَسْتَقْبِلُ بِهِ الْقِبْلَةَ كَمَا فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ الصَّلَاةُ لَا تَجُوزُ مَعَ الْحَدَثِ، فَمَا هُوَ شَبِيهٌ بِهَا يُكْرَهُ مَعَهُ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا رُبَّمَا أَذَّنَ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، وَلِأَنَّ الْحَدَثَ لَا يَمْنَعُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْأَذَانِ وَإِنْ أَقَامَ وَهُوَ مُحْدِثٌ، ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَسَوَّى بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَقَالَ: وَيَجُوزُ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ إقَامَةَ الْمُحْدِثِ. (وَالْفَرْقُ) أَنَّ السُّنَّةَ وَصْلُ الْإِقَامَةِ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، فَكَانَ الْفَصْلُ مَكْرُوهًا بِخِلَافِ الْأَذَانِ، وَلَا تُعَادُ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَهَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ بِخِلَافِ الْأَذَانِ. وَأَمَّا الْأَذَانُ مَعَ الْجَنَابَةِ فَيُكْرَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَتَّى يُعَادَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُعَادُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ - وَهُوَ الْإِعْلَامُ -، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْجَنَابَةِ ظَهَرَ فِي الْفَمِ فَيَمْنَعُ مِنْ الذِّكْرِ الْمُعَظَّمِ كَمَا يَمْنَعُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِخِلَافِ الْحَدَثِ، وَكَذَا الْإِقَامَةُ مَعَ الْجَنَابَةِ تُكْرَهُ لَكِنَّهَا لَا تُعَادُ لِمَا مَرَّ. (وَمِنْهَا) أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا إذَا أَذَّنَ لِلْجَمَاعَةِ، وَيُكْرَهُ قَاعِدًا؛ لِأَنَّ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ أَذَّنَ قَائِمًا حَيْثُ وَقَفَ عَلَى حَذْمِ حَائِطٍ، وَكَذَا النَّاسُ تَوَارَثُوا ذَلِكَ فِعْلًا، فَكَانَ تَارِكُهُ مُسِيئًا لِمُخَالَفَتِهِ النَّازِلَ مِنْ السَّمَاءِ وَإِجْمَاعَ الْخَلْقِ؛ وَلِأَنَّ تَمَامَ الْإِعْلَامِ بِالْقِيَامِ وَيُجْزِئُهُ لِحُصُولِ أَصْلِ الْمَقْصُودِ، وَإِنْ أَذَّنَ لِنَفْسِهِ قَاعِدًا فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مُرَاعَاةُ سُنَّةِ الصَّلَاةِ لَا الْإِعْلَامُ، وَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ رَاكِبًا، لِمَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رُبَّمَا أَذَّنَ فِي السَّفَرِ رَاكِبًا، وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْأَذَانَ أَصْلًا فِي السَّفَرِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ رَاكِبًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَيَنْزِلُ لِلْإِقَامَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ وَهُوَ رَاكِبٌ، ثُمَّ نَزَلَ وَأَقَامَ عَلَى الْأَرْضِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْزِلْ لَوَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ بِالنُّزُولِ، وَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَأَمَّا فِي الْحَضَرِ فَيُكْرَهُ الْأَذَانُ رَاكِبًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ ثَمَّ الْمُؤَذِّنُ يَخْتِمُ الْإِقَامَةَ عَلَى مَكَانِهِ، أَوْ يُتِمُّهَا مَاشِيًا، اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَخْتِمُهَا عَلَى مَكَانِهِ سَوَاءً كَانَ الْمُؤَذِّنُ إمَامًا أَوْ غَيْرَهُ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُتِمُّهَا مَاشِيًا، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ قَوْلَهُ: (قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ) فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ مَشَى، وَإِنْ شَاءَ وَقَفَ، إمَامًا كَانَ، أَوْ غَيْرَهُ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَصَحُّ (وَمِنْهَا) - أَنْ يُؤَذِّنَ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي مَسْجِدَيْنِ، وَيُصَلِّيَ فِي أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مُتَنَفِّلًا بِالْأَذَانِ فِي الْمَسْجِدِ الثَّانِي، وَالتَّنَفُّلُ بِالْأَذَانِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ؛ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ يَخْتَصُّ بِالْمَكْتُوبَاتِ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الثَّانِي يُصَلِّي النَّافِلَةَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إلَى الْمَكْتُوبَةِ وَهُوَ لَا يُسَاعِدهُمْ فِيهَا. (وَمِنْهَا) - أَنَّ مَنْ أَذَّنَ فَهُوَ الَّذِي يُقِيمُ، وَإِنْ أَقَامَ غَيْرُهُ: فَإِنْ كَانَ يَتَأَذَّى بِذَلِكَ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ اكْتِسَابَ أَذَى الْمُسْلِمِ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَأَذَّى بِهِ لَا يُكْرَهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ تَأَذَّى بِهِ أَوْ لَمْ يَتَأَذَّ (احْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ عَنْ أَخِي صُدَاءَ أَنَّهُ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَالًا إلَى حَاجَةٍ لَهُ فَأَمَرَنِي أَنْ أُؤَذِّنَ فَأَذَّنْتُ، فَجَاءَ بِلَالٌ وَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: إنَّ أَخَا صُدَاءَ هُوَ الَّذِي أَذَّنَ وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ الَّذِي يُقِيمُ» . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ «لَمَّا قَصَّ الرُّؤْيَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: لَقِّنْهَا بِلَالًا، فَأَذَّنَ بِلَالٌ ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فصل بيان محل وجوب الأذان

عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ فَأَقَامَ» . وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ يُؤَذِّنُ وَبِلَالٌ يُقِيمُ، وَرُبَّمَا أَذَّنَ بِلَالٌ وَأَقَامَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، وَكَانَ يُحِبُّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ (وَمِنْهَا) - أَنْ يُؤَذِّنَ مُحْتَسِبًا، وَلَا يَأْخُذَ عَلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ أَجْرًا، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي تَحْصِيلِ الطَّاعَةِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ، وَفِي الْبَابِ حَدِيثٌ خَاصٌّ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: آخِرُ مَا عَهِدَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُصَلِّيَ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ، وَأَنْ أَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا، وَإِنْ عَلِمَ الْقَوْمُ حَاجَتَهُ فَأَعْطَوْهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَهُوَ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالصَّدَقَةِ وَالْمُجَازَاةِ عَلَى إحْسَانِهِ بِمَكَانِهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَحَلِّ وُجُوبِ الْأَذَانِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ وُجُوبِ الْأَذَانِ فَالْمَحَلُّ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْأَذَانُ وَيُؤَذَّنُ لَهُ الصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَةُ الَّتِي تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ فِي حَالِ الْإِقَامَةِ، فَلَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِوُجُودِ بَعْضِ مَا يَتَرَكَّبُ مِنْهُ الصَّلَاةُ وَهُوَ الْقِيَامُ، إذْ لَا قِرَاءَةَ فِيهَا وَلَا رُكُوعَ وَلَا سُجُودَ وَلَا قُعُودَ، فَلَمْ تَكُنْ صَلَاةً عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ فِي النَّوَافِلِ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَالْمَكْتُوبَاتُ هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِأَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ دُونَ النَّوَافِلِ؛ وَلِأَنَّ النَّوَافِلَ تَابِعَةٌ لِلْفَرَائِضِ فَجُعِلَ أَذَانُ الْأَصْلِ أَذَانًا لِلتَّبَعِ تَقْدِيرًا، وَلَا أَذَانَ، وَلَا إقَامَةَ فِي السُّنَنِ لِمَا قُلْنَا، وَلَا أَذَانَ، وَلَا إقَامَةَ فِي الْوِتْرِ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا فَكَانَ تَبَعًا لِلْعِشَاءِ، فَكَانَ تَبَعًا لَهَا فِي الْأَذَانِ كَسَائِرِ السُّنَنِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَاجِبٌ، وَالْوَاجِبُ غَيْرُ الْمَكْتُوبَةِ وَالْأَذَانُ مِنْ خَوَاصِّ الْمَكْتُوبَاتِ، وَلَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَكْتُوبَةٍ، وَلَا أَذَانَ وَلَا إقَامَةَ فِي جَمَاعَةِ النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ» ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِنَّ الْجَمَاعَةُ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِنَّ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ، وَالْجُمُعَةُ فِيهَا أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ؛ لِأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ؛ وَلِأَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ هُوَ الظُّهْرُ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَالْجُمُعَةُ قَائِمَةٌ مُقَامَهُ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ: الْفَرْضُ هُوَ الْجُمُعَةُ ابْتِدَاءً وَهِيَ آكَدُ مِنْ الظُّهْرِ، حَتَّى وَجَبَ تَرْكُ الظُّهْرِ لِأَجْلِهَا، ثُمَّ إنَّهُمَا وَجَبَا لِإِقَامَةِ الظُّهْرِ، فَالْجُمُعَةُ أَحَقُّ، ثُمَّ الْأَذَانُ الْمُعْتَبَرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هُوَ مَا يُؤْتَى بِهِ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ، وَتَجِبُ الْإِجَابَةُ وَالِاسْتِمَاعُ لَهُ دُونَ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ عَلَى الْمَنَارَةِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ يَقُولُ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَذَانُ عَلَى الْمَنَارَةِ؛ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ يَقَعُ بِهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ الْأَذَانُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَذَانًا وَاحِدًا حِينَ يَجْلِسُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمَّا كَانَتْ خِلَافَةُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَثُرَ النَّاسُ أَمَرَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْأَذَانِ الثَّانِي عَلَى الزَّوْرَاءِ» وَهِيَ الْمَنَارَةُ، وَقِيلَ: اسْمُ مَوْضِعٍ بِالْمَدِينَةِ، وَصَلَاةُ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ تُؤَدَّى مَعَ الظُّهْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ، وَلَا يُرَاعَى لِلْعَصْرِ أَذَانٌ عَلَى حِدَةٍ، لِأَنَّهَا شُرِعَتْ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَكَانَ أَذَانُ الظُّهْرِ وَإِقَامَتُهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ مَعَ الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ يُكْتَفَى فِيهِمَا بِأَذَانٍ وَاحِدٍ لِمَا ذَكَرْنَا، إلَّا أَنَّ فِي الْجَمْعِ الْأَوَّلِ يُكْتَفَى بِأَذَانٍ وَاحِدٍ لَكِنْ بِإِقَامَتَيْنِ، وَفِي الثَّانِي يُكْتَفَى بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ كَمَا فِي الْجَمْعِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِأَذَانَيْنِ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَلَوْ صَلَّى الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ، ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ إذَا صَلَّى الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ وَاكْتَفَى بِأَذَانِ النَّاسِ وَإِقَامَتِهِمْ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ أَقَامَ فَهُوَ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَجَزَ عَنْ تَحَقُّقِ الْجَمَاعَةِ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَعْجَزْ عَنْ التَّشَبُّهِ، فَيُنْدَبُ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ عَلَى هَيْئَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ، وَلِهَذَا كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَوَاتِ الْجَهْرِ، وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ وَاكْتَفَى بِأَذَانِ النَّاسِ وَإِقَامَتِهِمْ أَجْزَأَهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ وَقَالَ: يَكْفِينَا أَذَانُ الْحَيِّ وَإِقَامَتُهُمْ،. أَشَارَ إلَى أَنَّ أَذَانَ الْحَيِّ وَإِقَامَتَهُمْ وَقَعَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْحَيِّ أَلَا تَرَى أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَحْضُرَ مَسْجِدَ الْحَيِّ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْمٍ صَلَّوْا فِي

الْمِصْرِ فِي مَنْزِلٍ أَوْ فِي مَسْجِدِ مَنْزِلٍ، فَأُخْبِرُوا بِأَذَانِ النَّاسِ وَإِقَامَتِهِمْ - أَجْزَأَهُمْ. وَقَدْ أَسَاءُوا بِتَرْكِهِمَا، فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ أَذَانَ الْحَيِّ يَكُونُ أَذَانًا لِلْأَفْرَادِ وَلَا يَكُونُ أَذَانًا لِلْجَمَاعَةِ، هَذَا فِي الْمُقِيمِينَ وَأَمَّا الْمُسَافِرُونَ فَالْأَفْضَلُ لَهُمْ أَنْ يُؤَذِّنُوا وَيُقِيمُوا، وَيُصَلُّوا جَمَاعَةً؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ مِنْ لَوَازِمِ الْجَمَاعَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ، وَالسَّفَرُ لَمْ يُسْقِطْ الْجَمَاعَةَ فَلَا يُسْقِطْ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهَا، فَإِنْ صَلُّوا بِجَمَاعَةٍ وَأَقَامُوا وَتَرَكُوا الْأَذَانَ - أَجْزَأَهُمْ وَلَا يُكْرَهُ، وَيُكْرَهُ لَهُمْ تَرْكُ الْإِقَامَةِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْمِصْرِ إذَا تَرَكُوا الْأَذَانَ وَأَقَامُوا أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ. وَقَدْ أَثَّرَ فِي سُقُوطِ شَطْرٍ فَجَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي سُقُوطِ أَحْدِ الْأَذَانَيْنِ، إلَّا أَنَّ الْإِقَامَةَ آكَدُ ثُبُوتًا فَيَسْقُطُ شَطْرُ الْأَذَانِ دُونَ الْإِقَامَةِ، وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْمُسَافِرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَذَّنَ، وَأَقَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَقَامَ وَلَمْ يُؤَذِّنْ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ أَهْلِ الْمِصْرِ سَبَبُ الرُّخْصَةِ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ بِهُجُومِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِيَحْضُرُوا، وَالْقَوْمُ فِي السَّفْرِ حَاضِرُونَ فَلَمْ يُكْرَهُ تَرْكُهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ، بِخِلَافِ الْحَضَرِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لِتَفَرُّقِهِمْ وَاشْتِغَالِهِمْ بِأَنْوَاعِ الْحِرَفِ وَالْمَكَاسِبِ لَا يَعْرِفُونَ بِهُجُومِ الْوَقْتِ، فَيُكْرَهُ تَرْكُ الْإِعْلَامِ - فِي حَقِّهِمْ - بِالْأَذَانِ، بِخِلَافِ الْإِقَامَةِ فَإِنَّهَا لِلْإِعْلَامِ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَا لَا يَخْتَلِفُ فِي حَقِّ الْمُقِيمِينَ وَالْمُسَافِرِينَ وَأَمَّا الْمُسَافِرُ إذَا كَانَ وَحْدَهُ فَإِنْ تَرَكَ الْأَذَانَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ تَرَكَ الْإِقَامَةَ يُكْرَهُ، وَالْمُقِيمُ إذَا كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ فَتَرَكَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ لَا يُكْرَهُ (وَالْفَرْقُ) أَنَّ أَذَانَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ يَقَعُ أَذَانًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، فَكَأَنَّهُ وُجِدَ الْأَذَانُ مِنْهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ تَقْدِيرًا، فَأَمَّا فِي السَّفَرِ فَلَمْ يُوجَدْ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ لِلْمُسَافِرِ مِنْ غَيْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ سَقَطَ الْأَذَانُ فِي حَقِّهِ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِقَامَةِ، وَلَوْ صَلَّى فِي مَسْجِدٍ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ هَلْ يُكْرَهْ أَنْ يُؤَذَّنَ وَيُقَامُ فِيهِ ثَانِيًا؟ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ كَانَ مَسْجِدًا لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ: فَإِنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومٌ: فَإِنْ صَلَّى فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ لَا يُكْرَهُ لِأَهْلِهِ أَنْ يُعِيدُوا الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ، وَإِنْ صَلَّى فِيهِ أَهْلُهُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، أَوْ بَعْضُ أَهْلِهِ يُكْرَهُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ وَلِلْبَاقِينَ مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يُعِيدُوا الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ وَإِنْ كَانَ مَسْجِدًا لَيْسَ لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومٌ بِأَنْ كَانَ عَلَى شَوَارِعِ الطَّرِيقِ - لَا يُكْرَهُ تَكْرَارُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِيهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ تَكْرَارَ الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ هَلْ يُكْرَهُ؟ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنَّمَا يُكْرَهُ إذَا كَانَتْ الْجَمَاعَةُ الثَّانِيَةُ كَثِيرَةً، فَأَمَّا إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً، أَوْ أَرْبَعَةً فَقَامُوا فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الْمَسْجِدِ وَصَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ لَا يُكْرَهُ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنَّمَا يُكْرَهُ إذَا كَانَتْ الثَّانِيَةُ عَلَى سَبِيلِ التَّدَاعِي وَالِاجْتِمَاعِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا يُكْرَهُ. (احْتَجَّ) الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى بِجَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ دَخَلَ رَجُلٌ وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ وَحْدَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَامَ وَصَلَّى مَعَهُ» وَهَذَا أَمْرٌ بِتَكْرَارِ الْجَمَاعَةِ، وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَأْمُرَ بِالْمَكْرُوهِ؛ وَلِأَنَّ قَضَاءَ حَقِّ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ كَمَا يَجِبُ قَضَاءُ حَقِّ الْجَمَاعَةِ، حَتَّى أَنَّ النَّاسَ لَوْ صَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ فِي الْبُيُوتِ وَعَطَّلُوا الْمَسَاجِدَ أَثِمُوا وَخُوصِمُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِتَرْكِهِمْ قَضَاءَ حَقِّ الْمَسْجِدِ، وَلَوْ صَلَّوْا فُرَادَى فِي الْمَسَاجِدِ أَثِمُوا بِتَرْكِهِمْ الْجَمَاعَةَ، وَالْقَوْمُ الْآخَرُونَ مَا قَضَوْا حَقَّ الْمَسْجِدِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ قَضَاءُ حَقِّهِ بِإِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهِ، وَلَا يُكْرَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ فِي مَسَاجِدِ قَوَارِعِ الطُّرُقِ، كَذَا هَذَا. (وَلَنَا) مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لِيُصْلِحَ بَيْنَ الْأَنْصَارِ لِتَشَاجُرٍ بَيْنَهُمْ فَرَجَعَ وَقَدْ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ بِجَمَاعَةٍ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَنْزِلِ بَعْضِ أَهْلِهِ فَجَمَعَ أَهْلَهُ فَصَلَّى بِهِمْ جَمَاعَةً، وَلَوْ لَمْ يُكْرَهُ تَكْرَارُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ لَمَا تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ عِلْمِهِ بِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِد. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا إذَا فَاتَتْهُمْ الْجَمَاعَةُ صَلَّوْا فِي الْمَسْجِدِ فُرَادَى؛ وَلِأَنَّ التَّكْرَارَ يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ تَفُوتُهُمْ الْجَمَاعَةُ فَيَسْتَعْجِلُونَ فَتَكْثُرُ الْجَمَاعَةُ، وَإِذَا عَلِمُوا أَنَّهَا لَا تَفُوتُهُمْ يَتَأَخَّرُونَ فَتَقِلُّ الْجَمَاعَةُ، وَتَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ مَكْرُوهٌ، بِخِلَافِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي عَلَى قَوَارِعِ الطُّرُقِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لَهَا أَهْلٌ مَعْرُوفُونَ، فَأَدَاءُ الْجَمَاعَةِ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لَا يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَاتِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا صَلَّى فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ

فصل بيان وقت الأذان والإقامة

الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ أَذَانَ الْمُؤَذِّن الْمَعْرُوفِ فَيَحْضُرُونَ حِينَئِذٍ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَسْجِدِ لَمْ يُقْضَ بَعْدُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ حَقِّهِ عَلَى أَهْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرَمَّةَ وَنَصْبَ الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ عَلَيْهِمْ قَضَاؤُهُ؟ وَلَا عِبْرَةَ بِتَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ الْأَوَّلِينَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُضَافٌ إلَيْهِمْ حَيْثُ لَمْ يَنْتَظِرُوا حُضُورَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ انْتِظَارَهُمْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ وَاحِدًا وَذَا لَا يُكْرَهُ، وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّدَاعِي وَالِاجْتِمَاعِ، بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاحِدِ مَعَ حَاجَتِهِمْ إلَى إحْرَازِ الثَّوَابِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ حَقِّ الْمَسْجِدِ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ مَكْرُوهٌ، وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ مُرَاعَاةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ كَانَتْ الْفَائِتَةُ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَإِنْ فَاتَهُ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ قَضَاهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَكَذَا إذَا فَاتَتْ الْجَمَاعَةَ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ قَضَوْهَا بِالْجَمَاعَةِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ: يُصَلِّي بِغَيْرِ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَفِي قَوْلٍ: يُصَلِّي بِالْإِقَامَةِ لَا غَيْرُ. (احْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْأَحْزَابِ قَضَاهُنَّ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ. وَرُوِيَ فِي قِصَّةِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارْتَحَلَ مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي، فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ وَصَلُّوا وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْأَذَانِ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ وَلَا حَاجَةَ هَهُنَا إلَى الْإِعْلَامِ بِهِ. (وَلَنَا) مَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ فَقَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ السَّحَرِ عَرَّسْنَا فَمَا اسْتَيْقَظْنَا حَتَّى أَيْقَظَنَا حَرُّ الشَّمْسِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا يَثِبُ دَهْشًا وَفَزَعًا، فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ارْتَحِلُوا مِنْ هَذَا الْوَادِي فَإِنَّهُ وَادِي شَيْطَانٍ، فَارْتَحَلْنَا وَنَزَلْنَا بِوَادٍ آخَرَ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ وَقَضَى الْقَوْمُ حَوَائِجَهُمْ أَمَرَ بِلَالًا بِأَنْ يُؤَذِّنَ فَأَذَّنَ وَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّيْنَا صَلَاةَ الْفَجْرِ» ، وَهَكَذَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ، وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ حِينَ شَغَلَهُمْ الْكُفَّارُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ قَضَاهُنَّ فَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، حَتَّى قَالُوا: أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعِشَاءَ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ. وَقَدْ فَاتَتْهُمْ الصَّلَاةُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ فَتُقْضَى كَذَلِكَ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِحَدِيثِ التَّعْرِيسِ وَالْأَحْزَابِ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ أَذَّنَ هُنَاكَ وَأَقَامَ عَلَى مَا رَوَيْنَا. وَأَمَّا إذَا فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ فَإِنْ أَذَّنَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ وَأَقَامَ فَحَسَنٌ، وَإِنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِلْأُولَى وَاقْتَصَرَ عَلَى الْإِقَامَةِ لِلْبَوَاقِي فَهُوَ جَائِزٌ. وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَوَاتِ الَّتِي فَاتَتْهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَلَى مَا رَوَيْنَا، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِلْأُولَى، ثُمَّ أَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ بَعْدَهَا، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِقَامَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَخْذَ بِرِوَايَةِ الزِّيَادَةِ أَوْلَى، خُصُوصًا فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ وَإِنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ صَلَّى الظُّهْرَ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ لِلصَّلَاةِ الَّتِي تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ، وَأَدَاءُ الظُّهْرِ بِجَمَاعَةٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَكْرُوهٌ فِي الْمِصْرِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. [فَصْلٌ بَيَانُ وَقْتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَوَقْتُهُمَا مَا هُوَ وَقْتُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، حَتَّى لَوْ أَذَّنَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَا يُجْزِئُهُ وَيُعِيدُهُ إذَا دَخَلَ الْوَقْتُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَخِيرًا لَا بَأْسَ بِأَنْ يُؤَذَّنَ لِلْفَجْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ اللَّيْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. (وَاحْتَجَّا) بِمَا رَوَى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ عَنْ السَّحُورِ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ» ؛ وَلِأَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ مُشْتَبَهٌ، وَفِي مُرَاعَاتِهِ بَعْضُ الْحَرَجِ بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ مَا رَوَى شَدَّادُ مَوْلَى عِيَاضِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِبِلَالٍ «لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَك الْفَجْرُ هَكَذَا» ، وَمَدَّ يَدَهُ عَرْضًا؛ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ شُرِعَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، وَالْإِعْلَامُ بِالدُّخُولِ قَبْلَ الدُّخُولِ كَذِبٌ، وَكَذَا هُوَ مِنْ بَابِ الْخِيَانَةِ فِي الْأَمَانَةِ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ؛ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ

فصل بيان ما يجب على السامعين عند الأذان

يُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ بِالنَّاسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتَ نَوْمِهِمْ خُصُوصًا فِي حَقِّ مَنْ تَهَجَّدَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ اللَّيْلِ، فَرُبَّمَا يَلْتَبِسُ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ. وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ كَانَ إذَا سَمِعَ مَنْ يُؤَذِّن قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَالَ: عُلُوجٌ فِرَاغٌ لَا يُصَلُّونَ إلَّا فِي الْوَقْتِ، لَوْ أَدْرَكَهُمْ عُمَرُ لَأَدَّبَهُمْ، وَبِلَالٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ بَلْ لِمَعَانٍ أُخَرَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ السَّحُورِ أَذَانُ بِلَالٍ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ لِيُوقِظَ نَائِمَكُمْ وَيَرُدَّ قَائِمَكُمْ وَيَتَسَحَّرَ صَائِمُكُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِأَذَانِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ» . وَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ يَتَهَجَّدُونَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ اللَّيْلِ، وَفِرْقَةٌ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ، وَكَانَ الْفَاصِلُ أَذَانَ بِلَالٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَذَانَ بِلَالٍ كَانَ لِهَذِهِ الْمَعَانِي لَا لِصَلَاةِ الْفَجْرِ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ يُعِيدُهُ ثَانِيًا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْفَجْرَ الصَّادِقَ الْمُسْتَطِيرَ فِي الْأُفُقِ مُسْتَبِينٌ لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى السَّامِعِينَ عِنْدَ الْأَذَانِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى السَّامِعِينَ عِنْدَ الْأَذَانِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِجَابَةُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ مِنْ الْجَفَاءِ: مَنْ بَالَ قَائِمًا، وَمَنْ مَسَحَ جَبْهَتَهُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَمَنْ سَمِعَ الْأَذَانَ وَلَمْ يُجِبْ، وَمَنْ سَمِعَ ذِكْرِي وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ» ، وَالْإِجَابَةُ: أَنْ يَقُولَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَالَ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ غَفَرَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» ، فَيَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَهُ إلَّا فِي قَوْلِهِ: " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ " فَإِنَّهُ يَقُولُ مَكَانَهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّ إعَادَةَ ذَلِكَ تُشْبِهُ الْمُحَاكَاةَ وَالِاسْتِهْزَاءَ، وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: " الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ " لَا يُعِيدُهُ السَّامِعُ لِمَا قُلْنَا وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ، أَوْ مَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَكَلَّمَ السَّامِعُ فِي حَالِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَلَا يَشْتَغِلَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ الْأَعْمَالِ سِوَى الْإِجَابَةِ، وَلَوْ كَانَ فِي الْقِرَاءَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ وَيَشْتَغِلَ بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِجَابَةِ، كَذَا قَالُوا فِي الْفَتَاوَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَالثَّانِي) : الْجَمَاعَةُ، وَالْكَلَامُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ وُجُوبِهَا، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَفْعَلُهُ فَائِتُ الْجَمَاعَةِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَصْلُحُ لَهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ هُوَ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِالْإِمَامَةِ، وَفِي بَيَانِ مَقَامِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَقَدْ قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا: إنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهَا سُنَّةٌ، (وَاحْتَجَّ) بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَرْدِ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، وَفِي رِوَايَةٍ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» ، جَعَلَ الْجَمَاعَةَ لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ وَذَا آيَةُ السُّنَنِ. (وَجْهُ) قَوْلِ الْعَامَّةِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَتَوَارُثُ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] ، أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِالرُّكُوعِ مَعَ الرَّاكِعِينَ وَذَلِكَ يَكُونُ فِي حَالِ الْمُشَارَكَةِ فِي الرُّكُوعِ، فَكَانَ أَمْرًا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ. (وَأَمَّا) السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَأَنْصَرِفَ إلَى أَقْوَامٍ تَخَلَّفُوا عَنْ الصَّلَاةِ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ» ، وَمِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يَلْحَقُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ. (وَأَمَّا) تَوَارُثُ الْأُمَّةِ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَاظَبَتْ عَلَيْهَا وَعَلَى النَّكِيرِ عَلَى تَارِكِهَا، وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، وَلَيْسَ هَذَا اخْتِلَافًا فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ مِنْ حَيْثُ الْعِبَارَةُ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ، وَالْوَاجِبَ سَوَاءٌ، خُصُوصًا مَا كَانَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَرْخِيَّ سَمَّاهَا سُنَّةً ثُمَّ فَسَّرَهَا بِالْوَاجِبِ فَقَالَ: الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ لَا يُرَخَّصُ لِأَحَدٍ التَّأَخُّرُ عَنْهَا إلَّا لِعُذْرٍ؟ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْوَاجِبِ عِنْدَ الْعَامَّةِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ: فَالْجَمَاعَةُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ، الْعَاقِلِينَ، الْأَحْرَارِ، الْقَادِرِينَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَلَا تَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ، وَالْمَجَانِين، وَالْعَبِيدِ، وَالْمُقْعَدِ، وَمَقْطُوعِ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ، وَالْمَرِيضِ (أَمَّا) النِّسَاءُ فَلِأَنَّ خُرُوجَهُنَّ إلَى الْجَمَاعَاتِ فِتْنَةٌ. (وَأَمَّا) الصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ فَلِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِمْ وَأَمَّا الْعَبِيدُ فَلِرَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ مَوَالِيهِمْ بِتَعْطِيلِ مَنَافِعِهِمْ الْمُسْتَحَقَّةِ وَأَمَّا الْمُقْعَدُ وَمَقْطُوعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ، وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ فَلِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْمَشْيِ، وَالْمَرِيضُ لَا يَقْدِرُ

فصل بيان من تنعقد به الجماعة

عَلَيْهِ إلَّا بِحَرَجٍ. (وَأَمَّا) الْأَعْمَى فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ قَائِدًا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَجَدَ قَائِدًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَجِبُ وَالْمَسْأَلَةُ مَعَ حُجَجِهَا تَأْتِي فِي كِتَابِ الْحَجِّ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ فَأَقَلُّ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ اثْنَانِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِمَامِ وَاحِدٌ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» ؛ وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ، وَأَقَلُّ مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الِاجْتِمَاعُ اثْنَانِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ رَجُلًا، أَوْ امْرَأَةً، أَوْ صَبِيًّا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّى الِاثْنَيْنِ مُطْلَقًا جَمَاعَةً، وَلِحُصُولِ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ بِانْضِمَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ إلَى الْإِمَامِ وَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَلَا عِبْرَةَ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ فَكَانَا مُلْحَقَيْنِ بِالْعَدَمِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَفْعَلُ بَعْدَ فَوَاتِ الْجَمَاعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْدَ فَوَاتِ الْجَمَاعَةِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ، لَكِنَّهُ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ فَإِنْ أَتَى مَسْجِدًا آخَرَ يَرْجُو إدْرَاكَ الْجَمَاعَةِ فِيهِ - فَحَسَنٌ، وَإِنْ صَلَّى فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ فَحَسَنٌ، لِحَدِيثِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانُوا إذَا فَاتَتْهُمْ الْجَمَاعَةُ فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الْجَمَاعَةَ، أَرَادَ بِهِ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ وَلِأَنَّ فِي كُلِّ جَانِبٍ مُرَاعَاةَ حُرْمَةٍ وَتَرْكَ أُخْرَى، فَفِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مُرَاعَاةُ حُرْمَةِ مَسْجِدِهِ وَتَرْكُ الْجَمَاعَةِ، وَفِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مُرَاعَاةُ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ وَتَرْكُ حَقِّ مَسْجِدِهِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَالَ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ إذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ جَمَعَ بِأَهْلِهِ فِي مَنْزِلِهِ، وَإِنْ صَلَّى وَحْدَهُ جَازَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى صُلْحٍ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَانْصَرَفَ مِنْهُ وَقَدْ فَرَغَ النَّاسُ مِنْ الصَّلَاةِ، فَمَالَ إلَى بَيْتِهِ وَجَمَعَ بِأَهْلِهِ فِي مَنْزِلِهِ» ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ الطَّلَبِ، إذْ لَوْ وَجَبَ لَكَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ الْأَوْلَى فِي زَمَانِنَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَدْخُلْ مَسْجِدَهُ أَنْ يَتَّبِعَ الْجَمَاعَةَ، وَإِنْ دَخَلَ مَسْجِدَهُ صَلَّى فِيهِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ فَهُوَ كُلُّ عَاقِلٍ مُسْلِمٍ، حَتَّى تَجُوزَ إمَامَةُ الْعَبْدِ، وَالْأَعْرَابِيِّ، وَالْأَعْمَى، وَوَلَدِ الزِّنَا وَالْفَاسِقِ، وَهَذَا قَوْلُ الْعَامَّةِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْفَاسِقِ وَ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْإِمَامَةَ مِنْ بَابِ الْأَمَانَةِ، وَالْفَاسِقُ خَائِنٌ، وَلِهَذَا لَا شَهَادَةَ لَهُ لِكَوْنِ الشَّهَادَةِ مِنْ بَابِ الْأَمَانَةِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ» ، وَالْحَدِيثُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - وَإِنْ وَرَدَ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ لِتَعَلُّقِهِمَا بِالْأُمَرَاءِ - وَأَكْثَرُهُمْ فُسَّاقٌ - لَكِنَّهُ بِظَاهِرِهِ حُجَّةٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، إذْ الْعِبْرَةُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَكَذَا الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ وَالتَّابِعُونَ اقْتَدَوْا بِالْحَجَّاجِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا مَعَ أَنَّهُ كَانَ أَفْسَقَ أَهْلِ زَمَانِهِ، حَتَّى كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: لَوْ جَاءَتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِخَبِيثِهَا وَجِئْنَا بِأَبِي مُحَمَّدٍ لَغَلَبْنَاهُمْ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ كُنْيَةُ الْحَجَّاجِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي أُسَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: عَرَّسْتُ فَدَعَوْتُ رَهْطًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ أَبُو ذَرٍّ وَحُذَيْفَةُ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي فَصَلَّيْتُ بِهِمْ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ عَبْدٌ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: فَتَقَدَّمَ أَبُو ذَرٍّ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ فَقِيلَ لَهُ: أَتَتَقَدَّمُ وَأَنْتَ فِي بَيْتِ غَيْرِكَ؟ فَقَدَّمُونِي فَصَلَّيْتُ بِهِمْ وَأَنَا يَوْمئِذٍ عَبْدٌ. وَهَذَا حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ أَوْرَدَهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ، وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الصَّلَاةِ بِالْمَدِينَةِ حِينَ خَرَجَ إلَى بَعْضِ الْغَزَوَاتِ وَكَانَ أَعْمَى؛ وَلِأَنَّ جَوَازَ الصَّلَاةِ مُتَعَلِّقٌ بِأَدَاءِ الْأَرْكَانِ وَهَؤُلَاءِ قَادِرُونَ عَلَيْهَا، إلَّا أَنَّ غَيْرَهُمْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْإِمَامَةِ عَلَى الْفَضِيلَةِ، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَؤُمُّ غَيْرَهُ وَلَا يَؤُمُّهُ غَيْرُهُ، وَكَذَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي عَصْرِهِ؛ وَلِأَنَّ النَّاسَ لَا يَرْغَبُونَ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ هَؤُلَاءِ فَتُؤَدِّي إمَامَتُهُمْ إلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ؛ وَلِأَنَّ مَبْنَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى الْعِلْمِ، وَالْغَالِبُ عَلَى الْعَبْدِ وَالْأَعْرَابِيِّ وَوَلَدِ الزِّنَا الْجَهْلُ. أَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّهُ لَا يَتَفَرَّغُ عَنْ خِدْمَةِ مَوْلَاهُ لِيَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا سَاوَى الْعَبْدُ غَيْرَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ كَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ سَوَاءً، وَلَا تَكُونُ الصَّلَاةُ خَلْفَ غَيْرِهِ أَحَبَّ إلَيَّ، (وَاحْتَجَّ) بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي أُسَيْدٍ وَذَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَتَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ وَانْتِقَاصُ

فصل بيان من يصلح للإمامة على التفصيل

فَضِيلَتِهِ عَنْ فَضِيلَةِ الْأَحْرَارِ يُوجِبَانِ الْكَرَاهَةَ. وَكَذَا الْغَالِبُ عَلَى الْأَعْرَابِيِّ الْجَهْلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] ، وَالْأَعْرَابِيُّ هُوَ الْبَدَوِيُّ، وَإِنَّهُ اسْمُ ذَمٍّ، وَالْعَرَبِيُّ اسْمُ مَدْحٍ. وَكَذَا وَلَدُ الزِّنَا الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ الْجَهْلُ لِفَقْدِهِ مَنْ يُؤَدِّبُهُ وَيُعَلِّمُهُ مَعَالِمَ الشَّرِيعَةِ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ أَمَانَةٌ عَظِيمَةٌ فَلَا يَتَحَمَّلهَا الْفَاسِقُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ عَلَى وَجْهِهَا وَالْأَعْمَى يُوَجِّهُهُ غَيْرُهُ إلَى الْقِبْلَةِ فَيَصِيرَ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ مُقْتَدِيًا بِغَيْرِهِ، وَرُبَّمَا يَمِيلُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ عَنْ الْقِبْلَةِ، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَمْتَنِعُ عَنْ الْإِمَامَةِ بَعْد مَا كُفَّ بَصَرُهُ وَيَقُولُ: كَيْفَ أَؤُمُّكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْدِلُونَنِي؟ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنهُ التَّوَقِّي عَنْ النَّجَاسَاتِ فَكَانَ الْبَصِيرُ أَوْلَى، إلَّا إذَا كَانَ فِي الْفَضْلِ لَا يُوَازِيهِ فِي مَسْجِدِهِ غَيْرُهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ أَوْلَى، وَلِهَذَا اسْتَخْلَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِمَامَةُ صَاحِبِ الْهَوَى وَالْبِدْعَةِ مَكْرُوهَةٌ، نَصَّ عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي فَقَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ صَاحِبَ هَوًى وَبِدْعَةٍ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَرْغَبُونَ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَهُ، وَهَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ؟ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ لَا تَجُوزُ، وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الصَّلَاةَ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ كَانَ هَوًى يُكَفِّرُهُ لَا تَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُكَفِّرُهُ تَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ تَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ، حَتَّى لَوْ أَمَّتْ النِّسَاءَ جَازَ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَقُومَ وَسَطَهُنَّ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا أَمَّتْ نِسْوَةً فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَقَامَتْ وَسَطَهُنَّ وَأَمَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ نِسَاءً وَقَامَتْ وَسَطَهُنَّ؛ وَلِأَنَّ مَبْنَى حَالِهِنَّ عَلَى السِّتْرِ وَهَذَا أَسْتَرُ لَهَا، إلَّا أَنَّ جَمَاعَتَهُنَّ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُسْتَحَبَّةٌ كَجَمَاعَةِ الرِّجَالِ، وَيُرْوَى فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ لَكِنَّ تِلْكَ كَانَتْ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَتْ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَا يُبَاحُ لِلشَّوَابِّ مِنْهُنَّ الْخُرُوجُ إلَى الْجَمَاعَاتِ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ نَهَى الشَّوَابَّ عَنْ الْخُرُوجِ؛ وَلِأَنَّ خُرُوجَهُنَّ إلَى الْجَمَاعَةِ سَبَبُ الْفِتْنَةِ، وَالْفِتْنَةُ حَرَامٌ، وَمَا أَدَّى إلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ. وَأَمَّا الْعَجَائِزُ فَهَلْ يُبَاحُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ إلَى الْجَمَاعَاتِ فَنَذْكُرُ الْكَلَامَ فِيهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ يَصْلُحُ إمَامًا فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَؤُمَّ الصِّبْيَانَ فِي التَّرَاوِيحِ، وَفِي إمَامَتِهِ الْبَالِغِينَ فِيهَا اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ عَلَى مَا مَرَّ فَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِمَامَةِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ فَكُلُّ مَنْ صَحَّ اقْتِدَاءُ الْغَيْرِ بِهِ فِي صَلَاةٍ يَصْلُحُ إمَامًا لَهُ فِيهَا، وَمَنْ لَا فَلَا، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ شَرَائِط صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ وَأَوْلَى بِهَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ وَأَوْلَى بِهَا فَالْحُرُّ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنْ الْعَبْدِ، وَالتَّقِيُّ أَوْلَى مِنْ الْفَاسِقِ، وَالْبَصِيرُ أَوْلَى مِنْ الْأَعْمَى، وَوَلَدُ الرِّشْدَةِ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ الزِّنَا، وَغَيْرُ الْأَعْرَابِيِّ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْلَى مِنْ الْأَعْرَابِيِّ لِمَا قُلْنَا، ثُمَّ أَفْضَلُ هَؤُلَاءِ أَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ وَأَفْضَلُهُمْ وَرَعًا وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ إذَا اجْتَمَعَتْ فِي إنْسَانٍ كَانَ هُوَ أَوْلَى، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِنَاءَ أَمْرِ الْإِمَامَةِ عَلَى الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ، وَالْمُسْتَجْمَعُ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ مِنْ أَكْمَلِ النَّاسِ، أَمَّا الْعِلْمُ وَالْوَرَعُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا كِبَرُ السِّنِّ فَلِأَنَّ مَنْ امْتَدَّ عُمُرُهُ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ أَكْثَرَ طَاعَةً وَمُدَاوَمَةً عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا إذَا تَفَرَّقَتْ فِي أَشْخَاصٍ فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ أَوْلَى إذَا كَانَ يُحْسِنُ مِنْ الْقِرَاءَةِ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَقَدَّمَ الْأَقْرَأَ فَقَالَ: وَيَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ وَأَفْضَلُهُمْ وَرَعًا وَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لِيَؤُمَّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، فَإِنْ كَانُوا سَوَاءً فَأَصْبَحُهُمْ وَجْهًا» ، ثُمَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ أَجْرَى الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَدَّمَ الْأَقْرَأَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَأَ بِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ إذَا كَانَ يُحْسِنُ مِنْ الْقِرَاءَةِ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ فَهُوَ أَوْلَى، كَذَا ذُكِرَ فِي آثَارِ أَبِي حَنِيفَةَ لِافْتِقَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْقِرَاءَة إلَى الْعِلْمِ لِيَتَمَكَّنَ بِهِ مِنْ تَدَارُكِ مَا عَسَى أَنْ يَعْرِضَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْعَوَارِضِ، وَافْتِقَارِ الْقِرَاءَةِ أَيْضًا إلَى الْعِلْمِ بِالْخَطَأِ الْمُفْسِدِ لِلصَّلَاةِ فِيهَا، فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَعْلَمُ أَفْضَلَ حَتَّى قَالُوا: إنَّ الْأَعْلَمَ إذَا كَانَ مِمَّنْ يَجْتَنِبُ الْفَوَاحِشَ الظَّاهِرَةَ

فصل بيان مقام الإمام والمأموم

وَالْأَقْرَأُ أَوَرَعُ مِنْهُ - فَالْأَعْلَمُ أَوْلَى، إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّمَ الْأَقْرَأَ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْأَقْرَأَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانَ أَعْلَمَ لِتَلَقِّيهِمْ الْقُرْآنَ بِمَعَانِيهِ وَأَحْكَامِهِ، فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مَاهِرًا فِي الْقُرْآنِ وَلَا حَظَّ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ، فَكَانَ الْأَعْلَمُ أَوْلَى، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْعِلْمِ فَأَوْرَعُهُمْ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّةَ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ بِقَدْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَوَازُ إلَى الْوَرَعِ أَشَدُّ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ صَلَّى خَلْفَ عَالِمٍ تَقِيٍّ فَكَأَنَّمَا صَلَّى خَلْفَ نَبِيٍّ» ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ أَقْدَمَهُمْ هِجْرَةً فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ فَرِيضَةً يَوْمئِذٍ ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» ، فَيُقَدَّمُ الْأَوْرَعُ لِتَحْصُلَ بِهِ الْهِجْرَةُ عَنْ الْمَعَاصِي، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْوَرَعِ فَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَهْلُ الْقُرْآنِ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ» ، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْقِرَاءَةِ فَأَكْبَرَهُمْ سِنًّا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْكُبْرَ الْكُبْرَ» فَإِنْ، كَانُوا فِيهِ سَوَاءً فَأَحْسَنُهُمْ خُلُقًا؛ لِأَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مِنْ بَابِ الْفَضِيلَةِ، وَمَبْنَى الْإِمَامَةِ عَلَى الْفَضِيلَةِ، فَإِنْ كَانُوا فِيهِ سَوَاءً فَأَحْسَنُهُمْ وَجْهًا؛ لِأَنَّ رَغْبَةَ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَهُ أَكْثَرُ، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: مَعْنَى قَوْلِهِ - فِي الْحَدِيثِ - أَحْسَنَهُمْ وَجْهًا أَيْ أَكْثَرُهُمْ خِبْرَةً بِالْأُمُورِ، يُقَالُ: وَجْهُ هَذَا الْأَمْرِ كَذَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيْ: أَكْثَرُهُمْ صَلَاةً بِاللَّيْلِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ كَثُرَ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ» ، وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا التَّكَلُّفِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى ظَاهِرِهِ مُمْكِنٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ دَوَاعِي الِاقْتِدَاءِ، فَكَانَتْ إمَامَتُهُ سَبَبًا لِتَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى. وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَؤُمَّ الرَّجُلَ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ، لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ مَوْلَى بَنِي أُسَيْدٍ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَةِ أَخِيهِ إلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِعَوْرَاتِ بَيْتِهِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي بَيْتِهِ؛ وَلِأَنَّ فِي التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ ازْدِرَاءً بِهِ بَيْنَ عَشَائِرِهِ وَأَقَارِبِهِ، وَذَا لَا يَلِيقُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ كَانَتْ لِحَقِّهِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ الضَّيْفَ إذَا كَانَ ذَا سُلْطَانٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَؤُمَّ بِدُونِ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لِمِثْلِ هَذَا الضَّيْفِ ثَابِتٌ دَلَالَةً، وَإِنَّهُ كَالْإِذْنِ نَصًّا وَأَمَّا إذَا كَانَ الضَّيْفُ سُلْطَانًا فَحَقُّ الْإِمَامَةِ لَهُ حَيْثُمَا يَكُونُ، وَلَيْسَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ إلَّا بِإِذْنِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَقَامِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَقَامِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فَنَقُولُ: إذَا كَانَ سِوَى الْإِمَامِ ثَلَاثَةٌ يَتَقَدَّمَهُمْ الْإِمَامُ لِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَمَلِ الْأُمَّةِ بِذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ جَدَّتِي مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى طَعَامٍ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُومُوا لِأُصَلِّيَ بِكُمْ، فَأَقَامَنِي وَالْيَتِيمَ مِنْ وَرَائِهِ، وَأُمِّي أُمَّ سُلَيْمٍ مِنْ وَرَائِنَا» ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ يَمْتَازُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ وَلَا يُشْتَبَهُ عَلَى الدَّاخِلِ لِيُمْكِنَهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّقَدُّمِ. وَلَوْ قَامَ فِي وَسَطِهِمْ أَوْ فِي مَيْمَنَةِ الصَّفِّ أَوْ فِي مَيْسَرَتِهِ جَازَ وَقَدْ أَسَاءَ، أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ الْجَوَازَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَرْكَانِ وَقَدْ وُجِدَتْ. وَأَمَّا الْإِسَاءَةُ فَتَرْكُهُ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، وَجَعْلِ نَفْسِهِ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُ الدَّاخِلُ الِاقْتِدَاءَ بِهِ، وَفِيهِ تَعْرِيضُ اقْتِدَائِهِ لِلْفَسَادِ، وَلِذَلِكَ إذَا كَانَ سِوَاهُ اثْنَانِ يَتَقَدَّمُهُمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَتَوَسَّطُهُمَا لِمَا رُوِيَ عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ صَلَّى بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَقَامَ وَسَطَهُمَا، وَقَالَ هَكَذَا صَنَعَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِأَنَسٍ وَالْيَتِيمَ وَأَقَامَهُمَا خَلْفَهُ» ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: صَنَعَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ تُرْوَ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ فَلَمْ يَثْبُتْ وَبَقِيَ مُجَرَّدُ الْفِعْلِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ضِيقِ الْمَكَانِ، كَذَا قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ، وَهُوَ كَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ بِأَحْوَالِ عَبْدِ اللَّهِ وَمَذْهَبِهِ. وَلَوْ ثَبَتَتْ الزِّيَادَةُ فَهِيَ أَيْضًا مَحْمُولَةٌ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ أَيْ: هَكَذَا صَنَعَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ ضِيقِ الْمَكَانِ، عَلَى أَنَّ الْأَحَادِيثَ إنْ تَعَارَضَتْ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْمَعْقُولِ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَتَقَدَّمُ لِئَلَّا يَشْتَبِهَ حَالُهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّ هَهُنَا لَوْ قَامَ الْإِمَامُ وَسَطَهُمَا لَا يُكْرَهُ لِوُرُودِ الْأَثَرِ وَكَوْنِ التَّأْوِيلِ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ. وَإِنْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ رَجُلٌ وَاحِدٌ أَوْ صَبِيٌّ يَعْقِلُ الصَّلَاةَ يَقِفُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ «بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ لِأُرَاقِبَ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَانْتَبَهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: نَامَتْ الْعُيُونُ وَغَارَتْ النُّجُومُ وَبَقِيَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، ثُمَّ قَرَأَ آخِرَ آلِ عِمْرَانَ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 190] الْآيَاتِ، ثُمَّ قَامَ إلَى شَنٍّ

فصل بيان ما يستحب للإمام أن يفعله عقيب الفراغ من الصلاة

مُعَلَّقٍ فِي الْهَوَاءِ فَتَوَضَّأَ وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ، فَتَوَضَّأْتُ وَوَقَفْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِأُذُنِي - وَفِي رِوَايَةٍ بِذُؤَابَتِي - وَأَدَارَنِي خَلْفَهُ حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَعُدْتُ إلَى مَكَانِي فَأَعَادَنِي ثَانِيًا وَثَالِثًا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: مَا مَنَعَكَ يَا غُلَامُ أَنْ تَثْبُتَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَوْقَفْتُكَ فِيهِ؟ فَقُلْتُ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُسَاوِيَكَ فِي الْمَوْقِفِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ، فَإِعَادَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاهُ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَارَ هُوَ الْوُقُوفُ عَلَى يَمِينِ الْإِمَامِ إذَا كَانَ مَعَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَكَذَا رُوِيَ «عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَامَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَوَّلَهُ وَأَقَامَهُ عَنْ يَمِينِهِ» ، ثُمَّ إذَا وَقَفَ عَنْ يَمِينِهِ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ الْإِمَامِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أَصَابِعُهُ عِنْدَ عَقِبِ الْإِمَامِ، وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ عِنْدَ الْعَوَامّ. وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَدِي أَطْوَلَ مِنْ الْإِمَامِ وَكَانَ سُجُودُهُ قُدَّامَ الْإِمَامِ لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِمَوْضِعِ الْوُقُوفِ لَا لِمَوْضِعِ السُّجُودِ، كَمَا لَوْ وَقَفَ فِي الصَّفِّ وَوَقَعَ سُجُودُهُ أَمَامَ الْإِمَامِ لِطُولِهِ وَلَوْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَرْكَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَفَا فِي الِابْتِدَاءِ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ جَوَّزَ اقْتِدَاءَهُمَا بِهِ؟ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْمَقَامَ الْمُخْتَارَ لَهُ، وَلِهَذَا حَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ وَقَفَ خَلْفَهُ جَازَ لِمَا مَرَّ، وَهَلْ يُكْرَهُ؟ لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ الْكَرَاهَةَ نَصًّا، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ خَلْفَهُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ مِنْهُ عَلَى يَمِينِهِ فَلَا يَتِمُّ إعْرَاضُهُ عَنْ السُّنَّةِ، بِخِلَافِ الْوَاقِفِ عَلَى يَسَارِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ لِمُنْبَذٍ خَلْفَ الصُّفُوفِ» ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ النَّهْيِ هُوَ الْكَرَاهَةُ، وَإِنَّمَا نَشَأَ هَذَا الِاخْتِلَافُ عَنْ إشَارَةِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِنْ صَلَّى خَلْفَهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَكَذَلِكَ إنْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ وَهُوَ مُسِيءٌ - فَمِنْهُمْ مَنْ صَرَفَ جَوَابَ الْإِسَاءَةِ إلَى آخِرِ الْفِعْلَيْنِ ذِكْرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ صَرَفَهُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِقَوْلِهِ: " وَكَذَلِكَ "، ثُمَّ أَثْبَتَ الْإِسَاءَةَ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِمَا. وَإِذَا كَانَ مَعَ الْإِمَامِ امْرَأَةٌ أَقَامَهَا خَلْفَهُ؛ لِأَنَّ مُحَاذَاتَهَا مُفْسِدَةٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَهُ خُنْثَى مُشْكِلٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، أَوْ رَجُلٌ وَخُنْثَى، أَقَامَ الرَّجُلَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْمَرْأَةَ أَوْ الْخُنْثَى خَلْفَهُ. وَلَوْ كَانَ مَعَهُ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ أَوْ خُنْثَى أَقَامَ الرَّجُلَيْنِ خَلْفَهُ وَالْمَرْأَةَ وَالْخُنْثَى خَلْفَهُمَا وَلَوْ اجْتَمَعَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْخَنَاثَى وَالصَّبِيَّاتُ الْمُرَاهِقَاتُ فَأَرَادُوا أَنْ يَصْطَفُّوا لِلْجَمَاعَةِ - يَقُومُ الرِّجَالُ صَفًّا مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ الْخَنَاثَى، ثُمَّ الْإِنَاثُ، ثُمَّ الصَّبِيَّاتُ الْمُرَاهِقَاتُ. وَكَذَلِكَ التَّرْتِيبُ فِي الْجَنَائِزِ إذَا اجْتَمَعَتْ وَفِيهَا جِنَازَةُ الرَّجُلِ وَالصَّبِيِّ وَالْخُنْثَى وَالْأُنْثَى وَالصَّبِيَّةِ الْمُرَاهِقَةِ، وَكَذَلِكَ الْقَتْلَى إذَا جُمِعَتْ فِي حَفِيرَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ عَلَى مَا يُذْكَرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - (وَأَفْضَلُ) مَكَانِ الْمَأْمُومِ إذَا كَانَ رَجُلًا حَيْثُ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْإِمَامِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا» ، وَإِذَا تَسَاوَتْ الْمَوَاضِعُ فِي الْقُرْبِ إلَى الْإِمَامِ فَعَنْ يَمِينِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي الْأُمُورِ، وَإِذَا قَامُوا فِي الصُّفُوفِ تَرَاصَّوْا وَسَوَّوْا بَيْنَ مَنَاكِبِهِمْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَرَاصُّوا وَأَلْصِقُوا الْمَنَاكِبَ بِالْمَنَاكِبِ» . [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ عَقِيبَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ عَقِيبَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ فَنَقُولُ: إذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ الصَّلَاةِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ صَلَاةً لَا تُصَلَّى بَعْدَهَا سُنَّةٌ: أَوْ كَانَتْ صَلَاةً تُصَلَّى بَعْدَهَا سُنَّةٌ: فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةً لَا تُصَلَّى بَعْدهَا سُنَّةٌ كَالْفَجْرِ وَالْعَصْرِ فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَامَ وَإِنْ شَاءَ قَعَدَ فِي مَكَانِهِ يَشْتَغِلُ بِالدُّعَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَطَوُّعَ بَعْدَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِالْقُعُودِ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ الْمُكْثُ عَلَى هَيْئَتِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ لَا يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ إلَّا مِقْدَارَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» . وَرُوِيَ أَنَّ جُلُوسَ الْإِمَامِ فِي مُصَلَّاهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ - بِدْعَةٌ؛ وَلِأَنَّ مُكْثَهُ يُوهِمُ الدَّاخِلَ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ فَيَقْتَدِي بِهِ فَيَفْسُدُ اقْتِدَاؤُهُ، فَكَانَ الْمُكْثُ تَعْرِيضًا لِفَسَادِ اقْتِدَاءِ غَيْرِهِ بِهِ فَلَا يَمْكُثُ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ إنْ شَاءَ، إنْ لَمْ يَكُنْ بِحِذَائِهِ أَحَدٌ يُصَلِّي، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ «إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ

فصل الواجبات الأصلية في الصلاة

الْفَجْرِ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ أَصْحَابَهُ وَقَالَ: هَلْ رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا؟» كَأَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ رُؤْيَا فِيهَا بُشْرَى بِفَتْحِ مَكَّةَ. فَإِنْ كَانَ بِحِذَائِهِ أَحَدٌ يُصَلِّي لَا يَسْتَقْبِلْ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الصُّورَةِ الصُّورَةَ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهٌ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي إلَى وَجْهِ غَيْرِهِ فَعَلَاهُمَا بِالدِّرَّةِ وَقَالَ لِلْمُصَلِّي: أَتَسْتَقْبِلُ الصُّورَةَ، وَلِلْآخَرِ أَتَسْتَقْبِلُ الْمُصَلِّي بِوَجْهِكَ، وَإِنْ شَاءَ انْحَرَفَ؛ لِأَنَّ بِالِانْحِرَافِ يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ كَمَا يَزُولُ بِالِاسْتِقْبَالِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي كَيْفِيَّةِ الِانْحِرَافِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْحَرِفُ إلَى يَمِينِ الْقِبْلَةِ تَبَرُّكًا بِالتَّيَامُنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْحَرِفُ إلَى الْيَسَارِ لِيَكُونَ يَسَارُهُ إلَى الْيَمِينِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ انْحَرَفَ يَمْنَةً وَإِنْ شَاءَ يَسْرَةً وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الِانْحِرَافِ وَهُوَ زَوَالُ الِاشْتِبَاهِ يَحْصُلُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. (وَإِنْ) كَانَتْ صَلَاةً بَعْدَهَا سُنَّةٌ يُكْرَهُ لَهُ الْمُكْثُ قَاعِدًا، وَكَرَاهَةُ الْقُعُودِ مَرْوِيَّةٌ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَانَا إذَا فَرَغَا مِنْ الصَّلَاةِ قَامَا كَأَنَّهُمَا عَلَى الرَّضْفِ؛ وَلِأَنَّ الْمُكْثَ يُوجِبُ اشْتِبَاهَ الْأَمْرِ عَلَى الدَّاخِلِ فَلَا يَمْكُثُ وَلَكِنْ يَقُومُ وَيَتَنَحَّى عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ» ، وَعَنْ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَرِهَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَنَفَّلَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَمَّ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ عَلَى الدَّاخِلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَنَحَّى إزَالَةً لِلِاشْتِبَاهِ، أَوْ اسْتِكْثَارًا مِنْ شُهُودِهِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ مَكَانَ الْمُصَلِّي يَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (وَأَمَّا) الْمَأْمُومُونَ فَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ الِانْتِقَالِ لِانْعِدَامِ الِاشْتِبَاهِ عَلَى الدَّاخِلِ عِنْدَ مُعَايَنَةِ فَرَاغِ مَكَانِ الْإِمَامِ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: يُسْتَحَبُّ لِلْقَوْمِ أَيْضًا أَنْ يَنْقُضُوا الصُّفُوفَ وَيَتَفَرَّقُوا لِيَزُولَ الِاشْتِبَاهُ عَلَى الدَّاخِلِ الْمُعَايِنِ الْكُلَّ فِي الصَّلَاةِ الْبَعِيدِ عَنْ الْإِمَامِ، وَلِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (وَأَمَّا) الَّذِي هُوَ فِي الصَّلَاةِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ هُوَ أَصْلِيٌّ، وَنَوْعٌ هُوَ عَارِضٌ ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِسَبَبٍ عَارِضٍ. [فَصْلٌ الْوَاجِبَاتُ الْأَصْلِيَّةُ فِي الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : أَمَّا الْوَاجِبَاتُ الْأَصْلِيَّةُ فِي الصَّلَاةِ فَسِتَّةٌ: مِنْهَا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ فِي صَلَاةٍ ذَاتِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَالثَّلَاثِ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا: فَإِنْ كَانَ عَامِدًا كَانَ مُسِيئًا، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ، وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ عَلَى التَّعْيِينِ فَرْضٌ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا أَوْ حَرْفًا مِنْهَا فِي رَكْعَةٍ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَقَالَ مَالِكٌ: قِرَاءَتُهُمَا عَلَى التَّعْيِينِ فَرْضٌ. (احْتَجَّا) بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ» . وَرُوِيَ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ مَعَهَا» ، أَوْ قَالَ: وَشَيْءٌ مَعَهَا؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاظَبَ عَلَى قِرَاءَتِهِمَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَيَدُلُّ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] ، أَمْرٌ بِمُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، فَتَعْيِينُ الْفَاتِحَةِ فَرْضًا أَوْ تَعْيِينُهُمَا نَسَخَ الْإِطْلَاقَ، وَنَسْخُ الْكِتَابِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، فَكَيْفَ يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؟ فَقَبِلْنَا الْحَدِيثَ فِي حَقِّ الْوُجُوبِ عَمَلًا حَتَّى تُكْرَهَ تَرْكُ قِرَاءَتِهِمَا دُونَ الْفَرْضِيَّةِ عَمَلًا بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، كَيْ لَا يُضْطَرَّ إلَى رَدِّهِ لِوُجُوبِ رَدِّهِ عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ، وَمُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى فِعْلٍ لَا يَدُلُّ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيمَا يُجْهَرُ وَهُوَ الْفَجْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَالْمُخَافَتَةُ فِيمَا يُخَافَتُ وَهُوَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ إذَا كَانَ إمَامًا. وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا، فَإِنْ كَانَ إمَامًا يَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ الْجَهْرِ فِيمَا يُجْهَرُ، وَكَذَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ مِنْ شَرْطِهَا الْجَمَاعَةُ كَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالتَّرْوِيحَاتِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمُخَافَتَةُ فِيمَا يُخَافَتُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ يَتَحَمَّلُهُ الْإِمَامُ عَنْ الْقَوْمِ فِعْلًا، فَيَجْهَرُ لِيَتَأَمَّلَ الْقَوْمُ وَيَتَفَكَّرُوا فِي ذَلِكَ، فَتَحْصُلُ ثَمَرَةُ الْقِرَاءَةِ وَفَائِدَتُهَا لِلْقَوْمِ، فَتَصِيرُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةً لَهُمْ تَقْدِيرًا، كَأَنَّهُمْ قَرَءُوا. وَثَمَرَةُ الْجَهْرِ تَفُوتُ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي الْأَغْلَبِ يَحْضُرُونَ الْجَمَاعَاتِ فِي خِلَالِ الْكَسْبِ وَالتَّصَرُّفِ وَالِانْتِشَارِ فِي الْأَرْضِ، فَكَانَتْ قُلُوبُهُمْ مُتَعَلِّقَةً بِذَلِكَ، فَيَشْغَلُهُمْ ذَلِكَ عَنْ حَقِيقَةِ التَّأَمُّلِ فَلَا يَكُونُ الْجَهْرُ مُفِيدًا بَلْ يَقَعُ تَسْبِيبًا إلَى الْإِثْمِ بِتَرْكِ التَّأَمُّلِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ صَلَاةِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ الْحُضُورَ إلَيْهَا لَا يَكُونُ فِي خِلَالِ الشُّغْلِ، وَبِخِلَافِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدَّى فِي الْأَحَايِينِ مَرَّةً عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ وَحُضُورِ السُّلْطَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَبْعَثَةٌ عَلَى إحْضَارِ الْقَلْبِ وَالتَّأَمُّلِ؛ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ

وَالْأَرْكَانُ فِي الْفَرَائِضِ تُؤَدَّى عَلَى سَبِيلِ الشُّهْرَةِ دُونَ الْإِخْفَاءِ، وَلِهَذَا «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْهَرُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا فِي الِابْتِدَاءِ» إلَى أَنْ قَصَدَ الْكُفَّارُ أَنْ لَا يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ وَكَادُوا يَلْغُونَ فِيهِ فَخَافَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلْأَذَى فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، وَلِهَذَا كَانَ يَجْهَرُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُمَا بِالْمَدِينَةِ وَمَا كَانَ لِلْكُفَّارِ بِالْمَدِينَةِ قُوَّةُ الْأَذَى، ثُمَّ وَإِنْ زَالَ هَذَا الْعُذْرُ بَقِيَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ وَنَحْوِهِ؛ وَلِأَنَّهُ وَاظَبَ عَلَى الْمُخَافَتَةِ فِيهِمَا فِي عُمْرِهِ فَكَانَتْ وَاجِبَةً؛ وَلِأَنَّهُ وَصَفَ صَلَاةَ النَّهَارِ بِالْعَجْمَاءِ وَهِيَ الَّتِي لَا تَبِينُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْوَصْفُ لَهَا إلَّا بِتَرْكِ الْجَهْرِ فِيهَا، وَكَذَا وَاظَبَ عَلَى الْجَهْرِ فِيمَا يُجْهَرُ وَالْمُخَافَتَةِ فِيمَا يُخَافَتُ وَذَلِكَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، وَعَلَى هَذَا عَمَلُ الْأُمَّةِ وَيُخْفِي الْقِرَاءَةَ فِيمَا سِوَى الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ صِفَةُ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَالْقِرَاءَةُ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إذَا جَهَرَ الْإِمَامُ فِيمَا يُخَافَتُ أَوْ خَافَتْ فِيمَا يُجْهَرُ فَإِنْ كَانَ عَامِدًا يَكُونُ مُسِيئًا، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ إسْمَاعُ الْقَوْمِ فِيمَا يُجْهَرُ، وَإِخْفَاءُ الْقِرَاءَةِ عَنْهُمْ فِيمَا يُخَافَتُ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ عَمْدًا يُوجِبُ الْإِسَاءَةَ، وَسَهْوًا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةً يُخَافَتُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ خَافَتَ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ، وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ إنْ زَادَ عَلَى مَا يُسْمِعُ أُذُنَيْهِ فَقَدْ أَسَاءَ. وَذَكَرَ عِصَامُ بْنُ أَبِي يُوسُفَ فِي مُخْتَصَرِهِ وَأَثْبَتَ لَهُ خِيَارَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ، اسْتِدْلَالًا بِعَدَمِ وُجُوبِ السَّهْوِ عَلَيْهِ إذَا جَهَرَ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْأَصْلِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَعَ حَاجَتِهِ إلَى إسْمَاعِ غَيْرِهِ يُخَافِتُ فَالْمُنْفَرِدُ أَوْلَى وَلَوْ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَإِنْ كَانَ عَامِدًا يَكُونُ مُسِيئًا، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي صَلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَا سَهْوَ عَلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي بَابِ السَّهْوِ بِخِلَافِ الْإِمَامِ. (وَالْفَرْقُ) أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَجِبُ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ، وَالنُّقْصَانُ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ إسَاءَتَهُ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ شَيْئَيْنِ نُهِيَ عَنْهُمَا: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ رَفَعَ صَوْتَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الرَّفْعِ، وَالثَّانِي - أَنَّهُ أَسْمَعَ مَنْ أُمِرَ بِالْإِخْفَاءِ عَنْهُ، وَالْمُنْفَرِدُ رَفَعَ صَوْتَهُ فَقَطْ فَكَانَ النُّقْصَانُ فِي صَلَاتِهِ أَقَلَّ، وَمَا وَجَبَ لِجَبْرِ الْأَعْلَى لَا يَجِبُ لِجَبْرِ الْأَدْنَى وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةً يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ جَهَرَ وَإِنْ شَاءَ خَافَتَ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ إنْ شَاءَ جَهَرَ بِقَدْرِ مَا يُسْمِعُ أُذُنَيْهِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَذَكَرَ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ مُفَسَّرًا أَنَّهُ بَيْنَ خِيَارَاتٍ ثَلَاثٍ: إنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ غَيْرَهُ، وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَسَرَّ الْقِرَاءَةَ، أَمَّا كَوْنُ لَهُ أَنْ يَجْهَرَ فَلِأَنَّ الْمُنْفَرِدَ إمَامٌ فِي نَفْسِهِ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَجْهَرَ. وَلَهُ أَنْ يُخَافِتَ بِخِلَافِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَحْتَاجُ إلَى الْجَهْرِ لِإِسْمَاعِ غَيْرِهِ وَالْمُنْفَرِدُ يَحْتَاجُ إلَى إسْمَاعِ نَفْسِهِ لَا غَيْرُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْمُخَافَتَةِ، وَذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ أَنَّ الْجَهْرَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَشْبِيهًا بِالْجَمَاعَةِ، وَالْمُنْفَرِدُ إنْ عَجَزَ عَنْ تَحْقِيقِ الصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ لَمْ يَعْجِزْ عَنْ التَّشَبُّهِ، وَلِهَذَا إذَا أَذَّنَ وَأَقَامَ كَانَ أَفْضَلَ هَذَا فِي الْفَرَائِضِ وَأَمَّا فِي التَّطَوُّعَاتِ فَإِنْ كَانَ فِي النَّهَارِ يُخَافِتُ، وَإِنْ كَانَ فِي اللَّيْلِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ خَافَتَ وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ، وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّوَافِلَ أَتْبَاعُ الْفَرَائِضِ، وَالْحُكْمُ فِي الْفَرَائِضِ كَذَلِكَ، حَتَّى لَوْ كَانَ بِجَمَاعَةٍ كَمَا فِي التَّرَاوِيحِ يَجِبُ الْجَهْرُ وَلَا يَتَخَيَّرُ فِي الْفَرَائِضِ، وَقَدْ رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إذَا صَلَّى بِاللَّيْلِ سُمِعَتْ قِرَاءَتُهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ» . وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ يَتَهَجَّدُ بِاللَّيْلِ وَيُخْفِي الْقِرَاءَةَ، وَمَرَّ بِعُمَرَ وَهُوَ يَتَهَجَّدُ وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ، وَمَرَّ بِبِلَالٍ وَهُوَ يَتَهَجَّدُ وَيَنْتَقِلُ مِنْ سُورَةٍ إلَى سُورَةٍ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ حَالِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كُنْتُ أُسْمِعُ مَنْ أُنَاجِي. وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كُنْتُ أُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، وَقَالَ بِلَالٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كُنْتُ أَنْتَقِلُ مِنْ بُسْتَانٍ إلَى بُسْتَانٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا أَبَا بَكْرٍ ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكِ قَلِيلًا، وَيَا عُمَرُ اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ قَلِيلًا، وَيَا بِلَالُ إذَا فَتَحْتَ سُورَةً فَأَتِمَّهَا» ، ثُمَّ الْمُنْفَرِدُ إذَا خَافَتَ وَأَسْمَعَ أُذُنَيْهِ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ لِوُجُودِ الْقِرَاءَةِ بِيَقِينٍ، إذْ السَّمَاعُ بِدُونِ الْقِرَاءَةِ لَا يُتَصَوَّرُ، أَمَّا إذَا صَحَّحَ الْحُرُوفَ بِلِسَانِهِ وَأَدَّاهَا عَلَى وَجْهِهَا وَلَمْ يُسْمِعْ أُذُنَيْهِ وَلَكِنْ وَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ بِتَحْرِيكِ اللِّسَانِ وَخُرُوجِ الْحُرُوفِ مِنْ مَخَارِجِهَا - فَهَلْ تَجُوزُ صَلَاتُهُ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ الْبَلْخِيّ الْمَعْرُوفِ بِالْأَعْمَشِ، وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ وَالْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ

وَالشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يُسْمِعْ نَفْسُهُ، وَعَنْ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ أَدْنَى رَجُلٌ صِمَاخَ أُذُنَيْهِ إلَى فِيهِ سَمِعَ كَفَى، وَإِلَّا فَلَا، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، فَقَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: يَجُوزُ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ: لَا يَجُوزُ، وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِعْلُ اللِّسَانِ وَذَلِكَ بِتَحْصِيلِ الْحُرُوفِ وَنَظْمِهَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ وَقَدْ وُجِدَ، فَأَمَّا إسْمَاعُهُ نَفْسَهُ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ؛ لِأَنَّ السَّمَاعَ فِعْلُ الْأُذُنَيْنِ دُونَ اللِّسَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ نَجِدُهَا تَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَصَمِّ وَإِنْ كَانَ لَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ؟ وَجْهُ قَوْلِ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَقَدْرِ مَا لَا يَسْمَعُ هُوَ لَوْ كَانَ سَمِيعًا لَمْ يَعْرِفْ قِرَاءَةً. وَجْهُ قَوْلِ بِشْرٍ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْعُرْفِ اسْمٌ لِحُرُوفٍ مَنْظُومَةٍ دَالَّةٍ عَلَى مَا فِي ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِصَوْتٍ مَسْمُوعٍ. وَمَا قَالَهُ الْكَرْخِيُّ أَقْيَسُ وَأَصَحُّ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إشَارَةً إلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ. وَلَوْ لَمْ يُحْمَلْ قَوْلُهُ: قَرَأَ فِي نَفْسِهِ عَلَى إقَامَةِ الْحُرُوفِ لَأَدَّى إلَى التَّكْرَارِ وَالْإِعَادَةِ الْخَالِيَةِ عَنْ الْإِفَادَةِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْعُرْفِ فِي الْبَابِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ عُرْفُ النَّاسِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِالنُّطْقِ مِنْ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِيلَاءِ وَالْيَمِينِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَغَيْرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) - الطُّمَأْنِينَةُ وَالْقَرَارُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الطُّمَأْنِينَةُ مِقْدَارُ تَسْبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ فَرْضٌ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ حَتَّى لَوْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ لَا تَجُوزُ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْخِلَافَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُعَلَّى فِي نَوَادِرِهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا تَرَكَ الْقَوْمَةَ الَّتِي بَعْدَ الرُّكُوعِ وَالْقَعْدَةَ الَّتِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ إنْ كَانَ إلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى تَمَامِ الرُّكُوعِ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ كَانَ إلَى تَمَامِ الرُّكُوعِ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى الْقِيَامِ أَجْزَأَهُ، إقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ لَيْسَ بِفَرْضٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ فَرْضٌ. (احْتَجَّا) بِحَدِيثِ «الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَأَخَفَّ الصَّلَاةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُمْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ هَكَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَسْتَطِعْ غَيْرَ ذَلِكَ فَعَلِّمْنِي فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذَا أَرَدْتَ الصَّلَاةَ فَتَطَهَّرْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ - تَعَالَى -، وَاسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَقُلْ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَاقْرَأْ مَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى يَطْمَئِنَّ كُلُّ عُضْوٍ مِنْكَ، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَسْتَقِمْ قَائِمًا» ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ، وَالْإِعَادَةُ لَا تَجِبُ إلَّا عِنْدَ فَسَادِ الصَّلَاةِ، وَفَسَادُهَا بِفَوَاتِ الرُّكْنِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَفَى كَوْنَ الْمُؤَدَّى صَلَاةً بِقَوْلِهِ: فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالطُّمَأْنِينَةِ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْفَرْضِيَّةِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ احْتَجَّا لِنَفْيِ الْفَرْضِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وَأَمَرَ بِمُطْلَقِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالرُّكُوعُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الِانْحِنَاءُ وَالْمَيْلُ، يُقَالُ: رَكَعَتْ النَّخْلَةُ إذَا مَالَتْ إلَى الْأَرْضِ، وَالسُّجُودُ هُوَ: التَّطَأْطُؤُ وَالْخَفْضُ، يُقَالُ: سَجَدَتْ النَّخْلَةُ إذَا تَطَأْطَأَتْ، وَسَجَدَتْ النَّاقَةُ إذَا وَضَعَتْ جِرَانَهَا عَلَى الْأَرْضِ وَخَفَضَتْ رَأْسَهَا لِلرَّعْيِ، فَإِذَا أَتَى بِأَصْلِ الِانْحِنَاءِ وَالْوَضْعِ فَقَدْ امْتَثَلَ لِإِتْيَانِهِ بِمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، فَأَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ فَدَوَامٌ عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ، وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي الدَّوَامَ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَهُوَ مِنْ الْآحَادِ فَلَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ وَلَكِنْ يَصْلُح مُكَمِّلًا، فَيُحْمَلُ أَمْرُهُ بِالِاعْتِدَالِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَنَفْيُهُ الصَّلَاةَ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ، وَتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ الْفَاحِشِ الَّذِي يُوجِبُ عَدَمَهَا مِنْ وَجْهٍ، وَأَمْرُهُ بِالْإِعَادَةِ عَلَى الْوُجُوبِ جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ، أَوْ عَلَى الزَّجْرِ عَنْ الْمُعَاوَدَةِ إلَى مِثْلِهِ كَالْأَمْرِ بِكَسْرِ دَنَانِ الْخَمْرِ عِنْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِهَا تَكْمِيلًا لِلْغَرَضِ، عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّنَ الْأَعْرَابِيَّ مِنْ الْمُضِيِّ فِي الصَّلَاةِ فِي جَمِيعِ الْمَرَّاتِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَطْعِ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الصَّلَاةُ جَائِزَةً لَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِهَا عَبَثًا، إذْ الصَّلَاةُ لَا يُمْضَى فِي فَاسِدِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْهُ. ثُمَّ الطُّمَأْنِينَةُ فِي الرُّكُوعِ وَاجِبَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا سَاهِيًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ، وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ أَنَّهَا سُنَّةٌ، حَتَّى لَا يَجِبَ سُجُودُ السَّهْوِ بِتَرْكِهَا سَاهِيًا، وَكَذَا الْقَوْمَةُ الَّتِي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقَعْدَةُ الَّتِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ؛ لِأَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ مِنْ بَابِ إكْمَالِ الرُّكْنِ، وَإِكْمَالُ الرُّكْنِ وَاجِبٌ كَإِكْمَالِ الْقِرَاءَةِ بِالْفَاتِحَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

أَلْحَقَ صَلَاةَ الْأَعْرَابِيِّ بِالْعَدَمِ؟ وَالصَّلَاةُ إنَّمَا يُقْضَى عَلَيْهَا بِالْعَدَمِ إمَّا لِانْعِدَامِهَا أَصْلًا بِتَرْكِ الرُّكْنِ، أَوْ بِانْتِقَاصِهَا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ، فَتَصِيرُ عَدَمًا مِنْ وَجْهٍ فَأَمَّا تَرْكُ السُّنَّةِ فَلَا يَلْتَحِقُ بِالْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فَاحِشًا، وَلِهَذَا يُكْرَهُ تَرْكُهَا أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَخْشَى أَنْ لَا تَجُوزَ صَلَاتُهُ. (وَمِنْهَا) الْقَعْدَةُ الْأُولَى لِلْفَصْلِ بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا عَامِدًا كَانَ مُسِيئًا وَلَوْ تَرَكَهَا سَاهِيًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاظَبَ عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ، وَذَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ إذَا قَامَ دَلِيلُ عَدَمِ الْفَرْضِيَّةِ، وَقَدْ قَامَ هَهُنَا؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ فَسُبِّحَ بِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ وَلَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَرَجَعَ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا يُطْلِقُونَ اسْمَ السُّنَّةِ عَلَيْهَا إمَّا لِأَنَّ وُجُوبَهَا عُرِفَ بِالسُّنَّةِ فِعْلًا، أَوْ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ؛ وَلِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ أَدْنَى مَا يَجُوزُ مِنْ الصَّلَاةِ فَوَجَبَتْ الْقَعْدَةُ فَاصِلَةً بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا يَلِيهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) التَّشَهُّدُ فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاظَبَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ، وَهَذَا دَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا نَقُولُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، فَالْتَفَتَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ» ، أَمَرَنَا بِالتَّشَهُّدِ بِقَوْلِهِ: " قُولُوا "، وَنَصَّ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ. (وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَعْرَابِيِّ إذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنْ آخِرِ سَجْدَةٍ وَقَعَدْتَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُك أَثْبَتَ تَمَامَ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُجَرَّدِ الْقَعْدَةِ. وَلَوْ كَانَ التَّشَهُّدُ فَرْضًا لَمَا ثَبَتَ التَّمَامُ بِدُونِهِ، دَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ لَكِنَّهُ وَاجِبٌ بِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُوَاظَبَتُهُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ فِيمَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ فَرْضِيَّتِهِ، وَقَدْ قَامَ هَهُنَا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فَكَانَ وَاجِبًا لَا فَرْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْأَمْرُ فِي الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ دُونَ الْفَرْضِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ يَصْلُحُ لِلْوُجُوبِ لَا لِلْفَرْضِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ: أَيْ قَبْلَ أَنْ يُقَدَّرَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمَعْرُوفِ، إذْ الْفَرْضُ فِي اللُّغَةِ: التَّقْدِيرُ. (وَمِنْهَا) - مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِيمَا شُرِعَ مُكَرَّرًا مِنْ الْأَفْعَالِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ السَّجْدَةُ، لِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فِيهِ، وَقِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ فَرَضِيَتِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، حَتَّى لَوْ تَرَكَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى ثُمَّ تَذَكَّرَهَا فِي آخِرِ صَلَاتِهِ سَجَدَ الْمَتْرُوكَةَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ بِتَرْكِ التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ سَاهِيًا فَوَجَبَ سُجُودُ السَّهْوِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ (وَأَمَّا) الَّذِي ثَبَتَ وُجُوبُهُ فِي الصَّلَاةِ بِعَارِضٍ فَنَوْعَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: سُجُودُ السَّهْوِ، وَالْآخَرُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ. (أَمَّا) سُجُودُ السَّهْوِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَان سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ أَنَّ الْمَتْرُوكَ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَذْكَارِ سَاهِيًا هَلْ يُقْضَى أَمْ لَا؟ وَفِي بَيَانِ مَحِلِّ السُّجُودِ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِ سَلَامِ السَّهْوِ وَصِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ عَمَلِهِ أَنَّهُ يُبْطِلُ التَّحْرِيمَةَ أَمْ لَا، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ وَاجِبٌ، وَكَذَا نَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ: إذَا سَهَا الْإِمَامُ وَجَبَ عَلَى الْمُؤْتَمِّ أَنْ يَسْجُدَ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ سُنَّةٌ، وَجْهُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْعَوْدَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لَا يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ، حَتَّى لَوْ تَكَلَّمَ بَعْدَمَا سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ. وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَرَفَعَ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ؛ وَلِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ كَمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ، وَالْفَائِتُ مِنْ التَّطَوُّعِ كَيْفَ يُجْبَرُ بِالْوَاجِبِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَهُ إلَى الصَّوَابِ، وَلْيَبْنِ عَلَيْهِ، وَلْيَسْجُدْ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ» ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ. وَعَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ» ، فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُمَا تَصْدِيقًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَبَرِهِ، وَكَذَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَاظَبُوا عَلَيْهِ، وَالْمُوَاظَبَةُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ؛ وَلِأَنَّهُ شُرِعَ جَبْرًا لِنُقْصَانِ الْعِبَادَةَ فَكَانَ وَاجِبًا كَدِمَاءِ الْجَبْرِ فِي بَابِ الْحَجِّ، وَهَذَا لِأَنَّ أَدَاءَ الْعِبَادَةِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَاجِبٌ، وَلَا تَحْصُلُ صِفَةُ الْكَمَالِ إلَّا بِجَبْرِ النُّقْصَانِ فَكَانَ وَاجِبًا ضَرُورَةً، إذْ لَا حُصُولَ لِلْوَاجِبِ إلَّا بِهِ، إلَّا أَنَّ الْعَوْدَ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ لَا يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ لَا لِأَنَّ السُّجُودَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ السُّجُودَ وَقَعَ فِي مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ الْقَعْدَةِ، فَالْعَوْدُ إلَيْهِ لَا يَكُونُ رَافِعًا لِلْقَعْدَةِ

فصل بيان سبب وجوب سجود السهو

الْوَاقِعَةِ فِي مَحَلِّهَا، فَأَمَّا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فَمَحَلُّهَا قَبْلَ الْقَعْدَةِ، فَالْعَوْدُ إلَيْهَا يَرْفَعُ الْقَعْدَةَ كَالْعَوْدِ إلَى السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ فَهُوَ الْفَرْقُ. (أَمَّا) قَوْلُهُمْ: إنَّ لَهُ مَدْخَلًا فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَنَقُولُ: أَصْلُ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَتْ تَطَوُّعًا لَكِنَّ لَهَا أَرْكَانٌ لَا تَقُومُ بِدُونِهَا، وَوَاجِبَاتٌ تَنْتَقِصُ بِفَوَاتِهَا وَتَغْيِيرِهَا عَنْ مَحَلِّهَا، فَيُحْتَاجُ إلَى الْجَابِرِ، مَعَ أَنَّ النَّفَلَ يَصِيرُ وَاجِبًا عِنْدَنَا بِالشُّرُوعِ وَيَلْتَحِقُ بِالْوَاجِبَاتِ الْأَصْلِيَّةِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا يُبَيَّنُ فِي مَوَاضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ بَيَانُ سَبَبِ وُجُوبِ سُجُودِ السَّهْوِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ تَرْكُ الْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ تَغْيِيرُهُ أَوْ تَغْيِيرُ فَرْضٍ مِنْهَا عَنْ مَحَلِّهِ الْأَصْلِيِّ سَاهِيًا؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الصَّلَاةِ فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالسُّجُودِ، وَيَخْرُجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الَّذِي وَقَعَ السَّهْوُ عَنْهُ لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ كَانَ مِنْ الْأَفْعَالِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ الْأَذْكَارِ، إذْ الصَّلَاةُ أَفْعَالٌ وَأَذْكَارٌ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَفْعَالِ بِأَنْ قَعَدَ فِي مَوْضِعِ الْقِيَامِ أَوْ قَامَ فِي مَوْضِعَ الْقُعُودِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ لِوُجُودِ تَغْيِيرِ الْفَرْضِ، وَهُوَ تَأْخِيرُ الْقِيَامِ عَنْ وَقْتِهِ، أَوْ تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِهِ مَعَ تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ الْقَعْدَةُ الْأُولَى. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ مِنْ الثَّانِيَةِ إلَى الثَّالِثَةِ سَاهِيًا فَسَبَّحُوا بِهِ فَلَمْ يَقْعُدْ، فَسَبَّحُوا بِهِ فَلَمْ يُعِدْ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ» وَكَذَا إذَا رَكَعَ فِي مَوْضِعِ السُّجُودِ أَوْ سَجَدَ فِي مَوْضِعِ الرُّكُوعِ أَوْ رَكَعَ رُكُوعَيْنِ أَوْ سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ لِوُجُودِ تَغْيِيرِ الْفَرْضِ عَنْ مَحَلِّهِ أَوْ تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ، وَكَذَا إذَا تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ رَكْعَةٍ فَتَذَكَّرَهَا فِي آخِرِ الصَّلَاةِ سَجَدَهَا وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَهَا عَنْ مَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ، وَكَذَا إذَا قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ أَوْ بَعْدَ مَا قَعَدَ وَعَادَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ لِوُجُودِ تَأْخِيرِ الْفَرْضِ عَنْ وَقْتِهِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ، أَوْ تَأْخِيرُ الْوَاجِبِ وَهُوَ السَّلَامُ. وَلَوْ زَادَ عَلَى قِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذُكِرَ فِي أَمَالِي الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَيْهِ سُجُودَ السَّهْوِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجِبُ. (لَهُمَا) أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ لَوَجَبَ جَبْرُ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ لَهُ وَلَا يُعْقَلُ تَمَكُّنُ النُّقْصَانِ فِي الصَّلَاةِ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ بِتَأْخِيرِ الْفَرْضِ وَهُوَ الْقِيَامُ، إلَّا أَنَّ التَّأْخِيرَ حَصَلَ بِالصَّلَاةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَأْخِيرٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَلَاةٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَوْ تَلَا سَجْدَةً فَنَسِيَ أَنْ يَسْجُدَ ثُمَّ تَذَكَّرَهَا فِي آخِرِ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ الْوَاجِبَ عَنْ وَقْتِهِ وَلَوْ سَلَّمَ مُصَلِّي الظُّهْرِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ قَدْ أَتَمَّهَا، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ عَلَى مَكَانِهِ - يُتِمُّهَا وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ أَمَّا الْإِتْمَامُ فَلِأَنَّهُ سَلَامُ سَهْوٍ فَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا وُجُوبُ السَّجْدَةِ فَلِتَأْخِيرِ الْفَرْضِ وَهُوَ الْقِيَامُ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي، بِخِلَافِ مَا إذَا سَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مُسَافِرٌ أَوْ مُصَلِّي الْجُمُعَةِ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّنَّ نَادِرٌ فَكَانَ سَلَامُهُ سَلَامَ عَمْدٍ، وَأَنَّهُ قَاطِعٌ لِلصَّلَاةِ. وَلَوْ تَرَكَ تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ، وَالْقَوْمَةَ الَّتِي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَوْ الْقَعْدَةَ الَّتِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ سَاهِيًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ: عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ عِنْدَهُمَا وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَعَلَى هَذَا إذَا شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ فَتَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ حَتَّى اسْتَيْقَنَ، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا إنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا فَتَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ، وَإِمَّا إنْ شَكَّ فِي صَلَاةٍ قَبْلَ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَتَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ فِي هَذِهِ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَمَّا إنْ طَالَ تَفَكُّرُهُ بِأَنْ كَانَ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنهُ أَنْ يُؤَدِّيَ فِيهِ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَوْ لَمْ يَطُلْ فَإِنْ لَمْ يَطُلْ تَفَكُّرُهُ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ تَفَكُّرُهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَطُلْ لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْوُجُوبِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ تَرْكُ الْوَاجِبِ أَوْ تَغْيِيرُ فَرْضٍ أَوْ وَاجِبٍ عَنْ وَقْتِهِ الْأَصْلِيِّ، وَلِأَنَّ الْفِكْرَ الْقَلِيلَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَكَانَ عَفْوًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ. وَإِنْ طَالَ تَفَكُّرُهُ فَإِنْ كَانَ تَفَكُّرُهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِ السَّهْوُ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلسَّهْوِ يُمْكِنُ النُّقْصَانُ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ أَدَّاهَا، فَبَقِيَ مُجَرَّدُ الْفِكْرِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ السَّهْوَ كَالْفِكْرِ الْقَلِيلِ. وَكَمَا لَوْ شَكَّ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى وَهُوَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ أَدَّاهَا لَا سَهْوَ عَلَيْهِ وَإِنْ طَالَ فِكْرُهُ كَذَا هَذَا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْفِكْرَ الطَّوِيلَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ

مِمَّا يُؤَخِّرُ الْأَرْكَانَ عَنْ أَوْقَاتِهَا فَيُوجِبُ تَمَكُّنَ النُّقْصَانِ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ جَبْرِهِ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ، بِخِلَافِ الْفِكْرِ الْقَصِيرِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا شَكَّ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى وَهُوَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلسَّهْوِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ سَهْوُ هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا سَهْوُ صَلَاةٍ أُخْرَى. وَلَوْ شَكَّ فِي سُجُودِ السَّهْوِ يَتَحَرَّى وَلَا يَسْجُدُ لِهَذَا السَّهْوِ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ سُجُودِ السَّهْوِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ لَا يَسْلَمُ عَنْ السَّهْوِ فِيهِ ثَانِيًا وَثَالِثًا فَيُؤَدِّي إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى. (وَحُكِيَ) أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ قَالَ لِلْكِسَائِيِّ وَكَانَ الْكِسَائِيُّ ابْنَ خَالَتِهِ: لِمَ لَا تَشْتَغِلُ بِالْفِقْهِ مَعَ هَذَا الْخَاطِرِ؟ فَقَالَ: مَنْ أَحْكَمَ عِلْمًا فَذَاكَ يَهْدِيهِ إلَى سَائِرِ الْعُلُومِ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَنَا أُلْقِي عَلَيْك شَيْئًا مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ فَخَرِّجْ جَوَابَهُ مِنْ النَّحْوِ فَقَالَ: هَاتِ قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ سَهَا فِي سُجُودِ السَّهْوِ؟ فَتَفَكَّرَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: لَا سَهْوَ عَلَيْهِ فَقَالَ مِنْ أَيِّ بَابٍ مِنْ النَّحْوِ خَرَّجْتَ هَذَا الْجَوَابَ؟ فَقَالَ: مِنْ بَابِ أَنَّهُ لَا يُصَغَّرُ الْمُصَغَّرُ فَتَحَيَّرَ مِنْ فِطْنَتِهِ. وَلَوْ شَرَعَ فِي الظُّهْرِ ثُمَّ تَوَهَّمَ أَنَّهُ فِي الْعَصْرِ، فَصَلَّى عَلَى ذَلِكَ الْوَهْمِ رَكْعَةً أَوْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ فِي الظُّهْرِ - فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ شَرْطُ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ لَا شَرْطُ بَقَائِهَا كَأَصْلِ النِّيَّةِ، فَلَمْ يُوجَدْ تَغْيِيرُ فَرْضٍ وَلَا تَرْكُ وَاجِبٍ، فَإِنْ تَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ تَفَكُّرًا شَغَلَهُ عَنْ رُكْنٍ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ اسْتِحْسَانًا عَلَى مَا مَرَّ. وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَقَرَأَ، ثُمَّ شَكَّ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فَأَعَادَ التَّكْبِيرَ وَالْقِرَاءَةَ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ كَبَّرَ - فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ بِزِيَادَةِ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ أَخَّرَ رُكْنًا وَهُوَ الرُّكُوعُ، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا شَكَّ فِي خِلَالِ صَلَاتِهِ فَتَفَكَّرَ حَتَّى اسْتَيْقَنَ، وَبَيْنَ مَا إذَا شَكَّ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ ثُمَّ اسْتَيْقَنَ فِي حَقِّ وُجُوبِ السَّجْدَةِ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ الْوَاجِبَ وَهُوَ السَّلَامُ. وَلَوْ شَكَّ بَعْدَ مَا سَلَّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً ثُمَّ اسْتَيْقَنَ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى خَرَجَ عَنْ الصَّلَاةِ وَانْعَدَمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَنْقِيصُهَا بِتَفْوِيتِ وَاجِبٍ مِنْهَا، فَاسْتَحَالَ إيجَابُ الْجَابِرِ. وَكَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ فَعَادَ إلَى الْوُضُوءِ، ثُمَّ شَكَّ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَى الصَّلَاةِ فَتَفَكَّرَ ثُمَّ اسْتَيْقَنَ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا إذَا طَالَ تَفَكُّرُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُؤَدٍّ لَهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الشَّكِّ فِي الصَّلَاةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ. وَأَمَّا حُكْمُ الشَّكِّ فِي الصَّلَاةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْبِنَاءِ وَالِاسْتِقْبَالِ فَنَقُولُ: إذَا سَهَا فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا سَهَا اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ - وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مَا سَهَا أَنَّ السَّهْوَ لَمْ يَصِرْ عَادَةً لَهُ لَا أَنَّهُ لَمْ يَسْهُ فِي عُمُرِهِ قَطُّ - وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَبْنِي عَلَى الْأَقَلِّ، (احْتَجَّ) بِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا؟ - فَلْيَلْغِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى الْأَقَلِّ» ، أَمَرَ بِالْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ؛ وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَا أَخْذًا بِالْيَقِينِ مِنْ غَيْرِ إبْطَالِ الْعَمَلِ فَكَانَ أَوْلَى. (وَلَنَا) مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ أَنَّهُ كَمْ صَلَّى؟ فَلِيَسْتَقْبِلْ الصَّلَاةَ» أَمَرَ بِالِاسْتِقْبَالِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَر وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا هَكَذَا. وَرُوِيَ عَنْهُمْ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَقْبَلَ أَدَّى الْفَرْضَ بِيَقِينٍ كَامِلًا، وَلَوْ بَنَى عَلَى الْأَقَلِّ مَا أَدَّاهُ كَامِلًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُؤَدِّي زِيَادَةً عَلَى الْمَفْرُوضِ، وَإِدْخَالُ الزِّيَادَةِ فِي الصَّلَاةِ نُقْصَانٌ فِيهَا، وَرُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى إفْسَادِ الصَّلَاةِ بِأَنْ كَانَ أَدَّى أَرْبَعًا وَظَنَّ أَنَّهُ أَدَّى ثَلَاثًا فَبَنَى عَلَى الْأَقَلِّ وَأَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِقْبَالَ لَيْسَ إبْطَالًا لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْإِفْسَادَ لِيُؤَدِّيَ أَكْمَلَ لَا يُعَدُّ إفْسَادًا، وَالْإِكْمَالُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالِاسْتِقْبَالِ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا وَقَعَ ذَلِكَ لَهُ مِرَارًا وَلَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ، بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا هَذَا إذَا كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا سَهَا، فَإِنْ كَانَ يَعْرِضُ لَهُ ذَلِكَ كَثِيرًا تَحَرَّى وَبَنَى عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ التَّحَرِّي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْأَقَلِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِمَا رَوَيْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى التَّحَرِّي لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ هَهُنَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ إدْرَاكُ الْيَقِينِ بِدُونِهِ بِأَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْأَقَلِّ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحَرِّي. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا؟ - فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَهُ إلَى الصَّوَابِ، وَلْيَبْنِ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ مِنْ الدَّلَائِلِ، وَالتَّحَرِّي عِنْدَ انْعِدَامِ الْأَدِلَّةِ مَشْرُوعٌ كَمَا فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ، وَلَا وَجْهَ لِلِاسْتِقْبَالِ؛ لِأَنَّهُ عَسَى أَنْ يَقَعَ ثَانِيًا وَكَذَا الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى، وَلَا وَجْهَ لِلْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ؛

لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُوَصِّلهُ إلَى مَا عَلَيْهِ لِمَا مَرَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا تَحَرَّى وَلَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ، وَعِنْدَنَا إذَا تَحَرَّى وَلَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ يَبْنِي عَلَى الْأَقَلِّ، وَكَيْفِيَّةُ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي الرَّكْعَةِ وَالرَّكْعَتَيْنِ يَجْعَلُهَا رَكْعَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَوْ الثَّلَاثِ جَعَلَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ جَعَلَهَا ثَلَاثًا وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَشَهَّدَ لَا مَحَالَةَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ آخِرَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ فَرْضٌ، وَالِاشْتِغَالُ بِالنَّفْلِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرْضِ مُفْسِدٌ لَهُ فَلِذَلِكَ يَقْعُدُ. وَأَمَّا الشَّكُّ فِي أَرْكَانِ الْحَجِّ ذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ يَكْثُرُ يَتَحَرَّى أَيْضًا كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُؤْخَذُ بِالْيَقِينِ. (وَالْفَرْقُ) أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي بَابِ الْحَجِّ وَتَكْرَارَ الرُّكْنِ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ، فَأَمْكَنَ الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ إذَا كَانَتْ رَكْعَةً فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الصَّلَاةَ إذَا وُجِدَتْ قَبْلَ الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِالتَّحَرِّي أَحْوَطَ مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَقَلِّ. وَأَمَّا الْأَذْكَارُ فَالْأَذْكَارُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ سُجُودُ السَّهْوِ بِهَا أَرْبَعَةٌ: الْقِرَاءَةُ، وَالْقُنُوتُ، وَالتَّشَهُّدُ، وَتَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ. (أَمَّا) الْقِرَاءَةُ فَإِذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ قَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا، وَإِنَّمَا الْفَرْضُ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا غَيْرِ عَيْنٍ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ سَاهِيًا يُوجِبُ السَّهْوَ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هِيَ فَرْضٌ فِي الْأُولَيَيْنِ عَيْنًا وَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ عِنْدَ تَرْكِهَا فِي الْأُولَيَيْنِ قَضَاءً، فَإِذَا تَرَكَهَا فِي الْأُولَيَيْنِ أَوْ فِي إحْدَاهُمَا فَقَدْ غَيَّرَ الْفَرْضَ عَنْ مَحَلِّ أَدَائِهِ سَهْوًا فَيَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ. وَلَوْ سَهَا عَنْ الْفَاتِحَةِ فِيهِمَا أَوْ فِي إحْدَاهُمَا، أَوْ عَنْ السُّورَةِ فِيهِمَا أَوْ فِي إحْدَاهُمَا - فَعَلَيْهِ السَّهْوُ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ عَلَى التَّعْيِينِ فِي الْأُولَيَيْنِ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَرْضٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَا قِرَاءَةُ السُّورَةِ عَلَى التَّعْيِينِ، أَوْ قِرَاءَةُ مِقْدَارِ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ وَهِيَ ثَلَاثَ آيَاتٍ وَاجِبَةٌ، فَيَتَعَلَّقُ السُّجُودُ بِالسَّهْوِ عَنْهُمَا. وَلَوْ غَيَّرَ صِفَةَ الْقِرَاءَةِ سَهْوًا بِأَنْ جَهَرَ فِيمَا يُخَافَتُ أَوْ خَافَتَ فِيمَا يُجْهَرُ - فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَمَّا إنْ كَانَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا فَإِنْ كَانَ إمَامًا سَجَدَ لِلسَّهْوِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجَهْرَ وَالْمُخَافَتَةَ مِنْ هَيْئَةِ الرُّكْنِ، وَهُوَ الْقِرَاءَةُ فَيَكُونُ سُنَّةً كَهَيْئَةِ كُلِّ رُكْنٍ، نَحْوَ الْأَخْذِ بِالرُّكَبِ وَهَيْئَةِ الْقَعْدَةِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْجَهْرَ فِيمَا يُجْهَرُ وَالْمُخَافَتَةَ فِيمَا يُخَافَتُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْإِمَامِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي مِقْدَارِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ سُجُودُ السَّهْوِ مِنْ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ، ذُكِرَ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَفَصَلَ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فِي الْمِقْدَارِ فَقَالَ: إنْ جَهَرَ فِيمَا يُخَافَتُ فَعَلَيْهِ السَّهْوُ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ، وَإِنْ خَافَتَ فِيمَا يُجْهَرُ فَإِنْ كَانَ فِي أَكْثَرِ الْفَاتِحَةِ، أَوْ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ - فَعَلَيْهِ السَّهْوُ، وَإِلَّا فَلَا، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّهُ إنْ تَمَكَّنَ التَّغْيِيرَ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَإِلَّا فَلَا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ تَمَكَّنَ التَّغْيِيرَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَيْهِ السُّجُودُ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا جَهَرَ بِحَرْفٍ يَسْجُدُ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ الْمُخَافَتَةَ فِيمَا يُخَافَتُ أَلْزَمُ مِنْ الْجَهْرِ فِيمَا يُجْهَرُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُنْفَرِدَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ؟ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيمَا يُخَافَتُ فَإِذَا جَهَرَ فِيمَا يُخَافَتُ فَقَدْ تَمَكَّنَ النُّقْصَانُ فِي الصَّلَاةِ بِنَفْسِ الْجَهْرِ فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالسُّجُودِ فَأَمَّا بِنَفْسِ الْمُخَافَتَةِ فِيمَا يُجْهَرُ فَلَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ مَا لَمْ يَكُنْ مِقْدَارَ ثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسْمِعُنَا الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ أَحْيَانًا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَهَذَا جَهْرٌ فِيمَا يُخَافَتُ، فَإِذَا ثَبَتَ فِيهِ ثَبَتَ فِي الْمُخَافَتَةِ فِيمَا يُجْهَرُ؛ لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ، ثُمَّ لَمَّا وَرَدَ الْحَدِيثُ مُقَدَّرًا بِآيَةٍ أَوْ آيَتَيْنِ وَلَمْ يَرِدْ بِأَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ كَانَتْ الزِّيَادَةُ تَرْكًا لِلْوَاجِبِ فَيُوجِبُ السَّهْوَ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْحَسَنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَة عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَتَأَدَّى بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَتْ قَصِيرَةً، فَإِذَا غَيَّرَ صِفَةَ الْقِرَاءَةِ فِي هَذَا الْقَدْرِ تَعَلَّقَ بِهِ السَّهْوُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَأَدَّى فَرْضُ الْقِرَاءَةِ إلَّا بِآيَةٍ طَوِيلَةٍ أَوْ ثَلَاثِ آيَاتٍ قِصَارٍ، فَمَا لَمْ يَتَمَكَّنْ التَّغْيِيرَ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ لَا يَجِبُ السَّهْوُ، هَذَا إذَا كَانَ إمَامًا فَأَمَّا إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ، أَمَّا إذَا خَافَتَ فِيمَا يُجْهَرُ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ، لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْجَهْرَ عَلَى الْإِمَامِ إنَّمَا وَجَبَ تَحْصِيلًا لِثَمَرَةِ الْقِرَاءَةِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ فَلَمْ يَجِبْ الْجَهْرُ فَلَا يَتَمَكَّنُ النَّقْصُ فِي الصَّلَاةِ بِتَرْكِهِ، وَكَذَا إذَا جَهَرَ فِيمَا يُخَافَتُ؛ لِأَنَّ الْمُخَافَتَةَ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا وَجَبَتْ صِيَانَةً لِلْقِرَاءَةِ عَنْ الْمُغَالَبَةِ وَاللَّغْوِ فِيهَا؛

فصل بيان المتروك ساهيا هل يقضى أم لا

لِأَنَّ صِيَانَةَ الْقِرَاءَةِ عَنْ ذَلِكَ وَاجِبَةٌ وَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ عَلَى طَرِيقِ الِاشْتِهَارِ وَهِيَ الصَّلَاةُ بِجَمَاعَةٍ فَأَمَّا صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ فَمَا كَانَ يُوجَدُ فِيهَا الْمُغَالَبَةُ فَلَمْ تَكُنْ الصِّيَانَةُ بِالْمُخَافَتَةِ وَاجِبَةً، فَلَمْ يَتْرُكْ الْوَاجِبَ فَلَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ. وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةً فَأَخْطَأَ وَقَرَأَ غَيْرَهَا لَا سَهْوَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ تَغْيِيرُ فَرْضٍ أَوْ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكُهُ إذْ لَا تَوْقِيتَ فِي الْقِرَاءَةِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ قَرَأَ الْحَمْدُ مَرَّتَيْنِ فِي الْأُولَيَيْنِ فَعَلَيْهِ السَّهْوُ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ السُّورَةَ بِتَكْرَارِ الْفَاتِحَةِ. وَلَوْ قَرَأَ الْحَمْدُ ثُمَّ السُّورَةَ ثُمَّ الْحَمْدُ - لَا سَهْوَ عَلَيْهِ، وَصَارَ كَأَنَّهُ قَرَأَ سُورَةً طَوِيلَةً. وَلَوْ تَشَهَّدَ مَرَّتَيْنِ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي رُكُوعِهِ أَوْ فِي سُجُودِهِ أَوْ فِي قِيَامِهِ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ثَنَاءٌ وَهَذِهِ الْأَرْكَانُ مَوَاضِعُ الثَّنَاءِ. (وَأَمَّا) الْقُنُوتُ فَتَرْكُهُ سَهْوًا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَكَذَلِكَ تَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ إذَا تَرَكَهَا أَوْ نَقَصَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَكَذَا إذَا زَادَ عَلَيْهَا أَوْ أَتَى بِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ تَغْيِيرُ فَرْضٍ أَوْ وَاجِبٍ. وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ إذَا سَهَا عَنْهَا فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَهَا قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَ مَا سَلَّمَ سَاهِيًا - قَرَأَهَا وَسَلَّمَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ. وَأَمَّا فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى فَكَذَلِكَ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ فِي هَذَا وَقُنُوتِ الْوِتْرِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ سَوَاءٌ، وَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَذْكَارَ سُنَّةٌ، وَلَا يَتَمَكَّنُ بِتَرْكِهَا كَبِيرُ نُقْصَانٍ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا يُوجِبُ السَّهْوَ كَمَا إذَا تَرَكَ الثَّنَاءَ وَالتَّعَوُّذَ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الْأَذْكَارَ وَاجِبَةٌ، أَمَّا وُجُوبُ الْقُنُوتِ وَتَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ فَلِمَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا وُجُوبُ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى فَلِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قِرَاءَتِهِ، وَمُوَاظَبَةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَأَمَّا سَائِرُ الْأَذْكَارِ مِنْ الثَّنَاءِ وَالتَّعَوُّذِ وَتَكْبِيرَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَتَسْبِيحَاتِهِمَا فَلَا سَهْوَ فِيهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا سَهَا عَنْ ثَلَاثِ تَكْبِيرَاتٍ فَعَلَيْهِ السَّهْوُ قِيَاسًا عَلَى تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ، وَهَذَا الْقِيَاسُ عِنْدَنَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَاجِبَةٌ - لِمَا يُذْكَرُ - فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا السَّهْوُ، بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّهَا مِنْ السُّنَنِ، وَنُقْصَانُ السُّنَّةِ لَا يُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ؛ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ وَاجِبٌ وَلَا يَجِبُ جَبْرُ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ فَوْقَ الْفَائِتِ، بِخِلَافِ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَنْجَبِرُ بِمِثْلِهِ وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ السَّهْوُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ عَمْدًا؛ لِأَنَّ النَّقْصَ الْمُتَمَكِّنَ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ عَمْدًا فَوْقَ النَّقْصِ الْمُتَمَكِّنِ بِتَرْكِهِ سَهْوًا، وَالشَّرْعُ لَمَّا جَعَلَ السُّجُودَ جَابِرًا لِمَا فَاتَ سَهْوًا كَانَ مِثْلًا لِلْفَائِتِ سَهْوًا، وَإِذَا كَانَ مِثْلًا لِلْفَائِتِ سَهْوًا كَانَ دُونَ مَا فَاتَ عَمْدًا، وَالشَّيْءُ لَا يَنْجَبِرُ بِمَا هُوَ دُونَهُ، وَلِهَذَا لَا يَنْجَبِرُ بِهِ النَّقْصُ الْمُتَمَكِّنُ بِفَوَاتِ الْفَرْضِ. وَلَوْ سَلَّمَ عَنْ يَسَارِهِ قَبْلَ سَلَامِهِ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي السَّلَامِ مِنْ بَابِ السُّنَنِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ سُجُودُ السَّهْوِ. وَلَوْ نَسِيَ التَّكْبِيرَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ. وَلَوْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ مِرَارًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا سَجْدَتَانِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَلْزَمُهُ لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ» وَلِأَنَّ كُلَّ سَهْوٍ أَوْجَبَ نُقْصَانًا فَيَسْتَدْعِي جَابِرًا. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «سَجْدَتَانِ تُجْزِيَانِ لِكُلِّ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ» وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى وَسَجَدَ لَهَا سَجْدَتَيْنِ، وَكَأَنْ سَهَا عَنْ الْقَعْدَةِ وَعَنْ التَّشَهُّدِ حَيْثُ تَرَكَهُمَا، وَعَنْ الْقِيَامِ حَيْثُ أَتَى بِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، ثُمَّ لَمْ يَزِدْ عَلَى سَجْدَتَيْنِ فَعُلِمَ أَنَّ السَّجْدَتَيْنِ كَافِيَتَانِ، وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ إنَّمَا أُخِّرَ عَنْ مَحَلِّ النُّقْصَانِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ لِئَلَّا يُحْتَاجَ إلَى تَكْرَارِهِ لَوْ وَقَعَ السَّهْوُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلتَّأْخِيرِ مَعْنًى، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى جِنْسِ السَّهْوِ الْمَوْجُودِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَا أَنَّهُ عَيْنُ السَّهْوِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ بَيَانُ الْمَتْرُوكِ سَاهِيًا هَلْ يُقْضَى أَمْ لَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ الْمَتْرُوكِ سَاهِيًا هَلْ يُقْضَى أَمْ لَا؟ نَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: إنَّ الْمَتْرُوكَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ سُجُودُ السَّهْوِ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مِنْ الْأَفْعَالِ أَوْ مِنْ الْأَذْكَارِ، وَمِنْ أَيِّ الْقِسْمَيْنِ كَانَ وَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ إنْ أَمْكَنَ التَّدَارُكُ بِالْقَضَاءِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ فَرْضًا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا لَا تَفْسُدُ، وَلَكِنْ تُنْتَقَصُ وَتَدْخُلُ فِي حَدِّ الْكَرَاهَةِ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: أَمَّا الْأَفْعَالُ فَإِذَا تَرَكَ سَجْدَةً صُلْبِيَّةً مِنْ رَكْعَةٍ ثُمَّ تَذَكَّرَهَا آخِرَ الصَّلَاةِ - قَضَاهَا وَتَمَّتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقْضِيهَا وَيَقْضِي مَا بَعْدَهَا، (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ مَا صَلَّى بَعْدَ الْمَتْرُوكِ حَصَلَ قَبْلَ

أَوَانِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ شُرِعَتْ مُرَتَّبَةً فَلَا تُعْتَبَرُ بِدُونِ التَّرْتِيبِ، كَمَا لَوْ قَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِالسُّجُودِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. (وَلَنَا) أَنَّ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ صَادَفَتْ مَحَلَّهَا؛ لِأَنَّ مَحَلَّهَا بَعْدَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَقَدْ وُجِدَتْ الرَّكْعَةُ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الرَّكْعَةَ تَتَقَيَّدُ بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا الثَّانِيَةُ تَكْرَارٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الصَّلَاةِ؟ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ يَحْنَثُ، فَكَانَ أَدَاءُ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مُعْتَبَرًا مُعْتَدًّا بِهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَضَاءُ الْمَتْرُوكِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ مَا صَادَفَ مَحَلَّهُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ لِتَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ، وَالرَّكْعَةُ بِدُونِ الرُّكُوعِ لَا تَتَحَقَّقُ فَلَمْ يَقَعْ مُعْتَدًّا بِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا تَذَكَّرَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ - قَضَاهُمَا وَتَمَّتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا، وَيَبْدَأُ بِالْأُولَى مِنْهُمَا ثُمَّ بِالثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ، ثُمَّ الثَّانِيَةُ مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْأُولَى فِي الْأَدَاءِ فَكَذَا فِي الْقَضَاءِ. وَلَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ تَرَكَهَا مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَالْأُخْرَى صُلْبِيَّةٌ تَرَكَهَا مِنْ الثَّانِيَةِ - يُرَاعِي التَّرْتِيبَ أَيْضًا فَيَبْدَأُ بِالتِّلَاوَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ زُفَرُ: يَبْدَأُ بِالثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا أَقْوَى. (وَلَنَا) أَنَّ الْقَضَاءَ مُعْتَبَرٌ بِالْأَدَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وُجُوبُ التِّلَاوَةِ أَدَاءً فَيَجِبُ تَقْدِيمُهَا فِي الْقَضَاءِ، وَلَوْ تَذَكَّرَ سَجْدَةً صُلْبِيَّةً وَهُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ لَخَرَّ لَهَا مِنْ رُكُوعِهِ وَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ سُجُودِهِ فَسَجَدَهَا، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَعُودَ إلَى حُرْمَةِ هَذِهِ الْأَرْكَانِ فَيُعِيدَهَا لِيَكُونَ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمَسْنُونَةِ وَهِيَ التَّرْتِيبُ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ أَجْزَأَهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَرْضٌ عِنْدَهُ فَالْتَحَقَتْ هَذِهِ السَّجْدَةُ بِمَحَلِّهَا فَبَطَلَ مَا أَدَّى مِنْ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ لِتَرْكِ التَّرْتِيبِ، وَعِنْدَنَا التَّرْتِيبُ فِي أَفْعَالِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَلِهَذَا يَبْدَأُ الْمَسْبُوقُ بِمَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِيهِ دُونَ مَا سَبَقَهُ، وَلَئِنْ كَانَ فَرْضًا فَقَدْ سَقَطَ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ، فَوَقَعَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ مُعْتَبَرًا لِمُصَادِفَتِهِ مَحَلَّهُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عَلَيْهِ إعَادَةَ الرُّكُوعِ إذَا خَرَّ لَهَا مِنْ الرُّكُوعِ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْقَوْمَةَ الَّتِي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَرْضٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي رُكُوعِهِ أَوْ سُجُودِهِ أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيُعِيدُ بَعْدَ مَا أَحْدَثَ فِيهِ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي لَا قَاهُ الْحَدَثُ مِنْ الرُّكْنِ قَدْ فَسَدَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُفْسِدَ كُلَّ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَجَزَّأُ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فِي حَقِّ جَوَازِ الْبِنَاءِ، فَيُعْمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الرُّكْنِ الَّذِي أَحْدَثَ فِيهِ. وَلَوْ لَمْ يَسْجُدْهَا حَتَّى سَلَّمَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهَا، أَوْ سَاهٍ عَنْهَا. فَإِنْ سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَا تَفْسُدُ، وَالْأَصْلُ أَنَّ السَّلَامَ الْعَمْدَ يُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنْ الصَّلَاةِ إلَّا سَلَامَ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ، وَسَلَامُ السَّهْوِ لَا يُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ مُحَلِّلٌ فِي الشَّرْعِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» وَلِأَنَّهُ كَلَامٌ، وَالْكَلَامُ مُضَادٌّ لِلصَّلَاةِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَهُ عَنْ الْعَمَلِ حَالَةَ السَّهْوِ ضَرُورَةَ دَفْعِ الْحَرَجِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَسْلَمُ عَنْ النِّسْيَانِ، وَفِي حَقِّ مَنْ عَلَيْهِ سَهْوٌ ضَرُورَةَ تَمَكُّنِهِ مِنْ سُجُودِ السَّهْوِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي غَيْرِ حَالَةِ السَّهْوِ فِي حَقِّ مَنْ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ مُحَلِّلًا مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ أَنَّ عَلَيْهِ سَجْدَةً صُلْبِيَّةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ سَلَامَ الْعَمْدِ قَاطِعٌ لِلصَّلَاةِ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا، وَلَا وُجُودَ لِلشَّيْءِ بِدُونِ رُكْنِهِ وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ؛ ضَرُورَةَ دَفْعِ الْحَرَجِ عَلَى مَا مَرَّ، ثُمَّ إنْ سَلَّمَ وَهُوَ فِي مَكَانِهِ - لَمْ يَصْرِفْ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ - يَعُدْ إلَى قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ. وَلَوْ اقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ، وَإِذَا عَادَ إلَى السَّجْدَةِ يُتَابِعُهُ الْمُقْتَدِي فِيهَا وَلَكِنْ لَا يَعْتَدُّ بِهَذِهِ السَّجْدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ الرُّكُوعَ، وَيُتَابِعُهُ فِي التَّشَهُّدِ دُونَ التَّسْلِيمِ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ يُتَابِعهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ سَاهِيًا لَا يُتَابِعُهُ وَلَكِنَّهُ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ الْإِمَامُ إلَى قَضَاءِ السَّجْدَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَيْهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ بَعْدَ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَفَائِدَةُ صِحَّةِ اقْتِدَائِهِ بِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ اقْتَدَى بِهِ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ أَوْ الْعِشَاءِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ إنْ كَانَ الْإِمَامُ مُقِيمًا، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ. وَأَمَّا إذَا صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعُودَ، وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ صَرْفَ الْوَجْهِ عَنْ الْقِبْلَةِ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ فَكَانَ مَانِعًا مِنْ الْبِنَاءِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَسْجِدَ كُلَّهُ فِي حُكْمِ مَكَان وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ مَكَانُ الصَّلَاةِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ صَحَّ اقْتِدَاءُ مَنْ هُوَ فِي

الْمَسْجِدِ بِالْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ، وَاخْتِلَافُ الْمَكَانِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ فَكَانَ بَقَاؤُهُ فِيهِ كَبَقَائِهِ فِي مَكَانِ صَلَاتِهِ، وَصَرْفُ الْوَجْهِ عَنْ الْقِبْلَةِ مُفْسِدٌ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ، فَأَمَّا فِي حَالِ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ فَلَا بِخِلَافِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ مُضَادٌّ لِلصَّلَاةِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحَالَانِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ثُمَّ تَذَكَّرَ لَا يَعُدْ وَتَفْسُدْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَانِ الصَّلَاةِ مَانِعٌ مِنْ الْبِنَاءِ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ فَإِنْ تَذَكَّرَ قَبْلَ أَنْ يُجَاوِزَ الصُّفُوفَ مِنْ خَلْفِهِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْيَمِينِ أَوْ الْيَسَارِ عَادَ إلَى قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِحُكْمِ اتِّصَالِ الصُّفُوفِ الْتَحَقَ بِالْمَسْجِدِ، وَلِهَذَا صَحَّ الِاقْتِدَاءُ. وَإِنْ مَشَى أَمَامَهُ، لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ، وَقِيلَ: إنْ مَشَى قَدْرَ الصُّفُوفِ الَّتِي خَلْفَهُ عَادَ وَبَنَى وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ اعْتِبَارًا لِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِالْآخَرِ، وَقِيلَ: إذَا جَاوَزَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ لَا يَعُودُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ فِي حُكْمِ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ فَكَانَ مَانِعًا مِنْ الْبِنَاءِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ فَإِنْ كَانَ يَعُودُ مَا لَمْ يُجَاوِزْهَا؛ لِأَنَّ دَاخِلَ السُّتْرَةِ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا إذَا سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ صُلْبِيَّةٌ فَإِنْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ، أَوْ قِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ - فَإِنْ سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهَا سَقَطَتْ عَنْهُ؛ لِأَنَّ سَلَامَهُ سَلَامَ عَمْدٍ فَيُخْرِجُهُ عَنْ الصَّلَاةِ، حَتَّى لَوْ اقْتَدَى بِهِ رَجُلٌ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ. وَلَوْ ضَحِكَ قَهْقَهَةً لَا تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ، وَلَوْ كَانَ مُسَافِرًا فَنَوَى الْإِقَامَةَ لَا يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا، وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لَكِنَّهَا تُنْتَقَصُ لِتَرْكِ الْوَاجِبِ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا عَنْهَا لَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّ سَلَامَ السَّهْوِ لَا يُخْرِجُ عَنْ الصَّلَاةِ، حَتَّى يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَيُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ بِالْقَهْقَهَةِ، وَيَتَحَوَّلُ فَرْضُهُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ لَوْ كَانَ مُسَافِرًا أَرْبَعًا، ثُمَّ الْأَمْرُ فِي الْعَوْدِ إلَى قَضَاءِ السَّجْدَةِ وَقِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الصُّلْبِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ هَهُنَا لَوْ تَذَكَّرَ بَعْدَ مَا خَرَجَ عَنْ الْمَسْجِدِ أَوْ جَاوَزَ الصُّفُوفَ - سَقَطَ عَنْهُ وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَرْكَانِ وَقَدْ وُجِدَتْ، إلَّا أَنَّهَا تُنْتَقَصُ لِمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ الْعَوْدُ إلَى هَذِهِ الْمَتْرُوكَاتِ وَهِيَ السَّجْدَةُ الصُّلْبِيَّةُ وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَقِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ، حَتَّى لَوْ تَكَلَّمَ أَوْ قَهْقَهَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، بِخِلَافِ الْعَوْدِ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ. وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ صُلْبِيَّةٌ وَسَجْدَتَا سَهْوٍ فَإِنْ سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهُمَا أَوْ لِلصُّلْبِيَّةِ خَاصَّةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا عَنْهَا وَذَاكِرًا لِلسَّهْوِ خَاصَّةً لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، أَمَّا إذَا كَانَ سَاهِيًا عَنْهُمَا فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَكَذَا إذَا كَانَ ذَاكِرًا لِلسَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ فَيَسْجُدَ أَوَّلًا لِلصُّلْبِيَّةِ وَيَتَشَهَّدَ؛ لِأَنَّ تَشَهُّدَهُ اُنْتُقِضَ بِالْعَوْدِ إلَيْهَا، ثُمَّ يُسَلِّمُ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ. وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَالسَّهْوِ فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لَهُمَا أَوْ لِلتِّلَاوَةِ خَاصَّةً سَقَطَتَا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ فَيُخْرِجُهُ عَنْ الصَّلَاةِ، وَلَكِنْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا عَنْهُمَا أَوْ ذَاكِرًا لِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ خَاصَّةً لَا يَسْقُطَانِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ سَهْوٍ أَوْ سَلَامُ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ التِّلَاوَةَ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَشَهَّدَ - لِمَا مَرَّ - ثُمَّ يُسَلِّمَ وَيَسْجُدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ. وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ صُلْبِيَّةٌ وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فَإِنْ كَانَ سَاهِيًا عَنْهُمَا يَعُودُ فَيَقْضِهِمَا الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لَهُمَا أَوْ لِلصُّلْبِيَّةِ خَاصَّةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلتِّلَاوَةِ خَاصَّةً فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ مَعَ الصُّلْبِيَّةِ وَالتِّلَاوَةِ سَجْدَتَا السَّهْوِ إنْ كَانَ سَاهِيًا عَنْ الْكُلِّ أَوْ ذَاكِرًا لِلسَّهْوِ خَاصَّةً لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ سَهْوٍ فَيَعُودُ فَيَقْضِي الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ إنْ كَانَتْ الصُّلْبِيَّةَ أَوَّلًا بَدَأَ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ التِّلَاوَةُ أَوَّلًا بَدَأَ بِهَا عِنْدَهُ، خِلَافًا لِزُفَرَ عَلَى مَا مَرَّ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ بَعْدَهُمَا وَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلصُّلْبِيَّةِ خَاصَّةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلتِّلَاوَةِ سَاهِيًا عَنْ الصُّلْبِيَّةِ فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمَامِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ فِي الْفَصْلَيْنِ، (وَوَجْهُهُ) أَنَّ سَلَامَهُ فِي حَقِّ الرُّكْنِ سَلَامُ سَهْوٍ وَذَا لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ، وَبَعْضُ الطَّاعِنِينَ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَرَّرُوا هَذَا الْوَجْهَ فَقَالُوا: إنَّ هَذَا سَلَامُ سَهْوٍ فِي حَقِّ الرُّكْنِ، وَسَلَامُ عَمْدٍ فِي حَقِّ الْوَاجِبِ، وَسَلَامُ السَّهْوِ لَا يُخْرِجُهُ وَسَلَامُ الْعَمْدِ يُخْرِجُهُ فَوَقَعَ الشَّكُّ، وَالتَّحْرِيمَةُ صَحِيحَةٌ فَلَا تَبْطُلُ بِالشَّكِّ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ذَاكِرًا لِلصُّلْبِيَّةِ غَيْرَ ذَاكِرٍ لِلتِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ تَرَجَّحَ جَانِبُ الرُّكْنِ عَلَى جَانِبِ الْوَاجِبِ، وَفِيمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ تَرْجِيحُ جَانِبِ

الْوَاجِبِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ إلَّا أَنَّ هَذَا الطَّعْنَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ جَانِبَ الْعَمْدِ يُخْرِجُ وَجَانِبَ الشَّكِّ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا يُخْرِجُ وَلَا يَمْنَعُ غَيْرَهُ عَنْ الْإِخْرَاجِ، فَلَا يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالرُّكْنِ. وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّعَارُضُ أَنْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُخْرِجًا وَالْآخَرُ مُبْقِيًا، وَهَهُنَا جَانِبُ الْوَاجِبِ يُوجِبُ الْخُرُوجَ، وَجَانِبُ الرُّكْنِ لَا يُوجِبُ وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ غَيْرَهُ عَنْ الْإِخْرَاجِ، فَأَنَّى يَقَعُ التَّعَارُضُ؟ عَلَى أَنَّ كُلَّ سَلَامٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُخْرِجًا؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ مُحَلِّلًا شَرْعًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ، وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْكَلَامِ عَلَى مَا مَرَّ إلَّا أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ الْإِخْرَاجِ حَالَةَ السَّهْوِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ لِكَثْرَةِ السَّهْوِ وَغَلَبَةِ النِّسْيَانِ، وَلَا يُكْرَهُ سَلَامُ مَنْ عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ الْوَاجِبَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ الْوَاجِبَ فَبَقِيَ مُخْرَجًا عَلَى أَصْلِ الْوَضْعِ، وَلِأَنَّا لَوْ لَمْ نَحْكُمْ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ حَتَّى لَوْ أَتَى بِالصُّلْبِيَّةِ - يَلْزَمُنَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَأْتِي بِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ أَيْضًا لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلتِّلَاوَةِ فَكَانَ سَلَامَ عَمْدٍ فِي حَقِّهِ، وَقِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ. وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّلْبِيَةُ بِأَنْ كَانَ مُحْرِمًا وَهُوَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ سَاهِيًا عَنْ الْكُلِّ أَوْ ذَاكِرًا لِلْكُلِّ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَعْدَ السَّلَامِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ بَدَأَ بِالسَّهْوِ ثُمَّ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بِالتَّلْبِيَةِ؛ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَخْتَصُّ بِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ، وَالتَّكْبِيرُ يُؤْتَى بِهِ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ لَا فِي تَحْرِيمَتِهَا، وَالتَّلْبِيَةُ لَا تَخْتَصُّ بِحُرْمَةِ الصَّلَاةِ. وَلَوْ بَدَأَ بِالتَّلْبِيَةِ سَقَطَ عَنْهُ السَّهْوُ وَالتَّكْبِيرُ، وَكَذَا إذَا لَبَّى بَعْدَ السَّهْوِ قَبْلَ التَّكْبِيرِ سَقَطَ عَنْهُ التَّكْبِيرُ؛ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَخْتَصُّ بِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ، وَالتَّكْبِيرُ يَخْتَصُّ بِحُرْمَتِهَا، وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالتَّلْبِيَةِ؛ لِأَنَّهَا كَلَامٌ لِكَوْنِهَا جَوَابًا لِخِطَابِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] . وَلَوْ بَدَأَ بِالتَّكْبِيرِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ السَّهْوُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ قُرْبَةٍ فَلَا يُوجِبُ الْقَطْعَ، وَعَلَيْهِ إعَادَةُ التَّكْبِيرِ بَعْدَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَهُ، وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا. وَلَوْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ صُلْبِيَّةٌ وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَالسَّهْوِ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّلْبِيَةُ بِأَنْ كَانَ مُحْرِمًا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلصُّلْبِيَّةِ وَالتِّلَاوَةِ أَوْ لِلصُّلْبِيَّةِ دُونَ التِّلَاوَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَكَذَا إذَا كَانَ ذَاكِرًا لِلتِّلَاوَةِ دُونَ الصُّلْبِيَّةِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا عَنْهَا لَا يَخْرُجُ عَنْ الصَّلَاةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا: الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ مِنْهُمَا، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ بَعْدَهُمَا وَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ ثُمَّ يُكَبِّرُ، ثُمَّ يُلَبِّي لِمَا مَرَّ. وَلَوْ بَدَأَ بِالتَّلْبِيَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ. وَلَوْ بَدَأَ بِالتَّكْبِيرِ لَا تَفْسُدُ - لِمَا مَرَّ - وَعَلَيْهِ إعَادَةُ التَّكْبِيرِ بَعْدَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ خَارِجُ الصَّلَاةِ فِي حُرْمَتِهَا، فَإِذَا كَبَّرَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَهُ فَلِذَلِكَ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ. (وَأَمَّا) إذَا كَانَ الْمَتْرُوكُ رُكُوعًا فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْقَضَاءُ، وَكَذَا إذَا تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَةٍ، وَبَيَانُ ذَلِكَ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَقَرَأَ وَسَجَدَ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ ثُمَّ قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ فَهَذَا قَدْ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، فَلَا يَكُونُ هَذَا الرُّكُوعُ قَضَاءً عَنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَرْكَعْ لَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ السُّجُودِ لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهِ مَحَلَّهُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَالْتَحَقَ السُّجُودُ بِالْعَدَمِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ فَكَانَ أَدَاءُ هَذَا الرُّكُوعِ فِي مَحَلِّهِ، فَإِذَا أَتَى بِالسُّجُودِ بَعْدَهُ صَارَ مُؤَدِّيًا رَكْعَةً تَامَّةً. وَكَذَا إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَلَمْ يَسْجُدْ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَرَأَ وَلَمْ يَرْكَعْ ثُمَّ سَجَدَ - فَهَذَا قَدْ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، وَلَا يَكُونُ هَذَا السُّجُودُ قَضَاءً عَنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ رُكُوعَهُ وَقَعَ مُعْتَبَرًا لِمُصَادَفَتِهِ مَحَلَّهُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، وَقَدْ وُجِدَتْ إلَّا أَنَّهُ تَوَقَّفَ عَلَى أَنْ تَتَقَيَّدَ بِالسَّجْدَةِ، فَإِذَا قَامَ وَقَرَأَ لَمْ يَقَعْ قِيَامُهُ وَلَا قِرَاءَتُهُ مُعْتَدًّا بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي مَحَلِّهِ فَلَغَا، فَإِذَا سَجَدَ صَادَفَ السُّجُودُ مَحَلَّهُ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ رُكُوعٍ مُعْتَبَرٍ فَتَقَيَّدَ رُكُوعُهُ بِهِ، فَقَدْ وُجِدَ انْضِمَامُ السَّجْدَتَيْنِ إلَى الرُّكُوعِ فَصَارَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً، وَكَذَا إذَا قَرَأَ أَوْ رَكَعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ، فَإِنَّمَا صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَهُ رُكُوعَانِ وَوُجِدَ السُّجُودُ فَيَلْحَقُ بِأَحَدِهِمَا وَيَلْغُو الْآخَرَ، غَيْرَ أَنَّ فِي بَابِ الْحَدَثِ جُعِلَ الْمُعْتَبَرُ الرُّكُوعَ الْأَوَّلَ، وَفِي بَابِ السَّهْوِ مِنْ نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ جُعِلَ الْمُعْتَبَرُ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ، حَتَّى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ عَلَى رِوَايَةِ بَابِ الْحَدَثِ، وَعَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْبَابِ يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ،، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ بَابِ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ رُكُوعَهُ الْأَوَّلَ صَادَفَ مَحَلَّهُ لِحُصُولِهِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، فَوَقَعَ الثَّانِي مُكَرَّرًا فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَإِذَا سَجَدَ يَتَقَيَّدُ بِهِ الرُّكُوعُ الْأَوَّلُ فَصَارَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً. وَكَذَلِكَ إذَا قَرَأَ

وَلَمْ يَرْكَعْ وَسَجَدَ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَلَمْ يَسْجُدْ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ وَلَمْ يَرْكَعْ وَسَجَدَ فَإِنَّمَا صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ سُجُودَهُ الْأَوَّلَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ لِحُصُولِهِ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَلَمْ يَقَعْ مُعْتَدًّا بِهِ، فَإِذَا قَرَأَ وَرَكَعَ تَوَقَّفَ هَذَا الرُّكُوعُ عَلَى أَنْ يَتَقَيَّدَ بِسُجُودِهِ بَعْدَهُ، فَإِذَا سَجَدَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ تَقَيَّدَ ذَلِكَ الرُّكُوعُ بِهِ فَصَارَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً. وَكَذَلِكَ إنْ رَكَعَ فِي الْأُولَى وَلَمْ يَسْجُدْ، ثُمَّ رَكَعَ فِي الثَّانِيَةِ وَلَمْ يَسْجُدْ، وَسَجَدَ فِي الثَّالِثَةِ وَلَمْ يَرْكَعْ - فَلَا شَكَّ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً لِمَا مَرَّ غَيْرَ أَنَّ هَذَا السُّجُودَ يَلْتَحِقُ بِالرُّكُوعِ الْأَوَّلِ أَمْ بِالثَّانِي؟ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ عَلَى مَا مَرَّ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِإِدْخَالِهِ الزِّيَادَةَ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ إدْخَالَ الزِّيَادَةِ فِي الصَّلَاةِ نَقْصٌ فِيهَا، وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ: زِيَادَةُ السَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ كَزِيَادَةِ الرَّكْعَةِ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ السَّجْدَةَ الْوَاحِدَةَ قُرْبَةٌ وَهِيَ سُجُودُ الشُّكْرِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ إلَّا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ، ثُمَّ إدْخَالُ الرُّكُوعِ الزَّائِدِ أَوْ السُّجُودِ الزَّائِدِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ لَا تَفْسُدُ بِوُجُودِ أَفْعَالِهَا بَلْ بِوُجُودِ مَا يُضَادُّهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا زَادَ رَكْعَةً كَامِلَةً؛ لِأَنَّهَا فِعْلُ صَلَاةٍ كَامِلٌ، فَانْعَقَدَ نَفْلًا فَصَارَ مُنْتَقِلًا إلَيْهِ فَلَا يَبْقَى فِي الْفَرْضِ ضَرُورَةٌ لِمَكَانِ فَسَادِ فَرْضٍ بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا بِطَرِيقِ الْمُضَادَّةِ، بِخِلَافِ زِيَادَةِ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِفِعْلٍ كَامِلٍ لِيَصِيرَ مُنْتَقِلًا إلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا بِوُجُودِ مَا يُضَادُّهَا، أَوْ بِالِانْتِقَالِ إلَى غَيْرِهَا، وَقَدْ انْعَدَمَ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَقَامَ إلَى الْخَامِسَةِ - فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ يَعُودُ إلَى الْقَعْدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقَيِّدْ الْخَامِسَةَ بِالسَّجْدَةِ لَمْ يَكُنْ رَكْعَةً فَلَمْ يَكُنْ فِعْلَ صَلَاةٍ كَامِلًا، وَمَا لَمْ يَكْمُلْ بَعْدُ فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ فَكَانَ قَابِلًا لِلرَّفْعِ، وَيَكُونُ رَفْعُهُ فِي الْحَقِيقَةِ دَفْعًا وَمَنْعًا عَنْ الثُّبُوتِ، فَيُدْفَعُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ الْفَرْضِ وَهُوَ الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ فَسُبِّحَ بِهِ فَعَادَ، وَإِنْ قَيَّدَ الْخَامِسَةَ بِالسَّجْدَةِ لَا يَعُودُ وَفَسَدَ فَرْضُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَفْسُدُ فَرْضُهُ وَيَعُودُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّكْعَةَ الْوَاحِدَةَ عِنْدَهُ بِمَحَلِّ النَّقْصِ، وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى النَّقْصِ لِبَقَاءِ فَرْضٍ عَلَيْهِ وَهُوَ الْخُرُوجُ بِلَفْظِ السَّلَامِ، وَأَنَّا نَقُولُ: وُجِدَ فِعْلٌ كَامِلٌ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ انْعَقَدَ نَفْلًا فَصَارَ بِهِ خَارِجًا عَنْ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ حُصُولِهِ فِي النَّفْلِ خُرُوجَهُ عَنْ الْفَرْضِ لِتَغَايُرِهُمَا فَيَسْتَحِيلُ كَوْنُهُ فِيهِمَا وَقَدْ حَصَلَ فِي النَّفْلِ فَصَارَ خَارِجًا عَنْ الْفَرْضِ ضَرُورَةً. وَلَوْ تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ فَإِنْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا لَا يَعُودُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَامَ مِنْ الثَّانِيَةِ إلَى الثَّالِثَةِ وَلَمْ يَقْعُدْ فَسَبَّحُوا بِهِ فَلَمْ يَعُدْ وَلَكِنْ سَبَّحَ بِهِمْ فَقَامُوا، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ سَبَّحُوا بِهِ فَعَادَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا وَكَانَ إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَلِأَنَّ الْقِيَامَ فَرِيضَةٌ وَالْقَعْدَةَ الْأُولَى وَاجِبَةٌ فَلَا يُتْرَكُ الْفَرْضُ لِمَكَانِ الْوَاجِبِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا جَوَازَ الِانْتِقَالِ مِنْ الْقِيَامِ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ بِالْأَثَرِ لِحَاجَةِ الْمُصَلِّي إلَى الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ - تَعَالَى -، وَإِظْهَارِ مُخَالَفَةِ مَنْ عَصَاهُ، وَاسْتَنْكَفَ عَنْ سَجْدَتِهِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فَإِنْ كَانَ إلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِوُجُودِ حَدِّ الْقِيَامِ وَهُوَ انْتِصَابُ النِّصْفِ الْأَعْلَى وَالنِّصْفِ الْأَسْفَلِ جَمِيعًا، وَمَا بَقِيَ مِنْ الِانْحِنَاءِ فَقَلِيلٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَإِنْ كَانَ إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ يَقْعُدُ لِانْعِدَامِ الْقِيَامِ الَّذِي هُوَ فَرْضٌ. وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ هَلْ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، كَانَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يَقُولُ: لَا يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ كَانَ كَأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ، وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْعُدَ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ مَشَايِخِنَا: إنَّهُ يَسْجُدُ؛ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ مَا اشْتَغَلَ بِالْقِيَامِ أَخَّرَ وَاجِبًا وَجَبَ وَصْلُهُ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ الرُّكْنِ فَلَزِمَهُ سُجُودُ السَّهْوِ. (وَأَمَّا) الْأَذْكَارُ فَنَقُولُ: إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ قَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيَّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ هَذَا عِنْدِي أَدَاءٌ وَلَيْسَ بِقَضَاءٍ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ هُوَ الْقِرَاءَةُ فِي رَكْعَتَيْنِ غَيْرَ عَيْنٍ، فَإِذَا قَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ يَكُونُ قَاضِيًا وَمَسَائِلُ الْأَصْلِ تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُسَافِرِ إذَا اقْتَدَى بِالْمُقِيمِ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَرَأَ الْإِمَامُ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الْأُولَيَيْنِ أَدَاءً لَجَازَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُفْتَرِضِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قَضَاءً عَنْ الْأُولَيَيْنِ الْتَحَقَتْ بِالْأُولَيَيْنِ فَحَلَّتْ الْأُخْرَيَانِ عَنْ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ، فَيَصِيرُ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ،

فصل بيان محل السجود للسهو

وَإِنَّهُ فَاسِدٌ. وَذُكِرَ فِي بَابِ السَّهْوِ: مِنْ الْأَصْلِ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا كَانَ لَمْ يَقْرَأْ فِي الْأُولَيَيْنِ فَاقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَقَرَأَ الْإِمَامُ فِيهِمَا، ثُمَّ قَامَ الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ مَا فَاتَهُ فَعَلَيْهِ الْقِرَاءَةِ - وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ تُجْزِهِ صَلَاتُهُ. وَلَوْ كَانَ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ رَكْعَتَيْنِ غَيْرَ عَيْنٍ لَكَانَ الْإِمَامُ مُؤَدِّيًا فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَقَدْ أَدْرَكَهُمَا الْمَسْبُوقُ فَحَصَلَ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ عَيْنًا بِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، وَمَعَ هَذَا وَجَبَ فَعُلِمَ أَنَّ الْأُولَيَيْنِ مَحَلُّ أَدَاءِ فَرْضِ الْقِرَاءَةِ عَيْنًا، وَالْقِرَاءَةُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قَضَاءٌ عَنْ الْأُولَيَيْنِ، فَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَقَدْ قَضَى مَا فَاتَهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَالْفَائِتُ إذَا قُضِيَ يَلْتَحِقُ بِمَحَلِّهِ فَحَلَّتْ الْأُخْرَيَانِ عَنْ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ، فَقَدْ فَاتَ عَلَى الْمَسْبُوقِ الْقِرَاءَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِهَا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِلَا قِرَاءَةٍ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَكَذَا لَوْ كَانَ قَرَأَ الْإِمَامُ فِي الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَإِنْ وُجِدَتْ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا لِافْتِرَاضِهَا فِي رَكْعَتَيْنِ فَحَسْبُ، فَقَدْ فَاتَ الْفَرْضُ عَلَى الْمَسْبُوقِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُهَا فِيمَا يَقْضِي. وَلَوْ تَرَكَهَا فِي الْأُولَيَيْنِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ أَوْ الْمَغْرِبِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْقَضَاءُ هَهُنَا. وَلَوْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَبَدَأَ بِغَيْرِهَا، فَلَمَّا قَرَأَ بَعْضَ السُّورَةِ تَذَكَّرَ - يَعُودُ فَيَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ثُمَّ السُّورَةِ؛ لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ سُمِّيَتْ فَاتِحَةً لِافْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ بِهَا فِي الصَّلَاةِ، فَإِذَا تَذَكَّرَ فِي مَحَلِّهَا كَانَ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ، كَمَا لَوْ سَهَا عَنْ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ حَتَّى اشْتَغَلَ بِالْقِرَاءَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ لَمْ يُكَبِّرْ - يَعُودُ إلَى التَّكْبِيرَاتِ وَيَقْرَأُ بَعْدَهَا كَذَا، هَذَا. وَلَوْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ وَقَرَأَ السُّورَةَ لَمْ يَقْضِهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ يَقْضِي الْفَاتِحَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ؛ لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ أَوْجَبُ مِنْ السُّورَةِ، ثُمَّ السُّورَةُ تُقْضَى فَلَأَنْ تُقْضَى الْفَاتِحَةُ أَوْلَى. (وَلَنَا) أَنَّ الْأُخْرَيَيْنِ مَحَلُّ الْفَاتِحَةِ أَدَاءً فَلَا تَكُونَا مَحَلًّا لَهَا قَضَاءً بِخِلَافِ السُّورَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ يُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الْفَاتِحَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ. وَلَوْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ وَلَمْ يَقْرَأْ السُّورَةَ قَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَقْضِيهَا كَمَا لَا يَقْضِي الْفَاتِحَةَ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ فَاتَتْ عَنْ مَوْضِعِهَا، وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَقَضَاهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ وَجَهَرَ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَرَكَ السُّورَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ فَقَضَاهَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَجَهَرَ؛ لِأَنَّ الْأُخْرَيَيْنِ لَيْسَتَا مَحَلًّا لِلسُّورَةِ أَدَاءً فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لَهَا قَضَاءً، ثُمَّ قَالَ فِي الْكِتَابِ: وَجَهَرَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ جَهَرَ بِهِمَا أَوْ بِالسُّورَةِ خَاصَّةً، وَفَسَّرَهُ الْبَلْخِيّ فَقَالَ: أَتَى بِالسُّورَةِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِصِفَةِ الْأَدَاءِ، وَيَجْهَرُ بِالسُّورَةِ أَدَاءً فَكَذَا قَضَاءً، فَأَمَّا الْفَاتِحَةُ فَهِيَ فِي مَحَلِّهَا، وَمِنْ سُنَنِهَا الْإِخْفَاءُ فَيُخْفِي بِهَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُخَافِتُ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُ يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِالْفَاتِحَةِ، وَالسُّورَةُ تُبْنَى عَلَيْهَا، ثُمَّ السُّنَّةُ فِي الْفَاتِحَةِ: الْمُخَافَتَةُ، فَكَذَا فِيمَا يُبْنَى عَلَيْهَا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجْهَرُ بِهِمَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَهْرُ بِالسُّورَةِ فَيَجْهَرُ بِالْفَاتِحَةِ أَيْضًا، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا تَذَكَّرَ بَعْدَ مَا قَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ، فَإِنْ تَذَكَّرَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ أَوْ السُّورَةِ فِي الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْهُ يَعُودُ إلَى الْقِرَاءَةِ، وَيُنْتَقَضُ رُكُوعُهُ، بِخِلَافِ الْقُنُوتِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا نَذْكُرُهُ فِي صَلَاةِ الْوِتْرِ. وَلَوْ تَرَكَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ فَتَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ قَضَاهَا فِي الرُّكُوعِ، بِخِلَافِ الْقُنُوتِ إذَا تَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ حَيْثُ يَسْقُطُ، وَنَذْكُرُ الْفَرْقَ هُنَاكَ أَيْضًا. وَلَوْ تَرَكَ قِرَاءَةَ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَقَامَ ثُمَّ تَذَكَّرَ - يَعُودُ وَيَتَشَهَّدُ إذَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَرَأَ التَّشَهُّدَ ثُمَّ تَذَكَّرَ يَعُودُ لِيَكُونَ خُرُوجُهُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ فَهَهُنَا أَوْلَى. وَكَذَا إذَا لَمْ يَقُمْ وَتَذَكَّرَهَا قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَ مَا سَلَّمَ سَاهِيًا، وَلَوْ سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهَا سَقَطَتْ عَنْهُ وَسَقَطَ سَجْدَتَا السَّهْوِ لِمَا مَرَّ. وَلَوْ تَرَكَ قِرَاءَةَ التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَإِنْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا لَا يَعُودُ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ فَرْضٌ وَلَيْسَ مِنْ الْحِكْمَةِ تَرْكُ الْفَرْضِ لِتَحْصِيلِ الْوَاجِبِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فَإِنْ كَانَ إلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ لَا يَعُودُ وَتَسْقُطُ، وَإِنْ كَانَ إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ يَعُودُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَحَلِّ السُّجُودِ لِلسَّهْوِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ السُّجُودِ لِلسَّهْوِ فَمَحَلُّهُ الْمَسْنُونُ بَعْدَ السَّلَامِ عِنْدَنَا، سَوَاءٌ كَانَ السَّهْوُ بِإِدْخَالِ زِيَادَةٍ فِي الصَّلَاةِ أَوْ نُقْصَانٍ فِيهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَبْلَ السَّلَامِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلنُّقْصَانِ فَقَبْلَ السَّلَامِ، وَإِنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلزِّيَادَةِ فَبَعْدَ السَّلَامِ. (احْتَجَّ) الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ بُحَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ سَجَدَ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ فَمَحْمُولٌ عَلَى التَّشَهُّدِ كَمَا حَمَلْتُمْ السَّلَامَ عَلَى التَّشَهُّدِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَفِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَسَلِّمْ أَيْ فَتَشَهَّدْ، وَيُرَجَّحُ مَا رَوَيْنَا بِمُعَاضَدَةِ الْمَعْنَى إيَّاهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ السَّجْدَةَ إنَّمَا يُؤْتَى بِهَا جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْجَابِرُ يَجِبُ تَحْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِ النَّقْصِ لَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَالْإِتْيَانُ بِالسَّجْدَةِ بَعْدَ السَّلَامِ تَحْصِيلُ الْجَابِرِ لَا فِي مَحَلِّ النُّقْصَانِ، وَالْإِتْيَانُ بِهَا قَبْلَ السَّلَامِ تَحْصِيلُ الْجَابِرِ فِي مَحَلِّ النُّقْصَانِ فَكَانَ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ جَبْرَ النُّقْصَانِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ حَالَ قِيَامِ الْأَصْلِ، وَبِالسَّلَامِ الْقَاطِعِ لِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةَ يَفُوتُ الْأَصْلُ فَلَا يُتَصَوَّرُ جَبْرُ النُّقْصَانِ بِالسُّجُودِ بَعْدَهُ. (وَاحْتَجَّ) مَالِكٌ بِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ فِي مَثْنَى مِنْ صَلَاتِهِ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَكَانَ سَهْوًا فِي نُقْصَانٍ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَكَانَ سَهْوًا فِي الزِّيَادَةِ؛ وَلِأَنَّ السَّهْوَ إذَا كَانَ نُقْصَانًا فَالْحَاجَةُ إلَى الْجَابِرِ، فَيُؤْتَى بِهِ فِي مَحِلِّ النُّقْصَانِ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، فَأَمَّا إذَا كَانَ زِيَادَةً فَتَحْصِيلُ السَّجْدَةِ قَبْلَ السَّلَامِ يُوجِبُ زِيَادَةً أُخْرَى فِي الصَّلَاةِ، وَلَا يُوجِبُ رَفْعَ شَيْءٍ، فَيُؤَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ السَّلَامِ. وَلَنَا حَدِيثُ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَكَذَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَرَوَيْنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذَلِكَ إلَى الصَّوَابِ، وَلْيَبْنِ عَلَيْهِ، وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ» ؛ وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ أُخِّرَ عَنْ مَحَلِّ النُّقْصَانِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا كَانَ لِمَعْنًى، ذَلِكَ الْمَعْنَى يَقْتَضِي التَّأْخِيرَ عَنْ السَّلَامِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَدَّاهُ هُنَاكَ ثُمَّ سَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَرَابِعَةً يَحْتَاجُ إلَى أَدَائِهِ فِي كُلِّ مَحِلٍّ، وَتَكْرَارُ سُجُودِ السَّهْوِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، فَأُخِّرَ إلَى وَقْتِ السَّلَامِ احْتِرَازًا عَنْ التَّكْرَارِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَخَّرَ أَيْضًا عَنْ السَّلَامِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ سَهَا عَنْ السَّهْوِ لَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى فَيُؤَدِّي إلَى التَّكْرَارِ؛ وَلِأَنَّ إدْخَالَ الزِّيَادَةِ فِي الصَّلَاةِ يُوجِبُ نُقْصَانًا فِيهَا، فَلَوْ أَتَى بِالسُّجُودِ قَبْلَ السَّلَامِ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَصِيرَ الْجَابِرُ لِلنُّقْصَانِ مُوجِبًا زِيَادَةَ نَقْصٍ وَذَا غَيْرُ صَوَابٍ. (وَأَمَّا) الْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِمْ بِالْأَحَادِيثِ فَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ الْفِعْلِ مُتَعَارِضَةٌ فَبَقِيَ لَنَا رِوَايَةُ الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ تَعَارُضٍ، أَوْ تَرَجَّحَ مَا ذَكَرْنَا لِمُعَاضَدَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى إيَّاهُ، أَوْ يُوَفَّقُ فَيُحْمَلُ مَا رَوَيْنَا عَلَى أَنَّهُ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ الْأَوَّلِ وَلَا مَحْمَلَ لَهُ سَوَاءٌ فَكَانَ مُحْكَمًا، وَمَا رَوَاهُ مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ الْأَوَّلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ الثَّانِي، فَكَانَ مُتَشَابِهًا فَيُصْرَفُ إلَى مُوَافَقَةِ الْمُحْكَمِ، وَهُوَ أَنَّهُ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ الْأَخِيرِ لَا قَبْلَ السَّلَامِ الْأَوَّلِ رَدًّا لِلْمُحْتَمَلِ إلَى الْمُحْكَمِ وَمَا ذَكَرَ مَالِكٌ مِنْ الْفَصْلِ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ سَوَاءٌ نَقَصَ أَوْ زَادَ، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ نُقْصَانًا؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ سَهَا مَرَّتَيْنِ إحْدَاهُمَا بِالزِّيَادَةِ وَالْأُخْرَى بِالنُّقْصَانِ مَاذَا يَفْعَلُ؟ وَتَكْرَارُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَلْزَمَ مَالِكًا بَيْنَ يَدَيْ الْخَلِيفَةِ بِهَذَا الْفَصْلِ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ زَادَ وَنَقَصَ كَيْف يَصْنَعُ؟ فَتَحَيَّرَ مَالِكٌ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ أَحَدِ مَعْنَى الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْجَابِرَ يَحْصُلُ فِي مَحَلِّ الْجَبْرِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ لَا يُؤْتَى بِهِ فِي مَحَلِّ الْجَبْرِ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ يُؤَخَّرُ عَنْهُ لِمَعْنًى يُوجِبُ التَّأْخِيرَ عَنْ السَّلَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْجَبْرَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا حَالَ قِيَامِ أَصْلِ الصَّلَاةِ فَنَعَمْ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ أَنَّ سَلَامَ مَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ قَاطِعٌ لِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ؟ وَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي ذَلِكَ، فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا يَقْطَعُ التَّحْرِيمَةَ أَصْلًا فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْجَبْرِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يَقْطَعُهَا عَلَى تَقْدِيرِ الْعَوْدِ إلَى السُّجُودِ أَوْ يَقْطَعُهَا ثُمَّ يَعُودُ بِالْعَوْدِ إلَى السُّجُودِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْجَبْرِ، وَإِذَا عَرَفَ أَنَّ مَحَلَّهُ الْمَسْنُونَ بَعْدَ السَّلَامِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ التَّشَهُّدِ الثَّانِي يُسَلِّمُ ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَعُودُ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مُكَبِّرًا، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَأْتِي بِالدَّعَوَاتِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَاخْتِيَارُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَأْتِي بِالدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلَامِ وَبَعْدَهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ إنَّمَا شُرِعَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَذْكَارِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَمَنْ عَلَيْهِ السَّهْوُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَذْكَارِ وَهُوَ سُجُودُ السَّهْوِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْفَرَاغُ،

فصل قدر سلام السهو وصفته

فَلِذَلِكَ كَانَ التَّأْخِيرُ إلَى التَّشَهُّدِ الثَّانِي أَحَقَّ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْتِيَ بِدَعَوَاتٍ تُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ لِئَلَّا تَفْسُدَ صَلَاتُهُ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانَ مَحَلِّهِ الْمَسْنُونِ. وَأَمَّا مَحِلُّ جَوَازِهِ فَنَقُولُ: جَوَازُ السُّجُودِ لَا يَخْتَصُّ بِمَا بَعْدَ السَّلَامِ، حَتَّى لَوْ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ يَجُوزُ وَلَا يُعِيدُ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ سُنَّتَهُ وَهُوَ الْأَدَاءُ بَعْدَ السَّلَامِ، وَتَرْكُ السُّنَّةِ لَا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ، وَلِأَنَّ الْأَدَاءَ بَعْدَ السَّلَامِ سُنَّةٌ وَلَوْ أَمَرْنَاهُ بِالْإِعَادَةِ كَانَ تَكْرَارًا، وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ، وَتَرْكُ السُّنَّةِ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ الْبِدْعَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ قَدْرُ سَلَامِ السَّهْوِ وَصِفَتُهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا قَدْرُ سَلَامِ السَّهْوِ وَصِفَتُهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ الزَّاهِدِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَزْدَوِيِّ وَقَالَ: لَوْ سَلَّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ تَبْطُلُ التَّحْرِيمَةُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَةَ الثَّانِيَةَ لِمَعْنَى التَّحِيَّةِ، وَمَعْنَى التَّحِيَّةِ سَاقِطٌ عَنْ سَلَامِ السَّهْوِ، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ عَبَثًا لِخُلُوِّهِ عَنْ الْفَائِدَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ، فَكَانَ قَاطِعًا لِلتَّحْرِيمَةِ، وَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ» ذَكَرَ السَّلَامَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْحَبْسِ أَوْ إلَى الْمَعْهُودِ وَهُمَا التَّسْلِيمَتَانِ. [فَصْلٌ عَمَلُ سَلَامِ السَّهْوِ هَلْ يُبْطِلُ التَّحْرِيمَةَ أَمْ لَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا عَمَلُ سَلَامِ السَّهْوِ أَنَّهُ هَلْ يُبْطِلُ التَّحْرِيمَةَ أَمْ لَا؟ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: لَا يَقْطَعُ التَّحْرِيمَةَ أَصْلًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَمْرُ مَوْقُوفٌ: إنْ عَادَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَصَحَّ عَوْدُهُ إلَيْهِمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَطَعَ، حَتَّى لَوْ ضَحِكَ بَعْدَ مَا سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَى سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لَا تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ تُنْتَقَضُ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: لَا تَوَقُّفَ فِي انْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ بِسَلَامِ السَّهْوِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بَلْ تَنْقَطِعُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَإِنَّمَا التَّوَقُّفُ عِنْدَهُمَا فِي عَوْدِ التَّحْرِيمَةِ ثَانِيًا، إنْ عَادَ إلَى سَجْدَتَيْ تَعُدْ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا أَسْهَلُ لِتَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ، وَالْأَوَّلُ وَهُوَ التَّوَقُّفُ فِي بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ، وَبُطْلَانُهَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ تَحْرِيمَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا بَطَلَتْ لَا تَعُودُ إلَّا بِإِعَادَةٍ، وَلَمْ تُوجَدْ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ عَمَلَ سَلَامِ مَنْ عَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ؛ لِأَنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ يُؤْتَى بِهِمَا فِي تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُمَا شُرِّعَتَا لِجُبْرَانِ النُّقْصَانِ، وَإِنَّمَا يَنْجَبِرُ إنْ حَصَلَتَا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا يَسْقُطَانِ إذَا وُجِدَ بَعْدَ الْقُعُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ مَا يُنَافِي التَّحْرِيمَةَ، وَلَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُمَا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ إلَّا بَعْدَ بُطْلَانِ عَمَلِ هَذَا السَّلَامِ، فَصَارَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَنْزِلَةٍ، وَلَوْ انْعَدَمَ حَقِيقَةً كَانَتْ التَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةً، فَكَذَا إذَا الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ السَّلَامَ جُعِلَ مُحَلَّلًا فِي الشَّرْعِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَتَحْلِيلُهَا، التَّسْلِيمُ، وَالتَّحْلِيلُ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ، وَلِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْقَوْمِ فَكَانَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، وَإِنَّهُ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ، غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ عَمَلَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِحَاجَةِ الْمُصَلِّي إلَى جَبْرِ النُّقْصَانِ، وَلَا يَنْجَبِرُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْجَابِرِ فِي التَّحْرِيمَةِ لِيَلْتَحِقَ الْجَابِرُ بِسَبَبِ بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ لِمَحَلِّ النُّقْصَانِ فَيُجْبَرُ النُّقْصَانُ، فَنَفَيْنَا التَّحْرِيمَةَ مَعَ وُجُودِ الْمُنَافِي لَهَا لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، فَإِنْ اشْتَغَلَ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَصَحَّ اشْتِغَالُهُ بِهِمَا تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ إلَى بَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ فَبَقِيَتْ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَغِلْ لَمْ تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ فَيَعْمَلُ السَّلَامُ فِي الْإِخْرَاجِ عَنْ الصَّلَاةِ، وَإِبْطَالُ التَّحْرِيمَةِ عَمَلَهُ. وَيُبْنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: إحْدَاهَا: إذَا قَهْقَهَ قَبْلَ الْعَوْدِ إلَى السُّجُودِ بَعْدَ السَّلَامِ تَمَّتْ صَلَاتُهُ وَسَقَطَ عَنْهُ السَّهْوُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْقَهْقَهَةِ: أَنَّهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا تُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ لَا تُوجِبُ انْتِقَاضَ الطَّهَارَةِ، كَمَا إذَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ. وَالثَّانِيَةُ إذَا سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَاقْتَدَى بِهِ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَى السُّجُودِ - فَاقْتِدَاؤُهُ مَوْقُوفٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، فَإِنْ عَادَ إلَى السُّجُودِ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ عَادَ أَوْ لَمْ يَعُدْ، وَقَالَ بِشْرٌ: لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ عَادَ أَوْ لَمْ يُعِدْ، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ السَّلَامَ قَاطِعًا لِلتَّحْرِيمَةِ جَزْمًا. وَالثَّالِثَةُ: الْمُسَافِرُ إذَا سَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَعَلَيْهِ سَهْوٌ فَنَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ - لَا يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَيَسْقُطُ عَنْهُ السَّهْوُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ لَكِنَّهُ يُؤَخِّرُهُمَا إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَادَ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ ثُمَّ اقْتَدَى بِهِ - رَجُلٌ يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، إلَّا عِنْدَ بِشْرٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَهْقَهَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ إلَّا عِنْدَ زُفَرَ. وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي هَذِهِ

فصل بيان من يجب عليه سجود السهو ومن لا يجب عليه سجود السهو

الْحَالَةِ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَيُؤَخِّرُ سُجُودَ السَّهْوِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ، سَوَاءٌ نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ مَا سَجَدَ سَجْدَةً وَاحِدَةً أَوْ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ سِيَّمَا إذَا سَلَّمَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهُ، أَوْ سَاهٍ عَنْهُ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَسْجُدَ لَهُ أَوْ لَا يَسْجُدَ حَتَّى لَا يَسْقُطَ عَنْهُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ بَعْدَ السَّلَامِ إلَّا إذَا فَعَلَ فِعْلًا يَمْنَعُهُ مِنْ الْبِنَاءِ بِأَنْ تَكَلَّمَ أَوْ قَهْقَهَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ خَرَجَ عَنْ الْمَسْجِدِ أَوْ صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ مَحَلُّهُ وَهُوَ تَحْرِيمَةُ الصَّلَاةِ، فَيَسْقُطُ ضَرُورَةَ فَوَاتِ مَحَلِّهِ، وَكَذَا إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ بَعْدَ السَّلَامِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ أَوْ احْمَرَّتْ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ سَقَطَ عَنْهُ السَّهْوُ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ جَبْرٌ لِلنَّقْصِ الْمُتَمَكَّنِ فَيَجْرِي مَجْرَى الْقَضَاءِ، وَقَدْ وَجَبَتْ كَامِلَةً فَلَا يُقْضَى النَّاقِصَ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَسُجُودُ السَّهْوِ، يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ وَعَلَى الْمُنْفَرِدِ مَقْصُودًا لِتَحَقُّقِ سَبَبِ الْوُجُوبِ مِنْهُمَا وَهُوَ السَّهْوُ، فَأَمَّا الْمُقْتَدِي إذَا سَهَا فِي صَلَاتِهِ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ السُّجُودُ؛ لِأَنَّهُ إنْ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ كَانَ مُخَالِفًا لِلْإِمَامِ، وَإِنْ أَخَّرَهُ إلَى مَا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ يَخْرُجُ مِنْ الصَّلَاةِ بِسَلَامِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ مِمَّنْ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ، فَكَانَ سَهْوُهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى السُّجُودِ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ لِتَعَذُّرِ السُّجُودِ عَلَيْهِ، فَسَقَطَ السُّجُودُ عَنْهُ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ اللَّاحِقُ وَهُوَ الْمُدْرِكُ لِأَوَّلِ صَلَاةِ الْإِمَامِ إذَا فَاتَهُ بَعْضُهَا بَعْدَ الشُّرُوعِ بِسَبَبِ النَّوْمِ أَوْ الْحَدَثِ السَّابِقِ، بِأَنْ نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ ثُمَّ انْتَبَهَ وَقَدْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ أَوْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، أَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ وَقَدْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِشَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ أَوْ فَرَغَ عَنْهَا - فَاشْتَغَلَ بِقَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ فَسَهَا فِيهِ - لَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي خَلْفَ الْإِمَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَسْبُوقُ إذَا سَهَا فِيمَا يَقْضِي وَجَبَ عَلَيْهِ السَّهْوُ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَقْضِي بِمَنْزِلَةِ الْمُنْفَرِدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ؟ . وَأَمَّا الْمُقِيمُ إذَا اقْتَدَى بِالْمُسَافِرِ ثُمَّ قَامَ إلَى إتْمَامِ صَلَاتِهِ وَسَهَا هَلْ يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ؟ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ: إنَّهُ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ وَإِذَا سَهَا فِيمَا يُتِمُّ فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ أَيْضًا، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ كَاللَّاحِقِ لَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ وَإِذَا سَهَا فِيمَا يُتِمُّ لَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ لِأَوَّلِ الصَّلَاةِ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي فِيمَا يُؤَدِّيهِ بِتِلْكَ التَّحْرِيمَةِ كَاللَّاحِقِ، وَلِهَذَا لَا يَقْرَأُ كَاللَّاحِقِ، وَالصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ مَا اقْتَدَى بِإِمَامِهِ إلَّا بِقَدْرِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَإِذَا انْقَضَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ صَارَ مُنْفَرِدًا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَا يَقْرَأُ فِيمَا يُتِمُّ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَقَدْ قَرَأَ الْإِمَامُ فِيهِمَا فَكَانَتْ قِرَاءَةً لَهُ، وَسَهْوُ الْإِمَامِ يُوجِبُ السُّجُودَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُقْتَدِي؛ لِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ وَاجِبَةٌ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَابِعْ إمَامَكَ عَلَى أَيِّ حَالٍ وَجَدْتَهُ» وَلِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ تَابِعٌ لِلْإِمَامِ، وَالْحُكْمُ فِي التَّبَعِ ثَبَتَ بِوُجُودِ السَّبَبِ فِي الْأَصْلِ فَكَانَ سَهْوُ الْإِمَامِ سَبَبًا لِوُجُوبِ السَّهْوِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُقْتَدِي، وَلِهَذَا لَوْ سَقَطَ عَنْ الْإِمَامِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ بِأَنْ تَكَلَّمَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ يَسْقُطُ عَنْ الْمُقْتَدِي، وَكَذَلِكَ اللَّاحِقُ يَسْجُدُ لِسَهْوِ الْإِمَامِ إذَا سَهَا فِي حَالِ نَوْمِ اللَّاحِقِ، أَوْ ذَهَابِهِ إلَى الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي خَلْفَهُ، وَلَكِنْ لَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ إذَا انْتَبَهَ فِي حَالِ اشْتِغَالِ الْإِمَامِ بِسُجُودِ السَّهْوِ، أَوْ جَاءَ إلَيْهِ مِنْ الْوُضُوءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، بَلْ يَبْدَأُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ ثُمَّ يَسْجُدُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ أَوْ الْمُقِيمِ خَلْفَ الْمُسَافِرِ حَيْثُ تَابِعَ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِالْإِتْمَامِ. (وَالْفَرْقُ) أَنَّ اللَّاحِقَ الْتَزَمَ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ فِيمَا اقْتَدَى بِهِ عَلَى نَحْوِ مَا فَصَّلَ الْإِمَامُ، وَأَنَّهُ اقْتَدَى بِهِ فِي حَقِّ جَمِيعِ الصَّلَاةِ فَيُتَابِعُهُ فِي جَمِيعِهَا عَلَى نَحْوِ مَا يُؤَدِّي الْإِمَامُ، وَالْإِمَامُ أَدَّى الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَسَجَدَ لِسَهْوِهِ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ فَكَذَا هُوَ، فَأَمَّا الْمَسْبُوقُ فَقَدْ الْتَزَمَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ مُتَابَعَتَهُ بِقَدْرِ مَا هُوَ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَقَدْ أَدْرَكَ هَذَا الْقَدْرَ فَيُتَابِعُهُ فِيهِ ثُمَّ يَنْفَرِدُ، وَكَذَا الْمُقِيمُ الْمُقْتَدِي بِالْمُسَافِرِ. وَلَوْ سَجَدَ اللَّاحِقُ مَعَ الْإِمَامِ لِلسَّهْوِ تَابَعَهُ فِيهِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ سَجَدَ قَبْلَ أَوَانِهِ فِي حَقِّهِ فَلَمْ يَقَعْ مُعْتَدًّا بِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ إذَا فَرَغَ مِنْ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَا زَادَ إلَّا سَجْدَتَيْنِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ إذَا تَابِعَ الْإِمَامَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْإِمَامِ سَهْوٌ - حَيْثُ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْمَسْبُوقِ إذَا تَابَعَ الْإِمَامَ وَمَا زَادَ إلَّا سَجْدَتَيْنِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ: لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْمَسْبُوقِ عَلَى مَا نَذْكُرهُ، ثُمَّ الْفَرْقُ أَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ هُنَاكَ لَيْسَ لِزِيَادَةِ السَّجْدَتَيْنِ بَلْ لِلِاقْتِدَاءِ فِي مَوْضِعٍ كَانَ عَلَيْهِ الِانْفِرَادُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا؛ لِأَنَّ اللَّاحِقَ مُقْتَدٍ فِي جَمِيعِ مَا يُؤَدِّي، فَلِهَذَا لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، وَكَذَلِكَ الْمَسْبُوقُ يَسْجُدُ

لِسَهْوِ الْإِمَامِ سَوَاءٌ كَانَ سَهْوُهُ بَعْدَ الِاقْتِدَاءِ بِهِ أَوْ قَبْلَهُ بِأَنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِرَكْعَةٍ وَقَدْ سَهَا الْإِمَامُ فِيهَا وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ لِسَهْوِهِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ مَحَلَّ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ وَأَنَّهُ لَا يُتَابِعُهُ فِي السَّلَامِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الْمُتَابَعَةُ فِي السَّهْوِ. (وَلَنَا) أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يُؤَدَّى فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ الصَّلَاةُ بَاقِيَةً، وَإِذَا بَقِيَتْ الصَّلَاةُ بَقِيَتْ التَّبَعِيَّةُ فَيُتَابِعُهُ فِيمَا يُؤَدِّي مِنْ الْأَفْعَالِ، بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ، وَالتَّلْبِيَةِ حَتَّى لَا يُلَبِّيَ الْمَسْبُوقُ، وَلَا يُكَبِّرَ مَعَ الْإِمَامِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ وَالتَّلْبِيَةَ لَا يُؤَدَّيَانِ فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ضَحِكَ قَهْقَهَةً فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ. وَلَوْ اقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ لَا يَصِحُّ؟ بِخِلَافِ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ فَإِنَّهُمَا يُؤَدَّيَانِ فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِالْقَهْقَهَةِ، وَصَحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. (فَإِنْ) قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْجُدَ الْمَسْبُوقُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَسْهُو فِيمَا يَقْضِي فَيَلْزَمُهُ السُّجُودُ أَيْضًا فَيُؤَدِّي إلَى التَّكْرَارِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ تَابَعَهُ فِي السُّجُودِ يَقَعُ سُجُودُهُ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ وَذَا غَيْرُ صَوَابٍ - (فَالْجَوَابُ) أَنَّ التَّكْرَارَ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَهُمَا صَلَاتَانِ حُكْمًا وَإِنْ كَانَتْ التَّحْرِيمَةُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ فِيمَا يَقْضِي كَالْمُنْفَرِدِ، وَنَظِيرُهُ الْمُقِيمُ إذَا اقْتَدَى بِالْمُسَافِرِ فَسَهَا الْإِمَامُ يُتَابِعُهُ الْمُقِيمُ فِي السَّهْوِ، وَإِنْ كَانَ الْمُقْتَدِي رُبَّمَا يَسْهُو فِي إتْمَامِ صَلَاتِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ السَّهْوِ يَسْجُدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مُنْفَرِدًا فِي ذَلِكَ كَانَا صَلَاتَيْنِ حُكْمًا وَإِنْ كَانَتْ التَّحْرِيمَةُ وَاحِدَةً كَذَا هَهُنَا، ثُمَّ الْمَسْبُوقُ إنَّمَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي السَّهْوِ دُونَ السَّلَامِ، بَلْ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حَتَّى يُسَلِّمَ فَيَسْجُدَ فَيُتَابِعُهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ لَا فِي سَلَامِهِ. وَإِنْ سَلَّمَ فَإِنْ كَانَ عَامِدًا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَا تَفْسُدُ، وَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَدٍ، وَسَهْوُ الْمُقْتَدِي بَاطِلٌ، فَإِذَا سَجَدَ الْإِمَامُ لِلسَّهْوِ يُتَابِعُهُ فِي السُّجُودِ وَيُتَابِعُهُ فِي التَّشَهُّدِ، وَلَا يُسَلِّمُ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّ هَذَا السَّلَامَ لِلْخُرُوجِ عَنْ الصَّلَاةِ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ أَرْكَانُ الصَّلَاةِ فَإِذَا سَلَّمَ مَعَ الْإِمَامِ فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْقَضَاءِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لَهُ لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ سَهْوٍ فَلَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ الصَّلَاةِ. وَهَلْ يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ لِأَجْلِ سَلَامِهِ؟ يَنْظُرُ إنْ سَلَّمَ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ أَوْ سَلَّمَا مَعًا لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ سَهْوَهُ سَهْوُ الْمُقْتَدِي، وَسَهْوُ الْمُقْتَدِي مُتَعَطِّلٌ، وَإِنْ سَلَّمَ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ لَزِمَهُ؛ لِأَنَّ سَهْوَهُ سَهْوُ الْمُنْفَرِدِ فَيَقْضِي مَا فَاتَهُ ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ. وَلَوْ سَهَا الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ وَتَابَعَهُ فِيهِمَا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ. وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَإِنَّمَا يَسْجُدُونَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْإِتْمَامِ؛ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْبُوقِينَ، إذْ لَمْ يُدْرِكُوا مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلَ الصَّلَاةِ، وَالطَّائِفَةُ الْأُولَى بِمَنْزِلَةِ اللَّاحِقِينَ لِإِدْرَاكِهِمْ أَوَّلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ. وَلَوْ قَامَ الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ وَلَمْ يُتَابِعْ الْإِمَامَ فِي السَّهْوِ - سَجَدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْقُطَ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يُقْضَى، وَصَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ غَيْرُ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي فَصَارَ كَمَنْ لَزِمَتْهُ السَّجْدَةُ فِي صَلَاةٍ فَلَمْ يَسْجُدْ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا وَدَخَلَ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى، لَا يَسْجُدُ فِي الثَّانِيَةِ بَلْ يَسْقُطُ كَذَا هَذَا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ التَّحْرِيمَةَ مُتَّحِدَةٌ، فَإِنَّ الْمَسْبُوقَ يَبْنِي مَا يُقْضَى عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ، فَجَعَلَ الْكُلَّ كَأَنَّهَا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ لِاتِّحَادِ التَّحْرِيمَةِ، وَإِذَا كَانَ الْكُلُّ صَلَاةً وَاحِدَةً وَقَدْ تَمَكَّنَ فِيهَا النُّقْصَانُ بِسَهْوِ الْإِمَامِ، وَلَمْ يُجْبَرْ ذَلِكَ بِالسَّجْدَتَيْنِ فَوَجَبَ جَبْرُهُ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: نَعَمْ فِي الْأَفْعَالِ، أَمَّا هُوَ مُقْتَدٍ فِي التَّحْرِيمَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ غَيْرِهِ؟ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي حَقِّ التَّحْرِيمَةِ. وَلَوْ سَهَا فِيمَا يَقْضِي وَلَمْ يَسْجُدْ لِسَهْوِ الْإِمَامِ كَفَاهُ سَجْدَتَانِ لِسَهْوِهِ وَلِمَا عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ السَّهْوِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَلَوْ سَجَدَ لِسَهْوِ الْإِمَامِ ثُمَّ سَهَا فِيمَا يَقْضِي فَعَلَيْهِ السَّهْوُ لِمَا مَرَّ أَنَّ ذَلِكَ إذًا سَهْوَانِ فِي صَلَاتَيْنِ حُكْمًا، فَلَمْ يَكُنْ تَكْرَارًا. وَلَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدَ مَا سَلَّمَ لِلسَّهْوِ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَمَّا إنْ أَدْرَكَهُ قَبْلَ السُّجُودِ، أَوْ فِي حَالِ السُّجُودِ، أَوْ بَعْدَ مَا فَرَغَ مِنْ السُّجُودِ فَإِنْ أَدْرَكَهُ قَبْلَ السُّجُودِ أَوْ فِي حَالِ السُّجُودِ يُتَابِعُهُ فِي السُّجُودِ؛ لِأَنَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ الْتَزَمَ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ فِيمَا أَدْرَكَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَسُجُودُ السَّهْوِ مِنْ أَفْعَالِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَيُتَابِعُهُ فِيهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ السَّجْدَةِ الْأُولَى إذَا أَدْرَكَهُ فِي الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ السَّهْوُ. وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ السُّجُودُ لِسَهْوِ الْإِمَامِ لِتَمَكُّنِ النَّقْصِ فِي تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ، وَحِينَ دَخَلَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ كَانَ النُّقْصَانُ بِقَدْرِ مَا يَرْتَفِعُ بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ قَدْ أَتَى بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَانْجَبَرَ النَّقْصُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ، بِخِلَافِ مَا إذَا اقْتَدَى بِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ شَيْئًا، ثُمَّ لَمْ يُتَابِعْ إمَامَهُ وَقَامَ وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ حَيْثُ يَسْجُدُ السَّجْدَتَيْنِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ

هُنَاكَ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ وَتَحْرِيمَتُهُ نَاقِصَةٌ نُقْصَانًا لَا يَنْجَبِرُ إلَّا بِسَجْدَتَيْنِ، وَبَقِيَ النُّقْصَانُ لِانْعِدَامِ الْجَابِرِ فَيَأْتِي بِهِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ لِاتِّحَادِ التَّحْرِيمَةِ عَلَى مَا مَرَّ. وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَ مَا فَرَغَ مِنْ السُّجُودِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ السَّهْوُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ صَلَاةِ نَفْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُوبَ السُّجُودِ عَلَى الْمَسْبُوقِ بِسَبَبِ سَهْوِ الْإِمَامِ لِتَمَكُّنِ النَّقْصِ فِي تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ، وَحِينَ دَخَلَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ كَانَ النَّقْصُ انْجَبَرَ بِالسَّجْدَتَيْنِ، وَلَا يُعْقَلُ وُجُودُ الْجَابِرِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَنْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَهْوٌ فَسَبَقَهُ الْحَدَثُ فَهَذَا لَا يَخْلُو: إمَّا إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ إمَامًا فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا تَوَضَّأَ وَسَجَدَ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ السَّابِقَ لَا يَقْطَعُ التَّحْرِيمَةَ وَلَا يَمْنَعُ بِنَاءَ بَعْضِ الصَّلَاةِ عَلَى الْبَعْضِ؛ فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ بِنَاءَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ إمَامًا اسْتَخْلَفَ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، فَيُقَدِّمَ الْخَلِيفَةَ لِيَسْجُدَ كَمَا لَوْ بَقِيَ عَلَيْهِ رُكْنٌ أَوْ التَّسْلِيمُ، ثُمَّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ الْمَسْبُوقَ وَلَا لِلْمَسْبُوقِ أَنْ يَتَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، بَلْ يُقَدِّمُ رَجُلًا أَدْرَكَ أَوَّلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَيُسَلِّمُ بِهِمْ وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ قَدَّمَهُ أَوْ تَقَدَّمَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إتْمَامِ الصَّلَاةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا يَأْتِي بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ؛ لِأَنَّ أَوَانَ السُّجُودِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْبِنَاءَ، فَلَوْ سَلَّمَ لَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ عَمْدٍ وَعَلَيْهِ رُكْنٌ، وَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ فَيَتَأَخَّرُ وَيُقِيمُ مُدْرِكًا لِيُسَلِّمَ بِهِمْ. وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، وَيَسْجُدُ هُوَ مَعَهُمْ كَمَا لَوْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الَّذِي يَسْجُدُ لِسَهْوِهِ، ثُمَّ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ وَحْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ مَعَ خَلِيفَتِهِ سَجَدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ اسْتِحْسَانًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْإِمَامُ الْمَسْبُوقُ مُدْرِكًا، وَكَانَ الْكُلُّ مَسْبُوقِينَ، قَامُوا وَقَضَوْا مَا سُبِقُوا بِهِ فُرَادَى؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْمَسْبُوقِ انْعَقَدَتْ لِلْأَدَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ، ثُمَّ إذَا فَرَغُوا لَا يَسْجُدُونَ فِي الْقِيَاسِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَسْجُدُونَ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ. وَلَوْ قَامَ الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، ثُمَّ تَذَكَّرَ الْإِمَامُ أَنَّ عَلَيْهِ سُجُودَ السَّهْوِ فَسَجَدَهُمَا - يَعُودُ إلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا يَقْتَدِي وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا قَرَأَ وَرَكَعَ. (وَالْجُمْلَةُ) فِي الْمَسْبُوقِ إذَا قَامَ إلَى قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ فَقَضَاهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مَا قَامَ إلَيْهِ وَقَضَاهُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، أَوْ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَإِنْ كَانَ مَا قَامَ إلَيْهِ وَقَضَاهُ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ فَرْضٌ لَمْ يَنْفَرِدْ الْمَسْبُوقُ بِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مُتَابَعَتَهُ فِيمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَهُوَ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ فَرْضٌ وَهُوَ الْقَعْدَةُ، فَلَمْ يَنْفَرِدْ فَبَقِيَ مُقْتَدِيًا، وَقِرَاءَةُ الْمُقْتَدِي خَلْفَ الْإِمَامِ لَا تُعْتَبَرُ قِرَاءَةً مِنْ صَلَاتِهِ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ مِنْ قِيَامِهِ، وَقِرَاءَتُهُ مَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِرَكْعَةٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ فَوُجِدَ بَعْدَ مَا قَعَدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قِيَامٌ وَقِرَاءَةٌ قَدْرَ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ - جَازَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَعَدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ انْفَرَدَ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ بِانْقِضَاءِ أَرْكَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَقَدْ أَتَى بِمَا فُرِضَ عَلَيْهِ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ فِي أَوَانِهِ فَكَانَ مُعْتَدًّا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِقْدَارُ ذَلِكَ أَوْ وُجِدَ الْقِيَامُ دُونَ الْقِرَاءَةِ - لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِانْعِدَامِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ فِي أَوَانِهِ. وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَإِنْ لَمْ يَرْكَعْ حَتَّى فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ التَّشَهُّدِ، ثُمَّ رَكَعَ وَقَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ هَذِهِ الرَّكْعَةِ - جَازَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ فَرْضٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَفَرْضُ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِقِيَامِهِ مَا لَمْ يَفْرُغْ الْإِمَامُ مِنْ التَّشَهُّدِ، فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ التَّشَهُّدِ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ هُوَ فَقَدْ وُجِدَ الْقِيَامُ وَإِنْ قَلَّ فِي هَذِهِ الرَّكْعَةِ، وَوُجِدَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ هَذِهِ الرَّكْعَةِ، فَقَدْ أَتَى بِمَا فُرِضَ عَلَيْهِ - فَتَجُوزُ صَلَاتُهُ. وَإِنْ كَانَ رَكَعَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّشَهُّدِ أَنْجَزَ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ قِيَامٌ مُعْتَدٌّ بِهِ فِي هَذِهِ الرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقِيَامُ بَعْدَ تَشَهُّدِ الْإِمَامِ، وَلَمْ يُوجَدْ فَلِهَذَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ. وَأَمَّا إذَا قَامَ الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّشَهُّدِ قَبْلَ السَّلَامِ فَقَضَاهُ - أَجْزَأَهُ وَهُوَ مُسِيءٌ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ قِيَامَهُ حَصَلَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْإِسَاءَةُ فَلِتَرْكِهِ انْتِظَارَ سَلَامِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ أَوَانَ قِيَامِهِ لِلْقَضَاءِ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ مِنْ الصَّلَاةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَخِّرَ الْقِيَامَ عَنْ السَّلَامِ. وَلَوْ قَامَ بَعْدَمَا سَلَّمَ ثُمَّ تَذَكَّرَ الْإِمَامُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ فَخَرَّ لَهُمَا فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَمَّا إنْ كَانَ الْمَسْبُوقُ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ أَوْ لَمْ يُقَيِّدْ فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ رُفِضَ ذَلِكَ وَيَسْجُدُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ لَيْسَ بِفِعْلٍ كَامِلٍ، وَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلرَّفْضِ، وَيَكُونُ تَرْكُهُ قَبْلَ التَّمَامِ مَنْعًا لَهُ عَنْ الثُّبُوتِ حَقِيقَةً، فَجُعِلَ كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ، فَيَعُودُ وَيُتَابِعُ إمَامَهُ؛ لِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ فِي الْوَاجِبَاتِ وَاجِبَةٌ، وَبَطَلَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ لِمَا بَيَّنَّا فَإِنْ لَمْ يَعُدْ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ وَمَضَى عَلَى قَضَائِهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ عَوْدَ

الْإِمَامِ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ لَا يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ، وَالْبَاقِي عَلَى الْإِمَامِ سُجُودُ السَّهْوِ وَهُوَ وَاجِبٌ، وَالْمُتَابَعَةُ فِي الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ، فَتَرْكُ الْوَاجِبِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى لَوْ تَرَكَهُ الْإِمَامُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؟ فَكَذَا الْمَسْبُوقُ، وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ قَضَائِهِ اسْتِحْسَانًا. وَإِنْ كَانَ الْمَسْبُوقُ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ لَا يَعُودُ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الِانْفِرَادَ قَدْ تَمَّ وَلَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ رُكْنٌ وَلَوْ عَادَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ اقْتَدَى بِغَيْرِهِ بَعْدَ وُجُودِ الِانْفِرَادِ وَوُجُوبِهِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ. وَلَوْ ذَكَرَ الْإِمَامُ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ فَسَجَدَهَا فَإِنْ كَانَ الْمَسْبُوقُ لَمْ يُقَيِّدْ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ - لِمَا مَرَّ - فَيَسْجُدَ مَعَهُ لِلتِّلَاوَةِ وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ ثُمَّ يُسَلِّمَ الْإِمَامُ وَيَقُومَ الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا أَتَى بِهِ مِنْ قَبْلُ لِمَا مَرَّ، وَلَوْ لَمْ يَعُدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ عَوْدَ الْإِمَامِ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ يَرْفُضُ الْقَعْدَةَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ، وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَصِرْ مُنْفَرِدًا؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ دُونَ فِعْلِ صَلَاةٍ فَتُرْتَفَضُ الْقَعْدَةُ فِي حَقِّهِ أَيْضًا، فَإِذَا ارْتَفَضَتْ فِي حَقِّهِ لَا يَجُوزُ لَهُ الِانْفِرَادُ؛ لِأَنَّ هَذَا أَوَانُ وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ، وَالِانْفِرَادُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ فَإِنْ عَادَ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ وَمَضَى عَلَيْهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ، وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الْعَوْدَ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ يَرْفُضُ الْقَعْدَةَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَسْبُوقَ انْفَرَدَ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ، وَالِانْفِرَادُ فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ فِيهِ الِاقْتِدَاءُ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ. (وَجْهُ) نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ ارْتِفَاضَ الْقَعْدَةِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِالْعَوْدِ إلَى التِّلَاوَةِ، وَالْعَوْدُ حَصَلَ بَعْدَمَا تَمَّ انْفِرَادُهُ عَنْ الْإِمَامِ، وَخَرَجَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ فَلَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ جَمِيعَ الصَّلَاةِ لَوْ ارْتَفَضَتْ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْمُتَابَعَةِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمُؤْتَمِّ، بِأَنْ ارْتَدَّ الْإِمَامُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاةُ الْقَوْمِ، فَفِي حَقِّ الْقَعْدَةِ أَوْلَى، وَلِذَا لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ بِقَوْمٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ رَاحَ إلَى الْجُمُعَةِ فَأَدْرَكَهَا - ارْتَفَضَ ظُهْرُهُ، وَلَمْ يَظْهَرْ الرَّفْضُ فِي حَقِّ الْقَوْمِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُقَيِّدْ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الِانْفِرَادُ لَمْ يَتِمَّ عَلَى مَا قَرَرْنَا (وَنَظِيرُ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: مُقِيمٌ اقْتَدَى بِمُسَافِرٍ وَقَامَ إلَى إتْمَامِ صَلَاتِهِ بَعْدَمَا تَشَهَّدَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ نَوَى الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ حَتَّى تَحَوَّلَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا - فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ فَإِنْ عَادَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ وَمَضَى عَلَيْهَا وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ لَا تَفْسُدُ. وَلَوْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَنَّ عَلَيْهِ سَجْدَةً صُلْبِيَّةً فَإِنْ كَانَ الْمَسْبُوقُ لَمْ يُقَيِّدْ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ وَلَوْ لَمْ يُعِدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِمَا مَرَّ فِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَإِنْ قَيَّدَ رَكْعَتَهُ بِالسَّجْدَةِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ عَادَ إلَى الْمُتَابَعَةِ أَوْ لَمْ يَعُدْ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ عَنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَعَلَى الْإِمَامِ رُكْنَانِ: السَّجْدَةُ، وَالْقَعْدَةُ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ مُتَابَعَتِهِ بَعْدَ إكْمَالِ الرَّكْعَةِ، وَلَوْ انْتَقَلَ وَعَلَيْهِ رُكْنٌ وَاحِدٌ وَعَجَزَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ فَهَهُنَا أَوْلَى. (رَجُلٌ) صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا ثُمَّ تَذَكَّرَ فَهَذَا لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ أَوْ لَمْ يَقْعُدْ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ قَيَّدَ الْخَامِسَةَ بِالسَّجْدَةِ أَوْ لَمْ يُقَيِّدْ فَإِنْ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَقَامَ إلَى الْخَامِسَةِ فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ حَتَّى تَذَكَّرَ - يَعُودُ إلَى الْقَعْدَةِ وَيُتِمَّهَا وَيُسَلِّمْ لِمَا مَرَّ. وَإِنْ قَيَّدَهَا بِالسَّجْدَةِ لَا يَعُودُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى مَا مَرَّ ثُمَّ عِنْدَنَا إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الظُّهْرِ أَوْ فِي الْعِشَاءِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُضِيفَ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِيَصِيرَا لَهُ نَفْلًا، إذْ التَّنَفُّلُ بَعْدَهُمَا جَائِزٌ، وَمَا دُونَ الرَّكْعَتَيْنِ لَا يَكُونُ صَلَاةً تَامَّةً، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَاَللَّهِ مَا أَجْزَأَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ. وَإِنْ كَانَ فِي الْعَصْرِ لَا يُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى بَلْ يَقْطَعْ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَ الْعَصْرِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُضِيفُ إلَيْهَا أُخْرَى أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَ الْعَصْرِ إنَّمَا يُكْرَهُ إذَا شَرَعَ فِيهِ قَصْدًا، فَأَمَّا إذَا وَقَعَ فِيهِ بِغَيْرِ قَصْدِهِ فَلَا يُكْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يُضِفْ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى فِي الظُّهْرِ بَلْ قَطَعَهَا لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ. وَهِيَ مَسْأَلَةُ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ الْمَظْنُونَةِ وَالصَّوْمِ الْمَظْنُونِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ هَهُنَا فِي الْخَامِسَةِ عَلَى ظَنٍّ أَنَّهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى فِي الظُّهْرِ هَلْ تُجْزِئُ هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ عَنْ السُّنَّةِ الَّتِي بَعْدَ الظُّهْرِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُجْزِيَانِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ بَعْدَ الظُّهْرِ لَيْسَتْ إلَّا رَكْعَتَيْنِ يُؤَدَّيَانِ نَفْلًا وَقَدْ وُجِدَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا لَا يُجْزِيَانِ عَنْهَا؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَتَنَفَّلَ بِرَكْعَتَيْنِ بِتَحْرِيمَةٍ عَلَى حِدَةٍ لَا بِنَاءً عَلَى تَحْرِيمَةِ غَيْرِهَا، فَلَمْ يُوجَدْ هَيْئَةُ السُّنَّةِ فَلَا تَنُوبُ عَنْهَا، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَرَاجِرِيِّ ثُمَّ إذَا أَضَافَ إلَيْهَا رَكْعَةً

فصل سجدة التلاوة

أُخْرَى فَعَلَيْهِ السَّهْوُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السَّهْوَ تَمَكَّنَ فِي الْفَرْضِ وَقَدْ أَدَّى بَعْدَهَا صَلَاةً أُخْرَى. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إنَّمَا بَنَى النَّفَلَ عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ وَقَدْ تَمَكَّنَ فِيهَا النَّقْصُ بِالسَّهْوِ فَيُجْبَرُ بِالسَّجْدَتَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْبُوقِ. (ثُمَّ) اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا أَنَّ هَاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ لِلنَّقْصِ الْمُتَمَكَّنِ فِي الْفَرْضِ أَوْ لِلنَّقْصِ الْمُتَمَكِّنِ فِي النَّفْلِ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِلنَّقْصِ الْمُتَمَكَّنِ فِي النَّفْلِ لِدُخُولِهِ فِيهِ لَا عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِلنَّقْصِ الَّذِي تَمَكَّنَ فِي الْفَرْضِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ انْقَطَعَتْ تَحْرِيمَةُ الْفَرْضِ بِالِانْتِقَالِ إلَى النَّفْلِ، فَلَا وَجْهَ إلَى جَبْرِ نُقْصَانِ الْفَرْضِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ وَانْقِطَاعِ تَحْرِيمَتِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ التَّحْرِيمَةُ بَاقِيَةٌ؛ لِأَنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ وَوَصْفِهَا، وَبِالِانْتِقَالِ إلَى النَّفْلِ انْقَطَعَ الْوَصْفُ لَا غَيْرُ فَبَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِنَاءَ النَّفْلِ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْفَرْضِ جَائِزٌ فِي حَقِّ الِاقْتِدَاءِ حَتَّى جَازَ اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ؟ فَكَذَا بِنَاءُ فِعْلِ نَفْسِهِ عَلَى تَحْرِيمَةِ فَرْضِهِ يَكُونُ جَائِزًا، وَالْأَصْلُ فِي الْبِنَاءِ هُوَ الْبِنَاءُ فِي إحْرَامٍ وَاحِدٍ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّهُ لَوْ جَاءَ إنْسَانٌ وَاقْتَدَى بِهِ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَلَوْ أَفْسَدَهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَوْ أَفْسَدَهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَمِنْ هَذَا صَحَّحَ مَشَايِخُ بَلْخٍ اقْتِدَاءَ الْبَالِغِينَ بِالصِّبْيَانِ فِي التَّطَوُّعَاتِ فَقَالُوا: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ مَضْمُونَةً فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً فِي حَقِّ الْإِمَامِ، اسْتِدْلَالًا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَشَايِخُنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ لَمْ يُجَوِّزُوا ذَلِكَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُصَلِّي سِتًّا وَلَوْ أَفْسَدَهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنْ تُجْعَلَ السَّجْدَتَانِ جَبْرًا لِلنَّقْصِ الْمُتَمَكَّنِ فِي الْإِحْرَامِ، وَهُوَ إحْرَامٌ وَاحِدٌ، فَيَنْجَبِرُ بِهِمَا النَّقْصُ الْمُتَمَكَّنُ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ جَمِيعًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْعُدْ وَقَامَ إلَى الْخَامِسَةِ فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ يَعُودُ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ قَيَّدَ فَسَدَ فَرْضُهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَفْسُدُ، وَيَعُودُ إلَى الْقَعْدَةِ وَيَخْرُجُ عَنْ الْفَرْضِ بِلَفْظِ السَّلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّكْعَةَ الْكَامِلَةَ فِي احْتِمَالِ النَّقْصِ وَمَا دُونِهَا سَوَاءٌ، فَكَانَ كَمَا لَوْ تَذَكَّرَ قَبْلَ أَنْ يُقَيِّدَ الْخَامِسَةَ بِسَجْدَةٍ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ كَانَ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ وَلَا أَنَّهُ أَعَادَ صَلَاتَهُ. (وَلَنَا) مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ وُجِدَ فِعْلٌ كَامِلٌ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ انْعَقَدَ نَفْلًا فَصَارَ خَارِجًا مِنْ الْفَرْضِ ضَرُورَةَ حُصُولِهِ فِي النَّفْلِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ فِيهِمَا، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ فَرْضٌ وَهُوَ الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ، وَالْخُرُوجُ عَنْ الصَّلَاةِ مَعَ بَقَاءِ فَرْضٍ مِنْ فَرَائِضِهَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّاوِيَ قَالَ: صَلَّى الظُّهْرَ وَالظُّهْرُ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَرْكَانِهَا، وَمِنْهَا الْقَعْدَةُ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْقَعْدَةَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ فَيُحْمَلُ فِعْلُهُ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ الْفَسَادُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِوَضْعِ رَأْسِهِ بِالسَّجْدَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِرَفْعِ رَأْسِهِ عَنْهَا، حَتَّى لَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْصَرِفَ، وَيَتَوَضَّأَ، وَيَعُودَ، وَيَتَشَهَّدَ، وَيُسَلِّمَ، وَيَسْجُدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ لَا تَصِحُّ مَعَ الْحَدَثِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ بِنَفْسِ الْوَضْعِ فَلَا يَعُودُ، ثُمَّ الَّذِي يَفْسُدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْفَرْضِيَّةُ لَا أَصْلُ الصَّلَاةِ، حَتَّى كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُضِيفَ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى فَتَصِيرَ السِّتُّ لَهُ نَفْلًا، ثُمَّ يُسَلِّمُ ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَفْسُدُ أَصْلُ الصَّلَاةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِيَّةِ مَتَى بَطَلَتْ بَطَلَتْ التَّحْرِيمَةُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا تَبْطُلُ، وَهَذَا الْخِلَافُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا اسْتَخْرَجَ مِنْ مَسْأَلَةٍ ذَكَرَهَا فِي الْأَصْلِ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ أَنَّ مُصَلِّيَ الْجُمُعَةِ إذَا خَرَجَ وَقْتُهَا وَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ قَبْلَ إتْمَامِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ قَهْقَهَ - تُنْتَقَضُ طَهَارَتُهُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ لَا تُنْتَقَضُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَقِيَ نَفْلًا عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ، وَكَذَا تَرْكُ الْقَعْدَةِ فِي كُلِّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ عِنْدَهُ مُفْسِدٌ، وَعِنْدَهُمَا غَيْرُ مُفْسِدٍ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ لَهَا شُعَبٌ كَثِيرَةٌ أَعْرَضْنَا عَنْ ذِكْرِ تَفَاصِيلِهَا وَجُمَلِهَا وَمَعَانِي الْفُصُولِ وَعِلَلِهَا حَالَّةً إلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَإِنَّمَا أَفْرَدْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ فُرُوعِهَا دَخَلَ فِي بَعْضِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَقْسَامِ، لِمَا أَنَّ لَهَا فُرُوعًا أُخَرَ لَا تُنَاسِبُ مَسَائِلَ الْفَصْلِ، وَكَرِهْنَا قَطْعَ الْفَرْعِ عَنْ الْأَصْلِ، فَرَأَيْنَا الصَّوَابَ فِي إيرَادِهَا بِفُرُوعِهَا فِي آخِرِ الْفَصْلِ تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ وُجُوبِهَا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ سَبَبِ

فصل بيان كيفية وجوب سجدة التلاوة

الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا تَجِبُ وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهَا، وَفِي بَيَانِ مَحِلِّ أَدَائِهَا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا، وَفِي بَيَانِ سَبَبِهَا، وَفِي بَيَانِ مَوَاضِعِهَا مِنْ الْقُرْآنِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ حِينَ عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشَّرَائِعَ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: لَا إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ فَلَوْ كَانَتْ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَاجِبَةً لَمَا اُحْتُمِلَ تَرْكُ الْبَيَانِ بَعْدَ السُّؤَالِ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَسَجَدَ ثُمَّ تَلَاهَا فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ فَتَشَوَّفَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَقَالَ: أَمَا إنَّهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا إلَّا أَنْ نَشَاءَ. (وَلَنَا) مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا تَلَا ابْنُ آدَمَ آيَةَ السَّجْدَةِ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي وَيَقُولُ: أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَلَمْ أَسْجُدْ فَلِيَ النَّارُ» ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَكِيمَ مَتَى حَكَى عَنْ غَيْرِ الْحَكِيمِ أَمْرًا وَلَمْ يَعْقُبْهُ بِالنَّكِيرِ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ صَوَابٌ فَكَانَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِ ابْنِ آدَمَ مَأْمُورًا بِالسُّجُودِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ أَقْوَامًا بِتَرْكِ السُّجُودِ فَقَالَ: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] وَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ الذَّمُّ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَلِأَنَّ مَوَاضِعَ السُّجُودِ فِي الْقُرْآنِ مُنْقَسِمَةٌ مِنْهَا مَا هُوَ أَمْرٌ بِالسُّجُودِ وَإِلْزَامٌ لِلْوُجُوبِ كَمَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْقَلَمِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ اسْتِكْبَارِ الْكَفَرَةِ عَنْ السُّجُودِ فَيَجِبُ عَلَيْنَا مُخَالَفَتُهُمْ بِتَحْصِيلِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ خُشُوعِ الْمُطِيعِينَ فَيَجِبُ عَلَيْنَا مُتَابَعَتُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] وَعَنْ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ تَلَاهَا، وَعَلَى مَنْ سَمِعَهَا، وَعَلَى مَنْ جَلَسَ لَهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِمْ وَعَلَى كَلِمَةِ إيجَابٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَفِيهِ بَيَانُ الْوَاجِبِ ابْتِدَاءً لَا مَا يَجِبُ بِسَبَبٍ يُوجَدُ مِنْ الْعَبْدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْمَنْذُورَ وَهُوَ وَاجِبٌ وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَنَقُولُ بِمُوجَبِهِ: إنَّهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا بَلْ أُوجِبَتْ، وَفَرْقٌ بَيْن الْفَرْضِ وَالْوَاجِب عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. [فَصْلٌ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا فَأَمَّا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّ دَلَائِلَ الْوُجُوبِ مُطْلَقَةٌ عَنْ تَعْيِينِ الْوَقْتِ فَتَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ غَيْرِ عَيْنٍ وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِتَعْيِينِهِ فِعْلًا، وَإِنَّمَا يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمُوَسَّعَةِ. (وَأَمَّا) فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ التَّضْيِيقِ لِقِيَامِ دَلِيلِ التَّضْيِيقِ وَهُوَ أَنَّهَا وَجَبَتْ بِمَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ فَالْتَحَقَتْ بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَصَارَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهَا وَلِهَذَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا يُوجِبُ حُصُولُهَا فِي الصَّلَاةِ نُقْصَانًا فِيهَا، وَتَحْصِيلُ مَا لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ إنْ لَمْ يُوجِبْ فَسَادَهَا يُوجِبُ نُقْصَانًا، وَإِذَا الْتَحَقَتْ بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَجَبَ أَدَاؤُهَا مُضَيَّقًا كَسَائِرِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ خَارِجِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا دَلِيلَ عَلَى التَّضْيِيقِ وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فَلَمْ يَسْجُدْ وَلَمْ يَرْكَعْ حَتَّى طَالَتْ الْقِرَاءَةُ ثُمَّ رَكَعَ وَنَوَى السُّجُودَ لَمْ يُجْزِهِ. وَكَذَا إذَا نَوَاهَا فِي السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا وَالدَّيْنُ يُقْضَى بِمَا لَهُ لَا بِمَا عَلَيْهِ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ عَلَيْهِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الدَّيْنُ عَلَى مَا نَذْكُرُ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِلتِّلَاوَةِ فِي الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ فِي الْمِصْرِ لَا يَتَحَقَّقُ عَادَةً وَالْجَوَازُ بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لَنْ يَكُونَ إلَّا لِخَوْفِ الْفَوْتِ أَصْلًا كَمَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْعِيدِ وَلَا خَوْفَ هَهُنَا لِانْعِدَامِ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لَهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ التَّيَمُّمُ طَهَارَةً وَالطَّهَارَةُ شَرْطٌ لِأَدَائِهَا بِالْإِجْمَاعِ. [فَصْلٌ فِي سَبَبُ وُجُوبِ السَّجْدَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِ السَّجْدَةِ فَسَبَبُ وُجُوبِهَا أَحَدُ شَيْئَيْنِ: التِّلَاوَةُ، أَوْ السَّمَاعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حَالِهِ مُوجِبٌ فَيَجِبُ عَلَى التَّالِي الْأَصَمِّ وَالسَّامِعِ الَّذِي لَمْ يَتْلُ. أَمَّا التِّلَاوَةُ فَلَا يُشْكِلُ وَكَذَا السَّمَاعُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْحَقَ اللَّائِمَةَ بِالْكُفَّارِ لِتَرْكِهِمْ السُّجُودَ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20] {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] ، وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} [السجدة: 15] الْآيَةَ، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فِي الْآيَتَيْنِ بَيْنَ التَّالِي وَالسَّامِعِ، وَرَوَيْنَا عَنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا وَلِأَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ تَعَالَى تَلْزَمُهُ بِالسَّمَاعِ كَمَا تَلْزَمُهُ بِالتِّلَاوَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَخْضَعَ لِحُجَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالسَّمَاعِ كَمَا يَخْضَعُ بِالْقِرَاءَةِ. وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ فِي حَقِّ التَّالِي

بَيْنَ مَا إذَا تَلَا السَّجْدَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ السُّجُودُ فِي الْحَالَيْنِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ السَّامِعِ فَإِنْ سَمِعَهَا مِمَّنْ يَقْرَأُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَالُوا: يَلْزَمُهُ بِالْإِجْمَاعِ فَهِمَ أَوْ لَمْ يَفْهَمْ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ وُجِدَ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ وَلَا يَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ، وَإِنْ سَمِعَهَا مِمَّنْ يَقْرَأُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ جَائِزَةٌ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي: إنْ كَانَ السَّامِعُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَعَلَيْهِ السَّجْدَةُ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ جَعَلَ الْفَارِسِيَّةَ قُرْآنًا يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ سَوَاءٌ فُهِمَ أَوْ لَمْ يُفْهَمْ كَمَا لَوْ سَمِعَهَا مِمَّنْ يَقْرَأُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ قُرْآنًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ وَإِنْ فُهِمَ. اجْتَمَعَ سَبَبَا الْوُجُوبِ وَهُمَا: التِّلَاوَةُ، وَالسَّمَاعُ بِأَنْ تَلَا السَّجْدَةَ ثُمَّ سَمِعَهَا، أَوْ سَمِعَهَا ثُمَّ تَلَاهَا أَوْ تَكَرَّرَ أَحَدُهُمَا فَنَقُولُ: الْأَصْلُ أَنَّ السَّجْدَةَ لَا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهَا إلَّا بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: إمَّا اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ، أَوْ التِّلَاوَةُ، أَوْ السَّمَاعُ حَتَّى أَنَّ مَنْ تَلَا آيَةً وَاحِدَةً مِرَارًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ تَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ فَيَقْرَأُ آيَةَ السَّجْدَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَسُولُ اللَّهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْمَعُ وَيَتَلَقَّنُ ثُمَّ يَقْرَأُ عَلَى أَصْحَابِهِ وَكَانَ لَا يَسْجُدُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ مُعَلِّمِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ الْآيَةَ مِرَارًا وَكَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُكَرِّرُ آيَةَ السَّجْدَةِ حِينَ كَانَ يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ وَكَانَ لَا يَسْجُدُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةَ وَلِأَنَّ الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ جَامِعٌ لِلْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ كَمَا فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَلِأَنَّ فِي إيجَابِ السَّجْدَةِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ إيقَاعٌ فِي الْحَرَجِ لِكَوْنِ الْمُعَلِّمِينَ مُبْتَلِينَ بِتَكْرَارِ الْآيَةِ لِتَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَلِأَنَّ السَّجْدَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالتِّلَاوَةِ وَالْمَرَّةُ الْأُولَى هِيَ الْحَاصِلَةُ لِلتِّلَاوَةِ فَأَمَّا التَّكْرَارُ فَلَمْ يَكُنْ لِحَقِّ التِّلَاوَةِ بَلْ لِلتَّحَفُّظِ أَوْ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي ذَلِكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ وَلَا تَعَلُّقَ لِوُجُوبِ السَّجْدَةِ بِهِ فَجُعِلَ الْإِجْرَاءُ عَلَى اللِّسَانِ الَّذِي هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ مَا هُوَ فِعْلُ الْقَلْبِ أَوْ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِهِ فَالْتَحَقَ بِمَا هُوَ فِعْلُ الْقَلْبِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِسَبَبٍ، كَذَا عَلَّلَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ. (وَأَمَّا) الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ ذَكَرَهُ أَوْ سَمِعَ ذِكْرَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِرَارًا فَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكُتُبِ وَذَهَبَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ يَكْفِيهِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ قِيَاسًا عَلَى السَّجْدَةِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَجْفُونِي بَعْدَ مَوْتِي فَقِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ نَجْفُوَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَنْ أُذْكَرَ فِي مَوْضِعٍ فَلَا يُصَلَّى عَلَيَّ» وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَقُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا تَتَدَاخَلُ، وَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِي تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ إنَّ مَنْ عَطَسَ وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِرَارًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي لِلسَّامِعِ أَنْ يُشَمِّتَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَاطِسِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ لَا يُشَمِّتُهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِلْعَاطِسِ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الثَّلَاثِ: قُمْ فَانْتَثِرْ فَإِنَّكَ مَزْكُومٌ. (ثُمَّ) لَا فَرْقَ هَهُنَا بَيْنَ مَا إذَا تَلَا مِرَارًا ثُمَّ سَجَدَ وَبَيْنَ مَا إذَا تَلَا وَسَجَدَ ثُمَّ تَلَا بَعْدَ ذَلِكَ مِرَارًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ سَجْدَةٌ أُخْرَى فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا زَنَى مِرَارًا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَوْ زَنَى مَرَّةً ثُمَّ حُدَّ ثُمَّ زَنَى مَرَّةً أُخْرَى يُحَدُّ ثَانِيًا وَكَذَا ثَالِثًا وَرَابِعًا، وَالْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ تَكَرَّرَ السَّبَبُ لِمُسَاوَاةِ كُلِّ فِعْلٍ الْأَوَّلَ فِي الْمَأْثَمِ، وَالْقُبْحِ وَفَسَادِ الْفِرَاشِ، وَكُلِّ مَعْنًى صَارَ بِهِ الْأَوَّلُ سَبَبًا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ جُعِلَ ذَلِكَ حُكْمًا لِكُلِّ سَبَبٍ فَجُعِلَ بِكَمَالِهِ حُكْمًا لِهَذَا وَحُكْمًا لِذَاكَ وَجُعِلَ كَأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِحُصُولِ مَا شُرِعَ لَهُ الْحَدُّ وَهُوَ الزَّجْرُ عَنْ الْمُعَاوَدَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِذَا وُجِدَ الزِّنَا بَعْدَ ذَلِكَ انْعَقَدَ سَبَبًا كَاَلَّذِي تَقَدَّمَ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ حُكْمِهِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَهُنَا السَّبَبُ هُوَ التِّلَاوَةُ وَالْمَرَّةُ الْأُولَى هِيَ الْحَاصِلَةُ بِحَقِّ التِّلَاوَةِ عَلَى مَا مَرَّ فَلَمْ يَتَكَرَّرْ السَّبَبُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَبَدَّلُ بِتَخَلُّلِ السَّجْدَةِ بَيْنَهُمَا وَعَدَمِ التَّخَلُّلِ لِحُصُولِ الثَّانِيَةِ بِحَقِّ التَّأَمُّلِ وَالتَّحَفُّظِ فِي الْحَالَيْنِ. وَكَذَا السَّامِعُ لَتِلْكَ التِّلَاوَاتِ الْمُتَكَرِّرَةِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِالْمَرَّةِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ مَا وَرَاءَهَا فِي حَقِّهِ جُعِلَ غَيْرَ سَبَبٍ بَلْ تَبَعًا لِلتَّأَمُّلِ وَالْحِفْظِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ يُفِيدُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا أَعْنِي الْإِعَانَةَ عَلَى الْحِفْظِ وَالتَّدَبُّرِ بِخِلَافِ مَا إذَا سَمِعَ إنْسَانٌ آخَرُ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ أَوْ الثَّالِثَةَ أَوْ الرَّابِعَةَ وَذَلِكَ فِي حَقِّهِ أَوَّلَ مَا سَمِعَ حَيْثُ تَلْزَمُهُ السَّجْدَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ سَمَاعُ التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَرَّةٍ تِلَاوَةٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ جُعِلَتْ سَاقِطَةً

فِي حَقِّ مَنْ تَكَرَّرَتْ فِي حَقِّهِ فَفِي حَقِّ مَنْ لَمْ تَتَكَرَّرْ بَقِيَتْ عَلَى حَقِيقَتِهَا. وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَرَأَ آيَةً وَاحِدَةً فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ النُّصُوصَ مُنْعَدِمَةً وَالْجَامِعُ وَهُوَ الْمَجْلِسُ غَيْرُ ثَابِتٍ وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ وَمَعْنَى التَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ زَائِلٌ؛ لِأَنَّهَا فِي الْمَجْلِسِ الْآخَرِ حَصَلَتْ بِحَقِّ التِّلَاوَةِ لِيَنَالَ ثَوَابَهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَرَأَ آيَاتٍ مُتَفَرِّقَةً فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لِزَوَالِ هَذِهِ الْمَعَانِي أَيْضًا. أَمَّا النُّصُوصُ فَلَا تُشْكِلُ وَكَذَا الْمَعْنَى الْجَامِعِ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ لَا يَجْعَلُ الْكَلِمَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ الْجِنْسِ بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْآخَرِ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَلِعَبْدِهِ بِالْعِتْقِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَا يَجْعَلُ الْمَجْلِسُ الْكُلَّ إقْرَارًا وَاحِدًا، وَكَذَا الْحَرَجُ مُنْتَفٍ، وَكَذَا التِّلَاوَةُ الثَّانِيَةُ لَا تَكُونُ لِلتَّدَبُّرِ فِي الْأُولَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ تَلَاهَا فِي مَكَان وَذَهَبَ عَنْهُ ثُمَّ انْصَرَفَ إلَيْهِ فَأَعَادَهَا فَعَلَيْهِ أُخْرَى؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ حَصَلَتْ بِحَقِّ التِّلَاوَةِ فَتَجَدَّدَ السَّبَبُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذَا إذَا بَعُدَ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ أُخْرَى وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ تَلَاهَا فِي مَكَانِهِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ النَّاسَ بِالْبَصْرَةِ وَكَانَ يَزْحَفُ إلَى هَذَا تَارَةً وَإِلَى هَذَا تَارَةً أُخْرَى فَيُعَلِّمُهُمْ آيَةَ السَّجْدَةِ وَلَا يَسْجُدُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَلَوْ تَلَاهَا فِي مَوْضِعٍ وَمَعَهُ رَجُلٌ يَسْمَعُهَا ثُمَّ ذَهَبَ التَّالِي عَنْهُ ثُمَّ انْصَرَفَ إلَيْهِ فَأَعَادَهَا وَالسَّامِعُ عَلَى مَكَانِهِ سَجَدَ التَّالِي لِكُلِّ مَرَّةٍ لِتَجَدُّدِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ التِّلَاوَةُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ. وَأَمَّا السَّامِعُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّهِ سَمَاعُ التِّلَاوَةِ وَالثَّانِيَةُ مَا حَصَلَتْ بِحَقِّ التِّلَاوَةِ فِي حَقِّهِ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ التَّالِي عَلَى مَكَانِهِ ذَلِكَ وَالسَّامِعُ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَيَسْمَعُ تِلْكَ الْآيَةِ سَجَدَ السَّامِعُ لِكُلِّ مَرَّةٍ سَجْدَةً وَلَيْسَ عَلَى التَّالِي إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِتَجَدُّدِ السَّبَبِ فِي حَقِّ السَّامِعِ دُونَ التَّالِي عَلَى مَا مَرَّ. وَلَوْ تَلَاهَا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فِي زَاوِيَةٍ ثُمَّ تَلَاهَا فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ كُلَّهُ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ مَكَان وَاحِدٍ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ فَفِي حَقِّ السَّجْدَةِ أَوْلَى، وَكَذَا حُكْمُ السَّمَاعِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْتُ وَالْمَحْمَلُ وَالسَّفِينَةُ فِي حُكْمِ التِّلَاوَةِ وَالسَّمَاعِ سَوَاءٌ كَانَتْ السَّفِينَةُ وَاقِفَةً، أَوْ جَارِيَةً بِخِلَافِ الدَّابَّةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ. وَلَوْ تَلَاهَا وَهُوَ يَمْشِي لَزِمَهُ لِكُلِّ مَرَّةٍ سَجْدَةٌ لِتَبَدُّلِ الْمَكَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ يَسْبَحُ فِي نَهْرٍ عَظِيمٍ أَوْ بَحْرٍ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ كَانَ يَسْبَحُ فِي حَوْضٍ أَوْ غَدِيرٍ لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ قِيلَ يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ تَلَاهَا عَلَى غُصْنٍ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى غُصْنٍ آخَرَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ وَكَذَا التِّلَاوَةُ عِنْدَ الْكِرْسِ، وَقَالُوا فِي تَسْدِيَةِ الثَّوْبِ إنَّهُ يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ. وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ مِرَارًا وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ إنْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ سَجَدَ لِكُلِّ مَرَّةٍ سَجْدَةً عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا قَرَأَهَا فِي السَّفِينَةِ وَهِيَ تَجْرِي حَيْثُ تَكْفِيهِ وَاحِدَةٌ. (وَالْفَرْقُ) أَنَّ قَوَائِمَ الدَّابَّةِ جُعِلَتْ كَرِجْلَيْهِ حُكْمًا لِنُفُوذِ تَصَرُّفِهِ عَلَيْهَا فِي السَّيْرِ وَالْوُقُوفِ فَكَانَ تَبَدُّلُ مَكَانِهَا كَتَبَدُّلِ مَكَانِهِ فَحَصَلْت الْقِرَاءَةُ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ فَتَعَلَّقَتْ بِكُلِّ تِلَاوَةٍ سَجْدَةٌ بِخِلَافِ السَّفِينَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُجْعَلْ بِمَنْزِلَةِ رِجْلَيْ الرَّاكِبِ لِخُرُوجِهَا عَنْ قَبُولِ تَصَرُّفِهِ فِي السَّيْرِ وَالْوُقُوفِ وَلِهَذَا أُضِيفَ سَيْرُهَا إلَيْهَا دُونَ رَاكِبِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22] وَقَالَ {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} [هود: 42] فَلَمْ يَجْعَلْ تَبَدُّلَ مَكَانِهَا تَبَدُّلَ مَكَانِهِ بَلْ مَكَانُهُ مَا اسْتَقَرَّ هُوَ فِيهِ مِنْ السَّفِينَةِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالْحُكْمُ وَذَلِكَ لَمْ يَتَبَدَّلْ فَكَانَتْ التِّلَاوَةُ مُتَكَرِّرَةً فِي مَكَان وَاحِدٍ فَلَمْ يَجِبْ لَهَا إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا فِي الْبَيْتِ وَعَلَى هَذَا حُكْمُ السَّمَاعِ بِأَنْ سَمِعَهَا مِنْ غَيْره مَرَّتَيْنِ وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ لِتَبَدُّلِ مَكَانِ السَّامِعِ، هَذَا إذَا كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ بِأَنْ تَلَاهَا وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ وَيُصَلِّي عَلَيْهَا إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ حَيْثُ جَوَّزَ صَلَاتَهُ عَلَيْهَا مَعَ حُكْمِهِ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ فِي الْأَمَاكِنِ الْمُخْتَلِفَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ اخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ أَوْ جَعَلَ مَكَانَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ظَهْرَ الدَّابَّةِ لَا مَا هُوَ مَكَانُ قَوَائِمِهَا وَهَذَا أَوْلَى مِنْ إسْقَاطِ اعْتِبَارِ الْأَمَاكِنِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَغْيِيرٍ لِلْحَقِيقَةِ أَوْ هُوَ أَقَلُّ تَغْيِيرًا لَهَا وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِلْحَقِيقَةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَالظَّهْرُ مُتَّحِدٌ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَصَارَ رَاكِبُ الدَّابَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَرَاكِبِ السَّفِينَةِ يُحَقِّقُهُ أَنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ صَلَاتَهُ وَلَوْ جَعَلَ مَكَانَهُ أَمْكِنَةَ قَوَائِمِ الدَّابَّةِ لَصَارَ هُوَ مَاشِيًا بِمَشْيِهَا، وَالصَّلَاةُ مَاشِيًا لَا تَجُوزُ. (وَأَمَّا) إذَا كَرَّرَ التِّلَاوَةَ فِي رَكْعَتَيْنِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكْفِيَهُ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ لِكُلِّ تِلَاوَةٍ سَجْدَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهَذِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ الَّتِي رَجَعَ فِيهَا أَبُو يُوسُفَ

عَنْ الِاسْتِحْسَانِ إلَى الْقِيَاسِ إحْدَاهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الرَّهْنَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ لَا يَكُونُ رَهْنًا بِالْمُتْعَةِ قِيَاسًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ رَهْنًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا جَنَى جِنَايَةً فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَاخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ أَنْ يُخَيَّرَ الْمَوْلَى ثَانِيًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُخَيَّرُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لَا يُخَيَّرُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا صَلَّى عَلَى الْأَرْضِ وَقَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي رَكْعَتَيْنِ وَلَا خِلَافَ فِيمَا إذَا قَرَأَهَا فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَكَانَ هَهُنَا وَإِنْ اتَّحَدَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَكِنْ مَعَ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الثَّانِيَةَ تَكْرَارًا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ رَكْعَةٍ قِرَاءَةً مُسْتَحَقَّةً فَلَوْ جَعَلْنَا الثَّانِيَةَ تَكْرَارًا لِلْأُولَى وَالْتَحَقَتْ الْقِرَاءَةُ بِالرَّكْعَةِ الْأَوْلَى لَخَلَتْ الثَّانِيَةُ عَنْ الْقِرَاءَةِ وَلَفَسَدَتْ وَحَيْثُ لَمْ تَفْسُدْ دَلَّ أَنَّهَا لَمْ تُجْعَلْ مُكَرَّرَةً بِخِلَافِ مَا إذَا كَرَّرَ التِّلَاوَةَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَمْكَنَ جَعْلُ التِّلَاوَةِ الْمُتَكَرِّرَةِ مُتَّحِدَةً حُكْمًا. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَكَانَ مُتَّحِدٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيُوجِبُ كَوْنَ الثَّانِيَةِ تَكْرَارًا لِلْأُولَى كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَهَا حُكْمَانِ جَوَازُ الصَّلَاةِ، وَوُجُوبُ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَنَحْنُ إنَّمَا نَجْعَلُ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ مُلْتَحِقَةً بِالْأُولَى فِي حَقِّ وُجُوبِ السَّجْدَةِ لَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ. وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ عَلَى الدَّابَّةِ بِالْإِيمَاءِ فَقَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَسَجَدَ بِالْإِيمَاءِ ثُمَّ أَعَادَهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرِ لَا يُشْكِلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْزَمُهُ أُخْرَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ ثُمَّ تَبَدُّلُ الْمَجْلِسِ قَدْ يَكُونُ حَقِيقَةً وَقَدْ يَكُونُ حُكْمًا بِأَنْ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ ثُمَّ أَكَلَ أَوْ نَامَ مُضْطَجِعًا، أَوْ أَرْضَعَتْ صَبِيًّا، أَوْ أَخَذَ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ عَمَلٍ يَعْرِفُ أَنَّهُ قَطْعٌ لِمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَعَادَهَا فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ يَتَبَدَّلُ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَوْمَ يَجْلِسُونَ لِدَرْسِ الْعِلْمِ فَيَكُونُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ الدَّرْسِ، ثُمَّ يَشْتَغِلُونَ بِالنِّكَاحِ فَيَصِيرُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ النِّكَاحِ، ثُمَّ بِالْبَيْعِ فَيَصِيرُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ الْبَيْعِ، ثُمَّ بِالْأَكْلِ فَيَصِيرُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ الْأَكْلِ، ثُمَّ بِالْقِتَالِ فَيَصِيرُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ الْقِتَالِ فَصَارَ تَبَدُّلُ الْمَجْلِسِ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ كَتَبَدُّلِهِ بِالذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ لِمَا مَرَّ. وَلَوْ نَامَ قَاعِدًا أَوْ أَكَلَ لُقْمَةً أَوْ شَرِبَ شَرْبَةً أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْ عَمِلَ عَمَلًا يَسِيرًا ثُمَّ أَعَادَهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أُخْرَى؛ لِأَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ وَالْقِيَاسُ فِيهِمَا سَوَاءٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى لِاتِّحَادِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا إذَا طَالَ الْعَمَلُ اعْتِبَارًا بِالْمُخَيَّرَةِ إذَا عَمِلَتْ عَمَلًا كَثِيرًا خَرَجَ الْأَمْرُ عَنْ يَدِهَا وَكَانَ قَطْعًا لِلْمَجْلِسِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَكَلَ لُقْمَةً أَوْ شَرِبَ شَرْبَةً. وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فَأَطَالَ الْقِرَاءَةَ بَعْدَهَا أَوْ أَطَالَ الْجُلُوسَ ثُمَّ أَعَادَهَا لَيْسَ عَلَيْهِ سَجْدَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ مَجْلِسَهُ لَمْ يَتَبَدَّلْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَطُولِ الْجُلُوسِ، وَكَذَا لَوْ اشْتَغَلَ بِالتَّسْبِيحِ أَوْ بِالتَّهْلِيلِ ثُمَّ أَعَادَهَا لَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى وَإِنْ قَرَأَهَا وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَهَا وَهُوَ قَائِمٌ إلَّا أَنَّهُ فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ لَمْ يَتَبَدَّلْ حَقِيقَةً وَحُكْمًا. أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْرَحْ مَكَانَهُ. وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الْمَوْجُودَ قِيَامٌ وَهُوَ عَمَلٌ قَلِيلٌ كَأَكْلِ لُقْمَةٍ، أَوْ شُرْبِ شَرْبَةٍ وَبِمِثْلِهِ لَا يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا خَيَّرَ امْرَأَتَهُ فَقَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا حَيْثُ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا كَمَا لَوْ انْتَقَلَتْ إلَى مَجْلِسٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ خُرُوجَ الْأَمْرِ مِنْ يَدِهَا مُوجِبُ الِاعْتِرَاض عَنْ قَبُولِ التَّمْلِيكِ إذْ التَّخْيِيرُ تَمْلِيكٌ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا فَأَعْرَضَ عَنْهُ يَبْطُلُ ذَلِكَ التَّمْلِيكُ وَهَذَا لِأَنَّ الْقِيَامَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا أَوْ زَوْجَهَا أَمْرٌ تَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ لِتَنْظُرَ أَيَّ ذَلِكَ أَعْوَدَ لَهَا وَأَنْفَعَ، وَالْقُعُودُ أَجْمَعُ لِلذِّهْنِ وَأَشَدُّ إحْضَارًا لِلرَّأْيِ فَالْقِيَامُ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ إلَى مَا يُوجِبُ تَفَرُّقَ الذِّهْنِ وَفَوَاتَ الرَّأْيِ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ أَمَّا هَهُنَا فَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ وَتَعَدُّدِهِ لَا بِالْإِعْرَاضِ وَعَدَمِهِ وَالْمَجْلِسُ لَمْ يَتَبَدَّلْ فَلَمْ يَعْدُ مُتَعَدِّدًا مُتَفَرِّقًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَأَهَا وَهُوَ قَائِمٌ فَقَعَدَ ثُمَّ أَعَادَهَا يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ قَرَأَهَا فِي مَكَان ثُمَّ قَامَ وَرَكِبَ الدَّابَّةَ عَلَى مَكَانِهِ ثُمَّ أَعَادَهَا قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَوْ سَارَتْ الدَّابَّةُ ثُمَّ تَلَا بَعْدَهَا فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَرَأَهَا رَاكِبًا ثُمَّ نَزَلَ قَبْلَ السَّيْرِ فَأَعَادَهَا يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ لِتَبَدُّلِ مَكَانِهِ بِالنُّزُولِ أَوْ الرُّكُوبِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النُّزُولَ أَوْ الرُّكُوبَ عَمَلٌ قَلِيلٌ فَلَا يُوجِبُ تَبَدُّلَ الْمَجْلِسِ وَإِنْ كَانَ سَارَ ثُمَّ نَزَلَ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ؛ لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَشْيِهِ فَيَتَبَدَّلُ بِهِ الْمَجْلِسُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَأَهَا ثُمَّ قَامَ فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ وَرَكِبَ ثُمَّ نَزَلَ

قَبْلَ السَّيْرِ فَأَعَادَهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ قَرَأَهَا رَاكِبًا ثُمَّ نَزَلَ ثُمَّ رَكِبَ فَأَعَادَهَا وَهُوَ عَلَى مَكَانِهِ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَا بَيَّنَّا وَالْأَصْلُ أَنَّ النُّزُولَ وَالرُّكُوبَ لَيْسَا بِمَكَانَيْنِ وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَسْجُدْ لَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَتَلَاهَا فِي عَيْنِ ذَلِكَ الْمَكَانِ صَارَتْ إحْدَى السَّجْدَتَيْنِ تَابِعَةً لِلْأُخْرَى فَتَسْتَتْبِعُ الَّتِي وُجِدَتْ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي وُجِدَتْ قَبْلَهَا وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ تِلْكَ التِّلَاوَةِ وَتُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَتْلُ إلَّا فِي الصَّلَاةِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ سَجَدَ لِلْمَتْلُوَّةِ فِي الصَّلَاةِ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْوُجُوبِ وَإِذَا لَمْ يَسْجُدْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ إلَّا الْمَأْثَمُ وَهَذَا عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَكِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ الْأَصْلِ وَنَوَادِرِ الصَّلَاةِ الَّتِي رَوَاهَا الشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ وَلَنَا عَلَى رِوَايَةِ الصَّلَاةِ الَّتِي رَوَاهَا أَبُو سُلَيْمَانَ لَا تَسْتَتْبِعُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهَا وَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ تِلْكَ التِّلَاوَةِ الْأُولَى وَبَقِيَتْ السَّجْدَةُ وَاجِبَةً عَلَيْهِ سَوَاءٌ سَجَدَ لِلْمَتْلُوَّةِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَمْ يَسْجُدْ. وَأَمَّا إذَا تَلَاهَا وَسَجَدَ لَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَأَعَادَهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ يَسْجُدُ لِلْمَتْلُوَّةِ فِي الصَّلَاةِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَتَيْنِ، أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ فَلِعَدَمِ الِاسْتِتْبَاعِ وَثُبُوتِ الِاسْتِقْلَالِ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ وَالْمَبْسُوطِ فَلِكَوْنِ الْمَوْجُودَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ تَابِعَةً لِلْمَوْجُودَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّابِعُ لَا يَسْتَتْبِعُ الْمَتْبُوعَ فَلَا تَصِيرُ السَّجْدَةُ لِتِلْكَ التِّلَاوَةِ مَانِعَةً مِنْ لُزُومِ السَّجْدَةِ بِهَذِهِ التِّلَاوَةِ. وَجْهُ رِوَايَةِ نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ الْآيَةَ تُلِيَتْ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ حُكْمًا؛ لِأَنَّ الْأُولَى وُجِدَتْ فِي مَجْلِسِ التِّلَاوَةِ وَالثَّانِيَةَ فِي مَجْلِسِ الصَّلَاةِ وَالْمَجْلِسُ يَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الْأَفْعَالِ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَجْلِسَ عَقْدٍ ثُمَّ يَصِيرُ مَجْلِسَ مُذَاكَرَةٍ ثُمَّ يَصِيرُ مَجْلِسَ أَكْلٍ وَاعْتُبِرَ هَذَا التَّبَدُّلُ فِي حَقِّ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي بَابِ الْعُقُودِ وَكُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ فَكَذَا هَذَا؛ لِأَنَّ التَّعَدُّدَ الْحُكْمِيَّ مُلْحَقٌ بِالتَّعَدُّدِ الْحَقِيقِيِّ فِي الْمَوَاضِعِ أَجْمَعَ فَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ تِلَاوَةٍ وَحُكْمٍ وَلَا تَسْتَتْبِعُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ تَفُوتُ لِالْتِحَاقِهَا بِأَجْزَاءِ الصَّلَاةِ لِتَعَلُّقِهَا بِمَا هُوَ رُكْنٌ مِنْ الصَّلَاةِ فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ تُجْعَلَ تَابِعَةً لِلْأُولَى فَالْأُولَى أَيْضًا تَفُوتُ بِالسَّبْقِ فَلَا تَصِيرُ تَابِعَةً لِمَا بَعْدَهَا إذْ الشَّيْءُ لَا يَتْبَعُ مَا بَعْدَهُ وَلَا يَسْتَتْبِعُ مَا قَبْلَهُ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ وَالْمَبْسُوطِ أَنَّ الْمَجْلِسَ مُتَّحِدٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ صَارَ مَجْلِسَ صَلَاةٍ وَلَكِنْ فِي الصَّلَاةِ تِلَاوَةٌ مَفْرُوضَةٌ فَكَانَ مَجْلِسُ الصَّلَاةِ مَجْلِسَ التِّلَاوَةِ ضَرُورَةً فَلَمْ يُوجَدْ التَّبَدُّلُ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ صِفَةِ الِاتِّحَادِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ لِلتِّلَاوَتَيْنِ الْمُتَعَدِّدَتَيْنِ حَقِيقَةً لِوُجُودِ الْمُوجِبِ لِصِفَةِ الِاتِّحَادِ وَهُوَ الْمَجْلِسُ الْمُتَّحِدُ، وَكَذَا الْمُتَعَدِّدُ مِنْ أَسْبَابِ السَّجْدَةِ قَابِلٌ لِلِاتِّحَادِ حُكْمًا كَالسَّمَاعِ وَالتِّلَاوَةِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ سَبَبٌ، ثُمَّ مَنْ قَرَأَ وَسَمِعَ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ فَالْتَحَقَ السَّبَبَانِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَدَلَّ أَنَّ الْمُتَعَدِّدَ مِنْ أَسْبَابِ السَّجْدَةِ قَابِلٌ لِلِاتِّحَادِ حُكْمًا فَصَارَ مُتَّحِدًا حُكْمًا وَزَمَانُ وُجُودِ الْوَاحِدِ وَاحِدٌ فَجُعِلَ كَأَنَّ التِّلَاوَتَيْنِ وُجِدَتَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَلَا وَجْهَ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُمَا وُجِدَتَا خَارِجَ الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ الْمَوْجُودَةَ فِي الصَّلَاتَيْنِ مُتَقَرِّرَةٌ فِي مَحِلِّهَا بِدَلِيلِ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَلَوْ جُعِلَ كَأَنَّهُمَا وُجِدَتَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ وُجُوبِ السَّجْدَةِ دُونَ جَوَازِ الصَّلَاةِ لَبَقِيَ التَّعَدُّدُ مِنْ وَجْهٍ مَعَ وُجُودِ دَلِيلِ الِاتِّحَادِ، وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ كَانَ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ الْمَوْجُودَةُ فِي الصَّلَاةِ فِي حُكْمِ التَّفَكُّرِ لِتَعَلُّقِ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِهَا وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْقِرَاءَةِ دُونَ التَّفَكُّرِ وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تُجْعَلَ الْأُولَى كَأَنَّهَا وُجِدَتْ فِي الصَّلَاةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تُلِيَتَا فِي الصَّلَاةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّلَاةِ كَذَا هَذَا. وَعَلَى هَذَا إذَا سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ آيَةَ السَّجْدَةِ ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَتَلَا تِلْكَ الْآيَةِ بِعَيْنِهَا فِي الصَّلَاةِ فَهَذَا وَاَلَّذِي تَلَا بِنَفْسِهِ ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ مَكَانَهُ ثُمَّ أَعَادَهَا سَوَاءٌ وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ. وَلَوْ قَرَأَهَا فِي الصَّلَاةِ أَوَّلًا ثُمَّ سَلَّمَ فَأَعَادَهَا قَبْلَ أَنْ يَبْرَحَ مَكَانَهُ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أُخْرَى، وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ. وَجْهُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ الْمَوْجُودَةَ فِي الصَّلَاةِ تَفُوتُ بِالسَّبْقِ، وَحُرْمَةِ الصَّلَاةِ جَمِيعًا فَيَسْتَتْبِعُ الْأَدْنَى دَرَجَةً الْمُتَأَخِّرَةُ وَقْتًا وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ التَّعْلِيلَ لِرِوَايَةِ النَّوَادِرِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِاخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ حُكْمًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْمَتْلُوَّةَ فِي الصَّلَاةِ لَا وُجُودَ لَهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلَا يُشْكِلُ وَكَذَا الْحُكْمُ فَإِنَّ بَعْدَ انْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ لَا بَقَاءَ لِمَا هُوَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ أَصْلًا وَالْمَوْجُودُ هُوَ الَّذِي يُسْتَتْبَعُ دُونَ الْمَعْدُومِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْأُولَى مَتْلُوَّةً خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنَّ

تِلْكَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ التِّلَاوَةِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ لِبَقَاءِ حُكْمِهَا وَهُوَ وُجُوبُ السَّجْدَةِ فَإِذَا تَلَاهَا فِي الصَّلَاةِ وُجِدَتْ وَالْأُولَى مَوْجُودَةٌ فَاسْتَتْبَعَ الْأَقْوَى الْأَضْعَفُ الْأَوْهَى. وَذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ أَنَّهُ إنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضِعِ فَوَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي النَّوَادِرِ فِيمَا إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ مَا سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَبِالسَّلَامِ لَمْ يَنْقَطِعْ فَوْرُ الصَّلَاةِ فَكَأَنَّهُ أَعَادَهَا فِي الصَّلَاةِ وَوَضَعَهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِيمَا إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ مَا سَلَّمَ وَتَكَلَّمَ وَبِالْكَلَامِ يَنْقَطِعُ فَوْرُ الصَّلَاةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَذَكَّرَ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ بَعْدَ السَّلَامِ يَأْتِي بِهَا وَبَعْدَ الْكَلَامِ لَا يَأْتِي بِهَا؟ فَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى تَبَدُّلِ الْمَجْلِسِ وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْهَا فِي الصَّلَاةِ حَتَّى سَجَدَهَا الْآنَ قَالَ فِي الْأَصْلِ: أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ السَّلَامِ قَبْلَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ فَكَأَنَّهُ كَرَّرَهَا فِي الصَّلَاةِ وَسَجَدَ، أَمَا لَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاتِيَّةَ قَدْ سَقَطَتْ عَنْهُ بِالْكَلَامِ. تَلَاهَا فِي صَلَاتِهِ ثُمَّ سَمِعَهَا مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَجْزَأَتْهُ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا تُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ السَّمَاعِيَّةَ لَيْسَتْ بِصَلَاتِيَّةٍ وَاَلَّتِي أَدَّاهَا صَلَاتِيَّةً فَلَا تَنُوبُ عَمَّا لَيْسَتْ بِصَلَاتِيَّةٍ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التِّلَاوَةَ الْأُولَى مِنْ أَفْعَالِ صَلَاتِهِ وَالثَّانِيَةَ لَا فَحَصَلَتْ الثَّانِيَةُ تَكْرَارًا لِلْأُولَى مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ وَالْأُولَى بَاقِيَةٌ فَجُعِلَ وَصْفُ الْأُولَى لِلثَّانِيَةِ فَصَارَتْ مِنْ الصَّلَاةِ فَيَكْتَفِي بِسَجْدَةٍ وَاحِدَة، وَقَالُوا عَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَيْضًا: تَكُونُ تَكْرَارًا؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ بِمُسْتَحَقَّةٍ بِنَفْسِهَا فِي مَحَلِّهَا فَتَلْتَحِقُ بِالْأُولَى بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ مُسْتَحَقَّةً بِنَفْسِهَا فِي مَحَلِّهَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ مُلْحَقَةً بِالْأُولَى. وَلَوْ سَمِعَهَا أَوَّلًا مِنْ أَجْنَبِيٍّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ تَلَاهَا بِنَفْسِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَلَى مَا نَذْكُرُ. وَلَوْ تَلَاهَا فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ أَحْدَثَ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَانِهِ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ ثُمَّ قَرَأَ ذَلِكَ الْأَجْنَبِيُّ تِلْكَ الْآيَةَ فَعَلَى هَذَا لِلْمُصَلِّي أَنْ يَسْجُدَهَا إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَحَوَّلَ عَنْ مَكَانِهِ فَسَمِعَ الثَّانِيَةَ بَعْدَمَا تَبَدَّلَ الْمَجْلِسُ وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ إذَا قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ جَاءَ وَقَرَأَ مَرَّةً أُخْرَى لَا يَلْزَمُهُ سَجْدَةٌ أُخْرَى وَإِنْ قَرَأَ الثَّانِيَةَ بَعْدَمَا تَبَدَّلَ الْمَكَانُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى الْمَكَانُ قَدْ تَبَدَّلَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلَا يُشْكِلُ. وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ لَا تَجْعَلُ الْأَمَاكِنَ الْمُتَفَرِّقَةَ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّ مَا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَسَمَاعُ السَّجْدَةِ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَتَّحِدْ الْمَكَانُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيَلْزَمُهُ بِكُلِّ مَرَّةٍ سَجْدَةٌ عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ هُنَاكَ الْقِرَاءَةُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَالتَّحْرِيمَةُ تَجْعَلُ الْأَمَاكِنَ الْمُتَفَرِّقَةَ مَكَانًا وَاحِدًا حُكْمًا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَجُوزُ فِي الْأَمْكِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ فَجُعِلَتْ الْأَمْكِنَةُ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِضَرُورَةِ الْجَوَازِ وَالْقِرَاءَةُ مِنْ أَفْعَالُ الصَّلَاةِ فَصَارَ الْمَكَانُ فِي حَقِّهَا مُتَّحِدًا، فَأَمَّا السَّمَاعُ فَلَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَتَبْقَى الْأَمْكِنَةُ فِي حَقِّهِ مُتَفَرِّقَةً لِعَدَمِ ضَرُورَةٍ تُوجِبُ الِاتِّحَادَ، وَالْحَقَائِقُ لَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا حُكْمًا إلَّا لِضَرُورَةٍ. وَلَوْ سَمِعَهَا رَجُلٌ مِنْ إمَامٍ ثُمَّ دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَمْ يَسْجُدْهَا سَجَدَهَا مَعَ الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ سَجَدَهَا الْإِمَامُ سَقَطَتْ عَنْهُ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اقْتَدَى بِالْإِمَامِ صَارَتْ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةً لَهُ وَجُعِلَ مِنْ حَيْثُ التَّقْدِيرُ كَأَنَّ الْإِمَامَ قَرَأَهَا ثَانِيًا فَصَارَتْ تِلْكَ السَّجْدَةُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلَوْ قَرَأَ ثَانِيًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْأُولَى صَارَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاة فَكَذَا هَهُنَا وَإِذَا صَارَتْ مِنْ أَفْعَالِ صَلَاتِهِ لَا تُؤَدَّى خَارِجَ الصَّلَاةِ لِمَا مَرَّ. وَذُكِرَ فِي زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَسْجُدُ لِمَا سَمِعَ قَبْلَ الِاقْتِدَاءِ بَعْدَ مَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ لِأَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ لَوْ تَلَا مَا سَمِعَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فِي صَلَاةِ نَفْسِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَسَجَدَ لَهَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرَهُ فِي زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ. وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ بِتَكْرَارٍ لِلْأُولَى لِأَنَّ التَّكْرَارَ إعَادَةُ الشَّيْءِ بِصِفَتِهِ وَهَهُنَا الْأُولَى لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً وَلَا فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَالثَّانِيَةُ وَاجِبَةٌ وَهِيَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَاخْتَلَفَ الْوَصْفُ فَلَمْ تَكُنْ إعَادَةً بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتَا فِي الصَّلَاةِ أَوْ كَانَتَا جَمِيعًا خَارِجَ الصَّلَاةِ حَيْثُ كَانَ تَكْرَارًا لِاتِّحَادِ الْوَصْفِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ بَاعَ بِأَلْفٍ ثُمَّ بَاعَ بِمِائَةِ دِينَارٍ مَا كَانَ تَكْرَارًا بَلْ كَانَ فَسْخًا لِلْأَوَّلِ وَلَوْ بَاعَ فِي الثَّانِيَةِ بِأَلْفٍ كَانَ تَكْرَارًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ تَكْرَارًا جُعِلَ كَأَنَّهُ قَرَأَ آيَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فِي مَكَان أَوْ آيَةً فِي مَكَانَيْنِ فَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُكْمٌ عَلَى حِدَةٍ دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ

فصل بيان من تجب عليه سجدة التلاوة

قَرَأَ الْأُولَى وَسَجَدَ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَأَعَادَهَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى فِي الرِّوَايَاتِ أَجْمَعَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِإِعَادَةٍ وَلَوْ كَانَ إعَادَةً لَمَا لَزِمَهُ أُخْرَى. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الثَّانِيَةَ إعَادَةٌ لِلْأُولَى مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّهَا عَيْنُ تِلْكَ الْآيَةِ وَلَيْسَتْ بِإِعَادَةٍ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ؛ لِأَنَّ وَصْفَ كَوْنِهَا رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُولَى وَوُجِدَ فِي الثَّانِيَةِ وَالْأُولَى بَاقِيَةٌ حُكْمًا لِبَقَاءِ حُكْمِهَا وَهُوَ وُجُوبُ السَّجْدَةِ فَإِذَا كَانَتْ بَاقِيَةً، وَالثَّانِيَةُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ تَكْرَارٌ لِلْأُولَى فَجُعِلَتْ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ كَأَنَّهَا عَيْنُ الْأُولَى فَبَقِيَتْ الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ لِلتِّلَاوَةِ وَالثَّانِيَةُ لِلْأُولَى لِصَيْرُورَةِ الثَّانِيَةِ عَيْنَ الْأَوْلَى فَتَصِيرُ صِفَتُهَا صِفَةَ تِلْكَ فَصَارَتْ هِيَ أَيْضًا مَوْصُوفَةً بِكَوْنِهَا صَلَاتِيَّةً فَلَا تُؤَدَّى خَارِجَ الصَّلَاةِ لِمَا مَرَّ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ سَجَدَ لِلْأُولَى؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْقَ حُكْمًا بَلْ انْقَضَتْ بِنَفْسِهَا وَحُكْمِهَا فَلَمْ يُجْعَلْ وَصْفُ الثَّانِيَةِ وَصْفًا لِلْأُولَى فَبَقِيَتْ الثَّانِيَةُ إعَادَةً مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ ابْتِدَاءً مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ فَتَجِبُ سَجْدَةٌ أُخْرَى مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ وَلَا تَجِبُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ فَلَمْ يُعْتَبَرْ جَانِبُ الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَتْبُوعُ لِمَا أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ اعْتِبَارُ جَانِبِ الْوُجُوبِ فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْوَصْفِ فَوَجَبَتْ سَجْدَةٌ أُخْرَى عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ الْوَصْفِ مُوجِبٌ وَاعْتِبَارَ جَانِبِ الْأَصْلِ لَيْسَ بِمَانِعٍ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ فَلَمْ يَقَعْ التَّعَارُضُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَرَأَ الْإِمَامُ سَجْدَةً فِي رَكْعَةٍ وَسَجَدَهَا ثُمَّ أَحْدَثَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَقَدَّمَ رَجُلًا جَاءَ سَاعَتَئِذٍ فَقَرَأَ تِلْكَ السَّجْدَةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ ابْتِدَاءُ التِّلَاوَةِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ أَدَاءٌ قَبْلَ هَذَا وَعَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَسْجُدُوهَا مَعَهُ؛ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا مُتَابَعَتَهُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ إمَّا أَدَاءً أَوْ قَضَاءً فَهُوَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ السَّجْدَةِ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا فَلَا؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا أَهْلِيَّةُ وُجُوبِ الصَّلَاةِ مِنْ الْإِسْلَامِ، وَالْعَقْلِ، وَالْبُلُوغِ، وَالطَّهَارَةِ مِنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى الْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قَرَءُوا أَوْ سَمِعُوا؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَتَجِبُ عَلَى الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمَا، وَكَذَا تَجِبُ عَلَى السَّامِعِ بِتِلَاوَةِ هَؤُلَاءِ إلَّا الْمَجْنُونَ؛ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ مِنْهُمْ صَحِيحَةٌ كَتِلَاوَةِ الْمُؤْمِنِ وَالْبَالِغِ وَغَيْرِ الْحَائِضِ وَالْمُتَطَهِّرُ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ السَّجْدَةِ بِقَلِيلِ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ مَا دُونَ آيَةٍ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ النَّهْيُ فَيُنْظَرُ إلَى أَهْلِيَّةِ التَّالِي وَأَهْلِيَّتِهِ بِالتَّمْيِيزِ وَقَدْ وُجِدَ فَوُجِدَ سَمَاعُ تِلَاوَةٍ صَحِيحَةٍ فَتَجِبُ السَّجْدَةُ بِخِلَافِ السَّمَاعِ مِنْ الْبَبْغَاءِ وَالصَّدَى فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتِلَاوَةٍ وَكَذَا إذَا سَمِعَ مِنْ الْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتِلَاوَةٍ صَحِيحَةٍ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِانْعِدَامِ التَّمْيِيزِ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ جَوَازِ السَّجْدَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَكُلُّ مَا هُوَ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ مِنْ طَهَارَةِ الْحَدَثِ وَهِيَ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ، وَطَهَارَةِ النَّجِسِ وَهِيَ طَهَارَةُ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ، وَمَكَانِ السُّجُودِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ فَهُوَ. شَرْطُ جَوَازِ السَّجْدَةِ؛ لِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً بِسَجَدَاتِ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِالتَّيَمُّمِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ ثَمَّةَ مَاءً أَوْ يَكُونَ مَرِيضًا؛ لِأَنَّ شَرْطَ صَيْرُورَةِ التَّيَمُّمِ طَهَارَةً حَالَ وُجُودِ الْمَاءِ خَشْيَةُ الْفَوْتِ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى التَّرَاخِي عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَكَذَا لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا إلَّا إلَى الْقِبْلَةِ حَالَ الِاخْتِيَارِ إذَا تَلَاهَا عَلَى الْأَرْضِ وَلَا يُجْزِيهِ الْإِيمَاءُ كَمَا فِي سَجَدَاتِ الصَّلَاةِ فَإِنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى وَسَجَدَ إلَى جِهَةٍ فَأَخْطَأَ الْقِبْلَةَ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِالتَّحَرِّي إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ جَائِزَةٌ فَالسَّجْدَةُ أَوْلَى. وَلَوْ تَلَاهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ وَهُوَ مُسَافِرٌ أَوْ تَلَاهَا عَلَى الْأَرْضِ وَهُوَ مَرِيضٌ لَا يَسْتَطِيعُ السُّجُودَ أَجْزَأَهُ الْإِيمَاءُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ الْإِيمَاءُ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَهُوَ قَوْلُ بِشْرٍ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَالنَّذْرِ فَإِنَّ الرَّاكِبَ إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَهُمَا عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَذَا هَذَا. (وَلَنَا) أَنَّ التِّلَاوَةَ أَمْرٌ دَائِمٌ بِمَنْزِلَةِ التَّطَوُّعِ فَكَانَ فِي اشْتِرَاطِ النُّزُولِ حَرَجٌ بِخِلَافِ الْفَرْضِ وَالنَّذْرِ، وَمَا وَجَبَ مِنْ السَّجْدَةِ فِي الْأَرْضِ لَا يَجُوزُ عَلَى الدَّابَّةِ وَمَا وَجَبَ عَلَى الدَّابَّةِ يَجُوزُ عَلَى الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى الْأَرْضِ وَجَبَ تَامًّا فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِيمَاءِ الَّذِي هُوَ بَعْضُ السُّجُودِ فَأَمَّا مَا وَجَبَ عَلَى الدَّابَّةِ وَجَبَ بِالْإِيمَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَلَا سَجْدَةً وَهُوَ رَاكِب فَأَوْمَأَ بِهَا إيمَاءً. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ سَمِعَ سَجْدَةً وَهُوَ رَاكِبٌ قَالَ فَلْيُومِ

فصل في بيان محل أداء سجدة التلاوة

إيمَاءً، وَإِذَا وَجَبَ الْإِيمَاءُ فَإِذَا نَزَلَ وَأَدَّاهَا عَلَى الْأَرْضِ فَقَدْ أَدَّاهَا تَامَّةً فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْجَوَازِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَا مَرَّ. وَلَوْ تَلَاهَا عَلَى الدَّابَّةِ فَنَزَلَ ثُمَّ رَكِبَ فَأَدَّاهَا بِالْإِيمَاءِ جَازَ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ هُوَ يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَ وَجَبَ أَدَاؤُهَا عَلَى الْأَرْضِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَلَاهَا عَلَى الْأَرْضِ. (وَلَنَا) أَنَّهُ لَوْ أَدَّاهَا قَبْلَ نُزُولِهِ بِالْإِيمَاءِ جَازَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَا نَزَلَ وَرَكِبَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهَا بِالْإِيمَاءِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَقَدْ وَجَبَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَصَارَ كَمَا لَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ فَأَفْسَدَهَا ثُمَّ قَضَاهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ مَكْرُوهٍ وَأَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي وَجَبَتْ، كَذَا هَذَا وَكَذَا يُشْتَرَطُ لَهَا سَتْرُ الْعَوْرَةِ لِمَا قُلْنَا وَيُشْتَرَطُ النِّيَّةُ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ فَلَا تَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ وَكَذَا الْوَقْتُ حَتَّى لَوْ تَلَاهَا أَوْ سَمِعَهَا فِي وَقْتٍ غَيْرِ مَكْرُوهٍ فَأَدَّاهَا فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ لَا تُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ كَامِلَةً فَلَا تَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ كَالصَّلَاةِ. وَلَوْ تَلَاهَا فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ وَسَجَدَهَا فِيهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَسَجَدَهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ مَكْرُوهٍ جَازَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ نَاقِصَةً وَأَدَّاهَا نَاقِصَةً كَمَا فِي الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا التَّحْرِيمَةُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهَا لِتَوْحِيدِ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَلَمْ تُوجَدْ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ عِنْدَنَا مِنْ الْحَدَثِ وَالْعَمَلِ وَالْكَلَامِ وَالْقَهْقَهَةِ فَهُوَ مُفْسِدٌ لَهَا وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا كَمَا لَوْ وُجِدَتْ فِي سَجْدَةِ الصَّلَاةِ. وَقِيلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَهُ لِتَمَامِ الرُّكْنِ وَهُوَ الرَّفْعُ وَلَمْ يَحْصُلْ بَعْدُ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَقَدْ حَصَلَ الْوَضْعُ قَبْلَ هَذِهِ الْعَوَارِضِ وَالْعِبْرَةُ عِنْدَهُ لِلْوَضْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُفْسِدَهَا إلَّا أَنَّهُ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ فِي الْقَهْقَهَةِ فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَكَذَا مُحَاذَاةُ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ فِيهَا لَا تُفْسِدُ عَلَيْهِ السَّجْدَةَ وَإِنْ نَوَى إمَامَتَهَا؛ لِانْعِدَامِ الشَّرِكَةِ إذْ هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّحْرِيمَةِ وَلَا تَحْرِيمَةَ لِهَذِهِ السَّجْدَةِ وَلِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ إنَّمَا عَرَفْنَاهَا مُفْسِدَةً بِأَمْرِ الشَّرْعِ بِتَأْخِيرِهَا وَالْأَمْرُ وَرَدَ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فَلَمْ تَكُنْ الْمُحَاذَاةُ فِيهَا مُفْسِدَةً كَمَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَحَلِّ أَدَاءِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ أَدَائِهَا فَمَا تَلَا خَارِجَ الصَّلَاةِ لَا يُؤَدِّيهَا فِي الصَّلَاةِ وَكَذَا مَا تَلَا فِي الصَّلَاةِ لَا يُؤَدِّيهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَلَيْسَ بِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ مَا وَجَبَ حُكْمًا لِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِخُرُوجِ التِّلَاوَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ عَنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَإِذَا أَدَّاهَا فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْخَلَ فِي الصَّلَاةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا فَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَفْسُدْ لِعَدَمِ الْمُضَادَّةِ تَنْتَقِصُ لِإِدْخَالِهِ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ الدَّاخِلَ فِيهَا لَا بُدَّ أَنْ يَقْطَعَ نَظْمَهَا وَيَمْنَعَ وَصْلَ فِعْلٍ بِفِعْلٍ وَذَا تَرَكَ الْوَاجِبَ فَصَارَ الْمُؤَدَّى مَنْهِيًّا عَنْهُ وَهُوَ وَجَبَ خَارِجَ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فَلَا يَسْقُطُ بِأَدَائِهِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ. وَأَمَّا مَا تَلَا فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ صَارَ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِكَوْنِهِ حُكْمًا لِمَا هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يُوجِبُ نَقْصًا فِيهَا وَأَدَاءُ مَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لَنْ يُتَصَوَّرَ بِدُونِ التَّحْرِيمَةِ فَلَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَلَا فِي صَلَاةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ هَذِهِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ لِقِرَاءَةِ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاؤُهُ فَسَقَطَ إذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ: إذَا قَرَأَ الرَّجُلُ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ إمَامٌ أَوْ مُنْفَرِدٌ فَلَمْ يَسْجُدْهَا حَتَّى سَلَّمَ وَخَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ سَقَطَتْ عَنْهُ لِمَا قُلْنَا. وَكَذَلِكَ لَوْ سَمِعَهَا فِي صَلَاتِهِ مِمَّنْ لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَسْجُدْهَا فِي الصَّلَاةِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ سَجَدَهَا فِيهَا كَانَ مُسِيئًا لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ السَّجْدَةُ لَكِنْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ السَّجْدَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِسَبَبٍ مَقْصُودٍ فَكَانَ إدْخَالُهَا فِي الصَّلَاةِ رَفْضًا لَهَا. (وَلَنَا) أَنَّ هَذِهِ زِيَادَةً مِنْ جِنْسِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ دُونَ الرَّكْعَةِ فَلَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ كَمَا لَوْ سَجَدَ سَجْدَةً زَائِدَةً فِي الصَّلَاةِ تَطَوُّعًا. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ مَا إذَا قَرَأَ الْمُقْتَدِي آيَةَ السَّجْدَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فَسَمِعَهَا الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ فَنَقُولُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُقْتَدِي أَنْ يَسْجُدَهَا فِي الصَّلَاةِ وَكَذَا عَلَى الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ بِنَفْسِهِ إذَا خَافَتَ فَقَدْ انْفَرَدَ عَنْ إمَامِهِ فَصَارَ مُخْتَلِفًا عَلَيْهِ. وَلَوْ سَجَدُوا؛ لِسَمَاعِ تِلَاوَتِهِ إذَا جَهَرَ بِهِ لَانْقَلَبَ التَّبَعُ مَتْبُوعًا؛ لِأَنَّ التَّالِيَ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ لِلسَّامِعِينَ، وَفِي حَقِّ بَقِيَّةِ الْمُقْتَدِينَ تَصِيرُ صَلَاتُهُمْ بِإِمَامَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَائِمًا مَقَامَ الْآخَرِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ فَلَا يَسْجُدُونَ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَسْجُدُونَ وَلَوْ سَمِعُوا مِمَّنْ لَيْسَ فِي صَلَاتِهِمْ لَا يَسْجُدُونَ فِي الصَّلَاةِ وَيَسْجُدُونَ بَعْدَ الْفَرَاغِ

فصل في كيفية أداء سجدة التلاوة

بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ سَمِعَ مِنْ الْمُقْتَدِي مَنْ لَيْسَ فِي صَلَاتِهِ يَسْجُدُ كَذَا ذُكِرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ عَقِيبَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ التِّلَاوَةُ الصَّحِيحَةُ فِي حَقِّ الْمُؤْتَمِّ وَسَمَاعُهَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ مِنْهُ وَهُوَ لَيْسَ فِي صَلَاتِهِمْ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُمْ الْأَدَاءُ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ تِلَاوَتَهُ لَيْسَتْ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْمُقْتَدِي غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الْأَدَاءُ خَارِجَ الصَّلَاةِ كَمَا إذَا سَمِعُوا مِمَّنْ لَيْسَ فِي صَلَاتِهِمْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْأَدَاءِ وَهُمْ يَعْجِزُونَ عَنْ أَدَائِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى الْأَدَاءِ فِي الصَّلَاةِ لِمَا مَرَّ وَلَا وَجْهَ إلَى الْأَدَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ السَّجْدَةَ مِنْ أَفْعَالِ هَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِسَبَبِ التِّلَاوَةِ. وَتِلَاوَةُ الْمُقْتَدِي مَحْسُوبَةٌ مِنْ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْقِرَاءَةِ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، فَإِذَا أَدَّى بِنَفْسِهِ مَا يَتَحَمَّلُ عَنْهُ غَيْرُهُ وَقَعَ مَوْقِعَهُ، فَكَانَتْ الْقِرَاءَةُ مَحْسُوبَةً مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَصَارَ مَا هُوَ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَصَارَتْ السَّجْدَةُ مِنْ أَفْعَالِ هَذِهِ الصَّلَاةِ. وَإِذَا صَارَتْ فِي حَقِّ التَّالِي مِنْ أَفْعَالِ هَذِهِ الصَّلَاةِ صَارَتْ فِي حَقِّ الْكُلِّ مِنْ أَفْعَالِ هَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّهَا جُعِلَتْ مِنْ أُنَاسٍ مُخْتَلِفِينَ عِنْدَ اتِّحَادِ التَّحْرِيمَةِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ كَالْمَوْجُودَةِ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ لِحُصُولِ ثَمَرَاتِ الْقِرَاءَةِ بِالسَّمَاعِ وَلِهَذَا جُعِلَتْ الْقِرَاءَةُ الْمَوْجُودَةُ مِنْ الْإِمَامِ كَالْقِرَاءَةِ الْمَوْجُودَةِ مِنْ الْكُلِّ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْأَرْكَانِ وَقِيَاسُ هَذِهِ النُّكْتَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ لَمْ يَقْرَأْ كَانَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ قِرَاءَةً لِلْكُلِّ فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ التَّبَعُ مَتْبُوعًا وَالْمَتْبُوعُ تَبَعًا فَبَقِيَتْ فِي حَقِّ كَوْنِهَا مِنْ الصَّلَاةِ مُشْتَرَكَةً فِي حَقِّ الْكُلِّ فَصَارَتْ السَّجْدَةُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَإِذَا صَارَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لَا يُتَصَوَّرُ أَدَاؤُهَا بِلَا تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ فَلَا تُؤَدَّى بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ يَقُولُ تَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ هَذِهِ التِّلَاوَةَ مِنْ الْمُقْتَدِي مِمَّنْ لَا يُشَارِكُهُ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي حَقِّهِ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا سَمِعَ الْمُصَلِّي مِمَّنْ لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ حَيْثُ يَسْجُدُ خَارِجَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ التِّلَاوَةِ لَيْسَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ؛ لِعَدَمِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّالِي فِي الصَّلَاةِ، وَالْوُجُوبُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ سَمَاعِهِ وَالسَّمَاعُ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ أَمْكَنَ أَدَاؤُهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَيُؤَدَّى. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ يُؤْمَرُ بِهِ، بِخِلَافِ قِرَاءَةِ الصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ حَيْثُ يُوجِبُ السَّجْدَةَ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمَنْهِيَّيْنِ وَبِخِلَافِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُنْهِيَا عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ السَّجْدَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ دُونَ الْآيَةِ وَهُمَا لَيْسَا بِمَنْهِيَّيْنِ عَنْ تِلَاوَةِ مَا دُونَ الْآيَةِ، أَمَّا الْمُقْتَدِي فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ قِرَاءَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْ قَدْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ السَّجْدَةِ فَلَمْ يَجِبْ، أَوْ نَقُولُ إنَّ الْمُقْتَدِيَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ بِدَلِيلِ نَفَاذِ تَصَرُّفِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ، وَتَصَرُّفُ الْمَحْجُورِ لَا يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَمَنْ سَلَكَ هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ يَقُولُ: لَا تَجِبُ السَّجْدَةُ عَلَى السَّامِعِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُمْ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِاخْتِلَافِ الطُّرُقِ. [فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ أَدَاءِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ أَدَائِهَا فَإِنْ كَانَ تَلَا خَارِجَ الصَّلَاةِ يُؤَدِّيهَا عَلَى نَعْتِ سَجَدَاتِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ تَلَا فِي الصَّلَاةِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا عَلَى هَيْئَةِ السَّجَدَاتِ أَيْضًا كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ، وَقَرَأَ، وَرَكَعَ حَصَلَتْ لَهُ قُرْبَتَانِ. وَلَوْ رَكَعَ تَحْصُلُ لَهُ قُرْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ لَأَدَّى الْوَاجِبَ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ، وَلَوْ رَكَعَ لَأَدَّاهُ بِمَعْنَاهُ لَا بِصُورَتِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَفْضَلُ ثُمَّ إذَا سَجَدَ وَقَامَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَرْكَعَ كَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ سَوَاءٌ كَانَتْ آيَةُ السَّجْدَةِ فِي وَسَطِ الصُّورَةِ أَوْ عِنْدَ خَتْمِهَا أَوْ بَقِيَ بَعْدَهَا إلَى الْخَتْمِ قَدْرُ آيَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثِ آيَاتٍ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَانِيًا لِلرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ، ثُمَّ يَرْكَعَ فَيَنْظُرَ إنْ كَانَتْ آيَةُ السَّجْدَةِ فِي وَسَطِ السُّورَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتِمَ السُّورَةَ ثُمَّ يَرْكَعَ، وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ خَتْمِ السُّورَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةٍ أُخْرَى ثُمَّ يَرْكَعَ وَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْهَا إلَى الْخَتْمِ قَدْرُ آيَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثِ آيَاتٍ كَمَا فِي سُورَةِ " بَنِي إسْرَائِيلَ "، وَسُورَةِ " إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ " يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ بَقِيَّةَ السُّورَةِ، ثُمَّ يَرْكَعَ إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ وَصَلَ إلَيْهَا سُورَةً أُخْرَى فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ خَاتِمَةِ السُّورَةِ دُونَ ثَلَاثِ آيَاتٍ فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ كَيْ لَا يَكُونَ بَاقِيًا لِلرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ رَكَعَ كَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ

أَجْزَأَهُ؛ لِحُصُولِ الْقِرَاءَةِ قَبْلَ السَّجْدَةِ. وَلَوْ لَمْ يَأْتِ بِهَا عَلَى هَيْئَةِ السَّجْدَةِ وَلَكِنَّهُ رَكَعَ بِهَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ سَوَاءٌ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدَ قَالَ: وَبِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ، وَإِنَّمَا أَخَذَ أَصْحَابُنَا بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ مَا بَيْنَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ الْمَعَانِي فَهُوَ قِيَاسٌ وَمَا خَفِيَ مِنْهَا فَهُوَ اسْتِحْسَانٌ وَلَا يُرَجَّحُ الْخَفِيُّ لِخَفَائِهِ وَلَا الظَّاهِرُ لِظُهُورِهِ فَيُرْجَعُ فِي طَلَبِ الرُّجْحَانِ إلَى مَا اقْتَرَنَ بِهِمَا مِنْ الْمَعَانِي، فَمَتَى قَوِيَ الْخَفِيُّ أَخَذُوا بِهِ وَمَتَى قَوِيَ الظَّاهِرُ أَخَذُوا بِهِ، وَهَهُنَا قَوِيَ دَلِيلُ الْقِيَاسِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فَأَخَذُوا بِهِ ثُمَّ إنَّ مَشَايِخَنَا اخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِيمَا يَقُومُ مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ فَقَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا: إنَّ الرُّكُوعَ هُوَ الْقَائِمُ مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَمَحِلُّ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ هَذَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَقُومَ الرُّكُوعُ مَقَامَهُمَا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَقُومُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَحَلُّ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ خَارِجَ الصَّلَاةِ بِأَنْ تَلَاهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَرَكَعَ فِي الْقِيَاسِ يُجْزِئُهُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُجْزِئُهُ وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ بَلْ لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ خَارِجَ الصَّلَاةِ لَمْ يُجْعَلْ قُرْبَةً فَلَا يَنُوبُ مَنَابَ الْقُرْبَةِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ صَدْرُ الدِّينِ أَبُو الْمُعِينِ وَقَالَ: رَأَيْتُ فِي فَتَاوَى أَهْلِ بَلْخٍ بِخَطِّ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَدِيدِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: السَّجْدَةُ الصُّلْبِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَقُومُ مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ لَا الرُّكُوعِ، فَكَانَ الْقِيَاسُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ تَقُومَ الصُّلْبِيَّةُ مَقَامَ التِّلَاوَةِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَقُومُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ التَّحْقِيقَ لِكَوْنِ الْجَوَازِ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ، وَعَدَمُ الْجَوَازِ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَنْ يُتَصَوَّرَ إلَّا عَلَى هَذَا فَإِنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ السَّجْدَةُ وَقَدْ وُجِدَتْ، وَسُقُوطُ مَا وَجَبَ مِنْ السَّجْدَةِ بِالسَّجْدَةِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ فَكَانَ قِيَاسًا. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ نَفْسِهَا فَلَا تَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهَا كَصَوْمِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ لَا يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ قَضَاءِ يَوْمٍ آخَرَ عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ دَلِيلَ الْقِيَاسِ أَظْهَرُ وَدَلِيلَ الِاسْتِحْسَانِ أَأَخْفَى؛ لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةُ أَحَدِهِمَا مَقَامَ الْآخَرِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي أَمْرٌ خَفِيٌّ؛ لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ وَالتَّفْرِقَةَ بِاعْتِبَارِ الْمَعَانِي، وَالْعِلْمُ بِذَاتِ مَا يُعَايَنُ أَظْهَرُ مِنْ الْعِلْمِ بِوَصْفِهِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالذَّاتِ بِالْحِسِّ وَبِالْمَعْنَى بِالْعَقْلِ عَقِيبَ التَّأَمُّلِ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ أَظْهَرُ، فَثَبَتَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لِكَوْنِ الْجَوَازِ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ وَعَدَمِ الْجَوَازِ بِالِاسْتِحْسَانِ مُمْكِنٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَأَمَّا لَوْ كَانَ الْكَلَامُ فِي قِيَامِ الرُّكُوعِ مَقَامَ السُّجُودِ فَالْقِيَاسُ يَأْبَى الْجَوَازَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ مَعَ السُّجُودِ مُخْتَلِفَانِ ذَاتًا فَلَوْ ثَبَتَ بَيْنَهُمَا مُسَاوَاةٌ لَثَبَتَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَكَانَ عَدَمُ جَوَازِ إقَامَةِ أَحَدِهِمَا مَقَامَ صَاحِبِهِ مِنْ تَوَابِعِ الذَّاتِ وَالْعِلْمُ بِهِ ظَاهِرٌ، وَجَوَازُ الْقِيَامِ مِنْ تَوَابِعِ الْمَعْنَى وَالْعِلْمُ بِهِ خَفِيٌّ فَإِذَا كَانَتْ قَضِيَّةُ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَجُوزَ وَقَضِيَّةُ الِاسْتِحْسَانِ أَنْ يَجُوزَ وَجَوَابُ الْكِتَابِ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ هَذَا فَدَلَّ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا ذَكَرْنَا. وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا يَقُولُونَ: لَا بَلْ الرُّكُوعُ هُوَ الْقَائِمُ مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْكِتَابِ قُلْت: فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ بِالسَّجْدَةِ بِعَيْنِهَا هَلْ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَمَّا فِي الْقِيَاسِ فَالرَّكْعَةُ فِي ذَلِكَ وَالسَّجْدَةُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ صَلَاةٌ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24] وَتَفْسِيرُهَا خَرَّ سَاجِدًا، فَالرَّكْعَةُ وَالسَّجْدَةُ سَوَاءٌ فِي الْقِيَاسِ. وَأَمَّا فِي الِاسْتِحْسَانِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْجُدَ وَبِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ وَهَذَا كُلُّهُ لَفْظُ مُحَمَّدٍ فَثَبَتَ أَنَّ مَحَلَّ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ مَا بَيَّنَّا وَمَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ خِلَافَ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي وَإِذَا قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنْ شَاءَ رَكَعَ لَهَا وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ لَهَا يَعْنِي إنْ شَاءَ أَقَامَ رُكُوعَ الصَّلَاةِ مَقَامَهَا وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ لَهَا ذَكَرَ هَذَا التَّفْسِيرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَجْهُ الْقِيَاسِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فِيهِمَا ظَاهِرٌ فَكَانَا فِي حَقِّ حُصُولِ التَّعْظِيمِ بِهِمَا جِنْسًا وَاحِدًا وَالْحَاجَةُ إلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إمَّا اقْتِدَاءً بِمَنْ عَظَّمَ اللَّهَ تَعَالَى وَإِمَّا مُخَالَفَةً لِمَنْ اسْتَكْبَرَ عَنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ الظَّاهِرُ هُوَ الْجَوَازُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّعْظِيمُ بِجِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ السُّجُودُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْكَعْ عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى طَالَتْ الْقِرَاءَةُ ثُمَّ نَوَى بِالرُّكُوعِ أَنْ يَقَعَ عَنْ السَّجْدَةِ لَا يَجُوزُ. وَكَذَا خَارِجَ الصَّلَاةِ لَوْ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ وَرَكَعَ وَلَمْ يَسْجُدْ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْوَاجِبِ كَذَا هَهُنَا ثُمَّ أَخَذُوا بِالْقِيَاسِ لِقُوَّةِ دَلِيلِهِ؛ وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا

كَانَا أَجَازَا أَنْ يَرْكَعَ عَنْ السُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمَا خِلَافُ ذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجْمَاعِ. وَالْمَعْنَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّعْظِيمُ لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَ قِرَاءَةِ آيَةِ السَّجْدَةِ وَقَدْ وُجِدَ التَّعْظِيمُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْخُضُوعَ لِلَّهِ وَالتَّعْظِيمَ لَهُ بِالرُّكُوعِ لَيْسَا بِأَدْوَنَ مِنْ الْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا حَاجَةَ هُنَا إلَى السُّجُودِ لِعَيْنِهِ بَلْ الْحَاجَةُ إلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى مُخَالَفَةً لِمَنْ اسْتَكْبَرَ عَنْ تَعْظِيمِهِ أَوْ اقْتِدَاءً بِمَنْ خَضَعَ لَهُ وَأَذْعَنَ لِرُبُوبِيَّتِهِ وَاعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ وَقَدْ حَصَلَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي بِالرُّكُوعِ حَسَبَ حُصُولِهَا بِالسُّجُودِ. وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ رَكَعَ خَارِجَ الصَّلَاةِ مَكَانَ السُّجُودِ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ لَا لِمَكَانِ أَنَّ الرُّكُوعَ أَدْوَنُ مِنْ السُّجُودِ وَلَكِنْ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ لَمْ يُجْعَلْ عِبَادَةً يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى إذْ انْفَرَدَ عَنْ تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ، وَالسُّجُودُ جُعِلَ عِبَادَةً بِدُونِ تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ ثَبَتَ ذَلِكَ شَرْعًا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ تَحْرِيمَةُ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ الرُّكُوعُ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ التَّعْظِيمُ وَالْخُضُوعُ لِلَّهِ اللَّذَانِ وَجَبَا بِالتِّلَاوَةِ، بِخِلَافِ السَّجْدَةِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا رَكَعَ مَكَانَ السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ عَيْنُ السَّجْدَةِ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا فَلَا يَقُومُ غَيْرُهَا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ مَقَامَهَا، وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَفْعَالٍ مُخْتَلِفَةٍ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ التَّقَلُّبِ فِي الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ اللَّيِّنَةِ وَالْمَفَاصِلِ السَّلِيمَةِ. وَبِالرُّكُوعِ لَا يَحْصُلُ شُكْرُ حَالَةِ السُّجُودِ فَيَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِعَيْنِ السُّجُودِ لَا بِمَا يُوَازِيهِ فِي كَوْنِهِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى أَمَّا هَهُنَا فَبِخِلَافِهِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَرْكَعْ عَقِيبَ التِّلَاوَةِ وَلَمْ يَسْجُدْ حَتَّى طَالَتْ الْقِرَاءَةُ ثُمَّ رَكَعَ وَنَوَى الرُّكُوعَ عَنْ السَّجْدَةِ حَيْثُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ فِي الصَّلَاةِ مُضَيَّقًا؛ لِأَنَّهَا لِوُجُوبِهَا بِمَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْتَحَقَتْ بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا يُوجِبُ حُصُولُهَا فِيهَا نُقْصَانًا مَا فِيهَا، وَتَحْصِيلُ مَا لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا إنْ لَمْ يُوجِبْ فَسَادَهَا يُوجِبْ نَقْصًا، وَلِهَذَا لَا تُؤَدَّى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ لَوْ تَرَكَ أَدَاءَهَا فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ لِمَا بَيَّنَّا فَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاؤُهَا لَا بِتَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ كَسَائِرِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَمَبْنَى أَفْعَالِ الصَّلَاةِ أَنْ يُؤَدَّى كُلُّ فِعْلٍ مِنْهَا فِي مَحَلِّهِ الْمَخْصُوصِ فَكَذَا هَذِهِ وَإِذَا لَمْ تُؤَدَّ فِي مَحَلِّهَا حَتَّى فَاتَ صَارَ دَيْنًا، وَالدَّيْنُ يُقْضَى بِمَا لَهُ لَا بِمَا عَلَيْهِ، وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ عَلَيْهِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الدَّيْنُ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَصِرْ دَيْنًا بَعْدُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ هُنَاكَ إلَى التَّعْظِيمِ وَالْخُضُوعِ وَقَدْ وُجِدَ فَيُكْتَفَى بِذَلِكَ كَدَاخِلِ الْمَسْجِدِ إذَا اشْتَغَلَ بِالْفَرْضِ نَابَ ذَلِكَ مَنَابَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ لِحُصُولِ تَعْظِيمِ الْمَسْجِدِ، وَالْمُعْتَكِفِ فِي رَمَضَانَ إذَا صَامَ عَنْ رَمَضَانَ وَكَانَ أَوْجَبَ اعْتِكَافَ شَهْرَ رَمَضَانَ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا عَنْ صَوْمٍ هُوَ شَرْطُ الِاعْتِكَافِ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَعْبَانَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ فَاعْتَكَفَ لَا يَنُوبُ ذَلِكَ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِمُضِيِّ الْوَقْتِ، وَالدَّيْنُ يُؤَدَّى بِمَا هُوَ لَهُ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ لَا بِمَا عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى مَضَى يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثُمَّ أَدَّاهَا بِوُضُوءٍ حَصَلَ بِقَصْدِ التَّبَرُّدِ حَيْثُ يَجُوزُ، وَلَا يُقَالُ: أَنَّ الْوُضُوءَ الَّذِي هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ بِوُجُوبِ الْعِبَادَةِ ثُمَّ بِالْفَوَاتِ عَنْ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَالدَّيْنُ يُؤَدَّى بِمَا لَهُ لَا بِمَا عَلَيْهِ أَوْ فَاتَتْهُ فَرِيضَةٌ عَنْ وَقْتِهَا فَأَدَّاهَا بِوُضُوءٍ حَصَلَ لِلتَّبَرُّدِ أَوْ لِلتَّعْلِيمِ جَازَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْوُضُوءُ شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَصِرْ بِفَوَاتِهِ عَنْ مَحَلِّهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ بَقِيَ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ عِبَادَةٍ فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ لِضَرُورَةِ حُصُولِ الْأَهْلِيَّةِ لِأَدَاءِ مَا عَلَيْهِ وَقَدْ حَصَلَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ فَأَمَّا السَّجْدَةُ وَالصَّوْمُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا فَاتَا عَنْ الْمَحَلِّ وَوَجَبَا صَارَا حَقَّيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُمَا بِمَا عَلَيْهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا فَاتَتْ السَّجْدَةُ عَنْ مَحَلِّهَا فِي الصَّلَاةِ وَصَارَتْ بِمَحَلِّ الْقَضَاءِ فَرَكَعَ يَنْوِي بِهِ قَضَاءَ السَّجْدَةِ الْفَائِتَةِ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ حَصَلَ الرُّكُوعُ فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ وَهُوَ فِيهَا مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّه تَعَالَى وَيَحْصُلُ بِذَلِكَ التَّعْظِيمُ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ هَذَا الْقَدْرُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ لَمْ يُعْرَفْ قُرْبَةً فِي الشَّرِيعَةِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ الْمَخْصُوصِ فَمَا أَمْكَنَنَا جَعْلُهُ قُرْبَةً فَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ التَّعْظِيمُ بِخِلَافِ السَّجْدَةِ فَإِنَّهَا عُرِفَتْ قُرْبَةً فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا الَّذِي تَكُونُ فِيهِ وَلِهَذَا يَنْجَبِرُ بِهَا النَّقْصُ الْمُتَمَكِّنُ فِي الصَّلَاةِ بِطَرِيقِ السَّهْوِ وَلَا يَنْجَبِرُ

فصل في بيان وقت أداء سجدة التلاوة

بِالرُّكُوعِ ثُمَّ إذَا رَكَعَ قَبْلَ أَنْ يُطَوِّلَ الْقِرَاءَةَ هَلْ تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لِقِيَامِ الرُّكُوعِ مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ؟ فَقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ النُّكْتَةِ يُوجِبُ أَنْ لَا يُحْتَاجَ إلَى النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى تَحْصِيلِ الْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَقَدْ وُجِدَا نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ كَالْمُعْتَكِفِ فِي رَمَضَانَ إذَا لَمْ يَنْوِ بِصِيَامِهِ عَنْ الِاعْتِكَافِ وَاَلَّذِي دَخَلَ الْمَسْجِدَ إذَا اشْتَغَلَ بِالْفَرْضِ غَيْرَ نَاوٍ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: يُحْتَاجُ هَهُنَا إلَى النِّيَّةِ، وَيَدَّعِي أَنَّ مُحَمَّدًا أَشَارَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا تَذَكَّرَ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ فِي الرُّكُوعِ يَخِرُّ سَاجِدًا فَيَسْجُدُ كَمَا تَذَكَّرَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَعُودُ إلَى الرُّكُوعِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الرُّكُوعُ الَّذِي تَذَكَّرَ فِيهِ التِّلَاوَةَ كَانَ عَقِيبَ التِّلَاوَةِ بِلَا فَصْلٍ أَوْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا فَاصِلٌ وَلَوْ كَانَ الرُّكُوعُ مِمَّا يَنُوبُ عَنْ السَّجْدَةِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لَكَانَ لَا يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَسْجُدَ لِلتِّلَاوَةِ بَلْ قَامَ نَفْسُ الرُّكُوعِ مَقَامَ التِّلَاوَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَثِيرُ إشَارَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَوْضُوعَةٌ فِيمَا إذَا تَخَلَّلَ بَيْنَ التِّلَاوَةِ وَالرُّكُوعِ مَا يُوجِبُ صَيْرُورَةَ السَّجْدَةِ دَيْنًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: تَذَكَّرَ سَجْدَةً وَالتَّذَكُّرُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ النِّسْيَانِ وَالنِّسْيَانُ لِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ عِنْدَ عَدَمِ تَخَلُّلِ شَيْءٍ بَيْنَ التِّلَاوَةِ وَالرُّكُوعِ مُمْتَنِعٌ أَوْ نَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ بِحَيْثُ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمٌ ثُمَّ يَحْتَاجُ هَذَا الْقَائِلُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمُعْتَكِفِ فِي رَمَضَانَ حَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَنْوِيَ كَوْنَ صَوْمِهِ شَرْطًا لِلِاعْتِكَافِ لِحُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَكَذَا الَّذِي دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَأَدَّى الْفَرْضَ كَمَا دَخَلَ فَاشْتَغَلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ هَهُنَا هُوَ السُّجُودُ إلَّا أَنَّ الرُّكُوعَ أُقِيمَ مَقَامَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَبَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فَرْقٌ فَلِمُوَافَقَةِ الْمَعْنَى تَتَأَدَّى السَّجْدَةُ بِالرُّكُوعِ إذَا نَوَى وَلِمُخَالَفَةِ الصُّورَةِ لَا تَتَأَدَّى إذَا لَمْ يَنْوِ بِخِلَافِ صَوْمِ الشَّهْرِ، فَإِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَوْمِ الِاعْتِكَافِ مُوَافَقَةً مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَكَذَا فِي الصَّلَاةِ وَلَكِنَّ هَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ إنْ كَانَ لَهَا عِبْرَةٌ فَلَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِهِ وَإِنْ نَوَى فَإِنَّ مَنْ نَوَى إقَامَةَ غَيْرِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مَقَامَ مَا وَجَبَ لَا يَقُومُ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عِبْرَةٌ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَعُذْرُ الصَّوْمِ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الصَّوْمَيْنِ مُخَالَفَةً مِنْ حَيْثُ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَكَانَا جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلِهَذَا قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: إنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْوِ بِالرُّكُوعِ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَلَمْ يَقُمْ يَحْتَاجُ فِي السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ إلَى أَنْ يَنْوِيَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا مُخَالَفَةً لِاخْتِلَافِ سَبَبَيْ وُجُوبِهِمَا فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ. وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ، وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ النِّيَّةُ عِنْدَ الرُّكُوعِ لَا يُجْزِئُهُ. وَلَوْ نَوَى فِي الرُّكُوعِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ وَلَوْ نَوَى بَعْدَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي قِيَامِ الرُّكُوعِ مَقَامَ السُّجُودِ فِيمَا إذَا لَمْ تَطُلْ الْقِرَاءَةُ بَيْنَ آيَةِ السَّجْدَةِ وَبَيْنَ الرُّكُوعِ فَأَمَّا إذَا طَالَ فَقَدْ فَاتَتْ السَّجْدَةُ وَصَارَتْ دَيْنًا فَلَا يَقُومُ الرُّكُوعُ مَقَامَهَا، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا لَمْ يُقَدِّرُوا فِي ذَلِكَ تَقْدِيرًا فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ فَوَّضُوا ذَلِكَ إلَى رَأْي الْمُجْتَهِدِ كَمَا فَعَلُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: إنْ قَرَأَ آيَةً أَوْ آيَتَيْنِ لَمْ تَطُلْ الْقِرَاءَةُ، وَإِنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ طَالَتْ وَصَارَتْ السَّجْدَةُ بِمَحَلِّ الْقَضَاءِ ثُمَّ إنَّهُ نَاقَضَ فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ لَمْ يَنْوِ بِالرُّكُوعِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ التِّلَاوَةِ وَنَوَى بِالسَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ قَامَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مُدَّةَ أَدَاءِ الرُّكُوعِ وَرَفْعِ الرَّأْسَ مِنْ الرُّكُوعِ وَالِانْحِطَاطِ إلَى السُّجُودِ يَكُونُ مِثْلَ مُدَّةِ قِرَاءَةِ ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَكَذَا إنْ كَانَتْ تِلْكَ قِرَاءَةً مُعْتَبَرَةً فَالرُّكُوعُ رُكْنٌ مُعْتَبَرٌ، وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُفَوِّضَ ذَلِكَ إلَى رَأْيِ الْمُجْتَهِد، أَوْ يَعْتَبِرَ مَا يُعَدُّ طَوِيلًا عَلَى أَنْ جَعَلَ ثَلَاثَ آيَاتٍ قَاطِعَةً لِلْفَوْرِ، وَإِدْخَالُهَا فِي حَدِّ الطُّولِ خِلَافُ الرِّوَايَةِ فَإِنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ قُلْتُ: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ وَالسَّجْدَةُ فِي آخِرِ السُّورَةِ إلَّا آيَاتٍ بَقِيَتْ مِنْ السُّورَةِ بَعْدَ آيَةِ السَّجْدَةِ قَالَ: هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَكَعَ بِهَا، وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ بِهَا قُلْت: فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ بِهَا خَتَمَ السُّورَةَ ثُمَّ رَكَعَ بِهَا قَالَ: نَعَمْ قُلْت: فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ بِهَا عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ السَّجْدَةِ ثُمَّ يَقُومَ فَيَتْلُوَ مَا بَعْدَهَا مِنْ السُّورَةِ وَهُوَ آيَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ ثُمَّ يَرْكَعَ قَالَ: نَعَمْ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ وَصَلَ إلَيْهَا سُورَةً أُخْرَى. وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ ثَلَاثَ آيَاتٍ لَيْسَتْ بِقَاطِعَةٍ لِلْفَوْرِ وَلَا بِمُدْخِلَةٍ لِلسَّجْدَةِ فِي حَيِّزِ الْقَضَاءِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانَ وَقْتِ أَدَاءِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ أَدَائِهَا فَمَا وَجَبَ أَدَاؤُهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَوَقْتُهَا جَمِيعُ الْعُمُرِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى التَّرَاخِي عَلَى مَا مَرَّ. وَأَمَّا مَا وَجَبَ أَدَاؤُهَا فِي الصَّلَاةِ فَوَقْتُهَا فَوْرُ الصَّلَاةِ؛ لِمَا مَرَّ أَنَّ وُجُوبَهَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْفَوْرِ وَهُوَ أَنْ

فصل في سنن السجود

لَا تَطُولَ الْمُدَّةُ بَيْنَ التِّلَاوَةِ وَبَيْنَ السَّجْدَةِ، فَأَمَّا إذَا طَالَتْ فَقَدْ دَخَلَتْ فِي حَيِّزِ الْقَضَاءِ وَصَارَ آثِمًا بِالتَّفْوِيتِ عَنْ الْوَقْتِ، ثُمَّ الْأَمْرُ فِي مِقْدَارِ الطُّولِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ. [فَصْلٌ فِي سُنَنِ السُّجُودِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سُنَنُ السُّجُودِ فَمِنْهَا، أَنْ يُكَبِّرَ عِنْدَ السُّجُودِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ السُّجُودِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ عِنْدَ الِانْحِطَاطِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ لِلِانْتِقَالِ مِنْ الرُّكْنِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ عِنْدَ الِانْحِطَاطِ وَوُجِدَ عِنْدَ الرَّفْعِ وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ لِلتَّالِي: إذَا قَرَأْت سَجْدَةً فَكَبِّرْ وَاسْجُدْ وَإِذَا رَفَعْت رَأْسَك فَكَبِّرْ، وَلَوْ تَرَكَ التَّحْرِيمَةَ يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذَا رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَلَا يَتَأَدَّى بِدُونِ التَّحْرِيمَةِ كَالْقِيَامِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهُ جَمِيعُ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ؟ وَيُفْسِدُهَا الْكَلَامُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَحُرْمَةُ مَا وَرَاءَهَا مِنْ الْأَفْعَالِ أَنْ يَكُونَ بِدُونِ التَّحْرِيمَةِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِمُطْلَقِ السُّجُودِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا شَيْئًا آخَرَ لَزِدْنَا عَلَى النَّصِّ وَلِأَنَّ السُّجُودَ وَجَبَ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى وَخُضُوعًا لَهُ، وَتَرْكُ التَّحْرِيمَةِ لَيْسَ بِمُنَافٍ لِلتَّعْظِيمِ. وَأَمَّا انْكِشَافُ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِدْبَارُ الْقِبْلَةِ، وَالتَّكَلُّمُ بِمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فَيُنَافِي التَّعْظِيمَ وَالْخُشُوعَ. وَحُرْمَةُ الْكَلَامِ مَمْنُوعَةٌ بَلْ لَا يُعْتَدُّ بِالسُّجُودِ مَعَ الْكَلَامِ لِانْعِدَامِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ؛ وَلِأَنَّ السُّجُودَ فِعْلٌ وَاحِدٌ وَالتَّحْرِيمَةُ تَجْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُخْتَلِفَةَ عِبَادَةً وَاحِدَةً وَهَهُنَا الْفِعْلُ وَاحِدٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحْرِيمَةِ بِخِلَافِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلُّ تَكْبِيرَةٍ بِمَنْزِلَةِ رَكْعَةٍ عَلَى مَا يُعْرَفُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ فِي هَذِهِ السَّجْدَةِ مِنْ التَّسْبِيحِ مَا يَقُولُ فِي سَجْدَةِ الصَّلَاةِ فَيَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ. وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ اسْتَحَبُّوا أَنْ يَقُولَ: فِيهَا سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107] {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا} [الإسراء: 108] الْآيَةَ، وَاسْتَحَبُّوا أَيْضًا أَنْ يَقُومَ فَيَسْجُدَ؛ لِأَنَّ الْخُرُورَ سُقُوطٌ مِنْ الْقِيَامِ، وَالْقُرْآنُ وَرَدَ بِهِ. وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَضُرَّهُ. وَمِنْهَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ وَمَعَهُ قَوْمٌ فَسَمِعُوهَا فَالسُّنَّةُ أَنْ يَسْجُدُوا مَعَهُ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْوَضْعِ وَلَا بِالرَّفْعِ؛ لِأَنَّ التَّالِيَ إمَامُ السَّامِعِينَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِلتَّالِي: كُنْتَ إمَامَنَا لَوْ سَجَدْتَ لَسَجَدْنَا مَعَكَ وَإِنْ فَعَلُوا أَجْزَأَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا مُشَارَكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَسَدَتْ سَجْدَتُهُ بِسَبَبٍ لَا يَتَعَدَّى إلَيْهِمْ وَلَا تَشَهُّدَ فِي هَذِهِ السَّجْدَةِ وَكَذَا لَا تَسْلِيمَ فِيهَا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمَةَ لَهَا عِنْدَنَا فَلَا يُعْقَلُ التَّحْلِيلُ، وَعَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يُسَلِّمُ لِلْخُرُوجِ عَنْ التَّحْرِيمَةِ وَيُكْرَه لِلرَّجُلِ تَرْكُ آيَةِ السَّجْدَةِ مِنْ سُورَةٍ يَقْرَؤُهَا؛ لِأَنَّهُ قَطْعٌ لِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَتَغْيِيرٌ لِتَأْلِيفِهِ وَاتِّبَاعُ النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ مَأْمُورٌ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] أَيْ تَأْلِيفَهُ فَكَانَ التَّغْيِيرُ مَكْرُوهًا، وَلِأَنَّهُ فِي صُورَةِ الْفِرَارِ عَنْ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ تَحْصِيلِهَا بِالْفِعْلِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَكَذَا فِيهِ صُورَةُ هَجْرِ آيَةِ السَّجْدَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ مَهْجُورًا، وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ مِنْ بَيْنِ السُّورَةِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةُ مَا هُوَ مِنْ الْقُرْآنِ طَاعَةٌ كَقِرَاءَةِ سُورَةٍ مِنْ بَيْنِ السُّوَرِ وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ مَعَهَا آيَاتٍ لِتَكُونَ أَدَلَّ عَلَى مُرَادِ الْآيَةِ وَلِيَحْصُلَ بِحَقِّ الْقِرَاءَةِ لَا بِحَقِّ إيجَابِ السَّجْدَةِ إذْ الْقِرَاءَةُ لِلسُّجُودِ لَيْسَتْ بِمُسْتَحَبَّةٍ فَيَقْرَأُ مَعَهَا آيَاتٍ لِيَكُونَ قَصْدُهُ إلَى التِّلَاوَةِ لَا إلَى إلْزَامِ السُّجُودِ. وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ وَعِنْدَهُ نَاسٌ فَإِنْ كَانُوا مُتَوَضِّئِينَ مُتَهَيِّئِينَ لِلسَّجْدَةِ قَرَأَهَا فَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مُتَهَيِّئِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَخْفِضَ قِرَاءَتَهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَهَرَ بِهَا لَصَارَ مُوجِبًا عَلَيْهِمْ شَيْئًا بِمَا يَتَكَاسَلُونَ عَنْ أَدَائِهِ فَيَقَعُونَ فِي الْمَعْصِيَةِ وَيُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتْلُوَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي صَلَاةٍ يُخَافَتُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «سَجَدَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ إمَّا الظُّهْرُ وَإِمَّا الْعَصْرُ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَرَأَ الم السَّجْدَةِ» وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَلَنَا) إنَّ هَذَا لَا يَنْفَكُّ عَنْ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَلَا وَلَمْ يَسْجُدْ فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ، وَإِنْ سَجَدَ فَقَدْ لَبَّسَ عَلَى الْقَوْمِ؛ لِأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ سَهَا عَنْ الرُّكُوعِ وَاشْتَغَلَ بِالسَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ فَيُسَبِّحُونَ وَلَا يُتَابِعُونَهُ وَذَا مَكْرُوهٌ، وَمَا لَا يَنْفَكُّ عَنْ مَكْرُوهٍ كَانَ مَكْرُوهًا. وَفِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ فَلَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا وَإِنْ تَلَاهَا مَعَ ذَلِكَ سَجَدَ بِهَا لِتُقَرَّ وَالسَّبَبِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ التِّلَاوَةُ وَسَجَدَ الْقَوْمُ مَعَهُ لِوُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ عَلَيْهِمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَجَدَ الْقَوْمُ مَعَهُ؟

فصل بيان مواضع السجدة في القرآن

وَلَوْ تَلَاهَا الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَجَدَهَا وَسَجَدَ مَعَهُ مَنْ سَمِعَهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ تَلَا سَجْدَةً عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ» ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّامِعَ يَتْبَعُ التَّالِيَ فِي السَّجْدَةِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَوَاضِعِ السَّجْدَةِ فِي الْقُرْآنِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَوَاضِعِ السَّجْدَةِ فِي الْقُرْآنِ فَنَقُولُ: إنَّهَا فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا مِنْ الْقُرْآنِ، أَرْبَعٌ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ، وَفِي الرَّعْدِ، وَفِي النَّحْلِ، وَفِي بَنِي إسْرَائِيلَ، وَعَشْرٌ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فِي مَرْيَمَ، وَفِي الْحَجِّ فِي الْأُولَى، وَفِي الْفُرْقَانِ، وَفِي النَّمْلِ، وَفِي الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ، وَفِي (ص) وَفِي حم السَّجْدَةِ، وَفِي النَّجْمِ، وَفِي إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، وَفِي اقْرَأْ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا: أَحَدُهَا، أَنَّ فِي سُورَةِ الْحَجِّ عِنْدَنَا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَجْدَتَانِ إحْدَاهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَوْ قَالَ: فُضِّلَتْ الْحَجُّ بِسَجْدَتَيْنِ مَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا لَمْ يَقْرَأْهَا» . وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ بِسَجْدَتَيْنِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «عَدَّ السَّجَدَاتِ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَدَّ فِي الْحَجِّ سَجْدَةً وَاحِدَةً» ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فِي الْحَجِّ هِيَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ سَجْدَةُ الصَّلَاة، وَهُوَ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ مَتَى قُرِنَتْ بِالرُّكُوعِ كَانَتْ عِبَارَةً عَنْ سَجْدَةِ الصَّلَاةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} [آل عمران: 43] ، وَالثَّانِي أَنَّ فِي سُورَةِ (ص) عِنْدَنَا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَجْدَةُ الشُّكْرِ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ لَوْ تَلَاهَا فِي الصَّلَاةِ سَجَدَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَسْجُدُهَا وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي ص وَسَجَدَهَا ثُمَّ قَالَ: سَجَدَهَا دَاوُد تَوْبَةً وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا» . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمِنْبَرِ سُورَةَ ص فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ قَرَأَهَا فَتَشَوَّفَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ وَقَالَ: لَمْ أُرِدْ أَنْ أَسْجُدَهَا فَإِنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا سَجَدْتُ؛ لِأَنِّي رَأَيْتُكُمْ تَشَوَّفْتُمْ لِلسُّجُودِ» . (وَلَنَا) حَدِيثُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ سُورَةَ (ص) وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لَمَا جَازَ إدْخَالُهَا فِي الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ أَنَّ «رَجُلًا مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُ كَمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي أَكْتُبُ سُورَةَ ص فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إلَى مَوْضِعِ السَّجْدَةِ سَجَدَتْ الدَّوَاةُ وَالْقَلَمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا مِنْ الدَّوَاةِ وَالْقَلَمِ فَأَمَرَ حَتَّى تُلِيَتْ فِي مَجْلِسِهِ وَسَجَدَهَا مَعَ أَصْحَابِهِ» . وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فَهُوَ دَلِيلُنَا فَإِنَّا نَقُولُ نَحْنُ نَسْجُدُ ذَلِكَ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى دَاوُد بِالْغُفْرَانِ وَالْوَعْدِ بِالزُّلْفَى وَحُسْنِ الْمَآبِ، وَلِهَذَا لَا يُسْجَدُ عِنْدَنَا عَقِيبَ قَوْلِهِ " وَأَنَابَ " بَلْ عَقِيبَ قَوْلِهِ " مَآبٍ "، وَهَذِهِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ فِي حَقِّنَا فَإِنَّهُ يُطْمِعُنَا فِي إقَالَةِ عَثَرَاتِنَا وَغُفْرَانِ خَطَايَانَا وَزَلَّاتِنَا فَكَانَتْ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ؛ لِأَنَّ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ مَا كَانَ سَبَبُهَا التِّلَاوَةَ، وَسَبَبُ وُجُوبِ هَذِهِ السَّجْدَةِ تِلَاوَةُ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا الْإِخْبَارُ عَنْ هَذِهِ النِّعَمِ عَلَى دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَطْمَاعُنَا فِي نَيْلِ مِثْلِهِ. وَكَذَا سَجْدَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجُمُعَةِ الْأُولَى وَتَرْكُ الْخُطْبَةِ لِأَجْلِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ، وَتَرْكُهُ فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِسَجْدَةِ تِلَاوَةٍ بَلْ كَانَ يُرِيدُ التَّأْخِيرَ. وَهِيَ عِنْدَنَا لَا تَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ فَكَانَ يُرِيدُ أَنْ لَا يَسْجُدَهَا عَلَى الْفَوْرِ، وَالثَّالِثُ أَنَّ فِي الْمُفَصَّلِ عِنْدَنَا ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ، وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا سَجْدَةَ فِي الْمُفَصَّلِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمْ يَسْجُدْ فِي الْمُفَصَّلِ بَعْدَمَا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ» . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: «أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً، ثَلَاثٌ مِنْهَا فِي الْمُفَصَّلِ» ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: عَزَائِمُ السُّجُودِ فِي الْقُرْآنِ أَرْبَعَةٌ: الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ، وحم السَّجْدَةِ، وَالنَّجْمُ، وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ إلَّا شَيْخًا وَضَعَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ عَلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ هَذَا يَكْفِينِي فَلَقِيتُهُ قُتِلَ كَافِرًا» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ» ؛ وَلِأَنَّهُ أُمِرَ بِالسُّجُودِ فِي سُورَةِ النَّجْمِ، وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -

فصل لفظ الخروج من الصلاة

مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَسْجُدُهَا عَقِيبَ التِّلَاوَةِ كَمَا كَانَ يَسْجُدُ مِنْ قَبْلُ نَحْمِلُهُ عَلَى هَذَا بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا، ثُمَّ فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ، عِنْدَنَا السَّجْدَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هَكَذَا، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ هَهُنَا فَكَانَ السُّجُودُ عِنْدَهُ. (وَلَنَا) أَنَّ السُّجُودَ مَرَّةٌ بِالْأَمْرِ، وَمَرَّةٌ بِذِكْرِ اسْتِكْبَارِ الْكُفَّارِ فَيَجِبُ عَلَيْنَا مُخَالَفَتُهُمْ، وَمَرَّةٌ عِنْدَ ذِكْرِ خُشُوعِ الْمُطِيعِينَ فَيَجِبُ عَلَيْنَا مُتَابَعَتُهُمْ وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَتِمُّ عِنْدَ قَوْلِهِ {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] فَكَانَ السُّجُودُ عِنْدَهُ أَوْلَى وَلِأَنَّ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ عِنْدَ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّ السَّجْدَةَ لَوْ وَجَبَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ {تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] فَالتَّأْخِيرُ إلَى قَوْلِهِ {لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] لَا يَضُرُّ وَيَخْرُجُ عَنْ الْوَاجِبِ. وَلَوْ وَجَبَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ {لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] لَكَانَتْ السَّجْدَةُ الْمُؤَدَّاةُ قَبْلَهُ حَاصِلَةً قَبْلَ وُجُوبِهَا وَوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا فَيُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يُؤَدِّ الثَّانِيَةَ فَيَصِيرُ الْمُصَلِّي تَارِكًا مَا هُوَ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ، فَيَصِيرُ النَّقْصُ مُتَمَكِّنًا فِي الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ وَلَا نَقْصَ فِيمَا قُلْنَا أَلْبَتَّةَ وَهَذَا هُوَ أَمَارَةُ التَّبَحُّرِ فِي الْفِقْهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ لَفْظُ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي هُوَ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ فَلَفْظُ السَّلَامِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فَرْضٌ وَالْكَلَامُ فِي التَّسْلِيمِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ صِفَتِهِ أَنَّهُ فَرْضٌ أَمْ لَا، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ، وَفِي بَيَانِ سُنَنِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ. أَمَّا صِفَتُهُ فَإِصَابَةُ لَفْظَةِ السَّلَامِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ عِنْدَنَا وَلَكِنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ أَطْلَقَ اسْمَ السُّنَّةِ عَلَيْهَا وَأَنَّهَا لَا تُنَافِي الْوُجُوبَ لِمَا عُرِفَ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فَرْضٌ حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا عَامِدًا كَانَ مُسِيئًا. وَلَوْ تَرَكَهَا سَاهِيًا يَلْزَمُهُ سُجُودٌ لِسَهْوٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُمَا لَوْ تَرَكَهَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، احْتَجَّا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ، خَصَّ التَّسْلِيمَ بِكَوْنِهِ مُحَلِّلًا فَدَلَّ أَنَّ التَّحْلِيلَ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى التَّعْيِينِ فَلَا يَتَحَلَّلُ بِدُونِهِ؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ لَهَا تَحْلِيلٌ وَتَحْرِيمٌ فَيَكُونُ التَّحْلِيلُ فِيهَا رُكْنًا قِيَاسًا عَلَى الطَّوَافِ فِي الْحَجِّ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ إذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ فَعَلْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ إنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ» وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا، أَنَّهُ جَعَلَهُ قَاضِيًا مَا عَلَيْهِ عِنْدَ هَذَا الْفِعْلِ أَوْ الْقَوْلِ وَمَا لِلْعُمُومِ فِيمَا لَا يُعْلَمُ فَيَقْضِي أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ التَّسْلِيمُ فَرْضًا لَمْ يَكُنْ قَاضِيًا جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ بِدُونِهِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ يَبْقَى عَلَيْهِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ لَفْظِ التَّسْلِيمِ وَلَوْ كَانَ فَرْضًا مَا خَيَّرَهُ؛ وَلِأَنَّ رُكْنَ الصَّلَاةِ مَا تَتَأَدَّى بِهِ الصَّلَاةُ، وَالسَّلَامُ خُرُوجٌ عَنْ الصَّلَاةِ وَتَرْكٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ وَخِطَابٌ لِغَيْرِهِ فَكَانَ مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ فَكَيْفَ يَكُونُ رُكْنًا لَهَا؟ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ التَّحْلِيلِ بِغَيْرِ التَّسْلِيمِ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ التَّسْلِيمَ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا، وَالِاعْتِبَارُ بِالطَّوَافِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ لَيْسَ بِمُحَلِّلٍ إنَّمَا الْمُحَلِّلُ هُوَ الْحَلْقُ إلَّا أَنَّهُ تَوَقَّفَ بِالْإِحْلَالِ عَلَى الطَّوَافِ فَإِذَا طَافَ حَلَّ بِالْحَلْقِ لَا بِالطَّوَافِ، وَالْحَلْقُ لَيْسَ بِرُكْنٍ فَنُزِّلَ السَّلَامُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ مَنْزِلَةَ الْحَلْقِ فِي بَابِ الْحَجِّ وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أَنَّ السَّلَامَ لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّسْلِيمَةُ الْأَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِمَا بَيَّنَّا. (وَأَمَّا) الْكَلَامُ فِي قَدْرِهِ فَهُوَ أَنَّهُ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ، إحْدَاهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْأُخْرَى عَنْ يَسَارِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً عَنْ يَمِينِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلٍ: يُسَلِّمُ الْمُقْتَدِي تَسْلِيمَتَيْنِ ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً ثَالِثَةً يَنْوِي بِهَا رَدَّ السَّلَامِ عَلَى الْإِمَامِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ» . وَرُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً عَنْ يَمِينِهِ» وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ شُرِعَ لِلتَّحْلِيلِ وَأَنَّهُ يَقَعُ بِالْوَاحِدَةِ فَلَا مَعْنًى لِلثَّانِيَةِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَانُوا يُسَلِّمُونَ تَسْلِيمَتَيْنِ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ» . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ أَوَّلُهُمَا أَرْفَعُهُمَا» ، وَلِأَنَّ إحْدَى التَّسْلِيمَتَيْنِ لِلْخُرُوجِ عَنْ الصَّلَاةِ وَالثَّانِيَةَ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْقَوْمِ فِي التَّحِيَّةِ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَالْأَخْذُ بِمَا رَوَيْنَا أَوْلَى لِأَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ كَانَا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَكَانَا يَقُومَانِ بِقُرْبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ: «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى» فَكَانَا أَعْرَفَ بِحَالِ

فصل حكم التكبير في أيام التشريق

النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تَقُومُ فِي حَيِّزِ صُفُوفِ النِّسَاءِ وَهُوَ آخِرُ الصُّفُوفِ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ كَانَ مِنْ الصِّغَارِ وَكَانَ فِي أُخْرَيَاتِ الصُّفُوفِ وَكَانَا يَسْمَعَانِ التَّسْلِيمَةَ الْأَوْلَى لِرَفْعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا صَوْتَهُ وَلَا يَسْمَعَانِ الثَّانِيَةَ لِخَفْضِهِ بِهَا صَوْتَهُ» ، وَقَوْلُهُمْ التَّحْلِيلُ يَحْصُلُ بِالْأُولَى فَكَذَلِكَ وَلَكِنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ لِلتَّحْلِيلِ بَلْ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْقَوْمِ فِي التَّسْلِيمِ عَلَيْهِمْ وَالتَّحِيَّةِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى التَّسْلِيمَةِ الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهَا التَّحْلِيلُ وَلَا التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْقَوْمِ، وَالتَّحِيَّةُ وَرَدُّ السَّلَامِ عَلَى الْإِمَامِ يَحْصُلُ بِالتَّسْلِيمَتَيْنِ، إلَيْهِ أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ حِينَ سَأَلَهُ أَبُو يُوسُفَ هَلْ يَرُدُّ عَلَى الْإِمَامِ السَّلَامَ مَنْ خَلْفَهُ فَيَقُولُ وَعَلَيْكَ؟ قَالَ: لَا. وَتَسْلِيمُهُمْ رَدٌّ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَةَ الثَّالِثَةَ لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً لَفَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَعَلَّمَهَا الْأُمَّةَ فِعْلًا كَمَا فَعَلُوا التَّسْلِيمَتَيْنِ. (وَأَمَّا) كَيْفِيَّةُ التَّسْلِيمِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٍ وَعُتْبَةَ وَغَيْرِهِمْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ هَكَذَا. (وَأَمَّا) سُنَنُ التَّسْلِيمِ فَنَذْكُرُهَا فِي بَابِ سُنَنِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ. (وَأَمَّا) حُكْمُهُ فَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ الصَّلَاةِ، ثُمَّ الْخُرُوجُ يَتَعَلَّقُ بِإِحْدَى التَّسْلِيمَتَيْنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: التَّسْلِيمَةُ الْأُولَى لِلْخُرُوجِ وَالتَّحِيَّةِ، وَالتَّسْلِيمَةُ الثَّانِيَةُ لِلتَّحِيَّةِ خَاصَّةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَخْرُجُ مَا لَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمَتَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ خِلَافُ إجْمَاعِ السَّلَفِ، وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ تَكْلِيمُ الْقَوْمِ؛ لِأَنَّهُ خِطَابٌ لَهُمْ فَكَانَ مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ يُخْرِجُهُ عَنْ الصَّلَاةِ؟ . [فَصْلٌ حُكْمُ التَّكْبِيرِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي هُوَ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا، فَالتَّكْبِيرُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ، فِي تَفْسِيرِهِ، وَفِي وُجُوبِهِ، وَفِي وَقْتِهِ، وَفِي مَحَلِّ أَدَائِهِ، وَفِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَفِي أَنَّهُ هَلْ يُقْضَى بَعْدَ الْفَوَاتِ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي دَخَلَتْ فِي حَدِّ الْقَضَاءِ؟ . (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي تَفْسِيرِ التَّكْبِيرِ، رُوِيَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ، وَإِنَّمَا أَخَذْنَا بِقَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لِأَنَّهُ الْمَشْهُورُ وَالْمُتَوَارَثُ مِنْ الْأُمَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ أَجْمَعُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ فَكَانَ أَوْلَى. [فَصْلٌ بَيَانُ وُجُوبِ تَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ] (فَصْلٌ) : (وَأَمَّا) بَيَانُ وُجُوبِهِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَقَدْ سَمَّاهُ الْكَرْخِيُّ سُنَّةً ثُمَّ فَسَّرَهُ بِالْوَاجِبِ فَقَالَ: تَكْبِيرُ التَّشْرِيقِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ نَقَلَهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَأَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، وَإِطْلَاقُ اسْمِ السُّنَّةِ عَلَى الْوَاجِبِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الطَّرِيقَةِ الْمَرْضِيَّةِ أَوْ السِّيرَةِ الْحَسَنَةِ، وَكُلُّ وَاجِبٍ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ قَوْله تَعَالَى {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] ، وَقَوْلُهُ {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] إلَى قَوْلِهِ {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] قِيلَ: الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَالْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ الْعَشْرِ، وَقِيلَ: كِلَاهُمَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَقِيلَ: الْمَعْلُومَاتُ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ بِالذِّكْرِ مُطْلَقًا، وَذَكَرَ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ الذِّكْرَ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ الذَّبَائِحُ وَأَيَّامُ الذَّبَائِحِ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ فَأَكْثِرُوا فِيهَا مِنْ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ» . [فَصْلٌ وَقْتُ تَكْبِير التَّشْرِيقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وَقْتُ التَّكْبِيرِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي ابْتِدَاءِ وَقْتِ التَّكْبِيرِ وَانْتِهَائِهِ، اتَّفَقَ شُيُوخُ الصَّحَابَةِ نَحْوُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى الْبِدَايَةِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَتْمِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُخْتَمُ عِنْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ يُكَبِّرُ ثُمَّ يُقْطَعُ وَذَلِكَ ثَمَانِ صَلَوَاتٍ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ عَلِيٌّ يَخْتِمُ عِنْدَ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَيُكَبِّرُ لِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَخْتِمُ عِنْدَ الظُّهْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَأَمَّا الشُّبَّانُ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى الْبِدَايَةِ بِالظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَخَذَ بِهِ غَيْرَ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْخَتْمِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَخْتِمُ عِنْدَ

فصل محل أداء تكبير التشريق

الظُّهْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَخْتِمُ عِنْدَ الْفَجْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. (أَمَّا) الْكَلَامُ فِي الْبِدَايَةِ فَوَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 200] أَمْرٌ بِالذِّكْرِ عَقِيبَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَقَضَاءُ الْمَنَاسِكِ إنَّمَا يَقَعُ فِي وَقْتِ الضَّحْوَةِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَاقْتَضَى وُجُوبَ التَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي تَلِيهِ وَهِيَ الظُّهْرُ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] وَهِيَ أَيَّامُ الْعَشْرِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ فِي جَمِيعِهَا وَاجِبًا إلَّا أَنَّ مَا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ خُصَّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَلَا إجْمَاعَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَالْأَضْحَى فَوَجَبَ التَّكْبِيرُ فِيهِمَا عَمَلًا بِعُمُومِ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ لِتَعْظِيمِ الْوَقْتِ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ الْمَنَاسِكُ، وَأَوَّلُهُ يَوْمُ عَرَفَةَ إذْ فِيهِ يُقَامُ مُعْظَمُ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَهُوَ الْوُقُوفُ، وَلِهَذَا قَالَ مَكْحُولٌ: يَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّهَا سَاكِتَةٌ عَنْ الذِّكْرِ قَبْلَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ فَلَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهَا. (وَأَمَّا) الْكَلَامُ فِي الْخَتْمِ فَالشَّافِعِيُّ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ الْأَخْذِ بِقَوْلِ الْأَحْدَاثِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِوُقُوفِهِمْ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ مِنْ الشَّرَائِعِ دُونَ مَا نُسِخَ خُصُوصًا فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ لِكَوْنِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةً إلَّا فِي مَوْضِعٍ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ احْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَكَانَ التَّكْبِيرُ فِيهَا وَاجِبًا؛ وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ شُرِعَ لِتَعْظِيمِ أَمْرِ الْمَنَاسِكِ، وَأَمْرُ الْمَنَاسِكِ إنَّمَا يَنْتَهِي بِالرَّمْيِ فَيَمْتَدُّ بِالتَّكْبِيرِ إلَى آخِرِ وَقْتِ الرَّمْيِ؛ وَلِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَكْثَرِ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا، وَلَأَنْ يَأْتِيَ بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَتْرُكَ مَا عَلَيْهِ بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ حَيْثُ لَمْ نَأْخُذْ هُنَاكَ بِالْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالِاحْتِيَاطِ عِنْدِ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَهُنَاكَ تَرَجَّحَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ وَالْأَخْذُ بِالرَّاجِحِ أَوْلَى، وَهَهُنَا لَا رُجْحَانَ بَلْ اسْتَوَتْ مَذَاهِبُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الثُّبُوتِ وَفِي الرِّوَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَالسُّنَّةُ فِي الْأَذْكَارِ الْمُخَافَتَةُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ الدُّعَاءِ الْخَفِيُّ» وَلِذَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى التَّضَرُّعِ وَالْأَدَبِ وَأَبْعَدُ عَنْ الرِّيَاءِ فَلَا يُتْرَكُ هَذَا الْأَصْلُ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ جَاءَ الْمُخَصِّصُ لِلتَّكْبِيرِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] وَهِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ. وَالْعَمَلُ بِالْكِتَابِ وَاجِبٌ إلَّا فِيمَا خُصَّ بِالْإِجْمَاعِ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِيمَا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ وَلَا إجْمَاعَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ النَّحْرِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي الْخُصُوصِ. وَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَا تَخْصِيصَ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ وَتَرَدُّدِ التَّكْبِيرِ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي دَلِيلِ التَّخْصِيصِ فَلَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِدَلِيلِ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] . وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي التَّرْكِ لَا فِي الْإِتْيَانِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ أَوْلَى مِنْ إتْيَانِ الْبِدْعَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ أَمْرَ الْمَنَاسِكِ إنَّمَا يَنْتَهِي بِالرَّمْيِ فَنَقُولُ رُكْنُ الْحَجِّ، الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلَانِ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ فَأَمَّا الرَّمْيُ فَمِنْ تَوَابِعِ الْحَجِّ فَيُعْتَبَرُ فِي التَّكْبِيرِ وَقْتُ الرُّكْنِ لَا وَقْتُ التَّوَابِعِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ الذِّكْرُ عَلَى الْأَضَاحِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْهَا الذِّكْرُ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] وَالتَّعَجُّلُ وَالتَّأْخِيرُ إنَّمَا يَقَعَانِ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ لَا فِي التَّكْبِيرِ. [فَصْلٌ مَحَلُّ أَدَاءِ تَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَحَلُّ أَدَائِهِ، فَدُبُرُ الصَّلَاةِ، وَإِثْرُهَا، وَفَوْرُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَخَلَّلَ مَا يَقْطَعُ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ حَتَّى لَوْ قَهْقَهَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ تَكَلَّمَ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَوْ جَاوَزَ الصُّفُوفَ فِي الصَّحْرَاءِ لَا يُكَبِّرُ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ مِنْ خَصَائِصِ الصَّلَاةِ حَيْثُ لَا يُؤْتَى بِهِ إلَّا عَقِيبَ الصَّلَاةِ فَيُرَاعَى لِإِتْيَانِهِ حُرْمَةُ الصَّلَاةِ، وَهَذِهِ الْعَوَارِضُ تَقْطَعُ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ فَيَقْطَعُ التَّكْبِيرَ. وَلَوْ صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ وَلَمْ يُجَاوِزْ الصُّفُوفَ أَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ يُكَبِّرُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ بَاقِيَةٌ لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُبْنَى؟ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا يَقْطَعُ الْبِنَاءَ يَقْطَعُ التَّكْبِيرَ وَمَا لَا فَلَا، وَإِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَإِنْ شَاءَ ذَهَبَ فَتَوَضَّأَ وَرَجَعَ فَكَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَبَّرَ مِنْ غَيْرِ تَطْهِيرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ فَلَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يُكَبِّرُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ

فصل بيان من يجب عليه تكبير التشريق

لِلطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ لَمَّا لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الطَّهَارَةِ كَانَ خُرُوجُهُ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ قَاطِعًا لِفَوْرِ الصَّلَاةِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّكْبِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَيُكَبِّرُ لِلْحَالِ جَزْمًا. وَلَوْ نَسِيَ الْإِمَامُ التَّكْبِيرَ فَلِلْقَوْمِ أَنْ يُكَبِّرُوا وَقَدْ اُبْتُلِيَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ: صَلَّيْتُ بِهِمْ الْمَغْرِبَ فَقُمْتُ وَسَهَوْتُ أَنْ كَبَّرَ فَكَبَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ وَعَلَيْهِ سَهْوٌ فَلَمْ يَسْجُدْ لِسَهْوِهِ لَيْسَ لِلْقَوْمِ أَنْ يَسْجُدُوا حَتَّى لَوْ قَامَ وَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَوْ تَكَلَّمَ سَقَطَ عَنْهُ وَعَنْهُمْ، وَالْفَرْقُ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْجُزْءِ الْفَائِتِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالْجَابِرُ يَكُونُ بِمَحَلِّ النَّقْصِ وَلِهَذَا يُؤَدِّي فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ، إمَّا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ أَوْ؛ لِأَنَّهُ عَادَ وَشَيْءٌ مِنْ الصَّلَاةِ لَا يُؤَدَّى بَعْدَ انْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ وَلَا تَحْرِيمَةَ بَعْدَ قِيَامِ الْإِمَامِ فَلَا يَتَأَتَّى بِهِ الْمُقْتَدِي فَأَمَّا التَّكْبِيرُ فَلَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَيُشْتَرَطُ لَهُ التَّحْرِيمَةُ وَيُوجِبُ الْمُتَابَعَةَ؛ لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ أَتَى بِهِ الْإِمَامُ يَتْبَعُهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ مُتَّصِلًا بِهَا فَيُنْدَبُ إلَى اتِّبَاعِ مَنْ كَانَ مَتْبُوعًا فِي الصَّلَاةِ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ الْإِمَامُ أَتَى بِهِ الْقَوْمُ لِانْعِدَامِ الْمُتَابَعَةِ بِانْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ كَالسَّامِعِ مَعَ التَّالِي أَيْ: إنْ سَجَدَ التَّالِي يَسْجُدُ مَعَهُ السَّامِعُ، وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ التَّالِي يَأْتِي بِهِ السَّامِعُ كَذَا هَهُنَا، وَلِهَذَا لَا يَتَّبِعُ الْمُقْتَدِي رَأْيَ إمَامِهِ حَتَّى إنَّ الْإِمَامَ لَوْ رَأَى رَأْيَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْمُقْتَدِي يَرَى رَأْيَ عَلِيٍّ فَصَلَّى صَلَاةً بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَمْ يُكَبِّرْ الْإِمَامُ اتِّبَاعًا لِرَأْيِهِ يُكَبِّرُ الْمُقْتَدِي اتِّبَاعًا لِرَأْيِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَابِعٍ لَهُ لِانْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ الَّتِي بِهَا صَارَ تَابِعًا لَهُ فَكَذَا هَذَا. وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ مُحْرِمًا وَقَدْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ سَجَدَ ثُمَّ كَبَّرَ ثُمَّ لَبَّى؛ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يُؤْتَى بِهِ فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِهَذَا يُسَلِّمُ بَعْدَهُ. وَلَوْ اقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ فِي سُجُودِ السَّهْوِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ فَأَمَّا التَّكْبِيرُ وَالتَّلْبِيَةُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا لَا يُسَلِّمُ بَعْدَهُ، وَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُقْتَدِي بِهِ اتِّبَاعًا لِرَأْيِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَابِعٍ لَهُ لِانْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ الَّتِي بِهَا صَارَ تَابِعًا لَهُ فَكَذَلِكَ هَذَا، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ مُحْرِمًا وَقَدْ سَهَا بِهِ فِي حَالِ التَّكْبِيرِ وَالتَّلْبِيَةِ فَيُقَدِّمُ السَّجْدَةَ ثُمَّ يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بِالتَّلْبِيَةِ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ وَإِنْ كَانَ يُؤْتَى بِهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الصَّلَاةِ فَلَا يُؤْتَى بِهِ إلَّا عَقِيبَ الصَّلَاةِ، وَالتَّلْبِيَةُ لَيْسَتْ مِنْ خَصَائِصِ الصَّلَاةِ بَلْ يُؤْتَى بِهَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ كُلَّمَا هَبَطَ وَادِيًا أَوْ عَلَا شَرَفًا أَوْ لَقِيَ رَكْبًا. وَمَا كَانَ مِنْ خَصَائِصِ الشَّيْءِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ مِنْهُ فَيُجْعَلُ التَّكْبِيرُ كَأَنَّهُ مِنْ الصَّلَاةِ وَمَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الصَّلَاةِ لَمْ يُوجَدْ اخْتِلَافُ الْحَالِ فَكَذَا مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ التَّكْبِيرِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَتَبَدَّلْ الْحَالُ فَلَا يَأْتِي بِالتَّلْبِيَةِ. وَلَوْ سَهَا وَبَدَأَ بِالتَّكْبِيرِ قَبْلَ السَّجْدَةِ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ قَطْعَ صَلَاتَهُ وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَلَوْ لَبَّى أَوَّلًا فَقَدْ انْقَطَعَتْ صَلَاتُهُ وَسَقَطَتْ عَنْهُ سَجْدَتَا السَّهْوِ وَالتَّكْبِيرِ؛ لِأَنَّ التَّلْبِيَةَ تُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهَا فِي الْوَضْعِ جَوَابٌ لِكَلَامِ النَّاسِ، وَغَيْرُهَا مِنْ كَلَامِ النَّاسِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ فَكَذَا هِيَ، وَتَسْقُطُ سَجْدَةُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ إلَّا فِي التَّحْرِيمَةِ وَلَا تَحْرِيمَةَ، وَيَسْقُطُ التَّكْبِيرُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ إلَّا مُتَّصِلًا بِالصَّلَاةِ وَقَدْ زَالَ الِاتِّصَالُ وَعَلَى هَذَا الْمَسْبُوقُ لَا يُكَبِّرُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّكْبِيرَ مَشْرُوعٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْمَسْبُوقُ بَعْدُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَلَا يَأْتِي بِهِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَكْبِيرُ التَّشْرِيقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الرِّجَالِ الْعَاقِلِينَ الْمُقِيمِينَ الْأَحْرَارِ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْمُصَلِّينَ الْمَكْتُوبَةَ بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ، فَلَا يَجِبُ عَلَى النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْمُسَافِرِينَ وَأَهْلِ الْقُرَى وَمَنْ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ وَالْفَرْضَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ يُؤَدِّي مَكْتُوبَةً فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ فِي أَيِّ مَكَان كَانَ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ فَرْضًا كَانَتْ الصَّلَاةُ أَوْ نَفْلًا؛ لِأَنَّ النَّوَافِلَ أَتْبَاعُ الْفَرَائِضِ فَمَا شُرِعَ فِي حَقِّ الْفَرَائِضِ يَكُونُ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُكَبِّرَانِ عَقِيبَ التَّطَوُّعَاتِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمَا خِلَافُ ذَلِكَ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ إلَّا فِي مَوْضِعٍ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَمَا وَرَدَ النَّصُّ إلَّا عَقِيبَ الْمَكْتُوبَاتِ وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا نَذْكُرُ، وَالنَّوَافِلُ لَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ وَكَذَا لَا يُكَبَّرُ عَقِيبَ الْوِتْرِ عِنْدَنَا. أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَلِأَنَّهُ نَفْلٌ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ لَا يُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَلِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَلَيْسَ بِمَكْتُوبٍ وَالْجَهْرُ

فصل بيان حكم التكبير أيام التشريق

بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ إلَّا فِي مَوْرِدِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَلَا نَصَّ وَلَا إجْمَاعَ إلَّا فِي الْمَكْتُوبَاتِ. وَكَذَا لَا يُكَبَّرُ عَقِيبَ صَلَاةِ الْعِيدِ عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا وَيُكَبَّرُ عَقِيبَ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهَا فَرِيضَةٌ كَالظُّهْرِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ أَصْحَابِنَا فَهُمَا احْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] ، وَقَوْلِهِ {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدِ مَكَان أَوْ جِنْسٍ أَوْ حَالٍ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الصَّلَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَا يُوجِبُ قَطْعَ الصَّلَاةِ مِنْ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِ يُوجِبُ قَطْعَ التَّكْبِيرِ فَكُلُّ مَنْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ يَنْبَغِي أَنْ يُكَبِّرَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» وَقَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ. وَالْمُرَادُ مِنْ التَّشْرِيقِ هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ هَكَذَا قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وَكَانَ مِنْ أَرْبَابِ اللُّغَةِ فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ، وَلِأَنَّ التَّصْدِيقَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْإِظْهَارُ، وَالشُّرُوقَ هُوَ الظُّهُورُ يُقَالُ: شَرَقَتْ الشَّمْسُ إذَا طَلَعَتْ وَظَهَرَتْ سُمِّيَ مَوْضِعُ طُلُوعِهَا وَظُهُورِهَا مَشْرِقًا لِهَذَا، وَالتَّكْبِيرُ نَفْسُهُ إظْهَارٌ لِكِبْرِيَاءِ اللَّهِ وَهُوَ إظْهَارُ مَا هُوَ مِنْ شِعَارِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ تَشْرِيقًا، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ بِقَوْلِهِ: وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا عَلَى إلْقَاءِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بِالْمَشْرِقَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان فَتَعَيَّنَ التَّكْبِيرُ مُرَادًا بِالتَّشْرِيقِ وَلِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَإِعْلَامُ الدِّينِ وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ لَا يُشْرَعُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَشْتَهِرُ فِيهِ وَيَشِيعُ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا فِي الْمِصْرِ الْجَامِعِ وَلِهَذَا يَخْتَصُّ بِهِ الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ لَا يَأْتِيَ بِهِ الْمُنْفَرِدُ وَالنِّسْوَانُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِاشْتِهَارِ يَخْتَصُّ بِالْجَمَاعَةِ دُونَ الْأَفْرَادِ وَلِهَذَا لَا يُصَلِّي الْمُنْفَرِدُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ، وَأَمْرُ النِّسْوَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى السَّتْرِ دُونَ الْإِشْهَارِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيهَا. وَأَمَّا الْأُولَى فَنَحْمِلُهَا عَلَى خُصُوصِ الْمَكَانِ وَالْجِنْسِ وَالْحَالِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَمَا ذَكَرُوا مِنْ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ مُسَلَّمٌ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ الْمِصْرِ وَالْجَمَاعَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الشَّرَائِطِ، فَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِهَا فَلَا نُسَلِّمُ التَّبِيعَةَ. وَلَوْ اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّكْبِيرُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ تَابِعًا لِإِمَامِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا فَيُكَبِّرُ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ، وَكَذَا النِّسَاءُ إذَا اقْتَدَيْنَ بِرَجُلٍ وَجَبَ عَلَيْهِنَّ عَلَى سَبِيلِ الْمُتَابَعَةِ فَإِنْ صَلَّيْنَ بِجَمَاعَةٍ وَحْدَهُنَّ فَلَا تَكْبِيرَ عَلَيْهِنَّ لِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا الْمُسَافِرُونَ إذَا صَلَّوْا فِي الْمِصْرِ بِجَمَاعَةٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَيْهِمْ التَّكْبِيرَ وَالْأَصَحُّ أَنْ لَا تَكْبِيرَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ مُغَيِّرٌ لِلْفَرْضِ مُسْقِطٌ لِلتَّكْبِيرِ ثُمَّ فِي تَغَيُّرِ الْفَرْضِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُصَلُّوا فِي الْمِصْرِ أَوْ خَارِجَ الْمِصْرِ فَكَذَا فِي سُقُوطِ التَّكْبِيرِ، وَلِأَنَّ الْمِصْرَ الْجَامِعَ شَرْطٌ وَالْمُسَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ فَالْتَحَقَ الْمِصْرُ فِي حَقِّهِ بِالْعَدَمِ. [فَصْلٌ بَيَانُ حُكْمِ التَّكْبِيرِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ التَّكْبِيرِ فِيمَا دَخَلَ مِنْ الصَّلَوَاتِ فِي حَدِّ الْقَضَاءِ فَنَقُولُ: لَا يَخْلُو إمَّا إنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، أَوْ فَاتَتْهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَقَضَاهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، أَوْ فَاتَتْهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَقَضَاهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فَإِنْ فَاتَتْهُ فِي غَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا يُكَبِّرُ عَقِيبَهَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى حَسْبِ الْأَدَاءِ وَقَدْ فَاتَتْهُ بِلَا تَكْبِيرٍ فَيَقْضِيهَا كَذَلِكَ، وَإِنْ فَاتَتْهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَقَضَاهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ لَا يُكَبِّرُ عَقِيبِهَا أَيْضًا وَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ وَقَدْ فَاتَتْهُ مَعَ التَّكْبِيرِ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ فِي الْأَصْلِ إلَّا حَيْثُ وَرَدَ الشَّرْعُ وَالشَّرْعُ مَا وَرَدَ بِهِ فِي وَقْتِ الْقَضَاءِ فَبَقِيَ بِدْعَةً. فَإِنْ فَاتَتْهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَقَضَاهَا فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لَا يُكَبِّرُ أَيْضًا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ إلَّا فِي مَوْرِدِ الشَّرْعِ وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِجَعْلِ هَذَا الْوَقْتِ وَقْتًا لِرَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ عَقِيبَ صَلَاةٍ هِيَ مِنْ صَلَوَاتِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِجَعْلِهِ وَقْتًا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَبَقِيَ بِدْعَةً كَأُضْحِيَّةٍ فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّقَرُّبُ بِإِرَاقَةِ دَمِهَا فِي الْعَامِ الْقَابِلِ وَإِنْ عَادَ الْوَقْتُ، وَكَذَا رَمْيُ الْجِمَارِ لِمَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هَذَا وَإِنْ فَاتَتْهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَقَضَاهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ يُكَبِّرُ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ سُنَّةُ الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ وَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْقَضَاءِ لِكَوْنِ الْوَقْتِ وَقْتًا لِتَكْبِيرَاتِ الصَّلَوَاتِ الْمَشْرُوعَاتِ فِيهَا. [فَصْلٌ فِي سُنَنِ حُكْمِ التَّكْبِيرِ أَيَّام التَّشْرِيق] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سُنَنُهَا فَكَثِيرَةٌ، بَعْضُهَا صَلَاةٌ بِنَفْسِهِ، وَبَعْضُهَا مِنْ لَوَاحِقِ الصَّلَاةِ. أَمَّا الَّذِي هُوَ الصَّلَاةُ بِنَفْسِهِ فَالسُّنَنُ

الْمَعْهُودَةُ الَّتِي يُؤَدِّي بَعْضُهَا قَبْلَ الْمَكْتُوبَةِ وَبَعْضُهَا بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ وَلَهَا فَصْلٌ مُنْفَرِدٌ نَذْكُرُهَا فِيهِ بِعَلَائِقِهَا. وَأَمَّا الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَاحِقِ الصَّلَاةِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَنَوْعٌ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَنَوْعُ يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ. أَمَّا الَّذِي يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَسُنَنُ الِافْتِتَاحِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ، مِنْهَا أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلتَّكْبِيرِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ لِإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقِرَانُ النِّيَّةِ أَقْرَبُ إلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الْإِخْلَاصِ فَكَانَ أَفْضَلَ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ مَا نَوَاهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ نَصًّا وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إلَيْهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ فَقَالَ: وَإِذَا أَرَدْت أَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقُلْ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي، فَكَذَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ صَلَاةَ كَذَا فَيَسِّرْهَا لِي وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي؛ لِأَنَّ هَذَا سُؤَالُ التَّوْفِيقِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِلْأَدَاءِ وَالْقَبُولِ بَعْدَهُ فَيَكُونُ مَسْنُونًا. (وَمِنْهَا) حَذْفُ التَّكْبِيرِ لِمَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْأَذَانُ جَزْمٌ، وَالْإِقَامَةُ جَزْمٌ، وَالتَّكْبِيرُ جَزْمٌ» وَلِأَنَّ إدْخَالَ الْمَدِّ فِي ابْتِدَاءِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَالِاسْتِفْهَامُ يَكُونُ لِلشَّكِّ وَالشَّكُّ فِي كِبْرِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كُفْرٌ، وَقَوْلُهُ أَكْبَرُ لَا مَدَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلُ، وَأَفْعَلُ لَا يَحْتَمِلُ الْمَدَّ لُغَةً، وَمِنْهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي أَصْلِ الرَّفْعِ، وَفِي وَقْتِهِ، وَفِي كَيْفِيَّتِهِ، وَفِي مَحَلِّهِ. أَمَّا أَصْلُ الرَّفْعِ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَوْقُوفًا عَلَيْهِمَا وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ، وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ فِي عَشْرَةِ رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُمْ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالُوا: هَاتِ، فَقَالَ: رَأَيْته إذَا كَبَّرَ عِنْدَ فَاتِحَةِ الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَعَلَى هَذَا إجْمَاعُ السَّلَفِ. وَأَمَّا وَقْتُهُ فَوَقْتُ التَّكْبِيرِ مُقَارِنًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ. التَّكْبِيرُ شُرِعَ لِإِعْلَامِ الْأَصَمِّ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ إلَّا بِالْقِرَانِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهُ فَلَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ نَاشِرًا أَصَابِعَهُ مُسْتَقْبِلًا بِهِمَا الْقِبْلَةَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَرَادَ بِالنَّشْرِ تَفْرِيجَ الْأَصَابِعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَهُمَا مَفْتُوحَتَيْنِ لَا مَضْمُومَتَيْنِ حِينَ تَكُونُ الْأَصَابِعُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ لَا يُفَرِّجُ كُلَّ التَّفْرِيجِ وَلَا يَضُمُّ كُلَّ الضَّمِّ بَلْ يَتْرُكُهُمَا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْأَصَابِعُ فِي الْعَادَةِ بَيْنَ الضَّمِّ وَالتَّفْرِيجِ. وَأَمَّا مَحَلُّهُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ وَفَسَّرَهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي الْمُجَرَّدِ فَقَالَ: قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ يَرْفَعُ حَتَّى يُحَاذِي بِإِبْهَامَيْهِ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَيْدِي عِنْدَ التَّكْبِيرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَرْفَعُ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: حِذَاءَ رَأْسِهِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ «إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ» . (وَلَنَا) مَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ» وَلِأَنَّ هَذَا الرَّفْعَ شُرِعَ لِإِعْلَامِ الْأَصَمِّ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ وَلِهَذَا لَمْ يُرْفَعْ فِي تَكْبِيرَةٍ هِيَ عِلْمٌ لِلِانْتِقَالِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْأَصَمَّ يَرَى الِانْتِقَالَ فَلَا حَاجَةَ إلَى رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ إنَّمَا يَحْصُلُ إذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى أُذُنَيْهِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالتَّوْفِيقُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَخْبَارِ وَاجِبٌ فَمَا رُوِيَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْعُذْرِ حِينَ كَانَتْ عَلَيْهِمْ الْأَكْسِيَةُ وَالْبَرَانِسُ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ فَكَانَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ الرَّفْعُ إلَى الْأُذُنَيْنِ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ أَنَّهُ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَوَجَدْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَى الْآذَانِ ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْقَابِلِ وَعَلَيْهِمْ الْأَكْسِيَةُ وَالْبَرَانِسُ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ فَوَجَدْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَى الْمَنَاكِبِ، أَوْ نَقُولُ: الْمُرَادُ بِمَا رَوَيْنَا رُءُوسُ الْأَصَابِعِ، وَبِمَا رُوِيَ الْأَكُفُّ وَالْأَرْسَاغُ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَهَذَا حُكْمُ الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَمْ يُذْكَرْ حُكْمُهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تَرْفَعُ يَدَيْهَا حِذَاءَ أُذُنَيْهَا كَالرَّجُلِ سَوَاءً؛ لِأَنَّ كَفَّيْهَا لَيْسَا بِعَوْرَةٍ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تَرْفَعُ يَدَيْهَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا وَبِنَاءُ أَمْرِهِنَّ عَلَى السَّتْرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَعْتَدِلُ فِي سُجُودِهِ وَيَبْسُطُ ظَهْرَهُ فِي رُكُوعِهِ وَالْمَرْأَةُ تَفْعَلُ كَأَسْتَرَ مَا يَكُونُ لَهَا؟ . أَنَّ الْإِمَامَ يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ وَيُخْفِي بِهِ الْمُنْفَرِدُ وَالْمُقْتَدِي؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَذْكَارِ هُوَ الْإِخْفَاءُ وَإِنَّمَا الْجَهْرُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ

لِحَاجَتِهِ إلَى الْإِعْلَامِ فَإِنَّ الْأَعْمَى لَا يَعْلَمُ بِالشُّرُوعِ إلَّا بِسَمَاعِ التَّكْبِيرِ مِنْ الْإِمَامِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ وَالْمُقْتَدِي وَمِنْهَا أَنْ يُكَبِّرَ الْمُقْتَدِي مُقَارِنًا لِتَكْبِيرِ الْإِمَامِ فَهُوَ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي التَّسْلِيمِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ يُسَلِّمُ مُقَارِنًا لِتَسْلِيمِ الْإِمَامِ كَالتَّكْبِيرِ وَفِي رِوَايَةٍ يُسَلِّمُ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: السُّنَّةُ أَنْ يُكَبِّرَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّكْبِيرِ وَإِنْ كَبَّرَ مُقَارِنًا لِتَكْبِيرِهِ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ يَجُوزُ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَجُوزُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ وَيَكُونُ مُسِيئًا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ تَبَعٌ لِلْإِمَامِ وَمَعْنَى التَّبَعِيَّةِ لَا تَتَحَقَّقُ فِي الْقِرَانِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ مُشَارَكَةٌ وَحَقِيقَةُ الْمُشَارَكَةِ الْمُقَارَنَةُ إذْ بِهَا تَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْعِبَاد، وَبِهَذَا فَارَقَ التَّسْلِيمَ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَلَّمَ بَعْدَهُ فَقَدْ وُجِدَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهَا بِسَلَامِ الْإِمَامِ. أَنَّ الْمُؤَذِّنَ إذَا قَالَ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ كَبَّرَ الْإِمَامُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُكَبِّرُ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ إذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مَعَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ يُسْتَحَبُّ لِلْقَوْمِ أَنْ يَقُومُوا فِي الصَّفِّ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ يَقُومُونَ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَيُكَبِّرُونَ عِنْدَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْمُنْبِئَ عَنْ الْقِيَامِ قَوْلُهُ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ لَا قَوْلُهُ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. وَلَنَا أَنَّ قَوْلَهُ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ دُعَاءٌ إلَى مَا بِهِ فَلَاحُهُمْ وَأَمْرٌ بِالْمُسَارَعَةِ إلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِجَابَةِ إلَى ذَلِكَ وَلَنْ تَحْصُلَ الْإِجَابَةُ إلَّا بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْقِيَامُ إلَيْهَا، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومُوا عِنْدَ قَوْلِهِ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا غَيْرَ أَنَّا نَمْنَعُهُمْ عَنْ الْقِيَامِ كَيْ لَا يَلْغُوَ قَوْلُهُ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ؛ لِأَنَّ مَنْ وُجِدَتْ مِنْهُ الْمُبَادَرَةُ إلَى شَيْءٍ فَدُعَاؤُهُ إلَيْهِ بَعْدَ تَحْصِيلِهِ إيَّاهُ يَلْغُو مِنْ الْكَلَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْمُنْبِئَ عَنْ الْقِيَامِ قَوْلُهُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ فَنَقُولُ: قَوْلُهُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ يُنْبِئُ عَنْ قِيَامِ الصَّلَاةِ لَا عَنْ الْقِيَامِ إلَيْهَا، وَقِيَامُهَا وُجُودُهَا وَذَلِكَ بِالتَّحْرِيمَةِ لِيَتَّصِلَ بِهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا تَصْدِيقًا لَهُ عَلَى مَا نَذْكُرُ، ثُمَّ إذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ إذَا قَالَ: الْمُؤَذِّنُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ كَبَّرُوا عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ فِي إجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ فَضِيلَةً، وَفِي إدْرَاكِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فَضِيلَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرَاغِ إحْرَازًا لِلْفَضِيلَتَيْنِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَا تَكُونُ جَمِيعُ صَلَاتِهِمْ بِالْإِقَامَةِ وَفِيمَا قَالُوا بِخِلَافِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ مَا رُوِيَ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ إذَا انْتَهَى الْمُؤَذِّنُ إلَى قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ كَبَّرَ. وَرُوِيَ عَنْ بِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كُنْتَ تَسْبِقُنِي بِالتَّكْبِيرِ فَلَا تَسْبِقْنِي بِالتَّأْمِينِ» وَلَوْ كَبَّرَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْإِقَامَةِ لَمَا سَبَقَهُ بِالتَّكْبِيرِ فَضْلًا عَنْ التَّأْمِينِ فَلَمْ يَكُنْ لِلسُّؤَالِ مَعْنًى؛ وَلِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ مُؤْتَمَنُ الشَّرْعِ فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَاهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قِيَامَ الصَّلَاةِ وُجُودُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِ التَّحْرِيمَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لِيُوجَدَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا فَيَصِيرُ الْمُخْبِرُ عَنْ قِيَامِهَا صَادِقًا فِي مَقَالَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ عَنْ الْمُتَرَكِّبِ مِنْ أَجْزَاءٍ لَا بَقَاءَ لَهَا لَنْ يَكُونَ إلَّا عَنْ وُجُودِ جُزْءٍ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ الْجُزْءُ وَحْدَهُ مِمَّا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُتَرَكِّبِ كَمَنْ يَقُولُ: فُلَانٌ يُصَلِّي فِي الْحَالِ يَكُونُ صَادِقًا، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ فِي حَالَةِ الْإِخْبَارِ إلَّا جُزْءٌ مِنْهَا؛ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ أَجْزَائِهَا فِي الْوُجُودِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرُوا مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ بِمُقَابَلَةِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ نَقُولُ فِي تَصْدِيقِ الْمُؤَذِّنِ فَضِيلَةٌ كَمَا أَنَّ إجَابَتَهُ فَضْلَةٌ بَلْ فَضِيلَةُ التَّصْدِيقِ فَوْقَ فَضِيلَةِ الْإِجَابَةِ مَعَ أَنَّ فِيمَا قَالُوهُ فَوَاتَ فَضِيلَةِ الْإِجَابَةِ أَصْلًا إذْ لَا جَوَابَ لِقَوْلِهِ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ مِنْ حَيْثُ الْقَوْلُ، وَلَيْسَ فِيمَا قُلْنَا تَفْوِيتُ فَضِيلَةِ الْإِجَابَةِ أَصْلًا بَلْ حَصَلَتْ الْإِجَابَةُ بِالْفِعْلِ وَهُوَ إقَامَةُ الصَّلَاةِ فَكَانَ مَا قُلْنَا سَبَبًا لِاسْتِدْرَاكِ الْفَضِيلَتَيْنِ فَكَانَ أَحَقَّ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنْ لَا بَأْسَ بِأَدَاءِ بَعْضِ الصَّلَاةِ بَعْدَ أَكْثَرِ الْإِقَامَةِ، وَأَدَاءِ أَكْثَرِهَا بَعْدَ جَمِيعِ الْإِقَامَةِ إذَا كَانَ سَبَبًا لِاسْتِدْرَاكِ الْفَضِيلَتَيْنِ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا اخْتَارُوا فِي الْفِعْلِ مَذْهَبَ أَبِي يُوسُفَ لِتَعَذُّرِ إحْضَارِ النِّيَّةِ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ رَفْعِ الْمُؤَذِّنِ صَوْتَهُ بِالْإِقَامَةِ، هَذَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَا يَقُومُونَ مَا لَمْ يَحْضُرْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَقُومُوا فِي الصَّفِّ حَتَّى تَرَوْنِي خَرَجْتُ» . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى النَّاسَ قِيَامًا يَنْتَظِرُونَهُ فَقَالَ مَا لِي أَرَاكُمْ سَامِدِينَ أَيْ: وَاقِفِينَ مُتَحَيِّرِينَ وَلِأَنَّ الْقِيَامَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ وَلَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهَا بِدُونِ الْإِمَامِ فَلَمْ يَكُنْ الْقِيَامُ مُفِيدًا، ثُمَّ إنْ دَخَلَ الْإِمَامُ مِنْ قُدَّامِ الصُّفُوفِ

فَكَمَا رَأَوْهُ قَامُوا؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَامَ مَقَامَ الْإِمَامَةِ وَإِنْ دَخَلَ مِنْ وَرَاءِ الصُّفُوفِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كُلَّمَا جَاوَزَ صَفًّا قَامَ ذَلِكَ الصَّفُّ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ لَوْ اقْتَدَوْا بِهِ جَازَ فَصَارَ فِي حَقِّهِمْ كَأَنَّهُ أَخَذَهُ مَكَانَهُ. وَأَمَّا الَّذِي يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الِافْتِتَاحِ فَنَقُولُ: إذَا فَرَغَ مِنْ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ يَضَعُ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ، أَحَدُهَا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، وَالثَّانِي فِي وَقْتِ الْوَضْعِ، وَالثَّالِثِ فِي مَحَلِّ الْوَضْعِ، وَالرَّابِعِ فِي كَيْفِيَّةِ الْوَضْعِ. أَمَّا الْأَوَّلُ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ السُّنَّةَ هِيَ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ، وَقَالَ مَالِكٌ: السُّنَّةُ هِيَ الْإِرْسَالُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِرْسَالَ أَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ، وَالْوَضْعُ لِلِاسْتِرَاحَةِ دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ: إنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مَخَافَةَ اجْتِمَاعِ الدَّمِ فِي رُءُوسِ الْأَصَابِعِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُطِيلُونَ الصَّلَاةِ وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ، تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ، وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ، وَأَخْذُ الشِّمَالِ بِالْيَمِينِ فِي الصَّلَاةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَأَمَّا وَقْتُ الْوَضْعِ فَكُلَّمَا فَرَغَ مِنْ التَّكْبِيرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يُرْسِلُهُمَا حَالَةَ الثَّنَاءِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ يَضَعُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَضْعَ سُنَّةُ الْقِيَامِ الَّذِي لَهُ قَرَارٌ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ سُنَّةُ الْقِرَاءَةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَنُّ الْوَضْعُ فِي الْقِيَامِ الْمُتَخَلِّلِ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا قَرَارَ لَهُ وَلَا قِرَاءَةَ فِيهِ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْمَانَنَا عَلَى شَمَائِلِنَا فِي الصَّلَاةِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّ الْقِيَامَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَالصَّلَاةُ خِدْمَةُ الرَّبِّ تَعَالَى وَتَعْظِيمٌ لَهُ وَالْوَضْعُ فِي التَّعْظِيمِ أَبْلَغُ مِنْ الْإِرْسَالِ كَمَا فِي الشَّاهِدِ فَكَانَ أَوْلَى. وَأَمَّا الْقِيَامُ الْمُتَخَلِّلُ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ فَقَالَ: بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْوَضْعُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ لَهُ ضَرْبَ قَرَارٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِرْسَالُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَضَعُ يَحْتَاجُ إلَى الرَّفْعِ فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا. وَأَمَّا فِي حَالِ الْقُنُوتِ فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْنُتَ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ نَاشِرًا أَصَابِعَهُ ثُمَّ يَكُفُّهُمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ: مَعْنَاهُ يَضَعُ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَضَعُهُمَا كَمَا يَضَعُ يَمِينَهُ عَلَى يَسَارِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يُرْسِلُهُمَا فِي حَالَةِ الْقُنُوتِ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْإِرْسَالِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَضَعُ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا بَلْ يَضَعُ وَمَعْنَى الْإِرْسَالِ أَنْ لَا يَبْسُطَهُمَا، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَبْسُطُ يَدَيْهِ بَسْطًا فِي حَالَةِ الْقُنُوتِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ هَذَا قِيَامٌ فِي الصَّلَاةِ لَهُ قَرَارٌ فَكَانَ الْوَضْعُ فِيهِ أَقْرَبَ إلَى التَّعْظِيمِ فَكَانَ أَوْلَى. وَأَمَّا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَالصَّحِيحُ أَيْضًا أَنْ يَضَعَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ وَوَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ تَحْتَ السُّرَّةِ» وَلِأَنَّ الْوَضْعَ أَقْرَبُ إلَى التَّعْظِيمِ فِي قِيَامٍ لَهُ قَرَارٌ فَكَانَ الْوَضْعُ أَوْلَى. وَأَمَّا مَحَلُّ الْوَضْعِ فَمَا تَحْتَ السُّرَّةِ فِي حَقِّ الرِّجْلِ وَالصَّدْرُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَحَلُّهُ الصَّدْرُ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] قَوْلُهُ وَانْحَرْ أَيْ ضَعْ الْيَمِينَ عَلَى الشِّمَالِ فِي النَّحْرِ وَهُوَ الصَّدْرُ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ جُمْلَتِهَا وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ فِي الصَّلَاةِ» . وَأَمَّا الْآيَةُ فَمَعْنَاهُ أَيْ صَلِّ صَلَاةَ الْعِيدِ وَانْحَرْ الْجَزُورَ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ التَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْعَطْفِ فِي الْأَصْلِ وَوَضْعُ الْيَدِ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَأَبْعَاضِهَا وَلَا مُغَايَرَةَ بَيْنَ الْبَعْضِ وَبَيْنَ الْكُلِّ، أَوْ يُحْتَمَلُ مَا قُلْنَا فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَال عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: السُّنَّةُ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ فَلَمْ يَكُنْ تَفْسِيرُ الْآيَةِ عَنْهُ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْوَضْعِ فَلَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَاخْتُلِفَ فِيهَا قَالَ: بَعْضُهُمْ يَضَعُ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَضَعُ عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَضَعُ عَلَى الْمِفْصَلِ. وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ اخْتِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَقَالَ: عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَقْبِضُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى رُسْغِ يَدِهِ الْيُسْرَى، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضَعُ كَذَلِكَ، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ قَالَ: قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَحَبُّ إلَيَّ؛ لِأَنَّ فِي الْقَبْضِ وَضْعًا وَزِيَادَةً وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَيَأْخُذُ الْمُصَلِّي رُسْغَ يَدِهِ الْيُسْرَى بِوَسَطِ كَفِّهِ الْيُمْنَى وَيُحَلِّقُ إبْهَامَهُ وَخِنْصَرَهُ وَبِنْصَرَهُ وَيَضَعُ الْوُسْطَى وَالْمُسَبِّحَةَ عَلَى

مِعْصَمِهِ لِيَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَ الْأَخْذِ وَالْوَضْعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ اخْتَلَفَتْ، ذُكِرَ فِي بَعْضِهَا الْوَضْعُ وَفِي بَعْضِهَا الْأَخْذُ فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ أَجْمَعَ فَكَانَ أَوْلَى، ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ، سَوَاءٌ كَانَ إمَامًا أَوْ مُقْتَدِيًا أَوْ مُنْفَرِدًا هَكَذَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَزَادَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْمَشَاهِيرِ وَلَا يَقْرَأُ: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 79] لَا قَبْلَ التَّكْبِيرِ وَلَا بَعْدَهُ وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: يَقُولُ مَعَ التَّسْبِيحِ {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] {لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163] وَلَا يَقُولُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَهَلْ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْكَذِبَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، فِي رِوَايَةٍ يُقَدِّمُ التَّسْبِيحَ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَدَّمَ وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَفِي قَوْلٍ يَفْتَتِحُ بِقَوْلِهِ: وَجَّهْتُ وَجْهِي لَا بِالتَّسْبِيحِ وَاحْتَجَّا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِي إلَخْ، وَقَالَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ إلَى آخِرِهِ، وَالشَّافِعِيُّ زَادَ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَوْلُهُ «اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَك بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ إنَّهُ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا إنَّهُ لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ، أَنَا بِكَ وَلَكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ» وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] ذَكَرَ الْجَصَّاصُ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَوْلُ الْمُصَلِّي عِنْدَ الِافْتِتَاحِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ. وَرَوَى هَذَا الذِّكْرَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ بِالْآحَادِ، ثُمَّ تَأْوِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعَاتِ، وَالْأَمْرُ فِيهَا أَوْسَعُ فَأَمَّا فِي الْفَرَائِضِ فَلَا يُزَادُ عَلَى مَا اشْتَهَرَ فِيهِ الْأَثَرُ أَوْ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُسِخَ بِالْآيَةِ أَوْ تَأَيَّدَ مَا رَوَيْنَا بِمُعَاضَدَةِ الْآيَةِ، ثُمَّ لَمْ يُرْوَ عَنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ يَأْتِي بِهِ قَبْلَ التَّكْبِيرِ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ قَبْلَ التَّكْبِيرِ لِإِحْضَارِ النِّيَّةِ وَلِهَذَا لَقَّنُوهُ الْعَوَامَّ. ثُمَّ يَتَعَوَّذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فِي نَفْسِهِ إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ إمَامًا، وَالْكَلَامُ فِي التَّعَوُّذِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُسَنُّ فِي حَقِّهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالتَّعَوُّذُ سُنَّةٌ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ مَالِكٍ لَيْسَ بِسُنَّةٍ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ «أَبَا الدَّرْدَاءِ قَامَ لِيُصَلِّيَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَمِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ» ، وَكَذَا النَّاقِلُونَ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقَلُوا تَعَوُّذَهُ بَعْدَ الثَّنَاءِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ. وَأَمَّا وَقْتُ التَّعَوُّذِ فَمَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ التَّسْبِيحِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ: وَقْتُهُ مَا بَعْدَ الْقِرَاءَةِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} [النحل: 98] الْآيَةَ، أَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَلَنَا أَنَّ الَّذِينَ نَقَلُوا صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقَلُوا تَعَوُّذَهُ بَعْدَ الثَّنَاءِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَلِأَنَّ التَّعَوُّذَ شُرِعَ صِيَانَةً لِلْقِرَاءَةِ عَنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ، وَمَعْنَى الصِّيَانَةِ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ لَا بَعْدَهَا وَالْإِرَادَةُ مُضْمَرَةٌ فِي الْآيَةِ مَعْنَاهُ فَإِذَا أَرَدْت قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ كَذَا قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] أَيْ إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَيْهَا. وَأَمَّا مَنْ يُسَنُّ فِي حَقِّهِ التَّعَوُّذُ فَهُوَ الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ دُونَ الْمُقْتَدِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ سُنَّةٌ فِي حَقِّهِ أَيْضًا ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَحَاصِلُ الْخِلَافِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ التَّعَوُّذَ تَبَعٌ لِلثَّنَاءِ أَوْ تَبَعٌ لِلْقِرَاءَةِ فَعَلَى قَوْلِهِمَا تَبَعٌ لِلْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِافْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ فَكَانَ كَالشَّرْطِ لَهَا، وَشَرْطُ الشَّيْءِ تَبَعٌ لَهُ وَعَلَى قَوْلِهِ تَبَعٌ لِلثَّنَاءِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ بَعْدَ الثَّنَاءِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِهِ وَتَبَعُ الشَّيْءِ كَاسْمِهِ مَا يَتْبَعُهُ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ، إحْدَاهَا أَنَّهُ لَا تَعَوُّذَ عَلَى الْمُقْتَدِي عِنْدَهُمَا

لِأَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَهُ يَتَعَوَّذُ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالثَّنَاءِ فَيَأْتِي بِمَا هُوَ تَبَعٌ لَهُ، وَالثَّانِيَةِ الْمَسْبُوقُ إذَا شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ وَسَبَّحَ لَا يَتَعَوَّذُ فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا يَتَعَوَّذُ إذَا قَامَ إلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ الْقِرَاءَةِ وَعِنْدَهُ يَتَعَوَّذُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ التَّسْبِيحِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ، وَالثَّالِثَةِ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ يَأْتِي بِالتَّعَوُّذِ بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ يَرَى رَأْيَ ابْنِ عَبَّاسِ أَوْ رَأْيَ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ الْقِرَاءَةِ، وَعِنْدَهُ يَأْتِي بِهِ بَعْدَ التَّسْبِيحِ قَبْلَ التَّكْبِيرَاتِ لِكَوْنِهِ تَبَعًا لَهُ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّعَوُّذِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ أَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ أَوْ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ لِأَنَّ أَوْلَى الْأَلْفَاظِ مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ وَقَدْ وَرَدَ هَذَانِ اللَّفْظَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ بَابِ الثَّنَاءِ وَمَا بَعْدَ التَّعَوُّذِ مَحَلُّ الْقِرَاءَةِ لَا مَحَلُّ الثَّنَاءِ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجْهَرَ بِالتَّعَوُّذِ؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّعَوُّذِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: أَرْبَعٌ يُخْفِيهِنَّ الْإِمَامُ وَذَكَرَ مِنْهَا التَّعَوُّذَ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَذْكَارِ هُوَ الْإِخْفَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] فَلَا يُتْرَكُ إلَّا لِضَرُورَةٍ ثُمَّ يُخْفِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجْهَرُ بِهِ. وَالْكَلَامُ فِي التَّسْمِيَةِ فِي مَوَاضِعَ، أَحَدِهَا أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ أَمْ لَا، وَالثَّانِي أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ أَمْ لَا، وَالثَّالِثِ أَنَّهَا مِنْ رَأْسِ السُّورَةِ أَمْ لَا، وَيَنْبَنِي عَلَى كُلِّ فَصْلٍ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ مَكْتُوبًا بِقَلَمِ الْوَحْيِ فَهُوَ مِنْ الْقُرْآنِ وَالتَّسْمِيَةُ كَذَلِكَ، وَكَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: قُلْتُ لِمُحَمَّدٍ: التَّسْمِيَةُ آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كُلُّهُ قُرْآنٌ، فَقُلْتُ: فَمَا بَالُكَ لَا تَجْهَرُ بِهَا فَلَمْ يُجِبْنِي. وَكَذَا رَوَى الْجَصَّاصُ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: التَّسْمِيَةُ آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ أُنْزِلَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّورَةِ لِلْبُدَاءَةِ بِهَا تَبَرُّكًا وَلَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ قَالَ: ثُمَّ يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ وَيُخْفِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ يَتَأَدَّى بِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا قَرَأَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِرَاءَةِ دُونَ الثَّنَاءِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا؛ لِأَنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مَنْ تَرَكَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ تَرَكَ مِائَةً وَثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتَأَدَّى؛ لِأَنَّ فِي كَوْنِهَا آيَةً تَامَّةً احْتِمَالٌ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلَّا فِي سُورَةِ النَّمْلِ، وَإِنَّهَا فِي النَّمْلِ وَحْدَهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ تَامَّةٍ وَإِنَّمَا الْآيَةُ قَوْلُهُ {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي كَوْنِهَا آيَةً تَامَّةً فَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِالشَّكِّ وَكَذَا يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قِرَاءَتُهَا عَلَى قَصْدِ الْقُرْآنِ. أَمَّا عَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الْآيَةِ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ، وَكَذَا عَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا آيَةٌ تَامَّةٌ فَتَحْرُمُ قِرَاءَتُهَا عَلَيْهِمْ احْتِيَاطًا. وَأَمَّا الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَا مِنْ رَأْسِ كُلِّ سُورَةٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَهُ فِي كَوْنِهَا مِنْ رَأْسِ كُلِّ سُورَةٍ قَوْلَانِ، وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: لَا أَعْرِفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا عِنْدَ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا فِي الِاخْتِلَافِ نَصًّا لَكِنَّ أَمْرَهُمْ بِالْإِخْفَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ؛ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَجْهَرَ بِبَعْضِ السُّورَةِ دُونَ الْبَعْضِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سَبْعَ آيَاتٍ إحْدَاهُنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» فَقَدْ عَدَّ التَّسْمِيَةَ آيَةً مِنْ الْفَاتِحَةِ دَلَّ أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ؛ وَلِأَنَّهَا كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ عَلَى رَأْسِ الْفَاتِحَةِ وَكُلُّ سُورَةٍ بِقَلَمِ الْوَحْيِ فَكَانَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرًا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «قَسَّمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدِهِمَا أَنَّهُ بَدَأَ بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا بِقَوْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ لَكَانَتْ الْبُدَاءَةُ بِهَا لَا بِالْحَمْدِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْمُنَاصَفَةِ وَلَوْ كَانَتْ التَّسْمِيَةُ مِنْ الْفَاتِحَةِ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُنَاصَفَةُ بَلْ يَكُونُ مَا لِلَّهِ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ أَرْبَعُ آيَاتٍ وَنِصْفٌ؛ وَلِأَنَّ كَوْنَ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ كَذَا وَمِنْ مَوْضِعِ كَذَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالدَّلِيلِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ فِي الْمَصَاحِفِ وَلَا تَوَاتُرَ عَلَى كَوْنِهَا مِنْ السُّورَةِ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ فَعَدَّهَا قُرَّاءُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَمْ يَعُدَّهَا قُرَّاءُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِنْهَا، وَذَا دَلِيلُ عَدَمِ التَّوَاتُرِ وَوُقُوعِ الشَّكِّ وَالشُّبْهَةِ فِي ذَلِكَ فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهَا مِنْ السُّورَةِ مَعَ الشَّكِّ؛ وَلِأَنَّ كَوْنَ التَّسْمِيَةِ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ مِمَّا اخْتَصَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ لَا يُوَافِقُهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَكَفَى بِهِ دَلِيلًا عَلَى بُطْلَانِ الْمَذْهَبِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «سُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِصَاحِبِهَا حَتَّى غُفِرَ لَهُ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» وَقَدْ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثُونَ آيَةً سِوَى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَلَوْ كَانَتْ هِيَ مِنْهَا لَكَانَتْ إحْدَى وَثَلَاثِينَ آيَةً وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ أَنَّ سُورَةَ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَسُورَةَ الْإِخْلَاصِ أَرْبَعُ آيَاتٍ وَلَوْ كَانَتْ التَّسْمِيَةُ مِنْهَا لَكَانَتْ سُورَةُ الْكَوْثَرِ أَرْبَعَ آيَاتٍ وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ خَمْسَ آيَاتٍ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فَفِيهِ اضْطِرَابٌ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ شَكَّ فِي ذِكْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْإِسْنَادِ وَلِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ نُوحِ بْنِ أَبِي بِلَالٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ وَقَالَ: لَقِيتُ نُوحًا فَحَدَّثَنِي بِهِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَالِاخْتِلَافُ فِي السَّنَدِ وَالْوَقْفِ وَالرَّفْعِ يُوجِبُ ضَعْفًا فِيهِ؛ وَلِأَنَّهُ فِي حَدِّ الْآحَادِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَكَوْنُ التَّسْمِيَةِ مِنْ الْفَاتِحَةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالنَّقْلِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ مَعَ أَنَّهُ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَأَثْبَتُ وَأَشْهَرُ وَهُوَ حَدِيثُ الْقِسْمَةِ فَلَا يُقْبَلُ فِي مُعَارَضَتِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ إنَّهَا كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ بِقَلَمِ الْوَحْيِ عَلَى رَأْسِ السُّوَرِ فَنَعَمْ لَكِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا مِنْ الْقُرْآنِ لَا عَلَى كَوْنِهَا مِنْ السُّوَرِ لِجَوَازِ أَنَّهَا كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ لَا لِأَنَّهَا مِنْهَا فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهَا مِنْ السُّوَرِ بِالِاحْتِمَالِ، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَا يُجْهَرُ بِالتَّسْمِيَةِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي الْجَهْرِ بِهَا وَلَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ حَتَّى يَجْهَرَ بِهَا ضَرُورَةَ الْجَهْرِ بِالْفَاتِحَةِ، وَعِنْدَهُ يَجْهَرُ بِهَا فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي يَجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ كَمَا يَجْهَرُ بِالْفَاتِحَةِ لِكَوْنِهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ مَتَى تَرَدَّدَتْ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَبَيْنَ أَنْ لَا تَكُونَ تَرَدَّدَ الْجَهْرُ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْهَا الْتَحَقَتْ بِالْأَذْكَارِ، وَالْجَهْرُ بِالْأَذْكَارِ بِدْعَةٌ وَالْفِعْلُ إذَا تَرَدَّدَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ تُغَلَّبُ جِهَةُ الْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ الْبِدْعَةِ فَرْضٌ وَلَا فَرْضِيَّةَ فِي تَحْصِيلِ السُّنَّةِ أَوْ الْوَاجِبِ فَكَانَ الْإِخْفَاءُ بِهَا أَوْلَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْفُونَ التَّسْمِيَةَ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ قَالَ: الْجَهْرُ بِالتَّسْمِيَةِ إعْرَابِيَّةٌ وَالْمَنْسُوبُ إلَيْهِمْ بَاطِلٌ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَيْهِمْ بِالشَّرَائِعِ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَانُوا لَا يَجْهَرُونَ بِالتَّسْمِيَةِ» ، ثُمَّ عِنْدَنَا إنْ لَمْ يَجْهَرْ بِالتَّسْمِيَةِ لَكِنْ يَأْتِي بِهَا الْإِمَامُ لِافْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ بِهَا تَبَرُّكًا كَمَا يَأْتِي بِالتَّعَوُّذِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ، وَهَلْ يَأْتِي بِهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكَعَاتِ الْأُخَرِ؟ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ، رَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهَا إلَّا فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِهَا تَبَرُّكًا وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالرَّكْعَةِ الْأَوْلَى كَالتَّعَوُّذِ، وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ إنْ لَمْ تُجْعَلْ مِنْ الْفَاتِحَةِ قَطْعًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَكِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ فَصَارَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ عَمَلًا فَمَتَى لَزِمَهُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ يَلْزَمُهُ قِرَاءَةُ التَّسْمِيَةِ احْتِيَاطًا. وَأَمَّا عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ سُورَةٍ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَأْتِي بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَأْتِي بِهَا احْتِيَاطًا كَمَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِهَا مِنْ السُّورَةِ مُنْقَطِعٌ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى مَا مَرَّ وَفِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ لَا إجْمَاعَ فَبَقِيَ الِاحْتِمَالُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ احْتِيَاطًا، وَلَكِنْ لَا يُعْتَبَرُ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي حَقِّ الْجَهْرِ؛ لِأَنَّ الْمُخَافَتَةَ أَصْلٌ فِي الْأَذْكَارِ وَالْجَهْرَ بِهَا بِدْعَةٌ فِي الْأَصْلِ فَإِذَا اُحْتُمِلَ أَنَّهَا ذِكْرٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَاحْتُمِلَ أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ كَانَتْ الْمُخَافَتَةُ أَبْعَدَ عَنْ الْبِدْعَةِ فَكَانَتْ أَحَقَّ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا كَانَ يُخْفِي بِالْقِرَاءَةِ يَأْتِي بِالتَّسْمِيَةِ بَيْنَ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مُتَابَعَةِ الْمُصْحَفِ وَإِذَا كَانَ يَجْهَرُ بِهَا لَا يَأْتِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ لَأَخْفَى بِهَا فَيَكُونُ

سَكْتَةً لَهُ فِي وَسَطِ الْقِرَاءَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ثُمَّ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَالسُّورَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَصْلَ فَرْضِيَّةِ الْقِرَاءَةِ وَقَدْرَهَا وَمَحَلَّ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي بَيَانِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ. وَهَهُنَا نَذْكُرُ الْمِقْدَارَ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْكَرَاهَةِ، وَالْمِقْدَارَ الْمُسْتَحَبَّ مِنْ الْقِرَاءَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْقَدْرُ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْكَرَاهَةِ هُوَ أَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً قَصِيرَةً قَدْرَ ثَلَاثِ آيَاتٍ، أَوْ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَيِّ سُورَةٍ كَانَتْ، حَتَّى لَوْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ وَحْدَهَا أَوْ قَرَأَ مَعَهَا آيَةً أَوْ آيَتَيْنِ يُكْرَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ مَعَهَا» وَأَقْصُرُ السُّوَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْجَوَازِ بَلْ نَفْيُ الْكَمَالِ، وَأَدَاءُ الْمَفْرُوضِ عَلَى وَجْهِ النُّقْصَانِ مَكْرُوهٌ. وَأَمَّا الْقَدْرُ الْمُسْتَحَبُّ مِنْ الْقِرَاءَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَيَقْرَأُ الْإِمَامُ فِي الْفَجْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا بِأَرْبَعِينَ آيَةً مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَيْ سِوَاهَا، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِأَرْبَعِينَ خَمْسِينَ سِتِّينَ سِوَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَرَوَى الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَا بَيْنَ سِتِّينَ إلَى مِائَةٍ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ لِاخْتِلَافِ الْأَخْبَارِ. رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ سُورَةَ (ق) حَتَّى أَخَذَ بَعْضُ النِّسْوَانِ مِنْهُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْهُنَّ أُمُّ هِشَامِ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ النُّعْمَانِ وَعَنْ مُوَرِّقِ الْعِجْلِيّ قَالَ: تَلَقَّنْتُ سُورَةَ (ق) وَاقْتَرِبْ، مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَثْرَةِ قِرَاءَتِهِ لَهُمَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْمُرْسَلَاتِ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] وَ {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1] . وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ «يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْفَجْرِ ب {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] السَّجْدَةِ، وَفِي الْأُخْرَى بِهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ» ، وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ «يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ مَا بَيْنَ سِتِّينَ آيَةً إلَى مِائَةٍ» كَذَا ذَكَرَ وَكِيعٌ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَرَأَ فِي الْفَجْرِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ عُمَرُ: كَادَتْ الشَّمْسُ تَطْلُعُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ طَلَعَتْ لَمْ تَجِدْنَا غَافِلِينَ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] خَنَقَتْهُ الْعَبْرَةُ فَرَكَعَ، وَوَفَّقَ بَعْض هُمْ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فَقَالَ: الْمَسَاجِدُ ثَلَاثٌ مَسْجِدٌ لَهُ قَوْمٌ زُهَّادٌ وَعُبَّادٌ يَرْغَبُونَ فِي الْعِبَادَةِ، وَمَسْجِدٌ لَهُ قَوْمٌ كُسَالَى غَيْرُ رَاغِبِينَ فِي الْعِبَادَةِ، وَمَسْجِدٌ لَهُ قَوْمٌ أَوْسَاطٌ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْمَلَ بِأَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ قِرَاءَةً فِي الْأَوَّلِ وَبِأَدْنَاهَا قِرَاءَةً فِي الثَّانِي وَبِأَوْسَطِهَا قِرَاءَةً فِي الثَّالِثِ عَمَلًا بِالرِّوَايَاتِ كُلِّهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ مَحْمُولًا عَلَى هَذَا، وَيَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِنَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ دُونِهِ. وَذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: حَرَّرْنَا قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بِثَلَاثِينَ آيَةً، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظُّهْرَ وَقَرَأَ {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] ، وَفِي الْعَصْرِ يَقْرَأُ بِعِشْرِينَ آيَةً مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَيْ سِوَاهَا» ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ «يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِسُورَةِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] . وَفِي الْعِشَاءِ مِثْلُ ذَلِكَ» فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ؛ لِقَوْلِ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ حِينَ كَانَ يَقْرَأُ الْبَقَرَةَ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ الشَّمْسِ وَضُحَاهَا {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] » ؛ وَلِأَنَّهَا تُؤَخَّرُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ فَلَوْ طَوَّلَ الْقِرَاءَةَ لَتَشَوَّشَ أَمْرُ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَوْمِ لِغَلَبَةِ النَّوْمِ إيَّاهُمْ، وَفِي الْمَغْرِبِ بِسُورَةٍ قَصِيرَةٍ خَمْسِ آيَاتٍ أَوْ سِتِّ آيَاتٍ مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَيْ سِوَاهَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ اقْرَأْ فِي الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ بِطُوَالِ الْمُفَصَّلِ وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ وَفِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ. وَلِأَنَّا أُمِرْنَا بِتَعْجِيلِ الْمَغْرِبِ وَفِي تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ تَأْخِيرُهَا، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَيَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ مِثْلَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ سَوَاءٌ وَالْمَغْرِبُ دُونَ ذَلِكَ، وَرَوَى الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِعَبَسَ أَوْ إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ فِي الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ بِلَا أُقْسِمُ أَوْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَفِي الْعَصْرِ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى وَالضُّحَى أَوْ وَالْعَادِيَاتِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِأَلْهَاكُمْ أَوْ {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] . وَفِي الْمَغْرِبِ فِي الْأُولَى مِثْلَ مَا فِي الْعَصْرِ، وَفِي الْعِشَاءِ فِي الْأُولَيَيْنِ مِثْلَ مَا فِي الظُّهْرِ فَقَدْ جَعَلَهَا فِي الْأَصْلِ كَالْعَصْرِ وَفِي الْمُجَرَّدِ كَالظُّهْرِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ

وَقَالَ: وَقَدْرُ الْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ لِلْمُقِيمِ قَدْرُ ثَلَاثِينَ آيَةً إلَى سِتِّينَ آيَةً سِوَى الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ مَا بَيْنَ عِشْرِينَ إلَى ثَلَاثِينَ، وَفِي الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا سِوَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مِثْلُ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْفَجْرِ، وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ عِشْرِينَ آيَةً سِوَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَفِي الْمَغْرِبِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ. قَالَ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَحَبُّ الرِّوَايَاتِ الَّتِي رَوَاهَا الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ مَقَادِيرِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فَوَقْتُ الْفَجْرِ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ فَتُطَوَّلُ فِيهِ الْقِرَاءَةُ كَيْ لَا تَفُوتَهُمْ الْجَمَاعَةُ، وَكَذَا وَقْتُ الظُّهْرِ فِي الصَّيْفِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقِيلُونَ، وَوَقْتُ الْعَصْرِ وَقْتُ رُجُوعِ النَّاسِ إلَى مَنَازِلِهِمْ فَيَنْقُصُ عَمَّا فِي الظُّهْرِ وَالْفَجْرِ، وَكَذَا وَقْتُ الْعِشَاءِ وَقْتُ عَزْمِهِمْ عَلَى النَّوْمِ فَكَانَ مِثْلَ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ وَقْتُ عَزْمِهِمْ عَلَى الْأَكْلِ فَقُصِّرَ فِيهَا الْقِرَاءَةُ لِقِلَّةِ صَبْرِهِمْ عَنْ الْأَكْلِ خُصُوصًا لِلصَّائِمِينَ وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ وَحَالِ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ. فِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ مِقْدَارَ مَا يَخِفُّ عَلَى الْقَوْمِ وَلَا يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّمَامِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ قَالَ «آخِرُ مَا عَهِدَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُصَلِّيَ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلْيُصَلِّ بِهِمْ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ فَإِنَّ فِيهِمْ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ» . وَرُوِيَ «أَنَّ قَوْمَ مُعَاذٍ لَمَّا شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَطْوِيلَ الْقِرَاءَةِ دَعَاهُ فَقَالَ: أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ قَالَهَا ثَلَاثًا، أَيْنَ أَنْتَ مِنْ {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] ؟ قَالَ الرَّاوِي فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْمَوْعِظَةِ» ، وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا صَلَّيْتُ خَلْفَ أَحَدٍ أَتَمَّ وَأَخَفَّ مِمَّا صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَرَأَ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمًا فَلَمَّا فَرَغَ قَالُوا: أَوْجَزْتَ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَمِعْتُ بُكَاءَ صَبِيٍّ فَخَشِيتُ عَلَى أُمِّهِ أَنْ تُفْتَتَنَ» دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرَاعِيَ حَالَ قَوْمِهِ؛ وَلِأَنَّ مُرَاعَاةَ حَالِ الْقَوْمِ سَبَبٌ لِتَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ ذَلِكَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْمُقِيمِ فَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ مِقْدَارَ مَا يَخِفُّ عَلَيْهِ وَعَلَى الْقَوْمِ بِأَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّفَرِ صَلَاةَ الْفَجْرِ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ» وَلِأَنَّ السَّفَرَ مَكَانُ الْمَشَقَّةِ فَلَوْ قَرَأَ فِيهِ مِثْلَ مَا يَقْرَأُ فِي الْحَضَرِ لَوَقَعُوا فِي الْحَرَجِ وَانْقَطَعَ بِهِمْ السَّيْرُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلِهَذَا أُثِرَ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ فَلَأَنْ يُؤْثَرَ فِي قَصْرِ الْقِرَاءَةِ أَوْلَى. وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَضِّلَ الرَّكْعَةَ الْأَوْلَى فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الثَّانِيَةِ فِي الْفَجْرِ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُفَضِّلُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا، وَكَذَا هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ بِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَةَ الْأَوْلَى عَلَى غَيْرِهَا فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا» وَلِأَنَّ التَّفْضِيلَ تَسْبِيبٌ إلَى إدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ فَيُفَضِّلُ كَمَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ سُورَةَ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى وَفِي الثَّانِيَةِ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ وَهُمَا فِي الْآيِ مُسْتَوِيَتَانِ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْأَوْلَى سُورَةَ الْأَعْلَى وَفِي الثَّانِيَةِ الْغَاشِيَةَ وَهُمَا مُسْتَوِيَتَانِ» ، وَلِأَنَّهُمَا مُسْتَوِيَتَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقِرَاءَةِ فَلَا تُفَضَّلُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى إلَّا لِدَاعٍ وَقَدْ وُجِدَ الدَّاعِي فِي الْفَجْرِ وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى الْإِعَانَةِ عَلَى إدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ لِكَوْنِ الْوَقْتِ وَقْتَ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ فَكَانَ التَّفْضِيلُ مِنْ بَابِ النَّظَرِ وَلَا دَاعِيَ لَهُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لِكَوْنِ الْوَقْتِ وَقْتَ يَقَظَةٍ فَالتَّخَلُّفُ عَنْ الْجَمَاعَةِ يَكُونُ تَقْصِيرًا وَالْمُقَصِّرُ لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ كَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَةَ الْأَوْلَى بِالثَّنَاءِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ لَا بِالْقِرَاءَةِ. أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ تَامَّةٍ كَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. وَلَوْ قَرَأَ سُورَةً وَاحِدَةً فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا جَاءَ بِهِ الْأَثَرُ وَقَالَ عَامَّتُهُمْ: لَا يُكْرَهُ وَكَذَا رَوَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ، وَرَوَى فِي ذَلِكَ حَدِيثًا بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ «قَرَأَ فِي الْفَجْرِ سُورَةَ بَنِي إسْرَائِيلَ إلَى قَوْلِهِ {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى ثُمَّ قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ وَخَتَمَ السُّورَةَ» وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ

لَا يُكْرَهُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَوْتَرَ بِسَبْعِ سُوَرٍ مِنْ الْمُفَصَّلِ» وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَجْمَعَ وَلَوْ قَرَأَ مِنْ وَسَطِ السُّورَةِ أَوْ آخِرِهَا لَا بَأْسَ بِهِ كَذَا رَوَى الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ مَا ذَكَرْنَا. فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْفَاتِحَةِ يَقُولُ آمِينَ إمَامًا كَانَ أَوْ مُقْتَدِيًا أَوْ مُنْفَرِدًا وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يُؤْتَى بِالتَّأْمِينِ أَصْلًا، وَقَالَ مَالِكٌ: يَأْتِي بِهِ الْمُقْتَدِي دُونَ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» حَثَّنَا عَلَى التَّأْمِينِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. ثُمَّ السُّنَّةُ فِيهِ الْمُخَافَتَةُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْجَهْرُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَوَجْهُ التَّعَلُّقِ بِهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّقَ تَأْمِينَ الْقَوْمِ بِتَأْمِينِ الْإِمَامِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا فَلَا مَعْنًى لِلتَّعَلُّقِ، وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «آمِينَ وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ» . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَخْفَى التَّأْمِينَ» وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا قَالَ الْإِمَامُ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُهَا» . وَلَوْ كَانَ مَسْمُوعًا لَمَا اُحْتِيجَ إلَى قَوْلِهِ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُهَا وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ أَجِبْ أَوْ لِيَكُنْ كَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] وَمُوسَى كَانَ يَدْعُو وَهَارُونُ كَانَ يُؤَمِّنُ، وَالسُّنَّةُ فِي الدُّعَاءِ الْإِخْفَاءُ، وَحَدِيثُ وَائِلٍ طَعَنَ فِيهِ النَّخَعِيّ وَقَالَ: أَشَهِدَ وَائِلٌ؟ وَغَابَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَهَرَ مَرَّةً لِلتَّعْلِيمِ وَلَا حُجَّةَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ مَكَانَهُ مَعْلُومٌ، وَهُوَ مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْفَاتِحَةِ فَكَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا. وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ يَنْحَطُّ لِلرُّكُوعِ وَيُكَبِّرُ مَعَ الِانْحِطَاطِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ. أَمَّا التَّكْبِيرُ عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ الْقِيَامِ إلَى الرُّكُوعِ فَسُنَّةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُكَبِّرُ حَالَ مَا رَكَعَ وَإِنَّمَا يُكَبِّرُ حَالَ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُود وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُكَبِّرُ عِنْدَ كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ وَهُوَ يَهْوِي وَالْوَاوُ لِلْحَالِ وَلِأَنَّ الذِّكْرَ سُنَّةٌ فِي كُلِّ رُكْنٍ لِيَكُونَ مُعَظِّمًا لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ بِالذِّكْرِ كَمَا هُوَ مُعَظِّمٌ لَهُ بِالْفِعْلِ فَيَزْدَادُ مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ بِمَعْنَى الرُّكْنِ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَيْهِ فَكَانَ الذِّكْرُ فِيهِ مَسْنُونًا. وَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ فَلَيْسَ بِسُنَّةٍ فِي الْفَرَائِضِ عِنْدَنَا إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَرْفَعُ الْأَيْدِي فِي تَكْبِيرِ الْقُنُوتِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلَ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ» . (وَلَنَا) مَا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ ثُمَّ لَا يَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ» ، وَعَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّيْت خَلْفَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ لَا تَرْفَعُ يَدَيْكَ؟ فَقَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَلَمْ يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ إلَّا فِي التَّكْبِيرَةِ الَّتِي تُفْتَتَحُ بِهَا الصَّلَاةُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ إنَّ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ مَا كَانُوا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَّا لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَخِلَاف هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ قَبِيحٌ. وَفِي الْمَشَاهِيرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَفِي الْعِيدَيْنِ، وَالْقُنُوتِ فِي الْوَتْرِ، وَعِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَبِعَرَفَاتٍ وَبِجَمْعٍ وَعِنْدَ الْمَقَامَيْنِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ» . وَرُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى بَعْضَ أَصْحَابِهِ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيَكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلِ شُمُسٍ اُسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «قَارُّوا فِي الصَّلَاةِ» وَلِأَنَّ هَذِهِ تَكْبِيرَةٌ يُؤْتَى بِهَا فِي حَالَةِ الِانْتِقَالِ فَلَا يُسَنُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَهَا كَتَكْبِيرَةِ السُّجُودِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ إعْلَامُ الْأَصَمِّ الَّذِي خَلْفَهُ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى الْإِعْلَامِ بِالرَّفْعِ فِي التَّكْبِيرَاتِ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا فِي حَالَةِ الِاسْتِوَاءِ كَتَكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ فِي الْعِيدَيْنِ وَتَكْبِيرَاتِ الْقُنُوتِ، فَأَمَّا فِيمَا يُؤْتَى بِهِ فِي حَالَةِ الِانْتِقَالِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصَمَّ يَرَى

الِانْتِقَالَ فَلَا حَاجَةَ إلَى رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَمَا رَوَاهُ مَنْسُوخٌ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْفَعُ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَفَعْنَا وَتَرَكَ فَتَرَكْنَا دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّ مَدَارَ حَدِيثِ الرَّفْعِ عَلَى عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَعَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ. قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ عَلِيٍّ سَنَتَيْنِ فَكَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، وَمُجَاهِدٌ قَالَ صَلَّيْت خَلْفَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ سَنَتَيْنِ فَكَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فَدَلَّ عَمَلُهُمَا عَلَى خِلَافِ مَا رَوَيَا عَلَى مَعْرِفَتِهِمَا انْتِسَاخَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الرَّفْعِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَخْبَارِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الرَّفْعُ لَا تَرْبُو دَرَجَتُهُ عَلَى السُّنَّةِ وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ كَانَ بِدْعَةً وَتَرْكُ الْبِدْعَةِ أَوْلَى مِنْ إتْيَانِ السُّنَّةِ؛ وَلِأَنَّ تَرْكَ الرَّفْعِ مَعَ ثُبُوتِهِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَالتَّحْصِيلُ مَعَ عَدَمِ الثُّبُوتِ يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِعَمَلٍ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ بِالْيَدَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ تَفْسِيرُ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمِقْدَارَ الْمَفْرُوضَ مِنْ الرُّكُوعِ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا سُنَنُ الرُّكُوعِ - فَمِنْهَا أَنْ يَبْسُطَ ظَهْرَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا رَكَعَ بَسَطَ ظَهْرَهُ حَتَّى لَوْ وُضِعَ عَلَى ظَهْرِهِ قَدَحٌ مِنْ مَاءٍ لَاسْتَقَرَّ» -، وَمِنْهَا أَنْ لَا يُنَكِّسَ رَأْسَهُ وَلَا يَرْفَعُهُ أَيْ: يُسَوِّيَ رَأْسَهُ بِعَجُزِهِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا رَكَعَ لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُنَكِّسْهُ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ «نَهَى أَنْ يُدَبِّحَ الْمُصَلِّي تَدْبِيحَ الْحِمَارِ» وَهُوَ أَنْ يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ إذَا شَمَّ الْبَوْلَ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَرَّغَ؛ وَلِأَنَّ بَسْطَ الظَّهْرِ سُنَّةٌ، وَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ مَعَ الرَّفْعِ وَالتَّنْكِيسِ، وَمِنْهَا أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: السُّنَّةُ هِيَ التَّطْبِيقُ وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ كَفَّيْهِ وَيُرْسِلَهُمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذَا رَكَعْتَ فَضَعْ كَفَّيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ وَفَرِّجْ بَيْنَ أَصَابِعِكَ» وَفِي رِوَايَةٍ وَفَرِّقْ بَيْنَ أَصَابِعِكَ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: ثُنِيَتْ لَكُمْ الرُّكَبُ فَخُذُوا بِالرُّكَبِ، وَالتَّطْبِيقُ مَنْسُوخٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ رَأَى ابْنَهُ يُطَبِّقُ فِي الصَّلَاةِ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يُطَبِّقُ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: رُحِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ كُنَّا نُطَبِّقُ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُهِينَا عَنْهُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَفْعَلُهُ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَمْ يَبْلُغْهُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْوَضْعُ مَعَ الْأَخْذِ لِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالتَّفْرِيقُ أَمْكَنُ مِنْ الْأَخْذِ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا، وَهَذَا قَوْلُ الْعَامَّةِ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلِ مَنْ تَرَكَ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ: تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا نَجِدُ فِي الرُّكُوعِ دُعَاءً مُؤَقَّتًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ نَقَصَ مِنْ الثَّلَاثِ فِي تَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَمْ تُجْزِهِ صَلَاتُهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِفِعْلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّسْبِيحِ فَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَقُلْنَا بِالْجَوَازِ مَعَ كَوْنِ التَّسْبِيحِ سُنَّةً عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَدَلِيلُ كَوْنِهِ سُنَّةً مَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ، وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] قَالَ: اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» ثُمَّ السُّنَّةُ فِيهِ أَنْ يَقُولَ ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقُولُ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَيَصِيرُ مُمْتَثِلًا بِتَحْصِيلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا، وَفِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ» وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا سَبَّحَ مَرَّةً وَاحِدَةً يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ جَعَلَ الثَّلَاثَ أَدْنَى التَّمَامِ فَمَا دُونَهُ يَكُونُ نَاقِصًا فَيُكْرَهُ وَلَوْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ دَلِيلُ اسْتِحْبَابِ الزِّيَادَةِ، وَهَذَا إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا فَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا يُسَبِّحُ إلَى أَنْ يَرْفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ إمَامًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَبِّحَ ثَلَاثًا وَلَا يُطَوِّلُ عَلَى الْقَوْمِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَلِأَنَّ التَّطْوِيلَ سَبَبُ التَّنْفِيرِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَقُولُهَا أَرْبَعًا حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْقَوْمُ مِنْ أَنْ يَقُولُوهَا ثَلَاثًا، وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ يَقُولُهَا خَمْسًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَزِيدُ فِي الرُّكُوعِ عَلَى التَّسْبِيحَةِ الْوَاحِدَةِ اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَلَكَ خَشَعْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَيَقُولُ فِي السُّجُودِ سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ عِنْدَنَا مَحْمُولٌ

عَلَى النَّوَافِلِ ثُمَّ الْإِمَامُ إذَا كَانَ فِي الرُّكُوعِ فَسَمِعَ خَفْقَ النَّعْلِ مِمَّنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ هَلْ يَنْتَظِرُهُ أَمْ لَا؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ وَابْنَ أَبِي لَيْلَى عَنْ ذَلِكَ فَكَرِهَاهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَخْشَى عَلَيْهِ أَمْرًا عَظِيمًا يَعْنِي الشِّرْكَ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، وَعَنْ أَبِي مُطِيعٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ مِقْدَارَ تَسْبِيحَةٍ أَوْ تَسْبِيحَتَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُطَوِّلُ التَّسْبِيحَاتِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى الْعَدَدِ، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ: إنْ كَانَ الرَّجُلُ غَنِيًّا لَا يَجُوزُ لَهُ الِانْتِظَارُ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا يَجُوزُ، وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: إنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ عَرَفَ الْجَائِيَ فَإِنَّهُ لَا يَنْتَظِرُهُ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَيْلَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إعَانَةً عَلَى الطَّاعَةِ. وَإِذَا اطْمَأَنَّ رَاكِعًا رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ فَيُحْتَاجُ فِيهِ إلَى بَيَانِ الْمَفْرُوضِ وَالْمَسْنُونِ. أَمَّا الْمَفْرُوضُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ الرُّكُوعِ إلَى السُّجُودِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الرُّكْنِ، فَأَمَّا رَفْعُ الرَّأْسِ وَعَوْدُهُ إلَى الْقِيَامِ فَهُوَ تَعْدِيلُ الِانْتِقَالِ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ فَرْضٌ عَلَى مَا مَرَّ. وَأَمَّا سُنَنُ هَذَا الِانْتِقَالِ فَمِنْهَا أَنْ يَأْتِيَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ فَرْضٌ فَكَانَ الذِّكْرُ فِيهِ مَسْنُونًا وَاخْتَلَفُوا فِي مَاهِيَّةِ الذِّكْرِ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ إمَامًا أَوْ مُقْتَدِيًا أَوْ مُنْفَرِدًا، فَإِنْ كَانَ إمَامًا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَلَا يَقُولُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَجْمَعُ بَيْنَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُ قَوْلِهِمَا، احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» وَغَالِبُ أَحْوَالِهِ كَانَ هُوَ الْإِمَامُ، وَكَذَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مُنْفَرِدٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَالْمُنْفَرِدُ يَجْمَعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الذِّكْرَيْنِ فَكَذَا الْإِمَامُ، وَلِأَنَّ التَّسْمِيعَ تَحْرِيضٌ عَلَى التَّحْمِيدِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِالْبِرِّ وَيَنْسَى نَفْسَهُ كَيْ لَا يَدْخُلَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 44] وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ إمَامًا لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا، وَإِذَا قَالَ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» قُسِّمَ التَّحْمِيدُ وَالتَّسْمِيعُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ فَجُعِلَ التَّحْمِيدُ لَهُمْ وَالتَّسْمِيعُ لَهُ، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إبْطَالُ هَذِهِ الْقِسْمَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْإِمَامِ التَّأْمِينُ أَيْضًا بِقَضِيَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا ذَلِكَ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ إتْيَانَ التَّحْمِيدِ مِنْ الْإِمَامِ يُؤَدِّي إلَى جَعْلِ التَّابِعِ مَتْبُوعًا وَالْمَتْبُوعِ تَابِعًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ، بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الذِّكْرَ يُقَارِنُ الِانْتِقَالَ فَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ مُقَارِنًا لِلِانْتِقَالِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ يَقُولُ الْمُقْتَدِي مُقَارِنًا لَهُ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، فَلَوْ قَالَ الْإِمَامُ بَعْدَ ذَلِكَ لَوَقَعَ قَوْلُهُ بَعْدَ قَوْلِ الْمُقْتَدِي فَيَنْقَلِبُ الْمَتْبُوعُ تَابِعًا وَالتَّابِعُ مَتْبُوعًا، وَمُرَاعَاةُ التَّبَعِيَّةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَاجِبَةٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الِانْفِرَادِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَقَوْلُهُمْ: الْإِمَامُ مُنْفَرِدٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْمُنْفَرِدَ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُنْفَرِدِ فَبَطَلَ الِاسْتِدْلَال. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِالْبِرِّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْسَى نَفْسَهُ فَنَقُولُ: إذَا أَتَى بِالتَّسْمِيعِ فَقَدْ صَارَ دَالًّا عَلَى التَّحْمِيدِ وَالدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ فَلَمْ يَكُنْ نَاسِيًا نَفْسَهُ، هَذَا إذَا كَانَ إمَامًا فَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا يَأْتِي بِالتَّحْمِيدِ لَا غَيْرُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا اسْتِدْلَالًا بِالْمُنْفَرِدِ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي إسْقَاطِ الْأَذْكَارِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْقِرَاءَةِ. (وَلَنَا) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَّمَ التَّسْمِيعَ وَالتَّحْمِيدَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ إبْطَالُ الْقِسْمَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ التَّسْمِيعَ دُعَاءٌ إلَى التَّحْمِيدِ وَحَقُّ مَنْ دُعِيَ إلَى شَيْءٍ الْإِجَابَةُ إلَى مَا دُعِيَ إلَيْهِ لِإِعَادَةِ قَوْلِ الدَّاعِي، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَإِنَّهُ يَأْتِي بِالتَّسْمِيعِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَكَذَا يَأْتِي بِالتَّحْمِيدِ عِنْدَهُمْ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَأْتِي بِالتَّسْمِيعِ دُونَ التَّحْمِيدِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ وَالشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ النَّوَادِرِ عَنْهُ أَنَّهُ يَأْتِي بِالتَّحْمِيدِ لَا غَيْرَ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ الرَّجُلِ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ

الرُّكُوعِ فِي الْفَرِيضَةِ أَيَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي؟ قَالَ: يَقُولُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ وَيَسْكُتُ وَمَا أَرَادَ بِهِ الْإِمَامَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي بِالتَّحْمِيدِ عِنْدَهُ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُنْفَرِدَ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّسْمِيعَ تَرْغِيبٌ فِي التَّحْمِيدِ وَلَيْسَ مَعَهُ مَنْ يُرَغِّبُهُ، وَالْإِنْسَانُ لَا يُرَغِّبُ نَفْسَهُ فَكَانَتْ حَاجَتُهُ إلَى التَّحْمِيدِ لَا غَيْرَ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْمُعَلَّى أَنَّ التَّحْمِيدَ يَقَعُ فِي حَالَةِ الْقَوْمَةِ وَهِيَ مَسْنُونَةٌ وَسُنَّةُ الذِّكْرِ تَخْتَصُّ بِالْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ كَالتَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَلِهَذَا لَمْ يُشَرَّعْ فِي الْقَعْدَتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَلَا مَحْمَلَ لَهُ سِوَى حَالَةِ الِانْفِرَادِ لِمَا مَرَّ وَلِهَذَا كَانَ عَمَلُ الْأُمَّةُ عَلَى هَذَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَجْمَعَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ضَلَالَةٍ، وَاخْتَلَفَتْ الْأَخْبَارُ فِي لَفْظِ التَّحْمِيدِ فِي بَعْضِهَا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَفِي بَعْضِهَا رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ وَالْأَشْهَرُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَإِذَا اطْمَأَنَّ قَائِمًا يَنْحَطُّ لِلسُّجُودِ؛ لِأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ الرُّكُوعِ وَأَتَى بِهِ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ فَيَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ إلَى رُكْنٍ آخَرَ وَهُوَ السُّجُودُ إذْ الِانْتِقَالُ مِنْ رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ فَرْضٌ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الرُّكْنِ لِمَا مَرَّ، وَمِنْ سُنَنِ الِانْتِقَالِ أَنْ يُكَبِّرَ مَعَ الِانْحِطَاطِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهَا أَنْ يَضَعَ رُكْبَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَدَيْهِ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَضَعُ يَدَيْهِ أَوَّلًا وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بُرُوكِ الْجَمَلِ فِي الصَّلَاةِ» وَهُوَ أَنْ يَضَعَ رُكْبَتَيْهِ أَوَّلًا، وَلَنَا عَيْنُ هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْجَمَلَ يَضَعُ يَدَيْهِ أَوَّلًا وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِثْلُ قَوْلِنَا، وَهَذَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ حَافِيًا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ ذَا خُفٍّ لَا يُمْكِنُهُ وَضْعُ الرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ فَإِنَّهُ يَضَعُ يَدَيْهِ أَوَّلًا وَيُقَدِّمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَمِنْهَا أَنْ يَضَعَ جَبْهَتَهُ ثُمَّ أَنْفَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْفَهُ ثُمَّ جَبْهَتَهُ. وَالْكَلَامُ فِي فَرْضِيَّةِ أَصْلِ السُّجُودِ وَالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ مِنْهُ وَمَحَلِّ إقَامَةِ الْفَرْضِ قَدْ مَرَّ فِي مَوْضِعِهِ. وَهَهُنَا نَذْكُرُ سُنَنَ السُّجُودِ، مِنْهَا أَنْ يَسْجُدَ عَلَى الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةَ لِمَا رَوَيْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهَا أَنْ يَجْمَعَ فِي السُّجُودِ بَيْنَ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ فَيَضَعُهُمَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ مَنْ لَمْ يَمَسَّ أَنْفُهُ الْأَرْضَ كَمَا يَمَسُّ جَبْهَتُهُ» ، وَهُوَ عِنْدَنَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّهْدِيدِ وَنَفْيِ الْكَمَالِ لِمَا مَرَّ، وَمِنْهَا أَنْ يَسْجُدَ عَلَى الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ مِنْ الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ. وَلَوْ سَجَدَ عَلَى كَوْرِ الْعِمَامَةِ وَوَجَدَ صَلَابَةَ الْأَرْضِ جَازَ عِنْدَنَا كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْآثَارِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَسْجُدُ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ» ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ عَلَى عِمَامَتِهِ وَهِيَ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ وَوَجَدَ صَلَابَةَ الْأَرْضِ يَجُوزُ فَكَذَا إذَا كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِهِ وَلَوْ سَجَدَ بِهِ عَلَى حَشِيشٍ أَوْ قُطْنٍ إنْ تَسَفَّلَ جَبِينُهُ فِيهِ حَتَّى وَجَدَ حَجْمَ الْأَرْضِ أَجْزَأَهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَا إذَا صَلَّى عَلَى طُنْفُسَةٍ مَحْشُوَّةٍ جَازَ إذَا كَانَ مُتَلَبِّدًا، وَكَذَا إذَا صَلَّى عَلَى الثَّلْجِ إذَا كَانَ مَوْضِعُ سُجُودِهِ مُتَلَبِّدًا يَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ زَحَمَهُ النَّاسُ فَلَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا لِلسُّجُودِ فَسَجَدَ عَلَى ظَهْرِ رَجُلٍ أَجْزَأَهُ لِقَوْلِ عُمَرَ اُسْجُدْ عَلَى ظَهْرِ أَخِيكَ فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ لَكَ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ سَجَدَ عَلَى ظَهْرِ شَرِيكِهِ فِي الصَّلَاةِ يَجُوزُ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ لِلضَّرُورَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْمُشَارَكَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَمِنْهَا أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ فِي السُّجُودِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ» ، وَمِنْهَا أَنْ يُوَجِّهَ أَصَابِعَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ فَلِيُوَجِّهَ مِنْ أَعْضَائِهِ إلَى الْقِبْلَةِ مَا اسْتَطَاعَ» ، وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى رَاحَتَيْهِ «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إذَا سَجَدْتَ فَاعْتَمِدْ عَلَى رَاحَتَيْكَ» ، وَمِنْهَا أَنْ يُبْدِيَ ضَبْعَيْهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ عُمَرَ «وَأَبْدِ ضَبْعَيْكَ» أَيْ أَظْهِرْ الضَّبُعَ وَهُوَ وَسَطُ الْعَضُدِ بِلَحْمِهِ، وَرَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا سَجَدَ جَافَى عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبْطَيْهِ» ، وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَدِلَ فِي سُجُودِهِ وَلَا يَفْتَرِشَ ذِرَاعَيْهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلَا يَفْتَرِشْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ» ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَفْتَرِشُ فِي النَّفْلِ دُونَ الْفَرْضِ وَهُوَ فَاسِدٌ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَهَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَفْتَرِشَ ذِرَاعَيْهَا وَتَنْخَفِضُ وَلَا تَنْتَصِبَ كَانْتِصَابِ الرَّجُلِ وَتَلْزَقُ بَطْنَهَا بِفَخِذَيْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيُكَبِّرُ حَتَّى يَطْمَئِنَّ قَاعِدًا وَالرَّفْعُ فَرْضٌ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ فَرْضٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الرَّفْعِ لِلِانْتِقَالِ إلَيْهَا وَالطُّمَأْنِينَةِ فِي الْقَعْدَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ لِلِاعْتِدَالِ وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ فِي قَوْلِ

أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى وَلَكِنَّهَا سُنَّةٌ أَوْ وَاجِبَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَرْضٌ عَلَى مَا مَرَّ. وَأَمَّا مِقْدَارُ الرَّفْعِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ مِقْدَارَ مَا تَمُرُّ الرِّيحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ أَنَّهُ تَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِقْدَارَ مَا يُسَمَّى بِهِ رَافِعًا جَازَ، وَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ: إنَّهُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِقْدَارَ مَا يُشْكِلُ عَلَى النَّاظِرِ أَنَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ جَازَ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْفَصْلُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ وَالِانْتِقَالُ وَهَذَا هُوَ الْمَفْرُوضُ فَأَمَّا الِاعْتِدَالُ فَمِنْ بَابِ السُّنَّةِ أَوْ الْوَاجِبِ عَلَى مَا مَرَّ وَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ يُكَبِّرَ مَعَ الرَّفْعِ لِمَا مَرَّ ثُمَّ يَنْحَطُّ لِلسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ مُكَبِّرًا وَيَقُولُ وَيَفْعَلُ فِيهَا مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الْأُولَى ثُمَّ يَنْهَضُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ وَلَا يَقْعُدُ يَعْنِي إذَا قَامَ مِنْ الْأُولَى إلَى الثَّانِيَةِ وَمِنْ الثَّالِثَةِ إلَى الرَّابِعَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجْلِسُ جِلْسَةً خَفِيفَةً ثُمَّ يَقُومُ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ اسْتَوَى قَاعِدًا وَاعْتَمَدَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ حَالَةَ الْقِيَامِ» وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا قَامَ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ يَنْهَضُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ» . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ هُمْ كَانُوا يَنْهَضُونَ عَلَى صُدُورِ أَقْدَامِهِمْ، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الضَّعْفِ حَتَّى كَانَ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ لَا تُبَادِرُونِي بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنِّي قَدْ بَدُنْتُ أَيْ كَبِرْتُ وَأَسْنَنْتُ فَاخْتَارَ أَيْسَرَ الْأَمْرَيْنِ، وَيَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ لَا عَلَى الْأَرْضِ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ وَيَرْفَعُ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ أَنْ لَا يَعْتَمِدَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْخًا كَبِيرًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الْأُولَى وَيَقْعُدُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ صِفَةَ الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَأَنَّهَا وَاجِبَةٌ شُرِعَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ، وَهَهُنَا نَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ الْقَعْدَةِ وَذِكْرَ الْقَعْدَةِ. أَمَّا كَيْفِيَّتُهَا فَالسُّنَّةُ أَنْ يَفْتَرِشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فِي الْقَعْدَتَيْنِ جَمِيعًا وَيَقْعُدُ عَلَيْهَا وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى نَصْبًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى كَذَلِكَ فَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ يَتَوَرَّكُ، وَقَالَ مَالِكُ: يَتَوَرَّكُ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَتَفْسِيرُ التَّوَرُّكِ أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ وَيُخْرِجَ رِجْلَيْهِ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ وَيَجْلِسُ عَلَى وَرِكِهِ الْأَيْسَرِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِيمَا وَصَفَ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَانَ «إذَا جَلَسَ فِي الْأُولَى فَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ عَلَيْهَا وَنَصَبَ الْيُمْنَى نَصْبًا وَإِذَا جَلَسَ فِي الثَّانِيَةِ أَمَاطَ رِجْلَيْهِ وَأَخْرَجَهُمَا مِنْ تَحْتِ وَرِكِهِ الْيُمْنَى» ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا قَعَدَ فَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ عَلَيْهَا وَنَصَبَ الْيُمْنَى نَصْبًا» ، وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ التَّوَرُّكِ فِي الصَّلَاةِ» ، وَحَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ الْكِبَرِ وَالضَّعْفِ، وَهَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تَقْعُدُ كَأَسْتَرِ مَا يَكُونُ لَهَا فَتَجْلِسُ مُتَوَرِّكَةً؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ فَرْضِ السَّتْرِ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ سُنَّةِ الْقَعْدَةِ، وَيُوَجِّهُ أَصَابِعَ رِجْلِهِ الْيُمْنَى نَحْوَ الْقِبْلَةِ لِمَا مَرَّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْأَيْمَنِ وَالْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْأَيْسَرِ فِي حَالَةِ الْقَعْدَةِ كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّوَادِرِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا قَعَدَ وَضَعَ مِرْفَقَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْأَيْمَنِ وَكَذَا الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْأَيْسَرِ» ؛ وَلِأَنَّ فِي هَذَا تَوْجِيهَ أَصَابِعِهِ إلَى الْقِبْلَةِ، وَفِيمَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ تَوْجِيهُهَا إلَى الْأَرْضِ. وَأَمَّا ذِكْرُ الْقَعْدَةِ فَالتَّشَهُّدُ وَالْكَلَامُ فِي التَّشَهُّدِ فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ التَّشَهُّدِ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِ التَّشَهُّدِ، وَفِي بَيَانِ أَنَّهُ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ، وَفِي بَيَانِ سُنَّةِ التَّشَهُّدِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي كَيْفِيَّتِهِ وَأَصْحَابُنَا أَخَذُوا بِتَشَهُّدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَالشَّافِعِيُّ أَخَذَ بِتَشَهُّدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَمَالِكٌ أَخَذَ بِتَشَهُّدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ أَنْ يَقُولَ

التَّحِيَّاتُ النَّامِيَاتُ الزَّاكِيَاتُ الْمُبَارَكَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ وَالْبَاقِي كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمِنْ النَّاسِ مَنْ اخْتَارَ تَشَهُّدَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الطَّيِّبَاتُ وَالصَّلَوَاتُ لِلَّهِ وَالْبَاقِي كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَفِي هَذَا حِكَايَةٌ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ: أَبِوَاوٍ أَمْ بِوَاوَيْنِ؟ فَقَالَ: بِوَاوَيْنِ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ كَمَا بَارَكَ فِي لَا وَلَا، ثُمَّ وَلَّى فَتَحَيَّرَ أَصْحَابُهُ فَسَأَلُوهُ عَنْ سُؤَالِهِ فَقَالَ: إنَّ هَذَا سَأَلَنِي عَنْ التَّشَهُّدِ أَبِوَاوَيْنِ كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَمْ بِوَاوٍ كَتَشَهُّدِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ؟ فَقُلْت: بِوَاوَيْنِ، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ كَمَا بَارَكَ فِي شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ، وَإِنَّمَا أَوْرَدْتُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ لِيُعْلَمَ كَمَالُ فِطْنَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَنَفَاذُ بَصِيرَتِهِ حَيْثُ كَانَ يَقِفُ عَلَى الْمُرَادِ بِحَرْفٍ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ مِنْ شُبَّانِ الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا كَانَ يَخْتَارُ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَهُوَ مِنْ الشُّيُوخِ يَنْقُلُ مَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا نُقِلَ عَنْهُ التَّطْبِيقُ وَغَيْرُهُ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ وَصْفَ التَّحِيَّةِ بِالْبَرَكَةِ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] وَفِيهِ ذُكِرَ السَّلَامُ مُنَكَّرًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 79] {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 109] {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات: 120] {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَّمَ النَّاسَ التَّشَهُّدَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدَيَّ وَعَلَّمَنِي التَّشَهُّدَ كَمَا كَانَ يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَالَ: قُلْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ إلَى آخِرِهَا، وَقَالَ: إذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ فَعَلْتَ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ» وَأَخْذُ الْيَدِ عِنْدَ التَّعْلِيمِ لِتَأْكِيدِ التَّعْلِيمِ وَتَقْرِيرِهِ عِنْدَ الْمُتَعَلِّمِ، وَكَذَا أَمَرَ بِهِ بِقَوْلِهِ: قُلْ وَكَذَا عَلَّقَ تَمَامَ الصَّلَاةِ بِهَذَا التَّشَهُّدِ فَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ لَا تُوصَفُ صَلَاتُهُ بِالتَّمَامِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا التَّشَهُّدَ هُوَ الْمُسْتَفِيضُ فِي الْأُمَّةِ الشَّائِعُ فِي الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ عَلَّمَ النَّاسَ التَّشَهُّدَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إجْمَاعًا، وَكَذَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ النَّاسَ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ فِي الْكُتَّابِ، وَذَكَرَ مِثْلَ تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ عَلَّمَ النَّاسَ التَّشَهُّدَ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى نَحْوِ مَا نَقَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَكَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْ «عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ» وَذَكَرَ تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَالَتْ هَكَذَا تَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَبْلَغُ فِي الثَّنَاءِ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ عَطْفَ بَعْضِ الْكَلِمَاتِ عَلَى الْبَعْضِ فَكَانَ كُلُّ لَفْظٍ ثَنَاءً عَلَى حِدَةٍ وَفِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ إخْرَاجُ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الصِّفَةِ فَيَكُونُ الْكُلُّ كَلَامًا وَاحِدًا كَمَا فِي الْيَمِينِ فَإِنَّ قَوْلَهُ وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ، وَقَوْلَهُ وَاَللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمِينٌ وَاحِدٌ وَكَذَا السَّلَامُ فِي التَّشَهُّدِ مَذْكُورٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَفِي ذَلِكَ التَّشَهُّدِ مَذْكُورٌ عَلَى طَرِيقِ التَّنْكِيرِ وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّامَ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّ اللَّامَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ مَعَ أَنَّ هَذَا مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47] {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} [مريم: 33] وَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مِنْ التَّرْجِيحِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَقْدِيمِ رِوَايَةِ الْأَحْدَاثِ عَلَى رِوَايَةِ الْمُهَاجِرِينَ، وَاحِدٌ لَا يَقُولُ بِهِ وَمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ ضَعِيفٌ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَّمَ النَّاسَ التَّشَهُّدَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا هُوَ تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى. وَأَمَّا مِقْدَارُ التَّشَهُّدِ فَمِنْ قَوْلِهِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ إلَى قَوْلِهِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّشَهُّدِ حَرْفًا أَوْ يَبْتَدِئَ بِحَرْفٍ قَبْلَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْخُذُ عَلَيْنَا التَّشَهُّدَ بِالْوَاوِ وَالْأَلِفِ» فَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَمَا نُقِلَ فِي أَوَّلِ التَّشَهُّدِ بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ أَوْ بِاسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الْأَسْمَاءِ وَفِي آخِرِهِ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ فَشَاذٌّ لَمْ يَشْتَهِرْ فَلَا يُقْبَلُ فِي مُعَارَضَةِ الْمَشْهُورِ وَكَذَا لَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ مِنْ الصَّلَوَاتِ وَالدَّعَوَاتِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى عِنْدَنَا، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ يَزِيدُ عَلَيْهِمْ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَفِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَتَشَهَّدْ وَسَلِّمْ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ» ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ لَا يَزِيدُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ عَلَى التَّشَهُّدِ» وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُسْرِعُ النُّهُوضَ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى التَّشَهُّدِ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى التَّشَهُّدِ

مُخَالِفَةٌ لِلْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الطَّحَاوِيَّ قَالَ: مَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وَهُوَ كَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ بِمَذْهَبِ السَّلَفِ وَكَفَى بِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ فَسَادًا فِي الْمَذْهَبِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا دُعَاءٌ وَمَحَلُّ الدُّعَاءِ آخِرُ الصَّلَاةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْحَدِيثِ سَلَامُ التَّشَهُّدِ أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى التَّطَوُّعَاتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ وَلَوْ زَادَ عَلَى التَّشَهُّدِ قَوْلَهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ سَاهِيًا لَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَذُكِرَ فِي أَمَالِي الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ. وَأَمَّا فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ فَيَدْعُو بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَيَسْأَلُ حَاجَتَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7] جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الدُّعَاءُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ فَانْصَبْ لِلدُّعَاءِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ مَسْعُودٍ: «إذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ فَعَلْتَ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ، ثُمَّ اخْتَرْ مِنْ الدَّعَوَاتِ مَا شِئْت» وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ بِمَا لَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ حَتَّى يَكُونَ خُرُوجُهُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ وَهُوَ إصَابَةُ لَفْظَةِ السَّلَامِ، وَفَسَّرَهُ أَصْحَابُنَا فَقَالُوا: مَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ هُوَ مَا لَا يَسْتَحِيلُ سُؤَالُهُ مِنْ غَيْرِهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ أَعْطِنِي كَذَا أَوْ زَوِّجْنِي امْرَأَةً، وَمَا لَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ هُوَ مَا يَسْتَحِيلُ سُؤَالُهُ مِنْ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَدْعُو بِحَاجَتِهِ وَيَسْتَغْفِرُ لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ إنْ كَانَا مُؤْمِنَيْنِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ أَنْ يُقَدِّمَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الدُّعَاءِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ ثُمَّ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ ثُمَّ بِالدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ الْمُتَدَاوَلُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأُمَّةِ، وَلَا يُكْرَهَ أَنْ يَقُولَ فِيهَا: وَارْحَمْ مُحَمَّدًا عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَبَعْضُهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ وَزَعَمُوا أَنَّهُ يُوهِمُ التَّقْصِيرَ مِنْهُ فِي الطَّاعَةِ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ عِنْدَ ذِكْرِهِ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ أَحَدًا وَإِنْ جَلَّ قَدْرُهُ مِنْ الْعِبَادِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ إلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ قِيلَ: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَازَ قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَالصَّلَاةُ مِنْ اللَّهِ رَحْمَةٌ ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ عِنْدَنَا بَلْ هِيَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِدُونِهَا وَهِيَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَلَهُ فِي فَرْضِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْأُولَى قَوْلَانِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْفَرْضِيَّةِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ فِي صَلَاتِهِ» وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ بِتَمَامِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْقُعُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا حُجَّةَ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا النَّدْبُ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بَلْ يَقْتَضِي الْفِعْلَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَدْ قَالَ الْكَرْخِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرْضُ الْعُمُرِ كَالْحَجِّ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعْيِينُ حَالَةِ الصَّلَاةِ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» وَبِهِ نَقُولُ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَيْرِ حَالَةِ الصَّلَاةِ فَقَدْ كَانَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ: إنَّهَا فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ بَالِغٍ عَاقِلٍ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: كُلَّمَا ذَكَرَهُ أَوْ سَمِعَ اسْمَهُ تَجِبُ. وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَإِذَا امْتَثَلَ مَرَّةً فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ كَمَا يَسْقُطُ فَرْضُ الْحَجِّ بِالْحَجِّ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ هُوَ الذِّكْرُ أَوْ السَّمَاعُ، وَالْحُكْمُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ السَّبَبِ كَمَا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعِبَادَاتِ بِتَكَرُّرِ أَسْبَابِهَا. وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ، فَأَمَّا التَّشَهُّدُ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى فَوَاجِبٌ اسْتِحْسَانًا وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو جَعْفَرٍ الْأُسْرُوشَنِيُّ: إنَّهُ سَنَةٌ وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ التَّشَهُّدِ أَدْنَى رُتْبَةً مِنْ الْقَعْدَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ لَمَّا كَانَتْ فَرْضًا كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فِيهَا وَاجِبَةً؟ فَالْقَعْدَةُ الْأُولَى لَمَّا كَانَتْ وَاجِبَةً يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِيهَا سُنَّةً لِيَظْهَرَ انْحِطَاطُ رُتْبَتِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ فَإِنَّ مُحَمَّدًا أَوْجَبَ سُجُودَ السَّهْوِ بِتَرْكِهِ سَاهِيًا وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا

بِتَرْكِ الْوَاجِبِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَكَذَا فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ عَمْدًا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَكِنْ يَكُونُ مُسِيئًا، وَلَوْ تَرَكَهُ سَهْوًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ حَتَّى لَا تَجُوزَ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا سُنَّةُ التَّشَهُّدِ فَهِيَ الْإِخْفَاءُ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعٌ يُخْفِيهِنَّ الْإِمَامُ وَعَدَّ مِنْهَا التَّشَهُّدَ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الثَّنَاءِ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَثْنِيَةِ وَالْأَدْعِيَةِ هُوَ الْإِخْفَاءُ وَهَلْ يُشِيرُ بِالْمُسَبِّحَةِ إذَا انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا يُشِيرُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ سُنَّةِ الْيَدِ وَهِيَ الْوَضْعُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُشِيرُ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَالَ فِي كِتَابِ الْمُسَبِّحَةِ حُدِّثْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَصْنَعُ مَا صَنَعَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلُنَا ثُمَّ كَيْفَ يُشِيرُ؟ قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: يَعْقِدُ ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ وَيُشِيرُ بِالْمُسَبِّحَةِ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يَعْقِدُ الْخِنْصَرَ وَالْبِنْصِرَ وَيُحَلِّقُ الْوُسْطَى مَعَ الْإِبْهَامِ وَيُشِيرُ بِالسَّبَّابَةِ، وَقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ فَالْكَلَامُ فِي صِفَةِ التَّسْلِيمِ وَقَدْرِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَحُكْمِهِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَهَهُنَا نَذْكُرُ سُنَنَ التَّسْلِيمِ، فَمِنْهَا أَنْ يَبْدَأَ بِالتَّسْلِيمِ عَنْ الْيَمِينِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ؛ وَلِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا عَلَى الشِّمَالِ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِهَا أَوْلَى. وَلَوْ سَلَّمَ أَوَّلًا عَنْ يَسَارِهِ أَوْ سَلَّمَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ عَنْ يَسَارِهِ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَلَا يُعِيدُ التَّسْلِيمَ عَنْ يَسَارِهِ، وَلَوْ سَلَّمَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ سَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنْهَا أَنْ يُبَالِغَ فِي تَحْوِيلِ الْوَجْهِ فِي التَّسْلِيمَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُحَوِّلُ وَجْهَهُ فِي التَّسْلِيمَةِ الْأَوْلَى حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ أَوْ قَالَ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ» وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ شِدَّةِ الِالْتِفَاتِ. وَمِنْهَا أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّسْلِيمِ إنْ كَانَ إمَامًا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لِلْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعْلَامِ، وَمِنْهَا أَنْ يُسَلِّمَ مُقَارِنًا لِتَسْلِيمِ الْإِمَامِ إنْ كَانَ مُقْتَدِيًا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي التَّكْبِيرِ، وَفِي رِوَايَةٍ يُسَلِّمُ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كَمَا قَالَا فِي التَّكْبِيرِ وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَمِنْهَا أَنْ يَنْوِيَ مَنْ يُخَاطِبُهُ بِالتَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ خِطَابَ مَنْ لَا يَنْوِي خِطَابَهُ لَغْوٌ وَسَفَهٌ ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا أَوْ مُقْتَدِيًا فَإِنْ كَانَ إمَامًا يَنْوِي بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى مَنْ عَلَى يَمِينِهِ مِنْ الْحَفَظَةِ وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَبِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ مَنْ عَلَى يَسَارِهِ مِنْهُمْ، كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَأَخَّرَ ذِكْرَ الْحَفَظَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ ظَنَّ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الصَّلَاةِ يُقَدِّمُ الْحَفَظَةَ فِي النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ خِطَابٌ فَيَبْدَأُ بِالنِّيَّةِ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ وَهُمْ الْحَفَظَةُ ثُمَّ الرِّجَالُ ثُمَّ النِّسَاءُ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يُقَدِّمُ الْبَشَرَ فِي النِّيَّةِ اسْتِدْلَالًا بِالسَّلَامِ فِي التَّشَهُّدِ وَهُوَ قَوْلُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، قَدَّمَ ذِكْرَ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ إذْ الْمُرَادُ بِالصَّالِحِينَ الْمَلَائِكَةُ فَكَذَا فِي السَّلَامِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَرَى تَفْضِيلَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ ثُمَّ رَجَعَ فَرَأَى تَفْضِيلَ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ مَعْطُوفٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بِحَرْفِ الْوَاوِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ؛ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ وَهِيَ تَنْتَظِمُ الْكُلَّ جُمْلَةً بِلَا تَرْتِيبٍ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَى جَمَاعَةٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُرَتِّبَ فِي النِّيَّةِ فَيُقَدِّمُ الرِّجَالَ عَلَى الصِّبْيَانِ؟ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي كَيْفِيَّةِ نِيَّةِ الْحَفَظَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْوِي الْكِرَامَ الْكَاتِبِينَ وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَوَاحِدًا عَنْ يَسَارِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْوِي الْحَفَظَةَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ وَلَا يَنْوِي عَدَدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ بِطَرِيقِ الْإِحَاطَةِ وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ نِيَّةِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْوِي مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ لَا غَيْرُ، وَكَانَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ يَقُولُ: يَنْوِي جَمِيعَ رِجَالِ الْعَالَمِ وَنِسَائِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ خِطَابٌ وَخِطَابُ الْغَائِبِ مِمَّنْ لَا يَبْقَى خِطَابُهُ وَلَيْسَ بِخَيْرٍ مِنْ خِطَابِ مَنْ يَبْقَى خِطَابُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَعَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ يَنْوِي الْحِفْظَةَ لَا غَيْرَ وَعَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ يَنْوِي الْحِفْظَةَ وَجَمِيعَ الْبَشَرِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَأَمَّا الْمُقْتَدِي فَيَنْوِي مَا يَنْوِي الْإِمَامُ، وَيَنْوِي أَيْضًا إنْ كَانَ عَلَى يَمِينِ الْإِمَامِ يَنْوِيهِ فِي يَسَارِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ يَنْوِيهِ فِي يَمِينِهِ وَإِنْ كَانَ بِحِذَائِهِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَنْوِيهِ فِي يَمِينِهِ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا عَلَى

فصل بيان ما يستحب في الصلاة وما يكره

الْيَسَارِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَنْوِيهِ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ يَمِينَ الْإِمَامِ عَنْ يَمِينِ الْمُقْتَدِي وَيَسَارَهُ عَنْ يَسَارِهِ فَكَانَ لَهُ حَظٌّ فِي الْجَانِبَيْنِ فَيَنْوِيهِ فِي التَّسْلِيمَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ فِي الصَّلَاةِ وَمَا يُكْرَهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا وَمَا يُكْرَهُ. فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يَخْشَعَ فِي صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ الْخَاشِعِينَ فِي الصَّلَاةِ، وَيَكُونُ مُنْتَهَى بَصَرِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُصَلِّي خَاشِعًا شَاخِصًا بَصَرَهُ إلَى السَّمَاءِ فَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] رَمَى بِبَصَرِهِ نَحْوَ مَسْجِدِهِ» أَيْ مَوْضِعِ سُجُودِهِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى التَّعْظِيمِ ثُمَّ أَطْلَقَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلَهُ وَيَكُونُ مُنْتَهَى بَصَرِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ وَفَسَّرَهُ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ فَقَالَ: يَرْمِي بِبَصَرِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ فِي حَالَةِ الْقِيَامِ وَفِي حَالَةِ الرُّكُوعِ إلَى رُءُوسِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ وَفِي حَالَةِ السُّجُودِ إلَى أَرْنَبَةِ أَنْفِهِ وَفِي حَالَةِ الْقَعْدَةِ إلَى حِجْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ تَعْظِيمٌ وَخُشُوعٌ. وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالصَّلَاةِ أَمَرَهُمْ كَذَلِكَ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ عِنْدَ التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْمَنِ، وَعِنْدَ التَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ وَلَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَلَا يُطَأْطِئُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ سُنَّةَ الْعَيْنِ وَهِيَ النَّظَرُ إلَى الْمَسْجِدِ فَيُخِلُّ بِمَعْنَى الْخُشُوعِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى أَنْ يُدَبِّحَ الرَّجُلُ تَدْبِيحَ الْحِمَارِ» أَيْ يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ وَلَا يَتَشَاغَلَ بِشَيْءٍ غَيْرِ صَلَاتِهِ مِنْ عَبَثٍ بِثِيَابِهِ أَوْ بِلِحْيَتِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْخُشُوعِ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: أَمَّا هَذَا لَوْ خَشَعَ قَلْبُهُ لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ» . وَلَا يُفَرْقِعُ أَصَابِعَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنِّي أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي لَا تُفَرْقِعْ أَصَابِعَكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي» ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْخُشُوعِ، وَلَا يُشَبِّكُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ سُنَّةِ الْوَضْعِ، وَلَا يَجْعَلُ يَدَيْهِ عَلَى خَاصِرَتِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ الِاخْتِصَارِ فِي الصَّلَاةِ» وَقِيلَ: إنَّهُ اسْتِرَاحَةُ أَهْلِ النَّارِ، وَقِيلَ: إنَّ الشَّيْطَانَ لَمَّا أُهْبِطَ أُهْبِطَ مُخْتَصِرًا وَالتَّشَبُّهُ بِالْكَفَرَةِ وَبِإِبْلِيسَ مَكْرُوهٌ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَفِي الصَّلَاةِ أَوْلَى، وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ عَمَلُ الْيَهُودِ وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ سُنَّةِ الْيَدِ وَهِيَ الْوَضْعُ. وَلَا يُقَلِّبُ الْحَصَى إلَّا أَنْ يُسَوِّيَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً لِسُجُودِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ: «سَأَلْتُ خَلِيلِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى سَأَلْتُهُ عَنْ تَسْوِيَةِ الْحَصَى فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ مَرَّةً أَوْ ذَرْ» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَأَنْ يُمْسِكْ أَحَدُكُمْ عَنْ الْحَصَى خَيْرٌ لَهُ مِنْ مِائَةِ نَاقَةٍ سُودِ الْحَدَقَةِ» إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ مَرَّةً وَاحِدَةً إذَا كَانَ الْحَصَى لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ السُّجُودِ لِحَاجَتِهِ إلَى السُّجُودِ الْمَسْنُونِ وَهُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ وَتَرْكُهُ أَوْلَى؛ لِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ. وَلَا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ عَلِمَ الْمُصَلِّي مَنْ يُنَاجِي مَا الْتَفَتَ» ، «وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ تِلْكَ خِلْسَةٌ يَخْتَلِسُهَا الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ» وَحَدُّ الِالْتِفَاتِ الْمَكْرُوهِ أَنْ يُحَوِّلَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ. وَأَمَّا النَّظَرُ بِمُؤَخَّرِ الْعَيْنِ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً مِنْ غَيْرِ تَحْوِيلِ الْوَجْهِ فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُلَاحِظُ أَصْحَابَهُ بِمُؤْخِرِ عَيْنَيْهِ» وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ. وَلَا يُقْعِي لِمَا رُوِيَ عَنْ «أَبِي ذَرٍّ» أَنَّهُ قَالَ: «نَهَانِي خَلِيلِي عَنْ ثَلَاثٍ، أَنْ أَنْقُرَ نَقْرَ الدِّيكِ، وَأَنْ أَقْعَى إقْعَاءَ الْكَلْبِ، وَأَنْ أَفْتَرِشَ افْتِرَاشَ الثَّعْلَبِ» وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْإِقْعَاءِ قَالَ الْكَرْخِيُّ: هُوَ نَصْبُ الْقَدَمَيْنِ وَالْجُلُوسُ عَلَى الْعَقِبَيْنِ وَهُوَ عَقِبُ الشَّيْطَانِ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: هُوَ الْجُلُوسُ عَلَى الْأَلْيَتَيْنِ وَنَصْبُ الرُّكْبَتَيْنِ وَوَضْعُ الْفَخِذَيْنِ عَلَى الْبَطْنِ وَهَذَا أَشْبَهُ بِإِقْعَاءِ الْكَلْبِ؛ وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَرْكُ الْجِلْسَةِ الْمَسْنُونَةِ فَكَانَ مَكْرُوهًا، وَلَا يَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهِ؛ لِمَا رَوَيْنَا، وَلَا يَتَرَبَّعُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَأَى ابْنَهُ يَتَرَبَّعُ فِي صَلَاتِهِ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: رَأَيْتُكَ تَفْعَلُهُ يَا أَبَتِ، فَقَالَ: إنَّ رِجْلَيَّ لَا تَحْمِلَانِي وَلِأَنَّ الْجُلُوسَ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ أَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ فَكَانَ أَوْلَى، وَلَا يُكْرَهُ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ؛ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ. وَلَا يَتَمَطَّى وَلَا يَتَثَاءَبُ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِرَاحَةٌ فِي الصَّلَاةِ فَتُكْرَهُ كَالِاتِّكَاءِ عَلَى شَيْءٍ وَلِأَنَّهُ مُخِلٌّ بِمَعْنَى الْخُشُوعِ فَإِذَا عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَظَمَ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّثَاؤُبُ جَعَلَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَضَعْ

يَدَهُ عَلَى فِيهِ» ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُغَطِّيَ فَاهُ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ فِي التَّغْطِيَةِ مَنْعًا مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ غَطَّى بِيَدِهِ فَقَدْ تَرَكَ سُنَّةَ الْيَدِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ فِي الصَّلَاةِ» وَلَوْ غَطَّاهُ بِثَوْبٍ فَقَدْ تَشَبَّهَ بِالْمَجُوسِ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَلَثَّمُونَ فِي عِبَادَتِهِمْ النَّارَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ التَّلَثُّمِ فِي الصَّلَاةِ» إلَّا إذَا كَانَتْ التَّغْطِيَةُ لِدَفْعِ التَّثَاؤُبِ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا مَرَّ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُفَّ ثَوْبَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، وَأَنْ لَا أَكُفَّ ثَوْبًا وَلَا أَكْفِتَ شَعْرًا» ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ سُنَّةِ وَضْعِ الْيَدِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَاقِصًا شَعْرَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ أَنَّهُ رَأَى «الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يُصَلِّي عَاقِصًا شَعْرَهُ فَحَلَّ الْعُقْدَةَ فَنَظَرَ إلَيْهِ الْحَسَنُ مُغْضَبًا فَقَالَ: يَا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ أَقْبِلْ عَلَى صَلَاتِكَ وَلَا تَغْضَبْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ ذَاكَ كِفْلُ الشَّيْطَانِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ مَقْعَدُ الشَّيْطَانِ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ، وَالْعَقْصُ أَنْ يَشُدَّ الشَّعْرَ ضَفِيرَةً حَوْلَ رَأْسِهِ كَمَا تَفْعَلُهُ النِّسَاءُ أَوْ يَجْمَعَ شَعْرَهُ فَيَعْقِدَهُ فِي مُؤَخَّرِ رَأْسِهِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مُعْتَجِرًا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ الِاعْتِجَارِ» ، وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الِاعْتِجَارِ قِيلَ: هُوَ أَنْ يَشُدَّ حَوَالَيْ رَأْسِهِ بِالْمِنْدِيلِ وَيَتْرُكَهَا مِنْهُ وَهُوَ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَلُفَّ شَعْرَهُ عَلَى رَأْسِهِ بِمِنْدِيلٍ فَيَصِيرُ كَالْعَاقِصِ شَعْرَهُ وَالْعَقْصُ مَكْرُوهٌ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا يَكُونُ الِاعْتِجَارُ إلَّا مَعَ تَنَقُّبٍ وَهُوَ أَنْ يَلُفَّ بَعْضَ الْعِمَامَةِ عَلَى رَأْسِهِ وَيَجْعَلَ طَرَفًا مِنْهَا عَلَى وَجْهِهِ كَمُعْتَجَرِ النِّسَاءِ إمَّا لِأَجْلِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ أَوْ لِلتَّكَبُّرِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يُغْمِضَ عَيْنَيْهِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَغْمِيضِ الْعَيْنِ فِي الصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَرْمِيَ بِبَصَرِهِ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ وَفِي التَّغْمِيضِ تَرْكُ هَذِهِ السُّنَّةِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ وَطَرَفٍ ذُو حَظٍّ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ فَكَذَا الْعَيْنُ، وَلَا يُرَوِّحُ فِي الصَّلَاةِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ سُنَّةِ وَضْعِ الْيَدِ وِتْرِكِ الْخُشُوعِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَبْزُقَ عَلَى حِيطَانِ الْمَسْجِدِ أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الْحَصَى أَوْ يَتَمَخَّطَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْمَسْجِدَ لَيَنْزَوِي مِنْ النُّخَامَةِ كَمَا تَنْزَوِي الْجِلْدَةُ فِي النَّارِ» وَلِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِتَنْفِيرِ النَّاسِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ؛ وَلِأَنَّ النُّخَامَةَ وَالْمُخَاطَ مِمَّا يُسْتَقْذَرُ طَبْعًا وَإِذَا عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي الْمَسْجِدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَهُ وَلَوْ دَفَنَهُ فِي الْمَسْجِدِ تَحْتَ الْحَصِيرِ يُرَخَّصُ لَهُ ذَلِكَ وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَفْعَلَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَخَّصَ فِي دَفْنِ النُّخَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ» ؛ وَلِأَنَّهُ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ طَبْعًا فَإِذَا دُفِنَ لَا يُسْتَقْذَرُ وَلَا يُؤَدِّي إلَى التَّنْفِيرِ وَالرَّفْعُ أَوْلَى تَنْزِيهًا لِلْمَسْجِدِ عَمَّا يَنْزَوِي مِنْهُ. وَيُكْرَهُ عَدُّ الْآيِ وَالتَّسْبِيحِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كُرِهَ فِي الْفَرْضِ وَرُخِّصَ فِي التَّطَوُّعِ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَدَّ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِمُرَاعَاةِ السُّنَّةِ وَفِي قَدْرِ الْقِرَاءَةِ وَعَدَدِ التَّسْبِيحِ خُصُوصًا فِي صَلَاةِ التَّسْبِيحِ الَّتِي تَوَارَثَتْهَا الْأُمَّةُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِي الْعَدِّ بِالْيَدِ تَرْكًا لِسُنَّةِ الْيَدِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَالْقَلِيلُ مِنْهُ إنْ لَمْ يُفْسِدْ الصَّلَاةَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُوجِبَ الْكَرَاهَةَ وَلَا حَاجَةَ إلَى الْعَدِّ بِالْيَدِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعُدَّ خَارِجَ الصَّلَاةِ مِقْدَارَ مَا يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ وَيُعَيِّنُ ثُمَّ يَقْرَأُ بَعْدَ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ أَوْ يَعُدُّ بِقَلْبِهِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ عَلَى دُكَّانٍ وَالْقَوْمُ أَسْفَلَ مِنْهُ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ الْإِمَامُ عَلَى الدُّكَّانِ وَالْقَوْمُ أَسْفَلَ مِنْهُ أَوْ كَانَ الْقَوْمُ عَلَى الدُّكَّانِ وَالْإِمَامُ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ أَوْ كَانَ بَعْضُ الْقَوْمِ مَعَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ أَوْ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ، أَمَّا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ عَلَى الدُّكَّانِ وَالْقَوْمُ أَسْفَلَ مِنْهُ يُكْرَهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَكَانُ قَدْرَ قَامَةِ الرَّجُلِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ مَا لَمْ يُجَاوِزْ الْقَامَةَ؛ لِأَنَّ فِي الْأَرْضِ هُبُوطًا وَصُعُودًا وَقَلِيلُ الِارْتِفَاعِ عَفْوٌ وَالْكَثِيرُ لَيْسَ بِعَفْوٍ فَجَعَلْنَا الْحَدَّ الْفَاصِلَ مَا يُجَاوِزُ الْقَامَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا كَانَ دُونَ الْقَامَةِ لَا يُكْرَهُ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَامَ بِالْمَدَائِنِ لِيُصْلِيَ بِالنَّاسِ عَلَى دُكَّانٍ فَجَذَبَهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ ثُمَّ قَالَ: مَا الَّذِي أَصَابَكَ؟ أَطَالَ الْعَهْدُ أَمْ نَسِيتَ؟ أَمَا سَمِعْت رَسُولُ وَلَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يَقُومُ الْإِمَامُ عَلَى مَكَان أَنْشَزَ مِمَّا عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ؟» وَفِي رِوَايَةٍ أَمَا عَلِمْت أَنَّ أَصْحَابَكَ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ

تَذَكَّرْتُ حِينَ جَذَبْتَنِي، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي يُمْكِنُ الْجَذْبُ عَنْهُ مَا دُونَ الْقَامَةِ، وَكَذَا الدُّكَّانُ الْمَذْكُورُ يَقَعُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ مَا دُونَ الْقَامَةِ؛ وَلِأَنَّ كَثِيرَ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ يَمْنَعُ الصِّحَّةَ فَقَلِيلُهَا يُورِثُ الْكَرَاهَةَ؛ وَلِأَنَّ هَذَا صَنِيعُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ أَسْفَلَ مِنْ الْقَوْمِ يُكْرَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْكَرَاهَةِ التَّشَبُّهُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي صَنِيعِهِمْ وَلَا تَشَبُّهَ هَهُنَا؛ لِأَنَّ مَكَانَ إمَامِهِمْ لَا يَكُونُ أَسْفَلَ مِنْ مَكَانِ الْقَوْمِ وَجَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ؛ لِأَنَّ كَرَاهَةَ كَوْنِ الْمَكَانِ أَرْفَعَ كَانَ مَعْلُولًا بِعِلَّتَيْنِ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَوُجُودِ بَعْضِ الْمُفْسِدِ وَهُوَ اخْتِلَافُ الْمَكَانِ وَهَهُنَا وُجِدَتْ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ وَهِيَ وُجُودُ بَعْضِ الْمُخَالَفَةِ هَذَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ فَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْقَوْمِ مَعَهُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ فَمَنْ اعْتَبَرَ مَعْنَى التَّشَبُّهِ قَالَ: لَا يُكْرَهُ وَهُوَ قِيَاسُ رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ؛ لِزَوَالِ مَعْنَى التَّشَبُّهِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يُشَارِكُونَ الْإِمَامَ فِي الْمَكَانِ، وَمَنْ اعْتَبَرَ وُجُودَ بَعْضِ الْمُفْسِدِ قَالَ: يُكْرَهُ وَهُوَ قِيَاسُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِوُجُودِ بَعْضِ الْمُخَالَفَةِ. وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْعُذْرِ كَمَا فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ لَا يُكْرَهُ كَيْفَمَا كَانَ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْمُرَاعَاةِ. وَيُكْرَهُ لِلْمَارِّ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ عَلِمَ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَا عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» ، وَلَمْ يُوَقِّتُ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ قَدْرَ الْمُرُورِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْرُ مَوْضِعِ السُّجُودِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِقْدَارُ الصَّفَّيْنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْرُ مَا يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى الْمَارِّ لَوْ صَلَّى بِخُشُوعٍ، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَا يُكْرَهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَيَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يَدْرَأَ الْمَارَّ أَيْ يَدْفَعَهُ حَتَّى لَا يَمُرَّ حَتَّى لَا يَشْغَلَهُ عَنْ صَلَاتِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ فَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ» . وَلَوْ مَرَّ لَا تُقْطَعُ الصَّلَاةُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَارُّ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُدْفَعَ بِالتَّسْبِيحِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ أَوْ الْأَخْذِ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ مِنْ غَيْرِ مَشْيٍ وَمُعَالَجَةٍ شَدِيدَةٍ حَتَّى لَا تَفْسُدَ صَلَاتُهُ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إنْ لَمْ يَقِفْ بِإِشَارَتِهِ جَازَ دَفْعُهُ بِالْقِتَالِ؛ لِحَدِيثِ «أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فَأَرَادَ ابْنُ مَرْوَانَ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَشَارَ إلَيْهِ فَلَمْ يَقِفْ فَلَمَّا حَاذَاهُ ضَرَبَهُ فِي صَدْرِهِ ضَرْبَةً أَقْعَدَهُ عَلَى اسْتِهِ فَجَاءَ إلَى أَبِيهِ يَشْكُو أَبَا سَعِيدٍ فَقَالَ: لِمَ ضَرَبْتَ ابْنِي؟ فَقَالَ: مَا ضَرَبْتُ ابْنَكَ إنَّمَا ضَرَبْتُ شَيْطَانًا، فَقَالَ: لِمَ تُسَمِّي ابْنِي شَيْطَانًا، فَقَالَ: لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَأَرَادَ مَارٌّ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ» ، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» يَعْنِي أَعْمَالَ الصَّلَاةِ، وَالْقِتَالُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِهِ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ كَانَ فِي وَقْتٍ كَانَ الْعَمَلُ فِي الصَّلَاة مُبَاحًا، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: إنَّ الدَّرْءَ رُخْصَةٌ وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَدْرَأَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ. وَكَذَا رَوَى إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُتْرَكَ الدَّرْءُ، وَالْأَمْرُ بِالدَّرْءِ فِي الْحَدِيثِ لِبَيَانِ الرُّخْصَةِ كَالْأَمْرِ بِقَتْلِ الْأَسْوَدَيْنِ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ كَالْأُسْطُوَانَةِ وَنَحْوِهَا، فَأَمَّا إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ فَلَا بَأْسَ بِالْمُرُورِ فِيمَا وَرَاءَ الْحَائِلِ وَالْمُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ أَنْ يَنْصِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ عُودًا أَوْ يَضَعَ شَيْئًا أَدْنَاهُ طُولُ ذِرَاعٍ كَيْ لَا يَحْتَاجَ إلَى الدَّرْءِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي الصَّحْرَاءِ فَلْيَتَّخِذْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةً» . وَرُوِيَ أَنَّ «الْعَنَزَةَ كَانَتْ تُحْمَلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتُرْكَزَ فِي الصَّحْرَاءِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُصَلِّي إلَيْهَا حَتَّى قَالَ: عَوْنُ بْنُ جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَطْحَاءِ فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ فَأَخْرَجَ بِلَالٌ الْعَنَزَةَ وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى إلَيْهَا وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ مِنْ وَرَائِهَا» وَإِنَّمَا قُدِّرَ أَدْنَاهُ بِذِرَاعٍ طُولًا دُونَ اعْتِبَارِ الْعَرْضِ، وَقِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي غِلَظِ أُصْبُعٍ؛ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ يُجْزِئُ مِنْ السُّتْرَةِ السَّهْمُ؛ وَلِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ الْمَنْعُ مِنْ الْمُرُورِ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ بَعِيدٍ فَلَا يَمْتَنِعُ وَيَدْنُو مِنْ السُّتْرَةِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ صَلَّى إلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا» فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سُتْرَةً هَلْ يَخُطُّ بَيْنَ يَدَيْهِ خَطًّا؟ حَكَى أَبُو عِصْمَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَخُطُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِنَّ الْخَطَّ وَتَرْكَهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ بَعِيدٍ فَلَا يَمْتَنِعُ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: يَخُطُّ بَيْنَ يَدَيْهِ خَطًّا إمَّا طُولًا شِبْهَ ظِلِّ السُّتْرَةِ أَوْ عَرْضًا شِبْهَ الْمِحْرَابِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي الصَّحْرَاءِ فَلْيَتَّخِذْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةً فَإِنْ لَمْ

يَجِدْ فَلْيَخُطَّ بَيْنَ يَدَيْهِ خَطًّا» وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ غَرِيبٌ وَرَدَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَا نَأْخُذُ بِهِ. وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْعَقْرَبِ أَوْ الْحَيَّةِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ الْقَلْبَ وَذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ قَتْلِهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي الصَّلَاةِ وَهُمَا الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ» وَهَذَا تَرْخِيصٌ وَابَاحَةٌ وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُمَا لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ حَتَّى لَوْ عَالَجَ مُعَالَجَةً كَثِيرَةً فِي قَتْلِهِمَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عَلَى مَا نَذْكُرُ. ، وَيُكْرَهُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَسْبِقَ الْإِمَامَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُبَادِرُونِي بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنِّي قَدْ بَدُنْتُ» وَلَوْ سَبَقَهُ يَنْظُرُ إنْ لَمْ يُشَارِكْهُ الْإِمَامُ فِي الرُّكْنِ الَّذِي سَبَقَهُ أَصْلًا لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ حَتَّى إنَّهُ لَوْ لَمْ يُعِدْ الرُّكْنَ وَسَلَّمَ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُتَابَعَةِ وَلَمْ تُوجَدْ فِي الرُّكْنِ وَإِنْ شَارَكَهُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ الرُّكْنِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الِابْتِدَاءَ وَقَعَ بَاطِلًا وَالْبَاقِي بِنَاءً عَلَيْهِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ وَلَنَا أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ الْمُشَارَكَةُ رُكُوعٌ تَامٌّ فَيُكْتَفَى بِهِ، وَانْعِدَامُ الْمُشَارَكَةِ فِيمَا قَبْلَهُ لَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ قَبْلَ الْإِمَامِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» . وَيُكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي غَيْرِ حَالِ الْقِيَامِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَقَالَ: أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ قَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» . وَيُكْرَهُ النَّفْخُ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِيهِ بِخِلَافِ التَّنَفُّسِ فَإِنَّ فِيهِ ضَرُورَةً، وَهَلْ تَفْسُدُ الصَّلَاةُ بِالنَّفْخِ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا لَا تَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ مَسْمُوعًا تَفْسُدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ. وَيُكْرَهُ لِمَنْ أَتَى الْإِمَامَ وَهُوَ رَاكِعٌ أَنْ يَرْكَعَ دُونَ الصَّفِّ وَإِنْ خَافَ الْفَوْتَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ «دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرُّكُوعِ فَكَبَّرَ كَمَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَدَبَّ رَاكِعًا حَتَّى الْتَحَقَ بِالصُّفُوفِ فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ» ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ إحْدَى الْكَرَاهَتَيْنِ إمَّا أَنْ يَتَّصِلَ بِالصُّفُوفِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْمَشْيِ فِي الصَّلَاةِ وَإِنَّهُ فِعْلٌ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ فِي الْأَصْلِ حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إنْ مَشَى خُطْوَةً خُطْوَةً لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَإِنْ مَشَى خُطْوَتَيْنِ خُطْوَتَيْنِ تَفْسُدُ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا تَفْسُدُ كَيْفَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ فِي حُكْمِ مَكَان وَاحِدٍ لَكِنْ لَا أَقَلَّ مِنْ الْكَرَاهَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي رَكَعَ فِيهِ فَيَكُونُ مُصَلِّيًا خَلْفَ الصُّفُوفِ وَحْدَهُ وَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ لِمُنْتَبِذٍ خَلْفَ الصُّفُوفِ» وَأَدْنَى أَحْوَالِ النَّفْيِ هُوَ نَفْيُ الْكَمَالِ، ثُمَّ الصَّلَاةُ مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ إنَّمَا تُكْرَهُ إذَا وَجَدَ فُرْجَةً فِي الصَّفِّ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَجِدْ فَلَا تُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ الْعُذْرِ وَإِنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ امْرَأَةً يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَقُومَ خَلْفَ الصَّفِّ؟ لِأَنَّ مُحَاذَاتَهَا الرَّجُلَ مُفْسِدَةٌ صَلَاةَ الرَّجُلِ فَوَجَبَ الِانْفِرَادُ لِلضَّرُورَةِ، وَيَنْبَغِي إذَا لَمْ يَجِدْ فُرْجَةً أَنْ يَنْتَظِرَ مَنْ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ لِيَصْطَفَّ مَعَهُ خَلْفَ الصَّفِّ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدًا وَخَافَ فَوْتَ الرَّكْعَةِ جَذَبَ مِنْ الصَّفِّ إلَى نَفْسِهِ مَنْ يَعْرِفُ مِنْهُ عِلْمًا وَحُسْنَ الْخُلُقِ لِكَيْ لَا يَغْضَبَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ يَقِفْ حِينَئِذٍ خَلْفَ الصَّفِّ بِحِذَاءِ الْإِمَامِ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَيُؤْمَرُ مَنْ أَدْرَكَ الْقَوْمَ رُكُوعًا أَنْ يَأْتِيَ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ وَلَا يُعَجِّلَ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يُصَلِّ إلَى الصَّفِّ فَمَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ صَلَّى بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَمَا فَاتَهُ قَضَى، وَأَصْلُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ وَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» . وَيُكْرَهُ لِمُصَلِّي الْمَكْتُوبَةِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى شَيْءٍ إلَّا مِنْ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ يُخِلُّ بِالْقِيَامِ وَتَرْكُ الْقِيَامِ فِي الْفَرِيضَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ فَكَانَ الْإِخْلَالُ بِهِ مَكْرُوهًا إلَّا مِنْ عُذْرٍ. وَلَوْ فَعَلَ جَازَتْ صَلَاتُهُ لِوُجُودِ أَصْلِ الْقِيَامِ وَهَلْ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِمُصَلِّي التَّطَوُّعِ؟ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْأَصْلِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْقِيَامِ فِي التَّطَوُّعِ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَالْإِخْلَالُ بِهِ أَوْلَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُكْرَهُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى حَبْلًا مَمْدُودًا فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: لِمَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: لِفُلَانَةَ تُصَلِّي بِاللَّيْلِ فَإِذَا أَعْيَتْ اتَّكَأَتْ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتُصَلِّي فُلَانَةُ بِاللَّيْلِ فَإِذَا أَعْيَتْ فَلْتَنَمْ» ؛ وَلِأَنَّ فِي الِاعْتِمَادِ بَعْضُ التَّنَعُّمِ وَالتَّحَبُّرِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. وَيُكْرَهُ السَّدْلُ فِي الصَّلَاةِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ سَدْلَ الثَّوْبِ هُوَ أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ عَلَى

كَتِفَيْهِ وَيُرْسِلَ أَطْرَافَهُ مِنْ جَوَانِبِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَرَاوِيلُ. وَرُوِيَ عَنْ الْأَسْوَدِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُمَا قَالَا: السَّدْلُ يُكْرَهُ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُكْرَهُ السَّدْلُ عَلَى الْقَمِيصِ وَعَلَى الْإِزَارِ وَقَالَ: لِأَنَّهُ صُنْعُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنْ كَانَ السَّدْلُ بِدُونِ السَّرَاوِيلِ فَكَرَاهَتُهُ لِاحْتِمَالِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْإِزَارِ فَكَرَاهَتُهُ لِأَجْلِ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِهِ كَيْفَمَا كَانَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ كَانَ مِنْ الْخُيَلَاءِ يُكْرَهُ وَإِلَّا فَلَا، وَالصَّحِيحُ مَذْهَبُنَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ السَّدْلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» . وَيُكْرَهُ لُبْسَةُ الصَّمَّاءِ وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ هُوَ أَنْ يَجْمَعَ طَرَفَيْ ثَوْبِهِ وَيُخْرِجَهُمَا تَحْتَ إحْدَى يَدَيْهِ عَلَى إحْدَى كَتِفَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَرَاوِيلُ وَإِنَّمَا كُرِهَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ انْكِشَافُ الْعَوْرَةِ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَصَلَ بَيْنَ الِاضْطِبَاعِ وَلُبْسَةِ الصَّمَّاءِ فَقَالَ: إنَّمَا تَكُونُ لُبْسَةُ الصَّمَّاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إزَارٌ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ إزَارٌ فَهُوَ اضْطِبَاعٌ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ طَرَفَيْ ثَوْبِهِ تَحْتَ إحْدَى ضَبْعَيْهِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ لُبْسُ أَهْلَ الْكِبْرِ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ لُبْسَةَ الصَّمَّاءِ أَنْ يَلُفَّ الثَّوْبَ عَلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ مِنْ الْعُنُقِ إلَى الرُّكْبَتَيْنِ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ سُنَّةِ الْيَدِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ أَوْ فِي قَمِيصٍ وَاحِدٍ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ اللُّبْسَ فِي الصَّلَاةِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: لُبْسٌ مُسْتَحَبٌّ، وَلُبْسٌ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَلُبْسٌ مَكْرُوهٌ. أَمَّا الْمُسْتَحَبُّ فَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ قَمِيصٍ وَإِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَعِمَامَةٍ كَذَا ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ فِي غَرِيبِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبَيْنِ إزَارٍ وَرِدَاءٍ؛ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَالزِّينَةُ جَمِيعًا. وَأَمَّا اللُّبْسُ الْجَائِزُ بِلَا كَرَاهَةٍ فَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ أَوْ قَمِيصٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَأَصْلُ الزِّينَةِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ تَتِمَّ الزِّينَةُ، وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَقَالَ: أَوَ كُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ؟» أَشَارَ إلَى الْجَوَازِ وَنَبَّهَ عَلَى الْحِكْمَةِ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَجِدُ ثَوْبَيْنِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الثَّوْبُ صَفِيقًا لَا يَصِفُ مَا تَحْتَهُ فَإِنْ كَانَ رَقِيقًا يَصِفُ مَا تَحْتَهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ عَوْرَتَهُ مَكْشُوفَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ اللَّهُ الْكَاسِيَاتِ الْعَارِيَّاتِ» ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقَمِيصَ الْوَاحِدَ إذَا كَانَ مَحْلُولَ الْجَيْبِ وَالزِّرِّ هَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ ذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ فِيمَنْ صَلَّى مَحْلُولَ الْإِزَارِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إزَارٌ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ نَظَرَ رَأَى عَوْرَةَ نَفْسِهِ مِنْ زِيقِهِ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ نَظَرَ لَمْ يَرَ عَوْرَتَهُ جَازَتْ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ نَظَرَ إلَيْهِ غَيْرُهُ يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى عَوْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ نَظَرَ إلَيْهِ غَيْرُهُ لَا يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى عَوْرَتِهِ إلَّا بِتَكَلُّفٍ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَعَنْ دَاوُد الطَّائِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ الرَّجُلُ خَفِيفَ اللِّحْيَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى عَوْرَتِهِ إذَا نَظَرَ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَيَكُونُ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ شَرْطُ الْجَوَازِ، وَإِنْ كَانَ كَثَّ اللِّحْيَةِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى عَوْرَتِهِ إلَّا بِتَكَلُّفٍ فَلَا يَكُونُ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ. وَأَمَّا اللُّبْسُ الْمَكْرُوهُ فَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ وَسَرَاوِيلَ وَاحِدٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» وَلِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ إنْ حَصَلَ فَلَمْ تَحْصُلْ الزِّينَةُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَرْسَلْتُكَ فِي حَاجَةٍ أَكُنْتَ مُنْطَلِقًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ فِعْلُ أَهْلِ الْجَفَاءِ وَفِي ثَوْبٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ أَبْعَدُ مِنْ الْجَفَاءِ وَفِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ مِنْ أَخْلَاقِ الْكِرَامِ. هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهَا ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا دِرْعٌ وَإِزَارٌ وَخِمَارٌ فَإِنْ صَلَّتْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحَةً بِهِ يُجْزِئُهَا إذَا سَتَرَتْ بِهِ رَأْسَهَا وَسَائِرَ جَسَدِهَا سِوَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِمَّا سِوَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ مِنْهَا مَكْشُوفًا فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا جَازَ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَا يَجُوزُ وَسَنَذْكُرُ الْحَدَّ الْفَاصِلَ بَيْنَهُمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا فِي حَقِّ الْحُرَّةِ فَأَمَّا الْأَمَةُ إذَا صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ رَأْسَهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ. وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمْسَحَ جَبْهَتَهُ مِنْ التُّرَابِ بَعْدَ مَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُكْرَهُ فَلَأَنْ

فصل بيان ما يفسد الصلاة

لَا يُكْرَهَ إدْخَالُ فِعْلٍ قَلِيلٍ أَوْلَى وَأَمَّا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَرْكَانِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ فَقَالَ: قُلْتُ فَإِنْ مَسَحَ جَبْهَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ؟ قَالَ: لَا، أَكْرَهُهُ، مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ فَهِمَ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ نَفْيَ الْكَرَاهَةِ وَجَعَلَ كَلِمَةَ لَا دَاخِلَةً فِي قَوْلِهِ أَكْرَهُ، وَكَذَا ذُكِرَ فِي آثَارِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ فِي الصَّلَاةِ» وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُؤْذِيهِ فَكَذَا هَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَلِمَةُ " لَا " مَقْطُوعَةٌ عَنْ قَوْلِهِ أَكْرَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَلْ يَمْسَحُ؟ فَقَالَ: لَا نَفْيًا لَهُ، ثُمَّ ابْتَدَأَ الْكَلَامَ وَقَالَ: أَكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ رِوَايَةُ هِشَامٍ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ فَعَلَى هَذَا يُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْحِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَرْكَانِ وَبَيْنَ الْمَسْحِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا قَبْلَ السَّلَامِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَسْحَ قَبْلَ الْفَرَاغِ لَا يُفِيدُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْجُدَ ثَانِيًا فَيَلْتَزِقُ التُّرَابُ بِجَبْهَتِهِ ثَانِيًا وَالْمَسْحُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَرْكَانِ مُفِيدٌ وَلِأَنَّ هَذَا فِعْلٌ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَيُكْرَهُ تَحْصِيلُهُ فِي وَقْتٍ لَا يُبَاحُ فِيهِ الْخُرُوجُ عَنْ الصَّلَاةِ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ بِخِلَافِ الْمَسْحِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَرْكَانِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ مِنْ الْجَفَاءِ وَعَدَّ مِنْهَا مَسْحَ الْجَبْهَةِ فِي الصَّلَاةِ» وَمِنْهُمْ مَنْ وَفَّقَ فَقَالَ: جَوَابُ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا كَانَ تَرَكَهُ لَا يُؤْذِيهِ وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْ عَلَى الْمَسْحِ بِالْيَدَيْنِ، وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا كَانَ تَرْكُ الْمَسْحِ يُؤْذِيهِ وَيُشْغِلُ قَلْبَهُ عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَمُحَمَّدٌ يُسَاعِدُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَلِهَذَا «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ» ؛ لِأَنَّ التَّرْكَ كَانَ يُؤْذِيهِ وَيُشْغِلُ قَلْبَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا مَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ وَمَا يُكْرَه لَهُ فِي فَصْلِ الْإِمَامَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ. فَالْمُفْسِدُ لَهَا أَنْوَاعٌ، مِنْهَا الْحَدَثُ الْعَمْدُ قَبْلَ تَمَامِ أَرْكَانِهَا بِلَا خِلَافٍ حَتَّى يَمْتَنِعَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ، وَاخْتُلِفَ فِي الْحَدَثِ السَّابِقِ وَهُوَ الَّذِي سَبَقَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِهِ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ رِيحٍ أَوْ رُعَافٍ أَوْ دَمٍ سَائِلٍ مِنْ جُرْحٍ أَوْ دُمَّلٍ بِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ فَيَجُوزُ الْبِنَاءُ اسْتِحْسَانًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْسِدُهَا فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ قِيَاسًا، وَالْكَلَامُ فِي الْبِنَاءِ فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ أَصْلِ الْبِنَاءِ أَنَّهُ جَائِزٌ أَمْ لَا؟ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ لَوْ كَانَ جَائِزًا، وَفِي بَيَانِ مَحَلِّ الْبِنَاءِ وَكَيْفِيَّتِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ الْبِنَاءُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ جَائِزٌ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ لَا تَبْقَى مَعَ الْحَدَثِ كَمَا لَا تَنْعَقِدُ مَعَهُ لِفَوَاتِ أَهْلِيَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي الْحَالَيْنِ بِفَوَاتِ الطَّهَارَةِ فِيهِمَا إذْ الشَّيْءُ كَمَا لَا يَنْعَقِدُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِيَّتِهِ لَا يَبْقَى مَعَ عَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَا تَبْقَى التَّحْرِيمَةُ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِأَدَاءِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا لَا تَبْقَى مَعَ الْحَدَثِ الْعَمْدِ؛ وَلِأَنَّ صَرْفَ الْوَجْهِ عَنْ الْقِبْلَةِ وَالْمَشْيَ فِي الصَّلَاةِ مُنَافٍ لَهَا وَبَقَاءُ الشَّيْءِ مَعَ مَا يُنَافِيهِ مُحَالٌ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ النَّصُّ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، أَمَّا النَّصُّ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ انْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ» وَكَذَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَالْعَبَادِلَةَ الثَّلَاثَةَ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالُوا مِثْلَ مَذْهَبِنَا. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ فَتَوَضَّأَ وَبَنَى، وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَبَقَهُ الْحَدَثُ وَتَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ عُثْمَانَ فَرَعَفَ فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ فَثَبَتَ الْبِنَاءُ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَوْلًا وَفِعْلًا وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ جَوَازِ الْبِنَاءِ فِي الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْبِنَاءِ. فَمِنْهَا الْحَدَثُ السَّابِقُ فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ فِي الْحَدَثِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْبِنَاءِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَكُلُّ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ يَلْحَقُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا، وَالْحَدَثُ الْعَمْدُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْحَدَثِ السَّابِقِ؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الْحَدَثَ السَّابِقَ مِمَّا يُبْتَلَى بِهِ الْإِنْسَانُ فَلَوْ جُعِلَ مَانِعًا مِنْ الْبِنَاءِ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَلَا حَرَجَ فِي الْحَدَثِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ، وَالثَّانِي الْإِنْسَانُ يَحْتَاجُ إلَى الْبِنَاءِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِمَا وَكَذَا يَحْتَاجُ إلَى إحْرَازِ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَ أَفْضَلِ الْقَوْمِ خُصُوصًا مَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الْبِنَاءُ وَرُبَّمَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ الْوُضُوءِ لَفَاتَ عَلَيْهِ فَضِيلَةُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَفَضِيلَةُ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْأَفْضَلِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ

التَّلَاقِي فَالشَّرْعُ نَظَرَ لَهُ بِجَوَازِ الْبِنَاءِ صِيَانَةً لِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ عَلَيْهِ مِنْ الْفَوْتِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ لِحُصُولِ الْحَدَثِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ وَاخْتِيَارِهِ بِخِلَافِ الْحَدَثِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ مُتَعَمِّدَ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ جَانٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا كَانَ بِهِ دُمَّلٌ فَعَصَرَهُ حَتَّى سَالَ، أَوْ كَانَ فِي مَوْضِعِ رُكْبَتِهِ فَانْتَفَخَ مِنْ اعْتِمَادِهِ عَلَى رُكْبَتِهِ فِي سُجُودِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْحَدَثِ الْعَمْدِ، وَكَذَا إذَا تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ عَمِلَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَهُوَ كَثِيرٌ لَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ نَادِرٌ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا جُنَّ فِي الصَّلَاةِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ لَا يَبْنِي وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْحَدَثِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ اعْتِرَاضَهُمَا فِي الصَّلَاةِ نَادِرٌ فَلَمْ يَكُونَا فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ، وَكَذَا لَوْ انْتَضَحَ الْبَوْلُ عَلَى بَدَنِ الْمُصَلِّي أَوْ ثَوْبِهِ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْ مَوْضِعٍ فَانْفَتَلَ فَغَسَلَهُ لَا يَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يَبْنِي. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ النَّجَاسَةَ وَصَلَتْ إلَى بَدَنِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَكَانَ مَعْنَى الْحَدَثِ السَّابِقِ وَلِأَنَّ هَذَا بَعْضُ مَا وَرَدَ فِيهِ الْخَبَرُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَعَفَ فَأَصَابَ بَدَنَهُ أَوْ ثَوْبَهُ نَجَاسَةٌ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيَغْسِلُ تِلْكَ النَّجَاسَةَ وَهَهُنَا لَا يُحْتَاجُ إلَى غَسْلِ النَّجَاسَةِ لَا غَيْرَ، فَلَمَّا جَازَ الْبِنَاءُ هُنَاكَ فَلَأَنْ يَجُوزَ هُنَا أَوْلَى وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِمَّا لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّ لَهُ بُدًّا مِنْ غَسْلِ النَّجَاسَةِ عَنْ الثَّوْبِ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ فَيُلْقِي مَا تَنَجَّسَ مِنْ سَاعَتِهِ وَيُصَلِّي فِي الْآخَرِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَلَوْ انْتَضَحَ الْبَوْلُ عَلَى ثَوْبِ الْمُصَلِّي فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْ مَوْضِعٍ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَلْقَى النَّجِسَ مِنْ سَاعَتِهِ وَمَضَى عَلَى صَلَاتِهِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ لِوُجُودِ شَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ النَّجَاسَةِ لَكِنَّا نَقُولُ: إنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَيُجْعَلُ عَفْوًا وَإِنْ أَدَّى رُكْنًا أَوْ مَكَثَ بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ رُكْنٍ يَسْتَقْبِلُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ فَانْصَرَفَ وَغَسَلَهُ لَا يَبْنِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَلَوْ أَصَابَتْهُ بُنْدُقَةٌ فَشَجَّتْهُ أَوْ رَمَاهُ إنْسَانٌ بِحَجَرٍ فَشَجَّهُ أَوْ مَسَّ رَجُلٌ قَرْحَهُ فَأَدْمَاهُ أَوْ عَصَرَهُ فَانْفَلَتَ مِنْهُ رِيحٌ أَوْ حَدَثٌ آخَرُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَبْنِي وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا طُعِنَ فِي الْمِحْرَابِ اسْتَخْلَفَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَلَوْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْقَوْمِ وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ؛ لِأَنَّ هَذَا حَدَثٌ حَصَلَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَكَانَ كَالْحَدَثِ السَّمَاوِيِّ، وَلِأَنَّ الشَّاجَّ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا فَتْحُ بَابِ الدَّمِ فَبَعْدَ ذَلِكَ خُرُوجُ الدَّمِ بِنَفْسِهِ لَا بِتَسْيِيلِ أَحَدٍ فَأَشْبَهَ الرُّعَافَ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا الْحَدَثَ حَصَلَ بِصُنْعِ الْعِبَادِ بِخِلَافِ الْحَدَثِ السَّمَاوِيِّ، وَكَذَا هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا يَنْدُرُ وُقُوعُهُ؛ لِأَنَّ الرَّامِيَ مَنْهِيٌّ عَنْ الرَّمْيِ فَلَا يَقْصِدُهُ غَالِبًا وَالْإِصَابَةُ خَطَأٌ نَادِرٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَرَّزُ خَوْفًا مِنْ الضَّمَانِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَيُعْمَلُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ الْمَحْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ جَازَ لَهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ قَاعِدًا؟ وَلَوْ عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ بِفِعْلِ الْبَشَرِ بِأَنْ قَيَّدَهُ إنْسَانٌ لَمْ يَجُزْ لِغَلَبَةِ الْأَوَّلِ وَنُدْرَةِ الثَّانِي كَذَا هَذَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ هَذَا فَتَحَ بَابَ الدَّمِ فَنَقُولُ: نَعَمْ وَلَكِنْ مَنْ فَتَحَ بَابَ الْمَائِعِ حَتَّى سَالَ الْمَائِعُ جُعِلَ ذَلِكَ مُضَافًا إلَى الْفَاتِحِ؛ لِانْعِدَامِ اخْتِيَارِ السَّائِلِ فِي سَيَلَانِهِ وَلِهَذَا يَجِبُ ضَمَانُ الدُّهْنِ عَلَى شَاقِّ الزِّقِّ إذَا سَالَ الدُّهْنُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ سَقَطَ الْمَدَرُ مِنْ السَّقْفِ مِنْ غَيْرِ مَشْيِ أَحَدٍ عَلَى السَّطْحِ عَلَى الْمُصَلِّي أَوْ سَقَطَ الثَّمَرُ مِنْ الشَّجَرِ عَلَى الْمُصَلِّي أَوْ أَصَابَهُ حَشِيشُ الْمَسْجِدِ فَأَدْمَاهُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، مِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ لَهُ الْبِنَاءَ بِالْإِجْمَاعِ لِانْقِطَاعِ ذَلِكَ عَنْ فِعْلِ الْعِبَادِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الْخِلَافِ لِوُقُوعِ ذَلِكَ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ قِيلَ كَانَ الِاسْتِخْلَافُ قَبْلَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ فَاسْتَخْلَفَهُ لِيَفْتَتِحَ الصَّلَاةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا طُعِنَ قَالَ آهٍ قَتَلَنِي الْكَلْبُ مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ قَالَ: تَقَدَّمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ يَمْنَعُ الْبِنَاءَ عَلَى الصَّلَاةِ، وَمِنْهَا حَقِيقَةُ الْحَدَثِ لَا وَهْمُ الْحَدَثِ وَلَا مَا جُعِلَ حَدَثًا حُكْمًا حَتَّى لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهُ الْحَدَثُ لَكِنَّهُ خَافَ أَنْ يَبْتَدِرَهُ فَانْصَرَفَ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَهُ الْحَدَثُ ثُمَّ سَبَقَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْمُضِيِّ فَصَارَ كَمَا لَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ ثُمَّ انْصَرَفَ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. وَكَذَا إذَا جُنَّ فِي الصَّلَاةِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ نَامَ مُضْطَجِعًا

لَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ يَنْدُرُ وُقُوعُهَا فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. وَكَذَا الْمُتَيَمِّمُ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، وَصَاحِبُ الْجُرْحِ السَّائِلِ إذَا جُرِحَ وَقْتَ صَلَاتِهِ، وَالْمَاسِحُ عَلَى الْخُفِّ إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ مَسْحِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يَظْهَرُ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْحَدَثِ السَّابِقِ فِي كَثْرَةِ الْوُقُوعِ فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ، وَكَذَا لَوْ اعْتَرَضَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَيُمْنَعُ الْبِنَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسَائِلِ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ، وَمِنْهَا الْحَدَثُ الصَّغِيرُ حَتَّى لَا يَجُوزَ الْبِنَاءُ فِي الْحَدَثِ الْكَبِيرِ وَهُوَ الْجَنَابَةُ بِأَنْ نَامَ فِي الصَّلَاةِ فَاحْتَلَمَ أَوْ نَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ بِشَهْوَةٍ أَوْ تَفَكُّرٍ فَأَنْزَلَ؛ لِمَا قُلْنَا؛ وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ عَمَلٌ يَسِيرٌ وَالِاغْتِسَالُ عَمَلٌ كَثِيرٌ فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ فِي مَوْضِعِ الْعَفْوِ؛ وَلِأَنَّ الِاغْتِسَالَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِكَشْفِ الْعَوْرَةِ وَذَلِكَ مِنْ قَوَاطِعِ الصَّلَاةِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ يَجُوزُ يُرِيدُ بِهِ الْقِيَاسَ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ الْأَوَّلِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَفْعَلَ بَعْدَ الْحَدَثِ فِعْلًا مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَحْدَثَ إلَّا مَا لَا بُدَّ لِلْبِنَاءِ مِنْهُ أَوْ كَانَ مِنْ ضَرُورَاتِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ أَوْ مِنْ تَوَابِعِهِ وَتَتِمَّاتِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ ثُمَّ تَكَلَّمَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ ضَحِكَ مُتَعَمِّدًا أَوْ قَهْقَهَ أَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مُنَافِيَةٌ لِلصَّلَاةِ فِي الْأَصْلِ لِمَا نَذْكُرُ فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْمُنَافِي إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ مِنْهَا بَدَا، وَكَذَا إذَا جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ أَجْنَبَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ فَكَانَ لِلْبِنَاءِ مِنْهُ بُدٌّ، وَكَذَا لَوْ أَدَّى رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ أَوْ مَكَثَ بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ أَدَاءِ رُكْنٍ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ وَلَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَلَهُ مِنْهُ بُدٌّ. وَكَذَا لَوْ اسْتَقَى مِنْ الْبِئْرِ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَوْ مَشَى إلَى الْوُضُوءِ فَاغْتَرَفَ الْمَاءَ مِنْ الْإِنَاءِ أَوْ اسْتَقَى مِنْ الْبِئْرِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فَتَوَضَّأَ جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ أَمْرٌ لَا بُدَّ لِلْبِنَاءِ مِنْهُ وَالْمَشْيُ وَالِاغْتِرَافُ وَالِاسْتِقَاءُ عِنْدَ الْحَاجَةِ مِنْ ضَرُورَاتِ الْوُضُوءِ وَلَوْ اسْتَنْجَى فَإِنْ كَانَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ بَطَلَ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ وَلِلْبِنَاءِ مِنْهُ بُدٌّ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنْ اسْتَنْجَى تَحْتَ ثِيَابِهِ بِحَيْثُ لَا تَنْكَشِفُ عَوْرَتُهُ جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ فَكَانَ مِنْ تَتِمَّاتِهِ. وَلَوْ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ فَإِنَّهُ قَالَ إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ بِالْغَسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ إدْخَالَ عَمَلٍ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ فَيُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ بَابِ إكْمَالِ الْوُضُوءِ وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى إقَامَةِ الصَّلَاةِ عَلَى وَصْفِ الْكَمَالِ وَذَلِكَ بِتَحْصِيلِ الْوُضُوءِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فَتُتَحَمَّلُ الزِّيَادَةُ كَمَا يُتَحَمَّلُ الْأَصْلُ وَهَذَا جَوَابُ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْمَشِ فَإِنَّ عِنْدَهُ الْمَرَّةَ الْأَوْلَى هِيَ الْفَرْضُ وَالثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ نَفْلٌ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ فَالثَّلَاثَةُ كُلُّهَا فَرْضٌ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ لَمَّا الْتَحَقَتَا بِالْأُولَى صَارَ الْكُلُّ وُضُوءًا وَاحِدًا فَيَصِيرُ الْكُلُّ فَرْضًا كَالْقِيَامِ إذَا طَالَ وَالْقِرَاءَةِ أَوْ الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ، وَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَوْعَبَ الْمَسْحَ وَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَأَتَى بِسَائِرِ سُنَنِ الْوُضُوءِ جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ إكْمَالِ الْوُضُوءِ فَكَانَ مِنْ تَوَابِعِهِ فَيُتَحَمَّلُ كَمَا يُتَحَمَّلُ الْأَصْلُ، وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِالْوُضُوءِ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَلَمْ يَجِدْ مَاءً تَيَمَّمَ وَبَنَى؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ جَائِزٌ فَالْبِنَاءُ أَوْلَى فَإِنْ تَيَمَّمَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ مَا عَادَ إلَى مَقَامِهِ اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ وَإِنْ وَجَدَهُ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ، وَقِيلَ الْقِيَاسُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مُتَيَمِّمٌ وَجَدَ الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ كَمَا إذَا عَادَ إلَى مَكَانِهِ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ قَدْرَ مَا مَشَى مُتَيَمِّمًا حَصَّلَ فِعْلًا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَلَا يُعْفَى. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِعْلًا فِي الصَّلَاةِ هُوَ مُضَادٌّ لَهَا فَلَا يُفْسِدُهَا، وَمَا مَشَى كُلَّ ذَلِكَ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ لِتَحْصِيلِ التَّطْهِيرِ فَلَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَادَ إلَى مَكَانِهِ ثُمَّ وَجَدَ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَادَ إلَى مَكَانِهِ وُجِدَ أَدَاءُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَإِنْ قَلَّ مَعَ التَّيَمُّمِ فَظَهَرَ بِوُجُودِ الْمَاءِ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ السَّابِقِ، وَإِنَّ التَّيَمُّمَ مَا كَانَ طَهَارَتُهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَدَّى شَيْئًا مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ جَوَازِ الْبِنَاءِ لَا يَخْتَلِفُ سِيَّمَا إذَا كَانَ الْحَدَثُ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي آخِرِهَا حَتَّى لَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ بِلَفْظَةِ السَّلَامِ الَّتِي هِيَ وَاجِبَةٌ أَوْ سُنَّةٌ عِنْدَنَا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الطَّهَارَةِ، وَكَذَا لَا يَخْتَلِفُ

فصل الكلام في محل البناء وكيفيته في الصلاة

الْجَوَابُ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ سِيَّمَا إذَا صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ عَلَى عِلْمٍ بِالْحَدَثِ أَوْ عَلَى ظَنٍّ بِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ أَحْدَثَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَجَعَ وَبَنَى فَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ لَا يَبْنِي. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَبْنِي فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ كَمَا إذَا عَلِمَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَكَمَا إذَا انْصَرَفَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ أَوْ كَانَ مُتَيَمِّمًا فَرَأَى سَرَابًا فَظَنَّهُ مَاءً فَانْصَرَفَ فَإِنَّهُ لَا يَبْنِي سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ خَارِجَ الْمَسْجِدِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ حُكْمَ الْمَكَانِ لَمْ يَتَبَدَّلْ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَالِانْصِرَافُ لَمْ يَكُنْ عَلَى قَصْدِ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ وَعَزْمِ الرَّفْضِ بَلْ لِإِصْلَاحِ صَلَاتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ مَا تَوَهَّمَ تَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ فَسَقَطَ حُكْمُ هَذَا الِانْصِرَافِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْصَرِفْ بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَلِمَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمَكَانِ قَدْ تَبَدَّلَ وَبِخِلَافِ تِلْكَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الِانْصِرَافَ لَيْسَ لِإِصْلَاحِ صَلَاتِهِ بَلْ لِقَصْدِ الْخُرُوجِ عَنْ الصَّلَاةِ وَعَزْمِ الرَّفْضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ مَا تَوَهَّمَ لَا يُمْكِنُهُ الْبِنَاءُ فَأَشْبَهَ الْكَلَامَ وَالْحَدَثَ الْعَمْدَ وَالْقَهْقَهَةَ، وَعَلَى هَذَا إذَا سَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ سَاهِيًا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ أَحْدَثَ سَوَاءٌ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَذُكِرَ فِي الْعُيُونِ أَنَّهُ إذَا صَلَّى الْعِشَاءَ فَظَنَّ بَعْدَ رَكْعَتَيْنِ أَنَّهَا تَرْوِيحَةٌ فَسَلَّمَ أَوْ صَلَّى الظُّهْرَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ أَوْ يَظُنُّ أَنَّهُ مُسَافِرٌ فَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْعِشَاءَ وَالظُّهْرَ، وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ هَذَا إذَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَأَمَّا إذَا كَانَ يُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ فَإِنْ كَانَ يُصَلِّي بِجَمَاعَةٍ يُعْطَى لِمَا انْتَهَى إلَيْهِ الصُّفُوفُ حُكْمَ الْمَسْجِدِ إنْ مَشَى يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً أَوْ خَلْفًا، وَإِنْ مَشَى أَمَامَهُ وَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِنَاءٌ وَلَا سُتْرَةٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ وَالصَّحِيحُ هُوَ التَّقْدِيرُ بِمَوْضِعِ السُّجُودِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِنَاءٌ أَوْ سُتْرَةٌ فَإِنَّهُ يَبْنِي مَا لَمْ يُجَاوِزْهُ؛ لِأَنَّ السُّتْرَةَ تَجْعَلُ لِمَا دُونَهَا حُكْمَ الْمَسْجِدِ حَتَّى لَا يُبَاحُ الْمُرُورُ دَاخِلَ السُّتْرَةِ وَيُبَاحُ خَارِجُهَا، وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي وَحْدَهُ فَمَسْجِدُهُ قَدْرُ مَوْضِعِ سُجُودِهِ مِنْ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعِ إلَّا إذَا مَشَى أَمَامَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ فَيُعْطَى لِدَاخِلِ السُّتْرَةِ حُكْمَ الْمَسْجِدِ، لِمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَيَتَوَضَّأَ وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِيَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ الْفَرْضِ بِيَقِينٍ. [فَصْلٌ الْكَلَامُ فِي مَحَلِّ الْبِنَاءِ وَكَيْفِيَّتِهِ فِي الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : الْكَلَامُ فِي مَحَلِّ الْبِنَاءِ وَكَيْفِيَّتِهِ. فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ، الْمُصَلِّي لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ مُقْتَدِيًا أَوْ إمَامًا فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَتَمَّ صَلَاتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَوَضَّأَ فِيهِ وَإِنْ شَاءَ عَادَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَتَمَّ الصَّلَاةَ حَيْثُ هُوَ فَقَدْ سَلِمَتْ صَلَاتُهُ عَنْ الْمَشْيِ لَكِنَّهُ صَلَّى صَلَاةً وَاحِدَةً فِي مَكَانَيْنِ، وَإِنْ عَادَ إلَى مُصَلَّاهُ فَقَدْ أَدَّى جَمِيعَ الصَّلَاةِ فِي مَكَان وَاحِدٍ لَكِنْ مَعَ زِيَادَةِ مَشْيٍ فَاسْتَوَى الْوَجْهَانِ فَيُخَيَّرُ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يُصَلِّي فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَوَضَّأَ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ. وَلَوْ أَتَى الْمَسْجِدَ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ زِيَادَةَ مَشْيٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ إلَى الْمَاءِ وَالْعَوْدَ إلَى مَكَانِ الصَّلَاةِ أُلْحِقَ بِالْعَدَمِ شَرْعًا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ إمَامُهُ مِنْ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي بَعْدُ. وَلَوْ لَمْ يَعُدْ وَأَتَمَّ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ لَا يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ صَلَّى مُقْتَدِيًا بِإِمَامِهِ لَا يَصِحُّ؛ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الِاقْتِدَاءِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْبُقْعَةِ إلَّا إذَا كَانَ بَيْتُهُ قَرِيبًا مِنْ الْمَسْجِدِ بِحَيْثُ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ وَإِنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا فِي بَيْتِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الِانْفِرَادَ فِي حَالِ وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ تَغَيُّرًا وَقَدْ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَهُوَ الصَّلَاةُ مُقْتَدِيًا وَمَا أَدَّى وَهُوَ الصَّلَاةُ مُنْفَرِدًا لَمْ يُوجَدْ لَهُ ابْتِدَاءُ تَحْرِيمَةٍ وَهُوَ بَعْضُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُنْتَقِلًا عَمَّا كَانَ هُوَ فِيهِ إلَى هَذَا فَيَبْطُلُ ذَلِكَ. وَمَا حَصَلَ فِيهِ بَعْضُ الصَّلَاةِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ كُلِّ الصَّلَاةِ بِأَدَاءِ هَذَا الْقَدْرِ، ثُمَّ إذَا عَادَ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ أَوَّلًا بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ فِي حَالِ تَشَاغُلِهِ بِالْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ لَاحِقٌ فَكَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ فَيَقُومُ مِقْدَارَ قِيَامِ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ وَمِقْدَارَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ وَلَا يَضُرُّهُ إنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ. وَلَوْ تَابَعَ إمَامَهُ أَوَّلًا ثُمَّ اشْتَغَلَ بِقَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ شَرْطٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَغَ إمَامُهُ مِنْ الصَّلَاةِ يُخَيَّرُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُنْفَرِدِ تَوَضَّأَ وَقَدْ فَرَغَ

فصل الكلام في الاستخلاف في الصلاة

الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّانِيَةِ لَا يَقْعُدُ هَذَا الْمُقْتَدِي فِي الثَّانِيَةِ. وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ أَنَّهُ يَقْعُدُ، ذِكْرُ الْمَسْأَلَةِ فِي النَّوَادِرِ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَوْلَى وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْوَاجِبِ إلَّا لِأَمْرٍ فَوْقَهُ كَمَا إذَا كَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَتَرَكَ الْإِمَامُ الْقَعْدَةَ وَقَامَ بِتَرْكِهَا الْمُقْتَدِي مُوَافَقَةً لِلْإِمَامِ فِيمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ وَهُوَ الْقِيَامُ لِكَوْنِهِ فَرْضًا وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي اللَّاحِقِ؛ لِأَنَّ مُوَافَقَةَ الْإِمَامِ بَعْدَ فَرَاغِهِ لَا تَتَحَقَّقُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِالْقَعْدَةِ، وَلَنَا أَنَّ اللَّاحِقَ خَلْفَ الْإِمَامِ تَقْدِيرًا حَتَّى يَسْجُدَ لِسَهْوِ الْإِمَام وَلَا يَسْجُدُ لِسَهْوِ نَفْسِهِ وَلَا يَقْرَأُ فِي الْقَضَاءِ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ. وَلَوْ كَانَ خَلْفَهُ حَقِيقَةً يَتْرُكُ الْقَعْدَةَ مُتَابَعَةً لِلْإِمَامِ فَكَذَا إذَا كَانَ خَلْفَهُ تَقْدِيرًا، وَإِنْ كَانَ إمَامًا يَسْتَخْلِفُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ وَالْأَمْرُ فِي مَوْضِعِ الْبِنَاءِ وَكَيْفِيَّتِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُقْتَدِي؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِخْلَافِ تَحَوَّلَتْ الْإِمَامَةُ إلَى الثَّانِي وَصَارَ هُوَ كَوَاحِدٍ مِنْ الْمُقْتَدِينَ بِهِ. [فَصْلٌ الْكَلَامُ فِي الِاسْتِخْلَافِ فِي الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الِاسْتِخْلَافِ. فِي مَوَاضِعَ: أَحَدِهَا فِي جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالثَّانِي فِي شَرَائِطِ جَوَازِهِ، وَالثَّالِثِ فِي بَيَانِ حُكْمِ الِاسْتِخْلَافِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَجُوزُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ وَيُصَلِّي الْقَوْمُ وُحْدَانًا بِلَا إمَامٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْإِمَامِ إذْ هُوَ فِي نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُنْفَرِدِ فَلَا يَمْلِكُ النَّقْلَ إلَى غَيْرِهِ وَكَذَا الْقَوْمُ لَا يَمْلِكُونَ النَّقْلَ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْإِمَامَةُ لَا بِتَفْوِيضٍ مِنْهُمْ بَلْ بِاقْتِدَائِهِمْ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ الِاقْتِدَاءُ بِالثَّانِي؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالتَّكْبِيرَةِ وَهِيَ مُنْعَدِمَةٌ فِي حَقِّ الثَّانِي بِخِلَافِ الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ وِلَايَاتٍ تَثْبُتُ لَهُ شَرْعًا بِالتَّفْوِيضِ وَالْبَيْعَةِ كَمَا يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ وَالْقَاضِي فَيَقْبَلُ التَّمْلِيكَ وَالْعَزْلَ لَنَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَقَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ وَلْيُقَدِّمْ مَنْ لَمْ يُسْبَقْ بِشَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ وَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ» . وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ اثْنَيْنِ وَقَدْ افْتَتَحَ أَبُو بَكْرٍ الصَّلَاةَ فَلَمَّا سَمِعَ حِسَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَأَخَّرَ وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَافْتَتَحَ الْقِرَاءَةَ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي انْتَهَى إلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ» وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْمُضِيِّ لِكَوْنِ الْمُضِيِّ مِنْ بَابِ التَّقَدُّمِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] فَصَارَ هَذَا أَصْلًا فِي حَقِّ كُلِّ إمَامٍ عَجَزَ عَنْ الْإِتْمَامِ أَنْ يَتَأَخَّرَ وَيَسْتَخْلِفَ غَيْرَهُ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَتَأَخَّرَ وَقَدَّمَ رَجُلًا، وَعَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلُهُ؛ وَلِأَنَّ بِهِمْ حَاجَةً إلَى تَمَامِ صَلَاتِهِمْ بِالْإِمَامِ وَقَدْ الْتَزَمَ الْإِمَامُ ذَلِكَ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ بِنَفْسِهِ يَسْتَعِينُ بِمَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُمْ كَيْ لَا تَبْطُلَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ بِالْمُنَازَعَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْإِمَامَ لَا وِلَايَةَ لَهُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَهُ وِلَايَةُ الْمَتْبُوعِيَّةِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ وَأَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُمْ إلَّا بِنَاءً عَلَى صَلَاتِهِ وَأَنْ يَقْرَأَ فَتَصِيرَ قِرَاءَتُهُ قِرَاءَةً لَهُمْ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ الْإِمَامَةِ بِنَفْسِهِ مَلَكَ النَّقْلَ إلَى غَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الْإِمَامَةَ الْكُبْرَى عَلَى أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْخِلَافَةِ لَا مِنْ بَابِ التَّفْوِيضِ وَالتَّمْلِيكِ فَإِنَّ الثَّانِيَ يَخْلُفُ الْأَوَّلَ فِي بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ كَالْوَارِثِ يَخْلُفُ الْمَيِّتَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ أَمْوَالِهِ وَالْخِلَافَةُ لَا تَفْتَقِرُ إلَى الْوِلَايَةِ وَالْأَمْرِ بَلْ شَرْطُهَا الْعَجْزُ، وَإِنَّمَا التَّقْدِيمُ مِنْ الْإِمَامِ لِلتَّعْيِينِ كَيْ لَا تَبْطُلَ بِالْمُنَازَعَةِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْقَ خَلْفَهُ إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ يَصِيرُ إمَامًا وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ وَلَا فَوَّضَ إلَيْهِ، وَكَذَا التَّقْدِيمُ مِنْ الْقَوْمِ لِلتَّعْيِينِ دُونَ التَّفْوِيضِ فَصَارَ كَالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى فَإِنَّ الْبَيْعَةَ لِلتَّعْيِينِ لَا لِلتَّمْلِيكِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ يَمْلِكُ أُمُورًا لَا تَمْلِكُهَا الرَّعِيَّةُ وَهِيَ إقَامَةُ الْحُدُودِ فَكَذَا هَذَا فَإِنْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ الْإِمَامُ وَاسْتَخْلَفَ الْقَوْمُ رَجُلًا جَازَ مَا دَامَ الْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَوْ اسْتَخْلَفَ كَانَ سَعْيُهُ لِلْقَوْمِ نَظَرًا لَهُمْ كَيْ لَا تَبْطُلَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ فَإِذَا فَعَلُوا بِأَنْفُسِهِمْ جَازَ كَمَا فِي الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى لَوْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ الْإِمَامُ غَيْرَهُ وَمَاتَ وَاجْتَمَعَ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ وَنَصَّبُوا مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ فَعَلَ فَعَلَ لَهُمْ فَجَازَ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ كَذَا هَذَا، وَلَوْ تَقَدَّمَ وَاحِدٌ مِنْ الْقَوْمِ مِنْ غَيْرِ اسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ وَتَقْدِيمِ الْقَوْمِ وَالْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ جَازَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بِهِ حَاجَةً إلَى صِيَانَةِ صَلَاتِهِ وَلَا طَرِيقَ لَهَا عِنْدَ امْتِنَاعِ الْإِمَامِ عَنْ الِاسْتِخْلَافِ وَالْقَوْمِ عَنْ التَّقْدِيمِ إلَّا ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا ائْتَمُّوا بِهِ فَقَدْ رَضُوا بِقِيَامِهِ مَقَامَ الْأَوَّلِ فَجُعِلَ كَأَنَّهُمْ قَدَّمُوهُ، وَلَوْ قَدَّمَ الْإِمَامُ أَوْ الْقَوْمُ رَجُلَيْنِ فَإِنْ وَصَلَ أَحَدُهُمَا

إلَى مَوْضِعِ الْإِمَامَةِ قَبْلَ الْآخَرِ تَعَيَّنَ هُوَ لِلْإِمَامَةِ. وَجَازَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ اقْتَدَى بِهِ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الثَّانِي وَصَلَاةُ مَنْ اقْتَدَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا تَقَدَّمَ بِتَقْدِيمِ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ لِتَقْدِيمٍ قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَصَارَ إمَامًا لِلْكُلِّ كَالْأَوَّلِ فَصَارَ الْإِمَامُ الثَّانِي وَمَنْ اقْتَدَى بِهِ مُنْفَرِدِينَ عَمَّنْ صَارَ إمَامًا لَهُمْ فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ لِمَا مَرَّ مِنْ الْفِقْهِ، وَإِنْ وَصَلَا مَعًا فَإِنْ اقْتَدَى الْقَوْمُ بِأَحَدِهِمَا تَعَيَّنَ هُوَ لِلْإِمَامَةِ وَإِنْ اقْتَدَوْا بِهِمَا جَمِيعًا بَعْضُهُمْ بِهَذَا وَبَعْضُهُمْ بِذَاكَ فَإِنْ اسْتَوَتْ الطَّائِفَتَانِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَصِحَّ اسْتِخْلَافُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ لِمَكَانِ التَّعَارُضِ فَبَطَلَتْ إمَامَتُهُمَا وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْكُلِّ لِخُرُوجِ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ عَنْ الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ خَلِيفَةٍ لِلْقَوْمِ وَلِأَدَائِهِمْ الصَّلَاةَ مُنْفَرِدِينَ فِي حَالِ وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: صَحَّ تَقْدِيمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِعَدَمِ تَرْجِيحِ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَ عَلَيْهِ فَجُعِلَ فِي حَقِّ كُلِّ فَرِيقٍ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ إمَامُ كُلِّ طَائِفَةٍ إمَامًا لِلْكُلِّ كَإِمَامِ أَكْثَرِ الطَّائِفَتَيْنِ عِنْدَ التَّفَاوُتِ وَعَدَمِ الِاسْتِوَاءِ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى إمَامِ كُلِّ طَائِفَةٍ وَمَنْ تَابَعَهُ الِاقْتِدَاءُ بِالْآخَرِ فَإِنْ لَمْ يَقْتَدُوا جُعِلُوا مُنْفَرِدِينَ أَوْ أَنَّ وُجُوبَ الِاقْتِدَاءِ وَإِنْ اقْتَدَوْا أَدَّوْا صَلَاةً وَاحِدَةً فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِإِمَامَيْنِ وَذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ فَلَمْ يَجُزْ. وَلَوْ كَانَتْ الطَّائِفَتَانِ عَلَى التَّفَاوُتِ فَإِنْ اقْتَدَى جَمَاعَةُ الْقَوْمِ بِأَحَدِ الْإِمَامَيْنِ إلَّا رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ اقْتَدَيَا بِالثَّانِي فَصَلَاةُ مِنْ اقْتَدَى بِهِ الْجَمَاعَةُ صَحِيحَةٌ وَصَلَاةُ الْآخَرِ وَمَنْ اقْتَدَى بِهِ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا وَصَلَا مَعًا وَقَدْ تَعَذَّرَ أَنْ يَكُونَا إمَامَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّرْجِيحِ وَأَمْكَنَ التَّرْجِيحُ بِالْكَثْرَةِ نَصًّا وَاعْتِبَارًا، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ» ، وَقَوْلُهُ «مَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ» ، وَقَوْلُهُ «كَدَرُ الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِنْ صَفْوِ الْفِرْقَةِ» . وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ فَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى حَتَّى قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الشُّورَى: إنْ اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ وَخَالَفَهُمْ وَاحِدٌ فَاقْتُلُوهُ، وَإِنْ اقْتَدَى بِكُلِّ إمَامٍ جَمَاعَةٌ لَكِنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْ الْآخَرِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: تَفْسُدُ صَلَاةُ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا وَإِلَيْهِ مَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ فَقَالَ: إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمْعٌ تَامٌّ يَتِمُّ بِهِ نِصَابُ الْجُمُعَةِ فَيَكُونُ الْأَقَلُّ مُسَاوِيًا لِلْأَكْثَرِ حُكْمًا كَالْمُدَّعِيَيْنِ يُقِيمُ أَحَدُهُمَا شَاهِدَيْنِ وَالْآخَرُ أَرْبَعَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَازَتْ صَلَاةُ الْأَكْثَرِينَ وَتَعَيَّنَ الْفَسَادُ فِي الْآخَرِينَ كَمَا فِي الْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الشَّيْخُ صَدْرُ الدِّينِ أَبُو الْمُعِينِ وَاسْتَدَلَّ بِوَضْعِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَالَ: إذَا قَدَّمَ الْقَوْمُ أَوْ الْإِمَامُ رَجُلَيْنِ فَأَمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً جَازَتْ صَلَاةُ أَكْثَرِ الطَّائِفَتَيْنِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ لَوْ كَانَتْ جَمَاعَةً تَرْجَحُ أَيْضًا بِالْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الطَّائِفَةِ فِي اللُّغَةِ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ لَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثَّلَاثِ لَدَخَلَ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَالَ تَعَالَى {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154] وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ كَانَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً وَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ أَمِيرَ عَسْكَرٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَالَ: مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ بِشَيْءٍ فَلَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُ فَجَاءَ رَجُلٌ بِرُءُوسٍ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَنْفُلُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى حَتَّى إنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ نِصْفَ مَا أَتَى بِهِ أَوْ أَكْثَرَ بِأَنْ كَانَتْ الرُّءُوسُ عَشْرَةً فَرَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُعْطِيَ تِسْعَةً مِنْ ذَلِكَ لِهَذَا الرَّجُلِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ اسْمَ الطَّائِفَةِ يَقَعُ عَلَى الْجَمَاعَةِ فَيُرَجَّحُ بِالْكَثْرَةِ لِمَا مَرَّ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. هَذَا إذَا كَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ الَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ فَأَمَّا إذَا كَانَ خَلْفَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ صَارَ إمَامًا نَوَى الْإِمَامَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ، قَامَ فِي مَكَانِ الْإِمَامِ أَوْ لَمْ يَقُمْ، قَدَّمَهُ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يُقَدِّمْهُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ تَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْمِ لِلْإِمَامَةِ مَا لَمْ يُقَدِّمْهُ أَوْ يَتَقَدَّمْ حَتَّى بَقِيَتْ الْإِمَامَةُ لِلْأَوَّلِ كَانَ بِحُكْمِ التَّعَارُضِ وَعَدَمِ تَرْجِيحِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، وَهَهُنَا لَا تَعَارُضَ فَتَعَيَّنَ هُوَ لِحَاجَتِهِ إلَى إبْقَاءِ صَلَاتِهِ عَلَى الصِّحَّةِ وَصَلَاحِيَّتِهِ لِلْإِمَامَةِ حَتَّى إنَّ الْإِمَامَ الْأَوَّلَ لَوْ أَفْسَدَ صَلَاتَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ هَذَا الثَّانِي، وَالثَّانِي لَوْ أَفْسَدَ صَلَاتَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَارَ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي بِالثَّانِي وَفَسَادُ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي لَا تُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَلِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ أَثَرٌ فِي فَسَادِ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي وَدَخَلَ فِي صَلَاةِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَحَوَّلَتْ إلَيْهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَوَجَدَ الْمَاءَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَوَضَّأَ قَالَ: يُتِمُّ صَلَاتَهُ مُقْتَدِيًا بِالثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ لِلْإِمَامَةِ فَبِنَفْسِ انْصِرَافِهِ تَتَحَوَّلُ الْإِمَامَةُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ فَتَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ عَادَ إلَى مَكَانِ الْإِمَامَةِ

فصل شرائط جواز الاستخلاف

وَصَلَّى بِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَتَحَوَّلُ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا بِالِاسْتِخْلَافِ وَلَمْ يُوجَدْ، فَإِنْ جَاءَ رَجُلٌ وَاقْتَدَى بِهَذَا الثَّانِي ثُمَّ أَحْدَثَ الثَّانِي صَارَ الثَّالِثُ إمَامًا لِتَعَيُّنِهِ لِذَلِكَ فَإِنْ أَحْدَثَ الثَّالِثُ وَخَرَجَ قَبْلَ رُجُوعِهِمَا أَوْ رُجُوعِ أَحَدِهِمَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّالِثَ لَمَّا صَارَ إمَامًا صَارَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مُقْتَدِيَيْنِ بِهِ فَإِذَا خَرَجَ هُوَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مُنْفَرِدٌ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي؛ لِأَنَّ إمَامَهُمَا خَرَجَ عَنْ الْمَسْجِدِ فَتَحَقَّقَ تَبَايُنُ الْمَكَانِ فَفَسَدَ الِاقْتِدَاءُ لِفَوْتِ شَرْطِهِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْبُقْعَةِ، وَإِنْ كَانَ تَبَايُنُ الْمَكَانِ مَوْجُودًا حَالَ بَقَائِهِ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا لِحَاجَةِ الْمُقْتَدِي إلَى صِيَانَةِ صَلَاتِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَهَهُنَا لَا حَاجَةَ لِكَوْنِ ذَلِكَ فِي حَدِّ النُّدْرَةِ وَلَوْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ ثُمَّ خَرَجَ الثَّالِثُ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّ الرَّاجِعَ صَارَ إمَامًا لَهُمْ لِتَعَيُّنِهِ. وَلَوْ رَجَعَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فَإِنْ قُدِّمَ أَحَدُهُمَا صَارَ هُوَ الْإِمَامُ وَإِنْ لَمْ يُقَدَّمْ حَتَّى خَرَجَ الثَّالِثُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَصِرْ إمَامًا لِلتَّعَارُضِ وَعَدَمِ التَّرْجِيحِ فَبَقِيَ الثَّالِثُ إمَامًا فَإِذَا خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ شَرْطُ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْبُقْعَةِ فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا. [فَصْلٌ شَرَائِطُ جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ. فَمِنْهَا أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ شَرْطُ جَوَازِ الْبِنَاءِ فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ حَتَّى لَا يَجُوزَ مَعَ الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ وَالْقَهْقَهَةِ وَسَائِرِ نَوَاقِضِ الصَّلَاةِ كَمَا لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ مَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ يَكُونُ لِلْقَائِمِ وَلَا قِيَامَ لِلصَّلَاةِ مَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَلْ تَفْسُدُ وَلَوْ حُصِرَ الْإِمَامُ عَنْ الْقِرَاءَةِ فَاسْتَخْلَفَ غَيْرَهُ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وَتَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ جَوَازَ الِاسْتِخْلَافِ حُكْمٌ ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ الَّذِي هُوَ غَالِبُ الْوُقُوعِ، وَالْحَصْرُ فِي الْقِرَاءَةِ لَيْسَ نَظِيرَهُ فَالنَّصُّ الْوَارِدُ ثَمَّةَ لَا يَكُونُ وَارِدًا هُنَا وَصَارَ كَالْإِغْمَاءِ وَالْجُنُونِ وَالِاحْتِلَامِ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَمْنَعُ الِاسْتِخْلَافَ، كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّا جَوَّزْنَا الِاسْتِخْلَافَ هَهُنَا بِالنَّصِّ الْخَاصِّ لَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِجَمَاعَةٍ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَوَجَدَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِفَّةً فَحَضَرَ الْمَسْجِدَ فَلَمَّا أَحَسَّ الصِّدِّيقُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَضَرَ فِي الْقِرَاءَةِ فَتَأَخَّرَ وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ» ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا جَازَ لَهُ يَكُونُ جَائِزًا لِأُمَّتِهِ هُوَ الْأَصْلُ لِكَوْنِهِ قُدْوَةً. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِخْلَافُ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ خَرَجَ عَنْ الْمَسْجِدِ قَبْلَ أَنْ يُقَدِّمَ هُوَ أَوْ يُقَدِّمَ الْقَوْمُ إنْسَانًا أَوْ يَتَقَدَّمَ أَحَدٌ بِنَفْسِهِ فَصَلَاةُ الْقَوْمِ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ اخْتَلَفَ مَكَانُ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ فَبَطَلَ الِاقْتِدَاءُ لِفَوْتِ شَرْطِهِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْمَكَانِ وَهَذَا لِأَنَّ غَيْرَهُ إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ بَقِيَ هُوَ إمَامًا فِي نَفْسِهِ كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَخْرُجُ عَنْ الْإِمَامَةِ لِقِيَامِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ وَانْتِقَالِ الْإِمَامَةِ إلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ وَالْمَكَانُ قَدْ اخْتَلَفَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلَا تُشْكِلُ. وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ إذَا اقْتَدَى بِمَنْ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ وَلَيْسَتْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَعُدَ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ حُكْمًا وَلِهَذَا حُكِمَ بِجَوَازِ الِاقْتِدَاءِ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ لَمْ تَتَّصِلْ الصُّفُوفُ كَذَلِكَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ بِخِلَافِ الْمُقْتَدِي إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ وَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ حَيْثُ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ وَإِنْ فَاتَ شَرْطُ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْمَكَانِ فَإِنَّ هُنَاكَ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ صِيَانَةَ صَلَاتِهِ لَنْ تَحْصُلَ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَإِنَّ صِيَانَةَ صَلَاةِ الْقَوْمِ تُمْكِنُهُ بِأَنْ يَسْتَخْلِفَ الْإِمَامُ أَوْ يُقَدِّمَ الْقَوْمُ رَجُلًا أَوْ يَتَقَدَّمَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا فَقَدْ فَرَضُوا وَمَا سَعَوْا فِي صِيَانَةِ صَلَاتِهِمْ فَتَفْسُدُ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا الْمُقْتَدِي فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي وُسْعِهِ فَبَقِيَتْ صَلَاتُهُ صَحِيحَةً لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْإِتْمَامِ. وَأَمَّا حَالُ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْأَصْلِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ صَلَاتَهُ تَفْسُدُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَرْكَ اسْتِخْلَافِهِ لَمَّا أَثَّرَ فِي فَسَادِ صَلَاةِ الْقَوْمِ فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ فِي فَسَادِ صَلَاتِهِ أَوْلَى، وَذَكَرَ أَبُو عِصْمَةَ أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَفْسُدُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُنْفَرِدِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَالْمُنْفَرِدُ الَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَذَهَبَ لِيَتَوَضَّأَ بَقِيَتْ صَلَاتُهُ صَحِيحَةً كَذَا هَذَا. وَلَوْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ صُفُوفٌ مُتَّصِلَةٌ فَخَرَجَ الْإِمَامُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَلَمْ يُجَاوِزْ الصُّفُوفَ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْقَوْمِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَفْسُدُ حَتَّى لَوْ اسْتَخْلَفَ

الْإِمَامُ رَجُلًا مِنْ الصُّفُوفِ الْخَارِجَةِ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ يَصِحُّ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَوَاضِعَ الصُّفُوفِ لَهَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى فِي الصَّحْرَاءِ جَازَ اسْتِخْلَافُهُ مَا لَمْ يُجَاوِزْ الصُّفُوفَ؟ فَجَعَلَ الْكُلَّ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ وَلَهُمَا أَنَّ الْبُقْعَةَ مُخْتَلِفَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ أَعْطَى لَهَا حُكْمَ الِاتِّحَادِ إذَا كَانَتْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً بِالْمَسْجِدِ فِي حَقِّ الْخَارِجِ عَنْ الْمَسْجِدِ خَاصَّةً لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى الْأَدَاءِ فَلَا يَظْهَرُ الِاتِّحَادُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ كَبَّرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَكَبَّرَ الْقَوْمُ بِتَكْبِيرِهِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَمْ تَنْعَقِدْ الْجُمُعَةُ؟ وَإِذَا ظَهَرَ حُكْمُ اخْتِلَافِ الْبُقْعَةِ فِي حَقِّ الْمُسْتَخْلِفِ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِخْلَافُ هَذَا إذَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَإِنْ كَانَ يُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ فَمُجَاوَزَةُ الصُّفُوفِ بِمَنْزِلَةِ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ إنْ مَشَى عَلَى يَمِينِهِ أَوْ عَلَى يَسَارِهِ أَوْ خَلْفَهُ فَإِنْ مَشَى أَمَامَهُ وَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ فَإِنْ جَاوَزَ مِقْدَارَ الصُّفُوفِ الَّتِي خَلْفَهُ أُعْطِيَ لَهُ حُكْمَ الْخُرُوجِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ إذَا جَاوَزَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ يُعْطَى لِدَاخِلِ السُّتْرَةِ حُكْمَ الْمَسْجِدِ لِمَا مَرَّ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُقَدِّمُ صَالِحًا لِلْخِلَافَةِ حَتَّى لَوْ اسْتَخْلَفَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ كَذَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي بَابِ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ الْمُحْدِثَ لَا يَصْلُحُ خَلِيفَةً فَكَانَ اشْتِغَالُهُ بِاسْتِخْلَافِ مَنْ لَا يَصْلُحُ خَلِيفَةً لَهُ عَمَلًا كَثِيرًا لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَكَانَ إعْرَاضًا عَنْ الصَّلَاةِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْقَوْمِ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا اسْتَخْلَفَهُ فَقَدْ اقْتَدَى بِهِ وَمَتَى صَارَ هُوَ مُقْتَدِيًا بِهِ صَارَ الْقَوْمُ أَيْضًا مُقْتَدِينَ بِهِ وَالِاقْتِدَاءُ بِالْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ لَا يَصِحُّ فَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ جَمِيعًا وَهَذَا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ حَدَثَ الْإِمَامِ إذَا تَبَيَّنَ لِلْقَوْمِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ فَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ عِنْدَنَا فَكَذَا فِي حَالِ الِاسْتِخْلَافِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذَا اقْتَدَوْا بِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ مُحْدِثًا لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ وَإِذَا لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ ثُمَّ عَلِمُوا بَعْدَ الْفَرَاغِ فَصَلَاتُهُمْ تَامَّةٌ فَكَذَا فِي حَالِ الِاسْتِخْلَافِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِخْلَافَ الْمُحْدِثِ صَحِيحٌ حَتَّى لَا تَفْسُدَ صَلَاتُهُ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا قَدَّمَ الْإِمَامُ رَجُلًا وَالْمُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَلَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ يَنْوِي أَنْ يَؤُمَّ النَّاسَ حَتَّى قَدَّمَ غَيْرَهُ صَحَّ الِاسْتِخْلَافُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْخِلَافَةِ؛ لَمَا صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ غَيْرَهُ وَلَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ بِاسْتِخْلَافِهِ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ فَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْقَوْمِ وَحِينَئِذٍ لَا يَصِحُّ اسْتِخْلَافُ الْمُقَدَّمِ غَيْرَهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُقَدَّمَ مِنْ أَهْلِ الْإِمَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنَّمَا التَّعَذُّرُ لِمَكَانِ الْحَدَثِ فَصَارَ أَمْرُهُ بِمَنْزِلَةِ أَمْرِ الْإِمَامِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَّمَ صَبِيًّا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا يَصْلُحُ خَلِيفَةً لِلْإِمَامِ فِي الْفَرْضِ كَمَا لَا يَصْلُحُ أَصِيلًا فِي الْإِمَامَةِ فِي الْفَرَائِضِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِنَا أَيْضًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْبَالِغِ بِالصَّبِيِّ فِي الْمَكْتُوبَةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَصِحُّ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ. وَكَذَلِكَ إنْ قَدَّمَ الْإِمَامُ الْمُحْدِثُ امْرَأَةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ جَمِيعًا مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْإِمَامِ وَالْمُقَدَّمِ، وَقَالَ زُفَرُ صَلَاةُ الْمُقَدَّمِ وَالنِّسَاءِ جَائِزَةٌ وَإِنَّمَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الرِّجَالِ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ النِّسَاءِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنَّمَا لَا تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَنَا أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» فَصَارَ بِاسْتِخْلَافِهِ إيَّاهَا مُعْرِضًا عَنْ الصَّلَاةِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَتَفْسُدُ صَلَاةُ الْقَوْمِ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ لَمْ تَتَحَوَّلْ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَّمَ الْأُمِّيَّ أَوْ الْعَارِيَ أَوْ الْمُومِيَ وَقَالَ زُفَرُ: إنَّ الْإِمَامَ إذَا قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ فَاسْتَخْلَفَ أُمِّيًّا فِي الْأُخْرَيَيْنِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ؛ لِاسْتِوَاءِ حَالِ الْقَارِئِ وَالْأُمِّيِّ فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِتَأَدِّي فَرْضِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّ اسْتِخْلَافَ مَنْ لَا يَصْلُحُ إمَامًا لَهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ مِنْهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَخْلَفَهُ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ مِنْ الْمَسَائِلِ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: لَا تَفْسُدُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِوُجُودِ الصُّنْعِ مِنْهُ هَهُنَا وَهُوَ الِاسْتِخْلَافُ، إلَّا أَنَّ بِنَاءَ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ غَيْرُ سَدِيدٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي فَصْلِ التَّيَمُّمِ، وَالْأَصْلُ فِي بَابِ الِاسْتِخْلَافِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْإِمَامِ بِهِ يَصْلُحُ خَلِيفَةً لَهُ وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ مُتَيَمِّمًا فَأَحْدَثَ فَقَدَّمَ مُتَوَضِّئًا جَازَ؛ لِأَنَّ اقْتِدَاءَ الْمُتَيَمِّمِ بِالْمُتَوَضِّئِ صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ قَدَّمَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ الْمَاءَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَحَوَّلَتْ مِنْهُ إلَى الثَّانِي وَصَارَ هُوَ كَوَاحِدٍ مِنْ الْقَوْمِ فَفَسَادُ صَلَاتِهِ

لَا يَتَعَدَّى إلَى صَلَاةِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ مُتَوَضِّئًا وَالْخَلِيفَةُ مُتَيَمِّمًا فَوَجَدَ الْخَلِيفَةُ الْمَاءَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْأَوَّلِ وَالْقَوْمِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَحَوَّلَتْ إلَيْهِ وَصَارَ الْأَوَّلُ كَوَاحِدٍ مِنْ الْمُقْتَدِينَ بِهِ، وَفَسَادُ صَلَاةِ الْإِمَامِ يَتَعَدَّى إلَى صَلَاةِ الْقَوْمِ. وَلَوْ قَدَّمَ مَسْبُوقًا جَازَ وَالْأَوْلَى لِلْإِمَامِ الْمُحْدِثِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مُدْرِكًا لَا مَسْبُوقًا؛ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ الصَّلَاةِ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ» وَمَعَ هَذَا لَوْ قَدَّمَ الْمَسْبُوقَ جَازَ وَلَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْقِيَامِ بِجَمِيعِ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَفْعَالِ. وَلَوْ تَقَدَّمَ مَعَ هَذَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْإِمَامَةِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ الْأَرْكَانِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِذَا صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَصَلَ إلَيْهِ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَإِذَا انْتَهَى إلَى السَّلَامِ يَسْتَخْلِفُ هَذَا الثَّانِي رَجُلًا أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ لِيُسَلِّمَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ السَّلَامِ لِبَقَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ عَلَيْهِ فَصَارَ بِسَبَبِ الْعَجْزِ عَنْ إتْمَامِ الصَّلَاةِ كَاَلَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَثَبَتَتْ لَهُ وِلَايَةُ اسْتِخْلَافِ غَيْرِهِ فَيُقَدِّمُ مُدْرِكًا لِيُسَلِّمَ ثُمَّ يَقُومُ هُوَ إلَى قَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ، وَالْإِمَامُ الْأَوَّلُ صَارَ مُقْتَدِيًا بِالثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ صَارَ إمَامًا فَيُخْرِجُ الْأَوَّلَ مِنْ الْإِمَامَةِ ضَرُورَةُ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا يَكُونُ لَهَا إمَامَانِ وَإِذَا لَمْ يَبْقَ إمَامًا وَقَدْ بَقِيَ هُوَ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ صَارَ مُقْتَدِيًا ضَرُورَةً فَإِنْ تَوَضَّأَ الْأَوَّلُ وَصَلَّى فِي بَيْتِهِ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ الثَّانِي مِنْ بَقِيَّةِ صَلَاةِ الْأَوَّلِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ فَرَاغِهِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ لِمَا مَرَّ. وَلَوْ قَعَدَ الْإِمَامُ الثَّانِي فِي الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ قَهْقَهَ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ وَصَلَاتُهُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي لَاقَتْهُ الْقَهْقَهَةُ مِنْ صَلَاتِهِ قَدْ فَسَدَ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ أَرْكَانٌ وَمَنْ بَاشَرَ الْمُفْسِدَ قَلَّ أَدَاءُ جَمِيعِ الْأَرْكَانِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِينَ الَّذِينَ لَيْسُوا بِمَسْبُوقِينَ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّ جُزْءًا مِنْ صَلَاتِهِمْ وَإِنْ فَسَدَ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ لَكِنْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ الْأَفْعَالِ وَصَلَاتُهُمْ بِدُونِ هَذَا الْجُزْءِ جَائِزَةٌ فَحُكِمَ بِجَوَازِهَا. وَأَمَّا الْمَسْبُوقُونَ فَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْجُزْءَ مِنْ صَلَاتِهِمْ قَدْ فَسَدَ وَعَلَيْهِمْ أَرْكَانٌ لَمْ تُؤَدَّ بَعْدُ كَمَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ الثَّانِي، فَأَمَّا الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ خَلْفَ الْإِمَامِ الثَّانِي مَعَ الْقَوْمِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُدْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَدْخُلْ مَعَ الْإِمَامِ الثَّانِي فِي الصَّلَاةِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، ذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ وَذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ. وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ قَهْقَهَةَ الْإِمَامِ كَقَهْقَهَةِ الْمُقْتَدِي فِي إفْسَادِ الصَّلَاةِ أَلَا تَرَى أَنَّ صَلَاةَ الْمَسْبُوقِينَ فَاسِدَةٌ وَلَوْ قَهْقَهَ الْمُقْتَدِي نَفْسُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِبَقَاءِ الْأَرْكَانِ عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَالْمَسْبُوقِينَ إنَّمَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي لَاقَتْهُ الْقَهْقَهَةُ وَأَفْسَدَتْهُ مِنْ وَسَطِ صَلَاتِهِمْ فَإِذَا فَسَدَ الْجُزْءُ فَسَدَتْ الصَّلَاةُ فَأَمَّا هَذَا الْجُزْءُ فِي حَقِّ صَلَاةِ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مُدْرِكٌ أَوَّلَ الصَّلَاةِ فَمِنْ آخِرِ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِمَا تَرَكَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَأْتِي بِمَا يُدْرِكُ مَعَ الْإِمَامِ وَإِلَّا فَيَأْتِي بِهِ وَحْدَهُ فَلَا يَكُونُ فَسَادُ هَذَا الْجُزْءِ مُوجِبًا فَسَادَ صَلَاتِهِ كَمَا لَوْ كَانَ أَتَى وَصَلَّى مَا تَرَكَهُ وَأَدْرَكَ الْإِمَامَ وَصَلَّى بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ وَقَعَدَ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ قَهْقَهَ الْإِمَامُ الثَّانِي لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ كَذَا هَذَا، وَلَوْ كَانَ الَّذِينَ خَلْفَ الْإِمَامِ الْمُحْدِثِ كُلَّهُمْ مَسْبُوقِينَ يُنْظَرُ إنْ بَقِيَ عَلَى الْإِمَامِ شَيْءٌ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَسْتَخْلِفُ وَاحِدًا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ يَصْلُحُ خَلِيفَةً لِمَا بَيَّنَّا فَيُتِمُّ صَلَاةَ الْإِمَامِ ثُمَّ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ لِبَقَاءِ بَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَكَذَا الْقَوْمُ يَقُومُونَ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ وَيُصَلُّونَ وُحْدَانًا وَإِنْ لَمْ يَبْقَ عَلَى الْإِمَامِ شَيْءٌ مِنْ صَلَاتِهِ قَامُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَلِّمُوا وَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ وُحْدَانًا لِوُجُوبِ الِانْفِرَادِ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَلَوْ صَلَّى الْإِمَامُ رَكْعَةً ثُمَّ أَحْدَثَ فَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا نَامَ عَنْ هَذِهِ الرَّكْعَةِ وَقَدْ أَدْرَكَ أَوَّلَهَا أَوْ كَانَ ذَهَبَ لِيَتَوَضَّأَ جَازَ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَدِّمَهُ وَلَا لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ يَتَقَدَّمَ وَإِنْ قُدِّمَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَخَّرَ وَيُقَدِّمَ هُوَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْبِدَايَةِ بِمَا فَاتَهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَتَقَدَّمَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْإِتْمَامِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِذَا تَقَدَّمَ يَنْبَغِي أَنْ يُشِيرَ إلَيْهِمْ بِأَنْ يَنْتَظِرُوهُ لِيُصَلِّيَ مَا فَاتَهُ وَقْتَ نَوْمِهِ أَوْ ذَهَابِهِ لِلتَّوَضُّؤِ ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمْ بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَكَذَا وَلَكِنَّهُ أَتَمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ ثُمَّ قَدَّمَ مُدْرِكًا وَسَلَّمَ بِهِمْ ثُمَّ قَامَ فَقَضَى مَا فَاتَهُ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ لَا يُجْزِيهِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْبِدَايَةِ بِالرَّكْعَةِ الْأَوْلَى فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ

الْمَأْمُورَ بِهِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ كَالْمَسْبُوقِ إذَا بَدَأَ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ قَبْلَ أَنْ يُتَابِعَ الْإِمَامَ فِيمَا أَدْرَكَ مَعَهُ، وَلَنَا أَنَّهُ أَتَى بِجَمِيعِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ التَّرْتِيبَ فِي أَفْعَالِهَا وَالتَّرْتِيبُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ لَوْ ثَبَتَ افْتِرَاضُهُ لَكَانَتْ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى الْأَرْكَانِ وَالْفَرَائِضِ وَذَا جَارٍ مَجْرَى النَّسْخِ وَلَا يَثْبُتُ نَسْخُ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ مِثْلِهِ وَلَا دَلِيلَ لِمَنْ جَعَلَ التَّرْتِيبَ فَرْضًا يُسَاوِي دَلِيلَ افْتِرَاضِ سَائِرِ الْأَرْكَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى إلَى آخِرِ صَلَاتِهِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ وَلَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ فِي أَفْعَالِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَرْضًا لَفَسَدَتْ، وَكَذَا الْمَسْبُوقُ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي السُّجُودِ يُتَابِعُهُ فِيهِ فَدَلَّ أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فَتَرْكُهَا لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ هُنَاكَ لَيْسَ لِتَرْكِ التَّرْتِيبِ بَلْ لِلْعَمَلِ بِالْمَنْسُوخِ أَوْ لِلِانْفِرَادِ عِنْدَ وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ ذَكَرَ رَكْعَتَهُ الثَّانِيَةَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُومِئَ إلَيْهِمْ لِيَنْتَظِرُوهُ حَتَّى يَقْضِيَ تِلْكَ الرَّكْعَةَ ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمْ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِ كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَتَأَخَّرَ حِينَ تَذَكَّرَ ذَلِكَ وَقَدَّمَ رَجُلًا مِنْهُمْ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ فَهُوَ أَفْضَلُ أَيْضًا كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ لِمَا مَرَّ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَأَتَمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِرَكْعَتِهِ ثُمَّ تَأَخَّرَ وَقَدَّمَ مَنْ يُسَلِّمُ بِهِمْ جَازَ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ الْمُحْدِثُ مُسَافِرًا وَخَلْفَهُ مُقِيمُونَ وَمُسَافِرُونَ فَقَدَّمَ مُقِيمًا جَازَ وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُقَدِّمَ مُقِيمًا وَلَوْ قَدَّمَهُ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ بَعْدَ الْقُعُودِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ تَقَدَّمَ مَعَ هَذَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إتْمَامِ أَرْكَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنَّمَا يَعْجِزُ عَنْ الْخُرُوجِ وَهُوَ لَيْسَ بِرُكْنٍ فَإِذَا أَتَمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ تَأَخَّرَ هُوَ وَقَدَّمَ مُسَافِرًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَاجِزٍ عَنْ الْخُرُوجِ فَيَسْتَخْلِفُ مُسَافِرًا حَتَّى يُسَلِّمَ فَإِذَا سَلَّمَ قَامَ هُوَ وَبَقِيَّةُ الْمُقِيمِينَ وَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ وُحْدَانًا كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ أَحْدَثَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا. وَلَوْ مَضَى الْإِمَامُ الثَّانِي فِي صَلَاتِهِ مَعَ الْقَوْمِ حَتَّى أَتَمَّهَا يَعْنِي صَلَاةَ الْإِقَامَةِ فَإِنْ كَانَ قَعَدَ فِي الثَّانِيَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ تَامَّةٌ، أَمَّا صَلَاةُ الْإِمَامِ فَلِأَنَّهُ لَمَّا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّ مَا الْتَزَمَ بِالِاقْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَتَهُ انْعَقَدَتْ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ رَكْعَتَيْنِ مَعَ الْإِمَامِ وَرَكْعَتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ وَقَدْ فَعَلَ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا تَتَعَلَّقُ صَلَاتُهُ بِصَلَاةِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْمُسَافِرُونَ فَلِأَنَّهُمْ انْتَقَلُوا إلَى النَّفْلِ بَعْدَ إكْمَالِ الْفَرْضِ وَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَأَمَّا صَلَاةُ الْمُقِيمِينَ فَفَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَعَدُوا قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ انْقَضَتْ مُدَّةُ اقْتِدَائِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ أَنْ يُصَلُّوا الْأُولَيَيْنِ مُقْتَدِينَ بِهِ وَالْأُخْرَيَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ فَإِذَا اقْتَدَوْا فِيهِمَا فَقَدْ اقْتَدَوْا فِي حَالِ وُجُوبِ الِانْفِرَادِ وَبَيْنَهُمَا مُغَايَرَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَبِالِاقْتِدَاءِ خَرَجُوا عَمَّا كَانُوا دَخَلُوا فِيهِ وَهُوَ الْفَرْضُ فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ الْمَفْرُوضَةُ وَمَا دَخَلُوا فِيهِ دَخَلُوا بِدُونِ التَّحْرِيمَةِ وَلَا شُرُوعَ بِدُونِ التَّحْرِيمَةِ وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ صَارَتْ فَرْضًا فِي حَقِّ الْإِمَامِ الثَّانِي لِكَوْنِهِ خَلِيفَةَ الْأَوَّلِ فَإِذَا تَرَكَ الْقَعْدَةَ فَقَدْ تَرَكَ مَا هُوَ فَرْضٌ فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ لِتَرْكِهِمْ الْقَعْدَةَ الْمَفْرُوضَةَ أَيْضًا وَلِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْمُقِيمِينَ بِفَسَادِ صَلَاةِ إمَامِهِمْ بِتَرْكِهِ الْقَعْدَةَ الْمَفْرُوضَةَ. وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا أَمَّ قَوْمًا مُسَافِرِينَ وَمُقِيمِينَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجْدَةً ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ رَجُلًا دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ سَاعَتَئِذٍ وَهُوَ مُسَافِرٌ جَازَ لِمَا مَرَّ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَهُ وَلَا لِهَذَا الرَّجُلِ أَنْ يَتَقَدَّمَ لِمَا مَرَّ أَيْضًا أَنَّ غَيْرَ الْمَسْبُوقِ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَوْ قَدَّمَهُ مَعَ هَذَا جَازَ لِمَا بَيَّنَّا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ وَيُتِمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ فَإِنْ سَهَا عَنْ الثَّانِيَةِ وَصَلَّى رَكْعَةً وَسَجَدَ ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ رَجُلًا جَاءَ سَاعَتئِذٍ سَجَدَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ وَالْإِمَامُ الْأَوَّلُ يَتْبَعُهُ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى وَلَا يَتْبَعُهُ فِي الثَّانِيَةِ إلَّا أَنْ يُدْرِكَهُ بَعْدَ مَا يَقْضِي، وَالْإِمَامُ الثَّانِي لَا يَتْبَعُهُ فِي الْأُولَى وَيَتْبَعُهُ فِي الثَّانِيَةِ، وَإِذَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قَدَّمَ مَنْ أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ لِيُسَلِّمَ ثُمَّ يَقُومُ هُوَ فَيَقْضِي رَكْعَتَيْنِ إنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَإِنْ كَانُوا أَدْرَكُوا أَوَّلَ الصَّلَاةِ اتَّبَعَهُ كُلُّ إمَامٍ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى وَيَتْبَعُهُ الْإِمَامُ وَمَنْ بَعْدَهُ فِي السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْمُدْرِكَ لَا يُتَابِعُ الْإِمَامَ بَلْ يَأْتِي بِالْأَوَّلِ، وَالْمَسْبُوقُ يُتَابِعُ إمَامَهُ فِيمَا أَدْرَكَ ثُمَّ بَعْدَ فَرَاغِهِ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ، وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّ الْإِمَامَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ يَقُومَانِ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَيُتِمَّانِ صَلَاتَهُ، إذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ: الْإِمَامُ الْأَوَّلُ لَمَّا سَبَقَهُ الْحَدَثُ وَقَدَّمَ هَذَا الثَّانِيَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ وَيُتِمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ وَالْأَوَّلُ

لَوْ لَمْ يَسْبِقْهُ الْحَدَثُ لَسَجَدَ هَذِهِ السَّجْدَةَ كَذَا الثَّانِي، فَلَوْ أَنَّهُ سَهَا عَنْ هَذِهِ السَّجْدَةِ وَصَلَّى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، فَلَمَّا سَجَدَ سَجْدَةً سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَقَدَّمَ رَجُلًا جَاءَ سَاعَتَئِذٍ، وَتَقَدَّمَ هَذَا الثَّالِثُ يَنْبَغِي لِهَذَا الْإِمَامِ الثَّالِثِ أَنْ يَسْجُدَ السَّجْدَتَيْنِ أَوَّلًا لِأَنَّ هَذَا الثَّالِثَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَالْأَوَّلُ كَانَ يَأْتِي بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ فَكَذَا هَذَا، وَإِذَا سَجَدَ الثَّالِثُ السَّجْدَةَ الْأُولَى وَكَانَ جَاءَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فَإِنَّ الْأَوَّلَ يُتَابِعُهُ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقْتَدِيًا بِهِ وَانْتَهَتْ صَلَاتُهُ إلَى هَذِهِ السَّجْدَةِ فَيَأْتِي بِهَا وَكَذَا الْقَوْمُ يُتَابِعُونَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ صَلَّوْا تِلْكَ الرَّكْعَةَ أَيْضًا وَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا تِلْكَ السَّجْدَةُ. وَأَمَّا الْإِمَامُ الثَّانِي فَلَا يُتَابِعُهُ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ لِأَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ يُتَابِعُهُ فِيهَا، وَوَجْهُهُ أَنَّ الثَّالِثَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ يَأْتِي بِهَذِهِ السَّجْدَةِ كَانَ يُتَابِعُهُ الثَّانِي بِأَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي السَّجْدَةِ وَإِنْ كَانَتْ السَّجْدَةُ غَيْرَ مَحْسُوبَةٍ مِنْ صَلَاتِهِ بَلْ يَتْبَعُهُ الْإِمَامُ فَكَذَا إذَا سَجَدَهَا الْإِمَامُ الثَّالِثُ وَيَأْتِي بِهَا الثَّانِي بِطَرِيقِ الْمُتَابَعَةِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السَّجْدَةَ الْأُولَى غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ الثَّالِثِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الثَّانِي مُتَابَعَتُهُ فِيهَا بَلْ هِيَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ سَجْدَةٍ زَائِدَةٍ، وَالْإِمَامُ إذَا كَانَ يَأْتِي بِسَجْدَةٍ زَائِدَةٍ لَا يُتَابِعُهُ الْمُقْتَدِي فِيهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ الْأَوَّلَ فِي السَّجْدَةِ حَيْثُ يُتَابِعُهُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مَحْسُوبَةٌ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مُتَابَعَتُهُ. وَأَمَّا فِي السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يُتَابِعُهُ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ يَأْتِي بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ إلَّا إذَا كَانَ صَلَّى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وَسَجَدَ سَجْدَةً وَانْتَهَى إلَى هَذِهِ وَتَابَعَهُ الْإِمَامُ الثَّانِي فِيهَا لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ هَذِهِ الرَّكْعَةَ وَانْتَهَتْ هِيَ إلَى هَذِهِ السَّجْدَةِ فَيُتَابِعُهُ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَحْسُوبَةً لِلْإِمَامِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهَا مَحْسُوبَةٌ لِلْإِمَامِ الثَّانِي، وَكَذَا الْقَوْمُ يُتَابِعُونَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ صَلَّوْا هَذِهِ الرَّكْعَةَ أَيْضًا وَانْتَهَتْ إلَى هَذِهِ السَّجْدَةِ، ثُمَّ إذَا سَجَدَ الْإِمَامُ الثَّالِثُ السَّجْدَتَيْنِ وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ يُقَدِّمُ مُدْرِكًا لِيُسَلِّمَ بِهِمْ لِعَجْزِهِ عَنْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَيَسْجُدُ الْإِمَامُ الرَّابِعُ لِلسَّهْوِ لِيَجْبُرَ بِهَا النَّقْصَ الْمُتَمَكِّنَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ بِتَأْخِيرِ السَّجْدَةِ الْأُولَى عَنْ مَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ وَيَسْجُدُونَ مَعَهُ ثُمَّ يَقُومُ الثَّالِثُ فَيَقْضِي رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ ثُمَّ يَقُومُ الثَّانِي فَيَقْضِي الرَّكْعَةَ الَّتِي سُبِقَ بِهَا بِقِرَاءَةٍ وَيُتِمُّ الْمُقِيمُونَ صَلَاتَهُمْ. وَأَمَّا إذَا كَانُوا كُلُّهُمْ مُدْرِكِينَ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّ الْإِمَامَ الْأَوَّلَ يُتَابِعُ الْإِمَامَ الثَّالِثَ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ انْتَهَتْ إلَى هَذِهِ السَّجْدَةِ فَيُتَابِعُهُ فِيهَا لَا مَحَالَةَ، فَكَذَا الْإِمَامُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى وَهَذِهِ السَّجْدَةُ مِنْهَا وَقَدْ فَاتَتْهُ فَقُلْنَا بِأَنَّهُ يَأْتِي بِهَا. وَأَمَّا فِي السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يُتَابِعُهُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ فَيَقْضِي الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَهُوَ مَا أَتَى بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا أَوَّلًا ثُمَّ يَأْتِي بِهَذِهِ السَّجْدَةِ فِي آخِرِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ إذَا انْتَهَى إلَيْهَا وَيُتَابِعُهُ الْإِمَامُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ انْتَهَتْ إلَى هَذِهِ السَّجْدَةِ فَإِنَّهُ صَلَّى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وَتَرَكَ هَذِهِ السَّجْدَةَ فَيَأْتِي بِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا فَأَمَّا إذَا كَانَ مُقِيمًا وَالصَّلَاةُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ فَصَلَّى الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَكْعَةً وَسَجْدَةً ثُمَّ أَحْدَثَ الرَّابِعُ وَقَدَّمَ خَامِسًا فَإِنْ كَانَتْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ مَسْبُوقِينَ بِأَنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ بَعْدَ الْأَوَّلِ جَاءَ سَاعَتَئِذٍ فَأَحْدَثَ الرَّابِعُ وَقَدَّمَ رَجُلًا جَاءَ سَاعَتَئِذٍ وَتَوَضَّأَ الْأَئِمَّةُ وَجَاءُوا يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدَ الْإِمَامُ الْخَامِسُ السَّجَدَاتِ الْأَرْبَعَ فَيَسْجُدُ الْأُولَى فَيُتَابِعُهُ فِيهَا الْقَوْمُ وَالْإِمَامُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُمْ انْتَهَتْ إلَيْهَا وَلَا يُتَابِعُهُ فِيهَا الْإِمَامُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ الْخَامِسِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ مُتَابَعَتُهُ فِيهَا، وَفِي رِوَايَةِ النَّوَادِرِ يَسْجُدُونَهَا مَعَهُ بِطَرِيقِ الْمُتَابَعَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يَسْجُدُ الثَّانِيَةَ وَيُتَابِعُهُ فِيهَا الْقَوْمُ وَالْإِمَامُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ صَلَّى تِلْكَ الرَّكْعَةَ وَانْتَهَتْ إلَى هَذِهِ وَلَا يُتَابِعُهُ فِيهَا الْإِمَامُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ يُصَلِّي الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَهُوَ مَا صَلَّى تِلْكَ الرَّكْعَةَ بَعْدُ حَتَّى لَوْ كَانَ صَلَّاهَا وَانْتَهَى إلَى السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ سَجَدَ الْإِمَامُ يُتَابِعُهُ، وَكَذَا لَا يُتَابِعُهُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إلَّا عَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ يَسْجُدُ الثَّالِثَةَ وَيُتَابِعُهُ فِيهَا الْقَوْمُ وَالْإِمَامُ الثَّالِثُ فَقَطْ، ثُمَّ يَسْجُدُ الرَّابِعَةَ وَيُتَابِعُهُ فِيهَا الْقَوْمُ وَالْإِمَامُ الرَّابِعُ فَقَطْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ إمَامٍ يُتَابِعُهُ فِي سَجْدَةِ رَكْعَتِهِ الَّتِي صَلَّاهَا؛ لِأَنَّهُ انْتَهَى إلَيْهَا وَلَا يُتَابِعُهُ فِي سَجْدَةِ الرَّكْعَةِ الَّتِي هِيَ بَعْدَ الرَّكْعَةِ الَّتِي أَدْرَكَهَا؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ تِلْكَ الرَّكْعَةِ مُدْرِكٌ فَيَقْضِي الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ إلَّا إذَا انْتَهَتْ صَلَاتُهُ إلَيْهَا، وَهَلْ يُتَابِعُهُ فِي سَجْدَةِ الرَّكْعَةِ الَّتِي فَاتَتْهُ؟ فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا وَعَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ نَعَمْ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيَتَأَخَّرُ فَيُقَدِّمُ سَادِسًا لِيُسَلِّمَ بِهِمْ لِعَجْزِهِ عَنْ التَّسْلِيمِ وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ لِمَا مَرَّ، ثُمَّ يَقُومُ الْخَامِسُ فَيُصَلِّي

أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ فِيهَا يَقْرَأُ فِي الْأُولَيَيْنِ وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ هُوَ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا عُرِفَ. وَأَمَّا الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فَيَقْضِي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ وَالْإِمَامُ الثَّانِي يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهِمَا ثُمَّ يَقْضِي رَكْعَةً بِقِرَاءَةٍ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ فِيهَا وَالْإِمَامُ الثَّالِثُ يَقْضِي الرَّابِعَةَ أَوَّلًا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهَا ثُمَّ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ فِيهِمَا، وَالْإِمَامُ الرَّابِعُ يَقْضِي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا وَفِي الثَّالِثَةِ هُوَ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ فِيهَا، هَذَا إذَا كَانَتْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ مَسْبُوقِينَ، فَأَمَّا إذَا كَانُوا مُدْرِكِينَ فَصَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَكْعَةً وَسَجْدَةً ثُمَّ أَحْدَثَ الرَّابِعُ وَقَدَّمَ خَامِسًا وَجَاءَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْخَامِسِ أَنْ يَبْدَأَ بِالسَّجْدَةِ الْأُولَى وَيُتَابِعُهُ فِيهَا الْأَئِمَّةُ وَالْقَوْمُ؛ لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا هَذِهِ الرَّكْعَةَ وَانْتَهَتْ إلَى هَذِهِ السَّجْدَةِ، ثُمَّ يَسْجُدُ الثَّانِيَةَ وَيُتَابِعُهُ فِيهَا الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ وَالْقَوْمُ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَا يُتَابِعُهُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ يُصَلِّي الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَهُوَ مَا أَدَّى تِلْكَ الرَّكْعَةَ بَعْدُ إلَّا إذَا كَانَ عَجَزَ فَصَلَّى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وَأَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فَحِينَئِذٍ يُتَابِعُهُ فِيهَا، ثُمَّ يَسْجُدُ الثَّالِثَةَ وَيُتَابِعُهُ فِيهَا الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ لِمَا بَيَّنَّا وَلَا يُتَابِعُهُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُصَلِّيَا الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ بَعْدُ، ثُمَّ يَسْجُدُ الرَّابِعَةَ وَيُتَابِعُهُ فِيهَا الرَّابِعُ؛ لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا هَذِهِ الرَّكْعَةَ وَانْتَهَتْ إلَى هَذِهِ السَّجْدَةِ وَلَا يُتَابِعُهُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ؛ لِأَنَّهُمْ مَا صَلَّوْا هَذِهِ الرَّكْعَةَ بَعْدُ، ثُمَّ يَقُومُ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فَيَقْضِي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَالْإِمَامُ الثَّانِي رَكْعَتَيْنِ وَالْإِمَامُ الثَّالِثُ الرَّكْعَةَ الرَّابِعَةَ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ لِأَنَّهُمْ مُدْرِكُونَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ الْخَامِسُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَالْقَوْمُ مَعَهُ لِمَا مَرَّ وَكُلُّ إمَامٍ فَرَغَ مِنْ إتْمَامِ صَلَاتِهِ وَأَدْرَكَهُ تَابَعَهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ أَخَّرَ سُجُودَ السَّهْوِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُفْسِدُ صَلَاتَهُمْ؛ لِأَنَّ اسْتِخْلَافَ مَنْ لَا يَصْلُحُ أَمَّا مَا لَهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ مِنْهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ وَهِيَ مِنْ الْمَسَائِلِ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: لَا تَفْسُدُ بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ الصُّنْعِ مِنْ هَذَا وَهُوَ الِاسْتِخْلَافُ إلَّا أَنَّ بِنَاءَ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي فَصْلِ التَّيَمُّمِ، وَالْأَصْلُ فِي بَابِ الِاسْتِخْلَافِ أَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ اقْتِدَاءُ الْإِمَامِ بِهِ يَصْلُحُ خَلِيفَةً لَهُ وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ مُتَيَمِّمًا وَأَحْدَثَ وَقَدَّمَ مُتَوَضِّئًا جَازَ لِأَنَّ اقْتِدَاءَ الْمُتَيَمِّمِ بِالْمُتَوَضِّئِ صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ قَدَّمَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ الْمَاءَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَحَوَّلَتْ مِنْهُ إلَى الثَّانِي وَصَارَ هُوَ كَوَاحِدٍ مِنْ الْقَوْمِ فَفَسَادُ صَلَاتِهِ لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ مُتَوَضِّئًا وَالْخَلِيفَةُ مُتَيَمِّمٌ فَوَجَدَ الْخَلِيفَةُ الْمَاءَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاة الْأَوَّلِ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَحَوَّلَتْ إلَيْهِ وَصَارَ الْأَوَّلُ كَوَاحِدٍ مِنْ الْمُقْتَدِينَ بِهِ وَفَسَادُ صَلَاةِ الْإِمَامِ يَتَعَدَّى إلَى صَلَاةِ الْقَوْمِ. وَلَوْ قَدَّمَ مَسْبُوقًا جَازَ وَالْأَوْلَى لِلْإِمَامِ الْمُحْدِثِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مُدْرِكًا لَا مَسْبُوقًا؛ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ» وَمَعَ هَذَا لَوْ قَدَّمَ الْمَسْبُوقَ جَازَ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْقِيَامِ بِجَمِيعِ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَعْمَالِ وَلَوْ تَقَدَّمَ مَعَ هَذَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْإِمَامَةِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ الْأَرْكَانِ وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنْ الصَّلَاةِ، فَإِذَا صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَصَلَ إلَيْهِ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَإِذَا انْتَهَى إلَى السَّلَامِ يَسْتَخْلِفُ هَذَا الثَّانِي رَجُلًا أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ لِيُسَلِّمَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ السَّلَامِ لِبَقَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ عَلَيْهِ فَصَارَ بِسَبَبِ الْعَجْزِ عَنْ إتْمَامِ الصَّلَاةِ كَاَلَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَيَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ اسْتِخْلَافِ غَيْرِهِ فَيُقَدِّمُ مُدْرِكًا لِيُسَلِّمَ، وَيَقُومُ هُوَ لِقَضَائِهِ مَا سُبِقَ بِهِ وَالْإِمَامُ الْأَوَّلُ صَارَ مُقْتَدِيًا بِالْإِمَامِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ صَارَ إمَامًا فَيُخْرِجُ الْأَوَّلُ مِنْ الْإِمَامَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا يَكُونُ لَهَا إمَامَانِ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ إمَامًا وَقَدْ بَقِيَ هُوَ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ صَارَ مُقْتَدِيًا ضَرُورَةً، فَإِنْ تَوَضَّأَ الْأَوَّلُ وَصَلَّى فِي بَيْتِهِ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ الثَّانِي مِنْ صَلَاةِ الْأَوَّلِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ فَرَاغِهِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ عَلَى مَا مَرَّ. وَلَوْ قَعَدَ الثَّانِي فِي الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدَ ثُمَّ قَهْقَهَ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ وَصَلَاتُهُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي لَاقَتْهُ الْقَهْقَهَةُ مِنْ صَلَاتِهِ قَدْ فَسَدَ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ أَرْكَانٌ، وَمَنْ بَاشَرَ الْمُفْسِدَ قَبْلَ أَدَاءِ جَمِيعِ الْأَرْكَانِ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ، وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِينَ الَّذِينَ لَيْسُوا بِمَسْبُوقِينَ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّ جُزْءًا مِنْ صَلَاتِهِمْ وَإِنْ فَسَدَ بِفَسَادِ

فصل بيان حكم الاستخلاف

صَلَاةِ الْإِمَامِ لَكِنْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ الْأَفْعَالِ فَصَلَاتُهُمْ بِدُونِ هَذَا الْجُزْءِ جَائِزَةٌ فَحُكِمَ بِجَوَازِهَا، فَأَمَّا الْمَسْبُوقُونَ فَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْجُزْءَ مِنْ صَلَاتِهِمْ قَدْ فَسَدَ وَعَلَيْهِمْ أَرْكَانٌ لَمْ تُؤَدَّ بَعْدَ كَمَالِ حَقِّ الْإِمَامِ الثَّانِي، فَأَمَّا الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ خَلْفَ الْإِمَامِ الثَّانِي فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُدْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ مَعَ الْإِمَامِ الثَّانِي فِي الصَّلَاةِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، ذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ وَذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَفْسُدُ. وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ قَهْقَهَةَ الْإِمَامِ كَقَهْقَهَةِ الْمُقْتَدِي فِي إفْسَادِ الصَّلَاةِ أَلَا يُرَى أَنَّ صَلَاةَ الْمَسْبُوقِينَ فَاسِدَةٌ وَلَوْ قَهْقَهَ الْمُقْتَدِي نَفْسُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِبَقَاءِ الْأَرْكَانِ عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا. وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَالْمَسْبُوقِ إنَّمَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي لَابَسَتْهُ الْقَهْقَهَةُ أَفْسَدَتْهُ مِنْ وَسَطِ صَلَاتِهِمْ فَإِذَا فَسَدَ الْجُزْءُ فَسَدَتْ الصَّلَاةُ، فَأَمَّا هَذَا الْجُزْءُ فِي حَقِّ صَلَاةِ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مُدْرِكٌ لِأَوَّلِ الصَّلَاةِ فَمِنْ آخِرِ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِمَا يُدْرِكُهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَأْتِي بِمَا يُدْرِكُ مَعَ الْإِمَامِ وَإِلَّا فَيَأْتِي بِهِ وَحْدَهُ فَلَا يَكُونُ فَسَادُ هَذَا الْجُزْءِ مُوجِبًا فَسَادَ صَلَاتِهِ كَمَا لَوْ كَانَ أَتَى وَصَلَّى مَا تَرَكَهُ وَأَدْرَكَ الْإِمَامَ وَصَلَّى بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ وَقَعَدَ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ قَهْقَهَ الْإِمَامُ الثَّانِي لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ كَانَ مَنْ خَلْفَ الْمُحْدِثِ كُلُّهُمْ مَسْبُوقِينَ يُنْظَرُ إنْ بَقِيَ عَلَى الْإِمَامِ شَيْءٌ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَسْتَخْلِفُ وَاحِدًا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ يَصْلُحُ خَلِيفَةً لِمَا بَيَّنَّا فَيُتِمُّ صَلَاةَ الْإِمَامِ ثُمَّ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ لِبَقَاءِ بَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَكَذَا الْقَوْمُ يَقُومُونَ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ وَيُصَلُّونَ وُحْدَانًا وَإِنْ لَمْ يَبْقَ عَلَى الْإِمَامِ شَيْءٌ مِنْ صَلَاتِهِ قَامُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَلِّمُوا وَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ وُحْدَانًا لِوُجُوبِ الِانْفِرَادِ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَلَوْ صَلَّى الْإِمَامُ رَكْعَةً ثُمَّ أَحْدَثَ فَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا نَامَ مِنْ هَذِهِ الرَّكْعَةِ وَقَدْ أَدْرَكَ أَوَّلَهَا أَوْ كَانَ ذَهَبَ لِيَتَوَضَّأَ جَازَ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَدِّمَهُ وَلَا لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ يَتَقَدَّمَ وَإِنْ قُدِّمَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَخَّرَ وَيُقَدِّمَ هُوَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْبِدَايَةِ بِمَا فَاتَهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَتَقَدَّمَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْإِتْمَامِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِذَا تَقَدَّمَ يَنْبَغِي أَنْ يُشِيرَ إلَيْهِمْ لِيَنْتَظِرُوهُ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ مَا فَاتَهُ وَقْتَ نَوْمِهِ أَوْ ذَهَابِهِ لِلتَّوَضُّؤِ ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمْ بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَكَذَا وَلَكِنَّهُ أَتَمَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ ثُمَّ قَدَّمَ مُدْرِكًا فَسَلَّمَ بِهِمْ ثُمَّ قَامَ فَيَقْضِي مَا فَاتَهُ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْبِدَايَةِ بِالرَّكْعَةِ الْأُولَى فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ كَالْمَسْبُوقِ إذَا بَدَأَ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ قَبْلَ أَنْ يُتَابِعَ الْإِمَامَ فِيمَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ. (وَلَنَا) أَنَّهُ أَتَى بِجَمِيعِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ التَّرْتِيبَ فِي أَفْعَالِهَا، وَالتَّرْتِيبُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ لَوْ ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهُ لَكَانَ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى الْأَرْكَانِ وَالْفَرَائِضِ، وَذَا جَارٍ مَجْرَى النَّسْخِ وَلَا يَثْبُتُ نَسْخُ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ مِثْلِهِ، وَلَا دَلِيلَ لِمَنْ جَعَلَ التَّرْتِيبَ فَرْضًا لِيُسَاوِيَ دَلِيلَ افْتِرَاضِ سَائِرِ الْأَرْكَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى إلَى آخِرِ صَلَاتِهِ لَمْ تَسْقُطْ صَلَاتُهُ وَلَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ فِي أَفْعَالِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَرْضًا لَفَسَدَتْ، وَكَذَا الْمَسْبُوقُ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي السُّجُودِ يُتَابِعُهُ فِيهِ فَدَلَّ أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فَتَرْكُهَا لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ. [فَصْلٌ بَيَانُ حُكْمِ الِاسْتِخْلَافِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الِاسْتِخْلَافِ. فَحُكْمُهُ صَيْرُورَةُ الثَّانِي إمَامًا وَخُرُوجُ الْأَوَّلِ عَنْ الْإِمَامَةِ وَصَيْرُورَتُهُ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي بِالثَّانِي، ثُمَّ إنَّمَا يَصِيرُ الثَّانِي إمَامًا وَيَخْرُجُ الْأَوَّلُ عَنْ الْإِمَامَةِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا بِقِيَامِ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ يَنْوِي صَلَاتَهُ، أَوْ بِخُرُوجِ الْأَوَّلِ عَنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى لَوْ اسْتَخْلَفَ رَجُلًا وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدُ وَلَمْ يَقُمْ الْخَلِيفَةُ مَقَامَهُ فَهُوَ عَلَى إمَامَتِهِ حَتَّى لَوْ جَاءَ رَجُلٌ فَاقْتَدَى بِهِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ. وَلَوْ أَفْسَدَ الْأَوَّلُ صَلَاتَهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ إمَامًا وَإِنَّمَا يَخْرُجُ عَنْ الْإِمَامَةِ بِانْتِقَالِهَا إلَى غَيْرِهِ ضَرُورَةَ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا إمَامَانِ أَوْ بِخُرُوجِهِ عَنْ الْمَسْجِدِ لِفَوْتِ شَرْطِ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْبُقْعَةِ، فَإِذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ غَيْرُهُ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ لَمْ يَنْتَقِلْ وَالْبُقْعَةُ مُتَّحِدَةٌ فَبَقِيَ إمَامًا فِي نَفْسِهِ كَمَا كَانَ وَقَوْلُنَا يَنْوِي صَلَاةَ الْإِمَامِ حَتَّى لَوْ اسْتَخْلَفَ رَجُلًا جَاءَ سَاعَتئِذٍ قَبْلَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فَتَقَدَّمَ وَكَبَّرَ، فَإِنْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ وَأَنْ يُصَلِّيَ بِصَلَاتِهِ صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ وَجَازَتْ صَلَاتُهُمْ، وَقَالَ بِشْرٌ: لَا يَصِحُّ الِاسْتِخْلَافُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ الْمُحْدِثِ عِنْدَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الِاقْتِدَاءِ بِهِ بَعْدَ الْحَدَثِ أَمْرٌ عُرِفَ

بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَالِابْتِدَاءُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْبَقَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ حَدَثَ الْإِمَامِ يَمْنَعُ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ ابْتِدَاءً وَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ فِيهَا؟ فَيُمْنَعُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ أَيْضًا ابْتِدَاءً، وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا كَبَّرَ وَنَوَى الدُّخُولَ فِي صَلَاةِ الْأَوَّلِ وَالْأَوَّلُ بَعْدُ فِي الْمَسْجِدِ وَحُرْمَةُ صَلَاتِهِ بَاقِيَةٌ صَحَّ الِاقْتِدَاءُ وَبَقِيَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ بَعْدَ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ عَلَى الِاسْتِخْلَافِ أَيْ صَارَ الثَّانِي بَعْدَ اقْتِدَائِهِ بِهِ خَلِيفَةَ الْأَوَّلِ بِالِاسْتِخْلَافِ السَّابِقِ فَصَارَ مُسْتَخْلِفًا مَنْ كَانَ مُقْتَدِيًا بِهِ فَيَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا لِمَا مَرَّ وَإِنْ كَانَ كَبَّرَ وَنَوَى أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاةً مُسْتَقِلَّةً لَمْ يَصِرْ مُقْتَدِيًا بِالْإِمَامِ الْأَوَّلِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِمَامَ اسْتَخْلَفَ مَنْ لَيْسَ بِمُقْتَدٍ بِهِ فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِخْلَافُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ أَمْرٌ جُوِّزَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُرَاعَى عَيْنُ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي اسْتِخْلَافِ مَنْ هُوَ مُقْتَدٍ بِهِ فَبَقِيَ غَيْرُ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَصَلَاةُ هَذَا الثَّانِي صَحِيحَةٌ لِأَنَّهُ افْتَتَحَهَا مُنْفَرِدًا بِهَا وَصَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ جَائِزَةٌ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ اسْتِخْلَافُ الثَّانِي بَقِيَ الْأَوَّلُ إمَامًا لَهُمْ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ وَلِأَنَّهُمْ لَمَّا صَلَّوْا خَلْفَ الْإِمَامِ الثَّانِي صَلَّوْا خَلْفَ مَنْ لَيْسَ بِإِمَامٍ لَهُمْ وَتَرَكُوا الصَّلَاةَ خَلْفَ مَنْ هُوَ إمَامُهُمْ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا مُقْتَدِينَ بِالْأَوَّلِ فَلَا يُمْكِنُهُمْ إتْمَامُهَا مُقْتَدِينَ بِالثَّانِي؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُؤَدَّى بِإِمَامَيْنِ بِخِلَافِ خَلِيفَةِ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ هُوَ بِعَيْنِهِ فَكَانَ الْإِمَامُ وَاحِدًا مَعْنًى وَإِنْ كَانَ مُثَنًّى صُورَةً، وَهَهُنَا الثَّانِي لَيْسَ بِخَلِيفَةٍ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَدِ بِهِ قَطُّ فَكَانَ هَذَا أَدَاءُ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ خَلْفَ إمَامَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا صَلَاةُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا فِي الْكِتَابِ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِيهَا قَالَ بَعْضُهُمْ: تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَخْلَفَهُ اقْتَدَى بِهِ وَالِاقْتِدَاءُ بِمَنْ لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِخْلَافٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْعُيُونِ لَوْ أَنَّ إمَامًا أَحْدَثَ وَقَدَّمَ رَجُلًا مِنْ آخِرِ الصُّفُوفِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَإِنْ نَوَى الثَّانِي أَنْ يَكُونَ إمَامًا مِنْ سَاعَتِهِ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ وَصَارَ الْأَوَّلُ كَوَاحِدٍ مِنْ الْقَوْمِ وَإِنْ نَوَى أَنْ يَكُونَ إمَامًا إذَا قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ إذَا خَرَجَ الْأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الثَّانِي إلَى مَقَامِهِ وَلَوْ قَامَ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَمِنْهَا أَيْ مِنْ مُفْسِدَاتِ الصَّلَاةِ الْكَلَامُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كَلَامُ النَّاسِي لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ إذَا كَانَ قَلِيلًا وَلَهُ فِي الْكَثِيرِ قَوْلَانِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ إمَّا الظُّهْرُ وَإِمَّا الْعَصْرُ فَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فَخَرَجَ سَرَعَانُ الْقَوْمِ فَقَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، فَقَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالَا: نَعَمْ صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ صَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ وَصَلَّى الْبَاقِيَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ» فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكَلَّمَ نَاسِيًا فَإِنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ كَانَ أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَذُو الْيَدَيْنِ تَكَلَّمَ نَاسِيًا فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ قَصُرَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَقْبِلْ الصَّلَاةَ وَلَمْ يَأْمُرْ ذَا الْيَدَيْنِ وَلَا أَبَا بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ بِالِاسْتِقْبَالِ وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ، وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ كَلَامَ النَّاسِي بِمَنْزِلَةِ سَلَامِ النَّاسِي وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ كَلَامًا؛ لِأَنَّهُ خِطَابُ الْآدَمِيِّينَ وَلِهَذَا يُخْرِجُ عَمْدُهُ مِنْ الصَّلَاةِ وَكَذَا هَذَا، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ الْبِنَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَلْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ» جَوَّزَ الْبِنَاءَ إلَى غَايَةِ التَّكَلُّمِ فَيَقْضِي انْتِهَاءُ الْجَوَازِ بِالتَّكَلُّمِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «خَرَجْنَا إلَى الْحَبَشَةِ وَبَعْضُنَا يُسَلِّمُ عَلَى بَعْضٍ فِي صَلَاتِهِ فَلَمَّا قَدِمْتُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَأَخَذَنِي مَا قَدُمَ وَمَا حَدَثَ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا نَتَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ» . وَرُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَطَسَ بَعْضُ الْقَوْمِ فَقُلْتُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِي بَعْضُ الْقَوْمِ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ وَاثُكْلَ أُمَّاهُ مَا لِي أَرَاكُمْ تَنْظُرُونَ إلَيَّ شَزْرًا فَضَرَبُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَعَلِمْتُ أَنَّهُمْ يُسْكِتُونَنِي فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَانِي فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ مَا نَهَرَنِي وَلَا زَجَرَنِي وَلَكِنْ قَالَ: إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ

إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» ، وَمَا لَا يَصْلُحُ فِي الصَّلَاةِ فَمُبَاشَرَتُهُ مُفْسِدَةٌ لِلصَّلَاةِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَوْ كَثُرَ كَانَ مُفْسِدًا وَلَوْ كَانَ النِّسْيَانُ فِيهَا عُذْرًا لَاسْتَوَى قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ كَالْأَكْلِ فِي بَابِ الصَّوْمِ، وَحَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ يُبَاحُ فِيهَا التَّكَلُّمُ فِي الصَّلَاةِ وَهِيَ ابْتِدَاءُ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ أَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ عَامِدِينَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالِاسْتِقْبَالِ مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ الْعَمْدَ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالرَّفْعُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ وَالْعِقَابِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَالِاعْتِبَارُ بِسَلَامِ النَّاسِي غَيْرُ سَدِيدٍ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَبْقَى مَعَ سَلَامِ الْعَمْدِ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَالنِّسْيَانُ دُونَ الْعَمْدِ فَجَازَ أَنْ تَبْقَى مَعَ النِّسْيَانِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَفِقْهُهُ أَنَّ السَّلَامَ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُضَادٍّ لِلصَّلَاةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الدُّعَاءِ إلَّا أَنَّهُ إذَا قُصِدَ بِهِ الْخُرُوجُ فِي أَوَانِ الْخُرُوجِ جُعِلَ سَبَبًا لِلْخُرُوجِ شَرْعًا، فَإِذَا كَانَ نَاسِيًا وَبَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ السَّلَامُ مَوْجُودًا فِي أَوَانِهِ فَلَمْ يُجْعَلْ سَبَبًا لِلْخُرُوجِ بِخِلَافِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ مُضَادٌّ لِلصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ فِي أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَلَوْ حَكَمْنَا بِخُرُوجِهِ عَنْ الصَّلَاةِ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ فَأَمَّا الْكَلَامُ فَلَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ نَاسِيًا فَلَوْ جَعَلْنَاهُ قَاطِعًا لَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالنَّفْخُ الْمَسْمُوعُ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ النَّفْخَ عَلَى ضَرْبَيْنِ مَسْمُوعٍ وَغَيْرِ مَسْمُوعٍ، وَغَيْرُ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ مَعْهُودٍ وَهُوَ الصَّوْتُ الْمَنْظُومُ الْمَسْمُوعُ وَلَا عَمَلٍ كَثِيرٍ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا مَرَّ أَنْ إدْخَالَ مَا لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مَكْرُوهٌ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، فَأَمَّا الْمَسْمُوعُ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ سَوَاءٌ أَرَادَ بِهِ التَّأْفِيفَ أَوْ لَمْ يُرِدْ، وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ أَوَّلًا: إنْ أَرَادَ بِهِ التَّأْفِيفَ بِأَنْ قَالَ: أُفٍّ أَوْ تُفٍّ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهَةِ لِلشَّيْءِ، وَتَبْعِيدُهُ يُفْسِدُ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّأْفِيفَ لَا يُفْسِدُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا يُفْسِدُ أَرَادَ بِهِ التَّأْفِيفَ أَوْ لَمْ يُرِدْ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ بِهِ التَّأْفِيفَ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الضَّمِيرِ فَيُفْسِدُ وَإِذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّأْفِيفَ لَمْ يَكُنْ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى الضَّمِيرِ فَلَا يُفْسِدُ كَالتَّنَحْنُحِ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَخِيرِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فِي الْوَضْعِ فَلَا يَصِيرُ مِنْ كَلَامِهِمْ بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَلِأَنَّ أَحَدَ الْحَرْفَيْنِ هَهُنَا مِنْ الزَّوَائِدِ الَّتِي يَجْمَعُهَا قَوْلُكَ الْيَوْمَ تَنْسَاهُ وَالْحَرْفُ الزَّائِدِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ بَقِيَ حَرْفٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ حَتَّى لَوْ كَانَتْ ثَلَاثَةَ أَحْرُفٍ أَصْلِيَّةٍ أَوْ زَائِدَةٍ أَوْ كَانَا حَرْفَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْعُرْفِ اسْمٌ لِلْحُرُوفِ الْمَنْظُومَةِ الْمَسْمُوعَةِ وَأَدْنَى مَا يَحْصُلُ بِهِ انْتِظَامُ الْحُرُوفِ حَرْفَانِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي التَّأْفِيفِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الْحُرُوفِ الْمَنْظُومَةِ كَلَامًا فِي الْعُرْفِ أَنْ تَكُونَ مَفْهُومَةَ الْمَعْنَى فَإِنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ نَوْعَانِ، مُهْمَلٌ وَمُسْتَعْمَلٌ وَلِهَذَا لَوْ تَكَلَّمَ بِالْمُهْمَلَاتِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ مَعَ مَا أَنَّ التَّأْفِيفَ مَفْهُومُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ فِي اللُّغَةِ لِلتَّبْعِيدِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِخْفَافِ حَتَّى حُرِّمَ اسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ احْتِرَامًا لَهُمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] وَهَذَا النَّصُّ مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ لَهُمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى التَّأْفِيفَ قَوْلًا فَدَلَّ أَنَّهُ كَلَامٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّفْخَ كَلَامٌ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لِغُلَامٍ يُقَالُ لَهُ رَبَاحٌ حِينَ مَرَّ بِهِ وَهُوَ يَنْفُخُ التُّرَابَ مِنْ مَوْضِعِ سُجُودِهِ فِي صَلَاتِهِ: لَا تَنْفُخْ فَإِنَّ النَّفْخَ كَلَامٌ» ، وَفِي رِوَايَةٍ أَمَا عَلِمْت أَنَّ مَنْ نَفَخَ فِي صَلَاتِهِ فَقَدْ تَكَلَّمَ؟ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ. وَأَمَّا التَّنَحْنُحُ عَنْ عُذْرٍ فَإِنَّهُ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ بِلَا خِلَافٍ وَأَمَّا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: يُفْسِدُ لِوُجُودِ الْحَرْفَيْنِ مِنْ حُرُوفِ الْهَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ تَنَحْنَحَ لِتَحْسِينِ الصَّوْتِ لَا يُفْسِدُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَعْيٌ فِي أَدَاءِ الرُّكْنِ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ عَلَى وَصْفِ الْكَمَالِ، وَرَوَى إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ الْجُوزَجَانِيِّ صَاحِبِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ أَخَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ لَهُ هِجَاءً وَيُسْمَعُ فَهُوَ كَالنَّفْخِ الْمَسْمُوعِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ قَوْلًا، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُرُوفَ الْمَنْظُومَةَ الْمَسْمُوعَةَ كَافِيَةٌ لِلْفَسَادِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَعْنًى مَفْهُومًا كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ بِمُهْمَلٍ كَثُرَتْ حُرُوفُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ أَنَّ أَحَدَ الْحَرْفَيْنِ مِنْ الْحُرُوفِ الزَّوَائِدِ فَنَعَمْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْحُرُوفِ الزَّوَائِدِ لَكِنَّهُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَيْسَ هُوَ بِزَائِدٍ وَإِلْحَاقُ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْحُرُوفِ الزَّوَائِدِ مِنْ كَلِمَةٍ لَيْسَ هُوَ فِيهَا زَائِدًا بِالزَّوَائِدِ مُحَالٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ بِامْتِنَاعِ

التَّغَيُّرِ بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ قَالَ: لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ وَأَرَادَ بِهِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ يُثَابُ عَلَيْهِ وَلَوْ أَرَادَ بِهِ الْإِنْكَارَ لِلْبَعْثِ يَكْفُرُ فَدَلَّ أَنَّ مَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فِي الْوَضْعِ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مِنْ كَلَامِهِمْ بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ. وَلَوْ أَنَّ فِي صَلَاتِهِ أَوْ بَكَى وَارْتَفَعَ بُكَاؤُهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ أَوْ النَّارِ لَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ وَإِنْ كَانَ مِنْ وَجَعٍ أَوْ مُصِيبَةٍ يُفْسِدُهَا؛ لِأَنَّ الْأَنِينَ أَوْ الْبُكَاءَ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ يَكُونُ لِخَوْفِ عَذَابِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ وَرَجَاءِ ثَوَابِهِ فَيَكُونُ عِبَادَةً خَالِصَةً وَلِهَذَا مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى خَلِيلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالتَّأَوُّهِ فَقَالَ {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75] ؛ لِأَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ التَّأَوُّهِ فِي الصَّلَاةِ «وَكَانَ لِجَوْفِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَزِيرٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ فِي الصَّلَاةِ» ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالصَّوْتُ الْمُنْبَعِثُ عَنْ مِثْلِ الْأَنِينِ لَا يَكُونُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فَلَا يَكُونُ مُفْسِدًا؛ وَلِأَنَّ التَّأَوُّهَ وَالْبُكَاءَ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِمَسْأَلَةِ الْجَنَّةِ وَالتَّعَوُّذِ مِنْ النَّارِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ كَذَا هَذَا، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ وَجَعٍ أَوْ مُصِيبَةٍ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَكَلَامُ النَّاسِ مُفْسِدٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ آهِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ وَجَعٍ أَوْ مُصِيبَةٍ، وَإِذَا قَالَ: أَوْهُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ بَلْ هُوَ شَبِيهٌ بِالتَّنَحْنُحِ وَالتَّنَفُّسِ، وَالثَّانِيَ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ عَطَسَ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ فِي الصَّلَاةِ: يَرْحَمُك اللَّهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ؛ وَلِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلْعَاطِسِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ، وَكَلَامُ النَّاسِ مُفْسِدٌ بِالنَّصِّ وَإِنْ أُخْبِرَ بِخَبَرٍ يَسُرُّهُ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ أُخْبِرَ بِمَا يَتَعَجَّبُ مِنْهُ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يُرِدْ جَوَابَ الْمُخْبِرِ لَمْ تُقْطَعْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ جَوَابَهُ قَطَعَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَقْطَعُ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْجَوَابَ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْفَسَادَ لَوْ فَسَدَتْ إنَّمَا تَفْسُدُ بِالصِّيغَةِ أَوْ بِالنِّيَّةِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الصِّيغَةَ صِيغَةُ الْأَذْكَارِ وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ غَيْرُ مُفْسِدٍ، وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمَّا اُسْتُعْمِلَ فِي مَحَلِّ الْجَوَابِ وَفُهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ صَارَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ، وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ كَمَنَ قَالَ لِرَجُلٍ اسْمِهِ يَحْيَى وَبَيْنَ يَدَيْهِ كِتَابٌ مَوْضُوعٌ: يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَأَرَادَ بِهِ الْخِطَابَ بِذَلِكَ لَا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَنَّهُ يُعَدُّ مُتَكَلِّمًا لَا قَارِئًا، وَكَذَا إذَا قِيلَ لِلْمُصَلِّي بِأَيِّ مَوْضِعٍ مَرَرْتَ فَقَالَ: بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ، وَأَرَادَ بِهِ جَوَابَ الْخِطَابِ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ إذَا أُخْبِرَ بِخَبَرٍ يَسُوءُهُ فَاسْتَرْجَعَ لِذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ جَوَابَهُ لَمْ يَقْطَعْ صَلَاتَهُ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْجَوَابَ قَطَعَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْجَوَابِ فِي اسْتِرْجَاعِهِ أَعِينُونِي فَإِنِّي مُصَابٌ وَلَمْ يُذْكَرْ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِرْجَاعِ فِي الْأَصْلِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَمَنْ سَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: الِاسْتِرْجَاعُ إظْهَارُ الْمُصِيبَةِ وَمَا شُرِعَتْ الصَّلَاةُ لِأَجْلِهِ فَأَمَّا التَّحْمِيدُ فَإِظْهَارُ الشُّكْرِ وَالصَّلَاةُ شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ، وَلَوْ مَرَّ الْمُصَلِّي بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ فَوَقَفَ عِنْدَهَا وَسَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ، أَوْ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ النَّارِ فَوَقَفَ عِنْدَهَا وَتَعَوَّذَ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ فَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَهُوَ حَسَنٌ إذَا كَانَ وَحْدَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ فَمَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ إلَّا وَقَفَ وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى، وَمَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ النَّارِ إلَّا وَقَفَ وَتَعَوَّذَ، وَمَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا مَثَلٌ إلَّا وَقَفَ وَتَفَكَّرَ» . وَأَمَّا الْإِمَامُ فِي الْفَرَائِضِ فَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْهُ فِي الْمَكْتُوبَاتِ وَكَذَا الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَكَانَ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ؛ وَلِأَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَى الْقَوْمِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَلَكِنْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ فِي خُشُوعِهِ وَالْخُشُوعُ زِينَةُ الصَّلَاةِ، وَكَذَا الْمَأْمُومُ يَسْتَمِعُ وَيُنْصِتُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] . وَلَوْ اسْتَأْذَنَ عَلَى الْمُصَلِّي إنْسَانٌ فَسَبَّحَ وَأَرَادَ بِهِ إعْلَامَهُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَقْطَعْ صَلَاتَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَدْخَلَانِ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِأَيِّهِمَا شِئْتُ دَخَلْتُ فَكُنْتُ إذَا أُتِيتُ الْبَابَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الصَّلَاةِ فَتَحَ الْبَابَ فَدَخَلْتُ وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ فَانْصَرَفْتُ» وَلِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِصِيَانَةِ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ رُبَّمَا يُلِحُّ الْمُسْتَأْذِنُ حَتَّى يُبْتَلَى هُوَ بِالْغَلَطِ فِي الْقِرَاءَةِ فَكَانَ الْقَصْدُ بِهِ صِيَانَةَ صَلَاتِهِ فَلَمْ تَفْسُدْ، وَكَذَا إذَا عَرَضَ لِلْإِمَامِ شَيْءٌ فَسَبَّحَ الْمَأْمُومُ وَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهِ إصْلَاحُ الصَّلَاةِ فَسَقَطَ حُكْمُ الْكَلَامِ عَنْهُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْإِصْلَاحِ، وَلَا يُسَبِّحُ الْإِمَامُ إذَا قَامَ إلَى الْأُخْرَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ

الرُّجُوعُ إذَا كَانَ إلَى الْقِيَامِ أَقْرَبُ فَلَمْ يَكُنْ التَّسْبِيحُ مُفِيدًا. وَلَوْ فَتَحَ عَلَى الْمُصَلِّي إنْسَانٌ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ كَانَ الْفَاتِحُ هُوَ الْمُقْتَدِيَ بِهِ أَوْ غَيْرَهُ فَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْمُصَلِّي سَوَاءٌ كَانَ الْفَاتِحُ خَارِجَ الصَّلَاةِ أَوْ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى غَيْرِ صَلَاةِ الْمُصَلِّي وَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْفَاتِحِ أَيْضًا إنْ كَانَ هُوَ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيمٌ وَتَعَلُّمٌ فَإِنَّ الْقَارِئَ إذَا اسْتَفْتَحَ غَيْرَهُ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: مَاذَا بَعْدَ مَا قَرَأْتَ فَذَكِّرْنِي، وَالْفَاتِحُ بِالْفَتْحِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: بَعْدَ مَا قَرَأْتَ كَذَا فَخُذْ مِنِّي. وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لَا يُشْكِلُ فِي فَسَادِ الصَّلَاةِ فَكَذَا هَذَا، وَكَذَا الْمُصَلِّي إذَا فَتَحَ عَلَى غَيْرِ الْمُصَلِّي فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِوُجُودِ التَّعْلِيمِ فِي الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ فَتْحَهُ بَعْدَ اسْتِفْتَاحِهِ جَوَابٌ وَهُوَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فَيُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً، هَذَا إذَا فَتَحَ عَلَى الْمُصَلِّي عَنْ اسْتِفْتَاحٍ فَأَمَّا إذَا فَتَحَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْتَاحٍ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةِ وَإِنَّمَا تَفْسُدُ عِنْدَ التَّكْرَارِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ بِخِطَابٍ لِأَحَدٍ فَقَلِيلُهُ يُورِثُ الْكَرَاهَةَ وَكَثِيرُهُ يُوجِبُ الْفَسَادَ، وَإِنْ كَانَ الْفَاتِحُ هُوَ الْمُقْتَدِيَ بِهِ فَالْقِيَاسُ هُوَ فَسَادُ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَرَأَ سُورَةَ الْمُؤْمِنُونَ فَتَرَكَ حَرْفًا فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: أَلَم يَكُنْ فِيكُمْ أُبَيٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّه، قَالَ: هَلَّا فَتَحْتَ عَلَيَّ، فَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا نُسِخَتْ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ نُسِخَتْ لَأَنْبَأْتُكُمْ» ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إذَا اسْتَطْعَمَكَ الْإِمَامُ فَأَطْعِمْهُ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَلَمْ يَتَذَكَّرْ سُورَةً فَقَالَ نَافِعٌ: إذَا زُلْزِلَتْ فَقَرَأَهَا وَلِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ مُضْطَرٌّ إلَى ذَلِكَ لِصِيَانَةِ صَلَاتِهِ عَنْ الْفَسَادِ عِنْدَ تَرْكِ الْإِمَامِ الْمُجَاوَزَةَ إلَى آيَةٍ أُخْرَى أَوْ الِانْتِقَالِ إلَى الرُّكُوعِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ فَتَحَ عَلَى الْإِمَامِ بَعْدَ مَا انْتَقَلَ إلَى آيَةٍ أُخْرَى فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ إنْ أَخَذَهُ الْإِمَامُ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْفَاتِحِ خَاصَّةً لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى الصِّيَانَةِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُقْتَدِي أَنْ يُعَجِّلَ بِالْفَتْحِ وَلَا لِلْإِمَامِ أَنْ يَحُوجَهُمْ إلَى ذَلِكَ بَلْ يَرْكَعُ أَوْ يَتَجَاوَزُ إلَى آيَةٍ أَوْ سُورَةٍ أُخْرَى فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ الْإِمَامُ ذَلِكَ وَخَافَ الْمُقْتَدِي أَنْ يُجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ فَحِينَئِذٍ يَفْتَحُ عَلَيْهِ لِقَوْلِ عَلِيٍّ إذَا اسْتَطْعَمَكَ الْإِمَامُ فَأَطْعِمْهُ وَهُوَ مُلِيمٌ أَيْ مُسْتَحِقُّ الْمَلَامَةِ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَجَ الْمُقْتَدِي وَاضْطَرَّهُ إلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يَنْبَغِي لِلْمُقْتَدِي أَنْ يَنْوِيَ بِالْفَتْحِ عَلَى إمَامِهِ التِّلَاوَةَ، وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْمُقْتَدِي خَلْفَ الْإِمَامِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا عِنْدَنَا، وَالْفَتْحُ عَلَى الْإِمَامِ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا رُخِّصَ لَهُ فِيهِ بِنِيَّةِ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ هَذَا إذَا كَانَ الْفَتْحُ عَلَى غَيْرِ إمَامِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْوِيَ التِّلَاوَةَ دُونَ التَّعْلِيمِ وَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ. وَلَوْ قَرَأَ الْمُصَلِّي مِنْ الْمُصْحَفِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَامَّةٌ وَيُكْرَهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُكْرَهُ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ مَوْلًى لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يُقَالُ لَهُ ذَكْوَانُ كَانَ يَؤُمُّ النَّاسَ فِي رَمَضَانَ وَكَانَ يَقْرَأُ مِنْ الْمُصْحَفِ وَلِأَنَّ النَّظَرَ فِي الْمُصْحَفِ عِبَادَةٌ وَالْقِرَاءَةُ عِبَادَةٌ وَانْضِمَامُ الْعِبَادَةِ إلَى الْعِبَادَةِ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ مَا نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَإِنَّا نَأْكُلُ مَا يَأْكُلُونَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ طَرِيقَتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنَّ مَا يُوجَدُ مِنْهُ مِنْ حَمْلِ الْمُصْحَفِ وَتَقْلِيبِ الْأَوْرَاقِ وَالنَّظَرِ فِيهِ أَعْمَالٌ كَثِيرَةٌ لَيْسَتْ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَلَا حَاجَةَ إلَى تَحَمُّلِهَا فِي الصَّلَاةِ فَتَفْسُدُ الصَّلَاةُ، وَقِيَاسُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُصْحَفُ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَقْرَأُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ حَمْلٍ وَتَقْلِيبِ الْأَوْرَاقِ أَوْ قَرَأَ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَلَى الْمِحْرَابِ مِنْ الْقُرْآنِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِعَدَمِ الْمُفْسِدِ وَهُوَ الْعَمَلُ الْكَثِيرُ، وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ هَذَا يُلَقَّنُ مِنْ الْمُصْحَفِ فَيَكُونُ تَعَلُّمًا مِنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يَأْخُذُ مِنْ الْمُصْحَفِ يُسَمَّى مُتَعَلِّمًا فَصَارَ كَمَا لَوْ تَعَلَّمَ مِنْ مُعَلِّمٍ وَذَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَكَذَا هَذَا، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ حَامِلًا لِلْمُصْحَفِ مُقَلِّبًا لِلْأَوْرَاقِ وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا يُقَلِّبُ الْأَوْرَاقَ، وَأَمَّا حَدِيثُ ذَكْوَانَ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ عَائِشَةَ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى مِنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ بِدَلِيلِ أَنَّ هَذَا الصَّنِيعَ مَكْرُوهٌ بِلَا خِلَافٍ وَلَوْ عَلِمُوا بِذَلِكَ لَمَا مَكَّنُوهُ مِنْ عَمَلِ الْمَكْرُوهِ فِي جَمِيعِ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الرَّاوِي كَانَ يَؤُمُّ النَّاسَ فِي رَمَضَانَ وَكَانَ يَقْرَأُ مِنْ الْمُصْحَفِ إخْبَارًا عَنْ حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ أَيْ كَانَ يَؤُمُّ النَّاسَ فِي رَمَضَانَ وَكَانَ يَقْرَأُ مِنْ الْمُصْحَفِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الصَّلَاةِ إشْعَارًا مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ظَاهِرُهُ فَكَانَ يَؤُمُّ بِبَعْضِ سُوَرِ الْقُرْآنِ دُونَ أَنْ يَخْتِمَ أَوْ كَانَ يَسْتَظْهِرُ كُلَّ يَوْمٍ وِرْدَ كُلِّ لَيْلَةٍ لِيُعْلَمَ أَنَّ قِرَاءَةَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ. وَلَوْ دَعَا فِي صَلَاتِهِ

فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا فَإِنْ دَعَا بِمَا فِي الْقُرْآنِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، وَكَذَا لَوْ دَعَا بِمَا يُشْبِهُ مَا فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ كُلُّ دُعَاءٍ يَسْتَحِيلُ سُؤَالُهُ مِنْ النَّاسِ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ دَعَا بِمَا لَا يَمْتَنِعُ سُؤَالُهُ مِنْ النَّاسِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا نَحْوِ قَوْلِهِ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي دِرْهَمًا، وَزَوِّجْنِي فُلَانَةَ، وَأَلْبِسْنِي ثَوْبًا، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا دَعَا فِي صَلَاةٍ بِمَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَلُوا اللَّهَ حَوَائِجَكُمْ حَتَّى الشِّسْعَ لِنِعَالِكُمْ وَالْمِلْحَ لِقُدُورِكُمْ» ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَدْعُو عَلَى مَنْ نَاوَأَهُ أَيْ عَادَاهُ، وَلَنَا أَنَّ مَا يَجُوزُ أَنْ يُخَاطَبَ بِهِ الْعَبْدُ فَهُوَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَضْعًا وَلَمْ يَخْلُصْ دُعَاءً، وَقَدْ جَرَى الْخِطَابُ فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ بِمَا ذَكَرْنَا أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَسْأَلُ بَعْضًا ذَلِكَ فَيَقُولُ أَعْطِنِي دِرْهَمًا أَوْ زَوِّجْنِي امْرَأَةً؟ وَكَلَامُ النَّاسِ مُفْسِدٌ وَلِهَذَا عَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ كَلَامًا مُفْسِدًا لِلصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ لَمَّا خَاطَبَ الْآدَمِيَّ بِهِ وَقَصَدَ قَضَاءَ حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ دُعَاءً صِيغَةً وَهَذَا صِيغَتُهُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَإِنْ خَاطَبَ اللَّهَ تَعَالَى فَكَانَ مُفْسِدًا بِصِيغَتِهِ وَالْكِتَابُ وَالسَّنَةُ مَحْمُولَانِ عَلَى دُعَاءٍ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ أَوْ عَلَى خَارِجِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمْ يُسَوِّغُوا لَهُ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ حَتَّى كَتَبَ إلَيْهِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَمَّا بَعْدُ فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَأَعِدْ صَلَاتَكَ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنْشَدَ شِعْرًا أَمَا كَانَ مُفْسِدًا لِصَلَاتِهِ، وَمِنْ الشِّعْرِ مَا هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ. وَلَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْمُصَلِّي وَلَا لِلْمُصَلِّي أَنْ يَرُدَّ سَلَامَهُ بِإِشَارَةٍ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ أَمَّا السَّلَامُ فَلِأَنَّهُ يَشْغَلُ قَلْبَ الْمُصَلِّي عَنْ صَلَاتِهِ فَيَصِيرُ مَانِعًا لَهُ عَنْ الْخَيْرِ وَإِنَّهُ مَذْمُومٌ. وَأَمَّا رَدُّ السَّلَامِ بِالْقَوْلِ وَالْإِشَارَةِ فَلِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ النَّاسِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الرَّدُّ بِالْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الرَّدِّ وَلِأَنَّ فِي الْإِشَارَةِ تَرْكَ سُنَّةِ الْيَدِ وَهِيَ الْكَفُّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ فِي الصَّلَاةِ» غَيْرَ أَنَّهُ إذَا رَدَّ بِالْقَوْلِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ وَلَوْ رَدَّ بِالْإِشَارَةِ لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَلَكِنْ يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ. (وَمِنْهَا) السَّلَامُ مُتَعَمِّدًا وَهُوَ سَلَامُ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَصَدَ بِهِ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ صَارَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ خَاطَبَهُمْ بِهِ وَكَلَامُ النَّاسِ مُفْسِدٌ. (وَمِنْهَا) الْقَهْقَهَةُ عَامِدًا كَانَ أَوْ نَاسِيًا؛ لِأَنَّ الْقَهْقَهَةَ فِي الصَّلَاةِ أَفْحَشُ مِنْ الْكَلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَنْتَقِضُ الْوُضُوءَ وَالْكَلَامُ لَا يَنْقُضُ ثُمَّ لَمَّا جُعِلَ الْكَلَامُ قَاطِعًا لِلصَّلَاةِ وَلَمْ يَفْصِلْ فِيهِ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ فَالْقَهْقَهَةُ أَوْلَى. وَمِنْهَا الْخُرُوجُ عَنْ الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ حَالَ الِاخْتِيَارِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ هَذَا كُلُّهُ مِنْ الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامُ وَالسَّلَامُ وَالْقَهْقَهَةُ وَالْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ إذَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَأَمَّا إذَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَكَلَّمَ أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ سَوَاءٌ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ إمَامًا خَلْفَهُ لَاحِقُونَ أَوْ مَسْبُوقُونَ وَسَوَاءٌ أَدْرَكَ اللَّاحِقُونَ الْإِمَامَ فِي صَلَاتِهِ وَصَلَّوْا مَعَهُ أَوْ لَمْ يُدْرِكُوا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَهْقَهَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا وَهُوَ مُنْفَرِدٌ وَإِنْ كَانَ إمَامًا خَلْفَهُ لَاحِقُونَ وَمَسْبُوقُونَ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ تَامَّةٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَصَلَاةُ الْمَسْبُوقِينَ فَاسِدَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ تَامَّةٌ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَهْقَهَةَ وَالْحَدَثَ لَمْ يُفْسِدَا صَلَاةَ الْإِمَامِ فَلَا يُفْسِدَانِ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي لَوْ فَسَدَتْ إنَّمَا تَفْسُدُ بِإِفْسَادِ الْإِمَامِ صَلَاتَهُ لَا بِإِفْسَادِ الْمُقْتَدِي لِانْعِدَامِ الْمُفْسِدِ مِنْ الْمُقْتَدِي فَلَمَّا لَمْ تَفْسُدْ صَلَاةُ الْإِمَامِ مَعَ وُجُودِ الْمُفْسِدِ مِنْ جِهَتِهِ فَلَأَنْ لَا تَفْسُدَ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي أَوْلَى، وَصَارَ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْقَهْقَهَةِ وَبَيْنَ الْكَلَامِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ حَدَثَ الْإِمَامِ إفْسَادٌ لِلْجُزْءِ الَّذِي لَاقَاهُ مِنْ صَلَاتِهِ فَيَفْسُدُ ذَلِكَ الْجُزْءُ مِنْ صَلَاتِهِ وَيَفْسُدُ مِنْ صَلَاةِ الْمَسْبُوقِ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ فَرْضٌ فَيُقْتَصَرُ الْفَسَادُ فِي حَقِّهِ عَلَى الْجُزْءِ وَقَدْ بَقِيَ لِلْمَسْبُوقِ فُرُوضٌ فَتَمْنَعُهُ مِنْ الْبِنَاءِ، فَأَمَّا الْكَلَامُ فَقَطْعٌ لِلصَّلَاةِ وَمُضَادٌّ لَهَا كَمَا ذَكَرْنَا فَيَمْنَعُ مِنْ الْوُجُودِ وَلَا تَفْسُدُ وَشَرْحُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْقَهْقَهَةَ وَالْحَدَثَ الْعَمْدَ لَيْسَا بِمُضَادَّيْنِ لِلصَّلَاةِ بَلْ هُمَا مُضَادَّانِ لِلطَّهَارَةِ وَالطَّهَارَةُ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ الصَّلَاةِ فَصَارَ الْحَدَثُ مُضَادًّا لِلْأَهْلِيَّةِ بِوَاسِطَةِ مُضَادَّتِهِ شَرْطَهَا، وَالشَّيْءُ لَا يَنْعَدِمُ بِمَا لَا يُضَادُّهُ فَلَمْ تَنْعَدِمْ الصَّلَاةُ

بِوُجُودِ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُضَادَّةَ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا تَنْعَدِمُ الْأَهْلِيَّةُ فَيُوجَدُ جُزْءٌ مِنْ الصَّلَاةِ لِانْعِدَامِ مَا يُضَادُّهُ وَيَفْسُدُ هَذَا الْجُزْءُ لِحُصُولِهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ وَلَا صِحَّةَ لِلْفِعْلِ الصَّادِرِ مِنْ غَيْرِ الْأَهْلِ وَإِذَا فَسَدَ هَذَا الْجُزْءُ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ فَتَتَعَلَّقُ بِهَا صِحَّةً وَفَسَادًا؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ لَمَّا فَسَدَ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَسَدَتْ التَّحْرِيمَةُ الْمُقَارِنَةُ لِهَذَا الْفِعْلِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِأَجْلِ الْأَفْعَالِ فَتَتَّصِفُ بِمَا تَتَّصِفُ الْأَفْعَالُ صِحَّةً وَفَسَادًا فَإِذَا فَسَدَتْ هِيَ فَسَدَتْ تَحْرِيمَةُ الْمُقْتَدِي فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ إلَّا أَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ الْمُدْرِكِينَ اتَّصَفَتْ بِالتَّمَامِ بِدُونِ الْجُزْءِ الْفَاسِدِ. فَأَمَّا الْمَسْبُوقُ فَقَدْ فَسَدَ جُزْءٌ مِنْ صَلَاتِهِ وَفَسَدَتْ التَّحْرِيمَةُ الْمُقَارِنَةُ لِذَلِكَ الْجُزْءِ فَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يَعُودُ إلَّا بِالتَّحْرِيمَةِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يُتَصَوَّرْ حُصُولُ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَرْكَانِ فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِخِلَافِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُضَادٍّ لِأَهْلِيَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بَلْ هُوَ مُضَادٌّ لِلصَّلَاةِ نَفْسِهَا، وَوُجُودُ الضِّدِّ لَا يُفْسِدُ الضِّدَّ الْآخَرَ بَلْ يَمْنَعُهُ مِنْ الْوُجُودِ فَإِنَّ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ كَانَتْ تُوجَدُ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالتَّكْرَارِ فَإِذَا انْعَدَمَ فِعْلٌ يَعْقُبُهُ غَيْرُهُ مِنْ جِنْسِهِ فَإِذَا تَعَقَّبَهُ مَا هُوَ مُضَادٌّ لِلصَّلَاةِ لَا يُتَصَوَّرُ حُصُولُ جُزْءٍ مِنْهَا مُقَارِنًا لِلضِّدِّ بَلْ يَبْقَى عَلَى الْعَدَمِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَنَا فِي الْمُتَضَادَّاتِ وَانْتَهَتْ أَفْعَالُ الصَّلَاةِ فَلَمْ تَتَجَدَّدْ التَّحْرِيمَةُ؛ لِأَنَّ تَجَدُّدَهَا كَانَ لِتَجَدُّدِ الْأَفْعَالِ وَقَدْ انْتَهَتْ فَانْتَهَتْ هِيَ أَيْضًا وَمَا فَسَدَتْ، وَبِانْتِهَاءِ تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ لَا تَنْتَهِي تَحْرِيمَةُ الْمَسْبُوقِ كَمَا لَوْ سَلَّمَ فَإِنَّ تَحْرِيمَةَ الْإِمَامِ مُنْتَهِيَةٌ وَتَحْرِيمَةَ الْمَسْبُوقِ غَيْرُ مُنْتَهِيَةٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاةُ الْمَسْبُوقِينَ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَأَمَّا اللَّاحِقُونَ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ أَدْرَكُوا الْإِمَامَ فِي صَلَاتِهِ وَصَلَّوْا مَعَهُ فَصَلَاتُهُمْ تَامَّةٌ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكُوا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ تَفْسُدُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ لَا تَفْسُدُ هَذَا إذَا كَانَ الْعَارِضُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَعَلَى الْمُصَلِّي فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلَهُ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ مَاءً بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ أَوْ بَعْدَ مَا سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَعَادَ إلَى السُّجُودِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ صَلَاتُهُ تَامَّةٌ وَهَذِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا وَذَكَرْنَا الْحُجَجَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي فَصْلِ التَّيَمُّمِ أُمِّيٌّ صَلَّى بَعْضَ صَلَاتِهِ ثُمَّ تَعَلَّمَ سُورَةً فَقَرَأَهَا فِيمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ، مَثَلُ الْأَخْرَسِ يَزُولُ خَرَسُهُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَارِئًا فِي الِابْتِدَاءِ فَصَلَّى بَعْضَ صَلَاتِهِ بِقِرَاءَةٍ ثُمَّ نَسِيَ الْقِرَاءَةَ فَصَارَ أُمِّيًّا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَفْسُدُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تَفْسُدُ فِي الْأَوَّلَ وَلَا تَفْسُدُ فِي الثَّانِي اسْتِحْسَانًا. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَقَطْ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَارِئَ لَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ وَقَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ أَجْزَأَهُ فَإِذَا كَانَ قَارِئًا فِي الِابْتِدَاءِ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ فَعَجْزُهُ عَنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ كَمَا لَوْ تَرَكَ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَإِذَا تَعَلَّمَ وَقَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فَلَا يَضُرُّهُ عَجْزُهُ عَنْهَا فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا لَا يَضُرُّهُ لَوْ تَرَكَهَا. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَوْ اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ فِي الْأَوَّلِ لَحَصَلَ الْأَدَاءُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ فَأُمِرَ بِالِاسْتِقْبَالِ. وَلَوْ اسْتَقْبَلَهَا فِي الثَّانِي لَأَدَّى كُلَّ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ فَكَانَ الْبِنَاءُ أَوْلَى لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا الْبَعْضَ بِقِرَاءَةٍ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِشَرْطِ الْعَجْزِ عَنْهَا فِي كُلِّ الصَّلَاةِ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْقِرَاءَةِ فِي بَعْضِهَا فَاتَ الشَّرْطُ فَظَهَرَ أَنَّ الْمُؤَدَّى لَمْ يَقَعْ صَلَاةً؛ وَلِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْأُمِّيِّ لَمْ تَنْعَقِدْ لِلْقِرَاءَةِ بَلْ انْعَقَدَتْ لِأَفْعَالِ صَلَاتِهِ لَا غَيْرَ، فَإِذَا قَدَرَ صَارَتْ الْقِرَاءَةُ مِنْ أَرْكَانِ صَلَاتِهِ فَلَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا بِلَا تَحْرِيمَةٍ كَأَدَاءِ سَائِرِ الْأَرْكَانِ وَالصَّلَاةُ لَا تُوجَدُ بِدُونِ أَرْكَانِهَا فَفَسَدَتْ وَلِأَنَّ الْأَسَاسَ الضَّعِيفَ لَا يَحْتَمِلُ بِنَاءَ الْقَوِيِّ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةُ بِقِرَاءَةٍ أَقْوَى فَلَا يَجُوزُ بِنَاؤُهَا عَلَى الضَّعِيفِ كَالْعَارِي إذَا وَجَدَ الثَّوْبَ فِي خِلَالِ صَلَاتِهِ وَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ، وَإِذَا كَانَ قَارِئًا فِي الِابْتِدَاءِ فَقَدْ عَقَدَ تَحْرِيمَتَهُ لِأَدَاءِ كُلِّ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ وَقَدْ عَجَزَ عَنْ الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ. وَلَوْ اقْتَدَى الْأُمِّيُّ بِقَارِئٍ بَعْدَ مَا صَلَّى رَكْعَةً فَلَمَّا فَرَغَ الْإِمَامُ قَامَ الْأُمِّيُّ لِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ فِي الْقِيَاسِ، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْقَارِئِ الْتَزَمَ أَدَاءَ هَذِهِ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ وَقَدْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ حِينَ قَامَ لِلْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يَقْضِي فَلَا تَكُونُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةً لَهُ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ الْقِرَاءَةَ ضِمْنًا لِلِاقْتِدَاءِ وَهُوَ مُقْتَدٍ فِيمَا بَقِيَ عَلَى الْإِمَامِ لَا فِيمَا سَبَقَهُ بِهِ وَلِأَنَّهُ لَوْ بَنَى كَانَ مُؤَدِّيًا بَعْضَ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ وَلَوْ اسْتَقْبَلَ كَانَ مُؤَدَّيَا جَمِيعَهَا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى. (وَمِنْهَا) انْكِشَافُ الْعَوْرَةِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ

إذَا كَانَ كَثِيرًا؛ لِأَنَّ اسْتِتَارَهَا مِنْ شَرَائِطِ الْجَوَازِ فَكَانَ انْكِشَافُهَا فِي الصَّلَاةِ مُفْسِدًا إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ اعْتِبَارُ هَذَا الشَّرْطِ فِي الْقَلِيلِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِلضَّرُورَةِ كَمَا فِي قَلِيلِ النَّجَاسَةِ؛ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَكَذَلِكَ الْحُرَّةُ إذَا سَقَطَ قِنَاعُهَا فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَرَفَعَتْهُ وَغَطَّتْ رَأْسَهَا بِعَمَلٍ قَلِيلٍ قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّي رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ أَوْ قَبْلَ أَنْ تَمْكُثَ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهَا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تُبْتَلَى بِذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُهَا التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَأَمَّا إذَا بَقِيَتْ كَذَلِكَ حَتَّى أَدَّتْ رُكْنًا أَوْ مَكَثَتْ ذَلِكَ الْقَدْرَ أَوْ غَطَّتْ مِنْ سَاعَتِهَا لَكِنْ بِعَمَلٍ كَثِيرٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهَا لِانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا أُعْتِقَتْ فِي خِلَالِ صَلَاتِهَا وَهِيَ مَكْشُوفَةُ الرَّأْسِ فَأَخَذَتْ قِنَاعَهَا فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْحُرَّةِ وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ وَالْمُكَاتَبَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ رُءُوسَ هَؤُلَاءِ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ فَإِذَا أُعْتِقْنَ أَخَذْنَ الْقِنَاعَ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ خِطَابَ السَّتْرِ تَوَجَّهَ لِلْحَالِ إلَّا إنْ تَبَيَّنَ أَنَّ عَلَيْهَا السَّتْرَ مِنْ الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ رَأْسَهَا إنَّمَا صَارَ عَوْرَةً بِالتَّحْرِيرِ وَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْحَالِ فَكَذَا صَيْرُورَةُ الرَّأْسِ عَوْرَةً بِخِلَافِ الْعَارِي إذَا وَجَدَ كِسْوَةً فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ حَيْثُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ عَوْرَتَهُ مَا صَارَتْ عَوْرَةً لِلْحَالِ بَلْ كَانَتْ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ السَّتْرَ كَانَ قَدْ سَقَطَ لِعُذْرِ الْعَدَمِ فَإِذَا زَالَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوُجُوبَ كَانَ ثَابِتًا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فِي إزَارٍ وَاحِدٍ فَسَقَطَ عَنْهُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ وَهُوَ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ وَالْقِيَاسِ أَنْ تَفْسُدَ صَلَاتُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ بِالنَّصِّ وَالِاسْتِتَارُ يَفُوتُ بِالِانْكِشَافِ وَإِنْ قَلَّ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ وَجَعَلْنَا مَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ عَفْوًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَكَذَلِكَ إذَا حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ وَهُوَ عُرْيَانُ لَا يَجِدُ ثَوْبًا جَازَتْ صَلَاتُهُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ. وَلَوْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبٌ نَجِسٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْصِيلَ الْجَوَابِ فِيهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ رُبُعٌ مِنْهُ طَاهِرًا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ نَجِسًا فَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ فِي كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا مُحَاذَاةُ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ يَشْتَرِكَانِ فِيهَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَكُونَ الْمُحَاذَاةُ مُفْسِدَةَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، حَتَّى لَوْ قَامَتْ امْرَأَةٌ خَلْفَ الْإِمَامِ وَنَوَتْ صَلَاتَهُ وَقَدْ نَوَى الْإِمَامُ إمَامَةَ النِّسَاءِ ثُمَّ حَاذَتْهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا تَفْسُدُ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْفَسَادَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ لِخَسَاسَتِهَا أَوْ لِاشْتِغَالِ قَلْبِ الرَّجُلِ بِهَا وَالْوُقُوعِ فِي الشَّهْوَةِ، لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ أَخَسَّ مِنْ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمُحَاذَاتُهُمَا غَيْرُ مُفْسِدَةٍ؛ وَلِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الْمُحَاذَاةِ فِي صَلَاةٍ لَا يَشْتَرِكَانِ فِيهَا وَالْمُحَاذَاةُ فِيهَا غَيْرُ مُفْسِدَةٍ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِهَذَا أَيْضًا، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُشَارِكُ الرَّجُلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَيَنْبَغِي أَنْ تَفْسُدَ صَلَاتُهَا أَيْضًا وَلَا تَفْسُدُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُحَاذَاةَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ غَيْرُ مُفْسِدَةٍ فَكَذَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» عَقِيبَ قَوْلِهِ «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا» وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِالتَّأْخِيرِ صَارَ التَّأْخِيرُ فَرْضًا مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ فَيَصِيرُ بِتَرْكِهِ التَّأْخِيرَ تَارِكًا فَرْضًا مِنْ فَرَائِضِهَا فَتَفْسُدُ، وَالثَّانِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّأْخِيرِ أَمْرٌ بِالتَّقَدُّمِ عَلَيْهَا ضَرُورَةً فَإِذَا لَمْ تُؤَخَّرْ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فَقَدْ قَامَ مَقَامًا لَيْسَ بِمَقَامٍ لَهُ فَتَفْسُدُ كَمَا إذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْإِمَامِ، وَالْحَدِيثُ وَرَدَ فِي صَلَاةِ مُطْلَقَةٍ مُشْتَرَكَةٍ فَبَقِيَ غَيْرُهَا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَإِنَّمَا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهَا؛ لِأَنَّ خِطَابَ التَّأْخِيرِ يَتَنَاوَلُ الرَّجُلَ وَيُمْكِنُهُ تَأْخِيرُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَأَخَّرَ هِيَ بِنَفْسِهَا وَيَتَقَدَّمَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَكُنْ التَّأْخِيرُ فَرْضًا عَلَيْهَا فَتَرْكُهُ لَا يَكُونُ مُفْسِدًا، وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ بَيْنَ مُحَاذَاةِ الْبَالِغَةِ وَبَيْنَ مُحَاذَاةِ الْمُرَاهِقَةِ الَّتِي تَعْقِلُ الصَّلَاةَ فِي حَقِّ فَسَادِ صَلَاةِ الرَّجُلِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تُفْسِدَ مُحَاذَاةُ غَيْرِ الْبَالِغَةِ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهَا تَخَلُّقٌ وَاعْتِيَادٌ لَا حَقِيقَةُ صَلَاةٍ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِالصَّلَاةِ مَضْرُوبَةٌ عَلَيْهَا كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ فَجُعِلَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي أَصْلِ الصَّلَاةِ وَالْمُشَارَكَةُ فِي أَصْلِ الصَّلَاةِ تَكْفِي لِلْفَسَادِ إذَا وُجِدَتْ الْمُحَاذَاةُ، وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْمُحَاذَاةَ مُفْسِدَةٌ فَنَقُولُ: إذَا قَامَتْ فِي الصَّفِّ امْرَأَةٌ فَسَدَتْ صَلَاةُ رَجُلٍ عَنْ يَمِينِهَا وَرَجُلٍ عَنْ يَسَارِهَا وَرَجُلٍ خَلْفَهَا بِحِذَائِهَا؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ تُحَاذِي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ وَلَا تَفْسُدُ صَلَاةُ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ

صَارُوا حَائِلِينَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ بِمَنْزِلَةِ أُسْطُوَانَةٍ أَوْ كَارَّةٍ مِنْ الثِّيَابِ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُحَاذَاةُ وَلَوْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَالْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ تُفْسِدَانِ صَلَاةَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ مَنْ عَلَى يَمِينِهِمَا وَمَنْ عَلَى يَسَارِهِمَا وَمَنْ خَلْفَهُمَا بِحِذَائِهِمَا، وَالثَّلَاثُ مِنْهُنَّ يُفْسِدْنَ صَلَاةَ مَنْ عَلَى يَمِينِهِنَّ وَمَنْ عَلَى يَسَارِهِنَّ وَثَلَاثَةٍ خَلْفَهُنَّ إلَى آخِرِ الصُّفُوفِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ قَالَ: الثِّنْتَانِ يُفْسِدَانِ صَلَاةَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ مَنْ عَلَى يَمِينِهِمَا وَمَنْ عَلَى يَسَارِهِمَا وَاثْنَانِ مِنْ خَلْفِهِمَا بِحِذَائِهِمَا، وَالثَّلَاثُ يُفْسِدْنَ صَلَاةَ خَمْسَةِ نَفَرٍ مَنْ كَانَ عَلَى يَمِينِهِنَّ وَمَنْ كَانَ عَلَى شِمَالِهِنَّ وَثَلَاثَةٍ خَلْفَهُنَّ بِحِذَائِهِنَّ، وَفِي رِوَايَةٍ اثْنَتَانِ تُفْسِدَانِ صَلَاةَ رَجُلَيْنِ عَنْ يَمِينِهِمَا وَيَسَارِهِمَا وَصَلَاةَ رَجُلَيْنِ رَجُلَيْنِ إلَى آخِرِ الصُّفُوفِ وَالثَّلَاثُ يُفْسِدْنَ صَلَاةَ رَجُلٍ عَنْ يَمِينِهِنَّ وَرَجُلٍ عَنْ يَسَارِهِنَّ وَصَلَاةَ ثَلَاثَةٍ ثَلَاثَةٍ إلَى آخِرِ الصُّفُوفِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُنَّ إذَا كُنَّ صَفًّا تَامًّا فَسَدَتْ صَلَاةُ الصُّفُوفِ الَّتِي خَلْفَهُنَّ وَإِنْ كَانُوا عِشْرِينَ صَفًّا. وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ لَيْسَ لِمَكَانِ الْحَيْلُولَةِ؛ لِأَنَّ الْحَيْلُولَةَ إنَّمَا تَقَعُ بِالصَّفِّ التَّامِّ مِنْ النِّسَاءِ بِالْحَدِيثِ، وَلَمْ تُوجَدْ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْفَسَادُ بِالْمُحَاذَاةِ وَلَمْ تُوجَدْ الْمُحَاذَاةُ إلَّا بِهَذَا الْقَدْرِ. وَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ لَهُ أَنَّ لِلْمُثَنَّى حُكْمَ الثَّلَاثِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْإِمَامَ يَتَقَدَّمُ الِاثْنَيْنِ وَيَصْطَفَّانِ خَلْفَهُ كَالثَّلَاثَةِ ثُمَّ حُكْمُ الثَّلَاثَةِ هَذَا فَكَذَا حُكْمُ الِاثْنَيْنِ. وَجْهُ الْمَرْوِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ لَا تُحَاذِيَانِ إلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ فَلَا تُفْسِدَانِ صَلَاةَ غَيْرِهِمْ وَفِي الصَّفِّ التَّامِّ، الْقِيَاسُ هَكَذَا أَنْ تَفْسُدَ صَلَاةُ صَفٍّ وَاحِدٍ خَلْفَهُنَّ لَا غَيْرَ لِانْعِدَامِ مُحَاذَاتِهِنَّ لِمَنْ وَرَاءَ هَذَا الصَّفِّ الْوَاحِدِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا فَحَكَمْنَا بِفَسَادِ صَلَاةِ الصُّفُوفِ أَجْمَعَ لِحَدِيثِ عُمَرَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ نَهْرٌ أَوْ طَرِيقٌ أَوْ صَفٌّ مِنْ النِّسَاءِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ» جَعَلَ صَفَّ النِّسَاءِ حَائِلًا كَالنَّهْرِ وَالطَّرِيقِ فَفِي حَقِّ الصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِنَّ مِنْ خَلْفِهِنَّ وُجِدَ تَرْكُ التَّأْخِيرِ مِنْهُمْ وَالْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ بِهِنَّ وَفِي حَقِّ الصُّفُوفِ الْأُخَرِ وُجِدَتْ الْحَيْلُولَةُ لَا غَيْرُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ بِانْفِرَادِهِ عِلَّةٌ كَامِلَةٌ لِلْفَسَادِ ثُمَّ الثِّنْتَانِ لَيْسَتَا بِجَمْعٍ حَقِيقَةً فَلَا يُلْحَقَانِ بِالصَّفِّ مِنْ النِّسَاءِ الَّتِي هِيَ اسْمُ جَمْعٍ فَانْعَدَمَتْ الْحَيْلُولَةُ فَيَتَعَلَّقُ الْفَسَادُ بِالْمُحَاذَاةِ لَا غَيْرَ وَالْمُحَاذَاةُ لَمْ تُوجَدْ إلَّا بِهَذَا الْقَدْرِ فَأَمَّا الثَّلَاثُ مِنْهُنَّ فَجَمْعٌ حَقِيقَةً فَأُلْحِقْنَ بِصَفٍّ كَامِلٍ فِي حَقِّ مَنْ صِرْنَ حَائِلَاتٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ فَفَسَدَتْ صَلَاةُ ثَلَاثَةٍ ثَلَاثَةٍ إلَى آخِرِ الصُّفُوفِ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ وَاحِدٍ عَنْ يَمِينِهِنَّ وَوَاحِدٍ عَنْ يَسَارِهِنَّ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْفَسَادَ بِالْمُحَاذَاةِ لَا بِالْحَيْلُولَةِ وَلَمْ تُوجَدْ الْمُحَاذَاةُ إلَّا بِهَذَا الْقَدْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ وَقَفَتْ بِحِذَاءِ الْإِمَامِ فَأَتَمَّتْ بِهِ وَقَدْ نَوَى الْإِمَامُ إمَامَتَهَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ كُلِّهِمْ أَمَّا صَلَاةُ الْإِمَامِ فَلِوُجُودِ الْمُحَاذَاةِ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقَةً مُشْتَرَكَةً. وَأَمَّا صَلَاةُ الْقَوْمِ فَلِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ يَقُولُ: لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهَا؛ لِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ قَارَنَتْ شُرُوعَهَا فِي الصَّلَاةِ. وَلَوْ طَرَأَتْ كَانَتْ مُفْسِدَةً فَإِذَا اقْتَرَنَتْ مَنَعَتْ مِنْ صِحَّةِ اقْتِدَائِهَا بِهِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ وَلَا تَقَعُ الشَّرِكَةُ إلَّا بَعْدَ شُرُوعِهَا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ فَلَمْ يَكُنْ الْمُفْسِدُ مُقَارِنًا لِلشُّرُوعِ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ الشُّرُوعِ، وَإِنْ كَانَتْ بِحِذَاءِ الْإِمَامِ وَلَمْ تَأْتَمَّ بِهِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاةُ الْإِمَامِ؛ لِانْعِدَامِ الْمُشَارَكَةِ، وَكَذَا إذَا قَامَتْ أَمَامَ الْإِمَامِ فَأَتَمَّتْ بِهِ؛ لِأَنَّ اقْتِدَاءَهَا لَمْ يَصِحَّ فَلَمْ تَقَعْ الْمُشَارَكَةُ، وَكَذَا إذَا قَامَتْ إلَى جَنْبِهِ وَنَوَتْ فَرْضًا آخَرَ بِأَنْ كَانَ الْإِمَامُ فِي الظُّهْرِ وَنَوَتْ هِيَ الْعَصْرَ فَأَتَمَّتْ بِهِ ثُمَّ حَاذَتْهُ لَمْ تُفْسِدْ عَلَى الْإِمَامِ صَلَاتَهُ وَهَذَا عَلَى رِوَايَةِ بَابِ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ شَارِعَةً فِي الصَّلَاةِ أَصْلًا فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُشَارَكَةُ، فَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ بَابِ الْآذَانِ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ شَارِعَةً فِي أَصْلِ الصَّلَاةِ فَوُجِدَتْ الْمُحَاذَاةُ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَفَسَدَتْ صَلَاتُهَا بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَعَلَيْهَا قَضَاءُ التَّطَوُّعِ لِحُصُولِ الْفَسَادِ بَعْدَ صِحَّةِ شُرُوعِهَا كَمَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي الظُّهْرِ وَقَدْ نَوَى إمَامَتَهَا فَأَتَمَّتْ بِهِ تَنْوِي التَّطَوُّعَ ثُمَّ قَامَتْ بِجَنْبِهِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهَا وَعَلَيْهَا قَضَاءُ التَّطَوُّعِ فَكَذَا هَذَا وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ قَبْلُ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: الْجَوَابُ مَا ذُكِرَ فِي بَابِ الْآذَانِ، وَتَأْوِيلُ مَا ذُكِرَ فِي بَابِ الْحَدَثِ أَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهَا فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ فَتُجْعَلُ هِيَ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ بِنِيَّةِ الْعَصْرِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهَا أَصْلًا فَلِهَذَا لَا تَصِيرُ شَارِعَةً فِي صَلَاتِهِ تَطَوُّعًا. وَلَوْ قَامَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ يَقْضِيَانِ مَا سَبَقَهُمَا الْإِمَامُ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ. وَلَوْ كَانَا أَدْرَكَا أَوَّلَ الصَّلَاةِ وَكَانَا نَامَا أَوْ أَحْدَثَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَيْنِ فِيمَا يَقْضِيَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حُكْمِ الْمُنْفَرِدِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ عَلَى الْمَسْبُوقِ، وَلَوْ سَهَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ فَلَمْ

يَشْتَرِكَا فِي صَلَاةٍ فَلَا تَكُونُ الْمُحَاذَاةُ مُفْسِدَةَ صَلَاتِهِ، فَأَمَّا الْمُدْرِكَانِ فَهُمَا كَأَنَّهُمَا خَلْفَ الْإِمَامِ بَعْدُ بِدَلِيلِ سُقُوطِ الْقِرَاءَةِ عَنْهُمَا وَانْعِدَامِ وُجُوبِ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ عِنْدَ وُجُودِ السَّهْوِ كَأَنَّهُمَا خَلْفَ الْإِمَامِ حَقِيقَةً فَوَقَعَتْ الْمُشَارَكَةُ فَوُجِدَتْ الْمُحَاذَاةُ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ فَتُوجِبُ فَسَادَ صَلَاتِهِ. وَمُرُورُ الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ وَالْكَلْبِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ: يَقْطَعُ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ وَالْكَلْبِ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، «وَالْكَلْبِ الْأَسْوَدِ فَقِيلَ لِأَبِي ذَرٍّ: وَمَا بَالُ الْأَسْوَدِ مِنْ غَيْرِهِ؟ فَقَالَ أَشْكَلَ عَلَيَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْكُمْ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ» . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَوْا فَقَدْ رَدَّتْهُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَإِنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةِ: «يَا عُرْوَةُ مَا يَقُولُ أَهْلُ الْعِرَاقِ؟ قَالَ: يَقُولُونَ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ وَالْكَلْبِ، فَقَالَتْ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ وَالنِّفَاقِ وَالشِّقَاقِ بِئْسَمَا قَرَنْتُمُونَا بِالْكِلَابِ وَالْحُمُرِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَأَنَا نَائِمَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ مُعْتَرِضَةٌ كَاعْتِرَاضِ الْجِنَازَةِ» ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَرْأَةِ نَصٌّ خَاصٌّ وَكَذَا فِي الْحِمَارِ وَالْكَلْبِ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ فَأَرَادَ ابْنُهَا عُمَرُ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ قِفْ فَوَقَفَ ثُمَّ أَرَادَتْ زَيْنَبُ بِنْتُهَا أَنْ تَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَشَارَ إلَيْهَا أَنْ قِفِي فَلَمْ تَقِفْ فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: إنَّهُنَّ أَغْلَبُ» . وَرُوِيَ عَنْ «ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: زُرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَخِي الْفَضْلِ عَلَى حِمَارٍ فِي بَادِيَةٍ فَنَزَلْنَا فَوَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فَصَلَّيْنَا مَعَهُ وَالْحِمَارُ يَرْتَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ» ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَالْكَلْبُ وَالْحِمَارُ يَمُرَّانِ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَلَوْ دَفَعَ الْمَارَّ بِالتَّسْبِيحِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ أَوْ أَخَذَ طَرَفَ ثَوْبِهِ مِنْ غَيْرِ مَشْيٍ وَلَا عِلَاجٍ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ» ، وَقَوْلِهِ «إذَا نَابَتْ أَحَدَكُمْ نَائِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ فَلْيُسَبِّحْ فَإِنَّ التَّسْبِيحَ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقَ لِلنِّسَاءِ» ، وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إذَا مَرَّتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ لِيَصْرِفَهَا لَمْ تُقْطَعْ صَلَاتُهُ وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَفْعَلَ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ أَيْ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ التَّسْبِيحِ وَالْإِشَارَةِ بِالْيَدِ؛ لِأَنَّ بِإِحْدَاهَا كِفَايَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَيْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَتَأْوِيلُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتٍ كَانَ الْعَمَلُ فِي الصَّلَاةِ مُبَاحًا. وَمِنْهَا الْمَوْتُ فِي الصَّلَاةِ وَالْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ فِيهَا أَمَّا الْمَوْتُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ مُعْجِزٌ عَنْ الْمُضِيِّ فِيهَا. وَأَمَّا الْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ فَلِأَنَّهُمَا يَنْقُضَانِ الطَّهَارَةَ وَيَمْنَعَانِ الْبِنَاءَ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ اعْتِرَاضَهُمَا فِي الصَّلَاةِ نَادِرٌ فَلَا يَلْحَقَانِ بِمَوْرِدِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ وَهُوَ الْحَدَثُ السَّابِقُ وَسَوَاءٌ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ مُقْتَدِيًا أَوْ إمَامًا حَتَّى يَسْتَقْبِلَ الْقَوْمُ صَلَاتَهُمْ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقُومُ الْقَوْمُ فَيُصَلُّونَ وُحْدَانًا كَمَا إذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ. وَمِنْهَا الْعَمَلُ الْكَثِيرُ الَّذِي لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَأَمَّا الْقَلِيلُ فَغَيْرُ مُفْسِدِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْكَثِيرُ مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى اسْتِعْمَالِ الْيَدَيْنِ وَالْقَلِيلُ مَا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى ذَلِكَ حَتَّى قَالُوا: إذَا زَرَّ قَمِيصَهُ فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَإِذَا حَلَّ إزَارَهُ لَا تَفْسُدُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُّ عَمَلٍ لَوْ نَظَرَ النَّاظِرُ إلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَهُوَ كَثِيرٌ، وَكُلُّ عَمَلٍ لَوْ نَظَرَ إلَيْهِ نَاظِرٌ رُبَّمَا يُشْبِهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ قَلِيلٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ مَا إذَا قَاتَلَ فِي صَلَاتِهِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْخَوْفِ أَنَّهُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَا إذَا أَخَذَ قَوْسًا وَرَمَى بِهَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْقَوْسِ وَتَثْقِيفَ السَّهْمِ عَلَيْهِ وَمَدِّهِ حَتَّى يَرْمِيَ عَمَلٌ كَثِيرٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى اسْتِعْمَالِ الْيَدَيْنِ، وَكَذَا النَّاظِرُ إلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ عَابُوا عَلَى مُحَمَّدٍ فِي هَذَا اللَّفْظِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَرَمَى بِهَا فَقَالُوا: الرَّمْيُ بِالْقَوْسِ إلْقَاؤُهَا مِنْ يَدِهِ وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي الرَّمْي بِالسَّهْمِ رَمَى عَنْهَا لَا رَمَى بِهَا، وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ غَرَضَ مُحَمَّدٍ تَعْلِيمُ الْعَامَّةِ وَقَدْ وَجَدَ هَذَا اللَّفْظَ مَعْرُوفًا فِي لِسَانِهِمْ فَاسْتَعْمَلَهُ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى فَهْمِهِمْ فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ، وَكَذَا لَوْ ادَّهَنَ أَوْ سَرَّحَ رَأْسَهُ أَوْ حَمَلَتْ امْرَأَةٌ صَبِيَّهَا وَأَرْضَعَتْهُ لِوُجُودِ حَدِّ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ عَلَى الْعِبَارَتَيْنِ، فَأَمَّا حَمْلُ الصَّبِيِّ بِدُونِ الْإِرْضَاعِ فَلَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ وَقَدْ حَمَلَ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ

فصل الكلام في صلاة الخوف

عَلَى عَاتِقِهِ فَكَانَ إذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ رَفَعَهَا» ثُمَّ هَذَا الصَّنِيعُ لَمْ يُكْرَهْ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ لِعَدَمِ مَنْ يَحْفَظُهَا أَوْ لِبَيَانِهِ الشَّرْعَ بِالْفِعْلِ إنَّ هَذَا غَيْرُ مُوجِبٍ فَسَادَ الصَّلَاةِ، وَمِثْلُ هَذَا فِي زَمَانِنَا أَيْضًا لَا يُكْرَهُ لِوَاحِدٍ مِنَّا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ أَمَّا بِدُونِ الْحَاجَةِ فَمَكْرُوهٌ. وَلَوْ صَلَّى وَفِي فِيهِ شَيْءٌ يُمْسِكُهُ إنْ كَانَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَلَكِنْ يُخِلُّ بِهَا كَدِرْهَمٍ أَوْ دِينَارٍ أَوْ لُؤْلُؤَةٍ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُ شَيْءٌ مِنْ الرُّكْنِ وَلَكِنْ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْإِخْلَالَ بِالرُّكْنِ حَتَّى لَوْ كَانَ لَا يُخِلُّ بِهِ لَا يُكْرَهُ وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ الرُّكْنُ، وَإِنْ كَانَ فِي فِيهِ سُكَّرَةٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَكْلٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي كَفِّهِ مَتَاعٌ يُمْسِكُهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَمْنَعُهُ عَنْ الْأَخْذِ بِالرُّكَبِ فِي الرُّكُوعِ أَوْ الِاعْتِمَادِ عَلَى الرَّاحَتَيْنِ عِنْدَ السُّجُودِ يُكْرَهُ لِمَنْعِهِ عَنْ تَحْصِيلِ السُّنَّةِ وَإِلَّا فَلَا. وَلَوْ رَمَى طَائِرًا بِحَجَرٍ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ قَلِيلٌ وَيُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ. وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِوُجُودِ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ وَسَوَاءٌ كَانَ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا فَرْقٌ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ حَيْثُ كَانَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِي الصَّوْمِ نَاسِيًا غَيْرَ مُفْسِدٍ إيَّاهُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يُفْصَلَ فِي بَابِ الصَّوْمِ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ أَيْضًا لِوُجُودِ ضِدِّ الصَّوْمِ فِي الْحَالَيْنِ وَهُوَ تَرْكُ الْكَفِّ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالنَّصِّ، وَالصَّلَاةُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ الصَّائِمَ كَثِيرًا مَا يُبْتَلَى بِهِ فِي حَالَةِ الصَّوْمِ فَلَوْ حَكَمْنَا بِالْفَسَادِ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ فِي الصَّلَاةِ سَاهِيًا نَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ فَيُعْمَلُ فِيهَا بِالْقِيَاسِ الْمَحْضِ وَهُوَ أَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَظَرَ النَّاظِرُ إلَيْهِ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ؟ وَلَوْ مَضَغَ الْعِلْكَ فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّ النَّاظِرَ إلَيْهِ مِنْ بَعْدُ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ التَّحْدِيدِ هُوَ الْعِبَارَةُ الثَّانِيَةُ حَيْثُ حَكَمْنَا بِفَسَادِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى اسْتِعْمَالِ الْيَدِ رَأْسًا فَضْلًا عَنْ اسْتِعْمَالِ الْيَدَيْنِ. وَلَوْ بَقِيَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ فَابْتَلَعَهُ إنْ كَانَ دُونَ الْحِمَّصَةِ لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ فِي حُكْمِ التَّبَعِ لِرِيقِهِ لِقِلَّتِهِ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى بَيْنَ الْأَسْنَانِ عَادَةً فَلَوْ جُعِلَ مُفْسِدًا لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ وَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْرَ الْحِمَّصَةِ فَصَاعِدًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ. وَلَوْ قَلَسَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ فِيهِ ثُمَّ رَجَعَ فَدَخَلَ جَوْفَهُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ رِيقِهِ وَلِهَذَا لَا يَنْقُضُ وُضُوءَهُ، وَكَذَا الْمُتَهَجِّدُ بِاللَّيْلِ قَدْ يُبْتَلَى بِهِ خُصُوصًا فِي لَيَالِي رَمَضَانَ عِنْدَ امْتِلَاءِ الطَّعَامِ عِنْدَ الْفِطْرِ فَلَوْ جُعِلَ مُفْسِدًا لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ. وَقَتْلُ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ فِي الصَّلَاةِ لَا يُفْسِدُهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي الصَّلَاةِ» . وَرُوِيَ أَنْ عَقْرَبًا لَدَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ فَوَضَعَ عَلَيْهِ نَعْلَهُ وَغَمَزَهُ حَتَّى قَتَلَهُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ لَا تُبَالِي نَبِيًّا وَلَا غَيْرَهُ أَوْ قَالَ مُصَلِّيًا وَلَا غَيْرَهُ» وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ لِيَفْعَلَ الْمَكْرُوهَ خُصُوصًا فِي الصَّلَاةِ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِدَفْعِ الْأَذَى فَكَانَ مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ، هَذَا إذَا أَمْكَنَهُ قَتْلُ الْحَيَّةِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعَقْرَبِ. وَأَمَّا إذَا احْتَاجَ إلَى مُعَالَجَةٍ وَضَرَبَاتٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ كَمَا إذَا قَاتَلَ فِي صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ، وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا عَمَلٌ رُخِّصَ فِيهِ لِلْمُصَلِّي فَأَشْبَهَ الْمَشْيَ بَعْدَ الْحَدَثِ وَالِاسْتِقَاءَ مِنْ الْبِئْرِ وَالتَّوَضُّؤَ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ إذَا عَمِلَهَا الْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَأَمَّا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ كَمَا فِي حَالَةِ الْخَوْفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْكَلَامُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ] (فَصْلٌ) : وَالْكَلَامَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ. فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ شَرْعِيَّتِهَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي بَيَانِ قَدْرِهَا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهَا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهَا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَصَلَاةُ الْخَوْفِ مَشْرُوعَةٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ لَا تَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ، وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] الْآيَةَ جَوَّزَ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِشَرْطِ كَوْنِ الرَّسُولِ فِيهِمْ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ الدُّنْيَا انْعَدَمَتْ الشَّرْطِيَّةُ وَلِأَنَّ الْجَوَازَ حَالَ حَيَاتِهِ ثَبَتَ مَعَ الْمُنَافِي لِمَا فِيهَا مِنْ أَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ لَيْسَتْ مِنْ الصَّلَاةِ وَهِيَ الذَّهَابُ وَالْمَجِيءُ وَلَا بَقَاءَ لِلشَّيْءِ مَعَ مَا يُنَافِيهِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْمُنَافِي

فصل مقدارها صلاة الخوف

حَالَ حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى اسْتِدْرَاكِ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْعَدِمٌ فِي زَمَانِنَا فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْمُنَافِي فَيُصَلِّي كُلُّ طَائِفَةٍ بِإِمَامٍ عَلَى حِدَةٍ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى جَوَازِهَا فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِأَصْبَهَانَ، وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ كَانَ يُحَارَبُ الْمَجُوسَ بِطَبَرِسْتَانَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ الْحَسَنُ وَحُذَيْفَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَقَالَ: أَيُّكُمْ شَهِدَ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا، فَقَامَ وَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى نَحْوِ مَا يَقُولُهُ فَانْعَقَدَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْجَوَازِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَا مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ لِخُرُوجِهِ عَنْ مُعَارَضَةِ الْإِجْمَاعِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ تَرْكُ الْوَاجِبِ وَهُوَ تَرْكُ الْمَشْيِ فِي الصَّلَاةِ لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ وَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى اسْتِدْرَاكِ الْفَضِيلَةِ قَائِمَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ يَحْتَاجُونَ إلَى الصَّلَاةِ خَلْفَ أَفْضَلِهِمْ وَإِلَى إحْرَازِ فَضِيلَةِ تَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ عَامًا فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ، وَإِحْرَازُ الْفَضِيلَةِ لَا يَصْلُحُ مُخَصِّصًا؛ لِمَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّسُولُ فِيهِمْ لَا تَجُوزُ فَكَانَ تَعْلِيقًا بِالسُّكُوتِ وَأَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ. [فَصْلٌ مِقْدَارُهَا صَلَاةِ الْخَوْفِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مِقْدَارُهَا. فَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ إنْ كَانُوا مُسَافِرِينَ أَوْ كَانَتْ الصَّلَاةُ مِنْ ذَوَاتِ رَكْعَتَيْنِ كَالْفَجْرِ، وَإِنْ كَانُوا مُقِيمِينَ وَالصَّلَاةُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ أَوْ الثَّلَاثِ صَلَّى بِهِمْ أَرْبَعًا أَوْ ثَلَاثًا، وَلَا يَنْتَقِضُ عَدَدُ الرَّكَعَاتِ بِسَبَبِ الْخَوْفِ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ صَلَاةُ الْمُقِيمِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْخَوْفِ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ وَبِهِ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً فَكَانَتْ لَهُ رَكْعَتَانِ وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةٌ» ، وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا، وَهَكَذَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ بَعْدَهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ، وَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهَا رَكْعَةٌ مَعَ الْإِمَامِ وَعِنْدَنَا يُصَلِّي الْإِمَامُ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً وَاحِدَةً إذَا كَانُوا مُسَافِرِينَ وَهُوَ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ. [فَصْلٌ كَيْفِيَّة صَلَاةِ الْخَوْفِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهَا. فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا اخْتِلَافًا فَاحِشًا لِاخْتِلَافِ الْأَخْبَارِ فِي الْبَابِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا يَجْعَلُ الْإِمَامُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ طَائِفَةً بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ وَيَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِطَائِفَةٍ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً إنْ كَانَ مُسَافِرًا أَوْ كَانَتْ الصَّلَاةُ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَيْنِ إنْ كَانَ مُقِيمًا وَالصَّلَاةُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَيَنْصَرِفُونَ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيُصَلِّي بِهِمْ بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ فَيَنْصَرِفُونَ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَيَقْضُونَ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ وَيَنْصَرِفُونَ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَجِيءُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيَقْضُونَ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ بِقِرَاءَةٍ، وَقَالَ مَالِكٌ يَجْعَلُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ طَائِفَةً بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ وَيَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِطَائِفَةٍ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ يَقُومُ الْإِمَامُ وَيَمْكُثُ قَائِمًا فَتَتِمُّ هَذِهِ الطَّائِفَةُ صَلَاتَهُمْ وَيُسَلِّمُونَ وَيَنْصَرِفُونَ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيُصَلِّي بِهِمْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وَيُسَلِّمُ الْإِمَامُ وَلَا يُسَلِّمُونَ بَلْ يَقُومُونَ فَيُتِمُّونَ صَلَاتَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: لَا يُسَلِّمُ الْإِمَامُ حَتَّى تُتِمَّ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ صَلَاتَهُمْ، ثُمَّ يُسَلِّمُ الْإِمَامُ وَيُسَلِّمُونَ مَعَهُ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً انْتَظَرَهُمْ حَتَّى أَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ وَذَهَبُوا إلَى الْعَدُوِّ وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَبَدَءُوا بِالرَّكْعَةِ الْأَوْلَى وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْتَظِرهُمْ ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ» وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ شَاذًّا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ فَكَانَتْ لَهُ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ» . احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا، وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّاهَا عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا وَرَوَيْنَا عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ أَقَامَ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِطَبَرِسْتَانَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَخْذَ بِمَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ هَؤُلَاءِ لَمْ تَتَعَارَضْ، وَالرِّوَايَةُ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ مُتَعَارِضَةٌ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ رُوِيَ عَنْهُ مِثْلَ

فصل شرائط جواز صلاة الخوف

مَذْهَبِنَا فَكَانَ الْأَخْذُ بِرِوَايَتِهِمْ أَوْلَى مَعَ أَنَّ فِيمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَنْسُوخًا؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ يَقْضُونَ مَا سُبِقُوا بِهِ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ ثُمَّ يُسَلِّمُونَ مَعَهُ، وَهَذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّ الْمَسْبُوقَ يَبْدَأُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ ثُمَّ يُتَابِعُ الْإِمَامَ ثُمَّ نُسِخَ، وَلِهَذَا لَمْ يَأْخُذْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَا رُوِيَ فِي الشَّاذِّ غَيْرُ مَقْبُولٍ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفَّلِ وَذَا لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَوَّلًا وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا فَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَقَضَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ يُصَلِّي بِكُلِّ طَائِفَةٍ شَطْرَ الصَّلَاةِ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَدُوُّ بِإِزَاءِ الْقِبْلَةِ فَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ بِإِزَاءِ الْقِبْلَةِ فَالْأَفْضَلُ عِنْدَنَا أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ فَيُصَلِّي بِكُلِّ طَائِفَةٍ شَطْرَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ صَلَّى بِهِمْ جُمْلَةً جَازَ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ صَفَّيْنِ وَيَفْتَتِحَ الصَّلَاةَ بِهِمْ جَمِيعًا فَإِذَا رَكَعَ الْإِمَامُ رَكَعَ الْكُلُّ مَعَهُ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعُوا جَمِيعًا وَإِذَا سَجَدَ الْإِمَامُ سَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الْأَوَّلُ وَالصَّفُّ الثَّانِي قِيَامٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَإِذَا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي وَالصَّفُّ الْأَوَّلُ قُعُودٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَإِذَا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ سَجَدَ الْإِمَامُ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ وَسَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الْأَوَّلُ وَالصَّفُّ الثَّانِي قُعُودٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَإِذَا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الثَّانِي فَيُصَلِّي بِهِمْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَيْضًا، فَإِذَا قَعَدَ وَسَلِّمْ سَلَّمُوا مَعَهُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا تَجُوزُ إلَّا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ هَكَذَا بِعُسْفَانَ عِنْدَ اسْتِقْبَالِ الْعَدُوِّ الْقِبْلَةَ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ذَهَابًا وَمَجِيئًا وَاسْتِدْبَارَ الْقِبْلَةِ وَأَنَّهَا أَفْعَالٌ مُنَافِيَةٌ لِلصَّلَاةِ فِي الْأَصْلِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا مَا أَمْكَنَ وَنَحْنُ نَقُولُ كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى نَحْو مَا يُصَلِّي أَنْ لَوْ كَانَ الْعَدُوُّ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] وَقَالَ {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] أَمَرَ بِجَعْلِ النَّاسِ طَائِفَتَيْنِ وَلِأَنَّ الْحِرَاسَةَ بِهَذَا الْوَجْهِ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ لَمْ يَكُونُوا يُشَارِكُونَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَكَانُوا أَقْدَرَ عَلَى الْحِرَاسَةِ؛ وَلِأَنَّ فِيمَا قَالَا يُخَالِفُ كُلُّ صَفٍّ إمَامَهُمْ فِي سَجْدَةٍ، وَمُخَالَفَةُ الْإِمَامِ مَنْهِيَّةٌ لَا تَجُوزُ بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ بِخِلَافِ الْمَشْيِ وَاسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِحَالٍ، فَإِنَّ مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ يَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ وَيَمْشِي عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْمُتَطَوِّعُ عَلَى الدَّابَّةِ يُصَلِّي أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ الدَّابَّةُ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى لَا يَقْرَءُونَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا أَوَّلَ الصَّلَاةِ وَعَجَزُوا عَنْ الْإِتْمَامِ لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي فَصَارَ كَالنَّائِمِ وَمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ وَجَاءَ، وَلَا شَكَّ أَيْضًا أَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ يَقْرَءُونَ؛ لِأَنَّهُمْ مَسْبُوقُونَ فَيَقْضُونَ بِقِرَاءَةِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ أَوْ ذَوَاتِ رَكْعَتَيْنِ. وَأَمَّا فِي الْمَغْرِبِ فَيُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَبِالثَّانِيَةِ الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ: يُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ بِالْخِيَارِ. وَجْهُ قَوْلِ سُفْيَانَ إنْ فَرَضَ الْقِرَاءَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ فِي ذَلِكَ حَظًّا وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: مُرَاعَاةُ التَّنْصِيفِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنْ شَاءَ صَلَّى بِهَؤُلَاءِ رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ شَاءَ صَلَّى بِأُولَئِكَ، وَلَنَا أَنَّ التَّنْصِيفَ وَاجِبٌ وَقَدْ تَعَذَّرَ هَهُنَا وَكَانَ تَفْوِيتُ التَّنْصِيفِ عَلَى الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا تَفْوِيتَ قَصْدًا بَلْ حُكْمًا لِإِيفَاءِ حَقِّ الطَّائِفَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ رَكْعَةً وَنِصْفًا لِتَتَحَقَّقَ الْمُعَادِلَةُ فِي الْقِسْمَةِ فَشُرِعَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ قَضَاءً لِحَقِّهِمْ إلَّا أَنَّهَا لَا تَتَجَزَّأُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إتْمَامُهَا، فَأَمَّا لَوْ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ فَقَدْ فَوَّتَ التَّنْصِيفَ عَلَى الطَّائِفَةِ الْأُولَى قَصْدًا لَا حُكْمًا لِإِيفَاءِ حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَغِلْ بَعْدُ بِإِيفَاءِ حَقِّ الثَّانِيَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَفْوِيتَ الْحَقِّ حُكْمًا دُونَ تَفْوِيتِهِ قَصْدًا؛ لِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الطَّائِفَةُ الْأُولَى تَقْضِي الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَاحِقُونَ وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ وَيَقْعُدُونَ بَيْنَهُمَا وَبَعْدَهُمَا كَمَا يَفْعَلُ الْمَسْبُوقُ بِرَكْعَتَيْنِ فِي الْمَغْرِبِ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ جَوَازِ صَلَاةِ الْخَوْفِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ. فَمِنْهَا أَنْ لَا يُقَاتِلَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنْ قَاتَلَ فِي صَلَاتِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَفْسُدُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] أَبَاحَ لَهُمْ أَخْذَ السِّلَاحِ فَيُبَاحُ الْقِتَالُ وَلِأَنَّ أَخْذَ السِّلَاحِ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْقِتَالِ بِهِ وَلِأَنَّهُ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْمَشْيِ فِي الصَّلَاةِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْقِتَالِ، وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَضَاهُنَّ بَعْدَ هَوِيٍّ مِنْ اللَّيْلِ وَقَالَ: «شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى مَلَأَ

فصل حكم صلوات الخوف إذا فسدت أو فاتت عن أوقاتها

اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُطُونَهُمْ نَارًا» فَلَوْ جَازَتْ الصَّلَاةُ مَعَ الْقِتَالِ لَمَا أَخَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ إدْخَالَ عَمَلٍ كَثِيرٍ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ مُفْسِدٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا يُتْرَكُ هَذَا الْأَصْلُ إلَّا فِي مَوْرِدِ النَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْمَشْيِ لَا فِي الْقِتَالِ مَعَ أَنَّ مَوْرِدَ النَّصِّ بَقَاءُ الصَّلَاةِ مَعَ الْمَشْيِ لَا الْأَدَاءِ وَالْأَدَاءُ فَوْقَ الْبَقَاءِ فَأَنَّى يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِخِلَافِ أَخْذِ السِّلَاحِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ قَلِيلٌ وَلِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالْجَوَازِ مَعَهُ. وَمِنْهَا أَنْ يَنْصَرِفَ مَاشِيًا وَلَا يَرْكَبُ عِنْدَ انْصِرَافِهِ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ وَلَوْ رَكِبَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَ انْصِرَافُهُ مِنْ الْقِبْلَةِ إلَى الْعَدُوِّ أَوْ مِنْ الْعَدُوِّ إلَى الْقِبْلَةِ لِأَنَّ الرُّكُوبَ عَمَلٌ كَثِيرٌ وَهُوَ مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْمَشْيِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ حَتَّى يَصْطَفُّوا بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، وَكَذَا أَخْذُ السِّلَاحِ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ لِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ وَالِاسْتِعْدَادِ لِلدَّفْعِ وَلِأَنَّهُمْ لَوْ غَفَلُوا عَنْ أَسْلِحَتِهِمْ يَمِيلُونَ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِعَمَلٍ كَثِيرٍ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ فِيهَا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَيَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الضَّرُورَة، وَلَوْ كَانَ الْخَوْفُ أَشَدَّ وَلَا يُمْكِنُهُمْ النُّزُولُ عَنْ دَوَابِّهِمْ صَلَّوْا رُكْبَانًا بِالْإِيمَاءِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] ثُمَّ إنْ قَدَرُوا عَلَى اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ يَلْزَمُهُمْ الِاسْتِقْبَالُ وَإِلَّا فَلَا بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ إذَا صَلَّاهَا عَلَى الدَّابَّةِ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْفَرْضِ أَضْيَقُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِيمَاءُ فِي التَّطَوُّعِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ، وَيُصَلُّونَ وُحْدَانًا وَلَا يُصَلُّونَ جَمَاعَةً رُكْبَانًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ جَوَّزَ لَهُمْ فِي الْخَوْفِ أَنْ يُصَلُّوا رُكْبَانًا بِجَمَاعَةٍ وَقَالَ أَسْتَحْسِنُ ذَلِكَ لِيَنَالُوا فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ وَقَدْ جَوَّزْنَا لَهُمْ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الذَّهَابُ وَالْمَجِيءُ لِإِحْرَازِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ طَرِيقًا فَيَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مَعَ الْإِمَامِ عَلَى دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ فَيَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ لِعَدَمِ الْمَانِعِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْمَشْيِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ هَهُنَا وَلَوْ صَلَّى رَاكِبًا وَالدَّابَّةُ سَائِرَةٌ فَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ السَّيْرَ فِعْلُ الدَّابَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا يُضَافُ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِتَسْيِيرِهِ فَإِذَا جَاءَ الْعُذْرُ انْقَطَعَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا صَلَّى مَاشِيًا أَوْ سَابِحًا حَيْثُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِعْلُهُ حَقِيقَةً فَلَا يُتَحَمَّلُ إلَّا إذَا كَانَ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى مَا مَرَّ وَإِنْ كَانَ الرَّاكِبُ طَالِبًا فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا خَوْفَ فِي حَقِّهِ فَيُمْكِنُهُ النُّزُولُ وَكَذَلِكَ الرَّاجِلُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يُومِئُ إيمَاءً لِمَكَانِ الْعُذْرِ كَالْمَرِيضِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ مُعَايَنَةِ الْعَدُوِّ حَتَّى لَوْ صَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ وَلَمْ يُعَايِنُوا الْعَدُوَّ جَازَ لِلْإِمَامِ وَلَمْ يَجُزْ لِلْقَوْمِ إذَا صَلَّوْا بِصِفَةِ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ وَكَذَا لَوْ رَأَوْا سَوَادًا ظَنُّوهُ عَدُوًّا فَإِذَا هُوَ إبِلٌ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجُوزُ صَلَاةُ الْكُلِّ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ شُرِعَتْ عِنْدَ الْخَوْفِ وَقَدْ صَلَّوْا عِنْدَ الْخَوْفِ فَتُجْزِئُهُمْ، وَلَنَا أَنَّ شَرْطَ الْجَوَازِ الْخَوْفُ مِنْ الْعَدُوِّ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] وَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ إلَّا أَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ مَقْضِيَّةٌ بِالْجَوَازِ؛ لِانْعِدَامِ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ مِنْهُ بِخِلَافِ الْقَوْمِ فَلَا يُتَحَمَّلُ ذَلِكَ إلَّا لِضَرُورَةِ الْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ وَلَمْ تَتَحَقَّقْ، ثُمَّ الْخَوْفُ مِنْ سَبُعٍ يُعَايِنُوهُ كَالْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ؛ وَلِأَنَّ الْجَوَازَ بِحُكْمِ الْعُذْرِ وَقَدْ تَحَقَّقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ حُكْمُ صَلَوَاتِ الْخَوْفِ إذَا فَسَدَتْ أَوْ فَاتَتْ عَنْ أَوْقَاتِهَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ إذَا فَسَدَتْ أَوْ فَاتَتْ عَنْ أَوْقَاتِهَا أَوْ فَاتَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ عَنْ الْجَمَاعَةِ أَوْ عَنْ مَحَلِّهِ الْأَصْلِيِّ، ثُمَّ تَذَكَّرَهُ فِي آخِرِ تِلْكَ الصَّلَاةِ. أَمَّا إذَا فَسَدَتْ يَجِبُ إعَادَتُهَا مَا دَامَ الْوَقْتُ بَاقِيًا؛ لِأَنَّهَا إذَا فَسَدَتْ الْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي الذِّمَّةِ فَيَجِبُ تَفْرِيقُهَا عَنْهُ بِالْأَدَاءِ. وَأَمَّا إذَا فَاتَتْ صَلَاةٌ مِنْهَا عَنْ وَقْتِهَا بِأَنْ نَامَ عَنْهَا أَوْ نَسِيَهَا ثُمَّ تَذَكَّرَهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَوْ اشْتَغَلَ عَنْهَا حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، وَالْكَلَامُ فِي الْقَضَاءِ. يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَصْلِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا أَوْ اسْتَيْقَظَ فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَا وَقْتَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا أَنَّهَا تُقْضَى إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَأَمْكَنَ قَضَاؤُهَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا فِي الْوَقْتِ لِمَعَانٍ هِيَ قَائِمَةٌ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَهِيَ خِدْمَةُ الرَّبِّ تَعَالَى

وَتَعْظِيمُهُ وَقَضَاءُ حَقِّ الْعُبُودِيَّةِ وَشُكْرُ النِّعْمَةِ وَتَكْفِيرُ الزَّلَلِ وَالْخَطَايَا الَّتِي تَجْرِي عَلَى يَدِ الْعَبْدِ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ وَأَمْكَنَ قَضَاؤُهَا؛ لِأَنَّ مِنْ جِنْسِهَا مَشْرُوعٌ خَارِجَ الْوَقْتِ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ حَقًّا لَهُ فَيَقْضِي بِهِ مَا عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَمِنْهَا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ إذْ الْإِيجَابُ عَلَى غَيْرِ الْأَهْلِ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ، وَمِنْهَا فَوَاتُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْفَائِتِ وَلَا فَائِتَ مُحَالٌ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهَا مَشْرُوعًا لَهُ فِي وَقْتِ الْقَضَاءِ إذَا الْقَضَاءُ صَرَفَ مَا لَهُ إلَى مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَقَعُ عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْقَضَاءِ حَرَجٌ إذْ الْحَرَجُ مَدْفُوعٌ شَرْعًا، فَأَمَّا وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ اسْتِدْرَاكًا لِلْمُصْلِحَةِ الْفَائِتَةِ فِي الْوَقْتِ وَهُوَ الثَّوَابُ وَفَوَاتُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ لَا يَقِف عَلَى الْوُجُوبِ فَلَا يَكُونُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا قَضَاءَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فِي زَمَانِ الصِّبَا وَالْجُنُونِ؛ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ وَلَا عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ إذْ الْكُفَّارُ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ وَالْإِسْلَامِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِي الْإِيجَابِ عَلَيْهِمْ حَرَجًا؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الصِّبَا مَدِيدَةٌ وَالْجُنُونُ إذَا اسْتَحْكَمَ وَهُوَ الطَّوِيلُ مِنْهُ قَلَّمَا يَزُولُ وَالْإِسْلَامُ مِنْ الْكَافِرِ الْمُقَلِّدِ لِآبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ نَادِرٌ فَكَانَ فِي الْإِيجَابِ عَلَيْهِمْ حَرَجٌ. وَأَمَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَقَلَّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِانْعِدَامِ الْحَرَجِ وَإِنْ زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُحْرَجُ فِي الْقَضَاءِ لِدُخُولِ الْعِبَادَةِ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ، وَكَذَا الْمَرِيضُ الْعَاجِزُ عَنْ الْإِيمَاءِ إذَا فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ ثُمَّ بَرَأَ فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَوْ يَوْمًا وَلَيْلَةً قَضَاهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ فِي الْمَرِيضِ: إنَّهُ يَقْضِي وَإِنْ امْتَدَّ وَطَالَ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ لَا يُعْجِزُهُ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ عَنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لَيْسَ؛ لِعَدَمِ فَهْمِ الْخِطَابِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَإِنْ كَانَتَا تَفْهَمَانِ الْخِطَابَ بَلْ لِمَكَانِ الْحَرَجِ وَقَدْ وُجِدَ فِي الْمَرِيضِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْجُنُونَ الْقَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ الْإِغْمَاءِ وَدَلَّتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ عَلَى أَنَّ سَابِقِيَّةَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ الصَّلَوَاتُ الْفَائِتَةُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إذَا قَضَاهَا فِي غَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنَّهُ يَقْضِيهَا بِلَا تَكْبِيرٍ؛ لِأَنَّ فِي وَقْتِ الْقَضَاءِ صَلَاةً مَشْرُوعَةً مِنْ جِنْسِ الْفَائِتَةِ وَلَيْسَ فِيهِ تَكْبِيرٌ مَشْرُوعٌ مِنْ جِنْسِهِ وَهُوَ الَّذِي يَجْهَرُ بِهِ. وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْقَضَاءِ فَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ الْقَضَاءِ إلَّا الْوَقْتَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْقَضَاءِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ بَلْ جَمِيعُ الْأَوْقَاتِ وَقْتٌ لَهُ إلَّا ثَلَاثَةً وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ الزَّوَالِ وَوَقْتَ الْغُرُوبِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لِمَا مَرَّ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْقَضَاءِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْفَائِتِ وَالصَّلَاةُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ تَقَعُ نَاقِصَةً وَالْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ كَامِلٌ فَلَا يَنُوبُ النَّاقِصُ عَنْهُ، وَهَذَا عِنْدَنَا. وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَقَضَاءُ الْفَرَائِضِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَائِزٌ كَمَا قَالَ بِجَوَازِ أَدَاءِ الْفَجْرِ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَكَمَا يَجُوزُ أَدَاءُ عَصْرِ يَوْمِهِ عِنْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ بِلَا خِلَافٍ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا لَا وَقْتَ لَهَا غَيْرُهُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ وَقْتٍ وَوَقْتٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَصْرُ يَوْمِهِ أَدَاءٌ فَكَذَا قَضَاءٌ، وَلَنَا عُمُومُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِصِيغَتِهِ وَبِمَعْنَاهُ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا رَوَاهُ عَامٌّ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، وَمَا نَرْوِيهِ خَاصٌّ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ فَيُخَصِّصُهَا عَنْ عُمُومِ الْأَوْقَاتِ مَعَ مَا أَنَّ عِنْدَ التَّعَارُضِ الرُّجْحَانُ لِلْحُرْمَةِ عَلَى الْحِلِّ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الْعِبَادَةِ بِخِلَافِ عَصْرِ يَوْمِهِ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِعَصْرِ يَوْمِهِ ثَبَتَ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا فَجَوَّزْنَاهَا، وَلِأَنَّا لَوْ لَمْ نُجَوِّزْ لَأَمَرْنَا بِالتَّفْوِيتِ، وَتَفْوِيتُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا كَبِيرَةٌ وَهِيَ مَعْصِيَةٌ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَلَوْ جَوَّزْنَا الْأَدَاءَ كَانَ الْأَدَاءُ طَاعَةً مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ تَحْصِيلُ أَصْلِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً مِنْ حَيْثُ التَّشْبِيهُ بِعَبَدَةِ الشَّمْسِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ يَتَضَيَّقُ وُجُوبُهَا بِآخِرِ الْوَقْتِ أَلَا تَرَى أَنَّ كَافِرًا لَوْ أَسْلَمَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَوْ صَبِيًّا احْتَلَمَ تَلْزَمُهُ هَذِهِ الصَّلَاةُ وَالصَّلَاةُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ وَفِي عَصْرِ يَوْمِهِ يَتَضَيَّقُ الْوُجُوبُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَاقِصَةً وَأَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ بِخِلَافِ الْفَجْرِ إذَا طَلَعَتْ فِيهَا الشَّمْسُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَضَيَّقُ بِآخِرِ وَقْتِهَا وَلَا نَهْيَ فِي آخِرِ وَقْتِ الْفَجْرِ وَإِنَّمَا النَّهْيُ يَتَوَجَّهُ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ كَامِلَةً فَلَا تَتَأَدَّى بِالنَّاقِصَةِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ قَضَاءِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ فَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ ثَبَتَ وُجُوبُهَا فِي الْوَقْتِ وَفَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي كَيْفِيَّةِ قَضَائِهَا وَقْتُ الْوُجُوبِ وَتُقْضَى عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا؛ لِأَنَّ قَضَاءَهَا بَعْدَ سَابِقِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَالْفَوْتُ يَكُونُ تَسْلِيمَ مِثْلِ الْوَاجِبِ الْفَائِتِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَةِ الْفَائِتِ لِتَكُونَ مِثْلَهُ إلَّا لِعُذْرٍ وَضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْأَدَاءِ يَسْقُطُ بِعُذْرٍ فَلَأَنْ يَسْقُطَ وَصْفُهُ لِعُذْرٍ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لِعُذْرٍ مَانِعٍ مِنْ الْوُجُوبِ ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ يُعْتَبَرُ فِي قَضَائِهَا الْحَالُ وَهِيَ حَالُ الْقَضَاءِ لَا وَقْتُ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَثْبُتْ فَيُقْضَى عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَ لَيْسَ بِأَصْلٍ بَلْ أُقِيمَ مَقَامَ صِفَةِ الْأَصْلِ خَلَفًا عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ وَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَيُرَاعَى صِفَةُ الْأَصْلِ لَا صِفَةُ الْفَائِتِ كَمَنَ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ بِالتَّيَمُّمِ أَنَّهُ يَقْضِيهَا بِطَهَارَةِ الْمَاءِ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمَاءِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْمُسَافِرُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ فَوَائِتُ فِي الْإِقَامَةِ أَنَّهُ يَقْضِيهَا أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ فِي الْوَقْتِ كَذَلِكَ وَفَاتَتْهُ كَذَلِكَ فَيُرَاعَى وَقْتُ الْوُجُوبِ لَا وَقْتُ الْقَضَاءِ وَكَذَا الْمُقِيمُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ فَوَائِتُ السَّفَرِ يَقْضِيهَا رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهَا فَاتَتْهُ بَعْدَ وُجُوبِهَا كَذَلِكَ فَأَمَّا الْمَرِيضُ إذَا قَضَى فَوَائِتَ الصِّحَّةِ قَضَاهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ عَنْ الْقَضَاءِ عَلَى حَسَبِ الْفَوَاتِ، وَأَصْلُ الْأَدَاءِ يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْعَجْزِ فَلَأَنْ يَسْقُطَ وَصْفُهُ أَوْلَى، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ فَوَائِتُ الْمَرَضِ يَقْضِيهَا عَلَى اعْتِبَارِ حَالِ الصِّحَّةِ لَا عَلَى اعْتِبَارِ حَالِ الْفَوَاتِ حَتَّى لَوْ قَضَاهَا كَمَا فَاتَتْهُ لَا يَجُوزُ فَإِنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ بِالْإِيمَاءِ فَقَضَاهَا فِي حَالِ الصِّحَّةِ بِالْإِيمَاءِ لَمْ تَجُزْ؛ لِأَنَّ الْإِيمَاءَ لَيْسَ بِصَلَاةٍ حَقِيقَةً لِانْعِدَامِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَإِنَّمَا أُقِيمَ مَقَامَ الصَّلَاةِ خَلَفًا عَنْهَا لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ عَلَى تَقْدِيرِ الْأَدَاءِ بِالْإِيمَاءِ فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ بِالْإِيمَاءِ لَمْ يَقُمْ مَقَامَهَا فَبَقِيَ الْأَصْلُ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَيُؤَدِّيهِ كَمَا وَجَبَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا إذَا فَاتَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ عَنْ الْجَمَاعَةِ وَأَدْرَكَ الْبَاقِي كَالْمَسْبُوقِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُدْرِكْ أَوَّلَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ أَوْ اللَّاحِقِ وَهُوَ الَّذِي أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ نَامَ خَلْفَهُ أَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ حَتَّى صَلَّى الْإِمَامُ بَعْضَ صَلَاتِهِ ثُمَّ انْتَبَهَ أَوْ رَجَعَ مِنْ الْوُضُوءِ فَكَيْفَ يَقْضِي مَا سُبِقَ بِهِ؟ أَمَّا الْمَسْبُوقُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُتَابِعَ الْإِمَامَ فِيمَا أَدْرَكَ وَلَا يُتَابِعُهُ فِي التَّسْلِيمِ فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ يَقُومُ هُوَ إلَى قَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» وَلَوْ بَدَأَ بِمَا سُبِقَ بِهِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ انْفَرَدَ فِي مَوْضِعٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاقْتِدَاءُ لِوُجُوبِ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ فِيمَا أَدْرَكَ بِالنَّصِّ وَالِانْفِرَادُ عِنْدَ وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ وَلِأَنَّ ذَلِكَ حَدِيثٌ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَنَّ لَكُمْ سُنَّةً حَسَنَةً فَاسْتَنُّوا بِهَا» أَمَرَ بِالِاسْتِنَانِ بِسُنَّتِهِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ فِيمَا أَدْرَكَ عَقِيبَ الْإِدْرَاكِ بِلَا فَصْلٍ فَصَارَ نَاسِخًا لِمَا كَانَ قَبْلَهُ. وَأَمَّا اللَّاحِقُ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِمَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ ثُمَّ يُتَابِعُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ لِالْتِزَامِهِ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ وَإِتْمَامِهِ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ فَصَارَ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ وَلِهَذَا لَا قِرَاءَةَ عَلَيْهِ لَا سَهْوٍ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ كَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ حَقِيقَةً بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ فَإِنَّهُ مُنْفَرِدٌ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ إلَّا فِي قَدْرِ مَا أَدْرَكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقْرَأُ وَيَسْجُدُ لِسَهْوِهِ بِخِلَافِ اللَّاحِقِ وَلَوْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِمَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ وَلَكِنَّهُ تَابَعَ الْإِمَامَ فِي بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ تَفْسُدُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ ثُمَّ مَا أَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ مَعَ الْإِمَامِ هَلْ هُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ أَوْ آخِرُ صَلَاتِهِ، وَكَذَا مَا يَقْضِيهِ اُخْتُلِفَ فِيهِمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: مَا أَدْرَكَهُ مَعَ الْإِمَامِ آخَرَ صَلَاتَهُ حُكْمًا وَإِنْ كَانَ أَوَّلَ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَمَا يَقْضِيهِ أَوَّلُ صَلَاتِهِ حُكْمًا وَإِنْ كَانَ آخِرُ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً، وَقَالَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ وَأَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ أَنَّ مَا يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلُ صَلَاتِهِ حُكْمًا كَمَا هُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَمَا يُقْضَى آخِرُ صَلَاتِهِ حُكْمًا كَمَا هُوَ آخِرُ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي الْإِمَامِ صَدْرِ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلُ قَوْلِهِمْ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ: وَجَدْتُ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلُ صَلَاتُهُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَمَا يَقْضِي آخِرُ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا كَمَا قَالَ أُولَئِكَ إلَّا فِي حَقّ مَا يَتَحَمَّلُ

الْإِمَامُ عَنْهُ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ آخِرُ صَلَاتِهِ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقُنُوتِ وَالِاسْتِفْتَاحِ فَعَلَى قَوْلِ أُولَئِكَ يَأْتِي بِالِاسْتِفْتَاحِ عَقِيبَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ لَا فِيمَا يَقْضِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَكَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْإِمَامُ فَكَانَتْ الرَّكْعَةُ الْمُدْرَكَةُ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلَ صَلَاتِهِ فِي حَقِّ الِاسْتِفْتَاحِ فَيَأْتِي بِهِ هُنَاكَ. وَأَمَّا الْقُنُوتُ فَيَأْتِي بِهِ ثَانِيًا فِي آخِرِ مَا يَقْضِي فِي قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ صَلَاتِهِ وَمَا أَتَى بِهِ مَعَ الْإِمَامِ أَتَى بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَأْتِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِي بِهِ ثَانِيًا فِي آخِرِ مَا يَقْضِي كَمَا هُوَ قَوْلُ أُولَئِكَ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَتَحَمَّلُ الْقُنُوتَ عَنْ الْقَوْمِ وَمَعَ ذَلِكَ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهِ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ فِي الْقُنُوتِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ يَتَحَمَّلُهُ الْإِمَامُ لِشَبَهِهِ بِالْقِرَاءَةِ وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يُشْكِلُ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهِ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ آخِرَ صَلَاتِهِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ لَا يَتَحَمَّلُ الْإِمَامُ الْقُنُوتَ وَمَعَ هَذَا قَالَ لَا يَأْتِي بِهِ الْمَسْبُوقُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ مَرَّةً مَعَ الْإِمَامِ وَلَوْ أَتَى بِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فَلَا يَأْتِي بِهِ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الْقُنُوتِ وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ التَّشَهُّدِ حَيْثُ يَأْتِي بِهِ إذَا قَضَى رَكْعَةً وَإِنْ كَانَ أَتَى بِهِ مَعَ الْإِمَامِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَدَّى إلَى التَّكْرَارِ لَكِنَّ التَّكْرَارَ فِي التَّشَهُّدِ مَشْرُوعٌ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يَأْتِي بِالِاسْتِفْتَاحِ فِيمَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ بَلْ فِيمَا يَقْضِي؛ لِأَنَّ أَوَّلَ صَلَاتِهِ حُكْمًا هَذَا، وَهُوَ مَا يَقْضِي لَا ذَاكَ وَلَا يَأْتِي بِالْقُنُوتِ فِيمَا يَقْضِي؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ مَعَ الْإِمَامِ فِي مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ ذَاكَ آخِرُ صَلَاتِهِ حُكْمًا وَمَا يَقْضِي أَوَّلُ صَلَاتِهِ وَمَحَلُّ الْقُنُوتِ آخِرُ الصَّلَاةِ لَا أَوَّلُهَا فَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي الِاسْتِفْتَاحِ لَا فِي الْقُنُوتِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّ فَائِدَةَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الِاسْتِفْتَاحِ احْتَجَّ الْمُخَالِفُونَ لِأَصْحَابِنَا بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» أَطْلَقَ لَفْظَ الْإِتْمَامِ عَلَى أَدَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ وَإِتْمَامُ الشَّيْءِ يَكُونُ بِآخِرِهِ فَدَلَّ أَنَّ الَّذِي يَقْضِي آخِرَ صَلَاتِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْقَعْدَةِ عَلَى مَنْ سُبِقَ بِرَكْعَتَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ إذَا قَضَى رَكْعَةً وَلَوْ كَانَ مَا يَقْضِي أَوَّلَ صَلَاتِهِ لَمَا وَجَبَتْ الْقَعْدَةُ الْوَاحِدَةُ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ لَا عَقِيبَ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَا إذَا قَضَى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ تُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْقَعْدَةُ وَالْقَعْدَةُ لَا تُفْتَرَضُ عَقِيبَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ آخِرَ صَلَاتِهِ كَانَ مَا قَعَدَ مَعَ الْإِمَامِ فِي مَحَلِّهِ فَيَكُونُ فَرْضًا لَهُ كَمَا لِلْإِمَامِ فَلَا يُفْتَرَضُ ثَانِيًا فِيمَا يَقْضِي كَمَا لَا يَأْتِي بِالْقُنُوتِ عِنْدَكُمْ ثَانِيًا لِحُصُولِ مَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ فِي مَحَلِّهِ، وَلَا يَلْزَمُنَا إذَا سُبِقَ بِرَكْعَتَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ حَيْثُ يَقْضِيهِمَا مَعَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ مَا يَقْضِي آخِرَ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَكَانَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فِي الثَّانِيَةِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يَقْضِيهِمَا؛ لِأَنَّهَا ثَالِثَةٌ وَلَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ فِي الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ الْإِمَامَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْرَأْ فِي الثَّالِثَةِ فَلَا بُدَّ لِلْمَسْبُوقِ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِيهَا قَضَاءً عَنْ الْأُولَى، كَمَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ إذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي الْأُولَى يَقْضِي فِي الثَّالِثَةِ وَإِنْ كَانَ قَرَأَ فَقِرَاءَتُهُ الَّتِي وُجِدَتْ فِي ثَالِثَتِهِ لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ وَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ إنَّمَا تَنُوبُ عَنْ قِرَاءَةِ الْمُقْتَدِي الَّتِي هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْمُقْتَدِي إذَا كَانَتْ فَرْضًا فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْقِرَاءَةُ فِي الثَّالِثَةِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَلَا تَنُوبُ عَنْ الْمُقْتَدِي فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فِي الثَّالِثَةِ لِهَذَا لَا لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاتِهِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُؤَدَّى مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلُ الصَّلَاةِ حَقِيقَةً وَمَا يُقْضَى آخِرَهَا حَقِيقَةٌ وَكُلُّ حَقِيقَةٍ يَجِبُ تَقْرِيرُهَا إلَّا إذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى التَّغْيِيرِ، وَمَا أَدْرَكَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ آخِرَ صَلَاتِهِ فَتَصِيرُ آخِرَ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ إلَّا أَنَّ التَّبَعِيَّةَ تَظْهَرُ فِي حَقِّ مَا يَتَحَمَّلُ الْإِمَامُ عَنْ الْمُقْتَدِي لَا فِي حَقِّ مَا لَا يَتَحَمَّلُ فَلَا يَظْهَرُ فِيهِ حُكْمُ التَّبَعِيَّةِ فَانْعَدَمَ الدَّلِيلُ الْمُعْتَبَرُ فَبَقِيَتْ الْحَقِيقَةُ عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِهَا وَتَقْرِيرِهَا. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» وَالْقَضَاءُ اسْمٌ لِمَا يُؤَدَّى مِنْ الْفَائِتِ وَالْفَائِتُ أَوَّلُ الصَّلَاةِ فَكَانَ مَا يُؤَدِّيهِ الْمَسْبُوقُ قَضَاءً لِمَا فَاتَهُ وَهُوَ أَوَّلُ الصَّلَاةِ، وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُدْرَكَ لَمَّا كَانَ آخِرَ صَلَاةِ الْإِمَامِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي إذْ لَوْ كَانَ أَوَّلَ صَلَاتِهِ لَفَاتَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ الْفَرْضَيْنِ وَإِنَّهُ مَانِعُ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ تَابِعٌ لِلْإِمَامِ فَيَقْضِي الِاتِّفَاقُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّابِعِ مَا لِلْمَتْبُوعِ وَإِلَّا فَاتَتْ التَّبَعِيَّةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى انْعِدَامِ الِاتِّفَاقِ بَيْنَ أَوَّلِ الصَّلَاةِ وَآخِرِهَا أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي حُكْمِ الْقِرَاءَةِ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تُوجَدُ فِي الْأُولَيَيْنِ

فصل الكلام في مسائل السجدات يدور على أصول

إلَّا فَرْضًا وَتُوجَدُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ غَيْرَ فَرْضٍ وَكَذَا تَجِبُ فِي الْأُولَيَيْنِ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ لَا تَجِبُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَكَذَا الشَّفْعُ الْأَوَّلُ مَشْرُوعٌ عَلَى الْأَصَالَةِ وَالشَّفْعُ الثَّانِي مَشْرُوعٌ زِيَادَةً عَلَى الْأَوَّلِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ فِي الْأَصْلِ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ فِي السَّفْرِ وَزِيدَتْ فِي الْحَضَرِ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ وَمَعَ هَذَا صَحَّ فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْمُوَافَقَةِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ آخِرَ الصَّلَاةِ فَكَذَا فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ بِآخِرِهِ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّ حَدَّ التَّمَامِ مَا إذَا حَرَّرْنَاهُ لَمْ يُحْتَجْ مَعَهُ إلَى غَيْرِهِ وَذَا لَا يَخْتَصُّ بِأَوَّلٍ وَلَا بِآخِرٍ فَإِنَّ مَنْ كَتَبَ آخِرَ الْكِتَابِ أَوَّلًا ثُمَّ كَتَبَ أَوَّلَهُ يَصِيرُ مُتَمِّمًا بِالْأَوَّلِ لَا بِالْآخِرِ وَكَذَا قِرَاءَةُ الْكِتَابِ بِأَنْ قَرَأَ أَوَّلًا نِصْفَهُ الْأَخِيرِ ثُمَّ الْأَوَّلَ. وَأَمَّا وُجُوبُ الْقَعْدَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ سُبِقَ بِهِمَا فَنَقُولُ الْقِيَاسُ أَنْ يَقْضِيَ الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقْعُدُ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا وَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْأَثَرِ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ جُنْدُبًا وَمَسْرُوقًا اُبْتُلِيَا بِهَذَا فَصَلَّى جُنْدُبُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَعَدَ وَصَلَّى مَسْرُوقٌ رَكْعَةً ثُمَّ قَعَدَ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَةً أُخْرَى فَسَأَلَا ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ كِلَاكُمَا أَصَابَ وَلَوْ كُنْتُ أَنَا لَصَنَعْتُ كَمَا صَنَعَ مَسْرُوقٌ، وَإِنَّمَا حَكَمَ بِتَصْوِيبِهِمَا لِمَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وَيُحْمَلُ عَلَى التَّصْوِيبِ فِي نَفْسِ الِاجْتِهَادِ لَا فِيمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ثُمَّ الْعُذْرُ عَنْهُ أَنَّ الْمُدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلُ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَفِعْلًا لَكِنَّا جَعَلْنَا آخِرَ صَلَاتِهِ حُكْمًا لِلتَّبَعِيَّةِ وَبَعْدَ انْقِطَاعِ تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ زَالَتْ التَّبَعِيَّةُ فَصَارَتْ الْحَقِيقَةُ مُعْتَبَرَةً فَكَانَتْ هَذِهِ الرَّكْعَةُ ثَانِيَةَ هَذَا الْمَسْبُوقِ، وَالْقَعْدَةُ بَعْدَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْمَغْرِبِ وَاجِبَةٌ إنْ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْعُدَ وَكَذَا الْقَعْدَةُ بَعْدَ قَضَاءِ الرَّكْعَتَيْنِ اُفْتُرِضَتْ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ وُجِدَتْ عَقِيبَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ وَصَارَتْ الْحَقِيقَةُ وَاجِبَةَ الِاعْتِبَارِ، وَقَوْلُهُمْ إنَّهَا وَقَعَتْ فِي مَحَلِّهَا فَلَا يُؤْتَى بِهَا ثَانِيًا قُلْنَا هِيَ وَإِنْ وَقَعَتْ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي كَمَا وَقَعَتْ فِي حَقِّ الْإِمَامِ غَيْرَ أَنَّهَا مَا وَقَعَتْ فَرْضًا فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ؛ لِأَنَّ فَرْضِيَّتَهَا مَا كَانَتْ لِوُقُوعِهَا فِي آخِرِ الصَّلَاةِ بَلْ لِحُصُولِ التَّحَلُّلِ بِهَا حَتَّى أَنَّ الْمُتَطَوِّعَ إذَا قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ انْقَلَبَتْ قَعْدَتُهُ وَاجِبَةً عِنْدَنَا وَلَمْ تَبْقَ فَرْضًا لِانْعِدَامِ التَّحَلُّلِ فَكَذَا هَذِهِ الْقَعْدَةُ عِنْدَنَا جُعِلَتْ فِعْلًا فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِمَّا سَبَقَ جَاءَ أَوَانُ التَّحَلُّلِ فَافْتُرِضَتْ الْقَعْدَةُ. وَأَمَّا حُكْمُ الْقِرَاءَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَنَقُول: إذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً مِنْ الْمَغْرِبِ ثُمَّ قَامَ إلَى الْقَضَاءِ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ وَيَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ. وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي إحْدَاهُمَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ يَقْضِي أَوَّلَ صَلَاتِهِ، وَكَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ، وَالْقِرَاءَةُ فِي الْأُولَيَيْنِ فَرْضٌ فَتَرْكُهَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِينَ فَلِعِلَّةٍ أُخْرَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا إذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا قَضَى رَكْعَةً بِقِرَاءَةٍ وَلَوْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ فَقَامَ إلَى الْقَضَاءِ قَضَى رَكْعَةً يَقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ وَيَتَشَهَّدُ ثُمَّ يَقُومُ فَيَقْضِي رَكْعَةً أُخْرَى يَقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ. وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي إحْدَاهُمَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِمَا قُلْنَا وَفِي الثَّالِثَةِ هُوَ بِالْخِيَارِ، وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ لِمَا عُرِفَ، وَلَوْ أَدْرَكَ رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا قَضَى رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي إحْدَاهُمَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ بَيْنَ مَا إذَا قَرَأَ إمَامُهُ فِي الْأُولَيَيْنِ وَبَيْنَ مَا إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِيهِمَا، وَقَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قَضَاءً عَنْ الْأُولَيَيْنِ وَأَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ فِيهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ تَلْتَحِقُ بِالْأُولَيَيْنِ فَتَخْلُو الْأُخْرَيَانِ عَنْ الْقِرَاءَةِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ فِيهِمَا. وَأَمَّا إذَا فَاتَ شَيْءٌ عَنْ مَحَلِّهِ ثُمَّ تَذَكَّرَهُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ بِأَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ سَجَدَاتِ صَلَاتِهِ سَاهِيًا ثُمَّ تَذَكَّرَهُ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قَضَاهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَتْرُوكُ سَجْدَةً وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ وَسَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أَيَّةِ رَكْعَةٍ تَرَكَهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَهِيَ الْمَسَائِلُ الْمَعْرُوفَةُ بِالسَّجَدَاتِ. [فَصْلٌ الْكَلَامُ فِي مَسَائِلِ السَّجَدَاتِ يَدُورُ عَلَى أُصُولٍ] (فَصْلٌ) : وَالْكَلَامُ فِي مَسَائِلِ السَّجَدَاتِ يَدُورُ عَلَى أُصُولٍ، مِنْهَا أَنَّ السَّجْدَةَ الْأَخِيرَةَ إذَا فَاتَتْ عَنْ مَحَلِّهَا وَقُضِيَتْ الْتَحَقَتْ بِمَحَلِّهَا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْقَضَاءِ وَمِنْهَا أَنَّ الصَّلَاةَ إذَا تَرَدَّدَتْ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ فَالْحُكْمُ بِالْفَسَادِ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ لِلْجَوَازِ وُجُوهٌ وَلِلْفَسَادِ وَجْهٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ وَلِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِيمَا

قُلْنَا؛ لِأَنَّ إعَادَةَ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِ مَا عَلَيْهِ. وَمِنْهَا أَنَّ السَّجْدَةَ الْمُؤَدَّاةَ فِي وَقْتِهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ وَاَلَّتِي صَارَتْ بِمَحَلِّ الْقَضَاءِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا إذَا أُدِّيَتْ فِي مَحَلِّهَا تَنَاوَلَتْهَا نِيَّةُ أَصْلِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا جُعِلَتْ مُتَنَاوِلَةً كُلَّ فِعْلٍ فِي مَحَلِّهِ الْمُتَعَيِّنِ لَهُ شَرْعًا، فَأَمَّا مَا وُجِدَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فَلَمْ تَتَنَاوَلْهُ النِّيَّةُ الْحَاصِلَةُ لِأَصْلِ الصَّلَاةِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْفِعْلَ مَتَى دَارَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ كَانَ تَرْكُ الْبِدْعَةِ وَاجِبًا وَتَحْصِيلُ الْوَاجِبِ أَوْلَى مِنْ تَحْصِيلِ السُّنَّةِ وَمَتَى دَار بَيْنَ الْبِدْعَةِ وَالْفَرِيضَةِ كَانَ التَّحْصِيلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْبِدْعَةِ وَاجِبٌ وَالْفَرْضُ أَهَمُّ مِنْ الْوَاجِبِ وَلِأَنَّ تَرْكَ الْفَرْضِ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَتَحْصِيلَ الْبِدْعَةِ لَا يُفْسِدُهَا فَكَانَ تَحْصِيلُ الْفَرْضِ أَوْلَى. وَمِنْهَا أَنَّ الْمَتْرُوكَ مَتَى دَارَ بَيْنَ سَجْدَةٍ وَرَكْعَةٍ يَأْتِي بِالسَّجْدَةِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ ثُمَّ يَأْتِي بِالرَّكْعَةِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ ثُمَّ يُسَلِّمُ وَيَأْتِي بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِالسَّجْدَةِ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ إنْ كَانَ سَجْدَةً فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ فَيَتَشَهَّدُ وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ رَكْعَةً لَا يَضُرُّهُ تَحْصِيلُ زِيَادَةِ السَّجْدَةِ وَإِنَّمَا لَا يَبْدَأُ بِالرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ لَوْ كَانَ هُوَ الرَّكْعَةَ جَازَتْ صَلَاتُهُ. وَلَوْ كَانَ هُوَ السَّجْدَةَ فَإِذَا أَتَى بِالرَّكْعَةِ فَقَدْ زَادَ رَكْعَةً كَامِلَةً فِي خِلَالِ صَلَاتِهِ قَبْلَ تَمَامِ الصَّلَاةِ فَانْعَقَدَتْ الرَّكْعَةُ تَطَوُّعًا فَصَارَ مُنْتَقِلًا مِنْ الْفَرْضِ إلَى النَّفْلِ قَبْلَ تَمَامِ الْفَرْضِ فَيَفْسُدُ فَرْضُهُ وَإِذَا سَجَدَ قَعَدَ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ لَوْ كَانَ سَجْدَةً تَمَّتْ صَلَاتُهُ وَافْتُرِضَتْ الْقَعْدَةُ وَلَوْ صَلَّى رَكْعَةً قَبْلَ التَّشَهُّدِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُنْتَقِلًا مِنْ الْفَرْضِ إلَى النَّفْلِ قَبْلَ تَمَامِ الْفَرْضِ. وَلَوْ كَانَ الْمَتْرُوكُ هُوَ الرَّكْعَةَ لَا يَضُرُّهُ تَحْصِيلُ السَّجْدَةِ وَالْقَعْدَةِ وَقَدْ دَارَتْ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْبِدْعَةِ فَكَانَ التَّحْصِيلُ أَوْلَى وَمِنْهَا أَنَّ زِيَادَةَ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْفَرِيضَةِ بِأَنْ زَادَ رُكُوعًا أَوْ سُجُودًا أَوْ قِيَامًا أَوْ قُعُودًا إلَّا عَلَى رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ زِيَادَةَ السَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ مُفْسِدَةٌ فَزِيَادَةُ الرَّكْعَةِ الْكَامِلَةِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ يُفْسِدُهَا وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لِمَا مَرَّ مِنْ الْفِقْهِ. وَمِنْهَا أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَكُونُ رُكْنًا وَتَرْكُهُ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا أَنَّ الْقَعْدَةَ الْأُولَى فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ أَوْ الثَّلَاثِ مِنْ الْمَكْتُوبَاتِ لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ وَالْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ فَرِيضَةٌ لِمَا مَرَّ أَيْضًا. وَمِنْهَا أَنَّ سَلَامَ السَّهْوِ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَأَنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ تَجِبُ بِتَأْخِيرِ رُكْنٍ عَنْ مَحَلِّهِ وَتُؤَدَّى بَعْدَ السَّلَامِ عِنْدَنَا وَقَدْ مَرَّ هَذَا أَيْضًا. وَمِنْهَا أَنْ يُنْظَرَ فِي تَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ إلَى الْمُؤَدَّيَاتِ مِنْ السَّجَدَاتِ وَإِلَى الْمَتْرُوكَاتِ فَتُخَرَّجُ عَلَى الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ وَعِنْدَ اسْتِوَائِهِمَا يُخَيَّرُ لِاسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا عَرَفْتَ الْأُصُولَ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ: إذَا تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ فَالْمَتْرُوكُ مِنْهُ إمَّا أَنْ كَانَ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَإِمَّا أَنْ كَانَ صَلَاةَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ وَإِمَّا أَنْ كَانَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، وَالْمُصَلِّي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ زَادَ عَلَى رَكَعَاتِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ أَوْ لَمْ يَزِدْ فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ مِنْهُ صَلَاةَ الْغَدَاةِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْهَا فَتَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً ثُمَّ تَذَكَّرَهَا قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ أَوْ بَعْدَمَا سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ سَجَدَهَا سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَهَا مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوْ مِنْ الثَّانِيَةِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهَا فَاتَتْ عَنْ مَحَلِّهَا وَلَمْ تَفْسُدْ الصَّلَاةُ بِفَوَاتِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ قَضَائِهَا؛ لِأَنَّهَا رُكْنٌ وَلَوْ لَمْ يَقْضِ حَتَّى خَرَجَ عَنْ الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ كَالْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ إذَا فَاتَتْ عَنْهُمَا تُقْضَى فِي الْأُخْرَيَيْنِ؛ لِأَنَّهَا رُكْنٌ وَلَوْ لَمْ تُقْضَ حَتَّى خَرَجَ عَنْ الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ، وَإِنْ فَاتَتْ عَنْ مَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ لِوُجُودِ الْمَحَلِّ لِقِيَامِ التَّحْرِيمَةِ كَذَا هَذَا، وَيَنْوِي الْقَضَاءَ عِنْدَ تَحْصِيلِ هَذِهِ السَّجْدَةِ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى تَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ لِدُخُولِهَا تَحْتَ الْقَضَاءِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ لَا تَحْتَاجُ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ أَصْلِ الصَّلَاةِ تَنَاوَلَتْهُ فَعِنْدَ الِاشْتِبَاهِ يَأْتِي بِالنِّيَّةِ احْتِيَاطًا وَقِيلَ يَنْوِي مَا عَلَيْهِ مِنْ السَّجْدَةِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ كُلُّ سَجْدَةٍ مَتْرُوكَةٍ يَسْجُدُهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَيَتَشَهَّدُ عَقِيبَ السَّجْدَةِ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ إلَى السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ يَرْفَعُ التَّشَهُّدَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّشَهُّدِ. وَلَوْ تَرَكَهُ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ فَرْضٌ فَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ ثُمَّ يُسَلِّمُ لِمَا مَرَّ وَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا سَجْدَتَيْنِ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَهُمَا مِنْ رَكْعَتَيْنِ أَوْ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُهُمَا وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَهُمَا مِنْ رَكْعَتَيْنِ فَقَدْ تُقَيَّدُ كُلُّ رَكْعَةٍ بِسَجْدَةٍ وَتَوَقَّفَ تَمَامُهَا عَلَى سَجْدَةِ فَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ فَيُتِمُّ صَلَاتَهُ وَإِذَا تَرَكَهُمَا مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَيُتِمُّهَا بِسَجْدَتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْأَدَاءِ لِوُجُودِهِمَا فِي مَحَلِّهِمَا وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَهُمَا مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى صَلَّى رَكْعَةً

وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَكَعَ وَلَمْ يَسْجُدْ حَتَّى رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ صَارَ مُصَلِّيًا رَكْعَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الرُّكُوعَ وَقَعَ مُكَرَّرًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَلْغُوَ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ مَا وُجِدَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ عَقِيبَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَلْتَحِقَانِ بِأَحَدِ الرُّكُوعَيْنِ لَكِنَّهُمَا يَلْتَحِقَانِ بِالْأَوَّلِ أَوْ بِالْآخِرِ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ الرُّكُوعُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ يَلْتَحِقَانِ بِالرُّكُوعِ الثَّانِي وَيَلْغُو الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ قَبْلَ أَوَانِهِ إذْ أَوَانُهُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ وَلَمْ تُوجَدْ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ وَالرُّكُوعُ الثَّانِي وَقَعَ فِي أَوَانِهِ فَكَانَ مُعْتَبَرًا حَتَّى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ كَانَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ كُلِّهَا. وَلَوْ أَدْرَكَ الْأَوَّلَ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ وَإِنْ كَانَ الرُّكُوعُ الْأَوَّلُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، وَالثَّانِي كَذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي رِوَايَةِ بَابِ السَّهْوِ، وَفِي رِوَايَةِ بَابِ الْحَدَثِ الْمُعْتَبَرِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَيُضَمُّ السَّجْدَتَانِ لِلسَّهْوِ وَيَلْغُو الثَّانِي، وَمَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ دُونَ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِتِلْكَ الرَّكْعَةِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَةً كَامِلَةً؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ تَرَكَ إحْدَى السَّجْدَتَيْنِ مِنْ الْأُولَى وَالْأُخْرَى مِنْ الثَّانِيَةِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَتِمُّ بِسَجْدَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ رَكْعَةٍ تَقَيَّدَتْ بِالسَّجْدَةِ فَيَلْتَحِقُ بِكُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةٌ فَتَتِمُّ صَلَاتُهُ وَتَكُونُ السَّجْدَتَانِ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ لِفَوَاتِهِمَا عَنْ مَحَلِّهِمَا وَإِنْ كَانَ تَرَكَهُمَا مِنْ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا السَّجْدَتَانِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إذَا سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فَقَدْ حَصَلَتْ السَّجْدَتَانِ عَلَى وَجْهِ الْأَدَاءِ لِحُصُولِهِمَا بَعْدَهُمَا عَقِيبَ هَذِهِ الرَّكْعَةِ فَيُحْكَمُ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ وَلَا رَكْعَةَ عَلَيْهِ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَ تَرَكَهُمَا مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى صَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ مَا وُجِدَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ عَقِيبَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَلْتَحِقَانِ بِالرُّكُوعِ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ الرُّكُوعُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ عَلَى رِوَايَةِ بَابِ الْحَدَثِ وَحَصَلَ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ مُكَرَّرًا فَلَمْ يَكُنْ بِهِمَا عِبْرَةٌ فَتَحْصُلُ لَهُ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَةٍ وَعَلَى رِوَايَةِ بَابِ السَّهْوِ تَنْصَرِفُ السَّجْدَتَانِ إلَى الرُّكُوعِ الثَّانِي لِقُرْبِهِمَا مِنْهُ فِعْلًا عَلَى مَا مَرَّ وَيَرْتَفِضُ الرُّكُوعُ الْأَوَّلُ وَالْقِيَامُ قَبْلَهُ وَيَلْغُوَانِ، فَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَلْزَمُهُ رَكْعَةٌ فَفِي حَالَتَيْنِ يَجِبُ سَجْدَتَانِ وَفِي حَالَةٍ رَكْعَةٌ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْكُلِّ وَيَبْدَأُ بِالسَّجْدَتَيْنِ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ إنْ كَانَ سَجْدَتَيْنِ تَتِمُّ صَلَاتُهُ بِهِمَا وَبِالتَّشَهُّدِ بَعْدَهُمَا فَالرَّكْعَةُ بَعْدَ تَمَامِ الْفَرْضِ لَا تَضُرُّ، وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ رَكْعَةً فَزِيَادَةُ السَّجْدَتَيْنِ وَقَعْدَةٍ لَا تَضُرُّ أَيْضًا. وَلَوْ بَدَأَ بِالرَّكْعَةِ قَبْلَ السَّجْدَتَيْنِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ إنْ كَانَ رَكْعَةٌ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ بِهِمَا وَإِنْ كَانَ سَجْدَتَانِ فَزِيَادَةُ الرَّكْعَةِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرْضِ تُفْسِدُ الصَّلَاةَ لِمَا مَرَّ وَيَقْعُدُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ آخِرُ صَلَاتِهِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِالسَّجْدَتَيْنِ الْقَضَاءَ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُتَرَدِّدًا أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ. وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فَإِنْ وَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ يَعْمَلُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ تَحَرِّيهِ عَلَى شَيْءٍ يَسْجُدُ سَجْدَةً وَيُصَلِّي رَكْعَةً؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى أَقَلُّ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ فَنَقُولُ لَا يَتَقَيَّدُ بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا رَكْعَةً وَاحِدَةً فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ تَكْمِيلًا لِتِلْكَ الرَّكْعَةِ وَلَا يَتَشَهَّدُ هَهُنَا؛ لِأَنَّ بِتَحْصِيلِ رَكْعَةٍ لَا يَتَوَهَّمُ تَمَامَ الصَّلَاةِ لِيَتَشَهَّدَ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً أُخْرَى ثُمَّ يَتَشَهَّدَ وَيُسَلِّمَ وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِالسَّجْدَةِ قَضَاءَ الْمَتْرُوكَةِ لِجَوَازِ أَنَّهُ إنَّمَا أَتَى بِسَجْدَةٍ بَعْدَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ فَإِذَا لَمْ يَنْوِ بِهَذِهِ السَّجْدَةِ الْقَضَاءَ تَتَقَيَّدُ بِهَا الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ فَإِذَا قَامَ بَعْدَهَا وَصَلَّى رَكْعَةً كَانَ مُتَنَفِّلًا بِهَا قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرِيضَةِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَإِذَا نَوَى بِهَا الْقَضَاءَ الْتَحَقَتْ بِمَحَلِّهَا وَانْتَقَضَ الرُّكُوعُ الْمُؤَدَّى بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَلِهَذَا يَنْوِي بِهَا الْقَضَاءَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ مَاذَا يَفْعَلُ، وَقِيلَ إنَّهُ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَةً مِنْ غَيْرِ تَشَهُّدٍ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَالرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ قَامَ وَرَكَعَ مَرَّتَيْنِ فَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ لِيَلْتَحِقَ بِأَحَدِ الرُّكُوعَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ وَيَلْغُو الرُّكُوعُ الْآخَرُ وَقِيَامُهُ وَيَحْصُلُ لَهُ رَكْعَةٌ، وَبَعْدَ ذَلِكَ إنْ صَلَّى رَكْعَةً تَمَّتْ صَلَاتُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَإِنْ تَرَكَ مِنْ الظُّهْرِ أَوْ مِنْ الْعَصْرِ أَوْ مِنْ الْعِشَاءِ سَجْدَةً فَيَسْجُدُ سَجْدَةً وَيَتَشَهَّدُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْفَجْرِ. وَلَوْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي رَكْعَةً وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَرَكَهُمَا مِنْ رَكْعَتَيْنِ أَيَّتُهُمَا كَانَتَا فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ، وَكَذَا لَوْ تَرَكَهُمَا مِنْ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ وَلَوْ تَرَكَهُمَا مِنْ إحْدَى الثَّلَاثِ الْأُوَلِ فَعَلَيْهِ رَكْعَةٌ؛ لِأَنَّ قِيَامًا وَرُكُوعًا ارْتَفَضَا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فَإِذَا كَانَ يَجِبُ فِي حَالٍ رَكْعَةٌ وَفِي حَالٍ سَجْدَتَانِ يُجْمَعُ بَيْنَ الْكُلِّ احْتِيَاطًا، وَإِذَا سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ يَقْعُدُ لِجَوَازِ أَنَّهُ آخِرُ صَلَاتِهِ وَالْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ فَرْضٌ وَيَنْوِي بِالسَّجْدَتَيْنِ مَا عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنَّ تَرْكَهُمَا مِنْ ثِنْتَيْنِ قَبْلَ الْأَخِيرَةِ أَوْ مِنْ رَكْعَةٍ قَبْلَهَا وَيَبْدَأُ بِالسَّجْدَتَيْنِ احْتِيَاطًا لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ

وَيُصَلِّي رَكْعَةً؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ مِنْ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ فَيُقَيِّدُ كُلَّ رَكْعَةٍ بِسَجْدَةٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ، وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ إحْدَى الثَّلَاثِ الْأُوَلِ وَسَجْدَتَيْنِ مِنْ الرَّابِعَةِ فَيُتِمُّ الرَّابِعَةَ بِسَجْدَتَيْنِ وَيَلْتَحِقُ سَجْدَةٌ بِمَحَلِّهَا وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ وَسَجْدَةً مِنْ رَكْعَةٍ فَيَلْغُو قِيَامٌ وَرُكُوعٌ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ لِتَنْضَمَّ إلَى تِلْكَ الرَّكْعَةِ الَّتِي سَجَدَ فِيهَا سَجْدَةٌ وَرَكْعَةٌ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ فِي حَالَتَيْنِ وَرَكْعَةٌ فِي حَالٍ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْكُلِّ وَيُقَدِّمُ السَّجَدَاتِ عَلَى الرَّكْعَةِ لِمَا بَيَّنَّا وَيَنْوِي بِالسَّجَدَاتِ الثَّلَاثِ مَا عَلَيْهِ لِمَا مَرَّ وَيَجْلِسُ بَيْنَ السَّجَدَاتِ وَالرَّكْعَةِ لِمَا مَرَّ فَإِنْ تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَعَلَيْهِ أَرْبَعُ سَجَدَاتٍ. وَلَوْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ وَسَجْدَتَيْنِ مِنْ الرَّابِعَةِ فَعَلَيْهِ أَرْبَعُ سَجَدَاتٍ. وَلَوْ تَرَكَ الْأَرْبَعَ كُلَّهَا مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ مِنْهَا وَسَجْدَتَيْنِ فِي الرَّابِعَةِ فَقَدْ لَغَا قِيَامَانِ وَرُكُوعَانِ فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ رَكْعَتَانِ، وَلَوْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَةٍ مِنْ إحْدَى الثَّلَاثِ الْأُوَلِ وَسَجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ فَعَلَيْهِ رَكْعَةٌ وَسَجْدَتَانِ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْكُلِّ احْتِيَاطًا فَيَسْجُدُ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيُقَدِّمُ السَّجَدَاتِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَهَا لَا يَضُرُّ، وَتَقْدِيمُ الرَّكْعَتَيْنِ يُفْسِدُ الْفَرْضَ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَالصَّلَاةُ إذَا فَسَدَتْ مِنْ وَجْهٍ يُحْكَمُ بِفَسَادِهَا احْتِيَاطًا لِمَا مَرَّ وَيَنْوِي فِي ثَلَاثِ سَجَدَاتٍ مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ثِنْتَيْنِ فِيهَا قَضَاءٌ لَا مَحَالَةَ وَالرَّابِعَةُ لَيْسَتْ بِقَضَاءٍ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهَا إمَّا أَنْ كَانَتْ زَائِدَةً أَوْ مِنْ الرَّابِعَةِ فَلَا يَنْوِي فِيهَا وَالثَّالِثَةُ مُحْتَمَلَةٌ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا مِنْ الرَّابِعَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا مِنْ إحْدَى الثَّلَاثِ الْأُوَلِ فَيَنْوِي احْتِيَاطًا وَإِذَا سَجَدَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ يَتَشَهَّدُ لِاحْتِمَالِ أَنَّ ذَلِكَ آخِرُ صَلَاتِهِ وَالْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ فَرِيضَةٌ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَةً ثُمَّ يَتَشَهَّدُ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ عَلَيْهِ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ فَيَكُونُ مَا بَعْدَ الرَّكْعَةِ آخِرَ صَلَاتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَعْدَةِ فَيَقْعُدُ، ثُمَّ يَقُومُ وَيُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى وَيَقْعُدُ وَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ وَيَقْعُدُ وَيُسَلِّمُ، وَإِنْ تَرَكَ خَمْسَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَهَهُنَا يُعْتَبَرُ الْمُؤَدَّى؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ فَهَذَا رَجُلٌ سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فَإِنْ سَجَدَهَا فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ تَقَيَّدَتْ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ وَرَكْعَةٌ. وَلَوْ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ وَسَجْدَةً فِي رَكْعَةٍ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَرَكْعَتَانِ فَفِي حَالٍ عَلَيْهِ ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ وَرَكْعَةٌ وَفِي حَالٍ رَكْعَتَانِ وَسَجْدَةٌ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْكُلِّ احْتِيَاطًا فَيَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيُقَدِّمُ السَّجَدَاتِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِذَا سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فَهَلْ يَقْعُدُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّكْعَتَيْنِ؟ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ لَا يَقْعُدُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَإِذَا سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فَقَدْ الْتَحَقَتْ بِكُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةٌ فَتَمَّتْ لَهُ الثَّلَاثُ، وَالْقَعْدَةُ عَلَى رَأْسِ الثَّالِثَةِ بِدْعَةٌ. وَلَوْ كَانَ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ وَسَجْدَةً فِي رَكْعَةٍ فَإِذَا سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ فَقَدْ تَمَّتْ لَهُ رَكْعَتَانِ وَسَجْدَتَانِ إلَّا أَنَّ السَّجْدَتَيْنِ لَغَتَا، وَالْقَعْدَةُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا سُنَّةٌ فَدَارَتْ الْقَعْدَةُ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَكَانَ تَرْكُ الْبِدْعَةِ أَوْلَى، وَعِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَكِنَّ تَرْكَ الْبِدْعَةِ فَرْضٌ وَهُوَ أَهَمُّ مِنْ الْوَاجِبِ فَكَانَ تَرْكُ الْبِدْعَةِ أَوْلَى، وَعِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ يَقْعُدُ بَعْدَ السَّجَدَاتِ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ لَمَّا دَارَتْ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَتَرْكِ الْبِدْعَةِ كَانَ تَحْصِيلُ الْوَاجِبِ مُسْتَحَبًّا فَقَالُوا: يَقْعُدُ هَهُنَا قَعْدَةً مُسْتَحَبَّةً لَا مُسْتَحَقَّةً؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُصَلِّي رَكْعَةً وَيَقْعُدُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ رَابِعَتُهُ مِنْ وَجْهٍ بِأَنْ كَانَ أَدَّى السَّجَدَاتِ الثَّلَاثِ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَإِذَا سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ تَمَّتْ لَهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ وَإِذَا صَلَّى رَكْعَةً فَهَذِهِ رَابِعَتُهُ، وَالْقَعْدَةُ بَعْدَهَا فَرْضٌ وَهِيَ ثَالِثَتُهُ مِنْ وَجْهٍ بِأَنْ أَدَّى السَّجْدَتَيْنِ مِنْ رَكْعَةٍ وَسَجْدَةً مِنْ رَكْعَةٍ، فَإِذَا سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ الْتَحَقَتْ سَجْدَةٌ بِالرَّكْعَةِ الَّتِي سَجَدَ فِيهَا سَجْدَةً وَتَمَّتْ لَهُ رَكْعَتَانِ فَكَانَتْ هَذِهِ ثَالِثَتَهُ، وَالْقَعْدَةُ بَعْدَهَا بِدْعَةٌ فَدَارَتْ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْبِدْعَةِ فَيُغَلَّبُ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْبِدْعَةِ وَإِنْ كَانَ فَرْضًا وَاسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنْ تَرَجَّحَتْ جِهَةُ الْفَرْضِ لِمَا فِي تَرْكِ الْفَرْضِ مِنْ ضَرَرِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ، ثُمَّ بَعْدَ التَّشَهُّدِ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ، ثُمَّ يُسَلِّمُ. وَلَوْ تَرَكَ سِتَّ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّهُ مَا سَجَدَ إلَّا سَجْدَتَيْنِ فَإِنْ سَجَدَهُمَا فِي رَكْعَةٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ وَإِنْ سَجَدَهُمَا فِي رَكْعَتَيْنِ

فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ لِتَتِمَّ الرَّكْعَتَانِ وَرَكْعَتَانِ أُخْرَاوَانِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْكُلِّ احْتِيَاطًا وَيُقَدِّمُ السَّجْدَتَيْنِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَبَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ هَلْ يَسْجُدُ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ دَائِرَةٌ بَيْنَ أَنَّهَا بَعْدَ رَكْعَةٍ أَمْ بَعْدَ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ سَجَدَ السَّجْدَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ كَانَتْ الْقَعْدَةُ بَعْدَ رَكْعَةٍ، وَإِنْ كَانَ سَجَدَهُمَا فِي رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ الْقَعْدَةُ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَبَعْدَ رَكْعَةٍ بِدْعَةً، وَبَعْدَهُمَا عِنْدَ بَعْضِهِمْ سُنَّةٌ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ وَاجِبَةٌ، وَكَذَا هَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا صَلَّى بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ رَكْعَةً وَاحِدَةً لِكَوْنِ الرَّكْعَةِ دَائِرَةً بَيْنَ كَوْنِهَا ثَانِيَةً وَبَيْنَ كَوْنِهَا ثَالِثَةً؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ سَجَدَ السَّجْدَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ كَانَتْ هَذِهِ الرَّكْعَةُ ثَانِيَةً، وَإِنْ كَانَ سَجَدَهُمَا فِي رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ هَذِهِ الرَّكْعَةُ ثَالِثَةً، وَإِذَا صَلَّى رَكْعَةً أُخْرَى يَجْلِسُ بِالِاتِّفَاقِ لِكَوْنِهَا دَائِرَةً بَيْنَ كَوْنِهَا رَابِعَةً وَبَيْنَ كَوْنِهَا ثَالِثَةً فَافْهَمْ. وَلَوْ تَرَكَ سَبْعَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ سَجْدَةً وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّهُ مَا سَجَدَ إلَّا سَجْدَةً وَاحِدَةً فَلَمْ تَتَقَيَّدْ إلَّا رَكْعَةٌ فَعَلَيْهِ سَجْدَةُ لِتَتِمَّ هَذِهِ الرَّكْعَةُ وَثَلَاثُ رَكَعَاتٍ لِتَتِمَّ الْأَرْبَعُ. وَلَوْ تَرَكَ ثَمَانِ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَإِذَا أَتَى بِسَجْدَتَيْنِ يَلْتَحِقَانِ بِرُكُوعٍ وَاحِدٍ وَيَرْتَفِضُ الْبَاقِي عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فَيَصِيرُ مُصَلِّيًا رَكْعَةً فَيَكُونُ عَلَيْهِ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ لِتَتِمَّ الْأَرْبَعُ. وَلَوْ تَرَكَ مِنْ الْمَغْرِبِ سَجْدَةً سَجَدَهَا لَا غَيْرُ لِمَا مَرَّ وَإِنْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي رَكْعَةً لِمَا بَيَّنَّا وَيَقْعُدُ بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ لِجَوَازِ أَنَّ فَرْضَهُ تَمَّ بِأَنْ تَرَكَهَا مِنْ رَكْعَتَيْنِ وَالرَّكْعَةُ تَكُونُ تَطَوُّعًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْقُعُودِ، وَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ وَيُصَلِّي رَكْعَةً؛ لِأَنَّهُ إنْ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ مِنْ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَإِذَا سَجَدَهَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ فَيَتَشَهَّدُ، وَإِنْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَسَجْدَتَيْنِ مِنْ الثَّالِثَةِ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ سَجَدَاتٍ، وَإِنْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ مِنْ إحْدَى الْأُولَيَيْنِ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَرَكْعَةٌ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْكُلِّ. وَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَالْعِبْرَةُ فِي هَذَا لِلْمُؤَدَّاةِ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ فَهَذَا رَجُلٌ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فَإِنْ سَجَدَهُمَا فِي رَكْعَةٍ فَقَدْ صَلَّى رَكْعَةً فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ أُخْرَاوَيْنِ، وَإِنْ سَجَدَهُمَا فِي رَكْعَتَيْنِ فَقَدْ تَقَيَّدَ بِكُلِّ سَجْدَةٍ رَكْعَةٌ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ لِيَتِمَّا ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً، فَفِي حَالٍ عَلَيْهِ رَكْعَتَانِ وَفِي حَالٍ سَجْدَتَانِ وَرَكْعَةٌ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْكُلِّ احْتِيَاطًا وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. وَبَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ الْجِلْسَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْعُدُ عَلَى مَا مَرَّ وَبَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ يَجْلِسُ لَا مَحَالَةَ لِجَوَازِ أَنَّهَا ثَالِثَةٌ، وَإِنْ تَرَكَ خَمْسَ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ سَجْدَةً وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِهَذِهِ السَّجْدَةِ عَنْ الرَّكْعَةِ الَّتِي قَيَّدَهَا بِالسَّجْدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْوِ وَقَدْ كَانَ قَيَّدَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى بِالسَّجْدَةِ لَالْتَحَقَتْ هَذِهِ السَّجْدَةُ بِالرُّكُوعِ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فَيَتَقَيَّدُ لَهُ رَكْعَتَانِ يَتَوَقَّفَانِ عَلَى سَجْدَتَيْنِ، فَإِذَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَدَائِهَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَتِمُّ بِهِمَا الرَّكْعَتَانِ الْمُقَيَّدَتَانِ فَسَدَتْ فَرْضِيَّةُ صَلَاتِهِ، فَإِذَا نَوَى بِهَذِهِ السَّجْدَةِ عَنْ الرَّكْعَةِ الَّتِي تَقَيَّدَتْ بِتِلْكَ السَّجْدَةِ تَمَّتْ بِهِ فَبَعْدَ ذَلِكَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَقْعُدُ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ ثَانِيَتُهُ بِيَقِينٍ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْقَعْدَةِ شُبْهَةُ الْبِدْعَةِ. وَلَوْ تَرَكَ سِتَّ سَجَدَاتٍ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ لِتَلْتَحِقَا بِرُكُوعٍ مِنْهَا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فَتَتِمُّ لَهُ رَكْعَةٌ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً وَيَقْعُدُ لِعَدَمِ شُبْهَةِ الْبِدْعَةِ ثُمَّ أُخْرَى وَيَقْعُد فَرْضًا هَذَا إذَا كَانَ لَمْ يَزِدْ عَلَى عَدَدِ رَكَعَاتِ صَلَاتِهِ فَأَمَّا إذَا زَادَ بِأَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ فَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَكَذَلِكَ إذَا تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ وَثَلَاثًا، وَإِنْ تَرَكَ أَرْبَعًا لَمْ تَفْسُدْ. وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الصَّلَاةَ مَتَى دَارَتْ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ نَحْكُمُ بِفَسَادِهَا احْتِيَاطًا، وَإِنَّ مَنْ انْتَقَلَ مِنْ الْفَرْضِ إلَى النَّفْلِ وَقَيَّدَ النَّفَلَ بِالسَّجْدَةِ قَبْلَ إتْمَامِ الْفَرْضِ بِأَنْ بَقِيَ عَلَيْهِ الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ أَوْ بَقِيَ عَلَيْهِ سَجْدَةٌ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِمَا مَرَّ أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ دُخُولِهِ فِي النَّفْلِ خُرُوجُهُ عَنْ الْفَرْضِ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ رُكْنٌ فَيَفْسُدُ فَرْضُهُ كَمَا لَوْ اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ آخَرَ قَبْلَ تَمَامِ الْفَرْضِ، وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّهُ إذَا زَادَ عَلَى رَكَعَاتِ الْفَرْضِ رَكْعَةً يَضُمُّ الرَّكْعَةَ الزَّائِدَةَ إلَى الرَّكَعَاتِ الْأَصْلِيَّةِ وَيَنْظُرُ إلَى عَدَدِهَا ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى سَجَدَاتِ عَدَدِهَا فَتَكُونُ سَجَدَاتُ الْفَجْرِ بِالْمَزِيدِ سِتًّا؛ لِأَنَّهَا مَعَ الرَّكْعَةِ الزَّائِدَةِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَلِكُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَتَانِ وَسَجَدَاتُ الظُّهْرِ بِالْمَزِيدِ عَشْرًا وَسَجَدَاتُ الْمَغْرِبِ بِالْمَزِيدِ ثَمَانِيًا، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ أَوْ النِّصْفَ يُحْكَمُ بِفَسَادِ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ أَتَى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِسَجْدَةٍ فَتَتَقَيَّدُ رَكَعَاتُ الْفَرْضِ كُلُّهَا، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهَا إلَى الرَّكْعَةِ الزَّائِدَةِ

وَهِيَ تَطَوُّعٌ قَبْلَ أَدَاءِ تِلْكَ السَّجَدَاتِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ يُعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ الْمَفْرُوضَ مَعَ الزَّائِدِ لَمْ يَتَقَيَّدْ الْكُلُّ فَإِنَّ الْفَجْرَ مَعَ الزَّائِدِ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِسَجْدَتَيْنِ بَلْ لَوْ تَقَيَّدَ تَقَيَّدَ رَكْعَتَانِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَتَقَيَّدَ بِسَجْدَتَيْنِ فَلَمْ يُوجَدْ الِانْتِقَالُ إلَى النَّفْلِ بَعْدُ، وَكَذَا خَمْسُ رَكَعَاتٍ فِي الظُّهْرِ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَتَقَيَّدَ بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ، وَلَا الْمَغْرِبُ مَعَ الزِّيَادَةِ بِثَلَاثِ سَجَدَاتٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ الِانْتِقَالُ إلَى النَّفْلِ، ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَفْسُدْ فَتَكُونُ الْمُؤَدَّيَاتُ أَقَلَّ لَا مَحَالَةَ، فَيَنْظُرُ إلَى الْمُؤَدَّيَاتِ فِي ذَلِكَ الْفَرْضِ ثُمَّ يُتَمِّمُ الْفَرْضَ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَإِذَا عَرَفْتِ هَذِهِ الْأُصُولَ فَنَقُولُ: إذَا صَلَّى الْغَدَاةَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَتَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَرَكَهَا مِنْ الْأُولَى أَوْ مِنْ الثَّانِيَةِ فَسَدَتْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِسَجْدَةٍ فَقَدْ انْعَقَدَتْ نَفْلًا فَصَارَ خَارِجًا مِنْ الْفَرْضِ ضَرُورَةَ دُخُولِهِ فِي النَّفْلِ فَخَرَجَ مِنْ الْفَرْضِ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْهُ سَجْدَةٌ فَفَسَدَ فَرْضُهُ، كَمَا لَوْ صَلَّى الْفَجْرَ رَكْعَتَيْنِ وَتَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً فَلَمْ يَسْجُدْهَا حَتَّى قَامَ وَذَهَبَ، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ الثَّالِثَةِ لَا تَفْسُدُ فَدَارَتْ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ فَنَحْكُمُ بِالْفَسَادِ، فَإِنْ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ إنْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ الْأُولَى وَسَجْدَةً مِنْ الثَّانِيَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِتَقَيُّدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ رَكْعَتَيْ الْفَرْضِ بِسَجْدَةٍ، ثُمَّ دَخَلَ فِي النَّفْلِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْفَرْضِ، وَكَذَا إنْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَسَجْدَةً مِنْ الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ سَجْدَةٍ مِنْ الْأُولَيَيْنِ يَكْفِي لِفَسَادِ الْفَرْضِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ تَرَكَهُمَا مِنْ الثَّالِثَةِ لَا يَفْسُدُ فَرْضُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كُلُّ رَكْعَةٍ بِسَجْدَتَيْنِ، فَإِذًا فِي حَالَيْنِ تَفْسُدُ وَفِي حَالٍ تَجُوزُ. وَلَوْ كَانَتْ تَجُوزُ فِي حَالَيْنِ وَتَفْسُدُ فِي حَالٍ لَلَزِمَ الْفَسَادُ فَهَهُنَا أَوْلَى، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَإِنْ أَرَادَ بِالْقَوْلَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ يَحْتَمِلُ أَحَدُهُمَا الْجَوَازَ وَالْآخَرُ الْفَسَادَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَنَحْكُمُ بِالْفَسَادِ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ حَقَّقَ الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ فِي قَوْلٍ: تَفْسُدُ لِمَا قُلْنَا، وَفِي قَوْلٍ: لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ السَّجْدَتَيْنِ الْمَتْرُوكَتَيْنِ مِنْ الثَّالِثَةِ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيمَا إذَا تَرَكَ سَجْدَةً وَاحِدَةً قَوْلَانِ فِي قَوْلٍ لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ تَرَكَهَا مِنْ الثَّالِثَةِ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ تَفْسُدُ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ أَكْثَرُ مِنْ النِّصْفِ فَهَذَا الرَّجُلُ مَا سَجَدَ إلَّا سَجْدَتَيْنِ سَوَاءٌ سَجَدَهُمَا فِي رَكْعَتَيْنِ أَوْ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ خَارِجًا مِنْ الْفَرْضِ إلَى النَّفْلِ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ أَقَلُّ مِنْ رَكْعَةٍ فَلَمْ يَصِرْ مُنْتَقِلًا إلَى النَّفْلِ بَعْدُ فَلَا يَفْسُدُ فَرْضُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ وَيَتَشَهَّدَ وَلَا يُسَلِّمَ ثُمَّ يَقُومَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَةً كَامِلَةً؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِسَجْدَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَتَى بِهِمَا فِي رَكْعَتَيْنِ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ لَا غَيْرُ، وَإِنْ كَانَ أَتَى بِهِمَا فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَيْهِ رَكْعَةٌ كَامِلَةٌ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْكُلِّ احْتِيَاطًا وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ أَوَّلًا وَيَتَشَهَّدُ ثُمَّ يَقُومُ وَيُصَلِّي رَكْعَةً لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ صَلَّى الْغَدَاةَ رَكْعَتَيْنِ وَتَرَكَ مِنْهَا سَجْدَتَيْنِ وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ خَمْسَ سَجَدَاتٍ لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ مَا صَلَّى إلَّا رَكْعَةً وَاحِدَةً فَيَسْجُدُ سَجْدَةً أُخْرَى لِتَتِمَّ الرَّكْعَةُ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى كَمَا إذَا صَلَّى الْغَدَاةَ رَكْعَتَيْنِ وَتَرَكَ مِنْهَا ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ وَالْجَوَابُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هَذَا وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ سِتَّ سَجَدَاتٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ شَيْئًا وَإِنَّمَا رَكَعَ ثَلَاثَ رُكُوعَاتٍ فَيَأْتِي بِسَجْدَتَيْنِ حَتَّى يَصِيرَ لَهُ رَكْعَةٌ كَامِلَةٌ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى، كَمَا إذَا صَلَّى الْفَجْرَ رَكْعَتَيْنِ وَتَرَك مِنْهَا أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَعَلَى هَذَا إذَا صَلَّى الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ أَوْ الْعِشَاءَ خَمْسًا وَتَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً ثُمَّ قَامَ وَذَهَبَ. وَلَوْ تَرَكَ مِنْهَا سَجْدَتَيْنِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ إنْ تَرَكَهَا مِنْ الْأَرْبَعِ الْأُوَلِ، وَكَذَلِكَ إنْ تَرَكَ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةً فَتَرَكَ ثَلَاثًا مِنْ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعًا مِنْ الْأَرْبَعِ وَخَمْسًا مِنْ خَمْسٍ وَذَلِكَ جِهَةُ الْفَسَادِ. وَلَوْ تَرَكَ سِتَّ سَجَدَاتٍ لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ هَهُنَا أَكْثَرُ؛ لِأَنَّهُ مَا سَجَدَ إلَّا أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ فَيَسْجُدُ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ أُخَرَ ثُمَّ يَقُومُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَكُونُ كَمَا إذَا صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَتَرَكَ مِنْهَا أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَالْجَوَابُ وَالْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَا هُنَالِكَ كَذَا هَهُنَا وَكَذَلِكَ إنْ تَرَكَ مِنْهَا سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيًا أَوْ تِسْعًا أَوْ عَشْرًا فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِيمَا إذَا صَلَّى أَرْبَعًا وَتَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ أَوْ سَجْدَتَيْنِ أَوْ سَجْدَةً أَوْ لَمْ يَسْجُدْ رَأْسًا لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ وَلَا الْمَعْنَى وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ كُلُّهُ وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى الْمَغْرِبَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَتَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً أَوْ سَجْدَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ إذَا صَلَّاهَا خَمْسًا وَتَرَكَ مِنْهَا خَمْسَ سَجَدَاتٍ أَوْ أَقَلَّ، وَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا

خَمْسَ سَجَدَاتٍ أَوْ سِتًّا أَوْ سَبْعًا لَا تَفْسُدُ وَيُنْظَرُ إلَى الْمُؤَدَّى وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا إذَا صَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا وَتَرَكَ مِنْهَا ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا وَهُنَاكَ يُنْظَرُ إلَى الْمُؤَدَّى مِنْ السَّجَدَاتِ فَيَضُمُّ إلَى كُلِّ سَجْدَةٍ أَدَّاهَا سَجْدَةً ثُمَّ يُتِمُّ صَلَاتَهُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ وَكَذَا هَهُنَا. وَلَوْ كَبَّرَ رَجُلٌ خَلْفَ الْإِمَامِ ثُمَّ نَامَ فَصَلَّى إمَامُهُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَتَرَكَ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةً ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ النَّائِمَ بَعْدَ مَا انْتَبَهَ فَإِنَّهُ يُشِيرُ إلَيْهِمْ حَتَّى لَا يَتْبَعُوهُ فَيُصَلِّيَ رَكْعَةً وَسَجْدَةً، ثُمَّ يَسْجُدُ فَيَتْبَعُهُ الْقَوْمُ فِي السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَذَا يُصَلِّي الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ وَالْإِمَامُ مُسِيءٌ بِتَقْدِيمِهِ النَّائِمَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ أَدْرَكَ أَوَّلَ صَلَاتِهِ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَنَمْ وَلَكِنَّهُ أَحْدَثَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ جَاءَ فَقَدَّمَهُ فَهَذَا حُكْمُهُ مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَدِّمَهُ وَلَا لَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إتْمَامِ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ اشْتَغَلَ بِقَضَاءِ السَّجَدَاتِ كَمَا وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ الْأَوَّلِ لَصَارَ مُرْتَكِبًا أَمْرًا مَكْرُوهًا؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ وَالْمُدْرِكُ يَأْتِي بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ وَإِنْ ابْتَدَأَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَقَدْ أَلْجَأَ الْقَوْمَ إلَى زِيَادَةِ مُكْثٍ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُشِيرَ لِئَلَّا يَتْبَعُوهُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مَعَ سَجْدَةٍ، فَإِذَا سَجَدَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ يُتَابِعُونَهُ؛ لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا الرَّكَعَاتِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا ثَانِيًا فَلَمَّا كَانَ تَقَدُّمُهُ يُؤَدِّي إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ مَكْرُوهَيْنِ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَدِّمَهُ وَلَا أَنْ يَتَقَدَّمَ هُوَ. وَلَوْ تَقَدَّمَ مَعَ هَذَا وَاشْتَغَلَ بِالْمَتْرُوكَاتِ أَوَّلًا وَتَابَعَهُ الْقَوْمُ جَازَ لِكَوْنِهِ خَلِيفَةَ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ السَّجَدَاتُ لَا تُحْتَسَبُ مِنْ صَلَاتِهِ لَا يَصِيرُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُعَدُّ مِنْهُ نَفْلًا بَلْ هُوَ فِي أَدَاءِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ يُؤَدِّي الْفَرْضَ نَظِيرَ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ إمَامًا لَوْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَسَبَقَهُ الْحَدَثُ فَقَدَّمَ رَجُلًا جَاءَ سَاعَتَئِذٍ فَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يُتِمُّ صَلَاةَ الْإِمَامِ فَيَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَقُومُ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ السَّجْدَتَانِ غَيْرَ مَحْسُوبَتَيْنِ فِي حَقِّهِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ الرَّكْعَةَ الَّتِي سُبِقَ بِهَا بِسَجْدَتَيْهَا وَمَعَ ذَلِكَ جَازَتْ إمَامَتُهُ؛ لِأَنَّ السَّجْدَتَيْنِ فَرْضَانِ عَلَى الْإِمَامِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَهُ وَلَوْ بَدَأَ بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ يُصَلِّي رَكْعَةً وَيُشِيرُ إلَى الْقَوْمِ لِئَلَّا يَتْبَعُوهُ؛ لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا هَذِهِ الرَّكْعَةَ بِسَجْدَةٍ فَإِذَا سَجَدَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ تَابَعَهُ الْقَوْمُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْجُدُوا هَذِهِ السَّجْدَةَ هَكَذَا فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا. وَإِذَا فَعَلَ هَكَذَا جَازَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْكُلِّ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ فِي الْكِتَابِ بَعْدَ مَا حَكَى جَوَابَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُصَلِّي الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَالْقَوْمُ لَا يُتَابِعُونَهُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَإِذَا انْتَهَى إلَى السَّجْدَةِ تَابَعُوهُ، حَكَى مُحَمَّدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذَا ثُمَّ قَالَ: قُلْتُ أَمَا تَفْسُدُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: فَلِمَاذَا؟ قُلْتُ: إنَّ الْإِمَامَ مَرَّةً يَصِيرُ إمَامًا لِلْقَوْمِ وَغَيْرَ إمَامٍ مَرَّةً وَهَذَا قَبِيحٌ وَلَوْ كَانَ هَذَا رَكْعَةً اُسْتُحْسِنَتْ فِي رَكْعَةٍ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ سُؤَالَهُ هَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ جَوَابَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ جَعَلَ حِكَايَةَ هَذَا السُّؤَالِ مَعَ تَرْكِ الْجَوَابِ إخْبَارًا عَنْ الرُّجُوعِ، وَقَالَ: تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَاعْتَمَدَ عَلَى مَا احْتَجَّ بِهِ مُحَمَّدٌ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْمُؤْتَمَّ يَصِيرُ إمَامًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُؤْتَمًّا تَابِعًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ إمَامًا مَتْبُوعًا مُنَافَاةٌ، وَالصَّلَاةُ فِي نَفْسِهَا لَا تَتَجَزَّأُ حُكْمًا، فَمَنْ كَانَ فِي بَعْضٍ تَابِعًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مَتْبُوعًا فِي شَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ صَيْرُورَتَهُ تَابِعًا فِي شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ صَيْرُورَتِهِ تَابِعًا فِي الْكُلِّ لِضَرُورَةِ عَدَمِ التَّجْزِيءِ، وَكَذَا صَيْرُورَتُهُ مَتْبُوعًا فِي بَعْضٍ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ صَيْرُورَتِهِ مَتْبُوعًا فِي الْكُلِّ لِعَدَمِ التَّجْزِيءِ، فَإِذَا كَانَ فِي بَعْضِهَا حِسًّا تَابِعًا وَفِي بَعْضِهَا مَتْبُوعًا كَأَنَّهُ فِي الْكُلِّ تَابِعٌ وَفِي الْكُلِّ مَتْبُوعٌ حُكْمًا؛ لِعَدَمِ التَّجْزِيءِ حُكْمًا، وَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا الِاسْتِخْلَافَ بِالنَّصِّ فَيَتَقَدَّرُ الْجَوَازُ بِقَدْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ، وَالنَّصُّ مَا وَرَدَ فِيمَا يَصِيرُ إِمَامًا مِرَارًا ثُمَّ يَصِيرُ مُؤْتَمًّا وَهَذَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ يُؤَدِّيهَا مُؤْتَمًّا، فَإِذَا انْتَهَى إلَى السَّجْدَةِ الْمَتْرُوكَةِ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ يَصِيرُ إمَامًا فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ مَا يَقْتَضِيهِ الدَّلَائِلُ. وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ: اسْتَحْسَنْتُ هَذَا فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ تَرَكَ سَجْدَةً لَا غَيْرُ مِنْ رَكْعَةٍ فَاسْتَخْلَفَ هَذَا النَّائِمَ وَابْتَدَأَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَالْقَوْمُ يَتَرَبَّصُونَ بُلُوغَهُ تِلْكَ السَّجْدَةَ فَإِذَا سَجَدَهَا سَجَدُوا مَعَهُ ثُمَّ بَعْدَهُ يَصِيرُ مُؤْتَمًّا فَفِي هَذَا الْقِيَاسِ أَنْ تَفْسُدَ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ إمَامًا مَرَّةً وَمُؤْتَمًّا مَرَّتَيْنِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا وَقُلْنَا إنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا فِي الْجُمْلَةِ جَائِزٌ فَإِنَّ الْإِمَامَ إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَقَدَّمَ مَسْبُوقًا يَجُوزُ وَقَبْلَ الِاسْتِخْلَافِ كَانَ مُؤْتَمًّا وَبَعْدَ الِاسْتِخْلَافِ إلَى تَمَامِ صَلَاةِ الْإِمَامِ كَانَ إمَامًا ثُمَّ إذَا تَأَخَّرَ وَقَدَّمَ غَيْرَهُ حَتَّى سَلَّمَ وَقَامَ الْمَسْبُوقُ إلَى قَضَاءِ مَا سَبَقَ عَادَ مُؤْتَمًّا مِنْ وَجْهٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اقْتَدَى بِهِ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ، أَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَيَصِيرُ مُؤْتَمًّا وَإِمَامًا مِرَارًا إلَّا أَنَّ أَكْثَرَ مَشَايِخِنَا جَوَّزُوا وَقَالُوا: لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَا يُجْعَلُ هَذَا رُجُوعًا مِنْ

فصل صلاة الجمعة

أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ عَدَمِ النَّصِّ عَلَى الرُّجُوعِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لَمْ يَذْكُرْ الْجَوَابَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ جَوَازَ الِاسْتِخْلَافِ إنْ ثَبَتَ نَصًّا لِكَوْنِهِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى إصْلَاحِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَالْحَاجَةُ هَهُنَا مُتَحَقِّقَةٌ فَيَجُوزُ وَقَوْلُهُ إنَّ بَيْنَ كَوْنِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ تَابِعًا وَمَتْبُوعًا مُنَافَاةٌ قُلْنَا: فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مُسَلَّمٌ أَمَّا فِي شَيْئَيْنِ فَلَا وَالصَّلَاةُ أَفْعَالٌ مُتَغَايِرَةٌ حَقِيقَةً فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ تَابِعًا فِي بَعْضِهَا وَمَتْبُوعًا فِي بَعْضٍ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّلَاةَ مُتَجَزِّئَةٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهَا أَفْعَالٌ مُتَغَايِرَةٌ إلَّا فِي حَقِّ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَعْضَ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً فَارْتِفَاعُهُ يَكُونُ بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْعِ، وَفِي حَقِّ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ قَامَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ فَغَيَّرَهَا فَلَمْ تَبْقَ مُتَبَعِّضَةً مُتَجَزِّئَةً فِي حَقِّهِمَا، فَأَمَّا فِي حَقِّ التَّبَعِيَّةِ وَالْمَتْبُوعِيَّةِ فِي غَيْرِ أَوَانِ الْحَاجَةِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وَفِي أَوَانِ الْحَاجَةِ لَا إجْمَاعَ، وَالْحَقَائِقُ تَتَبَدَّلُ بِقَدْرِ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلتَّغَيُّرِ وَالتَّبَدُّلِ وَلَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَلْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَقْرِيرِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ حَيْثُ جَوَّزَ الِاسْتِخْلَافَ فَعُلِمَ أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ عِنْدَ الْحَاجَةِ جَائِزٌ، وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ مَرَّةً تَابِعًا وَمَرَّةً مَتْبُوعًا غَيْرُ مَانِعٍ، وَيُنْظَرُ إلَى الْحَاجَةِ لَا إلَى وُرُودِ الشَّرْعِ فِي كُلِّ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْحَاجَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي اسْتَحْسَنَ مُحَمَّدٌ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ الْخَاصُّ؟ وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْمَسْبُوقِ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ الْخَاصُّ فِيهِ، وَإِنَّمَا جَازَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِتَغْيِيرِهَا، وَمَنْ جَعَلَ وُرُودَ الشَّرْعِ بِالْجَوَازِ لِذِي الْحَاجَةِ وُرُودًا فِي كُلِّ مَحِلٍّ تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ بِالْأَئِمَّةِ الْخَمْسَةِ وَمَعَ ذَلِكَ جَازَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَكَذَا الْوَاحِدُ إذَا ائْتَمَّ فَسَبَقَ الْإِمَامَ الْحَدَثُ تَعَيَّنَ هَذَا الْوَاحِدُ لِلْإِمَامَةِ فَإِذَا جَاءَ الْأَوَّلُ صَارَ مُقْتَدِيًا بِهِ، ثُمَّ لَوْ سَبَقَ الثَّانِيَ حَدَثٌ تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ لِلْإِمَامَةِ، ثُمَّ إذَا جَاءَ هَذَا الثَّانِي وَسَبَقَ الْأَوَّلَ حَدَثٌ تَعَيَّنَ هَذَا الثَّانِي لِلْإِمَامَةِ هَكَذَا مِرَارًا، لَكِنْ لَمَّا تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ جُوِّزَ وَجُعِلَ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الِاسْتِخْلَافِ وَارِدًا فِي كُلِّ مَحَلٍّ تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ فِيهِ فَكَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ فَرْضِيَّتِهَا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْفَرِيضَةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِهَا، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُهَا، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ أَوْ خَرَجَ وَقْتُهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَمَا يُكْرَهُ فِيهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْجُمُعَةُ فَرْضٌ لَا يَسَعُ تَرْكُهَا وَيُكَفَّرُ جَاحِدُهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْجُمُعَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] قِيلَ ذِكْرُ اللَّهِ هُوَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، وَقِيلَ هُوَ الْخُطْبَةُ وَكُلُّ ذَلِكَ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ إلَى الْخُطْبَةِ إنَّمَا يَجِبُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ سَقَطَتْ عَنْهُ الصَّلَاةُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ إلَى الْخُطْبَةِ فَكَانَ فَرْضُ السَّعْيِ إلَى الْخُطْبَةِ فَرْضًا لِلصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ يَتَنَاوَلُ الصَّلَاةَ وَيَتَنَاوَلُ الْخُطْبَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْكُمْ الْجُمُعَةَ فِي مَقَامِي هَذَا، فِي يَوْمِي هَذَا، فِي شَهْرِي هَذَا، فِي سَنَتِي هَذِهِ فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَمَاتِي اسْتِخْفَافًا بِهَا وَجُحُودًا عَلَيْهَا وَتَهَاوُنًا بِحَقِّهَا وَلَهُ إمَامٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ فَلَا جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ وَلَا بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ، أَلَا لَا صَلَاةَ لَهُ، أَلَا لَا زَكَاةَ لَهُ، أَلَا لَا حَجَّ لَهُ، أَلَا لَا صَوْمَ لَهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ» ، وَمِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يَلْحَقُ إلَّا بِتَرْكِ الْفَرْضِ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ. [فَصْلٌ كَيْفِيَّةُ فَرْضِيَّةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ فَرْضِيَّتِهَا. فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ هُوَ الظُّهْرُ فِي حَقِّ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ لَكِنَّ غَيْرَ الْمَعْذُورِ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُقِيمُ الْحُرُّ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ حَتْمًا، وَالْمَعْذُورُ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ عَلَى سَبِيلِ الرُّخْصَةِ حَتَّى لَوْ أَدَّى الْجُمُعَةَ يَسْقُطُ عَنْهُ الظُّهْرُ وَتَقَعُ الْجُمُعَةُ فَرْضًا، وَإِنْ تَرَكَ التَّرَخُّصَ يَعُودُ الْأَمْرُ إلَى الْعَزِيمَةِ وَيَكُونُ الْفَرْضُ هُوَ الظُّهْر لَا غَيْرُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ قَوْلَانِ فِي قَوْلٍ قَالَ: فَرْضُ الْوَقْتِ هُوَ الْجُمُعَةُ وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ بِالظُّهْرِ رُخْصَةً، وَفِي قَوْلٍ قَالَ: الْفَرْضُ أَحَدُهُمَا غَيْرُ عَيْنٍ وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِتَعْيِينِهِ فِعْلًا فَأَيَّهُمَا فَعَلَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الْفَرْضَ، وَقَالَ زُفَرُ وَقْتُ الْفَرْضِ هُوَ الْجُمُعَةُ وَالظُّهْرُ بَدَلٌ عَنْهَا وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْجُمُعَةُ ظُهْرُ قَاصِرٍ، وَعِنْدَنَا هِيَ صَلَاةٌ مُبْتَدَأَةٌ غَيْرُ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي بِنَاءِ الظُّهْرِ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْجُمُعَةِ بِأَنْ خَرَجَ

وَقْتُ الظُّهْرِ وَهُوَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا يَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ، وَعِنْدَهُ يُتِمُّهَا ظُهْرًا. أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: إنَّمَا قُصِرَتْ الْجُمُعَةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ وَلِأَنَّ الْوَقْتَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الظُّهْرِ وَالْوَقْتُ مَتَى جُعِلَ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَلَاةٍ كَانَ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ كَسَائِرِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ إذَا وُجِدَ سَبَبُ الْقَصْرِ تُقْصَرُ كَمَا تُقْصَرُ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَهَهُنَا وُجِدَ سَبَبُ الْقَصْرِ وَهُوَ الْخُطْبَةُ وَمَشَقَّةُ قَطْعِ الْمَسَافَةِ إلَى الْجَامِعِ، وَلَنَا أَنَّ الْجُمُعَةَ مَعَ الظُّهْرِ صَلَاتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَتَانِ شُرُوطًا لِمَا نَذْكُرُ اخْتِصَاصَ الْجُمُعَةِ بِشُرُوطٍ لَيْسَتْ لِلظُّهْرِ وَالْفَرْصُ الْوَاحِدُ لَا تَخْتَلِفُ شُرُوطُهُ بِالْقَصْرِ فَكَانَا غَيْرَيْنِ فَلَا يَصِحُّ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ كَبِنَاءِ الْعَصْرِ عَلَى الظُّهْرِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَفِيهِ بَيَانُ عِلَّةِ الْقَصْرِ، أَمَا لَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْمَقْصُورَ ظُهْرٌ؟ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ قَدْ يَخْلُو عَنْ فَرْضِهِ أَدَاءً لِعُذْرٍ مِنْ الْأَعْذَارِ كَوَقْتِ الْعَصْرِ عَنْ الْعَصْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ، وَوَقْتِ الْمَغْرِبِ عَنْ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فَكَذَا هَهُنَا جَازَ أَنْ يَخْلُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ عَنْ الظُّهْرِ أَدَاءً إنْ كَانَ لَا يَخْلُو عَنْهُ وُجُوبًا لَكِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ. وَأَمَّا الْخِلَافُ بَيْنَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَبِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي كَيْفِيَّةِ الْعَمَلِ بِالْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ الْمُتَعَارِضَةِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَأَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ» وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ وَرَدَتْ الْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ فِي فَرْضِيَّةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِعَيْنِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِعْلًا غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ عَمِلَ بِطَرِيقِ التَّنَاسُخِ فَجَعَلَ الْآخَرَ وَهُوَ حَدِيثُ الْجُمُعَةِ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَ مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُ أَنْ يُسْقِطَ الْجُمُعَةَ بِالظُّهْرِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ قَالَ: إنَّهُ قَامَ دَلِيلُ فَرْضِيَّةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِفَرْضِيَّتِهِمَا عَلَى الْجَمْعِ، وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَ إحْدَاهُمَا أَيَّتَهُمَا كَانَتْ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ فَكَانَ الْفَرْضُ إحْدَاهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِفِعْلِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ عَمِلَا بِالْأَحَادِيثِ بِطَرِيقِ التَّوْفِيقِ إذْ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثَيْنِ أَوْلَى مِنْ نَسْخِ أَحَدِهِمَا، فَقَالَا إنَّ: فَرْضَ الْوَقْتِ هُوَ الظُّهْرُ لَكِنْ أَمَرَ بِإِسْقَاطِ الظُّهْرِ بِالْجُمُعَةِ لِيَكُونَ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَلِهَذَا يَجِبُ قَضَاءُ الظُّهْرِ بَعْدَ فَوْتِ الْجُمُعَةِ وَخُرُوجِ الْوَقْتِ وَالْقَضَاءُ خَلَفٌ عَنْ الْأَدَاءِ دَلَّ أَنَّ الظُّهْرَ هُوَ الْأَصْلُ إذْ الْأَرْبَعُ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ خَلَفًا عَنْ رَكْعَتَيْنِ وَزُفَرُ يَقُولُ: لَمَّا اُنْتُسِخَ الظُّهْرُ بِالْجُمُعَةِ دَلَّ أَنَّ الْجُمُعَةَ أَصْلٌ، وَلَمَّا وَجَبَ الْقَضَاءُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِأَدَاءِ الظُّهْرِ دَلَّ أَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْجُمُعَةِ إذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ تُخَرَّجُ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ فَنَقُولُ: مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ قَبْلَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَلَمْ يَحْضُرْ الْجُمُعَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يُؤَدِّهَا يَقَعُ فَرْضًا عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ حَتَّى لَا تَلْزَمَهُ الْإِعَادَةُ خِلَافًا لِزُفَرَ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ أَدَّى فَرْضَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ هُوَ الظُّهْرُ عِنْدَهُمَا وَلَكِنَّهُ أَمَرَ بِإِسْقَاطِهِ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ الْجُمُعَةَ بَقِيَ الْفَرْضُ ذَلِكَ فَإِذَا أَدَّاهُ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَ الْوَقْتِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ. وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَعَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ، الْفَرْضُ أَحَدُهُمَا غَيْرُ عَيْنٍ وَيَتَعَيَّنُ بِفِعْلِهِ، فَإِذَا صَلَّى الظُّهْرَ تَعَيَّنَ فَرْضًا مِنْ الْأَصْلِ، وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ فَرْضُ الْوَقْتِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْجُمُعَةُ وَهِيَ الْعَزِيمَةُ لَكِنْ لَهُ أَنْ يُسْقِطَهَا بِالظُّهْرِ رُخْصَةً وَقَدْ تُرَخَّصُ بِالظُّهْرِ وَفِي قَوْلِ زُفَرَ لَمَّا كَانَ الظُّهْرُ بَدَلًا عَنْ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْبَدَلُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ كَمَا فِي التُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ وَهَهُنَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْأَصْلِ فَلَا يُجْزِيهِ الْبَدَلُ فَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْمَعْذُورُ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ أَنَّهُ يَقَعُ فَرْضًا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا عَلَى اخْتِلَافِ طُرُقِهِمْ. أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ هُوَ الظُّهْرُ إلَّا أَنَّ غَيْرَ الْمَعْذُورِ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ بِالْجُمُعَةِ عَلَى طَرِيقِ الْحَتْمِ، وَالْمَعْذُورُ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ بِالْجُمُعَةِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ وَلَمْ يَتَرَخَّصْ فَبَقِيَتْ الْعَزِيمَةُ وَهِيَ الظُّهْرُ وَقَدْ أَدَّاهَا فَتَقَعُ فَرْضًا. وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ فَرْضٌ عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْعَزِيمَةِ لَكِنْ مَعَ رُخْصَةِ التَّرْكِ وَقَدْ تُرُخِّصَ بِتَرْكِهَا بِالظُّهْرِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ فَلِأَنَّ الْمَفْرُوضَ عَلَيْهِ الظُّهْرُ بَدَلًا عَنْ الْجُمُعَةِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْمَعْذُورُ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ شَهِدَ الْجُمُعَةَ وَصَلَّاهَا مَعَ الْإِمَامِ أَنَّهُ يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ وَيَصِيرُ تَطَوُّعًا، وَفَرْضُهُ الْجُمُعَةُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ الْقَادِرَ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِ الظُّهْرِ بِالْجُمُعَةِ

فصل بيان شرائط الجمعة

وَقَدْ قَدَرَ فَإِذَا أَدَّى انْعَقَدَتْ جُمُعَتُهُ فَرْضًا وَلَا تَنْعَقِدْ فَرْضًا إلَّا بَعْدَ ارْتِفَاضِ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ فَرْضَيْ الْوَقْتِ لَا يُتَصَوَّرُ فَيَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ ضَرُورَةَ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ فَرْضًا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ عِنْدَهُ خَلَفٌ عَنْ الْجُمُعَةِ فَكَانَ شَرْطُهُ الْعَجْزَ عَنْ الْأَصْلِ وَقَدْ تَحَقَّقَ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَصَحَّ الْخَلَفُ فَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تُبْطِلُهُ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمَعْذُورِ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْجُمُعَةِ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدِهَا إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ وَكَانَ الْإِمَامُ قَدْ فَرَغَ مِنْ الْجُمُعَةِ حِينَ خَرَجَ لَا يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالثَّانِي إذَا حَضَرَ الْجَامِعَ وَشَرَعَ فِي الْجُمُعَةِ وَأَتَمَّهَا مَعَ الْإِمَامِ يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا عِنْدَ زُفَرَ فَلَا يَقَعُ ظُهْرُهُ فَرْضًا أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ خَلَفٌ فَيُشْتَرَطُ لَهُ الْعَجْزُ عَنْ الْأَصْلِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَالثَّالِثِ إذَا شُرِعَ فِي الْجُمُعَةِ ثُمَّ تَكَلَّمَ قَبْلَ إتْمَامِ الْجُمُعَةِ مَعَ الْإِمَامِ يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَرْتَفِضُ، كَذَا ذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ الِاخْتِلَافَ فِي كِتَابِ صَلَاتِهِ، وَالرَّابِعِ إذَا حَضَرَ الْجَامِعَ وَقَدْ كَانَ فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ الْجُمُعَةِ وَحِينَ خَرَجَ مِنْ الْبَيْتِ كَانَ لَمْ يَفْرُغْ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَدَاءِ بَعْضِ الْجُمُعَةِ يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ، وَكَذَا بِوُجُودِ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْجُمُعَةِ وَهُوَ السَّعْيُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَرْتَفِضُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ ارْتِفَاضَ الظُّهْرِ لِضَرُورَةِ صَيْرُورَةِ الْجُمُعَةِ فَرْضًا؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ فَرْضَيْ الْوَقْتِ لَا يَتَحَقَّقُ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يَرْتَفِضُ الظُّهْرُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِ مَا صَحَّ وَفَرَغَ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ ضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ قَبْلَ تَمَامِ الْجُمُعَةِ وَوُقُوعِهَا فَرْضًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَا أَدَّى مِنْ الْبَعْضِ انْعَقَدَ فَرْضًا وَلَمْ يَنْعَقِدْ الْفِعْلُ مِنْ الْجُمُعَةِ مَعَ بَقَاءِ الظُّهْرِ فَرْضًا فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ انْعِقَادِ هَذَا الْجُزْءِ مِنْ الْجُمُعَةِ فَرْضًا ارْتِفَاضُ الظُّهْرِ، وَكَذَا السَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ خَصَائِصِ الْجُمُعَةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِهَا وَلَنْ يَنْعَقِدَ فَرْضًا مَعَ بَقَاءِ الظُّهْرِ فَرْضًا، وَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ وُقُوعِهِ فَرْضًا ارْتِفَاضُ الظُّهْرِ، بِهِ عَلَّلَ هَذَا الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ. وَعَلَى هَذَا إذَا شَرَعَ الرَّجُلُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّ عَلَيْهِ الْفَجْرَ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ لَا تَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ الْجُمُعَةَ وَيَبْدَأَ بِالْفَجْرِ ثُمَّ بِالْجُمُعَةِ مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ تَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ وَالظُّهْرُ عَنْ الْوَقْتِ يَمْضِي فِيهَا وَلَا يَقْطَعُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ سَاقِطٌ عَنْهُ لِضِيقِ الْوَقْتِ، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ تَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ وَلَكِنْ لَا يَفُوتُهُ الظُّهْرُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يُصَلِّي الْفَجْرَ ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَلَا تُجْزِئُهُ الْجُمُعَةُ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَمْضِي فِي الْجُمُعَةِ وَلَا يَقْطَعُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ فَرْضَ الْوَقْتِ هُوَ الْجُمُعَةُ وَهُوَ يُخَافُ فَوْتَهَا لَوْ اشْتَغَلَ بِالْفَجْرِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ التَّرْتِيبُ، كَمَا لَوْ تَذَكَّرَ الْعِشَاءَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَهُوَ يُخَالِفُ طُلُوعَ الشَّمْسِ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْعِشَاءِ، وَعِنْدَهُمَا فَرْضُ الْوَقْتِ هُوَ الظُّهْرُ وَأَنَّهُ لَا يَفُوتُ بِالِاشْتِغَالِ بِالْفَائِتَةِ فَلَا يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ. فَلِلْجُمُعَةِ شَرَائِطُ، بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُصَلِّي، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِ. أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُصَلِّي فَسِتَّةٌ: الْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ وَالذُّكُورَةُ، وَالْإِقَامَةُ، وَصِحَّةُ الْبَدَنِ فَلَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الْمَجَانِينَ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ إلَّا بِإِذْنِ مَوَالِيهمْ، وَالْمُسَافِرِينَ وَالزَّمْنَى، وَالْمَرْضَى. أَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَلِأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ اخْتَصَّتْ بِشَرَائِطَ لَمْ تُشْتَرَطْ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ ثُمَّ لَمَّا كَانَا شَرْطًا لِوُجُوبِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَلَأَنْ يَكُونَا شَرْطًا لِوُجُوبِ هَذِهِ الصَّلَاةِ أَوْلَى. وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْعَبْدِ مَمْلُوكَةٌ لِمَوْلَاهُ إلَّا فِيمَا اُسْتُثْنِيَ وَهُوَ أَدَاءُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى طَرِيقِ الِانْفِرَادِ دُونَ الْجَمَاعَةِ لِمَا فِي الْحُضُورِ إلَى الْجَمَاعَةِ وَانْتِظَارِ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ مِنْ تَعْطِيلِ كَثِيرٍ مِنْ الْمَنَافِعِ عَلَى الْمَوْلَى، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَالْجِهَادُ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي السَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَانْتِظَارِ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ فَسَقَطَتْ عَنْهُ الْجُمُعَةُ. وَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَحْتَاجُ إلَى دُخُولِ الْمِصْرِ وَانْتِظَارِ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ فَيَتَخَلَّفُ عَنْ الْقَافِلَةِ فَيَلْحَقُهُ الْحَرَجُ. وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَلِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْحُضُورِ أَوْ يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِي الْحُضُورِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِخِدْمَةِ الزَّوْجِ مَمْنُوعَةٌ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى مَحَافِلِ الرِّجَالِ لِكَوْنِ الْخُرُوجِ سَبَبًا لِلْفِتْنَةِ؛ وَلِهَذَا لَا جَمَاعَةَ عَلَيْهِنَّ وَلَا جُمُعَةَ عَلَيْهِنَّ أَيْضًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إلَّا

مُسَافِرًا أَوْ مَمْلُوكًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً أَوْ مَرِيضًا فَمَنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا بِلَهْوٍ أَوْ تِجَارَةٍ اسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْهُ وَاَللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» . وَأَمَّا الْأَعْمَى فَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ قَائِدًا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَمَا لَا تَجِبُ عَلَى الزَّمِنِ وَإِنْ وَجَدَ مَنْ يَحْمِلُهُ. وَأَمَّا إذَا وَجَدَ قَائِدًا إمَّا بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ أَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ قَائِدًا فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْحَجِّ إذَا كَانَ لَهُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ قَائِدًا أَوْ وَعَدَ لَهُ إنْسَانٌ أَنْ يَقُودَهُ إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا وَجَائِيًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ، وَالْمَسْأَلَةُ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ إذَا حَضَرُوا الْجَامِعَ وَأَدَّوْا الْجُمُعَةَ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَصَلَاةُ الصَّبِيِّ تَكُونُ تَطَوُّعًا وَلَا صَلَاةَ لِلْمَجْنُونِ رَأْسًا، وَمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَغَيْرِهِمْ تُجْزِيهِمْ وَيَسْقُطُ عَنْهُمْ الظُّهْرُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَعْذَارِ وَقَدْ زَالَتْ وَصَارَ الْإِذْنُ مِنْ الْمَوْلَى مَوْجُودًا دَلَالَةً، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّ النِّسَاءُ يَجْمَعْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُقَالُ لَهُنَّ لَا تَخْرُجْنَ إلَّا تَفِلَاتٍ غَيْرَ مُتَطَيِّبَاتٍ» ، وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْحَجِّ فِي الْعَبْدِ فَإِنَّهُ لَوْ أَدَّى الْحَجَّ مَعَ مَوْلَاهُ لَا يُحْكَمُ بِجَوَازِهِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْجُمُعَةِ كَانَ نَظَرًا لِلْمَوْلَى وَالنَّظَرُ هَهُنَا فِي الْحُكْمِ بِالْجَوَازِ؛ لِأَنَّا لَوْ لَمْ نُجَوِّزْ وَقَدْ تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ عَلَى الْمَوْلَى لَوَجَبَ عَلَيْهِ الظُّهْرُ فَتَتَعَطَّلُ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ ثَانِيًا فَيَنْقَلِبُ النَّظَرُ ضَرَرًا وَذَا لَيْسَ بِحِكْمَةٍ فَتَبَيَّنَ فِي الْآخِرَةِ أَنَّ النَّظَرَ فِي الْحُكْمِ بِالْجَوَازِ فَصَارَ مَأْذُونًا دَلَالَةً كَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إذَا أَجَّرَ نَفْسَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ سَلَّمَ نَفْسَهُ لِلْعَمَلِ يَجُوزُ وَيَجِبُ كَمَالُ الْأُجْرَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، كَذَا هَذَا بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ النَّظَرَ لِلْمَوْلَى فِي الْحُكْمِ بِالْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ لِلْحَالِ بِشَيْءٍ آخَرَ إذَا لَمْ نَحْكُمْ بِجَوَازِهِ بَلْ يُخَاطَبُ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ فَلَا يَتَعَطَّلُ عَلَى الْمَوْلَى مَنَافِعُهُ فَهُوَ الْفَرْقُ. وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى غَيْرِ الْمُصَلِّي فَخَمْسَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ، الْمِصْرُ الْجَامِعُ، وَالسُّلْطَانُ، وَالْخُطْبَةُ، وَالْجَمَاعَةُ، وَالْوَقْتُ. أَمَّا الْمِصْرُ الْجَامِعُ فَشَرْطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَشَرْطُ صِحَّةِ أَدَائِهَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا حَتَّى لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ إلَّا عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ وَمَنْ كَانَ سَاكِنًا فِي تَوَابِعِهِ وَكَذَا لَا يَصِحُّ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ إلَّا فِي الْمَصْرِ وَتَوَابِعِهِ فَلَا تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ تَوَابِعِ الْمَصْرِ وَلَا يَصِحُّ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ فِيهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْمِصْرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْوُجُوبِ وَلَا لِصِحَّةِ الْأَدَاءِ فَكُلُّ قَرْيَةٍ يَسْكُنُهَا أَرْبَعُونَ رَجُلًا مِنْ الْأَحْرَارِ الْمُقِيمِينَ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ وَيُقَامُ بِهَا الْجُمُعَةُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ أَوَّلُ جُمُعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ بِالْمَدِينَةِ لَجُمُعَةٌ جُمِعَتْ بِجُوَاثَى وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى عَبْدِ الْقَيْسِ بِالْبَحْرَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَرَ يَسْأَلُهُ عَنْ الْجُمُعَةِ بِجُؤَاثَى فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ أَجْمِعْ بِهَا وَحَيْثُ مَا كُنْتَ؛ وَلِأَنَّ جَوَازَ الصَّلَاةِ مِمَّا لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» ، وَكَذَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُقِيمُ الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ» ، وَمَا رُوِيَ الْإِقَامَةُ حَوْلَهَا، وَكَذَا الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَتَحُوا الْبِلَادَ وَمَا نَصَبُوا الْمَنَابِرَ إلَّا فِي الْأَمْصَارِ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمِصْرَ شَرْطٌ؛ وَلِأَنَّ الظُّهْرَ فَرِيضَةٌ فَلَا يُتْرَكُ إلَّا بِنَصٍّ قَاطِعٍ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِتَرْكِهَا إلَّا الْجُمُعَةَ فِي الْأَمْصَارِ وَلِهَذَا لَا تُؤَدَّى الْجُمُعَةُ فِي الْبَرَارِيِّ؛ وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ مِنْ أَعْظَمِ الشَّعَائِرِ فَتَخْتَصُّ بِمَكَانِ إظْهَارِ الشَّعَائِرِ وَهُوَ الْمِصْرُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ جُؤَاثَى مِصْرٌ بِالْبَحْرَيْنِ، وَاسْمُ الْقَرْيَةِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْبَلْدَةِ الْعَظِيمَةِ؛ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِمَا اجْتَمَعَ فِيهَا مِنْ الْبُيُوتِ قَالَ تَعَالَى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] وَهِيَ مِصْرُ وَقَالَ {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ} [محمد: 13] وَهِيَ مَكَّةُ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْبَرَارِيِّ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ حَدِّ الْمِصْرِ الْجَامِعِ وَمَعْرِفَةِ مَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِهِ. أَمَّا الْمِصْرُ الْجَامِعُ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَقَاوِيلُ فِي تَحْدِيدِهِ ذَكَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْمِصْرَ الْجَامِعَ مَا أُقِيمَتْ فِيهِ الْحُدُودُ وَنُفِّذَتْ فِيهِ الْأَحْكَامُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَاتٌ ذَكَرَ فِي الْإِمْلَاءِ كُلُّ مِصْرٍ فِيهِ مِنْبَرٌ وَقَاضٍ يُنْفِذُ الْأَحْكَامَ وَيُقِيمُ الْحُدُودَ فَهُوَ مِصْرٌ جَامِعٌ تَجِبُ عَلَى أَهْلِهِ الْجُمُعَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: إذَا اجْتَمَعَ فِي قَرْيَةٍ مَنْ لَا يَسَعُهُمْ مَسْجِدٌ وَاحِدٌ بَنَى لَهُمْ الْإِمَامُ جَامِعًا وَنَصَبَ لَهُمْ مَنْ يُصَلِّي

بِهِمْ الْجُمُعَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَوْ كَانَ فِي الْقَرْيَةِ عَشْرَةُ آلَافٍ أَوْ أَكْثَرُ أَمَرْتُهُمْ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِيهَا، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْمِصْرُ الْجَامِعُ مَا يَتَعَيَّشُ فِيهِ كُلُّ مُحْتَرِفٍ بِحِرْفَتِهِ مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الِانْتِقَالِ إلَى حِرْفَةٍ أُخْرَى، وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قَالَ: أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ إذَا كَانُوا بِحَالٍ لَوْ اجْتَمَعُوا فِي أَكْبَرِ مَسَاجِدِهِمْ لَمْ يَسَعْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى احْتَاجُوا إلَى بِنَاءِ مَسْجِدِ الْجُمُعَةِ فَهَذَا مِصْرٌ تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الْمِصْرُ الْجَامِعُ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ مِصْرًا عِنْدَ ذِكْرِ الْأَمْصَارِ الْمُطْلَقَةِ، وَسُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ عَنْ حَدِّ الْمِصْرِ الَّذِي تَجُوزُ فِيهِ الْجُمُعَةُ فَقَالَ: أَنْ تَكُونَ لَهُمْ مَنَعَةٌ لَوْ جَاءَهُمْ عَدُوٌّ قَدَرُوا عَلَى دَفْعِهِ فَحِينَئِذٍ جَازَ أَنْ يُمَصَّرَ وَتَمَصُّرُهُ أَنْ يُنَصَّبَ فِيهِ حَاكِمٌ عَدْلٌ يُجْرِي فِيهِ حُكْمًا مِنْ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ خَصْمَانِ فَيَحْكُمُ بَيْنَهُمَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ بَلْدَةٌ كَبِيرَةٌ فِيهَا سِكَكٌ وَأَسْوَاقٌ وَلَهَا رَسَاتِيقُ وَفِيهَا وَالٍ يَقْدِرُ عَلَى إنْصَافِ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ بِحَشَمِهِ وَعِلْمِهِ أَوْ عِلْمِ غَيْرِهِ وَالنَّاسُ يَرْجِعُونَ إلَيْهِ فِي الْحَوَادِثِ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ تَوَابِعِ الْمِصْرِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ سَمَاعُ النِّدَاءِ إنْ كَانَ مَوْضِعًا يُسْمَعُ فِيهِ النِّدَاءُ مِنْ الْمِصْرِ فَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْمِصْرِ وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا كَانَ فِي الْقَرْيَةِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ فَعَلَيْهِمْ دُخُولُ الْمِصْرِ إذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ كُلُّ قَرْيَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِرَبَضِ الْمِصْرِ فَهِيَ مِنْ تَوَابِعِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَّصِلَةً بِالرَّبَضِ فَلَيْسَتْ مِنْ تَوَابِعِ الْمِصْرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا كَانَ خَارِجًا عَنْ عُمْرَانِ الْمِصْرِ فَلَيْسَ مِنْ تَوَابِعِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُعْتَبَرُ فِيهِ قَدْرُ مِيلٍ وَهُوَ ثَلَاثَةُ فَرَاسِخَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ قَدْرَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ فَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْمِصْرِ وَإِلَّا فَلَا، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَهُ بِسِتَّةِ أَمْيَالٍ، وَمَالِكٌ قَدَّرَهُ بِثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تَجِبُ فِي ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ، وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهَا تَجِبُ فِي أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْضُرَ الْجُمُعَةَ وَيَبِيتَ بِأَهْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا حَسَنٌ، وَيَتَّصِلُ بِهَذَا إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ بِمِنًى. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: تَجُوزُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ بِهَا إذَا كَانَ الْمُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ هُوَ الْخَلِيفَةُ، أَوْ أَمِيرُ الْعِرَاقِ، أَوْ أَمِيرُ الْحِجَازِ، أَوْ أَمِيرُ مَكَّةَ سَوَاءٌ كَانُوا مُقِيمِينَ أَوْ مُسَافِرِينَ، أَوْ رَجُلًا مَأْذُونًا مِنْ جِهَتِهِمْ، وَلَوْ كَانَ الْمُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ أَمِيرَ الْمَوْسِمِ وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ بِتَسْوِيَةِ أُمُورِ الْحُجَّاجِ لَا غَيْرُ لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ كَانَ مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ إلَّا إذَا كَانَ مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ أَمِيرِ الْعِرَاقِ أَوْ أَمِيرِ مَكَّةَ، وَقِيلَ: إنْ كَانَ مُقِيمًا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا لَا يَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ بِمِنًى وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ بِعَرَفَاتٍ وَإِنْ أَقَامَهَا أَمِيرُ الْعِرَاقِ أَوْ الْخَلِيفَةُ نَفْسُهُ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: الْخِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مِنًى مِنْ تَوَابِعِ مَكَّةَ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ مِنْ تَوَابِعِهَا وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا أَرْبَعَةَ فَرَاسِخَ وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ فِي تَقْدِيرِ التَّوَابِعِ فَأَمَّا عِنْدَنَا فَبِخِلَافِهِ عَلَى مَا مَرَّ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِصْرَ الْجَامِعَ شَرْطٌ عِنْدَنَا إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ إنَّ مِنًى لَيْسَ بِمِصْرٍ جَامِعٍ بَلْ هُوَ قَرْيَةٌ فَلَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ بِهَا كَمَا لَا تَجُوزُ بِعَرَفَاتٍ وَهُمَا يَقُولَانِ إنَّهَا تَتَمَصَّرُ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ؛ لِأَنَّ لَهَا بِنَاءً وَيُنْقَلُ إلَيْهَا الْأَسْوَاقُ وَيَحْضُرُهَا وَالٍ يُقِيمُ الْحُدُودَ وَيُنْفِذُ الْأَحْكَامَ فَالْتَحَقَ بِسَائِرِ الْأَمْصَارِ بِخِلَافِ عَرَفَاتٍ فَإِنَّهَا مَفَازَةٌ فَلَا تَتَمَصَّرُ بِاجْتِمَاعِ النَّاسِ وَحَضْرَةِ السُّلْطَانِ. وَهَلْ تَجُوزُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ خَارِجَ الْمِصْرِ مُنْقَطِعًا عَنْ الْعُمْرَانِ أَمْ لَا؟ ذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى رِوَايَةً عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا خَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِقْدَارَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ فَحَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ فَصَلَّى جَازَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ خَارِجَ الْمِصْرِ مُنْقَطِعًا عَنْ الْعُمْرَانِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْجُمُعَةِ بِمِنًى. وَأَمَّا إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعَيْنِ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُجَمِّعُوا فِي مَوْضِعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هَكَذَا ذُكِرَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ بَيْنَ مَوْضِعَيْ الْإِقَامَةِ نَهْرٌ عَظِيمٌ كَدِجْلَةَ أَوْ نَحْوِهَا فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مِصْرَيْنِ، وَقِيلَ: إنَّمَا تَجُوزُ عَلَى قَوْلِهِ إذَا كَانَ لَا جِسْرَ عَلَى النَّهْرِ فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ جِسْرٌ فَلَا؛ لِأَنَّ لَهُ حُكْمَ مِصْرٍ وَاحِدٍ وَكَانَ يَأْمُرُ بِقَطْعِ الْجِسْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْقَطِعَ الْفَصْلُ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: يَجُوزُ فِي مَوْضِعَيْنِ إذَا كَانَ الْمِصْرُ عَظِيمًا وَلَمْ يَجُزْ فِي الثَّلَاثِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ صَغِيرٌ لَا يَجُوزُ فَإِنْ أَدَّوْهَا فِي مَوْضِعَيْنِ فَالْجُمُعَةُ لِمَنْ سَبَقَ مِنْهُمَا وَعَلَى الْآخَرِينَ أَنْ يُعِيدُوا

الظُّهْرَ، وَإِنْ أَدَّوْهَا مَعًا أَوْ كَانَ لَا يَدْرِي كَيْفَ كَانَ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُمْ وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي مَوْضِعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ: لَوْ أَنَّ أَمِيرًا أَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَانْطَلَقَ هُوَ إلَى حَاجَةٍ لَهُ ثُمَّ دَخَلَ الْمِصْرَ فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ وَصَلَّى الْجُمُعَةَ قَالَ: تُجْزِئُ أَهْلَ الْمِصْرِ الْجَامِعِ وَلَا تُجْزِئُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ النَّاسَ بِذَلِكَ فَيَجُوزُ وَهَذَا كَجُمُعَةٍ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَقَالَ أَيْضًا: لَوْ خَرَجَ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلِاسْتِسْقَاءِ يَدْعُو وَخَرَجَ مَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ وَخَلَّفَ إنْسَانًا يُصَلِّي بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فَلَمَّا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ صَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ فِي الْجَبَّانَةِ وَهِيَ عَلَى قَدْرِ غَلْوَةٍ مِنْ مِصْرِهِ وَصَلَّى خَلِيفَتُهُ فِي الْمِصْرِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ قَالَ: تُجْزِئُهُمَا جَمِيعًا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ تَجُوزُ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ أَنَّهُ تَجُوزُ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَلَا تَجُوزُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ إلَى الْجَبَّانَةِ فِي الْعِيدِ وَيَسْتَخْلِفُ فِي الْمِصْرِ مَنْ يُصَلِّي بِضَعَفَةِ النَّاسِ وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمَّا جَازَ هَذَا فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فَكَذَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي اخْتِصَاصِهِمَا بِالْمِصْرِ سِيَّانِ وَلِأَنَّ الْحَرَجَ يَنْدَفِعُ عِنْدَ كَثْرَةِ الزِّحَامِ بِمَوْضِعَيْنِ غَالِبًا فَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ الْإِطْلَاقِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مَحْمُولٌ عَلَى مَوْضِعِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ. وَأَمَّا السُّلْطَانُ فَشَرْطُ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ عِنْدَنَا حَتَّى لَا يَجُوزَ إقَامَتُهَا بِدُونِ حَضْرَتِهِ أَوْ حَضْرَةِ نَائِبِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ السُّلْطَانُ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَلَا يُشْتَرَطُ لِإِقَامَتِهَا السُّلْطَانُ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَطَ الْإِمَامَ لِإِلْحَاقِ الْوَعِيدِ بِتَارِكِ الْجُمُعَةِ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ «وَلَهُ إمَامٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ وَعَدَّ مِنْ جُمْلَتِهَا الْجُمُعَةَ» ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ السُّلْطَانَ لَأَدَّى إلَى الْفِتْنَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ صَلَاةٌ تُؤَدَّى بِجَمْعٍ عَظِيمٍ وَالتَّقَدُّمُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمِصْرِ يُعَدُّ مِنْ بَابِ الشَّرَفِ وَأَسْبَابِ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ فَيَتَسَارَعُ إلَى ذَلِكَ كُلُّ مَنْ جُبِلَ عَلَى عُلُوِّ الْهِمَّةِ وَالْمَيْلِ إلَى الرِّئَاسَةِ فَيَقَعُ بَيْنَهُمْ التَّجَاذُبُ وَالتَّنَازُعُ وَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى التَّقَاتُلِ وَالتَّقَالِي فَفَوَّضَ ذَلِكَ إلَى الْوَالِي لِيَقُومَ بِهِ أَوْ يُنَصِّبَ مَنْ رَآهُ أَهْلًا لَهُ فَيَمْتَنِعُ غَيْرُهُ مِنْ النَّاسِ عَنْ الْمُنَازَعَةِ لِمَا يَرَى مِنْ طَاعَةِ الْوَالِي أَوْ خَوْفًا مِنْ عُقُوبَتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُفَوِّضْ إلَى السُّلْطَانِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تُؤَدِّي كُلُّ طَائِفَةٍ حَضَرَتْ الْجَامِعَ فَيُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِ فَائِدَةِ الْجُمُعَةِ وَهِيَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ عَلَى الْكَمَالِ، وَإِمَّا أَنْ لَا تُؤَدَّى إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَكَانَتْ الْجُمُعَةُ لِلْأَوَّلِينَ وَتَفُوتُ عَنْ الْبَاقِينَ فَاقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ أَنْ تَكُونَ إقَامَتُهَا مُتَوَجِّهَةً إلَى السُّلْطَانِ لِيُقِيمَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ عِنْدَ حُضُورِ عَامَّةِ أَهْلِ الْبَلْدَةِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، هَذَا إذَا كَانَ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ حَاضِرًا. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ إمَامًا بِسَبَبِ الْفِتْنَةِ أَوْ بِسَبَبِ الْمَوْتِ وَلَمْ يَحْضُرْ وَالٍ آخَرُ بَعْدُ حَتَّى حَضَرَتْ الْجُمُعَةُ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُجْمِعَ النَّاسُ عَلَى رَجُلٍ حَتَّى يُصَلِّيَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ ذَكَرَهُ فِي الْعُيُونِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا حُوصِرَ قَدَّمَ النَّاسُ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ. وَرُوِيَ فِي الْعُيُونِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي وَالِي مِصْرٍ مَاتَ وَلَمْ يَبْلُغْ الْخَلِيفَةَ مَوْتُهُ حَتَّى حَضَرَتْ الْجُمُعَةُ فَإِنْ صَلَّى بِهِمْ خَلِيفَةُ الْمَيِّتِ أَوْ صَاحِبُ الشَّرْطِ أَوْ الْقَاضِي أَجْزَأَهُمْ، وَإِنْ قَدَّمَ الْعَامَّةُ رَجُلًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَائِمُونَ مَقَامَ الْأَوَّلِ فِي الصَّلَاةِ حَالَ حَيَّاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ وَفَاتِهِ مَا لَمْ يُفَوِّضْ الْخَلِيفَةُ الْوِلَايَةَ إلَى غَيْرِهِ. وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ أَنَّ السُّلْطَانَ إذَا كَانَ يَخْطُبُ فَجَاءَ سُلْطَانٌ آخَرُ إنْ أَمَرَهُ أَنْ يُتِمَّ الْخُطْبَةَ يَجُوزُ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْقَدْرُ خُطْبَةً وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ؛ لِأَنَّهُ خَطَبَ بِأَمْرِهِ فَصَارَ نَائِبًا عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِتْمَامِ وَلَكِنَّهُ سَكَتَ حَتَّى أَتَمَّ الْأَوَّلُ خُطْبَتَهُ فَأَرَادَ الثَّانِي أَنْ يُصَلِّيَ بِتِلْكَ الْخُطْبَةِ لَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ، وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ أَمْرًا فَلَا يُعْتَبَرُ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَكَذَلِكَ إذَا حَضَرَ الثَّانِي وَقَدْ فَرَغَ الْأَوَّلُ مِنْ خُطْبَتِهِ فَصَلَّى الثَّانِي بِتِلْكَ الْخُطْبَةِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا خُطْبَةُ إمَامٍ مَعْزُولٍ وَلَمْ تُوجَدْ الْخُطْبَةُ مِنْ الثَّانِي وَالْخُطْبَةُ شَرْطُ هَذَا كُلِّهِ إذَا عَلِمَ الْأَوَّلُ بِحُضُورِ الثَّانِي وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَخَطَبَ وَصَلَّى وَالثَّانِي سَاكِتٌ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعْزُولًا إلَّا بِالْعِلْمِ كَالْوَكِيلِ إلَّا إذَا كَتَبَ إلَيْهِ كِتَابَ الْعَزْلِ أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا فَصَارَ مَعْزُولًا. وَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا كَانَ سُلْطَانًا فَجَمَعَ بِالنَّاسِ أَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ جَازَ، وَكَذَا إذَا كَانَ حُرًّا مُسَافِرًا وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ شَرْطُ صِحَّةِ الْجُمُعَةِ هُوَ الْإِمَامُ الَّذِي هُوَ حُرٌّ مُقِيمٌ

حكم الخطبة

حَتَّى إذَا كَانَ عَبْدًا أَوْ مُسَافِرًا لَا تَصِحُّ مِنْهُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَى الْعَبْدِ وَالْمُسَافِرِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبَعَةٌ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ الْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ وَالْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ» فَلَوْ جَمَعَ بِالنَّاسِ كَانَ مُتَطَوِّعًا فِي أَدَاءِ الْجُمُعَةِ، وَاقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ لَا يَجُوزُ وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ: «صَلَّى الْجُمُعَةَ بِالنَّاسِ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ وَكَانَ مُسَافِرًا حَتَّى قَالَ لَهُمْ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ بَعْدَ مَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ: أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ يَا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» ، وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَطِيعُوا السُّلْطَانَ وَلَوْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ أَجْدَعَ» وَلَوْ لَمْ يَصْلُحْ إمَامًا لَمْ تُفْتَرَضْ طَاعَتُهُ؛ وَلِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُمَا التَّخَلُّفَ عَنْهَا وَالِاشْتِغَالَ بِتَسْوِيَةِ أَسْبَابِ السَّفَرِ وَخِدْمَةَ الْمَوْلَى نَظَرًا فَإِذَا حَضَرَ الْجَامِعَ لَمْ يَسْلُكْ طَرِيقَةَ التَّرَخُّصِ وَاخْتَارَ الْعَزِيمَةَ فَيَعُودُ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ وَيَلْتَحِقُ بِالْأَحْرَارِ الْمُقِيمِينَ كَالْمُسَافِرِ إذَا صَامَ رَمَضَانَ فَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُفْتَرِضِ فَيَصِحُّ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ الْعَاقِلِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُمَا إقَامَةُ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَصْلُحَانِ لِلْإِمَامَةِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَفِي الْجُمُعَةِ أَوْلَى إلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ سُلْطَانًا فَأَمَرَتْ رَجُلًا صَالِحًا لِلْإِمَامَةِ حَتَّى صَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَصْلُحُ سُلْطَانًا أَوْ قَاضِيًا فِي الْجُمْلَةِ فَتَصِحُّ إمَامَتُهَا. [حُكْم الْخُطْبَة] وَأَمَّا الْخُطْبَةُ فَالْكَلَامُ فِي الْخُطْبَةِ فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ كَوْنِهَا شَرْطًا لِجَوَازِ الْجُمُعَةِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ الْخُطْبَةِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْخُطْبَةِ وَمِقْدَارِهَا، وَفِي بَيَانِ مَا هُوَ الْمَسْنُونُ فِي الْخُطْبَةِ، وَفِي بَيَانِ مَحْظُورَاتِ الْخُطْبَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهَا شَرْطًا قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَالْخُطْبَةُ ذِكْرُ اللَّهِ فَتَدْخُلُ فِي الْأَمْرِ بِالسَّعْيِ لَهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ ذِكْرُ اللَّهِ أَوْ الْمُرَادُ مِنْ الذِّكْرِ الْخُطْبَةُ وَقَدْ أَمَرَ بِالسَّعْيِ إلَى الْخُطْبَةِ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا وَكَوْنِهَا شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْجُمُعَةِ، وَعَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: إنَّمَا قُصِرَتْ الصَّلَاةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ أَخْبَرَا أَنَّ شَطْرَ الصَّلَاةِ سَقَطَ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ وَشَطْرُ الصَّلَاةِ كَانَ فَرْضًا فَلَا يَسْقُطُ إلَّا لِتَحْصِيلِ مَا هُوَ فَرْضٌ وَلِأَنَّ تَرْكَ الظُّهْرِ بِالْجُمُعَةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ وَهِيَ وُجُوبُ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ هِيَ وَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ شَرْطٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ لَا تُقَامُ بِالْخُطْبَةِ فَلَمْ تَكُنْ مِنْ أَرْكَانِهَا. وَأَمَّا وَقْتُ الْخُطْبَةِ فَوَقْتُ الْجُمُعَةِ وَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ لَكِنْ قَبْلَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا شَرْطُ الْجُمُعَةِ وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَكُونُ سَابِقًا عَلَيْهِ وَهَكَذَا فَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَقْتُ الْخُطْبَةِ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَيْضًا لَكِنَّهَا سُنَّتْ لِتَعْلِيمِ الْمَنَاسِكِ. وَأَمَّا الْخُطْبَةُ فِي الْعِيدَيْنِ فَوَقْتُهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ وَهِيَ سُنَّةٌ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْخُطْبَةِ وَمِقْدَارُهَا فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى قَصْدِ الْخُطْبَةِ، كَذَا نُقِلَ عَنْهُ فِي الْأَمَالِي مُفَسِّرًا قَلَّ الذِّكْرُ أَمْ كَثُرَ حَتَّى لَوْ سَبَّحَ أَوْ هَلَّلَ أَوْ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى قَصْدِ الْخُطْبَةِ أَجْزَأَهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الشَّرْطُ أَنْ يَأْتِيَ بِكَلَامٍ يُسَمَّى خُطْبَةً فِي الْعُرْفِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الشَّرْطُ أَنْ يَأْتِيَ بِخُطْبَتَيْنِ بَيْنَهُمَا جِلْسَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] وَهَذَا ذِكْرٌ مُجْمَلٌ فَفَسَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِعْلِهِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِخُطْبَتَيْنِ وَلَهُمَا أَنَّ الْمَشْرُوطَ هُوَ الْخُطْبَةُ وَالْخُطْبَةُ فِي الْمُتَعَارَفِ اسْمٌ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى تَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالدُّعَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ لَهُمْ فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ مُطْلَقُ ذِكْرِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى مَعْلُومٌ لَا جَهَالَةَ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ مَحْمَلًا؛ لِأَنَّهُ تَطَاوُعُ الْعَمَلُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ يَقْتَرِنُ بِهِ فَتَقْيِيدُهُ بِذِكْرٍ يُسَمَّى خُطْبَةً أَوْ بِذِكْرٍ طَوِيلٍ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَالثَّانِي أَنْ يُقَيَّدَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يُسَمَّى خُطْبَةً لَكِنَّ اسْمَ الْخُطْبَةِ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ يَقَعُ عَلَى مَا قُلْنَا فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُخْلِفَ خَطَبَ فِي أَوَّلِ جُمُعَةٍ فَلَمَّا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ارْتَجَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَنْتُمْ إلَى إمَامٍ فَعَّالٍ أَحْوَجُ مِنْكُمْ إلَى إمَامٍ قَوَّالٍ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا يُعِدَّانِ لِهَذَا الْمَكَانِ مَقَالًا وَسَتَأْتِيكُمْ الْخُطَبُ مِنْ بَعْدُ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهِ لِي وَلَكُمْ وَنَزَلَ وَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَصَلَّوْا خَلْفَهُ وَمَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ صَنِيعَهُ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَكَانَ هَذَا إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ مُطْلَقُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُطْلَقُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْخُطْبَةِ لُغَةً وَإِنْ كَانَ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ عُرْفًا، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الذِّكْرُ لُغَةً وَعُرْفًا وَقَدْ وُجِدَ أَوْ ذُكِرَ هُوَ خُطْبَةٌ لُغَةً وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ خُطْبَةً فِي الْعُرْفِ وَقَدْ أُتِيَ بِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي

مُعَامَلَاتِ النَّاسِ فَيَكُونُ دَلَالَةً عَلَى غَرَضِهِمْ. وَأَمَّا فِي أَمْرٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ لُغَةً وَقَدْ وُجِدَ، عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْكَلَامِ يُسَمَّى خُطْبَةً فِي الْمُتَعَارَفِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لِلَّذِي قَالَ مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ عَصَاهُمَا فَقَدْ غَوَى: بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ» سَمَّاهُ خَطِيبًا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْكَلَامِ. وَأَمَّا سُنَنُ الْخُطْبَةِ فَمِنْهَا أَنْ يَخْطُبَ خُطْبَتَيْنِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَخْطُبَ خُطْبَةً خَفِيفَةً يَفْتَتِحُ فِيهَا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيَتَشَهَّدُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَعِظُ وَيُذَكِّرُ وَيُقْرَأُ سُورَةً ثُمَّ يَجْلِسُ جِلْسَةً خَفِيفَةً، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ خُطْبَةً أُخْرَى يَحْمَدُ اللَّه تَعَالَى وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَيَكُونُ قَدْرُ الْخُطْبَةِ قَدْرَ سُورَةٍ مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ قَائِمًا يَجْلِسُ فِيمَا بَيْنَهُمَا جِلْسَةً خَفِيفَةً وَيَتْلُو آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ» ، وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ الْخَطِيبُ فِي خُطْبَتِهِ {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} [آل عمران: 30] ، ثُمَّ الْقَعْدَةُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ سُنَّةٌ عِنْدَنَا وَكَذَا الْقِرَاءَةُ فِي الْخُطْبَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ وَالصَّحِيحُ مَذْهَبُنَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالذِّكْرِ مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ الْقَعْدَةِ وَالْقِرَاءَةِ فَلَا تُجْعَلُ شَرْطًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْكِتَابِ وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لَهُ وَلَكِنْ يَصْلُحُ مُكَمِّلًا لَهُ، فَقُلْنَا إنَّ قَدْرَ مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ يَكُونُ فَرْضًا وَمَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يَكُونُ سُنَّةً عَمَلًا بِهِمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ خُطْبَةً وَاحِدَةً فَلَمَّا ثَقُلَ أَيْ أَسَنَّ جَعَلَهَا خُطْبَتَيْنِ وَقَعَدَ بَيْنَهُمَا فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَعْدَةَ لِلِاسْتِرَاحَةِ لَا أَنَّهُ شَرْطٌ لَازِمٌ، وَمِنْهَا الطَّهَارَةُ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ فَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ حَتَّى إنَّ الْإِمَامَ إذَا خَطَبَ وَهُوَ جُنُبٌ أَوْ مُحْدِثٌ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِجَوَازِ الْجُمُعَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ بِمَنْزِلَةِ شَطْرِ الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَثَرِ وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَيُشْتَرَطُ لَهَا الطَّهَارَةُ كَمَا تُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ، وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ شَرْطُ الطَّهَارَةِ؛ وَلِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الذِّكْرِ وَالْمُحْدِثُ وَالْجُنُبُ لَا يُمْنَعَانِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاعْتِبَارُ بِالصَّلَاةِ غَيْرُ سَدِيدٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُؤَدَّى مُسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةِ وَلَا يُفْسِدُهَا الْكَلَامُ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ إعَادَةَ الْخُطْبَةِ هَهُنَا، وَذَكَرَ فِي أَذَانِ الْجُنُبِ أَنَّهُ يُعَادُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَذَانَ إنْ تَحَلَّى بِحِلْيَةِ الصَّلَاةِ، وَهِيَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِخِلَافِ الْخُطْبَةِ فَكَانَ الْخَلَلُ الْمُتَمَكِّنُ فِي الْأَذَانِ أَشَدَّ، وَكَثِيرُ النَّقْصِ مُسْتَحَقُّ الرَّفْعِ دُونَ قَلِيلِهِ، كَمَا يُجْبَرُ نَقْصُ تَرْكِ الْوَاجِبِ بِسَجْدَتَيْ السَّهْوِ دُونَ تَرْكِ السُّنَنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِعَادَةُ مُسْتَحَبَّةً فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَذَا ذُكِرَ فِي نَوَادِرِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعِيدُهَا وَإِنْ لَمْ يُعِدْهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ هَكَذَا ذَكَرَ أَشَارَ إلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ نَظِيرَ الصَّلَاةِ فَلَا تُشْتَرَطُ لَهَا الطَّهَارَةُ إلَّا أَنَّهَا سُنَّةٌ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْوَصْلُ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ هَذِهِ السُّنَّةِ إلَّا بِالطَّهَارَةِ، وَمِنْهَا أَنْ يَخْطُبَ قَائِمًا فَالْقِيَامُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ خَطَبَ قَاعِدًا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِظَاهِرِ النَّصِّ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ قَاعِدًا حِينَ كَبِرَ وَأَسَنَّ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَّا أَنَّهُ مَسْنُونٌ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا. وَرُوِيَ أَنَّ «رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا فَقَالَ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ قَوْله تَعَالَى {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] » ، وَمِنْهَا أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ وَيَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا كَانَ يَخْطُبُ، وَكَذَا السُّنَّةُ فِي حَقِّ الْقَوْمِ أَنْ يَسْتَقْبِلُوهُ بِوُجُوهِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِسْمَاعَ وَالِاسْتِمَاعَ وَاجِبٌ لِلْخُطْبَةِ وَذَا لَا يَتَكَامَلُ إلَّا بِالْمُقَابَلَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَقْبِلُ الْإِمَامَ بِوَجْهِهِ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ الْأَذَانِ فَإِذَا أَخَذَ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ انْحَرَفَ بِوَجْهِهِ إلَيْهِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يُطَوِّلَ الْخُطْبَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِتَقْصِيرِ الْخُطَبِ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: طَوِّلُوا الصَّلَاةَ وَقَصِّرُوا الْخُطْبَةَ، وَقَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ طُولُ الصَّلَاةِ وَقِصَرُ الْخُطْبَةِ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ أَيْ أَنَّ هَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى فِقْهِ الرَّجُلِ. وَأَمَّا مَحْظُورَاتُ الْخُطْبَةِ فَمِنْهَا أَنَّهُ يُكْرَهُ الْكَلَامُ حَالَةَ الْخُطْبَةِ، وَكَذَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَكَذَا الصَّلَاةُ،. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا دَخَلَ الْجَامِعَ وَالْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «دَخَلَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ

أَصَلَّيْتَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» فَقَدْ أَمَرَهُ بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ حَالَةَ الْخُطْبَةِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] وَالصَّلَاةُ تُفَوِّتُ الِاسْتِمَاعَ وَالْإِنْصَاتَ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ الِاسْتِمَاعِ وَنُزُولِ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ سُلَيْكًا أَنْ يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ نَهَى النَّاسَ أَنْ يُصَلُّوا وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ» فَصَارَ مَنْسُوخًا أَوْ كَانَ سُلَيْكٌ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَكَذَا كُلُّ مَا شَغَلَ عَنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ مِنْ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالْكِتَابَةِ وَنَحْوِهَا بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَمِعَ وَيَسْكُتَ وَأَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] قِيلَ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي شَأْنِ الْخُطْبَةِ أَمَرَ بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَا وَمَنْ لَغَا فَلَا صَلَاةَ لَهُ» ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ وَالسُّكُوتِ فِي حَقِّ الْقَرِيبِ مِنْ الْخَطِيبِ فَأَمَّا الْبَعِيدُ مِنْهُ إذَا لَمْ يَسْمَعْ الْخُطْبَةَ كَيْفَ يَصْنَعُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْبَلْخِيّ: الْإِنْصَاتُ لَهُ أَوْلَى مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَهَكَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ، وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ أَنَّهُمَا قَالَا: إنَّ أَجْرَ الْمُنْصِتِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ مِثْلُ أَجْرِ الْمُنْصِتِ السَّامِعِ؛ وَلِأَنَّهُ فِي حَالِ قُرْبِهِ مِنْ الْإِمَامِ كَانَ مَأْمُورًا بِشَيْئَيْنِ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ، وَبِالْبُعْدِ إنْ عَجَزَ عَنْ الِاسْتِمَاعِ لَمْ يَعْجِزْ عَنْ الْإِنْصَاتِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ، وَعَنْ نُصَيْرِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ أَجَازَ لَهُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ سِرًّا، وَكَانَ الْحَكَمُ بْنُ زُهَيْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا يُنْظَرُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ وَالْإِنْصَاتَ إنَّمَا وَجَبَ عِنْدَ الْقُرْبِ لِيَشْتَرِكُوا فِي ثَمَرَاتِ الْخُطْبَةِ بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ فِيهَا، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْبَعِيدِ عَنْ الْإِمَامِ فَلْيُحْرِزْ لِنَفْسِهِ ثَوَابَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَدِرَاسَةِ كُتُبِ الْعِلْمِ وَلِأَنَّ الْإِنْصَاتَ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بَلْ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إلَى الِاسْتِمَاعِ فَإِذَا سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الِاسْتِمَاعِ سَقَطَ عَنْهُ الْإِنْصَاتُ أَيْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَيُكْرَهُ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ وَرَدُّ السَّلَامِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ فَرْضٌ، وَلَنَا أَنَّهُ تَرَكَ الِاسْتِمَاعَ الْمَفْرُوضَ وَالْإِنْصَاتَ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ لَيْسَ بِفَرْضٍ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ لِأَجْلِهِ، وَكَذَا رَدُّ السَّلَامِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِأَنَّهُ يَرْتَكِبُ بِسَلَامِهِ مَأْثَمًا فَلَا يَجِبُ الرَّدُّ عَلَيْهِ كَمَا فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ السَّلَامَ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ لَمْ يَقَعْ تَحِيَّةً فَلَا يَسْتَحِقُّ الرَّدَّ؛ وَلِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ مِمَّا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ فِي كُلِّ حَالَةٍ، أَمَّا سَمَاعُ الْخُطْبَةِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَكَانَ إقَامَتُهُ أَحَقَّ، وَنَظِيرُهُ مَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الطَّوَافَ تَطَوُّعًا بِمَكَّةَ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَالصَّلَاةُ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ أَفْضَلُ مِنْ الطَّوَافِ لِمَا قُلْنَا وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ سَمَاعَ الْخُطْبَةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَمِعَ وَلَا يُصَلِّيَ عَلَيْهِ عِنْدِ سَمَاعِ اسْمِهِ فِي الْخُطْبَةِ لِمَا أَنَّ إحْرَازَ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا يُمْكِنُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَإِحْرَازُ ثَوَابِ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فَكَانَ السَّمَاعُ أَفْضَلَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفْسِهِ عِنْدَ سَمَاعِ اسْمِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَشْغَلُهُ عَنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ فَكَانَ إحْرَازُ الْفَضِيلَتَيْنِ أَحَقَّ. وَأَمَّا الْعَاطِسُ فَهَلْ يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَشْغَلُهُ عَنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ وَكَذَا السَّلَامُ حَالَةَ الْخُطْبَةِ مَكْرُوهٌ لِمَا قُلْنَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ، فَأَمَّا عِنْدَ الْأَذَانِ الْأَخِيرِ حِينَ خَرَجَ الْإِمَامُ إلَى الْخُطْبَةِ وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْخُطْبَةِ حِينَ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ هَلْ يُكْرَهُ مَا يُكْرَهُ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ؟ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يُكْرَهُ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ خُرُوجُ الْإِمَامِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ وَكَلَامُهُ يَقْطَعُ الْكَلَامَ جَعَلَ الْقَاطِعَ لِلْكَلَامِ هُوَ الْخُطْبَةُ فَلَا يُكْرَهُ قَبْلَ وُجُودِهَا، وَلِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْكَلَامِ لِوُجُوبِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ حَالَةَ الْخُطْبَةِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا تَمْتَدُّ غَالِبًا فَيَفُوتُ الِاسْتِمَاعُ وَتَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَوْقُوفًا عَلَيْهِمَا وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَتْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ يَكْتُبُونَ النَّاسَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طَوَوْا الصُّحُفَ وَجَاءُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» فَقَدْ

أَخْبَرَ عَنْ طَيِّ الصُّحُفِ عِنْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَإِنَّمَا يَطْوُونَ الصُّحُفَ إذَا طَوَى النَّاسُ الْكَلَامَ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا تَكَلَّمُوا يَكْتُبُونَهُ عَلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وَلِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ لِلْخُطْبَةِ كَانَ مُسْتَعِدًّا لَهَا وَالْمُسْتَعِدُّ لِلشَّيْءِ كَالشَّارِعِ فِيهِ وَلِهَذَا أُلْحِقَ الِاسْتِعْدَادُ بِالشُّرُوعِ فِي كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فَكَذَا فِي كَرَاهَةِ الْكَلَامِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ غَيْرَ الْكَلَامِ يَقْطَعُ الْكَلَامَ فَكَانَ تَمَسُّكًا بِالسُّكُوتِ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَيُكْرَهُ لِلْخَطِيبِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ وَلَوْ فَعَلَ لَا تَفْسُدُ الْخُطْبَةُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ فَلَا يُفْسِدُهَا كَلَامُ النَّاسِ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ مَنْظُومَةً كَالْآذَانِ وَالْكَلَامُ يَقْطَعُ النَّظْمَ إلَّا إذَا كَانَ الْكَلَامُ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ فَلَا يُكْرَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ فَقَالَ لَهُ أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ فَقَالَ: مَا زِدْتُ حِينَ سَمِعْتُ النِّدَاءَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ فَقَالَ: وَالْوُضُوءُ أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالِاغْتِسَالِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ يَلْتَحِقُ بِالْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ فِيهَا وَعْظٌ فَلَمْ يَبْقَ مَكْرُوهًا. وَلَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَقَدَّمَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ إنْ كَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ أَوْ شَيْئًا مِنْهَا جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ شَيْئًا مِنْ الْخُطْبَةِ لَمْ يَجُزْ وَيُصَلِّي بِهِمْ الظُّهْرَ أَمَّا إذَا شَهِدَ الْخُطْبَةَ فَلِأَنَّ الثَّانِيَ قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَالْأَوَّلُ يُقِيمُ الْجُمُعَةَ فَكَذَا الثَّانِي وَكَذَا إذَا شَهِدَ شَيْئًا مِنْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَوْ وُجِدَ وَحْدَهُ وَقَعَ مُعْتَدًّا بِهِ فَكَذَا إذَا وُجِدَ مَعَ غَيْرِهِ، وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ مَأْذُونًا فِي الِاسْتِخْلَافِ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِخْلَافَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْجُمُعَةَ مُؤَقَّتَةٌ تَفُوتُ بِتَأْخِيرِهَا عِنْدَ الْعُذْرِ إذَا لَمْ يَسْتَخْلِفْ فَالْأَمْرُ بِإِقَامَتِهَا مَعَ عِلْمِ الْوَالِي أَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ عَارِضٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الْإِقَامَةِ يَكُونُ إذْنًا بِالِاسْتِخْلَافِ دَلَالَةً بِخِلَافِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ لَا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ عِنْدَ الْعُذْرِ فَانْعَدَمَ الْإِذْنُ نَصًّا وَدَلَالَةً فَهُوَ الْفَرْقُ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ فَلِأَنَّهُ مُنْشِئٌ لِلْجُمُعَةِ وَلَيْسَ بَيَانُ تَحْرِيمَتِهِ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ وَالْخُطْبَةُ شَرْطُ إنْشَاءِ الْجُمُعَةِ وَلَمْ تُوجَدُ، وَلَوْ شَرَعَ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ رَجُلًا جَاءَ سَاعَتَئِذٍ أَيْ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ جَازَ وَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْأَوَّلِ انْعَقَدَتْ لِلْجُمُعَةِ لِوُجُودِ شَرْطِهَا وَهُوَ الْخُطْبَةُ، وَالثَّانِي بَنَى تَحْرِيمَتَهُ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ، وَالْخُطْبَةُ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ فِي حَقِّ مَنْ يُنْشِئُ التَّحْرِيمَةَ فِي الْجُمُعَةِ لَا فِي حَقِّ مَنْ يَبْنِي تَحْرِيمَتَهُ عَلَى تَحْرِيمَةِ غَيْرِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُقْتَدِيَ بِالْإِمَامِ تَصِحُّ جُمُعَتُهُ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ الْخُطْبَةَ لِهَذَا الْمَعْنَى فَكَذَا هَذَا. ، وَلَوْ تَكَلَّمَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ مَا شَرَعَ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ بِهِمْ الْجُمُعَةَ إنْ كَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ فَالْقِيَاسُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ الظُّهْرَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ. وَجْهُ الْقِيَاسِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ يُنْشِئُ التَّحْرِيمَةَ فِي الْجُمُعَةِ، وَالْخُطْبَةُ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ فِي حَقِّ الْمُنْشِئِ لِتَحْرِيمَةِ الْجُمُعَةِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ الْتَحَقَ بِهِ حُكْمًا وَلَوْ تَكَلَّمَ الْأَوَّلُ اسْتَقْبَلَ بِهِمْ الْجُمُعَةَ فَكَذَا الثَّانِي. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي الْمُخْتَصَرِ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَحْدَثَ وَقَدَّمَ رَجُلًا لَمْ يَشْهَدْ الْخُطْبَةَ فَأَحْدَثَ قَبْلَ الشُّرُوعِ لَمْ يَجُزْ. وَلَوْ قَدَّمَ هَذَا الرَّجُلُ مُحْدِثًا آخَرَ قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ مِنْهُ الِاسْتِخْلَافُ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ قَدَّمَ جُنُبًا قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ فَقَدَّمَ هَذَا الْجُنُبُ رَجُلًا طَاهِرًا قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْجُنُبَ الَّذِي شَهِدَ الْخُطْبَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِقَامَةِ بِوَاسِطَةِ الِاغْتِسَالِ فَيَصِحُّ مِنْهُ الِاسْتِخْلَافُ. وَلَوْ كَانَ الْمُقَدَّمُ صَبِيًّا أَوْ مَعْتُوهًا أَوْ امْرَأَةً أَوْ كَافِرًا فَقَدَّمَ غَيْرَهُ مِمَّنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ بِخِلَافِ الْجُنُبِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْجُنُبَ أَهْلٌ لِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى اكْتِسَابِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ بِإِزَالَةِ الْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَ هَذَا اسْتِخْلَافًا لِمَنْ لَهُ قُدْرَةُ الْقِيَامِ بِمَا اُسْتُخْلِفَ عَلَيْهِ فَصَحَّ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُسْتَخْلَفُ فِيهَا، فَإِذَا قَدَّمَ هُوَ غَيْرَهُ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ اسْتَخْلَفَهُ بَعْدَ مَا صَارَ خَلِيفَةً فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِخْلَافِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ وَالْمَرْأَةِ فَإِنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَعْتُوهَ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ إمَامَةِ الرِّجَالِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى اكْتِسَابِ شَرْطِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِخْلَافُهُمْ إذْ الِاسْتِخْلَافُ شُرِعَ إبْقَاءً لِلصَّلَاةِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَاسْتِخْلَافُ مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى اكْتِسَابِ الْأَهْلِيَّةِ غَيْرُ مُفِيدٍ فَلَمْ يَصِحَّ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ اسْتِخْلَافُهُمْ كَيْفَ يَصِحُّ مِنْهُمْ اسْتِخْلَافُ ذَلِكَ الْغَيْرِ فَإِذَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ الْغَيْرُ فَكَأَنَّهُ تَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ لِالْتِحَاقِ تَقَدُّمِهِمْ بِالْعَدَمِ شَرْعًا. وَلَوْ تَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى التَّقْدِيمِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ إقَامَةَ الْجُمُعَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِمَامِ

وَالْمُتَقَدِّمُ لَيْسَ بِمَأْمُورٍ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ فَلَمْ يَجُزْ تَقَدُّمُهُ، فَأَمَّا سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فَإِقَامَتُهَا غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْإِمَامِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَخْلَفَ الْكَافِرُ مُسْلِمًا فَأَدَّى الْجُمُعَةَ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْكَافِرُ قَادِرًا عَلَى اكْتِسَابِ الْأَهْلِيَّةِ بِالْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَهُوَ يَعْتَمِدُ وِلَايَةَ السَّلْطَنَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْكَافِرِ وِلَايَةُ السَّلْطَنَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِخْلَافُهُ بِخِلَافِ الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَدَّمَ مُسَافِرًا أَوْ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا وَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ جَازَ عِنْدنَا خِلَافًا لِزُفَرَ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا هَذَا إذَا قَدَّمَ الْإِمَامُ أَحَدًا فَإِنْ لَمْ يُقَدِّمْ وَتَقَدَّمَ صَاحِبُ الشُّرَطِ أَوْ الْقَاضِي جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أُمُورِ الْعَامَّةِ وَقَدْ قَلَّدَهُمَا الْإِمَامُ مَا هُوَ مِنْ أُمُورِ الْعَامَّةِ فَنَزَلَا مَنْزِلَةَ الْإِمَامِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْإِمَامِ لِدَفْعِ التَّنَازُعِ فِي التَّقَدُّمِ وَذَا يَحْصُلُ بِتَقَدُّمِهِمَا لِوُجُودِ دَلِيلِ اخْتِصَاصِهِمَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النَّاسِ وَهُوَ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَائِبًا لِلسُّلْطَانِ وَعَامِلًا مِنْ عُمَّالِهِ، وَكَذَا لَوْ قَدَّمَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةُ التَّقَدُّمِ عَلَى مَا مَرَّ فَتَثْبُتُ وِلَايَةُ التَّقْدِيمِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَمْلِكُ إقَامَةَ الصَّلَاةِ يَمْلِكُ إقَامَةَ غَيْرِهِ مَقَامَهُ. وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَالْكَلَامُ فِي الْجَمَاعَةِ فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ كَوْنِهَا شَرْطًا لِلْجُمُعَةِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ هَذَا الشَّرْطِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا شَرْطٌ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ تُسَمَّى جُمُعَةً فَلَا بُدَّ مِنْ لُزُومِ مَعْنَى الْجُمُعَةِ فِيهِ اعْتِبَارًا لِلْمَعْنَى الَّذِي أُخِذَ اللَّفْظُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ كَمَا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَالرَّهْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ تَرْكَ الظُّهْرِ ثَبَتَ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ عَلَى مَا مَرَّ وَلِهَذَا لَمْ يُؤَدِّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُمُعَةَ إلَّا بِجَمَاعَةٍ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ هَذَا الشَّرْطِ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ لِانْعِقَادِ الْجُمُعَةِ حَتَّى لَا تَنْعَقِدَ الْجُمُعَةُ بِدُونِهَا حَتَّى إنَّ الْإِمَامَ إذَا فَرَغَ مِنْ الْخُطْبَةِ ثُمَّ نَفَرَ النَّاسُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدًا يُصَلِّي بِهِمْ فِي الظُّهْرِ دُونَ الْجُمُعَةِ، وَكَذَا لَوْ نَفَرُوا قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ فَخَطَبَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ ثُمَّ حَضَرُوا فَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ كَمَا هِيَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ حَالَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَهِيَ شَرْطُ حَالِ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ بِمَنْزِلَةِ شَفْعٍ مِنْ الصَّلَاةِ، قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إنَّمَا قُصِرَتْ الْجُمُعَةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ فَتُشْتَرَطُ الْجَمَاعَةُ حَالَ سَمَاعِهَا كَمَا تُشْتَرَط حَالَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا هَلْ هِيَ شَرْطُ بَقَائِهَا مُنْعَقِدَةً إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، وَقَالَ زُفَرُ: إنَّهَا شَرْطٌ لِلِانْعِقَادِ وَالْبَقَاءِ جَمِيعًا فَيُشْتَرَطُ دَوَامُهَا مِنْ أَوَّلِ الصَّلَاةِ إلَى آخِرِهَا كَالطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَنَحْوِهَا، حَتَّى إنَّهُمْ لَوْ نَفَرُوا بَعْدَ مَا قَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَهُ أَنْ يُتِمَّ الْجُمُعَةَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ إذَا نَفَرُوا قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَسَدَتْ الْجُمُعَةُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الظُّهْرَ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ لِهَذِهِ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ شَرْطَ الِانْعِقَادِ وَالْبَقَاءِ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ مِنْ الْوَقْتِ وَسِتْرِ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا جُعِلَ شَرْطًا لِلْعِبَادَةِ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا لِتَسَاوِي أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ إلَّا إذَا كَانَ شَرْطًا لَا يُمْكِنُ قِرَانُهُ لِجَمِيعِ الْأَجْزَاءِ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ كَالنِّيَّةِ فَتُجْعَلُ شَرْطًا لِانْعِقَادِهَا وَهُنَا لَا حَرَجَ فِي اشْتِرَاطِ دَوَامِ الْجَمَاعَةِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ فَوَاتَ هَذَا الشَّرْطِ قَبْلَ تَمَامِ الصَّلَاةِ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَكَانَ شَرْطَ الْأَدَاءِ كَمَا هُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ، وَلِهَذَا شَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ دَوَامَ هَذَا الشَّرْطِ رَكْعَةً كَامِلَةً وَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِي شَرْطِ الِانْعِقَادِ بِخِلَافِ الْمُقْتَدِي؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ هَذَا الشَّرْطِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي يُوقِعُهُ فِي الْحَرَجِ؛ لِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يُسْبَقُ بِرَكْعَةٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ فَجُعِلَ فِي حَقِّهِ شَرْطُ الِانْعِقَادِ لَا غَيْرُ وَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ لَا تَكُونَ الْجَمَاعَةُ شَرْطًا أَصْلًا لَا شَرْطَ الِانْعِقَادِ وَلَا شَرْطَ الْبَقَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الْعِبَادَةِ شَيْئًا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ تَحْصِيلَهُ لِيَكُونَ التَّكْلِيفُ بِقَدْرِ الْوُسْعِ إلَّا إذَا كَانَ شَرْطًا هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ كَالْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَلَّفِ بُدٌّ مِنْ تَحْصِيلِهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْأَدَاءِ، وَلَا وِلَايَةَ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ عَلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِ شَرْطِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَكُونَ الْجَمَاعَةُ شَرْطًا أَصْلًا إلَّا أَنَّا جَعَلْنَاهَا شَرْطًا بِالشَّرْعِ فَتُجْعَلُ شَرْطًا بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ قَبُولُ حُكْمِ الشَّرْعِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِجَعْلِهِ شَرْطَ الِانْعِقَادِ فَلَا حَاجَةَ إلَى جَعْلِهِ شَرْطَ الْبَقَاءِ وَصَارَ كَالنِّيَّةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي وُسْعِ الْمُكَلَّفِ تَحْصِيلَ النِّيَّةِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي اسْتِدَامَتِهَا حَرَجٌ جُعِلَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ دُونَ الْبَقَاءِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ فَالشَّرْطُ الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْعِبَادِ أَصْلًا أَوْلَى أَنْ لَا يُجْعَلَ شَرْطًا لِبَقَاءٍ

فَجُعِلَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ دُونَ الْبَقَاءِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ الْجَمَاعَةَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْأَدَاءِ لَا شَرْطُ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنَّهَا شَرْطُ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ حَتَّى إنَّهُمْ لَوْ نَفَرُوا بَعْدَ التَّحْرِيمَةِ قَبْلَ تَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِسَجْدَةٍ فَسَدَتْ الْجُمُعَةُ وَيَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ عِنْدَهُ كَمَا قَالَ زُفَرُ وَعِنْدَهُمَا يُتِمُّ الْجُمُعَةَ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي فَكَذَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْجَامِعِ أَنَّ تَحْرِيمَةَ الْجُمُعَةِ إذَا صَحَّتْ صَحَّ بِنَاءُ الْجُمُعَةِ عَلَيْهَا وَلِهَذَا لَوْ أَدْرَكَهُ إنْسَانٌ فِي التَّشَهُّدِ صَلَّى الْجُمُعَةَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا تَرَكَ الْقِيَاسَ هُنَاكَ بِالنَّصِّ لِمَا يُذْكَرُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ لَوْ جُعِلَتْ شَرْطَ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَتَهُ حِينَئِذٍ لَا تَنْعَقِدُ بِدُونِ مُشَارَكَةِ الْجَمَاعَةِ إيَّاهُ فِيهَا، وَذَا لَا يَحْصُل إلَّا وَأَنْ تَقَعَ تَكْبِيرَاتُهُمْ مُقَارِنَةً لِتَكْبِيرَةِ الْإِمَامِ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَتَعَذَّرُ مُرَاعَاتُهُ، وَبِالْإِجْمَاعِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِنَّهُمْ لَوْ كَانُوا حُضُورًا وَكَبَّرَ الْإِمَام ثُمَّ كَبَّرُوا صَحَّ تَكْبِيرُهُ وَصَارَ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ وَصَحَّتْ مُشَارَكَتُهُمْ إيَّاهُ فَلَمْ تُجْعَلْ شَرْطَ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ فَجُعِلَتْ شَرْطَ انْعِقَادِ الْأَدَاءِ بِخِلَافِ الْقَوْمِ فَإِنَّهُ أَمْكَنَ أَنْ تُجْعَلَ فِي حَقِّهِمْ شَرْطَ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ تَحْصُلُ مُشَارَكَتُهُمْ إيَّاهُ فِي التَّحْرِيمَةِ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ سَبَقَهُمْ الْإِمَامُ بِالتَّكْبِيرِ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْأَدَاءِ لَا شَرْطُ انْعِقَادِ التَّحْرِيمَةِ، فَانْعِقَادُ الْأَدَاءِ بِتَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِسَجْدَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ فِعْلٌ وَالْحَاجَةُ إلَى كَوْنِ الْفِعْلِ أَدَاءً لِلصَّلَاةِ، وَفِعْلُ الصَّلَاةِ هُوَ الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَمَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَا يَحْنَثْ، فَإِذَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَمْ يُوجَدْ الْأَدَاءُ فَلَمْ تَنْعَقِدْ فَشَرَطَ دَوَامَ مُشَارَكَةِ الْجَمَاعَةِ الْإِمَامَ إلَى الْفَرَاغِ عَنْ الْأَدَاءِ. وَلَوْ افْتَتَحَ الْجُمُعَةَ وَخَلْفَهُ قَوْمٌ وَنَفَرُوا مِنْهُ وَبَقِيَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَيَسْتَقْبِلُ الظُّهْرَ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ وَلَمْ تُوجَدْ، وَلَوْ جَاءَ قَوْمُ آخَرُونَ فَوَقَفُوا خَلْفَهُ ثُمَّ نَفَرَ الْأَوَّلُونَ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا اشْتِرَاطُ الْمُشَارَكَةِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ. وَأَمَّا الْمُشَارَكَةُ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي فَنَقُولُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ الْمُشَارَكَةُ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: الْمُشَارَكَةُ فِي التَّحْرِيمَةِ كَافِيَةٌ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ لَا بُدَّ مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ الْمُشَارَكَةُ فِي رُكْنٍ مِنْهَا كَافِيَةٌ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ حَتَّى أَنَّ الْمَسْبُوقَ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الْجُمُعَةِ إنْ أَدْرَكَهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى أَوْ الثَّانِيَةِ أَوْ كَانَ فِي رُكُوعِهَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا إذَا أَدْرَكَهُ فِي سُجُودِ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ فِي التَّشَهُّدِ كَانَ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِوُجُودِ الْمُشَارَكَةِ فِي التَّحْرِيمَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا فِي رِوَايَةٍ لِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي رَكْعَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ يَصِيرُ مُدْرِكًا لِوُجُودِ الْمُشَارَكَةِ فِي بَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَأَمَّا إذَا أَدْرَكَهُ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَ مَا سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَةُ السَّهْوِ وَعَادَ إلَيْهِمَا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ لِوُقُوعِ الْمُشَارَكَةِ فِي التَّحْرِيمَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَيُصَلِّي أَرْبَعًا وَلَا تَكُونُ الْأَرْبَعُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ظُهْرًا مَحْضًا، حَتَّى قَالَ: يَقْرَأُ فِي الْأَرْبَعِ كُلِّهَا، وَعَنْهُ فِي افْتِرَاضِ الْقَعْدَةِ الْأَوْلَى رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ عَنْهُ فَرْضٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُعَلَّى عَنْهُ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فَكَأَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَلَكَ طَرِيقَةَ الِاحْتِيَاطِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ فَأَوْجَبَ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْفَرْضِ بِيَقِينٍ، جُمُعَةً كَانَ الْفَرْضُ أَوْ ظُهْرًا، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْأَرْبَعُ ظُهْرٌ مَحْضٌ حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ، وَاحْتَجُّوا فِي الْمَسْأَلَةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا وَلِيُضِفْ إلَيْهَا أُخْرَى وَإِنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا صَلَّى أَرْبَعًا» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ صَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ؛ وَلِأَنَّ إقَامَةَ الْجُمُعَةِ مَقَامَ الظُّهْرِ عُرِفَ بِنَصِّ الشَّرْعِ بِشَرَائِطِ الْجُمُعَةِ، مِنْهَا الْجُمُعَةُ وَالسُّلْطَانُ وَلَمْ تُوجَدْ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ كُلُّ مَسْبُوقٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إلَّا أَنَّ مُدْرِكَ الرَّكْعَةِ يَقْضِي رَكْعَةً بِالنَّصِّ وَلَا نَصَّ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ يَسْلُكُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَسْلَكَ الِاحْتِيَاطِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» أَمَرَ الْمَسْبُوقَ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ وَإِنَّمَا فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَهِيَ رَكْعَتَانِ وَالْحَدِيثُ فِي حَدِّ الشُّهْرَةِ وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ

مقدار الجماعة في صلاة الجمعة

أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ» وَلِأَنَّ سَبَبَ اللُّزُومِ هُوَ التَّحْرِيمَةُ وَقَدْ شَارَكَ الْإِمَامُ فِي التَّحْرِيمَةِ وَبَنَى تَحْرِيمَتَهُ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْإِمَامِ فَيَلْزَمُهُ مَا لَزِمَ الْإِمَامَ كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَتَعَلُّقُهُمْ بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّ الثِّقَاتِ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ كَمَعْمَرٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ رَوَوْا أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةٍ فَقَدْ أَدْرَكَهَا، فَأَمَّا ذِكْرُ الْجُمُعَةِ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَوْ مَنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا صَلَّى أَرْبَعًا رَوَاهُ ضُعَفَاءُ أَصْحَابِهِ هَكَذَا قَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ وَلَئِنْ ثَبَتَتْ الزِّيَادَةُ فَتَأْوِيلُهَا وَإِنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا قَدْ سَلَّمُوا عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الْمَعْنَى يَبْطُلُ بِمَا إذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً، وَقَوْلُهُمْ هُنَاكَ يَقْضِي رَكْعَةً بِالنَّصِّ قُلْنَا وَهَهُنَا أَيْضًا يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الِاحْتِيَاطِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَ إنْ كَانَتْ ظُهْرًا فَلَا يُمْكِنُ بِنَاؤُهَا عَلَى تَحْرِيمَةِ عَقْدِهَا لِلْجُمُعَةِ. أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَهُ فِي التَّشَهُّدِ وَنَوَى الظُّهْرَ لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ جُمُعَةً فَالْجُمُعَةُ كَيْفَ تَكُونُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ عَلَى أَنَّهُ لَا احْتِيَاطَ إلَّا عِنْدَ ظُهُورِ فَسَادِ أَدِلَّةِ الْخُصُومِ وَصِحَّةِ دَلِيلِنَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مِقْدَار الْجَمَاعَة فِي صَلَاة الْجُمُعَةَ] وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي مِقْدَارِ الْجَمَاعَةِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: أَدْنَاهُ ثَلَاثَةٌ سِوَى الْإِمَامِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: اثْنَانِ سِوَى الْإِمَامِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ إلَّا بِأَرْبَعِينَ سِوَى الْإِمَامِ. أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَهُوَ يَحْتَجُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ قَائِدَ أَبِي حِينَ كُفَّ بَصَرُهُ فَكَانَ إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ لِأَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَقُلْتُ لَأَسْأَلَنَّهُ عَنْ اسْتِغْفَارِهِ لِأَبِي أُمَامَةَ فَبَيْنَمَا أَنَا أَقُودُهُ فِي جُمُعَةٍ إذْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ لِأَبِي أُمَامَةَ فَقُلْتُ: يلَ: إنَّ أَوَّلَ مَنْ جَمَّعَ بِنَا بِالْمَدِينَةِ أَسْعَدُ، فَقُلْت: وَكَمْ كُنْتُمْ يَوْمئِذٍ؟ فَقَالَ: كُنَّا أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَلِأَنَّ تَرْكَ الظُّهْرِ إلَى الْجُمُعَةِ يَكُونُ بِالنَّصِّ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَقَامَ الْجُمُعَةَ بِثَلَاثَةٍ. (وَلَنَا) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَخْطُبُ فَقَدِمَ عِيرٌ تَحْمِلُ الطَّعَامَ فَانْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمًا وَلَيْسَ مَعَهُ إلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ وَقَدْ أَقَامَ الْجُمُعَةَ بِهِمْ» . وَرُوِيَ أَنْ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ قَدْ أَقَامَ الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ مَعَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا؛ وَلِأَنَّ الثَّلَاثَةَ تُسَاوِي مَا وَرَاءَهَا فِي كَوْنِهَا جَمْعًا فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ جَمْعِ الْأَرْبَعِينَ بِخِلَافِ الِاثْنَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِالْجَمْعِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي حَدِيثِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ بِالْأَرْبَعِينَ وَقَعَ اتِّفَاقًا. أَلَا يَرَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَسْعَدَ أَقَامَهَا بِسَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَقَامَهَا بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا حِينَ انْفَضُّوا إلَى التِّجَارَةِ وَتَرَكُوهُ قَائِمًا» . وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ أَصْحَابِنَا فَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنْ شُرِطَ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ بِجَمَاعَةٍ وَقَدْ وُجِدَ؛ لِأَنَّهُمَا مَعَ الْإِمَامِ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ جَمْعٌ مُطْلَقٌ وَلِهَذَا يَتَقَدَّمُهُمَا الْإِمَامُ وَيَصْطَفَّانِ خَلْفَهُ وَلَهُمَا أَنَّ الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَشَرْطُ جَوَازِ صَلَاةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سِوَاهُ فَيَحْصُلَ هَذَا الشَّرْطُ ثُمَّ يُصَلِّي، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الشَّرْطُ إلَّا إذَا كَانَ سِوَى الْإِمَامِ ثَلَاثَةٌ إذْ لَوْ كَانَ مَعَ الْإِمَام ثَلَاثَةٌ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا اثْنَانِ وَالْمُثَنَّى لَيْسَ بِجَمْعٍ مُطْلَقٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ هُنَاكَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْجَوَازِ حَتَّى يَجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ تَحْصِيلُ هَذَا الشَّرْطِ غَيْرَ أَنَّهُمَا يَصْطَفَّانِ خَلَفَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَدِي تَابِعٌ لِإِمَامِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ خَلْفَهُ لِإِظْهَارِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ وَاحِدًا لَا يَقُومُ خَلْفَهُ لِئَلَّا يَصِيرَ مُنْتَبَذًا خَلْفَ الصُّفُوفِ فَيَصِيرَ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ، فَإِذَا صَارَ اثْنَيْنِ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى فَقَامَا خَلْفَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا صِفَةُ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ فَعِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ يَصْلُحْ إمَامًا لِلرِّجَالِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ فَيُشْتَرَطُ صِفَةُ الذُّكُورَةِ وَالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ لَا غَيْرُ، وَلَا تُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِقَامَةُ حَتَّى تَنْعَقِدَ الْجُمُعَةُ بِقَوْمٍ عَبِيدٍ أَوْ مُسَافِرِينَ وَلَا تَنْعَقِدُ بِالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالنِّسَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِقَامَةُ فِي صِفَةِ الْقَوْمِ فَلَا تَنْعَقِدُ بِالْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِينَ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ فَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ كَالنِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ. (وَلَنَا) أَنَّ دَرَجَةَ الْإِمَامِ أَعْلَى ثُمَّ صِفَةُ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِقَامَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْإِمَامِ لِمَا مَرَّ فَلَأَنْ لَا تُشْتَرَطَ فِي الْقَوْمِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا لَا تَجِبْ الْجُمُعَةُ عَلَى الْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِينَ إذَا لَمْ يَحْضُرُوا فَأَمَّا إذَا حَضَرُوا تَجِبُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْوُجُوبِ قَدْ زَالَ بِخِلَافِ الصِّبْيَانِ وَالنِّسْوَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [وَقْت صَلَاة الْجُمُعَةَ] وَأَمَّا الْوَقْتُ فَمِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ وَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ حَتَّى لَا يَجُوزَ تَقْدِيمُهَا عَلَى زَوَالِ الشَّمْسِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ

فصل بيان مقدار صلاة الجمعة

إلَى الْمَدِينَةِ قَالَ لَهُ: «إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ فَصَلِّ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ» وَرُوِيَ أَنَّهُ «كَتَبَ إلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الَّذِي تَتَجَهَّزُ فِيهِ الْيَهُودُ لِسَبْتِهَا فَازْدَلِفْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِرَكْعَتَيْنِ» وَمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَقَامَ الْجُمُعَةَ ضُحًى يَعْنِي بِالْقُرْبِ مِنْهُ وَمُرَادُ الرَّاوِي أَنَّهُ مَا أَخَّرَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ تَسْقُطْ الْجُمُعَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْضَى لِمَا نَذْكُرُ، وَقَالَ مَالِكُ: تَجُوزُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهَا أُقِيمَتْ مَقَامَ الظُّهْرِ بِالنَّصِّ فَيَصِيرُ وَقْتُ الظُّهْرِ وَقْتًا لِلْجُمُعَةِ، وَمَا أُقِيمَتْ مَقَامَ غَيْرِ الظُّهْرِ مِنْ الصَّلَوَاتِ فَلَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً فِي غَيْرِ وَقْتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ الشَّرَائِطِ مَذْكُورَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَذَكَرَ فِي النَّوَادِر شَرْطًا آخَرَ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ بِطَرِيقِ الِاشْتِهَارِ حَتَّى إنَّ أَمِيرًا لَوْ جَمَعَ جَيْشَهُ فِي الْحِصْنِ وَأَغْلَقَ الْأَبْوَابَ وَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ لَا تُجْزِئُهُمْ كَذَا ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ، فَإِنَّهُ قَالَ: السُّلْطَانُ إذَا صَلَّى فِي فَهَنْدَرَةٍ وَالْقَوْمُ مَعَ أُمَرَاءِ السُّلْطَانِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ قَالَ: إنْ فَتْحَ بَابَ دَارِهِ وَأَذِنَ لِلْعَامَّةِ بِالدُّخُولِ فِي فَهَنْدَرَةٍ جَازَ وَتَكُونُ الصَّلَاةُ فِي مُوضِعَيْنِ وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ لِلْعَامَّةِ وَصَلَّى مَعَ جَيْشِهِ لَا تَجُوزُ صَلَاةُ السُّلْطَانِ وَتَجُوزُ صَلَاةُ الْعَامَّةِ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا شَرْطًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ النِّدَاءَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِقَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَالنِّدَاءُ لِلِاشْتِهَارِ وَلِذَا يُسَمَّى جُمُعَةً لِاجْتِمَاعِ الْجَمَاعَاتِ فِيهَا فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْجَمَاعَاتُ كُلُّهَا مَأْذُونِينَ بِالْحُضُورِ إذْنًا عَامًّا تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الِاسْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مِقْدَارِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِهَا فَمِقْدَارُهَا رَكْعَتَانِ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ مِقْدَارَ مَا يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَلَوْ قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةِ الْجُمُعَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةِ الْمُنَافِقِينَ تَبَرُّكًا بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَسَنٌ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأْهُمَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ «قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى وَالْغَاشِيَةَ» فَإِنْ تَبَرَّكَ بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ فَنِعْمَ مَا فَعَلَ وَلَكِنْ لَا يُوَاظِبْ عَلَى قِرَاءَتِهَا بَلْ يَقْرَأْ غَيْرَهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى هَجْرِ بَعْضِ الْقُرْآنِ وَلِئَلَّا تَظُنَّهُ الْعَامَّةُ حَتْمًا، وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا لِوُرُودِ الْأَثَرِ فِيهَا بِالْجَهْرِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى سُورَةَ الْجُمُعَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ» وَلَوْ لَمْ يَجْهَرْ لَمَا سُمِعَ وَكَذَا الْأُمَّةُ تَوَارَثَتْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَرَّغُوا قُلُوبَهُمْ عَنْ الِاهْتِمَامِ لِأُمُورِ التِّجَارَةِ لِعِظَمِ ذَلِكَ الْجَمْعِ فَيَتَأَمَّلُونَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فَتَحْصُلُ لَهُمْ ثَمَرَاتُ الْقِرَاءَةِ فَيَجْهَرُ بِهَا كَمَا فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُفْسِدُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُفْسِدُهَا. وَبَيَانُ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ أَوْ فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا فَنَقُولُ: إنَّهُ يُفْسِدُ الْجُمُعَةَ مَا يُفْسِدُ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، وَاَلَّذِي يُفْسِدُهَا عَلَى الْخُصُوصِ أَشْيَاءُ، مِنْهَا خُرُوجُ وَقْتِ الظُّهْرِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا يُفْسِدُهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ فَرْضٌ مُؤَقَّتٌ بِوَقْتِ الظُّهْرِ عِنْدَ الْعَامَّةِ حَتَّى لَا يَجُوزَ أَدَاؤُهَا فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، وَعِنْدَهُ يَجُوزُ وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ، وَكَذَا خُرُوجُ الْوَقْتِ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تَفْسُدُ وَهِيَ مِنْ الْمَسَائِلِ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ وَقَدْ مَرَّتْ، وَمِنْهَا فَوْتُ الْجَمَاعَةِ الْجُمُعَةُ قَبْلَ أَنْ يُقَيِّدَ الْإِمَامُ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ بِأَنْ نَفَرَ النَّاسُ عَنْهُ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَهُمَا لَا تَفْسُدُ. وَأَمَّا فَوْتُهَا بَعْدَ تَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ فَلَا تَفْسُدُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ تَفْسُدُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسَائِلَ. وَأَمَّا حُكْمُ فَسَادِهَا فَإِنْ فَسَدَتْ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ أَوْ بِفَوْتِ الْجَمَاعَةِ يَسْتَقْبِلْ الظُّهْرَ وَإِنْ فَسَدَتْ بِمَا تَفْسُدُ بِهِ عَامَّةُ الصَّلَوَاتِ مِنْ الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَسْتَقْبِلْ الْجُمُعَةَ عِنْدَ وُجُودِ شَرَائِطهَا. وَأَمَّا إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا وَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ سَقَطَتْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ لَا تُقْضَى؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ فَاتَ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ يَتَعَذَّرُ تَحْصِيلُهَا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَتَسْقُطُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَكْتُوبَاتِ إذَا فَاتَتْ عَنْ أَوْقَاتِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَمَا يُكْرَهُ فِيهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَمَا يُكْرَهُ فِيهِ. فَالْمُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِمَنْ يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ أَنْ يَدَّهِنَ وَيَمَسَّ طِيبًا، وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ إنْ كَانَ عِنْدَهُ ذَلِكَ، وَيَغْتَسِلَ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ

فصل في أنواع الصلاة الواجبة ومنها صلاة الوتر

يَكُونَ الْمُقِيمُ لَهَا عَلَى أَحْسَنِ وَصْفٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَرِيضَةٌ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» أَوْ قَالَ: «حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» ؛ وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنْ اغْتَسَلَ فَهُوَ أَفْضَلُ» ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فَتَأْوِيلُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: كَانَ النَّاسُ عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ وَكَانُوا يَلْبَسُونَ الصُّوفَ وَيَعْرَقُونَ فِيهِ وَالْمَسْجِدُ قَرِيبُ السَّمْكِ فَكَانَ يَتَأَذَّى بَعْضُهُمْ بِرَائِحَةِ بَعْضٍ فَأُمِرُوا بِالِاغْتِسَالِ لِهَذَا، ثُمَّ اُنْتُسِخَ هَذَا حِينَ لَبِسُوا غَيْرَ الصُّوفِ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَمْ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ إظْهَارًا لِفَضِيلَتِهِ، قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَيِّدُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ» ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهَا مُؤَدَّاةٌ بِشَرَائِطَ لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا فَلَهَا مِنْ الْفَضِيلَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا، وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى بِهِ الْجُمُعَةَ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِفَضِيلَةِ الْغُسْلِ، وَعِنْدَ الْحَسَنِ يَصِيرُ مُدْرِكًا لَهَا، وَكَذَا إذَا تَوَضَّأَ وَصَلَّى بِهِ الْجُمُعَةَ ثُمَّ اغْتَسَلَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ فَأَمَّا إذَا اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَصَلَّى بِهِ الْجُمُعَةَ فَإِنَّهُ يَنَالُ فَضِيلَةَ الْغُسْلِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ لِوُجُودِ الِاغْتِسَالِ وَالصَّلَاةِ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَا يُكْرَهُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَنَقُولُ تُكْرَهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِجَمَاعَةٍ فِي الْمِصْر فِي سِجْنٍ وَغَيْرِ سِجْنٍ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهَكَذَا جَرَى التَّوَارُثُ بِإِغْلَاقِ أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْأَمْصَارِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَرَاهَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا فِي حَقِّ الْكُلِّ؛ وَلِأَنَّا لَوْ أَطْلَقْنَا لِلْمَعْذُورِ إقَامَةَ الظُّهْرِ بِالْجَمَاعَةِ فِي الْمِصْرِ فَرُبَّمَا يَقْتَدِي بِهِ غَيْرُ الْمَعْذُورِ فَيُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ جَمْعِ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ وَلِأَنَّ سَاكِنَ الْمِصْرِ مَأْمُورٌ بِشَيْئَيْنِ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِتَرْكِ الْجَمَاعَاتِ وَشُهُودِ الْجُمُعَة، وَالْمَعْذُورُ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ تَرْكُ الْجَمَاعَاتِ فَيُؤْمَرُ بِالتَّرْكِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْقُرَى فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ الظُّهْرَ بِجَمَاعَةٍ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ شُهُودُ الْجُمُعَةِ وَلِأَنَّ فِي إقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا تَقْلِيلَ جَمْعِ الْجُمُعَةِ فَكَانَ هَذَا الْيَوْمُ فِي حَقِّهِمْ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ، وَكَذَا يُكْرَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ الْبَيْعِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ مُبَاشَرَتِهِ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ النَّهْيِ الْكَرَاهَةُ. وَلَوْ بَاعَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِتَرْكِ الْبَيْعِ لَيْسَ لَعَيْنِ الْبَيْعِ بَلْ لِتَرْكِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ. [فَصْلُ فِي أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ وَمِنْهَا صَلَاةُ الْوِتْرِ] (فَصْلٌ) . وَأَمَّا فَرْضُ الْكِفَايَةِ فَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ. وَنَذْكُرُهَا فِي آخِرِ الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (فَصْلُ) . وَأَمَّا الصَّلَاةُ الْوَاجِبَةُ فَنَوْعَانِ: صَلَاةُ الْوِتْرِ، وَصَلَاةُ الْعِيدَيْنِ. (أَمَّا صَلَاةُ الْوِتْرِ) فَالْكَلَامُ فِي الْوِتْرِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ صِفَةِ الْوَتْرِ أَنَّهُ وَاجِبٌ أَمْ سُنَّةٌ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِهِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي فِيهِ وَمِقْدَارِهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُهُ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ أَوْ فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ، وَفِي بَيَانِ الْقُنُوتِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ، رَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْهُ أَنَّهُ فَرْضٌ، وَرَوَى يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَرَوَى نُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ الْمَرْوَزِيِّ فِي الْجَامِعِ عَنْهُ أَنَّهُ سَنَةٌ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالُوا: إنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ آكَدُ مِنْ سَائِرِ السُّنَنِ الْمُؤَقَّتَةِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ الْوِتْرُ وَالضُّحَى وَالْأَضْحَى» وَفِي رِوَايَةٍ «ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَهِيَ لَكُمْ سُنَّةٌ الْوِتْرُ وَالضُّحَى وَالْأَضْحَى» ، وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ صَلَوَاتٍ» ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: «صَلُّوا خَمْسَكُمْ» وَكَذَا الْمَرْوِيُّ فِي حَدِيثِ «مُعَاذٍ أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ» وَلَوْ كَانَ الْوِتْرُ وَاجِبًا لَصَارَ الْمَفْرُوضُ سِتَّ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الْوِتْرِ عَلَى الْخَمْسِ الْمَكْتُوبَاتِ نَسْخٌ لَهَا؛ لِأَنَّ الْخَمْسَ قَبْلَ الزِّيَادَةِ كَانَتْ كُلَّ وَظِيفَةِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَبَعْدَ الزِّيَادَةِ تَصِيرُ بَعْضَ الْوَظِيفَةِ فَيُنْسَخُ وَصْفُ الْكُلِّيَّةِ بِهَا، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ وَالْمَشَاهِيرِ مِنْ الْأَحَادِيثِ بِالْآحَادِ وَلِأَنَّ عَلَامَاتِ السُّنَنِ فِيهَا ظَاهِرَةٌ فَإِنَّهَا تُؤَدَّى تَبَعًا لِلْعِشَاءِ، وَالْفَرْضُ مَا لَا يَكُونُ تَابِعًا لِفَرْضٍ آخَرَ، وَلَيْسَ لَهَا وَقْتٌ وَلَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ وَلَا جَمَاعَةٌ، وَلِفَرَائِضِ الصَّلَوَاتِ أَوْقَاتٌ وَأَذَانٌ وَإِقَامَةُ جَمَاعَةٍ وَلِذَا يُقْرَأُ فِي الثَّلَاثِ

فصل بيان من تجب عليه صلاة الوتر

كُلِّهَا، وَهَذَا مِنْ أَمَارَاتِ السُّنَنِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَى خَارِجَةُ بْنُ حُذَافَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَادَكُمْ صَلَاةً أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ سَمَّاهَا زِيَادَةً وَالزِّيَادَةُ عَلَى الشَّيْءِ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا مِنْ جِنْسِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ قِرَانًا لَا زِيَادَةَ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ عَلَى الْمُقَدَّرِ وَهُوَ الْفَرْضُ، فَأَمَّا النَّفَلُ فَلَيْسَ بِمُقَدَّرٍ فَلَا تَتَحَقَّقُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى الْفَرْضِ لَكِنْ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهَا قَبْلَ ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ؟ ذَكَرَهَا مَعْرِفَةً بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْرِيفِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْعَهْدِ وَلِذَا لَمْ يَسْتَفْسِرُوهَا. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهَا مَعْهُودًا لَاسْتَفْسَرُوا فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْوُجُوبِ لَا فِي الْفِعْلِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى السُّنَنِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُؤَدَّى قَبْلَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ السُّنَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَكَذَا التَّوَعُّدُ عَلَى التَّرْكِ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّازِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ ابْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْوِتْرُ حَقٌّ وَاجِبٌ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ حَقٌّ وَاجِبٌ، وَكَذَا حَكَى الطَّحَاوِيُّ فِيهِ إجْمَاعَ السَّلَفِ وَمِثْلُهُمَا لَا يَكْذِبُ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ يُقْضَى عِنْدَهُمَا وَهُوَ أَحَدُ قَوْلِي الشَّافِعِيِّ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَنْ الْفَوَاتِ لَا عَنْ عُذْرٍ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ؛ وَلِذَا لَا يُؤَدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ بِالْإِجْمَاعِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ، وَبِعَيْنِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ وَذَا مِنْ أَمَارَاتِ الْوُجُوبِ وَالْفَرْضِيَّةِ وَلِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِالثَّلَاثِ وَالتَّنَفُّلُ بِالثَّلَاثِ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِيهِ نَفْيُ الْفَرْضِيَّةِ دُونَ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْفَرْضِيَّةِ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ وَلَكِنَّهَا وَاجِبَةٌ وَهِيَ آخِرُ أَقْوَالِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا قَبْلَ الْوُجُوبِ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْخَمْسِ، وَالْوِتْرُ عِنْدَنَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ، وَفِي هَذَا حِكَايَةٌ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ يُوسُفَ بْنَ خَالِدٍ السَّمْتِيَّ سَأَلَ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الْوِتْرِ فَقَالَ: هِيَ وَاجِبَةٌ، فَقَالَ يُوسُفُ: كَفَرْتَ يَا أَبَا حَنِيفَةَ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْل أَنْ يَتَّلْمَذَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ فَهِمَ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا فَرِيضَةٌ فَزَعَمَ أَنَّهُ زَادَ عَلَى الْفَرَائِضِ الْخَمْسِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِيُوسُفَ أَيَهُولُنِي إكْفَارُكَ إيَّايَ وَأَنَا أَعْرِفُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ كَفَرْقِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فَاعْتَذَرَ إلَيْهِ وَجَلَسَ عِنْدَهُ لِلتَّعَلُّمِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ أَعْيَانِ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَرْضًا لَمْ تَصِرْ الْفَرَائِضُ الْخَمْسُ سِتًّا بِزِيَادَةِ الْوِتْرِ عَلَيْهَا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ زِيَادَةَ الْوِتْرِ عَلَى الْخَمْسِ لَيْسَتْ نَسْخًا لَهَا؛ لِأَنَّهَا بَقِيَتْ بَعْدَ الزِّيَادَةِ كُلَّ وَظِيفَةِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَرْضًا. أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ لَا وَقْتَ لَهَا فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَهَا وَقْتٌ وَهُوَ وَقْتُ الْعِشَاءِ إلَّا أَنَّ تَقْدِيمَ الْعِشَاءِ عَلَيْهَا شَرْطٌ عِنْدَ التَّذَكُّرِ، وَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى التَّبَعِيَّةِ كَتَقْدِيمِ كُلِّ فَرْضٍ عَلَى مَا يَعْقُبُهُ مِنْ الْفَرَائِضِ، وَلِهَذَا اخْتَصَّ بِوَقْتٍ اسْتِحْسَانًا فَإِنَّ تَأْخِيرَهَا إلَى آخِرِ اللَّيْلِ مُسْتَحَبٌّ وَتَأْخِيرُ الْعِشَاءِ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ يُكْرَهُ أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ، وَذَا أَمَارَةُ الْأَصَالَةِ إذْ لَوْ كَانَتْ تَابِعَةً لِلْعِشَاءِ لَتَبِعَتْهُ فِي الْكَرَاهَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ جَمِيعًا. وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ وَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ فَلِأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَتَخْتَصُّ بِالْفَرَائِضِ الْمُطْلَقَةِ وَلِهَذَا لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي صَلَاةِ النِّسَاءِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفِ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فَلِضَرْبِ احْتِيَاطٍ عِنْدَ تَبَاعُدِ الْأَدِلَّةِ عَنْ إدْخَالِهَا تَحْتَ الْفَرَائِضِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْوِتْرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ. فَوُجُوبُهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ كَالْجُمُعَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ بَلْ يَعُمُّ النَّاسَ أَجْمَعَ مِنْ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بَعْدَ أَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَائِلِ الْوُجُوبِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ. [فَصْلٌ الْكَلَامُ فِي مِقْدَارِ صَلَاةِ الْوِتْرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي مِقْدَارِهِ. فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: الْوِتْرُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ خَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ أَوْ تِسْعٍ أَوْ أَحَدَ عَشْرَ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ وَفِي غَيْرِهِ رَكْعَةٌ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ وَمَنْ شَاءَ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ أَوْ بِخَمْسٍ» ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسِ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوتِرُ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ» ، وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ أَجْمَعَ

فصل بيان وقت الوتر

الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ ثَلَاثٌ لَا سَلَامَ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ، وَمِثْلُهُ لَا يُكَذَّبُ؛ وَلِأَنَّ الْوِتْرَ نَفْلٌ عِنْدَهُ وَالنَّوَافِلُ اتِّبَاعُ الْفَرَائِضِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهَا نَظِيرًا مِنْ الْأُصُولِ وَالرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ غَيْرُ مَعْهُودَةٍ فَرْضًا وَحَدِيثُ التَّخْيِيرِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ أَمْرِ الْوِتْرِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا. [فَصْلٌ بَيَانُ وَقْتِ الْوِتْرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِهِ. فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ أَصْلِ الْوَقْتِ، وَفِي بَيَانِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ. أَمَّا أَصْلُ الْوَقْتِ فَوَقْتُ الْعِشَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ شُرِعَ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَجُوزَ أَدَاؤُهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مَعَ أَنَّهُ وَقْتُهُ لِعَدَمِ شَرْطِهِ وَهُوَ التَّرْتِيبُ إلَّا إذَا كَانَ نَاسِيًا كَوَقْتِ أَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ وَهُوَ وَقْتُ الْفَائِتَةِ لَكِنَّهُ شُرِعَ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَقْتُهُ بَعْدَ أَدَاءِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمْ، سُنَّةٌ وَيُبْنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنَّ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ثُمَّ تَوَضَّأَ فَأَوْتَرَ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَعَادَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يُعِيدُ الْوِتْرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُعِيدُ وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَاجِبًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَانَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ الْوَقْتِ لَا تَبَعًا لِلْعِشَاءِ فَكَمَا غَابَ الشَّفَقُ دَخَلَ وَقْتُهُ كَمَا دَخَلَ وَقْتُ الْعِشَاءِ إلَّا أَنَّ وَقْتَهُ بَعْدَ فِعْلِ الْعِشَاءِ إلَّا أَنَّ تَقْدِيمَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَاجِبٌ حَالَةَ التَّذَكُّرِ فَعِنْدَ النِّسْيَانِ يَسْقُطُ كَمَا فِي الْعَصْرِ وَالظُّهْرِ الَّتِي لَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ يَجِبُ تَرْتِيبُ الْعَصْرِ عَلَى الظُّهْرِ عِنْدَ التَّذَكُّرِ، ثُمَّ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ عَلَى الظُّهْرِ عِنْدَ النِّسْيَانِ كَذَا هَذَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ وَقْتَهُ مَا ذَكَرْنَا لَا مَا بَعْدَ فِعْلِ الْعِشَاءِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُصَلِّ الْعِشَاءَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ لَزِمَهُ قَضَاءُ الْوِتْرِ كَمَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْعِشَاءِ وَلَوْ كَانَ وَقْتُهَا ذَلِكَ لَمَا وَجَبَ قَضَاؤُهَا إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ وَقْتُهَا لِاسْتِحَالَةِ تَحَقُّقِ مَا بَعْدَ فِعْلِ الْعِشَاءِ بِدُونِ فِعْلِ الْعِشَاءِ، هَذَا هُوَ تَخْرِيجُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. وَأَمَّا تَخْرِيجُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ سُنَّةً كَانَ وَقْتُهُ مَا بَعْدَ وَقْتِ الْعِشَاءِ لِكَوْنِهِ تَبَعًا لِلْعِشَاءِ كَوَقْتِ رَكْعَتِي الْفَجْرِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ: «زَادَكُمْ صَلَاةً وَجَعَلَهَا لَكُمْ مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» وَوُجُودُ مَا بَيْنَ شَيْئَيْنِ سَابِقًا عَلَى وُجُودِهِمَا مُحَالٌ، وَالْجَوَابُ أَنَّ إطْلَاقَ الْفِعْلِ بَعْدَ الْعِشَاءِ لَا يَنْفِي الْإِطْلَاقَ قَبْلَهُ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا صَلَّى الْوِتْرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الْعِشَاءَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يُعِيدُ الْوِتْرَ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يُعِيدُ، وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ أَنَّ مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ وَهُوَ ذَاكِرٌ أَنَّهُ لَمْ يُوتِرْ وَفِي الْوَقْتِ سَعَةٌ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ فِي الْعَمَلِ فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْضِ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْمَكْتُوبَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. وَلَوْ تَرَكَ الْوِتْرَ عِنْدَ وَقْتِهِ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فَكَانَ مَضْمُونًا بِالْقَضَاءِ كَالْفَرْضِ، وَعَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُشْكِلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا، وَكَذَا الْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا أَنْ لَا يَقْضِيَ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْهُمَا فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ لَكِنَّهُمَا اسْتَحْسَنَا فِي الْقَضَاءِ بِالْأَثَرِ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرٍ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إذَا ذَكَرَهُ» فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهُ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا تَذَكَّرَ فِي الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ؛ وَلِأَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَأَوْجَبَ الْقَضَاءَ احْتِيَاطًا. وَأَمَّا الْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ لِلْوِتْرِ فَهُوَ آخِرُ اللَّيْلِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ «تَارَةً كَانَ يُوتِرُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَتَارَةً فِي وَسَطِ اللَّيْلِ وَتَارَةً فِي آخِرِ اللَّيْلِ ثُمَّ صَارَ وِتْرُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ» ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِرَكْعَةٍ» وَهَذَا إذَا كَانَ لَا يَخَافُ فَوْتَهُ فَإِنْ كَانَ يَخَافُ فَوْتَهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَنَامَ إلَّا عَنْ وِتْرٍ «، وَأَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُوتِرُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَعُمَرُ كَانَ يُوتِرُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ: أَخَذْتَ بِالثِّقَةِ وَقَالَ لِعُمَرَ: أَخَذْتَ بِفَضْلِ الْقُوَّةِ» . [فَصْلٌ صِفَةُ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْوِتْرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْقِرَاءَةِ فِيهِ. فَالْقِرَاءَةُ فِيهِ فَرْضٌ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا أَمَّا عِنْدَهُمْ فَلَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّهُ نَفْلٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا لَكِنَّ الْوَاجِبَ مَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَرْضٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَفْلٌ لَكِنْ يُرَجَّحُ جِهَةُ الْفَرْضِيَّةِ فِيهِ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ فَيُجْعَلُ وَاجِبًا مَعَ احْتِمَالِ النَّفْلِيَّةِ فَإِنْ كَانَ فَرْضًا يُكْتَفَى بِالْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهُ كَمَا فِي الْمَغْرِبِ، وَإِنْ كَانَ نَفْلًا يُشْتَرَطُ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا كَمَا فِي النَّوَافِلِ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي وُجُوبِهَا فِي الْكُلِّ لَمْ يَذْكُرْ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ قَدْرَ

فصل في القنوت

الْقِرَاءَةِ فِي الْوِتْرِ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ: وَمَا قَرَأَ فِي الْوِتْرِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَبَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَرَأَ فِي الْوِتْرِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَفِي الثَّانِيَةِ بِقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَةِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوَقِّتَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ فِي الْوِتْرِ لِمَا مَرَّ، وَلَوْ قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وَفِي الثَّانِيَةِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وَفِي الثَّالِثَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] اتِّبَاعًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ حَسَنًا لَكِنْ لَا يُوَاظِبْ عَلَيْهِ كَيْ لَا يَظُنَّهُ الْجُهَّالُ حَتْمًا، ثُمَّ إذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ ثُمَّ أَرْسَلَهُمَا ثُمَّ يَقْنُتُ. أَمَّا التَّكْبِيرُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْنُتَ كَبَّرَ وَقَنَتَ» . وَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَرْفَعْ الْيَدَيْنِ إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا الْقُنُوتَ. وَأَمَّا الْإِرْسَالُ فَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي الْقُنُوت] (فَصْلٌ) : وَأُمَّا الْقُنُوتُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي صِفَةِ الْقُنُوتِ، وَمَحَلِّ أَدَائِهِ، وَمِقْدَارِهِ وَدُعَائِهِ، وَحُكْمِهِ إذَا فَاتَ عَنْ مَحِلِّهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْقُنُوتُ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا سُنَّةٌ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي أَصْلِ الْوِتْرِ. وَأَمَّا مَحَلُّ أَدَائِهِ فَالْوِتْرُ فِي جَمِيعِ السُّنَّةِ قَبْلَ الرُّكُوعِ عِنْدَنَا، وَقَدْ خَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ: يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَلَا يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ إلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَاحْتَجَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ «يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَكَانَ يَدْعُو عَلَى قَبَائِلَ» ، وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَنَتَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ شَهْرًا كَانَ يَدْعُو فِي قُنُوتِهِ عَلَى رَعْلٍ وَذَكْوَانَ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَكَانَ مَنْسُوخًا» دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ» وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ صَلَّيْتُ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَخَلْفَ عُمَرَ كَذَلِكَ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْهُمَا يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَاحْتَجَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَمَرَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ بِالْإِمَامَةِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ أَمَرَهُ بِالْقُنُوتِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْهُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: «رَاعَيْنَا صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاللَّيْلِ يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ» وَلَمْ يَذْكُرُوا وَقْتًا فِي السُّنَّةِ، وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ طَوَّلَ الْقِيَامَ بِالْقِرَاءَةِ، وَطُولُ الْقِيَامِ يُسَمَّى قُنُوتًا؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقُنُوتَ فِي الْوِتْرِ وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ إمَامَةَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ كَانَتْ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ حَالُهُ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْهُمْ بِخِلَافِهِ، وَاسْتَدَلَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ قَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ بَعْدَ الرُّكُوعِ» فَقَاسَ عَلَيْهِ الْقُنُوتَ فِي الْوِتْرِ، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «قُنُوتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْوِتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ» ، وَاسْتِدْلَالُهُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالْمَنْسُوخِ عَلَى مَا مَرَّ. وَأَمَّا مِقْدَارُ الْقُنُوتِ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ مِقْدَارَ الْقِيَامِ فِي الْقُنُوتِ مِقْدَارُ سُورَةِ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] ، وَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يَقْرَأُ فِي الْقُنُوتِ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ، اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَكِلَاهُمَا عَلَى مِقْدَارِ هَذِهِ السُّورَةِ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ لَا يُطَوِّلُ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ» . وَأَمَّا دُعَاءُ الْقُنُوتِ فَلَيْسَ فِي الْقُنُوتِ دُعَاءٌ مُوَقَّتٌ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَدْعِيَةٌ مُخْتَلِفَةً فِي حَالِ الْقُنُوتِ؛ وَلِأَنَّ الْمُوَقَّتَ مِنْ الدُّعَاءِ يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الدَّاعِي مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجِهِ إلَى إحْضَارِ قَلْبِهِ وَصِدْقِ الرَّغْبَةِ مِنْهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَبْعُدُ عَنْ الْإِجَابَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تَوْقِيتَ فِي الْقِرَاءَةِ لِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ فَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ أَوْلَى، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: التَّوْقِيتُ فِي الدُّعَاءِ يُذْهِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخُنَا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لَيْسَ فِي الْقُنُوتِ دُعَاءٌ مُوَقَّتٌ مَا سِوَى قَوْلِهِ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا فِي الْقُنُوتِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَهُ. وَلَوْ قَرَأَ غَيْرَهُ جَازَ وَلَوْ قَرَأَ مَعَهُ غَيْرَهُ كَانَ حَسَنًا، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَ بَعْدَهُ مَا عَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قُنُوتِهِ «اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ» إلَى آخِرِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَفْضَلُ فِي الْوِتْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ دُعَاءٌ مُوَقَّتٌ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ رُبَّمَا

فصل بيان ما يفسد الوتر وبيان حكمه إذا فسد

يَكُونُ جَاهِلًا فَيَأْتِي بِدُعَاءٍ يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ فَيُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّوْقِيتَ فِي الدُّعَاءِ يُذْهِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ مَحْمُولٌ عَلَى أَدْعِيَةِ الْمَنَاسِكِ دُونَ الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا صِفَةُ دُعَاءِ الْقُنُوتِ مِنْ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ غَيْرَهُ وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ وَإِنْ شَاءَ أَسَرَّ كَمَا فِي الْقِرَاءَةِ وَإِنْ كَانَ إمَامًا يَجْهَرُ بِالْقُنُوتِ لَكِنْ دُونَ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْقَوْمُ يُتَابِعُونَهُ هَكَذَا إلَى قَوْلِهِ إنَّ عَذَابَكَ بِالْكُفَّارِ مُلْحَقٌ، وَإِذَا دَعَا الْإِمَامُ بَعْدَ ذَلِكَ هَلْ يُتَابِعُهُ الْقَوْمُ؟ ذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى اخْتِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُتَابِعُونَهُ وَيَقْرَءُونَ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَقْرَءُونَ وَلَكِنْ يُؤَمِّنُونَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ شَاءَ الْقَوْمُ سَكَتُوا. وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقُنُوتِ فَقَدْ قَالَ: أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ لَا يَفْعَلُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَهَا، وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: يَأْتِي بِهَا؛ لِأَنَّ الْقُنُوتَ دُعَاءٌ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَهُ فِي الْفَتَاوَى هَذَا كُلُّهُ مَذْكُورٌ فِي شَرْحِ الْقَاضِي مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ، وَاخْتَارَ مَشَايِخُنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ الْإِخْفَاءَ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ جَمِيعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ الدُّعَاءِ الْخَفِيُّ» . وَأَمَّا حُكْمُ الْقُنُوتِ إذَا فَاتَ عَنْ مَحِلِّهِ فَنَقُولُ: إذَا نَسِيَ الْقُنُوتَ حَتَّى رَكَعَ ثُمَّ تَذَكَّرَ بَعْدَ مَا رَفْعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ لَا يَعُودُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقُنُوتُ وَإِنْ كَانَ فِي الرُّكُوعِ فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يَعُودُ إلَى الْقُنُوتِ؛ لِأَنَّهُ لَهُ شَبَهًا بِالْقِرَاءَةِ فَيَعُودُ كَمَا لَوْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ أَوْ السُّورَةَ. وَلَوْ تَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَ مَا رَفْعَ رَأْسَهُ مِنْهُ أَنَّهُ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ أَوْ السُّورَةَ يَعُودُ وَيُنْتَقَضُ رُكُوعُهُ كَذَا هَهُنَا وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الرُّكُوعَ يَتَكَامَلُ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ لَا يُعْتَبَرُ بِدُونِ الْقِرَاءَةِ أَصْلًا فَيَتَكَامَلُ بِتَكَامُلِ الْقِرَاءَةِ، وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ عَلَى التَّعْيِينِ وَاجِبَةٌ فَيُنْتَقَضُ الرُّكُوعُ بِتَرْكِهَا فَكَانَ نَقْضُ الرُّكُوعِ لِلْأَدَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ وَالْأَحْسَنِ فَكَانَ مَشْرُوعًا فَأَمَّا الْقُنُوتُ فَلَيْسَ مِمَّا يَتَكَامَلُ بِهِ الرُّكُوعُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا قُنُوتَ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ؟ وَالرُّكُوعُ مُعْتَبَرٌ بِدُونِهِ فَلَمْ يَكُنْ النَّقْضُ لِلتَّكْمِيلِ لِكَمَالِهِ فِي نَفْسِهِ. وَلَوْ نُقِضَ كَانَ النَّقْضُ لِأَدَاءِ الْقُنُوتِ الْوَاجِبِ وَلَا يَجُوزُ نَقْضُ الْفَرْضِ لِتَحْصِيلِ الْوَاجِبِ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَلَا يَقْنُتُ فِي الرُّكُوعِ أَيْضًا بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ إذَا تَذَكَّرَهَا فِي حَالِ الرُّكُوعِ حَيْثُ يُكَبِّرُ فِيهِ، وَالْفَرْقُ أَنْ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ لَمْ تَخْتَصَّ بِالْقِيَامِ الْمَحْضِ. أَلَا تَرَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ يُؤْتَى بِهَا فِي حَالِ الِانْحِطَاطِ؟ وَهِيَ مَحْسُوبَةٌ مِنْ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، فَإِذَا جَازَ أَدَاءُ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فِي غَيْرِ مَحْضِ الْقِيَامِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ جَازَ أَدَاءُ الْبَاقِي مَعَ قِيَامِ الْعُذْرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَأَمَّا الْقُنُوتُ فَلَمْ يُشْرَعْ إلَّا فِي مَحْضِ الْقِيَامِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الرُّكُوعِ الَّذِي هُوَ قِيَامٌ مِنْ وَجْهٍ. وَلَوْ أَنَّهُ عَادَ إلَى الْقِيَامِ وَقَنَتَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْتَقَضَ رُكُوعُهُ عَلَى قِيَاسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَادَ إلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَوْ السُّورَةِ حَيْثُ يُنْتَقَضُ رُكُوعُهُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ مَحَلَّ الْقِرَاءَةِ قَائِمٌ مَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَعُودُ فَإِذَا عَادَ وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ أَوْ السُّورَةَ وَقَعَ الْكُلُّ فَرْضًا؟ فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْفَرَائِضِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِنَقْضِ الرُّكُوعِ بِخِلَافِ الْقُنُوتِ؛ لِأَنَّ مَحِلَّهُ قَدْ فَاتَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَعُودُ؟ فَإِذَا عَادَ فَقَدْ قَصَدَ نَقْضَ الْفَرْضِ لِتَحْصِيلِ وَاجِبٍ فَاتَ عَلَيْهِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ. وَلَوْ عَادَ إلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَوْ السُّورَةِ فَقَرَأَهَا وَرَكَعَ مَرَّةً أُخْرَى فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ فِي الرُّكُوعِ الثَّانِي كَانَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ. وَلَوْ كَانَ أَتَمَّ قِرَاءَتَهُ وَرَكَعَ فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ فَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنْهُ يَعُودُ فَيَقْرَأُ وَيُعِيدُ الْقُنُوتَ وَالرُّكُوعَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ هَهُنَا حَصَلَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ أَصْلًا وَلَوْ حَصَلَ قَبْلَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَوْ السُّورَةِ يَعُودُ وَيُعِيدُ الرُّكُوعَ فَهَهُنَا أَوْلَى. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُفْسِدُ الْوِتْر وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُفْسِدُهُ، وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ أَوْ فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ. أَمَّا مَا يُفْسِدُهُ وَحُكْمُهُ إذَا فَسَدَ فَمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَإِذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ يَقْضِي عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقَاوِيلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ] (فَصْلٌ) : (وَأَمَّا صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ) فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَمْ سُنَّةٌ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِهَا وَجَوَازِهَا، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ أَدَائِهَا، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهَا وَكَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُهَا، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ أَوْ فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْعِيدِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ نَصَّ الْكَرْخِيُّ عَلَى الْوُجُوبِ فَقَالَ

فصل شرائط وجوب وجواز صلاة العيدين

وَتَجِبُ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ كَمَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَجِبُ صَلَاةُ الْعِيدِ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يُصَلَّى التَّطَوُّعُ بِالْجَمَاعَةِ مَا خَلَا قِيَامَ رَمَضَانَ وَكُسُوفَ الشَّمْسِ، وَصَلَاةُ الْعِيدِ تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ فَلَوْ كَانَتْ سُنَّةً وَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لَاسْتَثْنَاهَا كَمَا اسْتَثْنَى التَّرَاوِيحَ وَصَلَاةَ الْكُسُوفِ وَسَمَّاهُ سُنَّةً فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْعِيدَيْنِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَالْأَوَّلُ سُنَّةٌ وَهَذَا اخْتِلَافٌ مِنْ حَيْثُ الْعِبَارَةُ فَتَأْوِيلُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ بِالسُّنَّةِ أَمْ هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ السُّنَّةِ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ بَعْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِهَا، وَذَكَرَ أَبُو مُوسَى الضَّرِيرُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهَا سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهَا بَدَلُ صَلَاةِ الضُّحَى وَتِلْكَ سُنَّةٌ فَكَذَا هَذِهِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ صَلِّ صَلَاةَ الْعِيدِ وَانْحَرْ الْجَزُورَ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وقَوْله تَعَالَى {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] قِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ؛ وَلِأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَلَوْ كَانَتْ سُنَّةً فَرُبَّمَا اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِهَا فَيَفُوتُ مَا هُوَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَكَانَتْ وَاجِبَةً صِيَانَةً لِمَا هُوَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ عَنْ الْفَوْتِ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ وُجُوبِ وَجَوَازِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهَا وَجَوَازِهَا فَكُلُّ مَا هُوَ شَرْطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَجَوَازِهَا فَهُوَ شَرْطُ وُجُوبِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَجَوَازِهَا مِنْ الْإِمَامِ وَالْمِصْرِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْوَقْتِ إلَّا الْخُطْبَةَ فَإِنَّهَا سُنَّةٌ بَعْدَ الصَّلَاةِ. وَلَوْ تَرْكَهَا جَازَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ. أَمَّا الْإِمَامُ فَشَرْطٌ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَكَذَا الْمِصْرُ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ نَفْسَ الْفِطْرِ وَنَفْسَ الْأَضْحَى وَنَفْسَ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجَدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بَلْ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ؛ وَلِأَنَّهَا مَا ثَبَتَتْ بِالتَّوَارُثِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إلَّا فِي الْأَمْصَارِ، وَيَجُوزُ أَدَاؤُهَا فِي مَوْضِعَيْنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجُمُعَةِ، وَالْجَمَاعَةُ شَرْطٌ؛ لِأَنَّهَا مَا أُدِّيَتْ إلَّا بِجَمَاعَةٍ وَالْوَقْتُ شَرْطٌ فَإِنَّهَا لَا تُؤَدَّى إلَّا فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ بِهِ جَرَى التَّوَارُثُ، وَكَذَا الذُّكُورَةُ، وَالْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَصِحَّةُ الْبَدَنِ، وَالْإِقَامَةُ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِهَا كَمَا هِيَ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْعَبِيدِ بِدُونِ إذْنِ مَوَالِيهِمْ وَالزَّمْنَى وَالْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ، كَمَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ لِمَا ذَكَرْنَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْذَارَ لَمَّا أَثَّرَتْ فِي إسْقَاطِ الْفَرْضِ فَلَأَنْ تُؤَثِّرَ فِي إسْقَاطِ الْوَاجِبِ أَوْلَى، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ عَبْدَهُ عَنْ حُضُورِ الْعِيدَيْنِ كَمَا لَهُ مَنْعُهُ عَنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ لِمَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ. وَأَمَّا النِّسْوَةُ فَهَلْ يُرَخَّصُ لَهُنَّ أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْعِيدَيْنِ؟ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَخَّصُ لِلشَّوَابِّ مِنْهُنَّ الْخُرُوجُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَشَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] وَالْأَمْرُ بِالْقَرَارِ نَهْيٌ عَنْ الِانْتِقَالِ وَلِأَنَّ خُرُوجَهُنَّ سَبَبُ الْفِتْنَةِ بِلَا شَكٍّ، وَالْفِتْنَةُ حَرَامٌ، وَمَا أَدَّى إلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ. وَأَمَّا الْعَجَائِزُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يُرَخَّصُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالْعِيدَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْجُمُعَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُرَخَّصُ لَهُنَّ فِي ذَلِكَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُرَخَّصُ لَهُنَّ فِي ذَلِكَ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَنْعَ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ بِسَبَبِ خُرُوجِهِنَّ، وَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعَجَائِزِ وَلِهَذَا أَبَاحَ أَبُو حَنِيفَةَ خُرُوجَهُنَّ فِي غَيْرِهِمَا مِنْ الصَّلَوَاتِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَقْتُ انْتِشَارِ الْفُسَّاقِ فِي الْمَحَالِّ وَالطُّرُقَاتِ فَرُبَّمَا يَقَعُ مَنْ صَدَقَتْ رَغْبَتُهُ فِي النِّسَاءِ فِي الْفِتْنَةِ بِسَبَبِهِنَّ أَوْ يَقَعْنَ هُنَّ فِي الْفِتْنَةِ لِبَقَاءِ رَغْبَتِهِنَّ فِي الرِّجَالِ وَإِنْ كَبِرْنَ، فَأَمَّا فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَالْهَوَاءُ مُظْلِمٌ وَالظُّلْمَةُ تَحُولُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ نَظَرِ الرِّجَالِ، وَكَذَا الْفُسَّاقُ لَا يَكُونُونَ فِي الطَّرَقَاتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ، وَفِي الْأَعْيَادِ وَإِنْ كَانَ تَكْثُرُ الْفُسَّاقُ تَكْثُرُ الصُّلَحَاءُ أَيْضًا فَتَمْنَعُ هَيْبَةُ الصُّلَحَاءِ أَوْ الْعُلَمَاءِ إيَّاهُمَا عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْمَأْثَمِ، وَالْجُمُعَةُ فِي الْمِصْرِ فَرُبَّمَا تَصْدِمُ أَوْ تُصْدَمُ لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ وَفِي ذَلِكَ فِتْنَةٌ. وَأَمَّا صَلَاةُ الْعِيدِ فَإِنَّهَا تُؤَدَّى فِي الْجَبَّانَةِ فَيُمْكِنُهَا أَنْ تَعْتَزِلَ نَاحِيَةً عَنْ الرِّجَالِ كَيْ لَا تُصْدَمَ فَرَخَّصَ لَهُنَّ الْخُرُوجَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ هَذَا الْخِلَافُ فِي الرُّخْصَةِ وَالْإِبَاحَةِ فَأَمَّا لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ لَا يَخْرُجْنَ فِي صَلَاةٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي دَارِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي دَارِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي

فصل بيان وقت أداء صلاة العيدين

بَيْتِهَا» ثُمَّ إذَا رُخِّصَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ هَلْ يُصَلِّينَ؟ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُصَلِّينَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخُرُوجِ هُوَ الصَّلَاةُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلِيَخْرُجْنَ إذَا خَرَجْنَ تَفِلَاتٍ أَيْ غَيْرَ مُتَطَيِّبَاتٍ» ، وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُصَلِّينَ الْعِيدَ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُنَّ لِتَكْثِيرِ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كُنَّ النِّسَاءُ يَخْرُجْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى ذَوَاتُ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَائِضَ لَا تُصَلِّي فَعُلِمَ أَنَّ خُرُوجَهُنَّ كَانَ لِتَكْثِيرِ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ فِي زَمَانِنَا. وَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا حَضَرَ مَعَ مَوْلَاهُ الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةَ لِيَحْفَظَ دَابَّتَهُ هَلْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِغَيْرِ رِضَاهُ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ لَا يُخِلُّ بِحَقِّ مَوْلَاهُ فِي إمْسَاكِ دَابَّتِهِ. وَأَمَّا الْخُطْبَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بَعْدَ الصَّلَاةِ وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَكُونُ سَابِقًا عَلَيْهِ أَوْ مُقَارِنًا لَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا تُؤَدَّى بَعْدَ الصَّلَاةِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَانُوا يَبْدَءُونَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ» وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَبَدَءُوا بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَلَمْ يُؤَذِّنُوا وَلَمْ يُقِيمُوا» وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ لِتَعْلِيمِ مَا يَجِبُ إقَامَتُهُ يَوْمَ الْعِيدِ وَالْوَعْظِ وَالتَّكْبِيرِ فَكَانَ التَّأْخِيرُ أَوْلَى لِيَكُونَ الِامْتِثَالُ أَقْرَبَ إلَى زَمَانِ التَّعْلِيمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ مَا رُوِيَ أَنَّ «مَرْوَانَ لَمَّا خَطَبَ الْعِيدَ قَبْلَ الصَّلَاةِ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ أَخْرَجْتَ الْمِنْبَرَ يَا مَرْوَانُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَطَبْتَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَالَ مَرْوَانُ ذَاكَ شَيْءٌ قَدْ تُرِكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَمَا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» أَيْ أَقَلُّ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا أَحْدَثَ بَنُو أُمَيَّةَ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي خُطْبَتِهِمْ بِمَا لَا يَحِلُّ وَكَانَ النَّاسُ لَا يَجْلِسُونَ بَعْدَ الصَّلَاةِ لِسَمَاعِهَا فَأَحْدَثُوهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ لِيَسْمَعَهَا النَّاسُ، فَإِنْ خَطَبَ أَوَّلًا ثُمَّ صَلَّى أَجْزَأَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْخُطْبَةَ أَصْلًا أَجْزَأَهُمْ فَهَذَا أَوْلَى. وَكَيْفِيَّةُ الْخُطْبَةِ فِي الْعِيدَيْنِ كَهِيَ فِي الْجُمُعَةِ فَيَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جِلْسَةً خَفِيفَةً وَيَقْرَأُ فِيهَا سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ وَيَسْتَمِعُ لَهَا الْقَوْمُ وَيُنْصِتُوا لِأَنَّهُ يُعَلِّمُهُمْ الشَّرَائِعَ وَيَعِظُهُمْ وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ إذَا اسْتَمَعُوا، وَلَيْسَ فِي الْعِيدَيْنِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّيْتُ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ» وَهَكَذَا جَرَى التَّوَارُثُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَلِأَنَّهُمَا شَرْعًا عَلَمًا عَلَى الْمَكْتُوبَةِ وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِمَكْتُوبَةٍ. [فَصْلٌ بَيَانُ وَقْتِ أَدَاء صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ أَدَائِهَا فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقْتَ صَلَاةِ الْعِيدِ: مِنْ حِينِ تَبْيَضُّ الشَّمْسُ إلَى أَنْ تَزُولَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الْعِيدَ وَالشَّمْسُ عَلَى قَدْرِ رُمْحٍ، أَوْ رُمْحَيْنِ وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمًا شَهِدُوا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى مِنْ الْغَدِ. وَلَوْ جَازَ الْأَدَاءُ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّأْخِيرِ مَعْنًى؛ وَلِأَنَّهُ الْمُتَوَارَثُ فِي الْأُمَّةِ فَيَجِبُ اتِّبَاعَهُمْ، فَإِنْ تَرَكَهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي عِيدِ الْفِطْرِ بِغَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى زَالَتْ الشَّمْسُ سَقَطَتْ أَصْلًا سَوَاءٌ تَرَكَهَا لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ. وَأَمَّا فِي عِيدِ الْأَضْحَى فَإِنْ تَرَكَهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ صَلَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، سَوَاءٌ كَانَ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ غَيْرَ أَنَّ التَّأْخِيرَ إذَا كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ تَلْحَقُهُ الْإِسَاءَةُ وَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ لَا تَلْحَقُهُ الْإِسَاءَةُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا تُؤَدَّى إلَّا فِي يَوْمِ عِيدٍ؛ لِأَنَّهَا عُرِفَتْ بِالْعِيدِ فَيُقَالُ صَلَاةٌ لِعِيدٍ، إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا الْأَدَاءَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فِي عِيدِ الْفِطْرِ بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا وَالنَّصِّ الَّذِي وَرَدَ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ فَبَقِيَ مَا رَوَاهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا الْأَدَاءَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فِي عِيدِ الْأَضْحَى اسْتِدْلَالًا بِالْأُضْحِيَّةِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَكَذَا صَلَاةُ الْعِيدِ؛ لِأَنَّهَا مَعْرُوفَةٌ بِوَقْتِ الْأُضْحِيَّةَ فَتَتَقَيَّدُ بِأَيَّامِهَا وَأَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ ثَلَاثَةٌ، وَيَمْضِي ذَلِكَ كُلُّهُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَالْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِلنَّحْرِ خَاصَّةً، وَالْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ لِلتَّشْرِيقِ خَاصَّةً، وَالْيَوْمَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا لِلنَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ جَمِيعًا.

فصل بيان قدر صلاة العيدين وكيفية أدائها

[فَصْلٌ بَيَانُ قَدْرِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَكَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا] فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ قَدْرِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَكَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا فَنَقُولُ: يُصَلِّي الْإِمَامُ رَكْعَتَيْنِ: فَيُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ، ثُمَّ يَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَى آخِرِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَأْتِي بِالثَّنَاءِ بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ كَاسْمِهِ وُضِعَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ فَكَانَ مَحِلُّهُ ابْتِدَاءَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ يَتَعَوَّذُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُؤَخِّرُ التَّعَوُّذَ عَنْ التَّكْبِيرَاتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّعَوُّذَ سُنَّةُ الِافْتِتَاحِ، أَوْ سُنَّةُ الْقِرَاءَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ يَقْرَأُ ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ فَإِذَا قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ يَقْرَأُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا، وَيَرْكَعُ بِالرَّابِعَةِ فَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ عِنْدَنَا يُكَبِّرُ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ: سِتَّةٌ مِنْ الزَّوَائِدِ وَثَلَاثَةٌ أَصْلِيَّاتٌ: تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ، وَتَكْبِيرَتَا الرُّكُوعِ وَيُوَالِي بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ وَفِي الثَّانِيَةِ قَبْلَ التَّكْبِيرَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً: سَبْعًا فِي الْأُولَى وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ؛ فَتَكُونُ الزَّوَائِدُ تِسْعًا: خَمْسٌ فِي الْأُولَى وَأَرْبَعٌ فِي الثَّانِيَةِ، وَثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ، وَيَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرَاتِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكَبِّرُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً: سَبْعًا فِي الْأُولَى وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ سِوَى الْأَصْلِيَّاتِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَيَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرَاتِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا مِثْلَ قَوْلِ أَصْحَابِنَا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى فَقَالَ: فِي الْفِطْرِ يُكَبِّرُ إحْدَى عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً: ثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ وَثَمَانٍ زَوَائِدُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَرْبَعَةٌ، وَفِي الْأَضْحَى يُكَبِّرُ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ: ثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ وَتَكْبِيرَتَانِ زَائِدَتَانِ، وَعِنْدَهُ يُقَدِّمُ الْقِرَاءَةَ عَلَى التَّكْبِيرَاتِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ رُوِيَ عَنْهُ كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَّهُ شَاذٌّ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ ثَلَاثَةَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً: ثَلَاثٌ أَصْلِيَّاتٌ وَعَشْرَةٌ زَوَائِدُ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ خَمْسُ تَكْبِيرَاتٍ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ يُكَبِّرُ اثْنَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يُقَدِّمُ الْقِرَاءَةَ عَلَى التَّكْبِيرَاتِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا؛ وَالْمُخْتَارُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِاجْتِمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ أَتَاهُمْ فَقَالَ غَدًا الْعِيدُ فَكَيْفَ تَأْمُرُونِي أَنْ أَفْعَلَ فَقَالُوا لِابْنِ مَسْعُودٍ عَلِّمْهُ فَعَلَّمَهُ هَذِهِ الصِّفَةَ وَوَافَقُوهُ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: إنَّهُ مُخْتَارُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَلِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرَاتِ بِدْعَةٌ فِي الْأَصْلِ فَبِقَدْرِ مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ لَمْ تَبْقَ بِدْعَةً بِيَقِينٍ، وَمَا دَخَلَ تَحْتَ الِاخْتِلَافِ كَانَ تَوَهُّمَ الْبِدْعَةِ، وَإِنَّمَا الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ أَوْلَى وَأَحْوَطُ، إلَّا أَنَّ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ ظَهَرَ الْعَمَلُ بِأَكْثَرِ بِلَادِنَا؛ لِأَنَّ الْخِلَافَةَ فِي بَنِي الْعَبَّاسِ فَيَأْمُرُونَ عُمَّالَهُمْ بِالْعَمَلِ بِمَذْهَبِ جَدِّهِمْ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْأَصْلِ. مِقْدَارَ الْفَصْلِ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْكُتُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ قَدْرَ ثَلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ وَحَكَى أَبُو عِصْمَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ» . وَلِأَنَّهَا سُنَّةٌ فَتَلْتَحِقُ بِجِنْسِهَا وَهُوَ تَكْبِيرَتَا الرُّكُوعِ، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ» ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ إعْلَامُ الْأَصَمِّ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالرَّفْعِ فَيَرْفَعُ كَتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَاتِ الْقُنُوتِ بِخِلَافِ تَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِمَا فِي حَالِ الِانْتِقَالِ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالرُّؤْيَةِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى رَفْعِ الْيَدِ لِلْإِعْلَامِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ مَحْمُولٌ عَلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ الْمَكْتُوبَةِ. وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَيَّ سُورَةٍ شَاءَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ «رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] » فَإِنْ تَبَرَّكَ بِالِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِرَاءَةِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ فَحَسَنٌ، لَكِنْ يُكْرَهُ أَنْ يَتَّحِدَ بِهِمَا حَتْمًا لَا يُقْرَأُ فِيهَا غَيْرُهُمَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجُمُعَةِ، وَبِجَهْرِ الْقِرَاءَةِ كَذَا وَرَدَ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَهْرِ بِهِ، وَبِهِ جَرَى التَّوَارُثُ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا. ثُمَّ الْمُقْتَدِي يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي التَّكْبِيرَاتِ عَلَى رَأْيِهِ، وَإِنْ كَبَّرَ أَكْثَرَ مَنْ تِسْعٍ مَا لَمْ يُكَبِّرْ تَكْبِيرًا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِإِمَامِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مُتَابَعَتُهُ وَتَرْكُ رَأْيِهِ بِرَأْيِ الْإِمَامِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ

فَلَا تَخْتَلِفُوا» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَابِعْ إمَامَك عَلَى أَيِّ حَالٍ وَجَدْته» مَا لَمْ يَظْهَرْ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ كَانَ اتِّبَاعُهُ وَاجِبًا وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ، فَأَمَّا إذَا خَرَجَ عَنْ أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ فَقَدْ ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ فَلَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ إذْ لَا مُتَابَعَةَ فِي الْخَطَإِ وَلِهَذَا لَوْ اقْتَدَى بِمَنْ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَرَفْعِ الرَّأْسِ مِنْهُ، أَوْ بِمَنْ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ، أَوْ بِمَنْ يَرَى خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لَا يُتَابِعُهُ لِظُهُورِ خَطَئِهِ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَنْسُوخٌ، ثُمَّ إلَى كَمْ يُتَابِعُهُ؟ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِيهِ قَالَ عَامَّتُهُمْ: إنَّهُ يُتَابِعُهُ إلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً، ثُمَّ يَسْكُتُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُتَابِعُهُ إلَى سِتَّةَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ فَلَعَلَّ هَذَا الْقَائِلَ ذَهَبَ إلَى ابْنَ عَبَّاسٍ أَرَادَ بِقَوْلِهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً الزَّوَائِدَ، فَإِذَا ضَمَمْت إلَيْهَا تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ وَتَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ صَارَتْ سِتَّ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً لَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ يَقْرُبُ مِنْ الْإِمَامِ يَسْمَعُ التَّكْبِيرَاتِ مِنْهُ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَبْعُدُ مِنْهُ يَسْمَعُ مِنْ الْمُكَبِّرِينَ يَأْتِي بِجَمِيعِ مَا يَسْمَعُ وَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ لِجَوَازِ أَنَّ الْغَلَطَ مِنْ الْمُكَبِّرِينَ، فَلَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا رُبَّمَا كَانَ الْمَتْرُوكُ مَا أَتَى بِهِ الْإِمَامُ، وَالْمَأْتِيُّ بِهِ مَا أَخْطَأَ فِيهِ الْمُكَبِّرُونَ فَيُتَابِعُهُمْ لِيَتَأَدَّى مَا يَأْتِيه الْإِمَامُ بِيَقِينٍ وَلِهَذَا قِيلَ إذَا كَانَ الْمُقْتَدِي يَبْعُدُ مِنْ الْإِمَامِ يَسْمَعُ مِنْ الْمُكَبِّرِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِكُلٍّ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ لِجَوَازِ أَنَّ مَا سَمِعَ قَبْلَ هَذِهِ كَانَ غَلَطًا مِنْ الْمُنَادِي، وَإِنَّمَا كَبَّرَ الْإِمَامُ لِلِافْتِتَاحِ الْآنَ. وَلَوْ شَرَعَ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فَجَاءَ رَجُلٌ وَاقْتَدَى بِهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ يُتَابِعُ الْإِمَامَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَيَتْرُكُ رَأْيَهُ؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَ مَا كَبَّرَ الْإِمَامُ الزَّوَائِدَ وَشَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ وَيَأْتِي بِالزَّوَائِدِ بِرَأْيِ نَفْسِهِ لَا بِرَأْيِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ وَإِنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ فَإِنْ لَمْ يَخَفْ فَوْتَ الرُّكُوعِ مَعَ الْإِمَامِ يُكَبِّرُ لِلِافْتِتَاحِ قَائِمًا وَيَأْتِي بِالزَّوَائِدِ، ثُمَّ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ، وَإِنْ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِقَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ الْمُصَلِّي قَبْلَ الْفَرَاغِ بِمَا أَدْرَكَهُ مَنْسُوخًا؛ لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَضَائِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ، فَأَمَّا مَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَضَائِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ النَّسْخُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ تَابَعَ الْإِمَامَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِهَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ، أَوْ لَا يَأْتِي بِهَا، فَإِنْ كَانَ لَا يَأْتِي بِهَا فَهَذَا تَفْوِيتُ الْوَاجِبِ، وَإِنْ كَانَ يَأْتِي بِهَا فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ فِيمَا هُوَ مَحَلٌّ لَهُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَكَانَ فِيهِ تَفْوِيتُهُ عَنْ مَحِلِّهِ مِنْ وَجْهٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ فِيمَا هُوَ مَحِلٌّ لَهُ مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى مِنْ تَفْوِيتِهِ رَأْسًا، وَإِنْ خَافَ إنْ كَبَّرَ يَرْفَعُ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ كَبَّرَ لِلِافْتِتَاحِ وَكَبَّرَ لِلرُّكُوعِ وَرَكَعَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْكَعْ يَفُوتُهُ الرُّكُوعُ فَتَفُوتُهُ الرَّكْعَةُ بِفَوْتِهِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّكْبِيرَاتِ أَيْضًا فَاتَتْهُ فَيَصِيرُ بِتَحْصِيلِ التَّكْبِيرَاتِ مُفَوِّتًا لَهَا وَلِغَيْرِهَا مِنْ أَرْكَانِ الرَّكْعَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، ثُمَّ إذَا رَكَعَ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ فِي الرُّكُوعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُكَبِّرُ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ عَنْ مَحِلِّهَا وَهُوَ الْقِيَامُ فَيَسْقُطُ كَالْقُنُوتِ، وَلَهُمَا أَنَّ لِلرُّكُوعِ حُكْمُ الْقِيَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ مُدْرِكَهُ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَكَانَ مَحِلُّهَا قَائِمًا فَيَأْتِي بِهَا وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ، بِخِلَافِ الْقُنُوتِ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ فَكَانَ مَحِلُّهُ الْقِيَامَ الْمَحْضَ، وَقَدْ فَاتَ ثُمَّ إنْ أَمْكَنَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ وَالتَّسْبِيحَاتِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِالتَّكْبِيرَاتِ دُونَ التَّسْبِيحَاتِ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَاتِ وَاجِبَةٌ وَالتَّسْبِيحَاتِ سُنَّةٌ، وَالِاشْتِغَالُ بِالْوَاجِبِ أَوْلَى، فَإِنْ رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّهَا رَفَعَ رَأْسَهُ؛ لِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ وَاجِبَةٌ وَسَقَطَ عَنْهُ مَا بَقِيَ مِنْ التَّكْبِيرَاتِ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ مَحِلُّهَا. وَلَوْ رَكَعَ الْإِمَامُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَتَذَكَّرَ أَنَّهُ لَمْ يُكَبِّرْ فَإِنَّهُ يَعُودُ وَيُكَبِّرُ، وَقَدْ انْتَقَضَ رُكُوعُهُ وَلَا يُعِيدُ الْقِرَاءَةَ فَرْقٌ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي حَيْثُ أَمَرَ الْإِمَامَ بِالْعَوْدِ إلَى الْقِيَامِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِأَدَاءِ التَّكْبِيرَاتِ فِي حَالَةِ الرُّكُوعِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَمَرَ الْمُقْتَدِيَ بِالتَّكْبِيرَاتِ فِي حَالَةِ الرُّكُوعِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ مَحِلَّ التَّكْبِيرَاتِ فِي الْأَصْلِ الْقِيَامُ الْمَحْضُ، وَإِنَّمَا أَلْحَقْنَا حَالَةَ الرُّكُوعِ بِالْقِيَامِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي ضَرُورَةَ وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَمْ تَتَحَقَّقْ فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَبَقِيَ مَحِلُّهَا الْقِيَامُ الْمَحْضُ فَأُمِرَ بِالْعَوْدِ إلَيْهِ، ثُمَّ مِنْ ضَرُورَةِ الْعَوْدِ إلَى الْقِيَامِ ارْتِفَاضُ الرُّكُوعِ كَمَا لَوْ تَذَكَّرَ الْفَاتِحَةَ فِي الرُّكُوعِ أَنَّهُ يَعُودُ وَيَقْرَأُ وَيَرْتَفِضُ رُكُوعُهُ كَذَا هَهُنَا وَلَا يُعِيدُ الْقِرَاءَةَ؛ لِأَنَّهَا تَمَّتْ بِالْفَرَاغِ عَنْهَا، وَالرُّكْنُ بَعْدَ تَمَامِهِ وَالِانْتِقَالُ عَنْهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّقْضِ وَالْإِبْطَالِ فَبَقِيَتْ عَلَى مَا تَمَّتْ، هَذَا إذَا تَذَكَّرَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِرَاءَةِ، فَأَمَّا إنْ تَذَكَّرَ قَبْلَ الْفَرَاغِ عَنْهَا بِأَنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ دُونَ السُّورَةِ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ وَيَأْتِي بِالتَّكْبِيرَاتِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ بِالْقِرَاءَةِ قَبْلَ أَوَانِهَا فَيَتْرُكُهَا وَيَأْتِي بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ لِيَكُونَ الْمَحِلُّ مَحِلًّا لَهُ ثُمَّ يُعِيدُ الْقِرَاءَةَ

فصل بيان ما يفسد صلاة العيدين وبيان حكمها إذا فسدت

لِأَنَّ الرُّكْنَ مَتَى تُرِكَ قَبْلَ تَمَامِهِ يُنْتَقَضُ مِنْ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ فِي نَفْسِهِ، وَمَا لَا يَتَجَزَّأُ فِي الْحُكْمِ فَوُجُودُهُ مُعْتَبَرٌ بِوُجُودِ الْجُزْءِ الَّذِي بِهِ تَمَامُهُ فِي الْحُكْمِ، وَنَظِيرُهُ مَنْ تَذَكَّرَ سَجْدَةً فِي الرُّكُوعِ خَرَّ لَهَا وَيُعِيدُ الرُّكُوعَ؛ لِمَا مَرَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَبَّرَ لِلِافْتِتَاحِ، وَتَابَعَ إمَامَهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَتْبَعُ فِيهَا رَأْيَ إمَامِهِ؛ لِمَا قُلْنَا فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ يَقُومُ إلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ، ثُمَّ إنْ كَانَ رَأْيُهُ يُخَالِفُ رَأْيَ الْإِمَامِ يَتْبَعُ رَأْيَ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يَقْضِي، بِخِلَافِ اللَّاحِقِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ خَلْفُ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ مُوَافِقًا لِرَأْيِ إمَامِهِ بِأَنْ كَانَ إمَامُهُ يَرَى رَأْيَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ كَذَلِكَ بَدَأَ بِالْقِرَاءَةِ، ثُمَّ بِالتَّكْبِيرَاتِ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ وَالزِّيَادَاتِ وَفِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَالَ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ يَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بِالْقِرَاءَةِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ مَا يَقْضِي الْمَسْبُوقُ آخِرَ صَلَاتِهِ، وَعِنْدَنَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَقْرَأُ ثُمَّ يُكَبِّرُ وَمَا ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا مَا يَقْضِيهِ الْمَسْبُوقُ أَوَّلَ صَلَاتِهِ، وَعِنْدَنَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى يُكَبِّرُ، ثُمَّ يَقْرَأُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، بَلْ فِيهَا اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ وَجْهُ رِوَايَةِ وَالنَّوَادِرِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا يَقْضِيهِ الْمَسْبُوقُ أَوَّلَ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْضِي مَا فَاتَهُ فَيَقْضِيهِ كَمَا فَاتَهُ، وَقَدْ فَاتَهُ عَلَى وَجْهٍ يُقَدِّمُ التَّكْبِيرَ فِيهِ عَلَى الْقِرَاءَةِ فَيَقْضِيهِ كَذَلِكَ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ: أَنَّ الْمَقْضِيَّ وَإِنْ كَانَ أَوَّلَ صَلَاتِهِ حَقِيقَةً وَلَكِنَّهُ الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ صُورَةً وَفِيمَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ قَرَأَ، ثُمَّ كَبَّرَ؛ لِأَنَّهَا ثَانِيَةُ الْإِمَامِ فَلَوْ قَدَّمَ هَهُنَا مَا يَقْضِي أَدَّى ذَلِكَ إلَى الْمُوَالَاةِ بَيْنَ التَّكْبِيرَتَيْنِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَلَا يَفْعَلُ كَذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ بِصُورَةِ هَذَا الْفِعْلِ. وَلَوْ بَدَأَ بِالْقِرَاءَةِ لَكَانَ فِيهِ تَقْدِيمُ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، لَكِنْ هَذَا مَذْهَبُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِمَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ إذْ هُوَ بَاطِلٌ بِيَقِينٍ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُفْسِد صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ وَبَيَانُ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُفْسِدُهَا، وَبَيَانُ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ، أَوْ فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا، فَكُلُّ مَا يُفْسِدُ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ وَمَا يُفْسِدُ الْجُمُعَةَ يُفْسِدُ صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ مِنْ خُرُوجِ الْوَقْتِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، أَوْ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، وَفَوْتِ الْجَمَاعَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْجُمُعَةِ، غَيْرَ أَنَّهَا إنْ فَسَدَتْ بِمَا يَفْسُدُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ مِنْ الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَسْتَقْبِلُ الصَّلَاةَ عَلَى شَرَائِطِهَا، وَإِنْ فَسَدَتْ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ أَوْ فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا مَعَ الْإِمَامِ سَقَطَتْ، وَلَا يَقْضِيهَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُصَلِّيهَا وَحْدَهُ كَمَا يُصَلِّي الْإِمَامُ يُكَبِّرُ فِيهَا تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَا عُرِفَتْ قُرْبَةً إلَّا بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْجُمُعَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا فَعَلَهَا إلَّا بِالْجَمَاعَةِ كَالْجُمُعَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا إلَّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ؛ وَلِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِشَرَائِطَ يَتَعَذَّرُ تَحْصِيلُهَا فِي الْقَضَاءِ، فَلَا تُقْضَى كَالْجُمُعَةِ وَلَكِنَّهُ يُصَلِّي أَرْبَعًا مِثْلَ صَلَاةِ الضُّحَى إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهَا إذَا فَاتَتْ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا بِالْقَضَاءِ لِفَقْدِ الشَّرَائِطِ، فَلَوْ صَلَّى مِثْلَ صَلَاةِ الضُّحَى لِيَنَالَ الثَّوَابَ كَانَ حَسَنًا لَكِنْ لَا يَجِبُ لِعَدَمِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ صَلَّى أَرْبَعًا. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْعِيدِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْعِيدِ فَيُسْتَحَبُّ فِيهِ أَشْيَاءُ مِنْهَا مَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَاكَ، وَيَغْتَسِلَ، وَيَطْعَمَ شَيْئًا، وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، وَيَمَسَّ طِيبًا، وَيُخْرِجَ فِطْرَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ، أَمَّا الِاغْتِسَالُ وَالِاسْتِيَاكُ وَمَسُّ الطِّيبِ وَلُبْسُ أَحْسَنِ الثِّيَابِ - جَدِيدًا كَانَ أَوْ غَسِيلًا -؛ فَلِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجُمُعَةِ. وَأَمَّا إخْرَاجُهُ الْفِطْرَةَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى فِي عِيدِ الْفِطْرِ؛ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُخْرِجُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْمُصَلَّى» ؛ وَلِأَنَّهُ مُسَارَعَةٌ إلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ فَكَانَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ. وَأَمَّا الذَّوْقُ فِيهِ فَلِكَوْنِ الْيَوْمِ يَوْمَ فِطْرٍ. وَأَمَّا فِي عِيدِ الْأَضْحَى فَإِنْ شَاءَ ذَاقَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَذُقْ، وَالْأَدَبُ أَنَّهُ لَا يَذُوقُ شَيْئًا إلَى وَقْتِ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ حَتَّى يَكُونَ تَنَاوُلُهُ مِنْ الْقَرَابِينَ وَمِنْهَا أَنْ يَغْدُوَ إلَى الْمُصَلَّى جَاهِرًا بِالتَّكْبِيرِ فِي عِيدِ الْأَضْحَى، فَإِذَا انْتَهَى إلَى الْمُصَلَّى تَرَكَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يُكَبِّرُ فِي الطَّرِيقِ» . وَأَمَّا فِي عِيدِ الْفِطْرِ فَلَا يُجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يُجْهَرُ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُجْهَرُ فِي الْعِيدَيْنِ جَمِيعًا، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] وَلَيْسَ بَعْدَ إكْمَالِ الْعِدَّةِ إلَّا

فصل صلاة الكسوف والخسوف

هَذَا التَّكْبِيرُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ حَمَلَهُ قَائِدُهُ يَوْمَ الْفِطْرِ فَسَمِعَ النَّاسَ يُكَبِّرُونَ فَقَالَ لِقَائِدِهِ: أَكَبَّرَ الْإِمَامُ؟ قَالَ: لَا قَالَ: أَفَجُنَّ النَّاسُ؟ وَلَوْ كَانَ الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ سُنَّةً لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْإِنْكَارِ مَعْنًى؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَذْكَارِ هُوَ الْإِخْفَاءُ إلَّا فِيمَا وَرَدَ التَّخْصِيصُ فِيهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي عِيدِ الْأَضْحَى فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي عِيدِ الْفِطْرِ عَلَى الْأَصْلِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ تَتَعَرَّضُ لِأَصْلِ التَّكْبِيرِ، وَكَلَامُنَا فِي وَصْفِ التَّكْبِيرِ مِنْ الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ، وَالْآيَةُ سَاكِتَةٌ عَنْ ذَلِكَ، (وَمِنْهَا) أَنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ أَيْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْخُطْبَةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْعِيدِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ نَبْتٍ نَبَتَ، وَبِكُلِّ وَرَقَةٍ حَسَنَةً» . وَأَمَّا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ فَلَا يَتَطَوَّعُ فِي الْمُصَلَّى وَلَا فِي بَيْتِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي بَيَانِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا التَّطَوُّعُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، (وَمِنْهَا) أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا خَرَجَ إلَى الْجَبَّانَةِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ أَنْ يَخْلُفَ رَجُلًا يُصَلِّي بِأَصْحَابِ الْعِلَلِ فِي الْمِصْرِ صَلَاةَ الْعِيدِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الْكُوفَةَ اسْتَخْلَفَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ لِيُصَلِّيَ بِالضَّعَفَةِ صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ، وَخَرَجَ إلَى الْجَبَّانَةِ مَعَ خَمْسِينَ شَيْخًا يَمْشِي وَيَمْشُونَ؛ وَلِأَنَّ فِي هَذَا إعَانَةً لِلضَّعَفَةِ عَلَى إحْرَازِ الثَّوَابِ فَكَانَ حَسَنًا، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ سِوَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ وَلِأَنَّهُ لَا صَلَاةَ عَلَى الضَّعَفَةِ، وَلَكِنْ لَوْ خَلَّفَ كَانَ أَفْضَلَ؛ لِمَا بَيَّنَّا وَلَا يُخْرَجُ الْمِنْبَرُ فِي الْعِيدَيْنِ؛ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ «كَانَ يَخْطُبُ فِي الْعِيدَيْنِ عَلَى نَاقَتِهِ» ، وَبِهِ جَرَى التَّوَارُثُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا؛ وَلِهَذَا اتَّخَذُوا فِي الْمُصَلَّى مِنْبَرًا عَلَى حِدَةٍ مِنْ اللَّبِنِ وَالطِّينِ، وَاتِّبَاعُ مَا اُشْتُهِرَ الْعَمَلُ بِهِ فِي النَّاسِ وَاجِبٌ. [فَصْلٌ صَلَاةُ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صَلَاةُ الْكُسُوفِ، وَالْخُسُوفِ، أَمَّا صَلَاةُ الْكُسُوفِ فَالْكَلَامُ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَمْ سُنَّةٌ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا، وَفِي بَيَانِ مَوْضِعِهَا، وَفِي بَيَانِ وَقْتِهَا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَصْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَا تُصَلَّى نَافِلَةٌ فِي جَمَاعَةٍ إلَّا قِيَامَ رَمَضَانَ وَصَلَاةَ الْكُسُوفِ، فَاسْتَثْنَى صَلَاةَ الْكُسُوفِ مِنْ الصَّلَوَاتِ النَّافِلَةِ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ؛ فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا نَافِلَةً، وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ: إنْ شَاءُوا صَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ شَاءُوا صَلَّوْا أَرْبَعًا، وَإِنْ شَاءُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَالتَّخْيِيرُ يَكُونُ فِي النَّوَافِلِ لَا فِي الْوَاجِبَاتِ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّهَا وَاجِبَةٌ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ مَاتَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ فَقَالَ النَّاسُ: إنَّمَا انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَلَا إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ هَذَا شَيْئًا فَاحْمَدُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوهُ وَسَبِّحُوهُ وَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِيَ» وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ «فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَقُومُوا وَصَلُّوا» وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ «انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ فَزِعًا فَخَشِيَ أَنْ تَكُونَ السَّاعَةَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَقَامَ فَصَلَّى فَأَطَالَ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تُرْسَلُ لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرْسِلُهَا لِيُخَوِّفَ بِهَا عِبَادَهُ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَارْغَبُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتَغْفِرُوهُ» ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «فَافْزَعُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ» وَتَسْمِيَةُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إيَّاهَا نَافِلَةً لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ؛ لِأَنَّ النَّافِلَةَ عِبَارَةٌ عَنْ الزِّيَادَةِ، وَكُلُّ وَاجِبٍ زِيَادَةٌ عَلَى الْفَرَائِضِ الْمُوَظَّفَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَرَّبَهَا بِقِيَامِ رَمَضَانَ وَهُوَ التَّرَاوِيحُ، وَأَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهِيَ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ، وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ لَا تَنْفِي الْوُجُوبَ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ قَدْ يَجْرِي بَيْنَ الْوَاجِبَاتِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] . [فَصْلٌ قَدْرِ وَكَيْفِيَّة صَلَاةِ الْكُسُوفِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي قَدْرِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، كُلُّ رَكْعَةٍ بِرُكُوعٍ وَسَجْدَتَيْنِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَكْعَتَانِ، كُلُّ رَكْعَةٍ بِرُكُوعَيْنِ وَقَوْمَتَيْنِ وَسَجْدَتَيْنِ يَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ثُمَّ يَقْرَأُ ثُمَّ يَرْكَعُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: «كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ. (وَلَنَا) مَا رَوَى مُحَمَّدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: «كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجُرُّ ثَوْبَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَأَطَالَهُمَا حَتَّى تَجَلَّتْ الشَّمْسُ وَذَلِكَ حِينَ مَاتَ وَلَدُهُ إبْرَاهِيمُ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَفْزَاعِ شَيْئًا فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ؛ لِيَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ» وَمُطْلَقُ اسْمِ الصَّلَاةِ يَنْصَرِفُ إلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى رَكْعَتَيْنِ نَحْوَ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ» ، وَرَوَى الْجَصَّاصُ عَنْ عَلِيٍّ وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى فِي الْكُسُوفِ رَكْعَتَيْنِ كَهَيْئَةِ صَلَاتِنَا» ، وَالْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رِوَايَتَهُمَا قَدْ تَعَارَضَتْ رُوِيَ كَمَا قُلْتُمْ. وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ، وَالْمُتَعَارَضُ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا، أَوْ نَقُولُ تَعَاضَدَ مَا رَوَيْنَا بِالِاعْتِبَارِ بِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ؛ فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ، أَوْلَى أَوْ نَحْمِلُ مَا رَوَيْتُمْ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ كَثِيرًا زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ رُكُوعِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عُرِضَ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ فَرَفَعَ أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ رُءُوسَهُمْ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَرَفَعَ مَنْ خَلْفَهُمْ رُءُوسَهُمْ فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاكِعًا رَكَعُوا وَرَكَعَ مَنْ خَلْفَهُمْ، فَلَمَّا رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَ الْقَوْمُ رُءُوسَهُمْ فَمَنْ كَانَ خَلْفَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ ظَنُّوا أَنَّهُ رَكَعَ رُكُوعَيْنِ فَرَوَوْا عَلَى حَسَبِ مَا وَقَعَ عِنْدَهُمْ، وَعَلِمَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فَنَقَلُوا عَلَى حَسَبِ مَا عَلِمُوهُ، وَمِثْلُ هَذَا الِاشْتِبَاهِ قَدْ يَقَعُ لِمَنْ كَانَ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ وَاقِفَةً فِي خَيْرِ صُفُوفِ النِّسَاءِ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي صَفِّ الصِّبْيَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَنَقَلَا كَمَا وَقَعَ عِنْدَهُمَا، فَيُحْمَلُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، كَذَا وَفَّقَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَلَاةِ الْأَثَرِ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ أَنَّ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّنَاسُخِ لَا مَخْرَجَ التَّخْيِيرِ؛ لِاخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ عَلَى التَّخْيِيرِ لَمَا اخْتَلَفُوا ثَمَّ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ انْتِسَاخُ زِيَادَاتٍ كَانَتْ فِي الِابْتِدَاءِ فِي الصَّلَوَاتِ، وَاسْتَقَرَّتْ الصَّلَاةُ عَلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ الْيَوْمَ عِنْدَنَا، فَكَانَ صَرْفُ النَّسْخِ إلَى مَا ظَهَرَ انْتِسَاخُهُ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إلَى مَا لَمْ يَظْهَرْ أَنَّهُ نَسَخَهُ غَيْرُهُ، وَرَوَى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الزِّيَادَةَ ثَبَتَتْ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ لَا لِلْكُسُوفِ، بَلْ لِأَحْوَالٍ اعْتَرَضَتْ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَقَدَّمَ فِي الرُّكُوعِ حَتَّى كَانَ كَمَنْ يَأْخُذُ شَيْئًا ثُمَّ تَأَخَّرَ كَمَنْ يَنْفِرُ عَنْ شَيْءٍ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مِنْهُ بِاعْتِرَاضِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ، فَمَنْ لَا يَعْرِفُهَا لَا يَسَعُهُ التَّكَلُّمُ فِيهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَلَمَّا أَشْكَلَ الْأَمْرُ لَمْ يَعْدِلْ عَنْ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهِ إلَّا بِيَقِينٍ. هَذِهِ الصَّلَاةُ تُقَامُ بِالْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَهَا بِالْجَمَاعَةِ، وَلَا يُقِيمُهَا إلَّا الْإِمَامُ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ، فَأَمَّا أَنْ يُقِيمَهَا كُلُّ قَوْمٍ فِي مَسْجِدِهِمْ فَلَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ لِكُلِّ مَسْجِدٍ إمَامٌ يُصَلِّي بِجَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْمِصْرِ، فَلَا تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِالسُّلْطَانِ كَغَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ أَدَاءَ هَذِهِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ عُرِفَ بِإِقَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُقِيمُهَا إلَّا مَنْ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ تَعَلُّقِهَا بِالْمِصْرِ؛ لِأَنَّ مَشَايِخَنَا قَالُوا: إنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمِصْرِ فَكَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالسُّلْطَانِ، فَإِنْ لَمْ يُقِمْهَا الْإِمَامُ حِينَئِذٍ صَلَّى النَّاسُ فُرَادَى: إنْ شَاءُوا رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ شَاءُوا أَرْبَعًا وَالْأَرْبَعُ أَفْضَلُ، ثُمَّ إنْ شَاءُوا طَوَّلُوا الْقِرَاءَةَ، وَإِنْ شَاءُوا قَصَرُوا وَاشْتَغَلُوا بِالدُّعَاءِ حَتَّى تَنْجَلِيَ الشَّمْسُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ الِاشْتِغَالَ بِالتَّضَرُّعِ إلَى أَنْ تَنْجَلِيَ الشَّمْسُ وَذَلِكَ بِالدُّعَاءِ تَارَةً، وَبِالْقِرَاءَةِ أُخْرَى، وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ «قِيَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى كَانَ بِقَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِقَدْرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ» فَالْأَفْضَلُ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فِيهَا. وَلَا يُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُجْهَرُ بِهَا، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ، ذَكَرَ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ قَوْلَهُ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ خَالَفَ

فصل صلاة الاستسقاء

أَبَا حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَجَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ» ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُقَامُ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ فَيُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا كَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ حَدِيثُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا لَمْ يُسْمَعْ لَهُ صَوْتٌ» وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَكُنْتُ إلَى جَنْبِهِ فَلَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ حَرْفًا» ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ» أَيْ لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةٌ مَسْمُوعَةٌ؛ وَلِأَنَّ الْقَوْمَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّأَمُّلِ فِي الْقِرَاءَةِ لِتَصِيرَ ثَمَرَةُ الْقِرَاءَةِ مُشْتَرَكَةً؛ لِاشْتِغَالِ قُلُوبِهِمْ بِهَذَا الْفَزَعِ، كَمَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّأَمُّلِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ فِي صَلَوَاتِ النَّهَارِ؛ لِاشْتِغَالِ قُلُوبِهِمْ بِالْمَكَاسِبِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ تَعَارَضَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَبَقِيَ لَنَا الِاعْتِبَارُ الَّذِي ذَكَرْنَا مَعَ ظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ، وَنَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ جَهَرَ بِبَعْضِهَا اتِّفَاقًا، كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُسْمِعُ الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ أَحْيَانًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ خَوَاصِّ الْمَكْتُوبَاتِ، وَلَا خُطْبَةَ فِيهَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ ثُمَّ خَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ» ، وَلَنَا أَنَّ الْخُطْبَةَ لَمْ تُنْقَلْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعْنَى قَوْلِهَا خَطَبَ أَيْ دَعَا، أَوْ؛ لِأَنَّهُ احْتَاجَ إلَى الْخُطْبَةِ رَدًّا لِقَوْلِ النَّاسِ: إنَّمَا كَسَفَتْ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ لَا لِلصَّلَاةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) خُسُوفُ الْقَمَرِ فَالصَّلَاةُ فِيهَا حَسَنَةٌ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا رَأَيْتُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَفْزَاعِ شَيْئًا فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ» وَهِيَ لَا تُصَلَّى بِجَمَاعَةٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تُصَلَّى بِجَمَاعَةٍ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ «صَلَّى بِالنَّاسِ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ، وَقَالَ: صَلَّيْتُ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، وَلَنَا أَنَّ الصَّلَاةَ بِجَمَاعَةٍ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَنَّ خُسُوفَهُ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ كُسُوفِ الشَّمْسِ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ غَيْرَ الْمَكْتُوبَةِ لَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» إلَّا إذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ كَمَا فِي الْعِيدَيْنِ، وَقِيَامِ رَمَضَانَ، وَكُسُوفِ الشَّمْسِ؛ وَلِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ بِاللَّيْلِ مُتَعَذَّرٌ، أَوْ سَبَبُ الْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِهِ؛ لِكَوْنِهِ خَبَرَ آحَادٍ فِي مَحَلِّ الشُّهْرَةِ. وَكَذَا تُسْتَحَبُّ الصَّلَاةُ فِي كُلِّ فَزَعٍ: كَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ، وَالزَّلْزَلَةِ، وَالظُّلْمَةِ، وَالْمَطَرِ الدَّائِمِ؛ لِكَوْنِهَا مِنْ الْأَفْزَاعِ، وَالْأَهْوَالِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ صَلَّى لِزَلْزَلَةٍ بِالْبَصْرَةِ. وَأَمَّا مَوْضِعُ الصَّلَاةِ: أَمَّا فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ فَيُصَلُّونَ فِي مَنَازِلِهِمْ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِيهَا أَنْ يُصَلُّوا وُحْدَانًا عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُصَلَّى فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ الْعِيدُ، أَوْ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ؛ وَلِأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَتُؤَدَّى فِي الْمَكَانِ الْمُعَدِّ؛ لِإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ. وَلَوْ اجْتَمَعُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَصَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ أَجْزَأَهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ؛ لِمَا مَرَّ. وَأَمَّا وَقْتُهَا فَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يُسْتَحَبُّ فِيهِ أَدَاءُ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ دُونَ الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ إنْ كَانَتْ نَافِلَةً فَالنَّوَافِلُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهَةٌ وَإِنْ كَانَتْ لَهَا أَسْبَابٌ عِنْدَنَا كَرَكْعَتَيْ التَّحِيَّةِ، وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً فَأَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهَةٌ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَغَيْرِهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ] (فَصْلٌ: وَأَمَّا صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ) . فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: " لَا صَلَاةَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَإِنَّمَا فِيهِ الدُّعَاءُ " وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ الصَّلَاةَ بِجَمَاعَةٍ أَيْ لَا صَلَاةَ فِيهِ بِجَمَاعَةٍ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: " سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الِاسْتِسْقَاءِ هَلْ فِيهِ صَلَاةٌ أَوْ دُعَاءٌ مُوَقَّتٌ أَوْ خُطْبَةٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا الصَّلَاةُ بِجَمَاعَةٍ فَلَا، وَلَكِنْ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ، وَإِنْ صَلَّوْا وُحْدَانًا فَلَا بَأْسَ بِهِ "، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: " يُصَلِّي الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَيْنِ بِجَمَاعَةٍ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ " وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ قَوْلَهُ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلَهُ مَعَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَاحْتَجَّا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِجَمَاعَةٍ فِي الِاسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَيْنِ» وَالْمَرْوِيُّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ» ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] . وَالْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِغْفَارُ، فِي الِاسْتِسْقَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11]

أَمْرٌ بِالِاسْتِغْفَارِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ فَمَنْ زَادَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ وَكَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ صَلَّى فِي الِاسْتِسْقَاءِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى الْجُمُعَةَ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْدَبَتْ الْأَرْضُ وَهَلَكَتْ الْمَوَاشِي فَاسْقِ لَنَا الْغَيْثَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ وَدَعَا، فَمَا ضَمَّ يَدَيْهِ حَتَّى مَطَرَتْ السَّمَاءُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّهِ دَرُّ أَبِي طَالِبٍ لَوْ كَانَ فِي الْأَحْيَاءِ لَقَرَّتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْلَهُ وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَجَلْ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَامَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ وَأَنْشَدَ فَقَالَ أَتَيْنَاك وَالْعَذْرَاءُ يَدْمَى لَبَانُهَا ... وَقَدْ شُغِلَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ عَنْ الطِّفْلِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ وَلَيْسَ لَنَا إلَّا إلَيْك فِرَارُنَا ... وَلَيْسَ فِرَارُ النَّاسِ إلَّا إلَى الرُّسُلِ فَبَكَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ الشَّرِيفَةُ ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا عَذْبًا طَيِّبًا نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ فَمَا رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ إلَى صَدْرِهِ حَتَّى مَطَرَتْ السَّمَاءُ وَجَاءَ أَهْلُ الْبَلَدِ يَصِيحُونَ الْغَرَقَ الْغَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا فَانْجَابَتْ السَّحَابَةُ حَتَّى أَحْدَقَتْ بِالْمَدِينَةِ كَالْإِكْلِيلِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِلَّهِ دَرُّ أَبِي طَالِبٍ لَوْ كَانَ حَيًّا لَقَرَّتْ عَيْنَاهُ مَنْ يُنْشِدُنَا قَوْلَهُ؟ فَقَامَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ الْمُتَقَدِّمَ أَوَّلًا» وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ خَرَجَ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ وَلَمْ يُصَلِّ بِجَمَاعَةٍ بَلْ صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فَقَالُوا مَا اسْتَسْقَيْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ لَقَدْ اسْتَسْقَيْتُ بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ الَّتِي بِهَا يُسْتَنْزَلُ الْغَيْثُ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] . وَرُوِيَ أَنَّهُ خَرَجَ بِالْعَبَّاسِ فَأَجْلَسَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَوَقَفَ بِجَنْبِهِ يَدْعُو وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيُّكَ وَدَعَا بِدُعَاءٍ طَوِيلٍ فَمَا نَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ حَتَّى سُقُوا، وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ اسْتَسْقَى وَلَمْ يُصَلِّ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِجَمَاعَةٍ حَدِيثٌ شَاذٌّ وَرَدَ فِي مَحِلِّ الشُّهْرَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِسْقَاءَ يَكُونُ بِمَلَأٍ مِنْ النَّاسِ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ يُرَجَّحُ كَذِبُهُ عَلَى صِدْقِهِ، أَوْ وَهْمُهُ عَلَى ضَبْطِهِ فَلَا يَكُونُ مَقْبُولًا مَعَ أَنَّ هَذَا مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فِي دِيَارِهِمْ، وَمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَيَحْتَاجُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ إلَى مَعْرِفَتِهِ لَا يُقْبَلُ فِيهِ الشَّاذُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ عِنْدَهُمَا يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ مَا شَاءَ جَهْرًا كَمَا فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَقْرَأَ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى، وَهَلْ أَتَاك حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَؤُهُمَا فِي صَلَاةِ الْعِيدِ وَلَا يُكَبِّرُ فِيهَا فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُكَبِّرُ، وَلَيْسَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ شَاءُوا صَلَّوْا فُرَادَى، وَذَلِكَ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ فِيهِ صَلَاةٌ بِالْجَمَاعَةِ، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَكْتُوبَةٍ، وَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ مِنْ خَوَاصِّ الْمَكْتُوبَاتِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ، ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ يَخْطُبُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَخْطُبُ، وَلَكِنْ لَوْ صَلَّوْا وُحْدَانًا يَشْتَغِلُونَ بِالدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ مِنْ تَوَابِعِ الصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ، وَالْجَمَاعَةُ غَيْرُ مَسْنُونَةٍ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا سُنَّةٌ فَكَذَا الْخُطْبَةُ، ثُمَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِالْجِلْسَةِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْعِيدِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَخْطُبُ خُطْبَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الدُّعَاءُ فَلَا يَقْطَعُهَا بِالْجِلْسَةِ، وَلَا يُخْرِجُ الْمِنْبَرَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَلَا يَصْعَدُهُ لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعِ الدُّعَاءِ مِنْبَرٌ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ، وَقَدْ عَابَ النَّاسُ عَلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ عِنْدَ إخْرَاجِهِ الْمِنْبَرَ فِي الْعِيدَيْنِ وَنَسَبُوهُ إلَى خِلَافِ السُّنَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَكِنْ يَخْطُبُ عَلَى الْأَرْضِ مُعْتَمِدًا عَلَى قَوْسٍ أَوْ سَيْفٍ وَإِنْ تَوَكَّأَ عَلَى عَصًا فَحَسَنٌ؛ لِأَنَّ خُطْبَتَهُ تَطُولُ فَيَسْتَعِينُ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى عَصًا، وَيَخْطُبُ مُقْبِلًا بِوَجْهِهِ إلَى النَّاسِ وَهُمْ مُقْبِلُونَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِسْمَاعَ وَالِاسْتِمَاعَ إنَّمَا يَتِمُّ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ، وَيَسْتَمِعُونَ الْخُطْبَةَ وَيُنْصِتُونَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَعِظُهُمْ فِيهَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعِ، وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْخُطْبَةِ جَعَلَ ظَهْرَهُ إلَى النَّاسِ وَوَجْهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَيَشْتَغِلُ بِدُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَالنَّاسُ قُعُودٌ مُسْتَقْبِلُونَ بِوُجُوهِهِمْ إلَى الْقِبْلَةِ فِي الْخُطْبَةِ وَالدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَقْبِلَ

فصل الصلاة المسنونة

الْقِبْلَةِ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ فَيَدْعُو اللَّهَ وَيَسْتَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيُجَدِّدُونَ التَّوْبَةَ وَيَسْتَسْقُونَ. وَهَلْ يَقْلِبُ الْإِمَامُ رِدَاءَهُ لَا يَقْلِبُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَقْلِبُ إذَا مَضَى صَدْرٌ مِنْ خُطْبَتِهِ فَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَلَبَ رِدَاءَهُ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اسْتَسْقَى يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَمْ يَقْلِبْ الرِّدَاءَ» ؛ وَلِأَنَّ هَذَا دُعَاءٌ فَلَا مَعْنَى لِتَغْيِيرِ الثَّوْبِ فِيهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَدْعِيَةِ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَلَبَ الرِّدَاءَ مُحْتَمَلٌ، يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ فَأَصْلَحَهُ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ قَلَبَ، أَوْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَرَفَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّ الْحَالَ يَنْقَلِبُ مِنْ الْجَدْبِ إلَى الْخِصْبِ مَتَى قَلَبَ الرِّدَاءَ بِطَرِيقِ التَّفَاؤُلِ فَفَعَلَ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَكَيْفِيَّةُ تَقْلِيبِ الرِّدَاءِ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ كَانَ مُرَبَّعًا جَعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ وَأَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ، وَإِنْ كَانَ مُدَوَّرًا جَعَلَ الْجَانِبَ الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَيْسَرِ وَالْأَيْسَرَ عَلَى الْأَيْمَنِ. وَأَمَّا الْقَوْمُ فَلَا يَقْلِبُونَ أَرْدِيَتَهُمْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَقْلِبُونَ أَيْضًا، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَوَّلَ رِدَاءَهُ وَحَوَّلَ النَّاسُ أَرْدِيَتَهُمْ» وَهُمَا يَقُولَانِ: إنَّ تَحْوِيلَ الرِّدَاءِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ أَمْرٌ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَنَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ شَاذٌّ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَ ذَلِكَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ؛ فَيَكُونُ تَقْرِيرًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ مُسْتَدْبِرًا لَهُمْ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ. ثُمَّ إنْ شَاءَ رَفَعَ يَدَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ عِنْدَ الدُّعَاءِ، وَإِنْ شَاءَ أَشَارَ بِأُصْبُعِهِ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ سُنَّةٌ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْعُو بِعَرَفَاتٍ بَاسِطًا يَدَيْهِ كَالْمُسْتَطْعِمِ الْمِسْكِينِ» . الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ، وَالنَّاسُ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الدُّعَاءِ الْإِجَابَةُ، وَالثَّلَاثَةُ مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ وَإِنْ أَمَرَ الْأَمَامُ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ وَلَمْ يَخْرُجْ بِنَفْسِهِ خَرَجُوا؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ قَوْمًا شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَحْطَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْثُوا عَلَى الرُّكَبِ» وَلَمْ يَخْرُجْ بِنَفْسِهِ، وَإِذَا خَرَجُوا اشْتَغَلُوا بِالدُّعَاءِ وَلَمْ يُصَلُّوا بِجَمَاعَةٍ إلَّا إذَا أَمَرَ الْإِمَامُ إنْسَانًا أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ جَمَاعَةً؛ لِأَنَّ هَذَا دُعَاءٌ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ حُضُورُ الْإِمَامِ، وَإِنْ خَرَجُوا بِغَيْرِ إذْنِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ إذْنُ الْإِمَامِ. وَلَا يُمَكَّنُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ إنْ خَرَجُوا لَمْ يُمْنَعُوا، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ بِخُرُوجِهِمْ إلَى الِاسْتِسْقَاءِ يَنْظُرُونَ نُزُولَ الرَّحْمَةِ عَلَيْهِمْ، وَالْكُفَّارُ مَنَازِلُ اللَّعْنَةِ وَالسَّخْطَةِ فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْخُرُوجِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الصَّلَاةُ الْمَسْنُونَةُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الصَّلَاةُ الْمَسْنُونَةُ فَهِيَ السُّنَنُ الْمَعْهُودَةُ لِلصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ مَوَاقِيتِ هَذِهِ السُّنَنِ، وَمَقَادِيرِهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يُكْرَهُ فِيهَا، وَفِي بَيَانِ أَنَّهَا إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا هَلْ تُقْضَى أَمْ لَا؟ أَمَّا الْأَوَّلُ فَوَقْتُ جُمْلَتِهَا وَقْتُ الْمَكْتُوبَاتِ؛ لِأَنَّهَا تَوَابِعُ لِلْمَكْتُوبَاتِ فَكَانَتْ تَابِعَةً لَهَا فِي الْوَقْتِ، وَمِقْدَارُ جُمْلَتِهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً: رَكْعَتَانِ وَأَرْبَعٌ، وَرَكْعَتَانِ وَرَكْعَتَانِ، وَرَكْعَتَانِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَأَمَّا مِقْدَارُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَوَقْتُهَا عَلَى التَّفْصِيلِ: فَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَأَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَا يُسَلِّمُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهُ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ، وَذَكَرَ فِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ إنْ تَطَوَّعَ بِأَرْبَعٍ قَبْلَهُ فَحَسَنٌ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ هَكَذَا إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الْعَصْرِ: وَأَرْبَعٌ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَفِي الْعِشَاءِ وَأَرْبَعٌ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَالْعَمَلُ فِيمَا رَوَيْنَا عَلَى الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ. وَالْأَصْلُ فِي السُّنَنِ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ ثَابَرَ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَأَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ» ، وَقَدْ وَاظَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهَا وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنْهَا إلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لِعُذْرٍ وَهَذَا تَفْسِيرُ السُّنَّةِ، وَأَقْوَى السُّنَنِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِالتَّرْغِيبِ فِيهِمَا مَا لَمْ يَرِدْ فِي غَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49] أَنَّهُ رَكْعَتَا الْفَجْرِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «صَلُّوهُمَا فَإِنَّ فِيهِمَا لَرَغَائِبَ» . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «صَلُّوهُمَا وَلَوْ طَرَدَتْكُمْ الْخَيْلُ» وَرَوَى جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الزَّوَالِ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ» مِنْهُمْ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

فصل صفة القراءة في سنن الصلاة

وَرَوَى عَنْهُ أَيْضًا قَوْلًا عَلَى مَا نَذْكُرُ وَعَنْ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ مَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى شَيْءٍ كَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى مُحَافَظَةِ الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ ثُمَّ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِتَسْلِيمَتَيْنِ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ ذَكَرَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً كَمَا ذَكَرَتْ عَائِشَةُ إلَّا أَنَّهُ زَادَ وَأَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ بِتَسْلِيمَتَيْنِ، وَلَنَا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بَعْدَ الزَّوَالِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَقُلْت: مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي تُدَاوِمُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: هَذِهِ سَاعَةٌ تُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِي فِيهَا عَمَلٌ صَالِحٌ فَقُلْتُ: أَفِي كُلِّهِنَّ قِرَاءَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقُلْتُ: بِتَسْلِيمَةٍ أَمْ بِتَسْلِيمَتَيْنِ؟ فَقَالَ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ» ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَالتَّسْلِيمُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّشَهُّدِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّلَامِ كَمَا فِيهِ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ فِي التَّطَوُّعَ بِالْأَرْبَعِ قَبْلَ الْعَصْرِ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْأَرْبَعِ مِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ غَيْرَ ثَابِتٍ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِذَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي فَصْلِهِ إيَّاهَا. وَرُوِيَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا، وَفِي بَعْضِهَا رَكْعَتَيْنِ فَإِنْ صَلَّى أَرْبَعًا كَانَ حَسَنًا لِحَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الْعَصْرِ كَانَتْ لَهُ جُنَّةً مِنْ النَّارِ» وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَإِنْ تَطَوَّعَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ كُتِبَ مِنْ الْأَوَّابِينَ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25] ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي الْأَصْلِ: إنَّ التَّطَوُّعَ بِالْأَرْبَعِ قَبْلَ الْعِشَاءِ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ بِهَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فَحَسَنٌ؛ لِأَنَّ الْعِشَاءَ نَظِيرُ الظُّهْرِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا، وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ فِي الْأَرْبَعِ بَعْدَ الْعِشَاءِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كُنَّ لَهُ كَمِثْلِهِنَّ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا «سُئِلَتْ عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيَالِي رَمَضَانَ فَقَالَتْ: كَانَ قِيَامُهُ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ سَوَاءً، كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعًا لَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ أَرْبَعًا لَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ» . وَأَمَّا السُّنَّةُ قَبْلَ الْجُمُعَةِ وَبَعْدَهَا فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ: وَأَرْبَعٌ قَبْلَ الْجُمُعَةِ، وَأَرْبَعٌ بَعْدَهَا، وَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ يُصَلِّي بَعْدَهَا سِتًّا وَقِيلَ: هُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يَمْكُثُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مِقْدَارَ مَا يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، أَوْ سِتَّ رَكَعَاتٍ أَمَّا الْأَرْبَعُ قَبْلَ الْجُمُعَةِ؛ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَطَوَّعُ قَبْلَ الْجُمُعَةِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ» ؛ وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ نَظِيرُ الظُّهْرِ، ثُمَّ التَّطَوُّعُ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ كَذَا قَبْلَهَا. وَأَمَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ فِيمَا قُلْنَا جَمْعًا بَيْنَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ فِعْلِهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ «أَنَّهُ أَمَرَ بِالْأَرْبَعِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ» وَرُوِيَ أَنَّهُ «صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ» ، فَجَمَعْنَا بَيْنَ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَيْ لَا يَصِيرَ مُتَطَوِّعًا بَعْدَ صَلَاةِ الْفَرْضِ بِمِثْلِهَا، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا» وَمَا رُوِيَ مِنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ، وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ مَنْ يُصَلِّي بَعْدَهَا كَمْ شَاءَ، غَيْرَ أَنَّا نَقُولُ: السُّنَّةُ بَعْدَهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ لَا غَيْرُ؛ لِمَا رَوَيْنَا. [فَصْلٌ صِفَةُ الْقِرَاءَةِ فِي سُنَنِ الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْقِرَاءَةِ فِيهَا فَالْقِرَاءَةُ فِي السُّنَنِ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فَرْضٌ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ تَطَوُّعٌ وَكُلُّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَكَانَ كُلُّ شَفْعٍ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ مِنْ الْفَرَائِضِ، وَقَدْ رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ «سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ أَفِي كُلِّهِنَّ قِرَاءَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنْ سُنَن الصَّلَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنْهَا فَيُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ شَيْئًا مِنْ السُّنَنِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إذَا صَلَّى أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ» وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ لِلْمَأْمُومِ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ لِلِاشْتِبَاهِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَنَحَّى أَيْضًا حَتَّى تَنْكَسِرَ الصُّفُوفُ وَيَزُولَ الِاشْتِبَاهُ عَلَى الدَّاخِلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى مَا مَرَّ. وَيُكْرَهُ أَنْ

يُصَلِّي شَيْئًا مِنْهَا وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهِمَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ فَاتَتْهُ رَكْعَةٌ مِنْ الْفَجْرِ، فَإِنْ خَافَ أَنْ تَفُوتَهُ الْفَجْرُ تَرَكَهُمَا وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الدَّاخِلَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ لِلصَّلَاةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ لَمْ يُصَلِّ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ لَمْ يُصَلِّهَا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ، أَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ فَإِنْ دَخَلَ وَقَدْ كَانَ الْمُؤَذِّنُ أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ يُكْرَهُ لَهُ التَّطَوُّعُ فِي الْمَسْجِدِ سَوَاءٌ كَانَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ التَّطَوُّعَاتِ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ بِأَنَّهُ لَا يَرَى صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ» . وَأَمَّا خَارِجُ الْمَسْجِدِ فَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ التَّطَوُّعَاتِ. وَأَمَّا فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَالْأَمْرُ فِيهِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ إدْرَاكَ فَضِيلَةِ الِافْتِتَاحِ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالنَّفْلِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ لِسَائِرِ النَّوَافِلِ، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِاسْتِدْرَاكِهَا فَوَاتُ النَّوَافِلِ، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِاسْتِدْرَاكِ النَّوَافِلِ فَوْتُهَا وَهِيَ أَعْظَمُ ثَوَابًا فَكَانَ إحْرَازُ فَضِيلَتِهَا أَوْلَى، بِخِلَافِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَإِنَّ التَّرْغِيبَ فِيهِمَا قَدْ وُجِدَ حَسْبَمَا وُجِدَ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ وَاخْتَلَفَ تَخْرِيجُ مَشَايِخِنَا فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ وَقَدْ سَبَقَهُ بِالتَّكْبِيرِ وَشَرَعَ فِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ فَيَأْتِي بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لِيَنَالَ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ عِنْدَ فَوْتِ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ؛ لِأَنَّ إدْرَاكَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ غَيْرُ مَوْهُومٍ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ إحْرَازِ إحْدَى الْفَضِيلَتَيْنِ يُحْرِزُ الْأُخْرَى، فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ لَمْ يَأْتِ بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ بَعْدُ يَشْتَغِلُ بِإِحْرَازِهَا؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ التَّعَارُضِ تَأَيَّدَتْ بِالِانْضِمَامِ إلَى فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ، فَكَانَ إحْرَازُهَا أَوْلَى، غَيْرَ أَنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى خِلَافِ هَذَا فَإِنَّ مُحَمَّدًا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ وَمَعَ ذَلِكَ قَالَ: إنَّهُ يَشْتَغِلُ بِالتَّطَوُّعِ إذَا كَانَ يَرْجُو إدْرَاكَ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ اشْتَغَلَ بِإِحْرَازِ فَضِيلَةِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ لَفَاتَتْهُ فَضِيلَةُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَصْلًا. وَلَوْ اشْتَغَلَ بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لَمَا فَاتَتْهُ فَضِيلَةُ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَا دَامَتْ الصَّلَاةُ بَاقِيَةً؛ لِأَنَّ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ هِيَ التَّحْرِيمَةُ، وَهِيَ تَبْقَى مَا دَامَتْ الْأَرْكَانُ بَاقِيَةً فَكَانَتْ تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ بَاقِيَةً بِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ مِنْ وَجْهٍ، فَصَارَ مُدْرِكًا مِنْ وَجْهٍ وَصَارَ مُدْرِكًا أَيْضًا فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا» ؛ وَلِأَنَّهُ أَدْرَكَ أَكْثَرَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَ رَكْعَةٌ لَا غَيْرُ، وَالْمُسْتَدْرَكُ رَكْعَةٌ وَقَعْدَةٌ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَوْلَى بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يَخَافُ فَوْتَ الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا إذَا فَاتَتَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ. وَلَوْ بَقِيَ شَيْءٌ قَلِيلٌ لَا عِبْرَةَ لَهُ بِمُقَابَلَةِ مَا فَاتَ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ، وَالْفَائِتُ أَكْثَرُ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فَعَجَزَ عَنْ إحْرَازِهِمَا فَيَخْتَارُ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ لِمَا انْضَمَّ إلَى إحْرَازِهَا فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْفَرْضِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «تَفْضُلُ الصَّلَاةُ بِجَمَاعَةٍ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَفِي رِوَايَةٍ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» فَكَانَ هَذَا أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. أَمَّا إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ فَهَذَا أَيْضًا عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا إنْ شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ وَإِمَّا إنْ شَرَعَ فِي الْفَرْضِ، فَإِنْ شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ أَتَمَّ الشَّفْعَ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ أَمَّا إتْمَامُ الشَّفْعِ، فَلِأَنَّ صَوْنَهُ عَنْ الْبُطْلَانِ وَاجِبٌ، وَقَدْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِالشُّرُوعِ فِي التَّطَوُّعِ زِيَادَةٌ عَلَى الشَّفْعِ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ كَابْتِدَاءِ تَطَوُّعٍ آخَرَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ابْتِدَاءَ التَّطَوُّعِ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْإِقَامَةِ مَكْرُوهٌ. وَأَمَّا إذَا شَرَعَ فِي الْفَرْضِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَقْطَعُهَا مَا لَمْ يُقَيِّدْ الثَّانِيَةَ بِالسَّجْدَةِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ وَإِنْ كَانَ نَقْصًا صُورَةً فَلَيْسَ بِنَقْصٍ مَعْنًى لِأَنَّهُ لِلْأَدَاءِ عَلَى وَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَالْهَدْمُ لِيَبْنِيَ أَكْمَلُ يُعَدُّ إصْلَاحًا لَا هَدْمًا، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ هَدَمَ مَسْجِدًا لِيَبْنِيَ أَحْسَنَ مِنْ الْأَوَّلِ لَا يَأْثَمُ، وَإِذَا قَيَّدَ الثَّانِيَةَ بِالسَّجْدَةِ لَمْ يَقْطَعْ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْأَكْثَرِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، وَالْفَرْضُ بَعْدَ إتْمَامِهِ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ، وَلَا يَدْخُلُ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ مَكْرُوهٌ وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فَإِنْ كَانَ صَلَّى رَكْعَةً ضَمَّ إلَيْهَا أُخْرَى، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ صَوْنُ الْمُؤَدَّى وَاسْتِدْرَاكُ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ «صَلَاةُ الرَّجُلِ بِالْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً»

فصل السنة إذا فاتت عن وقتها هل تقضى أم لا

عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا إذَا قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ قَبْلَ أَنْ يُقَيِّدَهَا بِالسَّجْدَةِ يَعُودُ إلَى التَّشَهُّدِ وَيُسَلِّمُ، وَلَا يُسَلِّمُ عَلَى حَالِهِ قَائِمًا؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْقَعْدَةِ كَانَتْ سُنَّةً، وَقَعْدَةُ الْخَتْمِ فَرْضٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى الْقَعْدَةِ ثُمَّ يُسَلِّمُ لِيَكُونَ مُتَنَفِّلًا بِرَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ أَتَمَّهَا؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْأَكْثَرَ فَلَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ، وَيَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ فَيَجْعَلُهَا تَطَوُّعًا لِمَا رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ فَرَأَى رَجُلَيْنِ خَلْفَ الصَّفِّ فَقَالَ عَلَيَّ بِهِمَا فَجِيءَ بِهِمَا تَرْتَعِدُ فَرَائِصُهُمَا فَقَالَ مَا لَكُمَا لَمْ تُصَلِّيَا مَعَنَا فَقَالَا: كُنَّا صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا إمَامَ قَوْمٍ فَصَلِّيَا مَعَهُ وَاجْعَلَا ذَلِكَ سُبْحَةً» أَيْ: نَافِلَةً وَكَانَ ذَلِكَ فِي الظُّهْرِ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ وَلَوْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقْطَعُهَا لِيَدْخُلَ مَعَ الْإِمَامِ فَيُحْرِزَ ثَوَابَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَعُودُ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ مَا لَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَصْرِ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَهُ مَكْرُوهٌ، وَيَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي الْخُرُوجِ أَقَلُّ مِنْهَا فِي الْمُكْثِ. وَأَمَّا فِي الْمَغْرِبِ فَإِنْ صَلَّى رَكْعَةً قَطَعَهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمَّ إلَيْهَا أُخْرَى لَأَدَّى الْأَكْثَرَ فَلَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ. وَلَوْ قَطَعَ كَانَ بِهِ مُتَنَفِّلًا بِرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَإِنْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ مَضَى فِيهَا لِمَا قُلْنَا، وَلَا يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الثَّلَاثِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ، وَالتَّنَفُّلُ بِالثَّلَاثِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَإِمَّا أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا فَيَصِيرُ مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ يُصَلِّي رَكْعَةً أُخْرَى لِتَصِيرَ شَفْعًا لَهُ، وَقَالَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ: يُسَلِّمُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّغْيِيرَ بِحُكْمِ الِاقْتِدَاءِ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَالْمَسْبُوقِ يُدْرِكُ الْإِمَامَ فِي الْقَعْدَةِ أَنَّهُ يَقْعُدُ مَعَهُ وَابْتِدَاءُ الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ بِالْقَعْدَةِ ثُمَّ جَازَ هَذَا التَّغْيِيرُ بِحُكْمِ الِاقْتِدَاءِ، كَذَا هَذَا فَإِنْ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ صَلَّى أَرْبَعًا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ؛ لِأَنَّ بِالْقِيَامِ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ صَارَ مُلْتَزِمًا لِلرَّكْعَتَيْنِ لِخُرُوجِ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ عَنْ جَوَازِ التَّنَفُّلِ بِهَا، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَاَللَّهِ مَا أَجْزَأَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ فَلِذَلِكَ يُتِمُّ أَرْبَعًا لَوْ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ، هَذَا إذَا كَانَ لَمْ يُصَلِّ الْمَكْتُوبَةَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّاهَا ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِنْ كَانَ صَلَاةً لَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ بَعْدَهَا شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ وَإِلَّا فَلَا. [فَصْلٌ السُّنَّةَ إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا هَلْ تُقْضَى أَمْ لَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا هَلْ تُقْضَى أَمْ لَا؟ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي سَائِرِ السُّنَنِ سِوَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَنَّهَا إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا لَا تُقْضَى سَوَاءٌ فَاتَتْ وَحْدَهَا، أَوْ مَعَ الْفَرِيضَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: تُقْضَى قِيَاسًا عَلَى الْوِتْرِ، وَلَنَا مَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ حُجْرَتِي بَعْدَ الْعَصْرِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ اللَّتَانِ لَمْ تَكُنْ تُصَلِّيهِمَا مِنْ قَبْلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رَكْعَتَانِ كُنْتُ أُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الظُّهْرِ» وَفِي رِوَايَةٍ «رَكْعَتَا الظُّهْرِ شَغَلَنِي عَنْهُمَا الْوَفْدُ فَكَرِهْتُ أَنْ أُصَلِّيَهُمَا بِحَضْرَةِ النَّاسِ فَيَرَوْنِي، فَقُلْتُ: أَفَأَقْضِيهِمَا إذَا فَاتَتَا؟ فَقَالَ: لَا» وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ اُخْتُصَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا شَرِكَةَ لَنَا فِي خَصَائِصِهِ وَقِيَاسُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ لَا يَجِبَ قَضَاءُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَصْلًا، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْقَضَاءَ إذَا فَاتَتَا مَعَ الْفَرْضِ لِحَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ، وَلِأَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِبَارَةٌ عَنْ طَرِيقَتِهِ وَذَلِكَ بِالْفِعْلِ فِي وَقْتٍ خَاصٍّ عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالْفِعْلُ فِي وَقْتٍ آخَرَ لَا يَكُونُ سُلُوكَ طَرِيقَتِهِ، فَلَا يَكُونُ سُنَّةً بَلْ يَكُونُ تَطَوُّعًا مُطْلَقًا. وَأَمَّا رَكْعَتَا الْفَجْرِ إذَا فَاتَتَا مَعَ الْفَرْضِ فَقَدْ فَعَلَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْفَرْضِ لَيْلَةَ التَّعْرِيسِ فَنَحْنُ نَفْعَلُ ذَلِكَ لِنَكُونَ عَلَى طَرِيقَتِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوِتْرِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَالْوَاجِبُ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً لَكِنَّهُمَا عَرَفَا وُجُوبَ الْقَضَاءِ بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. أَمَّا سُنَّةُ الْفَجْرِ فَإِنْ فَاتَتْ مَعَ الْفَرْضِ تُقْضَى مَعَ الْفَرْضِ اسْتِحْسَانًا لِحَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا نَامَ فِي ذَلِكَ الْوَادِي ثُمَّ اسْتَيْقَظَ بِحَرِّ الشَّمْسِ فَارْتَحَلَ مِنْهُ ثُمَّ نَزَلَ وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ فَصَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ» . وَأَمَّا إذَا فَاتَتْ وَحْدَهَا لَا تُقْضَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تُقْضَى إذَا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَضَاهُمَا بَعْدَ

فصل في قدر صلاة التراويح

طُلُوعِ الشَّمْسِ قَبْلَ الزَّوَالِ» فَصَارَ ذَلِكَ وَقْتَ قَضَائِهِمَا، وَلَهُمَا أَنَّ السُّنَنَ شُرِعَتْ تَوَابِعَ لِلْفَرَائِضِ فَلَوْ قُضِيَتْ فِي وَقْتٍ لَا أَدَاءَ فِيهِ لِلْفَرَائِضِ لَصَارَتْ السُّنَنُ أَصْلًا، وَبَطَلَتْ التَّبَعِيَّةُ فَلَمْ تَبْقَ سُنَنٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ سُنَّةً بِوَصْفِ التَّبَعِيَّةِ، وَلَيْلَةُ التَّعْرِيسِ فَاتَتَا مَعَ الْفَرْضِ فَقُضِيَتَا تَبَعًا لِلْفَرْضِ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا فَاتَتَا وَحْدَهُمَا، وَلَا وَجْهَ إلَى قَضَائِهِمَا وَحْدَهُمَا لِمَا بَيَّنَّا، وَلِهَذَا لَا يُقْضَى غَيْرُهُمَا مِنْ السُّنَنِ وَلَا هُمَا يُقْضَيَانِ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَأَمَّا الَّذِي هُوَ سُنَنُ الصَّحَابَةِ فَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، وَالْكَلَامُ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ، وَقْتِهَا، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهَا، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهَا، وَفِي سُنَنِهَا، وَفِي بَيَانِ أَنَّهَا إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا هَلْ تُقْضَى أَمْ لَا؟ . أَمَّا صِفَتُهَا فَهِيَ سُنَّةٌ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْقِيَامُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سُنَّةٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: التَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتْرُكْهُ إلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا وَاظَبَ عَلَيْهَا بَلْ أَقَامَهَا فِي بَعْضِ اللَّيَالِي، رُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّاهَا لِلَيْلَتَيْنِ بِجَمَاعَةٍ ثُمَّ تَرَكَ وَقَالَ: أَخْشَى أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ» لَكِنْ الصَّحَابَةُ وَاظَبُوا عَلَيْهَا فَكَانَتْ سُنَّةَ الصَّحَابَةِ. [فَصْلٌ فِي قَدْر صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا قَدْرُهَا فَعِشْرُونَ رَكْعَةً فِي عَشْرِ تَسْلِيمَاتٍ، فِي خَمْسِ تَرْوِيحَاتٍ كُلُّ تَسْلِيمَتَيْنِ تَرْوِيحَةٌ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلٍ: سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رَكْعَةً، وَفِي قَوْلٍ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ رَكْعَةً، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَمَعَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَصَلَّى بِهِمْ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ عَلَيْهِ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا وَقْتُهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَقْتُهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْوِتْرِ، فَلَا تَجُوزُ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَلَا بَعْدَ الْوِتْرِ، وَقَالَ عَامَّتُهُمْ: وَقْتُهَا مَا بَعْدَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا تَجُوزُ قَبْلَ الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ فَلَا تَجُوزُ قَبْلَهَا كَسُنَّةِ الْعِشَاءِ، وَذَكَرَ النَّاطِفِيُّ فِي إمَامٍ صَلَّى بِقَوْمٍ صَلَاةَ الْعِشَاءِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ نَاسِيًا، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ إمَامٌ آخَرُ التَّرَاوِيحَ مُتَوَضِّئًا، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ؟ أَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُعِيدُوا الْعِشَاءَ وَالتَّرَاوِيحَ جَمِيعًا: أَمَّا الْعِشَاءُ فَلَا شَكَّ فِيهَا. وَأَمَّا التَّرَاوِيحُ؛ فَلِأَنَّهَا تُصَلَّى إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا. وَهَلْ يُكْرَهُ تَأْخِيرُهَا إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ فَكَذَا تَأْخِيرُهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهَا قِيَامُ اللَّيْلِ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ. [فَصْلٌ فِي سُنَن صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سُنَنُهَا فَمِنْهَا الْجَمَاعَةُ وَالْمَسْجِدُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْرَ مَا صَلَّى مِنْ التَّرَاوِيحِ صَلَّى بِجَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَذَا الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - صَلَّوْهَا بِجَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَكَانَ أَدَاؤُهَا بِالْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ سُنَّةً، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي كَيْفِيَّةِ سُنَّةِ الْجَمَاعَةِ، وَالْمَسْجِدِ، أَنَّهَا سُنَّةُ عَيْنٍ أَمْ سُنَّةُ كِفَايَةٍ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهَا سُنَّةٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهَا بَعْضُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فِي الْمَسْجِدِ بِجَمَاعَةٍ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ. وَلَوْ تَرَكَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ كُلُّهُمْ إقَامَتَهَا فِي الْمَسْجِدِ بِجَمَاعَةٍ فَقَدْ أَسَاءُوا وَأَثِمُوا، وَمَنْ صَلَّاهَا فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ، أَوْ بِجَمَاعَةٍ لَا يَكُونُ لَهُ ثَوَابُ سُنَّةِ التَّرَاوِيحِ لِتَرْكِهِ ثَوَابَ سُنَّةِ الْجَمَاعَةِ وَالْمَسْجِدِ. وَمِنْهَا نِيَّةُ التَّرَاوِيحِ أَوْ نِيَّةُ قِيَامِ رَمَضَانَ، أَوْ نِيَّةُ سُنَّةِ الْوَقْتِ. وَلَوْ نَوَى الصَّلَاةَ مُطْلَقًا، أَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ، قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ وَالسُّنَّةُ لَا تَتَأَدَّى بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ، أَوْ نِيَّةِ التَّطَوُّعِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ السُّنَّةِ، وَقَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا: إنَّ التَّرَاوِيحَ وَسَائِرَ السُّنَنِ تَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ؛ وَلِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةً لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا نَافِلَةً، وَالنَّوَافِلُ تَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ إلَّا أَنَّ الِاحْتِيَاطَ أَنْ يَنْوِيَ التَّرَاوِيحَ، أَوْ سُنَّةَ الْوَقْتِ، أَوْ قِيَامَ رَمَضَانَ احْتِرَازًا عَنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ. وَلَوْ اقْتَدَى مَنْ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ بِمَنْ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، أَوْ النَّافِلَةَ قِيلَ: يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ وَيَكُونُ مُؤَدِّيًا التَّرَاوِيحَ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِعَمَلِ السَّلَفِ. وَلَوْ اقْتَدَى مَنْ يُصَلِّي التَّسْلِيمَةَ الْأُولَى بِمَنْ يُصَلِّي التَّسْلِيمَةَ الثَّانِيَةَ قِيلَ: لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُ، وَقِيلَ: يَجُوزُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُتَّحِدَةٌ فَكَانَ نِيَّةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ لَغْوًا، وَلِهَذَا صَحَّ اقْتِدَاءُ مُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ بِمُصَلِّي الْأَرْبَعِ قَبْلَهُ فَكَذَا هَذَا. وَمِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ يَأْتِي بِالثَّنَاءِ وَالتَّعَوُّذِ وَالتَّسْمِيَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَالْمُقْتَدِي أَيْضًا يَأْتِي بِالثَّنَاءِ، وَفِي التَّعَوُّذِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّعَوُّذَ تَبَعُ الثَّنَاءِ، أَوْ تَبَعُ الْقِرَاءَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا

فِي مَوْضِعِهِ وَلَا يَزِيدُ الْإِمَامُ عَلَى قَدْرِ التَّشَهُّدِ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَى الْقَوْمِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَثْقُلُ عَلَى الْقَوْمِ يَزِيدُ عَلَيْهِ وَيَأْتِي بِالدَّعَوَاتِ الْمَشْهُورَةِ. وَمِنْهَا أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عَشْرَ آيَاتٍ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ: يَقْرَأُ فِيهَا كَمَا يَقْرَأُ فِي أَخَفِّ الْمَكْتُوبَاتِ وَهِيَ الْمَغْرِبُ، وَقِيلَ: يَقْرَأُ كَمَا يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ، وَقِيلَ: يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ عِشْرِينَ إلَى ثَلَاثِينَ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَعَا بِثَلَاثَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ فَاسْتَقْرَأَهُمْ وَأَمَرَ أَوَّلَهُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِثَلَاثِينَ آيَةً، وَأَمَرَ الثَّانِيَ أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ آيَةً، وَأَمَرَ الثَّالِثَ أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عِشْرِينَ آيَةً، وَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ سُنَّةٌ إذْ السُّنَّةُ أَنْ يُخْتَمَ الْقُرْآنُ مَرَّةً فِي التَّرَاوِيحِ وَذَلِكَ فِيمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَا أَمَرَ بِهِ عُمَرُ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْفَضِيلَةِ وَهُوَ أَنْ يُخْتَمَ الْقُرْآنُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَهَذَا فِي زَمَانِهِمْ. وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقْرَأَ الْإِمَامُ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْقَوْمِ مِنْ الرَّغْبَةِ وَالْكَسَلِ فَيَقْرَأُ قَدْرَ مَا لَا يُوجِبُ تَنْفِيرَ الْقَوْمِ عَنْ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ تَكْثِيرَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ، وَالْأَفْضَلُ تَعْدِيلُ الْقِرَاءَةِ فِي التَّرْوِيحَاتِ كُلِّهَا، وَإِنْ لَمْ يُعَدِّلْ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَكَذَا الْأَفْضَلُ تَعْدِيلُ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فِي التَّسْلِيمَةِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُطَوِّلُ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ كَمَا فِي الْفَرَائِضِ. وَمِنْهَا أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ رَكْعَتَيْنِ بِتَسْلِيمَةٍ عَلَى حِدَةٍ. وَلَوْ صَلَّى تَرْوِيحَةً بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَعَدَ فِي الثَّانِيَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، لَا شَكَّ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ صَلَوَاتٍ كَثِيرَةً تَتَأَدَّى بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَةَ شَرْطٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، لَكِنْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ عَنْ تَسْلِيمَتَيْنِ أَوْ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ الْمُتَوَارَثَةَ بِتَرْكِ التَّسْلِيمَةِ، وَالتَّحْرِيمَةِ، وَالثَّنَاءِ، وَالتَّعَوُّذِ وَالتَّسْمِيَةِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَالَ عَامَّتُهُمْ: إنَّهُ يَجُوزُ عَنْ تَسْلِيمَتَيْنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ كُلَّهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَعَدَ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ. أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ يَجُوزُ عَنْ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِجَمِيعِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَشَرَائِطِهَا؛ لِأَنَّ تَجْدِيدَ التَّحْرِيمَةِ لِكُلِّ رَكْعَتَيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا هَذَا إذَا قَعَدَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْعُدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إذَا لَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّانِيَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَقَامَ وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا عِنْدَهُمَا، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ قِيَاسًا، ثُمَّ إذَا جَازَ عِنْدَهُمَا فَهَلْ يَجُوزُ عَنْ تَسْلِيمَتَيْنِ أَوْ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَكُونَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ كَامِلًا، وَكَمَالُهُ بِالْقَعْدَةِ وَلَمْ تُوجَدْ وَالْكَامِلُ لَا يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ. وَلَوْ صَلَّى ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّانِيَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُجْزِئُهُ أَصْلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ تَنَفَّلَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، وَلَمْ يَقْعُدْ إلَّا فِي آخِرِهَا جَازَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا وَهُوَ الْمَغْرِبُ جَازَ، فَكَذَا النَّفَلُ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ عَلَى رَأْسِ الثَّالِثَةِ فِي النَّوَافِلِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ بِخِلَافِ الْمَغْرِبِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَقْعُدْ فِيهَا، وَلَوْ لَمْ يَقْعُدْ فِيهَا لَمْ تَجُزْ النَّافِلَةُ فَكَذَا فِي التَّرَاوِيحِ، ثُمَّ إنْ كَانَ سَاهِيًا فِي الثَّالِثَةِ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ شَرَعَ فِي صَلَاةٍ مَظْنُونَةٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ يَلْزَمُهُ رَكْعَتَانِ؛ لِأَنَّ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ قَدْ صَحَّتْ لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ، وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْهَا يَضُمُّ رَكْعَةً أُخْرَى إلَيْهَا فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ يَلْزَمُهُ رَكْعَتَانِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ قَدْ فَسَدَتْ بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَشَرَعَ فِي الثَّالِثَةِ بِلَا تَحْرِيمَةٍ، وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ صَلَّى عَشْرَ تَسْلِيمَاتٍ كُلُّ تَسْلِيمَةٍ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَوْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ كُلَّهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَقْعُدْ إلَّا فِي آخِرِهَا قَالَ بَعْضُهُمْ: يُجْزِئُهُ عَنْ التَّرَاوِيحِ كُلِّهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُجْزِئُهُ إلَّا عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ أَخَلَّ بِكُلِّ شَفْعٍ بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ. وَمِنْهَا أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ تَرْوِيحَةٍ إمَامٌ وَاحِدٌ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ، وَعَمَلُ السَّلَفِ وَلَا يُصَلِّي التَّرْوِيحَةَ الْوَاحِدَةَ إمَامَانِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ عَمَلِ السَّلَفِ، وَيَكُونُ تَبْدِيلُ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ الِانْتِظَارِ بَيْنَ التَّرْوِيحَتَيْنِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ. وَلَا يُصَلِّي إمَامٌ وَاحِدٌ التَّرَاوِيحَ فِي مَسْجِدَيْنِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ عَلَى الْكَمَالِ وَلَا لَهُ فِعْلٌ وَلَا يُحْتَسَبُ التَّالِي مِنْ التَّرَاوِيحِ، وَعَلَى الْقَوْمِ أَنْ يُعِيدُوا؛ لِأَنَّ صَلَاةَ إمَامِهِمْ نَافِلَةٌ، وَصَلَاتُهُمْ سُنَّةٌ وَالسُّنَّةُ أَقْوَى فَلَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَتَكَرَّرُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَمَا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْأَوَّلِ مَحْسُوبٌ، وَلَيْسَ عَلَى الْقَوْمِ أَنْ يُعِيدُوا وَلَا

فصل صلاة التراويح إذا فاتت عن وقتها هل تقضى أم لا

بَأْسَ لِغَيْرِ الْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ التَّرَاوِيحَ فِي مَسْجِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ اقْتِدَاءُ الْمُتَطَوِّعِ بِمَنْ يُصَلِّي السُّنَّةَ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ كَمَا لَوْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ ثُمَّ أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ وَدَخَلَ فِيهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. إذَا صَلَّوْا التَّرَاوِيحَ ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوهَا ثَانِيًا يُصَلُّونَ فُرَادَى لَا بِجَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ تَطَوُّعٌ مُطْلَقٌ، وَالتَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ بِجَمَاعَةٍ مَكْرُوهٌ. وَيَجُوزُ التَّرَاوِيحُ قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمُتَوَارَثَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا لَوْ صَلَّاهَا عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى النُّزُولِ لِاخْتِصَاصِ هَذِهِ السُّنَّةِ بِزِيَادَةِ تَوْكِيدٍ وَتَرْغِيبٍ بِتَحْصِيلِهَا، وَتَرْهِيبٍ وَتَحْذِيرٍ عَلَى تَرْكِهَا فَالْتَحَقَتْ بِالْوَاجِبَاتِ كَالْوِتْرِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ كُلَّمَا صَلَّى تَرْوِيحَةً قَعَدَ بَيْنَ التَّرْوِيحَتَيْنِ قَدْرَ تَرْوِيحَةٍ يُسَبِّحُ، وَيُهَلِّلُ وَيُكَبِّرُ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدْعُو وَيَنْتَظِرُ أَيْضًا بَعْدَ الْخَامِسَةِ قَدْرَ تَرْوِيحَةٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَارَثٌ مِنْ السَّلَفِ وَأَمَّا الِاسْتِرَاحَةُ بَعْدَ خَمْسِ تَسْلِيمَاتٍ فَهَلْ يُسْتَحَبُّ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُسْتَحَبُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ عَمَلِ السَّلَفِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا هَلْ تُقْضَى أَمْ لَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ أَدَائِهَا إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا هَلْ تُقْضَى أَمْ لَا؟ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهَا تُقْضَى وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُقْضَى؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِآكَدَ مِنْ سُنَّةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَتِلْكَ لَا تُقْضَى فَكَذَلِكَ هَذِهِ. [فَصْلٌ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَنَّ التَّطَوُّعَ هَلْ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ بِالشُّرُوعِ، وَفِي بَيَانِ أَفْضَلِ التَّطَوُّعِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُكْرَهُ مَنْ التَّطَوُّعِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُفَارِقُ التَّطَوُّعُ الْفَرْضَ فِيهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِيهِ، وَإِذَا أَفْسَدَهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِي التَّطَوُّعِ وَلَا الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ التَّطَوُّعَ تَبَرُّعٌ وَأَنَّهُ يُنَافِي الْوُجُوبَ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْمُضِيُّ فِيهِ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ تَسْلِيمٌ مِثْلُ الْوَاجِبِ، وَلَنَا أَنَّ الْمُؤَدَّى عِبَادَةٌ، وَإِبْطَالُ الْعِبَادَةِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] فَيَجِبُ صِيَانَتُهَا عَنْ الْإِبْطَالِ، وَذَا بِلُزُومِ الْمُضِيِّ فِيهَا، وَإِذَا أَفْسَدَهَا فَقَدْ أَفْسَدَ عِبَادَةً وَاجِبَةَ الْأَدَاءِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ كَمَا فِي الْمَنْذُورِ وَالْمَفْرُوضِ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ كَمَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ تَبَرُّعٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: نَعَمْ قَبْلَ الشُّرُوعِ. وَأَمَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ فَقَدْ صَارَ وَاجِبًا لِغَيْرِهِ وَهُوَ صِيَانَةُ الْمُؤَدَّى عَنْ الْبُطْلَانِ وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ وَهُوَ يَنْوِي التَّطَوُّعَ وَالْإِمَامُ فِي الظُّهْرِ ثُمَّ قَطَعَهَا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ دَخَلَ مَعَهُ فِيهَا يَنْوِي التَّطَوُّعَ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ يَنْوِيَ قَضَاءَ الْأُولَى، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَصْلًا، أَوْ نَوَى صَلَاةً أُخْرَى فَفِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَسْقُطُ عَنْهُ، وَتَنُوبُ هَذِهِ عَنْ قَضَاءِ مَا لَزِمَهُ بِالْإِفْسَادِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ مَا لَزِمَهُ بِالْإِفْسَادِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ كَالصَّلَاةِ الْمَنْذُورَةِ فَلَا يَتَأَدَّى خَلْفَ إمَامٍ يُصَلِّي صَلَاةً أُخْرَى، وَلَنَا أَنَّهُ لَوْ أَتَمَّهَا حِينَ شَرَعَ فِيهَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ، فَكَذَا إذَا أَتَمَّهَا بِالشُّرُوعِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ بِالشُّرُوعِ إلَّا أَدَاءَ هَذِهِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ، وَقَدْ أَدَّاهَا وَإِنْ نَوَى تَطَوُّعًا آخَرَ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَنُوبُ عَمَّا لَزِمَهُ بِالْإِفْسَادِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَذُكِرَ فِي زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَنُوبُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا نَوَى صَلَاةً أُخْرَى فَقَدْ أَعْرَضَ عَمَّا كَانَ دَيْنًا عَلَيْهِ بِالْإِفْسَادِ، فَلَا يَنُوبُ هَذَا الْمُؤَدَّى عَنْهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّهُ مَا الْتَزَمَ فِي الْمَرَّتَيْنِ إلَّا أَدَاءَ هَذِهِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ، وَقَدْ أَدَّاهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الشُّرُوعُ فِي التَّطَوُّعِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلُّزُومِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: الشُّرُوعُ فِي التَّطَوُّعِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ غَيْرُ مُلْزِمٍ حَتَّى لَوْ قَطَعَهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا الْأَفْضَلُ أَنْ يَقْطَعَ وَإِنْ أَتَمَّ فَقَدْ أَسَاءَ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ، وَإِنْ قَطَعَهَا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَأَمَّا الشُّرُوعُ فِي الصَّوْمِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ فَغَيْرُ مُلْزِمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزُفَرَ وَعِنْدَهُمَا مُلْزِمٌ فَهُمَا سَوَّيَا بَيْنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَجَعَلَا الشُّرُوعَ فِيهِمَا مُلْزِمًا كَالنَّذْرِ لِكَوْنِ الْمُؤَدَّى عِبَادَةً وَزُفَرُ سَوَّى بَيْنَهُمَا بِعِلَّةِ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ وَجَعَلَ الشُّرُوعَ فِيهِمَا غَيْرَ مُلْزِمٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ وَالْفَرْقُ لَهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْدِيمِ مُقَدِّمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ مَا تَرَكَّبَ مِنْ أَجْزَاءٍ مُتَّفِقَةٍ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْكُلِّ فِيهِ عَلَى الْبَعْضِ كَالْمَاءِ، فَإِنَّ مَاءَ الْبَحْرِ يُسَمَّى مَاءً، وَقَطْرَةٌ مِنْهُ تُسَمَّى مَاءً، وَكَذَا الْخَلُّ وَالزَّيْتُ، وَكُلُّ مَائِعٍ، وَمَا تَرَكَّبَ مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَكُونُ لِلْبَعْضِ مِنْهُ اسْمُ الْكُلِّ كَالسَّكَنْجَبِينِ، لَا يُسَمَّى الْخَلَّ وَحْدَهُ وَلَا السُّكْرَ وَحْدَهُ سكنجيبا، وَكَذَا الْأَنْفُ وَحْدَهُ لَا يُسَمَّى وَجْهًا، وَلَا الْخَدُّ

فصل في بيان مقدار ما يلزم منه بالشروع في صلاة التطوع

وَحْدَهُ وَلَا الْعَظْمُ وَحْدَهُ يُسَمَّى آدَمِيًّا، ثُمَّ الصَّوْمُ يَتَرَكَّبُ مِنْ أَجْزَاءٍ مُتَّفِقَةٍ فَيَكُونُ لِكُلِّ جُزْءٍ اسْمُ الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةُ تَتَرَكَّبُ مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهِيَ: الْقِيَامُ، وَالْقِرَاءَةُ، وَالرُّكُوعُ، وَالسُّجُودُ فَلَا يَكُونُ لِلْبَعْضِ اسْمُ الْكُلِّ. وَمِنْ هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَصُومُ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ فَكَمَا شَرَعَ يَحْنَثُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَمَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَا يَحْنَثُ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ: إنَّهُ نَهْيٌ عَنْ الصَّوْمِ فَكَمَا شَرَعَ بَاشَرَ الْفِعْلَ الْمَنْهِيَّ، وَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فَمَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ لَمْ يُبَاشِرْ مِنْهَا فِيمَا انْعَقَدَ انْعَقَدَ قُرْبَةً خَالِصَةً غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهَا، فَبَعْدَ هَذَا يَقُولُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّ الشُّرُوعَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَهُوَ فِي الصَّوْمِ مَنْهِيٌّ فَفَسَدَ فِي نَفْسِهِ فَلَمْ يَصِرْ سَبَبَ الْوُجُوبِ، وَفِي الصَّلَاةِ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ فَصَارَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ وَإِذَا تَحَقَّقَ هَذَا فَنَقُولُ: وُجُوبُ الْمُضِيِّ فِي التَّطَوُّعِ لِصِيَانَةِ مَا انْعَقَدَ قُرْبَةً، وَفِي بَابِ الصَّوْمِ مَا انْعَقَدَ انْعَقَدَ مَعْصِيَةً مِنْ وَجْهٍ وَالْمُضِيُّ أَيْضًا مَعْصِيَةٌ وَالْمُضِيُّ لَوْ وَجَبَ وَجَبَ لِصِيَانَةِ مَا انْعَقَدَ وَمَا انْعَقَدَ عِبَادَةٌ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَتَقْرِيرُ الْعِبَادَةِ وَصِيَانَتُهَا وَاجِبٌ، وَتَقْرِيرُ الْمَعْصِيَةِ وَصِيَانَتُهَا مَعْصِيَةٌ، فَالصِّيَانَةُ وَاجِبَةٌ مِنْ وَجْهٍ، مَحْظُورَةٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ تَجِبْ الصِّيَانَةُ عِنْدَ الشَّكِّ، وَتَرَجَّحَتْ جِهَةُ الْحَظْرِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ، وَالصِّيَانَةُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَا هُوَ عِبَادَةٌ وَبِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ وَإِيجَابُ الْعِبَادَةِ مُمْكِنٌ، وَإِيجَابُ الْمَعْصِيَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَمْ يَجِبْ الْمُضِيُّ عِنْدَ التَّعَارُضِ، بَلْ يُرَجَّحُ جَانِبُ الْحَظْرِ فَأَمَّا فِي بَابِ الصَّلَاةِ فَمَا انْعَقَدَ انْعَقَدَ عِبَادَةً خَالِصَةً لَا حَظْرَ فِيهَا فَوَجَبَ تَقْرِيرُهَا وَصِيَانَتُهَا، ثُمَّ صِيَانَتُهَا وَإِنْ كَانَتْ بِالْمُضِيِّ وَبِالْمُضِيِّ يَقَعُ فِي الْمَحْظُورِ وَلَكِنْ لَوْ مَضَى تَقَرَّرَتْ الْعِبَادَةُ، وَتَقْرِيرُهَا وَاجِبٌ، وَمَا يَأْتِي بِهِ عِبَادَةٌ وَمَحْظُورٌ أَيْضًا فَكَانَ مُحَصِّلًا لِلْعِبَادَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ وَمُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ مِنْ وَجْهٍ فَتَرَجَّحَتْ جِهَةُ الْعِبَادَةِ. وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْ الْمُضِيِّ امْتَنَعَ عَنْ تَحْصِيلِ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ، وَلَكِنْ امْتَنَعَ أَيْضًا عَنْ تَحْصِيلِ مَا هُوَ عِبَادَةٌ وَأَبْطَلَ الْعِبَادَةَ الْمُتَقَرِّرَةَ، وَإِبْطَالُهَا مَحْظُورٌ مَحْضٌ فَكَانَ الْمُضِيُّ لِلصِّيَانَةِ أَوْلَى مِنْ الِامْتِنَاعِ فَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فَإِذَا أَفْسَدَهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: إنَّ النَّهْيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَهُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّتِهِ وَوُرُودِهِ فَكَانَ فِي ثُبُوتِهِ شَكٌّ وَشُبْهَةٌ، وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ كَانَ قَبُولُهُ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ، وَالِاحْتِيَاطُ فِي حَقِّ إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَفْسَدَ بِالشُّرُوعِ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ مَا وَرَدَ بِخِلَافِ النَّهْيِ عَنْ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَتَلَقَّتْهُ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى بِالْقَبُولِ، فَكَانَ النَّهْيُ ثَابِتًا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَلَمْ يَصِحَّ الشُّرُوعُ فَلَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ، وَالْفَقِيهُ الْجَلِيلُ أَبُو أَحْمَدَ الْعِيَاضِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ ذَكَرَ هَذِهِ الْفُرُوقَ، وَأَشَارَ إلَى فَرْقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الصَّوْمَ وُجُوبُهُ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَهُوَ فِعْلٌ مِنْ الصَّوْمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَوُجُوبُهَا بِالتَّحْرِيمَةِ وَهِيَ قَوْلٌ، وَلَيْسَتْ مِنْ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ غَيْرَ أَنَّهُ لَوْ أَفْسَدَهَا مَعَ هَذَا وَقَضَى فِي وَقْتٍ آخَرَ كَانَ أَحْسَنَ؛ لِأَنَّ الْإِفْسَادَ لِيُؤَدِّيَ أَكْمَلُ لَا يُعَدُّ إفْسَادًا وَهَهُنَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدَّى خَالِيًا عَنْ اقْتِرَانِ النَّهْيِ بِهِ، وَلَكِنْ لَوْ صَلَّى مَعَ هَذَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَا لَزِمَهُ إلَّا هَذِهِ الصَّلَاةُ، وَقَدْ أَسَاءَ حَيْثُ أَدَّى مَقْرُونًا بِالنَّهْيِ. وَلَوْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَطَعَهَا ثُمَّ قَضَاهَا وَقْتَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ نَاقِصَةً وَأَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ فَيَجُوزُ كَمَا لَوْ أَتَمَّهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، ثُمَّ الشُّرُوعُ إنَّمَا يَكُونُ سَبَبَ الْوُجُوبِ إذَا صَحَّ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَصِحَّ فَلَا، حَتَّى لَوْ شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، أَوْ فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَكَذَا الْقَارِئُ إذَا شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْأُمِّيِّ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ، أَوْ فِي صَلَاةِ امْرَأَةٍ، أَوْ جُنُبٍ، أَوْ مُحْدِثٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا عَلَى نَفْسِهِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَصِحَّ حَيْثُ اقْتَدَى بِمِنْ لَا يَصْلُحُ إمَامًا لَهُ، وَكَذَا الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ الْمَظْنُونَةِ غَيْرُ مُوجِبٍ حَتَّى لَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ. وَلَوْ أَفْسَدَ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَفِي بَابِ الْحَجِّ يَلْزَمُهُ التَّطَوُّعُ بِالشُّرُوعِ مَعْلُومًا كَانَ، أَوْ مَظْنُونًا وَالْفَرْقُ يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ إنْ شَاءَ لَلَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مِقْدَارِ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ بِالشُّرُوعِ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ بِالشُّرُوعِ فَنَقُولُ لَا يَلْزَمُهُ بِالِافْتِتَاحِ أَكْثَرُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَصْحَابِنَا إلَّا بِعَارِضِ الِاقْتِدَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ رَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ يَنْوِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا: قَضَى أَرْبَعًا ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ وَرَوَى بِشْرُ بْنُ أَبِي الْأَزْهَرِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ افْتَتَحَ النَّافِلَةَ يَنْوِي عَدَدًا: يَلْزَمُهُ بِالِافْتِتَاحِ ذَلِكَ الْعَدَدُ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ رَكْعَةٍ وَرَوَى غَسَّانُ

عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنْ نَوَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَزِمَهُ وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ مَا تَنَاوَلَهُ، وَإِنْ كَثُرَ وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي الْأَزْهَرِ عَنْهُ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلُّزُومِ كَالنَّذْرِ ثُمَّ يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ جَمِيعُ مَا تَنَاوَلَهُ وَكَذَا بِالشُّرُوعِ، وَجْهُ رِوَايَةِ غَسَّانَ عَنْهُ أَنَّ مَا وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْوُجُوبِ مِنْ الْعَبْدِ دُونَ مَا وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً وَذَا لَا يَزِيدُ عَلَى الْأَرْبَعِ فَهَذَا أَوْلَى، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوُجُوبَ بِسَبَبِ الشُّرُوعِ مَا ثَبَتَ وَضْعًا بَلْ ضَرُورَةُ صِيَانَةِ الْمُؤَدِّي عَنْ الْبُطْلَانِ، وَمَعْنَى الصِّيَانَةِ يَحْصُلُ بِتَمَامِ الرَّكْعَتَيْنِ فَلَا تَلْزَمُ الزِّيَادَةُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ بِخِلَافِ النَّذْرِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْوُجُوبِ بِصِيغَتِهِ وَضْعًا فَيَتَقَدَّرُ الْوُجُوبُ بِقَدْرِ مَا تَنَاوَلَهُ السَّبَبُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الشُّرُوعَ سَبَبُ الْوُجُوبِ كَالنَّذْرِ فَنَقُولُ نَعَمْ لَكِنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ مَا وُجِدَ الشُّرُوعُ فِيهِ، وَلَمْ يُوجَدْ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي فَلَا يَجِبُ، وَلِأَنَّهُ مَا وُضِعَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ بَلْ الْوُجُوبُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الشَّفْعِ الثَّانِي، بِخِلَافِ النَّذْرِ فَإِنَّهُ الْتَزَمَ صَرِيحًا فَيَلْزَمُهُ بِقَدْرِ مَا الْتَزَمَ. وَكَذَا الْجَوَابُ فِي السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالشُّرُوعِ فِيهَا إلَّا رَكْعَتَيْنِ حَتَّى لَوْ قَطَعَهَا قَضَى رَكْعَتَيْنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ نَفْلٌ، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ قَضَى أَرْبَعًا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَقْضِي فِي التَّطَوُّعِ أَرْبَعًا وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا اخْتَارَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا يُؤَدِّي مِنْ الْأَرْبَعِ مِنْهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الْأَرْبَعُ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَقَالَ: لَوْ قَطَعَهَا يَقْضِي أَرْبَعًا. وَلَوْ أُخْبِرَ بِالْبَيْعِ فَانْتَقَلَ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ، وَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ وَهُوَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ وَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ: مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَكْعَتَانِ بِالشُّرُوعِ فَفَرَغَ مِنْهُمَا وَقَعَدَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ عَلَى قَصْدِ الْأَدَاءِ يَلْزَمُهُ إتْمَامُ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَاوَيْنِ وَبَيَّنَهُمَا عَلَى التَّحْرِيمَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْمُؤَدَّى صَارَ عِبَادَةً فَيَجِبُ عَلَيْهِ إتْمَامُ الرَّكْعَتَيْنِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ الْبُطْلَانِ، وَالْقِيَامُ إلَى الثَّالِثَةِ عَلَى قَصْدِ الْأَدَاءِ بِنَاءً، مِنْهُ الشَّفْعُ الثَّانِي عَلَى التَّحْرِيمَةِ الْأَوْلَى وَأَمْكَنَ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ شَرْطُ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا، وَالشَّرْطُ الْوَاحِدُ يَكْفِي لِأَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ كَالطَّهَارَةِ الْوَاحِدَةِ أَنَّهَا تَكْفِي لِصَلَوَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَيَلْزَمُهُ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ الْقِرَاءَةُ كَمَا فِي الْأُولَيَيْنِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْمُتَنَفِّلَ إذَا قَامَ إلَى الثَّالِثِ لِقَصْدِ الْأَدَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَفْتِحَ فَيَقُولَ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَخْ كَمَا يَسْتَفْتِحُ فِي الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِنَاءُ الِافْتِتَاحِ، وَفِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ مِنْ النَّفْلِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ لَكِنْ بِنَاءً عَلَى التَّحْرِيمَةِ الْأُولَى فَيَأْتِي بِالثَّنَاءِ الْمَسْنُونِ فِيهِ. وَلَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا فَسَهَا فِيهِمَا فَسَجَدَ لِسَهْوِهِ بَعْدَ السَّلَامِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِمَا رَكْعَتَيْنِ أُخْرَاوَيْنِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَوَقَعَ سُجُودُهُ لِلسَّهْوِ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَسَهَا فِيهِمَا فَسَجَدَ لِلسَّهْوِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ حَيْثُ يَصِحُّ، وَيَقُومُ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ يَقَعُ سَهْوُهُ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ السَّلَامَ مُحَلَّلٌ فِي الشَّرْعِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَهُ عَنْ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، أَوْ حَكَمَ بِعَوْدِ التَّحْرِيمَةِ ضَرُورَةَ تَحْصِيلِ السُّجُودِ؛ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لَا يُؤْتَى بِهِ إلَّا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ، وَالضَّرُورَةُ فِي حَقِّ تِلْكَ الصَّلَاةِ، وَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى إكْمَالِهَا فَظَهَرَ بَقَاءُ التَّحْرِيمَةِ، أَوْ عَوْدُهَا فِي حَقِّهَا لَا فِي حَقِّ صَلَاةٍ أُخْرَى، وَلَا ضَرُورَةَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ فَيَعْمَلُ التَّسْلِيمُ عَمَلَهُ فِي التَّحْلِيلِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ فِي الْمُتَنَفِّلِ بِالْأَرْبَعِ إذَا تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى أَنْ تَفْسُدَ صَلَاتُهُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ لَمَّا كَانَ صَلَاةً عَلَى حِدَةٍ كَانَتْ الْقَعْدَةُ عَقِيبَهُ فَرْضًا كَالْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ الْفَرَائِضِ، إلَّا أَنَّ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَفْسُدُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ قَبْلَ الْقَعْدَةِ فَقَدْ جَعَلَهَا صَلَاةً وَاحِدَةً شَبِيهَةً بِالْفَرْضِ، وَاعْتِبَارُ النَّفْلِ بِالْفَرْضِ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْفَرْضِ فَصَارَتْ الْقَعْدَةُ الْأُولَى فَاصِلَةً بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ وَالْخَاتِمَةُ هِيَ الْفَرِيضَةُ فَأَمَّا الْفَاصِلَةُ فَوَاجِبَةٌ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ فِي التَّطَوُّعِ، وَقَامَ إلَى الْأُخْرَيَيْنِ وَقَرَأَ فِيهِمَا حَيْثُ يَفْسُدُ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ نَجْعَلْ هَذِهِ الصَّلَاةَ صَلَاةً وَاحِدَةً فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ بِمَنْزِلَةِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ؛ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ إنَّمَا صَارَتْ فَرْضًا لِغَيْرِهَا وَهُوَ الْخُرُوجُ فَإِذَا قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ وَصَارَتْ الصَّلَاةُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ لَمْ يَأْتِ أَوَانُ الْخُرُوجِ فَلَمْ تَبْقَ الْقَعْدَةُ فَرْضًا، فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَهِيَ رُكْنٌ بِنَفْسِهَا فَإِذَا تَرَكَهَا فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَسَدَ فَلَمْ يَصِحَّ بِنَاءُ الشَّفْعِ الثَّانِي عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: إذَا صَلَّى التَّطَوُّعَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ

وَاحِدَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ اعْتِبَارًا لِلتَّطَوُّعِ بِالْفَرْضِ وَهُوَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ إذَا صَلَّاهَا بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَعْدَةُ وَهِيَ الرَّكْعَةُ الْأَخِيرَةُ فَسَدَتْ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بِالرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَيَفْسُدُ مَا قَبْلَهَا. وَلَوْ تَطَوَّعَ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا جَازَتْ بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجُوزُ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْضًا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّا إنَّمَا اسْتَحْسَنَّا جَوَازَ الْأَرْبَعِ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ اعْتِبَارًا بِالْفَرِيضَةِ، وَلَيْسَ فِي الْفَرَائِضِ سِتُّ رَكَعَاتٍ يَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيَعُودُ الْأَمْرُ فِيهِ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إنَّمَا يَجِبُ بِإِفْسَادِ التَّطَوُّعِ قَضَاءُ الشَّفْعِ الَّذِي اتَّصَلَ بِهِ الْمُفْسَدُ دُونَ الشَّفْعِ الَّذِي مَضَى عَلَى الصِّحَّةِ حَتَّى لَوْ صَلَّى أَرْبَعًا فَتَكَلَّمَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ قَضَى الشَّفْعَ الثَّانِيَ دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ فَفَسَادُ الثَّانِي لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّهُ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ، فَفَسَادُ الْبَعْضِ يُوجِبُ فَسَادَ الْكُلِّ. وَلَوْ اقْتَدَى الْمُتَطَوِّعُ بِمُصَلِّي الظُّهْرِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ ثُمَّ قَطَعَهَا، أَوْ اقْتَدَى بِهِ فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ الْتَزَمَ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَهِيَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ. وَمَنْ نَوَى أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ سِتًّا لَمْ يَلْزَمْهُ رَكْعَتَانِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ لَمْ يُوجَدْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَإِنَّمَا وُجِدَ فِي الظُّهْرِ وَهِيَ أَرْبَعٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الرَّكْعَتَيْنِ إلَّا مُجَرَّدُ النِّيَّةِ وَمُجَرَّدُ النِّيَّةِ لَا يُلْزِمُ شَيْئًا. ، وَكَذَا الْمُسَافِرُ إذَا نَوَى أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ أَرْبَعًا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ فَكَانَتْ نِيَّةُ الزِّيَادَةِ لَغْوًا. هَذَا إذَا أَفْسَدَ التَّطَوُّعَ بِشَيْءٍ مِنْ أَضْدَادِ الصَّلَاةِ فِي الْوَضْعِ مِنْ الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ وَالْقَهْقَهَةِ وَعَمَلٍ كَثِيرٍ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا إذَا أَفْسَدَهُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ بِأَنْ صَلَّى التَّطَوُّعَ أَرْبَعًا، وَلَمْ يَقْرَأْ فِيهِنَّ شَيْئًا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ وَهِيَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَعْرُوفَةِ بِثَمَانِ مَسَائِلَ، وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ مَتَى فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ تَبْقَى التَّحْرِيمَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مَتَى فَسَدَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ لَا تَبْقَى التَّحْرِيمَةُ، فَلَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ فَسَدَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا بَطَلَتْ التَّحْرِيمَةُ، فَلَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، وَإِنْ فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي إحْدَاهُمَا بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ فِي كُلِّ شَفْعٍ مِنْ النَّفْلِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا فَكَمَا يَفْسُدُ الشَّفْعُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا، يَفْسُدُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي إحْدَاهُمَا لِفَوَاتِ مَا هُوَ رُكْنٌ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الرُّكُوعَ أَوْ السُّجُودَ أَنَّهُ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ التَّرْكِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَوْ فِي إحْدَاهُمَا، كَذَا هَذَا وَصَارَ تَرْكُ الْقِرَاءَةِ فِي الْإِفْسَادِ، وَالْحَدَثِ الْعَمْدِ وَالْكَلَامِ سَوَاءً فَإِذَا فَسَدَتْ الْأَفْعَالُ لَمْ تَبْقَ التَّحْرِيمَةُ؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى لِتَوْحِيدِ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فَإِذَا فَسَدَتْ الْأَفْعَالُ لَا تَبْقَى هِيَ فَلَمْ يَصِحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي لِعَدَمِ التَّحْرِيمَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْفَسَادُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَفْعَالَ وَإِنْ بَطَلَتْ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ رُكْنًا وَلَكِنْ بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ؛ لِأَنَّهَا مَا عُقِدَتْ لِهَذَا الشَّفْعِ خَاصَّةً بَلْ لَهُ الشَّفْعُ الثَّانِي أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ يَصِحُّ بِنَاءُ الشَّفْعِ الثَّانِي عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ تَبْطُلْ التَّحْرِيمَةُ صَحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، ثُمَّ يَفْسُدُ هُوَ أَيْضًا بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلتَّحْرِيمَةِ مَعَ بُطْلَانِ الْأَفْعَالِ كَمَا إذَا تَرَكَ رُكْنًا آخِرًا، وَتَكَلَّمَ أَوْ أَحْدَثَ عَمْدًا؛ لِأَنَّهَا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ لِتَجْعَلَهَا كُلَّهَا عِبَادَةً وَاحِدَةً فَتَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الْأَفْعَالِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا عَلِمَ فَسَادَ الشَّفْعِ بِيَقِينٍ لِتَرْكِ الرُّكْنِ بِيَقِينٍ، فَأَمَّا إذَا قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ لَمْ يَعْلَمْ يَقِينًا بِفَسَادِ هَذَا الشَّفْعِ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ كَانَ يَقُولُ: بِجَوَازِ الصَّلَاةِ بِوُجُودِ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لَكِنْ إنَّمَا عَرَفْنَا فَسَادَهُ بِدَلِيلٍ اجْتِهَادِيٍّ غَيْرِ مُوجِبٍ عِلْمَ الْيَقِينِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ قَوْلَهُ غَيْرَ أَنَّا عَرَفْنَا صِحَّةَ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ وَفَسَادَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فَلَمْ نَحْكُمْ بِبُطْلَانِ التَّحْرِيمَةِ الثَّانِيَةِ بِيَقِينٍ بِالشَّكِّ، وَلِأَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ مَتَى دَارَ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ كَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الْحُكْمِ بِفَسَادِهِ لِيَجِبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَبِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ لِيَصِحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي لِيَجِبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِوُجُودِ مُفْسِدٍ فِي هَذَا الشَّفْعِ أَيْضًا إذَا عَرَفْت هَذَا الْأَصْلَ، فَنَقُولُ إذَا تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأَرْبَعِ كُلِّهَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِفَسَادِ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ بِيَقِينٍ فَلَمْ يَصِحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ لِعَدَمِ الْإِفْسَادِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ بَقِيَتْ وَإِنْ فَسَدَ الشَّفْعُ

فصل بيان أفضل التطوع

الْأَوَّلُ، فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي ثُمَّ يَفْسُدُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ أَيْضًا، فَيَجِبُ قَضَاءُ الشَّفْعَيْنِ جَمِيعًا. وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ، أَوْ قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ فَحَسْبُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ هَذَا الشَّفْعِ فَبَطَلَتْ التَّحْرِيمَةُ فَلَمْ يَصِحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِعَدَمِ بُطْلَانِ التَّحْرِيمَةِ بِفَسَادِ الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِكَوْنِ الْفَسَادِ غَيْرَ ثَابِتٍ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَبَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ فَصَحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، ثُمَّ فَسَدَ الشَّفْعُ الثَّانِي بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَوْ فِي إحْدَاهُمَا. وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ وَقَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ فَسَدَ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ؛ فَأَمَّا الشَّفْعُ الثَّانِي فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ صَلَاةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِيهِ قَدْ صَحَّ لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ، وَقَدْ وُجِدَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا فَصَحَّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَمَّا بَطَلَتْ التَّحْرِيمَةُ لَمْ يَصِحَّ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي فَلَمْ تَكُنْ صَلَاةً فَلَا يَجِبُ إلَّا قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ، وَالْأُخْرَيَانِ لَا يَكُونَانِ قَضَاءً عَنْ الْأُولَيَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ؛ فَلِأَنَّ الشَّفْعَ الثَّانِيَ لَيْسَ بِصَلَاةٍ لِانْعِدَامِ التَّحْرِيمَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَإِنْ كَانَ صَلَاةً لَكِنَّهُ بَنَاهُ عَلَى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ، وَأَنَّهَا انْعَقَدَتْ لِلْأَدَاءِ، وَالتَّحْرِيمَةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَتَّسِعُ فِيهَا الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ. وَلَوْ قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ لَا غَيْرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، قَضَاءُ الْأَرْبَعِ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ مُحَمَّدٍ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ. وَلَوْ قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ لَا غَيْرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ لَا غَيْرُ. وَلَوْ قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ لَا غَيْرُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الشَّفْعِ الْأَخِيرِ عِنْدَ الْكُلِّ وَكَذَا، لَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي إحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا قَعَدَ بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْعُدْ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ وَلَا تَتَأَتَّى هَذِهِ التَّفْرِيعَاتُ عِنْدَهُ. وَلَوْ كَانَ خَلْفَهُ رَجُلٌ اقْتَدَى بِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ إمَامِهِ يَقْضِي مَا يَقْضِي إمَامُهُ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي مُتَعَلِّقَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ صِحَّةً وَفَسَادًا. وَلَوْ تَكَلَّمَ الْمُقْتَدِي وَمَضَى الْإِمَامُ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَقَرَأَ فِي الْأَرْبَعِ كُلِّهَا، وَقَعَدَ بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ فَإِنْ تَكَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ الْإِمَامُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْأُولَيَيْنِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ الشَّفْعَ الْأَخِيرَ؛ لِأَنَّ الِالْتِزَامَ بِالشُّرُوعِ وَلَمْ يَشْرَعْ فِيهِ وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْهُ الشُّرُوعُ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَقَطْ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ بِالْإِفْسَادِ لَا غَيْرُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ إلَى الثَّالِثَةِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا الْتَزَمَ بِوَصْفِ الصِّحَّةِ. وَأَمَّا إذَا قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ ثُمَّ تَكَلَّمَ الْمُقْتَدِي لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأَصْلِ وَذَكَرَ عِصَامُ بْنُ يُوسُفَ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ صَدْرُ الدِّينِ أَبُو الْمُعِينِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ هَذَا كُلَّهُ صَلَاةً وَاحِدَةً بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَمْ يَحْكُمَا بِفَسَادِهَا بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ الْأُولَى. وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَقَدْ بَقِيَ كُلُّ شَفْعٍ صَلَاةً عَلَى حِدَةٍ حَتَّى حُكِمَ بِافْتِرَاضِ الْقَعْدَةِ الْأُولَى فَكَانَ هَذَا الْمُقْتَدِي مُفْسِدًا لِلشَّفْعِ الْأَخِيرِ لَا غَيْرُ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ لَا غَيْرُ. [فَصْلٌ بَيَانُ أَفْضَلِ التَّطَوُّعِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ أَفْضَلِ التَّطَوُّعِ فَأَمَّا فِي النَّهَارِ فَأَرْبَعٌ أَرْبَعٌ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَثْنَى مَثْنَى بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ جَمِيعًا وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى عُمَارَةُ بْنُ رُوَيْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «كَانَ يَفْتَتِحُ صَلَاةَ الضُّحَى بِرَكْعَتَيْنِ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْتَارُ مِنْ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا؛ وَلِأَنَّ فِي التَّطَوُّعِ بِالْمَثْنَى زِيَادَةُ تَكْبِيرٍ وَتَسْلِيمٍ فَكَانَ أَفْضَلَ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ إنَّهَا بِتَسْلِيمَتَيْنِ، وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يُوَاظِبُ فِي صَلَاةِ الضُّحَى عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ» وَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِرِوَايَةِ عُمَارَةِ بْنِ رُوَيْبَةَ؛ لِأَنَّهُ يَرْوِي الْمُوَاظَبَةَ وَعُمَارَةُ لَا يَرْوِيهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْمُفَسَّرِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْأَرْبَعَ أَدْوَمُ وَأَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ. «، وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ: أَحْمَزُهَا أَيْ: أَشَقُّهَا عَلَى الْبَدَنِ» . وَأَمَّا فِي اللَّيْلِ فَأَرْبَعٌ أَرْبَعٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَثْنَى مَثْنَى وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ احْتَجَّا بِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى وَبَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَسَلِّمْ» أَمَرَ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ

فصل بيان ما يكره من التطوع

وَمَا أَرَادَ بِهِ الْإِيجَابَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فَتَعَيَّنَ الِاسْتِحْبَابُ مُرَادًا بِهِ؛ وَلِأَنَّ عَمَلَ الْأُمَّةِ فِي التَّرَاوِيحِ فَظَهَرَ مَثْنَى مَثْنَى مِنْ لَدُنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَيْنَا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا «سُئِلَتْ عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيَالِي رَمَضَانَ فَقَالَتْ: كَانَ قِيَامُهُ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ سَوَاءً؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ أَرْبَعًا لَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ» ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَتْ الْحَدِيثَ وَكَلِمَةُ كَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَادَةِ، وَالْمُوَاظَبَةِ وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوَاظِبُ إلَّا عَلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَحَبِّهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْأَرْبَعِ فَائِدَةٌ؛ وَلِأَنَّ الْوَصْلَ بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ بِمَنْزِلَةِ التَّتَابُعِ فِي بَابِ الصَّوْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا بِتَسْلِيمَةٍ فَصَلَّى بِتَسْلِيمَتَيْنِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ كَمَا فِي صِفَةِ التَّتَابُعِ فِي بَابِ الصَّوْمِ، ثُمَّ الصَّوْمُ مُتَتَابِعًا أَفْضَلُ فَكَذَا الصَّلَاةُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ فَكَانَ أَفْضَلَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَلَّمَ أَيْ: فَتَشَهَّدَ؛ لِأَنَّ التَّحِيَّاتِ تُسَمَّى تَشَهُّدًا لِمَا فِيهَا مِنْ الشَّهَادَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: " أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَكَذَا تُسَمَّى تَسْلِيمًا لِمَا فِيهَا مِنْ التَّسْلِيمِ بِقَوْلِهِ: " السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ " وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّسْلِيمِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَالتَّسْلِيمُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى أَرْبَعًا جَازَ، أَمَّا التَّشَهُّدُ فَوَاجِبٌ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى، فَأَمَّا التَّرَاوِيحُ فَإِنَّمَا تُؤَدَّى مَثْنَى مَثْنَى؛ لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ فَتُؤَدَّى عَلَى وَجْهِ السُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْمَرِيضِ وَذِي الْحَاجَةِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا إذَا كَانَ وَحْدَهُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّطَوُّعِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّطَوُّعِ، فَالْمَكْرُوهُ مِنْهُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْقَدْرِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ. أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَدْرِ فَأَمَّا فِي النَّهَارِ فَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي اللَّيْلِ لَا تُكْرَهُ وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ سِتًّا وَثَمَانِيًا، ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ إنْ شِئْت فَصَلِّ بِتَكْبِيرَةٍ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ شِئْت أَرْبَعًا، وَإِنْ شِئْت سِتًّا وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّوَافِلَ شُرِعَتْ تَبَعًا لِلْفَرَائِضِ وَالتَّبَعُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ فَلَوْ زِيدَتْ عَلَى الْأَرْبَعِ فِي النَّهَارِ لَخَالَفَتْ الْفَرَائِضَ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي اللَّيْلِ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِ إلَى الثَّمَانِ، أَوْ إلَى السِّتِّ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ خَمْسَ رَكَعَاتٍ سَبْعَ رَكَعَاتٍ تِسْعَ رَكَعَاتٍ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَالثَّلَاثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ الْوِتْرُ، وَرَكْعَتَانِ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ سُنَّةُ الْفَجْرِ فَيَبْقَى رَكْعَتَانِ وَأَرْبَعٌ وَسِتٌّ وَثَمَانٍ فَيَجُوزُ إلَى هَذَا الْقَدْرِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَانِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى هَذَا لَمْ تُرْوَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ بَعْضُهُمْ؛ لَا يُكْرَهُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: لِأَنَّ فِيهِ وَصْلَ الْعِبَادَةِ بِالْعِبَادَةِ فَلَا يُكْرَهُ وَهَذَا يُشْكِلُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ فِي النَّهَارِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ. وَلَوْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ فِي النَّهَارِ أَوْ عَلَى الثَّمَانِ فِي اللَّيْلِ يَلْزَمُهُ لِوُجُودِ سَبَبِ اللُّزُومِ وَهُوَ الشُّرُوعُ. ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي التَّطَوُّعِ طُولُ الْقِيَامِ فِي الْأَرْبَعِ وَالْمَثْنَى عَلَى حَسَبِ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ أَمْ كَثْرَةُ الصَّلَاةِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا طُولُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ، وَقَالَ: الشَّافِعِيُّ كَثْرَةُ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ طُولَ الْقُنُوتِ أَفْضَلُ أَمْ كَثْرَةُ السُّجُودِ؟ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: طُولُ الْقُنُوتِ» أَيْ: الْقِيَامِ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] : إنَّ الْقُنُوتَ طُولُ الْقِيَامِ وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر: 9] وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وِرْدٌ فَطُولُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ وِرْدٌ مِنْ الْقُرْآنِ يَقْرَؤُهُ فَكَثْرَةُ السُّجُودِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ لَا يَخْتَلِفُ وَيُضَمُّ إلَيْهِ زِيَادَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ فَيُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ، وَبَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْوَقْتِ. أَمَّا الَّذِي يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ فَثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ: أَحَدُهَا مَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ تَرْتَفِعَ وَتَبْيَضَّ، وَالثَّانِي عِنْدَ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ تَزُولَ، وَالثَّالِثُ عِنْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ وَهُوَ احْمِرَارُهَا، وَاصْفِرَارُهَا إلَى أَنْ تَغْرُبَ. فَفِي هَذِهِ

الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ يُكْرَهُ كُلُّ تَطَوُّعٍ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ تَطَوُّعًا مُبْتَدَأً لَا سَبَبَ لَهُ، أَوْ تَطَوُّعًا لَهُ سَبَبٌ كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَرَكْعَتَيْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِمَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّطَوُّعِ وَقْتَ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ: الشَّافِعِيُّ لَا بَأْسَ بِالتَّطَوُّعِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِمَكَّةَ، احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ الزَّوَالِ إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ» ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ إلَّا بِمَكَّةَ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهَا، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَإِذَا تَضَيَّقَتْ لِلْمَغِيبِ، وَعِنْدَ الزَّوَالِ» وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ، وَقَالَ: لِأَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَتَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ» وَرَوَى الصُّنَابِحِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَالَ: إنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ يُزَيِّنُهَا فِي عَيْنِ مَنْ يَعْبُدُهَا حَتَّى يَسْجُدَ لَهَا فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا، فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ قَائِمِ الظَّهِيرَةِ قَارَنَهَا، فَإِذَا مَالَتْ فَارَقَهَا، فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا فَلَا تُصَلُّوا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ» فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ، وَنَبَّهَ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ، وَهُوَ طُلُوعُ الشَّمْسِ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ وَذَلك؛ لِأَنَّ عَبَدَةَ الشَّمْسِ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ، وَيَسْجُدُونَ لَهَا عِنْدَ الطُّلُوعِ تَحِيَّةً لَهَا، وَعِنْدَ الزَّوَالِ لِاسْتِتْمَامِ عُلُوِّهَا، وَعِنْدَ الْغُرُوبِ وَدَاعًا لَهَا فَيَجِيءُ الشَّيْطَانُ فَيَجْعَلُ الشَّمْسَ بَيْنَ قَرْنَيْهِ لِيَقَعَ سُجُودُهُمْ نَحْوَ الشَّمْسِ لَهُ، فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لِئَلَّا يَقَعَ التَّشْبِيهُ بِعَبَدَةِ الشَّمْسِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَعُمُّ الْمُصَلِّينَ أَجْمَعَ فَقَدْ عَمَّ النَّهْيُ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ النَّهْيِ إلَّا بِمَكَّةَ شَاذٌّ لَا يُقْبَلُ فِي مُعَارَضَةِ الْمَشْهُورِ، وَكَذَا رِوَايَةُ اسْتِثْنَاءِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ غَرِيبَةٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْمَشْهُورِ بِهَا. وَأَمَّا الْأَوْقَاتُ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا التَّطَوُّعُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْوَقْتِ فَمِنْهَا: مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى مَغِيبِ الشَّمْسِ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ قَضَاءَ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَدَاءَ التَّطَوُّعِ الْمُبْتَدَإِ مَكْرُوهٌ فِيهَا. وَأَمَّا التَّطَوُّعُ الَّذِي لَهُ سَبَبٌ كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ، وَرَكْعَتَيْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَمَكْرُوهٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيُحَيِّهِ بِرَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ» وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحَ فَسَمِعَ صَوْتَ حَدَثٍ مِمَّنْ خَلْفَهُ فَقَالَ: عَزَمْت عَلَى مَنْ أَحْدَثَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُعِيدَ صَلَاتَهُ فَلَمْ يَقُمْ فَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت لَوْ تَوَضَّأْنَا جَمِيعًا وَأَعَدْنَا الصَّلَاةَ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ لَهُ: كُنْت سَيِّدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقِيهًا فِي الْإِسْلَامِ فَقَامُوا وَأَعَادُوا الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ مِمَّنْ لَمْ يُحْدِثْ كَانَتْ نَافِلَةً وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْفَرَائِضُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَذَا النَّوَافِلُ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ» فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ طَافَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرَجَ إلَى ذِي طِوًى وَصَلَّى ثَمَّةَ بَعْدَ مَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ، وَقَالَ رَكْعَتَانِ مَكَانَ رَكْعَتَيْنِ وَلَوْ كَانَ أَدَاءُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ جَائِزًا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لَمَا أَخَّرَ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ خُصُوصًا رَكْعَتَا الطَّوَافِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْصُوصًا بِذَلِكَ دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ إنَّ عَائِشَةَ تَرْوِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ: إنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ وَنَ حْنُ نَفْعَلُ مَا أُمِرْنَا أَشَارَ إلَى أَنَّهُ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ وَلَا شِرْكَةَ فِي مَوْضِعِ الْخُصُوصِ أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَسَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: شَغَلَنِي وَفْدٌ عَنْ رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ فَقَضَيْتُهُمَا فَقَالَتْ وَنَحْنُ نَفْعَلُ كَذَلِكَ فَقَالَ لَا» أَشَارَ إلَى الْخُصُوصِيَّةِ، لِأَنَّهُ كُتِبَتْ عَلَيْهِ

فصل بيان ما يفارق التطوع الفرض فيه

السُّنَنُ الرَّاتِبَةُ، وَمَذْهَبُنَا مَذْهَبُ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فَغَرِيبٌ لَا يُقْبَلُ عَلَى أَنَّ عُمَرَ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِإِخْرَاجِ الْمُحْدِثِ عَنْ عُهْدَةِ الْفَرْضِ، وَلَا بَأْسَ بِمُبَاشَرَةِ الْمَكْرِ لِمِثْلِهِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْفَرَائِضِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَيْسَتْ لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ بَلْ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ إخْرَاجُ مَا بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ عَنْ كَوْنِهِ تَبَعًا لِفَرْضِ الْوَقْتِ لِشَغْلِهِ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَمَعْنَى الِاسْتِتْبَاعِ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ فِي حَقِّ الْفَرْضِ فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ. وَكَذَا أَدَاءُ الْوَاجِبِ الَّذِي وَجَبَ بِصُنْعِ الْعَبْدِ مِنْ النَّذْرِ وَقَضَاءِ التَّطَوُّعِ الَّذِي أَفْسَدَهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فَصَارَ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَنْذُورَ عَيْنُهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ نَفْلٌ فِي نَفْسِهِ، وَكَذَا عَيْنُ الصَّلَاةِ لَا تَجِبُ بِالشُّرُوعِ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ صِيَانَةُ الْمُؤَدَّاةِ عَنْ الْبُطْلَانِ فَبَقِيَتْ الصَّلَاةُ نَفْلًا فِي نَفْسِهَا فَتُكْرَهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ. (وَمِنْهَا) مَا بَعْدَ الْغُرُوبِ يُكْرَهُ فِيهِ النَّفَلُ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ. وَمِنْهَا مَا بَعْدَ شُرُوعِ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ وَقَبْلَ شُرُوعِهِ بَعْدَ مَا أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَضَاءً لِحَقِّ الْجَمَاعَةِ، كَمَا تُكْرَهُ السُّنَّةُ إلَّا فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي السُّنَنِ. وَمِنْهَا وَقْتُ الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُكْرَهُ فِيهِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِتَرْكِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَمِنْهَا مَا بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ لِلْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِهَا، وَمَا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الصَّلَاةِ يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهِ وَالْكَلَامُ، وَجَمِيعُ مَا يُكْرَهُ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ. (وَمِنْهَا) مَا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتَطَوَّعْ قَبْلَ الْعِيدَيْنِ مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى الصَّلَاةِ وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ خَرَجَ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ فَوَجَدَ النَّاسَ يُصَلُّونَ فَقَالَ: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْعِيدِ صَلَاةٌ فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَنْهَاهُمْ فَقَالَ: لَا فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ أَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} [العلق: 9] {عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 10] وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ أَنَّهُمَا كَانَا يَنْهَيَانِ النَّاسَ عَنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْعِيدِ؛ وَلِأَنَّ الْمُبَادَرَةَ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ مَسْنُونَةٌ، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ تَأْخِيرٌ. وَلَوْ اشْتَغَلَ بِأَدَاءِ التَّطَوُّعِ فِي بَيْتِهِ يَقَعُ فِي وَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَكِلَاهُمَا مَكْرُوهَانِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الْمُصَلَّى كَيْ لَا يَشْتَبِهَ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ الْعِيدَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، فَأَمَّا فِي بَيْتِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعَامَّةُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُتَطَوَّعُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ لَا فِي الْمُصَلَّى وَلَا فِي بَيْتِهِ، فَأَوَّلُ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ صَلَاةُ الْعِيدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُفَارِقُ التَّطَوُّعُ الْفَرْضَ فِيهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُفَارِقُ التَّطَوُّعُ الْفَرْضَ فِيهِ فَنَقُولُ: إنَّهُ يُفَارِقُهُ فِي أَشْيَاءَ: مِنْهَا أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ خَيْرٌ دَائِمٌ فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ الْقِيَامَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إدَامَةُ هَذَا الْخَيْرِ، فَأَمَّا الْفَرْضُ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَلَا يَكُونُ فِي إلْزَامِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَرَجٌ، وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ النَّفْلِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي قَاعِدًا فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ آيَاتٍ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْقُعُودِ» . وَكَذَا لَوْ افْتَتَحَ الْفَرْضَ قَائِمًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْعُدَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ. وَلَوْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَائِمًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْعُدَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَائِمًا لَا يَجُوزُ لَهُ الْقُعُودُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَكَذَا إذَا شَرَعَ قَائِمًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ فِي الِابْتِدَاءِ، فَكَذَا بَعْدَ الشُّرُوعِ لِكَوْنِهِ مُتَبَرِّعًا أَيْضًا. وَأَمَّا قَوْلُهُمَا: إنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ فَنَقُولُ: إنَّ الشُّرُوعَ لَيْسَ بِمُلْزِمٍ وَضْعًا، وَإِنَّمَا يُلْزِمُ لِضَرُورَةِ صِيَانَةِ مَا انْعَقَدَ عِبَادَةً عَنْ الْبُطْلَانِ، وَمَا انْعَقَدَ يَتَعَلَّقُ بَقَاؤُهُ عِبَادَةً بِوُجُودِ أَصْلِ مَا بَقِيَ مِنْ الصَّلَاةِ لَا بِوُجُودِ وَصْفِ مَا بَقِيَ، فَإِنَّ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَلْزَمْ تَحْصِيلُ وَصْفِ الْقِيَامِ فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ لُزُومَ مَا بَقِيَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ وَصْفِ الْقِيَامِ، وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ لِاسْتِغْنَاءِ الْمُؤَدَّى عَنْ الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ النَّذْرِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْإِيجَابِ شَرْعًا فَإِذَا أَوْجَبَ مَعَ الْوَصْفِ وَجَبَ كَذَلِكَ حَتَّى لَوْ أَطْلَقَ النَّذْرَ، لَا رِوَايَةَ فِيهِ فَقِيلَ: إنَّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي

الشُّرُوعِ، وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ بِصِفَةِ الْقِيَامِ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْقِيَامَ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ كَالتَّتَابُعِ فِي بَابِ الصَّوْمِ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ قَائِمًا؛ لِأَنَّ النَّذْرَ وُضِعَ لِلْإِيجَابِ فَيُعْتَبَرُ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، وَهُنَاكَ يَلْزَمُهُ بِصِفَةِ الْقِيَامِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ كَذَا هَذَا. وَأَمَّا الشُّرُوعُ فَلَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لِلْوُجُوبِ وَإِنَّمَا جُعِلَ مُوجِبًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ فِي حَقِّ الْأَصْلِ دُونَ الْوَصْفِ عَلَى مَا مَرَّ. افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا فَأَدَّى بَعْضَهَا قَاعِدًا وَبَعْضَهَا قَائِمًا أَجْزَأَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْتَتِحُ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا فَيَقْرَأُ وِرْدَهُ حَتَّى إذَا بَقِيَ عَشْرُ آيَاتٍ، أَوْ نَحْوُهَا قَامَ فَأَتَمَّ قِرَاءَتَهُ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَقَدْ انْتَقَلَ مِنْ الْقُعُودِ إلَى الْقِيَامِ، وَمِنْ الْقِيَامِ إلَى الْقُعُودِ» فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ. أَنَّهُ يَجُوزُ التَّنَفُّلُ عَلَى الدَّابَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ، وَأَدَاءُ الْفَرْضِ عَلَى الدَّابَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي التَّطَوُّعِ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فَرْضٌ، وَالْمَفْرُوضُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ الْمَكْتُوبَاتِ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا فَقَطْ حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ مِنْ الْفَرْضِ لَا يُفْسِدُ الشَّفْعَ الثَّانِيَ بَلْ يَقْضِيهَا فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، أَوْ يُؤَدِّيَهَا بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِمْ، وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُصَلَّى بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا» قَالَ مُحَمَّدٌ: تَأْوِيلُهُ لَا يُصَلَّى بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا مِنْ التَّطَوُّعِ عَلَى هَيْئَةِ الْفَرِيضَةِ فِي الْقِرَاءَةِ أَيْ: رَكْعَتَانِ بِقِرَاءَةٍ وَرَكْعَتَانِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ أَيْ: لَا يُصَلِّي بَعْدَ أَرْبَعِ الْفَرِيضَةَ أَرْبَعًا مِنْ التَّطَوُّعِ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْنِ وَلَا يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْفِعْلِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، فَكَانَ هَذَا أَمْرٌ بِالْقِرَاءَةِ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فِي التَّطَوُّعِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَنْهِيٍّ بِالْإِجْمَاعِ كَالْفَجْرِ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَالظُّهْرِ بَعْدَ الْأَرْبَعِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ، وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ، وَتَأْوِيلُ أَبِي يُوسُفَ أَيْ: لَا تُعَادُ الْفَرَائِضُ الْفَوَائِتُ؛ لِأَنَّهُ فِي بِدَايَةِ الْإِسْلَامِ كَانَتْ الْفَرَائِضُ تُقْضَى ثُمَّ تُعَادُ مِنْ الْغَدِ لِوَقْتِهَا فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ. وَمِصْدَاقُ هَذَا التَّأْوِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ، أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا، أَوْ اسْتَيْقَظَ مِنْ الْغَدِ لِوَقْتِهَا» ، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ «لَا يُصَلَّى بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا» وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قَضَاءِ الْفَرْضِ بَعْدَ أَدَائِهِ مَخَافَةَ دُخُولِ فَسَادٍ فِيهِ بِحُكْمِ الْوَسْوَسَةِ وَتَكُونُ فَائِدَةُ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وُجُوبَ دَفْعِ الْوَسْوَسَةِ، وَالنَّهْيَ عَنْ اتِّبَاعِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ تَكْرَارِ الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الْحَدِيثُ حُجَّةً لَنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا أَنَّ الْقَعْدَةَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ فِي الْفَرَائِضِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ بِلَا خِلَافٍ حَتَّى لَا يَفْسُدَ بِتَرْكِهَا، وَفِي التَّطَوُّعِ اخْتِلَافٌ عَلَى مَا مَرَّ. وَلَوْ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ سَاهِيًا فِي الْفَرْضِ، فَإِنْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا لَمْ يُعِدْ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا عَادَ وَقَعَدَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ. وَأَمَّا فِي التَّطَوُّعِ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ إذَا نَوَى أَنْ يَتَطَوَّعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَقَامَ وَلَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا أَنَّهُ يَعُودُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ إذَا اسْتَتَمَّ قَائِمًا هَلْ يَعُودُ أَمْ لَا؟ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَا يَعُودُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى الْأَرْبَعَ الْتَحَقَ بِالظُّهْرِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: يَعُودُ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ. وَلَوْ كَانَ نَوَى أَنْ يَتَطَوَّعَ بِرَكْعَتَيْنِ فَقَامَ مِنْ الثَّانِيَةِ إلَى الثَّالِثَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ فَيَعُودُ هَهُنَا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ مَشَايِخِنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الْفَجْرِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي التَّطَوُّعِ لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ إلَّا فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، وَفِي الْفَرْضِ وَاجِبَةٌ أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الْمَسْجِدِ» وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْفَرَائِضِ أَوْ الْوَاجِبَاتِ دُونَ التَّطَوُّعَاتِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا الْجَمَاعَةَ سُنَّةً فِي التَّرَاوِيحِ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى التَّرَاوِيحَ فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَتَيْنِ، وَصَلَّى النَّاسُ بِصَلَاتِهِ» وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خِلَافَتِهِ اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ أَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يُخَالِفُوهُ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَمِنْهَا أَنَّ التَّطَوُّعَ غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِوَقْتٍ خَاصٍّ، وَلَا مُقَدَّرٍ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ فَيَجُوزُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ عَلَى أَيِّ مِقْدَارٍ كَانَ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ

فصل صلاة الجنازة

فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَعَلَى بَعْضِ الْمَقَادِيرِ عَلَى مَا مَرَّ وَالْفَرْضُ مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ مُوَقَّتٍ بِأَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِهِ، وَتَخْصِيصُ جَوَازِهِ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي مَوْضِعِهِ. وَمِنْهَا أَنَّ التَّطَوُّعَ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَالْفَرْضُ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِي مَوْضِعِهِ،. وَمِنْهَا أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ يَخْتَصُّ بِالْفَرَائِضِ دُونَ التَّطَوُّعَاتِ حَتَّى لَوْ شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَائِتَةً مَكْتُوبَةً لَمْ يَفْسُدْ تَطَوُّعُهُ. وَلَوْ كَانَ فِي الْفَرْضِ تَفْسُدُ الْفَرِيضَةُ؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ لِلْفَرْضِ كَوْنُهُ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَلَيْسَ لِلتَّطَوُّعِ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ بِخِلَافِ الْفَرْضِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ تَذَكَّرَ فَائِتَةً عَلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ تَطَوُّعًا وَلَا يَبْطُلُ أَصْلًا، فَإِذَا تَذَكَّرَ فِي التَّطَوُّعِ لَأَنْ يَبْقَى تَطَوُّعًا وَلَا يَبْطُلُ كَانَ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَالْكَلَامُ فِي الْجَنَائِزِ يَقَعُ فِي الْأَصْلِ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ، وَالثَّانِي فِي تَكْفِينِهِ، وَالثَّالِثُ فِي حَمْلِ جِنَازَتِهِ، وَالرَّابِعُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَالْخَامِسُ فِي دَفْنِهِ، وَالسَّادِسُ فِي الشَّهِيدِ وَقَبْلَ أَنْ نَشْتَغِلَ بِبَيَانِ ذَلِكَ نَبْدَأُ بِمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْعَلَ بِالْمَرِيضِ الْمُحْتَضَرِ وَمَا يُفْعَلُ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى أَنْ يُغَسَّلَ فَنَقُولُ: إذَا اُحْتُضِرَ الْإِنْسَانُ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، كَمَا يُوَجَّهُ فِي الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهُ قَرُبَ مَوْتُهُ فَيُضْجَعُ كَمَا يُضْجَعُ الْمَيِّتُ فِي اللَّحْدِ، وَيُلَقَّنُ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَالْمُرَادُ مِنْ الْمَيِّتِ الْمُحْتَضَرُ؛ لِأَنَّهُ قَرُبَ مَوْتُهُ فَسُمِّيَ مَيِّتًا لِقُرْبِهِ مِنْ الْمَوْتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] . وَإِذَا قَضَى نَحْبَهُ تُغْمَضُ عَيْنَاهُ، وَيُشَدُّ لَحْيَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تُرِكَ كَذَلِكَ لَصَارَ كَرِيهَ الْمَنْظَرِ فِي نَظَرِ النَّاسِ كَالْمُثْلَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ فَغَمَّضَهُ» وَلَا بَأْسَ بِإِعْلَامِ النَّاسِ بِمَوْتِهِ مِنْ أَقْرِبَائِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَجِيرَانِهِ لِيُؤَدُّوا حَقَّهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَالدُّعَاءِ وَالتَّشْيِيعِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ فِي الْمِسْكِينَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ إذَا مَاتَتْ فَآذِنُونِي» ؛ وَلِأَنَّ فِي الْإِعْلَامِ تَحْرِيضًا عَلَى الطَّاعَةِ وَحَثًّا عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لَهَا فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَالتَّسَبُّبِ إلَى الْخَيْرِ وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ» إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ النِّدَاءُ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَحَالِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ عَزَاءَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْرَعَ فِي جِهَازِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «عَجِّلُوا بِمَوْتَاكُمْ فَإِنْ يَكُ خَيْرًا قَدَّمْتُمُوهُ إلَيْهِ، وَإِنْ يَكُ شَرًّا فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّارِ» نَدَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى التَّعْجِيلِ وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى فَيُبْدَأُ بِغُسْلِهِ. [فَصْلٌ الْغُسْلِ] (فَصْلٌ) : وَالْكَلَامُ فِي الْغُسْلِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُغَسِّلُ وَمَنْ لَا يُغَسِّلُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ النَّصُّ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ أَمَّا النَّصُّ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ حُقُوقٍ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ يُغَسِّلَهُ بَعْد مَوْتِهِ وَعَلَى: كَلِمَةُ إيجَابٍ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ آدَم - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه - غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ ثُمَّ قَالَتْ لِوَلَدِهِ هَذِهِ سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ، وَالسُّنَّةُ الْمُطْلَقَةُ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ، وَكَذَا النَّاسُ تَوَارَثُوا ذَلِكَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَكَانَ تَارِكُهُ مُسِيئًا لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَارَثَةَ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى وُجُوبِهِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ عِبَارَاتُ مَشَايِخِنَا، ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّ الْآدَمِيَّ لَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ بِتَشَرُّبِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ فِي أَجْزَائِهِ كَرَامَةً لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَنَجَّسَ لَمَا حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ بِالْغُسْلِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي حُكِمَ بِنَجَاسَتِهَا بِالْمَوْتِ، وَالْآدَمِيُّ يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ قَبْلَ الْغُسْلِ يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْبِئْرِ. وَلَوْ وَقَعَ بَعْدَ الْغُسْلِ لَا يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَتَنَجَّسْ بِالْمَوْتِ وَلَكِنْ وَجَبَ غُسْلُهُ لِلْحَدَثِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَخْلُو عَنْ سَابِقَةِ حَدَثٍ لِوُجُودِ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ، وَزَوَالِ الْعَقْلِ، وَالْبَدَنُ فِي حَقِّ التَّطْهِيرِ لَا يَتَجَزَّأُ فَوَجَبَ غُسْلُهُ كُلُّهُ، إلَّا أَنَّا اكْتَفَيْنَا بِغُسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ حَالَةَ الْحَيَاةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ لِغَلَبَةِ وُجُودِ الْحَدَثِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، حَتَّى إنَّ خُرُوجَ الْمَنِيِّ عَنْ شَهْوَةٍ لَمَّا كَانَ لَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ لَمْ يُكْتَفَ فِيهِ إلَّا بِالْغُسْلِ وَلَا حَرَجَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَوَجَبَ غُسْلُ الْكُلِّ. وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: إنَّ بِالْمَوْتِ يَتَنَجَّسُ الْمَيِّتُ لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ كَمَا يَتَنَجَّسُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ بِالْمَوْتِ، وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا غُسِّلَ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ كَرَامَةً لَهُ فَكَانَتْ الْكَرَامَةُ عِنْدَهُمْ فِي

فصل بيان كيفية وجوب غسل الميت

الْحُكْمِ بِالطَّهَارَةِ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُطَهِّرِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ الْغُسْلُ لَا فِي الْمَنْعِ مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ، وَعِنْدَ الْبَلْخِيّ الْكَرَامَةُ فِي امْتِنَاعِ حُلُولِ النَّجَاسَةِ وَحُكْمِهَا، وَقَوْلُ الْعَامَّةِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ فِيهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ: إثْبَاتُ النَّجَاسَةِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ النَّجَاسَةِ، وَالْحُكْمُ بِالطَّهَارَةِ عِنْدَ وُجُودِ مَا لَهُ أَثَرٌ فِي التَّطْهِيرِ فِي الْجُمْلَةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا فِي الْجُمْلَةِ أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ مِنْ مَنْعِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ أَصْلًا مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ. [فَصْلٌ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ غُسْلِ الْمَيِّتِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَعْضِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ، وَكَذَا الْوَاجِبُ هُوَ الْغُسْلُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالتَّكْرَارُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ حَتَّى لَوْ اكْتَفَى بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ غَمْسَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَاءٍ جَارٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ إنْ وَجَبَ لِإِزَالَةِ الْحَدَثِ - كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ - فَقَدْ حَصَلَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَإِنْ وَجَبَ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْمُتَشَرِّبَةِ فِيهِ كَرَامَةً لَهُ - عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْعَامَّةُ - فَالْحُكْمُ بِالزَّوَالِ بِالْغُسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَقْرَبُ إلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ وَلَوْ أَصَابَهُ الْمَطَرُ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْغُسْلِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِعْلُ الْغُسْلِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَوْ غَرِقَ فِي الْمَاءِ فَأُخْرِجَ إنْ كَانَ الْمُخْرِجُ حَرَّكَهُ كَمَا يُحَرَّكُ الشَّيْءُ فِي الْمَاءِ بِقَصْدِ التَّطْهِيرِ سَقَطَ الْغُسْلُ وَإِلَّا فَلَا لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ لِلْمَيِّتِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ فَنَقُولُ: يُجَرَّدُ الْمَيِّتُ إذَا أُرِيدَ غُسْلُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُجَرَّدُ بَلْ يُغَسَّلُ وَعَلَيْهِ ثَوْبُهُ اسْتِدْلَالًا بِغُسْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ غُسِّلَ فِي قَمِيصِهِ، وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْغُسْلِ هُوَ التَّطْهِيرُ وَمَعْنَى التَّطْهِيرِ لَا يَحْصُلُ بِالْغُسْلِ وَعَلَيْهِ الثَّوْبُ لِتَنَجُّسِ الثَّوْبِ بِالْغُسَالَاتِ الَّتِي تَنَجَّسَتْ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَتَعَذُّرُ عَصْرِهِ أَوْ حُصُولِهِ بِالتَّجْرِيدِ أَبْلَغُ فَكَانَ أَوْلَى. وَأَمَّا غُسْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَمِيصِهِ فَقَدْ كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ لِعِظَمِ حُرْمَتِهِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَصَدُوا أَنْ يَنْزِعُوا قَمِيصَهُ قَيَّضَ اللَّهُ السِّنَةَ عَلَيْهِمْ فَمَا فِيهِمْ أَحَدٌ إلَّا ضُرِبَ ذَقَنُهُ عَلَى صَدْرِهِ، حَتَّى نُودُوا مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لَا تُجَرِّدُوا نَبِيَّكُمْ. وَرُوِيَ غَسِّلُوا نَبِيَّكُمْ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ، وَلَا شِرْكَةَ لَنَا فِي خَصَائِصِهِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّجْرِيدِ هُوَ التَّطْهِيرُ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ طَاهِرًا حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ تَوَلَّى غُسْلَهُ: طِبْت حَيًّا وَمَيِّتًا. وَيُوضَعُ عَلَى التَّخْتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْغُسْلُ إلَّا بِالْوَضْعِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ غُسِّلَ عَلَى الْأَرْضِ لَتَلَطَّخَ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَيْفِيَّةَ وَضْعِ التَّخْتِ أَنَّهُ يُوضَعُ إلَى الْقِبْلَةِ طُولًا أَوْ عَرْضًا، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ اخْتَارَ الْوَضْعَ طُولًا كَمَا يَفْعَلُ فِي مَرَضِهِ إذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ بِالْإِيمَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ اخْتَارَ الْوَضْعَ عَرْضًا كَمَا يُوضَعُ فِي قَبْرِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُوضَعُ كَمَا تَيَسَّرَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ. ، وَتُسْتَرُ عَوْرَتُهُ بِخِرْقَةٍ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَنْظُرُوا إلَى فَخِذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ» وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ لِلْأَجْنَبِيِّ غُسْلُ الْأَجْنَبِيَّةِ دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ وَهُوَ حَيٌّ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْآدَمِيَّ مُحْتَرَمٌ حَيًّا وَمَيِّتًا وَحُرْمَةُ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ مِنْ بَابِ الِاحْتِرَامِ. وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُؤَزَّرُ بِإِزَارٍ سَابِغٍ كَمَا يَفْعَلُهُ فِي حَيَاتِهِ إذَا أَرَادَ الِاغْتِسَالَ وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ غَسْلُ مَا تَحْتَ الْإِزَارِ، ثُمَّ الْخِرْقَةُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ سَاتِرَةً مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَوْرَةٌ وَبِهِ أُمِرَ فِي الْأَصْلِ حَيْثُ قَالَ: وَتُطْرَحُ عَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةٌ هَكَذَا ذَكَرَ عَنْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ نَصًّا فِي نَوَادِرِهِ، ثُمَّ تُغَسَّلُ عَوْرَتُهُ تَحْتَ الْخِرْقَةِ بَعْدَ أَنْ يَلُفَّ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً كَذَا ذَكَرَ الْبَلْخِيّ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَسِّ عَوْرَةِ الْغَيْرِ فَوْقَ حُرْمَةِ النَّظَرِ، فَتَحْرِيمُ النَّظَرِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَسِّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَلَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ هَلْ يُسْتَنْجَى أَمْ لَا؟ وَذُكِرَ فِي صَلَاةِ الْأَثَرِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُسْتَنْجَى، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُسْتَنْجَى هُمَا يَقُولَانِ قَلَّمَا يَخْلُو مَوْضِعُ الِاسْتِنْجَاءِ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إزَالَتِهَا، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ: إنَّ الْمُسْكَةَ تَسْتَرْخِي بِالْمَوْتِ فَلَوْ اسْتَنْجَى رُبَّمَا يَزْدَادُ الِاسْتِرْخَاءُ فَتَخْرُجُ زِيَادَةُ نَجَاسَةٍ، فَكَانَ السَّبِيلُ فِيهِ هُوَ التَّرْكُ، وَالِاكْتِفَاءُ بِوُصُولِ الْمَاءِ إلَيْهِ، وَلِهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لَمْ يَذْكُرْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلَعَلَّ مُحَمَّدًا رَجَعَ وَعَرَفَ أَيْضًا رُجُوعَ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. ثُمَّ يُوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لِلَّاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا» ؛ وَلِأَنَّ هَذَا سُنَّةُ الِاغْتِسَالِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَا

بَعْدَ الْمَمَاتِ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمَضْمَضُ الْمَيِّتُ، وَلَا يُسْتَنْشَقُ؛ لِأَنَّ إدَارَةَ الْمَاءِ فِي فَمِ الْمَيِّتِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، ثُمَّ يَتَعَذَّرُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْفَمِ إلَّا بِالْكَبِّ، وَذَا مِثْلُهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ لَوْ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ، وَكَذَا الْمَاءُ لَا يَدْخُلُ الْخَيَاشِيمَ إلَّا بِالْجَذْبِ بِالنَّفَسِ، وَذَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ مِنْ الْمَيِّتِ. وَلَوْ كُلِّفَ الْغَاسِلُ ذَلِكَ لَوَقَعَ فِي الْحَرَجِ، وَكَذَا لَا يُؤَخَّرُ غَسْلُ رِجْلَيْهِ عِنْدَ التَّوْضِئَةِ بِخِلَافِ حَالَةِ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْغُسَالَةُ تَجْتَمِعُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَلَا تَجْتَمِعُ الْغُسَالَةُ عَلَى التَّخْتِ فَلَمْ يَكُنْ التَّأْخِيرُ مُفِيدًا، وَكَذَا لَا يُمْسَحُ رَأْسُهُ، وَيُمْسَحُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ هُنَاكَ سُنَّ تَعَبُّدًا لَا تَطْهِيرًا، وَهَهُنَا لَوْ سُنَّ لَسُنَّ تَطْهِيرًا لَا تَعَبُّدًا، وَالتَّطْهِيرُ لَا يَحْصُلُ بِالْمَسْحِ. ثُمَّ يُغَسَّلُ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْخِطْمِيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّنْظِيفِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالصَّابُونِ وَمَا أَشْبَهَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَيَكْفِيهِ الْمَاءُ الْقَرَاحُ وَلَا يُسَرَّحُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا رَأَتْ قَوْمًا يُسَرِّحُونَ مَيِّتًا فَقَالَتْ: عَلَامَ تَنُصُّونَ مَيِّتَكُمْ؟ ، أَيْ: تُسَرِّحُونَ شَعْرَهُ، وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ عَنْهَا، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهَا خِلَافُ ذَلِكَ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ سُرِّحَ رُبَّمَا يَتَنَاثَرُ شَعْرُهُ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يُدْفَنَ الْمَيِّتُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَلِهَذَا لَا تُقَصُّ أَظْفَارُهُ وَشَارِبُهُ وَلِحْيَتُهُ، وَلَا يُخْتَنُ وَلَا يُنْتَفُ إبْطُهُ وَلَا تُحْلَقُ عَانَتُهُ؛؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُفْعَلُ لِحَقِّ الزِّينَةِ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِمَحَلِّ الزِّينَةِ، وَلِهَذَا لَا يُزَالُ عَنْهُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ حُصُولُ زِينَةٍ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسَرَّحُ وَيُزَالُ عَنْهُ شَعْرُ الْعَانَةِ وَالْإِبْطِ إذَا كَانَا طَوِيلَيْنِ، وَشَعْرُ الرَّأْسِ يُزَالُ إنْ كَانَ يَتَزَيَّنُ بِإِزَالَةِ الشَّعْرِ، وَلَا يُحْلَقُ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ لَا يَحْلِقُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَكَانَ يَتَزَيَّنُ بِالشَّعْرِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرَائِسِكُمْ» ثُمَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُصْنَعُ بِالْعَرُوسِ فَكَذَا بِالْمَيِّتِ. (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا عَنْ عَائِشَةَ وَذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْقُولِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَوَاهُ يَنْصَرِفُ إلَى زِينَةٍ لَيْسَ فِيهَا إزَالَةُ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ كَالطِّيبِ، وَالتَّنْظِيفِ مِنْ الدَّرَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا. ثُمَّ يُضْجِعُهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ لِتَحْصُلَ الْبِدَايَةُ بِجَانِبِهِ الْأَيْمَنِ إذْ السُّنَّةُ هِيَ الْبِدَايَةُ بِالْمَيَامِنِ عَلَى مَا مَرَّ، فَيُغَسِّلُهُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ حَتَّى يُنَقِّيَهُ وَيَرَى أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خَلَصَ إلَى مَا يَلِي التَّخْتَ مِنْهُ، ثُمَّ قَدْ كَانَ أُمِرَ الْغَاسِلُ قَبْلَ ذَلِكَ أَنْ يَغْلِيَ الْمَاءَ بِالسِّدْرِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سِدْرٌ فَحُرْضٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَالْمَاءُ الْقَرَاحُ، ثُمَّ يُضْجِعُهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَيُغَسِّلُهُ بِمَاءِ السِّدْرِ، أَوْ الْحُرْضِ، أَوْ الْمَاءِ الْقَرَاحِ حَتَّى يَرَى أَنَّ الْمَاءَ قَدْ وَصَلَ إلَى مَا يَلِي التَّخْتَ مِنْهُ ثُمَّ يُقْعِدُهُ وَيُسْنِدُهُ إلَى صَدْرِهِ أَوْ يَدِهِ فَيَمْسَحُ بَطْنَهُ مَسْحًا رَفِيقًا، حَتَّى إنْ بَقِيَ شَيْءٌ عِنْدَ الْمَخْرَجِ يَسِيلُ مِنْهُ هَكَذَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يُقْعِدُهُ وَيَمْسَحُ بَطْنَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُغَسِّلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي بَطْنِهِ شَيْءٌ فَيَمْسَحُ حَتَّى لَوْ سَالَ مِنْهُ شَيْءٌ يَغْسِلْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَطْهُرُ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ يَكُونُ فِي بَطْنِهِ نَجَاسَةٌ مُنْعَقِدَةٌ لَا تَخْرُجُ بِالْمَسْحِ قَبْلَ الْغُسْلِ، وَتَخْرُجُ بَعْد مَا غُسِّلَ مَرَّتَيْنِ بِمَاءٍ حَارٍّ فَكَانَ الْمَسْحُ بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ أَوْلَى، وَالْأَصْلُ فِي الْمَسْحِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا تَوَلَّى غُسْلَهُ عَلِيٌّ، وَالْعَبَّاسُ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَصَالِحُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلِيٌّ أَسْنَدَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى نَفْسِهِ وَمَسَحَ بَطْنَهُ مَسْحًا رَفِيقًا فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: طِبْت حَيًّا وَمَيِّتًا» وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا مَسَحَ بَطْنَهُ فَاحَ رِيحُ الْمِسْكِ فِي الْبَيْتِ، ثُمَّ إذَا مَسَحَ بَطْنَهُ فَإِنْ سَالَ مِنْهُ شَيْءٌ يَمْسَحْهُ كَيْ لَا يَتَلَوَّثَ الْكَفَنُ، وَيَغْسِلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ تَطْهِيرًا لَهُ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ سِوَى الْمَسْحِ وَلَا يُعِيدُ الْغُسْلَ وَلَا الْوُضُوءَ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُعِيدُ الْوُضُوءَ اسْتِدْلَالًا بِحَالَةِ الْحَيَاةِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمَوْتَ أَشَدُّ مِنْ خُرُوجِ النَّجَاسَةِ ثُمَّ هُوَ لَمْ يَمْنَعْ حُصُولَ الطَّهَارَةِ، فَلَأَنْ لَا يَرْفَعَهَا الْخَارِجُ مَعَ أَنَّ الْمَنْعَ أَسْهَلُ أَوْلَى. ثُمَّ يُضْجِعُهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَيُغَسِّلُهُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ حَتَّى يُنَقِّيَهُ لِيَتِمَّ عَدَدُ الْغُسْلِ ثَلَاثًا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لِلَّائِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ: اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ سَبْعًا» ؛ وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ هُوَ الْعَدَدُ الْمَسْنُونُ فِي الْغُسْلِ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُغَسَّلُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ لِيَبْتَلَّ الدَّرَنُ وَالنَّجَاسَةُ، ثُمَّ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بِمَاءِ السِّدْرِ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي التَّنْظِيفِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّطْهِيرِ وَإِزَالَةِ الدَّرَنِ، ثُمَّ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ وَشَيْءٍ مِنْ الْكَافُورِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى لَا يُغَسَّلُ بِالْمَاءِ الْحَارِّ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُهُ اسْتِرْخَاءً فَيَنْبَغِي أَنْ يُغَسِّلَهُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُغَسِّلُهُ لِيَسْتَرْخِيَ فَيَزُولَ عَنْهُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّرَنِ وَالنَّجَاسَةِ، ثُمَّ يُنَشِّفُهُ فِي ثَوْبٍ كَيْ لَا تَبْتَلَّ أَكْفَانُهُ كَمَا يُفْعَلُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْغُسْلِ.

فصل شرائط وجوب الغسل

وَحُكْمُ الْمَرْأَةِ فِي الْغُسْلِ حُكْمُ الرَّجُلِ، وَكَذَا الصَّبِيُّ فِي الْغُسْلِ كَالْبَالِغِ؛ لِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ يُصَلَّى عَلَيْهِمَا إلَّا أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا كَانَ لَا يَعْقِلُ الصَّلَاةَ لَا يُوَضَّأُ عِنْدَ غُسْلِهِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْمَوْتِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالَةِ الْحَيَاةِ، وَفِي حَالَةِ الْحَيَاةِ لَا يُعْتَبَرُ وُضُوءُ مَنْ لَا يَعْقِلُ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَكَذَا الْمُحْرِمُ وَغَيْرُ الْمُحْرِمِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ وُجُوبِ الْغُسْلِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا مَاتَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ حَتَّى لَوْ وُلِدَ مَيِّتًا لَمْ يُغَسَّلْ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ سُمِّيَ وَغُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَوَرِثَ وَوُرِثَ عَنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَهِلَّ لَمْ يُسَمَّ وَلَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يَرِثْ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُسَمَّى وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُسَمَّى وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: فِي السِّقْطِ الَّذِي اسْتَبَانَ خَلْقُهُ: أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُحَنَّطُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، فَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ وُلِدَ مَيِّتًا، وَالْخِلَافُ فِي الْغُسْلِ. وَجْهُ مَا اخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الْمَوْلُودَ مَيِّتًا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ فَيُغَسَّلُ وَإِنْ كَانَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَوَرِثَ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرِثْ» وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْغُسْلِ بِالشَّرْعِ وَأَنَّهُ وَرَدَ بِاسْمِ الْمَيِّتِ، وَمُطْلَقُ اسْمِ الْمَيِّتِ فِي الْعُرْفِ لَا يَقَعُ عَلَى مَنْ وُلِدَ مَيِّتًا وَلِهَذَا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ أُسْقِطَ قَبْلَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ، وَقَدْ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا إذَا لَمْ يَسْتَهِلَّ فَأَمَّا إذَا اسْتَهَلَّ بِأَنْ حَصَلَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى حَيَاتِهِ مِنْ بُكَاءٍ أَوْ تَحْرِيكِ عُضْوٍ، أَوْ طَرَفٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ دَلَالَةُ الْحَيَاةِ فَكَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ وِلَادَتِهِ حَيًّا فَيُغَسَّلُ. وَلَوْ شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ، أَوْ الْأُمُّ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي بَابِ الدِّيَانَاتِ مَقْبُولٌ إذَا كَانَ عَدْلًا. وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْأُمِّ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِكَوْنِهَا مُتَّهَمَةً لِجَرِّهَا الْمَغْنَمِ إلَى نَفْسِهَا، وَكَذَا شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: تُقْبَلُ إذَا كَانَتْ عَدْلَةٌ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا وُجِدَ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِ الْإِنْسَانِ كَيَدٍ أَوْ رِجْلٍ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ، وَالْمَيِّتُ اسْمٌ لِكُلِّهِ وَلَوْ وُجِدَ الْأَكْثَرُ مِنْهُ غُسِّلَ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ، وَإِنْ وُجِدَ الْأَقَلُّ مِنْهُ، أَوْ النِّصْفُ لَمْ يُغَسَّلْ كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَيْسَ بِمَيِّتٍ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَلِأَنَّ الْغُسْلَ لِلصَّلَاةِ وَمَا لَمْ يَزِدْ عَلَى النِّصْفِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، فَلَا يُغَسَّلُ أَيْضًا، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ النِّصْفُ وَمَعَهُ الرَّأْسُ يُغَسَّلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الرَّأْسُ لَا يُغْسَلُ فَكَأَنَّهُ جَعَلَهُ مَعَ الرَّأْسِ فِي حُكْمِ الْأَكْثَرِ؛ لِكَوْنِهِ مُعْظَمَ الْبَدَنِ. وَلَوْ وُجِدَ نِصْفُهُ مَشْقُوقًا لَا يُغْسَلُ لِمَا قُلْنَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ غُسِّلَ الْأَقَلُّ أَوْ النِّصْفُ يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ. وَلَوْ صُلِّيَ عَلَيْهِ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُوجَدَ الْبَاقِي فَيُصَلَّى عَلَيْهِ فَيُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الصَّلَاةِ عَلَى مَيِّتٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ عِنْدَنَا، أَوْ يَكُونُ صَاحِبُ الطَّرَفِ حَيًّا فَيُصَلَّى عَلَى بَعْضِهِ، وَهُوَ حَيٌّ وَذَلِكَ فَاسِدٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ وُجِدَ عُضْوٌ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ طَائِرًا أَلْقَى يَدًا بِمَكَّةَ زَمَنَ وَقْعَةِ الْجَمَلِ فَغَسَّلَهَا أَهْلُ مَكَّةَ وَصَلَّوْا عَلَيْهَا، وَقِيلَ: إنَّهَا يَدُ طَلْحَةَ، أَوْ يَدُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ صَلَّى عَلَى عِظَامٍ بِالشَّامِ وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ صَلَّى عَلَى رُءُوسٍ؛ وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ شُرِعَتْ لِحُرْمَةِ الْآدَمِيِّ، وَكَذَا الْغُسْلُ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ مُحْتَرَمٌ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: " لَا يُصَلَّى عَلَى عُضْوٍ " وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي أَيْضًا. وَأَمَّا حَدِيثُ أَهْلِ مَكَّةَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَرْوِ أَنَّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ مَنْ هُوَ حَتَّى نَنْظُرَ أَهُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا، أَوْ نَحْمِلُ الصَّلَاةَ عَلَى الدُّعَاءِ، وَكَذَا حَدِيثُ عُمَرَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِظَامَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ مُسْلِمًا حَتَّى لَا يَجِبَ غُسْلُ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ وَجَبَ كَرَامَةً وَتَعْظِيمًا لِلْمَيِّتِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ وَالتَّعْظِيمِ، لَكِنْ إذَا كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ

مِنْ الْمُسْلِمِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُغَسِّلَهُ وَيُكَفِّنَهُ وَيَتْبَعُ جِنَازَتَهُ وَيَدْفِنَهُ؛ لِأَنَّ الِابْنَ مَا نُهِيَ عَنْ الْبِرِّ بِمَكَانِ أَبِيهِ الْكَافِرِ، بَلْ أُمِرَ بِمُصَاحَبَتِهِمَا بِالْمَعْرُوفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] وَمِنْ الْبِرِّ الْقِيَامُ بِغُسْلِهِ، وَدَفْنِهِ وَتَكْفِينِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ أَبُو طَالِبٍ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عَمَّكَ الضَّالَّ قَدْ تُوُفِّيَ فَقَالَ: اذْهَبْ وَغَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ وَلَا تُحْدِثَنَّ حَدَثًا حَتَّى تَلْقَانِي قَالَ: فَفَعَلْت ذَلِكَ وَأَتَيْته فَأَخْبَرْته فَدَعَا لِي بِدَعَوَاتٍ مَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِي بِهَا حُمْرُ النَّعَمِ» وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتِي مَاتَتْ نَصْرَانِيَّةً فَقَالَ: اغْسِلْ هَا وَكَفِّنْهَا وَادْفِنْهَا، وَعَنْ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ نَصْرَانِيَّةً فَتَبِعَ جِنَازَتَهَا فِي نَفَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - ثُمَّ إنَّمَا يَقُومُ ذُو الرَّحِمِ بِذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَقُومُ بِهِ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ خَلَّى الْمُسْلِمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لِيَصْنَعُوا بِهِ مَا يَصْنَعُونَ بِمَوْتَاهُمْ. وَإِنْ مَاتَ مُسْلِمٌ وَلَهُ أَبٌ كَافِرٌ هَلْ يُمَكَّنُ مِنْ الْقِيَامِ بِتَغْسِيلِهِ وَتَجْهِيزِهِ؟ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يُغَسِّلُهُ الْمُسْلِمُونَ؛ لِأَنَّ الْيَهُودِيَّ لَمَّا آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ مَوْتِهِ مَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى مَاتَ «فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ: تَوَلَّوْا أَخَاكُمْ» وَلَمْ يُخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ الْيَهُودِيِّ؛ وَلِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ شُرِعَ كَرَامَةً لَهُ، وَلَيْسَ مِنْ الْكَرَامَةِ أَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرُ غُسْلَهُ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَادِلًا حَتَّى لَا يُغَسَّلَ الْبَاغِي إذَا قُتِلَ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو الْحَسَنِ الرُّسْتُغْفَنِيُّ صَاحِبُ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْغُسْلَ حَقُّهُ، وَالصَّلَاةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا كَانَ مِنْ حَقِّهِ يُؤْتَى بِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُؤْتَى بِهِ إهَانَةً، وَلِهَذَا يُغَسَّلُ الْكَافِرُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ. وَلَوْ اجْتَمَعَ الْمَوْتَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَامَةٌ يُمْكِنُ الْفَصْلُ بِهَا يُفْصَلُ، وَعَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: الْخِتَانُ وَالْخِضَابُ، وَلُبْسُ السَّوَادِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِمْ عَلَامَةٌ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ غُسِّلُوا وَكُفِّنُوا وَدُفِنُوا فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِمْ وَيَنْوِي بِالدُّعَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ الْكُفَّارُ أَكْثَرَ يُغَسَّلُوا وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ، كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِمَوْتَى الْكُفَّارِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ، لَكِنْ يُغَسَّلُونَ وَيُكَفَّنُونَ وَيُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ غُسْلَ الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ وَغُسْلَ الْكَافِرِ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ فَيُؤْتَى بِالْجَائِزِ فِي الْجُمْلَةِ لِتَحْصِيلِ الْوَاجِبِ. وَأَمَّا إذَا كَانُوا عَلَى السَّوَاءِ فَلَا يُشْكِلُ أَنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ تَحْصِيلَ الْوَاجِبِ مَعَ الْإِتْيَانِ بِالْجَائِزِ فِي الْجُمْلَةِ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبِ رَأْسًا، وَهَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْكَافِرِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ أَصْلًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] وَتَرْكُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِ مَشْرُوعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ كَالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ فَكَانَ التَّرْكُ أَهْوَنَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَيَنْوِي بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ عَجَزُوا عَنْ تَعْيِينِ الْعَمَلِ لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعْجَزُوا عَنْ تَمْيِيزِ الْقَصْدِ فِي الدُّعَاءِ لَهُمْ. وَأَمَّا الدَّفْنُ فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ فِي الْمَبْسُوطِ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُمْ يُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُتَّخَذُ لَهُمْ مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ وَتُسَوَّى قُبُورُهُمْ، وَلَا تُسَنَّمُ وَهُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ وَهُوَ أَحْوَطُ. وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِيَّةٍ تَحْتَ مُسْلِمٍ حَبِلَتْ ثُمَّ مَاتَتْ وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْكَافِرَةِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ، وَمَا فِي بَطْنِهَا لَا يَسْتَحِقُّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهَا تُغَسَّلُ وَتُكَفَّنُ، وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي الدَّفْنِ قَالَ بَعْضُهُمْ: تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْوَلَدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْهَا مَا دَامَ فِي الْبَطْنِ، وَقَالَ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ: يُتَّخَذُ لَهَا مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَهَذَا أَحْوَطُ. وَلَوْ وُجِدَ مَيِّتٌ أَوْ قَتِيلٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ لِحُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِكَوْنِهِ مُسْلِمًا بِدَلَالَةِ

فصل بيان الكلام فيمن يغسل

الْمَكَانِ، وَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ وُجِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْجَمْعُ بَيْنَ السِّيمَا وَدَلِيلِ الْمَكَانِ، بَلْ يُعْمَلُ بِالسِّيمَا وَحْدَهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَلْ يُعْمَلُ بِدَلِيلِ الْمَكَانِ وَحْدَهُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِهِ لِحُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ عِنْدَهُ. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَلَا يُغَسَّلُ الْبُغَاةُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ وَالْمُكَاثِرُونَ وَالْخَنَّاقُونَ إذَا قُتِلُوا؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يُغَسَّلُ كَرَامَةً لَهُ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْكَرَامَةَ بَلْ الْإِهَانَةَ، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي الْحَسَنِ الرُّسْتُغْفَنِيِّ صَاحِبِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ أَنَّ الْبَاغِيَ لَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ حَقُّهُ فَيُؤْتَى بِهِ، وَالصَّلَاةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إهَانَةً لَهُ كَالْكَافِرِ أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْعُيُونِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا لَا يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَمَنْ قُتِلَ ظَالِمًا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَالْبَاغِي قُتِلَ ظَالِمًا فَيُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ. وَمِنْهَا وُجُودُ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْفِعْلِ مُقَيَّدٌ بِالْوُسْعِ وَلَا وُسْعَ مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ فَسَقَطَ الْغُسْلُ، وَلَكِنْ يُيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ صَلُحَ بَدَلًا عَنْ الْغُسْلِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، غَيْرَ أَنَّ الْجِنْسَ يُيَمِّمُ الْجِنْسَ بِيَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ مَسُّ مَوَاضِعِ التَّيَمُّمِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ، كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْجِنْسِ فَإِنْ كَانَا ذَوِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَكَذَلِكَ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا زَوْجَيْنِ يُيَمِّمُهُ بِخِرْقَةٍ تَسْتُرُ يَدَهُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَسِّ بَيْنَهُمَا ثَابِتَةٌ، كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ إلَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مِمَّا لَا يُشْتَهَى كَالصَّغِيرِ، أَوْ الصَّغِيرَةِ فَيُيَمِّمُهُ مَنْ غَيْرِ خِرْقَة، وَإِنْ كَانَا زَوْجَيْنِ، فَالْمَرْأَةُ تُيَمِّمُ زَوْجَهَا بِلَا خِرْقَةٍ؛ لِأَنَّهَا تُغَسِّلُهُ بِلَا خِرْقَةٍ فَالتَّيَمُّمُ أَوْلَى إذَا لَمْ تَبِنْ مِنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا حَدَثَ بَعْدَ وَفَاتِهِ مَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ بِنَاءً عَلَى مَا نَذْكُرُ؛ لِأَنَّهَا تُغَسِّلُهُ بِلَا خِرْقَةٍ فَالتَّيَمُّمُ أَوْلَى. وَأَمَّا الزَّوْجُ فَلَا يُيَمِّمُ زَوْجَتَهُ بِلَا خِرْقَةٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى مَا نَذْكُرُ. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَيِّتُ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ سَاقِطٌ عَنْ الشَّهِيدِ بِالنَّصِّ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي فَصْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ بَيَانُ الْكَلَامِ فِيمَنْ يُغَسِّلُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ الْكَلَامِ فِيمَنْ يُغَسِّلُ فَنَقُولُ: الْجِنْسُ يُغَسِّلُ الْجِنْسَ، فَيُغَسِّلُ الذَّكَرُ الذَّكَرَ، وَالْأُنْثَى الْأُنْثَى؛ لِأَنَّ حِلَّ الْمَسِّ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ ثَابِتٌ لِلْجِنْسِ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْغَاسِلُ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ التَّطْهِيرُ حَاصِلٌ فَيَجُوزُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَرِهَ لِلْحَائِضِ الْغُسْلَ؛ لِأَنَّهَا لَوْ اغْتَسَلَتْ بِنَفْسِهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ فَكَذَا إذَا غَسَّلَتْ، وَلَا يُغَسِّلُ الْجِنْسَ خِلَافُ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَسِّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ثَابِتَةٌ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْمَجْبُوبُ وَالْخَصِيُّ فِي ذَلِكَ مِثْلُ الْفَحْلِ، كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ إلَّا الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا إذَا لَمْ تَثْبُتْ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا فِي حَالَةِ حَيَاتِهِ، وَلَا حَدَثَ بَعْدَ وَفَاتِهِ مَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ، أَوْ الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ، فَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ. أَمَّا الرَّجُلُ فَنَقُولُ: إذَا مَاتَ رَجُلٌ فِي سَفَرٍ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ يُغَسِّلُهُ الرَّجُلُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ نِسَاءٌ لَا رَجُلَ فِيهِنَّ، فَإِنْ كَانَ فِيهِنَّ امْرَأَتُهُ غَسَّلَتْهُ وَكَفَّنَتْهُ وَصَلَّيْنَ عَلَيْهِ وَتَدْفِنُهُ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتُغَسِّلُ زَوْجَهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْ اسْتَقْبَلْنَا مِنْ الْأَمْرِ مَا اسْتَدْبَرْنَا لَمَا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا نِسَاؤُهُ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ عَالِمَةً وَقْتَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِبَاحَةِ غُسْلِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، ثُمَّ عَلِمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْصَى إلَى امْرَأَتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنْ تُغَسِّلَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَهَكَذَا فَعَلَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ؛ وَلِأَنَّ إبَاحَةَ الْغُسْلِ مُسْتَفَادَةٌ بِالنِّكَاحِ فَتَبْقَى مَا بَقِيَ النِّكَاحُ، وَالنِّكَاحُ بَعْدَ الْمَوْتِ بَاقٍ إلَى وَقْتِ انْقِطَاعِ الْعِدَّةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ حَيْثُ لَا يُغَسِّلُهَا الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ انْتَهَى مِلْكُ النِّكَاحِ لِانْعِدَامِ الْمَحِلِّ، فَصَارَ الزَّوْجُ أَجْنَبِيًّا فَلَا يَحِلُّ لَهُ غُسْلُهَا وَاعْتُبِرَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَيْثُ لَا يَنْتَفِي عَنْ الْمَحَلِّ بِمَوْتِ الْمَالِكِ، وَيَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَحَلِّ فَكَذَا هَذَا، وَهَذَا إذَا لَمْ تَثْبُتْ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا فِي حَالِ حَيَاةِ الزَّوْجِ، فَأَمَّا إذَا ثَبَتَتْ بِأَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، أَوْ بَائِنًا ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَا يُبَاحُ لَهَا غُسْلُهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ ارْتَفَعَ بِالْإِبَانَةِ وَكَذَا إذَا قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا، ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَبَتَتْ بِالتَّقْبِيلِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ فَبَطَلَ مِلْكُ النِّكَاحِ ضَرُورَةً. وَكَذَا لَوْ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ - أَسْلَمَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ النِّكَاحِ. وَلَوْ طَلَّقَهَا

طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلُ مِلْكَ النِّكَاحِ. وَأَمَّا إذَا حَدَثَ بَعْدَ وَفَاةِ الزَّوْجِ مَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ لَا يُبَاحُ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ يُبَاحُ بِأَنْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ، وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ: أَنَّ الرِّدَّةَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا تَرْفَعُ النِّكَاحَ؛ لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ بِالْمَوْتِ فَبَقِيَ حِلُّ الْغُسْلِ، كَمَا كَانَ بِخِلَافِ الرِّدَّةِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، وَلَنَا أَنَّ زَوَالَ النِّكَاحِ مَوْقُوفٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا فَيَرْتَفِعُ بِالرِّدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مُطْلَقًا فَقَدْ بَقِيَ فِي حَقِّ حِلِّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ، وَكَمَا تَرْفَعُ الرِّدَّةُ مُطْلَقَ الْحِلِّ تَرْفَعُ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَهُوَ حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا، أَوْ قَبَّلَتْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ بَعْدَ مَوْتِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، لَيْسَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ. وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ وَكَذَا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا حِلُّ الْغُسْلِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَثْبُتُ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَ الزَّوْجُ بِأُخْتِ امْرَأَتِهِ بِشُبْهَةٍ وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ثُمَّ مَاتَ فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَكَذَلِكَ الْمَجُوسِيُّ إذَا أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ الْمَجُوسِيَّةُ لَمْ تُغَسِّلْهُ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاث، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُغَسِّلَهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِنَّ امْرَأَتُهُ وَلَكِنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ كَافِرٌ عَلَّمْنَهُ غُسْلَ الْمَيِّتِ وَيُخَلِّينَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يُغَسِّلَهُ وَيُكَفِّنَهُ، ثُمَّ يُصَلِّينَ عَلَيْهِ وَيَدْفِنَّهُ؛ لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ فِي الدِّينِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ لَا مُسْلِمٌ وَلَا كَافِرٌ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ صَبِيَّةٌ صَغِيرَةٌ لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ وَأَطَاقَتْ الْغُسْلَ عَلَّمْنَهَا الْغُسْلَ، وَيُخَلِّينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حَتَّى تُغَسِّلَهُ وَتُكَفِّنَهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَوْرَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُنَّ لَا يُغَسِّلْنَهُ، سَوَاءٌ كُنَّ ذَوَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ فِي حُكْمِ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ وَالْأَجْنَبِيَّةَ سَوَاءٌ، فَكَمَا لَا تُغَسِّلُهُ الْأَجْنَبِيَّةُ فَكَذَا ذَوَاتُ مَحَارِمِهِ، وَلَكِنْ يُيَمِّمْنَهُ غَيْرَ أَنَّ الْمُيَمِّمَةَ إذَا كَانَتْ ذَاتَ رَحِمِ مَحْرَمٍ مِنْهُ تُيَمِّمُهُ بِغَيْرِ خِرْقَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ رَحِمِ مَحْرَمٍ مِنْهُ تُيَمِّمُهُ بِخِرْقَةٍ تَلُفُّهَا عَلَى كَفِّهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَمَسَّهُ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِيهِنَّ أُمُّ وَلَدِهِ لَمْ تُغَسِّلْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ فَأَشْبَهَتْ الْمَنْكُوحَةَ، وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَبْقَى فِيهَا بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا كَانَ مِلْكَ يَمِينٍ وَهُوَ يَعْتِقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، وَالْحُرِّيَّةُ تُنَافِي مِلْكَ الْيَمِينِ فَلَا يَبْقَى بِخِلَافِ الْمَنْكُوحَةِ، فَإِنَّ حُرِّيَّتَهَا لَا تُنَافِي مِلْكَ النِّكَاحِ، كَمَا فِي حَالِ حَيَاةِ الزَّوْجِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِيهِنَّ أَمَتُهُ، أَوْ مُدَبَّرَتُهُ، أَمَّا الْأَمَةُ؛ فَلِأَنَّهَا زَالَتْ عَنْ مِلْكِهِ بِالْمَوْتِ إلَى الْوَرَثَةِ، وَلَا يُبَاحُ لِأَمَةِ الْغَيْرِ عَوْرَتُهُ غَيْرَ أَنَّهَا لَوْ يَمَّمَتْهُ تُيَمِّمُهُ بِغَيْرِ خِرْقَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِلْجَارِيَةِ مَسُّ مَوْضِعِ التَّيَمُّمِ بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّهَا تَعْتِقُ وَتَلْتَحِقُ بِسَائِرِ الْحَرَائِرِ الْأَجْنَبِيَّاتِ. وَأَمَّا الْمُدَبَّرَةُ؛ فَلِأَنَّهَا تَعْتِقُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، ثُمَّ أُمُّ الْوَلَدِ لَا تُغَسِّلُهُ فَلَأَنْ لَا تُغَسِّلَهُ هَذِهِ أَوْلَى، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْأَمَةُ تُغَسِّلُ مَوْلَاهَا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يُغَسِّلُهُ فَبَقِيَ الْمِلْكُ لَهُ فِيهَا حُكْمًا، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ تَنْدَفِعُ بِالْجِنْسِ أَوْ بِالتَّيَمُّمِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَنَقُولُ: إذَا مَاتَتْ امْرَأَةٌ فِي سَفَرٍ فَإِنْ كَانَ مَعَهَا نِسَاءٌ غَسَّلْنَهَا وَلَيْسَ لِزَوْجِهَا أَنْ يُغَسِّلَهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَقُولُ: وَارَأْسَاهْ فَقَالَ: وَأَنَا وَارَأْسَاهْ لَا عَلَيْكِ أَنَّكِ إذَا مِتِّ غَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ» وَمَا جَازَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجُوزُ لِأُمَّتِهِ، هُوَ الْأَصْلُ إلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا غَسَّلَ فَاطِمَةَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ جُعِلَ قَائِمًا حُكْمًا لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ إلَى الْغُسْلِ، كَمَا إذَا مَاتَ الزَّوْجُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ تَمُوتُ بَيْنَ رِجَالٍ فَقَالَ: تُيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ» وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ زَوْجُهَا، أَوْ لَا يَكُونُ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ ارْتَفَعَ بِمَوْتِهَا فَلَا يَبْقَى حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهَا صَارَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ، وَالْحُرْمَةُ عَلَى التَّأْبِيدِ تُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، وَلِهَذَا جَازَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا. وَإِذَا زَالَ النِّكَاحُ صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً فَبَطَلَ حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَالِكٌ، وَالْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةٌ وَالْمِلْكُ لَا يَزُولُ عَنْ الْمَحَلِّ بِمَوْتِ الْمَالِكِ، وَيَزُولُ بِمَوْتِ الْمَحَلِّ، كَمَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغُسْلِ تَسَبُّبًا فَمَعْنَى قَوْلِهِ: «غَسَّلْتُكِ» قُمْتُ بِأَسْبَابِ غُسْلِك، كَمَا يُقَالُ بَنَى الْأَمِيرُ دَارًا حَمَلْنَاهُ عَلَى

فصل بيان وجوب التكفين

هَذَا صِيَانَةً لِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ عَمَّا يُورِثُ شُبْهَةَ نَفْرَةِ الطِّبَاعِ عَنْهُ، وَتَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ نِكَاحُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ إلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي» . وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - غَسَّلَتْهَا أُمُّ أَيْمَنَ. وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ عَلِيًّا غَسَّلَهَا فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ: أَمَا عَلِمْت «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إنَّ فَاطِمَةَ زَوْجَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» فَدَعْوَاهُ الْخُصُوصِيَّةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُغَسِّلُ زَوْجَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نِسَاءٌ مُسْلِمَاتٌ وَمَعَهُمْ امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ عَلَّمُوهَا الْغُسْلَ وَيُخَلُّونَ بَيْنَهُمَا حَتَّى تُغَسِّلَهَا وَتُكَفِّنَهَا، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَيْهَا الرِّجَالُ وَيَدْفِنُوهَا لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ نِسَاءٌ لَا مُسْلِمَةٌ وَلَا كَافِرَةٌ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ صَبِيٌّ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ وَأَطَاقَ الْغُسْلَ عَلَّمُوهُ الْغُسْلَ فَيُغَسِّلُهَا وَيُكَفِّنُهَا لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ ذَلِكَ فَإِنَّهَا لَا تُغَسَّلُ، وَلَكِنَّهَا تُيَمَّمُ لِمَا ذَكَرْنَا غَيْرَ أَنَّ الْمُيَمِّمَ لَهَا إنْ كَانَ مَحْرَمًا لَهَا يُيَمِّمُهَا بِغَيْرِ خِرْقَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا لَهَا فَمَعَ الْخِرْقَةِ يَلُفُّهَا عَلَى كَفِّهِ لِمَا مَرَّ وَيُعْرِضُ بِوَجْهِهِ عَنْ ذِرَاعَيْهَا؛ لِأَنَّ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ مَا كَانَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى ذِرَاعَيْهَا فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا، كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ. وَلَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ الَّذِي لَا يُشْتَهَى لَا بَأْسَ أَنْ تُغَسِّلَهُ النِّسَاءُ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيَّةُ الَّتِي لَا تُشْتَهَى إذَا مَاتَتْ لَا بَأْسَ أَنْ يُغَسِّلَهَا الرِّجَالُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَوْرَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ، ثُمَّ إذَا غُسِّلَ الْمَيِّتُ يُكَفَّنُ. [فَصْلٌ بَيَانِ وُجُوبِ التَّكْفِينِ] (فَصْلٌ) : وَالْكَلَامُ فِي تَكْفِينِهِ فِي مَوَاضِعَ:. فِي بَيَانِ وُجُوبِ التَّكْفِينِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ كَمِّيَّةِ الْكَفَنِ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ التَّكْفِينِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَنُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى وَجْهِ النَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا النَّصُّ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْبَسُوا هَذِهِ الثِّيَابَ الْبِيضَ فَإِنَّهَا خَيْرُ ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا غَسَّلَتْ آدَمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه - كَفَّنُوهُ وَدَفَنُوهُ ثُمَّ قَالَتْ لِوَلَدِهِ: هَذِهِ سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ، وَالسُّنَّةُ الْمُطْلَقَةُ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى وُجُوبِهِ؛ وَلِهَذَا تَوَارَثَهُ النَّاسُ مِنْ لَدُنْ وَفَاةِ آدَمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَذَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ إنَّمَا وَجَبَ كَرَامَةً لَهُ، وَتَعْظِيمًا، وَمَعْنَى وَالْكَرَامَةِ التَّعْظِيمِ إنَّمَا يَتِمُّ بِالتَّكْفِينِ فَكَانَ وَاجِبًا. [فَصْلٌ كَيْفِيَّةُ وُجُوبِ التَّكْفِينِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِهِ فَوُجُوبُهُ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ قَضَاءً لِحَقِّ الْمَيِّتِ، حَتَّى إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ يَسْقُطُ عَنْ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ صَارَ مَقْضِيًّا، كَمَا فِي الْغُسْلِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي كَمِّيَّةِ الْكَفَنِ. فَنَقُولُ: أَكْثَرُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ الرَّجُلُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ: إزَارٌ، وَرِدَاءٌ، وَقَمِيصٌ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُسَنُّ الْقَمِيصُ فِي الْكَفَنِ، وَإِنَّمَا الْكَفَنُ ثَلَاثُ لَفَائِفَ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ» وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كَفِّنُونِي فِي قَمِيصِي فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُفِّنَ فِي قَمِيصِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ» ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ: أَحَدُهَا الْقَمِيصُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ» وَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَضَرَ تَكْفِينَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَفْنَهُ وَعَائِشَةُ مَا حَضَرَتْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا: لَيْسَ فِيهِ قَمِيصٌ أَيْ: لَمْ يَتَّخِذْ قَمِيصًا جَدِيدًا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " كَفَنُ الْمَرْأَةِ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ، وَكَفَنُ الرَّجُلِ ثَلَاثَةٌ، " وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ "؛ وَلِأَنَّ حَالَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ يُعْتَبَرُ بِحَالِ حَيَاتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ يَخْرُجُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ عَادَةً: قَمِيصٌ، وَسَرَاوِيلُ، وَعِمَامَةٌ، فَالْإِزَارُ بَعْدَ الْمَوْتِ قَائِمٌ مَقَامَ السَّرَاوِيلِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ إنَّمَا كَانَ يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ لِئَلَّا تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ عِنْدَ الْمَشْيِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأُقِيمَ الْإِزَارُ مَقَامَهُ، وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْ الْعِمَامَةَ فِي الْكَفَنِ، وَقَدْ كَرِهَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَصَارَ الْكَفَنُ شَفْعًا، وَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ وِتْرًا، وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُعَمِّمُ الْمَيِّتَ وَيَجْعَلُ ذَنَبَ الْعِمَامَةِ عَلَى وَجْهِهِ، بِخِلَافِ حَالِ الْحَيَاةِ فَإِنَّهُ يُرْسِلُ ذَنَبَ الْعِمَامَةِ مِنْ قِبَلِ الْقَفَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِمَعْنَى الزِّينَةِ، وَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كُفِّنَ فِي بُرْدٍ وَحُلَّةٍ» وَالْحُلَّةُ اسْمٌ لِلزَّوْجِ مِنْ الثِّيَابِ، وَالْبُرْدُ اسْمٌ لِلْفَرْدِ مِنْهَا وَأَدْنَى مَا يُكَفَّنُ فِيهِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ

فصل في صفة الكفن

ثَوْبَانِ: إزَارٌ وَرِدَاءٌ لِقَوْلِ الصِّدِّيقِ: كَفِّنُونِي فِي ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ؛ وَلِأَنَّ أَدْنَى مَا يَلْبَسُهُ الرَّجُلُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ثَوْبَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِمَا وَيُصَلِّيَ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، فَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِمَا أَيْضًا. وَيُكْرَهُ أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ فِي حَالَةِ الْحَيَاة تَجُوزُ صَلَاتُهُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مَعَ الْكَرَاهَةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ يُكْرَهُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِأَنْ كَانَ لَا يُوجَدُ غَيْرُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ كُفِّنَ فِي نَمِرَةٍ فَكَانَ إذَا غُطِّيَ بِهَا رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُغَطَّى بِهَا رَأْسُهُ وَيُجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِذْخِرِ» . وَكَذَا رُوِيَ «أَنَّ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا اُسْتُشْهِدَ كُفِّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَمْ يُوجَدْ لَهُ غَيْرُهُ» فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَالْغُلَامُ الْمُرَاهِقُ كَالرَّجُلِ يُكَفَّنُ فِيمَا يُكَفَّنُ فِيهِ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّ الْمُرَاهِقَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ يَخْرُجُ فِيمَا يَخْرُجُ فِيهِ الْبَالِغُ عَادَةً فَكَذَا يُكَفَّنُ فِيمَا يُكَفَّنُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا لَمْ يُرَاهِقْ فَإِنْ كُفِّنَ فِي خِرْقَتَيْنِ: إزَارٍ، وَرِدَاءٍ فَحَسَنٌ، وَإِنْ كُفِّنَ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ جَازَ؛ لِأَنَّ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَانَ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّهِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَأَكْثَرُ مَا تُكَفَّنُ فِيهِ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ: دِرْعٌ، وَخِمَارٌ، وَإِزَارٌ، وَلِفَافَةٌ، وَخِرْقَةٌ هُوَ السُّنَّةُ فِي كَفَنِ الْمَرْأَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاوَلَ اللَّوَاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ فِي كَفَنِهَا ثَوْبًا ثَوْبًا حَتَّى نَاوَلَهُنَّ خَمْسَةَ أَثْوَابٍ آخِرُهُنَّ خِرْقَةٌ تَرْبِطُ بِهَا ثَدْيَيْهَا» وَلِمَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي حَالِ حَيَاتِهَا تَخْرُجُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ عَادَةً: دِرْعٌ، وَخِمَارٌ، وَإِزَارٌ، وَمُلَاءَةٌ، وَنِقَابٌ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ تُكَفَّنُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ، ثُمَّ الْخِرْقَةُ تُرْبَطُ فَوْقَ الْأَكْفَانِ عِنْدَ الصَّدْرِ فَوْقَ الثَّدْيَيْنِ، وَالْبَطْنِ كَيْ لَا يَنْتَشِرَ عَلَيْهَا الْكَفَنُ إذَا حُمِلَتْ عَلَى السَّرِيرِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّهَا قَالَتْ: آخِرُهُنَّ خِرْقَةٌ تَرْبِطُ بِهَا ثَدْيَيْهَا. ، وَأَدْنَى مَا تُكَفَّنُ فِيهِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ: إزَارٌ، وَرِدَاءٌ، وَخِمَارٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى السَّتْرِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ يَحْصُلُ بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ حَتَّى يَجُوزَ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِيهَا وَتَخْرُجَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيُكْرَهُ أَنْ تُكَفَّنَ الْمَرْأَةُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْنِ. وَالْجَارِيَةُ الْمُرَاهِقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغَةِ فِي الْكَفَنِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَالسِّقْطُ يُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ كَامِلَةٌ؛ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بِتَكْفِينِ الْمَيِّتِ، وَاسْمُ الْمَيِّتِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَى بَعْضِ الْمَيِّتِ. وَكَذَا مَنْ وُلِدَ مَيِّتًا، أَوْ وُجِدَ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِ الْإِنْسَانِ، أَوْ نِصْفُهُ مَشْقُوقًا طُولًا أَوْ نِصْفُهُ مَقْطُوعًا عَرْضًا لَكِنْ لَيْسَ مَعَهُ الرَّأْسُ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ الرَّأْسُ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُكَفَّنُ وَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ فِي الْغُسْلِ يُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا فِي فَصْلِ الْغُسْلِ، وَإِنْ وُجِدَ أَكْثَرُهُ يُكَفَّنُ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ. وَكَذَا الْكَافِرُ إذَا مَاتَ وَلَهُ ذُو رَحِمِ مَحْرَمٍ مُسْلِمٌ يُغَسِّلُهُ وَيُكَفِّنُهُ لَكِنْ فِي خِرْقَةٍ؛ لِأَنَّ التَّكْفِينَ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ لِلْمَيِّتِ. وَلَا يُكَفَّنُ الشَّهِيدُ كَفَنًا جَدِيدًا غَيْرَ ثِيَابِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ وَكُلُومِهِمْ» . [فَصْل فِي صِفَةُ الْكَفَنِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْكَفَنِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ التَّكْفِينُ بِالثِّيَابِ الْبِيضِ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَحَبُّ الثِّيَابِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْبِيضُ فَلْيَلْبَسْهَا أَحْيَاؤُكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «الْبَسُوا هَذِهِ الثِّيَابَ الْبِيضَ فَإِنَّهَا خَيْرُ ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» ، وَقَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حَسِّنُوا أَكْفَانَ الْمَوْتَى فَإِنَّهُمْ يَتَزَاوَرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَتَفَاخَرُونَ بِحُسْنِ أَكْفَانِهِمْ» ، وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا وَلِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ مَيِّتًا فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ» وَالْبُرُودُ وَالْكَتَّانُ وَالْقَصَبُ كُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَالْخَلَقُ إذَا غُسِلَ وَالْجَدِيدُ سَوَاءٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: اغْسِلُوا ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ وَكَفِّنُونِي فِيهِمَا فَإِنَّهُمَا لِلْمُهْلِ وَالصَّدِيدِ، وَإِنَّ الْحَيَّ أَحْوَجُ إلَى الْجَدِيدِ مِنْ الْمَيِّتِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يَجُوزُ لِكُلِّ جِنْسٍ أَنْ يَلْبَسَهُ فِي حَيَاتِهِ يَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى يُكْرَهَ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ فِي الْحَرِيرِ وَالْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ، وَلَا يُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِاللِّبَاسِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ. [فَصْلٌ كَيْفِيَّةُ التَّكْفِينِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّكْفِينِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُجَمَّرَ الْأَكْفَانُ أَوَّلًا وِتْرًا أَيْ: مَرَّةً، أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أَجْمَرْتُمْ الْمَيِّتَ فَأَجْمِرُوهُ وِتْرًا» ؛ وَلِأَنَّ الثَّوْبَ الْجَدِيدَ أَوْ الْغَسِيلَ مِمَّا يُطَيَّبُ وَيُجَمَّرُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَالْوِتْرُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وِتْرٌ يُحِبُّ

فصل بيان من يجب عليه الكفن

الْوِتْرَ» ثُمَّ تُبْسَطُ اللِّفَافَةُ وَهِيَ الرِّدَاءُ طُولًا، ثُمَّ يُبْسَطُ الْإِزَارُ عَلَيْهَا طُولًا ثُمَّ يُلْبِسُهُ الْقَمِيصَ إنْ كَانَ لَهُ قَمِيصٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سِرْوَالَهُ؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ بَعْدَ الْوَفَاةِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْحَيَاةِ إلَّا أَنَّ فِي حَيَاتِهِ كَانَ يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ حَتَّى لَا تَنْكَشِفَ عَوْرَتُهُ عِنْدَ الْمَشْيِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأُقِيمَ الْإِزَارُ مَقَامَ السَّرَاوِيلِ، إلَّا أَنَّ الْإِزَارَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ تَحْتَ الْقَمِيصِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ فَوْقَ الْقَمِيصِ مِنْ الْمَنْكِبِ إلَى الْقَدَمِ؛ لِأَنَّ الْإِزَارَ تَحْتَ الْقَمِيصِ حَالَةَ الْحَيَاةِ لِيَتَيَسَّرَ عَلَيْهِ الْمَشْيُ وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُحْتَاجُ إلَى الْمَشْيِ، ثُمَّ يُوضَعُ الْحَنُوطُ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. لِمَا رُوِيَ أَنَّ آدَمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - لَمَّا تُوُفِّيَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَحَنَّطُوهُ وَيُوضَعُ الْكَافُورُ عَلَى مَسَاجِدِهِ يَعْنِي جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ وَيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَقَدَمَيْهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: وَتُتْبَعُ مَسَاجِدُهُ بِالطِّيبِ يَعْنِي بِالْكَافُورِ؛ وَلِأَنَّ تَعْظِيمَ الْمَيِّتِ وَاجِبٌ وَمِنْ تَعْظِيمِهِ أَنْ يُطَيَّبَ لِئَلَّا تَجِيءَ مِنْهُ رَائِحَةٌ مُنْتِنَةٌ وَلِيُصَانَ عَنْ سُرْعَةِ الْفَسَادِ، وَأَوْلَى الْمَوَاضِعِ بِالتَّعْظِيمِ مَوَاضِعُ السُّجُودِ، وَكَذَا الرَّأْسُ وَاللِّحْيَةُ هُمَا مِنْ أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ مَوْضِعُ الدِّمَاغِ، وَمَجْمَعُ الْحَوَاسِّ، وَاللِّحْيَةُ مِنْ الْوَجْهِ، وَالْوَجْهُ مِنْ أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ، وَعَنْ زُفَرَ أَنَّهُ قَالَ: يُذَرُّ الْكَافُورُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَأَنْفِهِ وَفَمِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَتَبَاعَدَ الدُّودُ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُذَرُّ عَلَيْهِ الْكَافُورُ فَخَصَّ هَذِهِ الْمَحَالَّ مِنْ بَدَنِهِ لِهَذَا، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ وَلَا بَأْسَ بِسَائِرِ الطِّيبِ غَيْرِ الزَّعْفَرَانِ وَالْوَرْسِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى الرِّجَالَ عَنْ الْمُزَعْفَرِ» وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ هَلْ تُحْشَى مَحَارِقُهُ؟ وَقَالُوا: إنْ خُشِيَ خُرُوجَ شَيْءٍ يُلَوِّثُ الْأَكْفَانَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي أَنْفِهِ وَفَمِهِ، وَقَدْ جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ فِي دُبُرِهِ أَيْضًا، وَاسْتَقْبَحَ ذَلِكَ مَشَايِخُنَا وَإِنْ لَمْ يُخْشَ جَازَ التَّرْكُ؛ لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، ثُمَّ يُعْطَفُ الْإِزَارُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ شِقِّهِ الْأَيْسَرِ وَإِنْ كَانَ الْإِزَارُ طَوِيلًا حَتَّى يُعْطَفَ عَلَى رَأْسِهِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ فَهُوَ أَوْلَى، ثُمَّ يُعْطَفُ مِنْ قِبَلِ شِقِّهِ الْأَيْمَنِ كَذَلِكَ فَيَكُونُ الْأَيْمَنُ فَوْقَ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ تُعْطَفُ اللِّفَافَةُ، وَهِيَ الرِّدَاءُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَقِبَ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ هَكَذَا يَفْعَلُ إذَا تَحَزَّمَ بَدَأَ بِعَطْفِ شِقِّهِ الْأَيْسَرِ عَلَى الْأَيْمَنِ ثُمَّ يَعْطِفُ الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَيْسَرِ فَكَذَا يُفْعَلُ بِهِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، فَإِنْ خِيفَ أَنْ تَنْتَشِرَ أَكْفَانُهُ تُعْقَدُ، وَلَكِنْ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ تُحَلُّ الْعُقَدُ لِزَوَالِ مَا لِأَجْلِهِ عُقِدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيُبْسَطُ لَهَا اللِّفَافَةُ وَالْإِزَارُ وَاللِّفَافَةُ فَوْقَ الْخِمَارِ وَالْخِرْقَةُ تُرْبَطُ فَوْقَ الْأَكْفَانِ عِنْدَ الصَّدْرِ فَوْقَ الثَّدْيَيْنِ وَالْبَطْنِ كَيْ لَا يَنْتَشِرَ الْكَفَنُ بِاضْطِرَابِ ثَدْيَيْهَا عِنْدَ الْحَمْلِ عَلَى السَّرِيرِ، وَعَرْضُ الْخِرْقَةِ مَا بَيْنَ الثَّدْيِ وَالسُّرَّةِ هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ وَيُسْدَلُ شَعْرُهَا مَا بَيْنَ ثَدْيَيْهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا تَحْتَ الْخِمَارِ، وَلَا يُسْدَلُ شَعْرُهَا خَلْفَ ظَهْرِهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسْدَلُ خَلْفَ ظَهْرِهَا وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «لَمَّا تُوُفِّيَتْ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَفَّرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ فُرُوقٍ فِي نَاصِيَتِهَا وَقَرْنَيْهَا وَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا» فَدَلَّ أَنَّ السُّنَّةَ هَكَذَا، وَلَنَا أَنَّ إلْقَاءَهَا إلَى ظَهْرِهَا مِنْ بَابِ الزِّينَةِ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِحَالِ زِينَةٍ وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِعْلَ أُمِّ عَطِيَّةَ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ ذَلِكَ. ثُمَّ الْمُحْرِمُ يُكَفَّنُ، كَمَا يُكَفَّنُ الْحَلَالُ عِنْدَنَا أَيْ: يُغَطَّى رَأْسُهُ وَوَجْهُهُ وَيُطَيَّبُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُخَمَّرُ رَأْسُهُ وَلَا يُقَرَّبُ مِنْهُ طِيبٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ مُحْرِمٍ وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ وَانْدَقَّ عُنُقُهُ فَقَالَ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبِهِ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «وَلَا تَقْرَبُوا مِنْهُ طِيبًا» وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ فِي الْمُحْرِمِ يَمُوتُ: خَمِّرُوهُمْ وَلَا تُشَبِّهُوهُمْ بِالْيَهُودِ» وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ: إذَا مَاتَ انْقَطَعَ إحْرَامُهُ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ، وَصَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ عَلَّمَهُ النَّاسَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ» وَالْإِحْرَامُ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَمَا رُوِيَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَيْنَا فِي الْمُحْرِمِ فَبَقِيَ لَنَا الْحَدِيثُ الْمُطْلَقُ الَّذِي رَوَيْنَا أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ مُنْقَطِعٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى مُحْرِمٍ خَاصٍّ جَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْصُوصًا بِهِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَنُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَنُ فَنَقُولُ: كَفَنُ الْمَيِّتِ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَيُكَفَّنُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ قَبْلَ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ فَصَارَ كَنَفَقَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَكَفَنُهُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، كَمَا تَلْزَمُهُ كِسْوَتُهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ إلَّا الْمَرْأَةَ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ كَفَنُهَا عَلَى زَوْجِهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ

فصل بيان عدد من يحمل الجنازة وكيفية حملها

انْقَطَعَتْ بِالْمَوْتِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَنُهَا، كَمَا تَجِبُ عَلَيْهِ كِسْوَتُهَا فِي حَالِ حَيَاتِهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ كَفَنُ زَوْجِهَا بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهَا كِسْوَتُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلَا مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ فَكَفَنُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَنَفَقَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ أُعِدَّ لِحَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ. وَعَلَى هَذَا إذَا نُبِشَ الْمَيِّتُ وَهُوَ طَرِيٌّ لَمْ يَتَفَسَّخْ بَعْدُ كُفِّنَ ثَانِيًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى الْكَفَنِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَحَاجَتِهِ إلَيْهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَإِنْ قُسِمَ الْمَالُ فَهُوَ عَلَى الْوَارِثِ دُونَ الْغُرَمَاءِ وَأَصْحَابِ الْوَصَايَا؛ لِأَنَّ بِالْقَسْمِ انْقَطَعَ حَقُّ الْمَيِّتِ عَنْهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ فَيُكَفِّنُهُ وَارِثُهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلَا مَنْ تُفْتَرَضُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فَكَفَنُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ نَفَقَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ. وَإِنْ نُبِشَ بَعْدَمَا تَفَسَّخَ وَأُخِذَ كَفَنُهُ كُفِّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَفَسَّخَ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْآدَمِيِّينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ فَصَارَ كَالسَّقْطِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ إذَا كُفِّنَ الْمَيِّتُ يُحْمَلُ عَلَى الْجِنَازَةِ. [فَصْلٌ بَيَانُ عَدَد مَنْ يَحْمِلُ الْجِنَازَةِ وَكَيْفِيَّةِ حَمْلِهَا] (فَصْلٌ) : وَالْكَلَامُ فِي حَمْلِهِ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ كَمِّيَّةِ مَنْ يَحْمِلُ الْجِنَازَةِ، وَكَيْفِيَّةِ حَمْلِهَا وَتَشْيِيعِهَا وَوَضْعِهَا وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِمَّا يُسَنُّ وَمَا يُكْرَهُ أَمَّا بَيَانُ كَمِّيَّةِ مَنْ يَحْمِلُ الْجِنَازَةِ وَكَيْفِيَّةِ حَمْلِهَا فَالسُّنَّةُ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَحْمِلَهَا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ مِنْ جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ حَمْلُهَا بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَحْمِلَهَا رَجُلَانِ يَتَقَدَّمُ أَحَدُهُمَا فَيَضَعُ جَانِبَيْ الْجِنَازَةِ عَلَى كَتِفَيْهِ وَيَتَأَخَّرُ الْآخَرُ فَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْحَمْلِ مَكْرُوهٌ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي الْمُجَرَّدِ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمَلَ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ» وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «السُّنَّةُ أَنْ تُحْمَلَ الْجِنَازَةُ مِنْ جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ» وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ يَدُورُ عَلَى الْجِنَازَةِ مِنْ جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ؛ وَلِأَنَّ عَمَلَ النَّاسِ اشْتَهَرَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهُوَ آمَنُ مِنْ سُقُوطِ الْجِنَازَةِ وَأَيْسَرُ عَلَى الْحَامِلِينَ الْمُتَدَاوِلِينَ بَيْنَهُمْ، وَأَبْعَدُ مِنْ تَشْبِيهِ حَمْلِ الْجِنَازَةِ بِحَمْلِ الْأَثْقَالِ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِذَلِكَ؛ وَلِهَذَا يُكْرَهُ حَمْلُهَا عَلَى الظَّهْرِ أَوْ عَلَى الدَّابَّةِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ لِضِيقِ الْمَكَانِ أَوْ لِعَوَزِ الْحَامِلِينَ وَمَنْ أَرَادَ إكْمَالَ السُّنَّةِ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْمِلَهَا مِنْ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعِ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَدُورُ عَلَى الْجِنَازَةِ عَلَى جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ فَيَضَعُ مُقَدَّمَ الْجِنَازَةِ عَلَى يَمِينِهِ، ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ مُقَدَّمَهَا عَلَى يَسَارِهِ، ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا عَلَى يَسَارِهِ، كَمَا بَيَّنَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ» وَإِذَا حَمَلَ هَكَذَا حَصَلَتْ الْبِدَايَةُ بِيَمِينِ الْحَامِلِ وَيَمِينِ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا بَدَأْنَا بِالْأَيْمَنِ الْمُقَدَّمِ دُونَ الْمُؤَخَّرِ؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّمَ أَوَّلُ الْجِنَازَةِ، وَالْبِدَايَةُ بِالشَّيْءِ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ أَوَّلِهِ ثُمَّ يَضَعُ مُؤَخَّرَهَا الْأَيْمَنَ عَلَى يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَضَعَ مُقَدَّمَهَا الْأَيْسَرَ عَلَى يَسَارِهِ لَاحْتَاجَ إلَى الْمَشْيِ أَمَامَهَا، وَالْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ وَضَعَ مُؤَخَّرَهَا الْأَيْسَرَ عَلَى يَسَارِهِ لَقَدَّمَ الْأَيْسَرَ عَلَى الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يَضَعُ مُقَدَّمَهَا الْأَيْسَرَ عَلَى يَسَارِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ كَذَلِكَ يَقَعُ الْفَرَاغُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ فَيَمْشِي خَلْفَهَا، وَهُوَ أَفْضَلُ، كَذَلِكَ كَانَ الْحَمْلُ، وَلِكَمَالِ السُّنَّةِ، كَمَا وَصَفْنَا مِنْ التَّرْتِيبِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَشْرَ خُطُوَاتٍ لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ حَمَلَ جِنَازَةً أَرْبَعِينَ خُطْوَةً كَفَّرَتْ أَرْبَعِينَ كَبِيرَةً» وَأَمَّا جِنَازَةُ الصَّبِيِّ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَحْمِلَهَا الرِّجَالُ وَيُكْرَهُ أَنْ تُوضَعَ جِنَازَتُهُ عَلَى دَابَّةٍ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ مُكَرَّمٌ مُحْتَرَمٌ كَالْبَالِغِ، وَلِهَذَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، كَمَا يُصَلَّى عَلَى الْبَالِغِ، وَمَعْنَى الْكَرَامَةِ وَالِاحْتِرَامِ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْأَيْدِي، فَأَمَّا الْحَمْلُ عَلَى الدَّابَّةِ فَإِهَانَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ حَمْلَ الْأَمْتِعَةِ، وَإِهَانَةُ الْمُحْتَرَمِ مَكْرُوهٌ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَهُ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّتِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ لَهُ رَاكِبًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَرَامَةِ حَاصِلٌ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الرَّضِيعِ وَالْفَطِيمِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَهُ فِي طَبَقٍ يَتَدَاوَلُونَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْإِسْرَاعُ بِالْجِنَازَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِبْطَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «عَجِّلُوا بِمَوْتَاكُمْ فَإِنْ يَكُ خَيْرًا قَدَّمْتُمُوهُ إلَيْهِ وَإِنْ يَكُ شَرًّا أَلْقَيْتُمُوهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّارِ» لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِسْرَاعُ دُونَ الْخَبَبِ لِمَا رُوِيَ عَنْ «ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمَشْيِ بِالْجِنَازَةِ فَقَالَ: مَا دُونَ الْخَبَبِ» ؛ وَلِأَنَّ الْخَبَبَ يُؤَدِّي إلَى الْإِضْرَارِ بِمُشَيِّعِي الْجِنَازَةِ، وَيُقَدَّمُ الرَّأْسُ فِي حَالِ حَمْلِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ فَكَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى وَلِأَنَّ مَعْنَى الْكَرَامَةِ فِي التَّقْدِيمِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّشْيِيعِ فَالْمَشْيُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ أَفْضَلُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " الْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ " وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ

فصل بيان فريضة صلاة الجنازة وكيفية فرضيتها

كَانُوا يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ» وَهَذَا حِكَايَةُ عَادَةٍ وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ اخْتِيَارَ الْأَفْضَلِ؛ وَلِأَنَّهُمْ شُفَعَاءُ الْمَيِّتِ، وَالشَّفِيعُ أَبَدًا يَتَقَدَّمُ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ لِلصَّلَاةِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّحَرُّزِ عَنْ احْتِمَالِ الْفَوْتِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ وَلَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ لَيْسَ مَعَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا» وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كَانَ يَمْشِي خَلْفَ جِنَازَةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» وَرَوَى مَعْمَرُ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «مَا مَشَى رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى مَاتَ إلَّا خَلْفَ الْجِنَازَةِ» وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فَضْلُ الْمَشْيِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ عَلَى الْمَشْيِ أَمَامَهَا كَفَضْلِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى النَّافِلَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَقْرَبُ إلَى الِاتِّعَاظِ؛ لِأَنَّهُ يُعَايِنُ الْجِنَازَةَ فَيَتَّعِظُ فَكَانَ أَفْضَلَ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَتَسْهِيلِ الْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ الِازْدِحَامِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ فِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ عَلِيٍّ خَلْفَ الْجِنَازَةِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَمْشِيَانِ أَمَامَهَا فَقُلْتُ: لِعَلِيٍّ مَا بَالُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشِيَانِ أَمَامَ الْجِنَازَةِ فَقَالَ: إنَّهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَفْضَلُ مِنْ الْمَشْيِ أَمَامَهَا إلَّا أَنَّهُمَا يُسَهَّ لَانَ عَلَى النَّاسِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ النَّاسَ يَتَحَرَّزُونَ عَنْ الْمَشْيِ أَمَامَهَا تَعْظِيمًا لَهَا، فَلَوْ اخْتَارَ الْمَشْيَ خَلْفَ الْجِنَازَةِ لَضَاقَ الطَّرِيقُ عَلَى مُشَيِّعِيهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّ النَّاسَ شُفَعَاءُ الْمَيِّتِ " فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمُوا فَيُشْكِلُ هَذَا بِحَالَةِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ حَالَةَ الصَّلَاةِ حَالَةُ الشَّفَاعَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَتَقَدَّمُونَ الْمَيِّتَ بَلْ الْمَيِّتُ قُدَّامُهُمْ، وَقَوْلُهُ: " هَذَا أَحْوَطُ لِلصَّلَاةِ " قُلْنَا: عِنْدَنَا إنَّمَا يَكُونُ الْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ إذَا كَانَ بِقُرْبٍ مِنْهَا بِحَيْثُ يُشَاهِدُهَا، وَفِي مِثْلِ هَذَا لَا تَفُوتُ الصَّلَاةُ. وَلَوْ مَشَى قُدَّامَهَا كَانَ وَاسِعًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَعَلُوا ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا غَيْرَ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْكُلُّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالُ مَتْبُوعِيَّةِ الْجِنَازَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَلَا بَأْسَ بِالرُّكُوبِ إلَى صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْمَشْيُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ، وَأَلْيَقُ بِالشَّفَاعَةِ وَيُكْرَهُ لِلرَّاكِبِ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْجِنَازَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ الضَّرَرِ بِالنَّاسِ. ، وَلَا تُتْبَعُ الْجِنَازَةُ بِنَارٍ إلَى قَبْرِهِ يَعْنِي: الْإِجْمَارَ فِي قَبْرِهِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ فِي جِنَازَةٍ فَرَأَى امْرَأَةً فِي يَدِهَا مِجْمَرٌ فَصَاحَ عَلَيْهَا وَطَرَدَهَا حَتَّى تَوَارَثْ بِالْأَكَامِ» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لَا تَحْمِلُوا مَعِي مِجْمَرًا؛ وَلِأَنَّهَا آلَةُ الْعَذَابِ فَلَا تُتْبَعُ مَعَهُ تَفَاؤُلًا، قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ: أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ زَادِهِ مِنْ الدُّنْيَا نَارًا؛ وَلِأَنَّ هَذَا فِعْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيُكْرَهُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ مَنْ يَتْبَعُ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ؛ لِأَنَّ الِاتِّبَاعَ كَانَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَلَا يَرْجِعُ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ. وَلَا يَنْبَغِي لِلنِّسَاءِ أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَاهُنَّ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: «انْصَرِفْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ» . وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُومَ لِلْجِنَازَةِ إذَا أُتِيَ بِهَا بَيْنَ يَدَيْهِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ اتِّبَاعَهَا. وَيُكْرَهُ النَّوْحُ وَالصِّيَاحُ فِي الْجِنَازَةِ وَمَنْزِلِ الْمَيِّتِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ الصَّوْتَيْنِ الْأَحْمَقَيْنِ: صَوْتِ النَّائِحَةِ، وَالْمُغَنِّيَةِ» . فَأَمَّا الْبُكَاءُ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ بَكَى عَلَى ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ وَقَالَ: الْعَيْنُ تَدْمَعُ وَالْقَلْبُ يَخْشَعُ وَلَا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ وَإِنَّا عَلَيْكَ يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» . وَإِذَا كَانَ مَعَ الْجِنَازَةِ نَائِحَةٌ أَوْ صَائِحَةٌ زُجِرَتْ فَإِنْ لَمْ تَنْزَجِرْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتْبَعَ الْجِنَازَةَ مَعَهَا وَيَمْتَنِعُ لِأَجْلِهَا؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْجِنَازَةِ سُنَّةٌ فَلَا يُتْرَكُ بِبِدْعَةٍ مِنْ غَيْرِهِ. وَيُطِيلُ الصَّمْتَ إذَا اتَّبَعَ الْجِنَازَةَ وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ لِمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ ثَلَاثَةٍ: عِنْدَ الْقِتَالِ، وَعِنْدَ الْجِنَازَةِ، وَالذِّكْرِ؛ وَلِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ مَكْرُوهًا. ، وَيُكْرَهُ لِمُتَّبِعِي الْجِنَازَةِ أَنْ يَقْعُدُوا قَبْلَ وَضْعِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعُ الْجِنَازَةِ، وَالتَّبَعُ لَا يَقْعُدُ قَبْلَ قُعُودِ الْأَصْلِ؛ وَلَأَنَّهُمْ إنَّمَا حَضَرُوا تَعْظِيمًا لِلْمَيِّتِ، وَلَيْسَ مِنْ التَّعْظِيمِ الْجُلُوسُ قَبْلَ الْوَضْعِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْوَضْعِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ لَا يَجْلِسُ حَتَّى يُوضَعَ الْمَيِّتُ فِي اللَّحْدِ» «وَكَانَ قَائِمًا مَعَ أَصْحَابِهِ عَلَى رَأْسِ قَبْرٍ فَقَالَ يَهُودِيٌّ: هَكَذَا نَفْعَلُ بِمَوْتَانَا فَجَلَسَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: خَالِفُوهُمْ» . وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْوَضْعِ فَنَقُولُ: إنَّهَا تُوضَعُ عَرْضًا لِلْقِبْلَةِ هَكَذَا تَوَارَثَهُ النَّاسُ - وَاَللَّهَ أَعْلَمُ - ثُمَّ إذَا وُضِعَتْ الْجِنَازَةُ يُصَلَّى عَلَيْهَا. [فَصْلٌ بَيَانِ فَرِيضَةٌ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَكَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّتِهَا] (فَصْلٌ) : وَالْكَلَامُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنَّهَا فَرِيضَةٌ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّتِهَا، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَفِي بَيَانِ مَا تَصِحُّ بِهِ الصَّلَاةُ وَمَا يُفْسِدُهَا وَمَا يُكْرَهُ، وَفِي بَيَانِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الصَّلَاةِ. أَمَّا

الْأَوَّلُ: فَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلُّوا عَلَى كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ» وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ حُقُوقٍ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ «يُصَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ» وَكَلِمَةُ عَلَى لِلْإِيجَابِ وَكَذَا مُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالْأُمَّةِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَيْهَا، دَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا أَيْضًا إلَّا أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ يَسْقُطُ عَنْ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْفَرْضُ، وَهُوَ قَضَاءُ حَقِّ الْمَيِّتِ يَحْصُلُ بِالْبَعْضِ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ النَّاسِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْجِهَادِ، لَكِنْ لَا يَسَعُ الِاجْتِمَاعُ عَلَى تَرْكِهَا كَالْجِهَادِ. وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ مَاتَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ يُصَلَّى عَلَيْهِ صَغِيرًا كَانَ، أَوْ كَبِيرًا، ذَكَرًا كَانَ، أَوْ أُنْثَى، حُرًّا كَانَ، أَوْ عَبْدًا إلَّا الْبُغَاةَ وَقُطَّاعَ الطَّرِيقِ، وَمَنْ بِمِثْلِ حَالِهِمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلُّوا عَلَى كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ» وَقَوْلُهُ: «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ حُقُوقٍ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ يُصَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَالْبُغَاةُ وَمَنْ بِمِثْلِ حَالِهِمْ مَخْصُوصُونَ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ وُجِدَ مَيِّتًا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الْغُسْلِ. وَإِنْ مَاتَ فِي حَالِ وِلَادَتِهِ، فَإِنْ كَانَ خَرَجَ أَكْثَرُهُ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّهُ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا لِلْأَغْلَبِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ نِصْفُهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى نِصْفِ الْمَيِّتِ. وَلَا يُصَلَّى عَلَى بَعْضِ الْإِنْسَانِ حَتَّى يُوجَدَ الْأَكْثَرُ مِنْهُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّا لَوْ صَلَّيْنَا عَلَى هَذَا الْبَعْضِ يَلْزَمُنَا الصَّلَاةُ عَلَى الْبَاقِي إذَا وَجَدْنَاهُ فَيُؤَدِّي إلَى التَّكْرَارِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ عِنْدَنَا بِخِلَافِ الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا صُلِّيَ عَلَيْهِ لَمْ يُصَلَّ عَلَى الْبَاقِي إذَا وُجِدَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الْغُسْلِ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ فِي النِّصْفِ الْمَقْطُوعِ. وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لَا جَمَاعَةً وَلَا وُحْدَانًا عِنْدَنَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ صَلَّوْا عَلَيْهَا أَجَانِبَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْأَوْلِيَاءِ، ثُمَّ حَضَرَ الْوَلِيُّ فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يُعِيدَهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ أَنْ يُصَلِّيَ " وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ» وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى عَلَيْهِ وَرُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِقَبْرٍ جَدِيدٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ: قَبْرُ فُلَانَةَ فَقَالَ: هَلَّا آذَنْتُمُونِي بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَقِيلَ: إنَّهَا دُفِنَتْ لَيْلًا فَخَشِينَا عَلَيْكَ هَوَامَّ الْأَرْضِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذَا مَاتَ إنْسَانٌ فَآذِنُونِي فَإِنَّ صَلَاتِي عَلَيْهِ رَحْمَةٌ، وَقَامَ وَجَعَلَ الْقَبْرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ وَصَلَّى عَلَيْهِ» . وَكَذَا الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - صَلَّوْا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَةٍ؛ وَلِأَنَّهَا دُعَاءٌ، وَلَا بَأْسَ بِتَكْرَارِ الدُّعَاءِ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَيِّتِ وَإِنْ قُضِيَ فَلِكُلِّ مُسْلِمٍ فِي الصَّلَاةِ حَقٌّ؛ وَلِأَنَّهُ يُثَابُ بِذَلِكَ، وَعَسَى أَنْ يُغْفَرَ لَهُ بِبَرَكَةِ هَذَا الْمَيِّتِ كَرَامَةً لَهُ، وَلَمْ يَقْضِ هَذَا الْحَقَّ فِي حَقِّ كُلِّ شَخْصٍ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ حَقَّهُ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَمَّا فَرَغَ جَاءَ عُمَرُ وَمَعَهُ قَوْمٌ فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ ثَانِيًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ لَا تُعَادُ، وَلَكِنْ اُدْعُ لِلْمَيِّتِ وَاسْتَغْفِرْ لَهُ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَاتَتْهُمَا صَلَاةٌ عَلَى جِنَازَةٍ فَلَمَّا حَضَرَا مَا زَادَا عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لَهُ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عَلَى جِنَازَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمَّا حَضَرَ قَالَ: إنْ سَبَقْتُمُونِي بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَلَا تَسْبِقُونِي بِالدُّعَاءِ لَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأُمَّةَ تَوَارَثَتْ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَلَوْ جَازَ لَمَا تَرَكَ مُسْلِمٌ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ خُصُوصًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ فِي قَبْرِهِ كَمَا وُضِعَ فَإِنَّ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ حَرَامٌ عَلَى الْأَرْضِ، بِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ، وَتَرْكُهُمْ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّكْرَارِ؛ وَلِأَنَّ الْفَرْضَ قَدْ سَقَطَ بِالْفِعْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِكَوْنِهَا فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَلِهَذَا إنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ لَوْ تَرَكَ الصَّلَاةَ ثَانِيًا لَا يَأْثَمُ وَإِذًا سَقَطَ الْفَرْضُ، فَلَوْ صَلَّى ثَانِيًا كَانَ نَفْلًا. وَالتَّنَفُّلُ بِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ صَلَّى مَرَّةً لَا يُصَلِّي ثَانِيًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَقَدَّمَ غَيْرُ الْوَلِيِّ فَصَلَّى إنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ الْأَوَّلُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَقَعْ فَرْضًا؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّقَدُّمِ كَانَ لَهُ، فَإِذَا تَقَدَّمَ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فِي التَّقَدُّمِ فَيَقَعُ الْأَوَّلُ فَرْضًا، فَهُوَ الْفَرْقُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَعَادَ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الصَّلَاةِ كَانَتْ لَهُ، فَإِنْ كَانَ أَوْلَى الْأَوْلِيَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُصَلِّي عَلَى مَوْتَاكُمْ غَيْرِي مَا دُمْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ» فَلَمْ يَسْقُطْ بِأَدَاءِ غَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ تَأْوِيلُ فِعْلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّ

فصل بيان كيفية الصلاة على الجنازة

الْوَلَايَةَ كَانَتْ لِأَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْخَلِيفَةُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا بِتَسْوِيَةِ الْأُمُورِ وَتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ فَكَانُوا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُضُورِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ صَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ لَمْ يُصَلَّ بَعْدَهُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا حَدِيثُ النَّجَاشِيِّ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ دُعَاءٌ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا الدُّعَاءُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَصَّهُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ حَقًّا فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنْ لَا وَجْهَ لِاسْتِدْرَاكِ ذَلِكَ لِسُقُوطِ الْفَرْضِ، وَعَدَمِ جَوَازِ التَّنَفُّلِ بِهَا، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " إنَّهَا دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ "؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ مَشْرُوعٌ، وَبِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ. وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ غَائِبٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصَلَّى عَلَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِصَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى النَّجَاشِيِّ وَهُوَ غَائِبٌ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الْأَرْضَ طُوِيَتْ لَهُ، وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إنْ كَانَ فِي جَانِبِ الْمَشْرِقِ فَإِنْ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَانَ الْمَيِّتُ خَلْفَهُ، وَإِنْ اسْتَقْبَلَ الْمَيِّتَ كَانَ مُصَلِّيًا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَلَا يُصَلَّى عَلَى صَبِيٍّ وَهُوَ عَلَى الدَّابَّةِ وَعَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ حَتَّى يُوضَعَ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ لَهُمْ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا وَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ. وَلَا يُصَلَّى عَلَى الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصَلَّى عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] الْآيَةَ فَدَخَلُوا تَحْتَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلُّوا عَلَى كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ» . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ لَمْ يُغَسِّلْ أَهْلَ نَهْرَوَانَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ فَقِيلَ لَهُ: أَكُفَّارٌ هُمْ؟ فَقَالَ: لَا وَلَكِنْ هُمْ إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا أَشَارَ إلَى تَرْكِ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ إهَانَةً لَهُمْ لِيَكُونَ زَجْرًا لِغَيْرِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَهُوَ نَظِيرُ الْمَصْلُوبِ تُرِكَ عَلَى خَشَبَتِهِ إهَانَةً وَزَجْرًا لِغَيْرِهِ كَذَا هَذَا، وَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْبُغَاةِ ثَبَتَ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَاهُمْ إذْ هُمْ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ كَالْبُغَاةِ فَكَانُوا فِي اسْتِحْقَاقِ الْإِهَانَةِ مِثْلَهُمْ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبُغَاةَ وَمَنْ بِمِثْلِهِمْ مَخْصُوصُونَ عَنْ الْحَدِيثِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَكَذَلِكَ الَّذِي يُقْتَلُ بِالْخَنْقِ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَكَذَلِكَ مَنْ يُقْتَلُ عَلَى مَتَاعٍ يَأْخُذُهُ وَالْمُكَاثِرُونَ فِي الْمِصْرِ بِالسِّلَاحِ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَيُلْحَقُونَ بِالْبُغَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ عِنْدَ الصَّلَاةِ بِحِذَاءِ الصَّدْرِ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ فِي كِتَابِ صَلَاتِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ: " يَقُومُ بِحِذَاءِ وَسَطِهِ وَمِنْ الْمَرْأَةِ بِحِذَاءِ صَدْرِهَا " وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ: أَنَّ فِي الْقِيَامِ بِحِذَاءِ الْوَسَطِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ فِي الْحَظِّ مِنْ الصَّلَاةِ، إلَّا أَنَّ فِي الْمَرْأَةِ يَقُومُ بِحِذَاءِ صَدْرِهَا لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ عَوْرَتِهَا الْغَلِيظَةِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الصَّدْرَ هُوَ وَسَطُ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ الرِّجْلَيْنِ وَالرَّأْسَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَطْرَافِ فَيَبْقَى الْبَدَنُ مِنْ الْعَجِيزَةِ إلَى الرَّقَبَةِ فَكَانَ وَسَطُ الْبَدَنِ هُوَ الصَّدْرُ، وَالْقِيَامُ بِحِذَاءِ الْوَسَطِ أَوْلَى لِيَسْتَوِيَ الْجَانِبَانِ فِي الْحَظِّ مِنْ الصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّ الْقَلْبَ مَعْدِنُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، فَالْوُقُوفُ بِحِيَالِهِ أَوْلَى. وَلَا نَصَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِيَامِ، وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: يَقُومُ بِحِذَاءِ رَأْسِ الرَّجُلِ وَبِحِذَاءِ عَجُزِ الْمَرْأَةِ، وَيَكُونُ هَذَا مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّهُ صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ فَوَقَفَ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا وَصَلَّى عَلَى رَجُلٍ فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقِيلَ لَهُ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي كَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ» قَالُوا: وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ، فَيَكُونُ هَذَا مَذْهَبَهُ وَإِنْ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذَا مُعَارَضٌ بِمَا رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى عَلَى أُمِّ قِلَابَةَ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ وَسَطَهَا» وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِنَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَقُومُ بِحِذَاءِ صَدْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الصَّدْرَ وَسَطُ الْبَدَنِ، أَوْ نُؤَوِّلُ فَنَقُولُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَقَفَ بِحِذَاءِ الْوَسَطِ إلَّا أَنَّهُ مَالَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ إلَى الرَّأْسِ، وَفِي الْآخَرِ إلَى الْعَجُزِ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. ثُمَّ يُكَبِّرُ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: خَمْسُ تَكْبِيرَاتٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرُوِيَ عَنْهُ الْخَمْسُ وَالسَّبْعُ وَالتِّسْعُ، وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ آخِرَ فِعْلِهِ كَانَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جَمَعَ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حِينَ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ وَقَالَ لَهُمْ: إنَّكُمْ اخْتَلَفْتُمْ فَمَنْ يَأْتِي بَعْدَكُمْ يَكُونُ أَشَدَّ اخْتِلَافًا فَانْظُرُوا آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّا هَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جِنَازَةٍ فَخُذُوا بِذَلِكَ فَوَجَدَهُ صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ كَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبَعًا فَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ التَّكْبِيرَاتِ

فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَيْهَا حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حِينَ سُئِلَ عَنْ تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ أَجْمَعُوا عَلَى أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ، وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ وَكَذَا رَوَوْا عَنْهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا كَانَ يَفْعَلُ ثُمَّ أَخْبَرُوا أَنَّ آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ بِأَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ، وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّنَاسُخِ حَيْثُ لَمْ تَحْمِلْ الْأُمَّةُ الْأَفْعَالَ الْمُخْتَلِفَةَ عَلَى التَّخْيِيرِ فَدَلَّ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ نُسِخَ بِهَذِهِ الَّتِي صَلَّاهَا آخِرَ صَلَاتِهِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ وَلَيْسَ فِي الْمَكْتُوبَاتِ زِيَادَةٌ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ. إلَّا أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى لِلِافْتِتَاحِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ، كُلُّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ، وَالرَّافِضَةُ زَعَمَتْ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يُكَبِّرُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ، وَعَلَى سَائِرِ النَّاسِ أَرْبَعًا، وَهَذَا افْتِرَاءٌ مِنْهُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى فَاطِمَةَ أَرْبَعًا. وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى فَاطِمَةَ أَبُو بَكْرٍ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا، وَعُمَرُ صَلَّى عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا، فَإِذَا كَبَّرَ الْأُولَى أَثْنَى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَى آخِرِهِ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا اسْتِفْتَاحَ فِيهِ وَلَكِنَّ النَّقْلَ وَالْعَادَةَ أَنَّهُمْ يَسْتَفْتِحُونَ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، كَمَا يَسْتَفْتِحُونَ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَإِذَا كَبَّرَ الثَّانِيَةَ يَأْتِي بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ الصَّلَاةُ الْمَعْرُوفَةُ وَهِيَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ إلَى قَوْلِهِ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَإِذَا كَبَّرَ الثَّالِثَةَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمَيِّتِ وَيَشْفَعُونَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ دُعَاءٌ لِلْمَيِّتِ وَالسُّنَّةُ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يُقَدِّمَ الْحَمْدَ، ثُمَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ الدُّعَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَرْجَى أَنْ يُسْتَجَابَ، وَالدُّعَاءُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا إنْ كَانَ يُحْسِنُهُ، وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْهُ يَذْكُرُ مَا يَدْعُو بِهِ فِي التَّشَهُّدِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ إلَى آخِرِ هَذَا إذَا كَانَ بَالِغًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ صَبِيًّا فَإِنَّهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا وَذُخْرًا وَشَفِّعْهُ فِينَا كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يُكَبِّرُ التَّكْبِيرَةَ الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ أَوَانُ التَّحَلُّلِ، وَذَلِكَ بِالسَّلَامِ وَهَلْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّسْلِيمِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّسْلِيمِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ مَشْرُوعٌ لِلْإِعْلَامِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعْلَامِ بِالتَّسْلِيمِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ عَقِبَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ بِلَا فَصْلٍ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ فِي زَمَانِنَا هَذَا يُخَالِفُ مَا يَقُولُهُ الْحَسَنُ، وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ دُعَاءٌ سِوَى السَّلَامِ، وَقَدْ اخْتَارَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا مَا يُخْتَمُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً إلَخْ. فَإِنْ كَبَّرَ الْإِمَامُ خَمْسًا لَمْ يُتَابِعْهُ الْمُقْتَدِي فِي الْخَامِسَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُتَابِعُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ هَذَا مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَيُتَابِعُ الْمُقْتَدِي إمَامَهُ، كَمَا فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَلَنَا أَنَّ هَذَا عَمَلٌ بِالْمَنْسُوخِ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ ثَبَتَ انْتِسَاخُهُ بِمَا رَوَيْنَا فَظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ فِيهِ فَلَا يُتَابِعُهُ فِي الْخَطَأِ، بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ حَتَّى لَوْ ظَهَرَ لَا يُتَابِعُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ. ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُقْتَدِيَ مَاذَا يَفْعَلُ إذَا لَمْ يُتَابِعْهُ فِي التَّكْبِيرَةِ الزَّائِدَةِ فِي رِوَايَةٍ؟ قَالَ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حَتَّى يُتَابِعَهُ فِي التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِخَطَأٍ إنَّمَا الْخَطَأُ مُتَابَعَتُهُ فِي التَّكْبِيرَةِ فَيَنْتَظِرُهُ وَلَا يُتَابِعُ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: يُسَلِّمُ وَلَا يَنْتَظِرُ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ فِي التَّحْرِيمَةِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ التَّحْلِيلَ عَقِيبَهَا هُوَ الْمَشْرُوعُ بِلَا فَصْلٍ فَلَا يُتَابِعُهُ فِي الْبَقَاءِ، كَمَا لَا يُتَابِعُهُ فِي التَّكْبِيرَةِ الزَّائِدَةِ. وَلَا يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْتَرَضُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا، وَذَلِكَ عَقِيبَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى بَعْدَ الثَّنَاءِ، وَعِنْدَنَا لَوْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ عَلَى سَبِيلِ الدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ لَمْ يُكْرَهْ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ، وَقَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» وَهَذِهِ صَلَاةٌ بِدَلِيلِ شَرْطِ الطَّهَارَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِيهَا، وَعَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبَّرَ عَلَى مَيِّتٍ أَرْبَعًا وَقَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى وَعَنْ» ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَقَرَأَ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَجَهَرَ بِهَا وَقَالَ: إنَّمَا جَهَرْتُ لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ» ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ هَلْ يُقْرَأُ فِيهَا؟ فَقَالَ: لَمْ يُوَقِّتْ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا وَلَا قِرَاءَةً» ، وَفِي رِوَايَةٍ دُعَاءً وَلَا قِرَاءَةً كَبِّرْ مَا كَبَّرَ الْإِمَامُ وَاخْتَرْ مِنْ أَطْيَبِ الْكَلَامِ مَا شِئْت، وَفِي رِوَايَةٍ وَاخْتَرْ مِنْ الدُّعَاءِ أَطْيَبَهُ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا: لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ

وَلِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِلدُّعَاءِ، وَمُقَدِّمَةُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا الْقِرَاءَةُ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَلَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ لَا يَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ حَقِيقَةً إنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ لِلْمَيِّتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا الْأَرْكَانُ الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْهَا الصَّلَاةُ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَّا أَنَّهَا تُسَمَّى صَلَاةً لِمَا فِيهَا مِنْ الدُّعَاءِ، وَاشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيهَا لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا صَلَاةً حَقِيقِيَّةً كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ؛ وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ الِاسْمِ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَوْفٍ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ كَانَ قَرَأَ عَلَى سَبِيلِ الثَّنَاءِ لَا عَلَى سَبِيلِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ عِنْدَنَا. وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى وَكَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ بَلْخٍ اخْتَارُوا رَفْعَ الْيَدِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَكَانَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى يَرْفَعُ تَارَةً وَلَا يَرْفَعُ تَارَةً، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ اخْتَارَ الرَّفْعَ: أَنَّ هَذِهِ تَكْبِيرَاتٌ يُؤْتَى بِهَا فِي قِيَامٍ مُسْتَوِي فَيَرْفَعُ الْيَدَ عِنْدَهَا كَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَتَكْبِيرِ الْقُنُوتِ، وَالْجَامِعُ الْحَاجَةُ إلَى إعْلَامِ مَنْ خَلْفَهُ مِنْ الْأَصَمِّ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ وَلَيْسَ فِيهَا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ» وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي فِيهَا إلَّا عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ؛ لِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ، ثُمَّ لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ إلَّا عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ عِنْدَنَا فَكَذَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ. وَلَا يَجْهَرُ بِمَا يَقْرَأُ عَقِيبَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ، وَالسُّنَّةُ فِيهِ الْمُخَافَتَةُ. صَلَّيْنَ النِّسَاءُ جَمَاعَةً عَلَى جِنَازَةٍ قَامَتْ الْإِمَامَةُ وَسَطَهُنَّ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ الْمَعْهُودَةِ. وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ تَكْبِيرَةً، أَوْ تَكْبِيرَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ لَا يُكَبِّرُ، وَلَكِنَّهُ يَنْتَظِرُ حَتَّى يُكَبِّرَ الْإِمَامُ فَيُكَبِّرَ مَعَهُ، ثُمَّ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَضَى مَا عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ، وَهَذَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُكَبِّرُ وَاحِدَةً حِينَ يَحْضُرُ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْإِمَامُ كَبَّرَ وَاحِدَةً لَمْ يَقْضِ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ كَبَّرَ ثِنْتَيْنِ قَضَى وَاحِدَةً وَلَا يَقْضِي تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ هُوَ يَقُولُ: إنَّهُ مَسْبُوقٌ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بِتَكْبِيرَةِ الِائْتِمَامِ حِينَ انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ، كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا مَعَ الْإِمَامِ وَوَقَعَ تَكْبِيرُ الِافْتِتَاحِ سَابِقًا عَلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ وَلَا يَنْتَظِرُ أَنْ يُكَبِّرَ الْإِمَامُ الثَّانِيَةَ بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هَذَا، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الَّذِي انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ وَهُوَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَقَدْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِتَكْبِيرَةٍ: أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِقَضَاءِ مَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ بَلْ يُتَابِعُهُ وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ عَنْهُ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ تَكْبِيرَةً مِنْهَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ. كَمَا لَوْ تَرَكَ رَكْعَةً مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَالْمَسْبُوقُ بِرَكْعَةٍ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي الْحَالَةِ الَّتِي أَدْرَكَهَا، وَلَا يَشْتَغِلُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ ذَاكَ أَمْرٌ مَنْسُوخٌ، كَذَا هَهُنَا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ حَاضِرًا؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُدْرِكِ لِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ يُكَبِّرُونَ بَعْدَ الْإِمَامِ، وَيَقَعُ ذَلِكَ أَدَاءً لَا قَضَاءً فَيَأْتِي بِهَا حِينَ حَضَرَتْهُ النِّيَّةُ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُدْرِكٍ لِلتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، وَهِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِقَضَائِهَا قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ كَسَائِرِ التَّكْبِيرَاتِ، ثُمَّ عِنْدَهُمَا يَقْضِي مَا فَاتَهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ يَقْضِي الْفَائِتَ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنْ قَبْلَ أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ بِدُونِ الْجِنَازَةِ لَا تُتَصَوَّرُ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ كَانَ الْإِمَامُ كَبَّرَ وَاحِدَةً لَمْ يَقْضِ شَيْئًا، وَإِنْ كَبَّرَ ثِنْتَيْنِ قَضَى وَاحِدَةً لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ جَاءَ بَعْدَمَا كَبَّرَ الْإِمَامُ الرَّابِعَةَ قَبْلَ السَّلَامِ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُ، وَقَدْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُكَبِّرُ وَاحِدَةً وَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَضَى ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا خَلْفَ الْإِمَامِ وَلَمْ يُكَبِّرْ شَيْئًا حَتَّى كَبَّرَ الْإِمَامُ الرَّابِعَةَ، الصَّحِيحُ قَوْلُهُمَا: لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى أَنْ يُكَبِّرَ وَحْدَهُ لِمَا قُلْنَا: الْإِمَامُ لَا يُكَبِّرُ بَعْدَ هَذَا لِتَتَابُعِهِ، وَالْأَصْلُ فِي الْبَابِ عِنْدَهُمَا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَدْخُلُ بِتَكْبِيرَةِ الْإِمَامِ فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ الرَّابِعَةِ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الدُّخُولُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَدْخُلُ إذَا بَقِيَتْ التَّحْرِيمَةُ، وَذَكَرَ عِصَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هَهُنَا يُكَبِّرُ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا إذَا جَاءَ وَقَدْ كَبَّرَ الْإِمَامُ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ حَيْثُ لَا يُكَبِّرُ بَلْ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ حَتَّى يُكَبِّرَ الرَّابِعَةَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ إنْ كَانَ لَا يَجُوزُ لَكِنْ جَوَّزْنَا هَهُنَا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَظَرَ الْإِمَامَ هَهُنَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ بِخِلَافِ تِلْكَ الصُّورَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

فصل بيان ما تصح به صلاة الجنازة

[فَصْلٌ بَيَانُ مَا تَصِحُّ بِهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ] فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا تَصِحُّ بِهِ، وَمَا تَفْسُدُ، وَمَا يُكْرَهُ. أَمَّا مَا تَصِحُّ بِهِ فَكُلُّ مَا يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِصِحَّةِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ مِنْ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَالْحُكْمِيَّةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَالنِّيَّةِ يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا حَتَّى أَنَّهُمْ لَوْ صَلَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ وَالْإِمَامُ غَيْرُ طَاهِرٍ فَعَلَيْهِمْ إعَادَتُهَا؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ غَيْرُ جَائِزَةٍ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ فَكَذَا صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّهَا بِنَاءً عَلَى صَلَاتِهِ. وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالْقَوْمُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ جَازَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ إعَادَتُهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَيِّتِ تَأَدَّى بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ. وَلَوْ أَخْطَئُوا بِالرَّأْسِ فَوَضَعُوهُ فِي مَوْضِعِ الرِّجْلَيْنِ وَصَلَّوْا عَلَيْهَا جَازَتْ الصَّلَاةُ؛ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ، وَإِنَّمَا الْحَاصِلُ بِغَيْرِ صِفَةِ الْوَضْعِ، وَذَا لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ إلَّا أَنَّهُمْ إنْ تَعَمَّدُوا ذَلِكَ فَقَدْ أَسَاءُوا لِتَغْيِيرِهِمْ السُّنَّةَ الْمُتَوَارَثَةَ. وَلَوْ تَحَرَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ فَأَخْطَئُوا الْقِبْلَةَ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَةَ تَجُوزُ فَهَذِهِ أَوْلَى، وَإِنْ تَعَمَّدُوا خِلَافَهَا لَمْ تَجُزْ، كَمَا فِي اعْتِبَارِ شَرْطِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ، كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَلَوْ صَلَّى رَاكِبًا أَوْ قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ تُجْزِهِمْ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تُجْزِئَهُمْ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ وَالْأَرْكَانُ فِيهَا التَّكْبِيرَاتُ وَيُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا فِي حَالَةِ الرُّكُوبِ، كَمَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا فِي حَالَةِ الْقِيَامِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ الشَّرْعَ مَا وَرَدَ بِهَا إلَّا فِي حَالَةِ الْقِيَامِ فَيُرَاعَى فِيهَا مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْخَلَلِ فِي شَرَائِطِهَا، فَكَذَا فِي الرُّكْنِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ أَهَمُّ مِنْ الشَّرْطِ؛ وَلِأَنَّ الْأَدَاءَ قُعُودًا أَوْ رُكْبَانًا يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْمَيِّتِ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ شُرِعَتْ لِتَعْظِيمِ الْمَيِّتِ؛ وَلِهَذَا تَسْقُطُ فِي حَقِّ مَنْ تَجِبُ إهَانَتُهُ كَالْبَاغِي، وَالْكَافِرِ، وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ فَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ مَا شُرِعَ لِلتَّعْظِيمِ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِخْفَافِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَعُودَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْصِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَلَوْ كَانَ وَلِيُّ الْمَيِّتِ مَرِيضًا فَصَلَّى قَاعِدًا وَصَلَّى النَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامًا أَجْزَأَهُمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُجْزِئُ الْإِمَامَ، وَلَا يُجْزِئُ الْمَأْمُومَ بِنَاءً عَلَى اقْتِدَاءِ الْقَائِمِ بِالْقَاعِدِ، وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ. وَلَوْ ذَكَرُوا بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ أَنَّهُمْ لَمْ يُغَسِّلُوهُ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ ذَكَرُوا قَبْلَ الدَّفْنِ، أَوْ بَعْدَهُ: فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدَّفْنِ غَسَّلُوهُ وَأَعَادُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَيِّتِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ طَهَارَةَ الْإِمَامِ شَرْطٌ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ فَتُعْتَبَرُ طَهَارَتُهُ، فَإِذَا فُقِدَتْ لَمْ يُعْتَدَّ بِالصَّلَاةِ فَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَإِنْ ذَكَرُوا بَعْدَ الدَّفْنِ لَمْ يَنْبُشُوا عَنْهُ؛ لِأَنَّ النَّبْشَ حَرَامٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَيَسْقُطُ الْغُسْلُ وَلَا تُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَيِّتِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُخْرَجُ مَا لَمْ يُهِيلُوا عَلَيْهِ التُّرَابَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَبْشٍ، فَإِنْ أَهَالُوا التُّرَابَ لَمْ يُخْرَجْ، وَتُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ لَمْ تُعْتَبَرْ لِتَرْكِهِمْ الطَّهَارَةَ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَالْآنَ فَاتَ الْإِمْكَانُ فَسَقَطَتْ الطَّهَارَةُ فَيُصَلَّى عَلَيْهِ. وَلَوْ دُفِنَ بَعْدَ الْغُسْلِ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ صُلِّيَ عَلَيْهِ فِي الْقَبْرِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ تَفَرَّقَ وَفِي الْأَمَالِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: يُصَلَّى عَلَيْهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ، أَمَّا قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى قَبْرِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ فَلَمَّا جَازَتْ الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ مَا صُلِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ مَرَّةً فَلَأَنْ تَجُوزَ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ أَصْلًا أَوْلَى. وَأَمَّا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يُصَلَّى؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مَشْرُوعَةٌ عَلَى الْبَدَنِ وَبَعْدَ مُضِيِّ الثَّلَاثِ يَنْشَقُّ وَيَتَفَرَّقُ فَلَا يَبْقَى الْبَدَنُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي الْمُدَّةِ الْقَلِيلَةِ لَا يَتَفَرَّقُ وَفِي الْكَثِيرَةِ يَتَفَرَّقُ، فَجُعِلَتْ الثَّلَاثُ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّهَا جَمْعٌ وَالْجَمْعُ ثَبَتَ بِالْكَثْرَةِ؛ وَلِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمُعْتَادِ وَالْغَالِبُ فِي الْعَادَةِ أَنَّ بِمُضِيِّ الثَّلَاثِ يَتَفَسَّخُ وَيَتَفَرَّقُ أَعْضَاؤُهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَبِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَيِّتِ فِي السِّمَنِ وَالْهُزَالِ، وَبِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ فَيُحَكَّمُ فِيهِ غَالِبُ الرَّأْيِ وَأَكْبَرُ الظَّنِّ، فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ» فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ دَعَا لَهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] ، وَالصَّلَاةُ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، وَقِيلَ: إنَّهُمْ لَمْ تَتَفَرَّقْ أَعْضَاؤُهُمْ فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَهُمْ وَجَدَهُمْ، كَمَا دُفِنُوا فَتَرَكَهُمْ. الصَّلَاةُ عَلَى الْجَمَاعَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِذَا اجْتَمَعَتْ الْجَنَائِزُ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ صَلَّى عَلَيْهِمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ شَاءَ صَلَّى عَلَى كُلِّ جِنَازَةٍ عَلَى حِدَةٍ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى يَوْمَ أُحُدٍ عَلَى كُلِّ عَشَرَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ صَلَاةً وَاحِدَةً» ؛ وَلِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الدُّعَاءُ وَالشَّفَاعَةُ لِلْمَوْتَى يَحْصُلُ بِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى حِدَةٍ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ الْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا بَأْسَ بِهِ. ثُمَّ كَيْفَ تُوضَعُ الْجَنَائِزُ إذَا اجْتَمَعَتْ؟ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا

فصل بيان ما تفسد به صلاة الجنازة

أَنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، أَوْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ فَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ مُتَّحِدًا فَإِنْ شَاءُوا جَعَلُوهَا صَفًّا وَاحِدًا، كَمَا يَصْطَفُّونَ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ عِنْدَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ شَاءُوا وَضَعُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ؛ لِيَقُومَ الْإِمَامُ بِحِذَاءِ الْكُلِّ، هَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ الثَّانِيَ أَوْلَى مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ قِيَامُ الْإِمَامِ بِحِذَاءِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ يَحْصُلُ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَإِذَا وَضَعُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُهُمْ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُوضَعُ أَفْضَلُهُمَا مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَأَسَنُّهُمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: " وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْفَضْلِ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى» . ثُمَّ إنْ وُضِعَ رَأْسُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحِذَاءِ رَأْسِ صَاحِبِهِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ وُضِعَ شِبْهَ الدَّرَجِ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الثَّانِي عِنْدَ مَنْكِبِ الْأَوَّلِ فَحَسَنٌ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ وُضِعَ هَكَذَا فَحَسَنٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبَيْهِ دُفِنُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَيَحْسُنُ الْوَضْعُ لِلصَّلَاةِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ أَيْضًا. وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ بِأَنْ كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً تُوضَعُ الرِّجَالُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، وَالنِّسَاءُ خَلْفَ الرِّجَالِ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ؛ لِأَنَّهُمْ هَكَذَا يَصْطَفُّونَ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، ثُمَّ إنَّ الرِّجَالَ يَكُونُونَ أَقْرَبَ إلَى الْإِمَامِ مِنْ النِّسَاءِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: تُوضَعُ النِّسَاءُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، وَالرِّجَالُ خَلْفَهُنَّ؛ لِأَنَّ فِي الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ صَفُّ النِّسَاءِ خَلْفَ صَفِّ الرِّجَالِ إلَى الْقِبْلَةِ فَكَذَا فِي وَضْعِ الْجَنَائِزِ. وَلَوْ اجْتَمَعَ جِنَازَةُ رَجُلٍ وَصَبِيٍّ وَخُنْثَى وَامْرَأَةٍ وَصَبِيَّةٍ وُضِعَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، وَالصَّبِيُّ وَرَاءَهُ، ثُمَّ الْخُنْثَى، ثُمَّ الْمَرْأَةُ، ثُمَّ الصَّبِيَّةُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ؛ وَلِأَنَّهُمْ هَكَذَا يَقُومُونَ فِي الصَّفِّ خَلْفَ الْإِمَامِ حَالَةَ الْحَيَاةِ فَيُوضَعُونَ كَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ عَلَى جِنَازَةٍ ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى فَوُضِعَتْ مَعَهَا مَضَى عَلَى الْأُولَى وَيَسْتَأْنِفُ الصَّلَاةَ عَلَى الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ انْعَقَدَتْ لِلصَّلَاةِ عَلَى الْأُولَى فَيُتِمُّهَا، فَإِنْ كَبَّرَ الثَّانِيَةَ يَنْوِيهِمَا فَهِيَ لِلْأُولَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْخُرُوجَ عَنْ الْأُولَى فَبَقِيَ فِيهَا وَلَمْ يَقَعْ لِلثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَبَّرَ يَنْوِي الثَّانِيَةَ وَحْدَهَا فَهِيَ لِلثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ الْأُولَى بِالتَّكْبِيرَةِ مَعَ النِّيَّةِ، كَمَا إذَا كَانَ فِي الظُّهْرِ فَكَبَّرَ يَنْوِي الْعَصْرَ صَارَ مُنْتَقِلًا مِنْ الظُّهْرِ فَكَذَا هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا نَوَاهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ مَا رَفَضَ الْأُولَى فَبَقِيَ فِيهَا فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الثَّانِيَةِ، ثُمَّ إذَا صَارَ شَارِعًا فِي الثَّانِيَةِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا أَعَادَ الصَّلَاةَ عَلَى الْأُولَى أَيْ: يَسْتَقْبِلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا تَفْسُدُ بِهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا تَفْسُدُ بِهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَنَقُولُ: إنَّهَا تَفْسُدُ بِمَا تَفْسُدُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدَثِ الْعَمْدِ، وَالْكَلَامِ، وَالْقَهْقَهَةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ نَوَاقِضِ الصَّلَاةِ إلَّا الْمُحَاذَاةَ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُفْسِدَةٍ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِالْمُحَاذَاةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الصَّلَاةِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهَا غَيْرُهَا، وَلِهَذَا لَمْ يَلْحَقْ بِهَا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ حَتَّى لَمْ تَكُنْ الْمُحَاذَاةُ فِيهَا مُفْسِدَةً. وَكَذَا الْقَهْقَهَةُ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا تَنْقُضُ الطَّهَارَةَ؛ لِأَنَّا عَرَفْنَا الْقَهْقَهَةَ حَدَثًا بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ فَلَا يُجْعَلُ وَارِدًا، فِي غَيْرِهَا فَرْقٌ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَبَيْنَ الْبِنَاءِ: فَإِنَّهُ لَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ يَبْنِي، وَإِنْ عَرَفَ الْبِنَاءَ بِالنَّصِّ وَأَنَّهُ وَارِدٌ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقَهْقَهَةَ جُعِلَتْ حَدَثًا لِقُبْحِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَقُبْحُهَا يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ الْمُطْلَقَةِ فَوْقَ حُرْمَةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَكَانَ قُبْحُهَا فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ فَوْقَ قُبْحِهَا فِي هَذِهِ فَجَعْلُهَا حَدَثًا هُنَاكَ لَا يَدُلُّ عَلَى جَعْلِهَا حَدَثًا هَهُنَا، وَكَذَا الْمُحَاذَاةُ جُعِلَتْ مُفْسِدَةً فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ تَعْظِيمًا لَهَا وَلَيْسَتْ هَذِهِ مِثْلَ تِلْكَ فِي مَعْنَى التَّعْظِيمِ، بِخِلَافِ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ وَتَحَمُّلَ الْمَشْيِ فِي أَعْلَى الْعِبَادَتَيْنِ يُوجِبُ التَّحَمُّلَ وَالْجَوَازَ فِي أَدْنَاهُمَا دَلَالَةً، وَلِأَنَّا لَوْ لَمْ نُجَوِّزْ الْبِنَاءَ هَهُنَا تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَفْرُغُونَ مِنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ رُجُوعِهِ مِنْ التَّوَضُّؤِ وَلَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِدْرَاكُ بِالْإِعَادَةِ لِمَا مَرَّ. وَلَوْ لَمْ نُجَوِّزْ الْبِنَاءَ هُنَاكَ لَفَاتَتْهُ الصَّلَاةُ أَصْلًا فَلَمَّا جَازَ الْبِنَاءُ هُنَاكَ فَلَأَنْ يَجُوزَ هَهُنَا أَوْلَى. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُكْرَهُ فِي صَلَاةُ الْجِنَازَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُكْرَهُ فِيهَا فَنَقُولُ: تُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا، وَنِصْفِ النَّهَارِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُصَلِّيَ فِيهَا وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا» وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: " أَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا " الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ دُونَ الدَّفْنِ إذْ لَا بَأْسَ بِالدَّفْنِ فِي هَذِهِ

فصل بيان من له ولاية الصلاة على الميت

الْأَوْقَاتِ فَإِنْ صَلَّوْا فِي أَحَدِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ إعَادَتُهَا؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا يَتَعَيَّنُ لِأَدَائِهَا وَقْتٌ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ صُلِّيَتْ وَقَعَتْ أَدَاءً لَا قَضَاءً، وَمَعْنَى الْكَرَاهَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ يَمْنَعُ جَوَازَ الْقَضَاءِ فِيهَا دُونَ الْأَدَاءِ، كَمَا إذَا أَدَّى عَصْرَ يَوْمِهِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَيْسَتْ لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْفَرَائِضِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَلَوْ أَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا عَلَى جِنَازَةٍ وَقَدْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَبْدَءُوا بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ ثُمَّ يُصَلُّونَ عَلَى الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ آكَدُ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَكَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ فِي تَقْدِيمِ الْجِنَازَةِ تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ إمَامَ الْحَيِّ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ إنْ حَضَرَ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَأَمِيرُ الْمِصْرِ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَإِمَامُ الْحَيِّ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَالْأَقْرَبُ مِنْ ذَوِي قَرَابَاتِهِ، وَهَذَا هُوَ حَاصِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ إذَا حَضَرَ فَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَالْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ نَائِبُهُ فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَإِمَامُ الْحَيِّ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِإِمَامَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ عَيَّنَ الْمَيِّتُ أَحَدًا فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْقَرِيبِ لِرِضَاهُ بِهِ إلَّا أَنَّهُ بَدَأَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ بِإِمَامِ الْحَيِّ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ قَلَّمَا يَحْضُرُ الْجَنَائِزَ، ثُمَّ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْ عَصَبَتِهِ وَذَوِي قَرَابَاتِهِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمَيِّتِ لَهُ. وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْقَرِيبُ أَوْلَى مِنْ السُّلْطَانِ، لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْوَلَايَةِ، وَالْقَرِيبُ فِي مِثْلِ هَذَا مُقَدَّمٌ عَلَى السُّلْطَانِ، كَمَا فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ شُرِعَتْ لِلدُّعَاءِ وَالشَّفَاعَةِ لِلْمَيِّتِ، وَدُعَاءُ الْقَرِيبِ أَرْجَى؛ لِأَنَّهُ يُبَالِغُ فِي إخْلَاصِ الدُّعَاءِ، وَإِحْضَارِ الْقَلْبِ بِسَبَبِ زِيَادَةِ شَفَقَتِهِ، وَتُوجَدُ مِنْهُ زِيَادَةُ رِقَّةٍ وَتَضَرُّعٍ فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ مَا رُوِيَ «أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ لَمَّا مَاتَ قَدَّمَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ - وَكَانَ وَالِيًا بِالْمَدِينَةِ - وَقَالَ: لَوْلَا السُّنَّةُ مَا قَدَّمْتُكَ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ التَّقَدُّمِ لَمَا قَدَّمْتُكَ» ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالسُّلْطَانِ كَإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ، وَضَرَرُهُ وَنَفْعُهُ يَتَّصِلُ بِالْوَلِيِّ لَا بِالسُّلْطَانِ، فَكَانَ إثْبَاتُ الْوَلَايَةِ لِلْقَرِيبِ أَنْفَعَ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَتِلْكَ وِلَايَةُ نَظَرٍ ثَبَتَتْ حَقًّا لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ قَبْلَ الْوَلِيِّ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّ دُعَاءَ الْقَرِيبِ، وَشَفَاعَتَهُ أَرْجَى " فَنَقُولُ: بِتَقَدُّمِ الْغَيْرِ لَا يَفُوتُ دُعَاءُ الْقَرِيبِ وَشَفَاعَتُهُ مَعَ أَنَّ دُعَاءَ الْإِمَامِ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ لَا يُحْجَبُ دُعَاؤُهُمْ وَذَكَرَ فِيهِمْ الْإِمَامَ» ، ثُمَّ تَقَدُّمُ إمَامِ الْحَيِّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَكِنَّهُ أَفْضَلُ لِمَا ذُكِرَ أَنَّهُ رَضِيَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ. وَأَمَّا تَقْدِيمُ السُّلْطَانِ فَوَاجِبٌ لِأَنَّ تَعْظِيمَهُ مَأْمُورٌ بِهِ؛ وَلِأَنَّ تَرْكَ تَقْدِيمِهِ لَا يَخْلُو عَنْ فَسَادِ التَّجَاذُبِ وَالتَّنَازُعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ. وَلَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلِيَّانِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَكْبَرُهُمَا سِنًّا أَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِتَقْدِيمِ الْأَسَنِّ فِي الصَّلَاةِ، وَلَهُمَا أَنْ يُقَدِّمَا غَيْرَهُمَا وَلَوْ قَدَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلًا عَلَى حِدَةٍ، فَاَلَّذِي قَدَّمَهُ الْأَكْبَرُ أَوْلَى، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُقَدِّمَ إنْسَانًا إلَّا بِإِذْنِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْوَلَايَةَ ثَابِتَةٌ لَهُمَا إلَّا أَنَّا قَدَّمْنَا الْأَسَنَّ لِسِنِّهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ غَيْرَهُ كَانَ الْآخَرُ أَوْلَى فَإِنْ تَشَاجَرَ الْوَلِيَّانِ فَتَقَدَّمَ أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا فَصَلَّى يُنْظَرُ إنْ صَلَّى الْأَوْلِيَاءُ مَعَهُ جَازَتْ الصَّلَاةُ وَلَا تُعَادُ، وَإِنْ لَمْ يُصَلُّوا مَعَهُ فَلَهُمْ إعَادَةُ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ مِنْ الْآخَرِ فَالْوِلَايَةُ إلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْأَبْعَدَ مَحْجُوبٌ بِهِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ. وَلَوْ كَانَ الْأَقْرَبُ غَائِبًا بِمَكَانٍ تَفُوتُ الصَّلَاةُ بِحُضُورِهِ بَطَلَتْ وَلَايَتُهُ وَتَحَوَّلَتْ الْوَلَايَةُ إلَى الْأَبْعَدِ. وَلَوْ قَدَّمَ الْغَائِبُ غَيْرَهُ بِكِتَابٍ كَانَ لِلْأَبْعَدِ أَنْ يَمْنَعَهُ وَلَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ، أَوْ يُقَدِّمَ مَنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ وَلَايَةَ الْأَقْرَبِ قَدْ سَقَطَتْ لِمَا أَنَّ فِي التَّوْقِيفِ عَلَى حُضُورِهِ ضَرَرٌ بِالْمَيِّتِ، وَالْوِلَايَةُ تَسْقُطُ مَعَ ضَرَرِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فَتُنْقَلُ إلَى الْأَبْعَدِ، وَالْمَرِيضُ فِي الْمِصْرِ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ يُقَدِّمُ مَنْ شَاءَ، وَلَيْسَ لِلْأَبْعَدِ مَنْعُهُ وَلِأَنَّ وِلَايَتَهُ قَائِمَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَعَ مَرَضِهِ فَكَانَ لَهُ حَقُّ التَّقْدِيمِ، وَلَا حَقَّ لِلنِّسَاءِ وَالصِّغَارِ وَالْمَجَانِينِ فِي التَّقْدِيمِ؛ لِانْعِدَامِ وَلَايَةِ التَّقَدُّمِ. وَلَوْ مَاتَتْ امْرَأَةٌ وَلَهَا زَوْجٌ وَابْنٌ بَالِغٌ عَاقِلٌ فَالْوِلَايَةُ لِلِابْنِ دُونَ الزَّوْجِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَاتَتْ لَهُ امْرَأَةٌ

فصل بيان وجوب الدفن

فَقَالَ لِأَوْلِيَائِهَا: كُنَّا أَحَقَّ بِهَا حِينَ كَانَتْ حَيَّةً، فَأَمَّا إذَا مَاتَتْ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهَا؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ، وَالْقَرَابَةَ لَا تَنْقَطِعُ لَكِنْ يُكْرَهُ لِلِابْنِ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَبَاهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَهُ مُرَاعَاةً لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَلَهُ فِي حُكْمِ الْوَلَايَةِ أَنْ يُقَدِّمَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَايَةَ لَهُ وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ التَّقَدُّمِ حَتَّى لَا يُسْتَخَفَّ بِأَبِيهِ، فَلَمْ تَسْقُطْ وَلَايَتُهُ فِي التَّقْدِيمِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا ابْنٌ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى هَذَا الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ، وَتَعْظِيمُ زَوْجِ أُمِّهِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَسَائِرُ الْقَرَابَاتِ أَوْلَى مِنْ الزَّوْجِ وَكَذَا مَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَابْنُ الْمَوْلَى وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ انْقَطَعَ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَإِنْ تَرَكَتْ أَبًا وَزَوْجًا وَابْنًا مِنْ هَذَا الزَّوْجِ فَلَا وَلَايَةَ لِلزَّوْجِ لِمَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا الْأَبُ وَالِابْنُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْأَبَ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَالِابْنُ أَحَقُّ إلَّا أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْأَبَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَلَايَةُ لِلْأَبِ، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّ لِلْأَبِ فَضِيلَةً عَلَى الِابْنِ وَزِيَادَةَ سِنٍّ، وَالْفَضِيلَةُ تُعْتَبَرُ تَرْجِيحًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْإِمَامَةِ، كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْوَلَايَاتِ، وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ أَحَقُّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْقَرِيبِ بِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ. وَلَوْ مَاتَ الِابْنُ وَلَهُ أَبٌ وَأَبُ الْأَبِ فَالْوَلَايَةُ لِأَبِيهِ، وَلَكِنَّهُ يُقَدِّمُ أَبَاهُ الَّذِي هُوَ جَدُّ الْمَيِّتِ تَعْظِيمًا لَهُ. وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إذَا مَاتَ ابْنُهُ أَوْ عَبْدُهُ وَمَوْلَاهُ حَاضِرًا فَالْوَلَايَةُ لِلْمُكَاتَبِ لَكِنَّهُ يُقَدِّمُ مَوْلَاهُ احْتِرَامًا لَهُ، ثُمَّ إذَا صُلِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ يُدْفَنُ. [فَصْلٌ بَيَانُ وُجُوبِ الدَّفْنِ] (فَصْلٌ) : وَالْكَلَامُ فِي الدَّفْنِ فِي مَوَاضِعَ:. فِي بَيَانِ وُجُوبِهِ، وَكَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ سُنَّةِ الْحَفْرِ وَالدَّفْنِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِمَا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ: تَوَارُثُ النَّاسِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه - إلَى يَوْمِنَا هَذَا مَعَ النَّكِيرِ عَلَى تَارِكِهِ، وَذَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ إلَّا أَنَّ وُجُوبَهُ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ حَتَّى إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ؛ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ. [فَصْلٌ سُنَّةُ الْحَفْرِ لِدَفْنِ الْمَيِّتِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سُنَّةُ الْحَفْرِ فَالسُّنَّةُ فِيهِ اللَّحْدُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الشَّقُّ، وَاحْتَجَّ أَنَّ تَوَارُثَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الشَّقُّ دُونَ اللَّحْدِ، وَتَوَارُثُهُمْ حُجَّةٌ، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا» وَفِي رِوَايَةٍ «اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ» وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا تُوُفِّيَ اخْتَلَفَ النَّاسُ أَنْ يُشَقَّ لَهُ، أَوْ يُلْحَدَ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ لَحَّادًا، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ شَاقًّا فَبَعَثُوا رَجُلًا إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَرَجُلًا إلَى أَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: اللَّهُمَّ خِرْ لِنَبِيِّكَ أَحَبَّ الْأَمْرَيْنِ إلَيْك فَوَجَدَ أَبَا طَلْحَةَ مَنْ كَانَ بُعِثَ إلَيْهِ، وَلَمْ يَجِدْ أَبَا عُبَيْدَةَ مَنْ بُعِثَ إلَيْهِ، وَالْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ إنَّمَا تَوَارَثُوا الشَّقَّ؛ لِضَعْفِ أَرَاضِيهِمْ بِالْبَقِيعِ وَلِهَذَا اخْتَارَ أَهْلُ بُخَارَى الشَّقَّ دُونَ اللَّحْدِ؛ لِتَعَذُّرِ اللَّحْدِ لِرَخَاوَةِ أَرَاضِيهِمْ. وَصِفَةُ اللَّحْدِ أَنْ يُحْفَرَ الْقَبْرُ، ثُمَّ يُحْفَرُ فِي جَانِبِ الْقِبْلَةِ مِنْهُ حَفِيرَةٌ فَيُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ وَصِفَةُ الشَّقِّ أَنْ يُحْفَرَ حَفِيرَةٌ فِي وَسَطِ الْقَبْرِ، فَيُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ وَيُجْعَلُ عَلَى اللَّحْدِ اللَّبِنُ وَالْقَصَبُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ وُضِعَ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طُنٌّ مِنْ قَصَبٍ. وَرُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى فُرْجَةً فِي قَبْرٍ فَأَخَذَ مُدَوَّرَةً وَنَاوَلَهَا الْحَفَّارَ وَقَالَ سُدَّ: بِهَا تِلْكَ الْفُرْجَةَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ كُلِّ صَانِعٍ أَنْ يُحْكِمَ صَنْعَتَهُ» وَالْمَدَرَةُ قِطْعَةٌ مِنْ اللَّبِنِ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ اجْعَلُوا عَلَى قَبْرِي اللَّبِنَ وَالْقَصَبَ، كَمَا جُعِلَ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَبْرِ أَبِي بَكْرٍ وَقَبْرِ عُمَرَ؛ وَلِأَنَّ اللَّبِنَ وَالْقَصَبَ لَا بُدَّ مِنْهُمَا لِيَمْنَعَا مَا يُهَالُ مِنْ التُّرَابِ عَلَى الْقَبْرِ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْمَيِّتِ. وَيُكْرَهُ الْآجُرُّ وَدُفُوفُ الْخَشَبِ لِمَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ اللَّبِنَ وَالْقَصَبَ عَلَى الْقُبُورِ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الْآجُرَّ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ تُشَبَّهَ الْقُبُورُ بِالْعُمْرَانِ، وَالْآجُرُّ وَالْخَشَبُ لِلْعُمْرَانِ» ، وَلِأَنَّ الْآجُرَّ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ لِلزِّينَةِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا لِلْمَيِّتِ، وَلِأَنَّهُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ فَيُكْرَهُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْمَيِّتِ تَفَاؤُلًا، كَمَا يُكْرَهُ أَنْ يُتْبَعَ قَبْرُهُ بِنَارٍ تَفَاؤُلًا، وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يَقُولُ: لَا بَأْسَ بِالْآجُرِّ فِي دِيَارِنَا لِرَخَاوَةِ الْأَرَاضِي، وَكَانَ أَيْضًا يُجَوِّزُ دُفُوفَ الْخَشَبِ وَاِتِّخَاذَ التَّابُوتِ لِلْمَيِّتِ حَتَّى قَالَ: لَوْ اتَّخَذُوا تَابُوتًا مِنْ حَدِيدٍ لَمْ أَرَ بِهِ بَأْسًا فِي هَذِهِ الدِّيَارِ. [فَصْلٌ فِي سُنَّةُ الدَّفْنِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سُنَّةُ الدَّفْنِ فَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنْ يُدْخَلَ الْمَيِّتُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، وَهُوَ أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ فِي جَانِبِ الْقِبْلَةِ مِنْ الْقَبْرِ، وَيُحْمَلُ مِنْهُ الْمَيِّتُ فَيُوضَعُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:. السُّنَّةُ أَنْ يُسَلَّ إلَى قَبْرِهِ وَصُورَةُ السَّلِّ أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ عَلَى يَمِينِ الْقِبْلَةِ وَتُجْعَلَ رِجْلَا الْمَيِّتِ إلَى الْقَبْرِ طُولًا، ثُمَّ تُؤْخَذُ رِجْلُهُ، وَتُدْخَلُ رِجْلَاهُ فِي الْقَبْرِ وَيُذْهَبُ

بِهِ إلَى أَنْ تَصِيرَ رِجْلَاهُ إلَى مَوْضِعِهِمَا، وَيُدْخَلُ رَأْسُهُ الْقَبْرَ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُدْخِلَ فِي الْقَبْرِ سَلًّا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ: وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ نَقَلَتْهُ الْعَامَّةُ عَنْ الْعَامَّةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ أَبَا دُجَانَةَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ» وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُدْخِلَ فِي الْقَبْرِ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ فَصَارَ هَذَا مُعَارِضًا لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، عَلَى أَنَّا نَقُولُ: إنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أُدْخِلَ إلَى الْقَبْرِ سَلًّا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ مِنْ قِبَلِ الْحَائِطِ وَكَانَتْ السُّنَّةُ فِي دَفْنِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي قُبِضُوا فِيهِ فَكَانَ قَبْرُهُ لَزِيقَ الْحَائِطِ، وَاللَّحْدُ تَحْتَ الْحَائِطِ فَتَعَذَّرَ إدْخَالُهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ فَسُلَّ إلَى قَبْرِهِ سَلًّا لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: يُدْخَلُ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ؛ وَلِأَنَّ جَانِبَ الْقِبْلَةِ مُعَظَّمٌ فَكَانَ إدْخَالُهُ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ أَوْلَى، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: هَذَا أَمْرٌ مَشْهُورٌ، قُلْنَا: رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ رَأَى أَهْلَ الْمَدِينَةِ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُدْخِلُونَ الْمَيِّتَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ أَحْدَثُوا السَّلَّ لِضَعْفِ أَرَاضِيهِمْ بِالْبَقِيعِ فَإِنَّهَا كَانَتْ أَرْضًا سَبْخَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يَضُرُّ وِتْرٌ دَخَلَ قَبْرَهُ أَمْ شَفْعٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ هِيَ الْوِتْرُ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الْكَفَنِ وَالْغُسْلِ وَالْإِجْمَارِ، وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دُفِنَ أَدْخَلَهُ الْعَبَّاسُ وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَعَلِيٌّ وَصُهَيْبٌ وَقِيلَ فِي الرَّابِعِ: إنَّهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَقِيلَ: إنَّهُ أَبُو رَافِعٍ فَدَلَّ أَنَّ الشَّفْعَ سُنَّةٌ؛ وَلِأَنَّ الدُّخُولَ فِي الْقَبْرِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْوَضْعِ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَالْوِتْرُ وَالشَّفْعُ فِيهِ سَوَاءٌ؛ وَلِأَنَّهُ مِثْلُ حَمْلِ الْمَيِّتِ وَيَحْمِلُهُ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعَةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ اثْنَانِ وَإِنْ كَانَ شَفْعًا فَكَذَا هَهُنَا، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الِاعْتِبَارِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِانْتِقَاضِهِ بِحَمْلِ الْجِنَازَةِ وَمُخَالَفَتِهِ فِعْلَ الصَّحَابَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِهِمْ تَرْكُ السُّنَّةِ، خُصُوصًا فِي دَفْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْكَافِرُ قَبْرَ أَحَدٍ مِنْ قَرَابَتِهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ الْكَافِرُ تَنْزِلُ فِيهِ السَّخْطَةُ وَاللَّعْنَةُ فَيُنَزَّهُ قَبْرُ الْمُسْلِمِ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ قَبْرَهُ الْمُسْلِمُونَ لِيَضَعُوهُ عَلَى سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَقُولُوا عِنْدَ وَضْعِهِ: بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَإِذَا وُضِعَ فِي اللَّحْدِ قَالَ وَاضِعُهُ: بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَذَكَرَ الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقُولُ: " بِاسْمِ اللَّهِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ " لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَدْخَلَ مَيِّتًا قَبْرَهُ أَوْ وَضَعَهُ فِي اللَّحْدِ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ إذَا دَفَنَ مَيِّتًا أَوْ نَامَ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَكَانَ يَقُولُ: النَّوْمُ وَفَاةٌ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ: مَعْنَى هَذَا بِاسْمِ اللَّهِ دَفَنَّاهُ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ دَفَنَّاهُ. وَلَيْسَ هَذَا بِدُعَاءٍ لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ عَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُبَدَّلَ عَلَيْهِ الْحَالَةُ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُبَدَّلْ إلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنِينَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَيَشْهَدُونَ بِوَفَاتِهِ عَلَى الْمِلَّةِ وَعَلَى هَذَا جَرَتْ السُّنَّةُ، وَيُوضَعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ مُتَوَجِّهًا إلَى الْقِبْلَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِنَازَةَ رَجُلٍ فَقَالَ يَا: عَلِيُّ اسْتَقْبِلْ بِهِ اسْتِقْبَالًا وَقُولُوا جَمِيعًا بِاسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَضَعُوهُ لِجَنْبِهِ وَلَا تَكُبُّوهُ لِوَجْهِهِ وَلَا تُلْقُوهُ لِظَهْرِهِ» . وَتُحَلُّ عُقَدُ أَكْفَانِهِ إذَا وُضِعَ فِي الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهَا عُقِدَتْ لِئَلَّا تَنْتَشِرَ أَكْفَانُهُ، وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى بِالْوَضْعِ. وَلَوْ وُضِعَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ إهَالَةِ التُّرَابِ عَلَيْهِ، وَقَدْ سَرَّحُوا اللَّبِنَ أَزَالُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَبْشٍ، وَإِنْ أُهِيلَ عَلَيْهِ التُّرَابُ تُرِكَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبْشَ حَرَامٌ. ، وَلَا يُدْفَنُ الرَّجُلَانِ أَوْ أَكْثَرُ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ هَكَذَا جَرَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَإِنْ احْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ قَدَّمُوا أَفْضَلَهُمَا وَجَعَلُوا بَيْنَهُمَا حَاجِزًا مِنْ الصَّعِيدِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أَمَرَ بِدَفْنِ قَتْلَى أُحُدٍ وَكَانَ يُدْفَنُ فِي الْقَبْرِ رَجُلَانِ، أَوْ ثَلَاثَةٌ، وَقَالَ: قَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا» وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ قُدِّمَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ، وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْحَيَاةِ. وَلَوْ اجْتَمَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ وَخُنْثَى وَصَبِيَّةٌ دُفِنَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ، ثُمَّ الصَّبِيُّ خَلْفَهُ، ثُمَّ الْخُنْثَى، ثُمَّ الْأُنْثَى، ثُمَّ الصَّبِيَّةُ؛ لِأَنَّهُمْ هَكَذَا يَصْطَفُّونَ خَلْفَ الْإِمَامِ حَالَةَ الْحَيَاةِ، وَهَكَذَا تُوضَعُ جَنَائِزُهُمْ عِنْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَكَذَا فِي الْقَبْرِ، وَيُسَجَّى قَبْرُ الْمَرْأَةِ بِثَوْبٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سُجِّيَ

فصل أحكام الشهيد

قَبْرُهَا بِثَوْبٍ وَنَعْشٍ عَلَى جِنَازَتِهَا؛ لِأَنَّ مَبْنَى حَالِهَا عَلَى السَّتْرِ، فَلَوْ لَمْ يُسَجَّ رُبَّمَا انْكَشَفَتْ عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ فَيَقَعُ بَصَرُ الرِّجَالِ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا يُوضَعُ النَّعْشُ عَلَى جِنَازَتِهَا دُونَ جِنَازَةِ الرَّجُلِ. وَذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ أَوْلَى بِإِدْخَالِ الْمَرْأَةِ الْقَبْرَ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ مَسُّهَا حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَا ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهَا أَوْلَى مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ فَلَا بَأْسَ لِلْأَجَانِبِ وَضْعُهَا فِي قَبْرِهَا، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إتْيَانِ النِّسَاءِ لِلْوَضْعِ. وَأَمَّا قَبْرُ الرَّجُلِ فَلَا يُسَجَّى عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسَجَّى احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْبَرَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَمَعَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَسَجَّى قَبْرَهُ» وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ مَرَّ بِمَيِّتٍ يُدْفَنُ، وَقَدْ سُجِّيَ قَبْرُهُ فَنَزَعَ ذَلِكَ عَنْهُ وَقَالَ: إنَّهُ رَجُلٌ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لَا تُشَبِّهُوهُ بِالنِّسَاءِ. وَأَمَّا حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إنَّمَا سُجِّيَ؛ لِأَنَّ الْكَفَنَ لَا يَعُمُّهُ فَسُتِرَ الْقَبْرُ حَتَّى لَا يَبْدُوَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لِضَرُورَةٍ أُخْرَى مِنْ دَفْعِ مَطَرٍ أَوْ حَرٍّ عَنْ الدَّاخِلِينَ فِي الْقَبْرِ، وَعِنْدَنَا لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ. وَيُسَنَّمُ الْقَبْرُ وَلَا يُرَبَّعُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُرَبَّعُ وَيُسَطَّحُ لِمَا رَوَى الْمُزَنِيّ بِإِسْنَادِهِ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ جَعَلَ قَبْرَهُ مُسَطَّحًا» ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَبْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَنَّهَا مُسَنَّمَةٌ وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا مَاتَ بِالطَّائِفِ صَلَّى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، وَجَعَلَ لَهُ لَحْدًا وَأَدْخَلَهُ الْقَبْرَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، وَجَعَلَ قَبْرَهُ مُسَنَّمًا وَضَرَبَ عَلَيْهِ فُسْطَاطًا؛ وَلِأَنَّ التَّرْبِيعَ مِنْ صَنِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالتَّشْبِيهُ بِهِمْ فِيمَا مِنْهُ بُدٌّ مَكْرُوهٌ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَطَّحَ قَبْرَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ جَعَلَ التَّسْنِيمَ فِي وَسَطِهِ حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا، وَمِقْدَارُ التَّسْنِيمِ أَنْ يَكُونَ مُرْتَفِعًا مِنْ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ، أَوْ أَكْثَرَ قَلِيلًا. وَيُكْرَهُ تَجْصِيصُ الْقَبْرِ وَتَطْيِينُهُ وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ الْبِنَاءَ عَلَى الْقَبْرِ وَأَنْ يُعَلَّمَ بِعَلَامَةٍ، وَكَرِهَ أَبُو يُوسُفَ الْكِتَابَةَ عَلَيْهِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُجَصِّصُوا الْقُبُورَ وَلَا تَبْنُوا عَلَيْهَا وَلَا تَقْعُدُوا وَلَا تَكْتُبُوا عَلَيْهَا» ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الزِّينَةِ وَلَا حَاجَةَ بِالْمَيِّتِ إلَيْهَا؛ وَلِأَنَّهُ تَضْيِيعُ الْمَالِ بِلَا فَائِدَةٍ فَكَانَ مَكْرُوهًا. وَيُكْرَهُ أَنْ يُزَادَ عَلَى تُرَابِ الْقَبْرِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ. بَأْسَ بِرَشِّ الْمَاءِ عَلَى الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهُ تَسْوِيَةٌ لَهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَرِهَ الرَّشَّ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ التَّطْيِينَ، وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ يُوطَأَ عَلَى قَبْرٍ، أَوْ يُجْلَسَ عَلَيْهِ، أَوْ يُنَامَ عَلَيْهِ أَوْ تُقْضَى عَلَيْهِ حَاجَةٌ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْقُبُورِ» . وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ» قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ بَيْنَ الْقُبُورِ، وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَكْرَهَانِ ذَلِكَ، وَإِنْ صَلَّوْا أَجْزَأَهُمْ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَى عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ بَيْنَ مَقَابِرِ الْبَقِيعِ، وَالْإِمَامُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَفِيهِمْ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. بَأْسَ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالدُّعَاءِ لِلْأَمْوَاتِ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ وَطْءِ الْقُبُورِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» ، وَلِعَمَلِ الْأُمَّةِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا. [فَصْلٌ أَحْكَامُ الشَّهِيدِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الشَّهِيدُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ:. أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ مَنْ يَكُونُ شَهِيدًا فِي الْحُكْمِ، وَمَنْ لَا يَكُونُ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ حُكْمِ الشَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَبُنِيَ عَلَى شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَقْتُولًا حَتَّى لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، أَوْ تَرَدَّى مِنْ مَوْضِعٍ، أَوْ احْتَرَقَ بِالنَّارِ، أَوْ مَاتَ تَحْتَ هَدْمٍ أَوْ غَرِقَ لَا يَكُونُ شَهِيدًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَقْتُولٍ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ مِنْ سِلَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ مَا قُتِلَ كُلُّهُمْ بِسِلَاحٍ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ، وَأَمَّا فِي الْمِصْرِ فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا حَتَّى لَوْ قُتِلَ بِحَقٍّ فِي قِصَاصٍ أَوْ رُجِمَ لَا يَكُونُ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ قُتِلُوا مَظْلُومِينَ وَرُوِيَ «أَنَّهُ لَمَّا رُجِمَ مَاعِزٌ جَاءَ عَمُّهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: قُتِلَ مَاعِزٌ، كَمَا تُقْتَلُ الْكِلَابُ فَمَاذَا تَأْمُرنِي أَنْ أَصْنَعَ بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَقُلْ هَذَا فَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَسِعَتْهُمْ اذْهَبْ فَاغْسِلْهُ، وَكَفِّنْهُ، وَصَلِّ عَلَيْهِ» . وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ أَوْ عَدَا عَلَى قَوْمٍ ظُلْمًا فَقَتَلُوهُ لَا يَكُونُ شَهِيدًا؛ لِأَنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وَكَذَا لَوْ

قَتَلَهُ سَبُعٌ لِانْعِدَامِ تَحَقُّقِ الظُّلْمِ. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَخْلُفَ عَنْ نَفْسِهِ بَدَلًا هُوَ مَالٌ حَتَّى لَوْ كَانَ مَقْتُولًا خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ بِأَنْ قَتَلَهُ فِي الْمِصْرِ نَهَارًا بِعَصًا صَغِيرَةٍ، أَوْ سَوْطٍ، أَوْ وَكَزَهُ بِالْيَدِ، أَوْ لَكَزَهُ بِالرِّجْلِ لَا يَكُونُ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ هُوَ الْمَالُ دُونَ الْقِصَاصِ، وَذَا دَلِيلُ خِفَّةِ الْجِنَايَةِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ؛ وَلِأَنَّ غَيْرَ السِّلَاحِ مِمَّا يَلْبَثَ فَكَانَ بِحَالٍ لَوْ اسْتَغَاثَ لَحِقَهُ الْغَوْثُ فَإِذَا لَمْ يَسْتَغِثْ جُعِلَ كَأَنَّهُ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قُتِلَ فِي الْمَفَازَةِ بِغَيْرِ السِّلَاحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْقَتْلَ بِحُكْمِ قَطْعِ الطَّرِيقِ لَا الْمَالِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَغَاثَ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ فَلَمْ يَصِرْ بِتَرْكِ الِاسْتِغَاثَةِ مُعِينًا عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَهُ بِعَصًا كَبِيرَةٍ، أَوْ بِمِدَقَّةِ الْقَصَّارِينَ، أَوْ بِحَجَرٍ كَبِيرٍ، أَوْ بِخَشَبَةٍ عَظِيمَةٍ، أَوْ خَنَقَهُ، أَوْ غَرَّقَهُ فِي الْمَاءِ، أَوْ أَلْقَاهُ مِنْ شَاهِقِ الْجَبَلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ عِنْدَهُ، فَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ الْوَاجِبُ هُوَ الْقِصَاصُ فَكَانَ الْمَقْتُولُ شَهِيدًا. وَلَوْ نَزَلَ عَلَيْهِ اللُّصُوصُ لَيْلًا فِي الْمِصْرِ فَقُتِلَ بِسِلَاحٍ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ قَتَلَهُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ خَارِجَ الْمِصْرِ بِسِلَاحٍ، أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ؛ لِأَنَّ الْقَتِيلَ لَمْ يَخْلُفْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بَدَلًا هُوَ مَالٌ. وَلَوْ قُتِلَ فِي الْمِصْرِ نَهَارًا بِسِلَاحٍ ظُلْمًا بِأَنْ قُتِلَ بِحَدِيدَةٍ، أَوْ مَا يُشْبِهُ الْحَدِيدَةَ كَالنُّحَاسِ، وَالصُّفْرِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ مَا يَعْمَلُ عَمِلَ الْحَدِيدُ مِنْ جُرْحٍ، أَوْ قَطْعٍ، أَوْ طُعِنَ بِأَنْ قَتَلَهُ بِزُجَاجَةٍ، أَوْ بُلَيْطَةِ قَصَبٍ، أَوْ طَعَنَهُ بِرُمْحٍ لَا زُجَّ لَهُ، أَوْ رَمَاهُ بِنُشَّابَةٍ لَا نَصْلَ لَهَا، أَوْ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ، وَفِي الْجُمْلَةِ كُلُّ قَتْلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فَالْقَتِيلُ شَهِيدٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَا يَكُونُ شَهِيدًا "، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ، وَعَلِيًّا غُسِّلَا، وَلِأَنَّ هَذَا قَتِيلٌ أَخْلَفَ بَدَلًا، وَهُوَ الْمَالُ، أَوْ الْقِصَاصُ فَمَا هُوَ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ كَالْقَتْلِ خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، وَلَنَا أَنَّ وُجُوبَ هَذَا الْبَدَلِ دَلِيلُ انْعِدَامِ الشُّبْهَةِ، وَتَحَقُّقِ الظُّلْمِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، إذْ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ مَعَ الشُّبْهَةِ فَصَارَ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ بِخِلَافِ مَا إذَا أَخْلَفَ بَدَلًا هُوَ مَالٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمَارَةُ خِفَّةِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الشُّبْهَةِ فِي الْقَتْلِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ؛ وَلِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عَنْ الْمَقْتُولِ فَإِذَا، وَصَلَ إلَيْهِ الْبَدَلُ صَارَ الْمُبْدَلُ كَالْبَاقِي مِنْ، وَجْهٍ لِبَقَاءِ بَدَلِهِ فَأَوْجَبَ خَلَلًا فِي الشَّهَادَةِ، فَأَمَّا الْقِصَاصُ فَلَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْمَحَلِّ بَلْ هُوَ جَزَاءُ الْفِعْلِ عَلَى طَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا غُسِّلَ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لِأَنَّهُمَا اُرْتُثَّا، وَالِارْتِثَاثُ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ عَلَى مَا نَذْكُرُ. وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةٍ، أَوْ مَوْضِعٍ يَجِبُ فِيهِ الْقَسَامَةُ، وَالدِّيَةُ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ ثُمَّ انْقَلَبَ مَالًا بِالصُّلْحِ لَا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ أَخْلَفَ بَدَلًا هُوَ مَالٌ. وَكَذَا الْأَبُ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا كَانَ شَهِيدًا؛ لِأَنَّهُ أَخْلَفَ الْقِصَاصَ ثُمَّ انْقَلَبَ مَالًا، وَفَائِدَةُ الْوُجُوبِ شَهَادَةُ الْمَقْتُولِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُرْتَثًّا فِي شَهَادَتِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَخْلَقَ شَهَادَتُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الثَّوْبِ الرَّثِّ، وَهُوَ الْخَلَقُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا طُعِنَ حُمِلَ إلَى بَيْتِهِ فَعَاشَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ مَاتَ فَغُسِّلَ، وَكَانَ شَهِيدًا وَكَذَا عَلِيٌّ حُمِلَ حَيًّا بَعْد مَا طُعِنَ ثُمَّ مَاتَ فَغُسِّلَ، وَكَانَ شَهِيدًا، وَعُثْمَانُ أُجْهِزَ عَلَيْهِ فِي مَصْرَعِهِ، وَلَمْ يَرْتَثِ فَلَمْ يُغَسَّلْ «، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ارْتَثَّ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَادِرُوا إلَى غُسْلِ صَاحِبِكُمْ سَعْدٍ كَيْ لَا تَسْبِقَنَا الْمَلَائِكَةُ بِغُسْلِهِ، كَمَا سَبَقَتْنَا بِغُسْلِ حَنْظَلَةَ» . وَلِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ مَاتُوا عَلَى مَصَارِعِهِمْ، وَلَمْ يُرْتَثُّوا، حَتَّى رُوِيَ أَنَّ الْكَأْسَ كَانَ يُدَارُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَشْرَبُوا خَوْفًا مِنْ نُقْصَانِ الشَّهَادَةِ، فَإِذَا اُرْتُثَّ لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اُرْتُثَّ، وَنُقِلَ مِنْ مَكَانِهِ يَزِيدُهُ النَّقْلُ ضَعْفًا، وَيُوجِبُ حُدُوثَ آلَامٍ لَمْ تَحْدُثْ لَوْلَا النَّقْلُ، وَالْمَوْتُ يَحْصُلُ عَقِيبَ تَرَادُفِ الْآلَامِ فَيَصِيرُ النَّقْلُ مُشَارِكًا لِلْجِرَاحَةِ فِي إثَارَةِ الْمَوْتِ. وَلَوْ تَمَّ الْمَوْتُ بِالنَّقْلِ لَسَقَطَ الْغُسْلُ. وَلَوْ تَمَّ بِإِيلَامٍ سِوَى الْجُرْحِ لَا يَسْقُطُ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ؛ وَلِأَنَّ الْقَتْلَ لَمْ يَتَمَحَّضْ بِالْجُرْحِ بَلْ حَصَلَ بِهِ وَبِغَيْرِهِ، وَهُوَ النَّقْلُ، وَالْجُرْحُ مَحْظُورٌ، وَالنَّقْلُ مُبَاحٌ فَلَمْ يَمُتْ بِسَبَبٍ تَمَحَّضَ حَرَامًا فَلَمْ يَصِرْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ، ثُمَّ الْمُرْتَثُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ صِفَةِ الْقَتْلَى، وَصَارَ إلَى حَالِ الدُّنْيَا بِأَنْ جَرَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهَا، أَوْ وَصَلَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِهَا. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ مَنْ حُمِلَ مِنْ الْمَعْرَكَةِ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فِي بَيْتِهِ، أَوْ عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ فَهُوَ مُرْتَثٌّ، وَكَذَلِكَ إذَا أَكَلَ، أَوْ شَرِبَ، أَوْ بَاعَ أَوْ ابْتَاعَ، أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ، أَوْ قَامَ مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ، أَوْ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ إلَى مَكَان آخَرَ، وَبَقِيَ عَلَى مَكَانِهِ ذَلِكَ حَيًّا يَوْمًا كَامِلًا، أَوْ لَيْلَةً كَامِلَةً، وَهُوَ يَعْقِلُ فَهُوَ مُرْتَثٌّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا بَقِيَ وَقْتُ صَلَاةٍ كَامِلٌ حَتَّى صَارَتْ الصَّلَاةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ يَعْقِلُ فَهُوَ مُرْتَثٌّ، وَإِنْ بَقِيَ مَكَانَهُ لَا يَعْقِلُ فَلَيْسَ بِمُرْتَثٍّ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: " إنْ بَقِيَ يَوْمًا فَهُوَ مُرْتَثٌّ ". وَلَوْ أَوْصَى

كَانَ ارْتِثَاثًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَقِيلَ: لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ فَجَوَابُ أَبِي يُوسُفَ خَرَجَ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ يُوجِبُ الِارْتِثَاثَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِأُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَمَصَالِحِهَا فَيَنْقُضُ ذَلِكَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ، وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الِارْتِثَاثَ بِالْإِجْمَاعِ كَوَصِيَّةِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَوَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَنْظُرُ مَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ؟ فَنَظَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَوَجَدَهُ جَرِيحًا فِي الْقَتْلَى، وَبِهِ رَمَقٌ فَقَالَ لَهُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ، فِي الْأَحْيَاءِ أَنْتَ أَمْ فِي الْأَمْوَاتِ؟ فَقَالَ: أَنَا فِي الْأَمْوَاتِ فَأَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: إنَّ سَعْدَ بْنَ الرَّبِيعِ يَقُولُ: جَزَاكَ اللَّهُ عَنَّا خَيْرَ مَا يُجْزَى نَبِيٌّ عَنْ أُمَّتِهِ، وَأَبْلِغْ قَوْمَكَ عَنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُمْ: إنَّ سَعْدًا يَقُولُ: لَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَخْلُصَ إلَى نَبِيِّكُمْ، وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرُفُ قَالَ: ثُمَّ لَمْ أَبْرَحْ حَتَّى مَاتَ فَلَمْ يُغَسَّلْ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ» ، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ إنْ، أَوْصَى بِمِثْلِ وَصِيَّةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَلَيْسَ بِارْتِثَاثٍ، وَالصَّلَاةُ ارْتِثَاثٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلَوْ جُرَّ بِرِجْلِهِ مِنْ بَيْنِ الصَّفَّيْنِ حَتَّى تَطَؤُهُ الْخُيُولُ فَمَاتَ لَمْ يَكُنْ مُرْتَثًّا؛ لِأَنَّهُ مَا نَالَ شَيْئًا مِنْ رَاحَةِ الدُّنْيَا، بِخِلَافِ مَا إذَا مَرِضَ فِي خَيْمَتِهِ، أَوْ فِي بَيْتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَالَ الرَّاحَةَ بِسَبَبِ مَا مَرِضَ فَصَارَ مُرْتَثًّا، ثُمَّ الْمُرْتَثُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا فِي حُكْمِ الدُّنْيَا فَهُوَ شَهِيدٌ فِي حَقِّ الثَّوَابِ حَتَّى إنَّهُ يَنَالُ ثَوَابَ الشُّهَدَاءِ كَالْغَرِيقِ، وَالْحَرِيقِ، وَالْمَبْطُونِ، وَالْغَرِيبِ إنَّهُمْ شُهَدَاءُ بِشَهَادَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ بِالشَّهَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ شَهَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا. كَوْنُ الْمَقْتُولِ مُسْلِمًا فَإِنْ كَانَ كَافِرًا كَالذِّمِّيِّ إذَا خَرَجَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ لِلْقِتَالِ فَقُتِلَ يُغَسَّلُ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْغُسْلِ عَنْ الْمُسْلِمِ إنَّمَا ثَبَتَ كَرَامَةً لَهُ، وَالْكَافِرُ لَا يَسْتَحِقُّ الْكَرَامَةَ. وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَقْتُولِ مُكَلَّفًا، هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَكُونُ الصَّبِيُّ، وَالْمَجْنُونُ شَهِيدَيْنِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَلْحَقُهُمَا حُكْمُ الشَّهَادَةِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّهُ مَقْتُولٌ ظُلْمًا وَلَمْ يَخْلُفْ بَدَلًا هُوَ مَالٌ فَكَانَ شَهِيدًا كَالْبَالِغِ الْعَاقِلِ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ ظُلْمًا لَمَّا، أَوْجَبَ تَطْهِيرَ مَنْ لَيْسَ بِطَاهِرٍ لِارْتِكَابِهِ الْمَعَاصِيَ وَالذُّنُوبَ فَلَأَنْ يُوجِبَ تَطْهِيرَ مَنْ هُوَ طَاهِرٌ، أَوْلَى، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّصَّ، وَرَدَ بِسُقُوطِ الْغُسْلِ فِي حَقِّهِمْ كَرَامَةً لَهُمْ فَلَا يُجْعَلُ، وَارِدًا فِيمَنْ لَا يُسَاوِيهِمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ. وَمَا ذَكَرُوا مِنْ مَعْنَى الطَّهَارَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْغُسْلِ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى الطَّهَارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - غُسِّلُوا، وَرَسُولُنَا - سَيِّدُ الْبَشَرِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُسِّلَ، وَالْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَطْهَرُ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا، وَجْهَ لِتَعْلِيقِ ذَلِكَ بِالتَّطْهِيرِ مَعَ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لِلصَّبِيِّ يُطَهِّرُهُ السَّيْفُ فَكَانَ الْقَتْلُ فِي حَقِّهِ، وَالْمَوْتُ حَتْفَ أَنْفِهِ سَوَاءً، وَمِنْهَا الطَّهَارَةُ عَنْ الْجَنَابَةِ شَرْطٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ قُتِلَ جُنُبًا لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَتْلَ عَلَى طَرِيقِ الشَّهَادَةِ أُقِيمَ مَقَامَ الْغُسْلِ كَالذَّكَاةِ أُقِيمَتْ مَقَامَ غَسْلِ الْعُرُوقِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ «أَنَّ حَنْظَلَةَ اُسْتُشْهِدَ جُنُبًا فَغَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ صَاحِبَكُمْ لَتُغَسِّلُهُ الْمَلَائِكَةُ فَاسْأَلُوا أَهْلَهُ مَا بَالُهُ فَسُئِلَتْ صَاحِبَتُهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ حِينَ سَمِعَ الْهَيْعَةَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ» أَشَارَ إلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ عِلَّةُ الْغُسْلِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الشَّهَادَةَ عُرِفَتْ مَانِعَةً مِنْ حُلُولِ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ لَا رَافِعَةً لِنَجَاسَتِهِ كَانَتْ كَالذَّكَاةِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ حُلُولِ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ فِيمَا كَانَ حَلَالًا إمَّا لَا تَرْفَعُ حُرْمَةً كَانَتْ ثَابِتَةً وَهَذَا؛ لِأَنَّهَا عُرِفَتْ مَانِعَةً بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا تَكُونُ رَافِعَةً؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ أَدْوَنُ مِنْ الرَّفْعِ فَأَمَّا الْحَدَثُ فَإِنَّمَا تَرْفَعُهُ ضَرُورَةُ الْمَنْعِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَخْلُو عَنْ الْحَدَثِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ زَوَالِ الْعَقْلِ سَابِقًا عَلَى الْمَوْتِ فَيَثْبُتُ الْحَدَثُ لَا مَحَالَةَ، وَالشَّهَادَةُ مَانِعَةٌ مِنْ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ فَلَوْ لَمْ يَرْتَفِعْ الْحَدَثُ بِالشَّهَادَةِ لَاحْتِيجَ إلَى غَسْلِ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ مَنْعِ الشَّهَادَةِ حُلُولَ النَّجَاسَةِ فَقُلْنَا: إنَّ الشَّهَادَةَ تَرْفَعُ ذَلِكَ الْحَدَثَ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُوجَدُ لَا مَحَالَةَ لِيَنْعَدِمَ أَثَرُ الشَّهَادَةِ بَلْ تُوجَدُ فِي النُّدْرَةِ فَلَمْ يَرْفَعْ. وَأَمَّا الْحَائِضُ، وَالنُّفَسَاءُ إذَا اُسْتُشْهِدَتَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ، وَطَهَارَتِهِمَا قَبْلَ الِاغْتِسَالِ، فَالْكَلَامُ فِيهِمَا وَفِي الْجُنُبِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ انْقِطَاعِ الدَّمِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ يُغَسَّلَانِ كَالْجُنُبِ

لِوُجُودِ شَرْطِ الِاغْتِسَالِ، وَهُوَ الْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُغَسَّلَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَجَبَ بَعْدُ قَبْلَ الْمَوْتِ قَبْلَ انْقِطَاعِ الدَّمِ فَلَوْ، وَجَبَ وَجَبَ بِالْمَوْتِ، وَالِاغْتِسَالُ الَّذِي يَجِبُ بِالْمَوْتِ يَسْقُطُ بِالشَّهَادَةِ، وَلَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ لِصِحَّةِ الشَّهَادَةِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ مُخَاطَبَاتٌ يُخَاصِمْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَتَلَهُنَّ فَيَبْقَى عَلَيْهِنَّ أَثَرُ الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ شَاهِدًا لَهُنَّ كَالرِّجَالِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا عُرِفَ شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ فَنَقُولُ: إذَا قُتِلَ الرَّجُلُ فِي الْمَعْرَكَةِ، أَوْ غَيْرِهَا وَهُوَ يُقَاتِلُ أَهْلَ الْحَرْبِ، أَوْ قُتِلَ مُدَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ، أَوْ أَهْلِهِ، أَوْ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَهُوَ شَهِيدٌ سَوَاءٌ قُتِلَ بِسِلَاحٍ، أَوْ غَيْرِهِ؛ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّهِ فَالْتَحَقَ بِشُهَدَاءِ أُحُدٍ، وَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مَقْتُولًا مِنْ جِهَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ ظُلْمًا لَمْ يَخْلُفْ بَدَلًا هُوَ مَالٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ، وَهَذَا قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَيَكُونُ شَهِيدًا بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَا إذَا قُتِلَ فِي مُحَارَبَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُغَسَّلُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْبَاغِي فَهَذَا قَتِيلٌ أَخْلَفَ بَدَلًا، وَهُوَ الْقِصَاصُ، وَهَذَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ عِنْدَهُ عَلَى مَا مَرَّ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَمَّارٍ أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ بِصِفِّينَ تَحْتَ رَايَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: لَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا، وَلَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا فَإِنِّي أَلْتَقِي وَمُعَاوِيَةُ بِالْجَادَّةِ، وَكَانَ قَتِيلَ أَهْلِ الْبَغْيِ عَلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» . وَرُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ صُوحَانَ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْجَمَلِ فَقَالَ: لَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا، وَلَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا فَإِنِّي رَجُلٌ مُحَاجٌّ أُحَاجُّ يَوْمَ الْقِيَامَةَ مَنْ قَتَلَنِي، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ لَا يُغَسِّلُ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ قَتْلًا تَمَحَّضَ ظُلْمًا، وَلَمْ يَخْلُفْ بَدَلًا هُوَ مَالٌ، وَوُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي قَتْلِ الْبَاغِي مَمْنُوعٌ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَنَّ كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَقَتِيلُ غَيْرِ الْبَاغِي وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَكِنَّ ذَلِكَ أَمَارَةٌ تُغَلِّظُ الْجِنَايَةَ عَلَى مَا مَرَّ فَلَا يُوجِبُ قَدْحًا فِي الشَّهَادَةِ، بِخِلَافِ وُجُوبِ الدِّيَةِ. وَلَوْ وُجِدَ فِي الْمَعْرَكَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ مِنْ جِرَاحَةٍ، أَوْ خَنْقٍ، أَوْ ضَرْبٍ، أَوْ خُرُوجِ الدَّمِ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ إنَّمَا يُفَارِقُ الْمَيِّتَ حَتْفَ أَنْفِهِ بِالْأَثَرِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِفِعْلٍ مُضَافٍ إلَى الْعَدُوِّ، بَلْ لَمَّا الْتَقَى الصَّفَّانِ انْخَلَعَ قِنَاعُ قَلْبِهِ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ، وَقَدْ يُبْتَلَى الْجَبَانُ بِهَذَا فَإِنْ كَانَ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ كَانَ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَوْتَهُ كَانَ بِذَلِكَ السَّبَبِ، وَإِنَّهُ كَانَ مِنْ الْعَدُوِّ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحُكْمَ مَتَى ظَهَرَ عَقِيبَ سَبَبٍ يُحَالُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ مَحَارِقِهِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَوْضِعًا يَخْرُجُ الدَّمُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ فِي الْبَاطِنِ كَالْأَنْفِ، وَالذَّكَرِ، وَالدُّبُرِ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يُبْتَلَى بِالرُّعَافِ، وَقَدْ يَبُولُ دَمًا لِشِدَّةِ الْفَزَعِ، وَقَدْ يَخْرُجُ الدَّمُ مِنْ الدُّبُرِ مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ فِي الْبَاطِنِ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي سُقُوطِ الْغُسْلِ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ. وَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ أُذُنِهِ، أَوْ عَيْنِهِ كَانَ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ عَادَةً إلَّا لِآفَةٍ فِي الْبَاطِنِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ضُرِبَ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى خَرَجَ الدَّمُ مِنْ أُذُنِهِ، أَوْ عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ، فَإِنْ كَانَ يَنْزِلُ مِنْ رَأْسِهِ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ مَا يَنْزِلُ مِنْ الرَّأْسِ فَنُزُولُهُ مِنْ جَانِبِ الْفَمِ، أَوْ مِنْ جَانِبِ الْأَنْفِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ يَعْلُو مِنْ جَوْفِهِ كَانَ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَصْعَدُ مِنْ الْجَوْفِ إلَّا لِجُرْحٍ فِي الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا نُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا بِلَوْنِ الدَّمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ وُجِدَ فِي عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ كَانُوا لَقَوْا الْعَدُوَّ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَلَيْسَ فِيهِ قَسَامَةٌ، وَلَا دِيَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَتِيلُ الْعَدُوِّ وَظَاهِرًا، كَمَا لَوْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي الْمَعْرَكَةِ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَلْقَوْا الْعَدُوَّ، لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ قَتِيلَ الْعَدُوِّ أَلَا تَرَى أَنَّ فِيهِ الْقَسَامَةَ، وَالدِّيَةَ. وَلَوْ وَطِئَتْهُ دَابَّةُ الْعَدُوِّ، وَهُمْ رَاكِبُوهَا، أَوْ سَائِقُوهَا، أَوْ قَائِدُوهَا فَمَاتَ، أَوْ نَفَّرَ الْعَدُوُّ دَابَّتَهُ، أَوْ نَخَسَهَا فَأَلْقَتْهُ فَمَاتَ، أَوْ رَمَاهُ الْعَدُوُّ بِالنَّارِ فَاحْتَرَقَ، أَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي سَفِينَةٍ فَرَمَاهُمْ الْعَدُوُّ بِالنَّارِ فَاحْتَرَقُوا، أَوْ تَعَدَّى هَذَا الْحَرِيقُ إلَى سَفِينَةٍ أُخْرَى فِيهَا مُسْلِمُونَ فَاحْتَرَقُوا، أَوْ سَيَّلُوا عَلَيْهِمْ الْمَاءَ حَتَّى غَرِقُوا، أَوْ أَلْقَوْهُمْ فِي الْخَنْدَقِ، أَوْ مِنْ السُّورِ بِالطَّعْنِ بِالرُّمْحِ، وَالدَّفْعِ حَتَّى مَاتُوا، أَوْ أَلْقَوْا عَلَيْهِمْ الْجِدَارَ كَانُوا شُهَدَاءَ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُمْ حَصَلَ بِفِعْلٍ مُضَافٍ إلَى الْعَدُوِّ فَيَلْحَقُهُمْ حُكْمُ الشَّهَادَةِ. وَلَوْ نَفَرَتْ دَابَّةُ مُسْلِمٍ مِنْ دَابَّةِ الْعَدُوِّ، أَوْ مِنْ سَوَادِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَنْفِيرٍ مِنْهُمْ فَأَلْقَتْهُ فَمَاتَ، أَوْ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ فَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْخَنْدَقِ، أَوْ مِنْ السُّورِ حَتَّى مَاتُوا لَمْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُمْ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى فِعْلِ الْعَدُوِّ، وَكَذَلِكَ إذَا حَمَلَ عَلَى الْعَدُوِّ فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ، أَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَنْقُبُونَ عَلَيْهِمْ الْحَائِطَ فَسَقَطَ عَلَيْهِمْ فَمَاتُوا لَمْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَأَصَّلَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ فِي

فصل حكم الشهادة في الدنيا

هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَصْلًا فَقَالَ: إذَا صَارَ مَقْتُولًا بِفِعْلٍ يُنْسَبُ إلَى الْعَدُوِّ كَانَ شَهِيدًا، وَإِلَّا فَلَا، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا صَارَ مَقْتُولًا بِعَمَلِ الْحِرَابِ، وَالْقِتَالِ كَانَ شَهِيدًا، وَإِلَّا فَلَا سَوَاءٌ كَانَ مَنْسُوبًا إلَى الْعَدُوِّ، أَوْ لَا، وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ إذَا صَارَ مَقْتُولًا بِمُبَاشَرَةِ الْعَدُوِّ، بِحَيْثُ لَوْ وُجِدَ ذَلِكَ الْقَتْلُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو عَنْ وُجُوبِ قِصَاصٍ، أَوْ كَفَّارَةٍ كَانَ شَهِيدًا، وَإِذَا صَارَ مَقْتُولًا بِالتَّسَبُّبِ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا، وَجِنْسُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الزِّيَادَاتِ. [فَصْلٌ حُكْمُ الشَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الشَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا فَنَقُولُ: إنَّ الشَّهِيدَ كَسَائِرِ الْمَوْتَى فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُمْ فِي حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يُغَسَّلُ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ كَرَامَةٌ لِبَنِي آدَمَ، وَالشَّهِيدُ يَسْتَحِقُّ الْكَرَامَةَ حَسْبَمَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ بَلْ أَشَدُّ فَكَانَ الْغُسْلُ فِي حَقِّهِ أَوْجَبَ، وَلِهَذَا يُغَسَّلُ الْمُرْتَثُّ، وَمَنْ قُتِلَ بِحَقٍّ فَكَذَا الشَّهِيدُ؛ وَلِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ، وَجَبَ تَطْهِيرًا لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنَّمَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بَعْدَ غُسْلِهِ لَا قَبْلَهُ، وَالشَّهِيدُ يُصَلَّى عَلَيْهِ فَيُغَسَّلُ أَيْضًا تَطْهِيرًا لَهُ، وَإِنَّمَا لَمْ تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ تَخْفِيفًا عَلَى الْأَحْيَاءِ لِكَوْنِ أَكْثَرِ النَّاسِ كَانَ مَجْرُوحًا لِمَا أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ بَلَاءٍ، وَتَمْحِيصٍ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى غُسْلِهِمْ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ: فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ: زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ، وَدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ، وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ فَإِنَّهُ مَا مِنْ جَرِيحٍ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا، وَهُوَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» . وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَعَمُّ فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْ بِالْغُسْلِ، وَبَيَّنَ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا فَلَا يُزَالُ عَنْهُمْ الدَّمُ بِالْغُسْلِ لِيَكُونَ شَاهِدًا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَ غُسْلِ الشَّهِيدِ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ لَهُ، وَأَنَّ الشَّهَادَةَ جُعِلَتْ مَانِعَةً عَنْ حُلُولِ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ، كَمَا فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَعَذُّرِ الْغُسْلِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِأَنْ يُزَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ، وَبَيَّنَ الْمَعْنَى، وَلِأَنَّ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَانِعَةً لَهُمْ مِنْ الْحَفْرِ، وَالدَّفْنِ، كَيْفَ صَارَتْ مَانِعَةً مِنْ الْغُسْلِ؟ وَهُوَ أَيْسَرُ مَنْ الْحَفْرِ وَالدَّفْنِ؛ وَلِأَنَّ تَرْكَ الْغُسْلِ لَوْ كَانَ لِلتَّعَذُّرِ لَأَمَرَ أَنْ يُيَمَّمُوا، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ غُسْلُ الْمَيِّتِ فِي زَمَانِنَا لِعَدَمِ الْمَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَمَا لَمْ تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ لَمْ تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ بَدْرٍ، وَالْخَنْدَقِ، وَخَيْبَرَ وَمَا ذُكِرَ مِنْ التَّعَذُّرِ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ، وَلِذَا لَمْ يُغَسَّلْ عُثْمَانُ وَعَمَّارٌ وَكَانَ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ فَدَلَّ أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ تَرْكِ الْغُسْلِ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ غَيْرَ مَا فَهِمَ الْحَسَنُ. وَالثَّانِي أَنَّهُ يُكَفَّنُ فِي ثِيَابِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ، وَقَدْ رُوِيَ فِي ثِيَابِهِمْ» وَرَوَيْنَا عَنْ عَمَّارٍ، وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا الْحَدِيثَ غَيْرَ أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ الْجِلْدُ، وَالسِّلَاحُ، وَالْفَرْوُ، وَالْحَشْوُ، وَالْخُفُّ، وَالْمِنْطَقَةُ، وَالْقَلَنْسُوَةُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُنْزَعُ عَنْهُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ» . وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ تَنْزِعُ عَنْهُ الْعِمَامَةَ، وَالْخُفَّيْنِ، وَالْقَلَنْسُوَةَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا يُتْرَكُ يُتْرَكُ لِيَكُونَ كَفَنًا، وَالْكَفَنُ مَا يُلْبَسُ لِلسَّتْرِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُلْبَسُ إمَّا لِلتَّجَمُّلِ، وَالزِّينَةِ، أَوْ لِدَفْعِ الْبَرْدِ، أَوْ لِدَفْعِ مَعَرَّةِ السِّلَاحِ، وَلَا حَاجَةَ لِلْمَيِّتِ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَفَنًا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ» الثِّيَابُ الَّتِي يُكَفَّنُ بِهَا، وَتُلْبَسُ لِلسَّتْرِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا عَادَةُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْفِنُونَ أَبْطَالَهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَسْلِحَةِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَيَزِيدُونَ فِي أَكْفَانِهِمْ مَا شَاءُوا، وَيُنْقِصُونَ مَا شَاءُوا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ عَلَيْهِ نَمِرَةٌ لَوْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بِهَا بَدَتْ رِجْلَاهُ وَلَوْ غُطِّيَتْ بِهَا رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُغَطَّى بِهَا رَأْسُهُ، وَيُوضَعُ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِذْخِرِ» . وَذَاكَ زِيَادَةٌ فِي الْكَفَنِ؛ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ عَدَدَ السُّنَّةِ مِنْ بَابِ الْكَمَالِ فَكَانَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَالنُّقْصَانُ مِنْ بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْوَرَثَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مِنْ الثِّيَابِ مَا يَضُرُّ تَرْكُهُ بِالْوَرَثَةِ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوْتَى وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، كَمَا لَا يُغَسَّلُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا صَلَّى عَلَى أَحَدٍ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ» ؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ شَفَاعَةٌ لَهُ، وَدُعَاءٌ لِتَمْحِيصِ ذُنُوبِهِ، وَالشَّهِيدُ قَدْ تَطَهَّرَ بِصِفَةِ الشَّهَادَةِ عَنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ عَلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ» فَاسْتُغْنِيَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا اُسْتُغْنِيَ عَنْ الْغُسْلِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ

الشُّهَدَاءَ بِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي كِتَابِهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ لَا عَلَى الْحَيِّ، وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ» حَتَّى رُوِيَ «أَنَّهُ صَلَّى عَلَى حَمْزَةَ سَبْعِينَ صَلَاةً» وَبَعْضُهُمْ أَوَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَ يُؤْتَى بِوَاحِدٍ، وَاحِدٍ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحَمْزَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيْنَ يَدَيْهِ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى حَمْزَةَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَرَوَى أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعِينَ صَلَاةً، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الرِّوَايَةِ، وَكَانَ مَخْصُوصًا بِتِلْكَ الْكَرَامَةِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَغَيْرُ صَحِيحٍ، وَقِيلَ: إنَّهُ كَانَ يَوْمَئِذٍ مَشْغُولًا فَإِنَّهُ قُتِلَ أَبُوهُ، وَأَخُوهُ، وَخَالُهُ فَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لِيُدَبِّرَ كَيْفَ يَحْمِلُهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا حِينَ صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمْ فَلِهَذَا رَوَى مَا رَوَى، وَمَنْ شَاهَدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِمْ ثُمَّ سَمِعَ جَابِرٌ مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُدْفَنَ الْقَتْلَى فِي مَصَارِعِهِمْ فَرَجَعَ فَدَفَنَهُمْ فِيهَا؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ لِإِظْهَارِ كَرَامَتِهِ، وَلِهَذَا اُخْتُصَّ بِهَا الْمُسْلِمُونَ دُونَ الْكَفَرَةِ، وَالشَّهِيدُ، أَوْلَى بِالْكَرَامَةِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ حُصُولِ الطَّهَارَةِ بِالشَّهَادَةِ، فَالْعَبْدُ وَإِنْ جَلَّ قَدْرُهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الدُّعَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا شَكَّ أَنَّ دَرَجَتَهُ كَانَتْ فَوْقَ دَرَجَةِ الشُّهَدَاءِ وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِالْحَيَاةِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ، فَأَمَّا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَالشَّهِيدُ مَيِّتٌ يُقْسَمُ مَالُهُ، وَتُنْكَحُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَوُجُوبُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَكَانَ مَيِّتًا فِيهِ فَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

كتاب الزكاة

[كِتَابُ الزَّكَاةِ] الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الزَّكَاةِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالزَّكَاةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ فَرْضٌ، وَوَاجِبٌ فَالْفَرْضُ زَكَاةُ الْمَالِ وَالْوَاجِبُ زَكَاةُ الرَّأْسِ، وَهِيَ صَدَقَةُ الْفِطْرُ وَزَكَاةُ الْمَالِ نَوْعَانِ:. زَكَاةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَالسَّوَائِمِ، وَزَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَهِيَ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي. بَيَانِ فَرْضِيَّتِهَا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ وَفِي بَيَانِ سَبَبِ الْفَرْضِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهَا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25] وَالْحَقُّ الْمَعْلُومُ هُوَ الزَّكَاةُ، وَقَوْلُهُ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] الْآيَةَ فَكُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مَالٍ أُدِّيَتْ الزَّكَاةُ عَنْهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ تَحْتَ سَبْعِ أَرْضِينَ وَكُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدَّ الزَّكَاةُ عَنْهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ» فَقَدْ أُلْحِقَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ بِمَنْ كَنَزَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَمْ يُنْفِقْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِتَرْكِ الْفَرْضِ وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ إنْفَاقٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وقَوْله تَعَالَى {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] وقَوْله تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا وَرَدَ فِي الْمَشَاهِيرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا» . وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إلَّا جُعِلَتْ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَائِحُ ثُمَّ أُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ، وَجَبْهَتُهُ، وَظَهْرُهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ

فصل كيفية فرضية الزكاة

خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلَى النَّارِ وَمَا مِنْ صَاحِبِ بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إلَّا أُتِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ مَا ذَكَرَ فِي الْأَوَّلِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَصَاحِبُ الْخَيْلِ؟ قَالَ: الْخَيْلُ ثَلَاثٌ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا مَنْ رَبَطَهَا عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَوْ طُوِّلَ لَهَا فِي مَرْجٍ خِصْبٍ أَوْ فِي رَوْضَةٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ مَا أَكَلَتْ حَسَنَاتٍ وَعَدَدَ أَرْوَاثِهَا حَسَنَاتٍ، وَإِنْ مَرَّتْ بِنَهْرٍ عَجَّاجٍ لَا يُرِيدُ مِنْهُ السَّقْيَ فَشَرِبَتْ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ مَا شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ وَمَنْ ارْتَبَطَهَا عِزًّا وَفَخْرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَانَتْ لَهُ وِزْرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ ارْتَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي رِقَابِهَا وَظُهُورِهَا كَانَتْ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ صَاحِبِ غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلَّا بُطِحَ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَطَؤُهَا بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا» . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي مَانِعِي زَكَاةِ الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْفَرَسِ: «لَأُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ شَاةٌ تَيْعَرُ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أَلَا قَدْ بَلَّغْتُ، وَلَأُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أَلَا قَدْ بَلَّغْتُ، وَلَأُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أَلَا قَدْ بَلَّغْتُ، وَلَأُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى عَاتِقِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أَلَا قَدْ بَلَّغْتُ» ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ بَابِ إعَانَةِ الضَّعِيفِ وَإِغَاثَةِ اللَّهِيفِ وَإِقْدَارِ الْعَاجِزِ وَتَقْوِيَتِهِ عَلَى أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْوَسِيلَةُ إلَى أَدَاءِ الْمَفْرُوضِ مَفْرُوضٌ وَالثَّانِي أَنَّ الزَّكَاةَ تُطَهِّرُ نَفْسَ الْمُؤَدِّي عَنْ أَنْجَاسِ الذُّنُوبِ. وَتُزَكِّي أَخْلَاقَهُ بِتَخَلُّقِ الْجُودُ وَالْكَرَمِ وَتَرْكِ الشُّحِّ وَالضَّنِّ إذْ الْأَنْفُسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى الضَّنِّ بِالْمَالِ فَتَتَعَوَّدُ السَّمَاحَةَ، وَتَرْتَاضُ لِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَإِيصَالِ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحَقِّيهَا وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَفَضَّلَهُمْ بِصُنُوفِ النِّعْمَةِ وَالْأَمْوَالِ الْفَاضِلَةِ عَنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَخَصَّهُمْ بِهَا فَيَتَنَعَّمُونَ وَيَسْتَمْتِعُونَ بِلَذِيذِ الْعَيْشِ. وَشُكْرُ النِّعْمَةِ فَرْضٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ إلَى الْفَقِيرِ مِنْ بَابِ شُكْرِ النِّعْمَةِ فَكَانَ فَرْضًا. [فَصْلٌ كَيْفِيَّةُ فَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ فَرْضِيَّتِهَا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهَا عَلَى الْفَوْرِ، وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ: " إذَا لَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ حَتَّى مَضَى حَوْلَانِ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَثِمَ وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ مَا صَنَعَ وَعَلَيْهِ زَكَاةُ حَوْلٍ وَاحِدٍ " وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ التَّأْخِيرَ لَا يَجُوزُ وَهَذَا نَصٌّ عَلَى الْفَوْرِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهَا عَلَى التَّرَاخِي وَاسْتَدَلَّ بِمَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إذَا هَلَكَ نِصَابُهُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْفَوْرِ لَضَمِنَ كَمَنْ أَخَّرَ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ عَنْ وَقْتِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الثَّلْجِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا، وَقَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا: إنَّهَا عَلَى سَبِيلِ التَّرَاخِي وَمَعْنَى التَّرَاخِي عِنْدَهُمْ أَنَّهَا تَجِبُ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ غَيْرَ عَيْنٍ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْوَقْتُ لِلْوُجُوبِ وَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى آخِرِ عُمُرِهِ يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ بِأَنْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ قَدْرُ مَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ فِيهِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُؤَدِّ فِيهِ يَمُوتُ فَيَفُوتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُؤَدِّ فِيهِ حَتَّى مَاتَ يَأْثَمُ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ عَنْ الْوَقْتِ هَلْ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ أَمْ عَلَى التَّرَاخِي كَالْأَمْرِ بِقَضَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَالْأَمْرِ بِالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ، وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَقَالَ إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ: " إنَّهُ يَجِبُ تَحْصِيلُ الْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ " وَهُوَ الْفِعْلُ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ وَلَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ بَلْ مَعَ الِاعْتِقَادِ الْمُبْهَمِ أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي فَهُوَ حَقٌّ وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تُبْنَى مَسْأَلَةُ هَلَاكِ النِّصَابِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَمَّا كَانَ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَنَا لَمْ يَكُنْ بِتَأْخِيرِهِ الْأَدَاءَ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ مُفَرِّطًا فَلَا يَضْمَنُ، وَعِنْدَهُ لَمَّا كَانَ الْوُجُوبُ عَلَى الْفَوْرِ صَارَ مُفَرِّطًا لِتَأْخِيرِهِ فَيُضْمَنُ. وَيَجُوزُ

فصل سبب فرضية الزكاة

أَنْ تُبْنَى عَلَى أَصْلٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ فِي بَيَانِ صِفَةِ الْوَاجِبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ سَبَبُ فَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سَبَبُ فَرْضِيَّتِهَا فَالْمَالُ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ، وَلِذَا تُضَافُ إلَى الْمَالِ فَيُقَالُ: زَكَاةُ الْمَالِ وَالْإِضَافَةُ فِي مِثْلِ هَذَا يُرَادُ بِهَا السَّبَبِيَّةُ كَمَا يُقَالُ: صَلَاةُ الظُّهْرِ وَصَوْمُ الشَّهْرِ وَحَجُّ الْبَيْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ فَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ] [الشَّرَائِط الَّتِي ترجع عَلَى مِنْ عَلَيْهِ الْمَال] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْفَرْضِيَّةِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَالِ. أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا مِنْهَا إسْلَامُهُ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى الْكَافِرِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَالْكُفَّارُ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ حَتَّى لَا يُخَاطَبَ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا حَتَّى إذَا مَضَى عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَهُوَ مُرْتَدٌّ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا إذَا أَسْلَمَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَالِ الرِّدَّةِ وَيُخَاطَبُ بِأَدَائِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّلَاةُ. وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْوُجُوبِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْأَدَاءِ بِوَاسِطَةِ الطَّهَارَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُخَاطَبَ الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ بِالْأَدَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الْأَدَاءُ رَحْمَةً عَلَيْهِ وَتَخْفِيفًا لَهُ. وَالْمُرْتَدُّ لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ بَعْدَ مَا عَرَفَ مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ فَكَانَ كُفْرُهُ أَغْلَظُ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ. (وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» ؛ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ لِعَدَمِ شَرْطِ الْأَهْلِيَّةِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَا كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْأَدَاءِ بِتَقْدِيمِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْإِيمَانُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَصْلٌ وَالْعِبَادَاتِ تَوَابِعُ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الْفِعْلُ عِبَادَةً بِدُونِهِ، وَالْإِيمَانُ عِبَادَةٌ بِنَفْسِهِ. وَهَذِهِ آيَةُ التَّبَعِيَّةِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ الْإِيمَانُ عَنْ الْخَلَائِقِ بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعَ ارْتِفَاعِ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ فَكَانَ هُوَ عِبَادَةً بِنَفْسِهِ وَغَيْرُهُ عِبَادَةً بِهِ فَكَانَ تَبَعًا لَهُ فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ بِنَاءً عَلَى تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ جَعَلَ التَّبَعَ مَتْبُوعًا وَالْمَتْبُوعَ تَابِعًا وَهَذَا قَلْبُ الْحَقِيقَةِ، وَتَغْيِيرُ الشَّرِيعَةِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ مَعَ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَصْلٌ وَالطَّهَارَةَ تَابِعَةٌ لَهَا فَكَانَ إيجَابُ الْأَصْلِ إيجَابًا لِلتَّبَعِ وَهُوَ الْفَرْقُ. وَمِنْهَا الْعِلْمُ بِكَوْنِهَا فَرِيضَةً عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَلَسْنَا نَعْنِي بِهِ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ بَلْ السَّبَبَ الْمُوصِلَ إلَيْهِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا وَمَكَثَ هُنَاكَ سِنِينَ وَلَهُ سَوَائِمُ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِالشَّرَائِعِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا حَتَّى لَا يُخَاطَبَ بِأَدَائِهَا إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ إذَا بَلَّغَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْعَدَدِ؟ وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَمِنْهَا الْبُلُوغُ عِنْدَنَا فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنُ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُمَا قَالَا: " لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الصَّبِيِّ حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ " وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، وَيُؤَدِّيهَا الْوَلِيُّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: يُحْصِي الْوَلِيُّ أَعْوَامَ الْيَتِيمِ فَإِذَا بَلَغَ أَخْبَرَهُ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ لَكِنْ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ وِلَايَةُ الْأَدَاءِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى حَتَّى قَالَ: " لَوْ أَدَّاهَا الْوَلِيُّ مِنْ مَالِهِ ضُمِنَ " وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ بَنَى الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ عِنْدَنَا، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَقُّ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ، وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ، وَالْخَرَاجِ، وَالْعُشْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَلَإِنْ كَانَتْ عِبَادَةً فَهِيَ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ تُجْرَى فِيهَا النِّيَابَةُ حَتَّى تَتَأَدَّى بِأَدَاءِ الْوَكِيلِ، وَالْوَلِيُّ نَائِبُ الصَّبِيِّ فِيهَا فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي إقَامَةِ هَذَا الْوَاجِبِ بِخِلَافِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهَا ابْتِدَاءً. أَمَّا الْكَلَامُ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْبِنَاءِ فَوَجْهُ قَوْلِهِ: النَّصُّ، وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ، وَالْحَقِيقَةُ أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25] وَالْإِضَافَةُ بِحَرْفِ اللَّامِ تَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِجِهَةِ الْمِلْكِ إذَا كَانَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ وَأَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إذَا وَهَبَ جَمِيعَ النِّصَابِ مِنْ الْفَقِيرِ وَلَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ، وَالْعِبَادَةُ لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ وَلِذَا يُجْرَى فِيهَا الْجَبْرُ وَالِاسْتِحْلَافُ مِنْ السَّاعِي

وَإِنَّمَا يَجْرِيَانِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَكَذَا يَصِحُّ تَوْكِيلُ الذِّمِّيِّ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ. وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَمْلِيكُ الْمَالِ مِنْ الْفَقِيرِ، وَالْمُنْتَفِعُ بِهَا هُوَ الْفَقِيرُ فَكَانَتْ حَقَّ الْفَقِيرِ وَالصِّبَا لَا يَمْنَعُ حُقُوقَ الْعِبَادِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا» وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ يَكُونُ عِبَادَةً وَالْعِبَادَاتُ الَّتِي تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ تُقَدَّرُ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ مِنْ الصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا مَحِلُّ الصَّدَقَةِ، وَهُوَ الْمَالُ لَا نَفْسُ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِلْفِعْلِ وَهُوَ إخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا حَقُّ الْفَقِيرِ، وَكَذَلِكَ الْحَقُّ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَالُ، وَذَا لَيْسَ بِزَكَاةٍ بَلْ هُوَ مَحِلُّ الزَّكَاةِ وَسُقُوطُ الزَّكَاةِ بِهِبَةِ النِّصَابِ مِنْ الْفَقِيرِ لِوُجُودِ النِّيَّةِ دَلَالَةٌ وَالْجَبْرُ عَلَى الْأَدَاءِ لِيُؤَدِّيَ مَنْ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ لَا يُنَافِي الْعِبَادَةَ حَتَّى لَوْ مَدَّ يَدَهُ وَأَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ أَدَاءِ مَنْ عَلَيْهِ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ عِنْدَنَا وَجَرَيَانُ الِاسْتِخْلَافِ لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ لِلسَّاعِي لِيُؤَدِّيَ مَنْ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ وَهَذَا لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الزَّكَاةِ حَقَّ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا جَازَتْ بِأَدَاءِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدِّي فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُوَكِّلُ، وَالْخَرَاجُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ بَلْ هُوَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مَمْنُوعَةٌ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهَا مُؤْنَةٌ مِنْ وَجْهٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» فَتَجِبُ بِوَصْفِ الْمُؤْنَةِ لَا بِوَصْفِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ الْعُشْرِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهِ الِابْتِدَاءِ فَالشَّافِعِيُّ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى خَيْرًا كَيْ لَا تَأْكُلَهَا الصَّدَقَةُ» وَلَوْ لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مَا كَانَتْ الصَّدَقَةُ تَأْكُلُهَا. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا فَلْيُؤَدِّ زَكَاةَ مَالِهِ» . وَرُوِيَ «مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا فَلْيُزَكِّ مَالَهُ» ، وَلِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْبَالِغِينَ وَالصِّبْيَانِ وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِلْكُ النِّصَابِ وَقَدْ وُجِدَ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ كَالْبَالِغِ. (وَلَنَا) أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ عَلَى الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَرْفُوعُ الْقَلَمِ بِالْحَدِيثِ وَلِأَنَّ إيجَابَ الزَّكَاةِ إيجَابُ الْفِعْلِ وَإِيجَابُ الْفِعْلِ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْ الْفِعْلِ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ عَلَى الْوَلِيِّ لِيُؤَدِّيَ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَنْهِيٌّ عَنْ قُرْبَانِ مَالِ الْيَتِيمِ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْأَحْسَنِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِهِ قُرْبَانُ مَالِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْأَحْسَنِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْخِلَافِيَّاتِ وَالْحَدِيثَانِ غَرِيبَانِ أَوْ مِنْ الْآحَادِ فَلَا يُعَارِضَانِ الْكِتَابَ مَعَ مَا أَنَّ اسْمَ الصَّدَقَةِ يُطْلَقُ عَلَى النَّفَقَةِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةٌ وَعَلَى عِيَالِهِ صَدَقَةٌ» وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَكْلَ إلَى جَمِيعِ الْمَالِ، وَالنَّفَقَةُ هِيَ الَّتِي تَأْكُلُ الْجَمِيعَ لَا الزَّكَاةُ أَوْ تُحْمَلُ الصَّدَقَةُ وَالزَّكَاةُ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّهَا تُسَمَّى زَكَاةً وَأَمَّا قَوْلُهُ: «مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا فَلْيُزَكِّ مَالَهُ» أَيْ: لِيَتَصَرَّفْ فِي مَالِهِ كَيْ يَنْمُوَ مَالُهُ إذْ التَّزْكِيَةُ هِيَ التَّنْمِيَةُ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ لَا تَتَنَاوَلُ الصِّبْيَانَ أَوْ هِيَ مَخْصُوصَةٌ فَتَخُصُّ الْمُتَنَازِعَ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الْعَقْلُ عِنْدَنَا فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الْمَجْنُونِ جُنُونًا أَصْلِيًّا وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْجُنُونَ نَوْعَانِ أَصْلِيٌّ وَطَارِئٌ. أَمَّا الْأَصْلِيُّ وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ مَجْنُونًا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُمْنَعُ انْعِقَادُ الْحَوْلِ عَلَى النِّصَابِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ زَكَاةِ مَا مَضَى مِنْ الْأَحْوَالِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْحَوْلِ مِنْ وَقْتِ الْإِفَاقَةِ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ صَارَ أَهْلًا لَأَنْ يَنْعَقِدَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ كَالصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ زَكَاةِ مَا مَضَى مِنْ زَمَانِ الصِّبَا، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْحَوْلِ عَلَى مَالِهِ مِنْ وَقْتِ الْبُلُوغِ عِنْدَنَا كَذَا هَذَا وَلِهَذَا مُنِعَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ كَذَا الزَّكَاةَ. وَأَمَّا الْجُنُونُ الطَّارِئُ فَإِنْ دَامَ سَنَةً كَامِلَةً فَهُوَ فِي حُكْمِ الْأَصْلِيِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي حَقِّ الصَّوْمِ كَذَلِكَ كَذَا فِي حَقِّ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ السَّنَةَ فِي الزَّكَاةِ كَالشَّهْرِ فِي الصَّوْمِ، وَالْجُنُونُ الْمُسْتَوْعِبُ لِلشَّهْرِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الصَّوْمِ فَالْمُسْتَوْعِبُ لِلسَّنَةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ وَلِهَذَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ فَكَذَا الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ ثُمَّ أَفَاقَ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ إنْ أَفَاقَ فِي شَيْءٍ مِنْ السَّنَةِ وَإِنْ كَانَ سَاعَةً مِنْ الْحَوْلِ مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ تَجِبُ زَكَاةُ ذَلِكَ الْحَوْلِ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا وَرَوَى هِشَامٌ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنْ أَفَاقَ أَكْثَرَ السَّنَةِ وَجَبَتْ وَإِلَّا فَلَا. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إذَا كَانَ أَكْثَرُ السَّنَةِ مُفِيقًا فَكَأَنَّهُ كَانَ مُفِيقًا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ خُصُوصًا فِيمَا يُحْتَاطُ فِيهِ. وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ هُوَ اعْتِبَارُ

الزَّكَاةِ بِالصَّوْمِ وَهُوَ اعْتِبَارٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ السَّنَةَ لِلزَّكَاةِ كَالشَّهْرِ لِلصَّوْمِ ثُمَّ الْإِفَاقَةُ فِي جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ يَكْفِي لِوُجُوبِ صَوْمِ الشَّهْرِ كَذَا الْإِفَاقَةُ فِي جُزْءٍ مِنْ السَّنَةِ تَكْفِي لِانْعِقَادِ الْحَوْلِ عَلَى الْمَالِ. وَأَمَّا الَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَهُوَ كَالصَّحِيحِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ. وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لِمَا نَذْكُرُ، وَالْمَمْلُوكُ لَا مِلْكَ لَهُ حَتَّى لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَسْبُهُ لِمَوْلَاهُ وَعَلَى الْمَوْلَى زَكَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِكَسْبِهِ فَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ كَانَ يَمْلِكُهُ لَكِنَّهُ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ وَالْمَالُ الْمَشْغُولُ بِالدَّيْنِ لَا يَكُونُ مَالَ الزَّكَاةِ وَكَذَا الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لَا زَكَاةَ عَلَى الْمُكَاتَبِ فِي كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِلْكَهُ حَقِيقَةً لِقِيَامِ الرِّقِّ فِيهِ بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» وَالْعَبْدُ اسْمٌ لِلْمَرْقُوقِ وَالرِّقُّ يُنَافِي الْمِلْكَ. وَأَمَّا الْمُسْتَسْعَى فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُكَاتَبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ حُرٌّ مَدْيُونٌ فَيَنْظُرُ إنْ كَانَ فَضَلَ عَنْ سِعَايَتِهِ مَا يَبْلُغُ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ عِنْدَنَا فَإِنْ كَانَ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ بِقَدْرِهِ حَالًّا كَانَ أَوْ مُؤَجَّلًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَالدَّيْنُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَيْفَمَا كَانَ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِلْكُ النِّصَابِ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِلتِّجَارَةِ، أَوْ لِلْإِسَامَةِ وَقَدْ وُجِدَ. أَمَّا الْمِلْكُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ مَالِكٌ لِمَالِهِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْحُرِّ الصَّحِيحِ يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ وَلِهَذَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ. وَأَمَّا الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ أَوْ الْإِسَامَةِ؛ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يُنَافِي ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعُشْرِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ خَطَبَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَلَا إنَّ شَهْرَ زَكَاتِكُمْ قَدْ حَضَرَ فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَحْسِبْ مَالَهُ بِمَا عَلَيْهِ ثُمَّ لِيُزَكِّ بَقِيَّةَ مَالِهِ، وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْقَدْرِ الْمَشْغُولِ بِالدَّيْنِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَالَ الْمَدْيُونِ خَارِجٌ عَنْ عُمُومَاتِ الزَّكَاةِ؛ وَلِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى هَذَا الْمَالِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ. وَالْمَالُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً لَا يَكُونُ مَالَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْغِنَى «، وَلَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ الْوُجُوبِ وَشَرْطَهُ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْغِنَى مَعَ ذَلِكَ شَرْطٌ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الدَّيْنِ مَعَ مَا أَنَّ مِلْكَهُ فِي النِّصَابِ نَاقِصٌ بِدَلِيلِ أَنَّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا إرْضَاءٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ ذَلِكَ فِي الْجِنْسِ وَخِلَافِ الْجِنْسِ وَذَا آيَةُ عَدَمِ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ، فَلَأَنْ يَكُونَ دَلِيلَ نُقْصَانِ الْمِلْكِ أَوْلَى. وَأَمَّا الْعُشْرُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعُشْرِ فَيُمْنَعُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلِأَنَّ الْعُشْرَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ كَالْخَرَاجِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ غِنَى الْمَالِكِ، وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ أَصْلُ الْمِلْكِ عِنْدَنَا حَتَّى يَجِبَ فِي الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةِ وَأَرْضِ الْمُكَاتَبِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ غِنَى الْمَالِكِ، وَالْغِنَى لَا يُجَامِعُ الدَّيْنَ، وَعَلَى هَذَا يُخْرَجُ مَهْرُ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عِنْدَنَا مُعَجَّلًا كَانَ أَوْ مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّهَا إذَا طَالَبَتْهُ يُؤَاخَذُ بِهِ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّ الْمُؤَجَّلَ لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ عَادَةً، فَأَمَّا الْمُعَجَّلُ فَيُطَالَبُ بِهِ عَادَةً فَيَمْنَعُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ الزَّوْجُ عَلَى عَزْمٍ مِنْ قَضَائِهِ يَمْنَعُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَزْمِ الْقَضَاءِ لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُدُّهُ دَيْنًا وَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ الْمَرْءُ بِمَا عِنْدَهُ فِي الْأَحْكَامِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي تَعَارَفَهَا أَهْلُ بُخَارَى أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ تَجِبُ عَلَى الْآجِرِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ قَبْلَ الْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ يَلْحَقُهُ دَيْنٌ بَعْدَ الْحَوْلِ بِالْفَسْخِ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجَرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَعُدُّ ذَلِكَ مَالًا مَوْضُوعًا عِنْدَ الْآجِرِ، وَقَالُوا فِي الْبَيْعِ الَّذِي اعْتَادَهُ أَهْلُ سَمَرْقَنْدَ وَهُوَ بَيْعُ الْوَفَاءِ: إنَّ الزَّكَاةَ عَلَى الْبَائِعِ فِي ثَمَنِهِ إنْ بَقِيَ حَوْلًا؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يُلْزَمَ الْمُشْتَرِي أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَعُدُّهُ مَالًا مَوْضُوعًا عِنْدَ الْبَائِعِ فَيُؤَاخَذُ بِمَا عِنْدَهُ، وَقَالُوا فِيمَنْ ضَمِنَ الدَّرَكَ فَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ: إنَّهُ إنْ كَانَ فِي الْحَوْلِ يَمْنَعُ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَارَنَ الْمُوجِبَ فَيُمْنَعُ الْوُجُوبُ فَأَمَّا إذَا اسْتَحَقَّ بَعْدَ الْحَوْلِ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ حَادِثٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُقْتَصِرٌ عَلَى حَالَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ كَانَ الضَّمَانُ سَبَبًا حَتَّى

اُعْتُبِرَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِذَا اقْتَصَرَ وُجُوبُ الدَّيْنِ لَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الزَّكَاةِ قَبْلَهُ. وَأَمَّا نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ فَمَا لَمْ يَصِرْ دَيْنًا إمَّا بِفَرْضِ الْقَاضِي أَوْ بِالتَّرَاضِي لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَتَسْقُطُ إذَا لَمْ يُوجَدْ قَضَاءُ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي، وَتَمْنَعُ إذَا فُرِضَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِالتَّرَاضِي لِصَيْرُورَتِهِ دَيْنًا، وَكَذَا نَفَقَةُ الْمَحَارِمِ تَمْنَعُ إذَا فَرَضَهَا الْقَاضِي فِي مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ نَحْوَ مَا دُونَ الشَّهْرِ فَتَصِيرُ دَيْنًا، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ طَوِيلَةً فَلَا تَصِيرُ دَيْنًا بَلْ تَسْقُطُ؛ لِأَنَّهَا صِلَةٌ مَحْضَةٌ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِي يَضْطَرُّ إلَى الْفَرْضِ فِي الْجُمْلَةِ فِي نَفَقَةِ الْمَحَارِمِ أَيْضًا، لَكِنَّ الضَّرُورَةَ تَرْتَفِعُ بِأَدْنَى الْمُدَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّ نَفَقَةَ الْمَحَارِمِ تَصِيرُ دَيْنًا أَيْضًا بِالتَّرَاضِي فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، وَقَالُوا: دَيْنُ الْخَرَاجِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِهِ وَكَذَا إذَا صَارَ الْعُشْرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِأَنْ أَتْلَفَ الطَّعَامَ الْعُشْرِيَّ صَاحِبُهُ، فَأَمَّا وُجُوبُ الْعُشْرِ فَلَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلَّقٌ بِالطَّعَامِ يَبْقَى بِبَقَائِهِ وَيَهْلِكُ بِهَلَاكِهِ. وَالطَّعَامُ لَيْسَ مَالَ التِّجَارَةِ حَتَّى يَصِيرَ مُسْتَحَقًّا بِالدَّيْنِ. وَأَمَّا الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ فِي النِّصَابِ أَوْ دَيْنِ الزَّكَاةِ بِأَنْ أُتْلِفَ مَالُ الزَّكَاةِ حَتَّى انْتَقَلَ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الذِّمَّةِ فَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ أَوْ الْبَاطِنَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: " لَا يَمْنَعُ كِلَاهُمَا "، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: " وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي النِّصَابِ يَمْنَعُ فَأَمَّا دَيْنُ الزَّكَاةِ فَلَا يَمْنَعُ " هَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ قَوْلَ زُفَرَ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُهُ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ الْبَاطِنَةَ لَا يُطَالَبُ الْإِمَامُ بِزَكَاتِهَا فَلَمْ يَكُنْ لِزَكَاتِهَا مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْعَيْنِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَدُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُطَالَبُ بِزَكَاتِهَا وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ فَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ قُرْبَةٌ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَدَيْنِ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ الْفَرْقُ بَيْنَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَبَيْنَ دَيْنِهَا هُوَ أَنَّ دَيْنَ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّصَابِ فَلَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ كَدَيْنِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ. وَأَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فَمُتَعَلِّقٌ بِالنِّصَابِ إذْ الْوَاجِبُ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ، وَاسْتِحْقَاقُ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ يُوجِبُ النِّصَابَ إذْ الْمُسْتَحَقُّ كَالْمَصْرُوفِ. وَحُكِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي يُوسُفَ: مَا حُجَّتُكَ عَلَى زُفَرَ؟ فَقَالَ: مَا حُجَّتِي عَلَى مَنْ يُوجِبُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ؟ وَالْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا سِنِينَ كَثِيرَةً يُؤَدِّي إلَى إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الْمَالِ أَكْثَرَ مِنْهُ بِأَضْعَافِهِ وَإِنَّهُ قَبِيحٌ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ أَمَّا زَكَاةُ السَّوَائِمِ فَلِأَنَّهَا يُطَالَبُ بِهَا مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا، وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُ إذَا أَنْكَرَ الْحَوْلَ أَوْ أَنْكَرَ كَوْنَهُ لِلتِّجَارَةِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ دُيُونِ الْعِبَادِ. وَأَمَّا زَكَاةُ التِّجَارَةِ فَمُطَالَبٌ بِهَا أَيْضًا تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ وَكَانَ يَأْخُذُهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ إلَى زَمَنِ عُثْمَانَ فَلَمَّا كَثُرَتْ الْأَمْوَالُ فِي زَمَانِهِ وَعَلِمَ أَنَّ فِي تَتَبُّعِهَا زِيَادَةُ ضَرَرٍ بِأَرْبَابِهَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يُفَوِّضَ الْأَدَاءَ إلَى أَرْبَابِهَا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَصَارَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ كَالْوُكَلَاءِ عَنْ الْإِمَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ وَلْيَتْرُكْ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ؟ فَهَذَا تَوْكِيلٌ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الْإِمَامِ عَنْ الْأَخْذِ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْإِمَامَ إذَا عَلِمَ مِنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ فَإِنَّهُ يُطَالِبُهُمْ بِهَا، لَكِنْ إذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تُهْمَةِ التَّرْكِ مِنْ أَرْبَابِهَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالِفَةِ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِرَجُلٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ مِثْقَالٍ ذَهَبٍ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ سَنَتَيْنِ يُزَكِّي السَّنَةَ الْأُولَى، وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ شَيْءٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَعِنْدَ زُفَرَ يُؤَدِّي زَكَاةَ سَنَتَيْنِ، وَكَذَا هَذَا فِي مَالِ التِّجَارَةِ، وَكَذَا فِي السَّوَائِمِ إذَا كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ مَضَى عَلَيْهَا سَنَتَانِ وَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا أَنَّهُ يُؤَدِّي زَكَاةَ السَّنَةِ الْأُولَى وَذَلِكَ شَاةٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ. وَلَوْ كَانَتْ عَشْرًا وَحَالَ عَلَيْهَا حَوْلَانِ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى شَاتَانِ وَلِلثَّانِيَةِ شَاةٌ. وَلَوْ كَانَتْ الْإِبِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى بِنْتُ مَخَاضٍ وَلِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَرْبَعُ شِيَاهٍ. وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُونَ مِنْ الْبَقَرِ السَّوَائِمِ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ وَلَا شَيْءَ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَة وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعِينَ يَجِبُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى مُسِنَّةٌ وَلِلثَّانِيَةِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ. وَإِنْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الْأُولَى شَاةٌ وَلَا شَيْءَ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ. وَإِنْ كَانَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ

عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الْأُولَى شَاتَانِ وَلِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ شَاةٌ. وَلَوْ لَحِقَهُ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ هَلْ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَنْقَطِعُ حَتَّى إذَا سَقَطَ بِالْقَضَاءِ أَوْ بِالْإِبْرَاءِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ إذَا تَمَّ الْحَوْلُ. وَقَالَ زُفَرُ يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ بِلُحُوقِ الدَّيْنِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى نُقْصَانِ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ لِأَنَّ بِالدَّيْنِ يَنْعَدِمُ كَوْنُ الْمَالِ فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَتَنْعَدِمُ صِفَةُ الْغِنَى فِي الْمَالِكِ فَكَانَ نَظِيرَ نُقْصَانِ النِّصَابِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، وَعِنْدَنَا نُقْصَانُ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ لَا يَقْطَعُ الْحَوْلَ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَقْطَعُ عَلَى مَا نَذْكُرُ فَهَذَا مِثْلُهُ. وَأَمَّا الدُّيُونُ الَّتِي لَا مَطَالِبَ لَهَا مِنْ جِهَةِ الْعِبَادَاتِ كَالنُّذُورِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَوُجُوبِ الْحَجِّ، وَنَحْوِهَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ أَثَرَهَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ الثَّوَابُ بِالْأَدَاءِ وَالْإِثْمُ بِالتَّرْكِ فَأَمَّا لَا أَثَرَ لَهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ وَلَا يُحْبَسُ؟ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إذَا كَانَ عَلَى الرَّجُلِ دَيْنٌ وَلَهُ مَالُ الزَّكَاةِ وَغَيْرُهُ مِنْ عَبِيدِ الْخِدْمَةِ، وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ، وَدُورِ السُّكْنَى فَإِنَّ الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ أَوْ لَا وَلَا يُصْرَفُ إلَى غَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، وَقَالَ زُفَرُ: " يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى الْجِنْسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالَ الزَّكَاةِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خَادِمٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَلَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَخَادِمٌ فَدَيْنُ الْمَهْرِ يُصْرَفُ إلَى الْمِائَتَيْنِ دُونَ الْخَادِمِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُصْرَفُ إلَى الْخَادِمِ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ الْجِنْس أَيْسَرُ فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِ أَوْلَى، وَلَنَا أَنَّ عَيْنَ مَالِ الزَّكَاةِ مُسْتَحَقٌّ كَسَائِرِ الْحَوَائِجِ، وَمَالُ الزَّكَاةِ فَاضِلٌ عَنْهَا فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِ أَيْسَرُ وَأَنْظُرُ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ؛ وَلِهَذَا لَا يُصْرَفُ إلَى ثِيَابِ بَدَنِهِ وَقُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ " أَرَأَيْتَ لَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ؟ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لِلصَّدَقَةِ " وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ مَشْغُولٌ بِحَاجَةِ الدَّيْنِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَمِلْكُ الدَّارِ وَالْخَادِمِ لَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِ أَخْذَ الصَّدَقَةِ فَكَانَ فَقِيرًا، وَلَا زَكَاةَ عَلَى الْفَقِيرِ وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَالسَّوَائِمِ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ دُونَ السَّوَائِمِ؛ لِأَنَّ زَكَاةَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُؤَدِّيهَا أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ، وَزَكَاةُ السَّوَائِمِ يَأْخُذُهَا الْإِمَامُ. وَرُبَّمَا يُقَصِّرُونَ فِي الصَّرْفِ إلَى الْفُقَرَاءِ ضَنًّا بِمَا لَهُمْ فَكَانَ صَرْفُ الدَّيْنِ إلَى الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ لِيَأْخُذَ السُّلْطَانُ زَكَاةَ السَّوَائِمِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ. وَهَذَا أَيْضًا عِنْدَنَا. وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى الْجِنْسِ وَإِنْ كَانَ مِنْ السَّوَائِمِ حَتَّى إنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا وَلَهُ أَمْوَالُ التِّجَارَةِ وَإِبِلٌ سَائِمَةٌ فَإِنَّ عِنْدَهُ يُصْرَفُ الْمَهْرُ إلَى الْإِبِلِ وَعِنْدَنَا يُصْرَفُ إلَى مَالِ التِّجَارَةِ لِمَا مَرَّ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ هَذَا إذَا حَضَرَ الْمُصَدِّقُ فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَالْخِيَارُ لِصَاحِبِ الْمَالِ إنْ شَاءَ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى السَّائِمَةِ وَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَإِنْ شَاءَ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى الدَّرَاهِمِ وَأَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ السَّائِمَةِ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْمَالِ هُمَا سَوَاءٌ لَا يُخْتَلَفُ وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي حَقِّ الْمُصْدِقِ فَإِنَّ لَهُ وِلَايَةَ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ السَّائِمَةِ دُونَ الدَّرَاهِمِ؛ فَلِهَذَا إذَا حَضَرَ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى الدَّرَاهِمِ وَأَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْ السَّائِمَةِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالُ الزَّكَاةِ سِوَى السَّوَائِمِ فَإِنَّ الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَيْهَا وَلَا يُصْرَفُ إلَى أَمْوَالِ الْبِذْلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يَنْظُرُ إنْ كَانَ لَهُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ السَّوَائِمِ فَإِنَّ الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَى أَقَلِّهَا زَكَاةً حَتَّى يَجِبَ الْأَكْثَرُ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ بِأَنْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَثَلَاثُونَ مِنْ الْبَقَرِ وَأَرْبَعُونَ شَاةً فَإِنَّ الدَّيْنَ يُصْرَفُ إلَى الْإِبِلِ أَوْ الْغَنَمِ دُونَ الْبَقَرِ حَتَّى يَجِبَ التَّبِيعُ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ قِيمَةً مِنْ الشَّاةِ، وَهَذَا إذَا صُرِفَ الدَّيْنُ إلَى الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ بِحَيْثُ لَا يَفْضُلُ شَيْءٌ مِنْهُ فَأَمَّا إذَا اسْتَغْرَقَ أَحَدُهُمَا وَفَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ صُرِفَ إلَى الْبَقَرِ لَا يَفْضُلُ مِنْهُ شَيْءٌ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إلَى الْبَقَرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَضَلَ شَيْءٌ مِنْهُ يُصْرَفُ إلَى الْغَنَمِ فَانْتَقَصَ النِّصَابُ بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَامْتَنَعَ وُجُوبُ شَاتَيْنِ. وَلَوْ صُرِفَ إلَى الْبَقَرِ وَامْتَنَعَ وُجُوبُ التَّبِيعِ تَجِبُ الشَّاتَانِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَرَفَ الدَّيْنَ إلَى الْغَنَمِ يَبْقَى نِصَابُ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ كَامِلًا وَالتَّبِيعُ أَقَلُّ قِيمَةً مِنْ شَاتَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَصْرِفَ الدَّيْنَ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ وَهُوَ الشَّاةُ. وَذَكَرَ فِي نَوَادِرِ الزَّكَاةِ أَنَّ لِلْمُصْدِقِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّكَاةَ مِنْ الْإِبِلِ دُونَ الْغَنَمِ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ الْوَاجِبَةَ فِي الْإِبِلِ لَيْسَتْ مِنْ نَفْسِ النِّصَابِ فَلَا يَنْتَقِصُ النِّصَابُ بِأَخْذِهَا. وَلَوْ صُرِفَ الدَّيْنُ إلَى الْإِبِلِ يَأْخُذُ الشَّاةَ مِنْ الْأَرْبَعِينَ فَيَنْتَقِصُ النِّصَابُ فَكَانَ هَذَا أَنْفَعَ لِلْفُقَرَاءِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ وَثَلَاثُونَ بَقَرًا

فصل الشرائط التي ترجع إلى المال

وَأَرْبَعُونَ شَاةً فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لَا يَفْضُلُ عَنْ الْغَنَمِ يُصْرَفُ إلَى الشَّاةِ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ زَكَاةً، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ بِنْتُ مَخَاضٍ وَسَطٍ أَقَلَّ قِيمَةً مِنْ الشَّاةِ، وَتَبِيعٌ وَسْطٌ يُصْرَفُ إلَى الْإِبِلِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ قِيمَةً مِنْهَا يُصْرَفُ إلَى الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ فَالْمَدَارُ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ لِلزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى عُرُوضِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ إلَى الْعَقَارِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مِمَّا يُسْتَحْدَثُ فِي الْعُرُوضِ سَاعَةً فَسَاعَةً فَأَمَّا الْعَقَارُ فَمِمَّا لَا يُسْتَحْدَثُ فِيهِ الْمِلْكُ غَالِبًا فَكَانَ فِيهِ مُرَاعَاةُ النَّظَرِ لَهُمَا جَمِيعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمَالِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمَالِ فَمِنْهَا: الْمِلْكُ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي سَوَائِمِ الْوَقْفِ وَالْخَيْلِ الْمُسَبَّلَةِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي الزَّكَاةِ تَمْلِيكًا وَالتَّمْلِيكُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يُتَصَوَّرُ. وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمَالِ الَّذِي اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْعَدُوُّ وَأَحْرَزُوهُ بِدَرَاهِمَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ عِنْدَنَا فَزَالَ مِلْكُ الْمُسْلِمِ عَنْهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِ بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ وَالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ قَائِمٌ وَإِنْ زَالَتْ يَدُهُ عَنْهُ، وَالزَّكَاةُ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ عِنْدَهُ. وَمِنْهَا الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لَهُ رَقَبَةً وَيَدًا وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: " الْيَدُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ " وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمَالِ الضِّمَارِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُمَا. وَتَفْسِيرُ مَالِ الضِّمَارِ هُوَ كُلُّ مَالٍ غَيْرُ مَقْدُورٍ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ قِيَامِ أَصْلِ الْمِلْكِ كَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالضَّالِّ، وَالْمَالِ الْمَفْقُودِ، وَالْمَالِ السَّاقِطِ فِي الْبَحْرِ، وَالْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مُصَادَرَةً، وَالدَّيْنِ الْمَجْحُودِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ بَيِّنَةٌ وَحَالَ الْحَوْلُ ثُمَّ صَارَ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَنْ أَقَرَّ عِنْدَ النَّاسِ، وَالْمَالِ الْمَدْفُونِ فِي الصَّحْرَاءِ إذَا خَفِيَ عَلَى الْمَالِكِ مَكَانُهُ فَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا فِي الْبَيْتِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بِالْإِجْمَاعِ. وَفِي الْمَدْفُونِ فِي الْكَرْمِ وَالدَّارِ الْكَبِيرَةِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ احْتِجَاجًا بِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ دُونَ الْيَدِ بِدَلِيلِ ابْنِ السَّبِيلِ فَإِنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِ وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ فَائِتَةً لِقِيَامِ مِلْكِهِ. وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الدَّيْنِ مَعَ عَدَمِ الْقَبْضِ، وَتَجِبُ فِي الْمَدْفُونِ فِي الْبَيْتِ فَثَبَتَ أَنَّ الزَّكَاةَ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ مَوْجُودٌ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ لِلْحَالِ لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ لِبُعْدِ يَدِهِ عَنْهُ وَهَذَا لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ كَمَا فِي ابْنِ السَّبِيلِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الضِّمَارِ» وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْبَعِيرِ الضَّامِرِ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لِشِدَّةِ هُزَالِهِ مَعَ كَوْنِهِ حَيًّا، وَهَذِهِ الْأَمْوَالُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهَا فِي حَقِّ الْمَالِكِ؛ لِعَدَمِ وُصُولِ يَدِهِ إلَيْهَا فَكَانَتْ ضِمَارًا؛ وَلِأَنَّ الْمَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْدُورَ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ لَا يَكُونُ الْمَالِكُ بِهِ غَنِيًّا وَلَا زَكَاةَ عَلَى غَيْرِ الْغِنَى بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا، وَمَالُ ابْنُ السَّبِيلِ مَقْدُورُ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي حَقِّهِ بِيَدِ نَائِبِهِ وَكَذَا الْمَدْفُونُ فِي الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِالنَّبْشِ بِخِلَافِ الْمَفَازَةِ؛ لِأَنَّ نَبْشَ كُلِّ الصَّحْرَاءِ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ، وَكَذَا الدَّيْنُ الْمُقَرُّ بِهِ إذَا كَانَ الْمُقِرُّ مَلِيًّا فَهُوَ مُمْكِنُ الْوُصُولِ إلَيْهِ. وَأَمَّا الدَّيْنُ الْمَجْحُودُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ فَإِذَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ فَقَدْ ضَيَّعَ الْقُدْرَةَ فَلَمْ يُعْذَرْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَجِبُ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَفْسُقُ إلَّا إذَا كَانَ الْقَاضِي عَالِمًا بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُقْضَى بِعِلْمِهِ فَكَانَ مَقْدُورَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ يُقِرُّ فِي السِّرِّ وَيَجْحَدُ فِي الْعَلَانِيَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِإِقْرَارِهِ فِي السِّرِّ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْجَاحِدِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً. وَإِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ لَكِنَّهُ مُفْلِسٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: لَا زَكَاةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَى الْمُعْسِرِ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَكَانَ ضِمَارًا وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمْ: لِأَنَّ الْمُفْلِسَ قَادِرٌ عَلَى الْكَسْبِ وَالِاسْتِقْرَاضِ مَعَ أَنَّ الْإِفْلَاسَ مُحْتَمَلُ الزَّوَالِ سَاعَةً فَسَاعَةً إذْ الْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٌ، وَإِنْ كَانَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا زَكَاةَ فِيهِ فَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ التَّفْلِيسَ عِنْدَهُ يَتَحَقَّقُ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ زِيَادَةَ عَجْزٍ؛ لِأَنَّهُ يَسُدُّ عَلَيْهِ بَابَ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُعَامِلُونَهُ بِخِلَافِ الَّذِي لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ وَأَبُو حَنِيفَةَ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِفْلَاسَ عِنْدَهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَالْقَضَاءُ بِهِ بَاطِلٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَإِنْ كَانَ يَرَى التَّفْلِيسَ لَكِنَّ الْمُفْلِسَ قَادِرٌ فِي الْجُمْلَةِ بِوَاسِطَةِ الِاكْتِسَابِ فَصَارَ الدَّيْنُ مَقْدُورَ الِانْتِفَاعِ فِي الْجُمْلَةِ فَكَانَ أَثَرُ التَّفْلِيسِ فِي تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ إلَى وَقْتِ الْيَسَارِ فَكَانَ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ وَدِيعَةً ثُمَّ نَسِيَ

الْمُودَعُ فَإِنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ مِنْ مَعَارِفِهِ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى إذَا تَذَكَّرَ؛ لِأَنَّ نِسْيَانَ الْمَعْرُوفِ نَادِرٌ فَكَانَ طَرِيقُ الْوُصُولِ قَائِمًا؛ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ وَلَا زَكَاةَ فِي دَيْنِ الْكِتَابَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْكِتَابَةِ لَيْسَ بِدَيْنٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ فَلِهَذَا لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ. وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ إذَا هُوَ مِلْكُ الْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ وَمِلْكُ الْمُكَاتَبِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي اكْتِسَابِهِ كَالْحُرِّ فَلَمْ يَكُنْ بَدَلَ الْكِتَابَةِ مِلْكُ الْمَوْلَى مُطْلَقًا بَلْ كَانَ نَاقِصًا، وَكَذَا الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِلْكُ وَلِيِّ الْقَتِيلِ فِيهَا مُتَزَلْزِلٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ الْعَاقِلَةِ سَقَطَ مَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ مِلْكًا مُطْلَقًا، وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الدَّيْنِ الَّذِي وَجَبَ لِلْإِنْسَانِ لَا بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ رَأْسًا كَالْمِيرَاثِ بِالدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ بِالدِّينِ، أَوْ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا كَالْمَهْرِ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ لِلزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الدُّيُونِ أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةِ: دَيْنٌ قَوِيٌّ، وَدَيْنٌ ضَعِيفٌ، وَدَيْنٌ وَسَطٌ كَذَا قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا أَمَّا الْقَوِيُّ فَهُوَ الَّذِي وَجَبَ بَدَلًا عَنْ مَالِ التِّجَارَةِ كَثَمَنِ عَرَضِ التِّجَارَةِ مِنْ ثِيَابِ التِّجَارَةِ، وَعَبِيدِ التِّجَارَةِ، أَوْ غَلَّةِ مَالِ التِّجَارَةِ وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ شَيْءٍ مِنْ زَكَاةِ مَا مَضَى مَا لَمْ يَقْبِضْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، فَكُلَّمَا قَبَضَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَدَّى دِرْهَمًا وَاحِدًا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كُلَّمَا قَبَضَ شَيْئًا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ قَلَّ الْمَقْبُوضُ أَوْ كَثُرَ. وَأَمَّا الدَّيْنُ الضَّعِيفُ فَهُوَ الَّذِي وَجَبَ لَهُ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ سَوَاءٌ وَجَبَ لَهُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ كَالْمِيرَاثِ، أَوْ بِصُنْعِهِ كَمَا لِوَصِيَّةٍ، أَوْ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ كَالْمَهْرِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ، وَالصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ مَا لَمْ يُقْبَضْ كُلُّهُ وَيَحُولُ عَلَيْهِ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ. وَأَمَّا الدَّيْنُ الْوَسَطُ فَمَا وَجَبَ لَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ كَثَمَنِ عَبْدِ الْخِدْمَةِ، وَثَمَنِ ثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْهُ، ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَكِنْ لَا يُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ مَا لَمْ يَقْبِضْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِذَا قَبَضَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ زَكَّى لِمَا مَضَى، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَقْبِضَ الْمِائَتَيْنِ وَيَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الدُّيُونُ كُلُّهَا سَوَاءٌ، وَكُلُّهَا قَوِيَّةٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَمَالَ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا أَصْلًا مَا لَمْ تُقْبَضْ وَيَحُولُ عَلَيْهَا الْحَوْلُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ مَا سِوَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِلْكُ صَاحِبِ الدَّيْنِ مِلْكًا مُطْلَقًا رَقَبَةً وَيَدًا؛ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْقَبْضِ بِقَبْضِ بَدَلِهِ وَهُوَ الْعَيْنُ فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ مِلْكًا مُطْلَقًا إلَّا أَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً فَإِذَا حَصَلَ فِي يَدِهِ يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ قَدْرَ الْمَقْبُوضِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمْ فِي الْعَيْنِ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ بِخِلَافِ الدِّيَةِ وَبَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمِلْكٍ مُطْلَقٍ بَلْ هُوَ مِلْكٌ نَاقِصٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ بِمَالٍ بَلْ هُوَ فِعْلٌ وَاجِبٌ وَهُوَ فِعْلُ تَمْلِيكِ الْمَالِ وَتَسْلِيمِهِ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَالزَّكَاةُ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْمَالِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَالًا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَدَلِيلُ كَوْنِ الدَّيْنِ فِعْلًا مِنْ وُجُوهٍ ذَكَرْنَاهَا فِي الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ عَنْ مَيِّتٍ مُفْلِسٍ فِي الْخِلَافِيَّاتِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي دَيْنٍ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَيَحُولُ عَلَيْهِ الْحَوْلُ إلَّا أَنَّ مَا وَجَبَ لَهُ بَدَلًا عَنْ مَالِ التِّجَارَةِ أُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الشَّيْءِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ فَصَارَ كَأَنَّ الْمُبْدَلَ قَائِمٌ فِي يَدِهِ وَأَنَّهُ مَالُ التِّجَارَةِ وَقَدْ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فِي يَدِهِ، وَالثَّانِي إنْ كَانَ الدَّيْنُ مَالًا مَمْلُوكًا أَيْضًا لَكِنَّهُ مَالٌ لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ مَالٌ حُكْمِيٌّ فِي الذِّمَّةِ وَمَا فِي الذِّمَّةِ لَا يُمْكِنُ قَبْضُهُ فَلَمْ يَكُنْ مَالًا مَمْلُوكًا رَقَبَةً، وَيَدًا فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ كَمَالِ الضِّمَارِ فَقِيَاسُ هَذَا أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي الدُّيُونِ كُلِّهَا لِنُقْصَانِ الْمِلْكِ بِفَوَاتِ الْيَدِ إلَّا أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي هُوَ بَدَلُ مَالِ التِّجَارَةِ الْتَحَقَ بِالْعَيْنِ فِي احْتِمَالِ الْقَبْضِ لِكَوْنِهِ بَدَلَ مَالِ التِّجَارَةِ قَابِلٌ لِلْقَبْضِ، وَالْبَدَلُ يُقَامُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ وَالْمُبْدَلُ عَيْنٌ قَائِمَةٌ قَابِلَةٌ لِلْقَبْضِ فَكَذَا مَا يَقُومُ مَقَامَهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِيمَا لَيْسَ بِبَدَلٍ رَأْسًا وَلَا فِيمَا هُوَ بَدَلٌ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ، وَكَذَا فِي بَدَلِ مَالٍ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مَا لَمْ يُقْبَضْ قَدْرُ النِّصَابِ وَيَحُولُ عَلَيْهِ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ مَالٍ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ فَيَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ. وَلَوْ كَانَ الْمُبْدَلُ قَائِمًا فِي يَدِهِ حَقِيقَةً لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ فَكَذَا فِي بَدَلِهِ بِخِلَافِ بَدَلِ مَالِ التِّجَارَةِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي إخْرَاجِ زَكَاةٍ قَدْرَ الْمَقْبُوضِ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ

الزَّكَاةُ عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي الْمَالِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى قَدْرِ النِّصَابِ وَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ هُنَاكَ مَا لَمْ يَكُنْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَهَهُنَا أَيْضًا لَا يُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ زَكَاةِ الْمَقْبُوضِ مَا لَمْ يَبْلُغْ الْمَقْبُوضُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَيُخْرِجُ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا يَقْبِضُهَا دِرْهَمًا وَعِنْدَهُمَا يُخْرِجُ قَدْرَ مَا قَبَضَ قَلَّ الْمَقْبُوضُ أَوْ كَثُرَ كَمَا فِي الْمَالِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى النِّصَابِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى الدَّيْنِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ سِوَى الدَّيْنِ فَمَا قَبَضَ مِنْهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَفَادِ فَيُضَمُّ إلَى مَا عِنْدَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) كَوْنُ الْمَالِ نَامِيًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الزَّكَاةِ وَهُوَ النَّمَاءُ لَا يَحْصُلُ إلَّا مِنْ الْمَالِ النَّامِي وَلَسْنَا نَعْنِي بِهِ حَقِيقَةَ النَّمَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ كَوْنَ الْمَالِ مُعَدًّا لِلِاسْتِنْمَاءِ بِالتِّجَارَةِ أَوْ بِالْإِسَامَةِ؛ لِأَنَّ الْإِسَامَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالسِّمَنِ، وَالتِّجَارَةُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الرِّبْحِ فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ، وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ كَالسَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ وَالنِّكَاحِ مَعَ الْوَطْءِ وَالنَّوْمِ مَعَ الْحَدَثِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: وَمِنْهَا كَوْنُ الْمَالِ فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَتَحَقَّقُ الْغِنَى وَمَعْنَى النَّعْمَةِ وَهُوَ التَّنَعُّمُ وَبِهِ يَحْصُلُ الْأَدَاءُ عَنْ طِيبِ النَّفْسِ إذْ الْمَالُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً لَا يَكُونُ صَاحِبُهُ غَنِيًّا عَنْهُ وَلَا يَكُونُ نَعْمَةً إذْ التَّنَعُّمُ لَا يَحْصُلُ بِالْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ حَاجَةِ الْبَقَاءِ وَقِوَامِ الْبَدَنِ فَكَانَ شُكْرُهُ شُكْرَ نِعْمَةِ الْبَدَن. وَلَا يَحْصُلُ الْأَدَاءُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ فَلَا يَقَعُ الْأَدَاءُ بِالْجِهَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ» فَلَا تَقَعُ زَكَاةٌ إذْ حَقِيقَةُ الْحَاجَةِ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَلَا يُعْرَفُ الْفَضْلُ عَنْ الْحَاجَةِ فَيُقَامُ دَلِيلُ الْفَضْلِ عَنْ الْحَاجَةِ مَقَامَهُ وَهُوَ الْإِعْدَادُ لِلْإِسَامَةِ وَالتِّجَارَةِ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي كُلِّ مَالٍ سَوَاءٌ كَانَ نَامِيًا فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ لَا كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ، وَالْعَلُوفَةِ، وَالْحَمُولَةِ، وَالْعَمُولَةِ مِنْ الْمَوَاشِي، وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَالْمَسْكَنِ، وَالْمَرَاكِبِ، وَكِسْوَةِ الْأَهْلِ وَطَعَامِهِمْ، وَمَا يُتَجَمَّلُ بِهِ مِنْ آنِيَةٍ أَوْ لُؤْلُؤٍ أَوْ فُرُشٍ وَمَتَاعٍ لَمْ يُنْوَ بِهِ التِّجَارَةُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاحْتُجَّ بِعُمُومَاتِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَالٍ وَمَالٍ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25] وقَوْله تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ وَمَعْنَى النِّعْمَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ أَتَمُّ وَأَقْرَبُ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَلَّقُ الْبَقَاءِ فَكَانَتْ أَدْعَى إلَى الشُّكْرِ، وَلَنَا أَنَّ مَعْنَى النَّمَاءِ وَالْفَضْلِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْعُمُومَاتِ الْأَمْوَالُ النَّامِيَةُ الْفَاضِلَةُ عَنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: أَنَّهَا نِعْمَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى النِّعْمَةِ فِيهَا يَرْجِعُ إلَى الْبَدَنِ؛ لِأَنَّهَا تَدْفَعُ الْحَاجَةَ الضَّرُورِيَّةَ وَهِيَ حَاجَةُ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ الْبَدَنِ، فَكَانَتْ تَابِعَةً لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ فَكَانَ شُكْرُهَا شُكْرَ نِعْمَةِ الْبَدَنِ وَهِيَ الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وقَوْله تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَارَةٌ عَنْ النَّمَاءِ وَذَلِكَ مِنْ الْمَالِ النَّامِي عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِلِاسْتِنْمَاءِ وَذَلِكَ بِالْإِعْدَادِ لِلْإِسَامَةِ فِي الْمَوَاشِي وَالتِّجَارَةِ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ، إلَّا أَنَّ الْإِعْدَادَ لِلتِّجَارَةِ فِي الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ بِأَعْيَانِهَا فِي دَفْعِ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعْدَادِ مِنْ الْعَبْدِ لِلتِّجَارَةِ بِالنِّيَّةِ، إذْ النِّيَّةُ لِلتَّعْيِينِ وَهِيَ مُتَعَيِّنَةٌ لِلتِّجَارَةِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا، نَوَى التِّجَارَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ أَصْلًا أَوْ نَوَى النَّفَقَةَ. وَأَمَّا فِيمَا سِوَى الْأَثْمَانِ مِنْ الْعُرُوضِ فَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِعْدَادُ فِيهَا لِلتِّجَارَةِ بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا كَمَا تَصْلُحُ لِلتِّجَارَةِ تَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ بِأَعْيَانِهَا بَلْ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْهَا ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ لِلتِّجَارَةِ وَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ. وَكَذَا فِي الْمَوَاشِي لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ نِيَّةِ الْإِسَامَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ تَصْلُحُ لِلْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَاللَّحْمِ، فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ ثُمَّ نِيَّةُ التِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ لَا تُعْتَبَرُ مَا لَمْ تَتَّصِلْ بِفِعْلِ التِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْ أَمَتَى مَا تَحَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ أَوْ يَفْعَلُوا» ثُمَّ نِيَّةُ التِّجَارَةِ قَدْ تَكُونُ صَرِيحًا وَقَدْ تَكُونُ دَلَالَةً أَمَّا الصَّرِيحُ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ عَقْدِ التِّجَارَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَمْلُوكُ بِهِ لِلتِّجَارَةِ بِأَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً وَنَوَى أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ الشِّرَاءِ فَتَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ مِنْ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ أَوْ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ أَوْ مَالِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ أَوْ أَجَّرَ دَارِهِ بِعَرَضٍ بِنِيَّةِ

التِّجَارَةِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ مَالَ التِّجَارَةِ لِوُجُودِ صَرِيحِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ مُقَارِنًا لِعَقْدِ التِّجَارَةِ أَمَّا الشِّرَاءُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ تِجَارَةٌ. وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَهُوَ نَفْسُ التِّجَارَةِ؛ وَلِهَذَا مَلَكَ الْمَأْذُونُ بِالتِّجَارَةِ الْإِجَارَةَ. وَالنِّيَّةُ الْمُقَارِنَةُ لِلْفِعْلِ مُعْتَبَرَةٌ. وَلَوْ اشْتَرَى عَيْنًا مِنْ الْأَعْيَانِ وَنَوَى أَنْ تَكُونَ لِلْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ دُونَ التِّجَارَةِ لَا تَكُونُ لِلتِّجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِمَالِ التِّجَارَةِ إنْ كَانَ دَلَالَةَ التِّجَارَةِ فَقَدْ وُجِدَ صَرِيحُ نِيَّةِ الِابْتِذَالِ وَلَا تُعْتَبَرُ الدَّلَالَةُ مَعَ الصَّرِيحِ بِخِلَافِهَا. وَلَوْ مَلَكَ عُرُوضًا بِغَيْرِ عَقْدٍ أَصْلًا بِأَنْ وَرِثَهَا وَنَوَى التِّجَارَةَ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ تَجَرَّدَتْ عَنْ الْعَمَلِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْرُوثَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ. وَلَوْ مَلَكهَا بِعَقْدٍ لَيْسَ مُبَادَلَةً أَصْلًا كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ أَوْ بِعَقْدٍ هُوَ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ كَالْمَهْرِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ، وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَبَدَلِ الْعِتْقِ وَنَوَى التِّجَارَةَ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ، وَذَكَرَ الْقَاضِي الشَّهِيدُ الِاخْتِلَافَ عَلَى الْقَلْبِ فَقَالَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ: يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ. وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ أَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تُقَارِنْ عَمَلًا هُوَ تِجَارَةٌ وَهِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَكَانَ الْحَاصِلُ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ فَلَا تُعْتَبَرُ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ التِّجَارَةَ عَقْدُ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَمَا لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ إلَّا بِقَبُولِهِ فَهُوَ حَاصِلٌ بِكَسْبِهِ فَكَانَتْ نِيَّتُهُ مُقَارِنَةً لِفِعْلِهِ فَأَشْبَهَ قِرَانُهَا بِالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ التِّجَارَةَ كَسْبُ الْمَالِ بِبَدَلِ مَا هُوَ مَالٌ، وَالْقَبُولُ اكْتِسَابُ الْمَالِ بِغَيْرِ بَدَلٍ أَصْلًا فَلَمْ تَكُنْ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ فَلَمْ تَكُنْ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً عَمَلَ التِّجَارَةِ. وَلَوْ اسْتَقْرَضَ عُرُوضًا وَنَوَى أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ يَنْقَلِبُ مُعَاوَضَةَ الْمَالِ بِالْمَالِ فِي الْعَاقِبَةِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا فَاسْتَقْرَضَ قَبْلَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ مِنْ رَجُلٍ خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ وَلَمْ تُسْتَهْلَكُ الْأَقْفِزَةُ حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي الْمِائَتَيْنِ وَيُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ دُونَ الْجِنْسِ الَّذِي لَيْسَ بِمَالِ الزَّكَاةِ فَقَوْلُهُ: اسْتَقْرَضَ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَوْ اسْتَقْرَضَ لِلتِّجَارَةِ يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ نَوَى؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ إعَارَةٌ وَهُوَ تَبَرُّعٌ لَا تِجَارَةٌ فَلَمْ تُوجَدْ نِيَّةُ التِّجَارَةِ مُقَارِنَةً لِلتِّجَارَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ. وَلَوْ اشْتَرَى عُرُوضًا لِلْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَة ثُمَّ نَوَى أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ مَا لَمْ يَبِعْهَا فَيَكُونُ بَدَلُهَا لِلتِّجَارَةِ، فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ لَهُ مَالُ التِّجَارَةِ فَنَوَى أَنْ يَكُونَ لِلْبِذْلَةِ حَيْثُ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تُعْتَبَرُ مَا لَمْ تَتَّصِلْ بِالْفِعْلِ وَهُوَ لَيْسَ بِفَاعِلٍ فَعَلَ التِّجَارَةَ فَقَدْ عَزَبَتْ النِّيَّةُ عَنْ فِعْلِ التِّجَارَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ لِلْحَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا نَوَى الِابْتِذَالَ؛ لِأَنَّهُ نَوَى تَرْكَ التِّجَارَةِ وَهُوَ تَارِكٌ لَهَا فِي الْحَالِ فَاقْتَرَنَتْ النِّيَّةُ بِعَمَلٍ هُوَ تَرْكُ التِّجَارَةِ فَاعْتُبِرَتْ. وَنَظِيرُ الْفَصْلَيْنِ السَّفَرُ مَعَ الْإِقَامَةِ وَهُوَ أَنَّ الْمُقِيمَ إذَا نَوَى السَّفَرَ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ عُمْرَانِ الْمِصْرِ، وَالْمُسَافِرُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَكَان صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ يَصِيرُ مُقِيمًا لِلْحَالِ. وَنَظِيرُهُمَا مِنْ غَيْرِ هَذَا الْجِنْسِ الْكَافِرُ إذَا نَوَى أَنْ يُسْلِمَ بَعْدَ شَهْرٍ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا لِلْحَالِ، وَالْمُسْلِمُ إذَا قَصَدَ أَنْ يَكْفُرَ بَعْدَ سِنِينَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ لِلْحَالِ. وَلَوْ أَنَّهُ اشْتَرَى بِهَذِهِ الْعُرُوضِ الَّتِي اشْتَرَاهَا لِلِابْتِذَالِ بَعْدَ ذَلِكَ عُرُوضًا أُخَرَ تَصِيرُ بَدَلَهَا لِلتِّجَارَةِ بِتِلْكَ النِّيَّةِ السَّابِقَةِ. وَكَذَلِكَ فِي الْفُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ نَوَى لِلتِّجَارَةِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْقَرْضِ وَمُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ إذَا اشْتَرَى بِتِلْكَ الْعُرُوضِ عُرُوضًا أُخَرَ صَارَتْ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ قَدْ وُجِدَتْ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهَا لَمْ تَعْمَلُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُصَادِفْ عَمَلَ التِّجَارَةِ فَإِذَا وُجِدَتْ التِّجَارَةُ بَعْدَ ذَلِكَ عَمِلَتْ النِّيَّةُ السَّابِقَةُ عَمَلهَا فَيَصِيرُ الْمَالُ لِلتِّجَارَةِ لِوُجُودِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ مَعَ التِّجَارَةِ. وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِيَ عَيْنًا مِنْ الْأَعْيَانِ بِعَرَضِ التِّجَارَةِ، أَوْ يُؤَاجِرَ دَارِهِ الَّتِي لِلتِّجَارَةِ بِعَرَضٍ مِنْ الْعُرُوضِ فَيَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ التِّجَارَةَ صَرِيحًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى بِمَالِ التِّجَارَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ. وَأَمَّا الشِّرَاءُ بِغَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ فَلَا يُشْكِلُ. وَأَمَّا إجَارَةُ الدَّارِ فَلِأَنَّ بَدَلَ مَنَافِعَ عَيْنٍ مُعَدَّةٍ لِلتِّجَارَةِ كَبَدَلِ عَيْنٍ مُعَدَّةٍ لِلتِّجَارَةِ فِي أَنَّهُ لِلتِّجَارَةِ كَذَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ الْأَصْلِ. وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ إلَّا بِالنِّيَّةِ صَرِيحًا فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَكَانَتْ عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ لِلتِّجَارَةِ فَأَجَّرَ الْمُؤَجِّرُ دَارِهِ بِهَا وَهُوَ يُرِيدُ التِّجَارَةَ شَرْطُ النِّيَّةِ عِنْدَ الْإِجَارَةِ لِتَصِيرَ الْجَارِيَةُ لِلتِّجَارَةِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ الدَّارَ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لِيَصِيرَ بَدَلَ مَنَافِعِ الدَّارِ

الْمُسْتَأْجَرَةِ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ مُعَدَّةً لِلتِّجَارَةِ فَكَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ وَمَشَايِخُ بَلْخٍ كَانُوا يُصَحِّحُونَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ وَيَقُولُونَ: إنَّ الْعَيْنَ وَإِنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ لَكِنْ قَدْ يُقْصَدُ بِبَدَلِ مَنَافِعِهَا الْمَنْفَعَةُ فَيُؤَاجِرُ الدَّابَّةَ لِيُنْفِقَ عَلَيْهَا وَالدَّارَ لِلْعِمَارَةِ فَلَا تَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ مَعَ التَّرَدُّدِ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى عُرُوضًا بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ بِمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ لِلتِّجَارَةِ مَا لَمْ يَنْوِ التِّجَارَةَ عِنْدَ الشِّرَاءِ وَإِنْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ أَثْمَانًا وَالْمَوْصُوفُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ أَثْمَانٌ عِنْدَ النَّاسِ؛ وَلِأَنَّهَا كَمَا جُعِلَتْ ثَمَنًا لِمَالِ التِّجَارَةِ جُعِلَتْ ثَمَنًا لِشِرَاءِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلِابْتِذَالِ وَالْقُوتِ فَلَا يَتَعَيَّنُ الشِّرَاءُ بِهِ لِلتِّجَارَةِ مَعَ الِاحْتِمَالِ وَعَلَى هَذَا لَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ عَبِيدًا ثُمَّ اشْتَرَى لَهُمْ كِسْوَةً وَطَعَامًا لِلنَّفَقَةِ كَانَ الْكُلُّ لِلتِّجَارَةِ. وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ عَبِيدِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَمُطْلَقُ تَصَرُّفِهِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يُمْلَكُ دُونَ مَا لَا يُمْلَكُ حَتَّى لَا يَصِيرَ خَائِنًا وَعَاصِيًا عَمَلًا بِدِينِهِ وَعَقْلِهِ، وَإِنْ نَصَّ عَلَى النَّفَقَةِ، وَبِمِثْلِهِ الْمَالِكُ إذَا اشْتَرَى عَبِيدًا لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ اشْتَرَى لَهُمْ ثِيَابًا لِلْكِسْوَةِ وَطَعَامًا لِلنَّفَقَةِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ كَمَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِلتِّجَارَةِ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِلنَّفَقَةِ وَالْبِذْلَةِ وَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ وَغَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ فَلَا يَتَعَيَّنُ لِلتِّجَارَةِ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ. وَأَمَّا الْأُجَرَاءُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ لِلنَّاسِ نَحْوَ الصَّبَّاغِينَ وَالْقَصَّارِينَ وَالدَّبَّاغِينَ إذَا اشْتَرَوْا الصَّبْغَ وَالصَّابُونَ وَالدُّهْنَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي عَمَلِهِمْ وَنَوَوْا عِنْدَ الشِّرَاءِ أَنَّ ذَلِكَ لِلِاسْتِعْمَالِ فِي عَمَلِهِمْ هَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ مَالَ التِّجَارَةِ؟ رَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الصَّبَّاغَ إذَا اشْتَرَى الْعُصْفُرَ وَالزَّعْفَرَانَ لِيَصْبُغَ ثِيَابَ النَّاسِ فَعَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إنْ كَانَ شَيْئًا يَبْقَى أَثَرُهُ فِي الْمَعْمُولِ فِيهِ كَالصَّبْغِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالشَّحْمِ الَّذِي يُدْبَغُ بِهِ الْجِلْدُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ يَكُونُ مُقَابَلَةَ ذَلِكَ الْأَثَرِ وَذَلِكَ الْأَثَرُ مَالٌ قَائِمٌ فَإِنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّبْغِ وَالشَّحْمِ لَكِنَّهُ لَطِيفٌ فَيَكُونُ هَذَا تِجَارَةً، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَا يَبْقَى أَثَرُهُ فِي الْمَعْمُولِ فِيهِ مِثْلُ الصَّابُونِ وَالْأُشْنَانِ وَالْقِلْيِ وَالْكِبْرِيتِ فَلَا يَكُونُ مَالَ التِّجَارَة؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا تَتْلَفُ وَلَمْ يَنْتَقِلْ أَثَرُهَا إلَى الثَّوْبِ الْمَغْسُولِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الْعِوَضِ بَلْ الْبَيَاضُ أَصْلِيٌّ لِلثَّوْبِ يَظْهَرُ عِنْدَ زَوَالِ الدَّرَنِ فَمَا يَأْخُذُ مِنْ الْعِوَضِ يَكُونُ بَدَلَ عَمَلِهِ لَا بَدَلَ هَذِهِ الْآلَاتِ فَلَمْ يَكُنْ مَالَ التِّجَارَةِ. وَأَمَّا آلَاتُ الصُّنَّاعِ وَظُرُوفُ أَمْتِعَةِ التِّجَارَةِ لَا تَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُبَاعُ مَعَ الْأَمْتِعَةِ عَادَةً وَقَالُوا فِي نَخَّاسِ الدَّوَابِّ إذَا اشْتَرَى الْمَقَاوِدَ وَالْجِلَالَ وَالْبَرَاذِعَ أَنَّهُ إنْ كَانَ يُبَاعُ مَعَ الدَّوَابِّ عَادَةً يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لَهَا وَإِنْ كَانَ لَا يُبَاعُ مَعَهَا وَلَكِنْ تُمْسَكُ وَتُحْفَظُ بِهَا الدَّوَابُّ فَهِيَ مِنْ آلَاتِ الصُّنَّاعِ فَلَا يَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ، إذَا لَمْ يَنْوِ التِّجَارَةَ عِنْدَ شِرَائِهَا وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِي عَبْدِ التِّجَارَةِ قَتَلَهُ عَبْدٌ خَطَأً فَدُفِعَ بِهِ أَنَّ الثَّانِيَ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضُ مَالِ التِّجَارَةِ. وَكَذَا إذَا فَدَى بِالدِّيَةِ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ. وَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ عَمْدًا فَصَالَحَ الْمَوْلَى مِنْ الدِّيَةِ عَلَى الْعَبْدِ الْقَاتِلِ أَوْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْعُرُوضِ لَا يَكُونُ مَالَ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضُ الْقِصَاصِ لَا عِوَضُ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ، وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا الْحَوْلُ فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضٍ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الشَّرْطِ يَقَعُ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ مَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْحَوْلُ مِنْ الْأَمْوَالِ وَمَا لَا يُشْتَرَطُ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يَقْطَعُ حُكْمَ الْحَوْلِ وَمَا لَا يَقْطَعُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَصْلَ النِّصَابِ وَهُوَ النِّصَابُ الْمَوْجُودُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ يُشْتَرَطُ لَهُ الْحَوْلُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» ؛ وَلِأَنَّ كَوْنَ الْمَالِ نَامِيًا شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالنَّمَاءُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالِاسْتِنْمَاءِ وَلَا بُدَّ لِذَلِكَ مِنْ مُدَّةٍ، وَأَقَلُّ مُدَّةٍ يُسْتَنْمَى الْمَالُ فِيهَا بِالتِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ عَادَةً الْحَوْلُ فَأَمَّا الْمُسْتَفَادُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ فَهَلْ يُشْتَرَطُ لَهُ حَوْلٌ عَلَى حِدَةٍ أَوْ يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ فَيُزَكَّى بِحَوْلِ الْأَصْلِ؟ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْمُسْتَفَادِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مُسْتَفَادًا فِي الْحَوْلِ وَإِمَّا أَنْ كَانَ مُسْتَفَادًا بَعْدَ الْحَوْلِ، وَالْمُسْتَفَادُ فِي الْحَوْلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ. فَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ كَالْإِبِلِ مَعَ الْبَقَرِ وَالْبَقَرِ مَعَ الْغَنَمِ فَإِنَّهُ لَا يُضَمُّ إلَى نِصَابِ الْأَصْلِ بَلْ يُسْتَأْنَفُ لَهُ الْحَوْلُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ فَأَمَّا إنْ كَانَ مُتَفَرِّعًا مِنْ الْأَصْلِ أَوْ حَاصِلًا بِسَبَبِهِ كَالْوَلَدِ وَالرِّبْحِ، وَأَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَفَرِّعًا مِنْ الْأَصْلِ وَلَا حَاصِلًا بِسَبَبِهِ كَالْمُشْتَرَى وَالْمَوْرُوثِ وَالْمَوْهُوبِ وَالْمُوصَى بِهِ فَإِنْ كَانَ مُتَفَرِّعًا مِنْ الْأَصْلِ أَوْ حَاصِلًا بِسَبَبِهِ يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ وَيُزَكَّى بِحَوْلِ الْأَصْلِ بِالْإِجْمَاعِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَفَرِّعًا مِنْ الْأَصْلِ

وَلَا حَاصِلًا بِسَبَبِهِ فَإِنَّهُ يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُضَمُّ. احْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» وَالْمُسْتَفَادُ مَالٌ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ وَالْمُسْتَفَادُ أَصْلٌ فِي الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي سَبَبِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ بِسَبَبٍ عَلَى حِدَةٍ فَيَكُونُ أَصْلًا فِي شَرْطِ الْحَوْلِ كَالْمُسْتَفَادِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ وَالرِّبْحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فِي الْمِلْكِ؛ لِكَوْنِهِ تَبَعًا لَهُ فِي سَبَبِ الْمِلْكِ فَيَكُونُ تَبَعًا فِي الْحَوْلِ. وَلَنَا أَنَّ عُمُومَاتِ الزَّكَاةِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْحَوْلِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ تَبَعٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ، إذْ الْأَصْلُ يَزْدَادُ بِهِ وَيَتَكَثَّرُ وَالزِّيَادَةُ تَبَعٌ لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَالتَّبَعُ لَا يُفْرَدُ بِالشَّرْطِ كَمَا لَا يُفْرَدُ بِالسَّبَبِ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ التَّبَعُ أَصْلًا فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا بِحَوْلِ الْأَصْلِ كَالْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ بِخِلَافِ الْمُسْتَفَادِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَابِعٍ بَلْ هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَصْلَ لَا يَزْدَادُ بِهِ وَلَا يَتَكَثَّرُ؟ وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي سَبَبِ الْمِلْكِ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ كَوْنَهُ أَصْلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ تَبَعًا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ يَزْدَادُ بِهِ وَيَتَكَثَّرُ، فَكَانَ أَصْلًا مِنْ وَجْهٍ وَتَبَعًا مِنْ وَجْهٍ، فَتَتَرَجَّحُ جِهَةُ التَّبَعِيَّةِ فِي حَقِّ الْحَوْلِ احْتِيَاطًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَعَامٌّ خُصَّ مِنْهُ بَعْضُهُ وَهُوَ الْوَلَدُ وَالرِّبْحُ فَيَخُصُّ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ إنَّمَا يَضُمُّ الْمُسْتَفَادَ عِنْدَنَا إلَى أَصْلِ الْمَالِ إذَا كَانَ الْأَصْلُ نِصَابًا فَأَمَّا إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ فَإِنَّهُ لَا يُضَمُّ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَتَكَامَلُ بِهِ النِّصَابُ وَيَنْعَقِدُ الْحَوْلُ عَلَيْهِمَا حَالَ وُجُودِ الْمُسْتَفَادِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ لَمْ يَنْعَقِدْ الْحَوْلُ عَلَى الْأَصْلِ فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ عَلَى الْمُسْتَفَادِ مِنْ طَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ؟ وَأَمَّا الْمُسْتَفَادُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا يُضَمُّ إلَى الْأَصْلِ فِي حَقِّ الْحَوْلِ الْمَاضِي بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا يُضَمُّ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْحَوْلِ الَّذِي اُسْتُفِيدَ فِيهِ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ عَلَيْهِ يُجْعَلُ مُتَجَدِّدًا حُكْمًا كَأَنَّهُ انْعَدَمَ الْأَوَّلُ وَحَدَثَ آخَرُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْوُجُوبِ وَهُوَ النَّمَاءُ يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْحَوْلِ فَيَصِيرُ النِّصَابُ كَالْمُتَجَدِّدِ، وَالْمَوْجُودُ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ يَصِيرُ كَالْعَدَمِ، وَالْمُسْتَفَادُ إنَّمَا يُجْعَلُ تَبَعًا لِلْأَصْلِ الْمَوْجُودِ لَا لِلْمَعْدُومِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُسْتَفَادُ ثَمَنُ الْإِبِلِ الْمُزَكَّاةِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فَإِنَّهُ لَا يُضَمُّ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ النِّصَابِ مِنْ جِنْسِهِ وَلَا يُزَكَّى بِحَوْلِ الْأَصْلِ بَلْ يُشْتَرَطُ لَهُ حَوْلٌ عَلَى حِدَةٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُضَمُّ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ لِرَجُلٍ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ وَمِائَتَا دِرْهَمٍ فَتَمَّ حَوْلُ السَّائِمَةِ فَزَكَّاهَا، ثُمَّ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ وَلَمْ يَتِمَّ حَوْلُ الدَّرَاهِمِ فَإِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ لِلثَّمَنِ حَوْلًا عِنْدَهُ وَلَا يُضَمُّ إلَى الدَّرَاهِمِ، وَعِنْدَهُمَا يُضَمُّ وَلَوْ زَكَّاهَا ثُمَّ جَعَلَهَا عَلُوفَةً ثُمَّ بَاعَهَا ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ عَلَى الدَّرَاهِمِ فَإِنَّ ثَمَنَهَا يُضَمُّ إلَى الدَّرَاهِمِ فَيُزَكَّى الْكُلُّ بِحَوْلِ الدَّرَاهِمِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ لِلْخِدْمَةِ فَأَدَّى صَدَقَةَ فِطْرِهِ، أَوْ كَانَ لَهُ طَعَامٌ فَأَدَّى عُشْرَهُ، أَوْ كَانَ لَهُ أَرْضٌ فَأَدَّى خَرَاجَهَا ثُمَّ بَاعَهَا يُضَمُّ ثَمَنُهَا إلَى أَصْلِ النِّصَابِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَهُوَ ظَاهِرُ نُصُوصِ الزَّكَاةِ مُطْلَقَةٌ عَنْ شَرْطِ الْحَوْلِ وَاعْتِبَارِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ ثَمَنُ الْإِبِلِ الْمَعْلُوفَةِ، وَعَبْدُ الْخِدْمَةِ، وَالطَّعَامُ الْمَعْشُورُ، وَالْأَرْضُ الَّتِي أَدَّى خَرَاجَهَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومُ قَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَالٍ وَمَالٍ، إلَّا أَنَّ الْمُسْتَفَادَ الَّذِي لَيْسَ بِثَمَنِ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ صَارَ مَخْصُوصًا بِدَلِيلٍ فَبَقِيَ الثَّمَنُ عَلَى أَصْلِ الْعُمُومِ وَصَارَ مَخْصُوصًا عَنْ عُمُومَاتِ الزَّكَاةِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا ثِنَى فِي الصَّدَقَةِ» أَيْ: لَا تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مَرَّتَيْنِ إلَّا أَنَّ الْأَخْذَ حَالَ اخْتِلَافِ الْمَالِكِ، وَالْحَوْلُ وَالْمَالُ صُورَةٌ وَمَعْنًى صَارَ مَخْصُوصًا، وَهَهُنَا لَمْ يُوجَدْ اخْتِلَافُ الْمَالِكِ وَالْحَوْلِ وَلَا شَكَّ فِيهِ. وَكَذَا الْمَالُ لَمْ يَخْتَلِفْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ وَبَدَلُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ فَكَانَتْ السَّائِمَةُ قَائِمَةً مَعْنًى وَمَا ذُكِرَا مِنْ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَيَكُونُ بَاطِلًا عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ التَّبَعِيَّةِ إنْ كَانَ يُوجِبُ الضَّمَّ فَاعْتِبَارُ الْبِنَاءِ يُحَرِّمُ الضَّمَّ، وَالْقَوْلُ بِالْحُرْمَةِ أَوْلَى احْتِيَاطًا. وَأَمَّا إذَا زَكَّاهَا ثُمَّ جَعَلَهَا عَلُوفَةً ثُمَّ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُضَمُّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُضَمُّ بِالْإِجْمَاعِ، وَوَجْهُ التَّحْرِيمِ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهَا عَلُوفَةً فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَالَ الزَّكَاةِ لِفَوَاتِ وَصْفِ النَّمَاءِ فَصَارَ كَأَنَّهَا هَلَكَتْ وَحَدَثَ عَيْنٌ أُخْرَى فَلَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ بَدَلَ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْبِنَاءِ. وَكَذَا فِي الْمَسَائِلِ الْأُخَرِ الثَّمَنُ لَيْسَ بَدَلَ مَالِ الزَّكَاةِ وَهُوَ الْمَالُ النَّامِي الْفَاضِلُ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَلَا يَكُون الضَّمُّ بِنَاءً وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ نِصَابَانِ أَحَدَهُمَا ثَمَنُ الْإِبِلِ الْمُزَكَّاةِ وَالْآخَرَ

غَيْرُ ثَمَنِ الْإِبِلِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَأَحَدُهُمَا أَقْرَبُ حَوْلًا مِنْ الْآخَرِ فَاسْتَفَادَ دَرَاهِمَ بِالْإِرْثِ أَوْ الْهِبَةِ أَوْ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّ الْمُسْتَفَادَ يُضَمُّ إلَى أَقْرَبِهَا حَوْلًا أَيُّهُمَا كَانَ، وَلَوْ لَمْ يُوهَبْ لَهُ وَلَا وَرِثَ شَيْئًا وَلَا أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ وَلَكِنَّهُ تَصَرَّفَ فِي النِّصَابِ الْأَوَّلِ بَعْدَ مَا أَدَّى زَكَاتَهُ وَرَبِحَ فِيهِ رِبْحًا وَلَمْ يَحُلْ حَوْلُ ثَمَنِ الْإِبِلِ الْمُزَكَّاةِ، فَإِنَّ الرِّبْحَ يُضَمُّ إلَى النِّصَابِ الَّذِي رَبِحَ فِيهِ لَا إلَى ثَمَنِ الْإِبِلِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَبْعَدَ حَوْلًا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ اسْتَوَيَا فِي جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ فَيُرَجَّحُ أَقْرَبُ النِّصَابَيْنِ حَوْلًا يُضَمُّ الْمُسْتَفَادُ إلَيْهِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ. وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي مَا اسْتَوَيَا فِي جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ بَلْ أَحَدُهُمَا أَقْوَى فِي الِاسْتِتْبَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ تَبَعٌ لِأَحَدِهِمَا حَقِيقَةً؛ لِكَوْنِهِ مُتَفَرِّعًا مِنْهُ فَتُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ التَّبَعِيَّةِ فَلَا يُقْطَعُ حُكْمُ التَّبَعِ عَنْ الْأَصْلِ. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ مَا يَقْطَعُ حُكْمَ الْحَوْلِ وَمَا لَا يَقْطَعُ فَهَلَاكُ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ يَقْطَعُ حُكْمَ الْحَوْلِ حَتَّى لَوْ اسْتَفَادَ فِي ذَلِكَ الْحَوْلِ نِصَابًا يُسْتَأْنَفُ لَهُ الْحَوْلُ. لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» ، وَالْهَالِكُ مَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ. وَكَذَا الْمُسْتَفَادُ بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ بَعْضُ النِّصَابِ ثُمَّ اسْتَفَادَ مَا يُكْمِلُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ النِّصَابِ مَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَلَمْ يَنْقَطِعْ حُكْمُ الْحَوْلِ. وَلَوْ اُسْتُبْدِلَ مَالُ التِّجَارَةِ بِمَالِ التِّجَارَةِ وَهِيَ الْعُرُوض قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ لَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ سَوَاءٌ اُسْتُبْدِلَ بِجِنْسِهَا أَوْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ يَتَعَلَّقُ بِمَعْنَى الْمَالِ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ وَالْقِيمَةُ فَكَانَ الْحَوْلُ مُنْعَقِدًا عَلَى الْمَعْنَى وَأَنَّهُ قَائِمٌ لَمْ يَفُتْ بِالِاسْتِبْدَالِ. وَكَذَلِكَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ إذَا بَاعَهَا بِجِنْسِهَا أَوْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا بِأَنْ بَاعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرَ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ: لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الصَّيَارِفَةِ لِوُجُودِ الِاسْتِبْدَالِ مِنْهُمْ سَاعَةً فَسَاعَةً. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمَا عَيْنَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً فَلَا تَقُومُ إحْدَاهُمَا مَقَامَ الْأُخْرَى فَيَنْقَطِعُ الْحَوْلُ الْمُنْعَقِدُ عَلَى إحْدَاهُمَا كَمَا إذَا بَاعَ السَّائِمَةَ بِالسَّائِمَةِ بِجِنْسِهَا أَوْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا. وَلِّنَا أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْنَى أَيْضًا لَا بِالْعَيْنِ، وَالْمَعْنَى قَائِمٌ بَعْدَ الِاسْتِبْدَالِ فَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ كَمَا فِي الْعُرُوضِ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَبْدَلَ السَّائِمَةَ بِالسَّائِمَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَيْنِ وَقَدْ تَبَدَّلَتْ الْعَيْنُ فَبَطَلَ الْحَوْلُ الْمُنْعَقِدُ عَلَى الْأَوَّلِ فَيُسْتَأْنَفُ لِلثَّانِي حَوْلًا. وَلَوْ اسْتَبْدَلَ السَّائِمَةَ بِالسَّائِمَةِ فَإِنْ اسْتَبْدَلَهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا بِأَنْ بَاعَ الْإِبِلَ بِالْبَقَرِ أَوْ الْبَقَرَ بِالْغَنَمِ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ اسْتَبْدَلَهَا بِجِنْسِهَا بِأَنْ بَاعَ الْإِبِلَ بِالْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ بِالْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمَ بِالْغَنَمِ، فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَنْقَطِعُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ فَكَانَ الْمَعْنَى مُتَّحِدًا فَلَا يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ كَمَا إذَا بَاعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّرَاهِمِ وَلَنَا أَنَّ الْوُجُوبَ فِي السَّوَائِمِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ لَا بِالْمَعْنَى أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ عِجَافٍ هُزَالٍ لَا تُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ؟ فَدَلَّ أَنَّ الْوُجُوبَ فِيهَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ وَالْعَيْنُ قَدْ اخْتَلَفَتْ فَيَخْتَلِفُ لَهُ الْحَوْلُ. وَكَذَا لَوْ بَاعَ السَّائِمَةَ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ بِعُرُوضٍ يَنْوِي بِهَا التِّجَارَةَ أَنَّهُ يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ فِي الْمَالَيْنِ قَدْ اخْتَلَفَ إذْ الْمُتَعَلِّقُ فِي أَحَدِهِمَا الْعَيْنُ، وَفِي الْآخَرِ الْمَعْنَى. وَلَوْ احْتَالَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ هَلْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ: يُكْرَهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُكْرَهُ. وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْحِيلَةِ لِمَنْعِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي الْحِيلَةِ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا مَكْرُوهَةٌ كَالْحِيلَةِ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا. وَمِنْهَا النِّصَابُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي النِّصَابِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنَّهُ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ النِّصَابِ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِي النِّصَابِ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَمَالُ النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ وَالْغِنَى لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْمَالِ الْفَاضِلِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَمَا دُونَ النِّصَابِ لَا يَفْضُلُ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا يَصِيرُ الشَّخْصُ غَنِيًّا بِهِ؛ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ شُكْرَ النِّعْمَةِ الْمَالِ. وَمَا دُونَ النِّصَابِ لَا يَكُونُ نِعْمَةً مُوجِبَةً لِلشُّكْرِ لِلْمَالِ بَلْ يَكُونُ شُكْرُهُ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ لِكَوْنِهِ مِنْ تَوَابِعِ نِعْمَةِ الْبَدَنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُعْتَبَرُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَفِي آخِرِهِ لَا فِي خِلَالِهِ حَتَّى لَوْ انْتَقَصَ النِّصَابُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ثُمَّ كَمُلَ فِي آخِرِهِ تَجِبُ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ السَّوَائِمِ أَوْ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَوْ مَالِ التِّجَارَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: كَمَالُ النِّصَابِ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَى آخِرِهِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ. وَهُوَ قَوْلُ

فصل الأثمان المطلقة وهي الذهب والفضة

الشَّافِعِيِّ إلَّا فِي مَالِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ فِي آخِر الْحَوْلِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَوَسَطِهِ، حَتَّى أَنَّهُ إذَا كَانَ قِيمَةُ مَالِ التِّجَارَةِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ مِائَتَيْنِ تَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ حَوَلَانَ الْحَوْلِ عَلَى النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ وَلَا نِصَابَ فِي وَسَطِ الْحَوْلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ حَوَلَانُ الْحَوْلِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ النِّصَابُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ. وَكَذَا لَوْ كَانَ النِّصَابُ سَائِمَةً فَجَعَلَهَا عَلُوفَةً فِي وَسَطِ الْحَوْلِ بَطَلَ الْحَوْلُ، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: تَرَكْتُ هَذَا الْقِيَاسَ فِي مَالِ التِّجَارَةِ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ أَنَّ نِصَابَ التِّجَارَةِ يَكْمُلُ بِالْقِيمَةِ وَالْقِيمَةُ تَزْدَادُ وَتَنْتَقِصُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ لِتَغَيُّرِ السِّعْرِ لِكَثْرَةِ رَغْبَةِ النَّاسِ وَقِلَّتِهَا وَعِزَّةِ السِّلْعَةِ وَكَثْرَتِهَا، فَيَشُقُّ عَلَيْهِ تَقْوِيمُ مَالِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَاعْتُبِرَ الْكَمَالُ عِنْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَهُوَ آخِرُ الْحَوْلِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ. وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَا تُوجَدُ فِي السَّائِمَةِ؛ لِأَنَّ نِصَابَهَا لَا يَكْمُلُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ. وَلَنَا أَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَيُعْتَبَر وُجُودُهُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ لَا غَيْرَ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْحَوْلِ وَقْتُ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَآخِرَهُ وَقْتُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فَأَمَّا وَسَطُ الْحَوْلِ فَلَيْسَ بِوَقْتِ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَلَا وَقْتِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ كَمَالِ النِّصَابِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ النِّصَابِ الَّذِي انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ لِيَضُمَّ الْمُسْتَفَادَ إلَيْهِ، فَإِذَا هَلَكَ كُلُّهُ لَمْ يُتَصَوَّرُ الضَّمُّ فَيُسْتَأْنَفُ لَهُ الْحَوْلُ بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلَ السَّائِمَةَ عَلُوفَةً فِي خِلَالِ الْحَوْلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهَا عَلُوفَةً فَقَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَالَ الزَّكَاةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ هَلَكَتْ. وَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَشَقَّةِ يَصْلُحُ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ كَمَالِ النِّصَابِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ لَا فِي أَوَّلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ تَقْوِيمُ مَالِهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ لِيَعْرِفَ بِهِ انْعِقَادَ الْحَوْلِ كَمَا، لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْحَوْلِ لِيَعْرِفَ بِهِ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي مَالِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ وَهِيَ الذَّهَب وَالْفِضَّة] أَمَّا مِقْدَارُ النِّصَابِ وَصِفَتُهُ، وَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِي النِّصَابِ وَصِفَتُهُ فَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهَا إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَمْوَالُ الزَّكَاةِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا: الْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَالثَّانِي: أَمْوَالُ التِّجَارَةِ وَهِيَ الْعُرُوض الْمُعَدَّةُ لِلتِّجَارَةِ، وَالثَّالِثُ: السَّوَائِمُ فَنُبَيِّنُ مِقْدَارَ النِّصَابِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَصِفَتَهُ وَمِقْدَارَ الْوَاجِبِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ وَصِفَتَهُ، وَمَنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ وَالْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ. (فَصْلٌ) : أَمَّا الْأَثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ أَمَّا قَدْرُ النِّصَابِ فِيهِمَا فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِضَّةٌ مُفْرَدَةٌ أَوْ ذَهَبٌ مُفْرَدٌ أَوْ اجْتَمَعَ لَهُ الصِّنْفَانِ جَمِيعًا، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِضَّةٌ مُفْرَدَةٌ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَزْنًا وَزْنَ سَبْعَةٍ فَإِذَا بَلَغَتْ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كَتَبَ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ذَكَرَ فِيهِ الْفِضَّةَ لَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ مِائَتَيْنِ مِنْ الْوَرِقِ شَيْءٌ، وَفِي مِائَتَيْنِ خَمْسَةٌ» وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْوَزْنَ فِي الدَّرَاهِمِ دُونَ الْعَدَدِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ اسْمٌ لِلْمَوْزُونِ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ قَدْرٍ مِنْ الْمَوْزُونِ مُشْتَمِلٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَوْزُونَةٍ مِنْ الدَّوَانِيقِ وَالْحَبَّاتِ حَتَّى لَوْ كَانَ وَزْنُهَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ، وَعَدَدُهَا مِائَتَانِ، أَوْ قِيمَتُهَا لِجَوْدَتِهَا وَصِيَاغَتِهَا تُسَاوِي مِائَتَيْنِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا وَزْنَ سَبْعَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَشَرَةُ مِنْهَا وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ، وَالْمِائَتَانِ مِمَّا يُوزَنُ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِثْقَالًا؛ لِأَنَّهُ الْوَزْنُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ لِلدَّرَاهِمِ الْمَضْرُوبَةِ فِي الْإِسْلَامِ. وَذَلِكَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ بَعْضُهَا ثَقِيلًا مِثْقَالًا وَبَعْضُهَا خَفِيفًا طَيْرِيًّا فَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى ضَرْبِ الدَّرَاهِمِ فِي الْإِسْلَامِ جَمَعُوا الدِّرْهَمَ الثَّقِيلَ وَالدِّرْهَمَ الْخَفِيفَ فَجَعَلُوهُمَا دِرْهَمَيْنِ فَكَانَا دِرْهَمَيْنِ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ فَاجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الْعَمَلِ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ نَقَصَ النِّصَابُ عَنْ الْمِائَتَيْنِ نُقْصَانًا يَسِيرًا يَدْخُلُ بَيْنَ الْوَزْنَيْنِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي كَمَالِ النِّصَابِ فَلَا نَحْكُمُ بِكَمَالِهِ مَعَ الشَّكِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَوْ كَانَتْ الْفِضَّةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ فَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْدَارَ النِّصَابِ تَجِبُ الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا. وَيُعْتَبَرُ فِي حَالِ الشَّرِكَةِ مَا يُعْتَبَرُ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ وَهَذَا عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي السَّوَائِمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ صِفَةُ نِصَابِ الزَّكَاةِ فِي الْفِضَّةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ هَذَا النِّصَابِ فَنَقُولُ: لَا يُعْتَبَرُ فِي هَذَا النِّصَابِ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى كَوْنِهِ فِضَّةً فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا سَوَاءٌ

كَانَتْ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً، أَوْ نُقْرَةً، أَوْ تِبْرًا، أَوْ حُلِيًّا مَصُوغًا، أَوْ حِلْيَةَ سَيْفٍ، أَوْ مِنْطَقَةٍ أَوْ لِجَامٍ أَوْ سَرْجٍ أَوْ الْكَوَاكِبِ فِي الْمَصَاحِفِ وَالْأَوَانِي، وَغَيْرِهَا إذَا كَانَتْ تَخْلُصُ عِنْدَ الْإِذَابَةِ إذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ يُمْسِكُهَا لِلتِّجَارَةِ، أَوْ لِلنَّفَقَةِ، أَوْ لِلتَّجَمُّلِ، أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا. وَهَذَا عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا إلَّا فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ إذَا كَانَ مُعَدًّا لِلُبْسٍ مُبَاحٍ أَوْ لِلْعَارِيَّةِ لِلثَّوَابِ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ لَا شَيْءَ فِيهِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَاحْتُجَّ بِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ» ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: زَكَاةُ الْحُلِيِّ إعَارَتُهُ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُبْتَذَلٌ فِي وَجْهٍ مُبَاحٍ فَلَا يَكُونُ نِصَابُ الزَّكَاةِ كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ بِخِلَافِ حُلِيِّ الرِّجَالِ فَإِنَّهُ مُبْتَذَلٌ فِي وَجْهٍ مَحْظُورٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الِابْتِذَالَ إذَا كَانَ مُبَاحًا كَانَ مُعْتَبَرًا شَرْعًا وَإِذَا كَانَ مَحْظُورًا كَانَ سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا، فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ. نَظِيرُهُ ذَهَابُ الْعَقْلِ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ مَعَ ذَهَابِهِ بِسَبَبِ السُّكْرِ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ الْأَوَّلُ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الثَّانِي كَذَا هَذَا. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] أَلْحَقَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِكَنْزِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَتَرْكٍ إنْفَاقِهِمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْحُلِيِّ وَغَيْرِهِ. وَكُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا فَكَانَ تَارِكُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْهُ كَانِزًا فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْوَعِيدِ وَلَا يَلْحَقُ الْوَعِيدُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَالٍ وَمَالٍ؛ وَلِأَنَّ الْحُلِيَّ مَالٌ فَاضِلٌ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ إذْ الْإِعْدَادُ لِلتَّجَمُّلِ وَالتَّزَيُّنِ دَلِيلُ الْفَضْلِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَكَانَ نِعْمَةً لِحُصُولِ التَّنَعُّمِ بِهِ فَيَلْزَمُهُ شُكْرُهَا بِإِخْرَاجِ جُزْءٍ مِنْهَا لِلْفُقَرَاءِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ صَيَارِفَةِ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ لِأَحَدٍ شَيْءٌ فِي بَابِ الْحُلِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مُعَارَضٌ بِالْمَرْوِيِّ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ زَكَّى حُلِيَّ بَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُ الْبَعْضِ حُجَّةً عَلَى الْبَعْضِ، مَعَ مَا أَنَّ تَسْمِيَةَ إعَارَةِ الْحُلِيِّ زَكَاةً لَا تَنْفِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ الْمَعْهُودَةِ إذَا قَامَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ فِضَّةً خَالِصَةً، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مَغْشُوشَةً فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْفِضَّةُ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغِشَّ فِيهَا مَغْمُورٌ مُسْتَهْلَكٌ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ وَالزُّيُوفِ وَالنَّبَهْرَجَةِ وَالْمُكْحُلَةِ وَالْمُزَيَّفَةِ. قَالَ: لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا كُلِّهَا الْفِضَّةُ وَمَا تَغْلِبُ فِضَّتُهُ عَلَى غِشِّهِ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الدَّرَاهِمِ مُطْلَقًا. وَالشَّرْعُ أَوْجَبَ بِاسْمِ الدَّرَاهِمِ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْغِشُّ وَالْفِضَّةُ فِيهَا مَغْلُوبَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً أَوْ كَانَ يُمْسِكُهَا لِلتِّجَارَةِ يَعْتَبِرُ قِيمَتَهَا فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ أَدْنَى الدَّرَاهِمِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَهِيَ الَّتِي الْغَالِبُ عَلَيْهَا الْفِضَّةُ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا رَائِجَةً وَلَا مُعَدَّةً لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ يَبْلُغُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِأَنْ كَانَتْ كَبِيرَةً؛ لِأَنَّ الصُّفْرَ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إلَّا بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ، وَالْفِضَّةُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ فَإِذَا أَعَدَّهَا لِلتِّجَارَةِ اعْتَبَرَ الْقِيمَةَ كَمَعْرُوضِ التِّجَارَةِ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ وَلَا ثَمَنًا رَائِجَةً اعْتَبَرْنَا مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ. وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ فُلُوسٌ أَوْ دَرَاهِمُ رَصَاصٌ أَوْ نُحَاسٌ أَوْ مُمَوَّهَةٌ بِحَيْثُ لَا يَخْلُصُ فِيهَا الْفِضَّةُ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ يَعْتَبِرُ قِيمَتَهَا، فَإِنْ بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ الَّتِي تَغْلِبُ فِيهَا الْفِضَّةُ فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصُّفْرَ وَنَحْوَهُ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ. وَعَلَى هَذَا كَانَ جَوَابُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي الدَّرَاهِمِ الْمُسَمَّاةِ بِالْغَطَارِفَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ فِي دِيَارِنَا أَنَّهَا إنْ كَانَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا بِأَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الدَّرَاهِمِ وَهِيَ الَّتِي تَغْلِبُ عَلَيْهَا الْفِضَّةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا رَائِجَةً فَإِنْ كَانَتْ سِلَعًا لِلتِّجَارَةِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ بِقَدْرِ مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ إنْ بَلَغَتْ نِصَابًا، أَوْ بِالضَّمِّ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ. وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يُفْتَى بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ مِائَتَيْنِ فِيهَا رُبُعُ عُشْرِهَا وَهُوَ خَمْسَةٌ مِنْهَا عَدَدًا. وَكَانَ يَقُولُ: " هُوَ مِنْ أَعَزِّ النُّقُودِ فِينَا بِمَنْزِلَةِ الْفِضَّةِ فِيهِمْ وَنَحْنُ أَعْرَفُ بِنُقُودِنَا " وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ الْحَلْوَانِيِّ وَالسَّرَخْسِيِّ، وَقَوْلُ السَّلَفِ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفِقْهِ. وَلَوْ زَادَ عَلَى نِصَابِ الْفِضَّةِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ فَيَجِبُ فِيهَا دِرْهَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: وَعَلَى هَذَا أَبَدًا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ

فصل مقدار الواجب في زكاة الفضة

تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الزِّيَادَةِ بِحِسَابِ ذَلِكَ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ دِرْهَمًا يَجِبُ فِيهِ جُزْءٌ مِنْ الْأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ. وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِثْلُ قَوْلِهِمْ وَلَا خِلَافَ فِي السَّوَائِمِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الزَّوَائِدِ مِنْهَا عَلَى النِّصَابِ حَتَّى تَبْلُغَ نِصَابًا احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَلِأَنَّ شَرْطَ النِّصَابِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عُرِفَ وُجُوبُهَا شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ. وَمَعْنَى النِّعْمَةِ يُوجَدُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا اشْتِرَاطَهُ بِالنَّصِّ، وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي أَصْلِ النِّصَابِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي السَّوَائِمِ لَا تُعْتَبَرُ مَا لَمْ تَبْلُغْ نِصَابًا دَفْعًا لِضَرَرِ الشَّرِكَةِ إذْ الشَّرِكَةُ فِي الْأَعْيَانِ عَيْبٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ هَهُنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ: «لَا تَأْخُذْ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا فَإِذَا كَانَ الْوَرِقُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَخُذْ مِنْهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَلَا تَأْخُذْ مِمَّا زَادَ شَيْئًا حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَتَأْخُذَ مِنْهَا دِرْهَمًا» وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ كُلِّ نِصَابٍ عَفْوٌ نَظَرًا لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ كَمَا فِي السَّوَائِمِ، وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْكُسُورِ حَرْجًا وَأَنَّهُ مَدْفُوعٌ. وَحَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَرْفَعْهُ أَحَدٌ مِنْ الثِّقَاتِ بَلْ شَكُّوا فِي قَوْلِهِ: " وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ " أَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَوْلُ عَلِيٍّ فَإِنْ كَانَ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكُونُ حُجَّةً، وَإِنْ كَانَ قَوْلَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَكُونُ حُجَّةً؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ. وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِمَا رَوَيْنَا، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ شُكْرِ النَّعْمَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى النَّعْمَةِ هُوَ التَّنَعُّمُ، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِمَا دُونَ النِّصَابِ ثُمَّ يَبْطُلُ بِالسَّوَائِمِ مَعَ أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِي زَكَاةِ الْفِضَّةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِيهَا فَرُبُعُ الْعُشْرِ وَهُوَ خَمْسَةٌ مِنْ مِائَتَيْنِ؛ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَيْنَا إذْ الْمَقَادِيرُ لَا تُعْرَفُ إلَّا تَوْقِيفًا وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَاتُوا رُبُعَ عُشُورِ أَمْوَالِكُمْ» وَخَمْسَةٌ مِنْ مِائَتَيْنِ رُبْعُ عُشْرِهَا وَأَمَّا صَدَقَةُ الْوَاجِبِ فَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ كَانَ لَهُ ذَهَبٌ مُفْرَدٌ] (فَصْلٌ) : هَذَا إذَا كَانَ لَهُ فِضَّةٌ مُفْرَدَةٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ ذَهَبٌ مُفْرَدٌ فَلَا شَيْءَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَإِذَا بَلَغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَفِيهِ نِصْفُ مِثْقَالٍ؛ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «وَالذَّهَبُ مَا لَمْ يَبْلُغْ قِيمَتُهُ مِائَتِي دِرْهَمٍ فَلَا صَدَقَةَ فِيهِ فَإِذَا بَلَغَ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهِ رُبُعُ الْعُشْرِ» وَكَانَ الدِّينَارُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقَوَّمًا بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ: «لَيْسَ عَلَيْك فِي الذَّهَبِ زَكَاةٌ مَا لَمْ يَبْلُغْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَإِذَا بَلَغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَفِيهِ نِصْفُ مِثْقَالٍ» وَسَوَاءٌ كَانَ الذَّهَبُ لِوَاحِدٍ أَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى أَحَدِهِمَا مَا لَمْ يَبْلُغْ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي نِصَابِ السَّوَائِمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ صِفَةُ نِصَابِ الذَّهَبِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ نِصَابِ الذَّهَبِ فَنَقُولُ: لَا يُعْتَبَرُ فِي نِصَابِ الذَّهَبِ أَيْضًا صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى كَوْنِهِ ذَهَبًا فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمَضْرُوبِ وَالتِّبْرِ وَالْمَصُوغِ وَالْحُلِيِّ إلَّا عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ فِي الْحُلِيِّ الَّذِي يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] وَقَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فِي مُطْلَقِ الذَّهَبِ. وَكَذَا حُكْمُ الدَّنَانِيرِ الَّتِي الْغَالِبُ عَلَيْهَا الذَّهَبُ كَالْمَحْمُودِيَّةِ وَالصُّورِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا. وَحُكْمُ الذَّهَبِ الْخَالِصِ سَوَاءٌ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْهَرَوِيَّةُ وَالْمَرْوِيَّةُ وَمَا لَمْ يَكُنْ الْغَالِبُ عَلَيْهَا الذَّهَبُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا إنْ كَانَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً أَوْ لِلتِّجَارَةِ، وَإِلَّا فَيُعْتَبَرُ قَدْرُ مَا فِيهَا مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَزْنًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَخْلُصُ بِالْإِذَابَةِ وَلَوْ زَادَ عَلَى نِصَابِ الذَّهَبِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعَةَ مَثَاقِيلَ فَيَجِبُ فِيهَا قِيرَاطَانِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ يَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ وَإِنْ قَلَّتْ بِحِسَابِ ذَلِكَ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِي زَكَاةِ الذَّهَبِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِيهِ فَرُبُعُ الْعُشْرِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -

لِأَنَّ نِصْفَ مِثْقَالٍ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا رُبُعُ عُشْرِهِ. وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا إذَا كَانَ لَهُ فِضَّةٌ مُفْرَدَةٌ أَوْ ذَهَبٌ مُفْرَدٌ. فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ الصِّنْفَانِ جَمِيعًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا بِأَنْ كَانَ لَهُ عَشْرَةُ مَثَاقِيلَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي حَقِّ تَكْمِيلِ النِّصَابِ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ بَلْ يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ كَالسَّوَائِمِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: أَنَّهُمَا عَيْنَانِ مُخْتَلِفَانِ لِاخْتِلَافِهِمَا صُورَةً وَمَعْنًى. أَمَّا الصُّورَةُ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا وَصَارَ كَالْإِبِلِ مَعَ الْغَنَمِ بِخِلَافِ مَالِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَكْمُلُ النِّصَابُ مِنْ قِيمَتَهَا وَالْقِيمَةُ وَاحِدَةٌ وَهِيَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَكَانَ مَالُ الزَّكَاةِ جِنْسًا وَاحِدًا وَهُوَ الذَّهَبُ أَوْ الْفِضَّةُ فَأَمَّا الزَّكَاةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنَّمَا تَجِبُ لِعَيْنِهَا دُونَ الْقِيمَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يُكْمَلُ بِهِ الْقِيمَةُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ، وَإِنَّمَا يُكْمَلُ بِالْوَزْنِ كَثُرَتْ الْقِيَامَةُ أَوْ قَلَّتْ بِأَنْ كَانَتْ رَدِيئَةً. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ أَنَّهُ قَالَ: مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِضَمِّ الذَّهَبِ إلَى الْفِضَّةِ وَالْفِضَّةِ إلَى الذَّهَبِ فِي إخْرَاجِ الزَّكَاةِ. وَلِأَنَّهُمَا مَالَانِ مُتَّحِدَانِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِمَا وَهُوَ الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَالثَّمَنِيَّةِ فَكَانَا فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ. وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْوَاجِبُ فِيهِمَا وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَإِنَّمَا يَتَّفِقُ الْوَاجِبُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَالِ. وَأَمَّا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فَيَخْتَلِفُ الْوَاجِبُ وَإِذَا اتَّحَدَ الْمَالَانِ مَعْنًى فَلَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ الصُّورَةِ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَلِهَذَا يُكْمَلُ نِصَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَلَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ الصُّورَةِ، كَمَا إذَا كَانَ لَهُ أَقَلُّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا وَأَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَهُ عُرُوضٌ لِلتِّجَارَةِ وَنَقْدُ الْبَلَدِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ سَوَاءٌ فَإِنْ شَاءَ كَمَّلَ بِهِ نِصَابَ الذَّهَبِ وَإِنْ شَاءَ كَمَّلَ بِهِ نِصَابَ الْفِضَّةِ وَصَارَ كَالسُّودِ مَعَ الْبِيضِ بِخِلَافِ السَّوَائِمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ مُتَعَلِّقٌ بِالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ صُورَةً وَمَعْنًى فَتَعَذَّرَ تَكْمِيلُ نِصَابِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، ثُمَّ إذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ عِنْدَ ضَمِّ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيمَا يُؤَدَّى رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُؤَدَّى مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ، وَمِنْ عَشْرَةِ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ رُبْعُ مِثْقَالٍ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ هَذَا أَقْرَبُ إلَى الْمُعَادَلَةِ وَالنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَقُومُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ثُمَّ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ نُصُوصِ الزَّكَاةِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمِّ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ وَهُوَ رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا ذَكَرَهُ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ. وَإِنَّمَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا لِجَوْدَتِهِ وَصِيَاغَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ بِأَنْ كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُقَوِّمُ الدَّنَانِيرَ بِخِلَافِ جِنْسِهَا دَرَاهِمَ وَتُضَمُّ إلَى الدَّرَاهِمِ فَيُكَمَّلُ نِصَابُ الدَّرَاهِمِ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ. وَعِنْدَهُمَا تُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَلَا يَكْمُلُ النِّصَابُ؛ لِأَنَّ لَهُ نِصْفَ نِصَابِ الْفِضَّةِ وَرُبْعَ نِصَابِ الذَّهَبِ فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ النِّصَابِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ. وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَعَشْرَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ قِيمَتُهَا مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا تُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَتَبْلُغُ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَتَجِبُ فِيهَا سِتَّةُ دَرَاهِمَ، وَعِنْدَهُمَا تُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَيَكُونُ نِصْفَ نِصَابِ الذَّهَبِ وَنِصْفَ نِصَابِ الْفِضَّةِ فَيَكُونُ نِصَابًا تَامًّا فَيَجِبُ فِي نِصْفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُ عُشْرِهِ أَمَّا إذَا كَانَ وَزْنُهُمَا وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءً بِأَنْ كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَعَشْرَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ تُسَاوِي مِائَةً أَوْ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ أَوْ خَمْسَةُ عَشْرَ مِثْقَالًا وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا فَهَهُنَا لَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ بَلْ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ التَّقْوِيمِ. وَعِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ قِيمَتُهَا خَمْسُونَ دِرْهَمًا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ النِّصَابَ لَمْ يَكْمُلْ بِالضَّمِّ لَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فِي حَقِّ تَكْمِيلِ النِّصَابِ، حَتَّى أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ إبْرِيقُ فِضَّةٍ وَزْنُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ لِصِنَاعَةٍ مِائَتَانِ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ آنِيَةُ ذَهَبٍ وَزْنُهَا عَشْرَةٌ وَقِيمَتُهَا لِصِنَاعَتِهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ

فصل أموال التجارة

بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقِيمَةَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَاقِطَةُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ تَقُومُ بِهِمَا وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِيهِمَا الْوَزْنُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ إبْرِيقَ فِضَّةٍ وَزْنُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَقِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ؟ . وَكَذَلِكَ إذَا مَلَكَ آنِيَةَ ذَهَبٍ وَزْنُهَا عَشْرَةُ مَثَاقِيلَ وَقِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ. وَلَوْ كَانَتْ الْقِيمَةُ فِيهَا مُعْتَبَرَةٌ لَوَجَبَتْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا عَيْنَانِ وَجَبَ ضَمُّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فَكَانَ الضَّمُّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَلَا اتِّحَادَ إلَّا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ فَإِنَّ الْأَمْوَالَ أَجْنَاسٌ بِأَعْيَانِهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فِيهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِبْرِيقِ وَالْآنِيَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا وَجَبَ ضَمُّهُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ حَتَّى تُعْتَبَرَ فِيهِ الْقِيمَةُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا تَظْهَرُ شَرْعًا عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَإِنَّ الْجَوْدَةَ وَالصَّنْعَةَ لَا قِيمَةَ لَهَا إذَا قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» فَأَمَّا عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَتَظْهَرُ لِلْجُودَةِ قِيمَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَتَى وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَقْوِيمِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ تَقُومُ بِخِلَافِ جِنْسِهَا؟ فَإِنْ اغْتَصَبَ قَلْبًا فَهَشَّمَهُ وَاخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَهُ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ فَكَذَلِكَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّ فِي التَّكْمِيلِ بِاعْتِبَارِ التَّقْوِيمِ ضَرْبَ احْتِيَاطٍ فِي بَابِ الْعِبَادَةِ وَنَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ فَكَانَ أَوْلَى، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْتَبَرُ فِي التَّقْوِيمِ مَنْفَعَةُ الْفُقَرَاءِ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ حَتَّى رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ لِرَجُلٍ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَدِينَارٌ يُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ إنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَوِّمَ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كُلَّ خَمْسَةٍ مِنْهَا بِدِينَارٍ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا كُلُّهُ مِنْ وُجُوبِ الضَّمِّ إذَا لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا بِأَنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ فَأَمَّا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا تَامًّا وَلَمْ يَكُنْ زَائِدًا عَلَيْهِ لَا يَجِبُ الضَّمُّ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَكَاتَهُ. وَلَوْ ضُمَّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ حَتَّى يُؤَدَّى كُلُّهُ مِنْ الْفِضَّةِ أَوْ مِنْ الذَّهَبِ فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَنَا وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّقْوِيمُ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ رَوَاجًا وَإِلَّا فَيُؤَدَّى مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعُ عُشْرِهِ. وَإِنْ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النِّصَابَيْنِ زِيَادَةٌ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ ضَمُّ إحْدَى الزِّيَادَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُمَا يُوجِبَانِ الزَّكَاةَ فِي الْكُسُورِ بِحِسَابِ ذَلِكَ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيُنْظَرُ إنْ بَلَغَتْ الزِّيَادَةُ أَرْبَعَ مَثَاقِيلَ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَكَذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ وَأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا يَجِبُ ضَمُّ إحْدَى الزِّيَادَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى لِيَتِمَّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَوْ أَرْبَعَةَ مَثَاقِيلَ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي الْكُسُورِ عِنْدَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ أَمْوَالُ التِّجَارَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا أَمْوَالُ التِّجَارَةِ فَتَقْدِيرُ النِّصَابِ فِيهَا بِقِيمَتِهَا مِنْ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ فَلَا شَيْءَ فِيهَا مَا لَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ فَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ: وَلَا زَكَاةَ فِيهَا أَصْلًا، وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا نَضَّتْ زَكَّاهَا لِحَوْلٍ وَاحِدٍ. وَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ إنَّمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِوُجُوبِهَا فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالسَّوَائِمِ فَلَوْ وَجَبَتْ فِي غَيْرِهَا لَوَجَبَتْ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا وَالْقِيَاسُ لَيْسَ بِحَجَّةٍ خُصُوصًا فِي بَابِ الْمَقَادِيرِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ سُمْرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْ الرَّقِيقِ الَّذِي كُنَّا نَعُدُّهُ لِلْبَيْعِ» . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «فِي الْبُرِّ صَدَقَةٌ» ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَاتُوا رُبُعَ عُشْرِ أَمْوَالِكُمْ» فَإِنْ قِيلَ: الْحَدِيثُ وَرَدَ فِي نِصَابِ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ: " مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ ". فَالْجَوَابُ أَنَّ أَوَّلَ الْحَدِيثِ عَامٌّ وَخُصُوصُ آخِرِهِ يُوجِبُ سَلْبَ عُمُومِ أَوَّلِهِ أَوْ نَحْمِلُ قَوْلَهُ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ عَلَى الْقِيمَةِ أَيْ: مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا مِنْ قِيمَتِهَا دِرْهَمٌ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَالٍ وَمَالٍ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّ مَالَ التِّجَارَةِ مَالٌ نَامٍ فَاضِلٌ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَيَكُونُ مَالَ الزَّكَاةِ كَالسَّوَائِمِ. وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ؛ لِأَنَّا قَدْ رَوَيْنَا النَّصَّ فِي الْبَابِ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ عُرِفَ بِالْعَقْلِ وَهُوَ شُكْرٌ لِنِعْمَةِ الْمَالِ وَشُكْرُ نِعْمَةِ الْقُدْرَةِ بِإِعَانَةِ الْعَاجِزِ إلَّا أَنَّ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ عُرِفَ بِالسَّمْعِ. وَمَا ذَكَرَ مَالِكٌ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَشَرْطُهُ فِي كُلِّ حَوْلٍ فَلَا مَعْنًى لِتَخْصِيصِ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ بِالْوُجُوبِ فِيهِ كَالسَّوَائِمِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَالُ التِّجَارَةِ عُرُوضًا أَوْ عَقَارًا أَوْ شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ

فصل صفة نصاب التجارة

أَوْ يُوزَنُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ تَعَلَّقَ بِالْمَعْنَى وَهُوَ الْمَالِيَّةُ وَالْقِيمَةُ، وَهَذِهِ الْأَمْوَالُ كُلُّهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَكَذَا يُضَمُّ بَعْضُ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ إلَى الْبَعْضِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ لِمَا قُلْنَا. وَإِذَا كَانَ تَقْدِيرُ النِّصَابِ مِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ بِقِيمَتِهَا مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَهُوَ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهَا مِقْدَارَ نِصَابٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْوِيمِ حَتَّى يُعْرَفَ مِقْدَارُ النِّصَابِ ثُمَّ بِمَاذَا تُقَوَّمُ؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يُقَوَّمُ بِأَوْفَى الْقِيمَتَيْنِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ حَتَّى إنَّهَا إذَا بَلَغَتْ بِالتَّقْوِيمِ بِالدَّرَاهِمِ نِصَابًا وَلَمْ تَبْلُغْ بِالدَّنَانِيرِ قُوِّمَتْ بِمَا تَبْلُغُ بِهِ النِّصَابَ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْأَمَالِي أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِأَنْفَعِ النَّقْدَيْنِ لِلْفُقَرَاءِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِمَا اشْتَرَاهَا بِهِ فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِالدَّرَاهِمِ قَوَّمَهَا بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِالدَّنَانِيرِ قَوَّمَهَا بِالدَّنَانِيرِ وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِهِمَا مِنْ الْعُرُوضِ أَوْ لَمْ يَكُنْ اشْتَرَاهَا بِأَنْ كَانَ وُهِبَ لَهُ فَقَبِلَهُ يَنْوِي بِهِ التِّجَارَةَ قَوَّمَهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقَوِّمُهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا يَوْمَ حَالَ الْحَوْلُ إنْ شَاءَ بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ شَاءَ بِالدَّنَانِيرِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّقْوِيمَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى يُعْتَبَرُ بِالتَّقْوِيمِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ ثُمَّ إذَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَقْوِيمِ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ يُقَوَّمُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ فِي الْبَلْدَةِ كَذَا هَذَا. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُشْتَرَى بَدَلٌ وَحُكْمُ الْبَدَلِ يُعْتَبَرُ بِأَصْلِهِ فَإِذَا كَانَ مُشْتَرًى بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَتَقْوِيمُهُ بِمَا هُوَ أَصْلُهُ أَوْلَى. وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّتِهَا دُونَ أَعْيَانِهَا، وَالتَّقْوِيمُ لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ وَالنَّقْدَانِ فِي ذَلِكَ سِيَّانِ فَكَانَ الْخِيَارُ إلَى صَاحِبِ الْمَالِ يُقَوِّمُهُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي السَّوَائِمِ عِنْدَ الْكَثْرَةِ وَهِيَ مَا إذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ الْخِيَارَ إلَى صَاحِبِ الْمَالِ إنْ شَاءَ أَدَّى أَرْبَعَ حِقَاقٍ وَإِنْ شَاءَ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ؟ فَكَذَا هَذَا. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَإِنْ كَانَا فِي الثَّمَنِيَّةِ وَالتَّقْوِيمِ بِهِمَا سَوَاءٌ، لَكِنَّا رَجَّحْنَا أَحَدَهُمَا بِمُرَجِّحٍ وَهُوَ النَّظَرُ لِلْفُقَرَاءِ، وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ أَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِالتَّقْوِيمِ بِأَحَدِهِمَا يَتِمُّ النِّصَابُ وَبِالْآخَرِ لَا فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ بِمَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ وَاحْتِيَاطًا؟ كَذَا هَذَا. وَمَشَايِخُنَا حَمَلُوا رِوَايَةَ كِتَابِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا إذَا كَانَ لَا يَتَفَاوَتُ النَّفْعُ فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ بِالتَّقْوِيمِ بِأَيِّهِمَا كَانَ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ. وَكَيْفَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَوَّمَ بِأَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ الْغَالِبُ فِيهَا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ مَعَ عُرُوضِ التِّجَارَةِ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ فَإِنَّهُ يَضُمُّهَا إلَى الْعُرُوضِ وَيُقَوِّمُهُ جُمْلَةً؛ لِأَنَّ مَعْنَى التِّجَارَةِ يَشْمَلُ الْكُلَّ لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ إنْ شَاءَ قَوَّمَ الْعُرُوضَ وَضَمَّهَا إلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَضَمَّ قِيمَتَهُمَا إلَى قِيمَةِ أَعْيَانِ التِّجَارَةِ. وَعِنْدَهُمَا يُضَمُّ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَتُقَوَّمُ الْعُرُوض فَيَضُمُّ قِيمَتَهَا إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنْ بَلَغَتْ الْجُمْلَةُ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا. وَلَا يُقَوَّمُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ عِنْدَهُمَا أَصْلًا فِي بَابِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا مَرَّ. [فَصْلٌ صِفَةُ نِصَابِ التِّجَارَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ هَذَا النِّصَابِ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِلتِّجَارَةِ وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَهَا لِلتِّجَارَةِ وَذَلِكَ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ مُقَارَنَةً لِعَمَلِ التِّجَارَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِمَا إلَى نِيَّةِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلتِّجَارَةِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إعْدَادِ الْعَبْدِ وَيُوجَدُ الْإِعْدَادُ مِنْهُ دَلَالَةً عَلَى مَا مَرَّ. [فَصْلٌ مِقْدَارُ الْوَاجِبِ مِنْ نِصَابِ التِّجَارَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ مِنْ هَذَا النِّصَابِ فَمَا هُوَ مِقْدَارُ الْوَاجِبِ مِنْ نِصَابِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ نِصَابَ مَالِ التِّجَارَةِ مُقَدَّرٌ بِقِيمَتِهِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَاتُوا رُبُعَ عُشُورِ أَمْوَالِكُمْ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. [فَصْلٌ صِفَةُ الْوَاجِبِ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ فَالْوَاجِبُ فِيهَا رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ وَهُوَ النِّصَابُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْوَاجِبُ فِيهَا أَحَدُ شَيْئَيْنِ. أَمَّا الْعَيْنُ أَوْ الْقِيمَةُ فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ عِنْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ إنْ شَاءَ أَخْرَجَ رُبُعَ عُشْرِ الْعَيْنِ وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ رُبُعَ عُشْرِ الْقِيمَةِ، وَبَنَوْا عَلَى بَعْضِ مَسَائِلِ الْجَامِعِ فِيمَنْ كَانَتْ لَهُ مِائَتَا قَفِيزٍ حِنْطَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا حَتَّى تَغَيَّرَ سِعْرُهَا إلَى النُّقْصَانِ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ إلَى الزِّيَادَةِ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ، إنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: وَإِنْ أَدَّى مِنْ عَيْنِهَا يُؤَدِّي خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ الْوَاجِبُ مِنْ الْأَصْلِ

فَإِنْ أَدَّى الْقِيمَةَ يُؤَدِّي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا هِيَ الْوَاجِبَةُ يَوْمَ الْحَوْلِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ أَدَّى مِنْ عَيْنِهَا يُؤَدِّي خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ جَمِيعًا، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَإِنْ أَدَّى مِنْ الْقِيمَةِ يُؤَدِّي فِي النُّقْصَانِ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا وَفِي الزِّيَادَةِ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ عِنْدَهُمَا هُوَ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا لَهُ وِلَايَةُ النَّقْلِ إلَى الْقِيمَةِ يَوْمَ الْأَدَاءِ فَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْأَدَاءِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إذَا هَلَكَ النِّصَابُ بَعْدَ الْحَوْلِ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ السَّوَائِمِ أَوْ مِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ. وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ أَحَدَهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَتَعَيَّنَتْ الْقِيمَةُ عِنْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ. وَكَذَا لَوْ وَهَبَ النِّصَابَ مِنْ الْفَقِيرِ وَلَمْ تَحْضُرُهُ النِّيَّةُ أَصْلًا سَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْوَاجِبُ فِي النِّصَابِ عَيْنًا لَمَا سَقَطَتْ كَمَا إذَا وَهَبَ مِنْهُ غَيْرَ النِّصَابِ. وَكَذَا إذَا بَاعَ نِصَابَ الزَّكَاةِ مِنْ السَّوَائِمِ وَالسَّاعِي حَاضِرٌ إنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْبَائِعِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْوَاجِبَ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ لَمَا مَلَكَ الْأَخْذَ مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي، فَدَلَّ أَنَّ مَذْهَبَ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا هَذَا وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ إلَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَاجِبُ عِنْدَ الْحَوْلِ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَيْنٌ، وَعِنْدَهُمَا الْوَاجِبُ رُبُعُ عُشْرِ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا لَكِنْ لِمَنْ عَلَيْهِ حَقُّ النَّقْلِ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ وَقْتَ الْأَدَاءِ وَمَسَائِلُ الْجَامِعِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْوَاجِبُ مِنْ قَدْرِ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ فِي الذِّمَّةِ لَا فِي النِّصَابِ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي مَا إذَا هَلَكَ مَالُ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ أَنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا تَسْقُطُ وَإِذَا هَلَكَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ لَا تَجِبُ عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ لَا تَجِبُ أَصْلًا، وَفِي قَوْلٍ تَجِبُ ثُمَّ تَسْقُطُ لَا إلَى ضَمَانٍ وَلَا خِلَافٍ فِي أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ لَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذَا حَقٌّ وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ وَتَقَرَّرَ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ فَلَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ كَمَا فِي دُيُونِ الْعِبَادِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَكَمَا فِي الْحَجِّ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُوسِرًا وَقْتَ خُرُوجِ الْقَافِلَةِ مِنْ بَلَدِهِ ثُمَّ هَلَكَ مَالُهُ لَا يَسْقُطُ الْحَجُّ عَنْهُ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَضَافَ الْإِيجَابَ إلَى مَالٍ لَا بِعَيْنِهِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَفِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ» أَوْجَبَ خَمْسَةً وَشَاةً لَا بِعَيْنِهَا. وَالْوَاجِبُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَيْنًا كَانَ فِي الذِّمَّةِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَنَحْوِهَا، وَلِأَنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ أَنَّ قَدْرَ الزَّكَاةِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لَكِنَّهُ مُطَالَبٌ شَرْعًا بِالْأَدَاءِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَمَنْ مَنَعَ الْحَقَّ عَنْ الْمُسْتَحَقِّ بَعْدَ طَلَبِهِ يُضْمَنُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمَانَاتِ وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا طَلَبَهُ الْفَقِيرُ أَوْ طَالَبَهُ السَّاعِي بِالْأَدَاءِ فَلَمْ يُؤَدِّ حَتَّى هَلَكَ النِّصَابُ. وَلَنَا أَنَّ الْمَالِكَ إمَّا أَنْ يُؤَاخَذَ بِأَصْلِ الْوَاجِبِ أَوْ بِضَمَانِهِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مَحِلَّهُ النِّصَابُ وَالْحَقُّ لَا يَبْقَى بَعْد فَوَاتِ مَحِلِّهِ كَالْعَبْدِ الْجَانِي، أَوْ الْمَدْيُونِ إذَا هَلَكَ، وَالشِّقْصُ الَّذِي فِيهِ الشُّفْعَةُ إذَا صَارَ بَحْرًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ أَصْلِ الْوَاجِبِ هُوَ النِّصَابُ قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خُذْ مِنْ الذَّهَبِ الذَّهَبَ، وَمِنْ الْفِضَّةِ الْفِضَّةَ، وَمِنْ الْإِبِلِ الْإِبِلَ» الْحَدِيثَ. وَكَلِمَةُ مِنْ تَبْعِيضٌ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ بَعْضَ النِّصَابِ. وَقَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَفِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ» جَعَلَ الْوَاجِبَ مَظْرُوفًا فِي النِّصَابِ؛ لِأَنَّ فِي لِلظَّرْفِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عُرِفَ وُجُوبُهَا عَلَى طَرِيقِ الْيُسْرِ وَطِيبَةِ النَّفْسِ بِأَدَائِهَا وَلِهَذَا اُخْتُصَّ وُجُوبُهَا بِالْمَالِ النَّامِي الْفَاضِلِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَشُرِطَ لَهَا الْحَوْلُ وَكَمَالُ النِّصَابِ. وَمَعْنَى الْيُسْرِ فِي كَوْنِ الْوَاجِبِ فِي النِّصَابِ يَبْقَى بِبَقَائِهِ وَيَهْلِكُ بِهَلَاكِهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يَسْتَدْعِي تَفْوِيتَ مِلْكٍ أَوْ يَدٍ كَمَا فِي سَائِرِ الضَّمَانَاتِ، وَهُوَ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَى الْفَقِيرِ مِلْكًا وَلَا يَدًا فَلَا يُضْمَنُ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحَجِّ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْوَاجِبِ هُنَاكَ ذِمَّتُهُ لَا مَالُهُ وَذِمَّتُهُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ مَنَعَ حَقَّ الْفَقِيرِ بَعْدَ طَلَبِهِ فَنَقُولُ: إنَّ هَذَا الْفَقِيرَ مَا تَعَيَّنَ مُسْتَحِقًّا لِهَذَا الْحَقِّ فَإِنْ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى فَقِيرٍ آخَرَ، وَإِنْ طَالَبَهُ السَّاعِي فَامْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ حَتَّى هَلَكَ الْمَالُ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ السَّاعِيَ مُتَعَيِّنٌ لِلْأَخْذِ فَيَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ عِنْدَ طَلَبِهِ فَيَصِيرُ بِالِامْتِنَاعِ مُفَوِّتًا فَيُضَمَّنُ. وَمَشَايِخُنَا بِمَا وَرَاءِ النَّهْرِ قَالُوا: إنَّهُ لَا يَضْمَنُ. وَهُوَ الْأَصَحُّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ إذَا حَبَسَ السَّائِمَةَ بَعْدَ مَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهَا حَتَّى

تَوِيَتْ لَمْ يَضْمَنْهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهَذَا الْحَبْسِ أَنْ يَمْنَعَهَا الْعَلَفَ وَالْمَاءَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِهْلَاكٌ لَهَا وَلَوْ اسْتَهْلَكَهَا يَصِيرُ ضَامِنًا لِزَكَاتِهَا وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ حَبْسَهَا بَعْدَ طَلَبِ السَّاعِي لَهَا. وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ مَا فَوَّتَ بِهَذَا الْحَبْسِ مِلْكًا وَلَا يَدًا عَلَى أَحَدٍ فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا، وَلَهُ رَأْيٌ فِي اخْتِيَارِ مَحَلِّ الْأَدَاءِ إنْ شَاءَ مِنْ السَّائِمَةِ وَإِنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِهَا فَإِنَّمَا حَبَسَ السَّائِمَةَ لِيُؤَدِّيَ مِنْ مَحِلٍّ آخَرَ فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا، هَذَا إذَا هَلَكَ كُلُّ النِّصَابِ فَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ فَعَلَيْهِ فِي الْبَاقِي حِصَّتُهُ مِنْ الزَّكَاةِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ فَضْلٌ عَلَى النِّصَابِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْبَعْضَ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ، ثُمَّ إذَا هَلَكَ الْكُلُّ سَقَطَ جَمِيعُ الزَّكَاةِ فَإِذَا هَلَكَ الْبَعْضُ يَجِبُ أَنْ يَسْقُطَ بِقَدْرِ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ عَفْوٌ، فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَ فِيهِ النِّصَابُ وَالْعَفْوُ ثُمَّ هَلَكَ الْبَعْضُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى الْعَفْوِ أَوَّلًا كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ إلَّا النِّصَابُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى الْكُلِّ شَائِعًا حَتَّى إذَا كَانَ لَهُ تِسْعَةٌ مِنْ الْإِبِلِ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ هَلَكَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ فَعَلَيْهِ فِي الْبَاقِي شَاةٌ كَامِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عَلَيْهِ فِي الْبَاقِي خَمْسَةُ أَتْسَاعِ شَاةٍ. وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِالنِّصَابِ دُونَ الْعَفْوِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا جَمِيعًا وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ إلَى تِسْعٍ» أَخْبَرَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِالْكُلِّ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْمَالُ النَّامِي، وَالْعَفْوُ مَالٌ نَامٍ. وَمَعَ هَذَا لَا تَجِبُ بِسَبَبِهِ زِيَادَةٌ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ نَظِيرُهُ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِحَقٍّ بِشَهَادَةِ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ كَانَ قَضَاؤُهُ بِشَهَادَةِ الْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ لَا حَاجَةَ إلَى الْقَضَاءِ إلَى الثَّالِثِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ فَمَا هَلَكَ يَهْلِكُ بِزَكَاتِهِ وَمَا بَقِيَ يَبْقَى بِزَكَاتِهِ كَالْمَالِ الْمُشْتَرَكِ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ وَلَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَكُونَ عَشْرًا» وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ أَيْضًا: «فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَلَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ» وَهَذَا نَصَّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي النِّصَابِ دُونَ الْوَقْصِ وَلِأَنَّ الْوَقَصَ وَالْعَفْوَ تَبَعٌ لَلنِّصَاب؛ لِأَنَّ النِّصَابَ بِاسْمِهِ وَحُكْمِهِ يَسْتَغْنِي عَنْ الْوَقْصِ وَالْوَقْصُ بِاسْمِهِ وَحُكْمِهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ النِّصَابِ. وَالْمَالُ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى أَصْلٍ وَتَبَعٍ فَإِذَا هَلَكَ مِنْهُ شَيْءٌ يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى التَّبَعِ دُونَ الْأَصْلِ كَمَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا كَانَ فِيهِ رِبْحٌ فَهَلَكَ شَيْءٌ مِنْهُ يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى الرِّبْحِ دُونَ رَأْسِ الْمَالِ كَذَا هَذَا. وَعَلَى هَذَا إذَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى ثَمَانِينَ شَاةٍ ثُمَّ هَلَكَ أَرْبَعُونَ مِنْهَا وَبَقِيَ أَرْبَعُونَ فَعَلَيْهِ فِي الْأَرْبَعِينَ الْبَاقِيَةِ شَاةٌ كَامِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ يُصْرَفُ إلَى الْعَفْوِ أَوَّلًا عِنْدَهُمَا فَجُعِلَ كَأَنَّ الْغَنَمَ أَرْبَعُونَ مِنْ الِابْتِدَاءِ. وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ: عَلَيْهِ فِي الْبَاقِي نِصْفُ شَاةٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْكُلِّ عِنْدَهُمَا وَقَدْ هَلَكَ النِّصْفُ فَيَسْقُطُ الْوَاجِبُ بِقَدْرِهِ، وَلَوْ هَلَكَ مِنْهَا عِشْرُونَ وَبَقِيَ سِتُّونَ فَعَلَيْهِ فِي الْبَاقِي شَاةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ شَاةٍ لِمَا قُلْنَا وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ فِي الْجَامِعِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَاجِبُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْوَاجِبُ هُوَ الْجُزْءُ مِنْهُ صُورَةً وَمَعْنًى لَكِنْ يَجُوزُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَيَبْطُلُ اعْتِبَارُ الصُّورَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا فِي زَكَاةِ السَّوَائِمِ فَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْوَاجِبُ هُنَاكَ أَيْضًا جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَذَكَرَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ النِّصَاب لِلتَّقْدِيرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْوَاجِبُ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ لَا جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ لَكِنْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَعِنْدَهُمَا الْوَاجِبُ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ صُورَةً وَمَعْنًى، لَكِنْ يَجُوزُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ الْجَامِعِ إذَا كَانَ لِرَجُلٍ مِائَتَا قَفِيزٍ حِنْطَةً لِلتِّجَارَةِ تُسَاوِي مِائَتِي دِرْهَمٍ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَإِنْ أَدَّى مِنْ عَيْنِهَا يُؤَدِّي خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهَا هِيَ رُبُعُ عُشْرِ النِّصَابِ وَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْقِيمَةَ جَازَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ جَمِيعًا يُؤَدِّي قِيمَتَهَا يَوْمَ الْحَوْلِ وَهِيَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَعِنْدَهُمَا فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا يُؤَدِّي قِيمَتَهَا يَوْمَ الْأَدَاءِ فِي النُّقْصَانِ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا وَفِي الزِّيَادَةِ عَشْرَةً هُمَا يَقُولَانِ الْوَاجِبُ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ وَغَيْرُ

الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لَهُ وِلَايَةَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ إمَّا تَيْسِيرًا عَلَيْهِ وَإِمَّا نَقْلًا لِلْحَقِّ. وَالتَّيْسِيرُ لَهُ فِي الْأَدَاءِ دُونَ الْوَاجِبِ. وَكَذَا الْحَاجَةُ إلَى نَقْلِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إلَى مُطْلَقِ الْمَالِ وَقْتَ الْأَدَاءِ إلَى الْفَقِيرِ فَبَقِيَ الْوَاجِبُ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ فِي الذِّمَّةِ عَيْنُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَجُزْءُ النِّصَابِ، ثُمَّ عِنْدَ الْأَدَاءِ يُنْقَلُ ذَلِكَ إلَى الْقِيمَةِ فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ النَّقْلِ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ أَنَّهُ يُضَمَّنُ الْمَغْرُورُ قِيمَتَهُ لِلْمَالِكِ يَوْمَ التَّضْمِينِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ عُلِّقَ حُرُّ الْأَصْلِ فَفِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ جُعِلَ مَمْلُوكًا لَهُ لِحُصُولِهِ عَنْ مَمْلُوكَتِهِ وَإِنَّمَا يُنْقَلُ عَنْهُ حَقُّهُ إلَى الْقِيمَةِ يَوْمَ الْخُصُومَةِ فَكَذَا هَهُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْوَاجِبُ هُوَ الْجُزْءُ مِنْ النِّصَاب، غَيْرَ أَنَّ وُجُوبَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُطْلَقُ الْمَالِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَدَاءُ الشَّاةِ عَنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُزْءًا مِنْهَا، وَالتَّعَلُّقُ بِكَوْنِهِ جُزْءٌ لِلتَّيْسِيرِ لَا لِلتَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ مِنْهُ أَيْسَرُ فِي الْأَغْلَبِ حَتَّى أَنَّ الْأَدَاءَ مِنْ غَيْرِ الْجُزْءِ لَوْ كَانَ أَيْسَرَ مَالَ إلَيْهِ وَعِنْدَ مَيْلِهِ إلَيْهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ مُطْلَقُ الْمَالِ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَكَذَا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مَعْلُولٌ بِمُطْلَقِ الْمَالِ، وَالتَّعَلُّقُ بِهِ لِلتَّيْسِيرِ بِدَلِيلِ جَوَازِ أَدَاءِ الْوَاحِدِ مِنْ الْخَمْسِ، وَالنَّاقَةِ الْكَوْمَاءِ عَنْ بِنْتِ مَخَاضٍ فَكَانَ الْوَاجِبُ عِنْدَ الْحَوْلِ رُبْعُ الْعُشْرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ، وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْوُجُوبِ وَلَا يُعْتَبَرُ التَّغَيُّرُ بِسَبَبِ نُقْصَانِ السِّعْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِهِ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ. وَأَمَّا فِي السَّوَائِمِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْوُجُوبِ كَمَا فِي مَالِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ فِي جَمِيعِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَوْمَ الْأَدَاءِ كَمَا قَالَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ ثَمَّةَ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ صُورَةً وَمَعْنًى وَلَكِنْ يَجُوزُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي مَالِ الزَّكَاةِ إذَا كَانَ جَارِيَةً تُسَاوِي مِائَتَيْنِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَغَيُّرِ السِّعْرِ إلَى زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ وَلِلْمَسْأَلَةِ فُرُوعٌ تُعْرَفُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ الْجَامِعِ هَذَا إذَا هَلَكَ النِّصَابُ بَعْدَ الْحَوْلِ. فَأَمَّا إذَا تَصَرَّفَ فِيهِ الْمَالِكُ فَهَلْ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ؟ عِنْدَنَا يَجُوزُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي مَالِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا جَائِزٌ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ بَاعَ نِصَابَ الزَّكَاةِ جَازَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ عِنْدَنَا. وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَجُوزُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَلَهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الزَّكَاةِ قَوْلَانِ. وَجْهِ قَوْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَمَا يَقُولُ أَوْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا يَقُولُونَ وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَلَنَا أَنَّ الزَّكَاةَ اسْمٌ لِلْفِعْلِ وَهُوَ إخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ وَقَبْلَ الْإِخْرَاجِ لَا حَقَّ فِي الْمَالِ حَتَّى يَمْنَعَ نَفَاذَ الْبَيْعِ فِيهِ فَيَنْفُذُ كَالْعَبْدِ إذَا جَنَى جِنَايَةً فَبَاعَهُ الْمَوْلَى فَيَنْفُذُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ هُوَ فِعْلُ الدَّفْعِ فَكَانَ الْمَحَلُّ خَالِيًا عَنْ الْحَقِّ قَبْلَ الْفِعْلِ فَنَفَذَ الْبَيْعُ فِيهِ كَذَا هَذَا. وَإِذَا جَازَ التَّصَرُّفُ فِي النِّصَابِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ عِنْدَنَا فَإِذَا تَصَرَّفَ الْمَالِكُ فِيهِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ اسْتِبْدَالًا بِمِثْلِهِ لَا يَضْمَنُ الزَّكَاةَ وَيَنْتَقِلُ الْوَاجِبُ إلَيْهِ يَبْقَى بِبَقَائِهِ وَيَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ، وَإِنْ كَانَ اسْتِهْلَاكًا يَضْمَنُ الزَّكَاةَ وَيَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ. بَيَانُ ذَلِكَ إذَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِ التِّجَارَةِ وَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَأَخْرَجَهُ الْمَالِكُ عَنْ مِلْكِهِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَوْ بِعَرَضِ التِّجَارَةِ فَبَاعَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ لَا يَضْمَنُ الزَّكَاةَ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتْلَفَ الْوَاجِبَ بَلْ نَقَلَهُ مِنْ مَحَلِّ إلَى مَحَلِّ مِثْلِهِ إذْ الْمُعْتَبَرُ فِي مَالِ التِّجَارَةِ هُوَ الْمَعْنَى وَهُوَ الْمَالِيَّةُ لَا الصُّورَةُ فَكَانَ الْأَوَّلُ قَائِمًا مَعْنًى فَيَبْقَى الْوَاجِبُ بِبَقَائِهِ وَيَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ. وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ وَحَابَى بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَجُعِلَ عَفْوًا وَلِهَذَا جُعِلَ عَفْوًا فِي بَيْعِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَإِنْ حَابَى بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ يَضْمَنُ قَدْرَ زَكَاةِ الْمُحَابَاةِ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَزَكَاةُ مَا بَقِيَ يَتَحَوَّلُ إلَى الْعَيْنِ يَبْقَى بِبَقَائِهَا وَيَسْقُطُ بِهَلَاكِهَا. وَلَوْ أَخْرَجَ مَالَ الزَّكَاةِ عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ مِنْ غَيْرِ الْفَقِيرِ وَالْوَصِيَّةِ، أَوْ بِعِوَضٍ لَيْسَ بِمَالٍ بِأَنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ امْرَأَةً، أَوْ صَالَحَ بِهِ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ، أَوْ اخْتَلَعَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ يَضْمَنُ الزَّكَاةَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ إخْرَاجَ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ إتْلَافٌ لَهُ. وَكَذَا بِعِوَضٍ لَيْسَ بِمَالٍ. وَكَذَا لَوْ أَخْرَجَهُ بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَالِ الزَّكَاةِ بِأَنْ بَاعَهُ بِعَبْدِ الْخِدْمَةِ أَوْ ثِيَابِ الْبِذْلَةِ سَوَاءٌ بَقِيَ الْعِوَضُ فِي يَدِهِ أَوْ هَلَكَ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ الْمَعْنَى الَّذِي صَارَ الْمَالُ بِهِ مَالَ الزَّكَاةِ فَكَانَ اسْتِهْلَاكُهُ فِي حَقِّ الزَّكَاةِ. وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ بِهِ عَيْنًا مِنْ الْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ، وَإِنْ كَانَتْ مَالًا فِي نَفْسِهَا لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لَهَا وَكَذَا لَوْ صَرَفَ مَالَ الزَّكَاةِ إلَى حَوَائِجِهِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللُّبْسِ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الِاسْتِهْلَاكِ

وَكَذَا إذَا بَاعَ مَالَ التِّجَارَةِ بِالسَّوَائِمِ عَلَى أَنْ يَتْرُكَهَا سَائِمَةً يَضْمَنُ الزَّكَاةَ؛ لِأَنَّ زَكَاةَ مَالِ التِّجَارَةِ خِلَافَ زَكَاةِ السَّائِمَةِ فَيَكُونُ اسْتِهْلَاكًا. وَلَوْ كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ سَائِمَةً فَبَاعَهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ وَالْأَثْمَانِ أَوْ بِجِنْسِهَا يَضْمَنُ وَيَصِيرُ قَدْرُ الزَّكَاةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ ذَلِكَ الْعِوَضِ؛ لَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي السَّوَائِمِ يَتَعَلَّقُ بِالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى فَبَيْعُهَا يَكُونُ اسْتِهْلَاكًا لَهَا لَا اسْتِبْدَالًا، وَلَوْ كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَأَقْرَضَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ فَثَوَى الْمَالُ عِنْدَهُ ذُكِرَ فِي الْعُيُونِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِتْلَافُ. وَكَذَا لَوْ كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ ثَوْبًا فَأَعَارَهُ فَهَلَكَ لِمَا قُلْنَا وَقَالُوا فِي عَبْدِ التِّجَارَةِ إذَا قَتَلَهُ عَبْدٌ خَطَأً فَدَفَعَ بِهِ أَنَّ الثَّانِيَ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ الْأَوَّلِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ، وَلَوْ قَتَلَهُ عَمْدًا وَصَالَحَهُ الْمَوْلَى مِنْ الدَّمِ عَلَى عَبْدٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ بِعِوَضٍ عَنْ الْأَوَّلِ بَلْ هُوَ عِوَضٌ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ. وَقَالُوا فِيمَنْ اشْتَرَى عَصِيرًا لِلتِّجَارَةِ فَصَارَ خَمْرًا ثُمَّ صَارَ خَلًّا: إنَّهُ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ هُوَ التَّخَمُّرُ وَأَثَرُ التَّخَمُّرِ فِي زَوَالِ صِفَةِ التَّقَوُّمِ وَلَا غَيْرَ، وَقَدْ عَادَتْ الصِّفَةُ بِالتَّخَلُّلِ فَصَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَمَا كَانَ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الشَّاةِ إذَا مَاتَتْ فَدُبِغَ جِلْدُهَا أَنَّ جِلْدَهَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ بَاعَ السَّائِمَةَ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا فَإِنْ كَانَ الْمُصْدِقُ حَاضِرًا يَنْظُرُ إلَيْهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الْوَاجِبِ مِنْ الْبَائِعِ وَتَمَّ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْوَاجِبَ مِنْ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَاةِ، وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا وَقْتَ الْبَيْعِ فَحَضَرَ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالتَّفَرُّقِ عَنْ الْمَجْلِسِ فَإِنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ قِيمَةَ الْوَاجِبِ مِنْ الْبَائِعِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَيْعَ السَّائِمَةِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا اسْتِهْلَاكٌ لَهَا لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِهْلَاكِ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ ثَبَتَ بِالِاجْتِهَادِ إذْ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّ الْقَوْلَيْنِ أَفْضَى اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ فَإِنْ أَفْضَى اجْتِهَادُهُ إلَى زَوَالِ الْمِلْكِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ أَخَذَ قِيمَةَ الْوَاجِبِ مِنْهُ لِحُصُولِ الِاسْتِهْلَاكِ وَتَمَّ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ إذْ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْءٌ مِنْ الْمَبِيعِ. وَإِنْ أَفْضَى اجْتِهَادُهُ إلَى عَدَمِ الزَّوَالِ أَخَذَ الْوَاجِبَ مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي كَمَا قُبِلَ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ كَأَنَّهُ اسْتَحَقَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمَبِيعِ فَأَمَّا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَقَدْ تَأَكَّدَ زَوَالُ الْمِلْكِ لِخُرُوجِهِ عَنْ مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ فَتَأَكَّدَ الِاسْتِهْلَاكُ فَصَارَ الْوَاجِبُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ نَقْلُ الْمَاشِيَةِ مِنْ مَوْضِعِهَا مَعَ افْتِرَاقِ الْعَاقِدَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا؟ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَشَرَطَهُ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ إنْ حَضَرَ الْمُصْدِقُ قَبْلَ النَّقْلِ فَلَهُ الْخِيَارُ. وَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَلَوْ بَاعَ طَعَامًا وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ فَالْمُصَدِّقُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْبَائِعِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْمُشْتَرِي سَوَاءٌ حَضَرَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ تَعَلُّقَ الْعُشْرِ بِالْعَيْنِ آكِدٌ مِنْ تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُشْرَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَالِكُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ؟ وَلَوْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْعُشْرُ قَبْلَ أَدَائِهِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ أَدَاءُ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَوْ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ. وَالْمَعْنَى مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَالْوَاجِبُ أَدَاءُ عَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَيُبْنَى عَلَيْهِ أَنَّ دَفْعَ الْقِيَمِ وَالْأَبْدَالِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ، وَالْعُشْرِ، وَالْخَرَاجِ، وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَالنُّذُورِ، وَالْكَفَّارَاتِ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَدَاءُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي الْخَمْسِ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ» ، وَقَوْلُهُ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» . وَكُلُّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] إذْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الزَّكَاةِ فَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْتَحَقَ الْبَيَانُ بِمُجْمَلِ الْكِتَابِ فَصَارَ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ " وَآتُوا الزَّكَاةَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَفِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ " فَصَارَتْ الشَّاةُ وَاجِبَةً لِلْأَدَاءِ بِالنَّصِّ. وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِالتَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ حُكْمَ النَّصِّ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إقَامَةُ السُّجُودِ عَلَى الْخَدِّ وَالذَّقَنِ مَقَامَ السُّجُودِ عَلَى الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ، وَالتَّعْلِيلُ فِيهِ بِمَعْنَى الْخُضُوعِ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا، وَصَارَ كَالْهَدَايَا وَالضَّحَايَا. وَجَوَازُ أَدَاءِ الْبَعِيرِ عَنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ عِنْدِي بِاعْتِبَارِ النَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خُذْ مِنْ الْإِبِلِ الْإِبِلَ» إلَّا أَنَّ عِنْدَ قِلَّةِ الْإِبِلِ أَوْجَبُ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ تَيْسِيرًا عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَإِذَا سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِأَدَاءِ بَعِيرٍ مِنْ الْخَمْسِ فَقَدْ تَرَكَ هَذَا التَّيْسِيرَ فَجَازَ بِالنَّصِّ لَا بِالتَّعْلِيلِ. وَلَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا طَرِيقُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّانِي طَرِيقُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَمَّا طَرِيقُ أَبِي حَنِيفَةَ فَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ أَدَاءُ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ الْمَالِيَّةُ

زكاة السوائم

وَأَدَاءُ الْقِيمَةِ مِثْلُ أَدَاءِ الْجُزْءِ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ. وَبَيَانُ كَوْنِ الْوَاجِبِ أَدَاءَ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ مَا ذَكَرْنَا فِي مَسْأَلَةِ التَّفْرِيطِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْجُزْءَ مِنْ النِّصَابِ وَاجِبٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ أَنَّ تَعَلُّقَ الْوَاجِبِ بِالْجُزْءِ مِنْ النِّصَابِ لِلتَّيْسِيرِ لِيَبْقَى الْوَاجِبُ بِبَقَائِهِ وَيَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ. وَمَعْنَى التَّيْسِيرِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ أَنْ لَوْ تَعَيَّنَ الْجُزْءُ مِنْ النِّصَابِ لِلْوُجُوبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَالٌ، إذْ لَوْ تَعَلَّقَ الْوُجُوبُ بِغَيْرِ الْجُزْءِ لَبَقِيَتْ الشَّرِكَةُ فِي النِّصَابِ لِلْفُقَرَاءِ وَفِيهِ مِنْ الْعُسْرِ وَالْمَشَقَّةِ مَا لَا يَخْفَى خُصُوصًا إذَا كَانَ النِّصَابُ مِنْ نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ نَحْوَ الْجَوَارِي الْحِسَانِ وَالْأَفْرَاسِ الْفَارِهَةِ لِلتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا وَلَا كَذَلِكَ إذَا كَانَ التَّعَلُّقُ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَالٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ الِاخْتِيَارُ إلَى رَبِّ الْمَالِ فَإِنْ رَأَى الْجُزْءَ إلَيْهِ أَيْسَرَ أَدَّى الْجُزْءَ، وَإِنْ رَأَى أَدَاءَ غَيْرِهِ أَيْسَرَ مَالَ إلَيْهِ فَيَحْصُلُ مَعْنَى الْيُسْرِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ذِكْرَ الشَّاةِ فِي الْحَدِيثِ لِتَقْدِيرِ الْمَالِيَّةِ لَا لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ رَأَى فِي إبِلِ الصَّدَقَةِ نَاقَةً كَوْمَاءَ فَغَضِبَ عَلَى الْمُصْدِقِ وَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ؟ فَقَالَ: أَخَذْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ» وَفِي رِوَايَةٍ «ارْتَجَعْتُهَا فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَأَخْذُ الْبَعِيرِ بِبَعِيرَيْنِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا. وَأَمَّا طَرِيقُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَيْنُ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ وَهُوَ أَدَاءُ رُبُعِ الْعُشْرِ فِي مَالِ التِّجَارَةِ وَأَدَاءُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي السَّوَائِمِ صُورَةً وَمَعْنًى غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى بَلْ هُوَ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ حَتَّى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَوْ أَمَرَنَا بِإِتْلَافِهِ حَقًّا لَهُ أَوْ سَبْيِهِ لَفَعَلْنَا وَلَمْ نَعْدِلْ عَنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إلَى غَيْرِهِ غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِصَرْفِهِ إلَى عِبَادِهِ الْمُحْتَاجِينَ كِفَايَةً لَهُمْ وَكِفَايَتُهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمُطْلَقِ الْمَالِ صَارَ وُجُوبُ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ مَعْقُولَ الْمَعْنَى وَهُوَ الْكِفَايَةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِمُطْلَقِ الْمَالِ فَصَارَ مَعْلُولًا بِمُطْلَقِ الْمَالِ، وَكَانَ أَمْرُهُ عَزَّ وَجَلَّ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ بِالصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ إعْلَامًا لَهُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ بِنَقْلِ حَقِّهِ الثَّابِتِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إلَى مُطْلَقِ الْمَالِ، كَمَنْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ حِنْطَةٌ وَلِرَجُلِ آخَرَ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ دَرَاهِمَ فَأَمَرَ مَنْ لَهُ الْحِنْطَةُ مَنْ عَلَيْهِ الْحِنْطَةُ بِأَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ الدَّرَاهِمِ مِنْ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْحِنْطَةُ كَانَ ذَلِكَ إذْنًا مِنْهُ إيَّاهُ بِنَقْلِ حَقِّهِ إلَى الدَّرَاهِمِ بِأَنْ يَسْتَبْدِلَ الْحِنْطَةَ بِالدَّرَاهِمِ وَجَعَلَ الْمَأْمُورَ بِالْأَدَاءِ كَأَنَّهُ أَدَّى عَيْنَ الْحَقِّ إلَى مَنْ لَهُ الْحَقُّ ثُمَّ اسْتَبْدَلَ ذَلِكَ وَصَرَفَ إلَى الْآخَرِ مَا أَمَرَ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ فَصَارَ مَا وَصَلَ إلَى الْفَقِيرِ مَعْلُولًا بِمُطْلَقِ الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرِهِ جُزْءًا مِنْ النِّصَابِ أَوْ غَيْرِهِ. وَأَدَاءُ الْقِيمَةِ أَدَاءُ مَالٍ مُطْلَقٍ مُقَدَّرٍ بِقِيمَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ فَيُجْزِئُهُ، كَمَا لَوْ أَدَّى وَاحِدًا مِنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ بِخِلَافِ السُّجُودِ عَلَى الْخَدِّ وَالذَّقَنِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فَاتَتْ أَصْلًا، وَلِهَذَا لَا يُنْتَقَلُ بِهِ وَلَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ وَمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْقُرْبَةِ وَبِخِلَافِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إرَاقَةُ الدَّمِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ بَعْدَ الذَّبْحِ قَبْلَ التَّصَدُّقِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَإِرَاقَةُ الدَّمِ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَقُومُ الْمَالُ مَقَامَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [زَكَاة السَّوَائِم] وَأَمَّا السَّوَائِمُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ أَمَّا نِصَابُ الْإِبِلِ فَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ زَكَاةٌ، وَفِي الْخَمْسِ شَاةٌ، وَفِي الْعَشْرِ شَاتَانِ، وَفِي خَمْسَةَ عَشْرَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَفِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ حِقَّةٌ، وَفِي إحْدَى وَسِتِّينَ جَذَعَةٌ، وَهِيَ أَقْصَى سِنٍّ لَهَا مَدْخَلٌ فِي الزَّكَاةِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ كِتَابًا إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَتَبَهُ أَبُو بَكْرٍ لِأَنَسٍ وَكَانَ فِيهِ وَفِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ ذَوْدُ شَاةٍ فَإِذَا كَانَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ، فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَسِتِّينَ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَتِسْعِينَ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ» . وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ، وَفِي سِتٍّ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ " وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَكَادُ تَثْبُتُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ مِنْهَا مَا رَوَيْنَا مِنْ كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي كَتَبَهُ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَمِنْهَا كِتَابُهُ الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ، وَلِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِأُصُولِ الزَّكَوَاتِ فِي السَّوَائِمِ؛ لِأَنَّ فِيهَا مِنْ مُوَالَاةٍ بَيْنَ وَاجِبَيْنِ لَا وَقَصَ بَيْنَهُمَا وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ وَقَصٌ

وَهَذَا دَلِيلُ عَدَمِ الثُّبُوتِ. قَدْ حُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَفْقَهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا إنَّمَا هُوَ غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ رِجَالِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الرَّاوِيَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ يَقُولُ فِي سِتٍّ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسٌ مِنْ الْغَنَمِ قِيمَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ تُسْتَأْنَفُ الْفَرِيضَةُ وَيُدَارُ الْحِسَابُ عَلَى الْخَمْسِينَانِ فِي النِّصَابِ وَعَلَى الْحِقَاقِ فِي الْوَاجِبِ، لَكِنْ بِشَرْطِ عَوْدِ مَا قَبْلَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالْأَوْقَاصِ بِقَدْرِ مَا يَدْخُلُ فِيهِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا فَيَكُونُ فِيهَا شَاةٌ وَحِقَّتَانِ، وَفِي الْعَشْرِ شَاتَانِ وَحِقَّتَانِ، وَفِي خَمْسَةَ عَشْرَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ وَحِقَّتَانِ، وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَحِقَّتَانِ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ وَحِقَّتَانِ إلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْفَرِيضَةَ فَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا فَيَكُونُ فِيهَا شَاةٌ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ، وَفِي الْعَشْرِ شَاتَانِ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ، وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ، وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ. فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَخَمْسًا وَسَبْعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَسِتَّةً وَثَمَانِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ وَثَلَاثُ حِقَاقٍ إلَى مِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَتِسْعِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ إلَى مِائَتَيْنِ، فَإِنْ شَاءَ أَدَّى مِنْهَا أَرْبَعَ حِقَاقٍ مِنْ كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةً، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتَ لَبُونٍ ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْفَرِيضَةَ أَبَدًا فِي كُلِّ خَمْسِينَ كَمَا اُسْتُؤْنِفَتْ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ إلَى مِائَتَيْنِ فَيَدْخُلُ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ وَحِقَّةٌ مَعَ الشِّيَاهِ. هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً لَا تَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ إلَى تِسْعَةٍ بَلْ يُجْعَلُ تِسْعَةً عَفْوًا حَتَّى تَبْلُغَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ. وَكَذَا إذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَثَلَاثِينَ فَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ إلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَيُجْعَلُ كُلُّ تِسْعَةٍ عَفْوًا وَتَجِبُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ فَيُدَارُ النِّصَابُ عَلَى الْخَمْسِينَاتِ وَالْأَرْبَعِينَات، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ لَبُونٍ فَيَجِبُ فِي مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ؛ لِأَنَّهَا مَرَّةً خَمْسُونَ وَمَرَّتَيْنِ أَرْبَعُونَ، وَفِي مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ، وَفِي مِائَةٍ وَسِتِّينَ أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَسَبْعِينَ حِقَّةٌ وَثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَثَمَانِينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتَا لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَتِسْعِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ إلَى مِائَتَيْنِ فَإِنْ شَاءَ أَدَّى مِنْ الْمِائَتَيْنِ أَرْبَعَ حِقَاقٍ، وَإِنْ شَاءَ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ: إنَّهُ يُدَارُ الْحِسَابُ عَلَى الْخَمْسِينَاتِ وَالْأَرْبَعِينَات فِي النُّصُبِ، وَعَلَى الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ فِي الْوَاجِبِ. وَإِنَّمَا خَالَفَهُ فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ وَقَرَنَهُ بِقِرَابِ سَيْفِهِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ إلَى عُمَّالِهِ حَتَّى قُبِضَ، ثُمَّ عَمِلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ حَتَّى قُبِضَا وَكَانَ فِيهِ «إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ» غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَفْظُ الزِّيَادَةِ إنَّمَا تَتَنَاوَلُ زِيَادَةً يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِيهَا وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ وَالشَّافِعِيُّ قَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّقَ هَذَا الْحُكْمَ بِنَفْسِ الزِّيَادَةِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِزِيَادَةِ الْوَاحِدَةِ فَعِنْدَهُمَا يُوجِبُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتَ لَبُونٍ. وَهَذِهِ الْوَاحِدَةُ لِتَعْيِينِ الْوَاجِبِ بِهَا فَلَا يَكُونُ لَهَا حَظٌّ مِنْ الْوَاجِبِ، ثُمَّ أَعْدَلُ الْأَسْنَانِ بِنْتُ لَبُونٍ وَالْحِقَّةُ، فَإِنَّ أَدْنَاهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَأَعْلَاهَا الْجَذَعَةُ فَالْأَعْدَلُ هُوَ الْمُتَوَسِّطُ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْت لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَخْرِجْ إلَيَّ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَأَخْرَجَ كِتَابًا فِي وَرَقَةٍ وَفِيهِ «فَإِذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ اُسْتُؤْنِفَتْ الْفَرِيضَةُ فَمَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ ذَوْدُ شَاةٍ» . وَرُوِيَ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَهَذَا بَابٌ لَا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ فَيَدُلُّ عَلَى سَمَاعِهِمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ نَقْرَأُهُ إلَّا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ فِيهَا أَسْنَانُ الْإِبِلِ أَخَذْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَجُوزُ أَنْ نُخَا لِفَهَا وَرُوِيَ أَنَّهُ أَنْفَذَهَا إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ: مُرْ سُعَاتُكَ فَلْيَعْمَلُوا بِهَا، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهَا مَعَنَا مِثْلُهَا، وَمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا فَقَدْ وَافَقَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْحِقَّتَيْنِ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ

فصل نصاب البقر

ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِ الْأَخْبَارِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ إلَّا بِمِثْلِهِ. وَبَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ اخْتَلَفَتْ الْآثَارُ فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ ذَلِكَ الْوَاجِبِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْآثَارِ بَلْ يُعْمَلُ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَيُحْمَلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَلَى الزِّيَادَةِ الْكَثِيرَةِ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ وَبِهِ نَقُولُ: إنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْوَاجِبَ فِي كُلِّ مَالٍ مِنْ جِنْسِهِ فَنَعَمْ إذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّ الزِّيَادَةَ تَحْتَمِلُ الْوَاجِبَ مِنْ الْجِنْسِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ لَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهَا بِالْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ لِبَقَاءِ الْحِقَّتَيْنِ فِيهَا كَمَا كَانَتْ، وَمَعَ بَقَاءِ الْحِقَّتَيْنِ فِيهَا عَلَى حَالِهِمَا لَا يُمْكِنُ الْبِنَاءُ فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ مَعَ بَقَاءِ الْحِقَّتَيْنِ بَعْدُ مُحْتَمِلَةً لِلْإِيجَابِ مِنْ جِنْسِهِ، فَلِهَذَا صِرْنَا إلَى إيجَابِ الْقِيمَةِ فِيهَا كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ حَتَّى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَمْكَنَ الْبِنَاءُ مَعَ بَقَاءِ الْحِقَّتَيْنِ بَعْدَ مِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ بَنَيْنَا فَنَقْلنَا مِنْ بَنَاتِ الْمَخَاضِ إلَى الْحِقَّةِ إذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَخَمْسِينَ فَلِأَنَّهَا ثَلَاثُ مَرَّاتٍ خَمْسِينَ فَيُوجِبُ مِنْ كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ نِصَابُ الْبَقَرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا نِصَابُ الْبَقَرِ فَلَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ بَقَرًا زَكَاةٌ، وَفِي كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنْهَا تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ وَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ إلَى تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ: «فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ» . فَأَمَّا إذَا زَادَتْ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فَفِي الزِّيَادَةِ بِحِسَابِ ذَلِكَ وَلَمْ يُفَسَّرْ هَذَا الْكَلَامُ، وَذُكِرَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى إذَا كَانَ لَهُ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ بَقَرَةً قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ مُسِنَّةٌ وَرُبُعُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ، أَوْ ثُلُثُ عُشْرِ تَبِيعٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا نِصَابَ عِنْدَهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ، وَأَنَّهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ بِحِسَابِ ذَلِكَ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَرُبُعُ مُسِنَّةٍ أَوْ ثُلُثُ تَبِيعٍ. وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَكُونَ سِتِّينَ فَإِذَا كَانَتْ سِتِّينَ فَفِيهَا تَبِيعَانِ أَوْ تَبِيعَتَانِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ، فَإِذَا زَادَ عَلَى السِّتِّينَ يُدَارُ الْحِسَابُ عَلَى الثَّلَاثِينَاتِ وَالْأَرْبَعِينَات فِي النُّصُبِ وَعَلَى الْأَتْبِعَةِ وَالْمُسِنَّاتِ فِي الْوَاجِبِ، وَيُجْعَلُ تِسْعَةٌ بَيْنَهُمَا عَفْوًا بِلَا خِلَافٍ فَيَجِبُ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ فَإِذَا كَانَتْ سَبْعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَتَبِيعٌ، وَفِي ثَمَانِينَ مُسِنَّتَانِ، وَفِي تِسْعِينَ ثَلَاثَةُ أَتْبِعَةٍ، وَفِي مِائَةٍ مُسِنَّةٌ وَتَبِيعَانِ، وَفِي مِائَةٍ وَعَشْرَةَ مُسِنَّتَانِ وَتَبِيعٌ، وَفِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ثَلَاثُ مُسِنَّاتٍ وَأَرْبَعَةُ أَتْبِعَةٍ فَإِنَّهَا ثَلَاثُ مَرَّاتٍ أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعُ مَرَّاتٍ ثَلَاثِينَ. وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يُدَارُ الْحِسَابِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ إثْبَاتَ الْوَقَصِ وَالنِّصَابِ بِالرَّأْيِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ النَّصُّ وَلَا نَصَّ فِيمَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ فَلَا سَبِيلَ إلَى إخْلَاءِ مَالِ الزَّكَاةِ عَنْ الزَّكَاةِ، فَأَوْجَبْنَا فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ بِحِسَابِ مَا سَبَقَ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْأَوْقَاصَ فِي الْبَقَرِ تِسْعٌ تِسْعٌ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ وَمَا بَعْدَ السِّتِّينَ، فَكَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِمَا قَبْلَهُ أَوْ بِمَا بَعْدَهُ فَتُجْعَلُ التِّسْعَةُ عَفْوًا فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَرُبُعُ مُسِنَّةٍ أَوْ ثُلُثُ تَبِيعٍ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَشْرَةٌ وَهِيَ ثُلُثٌ وَثَلَاثِينَ وَرُبُعُ أَرْبَعِينَ. وَجْهُ رِوَايَةِ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو وَهِيَ أَعْدَلُ الرِّوَايَاتِ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: «لَا تَأْخُذْ مِنْ أَوْقَاصِ الْبَقَرِ شَيْئًا» وَفَسَّرَ مُعَاذٌ الْوَقَصَ بِمَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ حَتَّى قِيلَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِيمَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ إلَى السِّتِّينَ؟ فَقَالَ: تِلْكَ الْأَوْقَاصُ لَا شَيْءَ فِيهَا وَلِأَنَّ مَبْنَى زَكَاةِ السَّائِمَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهَا الْأَشْقَاصُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ فِي الْإِبِلِ عِنْدَ قِلَّةِ الْعَدَدِ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ تَحَرُّزًا عَنْ إيجَابِ الشِّقْصِ، فَكَذَلِكَ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ لَا يَجُوزُ إيجَابُ الشِّقْصِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ نِصَابُ الْغَنَمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا نِصَابُ الْغَنَمِ فَلَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ زَكَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا شَاةٌ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَإِذَا كَانَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعِمِائَةٍ، فَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعُمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ ثُمَّ فِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ إذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَفِي أَرْبَعِمِائَةٍ خَمْسُ شِيَاهٍ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِمَا رُوِيَ فِي

حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ لَهُ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ الَّذِي كَتَبَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ «وَفِي أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ شَاةٌ، وَفِي مِائَةٍ وَوَاحِدَةٍ وَعِشْرِينَ شَاتَانِ، وَفِي مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعِمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ» . وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ النُّصُبِ التَّوْقِيفُ دُونَ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَتْ السَّوَائِمُ لِوَاحِدٍ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي حَالِ الشَّرِكَةِ مَا يُعْتَبَرُ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ وَهُوَ كَمَالُ النِّصَابِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ كَانَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَبْلُغُ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا كَانَتْ أَسْبَابُ الْإِسَامَةِ مُتَّحِدَةً وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّاعِي وَالْمَرْعَى وَالْمَاءُ وَالْمُرَاحُ وَالْكَلْبُ وَاحِدًا، وَالشَّرِيكَانِ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمَا يُجْعَلُ مَالُهُمَا كَمَالٍ وَاحِدٍ، وَتَجِبُ عَلَيْهِمَا الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ. وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ بَيْنَ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ» فَقَدْ اعْتَبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَمْعَ وَالتَّفْرِيقَ حَيْثُ نَهَى عَنْ جَمْعِ الْمُتَفَرِّقِ وَتَفْرِيقِ الْمُجْتَمِعِ، وَفِي اعْتِبَارِ حَالِ الْجَمْعِ بِحَالِ الِانْفِرَادِ فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ إبْطَالُ مَعْنَى الْجَمْعِ وَتَفْرِيقِ الْمُجْتَمَعِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ فِي سَائِمَةِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ» نَفَى وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ مُطْلَقًا عَنْ حَالِ الشَّرِكَةِ وَالِانْفِرَادِ، فَدَلَّ أَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطُ الْوُجُوبِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ " وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّفَرُّقُ فِي الْمِلْكِ لَا فِي الْمَكَانِ؛ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ النِّصَابَ الْوَاحِدَ إذَا كَانَ فِي مَكَانَيْنِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّفَرُّقُ فِي الْمِلْكِ، وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ الْمِلْكُ مُتَفَرِّقًا لَا يُجْمَعُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لِوَاحِدٍ لِأَجْلِ الصَّدَقَةِ كَخَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ أَوْ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ حَالَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ وَأَرَادَ الْمُصْدِقُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا الصَّدَقَةَ وَيَجْمَعَ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ وَيَجْعَلَهُمَا كَمِلْكٍ وَاحِدٍ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَكَثَمَانِينَ مِنْ الْغَنَمِ بَيْنَ اثْنَيْنِ حَالَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا شَاتَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ. وَلَوْ أَرَادَا أَنْ يَجْمَعَا بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ فَيَجْعَلَاهُمَا مِلْكًا وَاحِدًا خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ فَيُعْطِيَا الْمُصْدِقَ شَاةً وَاحِدَةً لَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ لِتَفَرُّقِ مِلْكَيْهِمَا فَلَا يَمْلِكَانِ الْجَمْعَ لِأَجْلِ الزَّكَاةِ. وَقَوْلُهُ " وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ " أَيْ فِي الْمِلْكِ كَرَجُلٍ لَهُ ثَمَانُونَ مِنْ الْغَنَمِ فِي مَرْعَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ شَاةٌ وَاحِدَةٌ. وَلَوْ أَرَادَ الْمُصْدِقُ أَنْ يُفَرِّقَ الْمُجْتَمِعَ فَيَجْعَلَهَا كَأَنَّهَا لِرَجُلَيْنِ فَيَأْخُذَ مِنْهَا شَاتَيْنِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُجْتَمِعٌ فَلَا يَمْلِكُ تَفْرِيقَهُ. وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ فِي مَرْعَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُجْتَمِعٌ فَلَا يُجْعَلُ كَالْمُتَفَرِّقِينَ فِي الْمِلْكِ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، أَوْ يَحْتَمِلُ مَا قُلْنَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا كَانَ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ بَيْنَ اثْنَيْنِ حَالَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ لَا زَكَاةَ فِيهَا عَلَى أَحَدِهِمَا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ نِصَابَهُ نَاقِصٌ وَعِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا شَاةٌ. وَلَوْ كَانَتْ الْإِبِلُ عَشْرًا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ بِلَا خِلَافٍ لِكَمَالِ نِصَابِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَكَذَا لَوْ كَانَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَلَوْ كَانَتْ عِشْرِينَ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاتَانِ؛ لِأَنَّ نِصَابَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَامِلٌ، وَلَوْ كَانَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا بِنْتُ مَخَاضٍ، وَلَوْ كَانَ النِّصَابُ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجِبُ فِيهَا تَبِيعٌ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ كَانَتْ سِتِّينَ فَفِيهَا تَبِيعَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَبِيعٌ بِلَا خِلَافٍ. وَكَذَلِكَ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ بَيْنَ اثْنَيْنِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ شَاةٌ وَاحِدَةٌ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ كَانَتْ ثَمَانِينَ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ عَلَيْهِمَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ شَاةٌ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ آخَرَ تَمَامُ ثَمَانِينَ وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ شَاةً ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَانُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: عَلَيْهِ الزَّكَاةُ كَمَا إذَا كَانَ الثَّمَانُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عِنْدَ كَمَالِ النِّصَابِ، وَفِي مِلْكِهِ نِصَابٌ كَامِلٌ فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَمَا لَوْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَا يَجِبُ أَنَّهُ لَوْ قَسَمَ لَا يُصِيبُهُ نِصَابٌ كَامِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مِنْ شَاةٍ

فصل صفة نصاب السائمة

وَاحِدَةٍ إلَّا نِصْفَهَا فَلَا يَكْمُلُ النِّصَابُ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ. وَكَذَلِكَ سِتُّونَ مِنْ الْبَقَرِ أَوْ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ إذَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَصَفْنَا فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ، وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ فِي السَّوَائِمِ الْمُشْتَرَكَةِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ، وَكَذَلِكَ الزُّرُوعُ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ عِنْدَهُمَا شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ بَلْ يَجِبُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، ثُمَّ إذَا حَضَرَ الْمُصْدِقُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ عَلَى الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مِنْهُ إذَا وَجَدَ فِيهِ وَاجِبًا عَلَى الِاخْتِلَافِ وَلَا يَنْتَظِرُ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاكَهُمَا عَلَى عِلْمِهِمَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ. وَإِنَّ الْمُصْدِقَ لَا يَتَمَيَّزُ لَهُ الْمَالُ فَيَكُونُ إذْنٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِهِ دَلَالَةً، ثُمَّ إذَا أَخَذَ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمَأْخُوذُ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا غَيْرَ بِأَنْ كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوِيَّةِ فَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ كَانَ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّفَاوُتِ فَأَخَذَ مِنْ أَحَدِهِمَا زِيَادَةً لِأَجْلِ صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ إذَا كَانَ ثَمَانُونَ مِنْ الْغَنَمِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَخَذَ الْمُصَدِّقُ مِنْهَا شَاتَيْنِ فَلَا تَرَاجُعَ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَهُوَ شَاةٌ فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا قَدْرَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ وَلَوْ كَانَتْ الثَّمَانُونَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا يَجِبُ فِيهَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ لِكَمَالِ نِصَابِهِ وَزِيَادَةٌ وَلَا شَيْءَ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ لِنُقْصَانِ نِصَابِهِ فَإِذَا حَضَرَ الْمُصَدِّقُ وَأَخَذَ مِنْ عَرَضِهَا شَاةً وَاحِدَةً يَرْجِعُ صَاحِبُ الثُّلُثِ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ بِثُلُثِ قِيمَةِ الشَّاةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَاةٍ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَكَانَتْ الشَّاةُ الْمَأْخُوذَةُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَقَدْ أَخَذَ الْمُصْدِقُ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثَ شَاةٍ لِأَجْلِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الثُّلُثِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ الْغَنَمِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَاهَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا وَوَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ فَجَاءَ الْمُصْدِقُ وَأَخَذَ مِنْ عَرَضِهَا شَاتَيْنِ كَانَ لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ بِقِيمَةِ ثُلُثِ شَاةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَاةٍ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا لِصَاحِبِ الثَّمَانِينَ. وَالثُّلُثُ لِصَاحِبِ الْأَرْبَعِينَ فَكَانَتْ الشَّاتَانِ الْمَأْخُوذَتَانِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ شَاةٌ وَثُلُثُ شَاةٍ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثَا شَاةٍ وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ شَاةٌ كَامِلَةٌ فَأَخَذَ الْمُصَدِّقُ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ شَاةً وَثُلُثَ شَاةٍ وَمِنْ نَصِيبِ صَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثَيْ شَاةٍ فَقَدْ صَارَ آخِذًا مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ ثُلُثَ شَاةٍ لِأَجْلِ زَكَاةِ صَاحِبِ الثُّلُثِ، فَيَرْجِعُ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ بِقِيمَةِ ثُلُثِ شَاةٍ وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ» . [فَصْلٌ صِفَةُ نِصَابِ السَّائِمَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ نِصَابِ السَّائِمَةِ فَلَهُ صِفَاتٌ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُعَدًّا لِلْإِسَامَةِ وَهُوَ أَنْ يُسِيمَهَا لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ هُوَ الْمَالُ النَّامِي وَهُوَ الْمُعَدُّ لِلِاسْتِنْمَاءِ، وَالنَّمَاءُ فِي الْحَيَوَانِ بِالْإِسَامَةِ إذْ بِهَا يَحْصُلُ النَّسْلُ فَيَزْدَادُ الْمَالُ فَإِنْ أُسِيمَتْ لِلْحَمْلِ أَوْ الرُّكُوبِ أَوْ اللَّحْمِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا وَلَوْ أُسِيمَتْ لِلْبَيْعِ وَالتِّجَارَةِ فَفِيهَا زَكَاةُ مَالِ التِّجَارَةِ لَا زَكَاةُ السَّائِمَةِ، ثُمَّ السَّائِمَةُ هِيَ الرَّاعِيَةُ الَّتِي تَكْتَفِي بِالرَّعْيِ عَنْ الْعَلَفِ وَيُمَوِّنُهَا ذَلِكَ وَلَا تَحْتَاجُ إلَى أَنْ تُعْلَفَ، فَإِنْ كَانَتْ تُسَامُ فِي بَعْضِ السَّنَةِ وَتُعْلَفُ وَتُمَانُ فِي الْبَعْضِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْغَالِبُ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَمْنَعُونَ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ السَّائِمَةِ عَلَى مَا تُعْلَفُ زَمَانًا قَلِيلًا مِنْ السَّنَةِ؟ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهَا لِحُصُولِ مَعْنَى النَّمَاءِ وَقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَتَيَسَّرُ الْأَدَاءُ فَيَحْصُلُ الْأَدَاءُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ وَهَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ إذَا أُسْيِمَتْ فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْجِنْسُ فِيهِ وَاحِدًا مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ سَوَاءٌ اتَّفَقَ النَّوْعُ وَالصِّفَةُ أَوْ اخْتَلَفَا، فَتَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَ كَمَالِ النِّصَابِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ السَّوَائِمِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا أَوْ مُخْتَلِطَةً، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْعِرَابِ وَالْبَخَاتَى فِي الْإِبِلِ، وَالْجَوَامِيسِ فِي الْبَقَرِ، وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ فِي الْغَنَمِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِنِصَابِهَا بِاسْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَاسْمُ الْجِنْسِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَنْوَاعَ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ كَاسْمِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَسَوَاءٌ كَانَ مُتَوَلِّدًا مِنْ الْأَهْلِيِّ أَوْ مِنْ أَهْلِيٍّ وَوَحْشِيٍّ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْأُمُّ أَهْلِيًّا كَالْمُتَوَلِّدِ مِنْ الشَّاةِ وَالظَّبْيِ إذَا كَانَ أُمُّهُ شَاةً وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ الْبَقَرِ الْأَهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ إذَا كَانَ أُمُّهُ أَهْلِيَّةً فَتَجِب فِيهِ الزَّكَاةُ وَيَكْمُلُ بِهِ النِّصَابُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ

لَا زَكَاةَ فِيهِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِاسْمِ الشَّاةِ بِقَوْلِهِ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ شَاةً بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُمِّ فَلَيْسَ بِشَاةٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَحْلِ فَلَا يَكُونُ شَاةً عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ النَّصُّ. (وَلَنَا) أَنَّ جَانِبَ الْأُمِّ رَاجِحٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَلِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهَا السِّنُّ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا مَسَانَّ أَوْ بَعْضُهَا فَإِنْ كَانَ كُلُّهَا صِغَارًا فُصْلَانًا أَوْ حُمْلَانًا أَوْ عَجَاجِيلَ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا: يَجِبُ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الْكِبَارِ وَبِهِ أَخَذَ زُفَرُ وَمَالِكٌ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: يَجِبُ فِيهَا وَاحِدَةٌ مِنْهَا وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ وَبِهِ أَخَذَ مُحَمَّدٌ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي زَكَاةِ الْفُصْلَانِ، فِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ عَدَدًا لَوْ كَانَتْ كِبَارًا تَجِبُ فِيهَا وَاحِدَةٌ مِنْهَا وَهُوَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: فِي الْخَمْسِ خُمُسُ فَصِيلٍ، وَفِي الْعَشْرِ خُمُسُ فَصِيلٍ، وَفِي خَمْسَةَ عَشْرَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ، وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: فِي الْخَمْسِ يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ شَاةٍ وَسَطٍ وَإِلَى قِيمَةِ خُمُسِ فَصِيلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا، وَفِي الْعَشْرِ يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ شَاتَيْنِ وَإِلَى قِيمَةِ خُمُسَيْ فَصِيلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا، وَفِي خَمْسَةِ عَشْرَ يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ ثَلَاثِ شِيَاهٍ وَإِلَى قِيمَةِ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا، وَفِي عِشْرِينَ يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ أَرْبَعَةِ شِيَاهٍ وَإِلَى قِيمَةِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ يَجِبُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، وَعَلَى رِوَايَاتِهِ كُلِّهَا قَالَ: لَا تَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ الْعَدَدَ الَّذِي لَوْ كَانَتْ كِبَارًا يَجِبُ فِيهَا اثْنَانِ وَهُوَ سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ، ثُمَّ لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ الْعَدَدَ الَّذِي لَوْ كَانَتْ كِبَارًا يَجِبُ فِيهَا ثَلَاثَةٌ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ. وَاحْتَجَّ زُفَرُ بِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ» ، وَقَوْلِهِ: «فِي ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ. وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْوَاجِبِ فِي قَوْلِهِ: «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ» ، وَفِي قَوْلِهِ «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» هُوَ الْكَبِيرَةُ لَا الصَّغِيرَةُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيجَابِ فِي الصِّغَارِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ، وَفِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» لَكِنْ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الْمُسِنَّةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلسُّعَاةِ: «إيَّاكُمْ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ» ، وَقَوْلُهُ: «لَا تَأْخُذُوا مِنْ حَزَرَاتِ الْأَمْوَالِ وَلَكِنْ خُذُوا مِنْ حَوَاشِيهَا» وَأَخْذُ الْكِبَارِ مِنْ الصِّغَارِ أَخْذٌ مِنْ كَرَائِمِ الْأَمْوَالِ وَحَزَرَاتِهَا وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ؛ وَلِأَنَّ مَبْنَى الزَّكَاةِ عَلَى النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ الْمُلَّاكِ وَجَانِبِ الْفُقَرَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْوَسَطُ؟ وَمَا كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ إلَّا مُرَاعَاتِهِ الْجَانِبَيْنِ، وَفِي إيجَابِ الْمُسِنَّةِ إضْرَارٌ بِالْمُلَّاكِ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهَا قَدْ تَزِيدُ عَلَى قِيمَةِ النِّصَابِ وَفِيهِ إجْحَافٌ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَفِي نَفْيِ الْوُجُوبِ رَأْسًا إضْرَارٌ بِالْفُقَرَاءِ فَكَانَ الْعَدْلُ فِي إيجَابِ وَاحِدَةٍ، مِنْهَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتُهُمْ، وَالْعَنَاقُ هِيَ الْأُنْثَى الصَّغِيرَةُ مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ، فَدَلَّ أَنَّ أَخْذَ الصِّغَارِ زَكَاةً كَانَ أَمْرًا ظَاهِرًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ تَنْصِيبَ النِّصَابِ بِالرَّأْيِ مُمْتَنِعٌ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ إنَّمَا وَرَدَ بِاسْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَهَذِهِ الْأَسَامِي لَا تَتَنَاوَلُ الْفُصْلَانَ وَالْحُمْلَانَ وَالْعَجَاجِيلَ فَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهَا نِصَابًا وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ وَكَانَ مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِي عَهْدِي أَنْ لَا آخُذَ مِنْ رَاضِعِ اللَّبَنِ شَيْئًا. وَأَمَّا قَوْلُ الصِّدِّيقِ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " لَوْ مَنَعُونِي عِنَاقًا " فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا وَهُوَ صَدَقَةُ عَامٍ أَوْ الْحَبْلُ الَّذِي يُعْقَلُ بِهِ الصَّدَقَةُ. فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ حُجَّةً، وَلَئِنْ ثَبَتَ فَهُوَ كَلَامُ تَمْثِيلٍ لَا تَحْقِيقٍ أَيْ: لَوْ وَجَبَتْ هَذِهِ وَمَنَعُوهَا لَقَاتَلْتُهُمْ. وَأَمَّا صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ الْمَشَايِخُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مُشْكِلَةٌ إذْ الزَّكَاةُ لَا تَجِبُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ وَبَعْدَ تَمَامِهِ لَا يَبْقَى اسْمُ الْفَصِيلِ وَالْحَمَلِ وَالْعُجُولِ بَلْ تَصِيرُ مُسِنَّةً. قَالَ بَعْضُهُمْ: الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْحَوْلَ هَلْ يَنْعَقِدُ عَلَيْهَا وَهِيَ صِغَارًا؟ وَيُعْتَبَرُ انْعِقَادُ الْحَوْلِ عَلَيْهَا إذَا كَبِرَتْ وَزَالَتْ صِفَةُ الصِّغَرِ عَنْهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ لَهُ نِصَابٌ مِنْ النُّوقِ فَمَضَى عَلَيْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرُ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ وَتَمَّ الْحَوْلُ عَلَى الْأَوْلَادِ وَهِيَ صِغَارٌ هَلْ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْأَوْلَادِ أَمْ لَا؟ وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا كَانَ لَهُ مُسِنَّاتٌ فَاسْتَفَادَ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ صِغَارًا ثُمَّ هَلَكَتْ الْمُسِنَّاتُ وَبَقِيَ الْمُسْتَفَادُ أَنَّهُ هَلْ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمُسْتَفَادِ؟ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْكِتَابِ فِيمَنْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ حَمَلًا وَوَاحِدَةٌ مُسِنَّةً

فصل مقدار الواجب في السوائم

فَهَلَكَتْ الْمُسِنَّةُ وَتَمَّ الْحَوْلُ عَلَى الْحُمْلَانِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، وَعِنْدَ زُفَرَ تَجِبُ مُسِنَّةٌ، هَذَا إذَا كَانَ الْكُلُّ صِغَارًا فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَتْ الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ وَكَانَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَبِيرًا فَإِنَّ الصِّغَارَ تُعَدُّ وَيَجِبُ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الْكِبَارِ وَهُوَ الْمُسِنَّةُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَتُعَدُّ صِغَارُهَا وَكِبَارُهَا» . وَرُوِيَ أَنَّ النَّاسَ شَكَوْا إلَى عُمَرَ عَامِلَهُ وَقَالُوا: إنَّهُ يَعُدُّ عَلَيْنَا السَّخْلَةَ وَلَا يَأْخُذُهَا مِنَّا، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَيْسَ يَتْرُكُ لَكُمْ الرُّبَّى وَالْمَاخِضَ وَالْأَكِيلَةَ وَفَحْلَ الْغَنَمِ؟ ثُمَّ قَالَ: عُدَّهَا وَلَوْ رَاحَ بِهَا الرَّاعِي عَلَى كَفِّهِ وَلَا تَأْخُذْهَا مِنْهُمْ، وَلِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مُخْتَلِطَةً بِالْكِبَارِ أَوْ كَانَ فِيهَا كَبِيرٌ دَخَلَتْ تَحْتَ اسْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَتَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ النُّصُوصِ فَيَجِبُ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الْكِبَارِ، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِيهَا مُسِنَّةٌ كَانَتْ تَبَعًا لِلْمُسِنَّةِ فَيُعْتَبَرُ الْأَصْلُ دُونَ التَّبَعِ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدٌ مِنْهَا مُسِنَّةً فَهَلَكَتْ الْمُسِنَّةُ بَعْدَ الْحَوْلِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ فِي الصِّغَارِ وَزَكَاتُهَا بِقَدْرِهَا حَتَّى لَوْ كَانَتْ حُمْلَانًا يَجِبُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ الْحَمَلِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الصِّغَارِ لِأَجْلِ الْكِبَارِ تَبَعًا لَهَا فَكَانَتْ أَصْلًا فِي الزَّكَاةِ فَهَلَاكُهَا كَهَلَاكِ الْجَمِيعِ، وَعِنْدَهُ الصِّغَارُ أَصْلٌ فِي النِّصَابِ. وَالْوَاجِبُ وَاحِدٌ مِنْهَا، وَإِنَّمَا الْفَصْلُ عَلَى الْحَمَلِ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارِ الْمُسِنَّةِ فَهَلَاكُهَا يُسْقِطُ الْفَصْلَ لَا أَصْلَ الْوَاجِبِ. وَلَوْ هَلَكَتْ الْحُمْلَانُ وَبَقِيَتْ الْمُسِنَّةُ يُؤْخَذُ قِسْطُهَا مِنْ الزَّكَاةِ وَذَلِكَ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ الْمُسِنَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُسِنَّةَ كَانَتْ سَبَبَ زَكَاةِ نَفْسِهَا وَزَكَاةُ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سِوَاهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ الْفَرِيضَةِ كَانَتْ فِيهَا لَكِنْ أَعْطَى الصِّغَارَ حُكْمَ الْكِبَارِ تَبَعًا لَهَا فَصَارَتْ الصِّغَارُ كَأَنَّهَا كِبَارٌ فَإِذَا هَلَكَتْ الْحُمْلَانُ هَلَكَتْ بِقِسْطِهَا مِنْ الْفَرِيضَةِ وَبَقِيَتْ الْمُسِنَّةُ بِقِسْطِهَا مِنْ الْفَرِيضَةِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ الْأَصْلُ حَالُ اخْتِلَاطِ الصِّغَارِ بِالْكِبَارِ أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الصِّغَارِ تَبَعًا لِلْكِبَارِ إذَا كَانَ الْعَدَدُ الْوَاجِبُ فِي الْكِبَارِ مَوْجُودًا فِي الصِّغَارِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَدَدُ الْوَاجِبِ فِي الْكِبَارِ كُلُّهُ مَوْجُودًا فِي الصِّغَارِ فَإِنَّهَا تَجِبُ بِقَدْرِ الْمَوْجُودِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بَيَانُ ذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ مُسِنَّتَانِ وَمِائَةٌ وَتِسْعَةَ عَشْرَ حَمَلًا يَجِبُ فِيهَا مُسِنَّتَانِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ عَدَدَ الْوَاجِبِ مَوْجُودٌ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ وَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ حَمَلًا أُخِذَتْ تِلْكَ الْمُسِنَّةُ لَا غَيْرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُؤْخَذُ الْمُسِنَّةُ وَحَمَلٌ وَكَذَلِكَ سِتُّونَ مِنْ الْعَجَاجِيلُ فِيهَا تَبِيعٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُؤْخَذُ التَّبِيعُ لَا غَيْرَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُؤْخَذُ التَّبِيعُ وَعُجُولٌ وَكَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ مِنْ الْفُصْلَانِ فِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أَنَّهَا تُؤْخَذُ فَحَسْبُ فِي قَوْلِهِمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُؤْخَذُ بِنْتُ لَبُونٍ وَفَصِيلٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّغَارِ أَصْلًا عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ مِقْدَارِ نِصَابِ السَّوَائِمِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَهُوَ الْأَسْنَانُ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ وَبِنْتِ اللَّبُونِ، وَالْحِقَّةُ وَالْجَذَعَةُ، وَالتَّبِيعُ، وَالْمُسِنَّةُ، وَالشَّاةُ وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فَبِنْتُ الْمَخَاضِ هِيَ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا سَنَةٌ وَدَخَلَتْ فِي الثَّانِيَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ أُمَّهَا صَارَتْ حَامِلًا بِوَلَدٍ آخَرَ بَعْدَهَا، وَالْمَاخِضُ اسْمٌ لِلْحَامِلِ مِنْ النُّوقِ وَبِنْتُ اللَّبُونِ هِيَ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا سَنَتَانِ وَدَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ أُمَّهَا حَمَلَتْ بَعْدَهَا وَوَلَدَتْ فَصَارَتْ ذَاتِ لَبَنٍ وَاللَّبُونُ هِيَ ذَاتُ اللَّبَنِ. وَالْحِقَّةُ هِيَ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا ثَلَاثُ سِنِينَ وَطَعَنَتْ فِي الرَّابِعَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ إمَّا لِاسْتِحْقَاقِهَا الْحَمْلَ وَالرُّكُوبَ أَوْ لِاسْتِحْقَاقِهَا الضِّرَابَ. وَالْجَذَعَةُ هِيَ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا أَرْبَعُ سِنِينَ وَطَعَنَتْ فِي الْخَامِسَةِ وَلَا اشْتِقَاقَ لِاسْمِهَا، وَالذُّكُورُ مِنْهَا ابْنُ مَخَاضٍ وَابْنُ لَبُونٍ وَحِقٌّ وَجَذَعٌ وَوَرَاءَ هَذِهِ أَسْنَانٌ مِنْ الْإِبِلِ مِنْ الثَّنِيِّ وَالسَّدِيسِ وَالْبَازِلِ لَكِنْ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي بَابِ الزَّكَاةِ فَلَا مَعْنَى لِذِكْرِ مَعَانِيهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالتَّبِيعُ الَّذِي تَمَّ لَهُ حَوْلٌ وَدَخَلَ فِي الثَّانِي وَالْأُنْثَى مِنْهُ التَّبِيعَةُ. وَالْمُسِنَّةُ الَّتِي تَمَّتْ لَهَا سَنَتَانِ وَطَعَنَتْ فِي الثَّالِثَةِ وَالذَّكَرُ مِنْهُ الْمُسِنُّ. وَأَمَّا الشَّاةُ فَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا الثَّنِيَّ فَصَاعِدًا وَالثَّنِيُّ مِنْ الشَّاةِ هِيَ الَّتِي دَخَلَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ أَخْذُ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيِّ مِنْ الْمَعْزِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَلَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ إلَّا مَا يَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَالْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ يَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَّةِ. وَقَوْلُ الطَّحَاوِيِّ يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْحَسَنِ، وَالْجَذَعُ

فصل صفة الواجب في السوائم

مِنْ الْغَنَمِ الَّذِي أَتَى عَلَيْهِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَقِيلَ الَّذِي أَتَى عَلَيْهِ أَكْثَرُ السَّنَةِ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ الْمَعْزِ إلَّا الثَّنِيُّ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا حَقُّنَا فِي الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ؛» وَلِأَنَّ الْجَذَعَ يَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ فَلَأَنْ يَجُوزَ فِي الزَّكَاةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ أَكْثَرُ شُرُوطًا مِنْ الزَّكَاةِ فَالْجَوَازُ هُنَاكَ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ هَهُنَا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا يُجْزِئُ فِي الزَّكَاةِ إلَّا الثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ فَصَاعِدًا وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ أَنَّ هَذَا مَا بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالِاجْتِهَادِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ صِفَةُ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ فَالْوَاجِبُ فِيهَا صِفَاتٌ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا مِنْهَا الْأُنُوثَةُ فِي الْوَاجِبِ فِي الْإِبِلِ مِنْ جِنْسِهَا مِنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ وَبِنْتِ اللَّبُونِ وَالْحِقَّةِ وَالْجَذَعَةِ وَلَا يَجُوزُ الذُّكُورُ مِنْهَا وَهُوَ ابْنُ الْمَخَاضِ وَابْنُ اللَّبُونِ وَالْحِقُّ وَالْجَذَعُ إلَّا بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إنَّمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ فِيهَا بِالْإِنَاثِ فَلَا يَجُوزُ الذُّكُورُ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْقِيَمِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا. وَأَمَّا فِي الْبَقَرِ فَيَجُوزُ فِيهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى لِوُرُودِ النَّصِّ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَفِي ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ» . وَكَذَا فِي الْإِبِلِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِاسْمِ الشَّاةِ وَإِنَّهَا تَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَكَذَا فِي الْغَنَمِ عِنْدَنَا يَجُوزُ فِي زَكَاتِهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ الذَّكَرُ إلَّا إذَا كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا. وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ فِيهَا بِاسْمِ الشَّاةِ. قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» وَاسْمُ الشَّاةِ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ وَسَطًا فَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ الْجَيِّدَ وَلَا الرَّدِيءَ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّقْوِيمِ بِرِضَا صَاحِبِ الْمَالِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِلسُّعَاةِ: «إيَّاكُمْ وَحَزَرَاتِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَخُذُوا مِنْ أَوْسَاطِهَا» . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِلسَّاعِي: «إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَخُذْ مِنْ حَوَاشِيهَا، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» وَفِي الْخَبَرِ الْمَعْرُوفِ «أَنَّهُ رَأَى فِي إبِلِ الصَّدَقَةِ نَاقَةً كَوْمَاءَ فَغَضِبَ عَلَى السَّاعِي وَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ؟ حَتَّى قَالَ السَّاعِي: أَخَذْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ يَا رَسُولَ اللَّهِ» . وَلِأَنَّ مَبْنَى الزَّكَاةِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ فِي أَخْذِ الْوَسَطِ لِمَا فِي أَخْذِ الْخِيَارِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَفِي أَخْذِ الْأَرْذَالِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْفُقَرَاءِ فَكَانَ نَظَرُ الْجَانِبَيْنِ فِي أَخْذِ الْوَسَطِ وَالْوَسَطُ هُوَ أَنْ يَكُونَ أَدْوَنَ مِنْ الْأَرْفَعِ، وَأَرْفَعَ مِنْ الْأَدْوَنِ كَذَا فَسَّرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْمُنْتَقَى. وَلَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ الرُّبَّى بِضَمِّ الرَّاءِ، وَلَا الْمَاخِضُ، وَلَا الْأَكِيلَةُ، وَلَا فَحْلُ الْغَنَمِ قَالَ مُحَمَّدٌ: الرُّبَّى الَّتِي تُرَبِّي وَلَدَهَا، وَالْأَكِيلَةُ الَّتِي تُسَمَّنُ لِلْأَكْلِ، وَالْمَاخِضُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ طَعَنَ فِي تَفْسِيرِ مُحَمَّدٍ الرُّبَّى وَالْأَكِيلَةَ وَزَعَمَ أَنَّ الرُّبَّى الْمُرَبَّاةُ وَالْأَكِيلَةُ الْمَأْكُولَةُ وَطَعْنُهُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ تَقْلِيدُ مُحَمَّدٍ إذْ هُوَ كَمَا كَانَ إمَامًا فِي الشَّرِيعَةِ كَانَ إمَامًا فِي اللُّغَةِ وَاجِبُ التَّقْلِيدِ فِيهَا كَتَقْلِيدِ نَقَلَةِ اللُّغَةِ كَأَبِي عُبَيْدٍ، وَالْأَصْمَعِيِّ، وَالْخَلِيلِ، وَالْكِسَائِيِّ، وَالْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ قَلَّدَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ، وَسَأَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبَ عَنْ الْغَزَالَةِ فَقَالَ: هِيَ عَيْنُ الشَّمْسِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ قَالَ لِغُلَامِهِ يَوْمًا: اُنْظُرْ هَلْ دَلَكَتْ الْغَزَالَةُ يَعْنِي الشَّمْسَ؟ ، وَكَانَ ثَعْلَبُ يَقُولُ: مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عِنْدَنَا مِنْ أَقْرَانِ سِيبَوَيْهِ، وَكَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً فِي اللُّغَةِ فَكَانَ عَلَى الطَّاعِنِ تَقْلِيدُهُ فِيهَا، كَيْفَ؟ وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الدِّيوَانِ وَمُجْمَلِ اللُّغَةِ مَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ فِي الرُّبَّى قَالَ صَاحِبُ الدِّيوَانِ: الرُّبَّى الَّتِي وَضَعَتْ حَدِيثًا أَيْ: هِيَ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْوِلَادَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُجْمَلِ: الرُّبَّى الشَّاةُ الَّتِي تُحْبَسُ فِي الْبَيْتِ لِلَّبَنِ فَهِيَ مُرَبِّيَةٌ لَا مُرَبَّاةٌ. وَالْأَكِيلَةُ وَإِنْ فُسِّرَتْ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللُّغَةِ بِمَا قَالَهُ الطَّاعِنُ لَكِنَّ تَفْسِيرَ مُحَمَّدٍ أَوْلَى وَأَوْفَقُ لِلْأُصُولِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمَفْعُولَ إذَا ذُكِرَ بِلَفْظِ فَعِيلٍ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ هَاءُ التَّأْنِيثِ يُقَالُ: امْرَأَةٌ قَتِيلٌ وَجَرِيحٌ مِنْ غَيْرِ هَاءِ التَّأْنِيثِ فَلَوْ كَانَتْ الْأَكِيلَةُ الْمَأْكُولَةُ لَمَا أُدْخِلَ فِيهَا الْهَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَصْلِ، وَلَمَّا أُدْخِلَ الْهَاءُ دَلَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِاسْمِ الْمَأْكُولَةِ بَلْ لَمَّا أُعِدَّ لِلْأَكْلِ كَالْأُضْحِيَّةِ أَنَّهَا اسْمٌ لِمَا أُعِدَّ لِلتَّضْحِيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَوَاءٌ كَانَ النِّصَابُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ نَوْعَيْنِ كَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ وَالْبَقَرِ وَالْجَوَامِيسِ وَالْعِرَابِ وَالْبُخْتِ أَنَّ الْمُصْدِقَ يَأْخُذُ مِنْهَا وَاحِدَةً وَسَطًا عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَأْخُذُ مِنْ الْغَالِبِ وَقَالَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: إنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ قِيمَةِ شَاةٍ مِنْ الضَّأْنِ وَشَاةٍ مِنْ الْمَعْزِ وَيُنْظَرُ فِي

فصل حكم الخيل

نِصْفِ الْقِيمَتَيْنِ فَيَأْخُذُ شَاةٌ بِقِيمَةِ ذَلِكَ مِنْ أَيِّ النَّوْعَيْنِ كَانَتْ وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَحَزَرَاتِهَا» وَأَمَرَ بِأَخْذِ أَوْسَاطِهَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ النِّصَابُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ نَوْعَيْنِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ كُلُّهَا بَنَاتُ مَخَاضٍ أَوْ كُلُّهَا بَنَاتُ لَبُونٍ أَوْ حِقَاقٌ أَوْ جِذَاعٌ فَفِيهَا شَاةٌ وَسَطٌ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ» وَإِنْ كَانَتْ عِجَافًا فَإِنْ كَانَ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَسَطٌ أَوْ أَعْلَى سِنًّا مِنْهَا فَفِيهَا أَيْضًا شَاةٌ وَسَطٌ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَسَطٌ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَتُؤْخَذُ تِلْكَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ» وَإِنْ كَانَتْ جَيِّدَةً لَا يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ الْجَيِّدَةَ وَلَكِنْ يَأْخُذُ قِيمَةَ بِنْتِ مَخَاضٍ وَسَطٍ، وَإِنْ أَخَذَ الْجَيِّدَةَ يَرُدُّ الْفَضْلَ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا عِجَافًا لَيْسَ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَلَا مَا يُسَاوِي قِيمَتُهَا قِيمَةَ بِنْتِ مَخَاضٍ بَلْ قِيمَتُهَا دُونَ قِيمَةِ بِنْتِ مَخَاضٍ أَوْسَاطٍ فَفِيهَا شَاةٌ بِقَدْرِهَا. وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنْ تَجْعَلَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَسَطًا حَكَمًا فِي الْبَابِ فَيُنْظَرُ إلَى قِيمَتِهَا وَإِلَى قِيمَةِ أَفْضَلِهَا مِنْ النِّصَابِ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ وَسَطٍ مَثَلًا مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَقِيمَةُ أَفْضَلِهَا خَمْسِينَ تَجِبُ شَاةٌ قِيمَتُهَا قِيمَةُ نِصْفِ شَاةٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ التَّفَاوُتُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ أَوْ أَقَلَّ فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى قَدْرِهِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الزِّيَادَاتِ تُعْرَفُ هُنَاكَ ثُمَّ إذَا وَجَبَ الْوَسَطُ فِي النِّصَابِ فَلَمْ يُوجَدْ الْوَسَطُ وَوُجِدَ سِنٌّ أَفْضَلَ مِنْهُ أَوْ دُونَهُ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: إنَّ الْمُصْدِقَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الْوَاجِبِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَدْوَنَ وَأَخَذَ تَمَامَ قِيمَةِ الْوَاجِبِ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ السَّائِمَةِ إنْ شَاءَ دَفَعَ الْقِيمَةَ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْأَفْضَلَ وَاسْتَرَدَّ الْفَضْلَ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْأَدْوَنَ وَدَفَعَ الْفَضْلَ مِنْ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْقِيمَةِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَالْخِيَارُ فِي ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْمَالِ دُونَ الْمُصْدِقِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْخِيَارُ لِلْمُصَّدِّقِ فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مَا إذَا أَرَادَ صَاحِبُ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضَ الْعَيْنِ لِأَجْلِ الْوَاجِبِ فَالْمُصْدِقُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنَّهُ لَا يَأْخُذْ وَبَيْنَ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِأَنْ كَانَ الْوَاجِبُ بِنْتُ لَبُونٍ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضَ الْحِقَّةِ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ، أَوْ كَانَ الْوَاجِبُ حِقَّةً فَأَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضَ الْجَذَعَةِ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ فَالْمُصَّدِّقُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَشْقِيصِ الْعَيْنِ وَالشِّقْصُ فِي الْأَعْيَانِ عَيْبٌ، فَكَانَ لَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْقَبُولِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ حُكْمُ الْخَيْلِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْخَيْلِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْخَيْلَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ عَلُوفَةً أَوْ سَائِمَةً، فَإِنْ كَانَتْ عَلُوفَةً بِأَنْ كَانَتْ تُعْلَفُ لِلرُّكُوبِ، أَوْ لِلْحَمْلِ، أَوْ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ وَمَالُ الزَّكَاةِ هُوَ الْمَالُ النَّامِي الْفَاضِلُ عَنْ الْحَاجَةِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ كَانَتْ تُعْلَفُ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ بِالْإِجْمَاعِ لِكَوْنِهَا مَالًا نَامِيًا فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ الْإِعْدَادَ لِلتِّجَارَةِ دَلِيلُ النَّمَاءِ وَالْفَضْلِ عَنْ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً فَإِنْ كَانَتْ تُسَامُ لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ أَوْ لِلْجِهَادِ وَالْغَزْوِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَتْ تُسَامُ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَتْ تُسَامُ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ فَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِطَةً ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا قَوْلًا وَاحِدًا وَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَدَّى مِنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا وَأَدَّى مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ. وَإِنْ كَانَتْ إنَاثًا مُنْفَرِدَةً فَفِيهَا رِوَايَتَانِ عَنْهُ ذَكَرَهُمَا الطَّحَاوِيُّ وَإِنْ كَانَتْ ذُكُورًا مُنْفَرِدَةً فَفِيهَا رِوَايَتَانِ عَنْهُ أَيْضًا ذَكَرَهُمَا الطَّحَاوِيُّ فِي الْآثَارِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا زَكَاةَ فِيهَا كَيْفَمَا كَانَتْ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ إلَّا أَنَّ فِي الرَّقِيقِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» ، وَكُلُّ ذَلِكَ نُصَّ فِي الْبَابِ، وَلِأَنَّ زَكَاةَ السَّائِمَةِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ نِصَابٍ مُقَدَّرٍ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَالشَّرْعُ لَمْ يَرِدْ بِتَقْدِيرِ النِّصَابِ فِي السَّائِمَةِ مِنْهَا فَلَا يَجِبُ فِيهَا زَكَاةُ السَّائِمَةِ كَالْحَمِيرِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «فِي كُلِّ فَرَسٍ سَائِمَةٍ دِينَارٌ، وَلَيْسَ فِي الرَّابِطَةِ شَيْءٌ» . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي صَدَقَةِ الْخَيْلِ أَنْ خَيِّرْ أَرْبَابَهَا فَإِنْ شَاءُوا أَدَّوْا مِنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا وَإِلَّا قَوِّمْهَا وَخُذْ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ. وَرُوِيَ

فصل بيان من له المطالبة بأداء الواجب في السوائم والأموال الظاهرة

عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا بَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إلَى الْبَحْرَيْنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ فَرَسٍ شَاتَيْنِ أَوْ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، وَلِأَنَّهَا مَالٌ نَامٍ فَاضِلٌ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ كَمَا لَوْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ " فَالْمُرَادُ مِنْهَا الْخَيْلُ الْمُعَدَّةُ لِلرُّكُوبِ وَالْغَزْوِ لَا لِلْإِسَامَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْخَيْلِ وَبَيْنَ الرَّقِيقِ وَالْمُرَادُ مِنْهَا عَبِيدُ الْخِدْمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَوْجَبَ فِيهَا صَدَقَةَ الْفِطْرِ؟ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ إنَّمَا تَجِبُ فِي عَبِيدِ الْخِدْمَةِ أَوْ يُحْتَمَلُ مَا ذَكَرْنَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِمْ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْكُلُّ إنَاثًا أَوْ ذُكُورًا فَوَجْهُ رِوَايَةِ الْوُجُوبِ الِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ السَّوَائِمِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ كُلُّهَا إنَاثًا أَوْ ذُكُورًا كَذَا هَهُنَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ هُوَ الْمَالُ النَّامِي وَلَا نَمَاءَ فِيهَا بِالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَلَا لِزِيَادَةِ اللَّحْمِ؛ لِأَنَّ لَحْمَهَا غَيْرُ مَأْكُولٍ عِنْدَهُ بِخِلَافِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ؛ لِأَنَّ لَحْمَهَا مَأْكُولٌ فَكَانَ زِيَادَةُ اللَّحْمِ فِيهَا بِالسَّمْنِ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ بِالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ فَلَا شَيْءَ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْحَمْلُ وَالرُّكُوبُ عَادَةً لَا الدَّرُّ وَالنَّسْلُ لَكِنَّهَا قَدْ تُسَامُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْحَاجَةِ لِدَفْعِ مُؤْنَةِ الْعَلَفِ. وَإِنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ وَالْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ فِي السَّوَائِمِ وَالْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْأَخْذِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ وِلَايَةِ الْآخِذِ، وَفِي بَيَانِ الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَالُ الزَّكَاةِ نَوْعَانِ ظَاهِرٌ وَهُوَ الْمَوَاشِي وَالْمَالُ الَّذِي يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ، وَبَاطِنٌ وَهُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَأَمْوَالُ التِّجَارَةِ فِي مَوَاضِعِهَا أَمَّا الظَّاهِرُ فَلِلْإِمَامِ وَنُوَّابِهِ وَهُمْ الْمُصْدِقُونَ مِنْ السُّعَاةِ وَالْعَشَّارِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ، وَالسَّاعِي هُوَ الَّذِي يَسْعَى فِي الْقَبَائِلِ لِيَأْخُذَ صَدَقَةَ الْمَوَاشِي فِي أَمَاكِنِهَا، وَالْعَاشِرُ هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مِنْ التَّاجِرِ الَّذِي يَمُرُّ عَلَيْهِ، وَالْمُصْدِقُ اسْمُ جِنْسٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةَ الْأَخْذِ فِي الْمَوَاشِي وَالْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَإِشَارَةُ الْكِتَابِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الزَّكَاةِ، عَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ فَدَلَّ أَنَّ لِلْإِمَامِ الْمُطَالَبَةَ بِذَلِكَ وَالْأَخْذَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بَيَانًا شَافِيًا حَيْثُ جَعَلَ لِلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا حَقًّا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُطَالِبَ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ بِصَدَقَاتِ الْأَنْعَامِ فِي أَمَاكِنِهَا وَكَانَ أَدَاؤُهَا إلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ لَمْ يَكُنْ لِذَكَرِ الْعَامِلِينَ وَجْهٌ. وَأَمَّا السُّنَّةُ «فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبْعَثُ الْمُصَدِّقِينَ إلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَالْبُلْدَانِ وَالْآفَاقِ لِأَخْذِ الصَّدَقَاتِ مِنْ الْأَنْعَامِ وَالْمَوَاشِي فِي أَمَاكِنِهَا» وَعَلَى ذَلِكَ فَعَلَ الْأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حَتَّى قَالَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا امْتَنَعَتْ الْعَرَبُ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ: وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحَارَبْتُهُمْ عَلَيْهِ وَظَهَرَ الْعُمَّالُ بِذَلِكَ مِنْ بَعْدِهِمْ إلَى يَوْمِنَا هَذَا. وَكَذَا الْمَالُ الْبَاطِنُ إذَا مَرَّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَافَرَ بِهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ الْعُمْرَانِ صَارَ ظَاهِرًا وَالْتَحَقَ بِالسَّوَائِمِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا كَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِزَكَاةِ الْمَوَاشِي فِي أَمَاكِنِهَا لِمَكَانِ الْحِمَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوَاشِيَ فِي الْبَرَارِي لَا تَصِيرُ مَحْفُوظَةً إلَّا بِحِفْظِ السُّلْطَانِ وَحِمَايَتِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي مَالٍ يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ، فَكَانَ كَالسَّوَائِمِ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصَّبَ الْعَشَارَ وَقَالَ لَهُمْ: خُذُوا مِنْ الْمُسْلِمِ رُبُعَ الْعُشْرِ، وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ، وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرَ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَكَانَ إجْمَاعًا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ بِذَلِكَ وَقَالَ: أَخْبَرَنِي بِهَذَا مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَمَّا الْمَالُ الْبَاطِنُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمِصْرِ فَقَدْ قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا: إنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَالَبَ بِزَكَاتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ طَالَبَا، وَعُثْمَانُ طَالَبَ زَمَانًا وَلَمَّا كَثُرَتْ أَمْوَالُ النَّاسِ وَرَأَى أَنَّ فِي تَتَبُّعِهَا حَرَجًا عَلَى الْأُمَّةِ وَفِي تَفْتِيشِهَا ضَرَرًا بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَوَّضَ الْأَدَاءَ إلَى أَرْبَابِهَا. وَذَكَرَ إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ فِي مُطَالَبَةِ

فصل شرط ولاية الآخذ مال الزكاة

الْمُسْلِمِينَ بِزَكَاةِ الْوَرِقِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَلَكِنَّ النَّاسَ كَانُوا يُعْطُونَ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَحْمِلُ إلَى الْأَئِمَّةِ فَيَقْبَلُونَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلَا يَسْأَلُونَ أَحَدًا عَنْ مَبْلَغِ مَالِهِ وَلَا يُطَالِبُونَهُ بِذَلِكَ إلَّا مَا كَانَ مِنْ تَوْجِيهِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْعَشَارَ إلَى الْأَطْرَافِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عِنْدَنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَمَّنْ بَعُدَ دَارُهُ وَشُقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ صَدَقَتَهُ إلَيْهِ، وَقَدْ جَعَلَ فِي كُلِّ طَرَفٍ مِنْ الْأَطْرَافِ عَاشِرَ التُّجَّارِ أَهْلَ الْحَرْبِ وَالذِّمَةِ وَأَمَرَ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَدْفَعُونَهُ إلَيْهِ. وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ تَخْفِيفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ مُطَالَبَةَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ الْعَيْنَ وَأَمْوَالَ التِّجَارَةِ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ سِوَى الْمَوَاشِي وَالْأَنْعَامِ وَأَنَّ مُطَالَبَةَ ذَلِكَ إلَى الْأَئِمَّةِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُهُمْ إلَى الْإِمَامِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَيَقْبَلُهُ وَلَا يَتَعَدَّى عَمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَالسُّنَّةُ إلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا سَلَاطِينُ زَمَانِنَا الَّذِينَ إذَا أَخَذُوا الصَّدَقَاتِ وَالْعُشُورَ وَالْخَرَاجَ لَا يَضَعُونَهَا مَوَاضِعَهَا فَهَلْ تَسْقُطُ هَذِهِ الْحُقُوقُ عَنْ أَرْبَابِهَا؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَإِنْ كَانُوا لَا يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُمْ فَيَسْقُطُ عَنَّا بِأَخْذِهِمْ، ثُمَّ إنَّهُمْ إنْ لَمْ يَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا فَالْوَبَالُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَعِيدٍ: إنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ وَلَا أُسْقِطُ الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُصْرَفُ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَهُمْ يُصْرَفُونَ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَيُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ الْعَدُوُّ فَإِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ وَيَذُبُّونَ عَنْ حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ؟ فَأَمَّا الزَّكَوَاتُ وَالصَّدَقَاتُ فَإِنَّهُمْ لَا يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ: إنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يَسْقُطُ وَيُعْطِي ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَضَعُونَهَا مَوَاضِعَهَا. وَلَوْ نَوَى صَاحِبُ الْمَالِ وَقْتَ الدَّفْعِ أَنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِمْ ذَلِكَ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ قِيلَ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمْ فُقَرَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَدَّوْا مَا عَلَيْهِمْ مِنْ التَّبِعَاتِ وَالْمَظَالِمِ صَارُوا فُقَرَاءَ؟ . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قَالَ: تَجُوزُ الصَّدَقَةُ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ هَامَانَ وَكَانَ وَالِيَ خُرَاسَانَ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا. وَحُكِيَ أَنَّ أَمِيرًا بِبَلْخٍ سَأَلَ وَاحِدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ لَزِمَتْهُ فَأَمَرَهُ بِالصِّيَامِ فَبَكَى الْأَمِيرُ وَعَرَفَ أَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ أَدَّيْتَ مَا عَلَيْكَ مِنْ التَّبِعَاتِ وَالْمَظْلِمَةِ لَمْ يَبْقَ لَك شَيْءٌ، وَقِيلَ: إنَّ السُّلْطَانَ لَوْ أَخَذَ مَالًا مِنْ رَجُلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ مُصَادَرَةً فَنَوَى صَاحِبُ الْمَالِ وَقْتَ الدَّفْعِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَعُشْرِ أَرْضِهِ يَجُوزُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ شَرْطُ وِلَايَةِ الْآخِذِ مَالَ الزَّكَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرْطُ وِلَايَةِ الْآخِذِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا وُجُودُ الْحِمَايَةِ مِنْ الْإِمَامِ حَتَّى لَوْ ظَهَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ أَهْلِ الْعَدْلِ أَوْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ وَغَلَبُوا عَلَيْهَا فَأَخَذُوا صَدَقَاتِ سَوَائِمِهِمْ وَعُشُورِ أَرَاضِيهمْ وَخَرَاجِهَا ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ عَلَيْهِمْ الْعَدْلِ لَا يَأْخُذُ مِنْهُمْ ثَانِيًا: لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْإِمَامِ لِأَجْلِ الْحِفْظِ وَالْحِمَايَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا أَنَّهُمْ يُفْتَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ أَنْ يُؤَدُّوا الزَّكَاةَ وَالْعُشُورَ ثَانِيًا، وَسَكَتَ مُحَمَّدٌ عَنْ ذِكْرِ الْخَرَاجِ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا قَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَيْهِمْ أَنْ يُعِيدُوا الْخَرَاجَ كَالزَّكَاةِ وَالْعُشُورِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ عَلَيْهِمْ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُصْرَفُ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَأَهْلُ الْبَغْيِ يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ وَيَذُبُّونَ عَنْ حَرِيمِ الْإِسْلَامِ. وَمِنْهَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ زَكَاةٌ وَالزَّكَاةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْوُجُوبِ فَتُرَاعَى لَهُ شَرَائِطُ الْوُجُوبِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَكَمَالِ النِّصَابِ وَكَوْنِهِ مُعَدًّا لِلنَّمَاءِ، وَحَوَلَانِ الْحَوْلِ، وَعَدَمِ الدَّيْنِ الْمُطَالَبِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، وَأَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمِنْهَا ظُهُورُ الْمَالِ وَحُضُورُ الْمَالِكِ حَتَّى لَوْ حَضَرَ الْمَالِكُ وَلَمْ يَظْهَرْ مَالُهُ لَا يُطَالَبُ بِزَكَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ مَالُهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حِمَايَةِ السُّلْطَانِ وَكَذَا إذَا ظَهَرَ الْمَالُ وَلَمْ يَحْضُرْ الْمَالِكُ وَلَا الْمَأْذُونُ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ كَالْمُسْتَبْضِعِ وَنَحْوِهِ لَا يُطَالَبُ بِزَكَاتِهِ. وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا جَاءَ السَّاعِي إلَى صَاحِبِ الْمَوَاشِي فِي أَمَاكِنِهَا يُرِيدُ أَخْذَ الصَّدَقَةِ فَقَالَ لَيْسَتْ هِيَ مَالِي أَوْ قَالَ: لَمْ يَحُلْ عَلَيْهَا الْحَوْلُ أَوْ قَالَ: عَلَيَّ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَيُسْتَحْلَفُ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ مُطَالَبَةُ السَّاعِي فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَلَوْ قَالَ: أَدَّيْتُ إلَى مُصْدِقٍ آخَرَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مُصْدِقٌ آخَرُ لَا يُصَدَّقُ؛ لِظُهُورِ كَذِبِهِ بِيَقِينٍ. وَإِنْ كَانَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مُصَدِّقٌ آخَرُ يُصَدَّقُ مَعَ الْيَمِينِ سَوَاءٌ أَتَى بِخَطٍّ وَبَرَاءَةٍ أَوْ لَمْ يَأْتِ بِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ مَا لَمْ يَأْتِ بِالْبَرَاءَةِ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ خَبَرَهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَجِّحٍ وَالْبَرَاءَةُ أَمَارَةُ رُجْحَانِ الصِّدْقِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الرُّجْحَانَ ثَابِتٌ بِدُونِ الْبَرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ إذْ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْمُصْدِقِ فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ الدَّفْعِ إلَى مَنْ جُعِلَ لَهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ فَكَانَ كَالْمُودَعِ إذَا قَالَ دَفَعْتُ

الْوَدِيعَةَ إلَى الْمُودِعِ، وَالْبَرَاءَةُ لَيْسَتْ بِعَلَامَةٍ صَادِقَةٍ؛ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ وَعَلَى هَذَا إذَا أَتَى بِالْبَرَاءَةِ عَلَى خِلَافِ اسْمِ ذَلِكَ الْمُصْدِقِ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَلَى رِوَايَة الْحَسَنِ لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ شَرْطٌ فَلَا تُقْبَلُ بِدُونِهَا. وَلَوْ قَالَ: أَدَّيْتُ زَكَاتَهَا إلَى الْفُقَرَاءِ لَا يُصَدَّقُ وَتُؤْخَذُ مِنْهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُؤْخَذُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُصْدِقَ لَا يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ لِنَفْسِهِ بَلْ لِيُوصِلَهَا إلَى مُسْتَحَقِّيهَا وَهُوَ الْفَقِيرُ وَقَدْ أَوْصَلَ بِنَفْسِهِ، وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ فَهُوَ بِقَوْلِهِ: أَدَّيْتُ بِنَفْسِي أَرَادَ إبْطَالَ حَقِّ السُّلْطَانِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْعُشْرُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِيمَنْ مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِالسَّوَائِمِ أَوْ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ أَوْ بِأَمْوَالِ التِّجَارَةِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا إلَّا فِي قَوْلِهِ: أَدَّيْتُ زَكَاتَهَا بِنَفْسِي إلَى الْفُقَرَاءِ فِيمَا سِوَى السَّوَائِمِ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلَا يُؤْخَذُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ أَدَاءَ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ مُفَوَّضٌ إلَى أَرْبَابِهَا إذَا كَانُوا يَتَّجِرُونَ بِهَا فِي الْمِصْرِ فَلَمْ يَتَضَمَّنْ الدَّفْعُ بِنَفْسِهِ إبْطَالَ حَقِّ أَحَدٍ. وَلَوْ مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَخْبَرَ الْعَاشِرُ أَنَّ لَهُ مِائَةً أُخْرَى قَدْ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ لَمْ يَأْخُذُ مِنْهُ زَكَاةَ هَذِهِ الْمِائَةِ الَّتِي مَرَّ بِهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِمَكَانِ الْحِمَايَةِ وَمَا دُونَ النِّصَابِ قَلِيلٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِمَايَةِ وَالْقَدْرُ الَّذِي فِي بَيْتِهِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْحِمَايَةِ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ أَحَدِهِمَا شَيْءٌ. وَلَوْ مَرَّ عَلَيْهِ بِالْعُرُوضِ فَقَالَ: هَذِهِ لَيْسَتْ لِلتِّجَارَةِ، أَوْ قَالَ: هَذِهِ بِضَاعَةٌ، أَوْ قَالَ: أَنَا أَجِيرٌ فِيهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَلَمْ يُوجَدْ ظَاهِرٌ يُكَذِّبُهُ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِيهِ الْمُسْلِمُ يُصَدَّقُ فِيهِ الذِّمِّيُّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يُفَارِقُ الْمُسْلِمَ فِي هَذَا الْبَابِ إلَّا فِي قَدْرِ الْمَأْخُوذِ وَهُوَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ كَمَا فِي التَّغْلِبِيِّ؛ لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ بِسَبَبِ الْحِمَايَةِ وَبِاسْمِ الصَّدَقَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَدَقَةً حَقِيقِيَّةً. وَلَا يُصَدَّقُ الْحَرْبِيُّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ إلَّا فِي جَوَارٍ يَقُولُ: هُنَّ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِي، أَوْ فِي غِلْمَانٍ يَقُولُ: هُمْ أَوْلَادِي؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُ لِمَكَانِ الْحِمَايَةِ وَالْعِصْمَةِ لِمَا فِي يَدِهِ وَقَدْ وُجِدَتْ فَلَا يَمْنَعُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْذِ وَإِنَّمَا قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الِاسْتِيلَادِ وَالنَّسَبِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ وَالنَّسَبَ كَمَا يَثْبُتُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَعَلَّلَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: الْحَرْبِيُّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَقَدْ صَدَقَ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَقَدْ صَارَتْ بِإِقْرَارِهِ فِي الْحَالِ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَلَا عُشْرَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ. وَلَوْ قَالَ: هُمْ مُدَبَّرُونَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَصِحُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَوْ مَرَّ عَلَى عَاشِرٍ بِمَالٍ وَقَالَ: هُوَ عِنْدِي بِضَاعَةً، أَوْ قَالَ: أَنَا أَجِيرٌ فِيهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَا يَعْشُرُهُ وَلَوْ قَالَ: هُوَ عِنْدِي مُضَارَبَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا وَهَلْ يَعْشُرُهُ؟ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يَقُولُ: يَعْشُرُهُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا يَعْشُرُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَلَوْ مَرَّ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ بِمَالٍ مِنْ كَسْبِهِ وَتِجَارَتِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَاسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَوْلَاهُ عَشَرَهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَوْلَاهُ فَكَذَلِكَ يَعْشُرُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِهِمَا لَا يَعْشُرُهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا أَعْلَمُ أَنَّهُ رَجَعَ فِي الْعَبْدِ أَمْ لَا، وَقِيلَ: إنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ رُجُوعَهُ فِي الْمُضَارِبِ رُجُوعٌ فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ فِي الْمُضَارِبِ أَنَّ الْمُضَارِبَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَخِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا أَنَّ الْمِلْكَ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَلَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ وَرَبُّ الْمَالِ لَمْ يَأْمُرهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ نَعَمْ لَكِنْ فِي وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ لَا فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ كَالْمُسْتَبْضِعِ، وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فِي مَعْنَى الْمُضَارِبِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَلِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ فَكَانَ الصَّحِيحُ هُوَ الرُّجُوعُ. وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ زَكَاةٌ وَالزَّكَاةُ لَا تَجِبُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ؛ لِأَنَّهُ بِقَبُولِ عَقْدِ الذِّمَّةِ صَارَ لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِأَنَّ الْعَاشِرَ يَأْخُذُ مِنْهُ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَدَقَةً حَقِيقَةً كَالتَّغْلِبِيِّ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي الْحَوْلِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ إلَّا إذَا عَشَرَهُ فَرَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ أَنَّهُ يَعْشُرُهُ ثَانِيًا وَإِنْ خَرَجَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِمَكَانِ حِمَايَةِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَلِأَمْوَالِ، وَمَا دَامَ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْحِمَايَةُ مُتَّحِدَةٌ مَا دَامَ الْحَوْلُ بَاقِيًا فَيَتَّحِدُ حَقُّ الْأَخْذِ. وَعِنْدَ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ وَرُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ تَتَجَدَّدُ الْحِمَايَةُ فَيَتَجَدَّدُ حَقُّ الْأَخْذِ وَإِذَا مَرَّ الْحَرْبِيُّ عَلَى الْعَاشِرِ فَلَمْ يَعْلَمْ حَتَّى عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ رَجَعَ ثَانِيًا

فصل القدر المأخوذ مما يمر به التاجر على العاشر

فَعَلِمَ بِهِ لَمْ يَعْشُرْهُ لِمَا مَضَى؛ لِأَنَّ مَا مَضَى سَقَطَ لِانْقِطَاعِ حَقِّ الْوِلَايَةِ عِنْدَ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ وَلَوْ اجْتَازَ الْمُسْلِمُ وَالْحَرْبِيُّ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمَا الْعَاشِرُ ثُمَّ عَلِمَ بِهِمَا فِي الْحَوْلِ الثَّانِي أَخَذَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ ثَبَتَ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُسْقِطُهُ. وَلَوْ مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِالْخَضْرَاوَاتِ وَبِمَا لَا يَبْقَى حَوْلًا كَالْفَاكِهَةِ وَنَحْوِهَا لَا يَعْشُرُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَعْشُرُهُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا مَالُ التِّجَارَةِ وَالْمُعْتَبَرُ فِي مَالِ التِّجَارَةِ مَعْنَاهُ وَهُوَ مَالِيَّتُهُ وَقِيمَتُهُ لَا عَيْنُهُ، فَإِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ؛ وَلِهَذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ إذَا كَانَ يَتَّجِرُ فِيهِ فِي الْمِصْرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ» وَالصَّدَقَةُ إذَا أُطْلِقَتْ يُرَادُ بِهَا الزَّكَاةُ إلَّا أَنَّ مَا يُتَّجَرُ بِهَا فِي الْمِصْرِ صَارَ مَخْصُوصًا بِدَلِيلٍ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ تُؤْخَذُ أَيْ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَهَا بَلْ صَاحِبُهَا يُؤَدِّيهَا بِنَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ الْحَوْلَ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَأَنَّهَا لَا تَبْقَى حَوْلًا وَالْعَاشِرُ إنَّمَا يَأْخُذُ مِنْهَا بِطَرِيقِ الزَّكَاةِ؛ وَلِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَخْذِ بِسَبَبِ الْحِمَايَةِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تَفْتَقِرُ إلَى الْحِمَايَةِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْصِدُهَا؛ وَلِأَنَّهَا تَهْلِكُ فِي يَدِ الْعَاشِرِ فِي الْمَفَازَةِ فَلَا يَكُونُ أَخْذُهَا مُفِيدًا. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى صَاحِبِهَا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ لِلْعَاشِرِ حَقُّ الْأَخْذِ؟ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا يُعْشَرُ مَالُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمَا عِنْدَهُمَا. وَلَوْ مَرَّ صَبِيٌّ وَامْرَأَةٌ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى الْعَاشِرِ فَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ شَيْءٌ وَعَلَى الْمَرْأَةِ مَا عَلَى الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الصَّدَقَاتِ لَا يُفَارِقُهَا إلَّا فِي التَّضْعِيفِ. وَالصَّدَقَةُ لَا تُؤْخَذُ مِنْ الصَّبِيِّ وَتُؤْخَذُ مِنْ الْمَرْأَةِ. وَلَوْ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ الْخَرَاجِ فِي أَرْضٍ غُلِبُوا عَلَيْهَا فَعَشَرَهُ، ثُمَّ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ أَهْلِ الْعَدْلِ يَعْشُرُهُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ بِالْمُرُورِ عَلَى عَاشِرِهِمْ ضَيَّعَ حَقَّ سُلْطَانِ أَهْلِ الْعَدْلِ وَحَقَّ فُقَرَاءِ أَهْلِ الْعَدْلِ بَعْدَ دُخُولِهِ تَحْتَ حِمَايَةِ سُلْطَانِ أَهْلِ الْعَدْلِ فَيُضْمَنُ. وَلَوْ مَرَّ ذِمِّيٌّ عَلَى الْعَاشِرِ بِخَمْرٍ لِلتِّجَارَةِ أَوْ خَنَازِيرَ يَأْخُذُ عُشْرَ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَلَا يَعْشُرُ الْخَنَازِيرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَعْشُرُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَعْشُرُهُمَا. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لَيْسَا بِمَالٍ أَصْلًا وَالْعُشْرُ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَالِ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُمَا مَالَانِ مُتَقَوِّمَانِ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَالْخَمْرُ عِنْدَهُمْ كَالْخَلِّ عِنْدَنَا وَالْخِنْزِيرُ عِنْدَهُمْ كَالشَّاةِ عِنْدَنَا وَلِهَذَا كَانَا مَضْمُونَيْنِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِالْإِتْلَافِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَمْرَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَالْقِيمَةُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ فَلَا يَكُونُ أَخْذُ قِيمَةِ الْخَمْرِ كَأَخْذِ عَيْنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ لَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَالْقِيمَةِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فَكَانَ أَخْذُ قِيمَتِهِ كَأَخْذِ عَيْنِهِ وَذَا لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْأَخْذَ حَقٌّ لِلْعَاشِرِ بِسَبَبِ الْحِمَايَةِ وَلِلْمُسْلِمِ وِلَايَةُ حِمَايَةِ الْخَمْرِ فِي الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا وَرِثَ الْخَمْرَ فَلَهُ وِلَايَةُ حِمَايَتِهَا عَنْ غَيْرِهِ بِالْغَصْبِ؟ وَلَوْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ وَيَسْتَرِدَّهَا مِنْهُ لِلتَّخْلِيلِ فَلَهُ وِلَايَةُ حِمَايَةِ خَمْرِ غَيْرِهِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ وِلَايَةُ السَّلْطَنَةِ. وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ وِلَايَةُ حِمَايَةِ الْخِنْزِيرِ رَأْسًا حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ وَلَهُ خَنَازِيرُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِيَهَا بَلْ يُسَيِّبَهَا فَلَا يَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ حِمَايَةِ خِنْزِيرٍ غَيْرَهُ. [فَصْلٌ الْقَدْرُ الْمَأْخُوذُ مِمَّا يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقَدْرُ الْمَأْخُوذُ مِمَّا يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ فَالْمَارُّ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا يَأْخُذُ مِنْهُ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ رُبُعَ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ زَكَاةٌ فَيُؤْخَذُ عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الزَّكَاةِ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ وَيُوضَعُ مَوْضِعَ الزَّكَاةِ وَيُسْقَطُ عَنْ مَالِهِ زَكَاةُ تِلْكَ السَّنَةِ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا يُؤْخَذُ مِنْهُ نِصْفُ الْعُشْرِ وَيُؤْخَذُ عَلَى شَرَائِطِ الزَّكَاةِ لَكِنْ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ جِزْيَةُ رَأْسِهِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ غَيْرَ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَالَحَهُمْ مِنْ الْجِزْيَةِ عَلَى الصَّدَقَةِ الْمُضَاعَفَةِ فَإِذَا أَخَذَ الْعَاشِرُ مِنْهُمْ ذَلِكَ سَقَطَتْ الْجِزْيَةُ عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا يَأْخُذُ مِنْهُ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا رُبُعَ الْعُشْرِ أُخِذَ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَإِنْ كَانَ نِصْفًا فَنِصْفٌ وَإِنْ كَانَ عُشْرًا فَعُشْرٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إلَى الْمُخَالَطَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَيَرَوْا مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ فَيَدْعُوهُمْ ذَلِكَ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانَ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ يَأْخُذُ مِنْهُ الْعُشْرَ، وَأَصْلُهُ مَا رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَتَبَ إلَى الْعَشَارِ فِي الْأَطْرَافِ أَنْ خُذُوا مِنْ الْمُسْلِمِ رُبْعَ الْعُشْرِ وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ وَمِنْ الْحَرْبِيِّ

فصل ركن الزكاة

الْعُشْرَ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: خُذُوا مِنْهُمْ مَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا فَقِيلَ لَهُ: إنْ لَمْ نَعْلَمْ مَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا؟ فَقَالَ: خُذُوا مِنْهُمْ الْعُشْرَ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ وَالْمُؤْنَةُ تُوضَعُ مَوَاضِعَ الْجِزْيَةِ وَتُصْرَفُ إلَى مَصَارِفِهَا. [فَصْلٌ رُكْنُ الزَّكَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُ الزَّكَاةِ فَرُكْنُ الزَّكَاةِ هُوَ إخْرَاجُ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتَسْلِيمُ ذَلِكَ إلَيْهِ يَقْطَعُ الْمَالِكُ يَدَهُ عَنْهُ بِتَمْلِيكِهِ مِنْ الْفَقِيرِ وَتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ أَوْ إلَى يَدِ مَنْ هُوَ نَائِبٌ عَنْهُ وَهُوَ الْمُصْدِقُ وَالْمِلْكُ لِلْفَقِيرِ يَثْبُتُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَصَاحِبُ الْمَالِ نَائِبٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّمْلِيكِ وَالتَّسْلِيمِ إلَى الْفَقِيرِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104] ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصَّدَقَةُ تَقَعُ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي كَفِّ الْفَقِيرِ» وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُلَّاكَ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ لِقَوْلِهِ عَزْو جَلَّ: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَالْإِيتَاءُ هُوَ التَّمْلِيكُ؛ وَلِذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الزَّكَاةَ صَدَقَةً بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] وَالتَّصَدُّقُ تَمْلِيكٌ فَيَصِيرُ الْمَالِكُ مُخْرِجًا قَدْرَ الزَّكَاةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمُقْتَضَى التَّمْلِيكِ سَابِقًا عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ عَلَى أَصْلِنَا وَالْعِبَادَةُ إخْلَاصُ الْعَمَلِ بِكُلِّيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا: إنَّ عِنْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْفَقِيرِ تَنْقَطِعُ نِسْبَةُ قَدْرِ الزَّكَاةِ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَتَصِيرُ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَيَكُونُ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الْإِخْرَاجِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِبْطَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ لَا فِي التَّمْلِيكِ مِنْ الْفَقِيرِ بَلْ التَّمْلِيكِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَقِيقَةِ وَصَاحِبُ الْمَالِ نَائِبٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الرُّكْنُ هُوَ إخْرَاجُ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ وَعِنْدَهُمَا صُورَةً وَمَعْنًى لَكِنْ يَجُوزُ إقَامَةُ الْغَيْرِ مَقَامَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَيَبْطُلُ اعْتِبَارُ الصُّورَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَبَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ فِي السَّوَائِمِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى وُجُوهِ الْبِرِّ مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَالرِّبَاطَاتِ وَالسِّقَايَاتِ، وَإِصْلَاحِ الْقَنَاطِرِ، وَتَكْفِينِ الْمَوْتَى وَدَفْنِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّمْلِيكُ أَصْلًا. وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى بِالزَّكَاةِ طَعَامًا فَأَطْعَمَ الْفُقَرَاءَ غَدَاءً وَعَشَاءً وَلَمْ يَدْفَعْ عَيْنَ الطَّعَامِ إلَيْهِمْ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّمْلِيكِ. وَكَذَا لَوْ قَضَى دَيْنَ مَيِّتٍ فَقِيرٍ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّمْلِيكُ مِنْ الْفَقِيرِ لِعَدَمِ قَبْضِهِ، وَلَوْ قَضَى دَيْنَ حَيٍّ فَقِيرٍ إنْ قَضَى بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّمْلِيكُ مِنْ الْفَقِيرِ لِعَدَمِ قَبْضِهِ وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ يَجُوزُ عَنْ الزَّكَاةِ لِوُجُودِ التَّمْلِيكِ مِنْ الْفَقِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِهِ صَارَ وَكِيلًا عَنْهُ فِي الْقَبْضِ فَصَارَ كَأَنَّ الْفَقِيرَ قَبَضَ الصَّدَقَةَ بِنَفْسِهِ وَمِلْكِهِ مِنْ الْغَرِيمِ. وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ لَا يَجُوزُ لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ إذْ الْإِعْتَاقُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ بَلْ هُوَ إسْقَاطُ الْمِلْكِ. وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى بِقَدْرِ الزَّكَاةِ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ لَا يَجُوزُ عَنْ الزَّكَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ وَبِهِ تَأَوَّلَ قَوْله تَعَالَى {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالزَّكَاةِ عَبْدًا فَيُعْتِقَهُ، وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّمْلِيكُ، وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةُ الْمِلْكِ فَلَمْ يَأْتِ بِالْوَاجِبِ وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] إعَانَةُ الْمُكَاتَبِينَ بِالزَّكَاةِ لِمَا نَذْكُرُهُ وَلَوْ دَفَعَ زَكَاتَهُ إلَى الْإِمَامِ أَوْ إلَى عَامِلِ الصَّدَقَةِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْفَقِيرِ فِي الْقَبْضِ فَكَانَ قَبْضُهُ كَقَبْضِ الْفَقِيرِ. وَكَذَا لَوْ دَفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ إلَى صَبِيٍّ فَقِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ فَقِيرٍ وَقَبَضَ لَهُ وَلِيُّهُ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ أَوْ وَصِيُّهُمَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَمْلِكُ قَبْضَ الصَّدَقَةِ عَنْهُ. وَكَذَا لَوْ قَبَضَ عَنْهُ بَعْضُ أَقَارِبِهِ وَلَيْسَ ثَمَّةَ أَقْرَبَ مِنْهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ يَجُوزُ، وَكَذَا الْأَجْنَبِيُّ الَّذِي هُوَ فِي عِيَالِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَلِيِّ فِي قَبْضِ الصَّدَقَةِ لِكَوْنِهِ نَفْعًا مَحْضًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ قَبْضَ الْهِبَةِ لَهُ؟ ، وَكَذَا الْمُلْتَقِطُ إذَا قَبَضَ الصَّدَقَةَ عَنْ اللَّقِيطِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْقَبْضَ لَهُ فَقَدْ وَجَدَ تَمْلِيكَ الصَّدَقَةِ مِنْ الْفَقِيرِ، وَذُكِرَ فِي الْعُيُونِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَنْ عَالَ يَتِيمًا فَجَعَلَ يَكْسُوهُ وَيُطْعِمُهُ وَيَنْوِي بِهِ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ يَجُوزُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: مَا كَانَ مِنْ كِسْوَةٍ يَجُوزُ وَفِي الطَّعَامِ لَا يَجُوزُ إلَّا مَا دُفِعَ إلَيْهِ، وَقِيلَ: لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ مُرَادَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ هُوَ الْإِطْعَامُ عَلَى طَرِيقِ الْإِبَاحَةِ بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْيَتِيمُ عَاقِلًا يُدْفَعُ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا يُقْبَضُ عَنْهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ ثُمَّ يَكْسُوهُ وَيُطْعِمُهُ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْوَلِيِّ كَقَبْضِهِ لَوْ كَانَ عَاقِلًا وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْأَجْنَبِيِّ لِلْفَقِيرِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ إلَّا بِتَوْكِيلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرِهِ كَمَا فِي قَبْضِ الْهِبَةِ. وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يُخَرَّجُ الدَّفْعُ إلَى عَبْدِهِ وَمُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّمْلِيكِ إذْ هُمْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا فَكَانَ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ دَفْعًا إلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَدْفَعُ إلَى مُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَلِأَنَّ كَسْبَهُ مُتَرَدِّدٌ

فصل شرائط ركن الزكاة

بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَوْ لِمَوْلَاهُ لِجَوَازِ أَنْ يُعْجِزَ نَفْسَهُ وَلَا يَدْفَعُ إلَى وَالِدِهِ وَإِنْ عَلَا وَلَا إلَى وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِمِلْكِهِ فَكَانَ الدَّفْعُ إلَيْهِ دَفْعًا إلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَقَعُ تَمْلِيكًا مُطْلَقًا؛ لِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ وَلَا يَدْفَعُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ زَكَاتَهُ إلَى الْآخَرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ تَدْفَعُ الزَّوْجَةُ زَكَاتَهَا إلَى زَوْجِهَا احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّدَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَكِ أَجْرَانِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الصِّلَةِ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ يَنْتَفِعُ بِمَالِ صَاحِبِهِ كَمَا يَنْتَفِعُ بِمَالِ نَفْسِهِ عُرْفًا وَعَادَةً فَلَا يَتَكَامَلُ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَدْفَعَ إلَى زَوْجَتِهِ كَذَا الزَّوْجَةُ وَتُخَرَّجُ هَذِهِ الْمَسَائِلُ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ سَنَذْكُرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ رُكْنِ الزَّكَاةِ] [الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدِّي] وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدِّي وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدَّى وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدَّى إلَيْهِ أَمَّا. الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدِّي فَنِيَّةُ الزَّكَاةِ وَالْكَلَامُ فِي النِّيَّةِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَفِي بَيَانِ وَقْتِ نِيَّةِ الْأَدَاءِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ لَهُ» وَقَوْلُهُ «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ؛ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ فَلَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَلَوْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ عَلَى فَقِيرٍ وَلَمْ يَنْوِ الزَّكَاةَ أَجْزَأَهُ عَنْ الزَّكَاةِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ. وَجْهُ الْقِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ النِّيَّةِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النِّيَّةَ وُجِدَتْ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لَا يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَيَغْفُلُ عَنْ نِيَّةِ الزَّكَاةِ فَكَانَتْ النِّيَّةُ مَوْجُودَةً دَلَالَةً، وَعَلَى هَذَا إذَا وَهَبَ جَمِيعَ النِّصَابِ مِنْ الْفَقِيرِ أَوْ نَوَى تَطَوُّعًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ نَوَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَتَصَدَّقَ شَيْئًا فَشَيْئًا أَجْزَأَهُ عَنْ الزَّكَاةِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَجَعَلَ يَتَصَدَّقُ حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ ضَمِنَ الزَّكَاة؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ بَقِيَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ بَعْدَمَا تَصَدَّقَ بِبَعْضِ الْمَالِ فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّصَدُّقِ بِالْبَاقِي. وَلَوْ تَصَدَّقَ بِبَعْضِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الزَّكَاةِ حَتَّى لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ زَكَاةِ الْكُلِّ فَهَلْ يُجْزِئُهُ عَنْ زَكَاةِ الْقَدْرِ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهِ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُجْزِئُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ الْجَمِيعَ، وَقَالَ: مُحَمَّدٌ يُجْزِئُهُ عَنْ زَكَاةِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ وَيُزَكِّي مَا بَقِيَ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أَدَّى خَمْسَةً مِنْ مِائَتَيْنِ لَا يَنْوِي الزَّكَاةَ أَوْ نَوَى تَطَوُّعًا لَا تَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ الْخَمْسَةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْكُلِّ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ الْخَمْسَةِ وَهُوَ ثُمُنُ دِرْهَمٍ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ الْبَاقِي. وَكَذَا لَوْ أَدَّى مِائَةً لَا يَنْوِي الزَّكَاةَ وَنَوَى تَطَوُّعًا لَا تَسْقُطُ زَكَاةُ الْمِائَةِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ الْكُلَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ مَا تَصَدَّقَ وَهُوَ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ الْبَاقِي كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الْخِلَافَ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيُّ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ زَكَاةُ الْقَدْرِ الْمُؤَدَّى وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارُ الْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِالْكُلِّ لَجَازَ عَنْ زَكَاةِ الْكُلِّ فَإِذَا تَصَدَّقَ بِالْبَعْضِ يَجُوزُ عَنْ زَكَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ شَائِعٌ فِي جَمِيعِ النِّصَابِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ سُقُوطَ الزَّكَاةِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ عَنْ الْمَالِ الَّذِي فِيهِ الزَّكَاةُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي التَّصَدُّقِ بِالْبَعْضِ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِخَمْسَةٍ يَنْوِي بِجَمِيعِهَا الزَّكَاةَ وَالتَّطَوُّعَ كَانَتْ مِنْ الزَّكَاةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هِيَ مِنْ التَّطَوُّعِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النِّيَّتَيْنِ تَعَارَضَتَا فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْيِينُ لِلتَّعَارُضِ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ التَّصَدُّقُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ فَيَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى وَالْأَدْنَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْجِهَتَيْنِ يُعْمَلُ بِالْأَقْوَى وَهُوَ الْفَرْضُ كَمَا فِي تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِأَقْوَاهُمَا، وَلِأَنَّ التَّعْيِينَ يُعْتَبَرُ فِي الزَّكَاةِ لَا فِي التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّعْيِينِ أَلَا تَرَى أَنَّ إطْلَاقَ الصَّدَقَةِ يَقَعُ عَلَيْهِ فَلَغَا تَعْيِينُهُ وَبَقِيَتْ الزَّكَاةُ مُتَعَيِّنَةً؟ فَيَقَعُ عَنْ الزَّكَاةِ. وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدَّفْعِ نِيَّةُ الْآمِرِ حَتَّى لَوْ دَفَعَ خَمْسَةً إلَى رَجُلٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى الْفَقِيرِ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ فَدَفَعَ وَلَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ عِنْدَ الدَّفْعِ جَازَ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ مِنْ الْمُؤَدِّي وَالْمُؤَدِّي هُوَ الْآمِرُ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا الْمَأْمُورُ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْأَدَاءِ وَلِهَذَا لَوْ وَكَّلَ ذِمِّيًّا بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدِّي فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُسْلِمُ، وَذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ فِي رَجُلٍ أَعْطَى رَجُلًا دَرَاهِمَ لِيَتَصَدَّقَ بِهَا تَطَوُّعًا ثُمَّ نَوَى الْآمِرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ ثُمَّ تَصَدَّقَ الْمَأْمُورُ جَازَ عَنْ زَكَاةِ مَالِ الْآمِرِ. وَكَذَا

فصل الذي يرجع إلى المؤدي

لَوْ قَالَ: تَصَدَّقْ بِهَا عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي ثُمَّ نَوَى الْآمِرُ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ جَازَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْآمِرَ هُوَ الْمُؤَدِّي مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَإِنَّمَا الْمَأْمُورُ نَائِبٌ عَنْهُ وَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الْمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ نَوَى وَقْتَ الدُّخُولِ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ لَا تَكُونُ زَكَاةً؛ لِأَنَّ عِنْدَ الدُّخُولِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِالنَّذْرِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْ الْيَمِينِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ فِيهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَلَوْ تَصَدَّقَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنْ تَصَدَّقَ بِمَالِ نَفْسِهِ جَازَتْ الصَّدَقَةُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا تَجُوزُ عَنْ غَيْرِهِ وَإِنْ أَجَازَهُ وَرَضِيَ بِهِ أَمَّا عَدَمُ الْجَوَازِ عَنْ غَيْرِهِ فَلِعَدَمِ التَّمْلِيكِ مِنْهُ إذْ لَا مِلْكَ لَهُ فِي الْمُؤَدَّى وَلَا يَمْلِكُهُ بِالْإِجَازَةِ فَلَا تَقَعُ الصَّدَقَةُ عَنْهُ وَتَقَعُ عَنْ الْمُتَصَدِّقِ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وُجِدَ نَفَاذًا عَلَيْهِ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِمَالِ الْمُتَصَدَّقِ عَنْهُ وُقِفَ عَلَى إجَازَتِهِ فَإِنْ أَجَازَ وَالْمَالُ قَائِمٌ جَازَ عَنْ الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ هَالِكًا جَازَ عَنْ التَّطَوُّعِ وَلَمْ يَجُزْ عَنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَصَدَّقَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَهَلَكَ الْمَالُ صَارَ بَدَلُهُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَوْ جَازَ ذَلِكَ عَنْ الزَّكَاةِ كَانَ أَدَاءُ الدَّيْنِ عَنْ الْغَيْرِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا وَقْتُ النِّيَّةِ فَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ وَلَا تُجْزِئُ الزَّكَاةُ عَمَّنْ أَخْرَجَهَا إلَّا بِنِيَّةٍ مُخَالِطَةٍ لِإِخْرَاجِهِ إيَّاهَا كَمَا قَالَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ إلَّا بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِلْأَدَاءِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ وَقْتَ التَّصَدُّقِ بِحَالٍ لَوْ سُئِلَ عَنْ مَاذَا يَتَصَدَّقُ؟ أَمْكَنَهُ الْجَوَابُ مِنْ غَيْرِ فِكْرَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ نِيَّةً مِنْهُ وَتُجْزِئُهُ كَمَا قَالَ فِي نِيَّةِ الصَّلَاةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ النِّيَّةَ تُعْتَبَرُ فِي أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ إمَّا عِنْدَ الدَّفْعِ وَإِمَّا عِنْدَ التَّمْيِيزِ هَكَذَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ نَوَى أَنَّ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ إلَى آخِرِ السَّنَةِ فَهُوَ عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ فَجَعَلَ يَتَصَدَّقُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ وَلَا تَحْضُرُهُ النِّيَّةُ قَالَ: لَا تُجْزِئُهُ وَإِنْ مَيَّزَ زَكَاةَ مَالِهِ فَصَرَّهَا فِي كُمِّهِ وَقَالَ: هَذِهِ مِنْ الزَّكَاةِ فَجَعَلَ يَتَصَدَّقُ وَلَا تَحْضُرُهُ النِّيَّةُ قَالَ: أَرْجُو أَنْ تُجْزِئَهُ عَنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ لَمْ تُوجَدْ النِّيَّةُ فِي الْوَقْتَيْنِ وَفِي الثَّانِي وُجِدَ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ وَقْتُ التَّمْيِيزِ وَإِنَّمَا لَمْ تُشْتَرَطْ فِي وَقْتِ الدَّفْعِ عَيْنًا؛ لِأَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ قَدْ يَقَعُ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَقَدْ يَقَعُ مُتَفَرِّقًا، وَفِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ عِنْدَ كُلِّ دَفْعٍ مَعَ تَفْرِيقِ الدَّفْعِ حَرَجٌ وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدِّي] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدِّي فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ سَوَاءٌ كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَوْ لَا مِنْ جِنْسِ الْمَالِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَالٍ يَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِهِ تَطَوُّعًا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ مِنْهُ وَمَا لَا فَلَا وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ وَقَدْ مَضَتْ الْمَسْأَلَةُ غَيْرَ أَنَّ الْمُؤَدَّى يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَدْرُ وَالصِّفَةُ فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ وَفِي بَعْضِهَا الْقَدْرُ دُونَ الصِّفَةِ وَفِي بَعْضِهَا الصِّفَةُ دُونَ الْقَدْرِ وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ اتِّفَاقٌ وَفِي بَعْضِهَا اخْتِلَافٌ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا، وَالْعَيْنُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا كَالْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا فَإِنْ كَانَ مِنْ السَّوَائِمِ فَإِنْ أَدَّى الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ مِنْ الشَّاةِ وَبِنْتِ الْمَخَاضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُرَاعَى فِيهِ صِفَةُ الْوَاجِبِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَسَطًا فَلَا يَجُوزُ الرَّدِيءُ إلَّا عَلَى طَرِيقِ التَّقْوِيمِ فَبِقَدْرِ قِيمَتِهِ وَعَلَيْهِ التَّكْمِيلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ الْوَاجِبَ وَلَوْ أَدَّى الْجَيِّدَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ وَزِيَادَةً. وَإِنْ أَدَّى الْقِيمَةَ أَدَّى قِيمَةَ الْوَسَطِ فَإِنْ أَدَّى قِيمَةَ الرَّدِيءِ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِقَدْرِ قِيمَتِهِ وَعَلَيْهِ التَّكْمِيلُ. وَلَوْ أَدَّى شَاةً وَاحِدَةً سَمِينَةً عَنْ شَاتَيْنِ وَسَطَيْنِ تَعْدِلُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ شَاتَيْنِ وَسَطَيْنِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا وَالْجُودَةُ فِي غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا مُتَقَوِّمَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ بِشَاتَيْنِ؟ فَبِقَدْرِ الْوَسَطِ يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَبِقَدْرِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ يَقَعُ عَنْ شَاةٍ أُخْرَى وَإِنْ كَانَ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ فَإِنْ أَدَّى مِنْ النِّصَابِ رُبُعَ عُشْرِهِ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ النِّصَابُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ بِكَمَالِهِ وَإِنْ أَدَّى مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ يُرَاعَى فِيهِ صِفَةُ الْوَاجِبِ مِنْ الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ وَالرَّدِيءِ وَلَوْ أَدَّى الرَّدِيءَ مَكَانَ الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى طَرِيقِ التَّقْوِيمِ بِقَدْرِهِ وَعَلَيْهِ التَّكْمِيلُ؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ لَيْسَتْ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُ ثَوْبٍ بِثَوْبَيْنِ فَكَانَتْ الْجَوْدَةُ فِيهَا مُتَقَوِّمَةً؛ وَلِهَذَا لَوْ أَدَّى ثَوْبًا جَيِّدًا عَنْ ثَوْبَيْنِ رَدِيئَيْنِ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ يُرَاعَى فِيهِ قِيمَةُ الْوَاجِبِ حَتَّى لَوْ أَدَّى أَنْقَصَ مِنْهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِقَدْرِهِ وَإِنْ كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا مِنْ الْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ فَإِنْ أَدَّى رُبُعَ عُشْرِ النِّصَابِ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَدَّى مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ وَإِمَّا أَنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُؤَدَّى مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ بِأَنْ أَدَّى الذَّهَبَ عَنْ الْفِضَّةِ أَوْ

الْحِنْطَةَ عَنْ الشَّعِيرِ يُرَاعَى قِيمَةُ الْوَاجِبِ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَوْ أَدَّى أَنْقَصَ مِنْهَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ كُلُّ الْوَاجِبِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكْمِيلُ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَ مُقَابِلَتِهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا وَإِنْ كَانَ الْمُؤَدَّى مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْقَدْرُ لَا الْقِيمَةُ، وَقَالَ زُفَرُ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقِيمَةُ لَا الْقَدْرُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْمُعْتَبَرُ مَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ فَإِنْ كَانَ اعْتِبَارُ الْقَدْرِ أَنْفَعَ فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقَدْرُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَإِنْ كَانَ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ أَنْفَعَ فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْقِيمَةُ كَمَا قَالَ زُفَرُ. وَبَيَانُ هَذَا فِي مَسَائِلَ، إذَا كَانَ لَهُ مِائَتَانِ قَفِيزٍ حِنْطَةً جَيِّدَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَلَمْ يُؤَدِّ مِنْهَا وَأَدَّى خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ رَدِيئَةٍ يَجُوزُ أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَيُعْتَبَرُ الْقَدْرُ لَا قِيمَةُ الْجَوْدَةِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَضْلَ إلَى تَمَامِ قِيمَةِ الْوَاجِبِ اعْتِبَارًا فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ لِلْقِيمَةِ عِنْدَ زُفَرَ وَاعْتِبَارًا لِلْأَنْفَعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالصَّحِيحُ اعْتِبَارُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ مُقَابِلَتِهَا بِجِنْسِهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ: إنَّ الْجَوْدَةَ مُتَقَوِّمَةٌ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ تَقَوُّمِهَا شَرْعًا لِجَرَيَانِ الرِّبَا، وَالرِّبَا اسْمٌ لِمَالٍ يُسْتَحَقُّ بِالْبَيْعِ وَلَمْ يُوجَدْ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُسْقِطَ لِاعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ وَهُوَ النَّصُّ مُطْلَقٌ فَيَقْتَضِي سُقُوطَ تَقَوُّمِهَا مُطْلَقًا إلَّا فِيمَا قُيِّدَ بِدَلِيلٍ، وَلَوْ كَانَ النِّصَابُ حِنْطَةً رَدِيئَةً لِلتِّجَارَةِ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَأَدَّى أَرْبَعَةَ أَقْفِزَةٍ جَيِّدَةٍ عَنْ خَمْسَةِ أَقْفِزَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ أَرْبَعَةِ أَقْفِزَةٍ مِنْهَا، وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ قَفِيزًا آخَرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ اعْتِبَارًا لِلْقَدْرِ دُونَ الْقِيمَةِ عِنْدَهُمَا وَاعْتِبَارًا لِلْأَنْفَعِ لِلْفُقَرَاءِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ اعْتِبَارًا لِلْقِيمَةِ عِنْدَهُ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ جَيِّدَةٍ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَأَدَّى خَمْسَةً زُيُوفًا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِوُجُودِ الْقَدْرِ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لِعَدَمِ الْقِيمَةِ وَالْأَنْفَعِ، وَلَوْ أَدَّى أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ جَيِّدَةٍ عَنْ خَمْسَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ وَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ آخَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ وَالْقَدْرُ نَاقِصٌ. وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِاعْتِبَارِ الْأَنْفَعِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْقَدْرُ هَهُنَا أَنْفَعُ لَهُمْ، وَعَلَى أَصْلِ زُفَرَ يَجُوزُ لِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَلَوْ كَانَ لَهُ قَلْبُ فِضَّةٍ أَوْ إنَاءٌ مَصْنُوعٍ مِنْ فِضَّةٍ جَيِّدَةٍ وَزْنُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ لِجَوْدَتِهِ وَصِيَاغَتِهِ ثَلَاثُمِائَةٍ فَإِنْ أَدَّى مِنْ النِّصَابِ أَدَّى رُبُعَ عُشْرِهِ، وَإِنْ أَدَّى مِنْ الْجِنْسِ مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ يُؤَدِّي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ زَكَاةَ الْمِائَتَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يُؤَدِّي زَكَاةَ ثَلَاثِمِائَةَ دِرْهَمٍ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ أَدَّى مِنْ غَيْرِ جِنْسَةِ يُؤَدِّي زَكَاةَ ثَلَاثِمِائَةَ وَذَلِكَ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْجَوْدَةِ تَظْهَرُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ، وَلَوْ أَدَّى عَنْهَا خَمْسَةً زُيُوفًا قِيمَتُهَا أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ جَيِّدَةٍ جَازَ وَسَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَضْلَ إلَى تَمَامِ قِيمَةِ الْوَاجِبِ وَعَلَى هَذَا النَّذْرِ إذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً قَفِيزَ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ فَأَدَّى قَفِيزًا رَدِيئًا يَخْرُجُ عَنْ النَّذْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْفَضْلِ وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً قَفِيزَ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ فَتَصَدَّقَ بِنِصْفِ قَفِيزِ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ قَفِيزِ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى النِّصْفِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِنِصْفٍ آخَرَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَفِي قَوْلِ زُفَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَهَذَا وَالزَّكَاةَ سَوَاءٌ وَالْأَصْلُ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً بِشَاتَيْنِ فَتَصَدَّقَ مَكَانَهُمَا بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ شَاتَيْنِ جَازَ وَيَخْرُجُ عَنْ النَّذْرِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُهْدِيَ شَاتَيْنِ فَأَهْدَى مَكَانَهُمَا شَاةً تَبْلُغُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ شَاتَيْنِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَعَلَيْهِ شَاةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ هُنَاكَ فِي نَفْسِ الْإِرَاقَةِ لَا فِي التَّمْلِيكِ، وَإِرَاقَةُ دَمٍ وَاحِدٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ إرَاقَةِ دَمَيْنِ. وَكَذَا لَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ عِتْقَ رَقَبَتَيْنِ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً تَبْلُغُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ رَقَبَتَيْنِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ ثَمَّةَ لَيْسَ فِي التَّمْلِيكِ بَلْ فِي إزَالَةِ الرِّقِّ، وَإِزَالَةُ رِقٍّ وَاحِدٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ إزَالَةِ رِقَّيْنِ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَتْ سَمِينَةً إلَّا عَنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ مَالُ الزَّكَاةِ دَيْنًا فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَدَاءُ الْعَيْنِ عَنْ الْعَيْنِ جَائِزٌ بِأَنْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ عَيْنٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَأَدَّى خَمْسَةً مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ أَدَاءُ الْكَامِلِ عَنْ الْكَامِلِ فَقَدْ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْوَاجِبِ. وَكَذَا إذَا أَدَّى الْعَيْنَ عَنْ الدَّيْنِ بِأَنْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ دَيْنٌ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ وَوَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ

فصل الذي يرجع إلى المؤدى إليه

فَأَدَّى خَمْسَةً عَيْنًا عَنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءُ الْكَامِلِ عَنْ النَّاقِصِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مَالٌ بِنَفْسِهِ وَمَالِيَّةُ الدَّيْنِ لِاعْتِبَارِ تَعَيُّنِهِ فِي الْعَاقِبَةِ. وَكَذَا الْعَيْنُ قَابِلٌ لِلتَّمْلِيكِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ وَالدَّيْنُ لَا يَقْبَلُ التَّمْلِيكَ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَأَدَاءُ الدَّيْنِ عَنْ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ بِأَنْ كَانَ لَهُ عَلَى فَقِيرٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَلَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ عَيْنٍ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَتَصَدَّقَ بِالْخَمْسَةِ عَلَى الْفَقِيرِ نَاوِيًا عَنْ زَكَاةِ الْمِائَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءُ النَّاقِصِ عَنْ الْكَامِلِ فَلَا يَخْرُجُ عَمَّا عَلَيْهِ، وَالْحِيلَةُ فِي الْجَوَازِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ عَيْنٍ يَنْوِي عَنْ زَكَاةِ الْمِائَتَيْنِ ثُمَّ يَأْخُذُهَا مِنْهُ قَضَاءً عَنْ دَيْنِهِ فَيَجُوزُ وَيَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا أَدَاءُ الدَّيْنِ عَنْ الدَّيْنِ فَإِنْ كَانَ عَنْ دَيْنٍ يَصِيرُ عَيْنًا لَا يَجُوزُ بِأَنْ كَانَ لَهُ عَلَى فَقِيرٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ دَيْنٍ وَلَهُ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الْخَمْسَةِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ نَاوِيًا عَنْ زَكَاةِ الْمِائَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمِائَتَيْنِ تَصِيرُ عَيْنًا بِالِاسْتِيفَاءِ فَتَبَيَّنَ فِي الْآخِرَةِ أَنَّ هَذَا أَدَاءُ الدَّيْنِ عَنْ الْعَيْنِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّا. وَإِنْ كَانَ عَنْ دَيْنٍ لَا يَصِيرُ عَيْنًا يَجُوزُ بِأَنْ كَانَ لَهُ عَلَى فَقِيرٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ دَيْنٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَوَهَبَ مِنْهُ الْمِائَتَيْنِ يَنْوِي عَنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ لَا يَنْقَلِبُ عَيْنًا فَلَا يَظْهَرُ فِي الْآخِرَةِ أَنَّ هَذَا أَدَاءُ الدَّيْنِ عَنْ الْعَيْنِ فَلَا يَظْهَرُ أَنَّهُ أَدَاءُ النَّاقِصِ عَنْ الْكَامِلِ فَيَجُوزُ هَذَا إذَا كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَقِيرًا فَوَهَبَ الْمِائَتَيْنِ لَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ غَنِيًّا فَوَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الدَّيْنُ لَكِنْ هَلْ يَجُوزُ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةِ أَمْ لَا يَجُوزُ وَتَكُونُ زَكَاتُهَا دَيْنًا عَلَيْهِ؟ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَكُونُ قَدْرُ الزَّكَاةِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَذَكَرَ فِي نَوَادِرِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى الْغَنِيِّ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَجْهُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ الْجَوَازَ لَيْسَ عَلَى مَعْنَى سُقُوطِ الْوَاجِبِ بَلْ عَلَى امْتِنَاعِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّتِهِ وَمَالِيَّتُهُ بِاعْتِبَارِ صَيْرُورَتِهِ عَيْنًا فِي الْعَاقِبَةِ فَإِذَا لَمْ يَصِرْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالًا وَالزَّكَاةُ لَا تَجِبُ فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدَّى إلَيْهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُؤَدَّى إلَيْهِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا فَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى الْغَنِيِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَامِلًا عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّدَقَاتِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ بِحَرْفِ اللَّامِ وَأَنَّهُ لِلِاخْتِصَاصِ فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُمْ بِاسْتِحْقَاقِهَا فَلَوْ جَازَ صَرْفُهَا إلَى غَيْرِهِمْ لَبَطَلَ الِاخْتِصَاصُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَالْآيَةُ خُرِّجَتْ لِبَيَانِ مَوَاضِعِ الصَّدَقَاتِ وَمَصَارِفِهَا وَمُسْتَحَقِّيهَا وَهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَسَامِيهِمْ فَسَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَّا الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُمْ مَعَ غِنَاهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْعِمَالَةَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّهِمْ الْعِمَالَةَ لِمَا نَذْكُرُ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ. أَمَّا الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنْسٌ عَلَى حِدَةٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا نَذْكُرُ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ وَاللُّغَةِ فِي مَعْنَى الْفَقِيرِ وَالْمِسْكَيْنِ وَفِي أَنَّ أَيَّهُمَا أَشَدُّ حَاجَةً وَأَسْوَأُ حَالًا قَالَ الْحَسَنُ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي يَسْأَلُ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ. وَكَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَحْوَجُ وَقَالَ قَتَادَةَ: الْفَقِيرُ الَّذِي بِهِ زَمَانَةٌ وَلَهُ حَاجَةٌ وَالْمِسْكِينُ الْمُحْتَاجُ الَّذِي لَا زَمَانَةَ بِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَحْوَجُ وَقِيلَ: الْفَقِيرُ الَّذِي يَمْلِكُ شَيْئًا يَقُوتُهُ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ سُمِّيَ مِسْكِينًا لَمَّا أَسْكَنَتْهُ حَاجَتُهُ عَنْ التَّحَرُّكِ فَلَا يَقْدِرُ يَبْرَحُ عَنْ مَكَانِهِ، وَهَذَا أَشْبَهُ الْأَقَاوِيلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: أَيْ اسْتَتَرَ بِالتُّرَابِ وَحَفَرَ الْأَرْضَ إلَى عَانَتِهِ وَقَالَ الشَّاعِرُ: أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ... وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ سَمَّاهُ فَقِيرًا مَعَ أَنَّ لَهُ حَلُوبَةً هِيَ وَفْقُ الْعِيَالِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْمٌ يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ إلَّا أَنَّ حَاجَةَ الْمِسْكِينِ أَشَدُّ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي يَسْأَلُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْفَقِيرِ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ يَتَحَمَّلُ مَا كَانَتْ لَهُ حِيلَةٌ وَيَتَعَفَّفُ وَلَا يَخْرُجُ فَيَسْأَلُ وَلَهُ حِيلَةٌ فَسُؤَالُهُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ حَالِهِ. وَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الطَّوَّافُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ قِيلَ: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَجِدُ مَا يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ

وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ» فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَسْأَلُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَكُمْ مِسْكِينًا فَإِنَّ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَلَا يُفْطَنُ بِهِ أَشَدُّ مَسْكَنَةً مِنْ هَذَا وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا مَكْسَبَ لَهُ أَيْ: الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مِسْكِينًا فَاَلَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا مَكْسَبَ لَهُ أَشَدُّ مَسْكَنَةً مِنْهُ وَكَأَنَّهُ قَالَ: الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا مَكْسَبَ فَهُوَ فَقِيرٌ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا مَكْسَبَ. وَمَا قَالَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: أَنَّ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي الزَّكَاةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا بِدَلِيلِ جَوَازِ صَرْفِهَا إلَى جِنْسٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَعْدُ فِي كَوْنِهِمَا جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ جِنْسَيْنِ فِي الْوَصَايَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا غَيْرَ سَدِيدٍ بَلْ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فِيهِمَا جَمِيعًا لِمَا ذَكَرْنَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ، وَالْعَطْفُ دَلِيلُ الْمُغَايَرَةِ فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا جَازَ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ لِمَعْنَى آخَرَ وَذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْوَصِيَّةِ وَهُوَ دَفْعُ الْحَاجَةِ وَذَا يَحْصُلُ بِالصَّرْفِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ وَالْوَصِيَّةُ مَا شُرِّعَتْ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْمُوصَى لَهُ فَإِنَّهَا تَجُوزُ لِلْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْمُوصِي أَغْرَاضٌ كَثِيرَةٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا فَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُ نَصِّ كَلَامِهِ فَتَجْرِي عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمَعْنَى بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّا عَقَلْنَا الْمَعْنَى فِيهَا وَهُوَ دَفْعُ الْحَاجَةِ وَإِزَالَةُ الْمَسْكَنَةِ وَجَمِيعُ الْأَصْنَافِ فِي هَذَا الْمَعْنَى جِنْسٌ وَاحِدٌ لِذَلِكَ افْتَرَقَا لَا لِمَا قَالُوهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فَهُمْ الَّذِينَ نَصَّبَهُمْ الْإِمَامُ لِجِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا يُعْطَوْنَ قَالَ أَصْحَابُنَا: يُعْطِيهِمْ الْإِمَامُ كِفَايَتَهُمْ مِنْهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُعْطِيهِمْ الثَّمَنَ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ الصَّدَقَاتِ عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ مِنْهُمْ الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فَكَانَ لَهُمْ مِنْهَا الثَّمَنُ، وَلَنَا أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْعَامِلُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِطَرِيقِ الْعِمَالَةِ لَا بِطَرِيقِ الزَّكَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُعْطَى وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَدَقَةً لَمَا حَلَّتْ لِلْغَنِيِّ، وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَمَلَ زَكَاتَهُ بِنَفْسِهِ إلَى الْإِمَامِ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ مِنْهَا شَيْئًا وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ حَقَّ الْعَامِلِ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الصَّدَقَاتِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ مَا فِي يَدِهِ سَقَطَ حَقُّهُ كَنَفَقَةِ الْمُضَارِبِ أَنَّهَا تَكُونُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ كَذَا هَذَا دَلَّ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِعَمَلِهِ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ لَهُ وَلِأَعْوَانِهِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَجْهُولَةٌ أَمَّا عِنْدَنَا فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْكِفَايَةِ لَهُ وَلِأَعْوَانِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ. وَكَذَا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ قَدْرَ مَا يَجْتَمِعُ مِنْ الصَّدَقَاتِ بِجِبَايَتِهِ مَجْهُولٌ فَكَانَ ثَمَنُهُ مَجْهُولًا لَا مَحَالَةَ، وَجَهَالَةُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ يَمْنَعُ جَوَازَ الْإِجَارَةِ فَجَهَالَةُ الْبَدَلَيْنِ جَمِيعًا أَوْلَى، فَدَلَّ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْأُجْرَةِ بَلْ عَلَى طَرِيقِ الْكِفَايَةِ لَهُ وَلِأَعْوَانِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِالْعَمَلِ لِأَصْحَابِ الْمَوَاشِي فَكَانَتْ كِفَايَتُهُ فِي مَالِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ الصَّدَقَاتِ عَلَى الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ فَمَمْنُوعٌ أَنَّهُ قَسَمَ بَلْ بَيَّنَ فِيهَا مَوَاضِعَ الصَّدَقَاتِ وَمَصَارِفَهَا لِمَا نَذْكُرُ، وَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ هَاشِمِيًّا لَا يَحِلُّ لَهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحِلُّ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى الْيَمَنِ مُصَدِّقًا وَفَرَضَ لَهُ» وَلَوْ لَمْ يَحِلَّ لِلْهَاشِمِيِّ لَمَا فَرَضَ لَهُ، وَلِأَنَّ الْعِمَالَةَ أُجْرَةُ الْعَمَلِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَحِلُّ لِلْغَنِيِّ فَيَسْتَوِي فِيهَا الْهَاشِمِيُّ وَغَيْرُهُ. وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ نَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بَعَثَ ابْنَيْهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَسْتَعْمِلَهُمَا عَلَى الصَّدَقَةِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَحِلُّ لَكُمْ الصَّدَقَةُ وَلَا غُسَالَةُ النَّاسِ» ؛ وَلِأَنَّ الْمَالَ الْمُجَبَّى صَدَقَةٌ وَلَمَّا حَصَلَ فِي يَدِ الْإِمَامِ حُصِّلَتْ الصَّدَقَةُ مُؤَدَّاةً حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْ صَاحِبِهَا وَإِذَا حُصِّلَتْ صَدَقَةٌ وَالصَّدَقَةُ مَطْهَرَةٌ لِصَاحِبِهَا فَتَمَكَّنَ الْخَبَثُ فِي الْمَالِ فَلَا يُبَاحُ لِلْهَاشِمِيِّ لِشَرَفِهِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ تَنَاوُلِ الْخَبَثِ تَعْظِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ نَقُولُ لِلْعِمَالَةِ شُبْهَةُ الصَّدَقَةِ وَإِنَّهَا مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ فَيَجِبُ صِيَانَةُ الْهَاشِمِيِّ عَنْ ذَلِكَ كَرَامَةً لَهُ وَتَعْظِيمًا لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْغَنِيِّ وَقَدْ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِهَذَا الْعَمَلِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْكِفَايَةِ وَالْغِنَى لَا يَمْنَعُ مِنْ تَنَاوُلِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ كَابْنِ السَّبِيلِ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا مِلْكًا فَكَذَا هَذَا، وَقَوْلُهُ إنَّ الَّذِي يُعْطِي لِلْعَامِلِ أُجْرَةَ عَمَلِهِ مَمْنُوعٌ وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّهُ فَرْضٌ لَهُ وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الْمَفْرُوضِ أَنَّهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فُرِضَ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَاضِيًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَصَنَادِيدِ الْعَرَبِ مِثْلِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيِّ وَالْعَبَّاسِ بْنِ مَرَادِس السُّلَمِيُّ وَمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ

وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَغَيْرِهِمْ وَلَهُمْ شَوْكَةٌ وَقُوَّةٌ وَأَتْبَاعٌ كَثِيرَةٌ بَعْضُهُمْ أَسْلَمَ حَقِيقَةً وَبَعْضُهُمْ أَسْلَمَ ظَاهِرًا لَا حَقِيقَةً. وَكَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَبَعْضُهُمْ كَانَ مِنْ الْمُسَالِمِينَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِيهِمْ مِنْ الصَّدَقَاتِ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ وَتَقْرِيرًا لَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَتَحْرِيضًا لِأَتْبَاعِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ وَتَأْلِيفًا لِمَنْ لَمْ يَحْسُنْ إسْلَامُهُ، وَقَدْ حَسُنَ إسْلَامُ عَامَّتِهِمْ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِحُسْنِ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُمْ وَجَمِيلِ سِيرَتِهِ حَتَّى رُوِيَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إلَيَّ فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى إنَّهُ لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إلَيَّ. وَاخْتُلِفَ فِي سِهَامِهِمْ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إنَّهُ اُنْتُسِخَ سَهْمُهُمْ وَذَهَبَ وَلَمْ يُعْطَوْا شَيْئًا بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يُعْطَى الْآنَ لِمِثْلِ حَالِهِمْ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ حَقَّهُمْ بَقِيَ وَقَدْ أُعْطِيَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَخَذُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْآنَ يُعْطَى لِمَنْ حَدَثَ إسْلَامُهُ مِنْ الْكَفَرَةِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ وَتَقْرِيرًا لَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَتُعْطِي الرُّؤَسَاءُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا كَانَتْ لَهُمْ غَلَبَةٌ يُخَافُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لَهُ كَانَ يُعْطِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُولَئِكَ مَوْجُودٌ فِي هَؤُلَاءِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَا أَعْطَيَا الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ شَيْئًا مِنْ الصَّدَقَاتِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ وَاسْتَبْدَلُوا الْخَطَّ مِنْهُ لِسِهَامِهِمْ فَبَدَّلَ لَهُمْ الْخَطَّ، ثُمَّ جَاءُوا إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ فَأَخَذَ الْخَطَّ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَمَزَّقَهُ وَقَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعْطِيكُمْ لِيُؤَلِّفَكُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَعَزّ اللَّهُ دِينَهُ فَإِنْ ثَبَتُّمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إلَّا السَّيْفُ فَانْصَرَفُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا صَنَعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَالُوا: أَنْتَ الْخَلِيفَةُ أَمْ هُوَ؟ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ هُوَ وَلَمْ يُنْكِرْ أَبُو بَكْرٍ قَوْلَهُ وَفِعْلَهُ وَبَلَغَ ذَلِكَ الصَّحَابَةَ فَلَمْ يُنْكِرُوا فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ يُعْطِيهِمْ لِيَتَأَلَّفَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا سَمَّاهُمْ اللَّهُ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَالْإِسْلَامُ يَوْمئِذٍ فِي ضَعْفٍ وَأَهْلُهُ فِي قِلَّةٍ وَأُولَئِكَ كَثِيرٌ ذُو قُوَّةٍ وَعَدَدٍ وَالْيَوْمَ بِحَمْدِ اللَّهِ عَزَّ الْإِسْلَامُ وَكَثُرَ أَهْلُهُ وَاشْتَدَّتْ دَعَائِمُهُ وَرَسَخَ بُنْيَانُهُ وَصَارَ أَهْلُ الشِّرْكِ أَذِلَّاءَ، وَالْحُكْمُ مَتَى ثَبَتَ مَعْقُولًا بِمَعْنًى خَاصٍّ يَنْتَهِي بِذَهَابِ ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَنَظِيرُهُ مَا كَانَ عَاهَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثِيرًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِحَاجَتِهِ إلَى مُعَاهَدَتِهِمْ وَمُدَارَاتِهِمْ لِقِلَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَضَعْفِهِمْ فَلَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ أَهْلُهُ أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَرُدَّ إلَى أَهْلِ الْعُهُودِ عُهُودَهُمْ وَأَنْ يُحَارِبَ الْمُشْرِكِينَ جَمِيعًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1] إلَى قَوْلِهِ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: مَعْنَاهُ وَفِي عِتْقِ الرِّقَابِ وَيَجُوزُ إعْتَاقُ الرَّقَبَةِ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَ عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: الرِّقَابُ الْمُكَاتَبُونَ قَوْله تَعَالَى {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] أَيْ: وَفِي فَكِّ الرِّقَابِ وَهُوَ أَنْ يُعْطَى الْمُكَاتَبُ شَيْئًا مِنْ الصَّدَقَةِ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى كِتَابَتِهِ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ عَلِّمْنِي عَمَلًا يَدْخُلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْتِقْ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَوَلَيْسَا سَوَاءً؟ قَالَ: لَا عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا» وَإِنَّمَا جَازَ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْمُكَاتَبِ لِيُؤَدِّيَ بَدَلَ كِتَابَتِهِ فَيُعْتِقُ. وَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً الْإِعْتَاقُ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ إيتَاءُ الزَّكَاةِ وَالْإِيتَاءُ هُوَ التَّمْلِيكُ وَالدَّفْعُ إلَى الْمُكَاتَبِ تَمْلِيكٌ فَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، وَالثَّانِي مَا أَشَارَ إلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَقَالَ: لَا يُعْتَقُ مِنْ الزَّكَاةِ مَخَافَةَ جَرِّ الْوَلَاءِ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ يُوجِبُ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ فَكَانَ حَقُّهُ فِيهِ بَاقِيًا وَلَمْ يَنْقَطِعْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِخْلَاصُ فَلَا يَكُونُ عِبَادَةً وَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ فَلَا تَتَأَدَّى بِمَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ فَأَمَّا الَّذِي يُدْفَعُ إلَى الْمُكَاتَبِ فَيَنْقَطِعُ عَنْهُ حَقُّ الْمُؤَدِّي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ بِذَلِكَ نَفْعٌ فَيَتَحَقَّقُ الْإِخْلَاصُ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] قِيلَ: الْغَارِمُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَكْثَرُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ أَوْ مِثْلُهُ أَوْ أَقَلُّ مِنْهُ لَكِنْ مَا وَرَاءَهُ لَيْسَ بِنِصَابٍ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ الْقُرَبِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ سَعَى فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَسَبِيلِ الْخَيْرَاتِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا وَقَالَ

أَبُو يُوسُفَ الْمُرَادُ مِنْهُ فُقَرَاءُ الْغُزَاةِ؛ لِأَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ إذَا أُطْلِقَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْحَاجُّ الْمُنْقَطِعُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ بَعِيرًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ الْحَاجَّ» ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْغَازِي وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا. وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ اعْتِبَارِ حُدُوثِ الْحَاجَةِ، وَاحْتُجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ابْنِ السَّبِيلِ أَوْ رَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَأَعْطَاهَا لَهُ» ، وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ إلَّا لِخَمْسٍ الْعَامِلِ عَلَيْهَا، وَرَجُلٍ اشْتَرَاهَا، وَغَارِمٍ، وَغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفَقِيرٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ فَأَهْدَاهَا إلَى غَنِيٍّ» نَفَى حِلَّ الصَّدَقَةِ لِلْأَغْنِيَاءِ وَاسْتَثْنَى الْغَازِيَ مِنْهُمْ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ فَيَقْتَضِي حِلَّ الصَّدَقَةِ لِلْغَازِي الْغَنِيِّ وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ» جَعَلَ النَّاسَ قِسْمَيْنِ قِسْمًا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَقِسْمًا يُصْرَفُ إلَيْهِمْ فَلَوْ جَازَ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَى الْغَنِيِّ لَبَطَلَتْ الْقِسْمَةُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْغَازِي فَمَحْمُولٌ عَلَى حَالِ حُدُوثِ الْحَاجَةِ وَسَمَّاهُ غَنِيًّا عَلَى اعْتِبَارِ مَا كَانَ قَبْلَ حُدُوثِ الْحَاجَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا ثُمَّ تَحْدُثُ لَهُ الْحَاجَةُ بِأَنْ كَانَ لَهُ دَارٌ يَسْكُنُهَا وَمَتَاعٌ يَمْتَهِنُهُ وَثِيَابٌ يَلْبَسُهَا وَلَهُ مَعَ ذَلِكَ فَضْلُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ حَتَّى لَا تَحِلَّ لَهُ الصَّدَقَةُ ثُمَّ يَعْزِمُ عَلَى الْخُرُوجِ فِي سَفَرِ غَزْوٍ فَيَحْتَاجُ إلَى آلَاتِ سَفَرِهِ وَسِلَاحٍ يَسْتَعْمِلُهُ فِي غَزْوِهِ وَمَرْكَبٍ يَغْزُو عَلَيْهِ وَخَادِمٍ يَسْتَعِينُ بِخِدْمَتِهِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فِي حَالِ إقَامَتِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَاتِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ فِي حَاجَتِهِ الَّتِي تَحْدُثُ لَهُ فِي سَفَرِهِ وَهُوَ فِي مَقَامِهِ غَنِيٌّ بِمَا يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ فِي حَالِ إقَامَتِهِ فَيَحْتَاجُ فِي حَالِ سَفَرِهِ فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» عَلَى مَنْ كَانَ غَنِيًّا فِي حَالِ مُقَامِهِ فَيُعْطَى بَعْضَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِسَفَرِهِ لِمَا أَحْدَثَ السَّفَرُ لَهُ مِنْ الْحَاجَةِ إلَّا أَنَّهُ يُعْطَى حِينَ يُعْطَى وَهُوَ غَنِيٌّ وَكَذَا تَسْمِيَةُ الْغَارِمِ غَنِيًّا فِي الْحَدِيثِ عَلَى اعْتِبَارِ مَا كَانَ قَبْلَ حُلُولِ الْغُرْمِ بِهِ وَقَدْ حَدَثَتْ لَهُ الْحَاجَةُ بِسَبَبِ الْغُرْمِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ اسْمٌ لِمَنْ يُسْتَغْنَى عَمَّا يَمْلِكُهُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ قَبْلَ حُدُوثِ الْحَاجَةِ فَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] فَهُوَ الْغَرِيبُ الْمُنْقَطِعُ عَنْ مَالِهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي وَطَنِهِ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ فِي الْحَالِ وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ» الْحَدِيثَ، وَلَوْ صُرِفَ إلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ يَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُصْرَفَ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] إلَى آخِرِ الْأَصْنَافِ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الصَّدَقَاتِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ عَلَى الشَّرِكَةِ فَيَجِبُ إيصَالُ كُلِّ صَدَقَةٍ إلَى كُلِّ صِنْفٍ إلَّا أَنَّ الِاسْتِيعَابَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَيُصْرَفُ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ إذْ الثَّلَاثَةُ أَدْنَى الْجَمْعِ الصَّحِيحِ وَلَنَا السُّنَّةُ الْمَشْهُورَةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَعَمَلُ الْأَئِمَّةِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَالِاسْتِدْلَالُ أَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ «فَإِنْ أَجَابُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ» وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَصْنَافَ الْأُخَرَ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «بَعَثَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ بِالْيَمَنِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُذْهَبَةً فِي تُرَابِهَا فَقَسَمَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَبَيْنَ زَيْدِ الْخَيْلِ وَبَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ وَقَالُوا: تُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ» وَلَوْ كَانَ كُلُّ صَدَقَةٍ مَقْسُومَةً عَلَى الثَّمَانِيَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ لَمَا دَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُذْهَبَةَ إلَى الْمُؤَلَّفَةِ قَلُوبُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَأَمَّا إجْمَاع الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ إذَا جَمَعَ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي مِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ نَظَرَ مِنْهَا مَا كَانَ مَنِيحَةَ اللَّبَنِ فَيُعْطِيهَا لِأَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ مَا يَكْفِيهِمْ، وَكَانَ يُعْطِي الْعَشَرَةَ لِلْبَيْتِ الْوَاحِدِ ثُمَّ يَقُولُ عَطِيَّةٌ تَكْفِي خَيْرٌ مِنْ عَطِيَّةٍ لَا تَكْفِي أَوْ كَلَامٌ نَحْوَ هَذَا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَتَى بِصَدَقَةٍ فَبَعَثَهَا إلَى أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُهَا فَفِي أَيِّ صِنْفٍ وَضَعْتَهَا أَجْزَأَكَ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا عَمَلُ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ تَكَلَّفَ طَلَبَ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ فَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ مَعَ مَا أَنَّهُ لَوْ تَكَلَّفَ الْإِمَامُ أَنْ يَظْفَرَ بِهَؤُلَاءِ الثَّمَانِيَةِ مَا قَدَرَ عَلَى

ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَنَّهُ فَرَّقَ صَدَقَةً وَاحِدَةٍ عَلَى هَؤُلَاءِ. وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْقِسْمَةُ عَلَى السَّوِيَّةِ بَيْنَهُمْ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَقْسِمُوهَا كَذَلِكَ وَيُضَيِّعُوا حُقُوقَهُمْ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِصَرْفِ الصَّدَقَاتِ إلَى هَؤُلَاءِ بِأَسَامِيَ مُنْبِئَةٍ عَنْ الْحَاجَةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ بِالصَّرْفِ إلَيْهِمْ لِدَفْعِ حَاجَتِهِمْ وَالْحَاجَةُ فِي الْكُلِّ وَاحِدَةٌ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَسَامِي. وَأَمَّا الْآيَةُ فَفِيهَا بَيَانُ مَوَاضِعِ الصَّدَقَاتِ وَمَصَارِفِهَا وَمُسْتَحَقِّيهَا؛ لِأَنَّ اللَّامَ لِلِاخْتِصَاصِ وَهُوَ أَنَّهُمْ الْمُخْتَصُّونَ بِهَذَا الْحَقِّ دُونَ غَيْرِهِمْ لَا لِلتَّسْوِيَةِ لُغَةً إنَّمَا الصِّيغَةُ لِلشَّرِكَةِ وَالتَّسْوِيَةُ لُغَةً حَرْفٌ بَيِّنٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قِيلَ: الْخِلَافَةُ لِبَنِي الْعَبَّاسِ وَالسِّدَانَةُ لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ وَالسِّقَايَةُ لِبَنِي هَاشِمٍ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُمْ الْمُخْتَصُّونَ بِذَلِكَ؟ لَا حَقَّ فِيهَا لِغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهَا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ بِالسَّوِيَّةِ. وَلَوْ قِيلَ الْخِلَافَةُ بَيْنَ بَنِي الْعَبَّاسِ وَالسِّدَانَةُ بَيْنَ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ وَالسِّقَايَةُ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ كَانَ خَطَأً؛ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ: مَالِي لِفُلَانٍ وَلِلْمَوْتَى أَنَّهُ كُلُّهُ لِفُلَانٍ، وَلَوْ قَالَ: مَالِي بَيْنَ فُلَانٍ وَبَيْنَ الْمَوْتَى كَانَ لِفُلَانٍ نِصْفُهُ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الصَّدَقَةَ تُقْسَمُ بَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ عَلَى السَّوِيَّةِ لَقَالَ: إنَّمَا الصَّدَقَاتُ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ الْآيَةَ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ مَنْ قَالَ: ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ أَنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ كَمَا إذَا قَالَ: ثُلُثُ مَالِي بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ هُنَاكَ لَيْسَ مُوجَبُ الصِّيغَةِ إذْ الصِّيغَةُ لَا تُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ وَالتَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا بَلْ مُوجَبُ الصِّيغَةِ مَا قِلْنَا، إلَّا أَنَّ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ لَمَّا جُعِلَ الثُّلُثُ حَقًّا لَهُمَا دُونَ غَيْرِهِمَا وَهُوَ شَيْءٌ مَعْلُومٌ لَا يَزِيدُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا يُتَوَهَّمُ لَهُ عَدَدٌ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَقَسَمَ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ نَظَرًا لَهُمَا جَمِيعًا فَأَمَّا الصَّدَقَاتُ فَلَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ مُتَعَيِّنَةٍ لَا تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالْمَدَدَ حَتَّى يُحَرَّمَ الْبَعْضُ بِصَرْفِهَا إلَى الْبَعْضِ بَلْ يُرْدِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَإِذَا فَنِيَ مَالٌ يَجِيءُ مَالٌ آخَرُ وَإِذَا مَضَتْ سَنَةٌ تَجِيءُ سَنَةٌ أُخْرَى بِمَالٍ جَدِيدٍ وَلَا انْقِطَاعَ لِلصَّدَقَاتِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا صَرَفَ الْإِمَامُ صَدَقَةً يَأْخُذُهَا مِنْ قَوْمٍ إلَى صِنْفٍ مِنْهُمْ لَمْ يَثْبُتْ الْحِرْمَانُ لِلْبَاقِينَ بَلْ يُحْمَلُ إلَيْهِ صَدَقَةٌ أُخْرَى فَيَصْرِفُ إلَى فَرِيقٍ آخَرَ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الشَّرِكَةِ وَالتَّسْوِيَةِ فِي كُلِّ مَالٍ يُحْمَلُ إلَى الْإِمَامِ مِنْ الصَّدَقَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَمَا لَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى الْغَنِيِّ لَا يَجُوزُ صَرْفُ جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وَالْوَاجِبَةِ إلَيْهِ كَالْعُشُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ» وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ مَالٌ تَمَكَّنَ فِيهِ الْخَبَثُ لِكَوْنِهِ غُسَالَةُ النَّاسِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ لَهُمْ بِهِ مِنْ الذُّنُوبِ، وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْخَبِيثِ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ لِلْفَقِيرِ لَا لِلْغَنِيِّ. وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَيَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْغَنِيِّ؛ لِأَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْهِبَةِ، وَلَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى عَبْدِ الْغَنِيِّ وَمُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَدْفُوعِ نَفْعٌ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ غَنِيٌّ فَكَانَ دَفْعًا إلَى الْغَنِيِّ، هَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَحْجُورًا أَوْ كَانَ مَأْذُونًا لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مِلْكُ الْمَوْلَى فَالدَّفْعُ يَقَعُ إلَى الْمَوْلَى وَهُوَ غَنِيٌّ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعَتَاقِ فَكَانَ كَسْبُهُ مِلْكُ الْمَوْلَى وَهُوَ غَنِيٌّ. وَأَمَّا إذَا كَانَ ظَاهِرًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ وَدَيْنِ التِّجَارَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا ظَاهِرًا فِي حَقِّهِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ كَسْبَهُ عِنْدَهُمَا. وَيَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى مُكَاتَبِ الْغَنِيِّ؛ لِأَنَّ كَسْب الْمَالِكِ الْمُكَاتَبِ مِلْكُهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى بِالْعَجْزِ وَلَمْ يُوجَدْ. وَأَمَّا وَلَدُ الْغَنِيِّ فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَمْ يَجُزْ الدَّفْعُ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ يُعَدُّ غَنِيًّا بِغِنَى أَبِيهِ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَقِيرًا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ غَنِيًّا بِمَالِ أَبِيهِ فَكَانَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ دُفِعَ إلَى امْرَأَةٍ فَقِيرَةٍ وَزَوْجُهَا غَنِيٌّ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا لَا تُعْطِي إذَا قُضِيَ لَهَا بِالنَّفَقَةِ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ تَجِبُ عَلَى زَوْجِهَا فَتَصِيرُ غَنِيَّةً بِغِنَى الزَّوْجِ كَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ، وَإِنَّمَا شَرْطُ الْقَضَاءِ لَهَا بِالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَصِيرُ دَيْنًا بِدُونِ الْقَضَاءِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْفَقِيرَةَ لَا تُعَدُّ غَنِيَّةً بِغِنَى زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ عَلَى زَوْجِهَا إلَّا مِقْدَارَ النَّفَقَةِ فَلَا تُعَدُّ بِذَلِكَ الْقَدْرِ غَنِيَّةً. وَكَذَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى فَقِيرٍ لَهُ ابْنٌ غَنِيٌّ وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ لِمَا قُلْنَا: إنْ تُقَدَّرَ النَّفَقَةُ لَا يَصِيرُ غَنِيًّا فَيَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ. وَأَمَّا صَدَقَةُ الْوَقْفِ فَيَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْأَغْنِيَاءِ إنْ سَمَّاهُمْ الْوَاقِفُ فِي الْوَقْفِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَاجِبَةٌ. ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ حَدِّ الْغِنَى فَنَقُولُ الْغِنَى أَنْوَاعٌ

ثَلَاثَةٌ: غِنًى تَجِبُ بِهِ الزَّكَاةُ، وَغِنًى يَحْرُمُ بِهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَقَبُولُهَا وَلَا تَجِبُ بِهِ الزَّكَاةُ، وَغِنًى يَحْرُمُ بِهِ السُّؤَالُ وَلَا يَحْرُمُ بِهِ الْأَخْذُ أَمَّا الْغِنَى الَّذِي تَجِبُ بِهِ الزَّكَاةُ فَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ نِصَابًا مِنْ الْمَالِ النَّامِي الْفَاضِلِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَأَمَّا الْغِنَى الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَقَبُولُهَا فَهُوَ الَّذِي تَجِبُ بِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ مَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ وَتَبْلُغُ قِيمَةُ الْفَاضِلِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ الثِّيَابِ وَالْفُرُشِ وَالدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ وَالدَّوَابِّ وَالْخَدَمِ زِيَادَةً عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ ذَلِكَ لِلِابْتِذَالِ وَالِاسْتِعْمَالِ لَا لِلتِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ، فَإِذَا فَضَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَحَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ، ثُمَّ قَدْرُ الْحَاجَةِ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ مَنْ لَهُ مَسْكَنٌ وَمَا يَتَأَثَّثُ بِهِ فِي مَنْزِلِهِ وَخَادِمٌ وَفَرَسٌ وَسِلَاحٌ وَثِيَابُ الْبَدَنِ وَكُتُبُ الْعِلْمِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَنْ ذَلِكَ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ كَانُوا يُعْطُونَ الزَّكَاةَ لِمَنْ يَمْلِكُ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مِنْ الْفَرَسِ وَالسِّلَاحِ وَالْخَدَمِ وَالدَّارِ. وَقَوْلُهُ: كَانُوا، كِنَايَةً عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ الْحَوَائِجِ اللَّازِمَةِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْهَا فَكَانَ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا سَوَاءٌ. وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى فِيمَنْ لَهُ حَوَانِيتُ وَدُورُ الْغَلَّةِ لَكِنْ غَلَّتُهَا لَا تَكْفِيه وَلِعِيَالِهِ أَنَّهُ فَقِيرٌ وَيَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَحِلُّ وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ لَهُ أَرْضٌ وَكَرْمٌ لَكِنْ غَلَّتُهُ لَا تَكْفِيه وَلِعِيَالِهِ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامٌ لِلْقُوتِ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَ كِفَايَةَ شَهْرٍ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ وَإِنْ كَانَ كِفَايَةَ سَنَةٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَحِلُّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَحِلُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِقُّ الصَّرْفِ إلَى الْكِفَايَةِ وَالْمُسْتَحِقُّ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادَّخَرَ لِنِسَائِهِ قُوتَ سَنَةٍ» . وَلَوْ كَانَ لَهُ كِسْوَةُ شِتَاءٍ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الصَّيْفِ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ ذَكَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي الْفَتَاوَى، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ مَلَكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَلَا يُبَاحُ أَنْ يُعْطَى، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ عِوَضُهَا مِنْ الذَّهَبِ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ. وَلَنَا حَدِيثُ مُعَاذٍ حَيْثُ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ» قَسَّمَ النَّاسَ قِسْمَيْنِ: الْأَغْنِيَاءُ، وَالْفُقَرَاءُ فَجَعَلَ الْأَغْنِيَاءَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَالْفُقَرَاءَ يُرَدُّ فِيهِمْ فَكُلُّ مَنْ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ يَكُونُ مَرْدُودًا فِيهِ، وَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ مَحْمُولٌ عَلَى حُرْمَةِ السُّؤَالِ مَعْنَاهُ لَا يَحِلُّ سُؤَالُ الصَّدَقَةِ لِمَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ عِوَضُهُمَا مِنْ الذَّهَبِ أَوْ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى كَرَاهَةِ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ سَدَادٌ مِنْ الْعَيْشِ فَالتَّعَفُّفُ أَوْلَى؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ وَمَنْ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ» وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى رَجُلٍ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ وَلَا كَسْبَ لَهُ وَهُوَ يَخَافُ الْحَاجَةَ وَيَجُوزُ لَهُ الْأَخْذُ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ هَذَا دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْغَنِيِّ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا وَخَوْفُ حُدُوثِ الْحَاجَةِ فِي الثَّانِي لَا يَجْعَلُهُ فَقِيرًا فِي الْحَالِ أَلَا تَرَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي سُقُوطِ الْوُجُوبِ حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَكَذَا فِي جَوَازِ الْأَخْذِ وَلَوْ كَانَ الْفَقِيرُ قَوِيًّا مُكْتَسِبًا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَحِلُّ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «حُمِلَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةٌ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ أَصْحَابَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا كُلُّهُمْ زَمْنَى بَلْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَوِيًّا مُكْتَسِبًا وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى حُرْمَةِ الطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ لِلزَّجْرِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَالْحَمْلِ عَلَى الْكَسْبِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ سَأَلَاهُ إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا مِنْهُ وَلَا حَقَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُعْطِيَهُمَا الْحَرَامَ، وَلَكِنْ قَالَ ذَلِكَ لِلزَّجْرِ عَنْ السُّؤَالِ وَالْحَمْلِ عَلَى الْكَسْبِ كَذَا هَذَا. وَيُكْرَهُ لِمَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ أَنْ يُعْطِيَ فَقِيرًا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ وَلَوْ أَعْطَى جَازَ وَسَقَطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ وَلَا يَسْقُطُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا نِصَابٌ كَامِلٌ فَيَصِيرُ غَنِيًّا بِهَذَا الْمَالِ وَلَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى الْغَنِيِّ وَلَنَا أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ غَنِيًّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فَأَمَّا قَبْلَهُ فَقَدْ كَانَ فَقِيرًا فَالصَّدَقَةُ لَاقَتْ كَفَّ الْفَقِيرِ فَجَازَتْ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْغِنَى يَثْبُتُ بِالْمِلْكِ، وَالْقَبْضُ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فَيَقْبِضُ ثُمَّ يَمْلِكُ الْمَقْبُوضَ ثُمَّ يَصِيرُ غَنِيًّا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَفِعَ بِهِ

يَصِيرُ هُوَ الْغَنِيُّ وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَإِنْ يُغْنِي بِهِ إنْسَانًا أَحَبُّ إلَيَّ. وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْإِغْنَاءَ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمُقَيَّدَ وَهُوَ أَنَّهُ يُغْنِيهِ يَوْمًا أَوْ أَيَّامًا عَنْ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ وُضِعَتْ لِمِثْلِ هَذَا الْإِغْنَاءِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ «أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ» هَذَا إذَا أُعْطِيَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا لَهُ عِيَالٌ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَصَدَّق عَلَيْهِ قَدْرَ دَيْنِهِ وَزِيَادَةً مَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ وَكَذَا إذَا كَانَ لَهُ عِيَالٌ يَحْتَاجُ إلَى نَفَقَتِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ. وَأَمَّا الْغِنَى الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ السُّؤَالُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَدَادُ عَيْشٍ بِأَنْ كَانَ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا ظَهْرُ الْغِنَى؟ قَالَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَا يُغَدِّيهِمْ أَوْ مَا يُعَشِّيهِمْ» فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ وَلَا مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ؛ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ الضَّرُورَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، وَتَرْكُ السُّؤَالِ فِي هَذَا الْحَالِ إلْقَاءُ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ وَإِنَّهُ حَرَامٌ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى الْكَافِرِ بِلَا خِلَافٍ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرَدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ» أَمْرٌ بِوَضْعِ الزَّكَاةِ فِي فُقَرَاءِ مَنْ يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فَلَا يَجُوزُ وَضْعُهَا فِي غَيْرِهِمْ. وَأَمَّا سِوَى الزَّكَاةِ مِنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ صَرْفَهَا إلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الصَّرْفَ إلَيْهِمْ يَقَعُ إعَانَةً لَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَهَلْ يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ. وَجْهُ قَوْلِهِمْ الِاعْتِبَارُ بِالزَّكَاةِ وَبِالصَّرْفِ إلَى الْحَرْبِيِّ وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ فَقِيرٍ وَفَقِيرٍ وَعُمُومُ هَذَا النَّصِّ يَقْتَضِي جَوَازَ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الزَّكَاةَ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقَوْله تَعَالَى فِي الْكَفَّارَاتِ {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مِسْكِينٍ وَمِسْكِينٍ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الْحَرْبِيَّ بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ صَرْفَ الصَّدَقَةِ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ بَابِ إيصَالِ الْبِرِّ إلَيْهِمْ وَمَا نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] وَظَاهِرُ هَذَا النَّصِّ يَقْتَضِي جَوَازَ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ بِرٌّ بِهِمْ إلَّا أَنَّ الْبِرَّ بِطَرِيقِ الزَّكَاةِ غَيْرُ مُرَادٍ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إعَانَةً لَهُمْ عَلَى قِتَالِنَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي الذِّمِّيِّ. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ النَّاسِ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ مِنْ الْغَنِيمَةِ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الصَّدَقَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ» وَرُوِيَ «أَنَّهُ رَأَى فِي الطَّرِيقِ تَمْرَةً فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا ثُمَّ قَالَ: إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ يَا بَنِي هَاشِمٍ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ» وَالْمَعْنَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ أَنَّهَا مِنْ غُسَالَةِ النَّاسِ فَيَتَمَكَّنُ فِيهَا الْخَبَثُ فَصَانَ اللَّهُ تَعَالَى بَنِي هَاشِمٍ عَنْ ذَلِكَ تَشْرِيفًا لَهُمْ وَإِكْرَامًا وَتَعْظِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ مَوَالِيهمْ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْقَمَ بْنَ أَبِي أَرْقَمَ الزُّهْرِيَّ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَاسْتَتْبَعَ أَبَا رَافِعٍ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا رَافِعٍ إنَّ الصَّدَقَةَ حَرَامٌ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَإِنَّ مَوَالِيَ الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» أَيْ: فِي حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ لَيْسَ مِنْهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْءٍ لَهُمْ؟ . وَكَذَا مَوْلَى الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ كَافِرًا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَمَوْلَى التَّغْلِبِيَّ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ الْمُضَاعَفَةُ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ حُرْمَةُ الصَّدَقَةِ خَاصَّةً وَبَنُو هَاشِمٍ الَّذِينَ تُحَرَّمُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَاتُ آلُ الْعَبَّاسِ، وَآلُ عَلِيٍّ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَوَلَدُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ. وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ مَنَافِعُ الْأَمْلَاكِ مُتَّصِلَةً بَيْنَ الْمُؤَدِّي وَبَيْنَ الْمُؤَدَّى إلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْأَدَاءِ تَمْلِيكًا مِنْ الْفَقِيرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ يَكُونُ صَرْفًا إلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الدَّفْعُ إلَى الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ عَلَوَا وَالْمَوْلُودِينَ وَإِنْ سَفَلُوا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْتَفِعُ بِمَالِ الْآخَرِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ الزَّكَاةَ إلَى زَوْجَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي دَفْعِ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ

فصل حولان الحول هل هو من شرائط أداء الزكاة

أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى هَؤُلَاءِ وَالدَّفْعُ إلَيْهِمْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ أَجْرَيْنِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الصِّلَةِ وَكَوْنُهُ دَفْعًا إلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ لَا يَمْنَعُ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ. قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةٌ وَعَلَى عِيَالِهِ صَدَقَةٌ وَكُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» وَيَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى مَنْ سِوَى الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ مِنْ الْأَقَارِبِ وَمِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَغَيْرِهِمْ؛ لِانْقِطَاعِ مَنَافِعِ الْأَمْلَاكِ بَيْنَهُمْ وَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إذَا دَفَعَ الصَّدَقَةَ إلَى إنْسَانٍ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِحَالِهِ أَنَّهُ مَحِلُّ الصَّدَقَةِ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ وَدَفَعَ إلَيْهِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فِي وَجْهٍ هُوَ عَلَى الْجَوَازِ حَتَّى يَظْهَرَ خَطَؤُهُ، وَفِي وَجْهٍ عَلَى الْفَسَادِ حَتَّى يَظْهَرَ صَوَابُهُ وَفِي وَجْهٍ فِيهِ تَفْصِيلٌ عَلَى الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ أَمَّا الَّذِي هُوَ عَلَى الْجَوَازِ حَتَّى يَظْهَرَ خَطَؤُهُ فَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ إلَى رَجُلٍ وَلَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ وَقْتَ الدَّفْعِ وَلَمْ يَشُكَّ فِي أَمْرِهِ فَدَفَعَ إلَيْهِ فَهَذَا عَلَى الْجَوَازِ إلَّا إذَا ظَهَرَ بَعْدَ الدَّفْعِ أَنَّهُ لَيْسَ مَحِلُّ الصَّدَقَةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَى مَحَلِّهَا حَيْثُ نَوَى الزَّكَاةَ عِنْدَ الدَّفْعِ وَالظَّاهِرُ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِالْيَقِينِ فَإِذَا ظَهَرَ بِيَقِينٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَحِلِّ الصَّدَقَةِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَا دُفِعَ إلَيْهِ وَيَقَعُ تَطَوُّعًا حَتَّى أَنَّهُ لَوْ خَطَر بِبَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَشَكَّ فِيهِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ لَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ. وَأَمَّا الَّذِي هُوَ عَلَى الْفَسَادِ حَتَّى يَظْهَرَ جَوَازُهُ فَهُوَ أَنَّهُ خَطَرَ بِبَالِهِ وَشَكَّ فِي أَمْرِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَتَحَرَّ وَلَا طَلَبَ الدَّلِيلَ أَوْ تَحَرَّى بِقَلْبِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَطْلُبْ الدَّلِيلَ فَهُوَ عَلَى الْفَسَادِ إلَّا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ مَحَلٌّ بِيَقِينٍ أَوْ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَكَّ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّحَرِّي وَالصَّرْفُ إلَى مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ تَحَرِّيهِ، فَإِذَا تُرِكَ لَمْ يُوجَدْ الصَّرْفُ إلَى مَنْ أُمِرَ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ فَيَكُونُ فَاسِدًا إلَّا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ مَحَلٌّ فَيَجُوزُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي فِيهِ تَفْصِيلٌ عَلَى الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ فَهُوَ إنْ خَطَرَ بِبَالِهِ وَشَكَّ فِي أَمْرِهِ وَتَحَرَّى وَوَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى أَنَّهُ مَحَلُّ الصَّدَقَةِ فَدَفَعَ إلَيْهِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا إنْ لَمْ يَتَحَرَّ وَلَكِنْ سَأَلَ عَنْ حَالِهِ فَدَفَعَ أَوَرَآهُ فِي صَفِّ الْفُقَرَاءِ أَوْ عَلَى زِيِّ الْفُقَرَاءِ فَدَفَعَ فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَحِلًّا جَازَ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَظْهَرْ حَالُهُ عِنْدَهُ، وَأَمَّا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا بِأَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ غَنِيٌّ أَوْ هَاشِمِيٌّ أَوْ مَوْلَى لِهَاشِمِيٍّ كَافِرٌ أَوْ وَالِدٌ أَوْ مَوْلُودٌ أَوْ زَوْجَةٌ يَجُوزُ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ مُدَبَّرُهُ أَوْ أُمُّ وَلَدِهِ أَوْ مُكَاتَبُهُ لَمْ يَجُزْ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُسْتَسْعَاهُ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا مُجْتَهِدٌ ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ فَبَطَلَ اجْتِهَادُهُ وَكَمَا لَوْ تَحَرَّى فِي ثِيَابٍ أَوْ أَوَانِيَ وَظَهَرَ خَطَؤُهُ فِيهَا وَكَمَا لَوْ صَرَفَ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ مُدَبَّرُهُ أَوْ أُمُّ وَلَدِهِ أَوْ مُكَاتَبُهُ وَلَهُمَا أَنَّهُ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَى مَنْ أُمِرَ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ كَمَا إذَا صَرَفَ وَلَمْ يَظْهَرْ حَالُهُ بِخِلَافِهِ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالصَّرْفِ إلَى مَنْ هُوَ مَحَلٌّ عِنْدَهُ وَفِي ظَنِّهِ وَاجْتِهَادِهِ لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ إذْ لَا عِلْمَ لَهُ بِحَقِيقَةِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِمَا وَقَدْ صَرَفَ إلَى مَنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ أَنَّهُ مَحَلٌّ فَقَدْ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِخِلَافِ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالثَّوْبِ الطَّاهِرِ وَالْمَاءِ الطَّاهِرِ مُمْكِنٌ فَلَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَلَمْ يَجُزْ وَبِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ عَبْدُهُ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى ذَلِكَ بِأَمَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ مُمْكِنٌ عَلَى أَنَّ مَعْنَى صَرْفِ الصَّدَقَةِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ هُنَاكَ لَا يُتَصَوَّرُ لِاسْتِحَالَةِ تَمْلِيكِ الشَّيْءِ مِنْ نَفْسِهِ. وَقَوْلُهُ: ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ مَمْنُوعٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ أَنْ لَوْ قُلْنَا أَنَّهُ صَارَ مَحِلَّ الصَّدَقَةِ بِاجْتِهَادِهِ فَلَا نَقُولُ كَذَلِكَ بَلْ الْمَحَلُّ الْمَأْمُورُ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ شَرْعًا حَالَةُ الِاشْتِبَاهِ وَهُوَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ التَّحَرِّي وَعَلَى هَذَا لَا يَظْهَرُ خَطَؤُهُ وَلَهُمَا فِي الصَّرْفِ إلَى ابْنِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ يَزِيدَ بْنَ مَعْنٍ دَفَعَ صَدَقَتَهُ إلَى رَجُلٍ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ لَيْلًا فَيَتَصَدَّقَ بِهَا فَدَفَعَهَا إلَى ابْنِهِ مَعْنٍ فَلَمَّا أَصْبَحَ رَآهَا فِي يَدِهِ فَقَالَ لَهُ: لَمْ أُرِدْك بِهَا فَاخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا مَعْنٌ لَك مَا أَخَذْتَ وَيَا يَزِيدُ لَك مَا نَوَيْتَ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ حَوَلَانُ الْحَوْلِ هَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِط أَدَاء الزَّكَاة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حَوَلَانُ الْحَوْلِ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ مِنْ شَرَائِطِ الْجَوَازِ فَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالْكَلَامُ فِي التَّعْجِيلِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَصْلِ الْجَوَازِ وَفِي بَيَانِ

فصل شرائط جواز النصاب

شَرَائِطِهِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْمُعَجَّلِ إذَا لَمْ يَقَعْ زَكَاةً. أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ أَدَاءُ الْوَاجِبِ، وَأَدَاءُ الْوَاجِبِ وَلَا وُجُوبَ لَا يَتَحَقَّقُ، وَلَا وُجُوبَ قَبْلَ الْحَوْلِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» ، وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَسْلَفَ مِنْ الْعَبَّاسِ زَكَاةَ سَنَتَيْنِ» وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَوَازُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ أَدَاءُ الْوَاجِبِ وَلَا وُجُوبَ قَبْلَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَمْنُوعٌ أَنَّهُ لَا وُجُوبَ قَبْلَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ بَلْ الْوُجُوبُ ثَابِتٌ قَبْلَهُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ مِلْكُ نِصَابٍ كَامِلٍ نَامٍ أَوْ فَاضِلٍ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِحُصُولِ الْغِنَى بِهِ وَلِوُجُوبِ شُكْرِ نِعْمَةِ الْمَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ تَوَسُّعًا وَتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ إلَى مُدَّةِ الْحَوْلِ تَرْفِيهًا وَتَيْسِيرًا عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ فَإِذَا عُجِّلَ فَلَمْ يَتَرَفَّهْ فَيَسْقُطُ الْوَاجِبُ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ لَكِنْ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ بِآخِرِ الْحَوْلِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ لَكِنْ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَهُوَ أَنْ يَجِبْ أَوَّلًا فِي آخِرِ الْحَوْلِ ثُمَّ يَسْتَنِدُ الْوُجُوبُ إلَى أَوَّلِهِ لِاسْتِنَادِ سَبَبِهِ وَهُوَ كَوْنُ النِّصَابِ حَوْلِيًّا فَيَكُونُ التَّعْجِيلُ أَدَاءً بَعْدَ الْوُجُوبِ لَكِنْ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا فَيَقَعُ زَكَاةً الثَّانِي إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا وُجُوبَ قَبْلَ الْحَوْلِ لَكِنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ مَوْجُودٌ وَهُوَ مِلْكُ النِّصَابِ وَيَجُوزُ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ قَبْلَ الْوُجُوبِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ كَأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَسَوَاءٌ عَجَّلَ عَنْ نِصَابٍ وَاحِدٍ، أَوْ اثْنَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَفِيدُهُ فِي السَّنَةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ النِّصَابِ الْمَوْجُودِ حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ زَكَاةَ الْأَلْفِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ثُمَّ اسْتَفَادَ مَالًا، أَوْ رَبِحَ فِي ذَلِكَ الْمَالِ حَتَّى صَارَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَتَمَّ الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ جَازَ عَنْ الْكُلِّ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ الْمِائَتَيْنِ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ التَّعْجِيلَ عَمَّا سِوَى الْمِائَتَيْنِ تَعْجِيلٌ قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ عَجَّلَ قَبْلَ مِلْكِ الْمِائَتَيْنِ، وَلَنَا أَنَّ مِلْكَ النِّصَابِ مَوْجُودٌ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَالْمُسْتَفَادُ عَلَى مِلْكِ النِّصَابِ فِي الْحَوْلِ كَالْمَوْجُودِ مِنْ ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ عِنْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ كَالْمَوْجُودِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ لَمَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جُعِلَتْ الْأَلْفُ كَأَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ لِيَصِيرَ مُؤَدِّيًا بَعْدَ وُجُودِ الْأَلْفِ تَقْدِيرًا فَجَازَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ جَوَازِ النِّصَابِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَثَلَاثَةٌ: أَحَدُهُمَا كَمَالُ النِّصَابِ فِي أَوَّلَ الْحَوْلِ، وَالثَّانِي كَمَالُهُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ وَالثَّالِثُ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ النِّصَابُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ عُجِّلَ وَلَهُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ أَقَلُّ مِنْ النِّصَابِ ثُمَّ كَمُلَ فِي آخِرِهِ فَتَمَّ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ كَامِلٌ لَمْ يَكُنْ الْمُعَجَّلُ زَكَاةً بَلْ كَانَ تَطَوُّعًا. وَكَذَا لَوْ عُجِّلَ وَالنِّصَابُ كَامِلٌ ثُمَّ هَلَكَ نِصْفُهُ مَثَلًا فَتَمَّ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ غَيْرُ كَامِلٍ لَمْ يَجُزْ التَّعْجِيلُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ كَمَالُ النِّصَابِ فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ النِّصَابُ فَأَحَدُ الطَّرَفَيْنِ حَالَ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَالطَّرَفُ الْآخَرُ حَالَ الْوُجُوبِ، أَوْ حَالَ تَأَكُّدِ الْوُجُوبِ بِالسَّبَبِ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَالِ الِانْعِقَادِ وَلَا حَالِ الْوُجُوبِ إذْ تَأَكُّدُ الْوُجُوبِ بِالسَّبَبِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ النِّصَابِ عِنْدَهُ وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ كَمَالِ النِّصَابِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ حَرَجًا؛ لِأَنَّ التُّجَّارَ يَحْتَاجُونَ إلَى النَّظَرِ فِي ذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ وَكُلَّ سَاعَةٍ وَفِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى وَلَا حَرَجَ فِي مُرَاعَاةِ الْكَمَالِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ وَكَذَلِكَ جَرَتْ عَادَةُ التُّجَّارِ بِتَعَرُّفِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَى ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ النِّصَابِ وَإِنْ قَلَّ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ لِيُضَمَّ الْمُسْتَفَادُ إلَيْهِ وَلِأَنَّهُ إذَا هَلَكَ النِّصَابُ الْأَوَّلُ كُلُّهُ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ الْحَوْلِ فَلَا يُمْكِنُ إبْقَاءُ الْمُعَجَّلِ زَكَاةً فَيَقَعُ تَطَوُّعًا. وَلَوْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ فَعَجَّلَ زَكَاتَهُ وَانْتَقَصَ النِّصَابُ وَلَمْ يَسْتَفِدْ شَيْئًا حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ نَاقِصٌ لَمْ يَجُزْ التَّعْجِيلُ وَيَقَعُ الْمُؤَدَّى تَطَوُّعًا وَلَا يُعْتَبَرُ الْمُعَجَّلُ فِي تَمَامِ النِّصَابِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُكْمَلُ النِّصَابُ بِمَا عُجِّلَ وَيَقَعُ زَكَاةً، وَصُورَتُهُ إذَا عَجَّلَ خَمْسَةً عَنْ مِائَتَيْنِ وَلَمْ يَسْتَفِدْ شَيْئًا حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ، أَوْ عَجَّلَ شَاةً مِنْ أَرْبَعِينَ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ لَمْ يَجُزْ التَّعْجِيلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ جَائِزٌ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُعَجَّلَ وَقَعَ زَكَاةً عَنْ كُلِّ النِّصَابِ فَيُعْتَبَرُ فِي إتْمَامِ النِّصَابِ وَلَنَا أَنَّ الْمُؤَدَّى مَالٌ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنْهُ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ فَلَا يُكَمَّلُ بِهِ النِّصَابُ كَمَا لَوْ

فصل حكم المعجل إذا لم يقع زكاة

هَلَكَ فِي يَدِ الْإِمَامِ. وَلَوْ اسْتَفَادَ خَمْسَةً فِي آخِرِ الْحَوْلِ جَازَ التَّعْجِيلُ لِوُجُودِ كَمَالِ النِّصَابِ فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ وَلَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا خَمْسَةً فَانْتَقَصَ النِّصَابُ ثُمَّ اسْتَفَادَ مَا يُكَمِّلُ بِهِ النِّصَابَ بَعْدَ الْحَوْلِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ الثَّانِي وَتَمَّ الْحَوْلُ الثَّانِي وَالنِّصَابُ كَامِلٌ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِلْحَوْلِ الثَّانِي وَمَا عُجِّلَ يَكُونُ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّهُ عُجِّلَ لِلْحَوْلِ الْأَوَّلِ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِلْحَوْلِ الْأَوَّلِ لِنُقْصَانِ النِّصَابِ فِي آخِرِ الْحَوْلِ وَلَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ خَمْسَةً مِنْهَا ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ نَاقِصٌ وَدَخَلَ الْحَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ نَاقِصٌ ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ كَامِلٌ لَا تُجْزِي الْخَمْسَةُ عَنْ السَّنَةِ الْأُولَى وَلَا عَنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ فِي السَّنَةِ الْأُولَى كَانَ النِّصَابُ نَاقِصًا فِي آخِرِهَا وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَانَ النِّصَابُ نَاقِصًا فِي أَوَّلِهَا فَلَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ فِي السَّنَتَيْنِ فَلَا يَقَعُ الْمُؤَدَّى زَكَاةً عَنْهُمَا. وَلَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَحَالَ الْحَوْلُ وَأَدَّى خَمْسَةً مِنْهَا حَتَّى انْتَقَصَ مِنْهَا خَمْسَةً ثُمَّ إنَّهُ عَجَّلَ عَنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ خَمْسَةً حَتَّى انْتَقَصَ مِنْهَا خَمْسَةً أُخْرَى فَصَارَ الْمَالُ مِائَةً وَتِسْعِينَ فَتَمَّ الْحَوْلُ الثَّانِي وَقَدْ اسْتَفَادَ عَشْرَةً حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْمِائَتَيْنِ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ الْخَمْسَةَ الَّتِي عَجَّلَ لِلْحَوْلِ الثَّانِي جَائِزَةٌ طَعَنَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَقَالَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُجْزِئَهُ هَذِهِ الْخَمْسَةُ عَنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ الْأَوَّلَ لَمَّا تَمَّ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ وَصَارَتْ خَمْسَةٌ مِنْ الْمِائَتَيْنِ وَاجِبَةً وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَانْعَقَدَ الْحَوْلُ الثَّانِي وَالنِّصَابُ نَاقِصٌ فَكَانَ تَعْجِيلُ الْخَمْسَةِ عَنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ تَعْجِيلًا حَالَ نُقْصَانِ النِّصَابِ فَلَمْ يَجُزْ وَالْجَوَابُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بَعْدَ تَمَامِ السَّنَةِ الْأُولَى وَتَمَامُ السَّنَةِ الْأُولَى يَتَعَقَّبُهُ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالْوُجُوبُ ثَبَتَ مُقَارِنًا لِذَلِكَ الْجُزْءِ، وَالنِّصَابُ كَانَ كَامِلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ انْتَقَصَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ حَالُ وُجُودِ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَكَانَ ذَلِكَ نُقْصَانُ النِّصَابِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ عِنْدَ وُجُودِ الْكَمَالِ فِي طَرَفَيْهِ وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا فَجَازَ التَّعْجِيلُ لِوُجُودِ حَالِ كَمَالِ النِّصَابِ. [فَصْلٌ حُكْمُ الْمُعَجَّلِ إذَا لَمْ يَقَعْ زَكَاةً] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْمُعَجَّلِ إذَا لَمْ يَقَعْ زَكَاةً أَنَّهُ إنْ وَصَلَ إلَى يَدِ الْفَقِيرِ يَكُونُ تَطَوُّعًا سَوَاءٌ وَصَلَ إلَى يَدِهِ مِنْ يَدِ رَبِّ الْمَالِ، أَوْ مِنْ يَدِ الْإِمَامِ، أَوْ نَائِبِهِ وَهُوَ السَّاعِي؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ أَصْلُ الْقُرْبَةِ وَإِنَّمَا التَّوَقُّفُ فِي صِفَةِ الْفَرْضِيَّةِ، وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ لَا يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ فِيهَا بَعْدَ وُصُولِهَا إلَى يَدِ الْفَقِيرِ وَإِنْ كَانَ الْمُعَجَّلُ فِي يَدِ الْإِمَامِ قَائِمًا لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِلْ إلَى يَدِ الْفَقِيرِ لَمْ يَتِمَّ الصَّرْفُ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُصَدِّقِ فِي الصَّدَقَةِ الْمُعَجَّلَةِ يَدُ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي دَفْعِ الْمُعَجَّلِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ يَدَ الْفَقِيرِ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَقْبِضُ لَهُ فَلَمْ يَتِمَّ الصَّرْفُ فَلَمْ تَقَعْ صَدَقَةً أَصْلًا. وَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ اسْتَسْلَفَ الْإِمَامُ بِغَيْرِ مَسْأَلَةِ رَبِّ الْمَالِ وَلَا أَهْلِ السُّهْمَانِ يُضْمَنُ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِفِعْلِهِ وَفِعْلُهُ الْأَخْذُ وَأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَالْهَلَاكُ لَيْسَ مِنْ صُنْعِهِ بَلْ هُوَ مَحْضُ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْنِي مَصْنُوعَهُ. وَلَوْ دَفَعَ الْإِمَامُ الْمُعَجَّلَ إلَى فَقِيرٍ فَأَيْسَرَ الْفَقِيرُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ أَوْ مَاتَ أَوْ ارْتَدَّ جَازَ عَنْ الزَّكَاةِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَسْتَرِدُّهُ الْإِمَامُ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسَارُهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كَوْنَ الْمُعَجَّلِ زَكَاةً إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ وَهُوَ لَيْسَ مَحَلَّ الصَّرْفِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يَقَعُ زَكَاةً إلَّا إذَا كَانَ يَسَارُهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ أَصْلًا فَلَا يُقْطَعُ التَّبَعُ عَنْ أَصْلِهِ وَلَنَا أَنَّ الصَّدَقَةَ لَاقَتْ كَفَّ الْفَقِيرِ فَوَقَعَتْ مَوْقِعَهَا فَلَا تَتَغَيَّرُ بِالْغِنَى الْحَادِثِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا إذَا دَفَعَهَا إلَى الْفَقِيرِ بَعْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ ثُمَّ أَيْسَرَ. وَلَوْ عَجَّلَ زَكَاةَ مَالِهِ ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْفَقِيرِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ قَالَ لَهُ إنَّهَا مُعَجَّلَةٌ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ وَقَعَتْ فِي مَحَلِّ الصَّدَقَةِ وَهُوَ الْفَقِيرُ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ كَمَا إذَا لَمْ يَقُلْ إنَّهَا مُعَجَّلَةٌ وَلَوْ كَانَ لَهُ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ أَوْ عُرُوضٌ لِلتِّجَارَةِ فَعَجَّلَ زَكَاةَ جِنْسٍ مِنْهَا ثُمَّ هَلَكَ بَعْضُ الْمَالِ جَازَ الْمُعَجَّلُ عَنْ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي حُكْمِ مَالٍ وَاحِدٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَضُمُّ الْبَعْضَ إلَى الْبَعْضِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ فَكَانَتْ نِيَّةُ التَّعْيِينِ فِي التَّعْجِيلِ لَغْوًا كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ زَكَاةَ الْمِائَتَيْنِ ثُمَّ هَلَكَ بَعْضُ الْمَالِ. وَهَذَا بِخِلَافِ السَّوَائِمِ الْمُخْتَلِفَةِ بِأَنْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَأَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ فَعَجَّلَ شَاةً عَنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ ثُمَّ هَلَكَتْ الْإِبِلُ أَنَّ الْمُعَجَّلَ لَا يَجُوزُ عَنْ زَكَاةِ الْغَنَمِ؛ لِأَنَّهُمَا مَالَانِ مُخْتَلِفَانِ صُورَةً وَمَعْنًى فَكَانَ نِيَّةُ التَّعْيِينِ صَحِيحَةً فَالتَّعْجِيلُ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يَقَعُ عَنْ الْآخَرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُسْقِطُ وُجُوبَ النِّصَابِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا فَالْمُسْقِطُ لَهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ: مِنْهَا هَلَاكُ

فصل زكاة الزروع والثمار

النِّصَابِ بَعْدَ الْحَوْلِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ وَبَعْدَهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْقُطُ بِالْهَلَاكِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَتْ. وَمِنْهَا الرِّدَّةُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الرِّدَّةُ لَا تُسْقِطُ الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجِبُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لَكِنْ بِتَقْدِيمِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ فَإِذَا أَسْلَمَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ كَالْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ أَنَّهُمَا قَادِرَانِ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَكِنْ بِوَاسِطَةِ الطَّهَارَةِ فَإِذَا وُجِدَتْ الطَّهَارَةُ يَجِبُ عَلَيْهَا الْأَدَاءُ كَذَا هَذَا، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» وَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَا فَتَسْقُطُ عَنْهُ بِالرِّدَّةِ وَمَا ذُكِرَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْأَدَاءِ بِتَقْدِيمِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ كَلَامٌ فَاسِدٌ لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْلِ الْأَصْلِ تَبَعًا لِتَبَعِهِ وَجَعْلِ التَّبَعِ أَصْلًا لِمَتْبُوعِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا مَوْتُ مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهَا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ، أَوْصَى بِالْأَدَاءِ وَإِمَّا أَنْ كَانَ لَمْ يُوصِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يُوصِ تَسْقُطُ عَنْهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا حَتَّى لَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَلَا يُؤْمَرُ الْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ بِالْأَدَاءِ مِنْ تَرِكَتِهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، أَوْ النَّذْرُ، أَوْ الْكَفَّارَاتُ، أَوْ الصَّوْمُ، أَوْ الصَّلَاةُ، أَوْ النَّفَقَاتُ، أَوْ الْخَرَاجُ، أَوْ الْجِزْيَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ. وَإِنْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْعُشْرُ فَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ قَائِمًا فَلَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْقُطُ وَلَوْ كَانَ اسْتَهْلَكَ الْخَارِجَ حَتَّى صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كَانَ، أَوْصَى بِالْأَدَاءِ لَا يَسْقُطُ وَيُؤَدَّى مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَالْكَلَامُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ عِنْدَنَا وَالْعِبَادَةُ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِاخْتِيَارِ مَنْ عَلَيْهِ إمَّا بِمُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِأَمْرِهِ، أَوْ إنَابَتِهِ غَيْرَهُ فَيَقُومُ النَّائِبُ مَقَامَهُ فَيَصِيرُ مُؤَدِّيًا بِيَدِ النَّائِبِ، وَإِذَا، أَوْصَى فَقَدْ أَنَابَ وَإِذَا لَمْ يُوصِ فَلَمْ يُنِبْ، فَلَوْ جَعَلَ الْوَارِثُ نَائِبًا عَنْهُ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ إنَابَتِهِ لَكَانَ ذَلِكَ إنَابَةً جَبْرِيَّةً وَالْجَبْرُ يُنَافِي الْعِبَادَةَ إذْ الْعِبَادَةُ فِعْلٌ يَأْتِيهِ الْعَبْدُ بِاخْتِيَارِهِ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّكَاةَ مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ جَبْرًا، وَلَوْ أَخَذَ لَا تَسْقُط عَنْهُ الزَّكَاةُ، وَالثَّانِي أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ مَالِيٌّ، وَالصِّلَاتُ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَالْعُشْرُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ وَكَمَا ثَبَتَ ثَبَتَ مُشْتَرَكًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] أَضَافَ الْمُخْرَجَ إلَى الْكُلِّ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ جَمِيعًا فَإِذَا ثَبَتَ مُشْتَرَكًا فَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ وَعِنْدَهُ الزَّكَاةُ حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ الْفَقِيرُ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الدُّيُونِ وَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْقَطِعُ بَلْ يَبْنِي الْوَارِثُ عَلَيْهِ فَإِذَا تَمَّ الْحَوْلُ أَدَّى الزَّكَاةَ، وَالْكَلَامُ فِيهِ أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ عِنْدَنَا فَيُعْتَبَرُ فِيهِ جَانِبُ الْمُؤَدِّي وَهُوَ الْمَالِكُ وَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ بِمَوْتِهِ فَيَنْقَطِعُ حَوْلُهُ، وَعِنْدَهُ لَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ بَلْ هِيَ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ فَيُعْتَبَرُ قِيَامُ نَفْسِ الْمِلْكِ وَأَنَّهُ قَائِمٌ إذْ الْوَارِثُ يَخْلُفُ الْمُورَثَ فِي عَيْنِ مَا كَانَ لِلْمُورَثِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ زَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا زَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَهُوَ الْعُشْرُ فَالْكَلَامُ فِي هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي. بَيَانِ فَرْضِيَّتِهِ وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ سَبَبِ الْفَرْضِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْفَرْضِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ الْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْأَخْذِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ الْفَرْضِ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهُ، وَفِي بَيَانِ مَا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْأَمْوَالِ، وَفِي بَيَانِ مَصَارِفِهَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] قَالَ عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: إنَّ الْحَقَّ الْمَذْكُورَ هُوَ الْعُشْرُ، أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ فَإِنْ قِيلَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِيتَاءِ الْحَقِّ يَوْمَ الْحَصَادِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ زَكَاةَ الْحُبُوبِ لَا تُخْرَجُ يَوْمَ الْحَصَادِ بَلْ بَعْدَ التَّنْقِيَةِ وَالْكَيْلِ لِيَظْهَرَ مِقْدَارُهَا فَيُخْرَجُ عُشْرُهَا فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ الْعُشْرِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَآتُوا حَقَّهُ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ يَوْمَ حَصَادِهِ بَعْدَ التَّنْقِيَةِ فَكَانَ الْيَوْمُ ظَرْفًا لِلْحَقِّ لَا لِلْإِيتَاءِ. عَلَى أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْخَضْرَاوَاتِ وَإِنَّمَا يُخْرَجُ الْحَقُّ مِنْهَا يَوْمَ الْحَصَادِ وَهُوَ الْقَطْعُ وَلَا يُنْتَظَرُ شَيْءٌ آخَرُ فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ فِي الْعُشْرِ إلَّا أَنَّ مِقْدَارَ

فصل كيفية فرضية زكاة الزروع والثمار

هَذَا الْحَقِّ غَيْرُ مُبَيَّنٍ فِي الْآيَةِ فَكَانَتْ الْآيَةُ مُجْمَلَةً فِي حَقِّ الْمِقْدَارِ ثُمَّ صَارَتْ مُفَسَّرَةً بِبَيَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ فِي حَقِّ الْمِقْدَارِ فَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ» فَصَارَ مُفَسَّرًا كَذَا هَذَا. وقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلْفُقَرَاءِ حَقًّا فِي الْمُخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ حَيْثُ أَضَافَ الْمُخْرَجَ إلَى الْكُلِّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْفُقَرَاءِ فِي ذَلِكَ حَقًّا كَمَا أَنَّ لِلْأَغْنِيَاءِ فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْعُشْرِ حَقَّ الْفُقَرَاءِ ثُمَّ عُرِفَ مِقْدَارُ الْحَقِّ بِالسُّنَّةِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَيْنَا وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْعُشْرِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَعَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ إخْرَاجَ الْعُشْرِ إلَى الْفَقِيرِ مِنْ بَابِ شُكْرِ النِّعْمَةِ وَإِقْدَارِ الْعَاجِزِ وَتَقْوِيَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ بِالْفَرَائِضِ وَمِنْ بَابِ تَطْهِيرِ النَّفْسِ عَنْ الذُّنُوبِ وَتَزْكِيَتِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ لَازِمٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ كَيْفِيَّةُ فَرْضِيَّةِ زَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّةِ هَذَا النَّوْعِ فَعَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّةِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. [فَصْلٌ سَبَبُ فَرْضِيَّتِهِ زَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سَبَبُ فَرْضِيَّتِهِ فَالْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً، وَسَبَبُ وُجُوبِ الْخَرَاجِ لِلْأَرْضِ النَّامِيَةِ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً، أَوْ تَقْدِيرًا حَتَّى لَوْ أَصَابَ الْخَارِجَ آفَةٌ فَهَلَكَ لَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ فِي الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ وَلَا الْخَرَاجُ فِي الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ لِفَوَاتِ النَّمَاءِ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا. وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ عُشْرِيَّةً فَتَمَكَّنَ مِنْ زِرَاعَتِهَا فَلَمْ تُزْرَعْ لَا يَجِبُ الْعُشْرُ لِعَدَمِ الْخَارِجِ حَقِيقَةً وَلَوْ كَانَتْ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ يَجِبُ الْخَرَاجُ لِوُجُودِ الْخَارِجِ تَقْدِيرًا وَلَوْ كَانَتْ أَرْضُ الْخَرَاجِ نَزَّةً، أَوْ غَلَبَ عَلَيْهَا الْمَاءُ بِحَيْثُ لَا يُسْتَطَاعُ فِيهَا الزِّرَاعَةُ، أَوْ سَبْخَةً، أَوْ لَا يَصِلُ إلَيْهَا الْمَاءُ فَلَا خَرَاجَ فِيهِ لِانْعِدَامِ الْخَارِجِ فِيهِ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ تَعْجِيلُ الْعُشْرِ وَإِنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ، أَوْجُهٍ: فِي وَجْهٍ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي وَجْهٍ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي وَجْهٍ فِيهِ خِلَافٌ أَمَّا الَّذِي يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ فَهُوَ أَنْ يُعَجَّلَ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ وَبَعْدَ النَّبَاتِ؛ لِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَصَلَهُ هَكَذَا يَجِبُ الْعُشْرُ؟ وَأَمَّا الَّذِي لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ فَهُوَ أَنْ يُعَجِّلَ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ عَجَّلَ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ لِانْعِدَامِ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً لِانْعِدَامِ الْخَارِجِ حَقِيقَةً وَأَمَّا الَّذِي فِيهِ خِلَافٌ فَهُوَ أَنْ يُعَجِّلَ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ قَبْلَ النَّبَاتِ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ لَمْ يُوجَدْ لِانْعِدَامِ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ بِالْخَارِجِ لَا الْخَارِجُ فَكَانَ تَعْجِيلًا قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ فَلَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ عَجَّلَ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ سَبَبَ الْخُرُوجِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الزِّرَاعَةُ فَكَانَ تَعْجِيلًا بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ فَيَجُوزُ. وَأَمَّا تَعْجِيلُ عُشْرِ الثِّمَارِ فَإِنْ عَجَّلَ بَعْدَ طُلُوعِهَا جَازَ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ عَجَّلَ قَبْلَ الطُّلُوعِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الزَّرْعِ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ وَجَعَلَ الْأَشْجَارَ لِلثِّمَارِ بِمَنْزِلَةِ السَّاقِ لِلْحُبُوبِ وَهُنَاكَ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ كَذَا هَهُنَا وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّجَرَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّهُ حَطَبٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَهُ لَا يَجِبُ الْعُشْرُ؟ فَأَمَّا سَاقُ الزَّرْعِ فَمَحَلٌّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ السَّاقَ قَبْلَ أَنْ يَنْعَقِدَ الْحَبُّ يَجِبُ الْعُشْرُ. وَيَجُوز تَعْجِيلُ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْخَرَاجِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ تَقْدِيرًا بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ لَا تَحْقِيقًا وَقَدْ وُجِدَ التَّمَكُّنُ وَسَبَبُ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ كَوْنُهُ ذِمِّيًّا وَقَدْ وُجِدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ فَرْضِيَّةِ زَكَاةِ الزُّرُوعِ] [الشَّرَائِط الْأَهْلِيَّة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْفَرْضِيَّةِ فَبَعْضُهَا شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ الْمَحَلِّيَّةِ أَمَّا. شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ فَنَوْعَانِ:. أَحَدُهُمَا الْإِسْلَامُ وَأَنَّهُ شَرْطُ ابْتِدَاءِ هَذَا الْحَقِّ فَلَا يُبْتَدَأُ بِهَذَا الْحَقِّ إلَّا عَلَى مُسْلِمٍ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَا ابْتِدَاءً فَلَا يُبْتَدَأُ بِهِ عَلَيْهِ. وَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَحَوَّلَ إلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ حَتَّى إنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ اشْتَرَى أَرْضَ عُشْرٍ مِنْ مُسْلِمٍ فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ عُشْرَانِ

وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ عُشْرٌ وَاحِدٌ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ أَرْضٍ ابْتَدَأَتْ بِضَرْبِ حَقٍّ عَلَيْهَا أَنْ لَا يَتَبَدَّلَ الْحَقُّ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ كَالْخَرَاجِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُؤْنَةُ الْأَرْضِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَالِكِ حَتَّى يَجِبَ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَالِكِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: لَمَّا وَجَبَ الْعُشْرُ عَلَى الْكَافِرِ كَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْكَافِرِ بِاسْمِ الْعُشْرِ يَكُونُ مُضَاعَفًا كَالْوَاجِبِ عَلَى التَّغْلِبِيِّ وَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعُشْرَ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعُشْرُ كَمَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ الْمَعْهُودَةُ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً كَذَا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ وَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْعُشْرِ عَلَيْهِ فَلَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يَنْتَفِعَ الذِّمِّيُّ بِأَرْضِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ يُضْرَبُ عَلَيْهَا فَضَرَبْنَا عَلَيْهَا الْخَرَاجَ فَالْخَرَاجُ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الصَّغَارِ كَمَا لَوْ جَعَلَ دَارِهِ بُسْتَانًا وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي وَقْتِ صَيْرُورَتِهَا خَرَاجِيَّةً ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ كَمَا اشْتَرَى صَارَتْ خَرَاجِيَّةً وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً مَا لَمْ يُوضَعْ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْخَرَاجُ إذَا مَضَتْ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا سَوَاءٌ زَرَعَ، أَوْ لَمْ يَزْرَعْ كَذَا ذُكِرَ فِي الْعُيُونِ فِي رَجُلٍ بَاعَ أَرْضَ الْخَرَاجِ مِنْ رَجُلٍ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ السَّنَةِ مِقْدَارُ مَا يَقْدِرُ الْمُشْتَرِي عَلَى زَرْعِهَا فَخَرَاجُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَقِيَ ذَلِكَ الْقَدْرُ فَخَرَاجُهَا عَلَى الْبَائِعِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي مَوْضِعِ هَذَا الْعُشْرِ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْوَاجِبِ لَمَّا لَمْ يَتَغَيَّرْ عِنْدَهُ لَا تَتَغَيَّرُ صِفَتُهُ أَيْضًا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّ مَالَ الصَّدَقَةِ لَا يُؤْخَذُ فِيهِ لِكَوْنِهِ مَالًا مَأْخُوذًا مِنْ الْكَافِرِ فَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ. وَلَوْ اشْتَرَى مُسْلِمٌ مِنْ ذِمِّيٍّ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ وَلَا تَنْقَلِبُ عُشْرِيَّةً؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مُؤْنَةَ الْأَرْضِ لَا تَتَغَيَّرُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَفِي حَقِّ الذِّمِّيِّ إذَا اشْتَرَى مِنْ مُسْلِمٍ أَرْضَ عُشْرٍ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْعُشْرِ فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَمِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْخَرَاجِ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى التَّغْيِيرِ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ. وَلَوْ بَاعَ الْمُسْلِمُ مِنْ ذِمِّيٍّ أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَأَخَذَهَا مُسْلِمٌ بِالشُّفْعَةِ فَفِيهَا الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَحَوَّلَتْ إلَى الشَّفِيعِ كَأَنَّهُ بَاعَهَا مِنْهُ فَكَانَ انْتِقَالًا مِنْ مُسْلِمٍ إلَى مُسْلِمٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا فَاسْتَرَدَّهَا الْبَائِعُ مِنْهُ لِفَسَادِ الْبَيْعِ عَادَتْ إلَى الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ إذَا فُسِخَ يَرْتَفِعُ مِنْ الْأَصْلِ وَيَصِيرُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَيَرْتَفِعُ بِأَحْكَامِهِ وَلَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهَا عَيْبًا فَعَلَى رِوَايَةِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ خَرَاجِيَّةً بِنَفْسِ الشِّرَاءِ فَحَدَثَ فِيهَا عَيْبٌ زَائِدٌ فِي يَدِهِ وَهُوَ وَضْعُ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا فَمُنِعَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ لَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا مَا لَمْ يُوضَعْ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ لِعَدَمِ حُدُوثِ الْعَيْبِ فَإِنْ رَدَّهَا بِرِضَا الْبَائِعِ لَا تَعُودُ عُشْرِيَّةً بَلْ هِيَ خَرَاجِيَّةٌ عَلَى حَالِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِرِضَا الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ جَدِيدٍ، وَالْأَرْضُ إذَا صَارَتْ خَرَاجِيَّةً لَا تَنْقَلِبُ عُشْرِيَّةً بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ. وَلَوْ اشْتَرَى التَّغْلِبِيُّ أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَعَلَيْهِ عُشْرَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ عُشْرٌ وَاحِدٌ أَمَّا مُحَمَّدٌ فَقَدْ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ كُلَّ مُؤْنَةٍ ضُرِبَتْ عَلَى أَرْضٍ أَنَّهَا لَا تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ حَالِ الْمَالِكِ، وَفِقْهُهُ مَا ذَكَرْنَا وَهُمَا يَقُولَانِ الْأَصْلُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ تَتَغَيَّرَ إذَا وُجِدَ الْمُغَيِّرُ وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا وَهُوَ قَضِيَّةُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ صَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَإِنْ أَسْلَمَ التَّغْلِبِيُّ، أَوْ بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْعُشْرَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَتَغَيَّرُ إلَى عُشْرٍ وَاحِدٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْعُشْرَيْنِ كَانَا لِكَوْنِهِ نَصْرَانِيًّا تَغْلِبِيًّا إذْ التَّضْعِيفُ يَخْتَصُّ بِهِمْ وَقَدْ بَطَلَ بِالْإِسْلَامِ فَيَبْطُلُ التَّضْعِيفُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعُشْرَيْنِ كَانَا خَرَاجًا عَلَى التَّغْلِبِيِّ وَالْخَرَاجُ لَا يَتَغَيَّرُ بِإِسْلَامِ الْمَالِكِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْلِمَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْخَرَاجِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَا يَتَفَرَّعُ التَّغَيُّرُ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ عُشْرٌ وَاحِدٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالْبَيْعِ مِنْ الْمُسْلِمِ فَيَجِبُ عُشْرٌ وَاحِدٌ كَمَا كَانَ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ عَشْرٌ وَاحِدٌ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي التَّغْلِبِيِّ يَشْتَرِي أَرْضَ الْعُشْرِ مِنْ مُسْلِمٍ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرَانِ فِي قَوْلِهِمْ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَوْ اشْتَرَى التَّغْلِبِيُّ أَرْضَ عُشْرٍ فَبَاعَهَا مِنْ ذِمِّيٍّ فَعَلَيْهِ عُشْرَانِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّضْعِيفَ عَلَى التَّغْلِبِيِّ بِطَرِيقِ الْخَرَاجِ وَالْخَرَاجُ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَيْهِ الْخَرَاجَ؛ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ يَخْتَصُّ بِالتَّغْلَبِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالثَّانِي الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مَفْرُوضًا

وَنَعْنِي بِهِ سَبَبَ الْعِلْمِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَالْمَسْأَلَةُ ذُكِرَتْ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَلَيْسَا مِنْ شَرَائِطِ أَهْلِيَّةِ وُجُوبِ الْعُشْرِ حَتَّى يَجِبَ الْعُشْرُ فِي أَرْضِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» ؛ وَلِأَنَّ الْعُشْرَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ كَالْخَرَاجِ وَلِهَذَا لَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا وَلِهَذَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَيْهِ فَيَأْخُذُهُ جَبْرًا وَيَسْقُطُ عَنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ كَمَا لَوْ أَدَّى بِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَدَّى بِنَفْسِهِ يَقَعُ عِبَادَةً فَيَنَالُ ثَوَابَ الْعِبَادَةِ. وَإِذَا أَخَذَهَا الْإِمَامُ كُرْهًا لَا يَكُونُ لَهُ ثَوَابُ فِعْلِ الْعِبَادَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ثَوَابُ ذَهَابِ مَالِهِ فِي وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ ثَوَابِ الْمَصَائِبِ كُرْهًا بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ جَبْرًا وَإِنْ أُخِذَ لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ؛ وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْعُشْرُ وَالطَّعَامُ قَائِمٌ يُؤْخَذُ مِنْهُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ. وَكَذَا مِلْكُ الْأَرْضِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ مِلْكُ الْخَارِجِ فَيَجِبُ فِي الْأَرَاضِي الَّتِي لَا مَالِكَ لَهَا وَهِيَ الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةُ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» ؛ وَلِأَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ لَا فِي الْأَرْضِ فَكَانَ مِلْكُ الْأَرْضِ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَيَجِبُ فِي أَرْضِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ آجَرَ أَرْضَهُ الْعُشْرِيَّةَ فَعُشْرُ الْخَارِجِ عَلَى الْمُؤَاجَرِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا ظَاهِرٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ وَالْخَارِجُ مِلْكُ الْمُسْتَأْجِرِ فَكَانَ الْعُشْرُ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَعِيرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخَارِجَ لِلْمُؤَاجِرِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ بَدَلَهُ وَهُوَ الْأُجْرَةُ لَهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ زَرَعَ بِنَفْسِهِ، وَفِيهِ إشْكَالٌ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ قَابِلٌ لِلْمَنْفَعَةِ لَا الْخَارِجِ، وَالْعُشْرُ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ عِنْدَهُمَا وَالْخَارِجُ يُسَلَّمُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَيَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْخَارِجَ فِي إجَارَةِ الْأَرْضِ إنْ كَانَ عَيْنًا حَقِيقِيَّةً فَلَهُ حُكْمُ الْمَنْفَعَةِ فَيُقَابِلُهُ الْأَجْرُ فَكَانَ الْخَارِجُ لِلْآجِرِ مَعْنًى فَكَانَ الْعُشْرُ عَلَيْهِ فَإِنْ هَلَكَ الْخَارِجُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحَصَادِ فَلَا عُشْرَ عَلَى الْمُؤَاجِرِ وَيَجِبُ الْأَجْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ يَجِبُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْهُ وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الْحَصَادِ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُؤَاجِرِ عُشْرُ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَلَا يَجِبُ فِي الْخَارِجِ عِنْدَهُ حَتَّى يَسْقُطَ بِهَلَاكِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْعُشْرُ بِهَلَاكِهِ وَلَا يَسْقُطُ الْأَجْرُ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ أَيْضًا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ فَيَكُونُ عَلَى مَنْ حَصَلَ لَهُ الْخَارِجُ وَلَوْ هَلَكَ بَعْدَ الْحَصَادِ، أَوْ قَبْلَهُ هَلَكَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْعُشْرِ. وَلَوْ أَعَارَهَا مِنْ مُسْلِمٍ فَزَرَعَهَا فَالْعَشْرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَى الْمُعِيرِ وَهَكَذَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى الْمُعِيرِ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْإِعَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ هِبَةَ الْمَنْفَعَةِ فَأَشْبَهَ هِبَةَ الزَّرْعِ، وَلَنَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ حَصَلَتْ لِلْمُسْتَعِيرِ صُورَةً وَمَعْنًى إذْ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمُعِيرِ فِي مُقَابِلَتِهَا عِوَضٌ فَكَانَ الْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ. وَلَوْ أَعَارَهَا مِنْ كَافِرٍ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ عِنْدَهُمَا فِي الْخَارِجِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ الْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَلَوْ دَفَعَهَا مُزَارِعَةً فَإِمَّا عَلَى مَذْهَبِهِمَا فَالْمُزَارِعَةُ جَائِزَةٌ وَالْعُشْرُ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا فَيَجِبُ الْعُشْرُ عَلَيْهِمَا. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ وَلَوْ كَانَ يُجِيزُهَا كَانَ يَجِبُ عَلَى مَذْهَبِهِ جَمِيعُ الْعُشْرِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ إلَّا أَنَّ فِي حِصَّتِهِ جَمِيعَ الْعُشْرِ يَجِبُ فِي عَيْنِهِ وَفِي حِصَّةِ الْمُزَارِعِ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ. وَلَوْ غَصَبَ غَاصِبٌ أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَزَرَعَهَا فَإِنْ لَمْ تَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ فَالْعُشْرُ عَلَى الْغَاصِبِ فِي الْخَارِجِ لَا عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَسْلَمْ لَهُ مَنْفَعَةٌ كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ وَإِنْ نَقَصَتْهَا الزِّرَاعَةُ فَعَلَى الْغَاصِبِ نُقْصَانُ الْأَرْضِ كَأَنَّهُ آجَرَهَا مِنْهُ وَعُشْرُ الْخَارِجِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا فِي الْخَارِجِ. وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ خَرَاجِيَّةً فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَخَرَاجُهَا عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا فِي الْغَصْبِ إذَا لَمْ تَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ فَخَرَاجُهَا عَلَى الْغَاصِب وَإِنْ نَقَصَتْهَا فَعَلَى رَبِّ الْأَرْضِ كَأَنَّهُ آجَرَهَا مِنْهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: اُنْظُرْ إلَى نُقْصَانِ الْأَرْضِ وَإِلَى الْخَرَاجِ فَإِنْ كَانَ ضَمَانُ النُّقْصَانِ أَكْثَرَ مِنْ الْخَرَاجِ فَالْخَرَاجُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ يَأْخُذُ مِنْ الْغَاصِبِ النُّقْصَانَ فَيُؤَدِّي الْخَرَاجَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ ضَمَانُ النُّقْصَانِ أَقَلَّ مِنْ الْخَرَاجِ عَلَى الْغَاصِبِ وَسَقَطَ عَنْهُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ. وَلَوْ بَاعَ الْأَرْضَ الْعُشْرِيَّةَ وَفِيهَا زَرْعٌ

فصل الشرائط المحلية

قَدْ أَدْرَكَ مَعَ زَرْعِهَا أَوْ بَاعَ الزَّرْعَ خَاصَّةً فَعُشْرُهُ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الْعُشْرِ وَتَقَرُّرِهِ بِالْإِدْرَاكِ. وَلَوْ بَاعَهَا وَالزَّرْعُ بَقْلٌ فَإِنْ قَصَلَهُ الْمُشْتَرِي لِلْحَالِ فَعُشْرُهُ عَلَى الْبَائِعِ أَيْضًا لِتَقَرُّرِ الْوُجُوبِ فِي الْبَقْلِ بِالْقَصْلِ. وَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى أَدْرَكَ فَعُشْرُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِتَحَوُّلِ الْوُجُوبِ مِنْ السَّاقِ إلَى الْحَبِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: عُشْرُ قَدْرِ الْبَقْلِ عَلَى الْبَائِعِ وَعُشْرُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَكَذَلِكَ حُكْمُ الثِّمَارِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ. وَكَذَا عَدَمُ الدَّيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعُشْرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ الْمَعْهُودَةِ وَقَدْ مَضَى الْفَرْقُ فِيمَا تَقَدَّمَ. [فَصْلٌ الشَّرَائِطُ الْمَحَلِّيَّةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْمَحَلِّيَّةِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ عُشْرِيَّةً فَإِنْ كَانَتْ خَرَاجِيَّةً يَجِبُ فِيهَا الْخَرَاجُ وَلَا يَجِبُ فِي الْخَارِجِ مِنْهَا الْعُشْرُ فَالْعُشْرُ مَعَ الْخَرَاجِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجْتَمِعَانِ فَيَجِبُ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ الْعُشْرُ حَتَّى قَالَ بِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ ذَاتًا وَمَحَلًّا وَسَبَبًا فَلَا يَتَدَافَعَانِ أَمَّا اخْتِلَافُهُمَا ذَاتًا فَلَا شَكَّ فِيهِ. وَأَمَّا الْمَحَلُّ فَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَالْعُشْرُ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ. وَأَمَّا السَّبَبُ فَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْخَرَاجِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ وَسَبَبُ وُجُوبِ الْعُشْرِ الْخَارِجُ حَتَّى لَا يَجِبُ بِدُونِهِ وَالْخَرَاجُ يَجِبُ بِدُونِ الْخَارِجِ وَإِذَا ثَبَتَ اخْتِلَافُهُمَا ذَاتًا وَمَحَلًّا وَسَبَبًا فَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْآخَرِ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ» ؛ وَلِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ وَوُلَاةِ الْجَوْرِ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ عُشْرًا إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِيهَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ فَيَكُونُ بَاطِلًا؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَا يَجْتَمِعُ زَكَاتَانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ وَهِيَ زَكَاةُ السَّائِمَةِ وَالتِّجَارَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا الْأَرْضُ النَّامِيَةُ أَنَّهُمَا يُضَافَانِ إلَى الْأَرْضِ، يُقَالُ: خَرَاجُ الْأَرْضِ وَعُشْرُ الْأَرْضِ، وَالْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى السَّبَبِيَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ فِيهِمَا هُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَزْرَعْهَا وَعَطَّلَهَا يَجِبُ الْخَرَاجُ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ النَّمَاءِ كَانَ لِتَقْصِيرٍ مِنْ قِبَلِهِ فَيُجْعَلُ مَوْجُودًا تَقْدِيرًا حَتَّى لَوْ كَانَ الْفَوَاتُ لَا بِتَقْصِيرِهِ بِأَنْ هَلَكَ لَا يَجِبُ وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْعُشْرُ بِدُونِ الْخَارِجِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ بِدُونِ الْخَارِجِ وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ اشْتَرَى أَرْضَ عُشْرٍ لِلتِّجَارَةِ أَوْ اشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ لِلتِّجَارَةِ أَنَّ فِيهَا الْعُشْرَ، أَوْ الْخَرَاجَ وَلَا تَجِبُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ مَعَ أَحَدِهِمَا هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجِبُ الْعُشْرُ وَالزَّكَاةُ، أَوْ الْخَرَاجُ وَالزَّكَاةُ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ تَجِبُ فِي الْأَرْضِ وَالْعُشْرُ يَجِبُ فِي الزَّرْعِ وَأَنَّهُمَا مَالَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْحَقَّانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَرْضُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُضَافُ الْكُلُّ إلَيْهَا؟ يُقَالُ: عُشْرِ الْأَرْضِ وَخَرَاجُ الْأَرْضِ وَزَكَاةُ الْأَرْضِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ لَا يَجِبُ فِيهَا حَقَّانِ مِنْهَا بِسَبَبِ مَالٍ وَاحِدٍ كَزَكَاةِ السَّائِمَةِ مَعَ التِّجَارَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اجْتِمَاعِ الْعُشْرِ وَالزَّكَاةِ وَاجْتِمَاعِ الْخَرَاجِ وَالزَّكَاةِ فَإِيجَابُ الْعُشْرِ، أَوْ الْخَرَاجِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا أَعَمُّ وُجُوبًا أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَا يَسْقُطَانِ بِعُذْرِ الصِّبَا وَالْجُنُونِ، وَالزَّكَاةُ تَسْقُطُ بِهِ فَكَانَ إيجَابُهُمَا أَوْلَى. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ كَوْنَ الْأَرْضِ عُشْرِيَّةً مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْعُشْرِ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْأَرَاضِيَ نَوْعَانِ: عُشْرِيَّةٌ وَخَرَاجِيَّةٌ، أَمَّا الْعُشْرِيَّةُ فَمِنْهَا أَرْضُ الْعَرَبِ كُلُّهَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَأَرْضُ الْعَرَبِ مِنْ الْعُذَيْبِ إلَى مَكَّةَ وَعَدَنَ أَبْيَنَ إلَى أَقْصَى حِجْرٍ بِالْيَمَنِ بِمُهْرَةِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ هِيَ أَرْضُ الْحِجَازِ وَتِهَامَةَ وَالْيَمَنِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَالْبَرِّيَّةِ وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ أَرْضَ عُشْرٍ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ لَمْ يَأْخُذُوا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ خَرَاجًا فَدَلَّ أَنَّهَا عُشْرِيَّةٌ إذْ الْأَرْضُ لَا تَخْلُو عَنْ إحْدَى الْمُؤْنَتَيْنِ؛ وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يُشْبِهُ الْفَيْءَ فَلَا يَثْبُتُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ كَمَا لَمْ يَثْبُتْ فِي رِقَابِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا الْأَرْضُ الَّتِي أَسْلَمَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا طَوْعًا وَمِنْهَا الْأَرْضُ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا وَقُسِمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْأَرَاضِيَ لَا تَخْلُوَ عَنْ مُؤْنَةٍ إمَّا الْعُشْرُ وَإِمَّا الْخَرَاجُ، وَالِابْتِدَاءُ بِالْعُشْرِ فِي أَرْضِ الْمُسْلِمِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَفِي الْخَرَاجِ مَعْنَى الصَّغَارِ وَمِنْهَا دَارُ الْمُسْلِمِ إذَا اتَّخَذَهَا بُسْتَانًا لِمَا قُلْنَا وَهَذَا إذَا كَانَ يَسْقِي بِمَاءِ الْعُشْرِ

فَإِنْ كَانَ يَسْقِي بِمَاءِ الْخَرَاجِ فَهُوَ خَرَاجِيٌّ. وَأَمَّا مَا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْأَرْضِ الْمَيِّتَةِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْعُشْرِ فَهِيَ عَشْرِيَّة وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ السَّمَاءِ، أَوْ بِبِئْرٍ اسْتَنْبَطَهَا، أَوْ بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ الَّتِي لَا تُمْلَكُ مِثْلُ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ، وَإِنْ شَقَّ لَهَا نَهْرًا مِنْ أَنْهَارِ الْأَعَاجِمِ مِثْلَ نَهْرِ الْمِلْكِ وَنَهْرِ يَزْدَجْرِدَ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْخَرَاجَ لَا يُبْتَدَأُ بِأَرْضِ الْمُسْلِمِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الصَّغَارِ كَالْفَيْءِ إلَّا إذَا الْتَزَمَهُ فَإِذَا اسْتَنْبَطَ عَيْنًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ فَلَمْ يَلْتَزِمْ الْخَرَاجَ فَلَا يُوضَعُ عَلَيْهِ وَإِذَا أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْأَنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ فَقَدْ الْتَزَمَ الْخَرَاجَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْفَيْءِ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَنْهَارِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى أَرْضَ الْخَرَاجِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ حَيِّزَ الشَّيْءِ فِي حُكْمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِهِ كَحَرِيمِ الدَّارِ مِنْ تَوَابِعِ الدَّارِ حَتَّى يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إحْيَاءُ مَا فِي حَيِّزِ الْقَرْيَةِ لِكَوْنِهِ مِنْ تَوَابِعِ الْقَرْيَةِ فَكَانَ حَقًّا لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ. وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنْ تَكُونَ الْبَصْرَةُ خَرَاجِيَّةً؛ لِأَنَّهَا مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ وَإِنْ أَحْيَاهَا الْمُسْلِمُونَ إلَّا أَنَّهُ تُرِكَ الْقِيَاسَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حَيْثُ وَضَعُوا عَلَيْهِ الْعُشْرَ. وَأَمَّا الْخَرَاجِيَّةُ فَمِنْهَا الْأَرَاضِي الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا فَمَنَّ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ وَتَرَكَهَا فِي يَدِ أَرْبَابِهَا فَإِنَّهُ يَضَعُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ الْجِزْيَةَ إذَا لَمْ يُسْلِمُوا وَعَلَى أَرَاضِيِهِمْ الْخَرَاجَ أَسْلَمُوا، أَوْ لَمْ يُسْلِمُوا، وَأَرْضُ السَّوَادِ كُلُّهَا أَرْضُ خَرَاجٍ وَاحِدٍ السَّوَادِ مِنْ الْعُذَيْبِ إلَى عَقَبَةِ حُلْوَانِ وَمِنْ الْعَلْثِ إلَى عَبَّادَانَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا فَتَحَ تِلْكَ الْبِلَادَ ضَرَبَ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَأَنْفَذَ عَلَيْهَا حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَعُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ فَمَسَحَاهَا وَوَضَعَا عَلَيْهِ الْخَرَاجَ؛ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ عَلَى الْكَافِرِ، وَالِابْتِدَاءُ بِالْخَرَاجِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الصَّغَارِ عَلَى الْكَافِرِ أَوْلَى مِنْ الْعُشْرِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهَا وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تَكُونَ مَكَّةُ خَرَاجِيَّةً؛ لِأَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا وَتُرِكَتْ عَلَى أَهْلِهَا وَلَمْ تُقْسَمْ لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ لَمْ يَضَعْ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ فَصَارَتْ مَكَّةُ مَخْصُوصَةً بِذَلِكَ تَعْظِيمًا لِلْحَرَمِ. وَكَذَا إذَا مَنَّ عَلَيْهِمْ وَصَالَحَهُمْ مِنْ جَمَاجِمِهِمْ وَأَرَاضِيِهِمْ عَلَى وَظِيفَةٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ، أَوْ الدَّنَانِيرِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ نَصَارَى بَنِي نَجْرَانَ مِنْ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ وَخَرَاجِ أَرَاضِيِهِمْ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ» وَفِي رِوَايَةِ «عَلَى أَلْفَيْ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ» تُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي وَقْتَيْنِ لِكُلِّ سَنَةٍ نِصْفُهَا فِي رَجَبَ وَنِصْفُهَا فِي الْمُحَرَّمِ. وَكَذَا إذَا أَجْلَاهُمْ وَنَقَلَ إلَيْهَا قَوْمًا آخَرِينَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَ الْأَوَّلِينَ. وَمِنْهَا أَرْضُ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَرَاضِيِهِمْ الْعُشْرَ مُضَاعَفًا وَذَلِكَ خَرَاجٌ فِي الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَا يَتَغَيَّرَ بِتَغْيِيرِ حَالِ الْمَالِكِ كَالْخَرَاجِيِّ وَمِنْهَا الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ الَّتِي أَحْيَاهَا الْمُسْلِمُ وَهِيَ تُسْقَى بِمَاءِ الْخَرَاجِ وَمَاءُ الْخَرَاجِ هُوَ مَاءُ الْأَنْهَارِ الصِّغَارِ الَّتِي حَفَرَتْهَا الْأَعَاجِمُ مِثْلُ نَهْرِ الْمِلْكِ وَنَهْرِ يَزْدَجْرِدَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَيْدِي، وَمَاءِ الْعُيُونِ وَالْقَنَوَاتِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَمَاءُ الْعُشْرِ هُوَ مَاءُ السَّمَاءِ وَالْآبَارِ وَالْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ الْعِظَامِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْأَيْدِي كَسَيْحُونٍ وَجَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهَا إذْ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهَا وَإِدْخَالِهَا تَحْتَ الْحِمَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مِيَاهَ هَذِهِ الْأَنْهَارِ خَرَاجِيَّةٌ لَإِمْكَانِ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهَا وَإِدْخَالِهَا تَحْتَ الْحِمَايَةِ فِي الْجُمْلَةِ بِشَدِّ السُّفُنِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ حَتَّى تَصِيرَ شِبْهَ الْقَنْطَرَةِ. وَمِنْهَا أَرْضُ الْمَوَاتِ الَّتِي أَحْيَاهَا ذِمِّيٌّ وَأَرْضُ الْغَنِيمَةِ الَّتِي رَضَخَهَا الْإِمَامُ لِذِمِّيٍّ كَانَ يُقَاتِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَدَارُ الذِّمِّيِّ الَّتِي اتَّخَذَهَا بُسْتَانًا، أَوْ كَرْمًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى ابْتِدَاءِ ضَرْبِ الْمُؤْنَةِ عَلَى أَرْضِ الْكَافِرِ الْخَرَاجُ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا. وَمِنْهَا أَيْ مِنْ شَرَائِطِ الْمَحَلِّيَّةِ وُجُودُ الْخَارِجِ حَتَّى أَنَّ الْأَرْضَ لَوْ لَمْ تُخْرِجْ شَيْئًا لَمْ يَجِبْ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ وَإِيجَابُ جُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ وَلَا خَارِجَ مُحَالٌ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ مِنْ الْأَرْضِ مِمَّا يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهِ نَمَاءُ الْأَرْضِ وَتُسْتَغَلُّ الْأَرْضُ بِهِ عَادَةً فَلَا عُشْرَ فِي الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ الْفَارِسِيِّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُسْتَنْمَى بِهَا الْأَرْضِ وَلَا تُسْتَغَلُّ بِهَا عَادَةً؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَنْمُو بِهَا بَلْ تَفْسُدُ فَلَمْ تَكُنْ نَمَاءَ الْأَرْضِ حَتَّى قَالُوا فِي الْأَرْضِ: إذَا اتَّخَذَهَا مُقَصَّبَةً وَفِي شَجَرِهِ الْخِلَافُ، الَّتِي تُقْطَعُ فِي كُلِّ ثَلَاثِ سِنِينَ، أَوْ أَرْبَعِ سِنِينَ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَلَّةٌ وَافِرَةٌ وَيَجِبُ فِي قَصَبِ السُّكَّرِ وَقَصَبِ الذَّرِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ يُطْلَبُ بِهِمَا نَمَاءُ الْأَرْضِ فَوُجِدَ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَيَجِبُ فَأَمَّا كَوْنُ

الْخَارِجِ مِمَّا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ بَلْ يَجِبُ سَوَاءٌ كَانَ الْخَارِجُ لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ، أَوْ لَيْسَ لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ وَهِيَ الْخَضْرَاوَاتُ كَالْبُقُولِ وَالرِّطَابِ وَالْخِيَارِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبَصَلِ وَالثُّومِ وَنَحْوِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ إلَّا فِي الْحُبُوبِ وَمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ» . وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] وَأَحَقُّ مَا تَتَنَاوَلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْخَضْرَاوَاتِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُخْرَجَةُ مِنْ الْأَرْضِ حَقِيقَةً. وَأَمَّا الْحُبُوبُ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُخْرَجَةٍ مِنْ الْأَرْضِ حَقِيقَةً بَلْ مِنْ الْمُخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ، وَلَا يُقَالُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] أَيْ مِنْ الْأَصْلِ الَّذِي أَخْرَجْنَا لَكُمْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف: 26] أَيْ أَنْزَلْنَا الْأَصْلَ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ اللِّبَاسُ وَهُوَ الْمَاءُ لَا عَيْنَ اللِّبَاسِ إذْ اللِّبَاسُ كَمَا هُوَ غَيْرُ مُنَزَّلٍ مِنْ السَّمَاءِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم: 20] أَيْ خَلَقَ أَصْلَكُمْ وَهُوَ آدَم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَا هَذَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْحَقِيقَةُ مَا قُلْنَا وَالْأَصْلُ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَّا بِدَلِيلٍ قَامَ دَلِيلُ الْعُدُولِ هُنَاكَ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ فِيمَا وَرَاءَهُ وَلِأَنَّ فِيمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْإِضَافَةِ؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ مِنْ الْأَرْضِ وَالْإِنْبَاتَ مَحْضُ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 62] {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 64] ؟ فَأَمَّا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ وَالْإِنْبَاتِ فَلِلْعَبْدِ فِيهِ صُنْعٌ مِنْ السَّقْيِ وَالْحِفْظِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى النَّبَاتِ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْإِضَافَةِ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الْحُبُوبِ وقَوْله تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَالْحَصَادُ الْقَطْعُ وَأَحَقُّ مَا يُحْمَلُ الْحَقُّ عَلَيْهِ الْخَضْرَاوَاتُ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي يَجِبُ إيتَاءُ الْحَقِّ مِنْهَا يَوْمَ الْقَطْعِ. وَأَمَّا الْحُبُوبُ فَيَتَأَخَّرُ الْإِيتَاءُ فِيهَا إلَى وَقْتِ التَّنْقِيَةِ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْحُبُوبِ وَالْخَضْرَاوَاتِ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ وَالنَّمَاءُ بِالْخُضَرِ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّ رِيعَهَا، أَوْفَرُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَغَرِيبٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ بِمِثْلِهِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الزَّكَاةِ، أَوْ يُحْمَلُ قَوْلُهُ " لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ " عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ تُؤْخَذُ بَلْ أَرْبَابُهَا هُمْ الَّذِينَ يُؤَدُّونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ فَكَانَ هَذَا نَفْيَ وِلَايَةِ الْأَخْذِ لِلْإِمَامِ وَبِهِ نَقُولُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَذَا النِّصَابُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فَيَجِبُ الْعُشْرُ فِي كَثِيرِ الْخَارِجِ وَقَلِيلِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النِّصَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ، أَوْسُقٍ إذَا كَانَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَالْأَرُزِّ وَنَحْوِهَا، وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ جُمْلَتُهَا نِصْفُ مَنٍّ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْنَانٍ فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ أَلْفًا وَمِائَتَيْ مَنٍّ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الصَّاعُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ وَاحْتَجَّا فِي الْمَسْأَلَةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ:: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ، أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وَهِيَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ لَا يُوجِبُ التَّفْصِيلَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْجَوَابُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِنْ الْآحَادِ فَلَا يُقْبَلُ فِي مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ فَإِنْ قِيلَ مَا تَلَوْتُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَرَوَيْتُمْ مِنْ السُّنَّةِ يَقْتَضِيَانِ الْوُجُوبَ مِنْ غَيْرِ التَّعَرُّضِ لِمِقْدَارِ الْمُوجَبِ مِنْهُ وَمَا رَوَيْنَا يَقْتَضِي الْمِقْدَارَ فَكَانَ بَيَانًا لِمِقْدَارِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ، وَالْبَيَانُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ كَبَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْمُتَشَابِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْبَيَانِ؛ لِأَنَّ مَا تَمَسَّكْنَا بِهِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ وَمَا لَا يَدْخُلُ وَمَا رَوَيْتُمْ مِنْ خَبَرِ الْمِقْدَارِ خَاصٌّ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ فَلَا يَصْلُحُ بَيَانًا لِلْقَدْرِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْبَيَانِ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِجَمِيعِ مَا يَقْتَضِي الْبَيَانُ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ مَوْرِدَ الْبَيَانِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الصَّدَقَةِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الصَّدَقَةِ لَا يَنْصَرِفُ إلَّا إلَى الزَّكَاةِ الْمَعْهُودَةِ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ أَنَّ مَا دُونَ خَمْسَةِ، أَوْسُقٍ مِنْ طَعَامٍ، أَوْ تَمْرٍ لِلتِّجَارَةِ لَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مَا لَمْ يَبْلُغْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، أَوْ يَحْتَمِلُ الزَّكَاةَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، ثُمَّ نَذْكُرُ فُرُوعَ مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي فَصْلَيْ الْخِلَافِ وَمَا فِيهِ

مِنْ الْخِلَافِ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ وَالْوِفَاقِ فَنَقُولُ عِنْدَهُمَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْعِنَبِ؛ لِأَنَّ الْمُجَفَّفَ مِنْهُ يَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ وَهُوَ الزَّبِيبُ فَيُخْرَصُ الْعِنَبُ جَافًّا، فَإِنْ بَلَغَ مِقْدَارَ مَا يَجِيءُ مِنْ الزَّبِيبِ خَمْسَةَ، أَوْسُقٍ يَجِبُ فِي عِنَبِهِ الْعُشْرُ، أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ فِيهِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعِنَبَ إذَا كَانَ رَقِيقًا يَصْلُحُ لِلْمَاءِ وَلَا يَجِيءُ مِنْهُ الزَّبِيبُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَإِنْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الْجَفَافِ. وَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي سَائِرِ الثِّمَارِ إذَا كَانَ يَجِيءُ مِنْهَا مَا يَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ بِالتَّجْفِيفِ أَنَّهُ يُخْرَصُ ذَلِكَ جَافًّا فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا وَجَبَ وَإِلَّا فَلَا كَالتِّينِ وَالْإِجَّاصِ وَالْكُمَّثْرَى وَالْخَوْخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا إذَا جُفِّفَتْ تَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ فَكَانَتْ كَالزَّبِيبِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا عُشْرَ فِي التِّينِ وَالْإِجَّاصِ وَالْكُمَّثْرَى وَالْخَوْخِ وَالتُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ وَالنَّبْقِ وَالتُّوتِ وَالْمَوْزِ وَالْخَرُّوبِ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَ يُنْتَفَعُ بِهَا بَعْضُهَا بِالتَّجْفِيفِ وَبَعْضُهَا بِالتَّشْقِيقِ وَالتَّجْفِيفِ فَالِانْتِفَاعُ بِهَا بِهَذَا الطَّرِيقِ لَيْسَ بِغَالِبٍ وَلَا يُفْعَلُ ذَلِكَ عَادَةً وَيَجِبُ الْعُشْرَ فِي الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالْفُسْتُقِ؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى مِنْ السَّنَةِ إلَى السَّنَةِ وَيَغْلِبُ الِانْتِفَاعُ بِالْجَافِّ مِنْهَا فَأَشْبَهَتْ الزَّبِيبَ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ فِي الْبَصَلِ الْعُشْرَ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى السَّنَةِ وَيَدْخُلُ فِي الْكَيْلِ وَلَا عُشْرَ فِي الْآسِ وَالْوَرْدِ وَالْوَسْمَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الرَّيَاحِينِ وَلَا يَعُمُّ الِانْتِفَاعُ بِهَا. وَأَمَّا الْحِنَّاءُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: فِيهِ الْعُشْرُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا عُشْرَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الرَّيَاحِينِ فَأَشْبَهَ الْآسَ وَالْوَرْدَ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ وَيُنْتَفَعُ بِهِ مَنْفَعَةً عَامَّةً بِخِلَافِ الْآسِ وَالْعُصْفُرِ وَالْكَتَّانِ إذَا بَلَغَ الْقُرْطُمُ وَالْحَبُّ خَمْسَةَ، أَوْسُقٍ وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ زِرَاعَتِهَا الْحَبُّ، وَالْحَبُّ يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْأَوْسُقُ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ يَجِبُ الْعُشْرُ، وَيَجِبُ فِي الْعُصْفُرِ وَالْكَتَّانِ أَيْضًا عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ وَقَالَا فِي بِزْرِ الْقُنْبِ إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى وَيُقْصَدُ بِالزِّرَاعَةِ، وَالِانْتِفَاعُ بِهِ عَامٌّ وَلَا شَيْءَ فِي الْقُنْبِ؛ لِأَنَّهُ لِحَاءُ الشَّجَرِ فَأَشْبَهَ لِحَاءَ سَائِرِ الْأَشْجَارِ وَلَا عُشْرَ فِيهِ فَكَذَا فِيهِ. وَقَالَا فِي حَبِّ الصَّنَوْبَرِ إذَا بَلَغَ الْأَوْسُقَ فَفِيهِ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ الِادِّخَارَ وَلَا شَيْءَ فِي خَشَبِهِ كَمَا لَا شَيْءَ فِي خَشَبِ سَائِرِ الشَّجَرِ، وَيَجِبُ فِي الْكَرَوْيَا وَالْكُزْبَرَةِ وَالْكَمُّونِ وَالْخَرْدَلِ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَجِبُ فِي السَّعْتَرِ وَالشُّونِيزِ وَالْحُلْبَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَدْوِيَةِ فَلَا يَعُمُّ الِانْتِفَاعُ بِهَا، وَقَصَبُ السُّكَّرِ إذَا كَانَ مِمَّا يُتَّخَذُ مِنْهُ السُّكَّرُ فَإِذَا بَلَغَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ خَمْسَةَ أَفْرَاقٍ وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ كَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ: لِأَنَّهُ يَبْقَى وَيُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا عَامًّا، وَلَا شَيْءَ فِي الْبَلُّوطِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُمُّ الْمَنْفَعَةُ بِهِ، وَلَا عُشْرَ فِي بِزْرِ الْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَالرُّطَبَةِ وَكُلِّ بِزْرٍ لَا يَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهَا نَفْسُهَا بَلْ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا وَذَا لَا عُشْرَ فِيهِ عِنْدَهُمَا. وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى أَصْلِهِمَا مَا إذَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَدَسِ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا لَا يَبْلُغُ النِّصَابَ وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ أَنَّهُ يُعْطَى كُلُّ صِنْفٍ حُكْمَ نَفْسِهِ، أَوْ يُضَمُّ الْبَعْضُ إلَى الْبَعْضِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُضَمُّ الْبَعْضُ إلَى الْبَعْضِ بَلْ يُعْتَبَرُ كُلُّ جِنْسٍ بِانْفِرَادِهِ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ مَا إذَا أَخْرَجَتْ نَوْعَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَابْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْهُ أَنَّ كُلَّ نَوْعَيْنِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا كَالْحِنْطَةِ الْبَيْضَاءِ وَالْحَمْرَاءِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخِرِ سَوَاءٌ خَرَجَا مِنْ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ أَرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ وَيُكَمَّلُ بِهِ النِّصَابُ، وَإِنْ كَانَا مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لَا يُضَمُّ، وَإِنْ خَرَجَا مِنْ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ وَتَعَيَّنَ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا بِانْفِرَادِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ لَا شَيْءَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ أَنَّ الْغَلَّتَيْنِ إنْ كَانَتَا تُدْرَكَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ تُضَمُّ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهُمَا، وَإِنْ كَانَتَا لَا تُدْرَكَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا تُضَمُّ وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الْإِدْرَاكِ أَنَّ الْحَقَّ يَجِبُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَإِنْ كَانَتَا تُدْرَكَانِ فِي مَكَان وَاحِدٍ كَانَتْ مَنْفَعَتُهُمَا وَاحِدَةً فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ اخْتِلَافُ جِنْسِ الْخَارِجِ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ. وَإِذَا كَانَ إدْرَاكُهُمَا فِي، أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ مَنْفَعَتُهُمَا فَكَانَا كَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِ التَّفَاضُلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِاخْتِلَافِ النَّوْعِ فِيمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ إذَا كَانَ الْجِنْسُ مُتَّحِدًا كَالدَّرَاهِمِ السُّودِ وَالْبِيضِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَإِنْ كَانَ النَّوْعُ مُخْتَلِفًا. فَأَمَّا فِيمَا لَا يَجْرِي فِيهِ التَّفَاضُلُ فَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ مُعْتَبَرٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ الضَّمِّ كَالْإِبِلِ مَعَ الْبَقَرِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُوسُف إذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَرَاضِي مُخْتَلِفَةٌ فِي رَسَاتِيقَ مُخْتَلِفَةٍ وَالْعَامِلُ وَاحِدٌ ضَمَّ الْخَارِجَ مِنْ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ

وَكَمَّلَ الْأَوْسُقَ بِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَامِلُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ الْعَامِلِينَ مُطَالَبَةٌ حَتَّى يَبْلُغَ مَا خَرَجَ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي فِي عَمَلِهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا اتَّفَقَ الْمَالِكُ ضُمَّ الْخَارِجُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَرْضُونَ وَالْعُمَّالُ وَهَذَا لَا يُحَقِّقُ الْخِلَافَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجَابَ فِي غَيْرِ مَا أَجَابَ بِهِ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ جَوَابَ أَبِي يُوسُفَ فِي سُقُوطِ الْمُطَالَبَةِ عَنْ الْمَالِكِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَى الْمَالِكِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مُخَاطَبٌ بِالْأَدَاءِ لِاجْتِمَاعِ النِّصَابِ فِي مِلْكِهِ وَإِنَّهُ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ عَنْهُ وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ فِي وُجُوبِ الْحَقِّ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمُطَالَبَةِ الْعَامِلِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى قَوْلِهِمَا الْأَرْضُ الْمُشْتَرَكَةُ إذَا أَخْرَجَتْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ أَنَّهُ لَا عُشْرَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ فِيهَا الْعُشْرَ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَالِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ وَأَرْضِ الْمُكَاتَبِ وَأَرْضِ الْمَأْذُونِ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ كَمَالُ النِّصَابِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ وَقَدْ وُجِدَ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ عِنْدَهُمَا شَرْطُ الْوُجُوبِ فَيُعْتَبَرُ كَمَالُهُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ الْأَوْسُقِ عِنْدَهُمَا فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ وَأَمَّا مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ كَالْقُطْنِ وَالزَّعْفَرَانِ فَقَدْ اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ قِيمَةُ الْخَارِجِ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ مِنْ الْحُبُوبِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُعْتَبَرُ خَمْسَةُ أَمْثَالٍ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ فَالْقُطْنُ يُعْتَبَرُ بِالْأَحْمَالِ فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَحْمَالٍ يَجِبُ وَإِلَّا فَلَا وَيُعْتَبَرُ كُلُّ حِمْلٍ ثَلَثَمِائَةِ مَنٍّ فَتَكُونُ جُمْلَتُهُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ مَنٍّ، وَالزَّعْفَرَانُ يُعْتَبَرُ بِالْأَمْنَانِ فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَمْنَانٍ يَجِبُ وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَلِكَ فِي السُّكَّرِ يُعْتَبَرُ خَمْسَةُ أَمْنَانٍ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْوَسْقِ فِي الْمَوْسُوقَاتِ لِكَوْنِ الْوَسْقِ أَقْصَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ فِي بَابِهِ وَأَقْصَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ فِي غَيْرِ الْمَوْسُوقِ مَا ذَكَرْنَا فَوَجَبَ التَّقْدِيرُ بِهِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ اعْتِبَارُ الْوَسْقِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ صُورَةً وَمَعْنًى يُعْتَبَرُ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ مَعْنًى وَهُوَ قِيمَةُ الْمَوْسُوقِ. وَأَمَّا الْعَسَلُ فَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ فِيهِ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَإِنْ بَلَغَ ذَلِكَ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ وَإِلَّا فَلَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ اعْتِبَارِ قِيمَةِ الْأَوْسُقِ فِيمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ قَدْرَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ؛ لِأَنَّ الْعَسَلَ لَا يُكَالُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَدَّرَ ذَلِكَ بِعَشْرَةِ أَرْطَالٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ خَمْسَ قِرَبٍ كُلُّ قِرْبَةٍ خَمْسُونَ مَنًّا فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسُونَ مَنًّا، وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ فِيهِ خَمْسَةَ أَفْرَاقٍ كُلُّ فَرْقٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَنًّا فَتَكُونُ جُمْلَتُهُ تِسْعِينَ مَنًّا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ اعْتِبَارِ خَمْسَةِ أَمْثَالٍ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ اعْتَبَرَ فِي نِصَابِ الْعَسَلِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ، وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ خَمْسَةَ أَفْرَاقٍ فِي رِوَايَةٍ وَخَمْسَ قِرَبٍ فِي رِوَايَةٍ وَخَمْسَةَ أَمْنَانٍ فِي رِوَايَةٍ، ثُمَّ وُجُوبُ الْعُشْرِ فِي الْعَسَلِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا عُشْرَ فِيهِ وَزَعَمَ أَنَّ مَا رُوِيَ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْعَسَلِ لَمْ يَثْبُتْ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ لَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَمَاءِ الْأَرْضِ بَلْ هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْ حَيَوَانٍ فَلَمْ تَكُنْ الْأَرْضُ نَامِيَةً بِهَا، وَنَحْنُ نَقُولُ إنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَك وُجُوبُ الْعُشْرِ فِي الْعَسَلِ فَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ أَبَا سَيَّارَةَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ لِي نَحْلًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَدِّ عُشْرَهَا فَقَالَ أَبُو سَيَّارَةَ احْمِهَا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَحَمَاهَا لَهُ؟» وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ بَطْنًا مِنْ فِهْرٍ كَانُوا يُؤَدُّونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نَخْلٍ لَهُمْ الْعُشْرَ مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً وَكَانَ يُحْمَى لَهُمْ وَادِيَيْنِ فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَعْمَلَ عَلَى مَا هُنَاكَ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّ فَأَبَوْا أَنْ يُؤَدُّوا إلَيْهِ شَيْئًا وَقَالُوا: إنَّمَا كَانَ شَيْئًا نُؤَدِّيهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَتَبَ ذَلِكَ سُفْيَانُ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا النَّخْلُ ذُبَابُ غَيْثٍ يَسُوقُهُ اللَّهُ تَعَالَى رِزْقًا إلَى مَنْ يَشَاءُ فَإِنْ أَدَّوْا إلَيْك مَا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاحْمِ لَهُ وَادِيَهُمْ وَإِلَّا فَخَلِّ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا فَأَدَّوْا إلَيْهِ» ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الْعَسَلِ الْعُشْرُ» ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ عَنْ الْعَسَلِ الْعُشْرَ مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ

فصل بيان مقدار الواجب من العشر

يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ كَانَ وَالِيًا بِالْبَصْرَةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ لَيْسَ مِنْ نَمَاءِ الْأَرْضِ فَنَقُولُ هُوَ مُلْحَقٌ بِنَمَائِهَا لِاعْتِبَارِ النَّاسِ إعْدَادَ الْأَرْضِ لَهَا وَلِأَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ أَنْوَارِ الشَّجَرِ فَكَانَ كَالثَّمَرِ ثُمَّ إنَّمَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْعَسَلِ إذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُوبَ الْعُشْرِ فِيهِ لِكَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَرِ لِتَوَلُّدِهِ مِنْ أَزْهَارِ الشَّجَرِ وَلَا شَيْءَ فِي ثِمَارِ أَرْضِ الْخَرَاجِ وَلِأَنَّ أَرْضَ الْخَرَاجِ يَجِبُ فِيهَا الْخَرَاجُ فَلَوْ وَجَبَ الْعُشْرُ فِي الْعَسَلِ لَاجْتَمَعَ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا، وَيَجِبُ الْعُشْرُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالنَّمَاءِ وَيَجْرِي مَجْرَى الثِّمَارِ، وَالنِّصَابُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا شَرْطٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا فِي ذَلِكَ وَمَا يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ مِنْ الْعَسَلِ وَالْفَوَاكِهِ فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِيهِ الْعُشْرَ، وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومَاتُ الْعُشْرِ إلَّا أَنَّ مِلْكَ الْخَارِجِ شَرْطٌ وَلَمَّا أَخَذَهُ فَقَدْ مَلَكَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ فِي أَرْضِهِ. وَالْحَوْلُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ حَتَّى لَوْ أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فِي السَّنَةِ مِرَارًا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ نُصُوصَ الْعُشْرِ مُطْلَقَةٌ عَنْ شَرْطِ الْحَوْلِ وَلِأَنَّ الْعُشْرَ فِي الْخَارِجِ حَقِيقَةً فَيَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ. وَكَذَلِكَ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْخَارِجِ فَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَلَا يَجِبُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ بَلْ فِي الذِّمَّةِ عُرِفَ ذَلِكَ بِتَوْظِيفِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَا وَظَّفَ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. [فَصْلٌ بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْ الْعَشْر] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الْعُشْرِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الْخَرَاجِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا سُقِيَ بِمَاءِ السَّمَاءِ، أَوْ سُقِيَ سَيْحًا فَفِيهِ عُشْرٌ كَامِلٌ، وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ، أَوْ سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ، أَوْ سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» ، وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ، أَوْ الْعَيْنُ، أَوْ كَانَ بَعْلًا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالرِّشَاءِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» وَلِأَنَّ الْعُشْرَ وَجَبَ مُؤْنَةَ الْأَرْضِ فَيَخْتَلِفُ الْوَاجِبُ بِقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ وَكَثْرَتِهَا وَلَوْ سُقِيَ الزَّرْعُ فِي بَعْضِ السَّنَةِ سَيْحًا وَفِي بَعْضِهَا بِآلَةٍ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْغَالِبِ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ كَمَا فِي السَّوْمِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا مَرَّ وَلَا يُحْتَسَبُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ مَا أَنْفَقَ عَلَى الْغَلَّةِ مِنْ سَقْيٍ، أَوْ عِمَارَةٍ، أَوْ أَجْرِ الْحَافِظِ، أَوْ أَجْرِ الْعُمَّالِ، أَوْ نَفَقَةِ الْبَقَرِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرَبٍ، أَوْ دَالِيَةٍ، أَوْ سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» ، أَوْجَبَ الْعُشْرَ وَنِصْفَ الْعُشْرِ مُطْلَقًا عَنْ احْتِسَابِ هَذِهِ الْمُؤَنِ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْجَبَ الْحَقَّ عَلَى التَّفَاوُتِ لِتَفَاوُتِ الْمُؤَنِ وَلَوْ رُفِعَتْ الْمُؤَنُ لَارْتَفَعَ التَّفَاوُتُ. [بَيَان المقدار الواجب مِنْ الخراج] وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الْخَرَاجِ فَالْخَرَاجُ نَوْعَانِ خَرَاجُ وَظِيفَةٍ وَخَرَاجُ مُقَاسَمَةٍ أَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَمَا وَظَّفَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَفِي كُلِّ جَرِيبِ أَرْضٍ بَيْضَاءَ تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ قَفِيزٌ مِمَّا يُزْرَعُ فِيهَا وَدِرْهَمُ الْقَفِيزِ صَاعٌ وَالدِّرْهَمُ وَزْنُ سَبْعَةٍ، وَالْجَرِيبُ أَرْضٌ طُولُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِ كِسْرَى يَزِيدُ عَلَى ذِرَاعِ الْعَامَّةِ بِقَصَبَةٍ وَفِي جَرِيبِ الرُّطَبَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَفِي جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ هَكَذَا وَظَّفَهُ عُمَرُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَمِثْلُهُ يَكُونُ إجْمَاعًا. وَأَمَّا جَرِيبُ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا أَشْجَارٌ مُثْمِرَةٌ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ زِرَاعَتُهَا لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَتْ النَّخِيلُ مُلْتَفَّةً جَعَلْت عَلَيْهَا الْخَرَاجَ بِقَدْرِ مَا تُطِيقُ وَلَا أَزِيدُ عَلَى جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ وَفِي جَرِيبِ الْأَرْضِ الَّتِي يُتَّخَذُ فِيهَا الزَّعْفَرَانُ قَدْرُ مَا تُطِيقُ فَيُنْظَرُ إلَى غَلَّتِهَا فَإِنْ كَانَتْ تَبْلُغُ غَلَّةَ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ يُؤْخَذُ مِنْهَا قَدْرُ خَرَاجِ الْأَرْضِ الْمَزْرُوعَةِ وَإِنْ كَانَتْ تَبْلُغُ غَلَّةَ الرُّطَبَةِ يُؤْخَذُ مِنْهَا قَدْرُ خَرَاجِ أَرْضِ الرُّطَبَةِ هَكَذَا؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْخَرَاجِ عَلَى الطَّاقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَعُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا مَسَحَا سَوَادَ الْعِرَاقِ بِأَمْرِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَوَضَعَا عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ يَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ قَفِيزًا وَدِرْهَمًا، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ يَصْلُحُ لِلرُّطَبَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبٍ يَصْلُحُ لِلْكَرْمِ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَقَالَ لَهُمَا عُمَرُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا مَا لَا تُطِيقُ فَقَالَا: بَلْ حَمَّلْنَا مَا تُطِيقُ وَلَوْ زِدْنَا لَأَطَاقَتْ؟ فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَبْنَى

فصل صفة الواجب

الْخَرَاجِ عَلَى الطَّاقَةِ فَيُقَدَّرُ بِهَا فِيمَا وَرَاءَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْخَبَرِ فَيُوضَعُ عَلَى أَرْضِ الزَّعْفَرَانِ وَالْبُسْتَانِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ بِقَدْرِ مَا تُطِيقُ وَقَالُوا: نِهَايَةُ الطَّاقَةِ قَدْرُ نِصْفِ الْخَارِجِ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ، وَقَالُوا فِيمَنْ لَهُ أَرْضُ زَعْفَرَانٍ فَزَرَعَ مَكَانَهُ الْحُبُوبَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ: إنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ خَرَاجُ الزَّعْفَرَانِ؛ لِأَنَّهُ قَصَّرَ حَيْثُ لَمْ يَزْرَعْ الزَّعْفَرَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ عَطَّلَ الْأَرْضَ فَلَمْ يَزْرَعْ فِيهَا شَيْئًا وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْهُ خَرَاجُ الزَّعْفَرَانِ كَذَا هَذَا. وَكَذَا إذَا قَطَعَ كَرْمَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَزَرَعَ فِيهِ الْحُبُوبَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ خَرَاجُ الْكَرْمِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَخْرَجَتْ أَرْضُ الْخَرَاجِ قَدْرَ الْخَرَاجِ لَا غَيْرَ يُؤْخَذُ نِصْفُ الْخَرَاجِ وَإِنْ أَخْرَجَتْ مِثْلَيْ الْخَرَاجِ فَصَاعِدًا يُؤْخَذُ جَمِيعُ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُطِيقُ قَدْرَ خَرَاجِهَا الْمَوْضُوعِ عَلَيْهَا يَنْقُضُ وَيُؤْخَذُ مِنْهَا قَدْرَ مَا تُطِيقُ بِلَا خِلَافٍ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا كَانَتْ تُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ الْمَوْضُوعِ أَنَّهُ هَلْ تُزَادُ أَمْ لَا؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تُزَادُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تُزَادُ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَبْنَى الْخَرَاجِ عَلَى الطَّاقَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُوَظَّفِ إذَا كَانَتْ تُطِيقُهُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَعْنَى الطَّاقَةِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهَا وَرَاءَ الْمَنْصُوصِ وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَالْقَدْرُ الْمَوْضُوعُ مِنْ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ مَنْصُوصٌ وَمُجْمَعٌ عَلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ. وَأَمَّا خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ فَهُوَ أَنْ يَفْتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً فَيَمُنَّ عَلَى أَهْلِهَا وَيَجْعَلَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ خَرَاجَ مُقَاسَمَةٍ وَهُوَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ نِصْفُ الْخَارِجِ، أَوْ ثُلُثُهُ، أَوْ رُبُعُهُ وَإِنَّهُ جَائِزٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا فَعَلَ لَمَّا فَتَحَ خَيْبَرَ وَيَكُونُ حُكْمُ هَذَا الْخَرَاجِ حُكْمَ الْعُشْرِ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ كَالْعُشْرِ إلَّا أَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُ خَرَاجٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ صِفَةُ الْوَاجِبِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فَالْوَاجِبُ جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ عُشْرُ الْخَارِجِ، أَوْ نِصْفُ عُشْرِهِ وَذَلِكَ جُزْؤُهُ إلَّا أَنَّهُ وَاجِبٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جُزْءٌ عِنْدَنَا حَتَّى يَجُوزَ أَدَاءُ قِيمَتِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْوَاجِبُ عَيْنُ الْجُزْءِ وَلَا يَجُوزُ غَيْرُهُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ دَفْعِ الْقِيَمِ وَقَدْ مَرَّتْ فِيمَا تَقَدَّمَ. [فَصْلٌ وَقْتُ الْوُجُوبِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وَقْتُ الْوُجُوبِ فَوَقْتُ الْوُجُوبِ وَقْتُ خُرُوجِ الزَّرْعِ وَظُهُورِ الثَّمَرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَقْتُ الْإِدْرَاكِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَقْتُ التَّنْقِيَةِ وَالْجُذَاذِ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ الثَّمَرُ قَدْ حُصِدَ فِي الْحَظِيرَةِ وَذُرِّيَ الْبُرُّ وَكَانَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ثُمَّ ذَهَبَ بَعْضُهُ كَانَ فِي الَّذِي بَقِيَ مِنْهُ الْعُشْرُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ عِنْدَهُ هُوَ وَقْتُ التَّصْفِيَةِ فِي الزَّرْعِ وَوَقْتُ الْجُذَاذِ فِي الثَّمَرِ، هُوَ يَقُولُ: تِلْكَ الْحَالُ هِيَ حَالُ تَنَاهِي عِظَمِ الْحَبِّ وَالثَّمَرِ وَاسْتِحْكَامِهَا فَكَانَتْ هِيَ حَالَ الْوُجُوبِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَيَوْمُ حَصَادِهِ هُوَ يَوْمُ إدْرَاكِهِ فَكَانَ هُوَ وَقْتَ الْوُجُوبِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا أَخْرَجَهُ مِنْ الْأَرْضِ فَدَلَّ أَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْخُرُوجِ وَلِأَنَّهُ كَمَا خَرَجَ حُصِّلَ مُشْتَرَكًا كَالْمَالِ الْمُشْتَرَكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] جَعَلَ الْخَارِجَ لِلْكُلِّ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ وَإِذَا عَرَفْتَ وَقْتَ الْوُجُوبِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ فَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَظْهَرُ إلَّا فِي الِاسْتِهْلَاكِ فَمَا كَانَ مِنْهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ يُضْمَنُ عُشْرُهُ وَمَا كَانَ قَبْلَ الْوُجُوبِ لَا يُضْمَنُ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ فِي الِاسْتِهْلَاكِ وَفِي الْهَلَاكِ أَيْضًا فِي حَقِّ تَكْمِيلِ النِّصَابِ بِالْهَالِكِ فَمَا هَلَكَ بَعْدَ الْوُجُوبِ يُعْتَبَرُ الْهَالِكُ مَعَ الْبَاقِي فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَمَا هَلَكَ قَبْلَ الْوُجُوبِ لَا يُعْتَبَرُ. وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا أَتْلَفَ إنْسَانٌ الزَّرْعَ أَوْ الثَّمَرَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ حَتَّى ضُمِّنَ أَخَذَ صَاحِبُ الْمَالِ مِنْ الْمُتْلِفِ ضَمَانَ الْمُتْلَفِ وَأَدَّى عُشْرَهُ، وَإِنْ أَتْلَفَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ أَدَّى قَدْرَ عُشْرِ الْمُتْلَفِ مِنْ ضَمَانِهِ وَمَا بَقِيَ فَعُشْرُهُ فِي الْخَارِجِ، وَإِنْ أَتْلَفَهُ صَاحِبُهُ، أَوْ أَكَلَهُ يَضْمَنُ عُشْرَهُ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ أَتْلَفَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ قُدِّرَ عُشْرُ مَا أَتْلَفَ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَعُشْرُ الْبَاقِي يَكُونُ فِي الْخَارِجِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ حَصَلَ بَعْدَ الْوُجُوبِ لِثُبُوتِ الْوُجُوبِ بِالْخُرُوجِ وَالظُّهُورِ فَكَانَ الْحَقُّ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَ الزَّكَاةِ بَعْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَا يَضْمَنُ عُشْرَ الْمُتْلَفِ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ حَصَلَ قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِ الْحَقِّ وَلَوْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ فَلَا عُشْرَ فِي الْهَالِكِ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ هَلَكَ كُلُّهُ، أَوْ بَعْضُهُ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ لَا يُضْمَنُ

بِالْهَلَاكِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْوُجُوبِ، أَوْ بَعْدَهُ وَيَكُونُ عُشْرُ الْبَاقِي فِيهِ قَلَّ، أَوْ كَثُرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا إنْ كَانَ الْبَاقِي نِصَابًا وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نِصَابًا لَا يُعْتَبَرُ قَدْرُ الْهَالِكِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ فِي الْبَاقِي عِنْدَهُمَا بَلْ إنْ بَلَغَ الْبَاقِي بِنَفْسِهِ نِصَابًا يَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ وَإِلَّا فَلَا هَذَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ، أَوْ اُسْتُهْلِكَ فَأَمَّا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ وَالتَّنْقِيَةِ وَالْجُذَاذِ، أَوْ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ قَبْلَ التَّنْقِيَةِ وَالْجُذَاذِ، فَإِنْ هَلَكَ سَقَطَ الْوَاجِبُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا كَالزَّكَاةِ تَسْقُطُ إذَا هَلَكَ النِّصَابُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهُ سَقَطَ الْوَاجِبُ بِقَدْرِهِ وَبَقِيَ عُشْرُ الْبَاقِي فِيهِ، قَلِيلًا كَانَ، أَوْ كَثِيرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يُكَمَّلُ نِصَابُ الْبَاقِي بِالْهَالِكِ، وَيُحْتَسَبُ بِهِ فِي تَمَامِ الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْهَالِكُ فِي تَمَامِ الْأَوْسُقِ بَلْ يُعْتَبَرُ التَّمَامُ فِي الْبَاقِي، فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ نِصَابًا يَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ وَإِلَا فَلَا، وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ: فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمَالِكُ ضَمِنَ عُشْرَهُ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَ بَعْضَهُ فَقَدْرُ عُشْرِ الْمُسْتَهْلَكِ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَعُشْرُ الْبَاقِي فِي الْخَارِجِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُ الْمَالِكِ أُخِذَ الضَّمَانُ مِنْهُ وَأَدَّى عُشْرَهُ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ إلَى خَلْفٍ وَهُوَ الضَّمَانُ فَكَانَ قَائِمًا مَعْنًى وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ بَعْضُهُ أُخِذَ ضَمَانُهُ وَأَدَّى عُشْرَ الْقَدْرِ الْمُسْتَهْلَكِ وَعُشْرَ الْبَاقِي مِنْهُ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَكَلَ صَاحِبُ الْمَالِ مِنْ الثَّمَرِ، أَوْ أَطْعَمَ غَيْرَهُ يَضْمَنُ عُشْرَهُ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَعُشْرُ مَا بَقِيَ يَكُونُ فِيهِ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَا أَكَلَ، أَوْ أَطْعَمَ بِالْمَعْرُوفِ لَا يَضْمَنُ عُشْرَهُ لَكِنْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَهُوَ الْأَوْسُقُ فَإِذَا بَلَغَ الْكُلُّ نِصَابًا أَدَّى عُشْرَ مَا بَقِيَ، احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا خَرَصْتُمْ فَجُذُّوا وَدَعُوا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَالرُّبُعَ» . وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بَعَثَ أَبَا خَيْثَمَةَ خَارِصًا فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا خَيْثَمَةَ زَادَ عَلَيَّ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ ابْنَ عَمِّكَ يَزْعُمُ أَنَّكَ قَدْ زِدْتَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ تَرَكْتُ لَهُ قَدْرَ عَرِيَّةِ أَهْلِهِ وَمَا يُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ وَمَا يُصِيبُ الرِّيحُ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ زَادَكَ ابْنُ عَمِّكَ وَأَنْصَفَكَ» وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «خَفِّفُوا فِي الْخَرْصِ فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ وَالْوَصِيَّةَ» وَالْمُرَادُ مِنْ الْعَرِيَّةِ الصَّدَقَةُ أَمَرَ بِالتَّخْفِيفِ فِي الْخَرْصِ وَبَيَّنَ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ فِي الْمَالِ عَرِيَّةً وَوَصِيَّةً فَلَوْ ضَمِنَ عُشْرَ مَا تَصَدَّقَ، أَوْ أَكَلَ هُوَ وَأَهْلُهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ التَّخْفِيفُ وَلِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ ذَلِكَ لَامْتَنَعَ مِنْ الْأَكْلِ خَوْفًا مِنْ الْعُشْرِ وَفِيهِ حَرَجٌ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِذَلِكَ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ؛ لِأَنَّ نَفْيَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَنْهُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ وَفِي عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهِ فِي تَمَامِ الْأَوْسُقِ ضَرَرٌ بِهِ وَبِالْفُقَرَاءِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ النُّصُوصُ الْمُقْتَضِيَةُ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي كُلِّ خَارِجٍ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَأْكُولِ وَالْبَاقِي. فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]

فصل بيان ركن إخراج العشر وشرائط الركن

أَمَرَ بِإِيتَاءِ الْحَقِّ يَوْمَ الْحَصَادِ فَلَا يَجِبُ الْحَقُّ فِيمَا أُخِذَ مِنْهُ قَبْلَ الْحَصَادِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَةُ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 141] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَدْرَ الْمَأْكُولِ أَفْضَلُ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَفْضَلَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 141] فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الثَّمَرَةَ تُؤْكَلُ وَلَا تَصْلُحُ لِغَيْرِ الْأَكْلِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْآيَةَ لَازِمَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحَصَادَ هُوَ الْقَطْعُ فَيَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا قُطِعَ وَأُخِذَ مِنْهُ شَيْءٌ لَزِمَهُ إخْرَاجُ عُشْرِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْمَقْطُوعُ مَأْكُولًا أَوَبَاقِيًا عَلَى أَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَجِبُ إيتَاءُ حَقِّهِ يَوْمَ حَصَادِهِ لَكِنْ مَا حَقُّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ أَدَاءُ الْعُشْرِ عَنْ الْبَاقِي فَحَسْبُ أَمْ عَنْ الْبَاقِي وَالْمَأْكُولِ؟ وَالْآيَةُ لَا تَتَعَرَّضُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ تَمَسُّكًا بِالْمَسْكُوتِ وَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 141] فَائِدَةٌ، فَنَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَائِدَةٌ سِوَى مَا قُلْتُمْ وَهُوَ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ رَدًّا لِاعْتِقَادِ الْكَفَرَةِ تَحْرِيمَ الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِجَعْلِهَا لِلْأَصْنَامِ فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 141] أَيْ انْتَفِعُوا بِهَا وَلَا تُضَيِّعُوهَا بِالصَّرْفِ إلَى الْأَصْنَامِ وَلِذَلِكَ قَالَ {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] . وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَقَدْ قِيلَ أَنَّهَا وَرَدَتْ قَبْلَ حَدِيثِ الْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ فَصَارَتْ مَنْسُوخَةً بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ رُكْنِ إخْرَاجِ الْعُشْرِ وَشَرَائِطِ الرُّكْنِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ رُكْنِ هَذَا النَّوْعِ وَشَرَائِطِ الرُّكْنِ، أَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ التَّمْلِيكُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَالْإِيتَاءُ هُوَ التَّمْلِيكُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فَلَا تَتَأَدَّى بِطَعَامِ الْإِبَاحَةِ وَبِمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ رَأْسًا مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَبِمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَإِنَّنَا ذَكَرْنَاهَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِمَّا يَرْجِعُ بَعْضُهَا إلَى الْمُؤَدِّي وَبَعْضُهَا إلَى الْمُؤَدَّى وَبَعْضُهَا إلَى الْمُؤَدَّى إلَيْهِ فَلَا مَعْنًى لِلْإِعَادَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بَعْدَ الْوُجُوبِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَمِنْهَا هَلَاكُ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْخَارِجِ فَإِذَا هَلَكَ يَهْلِكُ بِمَا فِيهِ كَهَلَاكِ نِصَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْقُطُ وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الزَّكَاةِ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ، وَإِنْ هَلَكَ الْبَعْضُ يَسْقُطُ الْوَاجِبُ بِقَدْرِهِ وَيُؤَدَّى عُشْرُ الْبَاقِي قَلَّ الْبَاقِي، أَوْ كَثُرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُعْتَبَرُ قَدْرُ الْهَالِكِ مَعَ الْبَاقِي فِي تَكْمِيلِ قَدْرِ النِّصَابِ إنْ بَلَغَ نِصَابًا يُؤَدَّى وَإِلَّا فَلَا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ فِي الْبَاقِي بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ ضَمِّ قَدْرِ الْهَالِكِ إلَيْهِ عَلَى مَا مَرَّ وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ، فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُ الْمَالِكِ أَخَذَ الضَّمَانَ مِنْهُ وَأَدَّى عُشْرَهُ وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ بَعْضُهُ أَدَّى عُشْرَ الْقَدْرِ الْمُسْتَهْلَكِ مِنْ الضَّمَانِ وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمَالِكُ، أَوْ اُسْتُهْلِكَ الْبَعْضُ بِأَنْ أَكَلَهُ ضِمْنَ عُشْرِ الْهَالِكِ وَصَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ. وَمِنْهَا الرِّدَّةُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْقُطُ كَالزَّكَاةِ وَمِنْهَا مَوْتُ الْمَالِكِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ إذَا كَانَ اسْتَهْلَكَ الْخَارِجَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ يُؤَدَّى الْعُشْرُ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَسْقُطُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَقَدْ مَضَى الْفَرْقُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ حُكْمُ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ] (فَصْلٌ) : هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ وَأَمَّا حُكْمُ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي. بَيَانِ مَا فِيهِ الْخُمُسُ مِنْ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ وَمَا لَا خُمُسَ فِيهِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَنْ يَجُوزُ صَرْفُ الْخُمُسِ إلَيْهِ وَمَنْ لَهُ وِلَايَةُ أَخْذِ الْخُمُسِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُسْتَخْرَجُ مِنْ الْأَرْضِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا يُسَمَّى كَنْزًا وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي دَفَنَهُ بَنُو آدَمَ فِي الْأَرْضِ، وَالثَّانِي يُسَمَّى مَعْدِنًا وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ الْأَرْضَ، وَالرِّكَازُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ حَقِيقَتَهُ لِلْمَعْدِنِ وَاسْتِعْمَالَهُ لِلْكَنْزِ مَجَازًا. أَمَّا الْكَنْزُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ دَارِ الْحَرْبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، أَوْ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ كَالْمُصْحَفِ وَالدَّرَاهِمِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِسْلَامِ، أَوْ عَلَامَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ الْمَنْقُوشِ عَلَيْهَا الصَّنَمُ، أَوْ الصَّلِيبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، أَوْ لَا عَلَامَةَ بِهِ أَصْلًا فَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ كَالْجِبَالِ وَالْمَفَاوِزِ وَغَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ يُصْنَعُ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِاللُّقَطَةِ يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ كَانَ مَالَ الْمُسْلِمِينَ وَمَالُ الْمُسْلِمِينَ لَا يُغْنَمُ إلَّا أَنَّهُ مَالٌ لَا يُعْرَفُ مَالِكُهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ، وَإِنْ كَانَ بِهِ عَلَامَةُ الْجَاهِلِيَّةِ فَفِيهِ الْخُمُسُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ بِلَا خِلَافٍ كَالْمَعْدِنِ عَلَى مَا بُيِّنَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ وَلَا عَلَامَةُ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ قِيلَ إنَّ فِي زَمَانِنَا يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ اللُّقَطَةِ أَيْضًا وَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّ عَهْدَ الْإِسْلَامِ قَدْ طَالَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ مَالِ الْكَفَرَةِ بَلْ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ فَيُعْطَى لَهُ حُكْمُ اللُّقَطَةِ، وَقِيلَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْكُنُوزَ غَالِبًا بِوَضْعِ الْكَفَرَةِ وَإِنْ كَانَ بِهِ عَلَامَةُ الْجَاهِلِيَّةِ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْكَنْزِ فَقَالَ: فِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» ، وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ وَهُوَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْكَفَرَةِ فَكَانَ غَنِيمَةً فَيَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاجِدُ حُرًّا، أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا كَبِيرًا، أَوْ صَغِيرًا؛ لِأَنَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ وَاجِدٍ وَوَاجِدٍ وَلِأَنَّ هَذَا الْمَالَ بِمَنْزِلَةِ الْغَنِيمَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ؟ وَالْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ وَاَلَّذِي مِنْ أَهْلِ الْغَنِيمَةِ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَقَاطَعَهُ عَلَى شَيْءٍ فَلَهُ أَنْ يَفِيَ بِشَرْطِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» وَلِأَنَّهُ إذَا قَاطَعَهُ عَلَى شَيْءٍ

فَقَدْ جَعَلَ الْمَشْرُوطَ أُجْرَةً لِعَمَلِهِ فَيَسْتَحِقُّهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَإِنْ وُجِدَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ بِلَا خِلَافٍ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَلِأَنَّهُ مَالُ الْكَفَرَةِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ فَيُخَمَّسُ. وَاخْتُلِفَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: هِيَ لِصَاحِبِ الْخُطَّةِ إنْ كَانَ حَيًّا وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَلِوَرَثَتِهِ إنْ عُرِفُوا، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ صَاحِبُ الْخُطَّةِ وَلَا وَرَثَتُهُ تَكُون لِأَقْصَى مَالِكٍ لِلْأَرْضِ، أَوْ لِوَرَثَتِهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ هَذَا غَنِيمَةٌ مَا وَصَلَتْ إلَيْهَا يَدُ الْغَانِمِينَ وَإِنَّمَا وَصَلَتْ إلَيْهِ يَدُ الْوَاجِدِ لَا غَيْرُ فَيَكُونُ غَنِيمَةً يُوجِبُ الْخُمُسَ، وَاخْتِصَاصُهُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ بِهِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْمِلْكِ كَمَا لَوْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ، وَلَهُمَا أَنَّ صَاحِبَ الْخُطَّةِ مَلَكَ الْأَرْضَ بِمَا فِيهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَكَهَا بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ وَالْإِمَامُ إنَّمَا مَلَكَ الْأَرْضَ بِمَا وُجِدَ مِنْهُ وَمِنْ سَائِرِ الْغَانِمِينَ مِنْ الِاسْتِيلَاءِ وَالِاسْتِيلَاءُ كَمَا وَرَدَ عَلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ وَرَدَ عَلَى مَا فِيهَا فَمَلَكَ مَا فِيهَا وَبِالْبَيْعِ لَا يَزُولُ مَا فِيهَا لِأَنَّ الْبَيْعَ يُوجِبُ زَوَالَ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ، وَالْبَيْعُ وَرَدَ عَلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ لَا عَلَى مَا فِيهَا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا فِيهَا تَبَعًا لَهَا فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ الْخُطَّةِ وَكَانَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَهُ وَصَارَ هَذَا كَمَنْ اصْطَادَ سَمَكَةً كَانَتْ ابْتَلَعَتْ لُؤْلُؤَةً، أَوْ اصْطَادَ طَائِرًا كَانَ قَدْ ابْتَلَعَ جَوْهَرَةً أَنَّهُ يَمْلِكُ الْكُلَّ، وَلَوْ بَاعَ السَّمَكَةَ، أَوْ الطَّائِرَ لَا تَزُولُ اللُّؤْلُؤَةُ وَالْجَوْهَرَةُ عَنْ مِلْكِهِ لِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَى السَّمَكَةِ وَالطَّيْرِ دُونَ اللُّؤْلُؤَةِ وَالْجَوْهَرَةِ كَذَا هَذَا فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَمْلِكُ صَاحِبُ الْخُطَّةِ مَا فِي الْأَرْضِ بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ إيَّاهُ الْأَرْضَ؟ وَالْإِمَامُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ جَوْرًا فِي الْقِسْمَةِ وَالْإِمَامُ لَا يَمْلِكُ الْجَوْرَ فِي الْقِسْمَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِمَامَ مَا مَلَّكَهُ إلَّا الْأَرْضَ فَبَقِيَ الْكَنْزُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لِصَاحِبِ الْخُطَّةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِمَامَ مَا مَلَّكَهُ إلَّا رَقَبَةَ الْأَرْضِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَكِنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْأَرْضَ بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ فَقَدْ تَفَرَّدَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَا فِي الْأَرْضِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ وُجُوبِ الْخُمُسِ؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَكَ مَا فِي الْأَرْضِ بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ حَتَّى يَسْقُطَ الْخُمُسُ وَإِنَّمَا مَلَكَهُ بِتَفَرُّدِهِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْخُمُسُ كَمَا لَوْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ، وَالثَّانِي أَنَّ مُرَاعَاةَ الْمُسَاوَاةِ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ فِي الْقِسْمَةِ مِمَّا يَتَعَذَّرُ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا دَفْعًا لِلْحَرَجِ هَذَا إذَا وَجَدَ الْكَنْزَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ فَهُوَ لِلْوَاجِدِ وَلَا خُمُسَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ أَخَذَهُ لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لِانْعِدَامِ غَلَبَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً فَلَا خُمُسَ فِيهِ وَيَكُونُ الْكُلُّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُهُ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ، وَسَوَاءٌ دَخَلَ بِأَمَانٍ، أَوْ بِغَيْرِ أَمَانٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ يَظْهَرُ فِي الْمَمْلُوكِ لَا فِي الْمُبَاحِ وَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِبَعْضِهِمْ، فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِأَمَانٍ رَدَّهُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ إذَا دَخَلَ بِأَمَانٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ فِي الْأَمَانَةِ فَإِنْ لَمْ يَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ لَكِنْ لَا يَطِيبُ لَهُ لِتَمَكُّنِ خُبْثِ الْخِيَانَةِ فِيهِ فَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ، فَلَوْ بَاعَهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ لَكِنْ لَا يَطِيبُ لِلْمُشْتَرِي بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِغَيْرِ أَمَانٍ حَلَّ لَهُ وَلَا خُمُسَ فِيهِ. أَمَّا الْحِلُّ فَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا ظَفِرَ بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ. وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْخُمُسِ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْخُوذٍ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَلَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ حَتَّى لَوْ دَخَلَ جَمَاعَةٌ مُمْتَنِعُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَظَفِرُوا بِشَيْءٍ مِنْ كُنُوزِهِمْ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ وَلِكَوْنِهِ غَنِيمَةً لِحُصُولِ الْأَخْذِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ، أَوْ فِي دَارِ نَفْسِهِ فَفِيهِ الْخُمُسُ بِلَا خِلَافٍ بِخِلَافِ الْمَعْدِنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْكَنْزَ لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَوْ وَجَدَ فِيهِ الْمُؤْنَةَ وَهُوَ الْخُمُسُ لَمْ يَصِرْ الْجُزْءُ مُخَالِفًا لِلْكُلِّ بِخِلَافِ الْمَعْدِنِ عَلَى مَا نَذْكُرُ. وَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ هِيَ لِلْمُخْتَطِّ لَهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِلْوَاجِدِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ، وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا مَالٌ مُبَاحٌ سَبَقَتْ إلَيْهِ يَدُ الْخُصُوصِ وَهِيَ يَدُ الْمُخْتَطِّ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ كَالْمَعْدِنِ إلَّا أَنَّ الْمَعْدِنَ انْتَقَلَ بِالْبَيْعِ إلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَالْكَنْزُ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَبِيعِ وَالتَّمْلِيكِ فَإِنْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِالِاسْتِيلَاءِ فَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ كَمَنْ اصْطَادَ سَمَكَةً فِي بَطْنِهَا دُرَّةٌ مَلَكَ السَّمَكَةَ وَالدُّرَّةَ لِثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهِمَا فَلَوْ بَاعَ السَّمَكَةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَدْخُلْ الدُّرَّةُ فِي الْبَيْعِ كَذَا هَهُنَا وَالْمُخْتَطُّ لَهُ مَنْ

خَصَّهُ الْإِمَامُ بِتَمْلِيكِ الْبُقْعَةِ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ الْمُخْتَطُّ لَهُ يُصْرَفْ إلَى أَقْصَى مَالِكٍ لَهُ يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ وَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا إذَا وُجِدَ الْكَنْزُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا الْمَعْدِنُ فَالْخَارِجُ مِنْهُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: مُسْتَجْسِدٌ وَمَائِعٌ، وَالْمُسْتَجْسِدُ مِنْهُ نَوْعَانِ أَيْضًا: نَوْعٌ يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ وَيَنْطَبِعُ بِالْحِلْيَةِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَنَوْعٌ لَا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ كَالْيَاقُوتِ وَالْبَلُّورِ وَالْعَقِيقِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْفَيْرُوزَجِ وَالْكُحْلِ وَالْمَغْرَةِ وَالزِّرْنِيخِ وَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَنَحْوِهَا، وَالْمَائِعُ نَوْعٌ آخَرُ كَالنَّفْطِ وَالْقَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَجَدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، أَوْ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَالْمَوْجُودُ مِمَّا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ وَيَنْطَبِعُ بِالْحِلْيَةِ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا، أَوْ كَثِيرًا فَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ كَائِنًا مَنْ كَانَ إلَّا الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ فَإِنَّهُ يُسْتَرَدُّ مِنْهُ الْكُلُّ إلَّا إذَا قَاطَعَهُ الْإِمَامُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَفِيَ بِشَرْطِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي مَعَادِنِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ رُبُعُ الْعُشْرِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ حَتَّى شَرَطَ فِيهِ النِّصَابَ فَلَمْ يُوجِبْ فِيمَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ، وَشَرَطَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الْحَوْلَ أَيْضًا. وَأَمَّا غَيْرُ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ فَلَا خُمُسَ فِيهِ. وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْوَاجِبُ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ فِي الْكُلِّ لَا يُشْتَرَطُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ شَرَائِطُ الزَّكَاةِ وَيَجُوزُ دَفْعُهُ إلَى الْوَالِدَيْنِ، وَالْمَوْلُودِينَ الْفُقَرَاءِ كَمَا فِي الْغَنَائِمِ. وَيَجُوزُ لِلْوَاجِدِ أَنْ يَصْرِفَ إلَى نَفْسِهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا وَلَا تُغْنِيهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمَعَادِنَ الْقَلِيلَةَ وَكَانَ يَأْخُذُ مِنْهَا رُبُعَ الْعُشْرِ» وَلِأَنَّهَا مِنْ نَمَاءِ الْأَرْضِ وَرِيعِهَا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِيهَا الْعُشْرُ إلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى بِرُبُعِ الْعُشْرِ لِكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ فِي اسْتِخْرَاجِهَا وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» وَهُوَ اسْمٌ لِلْمَعْدِنِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْكَنْزِ مَجَازًا لِدَلَائِلَ: أَحَدُهَا أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الرَّكْزِ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ وَمَا فِي الْمَعْدِنِ هُوَ الْمُثَبَّتُ فِي الْأَرْضِ لَا الْكَنْزُ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ مُجَاوِرًا لِلْأَرْضِ، وَالثَّانِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَمَّا يُوجَدُ مِنْ الْكَنْزِ الْعَادِيِّ، فَقَالَ: فِيهِ «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» عَطَفَ الرِّكَازَ عَلَى الْكَنْزِ، وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ الْأَصْلُ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمَعْدِنُ، وَالثَّالِثُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَ «الْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَالْقَلِيبُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ قِيلَ: وَمَا الرِّكَازُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: هُوَ الْمَالُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ، وَالْأَرْضَ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَعْدِنِ حَقِيقَةً فَقَدْ، أَوْجَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخُمُسَ فِي الْمَعْدِنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهِمَا فَدَلَّ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْخُمُسُ فِي الْكُلِّ؛ وَلِأَنَّ الْمَعَادِنَ كَانَتْ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ وَقَدْ زَالَتْ أَيْدِيهِمْ وَلَمْ تَثْبُتْ يَدُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الْجِبَالِ، وَالْمَفَاوِزِ فَبَقِيَ مَا تِحَتَهَا عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْكَفَرَةِ وَقَدْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَيَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ وَيَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَهُ كَمَا فِي الْكَنْزِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ مَا زَادَ عَلَى رُبُعِ الْعُشْرِ لِمَا عَلِمَ مِنْ حَاجَتِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ. وَأَمَّا مَا لَا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ فَلَا خُمُسَ فِيهِ وَيَكُونُ كُلُّهُ لِلْوَاجِدِ؛ لِأَنَّ الزِّرْنِيخَ، وَالْجِصَّ، وَالنُّورَةَ وَنَحْوَهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَكَانَ كَالتُّرَابِ، وَالْيَاقُوتَ، وَالْفُصُوصَ مِنْ جِنْسِ الْأَحْجَارِ إلَّا أَنَّهَا أَحْجَارٌ مُضِيئَةٌ وَلَا خُمُسَ فِي الْحَجَرِ. وَأَمَّا الْمَائِعُ كَالْقِيرِ، وَالنَّفْطِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَيَكُونُ لِلْوَاجِدِ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِالِاسْتِيلَاءِ فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْكُفَّارِ حَتَّى يَكُونَ مِنْ الْغَنَائِمِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ. وَأَمَّا الزِّئْبَقُ فَفِيهِ الْخُمُسُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: لَا خُمُسَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: فِيهِ الْخُمُسُ فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الزِّئْبَقِ فَقَالَ: لَا خُمُسَ فِيهِ فَلَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى قَالَ: فِيهِ الْخُمُسُ وَكُنْت أَظُنُّ أَنَّهُ مِثْلُ الرَّصَاصِ، وَالْحَدِيدِ ثُمَّ بَلَغَنِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقِيرِ، وَالنَّفْطِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ أَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَنْطَبِعُ بِنَفْسِهِ فَأَشْبَهَ الْمَاءَ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ إنَّهُ يَنْطَبِعُ مَعَ غَيْرِهِ إنْ كَانَ لَا يَنْطَبِعُ بِنَفْسِهِ فَأَشْبَهَ الْفِضَّةَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ بِنَفْسِهَا لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ تَنْطَبِعُ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ يُخَالِطُهَا مِنْ نُحَاسٍ، أَوْ آنُكِ وَجَبَ فِيهَا الْخُمُسُ كَذَا هَذَا إذَا وُجِدَ الْمَعْدِنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، أَوْ دَارٍ، أَوْ مَنْزِلٍ، أَوْ حَانُوتٍ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَرْبَعَةَ

فصل أما بيان ما يوضع في بيت المال من الأموال وبيان مصارفها

الْأَخْمَاسِ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ وَحْدَهُ، أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْدِنَ مِنْ تَوَابِعِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهَا خُلِقَ فِيهَا وَمِنْهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ؟ فَإِذَا مَلَكَهَا الْمُخْتَطُّ لَهُ بِتَمْلِيكِ الْإِمَامِ مَلَكَهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَتَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ بِالْبَيْعِ بِتَوَابِعِهَا أَيْضًا بِخِلَافِ الْكَنْزِ عَلَى مَا مَرَّ وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الْخُمُسِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا خُمُسَ فِيهِ فِي الدَّارِ وَفِي الْأَرْضِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّهُ لَا خُمُسَ فِيهِ وَذَكَرَ فِي الصَّرْفِ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ وَكَذَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ فِي الْأَرْضِ، وَالدَّارِ جَمِيعًا إذَا كَانَ الْمَوْجُودُ مِمَّا يَذُوبُ بِالْإِذَابَةِ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَالرِّكَازُ اسْمٌ لِلْمَعْدِنِ حَقِيقَةً لِمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَلَكَ الْأَرْضَ مِنْ مِلْكِهِ مُتَعَلِّقًا بِهَذَا الْخُمُسِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ الْمَعْدِنَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَيُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَرْضِ، وَالْإِمَامُ مَلَكَهُ مُطْلَقًا عَنْ الْحَقِّ فَيَمْلِكُهُ الْمُخْتَطُّ لَهُ كَذَلِكَ وَلِلْإِمَامِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جُعِلَ الْكُلُّ لِلْغَانِمِينَ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ مَعَ الْخُمُسِ إذَا عُلِمَ أَنَّ حَاجَتَهُمْ لَا تَنْدَفِعُ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ جَازَ؟ وَإِذَا مَلَكَهُ الْمُخْتَطُّ لَهُ مُطْلَقًا عَنْ حَقٍّ مُتَعَلِّقٍ بِهِ فَيَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ كَذَلِكَ. وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الدَّارِ، وَالْأَرْضِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ تَمْلِيكَ الْإِمَامِ الدَّارَ جُعِلَ مُطْلَقًا عَنْ الْحُقُوقِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ وَلَا الْخَرَاجُ؟ بِخِلَافِ الْأَرْضِ فَإِنَّ تَمْلِيكَهَا وُجِدَ مُتَعَلِّقًا بِهَا الْعُشْرُ، أَوْ الْخَرَاجُ فَجَازَ أَنْ يَجِبَ الْخُمُسُ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، هَذَا إذَا وَجَدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ لَهُ وَلَا خُمُسَ فِيهِ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ وَجَدَهُ فِي مِلْكِ بَعْضِهِمْ فَإِنْ دَخَلَ بِأَمَانٍ رُدَّ عَلَى صَاحِبِ الْمِلْكِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ دَخَلَ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَهُوَ لَهُ وَلَا خُمُسَ فِيهِ كَمَا فِي الْكَنْزِ عَلَى مَا بَيَّنَّا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي حُكْمِ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ. فَأَمَّا الْمُسْتَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَالْعَنْبَرِ وَكُلِّ حِلْيَةٍ تُسْتَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ لِلْوَاجِدِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ الْخُمُسُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَامِلَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَيْهِ فِي لُؤْلُؤَةٍ وُجِدَتْ، مَا فِيهَا قَالَ: فِيهَا الْخُمُسُ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ أَخَذَ الْخُمُسَ مِنْ الْعَنْبَرِ وَلِأَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْمَعْدِنِ فَكَذَا فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْبَحْرِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى بِجَمْعِهِمَا وَهُوَ كَوْنُ ذَلِكَ مَالًا مُنْتَزَعًا مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ بِالْقَهْرِ إذْ الدُّنْيَا كُلُّهَا بَرُّهَا وَبَحْرُهَا كَانَتْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ انْتَزَعْنَاهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ فَكَانَ ذَلِكَ غَنِيمَةً فَيَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعَنْبَرِ فَقَالَ: هُوَ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ لَا خُمُسَ فِيهِ، وَلِأَنَّ يَدَ الْكَفَرَةِ لَمْ تَثْبُتْ عَلَى بَاطِنِ الْبِحَارِ الَّتِي يُسْتَخْرَجُ مِنْهَا اللُّؤْلُؤُ، وَالْعَنْبَرُ فَلَمْ يَكُنْ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْهَا مَأْخُوذًا مِنْ أَيْدِي الْكَفَرَةِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ فَلَا يَكُونُ غَنِيمَةً فَلَا يَكُونُ فِيهِ الْخُمُسُ وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ إنْ اسْتَخْرَجَ مِنْ الْبَحْرِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فَلَا شَيْءَ فِيهِ لِمَا قُلْنَا. وَقِيلَ فِي الْعَنْبَرِ: إنَّهُ مَائِعٌ نَبَعَ فَأَشْبَهَ الْقِيرَ، وَقِيلَ: إنَّهُ رَوْثٌ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْأَرْوَاثِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي اللُّؤْلُؤِ، وَالْعَنْبَرِ مَحْمُولٌ عَلَى لُؤْلُؤٍ وَعَنْبَرٍ وُجِدَ فِي خَزَائِنِ مُلُوكِ الْكَفَرَةِ فَكَانَ مَالًا مَغْنُومًا فَأَوْجَبَ فِيهِ الْخُمُسَ. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ مَنْ يَجُوزُ صَرْفُ الْخُمُسِ إلَيْهِ، وَمَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْأَخْذِ، وَبَيَانُ مَصَارِفِ الْخُمُسِ مَوْضِعُهُ كِتَابُ السِّيَرِ وَيَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى الْوَالِدَيْنِ، وَالْمَوْلُودِينَ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ، وَالْعُشْرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى نَفْسِهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا لَا تُغْنِيهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسُ بِأَنْ كَانَ دُونَ الْمِائَتَيْنِ فَأَمَّا إذَا بَلَغَ مِائَتَيْنِ لَا يَجُوزُ لَهُ تَنَاوُلُ الْخُمُسِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَرَكَ الْخُمُسَ لِلْوَاجِدِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ مُحْتَاجًا. وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالْخُمُسِ بِنَفْسِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَلَمْ يَدْفَعْهَا إلَى السُّلْطَانِ جَازَ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ثَانِيًا بِخِلَافِ زَكَاةِ السَّوَائِمِ، وَالْعُشْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ أَمَّا بَيَانُ مَا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْأَمْوَالِ وَبَيَانُ مَصَارِفِهَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْأَمْوَالِ فَأَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا زَكَاةُ السَّوَائِمِ، وَالْعُشُورِ وَمَا أَخَذَهُ الْعَشَارُ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ إذَا مَرُّوا عَلَيْهِمْ، وَالثَّانِي خُمُسُ الْغَنَائِمِ، وَالْمَعَادِنِ، وَالرِّكَازِ، وَالثَّالِثِ خَرَاجُ الْأَرَاضِي وَجِزْيَةُ الرُّءُوسِ وَمَا صُولِحَ عَلَيْهِ بَنُو نَجْرَانَ مِنْ الْحُلَلِ وَبَنُو تَغْلِبَ مِنْ الصَّدَقَةِ الْمُضَاعَفَةِ وَمَا أَخَذَهُ الْعَشَارُ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُسْتَأْمَنِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَالرَّابِعُ مَا أُخِذَ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الَّذِي مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا أَصْلًا، أَوْ تَرَكَ زَوْجًا، أَوْ زَوْجَةً. وَأَمَّا مَصَارِفُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، فَأَمَّا مَصْرِفُ النَّوْعِ الْأَوَّلِ

فصل الزكاة الواجبة

فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ خُمُسُ الْغَنَائِمِ وَالْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ فَنَذْكُرُ مَصْرِفَهُ فِي كِتَابِ السِّيَرِ، وَأَمَّا مَصْرِفُ النَّوْعِ الثَّالِثِ مِنْ الْخَرَاجِ وَأَخَوَاتِهِ فَعِمَارَةُ الدِّينِ، وَإِصْلَاحُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ رِزْقُ الْوُلَاةِ، وَالْقُضَاةِ وَأَهْلِ الْفَتْوَى مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَالْمُقَاتِلَةِ، وَرَصْدُ الطُّرُقِ، وَعِمَارَةُ الْمَسَاجِدِ، وَالرِّبَاطَاتِ، وَالْقَنَاطِرِ، وَالْجُسُورِ، وَسَدُّ الثُّغُورِ، وَإِصْلَاحُ الْأَنْهَارِ الَّتِي لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا. وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ فَيُصْرَفُ إلَى دَوَاءِ الْفُقَرَاءِ، وَالْمَرْضَى وَعِلَاجِهِمْ، وَإِلَى أَكْفَانِ الْمَوْتَى الَّذِينَ لَا مَالَ لَهُمْ، وَإِلَى نَفَقَةِ اللَّقِيطِ وَعَقْلِ جِنَايَتِهِ، وَإِلَى نَفَقَةِ مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ وَلَيْسَ لَهُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَعَلَى الْإِمَامِ صَرْفُ هَذِهِ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ وَهِيَ زَكَاةُ الرَّأْسِ فَهِيَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي. بَيَانِ وُجُوبِهَا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَنْهُ، وَفِي بَيَانِ جِنْسِ الْوَاجِبِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ الْأَدَاءِ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهَا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَهِيَ شَرَائِطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ وَفِي بَيَانِ مَكَانِ الْأَدَاءِ وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهَا مَا رُوِيَ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ صعير الْعُذْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: فِي خُطْبَتِهِ «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» أَمَرَ بِالْأَدَاءِ وَمُطْلَقِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَإِنَّمَا سَمَّيْنَا هَذَا النَّوْعَ وَاجِبًا لَا فَرْضًا؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ اسْمٌ لِمَا ثَبَتَ لُزُومُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَلُزُومُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الزَّكَاةِ لَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ بَلْ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ وَهُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَمَا رُوِيَ فِي الْبَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى، وَالْحُرِّ، وَالْعَبْدِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فَرَضَ أَيْ قَدَّرَ أَدَاءَ الْفِطْرِ، وَالْفَرْضُ فِي اللُّغَة التَّقْدِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أَيْ قَدَّرْتُمْ، وَيُقَالُ: فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ بِمَعْنَى قَدَّرَهَا فَكَانَ فِي الْحَدِيثِ تَقْدِيرُ الْوَاجِبِ بِالْمَذْكُورِ لَا الْإِيجَابِ قَطْعًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ كَيْفِيَّةُ وُجُوب صَدَقَة الْفِطْر] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا يَجِبُ وُجُوبًا مُضَيَّقًا فِي يَوْمِ الْفِطْرِ عَيْنًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا فِي الْعُمُرِ كَالزَّكَاةِ، وَالنُّذُورِ، وَالْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِهَا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ فَلَا يَتَضَيَّقُ الْوُجُوبُ إلَّا فِي آخِرِ الْعُمُرِ كَالْأَمْرِ بِالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْأَوَامِرِ الْمُطْلَقَةِ عَنْ الْوَقْتِ. [فَصْلٌ شَرَائِطِ وُجُوبِ صَدَقَة الْفِطْر] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَإِنَّهَا أَنْوَاعٌ: مِنْهَا الْإِسْلَامُ فَلَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ فِي حَالَةِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ حَتَّى لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَلَا تَجِبُ بِدُونِ الْإِسْلَامِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِيجَابُ فِعْلٍ لَا يَقْدِرُ الْمُكَلَّفُ عَلَى أَدَائِهِ فِي الْحَالِ، وَفِي الثَّانِي تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ لِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْكُفَّارَ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ. وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ عِنْدَنَا فَلَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَتَجِبُ الْفِطْرَةُ عَلَى الْعَبْدِ وَيَتَحَمَّلُهَا الْمُوَلَّى عَنْهُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» ، وَالْأَدَاءُ عَنْهُ يُنْبِئُ عَنْ التَّحَمُّلِ عَنْهُ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَيْهِ. وَلَنَا أَنَّ الْوُجُوبَ هُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الْأَدَاءِ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُكَلَّفُ بِأَدَائِهَا فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَإِيجَابُ فِعْلٍ لَا سَبِيلَ إلَى أَدَائِهِ رَأْسًا مُمْتَنِعٌ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ الْغَنِيِّ إذَا لَمْ يَخْرُجْ وَلِيُّهُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّ الْأَدَاءَ عَنْهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَيْهِ؟ وَسَنَذْكُرُ مَعْنَاهُ. وَمِنْهَا الْغِنَى فَلَا يَجِبُ الْأَدَاءُ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا الْغِنَى وَتَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الَّذِي لَهُ زِيَادَةٌ عَلَى قُوتِ يَوْمِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ وُجُوبَهَا ثَبَتَ مَطْهَرَةً لِلصَّائِمِ وَمَعْنَى الْمَطْهَرَةِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْغِنَى، وَالْفَقْرِ، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» . وَقَدْ بَيَّنَّا حَدَّ الْغِنَى الَّذِي يَجِبُ بِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي زَكَاةِ الْمَالِ، ثُمَّ الْغِنَى شَرْطُ الْوُجُوبِ لَا شَرْطُ بَقَاءِ الْوَاجِبِ حَتَّى لَوْ افْتَقَرَ بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ لَا يَسْقُطُ الْوَاجِبُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَقَّ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ لَا فِي الْمَالِ فَلَا يُشْتَرَطُ لِبَقَائِهِ بَقَاءُ الْمَالِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَأَمَّا الْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ فَلَيْسَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ حَتَّى تَجِبَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَى الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ إذَا كَانَ

فصل بيان من تجب عليه صدقة الفطر

لَهُمَا مَالٌ وَيُخْرِجُهَا الْوَلِيُّ مِنْ مَالِهِمَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: لَا فِطْرَةَ عَلَيْهِمَا حَتَّى لَوْ أَدَّى الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ مِنْ مَالِهِمَا لَا يَضْمَنَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَضْمَنَانِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّهَا عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَاتُ لَا تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ، وَالْمَجَانِينِ كَالصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ مَحْضَةٍ بَلْ فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فَأَشْبَهَتْ الْعُشْرَ، وَكَذَلِكَ وُجُودُ الصَّوْمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْفِطْرَةِ حَتَّى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ لِكِبَرٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ سَفَرٍ يَلْزَمُهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ وَلِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَا يُوجَدُ مِنْهُ الصَّوْمُ وَهُوَ الصَّغِيرُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ صَدَقَة الْفِطْر] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فَيَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ، وَبَيَانِ شَرْطِ الْوُجُوبِ أَمَّا شَرْطُهُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ عَلَى نَفْسِهِ. وَأَمَّا السَّبَبُ فَرَأْسٌ يَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وِلَايَةً كَامِلَةً لِأَنَّ الرَّأْسَ الَّذِي يَمُونُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وِلَايَةً كَامِلَةً تَكُونُ فِي مَعْنَى رَأْسِهِ فِي الذَّبِّ، وَالنُّصْرَةِ فَكَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ رَأْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَا هُوَ فِي مَعْنَى رَأْسِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ مَمَالِيكِهِ الَّذِينَ هُمْ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ لُزُومُ الْمُؤْنَةِ وَكَمَالُ الْوِلَايَةِ مَعَ وُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» وَسَوَاءٌ كَانُوا مُسْلِمِينَ، أَوْ كُفَّارًا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تُؤَدَّى إلَّا عَنْ مُسْلِمٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنَّمَا الْمَوْلَى يَتَحَمَّلُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنَا بِالْأَدَاءِ عَنْ الْعَبْدِ، وَالْأَدَاءُ عَنْهُ يُنْبِئُ عَنْ التَّحَمُّلِ فَثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ وَلَا يَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ بَعْدَ الْوُجُوبِ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَمِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَيَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْمَوْلَى، وَلَنَا أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَنْهُ وَشَرْطُهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فَيَجِبُ الْأَدَاءُ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: " الْوُجُوبُ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنَّمَا الْمَوْلَى يَتَحَمَّلُ عَنْهُ أَدَاءَ الْوَاجِبِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ يَسْتَدْعِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ بِالْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ لَهُ فَلَا وُجُوبَ عَلَيْهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّحَمُّلُ، وَقَوْلُهُ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْأَدَاءُ عَنْهُ بِالنَّصِّ مُسَلَّمٌ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إنَّ الْأَدَاءَ عَنْهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ التَّحَمُّلِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ بِالْأَدَاءِ بِسَبَبِهِ وَهُوَ رَأْسُهُ الَّذِي يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وِلَايَةً كَامِلَةً فَكَانَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ سَبَبِيَّةِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَمَّنْ يُؤَدِّي عَنْهُ لَا الْأَدَاءُ بِطَرِيقِ التَّحَمُّلِ فَتُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ وُجِدَتْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ، أَوْ كَبِيرٍ يَهُودِيٍّ، أَوْ نَصْرَانِيٍّ، أَوْ مَجُوسِيٍّ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَيُخْرِجُ عَنْ مُدَبَّرِيهِ وَأُمَّهَاتِ، أَوْلَادِهِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» وَهَؤُلَاءِ عَبِيدٌ لِقِيَامِ الرِّقِّ، وَالْمِلْكِ فِيهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُمْ وَيَسْتَمْتِعَ بِالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ؟ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ مُكَاتَبِهِ وَلَا عَنْ رَقِيقِ مُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ وَفِي وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ قُصُورٌ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَاتَبِ أَنْ يُخْرِجَ فِطْرَتَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا عَنْ رَقِيقِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَالِكٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ اكْتِسَابَهُ فَكَانَ فِي اكْتِسَابِهِ كَالْحُرِّ فَتَجِبُ عَلَيْهِ كَمَا تَجِبُ عَلَى الْحُرِّ وَلَنَا أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْعَبْدُ مَمْلُوكٌ فَلَا يَكُونُ مَالِكًا ضَرُورَةً. وَأَمَّا مُعْتَقُ الْبَعْضِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا هُوَ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا بِأَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَضْلًا عَنْ دَيْنِهِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ رَقِيقِهِ وَإِلَّا فَلَا. وَيُخْرِجُ عَنْ عَبْدِهِ الْمُؤَاجَرِ، الْوَدِيعَةِ، وَالْعَارِيَّةِ، وَعَبْدِهِ الْمَدْيُونِ الْمُسْتَغْرَقِ بِالدَّيْنِ، وَعَبْدِهِ الَّذِي فِي رَقَبَتِهِ جِنَايَةٌ لِعُمُومِ النَّصِّ وَلِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا وَيُخْرِجُ عَنْ عَبْدِ الرَّهْنِ لِمَا ذَكَرْنَا وَهَذَا إذَا كَانَ لِلرَّاهِنِ وَفَاءٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَفَاءٌ فَلَا صَدَقَةَ عَلَيْهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ بِخِلَافِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى وَلَا دَيْنَ عَلَى الْمَوْلَى. وَأَمَّا عَبْدُ عَبْدِهِ الْمَأْذُونُ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ فَلَا يُخْرِجُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ وَعِنْدَهُمَا يُخْرِجُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا يَخْرُجُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ عَبْدُ التِّجَارَةِ وَلَا فِطْرَةَ فِي عَبْدِ التِّجَارَةِ عِنْدَنَا، وَلَا يُخْرِجُ عَنْ عَبْدِهِ الْآبِقِ وَلَا عَنْ الْمَغْصُوبِ

الْمَجْحُودِ وَلَا عَنْ عَبْدِهِ الْمَأْسُورِ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ يَدِهِ وَتَصَرُّفِهِ فَأَشْبَهَ الْمُكَاتَبَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَيْسَ فِي رَقِيقِ الْأَخْمَاسِ وَرَقِيقِ الْقُوَّامِ الَّذِينَ يَقُومُونَ عَلَى مَرَافِقِ الْعَوَامّ مِثْلِ زَمْزَمَ وَمَا أَشْبَهَهَا، وَرَقِيقِ الْفَيْءِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ إذْ هُمْ لَيْسَ لَهُمْ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ وَكَذَلِكَ السَّبْيُ وَرَقِيقُ الْغَنِيمَةِ، وَالْأَسْرَى قَبْلَ الْقِسْمَةِ عَلَى أَصْلِهِ لِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ فَصَدَقَةُ فِطْرِهِ عَلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» ، وَالْعَبْدُ اسْمٌ لِلذَّاتِ الْمَمْلُوكَةِ وَأَنَّهُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ، وَحَقُّ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَنَافِعِ فَكَانَ كَالْمُسْتَعِيرِ، وَالْمُسْتَأْجِرِ وَلَا يُخْرِجُ عَنْ عَبِيدِ التِّجَارَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُخْرِجُ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ لَا يُنَافِي وُجُوبَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخْتَلِفٌ وَلَنَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ زَكَاةِ الْمَالِ وَبَيْنَ زَكَاةِ الرَّأْسِ يَكُونُ ثِنًى فِي الصَّدَقَةِ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا ثِنًى فِي الصَّدَقَةِ» ، وَالْعَبْدُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا صَدَقَةُ فِطْرِهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ الْفِطْرَةُ عَلَيْهِمَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنَّمَا الْمَوْلَى يَتَحَمَّلُ عَنْهُ بِالْمِلْكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ. وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْوُجُوبُ عَلَى الْمَوْلَى بِسَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ رَأْسٌ يَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وِلَايَةً كَامِلَةً وَلَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةٌ كَامِلَةٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَزْوِيجَهُ فَلَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ؟ وَإِنْ كَانَ عَدَدٌ مِنْ الْعَبِيدِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَلَا فِطْرَةَ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ قَسَمُوا أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدٌ كَامِلٌ تَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَقَةُ فِطْرِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّقِيقَ لَا يُقْسَمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا كَامِلًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْسَمُ الرَّقِيقُ قِسْمَةَ جَمْعٍ فَيَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا تَامًّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالزَّكَاةِ فِي السَّوَائِمِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَأَبُو يُوسُفَ وَافَقَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي هَذَا وَإِنْ كَانَ يَرَى قِسْمَةَ الرَّقِيقِ لِنُقْصَانِ الْوِلَايَةِ إذْ لَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةٌ كَامِلَةٌ وَكَمَالُ الْوِلَايَةِ بَعْضُ أَوْصَافِ السَّبَبِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جَارِيَةٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ مَعًا حَتَّى ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُمَا وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِهِمَا فَلَا فِطْرَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ الْجَارِيَةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهَا جَارِيَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَقَةُ فِطْرِهِ تَامَّةً، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَجِبُ عَلَيْهِمَا صَدَقَةٌ وَاحِدَةٌ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ، وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ لَا تَجِبُ عَنْهُ إلَّا فِطْرَةٌ وَاحِدَةٌ كَسَائِرِ الْأَشْخَاصِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَلَدَ ابْنٌ تَامٌّ فِي حَقٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرِثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْهُ صَدَقَةٌ تَامَّةٌ. وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا أَوْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ فَمَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مَوْقُوفَةٌ إنْ تَمَّ الْبَيْعُ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ، أَوْ بِالْإِجَازَةِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ وَإِنْ فُسِخَ فَعَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِهِ وَعِنْدَ زُفَرَ إنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا، أَوْ شَرَطَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ فَصَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَى الْبَائِعِ تَمَّ الْبَيْعُ، أَوْ انْفَسَخَ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَعَلَى الْمُشْتَرِي تَمَّ الْبَيْعُ، أَوْ انْفَسَخَ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِعَقْدٍ ثَانٍ فَمَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَصَدَقَةُ فِطْرِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي إنْ قَبَضَهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَقِّدْ تَقَرَّرَ بِالْقَبْضِ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا جَانِبُ الْبَائِعِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ. وَوَقْتُ الْوُجُوبِ هُوَ وَقْتُ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ كَانَ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي. وَأَمَّا جَانِبُ الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ انْفَسَخَ قَبْلَ تَمَامِهِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَصْلِ. وَلَوْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ، أَوْ عَيْبٍ إنْ رَدَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَعَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ وَإِنْ رَدَّهُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ جَدِيدٍ وَإِنْ اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا فَمَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ فَإِنْ كَانَ مَرَّ وَهُوَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَعَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ فَمَرَّ عَلَيْهِ يَوْمُ الْفِطْرِ وَهُوَ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَكَانَ صَدَقَةُ فِطْرِهِ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَصَدَقَةُ فِطْرِهِ مَوْقُوفَةٌ لِاحْتِمَالِ الرَّدِّ فَإِنْ رَدَّهُ فَعَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُشْتَرِي حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ عَلَيْهِ. وَيُخْرِجُ عَنْ، أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَإِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَدُّوا عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ» وَلِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَبِ

فصل بيان جنس الواجب وقدره وصفة في صدقة الفطر

وَوِلَايَةُ الْأَبِ عَلَيْهِمْ تَامَّةٌ، وَهَلْ يُخْرِجُ الْجَدُّ عَنْ ابْنِ ابْنِهِ الْفَقِيرِ الصَّغِيرِ حَالَ عَدَمِ الْأَبِ أَوْ حَالَ كَوْنِهِ فَقِيرًا؟ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُخْرِجُ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْجَدَّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ حَالَ عَدَمِ الْأَبِ كَوِلَايَةِ الْأَبِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ وِلَايَةَ الْجَدِّ لَيْسَتْ بِوِلَايَةٍ تَامَّةٍ مُطْلَقَةٍ بَلْ هِيَ قَاصِرَةٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَرْطِ عَدَمِ الْأَبِ؟ فَأَشْبَهَتْ وِلَايَةَ الْوَصِيِّ، وَالْوَصِيُّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ فَكَذَا الْجَدُّ. وَأَمَّا الْكِبَارُ الْعُقَلَاءُ فَلَا يُخْرَجُ عَنْهُمْ عِنْدَنَا وَإِنْ كَانُوا فِي عِيَالِهِ بِأَنْ كَانُوا فُقَرَاءَ زَمْنَى، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ فِطْرَتُهُمْ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ، أَوْ كَبِيرٍ مِمَّنْ تُمَوِّنُونَ» فَإِذَا كَانُوا فِي عِيَالِهِ يُمَوِّنُهُمْ فَعَلَيْهِ فِطْرَتُهُمْ. وَلَنَا أَنَّ أَحَدَ شَطْرَيْ السَّبَبِ وَهُوَ الْوِلَايَةُ مُنْعَدِمٌ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى جَوَازِ الْأَدَاءِ عَنْهُمْ لَا عَلَى الْوُجُوبِ. وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ أَبَوَيْهِ وَإِنْ كَانَا فِي عِيَالِهِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُخْرِجُ عَنْ الْحَمْلِ لِانْعِدَامِ كَمَالِ الْوِلَايَةِ وَلِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَيَاتَهُ وَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ صَدَقَةُ فِطْرِ زَوْجَتِهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ مُؤْنَةُ الزَّوْجِ وَوِلَايَتُهُ فَوُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ. (وَلَنَا) أَنَّ شَرْطَ تَمَامِ السَّبَبِ كَمَالُ الْوِلَايَةِ وَوِلَايَةُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا لَيْسَتْ بِكَامِلَةٍ فَلَمْ يَتِمَّ السَّبَبُ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ سِوَى الرَّقِيقِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ إمَّا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا عُرِفَ بِالتَّوْقِيفِ وَأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيمَا سِوَى الرَّقِيقِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ عَنْ الرَّفَثِ وَمَعْنَى الطُّهْرَةِ لَا يَتَقَرَّرُ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ فَلَا تَجِبُ عَنْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ جِنْسِ الْوَاجِبِ وَقَدْرِهِ وَصِفَةِ فِي صَدَقَة الْفِطْر] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ جِنْسِ الْوَاجِبِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ أَمَّا جِنْسُهُ وَقَدْرُهُ فَهُوَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مِنْ الْحِنْطَةِ صَاعٌ. وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كُنْت أُؤَدِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاعًا مِنْ بُرٍّ، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صَغِيرٍ الْعُذْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» وَذَكَرَ إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ أَنَّ عَشْرَةً مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رَوَوْا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَاحْتَجَّ بِرِوَايَتِهِمْ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلُ الْوُجُوبِ بَلْ هُوَ حِكَايَةٌ عَنْ فِعْلِهِ فَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَبِهِ نَقُولُ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ نِصْفَ صَاعٍ وَمَا زَادَ يَكُونُ تَطَوُّعًا عَلَى أَنَّ الْمَرْوِيَّ مِنْ لَفْظِ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «كُنْت أُخْرِجُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْبُرِّ فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ «صَاعًا مِنْ طَعَامٍ» ، وَدَقِيقُ الْحِنْطَةِ وَسَوِيقُهَا كَالْحِنْطَةِ، وَدَقِيقُ الشَّعِيرِ وَسَوِيقُهُ كَالشَّعِيرِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُجْزِئُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَعِنْدَنَا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مَعْلُولٌ بِكَوْنِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ لِمَا نَذْكُرُ وَذِكْرُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِلتَّيْسِيرِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ الدَّقِيقَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَدُّوا قَبْلَ الْخُرُوجِ زَكَاةَ الْفِطْرِ فَإِنَّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُدًّا مِنْ قَمْحٍ، أَوْ دَقِيقٍ» . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: الدَّقِيقُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْحِنْطَةِ، وَالدَّرَاهِمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الدَّقِيقِ، وَالْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى دَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الزَّبِيبِ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ نِصْفُ صَاعٍ وَرَوَى الْحَسَنُ وَأَسَدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ وَكَانَ طَعَامُنَا الشَّعِيرُ وَلِأَنَّ الزَّبِيبَ لَا يَكُونُ مِثْلَ الْحِنْطَةِ فِي التَّغَذِّي بَلْ يَكُونُ أَنْقَصَ مِنْهَا كَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ فِيهِ بِالصَّاعِ كَمَا فِي الشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ أَنَّ قِيمَةَ الزَّبِيبِ تَزِيدُ عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ فِي الْعَادَةِ ثُمَّ اُكْتُفِيَ مِنْ الْحِنْطَةِ بِنِصْفِ صَاعٍ فَمِنْ الزَّبِيبِ أَوْلَى. وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنْ يُجْعَلَ الْوَاجِبُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ فَكَانَتْ قِيمَتُهُ فِي عَصْرِ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَفِي عَصْرِهِمَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلُ قِيمَةِ الشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يُحْمَلُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا الْأَقِطُ

فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ لَا يُجْزِئُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ يُوثَقُ بِهِ وَجَوَازُ مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَمْ يَقَعْ التَّنْصِيصُ عَلَيْهَا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أُحِبُّ أَنْ يُخْرِجَ الْأَقِطَ فَإِنْ أَخْرَجَ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ لَمْ يَتَبَيَّنْ لِي أَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ، وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ صَاعَ الْمَدِينَةِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ وَنَقَلُوا ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَالْمُدُّ رِطْلَانِ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ، وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ» وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّ هَذَا صَاعُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَنَقْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ مَالِكًا مِنْ فُقَهَائِهِمْ يَقُولُ: صَاعُ الْمَدِينَةِ ثَبَتَ بِتَحَرِّي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَلَمْ يَصِحَّ النَّقْلُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ صَاعَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ فَالْعَمَلُ بِصَاعِ عُمَرَ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِصَاعِ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ وَزْنًا وَكَيْلًا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَزْنًا وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ كَيْلًا حَتَّى لَوْ وَزَنَ وَأَدَّى جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: الصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ فِيمَا يَسْتَوِي كَيْلُهُ وَوَزْنُهُ وَهُوَ الْعَدَسُ، وَالْمَاشُّ، وَالزَّبِيبُ، وَإِذَا كَانَ الصَّاعُ يَسَعُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ مِنْ الْعَدَسِ، وَالْمَاشُ فَهُوَ الصَّاعُ الَّذِي يُكَالُ بِهِ الشَّعِيرُ، وَالتَّمْرُ. وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مِنْ الْأَشْيَاءِ بِمَا لَا يَخْتَلِفُ كَيْلُهُ وَوَزْنُهُ كَالْعَدَسِ، وَالْمَاشِّ وَمَا سِوَاهُمَا يَخْتَلِفُ مِنْهَا مَا يَكُونُ وَزْنُهُ أَكْثَرَ مِنْ كَيْلِهِ كَالشَّعِيرِ وَمِنْهَا مَا يَكُونُ كَيْلُهُ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ كَالْمِلْحِ فَيَجِبُ تَقْدِيرُ الْمَكَايِيلِ بِمَا لَا يَخْتَلِفُ وَزْنُهُ وَكَيْلُهُ كَالْعَدَسِ، وَالْمَاشِّ فَإِذَا كَانَ الْمِكْيَالُ يَسَعُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الصَّاعُ الَّذِي يُكَالُ بِهِ الشَّعِيرُ، وَالتَّمْرُ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِاسْمِ الصَّاعِ وَأَنَّهُ مِكْيَالٌ لَا يَخْتَلِفُ وَزْنُ مَا يَدْخُلُ فِيهِ خِفَّةً وَثِقَلًا فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْكَيْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ النَّاسَ إذَا اخْتَلَفُوا فِي صَاعٍ يُقَدِّرُونَهُ بِالْوَزْنِ فَدَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْوَزْنُ وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فَهُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَيْنٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ الْقِيمَةَ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ، أَوْ فُلُوسًا، أَوْ عُرُوضًا، أَوْ مَا شَاءَ وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الزَّكَاةِ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِوُجُوبِ أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ، وَفِي تَجْوِيزِ الْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ حُكْمُ النَّصِّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْحَقِيقَةِ إغْنَاءُ الْفَقِيرِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ» ، وَالْإِغْنَاءُ يَحْصُلُ بِالْقِيمَةِ بَلْ أَتَمَّ وَأَوْفَرَ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى دَفْعِ الْحَاجَةِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ النَّصَّ مَعْلُولٌ بِالْإِغْنَاءِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَجْوِيزِ الْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ حُكْمُ النَّصِّ فِي الْحَقِيقَةِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بَعْضِهِ عَنْ بَعْضٍ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ سَوَاءٌ كَانَ الَّذِي أَدَّى عَنْهُ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْحِنْطَةِ عَنْ الْحِنْطَةِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ بِأَنْ أَدَّى نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ عَنْ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ وَسَطٍ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ غَيْرِ الْحِنْطَةِ عَنْ الْحِنْطَةِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ بِأَنْ أَدَّى نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ الْحِنْطَةِ عَنْ الْحِنْطَةِ بَلْ يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَلَيْهِ تَكْمِيلُ الْبَاقِي وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تُعْتَبَرُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي غَيْرِهِ وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ إنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يَثْبُتُ بِعَيْنِ النَّصِّ لَا بِمَعْنَى النَّصِّ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْمَعْنَى لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَأَمَّا التَّخْرِيجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يَثْبُتُ بِالْمَعْنَى أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ مَشَايِخِنَا بِسَمَرْقَنْدَ وَأَمَّا فِي الْجِنْسِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْجِنْسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ كُلِّهِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَهِيَ الْجَوْدَةُ، وَالْجَوْدَةُ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا لَا قِيمَةَ لَهَا شَرْعًا عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْجَوْدَةِ،، وَالسَّاقِطُ شَرْعًا مُلْحَقٌ بِالسَّاقِطِ حَقِيقَةً. وَأَمَّا فِي خِلَافِ الْجِنْسِ فَوَجْهُ التَّخْرِيجِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّتِهِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ عِنْدَ هُجُومِ وَقْتِ الْوُجُوبِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ إمَّا عَيْنُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَإِمَّا الْقِيمَةُ وَمَنْ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخْرَجَ الْعَيْنَ وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ الْقِيمَةَ وَلِأَيِّهِمَا اخْتَارَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ مِنْ الْأَصْلِ فَإِذَا أَدَّى بَعْضَ عَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ تَعَيَّنَ وَاجِبًا

فصل وقت وجوب صدقة الفطر

مِنْ الْأَصْلِ فَيَلْزَمُهُ تَكْمِيلُهُ وَهَذَا التَّخْرِيجُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هَهُنَا فِي الذِّمَّةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ فِي النِّصَابِ؛ لِأَنَّهُ رُبُعُ الْعُشْرِ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ حَتَّى يَسْقُطَ بِهَلَاكِ النِّصَابِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْوُجُوبِ. [فَصْلٌ وَقْتُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وَقْتُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ وَقْتُ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ وَقْتُ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى لَوْ مَلَكَ عَبْدًا، أَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ، أَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ، أَوْ كَانَ فَقِيرًا فَاسْتَغْنَى إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَكَذَا مَنْ مَاتَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَمْ تَجِبْ فِطْرَتُهُ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ وَجَبَتْ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْل غُرُوب الشَّمْسِ تَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَا تَجِبُ وَكَذَا إنْ مَاتَ قَبْلَهُ لَمْ تَجِبْ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ وَجَبَتْ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ سَبَبَ وُجُوبِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ هُوَ الْفِطْرُ؛ لِأَنَّهَا تُضَافُ إلَيْهِ، وَالْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى السَّبَبِيَّةِ كَإِضَافَةِ الصَّلَوَاتِ إلَى، أَوْقَاتِهَا وَإِضَافَةِ الصَّوْمِ إلَى الشَّهْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَمَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ جَاءَ وَقْتُ الْفِطْرِ فَوَجَبَتْ الصَّدَقَةُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ» . أَيْ وَقْتُ فِطْرِكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ خَصَّ وَقْتَ الْفِطْرِ بِيَوْمِ الْفِطْرِ حَيْثُ أَضَافَهُ إلَى الْيَوْمِ، وَالْإِضَافَةُ لِلِاخْتِصَاصِ فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْوَقْتِ بِالْفِطْرِ يَظْهَرُ بِالْيَوْمِ وَإِلَّا فَاللَّيَالِي كُلُّهَا فِي حَقِّ الْفِطْرِ سَوَاءٌ فَلَا يَظْهَرُ الِاخْتِصَاصُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ أَيْ صَدَقَةُ يَوْمِ الْفِطْرِ فَكَانَتْ الصَّدَقَةُ مُضَافَةً إلَى يَوْمِ الْفِطْرِ فَكَانَ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا. وَلَوْ عَجَّلَ الصَّدَقَةَ عَلَى يَوْمِ الْفِطْرِ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَن عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ سَنَةً وَسَنَتَيْنِ وَعَنْ خَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا إذَا دَخَلَ رَمَضَانُ وَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ بِيَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا أَصْلًا. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ وَقْتَ وُجُوبِ هَذَا الْحَقِّ هُوَ يَوْمُ الْفِطْرِ فَكَانَ التَّعْجِيلُ أَدَاءَ الْوَاجِبِ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَإِنَّهُ مُمْتَنِعٌ كَتَعْجِيلِ الْأُضْحِيَّةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ. وَجْهُ قَوْلِ خَلَفٍ هَذِهِ فِطْرَةٌ عَنْ الصَّوْمِ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَقْتِ الصَّوْمِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ مِنْ الْيَوْمِ، أَوْ الْيَوْمَيْنِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الشَّرْطَ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الشَّرْطَ فَوَجْهُهُ أَنَّ وُجُوبَهَا لِإِغْنَاءِ الْفَقِيرِ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِالتَّعْجِيلِ بِيَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُتَعَجِّلَ يَبْقَى إلَى يَوْمِ الْفِطْرِ فَيَحْصُلُ الْإِغْنَاءُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَا يَبْقَى فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ مُطْلَقًا وَذِكْرُ السَّنَةَ، وَالسَّنَتَيْنِ، فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ لَيْسَ عَلَى التَّقْدِيرِ بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِاسْتِكْثَارِ الْمُدَّةِ أَيْ يَجُوزُ وَإِنْ كَثُرَتْ الْمُدَّةُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوُجُوبَ إنْ لَمْ يَثْبُتْ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَهُوَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ، وَالتَّعْجِيلُ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ جَائِزٌ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ، وَالْعُشُورِ وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ وَقْتُ أَدَاء صَدَقَة الْفِطْر] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وَقْتُ أَدَائِهَا فَجَمِيعُ الْعُمُرِ عِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا وَلَا تَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: وَقْتُ أَدَائِهَا يَوْمُ الْفِطْرِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ وَإِذَا لَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ سَقَطَتْ. وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ إنَّ هَذَا حَقٌّ مَعْرُوفٌ بِيَوْمِ الْفِطْرِ فَيَخْتَصُّ أَدَاؤُهُ بِهِ كَالْأُضْحِيَّةِ. وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ إنَّ الْأَمْرَ بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ فَيَجِبُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ غَيْرَ عَيْنٍ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ فِعْلًا، أَوْ بِآخِرِ الْعُمُرِ كَالْأَمْرِ بِالزَّكَاةِ، وَالْعُشْرِ، وَالْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا كَمَا فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمُوَسَّعَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَخْرُجَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا كَانَ يَفْعَلُ وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ» فَإِذَا أَخْرَجَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى اسْتَغْنَى الْمِسْكِينُ عَنْ السُّؤَالِ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ فَيُصَلِّي فَارِغَ الْقَلْبِ مُطْمَئِنَّ النَّفْسِ. [فَصْلٌ رُكْن صَدَقَة الْفِطْر] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُهَا فَالتَّمْلِيكُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَدَّوْا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» الْحَدِيثَ، وَالْأَدَاءُ هُوَ التَّمْلِيكُ فَلَا يَتَأَدَّى بِطَعَامِ الْإِبَاحَةِ وَبِمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ أَصْلًا وَلَا بِمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ مُطْلَقٍ، وَالْمَسَائِلُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهِ ذَكَرْنَاهَا فِي زَكَاةِ الْمَالِ وَشَرَائِطِ الرُّكْنِ أَيْضًا مَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ غَيْرَ أَنَّ إسْلَامَ الْمُؤَدَّى إلَيْهِ هَهُنَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْأَدَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيِّ شَرْطٌ وَلَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ وَلَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى الْحَرْبِيِّ

فصل مكان أداء صدقة الفطر

الْمُسْتَأْمَنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا فِي زَكَاةِ الْمَالِ وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مَا يَجِبُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْر عَنْ إنْسَانٍ وَاحِدٍ جَمَاعَةً مَسَاكِينَ وَيُعْطَى مَا يَجِبُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِسْكِينًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ زَكَاةٌ فَجَازَ جَمْعُهَا وَتَفْرِيقُهَا كَزَكَاةِ الْمَالِ وَلَا يَبْعَثُ الْإِمَامُ عَلَيْهَا سَاعِيًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَبْعَثْ وَلَنَا فِيهِ قُدْوَةٌ. [فَصْلٌ مَكَانُ أَدَاء صَدَقَة الْفِطْر] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَكَانُ الْأَدَاءِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُسْتَحَبُّ فِيهِ إخْرَاجُ الْفِطْرَةِ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُؤَدِّي زَكَاةَ الْمَالِ حَيْثُ الْمَالِ وَيُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَبِيدِهِ حَيْثُ هُوَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ يُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ حَيْثُ هُوَ وَعَنْ عَبِيدِهِ حَيْثُ هُمْ حَكَى الْحَاكِمُ رُجُوعَهُ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةِ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَأَمَّا زَكَاةُ الْمَالِ فَحَيْثُ الْمَالِ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا وَيُكْرَهُ إخْرَاجُهَا إلَى أَهْلِ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَّا رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُخْرِجَهَا إلَى قَرَابَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَيَبْعَثَهَا إلَيْهِمْ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ أَحَدُ نَوْعَيْ الزَّكَاةِ ثُمَّ زَكَاةُ الْمَالِ تُؤَدَّى حَيْثُ الْمَالُ فَكَذَا زَكَاةُ الرَّأْسِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِمُحَمَّدٍ وَاضِحٌ وَهُوَ أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْمُؤَدِّي لَا بِمَالِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ مَالُهُ لَا تَسْقُطُ الصَّدَقَةُ. وَأَمَّا زَكَاةُ الْمَالِ فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ النِّصَابُ تَسْقُطُ؟ فَإِذَا تَعَلَّقَتْ الصَّدَقَةُ بِذِمَّةِ الْمُؤَدِّي اُعْتُبِرَ مَكَانُ الْمُؤَدِّي وَلَمَّا تَعَلَّقَتْ الزَّكَاةُ بِالْمَالِ اُعْتُبِرَ مَكَانُ الْمَالِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الصَّدَقَةِ أَنَّهُ يُؤَدَّى عَنْ الْعَبْدِ الْحَيِّ حَيْثُ هُوَ وَعَنْ الْمَيِّتِ حَيْثُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْعَبْدِ الْحَيِّ عَنْهُ فَيُعْتَبَرُ مَكَانُهُ وَفِي الْمَيِّتِ لَا فَيُعْتَبَرُ مَكَانُ الْمَوْلَى. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُسْقِطُ صَدَقَة الْفِطْر بَعْدَ الْوُجُوبِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ فَمَا يُسْقِطُ زَكَاةَ الْمَالِ يُسْقِطُهَا إلَّا هَلَاكُ الْمَالِ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِهِ بِخِلَافِ زَكَاةِ الْمَالِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ وَذِمَّتُهُ قَائِمَةٌ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَالِ فَكَانَ الْوَاجِبُ قَائِمًا، وَالزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ فَتَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الصَّوْمِ] [فَصْل أَنْوَاعِ الصِّيَامِ] (كِتَابُ الصَّوْمِ) . الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الصِّيَامِ، وَصِفَةِ كُلِّ نَوْعٍ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِهَا، وَفِي بَيَانِ أَرْكَانِهَا، وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ مَا يُفْسِدُهَا وَفِي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الصَّوْمِ الْمُؤَقَّتِ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسَنُّ وَمَا يُسْتَحَبُّ لِلصَّائِمِ وَمَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالصَّوْمُ فِي الْقِسْمَةِ الْأُولَى وَيَنْقَسِمُ إلَى: لُغَوِيٍّ، وَشَرْعِيٍّ، أَمَّا اللُّغَوِيُّ: فَهُوَ الْإِمْسَاكُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ فَيُسَمَّى الْمُمْسِكُ عَنْ الْكَلَامِ وَهُوَ الصَّامِتُ صَائِمًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] أَيْ صَمْتًا وَيُسَمَّى الْفَرَسُ الْمُمْسِكُ عَنْ الْعَلَفِ صَائِمًا قَالَ الشَّاعِرُ: خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا أَيْ: مُمْسِكَةٌ عَنْ الْعَلَفِ، وَغَيْرُ مُمْسِكَةٍ. وَأَمَّا الشَّرْعِيُّ: فَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ: الْأَكْلُ، وَالشُّرْبُ، وَالْجِمَاعُ، بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ نَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ الشَّرْعِيُّ يَنْقَسِمُ إلَى: فَرْضٍ، وَوَاجِبٍ، وَتَطَوُّعٍ، وَالْفَرْضُ يَنْقَسِمُ إلَى: عَيْنٍ، وَدَيْنٍ، فَالْعَيْنُ: مَا لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، إمَّا بِتَعْيِينِ اللَّهِ تَعَالَى كَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ خَارِجَ رَمَضَانَ، لِأَنَّ خَارِجَ رَمَضَانَ مُتَعَيَّنٌ لِلنَّفْلِ شَرْعًا، وَإِمَّا بِتَعْيِينِ الْعَبْدِ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّةِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] وَقَوْلُهُ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} [البقرة: 183] أَيْ: فُرِضَ، وقَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَيّهَا النَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّةِ شَهْرِ رَمَضَانَ، لَا يَجْحَدُهَا إلَّا كَافِرٌ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّوْمَ وَسِيلَةٌ إلَى شُكْرِ النِّعْمَةِ إذْ هُوَ كَفُّ النَّفْسِ عَنْ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْجِمَاعِ، وَإِنَّهَا

مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَعْلَاهَا، وَالِامْتِنَاعُ عَنْهَا زَمَانًا مُعْتَبَرًا يُعَرِّفُ قَدْرَهَا، إذْ النِّعَمُ مَجْهُولَةٌ فَإِذَا فُقِدَتْ عُرِفَتْ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى قَضَاءِ حَقِّهَا بِالشُّكْرِ، وَشُكْرُ النِّعَمِ فَرْضٌ عَقْلًا، وَشَرْعًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الرَّبُّ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ فِي آيَةِ الصِّيَامِ {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 52] ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى التَّقْوَى لِأَنَّهُ إذَا انْقَادَتْ نَفْسُهُ لِلِامْتِنَاعِ عَنْ الْحَلَالِ طَمَعًا فِي مَرْضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَوْفًا مِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ فَأَوْلَى أَنْ تَنْقَادَ لِلِامْتِنَاعِ عَنْ الْحَرَامِ، فَكَانَ الصَّوْمُ سَبَبًا لِلِاتِّقَاءِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّهُ فَرْضٌ وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ آيَةِ الصَّوْمِ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي الصَّوْمِ قَهْرَ الطَّبْعِ، وَكَسْرَ الشَّهْوَةِ، لِأَنَّ النَّفْسَ إذَا شَبِعَتْ تَمَنَّتْ الشَّهَوَاتِ، وَإِذَا جَاعَتْ امْتَنَعَتْ عَمَّا تَهْوَى، وَلِذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ خَشِيَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ» فَكَانَ الصَّوْمُ ذَرِيعَةً إلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ الْمَعَاصِي وَإِنَّهُ فَرْضٌ. وَأَمَّا صَوْمُ الدَّيْنِ: فَمَا لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، كَصَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَصَوْمِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ، وَالْيَمِينِ، وَالْإِفْطَارِ، وَصَوْمِ الْمُتْعَةِ، وَصَوْمِ فِدْيَةِ الْحَلْقِ، وَصَوْمِ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَصَوْمِ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ، وَصَوْمِ الْيَمِينِ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ شَهْرًا، ثُمَّ بَعْضُ هَذِهِ الصِّيَامَاتِ الْمَفْرُوضَةِ مِنْ الْعَيْنِ، وَالدَّيْنِ مُتَتَابِعٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مُتَتَابِعٍ، بَلْ صَاحِبُهَا فِيهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَابَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ، أَمَّا الْمُتَتَابِعُ: فَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ، وَالْإِفْطَارِ، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عِنْدَنَا، أَمَّا صَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ: فَلِأَنَّ التَّتَابُعَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 92] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] . وَأَمَّا صَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: فَقَدْ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ) . وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: التَّتَابُعُ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَمَوْضِعُ الْمَسْأَلَةِ كِتَابُ الْكَفَّارَاتِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ بِالْجِمَاعِ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ: صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. وَأَمَّا صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ: فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِصَوْمِ الشَّهْرِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] ، وَالشَّهْرُ مُتَتَابِعٌ لِتَتَابُعِ أَيَّامِهِ، فَيَكُونُ صَوْمُهُ مُتَتَابِعًا ضَرُورَةً، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ الْمَنْذُورُ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، بِأَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرَ رَجَبٍ، يَكُونُ مُتَتَابِعًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَتَابِعِ: فَصَوْمُ قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَصَوْمُ الْمُتْعَةِ، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْحَلْقِ، وَصَوْمُ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَصَوْمُ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ، وَصَوْمُ الْيَمِينِ، لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ذُكِرَ مُطْلَقًا عَنْ صِفَةِ التَّتَابُعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أَيْ: فَأَفْطَرَ فَلْيَصُمْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي صَوْمِ الْمُتْعَةِ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الصِّيَامَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّتَابُعِ. وَكَذَا النَّاذِرُ، وَالْحَالِفُ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ، وَالْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ، ذُكِرَ الصَّوْمُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّتَابُعِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي صَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ: إنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّتَابُعُ، لَا يَجُوزُ إلَّا مُتَتَابِعًا، وَاحْتَجُّوا بِقِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَرَأَ الْآيَةَ " فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ " فَيُزَادُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَصْفُ التَّتَابُعِ بِقِرَاءَتِهِ كَمَا زِيدَ وَصْفُ التَّتَابُعِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ وَجَبَ مُتَتَابِعًا فَكَذَا الْقَضَاءُ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نَحْوِ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ غَيْرَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إنَّهُ يُتَابِعُ لَكِنَّهُ إنْ فَرَّقَ جَازَ وَهَذَا مِنْهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّتَابُعَ أَفْضَلُ وَلَوْ كَانَ التَّتَابُعُ شَرْطًا لَمَا احْتَمَلَ الْخَفَاءَ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ وَلَمَا احْتَمَلَ مُخَالَفَتَهُمْ إيَّاهُ فِي ذَلِكَ لَوْ عَرَفُوهُ. وَبِهَذَا الْإِجْمَاعِ تَبَيَّنَ أَنَّ قِرَاءَةَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ لَوْ ثَبَتَتْ فَهِيَ عَلَى النَّدْبِ، وَالِاسْتِحْبَابِ دُونَ الِاشْتِرَاطِ، إذْ لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً وَصَارَتْ كَالْمَتْلُوِّ وَكَانَ الْمُرَادُ بِهَا الِاشْتِرَاطَ لَمَا احْتَمَلَ الْخِلَافَ مِنْ هَؤُلَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، بِخِلَافِ ذِكْرِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، فَصَارَ كَالْمَتْلُوِّ فِي حَقِّ الْعَمَلِ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ وَجَبَ مُتَتَابِعًا، فَنَقُولُ: التَّتَابُعُ فِي الْأَدَاءِ مَا وَجَبَ

فصل شرائط أنواع الصيام

لِمَكَانِ الصَّوْمِ، لِيُقَالَ: أَيْنَمَا كَانَ الصَّوْمُ كَانَ التَّتَابُعُ شَرْطًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ لِأَجْلِ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِمْ صَوْمُ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ وَلَا يُتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي الشَّهْرِ كُلِّهِ إلَّا بِصِفَةِ التَّتَابُعِ، فَكَانَ لُزُومُ التَّتَابُعِ لِضَرُورَةِ تَحْصِيلِ الصَّوْمِ فِي هَذَا الْوَقْتِ. وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ: أَنَّ كُلَّ صَوْمٍ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالتَّتَابُعِ لِأَجْلِ الْفِعْلِ وَهُوَ الصَّوْمُ وَيَكُونُ التَّتَابُعُ شَرْطًا فِيهِ حَيْثُ دَارَ الْفِعْلُ، وَكُلُّ صَوْمٍ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالتَّتَابُعِ لِأَجْلِ الْوَقْتِ فَفَوْتُ ذَلِكَ الْوَقْتِ يُسْقِطُ التَّتَابُعَ وَإِنْ بَقِيَ الْفِعْلُ وَاجِبَ الْقَضَاءِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَعْبَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَصُومَ شَعْبَانَ مُتَتَابِعًا، لَكِنَّهُ إنْ فَاتَ شَيْءٌ مِنْهُ يَقْضِي إنْ شَاءَ مُتَتَابِعًا، وَإِنْ شَاءَ مُتَفَرِّقًا، لِأَنَّ التَّتَابُعَ هَهُنَا لِمَكَانِ الْوَقْتِ، فَيَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا، يَلْزَمُهُ أَنْ يَصُومَ مُتَتَابِعًا، لَا يَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ إلَّا بِهِ، وَلَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا فِي وَسَطِ الشَّهْرِ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ لِأَنَّ التَّتَابُعَ ذُكِرَ لِلصَّوْمِ فَكَانَ الشَّرْطُ هُوَ وَصْلَ الصَّوْمِ بِعَيْنِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ أَبَدًا، وَعَلَى هَذَا صَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ، وَالْيَمِينِ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ لِعَيْنِ الصَّوْمِ لَا يَسْقُطُ أَبَدًا إلَّا بِالْأَدَاءِ مُتَتَابِعًا، وَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا وَجَبَ التَّتَابُعُ لِأَجْلِ نَفْسِ الصَّوْمِ فَمَا لَمْ يُؤَدِّهِ عَلَى وَصْفِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ وَإِذَا وَجَبَ لِضَرُورَةِ قَضَاءِ حَقِّ الْوَقْتِ، أَوْ شَرْطِ التَّتَابُعِ لَوَجَبَ الِاسْتِقْبَالُ، فَيَقَعُ جَمِيعُ الصَّوْمِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَ بِمُرَاعَاةِ حَقِّهِ بِالصَّوْمِ فِيهِ، وَلَوْ لَمْ يَجِبْ لَوَقَعَ عَامَّةُ الصَّوْمِ فِيهِ، وَبَعْضُهُ فِي غَيْرِهِ، فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى قَضَاءِ حَقِّ الْوَقْتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ لِمَا قُلْنَا مِنْ قَضَاءِ حَقِّ الْوَقْتِ: أَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ فِي بَعْضِهِ لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ وَلَوْ كَانَ التَّتَابُعُ شَرْطًا لِلصَّوْمِ لَوَجَبَ كَمَا فِي الصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ بِصِفَةِ التَّتَابُعِ، وَكَمَا فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْيَمِينِ، وَالْقَتْلِ، وَكَذَا لَوْ أَفْطَرَ أَيَّامًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ ثُمَّ بَرِئَ فِي الشَّهْرِ وَصَامَ الْبَاقِيَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَصْلُ الْبَاقِي بِشَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى إذَا مَضَى يَوْمُ الْفِطْرِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ عَنْ الْقَضَاءِ مُتَّصِلًا بِيَوْمِ الْفِطْرِ، كَمَا فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالْإِفْطَارِ، إذَا أَفْطَرَتْ الْمَرْأَةُ بِسَبَبِ الْحَيْضِ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ خُلُوُّ شَهْرٍ عَنْهُ، إنَّهَا كَمَا طَهُرَتْ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَصِلَ، وَتُتَابِعَ، حَتَّى لَوْ تَرَكَتْ يَجِبُ عَلَيْهَا الِاسْتِقْبَالُ، وَهَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَصُومَ شَوَّالًا مُتَّصِلًا وَبَيْنَ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا آخَرَ. فَدَلَّ أَنَّ التَّتَابُعَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لِأَجْلِ الصَّوْمِ بَلْ لِأَجْلِ الْوَقْتِ، فَيَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا الصَّوْمُ الْوَاجِبُ: فَصَوْمُ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، وَصَوْمُ قَضَائِهِ عِنْدَ الْإِفْسَادِ، وَصَوْمُ الِاعْتِكَافِ عِنْدَنَا، أَمَّا مَسْأَلَةُ وُجُوبِ الصَّوْمِ بِالشُّرُوعِ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ بِالْإِفْسَادِ: فَقَدْ مَضَتْ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا وُجُوبُ صَوْمِ الِاعْتِكَافِ: فَنَذْكُرُهُ فِي الِاعْتِكَافِ، وَأَمَّا التَّطَوُّعُ: فَهُوَ صَوْمُ النَّفْلِ خَارِجَ رَمَضَانَ قَبْلَ الشُّرُوعِ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ أَقْسَامِ الصِّيَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ أَنْوَاع الصِّيَام] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُهَا فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَعُمُّ الصِّيَامَاتِ كُلَّهَا: وَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ، وَنَوْعٌ يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ: وَهُوَ شَرْطُ الْوُجُوبِ، أَمَّا الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ فَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الصَّائِمِ وَهُوَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ الصَّوْمِ: وَهُوَ شَرْطُ الْمَحَلِّيَّةِ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ الصَّوْمِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى أَصْلِ الْوَقْتِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى وَصْفِهِ مِنْ الْخُصُوصِ، وَالْعُمُومِ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى أَصْلِ الْوَقْتِ: فَهُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَذَلِكَ مِنْ حِينِ يَطْلُعُ الْفَجْرُ الثَّانِي إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَلَا يَجُوزُ الصَّوْمُ فِي اللَّيْلِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْجِمَاعَ، وَالْأَكْلَ، وَالشُّرْبَ فِي اللَّيَالِي إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالصَّوْمِ إلَى اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] إلَى قَوْلِهِ: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] أَيْ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ. هَكَذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ، وَالْأَسْوَدُ هُمَا: بَيَاضُ النَّهَارِ، وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ» ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ فَكَانَ هَذَا تَعْيِينًا: لِلَّيَالِيِ الْفِطْرُ، وَالنَّهَارُ لِلصَّوْمِ، فَكَانَ مَحَلُّ الصَّوْمِ هُوَ الْيَوْمُ لَا اللَّيْلُ، وَلِأَنَّ الْحِكْمَةَ الَّتِي لَهَا شُرِعَ الصَّوْمُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا: مِنْ التَّقْوَى، وَتَعْرِيفِ قَدْرِ النِّعَمِ، الْحَامِلُ عَلَى شُكْرِهَا لَا يَحْصُلُ بِالصَّوْمِ فِي اللَّيْلِ لَانَ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِفِعْلٍ شَاقٍّ عَلَى الْبَدَنِ مُخَالِفٍ لِلْعَادَةِ وَهَوَى النَّفْسِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالْإِمْسَاكِ فِي حَالَةِ النَّوْمِ فَلَا يَكُونُ اللَّيْلُ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى وَصْفِهِ مِنْ الْخُصُوصِ، وَالْعُمُومِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَمَّا صَوْمُ التَّطَوُّعِ: فَالْأَيَّامُ كُلُّهَا مَحَلٌّ لَهُ عِنْدَنَا، وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَجُوزُ

صَوْمُ التَّطَوُّعِ خَارِجَ رَمَضَانَ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» وَقَوْلِهِ: «مَنْ صَامَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ: الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ، فَكَأَنَّمَا صَامَ السَّنَةَ كُلَّهَا» فَقَدْ جَعَلَ السَّنَةَ كُلَّهَا مَحَلًّا لِلصَّوْمِ عَلَى الْعُمُومِ. وَقَوْلُهُ «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ» جَعَلَ الدَّهْرَ كُلَّهُ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ عَنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَقَوْلُهُ: «الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ، إنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْ» وَلِأَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي لَهَا كَانَ الصَّوْمُ حَسَنًا وَعِبَادَةً وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا مَوْجُودَةٌ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ فَكَانَتْ الْأَيَّامُ كُلُّهَا مَحَلًّا لِلصَّوْمِ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ الصَّوْمُ فِي بَعْضِهَا، وَيُسْتَحَبُّ فِي الْبَعْضِ. أَمَّا الصِّيَامُ فِي الْأَيَّامِ الْمَكْرُوهَةِ فَمِنْهَا: صَوْمُ يَوْمَيْ الْعِيدِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاحْتَجَّ بِالنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ الصَّوْمِ فِيهَا وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» . وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ وَلِأَنَّهُ عَيَّنَ هَذِهِ الْأَيَّامَ لِأَضْدَادِ الصَّوْمِ فَلَا تَبْقَى مَحَلًّا لِلصَّوْمِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ النُّصُوصِ، وَالْمَعْقُولِ يَقْتَضِي جَوَازَ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَيُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَيُحْمَلُ التَّعْيِينُ عَلَى النَّدْبِ، وَالِاسْتِحْبَابِ، تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَعِنْدَنَا يُكْرَهُ الصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَالْمُسْتَحَبُّ هُوَ الْإِفْطَارُ. وَمِنْهَا إتْبَاعُ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ كَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُتْبِعُوا رَمَضَانَ صَوْمًا خَوْفًا أَنْ يَلْحَقَ ذَلِكَ بِالْفَرْضِيَّةِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يُتْبَعَ رَمَضَانُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ، وَالْعِلْمِ يَصُومُهَا وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ، وَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ، وَأَنْ يُلْحِقَ أَهْلُ الْجَفَاءِ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَالْإِتْبَاعُ الْمَكْرُوهُ هُوَ: أَنْ يَصُومَ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَصُومَ بَعْدَهُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ. فَأَمَّا إذَا أَفْطَرَ يَوْمَ الْعِيدِ ثُمَّ صَامَ بَعْدَهُ سِتَّةَ أَيَّامٍ: فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَسُنَّةٌ. وَمِنْهَا صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ، أَوْ بِنِيَّةٍ مُتَرَدِّدَةٍ، أَمَّا بِنِيَّةِ رَمَضَانَ فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا» وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ صَوْمِ الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ وَلِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَزِيدَ فِي رَمَضَانَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مَنْ رَمَضَانَ ثُمَّ أَقْضِيَهُ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ أَزِيدَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَأَمَّا النِّيَّةُ الْمُتَرَدِّدَةُ: بِأَنْ نَوَى أَنْ يَكُونَ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ إنْ كَانَ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَكُونُ تَطَوُّعًا فَلِأَنَّ النِّيَّةَ الْمُتَرَدِّدَةَ لَا تَكُونُ نِيَّةً حَقِيقَةً لِأَنَّ النِّيَّةَ تَعْيِينٌ لِلْعَمَلِ، وَالتَّرَدُّدُ يَمْنَعُ التَّعْيِينَ. وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ: فَلَا يُكْرَهُ عِنْدَنَا وَيُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا» ، اسْتَثْنَى التَّطَوُّعَ، وَالْمُسْتَثْنَى يُخَالِفُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ: فَالْمُرَادُ مِنْهُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ عَنْ رَمَضَانَ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ عَنْ رَمَضَانَ وَقَالَ: مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» أَيْ: صَامَ عَنْ رَمَضَانَ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَصُومَ فِيهِ تَطَوُّعًا، أَوْ يُفْطِرَ، أَوْ يَنْتَظِرَ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَانَا يَصُومَانِ يَوْمَ الشَّكِّ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ وَيَقُولَانِ لَأَنْ نَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ نُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، فَقَدْ صَامَا وَنَبَّهَا عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَعْبَانَ، فَلَوْ صَامَ لَدَارَ الصَّوْمُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَوْ أَفْطَرَ لَدَارَ الْفِطْرُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي رَمَضَانَ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي شَعْبَانَ، فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الصَّوْمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِفْطَارُ أَفْضَلُ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ وَكَانَ يَضَعُ كُوزًا لَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الشَّكِّ، فَإِذَا جَاءَهُ مُسْتَفْتٍ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ أَفْتَاهُ بِالْإِفْطَارِ وَشَرِبَ مِنْ الْكُوزِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُسْتَفْتِي، وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْتَى بِالصَّوْمِ لَاعْتَادَهُ النَّاسُ فَيَخَافُ أَنْ يُلْحَقَ بِالْفَرِيضَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُصَامُ سِرًّا وَلَا يُفْتَى بِهِ الْعَوَامُّ لِئَلَّا يَظُنُّهُ الْجُهَّالُ زِيَادَةً عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ. هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اُسْتُفْتِيَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ فَأَفْتَى بِالْفِطْرِ ثُمَّ قَالَ لِلْمُسْتَفْتِي: تَعَالَ فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ أَخْبَرَهُ سِرًّا فَقَالَ: إنِّي صَائِمٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَنْتَظِرُ فَلَا يَصُومُ وَلَا يُفْطِرُ فَإِنْ تَبَيَّنَ

قَبْلَ الزَّوَالِ، أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ عَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَفْطَرَ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَصْبِحُوا يَوْمَ الشَّكِّ مُفْطِرِينَ مُتَلَوِّمِينَ أَيْ: غَيْرَ آكِلِينَ وَلَا عَازِمِينَ عَلَى الصَّوْمِ، إلَّا إذَا كَانَ صَائِمًا قَبْلَ ذَلِكَ» فَوَصَلَ يَوْمَ الشَّكِّ بِهِ. وَمِنْهَا أَنْ يَسْتَقْبِلَ الشَّهْرَ بِيَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ بِأَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ، فَإِنْ وَافَقَ ذَلِكَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَتَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بِيَوْمٍ وَلَا بِيَوْمَيْنِ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ» . وَلِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الشَّهْرِ بِيَوْمٍ، أَوْ بِيَوْمَيْنِ يُوهِمُ الزِّيَادَةَ عَلَى الشَّهْرِ وَلَا كَذَلِكَ إذَا وَافَقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقْبِلْ الشَّهْرَ وَلَيْسَ فِيهِ وَهْمُ الزِّيَادَةِ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصِلُ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ» . وَمِنْهَا صَوْمُ الْوِصَالِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ» وَرُوِيَ أَنَّهُ «نَهَى عَنْ صَوْمِ الْوِصَالِ» فَسَّرَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْوِصَالَ بِصَوْمِ يَوْمَيْنِ لَا يُفْطِرُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْفِطْرَ بَيْنَهُمَا يَحْصُلُ بِوُجُودِ زَمَانِ الْفِطْرِ، وَهُوَ اللَّيْلُ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ أَكَلَ، أَوْ لَمْ يَأْكُلْ» وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْوِصَالِ: أَنْ يَصُومَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ السَّنَةِ دُونَ لَيْلَتِهِ، وَمَعْنَى الْكَرَاهَةِ فِيهِ: أَنَّ ذَلِكَ يُضْعِفُهُ عَنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ وَيُقْعِدُهُ عَنْ الْكَسْبِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْوِصَالِ وَقِيلَ لَهُ: إنَّك تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ، إنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» أَشَارَ إلَى الْمُخَصِّصِ وَهُوَ اخْتِصَاصُهُ بِفَضْلِ قُوَّةِ النُّبُوَّةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: مَنْ صَامَ سَائِرَ الْأَيَّامِ وَأَفْطَرَ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَالْأَضْحَى وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ نَهْيِ صَوْمِ الْوِصَالِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا عِنْدِي، كَمَا قَالَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا قَدْ صَامَ الدَّهْرَ كَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ لَيْسَ لِمَكَانِ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ بَلْ لِمَا يُضْعِفُهُ عَنْ الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ وَيُقْعِدُهُ عَنْ الْكَسْبِ وَيُؤَدِّي إلَى التَّبَتُّلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ: فَفِي حَقِّ غَيْرِ الْحَاجِّ مُسْتَحَبٌّ، لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالنَّدْبِ إلَى صَوْمِهِ، وَلِأَنَّ لَهُ فَضِيلَةً عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَيَّامِ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْحَاجِّ إنْ كَانَ لَا يُضْعِفُهُ عَنْ الْوُقُوفِ، وَالدُّعَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقُرْبَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ يُضْعِفُهُ عَنْ ذَلِكَ يُكْرَهُ لِأَنَّ فَضِيلَةَ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَيُسْتَدْرَكُ عَادَةً، فَأَمَّا فَضِيلَةُ الْوُقُوفِ، وَالدُّعَاءِ فِيهِ لَا يُسْتَدْرَكُ فِي حَقِّ عَامَّةِ النَّاسِ عَادَةً إلَّا فِي الْعُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَكَانَ إحْرَازُهَا أَوْلَى وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ صَوْمَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِانْفِرَادِهِ، وَكَذَا يَوْمُ الِاثْنَيْنِ، وَالْخَمِيسِ، وَقَالَ عَامَّتُهُمْ: إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ مِنْ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ فَكَانَ تَعْظِيمُهَا بِالصَّوْمِ مُسْتَحَبًّا، وَيُكْرَهُ صَوْمُ يَوْمِ السَّبْتِ بِانْفِرَادِهِ، لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِالْيَهُودِ، وَكَذَا صَوْمُ يَوْمِ النَّيْرُوزِ، وَالْمِهْرَجَانِ، لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِالْمَجُوسِ، وَكَذَا صَوْمُ الصَّمْتِ وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ الطَّعَامِ، وَالْكَلَامِ جَمِيعًا، لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ» وَلِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِالْمَجُوسِ، وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ صَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَحْدَهُ لِمَكَانِ التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ، وَلَمْ يَكْرَهْهُ عَامَّتُهُمْ، لِأَنَّهُ مِنْ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ، فَيُسْتَحَبُّ اسْتِدْرَاكُ فَضِيلَتِهَا بِالصَّوْمِ. وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ: فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ صَوْمُ سَيِّدِنَا دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلِأَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ، إذْ الطَّبْعُ أَلُوفٌ، وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا» أَيْ: أَشَقُّهَا عَلَى الْبَدَنِ، وَكَذَا صَوْمُ الْأَيَّامِ الْبِيضِ لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ فِيهِ، مِنْهَا مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ فَكَأَنَّمَا صَامَ السَّنَةَ كُلَّهَا» . " وَأَمَّا صَوْمُ الدَّيْنِ: فَالْأَيَّامُ كُلُّهَا مَحَلٌّ لَهُ وَيَجُوزُ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ إلَّا سِتَّةَ أَيَّامٍ يَوْمَيْ الْفِطْرِ، وَالْأَضْحَى، وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَيَوْمَ الشَّكِّ " أَمَّا مَا سِوَى صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ فَلِوُرُدِ النَّهْيِ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِهِ، أَوْ لِغَيْرِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ يُوجَدُ بِوُجُودِ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِيهِ، وَالْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ صَوْمٌ كَامِلٌ فَلَا يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ فِي صَوْمِ الْمُتْعَةِ، إنَّهُ يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الصِّيَامَاتِ كُلَّهَا، فَيُوجِبُ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِيهِ، وَالْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ كَامِلٌ فَلَا يَنُوبُ النَّاقِصُ عَنْهُ. وَأَمَّا يَوْمُ الشَّكِّ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَعْبَانَ فَإِنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ يَكُونُ قَضَاءً، وَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ لَا يَكُونُ قَضَاءً، فَلَا يَكُونُ قَضَاءً مَعَ الشَّكِّ وَهَلْ يَصِحُّ النَّذْرُ بِصَوْمِ يَوْمَيْ

الْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ؟ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَصِحُّ نَذْرُهُ لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُفْطِرَ فِيهَا وَيَصُومَ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ، وَلَوْ صَامَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ يَكُونُ مُسِيئًا، لَكِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ النَّذْرُ لِأَنَّهُ، أَوْجَبَ نَاقِصًا وَأَدَّاهُ نَاقِصًا، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى جَوَازِ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَعَدَمِ جَوَازِهِ، وَقَدْ مَرَّتْ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ شَرَعَ فِي صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا: إنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعِ سَبَبُ الْوُجُوبِ كَالنَّذْرِ فَإِذَا وَجَبَ الْمُضِيُّ فِيهِ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ، كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الشُّرُوعَ لَيْسَ سَبَبَ الْوُجُوبِ وَضْعًا، وَإِنَّمَا الْوُجُوبُ يَثْبُتُ ضَرُورَةً صِيَانَةً لِلْمُؤَدَّى عَنْ الْبُطْلَانِ، وَالْمُؤَدَّى هَهُنَا لَا يَجِبُ صِيَانَتُهُ لِمَكَانِ النَّهْيِ، فَلَا يَجِبُ الْمُضِيُّ فِيهِ، فَلَا يُضْمَنُ بِالْإِفْسَادِ، وَلَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتٍ مَكْرُوهَةٍ فَأَفْسَدَهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِخِلَافِ الصَّوْمِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوهَ الْفَرْقِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ،. وَأَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ: فَوَقْتُهُ شَهْرُ رَمَضَانَ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرُهُ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ وَقْتِ صَوْمِ رَمَضَانَ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يُعْرَفُ بِهِ وَقْتُهُ، أَمَّا الْأُوَلُ: فَوَقْتُ صَوْمِ رَمَضَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] أَيْ: فَلْيَصُمْ فِي الشَّهْرِ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَصُومُوا شَهْرَكُمْ» أَيْ: فِي شَهْرِكُمْ لِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يُصَامُ وَإِنَّمَا يُصَامُ فِيهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ بَيَانُ مَا يُعْرَفُ بِهِ وَقْتُهُ، فَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً يُعْرَفُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَغَيِّمَةً يُعْرَفُ بِإِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صُومُوا» . وَكَذَلِكَ إنْ غُمَّ عَلَى النَّاسِ هِلَالُ شَوَّالٍ أَكْمَلُوا عِدَّةَ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الشَّهْرِ وَكَمَالُهُ، فَلَا يُتْرَكُ هَذَا الْأَصْلُ إلَّا بِيَقِينٍ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ، أَنَّ مَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ، فَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَرَأَى النَّاسُ الْهِلَالَ صَامُوا وَإِنْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مَا لَمْ تَشْهَدْ جَمَاعَةٌ يَقَعُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ، فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَمْ يُقَدِّرْ فِي ذَلِكَ تَقْدِيرًا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَدَّرَ عَدَدَ الْجَمَاعَةِ بِعَدَدِ الْقَسَامَةِ خَمْسِينَ رَجُلًا، وَعَنْ خَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ أَنَّهُ قَالَ: خَمْسُمِائَةٍ، بِبَلْخٍ قَلِيلٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ كُلِّ مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ وَاحِدٌ، أَوْ اثْنَانِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَالَ فِي قَوْلٍ آخَرَ: تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ لَا مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ وَلَوْ كَانَ شَهَادَةً لَمَا قُبِلَ، لِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ فِي الشَّهَادَاتِ وَإِذَا كَانَ إخْبَارًا لَا شَهَادَةً فَالْعَدَدُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الدِّيَانَاتِ وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فَقَطْ، كَمَا فِي رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ عَنْ طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ إنَّمَا يُقْبَلُ فِيمَا لَا يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ وَهَهُنَا الظَّاهِرُ يُكَذِّبُهُ لِأَنَّ تَفَرُّدَهُ بِالرُّؤْيَةِ مَعَ مُسَاوَاةِ جَمَاعَةٍ لَا يُحْصَوْنَ إيَّاهُ فِي الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى الرُّؤْيَةِ وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ دَلِيلُ كَذِبِهِ، أَوْ غَلَطِهِ فِي الرُّؤْيَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ التَّسَاوِيَ فِي الرُّؤْيَةِ لِجَوَازِ أَنَّ قِطْعَةً مِنْ الْغَيْمِ انْشَقَّتْ فَظَهْرَ الْهِلَالُ فَرَآهُ وَاحِدٌ ثُمَّ اسْتَتَرَ بِالْغَيْمِ مِنْ سَاعَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ غَيْرُهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ الْمِصْرِ، أَوْ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ، وَشَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ تُقْبَلُ، وَجْهُ رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ الْمَطَالِعَ تَخْتَلِفُ بِالْمِصْرِ وَخَارِجَ الْمِصْرِ فِي الظُّهُورِ، وَالْخَفَاءِ لِصَفَاءِ الْهَوَاءِ خَارِجَ الْمِصْرِ فَتَخْتَلِفُ الرُّؤْيَةُ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَة أَنَّ الْمَطَالِعَ لَا تَخْتَلِفُ إلَّا عِنْدَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ الْفَاحِشَةِ، وَعَلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي أَخْبَرَ أَنْ يَصُومَ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْسَانُ يُؤَاخَذُ بِمَا عِنْدَهُ فَإِنْ شَهِدَ فَرَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ ثُمَّ أَفْطَرَ يَقْضِي لِأَنَّهُ أَفْسَدَ صَوْمَ رَمَضَانَ فِي زَعْمِهِ فَيُعَامَلُ بِمَا عِنْدَهُ، وَهَلْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا تَلْزَمُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَلْزَمُهُ إذَا أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ، وَإِنْ أَفْطَرَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ فَلَا رِوَايَةَ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: تَجِبُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَجِبُ، وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إنَّهُ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْعِلْمِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الرُّؤْيَةُ وَعَدَمُ عِلْمِ غَيْرِهِ لَا يَقْدَحُ فِي عِلْمِهِ

فَيُؤَاخَذُ بِعِلْمِهِ، فَيُوجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، وَلِهَذَا، أَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمَ. (وَلَنَا) أَنَّهُ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ هُوَ مِنْ شَعْبَانَ، وَإِفْطَارُ يَوْمٍ هُوَ مِنْ شَعْبَانَ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ رَمَضَانَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالرُّؤْيَةِ إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَلَمْ تَثْبُتْ رُؤْيَتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا: أَنَّ تَفَرُّدَهُ بِالرُّؤْيَةِ مَعَ مُسَاوَاةِ عَامَّةِ النَّاسِ إيَّاهُ فِي التَّفَقُّدِ مَعَ سَلَامَةِ الْآلَاتِ دَلِيلُ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الرُّؤْيَةُ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُ الْيَوْمِ مِنْ رَمَضَانَ، فَيَبْقَى مِنْ شَعْبَانَ، وَالْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ بِالْإِفْطَارِ فِي يَوْمٍ هُوَ مِنْ شَعْبَانَ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا وُجُوبُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ فَمَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا قَالُوا: لَا رِوَايَةَ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ أَنَّهُ يَصُومُ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ احْتِيَاطًا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إنَّهُ لَا يَصُومُ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ، وَلَوْ صَامَ هَذَا الرَّجُلُ وَأَكْمَلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَمْ يُرَ هِلَالُ شَوَّالٍ فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ، وَإِنْ زَادَ صَوْمُهُ عَلَى ثَلَاثِينَ لِأَنَّا إنَّمَا أَمَرْنَاهُ بِالصَّوْمِ احْتِيَاطًا،، وَالِاحْتِيَاطُ هَهُنَا أَنْ لَا يُفْطِرَ لِاحْتِمَالِ أَنَّ مَا رَآهُ لَمْ يَكُنْ هِلَالًا بَلْ كَانَ خَيَالًا فَلَا يُفْطِرُ مَعَ الشَّكِّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ لَلَحِقَهُ التُّهْمَةُ لِمُخَالِفَتِهِ الْجَمَاعَةَ، فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ لَا يُفْطِرَ وَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُتَغَيِّمَةً تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا، أَوْ عَبْدًا، رَجُلًا، أَوْ امْرَأَةً، غَيْرَ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ، أَوْ مَحْدُودًا تَائِبًا، بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْلِمًا عَاقِلًا بَالِغًا عَدْلًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا تُقْبَلُ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الشَّهَادَاتِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَبْصَرْتُ الْهِلَالَ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُمْ يَا بِلَالُ فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا» ، فَقَدْ قَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهَادَةَ الْوَاحِدِ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ وَلَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَهَادَةٍ بَلْ هُوَ إخْبَارٌ، بِدَلِيلِ أَنَّ حُكْمَهُ يُلْزِمُ الشَّاهِدَ وَهُوَ الصَّوْمُ وَحُكْمُ الشَّهَادَةِ لَا يُلْزِمُ الشَّاهِدَ، وَالْإِنْسَانُ لَا يُتَّهَمُ فِي إيجَابِ شَيْءٍ عَلَى نَفْسِهِ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَهَادَةٍ بَلْ هُوَ إخْبَارٌ، وَالْعَدَدُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْإِخْبَارِ، إلَّا أَنَّهُ إخْبَارٌ فِي بَابِ الدِّينِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِسْلَامُ، وَالْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْعَدَالَةُ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ عَدْلًا كَانَ، أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ، وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، إلَّا أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْعَدَالَةَ الْحَقِيقِيَّةَ، فَيَسْتَقِيمُ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ الْحَقِيقِيَّةُ بَلْ يُكْتَفَى فِيهِ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ، وَالْعَبْدُ، وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِخْبَارِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَحَّتْ رِوَايَتُهُمَا؟ . وَكَذَا الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلُوا إخْبَارَ أَبِي بَكْرَةَ وَكَانَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ شَهَادَتَهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَا تُقْبَلُ،، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تُقْبَلُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ، وَخَبَرُهُ مَقْبُولٌ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَدْلٍ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ عَدْلٍ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مَا لَمْ يَشْهَدْ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ رَجُلَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ لَا مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ، وَيَجُوزُ إخْبَارُ رَجُلٍ عَدْلٍ عَنْ رَجُلٍ عَدْلٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ، وَلَوْ رَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ لِتُهْمَةِ الْفِسْقِ فَإِنَّهُ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ فَيُؤَاخَذُ بِمَا عِنْدَهُ، وَلَوْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ هَلْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؟ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَأَمَّا هِلَالُ شَوَّالٍ فَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ جَمَاعَةٍ يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِخَبَرِهِمْ كَمَا فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي نَوَادِرِ الصَّوْمِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ أَنَّهُ تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ سَوَاءٌ كَانَ فِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ فَلَا تُقْبَلُ فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، حُرَّيْنِ، عَاقِلَيْنِ، بَالِغَيْنِ، غَيْرِ مَحْدُودَيْنِ، فِي قَذْفٍ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ، وَالْأَمْوَالِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ، وَكَانَ لَا يُجِيزُ الْإِفْطَارَ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ» وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ شَيْءٌ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ بَلْ لَهُ فِيهَا نَفْعٌ وَهُوَ إسْقَاطُ الصَّوْمِ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَانَ مُتَّهَمًا، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ بِخِلَافِ هِلَالِ رَمَضَانَ هُنَاكَ لَا تُهْمَةَ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُتَّهَمُ فِي الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ بِالْتِزَامِ الصَّوْمِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَى النَّاسِ هِلَالُ شَوَّالٍ فَإِنْ صَامُوا رَمَضَانَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ أَفْطَرُوا

بِتَمَامِ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُمَا فِي الْفِطْرِ يُقْبَلُ وَإِنْ صَامُوا بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ لَا يُفْطِرُونَ عَلَى شَهَادَتِهِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ عِنْدَ كَمَالِ الْعَدَدِ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ بِشَهَادَتِهِ فَثَبَتَتْ الرَّمَضَانِيَّةُ بِشَهَادَتِهِ فِي حَقِّ الصَّوْمِ، لَا فِي حَقِّ الْفِطْرِ، لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لَهُ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْفِطْرِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ وَحْدَهُ مَقْصُودًا لَا تُقْبَلُ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَامُوا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ لِأَنَّ لَهُمَا شَهَادَةً عَلَى الصَّوْمِ، وَالْفِطْرِ جَمِيعًا. أَلَا تَرَى لَوْ شَهِدَا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَتِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ،، وَالِاحْتِيَاطُ هَهُنَا فِي أَنْ لَا يُفْطِرُوا بِخِلَافِ مَا إذَا صَامُوا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُنَاكَ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مُطْلَقٍ، فَيَظْهَرُ فِي الصَّوْمِ، وَالْفِطْرِ جَمِيعًا. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُمْ يُفْطِرُونَ عِنْدَ تَمَامِ الْعَدَدِ، فَأَوْرَدَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَلَى مُحَمَّدٍ إشْكَالًا فَقَالَ: إذَا قَبِلْتَ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي الصَّوْمِ تُفْطِرُ عَلَى شَهَادَتِهِ وَمَتَى أَفْطَرْتَ عِنْدَ كَمَالِ الْعَدَدِ عَلَى شَهَادَتِهِ فَقَدْ أَفْطَرْتَ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ؟ فَأَجَابَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: لَا أَتَّهِمُ الْمُسْلِمَ أَنْ يَتَعَجَّلَ يَوْمًا مَكَانَ يَوْمٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ صَادِقًا فِي شَهَادَتِهِ فَالصَّوْمُ وَقَعَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ فَيُخْتَمُ بِكَمَالِ الْعَدَدِ، وَقِيلَ فِيهِ بِجَوَابٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ جِوَازَ الْفِطْرِ عِنْدَ كَمَالِ الْعَدَدِ لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِ مَقْصُودًا بَلْ بِمُقْتَضَى الشَّهَادَةِ. وَقَدْ يَثْبُتُ بِمُقْتَضَى الشَّيْءِ مَا لَا يَثْبُتُ بِهِ مَقْصُودًا كَالْمِيرَاثِ بِحُكْمِ النَّسَبِ الثَّابِتِ أَنَّهُ يَظْهَرُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ بِالْوِلَادَةِ وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ بِشَهَادَتِهَا مَقْصُودًا، وَالِاسْتِشْهَادُ عَلَى مَذْهَبِهِمَا لَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ بِالْوِلَادَةِ لَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ عِنْدَهُ. (وَأَمَّا) هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ فَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا مَا يُقْبَلُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، وَهِلَالُ شَوَّالٍ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَمَا فِي هِلَالِ شَوَّالٍ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَهُوَ وُجُوبُ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى النَّاسِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ، وَالصَّحِيحُ: هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ بَلْ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ تَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ ثُمَّ تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ. وَلَوْ رَأَوْا يَوْمَ الشَّكِّ الْهِلَالَ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ قَبْلَهُ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ مِثْلُ قَوْلِهِمَا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى مِثْلُ قَوْلِهِ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ هِلَالُ شَوَّالٍ إذَا رَأَوْهُ يَوْمَ الشَّكِّ وَهُوَ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ عِنْدَهُمَا، وَيَكُونُ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، وَعِنْدَهُ إنْ رَأَوْهُ قَبْلَ الزَّوَالِ يَكُونُ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَيَكُونُ الْيَوْمُ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَا بَعْدَهُ وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ لِرُؤْيَتِهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَعِنْدَهُ يُعْتَبَرُ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ الْهِلَالَ لَا يُرَى قَبْلَ الزَّوَالِ عَادَةً، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلَيْلَتَيْنِ، وَهَذَا يُوجِبُ كَوْنَ الْيَوْمِ مِنْ رَمَضَانَ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، وَكَوْنَهُ يَوْمَ الْفِطْرِ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ، وَلَهُمَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» أَمَرَ بِالصَّوْمِ، وَالْفِطْرِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ، وَفِيمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ يَتَقَدَّمُ وُجُوبُ الصَّوْمِ، وَالْفِطْرِ عَلَى الرُّؤْيَةِ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ مِصْرٍ لَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ فَأَكْمَلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامُوا وَفِيهِمْ رَجُلٌ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ ثُمَّ رَأَوْا هِلَالَ شَوَّالٍ عَشِيَّةَ التَّاسِعِ، وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَصَامَ أَهْلُ الْمِصْرِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَصَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَأَهْلُ الْمِصْرِ قَدْ أَصَابُوا وَأَحْسَنُوا وَأَسَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَأَخْطَأَ لِأَنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ إذْ السُّنَّةُ أَنْ يُصَامَ رَمَضَانُ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ إذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً، أَوْ بَعْدَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ. وَقَدْ عَمِلَ أَهْلُ الْمِصْرِ بِذَلِكَ وَخَالَفَ الرَّجُلُ فَقَدْ أَصَابَ أَهْلُ الْمِصْرِ وَأَخْطَأَ الرَّجُلُ وَلَا قَضَاءَ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ لِأَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ إلَى جَمِيعِ أَصَابِعِ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا ثَلَاثًا وَحَبَسَ إبْهَامَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ» فَثَبَتَ أَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «صُمْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَكْثَرَ مِمَّا صُمْنَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا» وَلَوْ صَامَ أَهْلُ بَلَدٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَصَامَ أَهْلُ بَلَدٍ آخَرَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَإِنْ كَانَ صَوْمُ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَ قَاضِيهمْ، أَوْ عَدُّوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامُوا رَمَضَانَ فَعَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ الْآخَرِ قَضَاءُ يَوْمٍ لِأَنَّهُمْ أَفْطَرُوا يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ لِثُبُوتِ الرَّمَضَانِيَّةِ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَعَدَمُ رُؤْيَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ لَا يَقْدَحُ فِي رُؤْيَةِ أُولَئِكَ، إذْ الْعَدَمُ لَا يُعَارِضُ الْوُجُودَ، وَإِنْ كَانَ صَوْمُ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ بِغَيْرِ رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ أَوْ لَمْ تَثْبُتْ الرُّؤْيَةُ عِنْدَ قَاضِيهمْ وَلَا عَدُّوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَقَدْ أَسَاءُوا حَيْثُ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ. وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ الْآخَرِ قَضَاؤُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، هَذَا إذَا كَانَتْ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ قَرِيبَةً لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَطَالِعُ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ بَعِيدَةً فَلَا يَلْزَمُ أَحَدَ الْبَلَدَيْنِ حُكْمُ الْآخَرِ لِأَنَّ مَطَالِعَ الْبِلَادِ عِنْدَ الْمَسَافَةِ الْفَاحِشَةِ تَخْتَلِفُ فَيُعْتَبَرُ فِي أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ مَطَالِعُ بَلَدِهِمْ دُونَ الْبَلَدِ الْآخَرِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُوسَى الضَّرِيرِ أَنَّهُ اُسْتُفْتِيَ فِي أَهْلِ إسْكَنْدَرِيَّةَ أَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ بِهَا وَمَنْ عَلَى مَنَارَتِهَا يَرَى الشَّمْسَ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ كَثِيرٍ. فَقَالَ: يَحِلُّ لِأَهْلِ الْبَلَدِ الْفِطْرُ وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ عَلَى رَأْسِ الْمَنَارَةِ إذَا كَانَ يَرَى غُرُوبَ الشَّمْسِ لِأَنَّ مَغْرِبَ الشَّمْسِ يَخْتَلِفُ كَمَا يَخْتَلِفُ مَطْلَعُهَا فَيُعْتَبَرُ فِي أَهْلِ كُلِّ مَوْضِعٍ مَغْرِبُهُ وَلَوْ صَامَ أَهْلُ مِصْرٍ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَأَفْطَرُوا لِلرُّؤْيَةِ وَفِيهِمْ مَرِيضٌ لَمْ يَصُمْ فَإِنْ عَلِمَ مَا صَامَ أَهْلُ مِصْرِهِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى قَدْرِ الْفَائِتِ، وَالْفَائِتُ هَذَا الْقَدْرُ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ هَذَا الْقَدْرِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هَذَا الرَّجُلُ مَا صَنَعَ أَهْلُ مِصْرِهِ، صَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّهْرِ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَالنُّقْصَانُ عَارِضٌ فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ عَمِلَ بِالْأَصْلِ، وَقَالُوا فِيمَنْ أَفْطَرَ شَهْرًا لِعُذْرٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ قَضَى شَهْرًا بِالْهِلَالِ فَكَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، إنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ يَوْمٍ آخَرَ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عَدَدُ الْأَيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَ فِيهَا دُونَ الْهِلَالِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى قَدْرِ الْفَائِتِ، وَالْفَائِتُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا فَيَقْضِي يَوْمًا آخَرَ تَكْمِلَةَ الثَّلَاثِينَ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الصَّائِمِ فَمِنْهَا: الْإِسْلَامُ فَإِنَّهُ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي كَوْنِهِ شَرْطَ الْوُجُوبِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَمِنْهَا الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ فَإِنَّهَا شَرْطُ صِحَّةِ الْأَدَاءِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَفِي كَوْنِهَا شَرْطَ الْوُجُوبِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَأَمَّا الْبُلُوغُ: فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْأَدَاءِ فَيَصِحُّ أَدَاءُ الصَّوْمِ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لِمَا نَذْكُرُهُ. وَكَذَا الْعَقْلُ، وَالْإِفَاقَةُ لَيْسَا مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْأَدَاءِ حَتَّى لَوْ نَوَى الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ جُنَّ فِي النَّهَارِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ يَصِحُّ صَوْمُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا يَصِحُّ صَوْمُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، لَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ بَلْ لِعَدَمِ النِّيَّةِ لِأَنَّ النِّيَّةَ مِنْ الْمَجْنُونِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا تُتَصَوَّرُ، وَفِي كَوْنِهِمَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَمِنْهَا النِّيَّةُ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ يَقَعُ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا: فِي بَيَانِ أَصْلِهِ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ، وَالثَّالِثُ: فِي بَيَانِ وَقْتِهِ. أَمَّا الْأُوَلُ: فَأَصْلُ النِّيَّةِ شَرْطُ جَوَازِ الصِّيَامَاتِ كُلِّهَا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: صَوْمُ رَمَضَانَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ جَائِزٌ بِدُونِ النِّيَّةِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] أَمَرَ بِصَوْمِ الشَّهْرِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ، وَالصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ. وَقَدْ أَتَى بِهِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تُشْتَرَطُ لِلتَّعْيِينِ، وَالْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ، وَلَا مُزَاحَمَةَ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا صَوْمًا وَاحِدًا فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ لَهُ» وَقَوْلُهُ «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وَلِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَةُ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَأْتِيهِ الْعَبْدُ بِاخْتِيَارِهِ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ، وَالِاخْتِيَارُ، وَالْإِخْلَاصُ لَا يَتَحَقَّقَانِ بِدُونِ النِّيَّةِ. وَأَمَّا الْآيَةُ: فَمُطْلَقُ اسْمِ الصَّوْمِ يَنْصَرِفُ إلَى الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ، وَالْإِمْسَاكُ لَا يَصِيرُ شَرْعًا بِدُونِ النِّيَّةِ، لِمَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لِلتَّعْيِينِ وَزَمَانُ رَمَضَانَ مُتَعَيِّنٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ فَلَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ، فَنَقُولُ لَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ الْوَصْفِ، لَكِنْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ الْأَصْلِ، بَيَانُهُ أَنَّ أَصْلَ الْإِمْسَاكِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَادَةً، أَوْ حَمِيَّةً، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى، بَلْ الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ كُلِّ فَاعِلٍ لِنَفْسِهِ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ لِغَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ لِيَصِيرَ لِلَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إذَا صَارَ أَصْلُ الْإِمْسَاكِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْوَقْتِ بِأَصْلِ النِّيَّةِ، وَالْوَقْتُ مُتَعَيَّنٌ لِفَرْضِهِ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى تَعْيِينِ الْوَصْفِ. وَأَمَّا الثَّانِي فِي كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ: فَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ عَيْنًا وَهُوَ صَوْمُ

رَمَضَانَ، وَصَوْمُ النَّفْلِ خَارِجَ رَمَضَانَ، وَالْمَنْذُورُ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: صَوْمُ النَّفْلِ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ، فَأَمَّا الصَّوْمُ الْوَاجِبُ: فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ هَذَا صَوْمٌ مَفْرُوضٌ فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْفَرْضِ كَصَوْمِ الْقَضَاءِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَرْضِيَّةَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى أَصْلِ الصَّوْمِ يَتَعَلَّقُ بِهَا زِيَادَةُ الثَّوَابِ، فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ النِّيَّةِ وَهِيَ نِيَّةُ الْفَرْضِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . وَهَذَا قَدْ شَهِدَ الشَّهْرَ وَصَامَهُ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ لَوْ شُرِطَتْ إنَّمَا تُشْتَرَطُ إمَّا لِيَصِيرَ الْإِمْسَاكُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ، وَلَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ مُطْلَقَ النِّيَّةِ كَانَ لِصَيْرُورَةِ الْإِمْسَاكِ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ يَكْفِي لِقَطْعِ التَّرَدُّدِ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وَقَدْ نَوَى أَنْ يَكُونَ إمْسَاكُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَوْ لَمْ يَقَعْ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ لَهُ مَا نَوَى، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي لِأَنَّ مَشْرُوعَ الْوَقْتِ وَاحِدٌ لَا يَتَنَوَّعُ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّمْيِيزِ بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ بِخِلَافِ صَوْمِ الْقَضَاءِ، وَالنَّذْرِ، وَالْكَفَّارَةِ، لِأَنَّ مَشْرُوعَ الْوَقْتِ وَهُوَ خَارِجُ رَمَضَانَ مُتَنَوِّعٌ فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَقَوْلُهُ: هَذَا صَوْمٌ مَفْرُوضٌ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لِمَ لَا تَتَأَدَّى نِيَّةُ الْفَرْضِ بِدُونِ نِيَّةِ الْفَرْضِ، وَقَوْلُهُ: " الْفَرْضِيَّةُ صِفَةٌ لِلصَّوْمِ زَائِدَةٌ عَلَيْهِ فَتَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ زَائِدَةٍ " مَمْنُوعٌ أَنَّهَا صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الصَّوْمِ لِأَنَّ الصَّوْمَ صِفَةٌ، وَالصِّفَةُ لَا تَحْتَمِلُ صِفَةً زَائِدَةً عَلَيْهَا قَائِمَةً بِهَا بَلْ هُوَ وَصْفٌ إضَافِيٌّ فَيُسَمَّى الصَّوْمُ مَفْرُوضًا وَفَرِيضَةً لِدُخُولِهِ تَحْتَ فَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِفَرْضِيَّةٍ قَامَتْ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ صِفَةً قَائِمَةً بِالصَّوْمِ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ نِيَّةُ الْفَرْضِ وَزِيَادَةُ الثَّوَابِ لِفَضِيلَةِ الْوَقْتِ لَا لِزِيَادَةِ صِفَةِ الْعَمَلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَوْ صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَوْ صَامَ الْمَنْذُورَ بِعَيْنِهِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ يَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ وَعَنْ الْمَنْذُورِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَا يَقَعُ وَكَذَا لَوْ صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ مِنْ الْقَضَاءِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَقَعُ هُوَ يَقُولُ: لَمَّا نَوَى النَّفَلَ فَقَدْ أَعْرَضَ عَنْ الْفَرْضِ، وَالْمُعْرِضُ عَنْ فِعْلٍ لَا يَكُونُ آتِيًا بِهِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّهُ نَوَى الْأَصْلَ، وَالْوَصْفَ، وَالْوَقْتُ قَابِلٌ لِلْأَصْلِ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْوَصْفِ فَبَطَلَتْ نِيَّةُ الْوَصْفِ وَبَقِيَتْ نِيَّةُ الْأَصْلِ، وَإِنَّهَا كَافِيَةٌ لِصَيْرُورَةِ الْإِمْسَاكِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلَوْ نَوَى فِي النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ وَاجِبًا آخَرَ يَقَعُ عَمَّا نَوَى بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ، وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَقْتَيْنِ وَإِنْ تَعَيَّنَ لِصَوْمِهِ إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُعَيَّنٌ بِتَعْيِينِ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَثَبَتَ التَّعْيِينُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ فَسْخِ سَائِرِ الصِّيَامَاتِ، وَالْآخَرُ تَعَيَّنَ بِتَعْيِينِ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ قَاصِرَةٌ وَهُوَ الْعَبْدُ فَيَظْهَرُ تَعْيِينُهُ فِيمَا عَيَّنَهُ لَهُ وَهُوَ صَوْمُ التَّطَوُّعِ دُونَ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، فَبَقِيَتْ الْأَوْقَاتُ مَحَلًّا لَهَا فَإِذَا نَوَاهَا صَحَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي حَقِّ الْمُقِيمِ، فَأَمَّا الْمُسَافِرُ: فَإِنْ صَامَ رَمَضَانَ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ فَكَذَلِكَ يَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ صَامَ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ يَقَعْ عَمَّا نَوَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ وَإِنْ صَامَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فَعِنْدَهُمَا يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ، رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ: أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ، قَالَ الْقُدُورِيُّ: الرِّوَايَةُ الْأُولَى هِيَ الْأَصَحُّ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسَافِرِ وَهُوَ الْعَزِيمَةُ، وَالْإِفْطَارُ لَهُ رُخْصَةٌ فَإِذَا اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ وَتَرَكَ الرُّخْصَةَ صَارَ هُوَ، وَالْمُقِيمُ سَوَاءٌ فَيَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ كَالْمُقِيمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّوْمَ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ لَكِنْ رُخِّصَ لَهُ فِي الْإِفْطَارِ نَظَرًا لَهُ، فَلَأَنْ يُرَخَّصَ لَهُ إسْقَاطُ مَا فِي ذِمَّتِهِ، وَالنَّظَرُ لَهُ فِيهِ أَكْثَرُ أَوْلَى. وَأَمَّا إذَا نَوَى التَّطَوُّعَ فَوَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فَأَشْبَهَ خَارِجَ رَمَضَانَ وَلَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ خَارِجَ رَمَضَانَ يَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ كُلِّهِ كَذَا فِي رَمَضَانَ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى تَعْيِينِ نِيَّةِ الْمُتَطَوِّعِ بَلْ نِيَّةُ الصَّوْمِ فِيهِ كَافِيَةٌ فَتَلْغُو نِيَّةَ التَّعْيِينِ وَيَبْقَى أَصْلُ النِّيَّةِ فَيَصِيرُ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ فَيَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ فَمَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ إلَّا أَنَّهُ يُتَرَخَّصُ فِيهِ، فَإِذَا لَمْ يُتَرَخَّصْ وَلَمْ يَنْوِ وَاجِبًا آخَرَ بَقِيَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَيَقَعُ صَوْمُهُ عَنْهُ. وَأَمَّا الْمَرِيضُ الَّذِي رُخِّصَ لَهُ فِي الْإِفْطَارِ: فَإِنْ صَامَ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ يَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ صَامَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: إنَّهُ يَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ صَارَ كَالصَّحِيحِ

، وَالْكَرْخِيُّ سَوَّى بَيْنَ الْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ وَيُشْتَرَطُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ نِيَّةٌ عَلَى حِدَةٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ صَوْمُ الشَّهْرِ بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْوَاجِبَ صَوْمُ الشَّهْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] ، وَالشَّهْرُ اسْمٌ لِزَمَانٍ وَاحِدٍ فَكَانَ الصَّوْمُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ عِبَادَةً وَاحِدَةً كَالصَّلَاةِ، وَالْحَجِّ، فَيَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَنَا أَنَّ صَوْمَ كُلِّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ عَلَى حِدَةٍ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْيَوْمِ الْآخَرِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَا يُفْسِدُ أَحَدَهُمَا لَا يُفْسِدُ الْآخَرَ، فَيُشْتَرَطُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْهُ نِيَّةٌ عَلَى حِدَةٍ. وَقَوْلُهُ الشَّهْرُ اسْمٌ لِزَمَانٍ وَاحِدٍ مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ اسْمٌ لِأَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ بَعْضُهَا مَحَلٌّ لِلصَّوْمِ وَبَعْضُهَا لَيْسَ بِوَقْتٍ لَهُ وَهُوَ اللَّيَالِي، فَقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَ كُلِّ يَوْمَيْنِ مَا لَيْسَ بِوَقْتٍ لَهُمَا فَصَارَ صَوْمُ كُلِّ يَوْمَيْنِ عِبَادَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ كَصَلَاتَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ دَيْنًا وَهُوَ صَوْمُ الْقَضَاءِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ حَتَّى لَوْ صَامَ بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّوْمِ لَا يَقَعُ عَمَّا عَلَيْهِ لِأَنَّ زَمَانَ خَارِجَ رَمَضَانَ مُتَعَيِّنٌ لِلنَّفْلِ شَرْعًا عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا تَعَيَّنَ لَهُ الْوَقْتُ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هُوَ وَقْتٌ لِلصِّيَامَاتِ كُلِّهَا عَلَى الْإِبْهَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْوَقْتِ لِلْبَعْضِ بِالنِّيَّةِ لِتَتَعَيَّنَ لَهُ، لَكِنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى التَّطَوُّعِ لِأَنَّهُ أَدْنَى، وَالْأَدْنَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ فَيَقَعُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ وَلَوْ نَوَى بِصَوْمِهِ قَضَاءَ رَمَضَانَ، وَالتَّطَوُّعَ كَانَ عَنْ الْقَضَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَكُونُ عَنْ التَّطَوُّعِ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّهُ عَيَّنَ الْوَقْتَ لِجِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ مُتَنَافِيَتَيْنِ فَسَقَطَتَا لِلتَّعَارُضِ وَبَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ وَهُوَ نِيَّةُ الصَّوْمِ فَيَكُونُ عَنْ التَّطَوُّعِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ فِي التَّطَوُّعِ لَغْوٌ فَلَغَتْ وَبَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَوَى قَضَاءَ رَمَضَانَ، وَالصَّوْمُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَقَعُ عَنْ الْقَضَاءِ كَذَا هَذَا فَإِنْ نَوَى قَضَاءَ رَمَضَانَ وَكَفَّارَةَ الظِّهَارِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَكُونُ عَنْ الْقَضَاءِ اسْتِحْسَانًا،، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عَنْ التَّطَوُّعِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَجْهُ الْقِيَاسِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنْ جِهَتَيْ التَّعْيِينِ تَعَارَضَتَا لِلتَّنَافِي فَسَقَطَتَا بِحُكْمِ التَّعَارُضِ فَبَقِيَ نِيَّةُ مُطْلَقِ الصَّوْمِ فَيَكُونُ تَطَوُّعًا، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّرْجِيحَ لِتَعْيِينِ جِهَةِ الْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ وَخَلَفُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ أَقْوَى الصِّيَامَاتِ حَتَّى تَنْدَفِعَ بِهِ نِيَّةُ سَائِرِ الصِّيَامَاتِ، وَلِأَنَّهُ بَدَلُ صَوْمٍ وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَجَبَ بِسَبَبٍ وُجِدَ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ، فَكَانَ الْقَضَاءُ أَقْوَى فَلَا يُزَاحِمُهُ الْأَضْعَفُ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ فَصَامَهُ يَنْوِي النَّذْرَ وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ: فَهُوَ عَنْ النَّذْرِ لِتَعَارُضِ النِّيَّتَيْنِ فَتَسَاقَطَا وَبَقِيَ نِيَّةُ الصَّوْمِ مُطْلَقًا فَيَقَعُ عَنْ النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ وَقْتُ النِّيَّةِ: فَالْأَفْضَلُ فِي الصِّيَامَاتِ كُلِّهَا أَنْ يَنْوِيَ وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، أَوْ مِنْ اللَّيْلِ، لِأَنَّ النِّيَّةَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ تُقَارِنُ أَوَّلَ جُزْءٍ مِنْ الْعِبَادَةِ حَقِيقَةً وَمِنْ اللَّيْلِ تُقَارِنُهُ تَقْدِيرًا، وَإِنْ نَوَى بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ دَيْنًا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَصَوْمُ التَّطَوُّعِ خَارِجَ رَمَضَانَ، وَالْمَنْذُورُ الْمُعَيَّنُ يَجُوزُ، وَقَالَ زُفَرُ: إنْ كَانَ مُسَافِرًا لَا يَجُوزُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ إلَّا التَّطَوُّعُ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ التَّطَوُّعُ أَيْضًا، وَلَا يَجُوزُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ بَعْدَ الزَّوَالِ عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ مَالِكٍ فَوَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ التَّطَوُّعَ تَبَعٌ لِلْفَرْضِ ثُمَّ لَا يَجُوزُ صَوْمُ الْفَرْضِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ، فَكَذَا التَّطَوُّعُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصْبِحُ لَا يَنْوِي الصَّوْمَ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَصُومُ» . وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِهِ فَيَقُولُ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ غَدَاءٍ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ» وَصَوْمُ التَّطَوُّعِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي طَلْحَةَ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فِيمَا بَعْدَ الزَّوَالِ: فَبِنَاءٌ عَلَى أَنَّ صَوْمَ النَّفْلِ عِنْدَنَا غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ كَصَوْمِ الْفَرْضِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ مُتَجَزِّئٌ حَتَّى قَالَ: يَصِيرُ صَائِمًا مِنْ حِينِ نَوَى لَكِنْ بِشَرْطِ الْإِمْسَاكِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَحُجَّتُهُ مَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ. وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالصَّوْمُ لَا يَتَجَزَّأُ فَرْضًا كَانَ، أَوْ نَفْلًا وَيَصِيرُ صَائِمًا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ لَكِنْ بِالنِّيَّةِ الْمَوْجُودَةِ وَقْتَ الرُّكْنِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَقْتَ الْغَدَاءِ الْمُتَعَارَفِ لِمَا نَذْكُرُ، فَإِذَا نَوَى بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَدْ خَلَا بَعْضُ الرُّكْنِ عَنْ الشَّرْطِ، فَلَا يَصِيرُ صَائِمًا شَرْعًا، وَالْحَدِيثَانِ مَحْمُولَانِ عَلَى مَا قَبْلَ الزَّوَالِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ

الشَّافِعِيِّ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ فَهُوَ يَحْتَجُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَعْزِمْ الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ» ، وَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى آخِرِهِ رُكْنٌ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ النِّيَّةِ لِيَصِيرَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ انْعَدَمَتْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَلَمْ يَقَعْ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِلَّهِ تَعَالَى لِفَقْدِ شَرْطِهِ، فَكَذَا الْبَاقِي لِأَنَّ صَوْمَ الْفَرْضِ لَا يَتَجَزَّأُ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ صَوْمُ الْقَضَاءِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ. وَكَذَا صَوْمُ رَمَضَانَ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة: 187] إلَى قَوْله {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] أَبَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْأَكْلَ، وَالشُّرْبَ، وَالْجِمَاعَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَأَمَرَ بِالصِّيَامِ عَنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ لِأَنَّ كَلِمَةَ " ثُمَّ " لِلتَّعْقِيبِ مَعَ التَّرَاخِي فَكَانَ هَذَا أَمْرًا بِالصَّوْمِ مُتَرَاخِيًا عَنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَالْأَمْرُ بِالصَّوْمِ أَمْرٌ بِالنِّيَّةِ إذْ لَا صِحَّةَ لِلصَّوْمِ شَرْعًا بِدُونِ النِّيَّةِ، فَكَانَ أَمْرًا بِالصَّوْمِ بِنِيَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَقَدْ أَتَى بِهِ فَقَدْ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ أَنَّ الْإِمْسَاكَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَقَعُ صَوْمًا وُجِدَتْ فِيهِ النِّيَّةُ، أَوْ لَمْ تُوجَدْ لِأَنَّ إتْمَامَ الشَّيْءِ يَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ وُجُودِ بَعْضٍ مِنْهُ وَلِأَنَّهُ صَامَ رَمَضَانَ فِي وَقْتٍ مُتَعَيَّنٍ شَرْعًا لِصَوْمِ رَمَضَانَ لِوُجُودِ رُكْنِ الصَّوْمِ مَعَ شَرَائِطِهِ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْأَهْلِيَّةِ، وَالْمَحَلِّيَّةِ، وَلَا كَلَامَ فِي سَائِرِ الشَّرَائِطِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي النِّيَّةِ وَوَقْتُهَا وَقْتُ وُجُودِ الرُّكْنِ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَقْتَ الْغَدَاءِ الْمُتَعَارَفِ، وَالْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ شَرْطٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ لِأَنَّ رُكْنَ الْعِبَادَةِ مَا يَكُونُ شَاقًّا عَلَى الْبَدَنِ مُخَالِفًا لِلْعَادَةِ وَهَوَى النَّفْسِ وَذَلِكَ هُوَ الْإِمْسَاكُ وَقْتَ الْغَدَاءِ الْمُتَعَارَفِ، فَأَمَّا الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ: فَمُعْتَادٌ فَلَا يَكُونُ رُكْنًا بَلْ يَكُونُ شَرْطًا لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الرُّكْنِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ وَسِيلَةً لِلْحَالِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَنْوِيَ وَقْتَ الرُّكْنِ فَإِذَا نَوَى ظَهَرَ كَوْنُهُ وَسِيلَةً مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، وَالنِّيَّةُ تُشْتَرَطُ لِصَيْرُورَةِ الْإِمْسَاكِ الَّذِي هُوَ رُكْنُ عِبَادَةٍ لَا لِمَا يَصِيرُ عِبَادَةً بِطَرِيقِ الْوَسِيلَةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فِي الْخِلَافِيَّاتِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ: فَهُوَ مِنْ الْآحَادِ فَلَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ لَكِنَّهُ يَصْلُحُ مُكَمِّلًا لَهُ فَيُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ كَقَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» لِيَكُونَ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَأَمَّا صِيَامُ الْقَضَاءِ، وَالنُّذُورِ، وَالْكَفَّارَاتِ: فَمَا صَامَهَا فِي وَقْتٍ مُتَعَيَّنٍ لَهَا شَرْعًا لِأَنَّ خَارِجَ رَمَضَانَ مُتَعَيَّنٌ لِلنَّفْلِ مَوْضُوعٌ لَهُ شَرْعًا إلَّا أَنْ يُعَيِّنَهُ لِغَيْرِهِ، فَإِذَا لَمْ يَنْوِ مِنْ اللَّيْلِ صَوْمًا آخَرَ بَقِيَ الْوَقْتُ مُتَعَيَّنًا لِلتَّطَوُّعِ شَرْعًا، فَلَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَهُ، فَأَمَّا هَهُنَا فَالْوَقْتُ مُتَعَيَّنٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ وَقَدْ صَامَهُ لِوُجُودِ رُكْنِ الصَّوْمِ وَشَرَائِطِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ زُفَرَ فِي الْمُسَافِرِ إذَا صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ فَوَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ حَتْمًا. أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، وَالْوَقْتُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ لِصَوْمِ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَصُومَ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ فَأَشْبَه صَوْمَ الْقَضَاءِ خَارِجَ رَمَضَانَ وَذَا لَا يَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ كَذَا هَذَا. وَلَنَا أَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ الْعَزِيمَةُ فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يُتَرَخَّصَ بِالْإِفْطَارِ، وَلَهُ أَنْ يَصُومَ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ، وَالتَّيْسِيرِ أَيْضًا لِمَا فِيهِ مِنْ إسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ ذِمَّتِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا لَمْ يُفْطِرْ وَلَمْ يَنْوِ وَاجِبًا آخَرَ بَقِيَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَقَدْ صَامَهُ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ كَالْمُقِيمِ سَوَاءٌ. وَيَتَّصِلُ بِهَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ وَهُمَا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ وَوَقْتِ النِّيَّةِ مَسْأَلَةُ الْأَسِيرِ فِي يَدِ الْعَدُوِّ إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ فَتَحَرَّى وَصَامَ شَهْرًا عَنْ رَمَضَانَ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّهُ إذَا صَامَ شَهْرًا عَنْ رَمَضَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَافَقَ شَهْرَ رَمَضَانَ، أَوْ لَمْ يُوَافِقْ بِأَنْ تَقَدَّمَ، أَوْ تَأَخَّرَ فَإِنْ وَافَقَ جَازَ وَهَذَا لَا يُشْكِلُ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا عَلَيْهِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَإِنْ وَافَقَ شَوَّالٌ يَجُوزُ لَكِنْ يُرَاعَى فِيهِ مُوَافَقَةُ الشَّهْرَيْنِ فِي عَدَدِ الْأَيَّامِ وَتَعْيِينُ النِّيَّةِ وَوُجُودُهَا مِنْ اللَّيْلِ. وَأَمَّا مُوَافَقَةُ الْعَدَدِ فَلِأَنَّ صَوْمَ شَهْرٍ آخَرَ بَعْدَهُ يَكُونُ قَضَاءً، وَالْقَضَاءُ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْفَائِتِ، وَالشَّهْرُ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَأَمَّا تَعْيِينُ النِّيَّةِ وَوُجُودُهَا مِنْ اللَّيْلِ فَلِأَنَّ صَوْمَ الْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَلَا بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَهَلْ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْقَضَاءِ؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ لِأَنَّهُ نَوَى مَا عَلَيْهِ مِنْ صَوْمِ رَمَضَانَ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَعْيِينُ نِيَّةِ الْقَضَاءِ وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ إذَا وَافَقَ صَوْمُهُ شَهْرَ شَوَّالٍ يَنْظُرُ إنْ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا وَشَوَّالُ كَامِلًا قَضَى يَوْمًا وَاحِدًا لِأَجْلِ يَوْمِ الْفِطْرِ لِأَنَّ صَوْمَ الْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا

وَشَوَّالُ نَاقِصًا قَضَى يَوْمَيْنِ يَوْمًا لِأَجْلِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمًا لِأَجْلِ النُّقْصَانِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْفَائِتِ وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ نَاقِصًا وَشَوَّالُ كَامِلًا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَكْمَلَ عَدَدَ الْفَائِتِ، وَإِنْ وَافَقَ صَوْمُهُ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ فَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا وَذُو الْحِجَّةِ كَامِلًا قَضَى أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ يَوْمًا لِأَجْلِ يَوْمِ النَّحْرِ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِأَجْلِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا وَذُو الْحِجَّةِ نَاقِصًا قَضَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ يَوْمًا لِلنُّقْصَانِ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ لِيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ نَاقِصًا وَذُو الْحِجَّةِ كَامِلًا قَضَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِأَنَّ الْفَائِتَ لَيْسَ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ وَإِنْ وَافَقَ صَوْمُهُ شَهْرًا آخَرَ سِوَى هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ فَإِنْ كَانَ الشَّهْرَانِ كَامِلَيْنِ، أَوْ نَاقِصَيْنِ، أَوْ كَانَ رَمَضَانُ نَاقِصًا، وَالشَّهْرُ الْآخَرُ كَامِلًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ كَامِلًا، وَالشَّهْرُ الْآخَرُ نَاقِصًا قَضَى يَوْمًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْفَائِتَ يَوْمٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ صَامَ بِالتَّحَرِّي سِنِينَ كَثِيرَةً ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَامَ فِي كُلِّ سَنَةٍ قَبْلَ شَهْرِ رَمَضَانَ فَهَلْ يَجُوزُ صَوْمُهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ الْأُولَى وَفِي الثَّالِثَةِ عَنْ الثَّانِيَةِ وَفِي الرَّابِعَةِ عَنْ الثَّالِثَةِ هَكَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ، وَالرَّابِعَةِ صَامَ صَوْمَ رَمَضَانَ الَّذِي عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْقَضَاءُ فَيَقَعُ قَضَاءً عَنْ الْأَوَّلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الرَّمَضَانَاتِ لِأَنَّهُ صَامَ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَنْ رَمَضَانَ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ، وَفَصَّلَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرَ الْهِنْدُوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا فَقَالَ: إنْ صَامَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ يَجُوزُ. وَكَذَا فِي الثَّالِثَةِ، وَالرَّابِعَةِ لِأَنَّهُ صَامَ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ صَوْمِ رَمَضَانَ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ إلَّا قَضَاءُ رَمَضَانَ الْأَخِيرِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ مَا قَضَاهُ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ صَامَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ الثَّالِثَةِ وَفِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ عَنْ الرَّابِعَةِ لَمْ يَجُزْ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الرَّمَضَانَاتِ كُلِّهَا، أَمَّا عَدَمُ الْجَوَازِ عَنْ الرَّمَضَانِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ مَا نَوَى عَنْهُ، وَتَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي الْقَضَاءِ شَرْطٌ وَلَا يَجُوزُ عَنْ الثَّانِي لِأَنَّهُ صَامَ قَبْلَهُ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ. وَكَذَا الثَّالِثُ، وَالرَّابِعُ، وَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا: وَهُوَ رَجُلٌ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ زَيْدٌ فَإِذَا هُوَ عَمْرُو صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، وَلَوْ اقْتَدَى بِزَيْدٍ فَإِذَا هُوَ عَمْرُو لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ إلَّا أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْإِمَامَ زَيْدٌ فَأَخْطَأَ فِي ظَنِّهِ، فَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ اقْتِدَائِهِ بِالْإِمَامِ، وَفِي الثَّانِي نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِزَيْدٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ زَيْدًا تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا اقْتَدَى بِأَحَدٍ كَذَلِكَ هَهُنَا إذَا نَوَى فِي صَوْمِ كُلِّ سَنَةٍ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ تَعَلَّقَتْ نِيَّتُهُ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ لَا بِالْأَوَّلِ، وَالثَّانِي إلَّا أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ الثَّانِي فَأَخْطَأَ فِي ظَنِّهِ فَيَقَعُ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ لَا عَمَّا ظَنَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الَّتِي تَخُصُّ بَعْضَ الصِّيَامَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَهِيَ: شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَمِنْهَا: الْإِسْلَامُ فَلَا يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى الْكَافِرِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِلَا خِلَافٍ حَتَّى لَا يُخَاطَبُ بِالْقَضَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ: فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ وَهِيَ تُعْرَفُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ فِي بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا مَضَى لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَمْ يَثْبُتْ فِيمَا مَضَى فَلَمْ يُتَصَوَّرْ قَضَاءُ الْوَاجِبِ، وَهَذَا التَّخْرِيجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَشْتَرِطُ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ سَابِقَةَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ مِنْ مَشَايِخِنَا. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا مَضَى لِمَكَانِ الْحَرَجِ إذْ لَوْ لَزِمَهُ ذَلِكَ لَلَزِمَهُ قَضَاءُ جَمِيعِ مَا مَضَى مِنْ الرَّمَضَانَاتِ فِي حَالِ الْكُفْرِ لِأَنَّ الْبَعْضَ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ، وَفِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى. وَكَذَا إذَا أَسْلَمَ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا يَلْزَمُهُ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ قَضَاؤُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ وَإِنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ، أَوْ لِمَا فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ مِنْ الْحَرَجِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَمِنْهَا الْبُلُوغُ: فَلَا يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ عَلَى الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا حَتَّى لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ لِضَعْفِ بِنْيَتِهِ وَقُصُورِ عَقْلِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ، وَاللَّعِبِ يَشُقُّ عَلَيْهِ تَفَهُّمُ الْخِطَابِ وَأَدَاءُ الصَّوْمِ فَأَسْقَطَ الشَّرْعُ عَنْهُ الْعِبَادَاتِ نَظَرًا لَهُ فَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي حَالِ الصِّبَا لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لِمَكَانِ الْحَرَجِ لِأَنَّ مُدَّةَ الصِّبَا مَدِيدَةٌ فَكَانَ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ حَرَجٌ. وَكَذَا إذَا بَلَغَ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا يُجْزِئُهُ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَإِنْ نَوَى وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ إذْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ فِيهِ، وَالصَّوْمُ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا وَجَوَازًا وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ

عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الصَّبِيِّ يَبْلُغُ قَبْلَ الزَّوَالِ، أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَنَّ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُمَا أَدْرَكَا وَقْتَ النِّيَّةِ فَصَارَا كَأَنَّهُمَا أَدْرَكَا مِنْ اللَّيْلِ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا فَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمَا الْبَعْضُ لَمْ يَجِبْ الْبَاقِي، أَوْ لِمَا فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ مِنْ الْحَرَجِ. وَأَمَّا الْعَقْلُ فَهَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَكَذَا الْإِفَاقَةُ، وَالْيَقَظَةُ؟ قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا: إنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَيَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ لَكِنْ أَصْلُ الْوُجُوبِ لَا وُجُوبُ الْأَدَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَهُمْ الْوُجُوبُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَصْلُ الْوُجُوبِ وَهُوَ اشْتِغَالُ الذِّمَّةِ بِالْوَاجِبِ وَأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْأَسْبَابِ لَا بِالْخِطَابِ، وَلَا تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ لِثُبُوتِهِ بَلْ ثَبَتَ جَبْرًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى شَاءَ الْعَبْدُ، أَوْ أَبَى، وَالثَّانِي: وُجُوبُ الْأَدَاءِ وَهُوَ إسْقَاطُ مَا فِي الذِّمَّةِ وَتَفْرِيغُهَا مِنْ الْوَاجِبِ، وَأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْخِطَابِ وَتُشْتَرَطُ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى فَهْمِ الْخِطَابِ وَعَلَى أَدَاءِ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ، لِأَنَّ الْخِطَابَ لَا يَتَوَجَّهُ إلَى الْعَاجِزِ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ وَلَا إلَى الْعَاجِز عَنْ فِعْلِ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ، وَالْمَجْنُونُ لِعَدَمِ عَقْلِهِ، أَوْ لِاسْتِتَارِهِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالنَّائِمُ لِعَجْزِهِمَا عَنْ اسْتِعْمَالِ عَقْلِهِمَا عَاجِزُونَ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ وَعَنْ أَدَاءِ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ، فَلَا يَثْبُتُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي حَقِّهِمْ وَيَثْبُتُ أَصْلُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ بَلْ يَثْبُتُ جَبْرًا. وَتَقْرِيرُ هَذَا الْأَصْلِ مَعْرُوفٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَفِي الْخِلَافِيَّاتِ، وَقَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ: إنَّ الْوُجُوبَ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ وَهُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ وَمَنْ لَا فَلَا وَهُوَ اخْتِيَارُ أُسْتَاذِي الشَّيْخِ الْأَجَلِّ الزَّاهِدِ عَلَاءِ الدِّينِ رَئِيسِ أَهْلِ السُّنَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ الْوُجُوبَ الْمَعْقُولَ هُوَ وُجُوبُ الْفِعْلِ كَوُجُوبِ الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الْفِعْلِ الْوَاجِبِ وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى فَهْمِ الْخِطَابِ، وَالْقَادِرُ عَلَى فِعْلِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْخِطَابُ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ ضَرُورَةً، وَالْمَجْنُونُ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالنَّائِمُ عَاجِزُونَ عَنْ فِعْلِ الْخِطَابِ بِالصَّوْمِ وَعَنْ أَدَائِهِ إذْ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ هُوَ الْإِمْسَاكُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِدُونِ النِّيَّةِ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النِّيَّةِ، فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ، وَاَلَّذِي دَعَا الْأَوَّلِينَ إلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ مَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالنَّائِمِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ، وَالِانْتِبَاهِ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الشَّهْرِ، أَوْ كُلِّهِ، وَمَا قَدْ صَحَّ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي الْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ، فَقَالُوا: إنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ يَسْتَدْعِي فَوَاتَ الْوَاجِبِ الْمُؤَقَّتِ عَنْ وَقْتِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْوُجُوبِ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ فَوَاتِهِ حَتَّى يُمْكِنَ إيجَابُ الْقَضَاءِ فَاضْطَرَّهُمْ ذَلِكَ إلَى إثْبَاتِ الْوُجُوبِ فِي حَالِ الْجُنُونِ، وَالْإِغْمَاءِ، وَالنَّوْمِ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: إنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ لَا يَسْتَدْعِي سَابِقِيَّةَ الْوُجُوبِ لَا مَحَالَةَ، وَإِنَّمَا يَسْتَدْعِي فَوْتَ الْعِبَادَةِ عَنْ وَقْتِهَا، وَالْقُدْرَةَ عَلَى الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ طُرُقُهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا مَضَى جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمُهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا الْمَجْنُونُ جُنُونًا مُسْتَوْعِبًا بِأَنْ جُنَّ قَبْلَ دُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَفَاقَ بَعْدَ مُضِيِّهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَقْضِي، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْقَضَاءَ هُوَ تَسْلِيمُ مِثْلِ الْوَاجِبِ وَلَا وُجُوبَ عَلَى الْمَجْنُونِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْخِطَابِ وَلَا خِطَابَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الْقُدْرَتَيْنِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ فِي الْجُنُونِ الْمُسْتَوْعِبِ شَهْرًا، وَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا. أَمَّا مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ فِي حَالِ الْجُنُونِ يَقُولُ: فَاتَهُ الْوَاجِبُ عَنْ وَقْتِهِ وَقَدَرَ عَلَى قَضَائِهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ قِيَاسًا عَلَى النَّائِمِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ لَهُمْ وُجُودُ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الشَّهْرُ إذْ الصَّوْمُ يُضَافُ إلَيْهِ مُطْلَقًا، يُقَالُ صَوْمُ الشَّهْرِ، وَالْإِضَافَةُ دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ. وَفِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عِنْدَ الِاسْتِيعَابِ حَرَجٌ. وَأَمَّا مَنْ أَبَى الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ فِي حَالِ الْجُنُونِ يَقُولُ: هَذَا شَخْصٌ فَاتَهُ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَدَرَ عَلَى قَضَائِهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ قِيَاسًا عَلَى النَّائِمِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَمَعْنَى قَوْلِنَا فَاتَهُ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ أَيْ: لَمْ يَصُمْ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَقَوْلُنَا مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَلِأَنَّهُ لَا حَرَج فِي قَضَاءِ نِصْفِ الشَّهْرِ، وَتَأْثِيرُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ وُجُوبُهَا عَلَى الدَّوَامِ بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي

الْخِلَافِيَّاتِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ عَيَّنَ شَهْرَ رَمَضَانَ مِنْ السَّنَةِ فِي حَقِّ الْقَادِرِ عَلَى الصَّوْمِ فَبَقِيَ الْوَقْتُ الْمُطْلَقُ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ عَنْهُ وَقْتًا لَهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا فَاتَهُ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَدْ فَاتَهُ الثَّوَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى اسْتِدْرَاكِهِ بِالصَّوْمِ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لِيَقُومَ الصَّوْمُ فِيهَا مَقَامَ الْفَائِتِ فَيَنْجَبِرُ الْفَوَاتُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى قَضَائِهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ عَلَيْهِ فَيَجِبُ كَمَا فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالنَّائِمِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ الْمُسْتَوْعِبِ فَإِنَّ هُنَاكَ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ حَرَجًا لِأَنَّ الْجُنُونَ الْمُسْتَوْعِبَ قَلَّمَا يَزُولُ بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ، وَالنَّوْمِ إذَا اسْتَوْعَبَ لِأَنَّ اسْتِيعَابَهُ نَادِرٌ، وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ فَإِنَّ اسْتِيعَابَهُ لَيْسَ بِنَادِرٍ، وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ فِي وُجُوبِ قَضَاءِ مَا مَضَى عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِي الْجُنُونِ الْعَارِضِ مَا إذَا أَفَاقَ فِي وَسَطِ الشَّهْرِ، أَوْ فِي أَوَّلِهِ حَتَّى لَوْ جُنَّ قَبْلَ الشَّهْرِ ثُمَّ أَفَاقَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ جَمِيعِ الشَّهْرِ، وَلَوْ جُنَّ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَلَمْ يُفِقْ إلَّا بُعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ كُلِّ الشَّهْرِ إلَّا قَضَاءَ الْيَوْمِ الَّذِي جُنَّ فِيهِ إنْ كَانَ نَوَى الصَّوْمَ فِي اللَّيْلِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْوِ قَضَى جَمِيعَ الشَّهْرِ، وَلَوْ جُنَّ فِي طَرَفَيْ الشَّهْرِ وَأَفَاقَ فِي وَسَطِهِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الطَّرَفَيْنِ. وَأَمَّا الْمَجْنُونُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ الَّذِي بَلَغَ مَجْنُونًا ثُمَّ أَفَاقَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: لَا يَقْضِي مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُمَا، وَقَالَ: يَقْضِي مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ، وَهَكَذَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي صَبِيٍّ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ جُنَّ فَلَمْ يَزَلْ مَجْنُونًا حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، أَوْ أَكْثَرُ ثُمَّ صَحَّ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى لَكِنْ اُسْتُحْسِنَ أَنْ يَقْضِيَ مَا مَضَى فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ زَمَانَ الْإِفَاقَةِ فِي حَيِّزِ زَمَانِ ابْتِدَاءِ التَّكْلِيفِ فَأَشْبَهَ الصَّغِيرَ إذَا بَلَغَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ الْعَارِضِ فَإِنَّ هُنَاكَ زَمَانَ التَّكْلِيفِ سَبَقَ الْجُنُونَ إلَّا أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ بِعَارِضٍ فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ الْعَاجِزَ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ إذَا صَحَّ. وَجْهُ رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الطَّرِيقَيْنِ فِي الْجُنُونِ الْعَارِضِ وَلَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ جُنُونًا عَارِضًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَنَوَى الصَّوْمَ أَجْزَأَهُ عَنْ رَمَضَانَ، وَالْجُنُونُ الْأَصْلِيُّ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَيَجُوزُ فِي الْإِغْمَاءِ، وَالنَّوْمِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا. وَعَلَى هَذَا الطَّهَارَةِ مِنْ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ إنَّهَا شَرْطُ الْوُجُوبِ عِنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ مِنْ مَشَايِخِنَا إذْ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْحَائِضِ، وَالنُّفَسَاءِ فَتَعَذَّرَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِمَا فِي وَقْتِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا قَضَاءُ الصَّوْمِ لِفَوَاتِ صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَيْهِمَا وَلِقُدْرَتِهِمَا عَلَى الْقَضَاءِ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَلَا يَلْزَمُ الْحَائِضَ فِي السُّنَّةِ إلَّا قَضَاءُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَلَا حَرَجَ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَأَصْلُ الْوُجُوبِ ثَابِتٌ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ لِأَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَتْ: لِمَ تَقْضِي الْحَائِضُ الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِلسَّائِلَةِ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ هَكَذَا كُنَّ النِّسَاءُ يَفْعَلْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . أَشَارَتْ إلَى أَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ تَعَبُّدًا مَحْضًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ فَتَوَاهَا بَلَغَتْ الصَّحَابَةَ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهَا مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَوْ طَهُرَتَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا يَجْزِيهِمَا صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا عَنْ فَرْضٍ وَلَا عَنْ نَفْلٍ، لِعَدَمِ وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِمَا، وَوُجُودِهِ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ فَلَا يَجِبُ وَلَا يُوجَدُ فِي الْبَاقِي لِعَدَمِ التَّجَزِّي، وَعَلَيْهِمَا قَضَاؤُهُ مَعَ الْأَيَّامِ الْأُخَرِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ طَهُرَتَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْحَيْضُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَالنِّفَاسُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَعَلَيْهِمَا قَضَاءُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَيَجْزِيهِمَا صَوْمُهُمَا مِنْ الْغَدِ عَنْ رَمَضَانَ إذَا نَوَتَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِخُرُوجِهِمَا عَنْ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِ الدَّمِ، فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى النِّيَّةِ لَا غَيْرُ، وَإِنْ كَانَ الْحَيْضُ دُونَ الْعَشَرَةِ، وَالنِّفَاسُ دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَإِنْ بَقِيَ مِنْ اللَّيْلِ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ لِلِاغْتِسَالِ وَمِقْدَارُ مَا يَسَعُ النِّيَّةَ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْ اللَّيْلِ دُونَ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُمَا قَضَاءُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَلَا يَجْزِيهِمَا صَوْمُهُمَا مِنْ الْغَدِ، وَعَلَيْهِمَا قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا لَوْ طَهُرَتَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِأَنَّ مُدَّةَ الِاغْتِسَالِ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ، وَالْأَرْبَعِينَ مِنْ الْحَيْضِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَلَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِمِقْدَارِ مَا يُمْكِنُهُ النِّيَّةَ فَعَلَيْهِ صَوْمُ الْغَدِ وَإِلَّا فَلَا،

فصل أركان الصيام

وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ جُنُونًا أَصْلِيًّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبَا عِنْدَهُ. [فَصْلٌ أَرْكَان الصِّيَام] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُهُ: فَالْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْجِمَاعِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْأَكْلَ، وَالشُّرْبَ، وَالْجِمَاعَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة: 187] إلَى قَوْله {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] أَيْ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ ضَوْءُ النَّهَارِ مِنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ مِنْ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِمْسَاكِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي النَّهَارِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فَدَلَّ أَنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ مَا قُلْنَا فَلَا يُوجَدُ الصَّوْمُ بِدُونِهِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي بَيَانُ مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَيَنْقُضُهُ لِأَنَّ انْتِقَاضَ الشَّيْءِ عِنْدَ فَوَاتِ رُكْنِهِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، وَذَلِكَ بِالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْجِمَاعِ سَوَاءٌ كَانَ صُورَةً وَمَعْنًى، أَوْ صُورَةً لَا مَعْنًى، أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً وَسَوَاءٌ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، أَوْ بِعُذْرٍ وَسَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً طَوْعًا، أَوْ كَرْهًا بَعْدَ أَنْ كَانَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ لَا نَاسِيًا وَلَا فِي مَعْنَى النَّاسِي،، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ لِوُجُودِ ضِدِّ الرُّكْنِ حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ لَقُلْتُ يَقْضِي أَيْ: لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خَالَفَ الْأَمْرَ لَقُلْتُ: يَقْضِي لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَطْعَمَهُ وَسَقَاهُ» حَكَمَ بِبَقَاءِ صَوْمِهِ وَعَلَّلَ بِانْقِطَاعِ نِسْبَةِ فِعْلِهِ عَنْهُ بِإِضَافَتِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِوُقُوعِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا قَضَاءَ عَلَى النَّاسِي لِلْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقِيَاسُ أَنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الْأَثَرِ أَوْلَى إذَا كَانَ صَحِيحًا، وَحَدِيثٌ صَحَّحَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَبْقَى لِأَحَدٍ فِيهِ مَطْعَنٌ. وَكَذَا انْتَقَدَهُ أَبُو يُوسُفَ حَيْثُ قَالَ: وَلَيْسَ حَدِيثًا شَاذًّا نَجْتَرِئُ عَلَى رَدِّهِ، وَكَانَ مِنْ صَيَارِفَةَ الْحَدِيثِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِثْلُ مَذْهَبِنَا وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ فِي بَاب الصَّوْمِ مِمَّا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ إلَّا بِحَرَجٍ فَجُعِلَ عُذْرًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ. وَعَنْ عَطَاءٍ، وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُمَا فَرَّقَا بَيْنَ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ وَبَيْنَ الْجِمَاعِ نَاسِيًا، فَقَالَا: يَفْسُدُ صَوْمُهُ فِي الْجِمَاعِ وَلَا يَفْسُدُ فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ فِي الْكُلِّ لِفَوَاتِ رُكْنِ الصَّوْمِ فِي الْكُلِّ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْخَبَرِ، وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ فَبَقِيَ الْجِمَاعُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّا نَقُولُ: نَعَمْ الْحَدِيثُ وَرَدَ فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ بِمَعْنًى يُوجَدُ فِي الْكُلِّ، وَهُوَ أَنَّهُ فِعْلٌ مُضَافٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقِ التَّمْحِيصِ بِقَوْلِهِ " فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ " قَطَعَ إضَافَتَهُ عَنْ الْعَبْدِ لِوُقُوعِهِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الْكُلِّ،، وَالْعِلَّةُ إذَا كَانَتْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا كَانَ الْحُكْمُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ وَيَتَعَمَّمُ الْحُكْمُ بِمَعْمُومِ الْعِلَّةِ وَكَذَا مَعْنَى الْحَرَجِ يُوجَدُ فِي الْكُلِّ. وَلَوْ أَكَلَ فَقِيلَ لَهُ: إنَّك صَائِمٌ وَهُوَ لَا يَتَذَكَّرُ أَنَّهُ صَائِمٌ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ زُفَرَ، وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا تَذَكَّرَ أَنَّهُ كَانَ صَائِمًا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَكَلَ نَاسِيًا فَلَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَائِمٍ فَيَبْطُلُ صَوْمُهُ. وَلَوْ دَخَلَ الذُّبَابُ حَلْقَهُ لَمْ يُفْطِرْهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَأَشْبَهَ النَّاسِيَ وَلَوْ أَخَذَهُ فَأَكَلَهُ فَطَّرَهُ لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ أَكْلَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولًا كَمَا لَوْ أَكَلَ التُّرَابَ. وَلَوْ دَخَلَ الْغُبَارُ أَوْ الدُّخَانُ أَوْ الرَّائِحَةُ فِي حَلْقَةِ لَمْ يُفْطِرْهُ، لِمَا قُلْنَا. وَكَذَا لَوْ ابْتَلَعَ الْبَلَلَ الَّذِي بَقِيَ بَعْدَ الْمَضْمَضَةِ فِي فَمِهِ مَعَ الْبُزَاقِ أَوْ ابْتَلَعَ الْبُزَاقَ الَّذِي اجْتَمَعَ فِي فَمِهِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ بَقِيَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ فَابْتَلَعَهُ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ صَوْمَهُ، وَإِنْ أَدْخَلَهُ حَلْقَهُ مُتَعَمِّدًا، رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ تَعَمَّدَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَوَفَّقَ ابْنُ أَبِي مَالِكٍ فَقَالَ: إنْ كَانَ مِقْدَارَ الْحِمَّصَةِ، أَوْ أَكْثَرَ يُفْسِدُ صَوْمَهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْحِمَّصَةِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ، كَمَا لَوْ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَالْمَذْكُورُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَوَجْهُهُ أَنَّ مَا دُونَ الْحِمَّصَةِ يَسِيرٌ يَبْقَى بَيْنَ الْأَسْنَانِ عَادَةً، فَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الرِّيقِ، فَيُشْبِهُ النَّاسِي وَلَا كَذَلِكَ قَدْرُ الْحِمَّصَةِ فَإِنَّ بَقَاءَهُ بَيْنَ الْأَسْنَانِ غَيْرُ مُعْتَادٍ فَيُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَلَا يُلْحَقُ بِالنَّاسِي. وَقَالَ زُفَرُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّهُ أَكَلَ مَا هُوَ مَأْكُولٌ فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ فَأَشْبَهَ اللَّحْمَ الْمُنْتِنَ وَلَنَا أَنَّهُ أَكَلَ مَا لَا يُؤْكَلُ عَادَةً إذْ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْغِذَاءُ وَلَا الدَّوَاءُ. فَإِنْ تَثَاءَبَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ فَوَقَعَ فِي حَلْقِهِ قَطْرَةُ مَطَرٍ أَوْ مَاءٌ صُبَّ فِي مِيزَابٍ فَطَّرَهُ

لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ مُمْكِنٌ. وَقَدْ وَصَلَ الْمَاءُ إلَى جَوْفِهِ. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ بِنَفْسِهِ مُكْرَهًا وَهُوَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ: لَا يَفْسُدُ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ هَذَا أَعْذَرُ مِنْ النَّاسِي لِأَنَّ النَّاسِيَ وُجِدَ مِنْهُ الْفِعْلُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا انْقَطَعَتْ نِسْبَتُهُ عَنْهُ شَرْعًا بِالنَّصِّ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْفِعْلُ أَصْلًا، فَكَانَ أَعْذَرَ مِنْ النَّاسِي، ثُمَّ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُ النَّاسِي فَهَذَا أَوْلَى. وَلَنَا أَنَّ مَعْنَى الرُّكْنِ قَدْ فَاتَ لِوُصُولِ الْمُغَذِّي إلَى جَوْفِهِ بِسَبَبٍ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ، وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا يَبْقَى الصَّوْمُ، كَمَا لَوْ أَكَلَ، أَوْ شَرِبَ بِنَفْسِهِ مُكْرَهًا وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الصَّوْمِ مَعْنَاهُ وَهُوَ كَوْنُهُ وَسِيلَةً إلَى الشُّكْرِ، وَالتَّقْوَى وَقَهْرِ الطَّبْعِ الْبَاعِثِ عَلَى الْفَسَادِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إذَا وَصَلَ الْغِذَاءُ إلَى جَوْفِهِ. وَكَذَا النَّائِمَةُ الصَّائِمَةُ جَامَعَهَا زَوْجُهَا وَلَمْ تَنْتَبِهْ أَوْ الْمَجْنُونَةُ جَامَعَهَا زَوْجُهَا فَسَدَ صَوْمُهَا عِنْدنَا خِلَافًا لِزُفَرَ،، وَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ تَمَضْمَضَ أَوْ اسْتَنْشَقَ فَسَبَقَ الْمَاءُ حَلْقَهُ وَدَخَلَ جَوْفَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ لَوْ شَرِبَ لَمْ يَفْسُدْ، فَهَذَا أَوْلَى وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا فَسَدَ صَوْمُهُ عِنْدَنَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إنْ كَانَ وُضُوءُهُ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ لَمْ يُفْسِدْ وَإِنْ كَانَ لِلتَّطَوُّعِ فَسَدَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُفْسِدُ أَيُّهُمَا كَانَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ تَمَضْمَضَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَسَبَقَ الْمَاءُ حَلْقَهُ لَمْ يَفْسُدْ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ فَسَدَ، وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فَرْضٌ، فَكَأَنَّ الْمَضْمَضَةَ، وَالِاسْتِنْشَاقَ مِنْ ضَرُورَاتِ إكْمَالِ الْفَرْضِ، فَكَانَ الْخَطَأُ فِيهِمَا عُذْرًا بِخِلَافِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِمَا، وَالثَّلَاثُ فَكَانَ الْخَطَأُ فِيهِمَا مِنْ ضَرُورَاتِ إقَامَةِ السُّنَّةِ فَكَانَ عَفْوًا. وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ فَمِنْ بَابِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَمَنْ زَادَ، أَوْ نَقَصَ فَقَدْ تَعَدَّى وَظَلَمَ» فَلَمْ يُعْذَرْ فِيهِ، وَالْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْإِكْرَاهِ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَاءَ لَا يَسْبِقُ الْحَلْقَ فِي الْمَضْمَضَةِ، وَالِاسْتِنْشَاقِ عَادَةً إلَّا عِنْدَ الْمُبَالَغَةِ فِيهِمَا، وَالْمُبَالَغَةُ مَكْرُوهَةٌ فِي حَقِّ الصَّائِمِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ: «بَالِغْ فِي الْمَضْمَضَةِ، وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» فَكَانَ فِي الْمُبَالَغَةِ مُتَعَدِّيًا فَلَمْ يُعْذَرْ بِخِلَافِ النَّاسِي. وَلَوْ احْتَلَمَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَأَنْزَلَ لَمْ يُفْطِرْهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْقَيْءُ، وَالْحِجَامَةُ، وَالِاحْتِلَامُ» وَلِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ فَيَكُونُ كَالنَّاسِي. وَلَوْ نَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ وَتَفَكَّرَ فَأَنْزَلَ لَمْ يُفْطِرْهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ تَتَابَعَ نَظَرُهُ فَطَّرَهُ لِأَنَّ التَّتَابُعَ فِي النَّظَرِ كَالْمُبَاشَرَةِ. وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْجِمَاعُ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى لِعَدَمِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّسَاءِ فَأَشْبَهَ الِاحْتِلَامَ بِخِلَافِ الْمُبَاشَرَةِ. وَلَوْ كَانَ يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ نَاسِيًا ثُمَّ تَذَكَّرَ فَأَلْقَى اللُّقْمَةَ أَوْ قَطَعَ الْمَاءَ، أَوْ كَانَ يَتَسَحَّرُ فَطَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ يَشْرَبُ الْمَاءَ فَقَطَعَهُ، أَوْ يَأْكُلُ فَأَلْقَى اللُّقْمَةَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ لِعَدَمِ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ بَعْدَ التَّذَكُّرِ، وَالطُّلُوعِ. وَلَوْ كَانَ يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ فِي النَّهَارِ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ فَتَذَكَّرَ فَنَزَعَ مِنْ سَاعَتِهِ، أَوْ كَانَ يُجَامِعُ فِي اللَّيْلِ فَطَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُخَالِطٌ فَنَزَعَ مِنْ سَاعَتِهِ فَصَوْمُهُ تَامٌّ. وَقَالَ زُفَرُ: فَسَدَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ جُزْءًا مِنْ الْجِمَاعِ حَصَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالتَّذَكُّرِ، وَإِنَّهُ يَكْفِي لِفَسَادِ الصَّوْمِ لِوُجُودِ الْمُضَادَّةِ لَهُ، وَإِنْ قَلَّ وَلَنَا أَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْهُ بَعْدَ الطُّلُوعِ، وَالتَّذَكُّرِ هُوَ النَّزْعُ، وَالنَّزْعُ تَرْكُ الْجِمَاعِ وَتَرْكُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُحَصِّلًا لَهُ بَلْ يَكُونُ اشْتِغَالًا بِضِدِّهِ، فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْجِمَاعُ بَعْدَ الطُّلُوعِ، وَالتَّذَكُّرِ رَأْسًا، فَلَا يَفْسُدُ صَوْمَهُ، وَلِهَذَا لَمْ يَفْسُدْ فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ كَذَا فِي الْجِمَاعِ، وَهَذَا إذَا نَزَعَ بَعْدَ مَا تَذَكَّرَ، أَوْ بَعْدَ مَا طَلَعَ الْفَجْرُ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَنْزِعْ وَبَقِيَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الطُّلُوعِ، وَالتَّذَكُّرِ فَقَالَ: فِي الطُّلُوعِ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَفِي التَّذَكُّرِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّهُ وُجِدَ الْجِمَاعُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمَّدًا لِوُجُودِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالتَّذَكُّرِ فَيُوجِبُ الْقَضَاءَ، وَالْكَفَّارَةَ، وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الطُّلُوعِ، وَالتَّذَكُّرِ أَنَّ فِي الطُّلُوعِ ابْتِدَاءُ الْجِمَاعِ كَانَ عَمْدًا، وَالْجِمَاعُ جِمَاعٌ وَاحِدٌ بِابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ، وَالْجِمَاعُ الْعَمْدُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ. وَأَمَّا فِي التَّذَكُّرِ: فَابْتِدَاءُ الْجِمَاعِ كَانَ نَاسِيًا وَجِمَاعُ النَّاسِي لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّوْمِ فَضْلًا عَنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِإِفْسَادِ الصَّوْمِ وَإِفْسَادُ الصَّوْمِ يَكُونُ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَبَقَاؤُهُ فِي الْجِمَاعِ يَمْنَعُ وُجُودَ الصَّوْمِ فَإِذَا امْتَنَعَ وُجُودُهُ اسْتَحَالَ الْإِفْسَادُ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ لِانْعِدَامِ صَوْمِهِ الْيَوْمَ لَا لِإِفْسَادِهِ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَلِأَنَّ هَذَا جِمَاعٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِابْتِدَائِهِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَقَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْكُلَّ فِعْلٌ وَاحِدٌ

وَلَهُ شُبْهَةُ الِاتِّحَادِ وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ لِمَا نَذْكُرُهُ. وَلَوْ أَصْبَحَ جُنُبًا فِي رَمَضَانَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ مِثْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي ذَرٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا صَوْمَ لَهُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ» قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَهُ رَاوِي الْحَدِيثِ وَأَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ، وَلِعَامَّةِ الصَّحَابَةِ قَوْله تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] إلَى قَوْلِهِ {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] أَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْجِمَاعَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَإِذَا كَانَ الْجِمَاعُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ يُبْقِي الرَّجُلَ جُنُبًا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَا مَحَالَةَ فَدَلَّ أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تَضُرُّ الصَّوْمَ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَدْ رَدَّتْهُ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يُتِمُّ صَوْمَهُ ذَلِكَ مِنْ رَمَضَانَ» وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ قِرَافٍ» أَيْ: جِمَاعٍ مَعَ أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَرَدَ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ. وَلَوْ نَوَى الصَّائِمُ الْفِطْرَ وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا آخَرَ سِوَى النِّيَّةِ فَصَوْمُهُ تَامٌّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَطَلَ صَوْمُهُ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الصَّوْمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ النِّيَّةِ وَقَدْ نَقَضَ نِيَّةَ الصَّوْمِ بِنِيَّةِ ضِدِّهِ وَهُوَ الْإِفْطَارُ فَبَطَلَ صَوْمُهُ لِبُطْلَانِ شَرْطِهِ، وَلَنَا أَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْفِعْلُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا عَنْ أُمَّتِي مَا تَحَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا، أَوْ يَفْعَلُوا» وَنِيَّةُ الْإِفْطَارِ لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْفِعْلُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا نَقَضَ نِيَّةَ الصَّوْمِ بِنِيَّةِ الْفِطْرِ لِأَنَّ نِيَّةَ الصَّوْمِ نِيَّةٌ اتَّصَلَ بِهَا الْفِعْلُ فَلَا تَبْطُلُ بِنِيَّةٍ لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْفِعْلُ، عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ انْعِقَادِ الصَّوْمِ لَا شَرْطُ بَقَائِهِ مُنْعَقِدًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَبْقَى مَعَ النَّوْمِ، وَالنِّسْيَانِ، وَالْغَفْلَةِ؟ . وَلَوْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْهُ سَوَاءٌ كَانَ أَقَلُّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ، أَوْ كَانَ مِلْءُ الْفَمِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْقَيْءُ، وَالْحِجَامَةُ، وَالِاحْتِلَامُ» وَقَوْلُهُ: «مَنْ قَاءَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ ذَرْعَ الْقَيْءِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بَلْ يَأْتِيهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ فَأَشْبَهَ النَّاسِيَ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَفْسُدَ الصَّوْمُ بِالْقَيْءِ سَوَاءٌ ذَرَعَهُ، أَوْ تَقَيَّأَ لِأَنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ مُتَعَلِّقٌ بِالدُّخُولِ شَرْعًا، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْفِطْرُ مِمَّا يَدْخُلُ، وَالْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ» عَلَّقَ كُلَّ جِنْسِ الْفِطْرِ بِكُلِّ مَا يَدْخُلُ، وَلَوْ حَصَلَ لَا بِالدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ كُلُّ جِنْسِ الْفِطْرِ مُعَلَّقًا بِكُلِّ مَا يَدْخُلُ لِأَنَّ الْفِطْرَ الَّذِي يَحْصُلُ بِمَا يَخْرُجُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْفِطْرُ حَاصِلًا بِمَا يَدْخُلُ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ، إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا الْفَسَادَ بِالِاسْتِقَاءِ بِنَصٍّ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ» فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِي الذَّرْعِ عَلَى الْأَصْلِ، وَلِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي الذَّرْعِ وَهُوَ سَبْقُ الْقَيْءِ بَلْ يَحْصُلُ بِغَيْرِ قَصْدِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ، فَلِهَذَا لَا يُؤَاخَذُ النَّاسِي بِفَسَادِ الصَّوْمِ، فَكَذَا هَذَا لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَاهُ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ أَصْلًا بِخِلَافِ النَّاسِي عَلَى مَا مَرَّ، فَإِنْ عَادَ إلَى جَوْفِهِ فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ لَا يُفْسِدُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُفْسِدُ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يُفْسِدُ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ الِاخْتِلَافَ عَلَى الْعَكْسِ فَقَالَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: لَا يُفْسِدُ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدِ يُفْسِدُ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ يُفْسِدُ أَنَّهُ وُجِدَ الْمُفْسِدُ وَهُوَ الدُّخُولُ فِي الْجَوْفِ لِأَنَّ الْقَيْءَ مِلْءَ الْفَمِ لَهُ حُكْمُ الْخُرُوجِ بِدَلِيلِ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ، وَالطَّهَارَةُ لَا تُنْتَقَضُ إلَّا بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ فَإِذَا عَادَ فَقَدْ وُجِدَ الدُّخُولُ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، وَالْفِطْرُ مِمَّا يَدْخُلُ» . وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَا يُفْسِدُ أَنَّ الْعَوْدَ لَيْسَ صُنْعَهُ بَلْ هُوَ صُنْعُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقِ التَّمَحُّضِ يَعْنِي بِهِ مَصْنُوعَهُ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ رَأْسًا، فَأَشْبَهَ ذَرْعَ الْقَيْءِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ مُفْسِدٍ كَذَا عَوْدُ الْقَيْءِ فَإِنْ أَعَادَهُ فَإِنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَسَدَ صَوْمُهُ بِالِاتِّفَاقِ لِوُجُودِ الْإِدْخَالِ مُتَعَمَّدًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْقَيْءِ مِلْءِ الْفَمِ حُكْمَ الْخُرُوجِ حَتَّى يُوجِبَ انْتِقَاضَ الطَّهَارَةِ، فَإِذَا أَعَادَهُ فَقَدْ أَدْخَلَهُ فِي الْجَوْفِ عَنْ قَصْدٍ، فَيُوجِبُ فَسَادَ الصَّوْمِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يُفْسِدُ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُفْسِدُ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ وُجِدَ الدُّخُولُ إلَى الْجَوْفِ بِصُنْعِهِ فَيُفْسِدُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الدُّخُولَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْخُرُوجِ، وَقَلِيلُ الْقَيْءِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْخُرُوجِ بِدَلِيلِ عَدَمِ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِهِ فَلَمْ يُوجَدْ الدُّخُولُ فَلَا يُفْسِدُ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا كُلَّهُ إذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَأَمَّا إذَا اسْتَقَاءَ فَإِنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ يُفْسِدُ صَوْمَهُ بِلَا خِلَافٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

«وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ» وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ لَا يُفْسِدُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُفْسِدُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مُطْلَقًا» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَفْسُدَ الصَّوْمُ إلَّا بِالدُّخُولِ بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا فَلَا يُفْسَدُ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَثِيرِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، ثُمَّ كَثِيرُ الْمُسْتَقَاءِ لَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ، وَالْإِعَادَةُ لِأَنَّ الصَّوْمَ قَدْ فَسَدَ بِالِاسْتِقَاءِ وَكَذَا قَلِيلُهُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ عِنْدَهُ فَسَدَ الصَّوْمُ بِنَفْسِ الِاسْتِقَاءِ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَإِنْ عَادَ لَا يُفْسِدُ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَفِيهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ: يُفْسِدُ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يُفْسِدُ. وَمَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ أَوْ إلَى الدِّمَاغِ عَنْ الْمَخَارِقِ الْأَصْلِيَّةِ كَالْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَالدُّبُرِ بِأَنْ اسْتَعَطَ أَوْ احْتَقَنَ أَوْ أَقْطَرَ فِي أُذُنِهِ فَوَصَلَ إلَى الْجَوْفِ أَوْ إلَى الدِّمَاغِ فَسَدَ صَوْمُهُ، أَمَّا إذَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ فَلَا شَكَّ فِيهِ لِوُجُودِ الْأَكْلِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ. وَكَذَا إذَا وَصَلَ إلَى الدِّمَاغِ لِأَنَّهُ لَهُ مَنْفَذٌ إلَى الْجَوْفِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الْجَوْفِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ: بَالِغْ فِي الْمَضْمَضَةِ، وَالِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْتِثْنَاءَهُ حَالَةَ الصَّوْمِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ فَسَادِ الصَّوْمِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِثْنَاءِ مَعْنًى، وَلَوْ وَصَلَ إلَى الرَّأْسِ ثُمَّ خَرَجَ لَا يُفْسِدُ بِأَنْ اسْتَعَطَ بِاللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجَ بِالنَّهَارِ لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى الْجَوْفِ، أَوْ لَمْ يَسْتَقِرَّ فِيهِ. وَأَمَّا مَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ أَوْ إلَى الدِّمَاغِ عَنْ غَيْرِ الْمَخَارِقِ الْأَصْلِيَّةِ بِأَنْ دَاوَى الْجَائِفَةَ، وَالْآمَةَ، فَإِنْ دَاوَاهَا بِدَوَاءٍ يَابِسٍ لَا يُفْسِدُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى الْجَوْفِ وَلَا إلَى الدِّمَاغِ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ وَصَلَ يُفْسِدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ دَاوَاهَا بِدَوَاءٍ رَطْبٍ يُفْسِدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يُفْسِدُ هُمَا اعْتَبَرَا الْمَخَارِقَ الْأَصْلِيَّةَ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى الْجَوْفِ مِنْ الْمَخَارِقِ الْأَصْلِيَّةِ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَمِنْ غَيْرِهَا مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلَا نَحْكُمُ بِالْفَسَادِ مَعَ الشَّكِّ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إنَّ الدَّوَاءَ إذَا كَانَ رَطْبًا فَالظَّاهِرُ هُوَ الْوُصُولُ لِوُجُودِ الْمَنْفَذِ إلَى الْجَوْفِ فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى الظَّاهِرِ. وَأَمَّا الْإِقْطَارُ فِي الْإِحْلِيلِ فَلَا يُفْسِدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُفْسِدُ، قِيلَ: إنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ بِنَاءٌ عَلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ وَهُوَ كَيْفِيَّةُ خُرُوجِ الْبَوْلِ مِنْ الْإِحْلِيلِ فَعِنْدَهُمَا أَنَّ خُرُوجَهُ مِنْهُ لِأَنَّ لَهُ مَنْفَذًا فَإِذَا قَطَرَ فِيهِ يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ كَالْإِقْطَارِ فِي الْأُذُنِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ خُرُوجَ الْبَوْلِ مِنْهُ مِنْ طَرِيقِ التَّرَشُّحِ كَتَرَشُّحِ الْمَاءِ مِنْ الْخَزَفِ الْجَدِيدِ فَلَا يَصِلُ بِالْإِقْطَارِ فِيهِ إلَى الْجَوْفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَوْلَ يَخْرُجُ مِنْهُ خُرُوجَ الشَّيْءِ مِنْ مَنْفَذِهِ كَمَا قَالَا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ اعْتَمَدَ أُسْتَاذِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ وَقَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا الْإِقْطَارُ فِي قُبُلِ الْمَرْأَةِ فَقَدْ قَالَ مَشَايِخُنَا: إنَّهُ يُفْسِدُ صَوْمَهَا بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ لِمَثَانَتِهَا مَنْفَذًا فَيَصِلُ إلَى الْجَوْفِ كَالْإِقْطَارِ فِي الْأُذُنِ. وَلَوْ طُعِنَ بِرُمْحٍ فَوَصَلَ إلَى جَوْفِهِ أَوْ إلَى دِمَاغِهِ فَإِنْ أَخْرَجَهُ مَعَ النَّصْلِ لَمْ يُفْسِدْ وَإِنْ بَقِيَ النَّصْلُ فِيهِ يُفْسِدُ. وَكَذَا قَالُوا فِيمَنْ ابْتَلَعَ لَحْمًا مَرْبُوطًا عَلَى خَيْطٍ ثُمَّ انْتَزَعَهُ مِنْ سَاعَتِهِ؟ إنَّهُ لَا يُفْسِدُ وَإِنْ تَرَكَهُ فَسَدَ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الصَّائِمِ إذَا أَدْخَلَ خَشَبَةً فِي الْمَقْعَدَةِ؟ إنَّهُ لَا يُفْسِدُ صَوْمَهُ إلَّا إذَا غَابَ طَرَفُ الْخَشَبَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِقْرَارَ الدَّاخِلِ فِي الْجَوْفِ شَرْطُ فَسَادِ الصَّوْمِ، وَلَوْ أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِي دُبُرِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُفْسِدُ صَوْمَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُفْسِدُ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ لِأَنَّ الْأُصْبُعَ لَيْسَتْ بِآلَةِ الْجِمَاعِ فَصَارَتْ كَالْخَشَبِ. وَلَوْ اكْتَحَلَ الصَّائِمُ لَمْ يَفْسُدْ وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَفْسُدُ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّهُ لَمَّا وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ فَقَدْ وَصَلَ إلَى جَوْفِهِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَمَضَانَ وَعَيْنَاهُ مَمْلُوءَتَانِ كُحْلًا كَحَّلَتْهُمَا أُمُّ سَلَمَةَ» وَلِأَنَّهُ لَا مَنْفَذَ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْجَوْفِ وَلَا إلَى الدِّمَاغِ وَمَا وَجَدَ مِنْ طَعْمِهِ فَذَاكَ أَثَرُهُ لَا عَيْنُهُ، وَأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ كَالْغُبَارِ، وَالدُّخَانِ. وَكَذَا لَوْ دَهَنَ رَأْسَهُ أَوْ أَعْضَاءَهُ فَتَشَرَّبَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ الْأَثَرُ لَا الْعَيْنُ. وَلَوْ أَكَلَ حَصَاةً أَوْ نَوَاةً أَوْ خَشَبًا أَوْ حَشِيشًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ عَادَةً وَلَا يَحْصُلُ بِهِ قِوَامُ الْبَدَنِ يَفْسُدُ صَوْمَهُ لِوُجُودِ الْأَكْلِ صُورَةً. وَلَوْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَوْ بَاشَرَهَا أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ فَأَنْزَلَ يَفْسُدُ صَوْمَهُ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَكَذَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَأَنْزَلَتْ الْمَرْأَةُ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الْمَسُّ بِخِلَافِ النَّظَرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِجِمَاعٍ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَضَاءٍ لِلشَّهْوَةِ بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الشَّهْوَةِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ «إيَّاكُمْ، وَالنَّظْرَةَ فَإِنَّهَا تَزْرَعُ فِي الْقَلْبِ

فصل حكم فساد الصوم

الشَّهْوَةَ» . وَلَوْ عَالَجَ ذَكَرَهُ فَأَمْنَى اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَفْسُدُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَفْسُدُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ، وَالْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ لِوُجُودِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ بِفِعْلِهِ فَكَانَ جِمَاعًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ أَوْلَجَ ذَكَرَهُ فِي امْرَأَتِهِ قَبْلَ الصُّبْحِ ثُمَّ خَشِيَ الصُّبْحَ فَانْتَزَعَ مِنْهَا فَأَمْنَى بَعْدَ الصُّبْحِ أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمَهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِلَامِ. وَلَوْ جَامَعَ بَهِيمَةً فَأَنْزَلَ فَسَدَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ الْجِمَاعُ صُورَةً وَمَعْنًى وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْقُصُورِ لِسَعَةِ الْمَحَلِّ، وَلَوْ جَامَعَهَا وَلَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ. وَلَوْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ وَنَفِسَتْ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَسَدَ صَوْمُهَا لِأَنَّ الْحَيْضَ، وَالنِّفَاسَ مُنَافِيَانِ لِلصَّوْمِ لِمُنَافَاتِهِمَا أَهْلِيَّةَ الصَّوْمِ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ مَا إذَا جُنَّ إنْسَانٌ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ نَوَى مِنْ اللَّيْلِ إنَّ صَوْمَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ جَائِزٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْجُنُونَ، وَالْإِغْمَاءَ لَا يُنَافِيَانِ أَهْلِيَّةَ الْأَدَاءِ وَإِنَّمَا يُنَافِيَانِ النِّيَّةَ بِخِلَافِ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ حُكْمُ فَسَادِ الصَّوْمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ فَسَادِ الصَّوْمِ: فَفَسَادُ الصَّوْمِ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ بَعْضُهَا يَعُمُّ الصِّيَامَاتِ كُلَّهَا، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ الْكُلَّ: فَالْإِثْمُ إذَا أَفْسَدَ بِغَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ عَمَلَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَإِبْطَالُ الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ حَرَامٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كَذَلِكَ إلَّا فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعِ مُوجِبٌ لِلْإِتْمَامِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ،، وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ لَا يَأْثَمُ وَإِذَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ بِالْعُذْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ. الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلْإِثْمِ، وَالْمُؤَاخِذَةِ فَنُبَيِّنُهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَقُولُ: هِيَ الْمَرَضُ، وَالسَّفَرُ، وَالْإِكْرَاهُ، وَالْحَبَلُ، وَالرَّضَاعُ، وَالْجُوعُ، وَالْعَطَشُ، وَكِبَرُ السِّنِّ، لَكِنْ بَعْضُهَا مُرَخِّصٌ، وَبَعْضُهَا مُبِيحٌ مُطْلَقٌ لَا مُوجِبٌ، كَمَا فِيهِ خَوْفُ زِيَادَةِ ضَرَرٍ دُونَ خَوْفِ الْهَلَاكِ، فَهُوَ مُرَخِّصٌ وَمَا فِيهِ خَوْفُ الْهَلَاكِ فَهُوَ مُبِيحٌ مُطْلَقٌ بَلْ مُوجِبٌ فَنَذْكُرُ جُمْلَةَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: أَمَّا الْمَرَضُ فَالْمُرَخِّصُ مِنْهُ هُوَ الَّذِي يُخَافُ أَنْ يَزْدَادَ بِالصَّوْمِ وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ خَافَ إنْ لَمْ يُفْطِرْ أَنْ تَزْدَادَ عَيْنَاهُ وَجَعًا، أَوْ حُمَّاهُ شِدَّةً أَفْطَرَ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: أَنَّ الْمَرَضَ الَّذِي يُبِيحُ الْإِفْطَارَ هُوَ مَا يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ، أَوْ زِيَادَةُ الْعِلَّةِ كَائِنًا مَا كَانَتْ الْعِلَّةُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ يُبَاحُ لَهُ أَدَاءُ صَلَاةِ الْفَرْضِ قَاعِدًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُفْطِرَ، وَالْمُبِيحُ الْمُطْلَقُ بَلْ الْمُوجِبُ هُوَ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ لِأَنَّ فِيهِ إلْقَاءَ النَّفْسِ إلَى التَّهْلُكَةِ لَا لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْوُجُوبُ، وَالْوُجُوبُ لَا يَبْقَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَإِنَّهُ حَرَامٌ فَكَانَ الْإِفْطَارُ مُبَاحًا بَلْ وَاجِبًا وَأَمَّا السَّفَرُ فَالْمُرَخِّصُ مِنْهُ هُوَ مُطْلَقُ السَّفَرِ الْمُقَدَّرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِمَا قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أَيْ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا، أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَأَفْطَرَ بِعُذْرِ الْمَرَضِ، وَالسَّفَرِ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، دَلَّ أَنَّ الْمَرَضَ، وَالسَّفَرَ سَبَبَا الرُّخْصَةِ ثُمَّ السَّفَرُ، وَالْمَرَضُ وَإِنْ أَطْلَقَ ذِكْرَهُمَا فِي الْآيَةِ فَالْمُرَادُ مِنْهُمَا الْمُقَيَّدُ لِأَنَّ مُطْلَقَ السَّفَرِ لَيْسَ بِسَبَبِ الرُّخْصَةِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ السَّفَرِ هُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْوَطَنِ، أَوْ الظُّهُورِ، وَذَا يَحْصُلُ بِالْخُرُوجِ إلَى الضَّيْعَةِ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الرُّخْصَةُ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَخِّصَ سَفَرٌ مُقَدَّرٌ بِتَقْدِيرٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْوَطَنِ عَلَى قَصْدِ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي تَقْدِيرِهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَكَذَا مُطْلَقُ الْمَرَضِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلرُّخْصَةِ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ، وَالسَّفَرِ لِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ بِالصَّوْمِ تَيْسِيرًا لَهُمَا وَتَخْفِيفًا عَلَيْهِمَا عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وَمِنْ الْأَمْرَاضِ مَا يَنْفَعُهُ الصَّوْمُ وَيُخِفُّهُ وَيَكُونُ الصَّوْمُ عَلَى الْمَرِيضِ أَسْهَلَ مِنْ الْأَكْلِ، بَلْ الْأَكْلُ يَضُرُّهُ وَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ، وَمِنْ التَّعَبُّدِ التَّرَخُّصُ بِمَا يَسْهُلُ عَلَى الْمَرِيضِ تَحْصِيلُهُ، وَالتَّضْيِيقُ بِمَا يَشْتَدُّ عَلَيْهِ، وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى الْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ مَعَ أَنَّهُمَا أَفْطَرَا بِسَبَبِ الْعُذْرِ الْمُبِيحِ لِلْإِفْطَارِ فَلَأَنْ يَجِبَ عَلَى غَيْرِ ذِي الْعُذْرِ أَوْلَى، وَسَوَاءٌ كَانَ السَّفَرُ سَفَرَ طَاعَةٍ، أَوْ مُبَاحًا، أَوْ مَعْصِيَةٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفِيدُ الرُّخْصَةَ،، وَالْمَسْأَلَةُ مَضَتْ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَسَوَاءٌ سَافَرَ قَبْلَ دُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ، أَوْ بَعْدَهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ فَيُفْطِرُ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ، وَعَنْ عَلِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ إذَا أَهَلَّ فِي الْمِصْرِ ثُمَّ سَافَرَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا اسْتَهَلَّ فِي الْحَضَرِ

لَزِمَهُ صَوْمُ الْإِقَامَةِ، وَهُوَ صَوْمُ الشَّهْرِ حَتْمًا فَهُوَ بِالسَّفَرِ يُرِيدُ إسْقَاطَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ كَالْيَوْمِ الَّذِي سَافَرَ فِيهِ، إنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا، كَذَا هَذَا وَلِعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] جَعَلَ اللَّهُ مُطْلَقَ السَّفَرِ سَبَبَ الرُّخْصَةِ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ إنَّمَا كَانَ سَبَبَ الرُّخْصَةِ لِمَكَانِ الْمَشَقَّةِ وَإِنَّهَا تُوجَدُ فِي الْحَالَيْنِ فَتَثْبُتُ الرُّخْصَةُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا. وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ بِالْإِهْلَالِ فِي الْحَضَرِ لَزِمَهُ صَوْمُ الْإِقَامَةِ، فَنَقُولُ: نَعَمْ إذَا أَقَامَ، أَمَّا إذَا سَافَرَ يَلْزَمُهُ صَوْمُ السَّفَرِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رُخْصَةُ الْإِفْطَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184] فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ عَمَلًا بِالْآيَتَيْنِ. فَكَانَ أَوْلَى بِخِلَافِ الْيَوْمِ الَّذِي سَافَرَ فِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ فَدَخَلَ تَحْتَ خِطَابِ الْمُقِيمِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَلَزِمَهُ إتْمَامُهُ حَتْمًا. فَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّانِي، وَالثَّالِثُ فَهُوَ مُسَافِرٌ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ خِطَابِ الْمُقِيمِينَ، وَلِأَنَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِوُجُوبِ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ فَكَانَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَوْمِ الْإِقَامَةِ. وَأَمَّا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَالثَّالِثِ فَهُوَ مُسَافِرٌ فِيهِ فَكَانَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ فِي حَقِّهِ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَوْمِ السَّفَرِ فَيَثْبُتُ الْوُجُوبُ مَعَ رُخْصَةِ الْإِفْطَارِ وَلَوْ لَمْ يَتَرَخَّصْ الْمُسَافِرُ وَصَامَ رَمَضَانَ جَازَ صَوْمُهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي عِدَّةِ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يَجُوزُ صَوْمُهُ فِي رَمَضَانَ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَحَكَى الْقُدُورِيُّ فِيهِ اخْتِلَافًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: يَجُوزُ صَوْمُهُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسِ وَعَائِشَةَ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعِنْدَ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَا يَجُوزُ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أَمَرَ الْمُسَافِرَ بِالصَّوْمِ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ صَامَ فِي رَمَضَانَ، أَوْ لَمْ يَصُمْ إذْ الْإِفْطَارُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ، فَكَانَ هَذَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَ وَقْتَ الصَّوْمِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ أَيَّامًا أُخَرَ وَإِذَا صَامَ فِي رَمَضَانَ فَقَدْ صَامَ قَبْلَ وَقْتِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي مَنْعِ لُزُومِ الْقَضَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» ، وَالْمَعْصِيَةُ مُضَادَّةٌ لِلْعِبَادَةِ. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ» فَقَدْ حَقَّقَ لَهُ حُكْمَ الْإِفْطَارِ (وَلَنَا) مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَامَ فِي السَّفَرِ وَرُوِيَ أَنَّهُ أَفْطَرَ» كَذَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ صَامُوا فِي السَّفَرِ وَرُوِيَ أَنَّهُمْ أَفْطَرُوا حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَهَلَّ هِلَالُ رَمَضَانَ وَهُوَ يَسِيرُ إلَى نَهْرَوَانَ فَأَصْبَحَ صَائِمًا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمَرَضَ، وَالسَّفَرَ مِنْ الْأَعْذَارِ الْمُرَخِّصَةِ لِلْإِفْطَارِ تَيْسِيرًا وَتَخْفِيفًا عَلَى أَرْبَابِهَا وَتَوْسِيعًا عَلَيْهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] فَلَوْ تَحَتَّمَ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ فِي غَيْرِ السَّفَرِ وَلَا يَجُوزُ فِي السَّفَرِ لَكَانَ فِيهِ تَعْسِيرٌ وَتَضْيِيقٌ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا يُضَادُّ مَوْضُوعَ الرُّخْصَةِ وَيُنَافِي مَعْنَى التَّيْسِيرِ فَيُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ فِي وَضْعِ الشَّرْعِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ لَمَّا كَانَ سَبَبَ الرُّخْصَةِ فَلَوْ وَجَبَ الْقَضَاءُ مَعَ وُجُودِ الْأَدَاءِ لَصَارَ مَا هُوَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ سَبَبَ زِيَادَةِ فَرْضٍ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّ غَيْرِ صَاحِبِ الْعُذْرِ وَهُوَ الْقَضَاءُ مَعَ وُجُودِ الْأَدَاءِ فَيَتَنَاقَضُ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الصَّوْمِ لِلْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَإِنَّ التَّابِعِينَ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ بَعْدَ وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَالْخِلَافُ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ لَا يُمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ فِي الْعَصْرِ الثَّانِي، بَلْ الْإِجْمَاعُ الْمُتَأَخِّرُ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ عِنْدَنَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِفْطَارَ مُضْمَرٌ فِي الْآيَةِ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَتَقْدِيرُهَا: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا، أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. وَعَلَى ذَلِكَ يَجْرِي ذِكْرُ الرُّخْصِ عَلَى أَنَّهُ ذِكْرُ الْحَظْرِ فِي الْقُرْآنِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] إلَى قَوْله تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] أَيْ: مَنْ اُضْطُرَّ فَأَكَلَ لِأَنَّهُ لَا إثْمَ يَلْحَقُهُ بِنَفْسِ الِاضْطِرَارِ وَقَالَ تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] أَيْ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَأَحْلَلْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَى النُّسُكِ مِنْ الْحَجِّ مَا لَمْ يُوجَدْ الْإِحْلَالُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة: 196] أَيْ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا، أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ وَدَفَعَ الْأَذَى عَنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَالْحَدِيثَانِ مَحْمُولَانِ عَلَى مَا إذَا كَانَ الصَّوْمُ يُجْهِدُهُ وَيُضْعِفُهُ فَإِذَا لَمْ يُفْطِرْ فِي السَّفَرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ صَارَ كَاَلَّذِي أَفْطَرَ فِي الْحَضَرِ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِفْطَارُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِمَا فِي الصَّوْمِ

فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ إلْقَاءِ النَّفْسِ إلَى التَّهْلُكَةِ، وَأَنَّهُ حَرَامٌ، ثُمَّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْطَارِ عِنْدَنَا، إذَا لَمْ يُجْهِدْهُ الصَّوْمُ وَلَمْ يُضْعِفْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْإِفْطَارُ أَفْضَلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ عِنْدَنَا عَزِيمَةٌ، وَالْإِفْطَارَ رُخْصَةٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ وَعَائِشَةَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلُ مَذْهَبِنَا وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِثْلُ مَذْهَبِهِ وَاحْتُجَّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] إلَى قَوْله تَعَالَى {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185] ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الصِّيَامَ مَكْتُوبٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَامًّا أَيْ: مَفْرُوضٌ إذْ الْكِتَابَةُ هِيَ الْفَرْضُ لُغَةً، وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْقَضَاءِ عِنْدَ الْإِفْطَارِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، وَالْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ عِنْدَ الْإِفْطَارِ دَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ فِي الْآدَابِ وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي الْفَرَائِضِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَضَاءَ بَدَلٌ عَنْ الْأَدَاءِ فَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْأَصْلِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَّ عَلَيْنَا بِإِبَاحَةِ الْإِفْطَارِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] أَيْ: يُرِيدُ الْإِذْنَ لَكُمْ بِالْإِفْطَارِ لِلْعُذْرِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ فَرْضًا لَمْ يَكُنْ لِلِامْتِنَانِ بِإِبَاحَةِ الْفِطْرِ مَعْنًى لِأَنَّ الْفِطْرَ مُبَاحٌ فِي صَوْمِ النَّفْلِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ، وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185] شَرَطَ إكْمَالَ الْعِدَّةِ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ دَلِيلُ لُزُومِ حِفْظِ الْمَتْرُوكِ لِئَلَّا يَدْخُلَ التَّقْصِيرُ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْفَرَائِضِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ حَمُولَةٌ تَأْوِي إلَى شِبَعٍ فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ حَيْثُ أَدْرَكَهُ» أَمَرَ الْمُسَافِرَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ إذَا لَمْ يُجْهِدْهُ الصَّوْمُ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فَرْضٌ عَلَى الْمُسَافِرِ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ الْإِفْطَارُ وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي سُقُوطِ الْمَأْثَمِ لَا فِي سُقُوطِ الْوُجُوبِ، فَكَانَ وُجُوبُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ مَعْنَى الْعَزِيمَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُسَافِرُ إنْ أَفْطَرَ فَرُخْصَةٌ وَإِنْ يَصُمْ فَهُوَ أَفْضَلُ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُجَّةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ، وَمَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ لَا يَجِبُ، وَالْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِ بِالْحَدِيثَيْنِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّهُمَا يُحْمَلَانِ عَلَى حَالِ خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ لَوْ صَامَ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ أَجْمَعَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ قَوْلُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا وُجُوبَ عَلَى الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ، وَالْإِفْطَارُ مُبَاحٌ مُطْلَقٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِ. وَمَعْنَى الرُّخْصَةِ وَهُوَ التَّيْسِيرُ، وَالسُّهُولَةُ فِي الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ أَكْمَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ سُقُوطِ الْحَظْرِ، وَالْمُؤَاخَذَةِ جَمِيعًا، إلَّا أَنَّهُ إذَا تَرَكَ التَّرَخُّصَ وَاشْتَغَلَ بِالْعَزِيمَةِ يَعُودُ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ، لَكِنْ مَعَ هَذَا؛ الصَّوْمُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْطَارِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَمَّا الْمُبِيحُ الْمُطْلَقُ مِنْ السَّفَرِ فَمَا فِيهِ خَوْفُ الْهَلَاكِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ، وَالْإِفْطَارُ فِي مِثْلِهِ وَاجِبٌ فَضْلًا عَنْ الْإِبَاحَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَرَضِ. وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى إفْطَارِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِالْقَتْلِ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ فَمُرَخَّصٌ، وَالصَّوْمُ أَفْضَلُ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِفْطَارِ حَتَّى قُتِلَ يُثَابُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ، وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي الْإِكْرَاهِ فِي سُقُوطِ الْمَأْثَمِ بِالتَّرْكِ لَا فِي سُقُوطِ الْوُجُوبِ بَلْ بَقِيَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا، وَالتَّرْكُ حَرَامًا وَإِذَا كَانَ الصَّوْمُ وَاجِبًا حَالَةَ الْإِكْرَاهِ، وَالْإِفْطَارُ حَرَامًا كَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى قَائِمًا، فَهُوَ بِالِامْتِنَاعِ بَذَلَ نَفْسَهُ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى طَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ فَكَانَ مُجَاهِدًا فِي دِينِهِ فَيُثَابُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ فَالْإِكْرَاهُ مُبِيحٌ مُطْلَقٌ فِي حَقِّهِمَا بَلْ مُوجِبٌ، وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْإِفْطَارُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا يَسَعُهُ أَنْ لَا يُفْطِرَ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَقُتِلَ يَأْثَمُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ فِي الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ الْوُجُوبُ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْإِكْرَاهِ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةِ التَّرْكِ أَصْلًا فَإِذَا جَاءَ بِالْإِكْرَاهِ وَأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الرُّخْصَةِ فَكَانَ أَثَرُهُ فِي إثْبَاتِ رُخْصَةِ التَّرْكِ لَا فِي إسْقَاطِ الْوُجُوبِ فَكَانَ الْوُجُوبُ قَائِمًا فَكَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى قَائِمًا فَكَانَ بِالِامْتِنَاعِ بَاذِلًا نَفْسَهُ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ أَفْضَلَ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَالْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ فَأَمَّا فِي الْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ فَالْوُجُوبُ مَعَ رُخْصَةِ التَّرْكِ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْإِكْرَاهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِلْإِكْرَاهِ أَثَرٌ آخَرُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا قَبْلَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا إسْقَاطَ الْوُجُوبِ رَأْسًا وَإِثْبَاتَ الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَهُنَاكَ يُبَاحُ لَهُ

الْأَكْلُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ كَذَا هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا حَبَلُ الْمَرْأَةِ وَإِرْضَاعُهَا: إذَا خَافَتَا الضَّرَرَ بِوَلَدِهِمَا فَمُرَخَّصٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ عَيْنَ الْمَرَضِ، فَإِنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَا يَضُرُّهُ الصَّوْمُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فَكَانَ ذِكْرُ الْمَرَضِ كِنَايَةً عَنْ أَمْرٍ يَضُرُّ الصَّوْمُ مَعَهُ. وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا فَيَدْخُلَانِ تَحْتَ رُخْصَةِ الْإِفْطَارِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يُفْطِرُ الْمَرِيضُ، وَالْحُبْلَى إذَا خَافَتْ أَنْ تَضَعَ وَلَدَهَا، وَالْمُرْضِعُ إذَا خَافَتْ الْفَسَادَ عَلَى وَلَدِهَا» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَعَنْ الْحُبْلَى، وَالْمُرْضِعِ الصِّيَامَ» وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ، وَالْفِدْيَةُ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالْحَسَنِ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّهُمَا يَقْضِيَانِ وَلَا يَفْدِيَانِ وَبِهِ أَخَذَ أَصْحَابُنَا. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمُجَاهِدٍ مِنْ التَّابِعِينَ إنَّهُمَا يَقْضِيَانِ وَيَفْدِيَانِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] ، وَالْحَامِلُ، وَالْمُرْضِعُ يُطِيقَانِ الصَّوْمَ فَدَخَلَتَا تَحْتَ الْآيَةِ فَتَجِبُ عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 184] الْآيَةُ، أَوْجَبَ عَلَى الْمَرِيضِ الْقَضَاءَ فَمَنْ ضَمَّ إلَيْهِ الْفِدْيَةَ فَقَدْ زَادَ عَلَى النَّصِّ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُوجِبْ غَيْرَهُ دَلَّ أَنَّهُ كُلُّ حُكْمٍ لِحَادِثَةٍ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَرَضِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ صُورَةَ الْمَرَضِ بَلْ مَعْنَاهُ. وَقَدْ وُجِدَ فِي الْحَامِلِ، وَالْمُرْضِعِ إذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدِهِمَا فَيَدْخُلَانِ تَحْتَ الْآيَةِ، فَكَانَ تَقْدِيرُ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 184] فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِهِ مَعْنًى يَضُرُّهُ الصَّوْمُ أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184] فَقَدْ قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ إنَّ لَا مُضْمَرَةٌ فِي الْآيَةِ مَعْنَاهُ " وَعَلَى الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ، وَإِنَّهُ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] أَيْ: لَا تَضِلُّوا فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ وَلَا يُطِيقُونَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ فِيهَا شَرْعُ الْفِدَاءِ مَعَ الصَّوْمِ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ دُونَ الْجَمْعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] وَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ بِوُجُوبِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتْمًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَعِنْدَهُ يَجِبُ الصَّوْمُ، وَالْفِدَاءُ جَمِيعًا دَلَّ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهَا وَلِأَنَّ الْفِدْيَةَ لَوْ وَجَبَتْ إنَّمَا تَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ، وَمَعْنَى الْجَبْرِ يَحْصُلُ بِالْقَضَاءِ، وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ عَلَى الْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ. وَأَمَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ الشَّدِيدُ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ: فَمُبِيحٌ مُطْلَقٌ بِمَنْزِلَةِ الْمَرَضِ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ بِسَبَبِ الصَّوْمِ، لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَا كِبَرُ السِّنِّ حَتَّى يُبَاحَ لِلشَّيْخِ الْفَانِي أَنْ يُفْطِرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الصَّوْمِ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ عَلَى الْمُطِيقِ لِلصَّوْمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] وَهُوَ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ فَلَا تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ، وَمَا قَالَهُ مَالِكٌ خِلَافُ إجْمَاعِ السَّلَفِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْجَبُوا الْفِدْيَةَ عَلَى الشَّيْخِ الْفَانِي، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْآيَةِ الشَّيْخُ الْفَانِي إمَّا عَلَى إضْمَارِ حَرْفِ لَا فِي الْآيَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِمَّا عَلَى إضْمَارِ كَانُوا أَيْ: وَعَلَى الَّذِينَ كَانُوا يُطِيقُونَهُ " أَيْ: الصَّوْمَ ثُمَّ عَجَزُوا عَنْهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلِأَنَّ الصَّوْمَ لَمَّا فَاتَهُ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى الْجَابِرِ وَتَعَذَّرَ جَبْرُهُ بِالصَّوْمِ فَيُجْبَرُ بِالْفِدْيَةِ، وَتُجْعَلُ الْفِدْيَةُ مِثْلًا لِلصَّوْمِ شَرْعًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِلضَّرُورَةِ كَالْقِيمَةِ فِي ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ، وَمِقْدَارُ الْفِدْيَةِ مِقْدَارُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَهُوَ أَنْ يُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا مِقْدَارَ مَا يُطْعِمُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهِ. ثُمَّ هَذِهِ الْأَعْذَارُ كَمَا تُرَخِّصُ، أَوْ تُبِيحُ الْفِطْرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تُرَخِّصُ، أَوْ تُبِيحُ فِي الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، حَتَّى لَوْ جَاءَ وَقْتُ الصَّوْمِ وَهُوَ مَرِيضٌ مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الصَّوْمَ، أَوْ يَسْتَطِيعُ مَعَ ضَرَرٍ أَفْطَرَ وَقَضَى. وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ. فَأَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَيَتَعَلَّقُ بِفَسَادِهِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ الْقَضَاءِ، وَالثَّانِي: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ، أَمَّا وُجُوبُ الْقَضَاءِ: فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِمُطْلَقِ الْإِفْسَادِ سَوَاءٌ كَانَ صُورَةً وَمَعْنًى، أَوْ صُورَةً لَا مَعْنًى، أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً، وَسَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً، وَسَوَاءٌ كَانَ بِعُذْرٍ، أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ فَيَسْتَدْعِي فَوَاتَ الصَّوْمِ لَا غَيْرَ، وَالْفَوَاتُ يَحْصُلُ بِمُطْلَقِ الْإِفْسَادِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْجَبْرِ بِالْقَضَاءِ، لِيَقُومَ مَقَامَ الْفَائِتِ فَيَنْجَبِرُ الْفَوَاتُ مَعْنًى. وَأَمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِإِفْسَادٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْإِفْطَارُ الْكَامِلُ بِوُجُودِ الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ أَوْ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ

مُبِيحٍ وَلَا مُرَخِّصٍ وَلَا شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ، وَنَعْنِي بِصُورَةِ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ وَمَعْنَاهُمَا: إيصَالَ مَا يُقْصَدُ بِهِ التَّغَذِّي أَوْ التَّدَاوِي إلَى جَوْفِهِ مِنْ الْفَمِ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ قَضَاءُ شَهْوَةِ الْبَطْنِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ. وَنَعْنِي بِصُورَةِ الْجِمَاعِ وَمَعْنَاهُ: إيلَاجَ الْفَرْجِ فِي الْقُبُلِ لِأَنَّ كَمَالَ قَضَاءِ شَهْوَةِ الْفَرْجِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الرَّجُلِ بِالْجِمَاعِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ: «أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه، هَلَكْتُ، وَأَهْلَكْتُ، فَقَالَ: مَاذَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: وَاقَعْتُ امْرَأَتِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ لَهُ: مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا سَفَرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً» . وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهَا عِنْدَنَا إذَا كَانَتْ مُطَاوِعَةً، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ فِي قَوْلٍ: لَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَصْلًا، وَفِي قَوْلٍ: يَجِبُ عَلَيْهَا وَيَتَحَمَّلُهَا الرَّجُلُ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ إنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ عُرِفَ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِمَا نَذْكُرُ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ. وَكَذَا وَرَدَ بِالْوُجُوبِ بِالْوَطْءِ وَأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا مَوْطُوءَةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاطِئَةٍ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الثَّانِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا بِسَبَبِ فِعْلِ الرَّجُلِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ التَّحَمُّلُ كَثَمَنِ مَاءِ الِاغْتِسَالِ، وَلَنَا أَنَّ النَّصَّ وَإِنْ وَرَدَ فِي الرَّجُلِ لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ بِمَعْنًى يُوجَدُ فِيهِمَا، وَهُوَ إفْسَادُ صَوْمِ رَمَضَانَ بِإِفْطَارٍ كَامِلٍ حَرَامٍ مَحْضٍ مُتَعَمِّدًا فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى التَّحَمُّلِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا بِفِعْلِهَا وَهُوَ إفْسَادُ الصَّوْمِ، وَيَجِبُ مَعَ الْكَفَّارَةِ الْقَضَاءُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيِّ: إنْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَزَعَمَ أَنَّ الصَّوْمَيْنِ يَتَدَاخَلَانِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ صَوْمَ الشَّهْرَيْنِ يَجِبُ تَكْفِيرًا زَجْرًا عَنْ جِنَايَةٍ الْإِفْسَادِ، أَوْ رَفْعًا لِذَنْبِ الْإِفْسَادِ، وَصَوْمُ الْقَضَاءِ يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شُرِعَ لِغَيْرِ مَا شُرِعَ لَهُ الْآخَرُ، فَلَا يَسْقُطُ صَوْمُ الْقَضَاءِ بِصَوْمِ شَهْرَيْنِ، كَمَا لَا يَسْقُطُ بِالْإِعْتَاقِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ الَّذِي وَاقَعَ امْرَأَتَهُ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا» . وَلَوْ جَامَعَ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، لِأَنَّهُ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ فَلَأَنْ تَجِبَ بِهِ الْكَفَّارَةُ أَوْلَى. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ: رَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ إذَا تَوَارَتْ الْحَشَفَةُ وَجَبَ الْغُسْلُ أَنْزَلَ، أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ،، وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شُرِعَ لِلزَّجْرِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَهَذَا يَنْدُرُ، وَلِأَنَّ الْمَحَلَّ مَكْرُوهٌ فَأَشْبَهَ وَطْءَ الْمَيْتَةِ. وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ يَعْتَمِدُ إفْسَادَ الصَّوْمِ بِإِفْطَارٍ كَامِلٍ وَقَدْ وُجِدَ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى. وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مَا يَصْلُحُ بِهِ الْبَدَنُ، أَمَّا عَلَى وَجْهِ التَّغَذِّي أَوْ التَّدَاوِي مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لِرَفْعِ الذَّنْبِ، وَالتَّوْبَةُ كَافِيَةٌ لِرَفْعِ الذَّنْبِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مِنْ بَابِ الْمَقَادِيرِ، وَالْقِيَاسُ لَا يَهْتَدِي إلَى تَعْيِينِ الْمَقَادِيرِ، وَإِنَّمَا عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْجِمَاعِ، وَالْأَكْلُ، وَالشُّرْبُ لَيْسَا فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْجِمَاعَ أَشَدُّ حُرْمَةً مِنْهُمَا حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ دُونَهُمَا، فَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْجِمَاعِ لَا يَكُونُ وَارِدًا فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» ، وَعَلَى الْمُظَاهِرِ الْكَفَّارَةُ بِنَصِّ الْكِتَابِ، فَكَذَا عَلَى الْمُفْطِرِ مُتَعَمِّدًا. وَلَنَا أَيْضًا الِاسْتِدْلَال بِالْمُوَاقَعَةِ،، وَالْقِيَاسُ عَلَيْهَا، أَمَّا الِاسْتِدْلَال بِهَا فَهُوَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْمُوَاقَعَةِ وَجَبَتْ لِكَوْنِهَا إفْسَادًا لِصَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا سَفَرٍ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ، وَالْأَكْلُ، وَالشُّرْبُ إفْسَادٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا سَفَرٍ فَكَانَ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ هُنَاكَ إيجَابًا هَهُنَا دَلَالَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْمُوَاقَعَةِ لِمَا ذَكَرْنَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مُجْمَلٌ، وَالْآخَرُ: مُفَسَّرٌ، أَمَّا الْمُجْمَلُ: فَالِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ. وَأَمَّا الْمُفَسَّرُ: فَلِأَنَّ إفْسَادَ صَوْمِ رَمَضَانَ ذَنْبٌ وَرَفْعُ الذَّنْبِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا لِكَوْنِهِ قَبِيحًا، وَالْكَفَّارَةُ تَصْلُحُ رَافِعَةً لَهُ لِأَنَّهَا حَسَنَةٌ. وَقَدْ جَاءَ الشَّرْعُ بِكَوْنِ الْحَسَنَاتِ مِنْ التَّوْبَةِ، وَالْإِيمَانُ، وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ رَافِعَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، إلَّا أَنَّ الذُّنُوبَ مُخْتَلِفَةُ الْمَقَادِيرِ. وَكَذَا الرَّوَافِعَ لَهَا لَا يَعْلَمُ مَقَادِيرَهَا إلَّا الشَّارِعُ لِلْأَحْكَامِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَمَتَى وَرَدَ

الشَّرْعُ فِي ذَنْبٍ خَاصٍّ بِإِيجَابِ رَافِعٍ خَاصٍّ وَوُجِدَ مِثْلُ ذَلِكَ الذَّنْبِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ كَانَ ذَلِكَ إيجَابًا لِذَلِكَ الرَّافِعِ فِيهِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ ثَابِتًا بِالنَّصِّ لَا بِالتَّعْلِيلِ، وَالْقِيَاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَجْهُ الْقِيَاسِ عَلَى الْمُوَاقَعَةِ فَهُوَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ هُنَاكَ وَجَبَتْ لِلزَّجْرِ عَنْ إفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ صِيَانَةً لَهُ فِي الْوَقْتِ الشَّرِيفِ، لِأَنَّهَا تَصْلُحُ زَاجِرَةً، وَالْحَاجَةُ مَسَّتْ إلَى الزَّاجِرِ. أَمَّا الصَّلَاحِيَّةُ فَلِأَنَّ مَنْ تَأَمَّلَ أَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ لَزِمَهُ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا لَامْتَنَعَ مِنْهُ. وَأَمَّا الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ فَلِوُجُودِ الدَّاعِي الطَّبِيعِيِّ إلَى الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْجِمَاعِ، وَهُوَ شَهْوَةُ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْجِمَاعِ، وَهَذَا فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ أَكْثَرُ لِأَنَّ الْجُوعَ، وَالْعَطَشَ يُقَلِّلُ الشَّهْوَةَ، فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ عَنْ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ أَكْثَرَ، فَكَانَ شَرْعُ الزَّاجِرِ هُنَاكَ شَرْعًا هَهُنَا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يُمْنَعُ عَدَمُ جَوَازِ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْمُقْتَضِيَةَ لِكَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً لَا تَفْصِلُ بَيْنَ الْكَفَّارَةِ وَغَيْرِهَا. وَلَوْ أَكَلَ مَا لَا يُتَغَذَّى بِهِ وَلَا يُتَدَاوَى: كَالْحَصَاةِ، وَالنَّوَاةِ، وَالتُّرَابِ، وَغَيْرِهَا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْإِفْطَارُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَلَنَا أَنَّ هَذَا إفْطَارٌ صُورَةً لَا مَعْنًى لِأَنَّ مَعْنَى الصَّوْمِ وَهُوَ: الْكَفُّ عَنْ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ قَائِمٌ، وَإِنَّمَا الْفَائِتُ صُورَةُ الصَّوْمِ إلَّا أَنَّا أَلْحَقْنَا الصُّورَةَ بِالْحَقِيقَةِ وَحَكَمْنَا بِفَسَادِ الصَّوْمِ احْتِيَاطًا، وَلَوْ بَلَعَ جَوْزَةً صَحِيحَةً يَابِسَةً، أَوْ لَوْزَةً يَابِسَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِوُجُودِ الْأَكْلِ صُورَةً لَا مَعْنًى، لِأَنَّهُ لَا يُعْتَادُ أَكْلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَأَشْبَهَ أَكْلَ الْحَصَا. وَلَوْ مَضَغَ الْجَوْزَةَ أَوْ اللَّوْزَةَ الْيَابِسَةَ حَتَّى يَصِلَ الْمَضْغُ إلَى جَوْفِهَا حَتَّى ابْتَلَعَهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، كَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ أَكَلَ لُبَّهَا إلَّا أَنَّهُ ضَمَّ إلَيْهَا مَا لَا يُؤْكَلُ عَادَةً، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّهُ لَوْ أَكَلَ لَوْزَةً صَغِيرَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ. وَقَوْلُهُ فِي اللَّوْزَةِ مَحْمُولٌ عَلَى اللَّوْزَةِ الرَّطْبَةِ لِأَنَّهَا مَأْكُولَةٌ كُلُّهَا كَالْخَوْخَةِ، وَلَوْ أَكَلَ جَوْزَةً رَطْبَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ عَادَةً وَلَا يَحْصُلُ بِهِ التَّغَذِّي، وَالتَّدَاوِي. وَلَوْ أَكَلَ عَجِينًا أَوْ دَقِيقًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِمَا التَّغَذِّي وَلَا التَّدَاوِي، فَلَا يَفُوتُ مَعْنَى الصَّوْمِ، وَذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى رِوَايَةً عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الدَّقِيقِ، وَالْعَجِينِ فَقَالَ: فِي الدَّقِيقِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ وَفِي الْعَجِينِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ. وَلَوْ قَضَمَ حِنْطَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُقْصَدُ بِالْأَكْلِ. وَلَوْ ابْتَلَعَ إهْلِيلَجَةً، رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ لَا يُتَدَاوَى بِهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. وَرَوَى هِشَام عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ قَالَ الْكَرْخِيُّ: وَهَذَا أَقْيَسُ عِنْدِي، لِأَنَّهُ يُتَدَاوَى بِهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ. وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ. وَلَوْ أَكَلَ طِينًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ لِمَا قُلْنَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرْمَنِيًّا، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ. وَكَذَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ مُحَمَّدٌ: لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَارِيقُونَ أَيْ: يُتَدَاوَى بِهِ، قَالَ ابْنُ رُسْتُمَ: فَقُلْتُ لَهُ هَذَا الطِّينُ الَّذِي يُقْلَى يَأْكُلُهُ النَّاسُ؟ قَالَ لَا أَدْرِي مَا هَذَا فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يُتَدَاوَى بِهِ، أَوْ لَا. وَلَوْ أَكَلَ وَرَقَ الشَّجَرِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُؤْكَلُ عَادَةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَكَلَ مِسْكًا أَوْ غَالِيَةً أَوْ زَعْفَرَانَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، لِأَنَّ هَذَا يُؤْكَلُ وَيُتَدَاوَى بِهِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ تَنَاوَلَ سِمْسِمَةً؟ قَالَ: فَطَّرَتْهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، أَوْ لَا، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ السِّمْسِمَةَ لَوْ كَانَتْ بَيْنَ أَسْنَانِهِ فَابْتَلَعَهَا أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ امْتَصَّ سُكَّرَةً بِفِيهِ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا حَتَّى دَخَلَ الْمَاءُ حَلْقَهُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّ السُّكَّرَ هَكَذَا يُؤْكَلُ. وَلَوْ مَصَّ إهْلِيلَجَةً فَدَخَلَ الْمَاءُ حَلْقَهُ؟ قَالَ: لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ ذَكَرَهُ فِي الْفَتَاوَى. وَلَوْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ دَمٌ فَدَخَلَ حَلْقَهُ أَوْ ابْتَلَعَهُ فَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلدَّمِ فَسَدَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْبُزَاقِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَا سَوَاءً فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَفْسُدَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَفْسُدُ احْتِيَاطًا، وَلَوْ أَخْرَجَ الْبُزَاقَ مِنْ فِيهِ ثُمَّ ابْتَلَعَهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَكَذَا إذَا ابْتَلَعَ بُزَاقَ غَيْرِهِ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُعَافُ مِنْهُ حَتَّى لَوْ ابْتَلَعَ لُعَابَ حَبِيبِهِ، أَوْ صَدِيقِهِ ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ، وَالْكَفَّارَةَ لِأَنَّ الْحَبِيبَ لَا يَعَافُ رِيقَ حَبِيبِهِ، أَوْ صَدِيقِهِ. وَلَوْ أَكَلَ

لَحْمًا قَدِيدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ فِي الْجُمْلَةِ. وَلَوْ أَكَلَ شَحْمًا قَدِيدًا؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ. وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: إنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ، وَالْكَفَّارَةَ كَمَا فِي اللَّحْمِ، لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ فِي الْجُمْلَةِ كَاللَّحْمِ الْقَدِيدِ. وَلَوْ أَكَلَ مَيْتَةً فَإِنْ كَانَتْ قَدْ أَنْتَنَتْ وَدَوَّدَتْ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ. وَلَوْ أَوْلَجَ وَلَمْ يُنْزِلْ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى، إذْ الْجِمَاعُ: هُوَ الْإِيلَاجُ، فَأَمَّا الْإِنْزَالُ: فَفَرَاغٌ مِنْ الْجِمَاعِ فَلَا يُعْتَبَرُ وَلَوْ أَنْزَلَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِقُصُورٍ فِي الْجِمَاعِ لِوُجُودِهِ مَعْنًى لَا صُورَةً، وَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَ بَهِيمَةً فَأَنْزَلَ لِقُصُورٍ فِي قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لِسَعَةِ الْمَحَلِّ وَنَبْوَةِ الطَّمَعِ. وَلَوْ أَخَذَ لُقْمَةً مِنْ الْخُبْزِ لِيَأْكُلَهَا وَهُوَ نَاسٍ فَلَمَّا مَضَغَهَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ صَائِمٌ فَابْتَلَعَهَا وَهُوَ ذَاكِرٌ ذُكِرَ فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ لِلْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ ابْتَلَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ ثُمَّ أَعَادَهَا فَابْتَلَعَهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ ابْتَلَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ ثُمَّ أَعَادَهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: هَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَهَا صَارَ بِحَالٍ يُعَافُ مِنْهَا وَمَا دَامَتْ فِي فِيهِ فَإِنَّهُ يَتَلَذَّذُ بِهَا. وَلَوْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَإِذَا هُوَ طَالِعٌ أَوْ أَفْطَرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَغْرُبْ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ مُتَعَمِّدًا بَلْ خَاطِئًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا فِي سَفَرِهِ ثُمَّ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُبِيحَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ قَائِمٌ وَهُوَ السَّفَرُ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الشُّبْهَةَ إذَا اسْتَنَدَتْ إلَى صُورَةِ دَلِيلٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ اُعْتُبِرَتْ فِي مَنْعِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَإِلَّا فَلَا. وَقَدْ وُجِدَتْ هَهُنَا، وَهِيَ صُورَةُ السَّفَرِ لِأَنَّهُ مُرَخِّصٌ أَوْ مُبِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ. وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا أَوْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الشُّبْهَةَ هَهُنَا اسْتَنَدَتْ إلَى مَا هُوَ دَلِيلٌ فِي الظَّاهِرِ لِوُجُودِ الْمُضَادِّ لِلصَّوْمِ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ حَتَّى قَالَ مَالِكٌ بِفَسَادِ الصَّوْمِ بِالْأَكْلِ نَاسِيًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ لَقُلْتُ لَهُ يَقْضِي. وَكَذَا الْقَيْءُ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ عَوْدِ بَعْضِهِ مِنْ الْفَمِ إلَى الْجَوْفِ، فَكَانَتْ الشُّبْهَةُ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ فَاعْتُبِرَتْ، قَالَ مُحَمَّدٌ: إلَّا أَنْ يَكُونَ بَلَغَهُ، أَيْ: بَلَغَهُ الْخَبَرُ أَنَّ أَكْلَ النَّاسِي وَالْقَيْءَ لَا يُفْطِرَانِ، فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ ظَنَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ فَلَا يُعْتَبَرُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ بَلَغَهُ الْخَبَرُ وَعَلِمَ أَنَّ صَوْمَهُ لَمْ يَفْسُدْ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ. فَإِنْ احْتَجَمَ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا، إنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ فَكَانَتْ الشُّبْهَةُ مُسْتَنِدَةً إلَى صُورَةِ دَلِيلٍ، وَإِنْ بَلَغَهُ خَبَرُ الْحِجَامَةِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» ؟ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَاجِبُ الْعَمَلِ بِهِ فِي الْأَصْلِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَامِّيِّ الِاسْتِفْتَاءُ مِنْ الْمُفْتِي لَا الْعَمَلُ بِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ يَكُونُ مَنْسُوخًا وَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرُهُ مَتْرُوكًا، فَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً، وَإِنْ لَمْ يَسْتَفْتِ فَقِيهًا وَلَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْحِجَامَةَ لَا تُنَافِي رُكْنَ الصَّوْمِ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ، فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ مُسْتَنِدَةً إلَى دَلِيلٍ أَصْلًا. وَلَوْ لَمَسَ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ أَوْ قَبَّلَهَا أَوْ ضَاجَعَهَا وَلَمْ يُنْزِلْ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي رُكْنَ الصَّوْمِ فِي الظَّاهِرِ، فَكَانَ ظَنُّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ إلَّا إذَا تَأَوَّلَ حَدِيثًا أَوْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْطَرَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخْطَأَ الْفَقِيهُ وَلَمْ يَثْبُتْ الْحَدِيثُ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَالْفَتْوَى يَصِيرُ شُبْهَةً. وَلَوْ اغْتَابَ إنْسَانًا فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ ثُمَّ أَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا أَوْ تَأَوَّلَ حَدِيثًا لِأَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِفَتْوَى الْفَقِيهِ وَلَا بِتَأْوِيلِهِ الْحَدِيثَ هَهُنَا لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُشْتَبَهُ عَلَى مَنْ لَهُ سِمَةٌ مِنْ الْفِقْهِ وَهُوَ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْمَرْوِيِّ «الْغِيبَةُ تُفْطِرُ الصَّائِمَ» حَقِيقَةَ الْإِفْطَارِ فَلَمْ يَصِرْ ذَلِكَ شُبْهَةً. وَكَذَا لَوْ دَهَنَ شَارِبَهُ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا أَوْ تَأَوَّلَ حَدِيثًا لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ مُقِيمٌ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ثُمَّ سَافَرَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ

لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ، وَلَوْ مَرِضَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ مَرَضًا يُرَخِّصُ الْإِفْطَارَ أَوْ يُبِيحُهُ تَسْقُطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي الْمَرَضِ مَعْنًى يُوجِبُ تَغْيِيرَ الطَّبِيعَةِ عَنْ الصِّحَّةِ إلَى الْفَسَادِ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى يَحْدُثُ فِي الْبَاطِنِ ثُمَّ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الظَّاهِرِ، فَلَمَّا مَرِضَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِفْطَارِ لَكِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ فِي الظَّاهِرِ فَكَانَ الْمُرَخِّصُ أَوْ الْمُبِيحُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِفْطَارِ، فَمَنَعَ انْعِقَادَ الْإِفْطَارِ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ، أَوْ وُجُودُ أَصْلِهِ أَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْوُجُوبِ وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي السَّفَرِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْخُرُوجِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان، وَإِنَّهُ يُوجَدُ مَقْصُورًا عَلَى حَالِ وُجُودِهِ فَلَمْ يَكُنْ الْمُرَخِّصُ أَوْ الْمُبِيحُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِفْطَارِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِهَا، وَكَذَلِكَ إذَا أَفْطَرَتْ الْمَرْأَةُ ثُمَّ حَاضَتْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ نَفِسَتْ سَقَطَتْ عَنْهَا الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْحَيْضَ دَمٌ مُجْتَمِعٌ فِي الرَّحِمِ يَخْرُجُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِفْطَارِ لَكِنَّهُ لَمْ يَبْرُزْ فَمَنَعَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ. وَلَوْ سَافَرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مُكْرَهًا لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ زُفَرَ تَسْقُطُ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَخِّصَ أَوْ الْمُبِيحَ وُجِدَ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَاضِي. وَلَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ فَمَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا مُرَخِّصًا لِلْإِفْطَارِ أَوْ مُبِيحًا؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَسْقُطُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَسْقُطُ. وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْمَرَضَ هُنَا حَدَثَ مِنْ الْجُرْحِ وَإِنَّهَا وُجِدَتْ مَقْصُورَةً عَلَى الْحَالِ فَكَانَ الْمَرَضُ مَقْصُورًا عَلَى حَالِ حُدُوثِهِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَنْ أَصْبَحَ فِي رَمَضَانَ لَا يَنْوِي الصَّوْمَ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ يَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ عِنْدَهُ فَوُجِدَ إفْسَادُ صَوْمِ رَمَضَانَ بِشَرَائِطِهِ، وَعِنْدَنَا لَا يَتَأَدَّى فَلَمْ يُوجَدْ الصَّوْمُ فَاسْتَحَالَ الْإِفْسَادُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إنْ أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَإِنْ أَكَلَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَبَيْنَ أَبِي يُوسُفَ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَيْنَ صَاحِبَيْهِ. وَجْهُ قَوْلِ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ: أَنَّ الْإِمْسَاكَ قَبْلَ الزَّوَالِ كَانَ بِفَرْضِ أَنْ يَصِيرَ صَوْمًا قَبْلَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ لِجَوَازِ أَنْ يَنْوِيَ فَإِذَا أَكَلَ فَقَدْ أَبْطَلَ الْفَرْضِيَّةَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَصِيرَ صَوْمًا فَكَانَ إفْسَادًا لِلصَّوْمِ مَعْنًى بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّ الْأَكْلَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يَقَعْ إبْطَالًا لِلْفَرْضِيَّةِ لِبُطْلَانِهَا قَبْلَ الْأَكْلِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ أَصْبَحَ لَا يَنْوِي صَوْمًا ثُمَّ نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ جَامَعَ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِ؟ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ يَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فَكَانَتْ النِّيَّةُ مِنْ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ سَوَاءً، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَوْ جَامَعَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، فَكَذَا إذَا جَامَعَ فِي آخِرِهِ لِأَنَّ الْيَوْمَ فِي كَوْنِهِ مَحَلَّا لِلصَّوْمِ وَلَا يَتَجَزَّأُ أَوْ يُوجِبُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي آخِرِ الْيَوْمِ وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى فِيمَنْ أَصْبَحَ يَنْوِي الْفِطْرَ ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَالْكَلَامُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا مِرَارًا بِأَنْ جَامَعَ فِي يَوْمٍ ثُمَّ جَامَعَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ثُمَّ فِي الثَّالِثِ وَلَمْ يُكَفِّرْ فَعَلَيْهِ لِجَمِيعِ ذَلِكَ كُلِّهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ، وَلَوْ جَامَعَ فِي يَوْمٍ ثُمَّ كَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ فِي يَوْمٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى زُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى، وَلَوْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَيْنِ وَلَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ جِمَاعٍ كَفَّارَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْكَيْسَانِيَّاتِ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً وَكَذَا حَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ تَكَرَّرَ سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ الْجِمَاعُ عِنْدَهُ، وَإِفْسَادُ الصَّوْمِ عِنْدَنَا، وَالْحُكْمُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْأَصْلُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ فِيهِ ضَرُورَةٌ كَمَا فِي الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَهِيَ الْحُدُودُ لِمَا فِي التَّكَرُّرِ مِنْ خَوْفِ الْهَلَاكِ وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا فَيَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ وَلِهَذَا تَكَرَّرَ فِي سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ وَهِيَ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ، وَالْيَمِينِ، وَالظِّهَارِ. وَلَنَا حَدِيثُ «الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَاقَعْتُ امْرَأَتِي أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ بِقَوْلِهِ أَعْتِقْ رَقَبَةً» وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ وَاقَعْتُ يَحْتَمِلُ الْمَرَّةَ وَالتَّكْرَارَ وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ فَدَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْمَرَّةِ وَالتَّكْرَارِ وَلِأَنَّ مَعْنَى الزَّجْرِ لَازِمٌ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ أَعْنِي كَفَّارَةَ الْإِفْطَارِ بِدَلِيلِ اخْتِصَاصِ وُجُوبِهَا بِالْعَمْدِ الْمَخْصُوصِ فِي الْجِنَايَةِ الْخَالِصَةِ الْخَالِيَةِ عَنْ

فصل حكم الصوم المؤقت إذا فات عن وقته

الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ، وَالزَّجْرُ يَحْصُلُ بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا جَامَعَ فَكَفَّرَ ثُمَّ جَامَعَ لِأَنَّهُ لَمَّا جَامَعَ بَعْدَ مَا كَفَّرَ عُلِمَ أَنَّ الزَّجْرَ لَمْ يَحْصُلْ بِالْأَوَّلِ. وَلَوْ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ فَأَعْتَقَ ثُمَّ أَفْطَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَأَعْتَقَ ثُمَّ أَفْطَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَأَعْتَقَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الرَّقَبَةُ الْأُولَى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ تُجْزِئُ عَنْ الْأُولَى. وَكَذَا لَوْ اُسْتُحِقَّتْ الثَّانِيَةُ لِأَنَّ الثَّالِثَةَ تُجْزِئُ عَنْ الثَّانِيَةِ وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الثَّالِثَةُ فَعَلَيْهِ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ لَا يُجْزِئُ عَمَّا تَأَخَّرَ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الثَّانِيَةُ أَيْضًا فَعَلَيْهِ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ لِلْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الْأُولَى أَيْضًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ بِالِاسْتِحْقَاقِ يَلْتَحِقُ بِالْعَدَمِ، وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقَدْ أَفْطَرَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَمْ يُكَفِّرْ لِشَيْءٍ مِنْهَا فَتَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الْأُولَى وَالثَّالِثَةُ دُونَ الثَّانِيَةِ أَعْتَقَ رَقَبَةً وَاحِدَةً لِلْيَوْمِ الثَّالِثِ، لِأَنَّ الثَّانِيَةَ أَجْزَأَتْ عَنْ الْأُولَى، وَالْأَصْلَ فِي هَذَا الْجِنْسِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ الثَّانِي يُجْزِئُ عَمَّا قَبْلَهُ، وَلَا يُجْزِئُ عَمَّا بَعْدَهُ. وَأَمَّا صِيَامُ غَيْرِ رَمَضَانَ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِإِفْسَادِ شَيْءٍ مِنْهُ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِإِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ عُرِفَ بِالتَّوْقِيفِ، وَأَنَّهُ صَوْمٌ شَرِيفٌ فِي وَقْتٍ شَرِيفٍ لَا يُوَازِيهِمَا غَيْرُهُمَا مِنْ الصِّيَامِ وَالْأَوْقَاتِ فِي الشَّرَفِ وَالْحُرْمَةِ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ. وَأَمَّا وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَأَمَّا الصِّيَامُ الْمَفْرُوضُ: فَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ مُتَتَابِعًا كَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ وَالْمَنْذُورِ مُتَتَابِعًا فَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ لِفَوَاتِ الشَّرَائِطِ وَهُوَ التَّتَابُعُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَتَابِعًا كَصَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ وَالنَّذْرِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ فَحُكْمُهُ أَنْ لَا يَعْتَدَّ بِهِ عَمَّا عَلَيْهِ وَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ، وَعَلَيْهِ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَفِي الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَسَدَ. وَأَمَّا صَوْمُ التَّطَوُّعِ: فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «أَصْبَحْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ فَأُهْدِيَ إلَيْنَا حَيْسٌ فَأَكَلْنَا مِنْهُ فَسَأَلَتْ حَفْصَةُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ» وَالْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَلَامِ فِي وُجُوبِ الْمُضِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الصَّوْمِ الْمَظْنُونِ إذَا أَفْسَدَهُ بِأَنْ شَرَعَ فِي صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فَأَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لَكِنْ الْأَفْضَلُ أَنْ يَمْضِيَ فِيهِ. وَقَالَ زُفَرُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةٍ يَظُنُّ أَنَّهَا عَلَيْهِ مِثْلَ قَوْلِ زُفَرَ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا شَرَعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ ثُمَّ أَيْسَرَ فِي خِلَالِهِ فَأَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ شَرَعَ فِي النَّفْلِ وَلِهَذَا نُدِبَ إلَى الْمُضِيِّ فِيهِ، وَالشُّرُوعُ فِي النَّفْلِ مُلْزَمٌ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، فَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِيهِ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إذَا أَفْسَدَ، كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي النَّفْلِ ابْتِدَاءً وَلِهَذَا كَانَ الشُّرُوعُ فِي الْحَجِّ الْمَظْنُونِ مُلْزَمًا كَذَا الصَّوْمُ وَلَنَا أَنَّهُ شَرَعَ مُسْقِطًا لَا مُوجِبًا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَصَدَ بِالشُّرُوعِ إسْقَاطَ مَا فِي ذِمَّتِهِ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِمَّتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ قَصْدًا، وَالشُّرُوعُ فِي الْعِبَادَةِ لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَّا أَنَّهُ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَمْضِيَ فِيهِ لِشُرُوعِهِ فِي الْعِبَادَةِ فِي زَعْمِهِ وَتَشَبُّهِهِ بِالشَّارِعِ فِي الْعِبَادَةِ فَيُثَابُ عَلَيْهِ كَمَا يُثَابُ الْمُتَشَبِّهُ بِالصَّائِمِينَ بِإِمْسَاكِ بَقِيَّةِ يَوْمِهِ إذَا أَفْطَرَ بِعُذْرٍ، وَالِاشْتِبَاهُ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ فِي بَابِ الصَّوْمِ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْقَضَاءَ لَوَقَعَ فِي الْحَرَجِ بِخِلَافِ الْحَجِّ، فَإِنَّ وُقُوعَ الشَّكِّ وَالِاشْتِبَاهِ فِي بَابِ الْحَجِّ نَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ، فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَلَا يَكُونُ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ حَرَجٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ حُكْمُ الصَّوْمِ الْمُؤَقَّتِ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الصَّوْمِ الْمُؤَقَّتِ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ فَالصَّوْمُ الْمُؤَقَّتُ نَوْعَانِ: صَوْمُ رَمَضَانَ وَالْمَنْذُورُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ. أَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَيَتَعَلَّقُ بِفَوَاتِهِ أَحْكَامٌ ثَلَاثَةٌ: وُجُوبُ إمْسَاكِ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ فِي حَالٍ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ فِي حَالٍ وَوُجُوبُ الْفِدَاءِ فِي حَالٍ. أَمَّا وُجُوبُ الْإِمْسَاكِ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ فَكُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مَانِعٌ مِنْ الْوُجُوبِ أَوْ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ ثُمَّ زَالَ عُذْرُهُ وَصَارَ بِحَالٍ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَلَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ كَالصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَطَهُرَتْ الْحَائِضُ وَقَدِمَ الْمُسَافِرُ مَعَ قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ. وَكَذَا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَالْأَهْلِيَّةِ ثُمَّ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهِ بِأَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا أَوْ أَصْبَحَ يَوْمَ الشَّكِّ مُفْطِرًا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ تَسَحَّرَ عَلَى

ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ طَلَعَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ تَشَبُّهًا بِالصَّائِمِينَ. وَهَذَا عِنْدَنَا، وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَكُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ مَعَ قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ تَشَبُّهًا وَمَنْ لَا فَلَا، فَعَلَى قَوْلِهِ لَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَلَى الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، وَالْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ، وَالْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ، وَالْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ، وَالْمُسَافِرِ إذَا قَدِمَ مِصْرَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِمْسَاكَ تَشَبُّهًا يَجِبُ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ، وَالصَّوْمُ لَمْ يَجِبْ فَلَمْ يَجِبْ الْإِمْسَاكُ خَلَفًا وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ فَقَدِمَ بَعْدَ مَا أَكَلَ النَّاذِرُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ كَذَا هَهُنَا وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ: إلَّا مَنْ أَكَلَ فَلَا يَأْكُلَنَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ» وَصَوْمُ عَاشُورَاءَ كَانَ فَرْضًا يَوْمئِذٍ، وَلِأَنَّ زَمَانَ رَمَضَانَ وَقْتٌ شَرِيفٌ فَيَجِبُ تَعْظِيمُ هَذَا الْوَقْتِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ تَعْظِيمِهِ بِتَحْقِيقِ الصَّوْمِ فِيهِ يَجِبُ تَعْظِيمُهُ بِالتَّشَبُّهِ بِالصَّائِمِينَ قَضَاءً لِحَقِّهِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ إذَا كَانَ أَهْلًا لِلتَّشَبُّهِ وَنَفْيًا لِتَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِلتُّهْمَةِ، وَفِي حَقِّ هَذَا الْمَعْنَى الْوُجُوبُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَعَدَمُ الْوُجُوبِ سَوَاءٌ. وَقَوْلُهُ التَّشَبُّهُ وَجَبَ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ مَمْنُوعٌ بَلْ يَجِبُ قَضَاءً لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ لَا خَلَفًا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ النَّذْرِ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَا يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ حَتَّى يَجِبَ قَضَاءُ حَقِّهِ بِإِمْسَاكِ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ. وَأَمَّا وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَالْكَلَامُ فِي قَضَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَصْلِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهِ، وَكَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ، أَمَّا أَصْلُ الْوُجُوبِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا أَنْ تُقْضَى لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَسَوَاءٌ فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْمَعْذُورِ فَلَأَنْ يَجِبَ عَلَى الْمُقَصِّرِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى جَبْرِ الْفَائِتِ بَلْ حَاجَةُ غَيْرِ الْمَعْذُورِ أَشَدُّ. وَأَمَّا بَيَانُ شَرَائِطِ وُجُوبِهِ فَمِنْهَا الْقُدْرَةُ عَلَى الْقَضَاءِ حَتَّى لَوْ فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِعُذْرِ الْمَرَضِ أَوْ السَّفَرِ وَلَمْ يَزَلْ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا حَتَّى مَاتَ لَقِيَ اللَّهَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ إنْ أَوْصَى بِأَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَيُطْعَمُ عَنْهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ لِأَنَّ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْوُجُوبِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ أَنَّهُ يَصِحُّ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَذَا هَذَا فَإِنْ بَرِئَ الْمَرِيضُ أَوْ قَدِمَ الْمُسَافِرُ وَأَدْرَكَ مِنْ الْوَقْتِ بِقَدْرِ مَا فَاتَهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ جَمِيعِ مَا أَدْرَكَ، لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْقَضَاءِ لِزَوَالِ الْعُذْرِ، فَإِنْ لَمْ يَصُمْ حَتَّى أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ وَهِيَ أَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا لِأَنَّ الْقَضَاءَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ ثُمَّ عَجَزَ عَنْهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ فَيَتَحَوَّلُ الْوُجُوبُ إلَى بَدَلِهِ وَهُوَ الْفِدْيَةُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ وَهُوَ شَدِيدُ الْمَرَضِ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ فَمَاتَ هَلْ يُقْضَى عَنْهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُطِيقَ الصِّيَامَ فَلَا يُقْضَى عَنْهُ، وَإِنْ مَاتَ وَهُوَ مَرِيضٌ وَقَدْ أَطَاقَ الصِّيَامَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ فَلْيُقْضَ عَنْهُ» . وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْقَضَاءُ بِالْفِدْيَةِ لَا بِالصَّوْمِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَصُومَنَّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ» وَلِأَنَّ مَا لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ حَالَةَ الْحَيَاةِ لَا يَحْتَمِلُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُفَسَّرًا أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ أَطْعَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَوْصَى أَوْ عَلَى النَّدْبِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَإِذَا أَوْصَى بِذَلِكَ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَتَبَرَّعَ بِهِ الْوَرَثَةُ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّعُوا لَمْ يَلْزَمْهُمْ، وَتَسْقُطُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَلْزَمُهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ. وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كَالِاخْتِلَافِ فِي الزَّكَاةِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ وَالْفِدْيَةُ بَدَلٌ عَنْهَا، وَالْأَصْلُ لَا يَتَأَدَّى بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ فَكَذَا الْبَدَلُ وَالْبَدَلُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ جَبْرًا وَالْجَبْرُ يُنَافِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ هَذَا إذَا أَدْرَكَ مِنْ الْوَقْتِ بِقَدْرِ مَا فَاتَهُ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ، فَأَمَّا إذَا أَدْرَكَ بِقَدْرِ مَا يَقْضِي فِيهِ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ بِأَنْ صَحَّ الْمَرِيضُ أَيَّامًا ثُمَّ مَاتَ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِقَدْرِ مَا صَحَّ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ حَتَّى لَوْ مَاتَ

لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْإِطْعَامِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ بَلْ لِذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي لَمْ يَصُمْهُ وَإِنْ صَامَهُ فَلَا وَصِيَّةَ عَلَيْهِ رَأْسًا. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فَقَالَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْجَمِيعِ إذَا صَحَّ يَوْمًا وَاحِدًا حَتَّى يَلْزَمَهُ الْوَصِيَّةُ بِالْإِطْعَامِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ إنْ لَمْ يَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَإِنْ صَامَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ بِقَدْرِ مَا أَدْرَكَ وَمَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ قَوْلُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا، وَمَا أَثْبَتَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ غَلَطٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ النَّذْرِ، وَهِيَ أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا. فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِحَّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا وَاحِدًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْإِطْعَامِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مِقْدَارُ مَا يَصِحُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ. وَإِنْ كَانَ مَسْأَلَةُ الْقَضَاءِ عَلَى الِاتِّفَاقِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْفِعْلِ شَرْطُ وُجُوبِ الْفِعْلِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَانَ الْإِيجَابُ تَكْلِيفَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الْوُسْعُ، وَأَنَّهُ مُحَالٌ عَقْلًا وَمَوْضُوعٌ شَرْعًا وَلَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى صَوْمِ بَعْضِ الْأَيَّامِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرُ، فَإِنْ صَامَ ذَلِكَ الْقَدْرَ فَقَدْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَإِنْ لَمْ يَصُمْ فَقَدْ قَصَّرَ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ لِذَلِكَ الْقَدْرِ لَا غَيْرُ إذْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَتَانِ عَلَى الِاخْتِلَافِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ فِيهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مِنْ صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ إلَّا قَدْرُ أَيَّامِ الصِّحَّةِ حَتَّى لَا يَلْزَمُهُ الْوَصِيَّةُ بِالْإِطْعَامِ فِيهِمَا إلَّا لِذَلِكَ الْقَدْرِ. وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِمَا فَهُوَ أَنَّ قَدْرَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ يَصْلُحُ لَهُ الْأَيَّامَ كُلَّهَا عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ، لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ صَالِحٌ لِلصَّوْمِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْكُلِّ فَإِذَا لَمْ يَصُمْ لَزِمَتْهُ الْوَصِيَّةُ بِالْفِدْيَةِ لِلْكُلِّ، وَإِذَا صَامَ فِيمَا قَدَرَ وَصَارَ قَدْرُ مَا صَامَ مُسْتَحِقًّا لِلْوَقْتِ فَلَمْ يَبْقَ صَالِحًا لِوَقْتٍ آخَرَ فَلَمْ يَكُنْ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْكُلِّ عَلَى الْبَدَلِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْوَصِيَّةُ بِالْفِدْيَةِ لِلْكُلِّ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْقَضَاءِ حَرَجٌ لِأَنَّ الْحَرَجَ مَنْفِيٌّ بِنَصِّ الْكِتَابِ. وَأَمَّا وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ فَهَلْ هُوَ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ خَارِجَ الْوَقْتِ؟ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ فِي ذَلِكَ وَخَرَّجْنَا مَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَا فِيهِ اتِّفَاقٌ، وَمَا فِيهِ اخْتِلَافٌ. وَأَمَّا وَقْتُ وُجُوبِهِ فَوَقْتُ أَدَائِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ سَائِرُ الْأَيَّامِ خَارِجَ رَمَضَانَ سِوَى الْأَيَّامِ السِّتَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أَمَرَ بِالْقَضَاءِ مُطْلَقًا عَنْ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَالْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي كَالْكَلَامِ فِي كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ أَصْلًا، كَالْأَمْرِ بِالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا، وَمَعْنَى التَّرَاخِي عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ غَيْرَ عَيِّنٍ، وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَى الْمُكَلَّفِ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ شَرَعَ فِيهِ تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْوَقْتُ لِلْوُجُوبِ، وَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ يَتَضَيَّقُ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فِي زَمَانٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْأَدَاءِ قَبْلَ مَوْتِهِ. وَحَكَى الْكَرْخِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَعِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِي الْحَجِّ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَحَكَى الْقُدُورِيُّ عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ: إنَّهُ مُؤَقَّتٌ بِمَا بَيْنَ رَمَضَانَيْنِ. وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ بَلْ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ لَا يَتَوَقَّتُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَضَاءِ مُطْلَقٌ عَنْ تَعْيِينِ بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ، فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ. وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِمَنْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ أَنْ يَتَطَوَّعَ، وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ عَلَى الْفَوْرِ لَكُرِهَ لَهُ التَّطَوُّعُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَأْخِيرًا لِلْوَاجِبِ عَنْ وَقْتِهِ الْمَضِيقِ، وَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ إذَا أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ كَأَنَّهُ قَالَ بِالْوُجُوبِ عَلَى الْفَوْرِ مَعَ رُخْصَةِ التَّأْخِيرِ إلَى رَمَضَانَ آخَرَ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْأَمْرِ عَلَى تَعْيِينِ الْوَقْتِ، فَالتَّعْيِينُ يَكُونُ تَحَكُّمًا عَلَى الدَّلِيلِ وَالْقَوْلُ بِالْفِدْيَةِ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَحْصِيلِهِ عَجْزًا لَا تُرْجَى مَعَهُ الْقُدْرَةُ عَادَةً كَمَا فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي، وَلَمْ يُوجَدْ الْعَجْزُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْقَضَاءِ فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْفِدْيَةِ. وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْقَضَاءِ فَمَا هُوَ شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ قَضَائِهِ إلَّا الْوَقْتَ وَتَعْيِينَ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْقَضَاءُ

فصل بيان ما يسن وما يستحب للصائم وما يكره له أن يفعله

فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ إلَّا الْأَوْقَاتَ الْمُسْتَثْنَاةَ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ اللَّيْلِ بِخِلَافِ الْأَدَاءِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَأَمَّا وُجُوبُ الْفِدَاءِ: فَشَرْطُهُ الْعَجْزُ عَنْ الْقَضَاءِ عَجْزًا لَا تُرْجَى مَعَهُ الْقُدْرَةُ فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ فَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الشَّيْخِ الْفَانِي، وَلَا فِدَاءَ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَلَا عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَكُلِّ مَنْ يُفْطِرُ لِعُذْرٍ تُرْجَى مَعَهُ الْقُدْرَةُ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْعَجْزُ الْمُسْتَدَامُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفِدَاءَ خَلَفٌ عَنْ الْقَضَاءِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْخَلَفِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَخْلَافِ مَعَ أُصُولِهَا، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الشَّيْخَ الْفَانِي إذَا فَدَى ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ بَطَلَ الْفِدَاءُ. وَأَمَّا الصَّوْمُ الْمَنْذُورُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ: فَهُوَ كَصَوْمِ رَمَضَانَ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ وَقَدَرَ عَلَى الْقَضَاءِ، وَإِنْ فَاتَ بَعْضُهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ لَا غَيْرُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَصَوْمِ رَمَضَانَ بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمَ شَهْرٍ مُتَتَابِعًا فَأَفْطَرَ يَوْمًا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قَدْ تَقَدَّمَ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ مَمَرِّ الْوَقْتِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْإِيجَابَ مُضَافٌ إلَى زَمَانٍ مُتَعَيَّنٍ فَإِذَا مَاتَ قَبْلَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ وَكَذَلِكَ إذَا أَدْرَكَ الْوَقْتَ وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَبْرَأَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فَإِنْ بَرِئَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، وَلَوْ نَذَرَ وَهُوَ صَحِيحٌ وَصَامَ بَعْضَ الشَّهْرِ وَهُوَ صَحِيحٌ ثُمَّ مَرِضَ فَمَاتَ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ يَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ لِمَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ، وَلَوْ نَذَرَ وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِحَّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ صَحَّ يَوْمًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِقَدْرِ مَا صَحَّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُسَنُّ وَمَا يُسْتَحَبُّ لِلصَّائِمِ وَمَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسَنُّ وَمَا يُسْتَحَبُّ لِلصَّائِمِ وَمَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَنَقُولُ: يُسَنُّ لِلصَّائِمِ السُّحُورُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ فَصْلًا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السُّحُورِ» وَلِأَنَّهُ يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّدْبِ إلَى السُّحُورِ فَقَالَ: «اسْتَعِينُوا بِقَائِلَةِ النَّهَارِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ وَبِأَكْلِ السُّحُورِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ» وَالسُّنَّةُ فِيهَا هُوَ التَّأْخِيرُ لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِعَانَةِ فِيهِ أَبْلَغُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ: تَأْخِيرُ السُّحُورِ، وَتَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ، وَوَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ فِي الصَّلَاةِ» وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ» . وَلَوْ شَكَّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ هَكَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا شَكَّ فِي الْفَجْرِ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَدَعَ الْأَكْلَ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ فَيَكُونُ الْأَكْلُ إفْسَادًا لِلصَّوْمِ فَيُتَحَرَّزُ عَنْهُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِوَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» وَلَوْ أَكَلَ وَهُوَ شَاكٌّ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ مَشْكُوكٌ فِيهِ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ بَقَاءُ اللَّيْلِ فَلَا يَثْبُتُ النَّهَارُ بِالشَّكِّ. وَهَلْ يُكْرَهُ الْأَكْلُ مَعَ الشَّكِّ؟ رَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكْرَهُ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا شَكَّ فَلَا يَأْكُلْ وَإِنْ أَكَلَ فَقَدْ أَسَاءَ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» . وَاَلَّذِي يَأْكُلُ مَعَ الشَّكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ يَحُومُ حَوْلَ الْحِمَى فَيُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ فَكَانَ بِالْأَكْلِ مُعَرِّضًا صَوْمَهُ لِلْفَسَادِ فَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ. وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ عَلَى أَمَارَةِ الطُّلُوعِ مِنْ ضَرْبِ الدِّبْدَابِ وَالْأَذَانِ يُكْرَهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَا تَعْوِيلَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ هَذَا إذَا تَسَحَّرَ وَهُوَ شَاكٌّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَأَمَّا إذَا تَسَحَّرَ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ الْفَجْرَ طَالِعٌ فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ: إنَّ الْأَحَبَّ إلَيْنَا أَنْ يَقْضِيَ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقْضِي، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ اللَّيْلِ فَلَا يَبْطُلُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ دَلِيلٌ وَاجِبُ الْعَمَلِ بِهِ بَلْ هُوَ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعَمَلِ فِي الْأَحْكَامِ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ. وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ اعْتَمَدَ شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَيُسَنُّ تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: وَتَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ أَحَبُّ إلَيْنَا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا تَعْجِيلَ الْإِفْطَارِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَنْتَظِرُوا لِلْإِفْطَارِ طُلُوعَ النُّجُومِ» وَلِتَأْخِيرٍ يُؤَدِّي إلَيْهِ، وَلَوْ شَكَّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفْطِرَ لِجَوَازِ أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَغْرُبْ فَكَانَ الْإِفْطَارُ إفْسَادًا لِلصَّوْمِ، وَلَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ شَاكٌّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ الْحَالَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا غَرَبَتْ أَمْ لَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْأَصْلِ وَلَا الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّسَحُّرِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ هُنَاكَ اللَّيْلَ أَصْلٌ فَلَا يَثْبُتُ النَّهَارُ بِالشَّكِّ فَلَا يَبْطُلُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ بِالْمَشْكُوكِ فِيهِ، وَهَهُنَا النَّهَارُ أَصْلٌ فَلَا يَثْبُتُ اللَّيْلُ بِالشَّكِّ، فَكَانَ الْإِفْطَارُ حَاصِلًا فِيمَا لَهُ حُكْمُ النَّهَارِ، فَيَجِبُ قَضَاؤُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي جَوَابَ الِاسْتِحْسَانِ احْتِيَاطًا. فَأَمَّا فِي الْحُكْمِ الْمَارِّ وَهُوَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ حُكْمٌ حَادِثٌ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِسَبَبٍ حَادِثٍ وَهُوَ إفْسَادُ الصَّوْمِ وَفِي وُجُودِهِ شَكٌّ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ التَّسَحُّرِ بِأَنْ تَسَحَّرَ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ الْفَجْرَ طَالِعٌ وَلَوْ أَفْطَرَ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلْعَمَلِ بِهِ، وَأَنَّهُ فِي الْأَحْكَامِ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ رَأْيِهِ أَنَّهَا لَمْ تَغْرُبْ فَلَا شَكَّ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ انْضَافَ إلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ حُكْمُ الْأَصْلِ وَهُوَ بَقَاءُ النَّهَارِ فَوَقَعَ إفْطَارُهُ فِي النَّهَارِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: تَجِبُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْيَقِينِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ، كَيْفَ وَقَدْ انْضَمَّ إلَيْهِ شَهَادَةُ الْأَصْلِ وَهُوَ بَقَاءُ النَّهَارِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَجِبُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْغُرُوبِ قَائِمٌ فَكَانَتْ الشُّبْهَةُ ثَابِتَةً وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَكْتَحِلَ الصَّائِمُ بِالْإِثْمِدِ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ فَعَلَ لَا يُفْطِرُهُ، وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِمَا رَوَيْنَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اكْتَحَلَ وَهُوَ صَائِمٌ» وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَيْنِ مَنْفَذٌ إلَى الْجَوْفِ، وَإِنْ وَجَدَ فِي حَلْقِهِ فَهْوَ أَثَرُهُ لَا عَيْنُهُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْهُنَ لِمَا قُلْنَا، وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَمْضُغَ الصَّائِمُ الْعِلْكَ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَنْفَصِلَ شَيْءٌ مِنْهُ فَيَدْخُلُ حَلْقَهُ، فَكَانَ الْمَضْغُ تَعْرِيضًا لِصَوْمِهِ لِلْفَسَادِ فَيُكْرَهُ وَلَوْ فَعَلَ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ وُصُولَ شَيْءٍ مِنْهُ إلَى الْجَوْفِ، وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ مَعْجُونًا، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ يُفْطِرُهُ لِأَنَّهُ يَتَفَتَّتُ فَيَصِلُ شَيْءٌ مِنْهُ إلَى جَوْفِهِ ظَاهِرًا أَوْ غَالِبًا، وَيُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْضُغَ لِصَبِيَّتِهَا طَعَامًا وَهِيَ صَائِمَةٌ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَصِلَ شَيْءٌ مِنْهُ إلَى جَوْفِهَا إلَّا إذَا كَانَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُكْرَهُ لِلضَّرُورَةِ، وَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَذُوقَ الْعَسَلَ أَوْ السَّمْنَ أَوْ الزَّيْتَ وَنَحْوَ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ لِيَعْرِفَ أَنَّهُ جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ حَلْقَهُ ذَلِكَ وَكَذَا يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَذُوقَ الْمَرَقَةَ لِتَعْرِفَ طَعْمَهَا لِأَنَّهُ يُخَافُ وُصُولُ شَيْءٍ مِنْهُ إلَى الْحَلْقِ فَتُفْطِرُ. وَلَا بَأْسَ لِلصَّائِمِ أَنْ يَسْتَاكَ سَوَاءٌ كَانَ السِّوَاكُ يَابِسًا أَوْ رَطْبًا مَبْلُولًا أَوْ غَيْرَ مَبْلُولٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا كَانَ مَبْلُولًا يُكْرَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ السِّوَاكُ فِي آخِرِ النَّهَارِ كَيْفَمَا كَانَ. وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» وَالِاسْتِيَاكُ يُزِيلُ الْخُلُوفَ فَيُكْرَهُ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الِاسْتِيَاكَ بِالْمَبْلُولِ مِنْ السِّوَاكِ إدْخَالُ الْمَاءِ فِي الْفَمِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَيُكْرَهُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ خِلَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ» وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ وَصَفَ الِاسْتِيَاكَ بِالْخَيْرِيَّةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَبْلُولِ وَغَيْرِ الْمَبْلُولِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَطْهِيرُ الْفَمِ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمَبْلُولُ وَغَيْرُهُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، كَالْمَضْمَضَةِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ: فَالْمُرَادُ مِنْهُ تَفْخِيمُ شَأْنِ الصَّائِمِ وَالتَّرْغِيبُ فِي الصَّوْمِ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى كَوْنِهِ مَحْبُوبًا لِلَّهِ تَعَالَى وَمُرْضِيهِ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ عَنْ الْكَلَامِ مَعَ الصَّائِمِ لِتَغَيُّرِ فَمِهِ بِالصَّوْمِ فَمَنَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَدَعَاهُمْ إلَى الْكَلَامِ. وَلَا بَأْسَ لِلصَّائِمِ أَنْ يُقَبِّلَ وَيُبَاشِرَ إذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ مَا سِوَى ذَلِكَ. أَمَّا الْقُبْلَةُ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْتَهُ أَكَانَ يَضُرُّكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَصُمْ إذًا» . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: هَشَشْتُ إلَى أَهْلِي ثُمَّ أُتِيتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت: إنِّي عَمِلْتُ الْيَوْمَ عَمَلًا عَظِيمًا إنِّي قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ أَكَانَ يَضُرُّكَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَصُمْ إذًا» . وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُ

وَهُوَ صَائِمٌ» . وَرُوِيَ «أَنَّ شَابًّا وَشَيْخًا سَأَلَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ، فَنَهَى الشَّابَّ وَرَخَّصَ لِلشَّيْخِ وَقَالَ: الشَّيْخُ أَمْلَكُ لِإِرْبِهِ وَأَنَا أَمْلَكُكُمْ لِإِرْبِي» وَفِي رِوَايَةٍ «الشَّيْخُ يَمْلِكُ نَفْسَهُ» وَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُبَاشَرَةَ وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ لَا يُؤْمَنُ عَلَى مَا سِوَى ذَلِكَ ظَاهِرًا وَغَالِبًا بِخِلَافِ الْقُبْلَةِ وَفِي حَدِيثَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إشَارَةٌ إلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَتْ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَتَمَضْمَضَ لِغَيْرِ الْوُضُوءِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَسْبِقَ الْمَاءُ إلَى حَلْقِهِ وَلَا ضَرُورَةَ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ لِلْوُضُوءِ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ. وَأَمَّا الِاسْتِنْشَاقُ وَالِاغْتِسَالُ وَصَبُّ الْمَاءِ عَلَى الرَّأْسِ وَالتَّلَفُّفُ بِالثَّوْبِ الْمَبْلُولِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يُكْرَهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُكْرَهُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ مَاءً مِنْ شِدَّةٍ الْحَرِّ وَهُوَ صَائِمٌ» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَبُلُّ الثَّوْبَ وَيَتَلَفَّفُ بِهِ وَهُوَ صَائِمٌ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا دَفْعُ أَذَى الْحَرِّ فَلَا يُكْرَهُ، كَمَا لَوْ اسْتَظَلَّ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِيهِ إظْهَارَ الضَّجَرِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْ تَحَمُّلِ مَشَقَّتِهَا، وَفِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحْمُولٌ عَلَى حَالٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ حَالُ خَوْفِ الْإِفْطَارِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ. وَكَذَا فِعْلُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَحْمُولٌ مِثْلُ هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ. وَلَا تُكْرَهُ الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ» . وَلَوْ احْتَجَمَ لَا يُفْطِرُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يُفْطِرهُ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» وَلَوْ كَانَ الِاحْتِجَامُ يُفْطِرُ لَمَا فَعَلَهُ. وَرَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْقَيْءُ، وَالْحِجَامَةُ، وَالِاحْتِلَامُ» وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ رُخِّصَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إثْبَاتُ الْفِطْرِ بِالْحِجَامَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مِنْهُمَا مَا يُوجِبُ الْفِطْرَ وَهُوَ ذَهَابُ ثَوَابِ الصَّوْمِ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِرَجُلٍ يَحْجِمُ رَجُلًا وَهُمَا يَغْتَابَانِ فَقَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» أَيْ: بِسَبَبِ الْغِيبَةِ مِنْهُمَا عَلَى مَا رُوِيَ «الْغِيبَةُ تُفْطِرُ الصَّائِمَ» وَلِأَنَّ الْحِجَامَةَ لَيْسَتْ إلَّا إخْرَاجَ شَيْءٍ مِنْ الدَّمِ وَالْفِطْرُ مِمَّا يَدْخُلُ وَالْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ كَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ أَنْ تَصُومَ تَطَوُّعًا إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَصُومَ صَوْمَ تَطَوُّعٍ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا» وَلِأَنَّ لَهُ حَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فِي حَالِ الصَّوْمِ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا إنْ كَانَ يَضُرُّهُ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مَعَ الصَّوْمِ فَكَانَ لَهُ مَنْعُهَا. فَإِنْ كَانَ صِيَامُهَا لَا يَضُرُّهُ بِأَنْ كَانَ صَائِمًا أَوْ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا، لِأَنَّ الْمَنْعَ كَانَ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ فَلَا مَعْنَى لِلْمَنْعِ وَلَيْسَ لِعَبْدٍ وَلَا أَمَةٍ وَلَا مُدَبَّرٍ وَلَا مُدَبَّرَةٍ وَأُمِّ وَلَدٍ أَنْ تَصُومَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى إلَّا فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى وَهُوَ الْفَرَائِضُ فَلَا يَمْلِكُ صَرْفَهَا إلَى التَّطَوُّعِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ الْمَوْلَى أَوْ لَا يَضُرُّهُ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْمَنْعَ هَهُنَا لِمَكَانِ الْمِلْكِ فَلَا يَقِفُ عَلَى الضَّرَرِ. وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُفَطِّرَ الْمَرْأَةَ إذَا صَامَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَكَذَا لِلْمَوْلَى، وَتَقْضِي الْمَرْأَةُ إذَا أَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا أَوْ بَانَتْ مِنْهُ، وَيَقْضِي الْعَبْدُ إذَا أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى أَوْ أُعْتِقَ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعِ قَدْ صَحَّ مِنْهَا إلَّا أَنَّهُمَا مُنِعَا فِي الْمُضِيِّ فِيهِ لِحَقِّ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى، فَإِذَا أَفْطَرَا لَزِمَهُمَا الْقَضَاءُ. وَأَمَّا الْأَجِيرُ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ الرَّجُلُ لِيَخْدِمَهُ فَلَا يَصُومُ تَطَوُّعًا إلَّا بِإِذْنِهِ، لِأَنَّ صَوْمَهُ يَضُرُّ الْمُسْتَأْجِرَ أَمَّا لَوْ كَانَ لَا يَضُرُّهُ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي مَنَافِعِهِ بِقَدْرِ مَا تَتَأَدَّى بِهِ الْخِدْمَةُ، وَالْخِدْمَةَ حَاصِلَةٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّهُ صَوْمُهُ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُنَاكَ مِلْكُ الرَّأْسِ وَأَنَّهُ يَظْهَرُ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمَنَافِعِ سِوَى الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى، وَهَهُنَا الْمَانِعُ مِلْكُ بَعْضِ الْمَنَافِعِ وَهُوَ قَدْرُ مَا تَتَأَدَّى بِهِ الْخِدْمَةُ، وَذَلِكَ الْقَدْرُ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ فَلَا يَمْلِكُ مَنْعَهُ. وَأَمَّا بِنْتُ الرَّجُلِ وَأُمُّهُ وَأُخْتُهُ فَلَهَا أَنْ تَتَطَوَّعَ بِغَيْرِ

كتاب الاعتكاف

إذْنِهِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي مَنَافِعِهَا، فَلَا يَمْلِكُ مَنْعَهَا كَمَا لَا يَمْلِكُ مَنْعَ الْأَجْنَبِيَّةِ. وَلَوْ أَرَادَ الْمُسَافِرُ دُخُولَ مِصْرِهِ أَوْ مِصْرًا آخَرَ يَنْوِي فِيهِ الْإِقَامَةَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فِي أَوَّلِهِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْمُحَرِّمُ لِلْفِطْرِ وَهُوَ الْإِقَامَةُ وَالْمُرَخِّصُ وَالْمُبِيحُ وَهُوَ السَّفَرُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَكَانَ التَّرْجِيحُ لِلْمُحَرِّمِ احْتِيَاطًا فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنْ لَا يَتَّفِقَ دُخُولُهُ الْمِصْرَ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ فَلَا بَأْسَ بِالْفِطْرِ فِيهِ وَلَا بَأْسَ بِقَضَاءِ رَمَضَانَ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَعَامَّةُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلَّا شَيْئًا حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: يُكْرَهُ فِيهَا لِمَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ فِي الْعَشْرِ» الصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّهَا وَقْتٌ يُسْتَحَبُّ فِيهَا الصَّوْمُ فَكَانَ الْقَضَاءُ فِيهَا أَوْلَى مِنْ الْقَضَاءِ فِي غَيْرِهَا، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ غَرِيبٌ فِي حَدِّ الْأَحَادِيثِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكِتَابِ وَتَخْصِيصُهُ بِمِثْلِهِ أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى النَّدْبِ فِي حَقِّ مَنْ اعْتَادَ التَّنَفُّلَ بِالصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَقْضِيَ فِي غَيْرِهَا لِئَلَّا تَفُوتَهُ فَضِيلَةُ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَيَقْضِي صَوْمَ رَمَضَانَ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ الِاعْتِكَافِ] [فَصْلٌ صِفَةُ الِاعْتِكَافِ] (كِتَابُ الِاعْتِكَافِ) : الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ الِاعْتِكَافِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّتِهِ وَفِي بَيَان رُكْنِهِ وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ وَمَا يُفْسِدُهُ وَمَا لَا يُفْسِدُهُ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالِاعْتِكَافُ فِي الْأَصْلِ سُنَّةٌ وَإِنَّمَا يَصِيرُ وَاجِبًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلٌ وَهُوَ النَّذْرُ الْمُطْلَقُ، بِأَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ، بِأَنْ يَقُولَ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، أَوْ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَالثَّانِي فِعْلٌ، وَهُوَ الشُّرُوعُ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعَ مُلْزِمٌ عِنْدَنَا كَالنَّذْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ سُنَّةٌ، مُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى» وَعَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: عَجَبًا لِلنَّاسِ تَرَكُوا الِاعْتِكَافَ وَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَيَتْرُكُهُ وَلَمْ يَتْرُكْ الِاعْتِكَافَ مُنْذُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ إلَى أَنْ مَاتَ» . وَمُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ دَلِيلُ كَوْنِهِ سُنَّةً فِي الْأَصْلِ وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ تَقَرُّبٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمُجَاوَرَةِ بَيْتِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى خِدْمَتِهِ لِطَلَبِ الرَّحْمَةِ وَطَمَعِ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ مَثَلُ الْمُعْتَكِفِ مَثَلُ الَّذِي أَلْقَى نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى يَقُولُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى يَغْفِرَ لِي؛ وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِمُلَازَمَةِ الْأَمَاكِنِ الْمَنْسُوبَةِ إلَيْهِ. وَالْعَزِيمَةُ فِي الْعِبَادَاتِ الْقِيَامُ بِهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ، وَإِنَّمَا رُخِّصَ تَرْكُهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالِاعْتِكَافِ اشْتِغَالًا بِالْعَزِيمَةِ حَتَّى لَوْ نَذَرَ بِهِ يَلْتَحِقُ بِالْعَزَائِمِ الْمُوَظَّفَةِ الَّتِي لَا رُخْصَةَ فِي تَرْكِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ صِحَّتِهِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكِفِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكَفِ فِيهِ. أَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكِفِ فَمِنْهَا: الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالطَّهَارَةُ عَنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَإِنَّهَا شَرْطُ الْجَوَازِ فِي نَوْعَيْ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ. وَكَذَا الْمَجْنُونُ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُؤَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النِّيَّةِ. وَالْجُنُبُ وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ مَمْنُوعُونَ عَنْ الْمَسْجِدِ وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ لَا تُؤَدَّى إلَّا فِي الْمَسْجِدِ وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ فَيَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ، كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ. وَلَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ فَيَصِحُّ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ، إنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا الْمَانِعُ حَقُّ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى، فَإِذَا وُجِدَ الْإِذْنُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ وَلَوْ نَذَرَ الْمَمْلُوكُ اعْتِكَافًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْهُ، فَإِذَا أُعْتِقَ قَضَاهُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا نَذَرَتْ فَلِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا فَإِذَا بَانَتْ قَضَتْ؛ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا، وَلِلْوَلِيِّ مِلْكَ الذَّاتِ وَالْمَنْفَعَةِ فِي الْمَمْلُوكِ، وَفِي الِاعْتِكَافِ تَأْخِيرُ

حَقِّهِمَا فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ لَهُمَا الْمَنْعُ مَا دَامَا فِي مِلْكِ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى فَإِذَا بَانَتْ الْمَرْأَةُ وَأُعْتِقَ الْمَمْلُوكُ؛ لَزِمَهُمَا قَضَاؤُهُ، وَلِأَنَّ النَّذْرَ مِنْهُمَا قَدْ صَحَّ لِوُجُودِهِ مِنْ الْأَهْلِ لَكِنَّهُمَا مُنِعَا لِحَقِّ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ، فَإِذَا سَقَطَ حَقُّهُمَا بِالْعِتْقِ وَالْبَيْنُونَةِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيَلْزَمُهُمَا الْقَضَاءُ وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَ مُكَاتَبِهِ؛ فَكَانَ كَالْحُرِّ فِي حَقِّ مَنَافِعِهِ. وَإِذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ بِالِاعْتِكَافِ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهَا بِالِاعْتِكَافِ فَقَدْ مَلَّكَهَا مَنَافِعَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي زَمَانِ الِاعْتِكَافِ، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْ ذَلِكَ وَالنَّهْيَ عَنْهُ بِخِلَافِ الْمَمْلُوكِ إذَا أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ بِالِاعْتِكَافِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا مَلَّكَهُ الْمَوْلَى مَنَافِعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا أَعَارَهُ مَنَافِعَهُ، وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَارِيَّةِ مَتَى شَاءَ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ خُلْفٌ فِي الْوَعْدِ وَغُرُورٌ فَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ. وَمِنْهَا: النِّيَّةُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ. وَمِنْهَا: الصَّوْمُ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَصِحُّ الِاعْتِكَافُ بِدُونِ الصَّوْمِ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِثْلُ مَذْهَبِنَا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُ مَذْهَبِهِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَيْسَ إلَّا اللُّبْثَ وَالْإِقَامَةَ، وَذَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى الصَّوْمِ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ تَبَعٌ لَهُ وَفِيهِ جَعْلُ الْمَتْبُوعِ تَبَعًا وَأَنَّهُ قَلْبُ الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ لِاعْتِكَافِ التَّطَوُّعِ. وَكَذَا يَصِحُّ الشُّرُوعُ فِي الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ بِدُونِهِ بِأَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَجَبٍ فَكَمَا رَأَى الْهِلَالَ يَجِبُ عَلَيْهِ الدُّخُولُ فِي الِاعْتِكَافِ وَلَا صَوْمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَلَوْ كَانَ شَرْطًا؛ لَمَا جَازَ بِدُونِهِ فَضْلًا عَنْ الْوُجُوبِ إذْ الشُّرُوعُ فِي الْعِبَادَةِ بِدُونِ شَرْطِهَا لَا يَصِحُّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَصَامَ رَمَضَانَ وَاعْتَكَفَ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الصَّوْمُ بِالِاعْتِكَافِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ» وَلِأَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ ثُمَّ أَحَدُ رُكْنَيْ الصَّوْمِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْجِمَاعِ شَرْطُ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ، فَكَذَا الرُّكْنُ الْآخَرُ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِاسْتِوَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي كَوْنِهِ رُكْنًا لِلصَّوْمِ. فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الرُّكْنَيْنِ شَرْطًا كَانَ الْآخَرُ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ بِمُلَازَمَةِ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ تَرْكِ قَضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ إلَّا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ الْقِوَامِ وَذَلِكَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي اللَّيَالِي، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْجِمَاعِ. وَقَوْلُهُ الِاعْتِكَافُ لَيْسَ إلَّا اللُّبْثَ وَالْمُقَامَ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ، كَمَا لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ، وَالنِّيَّةُ وَكَذَا كَوْنُ الصَّوْمِ عِبَادَةً مَقْصُودَةً بِنَفْسِهِ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِغَيْرِهِ. أَلَّا تَرَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهِ ثُمَّ جُعِلَ شَرْطًا لِجَوَازِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ كَذَا هَهُنَا وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الصَّوْمِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ اعْتَمَدَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلِأَنَّ فِي الِاعْتِكَافِ التَّطَوُّعِ عَنْ أَصْحَابِنَا رِوَايَتَيْنِ: فِي رِوَايَةٍ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ غَيْرُ مُقَدَّرٍ أَصْلًا، وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا وَالصَّوْمُ عِبَادَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِيَوْمٍ؛ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا لِمَا لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ، بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ فَإِنَّهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْهُ قَبْلَ تَمَامِهِ؛ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ. وَأَمَّا إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَجَبٍ؛ فَإِنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ الدُّخُولَ فِي الِاعْتِكَافِ فِي اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ دَخَلَتْ فِي الِاعْتِكَافِ الْمُضَافِ إلَى الشَّهْرِ لِضَرُورَةِ اسْمِ الشَّهْرِ إذْ هُوَ اسْمٌ لِلْأَيَّامِ، وَاللَّيَالِي دَخَلَتْ تَبَعًا لَا أَصْلًا وَمَقْصُودًا؛ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا مَا يُشْتَرَطُ لِلْأَصْلِ، كَمَا إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ اللَّيَالِي وَيَكُونُ أَوَّلُ دُخُولِهِ فِيهِ مِنْ اللَّيْلِ؛ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا. وَأَمَّا النَّذْرُ بِاعْتِكَافِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّمَا يَصِحُّ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ فِي زَمَانِ الِاعْتِكَافِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لُزُومُهُ بِالْتِزَامِ الِاعْتِكَافِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ فَالصَّوْمُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ أَحَدُ رُكْنَيْ الصَّوْمِ عَيْنًا وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْجِمَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]

فَأَمَّا الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ شَرْطٌ وَاخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِي اعْتِكَافِ التَّطَوُّعِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ أَوْ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَلَوْ سَاعَةً. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ؛ لَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ شَرْطًا لَهُ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ إذْ صَوْمُ بَعْضِ الْيَوْمِ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا لِمَا لَيْسَ مُقَدَّرًا. وَلَمَّا كَانَ مُقَدَّرًا بِيَوْمٍ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ فَالصَّوْمُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لَهُ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا أَنَّهُ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا وَاحِدًا بِصَوْمٍ وَالتَّعْيِينِ إلَيْهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَيَطْلُعُ الْفَجْرُ وَهُوَ فِيهِ فَيَعْتَكِفُ يَوْمَهُ ذَلِكَ وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ اسْمٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ، وَهُوَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَيَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ حَتَّى يَقَعَ اعْتِكَافُهُ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ وَإِنَّمَا كَانَ التَّعْيِينُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ الْيَوْمَ فِي النَّذْرِ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً؛ لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ شَرْطُ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ، فَاللَّيْلُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّوْمِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُوجِبُ دُخُولَهُ فِي الِاعْتِكَافِ تَبَعًا؛ فَالنَّذْرُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ نَوَى لَيْلَةً بِيَوْمِهَا؛ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ هَذَا التَّفْصِيلَ فِي الْأَصْلِ. فَإِمَّا أَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَيَحْمِلَ الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ عَلَى مَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ. وَجْهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: اعْتِبَارُ الْفَرْدِ بِالْجَمْعِ وَهُوَ أَنَّ ذِكْرَ اللَّيَالِي بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَكُونُ ذِكْرًا لِلْأَيَّامِ كَذَا ذِكْرُ اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ يَكُونُ ذِكْرًا لِيَوْمٍ وَاحِدٍ. وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا إثْبَاتُ اللُّغَةِ بِالْقِيَاسِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ؛ فَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلًا وَنَهَارًا؛ لَزِمَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلًا وَنَهَارًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اللَّيْلُ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا وَلَا يُشْتَرَطُ لِلتَّبَعِ مَا يُشْتَرَطُ لِلْأَصْلِ وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ قَدْ أَكَلَ فِيهِ؛ لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ الْوَاجِبَ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الصَّوْمِ وَلَا يَصِحُّ الصَّوْمُ فِي يَوْمٍ قَدْ أَكَلَ فِيهِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الصَّوْمُ؛ لَمْ يَصِحَّ الِاعْتِكَافُ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمَيْنِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ؛ يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ بِلَيْلَتَيْهِمَا وَتَعْيِينُ ذَلِكَ إلَيْهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ؛ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَيَمْكُثُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَيَوْمَهَا، ثُمَّ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ وَيَوْمَهَا إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ اللَّيْلَةُ الْأُولَى لَا تَدْخُلُ فِي نَذْرِهِ وَإِنَّمَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْمُتَخَلِّلَةُ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ. فَعَلَى قَوْلِهِ يَدْخُلُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلَوْ دَخَلَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْيَوْمَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ إلَّا أَنَّ اللَّيْلَةَ الْمُتَخَلِّلَةَ تَدْخُلُ لِضَرُورَةِ حُصُولِ التَّتَابُعِ وَالدَّوَامِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي دُخُولِ اللَّيْلَةِ الْأُولَى، بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ الْأَيَّامَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ حَيْثُ يَدْخُلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ هُنَاكَ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ: كُنَّا عِنْدَ فُلَانٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيُرِيدُ بِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَمَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي، وَمِثْلُ هَذَا الْعُرْفِ لَمْ يُوجَدْ فِي التَّثْنِيَةِ وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا الْعُرْفَ أَيْضًا ثَابِتٌ فِي التَّثْنِيَةِ كَمَا فِي الْجَمْعِ؛ يَقُولُ الرَّجُلُ: كُنَّا عِنْدَ فُلَانٍ يَوْمَيْنِ وَيُرِيدُ بِهِ يَوْمَيْنِ وَمَا بِإِزَائِهِمَا مِنْ اللَّيَالِي. وَيَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَكِنْ تَعْيِينُ الْيَوْمَيْنِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ فِي النَّذْرِ، وَلَوْ نَوَى يَوْمَيْنِ خَاصَّةً دُونَ لَيْلَتَيْهِمَا؛ صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَيَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ بِغَيْرِ لَيْلَةٍ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَهُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّتَابُعِ وَالْيَوْمَانِ مُتَفَرِّقَانِ لِتَخَلُّلِ اللَّيْلَةِ بَيْنَهُمَا؛ فَصَارَ الِاعْتِكَافُ هَهُنَا كَالصَّوْمِ فَيَدْخُلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَكَذَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ؛ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَيَّامُ مَعَ لَيَالِيهِنَّ وَتَعْيِينُهَا إلَيْهِ، لَكِنْ يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ صِفَةِ التَّتَابُعِ. وَإِنْ نَوَى الْأَيَّامَ دُونَ اللَّيَالِي صَحَّتْ نِيَّتُهُ؛ لِمَا قُلْنَا وَيَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِغَيْرِ لَيْلَةٍ وَلَهُ خِيَارُ التَّفْرِيقِ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ تَعَلَّقَتْ بِالْأَيَّامِ. وَالْأَيَّامُ مُتَفَرِّقَةٌ؛ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ إلَّا بِالشَّرْطِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَيَدْخُلُ كُلَّ يَوْمٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ثُمَّ يَخْرُجُ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَتَيْنِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ؛ يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ لَيْلَتَيْنِ مَعَ يَوْمَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: ثَلَاثَ لَيَالٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ اللَّيَالِي وَيَلْزَمُهُ مُتَتَابِعًا لَكِنَّ التَّعْيِينَ إلَيْهِ لِمَا قُلْنَا وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَبْلَ

غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَلَوْ نَوَى اللَّيْلَ دُونَ النَّهَارِ؛ صَحَّتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ وَقْتًا لِلصَّوْمِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْأَيَّامَ إذَا ذُكِرَتْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَدْخُلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي. وَكَذَا اللَّيَالِي إذَا ذُكِرَتْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَدْخُلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ الْأَيَّامِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] وَالْقِصَّةُ قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَمَّا عَبَّرَ فِي مَوْضِعٍ بِاسْمِ الْأَيَّامِ وَفِي مَوْضِعٍ بِاسْمِ اللَّيَالِي؛ دَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: هُوَ وَمَا بِإِزَاءِ صَاحِبِهِ، حَتَّى أَنَّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَمْ تَكُنْ الْأَيَّامُ فِيهِ عَلَى عَدَدِ اللَّيَالِي أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالذِّكْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7] وَلِلْآيَتَيْنِ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ هَهُنَا لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ فِيهِ كَمَا فِي اسْمِ الْجَمْعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ؛ فَهُوَ عَلَى الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي مُتَتَابِعًا لَكِنَّ التَّعْيِينَ إلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: نَوَيْت النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ؛ صَحَّتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ دُونَ مَا نُقِلَ عَنْهُ بِالْعُرْفِ وَالْعُرْفُ أَيْضًا بِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ بَاقٍ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ. ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ تَابَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ وَكَذَا ذَاتُ الْأَيَّامِ لَا تَقْتَضِي التَّتَابُعَ لِتَخَلُّلِ مَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلِاعْتِكَافِ بَيْنَ كُلِّ يَوْمَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: عَنَيْت اللَّيَالِيَ دُونَ النَّهَارِ؛ لَمْ يُعْمَلْ بِنِيَّتِهِ وَلَزِمَهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ؛ لِأَنَّهُ لَمَا نَصَّ عَلَى الْأَيَّامِ، فَإِذَا قَالَ: نَوَيْت بِهَا اللَّيَالِيَ دُونَ الْأَيَّامِ؛ فَقَدْ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ؛ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَقَالَ: عَنَيْت بِهِ اللَّيَالِيَ دُونَ النَّهَارِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَاللَّيَالِي فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلزَّمَانِ الَّذِي كَانَتْ الشَّمْسُ فِيهِ غَائِبَةً إلَّا أَنَّهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تَتَنَاوَلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ الْأَيَّامِ بِالْعُرْفِ فَإِذَا عَنَى بِهِ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَالْعُرْفُ أَيْضًا بِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ بَاقٍ؛ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِمُصَادِفَتِهَا مَحَلَّهَا. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ، أَيَّ شَهْرٍ كَانَ، مُتَتَابِعًا فِي النَّهَارِ وَاللَّيَالِي جَمِيعًا، سَوَاءٌ ذَكَرَ التَّتَابُعَ أَوْ لَا. وَتَعْيِينُ ذَلِكَ الشَّهْرِ إلَيْهِ، فَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَتَغْرُبُ الشَّمْسُ وَهُوَ فِيهِ فَيَعْتَكِفُ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَخْرُجُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِهَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا وَلَمْ يُعَيِّنْ، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّتَابُعَ وَلَا نَوَاهُ؛ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ بَلْ هُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ تَابَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ لُزُومِ التَّتَابُعِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِذِكْرِ التَّتَابُعِ أَوْ بِالنِّيَّةِ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ وَلَمْ يُنْوَ التَّتَابُعُ أَيْضًا فَيُجْرَى عَلَى إطْلَاقِهِ كَمَا فِي الصَّوْمِ. وَلَنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ عِبَادَةٌ دَائِمَةٌ وَمَبْنَاهَا عَلَى الِاتِّصَالِ؛ لِأَنَّهُ لُبْثٌ وَإِقَامَةٌ، وَاللَّيَالِيَ قَابِلَةٌ لِلُّبْثِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّتَابُعِ. وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ لَكِنْ فِي لَفْظِهِ مَا يَقْتَضِيهِ وَفِي ذَاتِهِ مَا يُوجِبُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا نَذَرَ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا وَلَزِمَهُ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا غَيْرَ مُعَيِّنٍ؛ أَنَّهُ إذَا عَيَّنَ شَهْرًا؛ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ؛ لِأَنَّهُ أُوجِبَ مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ التَّتَابُعِ وَلَيْسَ مَبْنَى حُصُولِهِ عَلَى التَّتَابُعِ بَلْ عَلَى التَّفْرِيقِ؛ لِأَنَّ بَيْنَ كُلِّ عِبَادَتَيْنِ مِنْهُ وَقْتًا لَا يَصْلُحُ لَهَا وَهُوَ اللَّيْلُ؛ فَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ قَيْدُ التَّتَابُعِ وَلَا اقْتِضَاءُ لَفْظُهُ وَتَعْيِينُهُ؛ فَبَقِيَ لَهُ الْخِيَارُ وَلِهَذَا لَمْ يَلْزَمْ التَّتَابُعُ فِيمَا لَمْ يَتَقَيَّدْ بِالتَّتَابُعِ مِنْ الصِّيَامِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ نَوَى فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ؛ لَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُ وَيَلْزَمُهُ الِاعْتِكَافُ شَهْرًا بِالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لِزَمَانٍ مُقَدَّرٍ بِثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً مُرَكَّبٌ مِنْ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ كَالْبَلَقِ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدَهُمَا؛ فَقَدْ أَرَادَ بِالِاسْمِ مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ وَلَا احْتَمَلَهُ فَبَطَلَ، كَمَنْ ذَكَرَ الْبَلَقَ وَعَنَى بِهِ الْبَيَاضَ دُونَ السَّوَادِ فَلَمْ تُصَادِفْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَلَغَتْ. وَهَذَا بِخِلَافِ اسْمِ الْخَاتَمِ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِلْحَلْقَةِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَالْفَصُّ كَالتَّابِعِ لَهَا؛ لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ فِيهَا زِينَةً لَهَا؛ فَكَانَ كَالْوَصْفِ لَهَا فَجَازَ أَنْ يُذْكَرَ الْخَاتَمُ وَيُرَادَ بِهِ الْحَلْقَةُ. فَأَمَّا هَهُنَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّمَانَيْنِ أَصْلٌ فَلَمْ يَنْطَلِقْ الِاسْمُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا حَيْثُ انْصَرَفَ إلَى النَّهَارِ دُونَ اللَّيَالِي؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَيْضًا لَا نَقُولُ: إنَّ اسْمَ الشَّهْرِ تَنَاوَلَ النَّهَارَ دُونَ اللَّيَالِي؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِحَالَةِ، بَلْ تَنَاوَلَ النَّهَارَ وَاللَّيَالِيَ جَمِيعًا؛ فَكَانَ مُضِيفًا النَّذْرَ بِالصَّوْمِ إلَى اللَّيَالِي وَالنَّهَارِ جَمِيعًا مَعًا غَيْرَ أَنَّ اللَّيَالِيَ لَيْسَتْ مَحَلًّا لِإِضَافَةِ النَّذْرِ بِالصَّوْمِ إلَيْهَا فَلَمْ تُصَادِفْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَلَغَا ذِكْرُ اللَّيَالِي وَالنَّهَارُ مَحَلٌّ لِذَلِكَ؛ فَصَحَّتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهَا عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ التَّصَرُّفَ الْمُصَادِفَ لِمَحَلِّهِ يَصِحُّ، وَالْمُصَادِفَ لِغَيْرِ مَحَلِّهِ يَلْغُو، فَأَمَّا فِي الِاعْتِكَافِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلٌّ، وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ

عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ؛ يَلْزَمُهُ كَمَا الْتَزَمَ. وَهُوَ اعْتِكَافُ شَهْرٍ بِالْأَيَّامِ دُونَ اللَّيَالِي؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ؛ فَقَدْ لَغَا ذِكْرُ الشَّهْرِ بِنَصِّ كَلَامِهِ، كَمَنْ قَالَ: رَأَيْت فَرَسًا أَبْلَقَ لِلْبَيَاضِ مِنْهُ دُونَ السَّوَادِ؛ وَكَانَ هُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ؛ لِأَنَّهُ تَلَفَّظَ بِالنَّهَارِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ اعْتِكَافٍ وَجَبَ فِي الْأَيَّامِ دُونَ اللَّيَالِيِ؛ فَصَاحِبُهُ فِيهِ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ. وَكُلُّ اعْتِكَافٍ وَجَبَ فِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي جَمِيعًا: يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ يَصُومُهُ مُتَتَابِعًا. وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ رَجَبَ؛ يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ يَصُومُهُ مُتَتَابِعًا، وَإِنْ أَفْطَرَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ؛ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا صَحَّ اعْتِكَافُهُ فِيهِ كَمَا إذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمَ رَجَبٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ. فَإِنْ لَمْ يَعْتَكِفْ فِي رَجَبٍ حَتَّى مَضَى؛ يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ يَصُومُهُ مُتَتَابِعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَضَى رَجَبٌ مِنْ غَيْرِ اعْتِكَافٍ؛ صَارَ فِي ذِمَّتِهِ اعْتِكَافُ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَيَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ صِفَةِ التَّتَابُعِ فِيهِ كَمَا إذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ابْتِدَاءً بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا. وَلَوْ أَوْجَبَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ فَاعْتَكَفَ شَهْرًا قَبْلَهُ عَنْ نَذْرِهِ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ رَجَبًا فَاعْتَكَفَ شَهْرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ؛ أَجْزَأَهُ عَنْ نَذْرِهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يُجْزِئُهُ. وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي النَّذْرِ بِالصَّوْمِ فِي شَهْرٍ مُعَيَّنٍ فَصَامَ قَبْلَهُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ النَّذْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَمَضَانَ؛ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلِّهِ؛ لِوُجُودِ الِالْتِزَامِ بِالنَّذْرِ فَإِنْ صَامَ وَاعْتَكَفَ فِيهِ؛ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ لِوُجُودِ شَرْطِ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ وَهُوَ الصَّوْمُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لُزُومُهُ بِالْتِزَامِهِ الِاعْتِكَافَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، إنَّمَا الشَّرْطُ وُجُودُهُ مَعَهُ كَمَنْ لَزِمَهُ أَدَاءُ الظُّهْرِ، وَهُوَ مُحْدِثٌ؛ يَلْزَمُهُ الطَّهَارَةُ، وَلَوْ دَخَلَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَهُوَ عَلَى الطَّهَارَةِ يَصِحُّ أَدَاءُ الظُّهْرِ بِهَا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الطَّهَارَةُ وَقَدْ وُجِدَتْ كَذَا هَذَا. وَلَوْ صَامَ رَمَضَانَ كُلَّهُ وَلَمْ يَعْتَكِفْ؛ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الِاعْتِكَافِ بِصَوْمٍ آخَرَ فِي شَهْرٍ آخَرَ مُتَتَابِعًا، كَذَا ذَكَر مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الِاعْتِكَافُ، بَلْ يَسْقُطُ نَذْرُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ نَذْرَهُ انْعَقَدَ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلصَّوْمِ. وَقَدْ تَعَذَّرَ إبْقَاؤُهُ كَمَا انْعَقَدَ فَتَسْقُطُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْبَقَاءِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ النَّذْرَ بِالِاعْتِكَافِ فِي رَمَضَانَ قَدْ صَحَّ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الِاعْتِكَافُ فِيهِ، فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ؛ بَقِيَ وَاجِبًا عَلَيْهِ. كَمَا إذَا نَذَرَ بِالِاعْتِكَافِ فِي شَهْرٍ آخَرَ بِعَيْنِهِ فَلَمْ يُؤَدِّهِ حَتَّى مَضَى الشَّهْرُ وَإِذًا بَقِيَ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَلَا يَبْقَى وَاجِبًا عَلَيْهِ إلَّا بِوُجُوبِ شَرْطِ صِحَّةِ أَدَائِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ فَيَبْقَى وَاجِبًا عَلَيْهِ بِشَرْطِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ نَذْرَهُ مَا انْعَقَدَ مُوجِبًا لِلصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ؛ فَنَعَمْ لَكِنْ جَازَ أَنْ يَبْقَى مُوجِبًا لِلصَّوْمِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ لِضَرُورَةِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَدَاءِ فِي غَيْرِهِ إلَّا بِالصَّوْمِ؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَيَلْزَمُهُ مُتَتَابِعًا؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ الِاعْتِكَافُ فِي شَهْرٍ بِعَيْنِهِ وَقَدْ فَاتَهُ فَيَقْضِيهِ مُتَتَابِعًا كَمَا إذَا أَوْجَبَ اعْتِكَافَ رَجَبٍ فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِيهِ؛ أَنَّهُ يَقْضِيهِ فِي شَهْرٍ آخَرَ مُتَتَابِعًا، كَذَا هَذَا. وَلَوْ لَمْ يَصُمْ رَمَضَانَ وَلَمْ يَعْتَكِفْ فِيهِ؛ فَعَلَيْهِ اعْتِكَافُ شَهْرٍ مُتَتَابِعًا بِصَوْمٍ، وَقَضَاءُ رَمَضَانَ فَإِنْ قَضَى صَوْمَ الشَّهْرِ مُتَتَابِعًا وَقَرَنَ بِهِ الِاعْتِكَافَ؛ جَازَ وَيَسْقُطُ عَنْهُ قَضَاءُ رَمَضَانَ وَخَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ الِاعْتِكَافُ بَاقٍ فَيَقْضِيهِمَا جَمِيعًا يَصُومُ شَهْرًا مُتَتَابِعًا وَهَذَا لِأَنَّ ذَلِكَ الصَّوْمَ لَمَّا كَانَ بَاقِيًا لَا يَسْتَدْعِي وُجُوبُ الِاعْتِكَافِ فِيهَا صَوْمًا آخَرَ؛ فَبَقِيَ وَاجِبَ الْأَدَاءِ بِعَيْنِ ذَلِكَ الصَّوْمِ كَمَا انْعَقَدَ. وَلَوْ صَامَ وَلَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ الْقَابِلُ فَاعْتَكَفَ قَاضِيًا لِمَا فَاتَهُ بِصَوْمِ هَذَا الشَّهْرِ؛ لَمْ يَصِحَّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بَقَاءَ وُجُوبِ الِاعْتِكَافِ يَسْتَدْعِي وُجُوبَ صَوْمٍ يَصِيرُ شَرْطًا لِأَدَائِهِ فَوَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ صَوْمٌ عَلَى حِدَةٍ وَمَا وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ الصَّوْمِ لَا يَتَأَدَّى بِصَوْمِ الشَّهْرِ وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمَيْ الْعِيدِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ؛ فَهُوَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الصَّوْمِ وَأَنَّ عَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِحُّ نَذْرُهُ لَكِنْ يُقَالُ لَهُ: اقْضِ فِي يَوْمٍ آخَرَ وَيُكَفِّرُ الْيَمِينَ إنْ كَانَ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ، وَإِنْ اعْتَكَفَ فِيهَا؛ جَازَ وَخَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ وَكَانَ مُسِيئًا وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ بِالِاعْتِكَافِ فِيهَا أَصْلًا كَمَا لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ بِالصَّوْمِ فِيهَا وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ مِنْ لَوَازِمِ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ؛ فَكَانَ الْجَوَابُ فِي الِاعْتِكَافِ كَالْجَوَابِ فِي الصَّوْمِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكَفِ فِيهِ: فَالْمَسْجِدُ وَإِنَّهُ شَرْطٌ فِي

فصل ركن الاعتكاف

نَوْعَيْ الِاعْتِكَافِ: الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ عَاكِفِينَ فِي الْمَسَاجِدِ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يُبَاشِرُوا الْجِمَاعَ فِي الْمَسَاجِدِ؛ لِيُنْهَوْا عَنْ الْجِمَاعِ فِيهَا فَدَلَّ أَنَّ مَكَانَ الِاعْتِكَافِ هُوَ الْمَسْجِدُ وَيَسْتَوِي فِيهِ الِاعْتِكَافُ الْوَاجِبُ وَالتَّطَوُّعُ؛ لِأَنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ ثُمَّ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ يُرِيدُ بِهِ الرَّجُلَ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: إنَّهُ يَصِحُّ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ تُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ كُلُّهَا، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَأَنَّهُ ذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا لِثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» وَفِي رِوَايَةٍ: وَمَسْجِدِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ» وَالْمَرْوِيُّ أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: إنْ ثَبَتَ فَهُوَ عَلَى التَّنَاسُخِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَصَارَ مَنْسُوخًا بِدَلَالَةِ فِعْلِهِ؛ إذْ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْلُحُ نَاسِخًا لِقَوْلِهِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى بَيَانِ الْأَفْضَلِ كَقَوْلِهِ «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» أَوْ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَكْرَهُهَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ إنْ ثَبَتَ فَيُحْمَلُ عَلَى الزِّيَارَةِ أَوْ عَلَى بَيَانِ الْأَفْضَلِ فَأَفْضَلُ الِاعْتِكَافِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثُمَّ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ثُمَّ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ ثُمَّ فِي الْمَسَاجِدِ الْعِظَامِ الَّتِي كَثُرَ أَهْلُهَا وَعَظُمَ. أَمَّا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا تَعْدِلُ أَلْفَ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ مَا خَلَا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» ؛ وَلِأَنَّ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، مِنْ كَوْنِ الْكَعْبَةِ فِيهِ وَلُزُومِ الطَّوَافِ بِهِ ثُمَّ بَعْدَهُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّهُ مَسْجِدُ أَفْضَلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ؛ لِأَنَّهُ مَسْجِدُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسْجِدٌ أَفْضَلُ مِنْهُ ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْجَامِعُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَجْمَعِ الْمُسْلِمِينَ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ بَعْدَهُ الْمَسَاجِدُ الْكِبَارُ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْجَوَامِعِ لِكَثْرَةِ أَهْلِهَا. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا لَا تَعْتَكِفُ إلَّا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَلَا تَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ وَإِنْ شَاءَتْ اعْتَكَفَتْ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا، وَمَسْجِدُ بَيْتِهَا أَفْضَلُ لَهَا مِنْ مَسْجِدِ حَيِّهَا وَمَسْجِدُ حَيِّهَا أَفْضَلُ لَهَا مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ، بَلْ يَجُوزُ اعْتِكَافُهَا فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَالْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ لَا عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ اعْتِكَافُهَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ قُرْبَةٌ خُصَّتْ بِالْمَسَاجِدِ بِالنَّصِّ، وَمَسْجِدُ بَيْتِهَا لَيْسَ بِمَسْجِدٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِلصَّلَاةِ فِي حَقِّهَا حَتَّى لَا يَثْبُتَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمَسْجِدِ فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ هَذِهِ الْقُرْبَةِ فِيهِ وَنَحْنُ نَقُولُ: بَلْ هَذِهِ قُرْبَةٌ خُصَّتْ بِالْمَسْجِدِ لَكِنَّ مَسْجِدَ بَيْتِهَا لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي حَقِّهَا فِي حَقِّ الِاعْتِكَافِ؛ لِأَنَّ لَهُ حُكْمَ الْمَسْجِدِ فِي حَقِّهَا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ لِحَاجَتِهَا إلَى إحْرَازِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ فَأُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ فِي حَقِّهَا حَتَّى كَانَتْ صَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِ دَارِهَا وَصَلَاتُهَا فِي صَحْنِ دَارِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِ حَيِّهَا» وَإِذَا كَانَ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي حَقِّهَا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الِاعْتِكَافِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْمَسْجِدِ سَوَاءٌ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَعْتَكِفَ فِي بَيْتِهَا فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْمُعَدُّ لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ بَيْتِهَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ، فَلَا يَجُوزُ اعْتِكَافُهَا فِيهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَم. [فَصْلٌ رُكْنُ الِاعْتِكَافِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُ الِاعْتِكَافِ وَمَحْظُورَاتِهِ وَمَا يُفْسِدُهُ وَمَا لَا يُفْسِدُهُ فَرُكْنُ الِاعْتِكَافِ: هُوَ اللُّبْثُ وَالْإِقَامَةُ يُقَالُ: اعْتَكَفَ وَعَكَفَ أَيْ: أَقَامَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} [طه: 91] أَيْ: لَنْ نَزَالَ عَلَيْهِ مُقِيمِينَ وَيُقَالُ: فُلَانٌ مُعْتَكِفٌ عَلَى

حَرَامٍ أَيْ: مُقِيمٌ عَلَيْهِ فَسُمِّيَ مَنْ أَقَامَ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي الْمَسْجِدِ: مُعْتَكِفًا وَعَاكِفًا. وَإِذَا عُرِفَ فَنَقُولُ: لَا يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ فِي الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ لَيْلًا وَلَا وَنَهَارًا إلَّا لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنْ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَحُضُورِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَمَّا كَانَ لُبْثًا وَإِقَامَةً؛ فَالْخُرُوجُ يُضَادُّهُ وَلَا بَقَاءَ لِلشَّيْءِ مَعَ مَا يُضَادُّهُ فَكَانَ إبْطَالًا لَهُ وَإِبْطَالُ الْعِبَادَةِ حَرَامٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا لَهُ الْخُرُوجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ إذْ لَا بُدَّ مِنْهَا وَتَعَذَّرَ قَضَاؤُهَا فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْخُرُوجِ وَلِأَنَّ فِي الْخُرُوجِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ تَحْقِيقَ هَذِهِ الْقُرْبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ الْمَرْءُ مِنْ أَدَاءِ هَذِهِ الْقُرْبَةِ إلَّا بِالْبَقَاءِ، وَلَا بَقَاءَ بِدُونِ الْقُوتِ عَادَةً وَلَا بُدَّ لِذَلِكَ مِنْ الِاسْتِفْرَاغِ عَلَى مَا عَلَيْهِ مَجْرَى الْعَادَةِ فَكَانَ الْخُرُوجُ لَهَا مِنْ ضَرُورَاتِ الِاعْتِكَافِ وَوَسَائِلِهِ وَمَا كَانَ مِنْ وَسَائِلِ الشَّيْءِ؛ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَكَانَ الْمُعْتَكِفُ فِي حَالِ خُرُوجِهِ عَنْ الْمَسْجِدِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ كَأَنَّهُ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ لَا يَخْرُجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ» وَكَذَا فِي الْخُرُوجِ فِي الْجُمُعَةِ ضَرُورَةٌ؛ لِأَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ وَلَا يُمْكِنُ إقَامَتُهَا فِي كُلِّ مَسْجِدٍ فَيُحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ إلَيْهَا كَمَا يُحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ؛ فَلَمْ يَكُنْ الْخُرُوجُ إلَيْهَا مُبْطِلًا لِاعْتِكَافِهِ وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا خَرَجَ إلَى الْجُمُعَةِ؛ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْخُرُوجَ فِي الْأَصْلِ مُضَادٌّ لِلِاعْتِكَافِ وَمُنَافٍ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَرَارٌ وَإِقَامَةٌ وَالْخُرُوجُ انْتِقَالٌ وَزَوَالٌ؛ فَكَانَ مُبْطِلًا لَهُ إلَّا فِيمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ كَحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَكَانَ يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزَ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى الْجُمُعَةِ بِأَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَلَنَا أَنَّ إقَامَةَ الْجُمُعَةِ فَرْضٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَالْأَمْرُ بِالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ أَمْرٌ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْمُعْتَكَفِ. وَلَوْ كَانَ الْخُرُوجُ إلَى الْجُمُعَةِ مُبْطِلًا لِلِاعْتِكَافِ؛ لَمَا أُمِرَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَمْرًا بِإِبْطَالِ الِاعْتِكَافِ وَإِنَّهُ حَرَامٌ؛ وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَمَّا كَانَتْ فَرْضًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَالِاعْتِكَافُ قُرْبَةٌ لَيْسَتْ هِيَ عَلَيْهِ فَمَتَى أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ؛ لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ فِي إبْطَالِ مَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ؛ بَلْ كَانَ نَذْرُهُ عَدَمًا فِي إبْطَالِ هَذَا الْحَقِّ وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ دُونَ الْجُمُعَةِ فَلَا يُؤْذَنُ بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ لِأَجْلِهِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إنَّ الِاعْتِكَافَ لُبْثٌ وَالْخُرُوجَ يُبْطِلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْخُرُوجَ إلَى الْجُمُعَةِ لَا يُبْطِلُهُ لِمَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا وَقْتُ الْخُرُوجِ إلَى الْجُمُعَةِ وَمِقْدَارُ مَا يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْأَذَانِ فَيَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ مِقْدَارَ مَا يُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: مِقْدَارَ مَا يُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا. وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي سُنَّةِ الْجُمُعَةِ بَعْدَهَا أَنَّهَا أَرْبَعٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا: سِتَّةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا كَانَ مَنْزِلُهُ بَعِيدًا يَخْرُجُ حِينَ يَرَى أَنَّهُ يَبْلُغُ الْمَسْجِدَ عِنْدَ النِّدَاءِ وَهَذَا أَمْرٌ يَخْتَلِفُ بِقُرْبِ الْمَسْجِدِ وَبُعْدِهِ فَيَخْرُجُ فِي أَيِّ وَقْتٍ يَرَى أَنَّهُ يُدْرِكُ الصَّلَاةَ وَالْخُطْبَةَ وَيُصَلِّي قَبْلَ الْخُطْبَةِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْخُرُوجِ إلَى الْجُمُعَةِ إبَاحَةٌ لَهَا بِتَوَابِعِهَا، وَسُنَنَهَا مِنْ تَوَابِعِهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَذْكَارِ الْمَسْنُونَةِ فِيهَا وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقِيمَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إلَّا مِقْدَارَ مَا يُصَلِّي بَعْدَهَا أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا عَلَى الِاخْتِلَافِ وَلَوْ أَقَامَ يَوْمًا وَلَيْلَةً لَا يُنْتَقَضُ اعْتِكَافُهُ، لَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ أَمَّا عَدَمُ الِانْتِقَاضِ فَلِأَنَّ الْجَامِعَ لَمَّا صَلُحَ لِابْتِدَاءِ الِاعْتِكَافِ؛ فَلَأَنْ يَصْلُحَ لِلْبَقَاءِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ؛ فَلِأَنَّهُ لَمَّا ابْتَدَأَ الِاعْتِكَافَ فِي مَسْجِدٍ؛ فَكَأَنَّهُ عَيَّنَهُ لِلِاعْتِكَافِ فِيهِ، فَيُكْرَهُ لَهُ التَّحَوُّلُ عَنْهُ مَعَ إمْكَانِ الْإِتْمَامِ فِيهِ وَلَا يَخْرُجُ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ وَلَا لِصَلَاةِ جِنَازَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى الْخُرُوجِ؛ لِأَنَّ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ لَيْسَتْ مِنْ الْفَرَائِضِ، بَلْ مِنْ الْفَضَائِلِ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ لَيْسَتْ بِفَرْضِ عَيْنٍ بَلْ فَرْضُ كِفَايَةٍ تَسْقُطُ عَنْهُ بِقِيَامِ الْبَاقِينَ بِهَا؛ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ الِاعْتِكَافِ لِأَجْلِهَا وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الرُّخْصَةِ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: ذَلِكَ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى الِاعْتِكَافِ الَّذِي يَتَطَوَّعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ مَتَى شَاءَ وَيَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ الرُّخْصَةُ عَلَى مَا إذَا كَانَ خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ لِوَجْهٍ مُبَاحٍ كَحَاجَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ لِلْجُمُعَةِ، ثُمَّ عَادَ مَرِيضًا أَوْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ كَانَ خُرُوجُهُ لِذَلِكَ قَصْدًا وَذَلِكَ جَائِزٌ. أَمَّا الْمَرْأَةُ إذَا اعْتَكَفَتْ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا لَا تَخْرُجُ مِنْهُ إلَى مَنْزِلِهَا إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ لَهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا. فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ الَّذِي يَعْتَكِفُ فِيهِ لِعُذْرٍ بِأَنْ انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ أَوْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ مُكْرَهًا أَوْ غَيْرُ السُّلْطَانِ

فَدَخَلَ مَسْجِدًا آخَرَ غَيْرَهُ مِنْ سَاعَتِهِ؛ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ وُجِدَ ضِدُّ الِاعْتِكَافِ وَهُوَ الْخُرُوجُ الَّذِي هُوَ تَرْكُ الْإِقَامَةِ فَيَبْطُلُ كَمَا لَوْ خَرَجَ عَنْ اخْتِيَارٍ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ أَمَّا عِنْدَ انْهِدَامِ الْمَسْجِدِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاعْتِكَافُ فِيهِ بَعْدَ مَا انْهَدَمَ؛ فَكَانَ الْخُرُوجُ مِنْهُ أَمْرًا لَا بُدَّ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْخُرُوجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَأَمَّا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ؛ فَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ أَسْبَابِ الْعُذْرِ فِي الْجُمْلَةِ، فَكَانَ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْخُرُوجِ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ كَمَا إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ يَمْشِي مَشْيًا رَفِيقًا. فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ سَاعَةً، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَفْسُدُ حَتَّى يَخْرُجَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَقْيَسُ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوْسَعُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْخُرُوجَ الْقَلِيلَ عَفْوٌ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ يَمْشِي مُتَأَنِّيًا؛ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ وَمَا دُونَ نِصْفِ الْيَوْمِ؛ فَهُوَ قَلِيلٌ فَكَانَ عَفْوًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَرَكَ الِاعْتِكَافَ بِاشْتِغَالِهِ بِضِدِّهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ لِفَوَاتِ الرُّكْنِ، وَبُطْلَانُ الشَّيْءِ بِفَوَاتِ رُكْنِهِ يَسْتَوِي فِيهِ الْكَثِيرُ وَالْقَلِيلُ كَالْأَكْلِ فِي بَابِ الصَّوْمِ وَفِي الْخُرُوجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ضَرُورَةٌ. وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِي الْمَشْيِ مُخْتَلِفَةٌ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُ صِفَةِ الْمَشْيِ وَهَهُنَا لَا ضَرُورَةَ فِي الْخُرُوجِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَمَكَثَ بَعْدَ فَرَاغِهِ أَنَّهُ يَنْتَقِضُ اعْتِكَافُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَلَّ مُكْثُهُ أَوْ كَثُرَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُنْتَقَضُ مَا لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ. وَلَوْ صَعَدَ الْمِئْذَنَةَ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَ بَابُ الْمِئْذَنَةِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْمِئْذَنَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُمْنَعُ فِيهِ كُلُّ مَا يُمْنَعُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْبَوْلِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فَأَشْبَهَ زَاوِيَةً مِنْ زَوَايَا الْمَسْجِدِ وَكَذَا إذَا كَانَتْ دَارُهُ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ فَأَخْرَجَ رَأْسَهُ إلَى دَارِهِ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِخُرُوجٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الدَّارِ فَفَعَلَ ذَلِكَ؛ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيَغْسِلُ رَأْسَهُ» وَإِنْ غَسَلَ رَأْسَهُ فِي الْمَسْجِدِ فِي إنَاءٍ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يُلَوِّثْ الْمَسْجِدَ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَتَلَوَّثُ الْمَسْجِدُ يُمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ تَنْظِيفَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ لَوْ تَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ فِي إنَاءٍ؛ فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ. وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ فَهَلْ يَفْسُدُ بِالْخُرُوجِ لِغَيْرِ عُذْرٍ كَالْخُرُوجِ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ لَا يَفْسُدُ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَفْسُدُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ اعْتِكَافَ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ أَوْ نِصْفَ يَوْمٍ أَوْ مَا شَاءَ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، أَوْ يَخْرُجُ فَيَكُونُ مُعْتَكِفًا مَا أَقَامَ تَارِكًا مَا خَرَجَ وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ هُوَ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ كَالصَّوْمِ وَلِهَذَا قَالَ: إنَّهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الصَّوْمِ كَمَا لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ الْوَاجِبُ بِدُونِ الصَّوْمِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعِ مُوجِبٌ لِلْإِتْمَامِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا صِيَانَةً لِلْمُؤَدَّى عَنْ الْبُطْلَانِ كَمَا فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى صِيَانَةِ الْمُؤَدَّى هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُؤَدَّى انْعَقَدَ قُرْبَةً فَيَحْتَاجُ إلَى صِيَانَةٍ، وَذَلِكَ بِالْمُضِيِّ فِيهِ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ لُبْثٌ وَإِقَامَةٌ فَلَا يَتَقَدَّرُ بِيَوْمٍ كَامِلٍ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ فِعْلٍ تَامٍّ بِنَفْسِهِ فِي زَمَانٍ: اعْتِبَارُهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقِفَ اعْتِبَارُهُ عَلَى وُجُودِ غَيْرِهِ. وَكُلُّ لُبْثٍ وَإِقَامَةٍ تُوجَدُ فَهُوَ فِعْلٌ تَامٌّ فِي نَفْسِهِ، فَكَانَ اعْتِكَافًا فِي نَفْسِهِ فَلَا تَقِفُ صِحَّتُهُ وَاعْتِبَارُهُ عَلَى وُجُودِ أَمْثَالِهِ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ إلَّا إذَا جَاءَ دَلِيلُ التَّغْيِيرِ فَتُجْعَلُ الْأَفْعَالُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْمُتَغَايِرَةُ حَقِيقَةً مُتَّحِدَةً حُكْمًا؛ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَمَنْ ادَّعَى التَّغْيِيرَ هَهُنَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ وَقَوْلُهُ: الشُّرُوعُ فِيهِ مُوجِبٌ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ بِقَدْرِ مَا اتَّصَلَ بِهِ الْأَدَاءُ وَلَمَّا خَرَجَ فَمَا أَوْجَبَ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرَ؛ فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَوْ جَامَعَ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] قِيلَ: الْمُبَاشَرَةُ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ وَالرَّفَثِ وَالْغَشَيَانِ فَإِنَّمَا عَنَى بِهِ الْجِمَاعَ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يُكَنِّي بِمَا شَاءَ؛ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ مَحْظُورٌ فِي الِاعْتِكَافِ؛ فَإِنَّ حَظْرَ الْجِمَاعِ عَلَى الْمُعْتَكِفِ لَيْسَ لِمَكَانِ الْمَسْجِدِ بَلْ لِمَكَانِ الِاعْتِكَافِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ النَّهْيِ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ

نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَعْتَكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ وَكَانُوا يَخْرُجُونَ يَقْضُونَ حَاجَتَهُمْ فِي الْجِمَاعِ ثُمَّ يَغْتَسِلُونَ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلَى مُعْتَكَفِهِمْ لَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُجَامِعُونَ فِي الْمَسَاجِدِ لِيُنْهَوْا عَنْ ذَلِكَ، بَلْ الْمَسَاجِدُ فِي قُلُوبِهِمْ كَانَتْ أَجَلَّ وَأَعْظَمَ مِنْ أَنْ يَجْعَلُوهَا مَكَانًا لِوَطْءِ نِسَائِهِمْ فَثَبَتَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ؛ فَكَانَ الْجِمَاعُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ فَيُوجِبُ فَسَادَهُ سَوَاءٌ جَامَعَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ فَكَانَ الْجِمَاعُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَسَوَاءٌ كَانَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّ جِمَاعَ النَّاسِي لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَالنِّسْيَانُ لَمْ يُجْعَلْ عُذْرٌ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ وَجُعِلَ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّوْمِ. وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَكُونَ عُذْرًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ النَّاسِي مَقْدُورُ الِامْتِنَاعِ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ إذْ الْوُقُوعُ فِيهِ لَا يَكُونُ إلَّا لِنَوْعِ تَقْصِيرٍ وَلِهَذَا كَانَ النِّسْيَانُ جَابِرَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا رُفِعَتْ الْمُؤَاخَذَةُ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّوْمِ بِالنَّصِّ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُحَرَّمَ فِي الِاعْتِكَافِ عَيْنُ الْجِمَاعِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ. وَالْمُحَرَّمُ فِي بَابِ الصَّوْمِ هُوَ الْإِفْطَارُ لَا عَيْنُ الْجِمَاعِ، أَوْ حَرُمَ الْجِمَاعُ لِكَوْنِهِ إفْطَارًا لَا لِكَوْنِهِ جِمَاعًا؛ فَكَانَتْ حُرْمَتُهُ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْإِفْطَارُ، وَالْإِفْطَارُ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِالْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي النَّهَارِ عَامِدًا؛ فَسَدَ صَوْمُهُ وَفَسَدَ اعْتِكَافُهُ لِفَسَادِ الصَّوْمِ، وَلَوْ أَكَلَ نَاسِيًا لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْسَدُ صَوْمُهُ. وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ وَهُوَ مَانِعٌ عَنْهُ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ لَا لِأَجْلِ الصَّوْمِ يَخْتَلِفُ فِيهِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ وَالنَّهَارُ وَاللَّيْلُ كَالْجِمَاعِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَمَا كَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الصَّوْمِ، وَهُوَ مَا مُنِعَ عَنْهُ لِأَجْلِ الصَّوْمِ يَخْتَلِفُ فِيهِ الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ وَالنَّهَارُ وَاللَّيْلُ كَالْجِمَاعِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَكَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. وَالْفِقْهُ مَا بَيَّنَّا. وَلَوْ بَاشَرَ فَأَنْزَلَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي الْآيَةِ وَقَدْ قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: إنَّ الْمُبَاشَرَةَ الْجِمَاعُ وَمَا دُونَهُ وَلِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ مَعَ الْإِنْزَالِ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ فَيُلْحَقُ بِهِ وَكَذَا لَوْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ؛ لِمَا قُلْنَا. فَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّهُ بِدُونِ الْإِنْزَالِ لَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ لَكِنَّهُ يَكُونُ حَرَامًا وَكَذَا التَّقْبِيلُ وَالْمُعَانَقَةُ وَاللَّمْسُ أَنَّهُ إنْ أَنْزَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَإِلَّا فَلَا يَفْسُدُ لَكِنَّهُ يَكُونُ حَرَامًا بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّ فِي بَابِ الصَّوْمِ لَا تَحْرُمُ الدَّوَاعِي إذَا كَانَ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ. وَالْفَرْقُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ عَيْنَ الْجِمَاعِ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ مُحَرَّمٌ، وَتَحْرِيمُ الشَّيْءِ يَكُونُ تَحْرِيمًا لِدَوَاعِيهِ؛ لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَيْهِ فَلَوْ لَمْ تَحْرُمْ؛ لَأَدَّى إلَى التَّنَاقُضِ، وَأَمَّا فِي بَابِ الصَّوْمِ فَعَيْنُ الْجِمَاعِ لَيْسَ مُحَرَّمًا، إنَّمَا الْمُحَرَّمُ هُوَ الْإِفْطَارُ أَوْ حَرُمَ الْجِمَاعُ لِكَوْنِهِ إفْطَارًا، وَهَذَا لَا يَتَعَدَّى إلَى الدَّوَاعِي فَهُوَ الْفَرْقُ. وَلَوْ نَظَرَ فَأَنْزَلَ؛ لَمْ يَفْسُدْ اعْتِكَافُهُ لِانْعِدَامِ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى؛ فَأَشْبَهَ الِاحْتِلَامَ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَلَا يَأْتِي الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ مُعْتَكِفَةٌ إذَا كَانَتْ اعْتَكَفَتْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّ اعْتِكَافَهَا إذَا كَانَ بِإِذْنِ زَوْجِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ إفْسَادِ عِبَادَتِهَا. وَيَفْسُدُ الِاعْتِكَافُ بِالرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ قُرْبَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَنْعَقِدْ مَعَ الْكُفْرِ فَلَا يَبْقَى مَعَ الْكُفْرِ أَيْضًا وَنَفْسُ الْإِغْمَاءِ لَا يُفْسِدُهُ بِلَا خِلَافٍ حَتَّى لَا يَنْقَطِعَ التَّتَابُعُ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الِاعْتِكَافَ إذَا أَفَاقَ، وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَيَّامًا أَوْ أَصَابَهُ لَمَمٌ؛ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَعَلَيْهِ إذَا بَرَأَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ مُتَتَابِعًا وَقَدْ فَاتَتْ صِفَةُ التَّتَابُعِ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَمَا فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَإِنْ تَطَاوَلَ الْجُنُونُ وَبَقِيَ سِنِينَ ثُمَّ أَفَاقَ: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ أَوْ يَسْقُطَ عَنْهُ؟ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: قِيَاسٌ، وَاسْتِحْسَانٌ نَذْكُرهُمَا فِي مَوْضِعِهِمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ سَكِرَ لَيْلًا؛ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَفْسُدُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ السَّكْرَانَ كَالْمَجْنُونِ وَالْجُنُونُ يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ فَكَذَا السُّكْرُ. (وَلَنَا) أَنَّ السُّكْرَ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى لَهُ أَثَرٌ فِي الْعَقْلِ مُدَّةً يَسِيرَةً فَلَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ وَلَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ كَالْإِغْمَاءِ. وَلَوْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ فَسَدَ اعْتِكَافِهَا؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الِاعْتِكَافِ لِمُنَافَاتِهَا الصَّوْمَ وَلِهَذَا مُنِعَتْ مِنْ انْعِقَادِ الِاعْتِكَافِ فَتُمْنَعُ مِنْ الْبَقَاءِ وَلَوْ احْتَلَمَ الْمُعْتَكِفُ؛ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ جِمَاعًا وَلَا فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ، ثُمَّ إنْ أَمْكَنَهُ الِاغْتِسَالُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَوَّثَ الْمَسْجِدُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِلَّا فَيَخْرُجَ فَيَغْتَسِلَ وَيَعُودَ إلَى الْمَسْجِدِ. وَلَا بَأْسَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيَتَزَوَّجَ وَيُرَاجِعَ وَيَلْبَسَ وَيَتَطَيَّبَ وَيَدَّهِنَ وَيَأْكُلَ وَيَشْرَبَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيَتَحَدَّثَ مَا بَدَا لَهُ بَعْدَ

فصل بيان حكم الاعتكاف إذا فسد

أَنْ لَا يَكُونَ صَائِمًا وَيَنَامَ فِي الْمَسْجِدِ. وَالْمُرَادُ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ هُوَ كَلَامُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِ نَقْلِ الْأَمْتِعَةِ إلَى الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ عَنْهُ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ لِمَا فِيهِ مِنْ اتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ مَتْجَرًا لَا لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي الْمَسْجِدِ كَأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ» . (وَلَنَا) عُمُومَاتُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ أَخِيهِ جَعْفَرٍ: هَلَّا اشْتَرَيْت خَادِمًا؟ قَالَ: كُنْت مُعْتَكِفًا قَالَ: وَمَاذَا عَلَيْك لَوْ اشْتَرَيْت. أَشَارَ إلَى جَوَازِ الشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمَحْمُولٌ عَلَى اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ مَتَاجِرَ كَالسُّوقِ يُبَاعُ فِيهَا وَتُنْقَلُ الْأَمْتِعَةُ إلَيْهَا أَوْ يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَأَمَّا النِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ فَلِأَنَّ نُصُوصَ النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ لَا تَفْصِلُ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَنَحْوِ ذَلِكَ، وقَوْله تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَاللِّبْسُ وَالطِّيبُ وَالنَّوْمُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187] وقَوْله تَعَالَى {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] وقَوْله تَعَالَى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ: 9] وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي حَالِ اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالنَّوْمَ فِي الْمَسْجِدِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ لَوْ مُنِعَ مِنْهُ؛ لَمُنِعَ مِنْ الِاعْتِكَافِ إذْ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَأَمَّا التَّكَلُّمُ بِمَا لَا مَأْثَمَ فِيهِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: أَيْ صِدْقًا وَصَوَابًا لَا كَذِبًا وَلَا فُحْشًا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَحَدَّثُ مَعَ أَصْحَابِهِ وَنِسَائِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ. فَأَمَّا التَّكَلُّمُ بِمَا فِيهِ مَأْثَمٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَفِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى. وَلَهُ أَنْ يُحْرِمَ فِي اعْتِكَافِهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَإِذَا فَعَلَ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ وَأَقَامَ فِي اعْتِكَافِهِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ ثُمَّ يَمْضِي فِي إحْرَامِهِ إلَّا أَنْ يَخَافَ فَوْتَ الْحَجِّ فَيَدَعَ الِاعْتِكَافَ وَيَحُجَّ ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الِاعْتِكَافَ. أَمَّا صِحَّةُ الْإِحْرَامِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ؛ فَلِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ يَنْعَقِدُ مَعَ الْإِحْرَامِ فَيَبْقَى مَعَهُ أَيْضًا، وَإِذَا صَحَّ إحْرَامُهُ فَإِنَّهُ يُتِمُّ الِاعْتِكَافَ ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا إذَا خَافَ فَوْتَ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَدَعُ الِاعْتِكَافَ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَفُوتُ وَالِاعْتِكَافُ لَا يَفُوتُ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِاَلَّذِي يَفُوتُ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْحَجَّ آكَدُ وَأَهَمُّ مِنْ الِاعْتِكَافِ فَالِاشْتِغَالُ بِهِ أَوْلَى وَإِذَا تَرَكَ الِاعْتِكَافَ يَقْضِيهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ حُكْمِ الِاعْتِكَاف إذَا فَسَدَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ فَاَلَّذِي فَسَدَ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَأَعْنِي بِهِ الْمَنْذُورَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا يَقْضِي إذَا قَدَرَ عَلَى الْقَضَاءِ إلَّا الرِّدَّةُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ إذَا فَسَدَ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَصَارَ فَائِتًا مَعْنًى فَيَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ جَبْرًا لِلْفَوَاتِ وَيَقْضِي بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ فَاتَهُ مَعَ الصَّوْمِ فَيَقْضِيهِ مَعَ الصَّوْمِ غَيْرَ أَنَّ الْمَنْذُورَ بِهِ إنْ كَانَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ يَقْضِي قَدْرَ مَا فَسَدَ لَا غَيْرَ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ فِي شَهْرٍ بِعَيْنِهِ إذَا أَفْطَرَ يَوْمًا أَنَّهُ يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ. وَإِذَا كَانَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ؛ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مُتَتَابِعًا فَيُرَاعِي فِيهِ صِفَةَ التَّتَابُعِ وَسَوَاءٌ فَسَدَ بِصُنْعِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَالْخُرُوجِ وَالْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي النَّهَارِ إلَّا الرِّدَّةُ، أَوْ فَسَدَ بِصُنْعِهِ لِعُذْرٍ كَمَا إذَا مَرِضَ فَاحْتَاجَ إلَى الْخُرُوجِ فَخَرَجَ أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ رَأْسًا كَالْحَيْضِ وَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ الطَّوِيلِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ وَالْحَاجَةُ إلَى الْجَبْرِ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا إلَّا أَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي الرِّدَّةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» وَالْقِيَاسُ فِي الْجُنُونِ الطَّوِيلِ أَنْ يُسْقِطَ الْقَضَاءَ كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إلَّا أَنَّ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَقْضِي؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ إذَا طَالَ قَلَّمَا يَزُولُ فَيَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ فَيُحْرَجُ فِي قَضَائِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي الِاعْتِكَافِ. وَأَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ إذَا قَطَعَهُ قَبْلَ تَمَامِ الْيَوْمِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَقْضِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ اعْتِكَافَ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ لِلرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا حُكْمُهُ إذَا

كتاب الحج

فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ بِأَنْ نَذْرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ إذَا فَاتَ بَعْضُهُ قَضَاهُ لَا غَيْرُ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَإِنْ فَاتَهُ كُلُّهُ قَضَى الْكُلَّ مُتَتَابِعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ صَارَ الِاعْتِكَافُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَنْشَأَ النَّذْرَ بِاعْتِكَافِ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى قَضَائِهِ فَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ؛ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ لِكُلِّ يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ لِأَجْلِ الصَّوْمِ لَا لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ كَمَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ. وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَلَمْ يَعْتَكِفْ فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ صَحِيحًا وَقْتَ النَّذْرِ فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا وَقْتَ النَّذْرِ فَذَهَبَ الْوَقْتُ وَهُوَ مَرِيضٌ حَتَّى مَاتَ؛ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا؛ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الصَّوْمِ الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ وَإِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ؛ فَجَمِيعُ الْعُمُرِ وَقْتُهُ كَمَا فِي النَّذْرِ بِالصَّوْمِ فِي وَقْتٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى؛ كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ حَصَلَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا يُقْتَضَى عَلَيْهِ الْوُجُوبَ إذَا أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ كَمَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ الْمُطْلَقِ. فَإِنْ لَمْ يُوصِ حَتَّى مَاتَ؛ سَقَطَ عَنْهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا حَتَّى لَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ الْفِدْيَةُ إلَّا أَنْ يَتَبَرَّعُوا بِهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ وَتُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَتُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَالْمَسْأَلَةُ مَضَتْ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [كِتَابُ الْحَجِّ] [فَصْل فِي بَيَانِ فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ] كِتَابُ الْحَجِّ الْكِتَابُ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: فَصْلٌ فِي الْحَجِّ، وَفَصْلٌ فِي الْعُمْرَةِ أَمَّا فَصْلُ الْحَجِّ: فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ فَرْضِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْفَرْضِيَّةِ وَفِي بَيَانِ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَفِي بَيَانِ وَاجِبَاتِهِ، وَفِي بَيَانِ سُنَنِهِ، وَفِي بَيَانِ التَّرْتِيبِ فِي أَفْعَالِهِ مِنْ الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ، وَالسُّنَنِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ أَرْكَانِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُهُ وَبَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ، وَفِي بَيَانِ مَا يُفَوِّتُ الْحَجَّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ عَنْ عُمْرِهِ أَصْلًا، وَرَأْسًا أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْحَجُّ فَرِيضَةٌ ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ، فِي الْآيَةِ دَلِيلُ وُجُوبِ الْحَجِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، وَعَلَى: كَلِمَةُ إيجَابٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران: 97] قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ: وَمَنْ كَفَرَ بِوُجُوبِ الْحَجِّ حَتَّى رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: أَيْ وَمَنْ كَفَرَ بِالْحَجِّ فَلَمْ يَرَ حَجَّهُ بِرًّا، وَلَا تَرْكَهُ مَأْثَمًا وقَوْله تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] أَيْ: اُدْعُ النَّاسَ وَنَادِهِمْ إلَى حَجِّ الْبَيْتِ، وَقِيلَ: أَيْ أَعْلِمْ النَّاسَ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ الْحَجَّ، دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى: {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا» . وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْنَعَهُ سُلْطَانٌ جَائِرٌ، أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ، أَوْ عَدُوٌّ ظَاهِرٌ، فَلْيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا، أَوْ مَجُوسِيًّا» . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَلَمْ يَحُجَّ، فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَجَبَتْ لِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ، أَوْ لِحَقِّ شُكْرِ النِّعْمَةِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ لَازِمٌ فِي الْمَعْقُولِ وَفِي الْحَجِّ إظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ، أَمَّا إظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ؛ فَلِأَنَّ إظْهَارَ الْعُبُودِيَّةِ هُوَ إظْهَارُ التَّذَلُّلِ لِلْمَعْبُودِ، وَفِي الْحَجِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ فِي حَالِ إحْرَامِهِ يُظْهِرُ الشَّعَثَ، وَيَرْفُضُ أَسْبَابَ التَّزَيُّنِ، وَالِارْتِفَاقِ، وَيَتَصَوَّرُ بِصُورَةِ عَبْدٍ سَخِطَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ، فَيَتَعَرَّضُ بِسُوءِ حَالِهِ لِعَطْفِ مَوْلَاهُ، وَمَرْحَمَتِهِ إيَّاهُ، وَفِي حَالِ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ عَصَى مَوْلَاهُ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَضَرِّعًا حَامِدًا لَهُ مُثْنِيًا عَلَيْهِ مُسْتَغْفِرًا لِزَلَّاتِهِ مُسْتَقِيلًا لِعَثَرَاتِهِ، وَبِالطَّوَافِ حَوْلَ الْبَيْتِ يُلَازِمُ الْمَكَانَ الْمَنْسُوبَ إلَى رَبِّهِ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ مُعْتَكِفٍ عَلَى بَابِ مَوْلَاهُ لَائِذٍ بِجَنَابِهِ. وَأَمَّا شُكْرُ النِّعْمَةِ؛ فَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ بَعْضُهَا بَدَنِيَّةٌ، وَبَعْضُهَا مَالِيَّةٌ، وَالْحَجُّ عِبَادَةٌ لَا تَقُومُ إلَّا بِالْبَدَنِ، وَالْمَالِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَالِ وَصِحَّةِ الْبَدَنِ، فَكَانَ فِيهِ شُكْرُ النِّعْمَتَيْنِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ لَيْسَ إلَّا اسْتِعْمَالُهَا

فصل كيفية فرض الحج

فِي طَاعَةِ الْمُنْعِمِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا، وَشَرْعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ كَيْفِيَّةُ فَرْضِ الْحَجّ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ فَرْضِهِ فَمِنْهَا: أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ لَا فَرْضُ كِفَايَةٍ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ عَيْنًا لَا يَسْقُطُ بِإِقَامَةِ الْبَعْضِ عَنْ الْبَاقِينَ بِخِلَافِ الْجِهَادِ فَإِنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ تَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ النَّاسِ عَيْنًا، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ مَا عَلَيْهِ إلَّا بِأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ إلَّا إذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ بِأَدَاءِ غَيْرِهِ، كَالْجِهَادِ، وَنَحْوِهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْحَجِّ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَالزَّكَاةَ، وَالصَّوْمَ يَجِبَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ لِمَا عُرِفَ فِي (أُصُولِ الْفِقْهِ) ، وَالتَّكْرَارُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ زَائِدٍ لَا بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحَجِّ سَأَلَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَوْ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحَجِّ أَلِعَامِنَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: لِلْأَبَدِ» ، وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِكُلْفَةٍ عَظِيمَةٍ، وَمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَلَوْ، وَجَبَ فِي كُلِّ عَامٍ؛ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ، وَأَنَّهُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ أَدَاؤُهُ إلَّا بِحَرَجٍ لَا يُؤَدَّى فَيَلْحَقُ الْمَأْثَمُ، وَالْعِقَابُ إلَى هَذَا أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا سَأَلَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَقَالَ: أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لِلْأَبَدِ، وَلَوْ قُلْتُ فِي كُلِّ عَامٍ لَوَجَبَ، وَلَوْ وَجَبَ ثُمَّ تَرَكْتُمْ لَضَلَلْتُمْ» . وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ، وَالتَّرَاخِي، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى يَأْثَمَ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، وَهِيَ السَّنَةُ الْأُولَى عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَذَكَرَ أَبُو سَهْلٍ الزَّجَّاجِيُّ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فَقَالَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ: عَلَى التَّرَاخِي، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الْحَجَّ فِي وَقْتٍ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ ثُمَّ بَيَّنَ، وَقْتَ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ (عَزَّ وَجَلَّ) : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] أَيْ: وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَصَارَ الْمَفْرُوضُ هُوَ الْحَجُّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُطْلَقًا مِنْ الْعُمْرِ فَتَقْيِيدُهُ بِالْفَوْرِ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَرُوِيَ أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ كَانَ لِسَنَةِ ثَمَانٍ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَحَجَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَنَةِ الْعَشْرِ، وَلَوْ كَانَ وُجُوبُهُ عَلَى الْفَوْرِ لَمَا احْتَمَلَ التَّأْخِيرَ مِنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ لَوْ أَدَّى فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا، وَلَوْ كَانَ، وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ. وَقَدْ فَاتَ الْفَوْرُ فَقَدْ فَاتَ وَقْتُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا لَا مُؤَدِّيًا كَمَا لَوْ فَاتَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ عَنْ وَقْتِهَا، وَصَوْمُ رَمَضَانَ عَنْ وَقْتِهِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَجِّ فِي وَقْتِهِ مُطْلَقٌ يَحْتَمِلُ الْفَوْرَ، وَيَحْتَمِلُ التَّرَاخِيَ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْفَوْرِ أَحْوَطُ؛ لِأَنَّهُ إذَا حُمِلَ عَلَيْهِ يَأْتِي بِالْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا خَوْفًا مِنْ الْإِثْمِ بِالتَّأْخِيرِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْفَوْرُ فَقَدْ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَأَمِنَ الضَّرَرَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّرَاخِي لَا يَضُرُّهُ الْفِعْلُ عَلَى الْفَوْرِ بَلْ يَنْفَعُهُ؛ لِمُسَارَعَتِهِ إلَى الْخَيْرِ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى التَّرَاخِي رُبَّمَا لَا يَأْتِي بِهِ عَلَى الْفَوْرِ، بَلْ يُؤَخَّرُ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ فَتَلْحَقُهُ الْمَضَرَّةُ إنَّ أُرِيدَ بِهِ الْفَوْرُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَلْحَقُهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ التَّرَاخِي، فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى الْفَوْرِ حَمْلًا عَلَى أَحْوَطِ الْوَجْهَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى، وَهَذَا قَوْلُ إمَامِ الْهُدَى الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ فِي كُلِّ أَمْرٍ مُطْلَقٍ عَنْ الْوَقْتِ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْفَوْرِ لَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْفَوْرُ أَوْ التَّرَاخِي بَلْ يُعْتَقَدُ أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْفَوْرِ، وَالتَّرَاخِي فَهُوَ حَقٌّ، وَرَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَلَكَ زَادًا، وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِمَنْ أَخَّرَ الْحَجَّ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: مَنْ مَلَكَ كَذَا فَلَمْ يَحُجَّ، وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ بِلَا فَصْلٍ أَيْ لَمْ يَحُجَّ عَقِيبَ مِلْكِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ بِلَا فَصْلٍ، وَأَمَّا طَرِيقُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ فَإِنَّ لِلْحَجِّ وَقْتًا مُعَيَّنًا مِنْ السَّنَةِ يَفُوتُ عَنْ تِلْكَ السَّنَةِ بِفَوَاتِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَلَوْ أَخَّرَهُ عَنْ السَّنَةِ الْأُولَى. وَقَدْ يَعِيشُ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَدْ لَا يَعِيشُ فَكَانَ التَّأْخِيرُ عَنْ السَّنَةِ الْأُولَى تَفْوِيتًا لَهُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ لِلْحَالِ إلَى أَنْ يَجِيءَ، وَقْتُ الْحَجِّ مِنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَفِي إدْرَاكِهِ السَّنَةَ الثَّانِيَةَ شَكٌّ، فَلَا يَرْتَفِعُ الْفَوَاتُ الثَّابِتُ لِلْحَالِ بِالشَّكِّ، وَالتَّفْوِيتُ

فصل شرائط فرضية الحج

حَرَامٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْوُجُوبَ فِي الْوَقْتِ ثَبَتَ مُطْلَقًا عَنْ الْفَوْرِ فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ الْفَوْرَ، وَيَحْتَمِلُ التَّرَاخِيَ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا، وَيَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ، وَأَمَّا تَأْخِيرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَّ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ كَانَ لِعُذْرٍ لَهُ، وَلَا كَلَامَ فِي حَالِ الْعُذْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ التَّعْجِيلَ أَفْضَلُ، وَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَتْرُكُ الْأَفْضَلَ إلَّا لِعُذْرٍ عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ التَّأْخِيرِ هُوَ احْتِمَالُ الْفَوَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي تَأْخِيرِهِ ذَلِكَ فَوَاتٌ لِعِلْمِهِ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّهُ يَحُجُّ قَبْلَ مَوْتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] . وَالثُّنْيَا لِلتَّيَمُّنِ، وَالتَّبَرُّكِ أَوْ لِمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ الْجَمَاعَةَ. وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَمُوتُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لَوْ أَدَّى فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا فَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْوُجُوبِ عَلَى الْفَوْرِ عَمَلًا فِي احْتِمَالِ الْإِثْمِ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ فِي الْإِمْكَانِ لَا فِي إخْرَاجِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ، وَقْتًا لِلْوَاجِبِ كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّعْجِيلِ إنَّمَا كَانَ تَحَرُّزًا عَنْ الْفَوَاتِ فَإِذَا عَاشَ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ فَقَدْ زَالَ احْتِمَالُ الْفَوَاتِ فَحَصَلَ الْأَدَاءُ فِي وَقْتِهِ كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ فَرْضِيَّة الْحَجِّ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ فَرْضِيَّتِهِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَعُمُّ الرِّجَالَ، وَالنِّسَاءَ وَنَوْعٌ يَخُصُّ النِّسَاءَ أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ الرِّجَالَ، وَالنِّسَاءَ فَمِنْهَا: الْبُلُوغُ، وَمِنْهَا الْعَقْلُ فَلَا حَجَّ عَلَى الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهُ لَا خِطَابَ عَلَيْهِمَا فَلَا يَلْزَمُهُمَا الْحَجُّ حَتَّى لَوْ حَجَّا، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ فَعَلَيْهِمَا حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَمَا فَعَلَهُ الصَّبِيُّ قَبْلَ الْبُلُوغِ يَكُونُ تَطَوُّعًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ» . وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَوْ حَجَّ الْكَافِرُ ثُمَّ أَسْلَمَ يَجِبُ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا حَجَّ فِي حَالِ الْكُفْرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا أَعْرَابِيٍّ حَجَّ، وَلَوْ عَشْرَ حِجَجٍ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا هَاجَرَ» يَعْنِي أَنَّهُ إذَا حَجَّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَلِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ. وَكَذَا لَا حَجَّ عَلَى الْكَافِرِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ عِنْدَنَا حَتَّى لَا يُؤَاخَذَ بِالتَّرْكِ وَعِنْد الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ حَتَّى يُؤَاخَذْ بِتَرْكِهِ فِي الْآخِرَةِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْكُفَّارِ لَا يُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ: عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ، وَهَذَا يُعْرَفُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ بِدَلِيلِ سِيَاقِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] ، وَبِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ يَشْمَلُ الْحَجَّ، وَغَيْرَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْأَدَاءِ بِتَقْدِيمِ الْإِسْلَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْلِ الْمَتْبُوعِ تَبَعًا، وَالتَّبَعِ مَتْبُوعًا، وَأَنَّهُ قَلَبَ الْحَقِيقَةَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي (كِتَابِ الزَّكَاةِ) وَتَخْصِيصُ الْعَامِّ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ جَائِزٌ. وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ فَلَا حَجَّ عَلَى الْمَمْلُوكِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا أُعْتِقَ» ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الِاسْتِطَاعَةَ لِوُجُوبِ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ، وَلَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ مِلْكِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا مِلْكَ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَا يَكُونُ مَالِكًا بِالْإِذْنِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْوُجُوبِ، وَسَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى بِالْحَجِّ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَالِكًا إلَّا بِالْإِذْنِ فَلَمْ يَجِبْ الْحَجُّ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَا حَجَّ فِي حَالِ الرِّقِّ تَطَوُّعًا، وَلِأَنَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْإِذْنِ، وَعَدَمِ الْإِذْنِ، فَلَا يَقَعُ حَجُّهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِحَالٍ بِخِلَافِ الْفَقِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ إذَا حَجَّ بِالسُّؤَالِ مِنْ النَّاسِ يَجُوزُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ حَتَّى لَوْ أَيْسَرَ لَا يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ بِمِلْكِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَمَنَافِعِ الْبَدَنِ شَرْطُ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يُقَامُ بِالْمَالِ، وَالْبَدَنِ جَمِيعًا، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً، وَانْتِهَاءً، وَالْفَقِيرُ يَمْلِكُ مَنَافِعَ نَفْسِهِ إذْ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِلْكُ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ وَإِنَّهُ شَرْطُ ابْتِدَاءِ الْوُجُوبِ، فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ فِي الِابْتِدَاءِ فَإِذَا بَلَغَ مَكَّةَ، وَهُوَ يَمْلِكُ مَنَافِعَ بَدَنِهِ فَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ بِالْمَشْيِ، وَقَلِيلِ زَادٍ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، فَإِذَا أَدَّى وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا الْعَبْدُ فَمَنَافِعُ بَدَنِهِ مِلْكُ مَوْلَاهُ ابْتِدَاءً، وَانْتِهَاءً مَا دَامَ عَبْدًا فَلَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْحَجِّ ابْتِدَاءً، وَانْتِهَاءً فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْفَقِيرَ إذَا حَضَرَ الْقِتَالَ يُضْرَبُ لَهُ بِسَهْمٍ كَامِلٍ كَسَائِرِ مَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ الْقِتَالُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ

عَلَيْهِ الْجِهَادُ ابْتِدَاءً، وَالْعَبْدُ إذَا شَهِدَ الْوَقْعَةَ لَا يُضْرَبُ لَهُ بِسَهْمِ الْحُرِّ بَلْ يُرْضَخُ لَهُ، وَمَا افْتَرَقَا إلَّا لِمَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا شَهِدَ الْجُمُعَةَ، وَصَلَّى أَنَّهُ يَقَعُ فَرْضًا، وَإِنْ كَانَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فِي الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْعَبْدِ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى، وَالْعَبْدُ مَحْجُورٌ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ مَوْلَاهُ نَظَرًا لِلْمَوْلَى إلَّا قَدْرَ مَا اُسْتُثْنِيَ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَإِنَّهُ مُبْقًى فِيهَا عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ لِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ كَبِيرُ ضَرَرٍ بِالْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا تَتَأَدَّى بِمَنَافِعِ الْبَدَنِ فِي سَاعَاتٍ قَلِيلَةٍ، فَيَكُونُ فِيهِ نَفْعُ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالْمَوْلَى، فَإِذَا حَضَرَ الْجُمُعَةَ، وَفَاتَتْ الْمَنَافِعُ بِسَبَبِ السَّعْيِ فَيُعَدُّ ذَلِكَ الظُّهْرُ، وَالْجُمُعَةُ سَوَاءٌ، فَنَظَرُ الْمَالِكِ فِي جَوَازِ الْجُمُعَةِ إذْ لَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ الظُّهْرِ ثَانِيًا فَيَزِيدُ الضَّرَرُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِخِلَافِ الْحَجِّ، وَالْجِهَادِ فَإِنَّهُمَا لَا يُؤَدَّيَانِ إلَّا بِالْمَالِ، وَالنَّفْسِ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمَوْلَى بِفَوَاتِ مَالِهِ، وَتَعْطِيلِ كَثِيرٍ مِنْ مَنَافِعِ الْعَبْدِ فَلَمْ يُجْعَلْ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ، وَلَوْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ عَنْ الْفَرْضِ إذَا وُجِدَ مِنْ الْعَبْدِ يَتَبَادَرُ الْعَبِيدُ إلَى الْأَدَاءِ لِكَوْنِ الْحَجِّ عِبَادَةً مَرْغُوبَةً. وَكَذَا الْجِهَادُ فَيُؤَدِّي إلَى الْإِضْرَارِ بِالْمَوْلَى، فَالشَّرْعُ حَجَرَ عَلَيْهِمْ، وَسَدَّ هَذَا الْبَابَ نَظَرًا بِالْمَوْلَى حَتَّى لَا يَجِبَ إلَّا بِمِلْكِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَمِلْكِ مَنَافِعِ الْبَدَنِ. وَلَوْ أَحْرَمَ الصَّبِيُّ ثُمَّ بَلَغَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِنْ مَضَى عَلَى إحْرَامِهِ، يَكُونُ حَجُّهُ تَطَوُّعًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: يَكُونُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ، وَهُوَ بَالِغٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا نَوَى النَّفَلَ يَقَعُ عَنْ النَّفْلِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ، وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ جَدَّدَ الْإِحْرَامَ بِأَنْ لَبَّى أَوْ نَوَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ وَطَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ يَكُونُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِلَا خِلَافٍ. وَكَذَا الْمَجْنُونُ إذَا أَفَاقَ، وَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَجَدَّدَ الْإِحْرَامَ، وَلَوْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ ثُمَّ عَتَقَ فَأَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْكَافِرِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ إحْرَامَ الْكَافِرِ، وَالْمَجْنُونِ لَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ، وَإِحْرَامُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَقَعَ صَحِيحًا، لَكِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُخَاطَبٍ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلِانْتِقَاضِ فَإِذَا جَدَّدَ الْإِحْرَامَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ انْتَقَضَ فَأَمَّا إحْرَامُ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ وَقَعَ لَازِمًا لِكَوْنِهِ أَهْلًا لِلْخِطَابِ فَانْعَقَدَ إحْرَامُهُ تَطَوُّعًا فَلَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ الثَّانِي إلَّا بِفَسْخِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ. وَمِنْهَا صِحَّةُ الْبَدَنِ فَلَا حَجَّ عَلَى الْمَرِيضِ وَالزَّمِنِ، وَالْمُقْعَدِ، وَالْمَفْلُوجِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ بِنَفْسِهِ، وَالْمَحْبُوسِ، وَالْمَمْنُوعِ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى الْحَجِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الِاسْتِطَاعَةَ لِوُجُوبِ الْحَجِّ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا اسْتِطَاعَةُ التَّكْلِيفِ، وَهِيَ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ، وَالْآلَاتِ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ سَلَامَةُ الْبَدَنِ عَنْ الْآفَاتِ الْمَانِعَةِ عَنْ الْقِيَامِ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي سَفَرِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ سَلَامَةِ الْبَدَنِ، وَلَا سَلَامَةَ مَعَ الْمَانِعِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] أَنَّ السَّبِيلَ أَنْ يَصِحَّ بَدَنُ الْعَبْدِ، وَيَكُونَ لَهُ ثَمَنُ زَادٍ، وَرَاحِلَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْجَبَ، وَلِأَنَّ الْقُرَبَ، وَالْعِبَادَاتِ، وَجَبَتْ بِحَقِّ الشُّكْرِ لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فَإِذَا مُنِعَ السَّبَبُ الَّذِي هُوَ النِّعْمَةُ، وَهُوَ سَلَامَةُ الْبَدَنِ أَوْ الْمَالِ كَيْفَ يُكَلَّفُ بِالشُّكْرِ، وَلَا نِعْمَةَ. وَأَمَّا الْأَعْمَى فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَا حَجَّ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ وَجَدَ زَادًا، وَرَاحِلَةً، وَقَائِدًا، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي مَالِهِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْأَعْمَى، وَالْمُقْعَدِ وَالزَّمِنِ أَنَّ عَلَيْهِمْ الْحَجَّ بِأَنْفُسِهِمْ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَجِبُ عَلَى الْأَعْمَى الْحَجُّ بِنَفْسِهِ إذَا وَجَدَ زَادًا، وَرَاحِلَةً، وَمَنْ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ سَفَرِهِ فِي خِدْمَتِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الزَّمِنِ، وَالْمُقْعَدِ، وَالْمَقْطُوعِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الِاسْتِطَاعَةِ، فَقَالَ: هِيَ الزَّادُ، وَالرَّاحِلَةُ» فَسَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَلِلْأَعْمَى هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَلِأَنَّ الْأَعْمَى يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَهْتَدِي إلَى الطَّرِيقِ بِنَفْسِهِ، وَيَهْتَدِي بِالْقَائِدِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الزَّمِنِ، وَالْمُقْعَدِ، وَمَقْطُوعِ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْأَدَاءِ بِأَنْفُسِهِمْ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ فِي الزَّمِنِ، وَالْمُقْعَدِ: أَنَّهُمَا يَقْدِرَانِ بِغَيْرِهِمَا إنْ كَانَا لَا يَقْدِرَانِ بِأَنْفُسِهِمَا، وَالْقُدْرَةُ بِالْغَيْرِ كَافِيَةٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ كَالْقُدْرَةِ بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ. وَكَذَا فَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاسْتِطَاعَةَ: بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَقَدْ وُجِدَا، وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَعْمَى لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَهْتَدِي إلَى الطَّرِيقِ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الطَّرِيقِ

بِنَفْسِهِ مِنْ الرُّكُوبِ، وَالنُّزُولِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَا الزَّمِنُ، وَالْمُقْعَدُ فَلَمْ يَكُونَا قَادِرَيْنِ عَلَى الْأَدَاءِ بِأَنْفُسِهِمْ بَلْ بِقُدْرَةِ غَيْرٍ مُخْتَارٍ، وَالْقَادِرُ بِقُدْرَةِ غَيْرٍ مُخْتَارٍ لَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُخْتَارِ يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِ، فَلَمْ تَثْبُتْ الِاسْتِطَاعَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ الْحَجُّ عَلَى الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ غَيْرُهُ يُمْسِكُهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَإِنَّمَا فَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ لِكَوْنِهِمَا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى الْحَجِّ لَا لِاقْتِصَارِ الِاسْتِطَاعَةِ عَلَيْهِمَا. (أَلَا تَرَى) : أَنَّهُ إذَا كَانَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ مَكَّةَ بَحْرٌ زَاخِرٌ لَا سَفِينَةَ ثَمَّةَ، أَوْ عَدُوٌّ حَائِلٌ يَحُولُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ مَعَ وُجُودِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ فَثَبَتَ أَنَّ تَخْصِيصَ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ لَيْسَ لِاقْتِصَارِ الشَّرْطِ عَلَيْهِمَا بَلْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَسْبَابِ الْإِمْكَانِ، فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْإِمْكَانِ يَدْخُلُ تَحْتَ تَفْسِيرِ الِاسْتِطَاعَةِ مَعْنًى، وَلِأَنَّ فِي إيجَابِ الْحَجِّ عَلَى الْأَعْمَى وَالزَّمِنِ، وَالْمُقْعَدِ، وَالْمَفْلُوجِ، وَالْمَرِيضِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ بِأَنْفُسِهِمْ حَرَجًا بَيِّنًا، وَمَشَقَّةً شَدِيدَةً. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ) : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . وَمِنْهَا مِلْكُ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ فِي حَقِّ النَّائِي عَنْ مَكَّةَ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ أَنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَالثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ، فَقَدْ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ شَرْطٌ فَلَا يَجِبُ الْحَجُّ بِإِبَاحَةِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْإِبَاحَةُ مِمَّنْ لَهُ مِنَّةٌ عَلَى الْمُبَاحِ لَهُ، أَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا مِنَّةَ لَهُ عَلَيْهِ كَالْأَبِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجِبُ الْحَجُّ بِإِبَاحَةِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ إذَا كَانَتْ الْإِبَاحَةُ مِمَّنْ لَا مِنَّةَ لَهُ عَلَى الْمُبَاحِ لَهُ، كَالْوَالِدِ بَذَلَ الزَّادَ، وَالرَّاحِلَةَ لِابْنِهِ، وَلَهُ فِي الْأَجْنَبِيِّ قَوْلَانِ، وَلَوْ، وَهَبَهُ إنْسَانٌ مَالًا يَحُجُّ بِهِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ الْقَبُولُ عِنْدَنَا، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ، وَقَالَ مَالِكٌ: الرَّاحِلَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْحَجِّ أَصْلًا لَا مِلْكًا وَلَا إبَاحَةً، وَمِلْكُ الزَّادِ شَرْطٌ حَتَّى لَوْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَاحِلَةٌ، أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ مَالِكٍ فَهُوَ احْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ، وَمَنْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ، وَلَهُ زَادٌ، فَقَدْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا فَيَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ. (وَلَنَا) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ: بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ جَمِيعًا فَلَا تَثْبُتُ الِاسْتِطَاعَةُ بِأَحَدِهِمَا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَشْيِ لَا تَكْفِي لِاسْتِطَاعَةِ الْحَجِّ ثُمَّ شَرْطُ الرَّاحِلَةِ إنَّمَا يُرَاعَى لِوُجُوبِ الْحَجِّ فِي حَقِّ مَنْ نَأَى عَنْ مَكَّةَ فَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ، وَمَنْ حَوْلَهُمْ فَإِنَّ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَى الْقَوِيِّ مِنْهُمْ الْقَادِرِ عَلَى الْمَشْيِ مِنْ غَيْرِ رَاحِلَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَرَجَ يَلْحَقُهُ فِي الْمَشْيِ إلَى الْحَجِّ كَمَا لَا يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِي الْمَشْيِ إلَى الْجُمُعَةِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَوَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ الْقُدْرَةُ مِنْ حَيْثُ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ، وَالْآلَاتِ، وَالْقُدْرَةُ تَثْبُتُ بِالْإِبَاحَةِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْمِلْكِ إذْ الْمِلْكُ لَا يُشْتَرَطُ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ أَكْلًا، وَرُكُوبًا، وَلِذَا ثَبَتَتْ بِالْإِبَاحَةِ، وَلِهَذَا اسْتَوَى الْمِلْكُ، وَالْإِبَاحَةُ فِي (بَابِ الطَّهَارَةِ) فِي الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ التَّيَمُّمِ كَذَا هَهُنَا. (وَلَنَا) أَنَّ اسْتِطَاعَةَ الْأَسْبَابِ، وَالْآلَاتِ لَا تَثْبُتُ بِالْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا تَكُونُ لَازِمَةً. أَلَا تَرَى: أَنَّ لِلْمُبِيحِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُبَاحَ لَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُبَاحِ، وَمَعَ قِيَامِ وِلَايَةِ الْمَنْعِ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ الْمُطْلَقَةُ فَلَا يَكُونُ مُسْتَطِيعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَلَا يَجِبُ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ عَدَمُ الْمَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] ، وَالْعَدَمُ لَا يَثْبُتُ مَعَ الْبَذْلِ، وَالْإِبَاحَةِ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ فَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ مِنْ الْمَالِ مِقْدَارَ مَا يُبَلِّغُهُ إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا، وَجَائِيًا رَاكِبًا لَا مَاشِيًا بِنَفَقَةٍ وَسَطٍ لَا إسْرَافَ فِيهَا، وَلَا تَقْتِيرَ فَاضِلًا عَنْ مَسْكَنِهِ، وَخَادِمِهِ، وَفَرَسِهِ، وَسِلَاحِهِ، وَثِيَابِهِ، وَأَثَاثِهِ، وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ، وَخَدَمِهِ، وَكُسْوَتِهِمْ، وَقَضَاءِ دُيُونِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: وَنَفَقَةُ شَهْرٍ بَعْدَ انْصِرَافِهِ أَيْضًا، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ فَسَّرَ الرَّاحِلَةَ فَقَالَ: إذَا كَانَ عِنْدَهُ مَا يَفْضُلُ عَمَّا ذَكَرْنَا مَا يَكْتَرِي بِهِ شِقَّ مَحْمَلٍ، أَوْ زَامِلَةً، أَوْ رَأْسَ رَاحِلَةٍ، وَيُنْفِقُ ذَاهِبًا، وَجَائِيًا، فَعَلَيْهِ الْحَجُّ، وَإِنْ لَمْ يَكْفِهِ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَمْشِيَ أَوْ يَكْتَرِيَ عُقْبَةً، فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْحَجُّ مَاشِيًا، وَلَا رَاكِبًا عُقْبَةً، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْفَضْلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَوَائِجِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْحَوَائِجِ اللَّازِمَةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فَكَانَ الْمُسْتَحَقُّ بِهَا مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْعِيَالِ سَنَةً، وَالْبَعْضُ شَهْرًا، فَلَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بَلْ هُوَ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَسَافَةِ فِي الْقُرْبِ، وَالْبُعْدِ؛ لِأَنَّ قَدْرَ النَّفَقَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَسَافَةِ فَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ قَدْرُ مَا يَذْهَبُ، وَيَعُودُ إلَى مَنْزِلِهِ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ

عَلَيْهِ الْحَجُّ إذَا لَمْ يَكْفِ مَالُهُ إلَّا لِلْعُقْبَةِ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْحَجُّ رَاكِبًا لَا مَاشِيًا، وَالرَّاكِبُ عُقْبَةً لَا يَرْكَبُ فِي كُلِّ الطَّرِيقِ بَلْ يَرْكَبُ فِي الْبَعْضِ، وَيَمْشِي فِي الْبَعْضِ، وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ لَهُ دَارٌ لَا يَسْكُنُهَا، وَلَا يُؤَاجِرُهَا، وَمَتَاعٌ لَا يَمْتَهِنُهُ، وَعَبْدٌ لَا يَسْتَخْدِمُهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ، وَيَحُجَّ بِهِ، وَحُرِّمَ عَلَيْهِ أَخْذُ الزَّكَاةِ إذَا بَلَغَ نِصَابًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَكَانَ مُسْتَطِيعًا فَيَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ فَإِنْ أَمْكَنَهُ بَيْعُ مَنْزِلِهِ، وَأَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ مَنْزِلًا دُونَهُ، وَيَحُجَّ بِالْفَضْلِ فَهُوَ أَفْضَلُ لَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى سُكْنَاهُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْحَاجَةِ قَدْرُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَيْعُ الْمَنْزِلِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى السُّكْنَى، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ، وَلَا خَادِمٌ، وَلَا قُوتُ عِيَالِهِ، وَعِنْدَهُ دَرَاهِمُ تُبَلِّغُهُ إلَى الْحَجِّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ فَإِنْ فَعَلَ أَثِمَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ لِمِلْكِ الدَّرَاهِمِ فَلَا يُعْذَرُ فِي التَّرْكِ، وَلَا يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِ شِرَاءِ الْمَسْكَنِ، وَالْخَادِمِ بِخِلَافِ بَيْعِ الْمَسْكَنِ، وَالْخَادِمِ، فَإِنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِبَيْعِهِمَا، وَقَوْلُهُ: " وَلَا قُوتُ عِيَالِهِ " مُؤَوَّلٌ وَتَأْوِيلُهُ: وَلَا قُوتُ عِيَالِهِ مَا يَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ الذَّهَابِ، وَالرُّجُوعِ. فَأَمَّا الْمِقْدَارُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ وَقْتِ الذَّهَابِ إلَى وَقْتِ الرُّجُوعِ فَذَلِكَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحَجِّ لِمَا بَيَّنَّا. (وَمِنْهَا) أَمْنُ الطَّرِيقِ، وَإِنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا بِمَنْزِلَةِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْأَدَاءِ لَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ إذَا خَافَ الْفَوْتَ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْأَدَاءِ يَقُولُ إنَّهُ تَجِبُ الْوَصِيَّةُ إذَا خَافَ الْفَوْتَ، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ يَقُولُ: لَا تَجِبُ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَصِرْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا تَلْزَمُهُ الْوَصِيَّةُ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ شَرْطُ الْأَدَاءِ لَا شَرْطُ الْوُجُوبِ مَا رَوَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَمْنَ الطَّرِيقِ، وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الِاسْتِطَاعَةَ، وَلَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ أَمْنِ الطَّرِيقِ كَمَا لَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ بَيَانَ كِفَايَةٍ لِيُسْتَدَلَّ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى غَيْرِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ إمْكَانُ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ أَمْنَ الطَّرِيقِ لَمْ يَذْكُرْ صِحَّةَ الْجَوَارِحِ، وَزَوَالَ سَائِرِ الْمَوَانِعِ الْحِسِّيَّةِ، وَذَلِكَ شَرْطُ الْوُجُوبِ عَلَى أَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ لَا زَادَ لَهُ، وَلَا رَاحِلَةَ مَعَهُ فَكَانَ شَرْطُ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ شَرْطًا لِأَمْنِ الطَّرِيقِ ضَرُورَةً. (وَأَمَّا) . الَّذِي يَخُصُّ النِّسَاءَ فَشَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَحْرَمٌ لَهَا فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدُهُمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ. وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَلْزَمُهَا الْحَجُّ، وَالْخُرُوجُ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ، وَلَا مَحْرَمٍ إذَا كَانَ مَعَهَا نِسَاءٌ فِي الرُّفْقَةِ ثِقَاتٌ، وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] . وَخِطَابُ النَّاسِ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ، وَالْإِنَاثَ بِلَا خِلَافٍ فَإِذَا كَانَ لَهَا زَادٌ، وَرَاحِلَةٌ كَانَتْ مُسْتَطِيعَةً، وَإِذَا كَانَ مَعَهَا نِسَاءٌ ثِقَاتٌ يُؤْمَنُ الْفَسَادُ عَلَيْهَا، فَيَلْزَمُهَا فَرْضُ الْحَجِّ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: أَلَا «لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ» ، وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ أَوْ زَوْجٌ» وَلِأَنَّهَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا زَوْجٌ، وَلَا مَحْرَمٌ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا إذْ النِّسَاءُ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ إلَّا مَا ذُبَّ عَنْهُ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ وَحْدَهَا. وَالْخَوْفُ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِنَّ أَكْثَرُ، وَلِهَذَا حُرِّمَتْ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا امْرَأَةٌ أُخْرَى، وَالْآيَةُ لَا تَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ حَالَ عَدَمِ الزَّوْجِ، وَالْمَحْرَمِ مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَقْدِرُ عَلَى الرُّكُوبِ، وَالنُّزُولِ بِنَفْسِهَا فَتَحْتَاجُ إلَى مَنْ يُرْكِبُهَا، وَيُنْزِلُهَا، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِ الزَّوْجِ، وَالْمَحْرَمِ فَلَمْ تَكُنْ مُسْتَطِيعَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا النَّصُّ فَإِنْ امْتَنَعَ الزَّوْجُ أَوْ الْمَحْرَمُ عَنْ الْخُرُوجِ لَا يُجْبَرَانِ عَلَى الْخُرُوجِ، وَلَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْخُرُوجِ لِإِرَادَةِ زَادٍ، وَرَاحِلَةٍ هَلْ يَلْزَمُهَا ذَلِكَ؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهَا ذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ بِنَفْسِهَا، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا ذَلِكَ، وَلَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَيْهَا وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الْمَحْرَمَ أَوْ الزَّوْجَ مِنْ ضَرُورَاتِ حَجِّهَا بِمَنْزِلَةِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ إذْ لَا يُمْكِنُهَا الْحَجُّ بِدُونِهِ كَمَا لَا يُمْكِنُهَا الْحَجُّ بِدُونِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَلَا يُمْكِنُ إلْزَامُ ذَلِكَ الزَّوْجِ أَوْ الْمَحْرَمِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَيَلْزَمُهَا ذَلِكَ لَهُ كَمَا يَلْزَمُهَا الزَّادُ، وَالرَّاحِلَةُ لِنَفْسِهَا، وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَنَّ هَذَا مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ تَحْصِيلُ شَرْطِ

الْوُجُوبِ بَلْ إنْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَجَبَ، وَإِلَّا فَلَا. أَلَا تَرَى: أَنَّ الْفَقِيرَ لَا يَلْزَمُهُ تَحْصِيلُ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَلِهَذَا قَالُوا فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا، وَلَا مَحْرَمَ: إنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِمَنْ يَحُجُّ بِهَا كَذَا هَذَا، وَلَوْ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ مَعَ الْمَحْرَمِ فِي الْحَجَّةِ الْفَرِيضَةِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ فِي الْخُرُوجِ تَفْوِيتَ حَقِّهِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهَا وَهُوَ: الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فَلَا تَمْلِكُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ. (وَلَنَا) : أَنَّهَا إذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا فَقَدْ اسْتَطَاعَتْ إلَى حَجِّ الْبَيْتِ سَبِيلًا؛ لِأَنَّهَا قَدَرَتْ عَلَى الرُّكُوبِ، وَالنُّزُولِ وَأَمِنَتْ الْمَخَاوِفَ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ يَصُونُهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ يَفُوتُ بِالْخُرُوجِ إلَى الْحَجِّ "، فَنَقُولُ: مَنَافِعُهَا مُسْتَثْنَاةٌ عَنْ مِلْكِ الزَّوْجِ فِي الْفَرَائِضِ كَمَا فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ أَرَادَتْ الْخُرُوجَ إلَى حَجَّةِ التَّطَوُّعِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا كَمَا فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ شَابَّةً أَوْ عَجُوزًا فَإِنَّهَا لَا تَخْرُجُ إلَّا بِزَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ؛ لِأَنَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الشَّابَّةِ، وَالْعَجُوزِ. وَكَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَاجَةِ الْمَرْأَةِ إلَى مَنْ يُرْكِبُهَا، وَيُنْزِلُهَا بَلْ حَاجَةُ الْعَجُوزِ إلَى ذَلِكَ أَشَدُّ؛ لِأَنَّهَا أَعْجَزُ. وَكَذَا يُخَافُ عَلَيْهَا مِنْ الرِّجَالِ. وَكَذَا لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا مِنْ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهَا الرِّجَالُ حَالَ رُكُوبِهَا، وَنُزُولِهَا فَتَحْتَاجُ إلَى الزَّوْجِ أَوْ إلَى الْمَحْرَمِ لِيَصُونَهَا عَنْ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ صِفَةُ الْمَحْرَمِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ إمَّا بِالْقَرَابَةِ، أَوْ الرَّضَاعِ، أَوْ الصِّهْرِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُؤَبَّدَةَ تُزِيلُ التُّهْمَةَ فِي الْخَلْوَةِ، وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْمَحْرَمَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُونًا عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ مَعَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَحْرَمُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا؛ لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يُنَافِي الْمَحْرَمِيَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُشْرِكًا؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ، وَالْمُشْرِكَ يَحْفَظَانِ مَحَارِمَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَجُوسِيًّا؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ نِكَاحِهَا فَلَا تُسَافِرُ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا كَالْأَجْنَبِيِّ، وَقَالُوا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ، وَالْمَجْنُونِ الَّذِي لَمْ يُفِقْ: إنَّهُمَا لَيْسَا بِمَحْرَمَيْنِ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُمَا حِفْظُهَا، وَقَالُوا فِي الصَّبِيَّةِ الَّتِي لَا يُشْتَهَى مِثْلُهَا: إنَّهَا تُسَافِرُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ؛ لِأَنَّهُ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا فَإِذَا بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ لَا تُسَافِرُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِحَيْثُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا ثُمَّ الْمَحْرَمُ أَوْ الزَّوْجُ إنَّمَا يُشْتَرَطُ إذَا كَانَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ حَجَّتْ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ يُشْتَرَطُ لِلسَّفَرِ، وَمَا دُونَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَيْسَ بِسَفَرٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمَحْرَمُ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ لِلْخُرُوجِ مِنْ مَحِلَةٍ إلَى مَحِلَةٍ، ثُمَّ الزَّوْجُ أَوْ الْمَحْرَمُ شَرْطُ الْوُجُوبِ أَمْ شَرْطُ الْجَوَازِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي أَمْنِ الطَّرِيقِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي أَمْنِ الطَّرِيقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا تَكُونَ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْمُعْتَدَّاتِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رَدَّ الْمُعْتَدَّاتِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رَدَّهُنَّ مِنْ الْجُحْفَةِ. وَلِأَنَّ الْحَجَّ يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ فَأَمَّا الْعِدَّةُ فَإِنَّهَا إنَّمَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ خَاصَّةً فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى، وَإِنْ لَزِمَتْهَا بَعْدَ الْخُرُوجِ إلَى السَّفَرِ، وَهِيَ مُسَافِرَةٌ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا لَا يُفَارِقُهَا زَوْجُهَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلُ الزَّوْجِيَّةَ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا، أَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ وَفَاةٍ، فَإِنْ كَانَ إلَى مَنْزِلِهَا أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ سَفَرٍ، وَإِلَى مَكَّةَ مُدَّةُ سَفَرٍ فَإِنَّهَا تَعُودُ إلَى مَنْزِلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إنْشَاءُ سَفَرٍ فَصَارَ كَأَنَّهَا فِي بَلَدِهَا، وَإِنْ كَانَ إلَى مَكَّةَ أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ سَفَرٍ، وَإِلَى مَنْزِلِهَا مُدَّةُ سَفَرٍ مَضَتْ إلَى مَكَّةَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى الْمَحْرَمِ فِي أَقَلِّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ، وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ إلَى مَنْزِلِهَا فَإِنْ كَانَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُدَّةُ سَفَرٍ فَإِنْ كَانَتْ فِي الْمِصْرِ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ وَجَدَتْ مَحْرَمًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِلَا مَحْرَمٍ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَفَازَةِ أَوْ فِي بَعْضِ الْقُرَى بِحَيْثُ لَا تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا، وَمَالِهَا فَلَهَا أَنْ تَمْضِيَ فَتَدْخُلَ مَوْضِعَ الْأَمْنِ ثُمَّ لَا تَخْرُجُ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ وَجَدَتْ مَحْرَمًا أَوْ لَا، وَعِنْدَهُمَا: تَخْرُجُ إذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا، وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ (كِتَابِ الطَّلَاقِ) وَنَذْكُرُهَا بِدَلَائِلِهَا فِي فُصُولِ الْعِدَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ لِعُذْرٍ كَالْمَرِيضِ، وَنَحْوِهِ، وَلَهُ مَالٌ يَلْزَمُهُ أَنْ يُحِجَّ رَجُلًا عَنْهُ، وَيُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إذَا وَجَدَ شَرَائِطَ جَوَازِ الْإِحْجَاجِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَلَوْ تَكَلَّفَ وَاحِدٌ مِمَّنْ لَهُ عُذْرٌ فَحَجَّ بِنَفْسِهِ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إذَا كَانَ

فصل ركن الحج

عَاقِلًا بَالِغًا حُرًّا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفَرْضِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَى مَكَّةَ إلَّا بِحَرَجٍ، فَإِذَا تَحَمَّلَ الْحَرَجَ، وَقَعَ مَوْقِعَهُ كَالْفَقِيرِ إذَا حَجَّ، وَالْعَبْدِ إذَا حَضَرَ الْجُمُعَةَ فَأَدَّاهَا؛ وَلِأَنَّهُ إذَا وَصَلَ إلَى مَكَّةَ صَارَ كَأَهْلِ مَكَّةَ فَيَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِخِلَافِ الْعَبْدِ، وَالصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ فَإِنَّ الْعَبْدَ، وَالصَّبِيَّ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْحَجِّ، وَالْمَجْنُونُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ أَصْلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الشَّرَائِطِ لِوُجُوبِ الْحَجِّ مِنْ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ، وُجُودُهَا، وَقْتَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ حَتَّى لَوْ مَلَكَ الزَّادَ، وَالرَّاحِلَةَ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَقَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ أَهْلُ بَلَدِهِ إلَى مَكَّةَ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ صَرْفِ ذَلِكَ إلَى حَيْثُ أَحَبَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّأَهُّبُ لِلْحَجِّ قَبْلَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ قَبْلَهُ، وَمَنْ لَا حَجَّ عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ التَّأَهُّبُ لِلْحَجِّ فَكَانَ بِسَبِيلٍ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ كَيْفَ شَاءَ، وَإِذَا صَرَفَ مَالَهُ ثُمَّ خَرَجَ أَهْلُ بَلَدِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَأَمَّا إذَا جَاءَ، وَقْتُ الْخُرُوجِ، وَالْمَالُ فِي يَدِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى غَيْرِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالْوُجُوبِ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَاءَ وَقْتُ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ لِوُجُودِ الِاسْتِطَاعَةِ فَيَلْزَمُهُ التَّأَهُّبُ لِلْحَجِّ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ صَرْفُهُ إلَى غَيْرِهِ كَالْمُسَافِرِ إذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ لِلطَّهَارَةِ. وَقَدْ قَرُبَ الْوَقْتُ لَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِهْلَاكُهُ فِي غَيْرِ الطَّهَارَةِ، فَإِنْ صَرَفَهُ إلَى غَيْرِ الْحَجِّ أَثِمَ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ رُكْنُ الْحَجِّ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُ الْحَجِّ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا. الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَهُوَ الرُّكْنُ الْأَصْلِيُّ لِلْحَجِّ، وَالثَّانِي طَوَافُ الزِّيَارَةِ. أَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي. بَيَانِ أَنَّهُ رُكْنٌ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِهِ، وَفِي بَيَانِ زَمَانِهِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ، وَفِي بَيَانِ سُنَنِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] فَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَّ بِقَوْلِهِ: «الْحَجُّ عَرَفَةَ» أَيْ الْحَجُّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إذْ الْحَجُّ فِعْلٌ، وَعَرَفَةُ مَكَانٌ فَلَا يَكُونُ حَجًّا فَكَانَ الْوُقُوفُ مُضْمَرًا فِيهِ فَكَانَ تَقْدِيرُهُ: الْحَجُّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ. وَالْمُجْمَلُ إذَا الْتَحَقَ بِهِ التَّفْسِيرُ يَصِيرُ مُفَسَّرًا مِنْ الْأَصْلِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ، وَالْحَجُّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ. فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الرُّكْنُ لَا غَيْرُ إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ بِدَلِيلٍ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سِيَاقِ التَّفْسِيرِ: «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» جَعَلَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ اسْمًا لِلْحَجِّ فَدَلَّ أَنَّهُ رُكْنٌ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ تَمَامَ الْحَجِّ بِهِ، وَالْوَاجِبُ هُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهِ التَّمَامُ لَا الْفَرْضُ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: تَمَّ حَجُّهُ لَيْسَ هُوَ التَّمَامُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النُّقْصَانِ بَلْ خُرُوجُهُ عَنْ احْتِمَالِ الْفَسَادِ فَقَوْلُهُ: " فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ " أَيْ: خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسَادِ بَعْدَ ذَلِكَ لِوُجُودِ الْمُفْسِدِ حَتَّى لَوْ جَامَعَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ لَكِنْ تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الْحَجَّ بِقَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] وَفَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَّ: بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَصَارَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَرْضًا، وَهُوَ رُكْنٌ فَلَوْ حُمِلَ التَّمَامُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى التَّمَامِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النُّقْصَانِ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ الْحَجُّ بِدُونِهِ فَيَتَنَاقَضُ، فَحُمِلَ التَّمَامُ الْمَذْكُورُ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْ احْتِمَالِ الْفَسَادِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] قِيلَ: إنَّ أَهْلَ الْحَرَمِ كَانُوا لَا يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، وَيَقُولُونَ نَحْنُ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ لَا نُفِيضُ كَغَيْرِنَا مِمَّنْ قَصَدَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ يَأْمُرُهُمْ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ، وَالْإِفَاضَةِ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وَالنَّاسُ كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَإِفَاضَتُهُمْ مِنْهَا لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ حُصُولِهِمْ فِيهَا فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْإِفَاضَةِ مِنْهَا أَمْرًا بِالْوُقُوفِ بِهَا ضَرُورَةً. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: " كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَلَا يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلَهُ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] . وَكَذَا الْأُمَّةُ أَجْمَعَتْ عَلَى كَوْنِ الْوُقُوفِ رُكْنًا فِي الْحَجِّ. وَأَمَّا مَكَانُ الْوُقُوفِ فَعَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ» . وَلِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَجُّ عَرَفَةَ» . فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ فِي بَطْنِ عُرَنَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ وَادِي الشَّيْطَانِ. وَأَمَّا زَمَانُهُ فَزَمَانُ الْوُقُوفِ مِنْ حِينِ تَزُولُ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ

النَّحْرِ حَتَّى لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْوَقْتِ كَانَ وُقُوفُهُ، وَعَدَمُ وُقُوفِهِ سَوَاءً؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ مُؤَقَّتٌ فَلَا يَتَأَدَّى فِي غَيْرِ وَقْتِهِ كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ الْمُؤَقَّتَةِ إلَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، وَهِيَ حَالُ الِاشْتِبَاهِ اسْتِحْسَانًا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَذَا الْوُقُوفُ قَبْلَ الزَّوَالِ لَمْ يَجُزْ مَا لَمْ يَقِفْ بَعْدَ الزَّوَالِ، كَذَا مَنْ لَمْ يُدْرِكْ عَرَفَةَ بِنَهَارٍ وَلَا بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَقَفَ بِعَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَقَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» فَكَانَ بَيَانًا لِأَوَّلِ الْوَقْتِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ» وَهَذَا بَيَانُ آخِرِ الْوَقْتِ فَدَلَّ أَنَّ الْوَقْتَ يَبْقَى بِبَقَاءِ اللَّيْلِ، وَيَفُوتُ بِفَوَاتِهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: وَقْتُ الْوُقُوفِ هُوَ اللَّيْلُ فَمَنْ لَمْ يَقِفْ فِي جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ لَمْ يَجُزْ وُقُوفُهُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ» عَلَّقَ إدْرَاكَ الْحَجِّ بِإِدْرَاكِ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَدَلَّ أَنَّ الْوُقُوفَ بِجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ هُوَ وَقْتُ الرُّكْنِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ، وَصَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَكَانَ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ» . أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَمَامِ الْحَجِّ بِالْوُقُوفِ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ وَقْتُ الْوُقُوفِ غَيْرُ عَيْنٍ، وَرَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» مُطْلَقًا عَنْ الزَّمَانِ إلَّا أَنَّ زَمَانَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ، وَبَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ لَيْسَ بِمُرَادٍ بِدَلِيلٍ فَبَقِيَ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ إلَى انْفِجَارِ الصُّبْحِ مُرَادًا، وَلِأَنَّ هَذَا نَوْعُ نُسُكٍ فَلَا يَخْتَصُّ بِاللَّيْلِ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْمَنَاسِكِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ فِيهِ: مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُدْرِكْهَا بِلَيْلٍ مَاذَا حُكْمُهُ فَكَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَسْكُوتِ فَلَا يَصِحُّ، وَلَوْ اشْتَبَهَ عَلَى النَّاسِ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ فَوَقَفُوا بِعَرَفَةَ بَعْدَ أَنْ أَكْمَلُوا عِدَّةَ ذِي الْقَعْدَةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ يَوْمَ كَذَا، وَتَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ فَوُقُوفُهُمْ صَحِيحٌ، وَحَجَّتُهُمْ تَامَّةٌ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ: أَنْ لَا يَصِحَّ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُمْ، وَقَفُوا فِي غَيْرِ وَقْتِ الْوُقُوفِ فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ، وَقَفُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ التَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ، وَالِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ، وَعَرَفَتُكُمْ يَوْمَ تَعْرِفُونَ» . وَرُوِيَ: «وَحَجُّكُمْ يَوْمَ تَحُجُّونَ» . فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقْتَ الْوُقُوفِ أَوْ الْحَجِّ، وَقْتَ تَقِفُ أَوْ تَحُجُّ فِيهِ النَّاسُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: أَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ، وَهِيَ نَفْيُ جَوَازِ الْحَجِّ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ بَاطِلَةٌ، وَالثَّانِي أَنَّ شَهَادَتَهُمْ جَائِزَةٌ مَقْبُولَةٌ لَكِنَّ وُقُوفَهُمْ جَائِزٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ مِمَّا يَغْلِبُ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَلَوْ لَمْ نَحْكُمْ بِالْجَوَازِ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَلِأَنَّهُمْ بِهَذَا التَّأْخِيرِ بَنَوْا عَلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ وَاجِبٍ الْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ وُجُوبُ إكْمَالِ الْعِدَّةِ إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ فَعُذِرُوا فِي الْخَطَأِ بِخِلَافِ التَّقْدِيمِ فَإِنَّهُ خَطَأٌ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى دَلِيلٍ رَأْسًا فَلَمْ يُعْذَرُوا فِيهِ، نَظِيرُهُ إذَا اشْتَبَهَتْ الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى، وَصَلَّى إلَى جِهَةٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ جِهَةَ الْقِبْلَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ لَمْ يَتَحَرَّ، وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ لَمْ يَجُزْ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا، وَهَلْ يَجُوزُ وُقُوفُ الشُّهُودِ؟ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ وُقُوفُهُمْ، وَحَجُّهُمْ أَيْضًا. وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ إذَا شَهِدَ عِنْدَ الْإِمَامِ شَاهِدَانِ عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَمْ يُمْكِنْهُ الْوُقُوفُ فِي بَقِيَّةَ اللَّيْلِ مَعَ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ لَمْ يَعْمَلْ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ، وَوَقَفَ مِنْ الْغَدِ بَعْدَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُمْ، وَإِنْ شَهِدُوا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ لَكِنْ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْوُقُوفُ فِي الْوَقْتِ، وَهُوَ مَا بَقِيَ مِنْ اللَّيْلِ صَارُوا كَأَنَّهُمْ شَهِدُوا بَعْدَ الْوَقْتِ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مَعَ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ بِأَنْ كَانَ يُدْرِكُ الْوُقُوفَ عَامَّةُ النَّاسِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ ضَعَفَةُ النَّاسِ، جَازَ وُقُوفُهُ فَإِنْ لَمْ يَقِفْ فَاتَ حَجُّهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوُقُوفَ فِي وَقْتِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، قَالَ مُحَمَّدٌ: فَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَى النَّاسِ فَوَقَفَ الْإِمَامُ، وَالنَّاسُ يَوْمَ النَّحْرِ. وَقَدْ كَانَ مَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَقَفَ يَوْمَ عَرَفَةَ لَمْ يُجْزِهِ وُقُوفُهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْوُقُوفَ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ صَارَ يَوْمَ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْجَمَاعَةِ، وَوَقْتُ الْوُقُوفِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ فَلَا يُعْتَدُّ بِمَا فَعَلَهُ بِانْفِرَادِهِ. وَكَذَا إذَا أَخَّرَ الْإِمَامُ الْوُقُوفَ لِمَعْنًى يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ لَمْ يَجُزْ وُقُوفُ مَنْ وَقَفَ قَبْلَهُ، فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عِنْدَ الْإِمَامِ بِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا؛ لِأَنَّهُ

فصل طواف الزيارة

لَا عِلَّةَ بِالسَّمَاءِ، فَوَقَفَ بِشَهَادَتِهِمَا قَوْمٌ قَبْلَ الْإِمَامِ لَمْ يَجُزْ وُقُوفُهُمْ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ أَخَّرَ الْوُقُوفَ بِسَبَبٍ يَجُوزُ الْعَمَلُ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَخَّرَ بِالِاشْتِبَاهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَدْرُهُ فَنُبَيِّنُ الْقَدْرَ الْمَفْرُوضَ، وَالْوَاجِبَ أَمَّا الْقَدْرُ الْمَفْرُوضُ مِنْ الْوُقُوفِ: فَهُوَ كَيْنُونَتُهُ بِعَرَفَةَ فِي سَاعَةٍ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ فَمَتَى حَصَلَ إتْيَانُهَا فِي سَاعَةٍ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ تَأَدَّى فَرْضُ الْوُقُوفِ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِهَا، أَوْ جَاهِلًا نَائِمًا، أَوْ يَقْظَانَ مُفِيقًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ، وَقَفَ بِهَا أَوْ مَرَّ، وَهُوَ يَمْشِي أَوْ عَلَى الدَّابَّةِ أَوْ مَحْمُولًا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ، وَهُوَ حُصُولُهُ كَائِنًا بِهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» . وَالْمَشْيُ، وَالسَّيْرُ لَا يَخْلُو عَنْ وَقْفَةٍ، وَسَوَاءٌ نَوَى الْوُقُوفَ أَوْ لَمْ يَنْوِ بِخِلَافِ الطَّوَافِ، وَسَنَذْكُرُ الْفَرْقَ فِي (فَصْلِ الطَّوَافِ) إنْ شَاءَ اللَّهُ وَسَوَاءٌ كَانَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْوُقُوفِ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ الْوُقُوفِ مُطْلَقٌ عَنْ شَرْطِ الطَّهَارَةِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حِينَ حَاضَتْ: افْعَلِي مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنَّكَ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» ، وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْبَيْتِ فَلَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ كَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَدْ صَلَّى الصَّلَاتَيْنِ أَوْ لَمْ يُصَلِّ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاتَيْنِ، وَهُمَا: الظُّهْرُ، وَالْعَصْرُ لَا تَعَلُّقَ لَهُمَا بِالْوُقُوفِ فَلَا يَكُونُ تَرْكُهُمَا مَانِعًا مِنْ الْوُقُوفِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْقَدْرُ الْوَاجِبُ مِنْ الْوُقُوفِ: فَمِنْ حِينِ تَزُولُ الشَّمْسُ إلَى أَنْ تَغْرُبَ فَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْوُقُوفِ وَاجِبٌ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ سُنَّةٌ. بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرْضِ، وَالْوَاجِبِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَرْضًا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، وَنَحْنُ نُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَرْضِ، وَالْوَاجِبِ كَفَرْقِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ، وَالْأَرْضِ وَهُوَ أَنَّ الْفَرْضَ اسْمٌ لِمَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَالْوَاجِبَ اسْمٌ لِمَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَأَصْلُ الْوُقُوفِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَهُوَ: النَّصُّ الْمُفَسِّرُ مِنْ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ، وَالْمَشْهُورَةُ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَأَمَّا الْوُقُوفُ إلَى جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ: فَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ بَلْ مَعَ شُبْهَةِ الْعَدَمِ أَعْنِي: خَبَرَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ» . أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْآحَادِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ بِمِثْلِهَا الْفَرَائِضُ فَضْلًا عَنْ الْأَرْكَانِ، وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْوُقُوفَ مِنْ حِينِ زَوَالِ الشَّمْسِ إلَى غُرُوبِهَا وَاجِبٌ، فَإِنْ دَفَعَ مِنْهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِنْ جَاوَزَ عَرَفَةَ بَعْدَ الْغُرُوبِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا تَرَكَ الْوَاجِبَ، وَإِنْ جَاوَزَهَا قَبْلَ الْغُرُوبِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَنَا لِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ كَمَا لَوْ تَرَكَ غَيْرَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ الْوَاجِبَ إذْ الْوُقُوفُ الْمُقَدَّرُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَهُ، وَلَوْ عَادَ إلَى عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ الْإِمَامُ ثُمَّ دَفَعَ مِنْهَا بَعْدَ الْغُرُوبِ مَعَ الْإِمَامِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ الْمَتْرُوكَ. وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ، وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، وَسَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوْضِعِهَا، وَإِنْ عَادَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بَعْدَ مَا خَرَجَ الْإِمَامُ مِنْ عَرَفَةَ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ أَيْضًا. وَكَذَا رَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّمَ يَسْقُطُ عَنْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ الْمَتْرُوكَ إذْ الْمَتْرُوكُ هُوَ الدَّفْعُ بَعْدَ الْغُرُوبِ. وَقَدْ اسْتَدْرَكَهُ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ قَالَ مَشَايِخُنَا: اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ لِمَكَانِ الِاخْتِلَافِ فِيمَا لِأَجْلِهِ يَجِبُ الدَّمُ فَعَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ الدَّمُ يَجِبُ لِأَجْلِ دَفْعِهِ قَبْلَ الْإِمَامِ، وَلَمْ يَسْتَدْرِكْ ذَلِكَ، وَعَلَى رِوَايَةِ ابْنِ شُجَاعٍ يَجِبُ لِأَجْلِ دَفْعِهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقَدْ اسْتَدْرَكَهُ بِالْعَوْدِ، وَالْقُدُورِيُّ اعْتَمَدَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَالَ: هِيَ الصَّحِيحَةُ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ مُضْطَرِبٌ، وَلَوْ عَادَ إلَى عَرَفَةَ بَعْدَ الْغُرُوبِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَوْدِ فَقَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ الدَّمُ الْوَاجِبُ فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالْعَوْدِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ فَحُكْمُهُ أَنَّهُ يَفُوتُ الْحَجُّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ رُكْنَ الشَّيْءِ ذَاتُهُ، وَبَقَاءَ الشَّيْءِ مَعَ فَوَاتِ ذَاتِهِ مُحَالٌ. [فَصْلٌ طَوَافُ الزِّيَارَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا طَوَافُ الزِّيَارَةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي. بَيَانِ أَنَّهُ رُكْنٌ وَفِي بَيَانِ رُكْنِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِهِ، وَوَاجِبَاتِهِ، وَسُنَنِهِ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِهِ، وَفِي بَيَانِ زَمَانِهِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ رُكْنٌ قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] وَالْمُرَادُ مِنْهُ طَوَافُ الزِّيَارَةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْكُلَّ بِالطَّوَافِ

فصل ركن طواف الزيارة

فَيَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْكُلِّ، وَطَوَافُ اللِّقَاءِ لَا يَجِبُ أَصْلًا، وَطَوَافُ الصَّدْرِ لَا يَجِبُ عَلَى الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَيَتَعَيَّنُ طَوَافُ الزِّيَارَةِ مُرَادًا بِالْآيَةِ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، وَالْحَجُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ: الْقَصْدُ، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ هُوَ: زِيَارَةُ الْبَيْتِ، وَالزِّيَارَةُ هِيَ الْقَصْدُ إلَى الشَّيْءِ لِلتَّقَرُّبِ قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَمْ تَعْلَمِي يَا أُمَّ سَعْدٍ بِأَنَّمَا ... تَخَاطَأَنِي رَيْبُ الزَّمَانِ لِأَكْثُرَا وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً ... يَحُجُّونَ بَيْتَ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا ، وَقَوْلُهُ: " يَحُجُّونَ " أَيْ يَقْصِدُونَ ذَلِكَ الْبَيْتَ لِلتَّقَرُّبِ فَكَانَ حَجُّ الْبَيْتِ هُوَ الْقَصْدَ إلَيْهِ لِلتَّقَرُّبِ بِهِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ الْبَيْتُ لِلتَّقَرُّبِ بِالطَّوَافِ بِهِ فَكَانَ الطَّوَافُ بِهِ رُكْنًا، وَالْمُرَادُ بِهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلِهَذَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ: طَوَافَ الرُّكْنِ فَكَانَ رُكْنًا. وَكَذَا الْأُمَّةُ أَجْمَعَتْ عَلَى كَوْنِهِ رُكْنًا، وَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْحَرَمِ، وَغَيْرِهِمْ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] . وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] [فَصْلٌ رُكْنُ طَوَافُ الزِّيَارَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُهُ فَحُصُولُهُ كَائِنًا حَوْلَ الْبَيْتِ سَوَاءٌ كَانَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ أَوْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الطَّوَافِ بِنَفْسِهِ فَطَافَ بِهِ غَيْرُهُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الطَّوَافِ بِنَفْسِهِ فَحَمَلَهُ غَيْرُهُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَاجِزًا أَجْزَأَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا أَجْزَأَهُ، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ، أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ الْفَرْضَ حُصُولُهُ كَائِنًا حَوْلَ الْبَيْتِ. وَقَدْ حَصَلَ. وَأَمَّا لُزُومُ الدَّمِ فَلِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ، وَهُوَ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَدَخَلَهُ نَقْصٌ فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالدَّمِ كَمَا إذَا طَافَ رَاكِبًا أَوْ زَحْفًا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَشْيِ، وَإِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْمَشْيِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ الْوَاجِبَ إذْ لَا وُجُوبَ مَعَ الْعَجْزِ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ عَنْ الْحَامِلِ، وَالْمَحْمُولِ جَمِيعًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَرْضَ حُصُولُهُ كَائِنًا حَوْلَ الْبَيْتِ وَقَدْ حَصَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَائِنًا حَوْلَ الْبَيْتِ غَيْرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا حَصَلَ كَائِنًا بِفِعْلِ نَفْسِهِ، وَالْآخَرُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، فَإِنْ قِيلَ: إنَّ مَشْيَ الْحَامِلِ فِعْلٌ، وَالْفِعْلُ الْوَاحِدُ كَيْفَ يَقَعُ عَنْ شَخْصَيْنِ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَفْرُوضَ لَيْسَ هُوَ الْفِعْلَ فِي الْبَابِ بَلْ حُصُولُ الشَّخْصِ حَوْلَ الْبَيْتِ بِمَنْزِلَةِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَنَّ الْمَفْرُوضَ مِنْهُ حُصُولُهُ كَائِنًا بِعَرَفَةَ لَا فِعْلُ الْوُقُوفِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالثَّانِي أَنَّ مَشْيَ الْوَاحِدِ جَازَ أَنْ يَقَعَ عَنْ اثْنَيْنِ فِي بَابِ الْحَجِّ كَالْبَعِيرِ الْوَاحِدِ إذَا رَكِبَهُ اثْنَانِ فَطَافَا عَلَيْهِ. وَكَذَا يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ أَنْ يُجْعَلَ فِعْلٌ وَاحِدٌ حَقِيقَةً كَفِعْلَيْنِ مَعْنًى كَالْأَبِ الْوَصِيِّ إذَا بَاعَ مَالَ نَفْسِهِ مِنْ الصَّغِيرِ أَوْ اشْتَرَى مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كَذَا هَهُنَا. [فَصْلٌ شَرْطُ وَوَاجِبَاتُ طَوَافُ الزِّيَارَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرْطُهُ وَوَاجِبَاتُهُ فَشَرْطُهُ النِّيَّةُ، وَهُوَ أَصْلُ النِّيَّةِ دُونَ التَّعْيِينِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَنْوِ أَصْلًا بِأَنْ طَافَ هَارِبًا مِنْ سَبُعٍ أَوْ طَالِبًا لِغَرِيمٍ لَمْ يَجُزْ. فَرَّقَ أَصْحَابُنَا بَيْنَ الطَّوَافِ، وَبَيْنَ الْوُقُوفِ: أَنَّ الْوُقُوفَ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْوُقُوفِ عِنْدَ الْوُقُوفِ، وَالطَّوَافَ لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الطَّوَافِ عِنْدَ الطَّوَافِ كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيُّ، وَأَشَارَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ إلَى أَنَّ نِيَّةَ الطَّوَافِ عِنْدَ الطَّوَافِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ أَصْلًا، وَأَنَّ نِيَّةَ الْحَجِّ عِنْدَ الْإِحْرَامِ كَافِيَةٌ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ مُفْرَدَةٍ كَمَا فِي سَائِرِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَكَمَا فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الْوُقُوفَ رُكْنٌ يَقَعُ فِي حَالِ قِيَامِ نَفْسِ الْإِحْرَامِ لِانْعِدَامِ مَا يُضَادُّهُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ مُفْرَدَةٍ بَلْ تَكْفِيهِ النِّيَّةُ السَّابِقَةُ، وَهِيَ نِيَّةُ الْحَجِّ كَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إفْرَادِهِمَا بِالنِّيَّةِ لِاشْتِمَالِ نِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمَا كَذَا الْوُقُوفُ، فَأَمَّا الطَّوَافُ فَلَا يُؤْتَى بِهِ فِي حَالِ قِيَامِ نَفْسِ الْإِحْرَامِ لِوُجُودِ مَا يُضَادُّهُ؛ لِأَنَّهُ تَحْلِيلٌ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ بِهِ التَّحْلِيلُ، وَلَا إحْرَامَ حَالَ وُجُودِ التَّحْلِيلِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ حَالَ وُجُودِهِ مَوْجُودٌ، وَوُجُودُهُ يَمْنَعُ الْإِحْرَامَ مِنْ الْوُجُودِ فَلَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ نِيَّةُ الْحَجِّ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْإِفْرَادِ بِالنِّيَّةِ كَالتَّسْلِيمِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ إذْ التَّسْلِيمُ تَحْلِيلٌ أَوْ نَقُولُ إنَّ الْوُقُوفَ يُوجَدُ فِي حَالِ قِيَامِ الْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ لِبَقَائِهِ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَيَتَنَاوَلُهُ نِيَّةُ الْحَجِّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ عَلَى حِدَةٍ، وَلَا كَذَلِكَ الطَّوَافُ. فَإِنَّهُ يُوجَدُ حَالَ زَوَالِ الْإِحْرَامِ مِنْ وَجْهٍ لِوُقُوعِ التَّحَلُّلِ قَبْلَهُ مِنْ وَجْهٍ بِالْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى نِيَّةٍ عَلَى حِدَةٍ فَأَمَّا تَعْيِينُ النِّيَّةِ حَالَ وُجُودِهِ فِي وَقْتِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ حَتَّى لَوْ نَفَرَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَطَافَ، وَهُوَ لَا يُعَيِّنُ طَوَافًا يَقَعُ عَنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ لَا عَنْ الصَّدْرِ؛ لِأَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ مُتَعَيِّنَةٌ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ

فَلَا حَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ كَمَا لَوْ صَامَ رَمَضَانَ بِمُطْلِقٍ لِنِيَّةِ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ لِكَوْنِ الْوَقْتِ مُتَعَيَّنًا لِصَوْمِهِ كَذَا هَذَا. وَكَذَا لَوْ نَوَى تَطَوُّعًا يَقَعُ عَنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ كَمَا لَوْ صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ طَوَافٍ وَاجِبٍ، أَوْ سُنَّةٍ يَقَعُ فِي وَقْتِهِ مِنْ طَوَافِ اللِّقَاءِ، وَطَوَافِ الصَّدْرِ، فَإِنَّمَا يَقَعُ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْوَقْتُ، وَهُوَ الَّذِي انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ دُونَ غَيْرِهِ سَوَاءٌ عَيَّنَ ذَلِكَ بِالنِّيَّةِ، أَوْ لَمْ يُعَيِّنْ فَيَقَعُ عَنْ الْأَوَّلِ، وَإِنْ نَوَى الثَّانِيَ لَا يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى الْأَوَّلِ حَتَّى إنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ، وَطَافَ لَا يُعَيِّنُ شَيْئًا، أَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ، فَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ يَقَعُ طَوَافُهُ لِلْعُمْرَةِ، وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجَّةٍ يَقَعُ طَوَافُهُ لِلْقُدُومِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِحْرَامِ انْعَقَدَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْقَارِنُ إذَا طَافَ لَا يُعَيِّنُ شَيْئًا، أَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ كَانَ ذَلِكَ لِلْعُمْرَةِ، فَإِنْ طَافَ طَوَافًا آخَرَ قَبْلَ أَنْ يَسْعَى لَا يُعَيِّنُ شَيْئًا، أَوْ نَوَى تَطَوُّعًا كَانَ ذَلِكَ لِلْحَجِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَدَثِ، وَالْجَنَابَةِ، وَالْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الطَّوَافِ، وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ عِنْدنَا بَلْ وَاجِبَةٌ حَتَّى يَجُوزَ الطَّوَافُ بِدُونِهَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ لَا يَصِحُّ الطَّوَافُ بِدُونِهَا. وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الطَّوَافُ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ» . وَإِذَا كَانَ صَلَاةً فَالصَّلَاةُ لَا جَوَازَ لَهَا بِدُونِ الطَّهَارَةِ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] أَمَرَ بِالطَّوَافِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الطَّهَارَةِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَيُحْمَلُ عَلَى التَّشْبِيهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] أَيْ: كَأُمَّهَاتِهِمْ وَمَعْنَاهُ الطَّوَافُ كَالصَّلَاةِ إمَّا فِي الثَّوَابِ أَوْ فِي أَصْلِ الْفَرْضِيَّةِ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ التَّشْبِيهِ لَا عُمُومَ لَهُ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُشَابَهَةِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ عَمَلًا بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ أَوْ نَقُولُ: الطَّوَافُ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ، وَلَيْسَ بِصَلَاةٍ حَقِيقَةٍ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ بِصَلَاةٍ حَقِيقَةٍ لَا تُفْتَرَضُ لَهُ الطَّهَارَةُ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ تَجِبُ لَهُ الطَّهَارَةُ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَإِنْ كَانَتْ الطَّهَارَةُ مِنْ وَاجِبَاتِ الطَّوَافِ فَإِذَا طَافَ مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ فَمَا دَامَ بِمَكَّةَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ الْإِعَادَةَ جَبْرٌ لَهُ بِجِنْسِهِ، وَجَبْرُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْجَبْرِ، وَهُوَ التَّلَافِي فِيهِ أَتَمُّ ثُمَّ إنْ أَعَادَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِهَا، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ، وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ يُوجِبُ نُقْصَانًا يَسِيرًا فَتَكْفِيهِ الشَّاةُ لِجَبْرِهِ كَمَا لَوْ تَرَكَ شَوْطًا فَأَمَّا الْجَنَابَةُ فَإِنَّهَا تُوجِبُ نُقْصَانًا مُتَفَاحِشًا؛ لِأَنَّهَا أَكْبَرُ الْحَدَثَيْنِ فَيَجِبُ لَهَا أَعْظَمُ الْجَابِرَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ الْبَدَنَةُ: " تَجِبُ فِي الْحَجِّ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: إذَا طَافَ جُنُبًا، وَالثَّانِي إذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ ". وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الطَّهَارَةُ مِنْ شَرَائِطِ الْجَوَازِ فَإِذَا طَافَ، وَهُوَ مُحْدِثٌ أَوْ جُنُبٌ، وَقَعَ مَوْقِعَهُ حَتَّى لَوْ جَامَعَ بَعْدَهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَمْ يُصَادِفْ الْإِحْرَامَ لِحُصُولِ التَّحَلُّلِ بِالطَّوَافِ هَذَا إذَا طَافَ بَعْدَ أَنْ حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ ثُمَّ جَامَعَ فَأَمَّا إذَا طَافَ، وَلَمْ يَكُنْ حَلَقَ، وَلَا قَصَّرَ ثُمَّ جَامَعَ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَحْلِقْ، وَلَمْ يُقَصِّرْ فَالْإِحْرَامُ بَاقٍ، وَالْوَطْءُ إذَا صَادَفَ الْإِحْرَامَ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ إلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الشَّاةُ لَا الْبَدَنَةُ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ صَارَ مُؤَدًّى فَارْتَفَعَتْ الْحُرْمَةُ الْمُطْلَقَةُ فَلَمْ يَبْقَ الْوَطْءُ جَنَابَةً مَحْضَةً بَلْ خَفَّ مَعْنَى الْجَنَابَةِ فِيهِ فَيَكْفِيهِ أَخَفُّ الْجَابِرَيْنِ. فَأَمَّا الطَّهَارَةُ عَنْ النَّجَسِ فَلَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ الْجَوَازِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يُفْتَرَضُ تَحْصِيلُهَا، وَلَا تَجِبُ أَيْضًا لَكِنَّهُ سُنَّةٌ حَتَّى لَوْ طَافَ، وَعَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ جَازَ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ. وَأَمَّا سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَهُوَ مِثْلُ الطَّهَارَةِ عَنْ الْحَدَثِ، وَالْجَنَابَةِ أَيْ إنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطِ الْجَوَازِ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ لَكِنَّهُ، وَاجِبٌ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ طَافَ عُرْيَانًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطُ الْجَوَازِ كَالطَّهَارَةِ عَنْ الْحَدَثِ، وَالْجَنَابَةِ، وَحُجَّتُهُ مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الطَّوَافُ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ» وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِ الصَّلَاةِ، وَحُجَّتُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] أَمَرَ بِالطَّوَافِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ السَّتْرِ فَيُجْرَى عَلَى إطْلَاقِهِ، وَالْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِ بِالْحَدِيثِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الطَّهَارَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَبَيْنَ الطَّهَارَةِ عَنْ النَّجَاسَةِ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الطَّوَافِ مَعَ الثَّوْبِ النَّجِسِ لَيْسَ لِأَجْلِ الطَّوَافِ بَلْ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ صِيَانَتُهُ عَنْ إدْخَالِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، وَصِيَانَتُهُ عَنْ تَلْوِيثِهِ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِي الطَّوَافِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْجَبْرِ. فَأَمَّا الْمَنْعُ مِنْ الطَّوَافِ عُرْيَانًا فَلِأَجْلِ الطَّوَافِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الطَّوَافِ عُرْيَانًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا لَا يَطُوفَنَّ بَعْدَ

عَامِي هَذَا مُشْرِكٌ، وَلَا عُرْيَانٌ» وَإِذَا كَانَ النَّهْيُ لِمَكَانِ الطَّوَافِ تَمَكَّنَ فِيهِ النَّقْصُ فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالدَّمِ لَكِنْ بِالشَّاةِ لَا بِالْبَدَنَةِ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ فِيهِ كَالنَّقْصِ بِالْحَدَثِ لَا كَالنَّقْصِ بِالْجَنَابَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَنْ طَافَ تَطَوُّعًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَأَحَبُّ إلَيْنَا إنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَنْ يُعِيدَ الطَّوَافَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ سِوَى الَّذِي طَافَ، وَعَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ يَصِيرُ وَاجِبًا بِالشُّرُوعِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ دُونَ الْوَاجِبِ ابْتِدَاءً بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ النَّقْصُ فِيهِ أَقَلَّ فَيُجْبَرُ بِالصَّدَقَةِ، وَمُحَاذَاةُ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ فِي الطَّوَافِ لَا تُفْسِدُ عَلَيْهِ طَوَافَهُ؛ لِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ إنَّمَا عُرِفَتْ مُفْسِدَةً فِي الشَّرْعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَالطَّوَافُ لَيْسَ بِصَلَاةٍ حَقِيقَةً، وَلَا اشْتِرَاكَ أَيْضًا، وَالْمُوَالَاةُ فِي الطَّوَافِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ خَرَجَ الطَّائِفُ مِنْ طَوَافِهِ لِصَلَاةِ جِنَازَةٍ أَوْ مَكْتُوبَةٍ أَوْ لِتَجْدِيدِ وُضُوءٍ ثُمَّ عَادَ بَنَى عَلَى طَوَافِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْمُوَالَاةِ. وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «خَرَجَ مِنْ الطَّوَافِ، وَدَخَلَ السِّقَايَةَ فَاسْتَسْقَى فَسَقَى فَشَرِبَ ثُمَّ عَادَ، وَبَنَى عَلَى طَوَافِهِ» ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَمِنْ وَاجِبَاتِ الطَّوَافِ أَنْ يَطُوفَ مَاشِيًا لَا رَاكِبًا إلَّا مِنْ عُذْرٍ حَتَّى لَوْ طَافَ رَاكِبًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ، وَإِنْ عَادَ إلَى أَهْلِهِ يَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَإِذَا طَافَ رَاكِبًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ طَافَ رَاكِبًا» . (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، وَالرَّاكِبُ لَيْسَ بِطَائِفٍ حَقِيقَةً فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نَقْصًا فِيهِ فَوَجَبَ جَبْرُهُ بِالدَّمِ. وَأَمَّا فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِعُذْرٍ كَذَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْد مَا أَسَنَّ، وَبَدَنَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ آخَرَ، وَهُوَ التَّعْلِيمُ كَذَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ رَاكِبًا لِيَرَاهُ النَّاسُ فَيَسْأَلُوهُ، وَيَتَعَلَّمُوا مِنْهُ، وَهَذَا عُذْرٌ، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَخْرُجَ مَا إذَا طَافَ زَحْفًا أَنَّهُ إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْمَشْيِ أَجْزَأَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِقَدْرِ الْوُسْعِ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ، وَالدَّمُ إنْ كَانَ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ مَشْيًا، وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ زَحْفًا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَشْيِ عَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ مَاشِيًا؛ لِأَنَّهُ نَذَرَ إيقَاعَ الْعِبَادَةِ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ فَلَغَتْ الْجِهَةُ، وَبَقِيَ النَّذْرُ بِأَصْلِ الْعِبَادَةِ كَمَا إذَا نَذَرَ أَنْ يَطُوفَ لِلْحَجِّ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَإِنْ طَافَ زَحْفًا أَعَادَ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا طَافَ زَحْفًا أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ فَيُجْزِئُهُ كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ أَوْ يَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَيَصُومَ يَوْمًا آخَرَ، وَلَوْ صَلَّى فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَصَامَ يَوْمَ النَّحْرِ أَجْزَأَهُ، وَخَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ كَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَخْرُجُ مَا إذَا طَافَ مَحْمُولًا أَنَّهُ إنْ كَانَ لِعُذْرٍ جَازَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ جَازَ، وَيَلْزَمُهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ مَاشِيًا، وَاجِبٌ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَشْيِ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يُوجِبُ الدَّمَ. فَأَمَّا الِابْتِدَاءُ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِهِ بَلْ هُوَ سُنَّةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَتَّى لَوْ افْتَتَحَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أَجْزَأَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الِابْتِدَاءِ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَّا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْدَأْ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ السُّنَّةَ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الرُّقَيَّاتِ إذَا افْتَتَحَ الطَّوَافَ مِنْ غَيْرِ الْحَجَرِ لَمْ يُعْتَدَّ بِذَلِكَ الشَّوْطِ إلَّا أَنْ يَصِيرَ إلَى الْحَجَرِ فَيَبْدَأَ مِنْهُ الطَّوَافَ فَهَذَا يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الِافْتِتَاحَ مِنْهُ شَرْطُ الْجَوَازِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الِافْتِتَاحَ مِنْ الْحَجَرِ إمَّا عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ أَوْ الْفَرْضِ مَا رُوِيَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا انْتَهَى فِي الْبِنَاءِ إلَى مَكَانِ الْحَجَرِ قَالَ لِإِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ائْتِنِي بِحَجَرٍ أَجْعَلْهُ عَلَامَةً لِابْتِدَاءِ الطَّوَافِ فَخَرَجَ، وَجَاءَ بِحَجَرٍ فَقَالَ ائْتِنِي بِغَيْرِهِ فَأَتَاهُ بِحَجَرٍ آخَرَ فَقَالَ ائْتِنِي بِغَيْرِهِ فَأَتَاهُ بِثَالِثٍ فَأَلْقَاهُ، وَقَالَ جَاءَنِي بِحَجَرٍ مَنْ أَغْنَانِي عَنْ حَجَرِكَ فَرَأَى الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ مِنْ يَمِينِ الْحَجَرِ لَا مِنْ يَسَارِهِ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الْجَوَازِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا حَتَّى يَجُوزَ الطَّوَافُ مَنْكُوسًا بِأَنْ افْتَتَحَ الطَّوَافَ عَنْ يَسَارِ الْحَجَرِ، وَيُعْتَدُّ بِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْجَوَازِ لَا يَجُوزُ بِدُونِهِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افْتَتَحَ الطَّوَافَ مِنْ يَمِينِ الْحَجَرِ لَا مِنْ يَسَارِهِ» ، وَذَلِكَ تَعْلِيمٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَاسِكَ الْحَجِّ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

فصل مكان الطواف

«خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» فَتَجِبُ الْبِدَايَةُ بِمَا بَدَأَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْبِدَايَةِ بِالْيَمِينِ أَوْ بِالْيَسَارِ. وَفِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ، وَبِهِ نَقُولُ إنَّهُ وَاجِبٌ كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ. وَكَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى اسْتِدْرَاكِهِ بِجِنْسِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ تَلَافِيًا لِلتَّقْصِيرِ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ، وَإِذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَقَدْ عَجَزَ عَنْ اسْتِدْرَاكِهِ الْفَائِتَ بِجِنْسِهِ فَيَسْتَدْرِكُهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ جَبْرًا لِلْفَائِتِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي ضَمَانِ الْفَوَائِتِ فِي الشَّرْعِ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ فَإِنَّهُ قَالَ أَجْزَأَهُ الطَّوَافُ، وَيُكْرَهُ، وَهَذَا أَمَارَةُ السُّنَّةِ. وَأَمَّا سُنَنُهُ فَنَذْكُرُهَا عِنْدَ بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ، وَلَا رَمَلَ فِي هَذَا الطَّوَافِ إذَا كَانَ الطَّوَافُ طَوَافَ اللِّقَاءِ، وَسَعَى عَقِيبَهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَطُفْ طَوَافَ اللِّقَاءِ أَوْ كَانَ قَدْ طَافَ لَكِنَّهُ لَمْ يَسْعَ عَقِيبَهُ فَإِنَّهُ يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الرَّمَلَ سُنَّةُ طَوَافٍ عَقِيبَهُ سَعْيٌ، وَكُلُّ طَوَافٍ يَكُونُ بَعْدَهُ سَعْيٌ يَكُونُ فِيهِ رَمَلٌ، وَإِلَّا فَلَا لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عِنْدَ بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ، وَالتَّرْتِيبِ بَيْنَ أَفْعَالِهِ. وَيُكْرَهُ إنْشَادُ الشَّعْرِ، وَالتَّحَدُّثُ فِي الطَّوَافِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ فَأَقِلُّوا فِيهِ الْكَلَامَ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَمَنْ نَطَقَ فِيهِ فَلَا يَنْطِقُ إلَّا بِخَيْرٍ» ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُهُ عَنْ الدُّعَاءِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَذَّى بِهِ غَيْرُهُ لِمَا يَشْغَلُهُ ذَلِكَ عَنْ الدُّعَاءِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فِي نَفْسِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ يُكْرَهُ، وَإِنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا فِي حَالِ الْجَنَابَةِ، وَالْحَيْضِ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ التَّسْبِيحُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ لَفْظَةَ " لَا بَأْسَ " وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الرُّخَصِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَطُوفَ، وَعَلَيْهِ خُفَّاهُ أَوْ نَعْلَاهُ إذَا كَانَا طَاهِرَتَيْنِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ طَافَ مَعَ نَعْلَيْهِ» ، وَلِأَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَ الْخُفَّيْنِ، وَالنَّعْلَيْنِ مَعَ أَنَّ حُكْمَ الصَّلَاةِ أَضْيَقُ فَلَأَنْ يَجُوزَ الطَّوَافُ أَوْلَى، وَلَا يَرْمُلُ فِي هَذَا الطَّوَافِ إذَا كَانَ طَافَ طَوَافَ اللِّقَاءِ، وَسَعَى عَقِيبَهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَطُفْ طَوَافَ اللِّقَاءِ أَوْ كَانَ قَدْ طَافَ لَكِنَّهُ لَمْ يَسْعَ عَقِيبَهُ فَإِنَّهُ يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الرَّمَلَ سُنَّةُ طَوَافٍ عَقِيبَهُ سَعْيٌ، فَكُلُّ طَوَافٍ بَعْدَ سَعْيٍ يَكُونُ فِيهِ رَمَلٌ، وَإِلَّا فَلَا لِمَا نَذْكُرُ عِنْدَ بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ، وَالتَّرْتِيبِ فِي أَفْعَالِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا سُنَنُهُ فَنَذْكُرُهَا عِنْدَ بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ مَكَانُ الطَّوَافِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَكَانُ الطَّوَافِ فَمَكَانُهُ حَوْلَ الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ هُوَ الطَّوَافُ حَوْلَهُ فَيَجُوزُ الطَّوَافُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَرِيبًا مِنْ الْبَيْتِ أَوْ بَعِيدًا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى لَوْ طَافَ مِنْ، وَرَاءِ زَمْزَمَ قَرِيبًا مِنْ حَائِطِ الْمَسْجِدِ أَجْزَأَهُ لِوُجُودِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لِحُصُولِهِ حَوْلَ الْبَيْتِ، وَلَوْ طَافَ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ حِيطَانُ الْمَسْجِدِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ حِيطَانَ الْمَسْجِدِ حَاجِزَةٌ فَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ لِعَدَمِ الطَّوَافِ حَوْلَهُ بَلْ طَافَ بِالْمَسْجِدِ لِوُجُودِ الطَّوَافِ حَوْلَهُ لَا حَوْلَ الْبَيْتِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الطَّوَافُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ مَعَ حَيْلُولَةِ حِيطَانِ الْمَسْجِدِ لَجَازَ حَوْلَ مَكَّةَ، وَالْحَرَمِ، وَذَا لَا يَجُوزُ كَذَا هَذَا. وَيَطُوفُ مِنْ خَارِجِ الْحَطِيمِ؛ لِأَنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا «إنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ فَقَصَرُوا الْبَيْتَ عَنْ قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَإِنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ، وَلَوْلَا حَدَثَانُ عَهْدِهِمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ لَرَدَدْتُهُ إلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ، وَلَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا» وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْحَطِيمِ رَكْعَتَيْنِ» . وَرُوِيَ «أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - نَذَرَتْ بِذَلِكَ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْحَطِيمِ رَكْعَتَيْنِ» فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ الْحَطِيمُ مِنْ الْبَيْتِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ كَوْنَ الْحَطِيمِ مِنْ الْبَيْتِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَوُجُوبُ التَّوَجُّهِ إلَى الْبَيْتِ ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِنَصِّ الْكِتَابِ بِالْآحَادِ، وَلَيْسَ فِي الطَّوَافِ مِنْ، وَرَاءِ الْحَطِيمِ عَمَلًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]

فصل زمان طواف الزيارة

بَلْ فِيهِ عَمَلٌ بِهِمَا جَمِيعًا وَلَوْ طَافَ فِي دَاخِلِ الْحِجْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ؛ لِأَنَّ الْحَطِيمَ لَمَّا كَانَ مِنْ الْبَيْتِ فَإِذَا طَافَ فِي دَاخِلِ الْحَطِيمِ فَقَدْ تَرَكَ الطَّوَافَ بِبَعْضِ الْبَيْتِ، وَالْمَفْرُوضُ هُوَ الطَّوَافُ بِكُلِّ الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ الطَّوَافَ كُلَّهُ مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ فَإِنْ أَعَادَ عَلَى الْحِجْرِ خَاصَّةً أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ هُوَ لَا غَيْرُ فَاسْتَدْرَكَهُ، وَلَوْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى عَادَ إلَى أَهْلِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ؛ لِأَنَّ الْحَطِيمَ رُبْعُ الْبَيْتِ فَقَدْ تَرَكَ مِنْ طَوَافِهِ رُبْعَهُ. [فَصْلٌ زَمَانُ طَوَاف الزِّيَارَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا زَمَانُ هَذَا الطَّوَافِ، وَهُوَ، وَقْتُهُ فَأَوَّلُهُ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا حَتَّى لَا يَجُوزَ قَبْلَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَوَّلُ، وَقْتِهِ مُنْتَصَفُ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ لَيْلَةَ النَّحْرِ، وَقْتُ رُكْنٍ آخَرَ، وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَلَا يَكُونُ، وَقْتًا لِلطَّوَافِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ وَقْتًا لِرُكْنَيْنِ، وَلَيْسَ لِآخِرِهِ زَمَانٌ مُعَيَّنٌ مُوَقَّتٌ بِهِ فَرْضًا بَلْ جَمِيعُ الْأَيَّامِ، وَاللَّيَالِي، وَقْتُهُ فَرْضًا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا لَكِنَّهُ مُوَقَّتٌ بِأَيَّامِ النَّحْرِ وُجُوبًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى لَوْ أَخَّرَهُ عَنْهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ غَيْرُ مُوَقَّتٍ أَصْلًا، وَلَوْ أَخَّرَهُ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَمَّنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ فَقَالَ ارْمِ، وَلَا حَرَجَ» ، وَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ قُدِّمَ شَيْءٌ مِنْهَا أَوْ أُخِّرَ إلَّا قَالَ افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ. فَهَذَا يَنْفِي تَوْقِيتَ آخِرِهِ، وَيَنْفِي وُجُوبَ الدَّمِ بِالتَّأْخِيرِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَوَقَّتَ آخِرُهُ لَسَقَطَ بِمُضِيِّ آخِرِهِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَلَمَّا لَمْ يَسْقُطْ دَلَّ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَقَّتُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّأْخِيرَ بِمَنْزِلَةِ التَّرْكِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْجَابِرِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ أَحْرَمَ يَلْزَمُهُ دَمٌ، وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا تَأْخِيرُ الشَّكِّ، وَكَذَا تَأْخِيرُ الْوَاجِبِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ التَّرْكِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْجَابِرِ، وَهُوَ سَجْدَتَا السَّهْوِ فَكَانَ الْفِقْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ كَمَا هُوَ، وَاجِبٌ فَمُرَاعَاةُ مَحَلِّ الْوَاجِبِ، وَاجِبٌ فَكَانَ التَّأْخِيرُ تَرْكًا لِلْمُرَاعَاةِ الْوَاجِبَةِ، وَهِيَ مُرَاعَاتُهُ فِي مَحَلِّهِ، وَالتَّرْكُ تَرْكًا لِوَاجِبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَدَاءُ الْوَاجِبِ فِي نَفْسِهِ، وَالثَّانِي مُرَاعَاتُهُ فِي مَحَلِّهِ فَإِذَا تَرَكَ هَذَا الْوَاجِبَ يَجِبُ جَبْرُهُ بِالدَّمِ وَإِذَا تَوَقَّتْ هَذَا الطَّوَافُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ وُجُوبًا عِنْدَهُ فَإِذَا أَخَّرَهُ عَنْهَا فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نُقْصَانًا فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالدَّمِ، وَلَمَّا لَمْ يَتَوَقَّتْ عِنْدَهُمَا فَفِي أَيِّ وَقْتٍ فَعَلَهُ فَقَدْ فَعَلَهُ فِي وَقْتِهِ فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ نَقْصٌ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمَا فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَفْيَ الْحَرَجِ، وَهُوَ نَفْيُ الْإِثْمِ، وَانْتِفَاءُ الْإِثْمِ لَا يَنْفِي وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ كَمَا لَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِأَذًى فِيهِ: أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ، وَعَلَيْهِ الدَّمُ كَذَا هَهُنَا، وَقَوْلُهُمَا إنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِمُضِيِّ آخِرِ الْوَقْتِ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ مُوَقَّتًا، وَوَاجِبًا فِي الْوَقْتِ كَالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِخُرُوجِ أَوْقَاتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُوَقَّتَةً حَتَّى تُقْضَى كَذَا هَذَا، وَالْأَفْضَلُ هُوَ الطَّوَافُ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَوَّلُهَا أَفْضَلُهَا» . وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي بِالْعِبَادَاتِ فِي أَفْضَلِ أَوْقَاتِهَا، وَلِأَنَّ هَذَا الطَّوَافَ يَقَعُ بِهِ تَمَامُ التَّحَلُّلِ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ مِنْ النِّسَاءِ فَكَانَ فِي تَعْجِيلِهِ صِيَانَةُ نَفْسِهِ عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْجِمَاعِ، وَلُزُومِ الْبَدَنَةِ فَكَانَ أَوْلَى. [فَصْلٌ مِقْدَارُ الطَّوَاف] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مِقْدَارُهُ فَالْمِقْدَارُ الْمَفْرُوضُ مِنْهُ هُوَ أَكْثَرُ الْأَشْوَاطِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْوَاطٍ، وَأَكْثَرُ الشَّوْطِ الرَّابِعِ، فَأَمَّا الْإِكْمَالُ فَوَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ حَتَّى لَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِأَكْثَرِ الطَّوَافِ قَبْلَ الْإِتْمَامِ لَا يَلْزَمُهُ الْبَدَنَةُ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُهُ الشَّاةُ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْفَرْضُ هُوَ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ لَا يَتَحَلَّلُ بِمَا دُونَهَا، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ مَقَادِيرَ الْعِبَادَاتِ لَا تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ، وَالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ «، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ» فَلَا يُعْتَدُّ بِمَا دُونَهَا، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ إلَى أَكْثَرِ الْأَشْوَاطِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ، وَلَا إجْمَاعَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى أَكْثَرِ الْأَشْوَاطِ، وَلِأَنَّهُ أَتَى بِأَكْثَرِ الطَّوَافِ، وَالْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِيمَا يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ فِي بَابِ الْحَجِّ كَالذَّبْحِ إذَا لَمْ يَسْتَوْفِ قَطْعَ الْعُرُوقِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَفْرُوضُ هَذَا الْقَدْرَ فَإِذَا أَتَى بِهِ فَقَدْ أَتَى بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ فَيَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْبَدَنَةُ بِالْجِمَاعِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ السَّبْعَةِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ فَيَجِبُ بِتَرْكِهِ الشَّاةَ دُونَ الْبَدَنَةِ كَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

فصل حكم الطواف إذا فات عن أيام النحر

[فَصْلٌ حُكْمُ الطَّوَاف إذَا فَاتَ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ] فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُهُ إذَا فَاتَ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَوْقَاتِ، وَقْتُهُ بِخِلَافِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَنَّهُ إذَا فَاتَ عَنْ، وَقْتِهِ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ مُوَقَّتٌ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ ثُمَّ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ يَأْتِي بِهِ بِإِحْرَامِهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ؛ إذْ التَّحَلُّلُ بِالطَّوَافِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَعَلَيْهِ لِتَأْخِيرِهِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ كَانَ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَكَّةَ بِإِحْرَامِهِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إحْرَامٍ جَدِيدٍ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَنْ النِّسَاءِ إلَى أَنْ يَعُودَ فَيَطُوفَ، وَعَلَيْهِ لِلتَّأْخِيرِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلَا يُجْزِئُ عَنْ هَذَا الطَّوَافِ بَدَنَةٌ؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ، وَأَرْكَانُ الْحَجِّ لَا يُجْزِئُ عَنْهَا الْبَدَلُ، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا بَلْ يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِعَيْنِهَا كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. وَكَذَا لَوْ كَانَ طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَهُوَ وَاَلَّذِي لَمْ يَطُفْ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ طَافَ جُنُبًا أَوْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، أَمَّا إذَا طَافَ جُنُبًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ لَا مَحَالَةَ هُوَ الْعَزِيمَةُ، وَبِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ حَتَّى يُعِيدَ الطَّوَافَ، أَمَّا وُجُوبُ الْعَوْدِ بِطَرِيقِ الْعَزِيمَةِ فَلِتَفَاحُشِ النُّقْصَانِ بِالْجَنَابَةِ فَيُؤْمَرُ بِالْعَوْدِ كَمَا لَوْ تَرَكَ أَكْثَرَ الْأَشْوَاطِ. وَأَمَّا تَجْدِيدُ الْإِحْرَامِ فَلِأَنَّهُ حَصَلَ التَّحَلُّلُ بِالطَّوَافِ مَعَ الْجَنَابَةِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، وَالطَّهَارَةُ عَنْ الْحَدَثِ، وَالْجَنَابَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الطَّوَافِ فَإِذَا حَصَلَ التَّحَلُّلُ صَارَ حَلَالًا، وَالْحَلَالُ لَا يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ إلَى مَكَّةَ لَكِنَّهُ بَعَثَ بَدَنَةً جَازَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَدَنَةَ تَجْبُرُ النَّقْصَ بِالْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ هُوَ الْعَوْدُ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ فَاحِشٌ فَكَانَ الْعَوْدُ أَجْبَرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ جَبْرٌ بِالْجِنْسِ. وَأَمَّا إذَا طَافَ مُحْدِثًا أَوْ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَإِنْ، عَادَ وَطَافَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ جَبَرَ النَّقْصَ بِجِنْسِهِ، وَإِنْ بَعَثَ شَاةً جَازَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّقْصَ يَسِيرٌ فَيَنْجَبِرُ بِالشَّاةِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَبْعَثَ بِالشَّاةِ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ تَجْبُرُ النَّقْصَ، وَتَنْفَعُ الْفُقَرَاءَ، وَتَدْفَعُ عَنْهُ مَشَقَّةَ الرُّجُوعِ، وَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَالرُّجُوعُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ جَبْرُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ فَكَانَ أَوْلَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ وَاجِبَاتُ الْحَجِّ] [السَّعْي بَيْن الصفا وَالْمَرْوَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا، وَاجِبَاتُ الْحَجِّ فَخَمْسَةٌ:. السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَالْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ، وَطَوَافُ الصَّدْرِ، أَمَّا السَّعْيُ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي. بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهِ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ سُنَنِهِ، وَفِي بَيَانِ، وَقْتِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا تَأَخَّرَ عَنْ، وَقْتِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ وَاجِبٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ فَرْضٌ حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْحَاجُّ خُطْوَةً مِنْهُ، وَأَتَى أَقْصَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ يُؤْمَرُ بِأَنْ يَعُودَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيَضَعَ قَدَمَهُ عَلَيْهِ، وَيَخْطُو تِلْكَ الْخُطْوَةَ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَيْسَ بِفَرْضٍ وَلَا، وَاجِبٍ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] ، وَكَلِمَةُ لَا جُنَاحَ لَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أَبِي فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ فُلَانٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ امْرَأَةً سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ» أَيْ فَرَضَ عَلَيْكُمْ؛ إذْ الْكِتَابَةُ عِبَارَةٌ عَنْ الْفَرْضِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] وَ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَنَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، وَحِجُّ الْبَيْتِ هُوَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ هُوَ الرُّكْنَ لَا غَيْرُ، إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ بِدَلِيلٍ، فَمَنْ ادَّعَى زِيَارَةَ السَّعْيِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَجُّ عَرَفَةَ» فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ كُلَّ الرُّكْنِ إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ فَمَنْ ادَّعَى زِيَادَةَ السَّعْيِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ مَا تَمَّ حَجُّ امْرِئٍ قَطُّ إلَّا بِالسَّعْيِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ، وَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِأَنَّهَا، وَصَفَتْ الْحَجَّ بِدُونِهِ بِالنُّقْصَانِ لَا بِالْفَسَادِ، وَفَوْتُ الْوَاجِبِ هُوَ الَّذِي يُوجِبُ النُّقْصَانَ، فَأَمَّا فَوْتُ الْفَرْضِ فَيُوجِبُ الْفَسَادَ، وَالْبُطْلَانَ، وَلِأَنَّ الْفَرْضِيَّةَ إنَّمَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ إذَا كَانَ الْخِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الدِّيَانَةِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهَا رَفْعَ الْجُنَاحِ عَلَى الطَّوَافِ بِهِمَا مُطْلَقًا بَلْ عَلَى الطَّوَافِ بِهِمَا لِمَكَانِ الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانَتْ هُنَالِكَ، لِمَا قِيلَ إنَّهُ كَانَ بِالصَّفَا صَنَمٌ، وَبِالْمَرْوَةِ صَنَمٌ، وَقِيلَ كَانَ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ أَصْنَامٌ فَتَحَرَّجُوا عَنْ الصُّعُودِ عَلَيْهِمَا، وَالسَّعْيِ بَيْنَهُمَا احْتِرَازًا عَنْ التَّشَبُّهِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَالتَّشَبُّهِ بِأَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْجُنَاحَ بِالطَّوَافِ بِهِمَا أَوْ بَيْنَهُمَا مَعَ كَوْنِ الْأَصْنَامِ هُنَالِكَ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ " لَا " صِلَةً زَائِدَةً، مَعْنَاهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ " لَا " قَدْ

فصل قدر السعي

تُزَادُ فِي الْكَلَامِ صِلَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] مَعْنَاهُ أَنْ تَسْجُدَ فَكَانَ كَالْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْمَعْنَى. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا يَصِحُّ تَعَلُّقُ الشَّافِعِيِّ بِهِ عَلَى زَعْمِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: رَوَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ فُلَانٍ فَكَانَتْ مَجْهُولَةً لَا نَدْرِي مَنْ هِيَ، وَالْعَجَبُ مِنْهُ أَنَّهُ يَأْبَى مَرَّةً قَبُولَ الْمَرَاسِيلِ لِتَوَهُّمِ الْغَلَطِ، وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا تُعْرَفُ، وَلَا يَذْكُرُ اسْمَهَا عَلَى أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكُنْيَةَ قَدْ تُذْكَرُ، وَيُرَادُ بِهَا الْحُكْمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] أَيْ فِي حُكْمِ اللَّهِ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أَيْ حَكَمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْأَوَّلُ تَكُونُ حُجَّةً، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الثَّانِي لَا تَكُونُ حُجَّةً؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ، بَلْ الْوُجُوبُ، وَالِانْتِدَابُ وَالْإِبَاحَةُ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ أَوْ نَحْمِلُهَا عَلَى الْوُجُوبِ دُونَ الْفَرْضِيَّةِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ، وَإِذَا كَانَ، وَاجِبًا فَإِنْ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَرَكَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَزِمَهُ دَمٌ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ تَرْكِ الْوَاجِبِ فِي هَذَا الْبَابِ أَصْلُهُ طَوَافُ الصَّدْرِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ» ، وَرَخَّصَ لِلْحَائِضِ، بِخِلَافِ الْأَرْكَانِ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الشَّيْءِ ذَاتُهُ فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّيْءُ أَصْلًا كَأَرْكَانِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْوَاجِبِ، وَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ فِي جَمِيعِهِ دَمٌ يَجِبُ فِي أَكْثَرِهِ دَمٌ، أَصْلُهُ طَوَافُ الصَّدْرِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ أَطْعَمَ لِكُلِّ شَوْطٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ مِسْكِينًا إلَّا أَنْ يُبْلِغَهُ ذَلِكَ دَمًا فَلَهُ الْخِيَارُ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ فِي جَمِيعِهِ دَمٌ يَكُونُ فِي أَقَلِّهِ صَدَقَةٌ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ تَرَكَ الصُّعُودَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصُّعُودَ عَلَيْهِمَا سُنَّةٌ فَيُكْرَهُ تَرْكُهُ، وَلَكِنْ لَوْ تَرَكَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ تَرَكَ الرَّمَلَ فِي الطَّوَافِ. [فَصْلٌ قَدْرُ السَّعْي] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا قَدْرُهُ فَسَبْعَةُ أَشْوَاطٍ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَلِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَعُدُّ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ شَوْطًا، وَمِنْ الْمَرْوَةِ إلَى الصَّفَا شَوْطًا آخَرَ، كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ، وَمِنْ الْمَرْوَةِ إلَى الصَّفَا شَوْطٌ وَاحِدٌ، وَالصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَافَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ» ، وَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ لَكَانَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَوْطًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ مَا قُلْنَا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ يَبْتَدِئُ بِالصَّفَا، وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ، وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ يَقَعُ الْخَتْمُ بِالصَّفَا لَا بِالْمَرْوَةِ فَدَلَّ أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا مَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ رُكْنُ السَّعْي] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُهُ فَكَيْنُونَتُهُ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ، سَوَاءٌ كَانَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ أَوْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ السَّعْيِ بِنَفْسِهِ بِأَنْ كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ مَرِيضًا فَسَعَى بِهِ مَحْمُولًا أَوْ سَعَى رَاكِبًا لِحُصُولِهِ كَائِنًا بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ بِنَفْسِهِ فَحُمِلَ أَوْ رَكِبَ يَلْزَمُهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَشْيِ، وَاجِبٌ فَإِذَا تَرَكَهُ فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ كَمَا لَوْ تَرَكَ الْمَشْيَ فِي الطَّوَافِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ جَوَازِ السَّعْي] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِهِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الطَّوَافِ أَوْ بَعْدَ أَكْثَرِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا فَعَلَ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، وَلِأَنَّ السَّعْيَ تَبَعٌ لِلطَّوَافِ، وَتَبَعُ الشَّيْءِ كَاسْمِهِ، وَهُوَ أَنْ يَتْبَعَهُ فِيمَا تَقَدَّمَهُ لَا فِيمَا يَتْبَعُهُ فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لَهُ إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ بَعْدَ وُجُودِ أَكْثَرِ الطَّوَافِ قَبْلَ تَمَامِهِ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ. وَمِنْهَا الْبِدَايَةُ بِالصَّفَا، وَالْخَتْمُ بِالْمَرْوَةِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ حَتَّى لَوْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ، وَخَتَمَ بِالصَّفَا لَزِمَهُ إعَادَةُ شَوْطٍ وَاحِدٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لَوْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ السَّعْيِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ التَّرْتِيبَ فَلَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، كَمَا لَوْ تَوَضَّأَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ وَتَرَكَ التَّرْتِيبَ. (وَلَنَا) أَنَّ التَّرْتِيبَ هَهُنَا مَأْمُورٌ بِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِهِ، أَمَّا قَوْلُهُ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ عَزَّ، وَجَلَّ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] قَالُوا بِأَيِّهِمَا نَبْدَأُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» . وَأَمَّا فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ بَدَأَ بِالصَّفَا، وَخَتَمَ بِالْمَرْوَةِ، وَأَفْعَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مِثْلِ هَذَا مُوجِبَةٌ لِمَا تَبَيَّنَ، وَإِذَا لَزِمَتْ الْبِدَايَةُ بِالصَّفَا فَإِذَا بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ إلَى الصَّفَا لَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ الشَّوْطِ فَإِذَا جَاءَ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ كَانَ هَذَا أَوَّلَ شَوْطٍ

فصل سنن السعي

فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ بَعْدَ سِتَّةٍ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى يُتِمَّ سَبْعَةً. وَأَمَّا الطَّهَارَةُ عَنْ الْجَنَابَةِ، وَالْحَيْضِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَيَجُوزُ سَعْيُ الْجُنُبِ، وَالْحَائِضِ بَعْدَ أَنْ كَانَ طَوَافُهُ بِالْبَيْتِ عَلَى الطَّهَارَةِ عَنْ الْجَنَابَةِ، وَالْحَيْضِ؛ لِأَنَّ هَذَا نُسُكٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْبَيْتِ فَلَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ عَنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ، كَالْوُقُوفِ، إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ عَلَى الطَّهَارَةِ عَنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ وَمِنْ تَوَابِعِهِ، وَالطَّوَافُ مَعَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ حَتَّى تَجِبَ إعَادَتُهُ فَكَذَا السَّعْيُ الَّذِي هُوَ مِنْ تَوَابِعِهِ وَمُرَتَّبٌ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ طَوَافُهُ عَلَى الطَّهَارَةِ عَنْ الْحَدَثَيْنِ فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ جَوَازِهِ فَجَازَ، وَجَازَ سَعْيُ الْجُنُبِ، وَالْحَائِضِ تَبَعًا لَهُ لِوُجُودِ شَرْطِ جَوَازِ الْأَصْلِ؛ إذْ التَّبَعُ لَا يُفْرَدُ بِالشَّرْطِ بَلْ يَكْفِيه شَرْطُ الْأَصْلِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ حُصُولَ الطَّوَافِ عَلَى الطَّهَارَةِ عَنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِ السَّعْيِ، فَإِنْ كَانَ طَاهِرًا وَقْتَ الطَّوَافِ جَازَ السَّعْيُ، سَوَاءٌ كَانَ طَاهِرًا وَقْتَ السَّعْيِ، أَوْ لَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَاهِرًا، وَقْتَ الطَّوَافِ لَمْ يَجُزْ سَعْيُهُ رَأْسًا، سَوَاءٌ كَانَ طَاهِرًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ سُنَنُ السَّعْي] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سُنَنُهُ فَالرَّمَلُ فِي بَعْضِ كُلِّ شَوْطٍ، وَالسَّعْيُ فِي الْبَعْضِ، وَسَنَذْكُرُهَا فِي بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهَا مِنْ السُّنَنِ لَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ حَتَّى لَوْ رَمَلَ فِي الْكُلِّ أَوْ سَعَى فِي الْكُلِّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ يَكُونُ مُسِيئًا لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ وَقْتُ السَّعْي] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وَقْتُهُ فَوَقْتُهُ الْأَصْلِيُّ يَوْمُ النَّحْرِ بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ لَا بَعْدَ طَوَافِ اللِّقَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ، وَالسَّعْيُ وَاجِبٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ الْوَاجِبُ تَبَعًا لِلسُّنَّةِ ' فَأَمَّا طَوَافُ الزِّيَارَةِ فَفَرْضٌ، وَالْوَاجِبُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِلْفَرْضِ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ السَّعْيُ بَعْدَ طَوَافِ اللِّقَاءِ، وَجُعِلَ ذَلِكَ، وَقْتًا لَهُ تَرْفِيهًا بِالْحَاجِّ، وَتَيْسِيرًا لَهُ لِازْدِحَامِ الِاشْتِغَالِ لَهُ يَوْمَ النَّحْرِ فَأَمَّا وَقْتُهُ الْأَصْلِيُّ فَيَوْمُ النَّحْرِ عَقِيبَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ لِمَا قُلْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ حُكْمِ السَّعْي إذَا تَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِهِ إذَا تَأَخَّرَ عَنْ، وَقْتِهِ الْأَصْلِيِّ، وَهِيَ أَيَّامُ النَّحْرِ بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَرْجِعْ إلَى أَهْلِهِ فَإِنَّهُ يَسْعَى، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا، وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِالتَّأْخِيرِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي وَقْتِهِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ مَا بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَلَا يَضُرُّهُ إنْ كَانَ قَدْ جَامَعَ لِوُقُوعِ التَّحَلُّلِ بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ؛ إذْ السَّعْيُ لَيْسَ بِرُكْنٍ حَتَّى يَمْنَعَ التَّحَلُّلَ، وَإِذَا صَارَ حَلَالًا بِالطَّوَافِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْعَى قَبْلَ الْجِمَاعِ أَوْ بَعْدَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِمَكَّةَ يَسْعَى، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ السَّعْيَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ يَعُودُ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ الْأَوَّلَ قَدْ ارْتَفَعَ بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ لِوُقُوعِ التَّحَلُّلِ بِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْإِحْرَامِ، وَإِذَا عَادَ، وَسَعَى يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ تَدَارَكَ التَّرْكَ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَقَالَ: وَالدَّمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْفُقَرَاءِ، وَالنُّقْصَانُ لَيْسَ بِفَاحِشٍ فَصَارَ كَمَا إذَا طَافَ مُحْدِثًا ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي. بَيَانِ صِفَتِهِ، وَرُكْنِهِ، وَمَكَانِهِ، وَزَمَانِهِ، وَحُكْمِهِ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ وَاجِبٌ، وَقَالَ اللَّيْثُ: إنَّهُ فَرْضٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] ، وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ هُوَ الْمُزْدَلِفَةُ، وَالْأَمْرُ بِالذِّكْرِ عِنْدَهَا يَدُلُّ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْوُقُوفِ بِهَا. (وَلَنَا) أَنَّ الْفَرْضِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ بَيْنَ أَهْلِ الدِّيَانَةِ، وَأَهْلُ الدِّيَانَةِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي مَوْضِعٍ، هُنَاكَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ مَا رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ الطَّائِيِّ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: أَتْعَبْتُ مَطِيَّتِي فَمَا مَرَرْتُ بِشَرَفٍ إلَّا عَلَوْتُهُ فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ: أَتْعَبْتُ رَاحِلَتِي وَأَجْهَدْتُ نَفْسِي، وَمَا تَرَكْتُ جَبَلًا مِنْ جِبَالِ طَيِّئٍ إلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ وَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْوُقُوفَ، وَصَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ وَقَدْ كَانَ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ سَاعَةً بِلَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» . فَقَدْ عَلَّقَ تَمَامَ الْحَجِّ بِهَذَا الْوُقُوفِ، وَالْوَاجِبُ هُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ التَّمَامُ بِوُجُودِهِ لَا الْفَرْضُ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِهِ أَصْلُ الْجَوَازِ لَا صِفَةُ التَّمَامِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَجُّ عَرَفَةُ، مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ» جَعَلَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ كُلَّ الْحَجِّ، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلَّ الرُّكْنِ. وَكَذَا جَعَلَ مُدْرِكَ عَرَفَةَ مُدْرِكًا لِلْحَجِّ، وَلَوْ كَانَ الْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ رُكْنًا لَمْ يَكُنْ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ كُلَّ الْحَجِّ بَلْ بَعْضَهُ، وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا مُدْرِكًا

فصل ركن الوقوف بمزدلفة

لِلْحَجِّ بِدُونِهِ، وَهَذَا خِلَافُ الْحَدِيثِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الرُّكْنُ هُوَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لَا غَيْرُ، إلَّا أَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ عُرِفَ رُكْنًا بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّ تَرْكَ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ جَائِزٌ لِعُذْرٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُ، وَلَوْ كَانَ فَرْضًا لَمَا جَازَ تَرْكُهُ أَصْلًا كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَسْقُطُ وُجُوبُهُ لِعُذْرٍ مِنْ ضَعْفٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ تَعَجَّلَ وَلَمْ يَقِفْ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِهَا: إنَّ الْمُرَادَ مِنْ الذِّكْرِ هُوَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَقِيلَ: هُوَ الدُّعَاءُ، وَفَرْضِيَّتُهَا لَا تَقْتَضِي فَرْضِيَّةَ الْوُقُوفِ، عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ لَا لِلْفَرْضِيَّةِ بَلْ الْفَرْضِيَّةُ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ زَائِدٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ رُكْنُ الْوُقُوف بِمُزْدَلِفَةَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُهُ فَكَيْنُونَتُهُ بِمُزْدَلِفَةَ، سَوَاءٌ كَانَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ، أَوْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ بِأَنْ كَانَ مَحْمُولًا، وَهُوَ نَائِمٌ أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ لِحُصُولِهِ كَائِنًا بِهَا، وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِهَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ لِمَا قُلْنَا، وَلِأَنَّ الْفَائِتَ لَيْسَ إلَّا النِّيَّةَ، وَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ كَمَا فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَسَوَاءٌ وَقَفَ أَوْ مَرَّ مَارًّا لِحُصُولِهِ كَائِنًا بِمُزْدَلِفَةَ، وَإِنْ قَلَّ، وَلَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ عَنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ فَتَصِحُّ مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَكَانُ الْوُقُوف بِمُزْدَلِفَةَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَكَانُهُ فَجُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ مُزْدَلِفَةَ، أَيَّ جُزْءٍ كَانَ، وَلَهُ أَنْ يَنْزِلَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْزِلَ فِي، وَادِي مُحَسِّرٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ، وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا، وَادِيَ مُحَسِّرٍ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ «مُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ الْمُحَسِّرِ» فَيُكْرَهُ النُّزُولُ فِيهِ، وَلَوْ، وَقَفَ بِهِ أَجْزَأَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ وُقُوفُهُ خَلْفَ الْإِمَامِ عَلَى الْجَبَلِ الَّذِي يَقِفُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ قُزَحُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عَلَيْهِ، وَقَالَ «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، وَلِأَنَّهُ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْإِمَامِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ زَمَانُ الْوُقُوف بِمُزْدَلِفَةَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا زَمَانُهُ فَمَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَطُلُوعِ الشَّمْسِ فَمَنْ حَصَلَ بِمُزْدَلِفَةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ، سَوَاءٌ بَاتَ بِهَا أَوْ لَا، وَمَنْ لَمْ يَحْصُلْ بِهَا فِيهِ فَقَدْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ كَمَا قَالَ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَفِي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَةَ النَّحْرِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَالْبَيْتُوتَةُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، إنَّمَا الْوَاجِبُ هُوَ الْوُقُوفُ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ وُقُوفُهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَيُصَلِّيَ صَلَاةَ الْفَجْرِ بِغَلَسٍ ثُمَّ يَقِفَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فَيَدْعُوَ اللَّهَ تَعَالَى، وَيَسْأَلَهُ حَوَائِجَهُ إلَى أَنْ يُسْفِرَ ثُمَّ يُفِيضَ مِنْهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى مِنًى، وَلَوْ أَفَاضَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَسَاءَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِتَرْكِهِ السُّنَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ حُكْمُ فَوَاتِ وَقْتِ الْوُقُوف بِمُزْدَلِفَةَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ فَوَاتِهِ عَنْ، وَقْتِهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ لِعُذْرٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْكَفَّارَةِ» ، وَإِنْ كَانَ فَوَاتُهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَإِنَّهُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ رَمْيُ الْجِمَارِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رَمْيُ الْجِمَارِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ. وُجُوبِ الرَّمْيِ، وَفِي تَفْسِيرِ الرَّمْيِ، وَفِي بَيَانِ، وَقْتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِهِ، وَفِي بَيَانِ عَدَدِ الْجِمَارِ. وَقَدْرِهَا، وَجِنْسِهَا، وَمَأْخَذِهَا، وَمِقْدَارِ مَا يُرْمَى كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ كُلِّ مَوْضِعٍ، وَكَيْفِيَّةِ الرَّمْيِ، وَمَا يُسَنُّ فِي ذَلِكَ، وَيُسْتَحَبُّ، وَمَا يُكْرَهُ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا تَأَخَّرَ عَنْ، وَقْتِهِ أَوْ فَاتَ عَنْ، وَقْتِهِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَدَلِيلُ وُجُوبِهِ الْإِجْمَاعُ، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلُهُ، أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى وُجُوبِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ، وَقَالَ إنِّي ذَبَحْتُ ثُمَّ رَمَيْتُ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ارْمِ، وَلَا حَرَجَ» ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْعَمَلِ. وَأَمَّا فِعْلُهُ فَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى، وَأَفْعَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا لَمْ يَكُنْ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ حَوَائِجِ نَفْسِهِ، وَلَا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ لِوُرُودِ النُّصُوصِ بِوُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَالِاتِّبَاعِ لَهُ، وَلُزُومِ طَاعَتِهِ، وَحُرْمَةِ مُخَالَفَتِهِ فَكَانَتْ أَفْعَالُهُ فِيمَا قُلْنَا مَحْمُولَةً عَلَى الْوُجُوبِ لَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ لِاحْتِمَالِ الْخُصُوصِ كَمَا فِي بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ نَحْوِ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَبَعْضِ الْمُبَاحَاتِ، وَهُوَ حِلُّ تِسْعِ نِسْوَةٍ أَوْ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا فَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ مِنْهَا عَيْنًا يُؤَدِّي إلَى اعْتِقَادِ غَيْرِ الْوَاجِبِ، وَاجِبًا فِي حَقِّهِ، وَغَيْرِ

فصل تفسير رمي الجمار

الْمُبَاحِ مُبَاحًا فِي حَقِّهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، فَأَمَّا الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ عَمَلًا مَعَ الِاعْتِقَادِ مُبْهِمًا أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فَهُوَ حَقٌّ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ، وَاجِبًا يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِفِعْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، وَاجِبًا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ احْتِرَازًا عَنْ الضَّرَرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَإِنَّهُ، وَاجِبٌ عَقْلًا، وَشَرْعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ تَفْسِيرُ رَمْيِ الْجِمَارِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا تَفْسِيرُ رَمْيِ الْجِمَارِ فَرَمْيُ الْجِمَارِ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْقَذْفُ بِالْأَحْجَارِ الصِّغَارِ، وَهِيَ الْحَصَى إذْ الْجِمَارُ جَمْعُ جَمْرَةٍ، وَالْجَمْرَةُ هِيَ الْحَجَرُ الصَّغِيرُ، وَهِيَ الْحَصَاةُ، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ هُوَ الْقَذْفُ بِالْحَصَى فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، وَمَكَانٍ مَخْصُوصٍ، وَعَدَدٍ مَخْصُوصٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قَامَ عِنْدَ الْجَمْرَةِ، وَوَضَعَ الْحَصَاةَ عِنْدَهَا، وَضْعًا أَنَّهُ لَمْ يُجْزِهِ لِعَدَمِ الرَّمْيِ، وَهُوَ الْقَذْفُ، وَإِنْ طَرَحَهَا طَرْحًا أَجْزَأَهُ لِوُجُودِ الرَّمْيِ إلَّا أَنَّهُ رَمْيٌ خَفِيفٌ فَيُجْزِئُهُ، وَسَوَاءٌ رَمَى بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ الرَّمْيِ بِنَفْسِهِ كَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الرَّمْيَ فَوَضَعَ الْحَصَى فِي كَفِّهِ فَرَمَى بِهَا أَوْ رَمَى عَنْهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ تَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ كَالطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ وَقْتُ رَمْيِ الْجِمَارِ] (فَصْلٌ) : ، وَأَمَّا، وَقْتُ الرَّمْيِ فَأَيَّامُ الرَّمْيِ أَرْبَعَةٌ: يَوْمُ النَّحْرِ، وَثَلَاثَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، أَمَّا يَوْمُ النَّحْرِ فَأَوَّلُ، وَقْتِ الرَّمْيِ، مِنْهُ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ طُلُوعِهِ، وَأَوَّلُ وَقْتِهِ الْمُسْتَحَبِّ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا انْتَصَفَ لَيْلَةُ النَّحْرِ دَخَلَ وَقْتُ الْجِمَارِ كَمَا قَالَ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَمُزْدَلِفَةَ فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ، وَجَبَ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ لَا يَجُوزُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ حَتَّى تَكُونُوا مُصْبِحِينَ» نَهَى عَنْ الرَّمْيِ قَبْلَ الصُّبْحِ. وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَلْطَحُ أَفْخَاذَ أُغَيْلِمَةِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ لَا تَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ حَتَّى تَكُونُوا مُصْبِحِينَ» . فَإِنْ قِيلَ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَا تَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَهَذَا حُجَّةُ سُفْيَانَ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَبِهِ نَقُولُ إنَّ الْمُسْتَحَبَّ ذَلِكَ. وَأَمَّا آخِرُهُ فَآخِرُ النَّهَارِ كَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ يَوْمَ النَّحْرِ يَمْتَدُّ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَمْتَدُّ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ يَفُوتُ الْوَقْتُ، وَيَكُونُ فِيمَا بَعْدَهُ قَضَاءٌ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَوْقَاتَ الْعِبَادَةِ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ، وَالتَّوْقِيفُ وَرَدَ بِالرَّمْيِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ فَلَا يَكُونُ مَا بَعْدَهُ وَقْتًا لَهُ أَدَاءً كَمَا فِي سَائِرِ أَيَّامِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ وَقْتَهُ فِيهَا بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الزَّوَالِ وَقْتًا لَهُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ الْأَيَّامِ، وَهُوَ أَنَّ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَقْتَ الرَّمْيِ فَكَذَا فِي هَذَا الْيَوْمِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ إنَّمَا يُفَارِقُ سَائِرَ الْأَيَّامِ فِي ابْتِدَاءِ الرَّمْيِ لَا فِي انْتِهَائِهِ فَكَانَ مِثْلَ سَائِرِ الْأَيَّامِ فِي الِانْتِهَاءِ فَكَانَ آخِرُهُ وَقْتَ الرَّمْيِ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ، فَإِنْ لَمْ يَرْمِ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَيَرْمِي قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي أَجْزَأَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ، فِي قَوْلٍ: إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ فَاتَ الْوَقْتُ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَفِي قَوْلٍ: لَا يَفُوتُ إلَّا فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَذِنَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا بِاللَّيْلِ» ، وَلَا يُقَالُ إنَّهُ رَخَّصَ لَهُمْ ذَلِكَ لِعُذْرٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ مَا كَانَ لَهُمْ عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْتَنِيبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيَأْتِي بِالنَّهَارِ فَيَرْمِي فَثَبَتَ أَنَّ الْإِبَاحَةَ كَانَتْ لِعُذْرٍ فَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا فَلَا يَجِبُ الدَّمُ، فَإِنْ أَخَّرَ الرَّمْيَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي رَمَى، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلتَّأْخِيرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الرَّمْيَ مُؤَقَّتٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِمُؤَقَّتٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ أَنَّهُ مُؤَقَّتٌ بِهَا وُجُوبًا عِنْدَهُ حَتَّى يَجِبَ الدَّمُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْهَا، وَعِنْدَهُمْ لَيْسَ بِمُؤَقَّتٍ أَصْلًا فَلَا يَجِبُ بِالتَّأْخِيرِ شَيْءٌ، وَالْحُجَجُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ تَعَلُّقِهِمَا بِالْخَبَرِ، وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا فِي الطَّوَافِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وَقْتُ الرَّمْيِ مِنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ فَبَعْدَ الزَّوَالِ حَتَّى لَا يَجُوزَ الرَّمْيُ فِيهِمَا قَبْلَ الزَّوَالِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَإِنْ رَمَى قَبْلَهُ جَازَ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ قَبْلَ الزَّوَالِ وَقْتُ

فصل مكان رمي الجمار

الرَّمْيِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ فَكَذَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ أَيَّامُ النَّحْرِ، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَرَمَى فِي بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ الزَّوَالِ» ، وَهَذَا بَابٌ لَا يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِالتَّوْقِيفِ، فَإِنْ أَخَّرَ الرَّمْيَ فِيهِمَا إلَى اللَّيْلِ فَرَمَى قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ وَقْتُ الرَّمْيِ فِي أَيَّامِ الرَّمْيِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ فَإِذَا رَمَى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الزَّوَالِ فَأَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ مِنْ مِنًى إلَى مَكَّةَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَلَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] أَيْ مَنْ نَفَرَ إلَى مَكَّةَ بَعْدَمَا رَمَى يَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَتَرَكَ الرَّمْيَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي تَعْجِيلِهِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَتَعَجَّلَ بَلْ يَتَأَخَّرَ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ مِنْهَا فَيَسْتَوْفِي الرَّمْيَ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا ثُمَّ يَنْفِرُ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ مِنْ النَّفْرِ الثَّانِي، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] ، وَفِي ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ إشْكَالٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ذَكَرَ قَوْله تَعَالَى {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] فِي الْمُتَعَجِّلِ، وَالْمُتَأَخِّرِ جَمِيعًا، وَهَذَا إنْ كَانَ يَسْتَقِيمُ فِي حَقِّ الْمُتَعَجِّلِ؛ لِأَنَّهُ يَتَرَخَّصُ لَا يَسْتَقِيمُ فِي حَقِّ الْمُتَأَخِّرِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ وَالْأَفْضَلِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى فِي الْمُتَأَخِّرِ {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] قَيَّدَهُ بِالتَّقْوَى، وَهَذَا التَّقْيِيدُ بِالْمُتَعَجِّلِ أَلْيَقُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالرُّخْصَةِ، وَلَمْ يَذْكَرْ فِيهِ هَذَا التَّقْيِيدَ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ غُفِرَ لَهُ، وَمَنْ تَأَخَّرَ غُفِرَ لَهُ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] رَجَعَ مَغْفُورًا لَهُ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] فَهُوَ بَيَانُ أَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ وَعْدِ الْمَغْفِرَةِ لِلْمُتَعَجِّلِ وَالْمُتَأَخِّرِ بِشَرْطِ التَّقْوَى، ثُمَّ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مَنْ صَرَفَ التَّقْوَى إلَى الِاتِّقَاءِ عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ أَيْ لِمَنْ اتَّقَى قَتْلَ الصَّيْدِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، وَصَرَفَ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 203] أَيْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَسْتَحِلُّوا قَتْلَ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَرَفَ التَّقْوَى إلَى الِاتِّقَاءِ عَنْ الْمَعَاصِي كُلِّهَا فِي الْحَجِّ، وَفِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّقْوَى عَمَّا حُظِرَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْ الرَّفَثِ، وَالْفُسُوقِ، وَالْجِدَالِ، وَغَيْرِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ النَّفْرُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لَمْ يَجُزْ لَهُ النَّفْرُ. وَأَمَّا وَقْتُ الرَّمْيِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ فَالْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ لَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَلَوْ رَمَى قَبْلَ الزَّوَالِ يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَرَمَى فِي بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ الزَّوَالِ» ، وَأَوْقَاتُ الْمَنَاسِكِ لَا تُعْرَفُ قِيَاسًا فَدَلَّ أَنَّ وَقْتَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَلِأَنَّ هَذَا يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ فَكَانَ وَقْتُ الرَّمْيِ فِيهِ بَعْدَ الزَّوَالِ كَالْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ إذَا اُفْتُتِحَ النَّهَارُ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ جَازَ الرَّمْيُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَهُ سَمَاعًا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ هُوَ بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ، وَالِاجْتِهَادِ فَصَارَ الْيَوْمُ الْأَخِيرُ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَخْصُوصًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهَذَا الْحَدِيثِ أَوْ يُحْمَلُ فِعْلُهُ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَيَتْرُكَ الرَّمْيَ فِي هَذَا الْيَوْمِ رَأْسًا فَإِذَا جَازَ لَهُ تَرْكُ الرَّمْيِ أَصْلًا فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهُ الرَّمْيُ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَكَانُ رَمْيِ الْجِمَارِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَكَانُ الرَّمْيِ فَفِي يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَفِي الْأَيَّامِ الْأُخَرِ عِنْدَ ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْأُولَى، وَالْوُسْطَى، وَالْعَقَبَةِ، وَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَكَانُ وُقُوعِ الْجَمْرَةِ لَا مَكَانُ الرَّمْيِ حَتَّى لَوْ رَمَاهَا مِنْ مَكَان بَعِيدٍ فَوَقَعَتْ الْحَصَاةُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ تَقَعْ عِنْدَهُ لَمْ تُجْزِهَا إلَّا إذَا، وَقَعَتْ بِقُرْبٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ مَا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ كَانَ فِي حُكْمِهِ لِكَوْنِهِ تَبَعًا لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ عَدَدِ الْجِمَارِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي عَدَدِ الْجِمَارِ وَقَدْرِهَا، وَجِنْسِهَا، وَمَأْخَذِهَا، وَمِقْدَارِ مَا يُرْمَى كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ كُلِّ مَوْضِعٍ، وَكَيْفِيَّةِ الرَّمْيِ، وَمَا يُسَنُّ فِي ذَلِكَ، وَمَا يُسْتَحَبُّ، وَمَا يُكْرَهُ فَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَيَانِ سُنَنِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ حُكْمِ رَمْي الْجِمَار إذَا تَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِهِ إذَا تَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِهِ أَوْ فَاتَ فَنَقُولُ: إذَا تَرَكَ مِنْ جِمَارِ يَوْمِ النَّحْرِ حَصَاةً أَوْ حَصَاتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا إلَى الْغَدِ فَإِنَّهُ يَرْمِي مَا تَرَكَ أَوْ يَتَصَدَّقُ لِكُلِّ حَصَاةٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ قَدْرُ الطَّعَامِ دَمًا فَيُنْقِصُ مَا شَاءَ، وَلَا

يَبْلُغُ دَمًا. وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا يَجِبُ فِي جَمِيعِهِ دَمٌ يَجِبُ فِي أَقَلِّهِ صَدَقَةٌ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَهُنَا لَوْ تَرَكَ جَمِيعَ الرَّمْيِ إلَى الْغَدِ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِذَا تَرَكَ أَقَلَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ دَمًا لِمَا نَذْكُرُ، وَإِنْ تَرَكَ الْأَكْثَرَ مِنْهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ فِي جَمِيعِهِ دَمٌ عِنْدَهُ فَكَذَا فِي أَكْثَرِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ فِي جَمِيعِهِ دَمٌ فَكَذَا فِي أَكْثَرِهِ، فَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ أَحَدِ الْجِمَارِ الثَّلَاثِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ أَقَلَّ، وَظِيفَةِ الْيَوْمِ، وَهُوَ رَمْيُ سَبْعِ حَصَيَاتٍ فَكَانَ صَدَقَةً إلَى أَنْ يَصِيرَ الْمَتْرُوكُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْوَظِيفَةِ؛ لِأَنَّ وَظِيفَةَ كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثُ جِمَارٍ فَكَانَ رَمْيُ جَمْرَةٍ مِنْهَا أَقَلَّهَا. وَلَوْ تَرَكَ الْكُلَّ، وَهُوَ الْجِمَارُ الثَّلَاثُ فِيهِ لَلَزِمَهُ عِنْدَهُ دَمٌ فَيَجِبُ فِي أَقَلِّهَا الصَّدَقَةُ بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ إذَا تَرَكَ الْجَمْرَةَ فِيهِ، وَهُوَ سَبْعُ حَصَيَاتٍ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ دَمٌ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ سَبْعَ حَصَيَاتٍ كُلُّ، وَظِيفَةِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَكَانَ تَرْكُهُ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ كُلِّ، وَظِيفَةِ الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ حَصَاةً، وَتَرْكُ ثَلَاثِ حَصَيَاتٍ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ جَمْرَةٍ تَامَّةٍ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَهِيَ سَبْعُ حَصَيَاتٍ، فَإِنْ تَرَكَ الرَّمْيَ كُلَّهُ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ إلَى آخِرِ أَيَّامِ الرَّمْيِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ فَإِنَّهُ يَرْمِيهَا فِيهِ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا دَمَ عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرَّمْيَ مُؤَقَّتٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِمُؤَقَّتٍ ثُمَّ عَلَى قَوْلِهِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا دَمٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُ وَظِيفَةِ يَوْمٍ وَاحِدٍ بِانْفِرَادِهِ يُوجِبُ دَمًا وَاحِدًا، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ الْكُلِّ إلَّا دَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْجِنَايَةِ وَاحِدٌ، حَظْرُهَا إحْرَامٌ وَاحِدٌ مِنْ جِهَةٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمَةٍ فَيَكْفِيهَا دَمٌ وَاحِدٌ كَمَا لَوْ حَلَقَ الْمُحْرِمُ رُبْعَ رَأْسِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ يَلْزَمُهُ دَمٌ وَاحِدٌ أَيْضًا. وَكَذَا لَوْ طَيَّبَ عُضْوًا وَاحِدًا أَوْ طَيَّبَ أَعْضَاءَهُ كُلَّهَا أَوْ لَبِسَ ثَوْبًا وَاحِدًا أَوْ لَبِسَ ثِيَابًا كَثِيرَةً لَا يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا دَمٌ وَاحِدٌ كَذَا هَهُنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ صَيُودًا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ لِكُلِّ صَيْدٍ جَزَاؤُهُ عَلَى حِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْجِهَةَ هُنَاكَ مُتَقَوِّمَةٌ، فَإِنْ تَرَكَ الْكُلَّ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ الرَّمْيِ يَسْقُطُ عَنْهُ الرَّمْيُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. أَمَّا سُقُوطُ الرَّمْيِ فَلِأَنَّ الرَّمْيَ عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ إذَا فَاتَ وَقْتُهَا أَنْ تَسْقُطَ، وَإِنَّمَا الْقَضَاءُ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ يَجِبُ بِدَلِيلٍ مُبْتَدَأٍ، ثُمَّ إنَّمَا وَجَبَ هُنَاكَ لِمَعْنًى لَا يُوجَدُ هَهُنَا، وَهُوَ أَنَّ الْقَضَاءَ صَرَفَ مَا لَهُ إلَى مَا عَلَيْهِ فَيَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ جِنْسُ الْفَائِتِ مَشْرُوعًا فِي وَقْتِ الْقَضَاءِ فَيُمْكِنَهُ صَرْفُ مَا لَهُ إلَى مَا عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الرَّمْيِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ رَمْيٌ مَشْرُوعٌ عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ لِيَصْرِفَ مَا لَهُ إلَى مَا عَلَيْهِ فَتَعَذَّرَ الْقَضَاءُ فَسَقَطَ ضَرُورَةً، وَنَظِيرُ هَذَا إذَا فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا فِي غَيْرِهَا أَنَّهُ يَقْضِيهَا بِلَا تَكْبِيرٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وَقْتِ الْقَضَاءِ تَكْبِيرٌ مَشْرُوعٌ لِيَصْرِفَ مَا لَهُ إلَى مَا عَلَيْهِ فَسَقَطَ أَصْلًا كَذَا هَذَا. وَأَمَّا وُجُوبُ الدَّمِ فَلِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ عَنْ وَقْتِهِ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ رَمْيَ كُلِّ يَوْمٍ مُؤَقَّتٌ، وَعِنْدَهُمَا إنْ لَمْ يَكُنْ مُؤَقَّتًا فَهُوَ مُؤَقَّتٌ بِأَيَّامِ الرَّمْيِ فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ عَنْ وَقْتِهِ فَإِنْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَبَدَأَ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَرَمَاهَا ثُمَّ بِالْوُسْطَى ثُمَّ بِاَلَّتِي تَلِي الْمَسْجِدَ ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي يَوْمِهِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُعِيدَ الْوُسْطَى وَجَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ أَجْزَأَهُ، وَلَا يُعِيدُ الْجَمْرَةَ الْأُولَى، أَمَّا إعَادَةُ الْوُسْطَى وَجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَلِتَرْكِهِ التَّرْتِيبَ، فَإِنَّهُ مَسْنُونٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَتَّبَ فَإِذَا تَرَكَ الْمَسْنُونَ تُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ، وَلَا يُعِيدُ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ إذَا أَعَادَ الْوُسْطَى وَالْعَقَبَةَ صَارَتْ هِيَ الْأُولَى، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ الْوُسْطَى وَالْعَقَبَةَ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الرَّمَيَاتِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ بِدَلِيلِ أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ يُرْمَى فِيهِ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ، وَلَا يُرْمَى غَيْرُهَا مِنْ الْجِمَارِ، وَفِيمَا جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ الْبَعْضُ مِنْ الْبَعْضِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّرْتِيبُ كَالْوُضُوءِ، بِخِلَافِ تَرْتِيبِ السَّعْيِ عَلَى الطَّوَافِ أَنَّهُ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ عَنْ الطَّوَافِ بِحَالٍ، فَإِنْ رَمَى كُلَّ جَمْرَةٍ بِثَلَاثِ حَصَيَاتٍ ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ فَيَرْمِي الْأُولَى بِأَرْبَعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى يُتِمَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَمْيَ تِلْكَ الْجَمْرَةِ غَيْرُ مُرَتَّبٍ عَلَى غَيْرِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ ذَلِكَ بِأَرْبَعِ حَصَيَاتٍ ثُمَّ يُعِيدُ الْوُسْطَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ؛ لِأَنَّ قَدْرَ مَا فَعَلَ حَصَلَ قَبْلَ الْأُولَى فَيُعِيدُ مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ الْكُلَّ يُعِيدُ فَإِذَا رَمَى الثَّلَاثَ أَوْلَى أَنْ يُعِيدَ، وَكَذَلِكَ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ رَمَى كُلَّ وَاحِدَةٍ بِأَرْبَعِ حَصَيَاتٍ فَإِنَّهُ يَرْمِي كُلَّ وَاحِدَةٍ بِثَلَاثٍ، ثَلَاثٌ لِأَنَّ الْأَرْبَعَ أَكْثَرُ الرَّمْيِ فَيَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فَصَارَ كَأَنَّهُ رَتَّبَ الثَّانِيَ

فصل الحلق أو التقصير

عَلَى رَمْيٍ كَامِلٍ. وَكَذَا الثَّالِثُ، وَإِنْ اسْتَقْبَلَ رَمْيَهَا فَهُوَ أَفْضَلُ لِيَكُونَ الرَّمْيُ فِي الثَّلَاثِ الْبَوَاقِي عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ، وَهُوَ التَّرْتِيبُ، وَلَوْ نَقَصَ حَصَاةً لَا يَدْرِي مِنْ أَيَّتِهِنَّ نَقَصَهَا أَعَادَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ حَصَاةً إسْقَاطًا لِلْوَاجِبِ عَنْ نَفْسِهِ بِيَقِينٍ كَمَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَا يَدْرِي أَيَّتَهَا هِيَ: أَنَّهُ يُعِيدُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ لِيَخْرُجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ كَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ] (فَصْلٌ) : ، وَأَمَّا الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي. وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ، وَفِي بَيَانِ زَمَانِهِ، وَمَكَانِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا وُجِدَ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ تَأَخُّرِهِ عَنْ وَقْتِهِ، وَفِعْلِهِ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا إذَا كَانَ عَلَى رَأْسه شَعْرٌ لَا يَتَحَلَّلُ بِدُونِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَيَتَحَلَّلُ مِنْ الْحَجِّ بِالرَّمْيِ، وَمِنْ الْعُمْرَةِ بِالسَّعْيِ، احْتَجَّ عَمَّا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَطَبَ بِعَرَفَةَ، وَعَلَّمَهُمْ أَمْرَ الْحَجِّ فَقَالَ لَهُمْ: إذَا جِئْتُمْ مِنًى فَمَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ مَا حُرِّمَ عَلَى الْحَاجِّ إلَّا النِّسَاءَ، وَالطِّيبَ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ التَّفَثَ حِلَاقُ الشَّعْرِ، وَلُبْسُ الثِّيَابِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ إنَّهُ حَلْقُ الرَّأْسِ، وَقَصُّ الْأَظَافِرِ، وَالشَّارِبِ، وَلِأَنَّ التَّفَثَ فِي اللُّغَةِ الْوَسَخُ يُقَالُ: امْرَأَةٌ تَفِثَةٌ إذَا كَانَتْ خَبِيثَةَ الرَّائِحَةِ وقَوْله تَعَالَى {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: إنَّ قَوْلَهُ لَتَدْخُلُنَّ خَبَرٌ بِصِيغَتِهِ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ أَيْ اُدْخُلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ الدُّخُولِ بِصِفَةِ الْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِير؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ: " آمِنِينَ " أَيْ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَأْمَنُوا تَدْخُلُوا، وَإِنْ شَاءَ لَا تَأْمَنُوا لَا تَدْخُلُونَهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْآيَةُ عَلَى الْإِخْبَارِ وَالْوَعْدِ عَلَى مَا يَقْتَضِيه ظَاهِرُ الصِّيغَةِ فَلَا بُدَّ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُخْبَرُ بِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ، وَهُوَ دُخُولُهُمْ مُحَلِّقِينَ وَمُقَصِّرِينَ، وَذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِاخْتِيَارِهِمْ. وَقَدْ يُوجَدُ وَقَدْ لَا يُوجَدْ فَلَا بُدَّ مِنْ الدُّخُولِ لِيَكُونَ الْوُجُوبُ حَامِلًا لَهُمْ عَلَى التَّحْصِيلِ فَيُوجَدَ الْمُخْبَرُ بِهِ ظَاهِرًا، وَغَالِبًا فَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ عَلَى طَرِيقِ التَّيَمُّنِ وَالتَّبَرُّكِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يَرْجِعُ إلَى دُخُولِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ لِجَوَازِ أَنْ يَمُوتَ الْبَعْضُ أَوْ يُمْنَعَ بِمَانِعٍ فَيُحْمَلَ عَلَيْهِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الْخُلْفِ فِي الْخَبَرِ، وَقَوْلُهُ {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] أَيْ: بَعْضُكُمْ مُحَلِّقِينَ، وَبَعْضُكُمْ مُقَصِّرِينَ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْحَلْقِ، وَالتَّقْصِيرِ فَدَلَّ أَنَّ الْحَلْقَ أَوْ التَّقْصِيرَ، وَاجِبٌ، لَكِنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا، وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ، فَقِيلَ لَهُ: وَالْمُقَصِّرِينَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ، فَقِيلَ لَهُ: وَالْمُقَصِّرِينَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ، وَالْمُقَصِّرِينَ» ، وَلِأَنَّ فِي الْحَلْقِ تَقْصِيرًا وَزِيَادَةً، وَلَا حَلْقَ فِي التَّقْصِيرِ أَصْلًا، فَكَانَ الْحَلْقُ أَفْضَلَ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيُضْمَرُ فِيهِ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ، مَعْنَاهُ فَمَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ، وَحَلَقَ أَوْ قَصَّرَ فَقَدْ حَلَّ، وَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ، هَذَا إذَا كَانَ عَلَى رَأْسِهِ شَعْرٌ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ: أَجَرَى الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ جَاءَ يَوْمَ النَّحْرِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى رَأْسِهِ شَعْرٌ أَجْرَى الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ، وَالْقُدُورِيُّ رَوَاهُ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ تَحْقِيقِ الْحَلْقِ فَلَمْ يَعْجِزْ عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْحَالِقِينَ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» ، فَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ بِالنُّورَةِ أَجْزَأَهُ وَالْمُوسَى أَفْضَلُ، أَمَّا الْجَوَازُ فَلِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ إزَالَةُ الشَّعْرِ. وَأَمَّا أَفْضَلِيَّةُ الْحَلْقِ بِالْمُوسَى فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} [الفتح: 27] وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْحَلْقِ يَقَعُ عَلَى الْحَلْقِ بِالْمُوسَى. وَكَذَا «النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ بِالْمُوسَى، وَكَانَ يَخْتَارُ مِنْ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا» ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُحْصَرًا، فَأَمَّا الْمُحْصَرُ فَلَا حَلْقَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: عَلَيْهِ الْحَلْقُ، وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْإِحْصَارِ. وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَلْقُ، وَالتَّقْصِيرُ فَغَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ مَقَامَ الْحَلْقِ، لَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَعَلَيْهِ الدَّمُ لِغَسْلِ رَأْسِهِ بِالْخِطْمِيِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لَا دَمَ عَلَيْهِ، ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ الْخِلَافَ، وَقَالَ الْجَصَّاصُ: لَا أَعْرِفُ فِيهِ خِلَافًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ أَوْ التَّقْصِيرَ، وَاجِبٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَقَعُ التَّحَلُّلُ إلَّا بِأَحَدِهِمَا، وَلَمْ

فصل مقدار واجب الحلق والتقصير

يُوجَدْ فَكَانَ إحْرَامُهُ بَاقِيًا فَإِذَا غَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ فَقَدْ أَزَالَ التَّفَثَ فِي حَالِ قِيَامِ الْإِحْرَامِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا حَلْقَ عَلَى الْمَرْأَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِنَّ تَقْصِيرٌ» ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى الْمَرْأَةَ أَنْ تَحْلِقَ رَأْسَهَا» ، وَلِأَنَّ الْحَلْقَ فِي النِّسَاءِ مُثْلَةٌ، وَلِهَذَا لَمْ تَفْعَلْهُ وَاحِدَةٌ مِنْ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّهَا تُقَصِّرُ فَتَأْخُذُ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهَا قَدْرَ أُنْمُلَةٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ: كَمْ تُقَصِّرُ الْمَرْأَةُ؟ ، فَقَالَ: مِثْلُ هَذِهِ، وَأَشَارَ إلَى أُنْمُلَتِهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْحَاجِّ إذَا حَلَقَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ لِحْيَتِهِ شَيْئًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا حَلَقَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْ لِحْيَتِهِ شَيْئًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ حَلْقُ الرَّأْسِ بِالنَّصِّ الَّذِي تَلَوْنَا، وَلِأَنَّ حَلْقَ اللِّحْيَةِ مِنْ بَابِ الْمُثْلَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَيَّنَ الرِّجَالَ بِاللِّحَى، وَالنِّسَاءَ بِالذَّوَائِبِ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَائِكَةً تَسْبِيحُهُمْ سُبْحَانَ مَنْ زَيَّنَ الرِّجَالَ بِاللِّحَى، وَالنِّسَاءَ بِالذَّوَائِبِ» ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ تَشَبُّهٌ بِالنَّصَارَى فَيُكْرَهُ. [فَصْلٌ مِقْدَارُ وَاجِبِ الْحَلْق والتقصير] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ، فَأَمَّا الْحَلْقُ فَالْأَفْضَلُ حَلْقُ جَمِيعِ الرَّأْسِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} [الفتح: 27] ، وَالرَّأْسُ اسْمٌ لِلْجَمِيعِ. وَكَذَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ» فَإِنَّهُ رُوِيَ «أَنَّهُ رَمَى ثُمَّ ذَبَحَ ثُمَّ دَعَا بِالْحَلَّاقِ فَأَشَارَ إلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَحَلَقَهُ، وَفَرَّقَ شَعْرَهُ بَيْنَ النَّاسِ ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْأَيْسَرِ فَحَلَقَهُ وَأَعْطَاهُ لِأُمِّ سُلَيْمٍ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَوَّلُ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا الرَّمْيُ ثُمَّ الذَّبْحُ» ثُمَّ الْحَلْقُ وَالْحَلْقُ الْمُطْلَقُ يَقَعُ عَلَى حَلْقِ جَمِيعِ الرَّأْسِ، وَلَوْ حَلَقَ بَعْضَ الرَّأْسِ، فَإِنْ حَلَقَ أَقَلَّ مِنْ الرُّبْعِ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ حَلَقَ رُبْعَ الرَّأْسِ أَجْزَأَهُ، وَيُكْرَهُ. أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ رُبْعَ الرَّأْسِ يَقُومُ مَقَامَ كُلِّهِ فِي الْقُرَبِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرَّأْسِ كَمَسْحِ رُبْعِ الرَّأْسِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ. وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِأَنَّ الْمَسْنُونَ هُوَ حَلْقُ جَمِيعِ الرَّأْسِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَتَرْكُ الْمَسْنُونِ مَكْرُوهٌ، وَأَمَّا التَّقْصِيرُ فَالتَّقْدِيرُ فِيهِ بِالْأُنْمُلَةِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَكِنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّقْصِيرِ عَلَى قَدْرِ الْأُنْمُلَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ أَطْرَافِ جَمِيعِ الشَّعْرِ، وَأَطْرَافُ جَمِيعِ الشَّعْرِ لَا يَتَسَاوَى طُولُهَا عَادَةً بَلْ تَتَفَاوَتُ فَلَوْ قَصَّرَ قَدْرَ الْأُنْمُلَةِ لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا قَدْرَ الْأُنْمُلَةِ مِنْ جَمِيعِ الشَّعْرِ بَلْ مِنْ بَعْضِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ بِاسْتِيفَاءِ قَدْرِ الْوَاجِبِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ. [فَصْلٌ بَيَانُ زَمَانِ وَمَكَانِ الْحَلْق والتقصير] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ زَمَانِهِ، وَمَكَانِهِ فَزَمَانُهُ أَيَّامُ النَّحْرِ، وَمَكَانُهُ الْحَرَمُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ الْحَلْقَ يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ، وَالْمَكَانِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ، وَلَا بِالْمَكَانِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ لَا بِالزَّمَانِ، وَقَالَ زُفَرُ يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ لَا بِالْمَكَانِ حَتَّى لَوْ أَخَّرَ الْحَلْقَ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ أَوْ حَلَقَ خَارِجَ الْحَرَمِ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا دَمَ عَلَيْهِ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ فِي الْمَكَانِ، وَلَا يَجِبُ فِي الزَّمَانِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَجِبُ فِي الزَّمَانِ، وَلَا يَجِبُ فِي الْمَكَانِ احْتَجَّ زُفَرُ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْحَلْقِ» ، وَحُدَيْبِيَةُ مِنْ الْحِلِّ فَلَوْ اخْتَصَّ بِالْمَكَانِ، وَهُوَ الْحَرَمُ لَمَا جَازَ فِي غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا فَعَلَ بِنَفْسِهِ، وَلَمَا أَمَرَ أَصْحَابَهُ فَدَلَّ أَنَّ الْحَلْقَ لَا يَخْتَصُّ جَوَازُهُ بِالْمَكَانِ، وَهُوَ الْحَرَمُ، وَهَذَا أَيْضًا حُجَّةُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَكَانِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فِي أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اذْبَحْ، وَلَا حَرَجَ، وَجَاءَهُ آخَرُ فَقَالَ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، فَقَالَ: ارْمِ، وَلَا حَرَجَ» فَمَا سُئِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَنْ تَقْدِيمِ نُسُكٍ، وَتَأْخِيرِهِ إلَّا قَالَ: افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فِي الْحَرَمِ» فَصَارَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِمُطْلَقِ الْكِتَابِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِهِ دَمٌ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْوَاجِبِ بِمَنْزِلَةِ التَّرْكِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْجَابِرِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْحُدَيْبِيَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ بَعْضُهَا مِنْ الْحِلِّ، وَبَعْضُهَا مِنْ الْحَرَمِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ حَلَقُوا فِي الْحَرَمِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ مَعَ مَا أَنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ نَزَلَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي الْحِلِّ، وَكَانَ يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ» فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَحْلِقْ فِي الْحِلِّ، وَلَهُ سَبِيلُ الْحَلْقِ فِي الْحَرَمِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَنَقُولُ بِمُوجَبِهِ: إنَّهُ لَا حَرَجَ فِي التَّأْخِيرِ عَنْ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَهُوَ الْإِثْمُ لَكِنَّ انْتِفَاءَ الْإِثْمِ لَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْكَفَّارَةِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ عِنْدَ الْأَذَى وَكَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَأِ، وَلَوْ لَمْ يَحْلِقْ حَتَّى خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ ثُمَّ عَادَ إلَى الْحَرَمِ

فصل حكم الحلق

فَحَلَقَ أَوْ قَصَّرَ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْمَكَانَ شَرْطًا. [فَصْلٌ حُكْمُ الْحَلْقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْحَلْقِ فَحُكْمُهُ حُصُولُ التَّحَلُّلِ، وَهُوَ صَيْرُورَتُهُ حَلَالًا يُبَاحُ لَهُ جَمِيعُ مَا حَظَرَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ إلَّا النِّسَاءَ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ مَالِكٌ إلَّا النِّسَاءَ، وَالطِّيبَ، وَقَالَ اللَّيْثُ إلَّا النِّسَاءَ، وَالصَّيْدَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَحِلُّ لَهُ بِالْحَلْقِ الْوَطْءُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَالْمُبَاشَرَةِ، احْتَجَّ مَالِكٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا حَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ، وَالطِّيبَ» ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ رَمَى ثُمَّ ذَبَحَ ثُمَّ حَلَقَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ» ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى الْكُلِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَ أَنَّهُ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَاسْتَثْنَى النِّسَاءَ فَبَقِيَ الطِّيبُ وَالصَّيْدُ دَاخِلَيْنِ تَحْتَ نَصِّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَهُوَ إحْلَالُ مَا سِوَى النِّسَاءِ، وَخَرَجَ الْوَطْءُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَالْمُبَاشَرَةِ عَنْ الْإِحْلَالِ بِنَصِّ الِاسْتِثْنَاءِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ «فَقِيلَ: إنَّهُ لَمَّا بَلَغَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ يَغْفِرُ اللَّهُ لِهَذَا الشَّيْخِ لَقَدْ طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ حَلَقَ» . [فَصْلٌ حُكْمُ تَأْخِيرِ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ عَنْ زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ تَأْخِيرِهِ عَنْ زَمَانِهِ، وَمَكَانِهِ فَوُجُوبُ الدَّمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ خَالَفَهُ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَمُحَمَّدٌ، وَافَقَهُ فِي الْمَكَانِ لَا فِي الزَّمَانِ، وَزُفَرُ، وَافَقَهُ فِي الزَّمَانِ لَا فِي الْمَكَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ طَوَافُ الصَّدْرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا طَوَافُ الصَّدْرِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ. وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِهِ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهِ، وَكَيْفِيَّتِهِ، وَمَا يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِهِ، وَحُكْمِهِ إذَا نَفَرَ وَلَمْ يَطُفْ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَطَوَافُ الصَّدْرِ وَاجِبٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سُنَّةٌ، وَجْهُ قَوْلِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَرْضِ، وَالْوَاجِبِ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا لَكِنَّهُ سُنَّةٌ لِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاهُ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ، وَإِنَّهُ دَلِيلُ السُّنَّةِ، ثُمَّ دَلِيلُ عَدَمِ الْوُجُوبِ أَنَّا أَجْمَعنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ، وَالنُّفَسَاءِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَوَجَبَ عَلَيْهِمَا كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَنَحْنُ نُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَرْضِ، وَالْوَاجِبِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِهِ الطَّوَافَ» ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ إلَّا أَنَّ الْحَائِضَ خُصَّتْ عَنْ هَذَا الْعُمُومِ بِدَلِيلٍ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ تَرْكَ طَوَافِ الصَّدْرِ لِعُذْرِ الْحَيْضِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُنَّ بِإِقَامَةِ شَيْءٍ آخَرَ مَقَامَهُ» ، وَهُوَ الدَّمُ، وَهَذَا أَصْلٌ عِنْدَنَا فِي كُلِّ نُسُكٍ جَازَ تَرْكُهُ لِعُذْرٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ مِنْ الْمَعْذُورِ كَفَّارَةٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ وُجُوبِ طَوَاف الصَّدْر] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُهُ فَبَعْضُهَا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ، وَبَعْضُهَا شَرَائِطُ الْجَوَازِ. أَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ فَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَلَا مَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ إلَى مَكَّةَ طَوَافُ الصَّدْرِ إذَا حَجُّوا؛ لِأَنَّ هَذَا الطَّوَافَ إنَّمَا، وَجَبَ تَوْدِيعًا لِلْبَيْتِ، وَلِهَذَا يُسَمَّى طَوَافَ الْوَدَاعِ، وَيُسَمَّى طَوَافَ الصَّدْرِ لِوُجُودِهِ عِنْدَ صُدُورِ الْحُجَّاجِ وَرُجُوعِهِمْ إلَى وَطَنِهِمْ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُمْ فِي وَطَنِهِمْ، وَأَهْلُ دَاخِلِ الْمَوَاقِيتِ فِي حُكْمِ أَهْلِ مَكَّةَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَطُوفَ الْمَكِّيُّ طَوَافَ الصَّدْرِ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِخَتْمِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ. وَلَوْ نَوَى الْآفَاقِيُّ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ أَبَدًا بِأَنْ تَوَطَّنَ بِهَا، وَاِتَّخَذَهَا دَارًا فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ، وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِهَا قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ النَّفْرُ الْأَوَّلُ، وَإِمَّا أَنْ نَوَى بَعْدَ مَا حَلَّ النَّفْرُ الْأَوَّلُ، فَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ النَّفْرُ الْأَوَّلُ سَقَطَ عَنْهُ طَوَافُ الصَّدْرِ أَيْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ نَوَى بَعْدَ مَا حَلَّ النَّفْرُ الْأَوَّلُ لَا يَسْقُطُ، وَعَلَيْهِ طَوَافُ الصَّدْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا إذَا كَانَ شَرَعَ فِيهِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا نَوَى الْإِقَامَةَ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ طَوَافُ الصَّدْرِ إلَّا إذَا شَرَعَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالشُّرُوعِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهِ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا حَلَّ لَهُ النَّفْرُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الطَّوَافُ لِدُخُولِ وَقْتِهِ إلَّا أَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ كَالْوِتْرِ مَعَ الْعِشَاءِ، فَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تَعْمَلُ، كَمَا إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَمِنْهَا الطَّهَارَةُ مِنْ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ، وَالنُّفَسَاءِ حَتَّى لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الدَّمُ بِالتَّرْكِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ لِلْحُيَّضِ تَرْكَ هَذَا الطَّوَافِ

فصل شرائط جواز طواف الصدر

لَا إلَى بَدَلٍ» فَدَلَّ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِنَّ إذْ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا جَازَ تَرْكُهُ لَا إلَى بَدَلٍ، وَهُوَ الدَّمُ فَأَمَّا الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَدَثِ، وَالْجَنَابَةِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْوُجُوبِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُمَا إزَالَةُ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ جَوَازِ طَوَاف الصَّدْر] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِهِ فَمِنْهَا النِّيَّةُ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ النِّيَّةِ، فَأَمَّا تَعْيِينُ النِّيَّةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ طَافَ بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ لَا يُعَيِّنُ شَيْئًا أَوْ نَوَى تَطَوُّعًا كَانَ لِلصَّدْرِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ تَعَيَّنَ لَهُ فَتَنْصَرِفُ مُطْلَقُ النِّيَّةِ إلَيْهِ كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ حَتَّى إذَا نَفَرَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَطَافَ طَوَافًا لَا يَنْوِي شَيْئًا أَوْ نَوَى تَطَوُّعًا أَوْ الصَّدْرَ: يَقَعُ عَنْ الزِّيَارَةِ لَا عَنْ الصَّدْرِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَهُ طَوَافٌ، وَطَوَافُ الصَّدْرِ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ. فَأَمَّا النَّفْرُ عَلَى فَوْرِ الطَّوَافِ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِهِ حَتَّى لَوْ طَافَ لِلصَّدْرِ ثُمَّ تَشَاغَلَ بِمَكَّةَ بَعْدَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ طَوَافٌ آخَرُ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلِيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِهِ الطَّوَافَ» فَقَدْ أَمَرَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، وَلَمَّا تَشَاغَلَ بَعْدَهُ لَمْ يَقَعْ الطَّوَافُ آخِرَ عَهْدِهِ بِهِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ إذْ لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ نُسُكًا لَا إقَامَةً، وَالطَّوَافُ آخِرُ مَنَاسِكِهِ بِالْبَيْتِ، وَإِنْ تَشَاغَلَ بِغَيْرِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ إذَا طَافَ لِلصَّدْرِ ثُمَّ أَقَامَ إلَى الْعِشَاءِ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَطُوفَ طَوَافًا آخَرَ لِئَلَّا يَحُولَ بَيْنَ طَوَافِهِ وَبَيْنَ نَفْرِهِ حَائِلٌ. وَكَذَا الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِهِ فَيَجُوزُ طَوَافُهُ إذَا كَانَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا وَيُعْتَدُّ بِهِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ طَاهِرًا، فَإِنْ لَمْ يُعِدْ جَازَ، وَعَلَيْهِ شَاةٌ إنْ كَانَ جُنُبًا؛ لِأَنَّ النَّقْصَ كَثِيرٌ فَيُجْبَرُ بِالشَّاةِ كَمَا لَوْ تَرَكَ أَكْثَرَ الْأَشْوَاطِ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: فِي رِوَايَةٍ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ يَسِيرٌ فَصَارَ كَشَوْطٍ أَوْ شَوْطَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَلَيْهِ شَاةٌ؛ لِأَنَّهُ طَوَافٌ وَاجِبٌ فَأَشْبَهَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ، وَكَذَا سَتْرُ عَوْرَتِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْجَوَازِ حَتَّى لَوْ طَافَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ قَدْرَ مَا لَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ جَازَ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ. وَكَذَا الطَّهَارَةُ عَنْ النَّجَاسَةِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالْفَرْقُ مَا ذَكَرْنَا فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ قَدْرُ وَكَيْفِيَّةُ طَوَاف الصَّدْر] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا قَدْرُهُ، وَكَيْفِيَّتُهُ فَمِثْلُ سَائِرِ الْأَطْوِفَةِ، وَنَذْكُرُ السُّنَنَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهِ فِي بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ وَقْتُ طَوَاف الصَّدْر] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وَقْتُهُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ إذَا أَرَادَ السَّفَرَ أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الصَّدْرِ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يَنْفِرَ، وَهَذَا بَيَانُ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ لَا بَيَانُ أَصْلِ الْوَقْتِ، وَيَجُوزُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، وَبَعْدَهَا، وَيَكُونُ أَدَاءً لَا قَضَاءً حَتَّى لَوْ طَافَ طَوَافَ الصَّدْرِ ثُمَّ أَطَالَ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ، وَلَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ بِهَا، وَلَمْ يَتَّخِذْهَا دَارًا جَازَ طَوَافُهُ، وَإِنْ أَقَامَ سَنَةً بَعْدَ الطَّوَافِ إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ طَوَافُهُ عِنْدَ الصَّدْرِ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ بِالْإِجْمَاعِ. [فَصْلٌ مَكَانُ طَوَاف الصَّدْر] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَكَانُهُ فَحَوْلَ الْبَيْتِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرَ عَهْدِهِ بِهِ الطَّوَافُ» ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ هُوَ الطَّوَافُ حَوْلَهُ، فَإِنْ نَفَرَ وَلَمْ يَطُفْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ، وَيَطُوفَ مَا لَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ طَوَافًا وَاجِبًا، وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى تَجْدِيدِ الْإِحْرَامِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ، وَيَأْتِيَ بِهِ، وَإِنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلَّا بِالْتِزَامِ عُمْرَةٍ بِالْتِزَامِ إحْرَامِهَا ثُمَّ إذَا أَرَادَ أَنْ يَمْضِيَ مَضَى، وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ رَجَعَ، وَإِذَا رَجَعَ يَبْتَدِئُ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ بِطَوَافِ الصَّدْرِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِهِ عَنْ مَكَانِهِ، وَقَالُوا الْأَوْلَى أَنْ لَا يَرْجِعَ، وَيُرِيقُ دَمًا مَكَانَ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ، وَأَيْسَرُ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ، وَضَرَرِ الْتِزَامِ الْإِحْرَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ سُنَنِ الْحَجِّ وَبَيَانُ التَّرْتِيبِ فِي أَفْعَالِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ سُنَنِ الْحَجِّ وَبَيَانُ التَّرْتِيبِ فِي أَفْعَالِهِ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ اغْتَسَلَ أَوْ تَوَضَّأَ، وَالْغُسْلُ أَفْضَلُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَلَغَ ذَا الْحُلَيْفَةِ اغْتَسَلَ لِإِحْرَامِهِ» ، وَسَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً، وَالْمَرْأَةُ طَاهِرَةٌ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أَوْ حَائِضٌ أَوْ نُفَسَاءُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إقَامَةِ هَذِهِ السُّنَّةِ النَّظَافَةُ فَيَسْتَوِي فِيهَا الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، وَحَالُ طُهْرِ الْمَرْأَةِ، وَحَيْضُهَا، وَنِفَاسُهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَزَلَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فِي بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ أَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ

لَهُ: إنَّ أَسْمَاءَ قَدْ نَفِسَتْ، وَكَانَتْ، وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْهَا فَلْتَغْتَسِلْ، وَلْتُحْرِمْ بِالْحَجِّ» . وَكَذَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حَاضَتْ فَأَمَرَهَا بِالِاغْتِسَالِ وَالْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ، وَالْأَمْرُ بِالِاغْتِسَالِ فِي الْحَدِيثَيْنِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّ الِاغْتِسَالَ عَنْ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ لَا يَجِبُ حَالَ قِيَامِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَإِنَّمَا كَانَ الِاغْتِسَالُ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَارَهُ عَلَى الْوُضُوءِ لِإِحْرَامِهِ، وَكَانَ يَخْتَارُ مِنْ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا. وَكَذَا أَمَرَ بِهِ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلِأَنَّ مَعْنَى النَّظَافَةِ فِيهِ أَتَمُّ وَأَوْفَرُ. ، وَيَلْبَسُ ثَوْبَيْنِ إزَارًا، وَرِدَاءً؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِسَ ثَوْبَيْنِ إزَارًا، وَرِدَاءً، وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ لُبْسِ الْمِخْيَطِ، وَلَا بُدَّ مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَمَا يُتَّقَى بِهِ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَحْصُلُ بِإِزَارٍ وَرِدَاءٍ جَدِيدَيْنِ كَانَا أَوْ غَسِيلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِكُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ الْجَدِيدَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَنْظَفُ، وَيَنْبَغِي لِوَلِيِّ مَنْ أَحْرَمَ مِنْ الصِّبْيَانِ الْعُقَلَاءِ أَنْ يُجَرِّدَهُ، وَيُلْبِسَهُ ثَوْبَيْنِ إزَارًا وَرِدَاءً؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ فِي مُرَاعَاةِ السُّنَنِ كَالْبَالِغِ. ، وَيَدْهُنُ بِأَيِّ دُهْنٍ شَاءَ، وَيَتَطَيَّبُ بِأَيِّ طِيبٍ شَاءَ سَوَاءٌ كَانَ طِيبًا تَبْقَى عَيْنُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ أَوْ لَا تَبْقَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَوَّلًا، ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ: يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَتَطَيَّبَ بِطِيبٍ تَبْقَى عَيْنُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ. وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي سَبَبِ رُجُوعِهِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ لَا أَرَى بِهِ بَأْسًا حَتَّى رَأَيْتُ قَوْمًا أَحْضَرُوا طِيبًا كَثِيرًا، وَرَأَيْتُ أَمْرًا شَنِيعًا فَكَرِهْتُهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، احْتَجَّ مُحَمَّدٌ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: اغْسِلْ عَنْكَ هَذَا الْخَلُوفَ» . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَرِهَا ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ عَيْنُهُ يَنْتَقِلُ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي طَيَّبَهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ طَيَّبَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ «طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِحْرَامِهِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِإِحْلَالِهِ حِينَ أَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ وَبِيصَ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ إحْرَامِهِ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَبِيصَ الطِّيبِ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ فَدَلَّ أَنَّ الطِّيبَ كَانَ بِحَيْثُ تَبْقَى عَيْنُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّ التَّطَيُّبَ بَعْدُ حَصَلَ مُبَاحًا فِي الِابْتِدَاءِ لِحُصُولِهِ فِي غَيْرِ حَالِ الْإِحْرَامِ، وَالْبَقَاءُ عَلَى التَّطَيُّبِ لَا يُسَمَّى تَطَيُّبًا فَلَا يُكْرَهُ كَمَا إذَا حَلَقَ رَأْسَهُ ثُمَّ أَحْرَمَ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ مُزَعْفَرٌ، وَالرَّجُلُ يُمْنَعُ مِنْ الْمُزَعْفَرِ فِي غَيْرِ حَالِ الْإِحْرَامِ فَفِي حَالِ الْإِحْرَامِ أَوْلَى، حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِخِلَافِهِ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِمَا، وَمَا ذُكِرَ مِنْ مَعْنَى الِانْتِقَالِ إلَى مَكَان آخَرَ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَهُ يُوجِبُ الْجَزَاءَ لَوْ انْتَقَلَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ. وَلَوْ ابْتَدَأَ الطِّيبَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فَكَفَّرَ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ هَلْ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى بِبَقَاءِ الطِّيبِ عَلَيْهِ، اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِحْرَامِ كَانَ مَحْظُورًا لِوُجُودِهِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ فَكَذَا الْبَقَاءُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ، وَالْبَقَاءُ عَلَى الطِّيبِ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي، وَأَنَا بِالْعَقِيقِ، وَقَالَ لِي: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ، وَقُلْ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ» ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَارِنًا ثُمَّ يَنْوِي الْإِحْرَامَ. ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ مَا نَوَى بِقَلْبِهِ فَيَقُولَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي، وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَيَسِّرْهَا لِي، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي، وَإِذَا أَرَادَ الْقِرَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، وَالْحَجَّ فَيَسِّرْهُمَا لِي، وَتَقَبَّلْهُمَا مِنِّي؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ فِيهَا كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ فَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ بِالتَّيْسِيرِ، وَالتَّسْهِيلِ، وَبِالْقَبُولِ بَعْدَ التَّحْصِيلِ إذْ لَا كُلُّ عِبَادَةٍ تُقْبَلُ. أَلَا تَرَى أَنَّ إبْرَاهِيمَ، وَإِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا بَنَيَا الْبَيْتَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَا بِبِنَائِهِ سَأَلَا رَبَّهُمَا قَبُولَ مَا فَعَلَا، فَقَالَا: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَذْكُرَ الْحَجَّ، وَالْعُمْرَةَ أَوْ هُمَا فِي إهْلَالِهِ، وَيُقَدِّمُ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ فِي الذِّكْرِ إذَا أَهَلَّ بِهِمَا، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي، وَأَنَا بِالْعَقِيقِ فَقَالَ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ، وَقُلْ لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ» ، وَإِنَّمَا يُقَدِّمُ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ فِي الذِّكْرِ

لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِرَ أَنْ يَقُولَ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ تُقَدَّمُ عَلَى الْحَجِّ فِي الْفِعْلِ فَكَذَا فِي الذِّكْرِ. ثُمَّ يُلَبِّي فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَهُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْأَفْضَلُ أَنْ يُلَبِّيَ بَعْدَ مَا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ بَعْدَ مَا اسْتَوَى عَلَى الْبَيْدَاءِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِي أَوَّلِ تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ لَبَّى دُبُرَ صَلَاتِهِ» . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ لَبَّى حِينَ مَا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ» . وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبَّى حِينَ اسْتَوَى عَلَى الْبَيْدَاءِ» ، وَأَصْحَابُنَا أَخَذُوا بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهَا مُحْكَمَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَوَّلِيَّةِ، وَرِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مُحْتَمَلَةٌ لِجَوَازِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَشْهَدْ تَلْبِيَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُبُرَ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا شَهِدَ تَلْبِيَتَهُ حَالَ اسْتِوَائِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ تَلْبِيَتِهِ فَرَوَى مَا رَأَى، وَجَابِرٌ لَمْ يَرَ تَلْبِيَتَهُ إلَّا عِنْدَ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ فَظَنَّ أَنَّهُ أَوَّلُ تَلْبِيَتِهِ فَرَوَى مَا رَأَى. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إهْلَالِهِ؟ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ، صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَأَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَكَانَتْ نَاقَتُهُ مُسَرَّجَةً عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَابْنُ عُمَرَ عِنْدَهَا فَرَآهُ قَوْمٌ فَقَالُوا: أَهَلَّ عَقِيبَ الصَّلَاةِ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَأَهَلَّ فَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ أَرْسَالًا فَأَدْرَكَهُ قَوْمٌ، فَقَالُوا: إنَّمَا أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ ثُمَّ ارْتَفَعَ عَلَى الْبَيْدَاءِ فَأَهَلَّ فَأَدْرَكَهُ قَوْمٌ فَقَالُوا إنَّمَا أَهَلَّ حِينَ ارْتَفَعَ عَلَى الْبَيْدَاءِ، وَأَيْمُ اللَّهِ لَقَدْ أَوْجَبَهُ فِي مُصَلَّاهُ، وَيُكْثِرُ التَّلْبِيَةَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ فَرَائِضَ كَانَتْ أَوْ نَوَافِلَ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يُكْثِرُ فِي أَدْبَارِ الْمَكْتُوبَاتِ دُونَ النَّوَافِلِ وَالْفَوَائِتِ، وَأَجْرَاهَا مَجْرَى التَّكْبِيرِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَالْمَذْكُورُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ عَامًّا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وَلِأَنَّ فَضِيلَةَ التَّلْبِيَةِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ لِاتِّصَالِهَا بِالصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إذْ الصَّلَاةُ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا يُوجَدُ فِي التَّلْبِيَةِ عَقِيبَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَكُلَّمَا عَلَا شَرَفًا، وَكُلَّمَا هَبَطَ وَادِيًا، وَكُلَّمَا لَقِيَ رَكْبًا، وَكُلَّمَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ، وَبِالْأَسْحَارِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ، وَالثَّجُّ» ، وَالْعَجُّ هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَالثَّجُّ هُوَ سَيَلَانُ الدَّمِ، وَعَنْ خَلَّادِ بْنِ السَّائِبِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَتَانِي جِبْرِيلُ، وَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي، وَمَنْ مَعِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ فَإِنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ» أَمَرَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ فِي التَّلْبِيَةِ، وَأَشَارَ إلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ، وَالسَّبِيلُ فِي أَذْكَارٍ هِيَ مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ إشْهَارُهَا، وَإِظْهَارُهَا كَالْأَذَانِ وَنَحْوِهِ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَأْتِيَ بِتَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهِيَ أَنْ يَقُولَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ، وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَك كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالسُّنَّةُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ شَيْئًا مِنْهَا، وَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا كَمَا لَا يَنْقُصُ مِنْهَا، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَقَصَ مِنْهَا لَتَرَكَ شَيْئًا مِنْ السُّنَّةِ، وَلَوْ زَادَ عَلَيْهَا فَقَدْ أَتَى بِالسُّنَّةِ، وَزِيَادَةٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَزِيدُونَ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَزِيدُ: لَبَّيْكَ عَدَدَ التُّرَابِ، لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ، لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ إلَهَ الْحَقِّ لَبَّيْكَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَزِيدُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكَ، لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إلَيْك، وَيُرْوَى: وَالْعَمَلُ وَالرَْغْبَاءُ إلَيْكَ، وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْحَمْدِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ تَكُونُ مُسْتَحَبَّةً لَا مَكْرُوهَةً، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ، وَالنِّعْمَةَ لَكَ. وَرُوِيَتْ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ، وَالْكَسْرُ أَصَحُّ، وَهَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَقُولَ بِالْكَسْرِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْفَتْحِ فِيهَا يَكُونُ عَلَى التَّفْسِيرِ أَوْ التَّعْلِيلِ، أَيْ أُلَبِّي بِأَنَّ الْحَمْدَ لَكَ أَوْ أُلَبِّي لِأَنَّ الْحَمْدَ لَكَ، أَيْ لِأَجْلِ أَنَّ الْحَمْدَ لَكَ، وَإِذَا كَسَرْتَهَا صَارَ مَا بَعْدَهَا ثَنَاءً وَذِكْرًا، مُبْتَدَأً لَا تَفْسِيرًا، وَلَا تَعْلِيلًا، فَكَانَ أَبْلَغَ فِي الذِّكْرِ، وَالثَّنَاءِ فَكَانَ أَفْضَلَ. وَإِذَا قَدِمَ مَكَّةَ فَلَا يَضُرُّهُ، لَيْلًا دَخَلَهَا أَوْ نَهَارًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَهَا نَهَارًا. وَرُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَهَا لَيْلًا. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا دَخَلَتْهَا لَيْلًا. وَرُوِيَ أَنَّ

الْحَسَنَ، وَالْحُسَيْنَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - دَخَلَاهَا لَيْلًا، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ لَيْلًا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى نَهْيِ الشَّفَقَةِ مَخَافَةَ السَّرِقَةِ كَذَا أَوَّلَهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ، وَلِأَنَّهُ إذَا دَخَلَ لَيْلًا لَا يَعْرِفُ مَوْضِعَ النُّزُولِ فَلَا يَدْرِي أَيْنَ يَنْزِلُ، وَرُبَّمَا نَزَلَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ النُّزُولِ فَيَتَأَذَّى بِهِ، وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتَكَ، وَأَعِذْنِي مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَإِذَا، وَقَعَ نَظَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ يَقُولُ وَيُخْفِي: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا بَيْتُكَ، عَظَّمْتَهُ وَشَرَّفْتَهُ وَكَرَّمْتَهُ فَزِدْهُ تَعْظِيمًا وَتَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا، وَيَبْدَأُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَإِذَا اسْتَقْبَلَهُ كَبَّرَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ كَمَا يَرْفَعُهُمَا فِي الصَّلَاةِ، لَكِنْ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ بَدَأَ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَقْبَلَهُ، وَكَبَّرَ، وَهَلَّلَ» ، وَرَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ قَالَ «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ، وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا عِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ» ثُمَّ يُرْسِلُهُمَا، وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذِيَ أَحَدًا، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُقَبِّلَهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْتَزَمَهُ وَقَبَّلَهُ، وَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِك حَفِيًّا» وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ «إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، قَالَ: «لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَلِمُكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ ثُمَّ اسْتَلَمَهُ» ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَقْبَلَ الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ فَبَكَى طَوِيلًا ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُكَ تَبْكِي فَبَكَيْتُ لِبُكَائِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ» ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: «طَافَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ ثُمَّ يَرُدُّهُ إلَى فِيهِ» ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَيُبْعَثَنَّ الْحَجَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَأُذُنَانِ يَسْمَعُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ فَيَشْهَدُ لِمَنْ اسْتَلَمَهُ بِالْحَقِّ» . وَرُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَسْتَلِمُونَ الْحَجَرَ ثُمَّ يُقَبِّلُونَهُ فَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذِيَ أَحَدًا لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ يَا أَبَا حَفْصٍ إنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ، وَإِنَّكَ تُؤْذِي الضَّعِيفَ فَإِذَا وَجَدْتَ مَسْلَكًا فَاسْتَلِمْ، وَإِلَّا فَدَعْ وَكَبِّرْ وَهَلِّلْ» ، وَلِأَنَّ الِاسْتِلَامَ سُنَّةٌ، وَإِيذَاءُ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، وَتَرْكُ الْحَرَامِ أَوْلَى مِنْ الْإِتْيَانِ بِالسُّنَّةِ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذِيَ اسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَصْحَابِنَا فِيهِ دُعَاءٌ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الدَّعَوَاتِ لَا تُحْصَى، وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إذَا أَتَيْتَ الرُّكْنَ فَقُلْ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ إجَابَةَ دَعْوَتِكَ، وَابْتِغَاءَ رِضْوَانِكَ، وَاتِّبَاعَ سُنَّةِ نَبِيُّكَ، وَعَنْ عَطَاءٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا مَرَّ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ قَالَ أَعُوذُ بِرَبِّ هَذَا الْحَجَرِ مِنْ الدَّيْنِ وَالْفَقْرِ وَضِيقِ الصَّدْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ» ، وَلَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ، وَيَقْطَعُهَا فِي الْعُمْرَةِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ يَفْتَتِحُ الطَّوَافَ، وَهَذَا الطَّوَافُ يُسَمَّى طَوَافَ اللِّقَاءِ وَطَوَافَ التَّحِيَّةِ، وَطَوَافَ أَوَّلِ عَهْدٍ بِالْبَيْتِ، وَإِنَّهُ سُنَّةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ إنَّهُ فَرْضٌ، وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَدَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ وَالْفَرْضِيَّةِ، وَلَنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ كَانَ رُكْنًا لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَرْكَانَ لَا تَخْتَلِفُ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ، كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ دَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ. وَالْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ لِإِجْمَاعِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، وَلِأَنَّهُ خَاطَبَ الْكُلَّ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ هُوَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْكُلِّ، فَأَمَّا طَوَافُ اللِّقَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ. وَكَذَا سِيَاقُ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَنَا بِذَبْحِ الْهَدَايَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] ، وَأَمَرَ بِقَضَاءِ التَّفَثِ، وَهُوَ الْحَلْقُ، وَالطَّوَافَ بِالْبَيْتِ عَقِيبَ ذَبْحِ الْهَدْيِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ " ثُمَّ " لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّعْقِيبِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْحَلْقُ وَالطَّوَافُ مُرَتَّبَيْنِ عَلَى الذَّبْحِ، وَالذَّبْحُ يَخْتَصُّ بِأَيَّامِ النَّحْرِ، لَا يَجُوزُ قَبْلَهَا فَكَذَا الْحَلْقُ، وَالطَّوَافُ، وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، فَأَمَّا طَوَافُ اللِّقَاءِ فَإِنَّهُ يَكُونُ سَابِقًا عَلَى أَيَّامِ

النَّحْرِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَبِهِ نَقُولُ: إنَّهُ رُكْنٌ، وَإِذَا افْتَتَحَ الطَّوَافَ يَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ مِمَّا يَلِي الْبَابَ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَرْمُلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، وَيَمْشِي عَلَى هَيْئَتِهِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ ثُمَّ أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ مِمَّا يَلِي الْبَابَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ» . وَأَمَّا الرَّمَلُ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ فَمِنْ سُنَنِهِ الِاضْطِبَاعُ وَالرَّمَلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَشْوَاطِ الْأُوَلِ مِنْهُ، وَكُلُّ طَوَافٍ لَيْسَ بَعْدَهُ سَعْيٌ فَلَا رَمَلَ فِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ الرَّمَلَ فِي الطَّوَافِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا رَمَلَ، وَنَدَّبَ أَصْحَابَهُ إلَيْهِ لِإِظْهَارِ الْجَلَدِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَإِبْدَاءِ الْقُوَّةِ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ، وَكُفَّارُ قُرَيْشٍ قَدْ صُفَّتْ عِنْدَ دَارِ النَّدْوَةِ يَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ وَيَسْتَضْعِفُونَهُمْ وَيَقُولُونَ: أَوْهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْجِدَ اضْطَبَعَ بِرِدَائِهِ، وَرَمَلَ ثُمَّ قَالَ رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَبْدَى مِنْ نَفْسِهِ جَلَدًا» . وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَرَاهُمْ الْيَوْمَ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً» ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى قَدْ زَالَ فَلَمْ يَبْقَ الرَّمَلُ سُنَّةً، لَكِنَّا نَقُولُ: الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لَا تَكَادُ تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَلَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ خَبَّ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا» . وَكَذَا أَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - بَعْدَهُ رَمَلُوا. وَكَذَا الْمُسْلِمُونَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَصَارَ الرَّمَلُ سُنَّةً مُتَوَاتِرَةً، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ أَوَّلَ الرَّمَلِ كَانَ لِذَلِكَ السَّبَبِ، وَهُوَ إظْهَارُ الْجَلَادَةِ، وَإِبْدَاءُ الْقُوَّةِ لِلْكَفَرَةِ، ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ السَّبَبُ وَبَقِيَتْ سُنَّةُ الرَّمَلِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ بَقَاءَ السَّبَبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ الْحُكْمِ كَالْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ، وَغَيْرِهِمَا، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ لَمَّا رَمَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ زَوَالِ ذَلِكَ السَّبَبِ صَارَ الرَّمَلُ سُنَّةً مُبْتَدَأَةً فَنَتَّبِعُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا نَعْقِلُ مَعْنَاهُ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ رَمَلَ فِي الطَّوَافِ، وَقَالَ: مَا لِي أَهُزُّ كَتِفِي، وَلَيْسَ هَهُنَا أَحَدٌ رَأَيْتُهُ، لَكِنْ أَتَّبِعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَالَ: لَكِنْ أَفْعَلُ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَرْمُلُ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَطَاوُسٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - لَا يَرْمُلُ بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، وَبَيْنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَإِنَّمَا يَرْمُلُ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الرَّمَلَ فِي الْأَصْلِ كَانَ لِإِظْهَارِ الْجَلَادَةِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَالْمُشْرِكُونَ إنَّمَا كَانُوا يَطَّلِعُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ. فَإِذَا صَارُوا إلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَيْهِمْ لِصَيْرُورَةِ الْبَيْتِ حَائِلًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَلَ ثَلَاثًا مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ، وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ أَنَّ الرَّمَلَ كَانَ لِإِظْهَارِ الْقُوَّةِ وَالْجَلَادَةِ، إنَّ الرَّمَلَ الْأَوَّلَ كَانَ لِذَلِكَ. وَقَدْ زَالَ وَبَقِيَ حُكْمُهُ أَوْ صَارَ الرَّمَلُ بَعْدَ ذَلِكَ سُنَّةً مُبْتَدَأَةً لَا لِمَا شُرِعَ لَهُ الْأَوَّلُ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ لَا نَعْقِلُهُ. وَأَمَّا الِاضْطِبَاعُ فَلِمَا رَوَيْنَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْمُلُ مُضْطَبِعًا بِرِدَائِهِ» ، وَتَفْسِيرُ الِاضْطِبَاعِ بِالرِّدَاءِ هُوَ أَنْ يُدْخِلَ الرِّدَاءَ مِنْ تَحْتِ إبْطِهِ الْأَيْمَنِ، وَيَرُدَّ طَرَفَهُ عَلَى يَسَارِهِ، وَيُبْدِيَ مَنْكِبَهُ الْأَيْمَنَ، وَيُغَطِّيَ الْأَيْسَرَ، سُمِّيَ اضْطِبَاعًا لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّبُعِ، وَهُوَ الْعَضُدُ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْدَاءِ الضَّبْعَيْنِ، وَهُمَا الْعَضُدَانِ، فَإِنْ زُوحِمَ فِي الرَّمَلِ وَقَفَ فَإِذَا، وَجْدَ فُرْجَةً رَمَلَ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ فِعْلِهِ إلَّا عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ فَيَقِفُ إلَى أَنْ يُمْكِنَهُ فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ، وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ فِي كُلِّ شَوْطٍ يَفْتَتِحُ بِهِ إنْ اسْتَطَاعَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذِيَ أَحَدًا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ كُلَّمَا مَرَّ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ اسْتَلَمَهُ» ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَوْطٍ طَوَافٌ عَلَى حِدَةٍ فَكَانَ اسْتِلَامُ الْحَجَرِ فِيهِ مَسْنُونًا كَالشَّوْطِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ اسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ. وَأَمَّا الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ فَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ أَنَّ اسْتِلَامَهُ سُنَّةٌ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: إنْ اسْتَلَمَهُ فَحَسَنٌ، وَإِنْ تَرَكَهُ لَمْ يَضُرَّهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسْتَلِمُهُ وَلَا يَتْرُكُهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِلَامَهُ سُنَّةٌ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ تَقْبِيلَهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَسْتَلِمُهُ، وَيُقَبِّلُ يَدَهُ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ، وَلَا يَتَسَلَّمُ غَيْرَهُمَا» ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ، وَيَضَعُ خَدَّهُ عَلَيْهِ» ، وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ بِمَسْنُونٍ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ تَقْبِيلُهُ، وَلَوْ كَانَ مَسْنُونًا لَسُنَّ تَقْبِيلُهُ كَالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ، وَلَمْ يُقَبِّلْهُ» ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ. وَأَمَّا الرُّكْنَانِ الْآخَرَانِ، وَهُمَا الْعِرَاقِيُّ، وَالشَّامِيُّ فَلَا يَسْتَلِمُهُمَا عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَهُوَ قَوْلُنَا، وَعَنْ مُعَاوِيَةَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَسُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ الْأَرْبَعَةَ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ رَأَى مُعَاوِيَةَ، وَسُوَيْدًا اسْتَلَمَا جَمِيعَ الْأَرْكَانِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمُعَاوِيَةَ: إنَّمَا يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْبَيْتِ مَهْجُورًا، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِلَامَ إنَّمَا عُرِفَ سُنَّةً بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا اسْتَلَمَ غَيْرَ الرُّكْنَيْنِ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ، وَلَا يَسْتَلِمُ غَيْرَهُمَا» ، وَلِأَنَّ الِاسْتِلَامَ لِأَرْكَانِ الْبَيْتِ، وَالرُّكْنُ الشَّامِيُّ وَالْعِرَاقِيُّ لَيْسَا مِنْ الْأَرْكَانِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ رُكْنَ الشَّيْءِ نَاحِيَتُهُ، وَهُمَا فِي، وَسَطِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ، وَجُعِلَ طَوَافُهُ مِنْ وَرَاءِ الْحَطِيمِ، فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ طَوَافُهُ مِنْ، وَرَائِهِ لَصَارَ تَارِكًا الطَّوَافَ بِبَعْضِ الْبَيْتِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الطَّوَافِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْمَقَامِ أَوْ حَيْثُ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَرَكْعَتَا الطَّوَافِ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سُنَّةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْوَاجِبَ إلَّا الْفَرْضَ، وَلَيْسَتَا بِفَرْضٍ. وَقَدْ وَاظَبَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَتَا سُنَّةً، وَنَحْنُ نُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ، وَنَقُولُ الْفَرْضُ مَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَالْوَاجِبُ مَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِدَلِيلٍ غَيْرِ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: إنَّ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ مَا ظَهَرَ فِيهِ آثَارُ قَدَمَيْهِ الشَّرِيفَيْنِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ حِجَارَةٌ كَانَ يَقُومُ عَلَيْهَا حِينَ نُزُولِهِ وَرُكُوبِهِ مِنْ الْإِبِلِ حِينَ كَانَ يَأْتِي إلَى زِيَارَةِ هَاجَرَ، وَوَلَدِهِ إسْمَاعِيلَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاِتِّخَاذِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مُصَلًّى يُصَلِّي عِنْدَهُ صَلَاةَ الطَّوَافِ مُسْتَقْبِلًا الْكَعْبَةَ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَامَ إلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ لِيُصَلِّيَ، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أَلَا نَتَّخِذُ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] » ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ. وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ الطَّوَافِ أَتَى الْمَقَامَ، وَصَلَّى عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] » وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ نَسِيَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فَقَضَاهُمَا بِذِي طُوًى فَدَلَّ أَنَّهَا، وَاجِبَةٌ. ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَيَسْتَلِمُهُ لِيَكُونَ افْتِتَاحُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ كَمَا يَكُونُ افْتِتَاحُ الطَّوَافِ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ فَإِنَّهُ يَعُودُ بَعْدَ الصَّلَاةِ إلَى الْحَجَرِ وَكُلُّ طَوَافٍ لَا سَعْيَ بَعْدَهُ لَا يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ لَا يَعُودُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ سَعْيٌ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعُودُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ، وَقَرَأَ فِيهِمَا آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَرَأَ فِيهِمَا {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ يُسْمِعُ النَّاسَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ» ، وَلِأَنَّ السَّعْيَ مُرَتَّبٌ عَلَى الطَّوَافِ لَا يَجُوزُ قَبْلَهُ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ الطَّوَافِ، وَبَيْنَ السَّعْيِ فَصَارَ كَبَعْضِ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ، وَالِاسْتِلَامُ بَيْنَ كُلِّ شَوْطَيْنِ سُنَّةٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي طَوَافٍ لَا يَكُونُ بَعْدَهُ سَعْيٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ سَعْيٌ لَا يُوجَدُ الْمُلْحَقُ لَهُ بِالْأَشْوَاطِ فَلَا يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّفَا لِمَا رَوَى جَابِرٌ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، وَخَرَجَ إلَى الصَّفَا، فَقَالَ: نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] » ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ بَابٍ يَخْرُجُ: مِنْ بَابِ الصَّفَا، أَوْ مِنْ حَيْثُ تَيَسَّرَ لَهُ، وَمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا» فَذَلِكَ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا خَرَجَ مِنْهُ لِقُرْبِهِ مِنْ الصَّفَا أَوْ لِأَمْرٍ آخَرَ، وَيَصْعَدُ عَلَى الصَّفَا إلَى حَيْثُ يَرَى الْكَعْبَةَ فَيُحَوِّلُ وَجْهَهُ إلَيْهَا وَيُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى بِحَوَائِجِهِ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَجْعَلُ بُطُونَ كَفَّيْهِ إلَى السَّمَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَقَى عَلَى الصَّفَا حَتَّى بَدَا لَهُ الْبَيْتُ ثُمَّ كَبَّرَ ثَلَاثًا، وَقَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَنْجَزَ وَعَدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، وَجَعَلَ يَدْعُو بَعْدَ ذَلِكَ» ثُمَّ يَهْبِطُ نَحْوَ الْمَرْوَةِ فَيَمْشِي عَلَى هَيْئَتِهِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى بَطْنِ الْوَادِي فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْمِيلِ الْأَخْضَرِ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى حَتَّى يُجَاوِزَ الْمَيْلَ الْأَخْضَرَ فَيَسْعَى بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ الدُّعَاءِ مَشَى نَحْوَ الْمَرْوَةِ حَتَّى إذَا انْتَصَبَتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى، وَقَالَ فِي سَعْيِهِ: رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ، إنَّكَ أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ» وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا رَمَلَ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ قَالَ: اللَّهُمَّ اسْتَعْمِلْنِي بِسُنَّةِ نَبِيُّكَ، وَتَوَفَّنِي عَلَى مِلَّتِهِ، وَأَعِذْنِي مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ثُمَّ يَمْشِي عَلَى هَيْئَتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَرْوَةَ فَيَصْعَدُ عَلَيْهَا، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ، وَيُهَلِّلُ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى حَوَائِجَهُ فَيَفْعَلُ عَلَى الْمَرْوَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا فَعَلَ، وَيَطُوفُ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ هَكَذَا يَبْدَأُ بِالصَّفَا، وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ، وَيَسْعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي فِي كُلِّ شَوْطٍ، وَيَعُدُّ الْبِدَايَةَ شَوْطًا، وَالْعَوْدَ شَوْطًا آخَرَ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ إنَّهُمَا يُعَدَّانِ جَمِيعًا شَوْطًا وَاحِدًا، وَإِنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ. فَإِذَا فَرَغَ مِنْ السَّعْيِ، فَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ، وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ فَيَحِلُّ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ هِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ فَإِذَا أَتَى بِهِمَا لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا بِالتَّحَلُّلِ، وَذَلِكَ بِالْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ كَالتَّسْلِيمِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَإِذَا حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ حَلَّ لَهُ جَمِيعُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَقَعُ التَّحَلُّلُ مِنْ الْعُمْرَةِ بِالسَّعْيِ، وَمِنْ الْحَجِّ بِالرَّمْيِ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ فِي بَيَانِ، وَاجِبَاتِ الْحَجِّ. وَإِنْ كَانَ قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَحْلِقُ، وَلَا يُقَصِّرُ لِلْعُمْرَةِ بَلْ يُقِيمُ حَرَامًا إلَى يَوْمِ النَّحْرِ: لَا يَحِلُّ لَهُ التَّحَلُّلُ إلَّا يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَوْقُ الْهَدْيِ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّحَلُّلِ، وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي التَّمَتُّعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ، فَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا بِهِ يُقِيمُ عَلَى إحْرَامِهِ، وَلَا يَتَحَلَّلُ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ عَلَيْهِ بَاقِيَةٌ فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْتَتِحَ إحْرَامَ الْحَجِّ بِفِعْلِ الْعُمْرَةِ، وَهُوَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ، وَالتَّحَلُّلُ مِنْهَا بِالْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرِدِينَ فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ الْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ، وَقَصِّرُوا ثُمَّ أَقِيمُوا حَلَالًا حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهِلُّوا بِالْحَجِّ» فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ ثُمَّ نُسِخَ، وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ فَسْخَ الْإِحْرَامِ كَانَ خَاصًّا لِلرَّكْبِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا فَإِنَّهُ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ، وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ عِنْدَنَا فَيَبْدَأُ أَوَّلًا بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ لِلْعُمْرَةِ فَيَطُوفُ، وَيَسْعَى لِلْعُمْرَةِ ثُمَّ يَطُوفُ وَيَسْعَى لِلْحَجِّ كَمَا وَصَفْنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَطُوفُ لَهُمَا جَمِيعًا طَوَافًا وَاحِدًا، وَيَسْعَى لَهُمَا سَعْيًا وَاحِدًا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ عِنْدَنَا مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَإِحْرَامِ الْحَجِّ، وَلَا يَدْخُلُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ، وَعِنْدَهُ يُحْرِمُ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ، وَيَدْخُلُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْعُمْرَةِ لَا تَدْخُلُ فِي الْحَجَّةِ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ عَلَى أَصْلِهِ رُكْنٌ لِمَا نَذْكُرُ فَكَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَالْأَفْعَالُ يَجُوزُ فِيهَا التَّدَاخُلُ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ، وَسَعَى لَهُمَا سَعْيَيْنِ» ، وَلِأَنَّ الْقَارِنَ مُحْرِمٌ بِالْعُمْرَةِ، وَمُحْرِمٌ بِالْحَجَّةِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ مَعْنَاهُ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَلَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ كَقَوْلِهِ: جَاءَنِي زَيْدٌ، وَعَمْرٌو أَنَّ مَعْنَاهُ جَاءَنِي زَيْدٌ، وَجَاءَنِي عَمْرٌو، وَإِذَا كَانَ مُحْرِمًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَطُوفُ، وَيَسْعَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَوَافًا عَلَى حِدَةٍ وَسَعْيًا عَلَى حِدَةٍ. وَكَذَا تَسْمِيَةُ الْقِرَانِ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا؛ إذْ الْقِرَانُ حَقِيقَةً يَكُونُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إذْ هُوَ ضَمُّ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ، وَمَعْنَى الضَّمِّ حَقِيقَةً فِيمَا قُلْنَا لَا فِيمَا قَالَهُ، وَاعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمَعْنَاهُ دَخَلَ وَقْتُ الْعُمْرَةِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الْعُمْرَةَ فِي وَقْتِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ ثُمَّ

رَخَّصَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» أَيْ دَخَلَ وَقْتُ الْعُمْرَةِ فِي وَقْتِ الْحَجَّةِ، وَهُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ، وَيُحْتَمَلُ مَا قُلْنَا، وَيُحْتَمَلُ مَا قَالَهُ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَلَوْ طَافَ الْقَارِنُ طَوَافَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ، وَسَعَى سَعْيَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ أَجْزَأَهُ وَقَدْ أَسَاءَ، أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهُ أَتَى بِوَظِيفَةٍ مِنْ الطَّوَافَيْنِ، وَالسَّعْيَيْنِ. وَأَمَّا الْإِسَاءَةُ فَلِتَرْكِهِ السُّنَّةَ، وَهِيَ تَقْدِيمُ أَفْعَالِ الْحَجِّ عَلَى أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، وَلَوْ طَافَ أَوَّلًا بِحَجَّتِهِ، وَسَعَى لَهَا ثُمَّ طَافَ لِعُمْرَتِهِ وَسَعَى لَهَا فَنِيَّتُهُ لَغْوٌ، وَطَوَافُهُ الْأَوَّلُ وَسَعْيُهُ يَكُونَانِ لِلْعُمْرَةِ لِمَا مَرَّ أَنَّ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ تَتَرَتَّبُ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ إحْرَامُهُ، وَإِحْرَامُهُ أَوْجَبَ تَقْدِيمَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ فَلَغَتْ نِيَّتُهُ، وَإِذَا فَرَغَ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لَا يَحْلِقُ، وَلَا يُقَصِّرُ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَإِذَا قَدِمَ مَكَّةَ فَإِنَّهُ يَطُوفُ، وَيَسْعَى لِعُمْرَتِهِ ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَلْبَسُ الْإِزَارَ، وَالرِّدَاءَ، وَيُلَبِّي بِالْحَجِّ؛ لِأَنَّ هَذَا ابْتِدَاءُ دُخُولِهِ فِي الْحَجِّ لِلْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ. وَلَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ أَوْ مِنْ الْأَبْطَحِ أَوْ مِنْ أَيِّ حَرَمٍ شَاءَ، وَلَهُ أَنْ يُحْرِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ عِنْدَ الْخُرُوجِ إلَى مِنًى، وَقِيلَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَكُلَّمَا قَدَّمَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ عَلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْإِحْرَامِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ» فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ» ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ النَّدْبُ، وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ مِنْ بَابِ الْمُسَارَعَةِ إلَى الْعِبَادَةِ فَكَانَ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ يَحْتَاجُ إلَى الِاجْتِنَابِ عَنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ «، وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا» عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّمَا نَدَبَ إلَى الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ لِرُكْنٍ خَاصٍّ، اخْتَارَ لَهُمْ الْأَيْسَرَ عَلَى الْأَفْضَلِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ إحْرَامِ الْحَجِّ، وَأَنَّهُ لَا يُفْسَخُ الْيَوْمَ. وَإِذَا أَحْرَمَ الْمُتَمَتِّعُ بِالْحَجِّ فَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَلَا يَسْعَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ لِلْحَجِّ لِمَنْ قَدِمَ مَكَّةَ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، وَالْمُتَمَتِّعُ إنَّمَا قَدِمَ مَكَّةَ بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ لَا بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا يُحْرِمُ لِلْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، وَطَوَافُ الْقُدُومِ لَا يَكُونُ بِدُونِ الْقُدُومِ، وَكَذَلِكَ لَا يَطُوفُ، وَلَا يَسْعَى أَيْضًا؛ لِأَنَّ السَّعْيَ بِدُونِ الطَّوَافِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَلِأَنَّ الْمَحَلَّ الْأَصْلِيَّ لِلسَّعْيِ مَا بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ وَاجِبٌ، وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ فَرْضٌ، وَالْوَاجِبُ يَصْلُحُ تَبَعًا لِلْفَرْضِ، فَأَمَّا طَوَافُ الْقُدُومِ فَسُنَّةٌ. وَالْوَاجِبُ لَا يَتْبَعُ السُّنَّةَ إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ تَقْدِيمَهُ عَلَى مَحَلِّهِ الْأَصْلِيّ عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ فَصَارَ وَاجِبًا عَقِيبَهُ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ طَوَافُ الْقُدُومِ يُؤَخَّرُ السَّعْيُ إلَى مَحَلِّهِ الْأَصْلِيِّ فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنْ شَاءَ طَافَ وَسَعَى قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ إلَى مِنًى، وَهُوَ أَفْضَلُ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ طَافَ وَسَعَى لَا بَأْسَ بِهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الطَّوَافَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ سُنَّةٌ. وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِوُجُوبِ السَّعْيِ عَقِيبَهُ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا فِي حَقِّ الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ وَالْقَارِنِ فَكَذَا الْمُتَمَتِّعُ، وَالْجَوَابُ نَعَمْ إنَّهُ سُنَّةٌ لَكِنَّهُ سُنَّةُ الْقُدُومِ لِلْحَجِّ لِمَنْ قَدِمَ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، وَالْمُتَمَتِّعُ لَمْ يَقْدَمْ مَكَّةَ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ فَلَا يَكُونُ سُنَّةً فِي حَقِّهِ، وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ فَقَالَ: إذَا أَحْرَمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ طَافَ وَسَعَى إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ بَعْدَ الزَّوَالِ يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ إلَى مِنًى فَلَا يَشْتَغِلُ بِغَيْرِهِ، وَقَبْلَ الزَّوَالِ لَا يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى، وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا. وَإِذَا فَرَغَ الْمُفْرِدُ بِالْحَجِّ أَوْ الْقَارِنُ مِنْ السَّعْيِ يُقِيمُ عَلَى إحْرَامِهِ، وَيَطُوفُ طَوَافَ التَّطَوُّعِ مَاشِيًا إلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ خَيْرُ مَوْضُوعٍ كَالصَّلَاةِ فَمَنْ شَاءَ اسْتَقَلَّ، وَمَنْ شَاءَ اسْتَكْثَرَ، وَطَوَافُ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِلْغُرَبَاءِ. وَأَمَّا لِأَهْلِ مَكَّةَ فَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْغُرَبَاءَ يَفُوتُهُمْ الطَّوَافُ إذْ لَا يُمْكِنُهُمْ الطَّوَافُ فِي كُلِّ مَكَان، وَلَا تَفُوتُهُمْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ فِعْلُهَا فِي كُلِّ مَكَان، وَأَهْلُ مَكَّةَ لَا يَفُوتُهُمْ الطَّوَافُ، وَلَا الصَّلَاةُ فَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ الصَّلَاةُ أَفْضَلُ، وَعَلَى هَذَا الْغَازِي الْحَارِسُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَنَّهُ إنْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَنُوبَ عَنْهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْحِرَاسَةُ أَفْضَلُ. وَلَا يَرْمُلُ فِي هَذَا الطَّوَافِ بَلْ يَمْشِي عَلَى هَيْئَتِهِ، وَلَا يَسْعَى بَعْدَهُ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ غَيْرَ السَّعْيِ الْأَوَّلِ، وَيُصَلِّي لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا يُكْرَهُ فِيهِ التَّطَوُّعُ، وَيُكْرَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ أُسْبُوعَيْنِ مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ سَوَاءٌ الصَّرْفُ

عَنْ شَفْعٍ أَوْ وِتْرٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا بَأْسَ بِهِ إذَا انْصَرَفَ عَنْ وِتْرٍ نَحْوَ أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ ثَلَاثَةِ أَسَابِيعَ أَوْ عَنْ خَمْسَةِ أَسَابِيعَ أَوْ عَنْ سَبْعَةِ أَسَابِيعَ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا كَانَتْ تَجْمَعُ بَيْنَ الطَّوَافِ ثُمَّ تُصَلِّي بَعْدَهُ، ثُمَّ فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ انْصِرَافِهِ عَنْ شَفْعٍ أَوْ عَنْ وِتْرٍ فَقَالَ: إذَا انْصَرَفَ عَنْ أُسْبُوعَيْنِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَوْ أَرْبَعَةُ أَسَابِيعَ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ يُكْرَهُ، وَلَوْ انْصَرَفَ عَنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ عَنْ خَمْسَةٍ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ شَفْعٌ، وَالثَّانِيَ وِتْرٌ، وَأَصْلُ الطَّوَافِ سَبْعَةٌ، وَهِيَ وِتْرٌ، وَلَهُمَا أَنَّ تَرْتِيبَ الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى الطَّوَافِ كَتَرْتِيبِ السَّعْيِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبٌ ثُمَّ لَوْ جَمَعَ بَيْنَ أُسْبُوعَيْنِ مِنْ الطَّوَافِ، وَأَخَّرَ السَّعْيَ يُكْرَهُ، فَكَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ أُسْبُوعَيْنِ مِنْهُ، وَأَخَّرَ الصَّلَاةَ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَيُحْمَلُ أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ وَعُذْرٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يَرُوحُ مَعَ النَّاسِ إلَى مِنًى، فَيُصَلِّي بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنَ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيلُ إلَى إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَخَرَجَ بِهِ إلَى مِنًى، فَصَلَّى بِهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ، ثُمَّ غَدَا بِهِ إلَى عَرَفَاتٍ» . وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى مِنًى فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ، وَسَارَ إلَى عَرَفَاتٍ» ، فَإِنْ دَفَعَ مِنْهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ جَازَ، وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ لِمَا رَوَيْنَا فَيَخْرُجُ إلَى عَرَفَاتٍ عَلَى السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، فَإِذَا انْتَهَى إلَيْهَا نَزَلَ بِهَا حَيْثُ أَحَبَّ إلَّا فِي بَطْنِ عُرَنَةَ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «عَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ» ، وَيَغْتَسِلُ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَغُسْلُ يَوْمِ عَرَفَةَ سُنَّةٌ كَغُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَعِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إنْ اغْتَسَلَ فَحَسَنٌ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى الِاسْتِحْبَابِ، ثُمَّ غُسْلُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِأَجْلِ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَوْ لِأَجْلِ الْوُقُوفِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي غُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ، وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ الْأَذَانِ قَامَ الْإِمَامُ، وَخَطَبَ خُطْبَتَيْنِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ. رُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ وَالْإِمَامُ فِي الْفُسْطَاطِ ثُمَّ يَخْرُجُ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنْ الْأَذَانِ، فَيَصْعَدُ الْمِنْبَرَ، وَيَخْطُبُ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ فِي بَابِ خُطَبِ الْحَجِّ: أَنَّ الْإِمَامَ يَبْدَأُ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الْأَذَانِ، فَإِذَا مَضَى صَدْرٌ مِنْ خُطْبَتِهِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ، ثُمَّ يُتِمُّ خُطْبَتَهُ بَعْدَ الْأَذَانِ. أَمَّا تَقْدِيمُ الْخُطْبَةِ عَلَى الصَّلَاةِ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّمَهَا عَلَى الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْخُطْبَةِ تَعْلِيمُ أَحْكَامِ الْمَنَاسِكِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهَا لِيَعْلَمُوا، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَهَا يَتَبَادَرُ الْقَوْمُ إلَى الْوُقُوفِ، وَلَا يَسْتَمِعُونَ، فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ هَذِهِ الْخُطْبَةُ سُنَّةٌ، وَلَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ حَتَّى لَوْ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَصَلَّاهُمَا مِنْ غَيْرِ خُطْبَةٍ أَجْزَأَهُ، بِخِلَافِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ بِدُونِهَا، وَالْفَرْقُ: أَنَّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ لِتَعْلِيمِ الْمَنَاسِكِ لَا لِجَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ. وَفَرْضِيَّةُ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ لِقَصْرِ الصَّلَاةِ، وَقِيَامِهَا مَقَامَ الْبَعْضِ عَلَى مَا قَالَتْ عَائِشَةُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إنَّمَا قُصِرَتْ الْجُمُعَةُ لِمَكَانِ الْخُطْبَةِ، وَقَصْرُ الصَّلَاةِ تَرْكُ شَطْرِهَا، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ إلَّا لِأَجْلِ الْفَرْضِ، فَكَانَتْ الْخُطْبَةُ فَرْضًا، وَلَا قَصْرَ هَهُنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرْضَيْنِ يُؤَدَّى عَلَى الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ فَلَمْ تَكُنْ الْخُطْبَةُ فَرْضًا إلَّا أَنَّهُ يَكُونُ مُسِيئًا بِتَرْكِ الْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ السُّنَّةَ، وَلَوْ خَطَبَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَجْزَأَهُ وَقَدْ أَسَاءَ، أَمَّا الْجَوَازُ؛ فَلِأَنَّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ مِنْ شَطْرِ الصَّلَاةِ، فَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا الْوَقْتُ. وَأَمَّا الْإِسَاءَةُ فَلِتَرْكِهِ السُّنَّةَ؛ إذْ السُّنَّةُ أَنْ تَكُونَ الْخُطْبَةُ بَعْدَ الزَّوَالِ، بِخِلَافِ خُطْبَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ إذَا خَطَبَ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا تَجُوزُ الْجُمُعَةُ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ هُنَاكَ مِنْ فَرَائِضِ الْجُمُعَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قُصِرَتْ الْجُمُعَةُ لِمَكَانِهَا، وَلَا يُتْرَكُ بَعْضُ الْفَرْضِ إلَّا لِأَجْلِ الْفَرْضِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي وَقْتِ صُعُودِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ أَنَّهُ يَصْعَدُ قَبْلَ الْأَذَانِ أَوْ بَعْدَهُ فَوَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي تُؤَدَّى فِي هَذَا الْوَقْتِ هِيَ صَلَاةُ الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ فَيَكُونُ الْأَذَانُ فِيهِمَا قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَكَمَا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ لَمَّا كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الصَّلَاةِ كَانَ هَذَا الْأَذَانُ لِلْخُطْبَةِ، فَيَكُونُ بَعْدَ صُعُودِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ كَخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ. وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ أَنَّ

هَذِهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: نَعَمْ لَكِنْ نُقَدِّمُ عَلَيْهَا الْخُطْبَةَ فَيَكُونُ وَقْتُ الْأَذَانِ بَعْدَ مَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ لِلْخُطْبَةِ كَمَا فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، فَإِذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُونَ مِنْ الْأَذَانِ قَامَ الْإِمَامُ، وَخَطَبَ خُطْبَتَيْنِ قَائِمًا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجِلْسَةٍ خَفِيفَةٍ كَمَا يَفْصِلُ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، وَصِفَةُ الْخُطْبَةِ هِيَ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ وَيُكَبِّرَ وَيُهَلِّلَ وَيَعِظَ النَّاسَ فَيَأْمُرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْهُ وَيُعَلِّمَهُمْ مَنَاسِكَ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ فِي الْأَصْلِ وُضِعَتْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ. وَيُزَادُ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ تَعْلِيمُ مَعَالِمِ الْحَجِّ لِحَاجَةِ الْحُجَّاجِ إلَى ذَلِكَ لِيَتَعَلَّمُوا الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَالْإِفَاضَةَ مِنْهَا وَالْوُقُوفَ بِمُزْدَلِفَةَ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْخُطْبَةِ أَقَامَ الْمُؤَذِّنُونَ فَصَلَّى الْإِمَامُ بِهِمْ صَلَاةَ الظُّهْرِ، ثُمَّ يَقُومُ الْمُؤَذِّنُونَ فَيُقِيمُونَ لِلْعَصْرِ فَيُصَلِّي بِهِمْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَا يَشْتَغِلُ الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ بِالسُّنَنِ وَالتَّطَوُّعِ فِيمَا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يَتَنَفَّلْ قَبْلَهُمَا، وَلَا بَعْدَهُمَا مَعَ حِرْصِهِ عَلَى النَّوَافِلِ، فَإِنْ اشْتَغَلُوا فِيمَا بَيْنَهُمَا بِتَطَوُّعٍ أَوْ غَيْرِهِ أَعَادُوا الْأَذَانَ لِلْعَصْرِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُؤَذَّنَ لِكُلِّ مَكْتُوبَةٍ، وَإِنَّمَا عُرِفَ تَرْكُ الْأَذَانِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ لَمْ يَشْتَغِلْ فِيمَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِالتَّطَوُّعِ، وَلَا بِغَيْرِهِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ عِنْدَ الِاشْتِغَالِ عَلَى الْأَصْلِ. وَيُخْفِي الْإِمَامُ الْقِرَاءَةَ فِيهِمَا، بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، فَإِنَّهُ يَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ بِالْقِرَاءَةِ هُنَاكَ مِنْ الشَّعَائِرِ، وَالسَّبِيلُ فِي الشَّعَائِرِ إشْهَارُهَا، وَفِي الْجَهْرِ زِيَادَةُ إشْهَارٍ، فَشُرِعَتْ تِلْكَ الصَّلَاةُ كَذَلِكَ، فَأَمَّا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ فَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا لَمْ يَتَغَيَّرَا؛ لِأَنَّهُمَا كَظُهْرِ سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَعَصْرِ سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَالْحَادِثُ لَيْسَ إلَّا اجْتِمَاعُ النَّاسِ، وَاجْتِمَاعُهُمْ لِلْوُقُوفِ لَا لِلصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا اجْتِمَاعُهُمْ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ حَصَلَ اتِّفَاقًا ثُمَّ إنْ كَانَ الْإِمَامُ مُقِيمًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُتِمُّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ أَرْبَعًا أَرْبَعًا، وَالْقَوْمُ يُتِمُّونَ مَعَهُ، وَإِنْ كَانُوا مُسَافِرِينَ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا اقْتَدَى بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ؛ لِأَنَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ صَارَ تَابِعًا لَهُ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا يُصَلِّي كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا سَلَّمَ يَقُولُ لَهُمْ: أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ يَا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفَرٌ، ثُمَّ لِجَوَازِ الْجَمْعِ أَعْنِي تَقْدِيمَ الْعَصْرِ عَلَى وَقْتِهَا، وَأَدَاءَهَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ شَرَائِطُ: بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، أَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: فَهُوَ شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أَدَاؤُهَا عَقِيبَ الظُّهْرِ، لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ مُرَتَّبَةً عَلَى الظُّهْرِ، فَلَا يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ إلَّا بِأَسْبَابٍ مُسْقِطَةٍ، وَلَمْ تُوجَدْ فَلَا تَسْقُطُ فَلَزِمَ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ، وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُرَتَّبَةً عَلَى ظُهْرٍ جَائِزَةً اسْتِحْسَانًا حَتَّى لَوْ صَلَّى الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي يَوْمِ غَيْمٍ، ثُمَّ اسْتَبَانَ لَهُمْ أَنَّ الظُّهْرَ وَقَعَتْ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَالْعَصْرَ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَعَلَيْهِمْ إعَادَةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمِيعًا اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ: أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا شَرْطًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا إعَادَةُ الظُّهْرِ، وَجْهُ الْقِيَاسِ: الِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ الْأَيَّامِ فَإِنَّهُ إذَا صَلَّى الْعَصْرَ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ تَبَيَّنَّ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّهَا يُعِيدُ الظُّهْرَ خَاصَّةً، كَذَا هَهُنَا، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا إعَادَةُ الظُّهْرِ فَأَشْبَهَ النَّاسِيَ، وَالنِّسْيَانُ عُذْرٌ مُسْقِطٌ لِلتَّرْتِيبِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ الْعَصْرَ مُؤَدَّاةٌ قَبْلَ وَقْتِهَا حَقِيقَةً فَالْأَصْلُ: أَنْ لَا يَجُوزَ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا جَوَازَهَا بِالنَّصِّ مُرَتَّبَةً عَلَى ظُهْرٍ جَائِزَةٍ، فَإِذَا لَمْ تَجُزْ بَقِيَ الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى الْأَصْلِ. وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ أَدَاءُ الصَّلَاتَيْنِ بِالْجَمَاعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، حَتَّى لَوْ صَلَّى الْعَصْرَ وَحْدَهُ أَوْ الظُّهْرَ وَحْدَهُ لَا تَجُوزُ الْعَصْرُ قَبْلَ وَقْتِهَا عِنْدَهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَقْتِهَا. وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ جَوَازَ التَّقْدِيمِ لِصِيَانَةِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْعَصْرِ فِي وَقْتِهَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُقُوفِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْوَحَدَانِ، وَالْجَمَاعَةِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَوَازَ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، وَالْعِبَادَاتُ الْمُؤَقَّتَةُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى أَوْقَاتِهَا إلَّا أَنَّ جَوَازَ تَقْدِيمِ الْعَصْرِ عَلَى وَقْتِهَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَيُرَاعَى فِيهِ عَيْنُ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ بِجَوَازِ أَدَاءِ الْعَصْرِ كَامِلًا مُرَتَّبًا عَلَى ظُهْرٍ كَامِلٍ، وَهِيَ الْمُؤَدَّاةُ بِالْجَمَاعَةِ، وَالْمُؤَدَّاةُ لَا بِجَمَاعَةٍ لَا تُسَاوِيهَا فِي الْفَضِيلَةِ، فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُمَا: إنَّ الْجَوَازَ ثَبَتَ لِصِيَانَةِ الْوُقُوفِ مَمْنُوعٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا بِهِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُنَافِي الْوُقُوفَ؛ لِأَنَّهَا فِي نَفْسِهَا وُقُوفٌ، وَالشَّيْءُ لَا يُنَافِي نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ نَصًّا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَيُتَّبَعُ فِيهِ مَوْرِدُ النَّصِّ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَوْ أَدْرَكَ

رَكْعَةً مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ مَعَ الْإِمَامِ، بِأَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الظُّهْرِ ثُمَّ قَامَ الْإِمَامُ، وَدَخَلَ فِي الْعَصْرِ فَقَامَ الرَّجُلُ، وَقَضَى مَا فَاتَهُ مِنْ الظُّهْرِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الظُّهْرِ دَخَلَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْعَصْرِ، وَأَدْرَكَ شَيْئًا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ مَعَ الْإِمَامِ، جَازَ لَهُ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ فَتَقَعُ الْعَصْرُ مُرَتَّبَةً عَلَى ظُهْرٍ كَامِلٍ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ أَدَاءُ الصَّلَاتَيْنِ بِإِمَامٍ، وَهُوَ الْخَلِيفَةُ أَوْ نَائِبُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، حَتَّى لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ بِجَمَاعَةٍ لَكِنْ لَا مَعَ الْإِمَامِ، وَالْعَصْرَ مَعَ الْإِمَامِ لَمْ تَجُزْ الْعَصْرُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ. ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ جَوَازَ التَّقْدِيمِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْأَصْلِ مُرَتَّبًا عَلَى ظُهْرٍ كَامِلٍ، وَهِيَ الْمُؤَدَّاةُ بِالْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، فَالْمُؤَدَّاةُ بِجَمَاعَةٍ مِنْ غَيْرِ إمَامٍ أَوْ نَائِبِهِ لَا تَكُونُ مِثْلَهَا فِي الْفَضِيلَةِ، فَلَا تَكُونُ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ، وَلَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ بَعْدَ مَا خَطَبَ فَأَمَرَ رَجُلًا بِالصَّلَاةِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا، سَوَاءٌ شَهِدَ الْمَأْمُورُ الْخُطْبَةَ أَوْ لَمْ يَشْهَدْ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ هُنَاكَ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِ الْجُمُعَةِ، وَهَهُنَا الْخُطْبَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّا، فَإِنْ لَمْ يَأْمُرْ الْإِمَامُ أَحَدًا فَتَقَدَّمَ وَاحِدٌ مِنْ عَرَضِ النَّاسِ، وَصَلَّى بِهِمْ الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا لَمْ يَجُزْ الْجَمْعُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ أَوْ نَائِبَهُ شَرْطٌ عِنْدَهُ وَلَمْ يُوجَدْ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُ رَجُلًا مِنْ ذِي سُلْطَانٍ كَالْقَاضِي، وَصَاحِبِ الشُّرَطِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الظُّهْرِ فَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا، فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِهِمْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِمَامِ، فَإِنْ فَرَغَ مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ الْإِمَامُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يُصَلِّي الْعَصْرَ إلَّا فِي وَقْتِهَا لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَخْلَفَ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْ الْمُؤْتَمِّينَ وَالْمُؤْتَمُّ إذَا صَلَّى الظُّهْرُ مَعَ الْإِمَامِ وَلَمْ يُصَلِّ الْعَصْرَ مَعَهُ لَا يُصَلِّي الْعَصْرَ إلَّا فِي وَقْتِهَا كَذَا هَذَا، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ حَالَ أَدَاءِ الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا حَتَّى لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ بِجَمَاعَةٍ مَعَ الْإِمَامِ، وَهُوَ حَلَالٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ثُمَّ أَحْرَمَ لِلْحَجِّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ إلَّا فِي وَقْتِهَا، كَذَا ذُكِرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ النَّوَادِرِ؛ لِأَنَّ الْعَصْرَ شُرِعَتْ مُرَتَّبَةً عَلَى ظُهْرٍ كَامِلٍ وَهُوَ ظُهْرُ الْمُحْرِمِ وَظُهْرُ الْحَلَالِ لَا يَكُونُ مِثْلَ ظُهْرِ الْمُحْرِمِ فِي الْفَضِيلَةِ فَلَا يَجُوزُ تَرْتِيبُ الْعَصْرِ عَلَى ظُهْرٍ هِيَ دُونَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا صَلَّى الظُّهْرَ بِجَمَاعَةٍ مَعَ الْإِمَامِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ لَكِنْ بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، لَا يُجْزِئُهُ الْعَصْرُ إلَّا فِي وَقْتِهَا، وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ ظُهْرَ الْمُحْرِمِ بِالْعُمْرَةِ لَا يَكُونُ مِثْلَ ظُهْرِ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ فِي الْفَضِيلَةِ، فَلَا يَكُونُ أَدَاءُ الْعَصْرِ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ، فَلَا تَجُوزُ إلَّا فِي وَقْتِهَا، وَلَوْ نَفَرَ النَّاسُ عَنْ الْإِمَامِ فَصَلَّى وَحْدَهُ الصَّلَاتَيْنِ أَجْزَأَهُ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْإِمَامُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا الْجَمَاعَةُ، فَإِنَّ الصَّلَاتَيْنِ جَازَتَا لِلْإِمَامِ، وَلَا جَمَاعَةَ فَتُبْنَى الْمَسَائِلُ عَلَيْهِ، إذْ هُوَ أَقْرَبُ إلَى الصِّيغَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ عَلَى هَذَا مَا إذَا سَبَقَ الْإِمَامَ الْحَدَثُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا، وَذَهَبَ الْإِمَامُ لِيَتَوَضَّأَ فَصَلَّى الْخَلِيفَةُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، ثُمَّ جَاءَ الْإِمَامُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ إلَّا فِي وَقْتِهَا؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ هُنَاكَ لَيْسَ لِعَدَمِ الْجَمَاعَةِ بَلْ لِعَدَمِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ إمَامًا فَصَارَ كَوَاحِدٍ مِنْ الْمُؤْتَمِّينَ، أَوْ يُقَالُ: الْجَمَاعَةُ شَرْطُ الْجَمْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَكِنْ فِي حَقِّ غَيْرِ الْإِمَامِ لَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ، فَإِنْ مَاتَ الْإِمَامُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ خَلِيفَتُهُ جَازَ؛ لِأَنَّ مَوْتَ الْإِمَامِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ وِلَايَةِ خُلَفَائِهِ كَوِلَايَةِ السَّلْطَنَةِ، وَالْقَضَاءِ. فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ الصَّلَاةِ رَاحَ إلَى الْمَوْقِفِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ، وَرَاحَ النَّاسُ مَعَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاحَ إلَيْهِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ، وَيَرْفَعُ الْأَيْدِيَ بَسْطًا يَسْتَقْبِلُ كَمَا يَسْتَقْبِلُ الدَّاعِي بِيَدِهِ وَوَجْهِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو بِعَرَفَاتٍ بَاسِطًا يَدَيْهِ فِي نَحْرِهِ كَاسْتِطْعَامِ الْمِسْكِينِ» فَيَقِفُ الْإِمَامُ، وَالنَّاسُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ يُكَبِّرُونَ وَيُهَلِّلُونَ، وَيَحْمَدُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ، وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى حَوَائِجَهُمْ، وَيَتَضَرَّعُونَ إلَيْهِ بِالدُّعَاءِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ أَهْلِ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ وَقَالَتْ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلِي عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ أَكْثَرَ دُعَائِي وَدُعَاءِ

الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ عَشِيَّةِ يَوْمِ عَرَفَةَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، اللَّهُمَّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ وَسْوَاسِ الصُّدُورِ، وَسَيِّئَاتِ الْأُمُورِ، وَفِتْنَةِ الْفَقْرِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا يَلِجُ فِي اللَّيْلِ، وَشَرِّ مَا تَهُبُّ بِهِ الرِّيَاحُ» . وَلَيْسَ عَنْ أَصْحَابِنَا فِيهِ دُعَاءٌ مُوَقَّتٌ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَدْعُو بِمَا شَاءَ، وَلِأَنَّ تَوْقِيتَ الدُّعَاءِ يَذْهَبُ بِالرِّقَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ فَيَبْعُدُ عَنْ الْإِجَابَةِ، وَيُلَبِّي فِي مَوْقِفِهِ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ، وَلَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبَّى حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» . وَرُوِيَ عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَبَّى عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ التَّلْبِيَةِ فَقَالَ: أَجَهِلَ النَّاسُ أَمْ نَسَوْا فَوَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ لَقَدْ حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا تَرَكَ التَّلْبِيَةَ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ إلَّا أَنْ يُخَلِّلَهَا أَوْ يَخْلِطَهَا بِتَكْبِيرٍ وَتَهْلِيلٍ» ، وَلِأَنَّ التَّلْبِيَةَ ذِكْرٌ يُؤْتَى بِهِ فِي ابْتِدَاءِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَتَكَرَّرَ فِي أَثْنَائِهَا فَأَشْبَهَ التَّكْبِيرَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْتَى بِهِ إلَى آخِرِ أَرْكَانِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ كَالتَّكْبِيرِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِيمَا بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الرَّمْيِ فِي الْقَطْعِ بِالْإِجْمَاعِ، فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ أَوْ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا، بِخِلَافِ الْمُفْرِدِ بِالْعُمْرَةِ أَنَّهُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ حِينَ يَأْخُذُ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ رُكْنٌ فِي الْعُمْرَةِ فَأَشْبَهَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ فِي الْحَجِّ، وَهُنَاكَ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ قَبْلَ الطَّوَافِ كَذَا هَهُنَا. وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَوْقِفِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ» . وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ فَاسْتَقْبَلَ بِهِ الْقِبْلَةَ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا، حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ» ، فَإِنْ انْحَرَفَ قَلِيلًا لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ لَيْسَ بِصَلَاةٍ. وَكَذَا لَوْ وَقَفَ، وَهُوَ مُحْدِثٌ أَوْ جُنُبٌ لَمْ يَضُرَّهُ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْوُقُوفَ عِبَادَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ، فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ كَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَالْأَفْضَلُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقِفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ رَاكِبًا، وَكُلَّمَا قَرُبَ فِي وُقُوفِهِ مِنْ الْإِمَامِ فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُعَلِّمُ النَّاسَ، وَيَدْعُو فَكَلَّمَا كَانَ أَقْرَبَ كَانَ أَمْكَنَ مِنْ السَّمَاعِ، وَعَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ الْوُقُوفُ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ مَكَانِ الْوُقُوفِ فَيَقِفُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ دَفَعَ الْإِمَامُ، وَالنَّاسُ مَعَهُ، وَلَا يَدْفَعُ أَحَدٌ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا الْإِمَامُ، وَلَا غَيْرُهُ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْوُقُوفَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَاجِبٌ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ خَطَبَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَإِنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانَتْ تَدْفَعُ مِنْ هَهُنَا، وَالشَّمْسُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ مِثْلُ الْعَمَائِمِ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ فَخَالِفُوهُمْ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالدَّفْعِ مِنْهُ بَعْدَ الْغُرُوبِ» ، فَإِنْ خَافَ بَعْضُ الْقَوْمِ الزِّحَامَ، أَوْ كَانَتْ بِهِ عِلَّةٌ فَيُقَدَّمُ قَبْلَ الْإِمَامِ قَلِيلًا، وَلَمْ يُجَاوِزْ حَدَّ عَرَفَةَ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُجَاوِزْ حَدَّ عَرَفَةَ، فَهُوَ فِي مَكَانِ الْوُقُوفِ. وَقَدْ دَفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ ثَبَتَ عَلَى مَكَانِهِ حَتَّى يَدْفَعَ الْإِمَامُ، فَهُوَ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] ، وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يُدْفَعُوا، وَعَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ حَتَّى يَأْتُوا مُزْدَلِفَةَ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ، وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَكْبَحُ نَاقَتَهُ» وَرُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا دَفَعَ مِنْ عَرَفَاتٍ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ الْبِرَّ لَيْسَ فِي إيجَافِ الْخَيْلِ، وَلَا فِي أَبْضَاعِ الْإِبِلِ، بَلْ عَلَى هَيِّنَتِكُمْ» ، وَلِأَنَّ هَذَا مَشْيٌ إلَى الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَأْتُونَ مُزْدَلِفَةَ لِيُصَلُّوا بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَأْتُوهَا، وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ، وَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ» ، فَإِنْ أَبْطَأَ الْإِمَامُ بِالدَّفْعِ، وَتَبَيَّنَ لِلنَّاسِ اللَّيْلُ دَفَعُوا قَبْلَ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ إذَا تَبَيَّنَ اللَّيْلُ فَقَدْ جَاءَ أَوَانُ الدَّفْعِ، وَالْإِمَامُ بِالتَّأْخِيرِ تَرَكَ السُّنَّةَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوهَا. وَإِذَا أَتَى مُزْدَلِفَةَ يَنْزِلُ حَيْثُ شَاءَ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلَا يَنْزِلُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَلَا فِي وَادِي مُحَسِّرٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، إلَّا وَادِي مُحَسِّرٍ» ، وَإِنَّمَا لَا يَنْزِلُ عَلَى الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ النَّاسَ عَنْ الْجَوَازِ فَيَتَأَذَّوْنَ بِهِ، فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الْعِشَاءِ يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ فَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِهِمْ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ الْعِشَاءِ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ: بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:

بِأَذَانَيْنِ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ، احْتَجَّ زُفَرُ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى الْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ بِمُزْدَلِفَةَ بِإِقَامَتَيْنِ» ، وَلِأَنَّ هَذَا أَحَدُ نَوْعَيْ الْجَمْعِ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بِعَرَفَةَ، وَالْجَمْعُ هُنَاكَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ كَذَا هَهُنَا. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِمُزْدَلِفَةَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ» ، وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّيْتُهُمَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ» ، وَمَا احْتَجَّ بِهِ زُفَرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، فَيُسَمَّى الْأَذَانُ إقَامَةً كَمَا يُقَالُ: سَنَةُ الْعُمَرَيْنِ، وَيُرَادُ بِهِ سَنَةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ إلَّا الْمَغْرِبَ» ، وَأَرَادَ بِهِ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ كَذَا هَهُنَا، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْجَمْعِ الْآخَرِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الصَّلَاةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ الْعَصْرُ تُؤَدَّى فِي غَيْرِ وَقْتِهَا فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى إقَامَةٍ أُخْرَى لِلْإِعْلَامِ بِالشُّرُوعِ فِيهَا، وَالصَّلَاةُ الثَّانِيَةُ هَهُنَا، وَهِيَ الْعِشَاءُ تُؤَدَّى فِي وَقْتِهَا فَيُسْتَغْنَى عَنْ تَجْدِيدِ الْإِعْلَامِ كَالْوِتْرِ مَعَ الْعِشَاءِ، وَلَا يَتَشَاغَلُ بَيْنَهُمَا بِتَطَوُّعٍ وَلَا بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتَشَاغَلْ بَيْنَهُمَا بِتَطَوُّعٍ، وَلَا بِغَيْرِهِ، فَإِنْ تَطَوَّعَ بَيْنَهُمَا أَوْ تَشَاغَلَ بِشَيْءٍ أَعَادَ الْإِقَامَةَ لِلْعِشَاءِ؛ لِأَنَّهَا انْقَطَعَتْ عَنْ الْإِعْلَامِ الْأَوَّلِ فَاحْتَاجَتْ إلَى إعْلَامٍ آخَرَ، فَإِنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَحْدَهُ وَالْعِشَاءَ وَحْدَهُ أَجْزَأَهُ، بِخِلَافِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِجَمَاعَةٍ عِنْدَهُ، وَالْفَرْقُ لَهُ أَنَّ الْمَغْرِبَ تُؤَدَّى فِيمَا هُوَ وَقْتُهَا فِي الْجُمْلَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتُ أَدَائِهَا، فَكَانَ الْجَمْعُ هَهُنَا بِتَأْخِيرِ الْمَغْرِبِ عَنْ وَقْتِ أَدَائِهَا، فَيَجُوزُ فِعْلُهَا وَحْدَهُ، كَمَا لَوْ تَأَخَّرَتْ عَنْهُ بِسَبَبٍ آخَرَ فَقَضَاهُ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ وَحْدَهُ، وَالْعَصْرُ هُنَاكَ تُؤَدَّى فِيمَا لَيْسَ وَقْتَهَا أَصْلًا وَرَأْسًا، فَلَا يَجُوزُ؛ إذْ لَا جَوَازَ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا جَوَازَهَا بِالشَّرْعِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا بِجَمَاعَةٍ فَيَتْبَعُ مَوْرِدَ الشَّرْعِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا مَعَ الْإِمَامِ بِجَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِجَمَاعَةٍ أَفْضَلُ، وَلَوْ صَلَّى الْمَغْرِبَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ مُزْدَلِفَةَ، فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ، وَعَلَيْهِ إعَادَتُهُ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُجْزِئُهُ وَقَدْ أَسَاءَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا صَلَّى الْعِشَاءَ فِي الطَّرِيقِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَدَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فِي وَقْتَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ كَوْنُ هَذَا الْوَقْتِ وَقْتًا لَهُمَا بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَالسُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ الْمُطْلَقَةِ عَنْ الْمَكَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، فَيَجُوزُ كَمَا لَوْ أَدَّاهَا فِي غَيْرِ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ إلَّا أَنَّ التَّأْخِيرَ سُنَّةٌ. وَتَرْكُ السُّنَّةِ لَا يَسْلُبُ الْجَوَازَ، بَلْ يُوجِبُ الْإِسَاءَةَ، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَفَعَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَكَانَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَلَمَّا بَلَغَ الشِّعْبَ الْأَيْسَرَ الَّذِي دُونَ الْمُزْدَلِفَةِ أَنَاخَ فَبَالَ، ثُمَّ جَاءَ فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا فَقُلْتُ: الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: الصَّلَاةُ أَمَامَكَ وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْمُصَلَّى أَمَامَك فَجَاءَ مُزْدَلِفَةَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ» ، فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى اخْتِصَاصِ جَوَازِهَا فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ وَالْإِمْكَانِ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَهُوَ وَقْتُ الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجُوزُ، وَيُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ فِي وَقْتِهَا وَمَكَانِهَا مَا دَامَ الْوَقْتُ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ أَعَادَ إلَى الْجَوَازِ عِنْدَهُمَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ الْكَرِيمَ وَالسُّنَنَ الْمَشْهُورَةَ تَقْتَضِي الْجَوَازَ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي كَوْنَ الْوَقْتِ وَقْتًا لَهَا، وَأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ عَنْ الْمَكَانِ. وَحَدِيثُ أُسَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقْتَضِي عَدَمَ الْجَوَازِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ بُطْلَانَ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ، فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَيُعْمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ، وَيُعْمَلُ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ فِيمَا بَعْدَ طُلُوعِهِ، فَلَا نَأْمُرُهُ بِالْإِعَادَةِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ هَذَا إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَأَمَّا إذَا خَشِيَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى مُزْدَلِفَةَ لِأَجْلِ ضِيقِ الْوَقْتِ، بِأَنْ كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ بِحَيْثُ يَطْلُعُ الْفَجْرُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ مُزْدَلِفَةَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ، هَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ يَفُوتُ وَقْتُ الْجَمْعِ، فَكَانَ فِي تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ صِيَانَتُهَا عَنْ الْفَوَاتِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَخْشَى الْفَوَاتَ لِأَجْلِ ضِيقِ الْوَقْتِ، وَلَكِنَّهُ ضَلَّ عَنْ الطَّرِيقِ لَا يُصَلِّي، بَلْ يُؤَخِّرُ إلَى أَنْ يَخَافَ طُلُوعَ الْفَجْرِ لَوْ لَمْ يَصِلْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُصَلِّي لِمَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ، وَيَبِيتُ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ بِمُزْدَلِفَةَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاتَ بِهَا، فَإِنْ مَرَّ بِهَا مَارًّا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبِيتَ بِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ مُسِيئًا، وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ

أَتَى بِالرُّكْنِ، وَهُوَ كَيْنُونَتُهُ بِمُزْدَلِفَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، لَكِنَّهُ يَكُونُ مُسِيئًا لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ، وَهِيَ الْبَيْتُوتَةُ بِهَا فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى الْإِمَامُ بِهِمْ صَلَاةَ الْفَجْرِ بِغَلَسٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاةَ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ، وَصَلَاةَ الْمَغْرِبِ بِجَمْعٍ، وَصَلَاةَ الْفَجْرِ يَوْمَئِذٍ، فَإِنَّهُ صَلَّاهَا قَبْلَ وَقْتِهَا بِغَلَسٍ» أَيْ: صَلَّاهَا قَبْلَ وَقْتِهَا الْمُسْتَحَبِّ بِغَلَسٍ، وَلِأَنَّ الْفَائِتَ بِالتَّغْلِيسِ فَضِيلَةُ الْإِسْفَارِ، وَأَنَّهَا مُمْكِنُ الِاسْتِدْرَاكِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَأَمَّا فَضِيلَةُ الْوُقُوفِ، فَلَا تُسْتَدْرَكُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ بِهِمْ وَقَفَ بِالنَّاسِ، وَوَقَفُوا وَرَاءَهُ أَوْ مَعَهُ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِفُهُمْ عَلَى الْجَبَلِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ قُزَحُ، وَهُوَ تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلْمَشْعَرِ الْحَرَامِ أَنَّهُ الْجَبَلُ وَمَا حَوْلَهُ، وَعِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ هُوَ مُزْدَلِفَةُ فَيَقِفُونَ إلَى أَنْ يُسْفِرَ جِدًّا يَدْعُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُكَبِّرُونَ، وَيُهَلِّلُونَ، وَيَحْمَدُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ، وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَسْأَلُونَ حَوَائِجَهُمْ، ثُمَّ يَدْفَعُ مِنْهَا إلَى مِنًى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانَتْ تَنْفِرُ مِنْ هَذَا الْمَقَامِ، وَالشَّمْسُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ فَخَالِفُوهُمْ» فَأَفَاضَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَقَدْ كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَقُولُ بِمُزْدَلِفَةَ: أَشْرِقْ ثَبِيرَ كَيْمَا نُغِيرُ، وَهُوَ جَبَلٌ عَالٍ تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ قَبْلَ كُلِّ مَوْضِعٍ فَخَالَفَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَإِنْ دَفَعَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ النَّاسُ الْفَجْرَ فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، أَمَّا الْإِسَاءَةُ فَلِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَجْرَ، وَيَقِفَ ثُمَّ يُفِيضَ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ تَرَكَ السُّنَّةَ فَيَكُونُ مُسِيئًا. وَأَمَّا عَدَمُ لُزُومِ شَيْءٍ فَلِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ الرُّكْنُ، وَهُوَ الْوُقُوفُ، وَلَوْ سَاعَةً، وَإِذَا أَفَاضَ مِنْ جَمْعٍ دَفَعَ عَلَى هَيِّنَتِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا فَعَلَ. وَيَأْخُذُ حَصَى الْجِمَارِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ أَوْ مِنْ الطَّرِيقِ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنْ يَأْخُذَ الْحَصَى مِنْ مُزْدَلِفَةَ» ، وَعَلَيْهِ فِعْلُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْإِجْمَاعِ. وَإِنْ رَمَى بِحَصَاةٍ أَخَذَهَا مِنْ الْجَمْرَةِ أَجْزَأَهُ. وَقَدْ أَسَاءَ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهَا حَصًى مُسْتَعْمَلَةٌ، وَلَنَا قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ارْمِ، وَلَا حَرَجَ» مُطْلَقًا، وَتَعْلِيلُ مَالِكٍ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ عِنْدَهُ طَاهِرٌ وَطَهُورٌ حَتَّى يَجُوزَ الْوُضُوءُ بِهِ، فَالْحِجَارَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ أَوْلَى، وَإِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ عِنْدَنَا لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ مِنْ عَهْدِ إبْرَاهِيمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ يَرْمِي النَّاسُ، وَلَيْسَ هَهُنَا إلَّا هَذَا الْقَدْرُ فَقَالَ: كُلُّ حَصَاةٍ تُقْبَلُ فَإِنَّهَا تُرْفَعُ، وَمَا لَا يُقْبَلُ فَإِنَّهُ يَبْقَى. وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ إلَّا سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُكْرَهُ أَنْ يَرْمِيَ بِحَصَاةٍ لَمْ تُقْبَلْ فَيَأْتِيَ مِنًى فَيَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَتَى مِنًى لَمْ يَعْرُجْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ سَبْعَ حَصَيَاتٍ» يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ يَرْمِي بِهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، لِمَا رَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطَعَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ حَصَاةٍ رَمَى بِهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» ، وَكَانَ أُسَامَةُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَرَفَاتٍ إلَى مُزْدَلِفَةَ، وَالْفَضْلُ كَانَ رَدِيفَهُ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إلَى مِنًى. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَخِي الْفَضْلُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطَعَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ حَصَاةٍ رَمَى بِهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» ، وَكَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي الْحَجِّ الصَّحِيحِ أَوْ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ أَنَّهُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ يَرْمِي بِهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ؛ لِأَنَّ أَعْمَالَهَا لَا تَخْتَلِفُ، فَلَا يَخْتَلِفُ وَقْتُ قَطْعِ التَّلْبِيَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ أَوْ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ الْقَارِنَ وَالْمُتَمَتِّعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ، فَكَانَ كَالْمُفْرِدِ بِهِ، وَلَا يَقْطَعُ الْقَارِنُ التَّلْبِيَةَ إذَا أَخَذَ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا يَقْطَعُ عِنْدَ مَا يَقْطَعُ الْمُفْرِدُ بِالْحَجَّةِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ إتْيَانِهِ بِالْعُمْرَةِ كَالْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ، فَأَمَّا الْمُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ الْمُفْرَدَةِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ، وَأَخَذَ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ، وَبَيْنَ الْمُحْرِمِ بِالْعُمْرَةِ الْمُفْرَدَةِ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُفْرِدِ بِالْعُمْرَةِ: يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا رَأَى الْبَيْتَ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ قَطْعَ التَّلْبِيَةِ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ هُوَ نُسُكٌ كَالرَّمْيِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ، وَرُؤْيَةُ الْبَيْتِ لَيْسَ بِنُسُكٍ، فَلَا يَقْطَعُ عِنْدَنَا، فَأَمَّا اسْتِلَامُ الْحَجَرِ فَنُسُكٌ كَالرَّمْيِ فَيَقْطَعُ عِنْدَهُ لَا عِنْدَ الرُّؤْيَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: إنَّ فَائِتَ الْحَجِّ إذَا تَحَلَّلَ بِالْعُمْرَةِ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ حَيْثُ يَأْخُذُ فِي الطَّوَافِ كَذَا هَذَا، وَالْقَارِنُ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ فِي الطَّوَافِ، وَالثَّانِي الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ مِنْ حَجَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ

مَا فَاتَتْهُ، إذْ لَيْسَ لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ فَيَأْتِي بِهَا فَيَطُوفُ، وَيَسْعَى كَمَا كَانَ يَفْعَلُ لَوْ لَمْ يَفُتْهُ الْحَجُّ، وَإِنَّمَا فَاتَهُ الْحَجُّ فَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ فَائِتُ الْحَجِّ، وَهُوَ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، وَهِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ كَالْمُقِيمِ فَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا أَخَذَ فِي طَوَافِ الْحَجِّ، وَالْمُحْصَرُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا ذَبَحَ عَنْهُ هَدْيَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا ذَبَحَ هَدْيَهُ فَقَدْ تَحَلَّلَ، وَلَا تَلْبِيَةَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ، فَإِنْ حَلَقَ الْحَاجُّ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ؛ لِأَنَّهُ بِالْحَلْقِ تَحَلَّلَ مِنْ الْإِحْرَامِ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ حَلَقَ قَبْلَ الرَّمْيِ: «ارْمِ، وَلَا حَرَجَ» فَثَبَتَ أَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْ الْإِحْرَامِ يَحْصُلُ بِالْحَلْقِ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَلَا تَلْبِيَةَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ، فَإِنْ زَارَ الْبَيْتَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ، وَيَحْلِقَ وَيَذْبَحَ، قَطَعَ التَّلْبِيَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُلَبِّي مَا لَمْ يَحْلِقْ أَوْ تَزُولُ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ فِي رِوَايَةٍ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْهُ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَرْمِ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْهُ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ، فَظَاهِرُ رِوَايَتِهِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ، وَإِنْ طَافَ فَإِحْرَامُهُ قَائِمٌ لَمْ يَتَحَلَّلْ بِهَذَا الطَّوَافِ إذَا لَمْ يَحْلِقْ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ الطِّيبُ وَاللُّبْسُ، فَالْتَحَقَ الطَّوَافُ بِالْعَدَمِ، وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَطُفْ فَلَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إلَّا إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ هَذَا الرَّمْيَ مُؤَقَّتٌ بِالزَّوَالِ، فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ يَفُوتُ وَقْتُهُ، وَيَفْعَلُ بَعْدَهُ قَضَاءً، فَصَارَ فَوَاتُهُ عَنْ وَقْتِهِ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِهِ فِي وَقْتِهِ، وَعِنْدَ فِعْلِهِ فِي وَقْتِهِ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ. كَذَا عِنْدَ فَوَاتِهِ عَنْ وَقْتِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَقَ قَبْلَ الرَّمْيِ؛ لِأَنَّهُ تَحَلَّلَ بِالْحَلْقِ، وَخَرَجَ عَنْ إحْرَامِهِ حَتَّى يُبَاحَ لَهُ الطِّيبُ وَاللُّبْسُ لِذَلِكَ افْتَرَقَا، وَلَهُمَا أَنَّ الطَّوَافَ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ وَالذَّبْحِ، فَقَدْ وَقَعَ التَّحَلُّلُ بِهِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ جَامَعَ بَعْدَهُ لَا يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ، فَكَانَ التَّحَلُّلُ بِالطَّوَافِ كَالتَّحَلُّلِ بِالْحَلْقِ، فَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ بِهِ كَمَا يَقْطَعُ بِالْحَلْقِ. وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إنَّ إحْرَامَهُ قَائِمٌ بَعْدَ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: نَعَمْ لَكِنْ فِي حَقِّ الطِّيبِ وَاللُّبْسِ، لَا فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَلَمْ يَكُنْ قَائِمًا مُطْلَقًا، وَالتَّلْبِيَةُ لَمْ تُشْرَعْ إلَّا فِي الْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ، وَلَوْ ذَبَحَ قَبْلَ الرَّمْيِ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا كَانَ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ لَا يَقْطَعُ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ مِنْ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ مُحَلَّلٌ كَالْحَلْقِ، وَلَا تَلْبِيَةَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ، فَأَمَّا الْمُفْرِدُ فَتَحَلُّلُهُ لَا يَقِفُ عَلَى ذَبْحِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ، فَلَا يَقْطَعُ عِنْدَهُ التَّلْبِيَةَ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ، وَالتَّحَلُّلُ لَا يَقَعُ بِالذَّبْحِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا يَقَعُ بِالرَّمْيِ أَوْ بِالْحَلْقِ، وَيَرْمِي سَبْعَ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَزَفِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ائْتِنِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَزَفِ فَأَتَاهُ بِهِنَّ فَجَعَلَ يُقَلِّبُهُنَّ بِيَدِهِ، وَيَقُولُ: مِثْلُهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ لَا تَغْلُوا فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ» . وَقَدْ قَالُوا: لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِنًى، وَعَلَّمَنَا الْمَنَاسِكَ، وَقَالَ: ارْمُوا سَبْعَ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَزَفِ، وَوَضَعَ إحْدَى سَبَّابَتَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى كَأَنَّهُ يَخْذِفُ» ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يُصِيبَ غَيْرَهُ لِازْدِحَامِ النَّاسِ فَيَتَأَذَّى بِهِ، وَيَرْمِي مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ يَرْمِيهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ سَبْعَ حَصَيَاتٍ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ يَرْمِيهَا فَقِيلَ لَهُ: إنَّ نَاسًا يَرْمُونَ مِنْ فَوْقِهَا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذَا وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُتْبِعُ كُلَّ حَصَاةٍ بِتَكْبِيرَةٍ، وَيَقُولُ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ» ، وَعَنْ ابْنِهِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ اسْتَبْطَنَ الْوَادِي فَرَمَى الْجَمْرَةَ سَبْعَ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا، وَعَمَلًا مَشْكُورًا، وَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ، وَيَقُولُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ مِثْلَ مَا قُلْتُ» ، وَإِنْ رَمَى مِنْ فَوْقِ الْعَقَبَةِ أَجْزَأَهُ، لَكِنَّ السُّنَّةَ مَا ذَكَرْنَا. وَكَذَا لَوْ جَعَلَ بَدَلَ التَّكْبِيرِ تَسْبِيحًا أَوْ تَهْلِيلًا جَازَ، وَلَا يَكُونُ مُسِيئًا. وَقَدْ قَالُوا إذَا رَمَى لِلْعَقَبَةِ يَجْعَلُ الْكَعْبَةَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَيَقُومُ فِيهَا حَيْثُ يَرَى مَوْقِعَ حَصَاهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى إلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى جَعَلَ الْكَعْبَةَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ رَمَى أَجْزَأَهُ حَجَرًا كَانَ أَوْ طِينًا أَوْ غَيْرَهُمَا مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، وَهَذَا عِنْدَنَا

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْحَجَرِ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ يُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ، وَالتَّوْقِيفُ وَرَدَ بِالْحَصَى، وَالْحَصَى هِيَ الْأَحْجَارُ الصِّغَارُ، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ارْمِ، وَلَا حَرَجَ» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَوَّلُ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا الرَّمْيُ ثُمَّ الذَّبْحُ ثُمَّ الْحَلْقُ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ رَمَى وَذَبَحَ وَحَلَقَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ» مُطْلَقًا عَنْ صِفَةِ الرَّمْيِ، وَالرَّمْيُ بِالْحَصَى مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَحْمُولٌ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ لَا الْجَوَازِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، لِمَا صَحَّ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بَلْ يَجْرِي الْمُطْلَقُ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَالْمُقَيَّدُ عَلَى تَقْيِيدِهِ مَا أَمْكَنَ، وَهَهُنَا أَمْكَنَ بِأَنْ يُحْمَلَ الْمُطْلَقُ عَلَى أَصْلِ الْجَوَازِ، وَالْمُقَيَّدُ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَ هَذِهِ الْجَمْرَةِ لِلدُّعَاءِ بَلْ يَنْصَرِفُ إلَى رَحْلِهِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ رَمْيٍ لَيْسَ بَعْدَهُ رَمْيٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا يَقِفُ عِنْدَهُ، وَكُلُّ رَمْيٍ بَعْدَهُ رَمْيٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَقِفُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقِفْ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَوَقَفَ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ ثُمَّ الرَّمْيُ مَاشِيًا أَفْضَلُ أَوْ رَاكِبًا، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فَصَّلَ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا، فَإِنَّهُ حَكَى أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ الْجَرَّاحِ دَخَلَ عَلَى أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ مَرِيضٌ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَسَأَلَهُ أَبُو يُوسُفَ فَقَالَ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ الرَّمْيُ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا؟ فَقَالَ: مَاشِيًا فَقَالَ: أَخْطَأْتَ ثُمَّ قَالَ: رَاكِبًا فَقَالَ: أَخْطَأْتَ، وَقَالَ: كُلُّ رَمْيٍ بَعْدَهُ رَمْيٌ فَالْمَاشِي أَفْضَلُ، وَكُلُّ رَمْيٍ لَا رَمْيَ بَعْدَهُ فَالرَّاكِبُ أَفْضَلُ قَالَ: فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ فَسَمِعْتُ النَّاعِيَ بِمَوْتِهِ قَبْلَ أَنْ أَبْلُغَ الْبَابَ، ذَكَرْنَا هَذِهِ الْحِكَايَةَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ بَلَغَ حِرْصَهُ فِي التَّعْلِيمِ حَتَّى لَمْ يَسْكُتْ عَنْهُ فِي رَمَقِهِ فَيُقْتَدَى بِهِ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى التَّعْلِيمِ، وَهَذَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ رَمْيٍ بَعْدَهُ رَمْيٌ فَالسُّنَّةُ فِيهِ هُوَ الْوُقُوفُ لِلدُّعَاءِ، وَالْمَاشِي أَمْكَنُ لِلْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ. وَكُلُّ رَمْيٍ لَا رَمْيَ بَعْدَهُ فَالسُّنَّةُ فِيهِ هُوَ الِانْصِرَافُ لَا الْوُقُوفُ، وَالرَّاكِبُ أَمْكَنُ مِنْ الِانْصِرَافِ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ رَمَى رَاكِبًا، وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هَذَا» فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى رَمْيٍ لَا رَمْيَ بَعْدَهُ أَوْ عَلَى التَّعْلِيمِ لِيَرَاهُ النَّاسُ فَيَتَعَلَّمُوا مِنْهُ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، فَإِنْ رَمَى إحْدَى الْجِمَارِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ جَمِيعًا دَفْعَةً وَاحِدَةً فَهِيَ عَنْ وَاحِدَةٍ، وَيَرْمِي سِتَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ التَّوْقِيفَ وَرَدَ بِتَفْرِيقِ الرَّمَيَاتِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الِاسْتِنْجَاءِ أَنَّهُ إذَا اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ وَاحِدٍ وَأَنْقَاهُ كَفَاهُ، وَلَا يُرَاعَى فِيهِ الْعَدَدُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الِاسْتِنْجَاءِ ثَبَتَ مَعْقُولًا بِمَعْنَى التَّطْهِيرِ فَإِذَا حَصَلَتْ الطَّهَارَةُ بِوَاحِدٍ اكْتَفَى بِهِ، فَأَمَّا الرَّمْيُ فَإِنَّمَا وَجَبَ تَعَبُّدًا مَحْضًا فَيُرَاعَى فِيهِ مَوْرِدُ التَّعَبُّدِ، وَأَنَّهُ وَرَدَ بِالتَّفْرِيقِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَمَى أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِ حَصَيَاتٍ لَمْ تَضُرَّهُ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْوَاجِبِ وَزِيَادَةٍ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَرْمِيَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ لِمَا رَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرْمِ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَرَمَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ» ، وَلَوْ رَمَى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ أَجْزَأَهُ خِلَافًا لِسُفْيَانَ. وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَرْمِي يَوْمَئِذٍ غَيْرَهَا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرْمِ يَوْمَ النَّحْرِ إلَّا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» فَإِذَا فَرَغَ مِنْ هَذَا الرَّمْيِ لَا يَقِفُ، وَيَنْصَرِفُ إلَى رَحْلِهِ، فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا بِالْحَجِّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ، وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَا ذَبَحَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَ وَيَحْلِقَ وَيُقَدِّمَ الذَّبْحَ عَلَى الْحَلْقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] رَتَّبَ قَضَاءَ التَّفَثِ، وَهُوَ الْحَلْقُ عَلَى الذَّبْحِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَوَّلُ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا الرَّمْيُ ثُمَّ الذَّبْحُ ثُمَّ الْحَلْقُ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ رَمَى ثُمَّ ذَبَحَ ثُمَّ دَعَا بِالْحَلَّاقِ» ، فَإِنْ حَلَقَ قَبْلَ الذَّبْحِ مِنْ غَيْرِ إحْصَارٍ فَعَلَيْهِ لِحَلْقِهِ قَبْلَ الذَّبْحِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ إذَا حَلَقَ قَبْلَ الذَّبْحِ أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، احْتَجَّ مَنْ خَالَفَهُ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ فَقَالَ: اذْبَحْ، وَلَا حَرَجَ» ، وَلَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ وَاجِبًا لَكَانَ فِي تَرْكِهِ حَرَجٌ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الِاسْتِدْلَال بِالْمُحْصَرِ إذَا حَلَقَ قَبْلَ الذَّبْحِ لِأَذًى فِي رَأْسِهِ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ بِالنَّصِّ، فَاَلَّذِي يَحْلِقُ رَأْسَهُ بِغَيْرِ أَذًى بِهِ أَوْلَى، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِزِيَادَةِ التَّغْلِيظِ فِي حَقِّ مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ قَبْلَ الذَّبْحِ بِغَيْرِ أَذًى حَيْثُ قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ الدَّمِ، وَصَاحِبُ الْأَذَى مُخَيَّرٌ بَيْنَ الدَّمِ وَالطَّعَامِ وَالصِّيَامِ كَمَا خَيَّرَهُ

اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ سَبَبٌ لِتَخْفِيفِ الْحُكْمِ وَتَيْسِيرِهِ، فَالْمَعْقُولُ أَنْ يَجِبَ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ بِذَلِكَ السَّبَبِ زِيَادَةُ غِلَظٍ لَمْ يَكُنْ فِي حَالِ الْعُذْرِ، فَأَمَّا أَنْ يَسْقُطَ مِنْ الْأَصْلِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْعُذْرِ وَيَجِبَ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ فَمُمْتَنِعٌ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا حَرَجَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِثْمُ لَا الْكَفَّارَةُ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ انْتِفَاءِ الْإِثْمِ انْتِفَاءُ الْكَفَّارَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عَلَى مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِأَذًى بِهِ، وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ. وَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْخَاطِئِ فَإِذَا حَلَقَ الْحَاجُّ أَوْ قَصَّرَ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَظَرَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ إلَّا النِّسَاءَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ يَزُورُ الْبَيْتَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ أَوْ مِنْ الْغَدِ أَوْ بَعْدَ الْغَدِ، وَلَا يُؤَخِّرُهَا عَنْهَا، وَأَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَافَ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ» فَيَطُوفُ أُسْبُوعًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا طَافَ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَرْمُلُ فِي هَذَا الطَّوَافِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَعْيَ عَقِيبَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ طَافَ طَوَافَ اللِّقَاءِ، وَسَعَى عَقِيبَهُ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ طَافَ طَوَافَ اللِّقَاءِ، وَلَا سَعْيَ فَإِنَّهُ يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ عَقِيبَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَلَوْ أَخَّرَهُ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَتْ، فَإِذَا طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَهُ حَلَّ لَهُ النِّسَاءُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ الْعِبَادَةِ، وَمَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَرْكَانِهَا، وَالْأَصْلُ أَنَّ فِي الْحَجِّ إحْلَالَيْنِ: الْإِحْلَالُ الْأَوَّلُ بِالْحَلْقِ أَوْ بِالتَّقْصِيرِ وَيَحِلُّ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ، وَالْإِحْلَالُ الثَّانِي بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَيَحِلُّ بِهِ النِّسَاءُ أَيْضًا ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مِنًى، وَلَا يَبِيتُ بِمَكَّةَ، وَلَا فِي الطَّرِيقِ، هُوَ السُّنَّةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا فَعَلَ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَبِيتَ فِي غَيْرِ مِنًى فِي أَيَّامِ مِنًى، فَإِنْ فَعَلَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ مُسِيئًا؛ لِأَنَّ الْبَيْتُوتَةَ بِهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ بَلْ هِيَ سُنَّةٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عِنْدَهُ، وَاحْتَجَّ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَفْعَالِهِ عَلَى الْوُجُوبِ فِي الْأَصْلِ، وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْخَصَ لِلْعَبَّاسِ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لِلسِّقَايَةِ» ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ الْعَبَّاسُ يَتْرُكُ الْوَاجِبَ لِأَجْلِ السِّقَايَةِ، وَلَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرَخِّصُ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَفِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحْمُولٌ عَلَى السُّنَّةِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، وَإِذَا بَاتَ بِمِنًى فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ، فَإِنَّهُ يَرْمِي الْجِمَارَ الثَّلَاثَ بَعْدَ الزَّوَالِ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا الْمُسَمَّى بِالْجَمْرَةِ الْأُولَى، وَهِيَ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ، وَهُوَ مَسْجِدُ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَيَرْمِي عِنْدَهَا سَبْعَ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَزَفِ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا يَقِفُ عِنْدَهَا فَيُكَبِّرُ، وَيُهَلِّلُ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى حَوَائِجَهُ، ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى فَيَفْعَلُ بِهَا مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْأُولَى، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ بَسْطًا ثُمَّ يَأْتِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَقِفُ لِلدُّعَاءِ بَعْدَ هَذِهِ الْجَمْرَةِ، بَلْ يَنْصَرِفُ إلَى رَحْلِهِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَابْتَدَأَ بِاَلَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ، وَوَقَفَ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ، وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ الثَّالِثَةِ» . وَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ، وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا، وَعِنْدَ الْمَقَامَيْنِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ» فَإِذَا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ أَمْسِ، فَإِذَا رَمَى فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ مِنْ مِنًى، وَيَدْخُلَ مَكَّةَ نَفَرَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] ، وَإِنْ أَقَامَ وَلَمْ يَنْفِرْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ، وَيَرْمِي الْجِمَارَ الثَّلَاثَ، وَلَوْ نَفَرَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَسَاءَ، أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهُ نَفَرَ فِي وَقْتٍ لَمْ يَجِبْ فِيهِ الرَّمْيُ بَعْدُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ رَمَى فِيهِ عَنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ لَمْ يَجُزْ، فَجَازَ فِيهِ النَّفْرُ كَمَا لَوْ رَمَى الْجِمَارَ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا ثُمَّ نَفَرَ، وَأَمَّا الْإِسَاءَةُ فَلِأَنَّهُ تَرَكَ السُّنَّةَ فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ ثُمَّ يَنْفِرُ، فَإِنْ نَفَرَ قَبْلَ الرَّمْيِ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ أَوْ فِي النَّفْرِ الثَّانِي، فَإِنَّهُ يَحْمِلُ ثِقَلَهُ مَعَهُ، وَيُكْرَهُ تَقْدِيمُهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمَرْءُ مِنْ حَيْثُ رَحْلُهُ» . وَرُوِيَ: «الْمَرْءُ مِنْ حَيْثُ أَهْلُهُ» ، وَلِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ يَشْتَغِلُ قَلْبُهُ بِذَلِكَ، وَلَا يَخْلُو مِنْ ضَرَرٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ عَلَى ذَلِكَ. وَحُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

فصل شرائط أركان الحج

إنَّمَا كَانَ يُضْرِبُ عَلَى تَقْدِيمِ الثِّقَلِ مَخَافَةَ السَّرِقَةِ، ثُمَّ يَأْتِي الْأَبْطَحَ، وَيُسَمَّى الْمُحَصَّبَ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مِنًى وَبَيْنَ مَكَّةَ فَيَنْزِلُ بِهِ سَاعَةً، فَإِنَّهُ سُنَّةٌ عِنْدَنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ نَزَلُوا بِالْأَبْطَحِ» . ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ فَيَطُوفُ طَوَافَ الصَّدْرِ تَوْدِيعًا لِلْبَيْتِ، وَلِهَذَا يُسَمَّى طَوَافَ الْوَدَاعِ، وَأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى أَهْلِ الْآفَاقِ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَيَطُوفُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ لَا رَمَلَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ طَوَافٌ لَا سَعْيَ بَعْدَهُ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَرْكَانِ وَالْوَاجِبَاتِ، كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِ الصَّدْرِ يَأْتِي الْمَقَامَ فَيُصَلِّي عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَأْتِي زَمْزَمَ فَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، وَيَصُبُّ عَلَى وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ ثُمَّ يَأْتِي الْمُلْتَزَمَ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالْبَابِ، فَيَضَعُ صَدْرَهُ وَجَبْهَتَهُ عَلَيْهِ، وَيَتَشَبَّثُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَيَدْعُو ثُمَّ يَرْجِعُ، وَذَكَرَ فِي الْعُيُونِ كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ: وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ، وَيُكَبِّرُ ثُمَّ يَرْجِعُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إنْ دَخَلَ الْبَيْتَ فَحَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ لَمْ يَضُرَّهُ، وَيَقُولُ عِنْدَ رُجُوعِهِ: آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعَدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ أَرْكَانِ الْحَجَّ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ أَرْكَانِهِ فَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فَإِنَّهُ كَمَا هُوَ شَرْطُ الْوُجُوبِ، فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ، وَمِنْهَا الْعَقْلُ فَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْحَجِّ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا، فَأَمَّا الْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَا مِنْ شَرَائِطِ الْجَوَازِ، فَيَجُوزُ حَجُّ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَالْعَبْدِ الْكَبِيرِ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ لَكِنَّهُ لَا يَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِعَدَمِ الْوُجُوبِ، وَمِنْهَا الْإِحْرَامُ عِنْدَنَا، وَالْكَلَامُ فِي الْإِحْرَامِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنَّهُ شَرْطٌ، وَفِي بَيَانِ مَا يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا، وَفِي بَيَانِ زَمَانِ الْإِحْرَامِ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُحْرِمُ بِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْمُحْرِمِ إذَا مُنِعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ، وَمَا لَا يَحْظُرُهُ، وَفِي بَيَانِ مَا يَجِبُ بِفِعْلِ الْمَحْظُورِ مِنْهُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْإِحْرَامُ شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رُكْنٌ، وَعَنَى بِهِ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي تَحْرِيمِهِ الصَّلَاةَ، وَيَتَضَمَّنُ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ بَيَانَ زَمَانِ الْإِحْرَامِ أَنَّهُ جَمِيعُ السَّنَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ أَشْهُرُ الْحَجِّ حَتَّى يَجُوزَ الْإِحْرَامُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ عِنْدَنَا، لَكِنَّهُ يُكْرَهُ، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ رَأْسًا، وَيَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ لَا لِلْحَجَّةِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا يَنْعَقِدُ لِلْحَجَّةِ، وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ: أَنَّ الْإِحْرَامَ لَمَّا كَانَ شَرْطًا لِجَوَازِ أَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ عِنْدَنَا جَازَ وُجُودُهُ قَبْلَ هُجُومِ وَقْتِ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ، كَمَا تَجُوزُ الطَّهَارَةُ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَلَمَّا كَانَ رُكْنًا عِنْدَهُ لَمْ يَجُزْ سَابِقًا عَلَى وَقْتِهِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ أَفْعَالِ الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا لَا يَجُوزُ كَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، فَنَتَكَلَّمُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً وَابْتِدَاءً. أَمَّا الْبِنَاءُ فَوَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إنَّ الَّذِي أَحْرَمَ بِالْحَجِّ يُؤْمَرُ بِإِتْمَامِهِ. وَكَذَا الْمُحْرِمُ لِلصَّلَاةِ يُؤْمَرُ بِإِتْمَامِهَا لَا بِالِابْتِدَاءِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْإِحْرَامُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ لَأَمَرَ بِالِابْتِدَاءِ لَا بِالْإِتْمَامِ فَدَلَّ أَنَّهُ رُكْنٌ فِي نَفْسِهِ، وَشَرْطٌ لِجَوَازِ أَدَاءِ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَفْعَالِ، وَلَنَا أَنَّ رُكْنَ الشَّيْءِ مَا يَأْخُذُ الِاسْمَ مِنْهُ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَالْإِمْسَاكِ فِي بَابِ الصَّوْمِ. وَقَدْ يَكُونُ مَعَانِيَ مُخْتَلِفَةً، كَالْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي بَابِ الْبَيْعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَشَرْطُهُ: مَا يَأْخُذُ الِاعْتِبَارَ مِنْهُ، كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، وَالشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْحَجُّ يَأْخُذُ الِاسْمَ مِنْ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ لَا مِنْ الْإِحْرَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ، وَحِجُّ الْبَيْتِ: هُوَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ، وَقَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَجُّ عَرَفَةَ» أَيْ: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَلَمْ يُطْلِقْ اسْمَ الْحَجِّ عَلَى الْإِحْرَامِ، وَإِنَّمَا بِهِ اعْتِبَارُ الرُّكْنَيْنِ، فَكَانَ شَرْطًا لَا رُكْنًا، وَلِهَذَا جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ شَرْطًا لِأَدَاءِ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَفْعَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْإِتْمَامِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ مَمْنُوعٌ، بَلْ لَا يُؤْمَرُ بِهِ مَا لَمْ يُؤَدِّ بَعْدَ الْإِحْرَامِ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ. وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ فَالشَّافِعِيُّ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] أَيْ وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ؛ إذْ الْحَجُّ نَفْسُهُ لَا يَكُونُ أَشْهُرًا؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ، وَالْأَشْهُرُ أَزْمِنَةٌ فَقَدْ عَيَّنَ اللَّهُ أَشْهُرًا مَعْلُومَةً وَقْتًا لِلْحَجِّ، وَالْحَجُّ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِجُمْلَةٍ مِنْ الْأَفْعَالِ مَعَ شَرَائِطِهَا: مِنْهَا الْإِحْرَامُ، فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِهِ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] ظَاهِرُ الْآيَةِ: يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْأَشْهُرُ كُلُّهَا وَقْتًا لِلْحَجِّ فَيَقْتَضِي جَوَازَ الْإِحْرَامِ بِأَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ فِي الْأَوْقَاتِ

فصل بيان ما يصير به محرما

كُلِّهَا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا تَعْيِينَ هَذِهِ الْأَشْهُرِ لِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] فَيُعْمَلُ بِالنَّصَّيْنِ، فَيُحْمَلُ مَا تَلَوْنَا عَلَى الْإِحْرَامِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ، وَيُحْمَلُ مَا تَلَوْتُمْ عَلَى نَفْسِ الْأَعْمَالِ عَمَلًا بِالنَّصِّ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، ثُمَّ يَجُوزُ الْإِحْرَامُ مِنْ غَيْرِ مَكَانِ الْحَجِّ بِالْإِجْمَاعِ، فَيَجُوزُ فِي غَيْرِ زَمَانِ الْحَجِّ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ أَنْ لَا يُحْرَمَ بِالْحَجِّ إلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَمُخَالِفَةُ السُّنَّةِ مَكْرُوهَةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِأَجْلِ الْوَقْتِ أَمْ لِغَيْرِهِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْكَرَاهَةُ لَيْسَتْ لِأَجْلِ الْوَقْتِ، بَلْ لِمَخَافَةِ الْوُقُوعِ فِي مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ حَتَّى أَنَّ مَنْ أَمِنَ ذَلِكَ لَا يُكْرَهُ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْكَرَاهَةَ لِنَفْسِ الْوَقْتِ، فَإِنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ رَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ الْإِحْرَامَ قَبْلَ الْأَشْهُرِ، وَيَجُوزُ إحْرَامُهُ وَهُوَ لَابِسٌ أَوْ جَالِسٌ فِي خَلُوقٍ أَوْ طِيبٍ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِنَفْسِ الْوَقْتِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا فَنَقُولُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا نَوَى، وَقَرَنَ النِّيَّةَ بِقَوْلٍ وَفِعْلٍ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ أَوْ دَلَائِلِهِ أَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِأَنْ لَبَّى نَاوِيًا بِهِ الْحَجَّ إنْ أَرَادَ بِهِ الْإِفْرَادَ بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ، إنْ أَرَادَ الْإِفْرَادَ بِالْعُمْرَةِ، أَوْ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، إنْ أَرَادَ الْقِرَانَ؛ لِأَنَّ التَّلْبِيَةَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ، وَسَوَاءٌ تَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ مَا نَوَى بِقَلْبِهِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ عَمَلُ الْقَلْبِ لَا عَمَلُ اللِّسَانِ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ مَا نَوَى بِقَلْبِهِ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ كَذَا فَيَسِّرْهُ لِي، وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي لِمَا ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ، وَذَكَرْنَا التَّلْبِيَةَ الْمَسْنُونَةَ، وَلَوْ ذَكَرَ مَكَانَ التَّلْبِيَةِ التَّهْلِيلَ أَوْ التَّسْبِيحَ أَوْ التَّحْمِيدَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى مَقْرُونًا بِالنِّيَّةِ يَصِيرُ مُحْرِمًا. وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ فِي بَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ بِكُلِّ ذِكْرٍ هُوَ ثَنَاءٌ خَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى يُرَادُ بِهِ تَعْظِيمُهُ لَا غَيْرُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ هَهُنَا، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا إلَّا بِلَفْظِ التَّلْبِيَةِ كَمَا لَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ إلَّا بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ فَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ مَرَّا عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الذِّكْرَ الْمَوْضُوعَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ لَا يَخْتَصُّ بِلَفْظٍ دُونَ لَفْظٍ فَفِي بَابِ الْحَجِّ أَوْلَى، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَبِي يُوسُفَ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ: أَنَّ بَابَ الْحَجِّ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ لَا يَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ، وَبَعْضُ الْأَفْعَالِ يَقُومُ مَقَامَ الْبَعْضِ كَالْهَدْيِ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ كَثِيرٍ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لَا يُحْسِنُهَا، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ فِي الصَّلَاةِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْحَجِّ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا إلَّا إذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ فَهُمَا مَرَّا عَلَى أَصْلِهِمَا، وَمُحَمَّدٌ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا لِأَبِي يُوسُفَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَتَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي التَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ بِنَفْسِهِ بِأَمْرِهِ بِلَا خِلَافٍ، حَتَّى لَوْ تَوَجَّهَ يُرِيدُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ فَلَبَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ. وَقَدْ كَانَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، حَتَّى لَوْ عَجَزَ عَنْهُ بِنَفْسِهِ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِذَلِكَ نَصًّا فَأَهَلُّوا عَنْهُ جَازَ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْهَا بِنَفْسِهِ مِنْ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْوُقُوفِ، حَتَّى لَوْ طِيفَ بِهِ وَسُعِيَ وَوُقِفَ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ السَّعْيُ فِي التَّلْبِيَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ فِعْلَهُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ فِعْلًا لَهُ تَقْدِيرًا بِأَمْرِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ، بِخِلَافِ الطَّوَافِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ الْفِعْلَ هُنَاكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلْ الشَّرْطُ حُصُولُهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَقَدْ حَصَلَ، وَالشَّرْطُ هَهُنَا هُوَ التَّلْبِيَةُ، وَقَوْلُ غَيْرِهِ لَا يَصِيرُ قَوْلًا لَهُ إلَّا بِأَمْرِهِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَمْرَ هَهُنَا مَوْجُودٌ دَلَالَةً، وَهِيَ دَلَالَةُ عَقْدِ الْمُرَافَقَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ رُفَقَائِهِ الْمُتَوَجِّهِينَ إلَى الْكَعْبَةِ يَكُونُ آذِنًا لِلْآخَرِ بِإِعَانَتِهِ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ، فَكَانَ الْأَمْرُ مَوْجُودًا دَلَالَةً. وَسَعْيُ الْإِنْسَانِ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ سَعْيًا لِغَيْرِهِ بِأَمْرِهِ فَقُلْنَا بِمُوجَبِ الْآيَةِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ قَلَّدَ بَدَنَةً يُرِيدُ بِهِ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ أَوْ بِالْعُمْرَةِ أَوْ بِهِمَا، وَتَوَجَّهَ مَعَهَا يَصِيرُ مُحْرِمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} [المائدة: 2] ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى بَعْدَهُ {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] ، وَالْحِلُّ يَكُونُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِحْرَامَ فِي الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ التَّقْلِيدَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا الْقَلائِدَ} [المائدة: 2] فَدَلَّ أَنَّ التَّقْلِيدَ مِنْهُمْ مَعَ التَّوَجُّهِ كَانَ إحْرَامًا إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ النِّيَّةُ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ

مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: إذَا قَلَّدَ فَقَدْ أَحْرَمَ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَلَّدَ، وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ فَقَدْ أَحْرَمَ، وَلِأَنَّ التَّقْلِيدَ مَعَ التَّوَجُّهِ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ، فَالنِّيَّةُ اقْتَرَنَتْ بِمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ فَأَشْبَهَ التَّلْبِيَةَ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: لَا يُحْرِمُ إلَّا مَنْ أَهَلَّ، وَلَبَّى فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالتَّقْلِيدِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا قَلَّدَ وَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَبِهِ نَقُولُ: إنَّ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ، وَيُقِيمُ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ» ، وَالتَّقْلِيدُ هُوَ تَعْلِيقُ الْقِلَادَةِ عَلَى عُنُقِ الْبَدَنَةِ مِنْ عُرْوَةٍ مُزَادَةٍ أَوْ شِرَاكِ نَعْلٍ مِنْ أُدْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْجُلُودِ، وَإِنْ قَلَّدَ وَلَمْ يَتَوَجَّهْ وَلَمْ يَبْعَثْ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا، وَإِنْ بَعَثَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِنَفْسِ التَّوْجِيهِ مِنْ غَيْرِ تَوَجُّهٍ، وَالصَّحِيحُ: قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «إنِّي كُنْتُ لَأَفْتِلُ قَلَائِدَ بُدْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَبْعَثُهَا وَيَمْكُثُ عِنْدَنَا حَلَالًا بِالْمَدِينَةِ، لَا يَجْتَنِبُ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ» ، وَلِأَنَّ التَّوْجِيهَ مِنْ غَيْرِ تَوَجُّهٍ لَيْسَ إلَّا أَمْرٌ بِالْفِعْلِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا، كَمَا لَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِالتَّلْبِيَةِ، وَلَوْ تَوَجَّهَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَا قَلَّدَ، وَبَعَثَ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا مَا لَمْ يَلْحَقْهَا، وَيَتَوَجَّهُ مَعَهَا فَإِذَا لَحِقَهَا، وَتَوَجَّهَ مَعَهَا، عِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ مُحْرِمًا إلَّا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ، فَإِنَّ هُنَاكَ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِنَفْسِ التَّوَجُّهِ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِيرَ مُحْرِمًا، ثُمَّ أَيْضًا مَا لَمْ يَلْحَقْ وَيَتَوَجَّهْ مَعَهُ؛ لِأَنَّ السَّيْرَ بِنَفْسِهِ بِدُونِ الْبَدَنَةِ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ، وَلَا دَلِيلَ أَنَّهُ يُرِيدُ الْإِحْرَامَ، فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ، وَاسْتَحْسَنَّا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ لِمَا أَنَّ لِلْهَدْيِ فَضْلَ تَأْثِيرٍ فِي الْبَقَاءِ عَلَى الْإِحْرَامِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ، وَإِنْ لَمْ يَسُقْ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ، فَإِذَا كَانَ لَهُ فَضْلُ تَأْثِيرٍ فِي الْبَقَاءِ عَلَى الْإِحْرَامِ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الِابْتِدَاءِ. وَقَدْ قَالُوا: إنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِنَفْسِ التَّوَجُّهِ فِي أَثَرِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ الْهَدْيَ إذَا كَانَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَا يَصِيرُ مُحْرِمًا حَتَّى يَلْحَقَ الْهَدْيَ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ التَّمَتُّعِ لَا تَثْبُتُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَا يَصِيرُ هَذَا الْهَدْيُ لِلْمُتْعَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَكَانَ هَدْيَ التَّطَوُّعِ، وَلَوْ جَلَّلَ الْبَدَنَةَ وَنَوَى الْحَجَّ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا، وَإِنْ تَوَجَّهَ مَعَهَا؛ لِأَنَّ التَّجْلِيلَ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِدَفْعِ الْحَرِّ، وَالْبَرْدِ عَنْ الْبَدَنَةِ أَوْ لِلتَّزْيِينِ، وَلَوْ قَلَّدَ الشَّاةَ يَنْوِي بِهِ الْحَجَّ وَتَوَجَّهَ مَعَهَا لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا، وَإِنْ نَوَى الْإِحْرَامَ؛ لِأَنَّ تَقْلِيدَ الْغَنَمِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ عِنْدَنَا فَلَمْ يَكُنْ مِنْ دَلَائِلِ الْإِحْرَامِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْغَنَمَ لَا تُقَلَّدُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} [المائدة: 2] عَطَفَ الْقَلَائِدَ عَلَى الْهَدْيِ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ فِي الْأَصْلِ. وَاسْمُ الْهَدْيِ يَقَعُ عَلَى الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ جَمِيعًا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ نَوْعَانِ: مَا يُقَلَّدُ، وَمَا لَا يُقَلَّدُ، ثُمَّ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ يُقَلَّدَانِ بِالْإِجْمَاعِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْغَنَمَ لَا تُقَلَّدُ، لِيَكُونَ عَطْفُ الْقَلَائِدِ عَلَى الْهَدْيِ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ فَيَصِحُّ، وَلَوْ أَشْعَرَ بَدَنَتَهُ، وَتَوَجَّهَ مَعَهَا لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا؛ لِأَنَّ الْإِشْعَارَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ، وَإِيلَامُ الْحَيَوَانِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالتَّقْلِيدِ، وَهُوَ الْإِعْلَامُ بِكَوْنِ الْمُشْعِرِ هَدْيًا لِئَلَّا يُتَعَرَّضَ لَهُ لَوْ ضَلَّ، وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلٍ مَكْرُوهٍ لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ الْإِحْرَامِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ أَشْعَرَ وَتَوَجَّهَ مَعَهَا يَصِيرُ مُحْرِمًا عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْإِشْعَارَ سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا كَالتَّقْلِيدِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلَ الْإِحْرَامِ كَالتَّقْلِيدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا عِنْدَهُمَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِشْعَارَ لَيْسَ بِسُنَّةٍ عِنْدَهُمَا، بَلْ هُوَ مُبَاحٌ فَلَمْ يَكُنْ قُرْبَةً، فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلَ الْإِحْرَامِ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْإِشْعَارَ عِنْدَهُمَا حَسَنٌ، وَلَمْ يُسَمِّهِ سُنَّةً؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إكْمَالٌ لِمَا شُرِعَ لَهُ التَّقْلِيدُ، وَهُوَ إعْلَامُ الْمُقَلِّدِ بِأَنَّهُ هَدْيٌ لِمَا أَنَّ تَمَامَ الْإِعْلَامِ تَحْصُلُ بِهِ سُنَّةٌ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُثْلَةٌ وَبِدْعَةٌ فَتَرَدَّدَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَسَمَّاهُ حَسَنًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْإِشْعَارُ سُنَّةٌ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْعَرَ» ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ كَانَتْ الْمَثُلَةُ مَشْرُوعَةً، ثُمَّ لَمَّا نُهِيَ عَنْ الْمَثُلَةِ انْتَسَخَ بِنَسْخِ الْمَثُلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ قَطْعًا لِأَيْدِي الْمُشْرِكِينَ عَنْ التَّعَرُّضِ لِلْهَدَايَا لَوْ ضَلَّتْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَا يَتَعَرَّضُونَ لِلْهَدَايَا. وَالتَّقْلِيدُ مَا كَانَ يَدُلُّ دَلَالَةً تَامَّةً أَنَّهَا هَدْيٌ، فَكَانَ يَحْتَاجُ إلَى الْإِشْعَارِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهَا هَدْيٌ. وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى فِي زَمَانِنَا فَانْتَسَخَ بِانْتِسَاخِ الْمَثُلَةِ، ثُمَّ الْإِشْعَارُ

فصل بيان مكان الإحرام

هُوَ الطَّعْنُ فِي أَسْفَلِ السَّنَامِ، وَذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ قِبَلِ الْيَمِينِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ بَيْنَ بَعِيرَيْنِ مِنْ قِبَلِ الرُّءُوسِ، وَكَانَ يَضْرِبُ أَوَّلًا الَّذِي عَنْ يَسَارِهِ مِنْ قِبَلِ يَسَارِ سَنَامِهِ، ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَى الْآخَرِ فَيَضْرِبُهُ مِنْ قِبَلِ يَمِينِهِ اتِّفَاقًا لِلْأَوَّلِ لَا قَصْدًا» فَصَارَ الطَّعْنُ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ أَصْلِيًّا، وَالْآخَرُ اتِّفَاقِيًّا، بَلْ الِاعْتِبَارُ الْأَصْلِيُّ أَوْلَى، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي أَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا قَوْلٌ وَفِعْلٌ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ أَوْ دَلَائِلِهِ، ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ: إنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ نِيَّةَ الْإِحْرَامِ إحْرَامًا، وَالنِّيَّةُ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ بَلْ هِيَ شَرْطٌ؛ لِأَنَّهَا عَزْمٌ عَلَى الْفِعْلِ، وَالْعَزْمُ عَلَى فِعْلٍ لَيْسَ ذَلِكَ الْفِعْلَ، بَلْ هُوَ عَقْدٌ عَلَى أَدَائِهِ، وَهُوَ أَنْ تَعْقِدَ قَلْبَكَ عَلَيْهِ أَنَّكَ فَاعِلُهُ لَا مَحَالَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ} [محمد: 21] أَيْ: جَدَّ الْأَمْرُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «خَيْرُ الْأُمُورِ عَوَازِمُهَا» أَيْ مَا وَكَّدْتَ رَأْيَكَ عَلَيْهِ، وَقَطَعْتَ التَّرَدُّدَ عَنْهُ، وَكَوْنُهُ رُكْنًا يُشْعِرُ بِكَوْنِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَكَانَ تَنَاقُضًا، ثُمَّ جَعْلُ الْإِحْرَامِ عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ النِّيَّةِ مُخَالِفٌ لِلُّغَةِ، فَإِنَّ الْإِحْرَامَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْإِهْلَالُ، يُقَالُ: أَحْرَمَ أَيْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِنَا، أَيْ الْإِهْلَالُ لَا بُدَّ مِنْهُ إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِهْلَالَ شَرْطٌ مَا رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَدْ رَآهَا حَزِينَةً مَا لَكِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا قَضَيْتُ عُمْرَتِي، وَأَلْقَانِي الْحَجُّ عَارِكًا، فَقَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاكَ شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى بَنَاتِ آدَمَ حُجِّي وَقُولِي مِثْلَ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي حَجِّهِمْ» فَدَلَّ قَوْلُهُ " قُولِي مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي حَجِّهِمْ " عَلَى لُزُومِ التَّلْبِيَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَهَا، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا حَيْثُ أَمَرَهَا بِاتِّبَاعِهِمْ بِقَوْلِهِ: " قُولِي مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي حَجِّهِمْ "، وَرَوَيْنَا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: لَا يُحْرِمُ إلَّا مَنْ أَهَلَّ وَلَبَّى، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهَا خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا النَّصُّ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا عَنْ أُمَّتِي مَا تَحَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَفْعَلُوا» . وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ النِّيَّةَ وُضِعَتْ لِتَعْيِينِ جِهَةِ الْفِعْلِ فِي الْعِبَادَةِ، وَتَعْيِينُ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَلَمْ يُعَيِّنْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، يَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْوَقْتَ يَقْبَلُ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ أَنَّهُ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ هُنَاكَ لَا يَقْبَلُ صَوْمًا آخَرَ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ، وَالِاسْتِحْسَانُ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ مَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ حَجَّةَ التَّطَوُّعِ، وَيُبْقِي نَفْسَهُ فِي عُهْدَةِ الْفَرْضِ فَيُحْمَلُ عَلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِدَلَالَةِ حَالِهِ، فَكَانَ الْإِطْلَاقُ فِيهِ تَعْيِينًا كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، وَلَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ: يَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّا إنَّمَا أَوْقَعْنَاهُ عَنْ الْفَرْضِ عِنْدَ إطْلَاقِ النِّيَّةِ بِدَلَالَةِ حَالِهِ، وَالدَّلَالَةُ لَا تَعْمَلُ مَعَ النَّصِّ بِخِلَافِهِ، وَلَوْ لَبَّى يَنْوِي الْإِحْرَامَ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فِي حَجٍّ، وَلَا عُمْرَةٍ مَضَى فِي أَيِّهِمَا شَاءَ مَا لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ شَوْطًا، فَإِنْ طَافَ شَوْطًا كَانَ إحْرَامُهُ عَنْ الْعُمْرَةِ، وَالْأَصْلُ فِي انْعِقَادِ الْإِحْرَامِ بِالْمَجْهُولِ: مَا رُوِيَ «أَنَّ عَلِيًّا، وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا قَدِمَا مِنْ الْيَمَنِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَاذَا أَهْلَلْتُمَا؟ فَقَالَا: بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» فَصَارَ هَذَا أَصْلًا فِي انْعِقَادِ الْإِحْرَامِ بِالْمَجْهُولِ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ عِنْدَنَا، وَلَيْسَ بِأَدَاءٍ بَلْ هُوَ عَقْدٌ عَلَى الْأَدَاءِ، فَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ مُجْمَلًا وَيَقِفَ عَلَى الْبَيَانِ، وَإِذَا انْعَقَدَ إحْرَامُهُ جَازَ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ، يَصْرِفُهُ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ مَا لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ شَوْطًا وَاحِدًا، فَإِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ شَوْطًا وَاحِدًا، كَانَ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ رُكْنٌ فِي الْعُمْرَةِ، وَطَوَافُ اللِّقَاءِ فِي الْحَجِّ لَيْسَ بِرُكْنٍ، بَلْ هُوَ سُنَّةٌ فَإِيقَاعُهُ عَنْ الرُّكْنِ أَوْلَى. وَتَتَعَيَّنُ الْعُمْرَةُ بِفِعْلِهِ كَمَا تَتَعَيَّنُ بِقَصْدِهِ قَالَ الْحَاكِمُ فِي الْأَصْلِ: وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَطُفْ حَتَّى جَامَعَ أَوْ أَحْصَرَ كَانَتْ عُمْرَةً؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ قَدْ لَزِمَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ، إذْ الْأَقَلُّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَهُوَ الْعُمْرَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَكَانِ الْإِحْرَامِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَكَانِ الْإِحْرَامِ فَمَكَانُ الْإِحْرَامِ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْمِيقَاتِ فَنَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الْمَوَاقِيتِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ فَنَقُولُ: وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْمَوَاقِيتُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ. وَالنَّاسُ فِي حَقِّ الْمَوَاقِيتِ أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ

صِنْفٌ مِنْهُمْ يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الْآفَاقِ، وَهُمْ الَّذِينَ مَنَازِلُهُمْ خَارِجَ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي وَقَّتَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ خَمْسَةٌ، كَذَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، وَلِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عَرْقٍ، وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُنَّ لِأَهْلِهِنَّ وَلِمَنْ مَرَّ بِهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ» . وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الْحِلِّ، وَهُمْ الَّذِينَ مَنَازِلُهُمْ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ خَارِجَ الْحَرَمِ كَأَهْلِ بُسْتَانِ بَنِي عَامِرٍ وَغَيْرِهِمْ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الْحَرَمِ، وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ، أَمَّا الصِّنْفُ الْأَوَّلُ فَمِيقَاتُهُمْ مَا وَقَّتَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُجَاوِزَ مِيقَاتَهُ إذَا أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ إلَّا مُحْرِمًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وُقِّتَ لَهُمْ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مُقَيَّدًا، وَذَلِكَ إمَّا الْمَنْعُ مِنْ تَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا الْمَنْعُ مِنْ تَأْخِيرِهِ عَنْهُ، وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِمُرَادٍ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ تَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ، وَقَالَ: إنِّي أَحْرَمْتُ بَعْدَ الْمِيقَاتِ، فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ فَلَبِّ، وَإِلَّا فَلَا حَجَّ لَك فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا» ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ بِمُجَاوَزَةِ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ دُخُولَ مَكَّةَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَهَا إلَّا مُحْرِمًا، سَوَاءٌ أَرَادَ بِدُخُولِ مَكَّةَ النُّسُكَ مِنْ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ أَوْ التِّجَارَةِ أَوْ حَاجَةٍ أُخْرَى عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ دَخَلَهَا لِلنُّسُكِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ، وَإِنْ دَخَلَهَا لِحَاجَةٍ جَازَ دُخُولُهُ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ تَجُوزُ السُّكْنَى بِمَكَّةَ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ فَالدُّخُولُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ دُونَ السُّكْنَى،. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ مُنْذُ خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» الْحَدِيثَ. وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا بِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَلَا إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ، وَالثَّانِي بِقَوْلِهِ: لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَالثَّالِثُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ» ، وَلِأَنَّ هَذِهِ بُقْعَةٌ شَرِيفَةٌ لَهَا قَدْرٌ وَخَطَرٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَالدُّخُولُ فِيهَا يَقْتَضِي الْتِزَامَ عِبَادَةٍ إظْهَارًا لِشَرَفِهَا عَلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ، وَأَهْلُ مَكَّةَ بِسُكْنَاهُمْ فِيهَا جُعِلُوا مُعَظِّمِينَ لَهَا بِقِيَامِهِمْ بِعِمَارَتِهَا وَسَدَانَتِهَا وَحِفْظِهَا وَحِمَايَتِهَا؛ لِذَلِكَ أُبِيحَ لَهُمْ السُّكْنَى، وَكُلَّمَا قُدِّمَ الْإِحْرَامُ عَلَى الْمَوَاقِيتِ هُوَ أَفْضَلُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ إذَا كَانَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مَا يَمْنَعُ مِنْهُ الْإِحْرَامُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ فَيَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ لَمَا جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمِيقَاتِ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى أَوْقَاتِهَا، وَتَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ عَلَى الْمِيقَاتِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ إذَا كَانَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَالْخِلَافُ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ دُونَ الْجَوَازِ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ، وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَحْرَمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَا تَأَخَّرَ، وَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» هَذَا إذَا قَصَدَ مَكَّةَ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ، فَأَمَّا إذَا قَصَدَهَا مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مَسْلُوكٍ فَإِنَّهُ يُحْرِمُ إذَا بَلَغَ مَوْضِعًا يُحَاذِي مِيقَاتًا مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَاذَى ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِيقَاتًا مِنْ الْمَوَاقِيتِ صَارَ فِي حُكْمِ الَّذِي يُحَاذِيهِ فِي الْقُرْبِ مِنْ مَكَّةَ، وَلَوْ كَانَ فِي الْبَحْرِ فَصَارَ فِي مَوْضِعٍ لَوْ كَانَ مَكَانَ الْبَحْرِ بَرٌّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَهُ إلَّا بِإِحْرَامٍ، فَإِنَّهُ يُحْرِمُ. كَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَلَوْ حَصَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا فَأَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ أَوْ دُخُولَ مَكَّةَ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هُنَّ لِأَهْلِهِنَّ، وَلِمَنْ مَرَّ بِهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَقَّتْنَا لَهُ وَقْتًا فَهُوَ لَهُ وَلِمَنْ مَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ» ، وَلِأَنَّهُ إذَا مَرَّ بِهِ صَارَ مِنْ أَهْلِهِ فَكَانَ حُكْمُهُ فِي الْمُجَاوَزَةِ حُكْمَهُمْ، وَلَوْ جَاوَزَ مِيقَاتًا مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ إلَى مِيقَاتٍ آخَرَ جَازَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمِيقَاتَ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ صَارَ مِيقَاتًا لَهُ، لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ إلَّا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمِيقَاتِ الْأَوَّلِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي غَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: إذَا مَرُّوا عَلَى الْمَدِينَةِ

فَجَاوَزُوهَا إلَى الْجُحْفَةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُحْرِمُوا مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا حَصَلُوا فِي الْمِيقَاتِ الْأَوَّلِ لَزِمَهُمْ مُحَافَظَةُ حُرْمَتِهِ فَيُكْرَهُ لَهُمْ تَرْكُهَا، وَلَوْ جَاوَزَ مِيقَاتًا مِنْ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ فَجَاوَزَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ عَادَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَأَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَجَاوَزَهُ مُحْرِمًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَأَحْرَمَ الْتَحَقَتْ تِلْكَ الْمُجَاوَزَةُ بِالْعَدَمِ، وَصَارَ هَذَا ابْتِدَاءَ إحْرَامٍ مِنْهُ، وَلَوْ أَحْرَمَ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ ثُمَّ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ، وَلَبَّى سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ لَا يَسْقُطُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَسْقُطُ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَسْقُطُ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ، وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ: أَنَّ وُجُوبَ الدَّمِ بِجِنَايَتِهِ عَلَى الْمِيقَاتِ بِمُجَاوَزَتِهِ إيَّاهُ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ، وَجِنَايَتُهُ لَا تَنْعَدِمُ بِعَوْدِهِ، فَلَا يَسْقُطُ الدَّمُ الَّذِي وَجَبَ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ حَقَّ الْمِيقَاتِ فِي مُجَاوَزَتِهِ إيَّاهُ مُحْرِمًا، لَا فِي إنْشَاءِ الْإِحْرَامِ مِنْهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ، وَلَمْ يُلَبِّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَدَلَّ أَنَّ حَقَّ الْمِيقَاتِ فِي مُجَاوَزَتِهِ إيَّاهُ مُحْرِمًا، لَا فِي إنْشَاءِ الْإِحْرَامِ مِنْهُ، وَبَعْدَ مَا عَادَ إلَيْهِ مُحْرِمًا فَقَدْ جَاوَزَهُ مُحْرِمًا، فَلَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ لِلَّذِي أَحْرَمَ بَعْدَ الْمِيقَاتِ: ارْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ فَلَبِّ، وَإِلَّا فَلَا حَجَّ لَكَ أَوْجَبَ التَّلْبِيَةَ مِنْ الْمِيقَاتِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا، وَلِأَنَّ الْفَائِتَ بِالْمُجَاوَزَةِ هُوَ التَّلْبِيَةُ، فَلَا يَقَعُ تَدَارُكُ الْفَائِتِ إلَّا بِالتَّلْبِيَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، ثُمَّ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مِنْ غَيْرِ إنْشَاءِ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ صَارَ ذَلِكَ مِيقَاتًا لَهُ. وَقَدْ لَبَّى مِنْهُ فَلَا يَلْزَمُهُ تَلْبِيَةٌ، وَإِذَا لَمْ يُحْرِمْ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ كَانَ مِيقَاتُهُ الْمَكَانَ الَّذِي تَجِبُ التَّلْبِيَةُ مِنْهُ، وَهُوَ الْمِيقَاتُ الْمَعْهُودُ، وَمَا قَالَهُ زُفَرُ إنَّ الدَّمَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِجِنَايَتِهِ عَلَى الْمِيقَاتِ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَمَّا عَادَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ فَمَا جَنَى عَلَيْهِ، بَلْ تَرَكَ حَقَّهُ فِي الْحَالِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّدَارُكِ. وَقَدْ تَدَارَكَهُ بِالْعَوْدِ إلَى التَّلْبِيَةِ، وَلَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَأَحْرَمَ وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْمِيقَاتِ حَتَّى طَافَ شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ، أَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ، أَوْ كَانَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ ثُمَّ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَ الْإِحْرَامُ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ تَأَكَّدَ عَلَيْهِ الدَّمُ، فَلَا يَسْقُطُ بِالْعَوْدِ، وَلَوْ عَادَ إلَى مِيقَاتٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي جَاوَزَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَعَوْدُهُ إلَى هَذَا الْمِيقَاتِ وَإِلَى مِيقَاتٍ آخَرَ سَوَاءٌ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فَصَّلَ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا فَقَالَ: إنْ كَانَ الْمِيقَاتُ الَّذِي عَادَ إلَيْهِ يُحَاذِي الْمِيقَاتَ الْأَوَّلَ أَوْ أَبْعَدَ مِنْ الْحَرَمِ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِلَّا فَلَا، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ مِيقَاتٌ لِأَهْلِهِ، وَلِغَيْرِ أَهْلِهِ بِالنَّصِّ مُطْلَقًا عَنْ اعْتِبَارِ الْمُحَاذَاةِ، وَلَوْ لَمْ يَعُدْ إلَى الْمِيقَاتِ لَكِنَّهُ أَفْسَدَ إحْرَامَهُ بِالْجِمَاعِ قَبْلَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ إنْ كَانَ إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ أَوْ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، إنْ كَانَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَانْجَبَرَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْقَضَاءِ كَمَنْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا فَقَضَاهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَكَذَلِكَ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِالْعُمْرَةِ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ، وَسَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الدَّمُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ، وَلَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ أَوْ الْحَرَمَ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ يَلْزَمُهُ إمَّا حَجَّةٌ وَإِمَّا عُمْرَةٌ؛ لِأَنَّ مُجَاوَزَةَ الْمِيقَاتِ عَلَى قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ أَوْ الْحَرَمِ بِدُونِ الْإِحْرَامِ لَمَّا كَانَ حَرَامًا كَانَتْ الْمُجَاوَزَةُ الْتِزَامًا لِلْإِحْرَامِ دَلَالَةً، كَأَنَّهُ قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ إحْرَامٌ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ، كَذَا إذَا فَعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى الِالْتِزَامِ كَمَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ، كَمَا إذَا قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوْ بِالْعُمْرَةِ قَضَاءً لِمَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِمُجَاوَزَتِهِ الْمِيقَاتَ، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ، فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى الْمِيقَاتِ لِمُجَاوَزَتِهِ إيَّاهُ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ، وَلَمْ يَتَدَارَكْهُ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ جَبْرًا، فَإِنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ثُمَّ أَحْرَمَ يُرِيدُ قَضَاءَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِدُخُولِهِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، أَجْزَأَهُ فِي ذَلِكَ مِيقَاتُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْحَجِّ بِالْحَرَمِ، وَفِي الْعُمْرَةِ بِالْحِلِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَامَ بِمَكَّةَ صَارَ فِي حُكْمِ أَهْلِ مَكَّةَ فَيُجْزِئُهُ إحْرَامُهُ مِنْ مِيقَاتِهِمْ، فَإِنْ كَانَ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ عَادَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَلَيْهِ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَوْ حَجَّةِ نَذْرٍ أَوْ عُمْرَةِ نَذْرٍ، سَقَطَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِدُخُولِهِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْقُطَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ثُمَّ عَاد إلَى الْمِيقَاتِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عَمَّا لَزِمَهُ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ. وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ

عُمْرَةٌ بِسَبَبِ الْمُجَاوَزَةِ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِوَاجِبٍ آخَرَ كَمَا لَوْ نَذَرَ بِحَجَّةٍ أَنَّهُ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ. وَكَذَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ لُزُومَ الْحَجَّةِ أَوْ الْعُمْرَةِ ثَبَتَ تَعْظِيمًا لِلْبُقْعَةِ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَعْظِيمُهَا بِمُطْلَقِ الْإِحْرَامِ لَا بِإِحْرَامٍ عَلَى حِدَةٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُهَا ابْتِدَاءً بِإِحْرَامِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ ابْتِدَاءً بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَعَنْ حُرْمَةِ الْمِيقَاتِ، وَصَارَ كَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَأَدَّى فَرْضَ الْوَقْتِ، قَامَ ذَلِكَ مَقَامَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. وَكَذَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَصَامَ رَمَضَانَ مُعْتَكِفًا جَازَ، وَقَامَ صَوْمُ رَمَضَانَ مَقَامَ الصَّوْمِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الِاعْتِكَافِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقْضِ حَقَّ الْبُقْعَةِ حَتَّى تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ صَارَ مُفَوِّتًا حَقَّهَا فَصَارَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَصَارَ أَصْلًا، وَمَقْصُودًا بِنَفْسِهِ، فَلَا يَتَأَدَّى بِغَيْرِهِ كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يَصُمْ، وَلَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى قَضَى شَهْرَ رَمَضَانَ مَعَ الِاعْتِكَافِ جَازَ، فَإِنْ صَامَ رَمَضَانَ، وَلَمْ يَعْتَكِفْ فِيهِ حَتَّى دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ الْقَابِلُ فَاعْتَكَفَ فِيهِ قَضَاءً عَمَّا عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ صَارَ أَصْلًا وَمَقْصُودًا بِنَفْسِهِ كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مَنْذُورَةٍ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ يُكْرَهُ تَأْخِيرُ الْعُمْرَةِ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَإِذَا صَارَ إلَى وَقْتٍ يُكْرَهُ تَأْخِيرُ الْعُمْرَةِ إلَيْهِ صَارَ تَأْخِيرُهَا كَتَفْوِيتِهَا، فَإِنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ خَرَجَ فَعَادَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ فَدَخَلَهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الدُّخُولَيْنِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الدُّخُولَيْنِ سَبَبُ الْوُجُوبِ. فَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ جَازَ عَنْ الدُّخُولِ الثَّانِي إذَا كَانَ فِي سَنَتِهِ، وَلَمْ يَجُزْ عَنْ الدُّخُولِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَبْلَ الدُّخُولِ الثَّانِي صَارَ دَيْنًا، فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ، هَذَا إذَا جَاوَزَ أَحَدَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ أَوْ دُخُولَ مَكَّةَ أَوْ الْحَرَمِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ بُسْتَانَ بَنِي عَامِرٍ أَوْ غَيْرَهُ لِحَاجَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ بِالْمُجَاوَزَةِ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ لِحُرْمَةِ الْمِيقَاتِ تَعْظِيمًا لِلْبُقْعَةِ وَتَمْيِيزًا لَهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْبِقَاعِ فِي الشَّرَفِ وَالْفَضِيلَةِ، فَيَصِيرُ مُلْتَزِمًا لِلْإِحْرَامِ مِنْهُ، فَإِذَا لَمْ يُرِدْ الْبَيْتَ لَمْ يَصِرْ مُلْتَزِمًا لِلْإِحْرَامِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَإِنْ حَصَلَ فِي الْبُسْتَانِ أَوْ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْحِلِّ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ لِحَاجَةٍ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِوُصُولِهِ إلَى أَهْلِ الْبُسْتَانِ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْبُسْتَانِ، وَلِأَهْلِ الْبُسْتَانِ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ لِحَاجَةٍ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ فَكَذَا لَهُ، وَقِيلَ: إنَّ هَذَا هُوَ الْحِيلَةُ فِي إسْقَاطِ الْإِحْرَامِ عَنْ نَفْسِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْإِحْرَامُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ مَا لَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ بِنِيَّةِ أَنْ يُقِيمَ بِالْبُسْتَانِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَلِبْسَتَانِ حُكْمُ الْوَطَنِ فِي حَقِّهِ إلَّا بِنِيَّةِ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّانِي فَمِيقَاتُهُمْ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ دُوَيْرَةٍ أَهْلِهِمْ أَوْ حَيْثُ شَاءُوا مِنْ الْحِلِّ الَّذِي بَيْنَ دُوَيْرَةٍ أَهْلِهِمْ وَبَيْنَ الْحَرَمِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا حِينَ سُئِلَا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُجَاوِزُوا مِيقَاتَهُمْ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ إلَّا مُحْرِمِينَ، وَالْحِلُّ الَّذِي بَيْنَ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِمْ وَبَيْنَ الْحَرَمِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَيَجُوزُ إحْرَامُهُمْ إلَى آخِرِ أَجْزَاءِ الْحِلِّ كَمَا يَجُوزُ إحْرَامُ الْآفَاقِيِّ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ إلَى آخِرِ أَجْزَاءِ مِيقَاتِهِ، فَلَوْ جَاوَزَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِيقَاتَهُ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ فَدَخَلَ الْحَرَمَ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَلَوْ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ أَوْ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ، فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْآفَاقِيِّ إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ. وَكَذَلِكَ الْآفَاقِيُّ إذَا حَصَلَ فِي الْبُسْتَانِ، أَوْ الْمَكِّيُّ إذَا خَرَجَ إلَيْهِ فَأَرَادَ أَنْ يَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْبُسْتَانِ، وَكَذَلِكَ الْبُسْتَانِيُّ أَوْ الْمَكِّيُّ إذَا خَرَجَ إلَى الْآفَاقِ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ أَهْلِ الْآفَاقِ لَا تَجُوزُ مُجَاوَزَتُهُ مِيقَاتَ أَهْلِ الْآفَاقِ. وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ إلَّا مُحْرِمًا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ، وَيَجُوزُ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْمِيقَاتِ وَمَا بَعْدَهُ دُخُولُ مَكَّةَ لِغَيْرِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ عِنْدَنَا، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَذَكَرَ فِي قَوْلِهِ الثَّالِثِ: إذَا تَكَرَّرَ دُخُولُهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِحْرَامُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَالصَّحِيحُ: قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «رَخَّصَ لِلْحَطَّابِينَ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ» ، وَعَادَةُ الْحَطَّابِينَ أَنَّهُمْ لَا يَتَجَاوَزُونَ الْمِيقَاتَ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى قَدِيدٍ، فَبَلَغَهُ خَبَرُ فِتْنَةٍ بِالْمَدِينَةِ، فَرَجَعَ وَدَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَلِأَنَّ الْبُسْتَانَ مِنْ تَوَابِعِ الْحَرَمِ فَيَلْحَقُ بِهِ، وَلِأَنَّ مَصَالِحَ أَهْلِ الْبُسْتَانِ

فصل بيان ما يحرم به المحرمون

تَتَعَلَّقُ بِمَكَّةَ فَيَحْتَاجُونَ إلَى الدُّخُولِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَلَوْ مُنِعُوا مِنْ الدُّخُولِ إلَّا بِإِحْرَامٍ لَوَقَعُوا فِي الْحَرَجِ، وَأَنَّهُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا. وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّالِثُ فَمِيقَاتُهُمْ لِلْحَجِّ: الْحَرَمُ، وَلِلْعُمْرَةِ: الْحِلُّ فَيُحْرِمُ الْمَكِّيُّ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ لِلْحَجِّ أَوْ حَيْثُ شَاءَ مِنْ الْحَرَمِ، وَيُحْرِمُ لِلْعُمْرَةِ مِنْ الْحِلِّ، وَهُوَ التَّنْعِيمُ أَوْ غَيْرُهُ. أَمَّا الْحَجُّ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، وَرَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ إلَّا أَنَّ الْعُمْرَةَ صَارَتْ مَخْصُوصَةً فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرَمِ فَبَقِيَ الْحَجُّ مُرَادًا فِي حَقِّهِمْ. وَرُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِفَسْخِ إحْرَامِ الْحَجِّ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ أَمَرَهُمْ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَنْ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَفَسْخِ إحْرَامِ الْحَجِّ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ» ، وَإِنْ نُسِخَ فَالْإِحْرَامُ مِنْ الْمَسْجِدِ لَمْ يُنْسَخْ. وَإِنْ شَاءَ أَحْرَمَ مِنْ الْأَبْطَحِ أَوْ حَيْثُ شَاءَ مِنْ الْحَرَمِ لَكِنْ مِنْ الْمَسْجِدِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِبَادَةٌ، وَإِتْيَانُ الْعِبَادَةِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى كَالصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرَادَ الْإِفَاضَةَ مِنْ مَكَّةَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَتْ: أَكُلُّ نِسَائِكَ يَرْجِعْنَ بِنُسُكَيْنِ، وَأَنَا أَرْجِعُ بِنُسُكٍ وَاحِدٍ فَأَمَرَ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَعْتَمِرَ بِهَا مِنْ التَّنْعِيمِ» ، وَلِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِحْرَامِ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي أَفْعَالِهِ الْحِلُّ وَالْحُرُمُ، فَلَوْ أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مَكَّةَ، وَأَفْعَالُ الْعُمْرَةِ تُؤَدَّى بِمَكَّةَ لَمْ يَجْتَمِعْ فِي أَفْعَالِهَا الْحِلُّ وَالْحَرَمِ، بَلْ يَجْتَمِعُ كُلُّ أَفْعَالِهَا فِي الْحَرَمِ، وَهَذَا خِلَافُ عَمَلِ الْإِحْرَامِ فِي الشَّرْعِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ التَّنْعِيمِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْرَمَ مِنْهُ. وَكَذَا أَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يُحْرِمُونَ لِعُمْرَتِهِمْ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ حَصَلَ فِي الْحَرَمِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ فَأَرَادَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْهُمْ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ لِلْحَجِّ أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ أَوْ حَيْثُ شَاءَ مِنْ الْحَرَمِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ يَخْرُجُ إلَى التَّنْعِيمِ، وَيُهِلُّ بِالْعُمْرَةِ فِي الْحِلِّ، وَلَوْ تَرَكَ الْمَكِّيُّ مِيقَاتَهُ فَأَحْرَمَ لِلْحَجِّ مِنْ الْحِلِّ وَلِلْعُمْرَةِ مِنْ الْحَرَمِ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ، إلَّا إذَا عَادَ، وَجَدَّدَ التَّلْبِيَةَ أَوْ لَمْ يُجَدِّدْ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْآفَاقِيِّ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ وَلَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ، لَهُ أَنْ يَعُودَ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ؛ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَحْتَاجُونَ إلَى الْخُرُوجِ إلَى الْحِلِّ لِلِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ وَالْعَوْدِ إلَيْهَا، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُمْ الْإِحْرَامَ عِنْدَ كُلِّ خُرُوجٍ لَوَقَعُوا فِي الْحَرَجِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُحْرِمُ بِهِ الْمُحْرِمُونَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُحْرَمُ بِهِ، فَمَا يُحْرَمُ بِهِ فِي الْأَصْلِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الْحَجُّ وَحْدَهُ، وَالْعُمْرَةُ وَحْدَهَا، وَالْعُمْرَةُ مَعَ الْحَجِّ، وَعَلَى حَسَبِ تَنَوُّعِ الْمُحْرَمِ بِهِ يَتَنَوَّعُ الْمُحْرِمُونَ، وَهْم فِي الْأَصْلِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: مُفْرِدٌ بِالْحَجِّ، وَمُفْرِدٌ بِالْعُمْرَةِ، وَجَامِعٌ بَيْنَهُمَا، فَالْمُفْرِدُ بِالْحَجِّ هُوَ الَّذِي يُحْرِمُ بِالْحَجِّ لَا غَيْرُ، وَالْمُفْرِدُ بِالْعُمْرَةِ هُوَ الَّذِي يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ لَا غَيْرُ. وَأَمَّا الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا فَنَوْعَانِ: قَارِنٌ، وَمُتَمَتِّعٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَعْنَى الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، وَبَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا بِسَبَبِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ، وَبَيَانِ الْأَفْضَلِ مِنْ أَنْوَاعِ مَا يُحْرَمُ بِهِ: أَنَّهُ الْإِفْرَادُ أَوْ الْقِرَانُ أَوْ التَّمَتُّعُ. أَمَّا الْقَارِنُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، فَهُوَ اسْمٌ لِآفَاقِيٍّ يَجْمَعُ بَيْنَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ وَإِحْرَامِ الْحَجِّ قَبْلَ وُجُودِ رُكْنِ الْعُمْرَةِ، وَهُوَ الطَّوَافُ كُلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ، فَيَأْتِي بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا ثُمَّ يَأْتِي بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ مِنْ الْعُمْرَةِ بِالْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ، سَوَاءٌ جَمَعَ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ بِكَلَامٍ مَوْصُولٍ أَوْ مَفْصُولٍ، حَتَّى لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ الطَّوَافِ لِلْعُمْرَةِ أَوْ أَكْثَرِهِ كَانَ قَارِنًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْقِرَانِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ وَشَرْطِهِ، وَلَوْ كَانَ إحْرَامُهُ لِلْحَجِّ بَعْدَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ أَوْ أَكْثَرِهِ لَا يَكُونُ قَارِنًا، بَلْ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا لِوُجُودِ مَعْنَى التَّمَتُّعِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ بَعْدَ وُجُودِ رُكْنِ الْعُمْرَةِ كُلِّهِ وَهُوَ الطَّوَافُ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ، أَوْ أَكْثَرِهِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْوَاطٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي تَفْسِيرِ الْمُتَمَتِّعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجَّةِ أَوَّلًا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ يَكُونُ قَارِنًا لِإِتْيَانِهِ بِمَعْنَى الْقِرَانِ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ؛ إذْ السُّنَّةُ تَقْدِيمُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجَّةِ فِي الْفِعْلِ فَكَذَا فِي الْقَوْلِ، ثُمَّ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ يُنْظَرُ، إنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِحَجَّتِهِ عَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ أَوَّلًا لِعُمْرَتِهِ وَيَسْعَى لَهَا ثُمَّ يَطُوفَ لِحَجَّتِهِ وَيَسْعَى لَهَا مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ فِي الْفِعْلِ، فَإِنْ لَمْ يَطُفْ لِلْعُمْرَةِ، وَمَضَى إلَى عَرَفَاتٍ، وَوَقَفَ بِهَا صَارَ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ تَحْتَمِلُ الِارْتِفَاضَ لِأَجْلِ الْحَجَّةِ فِي الْجُمْلَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّهَا قَدِمَتْ مَكَّةَ مُعْتَمِرَةً فَحَاضَتْ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اُرْفُضِي عُمْرَتَكِ، وَأَهِلِّي

بِالْحَجِّ، وَاصْنَعِي فِي حَجَّتِكِ مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ» ، وَهَهُنَا وُجِدَ دَلِيلُ الِارْتِفَاضِ، وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ؛ لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِالرُّكْنِ الْأَصْلِيِّ لِلْحَجِّ فَيَتَضَمَّنُ ارْتِفَاضَ الْعُمْرَةِ ضَرُورَةً، لِفَوَاتِ التَّرْتِيبِ فِي الْفِعْلِ، وَهَلْ يَرْتَفِضُ بِنَفْسِ التَّوَجُّهِ إلَى عَرَفَاتٍ؟ ، ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يَرْتَفِضُ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ فِيهِ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ، فَقَالَ: الْقِيَاسُ أَنْ يَرْتَفِضَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَرْتَفِضُ، عَنَى بِهِ الْقِيَاسَ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي مَنْزِلِهِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْجُمُعَةِ أَنَّهُ يَرْتَفِضُ ظُهْرُهُ عِنْدَهُ، كَذَا هَهُنَا يَنْبَغِي أَنْ تَرْتَفِضَ عُمْرَتُهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ وَقَالَ: لَا يَرْتَفِضَ مَا لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَاتٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ ضَرُورَاتِ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ، وَأَدَاءُ الْجُمُعَةِ يُنَافِي بَقَاءَ الظُّهْرِ فَكَذَا مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ إذْ الثَّابِتُ ضَرُورَةً شَيْءٌ مُلْحَقٌ بِهِ، وَهَهُنَا التَّوَجُّهُ إلَى عَرَفَاتٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْوُقُوفِ بِهَا، لَكِنَّ الْوُقُوفَ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الْعُمْرَةِ صَحِيحَةً، فَإِنَّ عُمْرَةَ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ تَبْقَى صَحِيحَةً مَعَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فِي الْأَفْعَالِ، فَمَا لَمْ تُوجَدْ أَرْكَانُ الْحَجِّ قَبْلَ أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ لَا يُوجَدُ فَوَاتُ التَّرْتِيبِ، وَذَلِكَ هُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، فَأَمَّا التَّوَجُّهُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ، فَلَا يُوجِبُ فَوَاتَ التَّرْتِيبِ فِي الْأَفْعَالِ، وَإِنْ كَانَ طَافَ لِلْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَرْفُضَ عُمْرَتَهُ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ فِي الْفِعْلِ، إذْ السُّنَّةُ هِيَ تَقْدِيمُ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَإِذَا تَرَكَ التَّقْدِيمَ فَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْبِدْعَةُ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَرْفُضَ لَكِنْ لَا يُؤْمَرُ بِذَلِكَ حَتْمًا؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَهُوَ طَوَافُ اللِّقَاءِ لَيْسَ بِرُكْنٍ، وَلَوْ مَضَى عَلَيْهَا أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ النُّسُكِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ السُّنَّةَ بِتَرْكِ التَّرْتِيبِ فِي الْفِعْلِ، وَإِنَّهُ يُوجِبُ الْإِسَاءَةَ دُونَ الْفَسَادِ، وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ؛ لِأَنَّهُ قَارِنٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَ إحْرَامِ الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ، وَالْقِرَانُ جَائِزٌ مَشْرُوعٌ، وَلَوْ رَفَضَهَا يَقْضِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ بِالشُّرُوعِ فِيهَا، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِهَا؛ لِأَنَّ رَفْضَ الْعُمْرَةِ فَسْخٌ لِلْإِحْرَامِ بِهَا، وَأَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ إدْخَالِ النَّقْصِ فِي الْإِحْرَامِ، وَذَا يُوجِبُ الدَّمَ فَهَذَا أَوْلَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمُتَمَتِّعُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ: فَهُوَ اسْمٌ لِآفَاقِيٍّ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ، وَيَأْتِي بِأَفْعَالِهَا مِنْ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، أَوْ يَأْتِي بِأَكْثَرِ رُكْنِهَا. وَهُوَ الطَّوَافُ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ أَوْ أَكْثَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَحُجُّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ إلْمَامًا صَحِيحًا، فَيَحْصُلَ لَهُ النُّسُكَانِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ، سَوَاءٌ حَلَّ مِنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ بِالْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ، أَوْ لَمْ يَحِلَّ، إذَا كَانَ سَاقَ الْهَدْيَ لِمُتْعَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحَلُّلُ بَيْنَهُمَا. وَيُحْرِمُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سَوْقُ الْهَدْيِ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّحَلُّلِ فَصَارَ الْمُتَمَتِّعُ نَوْعَيْنِ: مُتَمَتِّعٌ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ، وَمُتَمَتِّعٌ سَاقَ الْهَدْيَ فَاَلَّذِي لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ إذَا فَرَغَ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِذَا تَحَلَّلَ صَارَ حَلَالًا كَسَائِرِ الْمُتَحَلِّلِينَ إلَى أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَحَلَّلَ مِنْ الْعُمْرَةِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْهَا، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَيُقِيمُ بِمَكَّةَ حَلَالًا أَيْ لَا يُلِمُّ بِأَهْلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِلْمَامَ بِالْأَهْلِ يُفْسِدُ التَّمَتُّعَ. وَأَمَّا الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ التَّحَلُّلُ إلَّا يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحِلُّ لَهُ التَّحَلُّلُ، وَسَوْقُ الْهَدْيِ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّحَلُّلِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْلِقُوا إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ» ، وَفِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَقُمْ عَلَى إحْرَامِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحْلِقْ» . وَرُوِيَ «أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْلِقُوا قَالُوا لَهُ: إنَّكَ لَمْ تَحِلَّ، فَقَالَ: إنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ فَلَا أُحِلُّ مِنْ إحْرَامِي إلَى يَوْمِ النَّحْرِ» . وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَتَحَلَّلْتُ كَمَا أَحَلُّوا» فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الَّذِي مَنَعَهُ مِنْ الْحِلِّ سَوْقُ الْهَدْيِ، وَلِأَنَّ لِسَوْقِ الْهَدْيِ أَثَرًا فِي الْإِحْرَامِ حَتَّى يَصِيرَ بِهِ دَاخِلًا فِي الْإِحْرَامِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَثَرٌ فِي حَالِ الْبَقَاءِ حَتَّى يَمْنَعَ مِنْ التَّحَلُّلِ، وَسَوَاءٌ كَانَ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ قَبْلَهَا عِنْدَنَا، بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ أَوْ رُكْنِهَا أَوْ بِأَكْثَرِ الرُّكْنِ فِي الْأَشْهُرِ أَنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطُ كَوْنِهِ مُتَمَتِّعًا: الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ فِي الْأَشْهُرِ، حَتَّى لَوْ أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ الْأَشْهُرِ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، وَإِنْ أَتَى بِأَفْعَالِهَا فِي الْأَشْهُرِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَهُ رُكْنٌ فَكَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَمْ يُوجَدْ بَلْ وُجِدَ بَعْضُهَا فِي الْأَشْهُرِ. وَعِنْدَنَا لَيْسَ بِرُكْنٍ، بَلْ هُوَ شَرْطٌ فَتُوجَدُ

أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ فِي الْأَشْهُرِ فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا، وَلَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَلَا لِأَهْلِ دَاخِلِ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ: قِرَانٌ وَلَا تَمَتُّعٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ قِرَانُهُمْ وَتَمَتُّعُهُمْ. وَجْهُ قَوْلِهِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] جَعَلَ التَّمَتُّعَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ اللَّامَ لِلِاخْتِصَاصِ ثُمَّ حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ الْحِلِّ الَّذِينَ مَنَازِلُهُمْ دَاخِلُ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْحُضُورِ لَهُمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ. وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةٌ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مِنْ تَوَابِعِ مَكَّةَ، وَإِلَّا فَلَا، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ الَّذِينَ هُمْ دَاخِلُ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ مَنَازِلُهُمْ مِنْ تَوَابِعِ مَكَّةَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ لِحَاجَةٍ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَكَانُوا فِي حُكْمِ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ، وَلَا قِرَانٌ، وَلِأَنَّ دُخُولَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثَبَتَ رُخْصَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: أَيْ لِلْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ، وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَ هَذِهِ الْأَشْهُرِ بِالْحَجِّ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَدْخُلَ فِيهَا غَيْرُهُ إلَّا أَنَّ الْعُمْرَةَ دَخَلَتْ فِيهَا رُخْصَةٌ لِلْآفَاقِيِّ ضَرُورَةَ تَعَذُّرِ إنْشَاءِ السَّفَرِ لِلْعُمْرَةِ نَظَرًا لَهُ بِإِسْقَاطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ أَهْلِ مَكَّةَ. وَمَنْ بِمَعْنَاهُمْ فَلَمْ تَكُنْ الْعُمْرَةُ مَشْرُوعَةً فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي حَقِّهِمْ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثُمَّ رُخِّصَ، وَالثَّابِتُ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ يَكُونُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْآفَاقِ لَا فِي حَقِّ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَبَقِيَتْ الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي حَقِّهِمْ مَعْصِيَةً، وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّمَتُّعِ أَنْ تَحْصُلَ الْعُمْرَةُ وَالْحَجُّ لِلْمُتَمَتِّعِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا. وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ؛ لِأَنَّهُ يُلِمُّ بِأَهْلِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا لَا مَحَالَةَ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ التَّمَتُّعِ فِي حَقِّهِ. وَلَوْ جَمَعَ الْمَكِّيُّ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ، لَكِنْ دَمُ كَفَّارَةِ الذَّنْبِ لَا دَمُ نُسُكٍ، شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ عِنْدَنَا حَتَّى لَا يُبَاحَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَلَا يَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ إذَا كَانَ مُعْسِرًا، وَعِنْدَهُ هُوَ دَمُ نُسُكٍ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَيَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ إذَا لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ. وَلَوْ أَحْرَمَ الْآفَاقِيُّ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَدَخَلَ مَكَّةَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ، وَهُوَ يُرِيدُ التَّمَتُّعَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقِيمَ مُحْرِمًا حَتَّى تَدْخُلَ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَيَأْتِيَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَيَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَيَكُونَ مُتَمَتِّعًا، فَإِنْ أَتَى بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ أَوْ بِأَكْثَرِهَا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ دَخَلَ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَلَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ أُخْرَى بَعْدَ مَا دَخَلَ أَشْهُرُ الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ أَهْلِ مَكَّةَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَارَ مِيقَاتُهُمْ مِيقَاتَهُ، فَلَا يَصِحُّ لَهُ التَّمَتُّعُ إلَّا أَنْ يَعُودَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِهِمَا: إلَّا أَنْ يَعُودَ إلَى أَهْلِهِ أَوْ إلَى مَوْضِعٍ يَكُونُ لِأَهْلِهِ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ عَلَى مَا نَذْكُرُ. وَلَوْ أَحْرَمَ مَنْ لَا تَمَتُّعَ لَهُ مِنْ الْمَكِّيِّ وَنَحْوِهِ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ يَلْزَمُهُ رَفْضُ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَعْصِيَةٌ، وَالنُّزُوعُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ لَازِمٌ ثُمَّ يُنْظَرُ: إنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِعُمْرَتِهِ رَأْسًا فَإِنَّهُ يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ عَمَلًا، وَالْحَجُّ أَكْثَرُ عَمَلًا فَكَانَتْ الْعُمْرَةُ أَخَفَّ مُؤْنَةً مِنْ الْحَجَّةِ فَكَانَ رَفْضُهَا أَيْسَرَ، وَلِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ حَصَلَتْ بِسَبَبِهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي دَخَلَتْ فِي وَقْتِ الْحَجِّ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالرَّفْضِ، وَيَمْضِي عَلَى حَجَّتِهِ، وَعَلَيْهِ لِرَفْضِ عُمْرَتِهِ دَمٌ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ لِمَا نَذْكُرُ، وَإِنْ كَانَ طَافَ لِعُمْرَتِهِ جَمِيعَ الطَّوَافِ أَوْ أَكْثَرَهُ لَا يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ، بَلْ يَرْفُضُ الْحَجَّ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ مُؤَدَّاةٌ، وَالْحَجَّ غَيْرُ مُؤَدًّى فَكَانَ رَفْضُ الْحَجِّ امْتِنَاعًا عَنْ الْأَدَاءِ، وَرَفْضُ الْعُمْرَةِ إبْطَالًا لِلْعَمَلِ، وَالِامْتِنَاعُ عَنْ الْعَمَلِ دُونَ إبْطَالِ الْعُمْرَةِ فَكَانَ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ طَافَ لَهَا شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً يَرْفُضُ الْحَجَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ رَفْضَ الْعُمْرَةِ أَدْنَى، وَأَخَفُّ مُؤْنَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهَا سُمِّيَتْ الْحَجَّةَ الصُّغْرَى فَكَانَتْ أَوْلَى بِالرَّفْضِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْقَدْرِ الْمُؤَدَّى مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ، وَالْأَكْثَرُ غَيْرُ مُؤَدًّى، وَالْأَقَلُّ بِمُقَابَلَةِ الْأَكْثَرِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رَفْضَ الْحَجَّةِ امْتِنَاعٌ مِنْ الْعَمَلِ، وَرَفْضَ الْعُمْرَةِ إبْطَالٌ لِلْعَمَلِ، وَالِامْتِنَاعُ دُونَ الْإِبْطَالِ فَكَانَ أَوْلَى، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لِلْحَجِّ عَمَلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لَهُ إلَّا الْإِحْرَامُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ

الْأَدَاءِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ عِنْدَنَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَلَا يَكُونُ رَفْضُ الْحَجِّ إبْطَالًا لِلْعَمَلِ بَلْ يَكُونُ امْتِنَاعًا، فَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَقَدْ أَدَّى مِنْهَا شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ، وَكَانَ رَفْضُهَا إبْطَالًا لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْعَمَلِ، فَكَانَ الِامْتِنَاعُ أَوْلَى لِمَا قُلْنَا، وَإِذَا رَفَضَ الْحَجَّةَ عَنْهُ فَعَلَيْهِ لِرَفْضِهَا دَمٌ، وَقَضَاءُ حَجَّةٍ، وَعُمْرَةٍ، وَإِذَا رَفَضَ الْعُمْرَةَ عِنْدَهُمَا فَعَلَيْهِ لِرَفْضِهَا دَمٌ وَقَضَاءُ عُمْرَةٍ، وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ رَفْضُ عُمْرَةٍ فَرَفَضَهَا، فَعَلَيْهِ لِرَفْضِهَا دَمٌ؛ لِأَنَّهُ تَحَلَّلَ مِنْهَا قَبْلَ وَقْتِ التَّحَلُّلِ، فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ كَالْمُحْصَرِ، وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ مَكَانُهَا قَضَاءً؛ لِأَنَّهَا قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالشُّرُوعِ، فَإِذَا أَفْسَدَهَا يَقْضِيهَا. وَكُلُّ مَنْ لَزِمَهُ رَفْضُ حَجَّةٍ فَرَفَضَهَا فَعَلَيْهِ لِرَفْضِهَا دَمٌ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ أَمَّا لُزُومُ الدَّمِ لِرَفْضِهَا فَلِمَا ذَكَرْنَا فِي الْعُمْرَةِ. وَأَمَّا لُزُومُ الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ، فَأَمَّا الْحَجَّةُ فَلِوُجُوبِهَا بِالشُّرُوعِ، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَلِعَدَمِ إتْيَانِهِ بِأَفْعَالِ الْحَجَّةِ فِي السَّنَةِ الَّتِي أَحْرَمَ فِيهَا فَصَارَ كَفَائِتِ الْحَجِّ، فَيَلْزَمُهُ الْعُمْرَةُ كَمَا يَلْزَمُ فَائِتُ الْحَجِّ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجَّةِ مِنْ سَنَتِهِ فَلَا عُمْرَةَ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَنْ لَزِمَهُ رَفْضُ أَحَدِهِمَا فَمَضَى فِيهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَعْصِيَةٌ فَقَدْ أَدْخَلَ النَّقْصَ فِي أَحَدِهِمَا فَيَلْزَمُهُ دَمٌ، لَكِنَّهُ يَكُونُ دَمَ كَفَّارَةٍ لَا دَمَ مُتْعَةٍ، حَتَّى لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَلَا يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا. وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ مَا إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ مَعًا أَوْ بِعُمْرَتَيْنِ مَعًا، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَزِمَتَاهُ جَمِيعًا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَلْزَمُهُ إلَّا إحْدَاهُمَا، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا أَحْرَمَ بِعِبَادَتَيْنِ لَا يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ فِيهِمَا جَمِيعًا، فَلَا يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ بِهِمَا جَمِيعًا، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِصَلَاتَيْنِ أَوْ صَوْمَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُضِيَّ فِيهِمَا مُمْكِنٌ فَيَصِحُّ إحْرَامُهُ بِهِمَا كَمَا لَوْ نَوَى صَوْمًا وَصَلَاةً، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي وَقْتَيْنِ، فَيَصِحُّ إحْرَامُهُ كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا، وَثَمَرَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ، إذَا قَتَلَ صَيْدًا عِنْدَهُمَا يَجِبُ جَزَاءَانِ لِانْعِقَادِ الْإِحْرَامِ بِهِمَا جَمِيعًا. وَعِنْدَهُ يَجِبُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِانْعِقَادِ الْإِحْرَامِ بِإِحْدَاهُمَا، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فِي وَقْتِ ارْتِفَاضِ إحْدَاهُمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَرْتَفِضُ عَقِيبَ الْإِحْرَامِ بِلَا فَصْلٍ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ: فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ يَرْتَفِضُ إذَا قَصَدَ مَكَّةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَرْتَفِضُ حَتَّى يَبْتَدِئَ بِالطَّوَافِ. وَلَوْ أَحْرَمَ الْآفَاقِيُّ بِالْعُمْرَةِ فَأَدَّاهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَفَرَغَ مِنْهَا، وَحَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ، ثُمَّ عَادَ إلَى أَهْله حَلَالًا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ: لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ الْهَدْيُ بَلْ يَكُونُ مُفْرِدًا بِعُمْرَةٍ، وَمُفْرَدًا بِحَجَّةٍ؛ لِأَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا، وَهَذَا يَمْنَعُ التَّمَتُّعَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَعْرِفُ الْإِلْمَامَ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنْ كُنْتَ لَا تَعْرِفُ مَعْنَاهُ لُغَةً فَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الْقُرْبُ، يُقَالُ: أَلَمَّ بِهِ أَيْ قَرُبَ مِنْهُ. وَإِنْ كُنْتَ لَا تَعْرِفُ حُكْمَهُ شَرْعًا، فَحُكْمُهُ أَنْ يَمْنَعَ التَّمَتُّعَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إذَا أَقَامَ بِمَكَّةَ صَحَّ تَمَتُّعُهُ، وَإِنْ عَادَ إلَى أَهْلِهِ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِثْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ، وَطَاوُسٍ، وَعَطَاءٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا كَذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ رَأْيًا وَاجْتِهَادًا، فَالظَّاهِرُ سَمَاعُهُمْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ التَّمَتُّعَ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ ثَبَتَ رُخْصَةً لِيَجْمَعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ، وَيَصِلَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا مَا يُنَافِي النُّسُكَ، وَهُوَ الِارْتِفَاقُ، وَلَمَّا أَلَمَّ بِأَهْلِهِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ مُرَافِقُ الْوَطَنِ فَبَطَلَ الِاتِّصَالُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ أُخْرَى، وَحَجَّ كَانَ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعُمْرَةِ الْأُولَى قَدْ سَقَطَ بِإِلْمَامِهِ بِأَهْلِهِ فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالثَّانِيَةِ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحَجَّةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ إلْمَامٍ فَكَانَ مُتَمَتِّعًا. وَلَوْ كَانَ إلْمَامُهُ بِأَهْلِهِ بَعْدَ مَا طَافَ لِعُمْرَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ مِنْ الْعُمْرَةِ فِي أَهْلِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْحَلْقِ؛ لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ الْحَرَمَ شَرْطًا لِجَوَازِ الْحَلْقِ - وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - لَا بُدَّ مِنْ الْعَوْدِ، وَعِنْدَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا، وَهُوَ أَبُو يُوسُفَ كَانَ الْعَوْدُ مُسْتَحَبًّا إنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا. وَأَمَّا الْإِلْمَامُ الْفَاسِدُ الَّذِي لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّمَتُّعِ فَهُوَ أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْعُمْرَةِ عَادَ إلَى وَطَنِهِ فَلَا يَبْطُلُ تَمَتُّعُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، حَتَّى لَوْ عَادَ إلَى مَكَّةَ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، كَانَ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِهِمَا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَبْطُلُ تَمَتُّعُهُ حَتَّى لَوْ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ: لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ التَّمَتُّعِ وَهُوَ الْإِلْمَامُ بِالْأَهْلِ قَدْ وُجِدَ، وَالْعَوْدُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ بَدَا لَهُ مِنْ التَّمَتُّعِ جَازَ لَهُ ذَبْحُ الْهَدْيِ هَهُنَا، وَإِذَا لَمْ يُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الْعَوْدُ

صَارَ كَأَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ. وَلَوْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ يَبْطُلُ تَمَتُّعُهُ كَذَا هَذَا، وَلَهُمَا أَنَّ الْعَوْدَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مَا دَامَ عَلَى نِيَّةِ التَّمَتُّعِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِلْمَامِ، فَلَا يَبْطُلُ تَمَتُّعُهُ كَالْقَارِنِ إذَا عَادَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ بُطْلَانِ التَّمَتُّعِ بِالْإِلْمَامِ الصَّحِيحِ إذَا عَادَ إلَى أَهْلِهِ، فَأَمَّا إذَا عَادَ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ بِأَنْ خَرَجَ مِنْ الْمِيقَاتِ وَلَحِقَ بِمَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ الْقِرَانُ وَالتَّمَتُّعُ كَالْبَصْرَةِ مَثَلًا أَوْ نَحْوِهَا، وَاِتَّخَذَ هُنَاكَ دَارًا أَوْ لَمْ يَتَّخِذْ، تَوَطَّنَ بِهَا أَوْ لَمْ يَتَوَطَّنْ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، فَهَلْ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا؟ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَيْضًا أَنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِهِمْ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا وَمَا إذَا أَقَامَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يَبْرَحْ مِنْهَا سَوَاءٌ. وَأَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، وَلُحُوقُهُ بِمَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ، وَلُحُوقُهُ بِأَهْلِهِ سَوَاءٌ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ، وَوَصَلَ إلَى مَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ السَّفَرِ الْأَوَّلِ، وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لِوُجُودِ إنْشَاءِ سَفَرٍ آخَرَ، فَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا كَمَا لَوْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وُصُولَهُ إلَى مَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ الْقِرَانُ وَالتَّمَتُّعُ لَا يُبْطِلُ السَّفَرَ الْأَوَّلَ، مَا لَمْ يَعُدْ إلَى مَنْزِلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ مَا دَامَ يَتَرَدَّدُ فِي سَفَرِهِ يُعَدُّ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْهُ سَفَرًا وَاحِدًا مَا لَمْ يَعُدْ إلَى مَنْزِلِهِ، وَلَمْ يَعُدْ هَهُنَا فَكَانَ السَّفَرُ الْأَوَّلُ قَائِمًا فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَبْرَحْ مِنْ مَكَّةَ فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا، وَيَلْزَمُهُ هَدْيُ الْمُتْعَةِ. وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَفْسَدَهَا وَأَتَمَّهَا عَلَى الْفَسَادِ وَحَلَّ مِنْهَا، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَهَا: لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُتَمَتِّعًا إلَّا بِحُصُولِ الْعُمْرَةِ وَالْحَجَّةِ، وَلَمَّا أَفْسَدَ الْعُمْرَةَ فَلَمْ تَحْصُلْ لَهُ الْعُمْرَةُ وَالْحَجَّةُ فَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا. وَلَوْ قَضَى عُمْرَتَهُ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فَإِنْ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ الْفَاسِدَةِ وَحَلَّ مِنْهَا وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ، وَقَضَى عُمْرَتَهُ، وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَحِقَ بِأَهْلِهِ صَارَ مِنْ أَهْلِ التَّمَتُّعِ، وَقَدْ أَتَى بِهِ فَكَانَ مُتَمَتِّعًا، وَإِذَا فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ الْفَاسِدَةِ، وَحَلَّ مِنْهَا لَكِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْحَرَمِ أَوْ خَرَجَ مِنْهُ لَكِنَّهُ لَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ حَتَّى قَضَى عُمْرَتَهُ، وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ، لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ الْفَاسِدَةِ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلَا تَمَتُّعَ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَيَكُونُ مُسِيئًا وَعَلَيْهِ لِإِسَاءَتِهِ دَمٌ، وَإِنْ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ الْفَاسِدَةِ، وَحَلَّ مِنْهَا، وَخَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ، وَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَتَّى قَضَى عُمْرَتَهُ، وَلَحِقَ بِمَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ كَالْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ، وَقَضَى عُمْرَتَهُ الْفَاسِدَةَ ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجٍّ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، كَأَنَّهُ لَمْ يَبْرَحْ مِنْ مَكَّةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا كَأَنَّهُ لَحِقَ بِأَهْلِهِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ فِي مَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ صَارَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَبَطَلَ حُكْمُ ذَلِكَ السَّفَرِ، ثُمَّ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ كَانَ هَذَا إنْشَاءَ سَفَرٍ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ نُسُكَانِ فِي هَذَا السَّفَرِ، وَهُوَ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا كَمَا لَوْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ، وَقَضَى عُمْرَتَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ أَنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلَا تَمَتُّعَ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ حُكْمَ السَّفَرِ الْأَوَّلِ بَاقٍ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ وَطَنِهِ مُسَافِرًا فَهُوَ عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ مَا لَمْ يَعُدْ إلَى وَطَنِهِ، وَإِذَا كَانَ حُكْمُ السَّفَرِ الْأَوَّلِ بَاقِيًا، فَلَا عِبْرَةَ بِقُدُومِهِ الْبَصْرَةَ، وَاِتِّخَاذِهِ دَارًا بِهَا، فَصَارَ كَأَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ لَمْ يَبْرَحْ مِنْهَا حَتَّى قَضَى عُمْرَتَهُ الْفَاسِدَةَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَفْسَدَ الْعُمْرَةَ لَزِمَهُ أَنْ يَقْضِيَهَا مِنْ مَكَّةَ، وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مِيقَاتِ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ، وَذَلِكَ دَلِيلُ إلْحَاقِهِ بِأَهْلِ مَكَّةَ، فَصَارَتْ عُمْرَتُهُ وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّتَيْنِ لِصَيْرُورَةِ مِيقَاتِهِ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مِيقَاتَ أَهْلِ مَكَّةَ، فَلَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا لِوُجُودِ الْإِلْمَامِ بِمَكَّةَ كَمَا فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ، وَصَارَ كَالْمَكِّيِّ إذَا خَرَجَ إلَى أَقْرَبِ الْآفَاقِ، وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ، وَأَتَى بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، كَذَا هَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ إلَى وَطَنِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا رَجَعَ إلَى وَطَنِهِ فَقَدْ قَطَعَ حُكْمَ السَّفَرِ الْأَوَّلِ بِابْتِدَاءِ سَفَرٍ آخَرَ فَانْقَطَعَ حُكْمُ كَوْنِهِ بِمَكَّةَ، فَبَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَتَى مَكَّةَ وَقَضَى الْعُمْرَةَ، وَحَجَّ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ النُّسُكَانِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ فَصَارَ مُتَمَتِّعًا، هَذَا إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَفْسَدَهَا وَأَتَمَّهَا عَلَى الْفَسَادِ. فَأَمَّا إذَا أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَفْسَدَهَا وَأَتَمَّهَا عَلَى الْفَسَادِ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمِيقَاتِ حَتَّى دَخَلَ أَشْهُرُ الْحَجِّ، وَقَضَى عُمْرَتَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالْإِجْمَاعِ، وَحُكْمُهُ كَمَكِّيٍّ تَمَتَّعَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْ

فصل بيان ما يجب على المتمتع والقارن بسبب التمتع والقران

أَهْلِ مَكَّةَ لِمَا ذَكَرْنَا، وَيَكُونُ مُسِيئًا، وَعَلَيْهِ لِإِسَاءَتِهِ دَمٌ، وَإِنْ عَادَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَقَضَى عُمْرَتَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالْإِجْمَاعِ لِمَا مَرَّ. وَإِنْ عَادَ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، وَلَحِقَ بِمَوْضِعٍ لِأَهْلِهِ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ، ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ وَقَضَى عُمْرَتَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ. فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فِي وَجْهٍ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، وَهُوَ مَا إذَا رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ خَارِجَ الْمِيقَاتِ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَقَضَى عُمْرَتَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، وَفِي وَجْهٍ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، وَهُوَ مَا إذَا رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، لَهُمَا أَنَّ لُحُوقَهُ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِمَنْزِلَةِ لُحُوقِهِ بِأَهْلِهِ. وَلَوْ لَحِقَ بِأَهْلِهِ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فَكَذَا هَذَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَدْرَكَتْهُ أَشْهُرُ الْحَجِّ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ التَّمَتُّعِ؛ لِأَنَّهَا أَدْرَكَتْهُ خَارِجَ الْمِيقَاتِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي أَدْرَكَتْهُ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّمَتُّعِ لِكَوْنِهِ مَمْنُوعًا شَرْعًا عَنْ التَّمَتُّعِ، وَلَا يَزُولُ الْمَنْعُ حَتَّى يَلْحَقَ بِأَهْلِهِ. وَلَوْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ عَادَ إلَى أَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ، وَأَلَمَّ بِأَهْلِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ، وَأَتَمَّ عُمْرَتَهُ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، فَإِنْ كَانَ طَافَ لِعُمْرَتِهِ شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ عَادَ إلَى أَهْلِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ، وَأَتَمَّ عُمْرَتَهُ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ اعْتَمَرَ، وَحَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ ثُمَّ عَادَ إلَى أَهْلِهِ حَلَالًا، ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ إلْمَامَهُ بِأَهْلِهِ صَحِيحٌ، وَأَنَّهُ يَمْنَعُ التَّمَتُّعَ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ بَعْدَ مَا طَافَ أَكْثَرَ طَوَافِ عُمْرَتِهِ أَوْ كُلَّهُ، وَلَمْ يَحِلَّ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَلَمَّ بِأَهْلِهِ مُحْرِمًا ثُمَّ عَادَ، وَأَتَمَّ بَقِيَّةَ عُمْرَتِهِ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّهُ أَدَّى الْعُمْرَةَ بِسَفَرَيْنِ، وَأَكْثَرُهَا حَصَلَ فِي السَّفَرِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا يَمْنَعُ التَّمَتُّعَ، وَلَهُمَا أَنَّ إلْمَامَهُ بِأَهْلِهِ لَمْ يَصِحَّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْعَوْدُ إلَى مَكَّةَ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى إحْرَامٍ جَدِيدٍ، فَصَارَ كَأَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ وَكَذَا لَوْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَمِنْ نِيَّتِهِ التَّمَتُّعُ، وَسَاقَ الْهَدْيَ لِأَجْلِ تَمَتُّعِهِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا عَادَ إلَى أَهْلِهِ مُحْرِمًا ثُمَّ عَادَ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ إلْمَامَهُ بِأَهْلِهِ لَمْ يَصِحَّ، فَصَارَ كَأَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا. وَلَوْ خَرَجَ الْمَكِّيُّ إلَى الْكُوفَةِ فَأَحْرَمَ بِهَا لِلْعُمْرَةِ ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ فَأَحْرَمَ بِهَا لِلْحَجِّ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ الْإِلْمَامُ بِأَهْلِهِ بَيْنَ الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ، فَمَنَعَ التَّمَتُّعَ كَالْكُوفِيِّ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، وَسَوَاءٌ سَاقَ الْهَدْيَ أَوْ لَمْ يَسُقْ، يَعْنِي إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ مَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ، وَسَاقَ الْهَدْيَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، وَسَوْقُهُ الْهَدْيَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إلْمَامِهِ بِخِلَافِ الْكُوفِيِّ؛ لِأَنَّ الْكُوفِيَّ إنَّمَا يَمْنَعُ سَوْقُ الْهَدْيِ صِحَّةَ إلْمَامِهِ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْمَكِّيُّ فَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْعَوْدُ، فَصَحَّ إلْمَامُهُ مَعَ السَّوْقِ كَمَا يَصِحُّ مَعَ عَدَمِهِ. وَلَوْ خَرَجَ الْمَكِّيُّ إلَى الْكُوفَةِ فَقَرَنَ صَحَّ قِرَانُهُ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ يَحْصُلُ بِنَفْسِ الْإِحْرَامِ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْإِلْمَامُ فَصَارَ بِعَوْدِهِ إلَى مَكَّةَ كَالْكُوفِيِّ إذَا قَرَنَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْكُوفَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ قِرَانَ الْمَكِّيِّ بَعْدَ خُرُوجِهِ إلَى الْكُوفَةِ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ خُرُوجُهُ مِنْ مَكَّةَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ. فَأَمَّا إذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَشْهُرُ الْحَجِّ، وَهُوَ بِمَكَّةَ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ فَقَرَنَ لَمْ يَصِحَّ قِرَانُهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَ دُخُولِ الْأَشْهُرِ عَلَيْهِ كَانَ عَلَى صِفَةٍ لَا يَصِحُّ لَهُ التَّمَتُّعُ، وَلَا الْقِرَانُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي أَهْلِهِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِالْخُرُوجِ إلَى الْكُوفَةِ، وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ، وَأَقَامَ عَلَى إحْرَامِهِ إلَى شَوَّالٍ مِنْ قَابِلٍ ثُمَّ طَافَ لِعُمْرَتِهِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ مِنْ شَوَّالٍ ثُمَّ حَجَّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إحْرَامِهِ، وَقَدْ أَتَى بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَصَارَ كَأَنَّهُ ابْتَدَأَ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ. وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُتَمَتِّعًا كَذَا هَذَا، وَبِمِثْلِهِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ الْحَجِّ بِعُمْرَةٍ فَأَخَّرَ إلَى الْعَامِ الْقَابِلِ فَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ فِي شَوَّالٍ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّهُ مَا أَتَى بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لَهَا، بَلْ لِلتَّحَلُّلِ عَنْ إحْرَامِ الْحَجِّ، فَلَمْ تَقَعْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ مُعْتَدًّا بِهَا عَنْ الْعُمْرَةِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ بِسَبَبِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ بِسَبَبِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، أَمَّا الْمُتَمَتِّعُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْكَلَامُ فِي الْهَدْيِ فِي مَوَاضِعَ: فِي تَفْسِيرِ الْهَدْيِ، وَفِي بَيَانِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْوَاجِبِ

وَفِي بَيَانِ مَكَانِ إقَامَتِهِ، وَفِي بَيَانِ زَمَانِ الْإِقَامَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْهَدْيُ الْمَذْكُورُ فِي آيَةِ التَّمَتُّعِ اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ شَاةٌ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ بَدَنَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ يَقَعُ عَلَى الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ لَكِنَّ الشَّاةَ هَهُنَا مُرَادَةٌ مِنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ حَتَّى أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِهَا عَنْ الْمُتْعَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا: مَا رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْهَدْيِ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْنَاهُ شَاةٌ» إلَّا أَنَّ الْبَدَنَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْبَقَرَةِ، وَالْبَقَرَةُ أَفْضَلُ مِنْ الشَّاةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَفْسِيرِ الْهَدْيِ: أَدْنَاهُ شَاةٌ، فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَعْلَاهُ الْبَدَنَةُ وَالْبَقَرَةُ. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْمُبَكِّرُ إلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً ثُمَّ كَالْمُهْدِي شَاةً» . وَكَذَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاقَ الْبُدْنَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ يَخْتَارُ مِنْ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا، وَلِأَنَّ الْبَدَنَةَ أَكْثَرُ لَحْمًا وَقِيمَةً مِنْ الْبَقَرَةِ، وَالْبَقَرَةُ أَكْثَرُ لَحْمًا وَقِيمَةً مِنْ الشَّاةِ، فَكَانَ أَنْفَعَ لِلْفُقَرَاءِ فَكَانَ أَفْضَلَ. وَأَمَّا وُجُوبُهُ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] أَيْ: فَعَلَيْهِ ذَبْحُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] الْآيَةَ أَيْ فَحَلَقَ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] مَعْنَاهُ فَأَفْطَرَ فَلْيَصُمْ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِهِ فَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ، وَلَا وُجُوبَ إلَّا عَلَى الْقَادِرِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] . مَعْنَاهُ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ، قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ سَوَاءٌ طَافَ لِعُمْرَتِهِ أَوْ لَمْ يَطُفْ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يُحْرِمَ بِالْحَجِّ، كَذَا ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ الْخِلَافَ. وَذَكَرَ إمَامُ الْهُدَى أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقِيَاسَ: أَنْ لَا يَجُوزَ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الْحَجِّ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي الْحَجِّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، وَذَلِكَ بِالْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ دَمُ الْمُتْعَةِ دَمُ كَفَّارَةٍ وَجَبَ جَبْرًا لِلنَّقْصِ، وَمَا لَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ لَا يَظْهَرُ النَّقْصُ، وَلَنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ سَبَبٌ لِوُجُودِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجَّةِ فَكَانَ الصَّوْمُ تَعْجِيلًا بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ فَجَازَ، وَقَبْلَ وُجُودِ الْعُمْرَةِ لَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ فَلَمْ يَجُزْ، وَلِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الْمُتَمَتِّعِ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ. كَذَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ، وَإِذَا كَانَتْ السُّنَّةُ فِي حَقِّهِ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ فَلَا يُمْكِنُهُ صِيَامُ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا بَقِيَ لَهُ يَوْمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ قَدْ نُهِيَ عَنْ الصِّيَامِ فِيهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ الْحُكْمِ بِجَوَازِ الصَّوْمِ بَعْدَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْحَجِّ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِهَا: إنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا وَقْتُ الْحَجِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ إذْ الْحَجُّ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا لِلصَّوْمِ، وَالْوَقْتُ يَصْلُحُ ظَرْفًا لَهُ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي وَقْتِ الْحَجِّ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] أَيْ وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ، وَعَلَى هَذَا صَارَتْ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ حُجَّةً لَنَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي وَقْتِ الْحَجِّ، وَهُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ، وَقَدْ صَامَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَجَازَ إلَّا أَنَّ زَمَانَ مَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ صَارَ مَخْصُوصًا مِنْ النَّصِّ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ آخِرُهَا يَوْمُ عَرَفَةَ بِأَنْ يَصُومَ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ، وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَدَلًا عَنْ الْهَدْيِ، وَأَفْضَلُ أَوْقَاتِ الْبَدَلِ وَقْتُ الْيَأْسِ عَنْ الْأَصْلِ لِمَا يَحْتَمِلُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَهُ، وَلِهَذَا كَانَ الْأَفْضَلُ تَأْخِيرَ التَّيَمُّمِ إلَى آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الْمَاءِ قَبْلَهُ، وَهَذِهِ الْأَيَّامُ آخِرُ وَقْتِ هَذَا الصَّوْمِ عِنْدَنَا، فَإِذَا مَضَتْ وَلَمْ يَصُمْ فِيهَا فَقَدْ فَاتَ الصَّوْمُ وَسَقَطَ عَنْهُ، وَعَادَ الْهَدْيُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ يَتَحَلَّلُ، وَعَلَيْهِ دَمَانِ: دَمُ التَّمَتُّعِ، وَدَمُ التَّحَلُّلِ قَبْلَ الْهَدْيِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَفُوتُ بِمُضِيِّ هَذِهِ الْأَيَّامِ، ثُمَّ لَهُ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ يَصُومُهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَفِي قَوْلٍ يَصُومُهَا بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] أَيْ فِي وَقْتِ الْحَجِّ لِمَا بَيَّنَّا عَيْنَ وَقْتِ الْحَجِّ لِصَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، إلَّا أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ خَرَجَ مِنْ أَنْ

يَكُونَ وَقْتًا لِهَذَا الصَّوْمِ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَا رَوَاهُ لَيْسَ وَقْتَ الْحَجِّ، فَلَا يَكُونُ مَحِلًّا لِهَذَا الصَّوْمِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْمُتَمَتِّعُ إنَّمَا يَصُومُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَهُوَ مُتَمَتِّعٌ لَمْ يَصُمْ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اذْبَحْ شَاةً، فَقَالَ الرَّجُلُ مَا أَجِدُهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ سَلْ قَوْمَكَ، فَقَالَ: لَيْسَ هَهُنَا مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَا مُغِيثُ أَعْطِهِ عَنِّي ثَمَنَ شَاةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ رَأْيًا وَاجْتِهَادًا. وَأَمَّا صَوْمُ السَّبْعَةِ، فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَلْ يَجُوزُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ بِمَكَّةَ قَبْلَ الرُّجُوعِ إلَى الْأَهْلِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ الرُّجُوعِ إلَى الْأَهْلِ إلَّا إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ فَيَصُومُهَا بِمَكَّةَ فَيَجُوزُ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] أَيْ إذَا رَجَعْتُمْ إلَى أَهْلِيكُمْ، وَلَنَا هَذِهِ الْآيَةُ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] مُطْلَقًا، فَيَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا رَجَعَ مِنْ مِنًى إلَى مَكَّةَ، وَصَامَهَا يَجُوزُ، وَهَكَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: إذَا رَجَعْتُمْ مِنْ مِنًى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا فَرَغْتُمْ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَقِيلَ: إذَا أَتَى وَقْتُ الرُّجُوعِ. وَلَوْ وَجَدَ الْهَدْيَ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ فِي خِلَالِ الصَّوْمِ أَوْ بَعْدَ مَا صَامَ فَوَجَدَهُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ: يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ، وَيَسْقُطُ حُكْمُ الصَّوْمِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ، وَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ الصَّوْمِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ عَنْ الْهَدْيِ، وَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَبَطَل حُكْمُ الْبَدَلِ كَمَا لَوْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي خِلَالِ التَّيَمُّمِ. وَلَوْ وَجَدَ الْهَدْيَ فِي أَيَّامِ الذَّبْحِ أَوْ بَعْدَ مَا حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ فَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَصُومَ السَّبْعَةَ صَحَّ صَوْمُهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْبَدَلِ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ قَدْ حَصَلَ، فَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تُبْطِلُ حُكْمَ الْبَدَلِ كَمَا لَوْ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ، وَاخْتَلَفَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ فِي صَوْمِ السَّبْعَةِ قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: إنَّهُ لَيْسَ بِبَدَلٍ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ وُجُودِ الْهَدْيِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا جَوَازَ لِلْبَدَلِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ كَمَا فِي التُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ الرَّازِيّ: إنَّهُ بَدَلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا حَالَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ، وَجَوَازُهُ حَالَ وُجُودِ الْأَصْلِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ بَدَلًا. وَلَوْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَحِلَّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ الذَّبْحِ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ فَصَوْمُهُ مَاضٍ، وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ يَتَوَقَّتُ بِأَيَّامِ الذَّبْحِ عِنْدَنَا، فَإِذَا مَضَتْ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ إبَاحَةُ التَّحَلُّلِ فَكَأَنَّهُ تَحَلَّلَ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ. وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا، قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ دَمُ نُسُكٍ وَجَبَ شُكْرًا لِمَا وُفِّقَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ بِسَفَرٍ وَاحِدٍ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَيُطْعِمَ مِنْ شَاءَ، غَنِيًّا كَانَ الْمُطْعَمُ أَوْ فَقِيرًا وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ الثُّلُثَ، وَيَتَصَدَّقَ بِالثُّلُثِ، وَيُهْدِيَ الثُّلُثَ لِأَقْرِبَائِهِ وَجِيرَانِهِ، سَوَاءٌ كَانُوا فُقَرَاءَ أَوْ أَغْنِيَاءَ كَدَمِ الْأُضْحِيَّةَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ دَمُ كَفَّارَةٍ وَجَبَ جَبْرًا لِلنَّقْصِ بِتَرْكِ إحْدَى السَّفْرَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لِلْغَنِيِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَسَبِيلُهُ سَبِيلُ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ. وَأَمَّا الْقَارِنُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُتَمَتِّعِ فِي وُجُوبِ الْهَدْيِ عَلَيْهِ إنْ وَجَدَ، وَالصَّوْمُ إنْ لَمْ يَجِدْ، وَإِبَاحَةُ الْأَكْلِ مِنْ لَحْمِهِ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُتَمَتِّعِ فِيمَا لِأَجْلِهِ وَجَبَ الدَّمُ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَجَّةِ، وَالْعُمْرَةِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَارِنًا فَنَحَرَ الْبُدْنَ، وَأَمَرَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَخَذَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ قِطْعَةً فَطَبَخَهَا، وَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ لَحْمِهَا، وَحَسَا مِنْ مَرَقِهَا» . وَأَمَّا مَكَانُ هَذَا الدَّمِ فَالْحَرَمُ، لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] ، وَمَحِلُّهُ الْحَرَمُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هَدْيُ الْمُتْعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وَالْهَدْيُ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ أَيْ يُبْعَثُ، وَيُنْقَلُ إلَيْهِ. وَأَمَّا زَمَانُهُ فَأَيَّامُ النَّحْرِ حَتَّى لَوْ ذَبَحَ قَبْلَهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ عِنْدَنَا فَيَتَوَقَّتُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ كَالْأُضْحِيَّةِ. وَأَمَّا بَيَانُ أَفْضَلِ أَنْوَاعِ مَا يُحْرِمُ بِهِ فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ، ثُمَّ التَّمَتُّعَ، ثُمَّ الْإِفْرَادَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّ حَجَّةً كُوفِيَّةً، وَعُمْرَةً كُوفِيَّةً أَفْضَلُ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْرَدَ بِالْحَجِّ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ» فَدَلَّ أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ؛ إذْ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْتَارُ مِنْ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا. وَلَنَا أَنَّ الْمَشْهُورَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ» رَوَاهُ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ

فصل بيان حكم المحرم إذا منع عن المضي في الإحرام

وَجَابِرٌ وَأَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي، وَأَنَا بِالْعَقِيقِ، فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ، وَقُلْ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ فِي حَجَّةٍ» حَتَّى رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصْرُخُ بِهَا صُرَاخًا، وَيَقُولُ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ فِي حَجَّةٍ فَدَلَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَارِنًا. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ بَيْنَهُمَا تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ، وَتَنْفِي الْفَقْرَ» ، وَلِأَنَّ الْقِرَانَ، وَالتَّمَتُّعَ جَمْعٌ بَيْنَ عِبَادَتَيْنِ بِإِحْرَامَيْنِ، فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ إتْيَانِ عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقِرَانُ أَفْضَلَ مِنْ التَّمَتُّعِ؛ لِأَنَّ الْقَارِنَ، حَجَّتُهُ وَعُمْرَتُهُ آفَاقِيَّتَانِ؛ لِأَنَّهُ يُحْرِمُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ الْآفَاقِ، وَالْمُتَمَتِّعُ عُمْرَتُهُ آفَاقِيَّةٌ، وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْآفَاقِ، وَبِالْحَجَّةِ مِنْ مَكَّةَ. وَالْحَجَّةُ الْآفَاقِيَّةُ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجَّةِ الْمَكِّيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، وَرَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ، وَمَا كَانَ أَتَمَّ فَهُوَ أَفْضَلُ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَالْمَشْهُورُ مَا رَوَيْنَا، وَالْعَمَلُ بِالْمَشْهُورِ أَوْلَى مَعَ مَا أَنَّ فِيمَا رَوَيْنَا زِيَادَةً لَيْسَتْ فِي رِوَايَتِهِ. وَالزِّيَادَةُ بِرِوَايَةِ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ عَلَى أَنَّا نَجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، فَنَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَارِنًا لَكِنَّهُ كَانَ يُسَمِّي الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّةَ فِي التَّلْبِيَةِ بِهِمَا مَرَّةً، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُلَبِّي بِهِمَا لَكِنَّهُ كَانَ يُسَمِّي بِإِحْدَاهُمَا مَرَّةً، إذْ تَسْمِيَةُ مَا يُحْرِمُ بِهِ فِي التَّلْبِيَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ التَّلْبِيَةِ فَرَاوِي الْإِفْرَادِ سَمِعَهُ يُسَمِّي الْحَجَّةَ فِي التَّلْبِيَةِ فَبَنَى الْأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ، فَظَنَّهُ مُفْرِدًا فَرَوَى الْإِفْرَادَ، وَرَاوِي الْقِرَانِ وَقَفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ فَرَوَى الْقِرَانَ. [فَصْلٌ بَيَانُ حُكْمِ الْمُحْرِمِ إذَا مُنِعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي الْإِحْرَامِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمُحْرِمِ إذَا مُنِعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي الْإِحْرَامِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُحْصَرِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ فَالْكَلَامُ فِي الْإِحْصَارِ فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ: فِي تَفْسِيرِ الْإِحْصَارِ أَنَّهُ مَا هُوَ، وَمِمَّ يَكُونُ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِحْصَارِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ زَوَالِ الْإِحْصَارِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُحْصَرُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَمْنُوعُ، وَالْإِحْصَارُ هُوَ الْمَنْعُ، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ هُوَ اسْمٌ لِمَنْ أَحْرَمَ ثُمَّ مُنِعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَنْعُ مِنْ الْعَدُوِّ أَوْ الْمَرَضِ أَوْ الْحَبْسِ أَوْ الْكَسْرِ أَوْ الْعَرَجِ، وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَوَانِعِ مِنْ إتْمَامِ مَا أَحْرَمَ بِهِ حَقِيقَةً أَوْ شَرْعًا، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا إحْصَارَ إلَّا مِنْ الْعَدُوِّ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ آيَةَ الْإِحْصَارِ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أُحْصِرُوا مِنْ الْعَدُوِّ، وَفِي آخِرِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} [البقرة: 196] وَالْأَمَانُ مِنْ الْعَدُوِّ يَكُونُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا لَا حَصْرَ إلَّا مِنْ عَدُوٍّ، وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، وَالْإِحْصَارُ هُوَ الْمَنْعُ، وَالْمَنْعُ كَمَا يَكُونُ مِنْ الْعَدُوِّ يَكُونُ مِنْ الْمَرَضِ وَغَيْرِهِ، وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ عِنْدَنَا لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ؛ إذْ الْحُكْمُ يَتْبَعُ اللَّفْظَ لَا السَّبَبَ، وَعَنْ الْكِسَائِيّ، وَأَبِي مُعَاذٍ أَنَّ الْإِحْصَارَ مِنْ الْمَرَضِ، وَالْحَصْرَ مِنْ الْعَدُوِّ. فَعَلَى هَذَا كَانَتْ الْآيَةُ خَاصَّةً فِي الْمَمْنُوعِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} [البقرة: 196] فَالْجَوَابُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ الْأَمْنَ كَمَا يَكُونُ مِنْ الْعَدُوِّ يَكُونُ مِنْ زَوَالِ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّهُ إذَا زَالَ مَرَضُ الْإِنْسَانِ أَمِنَ الْمَوْتَ مِنْهُ أَوْ أَمِنَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ. وَكَذَا بَعْضُ الْأَمْرَاضِ قَدْ تَكُونُ أَمَانًا مِنْ الْبَعْضِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الزُّكَامُ أَمَانٌ مِنْ الْجُذَامِ» ، وَالثَّانِي - أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ مِنْ الْعَدُوِّ مُرَادٌ مِنْ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَهَذَا لَا يَنْفِي كَوْنَ الْمُحْصَرِ مِنْ الْمَرَضِ مُرَادًا مِنْهَا، وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ مُطْلَقُ الْكِتَابِ، كَيْفَ وَإِنَّهُ لَا يُرَى نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» ، وَقَوْلُهُ حَلَّ، أَيْ: جَازَ لَهُ أَنْ يَحِلَّ بِغَيْرِ دَمٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بِذَلِكَ شَرْعًا، وَهُوَ كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» ، وَمَعْنَاهُ: أَيْ حَلَّ لَهُ الْإِفْطَارُ فَكَذَا هَهُنَا مَعْنَاهُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَحِلَّ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ مُحْصَرًا مِنْ الْعَدُوِّ، وَمِنْ خِصَالِهِ التَّحَلُّلُ لِمَعْنًى هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمَرَضِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى التَّرْفِيهِ، وَالتَّيْسِيرِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ وَالْحَرَجِ بِإِبْقَائِهِ عَلَى الْإِحْرَامِ مُدَّةً مَدِيدَةً. وَالْحَاجَةُ إلَى التَّرْفِيهِ وَالتَّيْسِيرِ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ، فَيَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ، وَيَثْبُتُ مُوجَبُهُ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ دَفْعَ

شَرِّ الْعَدُوِّ عَنْ نَفْسِهِ بِالْقِتَالِ فَيَدْفَعُ الْإِحْصَارَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ الْمَرَضِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَمَّا جُعِلَ ذَلِكَ عُذْرًا فَلَأَنْ يُجْعَلَ هَذَا عُذْرًا أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَدُوُّ الْمَانِعُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا لِتَحَقُّقِ الْإِحْصَارِ مِنْهُمَا، وَهُوَ الْمَنْعُ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ. وَكَذَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِثُبُوتِ حُكْمِ الْإِحْصَارِ، وَهُوَ إبَاحَةُ التَّحَلُّلِ، وَغَيْرُهُ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْإِحْصَارِ مِنْ الْمُسْلِمِ وَمِنْ الْكَافِرِ. وَلَوْ سُرِقَتْ نَفَقَتُهُ أَوْ هَلَكَتْ رَاحِلَتُهُ، فَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ فَهُوَ مُحْصَرٌ؛ لِأَنَّهُ مُنِعَ مِنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ فَكَانَ مُحْصَرًا كَمَا لَوْ مَنَعَهُ الْمَرَضُ، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ، فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى الْحَجِّ إنْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْإِنْسَانِ الْمَشْيُ إلَى الْحَجِّ ابْتِدَاءً، وَيَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ كَالْفَقِيرِ الَّذِي لَا زَادَ لَهُ وَلَا رَاحِلَةَ، شَرَعَ فِي الْحَجِّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَشْيُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً قَبْلَ الشُّرُوعِ كَذَا هَذَا. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ فِي الْحَالِ، وَخَافَ أَنْ يَعْجِزَ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ الَّذِي لَا يُوصِلُهُ إلَى الْمَنَاسِكِ، وُجُودُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَ مُحْصَرًا فَيَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَشْيِ أَصْلًا، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الْمَرْأَةُ إذَا أَحْرَمَتْ وَلَا زَوْجَ لَهَا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ فَمَاتَ مَحْرَمُهَا، أَوْ أَحْرَمَتْ وَلَا مَحْرَمَ مَعَهَا، وَلَكِنْ مَعَهَا زَوْجُهَا فَمَاتَ زَوْجُهَا أَنَّهَا مُحْصَرَةٌ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا مِنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ بِلَا زَوْجٍ وَلَا مَحْرَمٍ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ، وَلَهَا مَحْرَمٌ وَزَوْجٌ فَمَنَعَهَا زَوْجُهَا: أَنَّهَا مُحْصَرَةٌ؛ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ حَجَّةِ التَّطَوُّعِ كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا عَنْ صَوْمِ التَّطَوُّعِ فَصَارَتْ مَمْنُوعَةً شَرْعًا بِمَنْعِ الزَّوْجِ فَصَارَتْ مُحْصَرَةً كَالْمَمْنُوعِ حَقِيقَةً بِالْعَدُوِّ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ أَحْرَمَتْ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ، وَلَيْسَ لَهَا زَوْجٌ فَلَيْسَتْ بِمُحْصَرَةٍ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْنُوعَةٍ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ حَقِيقَةً، وَشَرْعًا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ وَلَهَا زَوْجٌ فَأَحْرَمَتْ بِإِذْنِ الزَّوْجِ: أَنَّهَا لَا تَكُونُ مُحْصَرَةً، وَتَمْضِي فِي إحْرَامِهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ بِالْإِذْنِ، وَإِنْ أَحْرَمَتْ وَلَيْسَ لَهَا مَحْرَمٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ فَهِيَ مُحْصَرَةٌ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ بِغَيْرِ زَوْجٍ وَلَا مَحْرَمٍ، وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ، فَإِنْ أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَنْ الْمُضِيِّ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ، وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِإِذْنِهِ لَا تَكُونُ مُحْصَرَةً؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْنُوعَةٍ، وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَا مَحْرَمَ لَهَا، وَلَا زَوْجَ فَهِيَ مُحْصَرَةٌ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْمَنْعُ أَقْوَى مِنْ مَنْعِ الْعِبَادِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ وَزَوْجٌ، وَلَهَا اسْتِطَاعَةٌ عِنْدَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهَا فَلَيْسَتْ بِمُحْصَرَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْفَرَائِضِ كَالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ. وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ، وَلَا مَحْرَمَ مَعَهَا فَمَنَعَهَا الزَّوْجُ فَهِيَ مُحْصَرَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُرُوجِ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ بِنَفْسِهَا، وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا بِالْخُرُوجِ. وَلَوْ أَذِنَ لَا يَعْمَلُ إذْنُهُ فَكَانَتْ مُحْصَرَةً، وَهَلْ لِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ مُحْصَرَةً مَمْنُوعَةً عَنْ الْخُرُوجِ وَالْمُضِيِّ بِمَنْعِ الزَّوْجِ، صَارَ هَذَا كَحَجِّ التَّطَوُّعِ، وَهُنَاكَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا، فَكَذَا هَذَا. وَلَوْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَهُوَ مُحْصَرٌ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ الْمُضِيِّ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهُ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خُلْفٌ فِي الْوَعْدِ، وَلَا يَكُونُ الْحَاجُّ مُحْصَرًا بَعْدَ مَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ، وَيَبْقَى مُحْرِمًا عَنْ النِّسَاءِ إلَى أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] أَيْ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ عَنْ إتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، وَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ بِالْوُقُوفِ لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَجُّ عَرَفَةَ» فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَبَعْدَ تَمَامِ الْحَجِّ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ، وَلِأَنَّ الْمُحْصَرَ اسْمٌ لِفَائِتِ الْحَجِّ، وَبَعْدَ وُجُودِ الرُّكْنِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ الْوُقُوفُ لَا يُتَصَوَّرُ الْفَوَاتُ فَلَا يَكُونُ مُحْصَرًا، وَلَكِنَّهُ يَبْقَى مُحْرِمًا عَنْ النِّسَاءِ إلَى أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ عَنْ النِّسَاءِ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، فَإِنْ مُنِعَ حَتَّى مَضَى أَيَّامُ النَّحْرِ، وَالتَّشْرِيقِ، ثُمَّ خُلِّيَ سَبِيلُهُ: يَسْقُطُ عَنْهُ الْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَدَمٌ لِتَرْكِ الرَّمْيِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ، وَطَوَافَ الصَّدْرِ، وَعَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَذَا عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ دَمٌ عِنْدَهُ. وَعِنْدَهُمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَضَتْ فِي

فصل حكم الإحصار

مَوْضِعِهَا، وَلَا إحْصَارَ بَعْدَ مَا قَدِمَ مَكَّةَ أَوْ الْحَرَمَ إنْ كَانَ لَا يُمْنَعُ مِنْ الطَّوَافِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ إنْ مُنِعَ مِنْ الطَّوَافِ، مَاذَا حُكْمُهُ؟ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ إنْ قَدَرَ عَلَى الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ جَمِيعًا أَوْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ مُحْصَرٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُحْصَرًا بَعْدَ مَا دَخَلَ الْحَرَمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَكَّةَ عَدُوٌّ غَالِبٌ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّخُولِ إلَى مَكَّةَ كَمَا حَالَ الْمُشْرِكُونَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ دُخُولِ مَكَّةَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْصَرٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ، هَلْ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ إحْصَارٌ؟ فَقَالَ: لَا، فَقُلْتُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ: كَانَتْ مَكَّةُ إذْ ذَاكَ حَرْبًا، وَهِيَ الْيَوْمَ دَارُ إسْلَامٍ، وَلَيْسَ فِيهَا إحْصَارٌ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ مِنْ التَّفْصِيلِ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْوُقُوفِ أَوْ عَلَى الطَّوَافِ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ مُحْصَرًا، أَمَّا إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْوُقُوفِ فَلِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا إذَا كَانَ يَصِلُ إلَى الطَّوَافِ فَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالدَّمِ إنَّمَا رُخِّصَ لِلْمُحْصَرِ لِتَعَذُّرِ الطَّوَافِ قَائِمًا مَقَامَهُ، بَدَلًا عَنْهُ، بِمَنْزِلَةِ فَائِتِ الْحَجِّ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ، وَهُوَ الطَّوَافُ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الطَّوَافِ فَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ التَّحَلُّلُ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْوُصُولِ إلَى أَحَدِهِمَا فَلِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُحْصَرِ فِي الْحِلِّ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ، ثُمَّ الْإِحْصَارُ كَمَا يَكُونُ عَنْ الْحَجِّ يَكُونُ عَنْ الْعُمْرَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا إحْصَارَ عَنْ الْعُمْرَةِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِحْصَارَ لِخَوْفِ الْفَوْتِ، وَالْعُمْرَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْفَوْتَ؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَوْقَاتِ وَقْتٌ لَهَا، فَلَا يُخَافُ فَوْتُهَا بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَوْتَ فَيَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ عَنْهُ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] عَقِيبَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ عَنْ إتْمَامِهِمَا فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حُصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، وَكَانُوا مُعْتَمِرِينَ فَنَحَرُوا هَدْيَهُمْ، وَحَلَقُوا رُءُوسَهُمْ، وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ عُمْرَتَهُمْ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ حَتَّى سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ فِي الْحَجِّ لِمَعْنًى هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْعُمْرَةِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّضَرُّرِ بِامْتِدَادِ الْإِحْرَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ حُكْمُ الْإِحْصَارِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْإِحْصَارِ فَالْإِحْصَارُ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ، لَكِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا: جَوَازُ التَّحَلُّلِ عَنْ الْإِحْصَارِ وَالثَّانِي: وُجُوبُ قَضَاءِ مَا أَحْرَمَ بِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ. أَمَّا جَوَازُ التَّحَلُّلِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ التَّحَلُّلِ، وَفِي بَيَانِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَتَحَلَّلُ بِهِ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِهِ وَفِي بَيَانِ زَمَانِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ التَّحَلُّلِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالتَّحَلُّلُ: هُوَ فَسْخُ الْإِحْرَامِ، وَالْخُرُوجُ مِنْهُ بِالطَّرِيقِ الْمَوْضُوعِ لَهُ شَرْعًا وَأَمَّا دَلِيلُ جَوَازِهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وَفِيهِ إضْمَارٌ وَمَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ عَنْ إتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَأَرَدْتُمْ أَنْ تَحِلُّوا فَاذْبَحُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْهَدْيِ، إذْ الْإِحْصَارُ نَفْسُهُ لَا يُوجِبُ الْهَدْيَ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَتَحَلَّلَ وَيَبْقَى مُحْرِمًا كَمَا كَانَ إلَى أَنْ يَزُولَ الْمَانِعُ فَيَمْضِيَ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] مَعْنَاهُ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا، أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ، وَإِلَّا فَكَوْنُ الْأَذَى فِي رَأْسِهِ لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ. وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] مَعْنَاهُ: فَأَفْطَرَ؛ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَإِلَّا فَنَفْسُ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ لَا يُوجِبُ الصَّوْمَ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] مَعْنَاهُ: فَأَكَلَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَنَفْسُ الِاضْطِرَارِ لَا يُوجِبُ الْإِثْمَ كَذَا هَهُنَا؛ وَلِأَنَّ الْمُحْصَرَ مُحْتَاجٌ إلَى التَّحَلُّلِ؛ لِأَنَّهُ مُنِعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعَ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّحَلُّلُ لَبَقِيَ مُحْرِمًا لَا يَحِلُّ لَهُ مَا حَظَرَهُ الْإِحْرَامُ إلَى أَنْ يَزُولَ الْمَانِعُ فَيَمْضِيَ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ وَالْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّحَلُّلِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَالْحَرَجِ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِحْصَارُ عَنْ الْحَجِّ، أَوْ عَنْ الْعُمْرَةِ، أَوْ عَنْهُمَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَتَحَلَّلُ بِهِ فَالْمُحْصَرُ نَوْعَانِ:. نَوْعٌ لَا يَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ، وَنَوْعٌ يَتَحَلَّلُ بِغَيْرِ الْهَدْيِ. أَمَّا الَّذِي لَا يَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ: فَكُلُّ مَنْ مُنِعَ مِنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ حَقِيقَةً، أَوْ مُنِعَ مِنْهُ شَرْعًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِحَقِّ الْعَبْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَهَذَا لَا يَتَحَلَّلُ

إلَّا بِالْهَدْيِ وَهُوَ: أَنْ يَبْعَثَ بِالْهَدْيِ أَوْ بِثَمَنِهِ لِيَشْتَرِيَ بِهِ هَدْيًا فَيُذْبَحَ عَنْهُ، وَمَا لَمْ يُذْبَحْ لَا يَحِلُّ. وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ سَوَاءٌ كَانَ شَرَطَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ بِغَيْرِ ذَبْحٍ عِنْدَ الْإِحْصَارِ، أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْمُحْصَرُ يَحِلُّ بِغَيْرِ هَدْيٍ، إلَّا إذَا كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَيَذْبَحُهُ. وَيَحِلُّ وَقِيلَ: إنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ لَمْ يَشْتَرِطْ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ مِنْ غَيْرِ هَدْيٍ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْهَدْيِ. وَإِنْ كَانَ شَرَطَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ مِنْ غَيْرِ هَدْيٍ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْهَدْيِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالتَّحَلُّلِ مِنْ غَيْرِ هَدْيٍ بِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنْ إحْصَارِهِ بِغَيْرِ هَدْيٍ» ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ الَّذِي نَحَرَهُ كَانَ هَدْيًا سَاقَهُ لِعُمْرَتِهِ لَا لِإِحْصَارِهِ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ عَلَى النِّيَّةِ الْأُولَى، وَحَلَّ مِنْ إحْصَارِهِ بِغَيْرِ دَمٍ، فَدَلَّ أَنَّ الْمُحْصَرَ يَحِلُّ بِغَيْرِ هَدْيٍ يُحَقِّقُ مَا قُلْنَا: إنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُ نَحَرَ دَمَيْنِ، وَإِنَّمَا نَحَرَ دَمًا وَاحِدًا. وَلَوْ كَانَ الْمُحْصَرُ لَا يَحِلُّ إلَّا بِدَمٍ لَنَحَرَ دَمَيْنِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَنْقُولٍ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] مَعْنَاهُ: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَيُذْبَحَ، نَهَى عَزَّ وَجَلَّ عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ قَبْلَ ذَبْحِ الْهَدْيِ فِي مَحِلِّهِ، وَهُوَ الْحَرَمُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَقْتَ الْإِحْصَارِ أَمْ لَا، شَرَطَ الْمُحْصَرُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ أَوْ لَمْ يَشْرِطْ، فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، وَلِأَنَّ شَرْعَ التَّحَلُّلِ ثَبَتَ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَسْخِ الْإِحْرَامِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلَ أَوَانِهِ، فَكَانَ ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالتَّحَلُّلِ بِالْهَدْيِ، فَلَا يَثْبُتُ التَّحَلُّلُ بِدُونِهِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنْ إحْصَارِهِ بِغَيْرِ هَدْيٍ، إذْ لَا يُتَوَهَّمُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكُونَ حَلَّ مِنْ إحْصَارِهِ بِغَيْرِ هَدْيٍ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُحْصَرَ أَنْ لَا يَحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. وَلَكِنَّ وَجْهَ ذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَهُوَ مَعْنَى الْمَرْوِيِّ فِي حَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ - أَنَّهُ نَحَرَ دَمًا وَاحِدًا أَنَّ الْهَدْيَ الَّذِي كَانَ سَاقَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ هَدْيَ مُتْعَةٍ أَوْ قِرَانٍ، فَلَمَّا مُنِعَ عَنْ الْبَيْتِ سَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ دَمِ الْإِحْصَارِ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قُلْتُمْ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَفَ الْهَدْيَ عَنْ سَبِيلِهِ وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ بَاعَ هَدِيَّةَ التَّطَوُّعِ فَهُوَ مُسِيءٌ لِمَا أَنَّهُ صَرَفَهُ عَنْ سَبِيلِهِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الَّذِي بَاعَهُ صَرَفَهُ عَنْ سَبِيلِ التَّقَرُّبِ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى رَأْسًا فَأَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَصْرِفْ الْهَدْيَ عَنْ سَبِيلِ التَّقَرُّبِ أَصْلًا وَرَأْسًا، بَلْ صَرَفَهُ إلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ: وَهُوَ الْوَاجِبُ، وَهُوَ دَمُ الْإِحْصَارِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْهَدْيَ لِإِحْصَارِهِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَحْلِقْ حَتَّى نَحَرَ هَدْيَهُ. وَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ انْحَرُوا وَحِلُّوا» وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَإِذَا لَمْ يَتَحَلَّلْ إلَّا بِالْهَدْيِ وَأَرَادَ التَّحَلُّلَ يَجِبُ أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ، أَوْ ثَمَنَهُ لِيُشْتَرَى بِهِ الْهَدْيُ فَيُذْبَحُ عَنْهُ وَيَجِبُ أَنْ يُوَاعِدَهُمْ يَوْمًا مَعْلُومًا يُذْبَحُ فِيهِ؛ فَيَحِلُّ بَعْدَ الذَّبْحِ، وَلَا يَحِلُّ قَبْلَهُ، بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ غَيْرِ الْمُحْصَرِ، فَلَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ، وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ حَتَّى يَكُونَ الْيَوْمُ الَّذِي وَاعَدَهُمْ فِيهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ هَدْيَهُ قَدْ ذُبِحَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] حَتَّى لَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ ذَبْحِ الْهَدْيِ، يَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُحْصَرًا، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَوْضِعِهِ حَتَّى لَوْ حَلَقَ قَبْلَ الذَّبْحِ؛ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ حَلَقَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، أَوْ لِعُذْرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] أَيْ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ، فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ نُسُكٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أَيْ: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: «فِي نَزَلَتْ الْآيَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِي وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ فَقُلْت: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْلِقْ وَأَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ اُنْسُكْ نَسِيكَةً فَنَزَلَتْ الْآيَةُ» وَالنُّسُكُ جَمْعُ نَسِيكَةٍ، وَالنَّسِيكَةُ الذَّبِيحَةُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الشَّاةُ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الشَّاةَ مُجْزِئَةٌ فِي الْفِدْيَةِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: اُنْسُكْ شَاةً» وَإِذَا وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ عَلَيْهِ إذَا حَلَقَ رَأْسَهُ لِأَذًى بِالنَّصِّ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ إذَا حَلَقَ لَا لِأَذًى بِدَلَالَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ سَبَبُ تَخْفِيفِ الْحُكْمِ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَمَّا وَجَبَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ؛ فَفِي حَالِ الِاخْتِيَارِ

أَوْلَى. وَلَا يُجْزِئُ دَمُ الْفِدْيَةِ إلَّا فِي الْحَرَمِ كَدَمِ الْإِحْصَارِ، وَدَمِ الْمُتْعَةِ، وَالْقِرَانِ. وَأَمَّا الصَّدَقَةُ وَالصَّوْمُ: فَإِنَّهُمَا يُجْزِيَانِ حَيْثُ شَاءَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَا تُجْزِئُ الصَّدَقَةُ إلَّا بِمَكَّةَ " وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْهَدْيَ يَخْتَصُّ بِمَكَّةَ، فَكَذَا الصَّدَقَةُ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الْحَرَمِ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] مُطْلَقًا عَنْ الْمَكَانِ، إلَّا أَنَّ النُّسُكَ قَيْدٌ بِالْمَكَانِ بِدَلِيلٍ " فَمَنْ ادَّعَى تَقْيِيدَ الصَّدَقَةِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ ". وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْهَدْيَ إنَّمَا اخْتَصَّ بِالْحَرَمِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ أَهْلُ الْحَرَمِ فَكَذَا الصَّدَقَةُ فَنَقُولُ: هَذَا الِاعْتِبَارُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَوْ ذَبَحَ الْهَدْيَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ فِي الْحَرَمِ؛ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ ذَبَحَ فِي الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الْحَرَمِ يَجُوزُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ: أَنَّ مَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَهْدِيَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَذْبَحَ إلَّا بِمَكَّةَ وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، أَوْ لِلَّهِ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ صَدَقَةً، لَهُ أَنْ يُطْعِمَ، وَيَتَصَدَّقَ حَيْثُ شَاءَ، فَدَلَّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ حَلَّ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ ذُبِحَ عَنْهُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُذْبَحْ فَهُوَ مُحْرِمٌ كَمَا كَانَ، لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يُذْبَحْ عَنْهُ لِعَدَمِ شَرْطِ الْحِلِّ وَهُوَ: ذَبْحُ الْهَدْيِ وَعَلَيْهِ لِإِحْلَالِهِ تَنَاوُلَ مَحْظُورِ إحْرَامِهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ كَفَّارَةً لِذَنْبِهِ، ثُمَّ الْهَدْيُ: بَدَنَةٌ، أَوْ بَقَرَةٌ، أَوْ شَاةٌ، وَأَدْنَاهُ شَاةٌ لِمَا رَوَيْنَا. وَلِأَنَّ الْهَدْيَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى أَيْ: يُبْعَثُ وَيُنْقَلُ وَفِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ. وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْبَدَنَةُ، ثُمَّ الْبَقَرَةُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُتَمَتِّعِ وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ نَحَرَ الْبُدْنَ، وَكَانَ يَخْتَارُ مِنْ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا» وَإِنْ كَانَ قَارِنًا لَا يَحِلُّ إلَّا بِدَمَيْنِ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحِلُّ بِدَمٍ وَاحِدٍ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ: إنَّ الْقَارِنَ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ، فَلَا يَحِلُّ إلَّا بِهَدْيَيْنِ، وَعِنْدَهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ وَيَدْخُلُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ فِي الْحَجَّةِ فَيَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ. وَلَوْ بَعَثَ الْقَارِنُ بِهَدْيَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَيُّهُمَا لِلْحَجِّ، وَأَيُّهُمَا لِلْعُمْرَةِ لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَهُمَا وَاحِدٌ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ كَقَضَاءِ يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ. وَلَوْ بَعَثَ الْقَارِنُ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِيَتَحَلَّلَ مِنْ الْحَجِّ وَيَبْقَى فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ تَحَلُّلَ الْقَارِنِ مِنْ أَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِتَحَلُّلِهِ مِنْ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ بَدَلٌ عَنْ الطَّوَافِ ثُمَّ لَا يَتَحَلَّلُ بِأَحَدِ الطَّوَافَيْنِ عَنْ أَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ، فَكَذَا بِأَحَدِ الْهَدْيَيْنِ. وَلَوْ كَانَ أَحْرَمَ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَنْوِي حَجَّةً وَلَا عُمْرَةً ثُمَّ أُحْصِرَ يَحِلُّ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْمَجْهُولِ صَحِيحٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ صَرَفَهُ إلَى الْحَجِّ، وَإِنْ شَاءَ إلَى الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُجْمِلُ فَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ، وَالْقِيَاسُ: أَنْ لَا تَتَعَيَّنَ الْعُمْرَةُ بِالْإِحْصَارِ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ فِي عَمَلِ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَقَالُوا: تَتَعَيَّنُ الْعُمْرَةُ بِالْإِحْصَارِ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ أَقَلُّهُمَا، وَهُوَ مُتَيَقِّنٌ. وَلَوْ كَانَ أَحْرَمَ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ وَسَمَّاهُ ثُمَّ نَسِيَهُ وَأُحْصِرَ يَحِلُّ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ أَمَّا الْحِلُّ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ؛ فَلِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَإِنَّهُ يَقَعُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ بِدَمٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا لُزُومُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ؛ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ، وَيُحْتَمَلُ بِعُمْرَةٍ، فَإِنْ كَانَ إحْرَامُهُ بِحَجَّةٍ فَالْعُمْرَةُ لَا تَنُوبُ مَنَابَهَا، وَإِنْ كَانَ بِالْعُمْرَةِ فَالْحَجَّةُ لَا تَنُوبُ مَنَابَهَا فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا لِيُسْقِطَ الْفَرْضَ عَنْ نَفْسِهِ بِيَقِينٍ كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لِيُسْقِطَ الْفَرْضَ عَنْ نَفْسِهِ بِيَقِينٍ، كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يُحْصَرْ وَوَصَلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ مَا عَلَى الْقَارِنِ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ عَلَى طَرِيقِ النُّسُكِ. وَأَمَّا مَكَانُ ذَبْحِ الْهَدْيِ فَالْحَرَمُ عِنْدَنَا. وَقَالَ: الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يَذْبَحَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهِ، احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ الْهَدْيَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ نَحَرَ فِي الْحَرَمِ؛ وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ ثَبَتَ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا. وَذَلِكَ فِي الذَّبْحِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَوْضِعٍ مَحِلًّا لَهُ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْمَحِلِّ فَائِدَةٌ، وَلِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] أَيْ: إلَى الْبُقْعَةِ الَّتِي فِيهَا الْبَيْتُ. بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ نَفْسُ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ ذَكَرَ بِالْبَيْتِ وَهَهُنَا ذَكَرَ إلَى الْبَيْتِ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فَقَدْ رُوِيَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ نَحَرَ هَدْيَهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْحَرَمِ، فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَاتُ، فَلَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَزَلَ الْحُدَيْبِيَةَ فَحَالَ الْمُشْرِكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دُخُولِ مَكَّةَ فَجَاءَ

سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يَعْرِضُ عَلَيْهِ الصُّلْحَ وَأَنْ يَسُوقَ الْبُدْنَ وَيَنْحَرَ حَيْثُ شَاءَ، فَصَالَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْحَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُدْنَهُ فِي الْحِلِّ مَعَ إمْكَانِ النَّحْرِ فِي الْحَرَمِ، وَهُوَ بِقُرْبِ الْحَرَمِ بَلْ هُوَ فِيهِ. وَرُوِيَ عَنْ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَا: «نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي الْحِلِّ وَكَانَ يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ،» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَنْحَرَ بُدْنَهُ فِي الْحَرَمِ حَيْثُ كَانَ يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ، وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَتْرُكَ نَحْرَ الْبُدْنِ فِي الْحَرَمِ، وَلَهُ سَبِيلُ النَّحْرِ فِي الْحَرَمِ؛ وَلِأَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ مَكَانٌ يَجْمَعُ الْحِلَّ وَالْحَرَمَ جَمِيعًا، فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْحَرَ فِي الْحِلِّ مَعَ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى النَّحْرِ فِي الْحَرَمِ، وَلَوْ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا عَنْهُ فِي الْحَرَمِ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَهُوَ عَلَى إحْرَامِهِ، وَلَا يَحِلُّ مِنْهُ إلَّا بِذَبْحِ الْهَدْيِ فِي الْحَرَمِ لِفَقْدِ شَرْطِ التَّحَلُّلِ، وَهُوَ: الذَّبْحُ فِي الْحَرَمِ، فَبَقِيَ مُحْرِمًا كَمَا كَانَ وَعَلَيْهِ لِإِحْلَالِهِ فِي تَنَاوُلِهِ مَحْظُورَاتِ إحْرَامِهِ دَمٌ لِمَا قُلْنَا. وَكَذَلِكَ لَوْ بَعَثَ الْهَدْيَ وَوَاعَدَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوا عَنْهُ فِي الْحَرَمِ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا عَنْهُ فِيهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَذْبَحُوا، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُحْرِمًا لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ بَعَثَ هَدْيَيْنِ وَهُوَ مُفْرِدٌ فَإِنَّهُ يَحِلُّ مِنْ إحْرَامِهِ بِذَبْحِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا، وَيَكُونُ الْآخَرُ تَطَوُّعًا لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِلِّ عِنْدَ وُجُودِ ذَبْحِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا. وَلَوْ كَانَ قَارِنًا لَا يَحِلُّ إلَّا بِذَبْحِهِمَا وَلَا يَحِلُّ بِذَبْحِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِلِّ فِي حَقِّهِ الزَّمَانُ، فَمَا لَمْ يُوجَدَا لَا يَحِلُّ. وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ فَلَمْ يَجِدْ هَدْيًا يَبْعَثُ، وَلَا ثَمَنَهُ هَلْ يَحِلُّ بِالصَّوْمِ وَيَكُونُ الصَّوْمُ بَدَلًا عَنْهُ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَحِلُّ بِالصَّوْمِ وَلَيْسَ الصَّوْمُ بَدَلًا عَنْ هَدْيِ الْمُحْصَرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَيُقِيمُ حَرَامًا حَتَّى يُذْبَحَ الْهَدْيُ عَنْهُ فِي الْحَرَمِ، أَوْ يَذْهَبَ إلَى مَكَّةَ فَيَحِلُّ مِنْ إحْرَامِهِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَهُوَ: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ كَمَا يَفْعَلُهُ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ، وَهُوَ: أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ فِي الْمُحْصَرِ لَا يَجِدُ الْهَدْيَ: قَوَّمَ الْهَدْيَ طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ طَعَامٌ صَامَ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِ: إنَّ الْهَدْيَ لِلْإِحْصَارِ بَدَلًا، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي مَاهِيَّةِ الْبَدَلِ فَقَالَ فِي قَوْلِ: الْبَدَلُ هُوَ الصَّوْمُ مِثْلَ صَوْمِ الْمُتْعَةِ، وَفِي قَوْلِ: الْبَدَلُ هُوَ الْإِطْعَامُ وَهَلْ يَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ؟ لَهُ فِيهِ قَوْلَانِ: وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ لَهُ بَدَلًا أَنَّ هَذَا دَمٌ يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَدَلٌ كَدَمِ الْمُتْعَةِ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] أَيْ: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَيُذْبَحُ، نَهَى اللَّهُ عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ مَمْدُودًا إلَى غَايَةِ ذَبْحِ الْهَدْيِ. وَالْحُكْمُ الْمَمْدُودُ إلَى غَايَةٍ لَا يَنْتَهِي قَبْلَ وُجُودِ الْغَايَةِ، فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَتَحَلَّلَ مَا لَمْ يَذْبَحْ الْهَدْيَ، سَوَاءٌ صَامَ، أَوْ أَطْعَمَ، أَوْ لَا. وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالدَّمِ قَبْلَ إتْمَامِ مَوَاجِبِ الْإِحْرَامِ عُرِفَ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ بِالرَّأْيِ. وَأَمَّا الْحَلْقُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِلتَّحَلُّلِ وَيَحِلُّ الْمُحْصَرُ بِالذَّبْحِ بِدُونِ الْحَلْقِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ " وَإِنْ حَلَقَ فَحَسَنٌ ". وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: " أَرَى عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِقَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ "، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " هُوَ وَاجِبٌ لَا يَسَعُهُ تَرْكُهُ ". وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ وَقَالَ: " إنَّمَا لَا يَجِبُ الْحَلْقُ عِنْدَهُمَا إذَا أُحْصِرَ فِي الْحِلِّ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ. فَأَمَّا إذَا أُحْصِرَ فِي الْحَرَمِ: يَجِبُ الْحَلْقُ عِنْدَهُمَا "، احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْحَلْقِ» فَدَلَّ أَنَّ الْحَلْقَ وَاجِبٌ، وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] مَعْنَاهُ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ وَأَرَدْتُمْ أَنْ تَحِلُّوا فَاذْبَحُوا مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ جَعَلَ ذَبْحَ الْهَدْيِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ إذَا أَرَادَ الْحِلَّ كُلٌّ مُوجِبٌ الْإِحْصَارَ فَمَنْ أَوْجَبَ الْحَلْقَ فَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضَ الْمُوجِبِ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ الْحَلْقَ لِلتَّحَلُّلِ عَنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَالْمُحْصَرُ لَا يَأْتِي بِأَفْعَالِ الْحَجِّ فَلَا حَلْقَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ: لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ بَعْضُهَا فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أُحْصِرَ فِي الْحَرَمِ فَأُمِرَ بِالْحَلْقِ، وَأَمَّا عَلَى جَوَابِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ فَهُوَ: مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ، وَالِاسْتِحْبَابِ. وَأَمَّا زَمَانُ ذَبْحِ الْهَدْيِ فَمُطْلَقُ الْوَقْتِ لَا يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِحْصَارُ عَنْ الْحَجِّ، أَوْ عَنْ الْعُمْرَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: إنَّ الْمُحْصَرَ عَنْ الْحَجِّ لَا يُذْبَحُ عَنْهُ إلَّا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا، وَلَا خِلَافَ فِي الْمُحْصَرِ عَنْ الْعُمْرَةِ أَنَّهُ يُذْبَحُ عَنْهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا: إنَّ هَذَا الدَّمَ سَبَبٌ لِلتَّحَلُّلِ مِنْ إحْرَامِ الْحَجِّ فَيَخْتَصُّ بِزَمَانِ التَّحَلُّلِ كَالْحَلْقِ بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ، فَإِنَّ التَّحَلُّلَ مِنْ إحْرَامِهَا بِالْحَلْقِ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ، فَكَذَا

بِالْهَدْيِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْ الْمُحْصَرِ تَحَلُّلٌ قَبْلَ أَوَانِ التَّحَلُّلِ يُبَاحُ لِضَرُورَةِ دَفْعِ الضَّرَرِ بِبَقَائِهِ مُحْرِمًا رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا، فَلَا يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ كَالطَّوَافِ الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ فَائِتُ الْحَجِّ، إذْ الْمُحْصَرُ فَائِتُ الْحَجِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا حُكْمُ التَّحَلُّلِ فَصَيْرُورَتُهُ حَلَالًا يُبَاحُ لَهُ تَنَاوُلُ جَمِيعِ مَا حَظَرَهُ الْإِحْرَامُ لِارْتِفَاعِ الْحَاظِرِ، فَيَعُودُ حَلَالًا كَمَا كَانَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ. وَأَمَّا الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ بِغَيْرِ ذَبْحِ الْهَدْيِ فَكُلُّ مُحْصَرٍ مُنِعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ شَرْعًا لَحِقَ الْعَبْدَ، كَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ الْمَمْنُوعَيْنِ شَرْعًا لِحَقِّ الزَّوْجِ، وَالْمَوْلَى بِأَنْ أَحْرَمَتْ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا، أَوْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ، فَلِلزَّوْجِ وَالْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهُمَا فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ ذَبْحِ الْهَدْيِ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي مَوْضِعَيْنِ. أَحَدُهُمَا: فِي جَوَازِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّحَلُّلِ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ مَا يَتَحَلَّلُ بِهِ أَمَّا الْجَوَازُ؛ فَلِأَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِ الْمَرْأَةِ حَقُّ الزَّوْجِ وَمِلْكُهُ عَلَيْهَا فَيَحْتَاجُ إلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ مَعَ قِيَامِ الْإِحْرَامِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّحَلُّلِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى تَوْقِيفِهِ عَلَى ذَبْحِ الْهَدْيِ فِي الْحَرَمِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ لِلْحَالِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا لِلْحَالِ. وَعَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَبْعَثَ الْهَدْيَ، أَوْ ثَمَنَهُ إلَى الْحَرَمِ لِيُذْبَحَ عَنْهَا، لِأَنَّهَا تَحَلَّلَتْ بِغَيْرِ طَوَافٍ، وَعَلَيْهَا حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ كَمَا عَلَى الرَّجُلِ الْمُحْصَرِ إذَا تَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَلَا زَوْجَ لَهَا، وَلَا مَحْرَمَ، أَوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ أَوْ مَحْرَمٌ فَمَاتَ أَنَّهَا لَا تَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ هُنَاكَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِحَقِّ الْعَبْدِ، فَكَانَ تَحَلُّلُهَا جَائِزًا لَا حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهَا لِأَحَدٍ، أَلَا تَرَى لَهَا أَنْ تَبْقَى عَلَى إحْرَامِهَا مَا لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا، أَوْ زَوْجًا، فَكَانَ تَحَلُّلُهَا بِمَا هُوَ الْمَوْضُوعُ لِلتَّحَلُّلِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ: ذَبْحُ الْهَدْيِ فَهُوَ الْفَرْقُ. وَكَذَا الْعَبْدُ بِمَنَافِعِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى فَيَحْتَاجُ إلَى تَصْرِيفِهِ فِي وُجُوهِ مَصَالِحِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ مَعَ قِيَامِ الْإِحْرَامِ، فَيَحْتَاجُ إلَى التَّحَلُّلِ فِي الْحَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّوْقِيفِ عَلَى ذَبْحِ الْهَدْيِ فِي الْحَرَمِ مِنْ تَعْطِيلِ مَصَالِحِهِ فَيُحَلِّلُهُ الْمَوْلَى لِلْحَالِ، وَعَلَى الْعَبْدِ إذَا عَتَقَ هَدْيُ الْإِحْصَارِ، وَقَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالشُّرُوعِ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا أَهْلًا، إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ لِحَقِّ الْمَوْلَى، فَإِذَا عَتَقَ زَالَ حَقُّهُ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ لِفَوَاتِ الْحَجِّ فِي عَامِهِ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ يُكْرَهُ لِلْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ عَمَّا وَعَدَ وَخُلْفٌ فِي الْوَعْدِ، فَيُكْرَهُ. وَلَوْ حَلَّلَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِمَنَافِعِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَزُفَرَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَذِنَ لِلْعَبْدِ فِي الْحَجِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهُ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِالْإِذْنِ، فَأَشْبَهَ الْحُرَّ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمُحَلِّلَ بَعْدَ الْإِذْنِ قَائِمٌ وَهُوَ الْمِلْكُ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا قُلْنَا. وَإِذَا حَلَّلَهُ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِعَبْدِهِ شَيْءٌ. وَلَوْ أُحْصِرَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمَوْلَى إنْفَاذُ هَدْيٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ لَلَزِمَهُ لِحَقِّ الْعَبْدِ وَلَا يَجِبُ لِلْعَبْدِ عَلَى مَوْلَاهُ حَقٌّ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُعْتِقَ صَارَ مِمَّنْ يُثْبَتُ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ، فَصَارَ كَالْحُرِّ إذَا حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ فَأُحْصِرَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَحْجُوجِ عَنْهُ أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَذْبَحَ عَنْهُ هَدْيًا فِي الْحَرَمِ فَيَحِلَّ؛ لِأَنَّ هَذَا الدَّمَ وَجَبَ لِبَلِيَّةٍ اُبْتُلِيَ بِهَا الْعَبْدُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ، وَالنَّفَقَةُ عَلَى الْمَوْلَى. وَكَذَا دَمُ الْإِحْصَارِ، وَلِهَذَا كَانَ دَمُ الْإِحْصَارِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ إذَا أُحْصِرَ الْحَاجُّ عَنْ الْمَيِّتِ لَا عَلَيْهِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ، أَوْ الْأَمَةُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى، ثُمَّ بَاعَهُمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْنَعَهُمَا وَيُحَلِّلَهُمَا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَفِي قَوْلِ زُفَرَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا بِالْعَيْبِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمَرْأَةُ إذَا أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا. وَعِنْدَ زُفَرَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، كَذَا حَكَى الْقَاضِي الْخِلَافَ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ، وَزُفَرَ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ: أَنَّ الَّذِي انْتَقَلَ إلَى الْمُشْتَرِي هُوَ مَا كَانَ لِلْبَائِعِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يُحَلِّلَهُ عِنْدَهُ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ بِالْإِذْنِ كَذَا الْمُشْتَرِي. وَلَنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ لَمْ يَقَعْ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي فَصَارَ كَأَنَّهُ أَحْرَمَ فِي مِلْكِهِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ، كَذَا هَذَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ فِي الْحَجِّ ثُمَّ بَاعَهُ لَا أَكْرَهُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهُ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ الْبَائِعِ، لِمَا فِيهِ مِنْ خَلْفِ الْوَعْدِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي أَمَةٍ لَهَا زَوْجٌ أَذِنَ لَهَا مَوْلَاهَا فِي الْحَجِّ فَأَحْرَمَتْ لَيْسَ لِزَوْجِهَا أَنْ يُحَلِّلَهَا؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ إنَّمَا ثَبَتَ لِلزَّوْجِ بِمَنْعِهَا مِنْ السَّفَرِ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهَا. وَمَنْعُ الْأَمَةِ مِنْ السَّفَرِ إلَى مَوْلَاهَا دُونَ الزَّوْجِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْلَى

لَوْ سَافَرَ بِهَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا، فَكَذَا إذَا أَذِنَ لَهَا فِي السَّفَرِ. وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَتَحَلَّلُ بِهِ، فَالتَّحَلُّلُ عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْإِحْصَارِ يَقَعُ بِفِعْلِ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى أَدْنَى مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ مِنْ قَصِّ ظُفْرِهِمَا أَوْ تَطْيِيبِهِمَا، أَوْ بِفِعْلِهِمَا ذَلِكَ بِأَمْرِ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى، أَوْ بِامْتِشَاطِ الزَّوْجَةِ رَأْسَهَا بِأَمْرِ الزَّوْجِ، أَوْ تَقْبِيلِهَا، أَوْ مُعَانَقَتِهَا فَتَحِلُّ بِذَلِكَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حِينَ حَاضَتْ فِي الْعُمْرَةِ: امْتَشِطِي وَارْفُضِي عَنْك الْعُمْرَةَ» وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ صَارَ حَقًّا عَلَيْهِمَا لِلزَّوْجِ وَالْمَوْلَى، فَجَازَ بِمُبَاشَرَتِهِمَا أَدْنَى مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ، وَلَا يَكُونُ التَّحَلُّلُ بِقَوْلِهِ: حَلَلْتُكِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَحْلِيلٌ مِنْ الْإِحْرَامِ فَلَا يَقَعُ بِالْقَوْلِ، كَالرَّجُلِ الْحُرِّ إذَا أُحْصِرَ فَقَالَ: حَلَلْت نَفْسِي. وَأَمَّا وُجُوبُ قَضَاءِ مَا أَحْرَمَ بِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمُحْصَرَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْحَجَّةِ لَا غَيْرُ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ لَا غَيْرُ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ أَحْرَمَ بِهِمَا، بِأَنْ كَانَ قَارِنًا، فَإِنْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْحِجَّةِ لَا غَيْرُ، فَإِنْ بَقِيَ وَقْتُ الْحَجِّ عِنْدَ زَوَالِ الْإِحْصَارِ، وَأَرَادَ أَنْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، أَحْرَمَ وَحَجَّ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ نِيَّةُ الْقَضَاءِ، وَلَا عُمْرَةَ عَلَيْهِ كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِ الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ تِلْكَ الْحَجَّةُ إلَّا بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَعَلَيْهِ نِيَّةُ الْقَضَاءِ فِيهِمَا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ مَا إذَا أَحْرَمَتْ الْمَرْأَةُ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا فَمَنَعَهَا زَوْجُهَا فَحَلَّلَهَا، ثُمَّ أَذِنَ لَهَا بِالْإِحْرَامِ فَأَحْرَمَتْ فِي عَامِهَا ذَلِكَ، أَوْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ فَأَحْرَمَتْ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ مَا تَحُجُّهُ فِي هَذَا الْعَامِ دَخَلَ فِي حَدِّ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدَّى بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ؛ لِانْفِسَاخِ الْأَوَّلِ بِالتَّحَلُّلِ فَيَكُونُ قَضَاءً، فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ كَمَا لَوْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ. وَلَنَا أَنَّ الْقَضَاءَ اسْمٌ لِلْفَائِتِ عَنْ الْوَقْتِ، وَوَقْتُ الْحَجِّ بَاقٍ فَكَانَ الْحَجُّ فِيهِ أَدَاءً لَا قَضَاءً، فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَلَا تَلْزَمُهُ الْعُمْرَةُ؛ لِأَنَّ لُزُومَهَا لِفَوَاتِ الْحَجِّ فِي عَامِهِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَفُتْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ لَا غَيْرُ، وَإِنْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " حَجَّةٌ بِحَجَّةٍ، وَعُمْرَةٌ بِعُمْرَةٍ " وَهُوَ الْمَعْنِيُّ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، إنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ مِثْلَ الْفَائِتِ، وَالْفَائِتُ هُوَ الْحَجَّةُ لَا غَيْرُ، فَمِثْلُهَا الْحَجَّةُ لَا غَيْرُ، وَرَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» وَلَمْ يَذْكُرْ الْعُمْرَةَ وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا. وَلَنَا الْأَثَرُ وَالنَّظَرُ أَمَّا الْأَثَرُ: فَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا فِي الْمُحْصَرِ بِحَجَّةٍ: " يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ " وَأَمَّا النَّظَرُ: فَلِأَنَّ الْحَجَّ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالشُّرُوعِ، وَلَمْ يَمْضِ فِيهِ، بَلْ فَاتَهُ فِي عَامِهِ ذَلِكَ، وَفَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَإِنْ قِيلَ: فَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِالطَّوَافِ لَا بِالدَّمِ وَالْمُحْصَرُ قَدْ حَلَّ بِالدَّمِ وَقَامَ الدَّمُ مَقَامَ الطَّوَافِ مِنْ الَّذِي يَفُوتُهُ الْحَجُّ، فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ طَوَافٌ آخَرُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الدَّمَ الَّذِي حَلَّ بِهِ الْمُحْصَرُ مَا وَجَبَ بَدَلًا عَنْ الطَّوَافِ لِيُقَالَ: إنَّهُ قَامَ مَقَامَ الطَّوَافِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ طَوَافٌ آخَرُ، وَإِنَّمَا وَجَبَ لِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ؛ لِأَنَّ الْمُحْصَرَ لَوْ لَمْ يَبْعَثْ هَدْيًا؛ لَبَقِيَ عَلَى إحْرَامِهِ مُدَّةً مَدِيدَةً، وَفِيهِ حَرَجٌ وَضَرَرٌ، فَجَعَلَ لَهُ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْخُرُوجَ مِنْ إحْرَامِهِ، وَيُؤَخِّرَ الطَّوَافَ الَّذِي لَزِمَهُ بِدَمٍ يُهَرِيقهُ فَحَلَّ بِالدَّمِ وَلَمْ يَبْطُلْ الطَّوَافُ، وَإِذَا لَمْ يُبْطِلْ الدَّمُ عَنْهُ الطَّوَافَ، وَلَمْ يُجْعَلْ بَدَلًا عَنْهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ، فَيَكُونَ ذَلِكَ عُمْرَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ مَا وَجَبَ بَدَلًا عَنْ الطَّوَافِ الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ فَائِتٌ لِحَجٍّ، أَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْسَخَ الطَّوَافَ الَّذِي لَزِمَهُ بِدَمٍ يُرِيقُهُ بَدَلًا عَنْهُ، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ، فَثَبَتَ أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ لِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ بِهِ، لَا بَدَلًا عَنْ الطَّوَافِ، فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنِّهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنْ ثَبَتَ فَهُوَ تَمَسُّكٌ بِالْمَسْكُوتِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " حَجَّةٌ بِحَجَّةٍ، وَعُمْرَةٌ بِعُمْرَةٍ " يَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَجَّةِ بِالْحَجَّةِ، وَالْعُمْرَةِ بِالْعُمْرَةِ، وَهَذَا لَا يَنْفِي وُجُوبَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجَّةِ بِالْحَجَّةِ وَلَا يَقْتَضِي أَيْضًا، فَكَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَيَقِفُ عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ، وَقَدْ قَامَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] أَنَّهُ لَا يَنْفِي قَتْلَ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هَذَا، وَيُحْمَلُ عَلَى فَائِتِ الْحَجِّ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُدْرِكْ الْوُقُوفَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ مِنْ قَابِلٍ وَلَا عُمْرَةَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ لَا غَيْرُ قَضَاهَا لِوُجُوبِهَا بِالشُّرُوعِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا وَقْتٌ

فصل محظورات الإحرام

مُعَيَّنٌ. وَإِنْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجَّةِ إنْ كَانَ قَارِنًا؛ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَتَيْنِ، أَمَّا قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ فَلِوُجُوبِهِمَا بِالشُّرُوعِ. وَأَمَّا عُمْرَةٌ أُخْرَى فَلِفَوَاتِ الْحَجِّ فِي عَامِهِ ذَلِكَ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِنَا. فَأَمَّا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا حَجَّةٌ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْقَارِنَ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ، وَيَدْخُلُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ فِي الْحَجَّةِ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ، وَالْمُفْرِدُ بِالْحَجِّ إذَا أُحْصِرَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا قَضَاءُ حَجَّةٍ عِنْدَهُ، فَكَذَا الْقَارِنُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا حُكْمُ زَوَالِ الْإِحْصَارِ: فَالْإِحْصَارُ إذَا زَالَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ زَالَ قَبْلَ بَعْثِ الْهَدْيِ أَوْ بَعْدَ مَا بَعَثَ، فَإِنْ زَالَ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ مَضَى عَلَى مُوجِبِ إحْرَامِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَعَثَ الْهَدْيَ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ. إمَّا أَنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ، وَالْحَجِّ، أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِهِمَا جَمِيعًا، أَوْ يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ دُونَ الْحَجِّ، أَوْ يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ دُونَ الْهَدْيِ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ وَالْحَجِّ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّحَلُّلُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فَإِنَّ إبَاحَةَ التَّحَلُّلِ لِعُذْرِ الْإِحْصَارِ، وَالْعُذْرُ قَدْ زَالَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْمُضِيُّ، وَجَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْمُضِيِّ، فَتَقَرَّرَ الْإِحْصَارُ فَيَتَقَرَّرُ حُكْمُهُ، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ أَيْضًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي إدْرَاكِ الْهَدْيِ دُونَ إدْرَاكِ الْحَجِّ، إذْ الذَّهَابُ لِأَجْلِ إدْرَاكِ الْحَجِّ، فَإِذَا كَانَ لَا يُدْرِكُ الْحَجَّ فَلَا فَائِدَةَ فِي الذَّهَابِ، فَكَانَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ قِيلَ: إنَّ هَذَا الْوَجْهَ الرَّابِعَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَهُ لَا يَتَوَقَّفُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ، بَلْ يَجُوزُ قَبْلَهَا فَيُتَصَوَّرُ إدْرَاكُ الْحَجِّ دُونَ إدْرَاكِ الْهَدْيِ. فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ هَذَا الْوَجْهُ إلَّا فِي الْمُحْصَرِ عَنْ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَهُمَا مُؤَقَّتٌ بِأَيَّامِ النَّحْرِ، فَإِذَا أَدْرَكَ الْحَجَّ فَقَدْ أَدْرَكَ الْهَدْيَ ضَرُورَةً، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمَا فِي الْمُحْصَرِ عَنْ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَارَ عَنْهَا لَا يَتَوَقَّتُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقِيَاسُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَدَرَ عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ لَمْ يَعْجِزْ عَنْ الْمُضِيِّ فِي الْحَجِّ، فَلَمْ يُوجَدْ عُذْرُ الْإِحْصَارِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ وَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ وَيَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ صَارَ كَأَنَّ الْإِحْصَارَ زَالَ عَنْهُ بِالذَّبْحِ فَيَحِلُّ بِالذَّبْحِ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّ الْهَدْيَ قَدْ مَضَى فِي سَبِيلِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالذَّبْحِ عَلَى مَنْ بَعَثَ عَلَى يَدِهِ بَدَنَةً، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الذَّهَابِ بَعْدَ مَا ذُبِحَ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ وَمَا لَا يَحْظُرُهُ، وَبَيَانُ مَا يَجِبُ بِفِعْلِ الْمَحْظُورِ، فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ. نَوْعٌ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْحَجِّ، وَنَوْعٌ يُوجِبُ فَسَادَهُ، أَمَّا الَّذِي لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْحَجِّ فَأَنْوَاعٌ:. بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى اللِّبَاسِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الطِّيبِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنْ إزَالَةِ الشَّعَثِ، وَقَضَاءِ التَّفَثِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى تَوَابِعِ الْجِمَاعِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الصَّيْدِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْمُحْرِمُ لَا يَلْبَسُ الْمَخِيطَ جُمْلَةً، وَلَا قَمِيصًا وَلَا قُبَاءَ، وَلَا جُبَّةً، وَلَا سَرَاوِيلَ، وَلَا عِمَامَةً، وَلَا قَلَنْسُوَةً، وَلَا يَلْبَسُ خُفَّيْنِ إلَّا أَنْ يَجِدَ نَعْلَيْنِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْطَعُهُمَا أَسْفَلَ الْكَعْبَيْنِ فَيَلْبَسُهُمَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: «لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ إلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا يَلْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلَا الْوَرْسُ، وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ» فَإِنْ قِيلَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ ضَرْبُ إشْكَالٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ: لَا يَلْبَسُ كَذَا وَكَذَا مِنْ الْمَخِيطِ، فَسُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فَعَدَلَ عَنْ مَحِلِّ السُّؤَالِ، وَأَجَابَ عَنْ شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يُسْأَلْ عَنْهُ، وَهَذَا مَحِيدٌ عَنْ الْجَوَابِ، أَوْ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي مَذْكُورٍ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِهِ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا خِلَافُ الْمَذْهَبِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَمَّا لَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ، وَأَضْمَرَ. (لَا) فِي مَحِلِّ السُّؤَالِ؛ لِأَنَّ لَا تَارَةً تُزَادُ فِي الْكَلَامِ، وَتَارَةً تُحْذَفُ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] أَيْ: لَا تَضِلُّوا فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا لَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ: لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ كَذَا وَكَذَا فَكَانَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ. وَالثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

عَلِمَ غَرَضَ السَّائِلِ وَمُرَادَهُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ بَيَانَ مَا لَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ بَعْدَ إحْرَامِهِ، إمَّا بِقَرِينَةِ حَالِهِ أَوْ بِدَلِيلٍ آخَرَ، أَوْ بِالْوَحْيِ فَأَجَابَ عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ مِنْ غَرَضِهِ وَمَقْصُودِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى خَبَرًا عَنْ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 126] فَأَجَابَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} [البقرة: 126] سَأَلَ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَبَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يَرْزُقَ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ الثَّمَرَاتِ. فَأَجَابَهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَرْزُقُ الْكَافِرَ أَيْضًا، لَمَّا عَلِمَ أَنَّ مُرَادَ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ سُؤَالِهِ أَنْ يَرْزُقَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنَ مِنْهُمْ دُونَ الْكَافِرِ، فَأَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا كَانَ فِي ضَمِيرِهِ كَذَا هَذَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا خَصَّ الْمَخِيطَ أَنَّهُ لَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ بَعْدَ تَقَدُّمِ السُّؤَالِ عَمَّا يَلْبَسُهُ دَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِ الْمَخِيطِ بِخِلَافِهِ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى حُكْمٍ فِي مَذْكُورٍ إنَّمَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِهِ بِشَرَائِطَ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ حَيْدٌ عَنْ الْجَوَابِ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَيْدُ. فَأَمَّا إذَا كَانَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيَانَةً لِمَنْصِبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْحَيْدِ عَنْ الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ. وَالثَّانِي: مِنْ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ غَيْرِ الْمَذْكُورِ خِلَافَ حُكْمِ الْمَذْكُورِ، وَهَهُنَا لَا يُحْتَمَلُ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ أَصْلًا، وَفِيهِ تَعْرِيضُهُ لِلْهَلَاكِ بِالْحَرِّ، أَوْ الْبَرْدِ، وَالْعَقْلُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ الْمَنْعُ مِنْ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ فِي مِثْلِهِ إطْلَاقًا لِلنَّوْعِ الْآخَرِ. وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [غافر: 61] إنَّ جَعْلَ اللَّيْلِ لِلسُّكُونِ يَدُلُّ عَلَى جَعْلِ النَّهَارِ لِلْكَسْبِ، وَطَلَبِ الْمَعَاشِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ الْقُوتِ لِلْبَقَاءِ، وَكَانَ جَعْلُ اللَّيْلِ لِلسُّكُونِ تَعْيِينًا لِلنَّهَارِ لِطَلَبِ الْمَعَاشِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَأَمَّا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ لِمَا قَدْ صَحَّ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَالنَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ. وَالتَّنْصِيصُ هَهُنَا فِي مَحِلِّ النَّهْيِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِ الْمَخِيطِ بِخِلَافِهِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمُوَفِّقُ وَلِأَنَّ لُبْسَ الْمَخِيطِ مِنْ بَابِ الِارْتِفَاقِ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ، وَالتَّرَفُّهِ فِي اللُّبْسِ، وَحَالُ الْمُحْرِمِ يُنَافِيهِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَّ فِي حَالِ إحْرَامِهِ يُرِيدُ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِسُوءِ حَالِهِ إلَى مَوْلَاهُ يَسْتَعْطِفُ نَظَرَهُ وَمَرْحَمَتَهُ، بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَسْخُوطِ عَلَيْهِ فِي الشَّاهِدِ أَنَّهُ يَتَعَرَّضُ بِسُوءِ حَالِهِ لِعَطْفِ سَيِّدِهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُحْرِمُ الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ» وَإِنَّمَا يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ مِنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ إذَا لَبِسَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ. فَأَمَّا إذَا لَبِسَهُ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ، بِأَنْ اتَّشَحَ بِالْقَمِيصِ أَوْ اتَّزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِارْتِفَاقِ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ، وَالتَّرَفُّهِ فِي اللُّبْسِ لَا يَحْصُلُ بِهِ. وَلِأَنَّ لُبْسَ الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي مَعْنَى الِارْتِدَاءِ، وَالِاتِّزَارِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إلَى تَكَلُّفٍ، كَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّكَلُّفِ فِي حِفْظِ الرِّدَاءِ، وَالْإِزَارِ وَذَا غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ. وَلَوْ أَدْخَلَ مَنْكِبَيْهِ فِي الْقَبَاءِ وَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا لُبْسُ الْمَخِيطِ، إذْ اللُّبْسُ هُوَ التَّغْطِيَةُ وَفِيهِ تَغْطِيَةُ أَعْضَاءٍ كَثِيرَةٍ بِالْمَخِيطِ مِنْ الْمَنْكِبَيْنِ، وَالظَّهْرِ وَغَيْرِهَا فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، كَإِدْخَالِ الْيَدَيْنِ فِي الْكُمَّيْنِ. وَلَنَا أَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْهُ هُوَ: اللُّبْسُ الْمُعْتَادُ وَذَلِكَ فِي الْقَبَاءِ، الْإِلْقَاءُ عَلَى الْمَنْكِبَيْنِ مَعَ إدْخَالِ الْيَدَيْنِ فِي الْكُمَّيْنِ، وَلِأَنَّ الِارْتِفَاقَ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ وَالتَّرَفُّهَ فِي اللُّبْسِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ، وَلِأَنَّ إلْقَاءَ الْقَبَاءِ عَلَى الْمَنْكِبَيْنِ دُونَ إدْخَالِ الْيَدَيْنِ فِي الْكُمَّيْنِ يُشْبِهُ الِارْتِدَاءَ وَالِاتِّزَارَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى حِفْظِهِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَسْقُطَ إلَى تَكَلُّفٍ، كَمَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي الرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ وَهُوَ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لُبْسٌ مُعْتَادٌ يَحْصُلُ بِهِ الِارْتِفَاقُ بِهِ وَالتَّرَفُّهُ فِي اللُّبْسِ، وَيَقَعُ بِهِ الْأَمْنُ عَنْ السُّقُوطِ. وَلَوْ أَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ وَزَرَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إذَا زَرَّهُ فَقَدْ تَرَفَّهَ فِي لُبْسِ الْمَخِيطِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إلَى تَكَلُّفٍ. وَلَوْ لَمْ يَجِدْ رِدَاءً وَلَهُ قَمِيصٌ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشُقَّ قَمِيصَهُ وَيَرْتَدِيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَقَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الرِّدَاءِ. وَكَذَا إذَا لَمْ يَجِدْ إزَارًا وَلَهُ سَرَاوِيلُ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَفْتُقَ سَرَاوِيلَهُ خَلَا مَوْضِعِ التِّكَّةِ وَيَأْتَزِرَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَتَقَهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْإِزَارِ. وَكَذَا إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ وَلَهُ خُفَّانِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْطَعَهُمَا أَسْفَلَ الْكَعْبَيْنِ فَيَلْبَسَهُمَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَرَخَّصَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُتَأَخِّرُونَ لُبْسَ الصَّنْدَلَةِ قِيَاسًا عَلَى الْخُفِّ الْمَقْطُوعِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ وَكَذَا لُبْسُ الْمِيثَمِ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يَلْبَسُ الْجَوْرَبَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي مَعْنَى الْخُفَّيْنِ، وَلَا يُغَطِّي رَأْسَهُ بِالْعِمَامَةِ، وَلَا غَيْرِهَا مِمَّا يَقْصِدُ بِهِ التَّغْطِيَةَ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ بِمَا يَقْصِدُ بِهِ التَّغْطِيَةَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي

الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ فِي أَخَاقِيقِ جُرْذَانَ فَمَاتَ لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» . وَلَوْ حَمَلَ عَلَى رَأْسِهِ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَقْصِدُ بِهِ التَّغْطِيَةَ مِنْ لِبَاسِ النَّاسِ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَاللُّبْسِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَقْصِدُ بِهِ التَّغْطِيَةَ كَإِجَّانَةٍ، أَوْ عِدْلِ بَزٍّ وَضَعَهُ عَلَى رَأْسِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ لُبْسًا، وَلَا تَغْطِيَةً. وَكَذَا لَا يُغَطِّي الرَّجُلُ وَجْهَهُ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " يَجُوزُ لَهُ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ ". وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تُغَطِّي وَجْهَهَا. وَكَذَا لَا بَأْسَ أَنْ تُسْدِلَ عَلَى وَجْهِهَا بِثَوْبٍ وَتُجَافِيَهُ عَنْ وَجْهِهَا، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ، وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا» جَعَلَ إحْرَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَحَلٍّ خَاصٍّ، وَلَا خُصُوصَ مَعَ الشَّرِكَةِ وَلِهَذَا لَمَّا خَصَّ الْوَجْهَ فِي الْمَرْأَةِ بِأَنَّ إحْرَامَهَا فِيهِ لَمْ يَكُنْ فِي رَأْسِهَا، فَكَذَا فِي الرَّجُلِ؛ وَلِأَنَّ مَبْنَى أَحْوَالِ الْمُحْرِمِ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا، لِأَنَّ الْعَادَةَ هُوَ الْكَشْفُ فِي الرِّجَالِ فَكَانَ السَّتْرُ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ بِخِلَافِ النِّسَاءِ،، فَإِنَّ الْعَادَةَ فِيهِنَّ السَّتْرُ فَكَانَ الْكَشْفُ خِلَافَ الْعَادَةِ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ» وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيمَا رَوَى؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ إحْرَامَ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ، وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ فِي وَجْهِهِ وَلَا يُوجِبُ أَيْضًا، فَكَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَيَقِفُ عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ وَهُوَ مَا رَوَيْنَا، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْمَرْأَةِ أَنَّا إنَّمَا عَرَفْنَا أَنَّ إحْرَامَهَا لَيْسَ فِي رَأْسِهَا إلَّا بِقَوْلِهِ " وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا " بَلْ بِدَلِيلٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا أُصْبِغَ بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَخِيطًا لِخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ وَلِأَنَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ طِيبٌ، وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ فِي بَدَنِهِ وَلَا يَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ وَهُوَ: الْمَصْبُوغُ بِالْعُصْفُرِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَبِسَتْ الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْكَرَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ لُبْسَ الْمُعَصْفَرِ فِي الْإِحْرَامِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " مَا أَرَى أَنَّ أَحَدًا يُعَلِّمُنَا السُّنَّةَ " وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْكَرَ عَلَى طَلْحَةَ لُبْسَ الْمُعَصْفَرِ فِي الْإِحْرَامِ، فَقَالَ طَلْحَةُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " إنَّمَا هُوَ مُمَشَّقٌ بِمَغْرَةٍ " فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " إنَّ كَمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِكُمْ " فَدَلَّ إنْكَارُ عُمَرَ وَاعْتِذَارُ طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ. وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُمَشَّقَ مَكْرُوهٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: " إنَّكُمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِكُمْ " أَيْ: مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ رُبَّمَا يَظُنُّ أَنَّهُ مَصْبُوغٌ بِغَيْرِ الْمَغْرَةِ فَيَعْتَقِدُ الْجَوَازَ، فَكَانَ سَبَبًا لِلْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ عَسَى فَيُكْرَهُ، وَلِأَنَّ الْمُعَصْفَرَ طِيبٌ؛ لِأَنَّ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَكَانَ كَالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَدْ رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا كَرِهَتْ الْمُعَصْفَرَ فِي الْإِحْرَامِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الْمَصْبُوغِ بِمِثْلِ الْعُصْفُرِ كَالْمَغْرَةِ وَنَحْوِهَا، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مُعَارِضٌ بِقَوْلِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ: إنْكَارُهُ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِلتَّعَارُضِ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَغْسُولًا. فَأَمَّا إذَا كَانَ قَدْ غُسِلَ حَتَّى صَارَ لَا يَنْفُضُ فَلَا بَأْسَ بِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا بَأْسَ أَنْ يُحْرِمَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ مَصْبُوغٍ بِوَرْسٍ، أَوْ زَعْفَرَانٍ قَدْ غُسِلَ وَلَيْسَ لَهُ نَفْضٌ وَلَا رَدْغٌ» وَقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا يَنْفُضُ " لَهُ تَفْسِيرَانِ مَنْقُولَانِ عَنْ مُحَمَّدٍ: رُوِيَ عَنْهُ لَا يَتَنَاثَرُ صِبْغُهُ. وَرُوِيَ لَا يَفُوحُ رِيحُهُ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَى زَوَالِ الرَّائِحَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ لَا يَتَنَاثَرُ صِبْغُهُ، وَلَكِنْ يَفُوحُ رِيحُهُ يُمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ بَقَاءِ الطِّيبِ، إذْ الطِّيبُ مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ وَكَذَا مَا صُبِغَ بِلَوْنِ الْهَرَوِيِّ؛ لِأَنَّهُ صِبْغٌ خَفِيفٌ فِيهِ أَدْنَى صُفْرَةٍ لَا تُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ: " لَا يَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَوَسَّدَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالزَّعْفَرَانِ، وَلَا الْوَرْسِ، وَلَا يَنَامُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمِلًا لِلطِّيبِ فَكَانَ كَاللُّبْسِ ". وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْخَزِّ وَالصُّوفِ وَالْقَصَبِ وَالْبُرْدِ وَإِنْ كَانَ مُلَوَّنًا كَالْعَدَنِيِّ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ الزِّينَةِ. وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَلْبَسَ الطَّيْلَسَانَ؛ لِأَنَّ الطَّيْلَسَانَ لَيْسَ بِمَخِيطٍ، وَلَا يَزُرُّهُ، كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لِأَنَّ الزِّرَةَ مَخِيطٌ فِي نَفْسِهَا، فَإِذَا زَرَّهُ فَقَدْ اشْتَمَلَ الْمَخِيطُ عَلَيْهِ فَيُمْنَعُ مِنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا زَرَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إلَى تَكَلُّفِ فَأَشْبَهَ لُبْسَ الْمَخِيطِ، بِخِلَافِ الرِّدَاءِ، وَالْإِزَارِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يُخَلِّلَ الْإِزَارَ بِالْخِلَالِ، وَأَنْ يَعْقِدَ الْإِزَارَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى مُحْرِمًا قَدْ عَقَدَ ثَوْبَهُ بِحَبْلٍ فَقَالَ لَهُ: انْزِعْ الْحَبْلَ وَيْلَكَ» وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ

يَعْقِدَ الْمُحْرِمُ الثَّوْبَ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَخِيطَ فِي عَدَمِ الْحَاجَةِ فِي حِفْظِهِ إلَى تَكَلُّفٍ وَلَوْ فَعَلَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَخِيطٍ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَحَزَّمَ بِعِمَامَةٍ يَشْتَمِلُ بِهَا وَلَا يَعْقِدُهَا؛ لِأَنَّ اشْتِمَالَ الْعِمَامَةِ عَلَيْهِ اشْتِمَالُ غَيْرِ الْمَخِيطِ فَأَشْبَهَ الِاتِّشَاحَ بِقَمِيصٍ، فَإِنْ عَقَدَهَا كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَخِيطَ كَعَقْدِ الْإِزَارِ وَلَا بَأْسَ بِالْهِمْيَانِ وَالْمِنْطَقَةِ لِلْمُحْرِمِ. سَوَاءٌ كَانَ فِي الْهِمْيَانِ نَفَقَتُهُ أَوْ نَفَقَةُ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ شَدَّ الْمِنْطَقَةَ بِالْإِبْزِيمِ، أَوْ بِالسُّيُورِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمِنْطَقَةِ: " إنْ شَدَّهُ بِالْإِبْزِيمِ يُكْرَهُ، وَإِنْ شَدَّهُ بِالسُّيُورِ لَا يُكْرَهُ " وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْهِمْيَانِ: " إنْ كَانَ فِيهِ نَفَقَتُهُ لَا يُكْرَهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَفَقَةُ غَيْرِهِ يُكْرَهُ " وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ شَدَّ الْهِمْيَانِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَهِيَ اسْتِيثَاقُ النَّفَقَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي نَفَقَةِ غَيْرِهِ. وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الْإِبْزِيمَ مَخِيطٌ فَالشَّدُّ بِهِ يَكُونُ كَزِرِّ الْإِزَارِ بِخِلَافِ السَّيْرِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ الْهِمْيَانِ فَقَالَتْ: " أَوْثِقْ عَلَيْك نَفَقَتَك " أَطْلَقَتْ الْقَضِيَّةَ وَلَمْ تَسْتَفْسِرْ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْهِمْيَانِ يَشُدُّهُ الْمُحْرِمُ فِي وَسَطِهِ إذَا كَانَتْ فِيهِ نَفَقَتُهُ» وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْهِمْيَانِ " وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -؛ وَلِأَنَّ اشْتِمَالَ الْهِمْيَانِ وَالْمِنْطَقَةِ عَلَيْهِ كَاشْتِمَالِ الْإِزَارِ فَلَا يُمْنَعُ عَنْهُ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَظِلَّ الْمُحْرِمُ بِالْفُسْطَاطِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: " يُكْرَهُ " وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُلْقِي عَلَى شَجَرَةٍ ثَوْبًا، أَوْ نِطْعًا فَيَسْتَظِلُّ بِهِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ ضُرِبَ لِعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فُسْطَاطٌ بِمِنًى فَكَانَ يَسْتَظِلُّ بِهِ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِظْلَالَ بِمَا لَا يُمَاسُّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِظْلَالِ بِالسَّقْفِ، وَذَا غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ كَذَا هَذَا، فَإِنْ دَخَلَ تَحْتَ سِتْرِ الْكَعْبَةِ حَتَّى غَطَّاهُ، فَإِنْ كَانَ السِّتْرُ يُصِيبُ وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ سَتْرَ وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ بِثَوْبٍ، وَإِنْ كَانَ مُتَجَافِيًا فَلَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ تَحْتَ ظُلَّةٍ. وَلَا بَأْسَ أَنْ تُغَطِّيَ الْمَرْأَةُ سَائِرَ جَسَدِهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ بِمَا شَاءَتْ مِنْ الثِّيَابِ الْمَخِيطَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَنْ تَلْبَسَ الْخُفَّيْنِ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا، أَمَّا سَتْرُ سَائِرِ بَدَنِهَا؛ فَلِأَنَّ بَدَنَهَا عَوْرَةٌ؛ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ بِمَا لَيْسَ بِمَخِيطٍ مُتَعَذَّرٌ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى لُبْسِ الْمَخِيطِ، وَأَمَّا كَشْفُ وَجْهِهَا فَلِمَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا» وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا حَاذَوْنَا أَسْدَلَتْ إحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَإِذَا جَاوَزُونَا رَفَعْنَا» فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُغَطِّيَ وَجْهَهَا وَأَنَّهَا لَوْ أَسْدَلَتْ عَلَى وَجْهِهَا شَيْئًا وَجَافَتْهُ عَنْهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهَا إذَا جَافَتْهُ عَنْ وَجْهِهَا صَارَ كَمَا لَوْ جَلَسَتْ فِي قُبَّةٍ، أَوْ اسْتَتَرَتْ بِفُسْطَاطٍ. وَلَا بَأْسَ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ، وَتَتَحَلَّى بِأَيِّ حِلْيَةٍ شَاءَتْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُلْبِسُ نِسَاءَهُ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ فِي الْإِحْرَامِ؛ وَلِأَنَّ لُبْسَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ بَابِ التَّزَيُّنِ وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ الزِّينَةِ، وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مَا فِيهِ مِنْ الصَّبْغِ مِنْ الطِّيبِ لَا مِنْ الزِّينَةِ، وَالْمَرْأَةُ تُسَاوِي الرَّجُلَ فِي الطِّيبِ. وَأَمَّا لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ فَلَا يُكْرَهُ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَا يَجُوزُ " وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي آخِرِهِ " وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ، وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ "؛ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ فِي بَدَنِهَا السَّتْرُ فَيَجِبُ مُخَالَفَتُهَا بِالْكَشْفِ كَوَجْهِهَا وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُلْبِسُ بَنَاتِهِ وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ الْقُفَّازَيْنِ وَلِأَنَّ لُبْسَ الْقُفَّازَيْنِ لَيْسَ إلَّا تَغْطِيَةَ يَدَيْهَا بِالْمَخِيطِ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مَمْنُوعَةٍ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ لَهَا أَنْ تُغَطِّيَهُمَا بِقَمِيصِهَا، وَإِنْ كَانَ مَخِيطًا فَكَذَا بِمِخْيَطٍ آخَرَ، بِخِلَافِ وَجْهِهَا. وَقَوْلُهُ " وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ " نَهْيُ نَدْبٍ حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجِبُ بِفِعْلِ هَذَا الْمَحْظُورِ وَهُوَ: لُبْسُ الْمَخِيطِ فَالْوَاجِبُ بِهِ يَخْتَلِفُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ: يَجِبُ الدَّمُ عَيْنًا، وَفِي بَعْضِهَا: تَجِبُ الصَّدَقَةُ عَيْنًا، وَفِي بَعْضِهَا يَجِبُ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ غَيْرَ عَيْنِ الصِّيَامِ، أَوْ الصَّدَقَةِ، أَوْ الدَّمِ، وَجِهَاتُ التَّعْيِينِ إلَى مَنْ عَلَيْهِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ الِارْتِفَاقَ الْكَامِلَ بِاللُّبْسِ يُوجِبُ فِدَاءً كَامِلًا فَيَتَعَيَّنُ فِيهِ الدَّمُ، لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ إنْ فَعَلَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَإِنْ فَعَلَهُ لِعُذْرٍ فَعَلَيْهِ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَالِارْتِفَاقُ الْقَاصِرُ يُوجِبُ فِدَاءً قَاصِرًا وَهُوَ: الصَّدَقَةُ إثْبَاتًا لِلْحُكْمِ عَلَى قَدْرِ الْعِلَّةِ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا لَبِسَ الْمَخِيطَ: مِنْ قَمِيصٍ، أَوْ جُبَّةٍ، أَوْ سَرَاوِيلَ، أَوْ عِمَامَةٍ، أَوْ قَلَنْسُوَةٍ

أَوْ خُفَّيْنِ، أَوْ جَوْرَبَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ يَوْمًا كَامِلًا. فَعَلَيْهِ الدَّمُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ لُبْسَ أَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَوْمًا كَامِلًا ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ فَيُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً وَهِيَ: الدَّمُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَإِنْ لَبِسَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ لَا دَمَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا: إنْ لَبِسَ أَكْثَرَ الْيَوْمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا دَمَ عَلَيْهِ حَتَّى يَلْبَسَ يَوْمًا كَامِلًا، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا لَبِسَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِمِقْدَارِ مَا لَبِسَ مِنْ قِيمَةِ الشَّاةِ، إنْ لَبِسَ نِصْفَ يَوْمٍ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نِصْفِ شَاةٍ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْحَلْقِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ، وَإِنْ لَبِسَ سَاعَةً وَاحِدَةً ". وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللُّبْسَ وَلَوْ سَاعَةً ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ لِوُجُودِ اشْتِمَالِ الْمَخِيطِ عَلَى بَدَنِهِ، فَيَلْزَمُهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ. وَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ: اعْتِبَارُ الْبَعْضِ بِالْكُلِّ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الِارْتِفَاقَ بِاللُّبْسِ فِي أَكْثَرِ الْيَوْمِ بِمَنْزِلَةِ الِارْتِفَاقِ فِي كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَلْبَسُ أَكْثَرَ الْيَوْمِ ثُمَّ يَعُودُ إلَى مَنْزِلِهِ قَبْلَ دُخُولِ اللَّيْلِ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ: أَنَّ اللُّبْسَ أَقَلُّ مِنْ يَوْمِ ارْتِفَاقٍ نَاقِصٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ دَفْعُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَذَلِكَ بِاللُّبْسِ فِي كُلِّ الْيَوْمِ، وَلِهَذَا اتَّخَذَ النَّاسُ فِي الْعَادَةِ لِلنَّهَارِ لِبَاسًا وَلِلَّيْلِ لِبَاسًا، وَلَا يَنْزِعُونَ لِبَاسَ النَّهَارِ إلَّا فِي اللَّيْلِ فَكَانَ اللُّبْسُ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ ارْتِفَاقًا قَاصِرًا، فَيُوجِبُ كَفَّارَةً قَاصِرَةً وَهِيَ الصَّدَقَةُ كَقَصِّ ظُفْرٍ وَاحِدٍ، وَمِقْدَارُ الصَّدَقَةِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ كَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُطْعِمُ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ. وَكُلُّ صَدَقَةٍ تَجِبُ بِفِعْلِ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ فَهِيَ مُقَدَّرَةٌ بِنِصْفِ صَاعٍ إلَّا مَا يَجِبُ بِقَتْلِ الْقَمْلَةِ وَالْجَرَادَةِ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّ مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا يَوْمًا إلَّا سَاعَةً فَعَلَيْهِ مِنْ الدَّمِ بِمِقْدَارِ مَا لَبِسَ أَيْ: مِنْ قِيمَةِ الدَّمِ لِمَا قُلْنَا. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ الْمُقَدَّرَةَ لِلْمِسْكِينِ فِي الشَّرْعِ لَا تَنْقُصُ عَنْ نِصْفِ صَاعٍ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَالْفِطْرِ، وَالظِّهَارِ. وَكَذَا لَوْ أَدْخَلَ مَنْكِبَيْهِ فِي الْقَبَاءِ، وَلَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ لَكِنَّهُ زَرَّهُ عَلَيْهِ أَوْ زَرَّ عَلَيْهِ طَيْلَسَانًا يَوْمًا كَامِلًا، فَعَلَيْهِ دَمٌ لِوُجُودِ الِارْتِفَاقِ الْكَامِلِ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ، إذْ الْمُزَرَّرُ مَخِيطٌ. وَكَذَا لَوْ غَطَّى رُبْعَ رَأْسِهِ يَوْمًا فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ الرُّبْعِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ. وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ حَتَّى يُغَطِّيَ الْأَكْثَرَ مِنْ رَأْسِهِ، وَلَا أَقُولُ: حَتَّى يُغَطِّيَ رَأْسَهُ كُلَّهُ. وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّ تَغْطِيَةَ الْأَقَلِّ لَيْسَ بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ، فَلَا يَجِبُ بِهِ جَزَاءٌ كَامِلٌ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ رُبْعَ الرَّأْسِ لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ فِي هَذَا الْبَابِ، كَحَلْقِ رُبْعِ الرَّأْسِ وَعَلَى هَذَا إذَا غَطَّتْ الْمَرْأَةُ رُبْعَ وَجْهِهَا وَكَذَا لَوْ غَطَّى الرَّجُلُ رُبْعَ وَجْهِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ تَقَدَّمَتْ وَلَوْ عَصَبَ عَلَى رَأْسِهِ، أَوْ وَجْهِهِ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ وَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ التَّغْطِيَةِ. وَلَوْ عَصَبَ شَيْئًا مِنْ جَسَدِهِ لِعِلَّةٍ أَوْ غَيْرِ عِلَّةٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ تَغْطِيَةِ بَدَنِهِ بِغَيْرِ الْمَخِيطِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّ الشَّدَّ عَلَيْهِ يُشْبِهُ لُبْسَ الْمَخِيطِ، هَذَا إذَا لَبِسَ الْمَخِيطَ يَوْمًا كَامِلًا حَالَةَ الِاخْتِيَارِ. فَأَمَّا إذَا لَبِسَهُ لِعُذْرٍ وَضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ أَيْ: الْكَفَّارَاتُ شَاءَ الصِّيَامَ، أَوْ الصَّدَقَةَ، أَوْ الدَّمَ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ أَذًى فِي الرَّأْسِ {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وَرَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أَيُؤْذِيك هَوَامُّ رَأْسِك؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَالَ: احْلِقْ وَاذْبَحْ شَاةً، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ» وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ بِالتَّخْيِيرِ فِي الْحَلْقِ، لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ بِالتَّيْسِيرِ وَالتَّسْهِيلِ لِلضَّرُورَةِ وَالْعُذْرِ، وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا، وَالنَّصُّ الْوَارِدُ هُنَاكَ يَكُونُ وَارِدًا هَهُنَا دَلَالَةً. وَقِيلَ: إنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ أَيْضًا، وَأَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ لِلتَّيْسِيرِ وَالتَّخْفِيفِ، وَالْجَانِي لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ، وَيَجُوزُ فِي الطَّعَامِ التَّمْلِيكُ، وَالتَّمْكِينُ وَهُوَ: طَعَامُ الْإِبَاحَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ فِيهِ إلَّا التَّمْلِيكُ، وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ فِي الصِّيَامِ التَّتَابُعُ وَالتَّفَرُّقُ لِإِطْلَاقِ اسْمِ الصَّوْمِ فِي النَّصِّ، وَلَا يَجُوزُ الذَّبْحُ إلَّا فِي الْحَرَمِ كَذَبْحِ الْمُتْعَةِ إلَّا إذَا ذَبَحَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، وَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْرُ قِيمَةِ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ؛ فَيَجُوزُ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ عَنْ الطَّعَامِ " وَيَجُوزُ الصَّوْمُ فِي الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا بِالْإِجْمَاعِ. وَكَذَا الصَّدَقَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُجْزِيه،

إلَّا بِمَكَّةَ نَظَرًا لِأَهْلِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الدَّمُ إلَّا بِمَكَّةَ، وَلَنَا أَنَّ نَصَّ الصَّدَقَةِ مُطْلَقٌ عَنْ الْمَكَانِ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الدَّمِ بِمَعْنَى الِانْتِفَاعِ فَاسِدٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْإِحْصَارِ، وَإِنَّمَا عُرِفَ اخْتِصَاصُ جَوَازِ الذَّبْحِ بِمَكَّةَ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ فِي الصَّدَقَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ وَأَمْكَنَهُ فَتْقُ السَّرَاوِيلِ وَالتَّسَتُّرُ بِهِ فَتَقَهُ، فَإِنْ لَبِسَهُ يَوْمًا وَلَمْ يَفْتُقْهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " يَلْبَسُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ " وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِلُبْسِ مَحْظُورٍ، وَلُبْسُ السَّرَاوِيلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ لُبْسُ غَيْرِ الْمَخِيطِ إلَّا بِالْفَتْقِ، وَفِي الْفَتْقِ تَنْقِيصُ مَالِهِ، وَلَنَا أَنَّ حَظْرَ لُبْسِ الْمَخِيطِ ثَبَتَ بِعَقْدِ الْإِحْرَامِ، وَيُمْكِنُهُ التَّسَتُّرُ بِغَيْرِ الْمَخِيطِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالْفَتْقِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْفَتْقُ، وَالسَّتْرُ بِالْمَفْتُوقِ أَوْلَى، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ ارْتَكَبَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ يَوْمًا كَامِلًا فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ. وَقَوْلُهُ: " فِي الْفَتْقِ تَنْقِيصُ مَالِهِ " مُسَلَّمٌ لَكِنْ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ جَائِزٌ كَالزَّكَاةِ وَقَطْعِ الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ إذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ. وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِلُبْسِ الْمِخْيَطِ الْعَمْدُ، وَالسَّهْوُ، وَالطَّوْعُ، وَالْكُرْهُ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَا شَيْءَ عَلَى النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ " وَيَسْتَوِي أَيْضًا مَا إذَا لَبِسَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَلْبَسَهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِارْتِكَابِ مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ لِكَوْنِهِ جِنَايَةً، وَلَا حَظْرَ مَعَ النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ، فَلَا يُوصَفُ فِعْلُهُ بِالْجِنَايَةِ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَلِهَذَا جُعِلَ النِّسْيَانُ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّوْمِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْإِكْرَاهُ عِنْدِي وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي حَالِ الذِّكْرِ وَالطَّوْعِ لِوُجُودِ ارْتِفَاقٍ كَامِلٍ، وَهَذَا يُوجَدُ فِي حَالِ الْكُرْهِ وَالسَّهْوِ. وَقَوْلُهُ: " فِعْلُ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ لَا يُوصَفُ بِالْحَظْرِ " مَمْنُوعٌ بَلْ الْحَظْرُ قَائِمٌ حَالَةَ النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ، وَفِعْلُ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ مَوْصُوفٌ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً، وَإِنَّمَا أَثَّرَ النِّسْيَانُ وَالْإِكْرَاهُ فِي ارْتِفَاعِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ جَائِزُ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ عَقْلًا عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا رُفِعَتْ الْمُؤَاخَذَةُ شَرْعًا بِبَرَكَةِ «دُعَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا» ، وَقَوْلُهُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَالِاعْتِبَارُ بِالصَّوْمِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ فِي الْإِحْرَامِ أَحْوَالًا مُذَكِّرَةً يَنْدُرُ النِّسْيَانُ مَعَهَا غَايَةَ النُّدْرَةِ، فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ وَلَا مُذَكِّرَ لِلصَّوْمِ فَجُعِلَ عُذْرًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ أَحْوَالَ الصَّلَاةِ مُذَكِّرَةٌ كَذَا هَذَا. وَلَوْ جَمَعَ الْمُحْرِمُ اللِّبَاسَ كُلَّهُ: الْقَمِيصَ، وَالْعِمَامَةَ، وَالْخُفَّيْنِ، لَزِمَهُ دَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ لُبْسٌ وَاحِدٌ وَقَعَ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَالْإِيلَاجَاتِ فِي الْجِمَاعِ. وَلَوْ اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ إلَى لُبْسِ ثَوْبٍ فَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ فَإِنْ لَبِسَهُمَا عَلَى مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ كَفَّارَةُ الضَّرُورَةِ، بِأَنْ اضْطَرَّ إلَى قَمِيصٍ وَاحِدٍ فَلَبِسَ قَمِيصَيْنِ، أَوْ قَمِيصًا وَجُبَّةً، أَوْ اُضْطُرَّ إلَى الْقَلَنْسُوَةِ فَلَبِسَ قَلَنْسُوَةً وَعِمَامَةً؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ حَصَلَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَيُوجِبُ كَفَّارَةً وَاحِدَةً، كَمَا إذَا اضْطَرَّ إلَى لُبْسِ قَمِيصٍ فَلَبِسَ جُبَّةً، وَإِنْ لَبِسَهُمَا عَلَى مَوْضِعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَغَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ، كَمَا إذَا اضْطَرَّ إلَى لُبْسِ الْعِمَامَةِ أَوْ الْقَلَنْسُوَةِ فَلَبِسَهُمَا مَعَ الْقَمِيصِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ: كَفَّارَةُ الضَّرُورَةِ لِلُبْسِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَكَفَّارَةُ الِاخْتِيَارِ لِلُبْسِهِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ. وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا لِلضَّرُورَةِ ثُمَّ زَالَتْ الضَّرُورَةُ، فَدَامَ عَلَى ذَلِكَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَمَا دَامَ فِي شَكٍّ مِنْ زَوَالِ الضَّرُورَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ: كَفَّارَةُ الضَّرُورَةِ. وَإِنْ تَيَقَّنَ بِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ زَالَتْ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ: كَفَّارَةُ ضَرُورَةٍ، وَكَفَّارَةُ اخْتِيَارٍ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً بِيَقِينٍ، فَلَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهَا بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ إنَّ الثَّابِتَ يَقِينًا لَا يَزَالُ بِالشَّكِّ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاللُّبْسُ الثَّانِي وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ، فَكَانَ لُبْسًا وَاحِدًا فَيُوجِبُ كَفَّارَةً وَاحِدَةً، وَإِذَا اسْتَيْقَنَ بِزَوَالِ الضَّرُورَةِ، فَاللُّبْسُ الثَّانِي حَصَلَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ، فَيُوجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةً أُخْرَى. وَنَظِيرُ هَذَا مَا إذَا كَانَ بِهِ قَرْحٌ أَوْ جُرْحٌ، اضْطَرَّ إلَى مُدَاوَاتِهِ بِالطِّيبِ أَنَّهُ مَا دَامَ بَاقِيًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ تَكَرَّرَ عَلَيْهِ الدَّوَاءُ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ بَاقِيَةٌ فَوَقَعَ الْكُلُّ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ. وَلَوْ بَرَأَ ذَلِكَ الْقَرْحُ أَوْ الْجُرْحُ، وَحَدَثَ قَرْحٌ آخَرُ أَوْ جِرَاحَةٌ أُخْرَى فَدَاوَهَا بِالطِّيبِ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ زَالَتْ فَوَقَعَ الثَّانِي عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَكَذَا الْمُحْرِمُ إذَا مَرِضَ أَوْ أَصَابَتْهُ الْحُمَّى، وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى لُبْسِ الثَّوْبِ فِي وَقْتٍ، وَيَسْتَغْنِي عَنْهُ فِي وَقْتِ الْحُمَّى، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، مَا لَمْ تَزُلْ عَنْهُ تِلْكَ الْعِلَّةُ لِحُصُولِ اللُّبْسِ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَوْ زَالَتْ عَنْهُ تِلْكَ

فصل تطيب المحرم

الْحُمَّى وَأَصَابَتْهُ حُمَّى أُخْرَى عَرَفَ ذَلِكَ، أَوْ زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ الْمَرَضُ وَجَاءَهُ مَرَضٌ آخَرُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ، سَوَاءٌ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ، فَإِنْ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي بَيَانِ الْمَحْظُورِ الَّذِي يُفْسِدُ الْحَجَّ وَهُوَ الْجِمَاعُ، بِأَنْ جَامَعَ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَوْ جُرِحَ لَهُ قَرْحٌ، أَوْ أَصَابَهُ جُرْحٌ وَهُوَ يُدَاوِيهِ بِالطِّيبِ، فَخَرَجَتْ قُرْحَةٌ أُخْرَى، أَوْ أَصَابَهُ جُرْحٌ آخَرُ، وَالْأَوَّلُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَبْرَأْ فَدَاوَى الثَّانِي فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَبْرَأْ فَالضَّرُورَةُ بَاقِيَةٌ، فَالْمُدَاوَاةُ الثَّانِيَةُ حَصَلَتْ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي حَصَلَتْ عَلَيْهَا الْأُولَى، فَيَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَلَوْ حَصَرَهُ عَدُوٌّ فَاحْتَاجَ إلَى لُبْسِ الثِّيَابِ فَلَبِسَ، ثُمَّ ذَهَبَ فَنَزَعَ ثُمَّ عَادَ فَعَادَ أَوْ كَانَ الْعَدُوُّ لَمْ يَبْرَحْ مَكَانَهُ فَكَانَ يَلْبَسُ السِّلَاحَ، فَيُقَاتِلُ بِالنَّهَارِ وَيَنْزِعُ بِاللَّيْلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، مَا لَمْ يَذْهَبْ هَذَا الْعَدُوُّ وَيَجِيءُ عَدُوٌّ آخَرُ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ وَاحِدٌ، وَالْعُذْرُ الْوَاحِدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّبْسِ لَهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى اتِّحَادِ الْجِهَةِ وَاخْتِلَافِهَا، لَا إلَى صُورَةِ اللُّبْسِ، فَإِنْ لَبِسَ الْمَخِيطَ أَيَّامًا فَإِنْ لَمْ يَنْزِعْ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا يَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ يَلْبَسُهُ بِالنَّهَارِ وَيَنْزِعُهُ بِاللَّيْلِ لِلنَّوْمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْزِمَ عَلَى تَرْكِهِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا دَمٌ وَاحِدٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْزِمْ عَلَى التَّرْكِ كَانَ اللُّبْسُ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ لَبِسَ يَوْمًا كَامِلًا فَأَرَاقَ دَمًا، ثُمَّ دَامَ عَلَى لُبْسِهِ يَوْمًا كَامِلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الدَّوَامَ عَلَى اللُّبْسِ بِمَنْزِلَةِ لُبْسِ مُبْتَدَأٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَخِيطِ فَدَامَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ يَوْمًا كَامِلًا يَلْزَمُهُ دَمٌ. وَلَوْ لَبِسَهُ يَوْمًا كَامِلًا ثُمَّ نَزَعَهُ وَعَزَمَ عَلَى تَرْكِهِ، ثُمَّ لَبِسَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَقَدْ الْتَحَقَ اللُّبْسُ الْأَوَّلُ بِالْعَدَمِ فَيُعْتَبَرُ الثَّانِي لُبْسًا آخَرَ مُبْتَدَأً إنْ لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ كَانَ اللُّبْسُ عَلَى حَالِهِ، فَإِذَا وُجِدَ الثَّانِي فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِذَا كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ بَطَلَ الْأَوَّلُ فَيُعْتَبَرُ الثَّانِي لُبْسًا ثَانِيًا فَيُوجِبُ كَفَّارَةً أُخْرَى، كَمَا إذَا جَامَعَ فِي يَوْمَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَهُمَا أَنَّهُ لَمَّا نَزَعَ عَلَى عَزْمِ التَّرْكِ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ اللُّبْسِ الْأَوَّلِ، فَيُعْتَبَرُ الثَّانِي لُبْسًا مُبْتَدَأً فَيَتَعَلَّقُ بِهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ النَّزْعَ عَلَى عَزْمِ التَّرْكِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ اللُّبْسَتَيْنِ فِي الْحُكْمِ، تَخَلَّلَهُمَا التَّكْفِيرُ أَوْ لَا وَعِنْدَهُ لَا يَخْتَلِفُ إلَّا إذَا تَخَلَّلَهُمَا التَّكْفِيرُ، وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالْوَرْسِ أَوْ الزَّعْفَرَانِ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ لَهُمَا رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقَدْ اسْتَعْمَلَ الطِّيبَ فِي بَدَنِهِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ. وَكَذَا إذَا لَبِسَ الْمُعَصْفَرَ عِنْدَنَا، لِأَنَّهُ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ عِنْدنَا، إذْ الْمُعَصْفَرُ طِيبٌ؛ لِأَنَّ لَهُ رَائِحَةً طَيِّبَةً وَعَلَى الْقَارِنِ فِي جَمِيعِ مَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ مَثَلًا مَا عَلَى الْمُفْرِدِ مِنْ الدَّمِ وَالصَّدَقَةِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ، فَأَدْخَلَ النَّقْصَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [فَصْلٌ تطيب الْمُحْرِمُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الطِّيبِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنْ إزَالَةِ الشَّعَثِ وَقَضَاءِ التَّفَثِ أَمَّا الطِّيبُ فَنَقُولُ: لَا يَتَطَيَّبُ الْمُحْرِمُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُحْرِمُ الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ» وَالطِّيبُ يُنَافِي الشَّعَثَ. وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ مَقْطَعَانِ مُضَمَّخَانِ بِالْخَلُوقِ فَقَالَ: مَا أَصْنَعُ فِي حَجَّتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ، فَلَمَّا سَرَى عَنْهُ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا فَقَالَ: اغْسِلْ هَذَا الطِّيبَ عَنْك، وَاصْنَعْ فِي حَجَّتِك مَا كُنْت صَانِعًا فِي عُمْرَتِك» وَرَوَيْنَا «أَنَّ مُحْرِمًا وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» جَعْلُ كَوْنِهِ مُحْرِمًا عِلَّةُ حُرْمَةِ تَخْمِيرِ الرَّأْسِ، وَالتَّطَيُّبِ فِي حَقِّهِ، فَإِنْ طَيَّبَ عُضْوًا كَامِلًا: كَالرَّأْسِ، وَالْفَخِذِ، وَالسَّاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ طَيَّبَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَوَّمُ مَا يَجِبُ فِيهِ الدَّمُ فَيَتَصَدَّقُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، حَتَّى لَوْ طَيَّبَ رُبْعَ عُضْوٍ، فَعَلَيْهِ مِنْ الصَّدَقَةِ قَدْرُ قِيمَةِ رُبْعِ شَاةٍ، وَإِنْ طَيَّبَ نِصْفَ عُضْوٍ تَصَدَّقَ بِقَدْرِ قِيمَةِ نِصْفِ شَاةٍ هَكَذَا وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي الْمُنْتَقَى فِي مَوْضِعٍ إذَا طَيَّبَ مِثْلَ الشَّارِبِ أَوْ بِقَدْرِهِ مِنْ اللِّحْيَةِ، فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَفِي مَوْضِعٍ إذَا طَيَّبَ مِقْدَارَ رُبْعِ الرَّأْسِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، أَعْطَى الرُّبْعَ حُكْمَ الْكُلِّ كَمَا فِي الْحَلْقِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي قَلِيلِ الطِّيبِ وَكَثِيرِهِ دَمٌ لِوُجُودِ الِارْتِفَاقِ وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ الْبَعْضَ بِالْكُلِّ وَالصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ تَطْيِيبَ عُضْوٍ كَامِلٍ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ، فَكَانَ

جِنَايَةً كَامِلَةً فَيُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً، وَتَطْيِيبَ مَا دُونِهِ ارْتِفَاقٌ قَاصِرٌ فَيُوجِبُ كَفَّارَةً قَاصِرَةً، إذْ الْحُكْمُ يَثْبُتُ عَلَى قَدْرِ السَّبَبِ فَإِنْ طَيَّبَ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةً مِنْ كُلِّ عُضْوٍ يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَإِذَا بَلَغَ عُضْوًا كَامِلًا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِمَا قُلْنَا. وَإِنْ طَيَّبَ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا، فَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْجِنَايَةِ وَاحِدٌ حَظَرَهَا إحْرَامٌ وَاحِدٌ مِنْ جِهَةٍ غَيْرِ مُتَقَوَّمَةٍ فَيَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِأَنْ طَيَّبَ كُلَّ عُضْوٍ فِي مَجْلِسٍ عَلَى حِدَةٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ سَوَاءٌ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يَذْبَحْ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَذْبَحْ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْجِمَاعِ بِأَنْ جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ثُمَّ جَامَعَ، أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ، وَإِنْ لَمْ يَذْبَحْ يَكْفِي دَمٌ وَاحِدٌ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ فَإِنْ كَانَ الدُّهْنُ مُطَيِّبًا كَدُهْنِ: الْبَنَفْسَجِ، وَالْوَرْدِ، وَالزِّئْبَقِ، وَالْبَانِ، وَالْحَرَى، وَسَائِرِ الْأَدْهَانِ الَّتِي فِيهَا الطِّيبُ فَعَلَيْهِ دَمٌ إذَا بَلَغَ عُضْوًا كَامِلًا. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْبَنَفْسَجَ لَيْسَ بِطِيبٍ، وَأَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ دُهْنٌ مُطَيِّبٌ فَأَشْبَهَ الْبَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَدْهَانِ الْمُطَيِّبَةِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُطَيِّبٍ بِأَنْ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ أَوْ بِشَيْرَجٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " إنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي شَعْرِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي بَدَنِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ " احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادَّهَنَ بِزَيْتٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ» وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلدَّمِ لَمَا فَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَفْعَلُ مَا يُوجِبُ الدَّمَ؛ وَلِأَنَّ غَيْرَ الْمُطَيِّبِ مِنْ الْأَدْهَانِ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْغِذَاءِ فَأَشْبَهَ اللَّحْمَ وَالشَّحْمَ وَالسَّمْنَ إلَّا أَنَّهُ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ لَا لِكَوْنِهِ طِيبًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ أَمِّ حَبِيبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ لَمَّا نُعِيَ إلَيْهَا وَفَاةُ أَخِيهَا قَعَدَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَدْعَتْ بِزِنَةِ زَيْتٍ وَقَالَتْ: " مَا لِي إلَى الطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ لَكِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا عَلَى زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» سَمَّتْ الزَّيْتَ طِيبًا؛ وَلِأَنَّهُ أَصْلُ الطِّيبِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُطَيَّبُ بِإِلْقَاءِ الطَّيِّبِ فِيهِ، فَإِذَا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى وَجْهِ الطَّيِّبِ كَانَ كَسَائِرِ الْأَدْهَانِ الْمُطَيِّبَةِ؛ وَلِأَنَّهُ يُزِيلُ الشَّعَثَ الَّذِي هُوَ عَلَمُ الْإِحْرَامِ وَشِعَارُهُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ، فَصَارَ جَارِحًا إحْرَامَهُ بِإِزَالَةِ عَلَمِهِ، فَتَكَامَلَتْ جِنَايَتُهُ فَيَجِبُ الدَّمُ. وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا كَانَ لَا يَفْعَلُ مَا يُوجِبُ الدَّمَ كَانَ لَا يَفْعَلُ مَا يُوجِبُ الصَّدَقَةَ، وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ حَالَةَ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ، ثُمَّ إنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يُكَفِّرْ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَعَلَ وَكَفَّرَ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً. وَلَوْ دَاوَى بِالزَّيْتِ جُرْحَهُ أَوْ شُقُوقَ رِجْلَيْهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلَ الطِّيبِ لَكِنَّهُ مَا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى وَجْهِ الطِّيبِ، فَلَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَدَاوَى بِالطِّيبِ لَا لِلتَّطَيُّبِ أَنَّهُ تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ فِي نَفْسِهِ فَيَسْتَوِي فِيهِ اسْتِعْمَالُهُ لِلتَّطَيُّبِ أَوْ لِغَيْرِهِ؛ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ دَهَنَ شُقَاقَ رِجْلَيْهِ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ: " الصَّحِيحُ شُقُوقُ رِجْلَيْهِ " وَإِنَّمَا قَالَ مُحَمَّدٌ: ذَلِكَ اقْتِدَاءً بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَالَ هَكَذَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمِنْ سِيرَةِ أَصْحَابِنَا الِاقْتِدَاءُ بِأَلْفَاظِ الصَّحَابَةِ وَمَعَانِي كَلَامِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَإِنْ ادَّهَنَ بِشَحْمٍ أَوْ سَمْنٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ فِي نَفْسِهِ، وَلَا أَصْلَ لِلطِّيبِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُطَيَّبُ بِإِلْقَاءِ الطِّيبِ فِيهِ، وَلَا يَصِيرُ طِيبًا بِوَجْهٍ، وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي الْبَدَنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ هُوَ طِيبٌ مَحْضٌ مُعَدٌّ لِلتَّطَيُّبِ بِهِ كَالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ، وَالْعَنْبَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَتَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ اُسْتُعْمِلَ حَتَّى قَالُوا: لَوْ دَاوَى عَيْنَهُ بِطِيبٍ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ عُضْوٌ كَامِلٌ اسْتَعْمَلَ فِيهِ الطِّيبَ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَنَوْعٌ لَيْسَ بِطِيبٍ بِنَفْسِهِ وَلَا فِيهِ مَعْنَى الطِّيبِ، وَلَا يَصِيرُ طِيبًا بِوَجْهٍ كَالشَّحْمِ فَسَوَاءٌ أُكِلَ أَوْ اُدُّهِنَ بِهِ أَوْ جُعِلَ فِي شُقَاقِ الرِّجْلِ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ. وَنَوْعٌ لَيْسَ بِطِيبٍ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهُ أَصْلُ الطِّيبِ، يُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهِ الطِّيبِ، وَيُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهِ الْإِدَامِ كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الِاسْتِعْمَالُ، فَإِنْ اُسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ الْأَدْهَانِ فِي الْبَدَنِ يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الطِّيبِ، وَإِنْ

اُسْتُعْمِلَ فِي مَأْكُولٍ أَوْ شُقَاقِ رِجْلٍ لَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الطِّيبِ كَالشَّحْمِ. ، وَلَوْ كَانَ الطِّيبُ فِي طَعَامٍ طُبِخَ وَتَغَيَّرَ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي أَكْلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ يُوجَدُ رِيحُهُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الطِّيبَ صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِي الطَّعَامِ بِالطَّبْخِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُطْبَخْ يُكْرَهُ إذَا كَانَ رِيحُهُ يُوجَدُ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ غَالِبٌ عَلَيْهِ، فَكَانَ الطِّيبُ مَغْمُورًا مُسْتَهْلَكًا فِيهِ، وَإِنْ أَكَلَ عَيْنَ الطِّيبِ غَيْرَ مَخْلُوطٍ بِالطَّعَامِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ إذَا كَانَ كَثِيرًا. وَقَالُوا فِي الْمِلْحِ يُجْعَلُ فِيهِ الزَّعْفَرَانُ أَنَّهُ إنْ كَانَ الزَّعْفَرَانُ غَالِبًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْمِلْحَ يَصِيرُ تَبَعًا لَهُ، فَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِ الطِّيبِ، وَإِنْ كَانَ الْمِلْحُ غَالِبًا، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الطِّيبِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الخشكنابخ الْأَصْفَرَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَيَقُولُ: لَا بَأْسَ بِالْخَبِيصِ الْأَصْفَرِ لِلْمُحْرِمِ. فَإِنْ تَدَاوَى الْمُحْرِمُ بِمَا لَا يُؤْكَلُ مِنْ الطِّيبِ لِمَرَضٍ أَوْ عِلَّةٍ، أَوْ اكْتَحَلَ بِطِيبٍ لِعِلَّةٍ فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ شَاءَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ إذَا فَعَلَهُ الْمُحْرِمُ لِضَرُورَةٍ وَعُذْرٍ فَعَلَيْهِ إحْدَى الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ. ، وَيُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشُمَّ الطِّيبَ وَالرَّيْحَانَ كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَرِهَا شَمَّ الرَّيْحَانِ لِلْمُحْرِمِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَوْ شَمَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ " وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الطِّيبَ مَا لَهُ رَائِحَةٌ، وَالرَّيْحَانُ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَكَانَ طِيبًا، وَإِنَّا نَقُولُ: نَعَمْ إنَّهُ طِيبٌ لَكِنَّهُ لَمْ يَلْتَزِقْ بِبَدَنِهِ وَلَا بِثِيَابِهِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَإِنَّمَا شَمَّ رَائِحَتَهُ فَقَطْ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، كَمَا لَوْ جَلَسَ عِنْدَ الْعَطَّارِينَ فَشَمَّ رَائِحَةَ الْعِطْرِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِارْتِفَاقِ. وَكَذَا كُلُّ نَبَاتٍ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، وَكُلُّ ثَمَرَةٍ لَهَا رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ؛ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ بِالرَّائِحَةِ وَلَوْ فَعَلَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِقْ بِبَدَنِهِ وَثِيَابِهِ شَيْءٌ مِنْهُ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِرَفْعِ الْعَطَّارِينَ بِمَكَّةَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ وَذَلِكَ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ. فَإِنْ شَمَّ الْمُحْرِمُ رَائِحَةَ طِيبٍ تَطَيَّبَ بِهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الطِّيبِ حَصَلَ فِي وَقْتٍ مُبَاحٍ، فَبَقِيَ شَمُّ نَفْسِ الرَّائِحَةِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ، كَمَا لَوْ مَرَّ بِالْعَطَّارِينَ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ رَجُلًا لَوْ دَخَلَ بَيْتًا قَدْ أَجْمَرَ وَطَالَ مُكْثُهُ بِالْبَيْتِ فَعَلِقَ فِي ثَوْبِهِ شَيْءٌ يَسِيرٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِعَيْنٍ، وَبِمُجَرَّدِ الرَّائِحَةِ لَا يُمْنَعُ مِنْهَا، فَإِنْ اسْتَجْمَرَ بِثَوْبٍ فَعَلِقَ بِثَوْبِهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ هَهُنَا تَعَلَّقَتْ بِعَيْنٍ وَقَدْ اسْتَعْمَلَهَا فِي بَدَنِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَطَيَّبَ. وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ اكْتَحَلَ بِكُحْلٍ قَدْ طَيَّبَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّ الطِّيبَ إذَا غَلَبَ الْكُحْلَ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى طَرِيقِ التَّدَاوِي أَوْ التَّطَيُّبِ. فَإِنْ مَسَّ طِيبًا فَلَزِقَ بِيَدِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّطَيُّبِ؛ لِأَنَّهُ طَيَّبَ بِهِ يَدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّطَيُّبَ، لِأَنَّ الْقَصْدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ. وَقَالُوا فِيمَنْ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ فَأَصَابَ يَدَهُ مِنْ طِيبِهِ: إنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ الطِّيبَ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّطَيُّبَ، وَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لَا يَقِفُ عَلَى الْقَصْدِ. فَإِنْ دَاوَى جُرْحًا أَوْ تَطَيَّبَ لِعِلَّةٍ، ثُمَّ حَدَثَ جُرْحٌ آخَرُ قَبْلَ أَنْ يَبْرَأَ الْأَوَّلُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ الْأَوَّلَ بَاقٍ، فَكَانَ جِهَةُ الِاسْتِعْمَالِ وَاحِدَةً فَتَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا قُلْنَا فِي لُبْسِ الْمَخِيطِ. وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْتَجِمَ الْمُحْرِمُ، وَيَفْتَصِدَ، وَيَبُطَّ الْقُرْحَةَ، وَيَعْصِبَ عَلَيْهِ الْخِرْقَةَ، وَيَجْبُرَ الْكَسْرَ، وَيَنْزِعَ الضِّرْسَ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ، وَيَدْخُلَ الْحَمَّامَ وَيَغْتَسِلَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ بِالْقُرْحَةِ، وَالْفَصْدُ وَبَطُّ الْقُرْحَةِ» وَالْجُرْحِ فِي مَعْنَى الْحِجَامَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إلَّا شَقُّ الْجِلْدَةِ وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهَا مِنْ بَابِ التَّدَاوِي، وَالْإِحْرَامُ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّدَاوِي. وَكَذَا جَبْرُ الْكَسْرِ مِنْ بَابِ الْعِلَاجِ، وَالْمُحْرِمُ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ. وَكَذَا قَلْعُ الضِّرْسِ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ بَابِ إزَالَةِ الضَّرَرِ فَيُشْبِهُ قَطْعَ الْيَدِ مِنْ الْأَكَلَةِ، وَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُحْرِمُ كَذَا هَذَا. وَأَمَّا الِاغْتِسَالُ فَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغْتَسَلَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَالَ: مَا نَفْعَلُ بِأَوْسَاخِنَا» . فَإِنْ غَسَلَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ بِالْخِطْمِيِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ لَهُمَا أَنَّ الْخِطْمِيَّ لَيْسَ بِطِيبٍ، وَإِنَّمَا يُزِيلُ الْوَسَخَ فَأَشْبَهَ الْأُشْنَانَ، فَلَا يَجِبُ بِهِ الدَّمُ، وَتَجِبُ الصَّدَقَةُ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ لَا لِأَنَّهُ طِيبٌ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخِطْمِيَّ طِيبٌ؛ لِأَنَّ لَهُ رَائِحَةً طَيِّبَةً فَيَجِبُ بِهِ الدَّمُ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الطِّيبِ؛ وَلِأَنَّهُ يُزِيلُ الشَّعَثَ وَيَقْتُلُ الْهَوَامَّ فَأَشْبَهَ الْحَلْقَ. فَإِنْ خَضَّبَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ بِالْحِنَّاءِ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّ الْحِنَّاءَ طِيبٌ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى الْمُعْتَدَّةَ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ وَقَالَ: الْحِنَّاءُ طِيبٌ»

فصل ما يجوز للمحرم أن يفعله في إحرامه

وَلِأَنَّ الطِّيبَ مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ وَلِلْحِنَّاءِ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَكَانَ طِيبًا. وَإِنْ خَضَّبَتْ الْمُحْرِمَةُ يَدَيْهَا بِالْحِنَّاءِ فَعَلَيْهَا دَمٌ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَعَلَيْهَا صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ الِارْتِفَاقَ الْكَامِلَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِتَطْيِيبِ عُضْوٍ كَامِلٍ، وَالْقُسْطُ طِيبٌ؛ لِأَنَّ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ وَلِهَذَا يُتَبَخَّرُ بِهِ وَيُلْتَذُّ بِرَائِحَتِهِ. ، وَالْوَسْمَةُ لَيْسَ بِطِيبٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ بَلْ كَرِيهَةٌ، وَإِنَّمَا تُغَيِّرُ الشَّعْرَ وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ بَابِ الِارْتِفَاقِ، بَلْ مِنْ بَابِ الزِّينَةِ، فَإِنْ خَافَ أَنْ يَقْتُلَ دَوَابَّ الرَّأْسِ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ التَّفَثَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا لَا لِأَجْلِ الْخِضَابِ بَلْ لِأَجْلِ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ. وَالْكُحْلُ لَيْسَ بِطِيبٍ وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَكْتَحِلَ بِكُحْلٍ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: " هُوَ طِيبٌ وَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَكْتَحِلَ بِهِ " وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَلَا يَكُونُ طِيبًا. وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِالتَّطَيُّبِ: الذِّكْرُ وَالنِّسْيَانُ، وَالطَّوْعُ وَالْكُرْهُ عِنْدَنَا كَمَا فِي لُبْسِ الْمَخِيطِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى مَا مَرَّ، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي الطِّيبِ سَوَاءٌ فِي الْحَظْرِ وَوُجُوبِ الْجَزَاءِ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَاظِرِ وَالْمُوجِبِ لِلْجَزَاءِ. وَكَذَا الْقَارِنُ وَالْمُفْرِدُ إلَّا أَنَّ عَلَى الْقَارِنِ مِثْلَيْ مَا عَلَى الْمُفْرِدِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ فَأَدْخَلَ نَقْصًا فِي إحْرَامَيْنِ فَيُؤَاخَذُ بِجَزَاءَيْنِ، وَلَا يَحِلُّ لِلْقَارِنِ وَالْمُفْرِدِ التَّطَيُّبُ مَا لَمْ يَحْلِقَا أَوْ يُقَصِّرَا، لِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ الْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ، فَكَانَ الْحَاظِرُ بَاقِيًا فَيَبْقَى الْحَظْرُ. وَكَذَا الْمُعْتَمِرُ لِمَا قُلْنَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مَا يَجُوز لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَفْعَلهُ فِي إحرامه] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَا يَجْرِي مَجْرَى الطِّيبِ مِنْ إزَالَةِ الشَّعَثِ وَقَضَاءِ التَّفَثِ: فَحَلْقُ الشَّعْرِ، وَقَلْمُ الظُّفْرِ. أَمَّا الْحَلْقُ فَنَقُولُ: " لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُحْرِمُ الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ» «وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ الْحَاجُّ؟ فَقَالَ: الشَّعِثُ التَّفِثُ» وَحَلْقُ الرَّأْسِ يُزِيلُ الشَّعَثَ وَالتَّفَثَ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِارْتِفَاقِ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ، وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ عَنْ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ نَبَاتٍ اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَيَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لَهُ، كَالنَّبَاتِ الَّذِي اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ وَهُوَ الشَّجَرُ وَالْخَلَى. وَكَذَا لَا يُطْلِي رَأْسَهُ بِنُورَةٍ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْحَلْقِ؛ وَكَذَا لَا يُزِيلُ شَعْرَةً مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ وَلَا يُطْلِيهَا بِالنُّورَةِ لِمَا قُلْنَا. فَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ، فَإِنْ حَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لَا يُجْزِيهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَإِنْ حَلَقَهُ لِعُذْرٍ فَعَلَيْهِ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وَلِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ؛ وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَهَا أَثَرٌ فِي التَّخْفِيفِ فَخُيِّرَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ تَخْفِيفًا وَتَيْسِيرًا، وَإِنْ حَلَقَ ثُلُثَهُ أَوْ رُبُعَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ حَلَقَ دُونَ الرُّبُعِ، فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ كَذَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاخْتِلَافَ، وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ الِاخْتِلَافَ فَقَالَ: " إذَا حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ " فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: لَا يَجِبُ مَا لَمْ يَحْلِقْ أَكْثَرَ رَأْسِهِ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْحَاكِمِ: إذَا حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: إذَا حَلَقَ أَكْثَرَهُ يَجِبُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: إذَا حَلَقَ شَعْرَهُ يَجِبُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " إذَا حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ يَجِبُ " وَقَالَ مَالِكٌ: " لَا يَجِبُ إلَّا بِحَلْقِ الْكُلِّ " وَعَلَى هَذَا إذَا حَلَقَ لِحْيَتَهُ أَوْ ثُلُثَهَا أَوْ رُبُعَهَا، احْتَجَّ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَالرَّأْسُ اسْمٌ لِكُلِّ هَذَا الْمَحْدُودِ. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الثَّلَاثَ جَمْعٌ صَحِيحٌ فَيَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ، وَلِهَذَا قَامَ مَقَامَ الْكُلِّ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ؛ وَلِأَنَّ الشَّعْرَ نَبَاتٌ اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَيَسْتَوِي فِيهِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، كَالنَّبَاتِ الَّذِي اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ مِنْ الشَّجَرِ وَالْخَلَى. وَأَمَّا الْكَلَامُ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ حَلْقَ الْكَثِيرِ يُوجِبُ الدَّمَ، وَالْقَلِيلِ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ مَا دُونَ الرُّبُعِ قَلِيلًا، وَالرُّبُعَ وَمَا فَوْقَهُ كَثِيرًا، وَهُمَا عَلَى مَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ جَعَلَا مَا دُونَ النِّصْفِ قَلِيلًا، وَمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ كَثِيرًا، وَالْوَجْهُ لَهُمَا: أَنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِنْ أَسْمَاءِ الْمُقَابَلَةِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِمُقَابِلِهِ، فَإِنْ كَانَ مُقَابِلُهُ قَلِيلًا فَهُوَ كَثِيرٌ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَهُوَ قَلِيلٌ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الرُّبُعُ قَلِيلًا؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُهُ كَثِيرٌ فَكَانَ هُوَ قَلِيلًا، وَالْوَجْهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الرُّبُعَ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّ أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ عَادَةِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَجْيَالِ مِنْ الْعَرَبِ، وَالتُّرْكِ، وَالْكُرْدِ الِاقْتِصَارَ عَلَى حَلْقِ رُبُعِ الرَّأْسِ، وَلِذَا يَقُولُ الْقَائِلُ: رَأَيْت فُلَانًا يَكُونُ صَادِقًا فِي مَقَالَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرَ إلَّا أَحَدَ جَوَانِبِهِ الْأَرْبَعِ، وَلِهَذَا أُقِيمَ مَقَامَ الْكُلِّ فِي الْمَسْحِ، وَفِي الْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ بِأَنْ حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ لِلتَّحَلُّلِ

وَالْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ، أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ وَيَخْرُجُ مِنْ الْإِحْرَامِ، فَكَانَ حَلْقُ رُبُعِ الرَّأْسِ ارْتِفَاقًا كَامِلًا فَكَانَتْ جِنَايَةً كَامِلَةً، فَيُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً. وَكَذَا حَلْقُ رُبُعِ اللِّحْيَةِ لِأَهْلِ بَعْضِ الْبِلَادِ مُعْتَادٌ كَالْعِرَاقِ وَنَحْوِهَا، فَكَانَ حَلْقُ الرُّبُعِ مِنْهَا كَحَلْقِ الْكُلِّ، وَلَا حُجَّةَ لِمَالِكٍ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا نَهْيًا عَنْ حَلْقِ الْكُلِّ، وَذَا لَا يَنْفِي النَّهْيَ عَنْ حَلْقِ الْبَعْضِ، فَكَانَ تَمَسُّكًا بِالْمَسْكُوتِ، فَلَا يَصِحُّ. وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ آخِذَ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ لَا يُسَمَّى حَالِقًا فِي الْعُرْفِ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ نَصُّ الْحَلْقِ، كَمَا لَا يُسَمَّى مَاسِحُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ مَاسِحًا فِي الْعُرْفِ، حَتَّى لَمْ يَتَنَاوَلْهُ نَصُّ الْمَسْحِ، عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الدَّمِ مُتَعَلِّقٌ بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ، وَحَلْقُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ لَيْسَ بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ، فَلَا يُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً، وَقَوْلُهُ: إنَّهُ نَبَاتٌ اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ هَذَا يَقْتَضِي حُرْمَةَ التَّعَرُّضِ لِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الدَّمِ، وَذَا يَقِفُ عَلَى ارْتِفَاقٍ كَامِلٍ وَلَمْ يُوجَدْ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا: إنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ يُعْرَفُ بِالْمُقَابَلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرُّبُعَ كَثِيرٌ مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَيُعْمَلُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ. وَلَوْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ رَأْسِهِ أَوْ لِحْيَتِهِ، أَوْ لَمَسَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَانْتَثَرَ مِنْهُ شَعْرَةٌ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِوُجُودِ الِارْتِفَاقِ بِإِزَالَةِ التَّفَثِ، هَذَا إذَا حَلَقَ رَأْسَ نَفْسِهِ. فَأَمَّا إذَا حَلَقَ رَأْسَ غَيْرِهِ فَعَلَى الْحَالِقِ صَدَقَةٌ عِنْدَنَا. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: " لَا شَيْءَ عَلَى الْحَالِقِ ". وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ لِوُجُودِ الِارْتِفَاقِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْحَالِقِ، وَلَنَا أَنَّ الْمُحْرِمَ كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ رَأْسِ نَفْسِهِ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ رَأْسِ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَالْإِنْسَانُ لَا يَحْلِقُ رَأْسَ نَفْسِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ حَلْقُ رَأْسِ غَيْرِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ حَلْقُ رَأْسِ نَفْسِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، فَتَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ، لِعَدَمِ الِارْتِفَاقِ فِي حَقِّهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَحْلُوقُ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا لِمَا قُلْنَا، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ حَلَالًا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا فَعَلَيْهِ الدَّمُ، لِحُصُولِ الِارْتِفَاقِ الْكَامِلِ لَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَلْقُ بِأَمْرِ الْمَحْلُوقِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ طَائِعًا أَوْ مُكْرَهًا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ مُكْرَهًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا لَكِنَّهُ سَكَتَ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَسْلُبُ الْحَظْرَ، وَكَمَالُ الِارْتِفَاقِ مَوْجُودٌ فَيَجِبُ عَلَيْهِ كَمَالُ الْجَزَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْحَالِقِ، وَعَنْ الْقَاضِي أَبِي حَازِمٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْحَالِقَ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي عُهْدَةِ الضَّمَانِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ كَالْمُكْرَهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ، وَلَنَا أَنَّ الِارْتِفَاقَ الْكَامِلَ حَصَلَ لَهُ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ، إذْ لَوْ رَجَعَ لَسَلِمَ لَهُ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ. وَهَذَا لَا يَجُوزُ كَالْمَغْرُورِ إذَا وَطِئَ الْجَارِيَةَ وَغَرِمَ الْعُقْرَ، أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَارِّ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا وَإِنْ كَانَ الْحَالِقُ حَلَالًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَحُكْمُ الْمَحْلُوقِ مَا ذَكَرنَا. وَإِنْ حَلَقَ شَارِبَهُ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّارِبَ تَبَعٌ لِلِّحْيَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْبُتُ تَبَعًا لِلِّحْيَةِ وَيُؤْخَذُ تَبَعًا لِلِّحْيَةِ أَيْضًا، وَلِأَنَّهُ قَلِيلٌ، فَلَا يَتَكَامَلُ مَعْنَى الْجِنَايَةِ، وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: مُحْرِمٌ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ فَعَلَيْهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَهِيَ أَنْ يَنْظُرَ كَمْ تَكُونُ مَقَادِيرُ أَدْنَى مَا يَجِبُ فِي اللِّحْيَةِ مِنْ الدَّمِ؟ وَهُوَ الرُّبُعُ، فَتَجِبُ الصَّدَقَةُ بِقَدْرِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ مِثْلَ رُبُعِ اللِّحْيَةِ، يَجِبُ رُبُعُ قِيمَةِ الشَّاةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلِّحْيَةِ، وَقَوْلُهُ " أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ " إشَارَةً إلَى الْقَصِّ، وَهُوَ السُّنَّةُ فِي الشَّارِبِ لَا الْحَلْقُ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ: أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِ الْحَلْقُ، وَنُسِبَ ذَلِكَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَالصَّحِيحُ أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِ الْقَصُّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَبَعُ اللِّحْيَةِ، وَالسُّنَّةُ فِي اللِّحْيَةِ الْقَصُّ لَا الْحَلْقُ، كَذَا فِي الشَّارِبِ؛ وَلِأَنَّ الْحَلْقَ يَشِينُهُ وَيَصِيرُ بِمَعْنَى الْمُثْلَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ سُنَّةً فِي اللِّحْيَةِ، بَلْ كَانَ بِدْعَةً، فَكَذَا فِي الشَّارِبِ. وَلَوْ حَلَقَ الرَّقَبَةَ فَعَلَيْهِ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ عُضْوٌ كَامِلٌ مَقْصُودٌ بِالِارْتِفَاقِ بِحَلْقِ شَعْرِهِ، فَتَجِبُ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ كَمَا فِي حَلْقِ الرَّأْسِ. وَلَوْ نَتَفَ مِنْ أَحَدِ الْإِبْطَيْنِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ نَتَفَ الْإِبْطَيْنِ جَمِيعًا تَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْجِنَايَةِ وَاحِدٌ، وَالْحَاظِرُ وَاحِدٌ، وَالْجِهَةُ غَيْرُ مُتَقَوَّمَةٍ فَتَكْفِيهَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَلَوْ نَتَفَ مِنْ أَحَدِ الْإِبْطَيْنِ أَكْثَرَهُ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ فِي الْبَدَنِ لَا يُقَامُ مَقَامَ كُلِّهِ، بِخِلَافِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَالرَّقَبَةِ وَمَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْبَدَنِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْإِبْطِ النَّتْفَ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِ النَّتْفُ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْحَلْقُ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ. وَلَوْ حَلَقَ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: " فِيهِ صَدَقَةٌ ". وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ: مَوْضِعَ الْحِجَامَةِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْحَلْقِ، بَلْ هُوَ تَابِعٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِحَلْقِهِ دَمٌ كَحَلْقِ الشَّارِبِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بِالْحَلْقِ لَا تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِحَلْقِهِ، فَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ

وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْلِقُ لِلْحِجَامَةِ لَا لِنَفْسِهِ، وَالْحِجَامَةُ لَا تُوجِبُ الدَّمَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَكَذَا مَا يَفْعَلُ لَهَا؛ وَلِأَنَّ مَا عَلَيْهِ مِنْ الشَّعْرِ قَلِيلٌ فَأَشْبَهَ الصَّدْرَ وَالسَّاعِدَ وَالسَّاقَ، وَلَا يَجِبُ بِحَلْقِهَا دَمٌ بَلْ صَدَقَةٌ كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا عُضْوٌ مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى حَلْقِهِ؛ لِأَنَّ الْحِجَامَةَ أَمْرٌ مَقْصُودٌ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهَا؛ لِاسْتِفْرَاغِ الْمَادَّةِ الدَّمَوِيَّةِ، وَلِهَذَا لَا يُحْلَقُ تَبَعًا لِلرَّأْسِ وَلَا لِلرَّقَبَةِ فَأَشْبَهَ حَلْقَ الْإِبْطِ وَالْعَانَةِ، وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِالْحَلْقِ: الْعَمْدُ، وَالسَّهْوُ، وَالطَّوْعُ، وَالْكُرْهُ عِنْدَنَا وَالرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالْمُفْرِدُ، وَالْقَارِنُ غَيْرَ أَنَّ الْقَارِنَ يَلْزَمُهُ جَزَاءَانِ عِنْدَنَا لِكَوْنِهِ مُحْرِمًا بِإِحْرَامَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا قَلْمُ الظُّفْرِ فَنَقُولُ: لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَلْمُ أَظْفَارِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] وَقَلْمُ الْأَظْفَارِ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ، رَتَّبَ اللَّهُ تَعَالَى قَضَاءَ التَّفَثِ عَلَى الذَّبْحِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِكَلِمَةٍ مَوْضُوعَةٍ لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّرَاخِي بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] ، فَلَا يَجُوزُ الذَّبْحُ؛ وَلِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ، وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ عَنْ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ نَبَاتٍ اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَيَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لَهُ كَالنَّوْعِ الْآخَرِ، وَهُوَ النَّبَاتُ الَّذِي اسْتَفَادَ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ، فَإِنْ قَلَمَ أَظَافِيرَ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ فَتَكَامَلَتْ الْجِنَايَةُ فَتَجِبُ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ. وَإِنْ قَلَّمَ أَقَلَّ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِكُلِّ ظُفْرٍ نِصْفُ صَاعٍ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: " إذَا قَلَمَ ثَلَاثَةَ أَظْفَارٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ ثَلَاثَةَ أَظَافِيرَ مِنْ الْيَدِ أَكْثَرُهَا، وَالْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا فِي حَلْقِ الرَّأْسِ، وَلِأَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ: أَنَّ قَلْمَ مَا دُونَ الْيَدِ لَيْسَ بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ فَلَا يُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " الْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ " فَنَقُولُ: إنَّ الْيَدَ الْوَاحِدَةَ قَدْ أُقِيمَتْ مَقَامَ كُلِّ الْأَطْرَافِ فِي وُجُوبِ الدَّمِ، وَمَا أُقِيمَ مَقَامَ الْكُلِّ لَا يَقُومُ أَكْثَرُهُ مَقَامَهُ، كَمَا فِي الرَّأْسِ أَنَّهُ لَمَّا أُقِيمَ الرُّبُعُ فِيهِ مَقَامَ الْكُلِّ، لَا يُقَامُ أَكْثَرُ الرُّبُعِ مَقَامَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُقِيمَ أَكْثَرُ مَا أُقِيمَ مَقَامَ الْكُلِّ مَقَامَهُ؛ لَأُقِيمَ أَكْثَرُ أَكْثَرِهِ مَقَامَهُ فَيُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ التَّقْدِيرِ أَصْلًا وَرَأْسًا. وَهَذَا لَا يَجُوزُ. فَإِنْ قَلَمَ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مِنْ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ مُتَفَرِّقَةَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، لِكُلِّ ظُفْرٍ نِصْفُ صَاعٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ " دَمٌ "، وَكَذَلِكَ لَوْ قَلَمَ مِنْ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَرْبَعَةَ أَظَافِيرَ، فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ عِنْدَهُمَا، وَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ جُمْلَتُهَا سِتَّةَ عَشَرَ ظُفْرًا، وَيَجِبُ فِي كُلِّ ظُفْرٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، إلَّا إذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الطَّعَامِ دَمًا فَيُنْقِصَ مِنْهُ مَا شَاءَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ دَمٌ، فَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ عَدَدَ الْخَمْسَةِ لَا غَيْرُ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ التَّفَرُّقَ وَالِاجْتِمَاعَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَا مَعَ عَدَدِ الْخَمْسَةِ صِفَةَ الِاجْتِمَاعِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَحِلٍّ وَاحِدٍ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ قَلْمَ أَظَافِيرِ يَدٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ إنَّمَا أَوْجَبَ الدَّمَ لِكَوْنِهَا رُبُعَ الْأَعْضَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَوِي فِيهِ الْمُجْتَمِعُ وَالْمُتَفَرِّقُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْأَرْشِ بِأَنْ قَطَعَ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مُتَفَرِّقَةٍ فَكَذَا هَذَا، وَلَهُمَا أَنَّ الدَّمَ إنَّمَا يَجِبُ بِارْتِفَاقٍ كَامِلٍ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْقَلْمِ مُتَفَرِّقًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَيْنٌ وَيَصِيرُ مُثْلَةً، فَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ، وَيَجِبُ فِي كُلِّ ظُفْرٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ إلَّا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَةَ الطَّعَامِ دَمًا يُنْقِصُ مِنْهُ مَا شَاءَ؛ لِأَنَّا إنَّمَا لَمْ نُوجِبْ عَلَيْهِ الدَّمَ لِعَدَمِ تَنَاهِي الْجِنَايَةِ لِعَدَمِ ارْتِفَاقٍ كَامِلٍ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يَبْلُغَ قِيمَةَ الدَّمِ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّمَ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَإِنْ قَلَمَ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يُكَفِّرْ، ثُمَّ قَلَمَ أَظَافِيرَ يَدِهِ الْأُخْرَى، أَوْ رِجْلِهِ الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ: أَنْ يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ دَمٌ لِمَا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ فَعَلَيْهِ دَمَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: " عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ مَا لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ " وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَلَمَ خَمْسَةَ أَظَافِيرَ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، وَحَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ، وَطَيَّبَ عُضْوًا وَاحِدًا أَنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ جِنْسٍ دَمًا عَلَى حِدَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَجْمَعُوا فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ عَلَى أَنَّهُ إذَا جَامَعَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَأَكَلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَشَرِبَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَنَّهُ إنْ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، فَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ جَعَلَا اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ كَاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَمُحَمَّدٌ جَعَلَ اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ كَاتِّحَادِهِ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَطَعَ أَظَافِيرَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ يَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ: أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ بِقَلْمِ أَظَافِيرِ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ يَدٍ

فصل من محظورات الإحرام ما يرجع إلى توابع الجماع

أَوْ رِجْلٍ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ. وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ الدَّمَ إنَّمَا يَجِبُ لِحُصُولِ الِارْتِفَاقِ الْكَامِلِ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ فَتَتَكَامَلُ الْكَفَّارَةُ، وَقَلْمُ أَظَافِيرِ كُلِّ عُضْوٍ ارْتِفَاقٌ عَلَى حِدَةٍ، فَيَسْتَدْعِي كَفَّارَةً عَلَى حِدَةٍ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ جِنْسَ الْجِنَايَةِ وَاحِدٌ حَظَرَهَا إحْرَامٌ وَاحِدٌ بِجِهَةٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمَةٍ، فَلَا يُوجِبُ إلَّا دَمًا وَاحِدًا، كَمَا فِي حَلْقِ الرَّأْسِ أَنَّهُ إذَا حَلَقَ الرُّبُعَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ. وَلَوْ حَلَقَ الْكُلَّ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ يَجِبُ لِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، سَوَاءٌ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ أَوْ لَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ لَمْ يُكَفِّرْ لِلْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِهَتْكِ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ، وَقَدْ انْهَتَكَ حُرْمَتُهُ بِقَلْمِ أَظَافِيرِ الْعُضْوِ الْأَوَّلِ، وَهَتْكُ الْمَهْتُوكِ لَا يُتَصَوَّرُ، فَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَلِهَذَا لَا يَجِبُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى بِالْإِفْطَارِ فِي يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِهَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ جَبْرًا لَهَا، وَقَدْ انْهَتَكَ بِإِفْسَادِ الصَّوْمِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ هَتْكًا بِالْإِفْسَادِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ انْجَبَرَ الْهَتْكُ بِالْكَفَّارَةِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَعَادَتْ حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا هَتَكَهَا تَجِبُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى جَبْرًا لَهَا كَمَا فِي كَفَّارَةِ رَمَضَانَ، وَلَهُمَا أَنَّ كَفَّارَةَ الْإِحْرَامِ تَجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ، وَالْإِحْرَامُ قَائِمٌ فَكَانَ كُلُّ فِعْلٍ جِنَايَةً عَلَى حِدَةٍ عَلَى الْإِحْرَامِ فَيَسْتَدْعِي كَفَّارَةً عَلَى حِدَةٍ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ جُعِلَتْ الْجِنَايَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ حَقِيقَةً مُتَّحِدَةً حُكْمًا؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ جُعِلَ فِي الشَّرْعِ جَامِعًا لِلْأَفْعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا فِي خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ، وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ أَعْطَى لِكُلِّ جِنَايَةٍ حُكْمَ نَفْسِهَا، فَيُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ؛ لِأَنَّهَا مَا وَجَبَتْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ بَلْ جَبْرًا لِهَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ. وَحُرْمَةُ الشَّهْرِ وَاحِدَةٌ لَا تَتَجَزَّأُ، وَقَدْ انْهَتَكَتْ حُرْمَتُهُ بِالْإِفْطَارِ الْأَوَّلِ، فَلَا يُحْتَمَلُ الْهَتْكُ ثَانِيًا. وَلَوْ قَلَمَ أَظَافِيرَ يَدٍ لِأَذًى فِي كَفِّهِ فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ شَاءَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا حَظَرَهُ الْإِحْرَامُ إذَا فَعَلَهُ الْمُحْرِمُ عَنْ ضَرُورَةٍ وَعُذْرٍ فَكَفَّارَتُهُ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ انْكَسَرَ ظُفْرُ الْمُحْرِمِ فَانْقَطَعَتْ مِنْهُ شَظِيَّةٌ فَقَلَعَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهَا كَالزَّائِدَةِ؛ وَلِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ احْتِمَالِ النَّمَاءِ فَأَشْبَهَتْ شَجَرَ الْحَرَمِ إذَا يَبِسَ فَقَطَعَهُ إنْسَانٌ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا، وَإِنْ قَلَمَ الْمُحْرِمُ أَظَافِيرَ حَلَالٍ أَوْ مُحْرِمٍ أَوْ قَلَمَ الْحَلَالُ أَظَافِيرَ مُحْرِمٍ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْحَلْقِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالذِّكْرُ، وَالنِّسْيَانُ، وَالطَّوْعُ وَالْكُرْهُ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ بِالْقَلْمِ سَوَاءٌ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَكَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ، إلَّا أَنَّ عَلَى الْقَارِنِ ضِعْفَ مَا عَلَى الْمُفْرِدِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ مَا يَرْجِعُ إلَى تَوَابِعِ الْجِمَاعِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى تَوَابِعِ الْجِمَاعِ فَيَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَنْ يَجْتَنِبَ الدَّوَاعِيَ مِنْ التَّقْبِيلِ، وَاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ، وَالْمُبَاشَرَةِ، وَالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: إنَّ الرَّفَثَ جَمِيعُ حَاجَاتِ الرِّجَالِ إلَى النِّسَاءِ. وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - عَمَّا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ مِنْ امْرَأَتِهِ؟ فَقَالَتْ: " يَحْرُمُ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْكَلَامَ " فَإِنْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، أَوْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ بِشَهْوَةٍ، أَوْ بَاشَرَ فَعَلَيْهِ دَمٌ، لَكِنْ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ، أَمَّا عَدَمُ فَسَادِ الْحَجِّ؛ فَلِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيظِ. وَأَمَّا وُجُوبُ الدَّمِ فَلِحُصُولِ ارْتِفَاقٍ كَامِلٍ مَقْصُودٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: إذَا بَاشَرَ الْمُحْرِمُ امْرَأَتَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَلَمْ يَرَوْ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ، وَسَوَاءٌ فَعَلَ ذَاكِرًا أَوْ نَاسِيًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. وَلَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ عَنْ شَهْوَةٍ فَأَمْنَى، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمَسِّ عَنْ شَهْوَةٍ أَنَّهُ يُوجِبُ الدَّمَ، أَمْنَى أَوْ لَمْ يُمْنِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ اللَّمْسَ اسْتِمْتَاعٌ بِالْمَرْأَةِ وَقَضَاءٌ لِلشَّهْوَةِ فَكَانَ ارْتِفَاقًا كَامِلًا. فَأَمَّا النَّظَرُ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الِاسْتِمْتَاعِ وَلَا قَضَاءِ الشَّهْوَةِ، بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِزَرْعِ الشَّهْوَةِ فِي الْقَلْبِ، وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَمَّا يَزْرَعُ الشَّهْوَةِ كَالْأَكْلِ، وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا لَمَسَ بِشَهْوَةٍ فَأَمْنَى فَعَلَيْهِ دَمٌ وَقَوْلُهُ: " أَمْنَى " لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ. [فَصْلٌ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ مَا يَرْجِعُ إلَى الصَّيْدِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى. الصَّيْدِ فَنَقُولُ: لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِصَيْدِ الْبَرِّ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ عِنْدَنَا إلَّا الْمُؤْذِيَ الْمُبْتَدِئَ بِالْأَذِي غَالِبًا. وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الصَّيْدِ أَنَّهُ مَا هُوَ؟ وَفِي بَيَانِ

فصل بيان أنواع الصيد

أَنْوَاعِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَحِلُّ اصْطِيَادُهُ لِلْمُحْرِمِ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ اصْطِيَادُهُ إذَا اصْطَادَهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالصَّيْدُ هُوَ الْمُمْتَنِعُ الْمُتَوَحِّشُ مِنْ النَّاسِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ إمَّا بِقَوَائِمِهِ، أَوْ بِجَنَاحِهِ، فَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ ذَبْحُ الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَيْدٍ لِعَدَمِ الِامْتِنَاعِ وَالتَّوَحُّشِ مِنْ النَّاسِ. وَكَذَا الدَّجَاجُ وَالْبَطُّ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَنَازِلِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْبَطِّ الْكَسْكَرِيِّ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الصَّيْدِ فِيهِمَا، وَهُوَ الِامْتِنَاعُ وَالتَّوَحُّشُ. فَأَمَّا الْبَطُّ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ النَّاسِ وَيَطِيرُ فَهُوَ صَيْدٌ لِوُجُودِ مَعْنَى الصَّيْدِ فِيهِ، وَالْحَمَامُ الْمُسَرْوِلُ صَيْدٌ وَفِيهِ الْجَزَاءُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ لَيْسَ بِصَيْدٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الصَّيْدَ اسْمٌ لِلْمُتَوَحِّشِ، وَالْحَمَامُ الْمُسَرْوِلِ مُسْتَأْنَسٌ، فَلَا يَكُونُ صَيْدًا كَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ الَّذِي يَكُونُ فِي الْمَنَازِلِ، وَلَنَا أَنَّ جِنْسَ الْحَمَامِ مُتَوَحِّشٌ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَإِنَّمَا يُسْتَأْنَسُ الْبَعْضُ مِنْهُ بِالتَّوَلُّدِ وَالتَّأْنِيسِ مَعَ بَقَائِهِ صَيْدًا كَالظَّبْيَةِ الْمُسْتَأْنَسَةِ، وَالنَّعَامَةِ الْمُسْتَأْنَسَةِ وَالطُّوطِيُّ وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى يَجِبَ فِيهِ الْجَزَاءُ. وَكَذَا الْمُسْتَأْنَسُ فِي الْخِلْقَةِ قَدْ يَصِيرُ مُسْتَوْحِشًا كَالْإِبِلِ، إذَا تَوَحَّشَتْ وَلَيْسَ لَهُ حُكْمُ الصَّيْدِ حَتَّى لَا يَجِبُ فِيهِ الْجَزَاءُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالتَّوَحُّشِ، وَالِاسْتِئْنَاسِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ. وَجِنْسُ الْحَمَامِ مُتَوَحِّشٌ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَإِنَّمَا يُسْتَأْنَسُ الْبَعْضُ مِنْهُ لِعَارِضٍ، فَكَانَ صَيْدًا بِخِلَافِ الْبَطِّ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ النَّاسِ فِي الْمَنَازِلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُتَوَحِّشِ، بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ، وَالْكَلْبُ لَيْسَ بِصَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَوَحِّشٍ بَلْ هُوَ مُسْتَأْنَسٌ، سَوَاءٌ كَانَ أَهْلِيًّا أَوْ وَحْشِيًّا؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ أَهْلِيٌّ فِي الْأَصْلِ، لَكِنْ رُبَّمَا يَتَوَحَّشُ لِعَارِضٍ فَأَشْبَهَ الْإِبِلَ إذَا تَوَحَّشَتْ. وَكَذَا السِّنَّوْرُ الْأَهْلِيُّ لَيْسَ بِصَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَأْنَسٌ. وَأَمَّا الْبَرِّيُّ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: رَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِيهِ الْجَزَاءَ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ كَالْأَهْلِيِّ. وَجْهُ رِوَايَةِ هِشَامٍ: أَنَّهُ مُتَوَحِّشٌ فَأَشْبَهَ الثَّعْلَبَ وَنَحْوَهُ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ: أَنَّ جِنْسَ السِّنَّوْرِ مُسْتَأْنَسٌ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَإِنَّمَا يَتَوَحَّشُ الْبَعْضُ مِنْهُ لِعَارِضٍ فَأَشْبَهَ الْبَعِيرَ إذَا تَوَحَّشَ، وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْبُرْغُوثِ، وَالْبَعُوضِ، وَالنَّمْلَةِ، وَالذِّئَابِ وَالْحَلَمِ، وَالْقُرَادِ، وَالزُّنْبُورِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَيْدٍ لِانْعِدَامِ التَّوَحُّشِ وَالِامْتِنَاعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَطْلُبُ الْإِنْسَانَ مَعَ امْتِنَاعِهِ مِنْهَا؟ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُقَرِّدُ بَعِيرَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ الْمُبْتَدِئَةِ بِالْأَذَى غَالِبًا، فَالْتَحَقَتْ بِالْمُؤْذِيَاتِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا مِنْ الْحَيَّةِ، وَالْعَقْرَبِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا يَقْتُلُ الْقَمْلَةَ لَا لِأَنَّهَا صَيْدٌ بَلْ لِمَا فِيهَا مِنْ إزَالَةِ التَّفَثِ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلَّدٌ مِنْ الْبَدَنِ كَالشَّعْرِ، وَالْمُحْرِمُ مَنْهِيٌّ عَنْ إزَالَةِ التَّفَثِ مِنْ بَدَنِهِ فَإِنْ قَتَلَهَا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَمَا لَوْ أَزَالَ شَعْرَةً، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِقْدَارَ الصَّدَقَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ قَمْلَةً أَوْ أَلْقَاهَا أَطْعَمَ كِسْرَةً، وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَطْعَمَ قَبْضَةً مِنْ الطَّعَامِ، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً أَطْعَمَ نِصْفَ صَاعٍ. وَكَذَا لَا يَقْتُلُ الْجَرَادَةَ؛ لِأَنَّهَا صَيْدُ الْبَرِّ أَمَّا كَوْنُهُ صَيْدًا فَلِأَنَّهُ مُتَوَحِّشٌ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَأَمَّا كَوْنُهُ صَيْدَ الْبَرِّ؛ فَلِأَنَّ تَوَالُدَهُ فِي الْبَرِّ، وَلِذَا لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْبَرِّ حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ يَمُوتُ فَإِنْ قَتَلَهَا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ الطَّعَامِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " ثَمَرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ " وَلَا بَأْسَ لَهُ بِقَتْلِ هَوَامِّ الْأَرْضِ مِنْ: الْفَأْرَةِ، وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ، وَالْخَنَافِسِ، وَالْجِعْلَانِ، وَأُمِّ حُبَيْنٍ، وَصَيَّاحِ اللَّيْلِ، وَالصَّرْصَرِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَيْدٍ، بَلْ مِنْ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ. وَكَذَا الْقُنْفُذُ وَابْنُ عِرْسٍ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْهَوَامِّ حَتَّى قَالَ أَبُو يُوسُفَ: " ابْنُ عِرْسٍ مِنْ سِبَاعِ الْهَوَامِّ "، وَالْهَوَامُّ لَيْسَتْ بِصَيْدٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَوَحَّشُ مِنْ النَّاسِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: " فِي الْقُنْفُذِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمُتَوَحِّشِ وَلَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى. [فَصْلٌ بَيَانُ أَنْوَاعِ الصَّيْدِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِهِ وَبَيَانُ مَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ اصْطِيَادُهُ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الصَّيْدُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: بَرِّيٌّ، وَبَحْرِيٌّ فَالْبَحْرِيُّ هُوَ الَّذِي تَوَالُدُهُ فِي الْبَحْرِ، سَوَاءٌ كَانَ لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْبَحْرِ، أَوْ يَعِيشُ فِي الْبَحْرِ وَالْبَرِّ، وَالْبَرِّيُّ مَا يَكُونُ تَوَالُدُهُ فِي الْبَرِّ، سَوَاءٌ كَانَ لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْبَرِّ أَوْ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَالْعِبْرَةُ لِلتَّوَالُدِ أَمَّا صَيْدُ الْبَحْرِ فَيَحِلُّ اصْطِيَادُهُ لِلْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ جَمِيعًا مَأْكُولًا كَانَ، أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] وَالْمُرَادُ مِنْهُ اصْطِيَادُ مَا فِي الْبَحْرِ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ مَصْدَرٌ يُقَالُ: صَادَ يَصِيدُ صَيْدًا، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَصِيدِ مَجَازٌ، وَالْكَلَامُ بِحَقِيقَتِهِ إبَاحَةُ اصْطِيَادِ مَا فِي الْبَحْرِ عَامًّا، وَأَمَّا صَيْدُ الْبَرِّ فَنَوْعَانِ: مَأْكُولٌ، وَغَيْرُ مَأْكُولٍ، أَمَّا الْمَأْكُولُ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ اصْطِيَادُهُ نَحْوَ: الظَّبْيِ، وَالْأَرْنَبِ، وَحِمَارِ الْوَحْشِ، وَبَقَرِ الْوَحْشِ، وَالطُّيُورِ الَّتِي

يُؤْكَلُ لُحُومُهَا بَرِّيَّةً كَانَتْ، أَوْ بَحْرِيَّةً؛ لِأَنَّ الطُّيُورَ كُلَّهَا بَرِّيَّةٌ؛ لِأَنَّ تَوَالُدَهَا فِي الْبَرِّ إنَّمَا يَدْخُلُ بَعْضُهَا فِي الْبَحْرِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] وقَوْله تَعَالَى {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] ظَاهِرُ الْآيَتَيْنِ: يَقْتَضِي تَحْرِيمَ صَيْدِ الْبَرِّ لِلْمُحْرِمِ عَامًّا، أَوْ مُطْلَقًا إلَّا مَا خُصَّ أَوْ قُيِّدَ بِدَلِيلٍ. وقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] وَالْمُرَادُ مِنْهُ: الِابْتِلَاءُ بِالنَّهْيِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الْآيَةِ {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94] أَيْ: اعْتَدَى بِالِاصْطِيَادِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ صَيْدُ الْبَرِّ؛ لِأَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ مُبَاحٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] وَكَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، وَالْإِشَارَةُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ، وَالدَّالُّ عَلَى الشَّرِّ كَفَاعِلِهِ» وَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ وَالْإِشَارَةَ سَبَبٌ إلَى الْقَتْلِ، وَتَحْرِيمُ الشَّيْءِ تَحْرِيمٌ لِأَسْبَابِهِ. وَكَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِعَانَةُ عَلَى قَتْلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِعَانَةَ فَوْقَ الدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ، وَتَحْرِيمُ الْأَدْنَى تَحْرِيمُ الْأَعْلَى مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى كَالتَّأْفِيفِ مَعَ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْكُولِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَكُونُ مُؤْذِيًا طَبْعًا مُبْتَدِئًا بِالْأَذَى غَالِبًا، وَنَوْعٌ لَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى غَالِبًا، أَمَّا الَّذِي يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى غَالِبًا فَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ نَحْوَ: الْأَسَدِ، وَالذِّئْبِ، وَالنَّمِرِ، وَالْفَهْدِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْأَذَى مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْأَذَى وَاجِبٌ فَضْلًا عَنْ الْإِبَاحَةِ، وَلِهَذَا أَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتْلَ الْخَمْسِ الْفَوَاسِقِ لِلْمُحْرِمِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ بِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ يَقْتُلهُنَّ الْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْغُرَابُ وَرُوِيَ وَالْحِدَأَةُ» وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «خَمْسٌ يَقْتُلهُنَّ الْمُحِلُّ وَالْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحِدَأَةُ، وَالْغُرَابُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ خَمْسِ فَوَاسِقَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحِدَأَةُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْغُرَابُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» وَعِلَّةُ الْإِبَاحَةِ فِيهَا هِيَ الِابْتِدَاءُ بِالْأَذَى وَالْعَدْوُ عَلَى النَّاسِ غَالِبًا فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ الْحِدَأَةِ أَنْ تُغِيرَ عَلَى اللَّحْمِ وَالْكَرِشِ، وَالْعَقْرَبُ تَقْصِدُ مَنْ تَلْدَغُهُ وَتَتْبَعُ حِسَّهُ وَكَذَا الْحَيَّةُ، وَالْغُرَابُ يَقَعُ عَلَى دُبُرِ الْبَعِيرِ وَصَاحِبُهُ قَرِيبٌ مِنْهُ، وَالْفَأْرَةُ تَسْرِقُ أَمْوَالَ النَّاسِ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ مِنْ شَأْنِهِ الْعَدْوُ عَلَى النَّاسِ وَعَقْرِهِمْ ابْتِدَاءً مِنْ حَيْثُ الْغَالِبِ، وَلَا يَكَادُ يَهْرَبُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْأَسَدِ، وَالذِّئْبِ وَالْفَهْدِ، وَالنَّمِرِ فَكَانَ وُرُودُ النَّصِّ فِي تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وُرُودًا فِي هَذِهِ دَلَالَةً قَالَ أَبُو يُوسُفَ: " الْغُرَابُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ الْغُرَابُ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ، أَوْ يَخْلِطُ مَعَ الْجِيَفِ إذْ هَذَا النَّوْعُ هُوَ الَّذِي يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى " وَالْعَقْعَقُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ وَلَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى. وَأَمَّا الَّذِي لَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى غَالِبًا كَالضَّبُعِ، وَالثَّعْلَبِ وَغَيْرِهِمَا فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ إنْ عَدَا عَلَيْهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا قَتَلَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ: " يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ " وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الْمُحَرِّمَ لِلْقَتْلِ قَائِمٌ وَهُوَ الْإِحْرَامُ فَلَوْ سَقَطَتْ الْحُرْمَةُ إنَّمَا تَسْقُطُ بِفِعْلِهِ. وَفِعْلُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ فَبَقِيَ مُحَرِّمُ الْقَتْلِ كَمَا كَانَ، كَالْجَمَلِ الصَّئُولِ إذَا قَتَلَهُ إنْسَانٌ أَنَّهُ يَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا عَدَا عَلَيْهِ وَابْتَدَأَهُ بِالْأَذَى الْتَحَقَ بِالْمُؤْذِيَاتِ طَبْعًا فَسَقَطَتْ عِصْمَتُهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ ابْتَدَأَ قَتْلَ ضَبُعٍ فَأَدَّى جَزَاءَهَا وَقَالَ: " إنَّا ابْتَدَأْنَاهَا " فَتَعْلِيلُهُ بِابْتِدَائِهِ قَتْلَهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهَا لَوْ ابْتَدَأَتْ لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ، وَقَوْلُهُ " الْإِحْرَامُ قَائِمٌ " مُسَلَّمٌ لَكِنَّ أَثَرَهُ فِي أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِلصَّيْدِ لَا فِي وُجُوبِ تَحَمُّلِ الْأَذَى بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ الْأَذَى؛ لِأَنَّهُ مِنْ صِيَانَةِ نَفْسِهِ عَنْ الْهَلَاكِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ، فَسَقَطَتْ عِصْمَتُهُ فِي حَالِ الْأَذَى، فَلَمْ يَجِبْ الْجَزَاءُ بِخِلَافِ الْجَمَلِ الصَّائِلِ؛ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ ثَبَتَتْ حَقًّا لِمَالِكِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُسْقِطُ الْعِصْمَةَ فَيَضْمَنُ الْقَاتِلُ، وَإِنْ لَمْ يَعْدُ عَلَيْهِ لَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَهُ بِالْقَتْلِ، وَإِنْ قَتَلَهُ ابْتِدَاءً فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ " يُبَاحُ لَهُ قَتْلُهُ ابْتِدَاءً وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ إذَا قَتَلَهُ " وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَاحَ لِلْمُحْرِمِ قَتْلَ خَمْسٍ مِنْ الدَّوَابِّ، وَهِيَ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا وَالضَّبُعُ وَالثَّعْلَبُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَكَانَ وُرُودُ النَّصِّ هُنَاكَ وُرُودًا هَهُنَا، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] وَقَوْلُهُ {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] وَقَوْلُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] عَامًّا أَوْ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِهِ، وَاسْمُ الصَّيْدِ يَقَعُ عَلَى الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ لِوُجُودِ حَدِّ الصَّيْدِ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

فصل بيان حكم ما يحرم على المحرم

صَيْدُ الْمُلُوكِ أَرَانِبُ وَثَعَالِبُ ... وَإِذَا رَكِبْتُ فَصَيْدِي الْأَبْطَالُ أَطْلَقَ اسْمَ الصَّيْدِ عَلَى الثَّعْلَبِ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهَا الصَّيْدَ الْعَادِيَ الْمُبْتَدِئَ بِالْأَذَى غَالِبًا، أَوْ قُيِّدَتْ بِدَلِيلٍ فَمَنْ ادَّعَى تَخْصِيصَ غَيْرِهِ، أَوْ التَّقْيِيدَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ شَاةٌ إذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ» ، وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " أَنَّهُمَا أَوْجَبَا فِي قَتْلِ الْمُحْرِمِ الضَّبُعَ جَزَاءً " وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي الضَّبُعِ إذَا عَدَا عَلَى الْمُحْرِمِ: فَلْيَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْدُوَ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ مُسِنَّةٌ وَلَا حُجَّةَ لِلشَّافِعِيِّ فِي حَدِيثِ الْخَمْسِ الْفَوَاسِقِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ إبَاحَةَ قَتْلِهِنَّ لِأَجْلِ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا، بَلْ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ عِلَّةَ الْإِبَاحَةِ فِيهَا الِابْتِدَاءُ بِالْأَذَى غَالِبًا، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الضَّبُعِ وَالثَّعْلَبِ، بَلْ مِنْ عَادَتِهِمَا الْهَرَبُ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَا يُؤْذِيَانِ أَحَدًا حَتَّى يَبْتَدِئَهُمَا بِالْأَذَى، فَلَمْ تُوجَدْ عِلَّةُ الْإِبَاحَةِ فِيهِمَا فَلَمْ تَثْبُتْ الْإِبَاحَةُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ: الضَّبُّ، وَالْيَرْبُوعُ، وَالسَّمُّورُ، وَالدُّلَّف، وَالْقِرْدُ وَالْفِيلُ، وَالْخِنْزِيرُ؛ لِأَنَّهَا صَيْدٌ لِوُجُودِ مَعْنَى الصَّيْدِ فِيهَا، وَهُوَ الِامْتِنَاعُ وَالتَّوَحُّشُ وَلَا تَبْتَدِئُ بِالْأَذَى غَالِبًا فَتَدْخُلُ تَحْتَ مَا تَلَوْنَا مِنْ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: فِي الْخِنْزِيرِ " أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ فِيهِ " لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «بُعِثْت بِكَسْرِ الْمَعَازِفِ، وَقَتْلِ الْخَنَازِيرِ» نَدَبَنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى قَتْلِهِ. وَالنَّدْبُ فَوْقَ الْإِبَاحَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَزَاءُ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ حَالِ الْإِحْرَامِ أَوْ عَلَى حَالِ الْعَدْوِ وَالِابْتِدَاءِ بِالْأَذَى، حَمْلًا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ سِبَاعُ الطَّيْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ حُكْمِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ اصْطِيَادُهُ إذَا اصْطَادَهُ فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ، وَإِمَّا أَنْ جَرَحَهُ، وَإِمَّا أَنْ أَخَذَهُ فَلَمْ يَقْتُلْهُ وَلَمْ يَجْرَحْهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ فَالْقَتْلُ لَا يَخْلُو، إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاشَرَةً، أَوْ تَسَيُّبًا، فَإِنْ كَانَ مُبَاشَرَةً فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ يُقَوِّمُهُ ذَوَا عَدْلٍ لَهُمَا بَصَارَةٌ بِقِيمَةِ الصَّيُودِ فَيُقَوِّمَانِهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهُ إنْ كَانَ مَوْضِعًا تُبَاعُ فِيهِ الصَّيُودُ، وَإِنْ كَانَ فِي مَفَازَةٍ يُقَوِّمَانِهِ فِي أَقْرَبِ الْأَمَاكِنِ مِنْ الْعُمْرَانِ إلَيْهِ، فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ ثَمَنَ هَدْيٍ، فَالْقَاتِلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَهْدَى، وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ قِيمَتُهُ ثَمَنَ هَدْيٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّيْدُ مِمَّا لَهُ نَظِيرٌ، أَوْ كَانَ مِمَّا لَا نَظِيرَ لَهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الْخِيَارَ لِلْحَكَمَيْنِ إنْ شَاءَا حَكَمَا عَلَيْهِ هَدْيًا، وَإِنْ شَاءَا طَعَامًا، وَإِنْ شَاءَا صِيَامًا، فَإِنْ حَكَمَا عَلَيْهِ هَدْيًا نَظَرَ الْقَاتِلُ إلَى نَظِيرِهِ مِنْ النَّعَمِ مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ وَالصُّورَةُ إنْ كَانَ الصَّيْدُ مِمَّا لَهُ نَظِيرٌ، سَوَاءٌ كَانَ قِيمَةُ نَظِيرِهِ مِثْلَ قِيمَتِهِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ لَا يُنْظَرُ إلَى الْقِيمَةِ، بَلْ إلَى الصُّورَةِ وَالْهَيْئَةِ، فَيَجِبُ فِي الظَّبْيِ شَاةٌ وَفِي الضَّبُعِ شَاةٌ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ، وَفِي النَّعَامَةِ بَعِيرٌ وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفَرَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِيرٌ مِمَّا فِي ذَبْحِهِ قُرْبَةٌ كَالْحَمَامِ، وَالْعُصْفُورِ، وَسَائِرِ الطُّيُورِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَحَكَى الْكَرْخِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ: إنَّ الْخِيَارَ لِلْقَاتِلِ عِنْدَهُ أَيْضًا غَيْرَ أَنَّهُ إنْ اخْتَارَ الْهَدْيَ لَا يَجُوزُ لَهُ إلَّا إخْرَاجُ النَّظِيرِ فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ عَلَيْهِ بِقَتْلِ مَا لَهُ نَظِيرُ النَّظِيرِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ أَحَدٍ، وَلَهُ أَنْ يُطْعِمَ، وَيَكُونُ الْإِطْعَامُ بَدَلًا عَنْ النَّظِيرِ لَا عَنْ الصَّيْدِ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي مُوجِبِ قَتْلِ صَيْدٍ لَهُ نَظِيرٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ قِيمَتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَلَا يَجِبُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] أَيْ: فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ، أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْقَاتِلِ جَزَاءً مِثْلَ مَا قَتَلَ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنْ الْمِثْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: " الْمُرَادُ مِنْهُ الْمِثْلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ الْقِيمَةُ " وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: " الْمُرَادُ مِنْهُ الْمِثْلُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْهَيْئَةُ " وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ جَزَاءً مِنْ النَّعَمِ، وَهُوَ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمِثْلَ ثُمَّ فَسَّرَهُ بِالنَّعَمِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ النَّعَمِ، وَمِنْ هَهُنَا لِتَمْيِيزِ الْجِنْسِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِنْ النَّعَمِ، وَهُوَ مِثْلُ الْمَقْتُولِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ فِي الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْهُمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْجَبُوا فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةً، وَفِي الظَّبْيَةِ شَاةً، وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقًا،، وَهُمْ كَانُوا أَعْرَفَ بِمَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ وُجُوهٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَوَّلُهَا: أَنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَهَى الْمُحْرِمِينَ عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ عَامًّا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى

ذَكَرَ الصَّيْدَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ خُصُوصًا عِنْدَ عَدَمِ الْمَعْهُودِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} [المائدة: 95] وَالْهَاءُ كِنَايَةٌ رَاجِعَةٌ إلَى الصَّيْدِ الْمُوجَدِ مِنْ اللَّفْظِ الْمُعَرَّفِ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ، فَقَدْ أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَتْلِ الصَّيْدِ مِثْلًا يَعُمُّ مَا لَهُ نَظِيرٌ وَمَا لَا نَظِيرَ لَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْمِثْلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْقِيمَةُ لَا الْمِثْلُ مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ وَالصُّورَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ فِي صَيْدٍ لَا نَظِيرَ لَهُ، بَلْ الْوَاجِبُ فِيهِ الْمِثْلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ الْقِيمَةُ بِلَا خِلَافٍ، فَكَانَ صَرْفُ الْمِثْلِ الْمَذْكُورِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْعُمُومِ إلَيْهِ تَخْصِيصًا لِبَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ عُمُومُ الْآيَةِ، وَالْعَمَلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَالثَّانِي أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْمِثْلِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا عُرِفَ مِثْلًا فِي أُصُولِ الشَّرْعِ، وَالْمِثْلُ الْمُتَعَارَفُ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ، هُوَ الْمِثْلُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْمَعْنَى، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ الْقِيمَةُ كَمَا فِي ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ، فَإِنَّ مَنْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرَ حِنْطَةً يَلْزَمُهُ حِنْطَةٌ. وَمَنْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ عَرْضًا تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ. فَأَمَّا الْمِثْلُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْهَيْئَةُ فَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ لَا إلَى غَيْرِهِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ الْمِثْلَ مُنَكَّرًا فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ فَيَتَنَاوَلُ وَاحِدًا، وَأَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَقَعُ عَلَى الْمِثْلِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَيَقَعُ عَلَى الْمِثْلِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ، فَالْمِثْلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى يُرَادُ مِنْ الْآيَةِ فِيمَا لَا نَظِيرَ لَهُ، فَلَا يَكُونُ الْآخَرُ مُرَادًا إذْ الْمُشْتَرَكُ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ لَا عُمُومَ لَهُ، وَالرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ عَدَالَةَ الْحَكَمَيْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَدَالَةَ إنَّمَا تُشْتَرَطُ فِيمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ، وَذَلِكَ فِي الْمِثْلِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّ بِهَا تَتَحَقَّقُ الصِّيَانَةُ عَنْ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ، وَتَقْرِيرِ الْأَمْرِ عَلَى الْوَسَطِ. فَأَمَّا الصُّورَةُ فَمُشَابَهَةٌ لَا تَفْتَقِرُ إلَى الْعَدَالَةِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] خَرَجَ تَفْسِيرًا لِلْمِثْلِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} [المائدة: 95] كَلَامٌ تَامٌّ بِنَفْسِهِ مُفِيدٌ بِذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ وَصْلِهِ بِغَيْرِهِ لِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، وَقَوْلُهُ {مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّفْسِيرِ لِلْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يُرْجَعُ إلَى الْحَكَمَيْنِ فِي تَقْوِيمِ الصَّيْدِ الْمُتْلَفِ يُرْجَعُ إلَيْهِمَا فِي تَقْوِيمِ الْهَدْيِ الَّذِي يُوجَدُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْقِيمَةِ، فَلَا يُجْعَلُ قَوْلُهُ: {مِثْلُ مَا قَتَلَ} [المائدة: 95] مَرْبُوطًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] مَعَ اسْتِغْنَاءِ الْكَلَامِ عَنْهُ. هَذَا هُوَ الْأَصْلُ إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلٌ زَائِدٌ يُوجِبُ الرَّبْطَ بِغَيْرِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَصَلَ قَوْلَهُ {مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] بِقَوْلِهِ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95] ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] جَعَلَ الْجَزَاءَ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ حَرْفَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ، وَبَيْنَ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ {مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] تَفْسِيرًا لِلْمِثْلِ، لَكَانَ الطَّعَامُ وَالصِّيَامُ مِثْلًا لِدُخُولِ حَرْفِ أَوْ بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَ النَّعَمِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الذِّكْرِ، بِأَنْ قَالَ تَعَالَى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ طَعَامًا، أَوْ صِيَامًا أَوْ مِنْ النَّعَمِ هَدْيًا؛ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ فِي التِّلَاوَةِ، لَا يُوجِبُ التَّقْدِيمَ فِي الْمَعْنَى، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الطَّعَامُ وَالصِّيَامُ مِثْلًا لِلْمَقْتُولِ دَلَّ أَنَّ ذِكْرَ النَّعَمِ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ التَّفْسِيرِ لِلْمِثْلِ، بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ مَوْصُولِ الْمُرَادِ بِالْأَوَّلِ، وَقَوْلُ جَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَحْمُولٌ عَلَى الْإِيجَابِ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ مَعَ مَا، إنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، فَلَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي اعْتِبَارُ مَكَانِ الْإِصَابَةِ فِي التَّقْوِيمِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْقَاتِلِ الْقِيمَةُ وَأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَالشَّافِعِيِّ الْوَاجِبُ: هُوَ النَّظِيرُ إمَّا بِحُكْمِ الْحَكَمَيْنِ أَوْ ابْتِدَاءً، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَكَانُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " يُقَوَّمُ بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى وَإِنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي قِيَمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ مَوَاضِعُ الِاسْتِهْلَاكِ، كَمَا فِي اسْتِهْلَاكِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَمِنْهَا أَنَّ الطَّعَامَ بَدَلٌ عَنْ الصَّيْدِ عِنْدَنَا، فَيُقَوِّمُ الصَّيْدَ بِالدَّرَاهِمِ وَيَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ طَعَامًا، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ الطَّعَامَ بَدَلٌ عَنْ الْهَدْيِ فَيُقَوِّمُ الْهَدْيَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ يَشْتَرِي بِقِيمَةِ الْهَدْيِ طَعَامًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ جَزَاءَ الصَّيْدِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] إلَى قَوْلِهِ {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95] فَلَمَّا كَانَ الْهَدْيُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ جَزَاءً مُعْتَبَرًا بِالصَّيْدِ إمَّا فِي قِيمَتِهِ أَوْ نَظِيرِهِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ، كَانَ الطَّعَامُ مِثْلَهُ؛ وَلِأَنَّ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ النَّعَمِ اعْتِبَارَ الطَّعَامِ بِقِيمَةِ الصَّيْدِ

بِلَا خِلَافٍ، فَكَذَا فِيمَا لَهُ مِثْلٌ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ مُنْتَظِمَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. وَمِنْهَا أَنَّ كَفَّارَةَ جَزَاءِ الصَّيْدِ عَلَى التَّخْيِيرِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِثْلَ: عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ عَلَى تَرْتِيبِ الْهَدْيِ، ثُمَّ الْإِطْعَامِ، ثُمَّ الصِّيَامِ حَتَّى لَوْ وُجِدَ الْهَدْيُ لَا يَجُوزُ الطَّعَامُ. وَلَوْ وُجِدَ الْهَدْيُ، أَوْ الطَّعَامُ لَا يَجُوزُ الصِّيَامُ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ دُونَ التَّخْيِيرِ. وَاحْتَجَّ مَنْ اعْتَبَرَ التَّرْتِيبَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حَكَمُوا فِي الضَّبُعِ بِشَاةٍ، وَلَمْ يَذْكُرُوا غَيْرَهُ، فَدَلَّ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ حَرْفَ أَوْ فِي ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ، وَحَرْفُ أَوْ إذَا ذُكِرَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ يُرَادُ بِهِ التَّخْيِيرُ لَا التَّرْتِيبُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] وقَوْله تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وَغَيْرُ ذَلِكَ، هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ، إلَّا فِي مَوْضِعٍ قَامَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِهَا كَمَا فِي آيَةِ الْمُحَارِبِينَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهَا أَوْ عَلَى إرَادَةِ الْوَاوِ، مَنْ ادَّعَى خِلَافَ الْحَقِيقَةِ هَهُنَا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ ثُمَّ إذَا اخْتَارَ الْهَدْيَ فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَةُ الصَّيْدِ بَدَنَةً نَحَرَهَا، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ بَدَنَةً وَبَلَغَتْ بَقَرَةً ذَبَحَهَا، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ بَقَرَةً وَبَلَغَتْ شَاةً ذَبَحَهَا، وَإِنْ اشْتَرَى بِقِيمَةِ الصَّيْدِ إذَا بَلَغَتْ بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً سَبْعَ شِيَاهٍ وَذَبَحَهَا أَجْزَأَهُ، فَإِنْ اخْتَارَ شِرَاءَ الْهَدْيِ وَفَضَلَ مِنْ قِيمَةِ الصَّيْدِ، فَإِنْ بَلَغَ هَدْيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ اشْتَرَى، وَإِنْ كَانَ لَا يَبْلُغُ هَدْيًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ صَرَفَ الْفَاضِلَ إلَى الطَّعَامِ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ كَمَا فِي صَيْدِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ هَدْيًا، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي السِّنِّ الَّذِي يَجُوزُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: " لَا يَجُوزُ إلَّا مَا يَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَهَدْيِ الْمُتْعَةِ، وَالْقِرَانِ وَالْإِحْصَارِ " وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: " تَجُوزُ الْجَفَرَةُ وَالْعَنَاقُ عَلَى قَدْرِ الصَّيْدِ " وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا فِي الْيَرْبُوعِ جَفَرَةً، وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ إطْلَاقَ الْهَدْيِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ سَائِرُ الْهَدَايَا الْمُطْلَقَةِ فِي الْقُرْآنِ، فَلَا يَجُوزُ دُونَ السِّنِّ الَّذِي يُجْزِي فِي سَائِرِ الْهَدَايَا، وَمَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ حِكَايَةُ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهُ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْقِيمَةِ، عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُخَالِفُهُمْ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ دَلِيلِ التَّرْجِيحِ، ثُمَّ اسْمُ الْهَدْيِ يَقَعُ عَلَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدْيِ إلَّا فِي الْحَرَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وَلَوْ جَازَ ذَبْحُهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ بُلُوغِهِ الْكَعْبَةَ مَعْنًى. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ بُلُوغَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ بَلْ بُلُوغَ قُرْبِهَا، وَهُوَ الْحَرَمُ، وَدَلَّتْ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَمُرُّ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَمَرَّ بِقُرْبِ بَابِهِ حَنِثَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْحَرَمُ؛ لِأَنَّهُمْ مُنِعُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ دُخُولِ الْحَرَمِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْحَرَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ؛ وَلِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى مَكَانِ الْهَدَايَا أَيْ: يُنْقَلُ إلَيْهَا. وَمَكَانُ الْهَدَايَا الْحَرَمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْحَرَمُ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ» وَلَوْ ذَبَحَ فِي الْحِلِّ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْجَزَاءُ بِالذَّبْحِ إلَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، عَلَى كُلِّ فَقِيرٍ قِيمَةُ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ فَيُجْزِئَهُ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ عَنْ الطَّعَامِ، وَإِذَا ذَبَحَ الْهَدْيَ فِي الْحَرَمِ سَقَطَ الْجَزَاءُ عَنْهُ بِنَفْسِ الذَّبْحِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ أَوْ سُرِقَ أَوْ ضَاعَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ إرَاقَةُ الدَّمِ، وَإِنْ اخْتَارَ الطَّعَامَ اشْتَرَى بِقِيمَةِ الصَّيْدِ طَعَامًا فَأَطْعَمَ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَلَا يُجْزِيهِ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى، وَيَجُوزُ الْإِطْعَامُ فِي الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْحَرَمِ، كَمَا لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ إلَّا فِي الْحَرَمِ تَوْسِعَةً عَلَى أَهْلِ الْحَرَمِ، وَلَنَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95] مُطْلَقٌ عَنْ الْمَكَانِ وَقِيَاسُ الطَّعَامِ عَلَى الذَّبْحِ بِمَعْنَى التَّوْسِعَةِ عَلَى أَهْلِ الْحَرَمِ قَدْ أَبْطَلْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ؛ وَلِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَمْ تُعْقَلْ قُرْبَةً بِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا عُرِفَتْ قُرْبَةً بِالشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهَا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ أَوْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، فَيَتْبَعُ مَوْرِدَ الشَّرْعِ فَيَتَقَيَّدُ كَوْنُهَا قُرْبَةً بِالْمَكَانِ الَّذِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِكَوْنِهَا قُرْبَةً فِيهِ وَهُوَ الْحَرَمُ فَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَيُعْقَلُ قُرْبَةً بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ إلَى الْمُحْتَاجِينَ فَلَا يَتَقَيَّدُ كَوْنُهُ قُرْبَةً بِمَكَانٍ، كَمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِزَمَانٍ، وَتَجُوزُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ وَالتَّمْلِيكُ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ. وَلَا

يَجُوزُ لِلْقَاتِلِ أَنْ يَأْكُلَ شَيْئًا مِنْ لَحْمِ الْهَدْيِ. وَلَوْ أَكَلَ شَيْئًا مِنْهُ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ، وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهُ وَدَفْعُ الطَّعَامِ إلَى وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَلَا إلَى وَالِدِهِ وَوَالِدِ وَالِدِهِ وَإِنْ عَلَوْا، كَمَا لَا تَجُوزُ الزَّكَاةُ، وَيَجُوزُ دَفْعُهُ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَالصَّدَقَةِ الْمَنْذُورِ بِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ اخْتَارَ الصِّيَامَ اشْتَرَى بِقِيمَةِ الصَّيْدِ طَعَامًا وَصَامَ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ يَوْمًا عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِثْلَ: إبْرَاهِيمَ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصُومُ لِكُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: " يَصُومُ عَنْ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا " وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ، فَتَعَيَّنَ السَّمَاعُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ فَضَلَ مِنْ الطَّعَامِ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْهُ يَوْمًا؛ لِأَنَّ صَوْمَ بَعْضِ يَوْمٍ لَا يَجُوزُ، وَيَجُوزُ الصَّوْمُ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا بِلَا خِلَافٍ، وَيَجُوزُ مُتَتَابِعًا وَمُتَفَرِّقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] مُطْلَقًا عَنْ الْمَكَانِ وَصِفَةِ التَّتَابُعِ وَالتَّفَرُّقِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الصَّيْدُ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ عِنْدَنَا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُحْرِمًا، وَالِاصْطِيَادُ عَلَى الْمُحْرِمِ كَالضَّبُعِ، وَالثَّعْلَبِ، وَسِبَاعِ الطَّيْرِ، وَيُنْظَرُ إلَى قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُجَاوِزُ بِهِ دَمًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ دَمًا بَلْ يَنْقُصُ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، فَإِنَّهُ تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ هَدْيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ. وَقَالَ زُفَرُ: " تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ كَمَا فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ " وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ هَذَا الْمَصِيدَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ، وَالْمَضْمُونُ بِالْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ كَمَالُ قِيمَتِهِ كَالْمَأْكُولِ، وَلَنَا أَنَّ هَذَا الْمَضْمُونَ إنَّمَا يَجِبُ بِقَتْلِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَيْدٌ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَيْدٌ لَا تَزِيدُ قِيمَةُ لَحْمِهِ عَلَى لَحْمِ الشَّاةِ بِحَالٍ، بَلْ لَحْمُ الشَّاةِ يَكُونُ خَيْرًا مِنْهُ بِكَثِيرٍ، فَلَا يُجَاوِزُ بِهِ دَمًا، بَلْ يَنْقُصُ مِنْهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ؛ وَلِأَنَّهُ جَزَاءٌ وَجَبَ بِإِتْلَافِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، فَلَا يُجَاوِزُ بِهِ دَمًا كَحَلْقِ الشَّعْرِ وَقَصِّ الْأَظْفَارِ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ زُفَرُ. وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ الْمُبْتَدِئُ وَالْعَائِدُ وَهُوَ أَنْ يَقْتُلَ صَيْدًا ثُمَّ يَعُودَ وَيَقْتُلَ آخَرَ وَثُمَّ إنَّهُ يَجِبُ لِكُلِّ صَيْدٍ جَزَاءٌ عَلَى حِدَةٍ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ عَلَى الْعَائِدِ، وَهُوَ قَوْلُ: الْحَسَنِ، وَشُرَيْحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] جَعَلَ جَزَاءَ الْعَائِدِ الِانْتِقَامَ فِي الْآخِرَةِ فَتَنْتَفِي الْكَفَّارَةُ فِي الدُّنْيَا، وَلَنَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] يَتَنَاوَلُ الْقَتْلَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، فَيَقْتَضِي وُجُوبَ الْجَزَاءِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] فَفِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْتَقِمُ مِنْ الْعَائِدِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنْ يَنْتَقِمَ مِنْهُ بِمَاذَا؟ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَنْتَقِمُ مِنْهُ بِالْكَفَّارَةِ، كَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ بِالْكَفَّارَةِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ بِالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ فِي الْآخِرَةِ لَا يَنْفِي وُجُوبَ الْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ حَدَّ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ جَزَاءً لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] الْآيَةَ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي آخِرِهَا {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] وَمِنْهُمْ مَنْ صَرَفَ تَأْوِيلَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إلَى اسْتِحْلَالِ الصَّيْدِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} [المائدة: 95] فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ اسْتِحْلَالِهِمْ الصَّيْدَ إذَا تَابَ وَرَجَعَ، عَمَّا اسْتَحَلَّ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ، وَمَنْ عَادَ إلَى الِاسْتِحْلَالِ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ بِالنَّارِ فِي الْآخِرَةِ. وَبِهِ نَقُولُ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ قَتْلُ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَى وَجْهِ الرَّفْضِ وَالْإِحْلَالِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الرَّفْضِ وَالْإِحْلَالِ لِإِحْرَامِهِ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمٌ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ لَيْسَ إلَّا نِيَّةَ الرَّفْضِ وَنِيَّةُ الرَّفْضِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ، لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ حَلَالًا بِذَلِكَ فَكَانَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَقَالُوا لَا يَجِبُ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ وَقَعَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَأَشْبَهَ الْإِيلَاجَاتِ فِي الْجِمَاعِ. وَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ وَالذِّكْرُ وَالنِّسْيَانُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَى الْخَاطِئِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: (لَا كَفَّارَةَ عَلَى الْخَاطِئِ وَالنَّاسِي) وَالْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً وَابْتِدَاءً. أَمَّا الْبِنَاءُ فَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ

بِارْتِكَابِ مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ زَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ فِعْلَ الْخَاطِئِ وَالنَّاسِي لَا يُوصَفُ بِالْجِنَايَةِ وَالْحَظْرِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَكَانَ عُذْرًا، وَقُلْنَا نَحْنُ: إنَّ فِعْلَ الْخَاطِئِ وَالنَّاسِي جِنَايَةٌ وَحَرَامٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا جَائِزُ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ عَقْلًا، وَإِنَّمَا رُفِعَتْ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهِ شَرْعًا مَعَ بَقَاءِ وَصْفِ الْحَظْرِ وَالْحُرْمَةِ فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ. وَكَذَا التَّحَرُّزُ عَنْهُمَا مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ إذْ لَا يَقَعُ الْإِنْسَانُ فِي الْخَطَأِ وَالسَّهْوِ إلَّا لِنَوْعِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ فَلَمْ يَكُنْ عُذْرًا مِنْهُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُعْذَرْ النَّاسِي فِي بَابِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَكَانَ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ حَرَجٌ، وَلَا يَغْلِبُ فِي بَابِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْإِحْرَامِ مُذَّكِّرَةٌ فَكَانَ النِّسْيَانُ مَعَهَا نَادِرًا عَلَى أَنَّ الْعُذْرَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْجَزَاءِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ لِمَرَضٍ أَوْ أَذًى بِالرَّأْسِ. وَكَذَا فَوَاتُ الْحَجِّ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ لِلْعُذْرِ وَعَدَمِ الْعُذْرِ، وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] خَصَّ الْمُتَعَمِّدَ بِإِيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ، فَلَوْ شَارَكَهُ الْخَاطِئُ وَالنَّاسِي فِي الْوُجُوبِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ مَعْنًى، وَلَنَا وُجُوهٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَمْدِ، أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَفَّارَاتِ وَجَبَتْ رَافِعَةً لِلْجِنَايَةِ؛ وَلِهَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى كَفَّارَةً بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95] وَقَدْ وُجِدَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْإِحْرَامِ فِي الْخَطَأِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَمَّى الْكَفَّارَةَ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ تَوْبَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ {تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 92] وَلَا تَوْبَةَ إلَّا مِنْ الْجِنَايَةِ، وَالْحَاجَةُ إلَى رَفْعِ الْجِنَايَةِ مَوْجُودَةٌ، وَالْكَفَّارَةُ صَالِحَةٌ لِرَفْعِهَا؛ لِأَنَّهَا تَرْفَعُ أَعْلَى الْجِنَايَتَيْنِ وَهِيَ الْعَمْدُ وَمَا صَلَحَ رَافِعًا لِأَعْلَى الذَّنْبَيْنِ يَصْلُحُ رَافِعًا لِأَدْنَاهُمَا بِخِلَافِ قَتْلِ الْآدَمِيِّ عَمْدًا أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَنَا وَالْخَطَأُ يُوجِبُ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ هُنَاكَ وَجَبَ، وَرُدَّ بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِي الْخَطَأِ وَذَنْبِ الْخَطَأِ دُونَ ذَنْبِ الْعَمْدِ، وَمَا يَصْلُحُ لِرَفْعِ الْأَدْنَى لَا يَصْلُحُ لِرَفْعِ الْأَعْلَى فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ؛ لِانْعِدَامِ طَرِيقِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُحْرِمَ بِالْإِحْرَامِ أَمَّنَ الصَّيْدَ عَنْ التَّعَرُّضِ، وَالْتَزَمَ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُ فَصَارَ الصَّيْدُ كَالْأَمَانَةِ عِنْدَهُ، وَكُلُّ ذِي أَمَانَةٍ إذَا أَتْلَفَ الْأَمَانَةَ يَلْزَمُهُ الْغُرْمُ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً بِخِلَافِ قَتْلِ النَّفْسِ عَمْدًا؛ لِأَنَّ النَّفْسَ مَحْفُوظَةٌ بِصَاحِبِهَا وَلَيْسَتْ بِأَمَانَةٍ عِنْدَ الْقَاتِلِ حَتَّى يَسْتَوِيَ حُكْمُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فِي التَّعَرُّضِ لَهَا، وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ التَّخْيِيرَ فِي حَالِ الْعَمْدِ وَمَوْضُوعَ التَّخْيِيرِ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي التَّوَسُّعِ وَذَا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ كَالتَّخْيِيرِ فِي الْحَلْقِ لِمَنْ بِهِ مَرَضٌ أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ بِقَوْلِهِ {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَالِ الْعَمْدِ فَعُلِمَ أَنَّ ذِكْرَ التَّخْيِيرِ فِيهِ؛ لِتَقْدِيرِ الْحُكْمِ بِهِ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ لَوْلَاهُ لَمَا ذَكَرَ التَّخْيِيرَ فَكَانَ إيجَابُ الْجَزَاءِ فِي حَالِ الْعَمْدِ إيجَابًا فِي حَالِ الْخَطَأِ؛ وَلِهَذَا كَانَ ذِكْرُ التَّخْيِيرِ الْمَوْضُوعِ لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّوَسُّعِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ حَالَةَ الْعَمْدِ ذِكْرًا فِي حَالَةِ الْخَطَأِ وَالنَّوْمِ وَالْجُنُونِ دَلَالَةً. وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْعَامِدِ فَقَدْ عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِكْرِ حُكْمِهِ وَبَيَانِهِ فِي حَالِ دَلِيلِ نَفْيِهِ فِي حَالٍ أُخْرَى فَكَانَ تَمَسُّكًا بِالْمَسْكُوتِ فَلَا يَصِحُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُ الْعَامِدِ لِعِظَمِ ذَنْبِهِ تَنْبِيهًا عَلَى الْإِيجَابِ عَلَى مَنْ قَصَرَ ذَنْبُهُ عَنْهُ مِنْ الْخَاطِئِ وَالنَّاسِي مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَمَّا رَفَعَ أَعْلَى الذَّنْبَيْنِ فَلَأَنْ يَرْفَعَ الْأَدْنَى أَوْلَى، وَعَلَى هَذَا كَانَتْ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ كَمَالِ الْجَزَاءِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ حَالَ الِانْفِرَادِ وَالِاجْتِمَاعِ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُحْرِمِينَ فِي قَتْلِ صَيْدٍ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ عَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَقْتُولَ وَاحِدٌ فَلَا يُضْمَنُ إلَّا بِجَزَاءٍ وَاحِدٍ، كَمَا إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ رَجُلًا وَاحِدًا خَطَأً أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُحَلِّلِينَ إذَا قَتَلُوا صَيْدًا وَاحِدًا فِي الْحَرَمِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ كَذَا هَذَا، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وَكَلِمَةُ مَنْ تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ عَلَى حِيَالِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] وقَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان: 19] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 136] ، وَأَقْرَبُ الْمَوَاضِعِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] حَتَّى يَجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ خَطَأً كَفَّارَةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَلَا تَلْزَمُهُ الدِّيَةُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ وَعُمُومَهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا وُجُوبَ دِيَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ تُرِكَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ بِدَلِيلٍ

، وَالشَّافِعِيُّ نَظَرَ إلَى الْمَحِلِّ فَقَالَ الْمَحِلُّ وَهُوَ الْمَقْتُولُ مُتَّحِدٌ فَلَا يَجِبُ إلَّا ضَمَانٌ وَاحِدٌ وَأَصْحَابُنَا نَظَرُوا إلَى الْفِعْلِ فَقَالُوا الْفِعْلُ مُتَعَدِّدٌ فَيَتَعَدَّدُ الْجَزَاءُ وَنَظَرُنَا أَقْوَى؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جَزَاءُ الْفِعْلِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ جَزَاءً بِقَوْلِهِ {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وَالْجَزَاءُ يُقَابِلُ الْفِعْلَ لَا الْمَحِلَّ. وَكَذَا سَمَّى الْوَاجِبَ كَفَّارَةً بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95] ، وَالْكَفَّارَةُ جَزَاءُ الْجِنَايَةِ بِخِلَافِ الدِّيَةِ فَإِنَّهَا بَدَلُ الْمَحِلِّ فَتَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ الْمَحِلِّ وَتَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهِ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ صَيْدِ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَهُ يُشْبِهُ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْحَرَمِ، وَالْحَرَمُ وَاحِدٌ فَلَا تَجِبُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قَتَلَ صَيْدًا مُعَلَّمًا، كَالْبَازِي وَالشَّاهِينِ وَالصَّقْرِ وَالْحَمَامِ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ مَوَاضِعَ بَعِيدَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتَانِ: قِيمَتُهُ مُعَلَّمًا لِصَاحِبِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَقِيمَتُهُ غَيْرَ مُعَلَّمٍ حَقًّا لِلَّهِ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى حَقَّيْنِ: حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْعَبْدِ، وَالتَّعْلِيمُ وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ الَّذِي هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى يَتَعَلَّقُ بِكَوْنِهِ صَيْدًا، وَكَوْنُهُ مُعَلَّمًا وَصْفٌ زَائِدٌ عَلَى كَوْنِهِ صَيْدًا فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ، وَقَدْ قَالُوا فِي الْحَمَامَةِ الْمُصَوِّتَةِ أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا مُصَوِّتَةً فِي رِوَايَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ غَيْرَ مُصَوِّتَةٍ. وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ كَوْنَهَا مُصَوِّتَةً مِنْ بَابِ الْحُسْنِ وَالْمَلَاحَةِ، وَالصَّيْدُ مَضْمُونٌ بِذَلِكَ كَمَا لَوْ قَتَلَ صَيْدًا حَسَنًا مَلِيحًا لَهُ زِيَادَةُ قِيمَةٍ تَجِبُ قِيمَتُهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، وَكَمَا لَوْ قَتَلَ حَمَامَةً مُطَوَّقَةً أَوْ فَاخِتَةَ مُطَوَّقَةً. وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَعَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ كَوْنَهَا مُصَوِّتَةً لَا يَرْجِعُ إلَى كَوْنِهِ صَيْدًا فَلَا يَلْزَمُ الْمُحْرِمَ ضَمَانُ ذَلِكَ، وَهَذَا يَشْكُلُ بِالْمُطَوَّقَةِ وَالصَّيْدِ الْحَسَنِ الْمَلِيحِ وَلَوْ أَخَذَ بَيْضَ صَيْدٍ فَشَوَاهُ أَوْ كَسَرَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ حَكَمُوا فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ بِقِيمَتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ أَصْلُ الصَّيْدِ إذْ الصَّيْدُ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ فَيُعْطَى لَهُ حُكْمُ الصَّيْدِ احْتِيَاطًا، فَإِنْ شَوَى بَيْضًا أَوْ جَرَادًا فَضَمِنَهُ لَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ وَلَوْ أَكَلَهُ أَوْ غَيَّرَهُ حَلَالًا كَانَ أَوْ مُحْرِمًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ الصَّيْدِ الَّذِي قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ. وَلَوْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ الصَّائِدُ مِنْهُ بَعْدَ مَا أَدَّى جَزَاءَهُ يَلْزَمُهُ قِيمَةُ مَا أَكَلَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ هُنَاكَ لِكَوْنِهِ مَيْتَةً لِعَدَمِ الذَّكَاةِ لِخُرُوجِهِ عَنْ أَهْلِيَّةِ الذَّكَاةِ، وَالْحُرْمَةُ هَهُنَا لَيْسَتْ لِمَكَانِ كَوْنِهِ مَيْتَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الذَّكَاةِ فَصَارَ كَالْمَجُوسِيِّ إذَا شَوَى بَيْضًا أَوْ جَرَادًا أَنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُهُ كَذَا هَذَا، فَإِنْ كَسَرَ الْبَيْضَ فَخَرَجَ مِنْهُ فَرْخٌ مَيِّتٌ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ حَيًّا يُؤْخَذُ فِيهِ بِالثِّقَةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ وَاعْتَبَرَهُ بِالْجَنِينِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَهُ ضَمَانُ الْجِنَايَاتِ، وَفِي الْجَنِينِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ كَذَا فِيهِ، وَلَنَا أَنَّ الْفَرْخَ صَيْدٌ؛ لِأَنَّهُ يُفْرَضُ أَنْ يَصِيرَ صَيْدًا فَيُعْطَى لَهُ حُكْمُ الصَّيْدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِكَسْرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا قَبْلَ ذَلِكَ، وَضَمَانُ الصَّيْدِ يُؤْخَذُ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى يُحْتَاطُ فِي إيجَابِهَا، وَكَذَلِكَ إذَا ضَرَبَ بَطْنَ ظَبْيَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا ثُمَّ مَاتَتْ الظَّبْيَةُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمَا يُؤْخَذُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِالثِّقَةِ، أَمَّا قِيمَةُ الْأُمِّ فَلِأَنَّهُ قَتَلَهَا. وَأَمَّا قِيمَةُ الْجَنِينِ؛ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا فَيُحْكَمُ بِالضَّمَانِ احْتِيَاطًا فَإِنْ قَتَلَ ظَبْيَةً حَامِلًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا حَامِلًا؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ يَجْرِي مَجْرَى صِفَاتِهَا وَحُسْنِهَا وَمَلَاحَتِهَا وَسِمَنِهَا، وَالصَّيْدُ مَضْمُونٌ بِأَوْصَافِهِ وَلَوْ حَلَبَ صَيْدًا فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَهُ الْحَلْبُ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّيْدِ فَإِذَا نَقَصَهُ الْحَلْبُ، يَضْمَنُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِ كَالصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ. وَأَمَّا إذَا قَتَلَ الصَّيْدَ تَسَبُّبًا فَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسَبُّبِ يَضْمَنُ وَإِلَّا فَلَا. بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا نَصَبَ شَبَكَةً فَتَعَلَّقَ بِهِ صَيْدٌ وَمَاتَ أَوْ حَفَرَ حَفِيرَةً لِلصَّيْدِ فَوَقَعَ فِيهَا فَعَطِبَ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي التَّسَبُّبِ. وَلَوْ ضَرَبَ فُسْطَاطًا لِنَفْسِهِ فَتَعَلَّقَ بِهِ صَيْدٌ فَمَاتَ أَوْ حَفَرَ حَفِيرَةً لِلْمَاءِ أَوْ لِلْخَبْزِ فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ فَمَاتَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسَبُّبِ، وَهَذَا كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ وَمَاتَ يَضْمَنُ. وَلَوْ كَانَ الْحَفْرُ فِي دَارِ نَفْسِهِ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ مُتَعَدِّيًا بِالتَّسَبُّبِ وَفِي الثَّانِي لَا، كَذَا هَذَا وَلَوْ أَعَانَ مُحْرِمٌ مُحْرِمًا أَوْ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْإِعَانَةَ عَلَى الصَّيْدِ تُسَبِّبُ إلَى قَتْلِهِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسَبُّبِ؛ لِأَنَّهُ تَعَاوَنَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وَلَوْ دَلَّ عَلَيْهِ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَدْلُولُ يَرَى الصَّيْدَ أَوْ يَعْلَمُ بِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ أَوْ إشَارَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَى الدَّالِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَرَاهُ أَوْ يَعْلَمُ بِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَتِهِ. فَلَا أَثَرَ لِدَلَالَتِهِ فِي تَفْوِيتِ الْأَمْنِ عَلَى الصَّيْدِ فَلَمْ تَقَعْ الدَّلَالَةُ تَسَبُّبًا إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ، فَقَتَلَهُ

بِدَلَالَتِهِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ تَحْرِيضٍ عَلَى اصْطِيَادِهِ وَإِنْ رَآهُ الْمَدْلُولُ بِدَلَالَتِهِ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: (لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ) وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِقَتْلِ الصَّيْدِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الدَّالُّ عَلَى الشَّيْءِ كَفَاعِلِهِ» وَرُوِيَ «الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ وَالدَّالُّ عَلَى الشَّرِّ كَفَاعِلِهِ» فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلدَّلَالَةِ حُكْمُ الْفِعْلِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ. وَرُوِيَ «أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَدَّ عَلَى حِمَارِ وَحْشٍ وَهُوَ حَلَالٌ فَقَتَلَهُ وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ أَكَلَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَى فَسَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ أَشَرْتُمْ؟ هَلْ أَعَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: لَا فَقَالَ: كُلُوا إذًا» فَلَوْلَا أَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِالْإِعَانَةِ وَالْإِشَارَةِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلْفَحْصِ عَنْ ذَلِكَ مَعْنًى، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى حُرْمَةِ الْإِعَانَةِ وَالْإِشَارَةِ، وَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ إنِّي أَشَرْت إلَى ظَبْيَةٍ فَقَتَلَهَا صَاحِبِي فَسَأَلَ عُمَرُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ: مَا تَرَى؟ فَقَالَ: أَرَى عَلَيْهِ شَاةً فَقَالَ عُمَرُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَنَا أَرَى مِثْلَ ذَلِكَ وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَشَارَ إلَى بَيْضَةِ نَعَامَةٍ فَكَسَرَهَا صَاحِبُهُ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَحَكَمَا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ. وَكَذَا حُكْمُ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَحْمُولٌ عَلَى الْقِيمَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ قَدْ أَمَّنَ الصَّيْدَ بِإِحْرَامِهِ، وَالدَّلَالَةُ تُزِيلُ الْأَمْنَ لِأَنَّ أَمْنَ الصَّيْدِ فِي حَالِ قُدْرَتِهِ وَيِقْظَتِهِ يَكُونُ بِتَوَحُّشِهِ عَنْ النَّاسِ وَفِي حَالِ عَجْزِهِ وَنَوْمِهِ يَكُونُ بِاخْتِفَائِهِ عَنْ النَّاسِ، وَالدَّلَالَةُ تُزِيلُ الِاخْتِفَاءَ فَيَزُولُ الْأَمْنُ، فَكَانَتْ الدَّلَالَةُ فِي إزَالَةِ الْأَمْنِ كَالِاصْطِيَادِ؛ وَلِأَنَّ الْإِعَانَةَ وَالدَّلَالَةَ وَالْإِشَارَةَ تَسَبُّبٌ إلَى الْقَتْلِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسَبُّبِ؛ لِكَوْنِهِ مُزِيلًا لِلْأَمْنِ وَأَنَّهُ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ فَأَشْبَهَ نَصْبَ الشَّبَكَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَمَّنَ الصَّيْدَ عَنْ التَّعَرُّضِ بِعَقْدِ الْإِحْرَامِ وَالْتَزَمَ ذَلِكَ صَارَ بِهِ الصَّيْدُ كَالْأَمَانَةِ فِي يَدِهِ فَأَشْبَهَ الْمُودَعَ إذَا دَلَّ سَارِقًا عَلَى سَرِقَةِ الْوَدِيعَةِ. وَلَوْ اسْتَعَارَ مُحْرِمٌ مِنْ مُحْرِمٍ سِكِّينًا؛ لِيَذْبَحَ بِهِ صَيْدًا فَأَعَارَهُ إيَّاهُ فَذَبَحَ بِهِ الصَّيْدَ فَلَا جَزَاءَ عَلَى صَاحِبِ السِّكِّينِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ فَصَّلَ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا فَقَالَ: إنْ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ يَتَوَصَّلُ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ بِغَيْرِهِ لَا يَضْمَنُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِذَلِكَ السِّكِّينِ يَضْمَنُ الْمُعِيرُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالدَّالِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالُوا: لَوْ أَنَّ مُحْرِمًا رَأَى صَيْدًا وَلَهُ قَوْسٌ أَوْ سِلَاحٌ يَقْتُلُ بِهِ وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ ذَلِكَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ فَدَلَّهُ مُحْرِمٌ عَلَى سِكِّينَتِهِ أَوْ عَلَى قَوْسِهِ فَأَخَذَهُ فَقَتَلَهُ بِهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَجِدُ غَيْرَ مَا دَلَّهُ عَلَيْهِ مِمَّا يَقْتُلُهُ بِهِ لَا يَضْمَنُ الدَّالُّ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ يَضْمَنُ، وَلَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُ مَا ذَبَحَهُ مِنْ الصَّيْدِ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِحْرَامِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلذَّكَاةِ فَلَا تُتَصَوَّرُ مِنْهُ الذَّكَاةُ كَالْمَجُوسِيِّ إذَا ذَبَحَ. وَكَذَا الصَّيْدُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحِلًّا لِلذَّبْحِ فِي حَقِّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] وَالتَّحْرِيمُ الْمُضَافُ إلَى الْأَعْيَانِ يُوجِبُ خُرُوجَهَا عَنْ مَحَلِّيَّةِ التَّصَرُّفِ شَرْعًا، كَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَتَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالتَّصَرُّفِ الصَّادِرِ مِنْ غَيْرِ الْأَهْلِ وَفِي غَيْرِ مَحِلِّهِ يَكُونُ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَإِنْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ الذَّابِحُ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَهُوَ قِيمَتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَوْ أَكَلَهُ غَيْرُهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ. وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ أَكَلَ مَيْتَةً فَلَا يَلْزَمَنَّهُ إلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ كَمَا لَوْ أَكَلَهُ غَيْرُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ تَنَاوَلَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ كَوْنَهُ مَيْتَةً لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ وَعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ، فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ مُضَافَةً إلَى الْإِحْرَامِ فَإِذَا أَكَلَهُ فَقَدْ ارْتَكَبَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَكَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءُ مَا أَكَلَ؛ لِأَنَّ مَا أَكَلَهُ لَيْسَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ بَلْ مَحْظُورُ إحْرَامِ غَيْرِهِ، وَكَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ مُحْرِمًا كَانَ أَوْ حَلَالًا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَحِلُّ لِغَيْرِهِ أَكْلُهُ. وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْحُرْمَةَ لِمَكَانِ أَنَّهُ صَيْدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] وَهُوَ صَيْدُهُ لَا صَيْدَ غَيْرِهِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ، وَلَنَا أَنَّ حُرْمَتَهُ لِكَوْنِهِ مَيْتَةً لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الذَّكَاةِ وَمَحَلِّيَّتِهَا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ كَذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ هَذَا إذَا أَدَّى الْجَزَاءَ ثُمَّ أَكَلَ. فَأَمَّا إذَا أَكَلَ قَبْلَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ جَزَاءً وَاحِدًا وَيَدْخُلُ ضَمَانُ مَا أَكَلَ فِي الْجَزَاءِ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ لَا رِوَايَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ آخَرُ

وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَتَدَاخَلَانِ، وَسَوَاءٌ تَوَلَّى صَيْدَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ الْمُحْرِمِينَ بِأَمْرِهِ أَوْ رَمَى صَيْدًا فَقَتَلَهُ أَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ أَوْ بَازِيَهُ الْمُعَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنَّ صَيْدَ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ صَيْدُهُ مَعْنًى. وَكَذَا صَيْدُ الْبَازِي وَالْكَلْبِ وَالسَّهْمِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الِاصْطِيَادِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ آلَةُ الِاصْطِيَادِ وَالْفِعْلُ لِمُسْتَعْمِلِ الْآلَةِ لَا لِلْآلَةِ. وَيَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُ صَيْدٍ اصْطَادَهُ الْحَلَالُ لِنَفْسِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ دَاوُد بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيُّ لَا يَحِلُّ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ وَقَتَادَةَ وَجَابِرٍ وَعُثْمَانَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يَحِلُّ وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُثْمَانَ فِي رِوَايَةٍ لَا يَحِلُّ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] أَخْبَرَ أَنَّ صَيْدَ الْبَرِّ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُحْرِمِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ صَيْدَ الْمُحْرِمِ أَوْ الْحَلَالِ. وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ الْآيَةَ مُبْهَمَةٌ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَصِيدَهُ وَلَا أَنْ تَأْكُلَهُ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحْمَ حِمَارِ وَحْشٍ وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ فَرَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَجْهِهِ كَرَاهَةً فَقَالَ: لَيْسَ بِنَا رَدٌّ عَلَيْك وَلَكِنَّا حُرُمٌ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَوْلَا أَنَّا حُرُمٌ لَقَبِلْنَاهُ مِنْك» وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى الْمُحْرِمَ عَنْ لَحْمِ الصَّيْدِ مُطْلَقًا» وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ كَانَ حَلَالًا وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ فَشَدَّ عَلَى حِمَارِ وَحْشٍ فَقَتَلَهُ فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَأَبَى الْبَعْضُ فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ؟» وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَحْمُ صَيْدِ الْبَرِّ حَلَالٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا تَحْرِيمَ صَيْدِ الْبَرِّ لَا تَحْرِيمَ لَحْمِ الصَّيْدِ، وَهَذَا لَحْمُ الصَّيْدِ وَلَيْسَ بِصَيْدٍ حَقِيقَةً؛ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الصَّيْدِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ وَالتَّوَحُّشُ، عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ فِي الْحَقِيقَةِ مَصْدَرٌ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَصِيدِ مَجَازًا. وَأَمَّا حَدِيثُ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رُوِيَ فِي بَعْضِهَا " أَنَّهُ أَهْدَى إلَيْهِ حِمَارًا وَحْشِيًّا " كَذَا رَوَى مَالِكٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً، وَحَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ مَحْمُولٌ عَلَى صَيْدٍ صَادَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ أَوْ بِإِعَانَتِهِ أَوْ بِدَلَالَتِهِ أَوْ بِإِشَارَتِهِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا، وَسَوَاءٌ صَادَهُ الْحَلَالُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِلْمُحْرِمِ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ بِأَمْرِهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: (إذَا صَادَهُ لَهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ) وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «صَيْدُ الْبَرِّ حَلَالٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَادَ لَكُمْ» وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَصِيدًا لَهُ إلَّا بِأَمْرِهِ وَبِهِ نَقُولُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا حُكْمُ الصَّيْدِ إذَا جَرَحَهُ الْمُحْرِمُ، فَإِنْ جَرَحَهُ جُرْحًا يُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الصَّيْدِ وَهُوَ الْمُمْتَنِعُ الْمُتَوَحِّشُ بِأَنْ قَطَعَ رِجْلَ ظَبْيٍ أَوْ جَنَاحَ طَائِرٍ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ حَيْثُ أَخْرَجَهُ عَنْ حَدِّ الصَّيْدِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ؛ وَإِنْ جَرَحَهُ جُرْحًا مَا لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ حَدِّ الصَّيْدِ يَضْمَنُ مَا نَقَصَتْهُ الْجِرَاحَةُ؛ لِوُجُودِ إتْلَافِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الصَّيْدِ فَإِنْ انْدَمَلَتْ الْجِرَاحَةُ وَبَرِئَ الصَّيْدُ لَا يَسْقُطُ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَجِبُ بِإِتْلَافِ جُزْءٍ مِنْ الصَّيْدِ وَبِالِانْدِمَالِ لَا يُتَبَيَّنُ أَنَّ الْإِتْلَافَ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ مَا إذَا جَرَحَ آدَمِيًّا فَانْدَمَلَتْ جِرَاحَتُهُ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ هُنَاكَ إنَّمَا يَجِبُ لِأَجْلِ الشَّيْنِ وَقَدْ ارْتَفَعَ. فَإِنْ رَمَى صَيْدًا فَجَرَحَهُ فَكَفَّرَ عَنْهُ، ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَفَّرَ الْجِرَاحَةَ ارْتَفَعَ حُكْمُهَا وَجُعِلَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ، وَقَتْلُهُ الْآنَ ابْتِدَاءً فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ لَكِنْ ضَمَانُ صَيْدٍ مَجْرُوحٍ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْجِرَاحَةَ قَدْ أَخْرَجَ ضَمَانَهَا مَرَّةً فَلَا تَجِبُ مَرَّةً أُخْرَى فَإِنْ جَرَحَهُ وَلَمْ يُكَفِّرْ ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْجِرَاحَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ الْجِرَاحَةِ صَارَ كَأَنَّهُ قَتَلَهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي مُخْتَصَرِهِ إلَّا مَا نَقَصَتْهُ الْجِرَاحَةُ الْأُولَى أَيْ يَلْزَمُهُ ضَمَانُ صَيْدٍ مَجْرُوحٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ النُّقْصَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ مَرَّةً فَلَا يَجِبُ مَرَّةً أُخْرَى وَلَوْ جَرَحَ صَيْدًا فَكَفَّرَ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ثُمَّ مَاتَ أَجْزَأَتْهُ الْكَفَّارَةُ الَّتِي أَدَّاهَا؛ لِأَنَّهُ إنْ أَدَّى الْكَفَّارَةَ قَبْلَ وُجُوبِهَا لَكِنْ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ كَمَا لَوْ جَرَحَ إنْسَانًا خَطَأً فَكَفَّرَ عَنْهُ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَإِنْ نَتَفَ رِيشَ صَيْدٍ أَوْ قَلَعَ سِنَّ ظَبْيٍ فَنَبَتَ وَعَادَ إلَى مَا كَانَ أَوْ ضَرَبَ عَلَى عَيْنِ ظَبْيٍ فَابْيَضَّتْ ثُمَّ ارْتَفَعَ بَيَاضُهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فِي سِنِّ الظَّبْيِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا نَبَتَ، وَلَمْ يُحْكَ عَنْهُ فِي غَيْرِهِ شَيْءٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ وُجُوبَ

الْجَزَاءِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ وَبِالنَّبَاتِ وَالْعَوْدِ إلَى مَا كَانَ لَا يُتَبَيَّنُ أَنَّ الْجِنَايَةَ لَمْ تَكُنْ فَلَا يَسْقُطُ الْجَزَاءُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ لِمَكَانِ النُّقْصَانِ، وَقَدْ زَالَ فَيَزُولُ الضَّمَانُ كَمَا لَوْ قَلَعَ سِنَّ ظَبْيٍ لَمْ يُثْغِرْ. (وَأَمَّا) حُكْمُ أَخْذِ الصَّيْدِ فَالْمُحْرِمُ إذَا أَخَذَ الصَّيْدَ يَجِبُ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ فِي قَفَصٍ مَعَهُ أَوْ فِي بَيْتِهِ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ اسْتَحَقَّ الْأَمْنَ بِإِحْرَامِهِ، وَقَدْ فَوَّتَ عَلَيْهِ الْأَمْنَ بِالْأَخْذِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَتُهُ إلَى حَالَةِ الْأَمْنِ، وَذَلِكَ بِالْإِرْسَالِ فَإِنْ أَرْسَلَهُ مُحْرِمٌ مِنْ يَدِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُرْسِلِ؛ لِأَنَّ الصَّائِدَ مَا مَلَكَ الصَّيْدَ فَلَمْ يَصِرْ بِالْإِرْسَالِ مُتْلِفًا مِلْكَهُ وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِرْسَالُ لِيَعُودَ إلَى حَالَةِ الْأَمْنِ، فَإِذَا أَرْسَلَ فَقَدْ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَتَلَهُ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءٌ. أَمَّا الْقَاتِلُ فَلِأَنَّهُ مُحْرِمٌ قَتَلَ صَيْدًا. وَأَمَّا الْآخِذُ فَلِأَنَّهُ فَوَّتَ الْأَمْنَ عَلَى الصَّيْدِ بِالْأَخْذِ وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ إلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالْإِرْسَالِ فَإِذَا تَعَذَّرَ الْإِرْسَالُ لَمْ يَسْقُطْ، وَلِلْآخِذِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْقَاتِلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَرْجِعُ. وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْمُحْرِمَ لَمْ يَمْلِكْ الصَّيْدَ بِالْأَخْذِ فَكَيْفَ يَمْلِكُ بَدَلَهُ عِنْدَ الْإِتْلَافِ؟ (وَلَنَا) أَنَّ الْمِلْكَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ الثُّبُوتِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الْأَخْذُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ» إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ جَعْلُهُ سَبَبًا لِمِلْكِ غَيْرِ الصَّيْدِ فَيُجْعَلُ سَبَبًا لِمِلْكِ بَدَلِهِ فَيَمْلِكُ بَدَلَهُ عِنْدَ الْإِتْلَافِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْأَصْلَ كَانَ مِلْكَهُ كَمَنْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَجَاءَ إنْسَانٌ وَقَتَلَهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَوْ غَصَبَهُ مِنْ يَدِهِ فَضَمَّنِ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ، فَإِنَّ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَرْجِعَ بِالضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ وَالْقَاتِلِ. وَكَذَا هَذَا فِي غَصْبِ أُمِّ الْوَلَدِ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ الْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. وَلَوْ أَصَابَ الْحَلَالُ صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ فَإِنْ كَانَ مُمْسِكًا إيَّاهُ بِيَدِهِ فَعَلَيْهِ إرْسَالُهُ؛ لِيَعُودَ بِهِ إلَى الْأَمْنِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِالْإِحْرَامِ، فَإِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ حَتَّى هَلَكَ فِي يَدِهِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ، وَإِنْ أَرْسَلَهُ إنْسَانٌ مِنْ يَدِهِ ضَمِنَ لَهُ قِيمَتَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَضْمَنُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا: إنَّ الْإِرْسَالَ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمُحْرِمِ حَقًّا لِلَّهِ فَإِذَا أَرْسَلَهُ الْأَجْنَبِيُّ فَقَدْ احْتَسَبَ بِالْإِرْسَالِ فَلَا يَضْمَنُ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَأَرْسَلَهُ إنْسَانٌ مِنْ يَدِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَتْلَفَ صَيْدًا مَمْلُوكًا لَهُ فَيَضْمَنُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ مِلْكُهُ أَنَّهُ أَخَذَهُ وَهُوَ حَلَالٌ وَأَخْذُ الصَّيْدِ مِنْ الْحَلَالِ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ» وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ، وَالْعَارِضُ وَهُوَ الْإِحْرَامُ أَثَرُهُ فِي حُرْمَةِ التَّعَرُّضِ لَا فِي زَوَالِ الْمِلْكِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمَا: إنَّ الْمُرْسِلَ احْتَسَبَ بِالْإِرْسَالِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ، فَنَقُولُ: الْوَاجِبُ هُوَ الْإِرْسَالُ عَلَى وَجْهٍ يُفَوِّتُ يَدَهُ عَنْ الصَّيْدِ أَصْلًا وَرَأْسًا أَوْ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ الْحَقِيقِيَّةَ عَنْهُ إنْ قَالَا عَلَى وَجْهٍ يُفَوِّتُ يَدَهُ أَصْلًا وَرَأْسًا مَمْنُوعٌ وَإِنْ قَالَا عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ الْحَقِيقِيَّةَ عَنْهُ فَمُسَلَّمٌ لَكِنْ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْإِرْسَالِ فِي بَيْتِهِ، وَإِنْ أَرْسَلَهُ فِي بَيْتِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا اصْطَادَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَأَرْسَلَهُ غَيْرُهُ مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الصَّائِدِ هُنَاكَ إرْسَالُ الصَّيْدِ عَلَى وَجْهٍ يَعُودُ إلَيْهِ بِهِ الْأَمْنُ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِإِحْرَامِهِ. وَفِي الْإِمْسَاكِ فِي الْقَفَصِ أَوْ فِي الْبَيْتِ لَا يَعُودُ الْأَمْنُ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ هُنَاكَ مَا اسْتَحَقَّ الْأَمْنَ، وَقَدْ أَخَذَهُ وَصَارَ مِلْكًا لَهُ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّعَرُّضُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ فَيَجِبُ إزَالَةُ التَّعَرُّضِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِزَوَالِ يَدِهِ الْحَقِيقِيَّةِ، فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِرْسَالُ فِي الْبَيْتِ أَوْ فِي الْقَفَصِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لَوْ أَرْسَلَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ بَعْدَ مَا حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ فِي يَدِ آخَرَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ، وَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ فِي قَفَصٍ مَعَهُ أَوْ فِي بَيْتِهِ لَا يَجِبُ إرْسَالُهُ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُرْسِلْهُ فَمَاتَ لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَضْمَنُ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ وَفِي مِلْكِهِ صَيْدٌ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَزُولُ، الصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لَهُ وَالْعَارِضُ وَهُوَ حُرْمَةُ التَّعَرُّضِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ وَيَسْتَوِي فِيمَا يُوجِبُ الْجَزَاءَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ، غَيْرَ أَنَّ الْقَارِنَ يَلْزَمُهُ جَزَاءَانِ عِنْدَنَا؛ لِكَوْنِهِ مُحْرِمًا بِإِحْرَامَيْنِ فَيَصِيرُ جَانِيًا عَلَيْهِمَا فَيَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ؛ لِكَوْنِهِ مُحْرِمًا بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ. (وَأَمَّا) الَّذِي يُوجِبُ فَسَادَ الْحَجِّ فَالْجِمَاعُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} [البقرة: 197] عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ الْجِمَاعُ، وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ لِمَا نَذْكُرُ فِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُ الْحَجَّ وَبَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانُ مَا يَخُصُّ الْمُحْرِمَ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ وَهِيَ مَحْظُورَاتُ الْإِحْرَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل محظورات الحرم منها الصيد

[فَصْلٌ مَحْظُورَاتُ الْحَرَمِ مِنْهَا الصَّيْدِ] فَصْلٌ) وَيَتَّصِلُ بِهَذَا بَيَانُ مَا يَعُمُّ الْمُحْرِمَ وَالْحَلَالَ جَمِيعًا وَهُوَ. مَحْظُورَاتُ الْحَرَمِ، فَنَذْكُرُهَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ مَحْظُورَاتُ الْحَرَمِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الصَّيْدِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى النَّبَاتِ. أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الصَّيْدِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قَتْلُ صَيْدِ الْحَرَمِ لِلْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ جَمِيعًا إلَّا الْمُؤْذِيَاتِ الْمُبْتَدِئَةَ بِالْأَذَى غَالِبًا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي صَيْدِ الْإِحْرَامِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] وقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] وقَوْله تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] وَهَذَا يَتَنَاوَلُ صَيْدَ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ أَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي الْإِحْرَامِ، وَأَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي الْحَرَمِ كَمَا يُقَالُ: أَنْجَدَ إذَا دَخَلَ نَجْدَ، وَاتَّهَمَ إذَا دَخَلَ تِهَامَةَ، وَأَعْرَقَ إذَا دَخَلَ الْعِرَاقَ وَأَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ فِي عُثْمَانَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قُتِلَ ابْنُ عَفَّانَ الْخَلِيفَةُ مُحْرِمًا ... وَدَعَا فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَخْذُولًا الْخَلِيفَةُ مُحْرِمًا، أَيْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَاللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا لَكِنَّ الْمُشْتَرَكَ فِي مَحَلِّ النَّفْيِ يَعُمُّ؛ لِعَدَمِ التَّنَافِي إلَّا أَنَّ الدُّخُولَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَيْسَ بِمُرَادٍ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الصَّيْدِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا ثُمَّ قَدْ نُسِخَتْ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ، فَبَقِيَ الدُّخُولُ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ مُرَادًا بِالْآيَتَيْنِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ (مَكَّةَ حَرَامٌ) وَالثَّانِي: قَوْلُهُ (حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى) وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ (وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي) وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ (ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) وَالْخَامِسُ: قَوْلُهُ (لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا) فَإِنْ قَتَلَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ مُحْرِمًا كَانَ الْقَاتِلُ أَوْ حَلَالًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} [المائدة: 95] وَجَزَاؤُهُ مَا هُوَ جَزَاءُ قَاتِلِ صَيْدِ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ فَإِنْ بَلَغَتْ هَدْيًا لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا هَدْيًا أَوْ طَعَامًا إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمَ صَيْدِ الْإِحْرَام إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ الصَّوْمُ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْإِطْعَامَ يُجْزِئُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ، وَلَا يُجْزِئُ الصَّوْمُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُجْزِئُ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَفِي الْهَدْيِ رِوَايَتَانِ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ الِاعْتِبَارُ بِصَيْدِ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الضَّمَانَيْنِ يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ يُجْزِئُ الصَّوْمُ فِي أَحَدِهِمَا كَذَا فِي الْآخَرِ. (وَلَنَا) الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّيْدَيْنِ وَالضَّمَانَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ ضَمَانَ صَيْدِ الْإِحْرَامِ وَجَبَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ جَزَاءً عَلَى جِنَايَتِهِ عَلَى الْإِحْرَامِ فَأَمَّا ضَمَانُ صَيْدِ الْحَرَمِ فَإِنَّمَا وَجَبَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَحِلِّ، وَهُوَ تَفْوِيتُ أَمْنِ الْحَرَمِ وَرِعَايَةٌ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَضَمَانُ سَائِرِ الْأَمْوَالِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الصَّوْمُ كَذَا هَذَا. وَأَمَّا الْهَدْيُ فَوَجْهُ رِوَايَةِ عَدَمِ الْجَوَازِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ يُشْبِهُ ضَمَانَ سَائِرِ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ لِمَعْنًى فِي الْمَحِلِّ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْهَدْيُ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ إلَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ مَذْبُوحًا مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ، فَيُجْزِئُ عَنْ الطَّعَامِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَوَازِ أَنَّ ضَمَانَ صَيْدِ الْحَرَمِ لَهُ شَبَهٌ بِأَصْلَيْنِ: ضَمَانِ الْأَمْوَالِ وَضَمَانِ الْأَفْعَالِ، أَمَّا شَبَهُهُ بِضَمَانِ الْأَمْوَالِ فَلِمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا شَبَهُهُ بِضَمَانِ الْأَفْعَالِ وَهُوَ ضَمَانُ الْإِحْرَامِ فَلِأَنَّهُ يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَيُعْمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ، فَنَقُولُ: إنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الصَّوْمُ اعْتِبَارًا لِشَبَهِ الْأَمْوَالِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْهَدْيُ اعْتِبَارًا لِشَبَهِ الْأَفْعَالِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ إذْ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالْعَكْسِ؛ وَلِأَنَّ الْهَدْيَ مَالٌ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْإِطْعَامِ، وَالصَّوْمُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا فِيهِ مَعْنَى الْمَالِ فَافْتَرَقَا وَلَوْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحِلِّ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْحَرَمِ شَيْءٌ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ كَفَّارَتَانِ؛ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ عَلَى شَيْئَيْنِ وَهُمَا: الْإِحْرَامُ وَالْحَرَمُ فَأَشْبَهَ الْقَارِنَ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَأَوْجَبُوا كَفَّارَةَ الْإِحْرَامِ لَا غَيْرَ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ أَقْوَى مِنْ حُرْمَةِ الْحَرَمِ فَاسْتَتْبَعَ الْأَقْوَى الْأَضْعَفُ، وَبَيَانُ أَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ أَقْوَى مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ ظَهَرَ أَثَرُهَا فِي الْحَرَمِ وَالْحِلِّ جَمِيعًا، حَتَّى حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ وَالْحِلِّ جَمِيعًا، وَحُرْمَةُ الْإِحْرَامِ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا إلَّا فِي الْحَرَمِ حَتَّى يُبَاحَ لِلْحَلَالِ الِاصْطِيَادُ

لِصَيْدِ الْحَرَمِ إذَا خَرَجَ إلَى الْحِلِّ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِحْرَامَ يُحَرِّمُ الصَّيْدَ وَغَيْرَهُ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَالْحَرَمُ لَا يُحَرِّمُ إلَّا الصَّيْدَ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الصَّيْدُ مِنْ الْخَلَى وَالشَّجَرِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ تُلَازِمُ حُرْمَةَ الْحَرَمِ وُجُودًا؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ يَدْخُلُ الْحَرَمَ لَا مَحَالَةَ، وَحُرْمَةُ الْحَرَمِ لَا تُلَازِمُ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ وُجُودًا، فَثَبَتَ أَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ أَقْوَى فَاسْتَتْبَعَتْ الْأَدْنَى بِخِلَافِ الْقَارِنِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْحُرْمَتَيْنِ أَعَنَى حُرْمَةَ إحْرَامِ الْحَجِّ وَحُرْمَةَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ أَصْلٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحَرِّمُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ مَا يُحَرِّمُهُ إحْرَامُ الْحَجِّ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَصْلًا بِنَفْسِهَا فَلَا تَسْتَتْبِعُ إحْدَاهُمَا صَاحِبَتَهَا. وَلَوْ اشْتَرَكَ حَلَالَانِ فِي قَتْلِ صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ قِيمَتِهِ، فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يُقْسَمُ الضَّمَانُ بَيْنَ عَدَدِهِمْ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ صَيْدِ الْحَرَمِ يَجِبُ لِمَعْنًى فِي الْمَحِلِّ وَهُوَ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فَلَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْفَاعِلِ كَضَمَانِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ بِخِلَافِ ضَمَانِ صَيْدِ الْإِحْرَامِ، فَإِنْ اشْتَرَكَ مُحْرِمٌ وَحَلَالٌ فَعَلَى الْمُحْرِمِ جَمِيعُ الْقِيمَةِ وَعَلَى الْحَلَالِ النِّصْفُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُحْرِمِ ضَمَانُ الْإِحْرَامِ لِمَا بَيَّنَّا، وَذَلِكَ لَا يَتَجَزَّأُ، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْحَلَالِ ضَمَانُ الْمَحِلِّ وَأَنَّهُ مُتَجَزِّئٌ. وَسَوَاءٌ كَانَ شَرِيكُ الْحَلَالِ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ أَوْ لَا يَجِبُ كَالْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَلَالِ بِقَدْرِ مَا يَخُصُّهُ مِنْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِفِعْلِهِ ضَمَانُ الْمَحِلِّ فَيَسْتَوِي فِي حَقِّهِ الشَّرِيكُ الَّذِي يَكُونُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْجَزَاءِ وَمَنْ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنْ قَتَلَ حَلَالٌ وَقَارَنَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَعَلَى الْحَلَالِ نِصْفُ الْجَزَاءِ وَعَلَى الْقَارِنِ جَزَاءَانِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْحَلَالِ ضَمَانُ الْمَحِلِّ، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاءُ الْجِنَايَةِ، وَالْقَارِنُ جَنَى عَلَى إحْرَامَيْنِ فَيَلْزَمُهُ جَزَاءَانِ. وَلَوْ اشْتَرَكَ حَلَالٌ وَمُفْرِدٌ وَقَارِنٌ فِي قَتْلِ صَيْدٍ فَعَلَى الْحَلَالِ ثُلُثُ الْجَزَاءِ وَعَلَى الْمُفْرِدِ جَزَاءٌ كَامِلٌ وَعَلَى الْقَارِنِ جَزَاءَانِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ صَادَ حَلَالٌ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ فِي يَدِهِ حَلَالٌ آخَرُ فَعَلَى الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ جَزَاءٌ كَامِلٌ، وَعَلَى الْقَاتِلِ جَزَاءٌ كَامِلٌ أَمَّا الْقَاتِلُ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ حَقِيقَةً. وَأَمَّا الصَّائِدُ فَلِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِاصْطِيَادِهِ وَهُوَ أَخْذُهُ لِتَفْوِيتِهِ الْأَمْنَ عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ إلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالْإِرْسَالِ وَقَدْ تَعَذَّرَ الْإِرْسَالُ بِالْقَتْلِ، فَتَقَرَّرَ تَفْوِيتُ الْأَمْنِ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ فِي يَدِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ إذَا أَتْلَفَهُ إنْسَانٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا ضَمَانٌ وَاحِدٌ يُطَالِبُ الْمَالِكُ أَيَّهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ الْمَحِلِّ وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ حَقًّا لِلْمَالِكِ، وَالْمَحِلُّ الْوَاحِدُ لَا يُقَابِلُهُ إلَّا ضَمَانٌ وَاحِدٌ، وَضَمَانُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَإِنْ كَانَ ضَمَانَ الْمَحِلِّ لَكِنْ فِيهِ مَعْنَى الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَجَازَ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْقَاتِلِ وَالْآخِذِ. وَلِلْآخِذِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَاتِلِ بِالضَّمَانِ أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ فِي صَيْدِ الْإِحْرَامِ عِنْدَهُ فَكَذَا فِي صَيْدِ الْحَرَمِ، وَالْجَامِعُ أَنَّ الْقَاتِلَ فَوَّتَ عَلَى الْآخِذِ ضَمَانًا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إسْقَاطِهِ بِالْإِرْسَالِ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ صَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُمَا قَالَا فِي صَيْدِ الْإِحْرَامِ إنَّهُ لَا يَرْجِعُ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ ضَمَانٌ، يَجِبُ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَحِلِّ، وَضَمَانُ الْمَحِلِّ يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ كَمَا فِي الْغَصْبِ، وَالْوَاجِبُ فِي صَيْدِ الْإِحْرَامِ جَزَاءُ فِعْلِهِ لَا بَدَلُ الْمَحِلِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الصَّيْدَ بِالضَّمَانِ وَإِذَا كَانَ جَزَاءُ فِعْلِهِ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ. وَلَوْ دَلَّ حَلَالٌ حَلَالًا عَلَى صَيْدِ الْحَرَمِ أَوْ دَلَّ مُحْرِمًا، فَلَا شَيْءَ عَلَى الدَّالِّ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَدْ أَسَاءَ وَأَثِمَ وَقَالَ زُفَرُ: عَلَى الدَّالِّ الْجَزَاءُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ قَوْلِ زُفَرَ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الْآمِرُ وَالْمُشِيرُ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ اعْتِبَارُ الْحَرَمِ بِالْإِحْرَامِ، وَهُوَ اعْتِبَارٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِحُرْمَةِ الِاصْطِيَادِ، ثُمَّ الدَّلَالَةُ فِي الْإِحْرَامِ تُوجِبُ الْجَزَاءَ كَذَا فِي الْحَرَمِ، وَلَنَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَنَّ ضَمَانَ صَيْدِ الْحَرَمِ يَجْرِي مَجْرَى ضَمَانِ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَحِلِّ وَهُوَ حُرْمَةُ الْحَرَمِ لَا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْقَاتِلِ، وَالْأَمْوَالُ لَا تُضْمَنُ بِالدَّلَالَةِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ، وَإِنَّمَا صَارَ مُسِيئًا آثِمًا لِكَوْنِ الدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ وَالْأَمْرِ حَرَامًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] . وَلَوْ أَدْخَلَ صَيْدًا مِنْ الْحِلِّ إلَى الْحَرَمِ وَجَبَ إرْسَالُهُ، وَإِنْ ذَبَحَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الصَّيْدَ كَانَ مِلْكَهُ فِي الْحِلِّ، وَإِدْخَالُهُ فِي الْحَرَمِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ، فَكَانَ مِلْكُهُ قَائِمًا فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ، وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ وَجَبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُ رِعَايَةً لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ كَمَا لَوْ أَحْرَمَ وَالصَّيْدُ فِي يَدِهِ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ: لَا خَيْرَ فِيمَا

يَتَرَخَّصُ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ الْحَجَلِ وَالْيَعَاقِيبِ وَلَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ حَيًّا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّيْدَ إذَا حَصَلَ فِي الْحَرَمِ وَجَبَ إظْهَارُ حُرْمَةِ الْحَرَمِ بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُ بِالْإِرْسَالِ، فَإِنْ قِيلَ: إنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَبِيعُونَ الْحَجَلَ وَالْيَعَاقِيبَ، وَهِيَ كُلُّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنْ الْقَبَجِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَوْ حَرَامًا لَظَهَرَ النَّكِيرُ عَلَيْهِمْ، فَالْجَوَابُ: إنَّ تَرْكَ النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ لَيْسَ لِكَوْنِهِ حَلَالًا بَلْ لِكَوْنِهِ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَالْإِنْكَارُ لَا يَلْزَمُ فِي مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْفُرُوعِ. وَأَمَّا وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِذَبْحِهِ؛ فَلِأَنَّهُ ذَبَحَ صَيْدًا مُسْتَحِقَّ الْإِرْسَالِ، وَأَمَّا فَسَادُ الْبَيْعِ فَلِأَنَّ إرْسَالَهُ وَاجِبٌ، وَالْبَيْعُ تَرْكُ الْإِرْسَالِ. وَلَوْ بَاعَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ فَسْخُ الْبَيْعِ وَاسْتِرْدَادُ الْمَبِيعَ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ مُسْتَحِقُّ الْفَسْخِ حَقًّا لِلشَّرْعِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى فَسْخِ الْبَيْعِ وَاسْتِرْدَادِ الْمَبِيعِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ، فَإِذَا بَاعَهُ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ فَسْخُ الْبَيْعِ وَاسْتِرْدَادُ الْمَبِيعِ، فَكَأَنَّهُ أَتْلَفَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَكَذَلِكَ إنْ أَدْخَلَ صَقْرًا أَوْ بَازِيًا فَعَلَيْهِ إرْسَالُهُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي سَائِرِ الصُّيُودِ، فَإِنْ أَرْسَلَهُ فَجَعَلَ يَقْتُلُ حَمَامَ الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْإِرْسَالُ وَقَدْ أَرْسَلَ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَرْسَلَهُ فِي الْحِلِّ ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ فَجَعَلَ يَقْتُلُ صَيْدَ الْحَرَمِ. وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا فِي الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَاتَّبَعَهُ الْكَلْبُ، فَأَخَذَهُ فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُرْسِلِ، وَلَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ، أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْجَزَاءِ فَلِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ بِحَالَةِ الْإِرْسَالِ، إذْ الْإِرْسَالُ هُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ وَالْإِرْسَالِ وَقَعَ مُبَاحًا لِوُجُودِهِ فِي الْحِلِّ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ. وَأَمَّا حُرْمَةُ أَكْلِ الصَّيْدِ؛ فَلِأَنَّ فِعْلَ الْكَلْبِ ذَبْحٌ لِلصَّيْدِ، وَأَنَّهُ حَصَلَ فِي الْحَرَمِ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ آدَمِيٌّ إذْ فِعْلُ الْكَلْبِ لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ فِعْل الْآدَمِيِّ. وَلَوْ رَمَى صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَنَفَرَ الصَّيْدُ فَوَقَعَ السَّهْمُ بِهِ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا أَعْلَمُ وَكَانَ الْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي إرْسَالِ الْكَلْبِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْذُونٌ فِيهِ لِحُصُولِهِ فِي الْحِلِّ، وَالْأَخْذُ وَالْإِصَابَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُضَافُ إلَى الْمُرْسِلِ وَالرَّامِي وَخَاصَّةً عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالَ الرَّمْيِ فِي الْمَسَائِلِ حَتَّى قَالَ فِيمَنْ رَمَى إلَى مُسْلِمٍ فَارْتَدَّ الْمَرْمِيُّ إلَيْهِ ثُمَّ أَصَابَهُ السَّهْمُ مَثَلًا: أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الرَّمْيِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فَأَوْجَبُوا الْجَزَاءَ فِي الرَّمْيِ، وَلَمْ يُوجِبُوا فِي الْإِرْسَالِ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْإِصَابَةِ بِمَجْرَى الْعَادَةِ إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ الرَّمْيِ وَالْإِصَابَةِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ يَقْطَعُ نِسْبَةَ الْأَثَرِ إلَيْهِ شَرْعًا فَبَقِيَتْ الْإِصَابَةُ مُضَافَةً إلَيْهِ شَرْعًا فِي الْأَحْكَامِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ ابْتَدَأَ الرَّمْيَ بَعْدَ مَا حَصَلَ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ، وَهَهُنَا قَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَ الْإِرْسَالِ وَالْأَخْذِ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ وَهُوَ الْكَلْبُ فَمَنَعَ إضَافَةَ الْأَخْذِ إلَى الْمُرْسِلِ وَصَارَ كَمَا لَوْ أَرْسَلَ بَازِيًا فِي الْحَرَمِ فَأَخَذَ حَمَامَ الْحَرَمِ وَقَتَلَهُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا عَلَى ذِئْبٍ فِي الْحَرَمِ أَوْ نَصَبَ لَهُ شَرَكًا فَأَصَابَ الْكَلْبُ صَيْدًا أَوْ وَقَعَ فِي الشَّرَكِ صَيْدٌ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ عَلَى الذِّئْبِ، وَنَصْبُ الشَّبَكَةِ لَهُ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الذِّئْبِ مُبَاحٌ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ لِلْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ جَمِيعًا؛ لِكَوْنِهِ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ الْمُبْتَدِئَةِ بِالْأَذَى عَادَةً، فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسَبُّبِ فَيَضْمَنُ. وَلَوْ نَصَبَ شَبَكَةً أَوْ حَفَرَ حَفِيرَةً فِي الْحَرَمِ لِلصَّيْدِ فَأَصَابَ صَيْدًا فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِي نَصْبِ الشَّبَكَةِ وَالْحَفْرِ لِصَيْدِ الْحَرَمِ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسَبُّبِ فَيَضْمَنُ. وَلَوْ نَصَبَ خَيْمَةً فَتَعَقَّلَ بِهِ صَيْدٌ، أَوْ حَفَرَ لِلْمَاءِ فَوَقَعَ فِيهِ صَيْدُ الْحَرَمِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي التَّسَبُّبِ،. وَقَالُوا فِيمَنْ أَخْرَجَ ظَبْيَةً مِنْ الْحَرَمِ فَأَدَّى جَزَاءَهَا ثُمَّ وَلَدَتْ ثُمَّ مَاتَتْ وَمَاتَ أَوْلَادُهَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَدَّى جَزَاءَهَا مَلَكَهَا فَحَدَثَتْ الْأَوْلَادُ عَلَى مِلْكِهِ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ أَخْرَجَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ: إنَّ ذَبْحَهُ. وَالِانْتِفَاعَ بِلَحْمِهِ لَيْسَ بِحَرَامٍ سَوَاءٌ كَانَ أَدَّى جَزَاءَهُ أَوْ لَمْ يُؤَدِّ، غَيْرَ أَنِّي أَكْرَهُ هَذَا الصَّنِيعَ، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْ أَكْلِهِ، أَمَّا حِلُّ الذَّبْحِ فَلِأَنَّهُ صَيْدٌ حَلَّ فِي الْحَالِّ فَلَا يَكُونُ ذَبْحُهُ حَرَامًا. وَأَمَّا كَرَاهَةُ هَذَا الصَّنِيعِ فَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ يُؤَدِّي إلَى اسْتِئْصَالِ صَيْدِ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ احْتَاجَ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَخَذَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ الْحَرَمِ وَذَبَحَهُ وَانْتَفَعَ بِلَحْمِهِ وَأَدَّى قِيمَتَهُ، فَإِنْ انْتَفَعَ بِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمَضْمُونِ عَلَى أَصْلِنَا، فَإِذَا ضَمِنَ قِيمَتَهُ فَقَدْ مَلَكَهُ فَلَا يَضْمَنُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ، وَإِنْ بَاعَهُ وَاسْتَعَانَ

فصل نبات الحرم

بِثَمَنِهِ فِي جَزَائِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ الْأَكْلِ خَاصَّةً. وَكَذَا إذَا قَطَعَ شَجَرَ الْحَرَمِ حَتَّى ضَمِنَ قِيمَتَهُ يُكْرَهُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ يُؤَدِّي إلَى اسْتِئْصَالِ شَجَرِ الْحَرَمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الصَّيْدِ وَلَوْ اشْتَرَاهُ إنْسَانٌ مِنْ الْقَاطِعِ لَا يُكْرَهُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ النَّمَاءِ عَنْهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ نَبَاتَ الْحَرَمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى النَّبَاتِ، فَكُلُّ مَا يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ مِمَّا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً وَهُوَ رَطْبٌ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ. نَبَاتَ الْحَرَمِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً. فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً إذَا نَبَتَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ رَطْبٌ فَهُوَ مَحْظُورُ الْقَطْعِ وَالْقَلْعِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ جَمِيعًا نَحْوُ الْحَشِيشِ الرَّطْبِ وَالشَّجَرِ الرَّطْبِ إلَّا مَا فِيهِ ضَرُورَةٌ وَهُوَ الْإِذْخِرُ فَإِنْ قَلَعَهُ إنْسَانٌ أَوْ قَطَعَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ مُحْرِمًا أَوْ حَلَالًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُخَاطَبًا بِالشَّرَائِعِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ الْحَرَمَ آمِنًا مُطْلَقًا فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِهِ إلَّا مَا قُيِّدَ بِدَلِيلٍ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى إلَى قَوْلِهِ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا» نَهَى عَنْ اخْتِلَاءِ كُلِّ خَلًى وَعَضُدِ كُلِّ شَجَرٍ فَيُجْرَى عَلَى عُمُومِهِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ وَهُوَ الْإِذْخِرُ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَاقَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ «لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا فَقَالَ الْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَتَاعٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ لِحَيِّهِمْ وَمَيِّتِهِمْ فَقَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا الْإِذْخِرَ» ، وَالْمَعْنَى فِيهِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ حَاجَةُ أَهْلِ مَكَّةَ إلَى ذَلِكَ فِي حَيَاتهمْ وَمَمَاتِهِمْ فَإِنْ قِيلَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ اخْتِلَاءِ خَلَى مَكَّةَ عَامًا فَكَيْفَ اسْتَثْنَى الْإِذْخِرَ بِاسْتِثْنَاءِ الْعَبَّاسِ؟ وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى، وَقَدْ قِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي قَلْبِهِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا أَنَّ الْعَبَّاسَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَبَقَهُ بِهِ فَأَظْهَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلِسَانِهِ مَا كَانَ فِي قَلْبِهِ، وَالثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِتَحْرِيمِ كُلِّ خَلَى مَكَّةَ إلَّا مَا يَسْتَثْنِيهِ الْعَبَّاسُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ، وَيُحْتَمَلُ وَجْهًا ثَالِثًا: وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّ الْقَضِيَّةَ بِتَحْرِيمِ كُلِّ خَلًى فَسَأَلَهُ الْعَبَّاسُ الرُّخْصَةَ فِي الْإِذْخِرِ لِحَاجَةِ أَهْلِ مَكَّةَ تَرْفِيهًا بِهِمْ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالرُّخْصَةِ فِي الْإِذْخِرِ فَقَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إلَّا الْإِذْخِرَ " فَإِنْ قِيلَ: مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْتِحَاقِهِ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِهِ ذِكْرًا، وَهَذَا مُنْفَصِلٌ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَبَعْدَ سُؤَالِ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الِاسْتِثْنَاءَ بِقَوْلِهِ: إلَّا الْإِذْخِرَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْفَصِلُ لَا يَصِحُّ وَلَا يَلْحَقُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الِاسْتِثْنَاءِ بَلْ هُوَ إمَّا تَخْصِيصٌ، وَالتَّخْصِيصُ الْمُتَرَاخِي عَنْ الْعَامِّ جَائِزٌ عِنْدَ مَشَايِخِنَا وَهُوَ النَّسْخُ وَالنَّسْخُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاعْتِقَادِ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَإِنَّمَا يَسْتَوِي فِيهِ الْمُحْرِمُ وَالْحَلَالُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَصْلَ فِي النُّصُوصِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْأَمْنِ؛ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ التَّعَرُّضِ لِأَجْلِ الْحَرَمِ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُحْرِمُ وَالْحَلَالُ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ فَسَبِيلُهَا سَبِيلُ جَزَاءِ صَيْدِ الْحَرَمِ أَنَّهُ إنْ شَاءَ اشْتَرَى بِهَا طَعَامًا يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ عَلَى كُلِّ فَقِيرٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى بِهَا هَدْيًا إنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ هَدْيًا عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَالطَّحَاوِيِّ فَيَذْبَحُ فِي الْحَرَمِ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ الصَّوْمُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ عَلَى مَا مَرَّ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ. وَإِذَا أَدَّى قِيمَتَهُ يُكْرَهُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْقُلُوعِ وَالْمَقْطُوعِ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ، وَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ يُؤَدِّي إلَى اسْتِئْصَالِ نَبَاتِ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّهُ إذَا احْتَاجَ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يَقْلَعُ وَيَقْطَعُ وَيُؤَدِّي قِيمَتَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الصَّيْدِ، فَإِنْ بَاعَهُ يَجُوزُ وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ؛ لِأَنَّهُ ثَمَنُ مَبِيعٍ حَصَلَ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ، وَلَا بَأْسَ بِقَلْعِ الشَّجَرِ الْيَابِسِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ. وَكَذَا الْحَشِيشُ الْيَابِسُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَاتَ وَخَرَجَ عَنْ حَدِّ النُّمُوِّ، وَلَا يَجُوزُ رَعْيُ حَشِيشِ الْحَرَمِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا بَأْسَ بِالرَّعْيِ. وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْهَدَايَا تُحْمَلُ إلَى الْحَرَمِ وَلَا يُمْكِنُ حِفْظُهَا مِنْ الرَّعْيِ، فَكَانَ فِيهِ ضَرُورَةٌ، وَلَهُمَا أَنَّهُ لَمَّا مُنِعَ مِنْ التَّعَرُّضِ لِحَشِيشِ الْحَرَمِ اسْتَوَى فِيهِ التَّعَرُّضُ بِنَفْسِهِ وَبِإِرْسَالِ الْبَهِيمَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْبَهِيمَةِ مُضَافٌ إلَيْهِ كَمَا فِي الصَّيْدِ، فَإِنَّهُ لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ التَّعَرُّضُ لِصَيْدِهِ اسْتَوَى فِيهِ اصْطِيَادُهُ بِنَفْسِهِ. وَبِإِرْسَالِ الْكَلْبِ كَذَا هَذَا. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً مِنْ الزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ الَّتِي يُنْبِتُونَهَا فَلَا بَأْسَ بِقَطْعِهِ وَقَلْعِهِ؛ لِإِجْمَاعِ

الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ النَّاسَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا يَزْرَعُونَ فِي الْحَرَمِ وَيَحْصُدُونَهُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ وَكَذَا مَا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً إذَا أَنْبَتَهُ أَحَدٌ، مِثْلُ شَجَرَةِ أُمِّ غَيْلَانَ وَشَجَرِ الْأَرَاكِ وَنَحْوُهُمَا، فَلَا بَأْسَ بِقَطْعِهِ، وَإِذَا قَطَعَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَجْلِ الْحَرَمِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْإِنْبَاتِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ فَصَارَ كَاَلَّذِي يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً، شَجَرَةٌ أَصْلُهَا فِي الْحَرَمِ وَأَغْصَانُهَا فِي الْحِلِّ فَهِيَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا فِي الْحِلِّ وَأَغْصَانُهَا فِي الْحَرَمِ فَهِيَ مِنْ شَجَرِ الْحِلِّ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إلَى الْأَصْلِ لَا إلَى الْأَغْصَانِ لِأَنَّ الْأَغْصَانَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ مَوْضِعُ الْأَصْلِ لَا التَّابِعَ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَصْلِهَا فِي الْحَرَمِ وَالْبَعْضُ فِي الْحِلِّ فَهِيَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ فَيُرَجَّحُ الْحَاظِرُ احْتِيَاطًا، وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّيْدِ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ مَوْضِعُ قَوَائِمِ الطَّيْرِ إذَا كَانَ مُسْتَقِرًّا بِهِ، فَإِنْ كَانَ الطَّيْرُ عَلَى غُصْنٍ هُوَ فِي الْحَرَمِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْمِيَهُ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الشَّجَرِ فِي الْحِلِّ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غُصْنٍ هُوَ فِي الْحِلِّ فَلَا بَأْسَ لَهُ أَنْ يَرْمِيَهُ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الشَّجَرِ فِي الْحَرَمِ يُنْظَرُ إلَى مَكَانِ قَوَائِمِ الصَّيْدِ لَا إلَى أَصْلِ الشَّجَرِ؛ لِأَنَّ قِوَامَ الصَّيْدِ بِقَوَائِمِهِ حَتَّى لَوْ رَمَى صَيْدًا قَوَائِمُهُ فِي الْحَرَمِ وَرَأْسُهُ فِي الْحِلِّ فَهُوَ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ أَنْ يَقْتُلَهُ. وَلَوْ رَمَى صَيْدًا قَوَائِمُهُ فِي الْحِلِّ وَرَأْسُهُ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ مِنْ صَيْدِ الْحِلِّ، وَلَا بَأْسَ لِلْحَلَالِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَكَذَا إذَا كَانَ بَعْضُ قَوَائِمِهِ فِي الْحَرَمِ وَبَعْضُهَا فِي الْحِلِّ فَهُوَ صَيْدُ الْحَرَمِ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا هَذَا إذَا كَانَ قَائِمًا. فَأَمَّا إذَا نَامَ فَجَعَلَ قَوَائِمَهُ فِي الْحِلِّ وَرَأْسَهُ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ الْقَوَائِمَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ إذَا كَانَ مُسْتَقِرًّا بِهَا وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ بِقَوَائِمِهِ بَلْ هُوَ كَالْمُلْقَى عَلَى الْأَرْضِ، وَإِذَا بَطَلَ اعْتِبَارُ الْقَوَائِمِ فَاجْتَمَعَ فِيهِ الْحَاظِرُ وَالْمُبِيحُ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْحَاظِرِ احْتِيَاطًا، وَلَا بَأْسَ بِأَخْذِ كَمْأَةَ الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ الْكَمْأَةَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ النَّبَاتِ بَلْ هِيَ مِنْ وَدَائِعِ الْأَرْضِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا بَأْسَ بِإِخْرَاجِ حِجَارَةِ الْحَرَمِ وَتُرَابِهِ إلَى الْحِلِّ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يُخْرِجُونَ الْقُدُورَ مِنْ مَكَّةَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِهْلَاكُهُ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْحَرَمِ، فَيَجُوزُ إخْرَاجُهُ إلَى الْحِلِّ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَرَاهَةُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَ الْحَرَمِ آمِنًا؛ وَلِأَنَّ الْحَرَمَ لَمَّا أَفَادَ الْأَمْنَ لِغَيْرِهِ فَلَأَنْ يُفِيدَ لِنَفْسِهِ أَوْلَى. ثُمَّ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ اجْتِنَابُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ وَتَثْبُتُ أَحْكَامُهَا إذَا فَعَلَ إذَا كَانَ مُخَاطَبًا بِالشَّرَائِعِ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا كَالصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لَا يَجِبُ وَلَا يَثْبُتُ حَتَّى لَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى وَلِيِّهِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ، وَالْحَرَمُ يُثْبِتُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَالصَّبِيُّ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ أَنْ يُجَنِّبَهُ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ تَأَدُّبًا وَتَعَوُّدًا كَمَا يَأْمُرُهُ بِالصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا أَحْرَمَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِنَابُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ الصَّوْمُ يَصُومُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِيهِ إلَّا الْفِدْيَةُ أَوْ الْإِطْعَامُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَوْ فَعَلَ فِي حَالِ الرِّقِّ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ. وَكَذَا لَوْ فَعَلَ عَنْهُ مَوْلَاهُ أَوْ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَلَا يَمْلِكُ، وَإِنْ مَلَكَ. وَإِذَا فَرَغْنَا مِنْ فُصُولِ الْإِحْرَامِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ فَلْنَرْجِعْ إلَى مَا كُنَّا فِيهِ، وَهُوَ بَيَانُ شَرَائِطِ الْأَرْكَانِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا جُمْلَةً مِنْهَا فَمِنْهَا: الْإِسْلَامُ وَمِنْهَا: الْعَقْلُ وَمِنْهَا: النِّيَّةُ وَمِنْهَا: الْإِحْرَامُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِجَمِيعِ فُصُولِهِ وَعَلَائِقِهِ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ وَمِنْهَا:. الْوَقْتُ فَلَا يَجُوزُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَلَا طَوَافُ الزِّيَارَةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَا أَدَاءُ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ قَبْلَ وَقْتِهِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وَالْعِبَادَاتُ الْمُؤَقَّتَةُ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا قَبْلَ أَوْقَاتِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ. وَكَذَا إذَا فَاتَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ عَنْ وَقْتِهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ لَا يَجُوزُ الْوُقُوفُ فِي يَوْمٍ آخَرَ، وَيَفُوتُ الْحَجُّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إلَّا لِضَرُورَةِ الِاشْتِبَاهِ اسْتِحْسَانًا بِأَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ فَوَقَفُوا ثُمَّ تُبُيِّنَ أَنَّهُمْ وَقَفُوا يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا طَوَافُ الزِّيَارَةِ إذَا فَاتَ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا لَكِنْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالتَّأْخِيرِ عَلَى مَا مَرَّ وَأَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ كَذَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَكَذَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِثْلُ الشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَيَنْبَنِي أَيْضًا عَلَى مَعْرِفَةِ أَشْهُرِ الْحَجِّ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَقَدْ ذَكَرْنَا

الِاخْتِلَافَ فِيهِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا إذَا أَمِنَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ حَالَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِنَابَةُ غَيْرِهِ مَعَ. قُدْرَتِهِ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْعِبَادَاتِ فِي الشَّرْعِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ:. مَالِيَّةٌ مَحْضَةٌ: كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْعُشُورِ. وَبَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ: كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْجِهَادِ. وَمُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْبَدَنِ وَالْمَالِ: كَالْحَجِّ، فَالْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ تَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ قَادِرًا عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إخْرَاجُ الْمَالِ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِفِعْلِ النَّائِبِ، وَالْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ لَا تَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ» أَيْ: فِي حَقِّ الْخُرُوجِ عَنْ الْعُهْدَةِ لَا فِي حَقِّ الثَّوَابِ، فَإِنَّ مَنْ صَامَ أَوْ صَلَّى أَوْ تَصَدَّقَ وَجَعَلَ ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَاتِ أَوْ الْأَحْيَاءِ جَازَ وَيَصِلُ ثَوَابُهَا إلَيْهِمْ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَنْ نَفْسِهِ، وَالْآخَرُ: عَنْ أُمَّتِهِ مِمَّنْ آمَنَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِرِسَالَتِهِ» - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُوِيَ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّ أُمِّي كَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَصَدَّقْ» وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا وَالتَّكْفِينِ وَالصَّدَقَاتِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَجَعْلِ ثَوَابِهَا لِلْأَمْوَاتِ، وَلَا امْتِنَاعَ فِي الْعَقْلِ أَيْضًا لِأَنَّ إعْطَاءَ الثَّوَابِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إفْضَالٌ مِنْهُ لَا اسْتِحْقَاقٌ عَلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَى مَنْ عَمِلَ لِأَجْلِهِ بِجَعْلِ الثَّوَابِ لَهُ كَمَا لَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ بِإِعْطَاءِ الثَّوَابِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ رَأْسًا. وَأَمَّا الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْبَدَنِ وَالْمَالِ - وَهِيَ الْحَجُّ - فَلَا يَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَيَجُوزُ عِنْدَ الْعَجْزِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي جَوَازِ. النِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ النِّيَابَةِ فِيهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ النِّيَابَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَصِيرُ النَّائِبُ بِهِ مُخَالِفًا وَبَيَانِ حُكْمِهِ إذَا خَالَفَ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالدَّلِيلُ عَلَى الْجَوَازِ حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ مِنْ بَنِي خَثْعَمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي، وَإِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَيُجْزِينِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجِّي عَنْ أَبِيك وَاعْتَمِرِي، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لَهَا: أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَمَا كَانَ يُقْبَلُ مِنْك؟ قَالَتْ: نَعَمْ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَدَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى أَحَقُّ» ، وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تُؤَدَّى بِالْبَدَنِ وَالْمَالِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُمَا وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِتَنَافٍ بَيْنَ أَحْكَامِهِمَا فَنَعْتَبِرُهُمَا فِي حَالَيْنِ، فَنَقُولُ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ اعْتِبَارًا لِلْبَدَنِ، وَتَجُوزُ عِنْدَ الْعَجْزِ اعْتِبَارًا لِلْمَالِ عَمَلًا بِالْمَعْنَيَيْنِ فِي الْحَالَيْنِ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ النِّيَابَةِ فِيهِ، فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ نَفْسَ الْحَجِّ يَقَعُ عَنْ الْحَاجِّ، وَإِنَّمَا لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ ثَوَابُ النَّفَقَةِ. وَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ وَالْبَدَنُ لِلْحَاجِّ، وَالْمَالُ لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ فَمَا كَانَ مِنْ الْبَدَنِ لِصَاحِبِ الْبَدَنِ، وَمَا كَانَ بِسَبَبِ الْمَالِ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْمَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَكَفَّارَتُهُ فِي مَالِهِ لَا فِي مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ. وَكَذَا لَوْ أَفْسَدَ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَدَلَّ أَنَّ نَفْسَ الْحَجِّ يَقَعُ لَهُ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ ثَوَابَ نَفَقَةِ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ عَنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ مَقَامَ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ نَظَرًا لَهُ وَمَرْحَمَةً عَلَيْهِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ حَيْثُ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حُجِّي عَنْ أَبِيك» أَمَرَهَا بِالْحَجِّ عَنْ أَبِيهَا. وَلَوْلَا أَنَّ حَجَّهَا يَقَعُ عَنْ أَبِيهَا لَمَا أَمَرَهَا بِالْحَجِّ عَنْهُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاسَ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِدَيْنِ الْعِبَادِ بِقَوْلِهِ: «أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ؟» وَذَلِكَ تُجْزِئُ فِيهِ النِّيَابَةُ وَيَقُومُ فِعْلُ النَّائِبِ مَقَامَ فِعْلِ الْمَنُوبِ عَنْهُ كَذَا هَذَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَاجَّ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ كَذَا الْإِحْرَامُ، وَلَوْ لَمْ يَقَعْ نَفْسُ الْحَجِّ عَنْهُ لَكَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ النِّيَابَةِ فَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ عَاجِزًا عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ وَلَهُ مَالٌ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ بِأَنْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ وَلَهُ مَالٌ لَا يَجُوزُ حَجُّ غَيْرِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْأَدَاءِ بِبَدَنِهِ وَلَهُ مَالٌ، فَالْفَرْضُ يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِهِ لَا بِمَالِهِ، بَلْ الْمَالُ يَكُونُ شَرْطًا وَإِذَا تَعَلَّقَ الْفَرْضُ بِبَدَنِهِ لَا تُجْزِئُ فِيهِ النِّيَابَةُ كَالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ. وَكَذَا لَوْ كَانَ فَقِيرًا صَحِيحَ الْبَدَنِ لَا يَجُوزُ حَجُّ

غَيْرِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَصْلًا فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ غَيْرُهُ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَلَا وَاجِبَ. وَمِنْهَا: الْعَجْزُ الْمُسْتَدَامُ مِنْ وَقْتِ الْإِحْجَاجِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، فَإِنْ زَالَ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَجُزْ حَجُّ غَيْرِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ جَوَازَ حَجِّ الْغَيْرِ عَنْ الْغَيْرِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُهُ فَيَتَقَيَّدُ الْجَوَازُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْمَرِيضُ أَوْ الْمَحْبُوسُ إذَا أَحَجَّ عَنْهُ أَنَّ جَوَازَهُ مَوْقُوفٌ إنْ مَاتَ - وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مَحْبُوسٌ - جَازَ وَإِنْ زَالَ الْمَرَضُ أَوْ الْحَبْسُ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَجُزْ وَالْإِحْجَاجُ مِنْ الزَّمِنِ وَالْأَعْمَى عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَةَ وَالْعَمَى لَا يُرْجَى زَوَالُهُمَا عَادَةً فَوُجِدَ الشَّرْطُ - وَهُوَ الْعَجْزُ الْمُسْتَدَامُ - إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ وَمِنْهَا: الْأَمْرُ بِالْحَجِّ فَلَا يَجُوزُ حَجُّ الْغَيْرِ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْهُ، وَالنِّيَابَةُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْأَمْرِ إلَّا الْوَارِثَ يَحُجُّ عَنْ مُوَرِّثِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِالنَّصِّ، وَلِوُجُودِ الْأَمْرِ هُنَاكَ دَلَالَةٌ عَلَى مَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -، وَمِنْهَا: نِيَّةُ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ النَّائِبَ يَحُجُّ عَنْهُ لَا عَنْ نَفْسِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّتِهِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ لَبَّيْكَ عَنْ فُلَانٍ كَمَا إذَا حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ حَجُّ الْمَأْمُورِ بِمَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، فَإِنْ تَطَوَّعَ الْحَاجُّ عَنْهُ بِمَالِ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ عَنْهُ حَتَّى يَحُجَّ بِمَالِهِ. وَكَذَا إذَا كَانَ أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِمَالِهِ وَمَاتَ، فَتَطَوَّعَ عَنْهُ وَارِثُهُ بِمَالِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ فَإِذَا لَمْ يَحُجَّ بِمَالِهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْفَرْضُ؛ وَلِأَنَّ مَذْهَبَ مُحَمَّدٍ أَنَّ نَفْسَ الْحَجِّ يَقَعُ لِلْحَاجِّ، وَإِنَّمَا لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ ثَوَابُ النَّفَقَةِ، فَإِذَا لَمْ يُنْفِقْ مِنْ مَالِهِ فَلَا شَيْءَ لَهُ رَأْسًا، وَمِنْهَا: الْحَجُّ رَاكِبًا حَتَّى لَوْ أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فَحَجَّ مَاشِيًا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ وَيَحُجُّ عَنْهُ رَاكِبًا؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ عَلَيْهِ هُوَ الْحَجُّ رَاكِبًا فَيَنْصَرِفُ مُطْلَقُ الْأَمْرِ بِالْحَجِّ إلَيْهِ فَإِذَا حَجَّ مَاشِيًا فَقَدْ خَالَفَ فَيَضْمَنُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَاجُّ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ كَانَ صَرُورَةً أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ حَجُّ الصَّرُورَةِ عَنْ غَيْرِهِ وَيَقَعُ حَجُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ قَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَمَنْ شُبْرُمَةُ؟ فَقَالَ: أَخٌ لِي أَوْ صَدِيقٌ لِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَجَجْت عَنْ نَفْسِك؟ فَقَالَ: لَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حُجَّ عَنْ نَفْسِك ثُمَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ حَجِّهِ عَنْ نَفْسِهِ. وَلَوْلَا أَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ لَمْ يَكُنْ لِسُؤَالِهِ مَعْنًى، وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلًا ثُمَّ عَنْ شُبْرُمَةَ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحَجُّ عَنْ غَيْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ حَجَّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَرْضٌ عَلَيْهِ، وَحَجُّهُ عَنْ غَيْرِهِ لَيْسَ بِفَرْضٍ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ بِمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَلَنَا حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا حُجِّي عَنْ أَبِيك، وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَنَّهَا كَانَتْ حَجَّتْ عَنْ نَفْسِهَا أَوْ كَانَتْ صَرُورَةً. وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ لَاسْتَفْسَرَ؛ وَلِأَنَّ الْأَدَاءَ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَجِبْ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَالْوَقْت كَمَا يَصْلُحُ لِحَجِّهِ عَنْ نَفْسِهِ يَصْلُحُ لِحَجِّهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا عَيَّنَهُ لِحَجِّهِ عَنْ غَيْرِهِ وَقَعَ عَنْهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الصَّرُورَةَ إذَا حَجَّ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ النَّفْلِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْفَرْضِ بَلْ يَقْبَلُ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ، فَإِذَا عَيَّنَهُ لِلنَّفْلِ تَعَيَّنَ لَهُ إلَّا أَنَّ عِنْدَ إطْلَاقِ النِّيَّةِ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ؛ لِوُجُودِ نِيَّةِ الْفَرْضِ بِدَلَالَةِ حَالِهِ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ النَّفَلَ، وَعَلَيْهِ الْفَرْضُ فَانْصَرَفَ الْمُطْلَقُ إلَى الْمُقَيَّدِ بِدَلَالَةِ حَالِهِ لَكِنْ الدَّلَالَةُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ بِخِلَافِهَا فَإِذَا نَوَى التَّطَوُّعَ، فَقَدْ وُجِدَ النَّصُّ بِخِلَافِهَا فَلَا تُعْتَبَرُ الدَّلَالَةُ إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْحَجِّ عَنْ غَيْرِهِ يَصِيرُ تَارِكًا إسْقَاطَ الْفَرْضِ عَنْ نَفْسِهِ، فَيَتَمَكَّنُ فِي هَذَا الْإِحْجَاجِ ضَرْبُ كَرَاهَةٍ، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ حَجَّ مَرَّةً كَانَ أَعْرَفَ بِالْمَنَاسِكِ. وَكَذَا هُوَ أَبْعَدُ عَنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ فَكَانَ أَفْضَلَ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَسَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ إحْجَاجُ الْمَرْأَةِ، لَكِنَّهُ يَجُوزُ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ. وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي حَجِّهَا ضَرْبُ نُقْصَانٍ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَسْتَوْفِي سُنَنَ الْحَجِّ فَإِنَّهَا لَا تَرْمُلُ فِي الطَّوَافِ وَفِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلَا تَحْلِقُ، وَسَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا بِإِذْنِ الْمَوْلَى لَكِنَّهُ يُكْرَهُ إحْجَاجُ الْعَبْدِ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِالنِّيَابَةِ، وَمَا تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ يَسْتَوِي فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ كَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا. وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الْفَرْضِ عَنْ نَفْسِهِ فَيُكْرَهُ أَدَاؤُهُ عَنْ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ مُخَالِفًا، وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا خَالَفَ فَنَقُولُ: إذَا أَمَرَ بِحَجَّةٍ مُفْرَدَةٍ أَوْ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ فَقَرَنَ فَهُوَ مُخَالِفٌ ضَامِنٌ فِي قَوْلِ

أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُجْزِي ذَلِكَ عَنْ الْآمِرِ نَسْتَحْسِنُ وَنَدَعُ الْقِيَاسَ فِيهِ، وَلَا يَضْمَنُ فِيهِ دَمَ الْقِرَانِ عَلَى الْحَاجِّ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَزَادَ خَيْرًا فَكَانَ مَأْذُونًا فِي الزِّيَادَةِ دَلَالَةً، فَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا كَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: اشْتَرِ لِي هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ أَوْ قَالَ: بِعْ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ يَجُوزُ، وَيُنَفِّذُ عَلَى الْآمِرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ إذَا قَرَنَ بِإِذْنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ كَانَ الدَّمُ عَلَى الْحَاجِّ لِمَا نَذْكُرُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِسَفَرٍ يَصْرِفُهُ إلَى الْحَجِّ لَا غَيْرُ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ الْآمِرِ فَضَمِنَ. وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَاعْتَمَرَ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ وَلَوْ اعْتَمَرَ ثُمَّ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ يَضْمَنُ النَّفَقَةَ فِي قَوْلِهِمْ؛ جَمِيعًا لِأَمْرِهِ بِهِ بِالْحَجِّ، بِسَفَرٍ وَقَدْ أَتَى بِالْحَجِّ مِنْ غَيْرِ سَفَرٍ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ سَفَرَهُ الْأَوَّلَ إلَى الْعُمْرَةِ، فَكَانَ مُخَالِفًا فَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ. وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْحَجِّ عَنْهُ فَجَمَعَ بَيْنَ إحْرَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَنْهُ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ عَنْ نَفْسِهِ فَحَجَّ عَنْهُ وَاعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ صَارَ مُخَالِفًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقْسِمُ النَّفَقَةَ عَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَيَطْرَحُ عَنْ الْحَجِّ مَا أَصَابَ الْعُمْرَةَ، وَيَجُوزُ مَا أَصَابَ الْحَجَّ. وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَأْمُورَ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ - وَهُوَ الْحَجُّ - عَنْ الْآمِرِ وَزَادَهُ إحْسَانًا حَيْثُ أَسْقَطَ عَنْهُ بَعْضَ النَّفَقَةِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِصَرْفِ كُلِّ السَّفَرِ إلَى الْحَجِّ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى بِالسَّفَرِ حَجًّا عَنْ الْآمِرِ وَعُمْرَةً عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَ مُخَالِفًا وَبِهِ تُبُيِّنَ أَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَقَوْلُهُ: (أَنَّهُ أَحْسَنَ إلَيْهِ حَيْثُ أَسْقَطَ عَنْهُ بَعْضَ النَّفَقَةِ) غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْآمِرِ فِي الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ هُوَ ثَوَابُ النَّفَقَةِ فَإِسْقَاطُهُ لَا يَكُونُ إحْسَانًا، بَلْ يَكُونُ إسَاءَةً وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَاعْتَمَرَ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ ذَلِكَ، وَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَهُوَ أَدَاءُ الْعُمْرَةِ بِالسَّفَرِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَجَّ فَاشْتِغَالُهُ بِهِ كَاشْتِغَالِهِ بِعَمَلٍ آخَرَ مِنْ التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا إلَّا أَنَّ النَّفَقَةَ مِقْدَارُ مَقَامِهِ لِلْحَجِّ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الرُّقَيَّاتِ إذَا حَجَّ عَنْ الْمَيِّتِ وَطَافَ لِحَجِّهِ وَسَعَى ثُمَّ أَضَافَ إلَيْهِ عُمْرَةً عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةُ الرَّفْضِ؛ لِوُقُوعِهَا عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي فَصْلِ الْقِرَانِ، فَكَانَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَوْ كَانَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَحْرَمَ بِهِمَا ثُمَّ لَمْ يَطُفْ حَتَّى وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَرَفَضَ الْعُمْرَةَ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُخَالِفٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَحْرَمَ بِهِمَا جَمِيعًا فَقَدْ صَارَ مُخَالِفًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَوَقَعَتْ الْحَجَّةُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُحْتَمَلُ التَّغْيِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَفْضِ الْعُمْرَةِ. ` وَلَوْ أَمَرَهُ رَجُلٌ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ حَجَّةً وَأَمَرَهُ رَجُلٌ آخَرُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَأَحْرَمَ بِحَجَّةٍ فَهَذَا لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ:. إمَّا إنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَإِمَّا إنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْهُمَا جَمِيعًا فَهُوَ مُخَالِفٌ، وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنْهُ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ لَهُمَا إنْ كَانَ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَهُ بِحَجٍّ تَامٍّ وَلَمْ يَفْعَلْ، فَصَارَ مُخَالِفًا لِأَمْرِهِمَا فَلَمْ يَقَعْ حَجُّهُ عَنْهُمَا فَيَضْمَنُ لَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَرْضَ بِإِنْفَاقِ مَالِهِ فَيَضْمَنُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْحَجُّ عَنْ الْحَاجِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَقَعَ كُلُّ فِعْلٍ عَنْ فَاعِلِهِ. وَإِنَّمَا يَقَعُ لِغَيْرِهِ بِجَعْلِهِ، فَإِذَا خَالَفَ لَمْ يَصِرْ لِغَيْرِهِ فَبَقِيَ فِعْلُهُ لَهُ. وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ لِأَحَدِهِمَا لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ بِخِلَافِ الِابْنِ إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْ أَبَوَيْهِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الِابْنَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِالْحَجِّ عَنْ الْأَبَوَيْنِ فَلَا تَتَحَقَّقُ مُخَالَفَةُ الْآمِرِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ ثَوَابَ الْحَجِّ الْوَاقِعِ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَبَوَيْهِ، وَكَانَ مِنْ عَزْمِهِ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ حَجِّهِ لَهُمَا ثُمَّ نَقَضَ عَزْمَهُ وَجَعَلَهُ لِأَحَدِهِمَا وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ مُتَصَرِّفٌ بِحُكْمِ الْآمِرِ، وَقَدْ خَالَفَ أَمْرَهُمَا فَلَا يَقَعُ حَجُّهُ لَهُمَا وَلَا لِأَحَدِهِمَا، وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْ أَحَدِهِمَا فَإِنْ أَحْرَمَ لِأَحَدِهِمَا عَيْنًا وَقَعَ الْحَجُّ عَنْ الَّذِي عَيَّنَهُ، وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِلْآخَرِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ. وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْ أَحَدِهِمَا غَيْرَ عَيْنٍ، فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا عَنْ أَحَدِهِمَا أَيُّهُمَا شَاءَ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْأَدَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ ذَلِكَ وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنْ نَفْسِهِ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ لَهُمَا. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ خَالَفَ الْأَمْرَ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِالْحَجِّ لِمُعَيَّنٍ، وَقَدْ حَجَّ لِمُبْهَمٍ، وَالْمُبْهَمُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ فَصَارَ مُخَالِفًا وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ، وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنْ نَفْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَحْرَمَ الِابْنُ بِالْحَجِّ عَنْ أَحَدِ أَبَوَيْهِ أَنَّهُ يَصِحُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِابْنَ فِي حَجِّهِ لِأَبَوَيْهِ لَيْسَ مُتَصَرِّفًا بِحُكْمِ الْآمِرِ حَتَّى يَصِيرَ مُخَالِفًا لِلْآمِرِ بَلْ هُوَ يَحُجُّ عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ ثَوَابَ حَجِّهِ لِأَحَدِهِمَا وَذَلِكَ جَائِزٌ. وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ مِنْ أَصْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ لَيْسَ

مِنْ الْأَدَاءِ بَلْ هُوَ شَرْطُ جَوَازِ أَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَيَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ مُتَصَوَّرٌ بِوَاسِطَةِ التَّعْيِينِ، فَإِذَا جَعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ تَعَيَّنَ لَهُ فَيَقَعُ عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهَا عَنْ أَحَدِهِمَا حَتَّى طَافَ شَوْطًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهَا عَنْ أَحَدِهِمَا لَمْ تَجُزْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْأَدَاءُ تَعَذَّرَ تَعْيِينُ الْقَدْرِ الْمُؤَدَّى؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى قَدْ مَضَى وَانْقَضَى، فَلَا يُتَصَوَّرُ تَعْيِينُهُ فَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ، وَصَارَ إحْرَامُهُ وَاقِعًا لَهُ لِاتِّصَالِ الْأَدَاءِ بِهِ. وَإِنْ أَمَرَهُ أَحَدُهُمَا بِحَجَّةٍ، وَأَمَرَهُ الْآخَرُ بِعُمْرَةٍ فَإِنْ أَذِنَا لَهُ بِالْجَمْعِ - وَهُوَ الْقِرَانُ - فَجَمَعَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِسَفَرٍ يَنْصَرِفُ بَعْضُهُ إلَى الْحَجِّ وَبَعْضُهُ إلَى الْعُمْرَةِ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنَا لَهُ بِالْجَمْعِ فَجَمَعَ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِسَفَرٍ يَنْصَرِفُ كُلُّهُ إلَى الْحَجِّ، وَقَدْ صَرَفَهُ إلَى: الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَصَارَ مُخَالِفًا، وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ وَاعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ جَازَ. وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَحَجَّ عَنْهُ مَاشِيًا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَجِّ يَنْصَرِفُ إلَى الْحَجِّ الْمُتَعَارَفِ فِي الشَّرْعِ - وَهُوَ الْحَجُّ رَاكِبًا - لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِذَلِكَ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ فَإِذَا حَجَّ مَاشِيًا فَقَدْ خَالَفَ فَيَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا، وَلِأَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْآمِرِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْحَجِّ هُوَ ثَوَابُ النَّفَقَةِ، وَالنَّفَقَةُ فِي الرُّكُوبِ أَكْثَرُ فَكَانَ الثَّوَابُ فِيهِ أَوْفَرَ؛ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ حَجَّ عَلَى حِمَارٍ كَرِهْت لَهُ ذَلِكَ، وَالْجَمَلُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ فِي رُكُوبِ الْجَمَلِ أَكْثَرُ فَكَانَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ فِيهِ أَكْمَلَ فَكَانَ أَوْلَى. وَإِذَا فَعَلَ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ مَا يُوجِبُ الدَّمَ أَوْ غَيْرَهُ فَهُوَ عَلَيْهِ وَلَوْ قَرَنَ عَنْ الْآمِرِ بِأَمْرِهِ فَدَمُ الْقِرَانِ عَلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَمِيعَ الدِّمَاءِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِحْرَامِ فِي مَالِ الْحَاجِّ إلَّا دَمَ الْإِحْصَارِ خَاصَّةً، فَإِنَّهُ فِي مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ دَمُ الْإِحْصَارِ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاخْتِلَافَ وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ. وَذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ عَلَى الْحَاجِّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَمَّا مَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ؛ فَلِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَنَى، فَكَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ وَلِأَنَّهُ أُمِرَ بِحَجٍّ خَالٍ عَنْ الْجِنَايَةِ، فَإِذَا جَنَى فَقَدْ خَالَفَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْخِلَافِ. وَأَمَّا دَمُ الْقِرَانِ فَلِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ شُكْرًا، وَسَائِرُ أَفْعَالِ النُّسُكِ، عَلَى الْحَاجِّ فَكَذَا هَذَا النُّسُكُ وَأَمَّا دَمُ الْإِحْصَارِ فَلِأَنَّ الْمَحْجُوجَ عَنْهُ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَكَانَ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ وَالْمُؤْنَةِ، وَذَلِكَ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا. ، فَإِنْ جَامَعَ الْحَاجُّ عَنْ غَيْرِهِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ وَيَمْضِي فِيهِ وَالنَّفَقَةُ فِي مَالِهِ، وَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، أَمَّا فَسَادُ الْحَجِّ فَلِأَنَّ الْجِمَاعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ لِمَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَوْضِعِهِ، وَالْحَجَّةُ الْفَاسِدَةُ يَجِبُ الْمُضِيُّ فِيهَا. وَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْآمِرِ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِحَجَّةٍ - صَحِيحَةٍ وَهِيَ الْخَالِيَةُ عَنْ الْجِمَاعِ - وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَصَارَ مُخَالِفًا فَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ وَمَا بَقِيَ يُنْفِقُ فِيهِ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ وَقَعَ لَهُ وَيَقْضِي؛ لِأَنَّ مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ فَإِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ يَصْنَعُ مَا يَصْنَعُ فَائِتُ الْحَجِّ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِيهِ وَسَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - وَلَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِأَنَّهُ فَاتَهُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْخِلَافُ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَعَلَيْهِ عَنْ نَفْسِهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ؛ لِأَنَّ الْحَجَّةَ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالشُّرُوعِ فَإِذَا فَاتَتْ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عِنْدَهُ يَقَعُ عَنْ الْحَاجِّ. وَقَالُوا فِيمَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ فَمَرِضَ فِي الطَّرِيقِ: لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ النَّفَقَةَ إلَى مَنْ يَحُجُّ عَنْ الْمَيِّتِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْحَجِّ لَا بِالْإِحْجَاجِ كَأَنْ لَمْ يَبْلُغْ الْمَالُ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ النَّفَقَةَ. فَأَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَمَالِ الْآمِرِ يَنْظُرُ، فَإِنْ بَلَغَ مَالُ الْآمِرِ الْكِرَاءَ وَعَامَّةَ النَّفَقَةِ فَالْحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَإِلَّا فَهُوَ ضَامِنٌ، وَيَكُونُ الْحَجُّ عَنْ نَفْسِهِ وَيَرُدُّ الْمَالَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَعْتَبِرَ الْأَكْثَرَ وَيَجْعَلَ الْأَقَلَّ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ وَقَلِيلَ الْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ مِنْ شَرْبَةِ مَاءٍ، أَوْ قَلِيلِ زَادٍ فَلَوْ اعْتَبَرَ الْقَلِيلَ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ الْحَجِّ عَنْ الْآمِرِ يُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْإِحْجَاجِ فَلَا يُعْتَبَرُ وَيُعْتَبَرُ الْكَثِيرُ. وَلَوْ أَحَجَّ رَجُلًا يُؤَدِّي الْحَجَّ وَيُقِيمُ بِمَكَّةَ جَازَ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ صَارَ مُؤَدِّيًا بِالْفَرَاغِ عَنْ أَفْعَالِهِ. وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَحُجَّ ثُمَّ يَعُودَ إلَيْهِ، لِأَنَّ الْحَاصِلَ لِلْآمِرِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ، فَمَهْمَا كَانَتْ النَّفَقَةُ أَكْثَرَ كَانَ الثَّوَابُ أَكْثَرَ وَأَوْفَرَ، وَإِذَا فَرَغَ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ مِنْ الْحَجِّ وَنَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا أَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ

فصل بيان ما يفسد الحج

لِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ قَدْ صَحَّتْ فَصَارَ تَارِكًا لِلسَّفَرِ فَلَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ الْآمِرِ. وَلَوْ أَنْفَقَ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنْ أَقَامَ بِهَا أَيَّامًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّهُ إنْ أَقَامَ إقَامَةً مُعْتَادَةً فَالنَّفَقَةُ فِي مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الْمُعْتَادِ فَالنَّفَقَةُ مِنْ مَالِهِ حَتَّى قَالُوا: إذَا أَقَامَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الْآمِرِ، وَإِنْ زَادَ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَقَالُوا فِي الْخُرَاسَانِيِّ: إذَا جَاءَ حَاجًّا عَنْ غَيْرِهِ فَدَخَلَ بَغْدَادَ فَأَقَامَ بِهَا إقَامَةً مُعْتَادَةً مِقْدَارَ مَا يُقِيمُ النَّاسُ بِهَا عَادَةً فَالنَّفَقَةُ فِي مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، وَإِنْ أَقَامَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَالنَّفَقَةُ فِي مَالِهِ، وَهَذَا كَانَ فِي زَمَانِهِمْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ زَمَانَ أَمْنٍ يَتَمَكَّنُ الْحَاجُّ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ نَفَرٍ يَسِيرٍ، فَقَدَّرُوا مُدَّةَ الْإِقَامَةِ بِهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ كَمَا أَذِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ. فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا يُمْكِنُ الْخُرُوجُ لِلْأَفْرَادِ وَالْآحَادِ وَلَا لِجَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ مِنْ مَكَّةَ إلَّا مَعَ الْقَافِلَةِ فَمَا دَامَ مُنْتَظِرًا خُرُوجَ الْقَافِلَةِ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَكَذَا هَذَا فِي إقَامَتِهِ بِبَغْدَادَ أَنَّهُ مَا دَامَ مُنْتَظِرًا لِخُرُوجِ الْقَافِلَةِ، فَالنَّفَقَةُ فِي مَالِ الْآمِرِ لِتَعَذُّرِ سَبْقِهِ بِالْخُرُوجِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الْمَالِ وَالنَّفْسِ لِلْهَلَاكِ فَالتَّعْوِيلُ فِي الذَّهَابِ وَالْإِيَابِ عَلَى ذَهَابِ الْقَافِلَةِ وَإِيَابِهَا. فَإِنْ نَوَى إقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا حَتَّى سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِ الْآمِرِ ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ ذَلِكَ هَلْ تَعُودُ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْآمِرِ؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ تَعُودُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ تَعُودُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَعُودُ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا فَأَمَّا إذَا اتَّخَذَهَا دَارًا ثُمَّ عَادَ لَا تَعُودُ النَّفَقَةُ فِي مَالِ الْآمِرِ بِلَا خِلَافٍ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ السَّفَرِ فَلَا تَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِقَامَةَ تَرْكُ السَّفَرِ لَا قَطْعُهَا، وَالْمَتْرُوكُ يَعُودُ، فَأَمَّا اتِّخَاذُ مَكَّةَ دَارًا وَالتَّوَطُّنُ بِهَا فَهُوَ قَطْعُ السَّفَرِ، وَالْمُنْقَطِعُ لَا يَعُودُ. وَلَوْ تَعَجَّلَ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ لِيَكُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ بِمَكَّةَ، فَدَخَلَ مُحْرِمًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ إلَى عَشْرِ الْأَضْحَى فَإِذَا جَاءَ عَشْرُ الْأَضْحَى أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْآمِرِ كَذَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْوَقْتِ الَّذِي يَدْخُلُهَا النَّاسُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَدَاءِ الْمَنَاسِكِ غَالِبًا، فَلَا تَكُونُ هَذِهِ الْإِقَامَةُ مَأْذُونًا فِيهَا كَالْإِقَامَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ أَكْثَرَ مِنْ الْمُعْتَادِ، وَلَا يَكُونُ بِمَا عَجَّلَ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّ الْآمِرَ مَا عَيَّنَّ لَهُ وَقْتًا. ، وَالتِّجَارَةُ وَالْإِجَارَةُ لَا يَمْنَعَانِ جَوَازَ الْحَجِّ، وَيَجُوزُ حَجُّ التَّاجِرِ وَالْأَجِيرِ وَالْمُكَارِي، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] قِيلَ: الْفَضْلُ التِّجَارَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ التِّجَارَةِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ امْتَنَعَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ عَنْ التِّجَارَةِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَضُرَّ ذَلِكَ حَجَّهُمْ، فَرَخَّصَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ طَلَبَ الْفَضْلِ فِي الْحَجِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَرُوِيَ أَنَّ «رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: إنَّا قَوْمٌ نُكْرَى، وَنَزْعُمُ أَنَّ لَيْسَ لَنَا حَجٌّ فَقَالَ: أَلَسْتُمْ تُحْرِمُونَ؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: فَأَنْتُمْ حُجَّاجٌ جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] » ؛ وَلِأَنَّ التِّجَارَةَ وَالْإِجَارَةَ لَا يَمْنَعَانِ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَشَرَائِطِهَا، فَلَا يَمْنَعَانِ مِنْ الْجَوَازِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُفْسِدُ الْحَجَّ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُفْسِدُ الْحَجَّ وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَاَلَّذِي يُفْسِدُ الْحَجَّ. الْجِمَاعُ لَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ أَنَّ الْجِمَاعَ يُفْسِدُ الْحَجَّ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ كَوْنِهِ مُفْسِدًا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ - وَهُمَا مُحْرِمَانِ - مَضَيَا فِي إحْرَامِهِمَا وَعَلَيْهِمَا هَدْيٌ وَيَقْضِيَانِ مِنْ قَابِلٍ وَيَفْتَرِقَانِ؛ وَلِأَنَّ الْجِمَاعَ فِي نِهَايَةِ الِارْتِفَاقِ بِمَرَافِقِ الْمُقِيمِينَ، فَكَانَ فِي نِهَايَةِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ، فَكَانَ مُفْسِدًا لِلْإِحْرَامِ. (وَأَمَّا) شَرْطُ كَوْنِهِ مُفْسِدًا فَشَيْئَانِ:. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْجِمَاعُ فِي الْفَرْجِ حَتَّى لَوْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ أَوْ لَمَسَ بِشَهْوَةٍ أَوْ عَانَقَ أَوْ قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ؛ لِانْعِدَامِ الِارْتِفَاقِ الْبَالِغِ لَكِنْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ لِوُجُودِ اسْتِمْتَاعٍ مَقْصُودٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَفَرَّقْنَا بَيْنَ اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ عَنْ شَهْوَةٍ. وَلَوْ وَطِئَ بَهِيمَةً لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ؛ لِمَا قُلْنَا وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إلَّا إذَا؛ أَنْزَلَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِمْتَاعٍ مَقْصُودٍ بِخِلَافِ الْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ. وَأَمَّا الْوَطْءُ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ فَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا يَفْسُدُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ

فِي الْقُبُلِ عِنْدَهُمَا حَتَّى قَالُوا بِوُجُوبِ الْحَدِّ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ يُفْسِدُ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ فِي قَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَيُوجِبُ الِاغْتِسَالَ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُفْسِدُ؛ لِعَدَمِ كَمَالِ الِارْتِفَاقِ؛ لِقُصُورِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ فِيهِ لِسُوءِ الْمَحَلِّ، فَأَشْبَهَ الْجِمَاعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ؛ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِهَا لَا يَفْسُدُ الْحَجُّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ، الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيَفْسُدُ الْحَجُّ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَبَعْدَهُ، (وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ الْجِمَاعَ إنَّمَا عُرِفَ مُفْسِدًا لِلْحَجِّ لِكَوْنِهِ مُفْسِدًا لِلْإِحْرَامِ، وَالْإِحْرَامُ بَعْدَ الْوُقُوفِ بَاقٍ لِبَقَاءِ رُكْنِ الْحَجِّ - وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ - وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الرُّكْنِ بِدُونِ الْإِحْرَامِ فَصَارَ الْحَالُّ بَعْدَ الْوُقُوفِ كَالْحَالِّ قَبْلُ،. (وَلَنَا) أَنَّ الرُّكْنَ الْأَصْلِيَّ لِلْحَجِّ هُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَجُّ عَرَفَةَ» أَيْ: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ أَخْبَرَ عَنْ تَمَامِ الْحَجِّ بِالْوُقُوفِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمَامَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ ذَا لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْوُقُوفِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ خُرُوجُهُ عَنْ احْتِمَالِ الْفَسَادِ وَالْفَوَاتِ، وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ رُكْنٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ وُجُودًا وَصِحَّةً لَا يَقِفُ وُجُودُهُ وَصِحَّتُهُ عَلَى الرُّكْنِ الْآخَرِ وَمَا وُجِدَ وَمَضَى عَلَى الصِّحَّةِ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِالرِّدَّةِ، وَلَمْ تُوجَدْ وَإِذَا لَمْ يُفْسِدْ الْمَاضِيَ لَا يُفْسِدُ الْبَاقِيَ؛ لِأَنَّ فَسَادَهُ بِفَسَادِهِ وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ لِمَا نَذْكُرُهُ. وَيَسْتَوِي فِي فَسَادِ الْحَجِّ بِالْجِمَاعِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْفَسَادِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَّا وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَفْتَوْا بِفَسَادِ حَجِّهِمَا حَيْثُ أَوْجَبُوا الْقَضَاءَ عَلَيْهِمَا وَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَامِدُ وَالْخَاطِئُ وَالذَّاكِرُ وَالنَّاسِي عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُفْسِدُهُ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ. وَالْكَلَامُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَهُوَ أَنَّ فَسَادَ الْحَجِّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ فَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْحَظْرَ لَا يَثْبُتُ مَعَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَقُلْنَا نَحْنُ: يَثْبُتُ وَإِنَّمَا الْمَرْفُوعُ هُوَ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَيَسْتَوِي فِيهِ الطَّوْعُ وَالْإِكْرَاهُ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ؛ لَا يُزِيلُ الْحَظْرَ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُكْرَهَةً فَإِنَّهَا لَا تَرْجِعُ بِمَا لَزِمَهَا عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهَا اسْتِمْتَاعٌ بِالْجِمَاعِ فَلَا تَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ كَالْمَغْرُورِ. إذَا وَطِئَ الْجَارِيَةَ وَلَزِمَهُ الْغُرْمُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَارِمِ كَذَا هَذَا وَيَسْتَوِي فِيهِ كَوْنُ الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ مُسْتَيْقِظَةً أَوْ نَائِمَةً حَتَّى يَفْسُدُ حَجُّهَا فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُجَامِعُ لَهَا مُحْرِمًا أَوْ حَلَالًا؛ لِأَنَّ النَّائِمَةَ فِي مَعْنَى النَّاسِيَةِ، وَالنِّسْيَانُ لَا يَمْنَعُ فَسَادَ الْحَجِّ كَذَا النَّوْمُ، وَيَسْتَوِي فِيهِ كَوْنُ الْمُجَامِعِ عَاقِلًا بَالِغًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ عَاقِلَةً بَالِغَةً حَتَّى يَفْسُدَ حَجُّهَا؛ لِأَنَّ التَّمْكِينَ مَحْظُورٌ عَلَيْهَا. (وَأَمَّا) بَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ فَفَسَادُ الْحَجِّ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ: مِنْهَا وُجُوبُ الشَّاةِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وُجُوبُ بَدَنَةٍ (وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ الْجِمَاعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ إنَّمَا أَوْجَبَ الْبَدَنَةَ لِتَغْلِيظِ الْجِنَايَةِ، وَالْجِنَايَةُ قَبْلَ الْوُقُوفِ أَغْلَظُ؛ لِوُجُودِهَا حَالَ قِيَامِ الْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ لِبَقَاءِ رُكْنَيْ الْحَجِّ وَبَعْدَ الْوُقُوفِ لَمْ يَبْقَ إلَّا أَحَدُهُمَا، فَلَمَّا وَجَبَتْ الْبَدَنَةُ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَلَأَنْ تَجِبَ قَبْلَهُ أَوْلَى، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْبَدَنَةَ فِي الْحِجِّ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: إذَا طَافَ لِلزِّيَارَةِ جُنُبًا وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يَعُدْ، وَالثَّانِي: إذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ، وَرَوَيْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: وَعَلَيْهِمَا هَدْيٌ وَاسْمُ، الْهَدْيِ وَإِنْ كَانَ يَقَعُ عَلَى الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ لَكِنَّ الشَّاةَ أَدْنَى، وَالْأَدْنَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ فَحَمْلُهُ عَلَى الْغَنَمِ أَوْلَى عَلَى أَنَّهُ رَوَيْنَا «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْهَدْيِ فَقَالَ أَدْنَاهُ شَاةٌ» وَيُجْزِئُ فِيهِ شَرِكَةٌ فِي جَزُورٍ أَوْ، بَقَرَةٍ، لِمَا رُوِيَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْرَكَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الْبُدْنِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَذَبَحُوا الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ " وَاعْتِبَارُهُ بِمَا قَبْلَ الْوُقُوفِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَبْلَ الْوُقُوفِ أَخَفُّ مِنْ الْجِنَايَةِ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ فَسَادَ الْحَجِّ، وَالْقَضَاءُ خُلْفٌ عَنْ الْفَائِتِ، فَيُجْبِرُ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فَتَخِفُّ الْجِنَايَةُ فَيُوجِبُ نُقْصَانَ الْمُوجِبِ، وَبَعْدَ الْوُقُوفِ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا فَلَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ فَلَمْ يُوجَدْ مَا تَجِبُ بِهِ الْجِنَايَةُ فَبَقِيَتْ مُتَغَلِّظَةً فَتَغَلَّظَ الْمُوجِبُ. وَلَوْ جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ثُمَّ جَامَعَ، فَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا دَمٌ وَاحِدٌ اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ دَمٌ عَلَى حِدَةٍ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قَدْ تَكَرَّرَ فَتَكَرَّرَ الْوَاجِبُ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا

فَمَا أَوْجَبُوا إلَّا دَمًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْوُجُوبِ اجْتَمَعَتْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَيُكْتَفَى بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ يَجْمَعُ الْأَفْعَالَ الْمُتَفَرِّقَةَ كَمَا يَجْمَعُ الْأَقْوَالَ الْمُتَفَرِّقَةَ كَإِيلَاجَاتٍ فِي جِمَاعٍ وَاحِدٍ أَنَّهَا لَا تُوجِبُ إلَّا كَفَّارَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ كُلُّ إيلَاجَةٍ لَوْ انْفَرَدَتْ أَوْجَبَتْ الْكَفَّارَةَ كَذَا هَذَا. وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَجِبُ دَمَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجِبُ دَمٌ وَاحِدٌ إلَّا إذَا كَانَ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ بِالْجِمَاعِ الْأَوَّلِ جَزَاءً لِهَتْكِ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ، وَالْحُرْمَةُ حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ إذَا انْهَتَكَتْ مَرَّةً لَا يُتَصَوَّرُ انْهِتَاكُهَا ثَانِيًا كَمَا فِي صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَمَا إذَا جَامَعَ ثُمَّ جَامَعَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا كَفَّرَ فَقَدْ جَبَرَ الْهَتْكَ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْهَتْكُ ثَانِيًا، وَلَهُمَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ وَقَدْ تَعَدَّدَتْ الْجِنَايَةُ فَيَتَعَدَّدُ الْحُكْمُ - وَهُوَ الْأَصْلُ - إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلٌ يُوجِبُ جَعْلَ الْجِنَايَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ حَقِيقَةً مُتَّحِدَةً حُكْمًا - وَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ - وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ لِلصَّوْمِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ بَلْ جَبْرًا لِهَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْجِمَاعِ الثَّانِي إلَّا شَاةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يُوجِبْ إلَّا شَاةً وَاحِدَةً فَالثَّانِي أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَادَفَ إحْرَامًا صَحِيحًا، وَالثَّانِي صَادَفَ إحْرَامًا مَجْرُوحًا فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ لِلْأَوَّلِ إلَّا شَاةٌ وَاحِدَةٌ فَالثَّانِي أَوْلَى. وَلَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ثُمَّ جَامَعَ إنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا بَدَنَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ يَجِبُ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ لِلْأَوَّلِ وَلِلثَّانِي شَاةٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنْ كَانَ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ بَدَنَةً يَجِبُ لِلثَّانِي شَاةٌ وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ، وَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ فِيمَا قَبْلَ الْوُقُوفِ هَذَا إذَا لَمْ يُرِدْ بِالْجِمَاعِ بَعْدَ الْجِمَاعِ رَفْضَ الْإِحْرَامِ فَأَمَّا إذَا أَرَادَ بِهِ رَفْضَ الْإِحْرَامِ، وَالْإِحْلَالِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا سَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ، لِأَنَّ الْكُلَّ مَفْعُولٌ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَلَا يَجِبُ بِهَا إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَالْإِيلَاجَاتِ فِي الْجِمَاعِ الْوَاحِدِ. وَمِنْهَا وُجُوبُ الْمُضِيِّ فِي الْحَجَّةِ الْفَاسِدَةِ لِقَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَمْضِيَا فِي إحْرَامِهِمَا، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ عَقْدٌ لَازِمٌ لَا يَجُوزُ التَّحَلُّلُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ أَوْ لِضَرُورَةِ الْإِحْصَارِ وَلَمْ يُوجَدْ أَحَدُهُمَا، فَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِيهِ فَيَفْعَلُ جَمِيعَ مَا يَفْعَلُهُ فِي الْحَجَّةِ الصَّحِيحَةِ وَيَجْتَنِبُ جَمِيعَ مَا يَجْتَنِبُهُ فِي الْحَجَّةِ الصَّحِيحَةِ. وَمِنْهَا وُجُوبُ الْقَضَاءِ؛ لِقَوْلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَقْضِيَانِهِ مِنْ قَابِلٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِحَجٍّ خَالٍ عَنْ الْجِمَاعِ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ فَبَقِيَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ فَيَلْزَمُهُ تَفْرِيغُ ذِمَّتِهِ عَنْهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَائِتِ الْحَجِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ أَفْعَالُ الْحَجِّ بِخِلَافِ الْمُحْصَرِ إذَا حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ بِذَبْحِ الْهَدْيِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ أَمَّا قَضَاءُ الْحَجَّةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا قَضَاءُ الْعُمْرَةِ فَلِفَوَاتِ الْحَجِّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ. وَهَلْ يَلْزَمُهُمَا الِافْتِرَاقُ فِي الْقَضَاءِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: لَا يَلْزَمُهُمَا ذَلِكَ لَكِنَّهُمَا إنْ خَافَا الْمُعَاوَدَةَ يُسْتَحَبُّ لَهُمَا أَنْ يَفْتَرِقَا. وَقَالَ زُفَرُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَفْتَرِقَانِ وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَفْتَرِقَانِ؛ وَلِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِيهِ خَوْفُ الْوُقُوعِ فِي الْجِمَاعِ ثَانِيًا فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِالِافْتِرَاقِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مَكَانِ الِافْتِرَاقِ قَالَ مَالِكٌ: إذَا خَرَجَا مِنْ بَلَدِهِمَا يَفْتَرِقَانِ حَسْمًا لِلْمَادَّةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا بَلَغَا الْمَوْضِعَ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَذَكَّرَانِ ذَلِكَ فَرُبَّمَا يَقَعَانِ فِيهِ وَقَالَ زُفَرُ: يَفْتَرِقَانِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ الْإِحْرَامِ؛ هُوَ الَّذِي حَظَرَ عَلَيْهِ الْجِمَاعَ. فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ كَانَ مُبَاحًا، وَلَنَا أَنَّهُمَا زَوْجَانِ، وَالزَّوْجِيَّةُ عِلَّةُ الِاجْتِمَاعِ لَا الِافْتِرَاقِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا مِنْ خَوْفِ الْوُقُوعِ، يَبْطُلُ بِالِابْتِدَاءِ فَإِنَّهُ لَمْ يَجِبْ الِافْتِرَاقُ فِي الِابْتِدَاءِ مَعَ خَوْفِ الْوُقُوعِ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: (يَتَذَكَّرَانِ مَا فَعَلَا فِيهِ) فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ يَتَذَكَّرَانِ، وَقَدْ لَا يَتَذَكَّرَانِ إذْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا فِي مَكَان يَتَذَكَّرُ ذَلِكَ الْفِعْلَ إذَا وَصَلَ إلَيْهِ، ثُمَّ إنْ كَانَا يَتَذَكَّرَانِ مَا فَعَلَا فِيهِ يَتَذَكَّرَانِ مَا لَزِمَهُمَا مِنْ وَبَالِ فِعْلِهِمَا فِيهِ أَيْضًا فَيَمْنَعُهُمَا ذَلِكَ عَنْ الْفِعْلِ، ثُمَّ يَبْطُلُ هَذَا بِلُبْسِ الْمَخِيطِ وَالتَّطَيُّبِ فَإِنَّهُ إذَا لَبِسَ الْمِخْيَطَ أَوْ تَطَيَّبَ حَتَّى لَزِمَهُ الدَّمُ يُبَاحُ لَهُ إمْسَاكُ الثَّوْبِ الْمَخِيطِ وَالتَّطَيُّبِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُذَكِّرُهُ لُبْسَ الْمَخِيطِ وَالتَّطَيُّبِ، فَدَلَّ أَنَّ الِافْتِرَاقَ لَيْسَ بِلَازِمٍ لَكِنَّهُ

مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمُسْتَحَبٌّ عِنْدَ خَوْفِ الْوُقُوعِ فِيمَا وَقَعَا فِيهِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَفْتَرِقَانِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ هَذَا إذَا كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ. فَأَمَّا إذَا كَانَ قَارِنًا، فَالْقَارِنُ إذَا جَامَعَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَقَبْلَ الطَّوَافِ لِلْعُمْرَةِ أَوْ قَبْلَ الْكَثْرَةِ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ وَحَجَّتُهُ، وَعَلَيْهِ دَمَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ، وَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهِمَا وَإِتْمَامُهُمَا عَلَى الْفَسَادِ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُمَا وَيَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ. أَمَّا فَسَادُ الْعُمْرَةِ فَلِوُجُودِ الْجِمَاعِ قَبْلَ الطَّوَافِ وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْعُمْرَةِ كَمَا فِي حَالِ الِانْفِرَادِ. وَأَمَّا فَسَادُ الْحَجَّةِ؛ فَلِحُصُولِ الْجِمَاعِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْحَجِّ كَمَا فِي حَالِ الِانْفِرَادِ، وَأَمَّا وُجُوبُ الدَّمَيْنِ فَلِأَنَّ الْقَارِنَ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ عِنْدَنَا، فَالْجِمَاعُ حَصَلَ جِنَايَةً عَلَى إحْرَامَيْنِ فَأَوْجَبَ نَقْصًا فِي الْعِبَادَتَيْنِ فَيُوجِبُ كَفَّارَتَيْنِ كَالْمُقِيمِ إذَا جَامَعَ فِي رَمَضَانَ. وَأَمَّا لُزُومُ الْمُضِيِّ فِيهِمَا فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ عَقْدٌ لَازِمٌ، وَأَمَّا وُجُوبُ قَضَائِهِمَا؛ فَلِإِفْسَادِهِمَا فَيَقْتَضِي عُمْرَةً مَكَانَ عُمْرَةٍ وَحَجَّةً، مَكَانَ حَجَّةٍ وَأَمَّا سُقُوطُ دَمِ الْقِرَانِ عَنْهُ؛ فَلِأَنَّهُ أَفْسَدَهُمَا، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقَارِنَ إذَا فَسَدَ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ أَوْ أَفْسَدَ أَحَدَهُمَا يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ ثَبَتَ شُكْرًا، لِنِعْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقُرْبَتَيْنِ وَبِالْفَسَادِ بَطَلَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فَسَقَطَ الشُّكْرُ وَلَوْ جَامَعَ بَعْدَ مَا طَافَ لِعُمْرَتِهِ أَوْ طَافَ أَكْثَرَهُ - وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْوَاطٍ - أَوْ بَعْدَ مَا طَافَ لَهَا وَسَعَى قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَتْ حَجَّتُهُ وَلَا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ أَمَّا فَسَادُ حَجَّتِهِ فَلِمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ حُصُولُ الْجِمَاعِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. وَأَمَّا عَدَمُ فَسَادِ عُمْرَتِهِ فَلِحُصُولِ الْجِمَاعِ بَعْدَ وُقُوعِ الْفَرَاغِ مِنْ رُكْنِهَا فَلَا يُوجِبُ فَسَادَهَا كَمَا فِي حَالِ الِانْفِرَادِ، وَعَلَيْهِ دَمَانِ: أَحَدُهُمَا لِفَسَادِ الْحَجَّةِ بِالْجِمَاعِ وَالْآخَرُ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ بَاقٍ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهِمَا وَإِتْمَامُهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ دُونَ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّةَ هِيَ الَّتِي فَسَدَتْ دُونَ الْعُمْرَةِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ؛ لِأَنَّهُ فَسَدَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْحَجُّ وَلَوْ جَامَعَ بَعْدَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ وَبَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَلَا يَفْسُدُ حَجُّهُ وَلَا عُمْرَتُهُ أَمَّا عَدَمُ فَسَادِ الْحَجِّ؛ فَلِأَنَّ الْجِمَاعَ وُجِدَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ. وَأَمَّا عَدَمُ فَسَادِ الْعُمْرَةِ؛ فَلِأَنَّهُ جَامَعَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ رُكْنِ الْعُمْرَةِ، وَعَلَيْهِ إتْمَامُهَا لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ إتْمَامُهَا عَلَى الْفَسَادِ فَعَلَى الصِّحَّةِ، وَالْجَوَازُ أَوْلَى وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَشَاةٌ، الْبَدَنَةُ لِأَجْلِ الْجِمَاعِ بَعْدَ الْوُقُوفِ، وَالشَّاةُ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لِلْعُمْرَةِ بَاقٍ، وَالْجِمَاعُ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ يُوجِبُ الشَّاةَ وَهَهُنَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فَسَادُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَلَا فَسَادُ أَحَدِهِمَا، فَأَمْكَنَ إيجَابُ الدَّمِ شُكْرًا، فَإِنْ جَامَعَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ فِي الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، فَعَلَيْهِ دَمَانِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا. فَإِنْ جَامَعَ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَعْدَ الْحَلْقِ قَبْلَ الطَّوَافِ لِلزِّيَارَةِ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَشَاةٌ؛ لِأَنَّ الْقَارِنَ يَتَحَلَّلُ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ مَعًا وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ بَعْدَ إحْرَامِ الْحَجَّةِ فَكَذَا فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ كَمَا يَقَعُ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْ غَيْرِ النِّسَاءِ بِالْحَلْقِ فِيهِمَا جَمِيعًا وَلَوْ جَامَعَ بَعْدَ مَا طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ حَلَّ لَهُ النِّسَاءُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ الْإِحْرَامُ رَأْسًا إلَّا إذَا طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ قَبْلَ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ، فَعَلَيْهِ شَاتَانِ لِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ لَهُمَا جَمِيعًا وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الرُّقَيَّاتِ فِيمَنْ طَافَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ جُنُبًا أَوْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَطَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ طَاهِرًا، ثُمَّ جَامَعَ النِّسَاءَ قَبْل أَنْ يُعِيدَهُ قَالَ مُحَمَّدٌ: أَمَّا فِي الْقِيَاسِ فَلَا شَيْءَ وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ فِيمَا إذَا طَافَ جُنُبًا ثُمَّ جَامَعَ ثُمَّ أَعَادَهُ طَاهِرًا أَنَّهُ يُوجِبُ عَلَيْهِ دَمًا وَكَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَقَوْلُنَا: (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الطَّوَافِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فَقَدْ وَقَعَ التَّحَلُّلُ بِطَوَافِهِ، وَالْجِمَاعُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إذَا أَعَادَهُ - وَهُوَ طَاهِرٌ - فَقَدْ انْفَسَخَ الطَّوَافُ الْأَوَّلُ عَلَى طَرِيقِ بَعْضِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَصَارَ طَوَافُهُ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تُوجِبُ نُقْصَانًا فَاحِشًا فَتُبُيِّنَ أَنَّ الْجِمَاعَ كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ الطَّوَافِ فَيُوجِبُ الْكَفَّارَةَ بِخِلَافِ مَا إذَا طَافَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ هُنَاكَ يَسِيرٌ فَلَمْ يَنْفَسِخْ الْأَوَّلُ فَبَقِيَ جِمَاعُهُ بَعْدَ التَّحَلُّلُ، فَلَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ. وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الرُّقَيَّاتِ فِيمَنْ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فِي جَوْفِ الْحِجْرِ، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ جَامَعَ أَنَّهُ تَفْسُدُ الْعُمْرَةُ، وَعَلَيْهِ

فصل ما يفوت الحج بعد الشروع فيه بفواته

عُمْرَةٌ مَكَانَهَا وَعَلَيْهِ فِي الْحَجِّ بَدَنَةٌ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ فِي الطَّوَافِ أَكْثَرُ - الْأَشْوَاطِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ - فَإِذَا طَافَ فِي جَوْفِ الْحِجْرِ فَلَمْ يَأْتِ بِأَكْثَرِ الْأَشْوَاطِ فَحَصَلَ الْجِمَاعُ قَبْلَ الطَّوَافِ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَجَامَعَ أَنَّهُ يَمْضِي عَلَى إحْرَامِهِ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلْجِمَاعِ، وَالْقَضَاءُ لِلْفَوَاتِ أَمَّا وُجُوبُ الْمُضِيِّ فَلِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ وَأَمَّا وُجُوبُ الدَّمِ بِالْجِمَاعِ فَلِوُجُودِ الْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَحَلُّلٌ بِمِثْلِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، وَلَيْسَ بِعُمْرَةٍ بَلْ هُوَ بَقِيَّةُ أَفْعَالِ حَجٍّ قَدْ وَجَبَ قَضَاؤُهُ بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ الْمُبْتَدَأَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمُتَمَتِّعُ إذَا جَامَعَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُفْرِدُ بِالْحَجِّ وَالْمُفْرِدِ بِالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ يُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ أَوَّلًا ثُمَّ يُحْرِمُ بِحَجَّةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْمُفْرِدِ بِالْحَجَّةِ، وَسَنَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - حُكْمَ الْمُفْرِدِ بِالْعُمْرَةِ فِي مَوْضِعِهِ. [فَصْلٌ مَا يُفَوِّتُ الْحَجَّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ بِفَوَاتِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُفَوِّتُ الْحَجَّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ بِفَوَاتِهِ وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، فَالْحَجُّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ لَا يَفُوتُ إلَّا بِفَوَاتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَجُّ عَرَفَةَ» فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَعَلَ الْحَجَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ فَإِذَا وُجِدَ فَقَدْ وُجِدَ الْحَجُّ وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا وَفَائِتًا، وَالثَّانِي أَنَّهُ جَعَلَ تَمَامَ الْحَجِّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمَامَ - الَّذِي هُوَ ضِدُّ النُّقْصَانِ - لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِالْوُقُوفِ وَحْدَهُ، فَيَدُلُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ خُرُوجُهُ عَنْ احْتِمَالِ الْفَوَاتِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ» جَعَلَ مُدْرِكَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مُدْرِكًا لِلْحَجِّ، وَالْمُدْرَكُ لَا يَكُونُ فَائِتًا. وَأَمَّا حُكْمُ فَوَاتِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ فَيَتَعَلَّقُ بِفَوَاتِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ أَحْكَامٌ مِنْهَا: أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ مِنْ إحْرَامِهِ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ، وَهُوَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ إنْ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلْيُحِلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ غَيْرِ دَمٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» . وَعَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ: يُحِلُّ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ هَدْيٍ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يَتَحَلَّلُ بِهِ فَائِتُ الْحَجِّ مِنْ الطَّوَافِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ أَوْ بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: بِإِحْرَامِ الْحَجِّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَيَنْقَلِبُ إحْرَامُهُ إحْرَامَ عُمْرَةٍ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيّ «فَلْيُحِلَّ بِعُمْرَةٍ» سَمَّاهُ عُمْرَةً وَلَا عُمْرَةَ إلَّا بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ، فَدَلَّ أَنَّ إحْرَامَهُ يَنْقَلِبُ إحْرَامَ عُمْرَةٍ، وَلِأَنَّ الْمُؤَدَّى أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ، فَكَانَتْ عُمْرَةً، وَلَهُمَا قَوْلُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يُحِلُّ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ أَضَافَ الْعَمَلَ إلَى الْعُمْرَةِ، وَالشَّيْءُ لَا يُضَافُ إلَى نَفْسِهِ هُوَ الْأَصْلُ، وَلِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَا بِالْعُمْرَةِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ مُفْرِدٌ بِالْحَجِّ، وَاعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، فَالْقَوْلُ بِانْقِلَابِ إحْرَامِ الْحَجِّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ تَغْيِيرُ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مَعَ أَنَّ الْإِحْرَامَ عَقْدٌ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ، وَفِي الِانْقِلَابِ انْفِسَاخٌ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَتَحَلَّلُ بِالطَّوَافِ كَمَا يَتَحَلَّلُ أَهْلُ الْآفَاقِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ إلَى الْحِلِّ. وَلَوْ انْقَلَبَ إحْرَامُهُ إحْرَامَ عُمْرَةٍ وَصَارَ مُعْتَمِرًا لَلَزِمَهُ الْخُرُوجُ إلَى الْحِلِّ - وَهُوَ التَّنْعِيمُ أَوْ غَيْرُهُ - وَكَذَا فَائِتُ الْحَجِّ إذَا جَامَعَ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ، وَلَوْ كَانَ عُمْرَةً لَوَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ كَالْعُمْرَةِ الْمُبْتَدَأَةِ فَيَثْبُتُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ أَنَّ إحْرَامَهُ بِالْحَجِّ لَمْ يَنْقَلِبْ إحْرَامَ عُمْرَةٍ، وَبِهِ تُبُيِّنَ أَنَّ الْمُؤَدَّى لَيْسَ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ بَلْ مِثْلَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ تُؤَدَّى بِإِحْرَامِ الْحَجَّةِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى عَمَلِ الْعُمْرَةِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ. وَمِنْهَا أَنَّ عَلَيْهِ الْحَجَّ مِنْ قَابِلٍ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَقَوْلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلِأَنَّهُ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ بَقِيَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ عَلَى حَالِهِ فَيَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِهِ، وَلَا دَمَ عَلَى فَائِتِ الْحَجِّ عِنْدَنَا وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَلَيْهِ دَمٌ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. (وَجْهُ) قَوْلِ الْحَسَنِ (أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ قَبْلَ وَقْتِ التَّحَلُّلِ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ كَالْمُحْصَرِ) وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ: يُحِلُّ بِعُمْرَةٍ مِنْ غَيْرِ هَدْيٍ. وَكَذَا فِي حَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيّ جَعَلَ

فصل بيان حكم فوات الحج عن العمرة

النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّحَلُّلَ وَالْحَجَّ مِنْ قَابِلٍ كُلَّ الْحُكْمِ فِي فَائِتِ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ «مَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَلْيُحِلَّ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» فَمَنْ ادَّعَى زِيَادَةَ الدَّمِ فَقَدْ جَعَلَ الْكُلَّ بَعْضًا - وَهُوَ نَسْخٌ أَوْ تَغْيِيرٌ - فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ، وَقَوْلُهُ " تَحَلَّلْ قَبْلَ الْوُقُوفِ " مُسَلَّمٌ لَكِنْ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَهُوَ فَائِتُ الْحَجِّ، وَالتَّحَلُّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ مِنْ فَائِتِ الْحَجِّ كَالْهَدْيِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ، وَلَيْسَ عَلَى فَائِتِ الْحَجِّ طَوَافُ الصَّدْرِ؛ لِأَنَّهُ طَوَافٌ عُرِفَ وُجُوبُهُ فِي الشَّرْعِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ عَلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرَ عَهْدِهِ بِهِ الطَّوَافُ» وَهَذَا لَمْ يَحُجَّ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ فَائِتُ الْحَجِّ قَارِنًا فَإِنَّهُ يَطُوفُ لِلْعُمْرَةِ وَيَسْعَى لَهَا ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافًا آخَرَ؛ لِفَوَاتِ الْحَجِّ وَيَسْعَى لَهُ وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ، وَقَدْ بَطَلَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ، أَمَّا الطَّوَافُ لِلْعُمْرَةِ وَالسَّعْيُ لَهَا فَلِأَنَّ الْقَارِنَ مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَالْعُمْرَةُ لَا تَفُوتُ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَوْقَاتِ وَقْتُهَا، فَيَأْتِي بِهَا كَمَا يَأْتِي الْمُدْرِكُ لِلْحَجِّ. وَأَمَّا الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ لِلْحَجِّ، فَلِأَنَّ الْحَجَّةَ قَدْ فَاتَتْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا، وَفَائِتُ الْحَجِّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ لَا يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَيَطُوفُ وَيَسْعَى وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ. وَأَمَّا سُقُوطُ دَمِ الْقِرَانِ يَجِبُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا أَخَذَ مِنْ الطَّوَافَ الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا سَاقَ الْهَدْيَ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ، وَيَصْنَعُ كَمَا يَصْنَعُ الْقَارِنُ؛ لِأَنَّ دَمَ الْمُتْعَةِ يَجِبُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجَّةِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْجَمْعُ لِأَنَّ الْحَجَّةَ فَاتَتْهُ. [فَصْلٌ بَيَانُ حُكْمِ فَوَاتِ الْحَجِّ عَنْ الْعُمْرَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ فَوَاتِ الْحَجِّ عَنْ الْعُمْرَةِ فَنَقُولُ: مَنْ عَلَيْهِ الْحَجُّ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ، وَإِمَّا إنْ مَاتَ عَنْ وَصِيَّةٍ، فَإِنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ يَأْثَمُ بِلَا خِلَافٍ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالْوُجُوبِ عَلَى الْفَوْرِ فَلَا يُشْكِلُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالْوُجُوبِ عَلَى التَّرَاخِي، فَلِأَنَّ الْوُجُوبَ يَضِيقُ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْعُمْرِ فِي وَقْتٍ يَحْتَمِلُ الْحَجَّ، وَحَرُمَ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ بِنَفْسِهِ إنْ كَانَ قَادِرًا، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْفِعْلِ بِنَفْسِهِ عَجْزًا مُقَرَّرًا، وَيُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ بِمَالِهِ بِإِنَابَةِ غَيْرِهِ مَنَابَ نَفْسِهِ بِالْوَصِيَّةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ بِتَفْوِيتِهِ الْفَرْضَ عَنْ وَقْتِهِ مَعَ إمْكَانِ الْأَدَاءِ فِي الْجُمْلَةِ فَيَأْثَمُ لَكِنْ يَسْقُطُ عَنْهُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا حَتَّى لَا يُلْزِمَ الْوَارِثَ الْحَجَّ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَاتُ تَسْقُطُ بِمَوْتِ مَنْ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَتْ بَدَنِيَّةً أَوْ مَالِيَّةً فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ وَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ قَدْرُ مَا يَحُجُّ بِهِ وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَهَذَا عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْعُشْرِ وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَإِنْ أَحَبَّ الْوَارِثُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ حَجَّ، وَأَرْجُو أَنْ يُجْزِيَهُ ذَلِكَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - كَذَا ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا فَقَالَ: نَعَمْ» فَقَدْ أَجَازَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّ الرَّجُلِ عَنْ أُمِّهِ، وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَنَّهَا مَاتَتْ عَنْ وَصِيَّةٍ أَوْ لَا عَنْ وَصِيَّةٍ. وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ لَاسْتَفْسَرَ. وَأَمَّا قِرَانُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْإِجْزَاءِ فَلِأَنَّ الْحَجَّ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمَيِّتِ قَطْعًا، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ قَطْعًا لَا يَسْقُطُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلسُّقُوطِ قَطْعًا، وَالْمُوجِبُ لِسُقُوطِ الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ بِفِعْلِ الْوَارِثِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ عِلْمَ الْعَمَلِ لَا عِلْمَ الشَّهَادَةِ؛ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ الثُّبُوتِ وَإِنْ كَانَ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا لَكِنَّ الِاحْتِمَالَ الْمَرْجُوحَ يُعْتَبَرُ فِي عِلْمِ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْتَبَرُ فِي عِلْمِ الْعَمَلِ فَعَلَّقَ الْإِجْزَاءَ وَالسُّقُوطَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى احْتِرَازًا عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ قَطْعِيٍّ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْوَرَعِ وَالِاحْتِيَاطِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَجُّ إذَا عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ حَتَّى أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ - وَلَهُ مَالٌ - أَنَّهُ يَأْمُرُ وَارِثَهُ بِالْحَجِّ عَنْهُ تَفْرِيغًا لِذِمَّتِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ، فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ مَوْجُودَةً دَلَالَةً، وَالثَّابِتُ دَلَالَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا لَكِنْ أَلْحَقَ الِاسْتِثْنَاءَ بِهِ؛ لِاحْتِمَالِ الْعَدَمِ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ هَلَّا أَلْحَقَ الِاسْتِثْنَاءَ بِكُلِّ مَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّكَ أَبْعَدْت فِي الْقِيَاسِ إذْ لَا كُلَّ خَبَرٍ يُرَدُّ بِمِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ وَهُوَ سُقُوطُ الْفَرْضِ، وَمَحَلُّ سُقُوطِ الِاسْتِثْنَاءِ هَذَا، فَإِنْ ثَبَتَ الْإِطْلَاقُ مِنْهُ فِي مِثْلِهِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَذَلِكَ لِوُجُودِ النِّيَّةِ مِنْهُ عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ فَتَقَعُ

الْغُنْيَةُ عَنْ الْإِفْصَاحِ بِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَصِيَّةٍ لَا يَسْقُطُ الْحَجُّ عَنْهُ. وَيَجِبُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْحَجِّ قَدْ صَحَّتْ. وَإِذَا حُجَّ عَنْهُ يَجُوزُ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ. وَهِيَ نِيَّةُ الْحَجِّ عَنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ الْحَجُّ بِمَالِ الْمُوصِي أَوْ بِأَكْثَرِهِ إلَّا تَطَوُّعًا، وَأَنْ يَكُونَ رَاكِبًا لَا مَاشِيًا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ سَوَاءٌ قَيَّدَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِثُلُثِ مَالِهِ، أَوْ أَطْلَقَ بِأَنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ أَمَّا إذَا قَيَّدَ فَظَاهِرٌ. وَكَذَا إذَا أَطْلَقَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تُنَفَّذُ مِنْ الثُّلُثِ وَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ الَّذِي يَسْكُنُهُ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ مَفْرُوضٌ عَلَيْهِ مِنْ بَلَدِهِ فَمُطْلَقُ الْوَصِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْهُ فِي خُرَاسَانِيٍّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ بِمَكَّةَ فَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ خُرَاسَانَ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي مَكِّيٍّ قَدِمَ الرَّيَّ فَحَضَرَهُ الْمَوْتُ فَأَوْصَى أَنْ يُحَجُّ عَنْهُ حُجَّ عَنْهُ مِنْ مَكَّةَ، فَإِنْ أَوْصَى أَنْ يُقْرَنَ عَنْهُ قُرِنَ عَنْهُ مِنْ الرَّيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا قِرَانَ لِأَهْلِ مَكَّةَ فَتُحْمَلُ الْوَصِيَّةُ عَلَى مَا يَصِحُّ - وَهُوَ الْقِرَانُ - مِنْ حَيْثُ مَاتَ هَذَا إذَا كَانَ ثُلُثُ الْمَالِ يَبْلُغُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ حُجَّ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ لَا يَبْلُغُ يُحَجُّ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ اسْتِحْسَانًا. وَكَذَا إذَا أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِمَالٍ سَمَّى مَبْلَغَهُ إنْ كَانَ يَبْلُغُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ حُجَّ عَنْهُ، وَإِلَّا فَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَنْفِيذُهَا عَلَى مَا قَصَدَهُ الْمُوصِي، وَهَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ كَمَا إذَا أَوْصَى بِعِتْقِ نَسَمَةٍ فَلَمْ يَبْلُغْ ثُلُثُ الْمَالِ ثَمَنَ النَّسَمَةِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ غَرَضَ الْمُوصِي مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ تَفْرِيغُ ذِمَّتِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ، وَذَلِكَ فِي التَّصْحِيحِ لَا فِي الْإِبْطَالِ. وَلَوْ حُمِلَ ذَلِكَ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ لَبَطَلَتْ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْوَصِيَّةِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ لَصَحَّتْ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَصْحِيحًا لَهَا، وَفِي الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِ النَّسَمَةِ تَعَذَّرَ التَّصْحِيحُ أَصْلًا وَرَأْسًا فَبَطَلَتْ فَإِنْ خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ إلَى بَلَدٍ أَقْرَبَ مِنْ مَكَّةَ، فَإِنْ كَانَ خَرَجَ لِغَيْرِ الْحَجِّ حُجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَإِنْ كَانَ خَرَجَ لِلْحَجِّ فَمَاتَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ وَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَدْرَ مَا قَطَعَ مِنْ الْمَسَافَةِ فِي سَفَرِهِ بِنِيَّةِ الْحَجِّ مُعْتَدُّ بِهِ مِنْ الْحَجِّ لَمْ يَبْطُلْ بِالْمَوْتِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] فَسَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ فَرْضِ الْحَجِّ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ إتْمَامُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَدْرَ الْمَوْجُودَ مِنْ السَّفَرِ يُعْتَبَرُ لَكِنْ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ - وَهُوَ الثَّوَابُ - لَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِأَدَاءِ الْحَجِّ، وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْأَدَاءُ فَبَطَلَ بِالْمَوْتِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَإِنْ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ، وَكَلَامُنَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا. وَلَوْ خَرَجَ لِلْحَجِّ فَأَقَامَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ حَتَّى دَارَتْ السَّنَةُ ثُمَّ مَاتَ وَقَدْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ بِلَا خِلَافٍ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ ذَلِكَ السَّفَرَ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ عَمَلُ الْحَجَّةِ الَّتِي سَافَرَ لَهَا فَلَمْ يُعْتَدَّ بِهِ عَنْ الْحَجِّ. وَإِنْ كَانَ ثُلُثُ مَالِهِ لَا يَبْلُغُ أَنْ يُحَجَّ بِهِ عَنْهُ إلَّا مَاشِيًا فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا أَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ مَاشِيًا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ بِهِ وَلَكِنْ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ رَاكِبًا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ أَحَجُّوا عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ مَاشِيًا جَازَ، وَإِنْ أَحَجُّوا مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ رَاكِبًا جَازَ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُوصِي بِالْحَجِّ إذَا اتَّسَعَتْ نَفَقَتُهُ لِلرُّكُوبِ فَأَحَجُّوا عَنْهُ مَاشِيًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْحَجُّ رَاكِبًا فَإِطْلَاقُ الْوَصِيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى ذَلِكَ كَأَنَّهُ أَوْصَاهُ بِذَلِكَ. وَقَالَ أَحِجُّوا عَنِّي رَاكِبًا. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مَاشِيًا كَذَا هَذَا (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْحَسَنِ إنَّ فَرْضَ الْحَجِّ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالرُّكُوبِ وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِبَلَدِهِ، وَلَا يُمْكِنُ مُرَاعَاتُهُمَا جَمِيعًا، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَالٌ مِنْ وَجْهٍ وَنُقْصَانٌ مِنْ وَجْهٍ فَيَجُوزُ أَيُّهُمَا كَانَ، وَإِنْ كَانَ ثُلُثُ مَالِهِ لَا يَبْلُغُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ فَحُجَّ عَنْهُ مِنْ مَوْضِعٍ يَبْلُغُ، وَفَضَلَ مِنْ الثُّلُثِ وَتُبُيِّنَ أَنَّهُ كَانَ يَبْلُغُ مِنْ مَوْضِعٍ أَبْعَدَ مِنْهُ يَضْمَنُهُ الْوَصِيُّ وَيُحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ؛ لِأَنَّهُ تُبُيِّنَ أَنَّهُ خَالَفَ إلَّا إذَا كَانَ الْفَاضِلُ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ زَادٍ أَوْ كِسْوَةٍ، فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَلَا ضَامِنًا وَيَرُدُّ الْفَضْلَ إلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِلْكُهُمْ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُوصِي وَطَنَانِ فَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ أَقْرَبِ الْوَطَنَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَقْرَبَ دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ بِيَقِينٍ وَفِي دُخُولِ الْأَبْعَدِ شَكٌّ فَيُؤْخَذُ بِالْيَقِينِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي وَجَبَ الْحَجُّ مِنْ بَلَدِهِ إذَا أَحَجَّ الْوَصِيُّ مِنْ غَيْرِ بَلَدِهِ يَكُونُ ضَامِنًا وَيَكُونُ الْحَجُّ لَهُ وَيَحُجُّ

فصل سبب وجوب الحج

عَنْ الْمَيِّتِ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ إلَّا إذَا كَانَ الْمَكَانُ الَّذِي أَحَجَّ عَنْهُ قَرِيبًا إلَى وَطَنِهِ بِحَيْثُ يَبْلُغُ إلَيْهِ وَيَرْجِعُ إلَى الْوَطَنِ قَبْلَ اللَّيْلِ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَلَا ضَامِنًا، وَيَكُونُ كَاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ. وَلَوْ مَاتَ فِي مَحَلَّةٍ فَأَحَجُّوا عَنْهُ مِنْ مَحَلَّةٍ أُخْرَى جَازَ كَذَا هَذَا. فَإِنْ قَالَ الْمُوصِي أَحِجُّوا عَنَى بِثُلُثِ مَالِي، وَثُلُثُ مَالِهِ يَبْلُغُ حِجَجًا حُجَّ عَنْهُ حِجَجًا كَذَا رَوَى الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِثُلُثِ مَالِهِ وَثُلُثُ مَالِهِ، يَبْلُغُ حِجَجًا يُحَجُّ عَنْهُ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ وَطَنِهِ - وَهِيَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ - إلَّا إذَا أَوْصَى أَنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ بِجَمِيعِ الثُّلُثِ فَيُحَجُّ عَنْهُ حِجَجًا بِجَمِيعِ الثُّلُثِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَثْبَتُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ وَبِجَمِيعِ الثُّلُثِ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ اسْمٌ لِجَمِيعِ هَذَا السَّهْمِ، ثُمَّ الْوَصِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَحَجَّ عَنْهُ الْحِجَجَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ شَاءَ أَحَجَّ عَنْهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَاحِدَةً، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْجِيلُ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ، وَالتَّعْجِيلُ فِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ التَّأْخِيرِ. وَإِنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا مِنْ غَيْرِ بَلَدِهِ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي بُيِّنَ قَرُبَ مِنْ مَكَّةَ أَوْ بَعُدَ عَنْهَا؛ لِأَنَّ الْإِحْجَاجَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِأَمْرِهِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ أَمْرِهِ. وَمَا فَضَلَ فِي يَدِ الْحَاجَّ عَنْ الْمَيِّتِ بَعْدَ النَّفَقَةِ فِي ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ عَلَى الْوَرَثَةِ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِمَّا فَضَلَ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَصِيرُ مِلْكًا لِلْحَاجِّ بِالْإِحْجَاجِ، وَإِنَّمَا يُنْفِقُ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ إنَّمَا يَمْلِكُ، بِالِاسْتِئْجَارِ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى الطَّاعَاتِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا فَكَانَ الْفَاضِلُ مِلْكَ الْوَرَثَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ إلَيْهِمْ. وَلَوْ قَاسَمَ الْوَرَثَةَ وَعَزَلَ قَدْرَ نَفَقَةِ الْحَجِّ وَدَفَعَ بَقِيَّةَ التَّرِكَةِ إلَى الْوَرَثَةِ فَهَلَكَ الْمَعْزُولُ فِي يَدِ الْوَصِيِّ أَوْ فِي يَدِ الْحَاجِّ قَبْلَ الْحَجِّ بَطَلَتْ الْقِسْمَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَلَكَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ الْجُمْلَةِ وَلَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ وَيُحَجُّ لَهُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ الْبَاقِي حَتَّى يَحْصُلَ الْحَجُّ أَوْ يَنْوِيَ الْمَالَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ الْحَجَّ بِمَنْزِلَةِ الْمُوصَى لَهُ الْغَائِبِ، وَقِسْمَةُ الْوَصِيِّ مَعَ الْوَرَثَةِ عَلَى الْمُوصَى لَهُ الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ حَتَّى لَوْ قَاسَمَ مَعَ الْوَرَثَةِ وَعَزَلَ نَصِيبَ الْمُوصَى لَهُ ثُمَّ هَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمُوصَى لَهُ الْغَائِبِ يَهْلِكُ مِنْ الْجُمْلَةِ وَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَ الْبَاقِي كَذَلِكَ الْحَجُّ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ بَقِيَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ شَيْءٌ يُحَجُّ عَنْهُ مِمَّا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِهِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ ثُلُثِهِ شَيْءٌ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: قِسْمَةُ الْوَصِيَّةِ جَائِزَةٌ وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِهَلَاكِ الْمَعْزُولِ سَوَاءٌ بَقِيَ مِنْ الْمَعْزُولِ شَيْءٌ أَوْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ فَإِنْ لَمْ يَهْلِكْ ذَلِكَ الْمَالُ، وَلَكِنْ مَاتَ الْمُجَهَّزُ فِي بَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةِ فَمَا أَنْفَقَ الْمُجَهَّزُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ نَفَقَةُ مِثْلِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْفِقْ عَلَى الْخِلَافِ بَلْ عَلَى الْوِفَاقِ، وَمَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمُجَهَّزِ الْقِيَاسُ أَنْ يُضَمَّ إلَى مَالِ الْمُوصِي، فَيَعْزِلُ ثُلُثَ مَالِهِ وَيَحُجُّ عَنْهُ مِنْ وَطَنِهِ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَحُجُّ بِالْبَاقِي مِنْ حَيْثُ تَبْلُغُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا. [فَصْلٌ سَبَبِ وُجُوبِ الْحَجّ] (فَصْلٌ) : ثُمَّ الْحَجُّ كَمَا هُوَ وَاجِبٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً عَلَى مَنْ اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ - وَهُوَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ - فَقَدْ يَجِبُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ بِنَاؤُهُ عَلَى وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ النَّذْرُ بِأَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ لِأَنَّ النَّذْرَ مِنْ أَسْبَابِ الْوُجُوبِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ الْمَقْصُودَةِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» وَكَذَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ حَجَّةٌ فَهَذَا. وَقَوْلُهُ: لِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَسَوَاءٌ كَانَ النَّذْرُ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ بِأَنْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ حَتَّى يَلْزَمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ النَّذْرِ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ إحْرَامٌ: أَوْ قَالَ عَلَيَّ إحْرَامٌ صَحَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ، وَالتَّعْيِينُ إلَيْهِ وَكَذَا إذَا ذَكَرَ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى الْتِزَامِ الْإِحْرَامِ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ أَوْ إلَى مَكَّةَ جَازَ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ وَلَوْ قَالَ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ يَصِحَّ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ وَيَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ، وَلَوْ قَالَ: إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَا يَصِحُّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ الذَّهَابُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ الْخُرُوجُ أَوْ السَّفَرُ أَوْ الْإِتْيَانُ لَا يَصِحُّ فِي قَوْلِهِمْ، وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ تُذْكَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي كِتَابِ النَّذْرِ، فَإِنَّهُ كِتَابٌ مُفْرَدٌ، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ هَهُنَا بَعْضَ مَا يَخْتَصُّ بِالْحَجِّ. فَإِنْ

قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ هَدْيٌ أَوْ عَلَيَّ هَدْيٌ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ذَبَحَ شَاةً، وَإِنْ شَاءَ نَحَرَ جَزُورًا، وَإِنْ شَاءَ ذَبَحَ بَقَرَةً؛ لِأَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ؛ لِقَوْلِهِ {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: إنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الشَّاةُ، وَإِذَا كَانَتْ الشَّاةُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ الْهَدْيِ مَا لَا يَكُونُ مُسْتَيْسَرًا - وَهُوَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ - وَقَدْ رَوَيْنَا «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْهَدْيِ أَدْنَاهُ شَاةٌ» ، وَإِذَا كَانَتْ الشَّاةُ أَدْنَى الْهَدْيِ كَانَ أَعْلَاهُ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ ضَرُورَةً، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ الْهَدْيُ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَالْبَدَنَةُ مِنْ اثْنَيْنِ وَلِأَنَّ مَأْخَذَ الِاسْمِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى، أَيْ: يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الْغَنَمِ كَمَا يُوجَدُ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَيَجُوزُ سُبْعُ الْبَدَنَةِ عَنْ الشَّاةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْبَدَنَةُ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ» . وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ بَدَنَةٌ فَإِنْ شَاءَ نَحَرَ جَزُورًا، وَإِنْ شَاءَ ذَبَحَ بَقَرَةً عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا الْجَزُورُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْبَدَنَةَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْجَمَلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] ثُمَّ فَسَّرَهَا بِالْإِبِلِ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] أَيْ: قَائِمَةً مُصْطَفَّةً، وَالْإِبِلُ هِيَ الَّتِي تُنْحَرُ كَذَلِكَ. فَأَمَّا الْبَقَرُ فَإِنَّهَا تُذْبَحُ مُضْجَعَةً وَرَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْبَدَنَةُ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ تُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ» . حَتَّى قَالَ جَابِرٌ «نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ مَيَّزَ بَيْنَ الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ» فَدَلَّ أَنَّهُمَا غَيْرَانِ. (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: (الْهَدْيُ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَالْبَدَنَةُ مِنْ اثْنَيْنِ) وَهَذَا نَصٌّ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ وَقَالَ: إنَّ رَجُلًا صَاحِبًا لَنَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بَدَنَةً أَفَتَجْزِيهِ الْبَقَرَةُ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِمَّ صَاحِبُكُمْ؟ قَالَ مِنْ بَنِي رَبَاحٍ فَقَالَ مَتَى اقْتَنَتْ بَنُو رَبَاحٍ الْبَقَرَ، إنَّمَا الْبَقَرُ لِلْأَزْدِ وَإِنَّمَا وَهِمَ صَاحِبُكُمْ الْإِبِلَ. وَلَوْ لَمْ يَقَعْ اسْمُ الْبَدَنَةِ عَلَى الْبَقَرِ لَمْ يَكُنْ لِسُؤَالِهِ مَعْنًى وَلَمَا سَأَلَهُ، فَقَدْ أَوْقَعَ الِاسْمَ عَلَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ لَكِنْ أَوْجَبَ عَلَى النَّاذِرِ الْإِبِلَ؛ لِإِرَادَتِهِ ذَلِكَ ظَاهِرًا؛ وَلِأَنَّ الْبَدَنَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْبَدَانَةِ - وَهِيَ الضَّخَامَةُ - وَأَنَّهَا تُوجَدُ فِيهِمَا، وَلِهَذَا اسْتَوَيَا فِي الْجَوَازِ عَنْ سَبْعَةٍ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا جَوَازَ إطْلَاقِ اسْمِ الْبَدَنَةِ عَلَى الْإِبِلِ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهُ وَقَعَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ فِي الْحَدِيثِ فَمَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْبَقَرَةِ مَا خَرَجَ عَلَى التَّمْيِيزِ بَلْ عَلَى التَّأْكِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] ، وَكَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ جَاءَنِي أَهْلُ قَرْيَةِ كَذَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْعَطْفِ إنْ أُوِّلَ عَلَى التَّغْيِيرِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي جَوَازِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ سَبْعَةٍ يَدُلُّ عَلَى الِاتِّحَادِ فِي الْمَعْنَى وَلَا حُجَّةَ مَعَ التَّعَارُضِ وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ جَزُورٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ بَعِيرًا؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجَزُورِ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى الْإِبِلِ. وَيَجُوزُ إيجَابُ الْهَدْيِ مُطْلَقًا وَمُعَلَّقًا بِشَرْطٍ بِأَنْ يَقُولَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ هَدْيٌ. وَلَوْ قَالَ هَذِهِ الشَّاةُ هَدْيٌ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ أَوْ إلَى مَكَّةَ أَوْ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى كَذَا وَكَذَا عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ. وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُهْدِيَ مَالًا بِعَيْنِهِ مِنْ الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا مِمَّا سِوَى النَّعَمِ جَازَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ. وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالْكُوفَةِ جَازَ. وَأَمَّا فِي النَّعَمِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَلَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ إلَّا فِي الْحَرَمِ فَيَذْبَحُ فِي الْحَرَمِ وَيَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهِ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ وَهُوَ الْأَفْضَلُ. وَلَوْ تَصَدَّقَ عَلَى غَيْرِ فُقَرَاءِ مَكَّةَ جَازَ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الثِّيَابِ فِي عَيْنِهَا وَهُوَ التَّصَدُّقُ بِهَا، وَالصَّدَقَةُ لَا تَخْتَصُّ بِمَكَانٍ كَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ. فَأَمَّا مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الْهَدْيِ مِنْ النَّعَمِ فِي الْإِرَاقَةِ شَرْعًا، وَالْإِرَاقَةُ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً فِي الشَّرْعِ إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ أَوْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، وَالشَّرْعُ أَوْجَبَ الْإِرَاقَةَ هَهُنَا فِي الْحَرَمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] حَتَّى إذَا ذَبَحَ الْهَدْيَ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ عَلَى فُقَرَاءَ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ لَحْمًا صَارَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِ فِي الصَّدَقَةِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَلَوْ جَعَلَ شَاةً هَدْيًا أَجْزَأَهُ أَنْ يُهْدِيَ قِيمَتَهَا فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ لَا يَجُوزُ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ اعْتِبَارُ الْبَدَنَةِ

بِالْأَمْرِ، ثُمَّ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْ الْغَنَمِ يَجُوزُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ فِيهِ كَذَا فِي النُّذُورِ (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَنَّ الْقُرْبَةَ تَعَلَّقَتْ بِشَيْئَيْنِ: إرَاقَةِ الدَّمِ وَالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ وَلَا يُوجَدْ فِي الْقِيمَةِ إلَّا أَحَدُهُمَا - وَهُوَ التَّصَدُّقُ - وَيَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدَايَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْ الْحَرَمِ وَلَا يَخْتَصُّ بِمِنًى، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِمِنًى، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: (الْحَرَمُ كُلُّهُ مَنْحَرٌ) وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] الْحَرَمُ. وَأَمَّا الْبَدَنَةُ إذَا أَوْجَبَهَا بِالنَّذْرِ، فَإِنَّهُ يَنْحَرُهَا حَيْثُ شَاءَ إلَّا إذَا نَوَى أَنْ يَنْحَرَ بِمَكَّةَ، فَلَا يَجُوزُ نَحْرُهَا إلَّا بِمَكَّةَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَرَى أَنْ يَنْحَرَ الْبُدْنَ بِمَكَّةَ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] أَيْ، الْحَرَمِ (وَلَهُمَا) أَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِ الْبَدَنَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِيَازِ الْمَكَانِ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْبَدَانَةِ - وَهِيَ الضَّخَامَةُ - يُقَالُ: بَدَنَ الرَّجُلُ، أَيْ ضَخُمَ وَقَدْ قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج: 32] أَنَّ: تَعْظِيمَهَا اسْتِسْمَانُهَا، وَلَوْ أَوْجَبَ جُزْءًا فَهُوَ مِنْ الْإِبِلِ خَاصَّةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْحَرَ فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهِ. وَيَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدَايَا قَبْلَ أَيَّامِ النَّحْرِ وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ دَمَ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ، وَهَدْيَ التَّطَوُّعِ يَجُوزُ قَبْلَ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَلَا يَجُوزُ دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْأُضْحِيَّةِ، وَيَجُوزُ دَمُ الْإِحْصَارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ. وَأَدْنَى السِّنِّ الَّذِي يَجُوزُ فِي الْهَدَايَا مَا يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا، وَهُوَ الثَّنِيُّ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ وَالْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ إذَا كَانَ عَظِيمًا وَبَيَانُ مَا يَجُوزُ فِي ذَلِكَ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ بَيَانِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ مَوْضِعُهُ كِتَابُ الْأُضْحِيَّةِ. وَلَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِظَهْرِهَا وَصُوفِهَا وَلَبَنِهَا إلَّا فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ مِنْ ظُهُورِهَا وَأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَيْ: إلَى أَنْ تُقَلَّدَ وَتُهْدَى {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] ، أَيْ ثُمَّ مَحِلُّهَا إذَا قُلِّدَتْ وَأُهْدِيَتْ إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ؛ لِأَنَّهَا مَا لَمْ تَبْلُغْ مَحِلَّهَا، فَالْقُرْبَةُ فِي التَّصَدُّقِ بِهَا فَإِذَا بَلَغَتْ مَحِلَّهَا فَحِينَئِذٍ تَتَعَيَّنُ الْقُرْبَةُ فِيهَا بِالْإِرَادَةِ، فَإِنْ قِيلَ رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارْكَبْهَا وَيْحَكَ فَقَالَ: إنَّهَا بَدَنَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: ارْكَبْهَا وَيْحَكَ» وَقِيلَ: وَيْحَكَ كَلِمَةُ تَرَحُّمٍ وَوَيْلَكَ كَلِمَةُ تَهَدُّدٍ، فَقَدْ أَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُكُوبَ الْهَدْيِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ قَدْ أَجْهَدَهُ السَّيْرُ فَرَخَّصَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعِنْدَنَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ بِبَدَلٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ بِبَدَلٍ، وَكَذَا فِي الْهَدَايَا إذَا رَكِبَهَا وَحَمَلَ عَلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ يَضُمُّ مَا نَقَصَهَا الْحَمْلُ وَالرُّكُوبُ وَيَنْضَحُ ضَرْعَهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِلَبَنِهَا فَلَبَنُهَا يُؤْذِيهَا فَيُنْضَحُ بِالْمَاءِ حَتَّى يَتَقَلَّصَ وَيَرْقَى لَبَنُهَا، وَمَا حُلِبَ قَبْلَ ذَلِكَ يَتَصَدَّقُ بِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا يَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا فَيَجِبُ صَرْفُهُ إلَى الْقُرْبَةِ كَمَا لَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا إنَّهَا تُذْبَحُ وَيُذْبَحُ وَلَدُهَا كَذَا هَذَا. ، فَإِنْ عَطِبَ الْهَدْيُ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا نَحَرَهُ، وَهُوَ لِصَاحِبِهِ يَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ مَكَانَهُ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا نَحَرَهُ وَغَمَسَ نَعْلَهُ بِدَمِهِ ثُمَّ ضَرَبَ صَفْحَةَ سَنَامِهِ، وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ يَأْكُلُونَهُ، وَلَا يَأْكُلُ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَلَا يُطْعِمُ أَحَدًا مِنْ الْأَغْنِيَاءِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ أَنَّهُ إذَا كَانَ وَاجِبًا، فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ فَإِذَا انْصَرَفَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا شَاءَ، وَعَلَيْهِ هَدْيٌ آخَرُ مَكَانَهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا لَمْ يَقَعْ عَنْ الْوَاجِبِ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ، فَبَقِيَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ؛ وَلِأَنَّ الْقُرْبَةَ قَدْ تَعَيَّنَتْ فِيهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنَّهُ يَنْحَرُهُ وَيَفْعَلُ بِهِ مَا ذَكَرْنَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِمَا رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ بَعَثَ هَدْيًا عَلَى يَدِ نَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيِّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَزْحَفَ مِنْهَا، أَيْ قَامَتْ مِنْ الْإِعْيَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ مَا أَفْعَلُ بِمَا يَقُومُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْحَرْهَا وَاصْبُغْ نَعْلَهَا بِدَمِهَا ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَةَ سَنَامِهَا، وَخَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَلَا تَأْكُلْ مِنْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ رُفْقَتِك» وَإِنَّمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، وَلَهُ أَنْ يُطْعِمَ الْأَغْنِيَاءَ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ كَانَتْ فِي ذَبْحِهِ إذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ فَإِذَا لَمْ يَبْلُغْ كَانَتْ الْقُرْبَةُ فِي التَّصَدُّقِ

العمرة

وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَكَانَهُ آخَرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَيَتَصَدَّقُ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا وَلَا تُعْطِ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا» . وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ دَمِ النَّذْرِ شَيْئًا. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الدِّمَاءَ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَجُوزُ لِصَاحِبِ الدَّمِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَهُوَ دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْأُضْحِيَّةِ، وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ إذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ. وَنَوْعٌ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَهُوَ دَمُ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَاتِ وَهَدْيُ الْإِحْصَارِ وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ إذَا لَمْ يَبْلُغْ مَحِلَّهُ؛ لِأَنَّ الدَّمَ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ دَمُ شُكْرٍ فَكَانَ نُسُكًا فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَدَمُ النَّذْرِ دَمُ صَدَقَةٍ وَكَذَا دَمُ الْكَفَّارَةِ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ تَكْفِيرُ الذَّنْبِ. وَكَذَا دَمُ الْإِحْصَارِ؛ لِوُجُودِ التَّحَلُّلِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَوَانِهِ، وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ إذَا لَمْ يَبْلُغْ مَحِلَّهُ بِمَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي التَّصَدُّقِ بِهِ فَكَانَ دَمُ صَدَقَةٍ، وَكُلُّ دَمٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِلَحْمِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ لَمَا جَازَ أَكْلُهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ، وَكُلُّ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَكْلُهُ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ يُؤَدِّي إلَى إضَاعَةِ الْمَالِ. وَكَذَا لَوْ هَلَكَ الْمَذْبُوحُ بَعْدَ الذَّبْحِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي النَّوْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي الْهَلَاكِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ فَيَتَصَدَّقُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْفُقَرَاءِ فَبِالِاسْتِهْلَاكِ تَعَدَّى عَلَى حَقِّهِمْ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ أَصْلِ مَالٍ وَاجِبِ التَّصَدُّقِ بِهِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّعَدِّي بِإِتْلَافِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ. وَلَوْ بَاعَ اللَّحْمَ يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَائِمٌ إلَّا أَنَّ فِيمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِهِ يَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ ثَمَنَهُ مَبِيعٌ وَاجِبٌ التَّصَدُّقُ بِهِ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ بِهِ فَيَتَمَكَّنُ فِي ثَمَنِهِ حَنِثَ فَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ بِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [الْعُمْرَةُ] وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ صِفَتِهَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَمْ لَا؟ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِهَا إنْ كَانَتْ وَاجِبَةً، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهَا وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ وَاجِبَاتِهَا وَفِي بَيَانِ سُنَنِهَا وَفِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُهَا وَفِي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهَا وَاجِبَةٌ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَالْوِتْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ اسْمَ السُّنَّةِ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ لَا يُنَافِي الْوَاجِبَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهَا فَرِيضَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ تَطَوُّعٌ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْحَجُّ مَكْتُوبٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» وَهَذَا نَصٌّ وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْعُمْرَةُ أَهِيَ وَاجِبَةٌ؟ قَالَ: لَا وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ» وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وَالْأَمْرُ لِلْفَرْضِيَّةِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْعُمْرَةُ هِيَ الْحَجَّةُ الصُّغْرَى» ، وَقَدْ ثَبَتَ فَرْضِيَّةُ الْحَجِّ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَلَنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] وَلَمْ يَذْكُرْ الْعُمْرَةَ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْحَجِّ لَا يَقَعُ عَلَى الْعُمْرَةِ فَمَنْ قَالَ: إنَّهَا فَرِيضَةٌ فَقَدْ زَادَ عَلَى النَّصِّ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَكَذَا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَأَلَهُ عَنْ الْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ فَبَيَّنَّ لَهُ الْإِيمَانَ وَبَيَّنَ لَهُ الشَّرَائِعَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْعُمْرَةَ " فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: هَلْ عَلَيَّ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي انْتِقَاءَ فَرِيضَةِ الْعُمْرَةِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى فَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهَا قُرِئَتْ بِرَفْعِ الْعُمْرَةِ " وَالْعُمْرَةُ لِلَّهِ " وَأَنَّهُ كَلَامٌ تَامٌّ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَى الْأَمْرِ بِالْحَجِّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ رَدًّا لِزَعْمِ الْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ الْعُمْرَةَ لِلْأَصْنَامِ عَلَى مَا كَانَتْ عِبَادَتُهُمْ مِنْ الْإِشْرَاكِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِيهَا أَمْرٌ بِإِتْمَامِ الْعُمْرَةِ، وَإِتْمَامُ الشَّيْءِ يَكُونُ بَعْدَ الشُّرُوعِ، فِيهِ وَبِهِ نَقُولُ أَنَّهَا بِالشُّرُوعِ تَصِيرُ فَرِيضَةً مَعَ مَا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ: إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك عَلَى أَنَّ هَذَا إنْ كَانَ أَمْرًا بِإِنْشَاءِ الْعُمْرَةِ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يُفِيدُ الْفَرْضِيَّةَ بَلْ الْفَرْضِيَّةُ عِنْدَنَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ زَائِدٍ وَرَاءَ نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ احْتِيَاطًا وَبِهِ نَقُولُ: إنَّ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةٌ، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ وَتَسْمِيَتُهَا حَجَّةً صُغْرَى فِي الْحَدِيثِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الثَّوَابِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَجَّةٍ حَقِيقَةً

شرائط وجوب العمرة

أَلَا تَرَى أَنَّهَا عُطِفَتْ عَلَى الْحَجَّةِ فِي الْآيَةِ، وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْأَصْلِ، وَيُقَالُ: حَجَّ فُلَانٌ وَمَا اعْتَمَرَ عَلَى أَنَّ وَصْفَهَا بِالصِّغَرِ دَلِيلُ انْحِطَاطِ رُتْبَتِهَا عَنْ الْحَجِّ، فَإِذَا كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هِيَ وَاجِبَةٌ؛ لِيَظْهَرَ الِانْحِطَاطُ إذْ الْوَاجِبُ دُونَ الْفَرْضِ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ التَّطَوُّعِ عَلَيْهَا فِي الْحَدِيثِ يُصْلَحُ حُجَّةً عَلَى الشَّافِعِيِّ لَا عَلَيْنَا؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ بِفَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ، وَالتَّطَوُّعُ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا، وَنَحْنُ نَقُولُ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ، وَالْوَاجِبُ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا، فَكَانَ إطْلَاقُ اسْمِ التَّطَوُّعِ صَحِيحًا عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ وَلَيْسَ لِلْفَرْضِ هَذَا الِاحْتِمَالُ فَلَا يَصِحُّ الْإِطْلَاقُ، وَقَوْلُ السَّائِلِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ (أَهِيَ وَاجِبَةٌ؟) مَحْمُولٌ عَلَى الْفَرْضِ إذْ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَمَلًا وَاعْتِقَادًا عَيْنًا، فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا نَفْيَ لَهُ، وَبِهِ نَقُولُ. [شَرَائِطُ وُجُوب الْعُمْرَة] (وَأَمَّا) شَرَائِطُ وُجُوبِهَا فَهِيَ شَرَائِطُ وُجُوبِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي فَصْلِ الْحَجِّ. [أَرْكَان الْعُمْرَة] (وَأَمَّا) رُكْنُهَا فَالطَّوَافُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ؛ وَلِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِ. (وَأَمَّا) شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَجِّ إلَّا الْوَقْتَ، فَإِنَّ السَّنَةَ كُلَّهَا وَقْتُ الْعُمْرَةِ، وَتَجُوزُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَفِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ فِعْلُهَا فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ. أَمَّا الْجَوَازُ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ «مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمْرَةً إلَّا شَهِدْتُهَا وَمَا اعْتَمَرَ إلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ» وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَمَرَ مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِهِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ» فَدَلَّ الْحَدِيثَانِ عَلَى أَنَّ جَوَازِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى نَهْيِ الشَّفَقَةِ عَلَى أَهْلِ الْحَرَمِ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَوْسِمُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنْ السَّنَةِ بَلْ فِي وَقْتَيْنِ لِتَوَسُّعِ الْمَعِيشَةِ عَلَى أَهْلِ الْحَرَمِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ عِنْدَنَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُكْرَهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَيْضًا، وَاحْتَجَّ بِمَا تَلَوْنَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَبِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ فِيهَا (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ لَيْسَ وَقْتَ الْوُقُوفِ، فَلَا يَشْغَلُهُ عَنْ الْوُقُوفِ فِي وَقْتِهِ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: (وَقْتُ الْعُمْرَةِ السَّنَةُ كُلُّهَا إلَّا يَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قَالَتْ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالِاجْتِهَادِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ شُغْلِ الْحَاجِّ بِأَدَاءِ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةُ فِيهَا تَشْغَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَرُبَّمَا يَقَعُ الْخَلَلُ فِيهِ فَيُكْرَهُ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيمَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَبِهِ نَقُولُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْكَرَاهَةِ وَالْجَوَازِ لَا يَنْفِيهَا، وَقَدْ قَامَ دَلِيلُ الْكَرَاهَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا. وَكَذَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْمِيقَاتِ فِي حَقِّ أَهْلِ مَكَّةَ فَمِيقَاتُهُمْ لِلْحَجِّ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِمْ، وَلِلْعُمْرَةِ مِنْ الْحِلِّ التَّنْعِيمِ أَوْ غَيْرِهِ، وَمَحْظُورَاتُ الْعُمْرَةِ مَا هُوَ مَحْظُورَاتُ الْحَجِّ، وَحُكْمُ ارْتِكَابِهَا فِي الْعُمْرَةِ مَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْحَجِّ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْحَجِّ. [وَاجِبَات الْعُمْرَة] (وَأَمَّا) وَاجِبَاتُهَا فَشَيْئَانِ: السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ. فَأَمَّا طَوَافُ الصَّدْرِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَمِرِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ يَجِبُ عَلَيْهِ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ طَوَافَ الصَّدْرِ طَوَافُ الْوَدَاعِ وَالْمُعْتَمِرُ يَحْتَاجُ إلَى الْوَدَاعِ، كَالْحَاجِّ، وَلَنَا أَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ طَوَافَ الصَّدْرِ بِالْحَجِّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرَ عَهْدِهِ بِهِ الطَّوَافُ» . [سُنَن الْعُمْرَة] (وَأَمَّا) سُنَنُهَا فَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَجِّ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ شَوْطٍ مِنْ الطَّوَافِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ مِنْ الْمَدِينَةِ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا دَخَلَ الْحَرَمَ، وَإِنْ كَانَ إحْرَامُهُ لَهَا مِنْ مَكَّةَ يَقْطَعُ إذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُلَبِّي فِي الْعُمْرَةِ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ» وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَكَانَ يُلَبِّي فِي ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ» وَلِأَنَّ اسْتِلَامَ الْحَجَرِ نُسُكٌ وَدُخُولُ الْحَرَمِ وَوُقُوعُ الْبَصَرِ عَلَى الْبَيْتِ لَيْسَ بِنُسُكٍ فَقَطْعُ التَّلْبِيَةِ عِنْدَنَا هُوَ نُسُكٌ أَوْلَى، وَلِهَذَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ فِي الْحَجِّ عِنْدَ الرَّمْيِ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مفسدات العمرة

[مُفْسِدَات الْعُمْرَة] وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُفْسِدُهَا وَبَيَانُ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ فَاَلَّذِي يُفْسِدُهَا الْجِمَاعُ لَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ كَوْنِهِ مُفْسِدًا، وَذَلِكَ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا الْجِمَاعُ فِي الْفَرْجِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَجِّ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الطَّوَافِ كُلِّهِ أَوْ أَكْثَرِهِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْوَاطٍ؛ لِأَنَّ رُكْنَهَا الطَّوَافُ، فَالْجِمَاعُ حَصَلَ قَبْلَ أَدَاءِ الرُّكْنِ فَيُفْسِدُهَا كَمَا لَوْ حَصَلَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فِي الْحَجِّ، وَإِذَا فَسَدَتْ يَمْضِي فِيهَا وَيَقْضِيهَا وَعَلَيْهِ شَاةٌ لِأَجْلِ الْفَسَادِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَدَنَةٌ كَمَا فِي الْحَجِّ فَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ مَا طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ أَوْ بَعْدَ مَا طَافَ الطَّوَافَ كُلَّهُ قَبْلَ السَّعْيِ أَوْ بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ قَبْلَ الْحَلْقِ لَا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ حَصَلَ بَعْدَ أَدَاءِ الرُّكْنِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِحُصُولِ الْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ، وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْحَلْقِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِخُرُوجِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَلْقِ فَإِنْ جَامَعَ ثُمَّ جَامَعَ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْحَجِّ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [كِتَابُ النِّكَاحِ] [صِفَةِ النِّكَاحِ الْمَشْرُوعِ] (كِتَابُ النِّكَاحِ) : الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ النِّكَاحِ الْمَشْرُوعِ وَفِي بَيَانِ رُكْنِ النِّكَاحِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ النِّكَاحِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ أَنَّ النِّكَاحَ فَرْضٌ حَالَةَ التَّوَقَانِ، حَتَّى أَنَّ مَنْ تَاقَتْ نَفْسُهُ إلَى النِّسَاءِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهُنَّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ يَأْثَمُ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا لَمْ تَتُقْ نَفْسُهُ إلَى النِّسَاءِ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا، قَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ مِثْلُ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ: أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ بِمَنْزِلَةِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، حَتَّى أَنَّ مَنْ تَرَكَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْوَطْءِ يَأْثَمُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّهُ مُبَاحٌ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْكَرْخِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ، بِمَنْزِلَةِ الْجِهَادِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ وَاجِبٌ ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ، كَرَدِّ السَّلَامِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ وَاجِبٌ عَيْنًا، لَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ، كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ، وَالْوِتْرِ احْتَجَّ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» . وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالنِّكَاحِ مُطْلَقًا، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ قَطْعًا، إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الزِّنَا وَاجِبٌ وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالنِّكَاحِ، وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ يَكُونُ وَاجِبًا. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] أَخْبَرَ عَنْ إحْلَالِ النِّكَاحِ، وَالْمُحَلَّلُ وَالْمُبَاحُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ، وَلِأَنَّهُ قَالَ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ} [النساء: 24] وَلَفْظُ لَكُمْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُبَاحَاتِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ فَيَكُونُ مُبَاحًا كَشِرَاءِ الْجَارِيَةِ لِلتَّسَرِّي بِهَا، وَهَذَا لِأَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ إيصَالُ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ، وَلَيْسَ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ إيصَالُ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ بَلْ: هُوَ مُبَاحٌ فِي الْأَصْلِ، كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَإِذَا كَانَ مُبَاحًا لَا يَكُونُ وَاجِبًا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّنَافِي وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ قَوْله تَعَالَى {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39] وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ لِيَحْيَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِكَوْنِهِ حَصُورًا، وَالْحَصُورُ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ مَعَ الْقُدْرَةِ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا اسْتَحَقَّ الْمَدْحَ بِتَرْكِهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ لَأَنْ يُذَمَّ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُمْدَحَ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمُسْتَحَبٌّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ» أَقَامَ الصَّوْمَ مَقَامَ النِّكَاحِ، وَالصَّوْمُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَدَلَّ أَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَيْضًا، لِأَنَّ غَيْرَ الْوَاجِبِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْوَاجِبِ. وَلِأَنَّ فِي الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ مِنْهُ بِذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إنَّهُ

فصل ركن النكاح

فَرْضٌ أَوْ وَاجِبٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ احْتَجَّ بِالْأَوَامِرِ الْوَارِدَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ قَطْعًا، وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ النَّاسِ لَوْ تَرَكَهُ لَا يَأْثَمُ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ عَلَى طَرِيقِ الْكِفَايَةِ، فَأَشْبَهَ الْجِهَادَ، وَصَلَاةَ الْجِنَازَةِ، وَرَدَّ السَّلَامِ. وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إنَّهُ وَاجِبٌ عَيْنًا لَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ يَقُولُ: صِيغَةُ الْأَمْرِ الْمُطْلَقَةُ عَنْ الْقَرِينَةِ تَحْتَمِلُ الْفَرْضِيَّةَ، وَتَحْتَمِلُ النَّدْبَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ دُعَاءٌ وَطَلَبٌ، وَمَعْنَى الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيُؤْتَى بِالْفِعْلِ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ تَفْسِيرُ وُجُوبِ الْعَمَلِ، وَيُعْتَقَدُ عَلَى الْإِبْهَامِ عَلَى أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصِّيغَةِ مِنْ الْوُجُوبِ الْقَطْعِيِّ أَوْ النَّدْبِ فَهُوَ حَقٌّ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ وَاجِبًا عِنْدَ اللَّهِ فَخَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالْفِعْلِ، فَيَأْمَنُ الضَّرَرَ وَإِنْ كَانَ مَنْدُوبًا يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ، فَكَانَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَخْذًا بِالثِّقَةِ، وَالِاحْتِيَاطِ، وَاحْتِرَازًا عَنْ الضَّرَرِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَأَنَّهُ وَاجِبٌ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَنَى أَصْحَابُنَا مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إنَّ النِّكَاحَ فَرْضٌ أَوْ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِ مَعَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ أَوْلَى مِنْ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ مَعَ تَرْكِ النِّكَاحِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ كَيْفَ مَا كَانَ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ. وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَمُسْتَحَبٌّ؛ فَإِنَّهُ يُرَجِّحُهُ عَلَى النَّوَافِلِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُنَّةٌ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «النِّكَاحُ سُنَّتِي» وَالسُّنَنُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى النَّوَافِلِ بِالْإِجْمَاعِ. وَلِأَنَّهُ أَوْعَدَ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَلَا وَعِيدَ عَلَى تَرْكِ النَّوَافِلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَاظَبَ عَلَيْهِ أَيْ: دَاوَمَ وَثَبَتَ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لَمْ يَخْلُ عَنْهُ، بَلْ كَانَ يَزِيدُ عَلَيْهِ حَتَّى تَزَوَّجَ عَدَدًا مِمَّا أُبِيحَ لَهُ مِنْ النِّسَاءِ. وَلَوْ كَانَ التَّخَلِّي لِلنَّوَافِلِ أَفْضَلَ لَمَا فَعَلَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَتْرُكُونَ الْأَفْضَلَ فِيمَا لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْأَفْضَلِ فِيمَا لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ عُدَّ زَلَّةً مِنْهُمْ، وَإِذَا ثَبَتَ أَفْضَلِيَّةُ النِّكَاحِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَتَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مِنْ الشَّرَائِعِ هُوَ الْعُمُومُ، وَالْخُصُوصُ بِدَلِيلٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَقْصُودٍ هُوَ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّوَافِلِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ الْفَاحِشَةِ، وَسَبَبٌ لِصِيَانَةِ نَفْسِهَا عَنْ الْهَلَاكِ بِالنَّفَقَةِ، وَالسُّكْنَى، وَاللِّبَاسِ، لِعَجْزِهَا عَنْ الْكَسْبِ، وَسَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ الْمُوَحِّدِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّوَافِلِ، فَكَذَا السَّبَبُ الْمُوَصِّلُ إلَيْهِ كَالْجِهَادِ وَالْقَضَاءِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّخَلِّي أَوْلَى. وَتَخْرِيجُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَصْلِهِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ النَّوَافِلَ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا، فَكَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْمُبَاحِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ دَلَائِلِ الْإِبَاحَةِ وَالْحِلِّ فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهَا: إنَّ النِّكَاحَ مُبَاحٌ، وَحَلَالٌ فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ، أَوْ مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ لِغَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صِيَانَةٌ لِلنَّفْسِ مِنْ الزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ حَلَالًا بِجِهَةٍ، وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا إلَيْهِ بِجِهَةٍ؛ إذْ لَا تَنَافِيَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَتَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39] فَاحْتَمَلَ أَنَّ التَّخَلِّيَ لِلنَّوَافِلِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ النِّكَاحِ فِي شَرِيعَتِهِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي شَرِيعَتِنَا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. [فَصْلٌ رُكْنُ النِّكَاحِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُ النِّكَاحِ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ. وَذَلِكَ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا: فِي بَيَانِ اللَّفْظِ الَّذِي يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِهِ بِحُرُوفِهِ - وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ صِيغَةِ ذَلِكَ اللَّفْظِ. وَالثَّالِثُ: فِي بَيَانِ أَنَّ النِّكَاحَ هَلْ يَنْعَقِدُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ أَوْ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِعَاقِدَيْنِ. وَالرَّابِعُ: فِي بَيَانِ صِفَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ أَمَّا بَيَانُ اللَّفْظِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ بِحُرُوفِهِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: لَا خِلَافَ أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ. وَهَلْ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالتَّمْلِيكِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يَنْعَقِدُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ، اتَّخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ» وَكَلِمَتُهُ الَّتِي أَحَلَّ بِهَا الْفُرُوجَ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ لَفْظُ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ فَقَطْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

{زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] وَلِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلنِّكَاحِ هُوَ الِازْدِوَاجُ وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ وَسِيلَةً إلَيْهِ؛ فَوَجَبَ اخْتِصَاصُهُ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الِازْدِوَاجِ، وَهُوَ لَفْظُ التَّزْوِيجِ وَالْإِنْكَاحِ لَا غَيْرُ. وَلَنَا أَنَّهُ انْعَقَدَ نِكَاحُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَفْظِ الْهِبَةِ، فَيَنْعَقِدُ بِهِ نِكَاحُ أُمَّتِهِ. وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ قَوْله تَعَالَى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50] مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُؤْمِنَةَ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ اسْتِنْكَاحِهِ إيَّاهَا حَلَالٌ لَهُ. وَمَا كَانَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكُونُ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ أُمَّتِهِ هُوَ الْأَصْلُ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَامَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ هَهُنَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ بِغَيْرِ أَجْرٍ فَالْخُلُوصُ يَرْجِعُ إلَى الْأَجْرِ لَا إلَى لَفْظِ الْهِبَةِ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: ذَكَرَهُ عَقِيبَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] فَدَلَّ أَنَّ خُلُوصَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ لَهُ كَانَ بِالنِّكَاحِ بِلَا فَرْضٍ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب: 50] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا حَرَجَ كَانَ يَلْحَقُهُ فِي نَفْسِ الْعِبَارَةِ، وَإِنَّمَا الْحَرَجُ فِي إعْطَاءِ الْبَدَلِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الِامْتِنَانِ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ فِي لَفْظِ الْهِبَةِ، لَيْسَتْ تِلْكَ فِي لَفْظَةِ التَّزْوِيجِ، فَدَلَّ أَنَّ الْمِنَّةَ فِيمَا صَارَتْ لَهُ بِلَا مَهْرٍ، فَانْصَرَفَ الْخُلُوصُ إلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الِانْعِقَادَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ لِكَوْنِهِ لَفْظًا مَوْضُوعًا لِحُكْمِ أَصْلِ النِّكَاحِ شَرْعًا وَهُوَ الِازْدِوَاجُ وَأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ بِدُونِ الْمِلْكِ، فَإِذَا أُتِيَ بِهِ يَثْبُتُ الِازْدِوَاجُ بِاللَّفْظِ، وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ الَّذِي يُلَازِمُهُ شَرْعًا. وَلَفْظُ التَّمْلِيكِ مَوْضُوعٌ لِحُكْمٍ آخَرَ أَصْلِيٍّ لِلنِّكَاحِ وَهُوَ الْمِلْكُ، وَإِنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي النِّكَاحِ بِدُونِ الِازْدِوَاجِ فَإِذَا أُتِيَ بِهِ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْمِلْكُ، وَيَثْبُتَ الِازْدِوَاجُ الَّذِي يُلَازِمُهُ شَرْعًا، اسْتِدْلَالًا لِأَحَدِ اللَّفْظَيْنِ بِالْآخَرِ، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ مُتَلَازِمَانِ شَرْعًا، وَلَمْ يُشْرَعْ أَحَدُهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ الْآخَرُ ضَرُورَةً، وَيَكُونُ الرِّضَا بِأَحَدِهِمَا رِضًا بِالْآخِرِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إنَّ اسْتِحْلَالَ الْفُرُوجِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ اسْتِحْلَالٌ بِغَيْرِ كَلِمَةِ اللَّه فَيَرْجِعُ الْكَلَامُ إلَى تَفْسِيرِ الْكَلِمَةِ الْمَذْكُورَةِ فَنَقُولُ: كَلِمَةُ اللَّهِ تَعَالَى تَحْتَمِلُ حُكْمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [يونس: 19] فَلِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّ جَوَازَ النِّكَاحِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَيْسَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ مَعَ مَا أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ جُعِلَ عَلَمًا عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِضَافَةُ الْكَلِمَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ الشَّارِعَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ الْجَاعِلُ اللَّفْظَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ شَرْعًا، فَكَانَ كَلِمَةَ اللَّهِ تَعَالَى فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى الِاسْتِحْلَالِ بِكَلِمَةِ اللَّهِ لَا يُنْفَى الِاسْتِحْلَال لَا بِكَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. وَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا. وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ: أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظٍ مَوْضُوعٍ لَتَمْلِيكِ الْعَيْنِ، هَكَذَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ لَفْظٍ يَكُونُ فِي اللُّغَةِ تَمْلِيكًا لِلرَّقَبَةِ فَهُوَ فِي الْحُرَّةِ نِكَاحٌ. وَحُكِيَ عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] اللَّهُ تَعَالَى الْمَهْرَ أَجْرًا، وَلَا أَجْرَ إلَّا بِالْإِجَارَةِ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْإِجَارَةُ نِكَاحًا لَمْ يَكُنْ الْمَهْرُ أَجْرًا. (وَجْهُ) قَوْلِ الْعَامَّةِ: أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ مُؤَقَّتٌ بِدَلِيلِ أَنَّ التَّأْبِيدَ يُبْطِلُهَا، وَالنِّكَاحُ عَقْدٌ مُؤَبَّدٍ بِدَلِيلِ أَنَّ التَّوْقِيتَ يُبْطِلُهُ. وَانْعِقَادُ الْعَقْدِ بِلَفْظٍ يَتَضَمَّنُ الْمَنْعَ مِنْ الِانْعِقَادِ مُمْتَنِعٌ، وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ، وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ فِي حُكْمِ الْأَجْزَاءِ. وَالْأَعْيَانِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ مِلْكُ الْعَيْنِ بِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ. وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِعَارَةِ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ إنْ كَانَتْ إبَاحَةَ الْمَنْفَعَةِ فَالنِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ، لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ أَصْلًا. وَإِنْ كَانَتْ تَمْلِيكَ الْمُتْعَةِ فَالنِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظٍ مَوْضُوعٍ لَتَمْلِيكِ الرَّقَبَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي لَفْظِ الْقَرْضِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْإِعَارَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ فِي الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَقْرَضَ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْمُسْتَقْرِضِ. وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي لَفْظِ السَّلَمِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّ السَّلَمَ فِي الْحَيَوَانِ لَا يَصِحُّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ، وَالسَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ يَنْعَقِدُ عِنْدَنَا، حَتَّى لَوْ اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ يُعَدُّ الْمِلْكُ مِلْكًا فَاسِدًا، لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ يُفْسِدُ النِّكَاحَ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي لَفْظِ الصَّرْفِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَنْعَقِدُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ فِي

الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هَهُنَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مِلْكُ الْعَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ. وَأَمَّا لَفْظُ الْوَصِيَّةِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالنِّكَاحُ الْمُضَافُ إلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَصِحُّ. وَحُكِيَ عَنْ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ فِي الْجُمْلَةِ. وَحَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ عَنْ الْكَرْخِيِّ إنْ قَيَّدَ الْوَصِيَّةَ بِالْحَالِّ بِأَنْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَكَ بِابْنَتِي هَذِهِ الْآنَ يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَيَّدَهُ بِالْحَالِّ صَارَ مَجَازًا عَنْ التَّمْلِيكِ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِحْلَالِ وَالْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ أَصْلًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُبَاحَ لَهُ الطَّعَامُ يَتَنَاوَلُهُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُبِيحِ، حَتَّى كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَجْرِ وَالْمَنْعِ. وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِلتَّمْلِيكِ؛ وَلِأَنَّ الْمُتْعَةَ عَقْدٌ مَفْسُوخٌ لِمَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوْضِعِهِ وَلَوْ أَضَافَ الْهِبَةَ إلَى الْأَمَةِ؛ بِأَنْ قَالَ رَجُلٌ: وَهَبْتُ أَمَتِي هَذِهِ مِنْكَ فَإِنْ كَانَ الْحَالُ يَدُلُّ عَلَى النِّكَاحِ مِنْ إحْضَارِ الشُّهُودِ، وَتَسْمِيَةِ الْمَهْرِ، مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، يُنْصَرَفُ إلَى النِّكَاحِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحَالُ دَلِيلًا عَلَى النِّكَاحِ، فَإِنْ نَوَى النِّكَاحَ فَصَدَقَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَكَذَلِكَ وَيُنْصَرَفُ إلَى النِّكَاحِ بِقَرِينَةِ النِّيَّةِ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ يُنْصَرَفُ إلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ - ثُمَّ النِّكَاحُ كَمَا يَنْعَقِدُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ يَنْعَقِدُ بِهَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ، بِالْوَكَالَةِ، وَالرِّسَالَةِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ كَتَصَرُّفِ الْمُوَكِّلِ، وَكَلَامَ الرَّسُولِ كَلَامُ الْمُرْسِلِ، وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ الْوَكَالَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّجَّاشِيَّ زَوَّجَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّ حَبِيبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ إمَّا أَنْ فَعَلَهُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لَا بِأَمْرِهِ، فَإِنْ فَعَلَهُ بِأَمْرِهِ فَهُوَ وَكِيلُهُ، وَإِنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَقَدْ أَجَازَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقْدَهُ وَالْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ، وَكَمَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْعِبَارَةِ يَنْعَقِدُ بِالْإِشَارَةِ مِنْ الْأَخْرَسِ إذَا كَانَتْ إشَارَتُهُ مَعْلُومَةً وَيَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مِنْ الْغَائِبِ خِطَابُهُ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -. وَأَمَّا بَيَانُ صِيغَةِ اللَّفْظِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي كَقَوْلِهِ: زَوَّجْتُ وَتَزَوَّجْتُ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ. وَأَمَّا بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْمَاضِي وَبِالْآخَرِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا إذَا قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ: زَوِّجْنِي بِنْتَك أَوْ قَالَ: جِئْتُكَ خَاطِبًا ابْنَتَك أَوْ قَالَ جِئْتُك لِتُزَوِّجَنِي بِنْتَك فَقَالَ الْأَبُ: قَدْ زَوَّجْتُك أَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: أَتَزَوَّجُك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَتْ: قَدْ تَزَوَّجْتُك عَلَى ذَلِكَ أَوْ قَالَ لَهَا: زَوِّجِينِي أَوْ انْكِحِينِي نَفْسَك فَقَالَتْ: زَوَّجْتُك أَوْ أَنْكَحْت يَنْعَقِدُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الِاسْتِقْبَالِ عُدَّةٌ، وَالْأَمْرُ مِنْ فُرُوعِ الِاسْتِقْبَالِ؛ فَلَمْ يُوجَدْ الِاسْتِقْبَالُ، فَلَمْ يُوجَدُ الْإِيجَابُ إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ بِلَالًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَطَبَ إلَى قَوْمٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنِي أَنْ أَخْطُبَ إلَيْكُمْ لَمَا خَطَبْتُ فَقَالُوا لَهُ: مَلَكْت» وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ بِلَالًا أَعَادَ الْقَوْلَ. وَلَوْ فَعَلَ لِنَقُلْ. وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَرَادَ الْإِيجَابَ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ لَا تَتَحَقَّقُ فِي النِّكَاحِ عَادَةً، فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْإِيجَابِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ فَإِنَّ السَّوْمَ مُعْتَادٌ فِيهِ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظٍ آخَرَ يَتَأَدَّى بِهِ الْإِيجَابُ - وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ -. وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ النِّكَاحَ هَلْ يَنْعَقِدُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ أَوْ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِعَاقِدَيْنِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْفَصْلِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: يَنْعَقِدُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ إذَا كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، سَوَاءً كَانَتْ وِلَايَتُهُ أَصْلِيَّةً، كَالْوِلَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْمِلْكِ وَالْقَرَابَةِ، أَوْ دَخِيلَةً كَالْوِلَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْوَكَالَةِ؛ بِأَنْ كَانَ الْعَاقِدُ مَالِكًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَالْمَوْلَى إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ، أَوْ كَانَ وَلِيًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، كَالْجَدِّ إذَا زَوَّجَ ابْنَ ابْنِهِ الصَّغِيرَ مِنْ بِنْتِ ابْنِهِ الصَّغِيرَةِ، وَالْأَخَ إذَا زَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ الصَّغِيرَةِ مِنْ ابْنِ أَخِيهِ الصَّغِيرِ أَوْ كَانَ أَصِيلًا وَوَلِيًّا كَابْنِ الْعَمِّ إذَا زَوَّجَ بِنْتَ عَمِّهِ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ كَانَ وَكِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، أَوْ رَسُولًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، أَوْ كَانَ وَلِيًّا مِنْ جَانِبٍ وَوَكِيلًا مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، أَوْ وَكَّلَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا لِيَتَزَوَّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ امْرَأَةً لِتُزَوِّجَ نَفْسَهَا مِنْهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ أَصْلًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَنْعَقِدُ إلَّا إذَا كَانَ وَلِيًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَاحِدَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ بِالنِّكَاحِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَمْ لَا؟ (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ رُكْنَ النِّكَاحِ اسْمٌ لِشَطْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَهُوَ: الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، فَلَا يَقُومَانِ إلَّا بِعَاقِدَيْنِ كَشَطْرَيْ الْبَيْعِ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ فِي

فصل شرائط الركن أنواع منها شرط الانعقاد

الْوَلِيِّ ضَرُورَةٌ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ بِلَا وَلِيٍّ، فَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ مُتَعَيَّنًا فَلَوْ لَمْ يُجِزْ نِكَاحَ الْمُوَلِّيَةِ لَامْتَنَعَ نِكَاحُهَا أَصْلًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ فِي الْوَكِيلِ وَنَحْوِهِ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] قِيلَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي يَتِيمَةٍ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا، وَهِيَ ذَاتُ مَالٍ (وَوَجْهُ) الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] خَرَجَ مَخْرَجَ الْعِتَابِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَقُومُ بِنِكَاحِ وَلِيَّتِهِ وَحْدَهُ، إذْ لَوْ لَمْ يَقُمْ وَحْدَهُ بِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْعِتَابِ مَعْنًى، لِمَا فِيهِ مِنْ إلْحَاقِ الْعِتَابِ بِأَمْرٍ لَا يَتَحَقَّقُ. وقَوْله تَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْإِنْكَاحِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْإِنْكَاحِ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ مِنْ نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي بَابِ النِّكَاحِ لَيْسَ بِعَاقِدٍ بَلْ هُوَ سَفِيرٌ عَنْ الْعَاقِدِ وَمُعَبِّرٌ عَنْهُ بِدَلِيلِ أَنَّ حُقُوقَ النِّكَاحِ وَالْعَقْدِ لَا تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ، وَإِذَا كَانَ مُعَبِّرًا عَنْهُ وَلَهُ وِلَايَةٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ؛ فَكَانَتْ عِبَارَتُهُ كَعِبَارَةِ الْمُوَكِّلِ؛ فَصَارَ كَلَامُهُ كَكَلَامِ شَخْصَيْنِ فَيُعْتَبَرُ إيجَابُهُ كَلَامًا لِلْمَرْأَةِ، كَأَنَّهَا قَالَتْ زَوَّجْت نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ، وَقَبُولُهُ كَلَامًا لِلزَّوْجِ؛ كَأَنَّهُ قَالَ قَبِلْت فَيَقُومُ الْعَقْدُ بِاثْنَيْنِ حُكْمًا وَالثَّابِتُ بِالْحُكْمِ مُلْحَقٌ بِالثَّابِتِ حَقِيقَةً. وَأَمَّا الْبَيْعُ فَالْوَاحِدُ فِيهِ إذَا كَانَ وَلِيًّا يَقُومُ بِطَرَفَيْ الْعَقْدِ، كَالْأَبِ يَشْتَرِي مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ، أَوْ يَبِيعُ مَالَ نَفْسِهِ مِنْ الصَّغِيرِ، أَوْ يَبِيعُ مَالَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ، أَوْ يَشْتَرِي، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ وَكِيلًا لَا يَقُومُ بِهِمَا؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى الْعَاقِدِ، فَلَا يَصِيرُ كَلَامُ الْعَاقِدِ كَلَامَ الشَّخْصَيْنِ؛ وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْبَيْعِ إذَا كَانَتْ مُقْتَصِرَةً عَلَى الْعَاقِدِ وَلِلْبَيْعِ أَحْكَامٌ مُتَضَادَّةٌ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ وَالْمُطَالَبَةِ، فَلَوْ تَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ لَصَارَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مُطَالِبًا وَمَطْلُوبًا وَمُسَلِّمًا وَمُتَسَلِّمًا وَهَذَا مُمْتَنِعٌ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ -. (وَأَمَّا) . صِفَةُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَهِيَ: أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا لَازِمًا قَبْلَ وُجُودِ الْآخَرِ، حَتَّى لَوْ وُجِدَ الْإِيجَابُ مِنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا رُكْنٌ وَاحِدٌ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا بَعْضَ الرُّكْنِ، وَالْمُرَكَّبُ مِنْ شَيْئَيْنِ لَا وُجُودَ لَهُ بِأَحَدِهِمَا. [فَصْلٌ شَرَائِطُ الرُّكْنِ أَنْوَاع مِنْهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ، وَبَعْضُهَا شَرْطُ الْجَوَازِ وَالنَّفَاذِ، وَبَعْضُهَا شَرْطُ اللُّزُومِ. (أَمَّا) . شَرْطُ الِانْعِقَادِ فَنَوْعَانِ:. نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ بِالْفِعْلِ، فَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ مِنْ شَرَائِطِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ فَأَمَّا الْبُلُوغُ: فَشَرْطُ النَّفَاذِ عِنْدَنَا لَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا تَعَذُّرُ الْعَاقِدِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ النِّكَاحِ خِلَافًا لِزُفَرَ عَلَى مَا مَرَّ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ فَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ إذَا كَانَ الْعَاقِدَانِ حَاضِرَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ حَتَّى لَوْ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ، بِأَنْ كَانَا حَاضِرَيْنِ فَأَوْجَبَ أَحَدُهُمَا فَقَامَ الْآخَرُ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْقَبُولِ، أَوْ اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ، لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ انْعِقَادَهُ عِبَارَةٌ عَنْ ارْتِبَاطِ أَحَدِ الشَّطْرَيْنِ بِالْآخَرِ، فَكَانَ الْقِيَاسُ وُجُودَهُمَا فِي مَكَان وَاحِدٍ، إلَّا أَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْعُقُودِ؛ فَجُعِلَ الْمَجْلِسُ جَامِعًا لِلشَّطْرَيْنِ حُكْمًا مَعَ تَفَرُّقِهِمَا حَقِيقَةً لِلضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، فَإِذَا اخْتَلَفَ تَفَرُّقُ الشَّطْرَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا يَنْتَظِمُ الرُّكْنُ. (وَأَمَّا) الْفَوْرُ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: هُوَ شَرْطٌ وَالْمَسْأَلَةُ سَتَأْتِي فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَنَذْكُرُ الْفَرْقَ هُنَاكَ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا تَنَاكَحَا وَهُمَا يَمْشِيَانِ أَوْ يَسِيرَانِ عَلَى الدَّابَّةِ وَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَنَذْكُرُ الْفَرْقَ هُنَاكَ بَيْنَ الْمَشْيِ وَالسَّيْرِ عَلَى الدَّابَّةِ وَبَيْنَ جَرَيَانِ السَّفِينَةِ، هَذَا إذَا كَانَ الْعَاقِدَانِ حَاضِرَيْنِ فَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا؛ لَمْ يَنْعَقِدْ حَتَّى لَوْ قَالَتْ امْرَأَةٌ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ: زَوَّجْت نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ غَائِبٌ فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَقَالَ: قَبِلْت أَوْ قَالَ رَجُلٌ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ: تَزَوَّجْت فُلَانَةَ وَهِيَ غَائِبَةٌ فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَقَالَتْ: زَوَّجْت نَفْسِي مِنْهُ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ الْقَبُولُ بِحَضْرَةِ ذَيْنك الشَّاهِدَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَنْعَقِدُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْغَائِبِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ كَلَامَ الْوَاحِدِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عَقْدًا فِي

فصل بيان شرائط الجواز والنفاذ

بَابِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ فِي هَذَا الْبَابِ يَقُومُ بِالْعَقْدِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ مَالِكًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، أَوْ وَلِيًّا، أَوْ وَكِيلًا، فَكَانَ كَلَامُهُ عَقْدًا لَا شَطْرًا، فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلتَّوَقُّفِ كَمَا فِي الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا شَطْرُ الْعَقْدِ حَقِيقَةً، لَا كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْلَكُ كُلُّهُ؛ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ، وَشَطْرُ الْعَقْدِ لَا يَقِفُ عَلَى غَائِبٍ عَنْ الْمَجْلِسِ كَالْبَيْعِ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّطْرَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوَقُّفَ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ التَّوَقُّفَ فِي الْأَصْلِ عَلَى خِلَافِ الْحَقِيقَةِ؛ لِصُدُورِهِ عَنْ الْوَلَاءِ عَلَى الْجَانِبَيْنِ، فَيَصِيرُ كَلَامُهُ بِمَنْزِلَةِ كَلَامَيْنِ، وَشَخْصُهُ كَشَخْصَيْنِ حُكْمًا، فَإِذَا انْعَدَمَتْ الْوِلَايَةُ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى تَعْيِينِ الْحَقِيقَةِ؛ فَلَا يَقِفُ بِخِلَافِ الْخُلْعِ لِأَنَّهُ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ يَمِينٌ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِقَبُولِ الْمَرْأَةِ، وَأَنَّهُ يَمِينٌ فَكَانَ عَقْدًا تَامًّا، وَمِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ مُعَاوَضَةً فَلَا يَحْتَمِلُ التَّوَقُّفَ كَالْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ. وَلَوْ أَرْسَلَ إلَيْهَا رَسُولًا وَكَتَبَ إلَيْهَا بِذَلِكَ كِتَابًا فَقَبِلَتْ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ سَمِعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ جَازَ ذَلِكَ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ كَلَامُ الْمُرْسِلِ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُلُ عِبَارَةَ الْمُرْسِلِ. وَكَذَا الْكِتَابُ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ مِنْ الْكَاتِبِ، فَكَانَ سَمَاعُ قَوْلِ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةُ الْكِتَابِ سَمَاعَ قَوْلِ الْمُرْسِلِ وَكَلَامَ الْكَاتِبِ مَعْنًى. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إذَا قَالَتْ زَوَّجْتُ نَفْسِي يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهَا زَوَّجْت نَفْسِي شَطْرُ الْعَقْدِ عِنْدَهُمَا، وَالشَّهَادَةُ فِي شَطْرَيْ الْعَقْدِ شَرْطٌ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ عَقْدًا بِالشَّطْرَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ فَلَمْ تُوجَدْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْعَقْدِ، وَقَوْلُ الزَّوْجِ بِانْفِرَادِهِ عَقْدٌ عِنْدَهُ وَقَدْ حَضَرَ الشَّاهِدَانِ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْفُضُولِيُّ الْوَاحِدُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِأَنْ قَالَ الرَّجُلُ: زَوَّجْت فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ. وَهُمَا غَائِبَانِ، لَمْ يَنْعَقِدْ عِنْدَهُمَا حَتَّى لَوْ بَلَغَهُمَا الْخَبَرُ فَأَجَازَا، لَمْ يَجُزْ. وَعِنْدَهُ يَنْعَقِدُ وَيَجُوزُ بِالْإِجَازَةِ. وَلَوْ قَالَ فُضُولِيٌّ: زَوَّجْت فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ وَهُمَا غَائِبَانِ فَقَبِلَ فُضُولِيٌّ آخَرُ عَنْ الزَّوْجِ؛ يَنْعَقِدُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا حَتَّى إذَا بَلَغَهُمَا الْخَبَرُ وَأَجَازَا جَازَ،. وَلَوْ فَسَخَ الْفُضُولِيُّ الْعَقْدَ قَبْلَ إجَازَةِ مَنْ وَقَفَ الْعَقْدُ عَلَى إجَازَتِهِ صَحَّ الْفَسْخُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ بِالْفَسْخِ مُتَصَرِّفٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْعَقَدَ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ مَنْ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَتِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ الْإِجَازَةِ ثَبَتَ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ، فَكَانَ هُوَ بِالْفَسْخِ مُتَصَرِّفًا فِي مَحِلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، فَلَا يَصِحُّ فَسْخُهُ بِخِلَافِ الْفُضُولِيِّ إذَا بَاعَ ثُمَّ فَسَخَ قَبْلَ اتِّصَالِ الْإِجَازَةِ بِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ هُنَاكَ تَصَرُّفٌ دَفَعَ الْحُقُوقَ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ تَتَعَلَّقُ حُقُوقُ الْعَقْدِ بِالْوَكِيلِ، فَكَانَ هُوَ بِالْفَسْخِ دَافِعًا الْحُقُوقَ عَنْ نَفْسِهِ فَيَصِحُّ، كَالْمَالِكِ إذَا أَوْجَبَ النِّكَاحَ أَوْ الْبَيْعَ أَنَّهُ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْعَقْدَ قَبْلَ الْإِجَازَةِ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَإِنَّمَا انْعَقَدَ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَقَطْ، فَكَانَ الْفَسْخُ مِنْهُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ تَصَرُّفًا فِي كَلَامِ نَفْسِهِ بِالنَّقْضِ فَجَازَ كَمَا فِي الْبَيْعِ. [فَصْلٌ بَيَانُ شَرَائِطِ الْجَوَازِ وَالنَّفَاذِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ شَرَائِطِ الْجَوَازِ وَالنَّفَاذِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا:. أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ بَالِغًا فَإِنَّ نِكَاحَ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَإِنْ كَانَ مُنْعَقِدًا عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا فَهُوَ غَيْرُ نَافِذٍ، بَلْ نَفَاذُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ؛ لِأَنَّ نَفَاذَ التَّصَرُّفِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ وَالصَّبِيُّ لِقِلَّةِ تَأَمُّلِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ لَا يَقِفُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى بُلُوغِهِ حَتَّى لَوْ بَلَغَ قَبْلَ أَنْ يُجِيزَهُ الْوَلِيُّ لَا يَنْفُذُ بِالْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ وَرِضَاهُ، لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ رِضَا الصَّبِيِّ شَرْعًا، وَبِالْبُلُوغِ زَالَتْ وِلَايَةُ الْوَلِيِّ فَلَا يَنْفُذُ مَا لَمْ يُجِزْهُ بِنَفْسِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَا تَنْعَقِدُ تَصَرُّفَاتُ الصَّبِيِّ أَصْلًا بَلْ هِيَ بَاطِلَةٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ حُرًّا فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ مَمْلُوكٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ» . وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنَّ إذْنَ الْمَوْلَى شَرْطُ جَوَازِ نِكَاحِ الْمَمْلُوكِ، لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ، أَوْ إجَازَتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَكُونُ إجَازَةً لَهُ، وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ النِّكَاحِ بَعْدَ الْإِذْنِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْمَهْرِ فِي نِكَاحِ الْمَمْلُوكِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ مَمْلُوكٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا، بَالِغًا، سَوَاءً كَانَ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا، أَوْ مُدَبَّرَةٍ أَوْ أُمَّ وَلَدٍ، أَوْ مُكَاتَبَةً، أَوْ مُكَاتَبًا أَمَّا الْقِنُّ، فَإِنْ كَانَ أَمَةً فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ مَمْلُوكَةٌ لِسَيِّدِهَا، وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ لِمَا قُلْنَا. وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ لِأَنَّهَا مِلْكُ الْمَوْلَى رَقَبَةً، وَمِلْكُ الْمُتْعَةِ يَتْبَعُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ، إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا لِزَوَالِ مِلْكِ الْيَدِ، وَفِي الِاسْتِمْتَاعِ إثْبَاتُ مِلْكِ الْيَدِ، وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهَا تَعْجِزُ فَتُرَدُّ إلَى الرِّقِّ فَتَعُودُ قِنَّةً كَمَا كَانَتْ فَتَبَيَّنَ أَنَّ نِكَاحَهَا صَادَفَ الْمَوْلَى فَلَا يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ أَيْضًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِ الْعَبْدِ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ مِلْكِ الْمَوْلَى فَكَانَ الْمَوْلَى فِيهَا عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، وَالْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا، فَيَمْلِكُ النِّكَاحَ كَالْحُرِّ بِخِلَافِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِهَا مِلْكُ الْمَوْلَى فَمُنِعَتْ مِنْ التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلَنَا أَنَّ الْعَبْدَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الروم: 28] أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْعَبِيدَ لَيْسُوا شُرَكَاءَ فِيمَا رُزِقَ السَّادَاتُ، وَلَا هُمْ بِسَوَاءٍ فِي ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ نَفْيَ الشَّرِكَةِ فِي الْمَنَافِعِ؛ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِيهَا دَلَّ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] وَالْعَبْدُ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ أُضِيفَ إلَى كُلِّهِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي كُلِّهِ إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِبَعْضِ أَجْزَائِهِ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لَهُ كَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، وَلِأَنَّهُ كَانَ مَحْجُورًا قَبْلَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ وَالنِّكَاحُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ لِأَنَّ التِّجَارَةَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا عَلَى عَبْدٍ تَنْوِي أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ. وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ مِنْ التِّجَارَةِ لَكَانَ بَدَلُ الْبُضْعِ لِلتِّجَارَةِ كَالْبَيْعِ، فَكَانَ هُوَ بِالنِّكَاحِ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ مَوْلَاهُ، فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] وَصَفَ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْقُدْرَةَ الْحَقِيقِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ لَهُ فَتَعَيَّنَ الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ إذْنُ الشَّرْعِ وَإِطْلَاقِهِ، فَكَانَ نَفْيُ الْقُدْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ نَفْيًا لِلْإِذْنِ وَالْإِطْلَاقِ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرْعِ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ كَانَ مَحْجُورًا عَنْ التَّزَوُّجِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ. وَعِنْدَ الْكِتَابَةِ مَا أَفَادَ لَهُ إلَّا الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ، وَالنِّكَاحُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ التِّجَارَةَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَالِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا عَلَى عَبْدٍ تَنْوِي أَنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ. وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ مِنْ التِّجَارَةِ لَكَانَ بَدَلُ الْبُضْعِ لِلتِّجَارَةِ كَالْبَيْعِ. وَأَمَّا مُعْتَقُ الْبَعْضِ فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ حُرٍّ عَلَيْهِ دَيْنٌ عِنْدَهُمَا. وَلَوْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى وَاحِدٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى ثُمَّ إنْ أَجَازَ الْمَوْلَى النِّكَاحَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ صَدَرَ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ، إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ النَّفَاذُ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَإِذَا أَجَازَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ، وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَسَرَّى وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَحَدِ الْمِلْكَيْنِ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] وَلَمْ يُوجَد أَحَدُهُمَا. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَتَسَرَّى الْعَبْدُ وَلَا يُسَرِّيه مَوْلَاهُ وَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ وَلَا الْمُكَاتَبُ شَيْئًا إلَّا الطَّلَاقَ» وَهَذَا نَصٌّ. وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَكُونُ إجَازَةً: فَالْإِجَازَةُ قَدْ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ وَقَدْ ثَبَتَتْ بِالدَّلَالَةِ وَقَدْ ثَبَتَتْ بِالضَّرُورَةِ، أَمَّا النَّصُّ: فَهُوَ الصَّرِيحُ بِالْإِجَازَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا نَحْوَ أَنْ يُقَوَّلَ: أَجَزْت، أَوْ رَضِيت، أَوْ أَذِنْت، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الدَّلَالَةُ: فَهِيَ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى الْإِجَازَةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْمَوْلَى إذَا أُخْبِرَ بِالنِّكَاحِ: حَسَنٌ، أَوْ صَوَابٌ، أَوْ لَا بَأْسَ بِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ يَسُوقُ إلَى الْمَرْأَةِ الْمَهْرَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ فِي نِكَاحِ الْعَبْدِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا. وَلَوْ قَالَ لَهُ الْمَوْلَى: طَلِّقْهَا أَوْ فَارِقْهَا لَمْ يَكُنْ إجَازَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلِّقْهَا أَوْ فَارِقْهَا يَحْتَمِلُ حَقِيقَةَ الطَّلَاقِ وَالْمُفَارَقَةِ وَيَحْتَمِلُ الْمُتَارَكَةَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ وَالنِّكَاحَ الْمَوْقُوفَ يُسَمَّى طَلَاقًا وَمُفَارَقَةً

فَوَقَعَ الشَّكُّ وَالِاحْتِمَالُ فِي ثُبُوتِ الْإِجَازَةِ، فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ. وَلَوْ قَالَ لَهُ: طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً تَمْلِكُ الرَّجْعَةَ؛ فَهُوَ إجَازَةٌ لِارْتِفَاعِ التَّرْدَادِ إذْ لَا رَجْعَةَ فِي الْمُتَارَكَةِ لِلنِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ وَفَسْخِهِ وَأَمَّا الضَّرُورَةُ فَنَحْوُ: أَنْ يُعْتِقَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ أَوْ الْأَمَةَ فَيَكُونُ الْإِعْتَاقُ إجَازَةً. وَلَوْ أَذِنَ بِالنِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ الْإِذْنُ بِالنِّكَاحِ إجَازَةً. وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ الْإِعْتَاقُ إجَازَةً لَكَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَبْطُلَ بِالنِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ وَإِمَّا أَنْ يَبْقَى مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ صَدَرَ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ فَلَا يَبْطُلُ إلَّا بِإِبْطَالِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِبْطَالِ؛ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ. فَأَمَّا إنْ بَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى أَوْ عَلَى إجَازَةِ الْعَبْدِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِجَازَةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْمِلْكِ وَقَدْ زَالَ بِالْإِعْتَاقِ، وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِيَّ لِأَنَّ الْعَقْدَ وُجِدَ مِنْ الْعَبْدِ فَكَيْف يَقِفُ عَقْدُ الْإِنْسَانِ عَلَى إجَازَتِهِ. وَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ وَلَيْسَ هَهُنَا قِسْمٌ آخَرُ لَزِمَ أَنْ يُجْعَلَ الْإِعْتَاقُ إجَازَةً ضَرُورَةً وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَمْ تُوجَدْ فِي الْإِذْنِ بِالنِّكَاحِ، وَلِلثَّانِي أَنَّ امْتِنَاعَ النَّفَاذِ مَعَ صُدُورِ التَّصَرُّفِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ لِقِيَامِ حَقِّ الْمَوْلَى - وَهُوَ الْمِلْكُ - نَظَرًا لَهُ، دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، وَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ بِالْإِعْتَاقِ فَزَالَ الْمَانِعُ مِنْ النُّفُوذِ، وَالْإِذْنُ بِالتَّزَوُّجِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمَانِعِ - وَهُوَ الْمِلْكُ - لَكِنَّهُ بِالْإِذْنِ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي النِّكَاحِ كَأَنَّهُ هُوَ، ثُمَّ ثُبُوتُ وِلَايَةِ الْإِجَازَةِ لَهُ لَمْ تَكُنْ إجَازَةً مَا لَمْ يُجِزْ، فَكَذَا الْعَبْدُ، ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ نَفْسُ الْإِذْنِ مِنْ الْمَوْلَى بِالنِّكَاحِ إجَازَةً لِذَلِكَ الْعَقْدِ؛ فَإِنْ أَجَازَهُ الْعَبْدُ جَازَ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ. وَإِنْ أَجَازَهُ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مَأْذُونٌ بِالْعَقْدِ، وَالْإِجَازَةُ مَعَ الْعَقْدِ مُتَغَايِرَانِ اسْمًا وَصُورَةً وَشَرْطًا أَمَّا الِاسْمُ وَالصُّورَةُ: فَلَا شَكَّ فِي تَغَايُرِهِمَا. وَأَمَّا الشَّرْطُ فَإِنَّ مَحِلَّ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، وَمَحِلُّ الْإِجَازَةِ نَفْسُ الْعَقْدِ. وَكَذَا الشَّهَادَةُ شَرْطُ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ الْإِجَازَةِ، وَالْإِذْنُ بِأَحَدِ الْمُتَغَايِرَيْنِ لَا يَكُونُ إذْنًا بِالْآخَرِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعَبْدَ أَتَى بِبَعْضِ مَا هُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَكَانَ مُتَصَرِّفًا عَنْ إذْنٍ، فَيَجُوزُ تَصَرُّفُهُ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَوْلَى أَذِنَ لَهُ بِعَقْدٍ نَافِذٍ فَكَانَ مَأْذُونًا بِتَحْصِيلِ أَصْلِ الْعَقْدِ وَوَصْفِهِ - وَهُوَ النَّفَاذُ - وَقَدْ حَصَلَ النَّفَاذُ فَيَحْصُلُ، وَلِهَذَا لَوْ زَوَّجَ فُضُولِيٌّ هَذَا الْعَبْدَ امْرَأَةً بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَأَجَازَ الْعَبْدُ نَفَذَ الْعَقْدُ دَلَّ أَنَّ تَنْفِيذَ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ قِبَلِ الْمَوْلَى فَيَنْفُذُ بِإِجَازَتِهِ، ثُمَّ إذَا نَفَذَ النِّكَاحُ بِالْإِعْتَاقِ وَهِيَ أَمَةٌ فَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ نَفَذَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَالْإِعْتَاقُ لَمْ يُصَادِفْهَا وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ، وَالْمَهْرُ لَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْإِعْتَاقِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْإِعْتَاقِ فَالْمَهْرُ لِلْمَوْلَى، هَذَا إذَا أَعْتَقَهَا وَهِيَ كَبِيرَةٌ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً فَأَعْتَقَهَا فَإِنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَكُونُ إجَازَةً. وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ عِنْدَ زُفَرَ. وَعِنْدَنَا يَبْقَى مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عَصَبَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَهَا عَصَبَةٌ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْعَصَبَةِ، وَيَجُوزُ بِإِجَازَةِ الْعَصَبَةِ ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُجِيزُ غَيْرَ الْأَبِ أَوْ الْجَدِّ فَلَهَا خِيَارُ الْإِدْرَاكِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ نَفَذَ عَلَيْهَا فِي حَالَةِ الصِّغَرِ، وَهِيَ حُرَّةٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُجِيزُ أَبُوهَا أَوْ جَدُّهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا. وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْإِجَازَةِ فَإِنْ وَرِثَهَا مَنْ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بَطَلَ النِّكَاحُ الْمَوْقُوفُ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ النَّافِذَ قَدْ طَرَأَ عَلَى الْمَوْقُوفِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْحِلِّ - وَهُوَ الْمِلْكُ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْحِلِّ لَهُ ارْتِفَاعُ الْمَوْقُوفِ، وَإِنْ وَرِثَهَا مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بِأَنْ كَانَ الْوَارِثُ ابْنُ الْمَيِّتِ وَقَدْ وَطِئَهَا أَبُوهُ، أَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ، أَوْ وَرِثَهَا جَمَاعَةٌ، فَلِلْوَارِثِ الْإِجَازَةُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ طَرَيَان الْحِلِّ فَبَقِيَ الْمَوْقُوفُ عَلَى حَالِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهَا الْمَوْلَى قَبْلَ الْإِجَازَةِ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْوَارِثِ وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِيمَنْ تَزَوَّجَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَوَطِئَهَا ثُمَّ بَاعَهَا الْمَوْلَى مِنْ رَجُلٍ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الْإِجَازَةَ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ يَمْنَعُ حِلَّ الْوَطْءِ لِلْمُشْتَرِي. وَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَمَاتَ الْوَلِيُّ أَوْ بَاعَهُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ فَلِلْوَارِثِ وَالْمُشْتَرِي الْإِجَازَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ حِلُّ الْوَطْءِ هَهُنَا فَلَمْ يُوجَدْ طَرَيَان حِلِّ الْوَطْءِ، فَبَقِيَ الْمَوْقُوفُ بِحَالِهِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ وَالْمُشْتَرِي بَلْ يَبْطُلُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ عَلَى إجَازَةِ إنْسَانٍ يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَحْتَمِلُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَلْحَقُ الْمَوْقُوفَ؛ لِأَنَّهَا تَنْفِيذُ الْمَوْقُوفِ فَإِنَّمَا تَلْحَقُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَقَفَ وَإِنَّمَا وَقَفَ عَلَى الْأَوَّلِ لَا عَلَى الثَّانِي، فَلَا يَمْلِكُ الثَّانِي تَنْفِيذَهُ

(وَلَنَا) أَنَّهُ إنَّمَا وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ وَقَدْ صَارَ الْمِلْكُ لِلثَّانِي فَتَنْتَقِلُ الْإِجَازَةُ إلَى الثَّانِي؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَالِكَ يَمْلِكُ إنْشَاءَ النِّكَاحِ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ - وَهُوَ النَّفَاذُ - فَلَأَنْ يَمْلِكَ تَنْفِيذَ النِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ - وَأَنَّهُ إثْبَاتُ الْوَصْفِ دُونَ الْأَصْلِ - أَوْلَى وَلَوْ زَوَّجَتْ الْمُكَاتَبَةُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى حَتَّى وَقَفَ عَلَى إجَازَتِهِ فَأَعْتَقَهَا نَفَذَ الْعَقْدُ. وَالْأَخْبَارُ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْأَمَةِ الْقِنَّةِ. وَكَذَلِكَ إذَا أَدَّتْ فَعَتَقَتْ، وَإِنْ عَجَزَتْ فَإِنْ كَانَ بُضْعُهَا يَحِلُّ لِلْمَوْلَى يَبْطُلُ الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ بِأَنْ كَانَتْ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَتِهِ. وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي عَقَدَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا حَتَّى وَقَفَ عَلَى إجَازَتِهَا فَأَجَازَتْ جَازَ الْعَقْدُ، وَإِنْ أَدَّتْ فَعَتَقَتْ أَوْ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى تَوَقَّفَ الْعَقْدُ عَلَى إجَازَتِهَا إنْ كَانَتْ كَبِيرَةً، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي الْأَمَةِ، وَتَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى عِنْدَنَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عَصَبَةٌ غَيْرَ الْمَوْلَى، فَإِنْ كَانَ فَأَجَازُوا جَازَ وَإِذَا أَدْرَكَتْ فَلَهَا خِيَارُ الْإِدْرَاكِ إذَا كَانَ الْمُجْبِرُ غَيْرَ الْأَبِ وَالْجَدِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ لَمْ يُعْتِقْهَا حَتَّى عَجَزَتْ بَطَلَ الْعَقْدُ. وَإِنْ كَانَ بُضْعُهَا يَحِلُّ لِلْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَتِهِ. وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ النِّكَاحِ بَعْدَ الْإِذْنِ فَنَقُولُ: إذَا أَذِنَ الْمَوْلَى لِلْعَبْدِ بِالتَّزْوِيجِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ خَصَّ الْإِذْنَ بِالتَّزَوُّجِ أَوْ عَمَّهُ فَإِنْ خَصَّ بِأَنْ قَالَ لَهُ: تَزَوَّجْ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إلَّا امْرَأَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَكَذَا إذَا قَالَ لَهُ تَزَوَّجْ امْرَأَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ امْرَأَةً اسْمٌ لِوَاحِدَةٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَإِنْ عَمَّ؛ بِأَنْ قَالَ: تَزَوَّجْ مَا شِئْتَ مِنْ النِّسَاءِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ثِنْتَيْنِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ بِنِكَاحِ مَا شَاءَ مِنْ النِّسَاءِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَيَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ الْعَبِيدُ مِنْ النِّسَاءِ - وَهُوَ التَّزَوُّجُ بِاثْنَتَيْنِ - قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ» وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَرُوِيَ عَنْ الْحَكَمِ أَنَّهُ قَالَ: اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجْمَعُ مِنْ النِّسَاءِ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ؛ وَلِأَنَّ مَالِكِيَّةَ النِّكَاحِ تُشْعِرُ بِكَمَالِ الْحَالِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَالْعَبْدُ أَنْقَصُ حَالًا مِنْ الْحُرِّ فَيَظْهَرُ أَثَرُ النُّقْصَانِ فِي عَدَدِ الْمَمْلُوكِ لَهُ فِي النِّكَاحِ كَمَا ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي الْقَسَمِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، وَالْحُدُودِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَلْ يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِذْنِ بِالتَّزَوُّجِ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَدْخُلُ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ الْعَبْدُ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا وَدَخَلَ بِهَا لَزِمَهُ الْمَهْرُ فِي الْحَالِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَدْخُلُ، وَيُتْبَعُ بِالْمَهْرِ بَعْدَ الْعِتْقِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ غَرَضَ الْمَوْلَى مِنْ الْإِذْنِ بِالنِّكَاحِ - وَهُوَ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ - لِيَحْصُلَ بِهِ عِفَّةُ الْعَبْدِ عَنْ الزِّنَا، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ، فَلَا يَكُونُ مُرَادًا مِنْ الْإِذْنِ بِالتَّزَوُّجِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ يَنْصَرِفُ إلَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، حَتَّى لَوْ نَكَحَ نِكَاحًا فَاسِدًا لَا يَحْنَثُ كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِذْنَ بِالتَّزَوُّجِ مُطْلَقٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ، كَالْإِذْنِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا، وَفِي مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ إنَّمَا لَمْ يَنْصَرِفْ لَفْظُ النِّكَاحِ إلَى الْفَاسِدِ لِقَرِينَةٍ عُرْفِيَّةٍ، إلَّا أَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَالْمُتَعَارَفِ وَالْمُعْتَادِ مِمَّا يُقْصَدُ بِالْيَمِينِ الِامْتِنَاعُ عَنْ الصَّحِيحِ لَا الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ يَكْفِي مَانِعًا مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الِامْتِنَاعِ بِالْيَمِينِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّخْرِيجِ أَنَّ يَمِينَ الْحَالِفِ لَوْ كَانَتْ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي يَنْصَرِفُ إلَى الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ جَمِيعًا، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْرَى نِكَاحًا صَحِيحًا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ انْتَهَى بِالنِّكَاحِ. وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ قَدْ بَقِيَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ نَصًّا وَدَخَلَ بِهَا يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ فِي الْحَالِ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّ الصَّرْفَ إلَى الصَّحِيحِ لِضَرْبِ دَلَالَةٍ أَوْجَبَتْ إلَيْهِ، فَإِذَا جَاءَ النَّصُّ بِخِلَافِهِ بَطَلَتْ الدَّلَالَةُ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ -. وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمَهْرِ فِي نِكَاحِ الْمَمْلُوكِ فَنَقُولُ: إذَا كَانَتْ الْإِجَازَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالْأَمَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الزَّوْجِ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ؛ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ مَهْرَانِ، مَهْرٌ بِالدُّخُولِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ، وَمَهْرٌ بِالْإِجَازَةِ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ مَهْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الدُّخُولُ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ فِي النِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ دُخُولٌ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَذَا يُوجِبُ الْمَهْرَ، كَذَا هَذَا. وَالثَّانِي: النِّكَاحُ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ صَحَّ بِالْإِجَازَةِ، وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ

أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إذْنِ الْمَالِكِ كَنِكَاحِ الْفُضُولِيِّ، وَالْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ إذَا اتَّصَلَتْ بِهِ الْإِجَازَةُ تَسْتَنِدُ الْإِجَازَةُ إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ، وَإِذَا اسْتَنَدَتْ الْإِجَازَةُ إلَيْهِ صَارَ كَأَنَّهُ عَقَدَهُ بِإِذْنِهِ، إذْ الْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ كَالْإِذْنِ السَّابِقِ فَلَا يَجِبُ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَوْ وَجَبَ لَكَانَ لِوُجُودِهِ تَعَلُّقًا بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَاهُ لَكَانَ الْفِعْلُ زِنًا، وَلَكَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْحَدُّ لَا الْمَهْرُ، وَقَدْ وَجَبَ الْمُسَمَّى بِالْعَقْدِ فَلَوْ وَجَبَ بِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ أَيْضًا لَوَجَبَ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ مَهْرَانِ وَأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ ثُمَّ كُلُّ مَا وَجَبَ مِنْ مَهْرِ الْأَمَةِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى، سَوَاءً وَجَبَ بِالْعَقْدِ أَوْ بِالدُّخُولِ، وَسَوَاءً كَانَ الْمَهْرُ مُسَمًّى أَوْ مَهْرَ الْمِثْلِ، وَسَوَاءً كَانَتْ الْأَمَةُ قِنَّةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ، إلَّا الْمُكَاتَبَةَ وَالْمُعْتَقَ بَعْضُهَا، فَإِنَّ الْمَهْرَ لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ وَجَبَ عِوَضًا عَنْ الْمُتْعَةِ وَهِيَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ مَنَافِعُ الْبُضْعِ مُلْحَقَةً بِالْأَجْزَاءِ وَالْأَعْيَانِ فَعِوَضُهَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى كَالْأَرْشِ، وَإِنْ كَانَتْ مُبْقَاةً عَلَى حَقِيقَةِ الْمَنْفَعَةِ فَبَدَلُهَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى أَيْضًا كَالْأُجْرَةِ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْأَرْشُ وَالْأُجْرَةُ لَهَا، فَكَانَ الْمَهْرُ لَهَا أَيْضًا، وَكُلُّ مَهْرٍ لَزِمَ الْعَبْدَ، فَإِنْ كَانَ قِنًّا وَالنِّكَاحُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ، وَرَقَبَتُهُ تُبَاعُ فِيهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ ظَاهِرٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى. وَمِثْلُ هَذَا الدَّيْنِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، وَالْمَسْأَلَةُ سَتَأْتِي فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ وَإِنْ كَانَ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا فَإِنَّهُمَا يَسْعَيَانِ فِي الْمَهْرِ فَيُسْتَوْفَى مِنْ كَسْبِهِمَا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ رَقَبَتِهِمَا بِخُرُوجِهِمَا عَنْ احْتِمَالِ الْبَيْعِ بِالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ. وَمَا لَزِمَ الْعَبِيدَ مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى اُتُّبِعُوا بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ تَعَلَّقَ بِسَبَبٍ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، فَأَشْبَهَ الدَّيْنَ الثَّابِتَ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لِلْحَالِ وَيُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. وَمِنْهَا الْوِلَايَةُ فِي النِّكَاحِ فَلَا يَنْعَقِدُ إنْكَاحُ مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْوِلَايَةِ، وَفِي بَيَانِهِ سَبَبَ ثُبُوتِ كُلِّ نَوْعٍ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ ثُبُوتِ كُلِّ نَوْعٍ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْوِلَايَةُ فِي بَابِ النِّكَاحِ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ: وِلَايَةُ الْمِلْكِ، وَوِلَايَةُ الْقَرَابَةِ، وَوِلَايَةُ الْوَلَاءِ، وَوِلَايَةُ الْإِمَامَةِ، أَمَّا. وِلَايَةٌ الْمِلْكِ: فَسَبَبُ ثُبُوتِهَا الْمِلْكُ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ وِلَايَةُ نَظَرٍ، وَالْمِلْكُ دَاعٍ إلَى الشَّفَقَةِ وَالنَّظَرِ فِي حَقِّ الْمَمْلُوكِ؛ فَكَانَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْمَمْلُوكِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ لَهُ؛ إذْ هُوَ مَمْلُوكٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ مَالِكًا. وَأَمَّا شَرَائِطُ ثُبُوتِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ فَمِنْهَا: عَقْلُ الْمَالِكِ، وَمِنْهَا بُلُوغُهُ، فَلَا يَجُوزُ الْإِنْكَاحُ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَلَا مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْوِلَايَةِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِ النَّظَرِ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِكَمَالِ الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ وَلَمْ يُوجَدْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَكَيْفَ يَكُونُ عَلَى غَيْرِهِمْ؟ ؛ وَمِنْهَا الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ مَمْلُوكًا لِلْمَالِكِ رَقَبَةً وَيَدًا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ إنْكَاحُ الرَّجُلِ أَمَتَهُ، أَوْ مُدَبَّرَتَهُ، أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ، أَوْ عَبْدَهُ، أَوْ مُدَبَّرَهُ أَنَّهُ جَائِزٌ سَوَاءً رَضِيَ بِهِ الْمَمْلُوكُ أَوْ لَا، وَلَا يَجُوزُ إنْكَاحُ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ إلَّا بِرِضَاهُمَا أَمَّا إنْكَاحُ الْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ، صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً. وَأَمَّا إنْكَاحُ الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَقَدْ ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِرِضَاهُ. وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِ الْعَبْدِ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ مِلْكِ الْمَوْلَى بَلْ هُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا، وَالْإِنْسَانُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ إنْكَاحَ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِهَا مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى وَلِأَنَّ نِكَاحَ الْمُكْرَهِ لَا يَنْفُذُ مَا وُضِعَ لَهُ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ حُصُولَهَا بِالدَّوَامِ عَلَى النِّكَاحِ، وَالْقَرَارِ عَلَيْهِ. وَنِكَاحُ الْمُكْرَهِ لَا يَدُومُ بَلْ يُزِيلُهُ الْعَبْدُ بِالطَّلَاقِ فَلَا يُفِيدُ فَائِدَةً. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَوَالِيَ بِإِنْكَاحِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الرِّضَا، فَمَنْ شَرَطَهُ يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ؛ وَلِأَنَّ إنْكَاحَ الْمَمْلُوكِ مِنْ الْمَوْلَى تَصَرُّفٌ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ تَرْجِعُ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْوَلَدَ فِي إنْكَاحِ الْأَمَةِ لَهُ وَكَذَا فِي إنْكَاحِ أَمَتِهِ مِنْ عَبْدِهِ، وَمَنْفَعَةَ الْعَقْدِ عَنْ الزِّنَا الَّذِي يُوجِبُ نُقْصَانَ مَالِيَّةِ مَمْلُوكِهِ حَصَلَ لَهُ أَيْضًا، فَكَانَ هَذَا الْإِنْكَاحُ تَصَرُّفًا لِنَفْسِهِ. وَمَنْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ يَنْفُذُ،

وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ رِضَا الْمُتَصَرَّفِ فِيهِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ؛ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مِلْكُهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُطْلَقًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلِكُلِّ مَالِكٍ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ إذَا كَانَ التَّصَرُّفُ مَصْلَحَةً، وَإِنْكَاحُ الْعَبْدِ مَصْلَحَةٌ فِي حَقِّهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ صِيَانَةِ مِلْكِهِ عَنْ النُّقْصَانِ بِوَاسِطَةِ الصِّيَانَةِ عَنْ الزِّنَا. وَقَوْلُهُ: " مَنَافِعُ الْبُضْعِ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِسَيِّدِهِ " مَمْنُوعٌ بَلْ هِيَ مَمْلُوكَةٌ إلَّا أَنَّ مَوْلَاهَا إذَا كَانَتْ أَمَةً مُنِعَتْ مِنْ اسْتِيفَائِهَا، لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ كَالْجَارِيَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ أَنَّهُ يُمْنَعُ الْمَوْلَى مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِمَا مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ كَذَا هَذَا. وَالْمِلْكُ الْمُطْلَقُ لَمْ يُوجَدْ فِي الْمُكَاتَبِ؛ لِزَوَالِ مِلْكِ الْيَدِ بِالْكِتَابَةِ حَتَّى كَانَ أَحَقَّ بِالْكِتَابَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ مُطْلَقِ اسْمِ الْمَمْلُوكِ فِي قَوْلِهِ: " كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ " إلَّا بِالنِّيَّةِ فَقِيَامُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ إنْ اقْتَضَى ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ فَانْعِدَامُ مِلْكِ الْيَدِ يَمْنَعُ مِنْ الثُّبُوتِ، فَلَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ بِالشَّكِّ؛ وَلِأَنَّ فِي التَّزْوِيجِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمُكَاتَبِ ضَرَرًا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ جَعَلَهُ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ لِيَتَوَصَّلَ بِهَا إلَى شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ فَالتَّزْوِيجُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ يُوجِبُ تَعَلَّقَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ بِكَسْبِهِ، فَلَا يَصِلُ إلَى الْحُرِّيَّةِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، بِشَرْطِ رِضَاهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: " لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا النِّكَاحِ " مَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّ فِي طَبْعِ كُلِّ فَحْلٍ التَّوَقَانُ إلَى النِّسَاءِ، فَالظَّاهِرُ هُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ خُصُوصًا عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ - وَهُوَ الْحُرْمَةُ - وَكَذَا الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْعَبْدِ الِامْتِنَاعُ مِنْ بَعْضِ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى احْتِرَامًا لَهُ فَيَبْقَى النِّكَاحُ فَيُفِيدُ فَائِدَةً تَامَّةً - وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ -. وَأَمَّا وِلَايَةُ الْقَرَابَةِ: فَسَبَبُ ثُبُوتِهَا هُوَ أَصْلُ الْقَرَابَةِ وَذَاتُهَا لَا كَمَالُ الْقُرْبَةِ، وَإِنَّمَا الْكَمَالُ شَرْطُ التَّقَدُّمِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ السَّبَبُ هُوَ الْقَرَابَةُ الْقَرِيبَةُ، وَهِيَ قَرَابَةُ الْوِلَادِ. وَعَلَى هَذَا يُبْنَى أَنَّ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ» وَحَقِيقَةُ اسْمِ الْيَتِيمَةِ لِلصَّغِيرَةِ لُغَةً قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُتْمَ بَعْدَ الْحُلُمِ» نَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إنْكَاحِ الْيَتِيمَةِ، وَمَدَّهُ إلَى غَايَةِ الِاسْتِئْمَارِ وَلَا تَصِيرُ أَهْلًا لِلِاسْتِئْمَارِ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَيَتَضَمَّنُ الْبُلُوغَ كَأَنَّهُ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى تَبْلُغَ وَتُسْتَأْمَرَ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ إضْرَارٍ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ لِمَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مِثْلِهِ إنْكَاحَ الْبِنْتِ الْبَالِغَةِ وَمِثْلُ هَذَا التَّصَرُّفِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْمَوْلَى كَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْهِبَةِ، وَغَيْرِهِمَا؛ إلَّا أَنَّهُ تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ؛ لِكَمَالِ شَفَقَتِهِمَا، وَشَفَقَةُ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ قَاصِرَةٌ، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ الْقُصُورِ فِي سَلْبِ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْحَالِ بِالْإِجْمَاعِ وَسَلْبِ وِلَايَةِ اللُّزُومِ عِنْدَكُمْ، فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] هَذَا خِطَابٌ لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ بُنِيَ عَلَى قَوْله تَعَالَى {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] ثُمَّ خُصَّ مِنْهُ الْأَجَانِبُ فَبَقِيَتْ الْأَقَارِبُ تَحْتَهُ إلَّا مَنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ وِلَايَةِ التَّنْفِيذِ فِي الْأَبِ وَالْجَدِّ هُوَ مُطْلَقُ الْقَرَابَةِ لَا الْقَرَابَةُ الْقَرِيبَةُ، وَإِنَّمَا قُرْبُ الْقَرَابَةِ سَبَبُ زِيَادَةِ الْوِلَايَةِ وَهِيَ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْقَرَابَةِ حَاصِلٌ عَلَى أَصْلِ الشَّفَقَةِ أَعْنِي بِهِ شَفَقَةً زَائِدَةً عَلَى شَفَقَةِ الْجِنْسِ وَشَفَقَةِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ دَاعِيَةٌ إلَى تَحْصِيلِ النَّظَرِ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَشَرْطُهَا: عَجْزُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ عَنْ تَحْصِيلِ النَّظَرِ بِنَفْسِهِ مَعَ حَاجَتِهِ إلَى التَّحْصِيلِ؛ لِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ مُضَمَّنَةٌ تَحْتَ الْكَفَاءَةِ، وَالْكُفْءُ عَزِيزُ الْوُجُودِ فَيُحْتَاجُ إلَى إحْرَازِهِ لِلْحَالِ لِاسْتِيفَاءِ مَصَالِحِ النِّكَاحِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَفَائِدَتُهَا وُقُوعُهَا وَسِيلَةً إلَى مَا وُضِعَ النِّكَاحُ لَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي إنْكَاحِ الْأَخِ وَالْعَمِّ فَيَنْفُذُ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ تَصَرُّفه لِانْعِدَامِ شَرْطِ اللُّزُومِ - وَهُوَ قُرْبُ الْقَرَابَةِ - وَلَمْ تَثْبُتْ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِاللُّزُومِ؛ لِأَنَّ قَرَابَةَ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لَيْسَتْ بِمُلْزِمَةٍ وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّوَلِّي بِالنَّفَاذِ بِدُونِ اللُّزُومِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ - وَهُوَ الرِّبْحُ - لَا يَحْصُلُ إلَّا بِتَكْرَارِ التِّجَارَةِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مَعَ عَدَمِ اللُّزُومِ لِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُمْسِكَهُ إلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ فَسَقَطَتْ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ فِي وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ فَثَبَتَتْ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْيَتِيمَةُ الْبَالِغَةُ بِدَلَالَةِ الِاسْتِئْمَارِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَجَازًا لَكِنْ فِيمَا ذَكَرَهُ

أَيْضًا إضْمَارٌ فَوَقَعَتْ الْمُعَارَضَةُ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى مَا قُلْنَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ صِيَانَةً لَهُمَا عَنْ التَّنَاقُضِ ثُمَّ إذَا زُوِّجَ الصَّغِيرُ أَوْ الصَّغِيرَةُ فَلَهُمَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا خِيَارَ لَهُمَا وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرَائِطِ اللُّزُومِ وَأَمَّا شَرَائِطُ ثُبُوتِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ فَنَوْعَانِ فِي الْأَصْلِ: نَوْعٌ هُوَ شَرْطُ ثُبُوتِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ، وَنَوْعٌ هُوَ شَرْطُ التَّقَدُّمِ أَمَّا. شَرْطُ ثُبُوتِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَلِيِّ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ التَّصَرُّفِ. أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْوَلِيِّ فَأَنْوَاعٌ. مِنْهَا: عَقْلُ الْوَلِيِّ. وَمِنْهَا بُلُوغُهُ فَلَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِلْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي وِلَايَةِ الْمِلْكِ وَلِهَذَا لَمْ تَثْبُتْ لَهُمَا الْوِلَايَةُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا مَعَ أَنَّهُمَا أَقْرَبُ إلَيْهِمَا فَلَأَنْ تَثْبُتَ عَلَى غَيْرِهِمَا أَوْلَى، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَرِثُ الْخُرُوجَ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ وَالْوِرَاثَةِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْقَرَابَةُ وَكُلُّ مَنْ يَرِثُهُ يَلِي عَلَيْهِ وَمَنْ لَا يَرِثُهُ لَا يَلِي عَلَيْهِ وَهَذَا يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً وَيَنْعَكِسُ عِنْدَ الْكُلِّ فَيَخْرُجُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ فَنَقُولُ: لَا وِلَايَةَ لِلْمَمْلُوكِ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ أَحَدًا وَلِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ تُنْبِئُ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ كَيْفَ يَكُونُ مَالِكًا وَمَمْلُوكًا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةُ نَظَرٍ وَمَصْلَحَةٍ وَمَصَالِحُ النِّكَاحِ لَا يُتَوَقَّفُ عَلَيْهَا إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ وَالْمَمْلُوكُ لِاشْتِغَالِهِ بِخِدْمَةِ مَوْلَاهُ لَا يَتَفَرَّغُ لِلتَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ فَلَا يَعْرِفُ كَوْنَ إنْكَاحِهِ مَصْلَحَةً - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ - وَلَا وِلَايَةَ لِلْمُرْتَدِّ عَلَى أَحَدٍ لَا عَلَى مُسْلِمٍ وَلَا عَلَى كَافِرٍ وَلَا عَلَى مُرْتَدٍّ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ أَحَدًا وَلِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى لَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ أَحَدًا لَا مُسْلِمًا وَلَا كَافِرًا وَلَا مُرْتَدًّا مِثْلَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى غَيْرِهِ. وَلَا وِلَايَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَيْئًا» وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَطَعَ وِلَايَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى» وَلِأَنَّ إثْبَاتَ الْوِلَايَةِ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ تُشْعِرُ بِإِذْلَالِ الْمُسْلِمِ مِنْ جِهَةِ الْكَافِرِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا صِينَتْ الْمُسْلِمَةُ عَنْ نِكَاحِ الْكَافِرِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْوَلِيُّ مُسْلِمًا وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ كَافِرًا فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ كَمَا أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ» إلَّا أَنَّ وَلَدَ الْمُرْتَدِّ إذَا كَانَ مُؤْمِنًا صَارَ مَخْصُوصًا عَنْ النَّصِّ. وَأَمَّا إسْلَامُ الْوَلِيِّ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ فِي الْجُمْلَةِ فَيَلِي الْكَافِرُ عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يَقْدَحُ فِي الشَّفَقَةِ الْبَاعِثَةِ عَنْ تَحْصِيلِ النَّظَرِ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَلَا فِي الْوِرَاثَةِ فَإِنَّ الْكَافِرَ يَرِثُ الْكَافِرَ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ فَكَذَا عَلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] وَكَذَا الْعَدَالَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عِنْدَ أَصْحَابَنَا، وَلِلْفَاسِقِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ وَابْنَتَهُ الصَّغِيرَيْنِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ وَلَيْسَ لِلْفَاسِقِ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ» وَالْمُرْشِدُ بِمَعْنَى الرَّشِيدِ كَالْمُصْلِحِ بِمَعْنَى الصَّالِحِ وَالْفَاسِقُ لَيْسَ بِرَشِيدٍ، وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ وَالْفِسْقُ سَبَبُ الْإِهَانَةِ وَلِهَذَا لَمْ أَقْبَلْ شَهَادَتَهُ وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زَوِّجُوا بَنَاتِكُمْ الْأَكْفَاءَ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلَنَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَيْضًا فَإِنَّ النَّاسَ عَنْ آخِرِهِمْ عَامَّهُمْ وَخَاصَّهُمْ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا يُزَوِّجُونَ بَنَاتَهمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ خُصُوصًا: الْأَعْرَابُ وَالْأَكْرَادُ وَالْأَتْرَاكُ، وَلِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةُ نَظَرٍ وَالْفِسْقُ لَا يَقْدَحُ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِ النَّظَرِ وَلَا فِي الدَّاعِي إلَيْهِ وَهُوَ الشَّفَقَةُ وَكَذَا لَا يَقْدَحُ فِي الْوِرَاثَةِ فَلَا يَقْدَحُ فِي الْوِلَايَةِ كَالْعَدْلِ، وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى غَيْرِهِ كَالْعَدْلِ، وَلِهَذَا قَبِلْنَا شَهَادَتَهُ وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ أَحَدِ نَوْعِيِّ الْوِلَايَةِ وَهُوَ وِلَايَةُ الْمِلْكِ حَتَّى يُزَوِّجَ أَمَتَهُ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّوْعِ الْآخَرِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ مَعَ الزِّيَادَةِ وَلَوْ ثَبَتَ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ: وَالْفَاسِقُ مُرْشِدٌ لِأَنَّهُ يُرْشِدُ غَيْرَهُ لِوُجُودِ آلَةِ الْإِرْشَادِ - وَهُوَ الْعَقْلُ - فَكَانَ هَذَا نَفْيُ

الْوِلَايَةِ لِلْمَجْنُونِ، وَبِهِ نَقُولُ: إنَّ الْمَجْنُونَ لَا يَصْلُحُ وَلِيًّا وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ إذَا تَابَ فَلَهُ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَابَ فَقَدْ صَارَ عَدْلًا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ - وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ -. وَأَمَّا كَوْنُ الْمَوْلَى مِنْ الْعَصَبَاتِ فَهَلْ هُوَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ أَمْ لَا؟ فَنَقُولُ: - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ إلَّا شَيْءٌ يُحْكَى عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَابْنِ شُبْرُمَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: لَيْسَ لَهُمَا وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ حُكْمَ النِّكَاحِ إذَا ثَبَتَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى حَالِ الصِّغَرِ بَلْ يَدُومُ وَيَبْقَى إلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ إلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يُبْطِلُهُ، وَفِي هَذَا ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ عَلَى الْبَالِغَةِ وَلِأَنَّهُ اسْتَبَدَّ أَوْ كَأَنَّهُ أَنْشَأَ الْإِنْكَاحَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] وَالْأَيِّمُ اسْمٌ لِأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً لَا زَوْجَ لَهَا وَكَلِمَةُ " مِنْ " إنْ كَانَتْ لِلتَّبْعِيضِ يَكُونُ هَذَا خِطَابًا لِلْآبَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّجْنِيسِ يَكُونُ خِطَابًا لِجِنْسِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعُمُومُ الْخِطَابِ يَتَنَاوَلُ الْأَبَ وَالْجَدَّ، وَأَنْكَحَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَوَّجَ عَلِيٌّ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومَ وَهِيَ صَغِيرَةٌ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَزَوَّجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ابْنَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُمَا خَرَجَ مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَكَانَ مَرْدُودًا. وَأَمَّا قَوْلُهُمَا: " إنَّ حُكْمَ النِّكَاحِ بَقِيَ بَعْدَ الْبُلُوغِ " فَنَعَمْ. وَلَكِنْ بِالْإِنْكَاحِ السَّابِقِ لَا بِإِنْكَاحٍ مُبْتَدَأٍ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَهَذَا جَائِزٌ كَمَا فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ لَهُمَا وِلَايَةَ بَيْعِ مَالِ الصَّغِيرِ وَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْبَيْعِ - وَهُوَ الْمِلْكُ - يَبْقَى بَعْدَ الْبُلُوغِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَلِلْأَبِ قَبْضُ صَدَاقِ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ بَالِغَةً وَيَبْرَأُ الزَّوْجُ بِقَبْضِهِ أَمَّا الصَّغِيرَةُ: فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهَا. وَأَمَّا الْبَالِغَةُ: فَلِأَنَّهَا تَسْتَحِي مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِهِ بِنَفْسِهَا كَمَا تَسْتَحِي عَنْ التَّكَلُّمِ بِالنِّكَاحِ فَجُعِلَ سُكُوتُهَا رِضًا بِقَبْضِ الْأَبِ كَمَا جُعِلَ رِضًا بِالنِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا تَرْضَى بِقَبْضِ الْأَبِ لِأَنَّهُ يَقْبِضُ مَهْرَهَا فَيَضُمُّ إلَيْهِ أَمْثَالَهُ فَيُجَهِّزُهَا بِهِ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فَكَانَ مَأْذُونًا بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَتهَا دَلَالَةً، حَتَّى لَوْ نَهَتْهُ عَنْ الْقَبْضِ لَا يَتَمَلَّكُ الْقَبْضَ وَلَا يَبْرَأُ الزَّوْجُ. وَكَذَا الْجَدُّ يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ وَإِنْ كَانَتْ ابْنَتُهُ عَاقِلَةً وَهِيَ ثَيِّبٌ فَالْقَبْضُ إلَيْهَا لَا إلَى الْأَبِ وَيَبْرَأُ الزَّوْجُ بِدَفْعِهِ إلَيْهَا وَلَا يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إلَى الْأَبِ، وَمَا سِوَى الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ لَيْسَ لَهُمْ وِلَايَةُ الْقَبْضِ سَوَاءً كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً إلَّا إذَا كَانَ الْوَلِيَّ وَهُوَ الْوَصِيَّ فَلَهُ حَقُّ الْقَبْضِ إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً كَمَا يَقْبِضُ سَائِرَ دُيُونِهَا، وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ حَقُّ الْقَبْضِ إلَّا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً، وَإِذَا ضَمِنَ الْوَلِيُّ الْمَهْرَ صَحَّ ضَمَانُهُ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا ضَمِنَ عَنْ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ. وَلِلْمَرْأَةِ الْخِيَارُ فِي مُطَالَبَةِ زَوْجِهَا أَوْ وَلِيِّهَا لِوُجُودِ ثُبُوتِ سَبَبِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ الْعَقْدُ مِنْ الزَّوْجِ وَالضَّمَانُ مِنْ الْوَلِيِّ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنْ الْعَصَبَاتِ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ، وَالْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ فِي الْمِيرَاثِ وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْعَصَبَاتِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ إنْكَاحُهُ حَتَّى لَمْ يَتَوَارَثَا بِذَلِكَ النِّكَاحِ وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْعَصَبَةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ عُصُوبَةَ الْوَلِيِّ هَلْ هِيَ شَرْطٌ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا شَرْطُ التَّقْدِيمِ؟ فَعِنْدَهُمَا هِيَ شَرْطُ ثُبُوتِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةُ فَإِنَّهُ رَوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُزَوِّجُ الصَّغِيرَةَ إلَّا الْعَصَبَةُ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ. وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطُ التَّقَدُّمِ عَلَى قَرَابَةِ الرَّحِمِ حَتَّى أَنَّهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ عَصَبَةٌ لَا تَثْبُتُ لِغَيْرِ الْعَصَبَةِ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ عَصَبَةٍ فَلِغَيْرِ الْعَصَبَةِ مِنْ الْقَرَابَاتِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ نَحْوَ الْأُمِّ وَالْأُخْتِ وَالْخَالَةِ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ، الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ إذَا كَانَ الْمُزَوِّجُ مِمَّنْ يَرِثُ الْمُزَوَّجَ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: النِّكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ فَوَّضَ كُلَّ نِكَاحٍ إلَى كُلّ عَصَبَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَابَلَ الْجِنْسَ بِالْجِنْسِ أَوْ بِالْجَمْعِ فَيَقْتَضِي مُقَابَلَةَ الْفَرْدِ بِالْفَرْدِ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي

فصل الذي يرجع إلى المولى عليه في ولاية النكاح

الْوِلَايَةِ هُمْ الْعَصَبَاتُ فَإِنْ كَانَ الرَّأْيُ وَتَدْبِيرُ الْقَبِيلَةِ وَصِيَانَتُهَا عَمَّا يُوجِبُ الْعَارَ وَالشَّيْنَ إلَيْهِمْ فَكَانُوا هُمْ الَّذِينَ يَحْرُزُونَ عَنْ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي أَمْرِ النِّكَاحِ فَكَانُوا هُمْ الْمُحِقِّينَ بِالْوِلَايَةِ وَلِهَذَا كَانَتْ قَرَابَةُ التَّعْصِيبِ مُقَدَّمَةً عَلَى قَرَابَةِ الرَّحِمِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ} [النور: 32] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْعَصَبَاتِ وَغَيْرِهِمْ فَتَثْبُتُ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ عَلَى الْعُمُومِ إلَّا مَنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ هُوَ مُطْلَقُ الْقَرَابَةِ وَذَاتُهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَرَابَةَ حَامِلَةٌ عَلَى الشَّفَقَةِ فِي حَقِّ الْقَرِيبِ دَاعِيَةٌ إلَيْهَا وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا فَوُجِدَ السَّبَبُ وَوُجِدَ شَرْطُ الثُّبُوتِ أَيْضًا وَهُوَ عَجْزُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا الْعُصُوبَةُ وَقُرْبُ الْقَرَابَةِ شَرْطُ التَّقَدُّمِ لَا شَرْطُ ثُبُوتِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ فَلَا جَرَمَ الْعُصْبَةُ تَتَقَدَّمُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ، وَالْأَقْرَبُ مِنْ غَيْرِ الْعَصَبَةِ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْأَبْعَدِ وَلِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ مُرَتَّبَةٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ لِاتِّحَادِ سَبَبِ ثُبُوتِهَا - وَهُوَ الْقَرَابَةُ - فَكُلُّ مَنْ اسْتَحَقَّ مِنْ الْمِيرَاثِ اسْتَحَقَّ الْوِلَايَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ عَبْدًا لَا وِلَايَةَ لَهُ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَرِثُ أَحَدًا وَكَذَا إذَا كَانَ كَافِرًا وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ مُسْلِمٌ لَا وِلَايَةَ لَهُ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُهُ. وَكَذَا إذَا كَانَ مُسْلِمًا وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ كَافِرٌ لَا وِلَايَةَ لَهُ لِأَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لَهُ مِنْهُ فَثَبَتَ أَنَّ الْوِلَايَةَ تَدُورُ مَعَ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ، فَثَبَتَ لِكُلِّ قَرِيبٍ يَرِثُ يُزَوِّجُ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْمَوْلَى أَنَّهُ يُزَوِّجُ وَلَا يَرِثُ. وَكَذَا الْإِمَامُ يُزَوِّجُ وَلَا يَرِثُ لِأَنَّ هَذَا عَكْسُ الْعِلَّةِ لِأَنَّ طَرْدَ مَا قُلْنَا: إنَّ كُلَّ مَنْ يَرِثُ يُزَوِّجُ وَهَذَا مُطَّرِدٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَكْسُهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَرِثُ لَا يُزَوِّجُ، وَالشَّرْطُ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ الِاطِّرَادُ دُونَ الِانْعِكَاسِ لِجَوَازِ إثْبَاتِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِعِلَلٍ ثُمَّ نَقُولُ: مَا قُلْنَاهُ مُنْعَكِسٌ أَيْضًا أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَوْلَى الْوَلَاءُ فِي مَمْلُوكِهِ وَهُوَ نَوْعُ إرْثٍ، وَأَمَّا الْإِمَامُ فَهُوَ نَائِبٌ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ يَرِثُونَ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْمِلْكِ وَالْقَرَابَةِ وَالْوَلَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَبَيْتُ الْمَالِ مَالُهُمْ فَكَانَتْ الْوِلَايَةُ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُمْ وَإِنَّمَا الْإِمَامُ نَائِبٌ عَنْهُمْ فَيَتَزَوَّجُونَ وَيَرِثُونَ أَيْضًا، فَاطَّرَدَ هَذَا الْأَصْلُ وَانْعَكَسَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النِّكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ حَالَ وُجُودِ الْعَصَبَةِ لِاسْتِحَالَةِ تَفْوِيضِ النِّكَاحِ إلَى الْعَصَبَةِ وَلَا عَصَبَةَ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ إنَّ النِّكَاحَ إلَى الْعَصَبَاتِ حَالَ وُجُودِ الْعَصَبَةِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. [فَصْلٌ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فِي وِلَايَةُ النِّكَاحِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فَنَقُولُ: الْوِلَايَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ نَوْعَانِ:. وِلَايَةُ حَتْمٍ وَإِيجَابٍ، وَوِلَايَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. الْأَوَّلِ وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَهِيَ نَوْعَانِ أَيْضًا وِلَايَةُ اسْتِبْدَادٍ، وَوِلَايَةُ شَرِكَةٍ وَهِيَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ. وَكَذَا نُقُولُ الشَّافِعِيِّ إلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ فِي كَيْفِيَّةِ الشَّرِكَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ -. وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحَتْمِ وَالْإِيجَابِ وَالِاسْتِبْدَادِ فَشَرْطُ ثُبُوتِهَا عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا كَوْنُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ صَغِيرًا أَوْ صَغِيرَةً أَوْ مَجْنُونًا كَبِيرًا أَوْ مَجْنُونَةً كَبِيرَةً سَوَاءً كَانَتْ الصَّغِيرَةُ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا فَلَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ عَلَى الْبَالِغِ الْعَاقِلِ وَلَا عَلَى الْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ وَعَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ: شَرْطُ ثُبُوتِ وِلَايَةِ الِاسْتِبْدَادِ فِي الْغُلَامِ هُوَ الصِّغَرُ وَفِي الْجَارِيَةِ الْبَكَارَةُ، سَوَاءً كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ بَالِغَةً فَلَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ عِنْدَهُ عَلَى الثَّيِّبِ سَوَاءً كَانَتْ بَالِغَةً أَوْ صَغِيرَةً، وَالْأَصْلُ أَنَّ هَذِهِ الْوِلَايَةَ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا تَدُورُ مَعَ الصِّغَرِ وُجُودًا وَعَدَمًا فِي الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ، وَعِنْدَهُ فِي الصَّغِيرِ كَذَلِكَ، أَمَّا فِي الصَّغِيرَةِ فَإِنَّهَا تَدُورُ مَعَ الْبَكَارَةِ وُجُودًا وَعَدَمًا وَفِي الْكَبِيرِ وَالْكَبِيرَةِ تَدُورُ مَعَ الْجُنُونِ وُجُودًا وَعَدَمًا سَوَاءً كَانَ الْجُنُونُ أَصْلِيًّا بِأَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا أَوْ عَارِضًا بِأَنْ طَرَأَ بَعْدَ الْبُلُوغِ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ إذَا طَرَأَ الْجُنُونُ لَمْ يَجُزْ لِلْمَوْلَى التَّزْوِيجُ. وَعَلَى هَذَا يُبْتَنَى أَنَّ الْأَبَ وَالْجَدَّ لَا يَمْلِكَانِ إنْكَاحَ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَمْلِكَانِهِ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ إنْكَاحَ الثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْبِكْرَ وَإِنْ كَانَتْ عَاقِلَةً بَالِغَةً فَلَا تَعْلَمُ بِمَصَالِحِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهَا يَقِفُ عَلَى التَّجْرِبَةِ

وَالْمُمَارَسَةِ وَذَلِكَ بِالثِّيَابَةِ وَلَمْ تُوجَدْ فَالْتَحَقَتْ بِالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ فَبَقِيَتْ وِلَايَةُ الِاسْتِبْدَادِ عَلَيْهَا وَلِهَذَا مَلَكَ الْأَبُ قَبْضَ صَدَاقِهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا بِخِلَافِ الثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ لِأَنَّهَا عَلِمَتْ بِمَصَالِحِ النِّكَاحِ وَبِالْمُمَارَسَةِ وَمُصَاحَبَةِ الرِّجَالِ فَانْقَطَعَتْ وِلَايَةُ الِاسْتِبْدَادِ عَنْهَا، وَلَنَا أَنَّ الثَّيِّبَ الْبَالِغَةَ لَا تُزَوَّجُ إلَّا بِرِضَاهَا فَكَذَا الْبِكْرُ الْبَالِغَةُ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: طَرِيقُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ. وَالثَّانِي: طَرِيقُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ أَمَّا طَرِيقُ أَبِي حَنِيفَةَ: فَهُوَ أَنَّ وِلَايَةَ الْحَتْمِ وَالْإِيجَابِ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الصَّغِيرَةِ لِعَجْزِهَا عَنْ التَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ بِنَفْسِهَا، وَبِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ زَالَ الْعَجْزُ وَثَبَتَتْ الْقُدْرَةُ حَقِيقَةً وَلِهَذَا صَارَتْ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ إلَّا أَنَّهَا مَعَ قُدْرَتِهَا حَقِيقَةً عَاجِزَةٌ عَنْ مُبَاشَرَةِ النِّكَاحِ عَجْزَ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ إلَى مَحَافِلِ الرِّجَالِ وَالْمَرْأَةُ مُخَدَّرَةٌ مَسْتُورَةٌ وَالْخُرُوجُ إلَى مَحْفِلِ الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ عَيْبٌ فِي الْعَادَةِ فَكَانَ عَجْزُهَا عَجْزَ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ لَا حَقِيقَةٍ فَثَبَتَتْ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا عَلَى حَسَبِ الْعَجْزِ - وَهِيَ وِلَايَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ لَا وِلَايَةَ حَتْمٍ وَإِيجَابٍ - إثْبَاتًا لِلْحُكْمِ عَلَى قَدْرِ الْعِلَّةِ. وَأَمَّا طَرِيقُ مُحَمَّدٍ فَهُوَ أَنَّ الثَّابِتَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وِلَايَةُ الشَّرِكَةِ لَا وِلَايَةُ الِاسْتِبْدَادِ فَلَا بُدَّ مِنْ الرِّضَا كَمَا فِي الثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَإِنَّمَا مَلَكَ الْأَبُ قَبْضَ صَدَاقِهَا لِوُجُودِ الرِّضَا بِذَلِكَ مِنْهَا دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْأَبَ يَضُمُّ إلَى الصَّدَاقِ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ وَيُجَهَّزُ بِنْتَه الْبِكْرَ حَتَّى لَوْ نَهَتْهُ عَنْ الْقَبْضِ لَا يَمْلِكُ بِخِلَافِ الثَّيِّبِ فَإِنَّ الْعَادَةَ مَا جَرَتْ بِتَكْرَارِ الْجِهَازِ، وَإِذَا كَانَ الرِّضَا فِي نِكَاحِ الْبَالِغَةِ شَرْطَ الْجَوَازِ فَإِذَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهَا تَوَقَّفَ التَّزْوِيجُ عَلَى رِضَاهَا فَإِنْ رَضِيَتْ جَازَ وَإِنْ رَدَّتْ بَطَلَ ثُمَّ إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَرِضَاهَا يُعْرَفُ بِالْقَوْلِ تَارَةً وَبِالْفِعْلِ أُخْرَى أَمَّا الْقَوْلُ: فَهُوَ التَّنْصِيصُ عَلَى الرِّضَا وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ نَحْوَ أَنْ تَقُولَ: رَضِيت أَوْ أَجَزْت وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الثَّيِّبُ تُشَاوَرُ» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الثَّيِّبُ يُعْرِبُ عَنْهَا لِسَانُهَا» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِي أَبْضَاعِهِنَّ» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ» وَالْمُرَادُ مِنْهُ: الْبَالِغَةُ. وَأَمَّا الْفِعْلُ: فَنَحْوُ التَّمْكِينِ مِنْ نَفْسِهَا وَالْمُطَالَبَةِ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ الرِّضَا وَالرِّضَا يَثْبُتُ بِالنَّصِّ مَرَّةً وَبِالدَّلِيلِ أُخْرَى، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ لِبَرِيرَةَ إنْ وَطِئَك زَوْجُك فَلَا خِيَارَ لَك» وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَإِنَّ رِضَاهَا يُعْرَفُ بِهَذَيْنِ الطَّرِيقِينَ وَبِثَالِثٍ وَهُوَ السُّكُوتُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ سُكُوتُهَا رِضًا. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ السُّكُوتَ يَحْتَمِلُ الرِّضَا وَيَحْتَمِلُ السَّخَطَ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلُ الرِّضَا مَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ دَلِيلًا إذَا كَانَ الْمُزَوِّجُ أَجْنَبِيًّا أَوْ وَلِيًّا غَيْرَهُ أَوْلَى مِنْهُ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «تُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِي أَبْضَاعِهِنَّ فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْنُهَا صُمَاتُهَا» وَرُوِيَ سُكُوتُهَا رِضَاهَا وَرُوِيَ سُكُوتُهَا إقْرَارُهَا وَكُلُّ ذَلِكَ نَصٌّ فِي الْبَابِ. وَرُوِيَ «الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ رَضِيَتْ» وَهَذَا أَيْضًا نَصٌّ وَلِأَنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي عَنْ النُّطْقِ بِالْإِذْنِ فِي النِّكَاحِ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ رَغْبَتِهَا فِي الرِّجَالِ فَتُنْسَبُ إلَى الْوَقَاحَةِ فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ سُكُوتُهَا إذْنًا وَرِضًا بِالنِّكَاحِ دَلَالَةً وَشُرِطَ اسْتِنْطَاقُهَا وَأَنَّهَا لَا تَنْطِقُ عَادَةً لَفَاتَتْ عَلَيْهَا مَصَالِحُ النِّكَاحِ مَعَ حَاجَتِهَا إلَى ذَلِكَ. وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَقَوْلُهُ: " السُّكُوتُ يَحْتَمِلُ " مُسَلِّمٌ لَكِنْ تَرَجَّحَ جَانِبُ الرِّضَا عَلَى جَانِبِ السَّخَطِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَاضِيَةً لَرَدَّتْ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ تَسْتَحِي عَنْ الْإِذْنِ فَلَا تَسْتَحِي عَنْ الرَّدِّ فَلَمَّا سَكَتَتْ وَلَمْ تَرُدَّ دَلَّ أَنَّهَا رَاضِيَةٌ بِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَهَا أَجْنَبِيٌّ أَوْ وَلِيٌّ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ ازْدَادَ احْتِمَالُ السَّخَطِ لِأَنَّهَا يُحْتَمَلُ أَنَّهَا سَكَتَتْ عَنْ جَوَابِهِ مَعَ أَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى الرَّدِّ تَحْقِيرًا لَهُ وَعَدَمَ الْمُبَالَاةِ بِكَلَامِهِ وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ، فَبَطَلَ رُجْحَانُ دَلِيلِ الرِّضَا وَلِأَنَّهَا إنَّمَا تَسْتَحِي مِنْ الْأَوْلِيَاءِ لَا مِنْ الْأَجَانِبِ، وَالْأَبْعَدُ عِنْدَ قِيَامِ الْأَقْرَبِ وَحُضُورِهِ أَجْنَبِيٌّ فَكَانَتْ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ كَالثَّيِّبِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْمُزَوِّجَ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا وَإِذَا كَانَ

الْوَلِيُّ الْأَبْعَدَ كَانَ جَوَازُ النِّكَاحِ مِنْ طَرِيقِ الْوَكَالَةِ لَا مِنْ طَرِيقِ الْوِلَايَةِ لِانْعِدَامِهَا، وَالْوَكَالَةُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْقَوْلِ وَإِذَا كَانَ وَلِيًّا فَالْجَوَازُ بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ فَلَا يُفْتَقَرُ إلَى الْقَوْلِ وَلَوْ بَلَغَهَا النِّكَاحُ فَضَحِكَتْ كَانَ إجَازَةً لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَضْحَكُ مِمَّا يَسُرُّهُ، فَكَانَ دَلِيلَ الرِّضَا وَلَوْ بَكَتْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَكُونُ إجَازَةً وَرُوِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ إجَازَةً بَلْ يَكُونُ رَدًّا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْبُكَاءَ قَدْ يَكُونُ لِلْحُزْنِ وَقَدْ يَكُونُ لِشِدَّةِ الْفَرَحِ فَلَا يُجْعَلُ رَدًّا وَلَا إجَازَةً لِلتَّعَارُضِ فَصَارَ كَأَنَّهَا سَكَتَتْ فَكَانَ رِضًا. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبُكَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ حُزْنٍ عَادَةً فَكَانَ دَلِيلَ السَّخَطِ وَالْكَرَاهَةِ لَا دَلِيلَ الْإِذْنِ وَالْإِجَازَةِ. وَلَوْ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ كُلٌّ مِنْهُمَا رَجُلًا فَبَلَغَهَا ذَلِكَ فَإِنْ أَجَازَتْ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ جَازَ الَّذِي أَجَازَتْهُ وَبَطَلَ الْآخَرُ وَإِنْ أَجَازَتْهُمَا بَطَلَا لِأَنَّ الْإِجَازَةَ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ كَأَنَّهَا تَزَوَّجَتْ بِزَوْجَيْنِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَذَا هَذَا، وَإِنْ سَكَتَتْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ رَدًّا وَلَا إجَازَةً حَتَّى تُجِيزَ أَحَدَهُمَا بِالْقَوْلِ أَوْ بِفِعْلٍ يَدُلُّ عَلَى الْإِجَازَةِ. وَرُوِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا إذَا سَكَتَتْ بَطَلَ الْعَقْدَانِ جَمِيعًا. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السُّكُوتَ مِنْ الْبِكْرِ كَالْإِجَازَةِ فَكَأَنَّهَا أَجَازَتْ الْعَقْدَيْنِ جَمِيعًا. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ هَذَا السُّكُوتَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ إجَازَةً لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ إجَازَةً فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ إجَازَةً لِلْعَقْدَيْنِ جَمِيعًا، وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ إجَازَةً لِأَحَدِهِمَا لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ إنْشَاءَ الْعَقْدَيْنِ جَمِيعًا مُمْتَنِعٌ فَامْتَنَعَتْ إجَازَتُهُمَا وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ بِأَوْلَى بِالْإِجَازَةِ مِنْ الْآخَرِ، فَالْتَحَقَ السُّكُوتُ بِالْعَدَمِ وَوَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى الْإِجَازَةِ بِقَوْلٍ أَوْ بِفِعْلٍ يَدُلُّ عَلَى الْإِجَازَةِ لِأَحَدِهِمَا، وَكَذَلِكَ إذَا اُسْتُؤْمِرَتْ الْبِكْرُ فَسَكَتَتْ فِي الِابْتِدَاءِ فَهُوَ إذْنٌ إذَا كَانَ الْمُسْتَأْذِنُ وَلِيًّا لِمَا ذَكَرْنَا وَلِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إذَا خُطِبَ إحْدَى بَنَاتِهِ دَنَا مِنْ خِدْرِهَا وَقَالَ إنَّ فُلَانًا يَذْكُرُ فُلَانَةَ ثُمَّ يُزَوِّجُهَا فَدَلَّ أَنَّ السُّكُوتَ عِنْدَ اسْتِئْمَارِ الْوَلِيِّ إذْنٌ دَلَالَةً وَقَالُوا فِي الْوَلِيِّ إذَا قَالَ لِلْبِكْرِ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَك فُلَانًا فَقَالَتْ غَيْرَهُ أَوْلَى مِنْهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إذْنًا وَلَوْ زَوَّجَهَا ثُمَّ أَخْبَرَهَا فَقَالَتْ قَدْ كَانَ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ كَانَ إجَازَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إظْهَارُ عَدَمِ الرِّضَا بِالتَّزْوِيجِ مِنْ فُلَانٍ وَقَوْلَهَا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي قَبُولٌ أَوْ سُكُوتٌ عَنْ الرَّدِّ وَسُكُوتُ الْبِكْرِ عَنْ الرَّدِّ يَكُونُ رِضًا وَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَكِ مِنْ رَجُلٍ وَلَمْ يُسَمِّهِ فَسَكَتَتْ لَمْ يَكُنْ رِضًا كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِالشَّيْءِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ لَا يَتَحَقَّقُ وَلَوْ قَالَ: أُزَوِّجُكِ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا حَتَّى عَدَّ جَمَاعَةً فَسَكَتَتْ فَمِنْ أَيِّهِمْ زَوَّجَهَا جَازَ وَلَوْ سَمَّى لَهَا الْجَمَاعَةَ مُجَمِّلًا بِأَنْ قَالَ أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَك مِنْ جِيرَانِي أَوْ مِنْ بَنِي عَمِّي فَسَكَتَتْ فَإِنْ كَانُوا يُحْصَوْنَ فَهُوَ رِضًا وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ لَمْ يَكُنْ رِضًا؛ لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ يُعْلَمُونَ فَيَتَعَلَّقُ الرِّضَا بِهِمْ وَإِذَا لَمْ يُحْصَوْا لَمْ يُعْلَمُوا فَلَا يُتَصَوَّرُ الرِّضَا؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِغَيْرِ الْمَعْلُومِ مُحَالٌ - وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ -. وَذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى أَنَّ الْوَلِيَّ إذَا سَمَّى الزَّوْجَ وَلَمْ يُسَمِّ الْمَهْرَ أَنَّهُ كَمْ هُوَ فَسَكَتَتْ فَسُكُوتُهَا لَا يَكُونُ رِضًا لِأَنَّ تَمَامَ الرِّضَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِذِكْرِ الزَّوْجِ وَالْمَهْرِ، ثُمَّ الْإِجَازَةُ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ لَا يُتَصَوَّرُ وَإِذَا زَوَّجَ الثَّيِّبَ الْبَالِغَةَ وَلِيٌّ فَقَالَتْ: لَمْ أَرْضَ وَلَمْ آذَنْ. وَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ أَذِنَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي عَلَيْهَا حُدُوثَ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ - وَهُوَ الْإِذْنُ وَالرِّضَا - وَهِيَ تُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهَا. (وَأَمَّا) الْبِكْرُ إذَا تَزَوَّجَتْ فَقَالَ الزَّوْجُ بَلَغَك الْعَقْدُ فَسَكَتَ فَقَالَتْ رَدَدْت فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَدَّعِي أَمْرًا حَادِثًا وَهُوَ الرَّدُّ وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ الْقَوْلَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمَرْأَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُدَّعِيَةً ظَاهِرًا فَهِيَ مُنْكِرَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي عَلَيْهَا جَوَازَ الْعَقْدِ بِالسُّكُوتِ وَهِيَ تُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا كَالْمُودَعِ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِرَدٍّ ظَاهِرٍ لِكَوْنِهِ مُنْكِرًا لِلضَّمَانِ حَقِيقَةً كَذَا هَذَا ثُمَّ فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ لَا يَمِينَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِهِمَا عَلَيْهَا الْيَمِينُ وَهُوَ الْخِلَافُ الْمَعْرُوفُ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ الْمَعْرُوفَ لَا يَجْرِي فِي الْأَشْيَاءِ

السِّتَّةِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَجْرِي، وَالْمَسْأَلَةُ تُذْكَرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الدَّعْوَى ثُمَّ إذَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ فِي الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ وَالثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ فِي الْجُمْلَةِ، حَتَّى جُعِلَ السُّكُوتُ رِضًا مِنْ الْبِكْرِ دُونَ الثَّيِّبِ وَلِلْأَبِ وِلَايَةُ قَبْضِ صَدَاقِ الْبِكْرِ بِغَيْرِ إذْنِهَا إلَّا إذَا نَهَتْهُ نَصًّا وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ قَبْضِ مَهْرِ الثَّيِّبِ إلَّا بِإِذْنِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْبَكَارَةِ وَالثِّيَابَةِ فِي الْحُكْمِ لَا فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَكَارَةِ بَقَاءُ الْعُذْرَةِ وَحَقِيقَةَ الثِّيَابَةِ زَوَالُ الْعُذْرَةِ. وَأَمَّا الْحُكْمُ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِوَثْبَةٍ أَوْ طَفْرَةٍ أَوْ حَيْضَةٍ أَوْ طُولِ التَّعْنِيسِ أَنَّهَا فِي حُكْمِ الْأَبْكَارِ تُزَوَّجُ كَمَا تُزَوَّجُ الْأَبْكَارُ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّ مَنْ زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِوَطْءٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ - وَهُوَ الْوَطْءُ بِعَقْدٍ جَائِزٍ أَوْ فَاسِدٍ أَوْ شُبْهَةِ عَقْدٍ وَجَبَ لَهَا مَهْرٌ بِذَلِكَ الْوَطْءِ - أَنَّهَا تُزَوَّجُ كَمَا تُزَوَّجُ الثَّيِّبِ (وَأَمَّا) إذَا زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِالزِّنَا فَإِنَّهَا تُزَوَّجُ كَمَا تُزَوَّجُ الْأَبْكَارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ تُزَوَّجُ كَمَا تُزَوَّجُ الثَّيِّبِ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا وَالثَّيِّبُ تُشَاوَرُ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَالثَّيِّبُ يُعْرِبُ عَنْهَا لِسَانُهَا» وَهَذِهِ ثَيِّبٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الثَّيِّبَ حَقِيقَةً مَنْ زَالَتْ عُذْرَتُهَا وَهَذِهِ كَذَلِكَ فَيَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الثَّيِّبِ وَمِنْ أَحْكَامِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا نَصًّا فَلَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عِلَّةَ وَضْعِ النُّطْقِ شَرْعًا وَإِقَامَةَ السُّكُوتِ مَقَامَهُ فِي الْبِكْرِ هُوَ الْحَيَاءُ وَقَدْ وُجِدَ وَدَلَالَةُ أَنَّ الْعِلَّةَ مَا قُلْنَا إشَارَةُ النَّصِّ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «تُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِي أَبْضَاعِهِنَّ فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْنُهَا صُمَاتُهَا» فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْنُهَا صُمَاتُهَا خَرَجَ جَوَابًا لِقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي أَيْ عَنْ الْإِذْنِ بِالنِّكَاحِ نُطْقًا وَالْجَوَابُ بِمُقْتَضَى إعَادَةِ السُّؤَالِ لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا يَتِمُّ بِدُونِ السُّؤَالِ كَأَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا كَانَتْ الْبِكْرُ تَسْتَحِي عَنْ الْإِذْنِ بِالنِّكَاحِ نُطْقًا فَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْحَيَاءَ عِلَّةُ وَضْعِ النُّطْقِ، وَقِيَامُ الصُّمَاتِ مَقَامَ الْإِذْنِ عِلَّةٌ مَنْصُوصَةٌ، وَعِلَّةُ النَّصِّ لَا تَتَقَيَّدُ بِمَحِلِّ النَّصِّ كَالطَّوَافِ فِي الْهِرَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ الْحَيَاءَ فِي الْبِكْرِ مَانِعٌ مِنْ النُّطْقِ بِصَرِيحِ الْإِذْنِ بِالنِّكَاحِ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ رَغْبَتِهَا فِي الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ سَبَبُ الْوَطْءِ وَالنَّاسُ يَسْتَقْبِحُونَ ذَلِكَ مِنْهَا وَيَذِمُّونَهَا وَيَنْسُبُونَهَا إلَى الْوَقَاحَةِ وَذَلِكَ مَانِعٌ لَهَا مِنْ النُّطْقِ بِالْإِذْنِ الصَّرِيحِ وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَى النِّكَاحِ فَلَوْ شُرِطَ اسْتِنْطَاقُهَا وَهِيَ لَا تَنْطِقُ عَادَةً لَفَاتَ عَلَيْهَا النِّكَاحُ مَعَ حَاجَتِهَا إلَيْهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَالْحَيَاءُ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ هَذِهِ. وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ زَوَالَ بَكَارَتِهَا لَمْ تَظْهَرْ لِلنَّاسِ فَيَسْتَقْبِحُونَ مِنْهَا الْإِذْنَ بِالنِّكَاحِ صَرِيحًا وَيَعُدُّونَهُ مِنْ بَابِ الْوَقَاحَةِ وَلَا يَزُولُ ذَلِكَ مَا لَمْ يُوجَدْ النِّكَاحُ وَيَشْتَهِرُ الزِّنَا فَحِينَئِذٍ لَا يُسْتَقْبَحُ الْإِظْهَارُ بِالْإِذْنِ وَلَا يُعَدُّ عَيْبًا بَلْ الِامْتِنَاعُ عَنْ الْإِذْنِ عِنْدَ اسْتِئْمَارِ الْوَلِيِّ يَعُدُّ رُعُونَةً مِنْهَا لِحُصُولِ الْعِلْمِ لِلنَّاسِ بِظُهُورِ رَغْبَتِهَا فِي الرِّجَالِ. (وَأَمَّا الْحَدِيثُ) فَالْمُرَادُ مِنْهُ الثَّيِّبُ الَّتِي تَعَارَفَهَا النَّاسُ ثَيِّبًا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ النَّاسِ وَلِهَذَا لَمْ تَدْخُلْ الْبِكْرُ الَّتِي زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِالطَّفْرَةِ وَالْوَثْبَةِ وَالْحَيْضَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا حَقِيقَةً - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ إنْكَاحُ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إنْكَاحُهَا لِلْحَالِ، وَيَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيُزَوِّجُهَا الْوَلِيُّ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِإِذْنِهَا صَرِيحًا لَا بِالسُّكُوتِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ» وَالْيَتِيمَةُ اسْمٌ لِلصَّغِيرَةِ فِي اللُّغَةِ وَلِأَنَّ الثِّيَابَةَ دَلِيلُ الْعِلْمِ بِمَصَالِحِ النِّكَاحِ وَلِأَنَّ حُدُوثَهَا يَكُونُ بَعْدَ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ عَادَةً وَقَدْ حَصَلَ لَهَا بِالتَّجْرِبَةِ وَالْمُمَارَسَةِ وَهَذَا إنْ لَمْ يَصْلُحْ لِإِثْبَاتِ الْوِلَايَةِ لَهَا يَصْلُحْ دَافِعًا وِلَايَةَ الْوَلِيِّ عَنْهَا لِلْحَالِ وَالتَّأْخِيرِ إلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ بِخِلَافِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ لِأَنَّ الْبَكَارَةَ دَلِيلُ الْجَهْلِ بِمَنَافِعِ النِّكَاحِ وَمَضَارِّهِ فَالْتَحَقَ عَقْلُهَا بِالْعَدَمِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ ضَرَرٌ قَطْعًا لِمَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَا مَصْلَحَةَ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ؛ لِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ

فصل الذي يرجع إلى نفس التصرف في ولاية النكاح

يَقِفُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ وَالْجَوَازُ فِي الْبِكْرِ ثَبَتَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] وَالْأَيِّمُ اسْمٌ لِأُنْثَى لَا زَوْجَ لَهَا كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ عَامًّا إلَّا مَنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً قَبْلَ زَوَالِ الْبَكَارَةِ لِوُجُودِ سَبَبِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ - وَهُوَ الْقَرَابَةُ الْكَامِلَةُ وَالشَّفَقَةُ الْوَافِرَةُ - وَوُجُودِ شَرْطِ الثُّبُوتِ وَهِيَ حَاجَةُ الصَّغِيرَةِ إلَى النِّكَاحِ لِاسْتِيفَاءِ الْمَصَالِحِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَعَجْزِهَا عَنْ ذَلِكَ بِنَفْسِهَا وَقُدْرَة الْوَلِيِّ عَلَيْهِ وَالْعَارِضُ لَيْسَ إلَّا الثِّيَابَةُ وَأَثَرَهَا فِي زِيَادَةِ الْحَاجَةِ إلَى الْإِنْكَاحِ لِأَنَّهَا مَارَسَتْ الرِّجَالِ وَصَحِبَتْهُمْ وَلِلصُّحْبَةِ أَثَرٌ فِي الْمَيْلِ إلَى مَنْ تُعَاشِرُهُ مُعَاشَرَةً جَمِيلَةً فَلَمَّا ثَبَتَتْ الْوِلَايَةُ عَلَى الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ فَلَأَنْ تَبْقَى عَلَى الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ أَوْلَى وَالْمُرَادُ مِنْ الْحَدِيثِ الْبَالِغَةُ لِمَا مَرَّ. وَالْمَجْنُونُ الْكَبِيرُ وَالْمَجْنُونَةُ الْكَبِيرَةُ تُزَوَّجُ كَمَا يُزَوَّجُ الصَّغِيرُ وَالصَّغِيرَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ أَصْلِيًّا كَانَ الْجُنُونُ أَوْ طَارِئًا بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَقَالَ زُفَرُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ الْمَجْنُونَ جُنُونًا طَارِئًا. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ وِلَايَةَ الْوَلِيِّ قَدْ زَالَتْ بِالْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ فَلَا تَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ بِطَرَيَانِ الْجُنُونِ، كَمَا لَوْ بَلَغَ مُغْمًى عَلَيْهِ ثُمَّ زَالَ الْإِغْمَاءُ. (وَلَنَا) أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ الْقَرَابَةُ وَشَرْطُهُ وَهُوَ عَجْزُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَهُوَ حَاجَتُهُ، وَفِي ثُبُوتِ الْوَلَاءِ فَائِدَةٌ فَثَبَتَتْ وَلِهَذَا ثَبَتَتْ فِي الْجُنُونِ الْأَصْلِيِّ كَذَا فِي الطَّارِئِ وَتَثْبُتُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ كَذَا فِي نَفْسِهِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. [فَصْلٌ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ التَّصَرُّفِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ التَّصَرُّفِ فَهُوَ: أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ نَافِعًا فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ لَا ضَارًّا فِي حَقِّهِ، فَلَيْسَ لِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالْجَدِّ أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ حُرَّةً وَلَا أَمَةً لِغَيْرِهِمَا لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ ضَارٌّ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ يَتَعَلَّقَانِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ لِلصَّغِيرِ مَالٌ فِي مُقَابَلَتِهِ وَالْإِضْرَارُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالتَّبَرُّعَاتِ. وَكَذَا كُلُّ مَنْ يَتَصَرَّفُ عَلَى غَيْرِهِ بِالْإِذْنِ لَا يَمْلِكُ إنْكَاحَ الْعَبْدِ كَالْمُكَاتَبِ وَالشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ وَالْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ التَّصَرُّفِ لِهَؤُلَاءِ مُقَيَّدٌ بِالنَّظَرِ. وَأَمَّا تَزْوِيجُ الْأَمَةِ حُرًّا أَوْ عَبْدًا لِغَيْرِهِمَا فَيَمْلِكُهُ الْأَبُ وَالْجَدُّ وَالْوَصِيُّ وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُفَاوَضُ وَالْقَاضِي وَأَمِينُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ لِكَوْنِهِ تَحْصِيلَ مَالٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَابِلَهُ مَالٌ فَيَمْلِكُهُ هَؤُلَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ الْبَيْعَ مَعَ أَنَّهُ مُقَابَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَهَذَا أَوْلَى فَأَمَّا شَرِيكُ الْعِنَانِ وَالْمُضَارِبُ وَالْمَأْذُونُ فَلَا يَمْلِكُونَ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَمْلِكُونَ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ نَافِعٌ؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ مَالٍ لَا يُقَابِلُهُ مَالٌ فَيَمْلِكُونَهُ كَشَرِيكِ الْمُفَاوَضَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ تَصَرُّفَ هَؤُلَاءِ يَخْتَصُّ بِالتِّجَارَةِ وَالنِّكَاحُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَأْذُونَةَ لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ تِجَارَةً لَمَلَكَتْ؛ لِأَنَّ التِّجَارَةَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَالِ فَلَمْ يَكُنْ تِجَارَةً فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَتِهِمْ، بِخِلَافِ الْمُفَاوَضِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مُخْتَصٌّ بِالنَّفْعِ لَا بِالتِّجَارَةِ وَهَذَا نَافِعٌ. وَلَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِ ابْنِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ تَزْوِيجَ عَبْدِهِ الصَّغِيرِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ وِلَايَةِ الْأَبِ فَكَانَ الْأَبُ فِيهِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَاحْتِمَالُ الضَّرَرِ ثَابِتٌ لِجَوَازِ أَنْ يَبِيعَ الْأَمَةَ فَيَتَعَلَّقُ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الصَّغِيرُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ زَوَّجَهُ أَمَةَ الْغَيْرِ. (وَلَنَا) أَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ مَوْجُودٌ فَلَا يَمْتَنِعُ الثُّبُوتُ إلَّا لِمَكَانِ الضَّرَرِ وَهَذَا نَفْعٌ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ لَهُ وَلَا يَتَعَلَّقُ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ فَكَانَ نَفْعًا مَحْضًا فَيَمْلِكُهُ قَوْلُهُ: " يُحْتَمَلُ أَنْ يَبِيعَهُ " قُلْنَا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَبِيعَهُ فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْوِلَايَةِ الْمُحَقِّقَةِ لِلْحَالِ لِأَمْرٍ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا زَوَّجَ الْأَبُ أَوْ الْجَدُّ الصَّغِيرَةَ مِنْ كُفْءٍ بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ امْرَأَةً بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ. وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْهُمَا أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ. وَلَوْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ بِمَهْرِ مِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَلَوْ فَعَلَ غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا لَا يَجُوزُ فِي قَوْلَيْهِمَا جَمِيعًا. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ تَثْبُتُ نَظَرًا فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ

وَلَا نَظَرَ فِي الْحَطِّ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ فِي إنْكَاحِ الصَّغِيرَةِ وَلَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ فِي إنْكَاحِ الصَّغِيرِ بَلْ فِيهِ ضَرَرٌ بِهِمَا. وَالْإِضْرَارُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - زَوَّجَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَهِيَ صَغِيرَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَهْرَ مِثْلِهَا كَانَ أَضْعَافَ ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْأَبَ وَافِرُ الشَّفَقَةِ عَلَى وَلَدِهِ يَنْظُرُ لَهُ مَا لَا يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا لِتَوْفِيرِ مَقْصُودٍ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ هُوَ أَنْفَعُ وَأَجْدَى مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمَالِ مِنْ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ، وَحُسْنِ الصُّحْبَةِ، وَالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةِ بِالنِّكَاحِ فَكَانَ تَصَرُّفُهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ لَا ضَرَرًا بِهِمَا بِخِلَافِ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ؛ لِأَنَّ وَجْهَ الضَّرَرِ فِي تَصَرُّفِهِمَا ظَاهِرٌ وَلَيْسَ ثَمَّةَ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى اشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْبَاطِنَةِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي تَزِيدُ عَلَى الضَّرَرِ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِوُفُورِ الشَّفَقَةِ وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْأَبُ أَمَةً لَهُمَا بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ هُوَ الْوُصُولُ إلَى الْعِوَضِ الْمَالِيِّ وَلَمْ يُوجَدْ. وَبِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُمَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لَهُمَا فِيمَا يَحْصُلُ لِلْأَمَةِ مِنْ حَظِّ الزَّوْجِ، وَإِنَّمَا مَنْفَعَتُهُمَا فِي حُصُولِ عِوَضِ بُضْعِ الْأَمَةِ لَهُمَا - وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ - وَلَمْ يَحْصُلْ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ التَّوْكِيلُ بِأَنْ وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا بِأَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ امْرَأَةً بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا مِقْدَارُ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ أَوْ وَكَّلَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا بِأَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ رَجُلٍ فَزَوَّجَهَا مِنْ رَجُلٍ بِدُونِ صَدَاقِ مِثْلِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَعَلَى هَذَا الْوَكِيلُ بِالتَّزْوِيجِ مِنْ جَانِبِ الرَّجُلِ أَوْ الْمَرْأَةِ إذَا زَوَّجَ الْمُوَكِّلَ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَكِيلِ لَهُ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْبَيْعِ وَنَذْكُرُ ذَلِكَ كُلَّهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ - وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْوَكِيلُ مِنْ جَانِبِ الرَّجُلِ بِالتَّزْوِيجِ إذَا زَوَّجَهُ أَمَةً لِغَيْرِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَلِسُقُوطِ اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ مِنْ جَانِبِ النِّسَاءِ. وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَتُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ مِنْ جَانِبَيْنِ عِنْدَهُمَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ لِمَكَانِ الْعُرْفِ اسْتِحْسَانًا عَلَى مَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِهِ - وَلَوْ أَقَرَّ الْأَبُ عَلَى ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ بِالنِّكَاحِ أَوْ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ لَا يُصَدَّقُ فِي إقْرَارِهِ حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى نَفْسِ النِّكَاحِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يُصَدَّقُ مِنْ غَيْرِ شُهُودٍ. وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَدَّعِيَ امْرَأَةٌ نِكَاحَ الصَّغِيرِ أَوْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ نِكَاحَ الصَّغِيرَةِ وَالْأَبُ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَيُقِيمُ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً عَلَى إقْرَارِ الْأَبِ بِالنِّكَاحِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى نَفْسِ الْعَقْدِ. وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ وَيَظْهَرُ النِّكَاحُ. وَالثَّانِي أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ نِكَاحَ الصَّغِيرَةِ أَوْ امْرَأَةٌ نِكَاحَ الصَّغِيرِ بَعْدَ بُلُوغِهِمَا وَهُمَا مُنْكِرَانِ ذَلِكَ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ الْأَبِ بِالنِّكَاحِ فِي حَالِ الصِّغَرِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْوَكِيلُ بِالنِّكَاحِ، إذَا أَقَرَّ عَلَى مُوَكِّلِهِ أَوْ عَلَى مُوَكِّلَتِهِ بِالنِّكَاحِ، وَالْمَوْلَى إذَا أَقَرَّ عَلَى عَبْدِهِ بِالنِّكَاحِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَقَرَّ عَلَى أَمَتِهِ بِالنِّكَاحِ أَنَّهُ يُصَدَّقُ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ إنْ أَقَرَّ بِعَقْدٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَيُصَدَّقُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ شُهُودٍ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِتَزْوِيجِ أَمَتِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَقَرَّ بِعَقْدٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ النِّكَاحِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ وَالْعَبْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِذَا مَلَكَ إنْشَاءَهُ لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا فِي الْإِقْرَارِ فَيُصَدَّقُ كَالْمَوْلَى إذَا أَقَرَّ بِالْفَيْءِ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ، وَزَوْجِ الْمُعْتَدَّةِ إذَا قَالَ فِي الْعِدَّةِ رَاجَعْتُك لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» نَفَى النِّكَاحَ بِغَيْرِ شُهُودٍ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الِانْعِقَادِ وَالظُّهُورِ بَلْ الْحَمْلُ عَلَى الظُّهُورِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ اسْمِ الشَّاهِدِ إذْ هُوَ اسْمٌ لِفَاعِلِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْمُؤَدِّي لَهَا، وَالْحَاجَةُ إلَى الْأَدَاءِ عِنْدَ الظُّهُورِ لَا عِنْدَ الِانْعِقَادِ، وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى الْغَيْرِ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ بِعَقْدٍ لَا يَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ وَإِنَّمَا يَتِمُّ بِهِ وَبِشَهَادَةِ الْآخَرِينَ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِمُسَاعِدَةِ آخَرِينَ قِيَاسًا عَلَى الْوُكَلَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ

فصل ولاية الندب والاستحباب في النكاح

وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالنِّكَاحِ وَالْإِقْرَارُ بِالنِّكَاحِ إقْرَارٌ بِمَنَافِعِ الْبُضْعِ وَإِنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْمَهْرُ لَهَا لَا لِلْأَبِ بِخِلَافِ الْأَمَةِ فَإِنَّ مَنَافِعَ بُضْعِهَا مَمْلُوكَةٌ فَكَانَ ذَلِكَ إقْرَارًا بِمَا مَلَكَ فَأَبُو حَنِيفَةَ اعْتَبَرَ وِلَايَةَ الْعَقْدِ وَمِلْكَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُمَا اعْتَبَرَا وِلَايَةَ الْعَقْدِ فَقَطْ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ -. [فَصْلٌ وِلَايَةُ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ فِي النِّكَاحِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وِلَايَةُ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ فَهِيَ: الْوِلَايَةُ عَلَى الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا وِلَايَةٌ مُشْتَرَكَةٌ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هِيَ وِلَايَةٌ مُشْتَرَكَةٌ أَيْضًا لَا فِي الْعِبَارَةِ فَإِنَّهَا لِلْمَوْلَى خَاصَّةً، وَشَرْطُ ثُبُوتِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا هُوَ رِضَا الْمُوَلَّى عَلَيْهِ لَا غَيْرُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا وَعِبَارَةُ الْوَلِيِّ أَيْضًا، وَعَلَى هَذَا يُبْنَى الْحُرَّةُ الْبَالِغَةُ الْعَاقِلَةُ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ رَجُلٍ أَوْ وَكَّلَتْ رَجُلًا بِالتَّزْوِيجِ فَتَزَوَّجَهَا أَوْ زَوَّجَهَا فُضُولِيٌّ فَأَجَازَتْ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ سَوَاءً زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ كُفْءٍ أَوْ غَيْرِ كُفْءٍ بِمَهْرٍ وَافِرٍ أَوْ قَاصِرٍ غَيْرَ أَنَّهَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَلِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ. وَكَذَا إذَا زَوَّجَتْ بِمَهْرٍ قَاصِرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - فِي مَوْضِعِهَا وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ حَتَّى يُجِيزَهُ الْوَلِيُّ وَالْحَاكِمُ، فَلَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْإِجَازَةِ وَلَوْ وَطِئَهَا يَكُونُ وَطْئًا حَرَامًا وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ وَظِهَارُهُ وَإِيلَاؤُهُ، وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَرِثْهُ الْآخَرُ سَوَاءً زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ كُفْءٍ أَوْ غَيْرِ كُفْءٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ، رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ كُفْءٍ يَنْفُذُ وَتَثْبُتُ سَائِرُ الْأَحْكَامِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ وَلِيٌّ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا إلَّا بِإِذْنِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ جَازَ إنْكَاحُهَا عَلَى نَفْسِهَا. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِدُونِ الْوَلِيِّ إلَّا أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِعِبَارَتِهَا وَيَنْفُذُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وَإِجَازَتِهِ، وَيَنْعَقِدُ بِعِبَارَةِ الْوَلِيِّ وَيَنْفُذُ بِإِذْنِهَا وَإِجَازَتِهَا فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا عِبَارَةَ لِلنِّسَاءِ فِي بَابِ النِّكَاحِ أَصْلًا حَتَّى لَوْ تَوَكَّلَتْ امْرَأَةٌ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ مِنْ وَلِيِّهَا فَتَزَوَّجَتْ لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُ. وَكَذَا إذَا زَوَّجَتْ بِنْتَهَا بِإِذْنِ الْقَاضِي لَمْ يَجُزْ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] هَذَا خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالْأَيِّمُ اسْمٌ لِامْرَأَةٍ لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا وَمَتَى ثَبَتَتْ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا كَانَتْ هِيَ مُوَلَّيًا عَلَيْهَا ضَرُورَةً فَلَا تَكُونُ وَالِيَةً وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ» وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» لِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ جَانِبِ النِّسَاءِ عَقْدُ إضْرَارٍ بِنَفْسِهِ وَحُكْمِهِ وَثَمَرَتِهِ أَمَّا نَفْسُهُ: فَإِنَّهُ رِقٌّ وَأَسْرٌ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «النِّكَاحُ رِقٌّ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ أَيْنَ يَضَعُ كَرِيمَتَهُ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ» : أَسِيرَاتٌ وَالْإِرْقَاقُ إضْرَارٌ. وَأَمَّا حُكْمُهُ: فَإِنَّهُ مِلْكٌ فَالزَّوْجُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَنَافِعِ بُضْعِهَا اسْتِيفَاءً بِالْوَطْءِ وَإِسْقَاطًا بِالطَّلَاقِ، وَيَمْلِكُ حَجْرَهَا عَنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَعَنْ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ. وَأَمَّا ثَمَرَتُهُ فَالِاسْتِفْرَاشُ كُرْهًا وَجَبْرًا وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا إضْرَارٌ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَنْقَلِبُ مَصْلَحَةً وَيَنْجَبِرُ مَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ إذَا وَقَعَ وَسِيلَةً إلَى الْمَصَالِحِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَلَا يُسْتَدْرَكُ ذَلِكَ إلَّا بِالرَّأْيِ الْكَامِلِ وَرَأْيُهَا نَاقِصٌ لِنُقْصَانِ عَقْلِهَا فَبَقِيَ النِّكَاحُ مَضَرَّةً فَلَا تَمْلِكُهُ. وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» وَالْبَاطِلُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مَا لَا حُكْمَ لَهُ شَرْعًا كَالْبَيْعِ الْبَاطِلِ وَنَحْوِهِ، وَلِأَنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقًّا فِي النِّكَاحِ بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُمْ حَقَّ الِاعْتِرَاضِ وَالْفَسْخِ وَمَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِي عَقْدٍ كَيْفَ يَمْلِكُ فَسْخَهُ، وَالتَّصَرُّفُ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ يَقِفُ جَوَازُهُ عَلَى جَوَازِ صَاحِبِ الْحَقِّ كَالْأَمَةِ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا. (وَجْهُ) مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ كُفْءٍ يَنْفُذُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَوْلِيَاءِ فِي النِّكَاحِ مِنْ حَيْثُ صِيَانَتُهُمْ عَمَّا يُوجِبُ لُحُوقَ الْعَارِ وَالشَّيْنِ بِهِمْ بِنِسْبَةِ مَنْ لَا يُكَافِئُهُمْ بِالصِّهْرِيَّةِ إلَيْهِمْ وَقَدْ بَطَلَ هَذَا الْمَعْنَى بِالتَّزْوِيجِ مِنْ كُفْءٍ، يُحَقِّقُهُ أَنَّهَا لَوْ وَجَدَتْ كُفْئًا وَطَلَبَتْ مِنْ الْمَوْلَى الْإِنْكَاحَ مِنْهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الِامْتِنَاعُ وَلَوْ امْتَنَعَ يَصِيرُ عَاضِلًا

فَصَارَ عَقْدُهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ عَقْدِهِ بِنَفْسِهِ. (وَجْهُ) مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ لَهَا وَلِيٌّ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ أَنَّ وُقُوفَ الْعَقْدِ عَلَى إذْنِ الْوَلِيِّ كَانَ لِحَقِّ الْوَلِيِّ لَا لِحَقِّهَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ فَلَا حَقَّ لِلْوَلِيِّ، فَكَانَ الْحَقُّ لَهَا خَاصَّةً، فَإِذَا عَقَدَتْ فَقَدْ تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا فَنَفَذَ وَأَمَّا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ كُفْءٍ وَبَلَغَ الْوَلِيَّ فَامْتَنَعَ مِنْ الْإِجَازَةِ فَرَفَعَتْ أَمْرَهَا إلَى الْحَاكِمِ فَإِنَّهُ يُجِيزُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ يُسْتَأْنَفُ الْعَقْدُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْعَقْدَ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِجَازَةِ فَقَدْ رَدَّهُ فَيَرْتَدُّ وَيَبْطُلُ مِنْ الْأَصْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِئْنَافِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ صَارَ عَاضِلًا إذْ لَا يَحِلُّ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْإِجَازَةِ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ كُفْءٍ فَإِذَا امْتَنَعَ فَقَدْ عَضَلَهَا فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا وَانْقَلَبَتْ الْوِلَايَةُ إلَى الْحَاكِمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَالسَّنَةُ وَالِاسْتِدْلَالُ أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} [الأحزاب: 50] فَالْآيَةُ الشَّرِيفَةُ نَصٌّ عَلَى انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِعِبَارَتِهَا وَانْعِقَادِهَا بِلَفْظِ الْهِبَةِ فَكَانَتْ حُجَّةً عَلَى الْمُخَالِفِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَضَافَ النِّكَاحَ إلَيْهَا فَيَقْتَضِي تَصَوُّرَ النِّكَاحِ مِنْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ غَايَةَ الْحُرْمَةِ فَيَقْتَضِي انْتِهَاءَ الْحُرْمَةِ عِنْدَ نِكَاحِهَا نَفْسِهَا وَعِنْدَهُ لَا تَنْتَهِي، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230] أَيْ: يَتَنَاكَحَا أَضَافَ النِّكَاحَ إلَيْهِمَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْوَلِيِّ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] الْآيَةُ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَضَافَ النِّكَاحَ إلَيْهِنَّ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ بِعِبَارَتِهِنَّ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْوَلِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَهَى الْأَوْلِيَاءَ عَنْ الْمَنْعِ عَنْ نِكَاحِهِنَّ أَنْفُسَهُنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ إذَا تَرَاضَى الزَّوْجَانِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي تَصْوِيرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ» وَهَذَا قَطْعُ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ عَنْهَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» وَالْأَيِّمُ اسْمٌ لِامْرَأَةٍ لَا زَوْجَ لَهَا. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال فَهُوَ: أَنَّهَا لَمَّا بَلَغَتْ عَنْ عَقْلٍ وَحُرِّيَّةٍ فَقَدْ صَارَتْ وَلِيَّةَ نَفْسِهَا فِي النِّكَاحِ فَلَا تَبْقَى مُولَيًا عَلَيْهَا كَالصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إذَا بَلَغَ، وَالْجَامِعُ أَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ إنَّمَا ثَبَتَتْ لِلْأَبِ عَلَى الصَّغِيرَةِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْهَا شَرْعًا لِكَوْنِ النِّكَاحِ تَصَرُّفًا نَافِعًا مُتَضَمِّنًا مَصْلَحَةَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَحَاجَتَهَا إلَيْهِ حَالًا وَمَآلًا وَكَوْنِهَا عَاجِزَةً عَنْ إحْرَازِ ذَلِكَ بِنَفْسِهَا، وَكَوْنِ الْأَبِ قَادِرًا عَلَيْهِ وَبِالْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ زَالَ الْعَجْزُ حَقِيقَةً وَقَدَرَتْ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهَا حَقِيقَةً فَتَزُولُ وِلَايَةُ الْغَيْرِ عَنْهَا وَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لَهَا؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ نَظَرًا فَتَزُولُ بِزَوَالِ الضَّرُورَةِ مَعَ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُنَافِيَةٌ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ لِلْحُرِّ عَلَى الْحُرِّ، وَثُبُوتُ الشَّيْءِ مَعَ الْمُنَافِي لَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى زَالَتْ الْوِلَايَةُ عَنْ إنْكَاحِ الصَّغِيرِ الْعَاقِلِ إذَا بَلَغَ، وَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لَهُ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْفَرْعِ وَلِهَذَا زَالَتْ وِلَايَةُ الْأَبِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهَا، وَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لَهَا كَذَا هَذَا وَإِذَا صَارَتْ وَلِيَّ نَفْسِهَا فِي النِّكَاحِ لَا تَبْقَى مُولَيًا عَلَيْهَا بِالضَّرُورَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ. وَأَمَّا الْآيَةُ: فَالْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ بِالْإِنْكَاحِ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ شَرْطُ جَوَازِ الْإِنْكَاحِ بَلْ عَلَى وِفَاقِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ بَيْنَ النَّاسِ فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا يَتَوَلَّيْنَ النِّكَاحَ بِأَنْفُسِهِنَّ عَادَةً لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى الْخُرُوجِ إلَى مَحَافِلِ الرِّجَالِ وَفِيهِ نِسْبَتُهُنَّ إلَى الْوَقَاحَةِ بَلْ الْأَوْلِيَاءُ هُمْ الَّذِينَ يَتَوَلُّونَ ذَلِكَ عَلَيْهِنَّ بِرِضَاهُنَّ فَخَرَجَ الْخِطَابُ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْكَاحِ مَخْرَجَ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْحَتْمِ وَالْإِيجَابِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَقِيبَهُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] ثُمَّ لَمْ يَكُنْ الصَّلَاحُ شَرْطَ الْجَوَازِ وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] أَوْ تُحْمَلُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى إنْكَاحِ الصِّغَارِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ» أَنَّ ذَلِكَ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ. وَكَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» مَعَ مَا حُكِيَ عَنْ

فصل شرط التقدم الولاية في النكاح

بَعْضِ النَّقَلَةِ أَنَّ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ لَمْ تَصِحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعُدَّ مِنْ جُمْلَتِهَا هَذَا وَلِهَذَا لَمْ يُخَرَّجْ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَلَى أَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِ الْأَحَادِيثِ لَكِنْ لَمَّا قُلْتُمْ أَنَّ هَذَا إنْكَاحٌ بِغَيْرِ وَلِيٍّ بَلْ الْمَرْأَةُ وَلِيَّةُ نَفْسِهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «النِّكَاحُ عَقْدُ ضَرَرٍ» فَمَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ عَقْدُ مَنْفَعَةٍ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ السَّكَنِ وَالْإِلْفِ وَالْمَوَدَّةِ وَالتَّنَاسُلِ وَالْعِفَّةِ عَنْ الزِّنَا وَاسْتِيفَاءِ الْمَرْأَةِ بِالنَّفَقَةِ إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْمَصَالِحَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِضَرْبِ مِلْكٍ عَلَيْهَا إذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ لَا تَصِيرُ مَمْنُوعَةً عَنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَالتَّزْوِيجِ بِزَوْجٍ آخَرَ وَفِي الْخُرُوجِ وَالْبُرُوز فَسَادُ السَّكَنِ؛ لِأَنَّ قَلْبَ الرَّجُلِ لَا يَطْمَئِنُّ إلَيْهَا وَفِي التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ فَسَادُ الْفِرَاشِ؛ لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ يَشْتَبِهُ النَّسَبُ وَيَضِيعُ الْوَلَدُ فَالشَّرْعُ ضَرَبَ عَلَيْهَا نَوْعَ مِلْكٍ ضَرُورَةَ حُصُولِ الْمَصَالِحِ، فَكَانَ الْمِلْكُ وَسِيلَةً إلَى الْمَصَالِحِ وَالْوَسِيلَةُ إلَى الْمَصْلَحَةِ مَصْلَحَةٌ، وَتَسْمِيَةُ النِّكَاحِ رِقًّا بِطَرِيقِ التَّمْثِيلِ لَا بِطَرِيقِ التَّحْقِيقِ لِانْعِدَامِ حَقِيقَةِ الرِّقِّ وَقَوْلُهُ: " عَقْلُهَا نَاقِصٌ " قُلْنَا هَذَا النَّوْعُ مِنْ النُّقْصَانِ لَا يَمْنَعُ الْعِلْمَ بِمَصَالِحِ النِّكَاحِ فَلَا يَسْلُبُ أَهْلِيَّةَ النِّكَاحِ وَلِهَذَا لَا يَسْلُبُ أَهْلِيَّةَ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ وَالدِّيَانَاتِ حَتَّى يَصِحَّ مِنْهَا التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِبْدَادِ وَإِنْ كَانَتْ تَجْرِي فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ خِيَانَاتٌ خَفِيَّةٌ لَا تُدْرَكُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ، وَيَصِحُّ مِنْهَا الْإِقْرَارُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَيُؤْخَذُ عَلَيْهَا الْخِطَابُ بِالْأَيْمَانِ وَسَائِرِ الشَّرَائِعِ فَدَلَّ أَنَّ مَا لَهَا مِنْ الْعَقْلِ كَافٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ عَقْلُهَا فِي اخْتِيَارِ الْأَزْوَاجِ حَتَّى لَوْ طَلَبَتْ مِنْ الْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ كُفْءٍ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ التَّزْوِيجُ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ يَصِيرُ عَاضِلًا وَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّزْوِيجِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَدْ قِيلَ: إنَّ مَدَارَهُ عَلَى الزُّهْرِيِّ فَعُرِضَ عَلَيْهِ فَأَنْكَرَهُ وَهَذَا يُوجِبُ ضَعْفًا فِي الثُّبُوتِ، يُحَقِّقُ الضَّعْفَ أَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَمِنْ مَذْهَبِهَا: جَوَازُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: مَا رُوِيَ أَنَّهَا زَوَّجَتْ بِنْتَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَإِذَا كَانَ مَذْهَبُهَا فِي هَذَا الْبَابِ هَذَا فَكَيْفَ تَرْوِي حَدِيثًا لَا تَعْمَلُ بِهِ؟ وَلَئِنْ ثَبَتَ فَنَحْمِلُهُ عَلَى الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهَا» دَلَّ ذِكْرُ الْمَوَالِي عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَرْأَةِ الْأَمَةُ فَيَكُونُ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ أَجْمَعَ وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدٍ: إنَّ لِلْوَلِيِّ حَقًّا فِي النِّكَاحِ فَنَقُولُ: الْحَقُّ فِي النِّكَاحِ لَهَا عَلَى الْوَلِيِّ لَا لِلْوَلِيِّ عَلَيْهَا بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُزَوَّجُ عَلَى الْوَلِيِّ إذَا غَابَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً وَإِذَا كَانَ حَاضِرًا يُجْبَرُ عَلَى التَّزْوِيجِ إذَا أَبَى وَعَضَلَ تُزَوَّجُ عَلَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تُجْبَرُ عَلَى النِّكَاحِ إذَا أَبَتْ وَأَرَادَ الْوَلِيُّ فَدَلَّ أَنَّ الْحَقَّ لَهَا عَلَيْهِ. وَمَنْ تَرَكَ حَقَّ نَفْسِهِ فِي عَقْدٍ لَهُ قِبَلَ غَيْرِهِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ فَسَادَهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ لِلْوَلِيِّ فِيهِ ضَرْبُ حَقٍّ لَكِنَّ أَثَرَهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ اللُّزُومِ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ لَا فِي الْمَنْعِ مِنْ النَّفَاذِ وَالْجَوَازِ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْأَوْلِيَاءِ فِي النِّكَاحِ مِنْ حَيْثُ صِيَانَتُهُمْ عَمَّا يَلْحَقُهُمْ مِنْ الشَّيْنِ وَالْعَارِ بِنِسْبَةِ عَدَا الْكُفْءِ إلَيْهِمْ بِالصِّهْرِيَّةِ فَإِنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ كُفْءٍ فَقَدْ حَصَلَتْ الصِّيَانَةُ فَزَالَ الْمَانِعُ مِنْ اللُّزُومِ فَيَلْزَمُ، وَإِنْ تَزَوَّجَتْ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَفِي النَّفَاذِ إنْ كَانَ ضَرَرٌ بِالْأَوْلِيَاءِ وَفِي عَدَمِ النَّفَاذِ ضَرَرٌ بِهَا بِإِبْطَالِ أَهْلِيَّتِهَا وَالْأَصْلُ فِي الضَّرَرَيْنِ إذَا اجْتَمَعَا أَنْ يَدْفَعَا مَا أَمْكَنَ وَهَهُنَا أَمْكَنَ دَفْعُهُمَا بِأَنْ نَقُولَ بِنَفَاذِ النِّكَاحِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا وَبِعَدَمِ اللُّزُومِ وَثُبُوتِ وِلَايَةِ الِاعْتِرَاضِ لِلْأَوْلِيَاءِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ، وَلِهَذَا نَظِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا كَاتَبَ أَحَدَهُمَا نَصِيبَهُ فَقَدْ دَفَعَ الضَّرَرَ عَنْهُ حَتَّى لَوْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ يُعْتَقُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ حَتَّى كَانَ لِلشَّرِيكِ الْآخِرِ حَقُّ فَسْخِ الْكِتَابَةِ قَبْلَ أَدَاءِ الْبَدَلِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ. وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ أَوْ بِعُمْرَةٍ صَحَّ إحْرَامُهُ حَتَّى لَوْ أُعْتِقَ يَمْضِي فِي إحْرَامِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ حَتَّى إنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ وَكَذَا لِلشَّفِيعِ حَقُّ تَمَلُّكِ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ لَوْ وَهَبَ الْمُشْتَرِي الدَّارَ نَفَذَتْ هِبَتُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ لَكِنَّهَا لَا تَلْزَمُ حَتَّى لِلشَّفِيعِ حَقُّ قَبْضِ الْهِبَةِ وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ كَذَا هَذَا. [فَصْلٌ شَرْطُ التَّقَدُّمِ الْوِلَايَة فِي النِّكَاحِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرْطُ التَّقَدُّمِ فَشَيْئَانِ. أَحَدُهُمَا: الْعُصُوبَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَتُقَدَّمُ الْعَصَبَةُ عَلَى ذَوِي الرَّحِمِ

سَوَاءً كَانَتْ الْعَصَبَةُ أَقْرَبُ أَوْ أَبْعَدُ، وَعِنْدَهُمَا هِيَ شَرْطُ ثُبُوتِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى مَا مَرَّ. وَالثَّانِي: قُرْبُ الْقَرَابَةِ يَتَقَدَّمُ الْأَقْرَبُ عَلَى الْأَبْعَدِ سَوَاءً كَانَ فِي الْعَصَبَاتِ أَوْ فِي غَيْرِهَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَى أَصْلِهِمَا هَذَا شَرْطُ التَّقَدُّمِ لَكِنْ فِي الْعَصَبَاتِ خَاصَّةً بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَصَبَاتِ شَرْطُ ثُبُوتِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ هِيَ شَرْطُ التَّقَدُّمِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْقَرَابَاتِ فَمَا دَامَ ثَمَّةَ عَصَبَةٍ فَالْوِلَايَةُ لَهُمْ يَتَقَدَّمُ الْأَقْرَبُ مِنْهُمْ عَلَى الْأَبْعَدِ، وَعِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَاتِ تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِذَوِي الرَّحِمِ الْأَقْرَبُ مِنْهُمْ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْأَبْعَدِ وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ فِي الْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةُ نَظَرٍ، وَتَصَرُّفُ الْأَقْرَبِ أَنْظَرُ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَشْفَقُ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى مِنْ الْأَبْعَدِ؛ وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ إنْ كَانَتْ اسْتِحْقَاقُهَا بِالتَّعْصِيبِ كَمَا قَالَا فَالْأَبْعَدُ لَا يَكُونُ عَصَبَةً مَعَ الْأَقْرَبِ فَلَا يَلِي مَعَهُ وَلَئِنْ كَانَ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْوِرَاثَةِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فَالْأَبْعَدُ لَا يَرِثُ مَعَ الْأَقْرَبِ فَلَا يَكُونُ وَلِيًّا مَعَهُ وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: إذَا اجْتَمَعَ الْأَبُ وَالْجَدُّ فِي الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونِ الْكَبِيرِ وَالْمَجْنُونَةِ الْكَبِيرَةِ فَالْأَبُ أَوْلَى مِنْ الْجَدِّ أَبُ الْأَبِ لِوُجُودِ الْعُصُوبَةِ وَالْقُرْبِ، وَالْجَدُّ أَبَ الْأَبِ وَإِنْ عَلَا أَوْلَى مِنْ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَالْأَخُ أَوْلَى مِنْ الْعَمِّ هَكَذَا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْجَدُّ وَالْأَخُ سَوَاءٌ كَمَا فِي الْمِيرَاثِ فَإِنَّ الْأَخَ لَا يَرِثُ مَعَ الْجَدِّ عِنْدَهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ. وَعِنْدَهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمِيرَاثِ، فَكَانَا كَالْأَخَوَيْنِ وَإِنْ اجْتَمَعَ الْأَبُ وَالِابْنُ فِي الْمَجْنُونَةِ فَالِابْنُ أَوْلَى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهُمَا زَوَّجَ جَازَ وَإِنْ اجْتَمَعَا قُلْتُ لِلْأَبِ زَوِّجْ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْأَبُ أَوْلَى بِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: إنَّ هَذِهِ الْوِلَايَةَ تَثْبُتُ نَظَرًا لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَتَصَرُّفُ الْأَبِ أَنْظَرُ لَهَا لِأَنَّهُ أَشْفَقُ عَلَيْهَا مِنْ الِابْنِ وَلِهَذَا كَانَ هُوَ أَوْلَى بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِهَا؛ وَلِأَنَّ الْأَبَ مِنْ قَوْمِهَا وَالِابْنُ لَيْسَ مِنْهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُنْسَبُ إلَى أَبِيهِ؟ فَكَانَ إثْبَاتُ الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا لِقَرَابَتِهَا أَوْلَى. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُصُوبَةِ وَالْأَبُ مَعَ الِابْنِ إذَا اجْتَمَعَا فَالِابْنُ هُوَ الْعَصَبَةُ وَالْأَبُ صَاحِبُ فَرْضٍ فَكَانَ كَالْأَخِ لِأُمٍّ مَعَ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْمُعَلَّى أَنَّهُ وُجِدَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا هُوَ سَبَبُ التَّقَدُّمِ أَمَّا الْأَبُ: فَلِأَنَّهُ مِنْ قَوْمِهَا وَهُوَ أَشْفَقُ عَلَيْهَا وَأَمَّا الِابْنُ: فَلِأَنَّهُ يَرِثُهَا بِالتَّعْصِيبِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ سَبَبُ التَّقَدُّمِ فَأَيُّهُمَا زَوَّجَ جَازَ، وَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يُقَدَّمُ الْأَبُ تَعْظِيمًا وَاحْتِرَامًا لَهُ وَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَ الْأَبُ وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَالْأَفْضَلُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنْ يُفَوِّضَ الِابْنُ الْإِنْكَاحَ إلَى الْأَبِ احْتِرَامًا لِلْأَبِ وَاحْتِرَازًا عَنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اجْتَمَعَ الْجَدُّ وَالِابْنُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: الِابْنُ أَوْلَى. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْجَدُّ أَوْلَى. وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فَأَمَّا الْأَخُ وَالْجَدُّ: فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ. وَأَمَّا مِنْ غَيْرِ الْعَصَبَاتِ: فَكُلُّ مَنْ يَرِثُ يُزَوِّجُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ لَا فَلَا، وَبَيَانُ مَنْ يَرِثُ مِنْهُمْ وَمَنْ لَا يَرِثُ يُعْرَفُ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ، ثُمَّ إنَّمَا يَتَقَدَّمُ الْأَقْرَبُ عَلَى الْأَبْعَدِ إذَا كَانَ الْأَقْرَبُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا غَيْبَةً غَيْرَ مُنْقَطِعَةٍ فَأَمَّا إذَا كَانَ غَائِبًا غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فَلِلْأَبْعَدِ أَنْ يُزَوِّجَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا وِلَايَةَ لِلْأَبْعَدِ مَعَ قِيَامِ الْأَقْرَبِ بِحَالٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُزَوِّجُهَا السُّلْطَانُ. وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي وِلَايَةِ الْأَقْرَبِ أَنَّهَا تَزُولُ بِالْغَيْبَةِ أَوْ تَبْقَى، قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهَا بَاقِيَةٌ إلَّا إنْ حَدَثَتْ لِلْأَبْعَدِ وِلَايَةٌ لِغَيْبَةِ الْأَقْرَبِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ لَهَا وَلِيَّيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ فِي الدَّرَجَةِ كَالْأَخَوَيْنِ وَالْعَمَّيْنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَزُولُ وِلَايَتُهُ وَتَنْتَقِلُ إلَى الْأَبْعَدِ وَهُوَ الْأَصَحُّ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ وِلَايَةَ الْأَقْرَبِ قَائِمَةٌ لِقِيَامِ سَبَبِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ - وَهُوَ الْقَرَابَةُ الْقَرِيبَةُ - وَلِهَذَا لَوْ زَوَّجَهَا حَيْثُ هُوَ يَجُوزُ فَقِيَامُ وِلَايَتِهِ تَمْنَعُ الِانْتِقَالَ إلَى غَيْرِهِ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: إنَّ وِلَايَةَ الْأَقْرَبِ بَاقِيَةٌ كَمَا قَالَ زُفَرُ إلَّا أَنَّهُ اُمْتُنِعَ دَفْعُ حَاجَتِهَا مِنْ قِبَلِ الْأَقْرَبِ مَعَ قِيَامِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهَا بِسَبَبِ الْغَيْبَةِ فَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِلسُّلْطَانِ كَمَا إذَا خَطَبَهَا كُفْءٌ وَامْتَنَعَ الْوَلِيُّ مِنْ تَزْوِيجِهَا مِنْهُ أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُزَوِّجَهَا، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الصَّغِيرَةِ. (وَلَنَا) أَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ لِلْأَبْعَدِ زِيَادَةُ نَظَرٍ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ فَتَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ كَمَا فِي الْأَبِ مَعَ الْجَدِّ إذَا كَانَا حَاضِرَيْنِ، وَدَلَالَةُ مَا قُلْنَا أَنَّ الْأَبْعَدَ أَقْدَرُ عَلَى تَحْصِيلِ النَّظَرِ لِلْعَاجِزِ

لِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ مُضَمَّنَةٌ تَحْتَ الْكَفَاءَةِ وَالْمَهْرِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَبْعَدَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إحْرَازِ الْكُفْءِ الْحَاضِرِ بِحَيْثُ لَا يَفُوتُهُ غَالِبًا، وَالْأَقْرَبُ الْغَائِبُ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لَا يَقْدِرُ عَلَى إحْرَازِهِ غَالِبًا؛ لِأَنَّ الْكُفْءَ الْحَاضِرَ لَا يَنْتَظِرُ حُضُورَهُ وَاسْتِطْلَاعَ رَأْيِهِ غَالِبًا. وَكَذَا الْكُفْءُ الْمُطْلَقُ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُخْطَبُ حَيْثُ هِيَ عَادَةً فَكَانَ الْأَبْعَدُ أَقْدَرَ عَلَى إحْرَازِ الْكُفْءِ مِنْ الْأَقْرَبِ فَكَانَ أَقْدَرَ عَلَى إحْرَازِ النَّظَرِ فَكَانَ أَوْلَى بِثُبُوتِ الْوَلَايَةِ لَهُ إذْ الْمَرْجُوحُ فِي مُقَابَلَةِ الرَّاجِحِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فِي الْأَحْكَامِ كَمَا فِي الْأَبِ مَعَ الْجَدِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّ وَلَايَةَ الْأَقْرَبِ قَائِمَةٌ " فَمَمْنُوعٌ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجُوزُ إنْكَاحُهُ، بَلْ لَا يَجُوزُ فَوَلَايَتُهُ مُنْقَطِعَةٌ بِوَاحِدَةٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَصْحَابِنَا مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ الْأَقْرَبَ إذَا كَتَبَ كِتَابًا إلَى الْأَبْعَدِ لِيُقَدِّمَ رَجُلًا فِي الصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَةِ الصَّغِيرِ فَإِنَّ لِلْأَبْعَدِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَتْ وَلَايَةُ الْأَقْرَبِ قَائِمَةٌ لَمَا كَانَ لَهُ الِامْتِنَاعُ كَمَا إذَا كَانَ الْأَقْرَبُ حَاضِرًا فَقَدَّمَ رَجُلًا لَيْسَ لِلْأَبْعَدِ وَلَايَةُ الْمَنْعِ، وَالْمَعْقُولُ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ ثُبُوتَ الْوَلَايَةِ لِحَاجَةِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَلَا مَدْفَعَ لِحَاجَتِهِ بِرَأْيِ الْأَقْرَبِ لِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ بِالْغَيْبَةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ جُنَّ أَوْ مَاتَ إذْ الْمَوْجُودُ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَالْعَدَمُ الْأَصْلِيِّ سَوَاءٌ؛ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِثُبُوتِ الْوَلَايَةِ لِلْأَبْعَدِ مَعَ وِلَايَةِ الْأَقْرَبِ يُؤَدِّي إلَى الْفَسَادِ؛ لِأَنَّ الْأَقْرَبَ رُبَّمَا يُزَوِّجُهَا مِنْ إنْسَانٍ حَيْثُ هُوَ وَلَا يَعْلَمُ الْأَبْعَدُ بِذَلِكَ فَيُزَوِّجُهَا مِنْ غَيْرِهِ فَيَطَؤُهَا الزَّوْجُ الثَّانِي وَيَجِيءُ بِالْأَوْلَادِ ثُمَّ يَظْهَرُ أَنَّهَا زَوْجَةُ الْأَوَّلِ وَفِيهِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى، ثُمَّ إنْ سَلَّمْنَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْوَلَايَتَيْنِ، فَأَيُّهُمَا زَوَّجَ جَازَ كَمَا إذَا كَانَ لَهَا أَخَوَانِ أَوْ عَمَّانِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِيهِ كَمَالُ النَّظَرِ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ؛ لِأَنَّ الْكُفْءَ إنْ اتَّفَقَ حَيْثُ الْأَبْعَدُ زَوَّجَهَا مِنْهُ وَإِنْ اتَّفَقَ حَيْثُ الْأَقْرَبُ زَوَّجَهَا مِنْهُ فَيَكْمُلُ النَّظَرُ إلَّا أَنَّ فِي حَالِ الْحَضْرَةِ يُرَجَّحُ الْأَقْرَبُ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ الشَّفَقَةِ لِزِيَادَةِ الْقَرَابَةِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنْ نَقْلَ الْوَلَايَةِ إلَى السُّلْطَانِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ، وَهَهُنَا لَهَا وَلِيٌّ أَوْ وَلِيَّانِ، فَلَا تَثْبُتُ الْوَلَايَةُ لِلسُّلْطَانِ إلَّا عِنْدَ الْعَضْلِ مِنْ الْوَلِيِّ وَلَمْ يُوجَدْ - وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ - وَاخْتَلَفَتْ الْأَقَاوِيلُ فِي تَحْدِيدِ الْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ قَالَ: مَا بَيْنَ بَغْدَادَ وَالرَّيِّ وَفِي رِوَايَةٍ: مَسِيرَةُ شَهْرٍ فَصَاعِدًا وَمَا دُونَهُ لَيْسَ بِغَيْبَةٍ مُنْقَطِعَةٍ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ أَيْضًا رُوِيَ عَنْهُ مَا بَيْنَ الْكُوفَةِ إلَى الرَّيِّ، وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ الرَّقَّةِ إلَى الْبَصْرَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ إذَا كَانَ غَائِبًا فِي مَوْضِعٍ لَا تَصِلُ إلَيْهِ الْقَوَافِلُ وَالرُّسُلُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَهُوَ غَيْبَةٌ مُنْقَطِعَةٌ، وَإِذَا كَانَتْ الْقَوَافِلُ تَصِلُ إلَيْهِ فِي السَّنَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَيْسَتْ بِمُنْقَطِعَةٍ وَعَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي بِكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ الْأَقْرَبُ فِي مَوْضِعٍ يُفَوِّتُ الْكُفْءَ الْخَاطِبَ بِاسْتِطْلَاعِ رَأْيِهِ فَهُوَ غَيْبَةٌ مُنْقَطِعَةٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يُفَوِّتُ فَلَيْسَتْ بِمُنْقَطِعَةٍ، وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ لِأَنَّ التَّعْوِيلَ فِي الْوَلَايَةِ عَلَى تَحْصِيلِ النَّظَرِ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ. وَذَلِكَ فِيمَا قَالَهُ هَذَا إذَا اجْتَمَعَ فِي الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونِ الْكَبِيرِ وَالْمَجْنُونَةِ الْكَبِيرَةِ وَلِيَّانِ أَحَدُهُمَا أَقْرَبُ وَالْآخَرُ أَبْعَدُ فَأَمَّا إذَا كَانَا فِي الدَّرَجَةِ سَوَاءً كَالْأَخَوَيْنِ وَالْعَمَّيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِيَالِهِ أَنْ يُزَوِّجَ رَضِيَ الْآخَرُ أَوْ سَخِطَ بَعْدَ أَنْ كَانَ التَّزْوِيجُ مِنْ كُفْءٍ بِمَهْرٍ وَافِرٍ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ لِأَحَدِ الْأَوْلِيَاءِ وَلَايَةُ الْإِنْكَاحِ مَا لَمْ يَجْتَمِعُوا بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْوَلَايَةَ وَلَايَةُ شَرِكَةٍ عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الْعَامَّةِ وِلَايَةُ اسْتِبْدَادٍ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْوَلَايَةِ هُوَ الْقَرَابَةُ وَأَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمْ فَكَانَتْ الْوِلَايَةُ مُشْتَرَكَةً؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ عَلَى وَفْقِ الْعِلَّةِ وَصَارَ كَوَلَايَةِ الْمِلْكِ فَإِنَّ الْجَارِيَةَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا زَوَّجَهَا أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. (وَلَنَا) أَنَّ الْوَلَايَةَ لَا تَتَجَزَّأُ؛ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ بِسَبَبٍ لَا يَتَجَزَّأُ - وَهُوَ الْقَرَابَةُ - وَمَا لَا يَتَجَزَّأُ إذَا ثَبَتَ بِجَمَاعَةٍ سَبَبٌ لَا يَتَجَزَّأُ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْكَمَالِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ كَوَلَايَةِ الْأَمَانِ بِخِلَافِ وَلَايَةِ الْمِلْكِ لِأَنَّ سَبَبَهَا الْمِلْكُ وَأَنَّهُ مُتَجَزِّئٌ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ فَإِنْ زَوَّجَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَلِيَّيْنِ رَجُلًا عَلَى حِدَةٍ فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدَانِ مَعًا بَطَلَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَإِنْ وَقَعَا مُرَتَّبًا فَإِنْ كَانَ لَا يُدْرَى السَّابِقُ فَكَذَلِكَ لِمَا قُلْنَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَجَازَ بِالتَّجَزِّي وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالتَّجْزِيءِ فِي الْفُرُوجِ

فصل ولاية الولاء في النكاح

وَإِنْ عُلِمَ السَّابِقُ مِنْهُمَا مِنْ اللَّاحِقِ جَازَ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَجُزْ الْآخَرُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا نَكَحَ الْوَلِيَّانِ فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ» وَأَمَّا إذَا زَوَّجَ أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ الْحُرَّةَ الْبَالِغَةَ الْعَاقِلَةَ بِرِضَاهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِغَيْرِ رِضَا الْبَاقِينَ فَحُكْمُهُ يُذْكَرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرَائِطِ اللُّزُومِ. [فَصْلٌ وَلَايَةُ الْوَلَاءِ فِي النِّكَاحِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وَلَايَةُ الْوَلَاءِ فَسَبَبُ ثُبُوتِهَا الْوَلَاءُ، قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» ثُمَّ النَّسَبُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْوَلَايَةِ كَذَا الْوَلَاءُ وَالْوَلَاءُ نَوْعَانِ: وَلَاءُ عَتَاقَةٍ، وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ، أَمَّا وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ: فَوَلَايَةُ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ نَوْعَانِ: وَلَايَةُ حَتْمٍ وَإِيجَابٍ، وَوَلَايَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلَايَةُ اسْتِبْدَادٍ وَوَلَايَةُ شَرِكَةٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي وَلَايَةِ الْقَرَابَةِ. وَشَرْطُ ثُبُوتِ هَذِهِ الْوَلَايَةِ مَا هُوَ شَرْطُ ثُبُوتِ تِلْكَ الْوَلَايَةِ إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْوَلَايَةَ اخْتَصَّتْ بِشَرْطٍ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُعْتَقِ عَصَبَةٌ مِنْ جِهَةِ الْقَرَابَةِ فَإِنْ كَانَ فَلَا وَلَايَةَ لِلْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَلَاءَ لَهُ لِأَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ عَصَبَةٌ مِنْ جِهَةِ الْقُرْبَةِ فَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ سَوَاءً كَانَ الْمُعْتَقُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى. وَأَمَّا مَوْلَى الْمُوَالَاةِ فَلَهُ وَلَايَةُ التَّزْوِيجِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ وَانْعِدَامِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْوَرَثَةِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَيْسَ لَهُ وَلَايَةُ التَّزْوِيجِ أَصْلًا وَرَأْسًا؛ لِأَنَّ الْعُصُوبَة شَرْطٌ عِنْدَهُمَا وَلَمْ تُوجَدْ. [فَصْلٌ وَلَايَةُ الْإِمَامَةِ النِّكَاحَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وَلَايَةُ الْإِمَامَةِ فَسَبَبُهَا الْإِمَامَةُ وَوَلَايَةُ الْإِمَامَةِ نَوْعَانِ أَيْضًا كَوَلَايَةِ الْقَرَابَةِ وَشَرْطُهَا مَا هُوَ شَرْطُ تِلْكَ الْوَلَايَةِ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا وَلَهَا شَرْطَانِ آخَرَانِ أَحَدُهُمَا يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ: أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ وَلِيٌّ أَصْلًا لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» وَالثَّانِي يَخُصُّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ وَلَايَةُ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ أَوْ وَلَايَةُ الشَّرِكَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلِ وَهُوَ لِعَضْلٍ مِنْ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ الْبَالِغَةَ الْعَاقِلَةَ إذَا طَلَبَتْ الْإِنْكَاحَ مِنْ كُفْءٍ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّزْوِيجُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الْعَضْلِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ فَإِذَا امْتَنَعَ فَقَدْ أَضَرَّ بِهَا وَالْإِمَامُ نُصِّبَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَتَنْتَقِلُ الْوَلَايَةُ إلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ وَلَايَةُ الْإِنْكَاحِ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِالْأَمْرِ فَلَا يَعْدُو مَوْضِعَ الْأَمْرِ كَالْوَكِيلِ وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أَوْصَى إلَيْهِ لَا يَمْلِكُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْوِصَايَةِ إلَيْهِ نَقْلَ وَلَايَةِ الْإِنْكَاحِ وَأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ النَّقْلَ حَالَ الْحَيَاةِ كَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَكَذَا الْفُضُولِيُّ لِانْعِدَامِ سَبَبِ ثُبُوتِ الْوَلَايَةِ فِي حَقِّهِ أَصْلًا، وَلَوْ أَنْكَحَ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا وَالْمَسْأَلَةُ سَتَأْتِي فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. [فَصْلٌ الشَّهَادَةُ فِي النِّكَاحِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا الشَّهَادَةُ وَهِيَ: حُضُورُ الشُّهُودِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ. أَحَدُهَا: فِي بَيَانِ أَنَّ أَصْلَ الشَّهَادَةِ شَرْطُ جَوَازِ النِّكَاحِ أَمْ لَا. وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ صِفَاتِ الشَّاهِدِ الَّذِي يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ. وَالثَّالِثُ: فِي بَيَانِ وَقْتِ الشَّهَادَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطُ جَوَازِ النِّكَاحِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ هُوَ الْإِعْلَانُ حَتَّى لَوْ عَقَدَ النِّكَاحَ وَشَرَطَ الْإِعْلَانَ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ شُهُودٌ، وَلَوْ حَضَرَتْهُ شُهُودٌ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ الْكِتْمَانَ لَمْ يَجُزْ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْإِشْهَادَ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَكِنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمُسْتَحَبٌّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ الْمُدَايَنَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] وَالْكِتَابَةُ لَا تَكُونُ لِنَفْسِهَا بَلْ لِلْإِشْهَادِ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي بَاب الرَّجْعَةِ {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] . (وَجْهُ) قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ النِّكَاحَ إنَّمَا يَمْتَازُ عَنْ السِّفَاحِ بِالْإِعْلَانِ فَإِنَّ الزِّنَا يَكُونُ سِرًّا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ عَلَانِيَةً وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ وَالنَّهْيُ عَنْ السِّرِّ يَكُونُ أَمْرًا بِالْإِعْلَانِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَلَوْ بِالدُّفِّ» . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَرُوِيَ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ» وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الزَّانِيَةُ الَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ» وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ شَرْطًا لَمْ

فصل صفات الشاهد الذي ينعقد به النكاح

تَكُنْ زَانِيَةً بِدُونِهَا، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَسَّتْ إلَى دَفْعِ تُهْمَةِ الزِّنَا عَنْهَا وَلَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِالشُّهُودِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِظُهُورِ النِّكَاحِ وَاشْتِهَارِهِ وَلَا يَشْتَهِرُ إلَّا بِقَوْلِ الشُّهُودِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي النِّكَاحِ مَا شُرِطَتْ إلَّا فِي النِّكَاحِ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْدَفِعُ بِالظُّهُورِ وَالِاشْتِهَارِ لِكَثْرَةِ الشُّهُودِ عَلَى النِّكَاحِ بِالسَّمَاعِ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ وَبِالتَّسَامُعِ وَبِهَذَا فَارَقَ سَائِرَ الْعُقُودِ فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى الشَّهَادَةِ هُنَاكَ لِدَفْعِ احْتِمَالِ الشُّهُودِ النِّسْيَانَ أَوْ الْجُحُودَ وَالْإِنْكَارَ فِي الثَّانِي إذْ لَيْسَ بَعْدَهَا مَا يُشْهِرُهَا لِيَنْدَفِعَ بِهِ الْجُحُودُ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الدَّفْعِ بِالشَّهَادَةِ فَنُدِبَ إلَيْهَا، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ فَنَقُولُ: بِمُوجِبِهِ لَكِنَّ نِكَاحَ السِّرِّ مَا لَمْ يَحْضُرْهُ شَاهِدَانِ فَأَمَّا مَا حَضَرَهُ شَاهِدَانِ فَهُوَ نِكَاحُ عَلَانِيَةٍ لَا نِكَاحَ سِرٍّ إذْ السِّرُّ إذَا جَاوَزَ اثْنَيْنِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ سِرًّا قَالَ الشَّاعِرُ: وَسِرُّكَ مَا كَانَ عِنْدَ امْرِئٍ ... وَسِرُّ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ الْخَفِي وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ» لِأَنَّهُمَا إذَا أَحْضَرَاهُ شَاهِدَيْنِ فَقَدْ أَعْلَنَاهُ وَقَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ بِالدُّفِّ نَدْبٌ إلَى زِيَادَةِ عَلَانَةٍ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ -. [فَصْلٌ صِفَاتُ الشَّاهِدِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَاتُ الشَّاهِدِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ وَهِيَ شَرَائِطُ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ لِلنِّكَاحِ فَمِنْهَا: الْعَقْلُ وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحَضْرَةِ الْمَجَانِينَ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَمَالِيكِ قِنًّا كَانَ الْمَمْلُوكُ أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا. مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ أَصَّلَ فِي هَذَا أَصْلًا فَقَالَ: كُلُّ مَنْ صَلُحَ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ بِوَلَايَةِ نَفْسِهِ يَصْلُحُ شَاهِدًا فِيهِ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا الِاعْتِبَارُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوَلَايَةِ؛ لِأَنَّهَا تَنْفِيذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ، وَالْوَلَايَةُ هِيَ نَفَاذُ الْمَشِيئَةِ وَهَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ وَلَايَةُ الْإِنْكَاحِ لِأَنَّهُ لَا وَلَايَةَ لَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُمْ وَلَايَةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ، إلَّا الْمُكَاتَبَ فَإِنَّهُ يُزَوِّجُ أَمَتَهُ لَكِنْ لَا بِوَلَايَةِ نَفْسِهِ بَلْ بِوَلَايَةِ مَوْلَاهُ بِتَسْلِيطِهِ عَلَى ذَلِكَ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَكَأَنَّ التَّزْوِيجَ مِنْ الْمَوْلَى مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلَا يَصْلُحُ شَاهِدًا، وَمِنْهُمْ مِنْ قَالَ كُلُّ مَنْ يَمْلِكُ قَبُولَ عَقْدٍ بِنَفْسِهِ يَنْعَقِدُ ذَلِكَ الْعَقْدُ بِحُضُورِهِ وَمَنْ لَا فَلَا، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ صَحِيحٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ شَرَائِطِ رُكْنِ الْعَقْدِ، وَرُكْنُهُ وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَلَا وُجُودَ لِلرُّكْنِ بِدُونِ الْقَبُولِ فَكَمَا لَا وُجُودَ لِلرُّكْنِ بِدُونِ الْقَبُولِ حَقِيقَةً لَا وُجُودَ لَهُ شَرْعًا بِدُونِ الشَّهَادَةِ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُونَ قَبُولَ الْعَقْدِ بِأَنْفُسِهِمْ فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ أَنَّ قَاضِيًا لَوْ قَضَى بِشَهَادَتِهِمْ يَنْفَسِخُ قَضَاؤُهُ عَلَيْهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَصَّلَ فِيهِ أَصْلًا وَقَالَ: كُلُّ مَنْ جَازَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ فِي قَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ عِنْدَ أَحَدٍ لَا يَجُوزُ بِحُضُورِهِ وَهَذَا الِاعْتِبَارُ صَحِيحٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحُضُورَ لِفَائِدَةِ الْحُكْمِ بِهَا عِنْدَ الْأَدَاءِ فَإِذَا جَازَ الْحُكْمُ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ كَانَ الْحُضُورُ مُفِيدًا وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ هَؤُلَاءِ عِنْدَ الْبَعْضِ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَاضِيًا لَوْ قَضَى بِشَهَادَتِهِمْ يَنْفَسِخُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ. [فَصْلٌ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَةَ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَةَ فَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَةَ بِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَلَايَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] وَكَذَا لَا يَمْلِكُ الْكَافِرُ قَبُولَ نِكَاحِ الْمُسْلِمِ وَلَوْ قَضَى قَاضٍ بِشَهَادَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ يُنْقَضُ قَضَاؤُهُ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُ إذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ سَوَاءٌ كَانَا مُوَافِقَيْنِ لَهَا فِي الْمِلَّةِ أَوْ مُخَالِفَيْنِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّةَ بِشَهَادَةِ الذِّمِّيَّيْنِ، أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَقْبُولَةٌ عَلَى أَصْلِنَا وَعَلَى أَصْلِهِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ. وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَإِنَّهُمَا احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» وَالْمُرَادُ مِنْهُ عَدَالَةُ الدِّينِ لَا عَدَالَةُ التَّعَاطِي لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ فِسْقَ التَّعَاطِي لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّ الْإِشْهَادَ شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ يَتَعَلَّقُ وُجُودُهُ بِالطَّرَفَيْنِ - طَرَفُ الزَّوْجِ وَطَرَفُ الْمَرْأَةِ - وَلَمْ يُوجَدْ الْإِشْهَادُ عَلَى الطَّرَفَيْنِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ حُجَّةٌ فِي حَقِّ

الْكَافِرِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُ فِي حَقِّهِ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ فَلَمْ يُوجَدْ الْإِشْهَادُ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا سَمِعَا كَلَامَ الْمَرْأَةِ دُونَ كَلَامِ الرَّجُلِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ كَذَا هَذَا وَلَهُمَا عُمُومَاتُ النِّكَاحِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَقَوْلِهِ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] وَقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا» وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَنَاكَحُوا» وَغَيْرِ ذَلِكَ مُطْلَقًا عَنْ غَيْرِ شَرْطٍ، إلَّا أَنَّ أَهْلَ الشَّهَادَةِ وَإِسْلَامَ الشَّاهِدِ صَارَ شَرْطًا فِي نِكَاحِ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ فَمَنْ ادَّعَى كَوْنَهُ شَرْطًا فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّةَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَرُوِيَ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ» وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ ظَاهِرٌ وَهَذَا نِكَاحٌ بِشُهُودٍ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِعْلَامِ وَالْبَيَانِ، وَالْكَافِرُ مِنْ أَهْلِ الْإِعْلَامِ وَالْبَيَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْعَقْلِ وَاللِّسَانِ وَالْعِلْمِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ، وَقَدْ وُجِدَ إلَّا أَنَّ شَهَادَتَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ خُصَّتْ مِنْ عُمُومِ الْحَدِيثِ فَبَقِيَتْ شَهَادَتُهُ لِلْمُسْلِمِ دَاخِلَةً تَحْتَهُ؛ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوَلَايَةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَالْكَافِرُ الشَّاهِدُ يَصْلُحُ وَلِيًّا فِي هَذَا الْعَقْدِ بِوَلَايَةِ نَفْسِهِ وَيَصْلُحُ قَابِلًا لِهَذَا الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ فِيهِ صَلُحَ شَاهِدًا. وَكَذَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ هَذِهِ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ عَلَى مَا نَذْكُرُ وَلَوْ قَضَى لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فَيَنْفُذُ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ ضَعِيفٌ وَلَئِنْ ثَبَتَ فَنَحْمِلُهُ عَلَى نَفْيِ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " الْعَقْدُ خَلَا عَنْ الْإِشْهَادِ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ " فَنَقُولُ: شَهَادَةُ الْكَافِرِ إنْ لَمْ تَصْلُحْ حُجَّةً لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَتَصْلُحُ حُجَّةً لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا لَا تَصْلُحُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْوَلَايَةِ وَفِي جَعْلِهَا حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِ إثْبَاتُ الْوَلَايَةِ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ هَهُنَا؛ لِأَنَّا إذَا جَعَلْنَاهَا حُجَّةً لِلْمُسْلِمِ مَا كَانَ فِيهِ إثْبَاتُ الْوَلَايَةِ لِلْكَافِرِ، وَهَذَا جَائِزٌ عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا قَوْلَهُ: لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ لَكِنَّ حُضُورَهُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: حُجَّةً لَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِحُضُورِ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهَلْ يَظْهَرُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّةَ بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ عِنْدَ الدَّعْوَى؟ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ، إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةُ لِلنِّكَاحِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَالْمُسْلِمُ مُنْكِرٌ لَا يَظْهَرُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَإِنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُدَّعِي وَالْمَرْأَةُ مُنْكِرَةً فَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَظْهَرُ سَوَاءً قَالَ الشَّاهِدَانِ: كَانَ مَعَنَا عِنْدَ الْعَقْدِ رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ أَوْ لَمْ يَقُولَا ذَلِكَ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَظْهَرُ كَمَا قَالَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَظْهَرُ سَوَاءً قَالَا: كَانَ مَعَنَا رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ أَوْ لَمْ يَقُولَا ذَلِكَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَعَلَى إثْبَاتِ فِعْلِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُمَا إنْ شَهِدَا عَلَى نِكَاحٍ حَضَرَاهُ فَقَطْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ عَلَى نِكَاحٍ فَاسِدٍ عِنْدَهُ وَإِنْ شَهِدَا عَلَى أَنَّهُمَا حَضَرَاهُ وَمَعَهُمَا رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ لَا تُقْبَلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ إنْ كَانَتْ شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْكَافِرِ لَكِنْ فِيهَا إثْبَاتُ فِعْلِ الْمُسْلِمِ فَيَكُونُ شَهَادَةً عَلَى مُسْلِمٍ فَلَا تُقْبَلُ كَمُسْلِمٍ ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدِ ذِمِّيٍّ فَجَحَدَ الذِّمِّيُّ دَعْوَى الْمُسْلِمِ وَزَعَمَ أَنَّ الْعَبْدَ عَبْدُهُ فَأَقَامَ الْمُسْلِمُ بِشَاهِدَيْنِ ذِمِّيَّيْنِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ عَبْدُهُ وَقَضَى لَهُ بِهِ عَلَى هَذَا الذِّمِّيِّ قَاضٍ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْكَافِرِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهَا إثْبَاتُ فِعْلِ الْمُسْلِمِ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِ وَهُوَ قَضَاءُ الْقَاضِي لَمْ تُقْبَلْ كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) الْكَلَامِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي جَانِبِ الِاعْتِقَادِ أَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوَلَايَةِ، وَلِلْكَافِرِ وَلَايَةٌ عَلَى الْكَافِرِ وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدَانِ وَقْتَ التَّحَمُّلِ كَافِرَيْنِ وَوَقْتَ الْأَدَاءِ مُسْلِمَيْنِ فَشَهِدَا لِلزَّوْجِ فَعَلَى أَصْلِهِمَا لَا يُشْكِلُ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا كَافِرَيْنِ تُقْبَلُ فَهَهُنَا أَوْلَى وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: تُقْبَلُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تُقْبَلُ فَمَنْ قَالَ: تُقْبَلُ نَظَرَ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ، وَمَنْ قَالَ: لَا تُقْبَلُ نَظَرَ إلَى وَقْتِ التَّحَمُّلِ.

فصل سماع الشاهدين كلام المتعاقدين

[فَصْلٌ سَمَاعُ الشَّاهِدَيْنِ كَلَامَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ] فَصْلٌ) : وَمِنْهَا سَمَاعُ الشَّاهِدَيْنِ كَلَامَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ جَمِيعًا حَتَّى لَوْ سَمِعَا كَلَامَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ أَوْ سَمِعَ أَحَدُهُمَا كَلَامَ أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ كَلَامَ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَعْنِي حُضُورَ الشُّهُودِ شَرْطُ رُكْنِ الْعَقْدِ، وَرُكْنُ الْعَقْدِ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِيمَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَهُمَا لَا تَتَحَقَّقُ الشَّهَادَةُ عَنْ الرُّكْنِ فَلَا يُوجَدُ شَرْطُ الرُّكْنِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -. [فَصْلٌ النِّكَاحُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا الْعَدَدُ فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَقَوْلِهِ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ» وَأَمَّا عَدَالَةُ الشَّاهِدِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ النِّكَاحِ عِنْدَنَا فَيَنْعَقِدُ بِحُضُورِ الْفَاسِقَيْنِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ، وَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِحُضُورِ مَنْ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ خَبَرٌ يُرَجَّحُ فِيهِ جَانِبُ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، وَالرُّجْحَانُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْعَدَالَةِ، وَلَنَا أَنَّ عُمُومَاتِ النِّكَاحِ مُطْلَقَةٌ عَنْ شَرْطٍ ثُمَّ اشْتِرَاطُ أَصْلِ الشَّهَادَةِ بِصِفَاتِهَا الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا ثَبَتَتْ بِالدَّلِيلِ فَمَنْ ادَّعَى شَرْطَ الْعَدَالَةِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ؛ وَلِأَنَّ الْفِسْقَ لَا يَقْدَحُ فِي وَلَايَةِ الْإِنْكَاحِ بِنَفْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي شَرَائِطِ الْوَلَايَةِ. وَكَذَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَوْ حَكَمَ لَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَكَانَ مِنْ أَهْلِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ. وَالْفِسْقُ لَا يَقْدَحُ فِي أَهْلِيَّةِ التَّحَمُّلِ، وَإِنَّمَا يَقْدَحُ فِي الْأَدَاءِ فَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْأَدَاءِ لَا فِي الِانْعِقَادِ، وَقَدْ ظَهَرَ حَتَّى لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا إلَّا إذَا تَحَرَّى الْقَاضِي الصِّدْقَ فِي شَهَادَتِهِ. وَكَذَا كَوْنُ الشَّاهِدِ غَيْرَ مَحْدُودٍ فِي الْقَذْفِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ النِّكَاحِ فَيَنْعَقِدُ بِحُضُورِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ قَدْ تَابَ بَعْدَ مَا حُدَّ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتُبْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَنَا عَلَى التَّأْبِيدِ خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ يَقْدَحُ فِي الْأَدَاءِ لَا فِي التَّحَمُّلِ؛ وَلِأَنَّهُ يَصْلُحُ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ بِوَلَايَةِ نَفْسِهِ وَيَصِحُّ الْقَبُولُ مِنْهُ بِنَفْسِهِ وَيَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ، وَإِنْ حُدَّ وَلَمْ يَتُبْ أَوْ لَمْ يَتُبْ وَلَمْ يُحَدَّ يَنْعَقِدُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ. وَكَذَا بَصَرُ الشَّاهِدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِ الْأَعْمَى لِمَا ذَكَرْنَا؛ وَلِأَنَّ الْعَمَى لَا يَقْدَحُ إلَّا فِي الْأَدَاءِ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي وَلَايَةِ الْإِنْكَاحِ وَلَا فِي قَبُولِ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ وَلَا فِي الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ فَكَانَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ. وَكَذَا ذُكُورَةُ الشَّاهِدَيْنِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ، وَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِحُضُورِ رَجُلَيْنِ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ. وَكَذَا إسْلَامُ الشَّاهِدَيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي نِكَاحِ الْكَافِرَيْنِ فَيَنْعَقِدُ نِكَاحُ الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ بِشَهَادَةِ كَافِرَيْنِ وَكَذَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ سَوَاءً اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ أَوْ اخْتَلَفَتْ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إسْلَامُ الشَّاهِدِ شَرْطٌ؛ لِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْكَافِرِ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ أَيْضًا وَالْكَلَامُ فِي الْقَبُولِ نَذْكُرهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَنَتَكَلَّمُ هَهُنَا فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِشَهَادَتِهِ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِالْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» وَلَا عَدَالَةَ مَعَ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ وَأَفْحَشُهُ فَلَا يَكُونُ الْكَافِرُ عَدْلًا فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ، وَلَنَا قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَقَوْلُهُ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ» وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ، وَالْكُفْرُ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ شَاهِدًا لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ بِوَلَايَةِ نَفْسِهِ وَلَا قَابِلًا لِلْعَقْدِ بِنَفْسِهِ، وَلَا جَوَازَ لِلْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ. وَكَذَا كَوْنُ شَاهِدِ النِّكَاحِ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ النِّكَاحِ بِحُضُورِهِ، وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ أَصْلًا كَمَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَهَادَةِ ابْنَيْهِ مِنْهَا، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْعَقِدُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي بَابِ النِّكَاحِ لِلْحَاجَةِ إلَى صِيَانَتِهِ عَنْ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ، وَالصِّيَانَةُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْقَبُولِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ لَا تَحْصُلُ الصِّيَانَةُ، وَلَنَا أَنَّ

فصل بيان وقت هذه الشهادة في النكاح

الِاشْتِهَارَ فِي النِّكَاحِ لِدَفْعِ تُهْمَةِ الزِّنَا لَا لِصِيَانَةِ الْعَقْدِ عَنْ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ، وَالتُّهْمَةُ تَنْدَفِعُ بِالْحُضُورِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ، عَلَى أَنَّ مَعْنَى الصِّيَانَةِ يَحْصُلُ بِسَبَبِ حُضُورِهِمَا وَإِنْ كَانَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَظْهَرُ وَيَشْتَهِرُ بِحُضُورِهِمَا، فَإِذَا ظَهَرَ وَاشْتَهَرَ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِيهِ بِالتَّسَامُعِ فَتَحْصُلُ الصِّيَانَةُ. وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَهَادَةِ ابْنَيْهِ لَا مِنْهَا أَوْ ابْنَيْهَا لَا مِنْهُ يَجُوزُ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ عِنْدَ وُقُوعِ الْحَجْرِ وَالْإِنْكَارِ يُنْظَرُ إنْ وَقَعَتْ شَهَادَتُهُمَا لِوَاحِدٍ مِنْ الْأَبَوَيْنِ لَا تُقْبَلُ وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الِابْنِ لِأَبَوَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَشَهَادَتَهُمَا عَلَيْهِ مَقْبُولَةٌ. وَلَوْ زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهُ مِنْ رَجُلٍ بِشَهَادَةِ ابْنَيْهِ وَهُمَا أَخَوَا الْمَرْأَةِ فَلَا يُشَكُّ أَنَّهُ يَجُوزُ النِّكَاحُ وَإِذَا وَقَعَ الْجُحُودُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ مَعَ الْجَاحِدِ مِنْهُمَا أَيُّهُمَا كَانَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ عَلَى الْأَبِ فَتُقْبَلُ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مَعَ الْمُدَّعِي مِنْهُمَا أَيُّهُمَا كَانَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُقْبَلُ فَأَبُو يُوسُفَ نَظَرَ إلَى الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ فَقَالَ: إذَا كَانَ الْأَبُ مَعَ الْمُنْكِرِ فَشَهَادَتُهُمَا تَقَعُ عَلَى الْأَبِ فَتُقْبَلُ، وَإِذَا كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي فَشَهَادَتُهُمَا تَقَعُ لِلْأَبِ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ كَانَ مِنْ الْأَبِ فَلَا تُقْبَلُ وَمُحَمَّدٌ نَظَرَ إلَى الْمَنْفَعَةِ وَعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ فَقَالَ: إنْ كَانَ لِلْأَبِ مَنْفَعَةٌ لَا تُقْبَلُ سَوَاءً كَانَ مُدَّعِيًا أَوْ مُنْكِرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْفَعَةٌ تُقْبَلُ. وَهَهُنَا لَا مَنْفَعَةَ لِلْأَبِ فَتُقْبَلُ وَالصَّحِيحُ نَظَرُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْقَبُولِ هُوَ التُّهْمَةُ، وَإِنَّهَا تَنْشَأُ عَنْ النَّفْعِ، وَكَذَلِكَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِهِ: إنْ كَلَّمَك زَيْدٌ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ قَالَ الْعَبْدُ كَلَّمَنِي زَيْدٌ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى فَشَهِدَ لِلْعَبْدِ ابْنَا زَيْدٍ أَنَّ أَبَاهُمَا قَدْ كَلَّمَهُ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ سَوَاءً كَانَ زَيْدٌ يَدَّعِي الْكَلَامَ أَوْ لَا يَدَّعِي؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِزَيْدٍ فِي الْكَلَامِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ كَانَ زَيْدٌ يَدَّعِي الْكَلَامَ لَا تُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَدَّعِي تُقْبَلُ وَكَذَلِكَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَنْ تَوَكَّلَ عَنْ غَيْرِهِ فِي عَقْدٍ ثُمَّ شَهِدَ ابْنَا الْوَكِيلِ عَلَى الْعَقْدِ فَإِنْ كَانَ حُقُوقُ الْعَقْدِ لَا تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ سَوَاءً ادَّعَى الْوَكِيلُ أَوْ لَمْ يَدَّعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ كَانَ يَدَّعِي لَا تُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا تُقْبَلُ. [فَصْلٌ بَيَانُ وَقْتِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ - وَهِيَ حُضُورُ الشُّهُودِ - فَوَقْتُهَا وَقْتُ وُجُودِ رُكْنِ الْعَقْدِ - وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ - لَا وَقْتُ وُجُودِ الْإِجَازَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْعَقْدُ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ فَحَضَرُوا عَقْدَ الْإِجَازَةِ وَلَمْ يَحْضُرُوا عِنْدَ الْعَقْدِ لَمْ تَجُزْ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطُ رُكْنِ الْعَقْدِ فَيُشْتَرَطُ وُجُودُهَا عِنْدَ الرُّكْنِ، وَالْإِجَازَةُ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ، بَلْ هِيَ شَرْطُ النَّفَاذِ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ وَعِنْدَ وُجُودِ الْإِجَازَةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالْعَقْدِ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ فَتُعْتَبَرُ الشَّهَادَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ - وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ -. [فَصْلٌ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُحَلَّلَةً] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُحَلَّلَةً وَهِيَ أَنْ لَا تَكُونَ مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ فَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا؛ لِأَنَّ الْإِنْكَاحَ إحْلَالٌ، وَإِحْلَالُ الْمُحَرَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ مُحَالٌ وَالْمُحَرَّمَاتُ عَلَى التَّأْبِيدِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:. مُحَرَّمَاتٌ بِالْقَرَابَةِ وَمُحَرَّمَاتٌ بِالْمُصَاهَرَةِ وَمُحَرَّمَاتٌ بِالرَّضَاعِ. أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فَالْمُحَرَّمَاتُ بِالْقَرَابَةِ سَبْعُ فِرَقٍ: الْأُمَّهَاتُ وَالْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] الْآيَةَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ تَحْرِيمِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ، فَإِمَّا أَنْ يُعْمَلَ بِحَقِيقَةِ هَذَا الْكَلَامِ حَقِيقَةً وَيُقَالُ: بِحُرْمَةِ الْأَعْيَانِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهِيَ " مَنْعُ اللَّهِ تَعَالَى الْأَعْيَانَ عَنْ تَصَرُّفِنَا فِيهَا بِإِخْرَاجِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِذَلِكَ شَرْعًا، وَهُوَ التَّصَرُّفُ الَّذِي يُعْتَادُ إيقَاعُهُ فِي جِنْسِهَا وَهُوَ الِاسْتِمْتَاعُ وَالنِّكَاحُ. وَإِمَّا أَنْ يُضْمَرَ فِيهِ الْفِعْلُ وَهُوَ الِاسْتِمْتَاعُ وَالنِّكَاحُ فِي تَحْرِيمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحْرِيمَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا حُرِّمَ الِاسْتِمْتَاعُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ مُفِيدًا لِخُلُوِّهِ عَنْ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ فَكَانَ تَحْرِيمُ الِاسْتِمْتَاعِ تَحْرِيمًا لِلنِّكَاحِ، وَإِذَا حُرِّمَ النِّكَاحُ وَأَنَّهُ شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى الِاسْتِمْتَاعِ، وَالِاسْتِمْتَاعُ هُوَ الْمَقْصُودُ فَكَانَ تَحْرِيمُ الْوَسِيلَةِ تَحْرِيمًا لِلْمَقْصُودِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: يُحَرَّمُ عَلَى الرَّجُلِ أُمُّهُ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]

وَتُحَرَّمُ عَلَيْهِ جَدَّاتُهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَإِنْ عَلَوْنَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَهُنَّ أَوْلَادُ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ، فَكَانَتْ الْجَدَّاتُ أَقْرَبَ مِنْهُنَّ فَكَانَ تَحْرِيمُهُنَّ تَحْرِيمًا لِلْجَدَّاتِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى كَتَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ نَصًّا يَكُونُ تَحْرِيمًا لِلشَّتْمِ وَالضَّرْبِ دَلَالَةً، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَيْضًا وَتُحَرَّمُ عَلَيْهِ بَنَاتُهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى " وَبَنَاتُكُمْ " سَوَاءً كَانَتْ بِنْتَهُ مِنْ النِّكَاحِ أَوْ مِنْ السِّفَاحِ لِعُمُومِ النَّصِّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُحَرَّمُ عَلَيْهِ الْبِنْتُ مِنْ السِّفَاحِ؛ لِأَنَّ نَسَبَهَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ فَلَا تَكُونُ مُضَافَةً إلَيْهِ شَرْعًا فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ نَصِّ الْإِرْثِ وَالنَّفَقَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] وَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233] كَذَا هَهُنَا؛ وَلِأَنَّا نَقُولُ: بِنْتُ الْإِنْسَانِ اسْمٌ لِأُنْثَى مَخْلُوقَةٍ مِنْ مَائِهِ حَقِيقَةً، وَالْكَلَامُ فِيهِ فَكَانَتْ بِنْتَهُ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْإِضَافَةُ شَرْعًا إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ، وَهَذَا لَا يَنْفِي النِّسْبَةَ الْحَقِيقِيَّةَ؛ لِأَنَّ الْحَقَائِقَ لَا مَرَدَّ لَهَا وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْإِرْثِ وَالنَّفَقَةِ: إنَّ النِّسْبَةَ الْحَقِيقِيَّةَ ثَابِتَةٌ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ هُنَاكَ ثُبُوتَ النَّسَبِ شَرْعًا لِجَرَيَانِ الْإِرْثِ وَالنَّفَقَةِ لِمَعْنًى. وَمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ هَهُنَا فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ. وَتُحَرَّمُ بَنَاتُ بَنَاتِهِ وَبَنَاتُ أَبْنَائِهِ وَإِنْ سَفَلْنَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّهُنَّ أَقْرَبُ مِنْ بَنَاتِ الْأَخِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ وَمِنْ الْأَخَوَاتِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَخَوَاتِ أَوْلَادُ أَبِيهِ وَهُنَّ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِ فَكَانَ ذِكْرُ الْحُرْمَةِ هُنَاكَ ذِكْرًا لِلْحُرْمَةِ هَهُنَا دَلَالَةً وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَيْضًا، وَتُحَرَّمُ عَلَيْهِ أَخَوَاتُهُ وَعَمَّاتُهُ وَخَالَاتُهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ} [النساء: 23] سَوَاءٌ كُنَّ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ لِإِطْلَاقِ اسْمِ الْأُخْتِ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، وَيُحَرَّمُ عَلَيْهِ عَمَّةُ أَبِيهِ وَخَالَتُهُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ، وَعَمَّةُ أُمِّهِ وَخَالَتُهُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ بِالْإِجْمَاعِ. وَكَذَا عَمَّةُ جَدِّهِ وَخَالَتُهُ وَعَمَّةُ خَالَتِهِ وَخَالَتُهَا لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ تُحَرَّمُ بِالْإِجْمَاعِ، وَتُحَرَّمُ عَلَيْهِ بَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء: 23] وَبَنَاتُ بَنَاتِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ وَإِنْ سَفَلْنَ بِالْإِجْمَاعِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ حُرْمَةَ الْجَدَّاتِ وَبَنَاتِ الْبَنَاتِ وَنَحْوِهِنَّ مِمَّنْ ذَكَرْنَا يَثْبُتُ بِالنَّصِّ أَيْضًا؛ لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِنَّ فَإِنَّ جَدَّةَ الْإِنْسَانِ تُسَمَّى أُمًّا لَهُ، وَبِنْتَ بِنْتِهِ تُسَمَّى بِنْتًا لَهُ فَكَانَتْ حُرْمَتُهُنَّ ثَابِتَةً بِعَيْنِ النَّصِّ، لَكِنْ هَذَا لَا يَصِحُّ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا مُنَافَاةٌ؛؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْأُمِّ عَلَى الْجَدَّةِ وَإِطْلَاقَ اسْمِ الْبِنْتِ عَلَى بِنْتِ الْبِنْتِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَفَى اسْمَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ عَنْهُمَا كَانَ صَادِقًا فِي النَّفْيِ، وَهَذَا مِنْ الْعَلَامَاتِ الَّتِي يُفَرَّقُ بِهَا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَقَدْ ظَهَرَ أَمْرُ هَذِهِ التَّفْرِقَةِ فِي الشَّرْعِ أَيْضًا حَتَّى إنَّ مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: لَسْتَ أَنْتَ بِابْنِ فُلَانٍ لِجَدِّهِ لَا يَصِيرُ قَاذِفًا لَهُ حَتَّى لَا يُؤْخَذَ بِالْحَدِّ؛ وَلِأَنَّ نِكَاحَ هَؤُلَاءِ يُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَخْلُو عَنْ مُبَاسَطَاتٍ تَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَادَةً وَبِسَبَبِهَا تَجْرِي الْخُشُونَةُ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ يُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ فَكَانَ النِّكَاحُ سَبَبًا لِقَطْعِ الرَّحِمِ مُفْضِيًا إلَيْهِ، وَقَطْعُ الرَّحِمِ حَرَامٌ وَالْمُفْضِي إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَعُمُّ الْفِرَقَ السَّبْعِ؛ لِأَنَّ قَرَابَتَهُنَّ مُحَرَّمَةُ الْقَطْعِ وَاجِبَةُ الْوَصْلِ، وَيَخْتَصُّ الْأُمَّهَاتُ بِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ احْتِرَامَ الْأُمِّ وَتَعْظِيمَهَا وَاجِبٌ، وَلِهَذَا أُمِرَ الْوَلَدُ بِمُصَاحَبَةِ الْوَالِدَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ وَخَفْضِ الْجَنَاحِ لَهُمَا وَالْقَوْلِ الْكَرِيمِ وَنُهِيَ عَنْ التَّأْفِيفِ لَهُمَا فَلَوْ جَازَ النِّكَاحُ وَالْمَرْأَةُ تَكُونُ تَحْتَ أَمْرِ الزَّوْجِ، وَطَاعَتُهُ وَخِدْمَتُهُ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهَا لَلَزِمَهَا ذَلِكَ وَأَنَّهُ يَنْفِي الِاحْتِرَامَ فَيُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ وَتَحِلُّ لَهُ بِنْتُ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَبِنْتُ الْعَمِّ وَالْخَالِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ أَحَلَّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وَبَنَاتُ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ لَمْ يُذْكَرْنَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ فَكُنَّ مِمَّا وَرَاءَ ذَلِكَ فَكُنَّ مُحَلَّلَاتٍ. وَكَذَا عُمُومَاتُ النِّكَاحِ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ ثُمَّ خُصَّ عَنْهَا الْمُحَرَّمَاتُ الْمَذْكُورَاتُ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ فَبَقِيَ غَيْرُهُنَّ تَحْتَ الْعُمُومِ، وَقَدْ وَرَدَ نَصٌّ خَاصٌّ فِي الْبَابِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50] الْآيَةَ وَالْأَصْلُ فِيمَا يَثْبُتُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَثْبُتَ لِأُمَّتِهِ، وَالْخُصُوصُ بِدَلِيلٍ - وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ -.

فصل المحرمات بالمصاهرة

[فَصْلٌ الْمُحَرَّمَاتُ بِالْمُصَاهَرَةِ] فَصْلٌ) : وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَالْمُحَرَّمَاتُ بِالْمُصَاهَرَةِ أَرْبَعُ فِرَقٍ. الْفِرْقَةُ الْأُولَى: أُمُّ الزَّوْجَةِ وَجَدَّاتُهَا مِنْ قِبَلِ أَبِيهَا وَأُمِّهَا وَإِنْ عَلَوْنَ فَيُحَرَّمُ عَلَى الرَّجُلِ أُمُّ زَوْجَتِهِ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] سَوَاءً كَانَ دَخَلَ بِزَوْجَتِهِ أَوْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُد الْأَصْفَهَانِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ وَبِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ: إنَّ أُمَّ الزَّوْجَةِ لَا تُحَرَّمُ عَلَى الزَّوْجِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ مَا لَمْ يَدْخُلْ بِبِنْتِهَا حَتَّى إنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ مَاتَتْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَهُمْ يَجُوزُ. وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِثْلُ قَوْلِ الْعَامَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِثْلُ قَوْلِهِمْ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْمَوْتِ قَالَ: فِي الطَّلَاقِ مِثْلُ قَوْلِهِمَا وَفِي الْمَوْتِ مِثْلُ قَوْلِ الْعَامَّةِ وَجَعَلَ الْمَوْتَ كَالدُّخُولِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ فِي حَقِّ الْمَهْرِ وَكَذَا فِي حَقِّ التَّحْرِيمِ، احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] ذَكَرَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَعَطَفَ رَبَائِبَ النِّسَاءِ عَلَيْهِنَّ فِي التَّحْرِيمِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ ثُمَّ عَقَّبَ الْجُمْلَتَيْنِ بِشَرْطِ الدُّخُولِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ وَالِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَقِيبَ جُمَلٍ مَعْطُوفٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِحَرْفِ الْعَطْفِ كُلُّ جُمْلَةٍ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ لَا إلَى مَا يَلِيهِ خَاصَّةً كَمَنْ قَالَ: عَبْدُهُ حُرٌّ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَعَلَيْهِ حَجُّ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ فَعَلَ كَذَا أَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَهَذَا كَذَلِكَ فَيَنْصَرِفُ شَرْطُ الدُّخُولِ إلَى الْجُمْلَتَيْنِ جَمِيعًا فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِدُونِهِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: " وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ " كَلَامٌ تَامٌّ بِنَفْسِهِ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ إذْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] وَالْمَعْطُوفُ يُشَارِكُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي خَبَرِهِ وَيَكُونُ خَبَرُ الْأَوَّلِ خَبَرًا لِلثَّانِي كَقَوْلِهِ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو مَعْنَاهُ جَاءَنِي عَمْرٌو فَكَانَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] أَيْ: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَأَنَّهُ مُطْلَقٌ عَنْ شَرْطِ الدُّخُولِ فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الدُّخُولَ الْمَذْكُورَ فِي آخِرِ الْكَلِمَاتِ مُنْصَرِفٌ إلَى الْكُلِّ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا نَكَحَ الرَّجُلُ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَتَهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأُمَّ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَوْ مَاتَتْ عِنْدَهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَهَا، وَأَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَوْ مَاتَتْ عِنْدَهُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَبْهَمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَيْ: أَطْلَقُوا مَا أَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ قَالَ: الْآيَةُ مُبْهَمَةٌ أَيْ مُطْلَقَةٌ لَا يُفْصَلُ بَيْنَ الدُّخُولِ وَعَدَمِهِ وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ رُوِيَ الرُّجُوعُ عَنْهُ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ أَفْتَى بِذَلِكَ فِي الْكُوفَةِ فَلَمَّا أَتَى الْمَدِينَةَ وَلَقِيَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَاكَرَهُمْ رَجَعَ إلَى الْقَوْلِ بِالْحُرْمَةِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَتَى الْكُوفَةَ نَهَى مَنْ كَانَ أَفْتَاهُ بِذَلِكَ فَقِيلَ: إنَّهَا وَلَدَتْ أَوْلَادًا فَقَالَ: إنَّهَا وَإِنْ وَلَدَتْ وَلِأَنَّ هَذَا النِّكَاحَ يُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ؛ لِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَ بِنْتَهَا وَتَزَوَّجَ بِأُمِّهَا حَمَلَهَا ذَلِكَ عَلَى الضَّغِينَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْقَطِيعَةِ فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَقَطْعُ الرَّحِمِ حَرَامٌ فَمَا أَفْضَى إلَيْهِ يَكُونُ حَرَامًا لِهَذَا الْمَعْنَى حُرِّمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبِنْتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأُمِّهَا وَبَيْنَ عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا عَلَى مَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - بِخِلَافِ جَانِبِ الْأُمِّ حَيْثُ لَا تُحَرَّمُ بِنْتُهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ النِّكَاحِ هُنَاكَ لَا تُؤَدِّي إلَى الْقَطْعِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ فِي ظَاهِرِ الْعَادَاتِ تُؤْثِرُ بِنْتَهَا عَلَى نَفْسِهَا فِي الْحُظُوظِ وَالْحُقُوقِ، وَالْبِنْتُ لَا تُؤْثِرُ أُمَّهَا عَلَى نَفْسِهَا مَعْلُومٌ ذَلِكَ بِالْعَادَةِ. وَإِذَا جَاءَ الدُّخُولُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ؛ لِأَنَّهُ تَأَكَّدَتْ مَوَدَّتُهَا لِاسْتِيفَائِهَا حَظَّهَا فَتَلْحَقُهَا الْغَضَاضَةُ فَيُؤَدِّي إلَى الْقَطْعِ؛ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ

فصل المحرمات بالمصاهرة بنت الزوجة وبناتها وإن سفلن

تَثْبُتُ بِالدُّخُولِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْعَقْدُ عَلَى الْبِنْتِ سَبَبُ الدُّخُولُ بِهَا، وَالسَّبَبُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ، وَلِهَذَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فِي مَنْكُوحَةِ الْأَبِ وَحَلِيلَةِ الِابْنِ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُحَرَّمَ الرَّبِيبَةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ إلَّا أَنَّ شَرْطَ الدُّخُولِ هُنَاكَ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِي الْآيَةِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. (وَأَمَّا) قَوْلُهُمْ: إنَّ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ فِي آخِرِ كَلِمَاتٍ مَعْطُوفٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَالِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّه تَعَالَى مُلْحَقٌ بِالْكُلِّ فَنَقُولُ: هَذَا الْأَصْلُ مُسَلَّمٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّرْطِ الْمُصَرَّحِ بِهِ فَأَمَّا فِي الصِّفَةِ الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ فَمَمْنُوعٌ، بَلْ يُقْتَصَرُ عَلَى مَا يَلِيهِ فَإِنَّكَ تَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَمُحَمَّدٌ الْعَالِمُ فَتَقْتَصِرُ صِفَةِ الْعِلْمِ عَلَى الَّذِي يَلِيهِ دُونَ زَيْدٍ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] وَصَفَ إيَّاهُنَّ بِالدُّخُولِ بِهِنَّ لَا شَرَطَ، مَنْ ادَّعَى إلْحَاقَ الْوَصْفِ بِالشَّرْطِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ فَيَلْحَقُ الْكُلَّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا يَلِيه فَلَا يُلْحَقُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، وَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ وَالشُّبْهَةُ فِيهِ، فَالْقَوْلُ لِمَا فِيهِ الْحُرْمَةُ أَوْلَى احْتِيَاطًا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ إنْ كَانَتْ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ لَكِنَّ اللَّفْظَ مَتَى قُرِنَ بِهِ شَرْطٌ أَوْ صِفَةٌ لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ يَقْتَضِي وُجُودَهُ عِنْدَ وُجُودِهِ إمَّا لَا يَقْتَضِي عَدَمَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ، بَلْ عَدَمُهُ وَوُجُودُهُ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ وَالصِّفَةِ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ وَفِي نَفْسِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] وَلَوْ كَانَ التَّقْيِيدُ بِالْوَصْفِ نَافِيًا الْحُكْمَ فِي غَيْرِ الْمَوْصُوفِ لَكَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ كَافِيًا، وَنَحْنُ نَقُولُ بِحُرْمَةِ الْأُمِّ عِنْدَ الدُّخُولِ بِالرَّبِيبَةِ وَبِحُرْمَةِ الرَّبِيبَةِ عِنْدَ الدُّخُولِ بِالْأُمِّ بِظَاهِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَلَيْسَ فِيهَا نَفْيُ الْحُرْمَةِ عِنْدَ عَدَمِ الدُّخُولِ وَلَا إثْبَاتُهَا فَيَقِفُ عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى حُرْمَةِ الْأُمِّ بِدُونِ الدُّخُولِ بِبِنْتِهَا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَلَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى حُرْمَةِ الرَّبِيبَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالْأُمِّ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ -. وَأَمَّا جَدَّاتُ الزَّوْجَةِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهَا وَأُمِّهَا فَإِنَّهَا عُرِفَتْ حُرْمَتُهُنَّ بِالْإِجْمَاعِ وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى فِي الْأُمَّهَاتِ لَا بِعَيْنِ النَّصِّ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ اشْتِمَالَ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ عِنْدَ عَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا ثُمَّ إنَّمَا تُحَرَّمُ الزَّوْجَةُ وَجَدَّاتُهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ إذَا كَانَ صَحِيحًا فَأَمَّا إذَا كَانَ فَاسِدًا فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِالْعَقْدِ بَلْ بِالْوَطْءِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ الْمَسِّ عَنْ شَهْوَةٍ وَالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ عَنْ شَهْوَةٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الزَّوْجِ أُمَّ زَوْجَتِهِ مُضَافًا إلَيْهِ، وَالْإِضَافَةُ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ إلَّا بِهِ - وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ -. [فَصْلٌ الْمُحَرَّمَاتُ بِالْمُصَاهَرَةِ بِنْتُ الزَّوْجَةِ وَبَنَاتُهَا وَإِنْ سَفَلْنَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: فَبِنْتُ الزَّوْجَةِ وَبَنَاتُهَا وَبَنَاتُ بَنَاتِهَا وَبَنِيهَا وَإِنْ سَفَلْنَ. أَمَّا بِنْتُ زَوْجَتِهِ فَتُحَرَّمُ عَلَيْهِ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ إذَا كَانَ دَخَلَ بِزَوْجَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَلَا تُحَرَّمُ لِقَوْلِهِ: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] وَسَوَاءٌ كَانَتْ بِنْتُ زَوْجَتِهِ فِي حِجْرِهِ أَوْ لَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا تُحَرَّمُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ فِي حِجْرِهِ وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصًّا لِظَاهِرِ الْآيَةِ، قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِنْتَ الزَّوْجَةِ، وَبِوَصْفِ كَوْنِهَا فِي حِجْرِ زَوْجٍ فَيَتَقَيَّدُ التَّحْرِيمُ بِهَذَا الْوَصْفِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهَا إلَى الزَّوْجَةِ يُقَيِّدُ التَّحْرِيمَ بِهِ حَتَّى لَا يُحَرَّمُ عَلَى رَبِيبَتِهِ غَيْرُ الزَّوْجَةِ كَذَا هَذَا، وَلَنَا أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى حُكْمِ الْمَوْصُوفِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِ الْمَوْصُوفِ بِخِلَافِهِ، إذْ التَّنْصِيصُ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ فَتَثْبُتُ حُرْمَةُ بِنْتِ زَوْجَةِ الرَّجُلِ الَّتِي دَخَلَ بِأُمِّهَا وَهِيَ فِي حِجْرِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ تَثْبُتُ حُرْمَتُهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ كَوْنُ نِكَاحِهَا مُفْضِيًا إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حِجْرِهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْحِجْرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عُرْفَ النَّاسِ وَعَادَتَهُمْ أَنَّ الرَّبِيبَةَ تَكُونُ فِي حِجْرِ زَوْجِ أُمِّهَا عَادَةً فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا بَنَاتُ بَنَاتِ الرَّبِيبَةِ

فصل المحرمات بالمصاهرة فحليلة الابن من الصلب وإن سفل

وَبَنَاتُ أَبْنَائِهَا وَإِنْ سَفَلْنَ فَتَثْبُتُ حُرْمَتُهُنَّ بِالْإِجْمَاعِ وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ لَا بِعَيْنِ النَّصِّ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ عِنْدَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا. [فَصْلٌ الْمُحَرَّمَاتُ بِالْمُصَاهَرَةِ فَحَلِيلَةُ الِابْنِ مِنْ الصُّلْبِ وَإِنْ سَفَلَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ فَحَلِيلَةُ الِابْنِ مِنْ الصُّلْبِ وَابْنِ الِابْنِ وَابْنِ الْبِنْتِ وَإِنْ سَفَلَ فَتُحَرَّمُ عَلَى الرَّجُلِ حَلِيلَةُ ابْنِهِ مِنْ صُلْبِهِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] وَذِكْرُ الصُّلْبِ جَازَ أَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ الْخَاصِّيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الِابْنُ إلَّا مِنْ الصُّلْبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وَإِنْ كَانَ الطَّائِرُ لَا يَطِيرُ إلَّا بِجَنَاحَيْهِ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ الْقِسْمَةِ وَالتَّنْوِيعِ؛ لِأَنَّ الِابْنَ قَدْ يَكُونُ مِنْ الصُّلْبِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الرَّضَاعِ وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّبَنِّي أَيْضًا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا تَزَوَّجَ امْرَأَةَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ بَعْدَ مَا طَلَّقَهَا زَيْدٌ وَكَانَ ابْنًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّبَنِّي فَعَابَهُ الْمُنَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالُوا: إنَّهُ تَزَوَّجَ بِحَلِيلَةِ ابْنِهِ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37] وَلِأَنَّ حَلِيلَةَ الِابْنِ لَوْ لَمْ تُحَرَّمْ عَلَى الْأَبِ فَإِذَا طَلَّقَهَا الِابْنُ رُبَّمَا يَنْدَمُ عَلَى ذَلِكَ وَيُرِيدُ الْعَوْدَ إلَيْهَا فَإِذَا تَزَوَّجَهَا أَبُوهُ أَوْرَثَ ذَلِكَ الضَّغِينَةَ بَيْنَهُمَا. وَالضَّغِينَةُ تُوَرِّثُ الْقَطِيعَةَ، وَقَطْعُ الرَّحِمِ حَرَامٌ فَيَجِبُ أَنْ يُحَرَّمَ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْحَرَامِ وَلِهَذَا حُرِّمَتْ مَنْكُوحَةُ الْأَبِ عَلَى الِابْنِ كَذَا هَذَا سَوَاءٌ كَانَ دَخَلَ بِهَا الِابْنُ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ عَنْ شَرْطِ الدُّخُولِ وَالْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا؛ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ سَبَبٌ إلَى الدُّخُولِ وَالسَّبَبُ يُقَامُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ عَلَى مَا مَرَّ، وَحَلِيلَةُ ابْنِ الِابْنِ وَابْنِ الْبِنْتِ وَإِنْ سَفَلَ تُحَرَّمُ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى لَا بِعَيْنِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ ابْنَ الِابْنِ يُسَمَّى ابْنًا مَجَازًا لَا حَقِيقَةً فَإِذَا صَارَتْ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً لَمْ يَبْقَ الْمَجَازُ مُرَادًا لَنَا إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَا مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ - وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ -. [فَصْلٌ الْمُحَرَّمَاتُ بِالْمُصَاهَرَةِ فَمَنْكُوحَةُ الْأَبِ وَأَجْدَادِهِ وَإِنْ عَلَوْا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الرَّابِعَةُ فَمَنْكُوحَةُ الْأَبِ وَأَجْدَادِهِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَإِنْ عَلَوْا،. أَمَّا مَنْكُوحَةُ الْأَبِ: فَتُحَرَّمُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] وَالنِّكَاحُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْعَقْدُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَا؛ لِأَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ يَقَعُ عَلَى الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ فَتُحَرَّمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا نَذْكُرُ؛ وَلِأَنَّ نِكَاحَ مَنْكُوحَةِ الْأَبِ يُفْضِي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَارَقَهَا أَبُوهُ لَعَلَّهُ يَنْدَمُ فَيُرِيدُ أَنْ يُعِيدَهَا فَإِذَا نَكَحَهَا الِابْنُ أَوْحَشَهُ ذَلِكَ وَأَوْرَثَ الضَّغِينَةَ، وَذَلِكَ سَبَبُ التَّبَاعُدِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ تَفْسِيرُ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَقَطْعُ الرَّحِمِ حَرَامٌ فَكَانَ النِّكَاحُ سِرَّ سَبَبِ الْحَرَامِ وَأَنَّهُ تَنَاقُضٌ فَيُحَرَّمُ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ الَّذِي هُوَ أَثَرُ السَّفَهِ وَالْجَهْلِ جَلَّ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا. وَأَمَّا مَنْكُوحَةُ أَجْدَادِهِ فَتُحَرَّمُ بِالْإِجْمَاعِ وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى لَا بِعَيْنِ النَّصِّ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْجَمْعَ بَيْن الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ عِنْدَ عَدَمِ النَّافِي ثُمَّ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَتَثْبُتُ بِالْوَطْءِ الْحَلَالِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَتَّى إنَّ مَنْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ تُحَرَّمُ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا وَجَدَّاتُهَا وَإِنْ عَلَوْنَ وَبَنَاتُ بَنَاتِهَا وَإِنْ سَفَلْنَ وَتُحَرَّمُ هِيَ عَلَى أَبُ الْوَاطِئِ وَابْنِهِ وَعَلَى أَجْدَادِ أَجْدَادِ الْوَاطِئِ وَإِنْ عَلَوْا، وَعَلَى أَبْنَاءِ أَبْنَائِهِ وَإِنْ سَفَلُوا. وَكَذَا تَثْبُتُ بِالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَكَذَا بِالْوَطْءِ عَنْ شُبْهَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَتَثْبُتُ بِاللَّمْسِ فِيهِمَا عَنْ شَهْوَةٍ وَبِالنَّظَرِ إلَى فَرْجِهَا عَنْ شَهْوَةٍ عِنْدَنَا وَلَا تَثْبُتُ بِالنَّظَرِ إلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ بِشَهْوَةٍ وَلَا بِمَسِّ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ إلَّا عَنْ شَهْوَةٍ بِلَا خِلَافٍ. وَتَفْسِيرُ الشَّهْوَةِ هِيَ أَنْ يَشْتَهِيَ بِقَلْبِهِ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ بَاطِنٌ لَا وُقُوفَ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ، وَتَحَرُّكُ الْآلَةِ وَانْتِشَارُهَا هَلْ هُوَ شَرْطُ تَحْقِيقِ الشَّهْوَةِ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: شَرْطٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِشَرْطٍ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْمَسَّ وَالنَّظَرَ عَنْ شَهْوَةٍ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ ذَلِكَ كَالْعِنِّينِ وَالْمَجْبُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِالنَّظَرِ وَلَهُ فِي الْمَسِّ قَوْلَانِ، وَتَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا وَالْمَسِّ وَالنَّظَرِ بِدُونِ النِّكَاحِ وَالْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِالزِّنَا فَأَوْلَى أَنْ لَا تَثْبُتَ بِالْمَسِّ وَالنَّظَرِ بِدُونِ الْمِلْكِ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]

حَرَّمَ الرَّبَائِبَ الْمُضَافَةَ إلَى نِسَائِنَا الْمَدْخُولَاتِ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ مُضَافَةً إلَيْنَا بِالنِّكَاحِ فَكَانَ الدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ شَرْطَ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ، وَهَذَا دُخُولٌ بِلَا نِكَاحٍ فَلَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ وَلَا تَثْبُتُ بِالنَّظَرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْنَى الدُّخُولِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ وَلَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ فِي الْإِحْرَامِ، وَكَذَلِكَ اللَّمْسُ فِي قَوْلٍ وَفِي قَوْلٍ يَثْبُتُ لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ بِهَا مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ بِمَعْنَى الْوَطْءِ؛ وَلِهَذَا حُرِّمَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ كَمَا حُرِّمَ الْوَطْءُ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَتْبَعُ الْمَرْأَةَ حَرَامًا أَيَنْكِحُ ابْنَتَهَا؟ أَوْ يَتْبَعُ الْبِنْتَ حَرَامًا أَيَنْكِحُ أُمَّهَا؟ فَقَالَ: لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ إنَّمَا يُحَرِّمُ مَا كَانَ نِكَاحًا حَلَالًا» وَالتَّحْرِيمُ بِالزِّنَا تَحْرِيمُ الْحَرَامِ الْحَلَالَ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] وَالنِّكَاحُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً لَهُمَا عَلَى الِاشْتِرَاكِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً لِأَحَدِهِمَا مَجَازًا لِلْآخَرِ وَكَيْفَ مَا كَانَ يَجِبُ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِهِمَا جَمِيعًا إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا كَأَنَّهُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] عَقْدًا وَوَطْئًا وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُمُّهَا وَلَا ابْنَتُهَا» وَرُوِيَ «حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ النِّكَاحِ. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَلْعُونٌ مَنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا» وَلَوْ لَمْ يَكُنْ النَّظَرُ الْأَوَّلُ مُحَرِّمًا لِلثَّانِي - وَهُوَ النَّظَرُ إلَى فَرْجِ ابْنَتِهَا - لَمْ يَلْحَقْهُ اللَّعْنُ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى فَرْجِ الْمَرْأَةِ الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا صَحِيحًا مُبَاحٌ فَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ؟ فَإِذَا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ بِالنَّظَرِ فَبِالدُّخُولِ أَوْلَى وَكَذَا بِاللَّمْسِ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ دُونَ اللَّمْسِ فِي تَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهِمَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِالْإِنْزَالِ عَنْ الْمَسِّ وَلَا يَفْسُدُ بِالْإِنْزَالِ عَنْ النَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ وَفِي الْحَجِّ يَلْزَمُهُ بِالْمَسِّ عَنْ شَهْوَةٍ الدَّمُ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ عَنْ شَهْوَةٍ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، فَلَمَّا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ بِالنَّظَرِ فَبِالْمَسِّ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا دَاعِيًا إلَى الْجِمَاعِ إقَامَةً لِلسَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ كَمَا أُقِيمَ النَّوْمُ الْمُفْضِي إلَى الْحَدَثِ مَقَامَ الْحَدَثِ فِي انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الصَّلَاةِ، وَالْقُبْلَةُ وَالْمُبَاشَرَةُ فِي التَّسَبُّبِ وَالدَّعْوَةُ أَبْلَغُ مِنْ النِّكَاحِ فَكَانَ أَوْلَى بِإِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ؛ وَلِأَنَّ الْوَطْءَ الْحَلَالَ إنَّمَا كَانَ مُحَرِّمًا لِلْبِنْتِ بِمَعْنَى هُوَ مَوْجُودٌ هُنَا وَهُوَ أَنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبِنْتِهَا فِي الْوَطْءِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ وَطْءَ إحْدَاهُمَا يُذَكِّرُهُ وَطْءَ الْأُخْرَى فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَاضٍ وَطَرَهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَلْعُونٌ مَنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا» وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْوَطْءِ الْحَرَامِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهَا بَلْ هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي حُرْمَةَ رَبِيبَتِهِ الَّتِي هِيَ بِنْتُ امْرَأَتِهِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا مُطْلَقًا سَوَاءً دَخَلَ بِهَا بَعْدَ النِّكَاحِ أَوْ قَبْلَهُ بِالزِّنَا. وَاسْمُ الدُّخُولِ يَقَعُ عَلَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أَوْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الدُّخُولَ بَعْدَ النِّكَاحِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ هُوَ الْقَوْلُ بِالْحُرْمَةِ وَإِذَا اُحْتُمِلَ هَذَا وَاحْتُمِلَ هَذَا فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إثْبَاتُ الْحُرْمَةِ بِالدُّخُولِ فِي النِّكَاحِ، وَهَذَا يَنْفِي الْحُرْمَةَ بِالدُّخُولِ بِلَا نِكَاحٍ فَكَانَ هَذَا احْتِجَاجًا بِالْمَسْكُوتِ عَنْهُ وَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّتَنَا عَلَى إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ بِالْمَسِّ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الدُّخُولَ بِهِنَّ وَحَقِيقَةُ الدُّخُولِ بِالشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنْ إدْخَالِهِ فِي الْعَوْرَةِ إلَى الْحِصْنِ فَكَانَ الدُّخُولُ بِهَا هُوَ إدْخَالُهَا فِي الْحِصْنِ، وَذَلِكَ بِأَخْذِ يَدِهَا أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا لِيَكُونَ هُوَ الدَّاخِلُ بِهَا. فَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ، فَالْمَرْأَةُ هِيَ الدَّاخِلَةُ بِنَفْسِهَا فَدَلَّ أَنَّ الْمَسَّ مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ أَوْ يُحْتَمَلُ الْوَطْءُ وَيُحْتَمَلُ الْمَسُّ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِالْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ ضَعِيفٌ ثُمَّ هُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَلَئِنْ ثَبَتَ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ هُوَ الِاتِّبَاعُ لَا الْوَطْءُ وَاتِّبَاعُهَا أَنْ يُرَاوِدَهَا عَنْ نَفْسِهَا وَذَا لَا يُحَرِّمُ عِنْدَنَا إذْ الْمُحَرِّمُ هُوَ الْوَطْءُ وَلَا ذِكْرَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ -. (وَأَمَّا) النَّوْعُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْمُحَرَّمَاتُ بِالرَّضَاعَةِ. فَمَوْضِعُ بَيَانِهَا كِتَابُ الرَّضَاعِ فَكُلُّ مَنْ حَرُمَ لِقَرَابَةٍ مِنْ الْفِرَقِ السَّبْعِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَحْرُمُ بِالرَّضَاعَةِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ

فصل أنواع الجمع بين ذوات الأرحام منه جمع في النكاح

الْمُحَرَّمَاتِ بِالْقَرَابَةِ بَيَانَ إبْلَاغٍ وَبَيَّنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالرَّضَاعَةِ بَيَانَ كِفَايَةٍ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ عَلَى التَّصْرِيحِ وَالتَّنْصِيصِ إلَّا الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] لِيُعْلَمَ حُكْمُ غَيْرِ الْمَذْكُورِ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ بِالِاسْتِدْلَالِ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الرَّضَاعِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» ، وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ أَيْضًا. وَكَذَا كُلُّ مَنْ يَحْرُمُ مِمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ الْفِرَقِ الْأَرْبَعِ بِالْمُصَاهَرَةِ يَحْرُمُ بِالرَّضَاعِ، فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أُمُّ زَوْجَتِهِ وَبِنْتُهَا مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا أَنَّ الْأُمَّ تَحْرُمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ إذَا كَانَ صَحِيحًا، وَالْبِنْتُ لَا تَحْرُمُ إلَّا بِالدُّخُولِ بِالْإِحْرَامِ. وَكَذَا جَدَّاتُ الزَّوْجَةِ لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا، وَإِنْ عَلَوْنَ وَبَنَاتُ بَنَاتِهَا وَبَنَاتُ أَبْنَائِهَا وَإِنْ سَفَلْنَ مِنْ الرَّضَاعِ. وَكَذَا يَحْرُمُ حَلِيلَةُ ابْنِ الرَّضَاعِ وَابْنِ ابْنِ الرَّضَاعِ، وَإِنْ سَفَلَ عَلَى أَبِي الرَّضَاعِ وَأَبِي أَبِيهِ وَتَحْرُمُ مَنْكُوحَةُ أَبِي الرَّضَاعِ وَأَبِي أَبِيهِ، وَإِنْ عَلَا عَلَى ابْنِ الرَّضَاعِ وَابْنِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلَ وَكَذَا يَحْرُمُ بِالْوَطْءِ أُمُّ الْمَوْطُوءَةِ وَبِنْتُهَا مِنْ الرَّضَاعِ عَلَى الْوَاطِئِ. وَكَذَا جَدَّاتُهَا وَبَنَاتُ بَنَاتِهَا وَتَحْرُمُ الْمَوْطُوءَةُ عَلَى أَبِي الْوَاطِئِ وَابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ. وَكَذَا عَلَى أَجْدَادِهِ وَإِنْ عَلَوْا وَعَلَى أَبْنَاءِ أَبْنَائِهِ وَإِنْ سَفَلُوا سَوَاءٌ كَانَ الْوَطْءُ حَلَالًا بِأَنْ كَانَ يَمْلِكُ الْيَمِينَ أَوْ كَانَ الْوَطْءُ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ شُبْهَةِ نِكَاحٍ أَوْ كَانَ زِنًا، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يَحْرُمُ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ بِسَبَبِ النَّسَبِ وَسَبَبِ الْمُصَاهَرَةِ إلَّا فِي مَسْأَلَتَيْنِ يَخْتَلِفُ فِيهِمَا حُكْمُ الْمُصَاهَرَةِ وَالرَّضَاعِ نَذْكُرُهُمَا فِي كِتَابِ الرَّضَاعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ أَنْوَاعُ الْجَمْع بَيْنَ ذَوَاتِ الْأَرْحَامِ مِنْهُ جَمْعٌ فِي النِّكَاحِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا أَنْ لَا يَقَعَ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ الَّتِي يَتَزَوَّجُهَا جَمْعًا بَيْنَ ذَوَاتِ الْأَرْحَامِ وَلَا بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْجَمْعِ أَنَّ الْجَمْعَ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: جَمْعٌ بَيْنَ ذَوَاتِ الْأَرْحَامِ وَجَمْعٌ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّاتِ، أَمَّا. الْجَمْعُ بَيْنَ ذَوَاتِ الْأَرْحَامِ فَنَوْعَانِ: أَيْضًا جَمْعٌ فِي النِّكَاحِ وَجَمْعٌ فِي الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، أَمَّا. الْجَمْعُ بَيْنَ ذَوَاتِ الْأَرْحَامِ فِي النِّكَاحِ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي النِّكَاحِ حَرَامٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ، وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يُفْضِي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ؛ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الضَّرَّتَيْنِ ظَاهِرَةٌ، وَأَنَّهَا تُفْضِي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ حَرَامٌ فَكَذَا الْمُفْضِي، وَكَذَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبِنْتِهَا لِمَا قُلْنَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ قَرَابَةَ الْوِلَادِ مُفْتَرَضَةُ الْوَصْلِ بِلَا خِلَافٍ، وَاخْتُلِفَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ ذَوَاتَيْ رَحِمٍ مَحْرَمٍ سِوَى هَذَيْنِ الْجَمْعَيْنِ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا رَجُلًا لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأُخْرَى مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا أَيَّتُهُمَا كَانَتْ غَيْرَ عَيْنٍ كَالْجَمْعِ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَعَمَّتِهَا، وَالْجَمْعِ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَخَالَتِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَجُوزُ وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: الْجَمْعُ فِيمَا سِوَى الْأُخْتَيْنِ وَسِوَى الْمَرْأَةِ وَبِنْتِهَا لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ذَكَرَ الْمُحَرَّمَاتِ. وَذَكَرَ فِيمَا حَرَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَأَحَلَّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَالْجَمْعُ فِيمَا سِوَى الْأُخْتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ فِي التَّحْرِيمِ فَكَانَ دَاخِلًا فِي الْإِحْلَالِ إلَّا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبِنْتِهَا حُرِّمَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ قَرَابَةَ الْوِلَادِ أَقْوَى، فَالنَّصُّ الْوَارِدُ ثَمَّةَ يَكُونُ وَارِدًا هَهُنَا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أَخِيهَا وَلَا عَلَى ابْنَةِ أُخْتِهَا» ، وَزَادَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " لَا الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى وَلَا الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى " الْحَدِيثَ أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ عَمَّةً ثُمَّ بِنْتَ أَخِيهَا أَوْ خَالَةً ثُمَّ بِنْتَ أُخْتِهَا لَا يَجُوزُ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ بِنْتَ الْأَخِ أَوَّلًا ثُمَّ الْعَمَّةَ أَوْ بِنْتَ الْأُخْتِ أَوَّلًا ثُمَّ الْخَالَةَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِئَلَّا يُشْكِلَ أَنَّ حُرْمَةَ الْجَمْعِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ كَنِكَاحِ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ عَلَى الْأَمَةِ؛ وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ ذَوَاتَيْ رَحِمٍ مَحْرَمٍ فِي النِّكَاحِ سَبَبٌ لِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ؛ لِأَنَّ الضَّرَّتَيْنِ يَتَنَازَعَانِ وَيَخْتَلِفَانِ وَلَا يَأْتَلِفَانِ هَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ، وَأَنَّهُ حَرَامٌ، وَالنِّكَاحُ سَبَبٌ فَيَحْرُمُ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَيْهِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آخِرِ الْحَدِيثِ فِيمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّكُمْ لَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَقَطَعْتُمْ أَرْحَامَهُنَّ» وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ

فَإِنَّهُنَّ يَتَقَاطَعْنَ "، وَفِي بَعْضِهَا " أَنَّهُ يُوجِبُ الْقَطِيعَةَ ". وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقَرَابَةِ فِي النِّكَاحِ، وَقَالُوا: إنَّهُ يُوَرِّثُ الضَّغَائِنَ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَرِهَ الْجَمْعَ بَيْنَ بِنْتَيْ عَمَّيْنِ، وَقَالَ: لَا أُحَرِّمُ ذَلِكَ لَكِنْ أَكْرَهُهُ أَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِمَكَانِ الْقَطِيعَةِ، وَأَمَّا عَدَمُ الْحُرْمَةِ، فَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ بَيْنَهُمَا لَيْسَتْ بِمُفْتَرَضَةِ الْوَصْلِ. أَمَّا الْآيَةُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] أَيْ: مَا وَرَاءَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبِنْتِهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا مِمَّا قَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي هُوَ وَحْيٌ غَيْرُ مَتْلُوٍّ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مَعْلُولَةٌ بِقَطْعِ الرَّحِمِ، وَالْجَمْعُ هَهُنَا يُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ، فَكَانَتْ حُرْمَةً ثَابِتَةً بِدَلَالَةِ النَّصِّ فَلَمْ يَكُنْ مَا وَرَاءَ مَا حُرِّمَ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَبِنْتِ زَوْجٍ كَانَ لَهَا مِنْ قَبْلُ، أَوْ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَزَوْجَةٍ كَانَتْ لِأَبِيهَا وَهُمَا وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا رَحِمَ بَيْنَهُمَا فَلَمْ يُوجَدْ الْجَمْعُ بَيْنَ ذَوَاتَيْ رَحِمٍ. وَقَالَ زُفَرُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْبِنْتَ لَوْ كَانَتْ رَجُلًا لَكَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهَا مَنْكُوحَةُ أَبِيهِ فَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَإِنَّا نَقُولُ: الشَّرْطُ أَنْ تَكُونَ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَيَّتُهُمَا كَانَتْ بِحَيْثُ لَوْ قُدِّرَتْ رَجُلًا لَكَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأُخْرَى، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الشَّرْطُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَةَ مِنْهُمَا لَوْ كَانَتْ رَجُلًا لَكَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْأُخْرَى لَا تَكُونُ بِنْتَ الزَّوْجِ فَلَمْ تَكُنْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَلَوْ تَزَوَّجَ الْأُخْتَيْنِ مَعًا فَسَدَ نِكَاحُهُمَا؛ لِأَنَّ نِكَاحَهُمَا حَصَلَ جَمْعًا بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِفَسَادِ النِّكَاحِ بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا، ثُمَّ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ لَهُمَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا حُكْمَ لَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهِمَا فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْعُقْرُ وَعَلَيْهِمَا الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ الدُّخُولِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَوْضِعِهِ. وَإِنْ تَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى جَازَ نِكَاحُ الْأُولَى، وَفَسَدَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ وَلَا يَفْسُدُ نِكَاحُ الْأُولَى لِفَسَادِ نِكَاحِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ حَصَلَ بِنِكَاحِ الثَّانِيَةِ فَاقْتَصَرَ الْفَسَادُ عَلَيْهِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِيَةِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مَهْرَ وَلَا عِدَّةَ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُولَى مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّةُ الثَّانِيَةِ لِمَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عُقْدَتَيْنِ لَا يَدْرِي أَيَّتُهُمَا أُولَى لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي بَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا فَاسِدٌ بِيَقِينٍ - وَهِيَ مَجْهُولَةٌ - وَلَا يُتَصَوَّرُ حُصُولُ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ مِنْ الْمَجْهُولَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفْرِيقِ ثُمَّ إنْ ادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا هِيَ الْأُولَى وَلَا بَيِّنَةَ لَهَا يُقْضَى لَهَا بِنِصْفِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الصَّحِيحَ أَحَدُهُمَا، وَقَدْ حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا بِصُنْعِ الْمَرْأَةِ فَكَانَ الْوَاجِبُ نِصْفَ الْمَهْرِ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ التَّرْجِيحِ إذْ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ شَيْءٌ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ كَامِلًا، وَإِنْ قَالَتَا لَا نَدْرِي أَيَّتُنَا الْأُولَى لَا يُقْضَى لَهُمَا بِشَيْءٍ؛ لِكَوْنِ الْمُدَّعِيَةِ مِنْهُمَا مَجْهُولَةً إلَّا إذَا اصْطَلَحَتْ عَلَى شَيْءٍ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى لَهَا، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَعَمَّتُهَا وَخَالَتُهَا فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا، وَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي نِكَاحِ أُخْتِهَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا، وَكَذَلِكَ التَّزَوُّجُ بِامْرَأَةٍ هِيَ ذَاتُ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ امْرَأَةٍ بِعَقْدٍ مِنْهُ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا يَمْنَعُ صُلْبَ النِّكَاحِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ ذَوَاتَيْ الْمَحَارِمِ فَالْعِدَّةُ تَمْنَعُ مِنْهُ. وَكَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنْ الْأَجْنَبِيَّاتِ، وَالْخَامِسَةُ تَعْتَدُّ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْعِدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ أَوْ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ بِالْمَحْرَمِيَّةِ الطَّارِئَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ، أَوْ بِالدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ بِالْوَطْءِ فِي شُبْهَةٍ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ إلَّا فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِثْلُ قَوْلِنَا نَحْوَ

فصل الجمع في الوطء بملك اليمين

عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (وَجْهُ) قَوْلِهِ: إنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ قَدْ زَالَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِوُجُودِ الْمُزِيلِ لَهُ - وَهُوَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ أَوْ الْبَائِنُ - وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ لَزِمَهُ الْحَدُّ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْجَمْعُ فِي النِّكَاحِ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَلَنَا أَنَّ مِلْكَ الْحَبْسِ بِالْعَقْدِ قَائِمٌ، فَإِنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ مَنْعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ، وَحُرْمَةُ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ ثَابِتَةٌ وَالْفِرَاشُ قَائِمٌ حَتَّى لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، وَقَدْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا يَثْبُتُ النَّسَبُ، فَلَوْ جَازَ النِّكَاحُ لَكَانَ النِّكَاحُ جَمْعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ، وَلِأَنَّ هَذِهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ وَسِيلَةً إلَى أَحْكَامِ النِّكَاحِ فَكَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا مِنْ وَجْهٍ بِبَقَاءِ بَعْضِ أَحْكَامِهِ، وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ مُلْحَقٌ بِالثَّابِتِ مِنْ وَجْهٍ فِي بَابِ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ أُلْحِقَتْ الْأُمُّ وَالْبِنْتُ مِنْ وَجْهٍ بِالرَّضَاعَةِ بِالْأُمِّ وَالْبِنْتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِالْقَرَابَةِ، وَأُلْحِقَتْ الْمَنْكُوحَةُ مِنْ وَجْهٍ - وَهِيَ الْمُعْتَدَّةُ - بِالْمَنْكُوحَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي حُرْمَةِ النِّكَاحِ كَذَا هَذَا؛ وَلِأَنَّ الْجَمْعَ قَبْلَ الطَّلَاقِ إنَّمَا حُرِّمَ؛ لِكَوْنِهِ مُفْضِيًا إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، لِأَنَّهُ يُوَرِّثُ الضَّغِينَةَ، وَإِنَّهَا تُفْضِي إلَى الْقَطِيعَةِ، وَالضَّغِينَةُ هَهُنَا أَشَدُّ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ النِّعْمَةِ - وَهُوَ مِلْكُ الْحِلِّ - الَّذِي هُوَ سَبَبُ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ قَدْ زَالَ فِي حَقِّ الْمُعْتَدَّةِ، وَبِنِكَاحِ الثَّانِيَةِ يَصِيرُ جَمِيعُ ذَلِكَ لَهَا وَتَقُومُ مَقَامَهَا وَتَبْقَى هِيَ مَحْرُومَةُ الْحَظِّ لِلْحَالِّ مِنْ الْأَزْوَاجِ فَكَانَتْ الضَّغِينَةُ أَشَدَّ فَكَانَتْ أَدْعَى إلَى الْقَطِيعَةِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ عَلَائِقِ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَكَانَ لَهَا سَبِيلُ الْوُصُولِ إلَى زَوْجٍ آخَرَ فَتَسْتَوْفِي حَظَّهَا مِنْ الثَّانِي فَتُسَلَّى بِهِ فَلَا تَلْحَقُهَا الضَّغِينَةُ، أَوْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْهُ فِي حَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ فَلَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِدْلَال. وَلَوْ خَلَا بِامْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَتَزَوَّجْ أُخْتَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا؛ لِأَنَّهُ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالْخَلْوَةِ فَيُمْنَعُ نِكَاحُ الْأُخْتِ كَمَا لَوْ وَجَبَتْ بِالدُّخُولِ حَقِيقَةً. [فَصْلٌ الْجَمْعُ فِي الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْجَمْعُ فِي الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ مِثْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: (كُلُّ شَيْءٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْحَرَائِرِ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْإِمَاءِ إلَّا الْجَمْعَ) أَيْ: الْجَمْعَ فِي الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: (مَا أُحِبُّ أَنْ أُحِلَّهُ وَلَكِنْ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ، وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَفْعَلُهُ) فَخَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِيَ عَلِيًّا فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ لِي مِنْ الْأَمْرِ شَيْئًا لَجَعَلْت مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ نَكَالًا. وَقَوْلُ عُثْمَانَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ) عَنَى بِآيَةِ التَّحْلِيلِ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] وَبِآيَةِ التَّحْرِيمِ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] وَذَلِكَ مِنْهُ إشَارَةٌ إلَى تَعَارُضِ دَلِيلَيْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مَعَ التَّعَارُضِ، وَلِعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَالسُّنَّةُ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ جَمْعٌ فَيَكُونُ حَرَامًا. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْمَعَنَّ مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ» . وَأَمَّا قَوْلُ عُثْمَانَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ) فَالْأَخْذُ بِالْمُحَرَّمِ أَوْلَى عِنْدَ التَّعَارُضِ احْتِيَاطًا لِلْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْمَأْثَمُ بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ، وَلَا مَأْثَمَ فِي تَرْكِ الْمُبَاحِ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَبْضَاعِ هُوَ الْحُرْمَةُ وَالْإِبَاحَةُ بِدَلِيلٍ، فَإِذَا تَعَارَضَ دَلِيلُ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ تَدَافَعَا فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ لَا يَجُوزُ فِي الدَّوَاعِي مِنْ اللَّمْسِ وَالتَّقْبِيلِ وَالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ عَنْ شَهْوَةٍ؛ لِأَنَّ الدَّوَاعِيَ إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ إذَا عُرِفَ هَذَا، فَنَقُولُ: إذَا مَلَكَ أُخْتَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَطَأَ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا تَصِيرُ فِرَاشًا بِالْمِلْكِ، وَإِذَا وَطِئَ إحْدَاهُمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُخْرَى بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَطِئَ لَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ حَقِيقَةً. وَكَذَا إذَا مَلَكَ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ مَلَكَ أُخْتَهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُولَى لِمَا قُلْنَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُخْرَى بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَمْ يُحَرِّمْ فَرْجَ الْأُولَى عَلَى نَفْسِهِ إمَّا بِالتَّزْوِيجِ أَوْ بِالْإِخْرَاجِ عَنْ مِلْكِهِ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ بِالْبَيْعِ أَوْ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَطِئَ الْأُخْرَى لَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا

فصل أنواع الجمع بين الأجنبيات منه جمع في النكاح

فِي الْوَطْءِ حَقِيقَةً، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَوْ كَاتَبَهَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ الْأُخْرَى فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ بِالْكِتَابَةِ لَمْ يَمْلِكْ وَطْأَهَا غَيْرُهُ. وَقَالَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا: إنَّهُ لَوْ مَلَكَ فَرْجَ الْأُولَى غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُخْرَى حَتَّى تَحِيضَ الْأُولَى حَيْضَةً بَعْدَ وَطْئِهَا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَيَكُونُ جَامِعًا مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ فَيَسْتَبْرِئُهَا بِحَيْضَةٍ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَامِلٍ (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ حَرَّمَ فَرْجَهَا عَلَى الْمَوْلَى بِالْكِتَابَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا لَزِمَهُ الْعُقْرُ وَلَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ كَانَ الْمَهْرُ لَهَا لَا لِلْمَوْلَى، فَلَا يَصِيرُ بِوَطْءِ الْأُخْرَى جَامِعًا بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ. وَلَوْ تَزَوَّجَ جَارِيَةً وَلَمْ يَطَأْهَا حَتَّى مَلَكَ أُخْتَهَا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْمُشْتَرَاةَ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ يَثْبُتُ بِنَفْسِ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ يُقْصَدُ بِهِ الْوَطْءُ وَالْوَلَدُ فَصَارَتْ الْمَنْكُوحَةُ مَوْطُوءَةً حُكْمًا، فَلَوْ وَطِئَ الْمُشْتَرَاةَ لَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ. وَلَوْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ جَارِيَةٌ قَدْ وَطِئَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا وَتَزَوَّجَ أُخْتَ أُمِّ وَلَدِهِ جَازَ النِّكَاحُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنْ لَا يَطَأُ الزَّوْجَةَ مَا لَمْ يُحَرِّمْ فَرْجَ الْأَمَةِ الَّتِي فِي مِلْكِهِ أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ: إنَّ النِّكَاحَ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ بِهِ النَّسَبُ كَالْوَطْءِ، وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْمَمْلُوكَةَ هَهُنَا بَعْدَ نِكَاحِ أُخْتِهَا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ لَجَازَ، وَإِذَا كَانَ النِّكَاحُ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ يَصِيرُ بِالنِّكَاحِ جَامِعًا لَمَا بَيَّنَّا فِي الْوَطْءِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَنَا أَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِوَطْءٍ حَقِيقَةً وَلَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُلَاقِي الْأَجْنَبِيَّةَ، وَلَا يَجُوزُ وَطْءُ الْأَجْنَبِيَّةِ فَلَا يَكُونُ نِكَاحُهَا جَامِعًا بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ إلَّا أَنَّ النِّكَاحَ إذَا انْعَقَدَ يَجْعَلُ الْوَطْءَ مَوْجُودًا حُكْمًا بَعْدَ الِانْعِقَادِ لِمَا أَنَّ الْحُكْمَ الْمُخْتَصَّ بِالنِّكَاحِ هُوَ الْوَطْءُ، وَثَمَرَتُهُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْهُ الْوَلَدُ، وَلَا حُصُولَ لَهُ عَادَةً بِدُونِ الْوَطْءِ فَجَعَلَهُ الشَّارِعُ حُكْمًا وَاطِئًا بَعْدَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْفِرَاشِ فَلَوْ وَطِئَ الْمَمْلُوكَةَ لَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا وَطْئًا؛ وَلِأَنَّ الْأَمَةَ لَا تَصِيرُ فِرَاشًا بِنَفْسِ الْوَطْءِ عِنْدَنَا حَتَّى لَا يَثْبُتَ النَّسَبُ بِدُونِ الدَّعْوَةِ، فَلَا يَكُونُ نِكَاحُ أُخْتِهَا جَمْعًا بَيْنَهُمَا فِي الْفِرَاشِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ فِرَاشُهَا ضَعِيفٌ حَتَّى يَنْتَفِيَ نَسَبُ وَلَدِهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ، وَهُوَ مُجَرَّدُ النَّفْيِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ. وَكَذَا يُحْتَمَلُ النَّقْلُ إلَى غَيْرِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ النِّكَاحُ جَمْعًا بَيْنَهُمَا فِي الْفِرَاشِ مُطْلَقًا فَلَا يُمْنَعُ نَسَبُ وَلَدِهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ وَهُوَ مُجَرَّدُ النَّفْيِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ أُمِّ وَلَدِهِ الَّتِي تَعْتَدُّ مِنْهُ بِأَنَّهُ أَعْتَقَهَا وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيَجُوزُ أَنْ تَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا فِي عِدَّتِهَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ كِلَاهُمَا وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ كِلَاهُمَا (وَجْهُ) قَوْلِهِ: إنَّ هَذِهِ مُعْتَدَّةٌ، فَلَا يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِأُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا كَالْحُرَّةِ الْمُعْتَدَّةِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: إنَّ الْحُرْمَةَ فِي الْحُرَّةِ لِمَكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ وَلَمْ يُوجَدْ فِي أُمِّ الْوَلَدِ لِانْعِدَامِ النِّكَاحِ أَصْلًا؛ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ أَثَرُ فِرَاشِ الْمِلْكِ، وَحَقِيقَةُ الْفِرَاشِ فِيهَا لَا يَمْنَعُ النِّكَاحَ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَ أُمِّ وَلَدِهِ وَأَرْبَعَ نِسْوَةٍ قَبْلَ أَنْ يُعْتِقَهَا جَازَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِرَاشُ الْمِلْكِ حَقِيقَةً مَانِعًا فَأَثَرُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنَّمَا جَازَ نِكَاحُ أُخْتِ أُمِّ الْوَلَدِ قَبْلَ الْإِعْتَاقِ؛ لِضَعْفِ فِرَاشِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فَإِذَا أَعْتَقَهَا قَوِيَ فِرَاشُهَا، فَكَانَ نِكَاحُ أُخْتِهَا جَمْعًا بَيْنَهُمَا فِي الْفِرَاشِ وَهُوَ اسْتِلْحَاقُ نَسَبِ وَلَدَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ اسْتِلْحَاقُ نَسَبِ وَلَدِ أُخْتَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَلِهَذَا لَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَ أُمِّ وَلَدِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ الْمَنْكُوحَةِ حَتَّى يُزِيلَ فِرَاشَ أُمِّ الْوَلَدِ وَنِكَاحَ الْأَرْبَعِ وَإِنْ كَانَ جَمْعًا بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَهَا فِي الْفِرَاشِ، لَكِنْ الْجَمْعَ هَهُنَا فِي الْفِرَاشِ جَائِزٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَازَ قَبْلَ الْإِعْتَاقِ فَإِنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ أَرْبَعًا قَبْلَ الْإِعْتَاقِ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهُنَّ وَوَطْءُ أُمِّ الْوَلَدِ، فَكَذَا بَعْدَ الْإِعْتَاقِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ أَنْوَاع الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّاتِ مِنْهُ جَمْعٌ فِي النِّكَاحِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّاتِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا: جَمْعٌ فِي النِّكَاحِ وَجَمْعٌ فِي الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، أَمَّا. الْجَمْعُ فِي النِّكَاحِ فَنَقُولُ: لَا يَجُوزُ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ مِنْ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُبَاحُ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ التِّسْعِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُبَاحُ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] . فَالْأَوَّلُونَ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْأَعْدَادَ بِحَرْفِ الْوَاوِ، وَأَنَّهُ لِلْجَمْعِ، وَجُمْلَتُهَا تِسْعَةٌ، فَيَقْتَضِي إبَاحَةَ نِكَاحِ تِسْعٍ وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ تَزَوَّجَ

فصل الجمع في الوطء ودواعيه بملك اليمين

تِسْعَ نِسْوَةٍ وَهُوَ قُدْوَةُ الْأُمَّةِ، وَالْآخَرُونَ قَالُوا: الْمَثْنَى ضِعْفُ الِاثْنَيْنِ، وَالثُّلَاثُ ضِعْفُ الثَّلَاثَةِ، وَالرُّبَاعُ ضِعْفُ الْأَرْبَعَةِ فَجُمْلَتُهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ ثَمَانِ نِسْوَةٍ فَأَسْلَمْنَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعَةً وَفَارِقْ الْبَوَاقِيَ» أَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُفَارَقَةِ الْبَوَاقِي وَلَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ حَلَالًا لَمَا أَمَرَهُ فَدَلَّ أَنَّهُ مُنْتَهَى الْعَدَدِ الْمَشْرُوعِ - وَهُوَ الْأَرْبَعُ - وَلِأَنَّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ خَوْفَ الْجَوْرِ عَلَيْهِنَّ بِالْعَجْزِ عَنْ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِنَّ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِحُقُوقِهِنَّ وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] أَيْ: أَنْ لَا تَعْدِلُوا فِي الْقَسْمِ وَالْجِمَاعِ وَالنَّفَقَةِ فِي نِكَاحِ الْمَثْنَى وَالثُّلَاثِ وَالرُّبَاعِ فَوَاحِدَةً بِخِلَافِ نِكَاحِ رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ خَوْفَ الْجَوْرِ مِنْهُ غَيْرُ مَوْهُومٍ؛ لِكَوْنِهِ مُؤَيَّدًا عَلَى الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِنَّ بِالتَّأْبِيدِ الْإِلَهِيِّ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ آثَرَ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى وَالضِّيقَ عَلَى السَّعَةِ وَتَحَمُّلَ الشَّدَائِدِ وَالْمَشَاقِّ عَلَى الْهُوَيْنَا مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْأُمُورِ الثَّقِيلَةِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَسْبَابُ قَطْعِ الشَّهَوَاتِ وَالْحَاجَةِ إلَى النِّسَاءِ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يَقُومُ بِحُقُوقِهِنَّ دَلَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ بِاَللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهَا؛ لِأَنَّ الْمَثْنَى لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ الِاثْنَيْنِ وَلَا الثُّلَاثَ عَنْ الثُّلَاثِ وَالرُّبَاعَ عَنْ الْأَرْبَعِ، بَلْ أَدْنَى مَا يُرَادُ بِالْمَثْنَى مَرَّتَانِ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ، وَأَدْنَى مَا يُرَادُ بِالثُّلَاثِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ مِنْ الْعَدَدِ. وَكَذَا الرُّبَاعُ، وَذَلِكَ يَزِيدُ عَلَى التِّسْعَةِ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَلَا قَائِلَ بِهِ دَلَّ أَنَّ الْعَمَلَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ مُتَعَذِّرٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ تَأْوِيلٍ، وَلَهَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ نِكَاحِ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ كَأَنَّهُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: مَثْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ وَاسْتِعْمَالُ الْوَاوِ مَكَانَ أَوْ جَائِزٌ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَعْدَادِ عَلَى التَّدَاخُلِ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: " وَثُلَاثَ " تَدْخُلُ فِيهِ الْمَثْنَى، وَقَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَرُبَاعَ يَدْخُلُ فِيهِ الثُّلَاثُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 10] وَالْيَوْمَانِ الْأَوَّلَانِ دَاخِلَانِ فِي الْأَرْبَعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَ خَلْقُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ فِي يَوْمَيْنِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] فَيَكُونُ خَلْقُ الْجَمِيعِ فِي ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فَيُؤَدِّي إلَى الْخُلْفِ فِي خَبَرِ مَنْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْخُلْفُ، فَكَانَ عَلَى التَّدَاخُلِ، فَكَذَا هَهُنَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ الْأَوَّلُ دَاخِلًا فِي الثَّانِي وَالثَّانِي فِي الثَّالِثِ، فَكَانَ فِي الْآيَةِ إبَاحَةُ نِكَاحِ الْأَرْبَعِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى فِيمَا تَقَدَّمَ. [فَصْلٌ الْجَمْعُ فِي الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْجَمْعُ فِي الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَجَائِزٌ، وَإِنْ كَثُرَتْ الْجَوَارِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] أَيْ: إنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا فِي نِكَاحِ الْمَثْنَى وَالثُّلَاثِ وَالرُّبَاعِ بِإِيفَاءِ حُقُوقِهِنَّ فَانْكِحُوا وَاحِدَةً، وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا فِي وَاحِدَةٍ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كَأَنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: هَذَا أَوْ هَذَا، أَيْ: الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاحِدَةِ إلَى الْأَرْبَعِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُعَادَلَةِ وَعِنْدَ خَوْفِ الْجَوْرِ فِي ذَلِكَ الْوَاحِدَةُ مِنْ الْحَرَائِرِ وَعِنْدَ خَوْفِ الْجَوْرِ فِي نِكَاحِ الْوَاحِدَةِ هُوَ شِرَاءُ الْجَوَارِي وَالتَّسَرِّي بِهِنَّ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] ذَكَرَهُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْعَدَدِ وَقَالَ تَعَالَى: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْعَدَدِ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] مُطْلَقًا، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ فِي الزَّوْجَاتِ لِخَوْفِ الْجَوْرِ عَلَيْهِنَّ فِي الْقَسْمِ وَالْجِمَاعِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْإِمَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُنَّ قِبَلَ الْمَوْلَى فِي الْقَسْمِ وَالْجِمَاعِ. [فَصْلٌ أَنْ لَا يَكُونَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ هُوَ شَرْطُ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ» وَقَالَ عَلِيٌّ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (وَتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ وَلِلْحُرَّةِ الثُّلُثَانِ مِنْ الْقَسْمِ وَلِلْأَمَةِ الثُّلُثُ) وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ

تُنْبِئُ عَنْ الشَّرَفِ وَالْعِزَّةِ وَكَمَالِ الْحَالِ، فَنِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ إدْخَالٌ عَلَى الْحُرَّةِ مَنْ لَا يُسَاوِيهَا فِي الْقَسْمِ، وَذَلِكَ يُشْعِرُ بِالِاسْتِهَانَةِ وَإِلْحَاقِ الشَّيْنِ وَنُقْصَانِ الْحَالِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُتَزَوِّجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ لِلْحُرِّ عِنْدَهُ؛ لِعَدَمِ شَرْطِ الْجَوَازِ وَهُوَ عَدَمُ طَوْلِ الْحُرَّةِ، وَهَذَا شَرْطُ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَهُ فِي حَقِّ الْحُرِّ لَا فِي حَقِّ الْعَبْدِ لِمَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَذَا خُلُوُّ الْحُرَّةِ عَنْ الْعِدَّةِ شَرْطُ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ تَعْتَدُّ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْمُحَرَّمَ لَيْسَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ تَزَوَّجَ حُرَّةً جَازَ، وَقَدْ حَصَلَ الْجَمْعُ، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ هُوَ نِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ. وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ» وَلَا يَتَحَقَّقُ النِّكَاحُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَى امْرَأَتِهِ فَتَزَوَّجَ بَعْدَمَا أَبَانَهَا فِي عِدَّتِهَا لَا يَحْنَثُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ فِي عِدَّةِ الْحُرَّةِ نِكَاحٌ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ بَعْضَ آثَارِ النِّكَاحِ قَائِمٌ فَكَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا مِنْ وَجْهٍ، فَكَانَ نِكَاحُهَا عَلَيْهَا مِنْ وَجْهٍ، وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ مُلْحَقٌ بِالثَّابِتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا فَيُحَرَّمُ كَنِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا عَدَمُ طَوْلِ الْحُرَّةِ - وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى مَهْرِ الْحُرَّةِ - وَخَشْيَةُ الْعَنَتِ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي نِكَاحِ الْمُتَزَوِّجِ حُرَّةٌ وَلَا فِي عِدَّةِ حُرَّةٍ. وَعِنْدَهُمَا خُلُوُّ الْحُرَّةِ عَنْ عِدَّةِ الْبَيْنُونَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِجَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي نِكَاحِهِ حُرَّةٌ وَأَنْ لَا يَكُونَ قَادِرًا عَلَى مَهْرِ الْحُرَّة وَأَنْ يَخْشَى الْعَنَتَ حَتَّى إذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ أَمَةٌ يَطَؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ خَشْيَةِ الْعَنَتِ، وَكَذَلِكَ الْحُرُّ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ أَمَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً وَاحِدَةً لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً أُخْرَى؛ لِزَوَالِ خَشْيَةِ الْعَنَتِ بِالْوَاحِدَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ طَوْلَ الْحُرَّةِ لَا يَمْنَعُ الْعَبْدَ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] وَمَنْ " كَلِمَةُ شَرْطٍ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْعَجْزَ عَنْ طَوْلِ الْحُرَّةِ شَرْطًا لِجَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ، فَيَتَعَلَّقُ الْجَوَازُ بِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] وَهُوَ الزِّنَا شَرَطَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَشْيَةَ الْعَنَتِ؛ لِجَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ، فَيَتَقَيَّدُ الْجَوَازُ بِهَذَا الشَّرْطِ أَيْضًا، وَلِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْإِمَاءِ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ لِمَا يَتَضَمَّنُ نِكَاحَهُنَّ مِنْ إرْقَاقِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ مَاءَ الْحُرِّ حُرٌّ تَبَعًا لَهُ، وَكَانَ فِي نِكَاحِ الْحُرِّ الْأَمَةَ إرْقَاقُ حُرٍّ جُزْءًا وَإِلَى هَذَا أَشَارَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ " (أَيُّمَا حُرٍّ تَزَوَّجَ أَمَةً فَقَدْ أَرَّقَ نِصْفَهُ وَأَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ حُرَّةً فَقَدْ أَعْتَقَ نِصْفَهُ) وَلَا يَجُوزُ إرْقَاقُ الْجُزْءِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلِهَذَا إذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِرْقَاقَ إهْلَاكٌ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِعًا بِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَيَصِيرُ مُلْحَقًا بِالْبَهَائِمِ، وَهَلَاكُ الْجُزْءِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لَا يَجُوزُ كَقَطْعِ الْيَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا ضَرُورَةَ حَالَةَ الْقُدْرَةِ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ، فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ إذَا كَانَتْ حُرَّةً لِارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ بِالْحُرَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُتَزَوِّجُ عَبْدًا؛ لِأَنَّ نِكَاحَهُ لَيْسَ إرْقَاقَ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ مَاءَهُ رَقِيقٌ تَبَعًا لَهُ، وَإِرْقَاقُ الرَّقِيقِ لَا يُتَصَوَّرُ وَلَنَا عُمُومَاتُ النِّكَاحِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى مَهْرِ الْحُرَّةِ وَعَدَمِهَا، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مَصْلَحَةٍ فِي الْأَصْلِ؛ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، فَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ هُوَ الْجَوَازَ إذَا صَدَرَ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ وَقَدْ وَجَدُوا الْآيَةَ، فَفِيهَا إبَاحَةُ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَ عَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ، وَهَذَا لَا يَنْفِي الْإِبَاحَةَ عِنْدَ وُجُودِ

فصل أن لا تكون منكوحة الغير

الطَّوْلِ، فَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَنَا يَقْتَضِي الْوُجُودَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إمَّا لَا يَقْتَضِي الْعَدَمَ عِنْدَ عَدَمِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] ثُمَّ إذَا تَزَوَّجَ وَاحِدَةً جَازَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ الْجَوْرِ فِي نِكَاحِ الْمَثْنَى وَالثُّلَاثِ وَالرُّبَاعِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي الْإِمَاءِ: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحَدِّ عَنْهُنَّ عِنْدَ عَدَمِ الْإِحْصَانِ، وَهُوَ التَّزَوُّجُ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] عَلَى أَنَّ الْعَنَتَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الضِّيقُ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] أَيْ: لَضَيَّقَ عَلَيْكُمْ، أَيْ: مَنْ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَالْإِسْكَانُ لِتَرْكِ الْحُرَّةِ بِالطَّلَاقِ وَتَزَوُّجِ الْأَمَةِ فَالطَّوْلُ الْمَذْكُورُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَهْرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْوَطْءِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ بَلْ حَقِيقَةُ الْوَطْءِ عَلَى مَا عُرِفَ فَكَانَ مَعْنَاهُ فَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ مِنْكُمْ عَلَى وَطْءِ الْمُحْصَنَاتِ - وَهِيَ الْحَرَائِرُ - وَالْقُدْرَةُ عَلَى وَطْءِ الْحُرَّةِ إنَّمَا يَكُونُ فِي النِّكَاحِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ: إنَّ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى وَطْءِ الْحُرَّةِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحِهِ حُرَّةٌ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ. وَمَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ فِي نِكَاحِهِ حُرَّةٌ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَنُقِلَ هَذَا التَّأْوِيلُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ عَلَى أَنَّ فِيهَا إبَاحَةَ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَ عَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ، وَهَذَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ فِي الْجَوَابِ عَنْ التَّعْلِيقِ بِالْآيَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: نِكَاحُ الْأَمَةِ يَتَضَمَّنُ إرْقَاقَ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ مَاءَ الْحُرِّ حُرٌّ فَنَقُولُ: إنْ عَنَى بِهِ إثْبَاتَ حَقِيقَةِ الرِّقِّ فَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ جَمَادٌ لَا يُوصَفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَإِنْ عَنَى بِهِ النَّسَبَ إلَى حُدُوثِ رِقِّ الْوَلَدِ، فَهَذَا مُسَلَّمٌ لَكِنَّ أَثَرَ هَذَا فِي الْكَرَاهَةِ لَا فِي الْحُرِّيَّةِ، فَإِنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ فِي حَالِ طَوْلِ الْحُرَّةِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ نِكَاحُهَا مُبَاشَرَةَ سَبَبِ حُدُوثِ الرِّقِّ عِنْدَنَا، فَكُرِهَ نِكَاحُ الْأَمَةِ مَعَ طَوْلِ الْحُرَّةِ. وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً وَحُرَّةً فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ نِكَاحُ الْحُرَّةِ وَبَطَلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبَتِهَا مَدْخُولَةٌ عَلَيْهَا فَيُعْتَبَرُ حَالَةُ الِاجْتِمَاعِ بِحَالِ الِانْفِرَادِ فَيَجُوزُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا عَلَى الْأَمَةِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ جَائِزٌ، فَكَذَا حَالَةُ الِاجْتِمَاعِ وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا عَلَى الْحُرَّةِ وَإِدْخَالَهَا عَلَيْهَا لَا يَجُوزُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ، فَكَذَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَاكَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَالْجَمْعُ حَصَلَ بِهِمَا فَبَطَلَ نِكَاحُهُمَا، وَهَاهُنَا الْمُحَرَّمُ هُوَ إدْخَالُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ لَا الْجَمْعُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ نِكَاحُ الْأَمَةِ مُتَقَدِّمًا عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ جَازَ نِكَاحُ الْحُرَّةِ، وَإِنْ وُجِدَ الْجَمْعُ فَكَذَلِكَ إذَا اقْتَرَنَ الْأَمْرَانِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَم. وَكَذَلِكَ إذَا جَمَعَ بَيْنَ أَجْنَبِيَّةٍ وَذَاتِ مَحَارِمِهِ جَازَ نِكَاحُ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَبَطَلَ نِكَاحُ الْمَحْرَمِ، وَيُعْتَبَرُ حَالَةُ الِاجْتِمَاعِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ، وَهَلْ يَنْقَسِمُ الْمَهْرُ عَلَيْهِمَا؟ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؟ لَا يَنْقَسِمُ وَيَكُونُ كُلُّهُ لِلْأَجْنَبِيَّةِ وَعِنْدَهُمَا يَنْقَسِمُ الْمُسَمَّى عَلَى قَدْرِ مَهْرِ مِثْلِهَا. [فَصْلٌ أَنْ لَا تَكُونَ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلَى قَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] وَهُنَّ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ، وَسَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا إلَّا الْمَسْبِيَّةَ الَّتِي هِيَ ذَاتُ زَوْجٍ سُبِيَتْ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] عَامٌّ فِي جَمِيعِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ ثُمَّ اسْتَثْنَى تَعَالَى مِنْهَا الْمَمْلُوكَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] وَالْمُرَادُ مِنْهَا الْمَسْبِيَّاتُ اللَّاتِي سُبِينَ، وَهُنَّ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ لِيَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَيَقْتَضِي حُرْمَةَ نِكَاحِ كُلِّ ذَاتِ زَوْجٍ إلَّا الَّتِي سُبِيَتْ كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كُلُّ ذَاتِ زَوْجٍ إتْيَانُهَا زِنًا إلَّا مَا سُبِيَتْ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الَّتِي سُبِيَتْ وَحْدَهَا وَأُخْرِجَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ ثَبَتَتْ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ عِنْدَنَا لَا بِنَفْسِ السَّبْيِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَصَارَتْ هِيَ فِي حُكْمِ الذِّمِّيَّةِ؛ وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَ رَجُلَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ يُفْسِدُ الْفِرَاشَ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ اشْتِبَاهَ النَّسَبِ وَتَضْيِيعَ الْوَلَدِ وَفَوَاتَ السَّكَنِ وَالْأُلْفَةِ وَالْمَوَدَّةِ فَيَفُوتُ مَا وُضِعَ النِّكَاحُ لَهُ. [فَصْلٌ أَنْ لَا تَكُونَ مُعْتَدَّةَ الْغَيْرِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ مُعْتَدَّةَ الْغَيْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] أَيْ: مَا كُتِبَ عَلَيْهَا مِنْ التَّرَبُّصِ، وَلِأَنَّ بَعْضَ أَحْكَامِ النِّكَاحِ حَالَةَ الْعَدَمِ قَائِمٌ فَكَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا مِنْ وَجْهٍ. وَالثَّابِتُ

فصل أن لا يكون بها حمل ثابت النسب من الغير

مِنْ وَجْهٍ كَالثَّابِتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ بِالْخِطْبَةِ فِي حَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ خِطْبَتَهَا بِالنِّكَاحِ دُونَ حَقِيقَةِ النِّكَاحِ فَمَا لَمْ تَجُزْ الْخِطْبَةُ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ الْعَقْدُ أَوْلَى، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْعِدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ أَوْ عَنْ وَفَاةٍ أَوْ دُخُولٍ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ شُبْهَةِ نِكَاحٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ، وَيَجُوزُ لِصَاحِبِ الْعِدَّةِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ آخَرُ غَيْرُ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقُّهُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] أَضَافَ الْعِدَّةَ إلَى الْأَزْوَاجِ فَدَلَّ أَنَّهَا حَقُّ الزَّوْجِ، وَحَقُّ الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْمَسْبِيَّةِ بِغَيْرِ السَّابِي إذَا سُبِيَتْ وَحْدَهَا دُونَ زَوْجِهَا وَأُخْرِجَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمَسْبِيَّاتُ اللَّاتِي هُنَّ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ فَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمَسْبِيَّةَ لِلْمَوْلَى السَّابِي إذْ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ، وَقَدْ أَحَلَّهَا عَزَّ وَجَلَّ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ الْمُهَاجِرَةُ وَهِيَ الْمَرْأَةُ خَرَجَتْ إلَيْنَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمَةً مُرَاغِمَةً لِزَوْجِهَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: إنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِتَبَايُنِ الدَّارِ فَتَقَعُ بَعْدَ دُخُولِهَا دَارَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ بَعْدَ الدُّخُولِ مُسْلِمَةٌ وَفِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَتَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ كَسَائِرِ الْمُسْلِمَاتِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] أَبَاحَ تَعَالَى نِكَاحَ الْمُهَاجِرَةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْعِدَّةِ وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] نَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْإِمْسَاكِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْ نِكَاحِ الْمُهَاجِرَةِ لِأَجْلِ عِصْمَةِ الزَّوْجِ الْكَافِرِ وَحُرْمَتِهِ، فَالِامْتِنَاعُ عَنْ نِكَاحِهَا لِلْعِدَّةِ، وَالْعِدَّةُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ يَكُونُ إمْسَاكًا وَتَمَسُّكًا بِعِصْمَةِ زَوْجِهَا الْكَافِرِ، وَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى لِلْحَرْبِيِّ عَلَى الْمُسْلِمَةِ الْخَارِجَةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ حَقٌّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنْ لَا عِدَّةَ عَلَى الْمَسْبِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ فِي حُكْمِ الذِّمِّيَّةِ تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَنْقَطِعُ عَنْهَا حَقُّ الزَّوْجِ الْكَافِرِ، فَالْمُهَاجِرَةُ الْمُسْلِمَةُ حَقِيقَةٌ لَأَنْ يَنْقَطِعَ عَنْهَا حَقُّ الزَّوْجِ الْكَافِرِ أَوْلَى هَذَا إذَا هَاجَرَتْ إلَيْنَا - وَهِيَ حَائِلٌ - فَأَمَّا إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَفِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَسَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ أَنْ لَا يَكُونَ بِهَا حَمْلٌ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ بِهَا حَمْلٌ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ فَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَدَّةً كَمَنْ تَزَوَّجَ أُمَّ وَلَدِ إنْسَانٍ - وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ مَوْلَاهَا - لَا يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَدَّةً لِوُجُودِ حَمْلٍ ثَابِتِ النَّسَبِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ إذَا كَانَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ - وَمَاؤُهُ مُحَرَّمٌ - لَزِمَ حِفْظُ حُرْمَةِ مَائِهِ بِالْمَنْعِ مِنْ النِّكَاحِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً حَامِلًا مِنْ الزِّنَا أَنَّهُ يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَكِنْ لَا يَطَؤُهَا حَتَّى تَضَعَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: (لَا يَجُوزُ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا الْحَمْلَ يَمْنَعُ الْوَطْءَ فَيَمْنَعُ الْعَقْدَ أَيْضًا كَالْحَمْلِ الثَّابِتِ النَّسَبِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النِّكَاحِ هُوَ حِلُّ الْوَطْءِ فَإِذَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ مُفِيدًا فَلَا يَجُوزُ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ إذَا كَانَ الْحَمْلُ ثَابِتَ النَّسَبِ كَذَا هَذَا (وَلَهُمَا) أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ نِكَاحِ الْحَامِلِ حَمْلًا ثَابِتَ النَّسَبِ؛ لِحُرْمَةِ مَاءِ الْوَطْءِ وَلَا حُرْمَةَ لِمَاءِ الزِّنَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حُرْمَةٌ لَا يُمْنَعُ جَوَازُ النِّكَاحِ إلَّا أَنَّهَا لَا تُوطَأُ حَتَّى تَضَعَ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِيَنَّ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يَحِلُّ لِرَجُلَيْنِ يُؤْمِنَا بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ» وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ بِعَارِضٍ طَارِئٍ عَلَى الْمَحَلِّ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ لَا بَقَاءً وَلَا ابْتِدَاءً كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ. وَأَمَّا الْمُهَاجِرَةُ إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا، وَهُوَ إحْدَى رِوَايَتَيْ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ

فصل أن يكون للزوجين ملة يقران عليها

رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهَا، وَلَكِنَّهَا لَا تُوطَأُ حَتَّى تَضَعَ (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَاءَ الْحَرْبِيِّ لَا حُرْمَةَ لَهُ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَاءِ الزَّانِي وَذَا لَا يُمْنَعُ جَوَازُ النِّكَاحِ كَذَا هَذَا إلَّا أَنَّهَا لَا تُوطَأُ حَتَّى تَضَعَ لِمَا رَوَيْنَا (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ هَذَا حَمْلٌ ثَابِتُ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ أَنْسَابَ أَهْلِ الْحَرْبِ ثَابِتَةٌ فَيُمْنَعُ جَوَازُ النِّكَاحِ كَسَائِرِ الْأَحْمَالِ الثَّابِتَةِ النَّسَبِ وَالطَّحَاوِيُّ اعْتَمَدَ رِوَايَةَ أَبِي يُوسُفَ، وَالْكَرْخِيِّ رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ وَهِيَ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ نِكَاحِ الْحَامِلِ لَيْسَتْ لِمَكَانِ الْعِدَّةِ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّهَا قَدْ تَثْبُتُ عِنْدَ عَدَمِ الْعِدَّةِ كَأُمِّ الْوَلَدِ إذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْ مَوْلَاهَا بَلْ لِثُبُوتِ نَسَبِ الْحَمْلِ كَمَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ، وَالْحَمْلُ هَهُنَا ثَابِتُ النَّسَبِ فَيُمْنَعُ النِّكَاحُ، وَعَلَى هَذَا نِكَاحُ الْمَسْبِيَّةِ دُونَ الزَّوْجِ إذَا كَانَتْ حَامِلًا وَأُخْرِجَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْوَضْعِ وَلَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ بِحَيْضَةٍ إذَا كَانَتْ حَامِلًا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ: «أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يَسْتَبْرِئْنَ بِحَيْضَةٍ» . [فَصْلٌ أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجَيْنِ مِلَّةٌ يُقَرَّانِ عَلَيْهَا] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجَيْنِ مِلَّةٌ يَقِرَّانِ عَلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُرْتَدًّا لَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ أَصْلًا لَا بِمُسْلِمٍ وَلَا بِكَافِرٍ غَيْرِ مُرْتَدٍّ، وَالْمُرْتَدُّ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ وَلَا يَقِرُّ عَلَى الرِّدَّةِ بَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ إمَّا بِالْقَتْلِ إنْ كَانَ رَجُلًا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِمَّا بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ إنْ كَانَتْ امْرَأَةً عِنْدَنَا إلَى أَنْ تَمُوتَ أَوْ تُسْلِمَ فَكَانَتْ الرِّدَّةُ فِي مَعْنَى الْمَوْتِ لِكَوْنِهَا سَبَبًا مُفْضِيًا إلَيْهِ، وَالْمَيِّتُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مِلْكٌ مَعْصُومٌ وَلَا عِصْمَةَ مَعَ الْمُرْتَدَّةِ؛ وَلِأَنَّ نِكَاحَ الْمُرْتَدِّ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ فَلَا يَجُوزُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الرِّدَّةَ لَوْ اعْتَرَضَتْ عَلَى النِّكَاحِ رَفَعَتْهُ فَإِذَا قَارَنَتْهُ تَمْنَعُهُ مِنْ الْوُجُودِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى كَالرَّضَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ. [فَصْلٌ أَنْ لَا تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُشْرِكَةً إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُشْرِكَةً إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَنْكِحَ الْمُشْرِكَةَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ الْكِتَابِيَّةَ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] . وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَنْكِحَ الْكَافِرَةَ؛ لِأَنَّ ازْدِوَاجَ الْكَافِرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ مَعَهَا مَعَ قِيَامِ الْعَدَاوَةِ الدِّينِيَّةِ لَا يَحْصُلُ السَّكَنُ وَالْمَوَدَّةُ الَّذِي هُوَ قِوَامُ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ إلَّا أَنَّهُ جَوَّزَ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّةِ؛ لِرَجَاءِ إسْلَامِهَا؛ لِأَنَّهَا آمَنَتْ بِكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا نُقِضَتْ الْجُمْلَةُ بِالتَّفْصِيلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا أُخْبِرَتْ عَنْ الْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ حَقِيقَتِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مَتَى نُبِّهَتْ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ تَنَبَّهَتْ، وَتَأْتِي بِالْإِيمَانِ عَلَى التَّفْصِيلِ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَتْ أَتَتْ بِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الَّتِي بُنِيَ أَمْرُهَا عَلَى الدَّلِيلِ دُونَ الْهَوَى وَالطَّبْعِ، وَالزَّوْجُ يَدْعُوهَا إلَى الْإِسْلَامِ وَيُنَبِّهُهَا عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فَكَانَ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِ إيَّاهَا رَجَاءُ إسْلَامِهَا فَجَوَّزَ نِكَاحَهَا لِهَذِهِ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ بِخِلَافِ الْمُشْرِكَةِ، فَإِنَّهَا فِي اخْتِيَارِهَا الشِّرْكَ مَا ثَبَتَ أَمْرُهَا عَلَى الْحُجَّةِ بَلْ عَلَى التَّقْلِيدِ بِوُجُودِ الْإِبَاءِ عَنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَهِيَ ذَلِكَ الْخَبَرُ مِمَّنْ يَجِبُ قَبُولُ قَوْلِهِ وَاتِّبَاعُهُ - وَهُوَ الرَّسُولُ - فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تَنْظُرُ فِي الْحُجَّةِ وَلَا تَلْتَفِتُ إلَيْهَا عِنْدَ الدَّعْوَةِ فَيَبْقَى ازْدِوَاجِ الْكَافِرِ مَعَ قِيَامِ الْعَدَاوَةِ الدِّينِيَّةِ الْمَانِعَةِ عَنْ السَّكَنِ وَالِازْدِوَاجِ وَالْمَوَدَّةِ خَالِيًا عَنْ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ فَلَمْ يَجُزْ إنْكَاحُهَا. وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْكِتَابِيَّةُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: (لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ وَيَحِلُّ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ) وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وَالْكِتَابِيَّةُ مُشْرِكَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكَ مَنْ يُشْرِكُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي الْأُلُوهِيَّةِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ كَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] وَقَالَتْ النَّصَارَى {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73] سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ، فَعُمُومُ النَّصِّ يَقْتَضِي حُرْمَةَ نِكَاحِ جَمِيعِ الْمُشْرِكَاتِ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الْحَرَائِرَ مِنْ الْكِتَابِيَّاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وَهُنَّ الْحَرَائِرُ فَبَقِيَتْ الْإِمَاءُ مِنْهُنَّ عَلَى ظَاهِرِ الْعُمُومِ، وَلِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْإِمَاءِ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ

فصل إسلام الرجل إذا كانت المرأة مسلمة

وَلَنَا عُمُومَاتُ النِّكَاحِ نَحْوُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ وَالْأَمَةِ الْكَافِرَةِ الْكِتَابِيَّةِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ فِي غَيْرِ الْكِتَابِيَّاتِ مِنْ الْمُشْرِكَاتِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَكِنْ هَذَا الِاسْمُ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ يُطْلَقُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 105] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [البينة: 6] فَصَلَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الِاسْمِ عَلَى أَنَّ الْكِتَابِيَّاتِ، وَإِنْ دَخَلْنَ تَحْتَ عُمُومِ اسْمِ الْمُشْرِكَاتِ بِحُكْمِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ لَكِنَّهُنَّ خُصِّصْنَ عَنْ الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وَأَمَّا الْكِتَابِيَّاتُ إذَا كُنَّ عَفَائِفَ يَسْتَحْقِقْنَ هَذَا الِاسْمَ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَنْعِ، وَمَعْنَى الْمَنْعِ يَحْصُلُ بِالْعِفَّةِ وَالصَّلَاحِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَانِعُ الْمَرْأَةِ عَنْ ارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ، فَيَتَنَاوَلُهُنَّ عُمُومُ اسْمِ الْمُحْصَنَاتِ، وَقَوْلُهُ: (الْأَصْلُ فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ الْفَسَادُ) مَمْنُوعٌ بَلْ الْأَصْلُ فِي النِّكَاحِ هُوَ الْجَوَازُ حُرَّةً كَانَتْ الْمَنْكُوحَةُ أَوْ أَمَةً مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً لِمَا مَرَّ أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مَصْلَحَةٍ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَصَالِحِ إطْلَاقُ الِاسْتِيفَاءِ، وَالْمَنْعُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُ الْمَجُوسِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَجُوسَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92] إلَى قَوْلِهِ: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، أَيْ: أُنْزِلَتْ عَلَيْكُمْ لِئَلَّا تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا. وَلَوْ كَانَ الْمَجُوسُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ ثَلَاثَ طَوَائِفَ فَيُؤَدِّي إلَى الْخُلْفِ فِي خَبَرِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ لَكَانَ دَلِيلًا عَلَى مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ حَكَى عَنْهُمْ الْقَوْلَ وَلَمْ يَعْقُبْهُ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَالتَّكْذِيبِ إيَّاهُمْ، وَالْحَكِيمُ إذَا حَكَى عَنْ مُنْكَرٍ غَيَّرَهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ أَنَّكُمْ لَيْسُوا نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» وَدَلَّ قَوْلُهُ " سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ " عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَيْضًا، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَحِلَّ وَطْءُ كَافِرَةٍ بِنِكَاحٍ وَلَا بِمِلْكِ يَمِينٍ إلَّا الْكِتَابِيَّةَ خَاصَّةً؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وَاسْمُ النِّكَاحِ يَقَعُ عَلَى الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ جَمِيعًا فَيُحَرَّمَانِ جَمِيعًا وَمَنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى، فَكَذَا إذَا كَانَ كِتَابِيًّا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلِأَنَّ الْكِتَابِيَّ لَهُ بَعْضُ أَحْكَامِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ - وَهُوَ الْمُنَاكَحَةُ - وَجَوَازُ الذَّبِيحَةِ - وَالْإِسْلَامُ يَعْلُو بِنَفْسِهِ وَبِأَحْكَامِهِ، وَلِأَنَّ رَجَاءَهُ الْإِسْلَامَ مِنْ الْكِتَابِيِّ أَكْثَرُ، فَكَانَ أَوْلَى بِالِاسْتِتْبَاعِ. وَأَمَّا الصَّابِئَاتُ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُهُنَّ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ، وَقِيلَ: لَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ لِاشْتِبَاهِ مَذْهَبِهِمْ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُمْ قَوْمٌ يُؤْمِنُونَ بِكِتَابٍ فَإِنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ وَلَا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَلَكِنْ يُعَظِّمُونَهَا كَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ الْكَعْبَةَ فِي الِاسْتِقْبَالِ إلَيْهَا إلَّا أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي بَعْضِ دِيَانَاتِهِمْ وَذَا لَا يَمْنَعُ الْمُنَاكَحَةَ كَالْيَهُودِ مَعَ النَّصَارَى، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَعَابِدُ الْكَوَاكِبِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ مُنَاكَحَاتُهُمْ. [فَصْلٌ إسْلَامُ الرَّجُلِ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُسْلِمَةً] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا إسْلَامُ الرَّجُلِ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُسْلِمَةً فَلَا يَجُوزُ إنْكَاحُ الْمُؤْمِنَةِ الْكَافِرَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] وَلِأَنَّ فِي إنْكَاحِ الْمُؤْمِنَةِ الْكَافِرَ خَوْفَ وُقُوعِ الْمُؤْمِنَةِ فِي الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدْعُوهَا إلَى دِينِهِ، وَالنِّسَاءُ فِي الْعَادَاتِ يَتْبَعْنَ الرِّجَالَ فِيمَا يُؤْثِرُونَ مِنْ الْأَفْعَالِ وَيُقَلِّدُونَهُمْ فِي الدِّينِ إلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [البقرة: 221] لِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ الْمُؤْمِنَاتِ إلَى الْكُفْرِ، وَالدُّعَاءُ إلَى الْكُفْرِ دُعَاءٌ إلَى النَّارِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُوجِبُ النَّارَ، فَكَانَ نِكَاحُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ سَبَبًا دَاعِيًا إلَى الْحَرَامِ فَكَانَ حَرَامًا، وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ

فصل أن لا يكون أحد الزوجين ملك صاحبه

فِي الْمُشْرِكِينَ لَكِنَّ الْعِلَّةَ، وَهِيَ الدُّعَاءُ إلَى النَّارِ يَعُمُّ الْكَفَرَةَ، أَجْمَعَ فَيَتَعَمَّمُ الْحُكْمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ فَلَا يَجُوزُ إنْكَاحُ الْمُسْلِمَةِ الْكِتَابِيَّ كَمَا لَا يَجُوزُ إنْكَاحُهَا الْوَثَنِيَّ وَالْمَجُوسِيَّ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَطَعَ وَلَايَةَ الْكَافِرِينَ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] فَلَوْ جَازَ إنْكَاحُ الْكَافِرِ الْمُؤْمِنَةَ لَثَبَتَ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ غَيْرِ الْمُرْتَدِّينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَجَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَنْكِحَتُهُمْ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ لِلنِّكَاحِ فِي الْإِسْلَامِ شَرَائِطَ لَا يُرَاعُونَهَا فَلَا يُحْكَمُ بِصِحَّةِ أَنْكِحَتِهِمْ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى امْرَأَتَهُ، وَلَوْ كَانَتْ أَنْكِحَتُهُمْ فَاسِدَةً لَمْ تَكُنْ امْرَأَتَهُ حَقِيقَةً، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ سُنَّةُ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَهُمْ عَلَى شَرِيعَتِهِ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وُلِدْت مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أُولَدْ مِنْ سِفَاحٍ» . وَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ؛ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِفَسَادِ أَنْكِحَتِهِمْ يُؤَدِّي إلَى أَمْرٍ قَبِيحٍ وَهُوَ الطَّعْنُ فِي نَسَبِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ وُلِدُوا مِنْ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ، وَالْمَذَاهِبُ تُمْتَحَنُ بِعُبَّادِهَا فَلَمَّا أَفْضَى إلَى قَبِيحٍ عُرِفَ فَسَادُهَا. وَيَجُوزُ نِكَاحُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ شَرَائِعُهُمْ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ كَمِلَّةٍ وَاحِدَةٍ إذْ هُوَ تَكْذِيبُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا فِيمَا أَنْزَلَ عَلَى رُسُلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] وَاخْتِلَافُهُمْ فِي شَرَائِعِهِمْ، بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ شَرَائِعِهِمْ وَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ نِكَاحِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ كَذَا هَذَا. [فَصْلٌ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِلْكَ صَاحِبِهِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِلْكَ صَاحِبِهِ وَلَا يَنْتَقِصَ مِنْهُ مِلْكَهُ، فَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِجَارِيَتِهِ وَلَا بِجَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ عَبْدَهَا وَلَا الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] الْآيَةَ ثُمَّ أَبَاحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْوَطْءَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ تَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ فَلَا تَجُوزُ الِاسْتِبَاحَةُ بِهِمَا جَمِيعًا؛ وَلِأَنَّ لِلنِّكَاحِ حُقُوقًا تَثْبُتُ عَلَى الشَّرِكَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. مِنْهَا: مُطَالَبَةُ الْمَرْأَةِ الزَّوْجَ بِالْوَطْءِ وَمُطَالَبَةُ الزَّوْجِ الزَّوْجَةَ بِالتَّمْكِينِ، وَقِيَامُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ يَمْنَعُ مِنْ الشَّرِكَةِ، وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الشَّرِكَةُ فِي ثَمَرَاتِ النِّكَاحِ لَا يُفِيدُ النِّكَاحُ فَلَا يَجُوزُ؛ وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ الثَّابِتَةَ بِالنِّكَاحِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ عَلَى الْمَوْلَى لِأَمَتِهِ وَلَا عَلَى الْحُرَّةِ لِعَبْدِهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْوَلَايَةُ لِلْمَالِكِ، وَكَوْنُ الْمَمْلُوكِ يُوَلَّى عَلَيْهِ، وَمِلْكُ النِّكَاحِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْوَلَايَةِ لِلْمُلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَالِيًا وَمُولَيًا عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا مُحَالٌ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ مَهْرٍ عِنْدَنَا، وَلَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ وَلَا لِلْعَبْدِ عَلَى مَوْلَاهُ. وَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُدَبَّرَتَهُ وَمُكَاتَبَتَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا مَلَكَهُ، فَكَذَا إذَا اعْتَرَضَ مِلْكُ الْيَمِينِ عَلَى نِكَاحٍ يَبْطُلُ النِّكَاحُ بِأَنْ مَلَكَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ أَوْ شِقْصًا مِنْهُ لِمَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَوْضِعِهِ. [فَصْلٌ التَّأْبِيدُ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا التَّأْبِيدُ فَلَا يَجُوزُ. النِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ وَهُوَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ وَأَنَّهُ نَوْعَانِ:. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ التَّمَتُّعِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أُعْطِيكِ كَذَا عَلَى أَنْ أَتَمَتَّعَ مِنْكِ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هُوَ جَائِزٌ وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ الِاسْتِمْتَاعَ وَلَمْ يَذْكُرْ النِّكَاحَ، وَالِاسْتِمْتَاعُ وَالتَّمَتُّعُ وَاحِدٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ، وَحَقِيقَةُ الْإِجَارَةِ وَالْمُتْعَةِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بَعْدَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَالْمُتْعَةِ، فَأَمَّا الْمَهْرُ فَإِنَّمَا يَجِبُ فِي النِّكَاحِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَيُؤْخَذُ الزَّوْجُ بِالْمَهْرِ أَوَّلًا ثُمَّ يُمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ فَدَلَّتْ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ الْمُتْعَةِ، وَلَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] حَرَّمَ تَعَالَى الْجِمَاعَ إلَّا بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ، وَالْمُتْعَةُ

لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ وَلَا بِمِلْكِ يَمِينٍ فَيَبْقَى التَّحْرِيمُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ أَنَّهَا تَرْتَفِعُ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا فُرْقَةٍ وَلَا يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا، فَدَلَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ فَلَمْ تَكُنْ هِيَ زَوْجَةً لَهُ، وقَوْله تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] سُمِّيَ مُبْتَغِي مَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَادِيًا، فَدَلَّ عَلَى حُرْمَةِ الْوَطْءِ بِدُونِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور: 33] ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إجَازَةَ الْإِمَاءِ نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ، وَسَمَّاهُ بِغَاءً فَدَلَّ عَلَى الْحُرْمَةِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ» وَعَنْ سَمُرَةَ الْجُهَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ» ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ» . وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَائِمًا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَهُوَ يَقُولُ: إنِّي كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الْمُتْعَةِ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيُفَارِقْهُ وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّ الْأُمَّةَ بِأَسْرِهِمْ امْتَنَعُوا عَنْ الْعَمَلِ بِالْمُتْعَةِ مَعَ ظُهُورِ الْحَاجَةِ لَهُمْ إلَى ذَلِكَ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ مَا شُرِعَ لِاقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ بَلْ لِأَغْرَاضٍ وَمَقَاصِدَ يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَيْهَا، وَاقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ بِالْمُتْعَةِ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْمَقَاصِدِ فَلَا يُشْرَعُ. وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} [النساء: 24] أَيْ: فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَآخِرِهَا هُوَ النِّكَاحُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ أَجْنَاسًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ فِي النِّكَاحِ، وَأَبَاحَ مَا وَرَاءَهَا بِالنِّكَاحِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] أَيْ: بِالنِّكَاحِ، وقَوْله تَعَالَى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] أَيْ: غَيْرَ مُتَنَاكِحِينَ غَيْرَ زَانِينَ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} [النساء: 25] ذَكَرَ النِّكَاحَ لَا الْإِجَارَةَ وَالْمُتْعَةَ، فَيُصْرَفُ قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ} [النساء: 24] إلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّكَاحِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: سَمَّى الْوَاجِبَ أَجْرًا فَنَعَمْ الْمَهْرُ فِي النِّكَاحِ يُسَمَّى أَجْرًا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 25] أَيْ: مُهُورَهُنَّ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50] وَقَوْلُهُ: أَمَرَ تَعَالَى بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بَعْدَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، وَالْمَهْرُ يَجِبُ بِنَفْسِ النِّكَاحِ وَيُؤْخَذُ قَبْلَ الِاسْتِمْتَاعِ قُلْنَا: قَدْ قِيلَ: فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ كَأَنَّهُ تَعَالَى: قَالَ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ إذَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ، أَيْ: إذَا أَرَدْتُمْ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أَيْ: إذَا أَرَدْتُمْ تَطْلِيقَ النِّسَاءِ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ الْإِجَارَةَ وَالْمُتْعَةَ فَقَدْ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِمَا تَلَوْنَا مِنْ الْآيَاتِ، وَرَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ قَوْلَهُ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} [النساء: 24] نَسَخَهُ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْمُتْعَةُ بِالنِّسَاءِ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَتْهَا آيَةُ الطَّلَاقِ، وَالصَّدَاقُ وَالْعِدَّةُ وَالْمَوَارِيثُ وَالْحُقُوقُ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا النِّكَاحُ، أَيْ: النِّكَاحُ هُوَ الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْمُتْعَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَتَزَوَّجُكِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: (النِّكَاحُ جَائِزٌ، وَهُوَ مُؤَبَّدٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ) ، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ إذَا ذَكَرَا مِنْ الْمُدَّةِ مِقْدَارَ مَا يَعِيشَانِ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَإِنْ ذَكَرَا مِنْ الْمُدَّةِ مِقْدَارَ مَا لَا يَعِيشَانِ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ فِي الْغَالِبِ يَجُوزُ النِّكَاحُ كَأَنَّهُمَا ذَكَرَا الْأَبَدَ (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّهُ ذَكَرَ النِّكَاحَ وَشَرَطَ فِيهِ شَرْطًا فَاسِدًا، وَالنِّكَاحُ لَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فَبَطَلَ الشَّرْطُ وَبَقِيَ النِّكَاحُ صَحِيحًا كَمَا إذَا قَالَ: تَزَوَّجْتُك إلَى أَنْ أُطَلِّقَك إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ. (وَلَنَا) أَنَّهُ لَوْ جَازَ هَذَا الْعَقْدُ لَكَانَ لَا يَخْلُو، إمَّا أَنْ يَجُوزَ مُؤَقَّتًا بِالْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِمَّا أَنْ يَجُوزَ مُؤَبَّدًا لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَعْنَى الْمُتْعَةِ إلَّا أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهَا بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزَوُّجِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْعُقُودِ مَعَانِيهَا لَا الْأَلْفَاظُ كَالْكَفَالَةِ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ إنَّهَا حَوَالَةٌ مَعْنًى لِوُجُودِ الْحَوَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَفْظُهَا وَالْمُتْعَةُ مَنْسُوخَةٌ وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِحْقَاقَ الْبُضْعِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَتَى بِالنِّكَاحِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ شَرْطًا فَاسِدًا

فصل المهر

فَمَمْنُوعٌ بَلْ أَتَى بِنِكَاحٍ مُؤَقَّتٍ، وَالنِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ نِكَاحُ مُتْعَةٍ، وَالْمُتْعَةُ مَنْسُوخَةٌ وَصَارَ هَذَا كَالنِّكَاحِ الْمُضَافِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَلَا يُقَالُ: يَصِحُّ النِّكَاحُ وَتَبْطُلُ الْإِضَافَةُ؛ لِأَنَّ الْمَأْتِيَّ بِهِ نِكَاحٌ مُضَافٌ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ كَذَا هَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: تَزَوَّجْتُك عَلَى أَنْ أُطَلِّقَك إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَبَّدَ النِّكَاحَ ثُمَّ شَرَطَ قَطْعَ التَّأْبِيدِ بِذِكْرِ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الْمُؤَبَّدِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى أَنَّ " أَنْ " كَلِمَةُ شَرْطٍ، وَالنِّكَاحُ الْمُؤَبَّدُ لَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْمَهْرُ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا الْمَهْرُ فَلَا جَوَازَ لِلنِّكَاحِ بِدُونِ الْمَهْرِ عِنْدَنَا، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنَّ الْمَهْرَ هَلْ هُوَ شَرْطُ جَوَازِ النِّكَاحِ أَمْ لَا؟ وَفِي بَيَانِ أَدْنَى الْمِقْدَارِ الَّذِي يَصْلُحُ مَهْرًا، وَفِي بَيَانِ مَا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا وَمَا لَا يَصِحُّ، وَبَيَانِ حُكْمِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَفَسَادِهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يَجِبُ بِهِ الْمَهْرُ، وَبَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهِ وَكَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَتَأَكَّدُ بِهِ كُلُّ الْمَهْرِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَسْقُطُ بِهِ الْكُلُّ، وَفِي بَيَانِ مَا يَسْقُطُ بِهِ النِّصْفُ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي الْمَهْرِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ. الْمَهْرَ شَرْطُ جَوَازِ نِكَاحِ الْمُسْلِمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَجُوزُ النِّكَاحُ بِدُونِ الْمَهْرِ حَتَّى إنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا بِأَنْ سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الْمَهْرِ أَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا وَرَضِيَتْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا حَتَّى يَثْبُتَ لَهَا وَلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّسْلِيمِ. وَلَوْ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ يُؤْخَذُ مَهْرُ الْمِثْلِ مِنْ الزَّوْجِ، وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ تَسْتَحِقُّ مَهْرَ الْمِثْلِ مِنْ تَرِكَتِهِ. وَعِنْدَهُ لَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْفَرْضِ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ بِالدُّخُولِ حَتَّى لَوْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْفَرْضِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، وَقَبْلَ الْفَرْضِ لَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ. وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجَانِ لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يُقْضَى لِوَرَثَتِهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا وَيُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَةِ الزَّوْجِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْمَهْرِ وَمَعَ نَفْيِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] رَفَعَ سُبْحَانَهُ الْجُنَاحَ عَمَّنْ طَلَّقَ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ، وَالطَّلَاقُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ النِّكَاحِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ بِلَا تَسْمِيَةٍ، وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] وَالْمُرَادُ مِنْهُ الطَّلَاقُ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَوْجَبَ الْمُتْعَةَ بِقَوْلِهِ: {فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] ، وَالْمُتْعَةُ إنَّمَا تَجِبُ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ، وَلِأَنَّهُ مَتَى قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا جَوَازَ لِلنِّكَاحِ بِدُونِ الْمَهْرِ كَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرًا لِلْمَهْرِ ضَرُورَةً احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] سَمَّى الصَّدَاقَ نِحْلَةً، وَالنِّحْلَةُ هِيَ الْعَطِيَّةُ، وَالْعَطِيَّةُ هِيَ الصِّلَةُ فَدَلَّ أَنَّ الْمَهْرَ صِلَةٌ زَائِدَةٌ فِي بَابِ النِّكَاحِ فَلَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ ازْدِوَاجٍ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يُنْبِئُ إلَّا عَنْهُ فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا، وَحِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ تَحْقِيقًا لِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ عَلَيْهَا نَوْعُ مِلْكٍ فِي مَنَافِعِ الْبُضْعِ ضَرُورَةً تُحَقِّقُ الْمَقَاصِدَ وَلَا ضَرُورَةَ فِي إثْبَاتِ مِلْكِ الْمَهْرِ لَهَا عَلَيْهِ، فَكَانَ الْمَهْرُ عُهْدَةً زَائِدَةً فِي حَقِّ الزَّوْجِ صِلَةً لَهَا فَلَا يَصِيرُ عِوَضًا إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ مَهْرٍ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ يَصِحُّ النِّكَاحُ، وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ لَوَجَبَ لِلْمَوْلَى وَلَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ. وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً بِغَيْرِ مَهْرٍ جَازَ النِّكَاحُ، وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ. وَكَذَا إذَا مَاتَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ الْفَرْضِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ أُحِلَّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ بِشَرْطِ الِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ دَلَّ أَنَّهُ لَا جَوَازَ لِلنِّكَاحِ بِدُونِ الْمَالِ فَإِنْ قِيلَ: الْإِحْلَالُ بِشَرْطِ ابْتِغَاءِ الْمَالِ لَا يَنْفِي الْإِحْلَالَ بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ خُصُوصًا عَلَى أَصْلِكُمْ أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِشَرْطٍ لَا يَنْفِي وُجُودَهُ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَبْضَاعِ وَالنُّفُوسِ هُوَ الْحُرْمَةُ، وَالْإِبَاحَةُ تَثْبُتُ بِهَذَا الشَّرْطِ، فَعِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ تَبْقَى الْحُرْمَةُ عَلَى الْأَصْلِ لَا حُكْمًا لِلتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فَلَمْ يَتَنَاقَضْ أَصْلُنَا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَرُوِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْتَلِفُ إلَيْهِ شَهْرًا يَسْأَلُهُ عَنْ

فصل بيان أدنى المقدار الذي يصلح مهرا

امْرَأَةٍ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَمْ يَكُنْ فَرَضَ لَهَا شَيْئًا، وَكَانَ يَتَرَدَّدُ فِي الْجَوَابِ فَلَمَّا تَمَّ الشَّهْرُ قَالَ لِلسَّائِلِ: لَمْ أَجِدْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِيمَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي، فَإِنْ أَصَبْت فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ أَخْطَأْت فَمِنْ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ وَفِي رِوَايَةٍ، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ أَرَى لَهَا مِثْلَ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، فَقَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ وَقَالَ: إنِّي أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ الْأَشْجَعِيِّةِ مِثْلَ قَضَائِك هَذَا ثُمَّ قَامَ أُنَاسٌ مِنْ أَشْجَعَ، وَقَالُوا: إنَّا نَشْهَدُ بِمِثْلِ شَهَادَتِهِ فَفَرِحَ عَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَحًا لَمْ يَفْرَحْ مِثْلَهُ فِي الْإِسْلَامِ لِمُوَافَقَةِ قَضَائِهِ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ،. وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَمْ يُشْرَعْ لِعَيْنِهِ بَلْ لِمَقَاصِدَ لَا حُصُولَ لَهَا إلَّا بِالدَّوَامِ عَلَى النِّكَاحِ وَالْقَرَارِ عَلَيْهِ، وَلَا يَدُومُ إلَّا بِوُجُوبِ الْمَهْرِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِمَا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَحْمِلُ الزَّوْجَ عَلَى الطَّلَاقِ مِنْ الْوَحْشَةِ، وَالْخُشُونَةِ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ الْمَهْرُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَا يُبَالِي الزَّوْجُ عَنْ إزَالَةِ هَذَا الْمِلْكِ بِأَدْنَى خُشُونَةٍ تَحْدُثُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ إزَالَتُهُ لَمَّا لَمْ يَخَفْ لُزُومَ الْمَهْرِ فَلَا تَحْصُلُ الْمَقَاصِدُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ النِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ وَمَقَاصِدَهُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْمُوَافَقَةِ وَلَا تَحْصُلُ الْمُوَافَقَةُ إلَّا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَزِيزَةً مُكَرَّمَةً عِنْدَ الزَّوْجِ وَلَا عِزَّةَ إلَّا بِانْسِدَادِ طَرِيقِ الْوُصُولِ إلَيْهَا إلَّا بِمَالٍ لَهُ خَطَرٌ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ مَا ضَاقَ طَرِيقُ إصَابَتِهِ يَعِزُّ فِي الْأَعْيُنِ فَيَعِزُّ بِهِ إمْسَاكُهُ، وَمَا يَتَيَسَّرُ طَرِيقُ إصَابَتِهِ يَهُونُ فِي الْأَعْيُنِ فَيَهُونُ إمْسَاكُهُ وَمَتَى هَانَتْ فِي أَعْيُنِ الزَّوْجِ تَلْحَقُهَا الْوَحْشَةُ فَلَا تَقَعُ الْمُوَافَقَةُ فَلَا تَحْصُلُ مَقَاصِدُ النِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ فِي جَانِبِهَا إمَّا فِي نَفْسِهَا وَإِمَّا فِي الْمُتْعَةِ، وَأَحْكَامُ الْمِلْكِ فِي الْحُرَّةِ تُشْعِرُ بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُقَابِلَهُ مَالٌ لَهُ خَطَرٌ لِيَنْجَبِرَ الذُّلُّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا وَفَسَادِ مَا قَالَ: أَنَّهَا إذَا طَلَبَتْ الْفَرْضَ مِنْ الزَّوْجِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْفَرْضُ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ، فَالْقَاضِي يُجْبِرُهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي الْفَرْضِ، وَهَذَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ تَقْدِيرٌ وَمِنْ الْمُحَالِ وُجُوبُ تَقْدِيرِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَكَذَا لَهَا أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَهَا حَتَّى يُفْرَضَ لَهَا الْمَهْرُ وَيُسَلَّمَ إلَيْهَا بَعْدَ الْفَرْضِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَالنِّحْلَةُ كَمَا تُذْكَرُ بِمَعْنَى الْعَطِيَّةِ تُذْكَرُ بِمَعْنَى الدِّينِ يُقَالُ: مَا نِحْلَتُك؟ أَيْ: مَا دِينُكَ؟ فَكَانَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] أَيْ: دِينًا أَيْ: انْتَحِلُوا ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا كَانَتْ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ دِينًا فَيَقَعُ الِاحْتِمَالُ فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ فَلَا تَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: النِّكَاحُ يُنْبِئُ عَنْ الِازْدِوَاجِ فَقَطْ فَنَعَمْ لَكِنَّهُ شُرِعَ لِمَصَالِحَ لَا تَصْلُح إلَّا بِالْمَهْرِ فَيَجِبُ الْمَهْرُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْمِلْكِ أَيْضًا لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَصَالِحُ النِّكَاحِ لَا تَحْصُلُ بِدُونِهِ ثَبَتَ تَحْصِيلًا لِلْمَصَالِحِ كَذَا الْمَهْرُ. وَأَمَّا الْمَوْلَى إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ ثُمَّ يَسْقُطُ، وَفَائِدَةُ الْوُجُوبِ هُوَ جَوَازُ النِّكَاحِ. وَأَمَّا الذِّمِّيُّ إذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً مِنْ غَيْرِ مَهْرٍ فَعَلَى قَوْلِهِمَا يَجِبُ الْمَهْرُ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَجِبُ أَيْضًا إلَّا أَنَّا لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَدِينُونَ ذَلِكَ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ حَتَّى إنَّهُمَا لَوْ تَرَافَعَا إلَى الْقَاضِي فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا الْمَهْرَ. وَكَذَا إذَا مَاتَ الزَّوْجَانِ يُقْضَى بِمَهْرِ الْمِثْلِ لِوَرَثَةِ الْمَرْأَةِ عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّمَا لَا يُقْضَى لِوُجُودِ الِاسْتِيفَاءِ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ مَوْتَهُمَا مَعًا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ نَادِرٌ، وَإِنَّمَا الْغَالِبُ مَوْتُهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ فَإِذَا لَمْ تَجُزْ الْمُطَالَبَةُ بِالْمَهْرِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ أَوْ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْبَعْضِ وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الْبَعْضِ مَعَ مَا أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ نِسَائِهَا مَنْ يُعْتَبَرُ بِهِ مَهْرُ مِثْلِهَا كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَعَذَّرُ الْقَضَاءُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ: أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ وَرَثَةَ عَلِيٍّ ادَّعَوْا عَلَى وَرَثَةِ عُمَرَ مَهْرَ أُمِّ كُلْثُومَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَكُنْتُ أَقْضِي بِهِ؟ وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي مَوْتِ أَحَدِهِمَا فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. [فَصْلٌ بَيَانُ أَدْنَى الْمِقْدَارِ الَّذِي يَصْلُحُ مَهْرًا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ أَدْنَى الْمِقْدَارِ الَّذِي يَصْلُحُ مَهْرًا فَأَدْنَاهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ مَا قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَهَذَا

عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْمَهْرُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَتَصْلُحُ الدَّانِقُ وَالْحَبَّةُ مَهْرًا وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَعْطَى فِي نِكَاحٍ مِلْءَ كَفَّيْهِ طَعَامًا أَوْ دَقِيقًا أَوْ سَوِيقًا فَقَدْ اسْتَحَلَّ» وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: تَزَوَّجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَدَلَّ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِي الْمَهْرِ لَيْسَ بِلَازِمٍ؛ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ ثَبَتَ حَقًّا لِلْعَبْدِ وَهُوَ حَقُّ الْمَرْأَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا، فَكَانَ التَّقْدِيرُ فِيهِ إلَى الْعَاقِدَيْنِ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] شَرَطَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ مَالًا. وَالْحَبَّةُ وَالدَّانِقُ وَنَحْوُهُمَا لَا يُعَدَّانِ مَالًا فَلَا يَصْلُحُ مَهْرًا، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا مَهْرَ دُونَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» ، وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَكُونُ الْمَهْرُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لِأَنَّهُ بَابٌ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمِقْدَارِ يَجِبُ الْأَخْذُ بِالْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ الْعَشَرَةُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَفِيهِ إثْبَاتُ الِاسْتِحْلَالِ، إذَا ذُكِرَ فِيهِ مَالٌ قَلِيلٌ لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةً. وَعِنْدَنَا الِاسْتِحْلَالُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ ثَابِتٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ شَيْءٍ أَصْلًا؟ ، فَعِنْدَ تَسْمِيَةِ مَالٍ قَلِيلٍ أَوْلَى إلَّا أَنَّ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ دُونَ الْعَشَرَةِ تُكَمَّلُ عَشَرَةً، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ نَفْيُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْقَدْرِ. وَعِنْدَنَا قَامَ دَلِيلُ الزِّيَادَةِ إلَى الْعَشَرَةِ لِمَا نَذْكُرُ فَيُكَمَّلُ عَشَرَةً وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيمَا رُوِيَ مِنْ الْأَثَرِ؛ لِأَنَّ فِيهِ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَقَدْ تَكُونُ مِثْلَ وَزْنِ دِينَارٍ بَلْ تَكُونُ أَكْثَرَ فِي الْعَادَةِ، فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ أَنَّ قِيمَةَ النَّوَاةِ كَانَتْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُقَوِّمَ غَيْرُ مَعْلُومٍ أَنَّهُ مَنْ كَانَ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ مَنْ هُوَ مَعَ مَا أَنَّهُ قَدْ قَالَ قَوْمٌ: إنَّ النَّوَاةَ كَانَ بَلَغَ وَزْنُهَا قِيمَةَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَبِهِ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ عَلَى أَنَّ الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ فِي الْخَبَرِ وَالْأَثَرِ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُعَجَّلًا فِي الْمَهْرِ لَا أَصْلَ الْمَهْرِ عَلَى مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَعْجِيلِ شَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي حَالِ جَوَازِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ مَهْرٍ عَلَى مَا قِيلَ أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ جَائِزًا بِغَيْرِ مَهْرٍ إلَى أَنْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الشِّغَارِ» . وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْمَهْرَ حَقُّ الْعَبْدِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ فِيهِ إلَى الْعَبْدِ فَنَقُولُ نَعَمْ هُوَ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ حَقُّهَا عَلَى الْخُلُوصِ فَأَمَّا فِي حَالَةِ الثُّبُوتِ فَحَقُّ الشَّرْعِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ إبَانَةً لِخَطَرِ الْبُضْعِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ شُبْهَةِ الِابْتِذَالِ بِإِيجَابِ مَالٍ لَهُ خَطَرٌ فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي نِصَابِ السَّرِقَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ يُكَمَّلُ عَشَرَةً عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَفَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ كَمَا لَوْ سَمَّى خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. (وَلَنَا) أَنَّهُ لِمَا كَانَ أَدْنَى الْمِقْدَارِ الَّذِي يَصْلُحُ مَهْرًا فِي الشَّرْعِ هُوَ الْعَشَرَةُ كَانَ ذِكْرُ بَعْضِ الْعَشَرَةِ ذِكْرًا لِلْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ فِي كَوْنِهَا مَهْرًا لَا يَتَجَزَّأُ وَذِكْرُ الْبَعْضِ فِيمَا لَا يَتَبَعَّضُ يَكُونُ ذِكْرًا لِكُلِّهِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَتَفْسُدُ التَّسْمِيَةُ فَنَقُولُ: التَّسْمِيَةُ إنَّمَا تَفْسُدُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُسَمَّى مَالًا أَوْ كَانَ مَجْهُولًا، وَهَهُنَا الْمُسَمَّى مَالٌ، وَإِنْ قَلَّ فَهُوَ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا بِنَفْسِهِ إلَّا بِغَيْرِهِ فَكَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرًا لِمَا هُوَ الْأَدْنَى مِنْ الْمُصْلَحِ بِنَفْسِهِ، وَفِيهِ تَصْحِيحُ تَصَرُّفِهِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْعَدَمِ، وَفِيهِ أَخْذٌ بِالْيَقِينِ أَيْضًا فَكَانَ أَحَقَّ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى لَيْسَ بِمَالٍ فَلَمْ يَصْلُحْ مَهْرًا بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ فَفَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ فَوَجَبَ الْمُوجَبُ الْأَصْلِيُّ - وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ - وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى ثَوْبٍ مُعَيَّنٍ أَوْ عَلَى مَوْصُوفٍ أَوْ عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مُعَيَّنٍ فَذَلِكَ مَهْرُهَا إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةً وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْعَقْدِ لَا يَوْمَ التَّسْلِيمِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْعَقْدِ عَشَرَةً فَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهَا حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهُ ثَمَانِيَةً فَلَيْسَ لَهُ إلَّا ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْعَقْدِ ثَمَانِيَةً فَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهَا حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةً فَلَهَا ذَلِكَ وَدِرْهَمَانِ. وَذَكَرَ الْحُسَيْنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الثَّوْبِ وَبَيْنَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَقَالَ فِي الثَّوْبِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ التَّسْلِيمِ، وَفِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ يَوْمَ الْعَقْدِ وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يُعْقَلُ لَهُ وَجْهٌ فِي الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ

فصل بيان ما يصح تسميته مهرا وما لا يصح

الْمُعَيَّنِ فِيهِمَا جَمِيعًا وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَوْصُوفِ أَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ إذَا كَانَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ، فَالزَّوْجُ مَجْبُورٌ عَلَى دَفْعِهِ وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا فَكَانَ مُسْتَقِرًّا مَهْرًا بِنَفْسِهِ فِي ذِمَّتِهِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الِاسْتِقْرَارِ - وَهُوَ يَوْمُ الْعَقْدِ - فَأَمَّا الثَّوْبُ - وَإِنْ وُصِفَ - فَلَمْ يَتَقَرَّرْ مَهْرًا فِي الذِّمَّةِ بِنَفْسِهِ بَلْ الزَّوْجُ مُخَيَّرٌ فِي تَسْلِيمِهِ وَتَسْلِيمِ قِيمَتِهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى مَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِنَّمَا يَتَقَرَّرُ مَهْرًا بِالتَّسْلِيمِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ التَّسْلِيمِ (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَا جُعِلَ مَهْرًا لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا التَّغَيُّرُ فِي رَغَبَاتِ النَّاسِ بِحُدُوثِ فُتُورٍ فِيهَا، وَلِهَذَا لَوْ غَصَبَ شَيْئًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ فَيُعْتَبَرُ سِعْرُهُ، وَصَارَ يُسَاوِي خَمْسَةً فَرَدَّهُ عَلَى الْمَالِكِ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَمَّى مَا هُوَ أَدْنَى مَالِيَّةٍ مِنْ الْعَشَرَةِ كَانَ ذَلِكَ تَسْمِيَةً لِلْعَشَرَةِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْبَعْضِ فِيمَا لَا يَتَجَزَّأُ ذِكْرٌ لِكُلِّهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ سَمَّى ذَلِكَ دِرْهَمَيْنِ ثُمَّ ازْدَادَتْ، قِيمَتُهُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا وَمَا لَا يَصِحُّ] وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا وَمَا لَا يَصِحُّ وَبَيَانُ حُكْمِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَفَسَادِهَا فَنَقُولُ: لِصِحَّةِ التَّسْمِيَةِ شَرَائِطُ مِنْهَا. أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مَالًا مُتَقَوِّمًا وَهَذَا عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيَصِحُّ التَّسْمِيَةُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسَمَّى مَالًا أَوْ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي وَهَبْت نَفْسِي لَك فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا بِي فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ، فَقَامَ رَجُلٌ وَقَالَ زَوِّجْنِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عِنْدَك؟ فَقَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ أُعْطِيهَا فَقَالَ: أَعْطِهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَ مَا عِنْدِي، فَقَالَ: هَلْ مَعَك شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: نَعَمْ سُورَةُ كَذَا فَقَالَ زَوَّجْتُكهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسَمَّى - وَهُوَ السُّورَةُ مِنْ الْقُرْآنِ لَا يُوصَفُ بِالْمَالِيَّةِ، فَدَلَّ أَنَّ كَوْنَ التَّسْمِيَةِ مَالًا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ مَالًا، فَمَا لَا يَكُونُ مَالًا لَا يَكُونُ مَهْرًا فَلَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا، وقَوْله تَعَالَى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أَمَرَ بِتَنْصِيفِ الْمَفْرُوضِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَقْتَضِي كَوْنَ الْمَفْرُوضِ مُحْتَمِلًا لِلتَّنْصِيفِ - وَهُوَ الْمَالُ - وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَهُوَ فِي حَدِّ الْآحَادِ وَلَا يُتْرَكُ نَصُّ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ مَا أَنَّ ظَاهِرَهُ مَتْرُوكٌ؛ لِأَنَّ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ لَا تَكُونُ مَهْرًا بِالْإِجْمَاعِ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَأْوِيلُهَا زَوَّجْتُكهَا بِسَبَبِ مَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ وَبِحُرْمَتِهِ وَبَرَكَتِهِ لَا أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ النِّكَاحُ بِغَيْرِ تَسْمِيَةِ مَالٍ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ: إذَا تَزَوَّجَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ أَوْ عَلَى تَعْلِيمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنْ الْأَحْكَامِ أَوْ عَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الطَّاعَاتِ لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَصِيرُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَهْرًا ثُمَّ الْأَصْلُ فِي التَّسْمِيَةِ أَنَّهَا إذَا صَحَّتْ وَتَقَرَّرَتْ يَجِبُ الْمُسَمَّى ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمُسَمَّى عَشَرَةً فَصَاعِدًا فَلَيْسَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْعَشَرَةِ تُكَمَّلُ الْعَشَرَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ. وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ وَإِذَا فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ أَوْ تَزَلْزَلَتْ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ الْأَصْلِيَّ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ قِيمَةُ الْبُضْعِ، وَإِنَّمَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَى الْمُسَمَّى إذَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَكَانَتْ التَّسْمِيَةُ، تَقْدِيرًا لِتِلْكَ الْقِيمَةِ، فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ أَوْ تَزَلْزَلَتْ لَمْ يَصِحَّ التَّقْدِيرُ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ التَّقْدِيرُ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْفَرْضِ الْأَصْلِيِّ، وَلِهَذَا كَانَ الْمَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ لَا بِالثَّمَنِ كَذَا هَذَا، وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ لِأَنَّ جَوَازَهُ لَا يَقِفُ عَلَى التَّسْمِيَةِ أَصْلًا، فَإِنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ رَأْسًا، فَعَدَمُ التَّسْمِيَةِ إذًا لَمْ يَمْنَعْ جَوَازَ النِّكَاحِ فَفَسَادُهَا أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ، وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ إذَا فَسَدَتْ الْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا، وَهُنَاكَ النِّكَاحُ صَحِيحٌ كَذَا هَذَا، وَلِأَنَّ تَسْمِيَةَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ شَرْطٌ فَاسِدٌ، وَالنِّكَاحُ لَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْفَسَادَ فِي بَابِ الْبَيْعِ لِمَكَانِ الرِّبَا، وَالرِّبَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي النِّكَاحِ فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَيَبْقَى النِّكَاحُ صَحِيحًا. وَعِنْدَهُ تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَيَصِيرُ الْمَذْكُورُ مَهْرًا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ بِالِاسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ عِنْدَهُ فَتَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا، وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى طَلَاقِ امْرَأَةٍ أُخْرَى أَوْ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِمَالٍ

وَكَذَا الْقِصَاصُ، وَعِنْدَهُ تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ الطَّلَاقِ وَالْقِصَاصِ، وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ بَلَدِهَا أَوْ عَلَى أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ لَيْسَ بِمَالٍ. وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَةَ عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ، لِأَنَّ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ لَيْسَا بِمَالٍ فِي حَقِّ أَحَدٍ، وَالْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ لَيْسَا بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَلَا تَصِحُّ تَسْمِيَةُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَهْرًا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ نِكَاحُ الشِّغَارِ، وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ أُخْتَهُ لِآخَرَ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ أُخْتَهُ، أَوْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ أَوْ يُزَوِّجَهُ أَمَتَهُ، وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَعَلَ بُضْعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرَ الْأُخْرَى، وَالْبُضْعُ لَيْسَ بِمَالٍ فَفَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِمَا قُلْنَا: وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَاسِدٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ نَهَى عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ» ، وَالنَّهْيُ يُوجِبُ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَعَلَ بُضْعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ نِكَاحًا وَصَدَاقًا، وَهَذَا لَا يَصِحُّ، وَلَنَا أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ مُؤَبَّدٌ أَدْخَلَ فِيهِ شَرْطًا فَاسِدًا حَيْثُ شَرَطَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بُضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرَ الْأُخْرَى، وَالْبُضْعُ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا، وَالنِّكَاحُ لَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا وَعَلَى أَنْ يَنْقُلَهَا مِنْ مَنْزِلِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ النِّكَاحُ وَالصَّدَاقُ فِي بُضْعٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْبُضْعِ صَدَاقًا لَمْ يَصِحَّ. فَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ، فَنِكَاحُ الشِّغَارِ هُوَ النِّكَاحُ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: شَغَرَ الْبَلَدُ إذَا خَلَا عَنْ السُّلْطَانِ وَشَغَرَ الْكَلْبُ إذَا رَفَعَ إحْدَى رِجْلَيْهِ. وَعِنْدَنَا هُوَ نِكَاحٌ بِعِوَضٍ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ فَلَا يَكُونُ شِغَارًا عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ عَنْ عَيْنِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَلَا يُحْتَمَلُ النَّهْيُ عَنْ إخْلَاءِ النِّكَاحِ عَنْ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ بِالْمَرْأَةِ لَيْسَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرٌ» ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّهْيَ لِمَكَانِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ لَا لِعَيْنِ النِّكَاحِ فَبَقِيَ النِّكَاحُ صَحِيحًا. وَلَوْ تَزَوَّجَ حُرٌّ امْرَأَةً عَلَى أَنْ يَخْدُمَهَا سَنَةً، فَالتَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ التَّسْمِيَةُ صَحِيحَةٌ وَلَهَا قِيمَةُ خِدْمَةِ سَنَةٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّسْمِيَةُ صَحِيحَةٌ وَلَهَا خِدْمَةُ سَنَةٍ. وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَرْعَى غَنَمَهَا سَنَةً أَنَّ التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ، وَلَهَا رَعْيُ غَنَمِهَا سَنَةً، وَلَفْظُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ فِي رَعْيِ الْغَنَمِ كَمَا لَا تَصِحُّ فِي الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ رَعْيَ غَنَمِهَا خِدْمَتُهَا، مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ جَعَلَ فِي رَعْيِ غَنَمِهَا رِوَايَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَصِحُّ فِي رَعْيِ الْغَنَمِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي خِدْمَتِهِ لَهَا، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعَبْدَ إذَا تَزَوَّجَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى امْرَأَةً عَلَى أَنْ يَخْدِمَهَا سَنَةً أَنْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ وَلَهَا الْمُسَمَّى، أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَدْ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ كُلَّ مَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا، وَمَنَافِعُ الْحُرِّ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا؛ لِأَنَّ إجَارَةَ الْحُرِّ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ فَتَصِحُّ تَسْمِيَتُهَا كَمَا تَصِحُّ تَسْمِيَةُ مَنَافِعِ الْعَبْدِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ أَصْحَابِنَا، فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَنَافِعَ الْحُرِّ مَالٌ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ حَتَّى يَجُوزَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا فَكَذَا فِي النِّكَاحِ، وَإِذَا كَانَتْ مَالًا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ لِمَا فِي التَّسْلِيمِ مِنْ اسْتِخْدَامِ الْحُرَّةِ زَوْجَهَا، وَأَنَّهُ حَرَامٌ لِمَا نَذْكُرُ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى قِيمَةِ الْخِدْمَةِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ فَاسْتَحَقَّ الْعَبْدَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْعَبْدِ قَدْ صَحَّتْ لِكَوْنِهِ مَالًا لَكِنْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لَا مَهْرُ الْمِثْلِ لِمَا قُلْنَا: كَذَا هَذَا. وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ مُتَقَوِّمَةٍ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، وَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهَا حُكْمُ التَّقَوُّمِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ شَرْعًا ضَرُورَةً؛ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ بِهَا وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِهَا هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ، وَأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْهُ شَرْعًا؛ لِأَنَّ اسْتِخْدَامَ الْحُرَّةِ زَوْجَهَا الْحُرَّ حَرَامٌ؛ لِكَوْنِهِ اسْتِهَانَةً وَإِذْلَالًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لِلِابْنِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ أَبَاهُ لِلْخِدْمَةِ فَلَا تَسْلَمُ خِدْمَتُهُ لَهَا شَرْعًا، فَلَا يُمْكِنُ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِهَا فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا التَّقَوُّمُ فَبَقِيَتْ عَلَى الْأَصْلِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ سَمَّى مَا لَا قِيمَةَ لَهُ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَهُنَاكَ لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَذَا هَهُنَا حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُسَمَّى فِعْلًا لَا اسْتِهَانَةَ فِيهِ

وَلَا مَذَلَّةَ عَلَى الرَّجُلِ، كَرَعْيِ دَوَابِّهَا وَزِرَاعَةِ أَرْضِهَا، وَالْأَعْمَالُ الَّتِي خَارِجُ الْبَيْتِ تَصِحُّ بِالتَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْقِيَامِ بِأَمْرِهَا لَا مِنْ بَابِ الْخِدْمَةِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ اسْتِخْدَامَ زَوْجَتِهِ إيَّاهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ؛ لِأَنَّهُ عُرْضَةٌ لِلِاسْتِخْدَامِ وَالِابْتِذَالِ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا مُلْحَقًا بِالْبَهَائِمِ؛ وَلِأَنَّ مَبْنَى النِّكَاحِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمَعَاشِ فَكَانَ لَهَا فِي خِدْمَتِهِ حَقٌّ، فَإِذَا جَعَلَ خِدْمَتَهُ لَهَا مَهْرَهَا، فَكَأَنَّهُ جَعَلَ مَا هُوَ لَهَا مَهْرَهَا فَلَمْ يَجُزْ كَالْأَبِ إذَا اسْتَأْجَرَ ابْنَهُ بِخِدْمَتِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْأَبِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهُ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى فَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَنَافِعِ سَائِرِ الْأَعْيَانِ مِنْ سُكْنَى دَارِهِ وَخِدْمَةِ عَبِيدِهِ وَرُكُوبِ دَابَّتِهِ وَالْحَمْلِ عَلَيْهَا وَزِرَاعَةِ أَرْضِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ مُدَّةً مَعْلُومَةً صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ أَوْ الْتَحَقَتْ بِالْأَمْوَالِ شَرْعًا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ فِي النِّكَاحِ مُتَحَقِّقَةٌ، وَإِمْكَانُ الدَّفْعِ بِالتَّسْلِيمِ ثَابِتٌ بِتَسْلِيمِ مَحَالِّهَا إذْ لَيْسَ فِيهِ اسْتِخْدَامُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فَجُعِلَتْ أَمْوَالًا وَالْتَحَقَتْ بِالْأَعْيَانِ فَصَحَّتْ تَسْمِيَتُهَا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ: تَزَوَّجْتُك عَلَى هَذَا الْعَبْدِ فَإِذَا هُوَ حُرٌّ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ سَمَّى مَا يَصْلُحُ مَهْرًا وَأَشَارَ إلَى مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا. وَأَمَّا إنْ سَمَّى مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَأَشَارَ إلَى مَا يَصْلُحُ مَهْرًا، فَإِنْ سَمَّى مَا يَصْلُحُ مَهْرًا وَأَشَارَ إلَى مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا بِأَنْ قَالَ: تَزَوَّجْتُك عَلَى هَذَا الْعَبْدِ فَإِذَا هُوَ حُرٌّ أَوْ عَلَى هَذِهِ الشَّاةِ الذَّكِيَّةِ، فَإِذَا هِيَ مَيْتَةٌ أَوْ عَلَى هَذَا الزِّقِّ الْخَلِّ فَإِذَا هُوَ خَمْرٌ، فَالتَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ " تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ فِي الْكُلِّ، وَعَلَيْهِ فِي الْحُرِّ قِيمَةُ الْحُرِّ لَوْ كَانَ عَبْدًا، وَفِي الشَّاةِ قِيمَةُ الشَّاةِ لَوْ كَانَتْ ذَكِيَّةً، وَفِي الْخَمْرِ مِثْلُ ذَلِكَ الدَّنِّ مِنْ خَلٍّ وَسَطٍ وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ فَقَالَ: مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحُرِّ وَالْمَيْتَةِ، وَمِثْلَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي الْخَمْرِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُسَمَّى مَالٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى هُوَ الْعَبْدُ وَالشَّاةُ الذَّكِيَّةُ وَالْخَلُّ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَالٌ فَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ خِلَافَ جِنْسِ الْمُسَمَّى فِي صَلَاحِيَّةِ الْمَهْرِ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ فِي الْحُرِّ وَالشَّاةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ، وَفِي الْخَمْرِ يَجِبُ مِثْلُهُ خَلًّا؛ لِأَنَّهُ مِثْلِيٌّ كَمَا لَوْ هَلَكَ الْمُسَمَّى أَوْ اُسْتُحِقَّ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْإِشَارَةَ مَعَ التَّسْمِيَةِ إذَا اجْتَمَعَتَا فِي الْعُقُودِ، فَإِنْ كَانَ الْمُشَارُ إلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى هَذَا أَصْلٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي الْبُيُوعِ، وَالْحُرُّ مِنْ جِنْسِ الْعَبْدِ لِاتِّحَادِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ. وَكَذَا الشَّاةُ الْمَيْتَةُ مِنْ جِنْسِ الشَّاةِ الذَّكِيَّةِ فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ لِلْإِشَارَةِ وَالْتَحَقَتْ التَّسْمِيَةُ بِالْعَدَمِ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَصَارَ كَأَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِشَارَةِ وَلَمْ يُسَمِّ بِأَنْ قَالَ: تَزَوَّجْتُك عَلَى هَذَا وَسَكَتَ فَأَمَّا الْخَلُّ مَعَ الْخَمْرِ فَجِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ؛ لِاخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ فَتَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى لَكِنْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ وَهُوَ مِثْلِيٌّ فَيَجِبُ مِثْلُهُ خَلًّا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِشَارَةَ وَالتَّسْمِيَةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُضِعَتْ لِلتَّعْرِيفِ إلَّا أَنَّ الْإِشَارَةَ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّهَا تُحْضِرُ الْعَيْنَ وَتَقْطَعُ الشَّرِكَةَ، وَالتَّسْمِيَةُ لَا تُوجِبُ إحْضَارَ الْعَيْنِ وَلَا تَقْطَعُ الشَّرِكَةَ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْإِشَارَةِ وَبَقِيَتْ الْإِشَارَةُ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ أَشَارَ إلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَلَمْ يُسَمِّ، وَحَقِيقَةُ الْفِقْهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا حُرٌّ سَمَّى عَبْدًا، وَتَسْمِيَةُ الْحُرِّ عَبْدًا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ فَالْتَحَقَتْ التَّسْمِيَةُ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَتْ الْإِشَارَةُ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَالْتَحَقَتْ الْإِشَارَةُ بِالْعَدَمِ أَيْضًا فَصَارَ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا، وَهَذَا فِقْهٌ وَاضِحٌ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا إذَا سَمَّى مَا يَصْلُحُ مَهْرًا، وَأَشَارَ إلَى مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَأَمَّا إذَا سَمَّى مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا، وَأَشَارَ إلَى مَا يَصْلُحُ مَهْرًا بِأَنْ قَالَ: تَزَوَّجْتُك عَلَى هَذَا الْحُرِّ فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ أَوْ عَلَى هَذِهِ الْمَيْتَةِ، فَإِذَا هِيَ ذَكِيَّةٌ أَوْ عَلَى هَذَا الدَّنِّ الْخَمْرِ، فَإِذَا هُوَ خَلٌّ، فَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ فَاسِدَةٌ وَلَهَا الْمُشَارُ إلَيْهِ. وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْهُ أَنَّ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ، وَرِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَا حُكْمَ لَهَا مَعَ الْإِشَارَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ لِلْإِشَارَةِ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ يَصْلُحُ مَهْرًا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ فَكَانَ لَهَا الْمُشَارُ إلَيْهِ (وَجْهُ) مَا رَوَى مُحَمَّدٌ

عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا سَمَّى مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا، وَأَشَارَ إلَى مَا يَصْلُحُ مَهْرًا فَقَدْ هَزَلَ بِالتَّسْمِيَةِ، وَالْهَازِلُ لَا يَتَعَلَّقُ بِتَسْمِيَتِهِ حُكْمٌ فَبَطَلَ كَلَامُهُ رَأْسًا. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الدَّنِّ الْخَمْرِ، وَقِيمَةُ الظَّرْفِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ لَهَا الدَّنَّ لَا غَيْرَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُ سَمَّى مَا يَصْلُحُ مَهْرًا - وَهُوَ الظَّرْفُ - وَمَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا وَهُوَ الْخَمْرُ فَيَلْغُو مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى الْخَلِّ وَالْخَمْرِ، وَقِيمَةُ الْخَلِّ عَشَرَةٌ أَنَّهُ يَكُونُ لَهَا الْخَلُّ لَا غَيْرَ؛ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الظَّرْفَ لَا يُقْصَدُ بِالْعَقْدِ عَادَةً بَلْ هُوَ تَابِعٌ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَظْرُوفُ فَإِذَا بَطَلَتْ التَّسْمِيَةُ فِي الْمَقْصُودِ تَبْطُلُ فِيمَا هُوَ تَبَعٌ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ فَإِذَا أَحَدُهُمَا حُرٌّ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْعَبْدُ الْبَاقِي إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهَا الْعَبْدُ وَقِيمَةُ الْحُرِّ لَوْ كَانَ عَبْدًا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُنْظَرُ إلَى الْعَبْدِ إنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ مَهْرَ مِثْلِهَا فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْعَبْدُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا تَبْلُغُ إلَى ثَمَنِ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْأُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ جَعْلَ الْحُرِّ مَهْرًا صَحِيحٌ إذَا سَمَّى عَبْدًا، وَيَتَعَلَّقُ بِقِيمَتِهِ أَنْ لَوْ كَانَ عَبْدًا فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّيَيْنِ جَمِيعًا بِقَدْرِ مَا يَحْتَمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّعْلِيقَ بِهِ، فَيَتَعَلَّقُ بِالْعَبْدِ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ وَيَتَعَلَّقُ بِالْحُرِّ بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ عَبْدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِعَيْنِهِ، وَمِنْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى، فَالْعَقْدُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ، وَالْحُرُّ مِنْ جِنْسِ الْعَبْدِ لِاتِّحَادِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِهِمَا إلَّا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُسَمَّى وَبَيْنَ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَا حُرَّيْنِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ عِنْدَهُ، وَمَتَى وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْمُسَمَّى وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُرَّ إذَا جُعِلَ مَهْرًا وَسُمِّيَ عَبْدًا لَا يَتَعَلَّقُ بِتَسْمِيَتِهِ شَيْءٌ، وَجُعِلَ ذِكْرُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَقْدَ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا لَا يَصْلُحُ يَلْغُو مَا لَا يَصْلُحُ وَيَسْتَقِرُّ مَا يَصْلُحُ، كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَةٍ تَحِلُّ لَهُ وَامْرَأَةٍ لَا تَحِلُّ لَهُ وَتَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ بِمُسَمًّى يَجِبُ كُلُّ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ الْحَلَالِ، وَانْعِقَادُ نِكَاحِهَا صَحِيحًا لِلْعَقْدِ، وَالتَّسْمِيَةُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَتَقْرِيرًا لِلْعَقْدِ فِيمَا أَمْكَنَ تَقْرِيرُهُ وَإِلْغَاؤُهُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ فِيهِ، وَالْعَبْدُ هُوَ الصَّالِحُ لِكَوْنِهِ مَهْرًا فَصَحَّتْ تَسْمِيَتُهُ، وَيَصِيرُ مَهْرًا لَهَا إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةً فَصَاعِدًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى بَيْتٍ وَخَادِمٍ - وَالْخَادِمُ حُرٌّ - وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَيْنِ الدَّنَّيْنِ مِنْ الْخَلِّ فَإِذَا أَحَدُهُمَا خَمْرٌ لَهَا الْبَاقِي لَا غَيْرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا كَانَ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ كَمَا فِي الْعَبْدَيْنِ، وَعِنْدَهُمَا لَهَا الْبَاقِي وَمِثْلُ هَذَا الدَّنِّ مِنْ الْخَلِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَصْلَ. وَلَوْ سَمَّى مَالًا وَضَمَّ إلَيْهِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ لَكِنْ لَهَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مِثْلُ طَلَاقِ امْرَأَةٍ أُخْرَى وَإِمْسَاكِهَا فِي بَلَدِهَا أَوْ الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ، فَإِنْ وَفَّى بِالْمَنْفَعَةِ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا مَا سَمَّى إذَا كَانَ يُسَاوِي عَشَرَةً فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّهُ سَمَّى مَا يَصْلُحُ مَهْرًا بِنَفْسِهِ وَشَرَطَ لَهَا مَنْفَعَةً، وَقَدْ وَفَّى بِمَا شَرَطَ لَهَا فَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَصَارَتْ الْعَشَرَةُ مَهْرًا، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِالْمَنْفَعَةِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَا سَمَّى لَهَا مِنْ الْمَالِ مِثْلَ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ أَكْثَرَ فَلَا شَيْءَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَا سَمَّى لَهَا أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا تَمَّمَ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ: إنْ كَانَ الْمَضْمُومُ مَالًا كَمَا إذَا شَرَطَ أَنْ يَهْدِيَ لَهَا هَدِيَّةً فَلَمْ يَفِ لَهَا تَمَّمَ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَالٍ كَطَلَاقِ امْرَأَةٍ أُخْرَى وَأَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ بَلَدِهَا فَلَيْسَ لَهَا إلَّا مَا سَمَّى (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يُتَقَوَّمُ فَلَا يَكُونُ فَوَاتُهُ مَضْمُونًا بِعِوَضٍ وَمَا هُوَ مَالٌ يُتَقَوَّمُ فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهَا جَازَ لَهَا الرُّجُوعُ إلَى تَمَامِ الْعِوَضِ، وَلَنَا أَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَّا عِنْدَ اسْتِحْكَامِ التَّسْمِيَةِ فَإِذَا وَفَّى بِالْمَنْفَعَةِ فَقَدْ تَقَرَّرَتْ التَّسْمِيَةُ فَوَجَبَ الْمُسَمَّى. وَإِذَا لَمْ يَفِ بِهَا لَمْ تَتَقَرَّرْ؛ لِأَنَّهَا مَا رَضِيَتْ بِالْمُسَمَّى مِنْ الْمَالِ عِوَضًا بِنَفْسِهِ بَلْ بِمَنْفَعَةٍ أُخْرَى مَضْمُومَةٍ إلَيْهِ، وَهِيَ مَنْفَعَةٌ أُخْرَى مَرْغُوبٌ فِيهَا خِلَالَ الِاسْتِيفَاءِ شَرْعًا فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهَا تَتَقَرَّرُ التَّسْمِيَةُ فَبَقِيَ حَقُّهَا فِي الْعِوَضِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ أَكْثَرَ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهَا قَدْرُ حَقِّهَا وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا يُكَمَّلُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا أَيْضًا لَا إلَى الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ فُرِّقَ

بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ صَحِيحٍ وَأَرْطَالٍ مِنْ خَمْرٍ أَنَّ الْمَهْرَ مَا يُسَمَّى لَهَا إذَا كَانَ عَشَرَةً فَصَاعِدًا، وَيَبْطُلُ الْحَرَامُ، وَلَيْسَ لَهَا تَمَامُ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ أَكْثَرُ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهَا قَدْرُ حَقِّهَا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا يُكَمَّلُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْخَمْرِ لَمْ تَصِحَّ فِي حَقِّ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ إذْ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمُسْلِمِ فِيهَا لِحُرْمَةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ بِفَوَاتِهَا عِوَضٌ فَالْتَحَقَتْ تَسْمِيَتُهَا بِالْعَدَمِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ إلَّا الْمَهْرَ الصَّحِيحَ فَلَا يَجِبُ لَهَا إلَّا الْمَهْرُ الصَّحِيحُ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا مِنْهُ فَقَبِلَتْ عَتَقَتْ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهَا بِعِوَضٍ فَيَزُولُ مِلْكُهُ بِقَبُولِ الْعِوَضِ كَمَا لَوْ بَاعَهَا، وَكَمَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ حُرَّةٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِالْقَبُولِ مَا لَمْ يُؤَدِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ بَلْ هُوَ تَعْلِيقٌ، وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُرِّيَّةِ بِشَرْطِ الْأَدَاءِ إلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ ثُمَّ إذَا أَعْتَقَتْ بِالْقَبُولِ فَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ وَإِمَّا إنْ أَبَتْ التَّزْوِيجَ فَإِنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ قَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا آخَرَ وَهُوَ مَالٌ سِوَى الْإِعْتَاقِ، فَلَهَا الْمُسَمَّى إذَا كَانَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْعَشَرَةِ تُكَمَّلُ عَشَرَةً، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا سِوَى الْإِعْتَاقِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: صَدَاقُهَا إعْتَاقُهَا لَيْسَ لَهَا غَيْرُ ذَلِكَ (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْعِتْقَ بِمَعْنَى الْمَالِ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ بِأَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا، وَلَهُمَا أَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ بِمَالٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إبْطَالُ الْمَالِكِيَّةِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْعِتْقُ مَالًا؟ إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ عِوَضٍ هُوَ مَالٌ عَنْهُ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَالًا بِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ. وَكَذَا الْقِصَاصُ وَأَخْذُ الْبَدَلِ عَنْهُ جَائِزٌ، وَنَفْسُ الْحُرِّ لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَإِنْ أَبَتْ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا مِنْهُ لَا تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ مَلَكَتْ نَفْسَهَا فَلَا تُجْبَرُ عَلَى النِّكَاحِ لَكِنَّهَا تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا لِلْمَوْلَى عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ السِّعَايَةَ إنَّمَا تَجِبُ لِتَخْلِيصِ الرَّقَبَةِ، وَهَذِهِ حُرَّةٌ خَالِصَةٌ فَلَا تَلْزَمُهَا السِّعَايَةُ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ رَقَبَتِهَا لَا بِنَفْعٍ يُقَابِلُهُ وَهُوَ تَزْوِيجُ نَفْسِهَا مِنْهُ، وَهَذِهِ مَنْفَعَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا - وَهُوَ إبَاؤُهَا - فَيُقَامُ بَدَلُ قِيمَتِهَا مَقَامَهَا؛ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ (السِّعَايَةُ إنَّمَا تَجِبُ لِفِكَاكِ الرَّقَبَةِ وَتَخْلِيصِهَا - وَهِيَ حُرَّةٌ خَالِصَةٌ -) فَنَقُولُ: السِّعَايَةُ قَدْ تَكُونُ لِتَخْلِيصِ الرَّقَبَةِ وَهَذَا الْمُسْتَسْعَى يَكُونُ فِي حُكْمِ الْمُكَاتَبِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ تَكُونُ لِحَقٍّ فِي الرَّقَبَةِ لَا لِفِكَاكِ الرَّقَبَةِ كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إذَا أَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ وَهُوَ مُعْسِرٌ كَمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى قِيمَةِ رَقَبَتِك فَقَبِلَ حَتَّى عَتَقَ كَذَا هَذَا وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عِتْقِ أَبِيهَا أَوْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا أَوْ عَلَى عِتْقِ عَبْدٍ أَجْنَبِيٍّ عَنْهَا، فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ ذَكَرَ فِيهِ كَلِمَةً عَنْهَا بِأَنْ قَالَ: أَتَزَوَّجُك عَلَى عِتْقِ أَبِيك عَنْك أَوْ عَلَى عِتْقِ هَذَا الْعَبْدِ عَنْك وَأَشَارَ إلَى عَبْدٍ أَجْنَبِيٍّ عَنْهَا، وَإِمَّا أَنْ لَمْ يَذْكُرْ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ وَقَبِلَتْ عَتَقَ الْعَبْدُ، وَالْوَلَاءُ لِلزَّوْجِ لَا لَهَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتِقَ هُوَ الزَّوْجُ «وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا آخَرَ هُوَ مَالٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَمَّى فَلَهَا الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِقَبُولِهَا النِّكَاحَ فَإِذَا قَبِلَتْ عَتَقَ، وَالْعَبْدُ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مَالٌ مُسَمًّى وَجَبَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَحَّتْ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا فَوَجَبَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَتَسْمِيَتُهُ الْعِتْقَ مَهْرًا لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ هَذَا إذَا لَمْ يَذْكُرْ عَنْهَا. فَأَمَّا إذَا ذُكِرَتْ فَقَبِلَتْ عَتَقَ الْعَبْدُ عَنْهَا وَثَبَتَ الْوَلَاءُ لَهَا، وَصَارَ ذَلِكَ مَهْرًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْعِتْقَ عَنْهَا وَلَا يَكُونُ الْعِتْقُ عَنْهَا إلَّا بَعْدَ سَبْقِ الْمِلْكِ لَهَا فَمَلَكَتْهُ أَوَّلًا ثُمَّ عَتَقَ عَنْهَا كَمَنْ قَالَ لِآخَرَ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ يَجُوزُ وَيَقَعُ الْعِتْقُ عَنْ الْآخَرِ، وَحَالَ مَا مَلَكَتْهُ كَانَ مَالًا فَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا، وَهَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى الْعِتْقِ. فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى الْإِعْتَاقِ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُعْتِقَ هَذَا الْعَبْدَ فَهَذَا أَيْضًا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ ذَكَرَ فِيهِ عَنْهَا وَإِمَّا أَنْ لَمْ يَذْكُرْ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ فَقَبِلَتْ صَحَّ النِّكَاحُ، وَلَا يَعْتِقُ الْعَبْدُ هَهُنَا بِقَبُولِهَا؛ لِأَنَّهُ وَعَدَ أَنْ يُعْتِقَ، وَالْعِتْقُ لَا يَثْبُتُ بِوَعْدِ

فصل أن لا يكون مجهولا جهالة تزيد على جهالة مهر المثل

الْإِعْتَاقِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْإِعْتَاقِ فَمَا لَمْ يُعْتِقْ لَا يَعْتِقْ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الزَّوَاجَ هُنَاكَ كَانَ عَلَى الْعِتْقِ لَا عَلَى الْإِعْتَاقِ ثُمَّ إذَا أَعْتَقَهُ فَعَتَقَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ ذَكَرَ كَلِمَةً عَنْهَا أَوْ لَمْ يَذْكُرْ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَذْكُرْ ثَبَتَ الْوَلَاءُ مِنْهُ لَا مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْهُ لَا مِنْهَا، وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَهْرٌ آخَرُ مُسَمًّى وَهُوَ مَالٌ، وَإِنْ كَانَ فَلَهَا ذَلِكَ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَيْسَ بِمَالٍ، بَلْ هُوَ إبْطَالُ الْمَالِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ أَجْنَبِيًّا أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا، وَإِنْ ذَكَرَ كَلِمَةً عَنْهَا ثَبَتَ الْوَلَاءُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْهَا لِأَنَّهُ أَعْتَقَ عَنْهَا، وَيَصِيرُ الْعَبْدُ مِلْكًا لَهَا بِمُقْتَضَى الْإِعْتَاقِ، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا عَتَقَ عَلَيْهَا كَمَا مَلَكَتْهُ فَتَمْلِكُهُ فَيَعْتِقُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا يَصِيرُ الزَّوْجُ وَكِيلًا عَنْهَا فِي الْإِعْتَاقِ، وَمِنْهَا إذَا أَعْتَقَ كَمَا وَعَدَ فَإِنْ أَبَى لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مَالِكٌ إلَّا أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مُسَمًّى هُوَ مَالٌ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَسْمِيَةَ الْإِعْتَاقِ مَهْرًا لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يُوجَدْ تَسْمِيَةُ شَيْءٍ آخَرَ هُوَ مَالٌ فَتَعَيَّنَ مَهْرُ الْمِثْلِ مُوجَبًا. وَإِنْ كَانَ قَدْ سَمَّى لَهَا شَيْئًا آخَرَ هُوَ مَالٌ، فَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى مِثْلَ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهَا ذَلِكَ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ أَجْنَبِيًّا فَلَهَا ذَلِكَ الْمُسَمَّى لَا غَيْرَ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لَهَا شَرْطًا لَا مَنْفَعَةَ لَهَا فِيهِ فَلَا يَكُونُ غَارًّا لَهَا بِتَرْكِ الْوَفَاءِ بِمَا شَرَطَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا يَبْلُغُ بِهِ تَمَامَ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا رَضِيَتْ بِدُونِ مَهْرِ مِثْلِهَا بِمَا شَرَطَ وَلَمْ تَكُنْ رَاضِيَةً فَصَارَ غَارًّا لَهَا، وَهَذَا إذَا لَمْ يَقُلْ عَنْهَا فَأَمَّا إذَا قَالَ ذَلِكَ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُعْتِقَ هَذَا الْعَبْدَ عَنْهَا فَقَبِلَتْ صَحَّ النِّكَاحُ، وَصَارَ الْعَبْدُ مِلْكًا ثُمَّ إنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا عَتَقَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا وَكَانَ ذَلِكَ مَهْرًا لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُهُ ثُمَّ يَعْتِقُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا يَكُونُ الزَّوْجُ وَكِيلًا عَنْهَا بِالْإِعْتَاقِ، فَإِنْ أَعْتَقَ قَبْلَ الْعَزْلِ فَقَدْ وَقَعَ الْعِتْقُ عَنْهَا، وَإِنْ عَزَلَتْهُ فِي ذَلِكَ صَحَّ الْعَزْلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ أَنْ لَا يَكُونَ مَجْهُولًا جَهَالَةً تَزِيدُ عَلَى جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَجْهُولًا جَهَالَةً تَزِيدُ عَلَى جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَهْرَ فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا مُشَارًا إلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَمًّى غَيْرَ مُعَيَّنٍ مُشَارًا إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا مُشَارًا إلَيْهِ صَحَّتْ تَسْمِيَتُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْعَقَارِ وَالْحَيَوَانِ وَسَائِرِ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَوْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا جَهَالَةَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ وَيَدْفَعَ غَيْرَهَا مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ قَدْ تَعَيَّنَ لِلْعَقْدِ فَتَعَلَّقَ حَقُّهَا بِالْعَيْنِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ وَيَدْفَعَ مِثْلَهُ جِنْسًا وَنَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ إذَا لَمْ يَصِحَّ صَارَ مَجَازًا عِوَضًا مِنْ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، وَإِنْ كَانَ تِبْرًا مَجْهُولًا أَوْ نُقْرَةً ذَهَبًا وَفِضَّةً يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ عَيْنِهِ فِي رِوَايَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَالْعُرُوضِ وَلَا يُجْبَرُ فِي رِوَايَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَالْمَضْرُوبِ وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى غَيْرَ عَيْنٍ فَالْمُسَمَّى لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا كَالْحَيَوَانِ وَالدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ وَالدَّارِ بِأَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى حَيَوَانٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ دَارٍ وَلَمْ يُعَيِّنْ لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ. وَلِلْمَرْأَةِ مَهْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْجِنْسِ مُتَفَاحِشَةٌ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ اسْمُ جِنْسٍ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَتَحْتَ كُلِّ نَوْعٍ أَشْخَاصٌ مُخْتَلِفَةٌ. وَكَذَا الدَّابَّةُ وَكَذَا الثَّوْبُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ يَقَعُ عَلَى ثَوْبِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالْحَرِيرِ وَالْخَزِّ وَالْبَزِّ، وَتَحْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ مُخْتَلِفَةٌ. وَكَذَا الدَّارُ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالْهَيْئَةِ وَالتَّقْطِيعِ، وَتَخْتَلِفُ قِيمَتُهَا بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ وَالْمَحَالِّ وَالسِّكَكِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا فَتَفَاحَشَتْ الْجَهَالَةُ فَالْتَحَقَتْ بِجَهَالَةِ الْجِنْسِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ جَهَالَةَ الْعِوَضِ تَمْنَعُ صِحَّةَ تَسْمِيَتِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ لِكَوْنِهَا مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ إلَّا أَنَّهُ يُتَحَمَّلُ ضَرْبٌ مِنْ الْجَهَالَةِ فِي الْمَهْرِ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ قَدْ يَجِبُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مَجْهُولٌ ضَرْبًا مِنْ، الْجَهَالَةِ فَكُلُّ جَهَالَةٍ فِي الْمُسَمَّى مَهْرًا مِثْلُ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ يَتَحَمَّلُ وَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ

اسْتِدْلَالًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَكُلُّ جَهَالَةٍ تَزِيدُ عَلَى جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ يَبْقَى الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى الْأَصْلِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَعْوَاضِ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ جَهَالَةَ الْحَيَوَانِ وَالدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ وَالدَّارِ أَكْثَرُ مِنْ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ اعْتِبَارِ تَسَاوِي الْمَرْأَتَيْنِ فِي الْمَالِ وَالْجَمَالِ وَالسِّنِّ وَالْعَقْلِ وَالدِّينِ وَالْبَلَدِ وَالْعِفَّةِ يَقِلُّ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فَتَقِلُّ الْجَهَالَةُ. فَأَمَّا جَهَالَةُ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ فَجَهَالَةٌ مُتَفَاحِشَةٌ فَكَانَتْ أَكْثَرَ جَهَالَةً مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَتَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ. وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى مَعْلُومَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ مَجْهُولَ الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ جَمَلٍ أَوْ حِمَارٍ أَوْ ثَوْبٍ مَرْوِيٍّ أَوْ هَرَوِيٍّ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ، وَلَهَا الْوَسَطُ مِنْ ذَلِكَ، وَلِلزَّوْجِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَعْطَاهَا الْوَسَطَ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهَا قِيمَتَهُ، وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْمُسَمَّى مَجْهُولُ الْوَصْفِ فَلَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَهَذَا لِأَنَّ؛ جَهَالَةَ الْوَصْفِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ كَجَهَالَةِ الْجِنْسِ ثُمَّ جَهَالَةُ الْجِنْسِ تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ، فَكَذَا جَهَالَةُ الْوَصْفِ. (وَلَنَا) أَنَّ النِّكَاحَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَالْحَيَوَانُ الَّذِي هُوَ مَعْلُومُ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ مَجْهُولُ الصِّفَةِ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ كَمَا فِي الذِّمَّةِ قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَالْبُضْعُ لَيْسَ بِمَالٍ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَنْهُ، وَلِأَنَّ جَهَالَةَ الْوَسَطِ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ مِثْلُ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلُّ فَتِلْكَ الْجَهَالَةُ لَمَّا لَمْ تَمْنَعْ صِحَّةَ تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ، فَكَذَا هَذِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَحْتَمِلُ جَهَالَةَ الْبَدَلِ أَصْلًا قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، وَالنِّكَاحُ يَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ الْيَسِيرَةَ مِثْلَ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْبَيْعِ عَلَى الْمُضَايَقَةِ وَالْمُمَاكَسَةِ، فَالْجَهَالَةُ فِيهِ وَإِنْ قَلَّتْ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَمَبْنَى النِّكَاحِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُرُوءَةِ، فَجَهَالَةُ مَهْرِ الْمِثْلِ فِيهِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَهُوَ الْفَرْقُ. وَأَمَّا وُجُوبُ الْوَسَطِ فَلِأَنَّ الْوَسَطَ هُوَ الْعَدْلُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَتَضَرَّرُ بِإِيجَابِ الْجَيِّدِ، وَالْمَرْأَةُ تَتَضَرَّرُ بِإِيجَابِ الرَّدِيءِ فَكَانَ الْعَدْلُ فِي إيجَابِ الْوَسَطِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا» وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ الْوَسَطِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ» وَكَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمُفَوِّضَةِ أَرَى لَهَا مَهْرَ مِثْلِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ بَيْنَ الْوَسَطِ وَبَيْنَ قِيمَتِهِ فَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا مُطْلَقًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ وَلَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فِي ضَمَانِ الْإِتْلَافِ حَتَّى لَا يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ فِي الِاسْتِهْلَاكِ، بَلْ بِالْقِيمَةِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فِي الْجُمْلَةِ قُلْنَا: بِوُجُوبِ الْوَسَطِ مِنْهُ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَثْبُتُ ثُبُوتًا مُطْلَقًا قُلْنَا: يَثْبُتُ الْخِيَارُ بَيْنَ تَسْلِيمِهِ وَبَيْنَ تَسْلِيمِ قِيمَتِهِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ جَمِيعًا، وَلِأَنَّ الْوَسَطَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْقِيمَةِ فَكَانَتْ الْقِيمَةُ أَصْلًا فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَكَانَتْ أَصْلًا فِي التَّسْلِيمِ. وَأَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلزَّوْجِ لَا لِلْمَرْأَةِ فَلِأَنَّهُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَكَانَ الْخِيَارُ لَهُ. وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى بَيْتٍ وَخَادِمٍ فَلَهَا بَيْتٌ وَسَطٌ مِمَّا يُجَهَّزُ بِهِ النِّسَاءُ، وَهُوَ بَيْتُ النُّوَبِ لَا الْمَبْنِيُّ فَيَنْصَرِفُ إلَى فُرُشِ الْبَيْتِ فِي أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَفِي أَهْلِ الْبَادِيَةِ إلَى بَيْتِ الشَّعْرِ وَلَهَا خَادِمٌ وَسَطٌ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ؛ لِأَنَّ الْوَسَطَ مِنْهَا مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ، وَجَهَالَتُهُ مِثْلُ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلُّ فَلَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَى الْوَسَطِ. وَلَوْ وَصَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ جَيِّدٌ أَوْ وَسَطٌ أَوْ رَدِيءٌ فَلَهَا الْمَوْصُوفُ، وَلَوْ جَاءَ بِالْقِيمَةِ تُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ هِيَ الْأَصْلُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ الْجَيِّدُ وَالْوَسَطُ وَالرَّدِيءُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَكَانَتْ الْقِيمَةُ هِيَ الْمُعَرِّفَةُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، فَكَانَتْ أَصْلًا فِي الْوُجُوبِ فَكَانَتْ أَصْلًا فِي التَّسْلِيمِ، فَإِذَا جَاءَ بِهَا تُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهَا. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى وَصِيفٍ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَلَهَا الْوَسَطُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى وَصِيفٍ أَبْيَضَ لَا شَكَّ أَنَّهُ تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّهَا تَصِحُّ بِدُونِ الْوَصْفِ فَإِذَا وَصَفَ أَوْلَى، وَلَهَا الْوَصِيفُ الْجَيِّدُ؛ لِأَنَّ الْأَبْيَضَ عِنْدَهُمْ اسْمٌ لِلْجَيِّدِ ثُمَّ الْجَيِّدُ عِنْدَهُمْ هُوَ الرُّومِيُّ، وَالْوَسَطُ السِّنْدِيُّ، وَالرَّدِيءُ الْهِنْدِيُّ. وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْجَيِّدُ هُوَ التُّرْكِيُّ، وَالْوَسَطُ

الرُّومِيّ، وَالرَّدِيءُ الْهِنْدِيُّ، وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: قِيمَةُ الْخَادِمِ الْجَيِّدِ خَمْسُونَ دِينَارًا، وَقِيمَةُ الْوَسَطِ أَرْبَعُونَ، وَقِيمَةُ الرَّدِيءِ ثَلَاثُونَ، وَقِيمَةُ الْبَيْتِ الْوَسَطِ أَرْبَعُونَ دِينَارًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ زَادَ السِّعْرُ أَوْ نَقَصَ فَبِحَسَبِ الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ، وَهَذَا لَيْسَ بِاخْتِلَافٍ فِي الْحَقِيقَةِ فَفِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ كَانَتْ الْقِيَمُ مُسَعَّرَةً، وَفِي زَمَانِهِمَا تَغَيَّرَتْ الْقِيمَةُ، فَأَجَابَ كُلٌّ عَلَى عُرْفِ زَمَانِهِ وَالْمُعْتَبَرِ فِي ذِكْرِ الْقِيمَةِ بِلَا خِلَافٍ. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى بَيْتٍ وَخَادِمٍ حَتَّى وَجَبَ الْوَسَطُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ صَالَحَتْ مِنْ ذَلِكَ زَوْجَهَا عَلَى أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْوَسَطِ سِتِّينَ دِينَارًا أَوْ سَبْعِينَ دِينَارًا جَازَ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهَا بِهَذَا الصُّلْحِ أَسْقَطَتْ بَعْضَ حَقِّهَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِمَا ثَمَانُونَ فَإِذَا صَالَحَتْ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ أَسْقَطَتْ الْبَعْضَ. وَمَنْ لَهُ الْحَقُّ إذَا أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ وَاسْتَوْفَى الْبَاقِيَ جَازَ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى عَيْنِ الْحَقِّ بِإِسْقَاطِ الْبَعْضِ فَكَانَ الْبَاقِي عَيْنَ الْوَاجِبِ فَجَازَ فِيهِ التَّأْجِيلُ، فَإِنْ صَالَحَتْ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ، فَالْفَضْلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى إذَا لَمْ يَكُنْ مُسَعَّرًا، فَالْقِيمَةُ وَاجِبَةٌ بِالْعَقْدِ. وَمَنْ وَجَبَ لَهُ حَقٌّ فَصَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى مَعْلُومَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى مَكِيلٍ مَوْصُوفٍ أَوْ مَوْزُونٍ مَوْصُوفٍ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَالٌ مَعْلُومٌ لَا جَهَالَةَ فِيهِ بِوَجْهٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ثَبَتَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْبَيْعُ بِهِ وَالسَّلَمُ فِيهِ وَيُضْمَنُ بِالْمِثْلِ فَيُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى دَفْعِهِ وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ عِوَضِهِ إلَّا بِرِضَا الْمَرْأَةِ. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ وَلَمْ يَصِفْ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَعْلُومُ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ فَتَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ، فَإِنْ شَاءَ الزَّوْجُ أَعْطَاهَا الْوَسَطَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهَا قِيمَتَهُ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي جَامِعِهِ. وَذَكَرَ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ الْوَسَطِ (وَجْهُ) مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْقِيمَةَ أَصْلٌ فِي إيجَابِ الْوَسَطِ؛ لِأَنَّ بِهَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ وَسَطًا فَكَانَ أَصْلًا فِي التَّسْلِيمِ كَمَا فِي الْعَبْدِ (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا أَوْجَبَ الْوَسَطَ فَقَدْ تَعَيَّنَ الْوَسَطُ بِتَعْيِينِ الشَّرْعِ فَصَارَ كَمَا لَوْ عَيَّنَّهُ بِالتَّسْمِيَةِ. وَلَوْ سَمَّى الْوَسَطَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ كَذَا هَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ سَمَّى الْوَسَطَ وَنَصَّ عَلَيْهِ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَكَذَا إذَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الثِّيَابُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى ثِيَابٍ مَوْصُوفَةٍ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَلَّمَهَا وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ قِيمَتَهَا، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا سَمَّى لَهَا أَجَلًا أَوْ لَمْ يُسَمِّ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ أَجَّلَهَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهَا، وَإِنْ لَمْ يُؤَجِّلْهَا فَلَهَا الْقِيمَةُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا مِنْ غَيْرِ هَذَا التَّفْصِيلِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ (وَجْهُ) مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الثِّيَابَ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْقِيمَةِ لَا بِالْمِثْلِ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ وَلَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِنَفْسِهَا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ بَلْ بِوَاسِطَةِ الْأَجَلِ فَكَانَتْ كَالْعَبِيدِ، وَهُنَاكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ الْعَبْدِ وَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ الْقِيمَةَ كَذَا هَهُنَا، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: إذَا أَجَّلَهَا فَقَدْ صَارَتْ بِحَيْثُ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا مُطْلَقًا أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فِي السَّلَمِ فَيُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ فِي الْبَيْعِ لَا يَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ رَأْسًا، وَالْمَهْرُ فِي النِّكَاحِ يَحْتَمِلُ ضَرْبًا مِنْ الْجَهَالَةِ فَلَمَّا ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ فِي الْبَيْعِ فَلَأَنْ تَثْبُتَ فِي النِّكَاحِ أَوْلَى (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ امْتِنَاعَ ثُبُوتِهَا فِي الذِّمَّةِ لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ فَإِذَا وُصِفَتْ فَقَدْ زَالَتْ الْجَهَالَةُ فَيَصِحُّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهَا إلَّا مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهَا يَقِفُ عَلَى التَّأْجِيلِ، بَلْ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا مُؤَجَّلًا وَالْأَجَلُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْمَهْرِ فَكَانَ ثُبُوتُهَا فِي الْمَهْرِ غَيْرَ مُؤَجَّلَةٍ كَثُبُوتِهَا فِي السَّلَمِ مُؤَجَّلَةً فَيُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا. وَلَوْ قَالَ تَزَوَّجْتُكِ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ أَوْ عَلَى أَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفَيْنِ، فَالتَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُحَكَّمُ مَهْرُ مِثْلِهَا، فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا مِثْلَ الْأَدْوَنِ أَوْ أَقَلَّ فَلَهَا الْأَدْوَنُ إلَّا أَنْ يَرْضَى الزَّوْجُ بِالْأَرْفَعِ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا مِثْلَ الْأَرْفَعِ فَلَهَا الْأَرْفَعُ إلَّا أَنْ تَرْضَى الْمَرْأَةُ بِالْأَدْوَنِ وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا فَوْقَ الْأَدْوَن أَوْ أَقَلَّ مِنْ الْأَرْفَع فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: التَّسْمِيَةُ صَحِيحَةٌ وَلَهَا الْأَدْوَنُ عَلَى كُلِّ حَالٍ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَصِيرَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إيجَابِ الْمُسَمَّى، وَلَا تَعَذُّرَ هَهُنَا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إيجَابُ الْأَقَلِّ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا، وَفِي الزِّيَادَةِ شَكٌّ فَيَجِبُ

الْمُتَيَقَّنُ بِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ أَوْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى أَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ أَنَّهُ تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَتَجِبُ الْأَلْفُ كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَهْرَ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ غَيْرَ عَيْنٍ؛ لِأَنَّ كَلِمَة (أَوْ) تَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ غَيْرَ عَيْنٍ، وَأَحَدُهُمَا غَيْرُ عَيْنٍ مَجْهُولٌ فَكَانَ الْمُسَمَّى مَجْهُولًا، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ أَكْثَرُ مِنْ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَلَا تَرَى أَنَّ كَلِمَةَ (أَوْ) تَدْخُلُ بَيْنَ أَقَلِّ الْأَشْيَاءِ وَأَكْثَرِهَا فَتَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ فَيُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ الْمُوجَبُ الْأَصْلِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَّا عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِتَعْيِينِ الْمُسَمَّى وَلَمْ يُوجَدْ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ عَنْ الْأَدْوَن؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ رَضِيَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ وَلَا يُزَادُ عَلَى الْأَرْفَعِ لِرِضَا الْمَرْأَةِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا مَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الْعَبْدِ أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ أَنَّ الزَّوْجَ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَدْفَعَ أَيُّهُمَا شَاءَ أَوْ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ بِالْخِيَارِ فِي ذَلِكَ تَأْخُذُ أَيُّهُمَا شَاءَتْ أَنَّهُ تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ. وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى مَجْهُولًا؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْجَهَالَةَ يُمْكِنُ رَفْعُهَا أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَرْتَفِعُ بِاخْتِيَارِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فَقَلَّتْ الْجَهَالَةُ فَكَانَتْ كَجَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَلَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ، هَهُنَا لَا سَبِيلَ إلَى إزَالَةِ هَذِهِ الْجَهَالَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خِيَارٌ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَخْتَارَ غَيْرَ مَا يَخْتَارُهُ صَاحِبُهُ فَفَحُشَتْ الْجَهَالَةُ فَمَنَعَتْ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ وَالْخُلْعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا مُوجِبٌ أَصْلِيٌّ يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي الْمُسَمَّى فَوَجَبَ الْمُتَيَقَّنُ مِنْ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ إيجَابَهُ أَوْلَى مِنْ الْإِيقَاعِ مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ أَصْلًا لِعَدَمِ رِضَا الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ بِذَلِكَ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَهُ مُوجِبٌ أَصْلِيٌّ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَّا عِنْدَ تَعَيُّنِ الْمُسَمَّى وَلَا تَعَيُّنَ مَعَ الشَّكِّ بِإِدْخَالِ كَلِمَةِ الشَّكِّ فَالْتَحَقَتْ التَّسْمِيَةُ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ وَاجِبَ الْمَصِيرِ إلَيْهِ. وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَلْفٍ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ أَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ إنْ لَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ بَلَدِهَا وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ أَخْرَجَهَا مِنْ بَلَدِهَا أَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ إنْ كَانَتْ مَوْلَاةً وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ كَانَتْ عَرَبِيَّةً وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْمُؤَبَّدَ الَّذِي لَا تَوْقِيتَ فِيهِ لَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ لِمَا قُلْنَا: إنَّ الشُّرُوطَ لَوْ أَثَّرَتْ لَأَثَّرَتْ فِي الْمَهْرِ بِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ، وَفَسَادُ التَّسْمِيَةِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْعَدَمِ ثُمَّ عَدَمُ التَّسْمِيَةِ رَأْسًا لَا يُوجِبُ فَسَادَ النِّكَاحِ، فَفَسَادُهَا أَوْلَى. وَأَمَّا الْمَهْرُ فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ وَقَعَ الْوَفَاءُ بِهِ فَلَهَا مَا سَمَّى عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الْوَفَاءُ بِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ أَوْ فَعَلَ خِلَافَ مَا شَرَطَ لَهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يُنْقَصُ مِنْ الْأَصْلِ وَلَا يُزَادُ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ وَقَالَ زُفَرُ: الشَّرْطَانِ فَاسِدَانِ، وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ مَسْأَلَةٍ مَشْهُورَةٍ فِي الْإِجَارَاتِ، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ رَجُلٌ ثَوْبًا إلَى الْخَيَّاطِ فَيَقُولُ: إنْ خَيَّطْتَهُ الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خَيَّطْتَهُ غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرْطَيْنِ يُخَالِفُ الْآخَرَ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ جَهَالَةَ التَّسْمِيَةِ فَتَصِحُّ التَّسْمِيَتَانِ، كَمَا إذَا قَالَ: لِلْخَيَّاطِ إنْ خَيَّطْتَهُ رُومِيًّا فَبِدِرْهَمٍ، وَإِنْ خَيَّطْتَهُ فَارِسِيًّا فَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ وَقَعَ صَحِيحًا بِالْإِجْمَاعِ وَمُوجِبُهُ رَدُّ مَهْرِ الْمِثْلِ إنْ لَمْ يَقَعْ الْوَفَاءُ بِهِ فَكَانَتْ التَّسْمِيَةُ الْأُولَى صَحِيحَةً، فَلَوْ صَحَّ الشَّرْطُ الثَّانِي لَكَانَ نَافِيًا مُوجَبَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ، وَالتَّسْمِيَةُ الْأُولَى وَالتَّسْمِيَةُ بَعْدَ مَا صَحَّتْ لَا يَجُوزُ نَفْيُ مُوجَبِهَا فَبَطَلَ الشَّرْطُ الثَّانِي ضَرُورَةً. وَقَالَ: إنَّ مَا شَرَطَ الزَّوْجُ مِنْ طَلَاقِ الْمَرْأَةِ وَتَرْكِ الْخُرُوجِ مِنْ الْبَلَدِ لَا يَلْزَمُهُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَعْدٌ وَعَدَ لَهَا فَلَا يُكَلَّفُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى حُكْمِهِ أَوْ حُكْمِ أَجْنَبِيٍّ أَنَّ التَّسْمِيَةَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ مَجْهُولٌ وَجَهَالَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيمِ، ثُمَّ إنْ كَانَ التَّزَوُّجُ عَلَى حُكْمِ الزَّوْجِ يُنْظَرُ إنْ حَكَمَ بِمَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ أَكْثَرَ فَلَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِبَذْلِ الزِّيَادَةِ وَإِنْ حَكَمَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إلَّا أَنْ تَرْضَى بِالْأَقَلِّ، وَإِنْ كَانَ التَّزَوُّجُ عَلَى حُكْمِهَا فَإِنْ حَكَمَتْ بِمَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ أَقَلَّ فَلَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا، وَإِنْ حَكَمَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا لَمْ تَجُزْ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ إلَّا إذَا رَضِيَ الزَّوْجُ بِالزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ التَّزَوُّج عَلَى حُكْمِ أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ حَكَمَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ جَازَ، وَإِنْ حَكَمَ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا الزَّوْجِ، وَإِنْ حَكَمَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَالزَّوْجُ لَا يَرْضَى

بِالزِّيَادَةِ وَالْمَرْأَةُ لَا تَرْضَى بِالنُّقْصَانِ؛ فَلِذَلِكَ تَوَقَّفَ الْأَمْرُ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عَلَى رِضَاهُمَا، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَا يَكْسِبُ الْعَامَ أَوْ يَرِثُ فَهَذِهِ تَسْمِيَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَقَدْ انْضَمَّ إلَى الْجَهَالَةِ الْخَطَرُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكْسِبُ وَقَدْ لَا يَكْسِبُ ثُمَّ الْجَهَالَةُ بِنَفْسِهَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ، فَمَعَ الْخَطَرِ أَوْلَى. وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ عَلَى صَدَاقٍ وَاحِدٍ يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَقُولَ تَزَوَّجْتُكُمَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَتَا، فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَيَقْسِمُ الْأَلْفَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَهْرِ مِثْلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَلْفَ بَدَلًا عَنْ بُضْعَيْهِمَا، وَالْبَدَلُ يُقْسَمُ عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْمُبْدَلِ، وَالْمُبْدَلُ هُوَ الْبُضْعُ فَيُقْسَمُ الْبَدَلُ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِ، وَقِيمَتُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَنَّهُ يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا كَذَا هَذَا، فَإِنْ قَبِلَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى جَازَ النِّكَاحُ فِي الَّتِي قَبِلَتْ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: بِعْتُ هَذَا الْعَبْدَ مِنْكُمَا فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ أَصْلًا، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: تَزَوَّجْتُكُمَا فَقَدْ جَعَلَ قَبُولَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَرْطًا لِقَبُولِ الْأُخْرَى، وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، فَكَانَ إدْخَالُ الشَّرْطِ فِيهِ فَاسِدًا، وَالنِّكَاحُ لَا يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَالْبَيْعُ يَفْسُدُ بِهِ، وَإِذَا جَازَ النِّكَاحُ تُقْسَمُ الْأَلْفُ عَلَى قَدْرِ مَهْرِ مِثْلِهِمَا لِمَا قُلْنَا فَمَا أَصَابَ حِصَّةَ الَّتِي قَبِلَتْ فَلَهَا ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَالْبَاقِي يَعُودُ إلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ فِي عِدَّةٍ مِنْ زَوْجٍ أَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَلْفِ الَّتِي يَصِحُّ نِكَاحُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا تُقْسَمُ الْأَلْفُ عَلَى قَدْرِ مَهْرِ مِثْلَيْهِمَا فَمَا أَصَابَ حِصَّةَ الَّتِي صَحَّ نِكَاحُهَا فَلَهَا ذَلِكَ، وَالْبَاقِي يَعُودُ إلَى الزَّوْجِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّهُ جَعَلَ الْأَلْفَ مَهْرًا لَهُمَا جَمِيعًا، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَالِحٌ لِلنِّكَاحِ حَقِيقَةً لِكَوْنِهَا قَابِلَةً لِلْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ الْمُحَرَّمَةَ مِنْهُمَا لَا تُزَاحِمُ صَاحِبَتَهَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ؛ لِخُرُوجِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِذَلِكَ شَرْعًا مَعَ قِيَامِ الْمَحَلِّيَّةِ حَقِيقَةً، فَيَجِبُ إظْهَارُ أَثَرِ الْمَحَلِّيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي الِانْقِسَامِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَهْرَ يُقَابِلُ مَا يُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَهُوَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ، وَهَذَا الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْمُحَرَّمَةِ لَا يُمْكِنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ لِخُرُوجِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلْعَقْدِ شَرْعًا، وَالْمَوْجُودُ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَالْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ سَوَاءٌ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ الْمَهْرُ بِمُقَابَلَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالْأَتَانِ وَقَالَ: تَزَوَّجْتُكُمَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ دَخَلَ الزَّوْجُ بِاَلَّتِي فَسَدَ نِكَاحُهَا فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ التَّسْمِيَةُ فِي حَقِّهَا فَالْتَحَقَتْ التَّسْمِيَةُ بِالْعَدَمِ، وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يُجَاوِزُ حِصَّتَهَا مِنْ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَعْتَبِرَانِ التَّسْمِيَةَ فِي حَقِّهِمَا فِي حَقِّ الِانْقِسَامِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ عَلَى السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ أَنَّهَا تَصِحُّ أَوْ لَا تَصِحُّ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ السُّمْعَةَ فِي الْمَهْرِ إمَّا أَنْ تَكُونَ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي جِنْسِهِ فَإِنْ كَانَتْ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ بِأَنْ تَوَاضَعَا فِي السِّرِّ وَالْبَاطِنِ، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَكِنَّهُمَا يُظْهِرَانِ فِي الْعَقْدِ أَلْفَيْنِ لِأَمْرٍ حَمَلَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَقُولَا: أَلْفٌ مِنْهُمَا سُمْعَةٌ، فَالْمَهْرُ مَا ذَكَرَاهُ فِي الْعَلَانِيَةِ وَذَلِكَ أَلْفَانِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ مَا يَكُونُ مَذْكُورًا فِي الْعَقْدِ وَالْأَلْفَانِ مَذْكُورَتَانِ فِي الْعَقْدِ فَإِذَا لَمْ يَجْعَلَا الْأَلْفَ مِنْهُمَا سُمْعَةً صَحَّتْ تَسْمِيَةُ الْأَلْفَيْنِ وَإِنْ قَالَا الْأَلْفُ مِنْهُمَا سُمْعَةٌ، فَالْمَهْرُ مَا ذَكَرَاهُ فِي السِّرِّ وَهُوَ الْأَلْفُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَهْرَ مَا أَظْهَرَاهُ وَهُوَ الْأَلْفَانِ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَهْرَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُمْلَكُ بِهِ الْبُضْعُ، وَاَلَّذِي يُمْلَكُ بِهِ الْبُضْعُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْعَقْدِ وَأَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَعْلُومٌ فَتَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ وَيَصِيرُ مَهْرًا وَلَا تُعْتَبَرُ الْمُوَاضَعَةُ السَّابِقَةُ (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُمَا لَمَّا قَالَا: الْأَلْفُ مِنْهُمَا سُمْعَةٌ فَقَدْ هَزَلَا بِذَلِكَ قَدْرَ الْأَلْفِ حَيْثُ لَمْ يَقْصِدَا بِهِ مَهْرًا، وَالْمَهْرُ مِمَّا يَدْخُلُهُ الْجَدُّ وَالْهَزْلُ فَفَسَدَتْ تَسْمِيَتُهُ قَدْرَ الْأَلْفِ وَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ، فَبَقِيَ الْعَقْدُ عَلَى أَلْفٍ، وَإِنْ كَانَتْ السُّمْعَةُ مِنْ جِنْسِ الْمُهْرِيَّاتِ تَوَاضَعَا وَاتَّفَقَا فِي السِّرِّ وَالْبَاطِنِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلَكِنَّهُمَا يُظْهِرَانِ فِي الْعَقْدِ مِائَةَ دِينَارٍ، فَإِنْ لَمْ يَقُولَا: رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ فَالْمَهْرُ مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ قَالَا: رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ فَتَعَاقَدَا عَلَى ذَلِكَ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّ لَهَا مَهْرَ الْعَلَانِيَةِ مِائَةَ دِينَارٍ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمِائَةَ

فصل أن يكون النكاح صحيحا

دِينَارٍ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْعَقْدِ، وَالْمَهْرُ اسْمٌ لِلْمَذْكُورِ فِي الْعَقْدِ لِمَا بَيَّنَّا فَيُعْتَبَرُ الْمَذْكُورُ وَلَا تُعْتَبَرُ الْمُوَاضَعَةُ السَّابِقَةُ (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَلْفُ لَمْ يَذْكُرَاهُ فِي الْعَقْدِ، وَمَا ذَكَرَاهُ وَهُوَ الْمِائَةُ دِينَارٍ مَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ فَلَمْ تُوجَدْ التَّسْمِيَةُ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا لَمْ يَتَعَاقَدَا فِي السِّرِّ وَالْبَاطِنِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْمَهْرِ قَدْرٌ أَوْ جِنْسٌ ثُمَّ يَتَعَاقَدَا عَلَى مَا تَوَاضَعَا وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ. فَأَمَّا إذَا تَعَاقَدَا فِي السِّرِّ عَلَى قَدْرٍ مِنْ الْمَهْرِ أَوْ جِنْسٍ مِنْهُ ثُمَّ اتَّفَقَا وَتَوَاضَعَا فِي السِّرِّ عَلَى أَنْ يُظْهِرَا فِي عَقْدِ الْعَلَانِيَةِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ جِنْسًا آخَرَ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا فِي الْمُوَاضَعَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ ذَلِكَ سُمْعَةٌ، فَالْمَهْرُ مَا ذَكَرَاهُ فِي الْعَلَانِيَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى الْمَهْرِ الْأَوَّلِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ، فَجَمِيعُهُ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى الْمَهْرِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ فَقَدْرُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَهْرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ زِيَادَةً. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: الْمَهْرُ مَهْرُ السِّرِّ (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْمَهْرَ مَا يَكُونُ مَذْكُورًا فِي الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالْإِقَالَةَ؛ فَالثَّانِي لَا يَرْفَعُ الْأَوَّلَ فَلَمْ يَكُنْ الثَّانِي عَقْدًا فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ الْمَذْكُورُ عِنْدَهُ، فَكَانَ الْمَهْرُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّهُمَا قَصَدَا شَيْئَيْنِ اسْتِئْنَافُ الْعَقْدِ وَزِيَادَةٍ فِي الْمَهْرِ، وَاسْتِئْنَافُ الْعَقْدِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَالزِّيَادَةُ صَحِيحَةٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ زَادَ أَلْفًا أُخْرَى أَوْ مِائَةَ دِينَارٍ، وَإِنْ ذَكَرَا فِي الْمُوَاضَعَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ الزِّيَادَةَ أَوْ الْجِنْسَ الْآخَرَ سُمْعَةٌ، فَالْمَهْرُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي لَغْوٌ؛ لِأَنَّهُمَا هَزَلَا بِهِ حَيْثُ جَعَلَاهُ سُمْعَةً، وَالْهَزْلُ يَعْمَلُ فِي الْمَهْرِ فَيُبْطِلُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ صَحِيحًا] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ صَحِيحًا فَلَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ حَتَّى لَا يَلْزَمَ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنِكَاحٍ لِمَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - إلَّا أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الدُّخُولُ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ لَكِنْ بِالْوَطْءِ لَا بِالْعَقْدِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى جَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا فَلَهَا الْجَارِيَةُ وَمَا فِي بَطْنِهَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْجَارِيَةِ مَهْرًا قَدْ صَحَّتْ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ مَعْلُومٌ وَاسْتِثْنَاءُ مَا فِي بَطْنِهَا لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا فَإِطْلَاقُ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ يَتَنَاوَلُهُ فَاسْتِثْنَاؤُهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ، وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ شَرْطًا فَاسِدًا فَيَلْغُو الِاسْتِثْنَاءُ وَيَلْتَحِقُ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ رَأْسًا، وَكَذَلِكَ إذَا وَهَبَ جَارِيَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا أَوْ خَالَعَ أَوْ صَالَحَ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَا تُبْطِلُهَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى جَارِيَةٍ فَاسْتُحِقَّتْ وَهَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَلَهَا قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ قَدْ صَحَّتْ لِكَوْنِ الْمُسَمَّى مَالًا مُتَقَوِّمًا مَعْلُومًا فَالْعَقْدُ انْعَقَدَ مُوجِبَ التَّسْلِيمَ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَالْهَلَاكِ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهَا فَتَجِبُ قِيمَتُهَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ إذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا يَغْرَمُ الْبَائِعُ قِيمَتَهُ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الثَّمَنُ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ، وَإِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ لَمْ يَبْقَ وُجُوبُ التَّسْلِيمِ، فَلَا تَجِبُ الْقِيمَةُ ثُمَّ تَفْسِيرُ مَهْرِ الْمِثْلِ هُوَ أَنْ يَعْتَبِرَ مَهْرَهَا بِمَهْرِ مِثْلِ نِسَائِهَا مِنْ أَخَوَاتِهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا أَوْ لِأَبِيهَا وَعَمَّاتِهَا وَبَنَاتِ أَعْمَامِهَا فِي بَلَدِهَا وَعَصْرِهَا عَلَى مَالِهَا وَجَمَالِهَا وَسِنِّهَا وَعَقْلِهَا وَدِينِهَا؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَكَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ وَالسِّنِّ وَالْعَقْلِ وَالدِّينِ فَيَزْدَادُ مَهْرُ الْمَرْأَةِ؛ لِزِيَادَةِ مَالِهَا وَجَمَالِهَا وَعَقْلِهَا وَدِينِهَا وَحَدَاثَةِ سِنِّهَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِيَكُونَ الْوَاجِبُ لَهَا مَهْرَ مِثْلِ نِسَائِهَا إذْ لَا يَكُونُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِدُونِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا، وَلَا يُعْتَبَرُ مَهْرُهَا بِمَهْرِ أُمِّهَا وَلَا بِمَهْرِ خَالَتِهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ قَبِيلَتِهَا مِنْ بَنَاتِ أَعْمَامِهَا؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَخْتَلِفُ بِشَرَفِ النَّسَبِ، وَالنَّسَبُ مِنْ الْآبَاءِ لَا مِنْ الْأُمَّهَاتِ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهَا شَرَفُ النَّسَبِ مِنْ قَبِيلِ أَبِيهَا أَوْ قَبِيلَتِهِ لَا مِنْ قِبَلِ أُمِّهَا وَعَشِيرَتِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَجِبُ بِهِ الْمَهْرُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجِبُ بِهِ الْمَهْرُ وَبَيَانُ وَقْتِ وُجُوبِهِ وَكَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ فَنَقُولُ: وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْمَهْرُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ يَجِبُ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ إحْدَاثُ الْمِلْكِ، وَالْمَهْرُ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ إحْدَاثِ الْمِلْكِ؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَهُوَ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَهْرِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ الْعِوَضِ كَالْبَيْعِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَهْرُ مَفْرُوضًا

فِي الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ كَانَ مَفْرُوضًا لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْفَرْضِ أَوْ بِالدُّخُولِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَفِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ يَجِبُ الْمَهْرُ لَكِنْ لَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ بَلْ بِوَاسِطَةِ الدُّخُولِ؛ لِعَدَمِ حُدُوثِ الْمِلْكِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَصْلًا وَعَدَمِ حُدُوثِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ مُطْلَقًا؛ وَلِانْعِدَامِ الْمُعَاوَضَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ رَأْسًا وَانْعِدَامِهَا بَعْدَ الدُّخُولِ مُطْلَقًا؛ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِهِ. وَيَجِبُ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجِبُ بِإِحْدَاثِ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ يَحْدُثُ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ؛ وَلِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ الْمُطْلَقَةَ تَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَقَدْ ثَبَتَ الْمِلْكُ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَهُوَ الْبُضْعُ عَقِيبَ الْعَقْدِ فَيَثْبُتُ فِي الْعِوَضِ الْآخَرِ عَقِيبَهُ تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا، وَإِنَّمَا يَتَضَيَّقُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ كَالثَّمَنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ أَنَّهُ يَجِبُ بِنَفْسِ الْبَيْعِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا، وَإِنَّمَا يَتَضَيَّقُ عِنْدَ مُطَالَبَةِ الْبَائِعِ. وَإِذَا طَالَبَتْ الْمَرْأَةُ بِالْمَهْرِ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمُهُ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي الْمَرْأَةِ مُتَعَيِّنٌ، وَحَقُّ الْمَرْأَةِ فِي الْمَهْرِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ فَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ التَّسْلِيمُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ لِيَتَعَيَّنَ كَمَا فِي الْبَيْعِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُسَلِّمُ الثَّمَنَ أَوَّلًا، ثُمَّ يُسَلِّمُ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ إلَّا أَنَّ الثَّمَنَ فِي بَابِ الْبَيْعِ إذَا كَانَ دَيْنًا يُقَدَّمُ تَسْلِيمُهُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِيَتَعَيَّنَ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا يُسَلَّمَانِ مَعًا وَهَهُنَا يُقَدَّمُ تَسْلِيمُ الْمَهْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ وَالتَّسَلُّمَ هَهُنَا مَعًا مُتَعَذِّرٌ وَلَا تَعَذُّرَ فِي الْبَيْعِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لِلْمَرْأَةِ قَبْلَ دُخُولِ الزَّوْجِ بِهَا أَنْ تَمْنَعَ الزَّوْجَ عَنْ الدُّخُولِ حَتَّى يُعْطِيَهَا جَمِيعَ الْمَهْرِ ثُمَّ تُسَلِّمُ نَفْسَهَا إلَى زَوْجِهَا، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ انْتَقَلَتْ إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ حَقُّهَا فَيَكُونُ تَسْلِيمًا بِتَسْلِيمٍ، وَلِأَنَّ الْمَهْرَ عِوَضٌ عَنْ بُضْعِهَا كَالثَّمَنِ عِوَضٌ عَنْ الْمَبِيعِ وَلِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ فَكَانَ لِلْمَرْأَةِ حَقُّ حَبْسِ نَفْسِهَا؛ لِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا عَنْ السَّفَرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ وَزِيَارَةِ أَهْلِهَا قَبْلَ إيفَاءِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِاسْتِيفَاءِ الْمُسْتَحَقِّ فَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا تَسْلِيمُ النَّفْسِ قَبْلَ إيفَاءِ الْمَهْرِ لَمْ يَثْبُتْ لِلزَّوْجِ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ، وَإِذَا أَوْفَاهَا الْمَهْرَ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا مِنْ سَفَرِ الْحَجِّ إذَا كَانَ عَلَيْهَا حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَوَجَدَتْ مَحْرَمًا، وَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا لِأَنَّهُ إذَا أَوْفَاهَا حَقَّهَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِنْ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ إلَّا دِرْهَمًا وَاحِدًا، فَلَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا وَأَنْ تَخْرُجَ مِنْ مِصْرِهَا حَتَّى تَقْبِضَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ لَا يَتَجَزَّأُ فَلَا يَبْطُلُ إلَّا بِتَسْلِيمِ كُلِّ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ. وَلَوْ خَرَجَتْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْهَا مَا قَبَضَتْ؛ لِأَنَّهَا قَبَضَتْهُ بِحَقٍّ لِكَوْنِ الْمَقْبُوضِ حَقًّا لَهَا، وَالْمَقْبُوضُ بِحَقٍّ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ هَذَا إذَا كَانَ الْمَهْرُ مُعَجَّلًا، بِأَنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقٍ عَاجِلٍ أَوْ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْ التَّعْجِيلِ وَالتَّأْجِيلِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمَسْكُوتِ حُكْمُ الْمُعَجَّلِ؛ لِأَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَالْمَرْأَةُ عَيَّنَتْ حَقَّ الزَّوْجِ فَيَجِبُ أَنْ يُعَيِّنَ الزَّوْجُ حَقَّهَا، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّسْلِيمِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا بِأَنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ آجِلٍ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْوَقْتَ لِشَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ أَصْلًا بِأَنْ قَالَ: تَزَوَّجْتُكِ عَلَى أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ، أَوْ ذَكَرَ وَقْتًا مَجْهُولًا جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً بِأَنْ قَالَ: تَزَوَّجْتُك عَلَى أَلْفٍ إلَى وَقْتِ الْمَيْسَرَةِ أَوْ هُبُوبِ الرِّيَاحِ أَوْ إلَى أَنْ تُمْطِرَ السَّمَاءُ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لَمْ يَصِحَّ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْأَجَلُ وَلَوْ قَالَ: نِصْفُهُ مُعَجَّلٌ وَنِصْفُهُ مُؤَجَّلٌ كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ فِي دِيَارِنَا وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَقْتَ لِلْمُؤَجَّلِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ الْأَجَلُ وَيَجِبُ حَالًّا كَمَا إذَا قَالَ: تَزَوَّجْتُك عَلَى أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ وَيَقَعُ ذَلِكَ عَلَى وَقْتِ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْمَوْتِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ وَهُوَ أَنَّ رَجُلًا كَفَلَ لِامْرَأَةٍ عَنْ زَوْجِهَا نَفَقَةَ كُلِّ شَهْرٍ، ذُكِرَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ شَهْرٍ وَاحِدٍ فِي الِاسْتِحْسَانِ، وَذُكِرَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ نَفَقَةٌ كُلَّ شَهْرٍ مَا دَامَ النِّكَاحُ قَائِمًا بَيْنَهُمَا، فَكَذَلِكَ هَهُنَا وَإِنْ ذَكَرَ وَقْتًا مَعْلُومًا لِلْمَهْرِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ أَخِيرًا لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ الْمُدَّةُ قَصِيرَةً أَوْ طَوِيلَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً أَوْ مَجْهُولَةً جَهَالَةً مُتَقَارِبَةً كَجَهَالَةِ الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مِنْ حُكْمِ الْمَهْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ تَسْلِيمُهُ عَلَى تَسْلِيمِ النَّفْسِ بِكُلِّ حَالٍ أَلَا تَرَى

أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ فَلَمَّا قَبِلَ الزَّوْجُ التَّأْجِيلَ كَانَ ذَلِكَ رِضًا بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ فِي الْقَبْضِ بِخِلَافِ الْبَائِعِ إذَا أَجَّلَ الثَّمَنَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ وَيَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الْحَبْسِ بِتَأْجِيلِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الثَّمَنِ تَقْدِيمُ تَسْلِيمِهِ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لَا مَحَالَةَ أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَنَ إذَا كَانَ عَيْنًا يُسَلَّمَانِ مَعًا فَلَمْ يَكُنْ قَبُولُ الْمُشْتَرِي التَّأْجِيلَ رِضًا مِنْهُ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ فِي الْقَبْضِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ بِالتَّأْجِيلِ رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّ نَفْسِهَا فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الزَّوْجِ كَالْبَائِعِ إذَا أَجَّلَ الثَّمَنَ أَنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ التَّأْجِيلُ إلَى مُدَّةٍ مَجْهُولَةٍ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ ثَمَّةَ لَمْ يَصِحَّ فَلَمْ يَثْبُتْ الْأَجَلُ فَبَقِيَ الْمَهْرُ حَالًّا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْ شَأْنِ الْمَهْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ تَسْلِيمُهُ عَلَى تَسْلِيمِ النَّفْسِ فَنَقُولُ: نَعَمْ إذَا كَانَ مُعَجَّلًا أَوْ مَسْكُوتًا عَنْ الْوَقْتِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا تَأْجِيلًا صَحِيحًا فَمِنْ حُكْمِهِ أَنْ يَتَأَخَّرَ تَسْلِيمُهُ عَنْ تَسْلِيمِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ تَسْلِيمِهِ ثَبَتَ حَقًّا لَهَا؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْمُسَاوَاةِ حَقًّا لَهَا، فَإِذَا أَجَّلَتْهُ فَقَدْ أَسْقَطَتْ حَقَّ نَفْسِهَا فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ زَوْجِهَا؛ لِانْعِدَامِ الْإِسْقَاطِ مِنْهُ وَالرِّضَا بِالسُّقُوطِ، لِهَذَا الْمَعْنَى سَقَطَ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الْحَبْسِ بِتَأْجِيلِ الثَّمَنِ كَذَا هَذَا وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا أَجَلًا مَعْلُومًا فَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا إذَا أَعْطَاهَا الْحَالَّ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَهُمَا؛ فَلِأَنَّ الْكُلَّ لَوْ كَانَ مُؤَجَّلًا لَكَانَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَإِذَا كَانَ الْبَعْضُ مُعَجَّلًا وَأَعْطَاهَا ذَلِكَ أَوْلَى، وَالْفِقْهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الزَّوْجَ مَا رَضِيَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ لَمَّا عَجَّلَ الْبَعْضَ فَلَمْ يَرْضَ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ عَنْ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَضِيَ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِشَرْطِ التَّعْجِيلِ فَائِدَةٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْكُلُّ مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَبِلَ التَّأْجِيلَ فَقَدْ رَضِيَ؛ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ. وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى حَلَّ أَجَلُ الْبَاقِي فَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا إذَا أَعْطَاهَا الْحَالَّ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ مُؤَجَّلًا أَجَلًا مَعْلُومًا وَشَرَطَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهَا كُلَّهُ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ الدُّخُولَ لَمْ يَرْضَ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ. وَلَوْ كَانَ الْمَهْرُ مُؤَجَّلًا أَجَلًا مَعْلُومًا فَحَلَّ الْأَجَلُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا لِتَسْتَوْفِيَ الْمَهْرَ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ قَدْ سَقَطَ بِالتَّأْجِيلِ، وَالسَّاقِطُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ كَالثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ، وَعَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا؛ لِأَنَّ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ فَبَعْدَهُ أَوْلَى. وَلَوْ كَانَ الْمَهْرُ حَالًّا فَأَخَّرَتْهُ شَهْرًا لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا تَأْجِيلٌ طَارِئٌ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ التَّأْجِيلِ الْمُقَارِنِ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ وَلَوْ دَخَلَ الزَّوْجُ بِهَا بِرِضَاهَا - وَهِيَ مُكَلَّفَةٌ - فَلَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا حَتَّى تَأْخُذَ الْمَهْرَ، وَلَهَا أَنْ تَمْنَعَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ بَلَدِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا خَلَا بِهَا. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهَا بِالْوَطْءِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ سَلَّمَتْ جَمِيعَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِرِضَاهَا، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ التَّسْلِيمِ فَبَطَلَ حَقُّهَا فِي الْمَنْعِ كَالْبَائِعِ إذَا سَلَّمَ الْمَبِيعَ، وَلَا شَكَّ فِي الرِّضَا وَأَهْلِيَّةِ التَّسْلِيمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا سَلَّمَتْ جَمِيعَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ، وَلِهَذَا يَتَأَكَّدُ جَمِيعُ الْمَهْرِ بِالْوَطْءِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمِيعَ الْبَدَلِ لَا يَتَأَكَّدُ بِتَسْلِيمِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَمَا يَتَكَرَّرُ مِنْ الْوَطَآتِ مُلْتَحِقٌ بِالِاسْتِخْدَامِ فَلَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَهْرَ مُقَابَلٌ بِجَمِيعِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فِي جَمِيعِ الْوَطَآتِ الَّتِي تُوجَدُ فِي هَذَا الْمِلْكِ لَا بِالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْأَةِ الْأُولَى خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إخْلَاءُ شَيْءٍ مِنْ مَنَافِعِ الْبُضْعِ عَنْ بَدَلٍ يُقَابِلُهُ احْتِرَامًا لِلْبُضْعِ وَإِبَانَةً لِخَطَرِهِ، فَكَانَتْ هِيَ بِالْمَنْعِ مُمْتَنِعَةً عَنْ تَسْلِيمِ مَا يُقَابِلُهُ بَدَلٌ فَكَانَ لَهَا ذَلِكَ بِالْوَطْءِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَكَانَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَهُ عَنْ الْأَوَّلِ حَتَّى تَأْخُذَ مَهْرَهَا، فَكَذَا عَنْ الثَّانِي وَالثَّالِثِ إلَّا أَنَّ الْمَهْرَ يَتَأَكَّدُ بِالْوَطْءِ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ مَعْلُومٌ وَمَا وَرَاءَهُ مَعْدُومٌ مَجْهُولٌ فَلَا يُزَاحِمُهُ فِي الِانْقِسَامِ ثُمَّ عِنْدَ الْوُجُودِ يَتَعَيَّنُ قَطْعًا فَيَصِيرُ مُزَاحِمًا فَيَأْخُذُ قِسْطًا مِنْ الْبَدَلِ كَالْعَبْدِ إذَا جَنَى جِنَايَةً يَجِبُ دَفْعُهُ بِهَا فَإِنْ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى، فَالثَّانِيَةُ تُزَاحِمُ الْأُولَى عِنْدَ وُجُودِهَا فِي وُجُوبِ الدَّفْعِ بِهَا. وَكَذَا الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى بِخِلَافِ الْبَائِعِ إذَا سَلَّمَ الْمَبِيعَ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ أَوْ بَعْدَمَا قَبَضَ شَيْئًا مِنْهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْتَرِدَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ كُلَّ الْمَبِيعِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيمَا سَلَّمَ، وَهَهُنَا مَا سَلَّمَتْ كُلَّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَلْ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُ الْبُضْعِ وَمَا سَلَّمَتْ كُلَّ الْمَنَافِعِ بَلْ بَعْضَهَا دُونَ الْبَعْضِ، فَهِيَ بِالْمَنْعِ تَمْتَنِعُ عَنْ تَسْلِيمِ مَا لَمْ يَحْصُلْ مُسَلَّمًا بَعْدُ، فَكَانَ لَهَا ذَلِكَ كَالْبَائِعِ إذَا

سَلَّمَ بَعْضَ الْمَبِيعِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ كَانَ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْبَاقِي لِيَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ كَذَا هَذَا، وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ يُفْتِي فِي مَنْعِهَا نَفْسَهَا بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَفِي السَّفَرِ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْدَ إيفَاءِ الْمَهْرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْقُلَهَا حَيْثُ شَاءَ وَحَكَى الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي أَنَّ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمَهْرِ لَيْسَ لِزَوْجِهَا أَنْ يُسَافِرَ بِهَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَلَوْ وَجَدَتْ الْمَرْأَةُ الْمَهْرَ زُيُوفًا أَوْ سُتُّوقًا فَرَدَّتْ أَوْ كَانَ الْمَقْبُوضُ عَرَضًا اشْتَرَتْهُ مِنْ الزَّوْجِ بِالْمَهْرِ فَاسْتُحِقَّ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَقَدْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا مُسْتَقِيمٌ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ التَّسْلِيمَ مِنْ غَيْرِ قَبْضِ الْمَهْرِ يُبْطِلُ حَقَّ الْمَنْعِ، وَهَذَا تَسْلِيمٌ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَبْضَ بِالرَّدِّ وَالِاسْتِحْقَاقِ انْتَقَضَ وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهَا لَمْ تَقْبِضْهُ وَقَبْلَ الْقَبْضِ الْجَوَابُ هَكَذَا عِنْدَهُمَا. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا، ثُمَّ فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمَنْعِ أَنَّهُ إذَا اسْتَحَقَّ الثَّمَنَ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ أَوْ وَجَدَهُ زُيُوفًا أَوْ سُتُّوقًا فَرَدَّهُ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ فَيَحْبِسَهُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ بَعْدَ الِاسْتِرْدَادِ يُمْكِنُهُ الْحَبْسُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَأَمَّا هَهُنَا لَا يُمْكِنُهُ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فَلَا يَكُونُ هَذَا الْحَبْسُ مِثْلَ الْأَوَّلِ فَلَا يَعُودُ حَقُّهَا فِي الْحَبْسِ وَمِمَّا يَلْتَحِقُ بِهَذَا الْفَصْلِ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ مَهْرَهَا لِلزَّوْجِ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِهَا الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَ أَبًا أَوْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهَا وَهَبَتْ خَالِصَ مِلْكِهَا وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي عَيْنِ الْمَهْرِ حَقٌّ فَيَجُوزُ، وَيَلْزَمُ بِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا وَقَصَّرَتْ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا أَنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقَّ الِاعْتِرَاضِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْأَمْهَارَ حَقُّ الْأَوْلِيَاءِ فَقَدْ تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهِمْ؛ وَلِأَنَّهَا أَلْحَقَتْ الضَّرَرَ بِالْأَوْلِيَاءِ بِإِلْحَاقِ الْعَارِ وَالشَّنَارِ بِهِمْ، فَلَهُمْ دَفْعُ هَذَا الضَّرَرِ بِالِاعْتِرَاضِ وَالْفَسْخِ. وَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَهَبَ مَهْرَ ابْنَتِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَهُ ذَلِكَ وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وَالْأَبُ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَلَنَا أَنَّ الْمَهْرَ مِلْكُ الْمَرْأَةِ وَحَقُّهَا؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ بُضْعِهَا، وَبُضْعُهَا حَقُّهَا وَمِلْكُهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] أَضَافَ الْمَهْرَ إلَيْهَا فَدَلَّ أَنَّ الْمَهْرَ حَقُّهَا وَمِلْكُهَا، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] وقَوْله تَعَالَى: مِنْهُ أَيْ: مِنْ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُكَنَّى السَّابِقُ أَبَاحَ لِلْأَزْوَاجِ التَّنَاوُلَ مِنْ مُهُورِ النِّسَاءِ إذَا طَابَتْ أَنْفُسُهُنَّ بِذَلِكَ، وَلِذَا عَلَّقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِبَاحَةَ بِطِيبِ أَنْفُسِهِنَّ، فَدَلَّ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى أَنَّ مَهْرَهَا مِلْكُهَا وَحَقُّهَا، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَهَبَ مِلْكَ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْوَلِيُّ هِبَةَ غَيْرِهِ مِنْ أَمْوَالِهَا فَكَذَا الْمَهْرُ. وَأَمَّا الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ مِنْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ مَنْ صَرَفَ التَّأْوِيلَ إلَى الْوَلِيِّ عَلَى بَيَانِ نُزُولِ الْآيَةِ عَلَى مَا قِيلَ: إنَّ حِينَ النُّزُولِ كَانَ الْمُهُورُ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُ شُعَيْبٍ لِمُوسَى: - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] شَرَطَ الْمَهْرَ لِنَفْسِهِ لَا لِابْنَتِهِ ثُمَّ نُسِخَ بِمَا تَلَوْنَا مِنْ الْآيَاتِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَهَبَ صَدَاقَ أَمَتِهِ وَمُدَبَّرَتِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ مِنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ مِلْكُهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَهَبَ مَهْرَ مُكَاتَبَتِهِ، وَلَوْ وَهَبَ لَا يَبْرَأُ الزَّوْجُ. وَلَا يَدْفَعُهُ إلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمُكَاتَبَةِ لَهَا لَا لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَكْسَابِهَا، وَكَسْبُ الْمُكَاتَبِ لَهُ لَا لِمَوْلَاهُ، وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الْمَهْرِ إذَا تَرَاضَيَا بِهَا وَالْحَطُّ عَنْهُ إذَا رَضِيَتْ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24] رَفَعَ الْجُنَاحَ فِيمَا تَرَاضَيَا بِهِ الزَّوْجَانِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ التَّسْمِيَةُ، وَذَلِكَ هُوَ الزِّيَادَةُ فِي الْمَهْرِ وَالْحَطُّ عَنْهُ، وَأَحَقُّ مَا تُصْرَفُ إلَيْهِ الْآيَةُ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَةَ التَّرَاضِي وَأَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَرِضَا الْمَرْأَةِ كَانَ فِي الْحَطِّ؛ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَلْحَقُ الْعَقْدَ وَيَصِيرُ كَأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جَمِيعًا كَالْخِيَارِ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَالْأَجَلِ فِيهِ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى مِنْ آخَرَ عَبْدًا بَيْعًا بَاتًّا ثُمَّ إنَّ أَحَدَهُمَا جَعَلَ لِصَاحِبِهِ الْخِيَارَ يَوْمًا جَازَ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ نَقَضَ الْبَيْعَ جَازَ نَقْضُهُ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ كَالْخِيَارِ الْمَشْرُوطِ فِي أَصْلِ الْبَيْعِ. وَكَذَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَالَّةً، ثُمَّ إنَّ الْبَائِعَ أَجَّلَ الْمُشْتَرِيَ فِي الثَّمَنِ شَهْرًا جَازَ التَّأْجِيلُ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ كَانَ مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ كَذَا هَهُنَا، وَلَا يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِي الْمَهْرِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ أَوْ جَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا وَلَمْ تَرَهُ ثُمَّ رَأَتْهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَرُدَّهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْفَسِخُ بِرَدِّهِ فَلَوْ رَدَّتْ لَرَجَعَتْ عَلَيْهِ بِعَبْدٍ آخَرَ وَثَبَتَ لَهَا فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَتَرُدُّهُ ثُمَّ تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِآخَرَ

فصل بيان ما يتأكد به المهر

إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى فَلَمْ يَكُنْ الرَّدُّ مُفِيدًا لِخُلُوِّهِ عَنْ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ فَكَانَ سَفَهًا فَلَا يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ الرَّدِّ، وَكَذَلِكَ الْخُلْعُ وَالْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ لِمَا قُلْنَا: بِخِلَافِ الْبَيْعِ أَنَّهُ يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِرَدِّ الْمَبِيعِ وَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ فَكَانَ الرَّدُّ مُفِيدًا لِذَلِكَ افْتَرَقَا، وَهَلْ يَثْبُتُ خِيَارُ الْعَيْبِ فِي الْمَهْرِ؟ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَيْبُ يَسِيرًا لَا يَثْبُتُ، وَإِنْ كَانَ فَاحِشًا يَثْبُتُ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي بَدَلِ الْخُلْعِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَلَى مَالٍ أَنَّهُ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ وَالْفَاحِشِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ، وَهَهُنَا لَا يَنْفَسِخُ وَإِذَا لَمْ يَنْفَسِخْ فَيَقْبِضُ مِثْلَهُ فَرُبَّمَا يَجِدُ فِيهِ عَيْبًا يَسِيرًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ عَيْبٍ عَادَةً فَيَرُدُّهُ ثُمَّ يَقْبِضُ مِثْلَهُ فَيُؤَدِّي إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى فَلَا يُفِيدُ الرَّدُّ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالرَّدِّ فَكَانَ الرَّدُّ مُفِيدًا؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ إنَّمَا يَثْبُتُ اسْتِدْرَاكًا لِلْفَائِتِ وَهُوَ صِفَةُ السَّلَامَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْعَقْدِ، وَالْعَيْبُ إذَا كَانَ يَسِيرًا لَا يُعْرَفُ الْفَوَاتُ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ الْيَسِيرَ يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ لَا يَخْلُو عَنْهُ فَمِنْ مُقَوِّمٍ يُقَوِّمُهُ بِدُونِ الْعَيْبِ بِأَلْفٍ، وَمِنْ مُقَوِّمٍ يُقَوِّمُهُ مَعَ الْعَيْبِ بِأَلْفٍ أَيْضًا، فَلَا يُعْلَمُ فَوَاتُ صِفَةِ السَّلَامَةِ بِيَقِينٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِدْرَاكِ بِالرَّدِّ بِخِلَافِ الْعَيْبِ الْفَاحِشِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمُقَوِّمُونَ فَكَانَ الْفَوَاتُ حَاصِلًا بِيَقِينٍ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى اسْتِدْرَاكِ الْفَائِتِ بِالرَّدِّ إلَّا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْأَخِيرَ يُشْكِلُ بِالْبَيْعِ وَأَخَوَاتِهِ، فَإِنَّ الْعَيْبَ الْيَسِيرَ فِيهَا يُوجِبُ حَقَّ الرَّدِّ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودًا فِيهَا فَالْأَصَحُّ هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَلَا شُفْعَةَ فِي الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرَائِطِ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَالِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَتَأَكَّدُ بِهِ الْمَهْرُ] (فَصْلٌ) : (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَتَأَكَّدُ بِهِ الْمَهْرُ فَالْمَهْرُ يَتَأَكَّدُ بِأَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ. الدُّخُولُ وَالْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ وَمَوْتُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ مُسَمًّى أَوْ مَهْرَ الْمِثْلِ حَتَّى لَا يَسْقُطَ شَيْءٌ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِبْرَاءِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، أَمَّا التَّأَكُّدُ بِالدُّخُولِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الْمَهْرَ قَدْ وَجَبَ بِالْعَقْدِ وَصَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَالدُّخُولُ لَا يُسْقِطُهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَاسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، يُقَرِّرُ الْبَدَلَ لَا أَنْ يُسْقِطَهُ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ يَتَأَكَّدُ بِتَسْلِيمِ الْمُبْدَلِ مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَائِهِ لِمَا نَذْكُرُ فَلَأَنْ يَتَأَكَّدَ بِالتَّسْلِيمِ مَعَ الِاسْتِيفَاءِ أَوْلَى. (وَأَمَّا) التَّأَكُّدُ بِالْخَلْوَةِ فَمَذْهَبُنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَتَأَكَّدُ الْمَهْرُ بِالْخَلْوَةِ حَتَّى لَوْ خَلَا بِهَا خَلْوَةً صَحِيحَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ كَمَالُ الْمُسَمَّى عِنْدَنَا. وَعِنْدَهُ نِصْفُ الْمُسَمَّى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي النِّكَاحِ تَسْمِيَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ كَمَالُ مَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُتْعَةُ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ وُجُوبُ الْعِدَّةِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ عِنْدَنَا تَجِبُ، وَعِنْدَهُ لَا تَجِبُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى نِصْفَ الْمَفْرُوضِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَسِّ هُوَ الْجِمَاعُ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ حَالِ وُجُودِ الْخَلْوَةِ، وَعَدَمِهَا فَمَنْ أَوْجَبَ كُلَّ الْمَفْرُوضِ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ، وقَوْله تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ} [البقرة: 236] أَيْ: وَلَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً فَمَتِّعُوهُنَّ أَوْجَبَ تَعَالَى لَهُنَّ الْمُتْعَةَ فِي الطَّلَاقِ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالِ وُجُودِ الْخَلْوَةِ وَعَدَمِهَا، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] فَدَلَّتْ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَوُجُوبِ الْمُتْعَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ؛ وَلِأَنَّ تَأَكُّدَ الْمَهْرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وَهُوَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ وَاسْتِيفَاؤُهَا بِالْوَطْءِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَا ضَرُورَةَ لَهَا فِي التَّوَقُّفِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَسْتَوْفِيَ أَوْ يُطَلِّقَ، فَإِنْ اسْتَوْفَى تَأَكَّدَ حَقُّهَا. وَإِنْ طَلَّقَ يَفُوتُ عَلَيْهَا نِصْفُ الْمَهْرِ لَكِنْ بِعِوَضٍ هُوَ خَيْرٌ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ يَعُودُ عَلَيْهَا سَلِيمًا مَعَ سَلَامَةِ نِصْفِ الْمَهْرِ لَهَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ أَنَّهُ تَتَأَكَّدُ الْأُجْرَةُ فِيهَا بِنَفْسِ التَّخْلِيَةِ وَلَا يَتَوَقَّفُ التَّأَكُّدُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ؛ لِأَنَّ فِي التَّوَقُّفِ هُنَاكَ ضَرَرًا بِالْآجِرِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مُدَّةٌ مَعْلُومَةٌ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يُمْنَعَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ فَلَوْ تَوَقَّفَ تَأَكُّدُ الْأُجْرَةِ عَلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَرُبَّمَا لَا يَسْتَوْفِي لِفَائِتِ الْمَنَافِعِ عَلَيْهِ مَجَّانًا

بِلَا عِوَضٍ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْآجِرُ فَأُقِيمَ التَّمَكُّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ مَقَامَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْآجِرِ، وَهَهُنَا لَا ضَرَرَ فِي التَّوَقُّفِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَتَوَقَّفَ التَّأَكُّدُ عَلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَتَأَكَّدُ، وَلَنَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 20] {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] . نَهَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الزَّوْجَ عَنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا سَاقَ إلَيْهَا مِنْ الْمَهْرِ عِنْدَ الطَّلَاقِ، وَأَبَانَ عَنْ مَعْنَى النَّهْيِ لِوُجُودِ الْخَلْوَةِ كَذَا قَالَ الْقُرَّاءُ: إنَّ الْإِفْضَاءَ هُوَ الْخَلْوَةُ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَمَأْخَذُ اللَّفْظِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ؛ لِأَنَّ الْإِفْضَاءَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْفَضَاءِ مِنْ الْأَرْضِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ وَلَا بِنَاءَ فِيهِ وَلَا حَاجِزَ يَمْنَعُ عَنْ إدْرَاكِ مَا فِيهِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْخَلْوَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهِيَ الَّتِي لَا حَائِلَ فِيهَا وَلَا مَانِعَ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ عَمَلًا بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ، فَظَاهِرُ النَّصِّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَسْقُطَ شَيْءٌ مِنْهُ بِالطَّلَاقِ إلَّا أَنَّ سُقُوطَ النِّصْفِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ الْخَلْوَةِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ وَإِقَامَةَ الْمُتْعَةِ مَقَامَ نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ آخَرَ فَبَقِيَ حَالُ مَا بَعْدَ الْخَلْوَةِ عَلَى ظَاهِرِ النَّصِّ. وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأَتِهِ وَنَظَرَ إلَيْهَا وَجَبَ الصَّدَاقُ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ. وَرُوِيَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ قَالَ: قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ أَنَّهُ إذَا أَرْخَى السُّتُورَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ فَلَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ؛ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ قَدْ وَجَبَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ إمَّا فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَإِمَّا فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ فَلِمَا ذَكَرْنَا فِي مَسْأَلَةِ الْمُفَوَّضَةِ إلَّا أَنَّ الْوُجُوبَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ثَبَتَ مُوَسَّعًا وَيَتَضَيَّقُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ، وَالدَّيْنُ الْمُضَيَّقُ وَاجِبُ الْقَضَاءِ. قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدَّيْنُ مُضَيَّقٌ» ، وَلِأَنَّ الْمَهْرَ مَتَى صَارَ مِلْكًا لَهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ، فَالْمِلْكُ الثَّابِتُ لِإِنْسَانٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَزُولَ إلَّا بِإِزَالَةِ الْمَالِكِ أَوْ بِعَجْزِهِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكِ حَقِيقَةً إمَّا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَالِكِ أَوْ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَزُولُ إلَّا عِنْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ الْخَلْوَةِ سَقَطَ النِّصْفُ بِإِسْقَاطِ الشَّرْعِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى إلَّا بِالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِعْلُ الزَّوْجِ، وَالْمَهْرُ مِلْكُهَا، وَالْإِنْسَانُ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ حَقِّ الْغَيْرِ عَنْ نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّهَا سَلَّمَتْ الْمُبْدَلَ إلَى زَوْجِهَا فَيَجِبُ عَلَى زَوْجِهَا تَسْلِيمُ الْبَدَلِ إلَيْهَا كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا سَلَّمَتْ الْمُبْدَلَ أَنَّ الْمُبْدَلَ هُوَ مَا يُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَهُوَ الْمَنَافِعُ إلَّا أَنَّ الْمَنَافِعَ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ مَعْدُومَةٌ، فَلَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهَا لَكِنْ لَهَا مَحَلٌّ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْعَيْنُ وَأَنَّهَا مُتَصَوَّرُ التَّسْلِيمِ حَقِيقَةً فَيُقَامُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ مَقَامَ تَسْلِيمِ الْمَنْفَعَةِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ وَقَدْ وُجِدَ تَسْلِيمُ الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ هُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ سَالِمًا لِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ بِرَفْعِ الْمَوَانِعِ وَقَدْ وُجِدَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَلَا يَتَحَقَّقُ التَّمَكُّنُ إلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ كُلِّهَا فَثَبَتَ أَنَّهُ وُجِدَ مِنْهَا تَسْلِيمُ الْمُبْدَلِ، فَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي تَسْلِيمًا بِإِزَاءِ التَّسْلِيمِ كَمَا يَقْتَضِي مِلْكًا بِإِزَاءِ مِلْكٍ تَحْقِيقًا بِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ. كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: إنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَسِيسِ هُوَ الْخَلْوَةُ فَلَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى أَنَّ فِيهَا إيجَابَ نِصْفِ الْمَفْرُوضِ لَا إسْقَاطَ النِّصْفِ الْبَاقِي أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ عَبْدٌ فَقَالَ: نِصْفُ هَذَا الْعَبْدِ لِفُلَانٍ لَا يَكُونُ ذَلِكَ نَفْيًا لِلنِّصْفِ الْبَاقِي، فَكَانَ حُكْمُ النِّصْفِ الْبَاقِي مَسْكُوتًا عَنْهُ فَبَقِيَتْ عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى الْبَقَاءِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فَيَبْقَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: التَّأَكُّدُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِاسْتِيفَاءِ الْمُسْتَحَقِّ فَمَمْنُوعٌ بَلْ كَمَا يَثْبُتُ بِاسْتِيفَاءِ الْمُسْتَحَقِّ يَثْبُتُ بِتَسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، وَتَسْلِيمُهُ بِتَسْلِيمِ مَحَلِّهِ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ثُمَّ تَفْسِيرُ الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنْ الْوَطْء لَا حَقِيقِيٌّ وَلَا شَرْعِيٌّ وَلَا طَبْعِيٌّ. أَمَّا الْمَانِعُ الْحَقِيقِيُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَرِيضًا مَرَضًا يَمْنَعُ الْجِمَاعَ أَوْ صَغِيرًا لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ أَوْ صَغِيرَةً لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا أَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ رَتْقَاءَ أَوْ قَرْنَاءَ؛ لِأَنَّ الرَّتْقَ وَالْقَرْنَ يَمْنَعَانِ مِنْ الْوَطْءِ وَتَصِحُّ خَلْوَةُ الزَّوْجِ، إنْ كَانَ الزَّوْجُ عِنِّينًا أَوْ خَصِيًّا؛ لِأَنَّ الْعُنَّةَ وَالْخِصَاءَ لَا يَمْنَعَانِ مِنْ الْوَطْءِ فَكَانَتْ خَلْوَتُهُمَا كَخَلْوَةِ غَيْرِهِمَا، وَتَصِحُّ خَلْوَةُ الْمَجْبُوبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا تَصِحُّ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجَبَّ يَمْنَعُ مِنْ الْوَطْءِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ كَالْقَرْنِ وَالرَّتْقِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ

يُتَصَوَّرُ مِنْهُ السَّحْقُ وَالْإِيلَادُ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَلَا تَرَى لَوْ جَاءَتْ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَاسْتَحَقَّتْ كَمَالَ الْمَهْرِ إنْ طَلَّقَهَا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْوَطْءُ الْمُطْلَقُ فَيُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ ارْتِفَاعُ الْمَانِعِ مِنْ وَطْءِ مِثْلِهِ فَتَصِحُّ خَلْوَتُهُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ أَمَّا عِنْدَهُ فَلَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ إذَا صَحَّتْ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي حَقِّ تَأَكُّدِ الْمَهْرِ فَفِي حَقِّ الْعِدَّةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاطُ فِي إيجَابِهَا. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ عِنْدَهُمَا أَيْضًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَ الْمَجْبُوبُ يُنْزِلُ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ الْمَجْبُوبَ قَدْ يَقْذِفُ بِالْمَاءِ فَيَصِلُ إلَى الرَّحِمِ وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهِ فَتَجِبُ الْعِدَّةُ احْتِيَاطًا، فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ لَزِمَهُ وَوَجَبَ لَهَا جَمِيعُ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِثَبَاتِ النَّسَبِ يَكُونُ حُكْمًا بِالدُّخُولِ فَيَتَأَكَّدُ الْمَهْرُ عَلَى قَوْلِهِمَا أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ لَا يُنْزِلُ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَإِلَّا فَلَا يَثْبُتُ كَالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَكَالْمُعْتَدَّةِ إذَا أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَأَمَّا الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَائِمًا صَوْمَ رَمَضَانَ أَوْ مُحْرِمًا بِحَجَّةِ فَرِيضَةٍ أَوْ نَفْلٍ أَوْ بِعُمْرَةٍ أَوْ تَكُونُ الْمَرْأَةُ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُحَرِّمٌ لِلْوَطْءِ فَكَانَ مَانِعًا مِنْ الْوَطْءِ شَرْعًا، وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ يَمْنَعَانِ مِنْهُ طَبْعًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا أَذًى، وَالطَّبْعُ السَّلِيمُ يَنْفِرُ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْأَذَى. وَأَمَّا فِي غَيْرِ صَوْمِ رَمَضَانَ فَقَدْ رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ وَقَضَاءَ رَمَضَانَ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ نَفْلَ الصَّوْمِ كَفَرْضِهِ فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْمُخْتَصَرِ أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ يُحَرِّمُ الْفِطْرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَصَارَ كَحَجِّ التَّطَوُّعِ، وَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) رِوَايَةِ بِشْرٍ أَنَّ صَوْمَ غَيْرِ رَمَضَانَ مَضْمُونٌ بِالْقَضَاءِ لَا غَيْرَ فَلَمْ يَكُنْ قَوِيًّا فِي مَعْنَى الْمَنْعِ بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَكَذَا حَجُّ التَّطَوُّعِ فَقَوِيَ الْمَانِعُ (وَوَجْهٌ) آخَرُ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَبَيْنَ صَوْمِ رَمَضَانَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْفِطْرِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ لِكَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ. وَكَذَا لُزُومُ الْقَضَاءِ بِالْإِفْطَارِ فَلَمْ يَكُنْ مَانِعًا بِيَقِينٍ، وَحُرْمَةُ الْإِفْطَارِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مَقْطُوعٌ بِهَا. وَكَذَا لُزُومُ الْقَضَاءِ فَكَانَ مَانِعًا بِيَقِينٍ. (وَأَمَّا) الْمَانِعُ الطَّبْعِيُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتِهِ بِحَضْرَةِ ثَالِثٍ وَيَسْتَحِي فَيَنْقَبِضُ عَنْ الْوَطْءِ بِمَشْهَدٍ مِنْهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الثَّالِثُ بَصِيرًا أَوْ أَعْمَى يَقْظَانًا أَوْ نَائِمًا بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ عَاقِلًا رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً أَوْ مَنْكُوحَتَهُ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى إنْ كَانَ لَا يُبْصِرُ فَيُحِسُّ وَالنَّائِمُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَسْتَيْقِظَ سَاعَةً فَسَاعَةً، فَيَنْقَبِضُ الْإِنْسَانُ عَنْ الْوَطْءِ مَعَ حُضُورِهِ، وَالصَّبِيُّ الْعَاقِلُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَحْتَشِمُ الْإِنْسَانُ مِنْهُ كَمَا يَحْتَشِمُ مِنْ الرَّجُلِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا فَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْبَهَائِمِ لَا يَمْتَنِعُ الْإِنْسَانُ عَنْ الْوَطْءِ لِمَكَانِهِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ، وَالْإِنْسَانُ يَحْتَشِمُ مِنْ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَيَسْتَحِي. وَكَذَا لَا يَحِلُّ لَهَا النَّظَرُ إلَيْهِمَا فَيَنْقَبِضَانِ لِمَكَانِهَا، وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْكُوحَةٌ لَهُ أُخْرَى أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فَخَلَا بِهِمَا فَلَا يَحِلُّ لَهَا النَّظَرُ إلَيْهِمَا فَيَنْقَبِضُ عَنْهَا، وَقَدْ قَالُوا: إنَّهُ لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتَهُ بِمَشْهَدِ امْرَأَةٍ أُخْرَى، وَلَوْ كَانَ الثَّالِثُ جَارِيَةً لَهُ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ يَقُولُ: أَوَّلًا تَصِحُّ خَلْوَتُهُ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا تَصِحُّ (وَجْهُ) قَوْلِهِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْأَمَةَ لَيْسَتْ لَهَا حُرْمَةُ الْحُرَّةِ فَلَا يَحْتَشِمُ الْمَوْلَى مِنْهَا؛ وَلِذَا يَجُوزُ لَهَا النَّظَرُ إلَيْهِ فَلَا تَمْنَعُهُ عَنْ الْوَطْءِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ الْأَخِيرِ: أَنَّ الْأَمَةَ إنْ كَانَ يَجُوزُ لَهَا النَّظَرُ إلَيْهِ لَا يَجُوزُ لَهَا النَّظَرُ إلَيْهَا، فَتَنْقَبِضُ الْمَرْأَةُ لِذَلِكَ وَكَذَا قَالُوا: لَا يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ بِمَشْهَدٍ مِنْهَا كَمَا لَا يَحِلُّ بِمَشْهَدِ امْرَأَتِهِ الْأُخْرَى. وَلَا خَلْوَةَ فِي الْمَسْجِدِ وَالطَّرِيقِ وَالصَّحْرَاءِ وَعَلَى سَطْحٍ لَا حِجَابَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ يَجْمَعُ النَّاسَ لِلصَّلَاةِ وَلَا يُؤْمَنُ مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهِ سَاعَةً فَسَاعَةً وَكَذَا الْوَطْءُ فِي الْمَسْجِدِ حَرَامٌ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وَالطَّرِيقُ مَمَرُّ النَّاسِ لَا تَخْلُو عَنْهُمْ عَادَةً، وَذَلِكَ يُوجِبُ الِانْقِبَاضَ فَيَمْنَعُ الْوَطْءَ. وَكَذَا الصَّحْرَاءُ وَالسَّطْحُ مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْقَبِضُ عَنْ الْوَطْءِ فِي مِثْلِهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَحْصُلَ هُنَاكَ ثَالِثٌ أَوْ يَنْظُرُ إلَيْهِ أَحَدٌ مَعْلُومٌ ذَلِكَ بِالْعَادَةِ. وَلَوْ خَلَا بِهَا فِي حَجَلَةٍ أَوْ قُبَّةٍ فَأَرْخَى السِّتْرَ عَلَيْهِ فَهُوَ خَلْوَةٌ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْبَيْتِ. وَلَا خَلْوَةَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِيهِ حَرَامٌ فَكَانَ الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ قَائِمًا، وَلِأَنَّ الْخَلْوَةَ مِمَّا يَتَأَكَّدُ بِهِ الْمَهْرُ، وَتَأَكُّدُهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ يَكُونُ وَلَا يَجِبُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ شَيْءٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّأَكُّدُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ صَحَّتْ الْخَلْوَةُ وَتَأَكَّدَ الْمَهْرُ وَجَبَتْ الْعِدَّةُ

لِأَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ لَمَّا أَوْجَبَتْ كَمَالَ الْمَهْرِ فَلَأَنْ تُوجِبَ الْعِدَّةَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ، وَفِي الْعِدَّةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَيُحْتَاطُ فِيهَا وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَسَدَتْ فِيهِ الْخَلْوَةُ لَا يَجِبُ كَمَالُ الْمَهْرِ، وَهَلْ تَجِبُ الْعِدَّةُ؟ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ الْفَسَادُ لِمَانِعٍ حَقِيقِيٍّ لَا تَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْوَطْءُ مَعَ وُجُودِ الْمَانِعِ الْحَقِيقِيِّ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَانِعُ شَرْعِيًّا أَوْ طَبْعِيًّا تَجِبُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ مَعَ وُجُودِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَانِعِ مُمْكِنٌ فَيُتَّهَمَانِ فِي الْوَطْءِ فَتَجِبُ الْعِدَّةُ عِنْدَ الطَّلَاقِ احْتِيَاطًا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ. وَأَمَّا التَّأَكُّدُ بِمَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ إذَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ الْمُسَمَّى، سَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ كَانَ وَاجِبًا بِالْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ لَمْ يَنْفَسِخْ بِالْمَوْتِ بَلْ انْتَهَى نِهَايَتهُ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لِلْعُمْرِ فَتَنْتَهِي نِهَايَتُهُ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْعُمْرِ، وَإِذَا انْتَهَى يَتَأَكَّدُ فِيمَا مَضَى، وَيَتَقَرَّرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّوْمِ يَتَقَرَّرُ بِمَجِيءِ اللَّيْلِ فَيَتَقَرَّرُ الْوَاجِبُ، وَلِأَنَّ كُلَّ الْمَهْرِ لَمَّا وَجَبَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَالْمَوْتُ لَمْ يُعْرَفْ مُسْقِطًا لِلدَّيْنِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْهُ بِالْمَوْتِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ. وَكَذَا إذَا قُتِلَ أَحَدُهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ أَوْ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ قَتَلَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ. فَأَمَّا إذَا قَتَلَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً لَا يَسْقُطُ عَنْ الزَّوْجِ شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ بَلْ يَتَأَكَّدُ الْمَهْرُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ يَسْقُطُ الْمَهْرُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهَا بِالْقَتْلِ فَوَّتَتْ عَلَى الزَّوْجِ حَقَّهُ فِي الْمُبْدَلِ فَيَسْقُطُ حَقُّهَا فِي الْبَدَلِ كَمَا إذَا ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ أَبَاهُ. (وَلَنَا) أَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا يَصِيرُ تَفْوِيتًا لِلْحَقِّ عِنْدَ زُهُوقِ الرُّوحِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ قَتْلًا فِي حَقِّ الْمَحَلِّ عِنْدَ ذَلِكَ، وَالْمَهْرُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مِلْكُ الْوَرَثَةِ فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِفِعْلِهَا كَمَا إذَا قَتَلَهَا زَوْجُهَا أَوْ أَجْنَبِيٌّ بِخِلَافِ الرِّدَّةِ وَالتَّقْبِيلِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ وَقْتَ التَّقْبِيلِ وَالرِّدَّةِ كَانَ مِلْكَهَا فَاحْتَمَلَ السُّقُوطَ بِفِعْلِهَا كَمَا إذَا قَتَلَهَا زَوْجُهَا أَوْ قَتَلَ الْمَوْلَى أَمَتَهُ سَقَطَ مَهْرُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَسْقُطُ بَلْ يَتَأَكَّدُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَوْتَ مُؤَكِّدٌ لِلْمَهْرِ وَقَدْ وُجِدَ الْمَوْتُ؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ فَيَتَأَكَّدُ بِالْمَوْتِ كَمَا إذَا قَتَلَهَا أَجْنَبِيٌّ أَوْ قَتَلَهَا زَوْجُهَا وَكَالْحُرَّةِ إذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا؛ وَلِأَنَّ الْمَوْتَ إنَّمَا أَكَّدَ الْمَهْرَ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَهِي بِهِ النِّكَاحُ، وَالشَّيْءُ إذَا انْتَهَى نِهَايَتَهُ يَتَقَرَّرُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْقَتْلِ لِأَنَّهُ يَنْتَهِي بِهِ النِّكَاحُ فَيَتَقَرَّرُ بِهِ الْمُبْدَلُ، وَتَقَرُّرُ الْمُبْدَلِ يُوجِبُ تَقَرُّرَ الْبَدَلِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ لَهُ الْبَدَلُ فَوَّتَ الْمُبْدَلَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَتَفْوِيتُ الْمُبْدَلِ عَلَى صَاحِبِهِ يُوجِبُ سُقُوطَ الْبَدَلِ كَالْبَائِعِ إذَا أَتْلَفَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَنَّهُ يَسْقُطُ الثَّمَنُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ وُجِدَ تَفْوِيتُ الْمُبْدَلِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْبَدَلَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْمُبْدَلِ هُوَ الْمَوْلَى وَقَدْ أَخْرَجَ الْمُبْدَلَ عَنْ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْبَدَلِ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَرْضَى بِمِلْكِ الْبَدَلِ عَلَيْهِ بَعْدَ فَوَاتِ الْمُبْدَلِ عَنْ مِلْكِهِ فَكَانَ إيفَاءُ الْبَدَلِ عَلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الْمُبْدَلِ عَنْ مِلْكِهِ إضْرَارًا بِهِ، وَالْأَصْلُ فِي الضَّرَرِ أَنْ لَا يَكُونَ فَكَانَ إقْدَامُ الْمَوْلَى عَلَى تَفْوِيتِ الْمُبْدَلِ عَنْ مِلْكِ الزَّوْجِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ إسْقَاطًا لِلْبَدَلِ دَلَالَةٌ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَسْقَطَهُ نَصًّا بِالْإِبْرَاءِ بِخِلَافِ الْحُرَّةِ إذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا؛ لِأَنَّهَا وَقْتَ فَوَاتِ الْمُبْدَلِ لَمْ تَكُنْ مُسْتَحِقَّةً لِلْبَدَلِ لِانْتِقَالِهِ إلَى الْوَرَثَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْإِنْسَانُ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ حَقِّ غَيْرِهِ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ وَقْتَ فَوَاتِ الْمُبْدَلِ عَلَى الزَّوْجِ مِلْكُ الْمَوْلَى وَحَقُّهُ. وَالْإِنْسَانُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلسُّقُوطِ بِتَفْوِيتِ الْمُبْدَلِ دَلَالَةً كَمَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلسُّقُوطِ بِالْإِسْقَاطِ نَصًّا بِالْإِبْرَاءِ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَمَّا إذَا قَتَلَهَا زَوْجُهَا أَوْ أَجْنَبِيٌّ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْأَجْنَبِيِّ وَلَا لِلزَّوْجِ فِي مَهْرِهَا فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِإِسْقَاطِهِمَا، وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِإِسْقَاطِهِمَا نَصًّا فَكَيْفَ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ؟ . وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ أَنَّ قَتْلَ الْحُرَّةِ نَفْسَهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَصَارَ كَمَوْتِهَا حَتْفَ أَنْفِهَا حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: إنَّهَا تُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهَا كَمَا لَوْ مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا، وَقَتْلُ الْمَوْلَى أَمَتَهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ، وَقَتْلُ الْأَجْنَبِيِّ إيَّاهَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ إنْ كَانَ عَمْدًا، وَالدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ إنْ كَانَ خَطَأً فَلَمْ يَكُنْ قَتْلُهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ هَذَا إذَا قَتَلَهَا الْمَوْلَى فَأَمَّا إذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا، وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْهُ أَنَّ لَهَا الْمَهْرَ وَهُوَ قَوْلُهُمَا: (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ قَتْلَهَا نَفْسَهَا بِمَنْزِلَةِ قَتْلِ الْمَوْلَى إيَّاهَا بِدَلِيلِ أَنَّ جِنَايَتَهَا كَجِنَايَتِهِ فِي بَابِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِمَالِ الْمَوْلَى وَلَوْ قَتَلَهَا الْمَوْلَى يَسْقُطُ الْمَهْرُ

فصل بيان ما يسقط به كل المهر

عِنْدَهُ فَكَذَا إذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْبَدَلَ حَقُّ الْمَوْلَى وَمِلْكُهُ فَتَفْوِيتُ الْمُبْدَلِ مِنْهَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الْمَوْلَى بِخِلَافِ جِنَايَةِ الْمَوْلَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْجِنَايَتَيْنِ أَنَّ جِنَايَتَهَا عَلَى نَفْسِهَا هَدَرٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ وَصَارَتْ كَأَنَّهَا مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا بِخِلَافِ جِنَايَةِ الْمَوْلَى عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْكَفَّارَةِ، وَهِيَ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَكَانَتْ جِنَايَتُهُ عَلَيْهَا مُعْتَبَرَةً فَلَا تُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ. وَإِذَا تَأَكَّدَ الْمَهْرُ بِأَحَدِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَا يَسْقُطُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ بَعْدَ تَأَكُّدِهِ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ إلَّا بِالْإِبْرَاءِ كَالثَّمَنِ إذَا تَأَكَّدَ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ. وَأَمَّا إذَا مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَتَأَكَّدُ مَهْرُ الْمِثْلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ لَهَا الْمُتْعَةَ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: مُتْعَتُهَا مَا اسْتَحَقَّتْ مِنْ الْمِيرَاثِ لَا غَيْرَ، احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْمُتْعَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 49] إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْمُتْعَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالِ الْمَوْتِ وَغَيْرِهَا، وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي الطَّلَاقِ لَكِنَّهُ يَكُونُ وَارِدًا فِي الْمَوْتِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ ثُمَّ ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي الْكِتَابَاتِ مِنْ الْإِبَانَةِ وَالتَّسْرِيحِ وَالتَّحْرِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَذَا هَهُنَا. (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا عَنْ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ - وَقَدْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا - بِمَهْرِ الْمِثْلِ» ؛ وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لَهُ وَجَبَ كُلُّ الْمُسَمَّى بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ مَوْجُودٌ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا إيجَابَ الْمُتْعَةِ فِي الطَّلَاقِ لَا فِي الْمَوْتِ فَمَنْ ادَّعَى إلْحَاقَ الْمَوْتِ بِالطَّلَاقِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بِهِ كُلُّ الْمَهْرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بِهِ كُلُّ الْمَهْرِ، فَالْمَهْرُ كُلُّهُ يَسْقُطُ بِأَسْبَابٍ أَرْبَعَةٍ:. مِنْهَا: الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ وَقَبْلَ الْخَلْوَةِ بِهَا، فَكُلُّ فُرْقَةٍ قَدْ حَصَلَتْ بِغَيْرِ طَلَاقٍ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ الْخَلْوَةِ تُسْقِطُ جَمِيعَ الْمَهْرِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ بِغَيْرِ طَلَاقٍ تَكُونُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ، وَفَسْخُ الْعَقْدِ قَبْلَ الدُّخُولِ يُوجِبُ سُقُوطَ كُلِّ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ رَفَعَهُ مِنْ الْأَصْلِ وَجَعَلَهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَسَنُبَيِّنُ الْفُرْقَةَ الَّتِي تَكُونُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَاَلَّتِي تَكُونُ بِطَلَاقٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِهَا، وَمِنْهَا: الْإِبْرَاءُ عَنْ كُلِّ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ إذَا كَانَ الْمَهْرُ دَيْنًا لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ، وَالْإِسْقَاطُ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلسُّقُوطِ يُوجِبُ السُّقُوطَ، وَمِنْهَا: الْخُلْعُ عَلَى الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَهْرُ غَيْرَ مَقْبُوضٍ سَقَطَ عَنْ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ مَقْبُوضًا رَدَّتْهُ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ خَالَعَهَا عَلَى مَالٍ سِوَى الْمَهْرِ يَلْزَمُهَا ذَلِكَ الْمَالُ وَيَبْرَأُ الزَّوْجُ عَنْ كُلِّ حَقٍّ وَجَبَ لَهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ كَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ وَإِنْ كَانَ طَلَاقًا بِعِوَضٍ عِنْدَنَا لَكِنْ فِيهِ مَعْنَى الْبَرَاءَةِ لِمَا نَذْكُرُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَسْأَلَةِ الْمُخَالَعَةِ وَالْمُبَارَأَةِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْخُلْعِ وَعَمَلِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَمِنْهَا: هِبَةُ كُلِّ الْمَهْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا وَبَعْدَهُ إذَا كَانَ عَيْنًا. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هِبَةِ الْمَهْرِ أَنَّ الْمَهْرَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا مُشَارًا إلَيْهِ مِمَّا يَصِحُّ تَعْيِينُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مُعَيَّنَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ وَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ فِي الذِّمَّةِ وَالْحَيَوَانِ فِي الذِّمَّةِ كَالْعَبْدِ وَالْفَرَسِ وَالْعَرْضِ فِي الذِّمَّةِ كَالثَّوْبِ الْهَرَوِيُّ، وَالْحَالُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْقَبْضِ وَهَبَتْ كُلَّ الْمَهْرِ أَوْ بَعْضَهُ، فَإِنْ وَهَبَتْهُ كُلَّ الْمَهْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَ الْمَهْرُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَهْرِ إنْ كَانَ دَيْنًا وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ: أَنَّهَا بِالْهِبَةِ تَصَرَّفَتْ فِي الْمَهْرِ بِالْإِسْقَاطِ وَإِسْقَاطُ الدَّيْنِ اسْتِهْلَاكُهُ، وَالِاسْتِهْلَاكُ يَتَضَمَّنُ الْقَبْضَ فَصَارَ كَأَنَّهَا قَبَضَتْ ثُمَّ وَهَبَتْ، وَلَنَا أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَادَ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهَا بِسَبَبٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ نِصْفَ الْمَهْرِ فَقَدْ عَادَ إلَيْهِ بِالْهِبَةِ

فصل بيان ما يسقط به نصف المهر

وَالْهِبَةُ لَا تُوجِبُ الضَّمَانَ فَلَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهَا بِالنِّصْفِ كَالنِّصْفِ الْآخَرِ، وَإِنْ وَهَبَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ عَيْنًا فَقَبَضَهُ ثُمَّ وَهَبَهُ مِنْهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ مَا تَسْتَحِقُّهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ هُوَ نِصْفُ الْمَوْهُوبِ بِعَيْنِهِ وَقَدْ رَجَعَ إلَيْهِ بِعَقْدٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا أَوْ عَرَضًا فَكَذَلِكَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفُ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ مِنْ الْعَبْدِ وَالثَّوْبِ فَصَارَ كَأَنَّهُ تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ مُعَيَّنَةً أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ أَوْ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَقَبَضَتْهُ ثُمَّ وَهَبَتْهُ مِنْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمِثْلِ نِصْفِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالطَّلَاقِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي وَهَبَتْهُ بِعَيْنِهِ، بَلْ مِثْلُهُ بِدَلِيلِ أَنَّهَا كَانَتْ مُخَيَّرَةً فِي الدَّفْعِ إنْ شَاءَتْ دَفَعَتْ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ وَإِنْ شَاءَتْ دَفَعَتْ مِثْلَهُ كَمَا كَانَ الزَّوْجُ مُخَيَّرًا فِي الدَّفْعِ إلَيْهَا بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَكُنِ الْعَائِدُ إلَيْهِ عَيْنَ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَصَارَ كَأَنَّهَا وَهَبَتْ مَالًا آخَرَ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَرَجَعَ عَلَيْهَا بِمِثْلِ نِصْفِ الصَّدَاقِ كَذَا هَذَا. وَقَالَ زُفَرُ: فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إذَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً فَقَبَضَتْهَا ثُمَّ وَهَبَتْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا أَنَّهُ لَا رُجُوعَ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عِنْدَهُ تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ فَتَتَعَيَّنُ بِالْفَسْخِ أَيْضًا كَالْعُرُوضِ، وَعِنْدَنَا لَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ فَلَا تَتَعَيَّنُ بِالْفَسْخِ، وَالْمَسْأَلَةُ سَتَأْتِي فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَهْرُ دَيْنًا فَقَبَضَتْ الْكُلَّ ثُمَّ وَهَبَتْ الْبَعْضَ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا إذَا وَهَبَتْ الْكُلَّ فَإِذَا وَهَبَتْ الْبَعْضَ أَوْلَى، وَإِذَا قَبَضَتْ النِّصْفَ ثُمَّ وَهَبَتْ النِّصْفَ الْبَاقِيَ أَوْ وَهَبَتْ الْكُلَّ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِرُبُعِ الْمَهْرِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ لِلزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفُ الْمَهْرِ، فَإِذَا قَبَضَتْ النِّصْفَ دُونَ النِّصْفِ فَقَدْ اسْتَحَقَّ النِّصْفَ مُشَاعًا فِيمَا فِي ذِمَّتِهِ وَفِيمَا قَبَضَتْ، فَكَانَ نِصْفُ النِّصْفِ وَهُوَ رُبُعُ الْكُلِّ فِي ذِمَّتِهِ وَنِصْفُ النِّصْفِ فِيمَا قَبَضَتْ إلَّا أَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ وَهَبَتْهُ حَتَّى طَلَّقَهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَا فِي ذِمَّتِهِ قِصَاصًا بِمَالِهِ عَلَيْهَا، فَإِذَا وَهَبَتْ بَقِيَ حَقُّهُ فِي نِصْفِ مَا فِي يَدِهَا - وَهُوَ الرُّبُعُ - فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِذَلِكَ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ وَهَبَتْ وَطَلَّقَهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ وَقَدْ عَادَ إلَيْهِ مَا كَانَ فِي ذِمَّتِهِ بِسَبَبٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَهُوَ الْهِبَةُ، فَلَا يَكُونُ لَهُ الرُّجُوعُ بِشَيْءٍ. وَلَوْ كَانَ الْمَهْرُ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ أَوْ جَنَى عَلَيْهَا فَوَجَبَ الْأَرْشُ أَوْ كَانَ شَجَرًا فَأَثْمَرَ أَوْ دَخَلَهُ عَيْبٌ ثُمَّ وَهَبَتْهُ مِنْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ يَنْقَطِعُ عَنْ الْعَيْنِ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا مَعَ الزِّيَادَةِ، وَإِذَا كَانَ حَقُّهُ مُنْقَطِعًا عَنْهَا لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ بِالْهِبَةِ مَا اسْتَحَقَّهُ بِالطَّلَاقِ، فَكَانَ لَهُ قِيمَتُهَا، وَإِذَا حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ فَالْحَقُّ وَإِنْ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ الْعَيْنِ بِهِ لَكِنْ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ مَعَ الْعَيْبِ فَلَمْ يَكُنْ الْحَقُّ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ وَلَمْ يَكُنْ الْوَاصِلُ إلَى الزَّوْجِ عَيْنَ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالطَّلَاقِ. وَلَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي بَدَنِهَا فَوَهَبَتْهَا لَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَهَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَأَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ لَا تَمْنَعُ التَّنْصِيفَ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ تَمْنَعُ، وَإِذَا بَاعَتْهُ الْمَهْرَ أَوْ وَهَبَتْهُ عَلَى عِوَضٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا رَجَعَ عَلَيْهَا بِمِثْلِ، نِصْفِهِ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ وَبِنِصْفِ الْقِيمَةِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ عَادَ إلَى الزَّوْجِ بِسَبَبٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ فَوَجَبَ لَهُ الرُّجُوعُ، وَإِذَا ثَبَتَ لَهُ الرُّجُوعُ ضَمِنَهَا كَمَا لَوْ بَاعَتْهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الزَّوْجُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ ثُمَّ إنْ كَانَتْ بَاعَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ فَعَلَيْهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي ضَمَانِهَا بِالْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَتْ قَبَضَتْ ثُمَّ بَاعَتْ فَعَلَيْهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي ضَمَانِهَا بِالْقَبْضِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ فَمَا يَسْقُطُ بِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ نَوْعَانِ:. نَوْعٌ يَسْقُطُ بِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَنَوْعٌ يَسْقُطُ بِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ مَعْنًى وَالْكُلُّ صُورَةً، أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ، وَالْمَهْرُ دَيْنٌ لَمْ يُقْبَضْ بَعْدُ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ قَدْ يَسْقُطُ بِهِ عَنْ الزَّوْجِ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَقَدْ يَعُودُ بِهِ إلَيْهِ النِّصْفُ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ بِهِ مِثْلُ النِّصْفِ صُورَةً وَمَعْنًى أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْمَهْرَ الْمُسَمَّى إمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ

مَقْبُوضٍ، فَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا سَقَطَ نِصْفُ الْمُسَمَّى بِالطَّلَاقِ وَبَقِيَ النِّصْفُ هَذَا طَرِيقُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ يُسْقِطُ جَمِيعَ الْمُسَمَّى وَإِنَّمَا يَجِبُ نِصْفٌ آخَرُ ابْتِدَاءً عَلَى طَرِيقَةِ الْمُتْعَةِ لَا بِالْعَقْدِ إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْمُتْعَةَ مُقَدَّرَةٌ بِنِصْفِ الْمُسَمَّى، وَالْمُتْعَةُ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِلَى هَذَا الطَّرِيقِ ذَهَبَ الْكَرْخِيُّ وَالرَّازِي وَكَذَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ فِي الَّذِي طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ سَمَّى لَهَا: إنَّ لَهَا نِصْفَ الْمَهْرِ، وَذَلِكَ مُتْعَتُهَا وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُتْعَةَ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ فِي النِّكَاحِ تَسْمِيَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْمُتْعَةَ قُدِّرَتْ بِنِصْفِ الْمُسَمَّى بِدَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ انْفَسَخَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَادَ سَلِيمًا إلَى الْمَرْأَةِ، وَسَلَامَةُ الْمُبْدَلِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْبَدَلِ لِلْآخَرِ كَمَا فِي الْإِقَالَةِ فِي بَابِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُبْدَلَ إذَا عَادَ سَلِيمًا إلَى الْمَرْأَةِ فَلَوْ لَمْ تُسَلِّمْ الْبَدَلَ إلَى الزَّوْجِ لَاجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى سَقَطَ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي بِالْإِقَالَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَذَا الْمَهْرُ، وَلِعَامَّةِ الْمَشَايِخِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نِصْفَ الْمَفْرُوضِ، فَإِيجَابُ نِصْفٍ آخَرَ عَلَى طَرِيقِ الْمُتْعَةِ إيجَابُ مَا لَيْسَ بِمَفْرُوضٍ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ فِي الْمِلْكِ بِالْإِبْطَالِ وَضْعًا؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِرَفْعِ الْقَيْدِ وَهُوَ الْمِلْكُ فَكَانَ تَصَرُّفًا فِي الْمِلْكِ ثُمَّ إذَا بَطَلَ الْمِلْكُ لَا يَبْقَى النِّكَاحُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَيَنْتَهِي لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْبَقَاءِ وَيَتَقَرَّرُ فِيمَا مَضَى بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ فَيَكُونُ تَصَرُّفًا فِي الْمِلْكِ ثُمَّ السَّبَبُ يَنْتَهِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْبَقَاءِ، وَيَتَقَرَّرُ فِيمَا مَضَى كَذَا الطَّلَاقُ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْقُطَ شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ كَمَا لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ إلَّا أَنَّ سُقُوطَ النِّصْفِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ؛ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِإِحْدَاثِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ جَبْرًا لِلذُّلِّ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَبِالطَّلَاقِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَكُنْ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ بِالنَّصِّ. وَأَمَّا النَّصُّ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالنَّصِّ الَّذِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: " وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ " الْآيَةَ أَوْ يُحْمَلُ الْأَمْرُ بِالتَّمَتُّعِ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ، وَقَوْلُهُمْ: (الطَّلَاقُ فَسَخُ النِّكَاحِ) مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ تَصَرُّفٌ فِي الْمِلْكِ بِالْقَطْعِ وَالْإِبْطَالِ فَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَالْإِعْتَاقِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَا عَادَ إلَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ مِلْكُ الْمُتْعَةِ وَأَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَى الْمَرْأَةِ بَلْ يَبْطُلُ مِلْكُ الزَّوْجِ عَنْ الْمُتْعَةِ بِالطَّلَاقِ وَيَصِيرُ لَهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ إلَّا أَنْ يَعُودَ، أَوْ يُقَالُ: إنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ يُشْبِهُ الْفَسْخَ لِمَا قَالُوا، وَيُشْبِهُ الْإِبْطَالَ لِمَا قُلْنَا: وَشِبْهُ الْفَسْخِ يَقْتَضِي سُقُوطَ كُلِّ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْإِقَالَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَشِبْهُ الْإِبْطَالِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَسْقُطَ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْإِعْتَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَتَنَصَّفُ تَوْفِيرُ الْحُكْمِ عَلَى الشَّبَهَيْنِ عَمَلًا بِهِمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الطَّرِيقِ مَا ظَهَرَ مِنْ الْقَوْلِ عَنْ أَصْحَابِنَا فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ وَسَلَّمَهَا إلَى الْمَرْأَةِ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهَا نِصْفُ الزَّكَاةِ. وَلَوْ سَقَطَ الْمُسَمَّى كُلُّهُ ثُمَّ وَجَبَ نِصْفُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ لَسَقَطَ كُلُّ الزَّكَاةِ؛ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ - بِسُقُوطِ كُلِّ الْمَهْرِ ثَمَّ يُوجِبُ نِصْفَهُ - غَيْرُ مُفِيدٍ، وَالشَّرْعُ لَا يَرِدُ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ شَرَطَ مَعَ الْمُسَمَّى الَّذِي هُوَ مَالٌ مَا لَيْسَ بِمَالٍ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَعَلَى أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ الْأُخْرَى أَوْ عَلَى أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ بَلَدِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى وَسَقَطَ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ إذَا لَمْ يَقَعْ الْوَفَاءُ بِهِ يَجِبُ تَمَامُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ لَا يَثْبُتُ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْمُسَمَّى فَيَتَنَصَّفُ، وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَ مَعَ الْمُسَمَّى شَيْئًا مَجْهُولًا كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَكَرَامَتِهَا أَوْ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَنْ يُهْدِيَ إلَيْهَا هَدِيَّةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَفِ بِالْكَرَامَةِ وَالْهَدِيَّةِ يَجِبُ تَمَامُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ هَذَا الشَّرْطِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفَيْنِ حَتَّى وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِهِمَا: الْأَقَلُّ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْأَلْفِ بِالْإِجْمَاعِ

أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْأَقَلُّ فَيَتَنَصَّفُ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ حَتَّى فَسَدَ الشَّرْطُ التَّالِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَهَا نِصْفُ الْأَقَلِّ لِمَا قُلْنَا. وَعِنْدَهُمَا الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ فَأَيُّهُمَا وُجِدَ فَلَهَا نِصْفُ ذَلِكَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ مَا سَمَّى وَتَمَامُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ تَسْمِيَةٌ لِلْعَشَرَةِ عِنْدَنَا فَكَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ وَتَمَامِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَتْهُ فَإِنْ كَانَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ مُعَيَّنَةً أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ أَوْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا فِي الذِّمَّةِ فَقَبَضَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ فِي يَدِهَا فَطَلَّقَهَا فَعَلَيْهَا رَدُّ نِصْفِ الْمَقْبُوضِ وَلَيْسَ عَلَيْهَا رَدُّ عَيْنِ مَا قَبَضَتْ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْمَقْبُوضِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بِالْعَقْدِ فَلَا يَكُنْ وَاجِبًا بِالْفَسْخِ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ زُفَرَ فَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ فَتَتَعَيَّنُ بِالْفَسْخِ فَعَلَيْهَا رَدُّ نِصْفِ عَيْنِ الْمَقْبُوصِ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا وَسَطًا أَوْ ثَوْبًا وَسَطًا فَسَلَّمَهُ إلَيْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَعَلَيْهَا رَدُّ نِصْفِ الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا مِثْلَ لَهُ، وَالْأَصْلُ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ إلَّا أَنَّهُ وَجَبَ الْوَسَطُ مِنْهُ فِي الذِّمَّةِ وَتَحَمَّلَتْ الْجَهَالَةَ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا تَعَيَّنَ بِالْقَبْضِ كَانَ إيجَابُ نِصْفِ الْعَيْنِ أَعْدَلَ مِنْ إيجَابِ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ فَوَجَبَ عَلَيْهَا رَدُّ نِصْفِ عَيْنِ الْمَقْبُوضِ كَمَا لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا فَقَبَضَتْهُ وَلَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ لِمَا نَذْكُرُ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَهْرُ دَيْنًا فَقَبَضَتْهُ أَوْ لَمْ تَقْبِضْهُ حَتَّى وَرَدَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ عَيْنًا بِأَنْ كَانَ مُعَيَّنًا مُشَارًا إلَيْهِ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ كَالْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ وَسَائِرِ الْأَعْيَانِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ بِحَالِهِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ وَإِمَّا إنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ فَإِنْ كَانَ بِحَالِهِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْبُوضٍ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا عَادَ الْمِلْكُ فِي النِّصْفِ إلَيْهِ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ، وَلَا يَحْتَاجُ لِلْعَوْدِ إلَيْهِ إلَى الْفَسْخِ وَالتَّسْلِيمِ مِنْهَا حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَهْرُ أَمَةً فَأَعْتَقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الْفَسْخِ وَالتَّسْلِيمِ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ فِي نِصْفِهَا بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ مَقْبُوضًا لَا يَعُودُ الْمِلْكُ فِي النِّصْفِ إلَيْهِ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ وَلَا يَنْفَسِخُ مِلْكُهَا فِي النِّصْفِ حَتَّى يَفْسَخَهُ الْحَاكِمُ أَوْ تُسَلِّمَهُ الْمَرْأَةُ. وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي الزِّيَادَاتِ وَزَادَ عَلَيْهِ الْفَسْخَ مِنْ الزَّوْجِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: (قَدْ فَسَخْت) هَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْفَسِخُ مِلْكُهَا فِي النِّصْفِ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَهْرُ أَمَةً فَأَعْتَقَهَا قَبْلَ الْفَسْخِ وَالتَّسْلِيمِ جَازَ إعْتَاقُهَا فِي جَمِيعِهَا، وَلَا يَجُوزُ إعْتَاقُ الزَّوْجِ فِيهَا وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ إعْتَاقُهَا إلَّا فِي النِّصْفِ وَيَجُوزُ إعْتَاقُ الزَّوْجِ فِي نِصْفِهَا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْعَوْدِ هُوَ الطَّلَاقُ، وَقَدْ وُجِدَ فَيَعُودُ مِلْكُ الزَّوْجِ كَالْبَيْعِ إذَا فُسِخَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَنَّهُ يَعُودُ مِلْكُ الْبَائِعِ بِنَفْسِ الْفَسْخِ كَذَا هَذَا وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْعَقْدَ وَإِنْ انْفَسَخَ بِالطَّلَاقِ فَقَدْ بَقِيَ الْقَبْضُ بِالتَّسْلِيطِ الْحَاصِلِ بِالْعَقْدِ وَأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ عِنْدَنَا فَكَانَ سَبَبُ الْمِلْكِ قَائِمًا، فَكَانَ الْمِلْكُ قَائِمًا فَلَا يَزُولُ إلَّا بِالْفَسْخِ مِنْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ فَسَخَ سَبَبَ الْمِلْكِ أَوْ بِتَسْلِيمِهَا؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهَا نَقْضٌ لِلْقَبْضِ حَقِيقَةً أَوْ بِفَسْخِ الزَّوْجِ عَلَى رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ بِسَبِيلٍ مِنْ فَسْخِ عَقْدِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَصَارَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِجَارِيَةٍ فَقَبَضَ الْعَبْدَ وَلَمْ يُسَلِّمْ الْجَارِيَةَ حَتَّى هَلَكَتْ الْجَارِيَةُ فِي يَدِهِ أَنَّهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي الْجَارِيَةِ وَيَبْقَى الْمِلْكُ فِي الْعَبْدِ الْمَقْبُوضِ إلَى أَنْ يَسْتَرِدَّهُ، كَأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ كَذَا هَذَا؛ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ بَدَلٌ يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ مِلْكًا مُطْلَقًا فَلَا يَنْفَسِخُ الْمِلْكُ فِيهِ بِفِعْلِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ كَالثَّمَنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّ غَيْرَ الْقَبْضِ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ مِلْكًا مُطْلَقًا هَذَا إذَا كَانَ الْمَهْرُ بِحَالِهِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ. فَأَمَّا إذَا زَادَ فَالزِّيَادَةُ لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ فِي الْمَهْرِ أَوْ عَلَى الْمَهْرِ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْمَهْرِ بِأَنْ سَمَّى الزَّوْجُ لَهَا أَلْفًا ثُمَّ زَادَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ مِائَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْأَلْفِ وَبَطَلَتْ الزِّيَادَةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لَهَا نِصْفَ الْأَلْفِ وَنِصْفَ الزِّيَادَةِ أَيْضًا. (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وَالزِّيَادَةُ مَفْرُوضَةٌ فَيَجِبُ تَنْصِيفُهَا فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا كَالزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ، وَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جَمِيعًا فَيَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ كَالْأَصْلِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَمْ تَكُنْ مُسَمَّاةً فِي الْعَقْدِ حَقِيقَةً، وَمَا لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ فَوُرُودُ

الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ يُبْطِلُهُ كَمَهْرِ الْمِثْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: الزِّيَادَةُ تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ قُلْنَا: الزِّيَادَةُ عَلَى الْمَهْرِ لَا تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لِأَنَّهَا وُجِدَتْ مُتَأَخِّرَةً عَنْ الْعَقْدِ حَقِيقَةً، وَإِلْحَاقُ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ الْعَقْدِ بِالْعَقْدِ خِلَافُ الْحَقِيقَةِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا لِحَاجَةٍ، وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ فِي بَابِ الْبَيْعِ؛ لِكَوْنِهِ عَقْدَ مُعَايَنَةٍ وَمُبَادَلَةَ الْمَالِ بِالْمَالِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الزِّيَادَةِ دَفْعًا لِلْخُسْرَانِ، وَلَيْسَ النِّكَاحُ عَقْدَ مُعَايَنَةٍ وَلَا مُبَادَلَةَ الْمَالِ بِالْمَالِ وَلَا يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ الْخُسْرَانِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى تَغْيِيرِ الْحَقِيقَةِ. وَأَمَّا النَّصُّ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْفَرْضُ فِي الْعَقْدِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ} [النساء: 24] فَدَلَّ أَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَهْرِ، فَالْمَهْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الزَّوْجِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الزَّوْجِ، فَالزِّيَادَةُ لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِالْأَصْلِ وَإِمَّا إنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ، وَالْمُتَّصِلَةُ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُتَوَلَّدَةً مِنْ الْأَصْلِ كَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ وَالْجَمَالِ وَالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَالنُّطْقِ، كَانْجِلَاءِ بَيَاضِ الْعَيْنِ وَزَوَالِ الْخَرَسِ وَالصَّمَمِ، وَالشَّجَرِ إذَا أَثْمَرَ وَالْأَرْضِ إذَا زُرِعَتْ أَوْ غَيْرَ مُتَوَلَّدَةٍ مِنْهُ كَالثَّوْبِ إذَا صُبِغَ وَالْأَرْضِ إذَا بُنِيَ فِيهَا بِنَاءٌ. وَكَذَا الْمُنْفَصِلَةُ لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَالْوَبَرِ وَالصُّوفِ إذَا جُزَّ وَالشَّعْرِ إذَا أُزِيلَ وَالثَّمَرِ إذَا جُدَّ وَالزَّرْعِ إذَا حُصِدَ أَوْ كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمُتَوَلَّدِ مِنْهُ كَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ وَأَمَّا إنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَوَلَّدَةٍ مِنْهُ وَلَا فِي حُكْمِ الْمُتَوَلَّدِ كَالْهِبَةِ وَالْكَسْبِ فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُتَوَلَّدَةً مِنْ الْأَصْلِ أَوْ فِي حُكْمِ الْمُتَوَلِّدِ فَهِيَ مَهْرٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِالْأَصْلِ أَوْ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا يَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ وَالزِّيَادَةُ جَمِيعًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ لِكَوْنِهَا نَمَاءَ الْأَصْلِ، وَالْأَرْشُ بَدَلُ جُزْءٍ هُوَ مَهْرٌ فَلْيَقُمْ مَقَامَهُ، وَالْعُقْرُ بَدَلُ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَلَّدِ مِنْ الْمَهْرِ، فَإِذَا حَدَثَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلِلْقَبْضِ شَبَهٌ بِالْعَقْدِ فَكَانَ وُجُودُهَا عِنْدَ الْقَبْضِ كَوُجُودِهَا عِنْدَ الْعَقْدِ فَكَانَتْ مَحَلًّا لِلْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَوَلَّدَةٍ مِنْ الْأَصْلِ فَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِالْأَصْلِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ التَّنْصِيفَ وَعَلَيْهَا نِصْفُ قِيمَةِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَهْرٍ لَا مَقْصُودًا وَلَا تَبَعًا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَتَوَلَّدْ مِنْ الْمَهْرِ فَلَا تَكُونُ مَهْرًا فَلَا تَتَنَصَّفُ، وَلَا يُمْكِنُ تَنْصِيفُ الْأَصْلِ بِدُونِ تَنْصِيفِ الزِّيَادَةِ فَامْتَنَعَ التَّنْصِيفُ فَيَجِبُ عَلَيْهَا نِصْفُ قِيمَةِ الْأَصْلِ يَوْمَ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهَا بِالزِّيَادَةِ صَارَتْ قَابِضَةً لِلْأَصْلِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ حُكِمَ بِالْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْ الْأَصْلِ فَالزِّيَادَةُ لَيْسَتْ بِمَهْرٍ، وَهِيَ كُلُّهَا لِلْمَرْأَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا تَتَنَصَّفُ وَيَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ هِيَ مَهْرٌ فَتَتَنَصَّفُ مَعَ الْأَصْلِ. (وَوَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ تُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ فَكَانَتْ تَابِعَةً لِلْأَصْلِ فَتَتَنَصَّفُ مَعَ الْأَصْلِ كَالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلَّدَةِ مِنْ الْأَصْلِ كَالسِّمَنِ وَالْوَلَدِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَهْرٍ لَا مَقْصُودًا وَلَا تَبَعًا، أَمَّا مَقْصُودًا فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَا وَرَدَ عَلَيْهَا مَقْصُودًا. وَكَذَا هِيَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بِمِلْكِ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ بِتَمَلُّكِ الْجَارِيَةِ الْهِبَةَ لَهَا. وَأَمَّا تَبَعًا؛ فَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَوَلَّدَةٍ مِنْ الْأَصْلِ فَدَلَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَهْرٍ لَا قَصْدًا وَلَا تَبَعًا، وَإِنَّمَا هِيَ مَالُ الْمَرْأَةِ فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ أَمْوَالِهَا بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ الْمُتَوَلَّدَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلَّدَةِ؛ لِأَنَّهَا نَمَاءُ الْمَهْرِ فَكَانَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِ فَتَتَنَصَّفُ كَمَا يَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ. وَلَوْ آجَرَ الزَّوْجُ الْمَهْرَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَرْأَةِ فَالْأُجْرَةُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ مُتَقَوِّمَةٍ بِأَنْفُسِهَا عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا تَأْخُذُ حُكْمَ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ بِالْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ صَدَرَ مِنْ الزَّوْجِ فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ لَهُ كَالْغَاصِبِ إذَا آجَرَ الْمَغْصُوبَ، وَيُتَصَدَّقُ بِالْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ حَصَلَ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ الْخَبَثُ فَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ بِهِ هَذَا إذَا كَانَ الْمَهْرُ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَحَدَثَتْ فِيهِ الزِّيَادَةُ. فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ أَيْ: قَبْلَ الْفُرْقَةِ، فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً مُتَوَلَّدَةً مِنْ الْأَصْلِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ التَّنْصِيفَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَلِلزَّوْجِ عَلَيْهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ يَوْمَ سَلَّمَهُ إلَيْهَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تَمْنَعُ وَيَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ مَعَ الزِّيَادَةِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] جَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ فَرْضُ نِصْفِ الْمَفْرُوضِ فَمَنْ جَعَلَ فِيهِ نِصْفَ قِيمَةِ الْمَفْرُوضِ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ، وَإِذَا وَجَبَ تَنْصِيفُ أَصْلِ الْمَفْرُوضِ وَلَا يُمْكِنُ تَنْصِيفُهُ إلَّا بِتَنْصِيفِ الزِّيَادَةِ فَيَجِبُ تَنْصِيفُ الزِّيَادَةِ ضَرُورَةً، وَلِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ

تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ بِهِ، وَالْأَصْلُ مَهْرٌ فَكَذَا الزِّيَادَةُ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلَّدَةِ مِنْ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ مَحْضَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ بِالِانْفِصَالِ صَارَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ مَهْرًا وَبِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ فِي الْهِبَةِ أَنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ الرُّجُوعِ وَالِاسْتِرْدَادِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ لَيْسَ بِثَابِتٍ بِيَقِينٍ لِكَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُ الزِّيَادَةِ بِحَالَةِ الْعَقْدِ فَتَعَذَّرَ إيرَادُ الْفَسْخِ عَلَيْهَا فَيُمْنَعُ الرُّجُوعُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْعَقْدِ وَلَا عِنْدَ مَا لَهُ شَبَهٌ بِالْعَقْدِ وَهُوَ الْقَبْضُ فَلَا يَكُونُ لَهَا حُكْمُ الْمَهْرِ فَلَا يُمْكِنُ فَسْخُ الْعَقْدِ فِيهَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ إنَّمَا يَرِدُ عَلَى مَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَالْعَقْدُ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ أَصْلًا فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْفَسْخُ كَالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلَّدَةِ مِنْ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ نَقَضَ الْعَقْدَ، فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّ نِصْفَ الْأَصْلِ مَعَ نِصْفِ الزِّيَادَةِ أَوْ بِدُونِ الزِّيَادَةِ لَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ رَدُّ الْأَصْلِ بِدُونِ رَدِّ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مَحَلًّا لِلْفَسْخِ لِعَدَمِ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا كَانَ أَخْذُ الزِّيَادَةِ مِنْهَا أَخْذَ مَالٍ بِلَا عِوَضٍ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ الرِّبَا؛ وَيَجِبُ نِصْفُ قِيمَةِ الْمَفْرُوضِ لَا نِصْفُ الْمَفْرُوضِ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْهَالِكِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْمَفْرُوضِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَفْرُوضِ الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ الْأَثْمَانُ دُونَ السِّلَعِ، وَالْأَثْمَانُ لَا تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ فِي الْبَيْعِ إذَا اخْتَلَفَا أَنَّهَا تَمْنَعُ التَّحَالُفَ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَمْنَعُ وَلَوْ هَلَكَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي يَدِ الزَّوْجِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَهَا نِصْفُ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ التَّنْصِيفِ قَدْ ارْتَفَعَ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً غَيْرَ مُتَوَلَّدَةٍ مِنْ الْأَصْلِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ التَّنْصِيفَ، وَعَلَيْهَا نِصْفُ قِيمَةِ الْأَصْلِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً مُتَوَلَّدَةً مِنْ الْأَصْلِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ التَّنْصِيفَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعَلَيْهَا رَدُّ نِصْفِ قِيمَةِ الْأَصْلِ إلَى الزَّوْجِ وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَمْنَعُ وَيَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ مَعَ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً غَيْرَ مُتَوَلَّدَةٍ مِنْ الْأَصْلِ فَهِيَ لَهَا خَاصَّةً وَالْأَصْلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ بِالْإِجْمَاعِ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ: أَنَّ الزِّيَادَةَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ؛ لِأَنَّهَا مُتَوَلَّدَةٌ مِنْهُ فَتَتَنَصَّفُ مَعَ الْأَصْلِ كَالزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ (وَلَنَا) أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَمْ تَكُنْ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلَا عِنْدَ الْقَبْضِ فَلَمْ تَكُنْ مَهْرًا، وَالْفَسْخُ إنَّمَا يَرِدُ عَلَى مَا لَهُ حُكْمُ الْمَهْرِ فَلَا تَتَنَصَّفُ وَتَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْمَرْأَةِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَلَا يُمْكِنُ تَنْصِيفُ الْأَصْلِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ رَدُّ نِصْفِ الْجَارِيَةِ بِدُونِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا لَا يَصِيرُ لَهَا فَضْلُ أَصْلِ فَسْخِ الْعَقْدِ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا تُبَدَّلَ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ، وَذَلِكَ وَصْفُ الرِّبَا وَأَنَّهُ حَرَامٌ فَإِذَا تَعَذَّرَ تَنْصِيفُ الْمَفْرُوضِ لِمَكَانِ الرِّبَا يُجْعَلُ الْمَفْرُوضُ كَالْهَالِكِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ كَوْنِهِ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ إلَى الزَّوْجِ بِمَنْزِلَةِ الْهَالِكِ فَيَجِبُ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِيَزُولَ مَعْنَى الرِّبَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَدَّتْ أَوْ قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بَعْدَمَا حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ لَهَا وَعَلَيْهَا رَدُّ قِيمَةِ الْأَصْلِ يَوْمَ قَبَضَتْ كَذَا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تَرُدُّ الْأَصْلَ وَالزِّيَادَةَ فَفَرَّقَ بَيْنَ الرِّدَّةِ وَالتَّقْبِيلِ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ فَقَالَ فِي الطَّلَاقِ: تَرُدُّ نِصْفَ قِيمَةِ الْأَصْلِ، وَفِي الرِّدَّةِ وَالتَّقْبِيلِ تَرُدُّ الْأَصْلَ وَالزِّيَادَةَ جَمِيعًا. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الرِّدَّةَ وَالتَّقْبِيلَ فَسْخُ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ، وَجَعْلُ إيَّاهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَصَارَ كَمَنْ بَاعَ عَبْدًا بِجَارِيَةٍ وَقَبَضَ الْجَارِيَةَ وَلَمْ يَدْفَعْ الْعَبْدَ حَتَّى وَلَدَتْ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهُ أَنَّهُ يَأْخُذُ الْجَارِيَةَ وَوَلَدَهَا؛ لِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ بِمَوْتِ الْعَبْدِ فِي يَدِ بَائِعِهِ كَذَا هَذَا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ إطْلَاقٌ وَحَلٌّ لِلْعَقْدِ وَلَيْسَ بِفَسْخٍ فَيَنْحَلُّ الْعَقْدُ وَتَطْلُقُ أَوْ يَرْتَفِعُ مِنْ حِينِ الطَّلَاقِ لَا مِنْ الْأَصْلِ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا أَعْنِي الطَّلَاقَ وَالرِّدَّةَ يَعُودُ سَلِيمًا إلَى الْمَرْأَةِ كَمَا كَانَ إلَّا أَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ طَلَاقٌ مِنْ وَجْهٍ وَفَسْخٌ مِنْ وَجْهٍ، فَأَوْجَبَ عَوْدَ نِصْفِ الْبَدَلِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ، وَالرِّدَّةُ وَالتَّقْبِيلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُوجِبُ عَوْدَ الْكُلِّ إلَى الزَّوْجِ هَذَا كُلُّهُ إذَا حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ قَبْلَ الطَّلَاقِ. فَأَمَّا إذَا حَدَثَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ بِأَنْ طَلَّقَهَا، ثُمَّ حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ حَدَثَتْ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالنِّصْفِ لِلزَّوْجِ، وَإِمَّا أَنْ حَدَثَتْ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَكُلُّ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنْ حَدَثَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَالْأَصْلُ وَالزِّيَادَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ سَوَاءٌ وُجِدَ الْقَضَاءُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّهُ كَمَا وُجِدَ الطَّلَاقُ عَادَ نِصْفُ الْمَهْرِ إلَى الزَّوْجِ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ وَصَارَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَالزِّيَادَةُ حَدَثَتْ عَلَى

مِلْكَيْهِمَا، فَتَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ حَدَثَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالنِّصْفِ لِلزَّوْجِ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَضَى بِهِ، فَقَدْ عَادَ نِصْفُ الْمَهْرِ إلَى الزَّوْجِ، فَحَصَلَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمِلْكَيْنِ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالنِّصْفِ لِلزَّوْجِ، فَالْمَهْرُ فِي يَدِهَا كَالْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ كَانَ لَهَا، وَقَدْ فُسِخَ مِلْكُهَا فِي النِّصْفِ بِالطَّلَاقِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَهْرُ عَبْدًا. فَأَعْتَقَهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالنِّصْفِ لِلزَّوْجِ جَازَ إعْتَاقُهَا، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الزَّوْجُ لَا يَنْفُذُ، وَإِنْ قَضَى الْقَاضِي لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَالْبَائِعِ إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ، وَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَذَا هَهُنَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الزِّيَادَةِ. (وَأَمَّا) حُكْمُ النُّقْصَانِ، فَحُدُوثُ النُّقْصَانِ فِي الْمَهْرِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الزَّوْجِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الزَّوْجِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ. إمَّا أَنْ يَكُونَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِفِعْلِ الزَّوْجِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِفِعْلِ الْمَهْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ قَبْضِ الْمَهْرِ، أَوْ بَعْدَهُ، وَالنُّقْصَانُ فَاحِشٌ أَوْ غَيْرُ فَاحِشٍ، فَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ، وَهُوَ فَاحِشٌ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ فَالْمَرْأَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ الْعَبْدَ النَّاقِصَ، وَأَتْبَعَتْ الْجَانِيَ بِالْأَرْشِ، وَإِنْ شَاءَتْ تَرَكَتْ، وَأَخَذَتْ مِنْ الزَّوْجِ قِيمَةَ الْعَبْدِ يَوْمَ الْعَقْدِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِضَمَانِ النُّقْصَانِ، وَهُوَ الْأَرْشُ أَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ؛ فَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَهْرُ قَدْ تَغَيَّرَ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بَعْضُهُ قِيمَةً، وَيُعْتَبَرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَوَجَبَ الْخِيَارُ كَتَغَيُّرِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنْ اخْتَارَتْ أَخْذَ الْعَبْدِ أَتْبَعَتْ الْجَانِيَ بِالْأَرْشِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِهَا، وَإِنْ اخْتَارَتْ أَخْذَ الْقِيمَةَ؛ أَتْبَعَ الزَّوْجُ الْجَانِيَ بِالْأَرْشِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْعَيْنَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ، فَقَامَ مَقَامَ الْمَرْأَةِ، فَكَانَ الْأَرْشُ لَهُ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْعَبْدَ نَاقِصًا، وَتُضَمِّنَ الزَّوْجَ الْأَرْشَ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا اخْتَارَتْ أَخْذَهُ، فَقَدْ أَبْرَأَتْ الزَّوْجَ مِنْ ضَمَانِهِ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَالْمَرْأَةُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَتْ أَخَذَتْهُ نَاقِصًا، وَلَا شَيْءَ لَهَا غَيْرَ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَتْ تَرَكَتْهُ، وَأَخَذَتْ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ مَضْمُونٌ عَلَى الزَّوْجِ بِالْعَقْدِ، وَالْأَوْصَافُ لَا تُضْمَنُ بِالْعَقْدِ لِعَدَمِ، وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا مَوْصُوفًا، فَلَا يَظْهَرُ الضَّمَانُ فِي حَقِّهَا، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْأَصْلِ لِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ لِتَغَيُّرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَهْرُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَهَذَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ كَالْمَبِيعِ إذَا اُنْتُقِصَ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي فِيهِ كَذَا هَذَا. وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الزَّوْجِ ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ أَخَذَتْهُ نَاقِصًا، وَأَخَذَتْ مَعَهُ أَرْشَ النُّقْصَانِ، وَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْعَقْدِ كَذَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ الْبَائِعِ إذَا جَنَى عَلَى الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا جَنَى عَلَى الْمَهْرِ؛ فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ أَخَذَتْهُ نَاقِصًا، وَلَا شَيْءَ لَهَا غَيْرَ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ الْقِيمَةَ، وَسُوِّيَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْمَبِيعِ (وَوَجْهُ) التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا، أَنَّ الْمَهْرَ مَضْمُونٌ عَلَى الزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهَا فِيهِ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، ثُمَّ الْحُكْمُ فِي الْبَيْعِ هَذَا كَذَا فِي النِّكَاحِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأَوْصَافَ، وَهِيَ الْأَتْبَاعُ إنْ كَانَتْ لَا تُضْمَنُ بِالْعَقْدِ، فَإِنَّهَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مَقْصُودَةً بِالْإِتْلَافِ، فَتَصِيرُ مَضْمُونَةً إلَّا أَنَّ الْمَبِيعَ، لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِضَمَانٍ آخَرَ، وَهُوَ الثَّمَنُ، وَالْمَحَلُّ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِضَمَانَيْنِ، وَالْمَهْرُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الزَّوْجِ بِمِلْكِ النِّكَاحِ بَلْ بِالْقِيمَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ الْمَهْرَ لَا يَبْطُلُ مِلْكُ النِّكَاحِ، وَلَكِنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ، فَكَذَا إذَا أَتْلَفَ الْجُزْءَ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْمَهْرِ بِأَنْ جَنَى الْمَهْرُ عَلَى نَفْسِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ حُكْمُ هَذَا النُّقْصَانِ مَا هُوَ حُكْمُ النُّقْصَانِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ هَدْرٌ، فَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ، فَكَانَتْ كَالْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ حُكْمُهُ حُكْمُ جِنَايَةِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ مَضْمُونٌ فِي يَدِ الضَّامِنِ، وَهُوَ الزَّوْجُ، وَجِنَايَةُ الْمَضْمُونِ فِي يَدِ الضَّامِنِ كَجِنَايَةِ الضَّامِنِ كَالْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ إذَا جَنَى عَلَى نَفْسِهِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ، فَقَدْ صَارَتْ قَابِضَةً بِالْجِنَايَةِ، فَجُعِلَ كَأَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ فِي يَدِهَا كَالْمُشْتَرِي إذَا جَنَى عَلَى الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ كَذَا هَهُنَا إذَا كَانَ النُّقْصَانُ فَاحِشًا. فَأَمَّا إذَا كَانَ يَسِيرًا، فَلَا خِيَارَ لَهَا كَمَا إذَا كَانَ هَذَا الْعَيْبُ بِهِ يَوْمَ الْعَقْدِ، ثُمَّ إنْ كَانَ هَذَا النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ أَوْ بِفِعْلِ الْمَهْرِ؛ فَلَا شَيْءَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ تَتْبَعُهُ بِنِصْفِ النُّقْصَانِ. وَكَذَا إنْ كَانَ بِفِعْلِ الزَّوْجِ هَذَا إذَا حَدَثَ النُّقْصَانُ

فِي يَدِ الزَّوْجِ. فَأَمَّا إذَا حَدَثَ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ، فَهَذَا أَيْضًا لَا يَخْلُو مِنْ الْأَقْسَامِ، الَّتِي وَصَفْنَاهَا، فَإِنْ حَدَثَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ وَهُوَ فَاحِشٌ قَبْلَ الطَّلَاقِ، فَالْأَرْشُ لَهَا، فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ، فَلَهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ يَوْمَ قَبَضَتْ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ، فَيُمْنَعُ التَّنْصِيفُ كَالْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَتْ جِنَايَةُ الْأَجْنَبِيِّ عَلَيْهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَلِلزَّوْجَةِ نِصْفُ الْعَبْدِ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي الْأَرْشِ إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَهُ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَاعْتُبِرَتْ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَبْضِ، وَإِنْ شَاءَ أَتْبَعَ الْجَانِيَ، وَأَخَذَ مِنْهُ نِصْفَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ، وَعَوْدَ النِّصْفَ إلَيْهِ اسْتَقَرَّ بِالطَّلَاقِ، وَتَوَقَّفَ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي، فَصَارَ فِي يَدِهَا كَالْمَقْبُوضِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ، فَصَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ إنْ حَدَثَ بِفِعْلِ الزَّوْجِ، فَجِنَايَتُهُ كَجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلَا يَدَ لَهُ فِيهِ، فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَالْحُكْمُ فِي الْأَجْنَبِيِّ مَا وَصَفْنَا، وَإِنْ حَدَثَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ قَبْلَ الطَّلَاقِ؛ فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَهُ نَاقِصًا، وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مَعَهَا عِنْدَ الْفَسْخِ كَحَقِّهِ مَعَهَا عِنْدَ الْعَقْدِ. وَلَوْ حَدَثَ نُقْصَانٌ فِي يَدِهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ تَأْخُذَهُ نَاقِصًا أَوْ قِيمَتَهُ، فَكَذَا حَقُّ الزَّوْجِ مَعَهَا عِنْدَ الْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَهُ، وَنِصْفَ الْأَرْشِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ يَبْقَى فِي يَدِهَا كَالْمَقْبُوضِ بِحُكْمِ بَيْعٍ فَاسِدٍ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهَا، وَحَقُّ الْغَيْرِ فِي الْفَسْخِ مُسْتَقِرٌّ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَتَهُ يَوْمَ قَبَضَتْ، وَكَذَلِكَ إنْ حَدَثَ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ، فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَهُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْأَرْشِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ قِيمَتِهِ عَبْدًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: لِلزَّوْجِ أَنْ يُضَمِّنَهَا الْأَرْشَ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمَهْرَ مَضْمُونٌ عَلَيْهَا بِالْقَبْضِ، وَالْأَوْصَافِ، وَهِيَ الْأَتْبَاعُ، فَتُضَمَّنُ بِالْقَبْضِ، وَلَا تُضَمَّنُ بِالْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ زُفَرُ فِي النُّقْصَانِ الْحَادِثِ بِغَيْرِ فِعْلِهَا لِهَذَا الْمَعْنَى. (وَلَنَا) أَنَّ الْمَرْأَةَ جَنَتْ عَلَى مِلْكِ نَفْسِهَا، وَجِنَايَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى مِلْكِ نَفْسِهِ غَيْرُ مَضْمُونَةِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَدَثَ بِفِعْلِ الزَّوْجِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ جَنَى عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، وَجِنَايَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَ زُفَرُ؛ لِأَنَّ قَبْضَهَا صَادَفَ مِلْكَ نَفْسِهَا، وَقَبْضُ الْإِنْسَانِ مِلْكَ نَفْسِهِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَعَلَيْهَا نِصْفُ الْأَرْشِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ قَدْ اسْتَقَرَّ، وَكَذَلِكَ إنْ حَدَثَ بِفِعْلِ الْمَهْرِ، فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا إنْ شَاءَ؛ أَخَذَ نِصْفَهُ نَاقِصًا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّا إنْ جَعَلْنَا جِنَايَةَ الْمَهْرِ كَالْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً، وَإِنْ جَعَلْنَاهَا كَجِنَايَةِ الْمَرْأَةِ لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً أَيْضًا، فَلَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً أَيْضًا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ هَذَا إذَا كَانَ النُّقْصَانُ فَاحِشًا. فَأَمَّا إنْ كَانَ غَيْرَ فَاحِشٍ، فَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ أَوْ بِفِعْلِ الزَّوْجِ، لَا يَتَنَصَّفُ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ يَمْنَعُ التَّنْصِيفَ، وَإِنْ كَانَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِهَا أَوْ بِفِعْلِ الْمَهْرِ أَخَذَ النِّصْفَ، وَلَا خِيَارَ لَهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. (وَأَمَّا) النَّوْعُ الثَّانِي، وَهُوَ مَا يَسْقُطُ بِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ مَعْنًى، وَالْكُلُّ صُورَةً: فَهُوَ كُلُّ طَلَاقٍ تَجِبُ فِيهِ الْمُتْعَةُ. فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ الطَّلَاقِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الْمُتْعَةُ، وَاَلَّذِي تُسْتَحَبُّ فِيهِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْمُتْعَةِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تُعْتَبَرُ الْمُتْعَةُ بِحَالِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ، فَالطَّلَاقُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الْمُتْعَةُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ، وَلَا فَرْضَ بَعْدَهُ أَوْ كَانَتْ التَّسْمِيَةُ فِيهِ فَاسِدَةً، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ، وَلَكِنْ تُسْتَحَبُّ، فَمَالِكٌ لَا يَرَى وُجُوبَ الْمُتْعَةِ أَصْلًا، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَيَّدَ الْمُتْعَةَ بِالْمُتَّقِي، وَالْمُحْسِنِ بِقَوْلِهِ {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] ، وَالْوَاجِبُ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمُحْسِنُ، وَالْمُتَّقِي، وَغَيْرُهُمَا، فَدَلَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ تَفْرِضُوا أَيْ: وَلَمْ تَفْرِضُوا أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ بِمَعْنَى مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ، وَقَدْ فَرَضُوا لَهُنَّ أَوْ لَمْ يَفْرِضُوا لَمَا عَطَفَ عَلَيْهِ الْمَفْرُوضَ، وَقَدْ تَكُونُ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَقَالَ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] : وَلَا كَفُورًا وقَوْله تَعَالَى {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] (وَعَلَى) كَلِمَةُ إيجَابٍ، وقَوْله تَعَالَى {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] وَلَيْسَ فِي أَلْفَاظِ الْإِيجَابِ كَلِمَةٌ أَوْكَدُ مِنْ قَوْلِنَا حَقٌّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَقِّيَّةَ تَقْتَضِي الثُّبُوتَ، وَعَلَى كَلِمَةُ إلْزَامٍ، وَإِثْبَاتٍ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يَقْتَضِيَ التَّأْكِيدَ، وَمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ كَمَا يَلْزَمُنَا

يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ إلَيْهِ أَيْضًا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمُتَّقِي، وَالْمُحْسِنُ، وَغَيْرُهُمَا، ثُمَّ نَقُولُ: الْإِيجَابُ عَلَى الْمُحْسِنِ، وَالْمُتَّقِي لَا يَنْفِي الْإِيجَابَ عَلَى غَيْرِهِمَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، ثُمَّ لَمْ يَنْفِ أَنْ يَكُونَ هُدًى لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ كَذَا هَذَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ هَهُنَا وَاجِبَةٌ أَنَّهَا بَدَلُ الْوَاجِبِ، وَهُوَ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَبَدَلُ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْوَاجِبِ، وَيَحْكِي حِكَايَتَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَمَّا كَانَ بَدَلًا عَنْ الْوُضُوءِ، وَالْوُضُوءُ وَاجِبٌ كَانَ التَّيَمُّمُ وَاجِبًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ تَجِبُ بَدَلًا عَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ، أَنَّ بَدَلَ الشَّيْءِ مَا يَجِبُ بِسَبَبِ الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِهِ كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْمُتْعَةُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهُوَ النِّكَاحُ لَا الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُسْقِطٌ لِلْحُقُوقِ لَا مُوجِبٌ لَهَا لَكِنْ عِنْدَ الطَّلَاقِ يَسْقُطُ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَتَجِبُ الْمُتْعَةُ بَدَلًا عَنْ نِصْفِهِ، وَهَذَا طَرِيقُ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّ الرَّهْنَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ يَكُونُ رَهْنًا بِالْمُتْعَةِ عِنْدَهُ حَتَّى إذَا هَلَكَ تَهْلَكُ الْمُتْعَةُ. وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ: فَإِنَّهُ لَا يَجْعَلُهُ رَهْنًا بِهَا حَتَّى إذَا هَلَكَ الرَّهْنُ يَهْلَكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَالْمُتْعَةُ بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ وُجُوبُهَا بِطَرِيقِ الْبَدَلِ عِنْدَهُ بَلْ يُوجِبُهَا ابْتِدَاءً بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَوْ يُوجِبُهَا بَدَلًا عَنْ الْبُضْعِ بِالِاسْتِدْلَالِ بِنِصْفِ الْمُسَمَّى فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ لَمْ يُسَمَّ فِيهِ الْمَهْرُ، وَإِنَّمَا فُرِضَ بَعْدَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرُ، وَكَانَ يَقُولُ: أَوَّلًا يَجِبُ نِصْفُ الْمَفْرُوضَ كَمَا إذَا كَانَ الْمَهْرُ مَفْرُوضًا فِي الْعَقْدِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أَوْجَبَ تَعَالَى نِصْفَ الْمَفْرُوضَ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْفَرْضُ فِي الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ؛ وَلِأَنَّ الْفَرْضَ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْفَرْضِ فِي الْعَقْدِ. ثُمَّ الْمَفْرُوضُ فِي الْعَقْدِ يَتَنَصَّفُ، فَكَذَا الْمَفْرُوضُ بَعْدَهُ، وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] أَوْجَبَ الْمُتْعَةَ فِي الْمُطَلَّقَاتِ قَبْلَ الدُّخُولِ عَامًّا، ثُمَّ خُصَّتْ مِنْهُ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ عِنْدَ وُجُودِهِ، فَبَقِيَتْ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ عِنْدَ وُجُودِهِ عَلَى أَصْلِ الْعُمُومِ، وقَوْله تَعَالَى {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] أَيْ: وَلَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ مُنْصَرِفٌ إلَى الْفَرْضِ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَالْمُتَعَارَفُ هُوَ الْفَرْضُ فِي الْعَقْدِ لَا مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفَرْضَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237] مُنْصَرِفٌ إلَى الْمَفْرُوضِ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ، وَبِهِ نَقُولُ إنَّ الْمَفْرُوضَ فِي الْعَقْدِ يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ وَلِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ قَدْ وَجَبَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَكَانَ الْفَرْضُ بَعْدَهُ تَقْدِيرًا لِمَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ يَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَتَجِبُ الْمُتْعَةُ، فَكَذَا مَا هُوَ بَيَانٌ وَتَقْدِيرٌ لَهُ إذْ هُوَ تَقْدِيرٌ لِذَلِكَ الْوَاجِبِ. وَكَذَا الْفُرْقَةُ بِالْإِيلَاءِ، وَاللِّعَانِ، وَالْجَبِّ، وَالْعُنَّةِ، فَكُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ، فَتُوجِبُ الْمُتْعَةَ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ نِصْفَ الْمُسَمَّى فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ، وَالْمُتْعَةُ عِوَضٌ عَنْهُ كَرِدَّةِ الزَّوْجِ، وَإِبَايَةِ الْإِسْلَامِ، وَكُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ، فَلَا مُتْعَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِهَا الْمَهْرُ أَصْلًا، فَلَا تَجِبُ بِهَا الْمُتْعَةُ. وَالْمُخَيَّرَةُ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ، فَلَهَا الْمُتْعَةُ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةُ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ مُضَافَةٌ إلَى الْإِبَانَةِ السَّابِقَةِ، وَهِيَ فِعْلُ الزَّوْجِ. (وَأَمَّا) الَّذِي تُسْتَحَبُّ فِيهِ الْمُتْعَةُ، فَهُوَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَالطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ، وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ: الشَّافِعِيُّ الْمُتْعَةُ فِي الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَاجِبَةٌ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] جَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعًا فَاللَّامُ الْمِلْكِ عَامًّا إلَّا أَنَّهُ خُصِّصَتْ مِنْهُ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ، فَبَقِيَتْ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ، وَالْمُطَلَّقَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ عَلَى ظَاهِرِ الْعُمُومِ، وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُتْعَةَ وَجَبَتْ بِالنِّكَاحِ بَدَلًا عَنْ الْبُضْعِ إمَّا بَدَلًا عَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ أَوْ ابْتِدَاءً، فَإِذَا اسْتَحَقَّتْ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرَ الْمِثْلِ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَوْ وَجَبَتْ الْمُتْعَةُ؛ لَأَدَّى إلَى أَنْ يَكُونَ لِمِلْكٍ وَاحِدٍ بَدَلَانِ وَإِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَلِ، وَالْأَصْلِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ؛ وَلِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ لَا تَجِبُ لَهَا الْمُتْعَةُ بِالْإِجْمَاعِ، فَالْمُطَلَّقَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأُولَى تَسْتَحِقُّ بَعْضَ الْمَهْرِ

فصل حكم اختلاف الزوجين في المهر

وَالثَّانِيَةَ تَسْتَحِقُّ الْكُلَّ فَاسْتِحْقَاقُ بَعْضِ الْمَهْرِ لَمَّا مَنَعَ عَنْ اسْتِحْقَاقِ الْمُتْعَةِ فَاسْتِحْقَاقُ الْكُلِّ أَوْلَى. وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، فَيُحْمَلُ ذِكْرُ الْمَتَاعِ فِيهَا عَلَى النَّدْبِ، وَالِاسْتِحْبَابِ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ إنَّهُ يُنْدَبُ الزَّوْجُ إلَى ذَلِكَ كَمَا يُنْدَبُ إلَى أَدَاءِ الْمَهْرِ عَلَى الْكَمَالِ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا أَوْ يُحْمَلُ عَلَى النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ فِي حَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَتَاعٌ إذْ الْمَتَاعُ اسْمٌ لِمَا يُنْتَفَعُ بِهِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَكُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ بَعْدَ الدُّخُولِ تُسْتَحَبُّ فِيهَا الْمُتْعَةُ إلَّا أَنْ يَرْتَدَّ أَوْ يَأْبَى الْإِسْلَامَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْبَابَ طَلَبُ الْفَضِيلَةِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْفَضِيلَةِ. (وَأَمَّا) تَفْسِيرُ الْمُتْعَةِ الْوَاجِبَةِ، فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهَا ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ دِرْعٌ، وَخِمَارٌ، وَمِلْحَفَةٌ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: أَرْفَعُ الْمُتْعَةِ الْخَادِمُ، ثُمَّ دُونَ ذَلِكَ الْكِسْوَةُ، ثُمَّ دُونَ ذَلِكَ النَّفَقَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا لَهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَخْبِرْنِي عَنْ الْمُتْعَةِ، وَأَخْبِرْنِي عَنْ قَدْرِهَا، فَإِنِّي مُوسِرٌ، فَقَالَ: اُكْسُ كَذَا اُكْسُ كَذَا اُكْسُ كَذَا قَالَ: فَحَسَبْتُ ذَلِكَ، فَوَجَدْتُهُ قَدْرَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، فَدَلَّ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ الْمُتْعَةِ {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] ، وَالْمَتَاعُ اسْمٌ لِلْعُرُوضِ فِي الْعُرْفِ؛ وَلِأَنَّ لِإِيجَابِ الْأَثْوَابِ نَظِيرًا فِي أُصُولِ الشَّرْعِ، وَهُوَ الْكِسْوَةُ الَّتِي تَجِبُ لَهَا حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ وَالْعِدَّةِ، وَأَدْنَى مَا تَكْتَسِي بِهِ الْمَرْأَةُ، وَتَسْتَتِرُ بِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ، وَلَا نَظِيرَ لِإِيجَابِ الثَّلَاثِينَ، فَكَانَ إيجَابُ مَا لَهُ نَظِيرٌ أَوْلَى، وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْكِسْوَةِ لَا بِدَرَاهِمَ مُقَدَّرَةٍ إلَّا أَنَّهُ اُتُّفِقَ أَنَّ قِيمَةَ الْكِسْوَةِ بَلَغَتْ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ فِيهَا بِالثَّلَاثِينَ. وَلَوْ أَعْطَاهَا قِيمَةَ الْأَثْوَابِ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ تُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الْأَثْوَابَ مَا وَجَبَتْ لِعَيْنِهَا بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَالٌ، كَالشَّاةِ فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ. وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تُعْتَبَرُ الْمُتْعَةُ بِحَالِهِ، فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ.: قَدْرُ الْمُتْعَةِ يُعْتَبَرُ بِحَالِ الرَّجُلِ فِي يَسَارِهِ، وَإِعْسَارِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ بَعْضُهُمْ: تُعْتَبَرُ بِحَالِ الْمَرْأَةِ فِي يَسَارِهَا، وَإِعْسَارِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُعْتَبَرُ بِحَالِهِمَا جَمِيعًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُتْعَةُ الْوَاجِبَةُ تُعْتَبَرُ بِحَالِهَا، وَالْمُسْتَحَبَّةُ تُعْتَبَرُ بِحَالِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ حَالَ الرَّجُلِ قَوْله تَعَالَى {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] جَعَلَ الْمُتْعَةَ عَلَى قَدْرِ حَالِ الرَّجُلِ فِي يَسَارِهِ، وَإِعْسَارِهِ (وَجْهُ) قَوْلِ مَنْ قَالَ: بِاعْتِبَارِ حَالِهَا أَنَّ الْمُتْعَةَ بَدَلُ بُضْعِهَا، فَيُعْتَبَرُ حَالُهَا، وَهَذَا أَيْضًا وَجْهُ مَنْ يَقُولُ الْمُتْعَةُ الْوَاجِبَةُ تُعْتَبَرُ بِحَالِهَا، وَقَوْلُهُ الْمُتْعَةُ الْمُسْتَحَبَّةُ تُعْتَبَرُ بِحَالِهِ لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فِي الْوَاجِبِ لَا فِي الْمُسْتَحَبِّ (وَجْهُ) مَنْ اعْتَبَرَ حَالَهُمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اعْتَبَرَ فِي الْمُتْعَةِ شَيْئَيْنِ أَحَدَهُمَا: حَالَ الرَّجُلِ فِي يَسَارِهِ، وَإِعْسَارِهِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] . وَالثَّانِيَ: أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ بِقَوْلِهِ {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 236] فَلَوْ اعْتَبَرْنَا فِيهَا حَالَ الرَّجُلِ دُونَ حَالِهَا عَسَى أَنْ لَا يَكُونَ بِالْمَعْرُوفِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَتَيْنِ إحْدَاهُمَا شَرِيفَةٌ، وَالْأُخْرَى مَوْلَاةٌ دَنِيئَةٌ، ثُمَّ طَلَّقَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهِمَا، وَلَمْ يُسَمِّ لَهُمَا أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْمُتْعَةِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الرَّجُلِ، وَهَذَا مُنْكَرٌ فِي عَادَاتِ النَّاسِ لَا مَعْرُوفٌ، فَيَكُونُ خِلَافَ النَّصِّ، ثُمَّ الْمُتْعَةُ الْوَاجِبَةُ لَا تُزَادُ عَلَى نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ بَلْ هُوَ نِهَايَةُ الْمُتْعَةِ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ التَّسْمِيَةِ آكَدُ، وَأَثْبَتُ مِنْهُ عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْمُتْعَةَ عَلَى قَدْرِ احْتِمَالِ مِلْكِ الزَّوْجِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] ، فَأَوْجَبَ نِصْفَ الْمُسَمَّى مُطْلَقًا احْتَمَلَهُ وُسْعُ الزَّوْجِ، وَمِلْكُهُ أَوْ لَا. وَكَذَا فِي وُجُوبِ كَمَالِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَسُقُوطِهِ، وَوُجُوبِ الْمُتْعَةِ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ، وَعَدَمِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ كَمَالِ الْمُسَمَّى مِنْ ذَلِكَ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ دَلَّ أَنَّ الْحَقَّ أَوْكَدُ، وَأَثْبَتُ عِنْدَ التَّسْمِيَةِ، ثُمَّ لَا يُزَادُ هُنَاكَ عَلَى نِصْفِ الْمُسَمَّى، فَلَأَنْ لَا يُزَادَ هَهُنَا عَلَى نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْمُتْعَةَ بَدَلٌ عَنْ نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَا يُزَادُ الْبَدَلُ عَلَى الْأَصْلِ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى طَرِيقِ الْعِوَضِ، وَأَقَلُّ عِوَضٍ يَثْبُتُ فِي النِّكَاحِ نِصْفُ الْعَشَرَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ حُكْمُ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي الْمَهْرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ. اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي الْمَهْرِ. فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْمَهْرِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ حَيَاةِ الزَّوْجَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا بَيْنَ الْحَيِّ مِنْهُمَا، وَوَرَثَةِ الْمَيِّتِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مَوْتِهِمَا بَيْنَ وَرَثَتِهِمَا، فَإِنْ كَانَ

فِي حَالِ حَيَاةِ الزَّوْجَيْنِ. فَأَمَّا إنْ كَانَ قَبْلَ الطَّلَاقِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ التَّسْمِيَةِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي بَابِ النِّكَاحِ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ قِيمَةُ الْبُضْعِ، وَقِيمَةُ الشَّيْءِ مِثْلُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَكَانَ هُوَ الْعَدْلُ، وَإِنَّمَا التَّسْمِيَةُ تَقْدِيرٌ لِمَهْرِ الْمِثْلِ. فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ التَّسْمِيَةُ لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا، وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِ الْمُسَمَّى أَوْ جِنْسِهِ أَوْ نَوْعِهِ أَوْ صِفَتِهِ، فَالْمَهْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا، فَإِنْ كَانَ دَيْنًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ، وَهِيَ الدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ. وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ الْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، وَالْمَذْرُوعَاتِ الْمَوْصُوفَةِ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ، فَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ بِأَنْ قَالَ الزَّوْجُ: تَزَوَّجْتُكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: تَزَوَّجْتَنِي عَلَى أَلْفَيْنِ أَوْ قَالَ الزَّوْجُ: تَزَوَّجْتُكِ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ. وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: عَلَى مِائَتَيْ دِينَارٍ تَحَالَفَا، وَيَبْدَأُ بِيَمِينِ الزَّوْجِ، فَإِنْ نَكَلَ أَعْطَاهَا أَلْفَيْنِ، وَإِنْ حَلَفَ تَحْلِفُ الْمَرْأَةُ، فَإِنْ نَكَلَتْ أَخَذَتْ أَلْفًا، وَإِنْ حَلَفَتْ يُحْكَمُ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ إنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا مِثْلَ مَا قَالَتْ أَوْ أَكْثَرَ، فَلَهَا مَا قَالَتْ وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا مِثْلَ مَا قَالَ الزَّوْجُ أَوْ أَقَلَّ، فَلَهَا مَا قَالَ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِمَّا قَالَتْ أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا قَالَ، فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَتَحَالَفَانِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي هَذَا كُلِّهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِمُسْتَنْكِرٍ جِدًّا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدًا يَحْكُمَانِ مَهْرَ الْمِثْلِ، وَيُنْهِيَانِ الْأَمْرَ إلَيْهِ، وَأَبُو يُوسُفَ لَا يَحْكُمُهُ بَلْ يَجْعَلُ الْقَوْلَ قَوْلَ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مُسْتَنْكَرٍ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْمُسْتَنْكَرِ قِيلَ: هُوَ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ يُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مُسْتَنْكَرٌ شَرْعًا إذْ لَا مَهْرَ فِي الشَّرْعِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ، وَقِيلَ هُوَ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَا لَا يُزَوَّجُ مِثْلُهَا بِهِ عَادَةً، وَهَذَا يُحْكَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَنْكَرٌ عُرْفًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ التَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى، وَذَلِكَ اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا عَلَى أَصْلِ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى، وَمَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَمْ يُعْرَفْ مَهْرًا فِي الشَّرْعِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ، وَالسِّلْعَةُ هَالِكَةٌ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَا لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مُسْتَنْكَرٍ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُنْكِرِ فِي الشَّرْعِ، وَالْمُنْكِرُ هُوَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةَ مَهْرٍ، وَهُوَ يُنْكِرُ ذَلِكَ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْمُسَمَّى لَا يُحْكَمُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ بَلْ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَلَهُمَا أَنَّ الْقَوْلَ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لِمَنْ يُوَافِقُ قَوْلُهُ مَهْرَ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ يُقَدِّرُونَ الْمُسَمَّى بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَيَبْنُونَهُ عَلَيْهِ لَا بِرِضَا الزَّوْجِ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ، وَأَوْلِيَاؤُهَا لَا يَرْضَوْنَ بِالنُّقْصَانِ عَنْهُ، فَكَانَتْ التَّسْمِيَةُ تَقْدِيرًا لِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَبِنَاءً عَلَيْهِ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَيُحْكَمُ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِنْ كَانَ أَلْفَيْنِ، فَلَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْنِ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِالنُّقْصَانِ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا، فَلَهَا أَلْفٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَا يَنْقُصُ عَنْ أَلْفٍ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَكْثَرَ مِمَّا قَالَ، وَأَقَلَّ مِمَّا قَالَتْ، فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ، وَإِنَّمَا التَّسْمِيَةُ تَقْدِيرٌ لَهُ لِمَا قُلْنَا، فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَّا عِنْدَ ثُبُوتِ التَّسْمِيَةِ وَصِحَّتِهَا، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ؛ وَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ، وَتَحْكِيمُهُ، وَإِنَّمَا يَتَحَالَفَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ مِنْ وَجْهٍ، وَمُنْكِرٌ مِنْ وَجْهٍ أَمَّا الزَّوْجُ؛ فَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةَ أَلْفٍ، وَهُوَ مُنْكِرٌ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ؛ فَلِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي عَلَيْهَا تَسْلِيمَ النَّفْسِ عِنْدَ تَسْلِيمِ الْأَلْفِ إلَيْهَا، وَهِيَ تُنْكِرُ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا مِنْ وَجْهٍ، وَمُنْكِرًا مِنْ وَجْهٍ، فَيَتَحَالَفَانِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ، وَيَبْدَأُ بِيَمِينِ الزَّوْج؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ إنْكَارًا أَوْ أَسْبَقُ إنْكَارًا مِنْ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ قَبْلَ تَسْلِيمِ النَّفْسِ، وَبَعْدَهُ، وَلَا إنْكَارَ مِنْ الْمَرْأَةِ بَعْدَ تَسْلِيمِ النَّفْسِ، وَقَبْلَ التَّسْلِيمِ هُوَ أَسْبَقُ إنْكَارًا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَقْبِضُ الْمَهْرَ أَوَّلًا، ثُمَّ تُسَلِّمُ نَفْسَهَا، فَتُطَالِبُهُ بِأَدَاءِ الْمَهْرِ إلَيْهَا، وَهُوَ يُنْكِرُ، فَكَانَ هُوَ أَسْبَقُ إنْكَارًا، فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالتَّحْلِيفِ مِنْهُ أَوْلَى لِمَا قُلْنَا فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ التَّحَالُفَ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ، وَأَنْكَرَ الْجَصَّاصُ التَّحَالُفَ إلَّا فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَشْهَدْ مَهْرُ الْمِثْلِ لِدَعْوَاهُمَا بِأَنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَكْثَرَ مِمَّا قَالَ الزَّوْجُ، وَأَقَلَّ مِمَّا قَالَتْ الْمَرْأَةُ. وَكَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ

لَمْ يَذْكُرْ التَّحَالُفَ إلَّا فِي هَذَا الْفَصْلِ. وَجْهُهُ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّحَالُفِ فِيمَا لَا شَهَادَةَ لِلظَّاهِرِ، فَإِذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ مِثْلَ مَا يَدَّعِيهِ أَحَدُهُمَا كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ، فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحَالُفِ، وَالظَّاهِرُ لَا يَشْهَدُ لِأَحَدِهِمَا فِي الثَّالِثِ، فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّحَالُفِ. وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ سُقُوطِ اعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ، وَالتَّسْمِيَةُ لَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا إلَّا بِالتَّحَالُفِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ، فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّحَالُفِ، ثُمَّ إذَا وَجَبَ التَّحَالُفُ، وَبُدِئَ بِيَمِينِ الزَّوْجِ، فَإِنْ نَكَلَ يُقْضَى عَلَيْهِ بِأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةٌ يُقْضَى بِهَا فِي بَابِ الْأَمْوَالِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ، وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَهَا مَكَانَ الدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْأَلْفَيْنِ قَدْ تَثْبُتُ بِالنُّكُولِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ، وَمِنْ شَأْنِ الْمُسَمَّى أَنْ لَا يَكُونَ لِلزَّوْجِ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِرِضَا الْمَرْأَةِ، وَإِنْ حَلَفَ تَحْلِفُ الْمَرْأَةُ، فَإِنْ نَكَلَتْ لَمْ يُقْضَ عَلَى الزَّوْجِ إلَّا بِالْأَلْفِ، وَلَا خِيَارَ لَهُ لِمَا قُلْنَا فِي نُكُولِ الزَّوْجِ، وَإِنْ حَلَفَتْ يُحْكَمُ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا قُضِيَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ بِأَلْفٍ، وَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْأَلْفِ قَدْ تَثْبُتُ بِتَصَادُقِهِمَا، فَيُمْنَعُ الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَيْنِ قُضِيَ لَهَا بِأَلْفَيْنِ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي أَخْذِ الْأَلْفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لِثُبُوتِ تَسْمِيَةِ أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ بِتَصَادُقِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ قُضِيَ لَهَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي قَدْرِ الْأَلْفِ بِتَصَادُقِهِمَا، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي قَدْرِ الْخَمْسِمِائَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ تَسْمِيَةُ هَذَا الْقَدْرِ، فَكَانَ سَبِيلُهَا سَبِيلَ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِيهَا، وَلَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ بَعْدَ التَّحَالُفِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُفْسَخُ كَمَا فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدٌ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَلَنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُ التَّسْمِيَةِ فِي بَابِ الْبَيْعِ يَبْقَى الْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ، وَالْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ بَيْعٌ فَاسِدٌ، وَاجِبُ الرَّفْعِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ، وَذَلِكَ بِالْفَسْخِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، فَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ أَصْلًا فِي النِّكَاحِ لَا يُوجِبُ فَسَادَهُ، فَسُقُوطُ اعْتِبَارِهِ بِجَهَالَةِ الْمُسَمَّى بِالتَّعَارُضِ أَوْلَى، فَلَا حَاجَةَ إلَى الْفَسْخِ، فَهُوَ الْفَرْقُ، هَذَا إذَا لَمْ يَقُمْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ. فَأَمَّا إذَا قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، فَإِنَّهُ يُقْضَى بِبَيِّنَتِهِ؛ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى أَمْرٍ جَائِزِ الْوُجُودِ، وَلَا مُعَارِضَ لَهَا، فَتُقْبَلُ، وَلَا يُحْكَمُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ تَحْكِيمَهُ ضَرُورِيٌّ، وَلَا ضَرُورَةَ عِنْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ، وَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ، وَأَنَّهَا تَمْنَعُ الْخِيَارَ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ، فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ يُقْضَى بِبَيِّنَتِهَا؛ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ زِيَادَةَ أَلْفٍ، فَكَانَتْ مُظْهِرَةً، وَبَيِّنَةُ الزَّوْجِ لَمْ تُظْهِرْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى أَلْفٍ، وَالْأَلْفُ كَانَ ظَاهِرًا بِتَصَادُقِهِمَا، أَوْ نَقُولُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ أَكْثَرُ إظْهَارًا، فَكَانَ الْقَضَاءُ بِهَا أَوْلَى، وَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ فِي الْأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ تَثْبُتُ بِتَصَادُقِهِمَا، وَتَسْمِيَةُ الْآخَرِ تَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ، وَالتَّسْمِيَةُ تَمْنَعُ الْخِيَارَ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَيْنِ، فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ: بَعْضُهُمْ يُقْضَى بِبَيِّنَتِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ زِيَادَةَ أَلْفٍ لَمْ تَكُنْ ظَاهِرَةً بِتَصَادُقِهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً بِشَهَادَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ لَكِنَّ هَذَا الظَّاهِرَ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقْضَى بِهِ بِدُونِ الْيَمِينِ أَوْ الْبَيِّنَةِ، وَتَصَادُقُهُمَا حُجَّةٌ بِنَفْسِهِ، فَكَانَتْ بَيِّنَتُهَا هِيَ الْمُظْهِرَةُ أَوْ كَانَتْ أَكْثَرَ إظْهَارًا، وَبَيِّنَةُ الزَّوْجِ لَيْسَتْ بِمُظْهِرَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ كَانَ ظَاهِرًا بِتَصَادُقِهِمَا أَوْ هِيَ أَقَلُّ إظْهَارًا، فَكَانَ الْقَضَاءُ بِبَيِّنَتِهَا أَوْلَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُقْضَى بِبَيِّنَةِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الزَّوْجِ تُظْهِرُ حَطَّ الْأَلْفِ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَذَلِكَ أَلْفَانِ لِثُبُوتِ الْأَلْفَيْنِ بِشَهَادَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَيَظْهَرُ حَطٌّ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بِشَهَادَتِهِ، وَبَيِّنَتُهَا لَا تُظْهِرُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْأَلْفَيْنِ كَانَ ظَاهِرًا بِتَصَادُقِهِمَا، وَالْآخَرُ كَانَ ظَاهِرًا بِشَهَادَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ يُظْهِرَ صِفَةَ التَّعْيِينِ لِلْأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ يُظْهِرُ صِفَةَ التَّعْيِينِ لَهُمَا، وَبَيِّنَتُهُ مُظْهِرَةٌ لِلْأَصْلِ، فَكَانَ الْقَضَاءُ بِبَيِّنَتِهِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا، وَخَمْسَمِائَةٍ بَطَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ لِلتَّعَارُضِ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَشْهَدُ لِأَحَدِهِمَا، فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُظْهِرَةً، وَلَيْسَ الْقَضَاءُ بِإِحْدَاهُمَا أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَبَطَلَتْ، فَبَقِيَ الْحُكْمُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي قَدْرِ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ الْتَحَقَتَا بِالْعَدَمِ لِلتَّعَارُضِ، فَبَقِيَ هَذَا الْقَدْرُ مُسَمًّى بِتَصَادُقِهِمَا، وَلَهُ خِيَارٌ فِي قَدْرِ الْخَمْسِمِائَةِ لِثُبُوتِهِ عَلَى وَجْهِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ دَيْنًا مَوْصُوفَا فِي الذِّمَّةِ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَكِيلٍ مَوْصُوفٍ، أَوْ مَوْزُونٍ مَوْصُوفٍ، أَوْ مَذْرُوعٍ مَوْصُوفٍ، فَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ أَوْ الذَّرْعِ، فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كَالِاخْتِلَافِ فِي قَدْرِ الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ، وَلِهَذَا يَتَحَالَفَانِ، وَيُحْكَمُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ. وَكَذَا فِي الْمَذْرُوعِ إذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْقُودًا عَلَيْهِ بَلْ كَانَ جَارِيًا مَجْرَى الصِّفَةِ إذَا كَانَ عَيْنًا؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ غَائِبٌ مَذْكُورٌ يَخْتَلِفُ أَصْلُهُ بِاخْتِلَافِ

وَصْفِهِ، فَجَرَى الْوَصْفُ فِيمَا فِي الذِّمَّةِ مَجْرَى الْأَصْلِ، وَلِهَذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي صِفَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مُوجِبًا لِلتَّحَالُفِ، فَكَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْوَصْفِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْأَصْلِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّحَالُفَ كَذَا هَذَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَتَحَالَفَانِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي جِنْسِ الْمُسَمَّى بِأَنْ قَالَ الزَّوْجُ: تَزَوَّجْتُكِ عَلَى عَبْدٍ، فَقَالَتْ: عَلَى جَارِيَةٍ أَوْ قَالَ الزَّوْجُ: تَزَوَّجْتُكِ عَلَى كُرِّ شَعِيرٍ، فَقَالَتْ: عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ أَوْ عَلَى ثِيَابٍ هَرَوِيَّةٍ أَوْ قَالَ: عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَقَالَتْ: عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ، أَوْ فِي نَوْعِهِ كَالتُّرْكِيِّ مَعَ الرُّومِيِّ، وَالدَّنَانِيرِ الْمِصْرِيَّةِ مَعَ الصُّورِيَّةِ أَوْ فِي صِفَتِهِ مِنْ الْجَوْدَةِ، وَالرَّدَاءَةِ، فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْعَيْنَيْنِ إلَّا الدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِمَا كَالِاخْتِلَافِ فِي الْأَلْفِ، وَالْأَلْفَيْنِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْجِنْسَيْنِ، وَالنَّوْعَيْنِ، وَالْمَوْصُوفَيْنِ لَا يُمْلَكُ إلَّا بِالتَّرَاضِي بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ، فَإِنَّهُمَا، وَإِنْ كَانَا جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَكِنَّهُمَا فِي بَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ يُقْضَى مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمِائَةَ دِينَارٍ مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ بِخِلَافِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يُقْضَى مِنْ جِنْسِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْلَكَ مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ، فَيُقْضَى بِقَدْرِ قِيمَتِهِ هَذَا إذَا كَانَ الْمَهْرُ دَيْنًا فَأَمَّا إذَا كَانَ عَيْنًا. فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى طَعَامٍ بِعَيْنِهِ، فَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: تَزَوَّجْتُكِ عَلَى هَذَا الطَّعَامِ بِشَرْطِ أَنَّهُ كُرٌّ وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: تَزَوَّجْتَنِي عَلَيْهِ بِشَرْطِ أَنَّهُ كُرَّانِ، فَهِيَ مِثْلُ الِاخْتِلَافِ فِي الْأَلْفِ، وَالْأَلْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ كُلُّ ذِرَاعٍ مِنْهُ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَاخْتَلَفَا، فَقَالَ الزَّوْجُ: تَزَوَّجْتُكِ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ بِشَرْطِ أَنَّهُ ثَمَانِيَةُ أَذْرُعٍ، فَقَالَتْ: بِشَرْطِ أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ لَا يَتَحَالَفَانِ، وَلَا يُحْكَمُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ بِالْإِجْمَاعِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّعَامِ، وَالثَّوْبِ أَنَّ الْقَدْرَ فِي بَابِ الطَّعَامِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ؛ فَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَيْنٌ، وَذَاتُ حَقِيقَةٍ. وَأَمَّا الشَّرْعُ، فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى طَعَامًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ، فَوَجَدَهُ أَحَدَ عَشَرَ لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ، وَالِاخْتِلَافُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ. فَأَمَّا الْقَدْرُ فِي بَابِ الثَّوْبِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ الثَّوْبِ حَقِيقَةً لَكِنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْوَصْفِ، وَهُوَ صِفَةُ الْجَوْدَةِ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ صِفَةَ الْجَوْدَةِ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَجْزَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، فَوَجَدَهُ أَحَدَ عَشَرَ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ، وَالِاخْتِلَافُ فِي صِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ عَيْنًا لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ كَمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الْجَوْدَةِ فِي الْعَيْنِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا يُوجِبُ فَوَاتُ بَعْضِهِ نُقْصَانًا فِي الْبَقِيَّةِ، فَهُوَ جَارٍ مَجْرَى الصِّفَةِ، وَمَا لَا يُوجِبُ فَوَاتُ بَعْضِهِ نُقْصَانًا فِي الْبَاقِي لَا يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى الصِّفَةِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِهِ، وَعَيْنِهِ كَالْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ بِأَنْ قَالَ الزَّوْجُ: تَزَوَّجْتُكِ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ. وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى هَذِهِ الْجَارِيَةِ، فَهُوَ مِثْلُ الِاخْتِلَافِ فِي الْأَلْفِ، وَالْأَلْفَيْنِ إلَّا فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا مِثْلَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ أَوْ أَكْثَرَ، فَلَهَا قِيمَةُ الْجَارِيَةِ لَا عَيْنُهَا؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْجَارِيَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّرَاضِي، وَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَى تَمْلِيكِهَا، فَلَمْ يُوجَدْ الرِّضَا مِنْ صَاحِبِ الْجَارِيَةِ بِتَمْلِيكِهَا، فَتَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ، فَيُقْضَى بِقِيمَتِهَا بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: تَزَوَّجْتُكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْأَلْفِ، وَالْأَلْفَيْنِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَهْرَ مِثْلِهَا إنْ كَانَ مِثْلَ مِائَةِ دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَلَهَا الْمِائَةُ دِينَارٍ لِمَا مَرَّ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ يُقْضَى مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّرَاضِي بِخِلَافِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يُقْضَى مِنْ جِنْسِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمْلَكَ مِنْ غَيْرِ مُرَاضَاةٍ، وَلَا يَكُونُ لَهَا أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهَا، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِهَذَا الْقَدْرِ، وَمَا كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ أَيْ مِنْ الْعَيْنِ قَوْلَ الزَّوْجِ، فَهَلَكَ، فَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ قِيمَتِهِ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ الْقِيمَةُ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَالِاخْتِلَافُ إذَا وَقَعَ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَدْيُونِ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ هَذَا كُلُّهُ إذَا اخْتَلَفَا قَبْلَ الطَّلَاقِ. وَلَوْ اخْتَلَفَا بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ، فَالْجَوَابُ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا كَالْجَوَابِ فِيمَا لَوْ اخْتَلَفَا حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ مِمَّا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، وَقَبْلَ الْخَلْوَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ دَيْنًا، فَاخْتَلَفَا فِي الْأَلْفِ، وَالْأَلْفَيْنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، وَيُتَنَصَّفُ مَا يَقُولُ الزَّوْجُ كَذَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَلَمْ يُذْكَرْ الِاخْتِلَافُ كَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يُتَنَصَّفُ مَا يَقُولُ الزَّوْجُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ، وَحَكَى الْإِجْمَاعَ، فَقَالَ:

فصل اختلاف الزوجين في متاع البيت

لَهَا نِصْفُ الْأَلْفِ فِي قَوْلِهِمْ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَرْأَةِ إلَى مُتْعَةِ مِثْلِهَا، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُسَمَّى لَمْ يَثْبُتْ لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، وَالطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ يُوجِبُ الْمُتْعَةَ، وَيُحْكَمُ مُتْعَةُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَرْضَى بِذَلِكَ، وَالزَّوْجُ لَا يَرْضَى بِالزِّيَادَةِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي الزِّيَادَةِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَحْكِيمِ مَهْرِ الْمِثْلِ هَهُنَا؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَثْبُتُ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَتَعَذَّرَ تَحْكِيمُهُ، فَوَجَبَ إثْبَاتُ الْمُتَيَقَّنَ، وَهُوَ نِصْفُ الْأَلْفِ، وَمُتْعَةُ مِثْلِهَا لَا تَبْلُغُ ذَلِكَ عَادَةً، فَلَا مَعْنَى لِتَحْكِيمِ الْمُتْعَةِ عَلَى إقْرَارِ الزَّوْجِ بِالزِّيَادَةِ، وَقِيلَ لَا خِلَافَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ، فَوَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فِي الْأَلْفِ، وَالْأَلْفَيْنِ، وَلَا وَجْهَ لِتَحْكِيمِ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَقَرَّ لَهَا بِخَمْسِمِائَةٍ، وَهِيَ تَزِيدُ عَلَى مُتْعَةِ مِثْلِهَا عَادَةً، فَقَدْ أَقَرَّ الزَّوْجُ لَهَا بِمُتْعَةِ مِثْلِهَا، وَزِيَادَةٍ، فَكَانَ لَهَا ذَلِكَ، وَوَضَعَهَا فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فِي الْعَشَرَةِ وَالْمِائَةِ بِأَنْ قَالَ الزَّوْجُ: تَزَوَّجْتُكِ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ. وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: تَزَوَّجْتَنِي عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَمُتْعَةُ مِثْلِهَا عِشْرُونَ، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَكُونُ الزَّوْجُ مُقِرًّا لَهَا بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، وَذَلِكَ أَقَلُّ مِنْ مُتْعَةِ مِثْلِهَا عَادَةً، فَكَانَ لَهَا مُتْعَةُ مِثْلِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ عَيْنًا كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ، وَالْجَارِيَةِ، فَلَهَا الْمُتْعَةُ إلَّا أَنْ يَرْضَى الزَّوْجُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْجَارِيَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْأَلْفِ، وَالْأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْأَلْفِ هُنَاكَ ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى تَسْمِيَةِ الْأَلْفِ، فَكَانَ الْقَضَاءُ بِنِصْفِهَا حُكْمًا بِالْمُتَيَقَّنِ، وَالْمِلْكُ فِي نِصْفِ الْجَارِيَةِ لَيْسَ بِثَابِتٍ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى تَسْمِيَةِ أَحَدِهِمَا، فَلَمْ يُمْكِنْ الْقَضَاءُ بِنِصْفِ الْجَارِيَةِ إلَّا بِاخْتِيَارِهِمَا، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ سَقَطَ الْبَدَلَانِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى الْمُتْعَةِ هَذَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي حَيَاةِ الزَّوْجَيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِي حَيَاةِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ مَوْتِ الْآخَرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ إلَى تَمَامِ مَهْرِ مِثْلِهَا إنْ كَانَتْ حَيَّةً، وَقَوْلُ وَرَثَتِهَا إنْ كَانَتْ مَيِّتَةً، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، وَوَرَثَتِهِ فِي الزِّيَادَةِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْقَوْلُ قَوْلُ، وَرَثَةِ الزَّوْجِ إلَّا أَنْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ مُسْتَنْكَرٍ، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ وَرَثَةِ الزَّوْجَيْنِ، فَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي أَصْلِ التَّسْمِيَةِ، وَكَوْنِهَا، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا أَقْضِي بِشَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَصْلِ التَّسْمِيَةِ، وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى بِمَهْرِ الْمِثْلِ كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّسْمِيَةَ إذَا لَمْ تَثْبُتْ لِاخْتِلَافِهِمَا، وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْعَقْدِ، فَيَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِمَا كَالْمُسَمَّى، وَصَارَ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا، ثُمَّ مَاتَا، وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ هُنَاكَ أَنَّهُ لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى التَّسْمِيَةِ أَمَّا قَوْلُهُمَا أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَجِبُ بِالْعَقْدِ عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ وَجَبَ لَكِنَّهُ لَمْ يَبْقَ إذْ الْمَهْرُ لَا يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجَيْنِ عَادَةً، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ بَلْ الظَّاهِرُ هُوَ الِاسْتِيفَاءُ وَالْإِبْرَاءُ هَذَا هُوَ الْعَادَةُ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَا يَثْبُتُ الْبَقَاءُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ، وَالثَّانِي: لَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ بَقِيَ لَكِنَّهُ تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ التَّقَادُمِ، وَعِنْدَ التَّقَادُمِ لَا يُدْرَى مَا حَالُهَا، وَمَهْرُ الْمِثْلِ يُقَدَّرُ بِحَالِهَا، فَيَتَعَذَّرُ التَّقْدِيرُ عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ مَهْرِهَا بِمَهْرِ مِثْلِ نِسَاءِ عَشِيرَتِهَا، فَإِذَا مَاتَا، فَالظَّاهِرُ مَوْتُ نِسَاءِ عَشِيرَتِهَا، فَلَا يُمْكِنُ التَّقْدِيرُ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُشْكِلٌ، وَلَوْ اخْتَلَفَتْ الْوَرَثَةُ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْقَوْلُ قَوْلُ، وَرَثَةِ الزَّوْجِ إلَّا أَنْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ مُسْتَنْكَرٍ جِدًّا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْقَوْلُ قَوْلُ، وَرَثَةِ الْمَرْأَةِ إلَى قَدْرِ مَهْرِ مِثْلِهَا كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَلَوْ بَعَثَ الزَّوْجُ إلَى امْرَأَتِهِ شَيْئًا، فَاخْتَلَفَا، فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: هُوَ هَدِيَّةٌ. وَقَالَ الزَّوْجُ: هُوَ مِنْ الْمَهْرِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ إلَّا فِي الطَّعَامِ الَّذِي يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الْمُمَلِّكُ، فَكَانَ أَعْرَفَ بِجِهَةِ تَمْلِيكِهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ إلَّا فِيمَا يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ، وَهُوَ الطَّعَامُ الَّذِي يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبْعَثُ مَهْرًا عَادَةً. [فَصْلٌ اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ] (فَصْلٌ) : وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِهَذَا اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ، وَلَا بَيِّنَةَ لِأَحَدِهِمَا. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي حَالِ حَيَاتِهِمَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ وَرَثَتِهِمَا بَعْدَ وَفَاتِهِمَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ حَيَاةِ أَحَدِهِمَا، وَمَوْتِ الْآخَرِ، فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ حَيَاتِهِمَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ زَوَالِهِ بِالطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ، فَمَا كَانَ يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ كَالْعِمَامَةِ، وَالْقَلَنْسُوَةِ، وَالسِّلَاحِ وَغَيْرِهَا، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ، وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ مِثْلُ الْخِمَارِ وَالْمِلْحَفَةِ وَالْمِغْزَلِ وَنَحْوِهَا، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهَا

وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا جَمِيعًا كَالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ، وَالْعُرُوضِ وَالْبُسُطِ وَالْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ إلَى قَدْرِ جَهَازِ مِثْلِهَا فِي الْكُلِّ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الْبَاقِي. وَقَالَ زُفَرُ: فِي قَوْلٍ الْمُشْكِلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ الْكُلُّ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. وَقَالَ: ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الْكُلِّ إلَّا فِي ثِيَابِ بَدَنِ الْمَرْأَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي الْكُلِّ إلَّا فِي ثِيَابِ بَدَنِ الرَّجُلِ (وَجْهُ) قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ يَدَ الْمَرْأَةِ عَلَى مَا فِي دَاخِلِ الْبَيْتِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي يَدِ الرَّجُلِ، فَكَانَ الظَّاهِرُ لَهَا شَاهِدًا إلَّا فِي ثِيَابِ بَدَنِ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهَا فِي ذَلِكَ، وَيُصَدِّقُ الزَّوْجَ (وَجْهُ) قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ الزَّوْجَ أَخَصُّ بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا فِي الْبَيْتِ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ إلَّا فِي ثِيَابِ بَدَنِهَا، فَإِنَّ الظَّاهِرَ يُصَدِّقُهَا فِيهِ، وَيُكَذِّبُ الرَّجُلَ (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ يَدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ إذَا كَانَا حُرَّيْنِ ثَابِتَةٌ عَلَى مَا فِي الْبَيْتِ، فَكَانَ الْكُلُّ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِهِ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ الْمُشْكِلَ بِذَلِكَ فِي قَوْلٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِأَحَدِهِمَا فِي الْمُشْكِلِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِلْمَرْأَةِ إلَى قَدْرِ جَهَازِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخْلُو عَنْ الْجَهَازِ عَادَةً، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهَا فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، فَكَانَ الْقَوْلُ فِي هَذَا الْقَدْرِ قَوْلَهَا، وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لِلرَّجُلِ فِي الْبَاقِي، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي الْبَاقِي (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ يَدَ الزَّوْجِ عَلَى مَا فِي الْبَيْتِ أَقْوَى مِنْ يَدِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدٌ مُتَصَرِّفَةٌ، وَيَدُهَا يَدٌ حَافِظَةٌ، وَيَدُ التَّصَرُّفِ أَقْوَى مِنْ يَدِ الْحِفْظِ كَاثْنَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فِي دَابَّةٍ، وَأَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا، وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِلِجَامِهَا أَنَّ الرَّاكِبَ أَوْلَى إلَّا أَنَّ فِيمَا يَصْلُحُ لَهَا عَارَضَ هَذَا الظَّاهِرَ مَا هُوَ أَظْهَرُ مِنْهُ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ مَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ بَائِنًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً بِالطَّلَاقِ، فَزَالَتْ يَدُهَا، وَالْتَحَقَتْ بِسَائِرِ الْأَجَانِبِ هَذَا إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ قَبْلَ الطَّلَاقِ أَوْ بَعْدَهُ (فَأَمَّا) إذَا مَاتَا، فَاخْتَلَفَ، وَرَثَتُهُمَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الْمَرْأَةِ إلَى قَدْرِ جَهَازِ مِثْلِهَا، وَقَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ فِي الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُورَثِ، فَصَارَ كَأَنَّ الْمُورَثَيْنِ اخْتَلَفَا بِأَنْفُسِهِمَا، وَهُمَا حَيَّانِ، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، وَاخْتَلَفَ الْحَيُّ وَوَرَثَةُ الْمَيِّتِ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْمَرْأَةُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَيَّةً لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، فَبَعْدَ الْمَوْتِ أَوْلَى. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْقَوْلُ قَوْلُ، وَرَثَتِهَا إلَى قَدْرِ جَهَازِ مِثْلِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الزَّوْجُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُشْكِلِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي قَدْرِ جَهَازِ مِثْلِهَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْقَوْلُ قَوْلُ، وَرَثَةِ الزَّوْجِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُورَثِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَتَاعَ كَانَ فِي يَدِهِمَا فِي حَيَاتِهِمَا؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ وَالْيَدِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَمَا قَالَ زُفَرُ؛ لِأَنَّ يَدَ الزَّوْجِ كَانَتْ أَقْوَى، فَسَقَطَتْ يَدُهَا بِيَدِ الزَّوْجِ، فَإِذَا مَاتَ الزَّوْجُ، فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ، فَظَهَرَتْ يَدُهَا عَلَى الْمَتَاعِ. وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ ثَلَاثًا أَوْ بَائِنًا، فَمَاتَ، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ هِيَ، وَوَرَثَةُ الزَّوْجِ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدُ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الْمُشْكِلِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ وَرَثَتِهِ بَعْدَهُ أَيْضًا، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُشْكِلِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي قَدْرِ جَهَازِ مِثْلِهَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ إذَا كَانَتْ قَائِمَةً كَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا مِنْ وَجْهٍ، فَصَارَ كَمَا لَوْ مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَبَقِيَتْ الْمَرْأَةُ، وَهُنَاكَ الْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُشْكِلِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي قَدْرِ جَهَازِ مِثْلِهَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ كَذَا هَهُنَا هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الزَّوْجَانِ حُرَّيْنِ أَوْ مَمْلُوكَيْنِ أَوْ مُكَاتَبَيْنِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا، وَالْآخَرُ مَمْلُوكًا أَوْ مُكَاتَبًا، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْحُرِّ، وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ الْمَمْلُوكُ مَحْجُورًا، فَكَذَلِكَ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مَأْذُونًا أَوْ مُكَاتَبًا، فَالْجَوَابُ فِيهِ، وَفِيمَا إذَا كَانَا حُرَّيْنِ سَوَاءٌ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي مِلْكِ الْيَدِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ بَلْ هُوَ حُرٌّ يَدًا، وَلِهَذَا كَانَ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ. وَكَذَا الْمَأْذُونُ الْمَدْيُونُ، فَصَارَ كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا، وَهُمَا حُرَّانِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَمْلُوكٌ أَمَّا الْمَأْذُونُ، فَلَا شَكَّ فِيهِ. وَكَذَا الْمُكَاتَبُ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْعَبْدُ اسْمٌ لِلْمَمْلُوكِ، وَالْمَمْلُوكُ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، فَلَا تَصْلُحُ يَدُهُ دَلِيلًا عَلَى الْمِلْكِ، فَلَا تَصْلُحُ مُعَارِضَةً لِيَدِ الْحُرِّ، فَبَقِيَتْ يَدُهُ دَلِيلَ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ بِخِلَافِ الْحُرَّيْنِ. وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا، وَالْمَرْأَةُ أَمَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ، فَأُعْتِقَتْ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ، فَمَا أَحْدَثَا مِنْ الْمِلْكِ قَبْلَ الْعِتْقِ، فَهُوَ

فصل الكفاءة في إنكاح غير الأب

لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ فِي وَقْتٍ لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، وَمَا أَحْدَثَا مِنْ الْمِلْكِ بَعْدَ الْعِتْقِ، فَالْجَوَابُ فِيهِ، وَفِي الْحُرَّيْنِ سَوَاءٌ. وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا، وَالْمَرْأَةُ ذِمِّيَّةً، فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الرِّقِّ. وَكَذَا لَوْ كَانَ الْبَيْتُ مِلْكًا لِأَحَدِهِمَا لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْيَدِ لَا لِلْمِلْكِ هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ تُقِرَّ الْمَرْأَةُ أَنَّ هَذَا الْمَتَاعَ اشْتَرَاهُ لِي زَوْجِي، فَإِنْ أَقَرَّتْ بِذَلِكَ سَقَطَ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِذَلِكَ لِزَوْجِهَا، ثُمَّ ادَّعَتْ الِانْتِقَالَ، فَلَا يَثْبُتُ الِانْتِقَالُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ. [فَصْلٌ الْكَفَاءَةُ فِي إنْكَاحِ غَيْرِ الْأَبِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا الْكَفَاءَةُ فِي إنْكَاحِ غَيْرِ الْأَبِ، وَالْجَدِّ مِنْ الْأَخِ، وَالْعَمِّ، وَنَحْوُهُمَا الصَّغِيرُ، وَالصَّغِيرَةُ، وَفِي إنْكَاحِ الْأَبِ، وَالْجَدِّ اخْتِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ صَاحِبَيْهِ. وَأَمَّا الطَّوْعُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ النِّكَاحِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، فَيَجُوزُ نِكَاحُ الْمُكْرَهِ عِنْدَنَا. وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ، وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْإِكْرَاهِ، وَكَذَلِكَ الْجِدُّ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِ النِّكَاحِ حَتَّى يَجُوزَ نِكَاحُ الْهَازِلِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْجِدَّ، وَالْهَزْلَ فِي بَابِ النِّكَاحِ سَوَاءً قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنِّكَاحُ» وَكَذَلِكَ الْعَمْدُ عِنْدَنَا حَتَّى يَجُوزَ نِكَاحُ الْخَاطِئِ وَهُوَ الَّذِي يَسْبِقُ عَلَى لِسَانِهِ كَلِمَةُ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْخَطَأِ لَيْسَ إلَّا الْقَصْدُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ النِّكَاحِ بِدَلِيلِ نِكَاحِ الْهَازِلِ، وَكَذَلِكَ الْحِلُّ أَعْنِي كَوْنَهُ حَلَالًا غَيْرَ مُحْرِمٍ أَوْ كَوْنَهَا حَلَالًا غَيْرَ مُحْرِمَةٍ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ النِّكَاحِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ حَتَّى يَجُوزَ نِكَاحُ الْمُحْرِمِ، وَالْمُحْرِمَةِ عِنْدَنَا لَكِنْ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْجِمَاعَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، فَكَذَا النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ دَاعٍ إلَى الْجِمَاعِ، وَلِهَذَا حُرِّمَتْ الدَّوَاعِي عَلَى الْمُحْرِمِ كَمَا حُرِّمَ عَلَيْهِ الْجِمَاعُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَهُوَ حَرَامٌ» ، وَأَدْنَى مَا يُسْتَدَلُّ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْجَوَازُ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا مَا رَوَى زَيْدُ بْنُ الْأَصَمِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ حَلَالٌ بِسَرَفٍ» ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَا تَزَوَّجَهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَيَقَعُ التَّعَارُضُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ يُثْبِتُ أَمْرًا عَارِضًا، وَهُوَ الْإِحْرَامُ إذْ الْحِلُّ أَصْلٌ، وَالْإِحْرَامُ عَارِضٌ، فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ زَيْدٍ عَلَى أَنَّهُ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ الْحِلُّ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالرِّوَايَتَيْنِ، فَكَانَ رَاوِي الْإِحْرَامِ مُعْتَمِدًا عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ، وَرَاوِي الْحِلِّ بَانِيًا الْأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ، فَكَانَتْ رِوَايَةُ مَنْ اعْتَمَدَ حَقِيقَةَ الْحَالِ أَوْلَى، وَلِهَذَا رَجَّحْنَا قَوْلَ الْجَارِحِ عَلَى الْمُزَكِّي كَذَا هَذَا، وَالثَّانِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَفْقَهُ، وَأَتْقَنُ مِنْ زَيْدٍ، وَالتَّرْجِيحُ بِفِقْهِ الرَّاوِي، وَإِتْقَانُهُ تَرْجِيحٌ صَحِيحٌ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي لَهَا حُسْنُ النِّكَاحِ فِي غَيْرِ حَالِ الْإِحْرَامِ مَوْجُودَةٌ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، فَكَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ فِي الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْمَعْنَى الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا مُنَاقَضَةً، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى يَبْطُلُ بِنِكَاحِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ سَبَبًا دَاعِيًا إلَى الْجِمَاعِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ جَوَازُ وَإِفْسَادُ نِكَاحِ أَهْلِ الذِّمَّةِ] (فَصْلٌ) : ثُمَّ كُلُّ نِكَاحٍ جَازَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْجَوَازِ الَّتِي وَصَفْنَاهَا، فَهُوَ جَائِزٌ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَأَمَّا مَا، فَسَدَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَنْكِحَةِ، فَإِنَّهَا مُنْقَسِمَةٌ فِي حَقِّهِمْ مِنْهَا مَا يَصِحُّ، وَمِنْهَا مَا يَفْسُدُ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: كُلُّ نِكَاحٍ، فَسَدَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَسَدَ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ حَتَّى لَوْ أَظْهَرُوا النِّكَاحَ بِغَيْرِ شُهُودٍ يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمْ، وَيُحْمَلُونَ عَلَى أَحْكَامِنَا، وَإِنْ لَمْ يُرْفَعُوا إلَيْنَا. وَكَذَا إذَا أَسْلَمُوا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ تَحَاكَمَا إلَيْنَا أَوْ أَسْلَمَا بَلْ يُقَرَّانِ عَلَيْهِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمْ إنَّهُمْ لَمَّا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ، فَقَدْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَنَا وَرَضُوا بِهَا، وَمِنْ أَحْكَامِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ نِكَاحُهُمْ الْمَحَارِمَ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ؛ وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ فِي شَرِيعَتِنَا ثَبَتَ بِخِطَابِ الشَّرْعِ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» . وَالْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ، فَكَانَتْ حُرْمَةُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ ثَابِتَةً فِي حَقِّهِمْ. (وَلَنَا) أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَدَيَّنُونَ النِّكَاحَ بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَالْكَلَامُ فِيهِ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ، وَمَا يَدِينُونَ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ عُقُودِهِمْ كَالزِّنَا، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَثْنًى مِنْهَا

فَيَصِحُّ فِي حَقِّهِمْ كَمَا يَصِحُّ مِنْهُمْ تَمَلُّكُ الْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَتَمْلِيكُهُمَا، فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمْ كَمَا لَا يُعْتَرَضُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ؛ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطِ بَقَاءِ النِّكَاحِ عَلَى الصِّحَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الشُّهُودِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ فِي الشَّهَادَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ قَالَ اللَّهُ: تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] ، فَلَا يُؤَاخَذُ الْكَافِرُ بِمُرَاعَاةِ هَذَا الشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مُطْلَقَةٌ عَنْ شَرْطِ الشَّهَادَةِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالشَّهَادَةِ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ، فَمَنْ ادَّعَى التَّقْيِيدَ بِهَا فِي حَقِّ الْكَافِرِ يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ. (وَأَمَّا) قَوْلُهُ إنَّهُمْ بِالذِّمَةِ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، فَنَعَمْ لَكِنَّ جَوَازَ أَنْكِحَتِهِمْ بِغَيْرِ شُهُودٍ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَقَوْلُهُ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ عَامٌّ مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ خَاصٌّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ لِوُجُودِ الْمُخَصِّصِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَهُوَ عُمُومَاتُ الْكِتَابِ. وَلَوْ تَزَوَّجَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيَّةً فِي عِدَّةٍ مِنْ ذِمِّيٍّ جَازَ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا، وَالنِّكَاحُ بِغَيْرِ شُهُودٍ سَوَاءٌ عِنْدَنَا حَتَّى لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمَا بِالتَّفْرِيقِ، وَإِنْ تَرَافَعَا إلَيْنَا. وَلَوْ أَسْلَمَا يُقَرَّانِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَالشَّافِعِيُّ: النِّكَاحُ فَاسِدٌ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا (وَجْهُ) قَوْلِهِمْ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا لِزُفَرَ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ بِقَبُولِ الذِّمَّةِ الْتَزَمُوا أَحْكَامَنَا، وَمِنْ أَحْكَامِنَا الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، فَسَادُ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْخِطَابَ بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ عَامٌّ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] ، وَالْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ، وَكَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِي دِيَانَتِهِمْ عَدَمَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا نِكَاحَ الْمُعْتَدَّةِ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ، وَمَا يَدِينُونَ. وَكَذَا عُمُومَاتُ النِّكَاحِ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَالسُّنَّةُ مُطْلَقَةٌ عَنْ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ أَعْنِي الْخُلُوَّ عَنْ الْعِدَّةِ، وَإِنَّمَا عُرِفَ شَرْطًا فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ؛ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَهِيَ حَقُّ الزَّوْجِ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] ، فَمِنْ حَيْثُ هِيَ عِبَادَةٌ لَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا عَلَى الْكَافِرَةِ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ أَوْ قُرُبَاتٌ. وَكَذَا مِنْ حَيْثُ هِيَ حَقُّ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَعْتَقِدُهُ حَقًّا لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ إذَا تَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً فِي عِدَّةٍ مِنْ مُسْلِمٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَعْتَقِدُ الْعِدَّةَ حَقًّا وَاجِبًا، فَيُمْكِنُ الْإِيجَابُ لِحَقِّهِ إنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ هِيَ عِبَادَةٌ، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ الْمُسْلِمِ أَنْ يُجْبِرَ امْرَأَتَهُ الْكَافِرَةَ عَلَى الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ مِنْ بَابِ الْقُرْبَةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ مُخَاطَبَةً بِالْقُرُبَاتِ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ الْإِسْكَانَ حَقُّهُ، وَأَمَّا نِكَاحُ الْمَحَارِمِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ خَمْسِ نِسْوَةٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فَاسِدٌ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ، فَسَادَ هَذِهِ الْأَنْكِحَةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ثَبَتَ لِفَسَادِ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَخَوْفِ الْجَوْرِ فِي قَضَاءِ الْحُقُوقِ مِنْ النَّفَقَةِ، وَالسُّكْنَى، وَالْكِسْوَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالْكَافِرِ إلَّا أَنَّهُ مَعَ الْحُرْمَةِ، وَالْفَسَادِ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ قَبْلَ الْمُرَافَعَةِ، وَقَبْلَ الْإِسْلَامِ؛ وَلِأَنَّهُمْ دَانُوا ذَلِكَ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ، وَمَا يَدِينُونَ كَمَا لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً، وَإِذَا تَرَافَعَا إلَى الْقَاضِي، فَالْقَاضِي يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا كَمَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا تَرَافَعَا، فَقَدْ تَرَكَا مَا دَانَاهُ، وَرَضِيَا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 42] ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَرَافَعَا، وَلَمْ يُوجَدْ الْإِسْلَامُ أَيْضًا، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ إنَّهُمَا يُقَرَّانِ عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمَا بِالتَّفْرِيقِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا الْحَاكِمُ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ سَوَاءٌ تَرَافَعَا إلَيْنَا أَوْ لَمْ يَتَرَافَعَا. وَلَوْ رَفَعَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمَا مَا لَمْ يَتَرَافَعَا جَمِيعًا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا رَفَعَ أَحَدُهُمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا أَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَهُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْمُرَافَعَةِ، وَقَدْ أَنْزَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَنْكِحَةِ، فَيَلْزَمُ الْحُكْمُ بِهَا مُطْلَقًا؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرَائِعِ هُوَ الْعُمُومُ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ تَنْفِيذُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ، وَأَمْكَنَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَزِمَ التَّنْفِيذُ فِيهَا، وَكَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا، وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ زِنًا مِنْ وَجْهٍ، فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْهُ كَمَا لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الزِّنَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] ، وَالْآيَةُ حُجَّةٌ لَهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا أَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ فَلِأَنَّهُ شَرَطَ الْمَجِيءَ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِمْ، وَأَثْبَتَ

سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْحُكْمِ وَالْإِعْرَاضِ إلَّا أَنَّهُ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى نَسْخِ التَّخْيِيرِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى نَسْخِ شَرْطِ الْمَجِيءِ، فَكَانَ حُكْمُ الشَّرْطِ بَاقِيًا، وَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا، وَإِمْكَانِ جَعْلِ الْمُقَيَّدِ بَيَانًا لِلْمُطْلَقِ. وَأَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ؛ فَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى شَرَطَ مَجِيئَهُمْ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا جَاءَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ، وَهُوَ مَجِيئُهُمْ، فَلَا يُحْكَمُ بَيْنَهُمْ. وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إلَى مَجُوسِ هَجَرَ إمَّا أَنْ تَذَرُوا الرِّبَا أَوْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ، وَلَمْ يَكْتُبْ إلَيْهِمْ فِي أَنْكِحَتِهِمْ شَيْئًا. وَلَوْ كَانَ التَّفْرِيقُ مُسْتَحَقًّا قَبْلَ الْمُرَافَعَةِ لَكَتَبَ بِهِ كَمَا كَتَبَ بِتَرْكِ الرِّبَا. وَرُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا فَتَحُوا بِلَادَ فَارِسَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِأَنْكِحَتِهِمْ، وَمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أُمَّهَاتِهِمْ لَا يَكَادُ يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَنُقِلَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفَاضَةِ لِتَوَفُّرِ الدَّوَاعِي إلَى نَقْلِهَا، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ دَلَّ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَوْ يُحْمَلْ عَلَى أَنَّهُ كَتَبَ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَلَمْ يُعْمَلْ بِهِ؛ وَلِأَنَّ تَرْكَ التَّعَرُّضِ، وَالْإِعْرَاضُ ثَبَتَ حَقًّا لَهُمَا، فَإِذَا رَفَعَ أَحَدُهُمَا، فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ، فَبَقِيَ حَقُّ الْآخَرِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا رَفَعَ أَحَدُهُمَا، فَقَدْ رَضِيَ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، فَيَلْزَمُ إجْرَاءُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِ، فَيَتَعَدَّى إلَى الْآخَرِ كَمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ الرِّضَا بِالْحُكْمِ لَيْسَ نَظِيرَ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ رَضِيَ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ قَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ لَمْ يُلْزِمْهُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَبَعْدَ مَا أَسْلَمَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْبَى الرِّضَا بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَمْرًا لَازِمًا ضَرُورِيًّا، فَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، وَجَعَلَ رِضَاهُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ كَالْعَدَمِ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ أَنَّ إنْكَاحَ الْمَحَارِمِ صَحِيحٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِدَلِيلِ أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا تَزَوَّجَ بِمَحَارِمِهِ، وَدَخَلَ بِهَا لَمْ يَسْقُطْ إحْصَانُهُ عِنْدَهُ حَتَّى لَوْ قَذَفَهُ إنْسَانٌ بِالزِّنَا بَعْدَ مَا أَسْلَمَ يُحَدُّ قَاذِفُهُ عِنْدَهُ. وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا لَسَقَطَ إحْصَانُهُ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ يُسْقِطُ الْإِحْصَانَ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَافَعَا إلَيْنَا، فَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ النَّفَقَةَ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالنَّفَقَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَدَلَّ أَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ، وَقَعَ صَحِيحًا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ حَرْبِيٌّ أُخْتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ، وَاحِدَةٍ أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ، ثُمَّ فَارَقَ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَنَّ نِكَاحَ الْبَاقِيَةِ صَحِيحٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَاقِيَ غَيْرُ الثَّابِتِ. وَلَوْ وَقَعَ نِكَاحُهَا فَاسِدًا حَالَ وُقُوعِهِ لَمَا أُقِرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ خَمْسًا فِي عَقَدٍ مُتَفَرِّقَةٍ، ثُمَّ فَارَقَ الْأُولَى مِنْهُنَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَقِيَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ عَلَى الصِّحَّةِ. وَلَوْ وَقَعَ فَاسِدًا مِنْ الْأَصْلِ لَمَا انْقَلَبَ صَحِيحًا بِالْإِسْلَامِ بَلْ كَانَ يَتَأَكَّدُ الْفَسَادُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْأَنْكِحَةَ، وَقَعَتْ صَحِيحَةً فِي حَقِّهِمْ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا صِحَّةَ لَهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. وَلَوْ طَلَّقَ الذِّمِّيُّ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أَوْ خَالَعَهَا، ثُمَّ قَامَ عَلَيْهَا كَقِيَامِهِ عَلَيْهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَتَرَافَعَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ بَطَلَ بِالطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ وَبِالْخُلْعِ؛ لِأَنَّهُ يَدِينُ بِذَلِكَ، فَكَانَ إقْرَارُهُ عَلَى قِيَامِهِ عَلَيْهَا إقْرَارًا عَلَى الزِّنَا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَلَوْ تَزَوَّجَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيَّةً عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا، وَذَلِكَ فِي دِينِهِمْ جَائِزٌ صَحَّ ذَلِكَ، وَلَا شَيْءِ لَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، ثُمَّ إنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَ الْخَلْوَةِ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا تَأَكَّدَ ذَلِكَ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ قَبْلَ الْخَلْوَةِ سَقَطَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَهَا الْمُتْعَةُ كَالْمُسْلِمَةِ. وَلَوْ تَزَوَّجَ حَرْبِيٌّ حَرْبِيَّةً فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا جَازَ ذَلِكَ، وَلَا شَيْءَ لَهَا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَالْكَلَامُ فِي الْجَانِبَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ هُمَا يَقُولَانِ: إنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ قَدْ لَزِمَ الزَّوْجَيْنِ الذِّمِّيَّيْنِ لِالْتِزَامِهِمَا أَحْكَامَنَا، وَمِنْ أَحْكَامِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ مِنْ غَيْرِ مَالٍ بِخِلَافِ الْحَرْبِيَّيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا مَا الْتَزَمَا أَحْكَامَنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّ فِي دِيَانَتِهِمْ جَوَازَ النِّكَاحِ بِلَا مَهْرٍ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ، وَمَا يَدِينُونَ إلَّا فِيمَا وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي عُقُودِهِمْ كَالرِّبَا، وَهَذَا لَمْ يَقَعْ الِاسْتِثْنَاءُ عَنْهُ، فَلَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ، وَيَكُونُ جَائِزًا فِي حَقِّهِمْ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ كَمَا يَجُوزُ لَهُمْ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ تَمَلُّكُ الْخُمُورِ، وَالْخَنَازِيرِ، وَتَمْلِيكُهَا هَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا، وَبَقِيَ الْمَهْرُ. فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَهَا، وَسَكَتَ عَنْ تَسْمِيَتِهِ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا، وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا، فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فِي ظَاهِرِ رِوَايَةِ الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً بِمَيْتَةٍ، أَوْ دَمٍ أَوْ بِغَيْرِ شَيْءٍ أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ، وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، فَظَاهِرُ قَوْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ شَيْءٍ يُشْعِرُ بِالسُّكُوتِ عَنْ التَّسْمِيَةِ إلَّا بِالنَّفْيِ، فَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ حَالَ السُّكُوتِ عَنْ التَّسْمِيَةِ، فَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ السُّكُوتِ، وَبَيْنَ النَّفْيِ، وَحُكِيَ عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ

لَا فَرْقَ بَيْنَ حَالَةِ السُّكُوتِ، وَبَيْنَ النَّفْيِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ النِّكَاحُ فِي دِيَانَتِهِمْ بِمَهْرٍ، وَبِغَيْرِ مَهْرٍ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْتِزَامِ الْمَهْرِ، فَلَا بُدَّ لِوُجُوبِهِ مِنْ دَلِيلٍ، وَهُوَ التَّسْمِيَةُ، وَلَمْ تُوجَدْ، فَلَا يَجِبُ بِخِلَافِ نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا جَوَازَ لَهُ بِدُونِ الْمَهْرِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْعَقْدُ الْتِزَامًا لِلْمَهْرِ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ بَيْنَ السُّكُوتِ، وَبَيْنَ النَّفْيِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَمَّا سَكَتَ عَنْ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ لَمْ تُعْرَفْ دِيَانَتُهُ النِّكَاحَ بِلَا مَهْرٍ، فَيُجْعَلْ إقْدَامُهُ عَلَى النِّكَاحِ الْتِزَامًا لِلْمَهْرِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا نَفَى الْمَهْرَ نَصًّا دَلَّ أَنَّهُ يَدِينُ النِّكَاحَ، وَيَعْتَقِدُهُ جَائِزًا بِلَا مَهْرٍ، فَلَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ نِكَاحِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بَلْ يُتْرَكُ، وَمَا يَدِينُهُ، فَهُوَ الْفَرْقُ، ثُمَّ مَا صَلُحَ مَهْرًا فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَصْلُحُ مَهْرًا فِي نِكَاحِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ نِكَاحُنَا عَلَيْهِ كَانَ نِكَاحُهُمْ عَلَيْهِ أَجْوَزَ، وَمَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا فِي نِكَاحِهِمْ أَيْضًا إلَّا الْخَمْرُ، وَالْخِنْزِيرُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّاةِ، وَالْخَلِّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا فِي حَقِّهِمْ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ تَزَوَّجَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيَّةً عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ كَانَ الْخَمْرُ، وَالْخِنْزِيرُ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يُقْبَضْ، فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْعَيْنُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِأَنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ، فَلَهَا فِي الْخَمْرِ الْقِيمَةُ، وَفِي الْخِنْزِيرِ مَهْرُ مِثْلِهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا سَوَاءٌ كَانَ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَهَا الْقِيمَةُ سَوَاءٌ كَانَ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ إذَا كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ لَيْسَ لَهَا غَيْرُ ذَلِكَ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهَا الْعَيْنُ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْعَيْنِ، وَإِنْ ثَبَتَ لَهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ لَكِنْ فِي الْقَبْضِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِلْمِلْكِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَاهٍ غَيْرُ مُتَأَكَّدٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ عِنْدَ الزَّوْجِ كَانَ الْهَلَاكُ عَلَيْهِ. وَكَذَا لَوْ تَعَيَّبَ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ كَانَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَيْهَا، فَثَبَتَ أَنَّ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ، فَكَانَ الْقَبْضُ مُؤَكِّدًا لِلْمِلْكِ، وَالتَّأْكِيدُ إثْبَاتٌ مِنْ وَجْهٍ، فَكَانَ الْقَبْضُ تَمْلِيكًا مِنْ وَجْهٍ وَالْمُسْلِمُ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا، ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَمْلِكُ الْمَهْرَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِلْكًا تَامًّا إذْ الْمِلْكُ نَوْعَانِ: مِلْكُ رَقَبَةٍ، وَمِلْكُ يَدٍ، وَهُوَ مِلْكُ التَّصَرُّفِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ ثَابِتٌ لَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ مِلْكُ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَهْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا صُورَةُ الْقَبْض، وَالْمُسْلِمُ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْ صُورَةِ قَبْضِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَإِقْبَاضُهُمَا كَمَا إذَا غَصَبَ مُسْلِمٌ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا أَنَّ الْغَاصِبَ يَكُونُ مَأْمُورًا بِالتَّسْلِيمِ، وَالْمَغْصُوبَ مِنْهُ يَكُونُ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقَبْضِ. وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا غُصِبَ مِنْهُ الْخَمْرُ، ثُمَّ أَسْلَمَ، وَكَمُسْلِمٍ أَوْدَعَهُ الذِّمِّيُّ خَمْرًا، ثُمَّ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْخَمْرَ مِنْ الْمُودِعِ يَبْقَى هَذَا الْقَدْرُ، وَهُوَ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَهْرُ فِي ضَمَانِهَا بِالْقَبْضِ لَكِنْ هَذَا لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ مِلْكٍ لَهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مِلْكَهَا تَامٌّ قَبْلَ الْقَبْضِ مَعَ مَا أَنَّ دُخُولَهُ فِي ضَمَانِهَا أَمْرٌ عَلَيْهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ مِلْكًا لَهَا بِخِلَافِ الْمَبِيعِ فَإِنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْقَبْضِ، فَمِلْكُ التَّصَرُّفِ لَمْ يَثْبُتْ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَالتَّمَلُّكِ، وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ هَذَا إذَا كَانَا عَيْنَيْنِ، فَإِنْ كَانَا دَيْنَيْنِ، فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْعَيْنُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ الَّتِي تَأْخُذُهَا مَا كَانَ ثَابِتًا لَهَا بِالْعَقْدِ بَلْ كَانَ ثَابِتًا فِي الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي هَذَا الْمُعَيَّنِ بِالْقَبْضِ، وَالْقَبْضُ تَمَلُّكٌ مِنْ وَجْهٍ، وَالْمُسْلِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُف أَنَّ الْإِسْلَامَ لَمَّا مَنْعَ الْقَبْضَ، وَالْقَبْضُ حُكْمُ الْعَقْدِ جُعِلَ كَأَنَّ الْمَنْعَ كَانَ ثَابِتًا، وَقْتَ الْعَقْدِ فَيُصَارُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ كَانَا عِنْدَ الْعَقْدِ مُسْلِمَيْنِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا، وَالتَّسْمِيَةُ فِي الْعَقْدِ قَدْ صَحَّتْ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ لِمَا فِي التَّسْلِيمِ مِنْ التَّمْلِيكِ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْمُسْلِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ، فَيُوجِبُ الْقِيمَةَ كَمَا لَوْ هَلَكَ الْمُسَمَّى قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُوجِبُ الْقِيمَةَ فِي الْخَمْرِ لِمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْخِنْزِيرِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ فِي الْخِنْزِيرِ أَيْضًا، وَأَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ حَيَوَانٌ. وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى حَيَوَانٍ فِي الذِّمَّةِ يُخَيَّرُ بَيْنَ تَسْلِيمِهِ، وَبَيْنَ تَسْلِيمِ قِيمَةِ الْوَسَطِ مِنْهُ بَلْ الْقِيمَةُ هِيَ الْأَصْلُ فِي التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ الْوَسَطَ يُعْرَفُ بِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَكَانَ إيفَاءُ قِيمَةِ الْخِنْزِيرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ حُكْمَ إيفَاءِ الْخِنْزِيرِ مِنْ وَجْهٍ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إيفَاءِ الْعَيْنِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَلَا سَبِيلَ إلَى إيفَاءِ الْقِيمَةِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ الزَّوْجُ بِالْقِيمَةِ لَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى الْقَبُولِ، فَلَمْ يَكُنْ لِبَقَائِهَا حُكْمُ بَقَاءِ الْخَمْرِ مِنْ وَجْهٍ لِذَلِكَ افْتَرَقَا هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَهْرُ مَقْبُوضًا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ مَقْبُوضًا، فَلَا شَيْءَ

فصل حكم عقد الذمي والحربي

لِلْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مَتَى وَرَدَ، وَالْحَرَامُ مَقْبُوضٌ يُلَاقِيهِ بِالْعَفْوِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ ثَبَتَ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ فِي حَالِ الْكُفْرِ، فَلَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ مِلْكٌ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ، دَوَامُ الْمِلْكِ، وَالْإِسْلَامُ لَا يُنَافِيهِ، كَمُسْلِمٍ تَخَمَّرَ عَصِيرُهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِإِبْطَالِ مِلْكِهِ فِيهَا، وَكَمَا فِي نُزُولِ تَحْرِيمِ الرِّبَا. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ أَبْطَلَ مِنْ الرِّبَا مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا قُبِضَ بِالْفَسْخِ، وَهُوَ أَحَدُ تَأْوِيلَاتِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا، وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا هُوَ النَّهْيُ عَنْ قَبْضِهِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا، وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهَا مِنْهُمْ، وَوَفَّقَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، فَحَمَلَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ عَلَى الذِّمِّيِّينَ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ عَلَى الْحَرْبِيِّينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّهُ لَمَّا تَزَوَّجَهَا عَلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، فَلَمْ يَرْضَ بِاسْتِحْقَاقِ بُضْعِهَا إلَّا بِبَدَلٍ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِحْقَاقُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ أَحَدٍ، فَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ كَالْمُسْلِمَةِ (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهَا لَمَّا رَضِيَتْ بِالْمَيْتَةِ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ كَانَ ذَلِكَ مِنْهَا دَلَالَةَ الرِّضَا بِاسْتِحْقَاقِ بُضْعِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ حُكْمُ عَقْدِ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ] (فَصْلٌ) : ثُمَّ كُلُّ عَقْدٍ إذَا عَقَدَهُ الذِّمِّيُّ كَانَ فَاسِدًا، فَإِذَا عَقَدَهُ الْحَرْبِيُّ؛ كَانَ فَاسِدًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُفْسِدَ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَلَوْ تَزَوَّجَ كَافِرٌ بِخَمْسِ نِسْوَةٍ أَوْ بِأُخْتَيْنِ، ثُمَّ أَسْلَمَ، فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عَقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عَقَدٍ مُتَفَرِّقَةٍ صَحَّ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ، وَبَطَلَ نِكَاحُ الْخَامِسَةِ، وَكَذَا فِي الْأُخْتَيْنِ يَصِحُّ نِكَاحُ الْأُولَى، وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَخْتَارُ مِنْ الْخَمْسِ أَرْبَعًا، وَمِنْ الْأُخْتَيْنِ وَاحِدَةً سَوَاءٌ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عَقْدَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي عَقَدٍ اسْتِحْسَانًا، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ احْتَجَّ، مُحَمَّدٌ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ غَيْلَانَ أَسْلَمَ، وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ» . وَرُوِيَ «أَنَّ قَيْسَ بْنَ الْحَارِثِ أَسْلَمَ، وَتَحْتَهُ ثَمَانُ نِسْوَةٍ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا» . وَرُوِيَ «أَنَّ، فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيَّ أَسْلَمَ، وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ، فَخَيَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَنَّ نِكَاحَهُنَّ كَانَ دَفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ. وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ لَاسْتَفْسَرَ، فَدَلَّ أَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ فِيهِ هُوَ التَّخْيِيرُ مُطْلَقًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْجَمْعَ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ ثَبَتَتْ لِمَعْنًى مَعْقُولٍ، وَهُوَ خَوْفُ الْجَوْرِ فِي إيفَاءِ حُقُوقِهِنَّ، وَالْإِفْضَاءِ إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالْكَافِرِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ مَعَ قِيَامِ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دِيَانَتُهُمْ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَثْنًى مِنْ عُهُودِهِمْ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّعَرُّضِ لَهُمْ عَنْ مِثْلِهِ بَعْدَ إعْطَاءِ الذِّمَّةِ، وَلَيْسَ لَنَا وِلَايَةُ التَّعَرُّضِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ، فَإِذَا أَسْلَمَ، فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ، فَلَا يُمْكِنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْجَمْعِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا كَانَ تَزَوَّجَ الْخَمْسَ فِي عَقْدَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَدْ حَصَلَ نِكَاحُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ جَمِيعًا إذْ لَيْسَتْ إحْدَاهُنَّ بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، وَالْجَمْعُ مُحَرَّمٌ، وَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ التَّعَرُّضِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الِاعْتِرَاضِ بِالتَّفْرِيقِ، وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ الْأُخْتَيْنِ فِي عَقْدَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جُعِلَ جَمْعًا إذْ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا مَانِعَ مِنْ التَّفْرِيقِ فَيُفَرَّقُ. فَأَمَّا إذَا كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي عَقَدٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَنِكَاحُ الْأَرْبَعِ مِنْهُنَّ، وَقَعَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الْحُرَّ يَمْلِكُ التَّزَوُّجَ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَلَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ الْخَامِسَةِ لِحُصُولِهِ جَمْعًا، فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ تَزَوَّجَ الْأُخْتَيْنِ فِي عَقْدَتَيْنِ، فَنِكَاحُ الْأُولَى، وَقَعَ صَحِيحًا إذْ لَا مَانِعَ مِنْ الصِّحَّةِ، وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ لِحُصُولِهِ جَمْعًا، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفْرِيقِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ، فَفِيهَا إثْبَاتُ الِاخْتِيَارِ لِلزَّوْجِ الْمُسْلِمِ لَكِنْ لَيْسَ فِيهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ ذَلِكَ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ أَوْ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، فَاحْتَمَلَ أَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُ الِاخْتِيَارَ لِتَجَدُّدِ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُ الِاخْتِيَارَ لِيُمْسِكَهُنَّ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ مَعَ مَا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ غَيْلَانَ أَسْلَمَ، وَقَدْ كَانَ تَزَوَّجَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ، وَتَحْرِيمُ الْجَمْعِ ثَبَتَ بِسُورَةِ النِّسَاءِ الْكُبْرَى، وَهِيَ

فصل شرائط اللزوم

مَدَنِيَّةٌ. وَرُوِيَ «أَنَّ، فَيْرُوزَ لَمَّا هَاجَرَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَهُ إنَّ تَحْتِيَ أُخْتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارْجِعْ، فَطَلِّقْ إحْدَاهُمَا» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا يَكُونُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا فِي الْأَصْلِ، فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا تَزَوَّجَ الْحَرْبِيُّ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ، ثُمَّ سُبِيَ هُوَ، وَسُبِينَ مَعَهُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْكُلِّ سَوَاءٌ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عَقْدَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي عَقَدٍ مُتَفَرِّقَةٍ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْأَرْبَعِ، وَقَعَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ حُرًّا وَقْتَ النِّكَاحِ، وَالْحُرُّ يَمْلِكُ التَّزَوُّجَ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ بَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ لِحُصُولِ الْجَمْعِ مِنْ الْعَبْدِ فِي حَالِ الْبَقَاءِ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ، فَيَقَعُ جَمْعًا بَيْنَ الْكُلِّ، فَفُرِّقَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْكُلِّ، وَلَا يُخَيَّرُ فِيهِ كَمَا إذَا تَزَوَّجَ رَضِيعَتَيْنِ، فَأَرْضَعَتْهُمَا امْرَأَةٌ بَطَلَ نِكَاحُهُمَا، وَلَا يُخَيَّرُ كَذَا هَذَا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُخَيَّرُ فِيهِ، فَيَخْتَارُ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ كَمَا يُخَيَّرُ الْحُرُّ فِي أَرْبَعِ نِسْوَةٍ مِنْ نِسَائِهِ. وَلَوْ كَانَ الْحَرْبِيُّ تَزَوَّجَ أُمًّا وَبِنْتًا، ثُمَّ أَسْلَمَ، فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدَةٍ وَاحِدَةٍ، فَنِكَاحُهُمَا بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُمَا مُتَفَرِّقًا، فَنِكَاحُ الْأُولَى جَائِزٌ، وَنِكَاحُ الْأُخْرَى بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ كَمَا قَالَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْخَمْسِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: نِكَاحُ الْبِنْتِ هُوَ الْجَائِزُ سَوَاءٌ تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي عَقْدَتَيْنِ، وَنِكَاحُ الْأُمِّ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ عَقْدِ الْأُمِّ لَا يُحَرِّمُ الْبِنْتَ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. وَلَوْ أَنَّهُ كَانَ دَخَلَ بِهِمَا جَمِيعًا، فَنِكَاحُهُمَا جَمِيعًا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الدُّخُولِ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ سَوَاءٌ دَخَلَ بِالْأُمِّ أَوْ بِالْبِنْتِ، وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِالْأُولَى، وَلَكِنْ دَخَلَ بِالثَّانِيَةِ، فَإِنْ كَانَتْ الْأُولَى بِنْتًا، وَالثَّانِيَةُ أُمًّا؛ فَنِكَاحُهُمَا جَمِيعًا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْبِنْتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ، وَالدُّخُولُ بِالْأُمِّ يُحَرِّمُ الْبِنْتَ. وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِإِحْدَاهُمَا، فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالْأُولَى، ثُمَّ تَزَوَّجَ الثَّانِيَةَ، فَنِكَاحُ الْأُولَى جَائِزٌ، وَنِكَاحُ الثَّانِيَةِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَلَوْ تَزَوَّجَ الْأُمَّ أَوَّلًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَ الْبِنْتَ، وَدَخَلَ بِهَا، فَنِكَاحُهُمَا جَمِيعًا بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْبِنْتِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأُمِّ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نِكَاحُ الْبِنْتِ هُوَ الْجَائِزُ، وَقَدْ دَخَلَ بِهَا، وَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَنِكَاحُ الْأُمِّ بَاطِلٌ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ اللُّزُومِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ اللُّزُومِ، فَنَوْعَانِ: فِي الْأَصْلِ نَوْعٌ هُوَ شَرْطُ وُقُوعِ النِّكَاحِ لَازِمًا، وَنَوْعٌ هُوَ شَرْطُ بَقَائِهِ عَلَى اللُّزُومِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ، فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونُ الْوَلِيُّ فِي إنْكَاحِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ هُوَ الْأَبُ وَالْجَدُّ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ لَا يَلْزَمُ النِّكَاحُ حَتَّى يَثْبُتَ لَهُمَا الْخِيَارُ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَلْزَمُ نِكَاحُ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ لَهُمَا الْخِيَارُ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ هَذَا النِّكَاحَ صَدَرَ مِنْ وَلِيٍّ، فَيَلْزَمُ كَمَا إذَا صَدَرَ عَنْ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ، وِلَايَةُ نَظَرٍ فِي حَقِّ الْمُولَى عَلَيْهِ فَيَدُلُّ ثُبُوتُهَا عَلَى حُصُولِ النَّظَرِ، وَهَذَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ لَوْ ثَبَتَ إنَّمَا يَثْبُتُ لِنَفْيِ الضَّرَرِ وَلَا ضَرَرَ، فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ، وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ فِي نِكَاحِ الْأَبِ، وَالْجَدِّ كَذَا هَذَا، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ «أَنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ زَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا» حَتَّى رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: إنَّهَا اُنْتُزِعَتْ مِنِّي بَعْدَ مَا مَلَكْتُهَا، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ؛ وَلِأَنَّ أَصْلَ الْقَرَابَةِ إنْ كَانَ يَدُلُّ عَلَى أَصْلِ النَّظَرِ؛ لِكَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى أَصْلِ الشَّفَقَةِ، فَقُصُورُهَا يَدُلُّ عَلَى قُصُورِ النَّظَرِ لِقُصُورِ الشَّفَقَةِ بِسَبَبِ بُعْدِ الْقَرَابَةِ، فَيَجِبُ اعْتِبَارُ أَصْلِ الْقَرَابَةِ بِإِثْبَاتِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ، وَاعْتِبَارُ الْقُصُورِ بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ تَكْمِيلًا لِلنَّظَرِ، وَتَوْفِيرًا فِي حَقِّ الصَّغِيرِ بِتَلَافِي التَّقْصِيرِ لَوْ وَقَعَ، وَلَا يُتَوَهَّمُ التَّقْصِيرُ فِي إنْكَاحِ الْأَبِ، وَالْجَدِّ لِوُفُورِ شَفَقَتِهِمَا لِذَلِكَ لَزِمَ إنْكَاحُهُمَا، وَلَمْ يَلْزَمْ إنْكَاحُ الْأَخِ وَالْعَمِّ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ فِي إنْكَاحِ الْأَبِ وَالْجَدِّ أَنْ لَا يَلْزَمَ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فِي ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا تَزَوَّجَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَبَلَغَتْ لَمْ يُعْلِمْهَا بِالْخِيَارِ بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ ثَابِتًا لَهَا، وَذَلِكَ حَقُّهَا لَأَعْلَمَهَا بِهِ، وَهَلْ يَلْزَمُ إذَا زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا زَوَّجَهَا غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ، فَلَهَا الْخِيَارُ، وَالْحَاكِمُ غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ هَكَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ، وَرَوَى خَالِدُ بْنُ صَبِيحٍ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ وِلَايَةَ الْحَاكِمِ أَعَمُّ مِنْ وِلَايَةِ الْأَخِ وَالْعَمِّ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا، فَكَانَتْ، وِلَايَتُهُ شَبِيهَةً بِوِلَايَةِ

الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَوِلَايَتُهُمَا مُلْزِمَةٌ كَذَلِكَ وِلَايَةُ الْحَاكِمِ (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ، وِلَايَةَ الْأَخِ وَالْعَمِّ أَقْوَى مِنْ وِلَايَةِ الْحَاكِمِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا يَتَقَدَّمَانِ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يُزَوِّجَ الْحَاكِمُ مَعَ وُجُودِهِمَا، ثُمَّ وِلَايَتُهُمَا غَيْرُ مُلْزِمَةٍ، فَوِلَايَةُ الْحَاكِمِ أَوْلَى، وَإِذَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ النِّكَاحِ أَوْ الْفُرْقَةِ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ بَعْدَ هَذَا فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدِهِمَا: فِي بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ أَمَّا الْأَوَّلُ، فَالْخِيَارُ يَثْبُتُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَا قَبْلَهُ حَتَّى لَوْ رَضِيَتْ بِالنِّكَاحِ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَا يُعْتَبَرُ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الرِّضَا تَثْبُتُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَا قَبْلَهُ، فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَا قَبْلَهُ. وَأَمَّا الثَّانِي، فَمَا يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ نَوْعَانِ: نَصٌّ وَدَلَالَةٌ أَمَّا النَّصُّ، فَهُوَ صَرِيحُ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ نَحْوَ أَنْ تَقُولَ رَضِيتُ بِالنِّكَاحِ، وَاخْتَرْتُ النِّكَاحَ أَوْ أَجَزْتُهُ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى، فَيَبْطُلُ خِيَارُ الْفُرْقَةِ، وَيَلْزَمُ النِّكَاحُ. وَأَمَّا الدَّلَالَةُ، فَنَحْوُ السُّكُوتِ مِنْ الْبِكْرِ عَقِيبَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ دَلِيلُ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْبِكْرَ لِغَلَبَةِ حَيَائِهَا تَسْتَحِي عَنْ إظْهَارِ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ. فَأَمَّا سُكُوتُ الثَّيِّبِ، فَإِنْ كَانَ وَطِئَهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ، فَبَلَغَتْ وَهِيَ ثَيِّبٌ، فَسَكَتَتْ عَقِيبَ الْبُلُوغِ، فَلَا يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِي عَنْ إظْهَارِ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ عَادَةً؛ لِأَنَّ بِالثِّيَابَةِ قَلَّ حَيَاؤُهَا، فَلَا يَصِحُّ سُكُوتُهَا دَلِيلًا عَلَى الرِّضَا بِالنِّكَاحِ، فَلَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا إلَّا بِصَرِيحِ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ أَوْ بِفِعْلٍ أَوْ بِقَوْلٍ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا نَحْوَ التَّمْكِينِ مِنْ الْوَطْءِ وَطَلَبِ الْمَهْرِ، وَالنَّفَقَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَا سُكُوتُ الْغُلَامِ بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ لَا يَسْتَحِي عَنْ إظْهَارِ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ إذْ ذَاكَ دَلِيلُ الرُّجُولِيَّةِ، فَلَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ إلَّا بِنَصِّ كَلَامِهِ أَوْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالنِّكَاحِ مِنْ الدُّخُولِ بِهَا، وَطَلَبُ التَّمَكُّنِ مِنْهَا، وَإِدْرَارُ النَّفَقَةِ عَلَيْهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، ثُمَّ الْعِلْمُ بِالنِّكَاحِ شَرْطُ بُطْلَانِ الْخِيَارِ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ حَتَّى لَوْ لَمْ تَكُنْ عَالِمَةً بِالنِّكَاحِ لَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْخِيَارِ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهَا دَلَالَةً، وَالرِّضَا بِالشَّيْءِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ لَا يُتَصَوَّرُ إذْ هُوَ اسْتِحْسَانُ الشَّيْءِ. وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِشَيْءٍ كَيْفَ يَسْتَحْسِنُهُ، فَإِذَا كَانَتْ عَالِمَةً بِالنِّكَاحِ، وَوُجِدَ مِنْهَا دَلِيلُ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ بَطَلَ خِيَارُهَا، وَلَا يَمْتَدُّ هَذَا الْخِيَارُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ بَلْ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ مِنْ الْبِكْرِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ، وَخِيَارُ الْمُخَيَّرَةِ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ هُنَاكَ، وُجِدَ مِنْ الْعَبْدِ، وَهُوَ الزَّوْجُ أَوْ الْمَوْلَى أَمَّا فِي الزَّوْجِ، فَظَاهِرٌ. وَكَذَا فِي الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ بِالْعِتْقِ، وَالْعِتْقُ حَصَلَ بِإِعْتَاقِهِ، وَالتَّخْيِيرُ مِنْ الْعَبْدِ تَمْلِيكٌ فَيَقْتَضِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ، فَيَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ كَخِيَارِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ بِصُنْعِ الْعَبْدِ بَلْ بِإِثْبَاتِ الشَّرْعِ، فَلَمْ يَكُنْ تَمْلِيكًا، فَلَا يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَالِمَةً بِالنِّكَاحِ، فَلَهَا الْخِيَارُ حِينَ تَعْلَمُ بِالنِّكَاحِ، ثُمَّ خِيَارُ الْبُلُوغِ يَثْبُتُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَخِيَارُ الْعِتْقِ لَا يَثْبُتُ إلَّا لِلْمُعْتَقَةِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبُلُوغِ يَثْبُتُ لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ وَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، وَخِيَارُ الْعِتْقِ ثَبَتَ لِزِيَادَةِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا بِالْعِتْقِ، وَذَا يَخْتَصُّ بِهَا. وَكَذَا خِيَارُ الْبُلُوغِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى إذَا كَانَتْ الْأُنْثَى ثَيِّبًا لَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ، وَخِيَارُ الْعِتْقِ، وَالْمُخَيَّرَةُ يَبْطُلُ وَالْفَرْقُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ خِيَارِ الْبِكْرِ وَخِيَارِ الْعِتْقِ، وَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ، وَالثَّانِي لَا يَبْطُلُ. وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْخِيَارِ، فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَالْجَهْلُ بِهِ لَيْسَ بِعُذْرٍ؛ لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ دَارُ الْعِلْمِ بِالشَّرَائِعِ، فَيُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهَا بِالتَّعَلُّمِ، فَكَانَ الْجَهْلُ بِالْخِيَارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَلَا يُعْتَبَرُ، وَلِهَذَا لَا يُعْذَرُ الْعَوَامُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِجَهْلِهِمْ بِالشَّرَائِعِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالْخِيَارِ هُنَاكَ شَرْطٌ، وَالْجَهْلَ بِهِ عُذْرٌ، وَإِنْ كَانَ دَارُ الْإِسْلَامِ دَارَ الْعِلْمِ بِالشَّرَائِعِ، وَالْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَيْهَا لَيْسَ مِنْ طَرِيقِ الضَّرُورَةِ بَلْ بِوَاسِطَةِ التَّعَلُّمِ، وَالْأَمَةُ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ التَّعَلُّمِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَفَرَّغُ لِذَلِكَ لِاشْتِغَالِهَا بِخِدْمَةِ مَوْلَاهَا بِخِلَافِ الْحُرَّةِ، ثُمَّ إذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الْفُرْقَةَ، فَهَذِهِ الْفُرْقَةُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ، فَإِنَّ الْمُعْتَقَةَ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي (وَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ هَهُنَا ثَابِتٌ، وَحُكْمُهُ نَافِذٌ، وَإِنَّمَا الْغَائِبُ وَصْفُ الْكَمَالِ، وَهُوَ صِفَةُ اللُّزُومِ، فَكَانَ الْفَسْخُ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ رَفْعَ الْأَصْلِ بِفَوَاتِ الْوَصْفِ، وَفَوَاتُ الْوَصْفِ لَا يُوجِبُ رَفْعَ الْأَصْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْلِ الْأَصْلِ تَبَعًا لِلْوَصْفِ، وَلَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ، وَبِهِ حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ رَفْعِهِ إلَى مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ، وَهُوَ الْقَاضِي؛ لِيَرْفَعَ النِّكَاحَ دَفْعًا لِحَاجَةِ الصَّغِيرِ الَّذِي بَلَغَ، وَنَظَرًا لَهُ بِخِلَافِ خِيَارِ الْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ازْدَادَ عَلَيْهَا بِالْعِتْقِ، وَلَهَا أَنْ لَا تَرْضَى بِالزِّيَادَةِ، فَكَانَ لَهَا أَنْ تَدْفَعَ الزِّيَادَةَ، وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا إلَّا

فصل شرط كفاءة الزوج في إنكاح المرأة الحرة

بِانْدِفَاعِ مَا كَانَ ثَابِتًا، فَيَنْدَفِعُ الثَّابِتُ ضَرُورَةَ دَفْعِ الزِّيَادَةِ، وَهَذَا يُمْكِنُ إذْ لَيْسَ بَعْضُ الْمِلْكِ تَابِعًا لِبَعْضٍ، فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي، وَنَظِيرُ الْفَصْلَيْنِ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ أَنَّ الْأَوَّلَ يَثْبُتُ بِدُونِ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَالثَّانِي لَا يَثْبُتُ عِنْدَ عَدَمِ التَّرَاضِي مِنْهُمَا إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ ابْنَ أَخِيهِ، فَلَا خِيَارَ لَهَا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ صَدَرَ عَنْ الْأَبِ. وَأَمَّا ابْنُ الْأَخِ، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ لِصُدُورِ النِّكَاحِ عَنْ الْعَمِّ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا خِيَارَ لَهُ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ. وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ، ثُمَّ زَوَّجَهَا، وَهِيَ صَغِيرَةٌ، فَلَهَا خِيَارُ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْوَلَاءِ دُونَ وِلَايَةِ الْقَرَابَةِ، فَلَمَّا ثَبَتَ الْخِيَارُ ثَمَّةَ، فَلَأَنْ يَثْبُتَ هَهُنَا أَوْلَى، وَلَوْ زَوَّجَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا، وَهِيَ صَغِيرَةٌ، فَلَهَا إذَا بَلَغَتْ خِيَارُ الْعِتْقِ لَا خِيَارَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ صَادَفَهَا، وَهِيَ رَقِيقَةٌ. [فَصْلٌ شَرْطُ كَفَاءَةِ الزَّوْجِ فِي إنْكَاحِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا كَفَاءَةُ الزَّوْجِ فِي إنْكَاحِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ بِمَهْرِ مِثْلِهَا، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ:. أَحَدِهَا: فِي بَيَانِ أَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي بَابِ النِّكَاحِ هَلْ هِيَ شَرْطُ لُزُومِ النِّكَاحِ فِي الْجُمْلَةِ؟ أَمْ لَا؟ . وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ النِّكَاحِ الَّذِي الْكَفَاءَةُ مِنْ شَرْطِ لُزُومِهِ، وَالثَّالِثِ: فِي بَيَانِ مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَفَاءَةُ، وَالرَّابِعِ: فِي بَيَانِ مَنْ يُعْتَبَرُ لَهُ الْكَفَاءَةُ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدْ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: أَنَّهَا شَرْطٌ. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: لَيْسَتْ بِشَرْطٍ أَصْلًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ أَبَا طَيْبَةَ خَطَبَ إلَى بَنِي بَيَاضَةَ، فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْكِحُوا أَبَا طَيْبَةَ إنْ لَا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ، وَفَسَادٌ كَبِيرٌ» . وَرُوِيَ أَنَّ «بِلَالًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَطَبَ إلَى قَوْمٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْ لَهُمْ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَزَوَّجُونِي» أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّزْوِيجِ عِنْدَ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ. وَلَوْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً لَمَا أَمَرَ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ. «وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ لَعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، فَضْلٌ إلَّا بِالتَّقْوَى» ، وَهَذَا نَصٌّ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَاءَةَ لَوْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الشَّرْعِ لَكَانَ أَوْلَى الْأَبْوَابِ بِالِاعْتِبَارِ بِهَا بَابُ الدِّمَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاطُ فِيهِ مَا لَا يُحْتَاطُ فِي سَائِرِ الْأَبْوَابِ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ حَتَّى يُقْتَلَ الشَّرِيفُ بِالْوَضِيعِ، فَهَهُنَا أَوْلَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَمْ تُعْتَبَرْ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ، فَكَذَا فِي جَانِبِ الزَّوْجِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ، وَلَا يُزَوَّجْنَ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ، وَلَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» ، وَلِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ تَخْتَلُّ عِنْدَ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالِاسْتِفْرَاشِ، وَالْمَرْأَةُ تَسْتَنْكِفُ عَنْ اسْتِفْرَاشِ غَيْرِ الْكُفْءِ، وَتُعَيَّرُ بِذَلِكَ، فَتَخْتَلُّ الْمَصَالِحُ؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ يَجْرِي بَيْنَهُمَا مُبَاسَطَاتٌ فِي النِّكَاحِ لَا يَبْقَى النِّكَاحُ بِدُونِ تَحَمُّلِهَا عَادَةً، وَالتَّحَمُّلُ مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ أَمْرٌ صَعْبٌ يَثْقُلُ عَلَى الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ، فَلَا يَدُومُ النِّكَاحُ مَعَ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ، فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْحَدِيثَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّزْوِيجِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ نَدْبًا لَهُمْ إلَى الْأَفْضَلِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الدِّينِ، وَتَرْكُ الْكَفَاءَةِ فِيمَا سِوَاهُ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الِامْتِنَاعِ. وَعِنْدَنَا الْأَفْضَلُ اعْتِبَارُ الدِّينِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ أَمْرَ إيجَابٍ أَمَرَهُمْ بِالتَّزْوِيجِ مِنْهُمَا مَعَ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ تَخْصِيصًا لَهُمْ بِذَلِكَ كَمَا خَصَّ أَبَا طَيْبَةَ بِالتَّمْكِينِ مِنْ شُرْبِ دَمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَصَّ خُزَيْمَةَ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَحْدَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَلَا شَرِكَةَ فِي مَوْضِعِ الْخُصُوصِيَّةِ حَمَلْنَا الْحَدِيثَيْنِ عَلَى مَا قُلْنَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّالِثُ، فَالْمُرَادُ بِهِ أَحْكَامُ الْآخِرَةِ إذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِظُهُورِ فَضْلِ الْعَرَبِيِّ عَلَى الْعَجَمِيِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَيُحْمَلُ عَلَى أَحْكَامِ الْآخِرَةِ، وَبِهِ نَقُولُ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْقِصَاصِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ شُرِعَ لَمَصْلَحَةِ الْحَيَاةِ، وَاعْتِبَارُ الْكَفَاءَةِ فِيهِ يُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقْصِدُ قَتْلَ عَدُوِّهِ الَّذِي لَا يُكَافِئُهُ، فَتَفُوتُ الْمَصْلَحَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ الْقِصَاصِ، وَفِي اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ تَحْقِيقُ الْمَصْلَحَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ النِّكَاحِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا، فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ. وَكَذَا الِاعْتِبَارُ بِجَانِبِ الْمَرْأَةِ لَا يَصِحُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَسْتَنْكِفُ عَنْ اسْتِفْرَاشِ الْمَرْأَةِ الدَّنِيئَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِنْكَافَ عَنْ الْمُسْتَفْرِشِ لَا عَنْ الْمُسْتَفْرِشِ، وَالزَّوْجُ مُسْتَفْرِشٌ، فَيَسْتَفْرِشُ الْوَطِيءَ وَالْخَشِنَ. [فَصْلٌ إنْكَاحُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الثَّانِي فَالنِّكَاحُ الَّذِي الْكَفَاءَةُ فِيهِ شَرْطُ لُزُومِهِ هُوَ إنْكَاحُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ لَا يَلْزَمُ

فصل بيان ما تعتبر فيه الكفاءة

حَتَّى لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ لَا يَلْزَمُ. وَلِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ؛ لِأَنَّ فِي الْكَفَاءَةِ حَقًّا لِلْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَتَفَاخَرُونَ بِعُلُوِّ نَسَبِ الْخَتَنِ، وَيَتَعَيَّرُونَ بِدَنَاءَةِ نَسَبِهِ، فَيَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا الضَّرَرَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالِاعْتِرَاضِ كَالْمُشْتَرِي إذَا بَاعَ الشِّقْصَ الْمَشْفُوعَ، ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ، وَيَأْخُذَ الْمَبِيعَ بِالشُّفْعَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ كَانَ التَّزْوِيجُ بِرِضَاهُمْ يَلْزَمُ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُمْ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ مِنْ الْمَرْأَةِ تَصَرُّفٌ مِنْ الْأَهْلِ فِي مَحَلٍّ هُوَ خَالِصُ حَقِّهَا، وَهُوَ نَفْسُهَا، وَامْتِنَاعُ اللُّزُومِ كَانَ لِحَقِّهِمْ الْمُتَعَلِّقِ بِالْكَفَاءَةِ، فَإِذَا رَضُوا، فَقَدْ أَسْقَطُوا حَقَّ أَنْفُسِهِمْ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ، فَيَسْقُطُ. وَلَوْ رَضِيَ بِهِ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ سَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَسْقُطُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْكَفَاءَةِ ثَبَتَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْكُلِّ، فَإِذَا رَضِيَ بِهِ أَحَدُهُمْ، فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْبَاقِينَ كَالدَّيْنِ إذَا وَجَبَ لِجَمَاعَةٍ، فَأَبْرَأَ بَعْضُهُمْ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْبَاقِينَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا؛ وَلِأَنَّ رِضَا أَحَدِهِمْ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ رِضَاهَا، فَإِنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْأَوْلِيَاءِ بِرِضَاهَا، فَلَأَنْ لَا يَسْقُطَ بِرِضَا أَحَدِهِمْ أَوْلَى، وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا حَقٌّ وَاحِدٌ لَا يَتَجَزَّأُ ثَبَتَ بِسَبَبٍ لَا يَتَجَزَّأُ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ، وَإِسْقَاطُ بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ إسْقَاطٌ لِكُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا بَعْضَ لَهُ، فَإِذَا أُسْقِطَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ كَالْقِصَاصِ إذَا وَجَبَ لِجَمَاعَةٍ، فَعَفَا أَحَدُهُمْ عَنْهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّ الْبَاقِينَ كَذَا هَذَا؛ وَلِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْكَفَاءَةِ مَا ثَبَتَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالتَّزْوِيجُ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ وَقَعَ إضْرَارًا بِالْأَوْلِيَاءِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَهُوَ ضَرَرُ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِهِ أَحَدُهُمْ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِمَصْلَحَةٍ حَقِيقِيَّةٍ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْكَفَاءَةِ وَقَفَ هُوَ عَلَيْهَا، وَغَفَلَ عَنْهَا الْبَاقُونَ لَوْلَاهَا لَمَا رَضِيَ، وَهِيَ دَفْعُ ضَرَرِ الْوُقُوعِ فِي الزِّنَا عَلَى تَقْدِيرِ الْفَسْخِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ الْحَقُّ ثَبَتَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ، فَنَقُولُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَمْنُوعٌ بَلْ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْكَمَالِ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتَجَزَّأُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الشَّرِكَةُ كَحَقِّ الْقِصَاصِ، وَالْأَمَانِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ يَتَجَزَّأُ فَتُتَصَوَّرُ فِيهِ الشَّرِكَةُ؟ وَبِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِغَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدٌ، فَحَقُّهَا خِلَافُ جِنْسِ حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي نَفْسِهَا، وَفِي نَفْسِ الْعَقْدِ، وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي نَفْسِهَا، وَلَا فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ فِي دَفْعِ الشَّيْنِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَإِذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْحَقِّ، فَسُقُوطُ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْآخَرِ. وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّ هَذَا الْحَقَّ مَا ثَبَتَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَفِي إبْقَائِهِ لُزُومُ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ، فَسَقَطَ ضَرُورَةً، وَكَذَلِكَ الْأَوْلِيَاءُ لَوْ زَوَّجُوهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِرِضَاهَا يَلْزَمُ النِّكَاحُ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ زَوَّجَهَا أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِرِضَاهَا مِنْ غَيْرِ رِضَا الْبَاقِينَ يَجُوزُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِمَالِكٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ وِلَايَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ وِلَايَةٌ مُشْتَرَكَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي شَرَائِطِ الْجَوَازِ، وَهَلْ يَلْزَمُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: يَلْزَمُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَزُفَرُ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُ، وَجْهُ قَوْلِهِمْ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَفَاءَةَ حَقٌّ ثَبَتَ لِلْكُلِّ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ لَا يَسْقُطُ حَقُّ صَاحِبِهِ كَالدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا حَقٌّ وَاحِدٌ لَا يَتَجَزَّأُ ثَبَتَ بِسَبَبٍ لَا يَتَجَزَّأُ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَقِّ إذَا ثَبَتَ لِجَمَاعَةٍ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْكَمَالِ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ كَالْقِصَاصِ وَالْأَمَانِ؛ وَلِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى النِّكَاحِ مَعَ كَمَالِ الرَّأْيِ بِرِضَاهَا مَعَ الْتِزَامِ ضَرَرٍ ظَاهِرٍ بِالْقَبِيلَةِ وَبِنَفْسِهِ، وَهُوَ ضَرَرُ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ بِلُحُوقِ الْعَارِ وَالشَّيْنِ دَلِيلُ كَوْنِهِ مَصْلَحَةً فِي الْبَاطِنِ، وَهُوَ اشْتِمَالُهُ عَلَى دَفْعِ ضَرَرٍ أَعْظَمَ مِنْ ضَرَرِ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ، وَهُوَ ضَرَرُ عَارِ الزِّنَا أَوْ غَيْرِهِ لَوْلَاهُ لَمَا فُعِلَ. وَأَمَّا إنْكَاحُ الْأَبِ، وَالْجَدِّ الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ، فَالْكَفَاءَةُ فِيهِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلُزُومِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطِ الْجَوَازِ عِنْدَهُ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ، وَيَلْزَمُ لِصُدُورِهِ مِمَّنْ لَهُ كَمَالُ نَظَرٍ لِكَمَالِ الشَّفَقَةِ بِخِلَافِ إنْكَاحِ الْأَخِ وَالْعَمِّ مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي شَرَائِطِ الْجَوَازِ. وَأَمَّا إنْكَاحُهُمَا مِنْ الْكُفْءِ، فَجَائِزٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لَكِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَازِمٌ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَفَاءَةُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الثَّالِثُ فِي بَيَانِ مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَفَاءَةُ، فَمَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَفَاءَةُ أَشْيَاءُ. مِنْهَا النَّسَبُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ

فصل في ما تعتبر فيه الكفاءة ومنها الحرية

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ، وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ، حَيٌّ بِحَيٍّ، وَقَبِيلَةٌ بِقَبِيلَةٍ، وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ، رَجُلٌ بِرَجُلٍ» ؛ لِأَنَّ التَّفَاخُرَ، وَالتَّعْيِيرَ يَقَعَانِ بِالْأَنْسَابِ، فَتُلْحَقُ النَّقِيصَةُ بِدَنَاءَةِ النَّسَبِ، فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَفَاءَةُ، فَقُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ عَلَى اخْتِلَافِ قَبَائِلِهِمْ حَتَّى يَكُونَ الْقُرَشِيُّ الَّذِي لَيْسَ بِهَاشِمِيٍّ كَالتَّيْمِيِّ، وَالْأُمَوِيِّ وَالْعَدَوِيِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كُفْئًا لِلْهَاشِمِيِّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ» ، وَقُرَيْشٌ تَشْتَمِلُ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ بِالنَّصِّ، وَلَا تَكُونُ الْعَرَبُ كُفْئًا لِقُرَيْشٍ لِفَضِيلَةِ قُرَيْشٍ عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ، وَلِذَلِكَ اُخْتُصَّتْ الْإِمَامَةُ بِهِمْ قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» بِخِلَافِ الْقُرَشِيِّ أَنَّهُ يَصْلُحُ كُفْئًا لِلْهَاشِمِيِّ، وَإِنْ كَانَ لِلْهَاشِمِيِّ مِنْ الْفَضِيلَةِ مَا لَيْسَ لِلْقُرَشِيِّ لَكِنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ تِلْكَ الْفَضِيلَةَ فِي بَابِ النِّكَاحِ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ أُمَوِيًّا لَا هَاشِمِيًّا، وَزَوَّجَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ابْنَتَهُ مِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يَكُنْ هَاشِمِيًّا بَلْ عَدَوِيًّا، فَدَلَّ أَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي قُرَيْشٍ لَا تَخْتَصُّ بِبَطْنٍ دُونَ بَطْنٍ، وَاسْتَثْنَى مُحَمَّدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيْتَ الْخِلَافَةِ، فَلَمْ يَجْعَلْ الْقُرَشِيَّ الَّذِي لَيْسَ بِهَاشِمِيٍّ كُفْئًا لَهُ، وَلَا تَكُونُ الْمَوَالِي أَكْفَاءَ لِلْعَرَبِ لِفَضْلِ الْعَرَبِ عَلَى الْعَجَمِ، وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ بِالنَّصِّ، وَمَوَالِي الْعَرَبِ أَكْفَاءٌ لِمَوَالِي قُرَيْشٍ لِعُمُومِ قَوْلِهِ «، وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ رَجُلٌ بِرَجُلٍ» ، ثُمَّ مُفَاخَرَةُ الْعَجَمِ بِالْإِسْلَامِ لَا بِالنَّسَبِ. وَمَنْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِمَنْ لَهُ آبَاءٌ كَثِيرَةٌ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ التَّعْرِيفِ بِالْجَدِّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ قَدْ طَالَ عَهْدُ الْإِسْلَامِ وَامْتَدَّ. فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ عَهْدُ الْإِسْلَامِ قَرِيبًا بِحَيْثُ لَا يُعَيَّرُ بِذَلِكَ، وَلَا يُعَدُّ عَيْبًا يَكُونُ بَعْضُهُمْ كُفْئًا لِبَعْضِهِمْ؛ لِأَنَّ التَّعْيِيرَ إذَا لَمْ يُجْبَرْ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُعَدّ عَيْبًا لَمْ يَلْحَقْ الشَّيْنُ وَالنَّقِيصَةُ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الضَّرَرُ. [فَصْلٌ فِي مَا تعتبر فِيهِ الْكِفَاءَة وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ، وَالشَّيْنَ بِالرِّقِّ، فَوْقَ النَّقْصِ، وَالشَّيْنِ بِدَنَاءَةِ النَّسَبِ، فَلَا يَكُونُ الْقِنُّ، وَالْمُدَبَّرُ، وَالْمُكَاتَبُ كُفْئًا لِلْحُرَّةِ بِحَالٍ، وَلَا يَكُونُ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ كُفْئًا لِحُرَّةِ الْأَصْلِ، وَيَكُونُ كُفْئًا لِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ التَّفَاخُرَ يَقَعُ بِالْحُرَّةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالتَّعْيِيرُ يَجْرِي فِي الْحُرِّيَّةِ الْعَارِضَةِ الْمُسْتَفَادَةِ بِالْإِعْتَاقِ. وَكَذَا مَنْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْحُرِّيَّةِ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ، فَصَاعِدًا فِي الْحُرِّيَّةِ. وَمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْحُرِّيَّةِ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِمَنْ لَهُ آبَاءٌ كَثِيرَةٌ فِي الْحُرِّيَّةِ كَمَا فِي إسْلَامِ الْآبَاءِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ التَّعْرِيفِ بِالْأَبِ، وَتَمَامُهُ بِالْجَدِّ، وَلَيْسَ وَرَاءَ التَّمَامِ شَيْءٌ. وَكَذَا مَوْلَى الْوَضِيعِ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِمَوْلَاةِ الشَّرِيفِ حَتَّى لَا يَكُونَ مَوْلَى الْعَرَبِ كُفْئًا لِمَوْلَاةِ بَنِي هَاشِمٍ حَتَّى لَوْ زَوَّجَتْ مَوْلَاةُ بَنِي هَاشِمٍ نَفْسَهَا مِنْ مَوْلَى الْعَرَبِ كَانَ لِمُعْتِقِهَا حَقُّ الِاعْتِرَاضِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» . [فَصْلٌ فِي كَفَاءَةِ الْفَقِيرِ لِلْغَنِيَّةِ فِي النِّكَاحِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا الْمَالُ، فَلَا يَكُونُ الْفَقِيرُ كُفْئًا لِلْغَنِيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّفَاخُرَ بِالْمَالِ أَكْثَرُ مِنْ التَّفَاخُرِ بِغَيْرِهِ عَادَةً، وَخُصُوصًا فِي زَمَانِنَا هَذَا؛ وَلِأَنَّ لِلنِّكَاحِ تَعَلُّقًا بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ تَعَلُّقًا لَازِمًا، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بِدُونِ الْمَهْرِ، وَالنَّفَقَةُ لَازِمَةٌ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالنَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ، فَلَمَّا اُعْتُبِرَتْ الْكَفَاءَةُ ثَمَّةَ، فَلَأَنْ تُعْتَبَرَ هَهُنَا أَوْلَى، وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْقُدْرَةُ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا، وَالنَّفَقَةِ، وَلَا تُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى أَنَّ الزَّوْجَ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا، وَنَفَقَتِهَا يَكُونُ كُفْئًا لَهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يُسَاوِيهَا فِي الْمَالِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ وَذُكِرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ تَسَاوِيهِمَا فِي الْغِنَى شَرْطُ تَحَقُّقِ الْكَفَاءَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ التَّفَاخُرَ يَقَعُ فِي الْغِنَى عَادَةً، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْغِنَى لَا ثَبَاتَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٍ، فَلَا تُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْغِنَى. وَمَنْ لَا يَمْلِكُ مَهْرًا، وَلَا نَفَقَةً لَا يَكُونُ كُفْئًا؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ عِوَضُ مَا يُمْلَكُ بِهَذَا الْعَقْدِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَقِيَامُ الِازْدِوَاجِ بِالنَّفَقَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا؛ وَلِأَنَّ مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْمَهْرِ، وَالنَّفَقَةِ يُسْتَحْقَرُ، وَيُسْتَهَانُ فِي الْعَادَةِ كَمَنْ لَهُ نَسَبٌ دَنِيءٌ، فَتَخْتَلُّ بِهِ الْمَصَالِحُ كَمَا تَخْتَلُّ عِنْدَ دَنَاءَةِ النَّسَبِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الْمَهْرِ قَدْرُ الْمُعَجَّلِ عُرْفًا وَعَادَةً دُونَ مَا فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ يُسَامَحُ فِيهِ بِالتَّأْخِيرِ إلَى وَقْتِ الْيَسَارِ، فَلَا يَطْلُبُ بِهِ لِلْحَالِ عَادَةً، وَالْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا مَلَكَ النَّفَقَةَ يَكُونُ كُفْئًا، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ الْمَهْرَ هَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ

فصل الكفاءة في الدين

عَنْهُ، فَإِنَّهُ رَوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا يُوسُفَ عَنْ الْكُفْءِ، فَقَالَ: الَّذِي يَمْلِكُ الْمَهْرَ، وَالنَّفَقَةَ، فَقُلْت، وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ الْمَهْرَ دُونَ النَّفَقَةِ، فَقَالَ: لَا يَكُونُ كُفْئًا، فَقُلْتُ، فَإِنْ مَلَكَ النَّفَقَةَ دُونَ الْمَهْرِ، فَقَالَ: يَكُونُ كُفْئًا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ يُعَدُّ قَادِرًا عَلَى الْمَهْرِ بِقُدْرَةِ أَبِيهِ عَادَةً، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى وَلَدِ الْغَنِيِّ إذَا كَانَ صَغِيرًا، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يُعَدُّ غَنِيًّا بِمَالِ أَبِيهِ، وَلَا يُعَدُّ قَادِرًا عَلَى النَّفَقَةِ بِغِنَى أَبِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ يَتَحَمَّلُ الْمَهْرَ الَّذِي عَلَى ابْنِهِ، وَلَا يَتَحَمَّلُ نَفَقَةَ زَوْجَتِهِ عَادَةً. وَقَالَ: بَعْضُهُمْ إذَا كَانَ الرَّجُلُ ذَا جَاهٍ كَالسُّلْطَانِ وَالْعَالِمِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ كُفْئًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ مِنْ الْمَالِ إلَّا قَدْرَ النَّفَقَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَهْرَ تَجْرِي فِيهِ الْمُسَامَحَةُ بِالتَّأْخِيرِ إلَى وَقْتِ الْيَسَارِ، وَالْمَالُ يَغْدُو، وَيَرُوحُ، وَحَاجَةُ الْمَعِيشَةِ تَنْدَفِعُ بِالنَّفَقَةِ. [فَصْلٌ الْكَفَاءَةُ فِي الدِّينِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا الدِّينُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ حَتَّى لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنَاتِ الصَّالِحِينَ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ فَاسِقٍ كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ التَّفَاخُرَ بِالدِّينِ أَحَقُّ مِنْ التَّفَاخُرِ بِالنَّسَبِ، وَالْحُرِّيَّةِ وَالْمَالِ، وَالتَّعْيِيرُ بِالْفِسْقِ أَشَدُّ وُجُوهِ التَّعْيِيرِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَالْكَفَاءَةُ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَلَا يَقْدَحُ فِيهَا الْفِسْقُ إلَّا إذَا كَانَ شَيْئًا، فَاحِشًا بِأَنْ كَانَ الْفَاسِقُ مِمَّنْ يُسْخَرُ مِنْهُ، وَيُضْحَكُ عَلَيْهِ، وَيُصْفَعُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُهَابُ مِنْهُ بِأَنْ كَانَ أَمِيرًا قَتَّالًا يَكُونُ كُفْئًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِسْقَ لَا يُعَدُّ شَيْئًا فِي الْعَادَةِ، فَلَا يَقْدَحُ فِي الْكَفَاءَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفَاسِقَ إذَا كَانَ مُعْلِنًا لَا يَكُونُ كُفْئًا، وَإِنْ كَانَ مُسْتَتِرًا يَكُونُ كُفْئًا. [فَصْلٌ الْكَفَاءَةَ فِي الْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحِرْفَةُ، فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي الْحِرَفِ، وَالصِّنَاعَاتِ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَلَا يَكُونُ الْحَائِكُ كُفْئًا لِلْجَوْهَرِيِّ وَالصَّيْرَفِيِّ، وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ بَنَى الْأَمْرَ فِيهَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّ مَوَالِيهمْ يَعْمَلُونَ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا يَقْصِدُونَ بِهَا الْحِرَفَ، فَلَا يُعَيَّرُونَ بِهَا، وَأَجَابَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْبِلَادِ أَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ حِرْفَةً، فَيُعَيَّرُونَ بِالدَّنِيءِ مِنْ الصَّنَائِعِ، فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي الْحَقِيقَةِ. وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ اعْتِبَارَ الْكَفَاءَةِ فِي الْحِرْفَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ، فَتَثْبُتُ الْكَفَاءَةُ بَيْنَ الْحِرْفَتَيْنِ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْبَزَّازِ مَعَ الْبَزَّازِ، وَالْحَائِكِ مَعَ الْحَائِكِ، وَتَثْبُتُ عِنْدَ اخْتِلَافِ جِنْسِ الْحِرَفِ إذَا كَانَ يُقَارِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَالْبَزَّازِ مَعَ الصَّائِغِ، وَالصَّائِغِ مَعَ الْعَطَّارِ، وَالْحَائِكِ مَعَ الْحَجَّامِ، وَالْحَجَّامِ مَعَ الدَّبَّاغِ، وَلَا تَثْبُتُ فِيمَا لَا مُقَارَبَةَ بَيْنَهُمَا كَالْعَطَّارِ مَعَ الْبَيْطَارِ، وَالْبَزَّازِ مَعَ الْخَرَّازِ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي الْحِرَفِ مُعْتَبَرَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ فَاحِشَةً كَالْحِيَاكَةِ، وَالْحِجَامَةِ وَالدَّبَّاغَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَمْرٍ لَازِمٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِهَا، وَهَذَا يُشْكِلُ بِالْحِيَاكَةِ وَأَخَوَاتِهَا، فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَرْكِهَا، وَمَعَ هَذَا يَقْدَحُ فِي الْكَفَاءَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ، وَأَهْلُ الْكُفْرِ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْكَفَاءَةِ لِدَفْعِ النَّقِيصَةِ، وَلَا نَقِيصَةَ أَعْظَمُ مِنْ الْكُفْرِ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَنْ تُعْتَبَرُ لَهُ الْكَفَاءَةُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ تُعْتَبَرُ لَهُ الْكَفَاءَةُ، فَالْكَفَاءَةُ تُعْتَبَرُ لِلنِّسَاءِ لَا لِلرِّجَالِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ فِي جَانِبِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ، وَلَا تُعْتَبَرُ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ وَرَدَتْ بِالِاعْتِبَارِ فِي جَانِبِ الرِّجَالِ خَاصَّةً. وَكَذَا الْمَعْنَى الَّذِي شُرِعَتْ لَهُ الْكَفَاءَةُ يُوجِبُ اخْتِصَاصَ اعْتِبَارِهَا بِجَانِبِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الَّتِي تَسْتَنْكِفُ لَا الرَّجُلُ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُسْتَفْرَشَةُ. فَأَمَّا الزَّوْجُ، فَهُوَ الْمُسْتَفْرِشُ، فَلَا تَلْحَقُهُ الْأَنَفَةُ مِنْ قِبَلِهَا. وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ الْكَفَاءَةَ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ مُعْتَبَرَةٌ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ اسْتِدْلَالًا بِمَسْأَلَةٍ ذَكَرَهَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ، وَهِيَ أَنَّ أَمِيرًا أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً، فَزَوَّجَهُ أَمَةً لِغَيْرِهِ قَالَ: جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ، وَلَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا زَعَمُوا؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ عِنْدَهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ التَّوْكِيلَ الْمُطْلَقَ يَتَقَيَّدُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، فَيَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ كَمَا فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْرَى عَلَى إطْلَاقِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ، وَالتُّهْمَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْجَوَازِ عِنْدَهُمَا لِاعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ خَاصَّةً حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُتَعَارَفِ كَمَا هُوَ أَصْلُهُمَا إذْ الْمُتَعَارَفُ هُوَ التَّزْوِيجُ بِالْكُفْءِ، فَاسْتَحْسَنَّا اعْتِبَارَ الْكَفَاءَةِ فِي جَانِبِهِنَّ فِي مِثْلِ تِلْكَ الصُّورَةِ لِمَكَانِ الْعُرْفِ، وَالْعَادَةِ، وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الْقِيَاسِ، وَالِاسْتِحْسَانِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فِي وَكَالَةِ الْأَصْلِ، فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ دَلِيلًا

عَلَى اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ فِي جَانِبِهِنَّ أَصْلًا عِنْدَهُمَا، وَلَا تَكُونُ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ خَاصَّةً اسْتِحْسَانًا لِلْعُرْفِ. وَلَوْ أَظْهَرَ رَجُلٌ نَسَبَهُ لِامْرَأَةٍ، فَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ، ثُمَّ ظَهَرَ نَسَبُهُ عَلَى خِلَافِ مَا أَظْهَرَهُ، فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُومُ مِثْلَ الْمُظْهَرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَعْلَى مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَدْوَنَ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ بِأَنْ أَظْهَرَ أَنَّهُ تَيْمِيٌّ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ عَدَوِيٌّ، فَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِالشَّيْءِ يَكُونُ رِضًا بِمِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ أَعْلَى مِنْهُ بِأَنْ أَظْهَرَ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ، فَظَهَرَ أَنَّهُ قُرَشِيٌّ، فَلَا خِيَارَ لَهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِالْأَدْنَى يَكُونُ رِضًا بِالْأَعْلَى مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَعَنْ الْحَسَنِ ابْنِ زِيَادٍ أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ؛ لِأَنَّ الْأَعْلَى لَا يَحْتَمِلُ مِنْهَا مَا يَحْتَمِلُ الْأَدْنَى، فَلَا يَكُونُ الرِّضَا مِنْهَا بِالْمُظْهَرِ رِضًا بِالْأَعْلَى مِنْهُ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا تَرْضَى بِالْكُفْءِ، وَإِنْ كَانَ الْكُفْءُ لَا يَحْتَمِلُ مِنْهَا مَا يَحْتَمِلُ غَيْرُ الْكُفْءِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْكُفْءِ ضَرَرُهُ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ، فَكَانَ الرِّضَا بِالْمُظْهَرِ رِضًا بِالْأَعْلَى مِنْهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِنْ كَانَ أَدْوَنَ مِنْهُ بِأَنْ أَظْهَرَ أَنَّهُ قُرَشِيٌّ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ، فَلَهَا الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ كُفْئًا لَهَا بِأَنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَرَبِيَّةً؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا رَضِيَتْ بِشَرْطِ الزِّيَادَةِ، وَهِيَ زِيَادَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا، وَلَمْ تَحْصُلْ، فَلَا تَكُونُ رَاضِيَةً بِدُونِهَا، فَكَانَ لَهَا الْخِيَارُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ لِدَفْعِ النَّقْصِ، وَلَا نَقِيصَةَ؛ لِأَنَّهُ كُفْءٌ لَهَا هَذَا إذَا فَعَلَ الرَّجُلُ ذَلِكَ. فَأَمَّا إذَا، فَعَلَتْ الْمَرْأَةُ بِأَنْ أَظْهَرَتْ امْرَأَةٌ نَسَبَهَا لِرَجُلٍ، فَتَزَوَّجَهَا، ثُمَّ ظَهَرَ بِخِلَافِ مَا أَظْهَرَتْ، فَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ سَوَاءٌ تَبَيَّنَ أَنَّهَا حُرَّةٌ أَوْ أَمَةٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَيَتَّصِلُ بِهَذَا مَا إذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ، فَوَلَدَتْ مِنْهُ، ثُمَّ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا أَمَتُهُ، فَإِنَّ الْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَجَازَ النِّكَاحَ، وَإِنْ شَاءَ أَبْطَلَهُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ حَصَلَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى، فَوُقِفَ عَلَى إجَازَتِهِ، وَيَغْرَمُ الْعُقْرَ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةً غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ لَهُ حَقِيقَةً، فَلَا يَخْلُو عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الْعُقُوبَةِ لِلشُّبْهَةِ، فَتَجِبُ الْغَرَامَةُ، وَأَمَّا الْوَلَدُ، فَإِنْ كَانَ الْمَغْرُورُ حُرًّا؛ فَالْوَلَدُ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ حَصَلَ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ النِّكَاحِ إذْ لَا عِلْمَ لَلْمُسْتَوْلِدِ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، فَكَانَ الْمُسْتَوْلِدُ مُسْتَحِقًّا لِلنَّظَرِ، وَالْمُسْتَحَقُّ مُسْتَحِقًّا لِلنَّظَرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَوْنُ الْجَارِيَةِ مِلْكًا لَهُ، فَتَجِبُ مُرَاعَاةُ الْحَقَّيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، فَرَاعَيْنَا حَقَّ الْمُسْتَوْلِدِ فِي صُورَةِ الْأَوْلَادِ، وَحَقَّ الْمُسْتَحِقِّ فِي مَعْنَى الْأَوْلَادِ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَهُوَ مَنْعُ الْوَلَدِ عَنْ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عَبْدًا فِي حَقِّهِ، وَمُنِعَ عَنْهُ يَوْمَ الْخُصُومَةِ. وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ الْخُصُومَةِ لَا يَغْرَمُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِالْمَنْعِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْمَنْعُ مِنْ الْمَغْرُورِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي مَوْتِهِ، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ تَرَكَ مَالًا، فَهُوَ مِيرَاثٌ لِأَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ ابْنُهُ، وَقَدْ مَاتَ حُرًّا، فَيَرِثُهُ، وَلَا يَغْرَمُ لِلْمُسْتَحِقِّ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ قَتَلَهُ رَجُلٌ، وَأَخَذَ الْأَبُ الدِّيَةَ، فَإِنَّهُ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ لِلْمُسْتَحِقِّ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عَنْ الْمَقْتُولِ، فَتَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ حَيٌّ، وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ ضَرَبَ بَطْنَ الْجَارِيَةِ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا يَغْرَمُ الضَّارِبُ الْغُرَّةَ خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ يَغْرَمُ الْمُسْتَوْلِدُ لِلْمُسْتَحِقِّ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا، فَنِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى، فَعُشْرُ قِيمَتِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَغْرُورُ عَبْدًا، فَالْأَوْلَادُ يَكُونُونَ أَرِقَّاءَ لِلْمُسْتَحِقِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُونَ أَحْرَارًا، وَيَكُونُونَ أَوْلَادَ الْمَغْرُورِ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذَا وَلَدُ الْمَغْرُورِ حَقِيقَةً لِانْخِلَاقِهِ مِنْ مَائِهِ، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَهُمَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِلْكَ الْمُسْتَحِقِّ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مِلْكُهُ، فَيُتَبَيَّنُ أَنَّ الْوَلَدَ حَدَثَ عَلَى مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَالرِّقِّ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَهُمْ إنَّمَا قَضَوْا بِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ فِي الْمَغْرُورِ الْحُرِّ، فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي غَيْرِهِ مَرْدُودًا إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، ثُمَّ الْمَغْرُورُ هَلْ يَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ عَلَى الْغَارِّ، وَالْغَارُّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ أَجْنَبِيًّا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْلَى الْجَارِيَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هِيَ الْجَارِيَةُ، فَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَإِنْ كَانَ حُرًّا، فَغَرَّهُ بِأَنْ قَالَ: تَزَوَّجْ بِهَا، فَإِنَّهَا حُرَّةٌ أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالتَّزْوِيجِ لَكِنَّهُ زَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ أَوْ قَالَ: هِيَ حُرَّةٌ، وَزَوَّجَهَا مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ بِقِيمَةِ الْأَوْلَادِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ ضَامِنًا لَهُ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْغَرَامَةِ فِي ذَلِكَ النِّكَاحِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الضَّمَانِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْعُقْرِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ. وَلَوْ قَالَ: هِيَ حُرَّةٌ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالتَّزْوِيجِ، وَلَمْ يُزَوِّجْهَا مِنْهُ لَا يُرْجَعُ عَلَى الْمُخْبِرِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ

فصل كمال مهر المثل في إنكاح الحرة العاقلة البالغة

مَعْنَى الضَّمَانِ، وَالِالْتِزَامِ لَا يَتَحَقَّقُ بِهَذَا الْقَدْرِ، وَإِنْ كَانَ الْغَارُّ عَبْدَ الرَّجُلِ، فَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ، وَإِنْ كَانَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ رَجَعَ عَلَيْهِ لِلْحَالِ إلَّا إذَا كَانَ مُكَاتَبًا أَوْ مُكَاتَبَةً، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْمَوْلَى بِذَلِكَ لَا يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي غَرَّهُ، فَلَا يَضْمَنُ الْمَغْرُورُ مِنْ قِيمَةِ الْأَوْلَادِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ لِلْمَوْلَى لَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَوْلَى بِمَا ضَمِنَ، فَلَا يُفِيدُ وُجُوبَ الضَّمَانِ، وَإِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ هِيَ الَّتِي غَرَّتْهُ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى لَمْ يَأْمُرْهَا بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَغْرُورَ يَرْجِعُ عَلَى الْأَمَةِ بَعْدَ الْعَتَاقِ لَا لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ أَمَرَهَا بِذَلِكَ يَرْجِعُ عَلَى الْأَمَةِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ، وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى هَذَا إذَا غَرَّهُ أَحَدٌ أَمَّا إذَا لَمْ يَغُرَّهُ أَحَدٌ، وَلَكِنَّهُ ظَنَّ أَنَّهَا حُرَّةٌ، فَتَزَوَّجَهَا، فَإِذَا هِيَ أَمَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ عَلَى أَحَدٍ لِمَا قُلْنَا، وَالْأَوْلَادُ أَرِقَّاءُ لِمَوْلَى الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ مِلْكُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ كَمَالُ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي إنْكَاحِ الْحُرَّةِ الْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا كَمَالُ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي إنْكَاحِ الْحُرَّةِ الْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِغَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ كُفْءٍ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا مِقْدَارُ مَا لَا يُتَغَابَنُ فِيهِ النَّاسُ بِغَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ، فَلِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ عِنْدَهُ، فَإِمَّا أَنْ يَبْلُغَ الزَّوْجُ إلَى مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَلْزَمُ النِّكَاحُ بِدُونِهِ حَتَّى يَثْبُتَ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاض، وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ أَعْنِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ. وَالْمَسْأَلَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَيْهَا، وَهِيَ مَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، وَبِغَيْرِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ لَا شَكَّ أَنَّهُمَا يَتَفَرَّعَانِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَرِوَايَةِ الرُّجُوعِ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، فَلَا يَجُوزُ هَذَا النِّكَاحُ، فَيُشْكِلُ التَّفْرِيعُ، فَتُصَوَّرُ الْمَسْأَلَةُ فِيمَا إذَا أَذِنَ الْوَلِيُّ لَهَا بِالتَّزْوِيجِ، فَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ أَوْ مِنْ كُفْءٍ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ صُورَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ مَا إذَا أُكْرِهَ الْوَلِيُّ، وَالْمَرْأَةُ عَلَى النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ أَوْ مِنْ كُفْءٍ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، ثُمَّ زَالَ الْإِكْرَاهُ، فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْنِي الْوَلِيَّ وَالْمَرْأَةَ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ، وَإِنْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْآخَرِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لَهَا حَقُّ الِاعْتِرَاضِ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِالنِّكَاحِ، وَالْمَهْرِ، فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْسَخَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَأَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ، وَتَصَوُّرُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا أَمَرَ الْوَلِيُّ رَجُلًا بِالتَّزْوِيجِ، فَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِرِضَاهَا أَوْ مِنْ كُفْءٍ بِمَهْرٍ قَاصِرٍ بِرِضَاهَا (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَهْرَ حَقُّهَا عَلَى الْخُلُوصِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَالْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَةِ، فَكَانَتْ هِيَ بِالنَّقْصِ مُتَصَرِّفَةً فِي خَالِصِ حَقِّهَا، فَيَصِحُّ، وَيَلْزَمُ كَمَا إذَا أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا عَنْ الْمَهْرِ؛ وَلِهَذَا جَازَ الْإِبْرَاءُ عَنْ الثَّمَنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقًّا فِي الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُمْ يَفْتَخِرُونَ بِغَلَاءِ الْمَهْرِ، وَيَتَعَيَّرُونَ بِبَخْسِهِ، فَيَلْحَقُهُمْ الضَّرَرُ بِالْبَخْسِ، وَهُوَ ضَرَرُ التَّعْيِيرِ، فَكَانَ لَهُمْ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالِاعْتِرَاضِ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ بِسَبَبِ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ كَذَا هَذَا؛ وَلِأَنَّهَا بِالْبَخْسِ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا أَضَرَّتْ بِنِسَاءِ قَبِيلَتِهَا؛ لِأَنَّ مُهُورَ مِثْلِهَا عِنْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ تُعْتَبَرُ بِهَا، فَكَانَتْ بِالنَّقْصِ مُلْحِقَةً الضَّرَرَ بِالْقَبِيلَةِ، فَكَانَ لَهُمْ دَفْعُ هَذَا الضَّرَرِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْفَسْخِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ خُلُوُّ الزَّوْجِ عَنْ عَيْبِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الرِّضَا مِنْ الزَّوْجَةِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا خُلُوُّ الزَّوْجِ عَنْ عَيْبِ الْجَبِّ، وَالْعُنَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الرِّضَا مِنْ الزَّوْجَةِ بِهِمَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَيْبُ الْعُنَّةِ لَا يَمْنَعُ لُزُومَ النِّكَاحِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْتُ تَحْتَ رِفَاعَةَ، فَطَلَّقَنِي آخِرَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ، وَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَوَاَللَّهِ مَا، وَجَدْتُ مَعَهُ إلَّا مِثْلَ الْهُدْبَةِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ: لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» . فَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ ادَّعَتْ الْعُنَّةَ عَلَى زَوْجِهَا، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُثْبِتْ لَهَا الْخِيَارَ، وَلَوْ لَمْ يَقَعْ النِّكَاحُ لَازِمًا لَا ثَبَتَ؛ وَلِأَنَّ هَذَا الْعَيْبَ لَا يُوجِبُ، فَوَاتَ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ بِيَقِينٍ، فَلَا يُوجِبُ الْخِيَارَ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْعُيُوبِ بِخِلَافِ الْجَبِّ، فَإِنَّهُ يُفَوِّتُ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ بِيَقِينٍ. (وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى فِي الْعِنِّينِ أَنَّهُ يُؤَجَّلُ سَنَةً، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا، وَإِلَّا أَخَذَتْ مِنْهُ الصَّدَاقَ كَامِلًا، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلُهُ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: يُؤَجَّلُ سَنَةً، فَإِنْ وَصَلَ إلَيْهَا، وَإِلَّا فُرِّقَ

بَيْنَهُمَا، وَكَانَ قَضَاؤُهُمْ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّ الْوَطْءَ مَرَّةً وَاحِدَةً مُسْتَحَقٌّ عَلَى الزَّوْجِ لِلْمَرْأَةِ بِالْعَقْدِ، وَفِي إلْزَامِ الْعَقْدِ عِنْدَ تَقَرُّرِ الْعَجْزِ عَنْ الْوُصُولِ تَفْوِيتُ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَهَذَا ضَرَرٌ بِهَا، وَظُلْمٌ فِي حَقِّهَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» ، فَيُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الزَّوْجِ الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ التَّسْرِيجَ بِإِحْسَانٍ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْتِيفَاءَ النِّكَاحِ عَلَيْهَا مَعَ كَوْنِهَا مَحْرُومَةَ الْحَظِّ مِنْ الزَّوْجِ لَيْسَ مِنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ فِي شَيْءٍ، فَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ، فَإِنْ سَرَّحَ بِنَفْسِهِ، وَإِلَّا نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّسْرِيحِ؛ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ عِوَضٌ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَالْعَجْزُ عَنْ الْوُصُولِ يُوجِبُ عَيْبًا فِي الْعِوَضِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ تَأَكُّدِهِ بِيَقِينٍ لِجَوَازِ أَنْ يَخْتَصِمَا إلَى قَاضٍ لَا يَرَى تَأَكُّدَ الْمَهْرِ بِالْخَلْوَةِ، فَيُطَلِّقُهَا، وَيُعْطِيهَا نِصْفَ الْمَهْرِ، فَيَتَمَكَّنُ فِي الْمَهْرِ عَيْبٌ، وَهُوَ عَدَمُ التَّأَكُّدِ بِيَقِينٍ، وَالْعَيْبُ فِي الْعِوَضِ يُوجِبُ الْخِيَارَ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَقَالَةَ مِنْهَا لَمْ تَكُنْ دَعْوَى الْعُنَّةِ بَلْ كَانَتْ كِنَايَةً عَنْ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ دِقَّةُ الْقَضِيبِ، وَالِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ الْعُيُوبُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا لَا تُوجِبُ فَوَاتَ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ لِمَا نَذْكُرُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا يُوجِبُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ يَتَقَرَّرُ بِعَدَمِ الْوُصُولِ فِي مُدَّةِ السَّنَةِ ظَاهِرًا، فَيَفُوتُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ ظَاهِرًا، فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا، فَإِذَا رَفَعَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا، وَادَّعَتْ أَنَّهُ عِنِّينٌ، وَطَلَبَتْ الْفُرْقَةَ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَسْأَلُهُ هَلْ وَصَلَ إلَيْهَا أَوْ لَمْ يَصِلْ؟ فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ أَجَّلَهُ سَنَةً سَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا، وَإِنْ أَنْكَرَ، وَادَّعَى الْوُصُولَ إلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ ثَيِّبًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الثِّيَابَةَ دَلِيلُ الْوُصُولِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْمَانِعُ مِنْ الْوُصُولِ مِنْ جِهَتِهِ عَارِضٌ إذْ الْأَصْلُ هُوَ السَّلَامَةُ عَنْ الْعَيْبِ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ، وَإِنْ قَالَتْ أَنَا بِكْرٌ نَظَرَ إلَيْهَا النِّسَاءُ وَامْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِي؛ لِأَنَّ الْبَكَارَةَ بَابٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ بِانْفِرَادِهِنَّ فِي هَذَا الْبَابِ مَقْبُولَةٌ لِلضَّرُورَةِ، وَتُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ كَشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ حُرْمَةُ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ، وَهُوَ الْعَزِيمَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] ، وَحَقُّ الرُّخْصَةِ يَصِيرُ مَقْضِيًّا بِالْوَاحِدَةِ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا قُبِلَ قَوْلُ النِّسَاءِ فِيهِ بِانْفِرَادِهِنَّ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ كَرِوَايَةِ الْإِخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالثِّنْتَانِ أَوْثَقُ؛ لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِخَبَرِ الْعَدَدِ أَقْوَى، فَإِنْ قُلْنَ هِيَ ثَيِّبٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّ الْبَكَارَةَ فِيهَا أَصْلٌ، وَقَدْ تَفُوتُ شَهَادَتُهُنَّ بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا إمَّا بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِظُهُورِ الْبَكَارَةِ أَجَّلَهُ الْقَاضِي حَوْلًا؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عُنَّتُهُ، وَالْعِنِّينُ يُؤَجَّلُ سَنَةً لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ عَدَمَ الْوُصُولِ قَبْلَ التَّأْجِيلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَجْزِ عَنْ الْوُصُولِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِبُغْضِهِ إيَّاهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوُصُولِ، فَيُؤَجَّلُ حَتَّى لَوْ كَانَ عَدَمُ الْوُصُولِ لِلْبُغْضِ يَطَؤُهَا فِي الْمُدَّةِ ظَاهِرًا، وَغَالِبًا دَفْعًا لِلْعَارِ، وَالشَّيْنِ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ يُعْلَمُ أَنَّ عَدَمَ الْوُصُولِ كَانَ لِلْعَجْزِ. وَأَمَّا التَّأْجِيلُ سَنَةً؛ فَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ الْوُصُولِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِلْقَةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ دَاءٍ أَوْ طَبِيعَةٍ غَالِبَةٍ مِنْ الْحَرَارَةِ أَوْ الْبُرُودَةِ أَوْ الرُّطُوبَةِ أَوْ الْيُبُوسَةِ، وَالسَّنَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ، فَيُؤَجَّلُ سَنَةً لِمَا عَسَى أَنْ يُوَافِقَهُ بَعْضُ فُصُولِ السَّنَةِ، فَيَزُولَ الْمَانِعُ، وَيَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَلٍ أَنَّهُ قَالَ: يُؤَجَّلُ عَشْرَةَ أَشْهُرٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّهُمْ أَجَّلُوا الْعِنِّينَ سَنَةً، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَلٍ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ أَوْ تَابِعِيٌّ، فَلَا يَقْدَحُ خِلَافُهُ فِي الْإِجْمَاعِ مَعَ الِاحْتِمَالِ؛ وَلِأَنَّ التَّأْجِيلَ سَنَةً لِرَجَاءِ الْوُصُولِ فِي الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا تَكْمُلُ الْفُصُولُ إلَّا فِي سَنَةٍ تَامَّةٍ، ثُمَّ يُؤَجَّلُ سَنَةً شَمْسِيَّةً بِالْأَيَّامِ أَوْ قَمَرِيَّةً بِالْأَهِلَّةِ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُؤَجَّلُ سَنَةً قَمَرِيَّةً بِالْأَهِلَّةِ قَالَ: وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُؤَجَّلُ سَنَةً شَمْسِيَّةً، وَحَكَى الْكَرْخِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُمْ قَالُوا يُؤَجَّلُ سَنَةً شَمْسِيَّةً، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ (وَجْهُ) هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفُصُولَ الْأَرْبَعَةَ لَا تَكْمُلُ إلَّا بِالسَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَزِيدُ عَلَى الْقَمَرِيَّةِ

بِأَيَّامٍ، فَيُحْتَمَلُ زَوَالُ الْعَارِضِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ الشَّمْسِيَّةِ، وَالْقَمَرِيَّةِ، فَكَانَ التَّأْجِيلُ بِالسَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ أَوْلَى، وَلِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِفَضْلِهِ، وَرَحْمَتِهِ الْهِلَالَ مُعَرِّفًا لِلْخَلْقِ الْأَجَلَ وَالْأَوْقَاتَ وَالْمُدَدَ وَمُعَرِّفًا وَقْتَ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ بِالْأَيَّامِ لَاشْتَدَّ حِسَابُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةُ السِّنِينَ وَالشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ فِي الْمَوْسِمِ. وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَتِهِ «أَلَا إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى، وَشَعْبَانَ ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ، وَوَاحِدٌ فَرْدٌ» ، وَالشَّهْرُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْهِلَالِ يُقَالُ رَأَيْتُ الشَّهْرَ أَيْ: رَأَيْتُ الْهِلَالَ، وَقِيلَ: سُمِّيَ الشَّهْرُ شَهْرًا لِشُهْرَتِهِ، وَالشُّهْرَةُ لِلْهِلَالِ، فَكَانَ تَأْجِيلُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الْعِنِّينَ سَنَةً، وَالسَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، وَالشَّهْرُ اسْمٌ لِلْهِلَالِ تَأْجِيلًا لِلْهِلَالِيَّةِ، وَهِيَ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ ضَرُورَةً، وَأَوَّلُ السَّنَةِ حِينَ يَتَرَافَعَانِ، وَلَا يُحْسَبُ عَلَى الزَّوْجِ مَا قَبْلَ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَى شُرَيْحٍ أَنْ يُؤَجِّلَ الْعِنِّينَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ يَرْتَفِعُ إلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عَدَمَ الْوُصُولِ قَبْلَ التَّأْجِيلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَجْزِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِكَرَاهَتِهِ إيَّاهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوُصُولِ، فَإِذَا أَجَّلَهُ الْحَاكِمُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَنْ وَطْئِهَا إلَّا لِعَجْزِهِ خَشْيَةَ الْعَارِ وَالشَّيْنِ فَإِذَا أُجِّلَ سَنَةً، فَشَهْرُ رَمَضَانَ وَأَيَّامُ الْحَيْضِ تُحْسَبُ عَلَيْهِ، وَلَا يُجْعَلُ لَهُ مَكَانُهَا؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجَّلُوا الْعِنِّينَ سَنَةً وَاحِدَةً مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ السَّنَةَ لَا تَخْلُو عَنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَمِنْ زَمَانِ الْحَيْضِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَحْسُوبًا مِنْ الْمُدَّةِ؛ لَأَجَّلُوا زِيَادَةً عَلَى السَّنَةِ. وَلَوْ مَرِضَ الزَّوْجُ فِي الْمُدَّةِ مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الْجِمَاعَ أَوْ مَرِضَتْ هِيَ، فَإِنْ اسْتَوْعَبَ الْمَرَضُ السَّنَةَ كُلَّهَا يُسْتَأْنَفُ لَهُ سَنَةٌ أُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْعِبْ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَرَضَ إنْ كَانَ نِصْفَ شَهْرٍ أَوْ أَقَلَّ اُحْتُسِبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ شَهْرٍ لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَيَّامِ، وَجُعِلَ لَهُ مَكَانَهَا، وَكَذَلِكَ الْغَيْبَةُ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ إذَا صَحَّ فِي السَّنَةِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ صَحَّتْ هِيَ اُحْتُسِبَ عَلَيْهِ بِالسَّنَةِ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَرَضَ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ شَهْرًا فَصَاعِدًا لَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِأَيَّامِ الْمَرَضِ، وَيُجْعَلُ لَهُ مَكَانُهَا، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ قَلِيلَ الْمَرَضِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ عَادَةً، وَيُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْكَثِيرِ، فَجَعَلَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْهُ نِصْفَ الشَّهْرِ، وَمَا دُونَهُ قَلِيلًا، وَالْأَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ كَثِيرًا اسْتِدْلَالًا بِشَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ فِي اللَّيَالِي دُونَ النَّهَارِ، وَاللَّيَالِي دُونَ النَّهَارِ تَكُونُ نِصْفَ شَهْرٍ وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ إذَا كَانَ نِصْفَ شَهْرٍ، فَمَا دُونَهُ يُعْتَدُّ بِهِ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال يُوجِبُ الِاعْتِدَادَ بِالنِّصْفِ، فَمَا دُونَهُ إمَّا لَا يَنْفِي الِاعْتِدَادَ بِمَا فَوْقَهُ، وَإِمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَنَقُولُ أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ زَمَانًا يُمْكِنُ الْوَطْءُ فِيهِ، فَإِذَا لَمْ يَطَأْهَا، فَالتَّقْصِيرُ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ صَحَّ جَمِيعَ السَّنَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَرِضَ جَمِيعَ السَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ زَمَانًا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْوَطْءِ فِيهِ، فَتَعَذَّرَ الِاعْتِدَادُ بِالسَّنَةِ فِي حَقِّهِ، وَمُحَمَّدٌ جَعَلَ مَا دُونَ الشَّهْرِ قَلِيلًا، وَالشَّهْرَ فَصَاعِدًا كَثِيرًا؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ أَدْنَى الْآجِلِ، وَأَقْصَى الْعَاجِلِ، فَكَانَ فِي حُكْمِ الْكَثِيرِ، وَمَا دُونَهُ فِي حُكْمِ الْقَلِيلِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ حَجَّتْ الْمَرْأَةُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ بَعْدَ التَّأْجِيلِ لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَى الزَّوْجِ مُدَّةَ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهَا مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ شَرْعًا، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْوَطْءِ فِيهَا شَرْعًا، وَإِنْ حَجَّ الزَّوْجُ اُحْتُسِبَتْ الْمُدَّةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُخْرِجَهَا مَعَ نَفْسِهِ أَوْ يُؤَخِّرَ الْحَجَّ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعُمُرِ وَقْتُهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ خَاصَمَتْهُ، وَهُوَ مُحْرِمٌ يُؤَجَّلُ سَنَةً بَعْدَ الْإِحْلَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْوَطْءِ شَرْعًا مَعَ الْإِحْرَامِ، فَتُبْتَدَأُ الْمُدَّةُ مِنْ وَقْتٍ يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ فِيهِ شَرْعًا، وَهُوَ مَا بَعْدَ الْإِحْلَالِ، وَإِنْ خَاصَمَتْهُ، وَهُوَ مُظَاهِرٌ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْإِعْتَاقِ أُجِّلَ سَنَةً مِنْ حِينِ الْخُصُومَةِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِعْتَاقِ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْوَطْءِ بِتَقْدِيمِ الْإِعْتَاقِ كَالْمُحْدِثِ قَادِرٌ عَلَى الصَّلَاةِ بِتَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أُجِّلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَهْرًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيمِ صَوْمِ شَهْرَيْنِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ فِيهِمَا، فَلَا يُعْتَدُّ بِهِمَا مِنْ الْأَجَلِ، ثُمَّ يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ بَعْدَهُمَا، فَإِنْ أُجِّلَ سَنَةً، وَلَيْسَ بِمُظَاهِرٍ، ثُمَّ ظَاهَرَ فِي السَّنَةِ لَمْ يَزِدْ عَلَى الْمُدَّةِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِ الظِّهَارِ، فَلَمَّا ظَاهَرَ، فَقَدْ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ

فصل شرائط الخيار

الْوَطْءِ بِاخْتِيَارِهِ، فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ حَقِّ الْمَرْأَةِ، وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةُ الْعِنِّينِ رَتْقَاءَ أَوْ قَرْنَاءَ؛ لَا يُؤَجَّلُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَرْأَةِ فِي الْوَطْءِ لِوُجُودِ الْمَانِعِ مِنْ الْوَطْءِ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّأْجِيلِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ، وَالْمَرْأَةُ كَبِيرَةٌ، وَلَمْ تَعْلَمْ الْمَرْأَةُ، فَطَالَبَتْ بِالتَّأْجِيلِ لَا يُؤَجَّلُ بَلْ يُنْتَظَرُ إلَى أَنْ يُدْرِكَ، فَإِذَا أَدْرَكَ يُؤَجَّلُ سَنَةً؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يُجَامِعُ لَا يُفِيدُ التَّأْجِيلُ، وَلِأَنَّ حُكْمَ التَّأْجِيلِ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا فِي الْمُدَّةِ هُوَ ثُبُوتُ خِيَارِ الْفُرْقَةِ، وَفُرْقَةُ الْعِنِّينِ طَلَاقٌ، وَالصَّبِيُّ لَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ؛ وَلِأَنَّ لِلصَّبِيِّ زَمَانًا يُوجَدُ مِنْهُ الْوَطْءُ فِيهِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا، وَهُوَ مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَلَا يُؤَجَّلُ لِلْحَالِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ كَبِيرًا مَجْنُونًا، فَوَجَدَتْهُ عِنِّينًا قَالُوا: إنَّهُ لَا يُؤَجَّلُ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِلتَّفْرِيقِ عِنْدَ عَدَمِ الدُّخُولِ، وَفُرْقَةُ الْعِنِّينِ طَلَاقٌ، وَالْمَجْنُونُ لَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُنْتَظَرُ حَوْلًا، وَلَا يُنْتَظَرُ إلَى إفَاقَتِهِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ الصِّغَرَ مَانِعٌ مِنْ الْوُصُولِ، فَيُسْتَأْنَى إلَى أَنْ يَزُولَ الصِّغَرُ، ثُمَّ يُؤَجَّلُ سَنَةً. فَأَمَّا الْجُنُونُ، فَلَا يَمْنَعُ الْوُصُولَ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ يُجَامِعُ، فَيُؤَجَّلُ لِلْحَالِ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يُؤَجَّلُ أَصْلًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِذَا مَضَى أَجَلُ الْعِنِّينِ، فَسَأَلَ الْقَاضِيَ أَنْ يُؤَجِّلَهُ سَنَةً أُخْرَى لَمْ يَفْعَلْ إلَّا بِرِضَا الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهَا حَقُّ التَّفْرِيقِ، وَفِي التَّأْجِيلِ تَأْخِيرُ حَقِّهَا، فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا، ثُمَّ إذَا أُجِّلَ الْعِنِّينُ سَنَةً، وَتَمَّتْ الْمُدَّةُ، فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ، وَصَلَ إلَيْهَا، فَهِيَ زَوْجَتُهُ، وَلَا خِيَارَ لَهَا، وَإِنْ اخْتَلَفَا، وَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا، وَادَّعَى الزَّوْجُ الْوُصُولَ، فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ ثَيِّبًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا نَظَرَ إلَيْهَا النِّسَاءُ، فَإِنْ قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَإِنْ قُلْنَ هِيَ ثَيِّبٌ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ وَقَعَ لِلنِّسَاءِ شَكٌّ فِي أَمْرِهَا، فَإِنَّهَا تُمْتَحَنُ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي طَرِيقِ الِامْتِحَانِ قَالَ بَعْضُهُمْ: تُؤْمَرُ بِأَنْ تَبُولَ عَلَى الْجِدَارِ، فَإِنْ أَمْكَنَهَا بِأَنْ تَرْمِيَ بِبَوْلِهَا عَلَى الْجِدَارِ، فَهِيَ بِكْرٌ، وَإِلَّا فَهِيَ ثَيِّبٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُمْتَحَنُ بِبَيْضَةِ الدِّيكِ، فَإِنْ وَسِعَتْ فِيهَا، فَهِيَ ثَيِّبٌ، وَإِنْ لَمْ تَسَعْ فِيهَا، فَهِيَ بِكْرٌ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا إمَّا بِاعْتِرَافِهِ، وَإِمَّا بِظُهُورِ الْبَكَارَةِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُخَيِّرُهَا، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - خَيَّرُوا امْرَأَةَ الْعِنِّينِ، وَلَنَا فِيهِمْ قُدْوَةٌ، فَإِنْ شَاءَتْ اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ، وَإِنْ شَاءَتْ اخْتَارَتْ الزَّوْجَ إذَا اُسْتُجْمِعَتْ شَرَائِطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي الْخِيَارِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْخِيَارِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُبْطِلُهُ. [فَصْلٌ شَرَائِطُ الْخِيَارِ] (فَصْلٌ) : أَمَّا شَرَائِطُ الْخِيَارِ، فَمِنْهَا عَدَمُ الْوُصُولِ إلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَصْلًا وَرَأْسًا فِي هَذَا النِّكَاحِ حَتَّى لَوْ وَصَلَ إلَيْهَا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهَا حَقُّهَا بِالْوَطْءِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْخِيَارُ لِتَفْوِيتِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَإِنْ وَصَلَ إلَى غَيْرِ امْرَأَتِهِ الَّتِي أُجِّلَ لَهَا، وَكَانَ وَصَلَ إلَى غَيْرِهَا قَبْلَ أَنْ تُرَافِعَهُ، فَوُصُولُهُ إلَى غَيْرِهَا لَا يُبْطِلُ حَقَّهَا فِي التَّأْجِيلِ وَالْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا حَقُّهَا، فَكَانَ لَهَا التَّأْجِيلُ، وَالْخِيَارُ وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ عَالِمَةً بِالْعَيْبِ وَقْتَ النِّكَاحِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَتْ، وَهِيَ تَعْلَمُ أَنَّهُ عِنِّينٌ، فَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ عَالِمَةً بِالْعَيْبِ لَدَى التَّزْوِيجِ، فَقَدْ رَضِيَتْ بِالْعَيْبِ كَالْمُشْتَرِي إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ، وَالرِّضَا بِالْعَيْبِ يَمْنَعُ الرَّدَّ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ، وَهِيَ لَا تَعْلَمُ، فَوَصَلَ إلَيْهَا مَرَّةً، ثُمَّ عُنَّ، فَفَارَقَتْهُ، ثُمَّ تَزَوَّجَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَصِلْ إلَيْهَا، فَلَهَا الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ لَمْ يَتَحَقَّقْ، فَلَمْ تَكُنْ رَاضِيَةً بِالْعَيْبِ، وَالْوُصُولُ فِي أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ لَا يُبْطِلُ حَقَّهَا فِي الْعَقْدِ الثَّانِي، فَإِنْ أَجَّلَهُ الْقَاضِي، فَلَمْ يَصِلْ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ قَدْ تَقَرَّرَ بِعَدَمِ الْوُصُولِ فِي الْمُدَّةِ، فَتَقَرَّرَ الْعَجْزُ، فَكَانَ التَّزَوُّجُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْعَيْبِ، وَالْعِلْمِ بِهِ دَلِيلَ الرِّضَا بِالْعَيْبِ. [فَصْلٌ حُكْمُ الْخِيَارِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْخِيَارِ، فَهُوَ تَخْيِيرُ الْمَرْأَةِ بَيْنَ الْفُرْقَةِ، وَبَيْنَ النِّكَاحِ، فَإِنْ شَاءَتْ اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ، وَإِنْ شَاءَتْ اخْتَارَتْ الزَّوْجَ، فَإِنْ اخْتَارَتْ الْمُقَام مَعَ الزَّوْجِ؛ بَطَلَ حَقُّهَا. وَلَمْ يَكُنْ لَهَا خُصُومَةٌ فِي هَذَا النِّكَاحِ أَبَدًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا رَضِيَتْ بِالْعَيْبِ، فَسَقَطَ خِيَارُهَا، وَإِنْ اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ، فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ، وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ كَخِيَارِ الْمُعْتَقَةِ، وَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ مَا لَمْ يَقُلْ الْقَاضِي: فَرَّقْتُ بَيْنَكُمَا، وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الْبُلُوغِ هَكَذَا ذَكَرَ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعَ أَنَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ وَمَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ عَنْهُ، وَمَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلُهُمَا (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ فُرْقَةُ

فصل بيان ما يبطل به الخيار

بُطْلَانٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا الْمُخَالِفُ فِيهِ الشَّافِعِيُّ، فَإِنَّهَا فَسْخٌ عِنْدَهُ، وَالْمَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَأْتِي فِي مَوْضِعهَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. وَالْمَرْأَةُ لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ يَقُومُ مَقَامَ الزَّوْجِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهَا الْقَاضِي، وَهُوَ التَّأْجِيلُ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ الْقَاضِي، فَكَذَا الْفُرْقَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ كَفُرْقَةِ اللِّعَانِ. (وَجْهُ) الْمَذْكُورِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ تَخْيِيرَ الْمَرْأَةِ مِنْ الْقَاضِي تَفْوِيضُ الطَّلَاقِ إلَيْهَا، فَكَانَ اخْتِيَارُهَا الْفُرْقَةَ تَفْرِيقًا مِنْ الْقَاضِي مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْهَا، وَالْقَاضِي يَمْلِكُ ذَلِكَ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الزَّوْجِ، وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذَا التَّفْرِيقِ تَخْلِيصُهَا مِنْ زَوْجٍ لَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ إيفَاءُ حَقِّهَا دَفْعًا لِلظُّلْمِ وَالضَّرَرِ عَنْهَا، وَذَا لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْبَائِنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رَجْعِيًّا يُرَاجِعُهَا الزَّوْجُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا، فَيُحْتَاجُ إلَى التَّفْرِيقِ ثَانِيًا وَثَالِثًا، فَلَا يُفِيدُ التَّفْرِيقُ فَائِدَتَهُ، وَلَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالْإِجْمَاعِ إنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ خَلَا بِهَا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَخْلُ بِهَا، فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ إنْ كَانَ مُسَمًّى، وَالْمُتْعَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى، وَإِذَا. فَرَّقَ الْقَاضِي بِالْعُنَّةِ، وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ لَزِمَهُ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ إلَى سَنَتَيْنِ ثَبَتَ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِوُجُوبِ الْعِدَّةِ حُكْمٌ بِشُغْلِ الرَّحِمِ، وَشَغْلُ الرَّحِمِ يَمْتَدُّ إلَى سَنَتَيْنِ عِنْدَنَا، فَيَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ، فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ: كُنْتُ قَدْ وَصَلْتُ إلَيْهَا، فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ: يُبْطِلُ الْحَاكِمُ الْفُرْقَةَ، وَكَفَى بِالْوَلَدِ شَاهِدًا، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ، فَقَدْ ثَبَتَ الدُّخُولُ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ إبْطَالَ الْفُرْقَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالدُّخُولِ بَعْدَ تَفْرِيقِ الْقَاضِي لَا يُبْطِلُ الْفُرْقَةَ. وَكَذَا هَذَا وَكَذَا إذَا ثَبَتَ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ النَّسَبِ عَلَى الدُّخُولِ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهَا، وَبَيْنَ الْمَجْبُوبِ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّ خَلْوَةَ الْمَجْبُوبِ تُوجِبُ الْعِدَّةَ، وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ مِنْ الْمَجْبُوبِ إلَّا أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ الْفُرْقَةُ هَهُنَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْ الْمَجْبُوبِ لَا يَدُلُّ عَلَى الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يَقْذِفُ بِالْمَاءِ، فَكَانَ الْعُلُوقُ بِقَذْفِ الْمَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الدُّخُولُ لَمْ تَثْبُتْ الْفُرْقَةُ، فَإِنْ فَرَّقَ بِالْعُنَّةِ، فَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ الْمَرْأَةِ قَبْلَ الْفُرْقَةِ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهَا أَبْطَلَ الْفُرْقَةَ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى إقْرَارِهَا بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهَا عِنْدَ الْقَاضِي. وَلَوْ كَانَتْ أَقَرَّتْ قَبْلَ التَّفْرِيقِ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْفُرْقَةِ. وَكَذَا إذَا شَهِدَ عَلَى إقْرَارِهَا بِأَنْ أَقَرَّتْ بَعْدَ الْفُرْقَةِ أَنَّهُ كَانَ وَصَلَ إلَيْهَا قَبْلَ الْفُرْقَةِ لَمْ تَبْطُلْ الْفُرْقَةُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهَا تَضَمَّنَ إبْطَالَ قَضَاءِ الْقَاضِي، فَلَا تُصَدَّقُ عَلَى الْقَاضِي فِي إبْطَالِ قَضَائِهِ، فَلَا تُقْبَلُ وَإِنْ كَانَ زَوْجُ الْأَمَةِ عِنِّينًا، فَالْخِيَارُ فِي ذَلِكَ إلَى الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ الْخِيَارُ إلَى الْأَمَةِ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يَثْبُتُ لِفَوَاتِ الْوَطْءِ، وَذَلِكَ حَقُّ الْأَمَةِ، فَكَانَ الْخِيَارُ إلَيْهَا كَالْحُرَّةِ، وَلَهَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوَطْءِ هُوَ الْوَلَدُ، وَالْوَلَدُ مِلْكُ الْمَوْلَى وَحْدَهُ؛ وَلِأَنَّ اخْتِيَارَ الْفُرْقَةِ أَوْ الْمُقَامِ مَعَ الزَّوْجِ تَصَرُّفٌ مِنْهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَنَفْسُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا مِلْكُ الْمَوْلَى، فَكَانَ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ لَهُ. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ، فَمَا يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ نَوْعَانِ: نَصٌّ، وَدَلَالَةٌ، فَالنَّصُّ هُوَ التَّصْرِيحُ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ نَحْوَ أَنْ تَقُولَ أَسْقَطْتُ الْخِيَارَ أَوْ رَضِيتُ بِالنِّكَاحِ أَوْ اخْتَرْتُ الزَّوْجَ وَنَحْوَ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ تَخْيِيرِ الْقَاضِي أَوْ قَبْلَهُ، وَالدَّلَالَةُ هِيَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالْمُقَامِ مَعَ الزَّوْجِ بِأَنْ خَيَّرَهَا الْقَاضِي. فَأَقَامَتْ مَعَ الزَّوْجِ مُطَاوِعَةً لَهُ فِي الْمَضْجَعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ، وَالْمُقَامِ مَعَ الزَّوْجِ، وَلَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ قَبْلَ تَخْيِيرِ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رِضًا؛ لِأَنَّ إقَامَتَهَا مَعَهُ بَعْدَ الْمُدَّةِ قَدْ تَكُونُ لِاخْتِيَارِهِ، وَقَدْ تَكُونُ لِلِاخْتِيَارِ بِحَالِهِ، فَلَا تَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا مَعَ الِاحْتِمَالِ. وَهَلْ يَبْطُلُ خِيَارُهَا بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ؟ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ، وَبِشْرًا قَالَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا خَيَّرَهَا الْحَاكِمُ، فَأَقَامَتْ مَعَهُ أَوْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ أَوْ قَامَ الْحَاكِمُ أَوْ أَقَامَهَا عَنْ مَجْلِسِهَا بَعْضُ أَعْوَانِ الْقَاضِي، وَلَمْ تَقُلْ شَيْئًا، فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خِيَارَهَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ، وَهُوَ مَجْلِسُ التَّخْيِيرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يُقْتَصَرُ عَلَى الْمَجْلِسِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُمَا قَالَا: يُقْتَصَرُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ (وَجْهُ) مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ تَخْيِيرَ الْقَاضِي هَهُنَا قَائِمٌ مَقَامَ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ، ثُمَّ خِيَارُ الْمُخَيَّرَةِ بِتَخْيِيرِ الزَّوْجِ يَبْطُلُ بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ، فَكَذَا خِيَارُ هَذِهِ. وَكَذَا إذَا قَامَ الْحَاكِمُ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ؛ لِأَنَّ مَجْلِسَ التَّخْيِيرِ قَدْ بَطَلَ بِقِيَامِ

فصل شروط لزوم النكاح

الْحَاكِمِ. وَكَذَا إذَا أَقَامَهَا عَنْ مَجْلِسِهَا بَعْضُ أَعْوَانِ الْقَاضِي قَبْلَ الِاخْتِيَارِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى الِاخْتِيَارِ قَبْلَ الْإِقَامَةِ، فَدَلَّ امْتِنَاعُهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الرِّضَا بِالنِّكَاحِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْخِيَارِ وَبَيْنَ خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ أَنَّ خِيَارَ الْمُخَيَّرَةِ إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ بِالتَّخْيِيرِ مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ إذْ الْمَالِكُ لِلشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَكَانَ التَّخْيِيرُ مِنْ الزَّوْجِ تَمْلِيكًا لِلطَّلَاقِ، وَجَوَابُ التَّمْلِيكِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْمُمَلِّكَ يَطْلُبُ جَوَابَ التَّمْلِيكِ فِي الْمَجْلِسِ عَادَةً، وَلِهَذَا يَقْتَصِرُ الْقَبُولُ عَلَى الْمَجْلِسِ فِي الْبَيْعِ كَذَا هَهُنَا، وَالتَّخْيِيرُ مِنْ الْقَاضِي تَفْوِيضُ الطَّلَاقِ، وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَا مَلَّكَهُ الطَّلَاقَ، وَإِنَّمَا فَوَّضَ إلَيْهِ التَّطْلِيقَ، وَوَلَّاهُ ذَلِكَ، فَيَلِيَ التَّفْوِيضَ لَا التَّمْلِيكَ، وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ بِنَفْسِهِ، فَكَيْفَ يَمْلِكُهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْيِيرَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَالْمُؤَخَّذُ وَالْخَصِيُّ فِي جَمِيعِ مَا، وَصَفْنَا مِثْلُ الْعِنِّينِ لِوُجُودِ الْآلَةِ فِي حَقِّهِمَا، فَكَانَا كَالْعِنِّينِ، وَكَذَلِكَ الْخُنْثَى. وَأَمَّا الْمَجْبُوبُ، فَإِنَّهُ إذَا عُرِفَ أَنَّهُ مَجْبُوبٌ إمَّا بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِالْمَسِّ، فَوْقَ الْإِزَارِ، فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَالِمَةً بِذَلِكَ وَقْتَ النِّكَاحِ، فَلَا خِيَارَ لَهَا لِرِضَاهَا بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَالِمَةً بِهِ؛ فَإِنَّهَا تُخَيَّرُ لِلْحَالِ، وَلَا يُؤَجَّلُ حَوْلًا؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِرَجَاءِ الْوُصُولِ، وَلَا يُرْجَى مِنْهُ الْوُصُولُ، فَلَمْ يَكُنْ التَّأْجِيلُ مُفِيدًا، فَلَا يُؤَجَّلُ، وَإِنْ اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ، وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا أَوْ لَمْ يُفَرِّقْ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَلَهَا كَمَالُ الْمَهْرِ، وَعَلَيْهَا كَمَالُ الْعِدَّةِ إنْ كَانَ قَدْ خَلَا بِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَعَلَيْهَا كَمَالُ الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَخْلُ بِهَا، فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ. [فَصْلٌ شُرُوط لُزُومِ النِّكَاحِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا خُلُوُّ الزَّوْجِ عَمَّا سِوَى هَذِهِ الْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ مِنْ الْجَبِّ، وَالْعُنَّةِ وَالتَّأَخُّذِ وَالْخِصَاءِ وَالْخُنُوثَةِ، فَهَلْ هُوَ شَرْطُ لُزُومِ النِّكَاحِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: خُلُوُّهُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَا يُمْكِنُهَا الْمُقَامَ مَعَهُ إلَّا بِضَرَرٍ كَالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، شَرْطُ لُزُومِ النِّكَاحِ حَتَّى يُفْسَخَ بِهِ النِّكَاحُ، وَخُلُوُّهُ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْخِيَارَ فِي الْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ إنَّمَا ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمَرْأَةِ وَهَذِهِ الْعُيُوبُ فِي إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهَا فَوْقَ تِلْكَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْأَدْوَاءِ الْمُتَعَدِّيَةِ عَادَةً، فَلَمَّا ثَبَتَ الْخِيَارُ بِتِلْكَ، فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِهَذِهِ أَوْلَى بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْعُيُوبُ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ، وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهَا لَكِنْ يُمْكِنُهُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِالطَّلَاقِ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ، وَالْمَرْأَةُ لَا يُمْكِنُهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ، فَتَعَيَّنَ الْفَسْخُ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَلَهُمَا أَنَّ الْخِيَارَ فِي تِلْكَ الْعُيُوبِ ثَبَتَ لَدَفْعِ ضَرَرِ فَوَاتِ حَقِّهَا الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ الْوَطْءُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهَذَا الْحَقُّ لَمْ يَفُتْ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الزَّوْجِ مَعَ هَذِهِ الْعُيُوبِ، فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ هَذَا فِي جَانِبِ الزَّوْجِ. (وَأَمَّا) فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ، فَخُلُوُّهَا عَنْ الْعَيْبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلُزُومِ النِّكَاحِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا حَتَّى لَا يُفْسَخَ النِّكَاحُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعُيُوبِ الْمَوْجُودَةِ فِيهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: خُلُوُّ الْمَرْأَةِ عَنْ خَمْسَةِ عُيُوبٍ بِهَا شَرْطُ اللُّزُومِ، وَيُفْسَخُ النِّكَاحُ بِهَا، وَهِيَ الْجُنُونُ وَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ وَالرَّتَقُ وَالْقَرَنُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنْ الْأَسَدِ» ، وَالْفَسْخُ طَرِيقُ الْفِرَارِ. وَلَوْ لَزِمَ النِّكَاحُ لَمَا أَمَرَ بِالْفِرَارِ، وَرُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَوَجَدَ بَيَاضًا فِي كَشْحِهَا فَرَدَّهَا وَقَالَ: لَهَا الْحَقِي بِأَهْلِكِ» ،. وَلَوْ وَقَعَ النِّكَاحُ لَازِمًا لَمَا رَدَّ؛ وَلِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ لَا تَقُومُ مَعَ هَذِهِ الْعُيُوبِ أَوْ تَخْتَلُّ بِهَا؛ لِأَنَّ بَعْضَهَا مِمَّا يَنْفِرُ عَنْهَا الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ وَهُوَ الْجُذَامُ وَالْجُنُونُ وَالْبَرَصُ فَلَا تَحْصُلُ الْمُوَافَقَةُ فَلَا تَقُومُ الْمَصَالِحُ أَوْ تَخْتَلُّ وَبَعْضُهَا مِمَّا يَمْنَعُ مِنْ الْوَطْءِ وَهُوَ الرَّتَقُ وَالْقَرَنُ، وَعَامَّةُ مَصَالِحِ النِّكَاحِ يَقِفُ حُصُولُهَا عَلَى الْوَطْءِ، فَإِنَّ الْعِفَّةَ عَنْ الزِّنَا وَالسَّكَنِ وَالْوَلَدِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْوَطْءِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ فِي الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ كَذَا هَهُنَا. (وَلَنَا) أَنَّ النِّكَاحَ لَا يُفْسَخُ بِسَائِرِ الْعُيُوبِ، فَلَا يُفْسَخُ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُهَا، وَهُوَ أَنَّ الْعَيْبَ لَا يَفُوتُ مَا هُوَ حُكْمُ هَذَا الْعَقْدِ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ الِازْدِوَاجُ الْحُكْمِيُّ، وَمِلْكُ الِاسْتِمْتَاعِ، وَإِنَّمَا يَخْتَلُّ، وَيَفُوتُ بِهِ بَعْضُ ثَمَرَاتِ الْعَقْدِ، وَفَوَاتُ جَمِيعِ ثَمَرَاتِ هَذَا الْعَقْدِ لَا يُوجِبُ حَقَّ الْفَسْخِ بِأَنْ مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَقِيبَ الْعَقْدِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ كَمَالُ الْمَهْرِ، فَفَوَاتُ بَعْضِهَا أَوْلَى وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلنِّكَاحِ هُوَ الِازْدِوَاجُ الْحُكْمِيُّ، وَمِلْكُ الِاسْتِمْتَاعِ شُرِعَ مُؤَكِّدًا لَهُ، وَالْمَهْرُ يُقَابِلُ

فصل شروط بقاء النكاح

إحْدَاثَ هَذَا الْمِلْكِ، وَبِالْفَسْخِ لَا يَظْهَرُ أَنَّ إحْدَاثَ الْمِلْكِ لَمْ يَكُنْ، فَلَا يَرْتَفِعُ مَا يُقَابَلُ، وَهُوَ الْمَهْرُ، فَلَا يَجُوزُ الْفَسْخُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْعُيُوبَ لَا تَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ أَمَّا الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ، فَلَا يُشْكِلُ، وَكَذَلِكَ الرَّتَقُ وَالْقَرَنُ؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ يُقْطَعُ وَالْقَرَنُ يُكْسَرُ، فَيُمْكِنُ الِاسْتِمْتَاعُ بِوَاسِطَةٍ لِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُفْسَخْ بِسَائِرِ الْعُيُوبِ كَذَا هَذَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ، فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ أَنَّهُ يَجِبُ الِاجْتِنَابُ عَنْهُ، وَالْفِرَارُ يُمْكِنُ بِالطَّلَاقِ لَا بِالْفَسْخِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَعْيِينُ طَرِيقِ الِاجْتِنَابِ وَالْفِرَارِ، وَأَمَّا الثَّانِي، فَالصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ قَالَ: لَهَا الْحَقِي بِأَهْلِك، وَهَذَا مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ عِنْدَنَا، وَالْكَلَامُ فِي الْفَسْخِ وَالرَّدِّ الْمَذْكُورُ فِيهِ قَوْلُ الرَّاوِي، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً أَوْ تَحْمِلُهُ عَلَى الرَّدِّ بِالطَّلَاقِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. وَخُلُوُّ النِّكَاحِ مِنْ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلُزُومِ النِّكَاحِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَلَمْ يَرَهَا لَا خِيَارَ لَهُ إذَا رَآهَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَكَذَا خُلُوُّهُ عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ سَوَاءٌ جَعَلَ الْخِيَارَ لِلزَّوْجِ أَوْ لِلْمَرْأَةِ أَوْ لَهُمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ بَطَلَ الشَّرْطُ، وَجَازَ النِّكَاحُ. [فَصْلٌ شُرُوط بَقَاءِ النِّكَاحِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الثَّانِي، فَشَرْطُ بَقَاءِ النِّكَاحِ لَازِمًا نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَتَعَلَّقُ بِالزَّوْجِ فِي نِكَاحِ زَوْجَتِهِ، وَنَوْعٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْلَى فِي نِكَاحِ أَمَتِهِ أَمَّا. الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالزَّوْجِ فِي نِكَاحِ زَوْجَتِهِ، فَعَدَمُ تَمْلِيكِهِ الطَّلَاقَ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا بِأَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ اخْتَارِي أَوْ أَمْرُكِ بِيَدِكِ يَنْوِي الطَّلَاقَ أَوْ طَلِّقِي نَفْسَكِ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ أَوْ يَقُولَ لِرَجُلٍ طَلِّقْ امْرَأَتِي إنْ شِئْتَ كَذَا عَدَمُ التَّطْلِيقِ بِشَرْطٍ، وَالْإِضَافَةُ إلَى وَقْتٍ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّمْلِيكِ جَعَلَ النِّكَاحَ بِحَالٍ لَا يَتَوَقَّفُ زَوَالُهُ عَلَى اخْتِيَارِهِ بَعْدَ الْجَعْلِ. وَكَذَا بِالتَّعْلِيقِ، وَالْإِضَافَةِ، وَهَذَا مَعْنَى عَدَمُ بَقَاءِ النِّكَاحِ لَازِمًا. (وَأَمَّا) . الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْلَى فِي نِكَاحِ أَمَتِهِ، فَهُوَ أَنْ لَا يَعْتِقَ أَمَتَهُ الْمَنْكُوحَةَ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهَا لَا يَبْقَى الْعَقْدُ لَازِمًا، وَكَانَ لَهَا الْخِيَارُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِخِيَارِ الْعَتَاقَةِ. وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ شَرْطِ ثُبُوتِ هَذَا الْخِيَارِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِثُبُوتِ هَذَا الْخِيَارِ شَرَائِطُ مِنْهَا: وُجُودُ النِّكَاحِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهَا، ثُمَّ زَوَّجَهَا مِنْ إنْسَانٍ، فَلَا خِيَارَ لَهَا لِانْعِدَامِ النِّكَاحِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ. وَلَوْ أَعْتَقَهَا، ثُمَّ زَوَّجَهَا، وَهِيَ صَغِيرَةٌ، فَلَهَا خِيَارُ الْبُلُوغِ لَا خِيَارُ الْعِتْقِ لِمَا قُلْنَا، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ التَّزْوِيجُ نَافِذًا حَتَّى لَوْ زَوَّجَتْ الْأَمَةُ نَفْسَهَا مِنْ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى، فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَأَمَّا كَوْنُ الزَّوْجِ رَقِيقًا وَقْتَ الْإِعْتَاقِ، فَهَلْ هُوَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهَا؟ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لَهَا سَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا أَوْ عَبْدًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: شَرْطٌ، وَلَا خِيَارَ لَهَا إذَا كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ «زَوْجُ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا، فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ كَانَ حُرًّا مَا خَيَّرَهَا» ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا إنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ فِي الْعَبْدِ إنَّمَا ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَهُوَ ضَرَرُ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَضَرَرُ لُزُومِ نَفَقَةِ الْأَوْلَادِ وَضَرَرُ نُقْصَانِ الْمُعَاشَرَةِ لِكَوْنِ الْعَبْدِ مَشْغُولًا بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ فِي الْحُرِّ، فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لِبَرِيرَةَ حِينَ أُعْتِقَتْ مَلَكْتِ بُضْعَكِ، فَاخْتَارِي» . وَرُوِيَ مَلَكْتِ أَمْرَكِ، وَرُوِيَ مَلَكْتِ نَفْسَكِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا بِنَصِّهِ، وَالْآخَرِ بِعِلَّةِ النَّصِّ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنَّهُ خَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أُعْتِقَتْ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ حُرًّا، فَإِنْ قِيلَ رَوَيْنَا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ عَبْدًا، فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ، فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِمَا، فَالْجَوَابُ أَنَّ مَا رَوَيْنَا مُثْبِتٌ لِلْحُرِّيَّةِ، وَمَا رَوَيْتُمْ مُبْقٍ لِلرِّقِّ، وَالْمُثْبِتُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ قَدْ يَكُونُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ، وَالثُّبُوتُ يَكُونُ بِنَاءً عَلَى الدَّلِيلِ لَا مَحَالَةَ، فَمَنْ قَالَ: كَانَ عَبْدًا اُحْتُمِلَ أَنَّهُ اعْتَمَدَ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ. وَمَنْ قَالَ: كَانَ حُرًّا بَنَى الْأَمْرَ عَلَى الدَّلِيلِ لَا مَحَالَةَ، فَصَارَ كَالْمُزَكِّيَيْنِ جَرَّحَ أَحَدُهُمَا شَاهِدًا، وَالْآخَرُ زَكَّاهُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْجَارِحِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا؛ وَلِأَنَّ مَا رَوَيْنَا مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ، وَمَا رَوَيْتُمْ مُخَالِفٌ لَهُ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَالْمُوَافِقُ لِلْقِيَاسِ أَوْلَى. (وَأَمَّا) الثَّانِي، فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ مِلْكَهَا بُضْعَهَا أَوْ أَمْرَهَا أَوْ نَفْسَهَا عِلَّةً لِثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهَا؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهَا مَلَكَتْ بُضْعَهَا، ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهَا بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ، وَمِلْكُهَا نَفْسَهَا مُؤَثِّرٌ فِي رَفْعِ الْوِلَايَةِ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ اخْتِصَاصٌ، وَلَا اخْتِصَاصَ مَعَ وِلَايَةِ الْغَيْرِ، وَالْحُكْمُ إذَا ذُكِرَ عَقِيبَ وَصْفٍ لَهُ أَثَّرَ

فصل وقت ثبوت الخيار في النكاح

فِي الْجُمْلَةِ فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الشَّرْعِ كَانَ ذَلِكَ تَعْلِيقًا لِذَلِكَ الْحُكْمِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، وَكَمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهَا، فَسَجَدَ» . وَرُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا زَنَى، فَرُجِمَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَالْحُكْمُ يَتَعَمَّمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ، وَلَا يَتَخَصَّصُ بِخُصُوصِ الْمَحَلِّ كَمَا فِي سَائِرِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْعَقْلِيَّةِ، وَزَوْجُ بَرِيرَةَ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا؛ لَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَنَى الْخِيَارَ فِيهِ عَلَى مَعْنًى عَامٍّ وَهُوَ مِلْكُ الْبُضْعِ يُعْتَبَرُ عُمُومُ الْمَعْنَى لَا خُصُوصُ الْمَحَلِّ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ؛ وَلِأَنَّ بِالْإِعْتَاقِ يَزْدَادُ مِلْكُ النِّكَاحِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا عُقْدَةً زَائِدَةً لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُهَا قَبْلَ الْإِعْتَاقِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ بِالْبِنَاءِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، وَالْمَسْأَلَةُ، فَرِيعَةُ ذَلِكَ الْأَصْلِ، وَلَهَا أَنْ لَا تَرْضَى بِالزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهَا تَتَضَرَّرُ بِهَا، وَلَهَا وِلَايَةُ رَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهَا، وَلَا يُمْكِنُهَا رَفْعُ الزِّيَادَةِ إلَّا بِرَفْعِ أَصْلِ النِّكَاحِ، فَبَقِيَتْ لَهَا وِلَايَةُ رَفْعِ النِّكَاحِ، وَفَسْخِهِ ضَرُورَةَ رَفْعِ الزِّيَادَةِ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ وَجْهِ الضَّرَرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا الْخِيَارُ، وَبَقِيَ النِّكَاحُ لَازِمًا لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الزَّوْجُ مَنَافِعَ بُضْعِ حُرَّةٍ جَبْرًا بِبَدَلٍ اسْتَحَقَّهُ غَيْرُهَا بِالْعَقْدِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا؛ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِبَقَاءِ هَذَا النِّكَاحِ لَازِمًا يُؤَدِّي إلَى اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ بُضْعِ الْحُرَّةِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ تَسْتَحِقُّهُ الْحُرَّةُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَرْضَى بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ بُضْعِهَا إلَّا بِبَدَلٍ تَسْتَحِقُّهُ هِيَ، فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ الْخِيَارُ لَهَا لَصَارَ الزَّوْجُ مُسْتَوْفِيًا مَنَافِعَ بُضْعِهَا، وَهِيَ حُرَّةٌ جَبْرًا عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا بِبَدَلٍ اسْتَحَقَّهُ مَوْلَاهَا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ إذَا كَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا كَذَا إذَا كَانَ حُرًّا. وَكَذَا اُخْتُلِفَ فِي أَنَّ كَوْنَهَا رَقِيقَةً وَقْتَ النِّكَاحِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ أَمْ لَا؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ سَوَاءٌ كَانَتْ رَقِيقَةً وَقْتَ النِّكَاحِ، فَأَعْتَقَهَا الْمَوْلَى أَوْ كَانَتْ حُرَّةً وَقْتَ النِّكَاحِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا الرِّقُّ، فَأَعْتَقَهَا حَتَّى أَنَّ الْحَرْبِيَّةَ إذَا تَزَوَّجَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ سُبِيَا مَعًا، ثُمَّ أُعْتِقَتْ، فَلَهَا الْخِيَارُ عِنْدَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ شَرْطٌ، وَلَا خِيَارَ لَهَا. وَكَذَا الْمُسْلِمَةُ إذَا تَزَوَّجَتْ مُسْلِمًا، ثُمَّ ارْتَدَّا، وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ سُبِيَتْ، وَزَوْجُهَا مَعَهَا فَأَسْلَمَا، ثُمَّ أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ، فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، فَمُحَمَّدٌ، فَرَّقَ بَيْنَ الرِّقِّ الطَّارِئِ عَلَى النِّكَاحِ، وَبَيْنَ الْمُقَارِنِ إيَّاهُ، وَأَبُو يُوسُفَ سَوَّى بَيْنَهُمَا وَجْهُ الْفَرْقِ لِمُحَمَّدٍ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ رَقِيقَةً وَقْتَ النِّكَاحِ، فَالنِّكَاحُ يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلْخِيَارِ عِنْدَ الْإِعْتَاقِ، وَإِذَا كَانَتْ حُرَّةً؛ فَنِكَاحُ الْحُرَّةِ لَا يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلْخِيَارِ، فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِطَرَيَانِ الرِّقِّ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي الرِّضَا، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ بِالْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمِلْكِ تَثْبُتُ بِهِ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْعِتْقَ، وَالْعِتْقُ مُوجِبُ الْإِعْتَاقِ، وَلَا يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ السَّابِقَ مَا انْعَقَدَ مُوجِبًا لِلزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ الْأَمَةَ، وَنِكَاحُ الْأَمَةِ لَا يُوجِبُ زِيَادَةَ الْمِلْكِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَجْعَلُ زِيَادَةَ الْمِلْكِ حُكْمَ الْإِعْتَاقِ، وَمُحَمَّدٌ يَجْعَلُهَا حُكْمَ الْعَقْدِ السَّابِقِ عِنْدَ وُجُودِ الْإِعْتَاقِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ خِيَارَ الْعِتْقِ يَثْبُتُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً حَتَّى لَوْ أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ، فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا، ثُمَّ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا، ثُمَّ سُبِيَتْ، وَزَوْجُهَا مَعَهَا، فَأُعْتِقَتْ، فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْخِيَارَ ثَبَتَ بِالْإِعْتَاقِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ الْإِعْتَاقُ، فَيَتَكَرَّرُ الْخِيَارُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَرَّرْ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا خِيَارٌ وَاحِدٌ. [فَصْلٌ وَقْتُ ثُبُوت الْخِيَار فِي النِّكَاحِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وَقْتُ ثُبُوتِهِ، فَوَقْتُ عِلْمِهَا بِالْعِتْقِ وَبِالْخِيَارِ، وَأَهْلِيَّةُ الِاخْتِيَارِ، فَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي تَعْلَمُ فِيهِ بِالْعِتْقِ، وَبِأَنَّ لَهَا الْخِيَارَ، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهَا، وَلَمْ تَعْلَمْ بِالْعِتْقِ أَوْ عَلِمَتْ بِالْعِتْقِ، وَلَمْ تَعْلَمْ بِأَنَّ لَهَا الْخِيَارَ، فَلَمْ تَخْتَرْ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا وَلَهَا بِمَجْلِسِ الْعِلْمِ إذَا عَلِمَتْ بِهِمَا بِخِلَافِ خِيَارِ الْبُلُوغِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالْخِيَارِ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَهَا، وَهِيَ صَغِيرَةٌ، فَلَهَا خِيَارُ الْعِتْقِ إذَا بَلَغَتْ؛ لِأَنَّهَا وَقْتَ الْإِعْتَاقِ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ، وَلَيْسَ لَهَا خِيَارُ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ وُجِدَ فِي حَالَةِ الرِّقِّ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ تَزَوَّجَتْ مُكَاتَبَةٌ بِإِذْنِ الْمَوْلَى، فَأُعْتِقَتْ، فَلَهَا الْخِيَارُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا خِيَارَ لَهَا (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا ضَرَر عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ وَقَعَ لَهَا، وَالْمَهْرُ مُسَلَّمٌ لَهَا (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيَّرَ بَرِيرَةَ، وَكَانَتْ مُكَاتَبَةً» ؛ وَلِأَنَّ عِلَّةَ النَّصِّ عَامَّةٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَكَذَا الْمِلْكُ يَزْدَادُ عَلَيْهَا كَمَا يَزْدَادُ عَلَى الْقِنَّةِ.

فصل ما يبطل به الخيار

[فَصْلٌ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ] فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَا يَبْطُلُ بِهِ، فَهَذَا الْخِيَارُ يَبْطُلُ بِالْإِبْطَالِ نَصًّا، وَدَلَالَةً مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالنِّكَاحِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي خِيَارِ الْإِدْرَاكِ، وَيَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ كَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ، وَلَا يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ بَلْ يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ كَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِرِضَاهَا بِالْمُقَامِ مَعَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّأَمُّلِ؛ لِأَنَّ بِالْعِتْقِ ازْدَادَ الْمِلْكُ عَلَيْهَا، فَتَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ، وَلَا بُدَّ لِلتَّأَمُّلِ مِنْ زَمَانٍ، فَقُدِّرَ ذَلِكَ بِالْمَجْلِسِ كَمَا فِي خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ. وَخِيَارُ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْبُلُوغِ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ مِنْ الْبِكْرِ؛ لِأَنَّ بِالْبُلُوغِ مَا ازْدَادَ الْمِلْكُ، فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّأَمُّلِ، فَلَمْ يَكُنْ سُكُوتُهَا لِلتَّأَمُّلِ، فَكَانَ دَلِيلَ الرِّضَا، وَفِي خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ ثَبْتُ الْمَجْلِسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - غَيْرُ مَعْقُولٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا ازْدَادَ الْمِلْكُ عَلَيْهَا جَعَلَهَا الْعَقْدُ السَّابِقُ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ النِّكَاحِ، فَيَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ، وَإِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا حَتَّى وَقْتِ الْفُرْقَةِ كَانَتْ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا تَفْتَقِرُ هَذِهِ الْفُرْقَةُ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي بِخِلَافِ الْفُرْقَةِ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ، وَأَمَّا بَقَاءُ الزَّوْجِ قَادِرًا عَلَى النَّفَقَةِ، فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ لَازِمًا حَتَّى لَوْ عَجَزَ عَنْ النَّفَقَةِ لَا يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّفْرِيقِ، وَهَذَا عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ، وَيَثْبُتُ لَهَا حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّفْرِيقِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِإِيفَاءِ حَقِّهَا فِي الْوَطْءِ، وَالنَّفَقَةِ، فَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ، فَإِنْ فَعَلَ، وَإِلَّا نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّسْرِيحِ، وَهُوَ التَّفْرِيقُ، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ عِوَضٌ عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَقَدْ فَاتَ الْعِوَضُ بِالْعَجْزِ، فَلَا يَبْقَى النِّكَاحُ لَازِمًا كَالْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ الْمَبِيعَ مَعِيبًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فَوَاتَ الْعِوَضِ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ يَمْنَعُ بَقَاءَهُ لَازِمًا، فَكَذَا، فَوَاتُ الْمُعَوَّضِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ. (وَلَنَا) أَنَّ التَّفْرِيقَ إبْطَالُ مِلْكِ النِّكَاحِ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَهَذَا فِي الضَّرَرِ، فَوْقَ ضَرَرِ الْمَرْأَةِ بِعَجْزِ الزَّوْجِ عَنْ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَفْرِضُ النَّفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ إذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ الْفَرْضَ، وَيَأْمُرُهَا بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ نَفْسِهَا إنْ كَانَ لَهَا مَالٌ، وَبِالِاسْتِدَانَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ إلَى وَقْتِ الْيَسَارِ، فَتَصِيرُ النَّفَقَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَتَرْجِعُ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَتْ إذَا أَيْسَرَ الزَّوْجُ، فَيَتَأَخَّرُ حَقُّهَا إلَى يَسَارِ الزَّوْجِ وَلَا يَبْطُلُ، وَضَرَرُ الْإِبْطَالِ فَوْقَ ضَرَرِ التَّأْخِيرِ بِخِلَافِ التَّفْرِيقِ بِالْجَبِّ، وَالْعُنَّةِ؛ وَلِأَنَّ هُنَاكَ الضَّرَرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا ضَرَرُ إبْطَالِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَرْأَةِ يَفُوتُ عَنْ الْوَطْءِ، وَضَرَرُهَا أَقْوَى؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَتَضَرَّرُ بِالتَّفْرِيقِ كَثِيرُ ضَرَرٍ لِعَجْزِهِ عَنْ الْوَطْءِ. فَأَمَّا الْمَرْأَةُ، فَإِنَّهَا مَحَلٌّ صَالِحٌ لِلْوَطْءِ، فَلَا يُمْكِنُهَا اسْتِيفَاءُ حَظِّهَا مِنْ هَذَا الزَّوْجِ، وَلَا مِنْ زَوْجٍ آخَرَ لِمَكَانِ هَذَا الزَّوْجِ، فَكَانَ الرُّجْحَانُ لِضَرَرِهَا، فَكَانَ أَوْلَى بِالدَّفْعِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، فَقَدْ قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الرَّجْعَةُ، وَهُوَ أَنْ يُرَاجِعَهَا عَلَى قَصْدِ الْإِمْسَاكِ، وَالتَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ هُوَ أَنْ يَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مَعَ مَا أَنَّ الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الزَّوْجِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] ، فَالْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ عَنْ النَّفَقَةِ بِالْتِزَامِ النَّفَقَةِ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ إذَا كَانَ قَادِرًا، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِالتَّطْلِيقِ مَعَ إيفَاءِ حَقِّهَا فِي نَفَقَةِ الْعِدَّةِ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ نَفَقَةِ الْحَالِ، فَكَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى نَفَقَةِ الْعِدَّةِ عَلَى أَنَّ لَفْظَ التَّسْرِيحِ مُحْتَمَلٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّفْرِيقَ بِإِبْطَالِ النِّكَاحِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّفْرِيقَ، وَالتَّبْعِيدَ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانُ، وَهُوَ تَخْلِيَةُ السَّبِيلِ، وَإِزَالَةُ الْيَدِ إذْ حَقِيقَةُ التَّسْرِيحِ هِيَ التَّخْلِيَةُ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِإِزَالَةِ الْيَدِ وَالْحَبْسِ، وَعِنْدَنَا لَا يَبْقَى لَهُ وِلَايَةُ الْحَبْسِ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ النَّفَقَةُ عِوَضٌ عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ فَمَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْعِوَضَ مَا يَكُونُ مَذْكُورًا فِي الْعَقْدِ نَصًّا، وَالنَّفَقَةُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا، فَلَا تَكُونُ عِوَضًا بَلْ هِيَ بِمُقَابَلَةِ الِاحْتِبَاسِ. وَعِنْدَنَا وِلَايَةُ الِاحْتِبَاسِ تَزُولُ عِنْدَ الْعَجْزِ، ثُمَّ إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ عِوَضٌ لَكِنَّ بَقَاءَ الْمُعَوَّضِ مُسْتَحِقًّا يَقِفُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْعِوَضِ فِي الْجُمْلَةِ لَا عَلَى وُصُولِ الْعِوَضِ لِلْحَالِ، وَالنَّفَقَةُ هَهُنَا مُسْتَحَقَّةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَصِلُ إلَيْهَا لِلْحَالِ، فَيَبْقَى الْعِوَضُ حَقًّا لِلزَّوْجِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ بَيَانُ حُكْمِ النِّكَاحِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ النِّكَاحِ، فَنَقُولُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي الْأَصْلِ أَحَدِهِمَا:

فصل حل النظر والمس

فِي بَيَانِ حُكْمِ النِّكَاحِ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ مَا يَرْفَعُ حُكْمَهُ أَمَّا الْأَوَّلُ، فَالنِّكَاحُ لَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا (وَإِمَّا) أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا، وَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحْكَامٌ (أَمَّا) . النِّكَاحُ الصَّحِيحُ، فَلَهُ أَحْكَامٌ بَعْضُهَا أَصْلِيٌّ، وَبَعْضُهَا مِنْ التَّوَابِعِ، أَمَّا الْأَصْلِيَّةُ مِنْهَا، فَحِلُّ الْوَطْءِ إلَّا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْإِحْرَامِ وَفِي الظِّهَارِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] نَفَى اللَّوْمَ عَمَّنْ لَا يَحْفَظُ فَرْجَهُ عَلَى زَوْجَتِهِ فَدَلَّ عَلَى حِلِّ الْوَطْءِ إلَّا أَنَّ الْوَطْءَ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ خُصَّ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ، وَالنِّفَاسُ أَخُو الْحَيْضِ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] . وَالْإِنْسَانُ بِسَبِيلٍ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي حَرْثِهِ مَعَ مَا أَنَّهُ قَدْ أَبَاحَ إتْيَانَ الْحَرْثِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ لَا يَمْلِكْنَ شَيْئًا اتَّخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ» ، وَكَلِمَةُ اللَّهِ الْمَذْكُورَةُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ لَفْظَةُ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّسَاءِ بِلَفْظَةِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَغَيْرِهِمَا فِي مَعْنَاهُمَا، فَكَانَ الْحِلُّ ثَابِتًا؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ ضَمٌّ وَتَزْوِيجٌ لُغَةً، فَيَقْتَضِي الِانْضِمَامَ، وَالِازْدِوَاجَ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِحِلِّ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحُكْمُ وَهُوَ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ كَمَا تَحِلُّ لِزَوْجِهَا، فَزَوْجُهَا يَحِلُّ لَهَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] ، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُطَالِبَهَا بِالْوَطْءِ مَتَى شَاءَ إلَّا عِنْدَ اعْتِرَاضِ أَسْبَابٍ مَانِعَةٍ مِنْ الْوَطْءِ كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالظِّهَارِ وَالْإِحْرَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تُطَالِبَ زَوْجَهَا بِالْوَطْءِ؛ لِأَنَّ حِلَّهُ لَهَا حَقُّهَا كَمَا أَنَّ حِلَّهَا لَهُ حَقُّهُ، وَإِذَا طَالَبَتْهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ، وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تَجِبُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَابِ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَاسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ. [فَصْلٌ حِلُّ النَّظَرِ وَالْمَسِّ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا حِلُّ النَّظَرِ، وَالْمَسِّ مِنْ رَأْسِهَا إلَى قَدَمَيْهَا فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ، فَوْقَ النَّظَرِ وَالْمَسِّ، فَكَانَ إحْلَالُهُ إحْلَالًا لِلْمَسِّ، وَالنَّظَرُ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهَلْ يَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا بِمَا دُونَ الْفَرْجِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ؟ فِيهِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ، وَأَمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْمَسُّ وَالنَّظَرُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. [فَصْلٌ مِلْكُ الْمُتْعَةِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا مِلْكُ الْمُتْعَةِ، وَهُوَ اخْتِصَاصُ الزَّوْجِ بِمَنَافِعِ بُضْعِهَا وَسَائِرِ أَعْضَائِهَا اسْتِمْتَاعًا أَوْ مِلْكُ الذَّاتِ وَالنَّفْسِ فِي حَقِّ التَّمَتُّعِ عَلَى اخْتِلَافِ مَشَايِخِنَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ لَا تَحْصُلُ بِدُونِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا الِاخْتِصَاصُ الْحَاجِزُ عَنْ التَّزْوِيجِ بِزَوْجٍ آخَرَ لَا يَحْصُلُ السَّكَنُ؛ لِأَنَّ قَلْبَ الزَّوْجِ لَا يَطْمَئِنُّ إلَيْهَا، وَنَفْسَهُ لَا تَسْكُنُ مَعَهَا، وَيَفْسُدُ الْفِرَاشُ لِاشْتِبَاهِ النَّسَبِ؛ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ لَازِمٌ فِي النِّكَاحِ، وَأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ الْمِلْكِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَيَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الْمِلْكِ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ، وَهَذَا الْحُكْمُ عَلَى الزَّوْجَةِ لِلزَّوْجِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ الْمَهْرِ، وَالْمَهْرُ عَلَى الرَّجُلِ، وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] أَنَّ الدَّرَجَةَ هِيَ الْمِلْكُ. [فَصْلٌ مِلْكُ الْحَبْسِ وَالْقَيْدِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا مِلْكُ الْحَبْسِ وَالْقَيْدِ، وَهُوَ صَيْرُورَتُهَا مَمْنُوعَةً عَنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] ، وَالْأَمْرُ بِالْإِسْكَانِ نَهْيٌ عَنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَالْإِخْرَاجِ إذْ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] ؛ وَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَمْنُوعَةً عَنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ لَاخْتَلَّ السَّكَنُ وَالنَّسَبُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُرِيبُ الزَّوْجَ، وَيَحْمِلُهُ عَلَى نَفْيِ النَّسَبِ. [فَصْلٌ وُجُوبُ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا، وُجُوبُ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ، وَأَنَّهُ حُكْمٌ أَصْلِيٌّ لِلنِّكَاحِ عِنْدَنَا لَا وُجُودَ لَهُ بِدُونِهِ شَرْعًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ؛ وَلِأَنَّ الْمَهْرَ عِوَضٌ عَنْ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ إحْدَاثِ الْمِلْكِ عَلَى مَا مَرَّ، وَثُبُوتُ الْعِوَضِ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْمُعَوَّضِ. [فَصْلٌ ثُبُوتُ النَّسَبِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا ثُبُوتُ النَّسَبِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً لَكِنَّ سَبَبَهُ الظَّاهِرَ هُوَ النِّكَاحُ لِكَوْنِ

فصل وجوب النفقة والسكنى

الدُّخُولِ أَمْرًا بَاطِنًا، فَيُقَامُ النِّكَاحُ مَقَامَهُ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَ الْمَشْرِقِيُّ بِمَغْرِبِيَّةٍ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الدُّخُولُ حَقِيقَةً لِوُجُودِ سَبَبِهِ، وَهُوَ النِّكَاحُ. [فَصْلٌ وُجُوبُ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا وُجُوبُ النَّفَقَةِ، وَالسُّكْنَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، وقَوْله تَعَالَى {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] ، وَقَوْلِهِ {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] ، وَالْأَمْرُ بِالْإِسْكَانِ أَمْرٌ بِالْإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُمَكَّنُ مِنْ الْخُرُوجِ لِلْكَسْبِ لِكَوْنِهَا عَاجِزَةً بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ لِضَعْفِ بِنْيَتِهَا وَالْكَلَامُ فِي سَبَبِ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ، وَشَرْطُ وُجُوبِهَا، وَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ مِنْهَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ النَّفَقَةِ. [فَصْلٌ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، وَهِيَ حُرْمَةُ أَنْكِحَةِ فِرَقٍ مَعْلُومَةٍ ذَكَرْنَاهُمْ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَذَكَرْنَا دَلِيلَ الْحُرْمَةِ إلَّا أَنَّ فِي بَعْضِهَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِنَفْسِ النِّكَاحِ، وَفِي بَعْضِهَا يُشْتَرَطُ الدُّخُولُ، وَقَدْ بَيَّنَّا جُمْلَةَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهَا. [فَصْلٌ الْإِرْثُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا الْإِرْثُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] . [فَصْلٌ وُجُوبُ الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ فِي حُقُوقِهِنَّ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا، وُجُوبُ الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ فِي حُقُوقِهِنَّ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِمَّا إنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ امْرَأَةٍ، فَعَلَيْهِ الْعَدْلُ بَيْنَهُنَّ فِي حُقُوقِهِنَّ مِنْ الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُنَّ فِي ذَلِكَ حَتَّى لَوْ كَانَتْ تَحْتَهُ امْرَأَتَانِ حُرَّتَانِ أَوْ أَمَتَانِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ وَالسُّكْنَى وَالْبَيْتُوتَةِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] عَقِيبَ قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] أَيْ: إنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تَعْدِلُوا فِي الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ فِي نِكَاحِ الْمَثْنَى، وَالثَّلَاثِ، وَالرُّبَاعِ، فَوَاحِدَةً نَدَبَ سُبْحَانَهُ وَتُعَالَى إلَى نِكَاحِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ خَوْفِ تَرْكِ الْعَدْلِ فِي الزِّيَادَةِ، وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ، فَدَلَّ أَنَّ الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ وَاجِبٌ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ {ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: 3] أَيْ: تَجُورُوا، وَالْجَوْرُ حَرَامٌ، فَكَانَ الْعَدْلُ وَاجِبًا ضَرُورَةً؛ وَلِأَنَّ الْعَدْلَ مَأْمُورٌ بِهِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ إلَّا مَا خُصَّ أَوْ قُيِّدَ بِدَلِيلٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْدِلُ بَيْنَ نِسَائِهِ فِي الْقِسْمَةِ، وَيَقُولُ اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا تَمْلِكُ أَنْتَ، وَلَا أَمْلِكُ» ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَشِقُّهُ مَائِلٌ» ، وَيَسْتَوِي فِي الْقَسْمِ الْبِكْرُ، وَالثَّيِّبُ وَالشَّابَّةُ وَالْعَجُوزُ، وَالْقَدِيمَةُ وَالْحَدِيثَةُ وَالْمُسْلِمَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ؛ وَلِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسْمِ، وَهُوَ النِّكَاحُ، فَيَسْتَوِيَانِ فِي وُجُوبِ الْقَسْمِ، وَلَا قَسْمَ لِلْمَمْلُوكَاتِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَيْ: لَا لَيْلَةَ لَهُنَّ، وَإِنْ كَثُرْنَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] قَصَرَ الْإِبَاحَةَ فِي النِّكَاحِ عَلَى عَدَدٍ لِتَحَقُّقِ الْجَوْرِ فِي الزِّيَادَةِ، ثُمَّ نَدَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى نِكَاحِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ خَوْفِ الْجَوْرِ فِي الزِّيَادَةِ، وَأَبَاحَ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ خَوْفُ الْجَوْرِ، وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ قَسْمٌ إذْ لَوْ كَانَ لَكَانَ فِيهِ خَوْفُ الْجَوْرِ كَمَا فِي الْمَنْكُوحَةِ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ النِّكَاحُ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَلَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا حُرَّةً، وَالْأُخْرَى أَمَةً، فَلِلْحُرَّةِ يَوْمَانِ، وَلِلْأَمَةِ يَوْمٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَمَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لِلْحُرَّةِ ثُلُثَانِ مِنْ الْقَسْمِ، وَلِلْأَمَةِ الثُّلُثُ» ؛ وَلِأَنَّهُمَا مَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ النِّكَاحُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ بَعْدَ نِكَاحِ الْحُرَّةِ، وَلَا مَعَ نِكَاحِهَا. وَكَذَا لَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ، وَلِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ، فَلَمْ يَتَسَاوَيَا فِي السَّبَبِ، فَلَا يَتَسَاوَيَانِ فِي الْحُكْمِ بِخِلَافِ الْمُسْلِمَةِ مَعَ الْكِتَابِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابِيَّةَ يَجُوزُ نِكَاحُهَا قَبْلَ الْمُسْلِمَةِ وَبَعْدَهَا، وَمَعَهَا. وَكَذَا لِلذِّمِّيِّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ كَالْحُرِّ الْمُسْلِمِ، فَتَسَاوَيَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ، فَيَتَسَاوَيَانِ فِي الْحُكْمِ؛ وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تُنْبِئُ عَنْ الْكَمَالِ، وَالرِّقُّ يُشْعِرُ بِنُقْصَانِ الْحَالِ، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ النُّقْصَانِ فِي الشَّرْعِ فِي الْمَالِكِيَّةِ وَحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ وَالْعِدَّةِ وَالْحَدِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكَذَا فِي الْقَسْمِ، وَهَذَا التَّفَاوُتُ فِي السُّكْنَى، وَالْبَيْتُوتَةِ يَسْكُنُ عِنْدَ الْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ. وَعِنْدَ الْأَمَةِ لَيْلَةً. فَأَمَّا فِي الْمَأْكُولِ

وَالْمَشْرُوبِ، وَالْمَلْبُوسِ، فَإِنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْحَاجَاتِ اللَّازِمَةِ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ وَالْمَرِيضُ فِي وُجُوبِ الْقَسْمِ عَلَيْهِ كَالصَّحِيحِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -» ، فَلَوْ سَقَطَ الْقَسْمُ بِالْمَرَضِ لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِئْذَانِ مَعْنًى، وَلَا قَسْمَ عَلَى الزَّوْجِ إذَا سَافَرَ حَتَّى لَوْ سَافَرَ بِإِحْدَاهُمَا، وَقَدِمَ مِنْ السَّفَرِ، وَطَلَبَتْ الْأُخْرَى أَنْ يَسْكُنَ عِنْدَهَا مُدَّةَ السَّفَرِ، فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ السَّفَرِ ضَائِعَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ وَحْدَهُ دُونَهُنَّ لَكِنْ الْأَفْضَلُ أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ، فَيَخْرُجُ بِمِنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهَا تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ دَفْعًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَرَادَ السَّفَرَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ سَافَرَ بِهَا بِقُرْعَةٍ، فَكَذَلِكَ. فَأَمَّا إذَا سَافَرَ بِهَا بِغَيْرِ قُرْعَةٍ، فَإِنَّهُ يَقْسِمُ لِلْبَاقِيَاتِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ بِالْقُرْعَةِ لَا يُعْرَفُ أَنَّ لَهَا حَقًّا فِي حَالَةِ السَّفَرِ أَوْ لَا، فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ أَبَدًا لِاخْتِلَافِ عَمَلِهَا فِي نَفْسِهَا، فَإِنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ بَلْ مَرَّةٌ هَكَذَا، وَمَرَّةٌ هَكَذَا، وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى شَيْءٍ. وَلَوْ وَهَبَتْ إحْدَاهُمَا قَسْمَهَا لِصَاحِبَتِهَا أَوْ رَضِيَتْ بِتَرْكِ قَسْمِهَا؛ جَازَ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لَهَا، فَلَهَا أَنْ تَسْتَوْفِيَ، وَلَهَا أَنْ تَتْرُكَ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمَّا كَبُرَتْ، وَخَشِيَتْ أَنْ يُطَلِّقَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَقِيلَ فِيهَا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] ، وَالْمُرَادُ مِنْ الصُّلْحِ هُوَ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا كَذَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنْ رَجَعَتْ عَنْ ذَلِكَ، وَطَلَبَتْ قَسْمَهَا، فَلَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ إبَاحَةً مِنْهَا، وَالْإِبَاحَةُ لَا تَكُونُ لَازِمَةً كَالْمُبَاحِ لَهُ الطَّعَامُ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْمُبِيحُ مَنْعَهُ، وَالرُّجُوعَ عَنْ ذَلِكَ. وَلَوْ بَذَلَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ مَالًا لِلزَّوْجِ؛ لِيَجْعَلَ لَهَا فِي الْقَسْمِ أَكْثَرَ مِمَّا تَسْتَحِقُّهُ لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَفْعَلَ، وَيَرُدَّ مَا أَخَذَهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ رِشْوَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْمَالَ لِمَنْعِ الْحَقِّ عَنْ الْمُسْتَحِقِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَذَلَ الزَّوْجُ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَالًا لِتَجْعَلَ نَوْبَتَهَا لِصَاحِبَتِهَا أَوْ بَذَلَتْ هِيَ لِصَاحِبَتِهَا مَالًا لِتَتْرُكَ نَوْبَتَهَا لَهَا لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَيُسْتَرَدُّ الْمَالُ؛ لِأَنَّ هَذَا مُعَاوَضَةُ الْقَسْمِ بِالْمَالِ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَذَا هَذَا، هَذَا إذَا كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. فَأَمَّا إذَا كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ؛ فَطَالَبَتْهُ بِالْوَاجِبِ لَهَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رِوَايَةَ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا تَشَاغَلَ الرَّجُلُ عَنْ زَوْجَتِهِ بِالصِّيَامِ أَوْ بِالصَّلَاةِ أَوْ بِأَمَةٍ اشْتَرَاهَا قَسَمَ لِامْرَأَتِهِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ لَيْلَةً، وَقِيلَ لَهُ تَشَاغَلْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَثَلَاثَ لَيَالٍ بِالصَّوْمِ أَوْ بِالْأَمَةِ، وَهَكَذَا كَانَ الطَّحَاوِيُّ يَقُولُ: إنَّهُ يَجْعَلُ لَهَا يَوْمًا وَاحِدًا يَسْكُنُ عِنْدَهَا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا يَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ، وَأَشْغَالِهِ (وَجْهُ) هَذَا الْقَوْلِ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ زَوْجَهَا إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَذَكَرَتْ أَنَّهُ يَصُومُ النَّهَارَ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ، فَقَالَ: عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا أَحْسَنَكِ ثَنَاءً عَلَى بَعْلِكِ، فَقَالَ: كَعْبٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّهَا تَشْكُو إلَيْكَ زَوْجَهَا، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: كَعْبٌ إنَّهُ إذَا صَامَ النَّهَارَ، وَقَامَ اللَّيْلَ، فَكَيْفَ يَتَفَرَّغُ لَهَا، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِكَعْبٍ اُحْكُمْ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: أَرَاهَا إحْدَى نِسَائِهِ الْأَرْبَعِ يُفْطِرُ لَهَا يَوْمًا، وَيَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَوَلَّاهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ هَذَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِهَذَا الْقَوْلِ. وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مَذْهَبَنَا؛ لِأَنَّ الْمُزَاحَمَةَ فِي الْقَسْمِ إنَّمَا تَحْصُلُ بِمُشَارَكَاتِ الزَّوْجَاتِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ غَيْرُهَا لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُشَارَكَةُ، فَلَا يَقْسِمُ لَهَا، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ لَا تُدَاوِمْ عَلَى الصَّوْمِ، وَوَفِّ الْمَرْأَةَ حَقَّهَا كَذَا قَالَهُ الْجَصَّاصُ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَقُولُ: أَوَّلًا كَمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ كَعْبٌ، وَهُوَ أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهَا عَنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ ثَلَاثًا أُخَرَ سِوَاهَا، فَلَمَّا لَمْ يَتَزَوَّجْ، فَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، فَكَانَ الْخِيَارُ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ شَاءَ؛ صَرَفَ ذَلِكَ إلَى الزَّوْجَاتِ، وَإِنْ شَاءَ؛ صَرَفَهُ إلَى صِيَامِهِ، وَصَلَاتِهِ، وَأَشْغَالِهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ أَرْبَعًا، فَطَالَبْنَ بِالْوَاجِبِ مِنْهُ يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَيْلَةٌ مِنْ الْأَرْبَعِ، فَلَوْ جَعَلْنَا هَذَا حَقًّا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَا يَتَفَرَّغُ لِأَعْمَالِهِ، فَلَمْ يُوَقِّتْ فِي هَذَا وَقْتًا. وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَمَةً؛ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَخِيرًا إنْ صَحَّ الرُّجُوعُ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَقْسِمُ لَهَا كَمَا يَقْسِمُ لِلْحُرَّةِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَعَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ يَجْعَلُ لَهَا لَيْلَةً مِنْ كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ؛ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ حَقَّ إسْقَاطِ حَقِّهَا عَنْ سِتَّةِ أَيَّام، وَالِاقْتِصَارَ عَلَى يَوْمٍ

فصل وجوب طاعة الزوج على الزوجة إذا دعاها إلى الفراش

وَاحِدٍ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا ثَلَاثَ حَرَائِرَ؛ لِأَنَّ لِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ، وَلِلْأَمَةِ لَيْلَةً وَاحِدَةً، فَلَمَّا لَمْ يَتَزَوَّجْ، فَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَكَانَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ؛ صَرَفَ ذَلِكَ إلَى الزَّوْجَاتِ، وَإِنْ شَاءَ؛ صَرَفَهُ إلَى الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَإِلَى أَشْغَالِ نَفْسِهِ، وَالْإِشْكَالُ عَلَيْهِ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَا ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ أَيْضًا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ وُجُوبُ طَاعَةِ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ إذَا دَعَاهَا إلَى الْفِرَاشِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا، وُجُوبُ طَاعَةِ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ إذَا دَعَاهَا إلَى الْفِرَاشِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] قِيلَ: لَهَا الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ، وَعَلَيْهَا أَنْ تُطِيعَهُ فِي نَفْسِهَا، وَتَحْفَظَ غَيْبَتَهُ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِتَأْدِيبِهِنَّ بِالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ عِنْدَ عَدَمِ طَاعَتِهِنَّ، وَنَهَى عَنْ طَاعَتِهِنَّ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} [النساء: 34] ، فَدَلَّ أَنَّ التَّأْدِيبَ كَانَ لِتَرْكِ الطَّاعَةِ، فَيَدُلُّ عَلَى لُزُومِ طَاعَتِهِنَّ الْأَزْوَاجَ. [فَصْلٌ وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ لِلزَّوْجِ إذَا لَمْ تُطِعْهُ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ لِلزَّوْجِ إذَا لَمْ تُطِعْهُ فِيمَا يَلْزَمُ طَاعَتُهُ بِأَنْ كَانَتْ نَاشِزَةً، فَلَهُ أَنْ يُؤَدِّبَهَا لَكِنْ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَيَعِظُهَا أَوَّلًا عَلَى الرِّفْقِ وَاللِّينِ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا كُونِي مِنْ الصَّالِحَاتِ الْقَانِتَاتِ الْحَافِظَاتِ لِلْغَيْبِ وَلَا تَكُونِي مِنْ كَذَا وَكَذَا، فَلَعَلَّ تَقْبَلُ الْمَوْعِظَةَ، فَتَتْرُكُ النُّشُوزَ، فَإِنْ نَجَعَتْ فِيهَا الْمَوْعِظَةُ، وَرَجَعَتْ إلَى الْفِرَاشِ وَإِلَّا هَجَرَهَا. وَقِيلَ يُخَوِّفُهَا بِالْهَجْرِ أَوَّلًا وَالِاعْتِزَالِ عَنْهَا، وَتَرْكِ الْجِمَاعِ وَالْمُضَاجَعَةِ، فَإِنْ تَرَكَتْ وَإِلَّا هَجَرَهَا لَعَلَّ نَفْسَهَا لَا تَحْتَمِلُ الْهَجْرَ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ الْهَجْرِ قِيلَ يَهْجُرُهَا بِأَنْ لَا يُجَامِعَهَا، وَلَا يُضَاجِعَهَا عَلَى فِرَاشِهِ، وَقِيلَ يَهْجُرُهَا بِأَنْ لَا يُكَلِّمَهَا فِي حَالِ مُضَاجَعَتِهِ إيَّاهَا لَا أَنْ يَتْرُكَ جِمَاعَهَا وَمُضَاجَعَتَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا عَلَيْهَا، فَلَا يُؤَدِّبَهَا بِمَا يَضُرُّ بِنَفْسِهِ، وَيُبْطِلُ حَقَّهُ، وَقِيلَ يَهْجُرُهَا بِأَنْ يُفَارِقَهَا فِي الْمَضْجَعِ، وَيُضَاجِعَ أُخْرَى فِي حَقِّهَا وَقَسْمِهَا؛ لِأَنَّ حَقَّهَا عَلَيْهِ فِي الْقَسْمِ فِي حَالِ الْمُوَافَقَةِ وَحِفْظِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي حَالِ التَّضْيِيعِ وَخَوْفِ النُّشُوزِ وَالتَّنَازُعِ وَقِيلَ يَهْجُرُهَا بِتَرْكِ مُضَاجَعَتِهَا، وَجِمَاعِهَا لِوَقْتِ غَلَبَةِ شَهْوَتِهَا، وَحَاجَتِهَا لَا فِي وَقْتِ حَاجَتِهِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ هَذَا لِلتَّأْدِيبِ وَالزَّجْرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَدِّبَهَا لَا أَنْ يُؤَدِّبَ نَفْسَهُ بِامْتِنَاعِهِ عَنْ الْمُضَاجَعَةِ فِي حَالِ حَاجَتِهِ إلَيْهَا، فَإِذَا هَجَرَهَا، فَإِنْ تَرَكَتْ النُّشُوزَ، وَإِلَّا ضَرَبَهَا عِنْدَ ذَلِكَ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَا شَائِنٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ بِحَرْفِ الْوَاوِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجَمْعُ عَلَى سَبِيلِ التَّرْتِيبِ، وَالْوَاوُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ، فَإِنْ نَفَعَ الضَّرْبُ، وَإِلَّا رُفِعَ الْأَمْرُ إلَى الْقَاضِي لِيُوَجِّهَ إلَيْهِمَا حَكَمَيْنِ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ، وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] ، وَسَبِيلُ هَذَا سَبِيلُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ أَنَّ الْآمِرَ يَبْدَأُ بِالْمَوْعِظَةِ عَلَى الرِّفْقِ وَاللِّينِ دُونَ التَّغْلِيظِ فِي الْقَوْلِ، فَإِنْ قَبِلَتْ، وَإِلَّا غَلَّظَ الْقَوْلَ بِهِ، فَإِنْ قُبِلَتْ، وَإِلَّا بَسَطَ يَدَهُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إذَا ارْتَكَبَتْ مَحْظُورًا سِوَى النُّشُوزِ لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ، فَلِلزَّوْجِ أَنْ يُؤَدِّبَهَا تَعْزِيرًا لَهَا؛ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُعَزِّرَ زَوْجَتَهُ كَمَا لِلْمَوْلَى أَنْ يُعَزِّرَ مَمْلُوكَهُ. [فَصْلٌ الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَمُسْتَحَبٌّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] قِيلَ هِيَ الْمُعَاشَرَةُ بِالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَخُلُقًا قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي» ، وَقِيلَ الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ هِيَ أَنْ يُعَامِلَهَا بِمَا لَوْ فُعِلَ بِك مِثْلُ ذَلِكَ لَمْ تُنْكِرْهُ بَلْ تَعْرِفُهُ، وَتَقْبَلُهُ وَتَرْضَى بِهِ، وَكَذَلِكَ مِنْ جَانِبِهَا هِيَ مَنْدُوبَةٌ إلَى الْمُعَاشَرَةِ الْجَمِيلَةِ مَعَ زَوْجِهَا بِالْإِحْسَانِ بِاللِّسَانِ، وَاللُّطْفِ فِي الْكَلَامِ، وَالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَطِيبُ بِهِ نَفْسُ الزَّوْجِ، وَقِيلَ فِي، قَوْله تَعَالَى {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِنَّ مِنْ حَيْثُ الْفَضْلُ وَالْإِحْسَانُ هُوَ أَنْ يُحْسِنَ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ بِالْبِرِّ بِاللِّسَانِ، وَالْقَوْلِ بِالْمَعْرُوفِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَيُكْرَهُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَعْزِلَ عَنْ امْرَأَتِهِ الْحُرَّةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ عَنْ إنْزَالٍ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ، وَلَهَا فِي الْوَلَدِ حَقٌّ، وَبِالْعَزْلِ يَفُوتُ الْوَلَدُ، فَكَأَنَّهُ سَبَبًا لِفَوَاتِ حَقِّهَا، وَإِنْ كَانَ الْعَزْلُ بِرِضَاهَا لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِفَوَاتِ حَقِّهَا، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اعْزِلُوهُنَّ أَوْ لَا تَعْزِلُوهُنَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا أَرَادَ خَلْقَ نَسَمَةٍ، فَهُوَ خَالِقُهَا» إلَّا أَنَّ الْعَزْلَ حَالَ عَدَمِ الرِّضَا صَارَ مَخْصُوصًا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَمَةَ الْغَيْرِ أَنَّهُ يُكْرَهُ الْعَزْلُ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ رِضَا لَكِنْ يُحْتَاجُ إلَى رِضَاهَا أَوْ رِضَا مَوْلَاهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِذْنُ فِي

فصل حكم النكاح الفاسد

ذَلِكَ إلَى الْمَوْلَى. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: إلَيْهَا (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ حَقُّهَا، وَالْعَزْلُ يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي ذَلِكَ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَرَاهَةَ الْعَزْلِ لِصِيَانَةِ الْوَلَدِ، وَالْوَلَدُ لَهُ لَا لَهَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ حُكْمَ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ، فَلَا حُكْمَ لَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَأَمَّا بَعْدَ الدُّخُولِ، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مِنْهَا ثُبُوتُ النَّسَبِ وَمِنْهَا وُجُوبُ الْعِدَّةِ، وَهُوَ حُكْمُ الدُّخُولِ فِي الْحَقِيقَةِ وَمِنْهَا وُجُوبُ الْمَهْرِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَيْسَ بِنِكَاحٍ حَقِيقَةً لِانْعِدَامِ مَحَلِّهِ أَعْنِي مَحَلَّ حُكْمِهِ، وَهُوَ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِي الْمَنَافِعِ، وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ مُلْحَقَةٌ بِالْأَجْزَاءِ، وَالْحُرُّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ خُلُوصٌ، وَالْمِلْكُ يُنَافِي الْخُلُوصَ؛ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْآدَمِيِّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالرِّقِّ، وَالْحُرِّيَّةُ تُنَافِي الرِّقَّ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْمُنَافِي فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ، وَفِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بَعْدَ الدُّخُولِ لِحَاجَةِ النَّاكِحِ إلَى دَرْءِ الْحَدِّ وَصِيَانَةِ مَائِهِ عَنْ الضَّيَاعِ بِثَبَاتِ النَّسَبِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَصِيَانَةِ الْبُضْعِ الْمُحْتَرَمِ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ غَيْرِ غَرَامَةٍ، وَلَا عُقُوبَةٍ تُوجِبُ الْمَهْرَ، فَجُعِلَ مُنْعَقِدًا فِي حَقِّ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ، وَهُوَ مَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا يُجْعَلُ مُنْعَقِدًا قَبْلَهُ، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ بَعْدَ الدُّخُولِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا، فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا» جَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ فِيمَا لَهُ حُكْمُ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَعَلَّقَهُ بِالدُّخُولِ، فَدَلَّ أَنَّ وُجُوبَهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِ هَذَا الْمَهْرِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْعُقْرِ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: لَا يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا وَمِنْ الْمُسَمَّى. وَقَالَ زُفَرُ: يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ. وَكَذَا هَذَا الْخِلَافُ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْمَنَافِعَ تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ جَمِيعًا كَالْأَعْيَانِ، فَيَلْزَمُ إظْهَارُ أَثَرِ التَّقَوُّمِ، وَذَلِكَ بِإِيجَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّهُ قِيمَةُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ، وَإِنَّمَا الْعُدُولُ إلَى الْمُسَمَّى عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، وَلَمْ تَصِحَّ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى أَوْجَبْنَا كَمَالَ الْقِيمَةِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ كَذَا هَهُنَا. (وَلَنَا) أَنَّ الْعَاقِدَيْنِ مَا قَوَّمَا الْمَنَافِعَ بِأَكْثَرَ مِنْ الْمُسَمَّى، فَلَا تَتَقَوَّمُ بِأَكْثَرَ مِنْ الْمُسَمَّى، فَحَصَلَتْ الزِّيَادَةُ مُسْتَوْفَاةً مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ، فَلَمْ تَكُنْ لَهَا قِيمَةٌ إلَّا أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ الْمُسَمَّى لَا يَبْلُغُ بِهِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِذَلِكَ الْقَدْرِ لِرِضَاهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا، وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي وَقْتِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ أَنَّهَا مِنْ أَيِّ وَقْتٍ تُعْتَبَرُ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: إنَّهَا تَجِبُ مِنْ حِينِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ زُفَرُ: مِنْ آخِرِ وَطْءٍ وَطِئَهَا حَتَّى لَوْ كَانَتْ قَدْ حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ بَعْدَ آخِرِ وَطْءٍ وَطِئَهَا قَبْلَ التَّفْرِيقِ، فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا عِنْدَهُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ بِالْوَطْءِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ، وَذَلِكَ حُكْمُ الْوَطْءِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ قَبْلَ الْوَطْءِ، وَإِذَا كَانَ وُجُوبُهَا بِالْوَطْءِ تَجِبُ عَقِيبَ الْوَطْءِ بِلَا فَصْلٍ كَأَحْكَامِ سَائِرِ الْعِلَلِ. (وَلَنَا) أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ بَعْدَ الْوَطْءِ مُنْعَقِدٌ فِي حَقِّ الْفِرَاشِ لِمَا بَيَّنَّا، وَالْفِرَاشُ لَا يَزُولُ قَبْلَ التَّفْرِيقِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا قَبْلَ التَّفْرِيقِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِتَكْرَارِ الْوَطْءِ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ. وَلَوْ وَطِئَهَا بَعْدَ التَّفْرِيقِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَلَوْ دَخَلَتْهُ شُبْهَةٌ حَتَّى امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ يَلْزَمُهُ مَهْرٌ آخَرُ، فَكَانَ التَّفْرِيقُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْعِدَّةِ مِنْهُ كَمَا تُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالْخَلْوَةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا تُوجِبُ الْعِدَّةَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالنِّكَاحِ فِي حَقِّ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ حَقِيقَةً مَعَ قِيَامِ الْمَنَافِع لِحَاجَةِ النَّاكِحِ إلَى ذَلِكَ، فَيَبْقَى فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُسْتَوْفَى عَلَى أَصْلِ الْعَدَمِ، وَلَمْ يُوجَدْ اسْتِيفَاءُ الْمَنَافِعِ حَقِيقَةً بِالْخَلْوَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْعِدَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْوَطْءُ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ لِتُعْرَفَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، وَلَمْ يُوجَدْ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا أَقَمْنَا التَّمْكِينَ مِنْ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ مَقَامَهُ فِي حَقِّ حُكْمٍ يُحْتَاطُ فِيهِ لِوُجُودِ دَلِيلِ التَّمَكُّنِ، وَهُوَ الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا بِخِلَافِ الْخَلْوَةِ الْفَاسِدَةِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَنَّهَا تُوجِبُ الْعِدَّةَ إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْوَطْءِ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا عَنْهُ شَرْعًا بِسَبَبِ الْحَيْضِ أَوْ الْإِحْرَامِ أَوْ الصَّوْمِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ دَلِيلُ الْإِطْلَاقِ شَرْعًا مَوْجُودٌ وَهُوَ الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ مِنْهُ لِغَيْرِهِ، فَكَانَ التَّمَكُّنُ ثَابِتًا، وَدَلِيلُهُ مَوْجُودٌ، فَيُقَامُ مَقَامَ الْمَدْلُولِ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ، وَلَا يُوجِبُ الْمَهْرَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ بِهَا الْعِدَّةُ، فَالْمَهْرُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ يُحْتَاطُ فِي وُجُوبِهَا، وَلَا يُحْتَاطُ فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ.

فصل بيان ما يرفع حكم النكاح

[فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَرْفَعُ حُكْمَ النِّكَاحِ] فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَرْفَعُ حُكْمَ النِّكَاحِ، فَبَيَانُهُ بَيَانُ مَا تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَسْبَابٌ لَكِنَّ الْوَاقِعَ بِبَعْضِهَا فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ، وَبَعْضُهَا فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَفِي بَعْضِهَا يَقَعُ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَفِي بَعْضِهَا لَا يَقَعُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَنَذْكُرُ جُمْلَةَ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهَا. الطَّلَاقُ بِصَرِيحِهِ، وَكِنَايَاتِهِ، وَلَهُ كِتَابٌ مُفْرَدٌ، وَمِنْهَا اللِّعَانُ وَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَكَذَا فِي كَيْفِيَّةِ هَذِهِ الْفُرْقَةِ خِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ اللِّعَانِ، وَمِنْهَا اخْتِيَارُ الصَّغِيرِ أَوْ الصَّغِيرَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ، وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ لَا تَقَعُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي بِخِلَافِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِيَارِ الْمَرْأَةِ نَفْسِهَا فِي خِيَارِ الْعِتْقِ أَنَّهَا تَثْبُتُ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْفَرْقِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالْفُرْقَةُ فِي الْخِيَارَيْنِ جَمِيعًا تَكُونُ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ، بَلْ تَكُونُ فَسْخًا حَتَّى لَوْ كَانَ الزَّوْجُ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَلَا مَهْرَ لَهَا أَمَّا فِي خِيَارِ الْعِتْقِ، فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِسَبَبٍ وُجِدَ مِنْهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا، وَاخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ إلَّا إذَا مُلِكَتْ كَالْمُخَيَّرَةِ، فَكَانَ فَسْخًا، وَفَسْخُ الْعَقْدِ رَفْعُهُ مِنْ الْأَصْلِ، وَجَعْلُهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا مَهْرٌ، فَكَذَا إذَا اُلْتُحِقَ بِالْعَدَمِ مِنْ الْأَصْلِ. وَكَذَا فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ إذَا كَانَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ هُوَ الْمَرْأَةُ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا إذَا كَانَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ هُوَ الْغُلَامُ، فَاخْتَارَ نَفْسَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، فَلَا مَهْرَ لَهَا أَيْضًا، وَهَذَا فِيهِ نَوْعُ إشْكَالٍ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ فُرْقَةً بِطَلَاقٍ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَالِانْفِصَالُ أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لَهُ الْخِيَارَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ لَمْ يَكُنْ لِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ، فَإِذًا لَا فَائِدَةَ فِي الْخِيَارِ إلَّا سُقُوطُ الْمَهْرِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا لَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ قَدْ تَأَكَّدَ بِالدُّخُولِ، فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالْفُرْقَةِ، كَمَا لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالْمَوْتِ؛ وَلِأَنَّ الدُّخُولَ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ، فَلَا يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ مِنْ الْأَصْلِ بِالْفَسْخِ بِخِلَافِ الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ، فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ فُسِخَ النِّكَاحُ بَعْدَ الدُّخُولِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ؛ لِأَنَّهُ عَادَ الْبَدَلُ إلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَعُودَ الْمُبْدَلُ إلَيْهَا، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهَا، فَلَا يُفْسَخُ، وَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهَا يَغْرَمُ قِيمَتَهَا، وَقِيمَتُهَا هُوَ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى، فَلَا يُفِيدُ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوْفَى الْمَنَافِعَ، فَقَدْ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُبْدَلُ، فَلَا يَسْقُطُ الْبَدَلُ. وَمِنْهَا اخْتِيَارُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا لِعَيْبِ الْجَبِّ، وَالْعُنَّةِ وَالْخِصَاءِ وَالْخُنُوثَةِ، وَالتَّأَخُّذِ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي أَوْ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ، عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَأَنَّهُ فُرْقَةُ بُطْلَانٍ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِهَا حَصَلَ مِنْ الزَّوْجِ، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ إيفَاءِ حَقِّهَا الْمُسْتَحَقِّ بِالنِّكَاحِ، وَأَنَّهُ ظُلْمٌ وَضَرَرٌ فِي حَقِّهَا إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ قَامَ مَقَامَهُ فِي دَفْعِ الظُّلْمِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا حَصَلَتْ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ مُخْتَصٍّ بِالنِّكَاحِ أَنْ تَكُونَ فُرْقَةَ بُطْلَانٍ حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، وَقَبْلَ الْخَلْوَةِ، فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى إنْ كَانَ فِي النِّكَاحِ تَسْمِيَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَسْمِيَةٌ، فَلَهَا الْمُتْعَةُ. وَمِنْهَا التَّفْرِيقُ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ أَوْ لِنُقْصَانِ الْمَهْرِ، وَالْفُرْقَةُ بِهِ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ حَصَلَتْ لَا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ طَلَاقًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِ الزَّوْجِ وِلَايَةُ الطَّلَاقِ، فَيُجْعَلُ فَسْخًا، وَلَا تَكُونُ هَذِهِ الْفُرْقَةُ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْفُرْقَةِ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ. وَمِنْهَا إبَاءُ الزَّوْجِ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَتْ زَوْجَتُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْهَا إبَاءُ الزَّوْجَةِ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ زَوْجُهَا الْمُشْرِكُ أَوْ الْمَجُوسِيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَا كِتَابِيَّيْنِ، فَأَسْلَمَ الزَّوْجُ، فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابِيَّةَ مَحَلٌّ لِنِكَاحِ الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً، فَكَذَا بَقَاءً، وَإِنْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا، وَلَكِنْ يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى زَوْجِهَا، فَإِنْ أَسْلَمَ بَقِيَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ أَبَى الْإِسْلَامَ، فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُسْلِمَةُ تَحْتَ نِكَاحِ الْكَافِرِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ ابْتِدَاءً، فَكَذَا فِي الْبَقَاءِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ أَوْ مَجُوسِيَّيْنِ، فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَيُّهُمَا كَانَ يَعْرِضُ الْإِسْلَامَ عَلَى الْآخَرِ، وَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا، فَإِنْ أَسْلَمَ؛ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ أَبَى الْإِسْلَامَ؛ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكَةَ لَا تَصْلُحُ لِنِكَاحِ الْمُسْلِمِ غَيْرَ أَنَّ الْإِبَاءَ إنْ كَانَ مِنْ الْمَرْأَةِ يَكُونُ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا، وَهُوَ الْإِبَاءُ مِنْ الْإِسْلَامِ، وَالْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ لَا تَصْلُحُ طَلَاقًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَلِي الطَّلَاقَ، فَيُجْعَلُ فَسْخًا، وَإِنْ كَانَ الْإِبَاءُ مِنْ الزَّوْجِ يَكُونُ فُرْقَةً بِطَلَاقٍ

فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ لِلْحَالِ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ حَتَّى تَمْضِيَ ثَلَاثُ حِيَضٍ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْآخَرُ قَبْلَ مُضِيِّهَا؛ فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ؛ بَانَتْ بِمُضِيِّهَا أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ، فَوَجْهُ قَوْلِهِ إنْ كَفَرَ الزَّوْجُ يُمْنَعُ مِنْ نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ ابْتِدَاءً حَتَّى لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يَنْكِحَ الْمُسْلِمَةَ، وَكَذَلِكَ شِرْكُ الْمَرْأَةِ، وَتَمَجُّسُهَا مَانِعٌ مِنْ نِكَاحِ الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُ الْمُشْرِكَةِ، وَالْمَجُوسِيَّةِ، فَإِذَا طَرَأَ عَلَى النِّكَاحِ يُبْطِلُهُ، فَأَشْبَهَ الطَّلَاقَ. (وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي تَغْلِبَ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ، فَعَرَضَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَامْتَنَعَ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. وَلَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ لَمَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّفْرِيقِ؛ وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا لِلنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ عُرِفَ عَاصِمًا لِلْأَمْلَاكِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُبْطِلًا لَهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْطُلَ بِالْكُفْرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كَانَ مَوْجُودًا مِنْهُمَا، وَلَمْ يَمْنَعْ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ الْبَقَاءَ وَأَنَّهُ أَسْهَلُ أَوْلَى إلَّا أَنَّا لَوْ بَقَّيْنَا النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا لَا تَحْصُلُ الْمَقَاصِدُ؛ لِأَنَّ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالِاسْتِفْرَاشِ، وَالْكَافِرُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ اسْتِفْرَاشِ الْمُسْلِمَةِ، وَالْمُسْلِمُ لَا يَحِلُّ لَهُ اسْتِفْرَاشُ الْمُشْرِكَةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ لِخُبْثِهِمَا، فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ هَذَا النِّكَاحِ فَائِدَةٌ، فَيُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا عِنْدَ إبَاءِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْيَأْسَ عَنْ حُصُولِ الْمَقَاصِدِ يَحْصُلُ عِنْدَهُ. وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ أَصْحَابِنَا فِي كَيْفِيَّةِ الْفُرْقَةِ عِنْدَ إبَاءِ الزَّوْجِ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ الْمُشْرِكَةُ أَوْ الْمَجُوسِيَّةُ أَوْ الْكِتَابِيَّةُ، فَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذِهِ فُرْقَةٌ يَشْتَرِكُ فِي سَبَبِهَا الزَّوْجَانِ، وَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ، فَإِنَّ الْإِبَاءَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبُ الْفُرْقَةِ، ثُمَّ الْفُرْقَةُ الْحَاصِلَةُ بِإِبَائِهَا فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، فَكَذَا بِإِبَائِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِيَّةِ كَمَا إذَا مَلَكَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَلَهُمَا أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّفْرِيقِ عِنْدَ الْإِبَاءِ لِفَوَاتِ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ وَلِأَنَّ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ إذَا لَمْ تَحْصُلْ لَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ فَائِدَةٌ، فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّفْرِيقِ، وَالْأَصْلُ فِي التَّفْرِيقِ هُوَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ، وَالْقَاضِي يَنُوبُ مَنَابَهُ كَمَا فِي الْفُرْقَةِ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ فَكَانَ الْأَصْلُ فِي الْفُرْقَةِ هُوَ فُرْقَةُ الطَّلَاقِ، فَيُجْعَلُ طَلَاقًا مَا أَمْكَنَ، وَفِي إبَاءِ الْمَرْأَةِ لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ، فَيُجْعَلُ فَسْخًا. وَمِنْهَا رِدَّةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ مُفْضٍ إلَيْهِ، وَالْمَيِّتُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْمُرْتَدِّ لِأَحَدٍ فِي الِابْتِدَاءِ، فَكَذَا فِي حَالِ الْبَقَاءِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ مَعَ الرِّدَّةِ، وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَا يَبْقَى مَعَ زَوَالِ الْعِصْمَةِ غَيْرَ أَنَّ رِدَّةَ الْمَرْأَةِ تَكُونُ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا رِدَّةُ الرَّجُلِ، فَهِيَ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ (وَجْهُ) قَوْلِهِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا حَصَلَتْ بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَأَمْكَنَ أَنْ تُجْعَلَ طَلَاقًا تُجْعَلُ طَلَاقًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفُرْقَةِ هُوَ فُرْقَةُ الطَّلَاقِ، وَأَصْلُ أَبِي يُوسُفَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ فُرْقَةٌ حَصَلَتْ بِسَبَبٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَانِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْفُرْقَةِ، ثُمَّ الثَّابِتُ بِرِدَّتِهَا فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ كَذَا بِرِدَّتِهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ، وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبٍ وُجِدَ مِنْ الرَّجُلِ، وَهُوَ رِدَّتُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ الرِّدَّةُ طَلَاقًا؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ، وَفُرْقَةُ الْمَوْتِ لَا تَكُونُ طَلَاقًا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ يَخْتَصُّ بِمَا يُسْتَفَادُ بِالنِّكَاحِ، وَالْفُرْقَةُ الْحَاصِلَةُ بِالرِّدَّةِ فُرْقَةٌ وَاقِعَةٌ بِطَرِيقِ التَّنَافِي؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُنَافِي عِصْمَةَ الْمِلْكِ، وَمَا كَانَ طَرِيقُهُ التَّنَافِي لَا يُسْتَفَادُ بِمِلْكِ النِّكَاحِ، فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا بِخِلَافِ الْفُرْقَةِ الْحَاصِلَةِ بِإِبَاءِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِفَوَاتِ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ وَثَمَرَاتِهِ، وَذَلِكَ مُضَافٌ إلَى الزَّوْجِ، فَيَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِلَّا التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ، فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْهُ أَلْزَمَهُ الْقَاضِي الطَّلَاقَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ كَأَنَّهُ طَلَّقَ بِنَفْسِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ فُرْقَةَ الْإِبَاءِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْقَضَاءِ، وَفُرْقَةَ الرِّدَّةِ تَثْبُتُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ لِيُعْلَمَ أَنَّ ثُبُوتَهَا بِطَرِيقِ التَّنَافِي، ثُمَّ الْفُرْقَةُ بِرِدَّةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ تَثْبُتُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ، فَتَثْبُتُ فِي الْحَالِ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ تَتَأَجَّلُ الْفُرْقَةُ إلَى مُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ، وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي إسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ هَذَا إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ. فَأَمَّا إذَا ارْتَدَّا مَعًا لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا اسْتِحْسَانًا حَتَّى لَوْ أَسْلَمَا مَعًا، فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا لَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ

فَكَذَا إذَا ارْتَدَّا؛ لِأَنَّ فِي رِدَّتِهِمَا رِدَّةَ أَحَدِهِمَا، وَزِيَادَةً، وَلِلِاسْتِحْسَانِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمَّا ارْتَدَّتْ فِي زَمَن أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ أَسْلَمُوا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَ حَضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنْ قِيلَ بِمَ يُعْلَمُ هُنَاكَ أَنَّهُمْ ارْتَدُّوا، وَأَسْلَمُوا مَعًا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ الْقِرَانُ بَلْ احْتَمَلَ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ فِي الرِّدَّةِ، وَالْإِسْلَامِ فَفِيمَا عُلِمَ أَوْلَى أَنْ لَا يُفَرَّقَ، ثُمَّ نَقُولُ الْأَصْلُ فِي كُلِّ أَمْرَيْنِ حَادِثَيْنِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُ مَا بَيْنَهُمَا أَنْ يُحْكَمَ بِوُقُوعِهِمَا مَعًا كَالْغَرْقَى، وَالْحَرْقَى وَالْهَدْمَى وَلَوْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ كِتَابِيَّةً يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً، فَتَمَجَّسَتْ تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ؛ لِأَنَّ الْمَجُوسِيَّةَ لَا تَصْلُحُ لِنِكَاحِ الْمُسْلِمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا ابْتِدَاءً، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، فَلَا مَهْرَ لَهَا، وَلَا نَفَقَةَ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، فَكَانَتْ فَسْخًا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا، فَلَهَا الْمَهْرُ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا مَهْرَ، وَإِنْ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ يَجِبُ نِصْفُ الْمُسَمَّى إنْ كَانَ الْمَهْرُ سُمِّيَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ؛ تَجِبُ الْمُتْعَةُ، وَبَعْدَ الدُّخُولِ يَجِبُ كُلُّ الْمَهْرِ، وَالنَّفَقَةِ. وَلَوْ كَانَتْ يَهُودِيَّةً؛ فَتَنَصَّرَتْ أَوْ نَصْرَانِيَّةً؛ فَتَهَوَّدَتْ لَمْ تَثْبُتْ الْفُرْقَةُ، وَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْقَرَارِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ تُجْبَرُ عَلَى أَنْ تُسْلِمَ أَوْ تَعُودَ إلَى دِينِهَا الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ حَتَّى مَضَتْ ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ كَمَا فِي الْمُرْتَدِّ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهَا كَانَتْ مُقِرَّةً بِأَنَّ الدِّينَ الَّذِي انْتَقَلَتْ إلَيْهِ بَاطِلٌ، فَكَانَ تَرْكُ الِاعْتِرَاضِ تَقْرِيرًا عَلَى الْبَاطِلِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. (وَلَنَا) أَنَّهَا انْتَقَلَتْ مِنْ بَاطِلٍ إلَى بَاطِلٍ، وَالْجَبْرُ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْبَاطِلِ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَتْ يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً؛ فَصَبَأَتْ لَمْ تَثْبُتْ الْفُرْقَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُ الصَّابِئِيَّةِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ، وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي مَوْضِعِهَا. وَمِنْهَا إسْلَامُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَكِنْ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ فِي الْحَالِ بَلْ تَقِفُ عَلَى مُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ إنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْبَاقِي مِنْهُمَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا، وَنَفْسُ الْكُفْرِ أَيْضًا لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الْآخَرِ، فَإِذَا أَبَى حِينَئِذٍ يُفَرَّقُ، وَكَانَتْ الْفُرْقَةُ حَاصِلَةً بِالْإِبَاءِ، وَلَا يُعْرَفُ الْإِبَاءُ إلَّا بِالْعَرْضِ، وَقَدْ امْتَنَعَ الْعَرْضُ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ، وَقَدْ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّفْرِيقِ إذْ الْمُشْرِكُ لَا يَصْلُحُ لِنِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ، فَيُقَامُ شَرْطُ الْبَيْنُونَةِ، وَهُوَ مُضِيُّ ثَلَاثِ حِيَضٍ إذْ هُوَ شَرْطُ الْبَيْنُونَةِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ مَقَامَ الْعِلَّةِ، وَإِقَامَةُ الشَّرْطِ مَقَامَ الْعِلَّةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْعِلَّةِ جَائِزٌ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ، وَهِيَ ثَلَاثُ حِيَضٍ صَارَ مُضِيُّ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِمَنْزِلَةِ تَفْرِيقِ الْقَاضِي. وَتَكُونُ فُرْقَةً بِطَلَاقٍ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّهُ فُرْقَةٌ بِسَبَبِ الْإِبَاءِ حُكْمًا وَتَقْدِيرًا. وَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَعْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ هَلْ تَجِبُ الْعِدَّةُ بَعْدَ مُضِيِّهَا؟ بِأَنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُسْلِمَةُ، فَخَرَجَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَتَمَّتْ الْحِيَضُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ هُوَ الزَّوْجُ؛ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهَا حَرْبِيَّةٌ. وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ عِنْدَنَا بِأَنْ خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَتَرَكَ الْآخَرَ كَافِرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَلَوْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا مُسْتَأْمَنًا، وَبَقِيَ الْآخَرُ كَافِرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ عِلَّةٌ لِثُبُوتِ الْفُرْقَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ هِيَ السَّبْيُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَاجَرَتْ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَخَلَّفَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ كَافِرًا بِمَكَّةَ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ» . وَلَوْ ثَبَتَتْ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ لَمَا رُدَّ بَلْ جُدِّدَ النِّكَاحُ؛ وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فِي انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ، وَانْقِطَاعُ الْوِلَايَةِ لَا يُوجِبُ انْقِطَاعَ النِّكَاحِ، فَإِنَّ النِّكَاحَ يَبْقَى بَيْنَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالْبَغْيِ، وَالْوِلَايَةُ مُنْقَطِعَةٌ. (وَلَنَا) أَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ يَخْرُجُ الْمِلْكُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ عَادَةً، فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَائِهِ فَائِدَةٌ، فَيَزُولُ كَالْمُسْلِمِ إذَا ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ أَمْوَالِهِ، وَتُعْتَقُ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا بِخِلَافِ

أَهْلِ الْبَغْيِ مَعَ أَهْلِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ؛ وَلِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، فَيُخَالِطُونَ أَهْلَ الْعَدْلِ، فَكَانَ إمْكَانُ الِانْتِفَاعِ ثَابِتًا، فَيَبْقَى النِّكَاحُ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ، فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مَعَ مَا أَنَّ الْعَمَلَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَمْرًا لَمْ يَكُنْ، فَكَانَ رَاوِي الرَّدِّ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ اسْتَصْحَبَ الْحَالَ، فَظَنَّ أَنَّهُ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ النِّكَاحِ الَّذِي كَانَ، وَرَاوِي النِّكَاحِ الْجَدِيدِ اعْتَمَدَ حَقِيقَةَ الْحَالِ، وَصَارَ كَاحْتِمَالِ الْجَرْحِ، وَالتَّعْدِيلِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ؛ فَلَا عِدَّةَ عَلَى الْمَرْأَةِ بِلَا خِلَافٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ حَرْبِيٌّ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي خَرَجَتْ؛ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ أَحَدُهُمَا ذِمِّيًّا؛ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ خَرَجَ مُسْلِمًا بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ أَحَدُهُمَا بِأَمَانٍ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَّةِ لِقَضَاءِ بَعْضِ حَاجَاتِهِ لَا لِلتَّوَطُّنِ، فَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ دَارِ الْحَرْبِ فِي حَقِّهِ كَالْمُسْلِمِ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِالدُّخُولِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. وَلَوْ أَسْلَمَا مَعًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ صَارَا ذِمِّيَّيْنِ مَعًا أَوْ خَرَجَا مُسْتَأْمَنَيْنِ، فَالنِّكَاحُ عَلَى حَالِهِ لِانْعِدَامِ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ عِنْدَنَا، وَانْعِدَامِ السَّبْيِ عِنْدَهُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا سُبِيَ أَحَدُهُمَا، وَأُحْرِزَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِالْإِجْمَاعِ لَكِنْ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ عِنْدَنَا بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، وَعِنْدَهُ بِالسَّبْيِ، وَعِنْدَنَا لَا تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. وَلَوْ سُبِيَا مَعًا لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ عِنْدَنَا لِعَدَمِ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، وَعِنْدَهُ تَقَعُ لِوُجُودِ السَّبْيِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] حَرَّمَ الْمُحْصَنَاتِ، وَهُنَّ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ إذْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ، وَاسْتَثْنَى الْمَمْلُوكَاتِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْحَظْرِ إبَاحَةٌ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا سُبِيَتْ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ زَوْجِهَا؛ وَلِأَنَّ السَّبْيَ سَبَبٌ لِثُبُوتِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ لِلسَّابِي؛ لِأَنَّهُ اسْتِيلَاءٌ، وَرَدَ عَلَى مَحَلٍّ غَيْرِ مَعْصُومٍ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الرَّقَبَةِ؛ وَلِهَذَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْمَسْبِيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ يُوجِبُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ، وَمَتَى ثَبَتَ مِلْكُ الْمُتْعَةِ لِلسَّابِي؛ يَزُولُ مِلْكُ الزَّوْجِ ضَرُورَةً بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى أَمَةً هِيَ مَنْكُوحَةُ الْغَيْرِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي مِلْكُ الْمُتْعَةِ، وَإِنْ ثَبَتَ لَهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ بِالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الزَّوْجِ فِي الْأَمَةِ مِلْكٌ مَعْصُومٌ، وَإِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَحَلٍّ مَعْصُومٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ. (وَلَنَا) أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لِلزَّوْجِ كَانَ ثَابِتًا بِدَلِيلِهِ مُطْلَقًا، وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَزُولَ إلَّا بِإِزَالَتِهِ أَوْ لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْبَقَاءِ إمَّا لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ حَقِيقَةً بِالْهَلَاكِ أَوْ تَقْدِيرًا لِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ، وَإِمَّا لِفَوَاتِ حَاجَةِ الْمَالِكِ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالزَّوَالِ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَنَاقُضًا، وَالشَّرْعُ مُنَزَّهٌ عَنْ التَّنَاقُضِ، وَلَمْ تُوجَدْ الْإِزَالَةُ مِنْ الزَّوْجِ، وَالْمَحَلُّ صَالِحٌ، وَالْمَالِكُ صَالِحٌ حَيٌّ مُحْتَاجٌ إلَى الْمِلْكِ، وَإِمْكَانُ الِاسْتِمْتَاعِ ثَابِتٌ ظَاهِرًا، وَغَالِبًا إذَا سُبِيَا مَعًا، وَلَا يَكُونُ نَادِرًا. وَكَذَا إذَا سُبِيَ أَحَدُهُمَا، وَالْمَسْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الِاسْتِرْدَادِ مِنْ الْكَفَرَةِ أَوْ اسْتِنْقَاذِ الْأُسَرَاءِ مِنْ الْغُزَاةِ لَيْسَ بِنَادِرٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَالِبًا بِخِلَافِ مَا إذَا سُبِيَ أَحَدُهُمَا، وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا فَائِدَةَ فِي بَقَاءِ الْمِلْكِ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ إقَامَةِ الْمَصَالِحِ بِالْمِلْكِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ السَّبْيُ وَرَدَ عَلَى مَحَلٍّ غَيْرِ مَعْصُومٍ، فَنَعَمْ لَكِنَّ الِاسْتِيلَاءَ الْوَارِدَ عَلَى مَحَلٍّ غَيْرِ مَعْصُومٍ إنَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ، وَمِلْكُ الزَّوْجِ هَهُنَا قَائِمٌ لِمَا بَيَّنَّا، فَلَمْ يَكُنْ السَّبْيُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلسَّابِي، فَلَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الزَّوْجِ، وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا سُبِيَتْ، وَحْدَهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ. وَمِنْهَا الْمِلْكُ الطَّارِئُ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ بِأَنْ مَلَكَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَ النِّكَاحِ أَوْ مَلَكَ شِقْصًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْمُقَارَنَ يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ النِّكَاحِ، فَالطَّارِئُ عَلَيْهِ يُبْطِلُهُ، وَالْفُرْقَةُ الْوَاقِعَةُ بِهِ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ حَصَلَتْ بِسَبَبٍ لَا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ طَلَاقًا، فَتُجْعَلُ فَسْخًا، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى تَفْرِيقِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ حَصَلَتْ بِطَرِيقِ التَّنَافِي لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ الْحُقُوقَ الثَّابِتَةَ بِالنِّكَاحِ لَا يَصِحُّ إثْبَاتُهَا بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكِ، فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى الْقَضَاءِ كَالْفُرْقَةِ الْحَاصِلَةِ بِرِدَّةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي الْقِنِّ، وَالْمُدَبَّرِ وَالْمَأْذُونِ إذَا اشْتَرَيَا زَوْجَتَيْهِمَا لَمْ يَبْطُلْ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يُفِيدُ لَهُمَا مِلْكَ الْمُتْعَةِ، فَلَا يُوجِبُ بُطْلَانَ النِّكَاحِ. وَقَالُوا أَيْضًا فِي الْمُكَاتَبِ إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ لَا يَبْطُلُ نِكَاحُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ فِيهَا حَقُّ الْمِلْكِ، وَحَقُّ الْمِلْكِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ

النِّكَاحِ، وَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ كَالْعِدَّةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ هُوَ الْمِلْكُ مِنْ. وَجْهٍ، فَكَانَ مِلْكُهُ فِيهَا ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَالنِّكَاحُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُنْعَقِدًا يَقَعُ الشَّكُّ فِي انْعِقَادِهِ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِالشَّكِّ، وَإِذَا كَانَ مُنْعَقِدًا يَقَعُ الشَّكُّ فِي زَوَالِهِ، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ غَيْرَ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ، وَالثَّابِتُ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ لِهَذَا الْمَعْنَى مَنَعَتْ الْعِدَّةُ مِنْ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، وَلَمْ تَمْنَعْ الْبَقَاءَ كَذَا هَذَا، وَقَالُوا فِيمَنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ مُكَاتَبِهِ، ثُمَّ مَاتَ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَعْجِزَ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يُورَثُ عِنْدَنَا، فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْوَارِثِ فِي الْمُكَاتَبِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ النِّكَاحِ، وَعِنْدَهُ يُورَثُ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهَا فِي زَوْجِهَا، فَيَبْطُلُ النِّكَاحُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُورَثِ فِي أَمْلَاكِهِ، فَيَثْبُتُ لَهُ مَا كَانَ ثَابِتًا لِلْمُورَثِ، وَمِلْكُهُ فِي الْمُكَاتَبِ كَانَ ثَابِتًا لَهُ، فَيَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ، فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُ، فَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ. (وَلَنَا) أَنَّ الْحَاجَةَ مَسَّتْ إلَى إبْقَاءِ مِلْكِ الْمَيِّتِ فِي الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ أَوْجَبَ لَهُ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لِلْحَالِ عَلَى وَجْهٍ يُصَيِّرُ ذَلِكَ الْحَقَّ حَقِيقَةً عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ مِنْ قِبَلِهِ، فَلَوْ نَقَلْنَا الْمِلْكَ مِنْ الْمَيِّتِ إلَى الْوَارِثِ لَتَعَذَّرَ إثْبَاتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ عِنْدَ الْأَدَاءِ لِانْعِدَامِ تَعْلِيقِ الْحُرِّيَّةِ مِنْهُ بِالْأَدَاءِ، فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى اسْتِيفَاءِ مِلْكِ الْمَيِّتِ فِيهِ لَأَجْلِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ لِلْمُكَاتَبِ، فَيَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ حَقِيقَةً لِلْوَارِثِ، وَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ لِوُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ، وَشَرْطُهُ، وَهُوَ الْمَوْتُ، وَحَقُّ الْمِلْكِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، وَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ لِمَا ذَكَرْنَا إلَّا إذَا عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ ثَبَتَ الْمِلْكُ حَقِيقَةً لِلْوَارِثِ، فَيَرْتَفِعُ النِّكَاحُ، وَأَمَّا مُعْتَقُ الْبَعْضِ إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَبْطُلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا الرَّضَاعُ الطَّارِئُ عَلَى النِّكَاحِ كَمَنْ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً، فَأَرْضَعَتْهَا أُمُّهُ بَانَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتًا لَهُ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعِ. وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ صَبِيَّتَيْنِ رَضِيعَتَيْنِ، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ، فَأَرْضَعَتْهُمَا بَانَتَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ وَحُرْمَةُ الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ يَسْتَوِي فِيهَا السَّابِقُ وَالطَّارِئُ. وَكَذَا حُرْمَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّضَاعِ الْمُقَارَنِ وَالطَّارِئِ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي كِتَابِ الرَّضَاعِ. وَمِنْهَا الْمُصَاهَرَةُ الطَّارِئَةُ بِأَنْ وَطِئَ أُمَّ امْرَأَتِهِ أَوْ ابْنَتَهَا، وَالْفُرْقَةُ بِهَا فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّهَا حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ، وَالْفُرَقُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي بَعْضِهَا الْخَلَاصُ، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْبَائِنِ، وَفِي بَعْضِهَا الْمَحَلُّ لَيْسَ بِقَابِلٍ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ، فَافْهَمْ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

كتاب الأيمان

[كِتَابُ الْأَيْمَانِ] [فِي أَنْوَاعِ الْيَمِينِ] الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ. أَنْوَاعِ الْيَمِينِ وَفِي بَيَانِ رُكْنِ كُلِّ نَوْعٍ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ وَفِي بَيَانِ أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ أَوْ الْمُسْتَحْلِفِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْيَمِينُ فِي الْقِسْمَةِ الْأُولَى يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ: يَمِينٌ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْقَسَمِ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، وَيَمِينٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الظَّاهِرِ هِيَ قِسْمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَلَيْسَ بِيَمِينٍ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهَا مَجَازًا، حَتَّى إنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَحْلِفُ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ يَحْنَثُ، وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لَا يَحْنَثُ. وَجْهُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ وَلِهَذَا كَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ الْقَسَمَ بِمَا جَلَّ قَدْرُهُ وَعَظُمَ خَطَرُهُ وَكَثُرَ نَفْعُهُ عِنْدَ الْخَلْقِ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْمُسْتَحِقُّ لِلتَّعْظِيمِ بِهَذَا النَّوْعِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ التَّعْظِيمَ بِهَذَا النَّوْعِ عِبَادَةٌ وَلَا تَجُوزُ الْعِبَادَةُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ وَاسْتَثْنَى فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» سَمَّاهُ حَلِفًا، وَالْحَلِفُ وَالْيَمِينُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ، وَالْأَصْلُ فِي إطْلَاقِ الِاسْمِ هُوَ الْحَقِيقَةُ فَدَلَّ أَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ يَمِينٌ حَقِيقَةً. وَكَذَا مَأْخَذُ الِاسْمِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا أُخِذَتْ مِنْ الْقُوَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45] أَيْ بِالْقُوَّةِ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْيَدُ الْيَمِينُ يَمِينًا لِفَضْلِ قُوَّتِهَا عَلَى الشِّمَالِ عَادَةً. قَالَ الشَّاعِرُ: رَأَيْت عَرَابَةَ الْأَوْسِيَّ يَسْمُو ... إلَى الْخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ إذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ أَيْ بِالْقُوَّةِ، وَمَعْنَى الْقُوَّةِ يُوجَدُ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ أَنَّ الْحَالِفَ يَتَقَوَّى بِهَا عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْمَرْهُوبِ وَعَلَى التَّحْصِيلِ فِي

الْمَرْغُوبِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا دَعَاهُ طَبْعُهُ إلَى فِعْلٍ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ اللَّذَّةِ الْحَاضِرَةِ فَعَقْلُهُ يَزْجُرُهُ عَنْهُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْعَاقِبَةِ الْوَخِيمَةِ، وَرُبَّمَا لَا يُقَاوِمُ طَبْعَهُ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَتَقَوَّى عَلَى الْجَرْيِ عَلَى مُوجَبِ الْعَقْلِ فَيَحْلِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لِمَا عُرِفَ مِنْ قُبْحِ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَذَا إذَا دَعَاهُ عَقْلُهُ إلَى فِعْلٍ تَحْسُنُ عَاقِبَتُهُ وَطَبْعُهُ يَسْتَثْقِلُ ذَلِكَ فَيَمْنَعُهُ عَنْهُ فَيَحْتَاجُ إلَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لِيَتَقَوَّى بِهَا عَلَى التَّحْصِيلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لِأَنَّ الْحَالِفَ يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ خَوْفًا مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ الَّذِي هُوَ مُسْتَثْقَلٌ عَلَى طَبْعِهِ فَثَبَتَ أَنَّ مَعْنَى الْيَمِينِ يُوجَدُ فِي النَّوْعَيْنِ فَلَا مَعْنَى لِلْفَصْلِ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مُحَمَّدًا سَمَّى الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي أَبْوَابِ الْأَيْمَانِ مِنْ الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ يَمِينًا، وَقَوْلُهُ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ. ثُمَّ. الْيَمِينُ - بِاَللَّهِ - تَعَالَى مُنْقَسِمٌ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ يَمِينُ الْغَمُوسِ وَيَمِينُ اللَّغْوِ وَيَمِينٌ مَعْقُودَةٌ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَيْمَانِ مِنْ الْأَصْلِ وَقَالَ: الْأَيْمَانُ ثَلَاثَةٌ يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ وَيَمِينٌ لَا تُكَفَّرُ وَيَمِينٌ نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ بِهَا صَاحِبَهَا، وَفَسَّرَ الثَّالِثَةَ بِيَمِينِ اللَّغْوِ وَإِنَّمَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِقَوْلِهِ: الْأَيْمَانُ ثَلَاثٌ الْأَيْمَانَ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا جِنْسَ الْأَيْمَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَثِيرٌ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ أَخْبَرَ مُحَمَّدٌ عَنْ انْتِفَاءِ الْمُؤَاخَذَةِ بِلَغْوِ الْيَمِينِ بِلَفْظَةِ التَّرَجِّي وَانْتِفَاءُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْيَمِينِ مَقْطُوعٌ بِهِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] . فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ يَمِينَ اللَّغْوِ هِيَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ لَكِنْ لَا عَنْ قَصْدٍ بَلْ خَطَأً أَوْ غَلَطًا عَلَى مَا نَذْكُرُ تَفْسِيرَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالتَّحَرُّزُ عَنْ فِعْلِهِ مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ وَحِفْظُ النَّفْسِ عَنْهُ مَقْدُورٌ فَكَانَ جَائِزَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ رَحْمَةً وَفَضْلًا وَلِهَذَا يَجِبُ الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ عَنْ فِعْلِ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ كَذَلِكَ فَذَكَرَ مُحَمَّدٌ لَفْظَ الرَّجَاءِ لِيُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ بِرَفْعِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ بَعْدَمَا كَانَ جَائِزَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُنْتَفِيَةً عَنْ هَذَا النَّوْعِ قَطْعًا لَكِنَّ الْعِلْمَ بِمُرَادِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ اللَّغْوِ الْمَذْكُورِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ بَلْ هُوَ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ عَلَى مَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَالْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَنْ اجْتِهَادٍ عِلْمُ غَالِبِ الرَّأْيِ وَأَكْثَرِ الظَّنِّ لَا عِلْمُ الْقَطْعِ فَاسْتَعْمَلَ مُحَمَّدٌ لَفْظَةَ الرَّجَاءِ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مُرَادُ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ اللَّغْوِ الْمَذْكُورِ مَا أَفْضَى إلَيْهِ اجْتِهَادُ مُحَمَّدٍ فَكَانَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الرَّجَاءِ فِي مَوْضِعِهِ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ: الْيَمِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ مَاضٍ وَمُسْتَقْبَلٍ وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا أَنْ تَكُونَ مُحِيطَةً بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْمَقْسُومِ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ بِخُرُوجِ الْحَالِ عَنْهَا وَأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي يَمِينِ الْغَمُوسِ وَيَمِينِ اللَّغْوِ عَلَى مَا نَذْكُرُ تَفْسِيرَهُمَا فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ نَاقِصَةً وَالنُّقْصَانُ فِي الْقِسْمَةِ مِنْ عُيُوبِ الْقِسْمَةِ كَالزِّيَادَةِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ الصَّحِيحَةُ مَا ذَكَرْنَا لِوُقُوعِهَا حَاصِرَةً جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْمَقْسُومِ بِحَيْثُ لَا يَشِذُّ عَنْهَا جُزْءٌ وَكَذَا مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّهُ بَيَّنَ كُلَّ نَوْعٍ بِنَفْسِهِ وَحُكْمِهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَنَحْنُ أَخَّرْنَا بَيَانَ الْحُكْمِ عَنْ بَيَانِ النَّوْعِ سَوْقًا لِلْكَلَامِ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ضَمَّنَّاهُ. أَمَّا يَمِينُ الْغَمُوسِ فَهِيَ الْكَاذِبَةُ قَصْدًا فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ عَلَى النَّفْيِ أَوْ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَهِيَ الْخَبَرُ عَنْ الْمَاضِي أَوْ الْحَالِ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ فِي ذَلِكَ مَقْرُونًا بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ فَعَلَهُ، أَوْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ، أَوْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيَّ دَيْنٌ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنًا فَهَذَا تَفْسِيرُ يَمِينِ الْغَمُوسِ. وَأَمَّا يَمِينُ اللَّغْوِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهَا، قَالَ أَصْحَابُنَا: هِيَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ خَطَأً أَوْ غَلَطًا فِي الْمَاضِي أَوْ فِي الْحَالِ وَهِيَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ الْمَاضِي أَوْ عَنْ الْحَالِ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْمَخْبَرَ بِهِ كَمَا أَخْبَرَ وَهُوَ بِخِلَافِهِ فِي النَّفْيِ أَوْ فِي الْإِثْبَاتِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ مَا كَلَّمْتُ زَيْدًا وَفِي ظَنِّهِ أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمْهُ، أَوْ وَاَللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُ زَيْدًا وَفِي ظَنِّهِ أَنَّهُ كَلَّمَهُ وَهُوَ بِخِلَافِهِ أَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ إنَّ هَذَا الْجَائِيَ لَزَيْدٌ، إنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَغُرَابٌ وَفِي ظَنِّهِ أَنَّهُ كَذَلِكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: اللَّغْوُ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ عَلَى الشَّيْءِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ حَقٌّ وَلَيْسَ بِحَقٍّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَمِينُ اللَّغْوِ هِيَ الْيَمِينُ الَّتِي لَا يَقْصِدُهَا الْحَالِفُ وَهُوَ مَا يَجْرِي عَلَى أَلْسُنِ النَّاسِ فِي كَلَامِهِمْ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْيَمِينِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَاضِي أَوْ الْحَالِ أَوْ الْمُسْتَقْبَلِ. وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا لَغْوَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَلْ الْيَمِينُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَمِينٌ مَعْقُودَةٌ وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ، قَصَدَ الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ وَإِنَّمَا اللَّغْوُ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ فَقَطْ، وَمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى إثْرِ حِكَايَتِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ اللَّغْوَ مَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِمْ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ فَذَلِكَ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى الْمَاضِي أَوْ الْحَالِ وَعِنْدَنَا ذَلِكَ لَغْوٌ فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ فِي يَمِينٍ

لَا يَقْصِدُهَا الْحَالِفُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عِنْدَنَا لَيْسَ بِلَغْوٍ وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ وَعِنْدَهُ هِيَ لَغْوٌ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَمِينُ اللَّغْوِ هِيَ الْيَمِينُ عَلَى الْمَعَاصِي نَحْوُ أَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ لَا أُصَلِّي صَلَاةَ الظَّهْرِ وَلَا أَصُومُ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ لَا أُكَلِّمُ أَبَوَيَّ أَوْ يَقُولَ وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ أَوْ لَأَزْنِيَنَّ أَوْ لَأَقْتُلَنَّ فُلَانًا. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ إذَا حَنِثَ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُوجِبُ. وَجْهُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللَّغْوَ هُوَ الْإِثْمُ فِي اللُّغَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55] أَيْ كَلَامًا فِيهِ إثْمٌ، فَقَالُوا: إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى - {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] أَيْ لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِالْإِثْمِ فِي أَيْمَانِكُمْ عَلَى الْمَعَاصِي بِنَقْضِهَا وَالْحِنْثِ فِيهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ قَوْلَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] صِلَةَ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224] . وَقِيلَ فِي الْقِصَّةِ إنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَحْلِفُ أَنْ لَا يَصْنَعَ الْمَعْرُوفَ وَلَا يَبَرَّ وَلَا يَصِلَ أَقْرِبَاءَهُ وَلَا يُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ فَإِذَا أُمِرَ بِذَلِكَ يَتَعَلَّلُ وَيَقُولُ إنِّي حَلَفْتُ عَلَى ذَلِكَ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ - {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] الْآيَةَ لِأَنَّهُ لَا مَأْثَمَ عَلَيْهِمْ بِنَقْضِ ذَلِكَ الْيَمِينِ وَتَحْنِيثِ النَّفْسِ فِيهَا وَإِنَّ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْإِثْمِ فِيهَا بِحِفْظِهَا وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَكَفَّارَتُهُ إلَى قَوْلِهِ {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] أَيْ حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُوجِبْ فِيهَا الْكَفَّارَةَ أَصْلًا لِمَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي بَيَانِ حُكْمِ الْيَمِينِ. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ يَمِينِ اللَّغْوِ فَقَالَتْ: هِيَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي كَلَامِهِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ وَعَنْ عَطَاءٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ يَمِينِ اللَّغْوِ فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «هُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ» فَثَبَتَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا أَنَّ تَفْسِيرَ يَمِينِ اللَّغْوِ مَا قُلْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فَكَانَ لَغْوًا عَلَى كُلِّ حَالٍ إذَا لَمْ يَقْصِدْهُ الْحَالِفُ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَابَلَ يَمِينَ اللَّغْوِ بِالْيَمِينِ الْمَكْسُوبَةِ بِالْقَلْبِ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] وَالْمَكْسُوبَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ فَكَانَ غَيْرُ الْمَقْصُودَةِ دَاخِلًا فِي قَسَمِ اللَّغْوِ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى - {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] قَابَلَ يَمِينَ اللَّغْوِ بِالْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمُؤَاخَذَةِ وَنَفْيِهَا فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ يَمِينُ اللَّغْوِ غَيْرَ الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ، وَالْيَمِينُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَمِينٌ مَعْقُودَةٌ سَوَاءٌ وُجِدَ الْقَصْدُ أَوْ لَا وَلِأَنَّ اللَّغْوَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} [الواقعة: 25] أَيْ بَاطِلًا. وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - خَبَرًا عَنْ الْكَفَرَةِ {وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا وَهُوَ الْحَلِفُ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ بَلْ عَلَى ظَنٍّ مِنْ الْحَالِفِ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَالْحَقِيقَةُ بِخِلَافِهِ وَكَذَا مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَكِنْ فِي الْمَاضِي أَوْ الْحَالِ فَهُوَ مِمَّا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَكَانَ لَغْوًا وَلِأَنَّ اللَّغْوَ لَمَّا كَانَ هُوَ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَانَ هُوَ الْبَاطِلَ الَّذِي لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا مَعْقُودَةً لِأَنَّ لَهَا حُكْمًا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِيهَا ثَابِتَةٌ وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ بِالنَّصِّ؟ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ اللَّغْوِ مَا قُلْنَا وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي تَفْسِيرِ يَمِينِ اللَّغْوِ هِيَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ عَلَى الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ صَادِقٌ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ يَمِينَ اللَّغْوِ مَا يَجْرِي فِي كَلَامِ النَّاسِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ فِي الْمَاضِي لَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا فَسَّرَتْهَا بِالْمَاضِي فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ مَطَرٍ عَنْ رَجُلٍ قَالَ دَخَلْت أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَسَأَلْتهَا عَنْ يَمِينِ اللَّغْوِ فَقَالَتْ قَوْلُ الرَّجُلِ فَعَلْنَا وَاَللَّهِ كَذَا وَصَنَعْنَا وَاَللَّهِ كَذَا فَتُحْمَلُ تِلْكَ الرِّوَايَةُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ إذْ الْمُجْمَلُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُفَسَّرِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قَابَلَ اللَّغْوَ بِالْيَمِينِ الْمَكْسُوبَةِ فَنَقُولُ: فِي تِلْكَ الْآيَةِ قَابَلَهَا بِالْمَكْسُوبَةِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَابَلَهَا بِالْمَعْقُودَةِ، وَمَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الْآيَتَيْنِ عَلَى التَّوَافُقِ كَانَ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى التَّعَارُضِ فَنَجْمَعُ بَيْنَ حُكْمِ الْآيَتَيْنِ فَنَقُولُ: يَمِينُ اللَّغْوِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَكْسُوبَةٍ وَغَيْرُ مَعْقُودَةٍ، وَالْمُخَالِفُ عَطَّلَ إحْدَى الْآيَتَيْنِ فَكُنَّا أَسْعَدَ حَالًا مِنْهُ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى - {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} [البقرة: 224] الْآيَةُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ ذَلِكَ نَهْيٌ عَنْ الْحَلِفِ عَلَى الْمَاضِي مَعْنَاهُ {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} [البقرة: 224] أَيْ لَا تَحْلِفُوا أَنْ

فصل في ركن اليمين بالله تعالى

لَا تَبَرُّوا وَيَجُوزُ إضْمَارُ حَرْفٍ لَا فِي مَوْضِعِ الْقَسَمِ وَغَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} [النور: 22] أَيْ لَا يُؤْتَوْا وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ عَامَّةً أَيْ لَا تَحْلِفُوا لِكَيْ تَبَرُّوا فَتَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً بِالْحِنْثِ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَرْكِ التَّعْظِيمِ بِتَرْكِ الْوَفَاءِ بِالْيَمِينِ، يُقَالُ فُلَانٌ عُرْضَةٌ لِلنَّاسِ أَيْ لَا يُعَظِّمُونَهُ وَيَقَعُونَ فِيهِ فَيَكُونُ هَذَا نَهْيًا عَنْ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى إذَا لَمْ يَكُنِ الْحَالِفُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الْإِصْرَارِ عَلَى مُوجِبِ الْيَمِينِ وَهُوَ الْبِرُّ أَوْ غَالِبِ الرَّأْيِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ -. وَأَمَّا الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ فَهِيَ الْيَمِينُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا نَحْوَ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا وَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَن كَذَا. [فَصْلٌ فِي رُكْنُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ اللَّفْظُ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَالْمُقْسَمِ بِهِ ثُمَّ الْمُقْسَمُ بِهِ قَدْ يَكُونُ اسْمًا وَقَدْ يَكُونُ صِفَةً وَالِاسْمُ قَدْ يَكُونُ مَذْكُورًا وَقَدْ يَكُونُ مَحْذُوفًا وَالْمَذْكُورُ قَدْ يَكُونُ صَرِيحًا وَقَدْ يَكُونُ كِنَايَةً، أَمَّا الِاسْمُ صَرِيحًا فَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَيَّ اسْمٍ كَانَ سَوَاءٌ كَانَ اسْمًا خَاصًّا لَا يُطْلَقُ إلَّا عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - نَحْوُ اللَّهِ وَالرَّحْمَنِ أَوْ كَانَ يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَعَلَى غَيْرِهِ كَالْعَلِيمِ وَالْحَكِيمِ وَالْكَرِيمِ وَالْحَلِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَإِنْ كَانَتْ تُطْلَقُ عَلَى الْخَلْقِ وَلَكِنْ تُعَيِّنُ الْخَالِقَ مُرَادًا بِدَلَالَةِ الْقَسَمِ إذْ الْقَسَمُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى حَمْلًا لِكَلَامِهِ عَلَى الصِّحَّةِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَيُصَدَّقُ فِي أَمْرٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ. وَحُكِيَ عَنْ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ فِيمَنْ قَالَ وَالرَّحْمَنِ أَنَّهُ إنْ قَصَدَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ حَالِفٌ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ سُورَةَ الرَّحْمَنِ فَلَيْسَ بِحَالِفٍ فَكَأَنَّهُ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَسَمُ بِحَرْفِ الْبَاءِ أَوْ الْوَاوِ أَوْ التَّاءِ بِأَنْ قَالَ بِاَللَّهِ أَوْ تَاللَّهِ لِأَنَّ الْقَسَمَ بِكُلِّ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] وَقَالَ: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] وَقَالَ تَعَالَى خَبَرًا عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: 85] وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} [النحل: 63] وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} [الأنعام: 109] وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 56] وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَدَعْ» إلَّا أَنَّ الْبَاءَ هِيَ الْأَصْلُ وَمَا سِوَاهَا دَخِيلٌ قَائِمٌ مَقَامَهَا، فَقَوْلُ الْحَالِفِ بِاَللَّهِ أَيْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ لِأَنَّ الْبَاءَ حَرْفُ إلْصَاقٍ وَهُوَ إلْصَاقُ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ وَرَبْطُ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ، وَالنَّحْوِيُّونَ يُسَمُّونَ الْبَاءَ حَرْفَ إلْصَاقٍ وَحَرْفَ الرَّبْطِ وَحَرْفَ الْآلَةِ وَالتَّسْبِيبِ فَإِنَّكَ إذَا قُلْتَ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ فَقَدْ أَلْصَقْتَ الْفِعْلَ بِالِاسْمِ وَرَبَطْتَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ فَكَانَ الْقَلَمُ آلَةَ الْكِتَابَةِ وَسَبَبًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْهَا فَإِذَا قَالَ بِاَللَّهِ فَقَدْ أَلْصَقَ الْفِعْلَ الْمَحْذُوفَ وَهُوَ قَوْلُهُ: احْلِفْ بِالِاسْمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: بِاَللَّهِ وَجَعَلَ اسْمَ اللَّهِ آلَةً لِلْحَلِفِ وَسَبَبًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ أُسْقِطَ قَوْلُهُ أَحْلِفُ وَاكْتُفِيَ بِقَوْلِهِ بِاَللَّهِ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْعَرَبِ مِنْ حَذْفِ الْبَعْضِ وَإِبْقَاءِ الْبَعْضِ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ إذَا كَانَ فِيمَا بَقِيَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ بِاسْمِ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا خُفِضَ الِاسْمُ لِأَنَّ الْبَاءَ مِنْ حُرُوفِ الْخَفْضِ وَالْوَاوُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَصَارَ كَأَنَّ الْبَاءَ هُوَ الْمَذْكُورُ وَكَذَا التَّاءُ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَاوِ فَكَانَ الْوَاوَ هُوَ الْمَذْكُورُ إلَّا أَنَّ الْبَاءَ تُسْتَعْمَلُ فِي جَمِيعِ مَا يُقْسَمُ بِهِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَذَا الْوَاوُ. فَأَمَّا التَّاءُ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى تَقُولُ تَاللَّهِ وَلَا تَقُولُ تَالرَّحْمَنِ وَتَعِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَعْنًى يُذْكَرُ فِي النَّحْوِ وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَدَوَاتِ بِأَنْ قَالَ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا يَكُونُ يَمِينًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حَلَّفَ رُكَانَةَ بْنَ زَيْدٍ أَوْ زَيْدَ بْنَ رُكَانَةَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ وَقَالَ: اللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِالْبَتِّ إلَّا وَاحِدَةً» وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا قَالَهُ الْكُوفِيُّونَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِالْكَسْرِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ اللَّهَ بِالْكَسْرِ وَهُوَ أَفْصَحُ الْعَرَبِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ سَأَلَهُ وَاحِدٌ وَقَالَ لَهُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ قَالَ: خَيْرٍ عَافَاكَ اللَّهُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ هَلْ يَكُونُ يَمِينًا لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي الْأَصْلِ وَقَالُوا إنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ الرَّاءَ تُوضَعُ مَوْضِعَ اللَّامِ يُقَالُ آمَنَ بِاَللَّهِ وَآمَنَ لَهُ بِمَعْنًى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ: {آمَنْتُمْ لَهُ} [طه: 71] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ {آمَنْتُمْ بِهِ} [الأعراف: 123] وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قَالَ وَرَبِّي وَرَبِّ الْعَرْشِ أَوْ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَانَ حَالِفًا لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الْخَاصَّةِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ. (وَأَمَّا) الصِّفَةُ فَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّهَا كُلَّهَا لِذَاتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مِنْهَا مَا لَا يُسْتَعْمَلُ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ إلَّا فِي الصِّفَةِ نَفْسِهَا فَالْحَلِفُ بِهَا يَكُونُ يَمِينًا، وَمِنْهَا مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الصِّفَةِ وَفِي

غَيْرِهَا اسْتِعْمَالًا عَلَى السَّوَاءِ فَالْحَلِفُ بِهَا يَكُونُ يَمِينًا أَيْضًا، وَمِنْهَا مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الصِّفَةِ وَفِي غَيْرِهَا لَكِنْ اسْتِعْمَالُهَا فِي غَيْرِ الصِّفَةِ هُوَ الْغَالِبُ فَالْحَلِفُ بِهَا لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَعَنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ يَمِينًا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ وَمَا لَمْ يَتَعَارَفُوهُ يَمِينًا لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا قَالَ وَعِزَّةِ اللَّهِ وَعَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ يَكُونُ حَالِفًا لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ إذَا ذُكِرَتْ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَا يُرَادُ بِهَا إلَّا نَفْسَهَا فَكَانَ مُرَادُ الْحَالِفِ بِهَا الْحَلِفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَكَذَا النَّاس يَتَعَارَفُونَ الْحَلِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْحَلِفِ بِهَا. وَكَذَا لَوْ قَالَ وَقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ وَكَلَامِهِ يَكُونُ حَالِفًا لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الصِّفَةِ كَمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الصِّفَةِ لَكِنَّ الصِّفَةَ تَعَيَّنَتْ مُرَادَةً بِدَلَالَةِ الْقَسَمِ إذْ لَا يَجُوزُ الْقَسَمُ بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ فَالظَّاهِرُ إرَادَةُ الصِّفَةِ بِقَرِينَةِ الْقَسَمِ وَكَذَا النَّاسُ يُقْسِمُونَ بِهَا فِي الْمُتَعَارَفِ فَكَانَ الْحَلِفُ بِهَا يَمِينًا، وَلَوْ قَالَ وَرَحْمَةِ اللَّهِ أَوْ غَضَبِهِ أَوْ سَخَطِهِ لَا يَكُونُ هَذَا يَمِينًا لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ آثَارُهَا عَادَةً لَا نَفْسُهَا فَالرَّحْمَةُ يُرَادُ بِهَا الْجَنَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107] وَالْغَضَبُ وَالسَّخَطُ يُرَادُ بِهِ أَثَرُ الْغَضَبِ وَالسَّخَطِ عَادَةً وَهُوَ الْعَذَابُ وَالْعُقُوبَةُ لَا نَفْسُ الصِّفَةِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ حَالِفًا إلَّا إذَا نَوَى بِهِ الصِّفَةَ. وَكَذَا الْعَرَبُ مَا تَعَارَفَتْ الْقَسَمَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَلَا يَكُونُ الْحَلِفُ بِهَا يَمِينًا وَكَذَا وَعِلْمِ اللَّهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ كَالْعِزَّةِ وَالْعَظَمَةِ. (وَلَنَا) أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمَعْلُومُ عَادَةً يُقَالُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَك فِينَا أَيْ مَعْلُومَك مِنَّا وَمِنْ زَلَّاتِنَا وَيُقَالُ هَذَا عِلْمُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْ مَعْلُومُهُ لِأَنَّ عِلْمَ أَبِي حَنِيفَةَ قَائِمٌ بِأَبِي حَنِيفَةَ لَا يُزَايِلُهُ، وَمَعْلُومُ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ يَكُونُ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْعَالِمِ بِأَعْيَانِهَا وَأَعْرَاضِهَا وَالْمَعْدُومَاتُ كُلُّهَا لِأَنَّ الْمَعْدُومَ مَعْلُومٌ فَلَا يَكُونُ الْحَلِفُ بِهِ يَمِينًا إلَّا إذَا أَرَادَ بِهِ الصِّفَةَ. وَكَذَا الْعَرَبُ لَمْ تَتَعَارَفْ الْقَسَمَ بِعِلْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَلَا يَكُونُ يَمِينًا بِدُونِ النِّيَّةِ. وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ عَمَّنْ قَالَ وَسُلْطَانِ اللَّهِ فَقَالَ لَا أَرَى مَنْ يَحْلِفُ بِهَذَا أَيْ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالسُّلْطَانِ الْقُدْرَةَ يَكُونُ حَالِفًا كَمَا لَوْ قَالَ وَقُدْرَةِ اللَّهِ وَإِنْ أَرَادَ الْمَقْدُورَ لَا يَكُونُ حَالِفًا لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ وَلَوْ قَالَ وَأَمَانَةِ اللَّهِ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا أَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ. وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ أَمَانَةَ اللَّهِ فَرَائِضُهُ الَّتِي تَعَبَّدَ عِبَادَهُ بِهَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72] فَكَانَ حَلِفًا بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَلَا يَكُونُ يَمِينًا. (وَجْهُ) مَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْأَمَانَةَ الْمُضَافَةَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْقَسَمِ يُرَادُ بِهَا صِفَتَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمِينَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَمَانَةِ؟ فَكَانَ الْمُرَادُ بِهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ خُصُوصًا فِي مَوْضِعِ الْقَسَمِ صِفَةَ اللَّهِ وَلَوْ قَالَ وَعَهْدِ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ لِأَنَّ الْعَهْدَ يَمِينٌ لِمَا يُذْكَرُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ وَيَمِينِ اللَّهِ وَذَلِكَ يَمِينٌ فَكَذَا هَذَا. وَلَوْ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا يَكُونُ يَمِينًا كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الِاسْمَ وَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَكَانَ الْحَلِفُ بِالِاسْمِ حَلِفًا بِالذَّاتِ كَأَنَّهُ قَالَ بِاَللَّهِ، وَلَوْ قَالَ وَوَجْهِ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ كَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْوَجْهَ الْمُضَافَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - يُرَادُ بِهِ الذَّاتُ قَالَ تَعَالَى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص: 88] أَيْ ذَاتَهُ. وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] أَيْ ذَاتُهُ وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ وَوَجْهِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا ثُمَّ فَعَلَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ. وَقَالَ ابْنُ شُجَاعٍ إنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَيْمَانِ النَّاسِ إنَّمَا هِيَ حَلِفُ السَّفَلَةِ، وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ يَمِينًا. وَكَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ لَا أَفْعَلُ كَذَا لِأَنَّ الْعَادَةَ مَا جَرَتْ بِالْقَسَمِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَإِنَّمَا يُذْكَرُ هَذَا قَبْلَ الْخَبَرِ عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا إذَا نَوَى الْيَمِينَ فَكَأَنَّهُ حَذَفَ حَرْفَ الْقَسَمِ فَيَكُونُ حَالِفًا وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ وَمَلَكُوتِ اللَّهِ وَجَبَرُوتِ اللَّهِ إنَّهُ يَمِينٌ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الصِّفَةِ فَكَانَ الْحَلِفُ بِهِ يَمِينًا كَقَوْلِهِ وَعَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ. وَلَوْ قَالَ وَعَمْرِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا كَانَ يَمِينًا لِأَنَّ هَذَا حَلِفٌ بِبَقَاءِ اللَّهِ وَهُوَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الصِّفَةِ وَكَذَا الْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ: - {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] . وَقَالَ طَرَفَةُ

لَعَمْرُك إنَّ الْمَوْتَ مَا أَخْطَأَ الْفَتَى ... لَكَالطِّوَلِ الْمُرْخَى وَثِنْيَاهُ بِالْيَدِ وَلَوْ قَالَ وَاَيْمُ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا كَانَ يَمِينًا لِأَنَّ هَذَا مِنْ صِلَاتِ الْيَمِينِ عِنْدَ الْبَصْرِيَّيْنِ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ أَمَّرَهُ فِي حَرْبِ مُؤْتَةَ وَقَدْ بَلَغَهُ الطَّعْنُ وَاَيْمُ اللَّهِ لَخَلِيقٌ لِلْإِمَارَةِ» وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ هُوَ جَمْعُ الْيَمِينِ تَقْدِيرُهُ وَأَيْمُنِ اللَّهِ إلَّا أَنَّ النُّونَ أُسْقِطَتْ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ لِلتَّخْفِيفِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120] وَالْأَيْمُنُ جَمْعُ يَمِينٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَيَمِينِ اللَّهِ وَإِنَّهُ حَلِفٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْعَرَبَ تَعَارَفَتْهُ يَمِينًا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ فَقُلْتُ يَمِينُ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا ... وَإِنْ قُطِعَتْ رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالِي حَلَفْتُ لَهَا بِاَللَّهِ حَلْفَةَ فَاجِرٍ ... لَنَامُوا فَمَا إنْ مِنْ حَدِيثٍ وَلَا صَالِي وَقَالَتْ عُنَيْزَةُ فَقَالَتْ يَمِينُ اللَّهِ مَا لَكَ حِيلَةٌ ... وَمَا أَنْ أَرَى عَنْكَ الْغِوَايَةَ تَنْجَلِي فَقَدْ اسْتَعْمَلَ امْرُؤُ الْقَيْسِ يَمِينَ اللَّهِ وَسَمَّاهُ حَلِفًا بِاَللَّهِ. وَلَوْ قَالَ وَحَقِّ اللَّهِ لَا يَكُونُ حَالِفًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَرُوِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا وَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَحَقِّ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ إضَافَةَ الْحَقِّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُضَافُ إلَى نَفْسِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَالْحَقُّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ الْحَقِّ، وَلَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُضَافَ الشَّيْءُ إلَى غَيْرِهِ لَا إلَى نَفْسِهِ فَكَانَ حَلِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ يَمِينًا وَلِأَنَّ الْحَقَّ الْمُضَافَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يُرَادُ بِهِ الطَّاعَاتُ وَالْعِبَادَاتُ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي عُرْفِ الشَّرْعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقِيلَ لَهُ مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فَقَالَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» وَالْحَلِفُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَلَوْ قَالَ وَالْحَقِّ يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 25] . وَقِيلَ إنْ نَوَى بِهِ الْيَمِينَ يَكُونُ يَمِينًا وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ اسْمَ الْحَقِّ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ فَيَقِفُ عَلَى النِّيَّةِ وَلَوْ قَالَ حَقًّا، لَا رِوَايَةَ فِيهِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ لَا يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ قَوْلَهُ حَقًّا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ صِدْقًا وَقَالَ أَبُو مُطِيعٍ هُوَ يَمِينٌ لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَقَوْلُهُ حَقًّا كَقَوْلِهِ وَالْحَقِّ. وَلَوْ قَالَ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ أَوْ أَحْلِفُ أَوْ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَوْ أَعْزِمُ بِاَللَّهِ كَانَ يَمِينًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا إذَا نَوَى الْيَمِينَ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْحَالَ وَيَحْتَمِلُ الِاسْتِقْبَالَ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ وَلَنَا أَنَّ صِيغَةَ أَفْعَلُ لِلْحَالِ حَقِيقَةً وَلِلِاسْتِقْبَالِ بِقَرِينَةِ السِّينِ وَسَوْفَ وَهُوَ الصَّحِيحُ فَكَانَ هَذَا إخْبَارًا عَنْ حَلِفِهِ بِاَللَّهِ لِلْحَالِ وَهَذَا إذَا ظَهَرَ الْمُقْسَمُ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ بِأَنْ قَالَ أُقْسِمُ أَوْ أَحْلِفُ أَوْ أَشْهَدُ أَوْ أَعْزِمُ كَانَ يَمِينًا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَكُونُ يَمِينًا. (وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّهُ إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْمَحْلُوفَ بِهِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْحَلِفَ بِاَللَّهِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُجْعَلُ حَلِفًا مَعَ الشَّكِّ. (وَلَنَا) أَنَّ الْقَسَمَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ إلَّا بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ إخْبَارًا عَمَّا لَا يَجُوزُ بِدُونِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْعَرَبَ تَعَارَفَتْ الْحَلِفَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} [التوبة: 96] وَلَمْ يَقُلْ بِاَللَّهِ وَقَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] فَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - سَمَّاهُ يَمِينًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16] . وَقَالَ تَعَالَى {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] وَلَمْ يَذْكُرْ بِاَللَّهِ ثُمَّ سَمَّاهُ قَسَمًا وَالْقَسَمُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ بِقَوْلِهِ {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 18] فَقَالَ أَفَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا فِي الْيَمِينِ؟ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْيَمِينِ لَا مَحَالَةَ وَإِنَّمَا يَسْتَدْعِي الْإِخْبَارَ عَنْ أَمْرٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24] وَقَوْلُهُ أَعْزِمُ مَعْنَاهُ أُوجِبُ فَكَانَ إخْبَارًا عَنْ الْإِيجَابِ فِي الْحَالِ وَهَذَا مَعْنَى الْيَمِينِ وَكَذَا لَوْ قَالَ عَزَمْتُ لَا أَفْعَلُ كَذَا كَانَ حَالِفًا وَكَذَا لَوْ قَالَ آلَيْتُ لَا أَفْعَلُ كَذَا لِأَنَّ الْأَلِيَّةَ هِيَ الْيَمِينُ وَكَذَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ نَذْرُ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى وَمَنْ نَذَرَ وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ عَنْ بَيْعِ رِبَاعِهَا أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةُ فَقَالَتْ: أَوَقَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ: فَقَالَتْ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ إنْ كَلَّمْتُهُ أَبَدًا فَأَعْتَقَ عَنْ يَمِينِهَا عَبْدًا وَكَذَا قَوْلُهُ عَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ يَمِينُ اللَّهِ فِي قَوْلِ

أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ لَهُ عَلَيَّ يَمِينٌ لَا يَكُونُ يَمِينًا. (وَجْهُ) قَوْلِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَمِينَ قَدْ يَكُونُ بِاَللَّهِ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَنْعَقِدُ يَمِينًا بِالشَّكِّ. (وَلَنَا) أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ يَمِينٌ أَيْ يَمِينُ اللَّهِ إذْ لَا يَجُوزُ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ يَمِينُ اللَّهِ دُونَ قَوْلِهِ عَلَيَّ يَمِينٌ فَكَيْفَ مَعَهُ؟ أَوْ يُقَالُ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ يَمِينُ اللَّهِ أَيْ عَلَيَّ مُوجِبُ يَمِينِ اللَّهِ إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ ذِمَّةُ اللَّهِ أَوْ مِيثَاقُهُ فَهُوَ يَمِينٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - هِيَ عَهْدُ اللَّهِ عَلَى تَحْقِيقٍ أَوْ نَفْيِهِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] ثُمَّ قَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] وَجُعِلَ الْعَهْدُ يَمِينًا، وَالذِّمَّةُ هِيَ الْعَهْدُ وَمِنْهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ أَيْ أَهْلُ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ وَالْعَهْدُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا بَعَثَ جَيْشًا قَالَ فِي وَصِيَّتِهِ إيَّاهُمْ وَإِنْ أَرَادُوكُمْ أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ فَلَا تُعْطُوهُمْ» أَيْ عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ وَلَوْ قَالَ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ أَوْ بَرِيءٌ عَنْ الْإِسْلَامِ أَوْ كَافِرٌ أَوْ يَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْ يَعْبُدُ الصَّلِيبَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ اعْتِقَادُهُ كُفْرًا فَهُوَ يَمِينٌ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ عَلَّقَ الْفِعْلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ فَلَا يَكُونُ حَالِفًا كَمَا لَوْ قَالَ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ شَارِبٌ خَمْرًا أَوْ آكِلٌ مَيْتَةً. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ يَحْلِفُونَ بِهَا مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَلِفًا لَمَا تَعَارَفُوا لِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَعْصِيَةٌ فَدَلَّ تَعَارُفُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَإِنْ لَمْ يُعْقَلْ. وَجْهُ الْكِنَايَةِ فِيهِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَضْرِبَ ثَوْبِي حَطِيمَ الْكَعْبَةِ إنَّ ذَلِكَ جُعِلَ كِنَايَةً عَنْ التَّصَدُّقِ فِي عُرْفِهِمْ وَإِنْ لَمْ يُعْقَلْ وَجْهُ الْكِنَايَةِ فِيهِ كَذَا هَذَا، هَذَا إذَا أَضَافَ الْيَمِينَ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَأَمَّا إذَا أَضَافَ إلَى الْمَاضِي بِأَنْ قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا لِشَيْءٍ قَدْ فَعَلَهُ فَهَذَا يَمِينُ الْغَمُوسِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَنَا لَكِنَّهُ هَلْ يُكَفَّرُ؟ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْأَصْلِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ أَنَّهُ يَكْفُرُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْكُفْرَ بِشَيْءٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ هُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَكَتَبَ نَصْرُ بْنُ يَحْيَى إلَى ابْنِ شُجَاعٍ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَا يَكْفُرُ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ مَا قَصَدَ بِهِ الْكُفْرَ وَلَا اعْتَقَدَهُ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ تَرْوِيحَ كَلَامِهِ وَتَصْدِيقَهُ فِيهِ وَلَوْ قَالَ عَصَيْتُ اللَّهَ إنْ فَعَلْتُ كَذَا أَوْ عَصَيْتُهُ فِي كُلِّ مَا افْتَرَضَ عَلَيَّ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ لِأَنَّ النَّاسَ مَا اعْتَادُوا الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ. وَلَوْ قَالَ هُوَ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ أَوْ يَسْتَحِلُّ الدَّمَ أَوْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ أَوْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ إنْ فَعَلَ كَذَا فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَمِينًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِيجَابٍ بَلْ هُوَ إخْبَارٌ عَنْ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَحْوِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ إيجَابٌ فِي الْحَالِ وَكَذَلِكَ لَوْ دَعَا عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَوْتِ أَوْ عَذَابِ النَّارِ بِأَنْ قَالَ عَلَيْهِ عَذَابُ اللَّهِ إنْ فَعَلَ كَذَا أَوْ قَالَ أَمَاتَهُ اللَّهُ إنْ فَعَلَ كَذَا لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِيجَابٍ بَلْ دُعَاءٌ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يُحْلَفُ بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَبْنَاءِ وَلَوْ حَلَفَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّاسُ وَإِنْ تَعَارَفُوا الْحَلِفَ بِهِمْ لَكِنَّ الشَّرْعَ نَهَى عَنْهُ وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ» وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» وَلِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْحَلِفِ لِتَعْظِيمِ الْمَحْلُوفِ وَهَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّعْظِيمِ لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ قَالَ وَدِينِ اللَّهِ أَوْ طَاعَتِهِ أَوْ شَرَائِعِهِ أَوْ أَنْبِيَائِهِ وَمَلَائِكَتِهِ أَوْ عَرْشِهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْحَلِفُ بِالْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَغَيْرِهِمْ يَمِينٌ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِلْحَدِيثِ وَلِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا يَكُونُ قَسَمًا كَالْحَلِفِ بِالْكَعْبَةِ كَذَا لَوْ قَالَ وَبَيْتِ اللَّهِ أَوْ حَلَفَ بِالْكَعْبَةِ أَوْ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ أَوْ بِالصَّفَا أَوْ بِالْمَرْوَةِ أَوْ بِالصَّلَاةِ أَوْ الصَّوْمِ أَوْ الْحَجِّ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَكَذَا الْحَلِفُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَحْلِفُ بِالسَّمَاءِ وَلَا بِالْأَرْضِ وَلَا بِالشَّمْسِ وَلَا بِالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَلَا بِكُلِّ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ الْعَلِيَّةِ لِمَا قُلْنَا وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُحْلَفُ إلَّا بِاَللَّهِ مُتَجَرِّدًا بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ. وَلَوْ قَالَ وَعِبَادَةِ وَحَمْدِ اللَّهِ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِبَادَةَ وَالْحَمْدَ فِعْلُكَ. وَلَوْ قَالَ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِالْمُصْحَفِ أَوْ بِسُورَةِ كَذَا مِنْ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا الْمُصْحَفُ فَلَا شَكَّ فِيهِ وَأَمَّا

الْقُرْآنُ وَسُورَةُ كَذَا فَلِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِنْ اسْمِ الْقُرْآنِ الْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ وَالْأَصْوَاتُ الْمُقَطَّعَةُ بِتَقْطِيعٍ خَاصٍّ لَا كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تُنَافِي السُّكُوتَ وَالْآفَةَ. وَلَوْ قَالَ بِحُدُودِ اللَّهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِحُدُودِ اللَّهِ قَالَ بَعْضُهُمْ يُرَادُ بِهِ الْحُدُودُ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُرَادُ بِهَا الْفَرَائِضُ مِثْلُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا وَكُلُّ ذَلِكَ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ يَمِينًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ وَلَا بِحَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ وَلَا تَحْلِفُوا إلَّا بِاَللَّهِ وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاَللَّهِ فَلْيَرْضَ وَمَنْ لَمْ يَرْضَ فَلَيْسَ مِنَّا» . وَلَوْ قَالَ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ أَوْ سَخَطُهُ أَوْ لَعْنَتُهُ إنْ فَعَلَ كَذَا لَمْ يَكُنْ يَمِينًا لِأَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعَذَابِ وَالْعُقُوبَةِ وَالطَّرْدِ عَنْ الرَّحْمَةِ فَلَا يَكُونُ حَالِفًا كَمَا لَوْ قَالَ عَلَيْهِ عَذَابُ اللَّهِ وَعِقَابُهُ وَبُعْدُهُ عَنْ رَحْمَتِهِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا بِالْعِرَاقِ مَنْ قَالَ فِي تَخْرِيجِهِ الْقَسَمَ بِالصِّفَاتِ: أَنَّ الصِّفَاتِ عَلَى ضَرْبَيْنِ صِفَةٌ لِلذَّاتِ وَصِفَةٌ لِلْفِعْلِ وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَهُوَ أَنَّ مَا يُثْبَتُ وَلَا يُنْفَى فَهُوَ صِفَةٌ لِلذَّاتِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَنَحْوِهِمَا وَمَا يُثْبَتُ وَيُنْفَى فَهُوَ صِفَةُ الْفِعْلِ كَالتَّكْوِينِ وَالْإِحْيَاءِ وَالرِّزْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الرَّحْمَةَ وَالْغَضَبَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ فَجَعَلَ صِفَةَ الذَّاتِ قَدِيمَةً وَصِفَةَ الْفِعْلِ حَادِثَةً فَقَالَ الْحَلِفُ بِصِفَةِ الذَّاتِ يَكُونُ حَلِفًا بِاَللَّهِ فَيَكُونُ يَمِينًا، وَالْحَلِفُ بِصِفَةِ الْفِعْلِ يَكُونُ حَلِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ يَمِينًا وَالْقَوْلُ بِحُدُوثِ صِفَاتِ الْفِعْلِ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ إلَّا أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ فَفَصَّلَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَالْأَشْعَرِيَّةُ فَصَّلَتْ بِلُزُومِ النَّقِيصَةِ وَعَدَمِ اللُّزُومِ وَهُوَ أَنَّهُ مَا يَلْزَمُ بِنَفْيِهِ نَقِيصَةٌ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَمَا لَا يَلْزَمُ بِنَفْيِهِ نَقِيصَةٌ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ مَعَ اتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى حُدُوثِ صِفَاتِ الْفِعْلِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي التَّحْدِيدِ لِأَجْلِ الْكَلَامِ، فَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى مُحْدَثٌ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّهُ يُنْفَى وَيُثْبَتُ فَكَانَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ فَكَانَ حَادِثًا وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ أَزَلِيٌّ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ بِنَفْيِهِ نَقِيصَةٌ فَكَانَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ فَكَانَ قَدِيمًا، وَمَذْهَبُنَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ أَزَلِيَّةٌ وَاَللَّهَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِهَا فِي الْأَزَلِ سَوَاءٌ كَانَتْ رَاجِعَةً إلَى الذَّاتِ أَوْ إلَى الْفِعْلِ فَهَذَا التَّخْرِيجُ وَقَعَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَإِنَّمَا الطَّرِيقَةُ الصَّحِيحَةُ وَالْحُجَّةُ الْمُسْتَقِيمَةُ فِي تَخْرِيجِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَسَائِلِ مَا سَلَكْنَا - وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلسَّدَادِ وَالْهَادِي إلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ - وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقَسَمِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَأَمَّا إذَا كُرِّرَ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ وَهُوَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ حَتَّى ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ - تَعَالَى ثَانِيًا ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ وَأَمَّا إنْ ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا ثُمَّ أَعَادَهُمَا جَمِيعًا وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ أَوْ يَكُونَ بِدُونِهِ. فَإِنْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ حَتَّى كَرَّرَ اسْمَ اللَّهِ - تَعَالَى - ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ حَرْفُ الْعَطْفِ كَانَ يَمِينًا وَاحِدَةً بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ كَانَ الِاسْمُ مُخْتَلِفًا أَوْ مُتَّفِقًا فَالْمُخْتَلِفُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ الرَّحْمَنِ مَا فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْعَطْفِ، وَالثَّانِي يَصْلُحُ صِفَةً لِلْأَوَّلِ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصِّفَةَ فَيَكُونُ حَالِفًا بِذَاتٍ مَوْصُوفٍ لَا بِاسْمِ الذَّاتِ عَلَى حِدَةٍ وَبِاسْمِ الصِّفَةِ عَلَى حِدَةٍ، وَالْمُتَّفِقُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهِ وَاَللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا لِأَنَّ الثَّانِيَ لَا يَصْلُحُ نَعْتًا لِلْأَوَّلِ وَيَصْلُحُ تَكْرِيرًا وَتَأْكِيدًا لَهُ فَيَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ يَمِينَيْنِ وَيَصِيرُ قَوْلُهُ: اللَّهِ ابْتِدَاءَ يَمِينٍ بِحَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ وَأَنَّهُ قَسَمٌ صَحِيحٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ أَدْخَلَ بَيْنَ الْقَسَمَيْنِ حَرْفَ عَطْفٍ بِأَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ لَا أَفْعَلُ كَذَا، ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُمَا يَمِينَانِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً وَبِهِ أَخَذَ زُفَرُ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا أَيْضًا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْمَذْكُورِ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ لَمَّا عُطِفَ أَحَدُ الِاسْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَكَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينًا عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُعْطَفْ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْطَفْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ يُجْعَلُ الثَّانِي صِفَةً لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ صِفَةً لِأَنَّ الِاسْمَ يَخْتَلِفُ وَلِهَذَا يَسْتَحْلِفُ الْقَاضِي بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ فَيَقُولُ وَاَللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الطَّالِبِ الْمُدْرِكِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ. وَجْهُ رِوَايَةِ

فصل في شرائط ركن اليمين بالله تعالى

الْحَسَنِ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلصِّفَةِ فَإِنَّهُ يُقَالُ فُلَانٌ الْعَالِمُ وَالزَّاهِدُ وَالْجَوَادُ وَالشُّجَاعُ فَاحْتَمَلَ الْمُغَايِرَةَ وَاحْتَمَلَ الصِّفَةَ فَلَا تَثْبُتُ يَمِينٌ أُخْرَى مَعَ الشَّكِّ وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَنَّ هَذَا يَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً أَوْ يَكُونُ يَمِينَيْنِ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ إدْخَالَ الْقَسَمِ عَلَى الْقَسَمِ قَبْلَ تَمَامِ الْكَلَامِ هَلْ يَجُوزُ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَسَوِيِّ وَالْخَلِيلِ حَتَّى حَكَى سِيبَوَيْهِ عَنْ الْخَلِيلِ أَنَّ قَوْلَهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 2] يَمِينٌ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَالْفَرَّاءِ حَتَّى قَالَ الزَّجَّاجُ إنَّ قَوْلَهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {ص} [ص: 1] قَسَمٌ، وَقَوْلَهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] قَسَمٌ آخَرُ، وَالْحُجَجُ وَتَعْرِيفُ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ تُعْرَفُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ، وَقَدْ قِيلَ فِي تَرْجِيحِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي إنَّا إذَا جَعَلْنَاهُمَا يَمِينًا وَاحِدَةً لَا نَحْتَاجُ إلَى إدْرَاجِ جَوَابٍ آخَرَ بَلْ يَصِيرُ قَوْلُهُ لَا أَفْعَلُ مُقْسَمًا عَلَيْهِ بِالِاسْمَيْنِ جَمِيعًا وَلَوْ جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَسَمًا عَلَى حِدَةٍ لَاحْتَجْنَا إلَى إدْرَاجِ ذِكْرِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ لِأَحَدِ الِاسْمَيْنِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا فَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ يَكُونُ يَمِينَيْنِ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ كَأَنَّهُ اسْتَحْسَنَ، وَحَمَلَهُ عَلَى التَّكْرَارِ لِتَعَارُفِ النَّاسِ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ وَفِيهِ قُبْحٌ وَيَنْبَغِي فِي الِاسْتِحْسَانِ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا وَاحِدَةً هَكَذَا ذُكِرَ، وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ وَلَكَنَّى أَسْتَحْسِنُ فَأَجْعَلُ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً وَهَذَا كُلُّهُ فِي الِاسْمِ الْمُتَّفِقِ، تَرَكَ مُحَمَّدٌ الْقِيَاسَ وَأَخَذَ بِالِاسْتِحْسَانِ لِمَكَانِ الْعُرْفِ لِمَا زَعَمَ أَنَّ مَعَانِيَ كَلَامِ النَّاسِ عَلَيْهِ، هَذَا إذَا ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ، الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ حَتَّى ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ ثَانِيًا،. فَأَمَّا إذَا ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا ثُمَّ أَعَادَهُمَا فَإِنْ كَانَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَالرَّحْمَنِ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا يَمِينَانِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ أَوْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ حَتَّى لَوْ فَعَلَ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ وَكَذَا لَوْ أَعَادَهُمَا بِدُونِ حَرْفِ الْعَطْفِ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا أَعَادَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ مَعَ الِاسْمِ الثَّانِي عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ يَمِينًا أُخْرَى إذْ لَوْ أَرَادَ الصِّفَةَ أَوْ التَّأْكِيدَ لَمَا أَعَادَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا. وَقَالَ أَرَدْتُ بِالثَّانِي الْخَبَرَ عَنْ الْأَوَّلِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يُصَدَّقُ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى هُوَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَفْظُهُ مُحْتَمِلٌ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ فَكَانَ مُصَدَّقًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فَإِنَّ الْمُعَلَّى رَوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: فِي رَجُلٍ حَلَفَ فِي مَقْعَدٍ وَاحِدٍ بِأَرْبَعَةِ أَيْمَانٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ بِأَقَلَّ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِكُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ، وَمَقْعَدٌ وَاحِدٌ وَمَقَاعِدُ مُخْتَلِفَةٌ وَاحِدٌ فَإِنْ قَالَ: عَنَى بِالثَّانِيَةِ الْأُولَى لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَيُصَدَّقُ فِي الْيَمِينِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْفِدْيَةِ وَكُلُّ يَمِينٍ قَالَ فِيهَا عَلَيَّ كَذَا وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْيَمِينِ الْقُرْبُ فِي لَفْظِ الْحَالِفِ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيَّ كَذَا وَصِيغَةُ هَذَا صِيغَةُ الْخَبَرِ فَإِذَا أَرَادَ بِالثَّانِيَةِ الْخَبَرَ عَنْ الْأَوَّلِ صَحَّ بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ فِي لَفْظِ الْحَالِفِ لِأَنَّ لَفْظَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَإِنَّمَا يَجِبُ بِحُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ وَكُلُّ يَمِينٍ مُنْفَرِدَةٍ بِالِاسْمِ فَيَنْفَرِدُ بِحُكْمِهَا فَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالثَّانِيَةِ الْأُولَى. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ: قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا وَهُوَ مَجُوسِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا وَهُوَ مُشْرِكٌ إنْ فَعَلَ كَذَا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ قَالَ: عَلَيْهِ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يَمِينٌ. وَلَوْ قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ هُوَ نَصْرَانِيٌّ هُوَ مَجُوسِيٌّ هُوَ مُشْرِكٌ فَهُوَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ مَعَ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ ثُمَّ أَعَادَهُ فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَإِذَا ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ وَكَرَّرَهُ مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ فَهُوَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ رُكْنِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ رُكْنِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْحَالِفِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْحَالِفِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا بَالِغًا فَلَا يَصِحُّ يَمِينُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا؛ لِأَنَّهَا تَصَرُّفُ إيجَابٍ وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْإِيجَابِ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُمَا، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا

فَلَا يَصِحُّ يَمِينُ الْكَافِرِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ حَلَفَ الْكَافِرُ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ أَسْلَمَ فَحَنِثَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا حَنِثَ فِي حَالِ الْكُفْرِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِالصَّوْمِ بَلْ بِالْمَالِ. وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ فِي الدَّعَاوَى وَالْخُصُومَاتِ وَكَذَا يَصِحُّ إيلَاؤُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَمَا انْعَقَدَ كَإِيلَاءِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. وَكَذَا هُوَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى كَالْمُسْلِمِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَادَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَادَةٌ أَنَّهَا لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ وَكَذَا لَا تَسْقُطُ بِأَدَاءِ الْغَيْرِ عَنْهُ وَهُمَا حُكْمَانِ مُخْتَصَّانِ بِالْعِبَادَاتِ إذْ غَيْرُ الْعِبَادَةِ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ وَلَا يَخْتَصُّ سُقُوطُهُ بِأَدَاءِ مَنْ عَلَيْهِ كَالدُّيُونِ وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَنَحْوِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ لِلصَّوْمِ فِيهَا مَدْخَلًا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ وَبَدَلُ الْعِبَادَةِ يَكُونُ عِبَادَةً وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَاتِ فَلَا تَجِبُ بِيَمِينِهِ الْكَفَّارَةُ فَلَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ كَيَمِينِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ فِي الدَّعَاوَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِاسْتِحْلَافِ التَّحَرُّجُ عَنْ الْكَذِبِ كَالْمُسْلِمِ فَاسْتَوَيَا فِيهِ وَإِنَّمَا يُفَارِقُ الْمُسْلِمَ فِيمَا هُوَ عِبَادَةٌ وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْإِيلَاء إنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَتَضَمَّنُ حُكْمَيْنِ: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْقُرْبَانِ، وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إذَا لَمْ يَقْرَبْهَا فِي الْمُدَّةِ، وَالْكَفَّارَةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ الْكَافِرُ، وَالطَّلَاقُ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ. وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَتَصِحُّ يَمِينُ الْمَمْلُوكِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِلْحَالِ الْكَفَّارَةُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الصَّوْمِ وَكَذَا كُلُّ صَوْمٍ وَجَبَ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْوُجُوبِ مِنْ الْعَبْدِ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَتَضَرَّر بِصَوْمِهِ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ الْإِضْرَارَ بِالْمَوْلَى وَلَوْ أُعْتِقَ قَبْلَ أَنْ يَصُومَ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ أَهْلِيَّةَ الْمِلْكِ بِالْعِتْقِ وَكَذَا الطَّوَاعِيَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا فَيَصِحُّ مِنْ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ وَكُلِّ تَصَرُّفٍ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْإِكْرَاهِ وَكَذَا الْجَدُّ وَالْعَمْدُ فَتَصِحُّ مِنْ الْخَاطِئِ وَالْهَازِلِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً عِنْدَ الْحَلِفِ هُوَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْيَمِينِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَبَقَاؤُهَا أَيْضًا مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً بَعْدَ الْيَمِينِ شَرْطُ بَقَاءِ الْيَمِينِ حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ الْيَمِينُ عَلَى مَا هُوَ مُسْتَحِيلُ الْوُجُودِ حَقِيقَةً وَلَا يَبْقَى إذَا صَارَ بِحَالٍ يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ وَلَا لِبَقَائِهَا وَإِنَّمَا الشَّرْطُ أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَأَمَّا كَوْنُهُ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ عَادَةً فَهَلْ هُوَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْيَمِينِ؟ . قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَنْعَقِدُ عَلَى مَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ عَادَةً بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ حَقِيقَةً. وَقَالَ زُفَرُ: هُوَ شَرْطٌ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِدُونِهِ وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ فَإِذَا لَا مَاءَ فِيهِ لَمْ تَنْعَقِدْ الْيَمِينُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لِعَدَمِ شَرْطِ الِانْعِقَادِ وَهُوَ تَصَوُّرُ شُرْبِ الْمَاءِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَنْعَقِدُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْإِضَافَةُ إلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مَاءَ فِيهِ تَنْعَقِدُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تَنْعَقِدُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا وَقَّتَ وَقَالَ وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ وَلَا مَاءَ فِي الْكُوزِ أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَنْعَقِدُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ فُلَانًا وَفُلَانٌ مَيِّتٌ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِمَوْتِهِ تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ خِلَافًا لِزُفَرَ. وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَمَسَّنَّ السَّمَاءَ أَوْ لَأَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ أَوْ لَأُحَوِّلَنَّ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا تَنْعَقِدُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تَنْعَقِدُ، أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فَوَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْحَالِفَ جَعَلَ شَرْطَ عَدَمِ حِنْثِهِ الْقَتْلَ وَالشُّرْبَ فِي الْمُطْلَقِ وَفِي الْمُوَقِّتِ عَدَمَ الشُّرْبِ فِي الْمُدَّةِ وَقَدْ تَأَكَّدَ الْعَدَمُ فَتَأَكَّدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فَيَحْنَثُ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَمَسَّنَّ السَّمَاءَ أَوْ لَأُحَوِّلَنَّ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا وَلَهُمَا أَنَّ الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ لِلْبِرِّ؛ لِأَنَّ الْبِرَّ هُوَ مُوجِبُ الْيَمِينِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ الْيَمِينِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ تَحْقِيقَ الْبِرِّ وَالْوَفَاءِ بِمَا عَهِدَ وَإِنْجَازَ مَا وَعَدَ ثُمَّ

الْكَفَّارَةُ تَجِبُ لِدَفْعِ الذَّنْبِ الْحَاصِلِ بِتَفْوِيتِ الْبِرِّ وَهُوَ الْحِنْثُ فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْبِرُّ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً لَا يُتَصَوَّرُ الْحِنْثُ فَلَمْ يَكُنْ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ فَائِدَةٌ فَلَا تَنْعَقِدُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْبِرَّ غَيْرُ مُتَصَوَّرِ الْوُجُودِ مِنْ هَذِهِ الْيَمِينِ حَقِيقَةً أَنَّهُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ فِي الْكُوزِ مَاءً وَأَنَّ الشَّخْصَ حَيٌّ فَيَمِينُهُ تَقَعُ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَقْتَ الْيَمِينِ وَعَلَى إزَالَةِ حَيَاةٍ قَائِمَةٍ وَقْتَ الْيَمِينِ وَاَللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْمَاءِ فِي الْكُوزِ وَلَكِنَّ هَذَا الْمَخْلُوقَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْمَاءَ الَّذِي وَقَعَتْ يَمِينُهُ عَلَيْهِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ زَالَتْ تِلْكَ الْحَيَاةُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِهِ فَإِنَّمَا انْعَقَدَ يَمِينُهُ عَلَى مَاءٍ آخَرَ يَخْلُقُهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَعَلَى حَيَاةٍ أُخْرَى يُحْدِثُهَا اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى نَقْضِ الْعَادَةِ فَكَانَ الْعَجْزُ عَنْ تَحْقِيقِ الْبِرِّ ثَابِتًا عَادَةً فَيَحْنَثُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَمَسَّنَّ السَّمَاءَ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ - هُنَاكَ - الْبِرَّ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةً بِأَنْ يُقْدِرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ كَمَا أَقْدَرَ الْمَلَائِكَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَّا أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ عَادَةً فَلِتَصَوُّرِ وُجُودِهِ حَقِيقَةً انْعَقَدَتْ وَلِلْعَجْزِ عَنْ تَحْقِيقِهِ عَادَةً حَنِثَ وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ زُفَرَ فِي الْيَمِينِ عَلَى مَسِّ السَّمَاءِ وَنَحْوِهِ فَهُوَ يَقُولُ الْمُسْتَحِيلُ عَادَةً يُلْحَقُ بِالْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً وَفِي الْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً لَا تَنْعَقِدُ كَذَا فِي الْمُسْتَحِيلِ عَادَةً، وَلَنَا أَنَّ اعْتِبَارَ الْحَقِيقَةِ وَالْعَادَةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ وَفِيمَا قُلْنَاهُ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ وَالْعَادَةِ جَمِيعًا وَفِيمَا قَالَهُ اعْتِبَارُ الْعَادَةِ وَإِهْدَارُ الْحَقِيقَةِ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَمَسَّنَّ السَّمَاءَ الْيَوْمَ يَحْنَثُ فِي آخَرِ الْيَوْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ مَاءَ دِجْلَةَ كُلَّهُ الْيَوْمَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَمْضِيَ الْيَوْمُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَحْنَثُ السَّاعَةَ فَإِنْ قَالَ فِي يَمِينِهِ غَدًا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَمْضِيَ الْيَوْمُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الِانْعِقَادَ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْيَوْمِ عِنْدَهُ. فَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَالَ يَحْنَثُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْغَدِ لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ غَيْرُ مُنْتَظَرٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ - وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ - هَذَا إذَا لَمْ يَكُنِ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً أَوْ عَادَةً وَقْتَ الْيَمِينِ حَتَّى انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ بِلَا خِلَافٍ ثُمَّ فَاتَ فَالْحَلِفُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْإِثْبَاتِ أَوْ فِي النَّفْيِ فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فِي الْإِثْبَاتِ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَآكُلَنَّ هَذَا الرَّغِيفَ أَوْ لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ أَوْ لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ لَآتِيَنَّ الْبَصْرَةَ فَمَا دَامَ الْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ قَائِمَيْنِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْحِنْثَ فِي الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ يَتَعَلَّقُ بِفَوَاتِ الْبِرِّ فِي جَمِيعِ الْبِرِّ فَمَا دَامَا قَائِمَيْنِ لَا يَقَعُ الْيَأْسُ عَنْ تَحْقِيقِ الْبِرِّ فَلَا يَحْنَثُ فَإِذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا يَحْنَثُ لِوُقُوعِ الْعَجْزِ عَنْ تَحْقِيقِهِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا هَلَكَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَحْنَثُ وَقْتَ هَلَاكِهِ وَإِذَا هَلَكَ الْحَالِفُ يَحْنَثُ فِي آخَرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ لِأَنَّ الْحِنْثَ فِي الْحَالَيْنِ بِفَوَاتِ الْبِرِّ. وَوَقْتُ فَوَاتِ الْبِرِّ فِي هَلَاكِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَقْتُ هَلَاكِهِ، وَفِي هَلَاكِ الْحَالِفِ آخِرُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ وَإِنْ كَانَ فِي النَّفْيِ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا آكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ أَوْ لَا أَشْرَبُ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ الْمَاءَ حَتَّى هَلَكَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ لِوُجُودِ شَرْطِ الْبِرِّ وَهُوَ عَدَمُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَإِنْ كَانَ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ فَالْوَقْتُ نَوْعَانِ مُوَقَّتٌ نَصًّا وَمُوَقَّتٌ دَلَالَةً أَمَّا الْمُوَقَّتُ نَصًّا فَإِنْ كَانَ فِي الْإِثْبَاتِ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَآكُلَنَّ هَذَا الرَّغِيفَ الْيَوْمَ أَوْ لَأَشْرَبَنَّ هَذَا الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ أَوْ لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَمَا دَامَ الْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ قَائِمَيْنِ وَالْوَقْتُ قَائِمًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْبِرَّ فِي الْوَقْتِ مَرْجُوٌّ فَتَبْقَى الْيَمِينُ وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ قَائِمَيْنِ وَمَضَى الْوَقْتُ يَحْنَثْ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الْيَمِينَ كَانَتْ مُؤَقَّتَةٌ بِوَقْتٍ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ فِعْلِهِ فِي الْوَقْتِ فَفَاتَ الْبِرُّ عَنْ الْوَقْتِ فَيَحْنَثُ. وَإِنْ هَلَكَ الْحَالِفُ فِي الْوَقْتِ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ قَائِمٌ فَمَضَى الْوَقْتُ لَا يَحْنَثُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْحِنْثَ فِي الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ بِوَقْتٍ يَقَعُ فِي آخِرِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ وَهُوَ مَيِّتٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْمَيِّتُ لَا يُوصَفُ بِالْحِنْثِ وَإِنْ هَلَكَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَالْحَالِفُ قَائِمٌ وَالْوَقْتُ بَاقٍ فَيَبْطُلُ الْيَمِينُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَبْطُلُ وَيَحْنَثُ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي وَقْتِ الْحِنْثِ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِلْحَالِ أَوْ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَحْنَثُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِلْحَالِ، قِيلَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَإِنْ كَانَ

فِي النَّفْيِ فَمَضَى الْوَقْتُ وَالْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ قَائِمَانِ فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ لِوُجُودِ شَرْطِ الْبِرِّ وَكَذَلِكَ إنْ هَلَكَ الْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ فُعِلَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ حَنِثَ لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ وَهُوَ الْفِعْلُ فِي الْوَقْتِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْمُوَقَّتُ دَلَالَةً فَهُوَ الْمُسَمَّى يَمِينَ الْفَوْرِ وَأَوَّلُ مَنْ اهْتَدَى إلَى جَوَابِهَا أَبُو حَنِيفَةَ ثُمَّ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ اسْتَحْسَنَهُ وَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ نَصًّا، وَدَلَالَةُ الْحَالِ تَدُلُّ عَلَى تَقْيِيدِ الشَّرْطِ بِالْفَوْرِ بِأَنْ خَرَجَ جَوَابًا لِكَلَامٍ أَوْ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِآخَرَ: تَعَالَ تَغَدَّ مَعِي، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَتَغَدَّى فَلَمْ يَتَغَدَّ مَعَهُ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ فَتَغَدَّى لَا يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ التَّغَدِّي عَامًّا فَصَرْفُهُ إلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ. (وَلَنَا) أَنَّ كَلَامَهُ خَرَجَ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ وَالسُّؤَالُ وَقَعَ عَنْ الْغَدَاءِ الْمَدْعُوِّ إلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ الْجَوَابُ إلَيْهِ كَأَنَّهُ أَعَادَ السُّؤَالَ. وَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَتَغَدَّى الْغَدَاءَ الَّذِي دَعَوْتنِي إلَيْهِ وَكَذَا إذَا قَامَتْ امْرَأَتُهُ لِتَخْرُجَ مِنْ الدَّارِ فَقَالَ لَهَا إنْ خَرَجْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَعَدَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ تَدُلُّ عَلَى التَّقْيِيدِ بِتِلْكَ الْخَرْجَةِ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ خَرَجْتِ هَذِهِ الْخَرْجَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ خَرَجْتِ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَأَنْتِ طَالِقٌ بَطَلَ اعْتِبَارُ الْفَوْرِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الْخَرْجَةَ الْمَقْصُودَ إلَيْهَا وَإِنَّمَا أَرَادَ الْخُرُوجَ الْمُطْلَقَ عَنْ الدَّارِ فِي الْيَوْمِ حَيْثُ زَادَ عَلَى قَدْرِ الْجَوَابِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قِيلَ لَهُ إنَّك تَغْتَسِلُ اللَّيْلَةَ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ جَنَابَةٍ فَقَالَ إنْ اغْتَسَلْتُ فَعَبْدِي حُرٌّ ثُمَّ اغْتَسَلَ لَا عَنْ جَنَابَةٍ ثُمَّ قَالَ: عَنَيْتُ بِهِ الِاغْتِسَالَ عَنْ جَنَابَةٍ أَنَّهُ يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ وَلَمْ يَأْتِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى إعْرَاضِهِ عَنْ الْجَوَابِ فَيُقَيَّدُ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ إعَادَةٌ. وَلَوْ قَالَ إنْ اغْتَسَلْتُ فِيهَا اللَّيْلَةَ عَنْ جَنَابَةٍ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ قَالَ إنْ اغْتَسَلْتُ اللَّيْلَةَ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَعَبْدِي حُرٌّ ثُمَّ قَالَ عَنَيْتُ الِاغْتِسَالَ عَنْ جَنَابَةٍ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ مِنْ الْجَوَابِ حَيْثُ أَتَى بِكَلَامٍ مُفِيدٍ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْجَوَابِ وَصَارَ كَلَامًا مُبْتَدَأً فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لَكِنْ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْجَوَابَ وَمَعَ هَذَا زَادَ عَلَى قَدْرِهِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ لَكِنَّ كَلَامَهُ يَحْتَمِلُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا قَالَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَقُولُ فِي رَجُلٍ قَالَ لِآخَرَ إنْ ضَرَبْتَنِي وَلَمْ أَضْرِبْكَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهَذَا عَلَى الْفَوْرِ قَالَ وَقَوْلُهُ: " لَمْ " يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ عَلَى قَبْلٍ وَعَلَى بَعْدٍ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى بَعْدٍ فَهِيَ عَلَى الْفَوْرِ وَلَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْتَنِي فَلَمْ أُجِبْكَ فَهَذَا عَلَى بَعْدٍ وَهُوَ عَلَى الْفَوْرِ وَإِنْ قَالَ إنْ ضَرَبْتَنِي وَلَمْ أَضْرِبْك فَهُوَ عِنْدَنَا عَلَى أَنْ يُضْرَبَ الْحَالِفُ قَبْلَ أَنْ يَضْرِبَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَإِنْ أُرَاد بِهِ بَعْدُ وَنَوَى ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى الْفَوْرِ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَجُمْلَةُ هَذَا أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ قَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَمَا كَانَ مَعَانِي كَلَامِ النَّاسِ عَلَيْهِ حُمِلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي الْوَجْهَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا بِالنِّيَّةِ فَإِذَا قَالَ إنْ ضَرَبْتَنِي وَلَمْ أَضْرِبْكَ فَقَدْ حَمَلَهُ مُحَمَّدٌ عَلَى الْمَاضِي كَأَنَّهُ رَأَى مَعَانِيَ كَلَامِ النَّاسِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَكَأَنَّهُ قَالَ إنْ ضَرَبْتنِي مِنْ غَيْرِ مُجَازَاةٍ لِمَا كَانَ مِنِّي مِنْ الضَّرْبِ فَعَبْدِي حُرٌّ وَيَحْتَمِلُ الِاسْتِقْبَالَ أَيْضًا فَإِذَا نَوَاهُ حُمِلَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ إنْ كَلَّمْتَنِي وَلَمْ أُجِبْكَ فَهَذَا عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا يَتَقَدَّمُ الْكَلَامَ فَحُمِلَ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ وَيَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْفَوْرِ عَادَةً. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ كُلُّ جَارِيَةٍ يَشْتَرِيهَا فَلَا يَطَؤُهَا فَهِيَ حُرَّةٌ قَالَ هَذَا يَطَؤُهَا سَاعَةَ يَشْتَرِيهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهِيَ حُرَّةٌ لِأَنَّ الْفَاءَ تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ وَلَوْ قَالَ مَكَانَ هَذَا إنْ لَمْ يَطَأْهَا فَهَذَا عَلَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْتِ فَمَتَى وَطِئَهَا بَرَّ لِأَنَّ كَلِمَةَ إنْ كَلِمَةُ شَرْطٍ فَلَا تَقْتَضِي التَّعْجِيلَ قَالَ هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَإِنْ قَالَ لِغُلَامِهِ إنْ لَمْ تَأْتِنِي حَتَّى أَضْرِبَكَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَجَاءَ مِنْ سَاعَتِهِ فَلَمْ يَضْرِبْهُ قَالَ مَتَى مَا ضَرَبَهُ فَإِنَّهُ يَبَرُّ فِي يَمِينِهِ وَلَا يُعْتَقُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ سَاعَةَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إنْ لِلشَّرْطِ فَلَا تَقْتَضِي التَّعْجِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَوْ قَالَ إنْ لَمْ أَشْتَرِ الْيَوْمَ عَبْدًا فَأُعْتِقْهُ فَعَلَيَّ كَذَا فَاشْتَرَى عَبْدًا فَوَهَبَهُ ثُمَّ اشْتَرَى آخَرَ فَأَعْتَقَهُ قَالَ مُحَمَّدٌ إنَّمَا وَقَعَتْ يَمِينُهُ عَلَى الْعَبْدِ الْأَوَّلِ فَإِذَا أَمْسَى وَلَمْ يُعْتِقْهُ حَنِثَ لِأَنَّ تَقْدِيرَ كَلَامِهِ إنْ اشْتَرَيْتُ عَبْدًا فَعَلَيَّ عِتْقُهُ فَإِنْ لَمْ أُعْتِقْهُ فَعَلَيَّ حَجَّةٌ وَهَذَا قَدْ اسْتَحَقَّهُ الْأَوَّلُ فَلَمْ يَدْخُلْ الثَّانِي فِي الْيَمِينِ. قَالَ

هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ لِآخَرَ إنْ مِتّ وَلَمْ أَضْرِبْكَ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ فَمَاتَ الْحَالِفُ وَلَمْ يَضْرِبْهُ قَالَ مُحَمَّدٌ لَا يُعْتَقُونَ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْحِنْثِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا مِلْكَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يُعْتَقُونَ وَإِنْ قَالَ إنْ لَمْ أَضْرِبْكَ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَخْرُجَ نَفَسُهُ فَيَحْنَثُ قَبْلَ خُرُوجِ نَفَسِهِ يَعْنِي فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَيُعْتَقُونَ حِينَئِذٍ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ تَرْكُ الضَّرْبِ وَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَلَوْ قَالَ إنْ لَمْ أَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ حَتَّى أَمُوتَ فَغُلَامُهُ حُرٌّ فَلَمْ يَدْخُلْهَا حَتَّى مَاتَ لَمْ يُعْتَقْ وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَضْرِبْكَ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ أَنْ أَمُوتَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَلَمْ يَضْرِبْهُ حَتَّى مَاتَ عَتَقَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ حَنِثَ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ لَمْ تُخْبِرْ فُلَانًا بِمَا صَنَعْتَ حَتَّى يَضْرِبَكَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَأَخْبَرَهُ فَلَمْ يَضْرِبْهُ بَرَّ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْبِرِّ الْإِخْبَارَ لِأَنَّهُ سَبَبٌ صَالِحٌ لِلضَّرْبِ جَزَاءً لَهُ عَلَى صُنْعِهِ وَالْإِخْبَارُ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ وَلَا يُضْرَبُ لَهُ الْمُدَّةُ فَتَعَذَّرَ جَعْلُهُ لِلْغَايَةِ فَجُعِلَ لِلْجَزَاءِ وَقَوْلُهُ حَتَّى يَضْرِبَك بَيَانُ الْغَرَضِ بِمَعْنَى لِيَضْرِبَك فَيَصِيرُ مَعْنَاهُ إنْ لَمْ أَتَسَبَّبْ لِضَرْبِكَ فَإِذَا أَخْبَرَ بِصَنِيعِهِ فَقَدْ سَبَّبَ لِضَرْبِهِ فَبَرَّ فِي يَمِينِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إنْ لَمْ آتِكَ حَتَّى تُغَدِّيَنِي أَوْ إنْ لَمْ أَضْرِبْكَ حَتَّى تَضْرِبَنِي فَعَبْدِي حُرٌّ فَأَتَاهُ فَلَمْ يُغَدِّهِ أَوْ ضَرَبَهُ وَلَمْ يَضْرِبْهُ بَرَّ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّ التَّغْدِيَةَ لَا تَصْلُحُ غَايَةً لِلْإِتْيَانِ لِكَوْنِهَا دَاعِيَةً إلَى زِيَادَةِ الْإِتْيَانِ وَكَذَلِكَ الضَّرْبُ يَدْعُو إلَى زِيَادَةِ الضَّرْبِ لَا إلَى تَرْكِهِ وَإِنْهَائِهِ فَلَا يُجْعَلُ غَايَةً وَيُجْعَلُ جَزَاءً لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَلَوْ قَالَ إنْ لَمْ أَلْزَمْك حَتَّى تَقْضِيَنِي حَقِّي أَوْ إنْ لَمْ أَضْرِبْك حَتَّى يَدْخُلَ اللَّيْلُ أَوْ حَتَّى تَشْتَكِيَ يَدِي أَوْ حَتَّى تَصِيحَ أَوْ حَتَّى يَشْفَعَ لَك فُلَانٌ أَوْ حَتَّى يَنْهَانِي فُلَانٌ فَتَرَكَ الْمُلَازَمَةَ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى حَقُّهُ أَوْ تَرَكَ الضَّرْبَ قَبْلَ وُجُودِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ حَنِثَ لِأَنَّ كَلِمَةَ حَتَّى هَهُنَا لِلْغَايَةِ إذْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِعْلٌ مُمْتَدٌّ وَهُوَ الْمُلَازَمَةُ وَالضَّرْبُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ مُؤَثِّرٌ فِي إنْهَاءِ الْمُلَازَمَةِ إذْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمُلَازَمَةِ، وَالشَّفَاعَةُ وَالصِّيَاحُ وَالنَّهْيُ وَغَيْرُهَا مُؤَثِّرٌ فِي تَرْكِ الضَّرْبِ وَإِنْهَائِهِ فَصَارَتْ لِلْغَايَةِ لِوُجُودِ شَرْطِهَا. وَلَوْ نَوَى بِهِ الْجَزَاءَ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ التَّخْفِيفَ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ مُتَّهَمًا، وَإِنْ قَالَ إنْ لَمْ آتِكَ الْيَوْمَ حَتَّى أَتَغَدَّى عِنْدَك أَوْ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى أَضْرِبَكَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَأَتَاهُ فَلَمْ يَتَغَدَّ عِنْدَهُ أَوْ لَمْ يَضْرِبْهُ حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ حَنِثَ لِأَنَّ كَلِمَةَ حَتَّى هَهُنَا لِلْعَطْفِ لِأَنَّ الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْحَالِفُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ لَمْ آتِك الْيَوْمَ فَأَضْرِبَكَ أَوْ فَأَتَغَدَّى عِنْدَكَ فَإِنْ لَمْ يُوجَدَا جَمِيعًا لَا يَبَرُّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ حَتَّى تُغَدِّيَنِي لِأَنَّ هُنَاكَ أَحَدَ الْفِعْلَيْنِ مِنْ غَيْرِهِ فَكَانَ عِوَضَ فِعْلِهِ فَلَا يَحْنَثُ بِعَدَمِهِ وَإِنْ لَمْ يُوَقِّتْ بِالْيَوْمِ فَأَتَاهُ وَلَمْ يَتَغَدَّ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْبِرَّ مَوْجُودٌ بِأَنْ يَأْتِيَهُ وَيَتَغَدَّى أَوْ يَتَغَدَّى مِنْ غَيْرِ إتْيَانٍ وَوَقْتُ الْبِرِّ مُتَّسِعٌ فَلَا يَحْنَثُ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ. وَقَالَ إنْ لَمْ آتِكَ فَأَتَغَدَّى عِنْدَك وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَا يَحْنَثُ مَا دَامَ حَيًّا كَذَلِكَ هَذَا وَحَكَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَنْ قَالَ لِأَمَتِهِ إنْ تَجِيئِينِي اللَّيْلَةَ حَتَّى أُجَامِعَكِ مَرَّتَيْنِ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَجَاءَتْهُ فَجَامَعَهَا مَرَّةً وَأَصْبَحَ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَهَذَا وَقَوْلُهُ إنْ لَمْ تَجِيئِينِي اللَّيْلَةَ فَأُجَامِعْك مَرَّتَيْنِ سَوَاءٌ فَيَصِيرُ الْمَجِيءُ وَالْمُجَامَعَةُ مَرَّتَيْنِ شَرْطًا لِلْبِرِّ فَإِذَا انْعَدَمَ يَحْنَثُ فَإِنْ لَمْ يُوَقِّتْ بِاللَّيْلِ لَا يَحْنَثُ وَلَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ لِأَنَّ وَقْتَ الْبِرِّ يَتَّسِعُ عِنْدَ عَدَمِ التَّوْقِيتِ وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا قَالَ إنْ رَكِبْتُ دَابَّتَكَ فَلَمْ أُعْطِكَ دَابَّتِي فَعَبْدِي حُرٌّ قَالَ هَذَا عَلَى الْفَوْرِ إذَا رَكِبَ دَابَّتَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْطِيَهُ دَابَّةَ نَفْسِهِ سَاعَتَئِذٍ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت دَارَكَ فَلَمْ أَجْلِسْ فِيهَا لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ فَيَقْتَضِي وُجُودَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ عَقِيبَ الشَّرْطِ قَالَ وَلَوْ قَالَ إنْ رَأَيْتُ فُلَانًا فَلَمْ آتِكَ بِهِ فَعَبْدِي حُرٌّ فَرَآهُ أَوَّلَ مَا رَآهُ مَعَ الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ لَهُ إنْ رَأَيْتُهُ فَلَمْ آتِكَ بِهِ فَإِنَّ الْحَالِفَ حَانِثٌ السَّاعَةَ لِأَنَّ يَمِينَهُ وَقَعَتْ عَلَى أَوَّلِ رُؤْيَةٍ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِمَنْ هُوَ مَعَهُ قَالَ الْقُدُورِيُّ وَقَدْ كَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَحْنَثَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ كَمَا قَالَا فِيمَنْ قَالَ لَهُ إنْ رَأَيْت فُلَانًا فَلَمْ أُعْلِمْكَ بِذَلِكَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَرَآهُ أَوَّلَ مَا رَآهُ مَعَ الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ لَهُ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَنْ قَدْ عَلِمَهُ مُحَالٌ. وَكَذَلِكَ الْإِتْيَانُ بِمَنْ مَعَهُ فَيَصِيرُ كَمَنْ قَالَ لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ وَلَا مَاءَ فِيهِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ إنْ لَقِيتُكَ فَلَمْ أُسَلِّمْ عَلَيْكَ فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ سَاعَةَ يَلْقَاهُ وَإِلَّا حَنِثَ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ إنْ اسْتَعَرْتُ دَابَّتَكَ فَلَمْ تُعِرْنِي لِأَنَّ هَذَا عَلَى الْمُجَازَاةِ يَدًا بِيَدٍ وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَإِنْ لَمْ أُكَلِّمْ فُلَانًا فَهَذَا مَتَى مَا كَلَّمَهُ بَرَّ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَجِيءَ فِي هَذَا الْبَابِ

فصل في حكم اليمين بالله تعالى

أُمُورٌ تَشْتَبِهُ فَإِنْ لَمْ فِي مَعْنَى فَلَمْ يُحْمَلُ عَلَى مُعْظَمِ مَعَانِي كَلَامِ النَّاسِ وَلَوْ قَالَ إنْ أَتَيْتَنِي فَلَمْ آتِكِ أَوْ إنْ زُرْتنِي فَلَمْ أَزُرْكَ أَوْ إنْ أَكْرَمْتَنِي فَلَمْ أُكْرِمْكَ فَهَذَا عَلَى الْأَبَدِ وَهُوَ فِي هَذَا الْوَجْهِ مِثْلُ فَإِنْ لَمْ لِأَنَّ الزِّيَارَةَ لَا تَتَعَقَّبُ الزِّيَارَةَ عَادَةً فَكَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْفِعْلَ فَإِنْ قِيلَ أَتَيْتَنِي فَلَمْ آتِكِ فَالْأَمْرُ فِي هَذَا مُشْتَبِهٌ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى إنْ لَمْ آتِكَ قَبْلَ إتْيَانِكَ وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى إنْ لَمْ آتِكَ بَعْدَ إتْيَانِك فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا كَانَ الْغَالِبُ مِنْ مَعَانِي كَلَامِ النَّاسِ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى أَيَّ ذَلِكَ نَوَى مِنْ قَبْلُ أَوْ بَعْدُ حَمْلًا عَلَى مَا نَوَى وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يُلْحَقُ بِالْمُشْتَبِهِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ لَهُ مَعْنًى. فَأَمَّا الَّذِي يُعْرَفُ مِنْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَبْلُ أَوْ بَعْدُ فَهُوَ عَلَى الَّذِي يُعْرَفُ فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَإِنْ نَوَى خِلَافَ مَا يُعْرَفُ لَمْ يُدَيَّنْ فِي الْحُكْمِ وَدِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَاَلَّذِي الظَّاهِرُ مِنْهُ قَبْلُ كَقَوْلِهِ إنْ خَرَجْت مِنْ بَابِ الدَّارِ وَلَمْ أَضْرِبْكَ وَاَلَّذِي ظَاهِرُهُ بَعْدُ مِثْلُ قَوْلِهِ إنْ أَعْطَيْتَنِي كَذَا وَلَمْ أُكَافِئْكَ بِمِثْلِهِ وَالْمُحْتَمِلُ كَقَوْلِهِ إنْ كَلَّمْتُكَ وَلَمْ تُكَلِّمْنِي فَهَذَا يَحْتَمِلُ قَبْلُ وَبَعْدُ فَأَيَّهُمَا فَعَلَ لَمْ يَكُنْ لِلْحَالِفِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ نَوَى أَحَدَ الْفِعْلَيْنِ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى وَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَنَطَقَ يَكُونُ هَذَا جَوَابًا لَهُ فَهُوَ عَلَى الْجَوَابِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمُوَفِّقُ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ فَخُلُوُّهُ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَوْ إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِي غَيْرُ هَذَا أَوْ إلَّا أَنْ أَرَى غَيْرَ هَذَا أَوْ إلَّا أَنْ أُحِبَّ غَيْرَ هَذَا أَوْ قَالَ إنْ أَعَانَنِي اللَّهُ أَوْ يَسَّرَ اللَّهُ أَوْ قَالَ بِمَعُونَةِ اللَّهِ أَوْ بِتَيْسِيرِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنْ قَالَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَوْصُولًا لَمْ تَنْعَقِدْ الْيَمِينُ وَإِنْ كَانَ مَفْصُولًا انْعَقَدَتْ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَشَرَائِطِهِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ. وَلَوْ قَالَ إلَّا أَنْ أَسْتَطِيعَ فَإِنْ عَنَى اسْتِطَاعَةَ الْفِعْلِ وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَقْصِدُ فَلَا يَحْنَثُ أَبَدًا لِأَنَّهَا مُقَارِنَةٌ لِلْفِعْلِ عِنْدَنَا فَلَا تُوجَدُ مَا لَمْ يُوجَدْ الْفِعْلُ، وَإِنْ عَنَى بِهِ اسْتِطَاعَةَ الْأَسْبَابِ وَهِيَ سَلَامَةُ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ وَالْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ فَلَمْ يَفْعَلْ حَنِثَ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا لِأَنَّ لَفْظَ الِاسْتِطَاعَةِ يَحْتَمِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِيهِمَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ} [هود: 20] . وَقَالَ {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 67] وَالْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِطَاعَةُ الْفِعْلِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] وَالْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِطَاعَةُ سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ فَأَيَّ ذَلِكَ نَوَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يُحْمَلُ عَلَى اسْتِطَاعَةِ الْأَسْبَابِ وَهُوَ أَنْ لَا يَمْنَعَهُ مَانِعٌ مِنْ الْعَوَارِضِ وَالِاشْتِغَالِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهَا ذَلِكَ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ،. [فَصْلٌ فِي حُكْمُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْيَمِينِ أَمَّا يَمِينُ الْغَمُوسِ فَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لَكِنْ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّهَا جُرْأَةٌ عَظِيمَةٌ حَتَّى قَالَ: الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ كَانَ الْقِيَاسُ عِنْدِي أَنَّ الْمُتَعَمِّدَ بِالْحَلِفِ عَلَى الْكَذِبِ يَكْفُرُ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى جُعِلَتْ لِلتَّعْظِيمِ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَالْحَالِفُ بِالْغَمُوسِ مُجْتَرِئٌ عَلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مُسْتَخِفٌّ بِهِ وَلِهَذَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْحَلِفِ بِالْآبَاءِ وَالطَّوَاغِيتِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَعْظِيمًا لَهُمْ وَتَبْجِيلًا فَالْوِزْرُ لَهُ فِي الْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ أَعْظَمُ وَهَذَا لِأَنَّ التَّعَمُّدَ بِالْحَلِفِ كَاذِبًا عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِأَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَسْمَعُ اسْتِشْهَادَهُ بِاَللَّهِ كَاذِبًا - مُجْتَرِئٌ عَلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَمُسْتَخِفٌّ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ ذُكِرَ عَلَى طَرِيقِ التَّعْظِيمِ وَسَبِيلُ هَذَا سَبِيلُ أَهْلِ النِّفَاقِ أَنَّ إظْهَارَهُمْ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - اسْتِخْفَافٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ اعْتِقَادُهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ تَعْظِيمًا فِي نَفْسِهِ وَصِدْقًا فِي الْحَقِيقَةِ تَلْزَمُهُمْ الْعُقُوبَةُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ وَكَذَا هَذَا وَلَكِنْ نَقُولُ لَا يَكْفُرُ بِهَذَا لِأَنَّ فِعْلَهُ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ لَكِنَّ غَرَضَهُ الْوُصُولُ إلَى مُنَاهُ وَشَهْوَتِهِ لَا الْقَصْدُ إلَى ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي سُؤَالِ السَّائِلِ إنَّ الْعَاصِيَ يُطِيعُ الشَّيْطَانَ وَمَنْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَقَدْ كَفَرَ كَيْفَ لَا يَكْفُرُ الْعَاصِي؟ فَقَالَ لِأَنَّ فِعْلَهُ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الطَّاعَةِ لِلشَّيْطَانِ لَكِنْ مَا فَعَلَهُ قَصْدًا إلَى طَاعَتِهِ وَإِنَّمَا يَكْفُرُ بِالْقَصْدِ إذْ الْكُفْرُ عَمَلُ الْقَلْبِ لَا بِمَا يَخْرُجُ فِعْلُهُ فِعْلَ مَعْصِيَةٍ فَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ الْمَعْهُودَةُ وَهِيَ الْكَفَّارَةُ بِالْمَالِ فَلَا تَجِبُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] نَفَى الْمُؤَاخَذَةَ بِالْيَمِينِ اللَّغْوِ فِي

الْأَيْمَانِ وَأَثْبَتَهَا بِمَا كَسَبَ الْقَلْبُ، وَيَمِينُ الْغَمُوسِ مَكْسُوبَةٌ بِالْقَلْبِ فَكَانَتْ الْمُؤَاخَذَةُ ثَابِتَةً بِهَا إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْهَمَ الْمُؤَاخَذَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ أَنَّهَا بِالْإِثْمِ أَوْ بِالْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ لَكِنْ فَسَّرَ فِي الْأُخْرَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] الْآيَةُ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمُؤَاخَذَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ هَذِهِ الْمُؤَاخَذَةُ، وَبِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] الْآيَةُ أَثْبَتَ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ بِالْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ، وَيَمِينُ الْغَمُوسِ مَعْقُودَةٌ لِأَنَّ اسْمَ الْعَقْدِ يَقَعُ عَلَى عَقْدِ الْقَلْبِ وَهُوَ الْعَزْمُ وَالْقَصْدُ وَقَدْ وُجِدَ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي آخِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] جَعَلَ الْكَفَّارَةَ الْمَعْهُودَةَ كَفَّارَةَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُمُومِ خَصَّ مِنْهُ يَمِينَ اللَّغْوِ فَمَنْ ادَّعَى تَخْصِيصَ الْعُمُومِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ مَعَ مَا أَنَّ أَحَقَّ مَا يُرَادُ بِهِ الْغَمُوسُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْوُجُوبَ بِنَفْسِ الْحَلِفِ دُونَ الْحِنْثِ وَذَلِكَ هُوَ الْغَمُوسُ إذْ الْوُجُوبُ فِي غَيْرِهِ يَتَعَلَّقُ بِالْحِنْثِ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} [آل عمران: 77] الْآيَةُ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالًا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» وَالِاسْتِدْلَالُ بِالنُّصُوصِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مُوجِبَ الْغَمُوسِ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ فَمَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فَقَدْ زَادَ عَلَى النُّصُوصِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِمِثْلِهَا وَمَا رُوِيَ عَنْ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنْ اللِّعَانِ: «اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ» دَعَاهُمَا إلَى التَّوْبَةِ لَا إلَى الْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَاجَتَهُمَا إلَى بَيَانِ الْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً كَانَتْ أَشَدَّ مِنْ حَاجَتِهِمَا إلَى بَيَانِ كَذِبِ أَحَدِهِمَا وَإِيجَابِ التَّوْبَةِ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّوْبَةِ بِالذَّنْبِ يَعْرِفُهُ كُلُّ عَاقِلٍ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ مَعُونَةِ السَّمْعِ، وَالْكَفَّارَةُ الْمَعْهُودَةُ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالسَّمْعِ فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنْ مَعَ أَنَّ الْحَالَ حَالُ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ دَلَّ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ. وَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ فِي الْخَصْمَيْنِ أَنَّهُ قَضَى لِأَحَدِهِمَا وَذَكَرَ فِيهِ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ أَنْ يَأْخُذَهُ وَهُوَ غَيْرُ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ ثُمَّ أَمَرَهُمَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاسْتِهَامِ وَأَنْ يُحَلِّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْكَفَّارَةَ وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً فَعُلِمَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يُعْرَفُ إلَّا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ النَّصُّ أَوْ الْإِجْمَاعُ أَوْ الْقِيَاسُ وَلَمْ يُوجَدْ وَأَقْوَى الدَّلَائِلِ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ نَفْيُ دَلِيلِهِ أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَظَاهِرُ الِانْتِفَاءِ وَكَذَا النَّصُّ الْقَاطِعُ لِأَنَّ أَهْلَ الدِّيَانَةِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ نَصٌّ قَاطِعٌ، وَالنَّصُّ الظَّاهِرُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ الِاعْتِقَادُ قَطْعًا فَلَا يَقَعُ الِاخْتِلَافُ ظَاهِرًا فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ وَمِنْ شَرْطِهِ التَّسَاوِي وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ الذَّنْبَ فِي يَمِينِ الْغَمُوسِ أَعْظَمُ وَمَا صَلَحَ لِدَفْعِ أَدْنَى الذَّنْبَيْنِ لَا يَصْلُحُ لِرَفْعِ أَعْلَاهُمَا، وَلِهَذَا قَالَ: إِسْحَاقُ فِي يَمِينِ الْغَمُوسِ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِيهَا فَقَوْلُ مَنْ يُوجِبُهَا ابْتِدَاءً شَرْعٌ وَنَصْبُ حُكْمٍ عَلَى الْخَلْقِ وَهُوَ لَمْ يُشْرِكْ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] لِأَنَّ مُطْلَقَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْجِنَايَاتِ يُرَادُ بِهَا الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهَا حَقِيقَةُ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْجَزَاءِ. فَأَمَّا الْمُؤَاخَذَةُ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ تَكُونُ خَيْرًا وَتَكْفِيرًا فَلَا تَكُونُ مُؤَاخَذَةً مَعْنًى وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ: إنَّ الْمُؤَاخَذَةَ بِيَمِينِ الْغَمُوسِ ثَابِتَةٌ فِي الْآخِرَةِ وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى - يُؤَاخِذُكُمْ إخْبَارٌ أَنَّهُ يُؤَاخِذُ. فَأَمَّا قَضِيَّةُ الْمُؤَاخَذَةِ فَلَيْسَتْ بِمَذْكُورَةٍ فَيَسْتَدْعِي نَوْعَ مُؤَاخَذَةٍ، وَالْمُؤَاخَذَةُ بِالِاسْمِ مُرَادَةٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَلَا يَكُونُ غَيْرُهُ مُرَادًا إذًا. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى - {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْيَمِينُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ هُوَ الشَّدُّ وَالرَّبْطُ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ عَقْدُ الْحَبْلِ وَعَقْدُ الْحِمْلِ، وَانْعِقَادُ الرِّقِّ وَهُوَ ارْتِبَاطُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَقَدْ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْعَهْدُ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلِأَنَّ الْآيَةَ قُرِئَتْ بِقِرَاءَتَيْنِ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، وَالتَّشْدِيدُ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا عَقْدَ اللِّسَانِ وَهُوَ عَقْدُ الْقَوْلِ وَالتَّخْفِيفُ يَحْتَمِلُ الْعَقْدَ بِاللِّسَانِ وَالْعَقْدَ بِالْقَلْبِ وَهُوَ الْعَزْمُ وَالْقَصْدُ، فَكَانَتْ قِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ مُحْكَمَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى إرَادَةِ الْعَقْدِ بِاللِّسَانِ وَالْقِرَاءَةُ بِالتَّخْفِيفِ مُحْتَمِلَةً فَيُرَدُّ الْمُحْتَمِلُ إلَى الْمُحْكَمِ لِيَكُونَ عَمَلًا بِالْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْمُوَافِقَةِ

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْيَمِينُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَنَّهُ عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ فِيهَا بِالْحَلِفِ وَالْحِنْثِ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ وَالْحِنْثُ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الْيَمِينِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] وَحِفْظُ الْيَمِينِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَحْقِيقُ الْبِرِّ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَإِنْجَازُ الْوَعْدِ وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمُوَفِّقُ. (وَأَمَّا) يَمِينُ اللَّغْوِ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا بِالتَّوْبَةِ وَلَا بِالْمَالِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] أَدْخَلَ كَلِمَةَ النَّفْيِ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ فَيَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمُؤَاخَذَةِ فِيهَا بِالْإِثْمِ وَالْكَفَّارَةِ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي تَفْسِيرِهَا وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْيَمِينِ عَلَى الْمَعَاصِي فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ثُمَّ الْحَالِفُ بِاللَّغْوِ إنَّمَا لَا يُؤَاخَذُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى،. فَأَمَّا الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ حَتَّى يَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي نَفْيِ الْمُؤَاخَذَةِ عَامًّا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالْخَبَرِ وَالنَّظَرِ، أَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ» وَذَكَرَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ، وَاللَّاغِي لَا يَعْدُو هَذَيْنِ فَدَلَّ أَنَّ اللَّغْوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَأَمَّا النَّظَرُ فَهُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ مِمَّا يَقَعُ مُعَلَّقًا وَمُنَجَّزًا وَمَتَى عُلِّقَ بِشَرْطٍ كَانَ يَمِينًا فَأَعْظَمُ مَا فِي اللَّغْوِ أَنَّهُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ وَارْتِبَاطَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ فَيَبْقَى مُجَرَّدَ ذِكْرِ صِيغَةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَيَعْمَلُ فِي إفَادَةِ مُوجَبِهِمَا بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا لَغَا الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَبْقَى مُجَرَّدُ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ فَلَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ اللَّغْوُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - لَا فِي الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَسَائِرِ الْأَجْزِيَةِ. (وَأَمَّا) حُكْمُ الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ وَهِيَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَالْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى فِعْلِ وَاجِبٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى تَرْكِ الْمَنْدُوبِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى تَرْكِ الْمُبَاحِ أَوْ فِعْلِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَى فِعْلِ وَاجِبٍ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأُصَلِّيَنَّ صَلَاةَ الظَّهْرِ الْيَوْمَ أَوْ لَأَصُومَنَّ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» وَلَوْ امْتَنَعَ يَأْثَمُ وَيَحْنَثُ وَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ كَانَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ أَوْ عَلَى فِعْلِ مَعْصِيَةٍ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُصَلِّي صَلَاةَ الْفَرْضِ أَوْ لَا أَصُومُ رَمَضَانَ أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ أَوْ لَأَزْنِيَنَّ أَوْ لَأَقْتُلَنَّ فُلَانًا أَوْ لَا أُكَلِّمُ وَالِدِي وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ لِلْحَالِ الْكَفَّارَةُ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْنِثَ نَفْسَهُ وَيَكُونُ بِالْمَالِ لِأَنَّ عَقْدَ هَذِهِ الْيَمِينِ مَعْصِيَةٌ فَيَجِبُ تَكْفِيرُهَا بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي الْحَالِ كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا كَفَّارَةٌ مَعْهُودَةٌ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ لِيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» أَيْ عَلَيْهِ أَنْ يُحْنِثَ نَفْسَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ تَعَالَى فَلَا يَعْصِهِ» . وَتَرْكُ الْمَعْصِيَةِ بِتَحْنِيثِ نَفْسِهِ فِيهَا فَيَحْنَثُ بِهِ وَيُكَفِّرُ بِالْمَالِ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ الْمَعْهُودَةُ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمَعَاصِي وَإِنْ حَنَّثَ نَفْسَهُ فِيهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا فَلْيَأْتِهِ فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ بِهَا» وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ شُرِعَتْ لِرَفْعِ الذَّنْبِ وَالْحِنْثُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ لَيْسَ بِذَنْبٍ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِرَفْعِ الذَّنْبِ وَلَا ذَنْبَ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] إلَى قَوْلِهِ {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْيَمِينِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَغَيْرِهَا وَالْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ بِيَمِينٍ ثُمَّ رَأَى خَيْرًا مِمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلْ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» فَوَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ حَدِيثَيْهِ فَبَقِيَ الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ لَنَا بِلَا تَعَارُضٍ، وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُهَا لِعُذْرٍ فِي الْحَانِثِ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِمُطْلَقِ الْحِنْثِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَانِثُ سَاهِيًا أَوْ خَاطِئًا أَوْ نَائِمًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ مَجْنُونًا فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُهَا لِأَجْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمُبَاحَاتِ: إمَّا لِأَنَّ الْحِنْثَ فِيهَا يَقَعُ خُلْفًا فِي الْوَعْدِ وَنَقْضًا لِلْعَهْدِ لِأَنَّ الْحَالِفَ وَعَدَ أَنْ يَفْعَلَ وَعَاهَدَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَا حَنِثَ فَقَدْ صَارَ بِالْحِنْثِ مُخْلِفًا فِي الْوَعْدِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ

فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ لِيَصِيرَ الْحَلِفُ مَسْتُورًا كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَوْ لِأَنَّ الْحِنْثَ مِنْهُ يَخْرُجُ مَخْرَجَ الِاسْتِخْفَافِ بِالِاسْتِشْهَادِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ مَتَى قُوبِلَ ذَلِكَ بِعَقْدِهِ السَّابِقِ لَا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ إذْ الْمُسْلِمُ لَا يُبَاشِرُ الْمَعْصِيَةَ قَصْدًا لِمُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَةِ الِاسْتِخْفَافِ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ جَبْرًا لِمَا هَتَكَ مِنْ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى صُورَةً لَا حَقِيقَةً وَسَتْرًا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَجْهَيْنِ مَوْجُودٌ هَهُنَا فَيَجِبُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ الْكَفَّارَةُ شُرِعَتْ لِرَفْعِ الذَّنْبِ فَنَعَمْ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ لَا ذَنْبَ؟ وَقَوْلُهُمْ الْحِنْثُ وَاجِبٌ؟ ، قُلْنَا بَلَى لَكَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَرْكُ الْمَعْصِيَةِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَقْضُ الْيَمِينِ الَّتِي هِيَ عَهْدٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ الْحِنْثُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ذَنْبٌ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ وَإِنْ كَانَ عَلَى تَرْكِ الْمَنْدُوبِ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُصَلِّي نَافِلَةً وَلَا أَصُومُ تَطَوُّعًا وَلَا أَعُودُ مَرِيضًا وَلَا أُشَيِّعُ جِنَازَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُبَاحٍ تَرْكًا أَوْ فِعْلًا كَدُخُولِ الدَّارِ وَنَحْوِهِ فَالْأَفْضَلُ لَهُ الْبِرُّ وَلَهُ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ وَيُكَفِّرَ، ثُمَّ الْكَفَّارَةُ تَجِبُ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ سَوَاءٌ قَصَدَ الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ عِنْدَنَا بِأَنْ كَانَتْ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا بُدَّ مِنْ قَصْدِ الْيَمِينِ لِتَجِبَ الْكَفَّارَةُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنِّكَاحُ» فَتَخْصِيصُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالذِّكْرِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْهَزْلِ مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْجَدِّ وَالْهَزْلِ يَخْتَلِفُ فِي غَيْرِهَا لِيَكُونَ التَّخْصِيصُ مُفِيدًا. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى - {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] أَثْبَتَ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْكَفَّارَةِ الْمَعْهُودَةِ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْقَصْدِ إذْ الْعَقْدُ هُوَ الشَّدُّ وَالرَّبْطُ وَالْعَهْدُ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] أَيْ حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ جَعَلَ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ كَفَّارَةَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُمُومِ عِنْدَ وُجُودِ الْحَلِفِ وَالْحِنْثِ وَقَدْ وُجِدَ. (وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْيَمِينُ» مَعَ مَا أَنَّ رِوَايَتَهُ الْأُخْرَى مَسْكُوتَةٌ عَنْ غَيْرِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ إذْ لَا يَتَعَرَّضُ لِغَيْرِهَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ -. ثُمَّ وَقْتُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ هُوَ وَقْتُ وُجُودِ الْحِنْثِ فَلَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ قَوْمٌ وَقْتُهُ وَقْتُ وُجُودِ الْيَمِينِ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِعَقْدِ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] وَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] أَيْ كَفَّارَةُ مَا عَقَّدْتُمْ مِنْ الْأَيْمَانِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَسْتَدْعِي مُضَافًا إلَيْهِ سَابِقًا وَلَمْ يَسْبِقْ غَيْرُ ذَلِكَ الْعَقْدِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] أَضَافَ الْكَفَّارَةَ إلَى الْيَمِينِ وَعَلَى ذَلِكَ تُنْسَبُ الْكَفَّارَةُ إلَى الْيَمِينِ فَيُقَالُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَالْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى السَّبَبِيَّةِ فِي الْأَصْلِ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ لِيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّكْفِيرِ بَعْدَ الْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ أَضَافَ التَّكْفِيرَ إلَى الْيَمِينِ فَكَذَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى «فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ» أَمَرَ بِتَكْفِيرِ الْيَمِينِ لَا بِتَكْفِيرِ الْحِنْثِ فَدَلَّ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِلْيَمِينِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنْ الْوَعْدِ إلَّا بِالِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ النَّهْيَ فِي الْيَمِينِ أَوْكَدُ وَأَشَدُّ مِمَّنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ بِلَا ثُنْيَا فَقَدْ صَارَ عَاصِيًا بِإِتْيَانِ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِدَفْعِ ذَلِكَ الْإِثْمِ عَنْهُ. (وَلَنَا) أَنَّ الْوَاجِبَ كَفَّارَةٌ وَالْكَفَّارَةُ تَكُونُ لِلسَّيِّئَاتِ إذْ مِنْ الْبَعِيدِ تَكْفِيرُ الْحَسَنَاتِ، فَالسَّيِّئَاتُ تُكَفَّرُ بِالْحَسَنَاتِ. قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَعَقْدُ الْيَمِينِ مَشْرُوعٌ قَدْ أَقْسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَكَذَا الرُّسُلُ الْمُتَقَدِّمَةُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى خَبَرًا عَنْ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] . وَقَالَ خَبَرًا عَنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُمْ {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: 85] وَكَذَا أَيُّوبُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ فَأَمَرَهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِالْوَفَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] وَالْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعْصُومُونَ عَنْ

الْكَبَائِرِ وَالْمَعَاصِي فَدَلَّ أَنَّ نَفْسَ الْيَمِينِ لَيْسَتْ بِذَنْبٍ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا حَلَفْتُمْ فَاحْلِفُوا بِاَللَّهِ» . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ» أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - فَدَلَّ أَنَّ نَفْسَ الْيَمِينِ لَيْسَ بِذَنْبٍ فَلَا يَجِبُ التَّكْفِيرُ لَهَا وَإِنَّمَا يَجِبُ لِلْحِنْثِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَأْثَمُ فِي الْحَقِيقَةِ وَمَعْنَى الذَّنْبِ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ عَاهَدَ اللَّهَ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، فَالْحِنْثُ يَخْرُجُ مَخْرَجَ نَقْضِ الْعَهْدِ مِنْهُ فَيَأْثَمُ بِالنَّقْضِ لَا بِالْعَهْدِ وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ} [النحل: 91] الْآيَةَ وَلِأَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ يَخْرُجُ مَخْرَجَ التَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ لِلَّهِ تَعَالَى وَجَعْلِهِ مَفْزَعًا إلَيْهِ وَمَأْمَنًا عَنْهُ فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ مَحْوًا لَهُ وَسِتْرًا وَتَبَيَّنَ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْحَالِفَ يَصِيرُ عَاصِيًا بِتَرْكِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - تَرَكُوا الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْيَمِينِ وَلَمْ يَجُزْ وَصْفُهُمْ بِالْمَعْصِيَةِ فَدَلَّ أَنَّ تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ فِي مُطْلَقِ الْوَعْدِ مَنْهِيًّا عَنْهُ كَرَاهَةً وَذَلِكَ - وَاَللَّهُ - عَزَّ - وَجَلَّ - أَعْلَمُ - لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَعْدَ إضَافَةُ الْفِعْلِ إلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَقُولَ أَفْعَلُ غَدًا كَذَا وَكُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ فِعْلَهُ لَا يَتَحَقَّقُ لِأَحَدٍ إلَّا بَعْدَ تَحْقِيقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الِاكْتِسَابُ لِذَلِكَ إلَّا بِإِقْدَارِهِ فَيُنْدَبُ إلَى قِرَانِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْوَعْدِ لِيُوَفَّقَ عَلَى ذَلِكَ وَيُعْصَمَ عَنْ التَّرْكِ وَفِي الْيَمِينِ يُذْكَرُ الِاسْتِشْهَادُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقِ التَّعْظِيمِ، قَدْ اسْتَغَاثَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَإِلَيْهِ فَزِعَ فَيَتَحَقَّقُ التَّعْظِيمُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ وَزِيَادَةٌ فَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي أَنَّ الْيَمِينَ شُرِعَتْ لِتَأْكِيدِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ خُصُوصًا فِي الْبَيْعَةِ، وَقِرَانُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَ لَهُ الْعَقْدُ، بِخِلَافِ الْوَعْدِ الْمُطْلَقِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَتَأْوِيلُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَيْ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِمُحَافَظَةِ مَا عَقَّدْتُمْ مِنْ الْأَيْمَانِ وَالْوَفَاءِ بِهَا كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] فَإِنْ تَرَكْتُمْ ذَلِكَ فَكَفَّارَتُهُ كَذَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] فَتَرَكْتُمْ الْمُحَافَظَةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] وَالْمُحَافَظَةُ تَكُونُ بِالْبِرِّ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ عَلَى إضْمَارِ الْحِنْثِ أَيْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِحِنْثِكُمْ فِيمَا عَقَّدْتُمْ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] أَيْ إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنَثْتُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] مَعْنَاهُ فَحَلَفَ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] مَعْنَاهُ فَتَحَلَّلَ، وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أَيْ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْمَلْفُوظِ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّخْفِيفِ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ فَصَارَ اسْتِعْمَالُ الرُّخْصَةِ مُضْمَرًا فِيهِ، كَذَلِكَ هَهُنَا لَا تَصْلُحُ الْيَمِينُ الَّتِي هِيَ تَعْظِيمُ الرَّبِّ - جَلَّ جَلَالُهُ - سَبَبًا لِوُجُوبِ التَّكْفِيرِ فَيَجِبُ إضْمَارُ مَا هُوَ صَالِحٌ وَهُوَ الْحِنْثُ وَأَمَّا إضَافَةُ الْكَفَّارَةِ إلَى الْيَمِينِ فَلَيْسَتْ لِلْوُجُوبِ بِهَا بَلْ عَلَى إرَادَةِ الْحِنْثِ كَإِضَافَةِ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ إلَى الصِّيَامِ وَإِضَافَةِ الدَّمِ إلَى الْحَجِّ - وَالسُّجُودِ إلَى السَّهْوِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ سَبَبًا كَذَا هَذَا وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ رُوِيَ بِرِوَايَاتٍ: رُوِيَ «فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ» وَرُوِيَ «فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَرُوِيَ «فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لِيُكَفِّرْ يَمِينَهُ» وَهُوَ عَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً بِنَفْسِ الْيَمِينِ لَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَلْيُكَفِّرْ مِنْ غَيْرِ التَّعَرُّضِ لِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهُ مَاذَا وَلَمَا لَزِمَ الْحِنْثُ إذَا كَانَ خَيْرًا ثَمَّ بِالتَّكْفِيرِ فَلَمَّا خَصَّ الْيَمِينَ عَلَى مَا كَانَ الْحِنْثُ خَيْرًا مِنْ الْبِرِّ بِالنَّقْضِ وَالْكَفَّارَةِ عُلِمَ أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْحِنْثِ دُونَ الْيَمِينِ نَفْسِهَا وَأَنَّهَا لَا تَجِبُ بِعَقْدِ الْيَمِينِ دُونَ الْحِنْثِ، وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِهَا قَبْلَ الْحِنْثِ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ قَبْلَ الْحِنْثِ،. فَأَمَّا التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الْحِنْثِ بِالْإِجْمَاعِ وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّهُ كَفَّرَ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَيَجُوزُ كَمَا لَوْ كَفَّرَ بِالْمَالِ بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ كَفَّرَ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تُضَافُ إلَى الْيَمِينِ يُقَالُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] وَالْحُكْمُ إنَّمَا يُضَافُ إلَى سَبَبِهِ هُوَ الْأَصْلُ فَدَلَّ أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فَكَانَ هَذَا تَكْفِيرًا بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي مَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ قَبْلَ الْحِنْثِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ

فصل في بيان أن اليمين بالله عز وجل على نية الحالف أو المستحلف

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَفَّرَ قَبْلَ الْحِنْثِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ - قَدْ مُثِّلَ وَجُرِحَ جِرَاحَاتٍ عَظِيمَةً اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقْسَمَ أَنْ يَفْعَلَ كَذَلِكَ بِكَذَا كَذَا مِنْ قُرَيْشٍ فَنَزَلَ النَّهْيُ عَنْ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَذَلِكَ تَكْفِيرٌ قَبْلَ الْحِنْثِ لِأَنَّ الْحِنْثَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْيَمِينِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا يُحْتَمَلُ الْبِرُّ فِيهِ حَقِيقَةً وَذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِهِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ التَّكْفِيرِ لِلْأُمَّةِ قَبْلَ الْحِنْثِ إذْ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُدْوَةٌ وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ مَا يَكُونُ مُفْضِيًا إلَى الْمُسَبَّبِ إذْ هُوَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الشَّيْءِ، وَالْيَمِينُ مَانِعَةٌ مِنْ الْحِنْثِ لِكَوْنِ الْحِنْثِ خُلْفًا فِي الْوَعْدِ وَنَقْضًا لِلْعَهْدِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91] {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92] وَلِكَوْنِهِ اسْتِخْفَافًا بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ الْحِنْثِ فَكَانَتْ الْيَمِينُ مَانِعَةً مِنْ الْحِنْثِ فَكَانَتْ مَانِعَةً مِنْ الْوُجُوبِ إذْ الْوُجُوبُ شَرْطُ الْحِنْثِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَنَا فَكَيْفَ يَكُونُ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ؟ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُ التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ كَذَا بِالْمَالِ بِخِلَافِ التَّكْفِيرِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْجُرْحَ سَبَبٌ لِلْمَوْتِ لِكَوْنِهِ مُفْضِيًا إلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً فَكَانَ تَكْفِيرًا بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ فَجَازَ وَأَمَّا إضَافَةُ الْكَفَّارَةِ إلَى الْيَمِينِ فَعَلَى إضْمَارِ الْحِنْثِ فَيَكُونُ الْحِنْثُ بَعْدَ الْيَمِينِ سَبَبًا لَا قَبْلَهُ وَالْحِنْثُ يَكُونُ سَبَبًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَمَّاهُ كَفَّارَتَهُ لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] وَهِيَ اسْمٌ لِمَا يُكَفِّرُ بِالذَّنْبِ وَلَا ذَنْبَ إلَّا ذَنْبُ الْحِنْثِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنَثْتُمْ كَمَا يَقْرَأُ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنْ قِيلَ الْكَفَّارَةُ تَجِبُ بِنَفْسِ الْيَمِينِ أَصْلَ الْوُجُوبِ لَكِنْ يَجِبُ أَدَاؤُهَا عِنْدَ الْحِنْثِ كَالزَّكَاةِ تَجِبُ عِنْدَ وُجُودِ النِّصَابِ، لَكِنْ يَجِبُ الْأَدَاءُ عِنْدَ الْحَوْلِ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» لِنَفْيِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لَا لِنَفْيِ أَصْلِ الْوُجُوبِ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا وُجُوبَ إلَّا وُجُوبُ الْفِعْلِ،. فَأَمَّا وُجُوبُ غَيْرِ الْفِعْلِ فَأَمْرٌ لَا يُعْقَلُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ صَامَ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَعُلِمَ أَنَّ الْوُجُوبَ غَيْرُ ثَابِتٍ أَصْلًا وَرَأْسًا، فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى كَفَّارَةً قَبْلَ وُجُوبِهَا كَمَا يُسَمَّى مَا يُعَجَّلُ مِنْ الْمَالِ زَكَاةً قَبْلَ الْحَوْلِ وَكَمَا يُسَمَّى الْمُعَجَّلُ كَفَّارَةً بَعْدَ الْجِرَاحَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْحِنْثِ فِي جَوَازِهَا، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ الْحَقِيقِيَّةَ وَهِيَ الْكَفَّارَةُ الْوَاجِبَةُ بَعْدَ الْحِنْثِ مُرَادَةٌ بِالْآيَةِ فَامْتَنَعَ أَنْ يُرَادَ بِهَا مَا يُسَمَّى كَفَّارَةً مَجَازًا لِعَرَضِيَّةِ الْوُجُوبِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ مُنْتَظِمًا الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ. وَأَمَّا تَكْفِيرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَقُولُ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى كَانَ تَكْفِيرًا بَعْدَ الْحِنْثِ لِأَنَّهُ تَكْفِيرٌ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَحْصِيلِ الْبِرِّ فَيَكُونُ تَكْفِيرًا بَعْدَ الْحِنْثِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَمَنْ حَلَفَ لَآتِيَنَّ الْبَصْرَةَ فَمَاتَ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ بِالْمَوْتِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْصُومٌ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَالْوَفَاءُ بِتِلْكَ الْيَمِينِ مَعْصِيَةٌ إذْ هُوَ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فَكَانَتْ يَمِينُهُ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ فَكَانَتْ مُنْعَقِدَةً عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ وَلَمَّا نُهِيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَصَارَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً صَارَ إنْشَاءً وَعَاجِزًا عَنْ الْبِرِّ فَصَارَ حَانِثًا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ فَكَانَ وَقْتُ يَأْسِهِ وَقْتَ النَّهْيِ لَا وَقْتَ الْمَوْتِ أَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقْتُ الْيَأْسِ وَالْعَجْزِ حَقِيقَةً هُوَ وَقْتُ الْمَوْتِ إذْ غَيْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْمَعَاصِي فَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ لِتَصَوُّرِ وُجُودِ الْبِرِّ مَعَ وَصْفِ الْعِصْيَانِ فَهُوَ الْفَرْقُ - وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ -. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ أَوْ الْمُسْتَحْلِفِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ أَوْ الْمُسْتَحْلِفِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ إذَا كَانَ مَظْلُومًا، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَعَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ عَلَى الْمَاضِي فَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمَاضِي بِالْإِثْمِ فَمَتَى كَانَ الْحَالِفُ ظَالِمًا كَانَ آثِمًا فِي يَمِينِهِ وَإِنْ نَوَى بِهِ غَيْرَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِالْيَمِينِ إلَى ظُلْمِ غَيْرِهِ وَقَدْ رَوَى أَبُو أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ النَّارَ قَالُوا: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ قَالَهَا

فصل في اليمين بغير الله عز وجل

ثَلَاثًا» وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ - تَعَالَى - وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» وَأَمَّا إذَا كَانَ مَظْلُومًا فَهُوَ لَا يَقْتَطِعُ بِيَمِينِهِ حَقًّا فَلَا يَأْثَمُ وَإِنْ نَوَى غَيْرَ الظَّاهِرِ قَالَ وَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ إذَا قَصَدَ بِهَا الْحَالِفُ مَعْنًى دُونَ مَعْنًى فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ دُونَ نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَهُوَ الْعَاقِدُ فَيَنْعَقِدُ عَلَى مَا عَقَدَهُ. [فَصْلٌ فِي الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَهِيَ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ. الْيَمِينُ بِالْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ الشَّرَائِعِ وَالْكَعْبَةِ وَالْحَرَمِ وَزَمْزَمَ وَالْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا حَلَفْتُمْ فَاحْلِفُوا بِاَللَّهِ» وَلَوْ حَلَفَ بِذَلِكَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَلَا حُكْمَ لَهُ أَصْلًا. وَالثَّانِي. بِالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَهَذَا النَّوْعُ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ يَمِينٌ بِالْقُرَبِ وَيَمِينٌ بِغَيْرِ الْقُرَبِ أَمَّا. الْيَمِينُ بِالْقُرَبِ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صَلَاةٌ أَوْ صَوْمٌ أَوْ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ أَوْ بَدَنَةٌ أَوْ هَدْيٌ أَوْ عِتْقُ رَقَبَةٍ أَوْ صَدَقَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْيَمِينِ أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْمُسَمَّى بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهِ إلَّا بِهِ أَوْ يَخْرُجُ عَنْهَا بِالْكَفَّارَةِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهَا يَمِينٌ حَقِيقَةً حَتَّى إنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَحْلِفُ؟ فَقَالَ ذَلِكَ يَحْنَثُ بِلَا خِلَافٍ لِوُجُودِ رُكْنِ الْيَمِينِ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ وَوُجُودِ مَعْنَى الْيَمِينِ أَيْضًا وَهُوَ الْقُوَّةُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ خَوْفًا مِنْ لُزُومِ الْمَذْكُورِ وَنَذْكُرُ حُكْمَ هَذَا النَّوْعِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - فِي كِتَابِ النَّذْرِ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ يُسَمَّى أَيْضًا نَذْرًا مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ لِوُجُودِ مَعْنَى النَّذْرِ وَهُوَ الْتِزَامُهُ الْقُرْبَةَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ. (وَأَمَّا) . الْيَمِينُ بِغَيْرِ الْقُرَبِ فَهِيَ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَلَا بُدَّ مِنْ. بَيَانِ رُكْنِهِ وَبَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَبَيَانِ حُكْمِهِ وَبَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ الرُّكْنُ، أَمَّا الرُّكْنُ فَهُوَ ذِكْرُ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ مَرْبُوطٍ بِالشَّرْطِ مُعَلَّقٍ بِهِ فِي قَدْرِ الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَةِ الْمُسَمَّى بِالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَمَعْرِفَةِ مَعْنَاهُمَا، أَمَّا الْمُسَمَّى بِالشَّرْطِ فَمَا دَخَلَ فِيهِ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ وَهِيَ إنْ وَإِذَا، وَإِذْ مَا، وَمَتَى، وَمَتَى مَا وَمَهْمَا وَأَشْيَاءُ أُخَرُ ذَكَرَهَا أَهْلُ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ. وَأَصْلُ حُرُوفِهِ أَنَّ الْخَفِيفَةَ وَغَيْرَهَا دَاخِلٌ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الشَّرْطِ وَمَا سِوَاهَا مِنْ الْحُرُوفِ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ وَهُوَ الْوَقْتُ وَهَذَا أَمَارَةُ الْأَصَالَةِ وَالتَّبَعِيَّةِ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ مَعَ هَذِهِ الْحُرُوفِ كُلَّمَا وَعَدَّهَا مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ، وَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَمْ يَعُدُّوهَا مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ لَكِنْ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ تَوَقُّفُ الْحُكْمِ عَلَى وُجُودِ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لِذَلِكَ سَمَّاهُ شَرْطًا، وَفِي قَوْلِهِ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، وَقَوْلِهِ كُلُّ عَبْدٍ اشْتَرَيْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ إنَّمَا تَوَقَّفَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ عَلَى الزَّوَاجِ وَالشِّرَاءِ لَا عَلَى طَرِيقِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ بَلْ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ عَلَى امْرَأَةٍ مُتَّصِفَةٍ بِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَعَلَى عَبْدٍ مُتَّصِفٍ بِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ وَيَحْصُلُ الِاتِّصَافُ بِذَلِكَ عِنْدَ التَّزَوُّجِ وَالشِّرَاءِ. وَأَمَّا مَعْنَى الشَّرْطِ فَهُوَ الْعَلَامَةُ وَمِنْهُ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ أَيْ عَلَامَاتُهَا، وَمِنْهُ الشُّرْطِيُّ وَالشِّرَاطُ وَالْمِشْرَطُ فَسُمِّيَ مَا جَعَلَهُ الْحَالِفُ عَلَمًا لِنُزُولِ الْجَزَاءِ شَرْطًا حَتَّى لَوْ ذَكَرَهُ لِمَقْصُودٍ آخَرَ لَا يَكُونُ شَرْطًا عَلَى مَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَأَمَّا الْمُسَمَّى بِالْجَزَاءِ فَمَا دَخَلَ فِيهِ حَرْفُ التَّعْلِيقِ وَهِيَ حَرْفُ الْفَاءِ إذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي الذِّكْرِ عَنْ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَأَمَّا إذَا كَانَ الْجَزَاءُ مُتَقَدِّمًا فَلَا حَاجَةَ إلَى حَرْفِ الْفَاءِ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ بِدُونِ حَرْفِ التَّعْلِيقِ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْقُبُ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ يَمِينٌ فَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَطْلِيقًا إلَى كَوْنِهِ يَمِينًا وَتَعْلِيقًا فَلَا حَاجَةَ فِي مِثْلِ هَذَا إلَى حَرْفِ التَّعْلِيقِ بِخِلَافِ حُرُوفِ الشَّرْطِ فَإِنَّهَا لَازِمَةٌ لِلشَّرْطِ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عَلَى الْجَزَاءِ أَوْ تَأَخَّرَ وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ الْفَاءُ بِالْجَزَاءِ؛ لِأَنَّهَا حَرْفٌ يَقْتَضِي التَّعْقِيبَ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ كَقَوْلِ الْقَائِلِ جَاءَنِي زَيْدٌ فَعَمْرٌو وَالْجَزَاءُ يَتَعَقَّبُ الشَّرْطَ بِلَا تَرَاخٍ وَأَمَّا مَعْنَى الْجَزَاءِ فَجَزَاءُ الشَّرْطِ مَا عُلِّقَ بِالشَّرْطِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مَانِعًا مِنْ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ إذَا كَانَ الشَّرْطُ مَرْغُوبًا عَنْهُ لِوَقَاحَةِ عَاقِبَتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ حَامِلًا عَلَى تَحْصِيلِهِ لِحُسْنِ عَاقِبَتِهِ لَكِنَّ الْحَمْلَ وَالْمَنْعَ مِنْ الْأَغْرَاضِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ الْيَمِينِ وَمِنْ ثَمَرَاتِهَا بِمَنْزِلَةِ الرِّبْحِ بِالْبَيْعِ وَالْوَلَدِ بِالنِّكَاحِ فَانْعِدَامُهُمَا لَا يُخْرِجُ التَّصَرُّفَ عَنْ كَوْنِهِ يَمِينًا كَانْعِدَامِ الرِّبْحِ فِي الْبِيَعِ وَالْوَلَدِ فِي النِّكَاحِ لِأَنَّ وُجُودَ التَّصَرُّفِ بِوُجُودِ رُكْنِهِ، لَا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ كَوُجُودِ الْبِيَعِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا،

وَرُكْنُ الْيَمِينِ هُمَا الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ فَإِذَا وُجِدَ كَانَ التَّصَرُّفُ يَمِينًا وَلِأَنَّ الْمَرْجِعَ فِي مَعْرِفَةِ الْأَسَامِي إلَى أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ يَمِينًا مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ مَعْنَى الْحَمْلِ وَالْمَنْعِ دَلَّ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُقُوعِ التَّصَرُّفِ يَمِينًا، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ. وَقَالَ إذَا أَوْ إذَا مَا أَوْ مَتَى أَوْ مَتَى مَا أَوْ حَيْثُمَا أَوْ مَهْمَا كَانَ يَمِينًا لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يَحْلِفُ فَقَالَ ذَلِكَ يَحْنَثُ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا لَا يَكُونُ يَمِينًا لِانْعِدَامِ حُرُوفِ الشَّرْطِ بَلْ هُوَ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى الْغَدِ وَالشَّهْرِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْغَدَ وَالشَّهْرَ ظَرْفًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ فِي غَدٍ وَفِي شَهْرٍ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ ظَرْفًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ إلَّا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَلَوْ قَالَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ إذَا مَضَى غَدٌ أَوْ إذَا جَاءَ رَمَضَانُ أَوْ إذَا ذَهَبَ رَمَضَانُ أَوْ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ كَانَ يَمِينًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ يَمِينًا لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْمَنْعُ أَوْ الْحَمْلُ إذْ لَا يَقْدِرُ الْحَالِفُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ مَجِيءِ الْغَدِ وَلَا عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ يَمِينًا بِخِلَافِ دُخُولِ الدَّارِ وَكَلَامِ زَيْدٍ، وَلِأَنَّ الشَّرْطَ مَا فِي وُجُودِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ خَطَرٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُوجَدَ، وَالْغَدُ يَأْتِي لَا مَحَالَةَ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا فَلَمْ يَكُنْ يَمِينًا. (وَلَنَا) أَنَّهُ وُجِدَ ذِكْرُ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ مُعَلَّقٍ بِالشَّرْطِ فَكَانَ يَمِينًا، وَمَعْنَى الْمَنْعِ أَوْ الْحَمْلِ مِنْ أَغْرَاضِ الْيَمِينِ وَثَمَرَاتِهَا، وَحَقَائِقُ الْأَسَامِي تَتْبَعُ حُصُولَ الْمُسَمَّيَاتِ بِذَوَاتِهَا وَذَلِكَ بِأَرْكَانِهَا لَا بِمَقَاصِدِهَا الْمَطْلُوبَةِ مِنْهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ - وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الشَّرْطَ مَا فِي وُجُودِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ خَطَرٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُوجَدَ، وَالْغَدُ يَأْتِي لَا مَحَالَةَ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَمْنُوعٌ أَنَّ هَذَا مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِ شَرْطًا بَلْ مِنْ شَرْطِ أَنْ يَكُونَ جَائِزَ الْوُجُودِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَنَعْنِي بِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَحِيلَ الْوُجُودِ وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا فَكَانَ التَّصَرُّفُ يَمِينًا عَلَى أَنَّ جَوَازَ الْعَدَمِ إنْ كَانَ شَرْطًا فَهُوَ مَوْجُودٌ هَهُنَا لِأَنَّ مَجِيءَ الْغَدِ وَنَحْوِهِ لَيْسَ مُسْتَحِيلَ الْعَدَمِ حَقِيقَةً لِجَوَازِ قِيَامِ السَّاعَةِ فِي كُلِّ لَمْحَةٍ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77] وَهَذَا لِأَنَّ السَّاعَةَ وَإِنْ كَانَ لَهَا شَرَائِطُ لَا تَقُومُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي يَوْمِنَا هَذَا فَيَقَعُ الْأَمْنُ عَنْ قِيَامِ السَّاعَةِ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَكِنَّ هَذَا يُوجِبُ الْأَمْنَ عَنْ الْقِيَامِ، إمَّا لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرَ الْقِيَامِ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ خَبَرَ الصَّادِقِ عَنْ امْرَأَتِهِ لَا يُوجَدُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُوجَدُ، إمَّا لَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُتَصَوَّرَ وُجُودُهُ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةً وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ مَقْدُورُ الْعَبْدِ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ التَّكْلِيفُ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ فَكَانَ مَجِيءُ الْغَدِ جَائِزَ الْعَدَمِ فِي نَفْسِهِ لَا مُسْتَحِيلَ الْعَدَمِ فَكَانَ شَرْطُ كَوْنِهِ شَرْطًا وَهُوَ جَوَازُ الْعَدَمِ حَقِيقَةً مَوْجُودًا فَكَانَ يَمِينًا، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ أَوْ أَرَدْتِ أَوْ أَحْبَبْتِ أَوْ رَضِيَتْ أَوْ هَوِيَتْ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا حَتَّى لَوْ كَانَ حَلَفَ لَا يَحْلِفُ - لَا يَحْنَثُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرْطَ مَعْنَاهُ الْعَلَامَةُ وَهُوَ مَا جَعَلَهُ الْحَالِفُ عَلَمًا لِنُزُولِ الْجَزَاءِ، وَالْحَالِفُ هَهُنَا مَا جَعَلَ قَوْلَهُ إنْ شِئْت عَلَمًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بَلْ جَعَلَهُ لِتَمْلِيكِ الطَّلَاقِ مِنْهَا كَأَنَّهُ قَالَ مَلَّكْتُكِ طَلَاقَك، أَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي أَوْ أَمْرُكِ بِيَدِكِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَجْلِسِ؟ وَمَا جُعِلَ عَلَمًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَوْ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا وَهَذَا لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمَحْضَ مَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الطَّلَاقِ فَحَسْبُ فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ وُجُودُهُ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَمًا بَلْ يَكُونُ عِلَّةً لِحُصُولِهِ، وَالْمَشِيئَةُ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الطَّلَاقُ بِدَلِيلِ أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ إنْ شِئْت طَلَاقَكِ فَطَلِّقِي وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مَعْنَى الشَّرْطِ لَمْ تَكُنِ الْمَشِيئَةُ الْمَذْكُورَةُ شَرْطًا فَلَمْ يُوجَدْ أَحَدُ رُكْنَيْ الْيَمِينِ وَهُوَ الشَّرْطُ فَلَمْ تُوجَدْ الْيَمِينُ فَلَا يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت أَنَا لَمْ يَكُنْ يَمِينًا حَتَّى لَا يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ إذَا حَلَفَ لَا يَحْلِفُ. وَلَوْ قَالَ لَهَا إذَا حِضْت وَطَهُرْت فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا لِأَنَّ الْحَالِفَ مَا جَعَلَ هَذَا الشَّرْطَ عَلَمًا لِنُزُولِ الْجَزَاءِ بَلْ جَعَلَهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يُذْكَرُ عَادَةً كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ. وَكَذَا إذَا قَالَ إذَا حِضْت حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ اسْمٌ لِلْكَامِلِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إذَا حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَمَا زَادَ عَلَى هَذَا يُعْرَفُ فِي الْجَامِعِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَحْلِفُ فَقَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي تَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ أَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ كُلَّمَا دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ يَحْنَثُ لَا لِوُجُودِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالدُّخُولِ لِتَعَذُّرِ التَّعْلِيقِ لِانْعِدَامِ حَرْفِهِ بَلْ لِضَرُورَةِ

وُجُودِ الِاتِّصَافِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالتَّعْلِيقُ بِالدُّخُولِ ظَرْفٌ فِي وُجُودِ الِاتِّصَافِ فَصَارَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ بِوَاسِطَةِ الِاتِّصَافِ شَبِيهَ الشَّرْطِ لَا أَنْ يَكُونَ شَرْطًا ثُمَّ فِي كَلِمَةِ " كُلُّ " إذَا دَخَلْت مَرَّةً فَطَلُقَتْ ثُمَّ دَخَلَتْ ثَانِيًا لَمْ تَطْلُقْ، وَفِي كَلِمَةِ " كُلَّمَا " تَطْلُقُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ تَدْخُلُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ كَلِمَةَ " كُلُّ " كَلِمَةُ عُمُومٍ وَإِحَاطَةٍ لِمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى دَخَلَتْ فِي الْعَيْنِ وَهِيَ الْمَرْأَةُ لَا فِي الْفِعْلِ وَهُوَ الدُّخُولُ، فَإِذَا دَخَلَتْ مَرَّةً فَقَدْ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ فَلَا يَحْنَثُ بِدُخُولِهَا ثَانِيًا وَأَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّمَا دَخَلَتْ الْكَلِمَةُ عَلَى فِعْلِ الدُّخُولِ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَا تَرْجِعُ مَعَ مَا بَعْدَهَا مِنْ الْفِعْلِ مَصْدَرًا لُغَةً، يُقَالُ: بَلَغَنِي مَا قُلْت وَأَعْجَبَنِي مَا صَنَعْت أَيْ قَوْلُك وَصُنْعُك فَصَارَتْ الْكَلِمَةُ دَاخِلَةً عَلَى الْمَصْدَرِ لَا عَلَى مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ فَيَقْتَضِي تَعْمِيمَ الْمَصْدَرِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] يَتَجَدَّدُ التَّبَدُّلُ عِنْدَ تَجَدُّدِ النُّضْجِ وَإِنْ كَانَ الْمَحَلُّ مُتَّحِدًا فَصَارَ الطَّلَاقُ مُتَعَلِّقًا بِكُلِّ دُخُولٍ وَقَدْ وُجِدَ الدُّخُولُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فَطَلُقَتْ ثَلَاثًا فَلَوْ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ فَدَخَلَتْ الدَّارَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَلَوْ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى التَّزَوُّجِ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا فَطَلُقَتْ ثَلَاثًا بِكُلِّ تَزَوُّجٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى الْمِلْكِ، وَالطَّلَاقُ الْمُضَافُ إلَى الْمِلْكِ يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الدُّخُولِ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لَوْ دَخَلْت الدَّارَ كَانَ يَمِينًا كَمَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَإِذَا دَخَلْت لِأَنَّ كَلِمَةَ لَوْ تُذْكَرُ لِتَوَقُّفِ الْمَذْكُورِ عَلَى وُجُودِ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] . وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] فَكَانَتْ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ لِتَوَقُّفِ الْجَزَاءِ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا حَقِيقَةً، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ، لَوْ حَسُنَ خُلُقُكِ سَوْفَ أُرَاجِعُكِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا وَيَقَعُ الطَّلَاقُ السَّاعَةَ لِأَنَّ " لَوْ " مَا دَخَلَتْ عَلَى الطَّلَاقِ وَإِنَّمَا دَخَلَتْ عَلَى تَرَقُّبِ الرَّجْعَةِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، إنْ حَسُنَ خُلُقُكِ رَاجَعْتُكِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ، لَوْ قَدِمَ أَبُوكِ رَاجَعْتُكِ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ، إنْ دَخَلْت الدَّارَ رَاجَعْتُكِ، وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ بَلْ هُوَ عِدَةٌ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لَوْ دَخَلْتِ الدَّارَ لَطَلَّقْتُك لَمْ تَطْلُقْ السَّاعَةَ وَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يُطَلِّقَهَا فَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا طَلُقَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ مَوْتِهَا بِلَا فَصْلٍ لِأَنَّ هَذَا رَجُلٌ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَطَلَّقَهَا إذَا دَخَلَتْ الدَّارَ فَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا فَهِيَ طَالِقٌ كَأَنَّهُ قَالَ لِأُطَلِّقَنَّكِ إذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَإِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَلَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَا تَطْلُقُ لِلْحَالِ وَإِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا حَتَّى مَاتَتْ أَوْ مَاتَ طَلُقَتْ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ لِفَوَاتِ شَرْطِ الْبِرِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ ذَلِكَ الْوَقْتَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهَا كَذَا هَذَا، وَنَظِيرُهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ عَبْدِي حُرٌّ لَوْ دَخَلْت الدَّارَ لَأَضْرِبَنَّكِ إذْ مَعْنَاهُ لَأَضْرِبَنَّكِ إذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَإِنْ دَخَلْتِ وَلَمْ أَضْرِبْكِ فَعَبْدِي حُرٌّ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ - وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لَوْلَا دُخُولُكِ الدَّارَ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ لَوْلَا مَهْرُكِ عَلَيَّ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ لَوْلَا شَرَفُكِ فَهَذَا كُلُّهُ اسْتِثْنَاءٌ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ كَالِاسْتِثْنَاءِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْمُسْتَثْنَى وَالْأَصْلُ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تُسْتَعْمَلُ فِي امْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] الْآيَةَ. وَقَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91] وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ لَوْلَا الْمَطَرُ لَجِئْتُكَ فَصَارَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ لَوْلَا دُخُولُكِ الدَّارَ لَطَلَّقْتُكِ فَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ طَلَّقْتُكِ لَوْلَا دُخُولُكِ الدَّارَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَوْلَا دُخُولُك الدَّارَ قَدْ طَلَّقْتُكِ أَمْسُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَكَانَ " قَدْ " لَقَدْ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْس لَوْلَا دُخُولُك الدَّارَ أَيْ لَوْلَا دُخُولُك الدَّارَ أَمْس لَطَلَّقْتُكِ. وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَهَذَا يُخْبِرُ أَنَّهُ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالْيَمِينِ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أَكُنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ طَلُقَتْ وَإِنْ كَانَ دَخَلَ لَمْ تَطْلُقْ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ بَلْ هُوَ خَبَرٌ عَنْ الْمَاضِي أَكَّدَهُ بِالْيَمِينِ فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا طَلُقَتْ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا لَمْ تَطْلُقْ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ

دَخَلْتِ الدَّارَ فَلَا تَطْلُقُ حَتَّى تَدْخُلَ لِأَنَّ لَا حَرْفُ نَفْيٍ أَكَّدَهُ بِالْحَلِفِ فَكَأَنَّهُ نَفَى دُخُولَهَا وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِدُخُولِهَا وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ السَّاعَةَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ دَخَلْت لَيْسَ بِتَعْلِيقٍ بَلْ هُوَ إخْبَارٌ عَنْ دُخُولِهَا الدَّارَ كَأَنَّهُ جَعَلَ الدُّخُولَ عِلَّةً لَكِنَّهُ حَذَفَ حَرْفَ الْعِلَّةِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ دَخَلَتْ الدَّارَ أَوْ لَمْ تَدْخُلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بَعْلَةٍ لَمْ تُوجَدْ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَمْ تَصِحَّ وَبَقَّى الْإِيقَاعُ صَحِيحًا، وَرَوَى ابْنَ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ السَّاعَةَ لِمَا يُذْكَرُ وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ السَّاعَةَ وَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ كَانَتْ طَالِقًا السَّاعَةَ وَاحِدَةً وَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ أُخْرَى لِأَنَّهُ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً السَّاعَةَ وَعَطَفَ الشَّرْطَ عَلَيْهَا بِلَا جَزَاءٍ فَيُضَمَّنُ فِيهِ الْجَزَاءُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ السَّاعَةَ وَطَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَيَقَعُ فِي الْحَالِ وَاحِدَةً وَبَعْدَ الدُّخُولِ أُخْرَى. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِدُخُولِكِ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ السَّاعَةَ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ ثُمَّ جَعَلَ الدُّخُولَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَيْهِ عِلَّةً لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ، وَمَنْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ لِعِلَّةٍ وَقَعَ، وُجِدَتْ الْعِلَّةُ أَوْ لَمْ تُوجَدْ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِحَيْضَتِكِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَالَ بِحَيْضَتِكِ أَوْ فِي حَيْضَتِكِ أَوْ بِدُخُولِكِ الدَّارَ أَوْ لِدُخُولِكِ الدَّارَ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَحِيضَ أَوْ تَدْخُلَ لِأَنَّ الْبَاءَ حَرْفُ إلْصَاقٍ فَيَقْتَضِي إلْصَاقَ الطَّلَاقِ بِالْحَيْضَةِ وَالدُّخُولِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِمَا، وَفِي كَلِمَةِ ظَرْفٍ دَخَلَتْ عَلَى مَا لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا فَتُجْعَلُ شَرْطًا لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ تَطْلُقُ فِي الْقَضَاءِ حِينَ تَكَلُّمِهِ بِهِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ قُدِّمَ الشَّرْطَ أَوْ إمَّا إنْ أُخِّرَ، فَإِنْ قُدِّمَ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَمَّا إنْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ وَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ أُخِّرَ الشَّرْطُ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَمَّا إنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَإِنْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ، فَالْجَوَابُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ أَنَّهَا تَطْلُقُ فِي الْقَضَاءِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ لِأَنَّهُ مَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ لِانْعِدَامِ حَرْفِ التَّعْلِيقِ وَهُوَ حَرْفُ الْفَاءِ وَكَانَ تَنْجِيزًا لَا تَعْلِيقًا وَإِنْ عَنَى بِهِ التَّعْلِيقَ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِأَنَّهُ عَنَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ نَحْوُ إضْمَارِ حَرْفِ الْفَاءِ فِي الْجَزَاءِ. قَالَ الشَّاعِرُ مَنْ يَفْعَلْ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا ... وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلَانِ أَيْ فَاَللَّهُ يَشْكُرُهَا وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ وَوَجْهُهُ أَنْ يُحْذَفَ حَرْفُ الْجَزَاءِ تَصْحِيحًا لِلشَّرْطِ إذْ لَوْ لَمْ يُحْذَفْ لَلَغَا، وَلَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَأَنْتِ طَالِقٌ تَطْلُقُ لِلْحَالِ لِانْعِدَامِ حَرْفِ التَّعْلِيقِ وَالْوَاوُ غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِلتَّعْلِيقِ وَلَوْ عَنَى بِهِ التَّعْلِيقَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ وَلَوْ أَدْرَجَ فِيهِ الْفَاءَ يَصِيرُ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ أَنْتِ دَخَلْت الدَّارَ فَوَأَنْتَ طَالِقٌ وَهَذَا لَغْوٌ وَلَوْ قَدَّمَ وَأَخَّرَ لَا يَسْتَقِيمُ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ وَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، وَالْوَاوُ لَا يُبْتَدَأُ بِهَا، وَمَا يَذْكُرُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ الْوَاوَ قَدْ تَكُونُ لِلِاسْتِئْنَافِ فَمُرَادُهُمْ أَنْ يُبْتَدَأَ كَلَامٌ بَعْدَ تَقَدُّمِ جُمْلَةٍ مُفِيدَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ تُشَارِكُ الْأُولَى،. فَأَمَّا ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ شَيْءٌ بِالْوَاوِ فَغَيْرُ مَوْجُودٍ وَلَا جَائِزٍ، وَإِنْ قَالَ وَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ لِلْحَالِ لِانْعِدَامِ دَلَالَةِ التَّعْلِيقِ وَحَرْفِهِ، عَلَى أَنَّ الْوَاوَ فِي مِثْلِ هَذَا تُذْكَرُ لِلتَّحْقِيقِ كَمَا يُقَالُ لَا تُسَافِرَنَّ وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا وَلَوْ نَوَى التَّعْلِيقَ لَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنْ الظَّاهِرِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ لِأَنَّهُ نَوَى إضْمَارَ حَرْفِ الْفَاءِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ وَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَتَلْغُو الْوَاوُ هَذَا إذَا قَدَّمَ الشَّرْطَ. فَأَمَّا إذَا أَخَّرَ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ لَا تَطْلُقُ مَا لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ لِأَنَّهُ عَقَّبَ الْإِيجَابَ بِمَا أَخْرَجَهُ عَنْ كَوْنِهِ إيجَابًا إلَى كَوْنِهِ يَمِينًا فَلَا حَاجَةَ فِي مِثْلِ هَذَا إلَى حَرْفِ التَّعْلِيقِ وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ لِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ التَّأْكِيدَ عَلَى مَا بَيَّنَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَإِنْ زِنَا وَإِنْ سَرَقَ» وَلَوْ قَالَ: عَنَيْتُ بِهِ

التَّعْلِيقَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاوَ لَا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْوَاوَ تُجْعَلُ زَائِدَةً كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ} [الأنبياء: 96] إلَى قَوْلِهِ {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ} [الأنبياء: 97] قِيلَ مَعْنَاهُ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ وَالْوَاوُ زِيَادَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ اقْتَرَبَ جَوَابُ حَتَّى إذَا وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْوَاوَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَمْ تَجِئْ زَائِدَةً فِي مَوْضِعٍ تَصْلُحُ لِلْعَطْفِ أَوْ لِلتَّحْقِيقِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ هَهُنَا زَائِدَةً عَلَى أَنَّا نَقُولُ إنَّ كَثِيرًا مِنْ مُحَقِّقِي أَهْلِ اللُّغَةِ جَعَلَ الْوَاوَ زَائِدَةً فِي مَوْضِعٍ مَا وَكَانُوا يَقُولُونَ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ عِنْدَهُمْ حَتَّى إذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فُتِحَتْ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ فَكَانَتْ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى الْجَوَابِ الْمُضْمَرِ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ، لَا رِوَايَةَ لِهَذَا، قَالُوا وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ تَطْلُقُ لِلْحَالِ لِأَنَّ الْفَاءَ صَارَتْ فَاصِلَةً لِأَنَّهَا كَانَتْ لَغْوًا وَاللَّغْوُ مِنْ الْكَلَامِ يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ السُّكُوتِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ يَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِالدُّخُولِ لِأَنَّ الْفَاءَ وَإِنْ كَانَ مُسْتَغْنًى عَنْهَا فِي الْحَالِ إلَّا أَنَّهَا فِي الْجُمْلَةِ حَرْفُ تَعْلِيقً فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ مَانِعَةً مِنْ التَّعْلِيقِ مُوجِبَةً لِلِانْفِصَالِ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ وَلَمْ يَذْكُرْ فِعْلًا هَلْ يَتَعَلَّقُ أَمْ لَا؟ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَقَعُ لِلْحَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِلْحَالِ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حَرْفَ الشَّرْطِ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّطْلِيقَ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ وَالتَّعْلِيقَ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ -. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فِي الدَّارِ أَوْ فِي مَكَّةَ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كَلِمَةَ فِي مَكَّةَ ظَرْفٌ فَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى مَا يَصْلُحُ ظَرْفًا تَجْرِي عَلَى حَقِيقَتِهَا وَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى مَا لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا تُجْعَلُ مَجَازًا عَنْ الشَّرْطِ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَ الظَّرْفِ وَبَيْنَ الشَّرْطِ، ثُمَّ الظَّرْفُ نَوْعَانِ ظَرْفُ زَمَانٍ وَظَرْفُ مَكَان فَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى الْمَكَانِ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَفِي غَيْرِهِ بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فِي الدَّارِ أَوْ فِي مَكَّةَ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْمَرْأَةُ فِي الدَّارِ وَلَا فِي مَكَّةَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان فَإِذَا وَقَعَ فِي مَكَان وَقَعَ فِي الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا، وَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى الزَّمَانِ فَإِنْ كَانَ مَاضِيًا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي الْأَمْسِ أَوْ فِي الْعَامِ الْمَاضِي لِأَنَّ إنْشَاءَ الطَّلَاقِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي لَا يُتَصَوَّرُ فَيُجْعَلُ إخْبَارًا أَوْ تَلْغُو الْإِضَافَةُ إلَى الْمَاضِي وَيَبْقَى قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ فَيَقَعُ فِي الْحَالِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ حَاضِرًا بِأَنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَوْ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ يَقَعُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا لَا يَقَعُ حَتَّى يَأْتِيَ بِأَنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ أَوْ فِي الشَّهْرِ الْآتِي لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَحْتَمِلُ الِاخْتِصَاصَ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ فَإِذَا جُعِلَ الْغَدُ ظَرْفًا لَهُ لَا يَقَعُ قَبْلَهُ. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي دُخُولِكِ الدَّارَ أَوْ فِي قِيَامِكِ أَوْ فِي قُعُودِكِ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا وَيَصْلُحُ شَرْطًا فَتُحْمَلُ الْكَلِمَةُ عَلَى الشَّرْطِ مَجَازًا. وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي ذَهَابِكِ إلَى مَكَّةَ لِأَنَّ الذَّهَابَ فِعْلٌ وَكَذَا إذَا قَالَ بِذَهَابِكِ لِأَنَّ الْبَاءَ حَرْفُ إلْصَاقٍ فَيَقْتَضِي إلْصَاقَ الطَّلَاقِ بِالذَّهَابِ وَذَلِكَ بِتَعْلِيقِهِ بِهِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي الشَّمْسِ وَهِيَ فِي الظِّلِّ كَانَتْ طَالِقًا لِأَنَّ الشَّمْسَ لَا تَصْلُحُ ظَرْفًا لِلطَّلَاقِ وَلَا شَرْطًا لَهُ. فَإِمَّا أَنْ تَلْغُوَ وَيُرَادَ بِهَا مَكَانُ الشَّمْسِ وَالطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي صَوْمِكِ كَانَتْ طَالِقًا حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ إذَا نَوَتْ الصَّوْمَ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِعْلٌ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا فَتُجْعَلُ الْكَلِمَةُ مَجَازًا عَنْ الشَّرْطِ، وَالْفِعْلُ يَصْلُحُ شَرْطًا فَإِذَا وُجِدَ فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ مَعَ النِّيَّةِ فِي وَقْتِهِ مِنْ أَهْلِهِ فَقَدْ وُجِدَ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ فَوُجِدَ الشَّرْطُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي صَلَاتِك لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَرْكَعَ وَتَسْجُدَ سَجْدَةً لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِعْلٌ أَيْضًا فَلَا تَصْلُحُ ظَرْفًا كَالصَّوْمِ إلَّا أَنَّهَا اسْمٌ لِأَفْعَالٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْمُتَرَكِّبُ مِنْ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ بِوُجُودِ بَعْضِهَا كَالْأَبْلَقِ الْمُتَرَكِّبِ مِنْ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالسَّكَنْجَبِينِ الْمُتَرَكِّبِ عَنْ السُّكَّرِ وَالْخَلِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَمَا لَمْ تُوجَدْ الْأَفْعَالُ الَّتِي وَصَفْنَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ فِعْلِ الصَّلَاةِ فَلَا يَحْنَثُ بِنَفْسِ الشُّرُوعِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِأَفْعَالٍ مُتَّفِقَةِ الْأَجْزَاءِ وَهِيَ الْإِمْسَاكَاتُ، وَمَا تَرَكَّبَ مِنْ أَجْزَاءٍ مُتَّفِقَةٍ مُتَجَانِسَةٍ يَنْطَلِقُ اسْمُ كُلِّهِ عَلَى بَعْضِهِ لُغَةً كَاسْمِ الْمَاءِ أَنَّهُ كَمَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَاءِ الْبَحْرِ يَنْطَلِقُ عَلَى قَطْرَةٍ مِنْهُ فَكَانَ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ إمْسَاكًا حَقِيقَةً فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُجَرَّدِ الشُّرُوعِ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي حَيْضِكِ أَوْ فِي طُهْرِكِ فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا وَقَعَ وَإِلَّا فَلَا يَقَعُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ وَقْتُ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ أَيْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَكُونِينَ حَائِضًا أَوْ طَاهِرَةً فِيهِ،

فصل في شرائط ركن اليمين وبعضها يرجع إلى المحلوف عليه

وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ طَلُقَتْ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي أَكْلِكِ هَذَا الرَّغِيفَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ تَفْرُغْ مِنْ أَكْلِ جَمِيعِ الرَّغِيفِ وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى دَخَلَتْ كَلِمَةُ الظَّرْفِ عَلَى الزَّمَانِ وَهُوَ يَصْلُحُ ظَرْفًا فَجُعِلَ جَمِيعُ الْوَقْتِ ظَرْفًا لِكَوْنِهَا طَالِقًا وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ عُلِّقَ الطَّلَاقُ بِفِعْلِ الْأَكْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا وَيَصْلُحُ شَرْطًا فَصَارَ مُعَلِّقًا الطَّلَاقَ بِفِعْلِ الْأَكْلِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لَا يَنْزِلُ مَا لَمْ يَنْزِلْ كَمَالُ شَرْطِهِ، وَمَا يَقُولُهُ مَشَايِخُنَا: إنَّ الطَّلَاقَ مَتَى أُضِيفَ إلَى وَقْتٍ مُمْتَدٍّ يَقَعُ عِنْدَ أَوَّلِهِ وَمَتَى عُلِّقَ بِفِعْلِ مُمْتَدٍّ يَقَعُ عِنْدَ آخِرِهِ، هَذَا صُورَتُهُ وَعِلَّتُهُ. وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ فِي مَجِيءِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ لَيْلًا فَكُلَّمَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَجِيءِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ إلَّا بِمَجِيءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَمَجِيءُ الْيَوْمِ يَكُونُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ فِي ضَحْوَةٍ مِنْ يَوْمِ حَلَفَ فَإِنَّمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَ وُجُودِ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ لِأَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي حَلَفَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا لِتَقَدُّمِ مَجِيئِهِ عَلَى الشَّرْطِ، وَالشَّيْءُ يَتَعَلَّقُ بِمَا يَجِيءُ لَا بِمَا مَضَى. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إنْ قَالَ ذَلِكَ لَيْلًا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ تَغْرُبْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ لِأَنَّ مُضِيَّ الشَّيْءِ يَكُونُ بِانْقِضَاءِ جُزْئِهِ الْأَخِيرِ فَمُضِيِّ الْأَيَّامِ يَكُونُ بِانْقِضَاءِ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْهَا وَذَلِكَ يُوجَدُ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ ضَحْوَةٍ مِنْ النَّهَارِ لَا تَطْلُقُ حَتَّى يَجِيءَ تِلْكَ السَّاعَةُ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ لِأَنَّهُ بِهِ يَتِمُّ مُضِيُّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِالسَّاعَاتِ فَالْعِبْرَةُ فِي الْمُضِيِّ بِهِ لَا لِلْأَيَّامِ الْكَامِلَةِ، وَفِي الْمَجِيءِ لِأَوَائِلِهَا هَذَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ. وَلَوْ قَالَ إنْ شَتَمْتُك فِي الْمَسْجِدِ فَعَبْدِي حُرٌّ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي هَذَا كَوْنُ الشَّاتِمِ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَحْنَثَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَشْتُومُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ وَلَوْ قَالَ إنْ ضَرَبْتُك أَوْ قَتَلْتُك فِي الْمَسْجِدِ يُعْتَبَرُ فِيهِ مَكَانُ الْمَضْرُوبِ وَالْمَقْتُولِ إنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ حَنِثَ وَإِلَّا فَلَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَهُ أَثَرٌ فِي الْمَفْعُولِ يُعْتَبَرُ فِيهِ مَكَانُ الْمَفْعُولِ، وَمَا لَا أَثَرَ لَهُ يَظْهَرُ فِي الْمَفْعُولِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مَكَانُهُ بَلْ مَكَانُ الْفَاعِلِ وَعِلَّةُ هَذَا الْأَصْلِ تُذْكَرُ فِي الْجَامِعِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ رُكْنِ الْيَمِينِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْحَالِفِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ الشَّرْطُ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ الْمَحْلُوفِ بِطَلَاقِهِ وَعَتَاقِهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْحَالِفِ فَمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَكُلَّمَا هُوَ شَرْطُ جَوَازِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَهُوَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِهِمَا وَمَا لَا فَلَا، وَسَنُبَيِّنُ جُمْلَةَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. (وَأَمَّا) . الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ الشَّرْطُ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَكُونُ التَّعْلِيقُ بِأَمْرٍ كَائِنٍ يَمِينًا بَلْ يَكُونُ تَنْجِيزًا حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَانَتْ السَّمَاءُ فَوْقَنَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ أَوْ مَرِيضَةٌ إذَا حِضْت أَوْ مَرِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى حَيْضٍ مُسْتَقْبَلٍ وَمَرَضٍ مُسْتَقْبَلٍ وَهُوَ حَيْضٌ آخَرُ يُوجَدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ مَرَضٌ آخَرُ لَا عَلَى الْحَالِ، فَإِنْ عَيَّنَتْ مَا يَحْدُثُ مِنْ هَذَا الْحَيْضِ وَمَا يَزِيدُ مِنْ هَذَا الْمَرَضِ فَهُوَ كَمَا نَوَى لِأَنَّ الْحَيْضَ ذُو أَجْزَاءٍ تَحْدُثُ حَالًا فَحَالًا، وَكَذَلِكَ الْمَرَضُ يَزْدَادُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ حَيْضًا وَمَرَضًا فَإِذَا نَوَى ذَلِكَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ فَيُصَدَّقُ، فَإِنْ قَالَ فَإِنْ حِضْت غَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا حَائِضٌ فَهَذَا عَلَى هَذِهِ الْحَيْضَةِ إذَا دَامَ الْحَيْضُ مِنْهَا إلَى أَنْ يَنْشَقَّ الْفَجْرُ مِنْ الْغَدِ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ السَّاعَةُ تَمَامَ الثَّلَاثَةِ أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ بِحَيْضِهَا اسْتَحَالَ أَنْ يَعْنِيَ بِيَمِينِهِ حُدُوثَ حَيْضَةٍ أُخْرَى فِي غَدٍ فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ اسْتِمْرَارَ هَذِهِ الْحَيْضَةِ وَدَوَامَهَا وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ بِتِلْكَ السَّاعَةِ لِتَمَامِ الثَّلَاثَةِ أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّ الْحَيْضَ إذَا انْقَطَعَ فِيمَا دُونَهَا فَلَيْسَ بِحَيْضٍ فَلَا يُوجَدُ شَرْطُ الْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ بِحَيْضِهَا فَهُوَ عَلَى حَيْضٍ مُسْتَقْبَلٍ وَيَدِينُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَيْضِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ حُدُوثَ الْحَيْضِ وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْوُجُوهُ فِي الْمَرَضِ. وَكَذَلِكَ الْمَحْمُومُ إذَا قَالَ إنْ حَمِيت أَوْ الْمَصْدُوعُ إذَا قَالَ إنْ صُدِعَتْ وَكَذَلِكَ الرَّعَّافُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَقَالَ إنْ صَحَّيْتَ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَكَانَ صَحِيحًا حِينَ سَكَتَ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ وَهُوَ كَبَصِيرٍ قَالَ إنْ أَبْصَرْتُ وَكَسَمِيعٍ قَالَ إنْ سَمِعْتُ لِأَنَّ الصِّحَّةَ عَرَضٌ يَحْدُثُ سَاعَةً فَسَاعَةً فَالْمَوْجُودُ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي غَيْرُ الْمَوْجُودِ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ وَقَدْ حَدَثَتْ لَهُ الصِّحَّةُ حِينَ مَا فَرَغَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ فَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ وَلَا

يُمْكِنُ شَرْطُ صِحَّةٍ أُخْرَى فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَالْحَيْضِ وَالْمَرَضِ فَتَقَعُ يَمِينُهُ عَلَى مَا يَحْدُثُ عَقِيبَ الْكَلَامِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا قُمْتِ أَوْ قَعَدْتِ أَوْ رَكِبْتِ أَوْ لَبِسْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهِيَ قَائِمَةٌ أَوْ قَاعِدَةٌ أَوْ رَاكِبَةٌ أَوْ لَابِسَةٌ أَنَّهُ إذَا مَكَثَ سَاعَةً بَعْدَ الْيَمِينِ مِقْدَارَ مَا يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِهَا حَنِثَ وَكَذَلِكَ السُّكْنَى إذَا لَمْ يَأْخُذْ فِي النَّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ لِأَنَّ الدَّوَامَ عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ يُعْنَى بِهِ تَجَدُّدُ أَمْثَالِهَا يُسَمَّى بِاسْمِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَقَدْ وُجِدَ مَا تَنَاوَلَهُ الِاسْمُ عَقِيبَ الْيَمِينِ فَيَحْنَثُ. وَأَمَّا الدُّخُولُ بِأَنْ قَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهِيَ دَاخِلَةٌ فَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى دُخُولٍ مُسْتَقْبَلٍ فَإِنْ نَوَى الَّذِي هُوَ فِيهِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الدُّخُولَ هُوَ الِانْفِصَالُ مِنْ خَارِجٍ إلَى دَاخِلٍ وَهَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّجَدُّدَ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْمُ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ أَعْنِي الثَّانِيَ فِي زَمَانِ وُجُودِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهَا إنْ خَرَجْتِ وَهِيَ خَارِجَةٌ لِأَنَّ الْخُرُوجَ ضِدُّ الدُّخُولِ وَهُوَ الِانْفِصَالُ مِنْ دَاخِلٍ إلَى خَارِجٍ وَأَنَّهُ لَا يَتَجَدَّدُ فِي الثَّانِي مِنْ زَمَانِ وُجُودِهِ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْمُ بِخِلَافِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوبِ وَاللِّبْسِ وَنَحْوِهِمَا يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّهُ يُقَالُ قُمْتُ يَوْمًا وَرَكِبْتُ يَوْمًا وَلَبِسْتُ يَوْمًا وَلَا يُقَالُ دَخَلْتُ الدَّارَ يَوْمًا وَلَا خَرَجْتُ مِنْ الدَّارِ يَوْمًا عَلَى إرَادَةِ الْمُكْثِ، وَكَذَلِكَ الْحَبَلُ - إذَا قَالَ لِلْحُبْلَى إذَا حَبِلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهَذَا يَقَعُ عَلَى حَبَلٍ مُسْتَقْبَلٍ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ ابْتِدَاءُ الْعُلُوقِ عُرْفًا وَعَادَةً، وَلَوْ قَالَ إنْ أَكَلْت أَوْ ضَرَبْتُ فَهُوَ عَلَى الْحَادِثِ، كُلُّ شَيْءٍ أَكَلَهُ بَعْدَ يَمِينِهِ أَوْ ضَرَبَهُ بَعْدَ يَمِينِهِ يَحْنَثُ لِأَنَّ الضَّرْبَ يَتَجَدَّدُ. وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ تَحِيضِي أَوْ مَا لَمْ تَحْبَلِي وَهِيَ حُبْلَى أَوْ حَائِضٌ فِي حَالِ الْحَلِفِ فَهِيَ طَالِقٌ حِينَ سَكَتَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهَا حِينَ سَكَتَ لِأَنَّهُ جَعَلَ حُدُوثَ الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ شَرْطَ الْبِرِّ فَمَا لَمْ يُوجَدْ عَقِيبَ الْيَمِينِ يَحْنَثُ وَإِنْ عَنَى بِهِ مَا فِيهِ مِنْ الْحَيْضِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَدِينُ فِي الْحَبَلِ لِأَنَّ الْحَيْضَ ذُو أَجْزَاءٍ فَجَازَ أَنْ يُسَمَّى مَا يَحْدُثُ مِنْ أَجْزَائِهِ بِاسْمِ الِابْتِدَاءِ،. فَأَمَّا الْحَبَلُ فَلَيْسَ بِذِي أَجْزَاءٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَيْضَ يَزْدَادُ وَالْحَبَلُ لَيْسَ بِمَعْنًى يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ فَلَا يُصَدَّقُ أَصْلًا - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ -. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً لَا عَادَةَ هُوَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْيَمِينِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ حَقِيقَةً لَا يَنْعَقِدُ كَمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ وَلَجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ اجْتَمَعَ الضِّدَّانِ فَأَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يُذْكَرُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ أَيْ طَلَاقُك أَمْرٌ لَا يَكُونُ أَصْلًا وَرَأْسًا كَمَا لَا يَلِجُ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَلَا يَجْتَمِعُ الضِّدَّانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] أَيْ لَا يَدْخُلُونَهَا رَأْسًا وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قَالَ إنْ لَمْ أَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ أَوْ عَبْدُهُ حُرٌّ أَوْ قَالَ إنْ لَمْ أَقْتُلْ فُلَانًا وَلَا مَاءَ فِي الْكُوزِ وَفُلَانٌ مَيِّتٌ وَهُوَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ أَوْ لَا يَعْلَمُ بِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا جُمْلَةَ هَذَا وَتَفْصِيلَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ الْمَحْلُوفِ بِطَلَاقِهِ وَعَتَاقِهِ فَقِيَامُ الْمِلْكِ فِيهِ وَالْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ أَوْ إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَذْكُرُ ذَلِكَ كُلَّهُ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ فَمَا ذَكَرْنَا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ عَدَمُ إدْخَالِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ فَإِذَا أَدْخَلَ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءَ أَبْطَلَهُ بِأَنْ قَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ قَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَوْ قَالَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ قَالَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَوْ قَالَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ أَوْ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِقُدْرَتِهِ وَلَوْ قَالَ إنْ أَعَانَنِي اللَّهُ أَوْ بِمَعُونَةِ اللَّهِ وَأَرَادَ بِهِ الِاسْتِثْنَاءَ يَكُونُ مُسْتَثْنِيًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ الشَّيْءَ بَعْدَ وُجُودِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْإِعَانَةَ عَلَيْهِ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فَيُجْعَلُ مَجَازًا عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إنْ يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ قَالَ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَنَوَى الِاسْتِثْنَاءَ،. وَسَنَذْكُرُ شَرَائِطَ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَنَذْكُرُ أَنَّ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَاصِلٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْفَصْلُ لِضَرُورَةٍ وَعَلَى هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَاعْلَمِي ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِي أَوْ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فَلَا تَطْلُقُ وَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ الدَّارِ لِأَنَّ حَرْفَ الْفَاءِ حَرْفُ عَطْفٍ فَيَقْتَضِي تَعَلُّقَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَيَصِيرُ الْكُلُّ كَلَامًا وَاحِدًا فَلَا يَكُونُ فَاصِلًا، وَإِنْ قَالَ اعْلَمِي ذَلِكَ أَوْ اذْهَبِي لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَا يُوجِبُ تَعَلُّقَ الْمَذْكُورِ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ فَصَارَ كَلَامًا مُبْتَدَأً فَكَانَ

فَاصِلًا قَاطِعًا لِلِاسْتِثْنَاءِ فَيَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِالْخُرُوجِ. وَقَالَ الْقُدُورِيُّ وَيَنْبَغِي عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ لَا يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى،. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَدْخُلَ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ حَائِلٌ، فَإِذَا دَخَلَ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا وَتَعْلِيقًا بَلْ يَكُونُ تَنْجِيزًا وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ إدْخَالُ النِّدَاءِ فِي وَسَطِ الْكَلَامَيْنِ أَنَّهُ يَكُونُ فَاصِلًا مَانِعًا مِنْ التَّعْلِيقِ أَوَّلًا وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ النِّدَاءَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ نِدَاءٌ بِالْقَذْفِ بِأَنْ يَقُولَ يَا زَانِيَةُ، وَنِدَاءٌ بِالطَّلَاقِ بِأَنْ يَقُولَ يَا طَالِقُ، وَنِدَاءٌ بِالْعَلَمِ بِأَنْ يَقُولَ يَا زَيْنَبُ أَوْ يَا عَمْرَةُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ ذَكَرَ النِّدَاءَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ وَإِمَّا أَنْ ذَكَرَهُ فِي أَوْسَطِهِ وَإِمَّا أَنْ ذَكَرَهُ فِي آخِرِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ إمَّا أَنْ عُلِّقَ بِشَرْطٍ وَهُوَ دُخُولُ الدَّارِ وَنَحْوُهُ وَإِمَّا أَنْ نَجَّزَ وَأَدْخَلَ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءَ فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَمَّا النِّدَاءُ بِالْقَذْفِ إذَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّعْلِيقِ وَيَكُونُ قَذْفًا صَحِيحًا بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ. لِأَنَّ قَوْلَهُ يَا زَانِيَةُ وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا لِلنِّدَاءِ لَكِنَّهُ وَصْفٌ لَهَا بِالزِّنَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَهُوَ الزِّنَا وَالِاسْمُ الْمُشْتَقُّ مِنْ مَعْنًى يَقْتَضِي وُجُودَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا مَحَالَةَ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْ الْمَعَانِي مِنْ الْمُتَحَرِّكِ وَالسَّاكِنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ الِاسْمُ مَوْضُوعًا لِلنِّدَاءِ أَوْ غَيْرِهِ فَصَارَ بِوَصْفِهِ إيَّاهَا بِالزِّنَا وَنِسْبَةِ الزِّنَا إلَيْهَا قَاذِفًا لَهَا بِالزِّنَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ وَمُوجَبُ قَذْفِ الزَّوْجَاتِ اللِّعَانُ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ اللِّعَانِ ثُمَّ صَارَ مُعَلِّقًا طَلَاقَهَا بِدُخُولِ الدَّارِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ نَادَاهَا لِتَتَنَبَّهَ لِسَمَاعِ كَلَامِهِ فَلَمَّا تَنَبَّهَتْ خَاطَبَهَا بِالْيَمِينِ وَهِيَ تَعْلِيقُ طَلَاقِهَا بِدُخُولِ الدَّارِ وَكَذَا لَوْ قَالَ يَا زَانِيَةُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى صَارَ قَاذِفًا لِمَا قُلْنَا وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِدُخُولِ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ. وَلَوْ بَدَأَ بِالنِّدَاءِ فِي الطَّلَاقِ فَقَالَ يَا طَالِقُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِقَوْلِهِ يَا طَالِقُ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فَيَقْتَضِي تَقَدُّمَ ثُبُوتِ الطَّلَاقِ عَلَى وَصْفِهِ إيَّاهَا لِضَرُورَةِ صِحَّةِ الْوَصْفِ وَتَعَلُّقِ طَلَاقٍ آخَرَ بِدُخُولِ الدَّارِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ يَا طَالِقُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - يَقَعُ الطَّلَاقُ بِقَوْلِهِ يَا طَالِقُ وَلَمْ يَقَعْ الثَّانِي لِدُخُولِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ، وَلَوْ بَدَأَ بِالنِّدَاءِ بِالْعَلَمِ فَقَالَ يَا عَمْرَةُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَتَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِالدُّخُولِ لِأَنَّهُ بِنِدَائِهِ إيَّاهَا بِالْعَلَمِ نَبَّهَهَا عَلَى سَمَاعِ كَلَامِهِ ثُمَّ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِالدُّخُولِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ يَا عَمْرَةُ أَنْتِ طَالِقٌ يَا عَمْرَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِمَا ذَكَرْنَا، هَذَا إذَا بَدَأَ بِالنِّدَاءِ إمَّا بِالْقَذْفِ أَوْ بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْعَلَمِ،. فَأَمَّا إذَا أَتَى بِالنِّدَاءِ فِي وَسَطِ الْكَلَامِ فِي التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ بِأَنْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ يَا زَانِيَةُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ فَاصِلًا وَيَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِدُخُولِ الدَّارِ وَيَصِيرُ قَاذِفًا وَيَجِبُ اللِّعَانُ، وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ ثُمَّ رَجَعَ. وَقَالَ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِلْحَالِ وَلَا يَصِيرُ قَاذِفًا حَتَّى لَا يَجِبَ اللِّعَانُ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ أَنَّ الطَّلَاقَ يَتَعَلَّقُ بِدُخُولِ الدَّارِ وَلَا يَصِيرُ النِّدَاءُ فَاصِلًا بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ مَانِعًا مِنْ التَّعْلِيقِ، وَلَا يَصِيرُ قَاذِفًا وَلَا يَجِبُ اللِّعَانُ. قَالَ الْمَشَايِخُ: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ قَوْلُهُ الْأَخِيرُ، وَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَحَصَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تَعَلَّقَ الْقَذْفُ وَبَطَلَ فِي نَفْسِهِ وَتَعَلَّقَ الطَّلَاقُ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ تَعَلَّقَ الطَّلَاقُ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ الْقَذْفُ بَلْ تَحَقَّقَ لِلْحَالِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ تَعَلَّقَ الْقَذْفُ فَبَطَلَ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ الطَّلَاقُ بَلْ تَنَجَّزَ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ عَقِيبَ قَوْلِهِ يَا زَانِيَةُ فَقَدْ عَلَّقَ الْقَذْفَ بِالشَّرْطِ، وَالْقَذْفُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لِأَنَّهُ وَصْفُ الشَّخْصِ بِالزِّنَا كَقَوْلِهِ قَائِمَةٌ وَقَاعِدَةٌ أَنَّهُ وَصَفَهَا بِالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَوَصْفُ الشَّيْءِ بِصِفَةٍ يَكُونُ إخْبَارًا عَنْ وُجُودِ الصِّفَةِ فِيهِ وَالْإِخْبَارُ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ حَتَّى يَكُونَ صَادِقًا عِنْدَ وُجُودِهِ كَاذِبًا عِنْدَ عَدَمِهِ أَوْ مُخْبِرًا عِنْدَ وُجُودِهِ غَيْرَ مُخْبِرٍ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ صَارَ لَغْوًا فَصَارَ حَائِلًا بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَيَنْزِلُ الْجَزَاءُ، لَكِنْ مَعَ هَذَا لَا يَصِيرُ قَاذِفًا لِأَنَّهُ قَصَدَ تَعْلِيقَ الْقَذْفِ بِالشَّرْطِ وَمَنْ قَصَدَ تَعْلِيقَ شَيْءٍ بِشَرْطٍ لَا يَكُونُ مُثْبِتًا لَهُ فِي الْحَالِ فَلَمْ يَصِرْ قَاذِفًا، وَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا يَصِيرُ قَاذِفًا أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَتَّى يَنْزِلَ عِنْدَ وُجُودِهِ. (وَجْهُ) مَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ قَوْلَهُ يَا زَانِيَةُ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ وَلَكِنَّهُ مَعَ هَذَا لَا يَصِيرُ لَغْوًا لِأَنَّهُ لِتَأْكِيدِ الْخِطَابِ الْمَوْجُودِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فَصَارَ مُؤَكِّدًا لِبَابِ الْخِطَابِ فَالْتَحَقَ بِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ يَا زَانِيَةُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ طَالِقٌ

فَتَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِالدُّخُولِ وَبَقِيَ الْقَذْفُ مُتَحَقِّقًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ يَا عَمْرَةُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ صَحَّ التَّعْلِيقُ؟ وَلَمْ يَصِرْ قَوْلُهُ يَا عَمْرَةُ فَاصِلًا كَذَا هَهُنَا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ قَدْ صَحَّ لِمَا مَرَّ فِي كَلَامِ مُحَمَّدٍ وَالْقَذْفُ لَمْ يَتَحَقَّقْ لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الشَّرْطَ، وَالْقَذْفُ مَتَى عُلِّقَ بِالشَّرْطِ لَا يَقْصِدُ الْإِنْسَانُ تَحْقِيقَهُ لِلْحَالِ وَالِيًا بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ عَلَى مَا مَرَّ، وَكَانَ الْقَاضِي الْجَلِيلُ يَقُولُ تَعْلِيقُ الْقَذْفِ بِالشَّرْطِ يَكُونُ تَبْعِيدًا لِلْقَذْفِ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ إنْ فَعَلْت كَذَا فَامْرَأَتُهُ زَانِيَةٌ أَوْ أُمُّهُ زَانِيَةٌ يُرِيدُ بِذَلِكَ تَبْعِيدَ الْفِعْلِ وَلَنْ يَتَحَقَّقَ تَبْعِيدُ الْفِعْلِ إلَّا بِتَبْعِيدِ الِاتِّصَافِ بِالزِّنَا عَنْ أُمِّهِ وَامْرَأَتِهِ وَبِمِثْلِ هَذَا يَحْصُلُ الْوَصْفُ بِالْإِحْصَانِ دُونَ الْوَصْفِ بِالزِّنَا وَإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ - وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ يَا زَانِيَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَلَوْ كَانَ النِّدَاءُ بِالطَّلَاقِ بِأَنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ يَا طَالِقُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ هَذَا أَيْضًا عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ النِّدَاءِ بِالزِّنَا بِقَوْلِهِ يَا زَانِيَةُ وَيَقُولُ يَقَعُ الطَّلَاقُ مُنَجَّزًا بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِدُخُولِ الدَّارِ وَيَصِيرُ كَقَوْلِهِ يَا طَالِقُ فَاصِلًا، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ قَوْلَهُ يَا طَالِقُ وَإِنْ كَانَ نِدَاءً فَهُوَ إيقَاعُ الطَّلَاقِ فَكَانَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ يَا طَالِقُ إيقَاعًا عَقِيبَ إيقَاعٍ مِنْ غَيْرِ عَطْفِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ وَالشَّرْطُ اتَّصَلَ بِآخِرِ الْإِيقَاعَيْنِ دُونَ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا فَبَقِيَ الْأَوَّلُ تَنْجِيزًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ يَا زَانِيَةُ فَإِنَّهُ نِدَاءٌ وَتَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَاءِ الْخِطَابِ لَا إيقَاعٌ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ فَلَمْ يَصِرْ حَائِلًا فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَعَلُّقِ الشَّرْطِ بِالْجَزَاءِ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ يَا طَالِقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ هَذَا أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ يَا زَانِيَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كَانَ النِّدَاءُ بِالْعَلَمِ بِأَنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ يَا عَمْرَةُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَهَهُنَا يَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِالشَّرْطِ بِالْإِجْمَاعِ وَأَبُو يُوسُفَ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ يَا زَانِيَةُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ قَوْلَهُ يَا عَمْرَةُ لَا يُفِيدُ إلَّا مَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ أَنْتِ فَكَانَ تَأْكِيدًا لَهُ فَالْتَحَقَ بِهِ فَلَمْ يَصِرْ فَاصِلًا. (وَأَمَّا) قَوْلُهُ يَا زَانِيَةُ فَفِيهِ زِيَادَةُ أَمْرٍ لَا تُفِيدُهُ تَاءُ الْخِطَابِ وَهُوَ إثْبَاتُ وَصْفِ الزِّنَا وَيَتَعَلَّقُ بِهِ شَرْعًا حُكْمٌ وَهُوَ الْحَدُّ أَوْ اللِّعَانُ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ تَكْرَارًا لِلتَّاءِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْخِطَابِ فَكَانَ مُعْتَبَرًا فِي نَفْسِهِ فَلَمْ يَصِرْ مُلْتَحِقًا بِتَاءِ الْخِطَابِ فَبَقِيَ فَاصِلًا،. فَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِخِلَافِهِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ يَا عَمْرَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِمَا مَرَّ، هَذَا إذَا أَتَى بِالنِّدَاءِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ أَوْ وَسَطِهِ،. فَأَمَّا إذَا أَتَى بِهِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ أَمَّا فِي النِّدَاءِ بِالزِّنَا بِأَنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ يَا زَانِيَةُ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَتَعَلَّقُ بِالدُّخُولِ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِالدُّخُولِ ثُمَّ نَادَاهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَصَارَ قَاذِفًا وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدَ الْقَذْفِ شَرْطٌ لِيُقَالَ أَنَّهُ قَصَدَ تَعْلِيقَ الْقَذْفِ بَعْدَ تَحْقِيقِهِ. وَكَذَا فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ يَا زَانِيَةُ بَطَلَ الطَّلَاقُ وَتَحَقَّقَ الْقَذْفُ، وَفِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ يَا طَالِقُ تَعَلَّقَ الْأَوَّلُ بِالدُّخُولِ وَوَقَعَ بِقَوْلِهِ يَا طَالِقُ طَلَاقٌ لِدُخُولِ الشَّرْطِ فِي الْأَوَّلِ دُونَ قَوْلِهِ يَا طَالِقُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ يَا طَالِقُ. وَكَذَا قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ يَا عَمْرَةُ، فَهَذَا رَجُلٌ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِدُخُولِ الدَّارِ ثُمَّ نَادَاهَا وَنَبَّهَهَا بِالنِّدَاءِ عَلَى الْيَمِينِ وَالْخِطَابِ فَصَحَّ التَّعْلِيقُ وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ يَا عَمْرَةُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِمَا مَرَّ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ يَا زَانِيَةُ ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاثٌ وَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ هِيَ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَعَلَيْهِ الْحَدُّ أَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا لِأَنَّ قَوْلَهُ يَا زَانِيَةُ نِدَاءٌ فَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْعَدَدِ وَهُوَ قَوْلُهُ ثَلَاثًا وَبَيْنَ أَصْلِ الْإِيقَاعِ وَهُوَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ وَإِذَا لَمْ يَفْصِلْ فَيُوقَفْ الْوُقُوعُ عَلَى آخِرِ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ ثَلَاثًا فَتَبِينُ فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُ اللِّعَانِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ يَا زَانِيَةُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْإِيقَاعِ وَالْعَدَدِ فَبَانَتْ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فَصَادَفَهَا قَوْلُهُ يَا زَانِيَةُ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَيَلْغُو قَوْلُهُ ثَلَاثًا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْمَدْخُولَ بِهَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ يَا زَانِيَةُ ثَلَاثًا أَنَّهَا تَبِينُ بِثَلَاثٍ وَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ لِأَنَّا وَإِنْ اعْتَبَرْنَا قَوْلَهُ يَا زَانِيَةُ فَاصِلًا فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ إلْحَاقَ الثَّلَاثِ بِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَسَكَتَ فَقِيلَ لَهُ كَمْ؟ فَقَالَ: ثَلَاثًا فَكَذَا إذَا فُصِلَ بِقَوْلِهِ يَا زَانِيَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إذَا قَالَ لَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَمَاتَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَهَذَا بَاطِلٌ لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ لِأَنَّ الْعَدَدَ إذَا قُرِنَ بِالتَّطْلِيقِ كَانَ الْوَاقِعُ هُوَ الْعَدَدَ وَهِيَ عِنْدَ ذَلِكَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَالشَّرْطُ إذَا لَحِقَ بِآخِرِ الْكَلَامِ يَتَوَقَّفُ أَوَّلُ الْكَلَامِ

فصل في حكم اليمين التي تعلق بها الطلاق والعتاق عند وجود الشرط

عَلَى آخِرِهِ وَلَا يُفْصَلُ آخِرُ الْكَلَامِ عَنْ أَوَّلِهِ وَقَدْ حَصَلَ آخِرُ الْكَلَامِ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا عَمْرَةُ فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ يَا عَمْرَةُ فَالطَّلَاقُ لَازِمٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ يَا عَمْرَةُ نِدَاءٌ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَا عَدَدٍ يَتَوَقَّفُ الْوُقُوعُ عَلَيْهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ -. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْيَمِينِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ عِنْد وجود الشَّرْط] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ هَذِهِ الْيَمِينِ فَحُكْمُهَا وَاحِدٌ وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ الْمُعَلَّقِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْيَمِينِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ، ثُمَّ نُبَيِّنُ أَعْيَانَ الشُّرُوطِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَمَعْنَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى إذَا وُجِدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى يُوجَدُ الشَّرْطُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَإِلَّا فَلَا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ هُوَ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالشَّرْطِ وَمَعْنَى تَعْلِيقِهِمَا بِالشَّرْطِ - وَهُوَ إيقَاعُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي زَمَانِ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ - لَا يُعْقَلُ لَهُ مَعْنًى آخَرُ، فَإِذَا وُجِدَ رُكْنُ الْإِيقَاعِ مَعَ شَرَائِطِهِ لَا بُدَّ مِنْ الْوُقُوعِ عِنْدَ الشَّرْطِ. فَأَمَّا عَدَمُ الْوُقُوعِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ فَلَيْسَ حُكْمُ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ عِنْدَنَا بَلْ هُوَ حُكْمُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ لِأَنَّ الْوُقُوعَ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ، وَالثُّبُوتُ عَلَى حَسْبِ الْإِثْبَاتِ، وَالْحَالِفُ لَمْ يُثْبِتْ إلَّا بَعْدَ الشَّرْطِ فَبَقِيَ حُكْمُهُ بَاقِيًا عَلَى أَصْلِ الْعَدَمِ لَا أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ مُوجِبَ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ بَلْ مُوجِبُهُ الْوُقُوعُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَقَطْ ثُمَّ الشَّرْطُ إنْ كَانَ شَيْئًا وَاحِدًا يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَ وُجُودِهِ بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ يَسْتَوِي فِيهِ تَقْدِيمُ الشَّرْطِ فِي الذِّكْرِ وَتَأْخِيرُهُ وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ مُعَيَّنًا أَوْ مُبْهَمًا بِأَنْ قَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ أَوْ هَذِهِ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ أَوْ هَذِهِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ وَسَطَ الْجَزَاءِ بِأَنْ قَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ الدَّارَ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَوْ هَهُنَا تَقْتَضِي التَّخْيِيرَ فَصَارَ كُلُّ فِعْلٍ عَلَى حِيَالِهِ شَرْطًا فَأَيُّهُمَا وُجِدَ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعَادَ الْفِعْلَ مَعَ آخَرِ بِأَنْ قَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ أَوْ دَخَلْت هَذِهِ سَوَاءٌ أَخَّرَ الشَّرْطَ أَوْ قَدَّمَهُ أَوْ وَسَّطَهُ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ أَوْ هَذِهِ الدَّارَ وَإِنْ دَخَلْت هَذِهِ فَعَبْدِي حُرٌّ أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَيَدْخُلَ الثَّالِثَةَ فَأَيِّ الْأُولَيَيْنِ دَخَلَ وَدَخَلَ الثَّالِثَةَ حَنِثَ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ دُخُولَ إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَدُخُولَ الثَّالِثَةِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ إحْدَى الْأُولَيَيْنِ بِكَلِمَةٍ أَوْ فَيَتَنَاوَلُ إحْدَاهُمَا ثُمَّ جَمَعَ دُخُولَ الثَّالِثَةِ إلَى دُخُولِ إحْدَاهُمَا لِوُجُودِ حَرْفِ الْجَمْعِ وَهُوَ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ دَخَلْت هَذِهِ فَصَارَ دُخُولُ الثَّالِثَةِ مَعَ دُخُولِ إحْدَى الْأُولَيَيْنِ شَرْطًا وَاحِدًا فَإِذَا وُجِدَ حِنْثُ هَذَا إذَا أَدْخَلَ كَلِمَةَ أَوْ بَيْنَ شَرْطَيْنِ فِي يَمِينٍ وَاحِدَةٍ. فَأَمَّا إذَا أَدْخَلَهَا بَيْنَ إيقَاعٍ وَيَمِينٍ أَوْ بَيْنَ يَمِينَيْنِ كَمَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ وَبِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا أَوْ وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَن هَذَا الْخَادِمَ الْيَوْمَ فَضَرَبَ الْخَادِمَ مِنْ يَوْمِهِ فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ وَبَطَلَ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ خَيَّرَ نَفْسَهُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ الضَّرْبِ فِي الْيَوْمِ فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا انْتَفَى الْآخَرُ فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ قَبْلَ أَنْ يَضْرِبَ الْخَادِمَ فَقَدْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَيُخَيَّرُ فَإِنْ شَاءَ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ وَإِنْ شَاءَ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْيَمِينَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَنِثَ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ الْمُبْهَمُ فَكَانَ إلَيْهِ التَّعْيِينُ فَإِنْ قَالَ فِي الْيَوْمِ قَبْلَ مُضِيِّهِ قَدْ اخْتَرْتُ أَنْ أُوقِعَ الطَّلَاقَ لَزِمَهُ وَبَطَلَتْ الْيَمِينُ لِأَنَّهُ خَيَّرَ نَفْسَهُ بَيْنَ الْإِيقَاعِ وَبَيْنَ الْيَمِينِ فَإِذَا أَوْقَعَ فَقَدْ سَقَطَتْ الْيَمِينُ وَلَوْ قَالَ قَدْ اخْتَرْتُ الْتِزَامَ الْيَمِينِ وَأَبْطَلْتِ الطَّلَاقَ فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَبْطُلُ حَتَّى لَوْ مَضَى الْيَوْمُ قَبْلَ أَنْ يَضْرِبَ الْخَادِمَ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْتِزَامِ الْيَمِينِ لَا يُبْطِلُ الْيَمِينَ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالِالْتِزَامِ حَتَّى يَبْطُلَ بِالِاخْتِيَارِ فَبَقِيَتْ الْيَمِينُ عَلَى حَالِهَا. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا أَوْ وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ فُلَانَةَ فَمَاتَتْ فُلَانَةُ قَبْلَ أَنْ يَضْرِبَهَا فَقَدْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الطَّلَاقَ وَإِنْ شَاءَ الْكَفَّارَةَ لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ فَاتَ بِمَوْتِهَا فَحَنِثَ فِي إحْدَى الْيَمِينَيْنِ وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ هُوَ الْمَيِّتَ وَالْمَحْلُوفُ عَلَى ضَرْبِهَا حَيَّةً فَقَدْ وَقَعَ الْحِنْثُ عَلَى الرَّجُلِ وَالطَّلَاقُ وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا وَلَهَا الْمِيرَاثُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْتِزَامِ الْكَفَّارَةِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالشَّكِّ وَلَا يُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى الْبَيَانِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ الْكَفَّارَةُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ فَلَا يَقْدِرُ الْحَاكِمُ عَلَى إلْزَامِهِ وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ كَانَ بَدَلَ الْكَفَّارَةِ طَلَاقُ أُخْرَى فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا أَوْ هَذِهِ فَهَهُنَا يُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يُبَيِّنَ لِأَنَّ الْوَاقِعَ طَلَاقٌ وَإِنَّهُ

مِمَّا يَدْخُلُ فِي الْحُكْمِ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ عَلَيَّ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ لَمْ يُجْبِرْهُ الْحَاكِمُ عَلَى الِاخْتِيَارِ إنَّمَا يُفْتِي فِي الْوُقُوعِ أَنْ يُوقِعَ أَيَّهُمَا شَاءَ وَيُبْطِلَ الْأُخْرَى، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا أَوْ فُلَانَةُ عَلَيَّ حَرَامٌ يَعْنِي الْيَمِينَ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ تَخْيِيرَ الْفَتْوَى وَلَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي حَتَّى يَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ يَقْرَبَ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْكَفَّارَةِ فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ يَقْرَبَ يُخَيَّرُ تَخْيِيرَ حُكْمٍ وَيُقَالُ لَهُ أَوْقِعْ طَلَاقَ الْإِيلَاءِ عَلَى الَّتِي حَرَّمْتَ أَوْ طَلَاقَ الْكَلَامِ عَلَى الَّتِي تَكَلَّمْتَ بِطَلَاقِهَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ عَلَى إحْدَاهُمَا فَخُيِّرَ فِيهِ تَخْيِيرَ الْحَاكِمِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ فَإِنْ دَخَلَ إحْدَاهُمَا حَنِثَ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَوْ إذَا دَخَلَتْ بَيْنَ شَيْئَيْنِ تَنَاوَلَتْ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] . قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَبَدًا أَوْ لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى الْيَوْمَ فَإِنْ دَخَلَ الْأُولَى حَنِثَ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا وَلَمْ يَدْخُلْ الْأُخْرَى حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ حَنِثَ لِأَنَّهُ خَيَّرَ نَفْسَهُ فِي الْيَمِينِ أَنْ لَا يَدْخُلَ الدَّارَ الْأُولَى أَوْ يَدْخُلَ الْأُخْرَى فِي الْيَوْمِ فَإِنْ دَخَلَ الْأُخْرَى فِي الْيَوْمِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ وَإِنْ مَضَى الْيَوْمُ حَنِثَ فِي إحْدَى الْيَمِينَيْنِ قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ سَمِعْتُ مُحَمَّدًا قَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ لَمْ يَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ الْيَوْمَ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا الْيَوْمَ دَخَلَ هَذِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ لَيْسَ هَذَا بِاسْتِثْنَاءٍ وَالْيَمِينُ عَلَى حَالِهَا وَلَا أُبَالِي وَصَلَ هَذَا الْكَلَامِ أَوْ فَصَلَهُ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ الْأُولَى الْيَوْمَ حَنِثَ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَيْسَ بِلَفْظِ تَخْيِيرٍ فَبَقِيَتْ الْيَمِينُ الْأُولَى بِحَالِهَا - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ - هَذَا إذَا كَانَ الشَّرْطُ شَيْئًا وَاحِدًا فَإِنْ كَانَ شَيْئَيْنِ بِأَنْ عَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ لَا يَنْزِلُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطَيْنِ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُمَا بِهِمَا فَلَوْ نَزَلَ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا لَنَزَلَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ. وَهَذَا لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ قَدَّمَ الشَّرْطَيْنِ عَلَى الْجَزَاءِ فِي الذِّكْرِ أَوْ أَخَّرَهُمَا أَوْ وَسَّطَ الْجَزَاءَ بِأَنْ قَالَ لَهَا إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَهَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَهَذِهِ الدَّارَ أَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهَذِهِ الدَّارَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا عِنْدَ دُخُولِ الدَّارَيْنِ جَمِيعًا أَمَّا إذَا قَدَّمَ الشَّرْطَيْنِ عَلَى الْجَزَاءِ أَوْ أَخَّرَهُمَا عَنْهُ فَلِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ وَالْجَمْعُ بِحَرْفِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ بِأَنْ قَالَ إنْ دَخَلْت هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا عِنْدَ دُخُولِ الدَّارَيْنِ جَمِيعًا كَذَا هَذَا وَإِنَّمَا اسْتَوَى فِيهِ تَقْدِيمُ الشَّرْطَيْنِ وَتَأْخِيرُهُمَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ كَيْفَمَا كَانَ فَكَانَ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِيهِ سَوَاءً وَأَمَّا إذَا وَسَّطَ الْجَزَاءَ فَلِأَنَّ الشَّيْءَ يُعْطَفُ عَلَى جِنْسِهِ لَا عَلَى غَيْرِ جِنْسِهِ فَلَا يَصِحُّ عَطْفُ الشَّرْطِ عَلَى الْجَزَاءِ فَيُجْعَلُ مَعْطُوفًا عَلَى الشَّرْطِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْعَطْفُ بِحَرْفِ الْفَاءِ بِأَنْ قَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَهَذِهِ الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَهَذِهِ الدَّارَ أَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهَذِهِ الدَّارَ فَهَذَا كُلُّهُ سَوَاءٌ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا عِنْدَ دُخُولِ هَذَيْنِ الدَّارَيْنِ جَمِيعًا كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ لَا يُرَاعَى التَّرْتِيبُ فِي دُخُولِ الدَّارَيْنِ وَهَهُنَا يُرَاعَى وَهُوَ أَنْ تَدْخُلَ الدَّارَ الثَّانِيَةَ بَعْدَ دُخُولِهَا الْأُولَى وَإِلَّا فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّ الْوَاوَ وَالْفَاءَ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَرْفَ عَطْفٍ وَجَمْعٍ لَكِنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ وَالْفَاءَ لِلْجَمْعِ الْمُقَيَّدِ وَهُوَ الْجَمْعُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْقِيبِ لِذَلِكَ لَزِمَ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَطْفُ بِكَلِمَةِ ثُمَّ بِأَنْ قَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ ثُمَّ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ ثُمَّ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ هَذِهِ الدَّارَ فَهَذِهِ وَالْفَاءُ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ يُرَاعَى التَّرْتِيبُ فِي الدُّخُولِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ هَهُنَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ دُخُولُ الدَّارِ الثَّانِيَةِ مُتَرَاخِيًا عَنْ دُخُولِ الْأُولَى لِأَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّعْقِيبِ مَعَ التَّرَاخِي هَذَا إذَا كُرِّرَ حَرْفُ الْعَطْفِ بِدُونِ الْفِعْلِ فَإِنْ كُرِّرَ مَعَ الْفِعْلِ فَإِنْ كَانَ بِالْوَاوِ بِأَنْ قَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَدَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَدَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَهَذَا وَمَا إذَا كُرِّرَ حَرْفُ الْعَطْفِ بِدُونِ الْفِعْلِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَيَقْتَضِي اجْتِمَاعَ الشَّرْطَيْنِ فَيَسْتَوِي فِيهِ إعَادَةُ الْفِعْلِ وَعَدَمُ الْإِعَادَةِ وَإِنْ كَانَتْ بِالْفَاءِ فَقَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَتْ هَذِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْفَاءِ وَبَيْنَ الْوَاوِ فِي هَذِهِ الْأَوْجُهِ

فَقَالَ فِي الْأَوَّلِ يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَ دُخُولِ الدَّارَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ، وَفِي الثَّانِي لَا يَقَعُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ بِالْفَاءِ آخِرًا حَتَّى لَوْ دَخَلَتْ الدَّارَ الثَّانِيَةَ قَبْلَ الْأُولَى ثُمَّ دَخَلَتْ الْأُولَى لَا يَحْنَثُ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّرْتِيبِ وَالْفَاءَ تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ فَيَسْتَدْعِي تَأَخُّرَ الْفِعْلِ الثَّانِي عَنْ الْأَوَّلِ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا زِيَادَةَ تَفْصِيلٍ فَقَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَدَخَلَتْ دَارَ فُلَانٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَدَخَلَتْ الدَّارَ الثَّانِيَةَ لَمْ تَطْلُقْ كَأَنَّهُ جَعَلَ دُخُولَ دَارِ فُلَانٍ شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ فَإِنَّمَا يَصِيرُ حَالِفًا حِينَ دَخَلَتْ الدَّارَ الْأُولَى وَلَا مِلْكَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَصِيرُ حَالِفًا بِطَلَاقِ امْرَأَةٍ لَا يَمْلِكُهَا فَلَا تَطْلُقُ وَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ امْرَأَتُهُ لِمَ لَمْ تَنْعَقِدْ الْيَمِينُ؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ هَذِهِ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى فَقَالَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ إذَا غَشِيت هَذِهِ فَإِذَا غَشِيت هَذِهِ الْأُخْرَى فَعَبْدِي حُرٌّ فَلَيْسَ الْحَلِفُ عَلَى الْأُولَى إنَّمَا تَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فِي الثَّانِيَةِ إذَا غَشِيَ الْأُولَى وَيَكُونُ مُولِيًا مِنْ الثَّانِيَةِ إذَا غَشِيَ الْأُولَى، وَالْفَاءُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا تُشْبِهُ الْوَاوَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ غِشْيَانَ الْأُولَى شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ فِي الثَّانِيَةِ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَإِنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ أَوْ وَسَّطَ الْجَزَاءَ بِأَنْ قَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا قَالَا: أَيَّ الدَّارَيْنِ دَخَلَتْ طَلُقَتْ وَسَقَطَتْ الْيَمِينُ وَلَا تَطْلُقُ بِدُخُولِ الدَّارِ الْأُخْرَى لِأَنَّهُ لَمَّا أَعَادَ حَرْفَ الشَّرْطِ مَعَ الْفِعْلِ فَلَمْ يَكُنْ عَطْفًا عَلَى الْأُولَى فِي الشَّرْط بَلْ صَارَ ذَلِكَ يَمِينًا أُخْرَى أُضْمِرَ فِيهَا الْجَزَاءُ فَأَيُّهُمَا وُجِدَ نَزَلَ الْجَزَاءُ وَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ لِأَنَّ جَزَاءَ الثَّانِي لَمْ يَبْقَ وَإِنْ قَدَّمَ الشَّرْطَيْنِ عَلَى الْجَزَاءِ فَقَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَإِنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ. وَقَالَ هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ ذَلِكَ فَقَالَ: أَيَّ الدَّارَيْنِ دَخَلَتْ طَلُقَتْ كَمَا فِي الْأُولَى. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا عَطَفَ الشَّرْطَ عَلَى الشَّرْطِ قَبْلَ الْجَزَاءِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ وَهُوَ قَوْلُهُ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ لَيْسَ بِتَامٍّ لِأَنَّهُ لَا جَزَاءَ لَهُ فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ يَكُونُ شَرْطًا عَلَى حِدَةً إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ جَزَاءٌ فَكَانَ جَزَاءُ الْأَوَّلِ جَزَاءَ الثَّانِي فَأَيُّهُمَا وُجِدَ نَزَلَ الْجَزَاءُ وَتَبْطُلُ الْيَمِينُ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهَا جَزَاءٌ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ الْيَمِينَ قَدْ تَمَّتْ بِذِكْرِ الْجَزَاءِ فَلَمَّا أَعَادَ حَرْفَ الشَّرْطِ مَعَ الْفِعْلِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ تَقْدِيمَ الشَّرْطِ عَلَى الْجَزَاءِ وَتَأْخِيرَهُ عَنْهُ فِي بَابِ الْيَمِينِ سَوَاءٌ، وَلَوْ قَدَّمَهُ كَانَ الْجَوَابُ هَكَذَا فَكَذَا إذَا أَخَّرَ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ، وَلَوْ كَرَّرَ الشَّرْطَ وَعُلِّقَ بِهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ فَإِنْ كُرِّرَ بِدُونِ حَرْفِ الْعَطْفِ بِأَنْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ إنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ فَالْيَمِينُ انْعَقَدَتْ بِالْقَوْلِ الثَّانِي، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ لَغْوٌ، وَكَذَلِكَ إذَا مَتَى وَإِنْ إذَا وَإِنْ مَتَى، وَكَذَلِكَ إنْ بَدَأَ بِإِذَا وَأَخَّرَ إنْ، أَوْ قَالَ إذَا ثُمَّ قَالَ مَتَى، لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ إلَّا بِانْضِمَامِ الْجَزَاءِ إلَيْهِ وَقَدْ ضُمَّ الْجَزَاءُ إلَى الشَّرْطِ الثَّانِي لِأَنَّهُ مَوْصُولٌ بِهِ حَقِيقَةً فَيُقْطَعُ عَنْ الْأَوَّلِ فَبَقِيَ الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ جَزَاءٍ فَلَغَا، وَإِنْ قَدَّمَ الْجَزَاءَ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ تَزَوَّجْتُكِ انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَالْكَلَامُ الثَّانِي لَغْوٌ، لِأَنَّ الْجَزَاءَ تَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ فَبَقِيَ شَرْطًا لَا جَزَاءَ لَهُ فَلَغَا وَلَوْ قَالَ إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ تَزَوَّجْتُك فَإِنَّمَا انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ بِالْكَلَامِ الْآخَرِ وَالْكَلَامُ الْأَوَّلُ لَغْوٌ، لِأَنَّ إنْ شَرْطٌ مَحْضٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الشَّرْطِ وَإِذْ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَقْتِ وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِأَحَدِهِمَا فَتَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ الْمَحْضِ أَوْلَى. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ فِي رَجُلٍ قَالَ لِدَارٍ وَاحِدَةٍ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَعَبْدِي حُرٌّ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا دَخْلَةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَحْنَثَ حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ دَخْلَتَيْنِ وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ وَنَجْعَلُهُ حَانِثًا بِالدَّخْلَةِ الْأُولَى. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ تَكْرَارَ الشَّرْطِ يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى فَائِدَةٍ وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْعَطْفَ إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ حَرْفَ الْعَطْفِ فَصَارَ الشَّرْطُ دُخُولَهَا مَرَّتَيْنِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّكْرَارَ يُجْعَلُ رَدًّا لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذِهِ الْيَمِينِ الْمَنْعُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنْ أَصْلِ الدُّخُولِ دُونَ التَّكْرَارِ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ دَخْلَتَيْنِ فَيَكُونُ عَلَى مَا عَنَى لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَكَلَّمُ

بِشَيْءٍ إلَّا لِفَائِدَةٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ فَقَدْ نَوَى ظَاهِرَ كَلَامِهِ فَيُصَدَّقُ، وَإِنْ كَرَّرَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ فَقَالَ إنْ تَزَوَّجْتُك وَإِنْ تَزَوَّجْتُك أَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْتُك فَإِنْ تَزَوَّجْتُك أَوْ إذَا تَزَوَّجْتُك وَمَتَى تَزَوَّجْتُك لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا مَرَّتَيْنِ، لِأَنَّهُ لَمَّا عَطَفَ أَحَدَ الشَّرْطَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَقَدْ عَلَّقَ الْجَزَاءَ بِهِمَا فَيَتَعَلَّقُ بِهِمَا، وَلَوْ قَدَّمَ الطَّلَاقَ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ تَزَوَّجْتُك فَإِنْ تَزَوَّجْتُك فَهَذَا عَلَى تَزْوِيجٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْبَابِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ تَمَّ بِالْجَزَاءِ وَالشَّرْطِ فَإِذَا أَعَادَ الشَّرْطَ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ، وَلَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ تَزَوَّجْتُك طَلُقْت بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ التَّزْوِيجَيْنِ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ التَّزْوِيجَ عَلَى الْجَزَاءِ فَصَارَ الْجَزَاءُ مُضْمَرًا فِيهِ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ كُلَّمَا دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَكَلَّمْت فُلَانًا فَعَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ فَدَخَلَتْ الدَّارَ دَخَلَاتٍ وَكَلَّمَتْ فُلَانًا مَرَّةً وَاحِدَةً لَا يُعْتَقُ إلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْعِتْقِ دُخُولَ الدَّارِ وَكَلَامَ فُلَانٍ فَإِذَا تَكَرَّرَ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ الْآخَرُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ تَمَّ شَرْطُ يَمِينِ وَاحِدَةٍ وَوُجِدَ بَعْضُ شَرْطِ يَمِينٍ أُخْرَى فَلَا يُعْتَقُ إلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ قَالَ كُلَّمَا دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَإِنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ الدَّارَ ثَلَاثَ دَخَلَاتٍ ثُمَّ كَلَّمَتْ فُلَانًا مَرَّةً طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْجُمْلَةَ الْمَذْكُورَةَ بَعْدَ حَرْفِ الْفَاءِ مِنْ ذِكْرِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءُ جَزَاءُ الدُّخُولِ، وَالْجَزَاءُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ إذَا كَانَ الشَّرْطُ مَذْكُورًا بِكَلِمَةِ كُلَّمَا وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ عَلَّقَ عِنْدَ كُلِّ دُخُولٍ طَلَاقَهَا بِكَلَامِهَا فَإِذَا كَلَّمَتْ فُلَانًا مَرَّةً تَطْلُقُ ثَلَاثًا إذْ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ يَصْلُحُ شَرْطًا فِي أَيْمَانٍ كَثِيرَةٍ فَيَحْنَثُ فِي جَمِيعِهَا. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مَا يَجْرِي مَجْرَى الشَّرْحِ لِلْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّهُ قَالَ لَوْ قَالَ كُلَّمَا دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَكَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهَذَا عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَ ثَلَاثَ دَخَلَاتٍ ثُمَّ كَلَّمَتْ فُلَانًا مَرَّةً طَلُقَتْ وَاحِدَةً لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ فَيَصِيرُ الدُّخُولُ وَالْكَلَامُ جَمِيعًا شَرْطًا، وَتَكْرَارُ بَعْضِ الشَّرْطِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حِنْثٌ فَإِنْ عَادَتْ فَكَلَّمَتْ فُلَانًا قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ الدَّارَ الرَّابِعَةَ طَلُقَتْ أُخْرَى لِأَنَّهُ تَمَّ شَرْطُ يَمِينٍ أُخْرَى فَإِنْ عَادَتْ فَكَلَّمَتْ فُلَانًا الثَّالِثَةَ طَلُقَتْ أُخْرَى لِتَمَامِ شَرْطِ الْيَمِينِ الثَّالِثَةِ قَالَ وَكَذَلِكَ لَوْ بَدَأَتْ بِكَلَامِ فُلَانٍ فَكَلَّمَتْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ دَخْلَةً طَلُقَتْ وَاحِدَةً فَإِنْ عَادَتْ فَدَخَلَتْهَا الثَّانِيَةَ قَبْلَ الْكَلَامِ طَلُقَتْ أُخْرَى فَإِنْ عَادَتْ فَدَخَلَتْ الثَّالِثَةَ طَلُقَتْ أَيْضًا ثِنْتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَاعَى فِيهِ التَّرْتِيبُ وَأَنَّهُ لَا فَرْق بَيْنَ تَقْدِيمِ أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَبَيْنَ تَأْخِيرِهِ. وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مَا يَجْرِي مَجْرَى شَرْحِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ قَالَ لَوْ قَالَ كُلَّمَا دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَإِنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّ الْيَمِينَ فِي هَذَا كُلِّهِ إنَّمَا تَنْعَقِدُ بِدُخُولِ الدَّارِ فَكُلَّمَا دَخَلَتْ دَخْلَةً انْعَقَدَتْ يَمِينٌ فَإِنْ كَلَّمَتْ فُلَانًا طَلُقَتْ فَإِنْ عَادَتْ فَدَخَلَتْ الدَّارَ ثُمَّ كَلَّمَتْ فُلَانًا طَلُقَتْ أُخْرَى فَإِنْ عَادَتْ فَدَخَلَتْ الدَّارَ ثُمَّ كَلَّمَتْ فُلَانًا طَلُقَتْ أُخْرَى وَلَوْ بَدَأَتْ فَدَخَلَتْ الدَّارَ ثَلَاثً دَخَلَاتٍ ثُمَّ كَلَّمَتْ فُلَانًا مَرَّةً طَلُقَتْ ثَلَاثً مَرَّاتٍ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ دُخُولَ الدَّارِ شَرْطَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ فَيَنْعَقِدُ عِنْدَ كُلِّ دَخْلَةٍ يَمِينٌ لِمَكَانِ كَلِمَةِ كُلَّمَا فَقَدْ انْعَقَدَتْ عَلَيْهَا أَيْمَانٌ فَانْحَلَّتْ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ. قَالَ وَلَوْ بَدَأَتْ بِكَلَامِ فُلَانٍ لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ يَمِينٌ وَلَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ حَتَّى تُكَلِّمَ فُلَانًا بَعْدَ دُخُولِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الدُّخُولَ شَرْطَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ فَمَا لَمْ تَدْخُلْ لَا يَنْعَقِدُ فَلَا يَقَعُ بِالْكَلَامِ طَلَاقٌ. قَالَ: وَسَمِعْت أَبَا يُوسُفَ قَالَ: وَلَوْ قَالَ كُلَّمَا دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَكُلَّمَا كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ قَالَ فَهَذَا عَلَيْهَا وَيَكُونُ الْفَاءُ جَزَاءً فَإِنْ بَدَأَتْ فَدَخَلَتْ الدَّارَ ثَلَاثَ دَخَلَاتٍ ثُمَّ كَلَّمَتْ فُلَانًا مَرَّةً طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَلَوْ دَخَلَتْ الدَّارَ ثُمَّ كَلَّمَتْ فُلَانًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ طَلُقَتْ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ قَدْ انْعَقَدَتْ بِدُخُولِ الدَّارِ فَإِذَا تَكَرَّرَ شَرْطُهَا يَتَكَرَّرُ الْحِنْثُ؛ لِأَنَّ كُلَّمَا لِلتَّكْرَارِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ لِامْرَأَتِهِ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ السَّاعَةَ وَلَا يُنْتَظَرُ بِهِ التَّزْوِيجُ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلُّ لَيْسَتْ كَلِمَةَ شَرْطٍ لِمَا قُلْنَا لَكِنَّ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَوَقَّفُ نُزُولُ الْجَزَاءِ عَلَى امْرَأَةٍ مَوْصُوفَةٍ بِصِفَةِ أَنَّهَا مُتَزَوِّجَةٌ، وَفُلَانَةُ غَيْرُ مَوْصُوفَةٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يَقِفُ طَلَاقُهَا عَلَيْهَا وَلَوْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِي تَدْخُلُ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ سَمَّى بَعْضَ نِسَائِهِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عَلَيْهَا السَّاعَةَ قَبْلَ أَنْ دَخَلَ الدَّارَ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ طَلُقَتْ أُخْرَى لِأَنَّهَا قَدْ دَخَلَتْ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِي تَدْخُلُ الدَّارَ وَلَوْ قَالَ أَنْتِ وَمَنْ دَخَلَ الدَّارَ مِنْ نِسَائِي طَالِقٌ

كَانَتْ طَالِقًا سَاعَةَ سَكَتَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَهَذِهِ غَيْرُ مَوْصُوفَةٍ وَلَوْ دَخَلَتْ هِيَ فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ طَلُقَتْ أُخْرَى لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ إنْ تَزَوَّجْتهَا لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ عَلَى امْرَأَتِهِ حَتَّى يَتَزَوَّجَ بِالْأُخْرَى لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِالشَّرْطِ وَهُوَ التَّزَوُّجُ لِإِتْيَانِهِ بِكَلِمَةِ الشَّرْطِ نَصًّا فَيَتَعَلَّقُ بِهِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَمَنْ دَخَلَ الدَّارَ مِنْ عَبِيدِي عَتَقَ الْأَوَّلُ لِلْحَالِ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ عَنِيَ أَنَّ عِتْقَهُ مُعَلَّقٌ بِدُخُولِ الدَّارِ لَمْ يُدَيَّنْ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ لِانْعِدَامِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ حَقِيقَةً وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّخْفِيفِ عَلَيْهِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ فِي رَجُلٍ لَهُ امْرَأَتَانِ فَقَالَ لِإِحْدَاهُمَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ لَا بَلْ هَذِهِ فَإِنْ دَخَلَتْ الْأُولَى الدَّارَ طَلُقَتَا وَلَا تَطْلُقُ الثَّانِيَةُ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِإِحْدَاهُمَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ تَعْلِيقُ طَلَاقِهَا بِشَرْطِ الدُّخُولِ، وَقَوْلُهُ: " لَا " رُجُوعٌ عَنْ تَعْلِيقِ طَلَاقِهَا بِالشَّرْطِ، وَقَوْلَهُ " بَلْ " إثْبَاتُ تَعْلِيقِ طَلَاقِ هَذِهِ بِالشَّرْطِ، وَالرُّجُوعُ لَا يَصِحُّ، وَالْإِثْبَاتُ صَحِيحٌ فَبَقِيَتْ فَيَتَعَلَّقُ طَلَاقُهَا بِالشَّرْطِ، وَلَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ لَا بَلْ غُلَامِي فُلَانٌ حُرٌّ عَتَقَ عَبْدُهُ السَّاعَةَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا بَلْ غُلَامِي فُلَانٌ حُرٌّ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ لِكَوْنِهَا مُبْتَدَأً وَخَبَرًا فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الشَّرْطِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ لَا بَلْ فُلَانَةُ وَهِيَ امْرَأَتُهُ أَنَّ امْرَأَتُهُ لَا تَطْلُقُ السَّاعَةَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا بَلْ فُلَانَةُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى الْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّرْطِ فَيَتَعَلَّقُ هَذَا أَيْضًا، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ إنْ دَخَلْت الدَّارَ لَا بَلْ فُلَانٌ لِعَبْدٍ لَهُ آخَرَ لَا يَعْتِقُ الثَّانِي إلَّا بَعْدَ دُخُولِ الدَّارِ لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ بِكَلَامٍ غَيْرِ مُسْتَقِلٍّ فَتَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ. وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي نَوَادِرِهِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ لَا بَلْ هَذِهِ فَدَخَلَتْ الْأُولَى الدَّارَ طَلُقَتَا ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا بَلْ هَذِهِ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ فَأَضْمَرَ فِيهِ الشَّرْطُ فَصَارَ طَلَاقُهَا جَزَاءَ الدُّخُولِ كَطَلَاقِ الْأُولَى، وَالْجَزَاءُ فِي حَقِّ الْأُولَى ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ كَذَا فِي حَقِّ الثَّانِيَةِ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ لَا بَلْ هَذِهِ وَقَعَ عَلَى الثَّانِيَةِ وَاحِدَةٌ وَعَلَى الْأُولَى ثَلَاثٌ لِأَنَّهُ يُضْمَرُ فِي حَقِّ الثَّانِيَةِ مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْكَلَامُ وَالْكَلَامُ يَسْتَقِلُّ بِإِضْمَارِ تَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّطْلِيقَاتِ هَهُنَا مُتَفَرِّقَةٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَا بَلْ هَذِهِ طَالِقٌ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ عَلَّقَ الثَّلَاثَ جُمْلَةً بِالدُّخُولِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى حَسْبِ التَّعْلِيقِ فَصَارَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ مُسْتَدْرِكَةً فِي حَقِّ الثَّانِيَةِ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا لَا بَلْ هَذِهِ فَكَانَ عَلَى الْكَلَامِ لَا عَلَى الطَّلَاقِ وَهَذَا خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ نَسَّقَهَا عَلَى الْكَلَامِ فَتَعَلَّقَ طَلَاقُهَا بِكَلَامِ فُلَانٍ، فَإِنْ قَالَ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا بَلْ هَذِهِ فَقَوْلُهُ لَا بَلْ هَذِهِ عَلَى الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ نَسَّقَهَا عَلَى الْجَزَاءِ فَتَعَلَّقَ طَلَاقُهَا بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ طَلَاقُ الْأُخْرَى، قَالَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْرَى فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عَلَى الَّتِي تَزَوَّجَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَا يَقَعُ عَلَى الَّتِي تَزَوَّجَ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى امْرَأَةٍ مَوْصُوفَةٍ بِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْمَوْصُوفَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي تَزَوَّجَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَا تَطْلُقُ الْمُتَزَوَّجَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَنَظِيرُهُ إذَا قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي عَمْيَاءَ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَدَخَلَ ثُمَّ عَمِيَتْ امْرَأَتُهُ لَا تَطْلُقُ كَذَا هَذَا، وَلَوْ بَدَأَ بِالدُّخُولِ فَقَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَكُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْرَى فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عَلَى الَّتِي تَزَوَّجَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَلَا يَقَعُ عَلَى الَّتِي تَزَوَّجَ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ دُخُولَ الدَّارِ شَرْطَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الدُّخُولِ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا تَزَوَّجَ مِنْ قَبْلُ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ فَإِنْ نَوَى مَا تَزَوَّجَ قَبْلُ أَوْ بَعْدُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا فَلَيْسَ يَقَعُ عَلَى مَا نَوَى وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ. قَالَ بِشْرٌ وَلَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَدَخَلَ الدَّارَ ثُمَّ تَزَوَّجَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فَإِنْ دَخَلَ الدَّارَ ثَانِيًا وَقَعَ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى دُخُولٍ بَعْدَ التَّزَوُّجِ لَا عَلَى دُخُولٍ قَبْلَهُ فَلَمْ يَكُنِ الدُّخُولُ قَبْلَ التَّزَوُّجِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ فَلَا تَنْحَلُّ بِهِ الْيَمِينُ، فَإِذَا وُجِدَ الدُّخُولُ الثَّانِي وَهُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَلَوْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا إلَى سَنَةٍ فَهِيَ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَهُوَ

عَلَى مَا يَتَزَوَّجُ فِي الْوَقْتِ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْكَلَامِ أَوْ بَعْدَهُ، كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا إلَى سَنَةٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِلتَّوْقِيتِ فَائِدَةٌ فَلَوْ اخْتَصَّتْ الْيَمِينُ بِمَا يَتَزَوَّجُ قَبْلَ الْكَلَامِ بَطَلَ مَعْنَى التَّوْقِيتِ فَيَصِيرُ الْكَلَامُ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالتَّزَوُّجِ، وَلَوْ بَدَأَ بِالْكَلَامِ فَقَالَ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَكُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا إلَى سَنَةٍ فَهِيَ طَالِقٌ فَهَذَا يَقَعُ عَلَى مَا بَعْدَ الْكَلَامِ، وَالتَّوْقِيتُ وَعَدَمُ التَّوْقِيتِ فِيهِ سَوَاءٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا بَدَأَ بِالْكَلَامِ فَقَدْ جَعَلَ الْكَلَامَ شَرْطُهُ انْعِقَادُ الْيَمِينِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُزَوَّجَةُ قَبْلَ الْكَلَامِ وَيَكُونُ فَائِدَةُ التَّوْقِيتِ تَخْصِيصَ الْعَقْدِ بِمَنْ تَزَوَّجَ فِي الْمُدَّةِ دُونَ مَا بَعْدَهَا، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَلَوْ عَطَفَ الْحَالِفُ عَلَى يَمِينِهِ بَعْدَ السُّكُوتِ فَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ إذَا عَطَفَ عَلَى يَمِينِهِ بَعْدَ السُّكُوتِ مَا يُوَسِّعُ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ كَمَا لَا يُقْبَلُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ السُّكُوتِ وَإِنْ عَطَفَ بِمَا شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ جَازَ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ قَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ إنْ دَخَلَتْ فُلَانَةُ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ ثُمَّ سَكَتَ سَكْتَةً ثُمَّ قَالَ وَهَذِهِ يَعْنِي امْرَأَةً لَهُ أُخْرَى فَإِنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَهَذِهِ طَالِقٌ إنْ دَخَلَتْ تِلْكَ الدَّارَ وَفِي هَذَا تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ إنْ دَخَلَتْ هَذِهِ الدَّارَ لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَى الشَّرْطِ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ؛ لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَى الْأُولَى بِدُخُولِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الدَّارَيْنِ وَفِي هَذَا تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ نَجَّزَ فَقَالَ هَذِهِ طَالِقٌ ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ وَهَذِهِ طَلُقَتْ الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِيقَاعِ وَهَذَا تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ وَهَذِهِ يَعْنِي دَارًا أُخْرَى فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فَإِنْ دَخَلَتْ الْأُولَى طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَهَذِهِ يَعْنِي دَارًا أُخْرَى يَقْتَضِي زِيَادَةً فِي شَرْطِ الْيَمِينِ الْأُولَى لِأَنَّهُ إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِدُخُولِ دَارَيْنِ لَا يَقَعُ بِإِحْدَاهُمَا وَهُوَ لَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَ شَرْطِ الْيَمِينِ بَعْدَ السُّكُوتِ وَلِأَنَّ فِي هَذَا تَوْسِيعًا عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ بَعْدَ السُّكُوتِ كَالِاسْتِثْنَاءِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ أَعْيَانِ الشُّرُوطِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ فَالشُّرُوطُ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لَا سَبِيلَ إلَى حَصْرِهَا لِكَثْرَتِهَا لِتَعَلُّقِهَا بِاخْتِيَارِ الْفَاعِلِ فَنَذْكُرُ الْقَدْرَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا فِي كُتُبِهِمْ، وَالْمَذْكُورُ مِنْ الشُّرُوطِ فِي كُتُبِهِمْ نَوْعَانِ:. أَفْعَالٌ حِسِّيَّةٌ: وَأُمُورٌ شَرْعِيَّةٌ، أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فَالدُّخُولُ وَالْخُرُوجُ وَالْكَلَامُ وَالْإِظْهَارُ وَالْإِفْشَاءُ وَالْإِعْلَامُ وَالْكَتْمُ وَالْإِسْرَارُ وَالْإِخْفَاءُ وَالْبِشَارَةُ وَالْقِرَاءَةُ وَنَحْوُهَا وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالذَّوْقُ وَالْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ وَاللِّبْسُ وَالسُّكْنَى وَالْمُسَاكَنَةُ وَالْإِيوَاءُ وَالْبَيْتُوتَةُ وَالِاسْتِخْدَامُ وَالْمَعْرِفَةُ وَقَبْضُ الْحَقِّ وَالِاقْتِضَاءُ وَالْهَدْمُ وَالضَّرْبُ وَالْقَتْلُ وَغَيْرُهَا. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ الْحَلِفُ عَلَى أُمُورٍ شَرْعِيَّةٍ وَمَا يَقَعُ مِنْهَا عَلَى الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَعَلَى الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ كَالْعَطِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالرُّكُوبِ وَالْجُلُوسِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْقَرْضِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّزَوُّجِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَأَشْيَاءَ أُخَرَ مُتَفَرِّقَةٍ نَجْمَعُهَا فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ فِي آخِرِ الْكِتَابِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الشُّرُوطِ أَنْ يُرَاعَى فِيهَا لَفْظُ الْحَالِفِ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى لُغَةً وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنْ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ وَالتَّعْمِيمِ وَالتَّخْصِيصِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَانِي كَلَامِ النَّاسِ بِخِلَافِهِ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً وَإِنَّهَا تَقْضِي عَلَى الْحَقِيقَةِ الْوَضْعِيَّةِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَالَ: إنَّ صَاحِبًا لَنَا مَاتَ وَأَوْصَى بِبَدَنَةٍ أَفَتُجْزِئُ عَنْهُ الْبَقَرَةُ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِمَّنْ صَاحِبُكُمْ؟ فَقَالَ السَّائِلُ: مِنْ بَنِي رَبَاحٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَتَى اقْتَنَتْ بَنُو رَبَاحٍ الْبَقَرَ إنَّمَا الْبَقَرُ لِلْأَزْدِ وَذَهَبَ وَهْمُ صَاحِبُكُمْ إلَى الْإِبِلِ فَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ أَصِيلٌ فِي حَمْلِ مُطْلَقِ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَذْهَبُ إلَيْهِ أَوْهَامُ النَّاسِ وَلِأَنَّ الْعُرْفَ وَضْعٌ طَارِئٌ عَلَى الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ، وَالِاصْطِلَاحُ جَارٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَقْصِدُ بِكَلَامِهِ ذَلِكَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ مُطْلَقُ اللَّفْظِ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " إنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحَقَائِقِ " يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا أَنَّ الْغَرِيمَ يَقُولُ لِغَرِيمِهِ: وَاَللَّهِ لَأَجُرَّنَّكَ فِي الشَّوْكِ يُرِيدُ بِهِ شِدَّةَ الْمَطْلِ دُونَ الْحَقِيقَةِ وَقَوْلُ مَالِكٍ: " الْأَيْمَانُ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ " غَيْرُ سَدِيدٍ أَيْضًا بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ فِي سِرَاجٍ فَجَلَسَ فِي الشَّمْسِ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الشَّمْسَ سِرَاجًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 16] . وَكَذَا مَنْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى بِسَاطٍ فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ سَمَّاهَا اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِسَاطًا بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19] .

فصل في الحلف على الدخول

وَكَذَا مَنْ حَلَفَ لَا يَمَسُّ وَتَدًا فَمَسَّ جَبَلًا لَا يَحْنَثُ وَإِنْ سَمَّى اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْجَبَلَ وَتَدًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ: 7] فَثَبَتَ أَنَّ مَا قَالَهُ مَالِكٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى الدُّخُولِ] (فَصْلٌ) : أَمَّا الْحَلِفُ عَلَى الدُّخُولِ فَالدُّخُولُ اسْمٌ لِلِانْفِصَالِ مِنْ الْعَوْرَةِ إلَى الْحِصْنِ، فَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ فِيهَا فَمَكَثَ بَعْدَ يَمِينِهِ لَا يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ، ذَكَرَ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي الْأَصْلِ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الْفِعْلِ حُكْمُ إنْشَائِهِ كَمَا فِي الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ، بِأَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ وَلَا يَلْبَسُ وَهُوَ رَاكِبٌ وَلَابِسٌ فَمَكَثَ سَاعَةً أَنَّهُ يَحْنَثُ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَهُوَ أَنَّ الدَّوَامَ عَلَى الْفِعْلِ لَا يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الدَّوَامَ هُوَ الْبَقَاءُ، وَالْفِعْلَ الْمُحْدَثُ عَرَضٌ، وَالْعَرَضُ مُسْتَحِيلُ الْبَقَاءِ فَيَسْتَحِيلُ دَوَامُهُ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِالدَّوَامِ تَجَدُّدُ أَمْثَالِهِ وَهَذَا يُوجَدُ فِي الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ وَلَا يُوجَدُ فِي الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلِانْتِقَالِ مِنْ الْعَوْرَةِ إلَى الْحِصْنِ، وَالْمُكْثُ قَرَارٌ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالًا يُحَقِّقُهُ أَنَّ الِانْتِقَالَ حَرَكَةٌ وَالْمُكْثَ سُكُونٌ وَهُمَا ضِدَّانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّهُ يُقَالُ رَكِبْت أَمْسُ وَالْيَوْمَ وَلَبِسْت أَمْسُ وَالْيَوْمَ مِنْ غَيْرِ رُكُوبٍ وَلُبْسٍ مُبْتَدَإٍ وَلَا يُقَالُ دَخَلْت أَمْسُ وَالْيَوْمَ إلَّا لِدُخُولٍ مُبْتَدَإٍ وَكَذَا مَنْ دَخَلَ دَارًا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَمَكَثَ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَقَالَ وَاَللَّهِ مَا دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ لِذَلِكَ افْتَرَقَا. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ أَوْ لَا يَلْبَسُ وَهُوَ رَاكِبٌ أَوْ لَابِسٌ فَنَزَلَ مِنْ سَاعَتِهِ أَوْ نَزَعَ مِنْ سَاعَتِهِ لَا يَحْنَثُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ الرُّكُوبُ وَاللُّبْسُ وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ بَعْدَ يَمِينِهِ وَإِنْ قَلَّ. (وَلَنَا) أَنَّ مَا لَا يَقْدِرُ الْحَالِفُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ يَمِينِهِ فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْهُ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْحَالِفِ مِنْ الْحَلِفِ الْبِرُّ، وَالْبِرُّ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِاسْتِثْنَاءِ ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَسَوَاءٌ دَخَلَ تِلْكَ الدَّارَ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا؛ لِأَنَّ اسْمَ الدُّخُولِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكُلِّ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ دَخَلْت الدَّارَ مَاشِيًا وَدَخَلْتُهَا رَاكِبًا، وَلَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ فَحَمَلَهُ فَأَدْخَلَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ فِعْلٌ لَا حُقُوقَ لَهُ فَكَانَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ مُضَافًا إلَيْهِ كَالذَّبْحِ وَالضَّرْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنْ احْتَمَلَهُ غَيْرُهُ فَأَدْخَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ هَذَا يُسَمَّى إدْخَالًا لَا دُخُولًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الدُّخُولَ انْتِقَالٌ وَالْإِدْخَالُ نَقْلٌ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُوجِبُ الْإِضَافَةَ إلَيْهِ وَهُوَ الْأَمْرُ، وَسَوَاءٌ كَانَ رَاضِيًا بِنَقْلِهِ أَوْ سَاخِطًا لِأَنَّ الرِّضَا لَا يَجْعَلُ الْفِعْلَ مُضَافًا إلَيْهِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الشَّرْطُ وَهُوَ الدُّخُولُ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَادِرًا عَلَى الِامْتِنَاعِ أَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ مَعَ الْقُدْرَةِ كَانَ الدُّخُولُ مُضَافًا إلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الدُّخُولُ حَقِيقَةً وَامْتِنَاعُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ إنْ جَازَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى رِضَاهُ بِالدُّخُولِ لَكِنَّ الرِّضَا يَكُونُ بِالْأَمْرِ، وَبِدُونِ الْأَمْرِ لَا يَكْفِي لِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إلَيْهِ فَانْعَدَمَ الدُّخُولُ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا، وَسَوَاءٌ دَخَلَهَا مِنْ بَابِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ مُطْلَقَ الدُّخُولِ وَقَدْ وُجِدَ، وَلَوْ نَزَلَ عَلَى سَطْحِهَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ سَطْحَ الدَّارِ مِنْ الدَّارِ إذْ الدَّارُ اسْمٌ لِمَا أَحَاطَ بِهِ الدَّائِرَةُ، وَالدَّائِرَةُ أَحَاطَتْ بِالسَّطْحِ. وَكَذَا لَوْ أَقَامَ عَلَى حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِهَا لِأَنَّ الْحَائِطَ مِمَّا تَدُورُ عَلَيْهِ الدَّائِرَةُ فَكَانَ كَسَطْحِهَا، وَلَوْ قَامَ عَلَى ظُلَّةٍ لَهَا شَارِعَةٍ أَوْ كَنِيفِ شَارِعٍ فَإِنْ كَانَ مِفْتَحُ ذَلِكَ إلَى الدَّارِ يَحْنَثُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِفْتَحُهُ إلَى الدَّارِ يَكُونُ مَنْسُوبًا إلَى الدَّارِ فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الدَّارِ وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ قَامَ عَلَى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ فَإِنْ كَانَ الْبَابُ إذَا أُغْلِقَ كَانَتْ الْأُسْكُفَّةُ خَارِجَةً عَنْ الْبَابِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ خَارِجٌ وَإِنْ كَانَ أُغْلِقَ الْبَابُ كَانَتْ الْأُسْكُفَّةُ دَاخِلَةَ الْبَابِ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ لِأَنَّ الْبَابَ يُغْلَقُ عَلَى مَا فِي دَاخِلِ الدَّارِ لَا عَلَى مَا فِي الْخَارِجِ، وَإِنْ أَدْخَلَ الْحَالِفُ إحْدَى رِجْلَيْهِ وَلَمْ يُدْخِلْ الْأُخْرَى لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ كُلُّهُ بَلْ بَعْضُهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «كُنْت مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ لِي إنِّي لَأَعْلَمُ آيَةً لَمْ تَنْزِلْ عَلَى نَبِيٍّ بَعْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَّا عَلَيَّ فَقُلْت وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: لَا أَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى أُعَلِّمَكَهَا فَلَمَّا أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ فَقُلْت فِي نَفْسِي لَعَلَّهُ قَدْ نَسِيَ فَقَالَ لِي: بِمَ تُفْتَتَحُ الْقِرَاءَةُ؟ فَقُلْت: بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ هِيَ» فَلَوْ كَانَ هَذَا الْقَدْرُ خُرُوجًا لَكَانَ تَأْخِيرُ التَّعْلِيمِ إلَيْهِ خُلْفًا فِي الْوَعْدِ وَلَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ بِالْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّاهَا آيَةً، وَمِنْ

أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ مَوْضُوعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي دَارٍ دَاخِلُهَا وَخَارِجُهَا سَطْحٌ وَاحِدٌ فَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ مُنْهَبِطَةً فَأَدْخَلَ إلَيْهَا إحْدَى رِجْلَيْهِ حَنِثَ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهُ حَصَلَ فِيهَا وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، فَإِنْ أَدْخَلَ رَأْسَهُ وَلَمْ يُدْخِلْ قَدَمَيْهِ أَوْ تَنَاوَلَ مِنْهَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدُخُولٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ السَّارِقَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا يُقْطَعُ؟ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ خَرَابًا قَدْ كَانَ دَارًا وَذَهَبَ بِنَاؤُهَا لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ كَانَتْ حِيطَانُهَا قَائِمَةً فَدَخَلَ يَحْنَثُ، وَلَوْ عَيَّنَ فَقَالَ أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَذَهَبَ بِنَاؤُهَا لَا يَحْنَثُ وَلَوْ كَانَتْ حِيطَانُهَا قَائِمَةً وَدَخَلَ يَحْنَثُ وَلَوْ عَيَّنَ فَقَالَ: لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَذَهَبَ بِنَاؤُهَا بَعْدَ يَمِينِهِ ثُمَّ دَخَلَهَا يَحْنَثُ فِي قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ دَارًا وَإِنْ ذُكِرَ مُطْلَقًا لَكِنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَهِيَ الدَّارُ الْمَبْنِيَّةُ فَيُرَاعَى فِيهِ الِاسْمُ وَالصِّفَةُ وَهِيَ الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الصِّفَةِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَحْنَثُ، وَقَوْلُهُ هَذِهِ الدَّارُ إشَارَةٌ إلَى الْمُعَيَّنِ الْحَاضِرِ فَيُرَاعَى فِيهِ ذَاتُ الْمُعَيَّنِ لَا صِفَتُهُ لِأَنَّ الْوَصْفَ لِلتَّعْرِيفِ وَالْإِشَارَةُ كَافِيَةٌ لِلتَّعْرِيفِ وَذَاتُ الدَّارِ قَائِمَةٌ بَعْدَ الِانْهِدَامِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ، وَالْعَرْصَةُ قَائِمَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ بِدُونِ الْبِنَاءِ قَوْلُ النَّابِغَةِ يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ... أَقْوَتْ فَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَبَدِ إلَّا الْأَوَارِيَّ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا ... وَالنُّؤْيَ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ سَمَّاهَا دَارًا بَعْدَمَا خَلَتْ مِنْ أَهْلِهَا وَخَرِبَتْ وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا إلَّا الْأَوَارِيَ وَالنُّؤْيَ وَلَوْ أُعِيدَ الْبِنَاءُ فَدَخَلَهَا يَحْنَثُ، أَمَّا فِي الْمُعَيَّنِ فَلَا شَكَّ فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَهَا بِدُونِ الْبِنَاءِ يَحْنَثُ فَمَعَ الْبِنَاءِ أَوْلَى. وَأَمَّا فِي الْمُنَكَّرِ فَلِوُجُودِ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ وَهِيَ الْبِنَاءُ وَإِنْ بُنِيَتْ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ بُسْتَانًا فَدَخَلَهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ قَدْ بَطَلَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى دَارًا فَبَطَلَتْ الْيَمِينُ، وَلَوْ أَعَادَهَا دَارًا فَدَخَلَهَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهَا غَيْرُ الدَّارِ الْأُولَى وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذَا الْمَسْجِدَ فَهُدِمَ فَصَارَ صَحْرَاءَ ثُمَّ دَخَلَهُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ قَالَ هُوَ مَسْجِدٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَبْنِيًّا، وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ عِبَارَةٌ عَنْ مَوْضِعِ السُّجُودِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْخَرَابِ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ إنَّ الْمَسْجِدَ إذَا خَرِبَ وَاسْتَغْنَى النَّاسُ عَنْهُ أَنَّهُ يَبْقَى مَسْجِدًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ أَوْ بَيْتًا فَدَخَلَهُ بَعْدَ مَا انْهَدَمَ وَلَا بِنَاءَ فِيهِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْبَيْتُوتَةِ سُمِّيَ بَيْتًا لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ وَلَا يُبَاتُ إلَّا فِي الْبِنَاءِ وَلِهَذَا تُسَمِّي الْعَرَبُ الْأَخْبِيَةَ بُيُوتًا فَصَارَ الْبِنَاءُ فِيهِ فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الِاسْمِ مُلْتَحِقًا بِذَاتِ الْمُسَمَّى كَاسْمِ الطَّعَامِ لِلْمَائِدَةِ وَالشَّرَابِ لِلْكَأْسِ وَالْعَرُوسِ لِلْأَرِيكَةِ فَيَزُولُ الِاسْمُ بِزَوَالِهِ، وَلَوْ بَنَى بَيْتًا آخَرَ فَدَخَلَهُ لَا يَحْنَثُ أَيْضًا فِي الْمُعَيَّنِ لِأَنَّ الْمُعَادَ عَيْنٌ أُخْرَى غَيْرُ الْأَوَّلِ فَلَا يَحْنَثُ بِالدُّخُولِ فِيهِ، وَفِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ حَنِثَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ دُخُولُ الْبَيْتِ وَلَوْ انْهَدَمَ السَّقْفُ وَحِيطَانُهُ قَائِمَةٌ فَدَخَلَهُ يَحْنَثُ فِي الْمُعَيَّنِ وَلَا يَحْنَثُ فِي الْمُنَكَّرِ لِأَنَّ السَّقْفَ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ فِيهِ وَهِيَ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ وَفِي الْغَائِبِ مُعْتَبَرَةٌ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْفُسْطَاطِ وَهُوَ مَضْرُوبٌ فِي مَوْضِعٍ فَقُلِعَ وَضُرِبَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَدَخَلَ فِيهِ يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ الْقُبَّةُ مِنْ الْعِيدَانِ وَنَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ دَرَجٌ مِنْ عِيدَانٍ بِدَارٍ أَوْ مِنْبَرٍ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَزُولُ بِنَقْلِهَا مِنْ مَكَان إلَى مَكَان. وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إذَا حَلَفَ لَا يَجْلِسُ إلَى هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ أَوْ إلَى هَذَا الْحَائِطِ فَهُدِمَا ثُمَّ بُنِيَا بِنَقْضِهِمَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ إذَا هُدِمَ زَالَ الِاسْمُ عَنْهُ وَكَذَا الْأُسْطُوَانَةُ فَبَطَلَتْ الْيَمِينُ وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَكْتُبُ بِهَذَا الْقَلَمِ فَكَسَرَهُ ثُمَّ بَرَاهُ فَكَتَبَ بِهِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَبْرِيِّ لَا يُسَمَّى قَلَمًا وَإِنَّمَا يُسَمَّى أُنْبُوبًا فَإِذَا كُسِرَ فَقَدْ زَالَ الِاسْمُ فَبَطَلَتْ الْيَمِينُ وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ عَلَى مِقَصٍّ فَكَسَرَهُ ثُمَّ جَعَلَهُ مِقَصًّا غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ قَدْ زَالَ بِالْكَسْرِ وَكَذَلِكَ كُلُّ سِكِّينٍ وَسَيْفٍ وَقِدْرٍ كُسِرَ ثُمَّ صُنِعَ مِثْلُهُ، وَلَوْ نَزَعَ مِسْمَارَ الْمِقَصِّ وَلَمْ يَكْسِرْهُ ثُمَّ أَعَادَ فِيهِ مِسْمَارًا آخَرَ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ لَمْ يَزُلْ بِزَوَالِ الْمِسْمَارِ، وَكَذَلِكَ إذَا نَزَعَ نِصَابَ السِّكِّينِ وَجَعَلَ عَلَيْهِ نِصَابًا آخَرَ؛ لِأَنَّ السِّكِّينَ اسْمٌ لِلْحَدِيدِ وَلَوْ حَلَفَ عَلَى قَمِيصٍ لَا يَلْبَسُهُ أَوْ قَبَاءً مَحْشُوًّا أَوْ مُبَطَّنًا أَوْ جُبَّةً مُبَطَّنَةً أَوْ مَحْشُوَّةً أَوْ قَلَنْسُوَةً أَوْ خُفَّيْنِ فَنَقَضَ ذَلِكَ كُلَّهُ ثُمَّ أَعَادَهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ بَقِيَ بَعْدَ النَّقْضِ، يُقَالُ قَمِيصٌ مَنْقُوضٌ وَجُبَّةٌ مَنْقُوضَةٌ وَالْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ عَلَى الْعَيْنِ لَا تَبْطُلُ بِتَغَيُّرِ الصِّفَةِ مَعَ بَقَاءِ اسْمِ الْعَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ هَذَا السَّرْجَ فَفَتَقَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ هَذِهِ السَّفِينَةَ فَنَقَضَهَا ثُمَّ اسْتَأْنَفَ بِذَلِكَ الْخَشَبِ فَرَكِبَهَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهَا لَا تُسَمَّى سَفِينَةً بَعْدَ النَّقْضِ،

وَزَوَالُ الِاسْمِ يُبْطِلُ الْيَمِينَ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى هَذَا الْفِرَاشِ فَفَتَقَهُ وَغَسَلَهُ ثُمَّ حَشَاهُ بِحَشْوٍ وَخَاطَهُ وَنَامَ عَلَيْهِ حَنِثَ؛ لِأَنَّ فَتْقَ الْفِرَاشِ لَا يُزِيلُ الِاسْمَ عَنْهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ شُقَّةَ خَزٍّ بِعَيْنِهَا فَنَقَضَهَا وَغُزِلَتْ وَجُعِلَتْ شُقَّةً أُخْرَى لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهَا إذَا نُقِضَتْ صَارَتْ خُيُوطًا وَزَالَ الِاسْمُ عَنْ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى قَمِيصٍ لَا يَلْبَسُهُ فَقَطَعَهُ جُبَّةً مَحْشُوَّةً فَلَبِسَهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ قَدْ زَالَ فَزَالَتْ الْيَمِينُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَأُ فِي هَذَا الْمُصْحَفِ فَخَلَعَهُ ثُمَّ لَفَّ وَرَقَهُ وَغَرَزَ دَفَّتَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ فِيهِ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْمُصْحَفِ بَاقٍ وَإِنْ فُرِّقَ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى نَعْلٍ لَا يَلْبَسُهَا فَقَطَعَ شِرَاكَهَا وَشَرَّكَهَا بِغَيْرِهِ ثُمَّ لَبِسَهَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ اسْمَ النَّعْلِ يَتَنَاوَلُهَا بَعْدَ قَطْعِ الشِّرَاكِ، وَلَوْ حَلَفَتْ امْرَأَةٌ لَا تَلْبَسُ هَذِهِ الْمِلْحَفَةَ فَخِيطَ جَانِبَاهَا فَجُعِلَتْ دِرْعًا وَجُعِلَ لَهَا جَيْبًا ثُمَّ لَبِسَتْهَا لَمْ تَحْنَثْ لِأَنَّهَا دِرْعٌ وَلَيْسَتْ بِمِلْحَفَةٍ فَإِنْ أُعِيدَتْ مِلْحَفَةً فَلَبِسَتْهَا حَنِثَتْ لِأَنَّهَا عَادَتْ مِلْحَفَةً بِغَيْرِ تَأْلِيفٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ فَهِيَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْمَسْجِدَ فَزِيدَ فِيهِ طَائِفَةٌ فَدَخَلَهَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَقَعَتْ عَلَى بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِهَا، وَلَوْ قَالَ مَسْجِدَ بَنِي فُلَانٍ ثُمَّ زِيدَ فِيهِ فَدَخَلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الَّذِي زِيدَ فِيهِ حَنِثَ، وَكَذَلِكَ الدَّارُ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الْإِضَافَةِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الزِّيَادَةِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فَدَخَلَ مَسْجِدًا أَوْ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ أَوْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ أَوْ حَمَّامًا أَوْ دِهْلِيزًا أَوْ ظُلَّةَ بَابِ دَارٍ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُسَمَّى بَيْتًا عَلَى الْإِطْلَاقِ عُرْفًا وَعَادَةً وَإِنْ سَمَّى اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْكَعْبَةَ بَيْتًا فِي كِتَابِهِ فِي قَوْله تَعَالَى - {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران: 96] وَسَمَّى الْمَسَاجِدَ بُيُوتًا حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَا عَلَى نَفْسِ إطْلَاقِ الِاسْمِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ سَمَكًا لَا يَحْنَثُ وَإِنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَحْمًا فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] لَمَّا لَمْ يُسَمَّ لَحْمًا فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ كَذَا هَذَا، وَقِيلَ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ فِي مِثْلِ الدِّهْلِيزِ فِي دِهْلِيزٍ يَكُونَ خَارِجَ بَابِ الدَّارِ لِأَنَّهُ لَا يُبَاتُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ دَاخِلَ الْبَيْتِ وَتُمْكِنُ فِيهِ الْبَيْتُوتَةُ يَحْنَثْ، وَالصَّحِيحُ مَا أُطْلِقَ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الدِّهْلِيزَ لَا يُبَاتُ فِيهِ عَادَةً سَوَاءٌ كَانَ خَارِجَ الْبَابِ أَوْ دَاخِلَهُ، وَلَوْ دَخَلَ صُفَّةً يَحْنَثُ، كَذَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ،. وَقِيلَ إنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ صِفَافَهُمْ تُغْلَقُ عَلَيْهَا الْأَبْوَابُ فَكَانَتْ بُيُوتًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْتِ وَهُوَ مَا يُبَاتُ فِيهِ عَادَةً وَلِذَا سُمِّيَ ذَلِكَ بَيْتًا عُرْفًا وَعَادَةً. فَأَمَّا عَلَى عَادَةِ أَهْلِ بِلَادِنَا فَلَا يَحْنَثُ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْبَيْتِ وَانْعِدَامِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَالتَّسْمِيَةِ أَيْضًا وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ هَذِهِ الدَّارِ فَدَخَلَهَا مِنْ غَيْرِ الْبَابِ لَمْ يَحْنَثْ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَهُوَ الدُّخُولُ مِنْ الْبَابِ فَإِنْ نَقَبَ لِلدَّارِ بَابًا آخَرُ فَدَخَلَ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الدُّخُولِ مِنْ بَابٍ مَنْسُوبٍ إلَى الدَّارِ وَقَدْ وُجِدَ وَالْبَابُ الْحَادِثُ كَذَلِكَ فَيَحْنَثُ، وَإِنْ عَنَى بِهِ الْبَابَ الْأَوَّلَ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ لَفْظَهُ يَحْتَمِلُهُ وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ حَيْثُ أَرَادَ بِالْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدَ، وَإِنْ عَيَّنَ الْبَابَ فَقَالَ لَا أَدْخُلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَدَخَلَ مِنْ بَابٍ آخَرَ لَا يَحْنَثُ وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلَ دَارًا يَسْكُنُهَا فُلَانً بِمِلْكٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ إعَارَةٍ فَهُوَ سَوَاءٌ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُسْتَأْجِرِ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْنَثُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ دَارَ فُلَانٍ إضَافَةُ مِلْكٍ إذْ الْمِلْكُ فِي الدَّارِ لِلْآجِرِ وَإِنَّمَا الْمُسْتَأْجِرُ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْيَمِينُ. (وَلَنَا) أَنَّ الدَّارَ الْمَسْكُونَةَ بِالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ تُضَافُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ عُرْفًا وَعَادَةً وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «مَرَّ بِحَائِطٍ فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ لِمَنْ هَذَا؟ فَقَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَأْجَرْتُهُ» أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ ثَبَتَتْ الْإِضَافَةُ عُرْفًا وَشَرْعًا،. فَأَمَّا إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا لِفُلَانٍ فَدَخَلَ دَارًا لَهُ قَدْ آجَرَهَا لِغَيْرِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى دَارٍ يَمْلِكُهَا فُلَانٌ وَالْمِلْكُ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ يَسْكُنُهَا أَوْ لَا يَسْكُنُهَا. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهَا تُضَافُ إلَى السَّاكِنِ بِالسُّكْنَى فَسَقَطَ إضَافَةُ الْمِلْكِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ تُضَافَ دَارٌ وَاحِدَةٌ إلَى الْمَالِكِ بِجِهَةِ الْمِلْكِ وَإِلَى السَّاكِنِ بِجِهَةِ السُّكْنَى؛ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ تَذْهَبُ الِاسْتِحَالَةُ، فَإِنْ قَالَ لَا أَدْخُلُ حَانُوتًا لِفُلَانٍ فَدَخَلَ حَانُوتًا لَهُ قَدْ آجَرَهُ فَإِنْ كَانَ فُلَانٌ مِمَّنْ لَهُ حَانُوتٌ يَسْكُنُهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِدُخُولِ هَذَا الْحَانُوتِ؛ لِأَنَّهُ

يُضَافُ إلَى سَاكِنِهِ وَلَا يُضَافُ إلَى مَالِكِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَا يُعْرَفُ بِسُكْنَى حَانُوتٍ يَحْنَثُ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ إضَافَةَ الْمِلْكِ لَا إضَافَةَ السُّكْنَى كَمَا يُقَال حَانُوتُ الْأَمِيرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْكُنُهَا الْأَمِيرُ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلَ دَارًا بَيْنَ فُلَانٍ وَبَيْنَ آخَرَ فَإِنْ كَانَ فُلَانٌ فِيهَا سَاكِنًا حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَاكِنًا لَا يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ سَاكِنًا فِيهَا كَانَتْ مُضَافَةً إلَيْهِ بِالسُّكْنَى وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا مِنْهَا فَإِذَا مَلَكَ نِصْفَهَا أَوْلَى وَإِذَا لَمْ يَسْكُنْ فِيهَا كَانَتْ الْإِضَافَةُ إضَافَةَ الْمِلْكِ وَالْكُلُّ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَزْرَعُ أَرْضًا لِفُلَانٍ فَزَرَعَ أَرْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الْأَرْضِ يُسَمَّى أَرْضًا وَبَعْضَ الدَّارِ لَا يُسَمَّى دَارًا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتَ فُلَانٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَدَخَلَ دَارِهِ وَفُلَانٌ فِيهَا سَاكِنٌ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَدْخُلَ الْبَيْتَ لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ يُبَاتُ فِيهِ عَادَةً وَلَا يُبَاتُ فِي صَحْنِ الدَّارِ عَادَةً فَإِنْ نَوَاهُ يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّهُ تَشَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ رُسْتُمَ: قَالَ مُحَمَّدٌ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ مِثْلَ دَارِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ وَغَيْرِهَا مِنْ الدُّورِ الْمَشْهُورَةِ بِأَرْبَابِهَا فَدَخَلَ الرَّجُلُ وَقَدْ كَانَ بَاعَهَا عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّنْ تُنْسَبُ قَبْلَ الْيَمِينِ إلَيْهِ ثُمَّ دَخَلَهَا الْحَالِفُ بَعْدَ ذَلِكَ حَنِثَ لِأَنَّ الدُّورَ الْمَشْهُورَةَ إنَّمَا تُضَافُ إلَى أَرْبَابِهَا عَلَى طَرِيقِ النِّسْبَةِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْمِلْكِ وَزَوَالُ الْمِلْكَ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِينُ عَلَى دَارٍ مِنْ هَذِهِ الدُّورِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا نِسْبَةٌ تُعْرَفُ بِهَا لَمْ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ الْمِلْكُ لَا النِّسْبَةُ فَإِذَا زَالَ الْمِلْكُ زَالَتْ الْإِضَافَةُ. وَقَالَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الْحُجْرَةَ فَكُسِرَتْ الْحُجْرَةُ فَدَخَلَهَا بَعْدَمَا كُسِرَتْ لَا يَحْنَثُ وَلَيْسَتْ الْحُجْرَةُ كَالدَّارِ لِأَنَّ الْحُجْرَةَ اسْمٌ لِمَا حُجِرَ بِالْبِنَاءِ فَكَانَ كَالْبَيْتِ فَإِذَا انْهَدَمَتْ فَقَدْ زَالَ الِاسْمُ. وَقَالَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَصَعَدَ السَّطْحَ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ سَطْحَ الدَّارِ مِنْهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى صَحْنَ الدَّارِ فَلَا يَحْنَثُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَذْكُرُونَ الدَّارَ وَيُرِيدُونَ بِهِ الصَّحْنَ دُونَ غَيْرِهِ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْمَسْجِدَ فَصَعَدَ فَوْقَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ سَطْحَ الْمَسْجِدِ مِنْ الْمَسْجِدِ أَلَا تَرَى لَوْ انْتَقَلَ الْمُعْتَكِفُ إلَيْهِ لَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ؟ فَإِنْ كَانَ فَوْقَ الْمَسْجِدِ مَسْكَنٌ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَسْجِدٍ وَلَوْ انْتَقَلَ الْمُعْتَكِفُ إلَيْهِ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ إلَّا مُجْتَازًا قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ دَخَلَ وَهُوَ لَا يُرِيدُ الْجُلُوسَ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى كُلِّ دُخُولٍ وَاسْتَثْنَى دُخُولًا بِصِفَةٍ وَهُوَ مَا يُقْصَدُ بِهِ الِاجْتِيَازُ وَقَدْ دَخَلَ عَلَى الصِّفَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ فَإِنْ دَخَلَ يَعُودُ مَرِيضًا وَمِنْ رَأْيِهِ الْجُلُوسُ عِنْدَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ لَا عَلَى الصِّفَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ، فَإِنْ دَخَلَ لَا يُرِيدُ الْجُلُوسَ ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَ مَا دَخَلَ فَجَلَسَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْنَثْ حِينَ دُخُولِهِ لِوُجُودِهِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُسْتَثْنَى وَلَمْ يُوجَدْ الدُّخُولُ بَعْدَ ذَلِكَ إذْ الْمُكْثُ لَيْسَ بِدُخُولٍ فَلَا يَحْنَثُ وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ إلَّا عَابِرَ سَبِيلٍ فَدَخَلَهَا لِيَقْعُدَ فِيهَا أَوْ لِيَعُودَ مَرِيضًا فِيهَا أَوْ لِيَطْعَمَ فِيهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ حِينَ حَلَفَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ وَلَكِنْ إنْ دَخَلَهَا مُجْتَازًا ثُمَّ بَدَا لَهُ فَقَعَدَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ عَابِرَ السَّبِيلِ هُوَ الْمُجْتَازُ فَإِذَا دَخَلَهَا لِغَيْرِ اجْتِيَازٍ حَنِثَ قَالَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ لَا يَدْخُلُهَا يُرِيدُ النُّزُولَ فِيهَا فَإِنْ نَوَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَسَعُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ دَخَلْت عَابِرَ سَبِيلٍ بِمَعْنَى أَنِّي لَمْ أَدُمْ عَلَى الدُّخُولِ وَلَمْ أَسْتَتِرْ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَطَأُ هَذِهِ الدَّارَ بِقَدَمِهِ فَدَخَلَهَا رَاكِبًا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الدُّخُولَ فِي الْعُرْفِ لَا مُبَاشَرَةَ قَدَمِهِ الْأَرْضَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي رِجْلِهِ حِذَاءُ نَعْلٍ يَحْنَثُ؟ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الدُّخُولُ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَدَخَلَهَا رَاكِبًا حَنِثَ لِأَنَّ وَضْعَ الْقَدَمِ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ صَارَ عِبَارَةً عَنْ الدُّخُولِ فَإِنْ كَانَ نَوَى أَنْ لَا يَضَعَ قَدَمَهُ مَاشِيًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَيُصَدَّقُ، وَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَهَا مَاشِيًا وَعَلَيْهِ حِذَاءٌ أَوْ لَا حِذَاءَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَ حَانُوتًا مُشَرَّعًا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَى الطَّرِيقِ وَلَيْسَ لَهُ بَابٌ فِي الدَّارِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَحَاطَتْ بِهِ الدَّائِرَةُ. قَالَ هِشَامٌ: وَسَأَلْت أَبَا يُوسُفَ إنْ دَخَلَ بُسْتَانًا فِي تِلْكَ الدَّارِ قَالَ لَا يَحْنَثْ وَهَذَا مَحْمُولُ عَلَى بُسْتَانٍ مُتَّصِلٍ بِالدَّارِ فَإِنْ كَانَ فِي وَسَطِ الدَّارِ يَحْنَثْ لِإِحَاطَةِ الدَّائِرَةِ بِهِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَحَفَرَ سَرَبًا فَبَلَغَ دَارِهِ وَحَفَرَ تَحْتَ دَارِ فُلَانٍ حَتَّى جَاوَزَهَا فَدَخَلَ الْحَالِفُ ذَلِكَ السَّرَبَ حَتَّى مَضَى فِيهِ تَحْتَ دَارِ فُلَانٍ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ

إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذِهِ الْقَنَاةِ مَكَانٌ مَكْشُوفٌ إلَى الدَّارِ يَسْتَقِي مِنْهُ أَهْلُ الدَّارِ فَدَخَلَ الْحَالِفُ الْقَنَاةَ فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَكْشُوفَ فَيَحْنَثُ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ كَانَ الْمَكْشُوفُ شَيْئًا قَلِيلًا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَهْلُ الدَّارِ وَإِنَّمَا هُوَ لِلضَّوْءِ فَمَرَّ الْحَالِفُ بِالْقَنَاةِ حَتَّى بَلَغَ الْمَوْضِعَ فَلَيْسَ بِحَانِثٍ لِأَنَّ الْقَنَاةَ تَحْتَ الدَّارِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَنْفَذٌ لَا تُعَدُّ مِنْ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ دُخُولِ دَارِهِ إمَّا كَرَامَةٌ وَإِمَّا هَتْكُ حُرْمَةٍ وَذَاكَ لَا يُوجَدُ فِيمَا لَا مَنْفَذَ لَهُ، وَإِذَا كَانَ لَهَا مَنْفَذٌ يُسْتَقَى مِنْهُ الْمَاءُ فَإِنَّهُ يُعَدُّ مِنْ مَرَافِقِ الدَّارِ بِمَنْزِلَتِهِ بِئْرُ الْمَاءِ فَإِذَا بَلَغَ إلَيْهِ كَانَ كَمَنْ دَخَلَ فِي بِئْرِ دَارِهِ، وَإِذَا كَانَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا لِلضَّوْءِ لَا يَكُونُ مِنْ مَرَافِقِ الدَّارِ فَلَا يَصِيرُ بِدُخُولِهِ دَاخِلًا فِي الدَّارِ فَلَا يَحْنَثُ، وَلَوْ دَخَلَ فُلَانٌ سَرَبًا تَحْتَ دَارِهِ وَجَعَلَهُ بُيُوتًا وَجَعَلَ لَهُ أَبْوَابًا إلَى الطَّرِيقِ فَدَخَلَهَا رَجُلٌ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَهُوَ حَانِثٌ؛ لِأَنَّ السَّرَبَ تَحْتَ الدَّارِ مِنْ بُيُوتِ الدَّارِ، وَلَوْ عَمَدَ فُلَانٌ إلَى بَيْتٍ مِنْ دَارِهِ أَوْ بَيْتَيْنِ فَسَدَّ أَبْوَابَهُمَا مِنْ قِبَلِ دَارِهِ وَجَعَلَ أَبْوَابَهَا إلَى دَارِ الْحَالِفِ فَدَخَلَ الْحَالِفُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ أَبْوَابَهُمَا إلَى دَارِ الْحَالِفِ فَقَدْ صَارَتْ مَنْسُوبَةً إلَى الدَّارِ الْأُخْرَى. وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي السَّرَبِ: إذَا كَانَ بَابُهُ إلَى الدَّارِ وَمُحْتَفَرُهُ فِي دَارٍ أُخْرَى إنَّهُ مِنْ الدَّارِ الَّتِي مَدْخَلُهُ إلَيْهَا وَبَابُهُ إلَيْهَا لِأَنَّهُ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِهَا. وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَغْدَادَ فَانْحَدَرَ مِنْ الْمُوصِلِ فِي سَفِينَةٍ فَمَرَّ بِدِجْلَةَ لَا يَحْنَثُ، فَإِنْ خَرَجَ فَمَضَى فَمَشَى عَلَى الْجِسْرِ حَنِثَ، وَإِنْ قَدِمَ إلَى الشَّطِّ وَلَمْ يَخْرُجْ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَمْ يَكُنْ مُقِيمًا إنْ كَانَ أَهْلُهُ بِبَغْدَادَ، وَإِنْ خَرَجَ إلَى الشَّطِّ حَنِثَ. وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا انْحَدَرَ فِي سَفِينَةٍ مِنْ الْمُوصِلِ إلَى الْبَصْرَةِ فَمَرَّ فِي شَطِّ الدِّجْلَةِ فَهُوَ حَانِثٌ فَصَارَتْ الْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةً بَيْنَهُمَا. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الدِّجْلَةَ مِنْ الْبَلَدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ عُقِدَ عَلَيْهَا جِسْرٌ كَانَتْ مِنْ الْبَلَدِ فَكَذَا إذَا حَصَلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي سَفِينَةٍ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَوْضِعَ الدِّجْلَةِ لَيْسَ مَوْضِعَ قَرَارٍ فَلَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِعَقْدِ الْيَمِينِ عَلَى الدُّخُولِ فَلَا تَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَيْهِ. قَالَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَلَمْ تُعْطِنِي ثَوْبَ كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ الدَّارَ ثُمَّ أَعْطَتْهُ الثَّوْبَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَعْطَتْهُ الثَّوْبَ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ دُخُولَهَا الدَّارَ لَا عَلَى صِفَةِ الْإِعْطَاءِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الزَّوْجُ مُعْطًى حَالَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْوَاوَ لِلْحَالِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ كَوْنَهَا رَاكِبَةً حَالَ الدُّخُولِ وَلَا يَعْتَبِرُ الرُّكُوبَ بَعْدَهُ كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ خَرَجْت وَلَمْ تَأْكُلِي أَوْ خَرَجْت وَلَيْسَ عَلَيْك إزَارٌ أَوْ خَرَجْت وَلَمْ تَتَخَمَّرِي لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ لَمْ تُعْطِنِي هَذَا الثَّوْبَ وَدَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا حَتَّى يَجْتَمِعَ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا وَهُوَ أَنْ لَا تُعْطِيَهُ الثَّوْبَ إلَى أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمَا أَوْ يَهْلِكَ الثَّوْبُ وَيُدْخَلَ الدَّارُ فَإِذَا اجْتَمَعَ هَذَانِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ تَرْكَ الْعَطِيَّةِ وَالدُّخُولِ جَمِيعًا شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَدَخَلْت الدَّارَ شَرْطٌ مَعْطُوفٌ عَلَى تَرْكِ الْعَطِيَّةِ وَلَيْسَ بِوَصْفٍ لَهُ؛ فَيَتَعَلَّقُ وُقُوعُ الطَّلَاقُ بِوُجُودِهِمَا ثُمَّ لَا يَتَحَقَّقُ التَّرْكُ إلَّا بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا أَوْ بِهَلَاكِ الثَّوْبِ، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ هَلَكَ الثَّوْبُ وَدُخِلَتْ الدَّارُ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطَانِ فَيَحْنَثُ، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا تَدْخُلِينَ هَذِهِ الدَّارَ وَلَا تُعْطِينِي هَذَا الثَّوْبَ فَأَيَّهمَا فَعَلَتْ حَنِثَ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ النَّفْيِ دَخَلَتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فَيَقْتَضِي انْتِفَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَشْتَرِي بِهَذَا الدِّرْهَمِ غَيْرَ لَحْمٍ فَاشْتَرَى بِنِصْفِهِ لَحْمًا وَبِنِصْفِهِ خُبْزًا يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا وَلَا يَحْنَثُ فِي الْقِيَاسِ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِجَمِيعِ الدِّرْهَمِ غَيْرَ اللَّحْمِ وَمَا اشْتَرَى بِجَمِيعِهِ بَلْ بِبَعْضِهِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ فَلَا يَحْنَثُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعَادَةِ وَعَادَةُ النَّاسِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْحَالِفُ بِجَمِيعِ الدِّرْهَمِ اللَّحْمَ وَلَمْ يَشْتَرِ بِجَمِيعِهِ اللَّحْمَ فَيَحْنَثُ، فَإِنْ كَانَ نَوَى أَنْ لَا يَشْتَرِيَ بِهِ كُلِّهِ غَيْرَ اللَّحْمِ لَمْ يَحْنَثْ، وَيَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى ظَاهِرَ كَلَامِهِ فَيُصَدَّقُ، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَشْتَرِي بِهَذَا الدِّرْهَمِ إلَّا لَحْمًا فَلَا يَحْنَثُ حَتَّى يَشْتَرِيَ بِالدِّرْهَمِ كُلِّهِ غَيْرَ لَحْمٍ وَهَذَا يُؤَيِّدُ وَجْهَ الْقِيَاسِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ إلَّا وَغَيْرَ كِلَاهُمَا مِنْ أَلْفَاظِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِنَّا نَقُولُ: قَضِيَّةُ الْقِيَاسِ هَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَوَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ كُلِّهِ غَيْرَ اللَّحْمِ صُدِّقَ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ هُنَاكَ

لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَلَا عُرْفَ هَهُنَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ فَعَمَدْنَا لِلْقِيَاسِ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَشْتَرِي بِهَذَا الدِّرْهَمِ إلَّا ثَلَاثَةَ أَرْطَالِ لَحْمٍ فَاشْتَرَى بِبَعْضِ الدِّرْهَمِ لَحْمًا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ وَبِبَقِيَّتِهِ غَيْرَ لَحْمٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَاَللَّهِ لَا أَشْتَرِي بِهَذَا الدِّرْهَمِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ شِرَاءٍ بِهَذَا الدِّرْهَمِ ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ شِرَاءً بِصِفَةٍ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ ثَلَاثَةَ أَرْطَالٍ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يُوجَدْ الْمُسْتَثْنَى فَبَقِيَ مَا شَرَاهُ دَاخِلًا فِي الْيَمِينِ فَيَحْنَثُ بِهِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا إذَا قَالَ لِرَجُلَيْنِ: وَاَللَّهِ لَا تَبِيتَانِ إلَّا فِي بَيْتٍ فَبَاتَ أَحَدُهُمَا فِي بَيْتٍ وَالْآخَرُ فِي بَيْتٍ آخَرَ حَنِثَ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ بَيْتُوتَتَهُمَا جَمِيعًا فِي غَيْرِ بَيْتٍ وَاحِدٍ وَقَدْ بَاتَا فِي غَيْرِ بَيْتٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُمَا بَاتَا فِي بَيْتَيْنِ فَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فَهُوَ الْفَرْقُ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ فِي رَجُلٍ قَالَ: إنْ كُنْت ضَرَبْت هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إلَّا فِي دَارِ فُلَانٍ فَعَبْدِي حُرٌّ وَقَدْ ضَرَبَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فِي دَارِ فُلَانٍ وَوَاحِدًا فِي غَيْرِهَا فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ ضَرْبَهُمَا فِي غَيْرِ دَارِ فُلَانٍ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَوْ قَالَ: إنْ لَمْ أَكُنْ ضَرَبْته هَذَيْنِ السَّوْطَيْنِ فِي دَارِ فُلَانٍ فَعَبْدِي حُرٌّ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ أَنْ يَجْتَمِعَ الشَّرْطَانِ فِي دَارِ فُلَانٍ وَلَمْ يَجْتَمِعَا فَيَحْنَثَ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ فَإِنْ قَصَدَهُ بِالدُّخُولِ يَحْنَثْ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ لَا يَحْنَثْ، وَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الْقَصْدُ لِيَكُونَ دَاخِلًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَحْلِفُ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى غَيْرِهِ اسْتِخْفَافًا بِهِ وَتَرْكًا لِإِكْرَامِهِ عَادَةً وَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْقَصْدِ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ خِلَافَ هَذَا فَقَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ بَيْتًا فَدَخَلَ بَيْتًا عَلَى قَوْمٍ وَفِيهِمْ فُلَانٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْحَالِفُ فَإِنَّهُ حَانِثٌ بِدُخُولِهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ الْقَصْدُ لِلدُّخُولِ عَلَى فُلَانٍ لِاسْتِحَالَةِ الْقَصْدِ بِدُونِ الْعِلْمِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ الدُّخُولَ عَلَى فُلَانٍ وَالْعِلْمُ بِشَرْطِ الْحِنْثِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْحِنْثِ كَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا فَكَلَّمَهُ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ زَيْدٌ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ مَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ فِيهِمْ فَدَخَلَ يَنْوِي الدُّخُولَ عَلَى الْقَوْمِ لَا عَلَيْهِ لَا يَحْنَثْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِأَنَّهُ إذَا قَصَدَ غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا عَلَيْهِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ دُخُولُهُ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَمَا فِي اعْتِقَادِهِ لَا يَعْرِفُهُ الْقَاضِي، فَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي مَسْجِدٍ أَوْ ظُلَّةٍ أَوْ سَقِيفَةٍ أَوْ دِهْلِيزِ دَارٍ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى الدُّخُولِ الْمُعْتَادِ وَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي الْبُيُوتِ، فَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي فُسْطَاطٍ أَوْ خَيْمَةٍ أَوْ بَيْتِ شَعْرٍ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ لِأَنَّهُمْ يُسَمُّونَ ذَلِكَ بَيْتًا، وَالتَّعْوِيلُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَ الدَّارَ وَفُلَانٌ فِي بَيْتٍ مِنْ الدَّارِ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ كَانَ فِي صَحْنِ الدَّارِ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا عَلَيْهِ إلَّا إذَا شَاهَدَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ السَّقَّاءَ يَدْخُلُ دَارَ الْأَمِيرِ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْأَمِيرِ، وَفِي الْأَوَّلِ شَاهَدَهُ وَفِي الثَّانِي لَمْ يُشَاهِدْهُ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ هَذِهِ الْقَرْيَةَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا عَلَيْهِ إلَّا إذَا دَخَلَ فِي بَيْتِهِ وَتَخْصِيصُ الْقَرْيَةِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْحِنْثِ بِالدُّخُولِ فِي غَيْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ وَلَمْ يَذْكُرْ بَيْتًا وَلَا غَيْرَهُ فَدَخَلَ فُسْطَاطًا أَوْ دَارًا حَنِثَ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مِنْ عَادَةِ فُلَانٍ أَنْ يُدْخَلَ عَلَيْهِ فِي الْفَسَاطِيطِ وَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ الْكَعْبَةِ أَوْ الْحَمَّامِ لَا يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْيَمِينِ الِامْتِنَاعُ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُكْرَمُ النَّاسُ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ فِيهَا وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْحَمَّامِ وَالْكَعْبَةِ وَالْمَسْجِدِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَوْ دَخَلَ عَلَى فُلَانٍ بَيْتَهُ وَهُوَ يُرِيدُ رَجُلًا غَيْرَهُ يَزُورُهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى فُلَانٍ لَمَّا لَمْ يَقْصِدْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ دَاخِلًا عَلَى كُلِّ مَنْ فِي الدَّارِ فَيَحْنَثُ كَمَنْ حَلَفَ لَا يُسَلِّمُ عَلَى رَجُلٍ فَسَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ وَهُوَ فِيهِمْ وَلَا نِيَّةَ لَهُ. قَالَ بِشْرٌ: سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَخَرَجْت مِنْهَا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَاحْتَمَلَهَا إنْسَانٌ وَهِيَ كَارِهَةٌ فَأَدْخَلَهَا ثُمَّ خَرَجَتْ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهَا ثُمَّ دَخَلَتْهَا وَلَمْ تَخْرُجْ وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ؛ لِأَنَّهَا لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ وَلَا عَادَةَ فِي تَقَدُّمِ أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَيَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِوُجُودِهِمَا مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ، وَكَذَلِكَ الْقِيَامُ وَالْقُعُودُ وَالسُّكُوتُ وَالْكَلَامُ وَالصَّوْمُ وَالْإِفْطَارُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَهُرَتْ مِنْ هَذَا الْحَيْضِ ثُمَّ حَاضَتْ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ حَتَّى تَطْهُرَ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حَتَّى يَتَقَدَّمَ الْحَيْضُ الطُّهْرَ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهَا إذَا حَبِلْتِ وَوَلَدْتِ وَهِيَ حُبْلَى، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إذَا زَرَعْت

فصل في الحلف على الخروج من إقامته

وَحَصَدْت لَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ الزَّرْعِ الْحَصَادَ، وَالْحَمْلِ الْوِلَادَةَ، وَالْحَيْضِ الطُّهْرَ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ يَتَعَقَّبُ الْآخَرَ عَادَةً فَلَزِمَ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ بِالْعَادَةِ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ تَزَوَّجْتُك وَطَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَتَقَ عَبْدُهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ التَّزَوُّجَ لِلْحَالِ لِكَوْنِهَا زَوْجَةً لَهُ وَتَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فَيُرَاعَى فِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَا التَّرْتِيبِ، وَمَتَى طَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ الشَّرْطُ. [فَصْلٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ إقَامَتِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى الْخُرُوجِ فَالْخُرُوجُ هُوَ الِانْفِصَالُ مِنْ الْحِصْنِ إلَى الْعَوْرَةِ عَلَى مُضَادَّةِ الدُّخُولِ، فَلَا يَكُونُ الْمُكْثُ بَعْدَ الْخُرُوجِ خُرُوجًا كَمَا لَا يَكُونُ الْمُكْثُ بَعْدَ الدُّخُولِ دُخُولًا لِانْعِدَامِ حَدِّهِ وَحَقِيقَتِهِ، ثُمَّ الْخُرُوجُ كَمَا يَكُونُ مِنْ الْبُلْدَانِ وَالدُّورِ وَالْمَنَازِلِ وَالْبُيُوتِ يَكُونُ مِنْ الْأَخْبِيَةِ وَالْفَسَاطِيطِ وَالْخِيَمِ وَالسُّفُنِ لِوُجُودِ حَدِّهِ كَالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الدُّورِ الْمَسْكُونَةِ أَنْ يَخْرُجَ الْحَالِفُ بِنَفْسِهِ وَمَتَاعِهِ وَعِيَالِهِ، كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ، وَالْخُرُوجُ مِنْ الْبُلْدَانِ وَالْقُرَى أَنْ يَخْرُجَ الْحَالِفُ بِبَدَنِهِ خَاصَّةً وَهَذَا يَشْهَدُ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ فِي بَلَدٍ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ دُونَ عِيَالِهِ لَا يَحْنَثُ، وَالتَّعْوِيلُ فِي هَذَا عَلَى الْعُرْفِ، فَإِنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ الدَّارِ وَأَهْلُهُ وَمَتَاعُهُ فِيهَا لَا يُعَدُّ خَارِجًا مِنْ الدَّارِ. وَيُقَالُ: لَمْ يَخْرُجْ فُلَانٌ مِنْ الدَّارِ إذَا كَانَ أَهْلُهُ وَمَتَاعُهُ فِيهَا، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ الْبَلَدِ يُعَدُّ خَارِجًا مِنْ الدَّارِ وَإِنْ كَانَ أَهْلُهُ وَمَتَاعُهُ فِيهِ. وَقَالَ هِشَامٌ سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ قَالَ: إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَخْرُجُ وَهُوَ فِي بَيْتٍ مِنْ الدَّارِ فَخَرَجَ إلَى صَحْنِ الدَّارِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الدَّارَ وَالْبَيْتَ فِي حُكْمِ بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْحَلِفُ عَلَى الْخُرُوجِ الْمُطْلَقِ يَقْتَضِي الْخُرُوجَ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ الْبَيْتِ فَإِذَا خَرَجَ إلَى صَحْنِ الدَّارِ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَهُوَ الِانْفِصَالُ مِنْ دَاخِلٍ إلَى خَارِجٍ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ قَالَ: نَوَيْت الْخُرُوجَ إلَى مَكَّةَ أَوْ خُرُوجًا مِنْ الْبَلَدِ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ الْمَكَانِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ، وَغَيْرُ الْمَذْكُورِ لَا يَحْتَمِلُ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ: لَوْ قَالَ إنْ خَرَجْت فَعَبْدِي حُرٌّ. وَقَالَ عَنَيْت بِهِ السَّفَرَ إلَى بَغْدَادَ دُونَ مَا سِوَاهَا لَمْ يُدَيَّنْ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا قُلْنَا. وَقَالَ هِشَامٌ: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الرَّيِّ إلَى الْكُوفَةِ فَخَرَجَ مِنْ الرَّيِّ يُرِيدُ مَكَّةَ وَطَرِيقُهُ عَلَى الْكُوفَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ إنْ كَانَ حِينَ خَرَجَ مِنْ الرَّيِّ نَوَى أَنْ يَمُرَّ بِالْكُوفَةِ فَهُوَ حَانِثٌ وَإِنْ كَانَ حِينَ خَرَجَ مِنْ الرَّيِّ نَوَى أَنْ لَا يَمُرَّ بِهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَمَا خَرَجَ وَصَارَ مِنْ الرَّيِّ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ أَنْ يَمُرَّ بِالْكُوفَةِ فَمَرَّ بِهَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ تُعْتَبَرُ حِينَ الْخُرُوجِ، وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وُجِدَتْ نِيَّةُ الْخُرُوجِ إلَى الْكُوفَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى أَنْ يَخْرُجَ إلَى مَكَّةَ وَيَمُرَّ فَقَدْ نَوَى الْخُرُوجَ إلَى الْكُوفَةِ وَإِلَى غَيْرِهَا فَيَحْنَثُ، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي لَمْ تُوجَدْ النِّيَّةُ وَقْتَ الْخُرُوجِ فَلَا يَحْنَثُ، وَإِنْ كَانَ نِيَّتُهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَى الْكُوفَةِ خَاصَّةً لَيْسَتْ إلَى غَيْرِهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ الْحَجُّ فَخَرَجَ وَنَوَى أَنْ يَمُرَّ بِالْكُوفَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا لَا يَحْنَثُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ مَا فِي لَفْظِهِ. وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَّا إلَى الْمَسْجِدِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَخَرَجَتْ تُرِيدُ الْمَسْجِدَ ثُمَّ بَدَا لَهَا فَذَهَبَتْ إلَى غَيْرِ الْمَسْجِدِ لَمْ تَطْلُقْ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْخُرُوجَ إلَى الْمَسْجِدِ مُسْتَثْنًى مِنْ الْيَمِينِ وَلَمَّا خَرَجَتْ تُرِيدُ الْمَسْجِدَ فَقَدْ تَحَقَّقَ الْخُرُوجُ إلَى الْمَسْجِدِ فَوُجِدَ الْخُرُوجُ الْمُسْتَثْنَى فَبَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ قَصَدَتْ غَيْرَ الْمَسْجِدِ لَكِنْ لَا يُوجَدُ الْخُرُوجُ بَلْ الْمُكْثُ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِخُرُوجٍ لِعَدَمِ حَدِّهِ فَلَا يَحْنَثُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَسَدٍ: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَيَخْرُجَنَّ مِنْ الْبَلْدَةِ مَا الْخُرُوجُ؟ قَالَ إذَا جَعَلَ الْبُيُوتَ خَلْفَ ظَهْرِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ حَصَلَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ إلَّا بِالْخُرُوجِ مِنْ الْبَلَدِ فَعُلِمَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْبَلَدِ. قَالَ عُمَرُ: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ خَرَجْت فِي غَيْرِ حَقٍّ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَخَرَجَتْ فِي جِنَازَةِ وَالِدِهَا أَوْ أَخٍ لَا تَطْلُقُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَكَذَلِكَ خُرُوجُهَا إلَى الْعُرْسِ أَوْ خُرُوجُهَا فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يُرَادُ بِهِ الْوَاجِبُ عَادَةً وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْمُبَاحُ الَّذِي لَا مَأْثَمَ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ خَرَجْتِ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَخَرَجَتْ مِنْهَا مِنْ الْبَابِ أَيَّ بَابٍ كَانَ وَمِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ فَوْقِ حَائِطٍ أَوْ سَطْحٍ أَوْ نَقْبٍ حَنِثَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ الدَّارِ، وَلَوْ قَالَ إنْ خَرَجْت مِنْ بَابِ هَذِهِ الدَّارِ فَخَرَجَتْ مِنْ أَيِّ بَابٍ كَانَ مِنْ

الْبَابِ الْقَدِيمِ أَوْ الْحَادِثِ بَعْدَ الْيَمِينِ حَنِثَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ بَابِ الدَّارِ، وَلَا يَحْنَثُ بِالْخُرُوجِ مِنْ السَّطْحِ أَوْ فَوْقِ الْحَائِطِ أَوْ النَّقْبِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ، وَلَوْ عَيَّنَ بَابًا فِي الْيَمِينِ يَتَعَيَّنُ، وَلَا يَحْنَثُ بِالْخُرُوجِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ مُقَيِّدٌ فِي الْجُمْلَةِ فَيُعْتَبَرُ، وَلَوْ قَالَ إنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَّا فِي أَمْرِ كَذَا فَهَذَا، وَقَوْلُهُ إلَّا بِإِذْنِي وَاحِدٌ، وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ قَالَ إنْ خَرَجْتِ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مَعَ فُلَانٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَخَرَجَتْ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ فُلَانٍ آخَرَ ثُمَّ خَرَجَ فُلَانٌ وَلَحِقَهَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلْقِرَانِ فَيَقْتَضِي مُقَارَنَتَهَا فِي الْخُرُوجِ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ الْمُكْثَ بَعْدَ الْخُرُوجِ لَيْسَ بِخُرُوجٍ لِانْعِدَامِ حَدِّهِ، وَلَوْ قَالَ إنْ خَرَجْتِ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَصَعِدَتْ الصَّحْرَاءَ إلَى بَيْتِ عُلُوٍّ أَوْ كَنِيفٍ شَارِعٍ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي الْعُرْفِ لَا يُسَمَّى خُرُوجًا مِنْ الدَّارِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَخَرَجَ مِنْهَا مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا أَوْ أَخْرَجَهُ رَجُلٌ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أَوْ أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الدُّخُولِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إلَى مَكَّةَ فَخَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ يُرِيدُ مَكَّةَ حَنِثَ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ مِنْ بَيْتِهِ هُوَ انْفِصَالٌ مِنْ دَاخِلِ بَلَدِهِ إلَى خَارِجِهِ عَلَى نِيَّةِ الْحَجِّ وَقَدْ وُجِدَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ خُرُوجِهِ مِنْ بَلَدِهِ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ بُيُوتَ بَلَدِهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ، وَلَوْ قَالَ لَا آتِي مَكَّةَ فَخَرَجَ إلَيْهَا لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَدْخُلْهَا؛ لِأَنَّ إتْيَانَ الشَّيْءِ هُوَ الْوُصُولُ إلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: لَا يَذْهَبُ إلَى مَكَّةَ فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَالْخُرُوجُ سَوَاءٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَالْإِتْيَانُ سَوَاءٌ،. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَّا بِإِذْنِي أَوْ بِأَمْرِي أَوْ بِرِضَائِي أَوْ بِعِلْمِي أَوْ قَالَ: إنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الدَّارِ بِغَيْرِ إذْنِي أَوْ أَمْرِي أَوْ رِضَائِي أَوْ عِلْمِي فَهُوَ عَلَى كُلِّ مَرَّةٍ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَهَهُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: إحْدَاهَا: هَذِهِ، وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الدَّارِ حَتَّى آذَنَ لَك أَوْ آمُرَ أَوْ أَرْضَى أَوْ أَعْلَمَ وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَّا أَنْ آذَنَ لَك أَوْ آمُرَ أَوْ أَعْلَمَ أَوْ أَرْضَى أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى الْإِذْنِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى لَوْ أَذِنَ لَهَا مَرَّةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ عَادَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنٍ حَنِثَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَذِنَ لَهَا مَرَّةً فَقَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ نَهَاهَا عَنْ الْخُرُوجِ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ يَحْنَثُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَعَلَ كُلَّ خُرُوجٍ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَاسْتَثْنَى خُرُوجًا مَوْصُوفًا بِكَوْنِهِ مُلْتَصِقًا بِالْإِذْنِ لِأَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي حَرْفُ إلْصَاقٍ هَكَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ. وَلَا بُدَّ مِنْ شَيْئَيْنِ يَلْتَصِقَانِ بِآلَةِ الْإِلْصَاقِ كَمَا فِي قَوْلِك كَتَبْت بِالْقَلَمِ وَضَرَبْت بِالسَّيْفِ الْتَصَقَ الضَّرْبُ بِالسَّيْفِ وَالْكِتَابَةُ بِالْقَلَمِ وَلَيْسَ هَهُنَا شَيْءٌ مُظْهَرٌ يَلْتَصِقُ بِهِ الْإِذْنُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُضْمَرَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: " بِسْمِ اللَّهِ " إنَّهُ يُضْمَرُ فِيهِ أَبْتَدِئُ، وَفِي بَابِ الْحَلِفِ قَوْلُهُ: " بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا " أَنَّهُ يُضْمِرُ فِيهِ أُقْسِمُ لِتَكُونَ الْبَاءُ مُلْصِقَةً لِلِاسْمِ بِقَوْلِهِ أَبْتَدِئُ، وَاسْمِ اللَّهِ فِي بَابِ الْحَلِفِ بِقَوْلِهِ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ، وَلَا بُدَّ لِكُلِّ مُضْمَرٍ مِنْ دَلِيلٍ عَلَيْهِ، إمَّا حَالٌ وَإِمَّا لَفْظٌ مَذْكُورٌ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى مَا خَفِيَ غَيْرُ مُمْكِنٍ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْحَالِ وَلَا حَالَ هُنَا يَدُلُّ عَلَى إضْمَارِ شَيْءٍ فَأَضْمَرْنَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: " إنْ خَرَجْت " وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا الْخُرُوجَ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إنْ خَرَجَ فُلَانٌ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ خُرُوجًا إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي، وَالْمَصْدَرُ الْأَوَّلُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ فَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الثَّانِي مِنْهُ لِأَنَّهُ بَعْضُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَهُوَ خُرُوجٌ مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ الِالْتِصَاقِ بِالْإِذْنِ فَقَدْ نَفَى كُلَّ خُرُوجٍ وَاسْتَثْنَى خُرُوجًا مَوْصُوفًا بِكَوْنِهِ مُلْتَصِقًا بِالْإِذْنِ فَبَقِيَ كُلُّ خُرُوجٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهُوَ الْخُرُوجُ الْعَامُّ الَّذِي هُوَ شَرْطُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَإِذَا وُجِدَ خُرُوجٌ اتَّصَلَ بِهِ الْإِذْنُ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَإِذَا وُجِدَ خُرُوجٌ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِهِ الْإِذْنِ كَانَ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، كَمَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَّا بِمِلْحَفَةٍ إنَّ كُلَّ خُرُوجٍ يُوصَفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِمِلْحَفَةٍ يَكُونُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْيَمِينِ فَلَا يَحْنَثُ بِهِ، وَكُلَّ خُرُوجٍ لَا يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَبْقَى تَحْتَ عُمُومِ اسْمِ الْخُرُوجِ فَيَحْنَثُ بِهِ كَذَا هَذَا، فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي مَرَّةً وَاحِدَةً يُدَيَّنْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَفِي الْقَضَاءِ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي تَكْرَارَ الْإِذْنِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لِمَا بَيَّنَّا (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ تَكْرَارَ الْإِذْنِ مَا ثَبَتَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِإِضْمَارِ الْخُرُوجِ فَإِذَا نَوَى مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ نَوَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ كَلَامِهِ

فَيُصَدَّقُ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي لَوْ أَرَادَ الْخُرُوجَ لَا يَحْنَثُ، وَتَقْدِرُ الْمَرْأَةُ عَلَى الْخُرُوجِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ، فَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لَهَا: أَذِنْت لَك أَبَدًا أَوْ أَذِنْت لَك الدَّهْرَ كُلَّهُ أَوْ كُلَّمَا شِئْت الْخُرُوجَ فَقَدْ أَذِنْت لَك، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا أَذِنْت لَك عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَدَخَلَتْ مِرَارًا فِي الْعَشَرَةِ لَا يَحْنَثُ، فَلَوْ أَنَّهُ أَذِنَ لَهَا إذْنًا عَامًّا ثُمَّ نَهَاهَا عَنْ الْخُرُوجِ هَلْ يَعْمَلُ نَهْيُهُ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْمَلُ نَهْيُهُ وَيَبْطُلُ إذْنُهُ حَتَّى إنَّهَا لَوْ خَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِهِ يَحْنَثُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَعْمَلُ فِيهِ نَهْيُهُ وَرُجُوعُهُ عَنْ الْإِذْنِ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهَا مَرَّةً ثُمَّ نَهَاهَا صَحَّ نَهْيُهُ حَتَّى لَوْ خَرَجَتْ بَعْدَ النَّهْيِ يَحْنَثُ فَكَذَا إذَا أَذِنَ لَهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَجَبَ أَنْ يَعْمَلَ نَهْيُهُ وَيَرْتَفِعَ الْإِذْنُ بِالنَّهْيِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِذْنَ الْمَوْجُودَ عَلَى طَرِيقِ الْعُمُومِ فِي الْخَرْجَاتِ كُلِّهَا مِمَّا يُبْطِلُ الشَّرْطَ لِأَنَّ شَرْطَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الْخُرُوجُ الَّذِي لَيْسَ بِمَوْصُوفٍ بِكَوْنِهِ مُلْتَصِقًا بِالْإِذْنِ وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ الْإِذْنِ الْعَامِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ خُرُوجٍ يُوجَدُ بَعْدَهُ لَا يُوجَدُ إلَّا مُلْتَصِقًا بِالْإِذْنِ فَخَرَجَ الشَّرْطُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ وَلَا بَقَاءَ لِلْيَمِينِ بِدُونِ الشَّرْطِ كَمَا لَا بَقَاءَ لَهَا بِدُونِ الْجَزَاءِ لِأَنَّهَا تَتَرَكَّبُ مِنْ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَلَمْ يَبْقَ الْيَمِينُ فَوُجِدَ النَّهْيُ الْعَامُّ وَلَا يَمِينَ فَلَمْ يَعْمَلْ، بِخِلَافِ الْإِذْنِ الْخَاصِّ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ النَّهْيِ عَنْهَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ بِالْإِذْنِ بِالْخُرُوجِ مَرَّةً لَمْ تَرْتَفِعْ الْيَمِينُ فَجَاءَ النَّهْيُ وَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ فَصَحَّ النَّهْيُ وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَجَوَابُهَا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْإِذْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً حَتَّى لَوْ أَذِنَ لَهَا مَرَّةً فَخَرَجَتْ ثُمَّ عَادَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنٍ لَا يَحْنَثُ. وَكَذَا إذَا أَذِنَ لَهَا مَرَّةً ثُمَّ نَهَاهَا قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ حَتَّى كَلِمَةُ غَايَةٍ وَهِيَ بِمَعْنَى إلَى، وَكَلِمَةُ إلَى كَلِمَةُ انْتِهَاءِ الْغَايَةِ فَكَذَا كَلِمَةُ حَتَّى. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ حَتَّى آذَنَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إلَى أَنْ آذَنَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ حَتَّى أَنْ آذَنَ، وَكَلِمَةُ أَنْ مُضْمِرَةٌ؛ لِأَنَّ حَتَّى لَمَّا كَانَتْ مِنْ عَوَامِلِ الْأَسْمَاءِ وَمَا كَانَ مِنْ عَوَامِلِ الْأَسْمَاءِ لَا يَدْخُلُ الْأَفْعَالَ أَلْبَتَّةَ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إضْمَارِ أَنْ لِتَصِيرَ هِيَ بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ صِلَتُهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ، تَقُولُ أُحِبُّ أَنْ تَقُومَ أَيْ أُحِبُّ قِيَامَك، فَيَكُونُ قَوْلُهُ حَتَّى آذَنَ أَيْ حَتَّى إذْنِي وَهُوَ قَوْلُهُ إلَى إذْنِي وَلِهَذَا أَدْخَلُوا كَلِمَةَ أَنْ بَعْدَ إلَى فَقَالُوا: إلَى أَنْ آذَنَ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ اعْتَادُوا الْإِظْهَارَ مَعَ إلَى وَهَهُنَا مَعَ حَتَّى اعْتَادُوا الْإِضْمَارَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ وُجُودُ الْإِذْنِ مِنْهُ غَايَةً لِحَظْرِ الْخُرُوجِ، وَالْمَضْرُوبُ لَهُ الْغَايَةُ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُود الْغَايَةِ فَيَنْتَهِي حَظْرُ الْخُرُوجِ وَمَنْعُهُ بِالْيَمِينِ عِنْدَ وُجُودِ الْإِذْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ حَتَّى آذَنَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَيَجْعَلُ حَتَّى مَجَازًا عَنْ إلَى لِوُجُودِ مَعْنَى الِانْتِهَاءِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ فَيُصَدَّقُ. (وَأَمَّا) الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فَلَا يَجُوزُ فِيهَا فَالْجَوَابُ فِي قَوْلِهِ حَتَّى آذَنَ فِي قَوْلِ الْعَامَّةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْجَوَابُ فِيهَا كَالْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كَلِمَةَ إلَّا اسْتِثْنَاءٌ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَلَيْهَا وَتَأْخِيرِ الْمُسْتَثْنَى عَنْهَا، وَإِنْ مَعَ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ عَلَى مَا مَرَّ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: " إنْ خَرَجْت مِنْ الدَّارِ إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي " وَهَذَا لَيْسَ بِكَلَامٍ مُسْتَقِيمٍ فَلَا بُدَّ مِنْ إدْرَاجٍ حَتَّى يَصِحَّ الْكَلَامُ فَنُدْرِجُ الْبَاءَ وَيُجْعَلُ مَعْنَاهُ إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي، وَإِسْقَاطُ الْبَاءِ فِي اللَّفْظِ مَعَ ثُبُوتِهَا فِي التَّقْدِيرِ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ كَمَا رُوِيَ عَنْ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَقَالَ خَيْرٍ عَافَاك اللَّهُ أَيْ بِخَيْرِ. وَكَذَا يَحْذِفُونَ الْبَاءَ فِي الْقَسَمِ فَيَقُولُونَ: اللَّهِ مَكَانَ قَوْلِهِمْ بِاَللَّهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْخَفْضِ وَالنَّصْبِ وَإِذَا كَانَ هَذَا جَائِزًا أُدْرِجَتْ لِضِرْوَةِ تَصْحِيحِ الْكَلَامِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53] أَيْ إلَّا بِإِذْنٍ لَكُمْ حَتَّى كَانَ مُحْتَاجًا إلَى الْإِذْنِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَنَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بِنَفْسِهِ صَحِيحًا لَمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِتَصْحِيحِهِ، وَلَكِنَّ تَصْحِيحَهُ عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَأَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ أَيْضًا بِجَعْلِهِ إلَّا بِمَعْنَى حَتَّى وَإِلَى لِأَنَّ كَلِمَةَ إلَّا كَلِمَةُ اسْتِثْنَاءٍ وَمَا وَرَاءَ كَلِمَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يَنْتَهِي عِنْدَ كَلِمَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَعِنْدَ وُجُودِ الْمُسْتَثْنَى، فَصَارَتْ كَلِمَةُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لِلْغَايَةِ، فَأُقِيمَ مَقَامَ الْغَايَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَى إذْنِي أَوْ حَتَّى إذْنِي، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ الْفَرَّاءُ لِأَنَّ تَصْحِيحَ الْكَلَامِ بِجَعْلِ كَلِمَةٍ قَائِمَةً مَقَامَ أُخْرَى أَوْلَى مِنْ التَّصْحِيحِ بِطَرِيقِ الْإِضْمَارِ؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْكَلِمَةِ قَائِمَةً مَقَامَ أُخْرَى وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرْبُ تَغْيِيرٍ لَكِنَّ التَّغْيِيرَ تَصَرُّفٌ فِي الْوَصْفِ. وَالْإِضْمَارُ إثْبَاتُ أَصْلِ الْكَلَامِ، وَالتَّصَرُّفُ فِي الْوَصْفِ بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ أَوْلَى

مِنْ إثْبَاتِ الْأَصْلِ بِلَا شَكٍّ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى عَلَى أَنَّ فِيمَا قَالَهُ إضْمَارُ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْبَاءُ، وَالْآخَرُ: الْجَالِبُ لِلْبَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ إلَّا خُرُوجًا وَلَيْسَ فِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ إدْرَاجُ شَيْءٍ بَلْ إقَامَةُ مَا فِيهِ مَعْنَى الْغَايَةِ مَقَامَ الْغَايَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَدْوَنُ فَكَانَ التَّصْحِيحُ بِهِ أَوْلَى، وَلِهَذَا كَانَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 110] أَيْ إلَى أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ أَيْ إلَى وَقْتِ تَقَطُّعِ قُلُوبِهِمْ وَهُوَ حَالَةُ الْمَوْتِ وَفِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53] إنَّمَا اُحْتِيجَ إلَى الْإِذْنِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لَا بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ بَلْ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ دُخُولَ دَارِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ حَرَامٌ أَلَا يُرَى أَنَّهُ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي آخِرِ قَوْله تَعَالَى - {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب: 53] وَمَعْنَى الْأَذَى مَوْجُودٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ فَشَرَطَ الْإِذْنَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ، فَإِنْ قَالَ إلَّا بِإِذْنِ فُلَانٍ فَمَاتَ الْمَحْلُوفُ عَلَى إذْنِهِ بَطَلَتْ الْيَمِينُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هِيَ عَلَى حَالِهَا، وَهَذَا فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ وَلَيْسَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ فِي قَوْلِ: أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَنْعَقِدُ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ تَصَوُّرَ وُجُودِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْيَمِينِ، وَبَقَاؤُهُ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ حَقِيقَةً شَرْطُ بَقَاءِ الْيَمِينِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِنْ أَذِنَ لَهَا بِالْخُرُوجِ مِنْ حَيْثُ لَا تَسْمَعُ فَخَرَجَتْ بِغَيْرِ الْإِذْنِ يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِذْنَ يَتَعَلَّقُ بِالْإِذْنِ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُهُ وَقَدْ وُجِدَ فَأَمَّا السَّمَاعُ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَأْذُونِ فَلَا يُعْتَبَرُ لِوُجُودِ الْإِذْنِ كَمَا لَوْ وَقَعَ الْإِذْنُ بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ تَسْمَعَ وَهِيَ نَائِمَةٌ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُهُ؛ وَلِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ خُرُوجٌ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ مُطْلَقًا، وَهَذَا مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ لِوُجُودِ كَلَامِ الْإِذْنِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِذْنِ أَنْ لَا تَخْرُجَ وَهُوَ كَارِهٌ وَقَدْ زَالَتْ الْكَرَاهَةُ بِقَوْلِهِ: أَذِنْتُ وَإِنْ لَمْ تَسْمَعْ وَلَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ إعْلَامٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] أَيْ إعْلَامٌ وَقَوْلُهُ: أَذِنْتُ لَكِ بِحَيْثُ لَا تَسْمَعُ لَا يَكُونُ إعْلَامًا فَلَا يَكُونُ إذْنًا فَلَمْ يُوجَدْ خُرُوجٌ مَأْذُونٌ فِيهِ فَلَمْ يُوجَدْ الْخُرُوجُ الْمُسْتَثْنَى فَيَحْنَثُ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ اشْتَمَلَتْ عَلَى الْحَظْرِ وَالْإِطْلَاقِ فَإِنَّ قَوْلَهُ إنْ خَرَجْتِ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ يَجْرِي مَجْرَى الْحَظْرِ وَالْمَنْعِ، وَقَوْلَهُ إلَّا بِإِذْنِي يَجْرِي مَجْرَى الْإِطْلَاقِ، وَحُكْمُ الْحَظْرِ وَالْإِطْلَاقِ مِنْ الشَّارِعِ، وَالشَّرَائِعُ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْبُلُوغِ، كَذَا مِنْ الْحَالِفِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93] إنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ شَرِبُوا الْخَمْرَ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِهِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَصِيرُ وَكِيلًا قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْوَكَالَةِ حَتَّى يَقِفَ تَصَرُّفُهُ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، وَالتَّوْكِيلُ إذْنٌ وَإِطْلَاقٌ، وَلَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ إعْلَامٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] أَيْ إعْلَامٌ وَقَوْلُهُ: أَذِنْتُ لَكِ بِحَيْثُ لَا تَسْمَعُ لَا يَكُونُ إعْلَامًا فَلَا يَكُونُ إذْنًا فَلَمْ يُوجَدْ خُرُوجٌ مَأْذُونٌ فِيهِ فَلَمْ يُوجَدْ الْخُرُوجُ الْمُسْتَثْنَى فَيَحْنَثُ، وَلِأَنَّ الْخُرُوجَ مَذْكُورٌ فِي مَحَلِّ النَّفْيِ فَيَعُمُّ كُلَّ خُرُوجٍ إلَّا الْخُرُوجَ الْمُسْتَثْنَى وَهُوَ الْخُرُوجُ الْمَأْذُونُ فِيهِ مُطْلَقًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا خُرُوجًا مُسْتَثْنًى فَبَقِيَ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ الْخُرُوجِ فَيَحْنَثُ بِخِلَافِ مَا إذَا مَا كَانَتْ نَائِمَةً فَأَذِنَ لَهَا بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ تَسْمَعَ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُعَدُّ سَمَاعًا عُرْفًا وَعَادَةً، كَمَا إذَا أَذِنَ لَهَا وَهِيَ تَسْمَعُ إلَّا أَنَّهَا غَافِلَةٌ، وَمَسْأَلَتُنَا مَفْرُوضَةٌ فِيمَا إذَا أَذِنَ لَهَا مِنْ حَيْثُ لَا تَسْمَعُ عَادَةً وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعَدُّ سَمَاعًا فِي الْعُرْفِ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ،. وَقِيلَ إنَّ النَّائِمَ يَسْمَعُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِوُصُولِ الصَّوْتِ إلَى صِمَاخِ أُذُنِهِ وَالنَّوْمُ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ فَهْمِ الْمَسْمُوعِ فَصَارَ كَمَا لَوْ كَلَّمَهُ وَهُوَ يَقْظَانُ لَكِنَّهُ غَافِلٌ وَحَكَى ابْنُ شُجَاعٍ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ قَدْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْإِذْنِ وَقَدْ أَذِنَ. قَالَ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الْأَمْرِ. وَرَوَى نَصْرُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِي مُطِيعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، إلَّا أَنَّ أَبَا سُلَيْمَانَ حَكَى الْخِلَافَ فِي الْإِذْنِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ خَرَجْتَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَّا بِإِذْنِي فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ: لَهُ أَطِعْ فُلَانًا فِي جَمِيعِ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ فَأَمَرَهُ فُلَانٌ بِالْخُرُوجِ فَخَرَجَ فَالْمَوْلَى حَانِثٌ لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ وَهُوَ الْخُرُوجُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالْخُرُوجِ وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِطَاعَةِ فُلَانٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمَوْلَى لِرَجُلٍ: ائْذَنْ لَهُ فِي الْخُرُوجِ فَأَذِنَ لَهُ الرَّجُلُ فَخَرَجَ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالْخُرُوجِ وَإِنَّمَا أَمَرَ فُلَانًا بِالْإِذْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: قُلْ: يَا فُلَانُ مَوْلَاك قَدْ أَذِنَ لَك فِي

الْخُرُوجِ فَقَالَ لَهُ فَخَرَجَ، فَإِنَّ الْمَوْلَى حَانِثٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَإِنَّمَا أَمَرَ فُلَانًا بِالْإِذْنِ، وَلَوْ قَالَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ بَعْدَ يَمِينِهِ: مَا أَمَرَك بِهِ فُلَانٌ فَقَدْ أَمَرْتُكَ بِهِ فَأَمَرَهُ الرَّجُلُ بِالْخُرُوجِ فَخَرَجَ، فَالْمَوْلَى حَانِثٌ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمَوْلَى مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ إلَّا بِرِضَاهُ، فَإِذَا قَالَ: مَا أَمَرَك بِهِ فُلَانٌ فَقَدْ أَمَرْتُكَ بِهِ فَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ فُلَانًا يَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ، وَالرِّضَا بِالشَّيْءِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ لَا يُتَصَوَّرُ، فَلَمْ يُعْلَمْ كَوْنُ هَذَا الْخُرُوجِ مَرْضِيًّا بِهِ، فَلَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ مُسْتَثْنًى فَبَقِيَ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَلَوْ قَالَ الْمَوْلَى لِلرَّجُلِ: قَدْ أَذِنْتُ لَهُ فِي الْخُرُوجِ فَأَخْبَرَ الرَّجُلُ بِهِ الْعَبْدَ لَمْ يَحْنَثْ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْإِذْنَ مِنْ الْمَوْلَى قَدْ وُجِدَ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ الْعَبْدَ، فَإِذَا أَخْبَرَهُ بِهِ فَقَدْ بَلَغَهُ فَلَا يَحْنَثُ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ خَرَجْتِ إلَّا بِإِذْنِي ثُمَّ قَالَ لَهَا إنْ بِعْتِ خَادِمَكِ فَقَدْ أَذِنْتُ لَك لَمْ يَكُنْ مِنْهُ هَذَا إذْنًا؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَرَةٌ يَجُوزُ أَنْ تَبِيعَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَبِيعَ فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ رِضًا. وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا قَالَ لَهَا إنْ خَرَجْتِ إلَّا بِأَمْرِي فَالْأَمْرُ عَلَى أَنْ يَأْمُرَهَا وَيُسْمِعَهَا أَوْ يُرْسِلَ بِذَلِكَ رَسُولَهُ إلَيْهَا، فَإِنْ أَشْهَدَ قَوْمًا أَنَّهُ قَدْ أَمَرَهَا ثُمَّ خَرَجَتْ فَهُوَ حَانِثٌ، فَقَدْ فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَبَيْنَ الْإِذْنِ حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْإِذْنِ إسْمَاعَهَا، وَإِرْسَالَ الرَّسُولِ بِهِ وَشَرَطَ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ حُكْمَ الْأَمْرِ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ كَمَا فِي أَمْرِ الشَّرْعِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْإِذْنِ هُوَ الرِّضَا، وَهُوَ أَنْ لَا تَخْرُجَ مَعَ كَرَاهَتِهِ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِنَفْسِ الْإِذْنِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَوْ غَضِبَتْ وَتَهَيَّأَتْ لِلْخُرُوجِ فَقَالَ: دَعُوهَا تَخْرُجْ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَلَا يَكُونُ هَذَا إذْنًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْإِذْنَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ دَعُوهَا لَيْسَ بِإِذْنٍ نَصًّا بَلْ هُوَ أَمْرٌ بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهَا وَذَلِكَ بِأَنْ لَا تُمْنَعَ مِنْ الْخُرُوجِ أَوْ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهَا فَلَا يَحْصُلُ إذْنًا بِدُونِ النِّيَّةِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا فِي غَضَبِهِ: اُخْرُجِي وَلَا نِيَّةَ لَهُ كَانَ عَلَى الْإِذْنِ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْأَمْرِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ اُخْرُجِي حَتَّى تَطْلُقِي فَيَكُونُ تَهْدِيدًا، وَالْأَمْرُ يَحْتَمِلُ التَّهْدِيدَ كَمَا فِي أَمْرِ الشَّرْعِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] فَإِذَا نَوَى التَّهْدِيدَ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ. وَلَوْ قَالَ: عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ إلَّا إنْ نَسِيَ فَدَخَلَهَا نَاسِيًا ثُمَّ دَخَلَ بَعْدَ ذَلِكَ ذَاكِرًا لَمْ يَحْنَثْ، وَهَذَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ الْعَامَّةِ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ خَرَجْتِ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَّا أَنْ آذَنَ لَك أَنَّ قَوْلَهُ إلَّا أَنْ لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ حَتَّى، فَلَمَّا دَخَلَهَا نَاسِيًا فَقَدْ انْتَهَتْ الْيَمِينُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْحِنْثُ بِدُخُولِ هَذِهِ الدَّارِ بِهَذِهِ الْيَمِينِ بِحَالٍ. وَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ إلَّا نَاسِيًا فَدَخَلَهَا نَاسِيًا ثُمَّ دَخَلَهَا ذَاكِرًا حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى كُلِّ دُخُولٍ وَحَظَرَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنَعَهَا مِنْهُ وَاسْتَثْنَى مِنْهُ دُخُولًا بِصِفَةٍ وَهُوَ أَنَّهُ يَكُونُ عَنْ نِسْيَانٍ فَبَقِيَ مَا سِوَاهُ دَاخِلًا تَحْتَ الْيَمِينِ فَيَحْنَثُ بِهِ. قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ إنْ دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ دَخْلَةً إلَّا أَنْ يَأْمُرَنِي فُلَانٌ فَأَمَرَهُ فُلَانٌ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ إنْ دَخَلَ هَذِهِ الدَّخْلَةَ وَلَا بَعْدَهَا وَقَدْ سَقَطَتْ الْيَمِينُ، وَهَذَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ وَاحِدٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إلَّا أَنْ لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ كَحَتَّى فَإِذَا وُجِدَ الْأَمْرُ مَرَّةً وَاحِدَةً انْحَلَّتْ الْيَمِينُ. وَلَوْ قَالَ إنْ دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ دَخْلَةً إلَّا أَنْ يَأْمُرَنِي بِهَا فُلَانٌ فَأَمَرَهُ فَدَخَلَ ثُمَّ دَخَلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَلَا بُدَّ هَهُنَا مِنْ الْأَمْرِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ الْأَمْرَ بِالدَّخْلَةِ بِحَرْفِ الْوَصْلِ وَهِيَ حَرْفُ الْبَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْأَمْرِ فِي كُلِّ دَخْلَةٍ كَمَا لَوْ قَالَ: إلَّا بِأَمْرِ فُلَانٍ. قَالَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا تَخْرُجُ امْرَأَتُهُ إلَّا بِعِلْمِهِ فَأَذِنَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ فَخَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إلَّا بِعِلْمِي أَيْ إلَّا بِإِذْنِي وَقَدْ خَرَجَتْ فَكَانَ خُرُوجًا مُسْتَثْنًى فَلَا يَحْنَثُ. وَإِذَا حَلَفَ رَجُلٌ عَلَى زَوْجَتِهِ أَوْ مَوْلًى عَلَى عَبْدِهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ دَارِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ، أَوْ سُلْطَانٌ حَلَّفَ رَجُلًا أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ كَوْرَةٍ إلَّا بِإِذْنِهِ ثُمَّ بَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ خَرَجَ الْعَبْدُ مِنْ مِلْكِ الْمَوْلَى أَوْ عُزِلَ السُّلْطَانُ عَنْ عَمَلِهِ فَكَانَ الْخُرُوجُ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَا حِنْثَ عَلَى الْحَالِفِ، وَتَقَعُ الْيَمِينُ عَلَى الْحَالِ الَّتِي يَمْلِكُ الْحَالِفُ فِيهَا الْإِذْنَ، فَإِنْ زَالَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ سَقَطَتْ الْيَمِينُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُسْتَحْلِفِ مِنْ ذَلِكَ تَنْفِيذُ وِلَايَتِهِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَخْرُجَ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ إلَّا بِأَمْرِهِ فَيَتَقَيَّدُ بِحَالِ قِيَامِ الْوِلَايَةِ فَإِذَا زَالَتْ زَالَتْ الْيَمِينُ، فَإِنْ عَادَتْ الْمَرْأَةُ إلَى مِلْكِ الزَّوْجِ أَوْ الْعَبْدُ إلَى مِلْكِ الْمَوْلَى أَوْ أُعِيدَ السُّلْطَانُ إلَى وِلَايَتِهِ لَا تُعَادُ الْيَمِينُ لِأَنَّهَا قَدْ سَقَطَتْ لِمَا بَيَّنَّا فَلَا تَحْتَمِلُ الْعَوْدَ، وَكَذَلِكَ الْغَرِيمُ إذَا حَلَفَ الْمَطْلُوبُ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ بَلَدِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ فَالْيَمِينُ مُقَيَّدَةٌ بِحَالِ قِيَامِ الدَّيْنِ فَإِنْ قَضَاهُ الْمَطْلُوبُ أَوْ أَبْرَأَ الطَّالِبُ سَقَطَتْ الْيَمِينُ، فَإِنْ عَادَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الدَّيْنُ أَوْ غَيْرُهُ لَمْ تَعُدْ الْيَمِينُ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُسْتَحْلِفِ أَنْ لَا يَخْرُجَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ وَقْتَ الْحَلِفِ، فَإِذَا أُسْقِطَ ذَلِكَ

فصل في الحلف على الكلام

بَطَلَ الْيَمِينُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي عَامِلٍ اسْتَحْلَفَ رَجُلًا أَنْ يَرْفَعَ إلَيْهِ كُلُّ مَنْ عَلِمَ بِهِ مِنْ فَاسِقٍ أَوْ دَاعِرٍ أَوْ سَارِقٍ فِي مَحَلَّتِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى عُزِلَ الْعَامِلُ عَنْ عَمَلِهِ ثُمَّ عَلِمَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَهُ وَقَدْ خَرَجَ عَنْ يَمِينِهِ، وَبَطَلَتْ عَنْهُ لِأَنَّهَا تَقَيَّدَتْ بِحَالِ عَمَلِهِ بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْعَامِلِ أَنْ يَرْفَعَ إلَيْهِ مَادَامَ وَالِيًا فَإِذَا زَالَتْ وِلَايَتُهُ ارْتَفَعَتْ الْيَمِينُ فَإِنْ عَادَ الْعَامِلُ عَامِلًا بَعْدَ عَزْلِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يَرْفَعَ ذَلِكَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ قَدْ بَطَلَتْ فَلَا تَعُودُ سَوَاءٌ عَادَ عَامِلًا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعُدْ، وَلَوْ كَانَ الْحَالِفُ عَلِمَ بِبَعْضِ مَا اُسْتُحْلِفَ عَلَيْهِ فَأَخَّرَ رَفْعَ ذَلِكَ حَتَّى عُزِلَ الْعَامِلُ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، وَلَمْ يَنْفَعْهُ رَفْعُ ذَلِكَ إلَيْهِ بَعْدَ عَزْلِهِ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ تَقَيَّدَ بِحَالِ قِيَامِ الْوِلَايَةِ، فَإِذَا زَالَتْ الْوِلَايَةُ فَقَدْ فَاتَ شَرْطُ الْبِرِّ. قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ: إلَّا أَنْ يَعْنِيَ أَنْ يَرْفَعَ إلَيْهِمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ، وَأَدِينُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَفِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى ظَاهِرَ كَلَامِهِ وَهُوَ الْعُمُومُ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً وَقَضَاءً. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ: إذَا حَلَفَ أَنْ لَا تَخْرُجَ امْرَأَتُهُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ وَلَا عَبْدُهُ فَبَانَتْ مِنْهُ أَوْ خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْ مِلْكِهِ ثُمَّ خَرَجَتْ حَنِثَ، وَلَا يَتَقَيَّدُ بِحَالِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْمِلْكِ لِانْعِدَامِ دَلَالَةِ التَّقْيِيدِ وَهِيَ قَوْلُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَيُعْمَلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، فَإِنْ عَنَى بِهِ مَا دَامَتْ امْرَأَتُهُ يُدَيَّنْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِأَنَّهُ عَنَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ الْعُمُومِ، وَإِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَكَذَلِكَ مَنْ طُولِبَ بِحَقٍّ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ دَارِ مُطَالَبِهِ حَنِثَ بِالْخُرُوجِ، زَالَ ذَلِكَ الْحَقُّ أَوْ لَمْ يَزُلْ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَخْرُجَ وَقَدْ أَخَذَتْ فِي ذَلِكَ أَوْ الْعَبْدُ أَوْ أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ وَقَدْ نَهَضَ لِذَلِكَ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ خَرَجْتِ، أَوْ قَالَ الْمَوْلَى: أَنْتَ حُرٌّ إنْ خَرَجْتَ، أَوْ قَالَ رَجُلٌ لِلضَّارِبِ: عَبْدِي حُرٌّ إنْ ضَرَبْتَهُ فَكَفُّوا عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَتْ الْيَمِينُ حَتَّى لَوْ خَرَجَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ ضَرَبَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ لَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ مِنْ هَذِهِ الْيَمِينِ الْمَنْعُ مِنْ الْخُرُوجِ فِي الْحَالِ، أَوْ الضَّرْبُ فَتَقَيَّدَتْ بِالْحَالِ بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ فَتَزُولُ الْيَمِينُ بِزَوَالِ الْحَالِفِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الْحِنْثُ بِالْخُرُوجِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ يَمِينِ الْفَوْرِ، وَنَظَائِرُهَا تَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعِهَا. [فَصْلٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى الْكَلَامِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى الْكَلَامِ فَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْكَلَامُ قَدْ يَكُونُ مُؤَبَّدًا، وَقَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا، وَقَدْ يَكُونُ مُؤَقَّتًا، أَمَّا الْمُؤَبَّدُ فَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ فُلَانًا أَبَدًا فَهُوَ عَلَى الْأَبَدِ لَا شَكَّ فِيهِ، لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ فُلَانًا وَلَا يَذْكُرَ الْأَبَدَ وَهَذَا أَيْضًا عَلَى الْأَبَدِ حَتَّى لَوْ كَلَّمَهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ، كَلَّمَهُ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَفِي أَيِّ مَكَان كَانَ وَعَلَى أَيِّ حَالٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ كَلَامِ فُلَانٍ لِيَبْقَى الْكَلَامُ مِنْ قِبَلِهِ عَلَى الْعَدَمِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَدَمُ إلَّا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْكَلَامِ فِي جَمِيعِ الْعُمْرِ، فَإِنْ نَوَى شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ بِأَنْ نَوَى يَوْمًا أَوْ وَقْتًا أَوْ بَلَدًا أَوْ مَنْزِلًا لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ مَا لَيْسَ بِمَلْفُوظٍ فَلَا يُصَدَّقُ رَأْسًا وَلَا يَحْنَثُ حَتَّى يَكُونَ مِنْهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ بَعْدَ الْيَمِينِ فَيَنْقَطِعُ عَنْهَا، فَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا لَمْ يَحْنَثْ؛ بِأَنْ قَالَ: إنْ كَلَّمْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَاذْهَبِي أَوْ فَقُومِي فَلَا يَحْنَثُ بِقَوْلِهِ فَاذْهَبِي أَوْ فَقُومِي. كَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْيَمِينِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا أُكَلِّمُ أَوْ إنْ كَلَّمْتُكِ يَقَعُ عَلَى الْكَلَامِ الْمَقْصُودِ بِالْيَمِينِ وَهُوَ مَا يُسْتَأْنَفُ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ فَاذْهَبِي أَوْ فَقُومِي وَإِنْ كَانَ كَلَامًا حَقِيقَةً فَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ بِالْيَمِينِ فَلَا يَحْنَثُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَهُ بِحَرْفِ الْعَطْفِ دَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ مُبْتَدَإٍ. وَكَذَا إذَا قَالَ: وَاذْهَبِي لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ حَقِيقَةً وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ فَاذْهَبِي الطَّلَاقَ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ بِقَوْلِهِ فَاذْهَبِي لِأَنَّهُ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، وَيَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَقَدْ صَارَ كَلَامًا مُبْتَدَأً فَيَحْنَثُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ الَّتِي حَلَفَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ الْيَمِينِ كَانَتْ خَاصَّةً؛ بِأَنْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ كَلِّمْ لِي زَيْدًا الْيَوْمَ فِي كَذَا فَيَقُولُ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ، يَقَعُ هَذَا عَلَى الْيَوْمِ دُونَ غَيْرِهِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: لَوْ قَالَ ائْتِنِي الْيَوْمَ، فَقَالَ: امْرَأَتِي طَالِقٌ إنْ أَتَيْتُكَ فَهَذَا عَلَى الْيَوْمِ. وَكَذَا إذَا قَالَ: ائْتِنِي فِي مَنْزِلِي، فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَأْتِيهِ فَهُوَ عَلَى الْمَنْزِلِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَطُلْ الْكَلَامُ بَيْنَ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ وَبَيْنَ الْيَمِينِ، فَإِنْ طَالَ كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْأَبَدِ، فَإِنْ قَالَ: لِمَ لَا تَلْقَنِي فِي الْمَنْزِلِ وَقَدْ أَسَأْتَ فِي تَرْكِكَ لِقَائِي وَقَدْ أَتَيْتُك غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمْ أَلْقَكَ، فَقَالَ الْآخَرُ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ أَتَاكَ فَهَذَا عَلَى الْأَبَدِ وَعَلَى كُلِّ مَنْزِلٍ؛ لِأَنَّ

الْكَلَامَ كَثِيرٌ فِيمَا بَيْنَ ابْتِدَائِهِ بِذِكْرِ الْمَنْزِلِ وَبَيْنَ الْمَنْزِلِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ فَانْقَطَعَتْ الْيَمِينُ عَنْهُ وَصَارَتْ يَمِينًا مُبْتَدَأَةً، فَإِنْ نَوَى هَذَا الْإِتْيَانِ فِي الْمَنْزِلِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُدَيَّنْ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ، لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَلَوْ صَلَّى الْحَالِفُ خَلْفَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَسَهَا الْإِمَامُ فَسَبَّحَ بِهِ الْحَالِفُ أَوْ فَتَحَ عَلَيْهِ بِالْقِرَاءَةِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى كَلَامًا فِي الْعُرْفِ وَإِنْ كَانَ كَلَامًا فِي الْحَقِيقَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَلَامَ الْعُرْفِيَّ يُبْطِلُ الصَّلَاةُ بِهِ؟ وَهَذَا لَا يُبْطِلُهَا، وَقَدْ قَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَصَلَّى: أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَحْنَثَ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ وَالْقِرَاءَةَ كَلَامٌ حَقِيقَةً، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى كَلَامًا عُرْفًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فُلَانٌ لَا يَتَكَلَّمُ فِي صَلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَرَأَ فِيهَا، وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ خَارِجَ الصَّلَاةِ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ حَقِيقَةً،. وَقِيلَ: هَذَا إذَا كَانَ الْحَالِفُ مِنْ الْعَرَبِ، فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ مِنْ الْعَجَمِ أَوْ كَانَ لِسَانُهُ غَيْرَ لِسَانِ الْعَرَبِ لَا يَحْنَثُ، سَوَاءٌ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مُتَكَلِّمًا وَلَوْ سَبَّحَ تَسْبِيحَةً أَوْ كَبَّرَ أَوْ هَلَّلَ خَارِجَ الصَّلَاةِ يَحْنَثُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَحْنَثُ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا، لِأَنَّهُ وُجِدَ الْكَلَامُ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْحَقِيقَةَ حَالَةَ الصَّلَاةِ بِالْعُرْفِ وَلَا عُرْفَ خَارِجَ الصَّلَاةِ،. وَقِيلَ: هَذَا فِي عُرْفِهِمْ. فَأَمَّا فِي عُرْفِنَا فَلَا يَحْنَثُ خَارِجَ الصَّلَاةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى كَلَامًا فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، وَلَوْ فَتَحَ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ حَنِثَ لِأَنَّهُ كَلَامٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ الْحَقِيقَةَ فِي الصَّلَاةِ لِلْعُرْفِ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْحَالِفَ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ خَلْفَهُ فَسَلَّمَ لَمْ يَحْنَثْ بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى وَإِنْ كَانَ عَلَى يَمِينِهِ وَنَوَاهُ لِأَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، وَسَلَامُ الصَّلَاةِ لَا يُعَدُّ كَلَامًا كَتَكْبِيرِهَا وَالْقِرَاءَةِ فِيهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ؟ وَلَوْ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ لَكَانَ مُفْسِدًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ فَنَوَاهُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْنَثُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ كَانَ الْمُقْتَدِي هُوَ الْحَالِفَ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُقْتَدِي لَا يَصِيرُ خَارِجًا عَنْ الصَّلَاةِ بِسَلَامِ الْإِمَامِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ صَلَاتِهِ بِسَلَامِ الْإِمَامِ عِنْدَهُ، فَقَدْ تَكَلَّمَ كَلَامًا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَيَحْنَثُ، وَلَوْ مَرَّ الْحَالِفُ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ حَنِثَ لِأَنَّهُ كَلَّمَ جَمَاعَتَهُمْ بِالسَّلَامِ، فَإِنْ نَوَى الْقَوْمَ دُونَهُ لَمْ يَحْنَثْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ ذِكْرَ الْكُلِّ عَلَى إرَادَةِ الْبَعْضِ جَائِزٌ، وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَوْ نَبَّهَ الْحَالِفُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مِنْ النَّوْمِ حَنِثَ وَإِنْ لَمْ يَنْتَبِهْ لِأَنَّ الصَّوْتَ يَصِلُ إلَى سَمْعِ النَّائِمِ لَكِنَّهُ لَا يُفْهَمُ فَصَارَ كَمَا لَوْ كَلَّمَهُ وَهُوَ غَافِلٌ، وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُسَمَّى كَلَامًا فِي الْعُرْفِ كَتَكَلُّمِ الْغَافِلِ فَيَحْنَثُ، وَلَوْ دَقَّ عَلَيْهِ الْبَابَ فَقَالَ مَنْ هَذَا أَوْ مَنْ أَنْتَ؟ حَنِثَ لِأَنَّهُ كَلَّمَهُ بِالِاسْتِفْهَامِ، وَلَوْ كَانَ فِي مَكَانَيْنِ فَدَعَاهُ أَوْ كَلَّمَهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ مِثْلُهُ لَوْ أَصْغَى إلَيْهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَسْمَعُ فِي مِثْلِهِ عَادَةً فَإِنْ أَصْغَى إلَيْهِ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ إذَا كَانَ قَرِيبًا بِحَيْثُ يَسْمَعُ مِثْلُهُ عَادَةً يُسَمَّى مُكَلِّمًا إيَّاهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ لِعَارِضٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا كَانَ بَعِيدًا، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَرِيبًا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ وَصَلَ الصَّوْتُ إلَى سَمْعِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْهُ فَأَشْبَهَ الْغَافِلَ، وَإِذَا كَانَ بَعِيدًا لَا يَصِلُ إلَيْهِ رَأْسًا، وَقَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ إنْسَانًا فَكَلَّمَ غَيْرَهُ وَهُوَ يَقْصِدُ أَنْ يَسْمَعَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُسَمَّى مُكَلِّمًا إيَّاهُ إذَا لَمْ يَقْصِدْهُ بِالْكَلَامِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ امْرَأَتَهُ فَدَخَلَ دَارِهِ وَلَيْسَ فِيهَا غَيْرُهَا فَقَالَ مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ أَوْ أَيْنَ هَذَا؟ ؟ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ كَلَّمَهَا حَيْثُ اسْتَفْهَمَ وَلَيْسَ هُنَاكَ غَيْرُهَا لِئَلَّا يَكُونَ لَاغِيًا، فَإِنْ كَانَ فِي الدَّارِ غَيْرُهَا لَمْ يَحْنَثْ لِجَوَازِ أَنَّهُ اسْتَفْهَمَ غَيْرَهَا، فَإِنْ قَالَ لَيْتَ شِعْرِي مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمْهَا وَإِنَّمَا كَلَّمَ نَفْسَهُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَكَتَبَ إلَيْهِ كِتَابًا فَانْتَهَى الْكِتَابُ إلَيْهِ، أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ إلَيْهِ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تُسَمَّى كَلَامًا. وَكَذَا الرِّسَالَةُ. (وَأَمَّا) الْمُوَقَّتُ فَنَوْعَانِ: مُعَيَّنٌ وَمُبْهَمٌ (أَمَّا) الْمُعَيَّنُ: فَنَحْوُ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا فَيَحْنَثُ بِكَلَامِهِ مِنْ حِينِ حَلَفَ إلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ مِنْ الْغَدِ فَيَدْخُلُ فِي يَمِينِهِ بَقِيَّةُ اللَّيْلِ، حَتَّى لَوْ كَلَّمَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ فِي الْغَدِ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا يَقَعُ عَلَى الْأَبَدِ وَيَقْتَضِي مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ كَلَامِ فُلَانٍ أَبَدًا لَوْلَا قَوْلُهُ يَوْمًا فَكَانَ قَوْلُهُ يَوْمًا لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهُ عَنْ الْيَمِينِ فَيَبْقَى زَمَانُ مَا بَعْدَ الْيَمِينِ بِلَا فَصْلٍ دَاخِلًا تَحْتَهَا فَيَدْخُلُ فِيهَا بَقِيَّةُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بِالنَّهَارِ لَا يُكَلِّمُهُ لَيْلَةً أَنَّهُ يَحْنَثُ بِكَلَامِهِ مِنْ حِينِ حَلَفَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ حَلَفَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ لَا يُكَلِّمُهُ يَوْمًا فَالْيَمِينُ عَلَى بَقِيَّةِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إلَى مِثْلِ تِلْكَ السَّاعَةِ الَّتِي حَلَفَ فِيهَا مِنْ

الْغَدِ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى يَوْمٍ مُنَكَّرٍ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِيفَائِهِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إلَّا بِإِتْمَامِهِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي فَيَدْخُلُ اللَّيْلُ مِنْ طَرِيقِ التَّبَعِ، وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَيْلًا لَا يُكَلِّمُهُ لَيْلَةً فَالْيَمِينُ مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ إلَى أَنْ يَجِيءَ مِثْلُهَا مِنْ اللَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَيَدْخُلُ النَّهَارُ الَّذِي بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى لَيْلَةٍ مُنَكَّرَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهَا وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا. فَإِنْ قَالَ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ الْيَوْمَ فَالْيَمِينُ عَلَى بَاقِي الْيَوْمِ، فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ سَقَطَتْ الْيَمِينُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ بِاللَّيْلِ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ اللَّيْلَةَ فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ سَقَطَتْ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى زَمَانٍ مُعَيَّنٍ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ لَامَ التَّعْرِيفِ عَلَى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْمُعَرَّفِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْيَوْمَ مُنَكَّرًا فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِيفَائِهِ وَذَلِكَ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ شَهْرًا يَقَعُ عَلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَلَوْ قَالَ الشَّهْرَ يَقَعُ عَلَى بَقِيَّةِ الشَّهْرِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ السَّنَةَ يَقَعُ عَلَى بَقِيَّةِ السَّنَةِ، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ الْيَوْمَ وَلَا غَدًا فَالْيَمِينُ عَلَى بَقِيَّةِ الْيَوْمِ وَعَلَى غَدٍ وَلَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الَّتِي بَيْنَهُمَا فِي الْيَمِينِ، رَوَى ذَلِكَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَقْتَيْنِ بِحَرْفِ النَّفْيِ فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْفِيًّا عَلَى الِانْفِرَادِ، أَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] . فَلَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْمُتَخَلِّلَةُ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ الْيَوْمَ وَغَدًا دَخَلَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي بَيْنَ الْيَوْمِ وَالْغَدِ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ هَهُنَا جَمَعَ بَيْنَ الْوَقْتِ الثَّانِي وَبَيْنَ الْأَوَّلِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ وَهُوَ الْوَاوُ فَصَارَ وَقْتًا وَاحِدًا فَدَخَلَتْ اللَّيْلَةُ الْمُتَخَلِّلَةُ. وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ اللَّيْلَةَ لَا تَدْخُلُ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى النَّهَارِ وَلَا ضَرُورَةَ تُوجِبُ إدْخَالَ اللَّيْلِ فَلَا يَدْخُلُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ يَوْمَيْنِ تَدْخُلُ فِيهِ اللَّيْلَةُ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي اللَّيْلِ، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ يَوْمًا وَلَا يَوْمَيْنِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، حَتَّى لَوْ كَلَّمَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، هَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ عَلَى يَوْمَيْنِ حَتَّى لَوْ كَلَّمَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي يَحْنَثُ، وَإِنْ كَلَّمَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ لَا يَحْنَثُ. وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ عَطَفَ الْيَوْمَيْنِ عَلَى الْيَوْمِ وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَاقْتَضَى يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ غَيْرَ الْأَوَّلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ، أَوْ قَالَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينٌ مُفْرَدَةٌ لِانْفِرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَلِمَةِ النَّفْيِ، وَالْوَاوُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْيَمِينَيْنِ، وَصَارَ تَقْدِيرُهُ أُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا وَلَا أُكَلِّمُهُ يَوْمَيْنِ لِئَلَّا تَلْغُو كَلِمَةُ النَّفْيِ فَصَارَ لِكُلِّ يَمِينٍ مُدَّةٌ عَلَى حِدَةٍ فَصَارَ عَلَى الْيَوْمِ الْأَوَّلِ يَمِينَانِ وَعَلَى الْيَوْمِ الثَّانِي يَمِينٌ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ فَكَلَّمَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَنَّهُ يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعِدْ كَلِمَةَ النَّفْيِ فَلَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ نَفْيَ الْكَلَامِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ عَلَى حِدَةٍ لِيَكُونَ يَمِينَيْنِ فَبَقِيَ يَمِينًا وَاحِدَةً، وَالْوَاوُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْمُدَّتَيْنِ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْمُدَّتَيْنِ بِكَلِمَةِ الْجَمْعِ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا وَلَا عَمْرًا فَكَلَّمَ أَحَدَهُمَا يَحْنَثُ، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا وَعَمْرًا فَمَا لَمْ يُكَلِّمْهُمَا لَا يَحْنَثُ. وَقَالَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ الدَّارَ يَوْمًا وَيَوْمًا فَهُوَ مِثْلُ حَلِفِهِ عَلَى يَوْمَيْنِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَلَا يُشْبِهُ هَذَا قَوْلُهُ وَلَا أَدْخُلُهَا الْيَوْمَ وَغَدًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ يَوْمًا وَيَوْمًا عَطْفُ زَمَانٍ مُنَكَّرٍ عَلَى زَمَانٍ مُنَكَّرٍ فَصَارَ كَقَوْلِهِ يَوْمَيْنِ فَيَدْخُلُ اللَّيْلُ، وَقَوْلَهُ الْيَوْمَ وَغَدًا عَطْفُ زَمَانٍ مُعَيَّنٍ عَلَى زَمَانٍ مُعَيَّنٍ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إدْخَالِ اللَّيْلِ فِيهِ فَلَا يَدْخُلُ، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا يَوْمًا وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ يَوْمَيْنِ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ حِينِ فَرَغَ مِنْ الْيَمِينِ الثَّالِثَةِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَالْيَوْمُ الثَّانِي عَلَيْهِ يَمِينَانِ: الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ، وَالْيَوْمُ الثَّالِثُ عَلَيْهِ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الثَّالِثَةُ، لِأَنَّ كُلَّ يَمِينٍ ذَكَرَهَا تَخْتَصُّ بِمَا يَعْقُبُهَا فَانْعَقَدَتْ الْيَمِينُ الْأُولَى عَلَى الْكَلَامِ فِي يَوْمٍ عَقِيبَ الْيَمِينِ، وَالثَّانِيَةُ فِي يَوْمَيْنِ عَقِيبَ الْيَمِينِ، وَالثَّالِثَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَقِيبَ الْيَمِينِ، فَانْعَقَدَتْ عَلَى الْكَلَامِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ، وَعَلَى الثَّانِي يَمِينَانِ، وَعَلَى الثَّالِثِ وَاحِدَةٌ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَا رَوَى دَاوُد بْنُ رَشِيدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ الْيَوْمَ سَنَةً، أَوْ لَا أُكَلِّمُك الْيَوْمَ شَهْرًا؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدَعَ كَلَامَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ شَهْرًا وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سَنَةً حَتَّى يُكْمِلَ كُلَّمَا دَارَ ذَلِكَ الْيَوْمُ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ أَوْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ الْوَاحِدَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ شَهْرًا أَوْ سَنَةً فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُرَادَ الْحَالِفِ فَكَانَ مُرَادُهُ أَنْ لَا يُكَلِّمُهُ فِي مِثْلِهِ شَهْرًا أَوْ سَنَةً، فَإِنْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُك الْيَوْمَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَهُوَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ فَهَذَا عَلَى سَبَّتَيْنِ؛

لِأَنَّ الْيَوْمَ لَا يَكُونُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُرَادًا فَيَقَعُ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ لَا يَدُورُ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ أَكْثَرُ مِنْ سَبْتٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ السَّبْتَ مَرَّتَيْنِ كَانَ عَلَى سَبَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ السَّبْتَ لَا يَكُونُ يَوْمَيْنِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُكِ يَوْمَ السَّبْتِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَانَ كُلُّهَا يَوْمَ السَّبْتِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُك يَوْمًا مَا أَوْ لَا أُكَلِّمُك يَوْمَ السَّبْتِ يَوْمًا فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ أَيَّ يَوْمٍ شَاءَ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى يَوْمٍ شَائِعٍ فِي أَيَّامٍ، فَكَانَ التَّعْيِينُ إلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ لَا أُكَلِّمُكِ يَوْمًا بَيْنَ يَوْمَيْنِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ قَالَ: فَكُلُّ يَوْمٍ بَيْنَ يَوْمَيْنِ، وَهُوَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَا أُكَلِّمُكَ يَوْمًا فَيَكُونُ عَلَى يَوْمٍ مِنْ سَاعَةِ حَلَفَ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ (وَأَمَّا) الْمُبْهَمُ: فَنَحْوُ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ فُلَانًا زَمَنًا أَوْ حِينًا أَوْ الزَّمَانَ أَوْ الْحِينَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَقَعْ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ الْحِينَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ الْقَصِيرُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] قِيلَ: حِينَ تُمْسُونَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَحِينَ تُصْبِحُونَ صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ الطَّوِيلُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَسَطُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] قِيلَ: أَيْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ طُلُوعِهَا إلَى وَقْتِ إدْرَاكِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: هِيَ النَّخْلَةُ، ثُمَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْوَقْتِ الْقَصِيرِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْمَنْعِ وَلَا حَاجَةَ إلَى الْيَمِينِ لِلْمَنْعِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُمْنَعُ بِدُونِ الْيَمِينِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الطَّوِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ ذَلِكَ عَادَةً، وَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ بِلَفْظَةِ الْأَبَدِ فَتَعَيَّنَ الْوَسَطُ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ صَاحِبِهِ وَالْوَسَطُ قَرِيبٌ مِنْهُمَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْحِينِ ثَبَتَ فِي الزَّمَانِ لِكَوْنِهِمَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ، وَعَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّ الزَّمَانَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَإِنْ نَوَى الْحَالِفُ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَلَفْظُهُ لِمَا بَيَّنَّا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُصَدَّقُ فِي الْوَقْتِ الْيَسِيرِ فِي الْحِينِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الزَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي الْيَسِيرِ فِي الْحِينِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الزَّمَانِ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي الْجَامِعِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَدِينُ فِي الزَّمَانِ وَالْحِينِ فِي كُلِّ مَا نَوَى مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَدِينُ فِيمَا دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فِي الْقَضَاءِ، وَلَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُهُ دَهْرًا وَالدَّهْرَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَا أَدْرِي مَا الدَّهْرُ؟ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إذَا قَالَ دَهْرًا فَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَإِذَا قَالَ الدَّهْرَ فَهُوَ عَلَى الْأَبَدِ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: لَا خِلَافَ فِي الدَّهْرِ الْمَعْرُوفِ أَنَّهُ الْأَبَدُ، وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الدَّهْرِ الْمُنَكَّرِ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ دَهْرًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّ قَوْلَهُ الدَّهْرَ يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ الْعُمْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْخِلَافَ، وَقَوْلَهُ دَهْرًا لَا يُدْرَى تَفْسِيرُهُ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَشَارَ إلَى التَّوَقُّفِ فِي الدَّهْرِ الْمُعَرَّفِ أَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: وَالدَّهْرُ لَا أَدْرِي مَا هُوَ. وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ دَهْرًا وَالدَّهْرَ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فَهُمَا جَعَلَا قَوْلَهُ دَهْرًا كَالْحِينِ وَالزَّمَانِ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ وَالزَّمَانِ، يُقَالُ: مَا رَأَيْتُكَ مِنْ دَهْرٍ وَمَا رَأَيْتُكَ مِنْ حِينٍ عَلَى السَّوَاءِ، فَإِذَا أُدْخِلَ عَلَيْهِ الْأَلْفُ وَاللَّامُ صَارَ عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ الزَّمَانِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ قَوْلَهُ الدَّهْرَ يَقَعُ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَكِنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ كَأَنَّهُ رَأَى الِاسْتِعْمَالَ مُخْتَلِفًا فَلَمْ يَعْرِفْ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ عِنْدَ إطْلَاقِ الِاسْمِ فَتَوَقَّفَ. وَقَالَ لَا أَدْرِي أَيْ لَا أَدْرِي بِمَاذَا يُقَدَّرُ إذْ لَا نَصَّ فِيهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَرْبَابِ اللِّسَانِ؟ بِخِلَافِ الْحِينِ وَالزَّمَانِ فَإِنَّ فِيهِمَا نَصًّا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنَّهُ فَسَّرَ قَوْله تَعَالَى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَالزَّمَانُ وَالْحِينُ يُنْبِئَانِ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ مَشَايِخِنَا إنَّهُ تَوَقَّفَ فِي الْمُنَكَّرِ لَا فِي الْمُعَرَّفِ أَوْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ مَعْنَاهُ لُغَةً فَتَوَقَّفَ فِيهِ، وَالتَّوَقُّفُ فِيمَا لَا يُعْرَفُ لِعَدَمِ دَلِيلِ الْمَعْرِفَةِ وَلِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَانْعِدَامِ تَرْجِيحِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ أَمَارَةُ كَمَالِ الْعِلْمِ وَتَمَامِ الْوَرَعِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ لَا أَدْرِي، وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْبِقَاعِ فَقَالَ: لَا أَدْرِي فَلَمَّا نَزَلَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَأَلَهُ فَعَرَجَ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ هَبَطَ فَقَالَ: سَأَلْت رَبِّي - عَزَّ وَجَلَّ - عَنْ أَفْضَلِ الْبِقَاعِ فَقَالَ: الْمَسَاجِدُ، وَأَفْضَلُ أَهْلِهَا مَنْ جَاءَهَا أَوَّلًا وَانْصَرَفَ آخِرًا وَشَرُّ أَهْلِهَا مَنْ جَاءَهَا آخِرًا

وَانْصَرَفَ أَوَّلًا» . وَلَوْ قَالَ: يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَكَلَّمَهُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا يَحْنَثُ. وَكَذَا إذَا قَالَ يَوْمَ أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ لِأَنَّ الْيَوْمَ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُمْتَدٍّ يُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ فِي مُتَعَارَفِ أَهْلِ اللِّسَانِ. قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] الْآيَةَ وَمَنْ وَلَّى دُبُرَهُ بِاللَّيْلِ يَلْحَقْهُ الْوَعِيدُ كَمَا لَوْ وَلَّى بِالنَّهَارِ فَإِنْ نَوَى بِهِ اللَّيْلَ خَاصَّةً دِينَ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَدِينُ لِأَنَّ اللَّفْظَ جُعِلَ عِبَارَةً عَنْ مُطْلَقِ الْوَقْتِ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الصَّرْفِ عَنْهُ، وَإِنْ قَالَ لَيْلَةَ أُكَلِّمُ فُلَانًا أَوْ لَيْلَةَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَكَلَّمَهُ نَهَارًا أَوْ قَدِمَ نَهَارًا لَا تَطْلُقُ لِأَنَّ اللَّيْلَةَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِسَوَادِ اللَّيْلِ، يُقَالُ لِلَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ: لَيْلَةٌ لَيْلَاءُ وَلَيْلٌ أَلْيَلُ، وَلَا عُرْفَ هَهُنَا يَصْرِفُ اللَّفْظَ عَنْ مُقْتَضَاهُ لُغَةً حَتَّى لَوْ ذَكَرَ اللَّيَالِيَ حُمِلَتْ عَلَى الْوَقْتِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُمْ تَعَارَفُوا اسْتِعْمَالَهَا فِي الْوَقْتِ الْمُطْلَقِ، مَعْرُوفٌ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهِمْ كَمَا قَالُوا لَيَالِيَ لَاقَتْنَا جُذَامٌ وَحِمْيَرُ وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ فَقَدِمَ فُلَانٌ لَيْلًا لَا يَكُونُ لَهَا مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ فِي حَالِ الْأَمْرِ ذِكْرِ يُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي الْوَقْتَ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ الْمَجْلِسُ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جَعَلُوا لِلْمُخَيَّرَةِ الْخِيَارَ مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا، فَقَدْ وَقَّتُوا لِلْأَمْرِ وَقْتًا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اُسْتُغْنِيَ عَنْ الْوَقْتِ فَيَقَعُ ذِكْرُ الْيَوْمِ عَلَى بَيَاضِ النَّهَارِ، فَإِذَا قَدِمَ نَهَارًا صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا عَلِمَتْ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ، وَيَبْطُلُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ مُوَقَّتٌ فَيَبْطُلُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ، وَالْعِلْمُ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ كَمَا إذَا قَالَ أَمْرُكِ بِيَدِكِ الْيَوْمَ فَمَضَى الْيَوْمُ أَنَّهُ يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا. وَأَمَّا فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَجْلِسِ عِلْمِهَا، وَلَوْ قَالَ لَيْلَةَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ فَقَدِمَ نَهَارًا لَمْ يَثْبُتْ لَهَا ذَلِكَ الْأَمْرُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّيْلَةَ عِبَارَةٌ عَنْ سَوَادِ اللَّيْلِ. وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ: إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك الْجُمُعَةَ فَلَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ اسْمٌ لِيَوْمٍ مَخْصُوصٍ كَمَا لَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُك يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: جُمَعًا لَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ الْجَمْعَ جُمَعٌ وَهِيَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَا أُكَلِّمُهُ أَيَّامًا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ اللَّيَالِيُ لِأَنَّا إنَّمَا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: {ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] . وَقَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ وَمِثْلُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ لَمْ يُوجَدْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ جُمَعًا، ثُمَّ إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك جُمَعًا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ جُمَعٍ لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ عِنْدَنَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا، وَإِذَا قَالَ: الْجُمَعُ فَهُوَ عَلَى عَشْرِ جُمَعٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَلِكَ الْأَيَّامُ وَالْأَزْمِنَةُ وَالْأَحَايِينِ وَالشُّهُورُ وَالسُّنُونُ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَعَشَرَةِ أَحَايِينَ أَوْ أَزْمِنَةٍ وَعَشَرَةِ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةِ سِنِينَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْجُمَعِ وَالسِّنِينَ إنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْأَبَدِ. وَكَذَا فِي الْأَحَايِينِ وَالْأَزْمِنَةِ وَفِي الْأَيَّامِ عَلَى سَبْعَةٍ، وَفِي الشُّهُورِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا فِيمَا دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّعْرِيفِ وَهُوَ اللَّامُ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَمْعِ أَنْ يُنْظَرَ إنْ كَانَ هُنَاكَ مَعْهُودٌ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ كَالسَّبْعَةِ فِي الْأَيَّامِ وَالِاثْنَيْ عَشَرَ فِي الشُّهُورِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَعْهُودٌ يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ الْجِنْسِ فَيَسْتَغْرِقُ الْعُمْرَ كَالسِّنِينَ وَالْأَحَايِينِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ ذَلِكَ إلَى أَقْصَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْجَمْعِ عِنْدَ اقْتِرَانِهِ بِالْعَدَدِ وَذَلِكَ عَشَرَةٌ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ اللَّفْظَ الْمُعَرَّفَ إذَا لَمْ يُصْرَفْ إلَى الْجِنْسِ فَإِمَّا أَنْ يُصْرَفَ إلَى الْمَعْهُودِ وَإِمَّا أَنْ يُصْرَفَ إلَى بَعْضِ الْجِنْسِ، وَالصَّرْفُ إلَى الْمَعْهُودِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْإِدْرَاجِ وَفِي الصَّرْفِ إلَى الْبَعْضِ يُحْتَاجُ إلَى إدْرَاجِ لَفْظَةِ الْبَعْضِ فَكَانَ الصَّرْفُ إلَى الْمَعْهُودِ أَوْلَى، وَالْمَعْهُودُ فِي الْأَيَّامِ السَّبْعَةُ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْأُسْبُوعُ وَهِيَ مِنْ السَّبْتِ إلَى الْجُمُعَةِ، وَفِي الشُّهُورِ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّتِي تُرَكَّبُ مِنْهَا السَّنَةُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَعْهُودٌ فَالصَّرْفُ إلَى الْجِنْسِ أَوْلَى فَيُصْرَفُ إلَيْهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ: اسْتِعْمَالُ أَرْبَابِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلِ اللِّسَانِ فِي الْجُمُوعِ فَإِنَّ أَقْصَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْجَمْعِ عِنْدَ اقْتِرَانِهِ بِالْعَدَدِ هُوَ الْعَشَرَةُ، وَيُقَالُ: ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَأَرْبَعَةُ رِجَالٍ وَعَشَرَةُ رِجَالٍ، ثُمَّ إذَا جَاوَزَ الْعَشَرَةَ يُقَالُ: أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا وَعِشْرُونَ رَجُلًا وَمِائَةُ رَجُلٍ وَأَلْفُ رَجُلٍ وَلِأَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ قَدْرٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْدَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا إلَى الْعَشَرَةِ فِي حَالَةِ الْإِبْهَامِ وَالتَّعْيِينِ جَمِيعًا، وَيُطْلَق عَلَى مَا وَرَاءَهَا مِنْ الْأَقْدَارِ فِي حَالَةِ الْإِبْهَامِ وَلَا يُطْلَقُ فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ، وَالِاسْمُ مَتَى كَانَ ثَابِتًا لِشَيْءٍ فِي حَالَيْنِ كَانَ أَثْبَتَ مِمَّا هُوَ اسْمٌ لَهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ بَلْ يَكُونُ نَازِلًا مِنْ الْأَوَّلِ مَنْزِلَةَ الْمَجَازِ مِنْ الْحَقِيقَةِ فَكَانَ الصَّرْفُ إلَى مَا هُوَ اسْمٌ لَهُ فِي

الْحَالَيْنِ أَوْلَى فَلِهَذَا اُقْتُصِرَ عَلَى الْعَشَرَةِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ أَيَّامًا فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَسَوَاءٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ. وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْخِلَافَ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَ الْجَمْعِ مُنَكَّرًا فَيَقَعُ عَلَى أَدْنَى الْجَمْعِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ عِنْدَنَا، وَلَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُكَ سِنِينَ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْأَيَّامِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْعُمْرَ فَهُوَ عَلَى جَمِيعِ الْعُمْرِ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، وَلَوْ قَالَ عُمْرًا فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ يَقَعُ عَلَى يَوْمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ يَقَعُ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ كَالْحِينِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ حُقُبًا فَهُوَ عَلَى ثَمَانِينَ سَنَةً لِأَنَّهُ اسْمٌ لَهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ أَيَّامًا كَثِيرَةً فَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ مِثْلَهُ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْكَثْرَةَ عَلَى اسْمِ الْجَمْعِ فَصَارَ كَمَا لَوْ ذُكِرَ فَاللَّامُ الْجِنْسِ. وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَقَعُ عَلَى سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَلَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُكَ كَذَا وَكَذَا يَوْمًا فَهُوَ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ لِأَنَّهُ أَقَلُّ عَدَدِ يُعْطَفُ عَلَى عَدَدٍ بِحَرْفِ الْعَطْفِ، وَلَوْ قَالَ كَذَا كَذَا يَوْمًا فَهُوَ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِأَنَّ الْبِضْعَ مِنْ ثَلَاثَةٍ إلَى تِسْعَةٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَقَلِّهَا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَى بَعِيدٍ يَقَعُ عَلَى شَهْرٍ فَصَاعِدًا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَى قَرِيبٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهُوَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ عَاجِلًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهُوَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حُكْمِ الْكَثِيرِ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ أَجَلًا فِي الدُّيُونِ فَكَانَ بَعِيدًا وَآجِلًا وَمَا دُونَهُ عَاجِلًا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ مَلِيًّا يَقَعُ عَلَى شَهْرٍ كَالْبَعِيدِ سَوَاءٌ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ بِهِ غَيْرَهُ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَهْجُرَنَّكَ مَلِيًّا فَهُوَ عَلَى شَهْرٍ وَأَكْثَرَ، فَإِنْ نَوَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُدَيَّنْ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ،: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46] أَيْ طَوِيلًا وَهَذَا يَقْتَضِي مَا زَادَ عَلَى شَهْرٍ، وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهُ الشِّتَاءَ فَأَوَّلُ ذَلِكَ إذَا لَبِسَ النَّاسُ الْحَشْوَ وَالْفِرَاءَ وَآخِرُ ذَلِكَ إذَا أَلْقَوْهَا عَلَى الْبَلَدِ الَّذِي حَلَفَ فِيهِ، وَالصَّيْفُ عَلَى ضِدِّهِ، وَهُوَ مِنْ حِينِ إلْقَاءِ الْحَشْوِ إلَى لُبْسِهِ، وَالرَّبِيعُ آخِرُ الشِّتَاءِ وَمُسْتَقْبَلُ الصَّيْفِ إلَى أَنْ يَيْبَسَ الْعُشْبُ، وَالْخَرِيفُ فَصْلٌ بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى اللُّغَةِ. وَقَالَ خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ رَجُلًا إلَى الْمَوْسِمِ. قَالَ: يُكَلِّمُهُ إذَا أَصْبَحَ يَوْمَ النَّحْرِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْمَوْسِمِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُكَلِّمُهُ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ لِأَنَّهُ وَقْتُ الرُّكْنِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ. وَقَالَ عُمَرُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ: غُرَّةُ الشَّهْرِ وَرَأْسُ الشَّهْرِ أَوَّلُ لَيْلَةٍ وَيَوْمُهَا، وَأَوَّلُ الشَّهْرِ إلَى مَا دُونَ النِّصْفِ، وَآخِرُهُ إلَى مُضِيِّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ وَآخِرَ يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ فَعَلَيْهِ صَوْمُ الْيَوْمِ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ لِأَنَّ الْخَامِسَ عَشَرَ آخِرُ أَوَّلِهِ وَالسَّادِسَ عَشَرَ أَوَّلُ آخِرِهِ، إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَأُكَلِّمَنَّكَ أَحَدَ يَوْمَيْنِ أَوْ لَأَخْرُجَنَّ أَحَدَ يَوْمَيْنِ، أَوْ قَالَ: الْيَوْمَيْنِ، أَوْ قَالَ: أَحَدَ أَيَّامِي فَهَذَا كُلُّهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، إنْ كَلَّمَهُ قَبْلَ الْعَشَرَةِ أَوْ خَرَجَ قَبْلَ الْعَشَرَةِ لَمْ يَحْنَثْ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُرَادُ بِهِ يَوْمَانِ بِأَعْيَانِهِمَا وَإِنَّمَا يُذْكَرُ عَلَى طَرِيقِ التَّقْرِيبِ عَلَى طَرِيقِ الْعَشَرَةِ وَمَا دُونَهَا فِي حُكْمِ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ، فَإِنْ قَالَ أَحَدَ يَوْمَيَّ هَذَيْنِ فَهَذَا عَلَى يَوْمِهِ ذَلِكَ وَالْغَدِ لِأَنَّهُ أَشَارَ إلَى الْيَوْمَيْنِ وَالْإِشَارَةُ تَقَعُ عَلَى الْمُعَيَّنِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا هَذِهِ السَّنَةَ إلَّا يَوْمًا فَإِنْ جَمَعَ كَلَامَهُمَا فِي يَوْمٍ لَهُ اسْتَثْنَاهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي يُكَلِّمُهُمَا فِيهِ مُسْتَثْنًى مِنْ الْيَمِينِ، فَإِنْ كَلَّمَ أَحَدَهُمَا فِي يَوْمٍ وَالْآخَرَ فِي يَوْمٍ حَنِثَ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَوْمٌ يُكَلِّمُهُمَا جَمِيعًا فِيهِ وَلَوْ يُوجَدُ فَقَدْ كَلَّمَهُمَا فِي غَيْرِ الْيَوْمِ الْمُسْتَثْنَى فَيَحْنَثُ فَإِنْ كَلَّمَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ كَلَّمَهُمَا جَمِيعًا فِي يَوْمٍ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي كَلَّمَهُمَا فِيهِ مُسْتَثْنًى، وَشَرْطُ الْحِنْثِ فِي غَيْرِهِ كَلَامُهُمَا لَا كَلَامُ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَلَّمَهُمَا فِي يَوْمٍ آخَرَ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَقَعَ عَلَى يَوْمٍ مُنَكَّرٍ يُكَلِّمُهُمَا فِيهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ إلَّا يَوْمَ أُكَلِّمُهُمَا فِيهِ، وَلَوْ اسْتَثْنَى يَوْمًا مَعْرُوفًا فَكَلَّمَ أَحَدَهُمَا فِيهِ وَالْآخَرَ فِي الْغَدِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ فِي غَيْرِ الْيَوْمِ الْمُسْتَثْنَى كَلَامُهُمَا وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ بَلْ بَعْضُهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ إذَا قَالَ: لَا أُكَلِّمُهُمَا إلَّا يَوْمًا لَمْ يَحْنَثْ بِكَلَامِهِمَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَلَّمَهُمَا فِي يَوْمٍ آخَرَ حَنِثَ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ إلَّا يَوْمًا وَاحِدًا وَقَدْ وُجِدَ فَصَارَتْ الْيَمِينُ بَعْدَهُ مُطْلَقَةً. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا قَالَ لَا أُكَلِّمُكَ شَهْرًا إلَّا يَوْمًا أَوْ قَالَ غَيْرَ يَوْمٍ أَنَّهُ عَلَى مَا نَوَى، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَهُ أَنْ يَتَحَرَّى أَيَّ يَوْمٍ شَاءَ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى يَوْمًا مُنَكَّرًا وَكُلُّ يَوْمٍ مِنْ الشَّهْرِ يَصْلُحُ لِلِاسْتِثْنَاءِ، فَإِنْ قَالَ نُقْصَانَ يَوْمٍ فَهَذَا عَلَى تِسْعَةٍ

فصل في الحلف على الإظهار والإفشاء والإعلان ونحوها

وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِأَنَّ نُقْصَانَ الشَّهْرِ يَكُونُ مِنْ آخِرِهِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا فَكَلَّمَ أَحَدَهُمَا حَنِثَ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَوْ إذَا ذُكِرَتْ عَقِيبَ كَلِمَةِ النَّفْيِ أَوْجَبَتْ انْتِفَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْكُورِينَ عَلَى الِانْفِرَادِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] أَيْ وَلَا كَفُورًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: وَلَا فُلَانًا لِأَنَّ كَلِمَةَ النَّفْيِ إذَا أُعِيدَتْ تَنَاوَلَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْكُورِينَ عَلَى حِيَالِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يُكَلِّمَهُمَا لِأَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ، وَالْجَمْعُ بِحَرْفِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، فَكَأَنَّهُ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُمَا، فَقَدْ عَلَّقَ الْجَزَاءَ بِشَرْطَيْنِ فَلَا يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا أَوْ فُلَانًا فَإِنْ كَلَّمَ أَحَدَ الْأَوَّلَيْنِ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُكَلِّمْهُمَا، وَإِنْ كَلَّمَ الثَّالِثَ حَنِثَ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ كَلَامَ الْأَوَّلَيْنِ جَمِيعًا أَوْ كَلَامَ الثَّالِثِ، فَأَيُّ ذَلِكَ وُجِدَ حَنِثَ، وَلَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ هَذَا أَوْ هَذَا وَهَذَا فَإِنْ كَلَّمَ الْأَوَّلَ حَنِثَ، وَإِنْ كَلَّمَ أَحَدَ الْآخَرَيْنِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ كَلَامَ الْأَوَّلِ أَوَّلًا ثُمَّ الْآخَرَيْنِ فَيُرَاعَى شَرْطُهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ النَّاسَ أَوْ لَا يُكَلِّمُ بَنِي آدَمَ فَكَلَّمَ وَاحِدًا مِنْهُمْ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْجِنْسِ وَالْعُمُومِ لِأَنَّ الْحَالِفَ إنَّمَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَمَّا فِي وُسْعِهِ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ تَكْلِيمُ النَّاسِ كُلِّهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُرَادَهُ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ فَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُكَلِّمَ بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ، وَلَيْسَ هَهُنَا مَعْهُودٌ يُصْرَفُ اللَّفْظُ إلَيْهِ فَتَعَيَّنَ الصَّرْفُ إلَى بَعْضِ الْجِنْسِ، وَيُضْمَرُ فِيهِ لَفْظَةُ الْبَعْضِ، وَإِنْ عَنَى بِهِ الْكُلَّ لَا يَحْنَثُ أَبَدًا، وَيَكُونُ مُصَدَّقًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَفِي الْقَضَاءِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَهِيَ الْجِنْسُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ الْجِنْسُ بِهَذَا الْكَلَامِ فَقَدْ نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً وَعَلَى هَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ أَوْ لَا يَشْتَرِي الْعَبِيدَ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَبْتَدِئُ فُلَانًا بِكَلَامِهِ أَبَدًا فَالْتَقَيَا فَسَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ مَعًا لَمْ يَحْنَثْ الْحَالِفُ لِعَدَمِ شَرْطِ الْحِنْثِ وَهُوَ ابْتِدَاؤُهُ فُلَانًا بِالْكَلَامِ لِأَنَّ ذَلِكَ بِتَكْلِيمِهِ قَبْلَ تَكْلِيمِ صَاحِبِهِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْتُكَ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَنِي فَإِنَّهُ لَمَّا خَرَجَ كَلَامَاهُمَا مَعًا فَلَمْ يُكَلِّمْ الْحَالِفُ قَبْلَ تَكْلِيمِهِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ، وَلَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْتُكَ حَتَّى تُكَلِّمَنِي فَتَكَلَّمَا مَعًا لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَحْنَثُ. وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْحَالِفَ بِقَوْلِهِ إنْ كَلَّمْتُكَ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ تَكْلِيمِهِ مُطْلَقًا وَجَعَلَ تَكْلِيمَ صَاحِبِهِ إيَّاهُ غَايَةً لِانْحِلَالِ الْيَمِينِ، فَإِذَا كَلَّمَهُ قَبْلَ وُجُودِ الْغَايَةِ حَنِثَ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ غَرَضَ الْحَالِفِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ عَنْ تَكْلِيمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ قَبْلَ كَلَامِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ بَدَأْتُكَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ لَا أُكَلِّمُكَ إلَّا أَنْ تُكَلِّمَنِي لِأَنَّ كَلِمَةَ (إلَّا أَنْ) إذَا دَخَلَتْ عَلَى مَا يَتَوَقَّتُ كَانَتْ بِمَعْنَى حَتَّى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 110] وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ حَتَّى يَدْخُلَهَا فُلَانٌ وَحَلَفَ الْآخَرُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَدَخَلَا جَمِيعًا لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَيَحْنَثُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى الْإِظْهَارِ وَالْإِفْشَاءِ وَالْإِعْلَانِ وَنَحْوِهَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى الْإِظْهَارِ وَالْإِفْشَاءِ وَالْإِعْلَانِ وَالْكِتْمَانِ وَالْإِسْرَارِ وَالْإِخْفَاءِ وَالْإِخْبَارِ وَالْبِشَارَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهَا إذَا حَلَفَ لَا أُظْهِرُ سِرَّكَ لِفُلَانٍ أَوْ لَا أُفْشِي، أَوْ حَلَفَ لَيَكْتُمَنَّ سِرَّهُ أَوْ لَيَسْتُرَنَّهُ أَوْ لَيُخْفِيَنَّهُ فَكَلَّمَ فُلَانًا بِسِرِّهِ أَوْ كَتَبَ إلَيْهِ فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ، أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا فَبَلَّغَهُ الرِّسَالَةَ، أَوْ سَأَلَهُ فُلَانٌ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَكَانَ مِنْ الْأَمْرِ كَذَا فَأَشَارَ الْحَالِفُ بِرَأْسِهِ أَيْ نَعَمْ فَهُوَ حَانِثٌ لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ وَهُوَ إظْهَارُ السِّرِّ إذْ الْإِظْهَارُ إثْبَاتُ الظُّهُورِ وَذَلِكَ لَا يَقِفُ عَلَى الْعِبَارَةِ بَلْ يَحْصُلُ بِالدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ ظَهَرَ لِي اعْتِقَادُ فُلَانٍ إذَا فَعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِقَادِهِ وَكَذَا الْإِشَارَةُ بِالرَّأْسِ عَقِيبَ السُّؤَالِ يَثْبُتُ بِهِ ظُهُورُ الْمُشَارِ إلَيْهِ فَكَانَ إظْهَارًا، فَإِنْ نَوَى بِهِ الْكَلَامَ أَوْ الْكِتَابَ دُونَ الْإِيمَاءِ دِينَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ مَا فِي لَفْظِهِ فَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يُعْلِمُ فُلَانًا بِمَكَانِ فُلَانٍ فَسَأَلَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ أَفُلَانٌ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا؟ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ أَيْ نَعَمْ يَحْنَثُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ إذْ هُوَ إثْبَاتُ الْعِلْمِ الَّذِي يُحَدُّ بِأَنَّهُ صِفَةٌ يَتَجَلَّى بِهَا الْمَذْكُورُ لِمَنْ قَامَتْ هِيَ بِهِ فَإِنْ نَوَى بِهِ الْإِخْبَارَ بِالْكَلَامِ أَوْ بِالْكِتَابِ يُدَيَّنْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ الْعُمُومِ وَإِنَّهُ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ فَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ

تَعَالَى وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِمُخَالَفَتِهِ الظَّاهِرَ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْإِعْلَامِ إخْبَارٌ بِأَنْ حَلَفَ لَا يُخْبِرُ فُلَانًا بِمَكَانِ فُلَانٍ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِالْكَلَامِ أَوْ بِالْكِتَابِ أَوْ بِالرِّسَالَةِ، وَلَوْ أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ لَا يَحْنَثُ. وَكَذَا لَوْ ذَهَبَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى رَأْسِ فُلَانٍ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ هُوَ الْإِخْبَارُ، وَالْإِشَارَةُ لَيْسَتْ بِخَبَرٍ وَكَذَا الْإِيقَافُ عَلَى رَأْسِهِ إذْ الْخَبَرُ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا أَقْسَامُ الْكَلَامِ أَرْبَعَةٌ: أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ وَاسْتِخْبَارٌ، وَيُحَدُّ بِأَنَّهُ كَلَامٌ عُرِّيَ عَنْ مَعْنَى التَّكْلِيفِ وَالْإِشَارَةُ لَيْسَتْ بِكَلَامٍ فَلَمْ تَكُنْ خَبَرًا. وَالْإِيقَافُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ بَابِ الْإِعْلَامِ لَا مِنْ بَابِ الْخَبَرِ، وَكُلُّ خَبَرٍ إعْلَامٌ وَلَيْسَ كُلُّ إعْلَامٍ خَبَرًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْكِتَابَ إذَا قُرِئَ عَلَى إنْسَانٍ. وَقِيلَ لَهُ أَهُوَ كَمَا كُتِبَ فِيهِ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَيْ نَعَمْ لَا يَصِيرُ مُقِرًّا، وَكُلُّ إقْرَارٍ إخْبَارٌ. وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يُقِرُّ لِفُلَانٍ بِمَالٍ فَقِيلَ لَهُ أَلِفُلَانٍ عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَيْ نَعَمْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ إقْرَارًا. وَكَذَا إذَا قَرَأَ عَلَى إنْسَانٍ كِتَابَ الْأَخْبَارِ فَقِيلَ لَهُ أَهُوَ كَمَا قَرَأْتُ عَلَيْكَ؟ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ أَيْ نَعَمْ لَا يَصِيرُ مُقِرًّا، وَكُلُّ إقْرَارٍ إخْبَارٌ. وَكَذَا إذَا قَرَأَ عَلَى إنْسَانٍ كِتَابَ الْأَخْبَارِ فَقِيلَ لَهُ أَهُوَ كَمَا قَرَأْتُ عَلَيْكَ؟ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ أَيْ نَعَمْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ بِحَدَّثَنَا وَلَا بِأَخْبَرَنَا فَدَلَّ أَنَّ الْإِيمَاءَ لَيْسَ بِإِخْبَارٍ، وَلَوْ نَوَى بِالْإِخْبَارِ الْإِظْهَارَ أَوْ الْإِعْلَامَ يَحْنَثُ إذَا أَوْمَأَ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مَجَازًا عَنْ الْإِظْهَارِ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ فَيُصَدَّقُ، ثَمَّ فِي يَمِينِ الْإِظْهَارِ وَالْإِعْلَامِ لَوْ أَرَادَ الْحَالِفُ أَنْ لَا يَحْنَثَ وَيَحْصُلَ الْعِلْمُ وَالظُّهُورُ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ لَهُ إنَّا نَعُدُّ عَلَيْكَ أَمْكِنَةً أَوْ أَشْيَاءَ مِنْ الْأَسْرَارِ فَإِنْ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِمَكَانِ فُلَانٍ وَلَا سِرِّهِ فَقُلْ لَنَا لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ. وَإِنْ تَكَلَّمْنَا بِسِرِّهِ أَوْ بِمَكَانِهِ فَاسْكُتْ فَفَعَلَ ذَلِكَ لَا يَحْنَثُ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْحِنْثِ وَهُوَ الْإِظْهَارُ وَالْإِعْلَامُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِظْهَارَ هُوَ إثْبَاتُ الظُّهُورِ، وَالْإِعْلَامُ هُوَ إثْبَاتُ الْعِلْمِ وَلَمْ يُوجَدْ، لِأَنَّ الظُّهُورَ وَالْعِلْمَ حَصَلَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ مَنْقُولَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَدُلُّهُمْ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فَهَذَا لَيْسَ بِدَلَالَةٍ لِأَنَّ الْحَالِفَ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَهُوَ الدَّلَالَةُ لَا عَلَى فِعْلِهِمْ وَهُوَ الِاسْتِدْلَال، وَالْمَوْجُودُ هَهُنَا فِعْلُهُمْ لَا فِعْلُهُ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ فَلَا يَحْنَثُ، وَلَوْ أَوْمَأَ إلَيْهِمْ بِرَأْسِهِ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِمْ كَانَ ذَلِكَ دَلَالَةً إلَّا أَنْ يَعْنِيَ بِالدَّلَالَةِ الْخَبَرَ بِاللِّسَانِ أَوْ بِالْكِتَابِ فَيَكُونُ عَلَى مَا عَنَى لِأَنَّ اسْمَ الدَّلَالَةِ يَقَعُ عَلَى الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ لِوُجُودِ مَعْنَاهَا فِيهِمَا، فَإِذَا نَوَى بِهِ أَحَدَهُمَا فَقَدْ نَوَى تَخْصِيصَ مَا فِي لَفْظِهِ فَيُصَدَّقُ، وَالْبِشَارَةُ حُكْمُهَا حُكْمُ الْخَبَرِ فِي أَنَّهَا لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الْكَلَامَ أَوْ الْكِتَابَ لِأَنَّهَا خَبَرٌ إلَّا أَنَّهَا خَبَرٌ مَوْصُوفٌ بِصِفَةٍ وَهُوَ الْخَبَرُ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي بَشَرَةِ وَجْهِ الْمُخْبَرِ لَهُ بِإِظْهَارِ أَثَرِ السُّرُورِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُؤَثِّرُ فِي بَشَرَتِهِ بِإِظْهَارِ أَثَرِ الْحُزْنِ مَجَازًا كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] لَكِنْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَقَعُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الثَّانِي بِالْقَرِينَةِ. وَكَذَا الْإِقْرَارُ بِأَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يُقِرَّ لِفُلَانٍ بِحَقِّهِ فَهُوَ عَلَى مِثْلِ الْخَبَرِ، وَلَا يَحْنَثُ بِالْإِشَارَةِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ الْمَاضِي، ثُمَّ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبِشَارَةِ وَالْإِعْلَامِ وَبَيْنَ الْإِخْبَارِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْإِعْلَامَ وَالْبِشَارَةَ يُشْتَرَطُ لِثُبُوتِهَا الصِّدْقُ، فَلَا يَثْبُتَانِ بِالْكَذِبِ وَلَا بِمَا عَلِمَهُ الْمُخَاطَبُ قَبْلَ الْإِعْلَامِ وَالْبِشَارَةِ، سَوَاءٌ وَصَلَ ذَلِكَ بِحَرْفِ الْبَاءِ أَوْ بِكَلِمَةِ إنْ حَتَّى إنَّهُ لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ إنْ أَعْلَمْتنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ أَوْ قَالَ إنْ أَعْلَمْتنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ فَأَخْبَرَهُ كَاذِبًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ إثْبَاتُ الْعِلْمِ وَالْكَذِبُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ. وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُخَاطَبُ عَالِمًا بِقُدُومِهِ لِأَنَّ إثْبَاتَ الثَّابِتِ مُحَالٌ. وَكَذَا فِي الْبِشَارَةِ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِخَبَرٍ سَارٍّ وَالْكَذِبُ لَا يَسُرُّ، وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِقُدُومِهِ فَالسُّرُورُ كَانَ حَاصِلًا وَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُسْتَحِيلٌ. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَإِنْ وَصَلَهُ بِحَرْفِ الْبَاءِ بِأَنْ قَالَ: إنْ أَخْبَرْتَنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ فَالْجَوَابُ فِيهِ وَفِي الْإِعْلَامِ وَالْبِشَارَةِ سَوَاءٌ، وَإِنْ وَصَلَهُ بِكَلِمَةِ إنْ بِأَنْ قَالَ: إنْ أَخْبَرْتنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ فَأَخْبَرَهُ كَاذِبًا أَوْ أَخْبَرَهُ بَعْدَمَا كَانَ عَلِمَ الْمُخَاطَبُ بِقُدُومِهِ بِإِخْبَارِ غَيْرِهِ يَحْنَثْ، وَالْفَرْقُ يُعْرَفُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ بِسِرِّ فُلَانٍ وَلَا بِمَكَانِهِ فَكَتَبَ أَوْ أَشَارَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ وَالْإِشَارَةَ لَيْسَتْ بِكَلَامٍ وَإِنَّمَا تَقُومُ مَقَامَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ إلَيْنَا كِتَابًا؟ وَلَا يُقَالُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي الْعُرْفِ كَلَّمَنَا؟ فَإِنْ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ نَعَمْ فَقَدْ تَكَلَّمَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ نَعَمْ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ وَيُضْمَرُ فِيهِ السُّؤَالُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] أَيْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَقَدْ أُتِيَ بِكَلَامٍ دَالٍّ عَلَى الْمُرَادِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْتَخْدِمُ فُلَانَةَ فَاسْتَخْدَمَهَا بِكَلَامٍ أَوْ أَمَرَهَا بِشَيْءٍ مِنْ خِدْمَةٍ أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا بِالْخِدْمَةِ فَقَدْ اسْتَخْدَمَهَا فَهُوَ حَانِثٌ لِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ طَلَبُ الْخِدْمَةِ وَقَدْ وُجِدَ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ

الْأَيْمَانُ كُلُّهَا وَهُوَ صَحِيحٌ ثُمَّ خَرِسَ فَصَارَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ كَانَتْ أَيْمَانُهُ فِي هَذَا كُلِّهِ عَلَى الْإِشَارَةِ وَالْكِتَابِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِسِرِّ فُلَانٍ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِالتَّكَلُّمِ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْعُرْفِيَّ اسْمٌ لِحُرُوفٍ مَنْظُومَةٍ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى مَفْهُومٍ وَذَلِكَ لَوْ وُجِدَ فِي الْإِشَارَةِ وَالْخَبَرِ وَالْإِفْشَاءِ وَالْإِظْهَارِ مِنْ الْأَخْرَسِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِشَارَةِ فَيَحْنَثُ بِهِمَا وَكُلُّ شَيْءٍ حَنِثَ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالْإِشَارَةِ فَقَالَ أَشَرْتُ وَأَنَا لَا أُرِيدُ الَّذِي حَلَفْتُ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ جَوَابًا بِالشَّيْءِ مِمَّا سُئِلَ عَنْهُ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ فِيهَا احْتِمَالٌ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ دَلَالَةُ حَالٍ زَالَ الِاحْتِمَالُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَرْجِعْ إلَى نِيَّتِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقُولُ كَذَا لِفُلَانٍ فَهُوَ عِنْدِي مِثْلُ الْخَبَرِ وَالْبِشَارَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقُولُ لِفُلَانٍ صَبَّحَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ ثُمَّ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا فَقَالَ قُلْ لِفُلَانٍ يَقُولُ لَكَ فُلَانٌ صَبَّحَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ فَإِنَّهُ حَانِثٌ. قَالَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ الْمُرْسِلُ وَأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْقَائِلُ ذَلِكَ لِفُلَانٍ؟ وَلَوْ كَانَ هُوَ هَذَا الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ. أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَنَا فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ كَذَا؟ وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا بِهَذَا الْأَمْرِ فَهَذَا عَلَى الْكَلَامِ بِعَيْنِهِ لَا يَحْنَثُ بِكِتَابٍ وَلَا رَسُولٍ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَا تَقُولُ كَلَّمَنَا اللَّهُ - تَعَالَى - بِكَذَا؟ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَهُوَ عَلَى الْمُشَافَهَةِ لِأَنَّ مَا سِوَى الْكَلَامِ لَيْسَ بِحَدِيثٍ. وَلَوْ قَالَ أَيُّ عَبِيدِي يُبَشِّرُنِي بِكَذَا فَهُوَ حُرٌّ فَبَشَّرُوهُ جَمِيعًا عَتَقُوا لِوُجُودِ الْبِشَارَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِوُجُودِ حَدِّ الْبِشَارَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَوْ بَشَّرَهُ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ لَمْ يَعْتِقْ الثَّانِي لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَشِّرٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُخْبِرٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ خَبَرَ الثَّانِي لَا يُؤَثِّرُ فِي وَجْهِ الْمُخْبَرِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا طَرِيًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْ بِقِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بَشَّرَنِي بِهِ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ أَخْبَرَنِي بِهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَإِنْ أَرْسَلَ إلَيْهِ أَحَدُهُمْ رَسُولًا فَإِنْ أَضَافَ الرَّسُولُ الْخَبَرَ إلَى الْمُرْسِلِ فَقَالَ إنَّ عَبْدَكَ فُلَانًا يُخْبِرُكَ بِكَذَا عَتَقَ الْعَبْدُ لِأَنَّ الْمُرْسِلَ هُوَ الْمُبَشِّرُ، وَإِنْ أَخْبَرَ الرَّسُولُ وَلَمْ يُضِفْ ذَلِكَ إلَى الْعَبْدِ لَمْ يُعْتَقْ الْعَبْدُ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ مِنْهُ لَا مِنْ الْمُرْسِلِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْتُبُ إلَى فُلَانٍ فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَكَتَبَ فَقَدْ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ سَأَلَنِي هَارُونُ الرَّشِيدُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ - أَصْلَحَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذَا فَقُلْتُ: إنْ كَانَ سُلْطَانًا يَأْمُرُ بِالْكِتَابِ وَلَا يَكَادُ هُوَ يَكْتُبُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ إذًا كَانَ لَا يُبَاشِرُ الْكِتَابَةَ بِنَفْسِهِ عَادَةً بَلْ يَسْتَكْتِبُ غَيْرَهُ فَيَمِينُهُ تَقَعُ عَلَى الْعَادَةِ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْكِتَابَةِ. قَالَ هِشَامٌ: قُلْت لِمُحَمَّدٍ فَمَا تَقُولُ إذَا حَلَفَ لَا يَقْرَأُ لِفُلَانٍ كِتَابًا فَنَظَرَ فِي كِتَابِهِ حَتَّى أَتَى آخِرَهُ وَفَهِمَهُ وَلَمْ يَنْطِقْ بِهِ؟ قَالَ: سَأَلَ هَارُونُ أَبَا يُوسُفَ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَقَالَ لَا يَحْنَثُ، وَلَا أَرَى أَنَا ذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ وَدَاوُد بْنُ رَشِيدٍ وَابْنُ رُسْتُمَ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَحْنَثُ، فَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ الْحَقِيقَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْهُ حَقِيقَةً إذْ الْقِرَاءَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِتَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِالْحُرُوفِ وَلَمْ يُوجَدْ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ الْقَادِرَ عَلَى الْقِرَاءَةِ إذَا لَمْ يُحَرِّكْ لِسَانَهُ بِالْحُرُوفِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ. وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَأُ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ فَنَظَرَ فِيهَا وَفَهِمَهَا وَلَمْ يُحَرِّكْ لِسَانَهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ، وَمَعَانِي كَلَامِ النَّاسِ وَهُمْ إنَّمَا يُرِيدُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْيَمِينِ الِامْتِنَاعَ عَنْ الْوُقُوفِ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ وَقَدْ وَقَفَ عَلَى مَا فِيهِ فَيَحْنَثُ. قَالَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا قَرَأَ الْكِتَابَ إلَّا سَطْرًا قَالَ كَأَنَّهُ قَرَأَهُ، قُلْتُ: فَإِنْ قَرَأَ نِصْفَهُ قَالَ لَا يَعْنِي لَمْ يَقْرَأْهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا قَرَأَ بَعْضَهُ فَإِنْ أَتَى عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا فَكَأَنَّهُ قَدْ قَرَأَهُ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالْكِتَابِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَأُ سُورَةً فَتَرَكَ مِنْهَا حَرْفًا حَنِثَ، وَإِنْ تَرَكَ آيَةً طَوِيلَةً لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ يُسَمَّى قَارِئًا لِلسُّورَةِ مَعَ تَرْكِ حَرْفٍ مِنْهَا وَلَا يُسَمَّى مَعَ تَرْكِ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْآيَةِ الطَّوِيلَةِ. وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا أُبْلِغُكَ مِثْلُ لَا أُخْبِرُكَ، وَكَذَلِكَ أُذَكِّرُكَ بِشَيْءٍ أَوْ لَا أُذَكِّرُكَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِالْكِتَابِ،. فَأَمَّا الذِّكْرُ وَالْإِخْبَارُ وَالْإِعْلَامُ وَالْإِبْلَاغُ عَلَى الْكِتَابِ وَالْقَوْلِ وَالْكَلَامُ عَلَى الْكِتَابِ أَيْضًا قَالَ عُمَرُ وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَتَمَثَّلُ بِشِعْرٍ فَتَمَثَّلَ بِنِصْفِ بَيْتٍ قَالَ: لَا يَحْنَثُ. قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ نِصْفَ الْبَيْتِ مِنْ شِعْرِ آخَرَ؟ قَالَ لَا أَدْرِي مَا هَذَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الشِّعْرَ مَا ظَهَرَ فِيهِ النَّظْمُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي بَيْتٍ. قَالَ: وَسَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ رَجُلٍ فَارِسِيٍّ حَلَفَ أَنْ يَقْرَأَ (الْحَمْدُ) بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَرَأَهَا فَلَحَنَ قَالَ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ حَلَفَ رَجُلٌ فَصِيحٌ أَنْ يَقْرَأَ (الْحَمْدُ) بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَرَأَهَا فَلَحَنَ

فصل في الحلف على الأكل والشرب ونحوهما

حَنِثَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا نِيَّةٌ لِأَنَّ الْعَرَبِيَّ إنَّمَا أَرَادَ بِيَمِينِهِ أَنْ يَقْرَأَ بِمَوْضُوعِ الْعَرَبِ وَذَلِكَ الْمُعَرَّبُ دُونَ الْمَلْحُونِ،. فَأَمَّا الْعَجَمِيُّ فَإِنَّمَا يُرِيدُ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ دُونَ الْعَجَمِيَّةِ وَالْمَلْحُونُ يُعَدُّ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِهِمَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالذَّوْقِ وَالْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ وَالسُّحُورِ وَالضَّحْوَةِ وَالتَّصَبُّحِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَعَانِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَالْأَكْلُ هُوَ إيصَالُ مَا يَحْتَمِلُهُ الْمَضْغُ بِفِيهِ إلَى الْجَوْفِ مُضِغَ أَوْ لَمْ يُمْضَغْ كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَالْفَاكِهَةِ وَنَحْوِهَا، وَالشُّرْبُ إيصَالُ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْمَضْغَ مِنْ الْمَائِعَاتِ إلَى الْجَوْفِ مِثْلِ الْمَاءِ وَالنَّبِيذِ وَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ وَالْمَمْخُوضِ وَالسَّوِيقِ الْمَمْخُوضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ يَحْنَثْ وَإِلَّا فَلَا يَحْنَثُ إلَّا إذَا كَانَ يُسَمَّى ذَلِكَ أَكْلًا أَوْ شُرْبًا فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَيَحْنَثُ إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ كَذَا وَلَا يَشْرَبُهُ فَأَدْخَلَهُ فِي فِيهِ وَمَضَغَهُ ثُمَّ أَلْقَاهُ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يُدْخِلَهُ فِي جَوْفِهِ لِأَنَّهُ بِدُونِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ أَكْلًا وَشُرْبًا بَلْ يَكُونُ ذَوْقًا لِمَا نَذْكُرُ مَعْنَى الذَّوْقِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِهِ، قَالَ هِشَامٌ سَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذِهِ الْبَيْضَةَ أَوْ لَا يَأْكُلُ هَذِهِ الْجَوْزَةَ فَابْتَلَعَهَا قَالَ قَدْ حَنِثَ لِوُجُودِ حَدِّ الْأَكْلِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ عِنَبًا أَوْ رُمَّانًا فَجَعَلَ يَمْضُغُهُ وَيَرْمِي بِثِفَلِهِ وَيَبْلَعُ مَاءَهُ لَمْ يَحْنَثْ فِي الْأَكْلِ وَلَا فِي الشُّرْبِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِأَكْلٍ وَلَا شُرْبٍ بَلْ هُوَ مَصٌّ. وَإِنْ عَصَرَ مَاءَ الْعِنَبِ فَلَمْ يَشْرَبْهُ بِهِ وَأَكَلَ قِشْرَهُ وَحِصْرِمَهُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّ الذَّاهِبَ لَيْسَ إلَّا الْمَاءَ وَذَهَابُ الْمَاءِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَكْلًا لَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا مَضَغَهُ وَابْتَلَعَ الْمَاءَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ أَكْلًا بِابْتِلَاعِ الْمَاءِ بَلْ بِابْتِلَاعِ الْحِصْرِمِ فَدَلَّ أَنَّ أَكْلَ الْعِنَبِ هُوَ أَكْلُ الْقِشْرِ وَالْحِصْرِمِ مِنْهُ وَقَدْ وُجِدَ فَيَحْنَثُ. وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ سُكَّرًا فَأَخَذَ سُكَّرَةً فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَجَعَلَ يَبْلَعُ مَاءَهَا حَتَّى ذَابَتْ قَالَ لَمْ يَأْكُلْ لِأَنَّهُ حِينَ أَوْصَلَهَا إلَى فِيهِ وَصَلَتْ وَهِيَ لَا تَحْتَمِلُ الْمَضْغَ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُمَّانًا فَمَصَّ رُمَّانَةً أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا اللَّبَنَ فَأَكَلَهُ بِخُبْزٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الْخَلَّ فَأَكَلَهُ بِخُبْزٍ يَحْنَثُ لِأَنَّ أَكْلَ اللَّبَنِ هَكَذَا يَكُونُ وَكَذَلِكَ الْخَلُّ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْإِدَامِ فَيَكُونُ أَكْلُهُ بِالْخُبْزِ كَاللَّبَنِ، فَإِنْ أَكَلَ ذَلِكَ بِانْفِرَادِهِ لَا يَحْنَثْ لِأَنَّ ذَلِكَ شُرْبٌ وَلَيْسَ بِأَكْلٍ، فَإِنْ صَبَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءَ ثُمَّ شَرِبَهُ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِهِ لَا آكُلُ لِعَدَمِ الْأَكْلِ، وَيَحْنَثُ فِي قَوْلِهِ لَا أَشْرَبُ لِوُجُودِ الشُّرْبِ، وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الْخُبْزَ فَجَفَّفَهُ ثُمَّ دَقَّهُ وَصَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَشَرِبَهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ هَذَا شُرْبٌ لَا أَكْلٌ، فَإِنْ أَكَلَهُ مَبْلُولًا أَوْ غَيْرَ مَبْلُولٍ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْخُبْزَ هَكَذَا يُؤْكَلُ عَادَةً، وَكَذَلِكَ السَّوِيقُ إذَا شَرِبَهُ بِالْمَاءِ فَهُوَ شَارِبٌ وَلَيْسَ بِآكِلٍ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا فَإِنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَالْفَاكِهَةِ سِوَى التَّمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَقَعُ عَلَى مَا يُؤْكَلُ عَلَى سَبِيلِ الْإِدَامِ مَعَ الْخُبْزِ لِأَنَّ الطَّعَامَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يُطْعَمُ إلَّا أَنَّهُ فِي الْعُرْفِ اخْتَصَّ بِمَا يُؤْكَلُ بِنَفْسِهِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ عَادَةً وَلَا يَقَعُ عَلَى الْهَلِيلَجِ وَالسَّقَمُونْيَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَطْعُومًا فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ عَادَةً، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِ فُلَانٍ فَأَخَذَ مِنْ خَلِّهِ أَوْ زَيْتِهِ أَوْ كَامَخِهِ أَوْ مِلْحِهِ فَأَكَلَ بِطَعَامِ نَفْسِهِ يَحْنَثُ لِأَنَّ الْعَادَةَ قَدْ جَرَتْ بِأَكْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَعَ الْخُبْزِ إدَامًا لَهُ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ» فَكَانَ طَعَامًا عُرْفًا فَيَحْنَثُ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ نَبِيذِ فُلَانٍ أَوْ مَائِهِ فَأَكَلَ بِهِ خُبْزًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ عَادَةً فَلَا يُسَمَّى طَعَامًا. وَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْخَلُّ طَعَامٌ وَالنَّبِيذُ وَالْمَاءُ شَرَابٌ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْخَلُّ وَالْمِلْحُ طَعَامٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْخَلَّ وَالْمِلْحَ مِمَّا يُؤْكَلُ مَعَ غَيْرِهِ عَادَةً، وَالنَّبِيذُ وَالْمَاءُ لَا يُؤْكَلُ عَادَةً. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي طَعَامًا فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا، وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَقَعَ عَلَى جَمِيعِ الْمَطْعُومَاتِ كَمَا فِي الْيَمِينِ عَلَى الْأَكْلِ إلَّا أَنَّ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَقَعُ عَلَى الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَتِمُّ بِنَفْسِهِ بَلْ بِالْبَائِعِ، وَبَائِعُ الْحِنْطَةِ يُسَمَّى بَائِعَ الطَّعَامِ فِي الْعُرْفِ، وَالْأَكْلُ يَتِمُّ بِنَفْسِهِ فَيُعْتَبَرُ نَفْسُ الْأَكْلِ دُونَ غَيْرِهِ وَصَارَ هَذَا كَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي حَدِيدًا فَاشْتَرَى سَيْفًا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ بَائِعَهُ لَا يُسَمَّى حَدَّادًا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَمَسُّ حَدِيدًا فَمَسَّ سَيْفًا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْمَسَّ فِعْلٌ يَتِمُّ بِنَفْسِهِ وَعَلَى هَذَا بَابُ الزِّيَادَاتِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا فَاضْطُرَّ إلَى مَيْتَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا لَمْ يَحْنَثْ. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُحَمَّدٍ. وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَحْنَثُ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَيْتَةَ فِي حَالِ الْمَخْمَصَةِ طَعَامٌ مُبَاحٌ فِي حَقِّ الْمُضْطَرِّ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ الْمُبَاحِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فَيَحْنَثُ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَإِحْدَى

الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الطَّعَامِ لَا يَتَنَاوَلُهُ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى طَعَامًا عُرْفًا وَعَادَةً لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ عَادَةً، وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى مَعَانِي كَلَامِ النَّاسِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَرَامًا فَاضْطُرَّ إلَى مَيْتَةٍ فَأَكَلَهَا قَالَ لَا يَحْنَثُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ حَانِثٌ فِي يَمِينِهِ وَإِثْمُهُ مَوْضُوعٌ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَيْتَةَ مُحَرَّمَةٌ، وَالرُّخْصَةُ أَثَرُهَا فِي تَغْيِيرِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ لَا فِي تَغْيِيرِ وَصْفِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ كَالْمُكْرَهِ عَلَى أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ. وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَهِيَ الصَّحِيحَةُ أَنَّ الْمَيْتَةَ حَالَ الْمَخْمَصَةِ مُبَاحَةٌ مُطْلَقًا لَا حَظْرَ فِيهَا بِوَجْهٍ فِي حَقِّ الْمُضْطَرِّ، وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي تَغْيِيرِ الْحُكْمِ وَالْوَصْفِ جَمِيعًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ حَتَّى مَاتَ يُؤَاخَذُ بِهِ وَلَوْ بَقِيَتْ الْحُرْمَةُ لَمْ تَثْبُتْ الْمُؤَاخَذَةُ كَمَا لَوْ امْتَنَعَ مِنْ تَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ أَوْ الْإِكْرَاهِ. وَقَالَ خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ: سَأَلْتُ أَسَدَ بْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَرَامًا فَأَكَلَ لَحْمَ قِرْدٍ أَوْ كَلْبٍ أَوْ حِدَأَةٍ أَوْ غُرَابٍ قَالَ لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ ذَلِكَ فَيَحْنَثَ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْحَرَامِ هُوَ مَا تَثْبُتُ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَحُرْمَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ. وَقَالَ خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ: سَأَلْت الْحَسَنَ فَقَالَ: هَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ لِقِيَامِ دَلِيلِ الْحُرْمَةِ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا بِهِ. وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ حَرَامًا قَالَ هَذَا عَلَى الزِّنَا لِأَنَّ الْحَرَامَ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْحَرَامِ لِعَيْنِهِ وَهُوَ الزِّنَا، وَلِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الزِّنَا فِي الْعُرْفِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ خَصِيًّا أَوْ مَجْبُوبًا فَهُوَ عَلَى الْقُبْلَةِ الْحَرَامِ وَمَا أَشْبَهَهَا،. ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَطَأُ امْرَأَةً وَطْئًا حَرَامًا فَوَطِئَ امْرَأَتَهُ وَقَدْ ظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ وَهِيَ حَائِضٌ قَالَ لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ بِعَارِضِ الْحَيْضِ وَالظِّهَارِ وَمُطْلَقُ التَّحْرِيمِ لَا يَقَعُ عَلَى التَّحْرِيمِ الْعَارِضِ. ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَرَامًا فَاشْتَرَى بِدِرْهَمٍ غَصَبَهُ مِنْ إنْسَانٍ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْحَرَامِ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَا كَانَتْ حُرْمَتُهُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحُرْمَةُ هَذَا لِحَقِّ الْعَبْدِ، وَلَوْ غَصَبَ خُبْزًا أَوْ لَحْمًا فَأَكَلَهُ يَحْنَثُ بِعُرْفِ النَّاسِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ فُلَانٌ فَأَكَلَ مِنْ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ مَعَ آخَرَ حَنِثَ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى شِرَاءَهُ وَحْدَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامٍ مَلَكَهُ فُلَانٌ لِأَنَّ بَعْضَ الطَّعَامِ طَعَامٌ حَقِيقَةً وَيُسَمَّى طَعَامًا عُرْفًا أَيْضًا بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلَ دَارًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ بَعْضَ الدَّارِ لَا يُسَمَّى دَارًا، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا يَمْلِكُهُ فُلَانٌ أَوْ يَشْتَرِيهِ فُلَانٌ فَلَبِسَ ثَوْبًا اشْتَرَاهُ فُلَانٌ مَعَ آخَرَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ بَعْضَ الثَّوْبِ لَا يُسَمَّى ثَوْبًا. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ إدَامًا فَالْإِدَامُ كُلُّ مَا يُضْطَبَعُ بِهِ مَعَ الْخُبْزِ عَادَةً كَاللَّبَنِ وَالزَّيْتِ وَالْمَرَقِ وَالْخَلِّ وَالْعَسَلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمَا لَا يُضْطَبَعُ بِهِ فَلَيْسَ بِإِدَامٍ مِثْلُ اللَّحْمِ وَالشَّوَى وَالْجُبْنِ وَالْبِيضِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إنَّ كُلَّ مَا يُؤْكَلُ بِالْخُبْزِ فَهُوَ إدَامٌ مِثْلُ اللَّحْمِ وَالشَّوَى وَالْبَيْضِ وَالْجُبْنِ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْجَوْزَ الْيَابِسَ إدَامٌ، وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «سَيِّدُ إدَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اللَّحْمُ وَسَيِّدُ رَيَاحِينِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْفَاغِيَةُ وَهِيَ وَرْدُ الْحِنَّاءِ» وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّ الْإِدَامَ مِنْ الِائْتِدَامِ وَهُوَ الْمُوَافَقَةُ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُغِيرَةَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً: «لَوْ نَظَرْتَ إلَيْهَا لَكَانَ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» أَيْ يَكُونَ بَيْنَكُمَا الْمُوَافَقَةُ، وَمَعْنَى الْمُوَافَقَةِ بَيْنَ الْخُبْزِ وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْأَكْلِ ظَاهِرٌ فَكَانَتْ إدَامًا، وَلِأَنَّ النَّاسَ يَأْتَدِمُونَ بِهَا عُرْفًا وَعَادَةً، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَعْنَى الْإِدَامِ وَهُوَ الْمُوَافَقَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْكَمَالُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِيمَا لَا يُؤْكَلُ بِنَفْسِهِ مَقْصُودًا بَلْ يُؤْكَلُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ عَادَةً. وَأَمَّا مَا يُؤْكَلُ بِنَفْسِهِ مَقْصُودًا فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْمُوَافَقَةِ، وَمَا لَا يُضْطَبَعُ يُؤْكَلُ بِنَفْسِهِ فَيَخْتَلُّ مَعْنَى الْإِدَامِ فِيهِ، وَاللَّحْمُ وَنَحْوُهُ مِمَّا يُؤْكَلُ بِنَفْسِهِ عَادَةً مَعَ أَنَّ مِنْ سُكَّانِ الْبَرَارِيِّ مَنْ لَا يَتَغَذَّى إلَّا بِاللَّحْمِ وَبِهِ تَبَيَّنَّ أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْإِدَامِ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ. وَالْبِطِّيخُ لَيْسَ بِإِدَامٍ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ الِاضْطِبَاعُ بِهِ وَلَا يُؤْكَلُ بِالْخُبْزِ عَادَةً. وَكَذَا الْبَقْلُ لَيْسَ بِإِدَامٍ فِي قَوْلِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ آكِلَهُ لَا يُسَمَّى مُؤْتَدِمًا؟ وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا مَأْدُومًا؟ فَقَالَ الْخُبْزُ الْمَأْدُومُ الَّذِي يُثْرَدُ ثَرْدًا يَعْنِي فِي الْمَرَقِ وَالْخَلِّ وَمَا أَشْبَهَهُ، فَقِيلَ لَهُ: فَإِنْ ثَرَدَهُ فِي مَاءٍ أَوْ مِلْحٍ فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ مَأْدُومًا لِأَنَّ مَنْ أَكَلَ خُبْزًا بِمَاءٍ لَا يُسَمَّى مُؤْتَدِمًا فِي الْعُرْفِ. وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إنَّ تَسْمِيَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا يَعْرِفُ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ فِي كَلَامِهِمْ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ

خُبْزًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهُوَ عَلَى خُبْزِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ إلَّا إنْ كَانَ الْحَالِفُ فِي بَلَدٍ لَا يُؤْكَلُ فِيهَا إلَّا خُبْزُ الْحِنْطَةِ فَإِنَّ يَمِينَهُ تَقَعُ عَلَى خُبْزِ الْحِنْطَةِ لَا غَيْر، وَإِنْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِ لَوْزِينَجٍ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَاهُ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِ الذُّرَةِ وَالْأَرُزِّ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ بِلَادٍ ذَلِكَ طَعَامُهُمْ حَنِثَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّنْ لَا يَأْكُلُ ذَلِكَ عَامَّتُهُمْ لَا يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ لِأَنَّ اسْمَ الْخُبْزِ يَقَعُ عَلَى خُبْزِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَلَا يُرَادُ بِهِ خُبْزُ الْقَطَائِفِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ. وَكَذَا خُبْزُ الْأَرُزِّ فِي الْبِلَادِ الَّتِي لَا يُعْتَادُ أَكْلُهُ فِيهَا. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَيُّ لَحْمٍ أَكَلَ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ غَيْرَ السَّمَكِ يَحْنَثُ، ثُمَّ يُسْتَوَى فِيهِ الْمُحَرَّمُ وَغَيْرُ الْمُحَرَّمِ وَالْمَطْبُوخُ وَالْمَشْوِيُّ وَالضَّعِيفُ لِأَنَّ اللَّحْمَ اسْمٌ لِأَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَعِيشُ فِي الْبَرِّ فَيَحْنَثُ إذَا أَكَلَ لَحْمَ مَيْتَةٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ إنْسَانٍ أَوْ لَحْمَ شَاةٍ تَرَكَ ذَابِحُهَا التَّسْمِيَةَ عَلَى ذَبْحِهَا عَمْدًا أَوْ أَكَلَ ذَبِيحَةَ مَجُوسِيٍّ أَوْ مُرْتَدٍّ أَوْ لَحْمَ صَيْدٍ ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ. وَيَسْتَوِي فِيهِ لَحْمُ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْإِبِلِ لِأَنَّ اسْمَ اللَّحْمِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَإِنْ أَكَلَ سَمَكًا لَا يَحْنَثْ وَإِنْ سَمَّاهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَحْمًا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ اسْمُ اللَّحْمِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ مَا أَكَلْت اللَّحْمَ كَذَا وَكَذَا يَوْمًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَكَلَ سَمَكًا. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً فَرَكِبَ كَافِرًا لَا يَحْنَثْ وَإِنْ سَمَّاهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - دَابَّةً بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 55] وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يُخَرِّبُ بَيْتًا فَخَرَّبَ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ سَمَّاهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بَيْتًا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] وَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ يَسْكُنُ الْمَاءَ فَهُوَ مِثْلُ السَّمَكِ. وَلَوْ أَكَلَ أَحْشَاءَ الْبَطْنِ مِثْلَ الْكَرِشِ وَالْكَبِدِ وَالْفُؤَادِ وَالْكُلَى وَالرِّئَةِ وَالْأَمْعَاءِ وَالطِّحَالِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي هَذَا كُلِّهِ إلَّا فِي شَحْمِ الْبَطْنِ، وَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُبَاعُ مَعَ اللَّحْمِ. وَأَمَّا فِي الْبِلَادِ الَّتِي لَا يُبَاعُ مَعَ اللَّحْمِ أَيْضًا فَلَا يَحْنَثُ بِهِ،. فَأَمَّا شَحْمُ الْبَطْنِ فَلَيْسَ بِلَحْمٍ وَلَا يُتَّخَذُ مِنْهُ مَا يُتَّخَذُ مِنْ اللَّحْمِ وَلَا يُبَاعُ مَعَ اللَّحْمِ أَيْضًا، فَإِنْ نَوَاهُ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ الْأَلْيَةُ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِلَحْمٍ، فَإِنْ أَكَلَ شَحْمَ الظَّهْرِ أَوْ مَا هُوَ عَلَى اللَّحْمِ حَنِثَ لِأَنَّهُ لَحْمٌ لَكِنَّهُ لَحْمٌ سَمِينٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ لَحْمٌ سَمِينٌ؟ وَكَذَا يُتَّخَذُ مِنْهُ مَا يُتَّخَذُ مِنْ اللَّحْمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكَلَ رُءُوسَ الْحَيَوَانَاتِ مَا خَلَا السَّمَكَ يَحْنَثُ لِأَنَّ الرَّأْسَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ فَكَانَ لَحْمُهُ كَلَحْمِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي لَحْمًا فَاشْتَرَى رَأْسًا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ مُشْتَرِيَهُ لَا يُسَمَّى مُشْتَرِيَ لَحْمٍ وَإِنَّمَا يُقَالُ اشْتَرَى رَأْسًا. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا فَاشْتَرَى شَحْمَ الظَّهْرِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَحْنَثُ. وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي شَحْمًا فَأَيَّ شَحْمٍ اشْتَرَى لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ شَحْمَ الْبَطْنِ. وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا، وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146] وَالْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَدَلَّ أَنَّ شَحْمَ الظَّهْرِ شَحْمٌ حَقِيقَةً وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى شَحْمًا عُرْفًا وَعَادَةً بَلْ يُسَمَّى لَحْمًا سَمِينًا فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الشَّحْمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَتَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ شَحْمًا لَا يَدُلُّ عَلَى دُخُولِهِ تَحْتَ الْيَمِينِ إذَا لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ مُتَعَارَفًا لِأَنَّ مُطْلَقَ كَلَامِ النَّاسِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَتَعَارَفُونَهُ كَمَا ضَرَبْنَا مِنْ الْأَمْثِلَةِ فِي لَحْمِ السَّمَكِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 16] . وَقَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {الأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19] ثُمَّ لَا يَدْخُلَانِ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْبِسَاطِ وَالسِّرَاجِ كَذَا هَذَا، وَقَدْ قَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي شَحْمًا وَلَا لَحْمًا فَاشْتَرَى أَلْيَةً أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَحْمٍ وَلَا لَحْمٍ. وَقَالَ عَمْرٌو عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَحْمًا فَاشْتَرَى شَحْمَ الظَّهْرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَمْرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الشَّحْمِ لَا يَتَنَاوَلُ شَحْمَ الظَّهْرِ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَى مُحَمَّدٍ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَهُ لَحْمَ دَجَاجٍ فَأَكَلَ لَحْمَ دِيكٍ حَنِثَ لِأَنَّ الدَّجَاجَ اسْمٌ لِلْأُنْثَى وَالذَّكَرِ جَمِيعًا. قَالَ جَرِيرٌ لَمَّا مَرَرْت بِدَيْرِ الْهِنْدِ أَرَّقَنِي ... صَوْتُ الدَّجَاجِ وَضَرْبٌ بِالنَّوَاقِيسِ فَأَمَّا الدَّجَاجَةُ فَإِنَّهَا اسْمٌ لِلْأُنْثَى، وَالدِّيكُ اسْمٌ لِلذَّكَرِ، وَاسْمُ الْإِبِلِ يَقَعُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ» وَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ خَاصَّةً. وَكَذَا اسْمُ الْجَمَلِ وَالْبَعِيرِ وَالْجَزُورِ. وَكَذَا هَذِهِ الْأَسَامِي الْأَرْبَعَةُ تَقَعُ عَلَى الْبَخَاتِيِّ وَالْعِرَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِبِلِ وَاسْمُ الْبُخْتِيِّ لَا يَقَعُ عَلَى الْعَرَبِيِّ وَكَذَا اسْمُ الْعَرَبِيِّ لَا يَقَعُ

عَلَى الْبُخْتِيِّ، وَاسْمُ الْبَقَرِ يَقَعُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ» وَأَرَادَ بِهِ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ جَمِيعًا. وَكَذَا اسْمُ الْبَقَرَةِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] وَقِيلَ إنَّ بَقَرَةَ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَتْ ذَكَرًا وَتَأْنِيثُهَا بِالذِّكْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة: 68] لِتَأْنِيثِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ} [الأحزاب: 13] وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] وَالشَّاةُ تَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةٌ» وَالْمُرَادُ مِنْهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ. وَكَذَا الْغَنَمُ اسْمُ جِنْسٍ، وَالنَّعْجَةُ اسْمٌ لِلْأُنْثَى، وَالْكَبْشُ لِلذَّكَرِ، وَالْفَرَسُ اسْمٌ لِلْعِرَابِ ذَكَرِهَا وَأُنْثَاهَا، وَالْبِرْذَوْنُ اسْمٌ لِغَيْرِ الْعِرَابِ مِنْ الطَّحَارِيَّةِ ذَكَرِهَا وَأُنْثَاهَا، وَقَالُوا إنَّ الْبِرْذَوْنَ اسْمٌ لِلتُّرْكِيِّ ذَكَرِهِ وَأُنْثَاهُ وَالْخَيْلُ اسْمُ جِنْسٍ يَتَنَاوَلُ الْأَفْرَاسَ الْعِرَابِ وَالْبَرَاذِينَ، وَالْحِمَارُ اسْمٌ لِلذَّكَرِ وَالْحِمَارَةُ وَالْأَتَانُ اسْمٌ لِلْأُنْثَى، وَالْبَغْلُ وَالْبَغْلَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْمٌ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رَأْسًا فَإِنْ نَوَى الرُّءُوسَ كُلَّهَا مِنْ السَّمَكِ وَالْغَنَمِ وَغَيْرِهَا فَأَيَّ ذَلِكَ أَكَلَ حَنِثَ لِأَنَّ اسْمَ الرَّأْسِ يَقَعُ عَلَى الْكُلِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى رُءُوسِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ خَاصَّةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الْيَمِينُ الْيَوْمَ عَلَى رُءُوسِ الْغَنَمِ خَاصَّةً، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ لَا آكُلُ رَأْسًا فَبِظَاهِرِهِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ رَأْسٍ لَكِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْعُمُومَ غَيْرُ مُرَادٍ لِأَنَّ اسْمَ الرَّأْسِ يَقَعُ عَلَى رَأْسِ الْعُصْفُورِ وَرَأْسِ الْجَرَادِ وَيُعْلَمُ أَنَّ الْحَالِفَ مَا أَرَادَ ذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ الْمُرَادُ بَعْضَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ وَهُوَ الَّذِي يُكْبَسُ فِي التَّنُّورِ وَيُبَاعُ فِي السُّوقِ عَادَةً، فَكَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَأَى أَهْلَ الْكُوفَةِ يَكْبِسُونَ رُءُوسَ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْإِبِلِ وَيَبِيعُونَهَا فِي السُّوقِ فَحُمِلَ الْيَمِينُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ رَآهُمْ تَرَكُوا رُءُوسَ الْإِبِلِ وَاقْتَصَرُوا عَلَى رُءُوسِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ فَحَمَلَ الْيَمِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ دَخَلَا بَغْدَادَ وَقَدْ تَرَكَ النَّاسُ الْبَقَرَ وَاقْتَصَرُوا عَلَى الْغَنَمِ فَحَمَلَا الْيَمِينَ عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي الْحَقِيقَةِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بَيْضًا فَإِنْ نَوَى بَيْضَ كُلِّ شَيْءٍ بَيْضَ السَّمَكِ وَغَيْرِهِ فَأَيَّ ذَلِكَ أَكَلَ حَنِثَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى بَيْضِ الطَّيْرِ كُلِّهِ الْإِوَزِّ وَالدَّجَاجِ وَغَيْرِهِمَا وَلَا يَحْنَثُ إذَا أَكَلَ بَيْضَ السَّمَكِ لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْضِ يَقَعُ عَلَى الْكُلِّ فَإِذَا نَوَى فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ الِاسْمُ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَيَقَعُ عَلَى مَا لَهُ قِشْرٌ وَهُوَ بَيْضُ الطَّيْرِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَبِيخًا فَالْقِيَاسُ يَنْصَرِفُ إلَى كُلِّ مَا يُطْبَخُ مِنْ اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ طَبِيخٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ صُرِفَ إلَى اللَّحْمِ خَاصَّةً وَهُوَ اللَّحْمُ الَّذِي يُجْعَلُ فِي الْمَاءِ وَيُطْبَخُ لِيَسْهُلَ أَكْلُهُ لِلْعُرْفِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ أَكَلَ الْبَاقِلَاءَ إنَّهُ أَكَلَ الطَّبِيخَ وَإِنْ كَانَ طَبِيخًا حَقِيقَةً وَإِنْ أَكَلَ سَمَكًا مَطْبُوخًا لَا يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى طَبِيخًا فِي الْعُرْفِ فَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ لَا يَأْكُلُ طَبِيخًا مِنْ اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى لِأَنَّهُ طَبِيخٌ حَقِيقَةً وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شِوَاءً وَهُوَ يَنْوِي كُلَّ شَيْءٍ يُشْوَى فَأَيَّ ذَلِكَ أَكَلَ الْحِنْث وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى اللَّحْمِ خَاصَّةً لِأَنَّ حَقِيقَةَ الشِّوَاءِ هِيَ مَا يُشْوَى بِالنَّارِ لِيَسْهُلَ أَكْلُهُ إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى اللَّحْمِ الْمَشْوِيِّ دُونَ غَيْرِهِ لِلْعُرْفِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ لَمْ يَأْكُلْ الشِّوَاءَ وَإِنْ أَكَلَ الْبَاذِنْجَانَ الْمَشْوِيَّ وَالْجَزَرَ الْمَشْوِيَّ وَيُسَمَّى بَائِعُ اللَّحْمِ الْمَشْوِيِّ شَاوِيًا فَإِنْ أَكَلَ سَمَكًا مَشْوِيًّا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَإِنْ أَكَلَ قَلِيَّةً يَابِسَةً أَوْ لَوْنًا مِنْ الْأَلْوَانِ لَا مَرَقَ فِيهِ لَا يَحْنَثْ لِأَنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى طَبِيخًا وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ لَحْمٌ مَقْلِيٌّ وَلَا يُقَالُ مَطْبُوخٌ إلَّا لِلَحْمٍ طُبِخَ فِي الْمَاءِ فَإِنْ طَبَخَ مِنْ اللَّحْمِ طَبِيخًا لَهُ مَرَقٌ فَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهِ أَوْ مِنْ مَرَقِهِ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يُقَالُ أَكَلَ الطَّبِيخَ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ لَحْمَهُ لِأَنَّ الْمَرَقَ فِيهِ أَجْزَاءُ اللَّحْمِ. قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي الْيَمِينِ عَلَى الطَّبِيخِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الشَّحْمِ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ يُسَمَّى طَبِيخًا فِي الْعَادَةِ فَإِنْ طَبَخَ عَدَسًا بِوَدِكٍ فَهُوَ طَبِيخٌ وَكَذَلِكَ إنْ طَبَخَهُ بِشَحْمٍ أَوْ أَلْيَةٍ فَإِنْ طَبَخَهُ بِسَمْنٍ أَوْ زَيْتٍ لَمْ يَكُنْ طَبِيخًا وَلَا يَكُونُ الْأَرُزُّ طَبِيخًا وَلَا يَكُونُ الطَّبَاهِجُ طَبِيخًا وَلَا الْجَوَاذِبُ طَبِيخًا وَالِاعْتِمَادُ فِيهِ عَلَى الْعُرْفِ. وَقَالَ دَاوُد بْنُ رَشِيدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَبِيخِ امْرَأَتِهِ فَسَخَّنَتْ لَهُ قِدْرًا قَدْ طَبَخَهَا غَيْرُهَا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الطَّبِيخَ فَعِيلٌ مِنْ طَبَخَ وَهُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَسْهُلُ بِهِ أَكْلُ اللَّحْمِ وَذَلِكَ وُجِدَ مِنْ الْأَوَّلِ مِنْهَا. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْحُلْوُ فَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْحُلْوَ عِنْدَهُمْ كُلُّ حُلْوٍ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ حَامِضٌ وَمَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ حَامِضٌ فَلَيْسَ بِحُلْوٍ وَالْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى

الْعُرْفِ فَيَحْنَثُ بِأَكَلِ الْخَبِيصِ وَالْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ وَالنَّاطِفِ وَالرَّبِّ وَالرُّطَبِ وَالتَّمْرِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَكَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا أَكَلَ تِينًا رَطْبًا أَوْ يَابِسًا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا حَامِضٌ فَخَلَصَ مَعْنَى الْحَلَاوَةِ فِيهِ وَلَوْ أَكَلَ عِنَبًا حُلْوًا أَوْ بِطِّيخًا حُلْوًا أَوْ رُمَّانًا حُلْوًا أَوْ إجَّاصًا حُلْوًا لَوْ يَحْنَث لِأَنَّ مِنْ جِنْسِهِ مَا لَيْسَ بِحُلْوٍ فَلَمْ يَخْلُصْ مَعْنَى الْحَلَاوَةِ فِيهِ وَكَذَا الزَّبِيبُ لَيْسَ مِنْ الْحُلْوِ لِأَنَّ مِنْ جِنْسِهِ مَا هُوَ حَامِضٌ وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَلَاوَةً فَهُوَ مِثْلُ الْحَلْوَى. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ تَمْرًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَأَكَلَ قَضْبًا لَا يَحْنَثْ وَكَذَلِكَ إذَا أَكْل بُسْرًا مَطْبُوخًا أَوْ رُطَبًا لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى تَمْرًا فِي الْعُرْفِ وَلِهَذَا يَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ بِاسْمٍ عَلَى حِدَةٍ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَمْرٌ حَقِيقَةً وَقَدْ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ أَكَلَ حَيْسًا حَنِثَ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِتَمْرٍ يُنْقَعُ فِي اللَّبَنِ وَيَتَشَرَّبُ فِيهِ اللَّبَنُ فَكَانَ الِاسْمُ بَاقِيًا لَهُ لِبَقَاءِ عَيْنِهِ. وَقِيلَ هُوَ طَعَامٌ يُتَّخَذُ مِنْ تَمْرٍ وَيُضَمُّ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ السَّمْنِ أَوْ غَيْرِهِ وَالْغَالِبُ هُوَ التَّمْرُ فَكَأَنَّ أَجْزَاءَ التَّمْرِ بِحَالِهَا فَيَبْقَى الِاسْمُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَأَكَلَ بُسْرًا مُذَنِّبًا. هَهُنَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ ثِنْتَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا وَثِنْتَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا أَمَّا الْأُولَيَانِ فَإِنَّ مَنْ يَحْلِفْ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا مُذَنِّبًا أَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا فَأَكَلَ رُطَبًا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْبُسْرِ يَحْنَثْ فِيهِمَا جَمِيعًا فِي قَوْلِهِمْ لِأَنَّ الْمُذَنِّبَ هُوَ الْبُسْرُ الَّذِي ذَنَّبَ أَيْ رَطُبَ ذَنَبُهُ فَكَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ فَكَانَ الِاسْمُ بَاقِيًا وَأَمَّا الْأُخْرَيَانِ فَإِنَّ مَنْ يَحْلِفْ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا فَيَأْكُلْ بُسْرًا مُذَنِّبًا أَوْ يَحْلِفْ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا فَيَأْكُلُ رُطَبًا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْبُسْرِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةً وَمُحَمَّدٌ يَحْنَثُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَحْنَثُ وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الِاسْمَ لِلْغَالِبِ فِي الْعُرْفِ وَالْمَغْلُوبُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ وَكَذَا الْمَقْصُودُ فِي الْأَكْلِ هُوَ الَّذِي لَهُ الْغَلَبَةُ وَالْغَلَبَةُ لِلْبُسْرِ فِي الْأَوَّلِ وَفِي الثَّانِي لِلرُّطَبِ فَلَا يَحْنَثُ وَلَهُمَا أَنَّهُ أَكَلَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَغَيْرَهُ لِأَنَّهُ يَرَاهُ بِعَيْنِهِ وَيُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ مَيَّزَ أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ فَقَطَعَهُ وَأَكَلَهُمَا جَمِيعًا وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ أَحَدَهُمَا غَالِبٌ فَنَعَمْ لَكِنَّ الْغَلَبَةَ إنَّمَا تُوجِبُ اسْتِهْلَاك الْمَغْلُوبِ فِي اخْتِلَاط الْمُمَازَجَةِ أَمَّا فِي اخْتِلَاط الْمُجَاوَرَةِ فَلَا لِأَنَّهُ يَرَاهُ بِعَيْنِهِ فَلَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ سَوِيقًا أَوْ سَمْنًا فَأَكَلَ سَوِيقًا قَدْ لُتَّ بِسَمْنٍ بِحَيْثُ يَسْتَبِينُ أَجْزَاءَ السَّوِيقِ فِي السَّمْنِ يَحْنَثُ لِقِيَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ بِعَيْنِهِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَبًّا فَأَيَّ حَبٍّ أَكَلَ مِنْ سِمْسِمٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يَأْكُلُهُ النَّاسُ عَادَةً يَحْنَثُ لِأَنَّ مُطْلَقَ يَمِينِهِ يَقَعُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَنَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ أَوْ سَمَّاهُ حَنِثَ فِيهِ وَلَمْ يَحْنَثْ فِي غَيْرِهِ لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ الْمَلْفُوظِ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَلَا يَحْنَثُ إذَا ابْتَلَعَ لُؤْلُؤَةً لِأَنَّ الْأَوْهَامَ لَا تَنْصَرِفُ. إلَى اللُّؤْلُؤَةِ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِ الْحَبِّ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ عِنَبًا فَأَكَلَ زَبِيبًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ اسْمَ الْعِنَبِ لَا يَتَنَاوَلَهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ جَوْزًا فَأَكَلَ مِنْهُ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا حَنِثَ وَكَذَلِكَ اللَّوْزُ وَالْفُسْتُقُ وَالتِّينُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ جَمِيعًا. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَةً فَأَكَلَ تُفَّاحًا أَوْ سَفَرْجَلًا أَوْ كُمَّثْرَى أَوْ خَوْخًا أَوْ تِينًا أَوْ إجَّاصًا أَوْ مِشْمِشًا أَوْ بِطِّيخًا حَنِثَ وَإِنْ أَكَلَ قِثَّاءً أَوْ خِيَارًا أَوْ جَزَرًا لَا يَحْنَثْ وَإِنْ أَكَلَ عِنَبًا أَوْ رُمَّانًا أَوْ رُطَبًا لَا يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَحْنَثْ وَلَوْ أَكَلَ زَبِيبًا أَوْ حَبَّ الرُّمَّانِ أَوْ تَمْرًا لَا يَحْنَثُ بِالْإِجْمَاعِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تُسَمَّى فَاكِهَةً فِي الْعُرْفِ بَلْ تُعَدُّ مِنْ رُءُوسِ الْفَوَاكِهِ وَلِأَنَّ الْفَاكِهَةَ اسْمٌ لِمَا يُتَفَكَّهُ بِهِ وَتَفَكُّهُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ ظَاهِرٌ فَكَانَتْ فَوَاكِهَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} [عبس: 27] {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس: 28] {وَزَيْتُونًا وَنَخْلا} [عبس: 29] {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس: 30] {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] عَطَفَ الْفَاكِهَةَ عَلَى الْعِنَبِ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] عَطَفَ الرُّمَّانَ عَلَى الْفَاكِهَةِ وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ هُوَ الْأَصْلُ لِأَنَّ الْفَاكِهَةَ اسْمٌ لِمَا يُقْصَدُ بِأَكْلِهِ التَّفَكُّهُ وَهُوَ التَّنَعُّمُ وَالتَّلَذُّذُ دُونَ الشِّبَعِ وَالطَّعَامُ مَا يُقْصَدُ بِأَكْلِهِ التَّغَذِّي وَالشِّبَعُ وَالتَّمْرُ عِنْدَهُمْ يُؤْكَلُ بِطَرِيقِ التَّغَذِّي وَالشِّبَعِ. حَتَّى رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «بَيْتٌ لَا تَمْرَ فِيهِ جِيَاعٌ أَهْلُهُ» . وَقَالَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ يَوْمَ الْفِطْرِ: «أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ» ثُمَّ ذَكَرَ فِي جُمْلَةِ مَا تَقَعُ بِهِ الْغُنْيَةُ التَّمْرَ وَفِي بَعْضِهَا الزَّبِيبَ وَلِأَنَّ الْفَاكِهَةَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ رَطْبِهَا وَيَابِسِهَا فَمَا كَانَ رَطْبُهُ فَاكِهَةً كَانَ يَابِسُهُ فَاكِهَةً كَالتِّينِ وَالْمِشْمِشِ وَالْإِجَّاصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْيَابِسُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ بِفَاكِهَةٍ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ وَحَبُّ الرُّمَّانِ فَكَذَا رَطْبُهَا وَمَا ذَكَرَاهُ مِنْ الْعُرْفِ

مَمْنُوعٌ بَلْ الْعُرْفُ الْجَارِي بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَيْسَ فِي كَرْمِ فُلَانٍ فَاكِهَةٌ إنَّمَا فِيهِ الْعِنَبُ فَحَسْبُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ ثَمَرَ الشَّجَرِ كُلِّهَا فَاكِهَةُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ كَذَلِكَ إلَّا ثَمَرَ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ وَشَجَرِ الرُّمَّانِ لِأَنَّ سَائِرَ الثِّمَارِ مِنْ التُّفَّاحِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالْإِجَّاصِ وَنَحْوِهَا يُقْصَدُ بِأَكْلِهَا التَّفَكُّهُ دُونَ الشِّبَعِ وَكَذَا يَابِسُهَا فَاكِهَةٌ كَذَا رَطْبُهَا قَالَ مُحَمَّدٌ التُّوتُ فَاكِهَةٌ لِأَنَّهُ يُتَفَكَّهُ بِهِ وَالْقِثَّاءُ وَالْخِيَارُ وَالْجَزَرُ وَالْبَاقِلَّاءُ الرَّطْبُ إدَامٌ وَلَيْسَ بِفَاكِهَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ لِلتَّفَكُّهِ وَإِنْ عَنَى بِقَوْلِهِ لَا آكُلُ فَاكِهَةً الْعِنَبَ وَالرُّطَبَ وَالرُّمَّانَ فَأَكَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا حَنِثَ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا يُتَفَكَّهُ بِهَا وَإِنْ كَانَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْفَاكِهَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ بُسْرُ السُّكَّرِ وَالْبُسْرُ الْأَحْمَرُ فَاكِهَةٌ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُتَفَكَّهُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ اللَّوْزُ وَالْعُنَّابُ فَاكِهَةٌ رَطْبُ ذَلِكَ مِنْ الْفَاكِهَةِ الرَّطْبَةِ وَيَابِسُهُ مِنْ الْيَابِسَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤْكَلُ عَلَى وَجْهِ التَّفَكُّهِ قَالَ وَالْجَوْزُ رَطْبُهُ فَاكِهَةٌ وَيَابِسُهُ إدَامٌ. وَقَالَ فِي الْأَصْلِ وَكَذَلِكَ الْفَاكِهَةُ الْيَابِسَةُ فَيَدْخُلُ فِيهَا الْجَوْزُ وَاللَّوْزُ وَأَشْبَاهُهُمَا وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْجَوْزَ الْيَابِسَ لَيْسَ بِفَاكِهَةٍ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ غَالِبًا. فَأَمَّا رَطْبُهُ فَلَا يُؤْكَلُ إلَّا لِلتَّفَكُّهِ وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ فَاكِهَةٌ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ رَطْبَهُ وَيَابِسَهُ مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِهِ الشِّبَعُ فَصَارَ كَسَائِرِ الْفَوَاكِهِ وَذَكَرَ الْمُعَلَّى عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ الثِّمَارِ شَيْئًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ فَإِنْ أَكْل تِينًا يَابِسًا أَوْ لَوْزًا يَابِسًا حَنِثَ فَجَعَلَ الثِّمَارَ كَالْفَاكِهَةِ لِأَنَّ أَحَدَ الِاسْمَيْنِ كَالْآخَرِ وَقَالَ الْمُعَلَّى قُلْت لِمُحَمَّدٍ فَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ فَاكِهَةِ الْعَامِ أَوْ مِنْ ثِمَارِ الْعَامِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ قَالَ إنْ حَلَفَ فِي أَيَّامِ الْفَاكِهَةِ الرَّطْبَةِ فَهَذَا عَلَى الرَّطْبِ فَإِنْ أَكَلَ مِنْ فَاكِهَةِ ذَلِكَ الْعَامِ شَيْئًا يَابِسًا لَمْ يَحْنَثْ وَكَذَلِكَ الثَّمَرَةُ وَإِنْ حَلَفَ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْفَاكِهَةِ الرَّطْبَةِ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى الْفَاكِهَةِ الْيَابِسَةِ مِنْ فَاكِهَةِ ذَلِكَ الْعَامِ وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ إنْ كَانَ وَقْتُ الْفَاكِهَةِ الرَّطْبَةِ أَنْ يَحْنَثَ فِي الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاكِهَةِ يَتَنَاوَلُهَا إلَّا أَنَّهُ اُسْتُحْسِنَ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي قَوْلِهِمْ فَاكِهَةُ الْعَامِ إذَا كَانَ فِي وَقْتِ الرَّطْبِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ الرَّطْبَ دُونَ الْيَابِسِ فَإِذَا مَضَى وَقْتُ الرَّطْبِ فَلَا تَقَعُ الْيَمِينُ إلَّا عَلَى الْيَابِسِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ أَوْ لَا يَأْكُلُ هَذِهِ الْحِنْطَةَ فَإِنْ عَنَى بِهَا أَنْ لَا يَأْكُلَهَا حَبًّا كَمَا هِيَ فَأَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا أَوْ مِنْ سَوِيقِهَا لَمْ يَحْنَثْ وَإِنَّمَا يَحْنَثُ إذَا قَضَمَهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَحْنَثْ وَهَلْ يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا إذَا أَكَلَ عَيْنَهَا؟ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ عَنْهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ إنَّ الْيَمِينَ تَقَعُ عَلَى مَا يَصْنَعُ النَّاسُ وَذَكَرَ عَنْهُمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ فَإِنَّهُ قَالَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إنْ أَكَلَهَا خُبْزًا حَنِثَ أَيْضًا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَضَمَهَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا كَمَا يَحْنَثُ إذَا أَكَلَهَا خُبْزًا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُتَعَارَفَ فِي إطْلَاقِ أَكْلِ الْحِنْطَةِ أَكْلُ الْمُتَّخَذِ مِنْهَا وَهُوَ الْخُبْزُ لَا أَكْلُ عَيْنِهَا يُقَالُ فُلَانٌ يَأْكُلُ مِنْ حِنْطَةِ كَذَا أَيْ مِنْ خُبْزِهَا وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ يُحْمَلُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ خُصُوصًا فِي بَابِ الْأَيْمَانِ وَجْهٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ اسْمَ الْحِنْطَةِ لَا يَقَعُ عَلَى الْخُبْزِ حَقِيقَةً لِأَنَّهَا اسْمٌ لِذَاتٍ مَخْصُوصَةٍ مُرَكَّبَةٍ فَيَزُولُ الِاسْمُ بِزَوَالِ التَّرْكِيبِ حَقِيقَةً فَالْحَمْلُ عَلَى الْخُبْزِ يَكُونُ حَمْلًا عَلَى الْمَجَازِ فَكَانَ صَرْفُ الْكَلَامِ إلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى وَأَمَّا قَوْلُهُمَا: إنَّ مُطْلَقَ الْكَلَامِ يُحْمَلُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ فَنَعَمْ لَكِنْ عَلَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ وَهُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ كَمَا يَقُولُ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ لَا عَلَى الْمُتَعَارَفِ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ كَمَا يَقُولُ مَشَايِخُ بَلَخ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمَ الْآدَمِيِّ أَوْ الْخِنْزِيرِ يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يُتَعَارَفْ أَكْلُهُ لِوُجُودِ التَّعَارُفِ فِي الِاسْمِ وَاسْتِعْمَالُ اسْمِ الْحِنْطَةِ فِي مُسَمَّاهَا مُتَعَارَفٌ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ إلَّا أَنَّهُ يَقِلُّ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ لَكِنَّ قِلَّةَ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ لِقِلَّةِ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْحَمْلَ عَلَى الْمَجَازِ كَمَا فِي لَحْمِ الْآدَمِيِّ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَارَفَ فِعْلٌ ثَابِتٌ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ تُطْبَخُ وَتُقْلَى فَتُؤْكَلُ مَطْبُوخًا وَقَلْيًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكَثْرَةِ مِثْلَ أَكْلِهَا خُبْزًا. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَعِيرًا فَأَكَلَ حِنْطَةً فِيهَا حَبَّاتٌ مِنْ شَعِيرٍ حَنِثَ وَلَوْ كَانَ الْيَمِينُ عَلَى الشِّرَاءِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ مَنْ اشْتَرَى حِنْطَةً فِيهَا حَبَّاتُ شَعِيرٍ يُسَمَّى مُشْتَرِي الْحِنْطَةِ لَا مُشْتَرِي الشَّعِيرِ وَصَرْفُ الْكَلَامِ إلَى الْحَقِيقَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي الْجُمْلَةِ أَوْلَى مِنْ الصِّرْفِ إلَى الْمَجَازِ وَإِنْ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَجَازِ أَكْثَرَ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ شَارَكَتْ الْمَجَازَ فِي أَصْلِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْمَجَازُ مَا شَارَكَ الْحَقِيقَةَ فِي الْوَضْعِ رَأْسًا فَكَانَ الْعَمَل

بِالْحَقِيقَةِ أَوْلَى. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ فَأَكَلَ مِنْ خُبْزِهِ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ حَنِثَ لِأَنَّ الدَّقِيقَ هَكَذَا يُؤْكَلُ عَادَةً وَلَا يُسْتَفُّ إلَّا نَادِرًا وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ وَلَهُ مَجَازٌ مُسْتَعْمَلٌ وَهُوَ كُلُّ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ فَحُمِلَ عَلَيْهِ وَإِنْ نَوَى أَنْ لَا يَأْكُلَ الدَّقِيقَ بِعَيْنِهِ لَا يَحْنَثُ بِأَكَلِ مَا يُخْبَزُ مِنْهُ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْكُفُرَّى شَيْئًا فَصَارَ بُسْرًا أَوْ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْبُسْرِ شَيْئًا فَصَارَ رُطَبًا أَوْ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الرُّطَبِ شَيْئًا فَصَارَ تَمْرًا أَوْ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْعِنَبِ شَيْئًا فَصَارَ زَبِيبًا فَأَكَلَهُ أَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَيْئًا فَأَكَلَ مِنْ جُبْنٍ صُنِعَ مِنْهُ أَوْ مَصْلٍ أَوْ أَقِطٍ أَوْ شِيرَازَ أَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْبَيْضَةِ فَصَارَتْ فَرْخًا فَأَكَلَ مِنْ فَرْخٍ خَرَجَ مِنْهَا أَوْ حَلَفَ لَا يَذُوقُ مِنْ هَذِهِ الْخَمْرِ شَيْئًا فَصَارَتْ خَلًّا لَمْ يَحْنَثْ فِي جَمِيع ذَلِكَ. وَالْأَصْلُ أَنَّ الْيَمِينَ مَتَى تَعَلَّقَتْ بِعَيْنٍ تَبْقَى بِبَقَاءِ الْعَيْنِ وَتَزُولُ بِزَوَالِهَا وَالصِّفَةُ فِي الْعَيْنِ الْمُشَارِ إلَيْهِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِأَنَّ الصِّفَةَ لِتَمْيِيزِ الْمَوْصُوفِ مِنْ غَيْرِهِ وَالْإِشَارَة تُكْفَى لِلتَّعْرِيفِ فَوَقَعَتْ الْغُنْيَةُ عَنْ ذِكْرِ الصِّفَةِ وَغَيْرُ الْمُعَيَّنِ لَا يَحْتَمِلُ الْإِشَارَة فَيَكُونُ تَعْرِيفُهُ بِالْوَصْفِ وَإِذَا عُرِفَ هَذَا نَقُولُ الْعَيْنُ بُدِّلَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَلَا تَبْقَى الْيَمِينُ الَّتِي عُقِدَتْ عَلَى الْأَوَّلِ وَالْعَيْنُ فِي الرُّطَبِ وَإِنْ لَمْ تُبَدَّلْ لَكِنْ زَالَ بَعْضُهَا وَهُوَ الْمَاءُ بِالْجَفَافِ لِأَنَّ اسْمَ الرُّطَبِ يُسْتَعْمَلُ عَلَى الْعَيْنِ وَالْمَاءِ الَّذِي فِيهَا فَإِذَا جَفَّ فَقَدْ زَالَ عَنْهَا الْمَاءُ فَصَارَ آكِلًا بَعْضَ الْعَيْنِ الْمُشَارِ إلَيْهَا فَلَا يَحْنَثُ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ فَأَكَلَ بَعْضَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا صَارَ شَيْخًا أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّ هُنَاكَ الْعَيْنَ قَائِمَةٌ وَإِنَّمَا الْفَائِتُ هُوَ الْوَصْفُ لَا بَعْضُ الشَّخْصِ فَيَبْقَى كُلُّ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَبَقِيَتْ الْيَمِينُ وَفَرْقٌ آخَرُ أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي فِي هَذِهِ الْأَعْيَانِ مِمَّا تُقْصَدُ بِالْيَمِينِ مَنْعًا وَحَمْلًا كَالرُّطُوبَةِ الَّتِي هِيَ فِي التَّمْرِ وَالْعِنَبِ فَإِنَّ الْمَرْطُوبَ تَضْرِبُهُ الرُّطُوبَاتُ فَتَعَلَّقَتْ الْيَمِينُ بِهَا. وَالصِّبَا وَالشَّبَابُ مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِالْمَنْعِ بَلْ الذَّاتُ هِيَ الَّتِي تُقْصَدُ فَتَعَلَّقَتْ الْيَمِينُ بِالذَّاتِ دُونَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صَاحِبَ هَذَا الطَّيْلَسَانِ فَبَاعَهُ ثُمَّ كَلَّمَهُ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ هَذَا الْحَوْلِيِّ فَأَكَلَهُ بَعْدَمَا صَارَ كَبْشًا أَوْ مِنْ لَحْمِ هَذَا الْجَدْيِ فَأَكَلَهُ بَعْدَمَا صَارَ تَيْسًا يَحْنَثُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يُجَامِعُ هَذِهِ الصَّبِيَّةَ فَجَامَعَهَا بَعْدَمَا صَارَتْ امْرَأَةً يَحْنَثُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ نَوَى فِي الْفُصُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ حَنِثَ لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحَدِّ حَبَّةً فَأَكَلَهَا بَعْدَمَا صَارَتْ بِطِّيخًا لَا رِوَايَةَ فِيهِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. قَالَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَذُوقُ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَيْئًا أَوْ لَا يَشْرَبُ فَصُبَّ فِيهِ مَاءٌ فَذَاقَهُ أَوْ شَرِبَهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا حَنِثَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ غَالِبًا يُسَمَّى لَبَنًا وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ عَلَى نَبِيذٍ فَصَبَّهُ فِي خَلٍّ أَوْ عَلَى مَاءٍ مِلْحٍ فَصُبَّ عَلَى مَاءٍ عَذْبٍ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ إذَا اخْتَلَطَ بِغَيْرِ جِنْسِهِ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْغَلَبَةُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ غَيْرَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ اعْتَبَرَ الْغَلَبَةَ فِي اللَّوْنِ أَوْ الطَّعْمِ لَا فِي الْأَجْزَاءِ فَقَالَ إنْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَسْتَبِينُ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ حَنِثَ وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَبِينُ لَهُ لَوْنٌ وَلَا طَعْمٌ لَا يَحْنَثْ سَوَاءٌ كَانَتْ أَجْزَاءَهُ أَكْثَرَ أَوْ لَمْ تَكُنْ وَاعْتَبَرَ مُحَمَّدٌ غَلَبَةَ الْأَجْزَاءِ فَقَالَ إنْ كَانَتْ أَجْزَاءُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ غَالِبًا يَحْنَثْ وَإِنْ كَانَتْ مَغْلُوبَةً لَا يَحْنَثْ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: إنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَكْثَرِ وَالْأَقَلُّ يَكُونُ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ اللَّوْنَ وَالطَّعْمَ إذَا كَانَا بَاقِيَيْنِ كَانَ الِاسْمُ بَاقِيًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ لَبَنٌ مَغْشُوشٌ وَخَلٌّ مَغْشُوشٌ وَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ لَوْنٌ وَلَا طَعْمٌ لَا يُبْقِي الِاسْمُ وَيُقَالُ مَاءٌ فِيهِ لَبَنٌ وَمَاءٌ فِيهِ خَلٌّ فَلَا يَحْنَثُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فَإِنْ كَانَ طَعْمُهُمَا وَاحِدًا أَوْ لَوْنُهُمَا وَاحِدًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ مِنْ حَيْثُ الْأَجْزَاءُ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ أَجْزَاءَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ هِيَ الْغَالِبَةُ يَحْنَثْ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْجَزَاءَ الْمُخَالِطَ لَهُ أَكْثَرُ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ وَقَعَ الشَّكُّ فِيهِ وَلَا يُدْرَى ذَلِكَ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَحْنَثَ لِأَنَّهُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي حُكْمِ الْحِنْثِ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ عِنْدَ احْتِمَالِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ عَلَى السَّوَاءِ فَالْقَوْلُ بِالْجُودِ أَوْلَى احْتِيَاطًا لِمَا فِيهِ مِنْ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ بِيَقِينٍ وَهَذَا يَسْتَقِيمُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَيُحْتَاطُ فِي إيجَابِهَا. فَأَمَّا فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَلَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْعَبْدِ وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا يَجْرِي فِيهَا الِاحْتِيَاطُ لِلتَّعَارُضِ فَيُعْمَلُ فِيهَا بِالْقِيَاسِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ سَمْنًا فَأَكَلَ سَوِيقًا قَدْ لُتَّ بِسَمْنٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّ أَجْزَاءَ السَّمْنِ

إذَا كَانَتْ تَسْتَبِينُ فِي السَّوِيقِ وَيُوجَدُ طَعْمُهُ يَحْنَثُ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ طَعْمُهُ وَلَا يُرَى مَكَانُهُ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهَا إذَا اسْتَبَانَتْ لَمْ تَصِرْ مُسْتَهْلَكَةً فَكَأَنَّهُ أَكَلَ السَّمْنَ بِنَفْسِهِ مُنْفَرِدًا وَإِذَا لَمْ يَسْتَبِنْ فَقَدْ صَارَتْ مُسْتَهْلَكَةً فَلَا يُعْتَدُّ بِهَا وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ السَّمْنُ مُسْتَبِينًا فِي السَّوِيقِ وَكَانَ إذَا عُصِرَ سَالَ السَّمْنُ حَنِثَ وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ وَهَذَا لَا يُوجِبُ اخْتِلَاف الرِّوَايَةِ لِإِمْكَانِ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَحْنَثُ إذَا عُصِرَ سَالَ السَّمْنُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَهْلَكًا وَإِذَا لَمْ يَسِلْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا وَإِذَا اخْتَلَطَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِجِنْسِهِ كَاللَّبَنِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إذَا اخْتَلَطَ بِلَبَنٍ آخَرَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ وَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْغَلَبَةُ وَإِنْ كَانَ الْغَلَبَةُ لِغَيْرِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَحْنَثْ وَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا فَمِنْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِجِنْسِهِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِغَيْرِ جِنْسِهِ وَإِذَا لَمْ يَصِرْ مُسْتَهْلَكًا بِجِنْسِهِ صَارَ كَأَنَّهُ غَيْرُ مَغْلُوبٍ. وَقَالَ الْمُعَلَّى عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذِهِ الْخَمْرِ فَصَبَّهَا فِي مَاءٍ فَغَلَبَ عَلَى الْخَمْرِ حَتَّى ذَهَبَ لَوْنُهَا وَطَعْمُهَا فَشَرِبَهُ لَمْ يَحْنَثْ فَقَدْ قَالَ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَلَوْ حَلَفَ عَلَى مَاءٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ لَا يَشْرَبُ مِنْهُ شَيْئًا فَصُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ مِنْ غَيْرِهِ كَثِيرًا حَتَّى صَارَ مَغْلُوبًا فَشَرِبَهُ يَحْنَثُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِجِنْسِهِ وَلَوْ صَبَّهُ فِي بِئْرٍ أَوْ حَوْضٍ عَظِيمٍ لَمْ يَحْنَثْ قَالَ لِأَنِّي لَا أَدْرِي لَعَلَّ عُيُونَ الْبِئْرِ تَغُورُ بِمَا صُبَّ فِيهَا وَلَا أَدْرِي لَعَلَّ الْيَسِيرَ مِنْ الْمَاءِ الَّذِي صُبَّ فِي الْحَوْضِ الْعَظِيمِ لَمْ يَخْتَلِطْ بِهِ كُلِّهِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ هَذَا الْمَاءَ الْعَذْبَ فَصَبَّهُ فِي مَاءٍ مَالِحٍ فَغَلَبَ عَلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَهُ لَمْ يَحْنَثْ فَجُعِلَ الْمَاءُ مُسْتَهْلَكًا بِجِنْسِهِ إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ صِفَتِهِ قَالَ وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَبَنَ ضَأْنٍ فَخَلَطَهُ بِلَبَنِ مَعْزٍ فَإِنَّهُ تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ لِأَنَّهُمَا نَوْعَانِ فَكَانَا كَالْجِنْسَيْنِ قَالَ الْكَرْخِيُّ. وَلَوْ قَالَ لَا أَشْرَبُ لَبَنَ هَذِهِ الشَّاةِ لِشَاةٍ مَعْزٍ أَوْ ضَأْنٍ ثُمَّ خَلَطَهُ بِغَيْرِهِ مِنْ لَبَنِ ضَأْنٍ أَوْ مَعْزٍ حَنِثَ إذَا شَرِبَهُ وَلَا تُعْتَبَرُ الْكَثْرَةُ وَالْغَلَبَةُ وَعَلَّلَ فَقَالَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَمِينِهِ ضَأْنٌ وَلَوْ مَعْزٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّ يَمِينَهُ وَقَعَتْ عَلَى لَبَنٍ وَاخْتِلَاطُهُ بِلَبَنٍ آخَرَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَبَنًا وَالْيَمِينُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَقَعَتْ عَلَى لَبَنِ الضَّأْنِ فَإِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ لَبَنُ الْمَعْزِ فَقَدْ اُسْتُهْلِكَتْ صِفَتُهُ وَاسْتَشْهَدَ مُحَمَّدٌ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَقَالَ وَلَا تُشْبِهُ الشَّاةُ إذَا حَلَفَ عَلَيْهَا بِعَيْنِهَا حَلِفَهُ عَلَى لَبَنِ الْمَعْزِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَشْتَرِي رُطَبًا فَاشْتَرَى كِبَاسَةَ بُسْرٍ فِيهَا رُطَبَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ الْغَالِبُ. وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَشْتَرِي هَذِهِ الرُّطَبَةَ لِرُطَبَةٍ فِي كِبَاسَةٍ ثُمَّ اشْتَرَى الْكِبَاسَةَ حَنِثَ وَنَظِيرُ هَذَا مَا ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ قَالَ وَاَللَّهِ لَا آكُلُ مَا يَجِيءُ بِهِ فُلَانٌ يَعْنِي مَا يَجِيءُ بِهِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ لَحْمٍ أَوْ غَيْرِهِ لَك مِمَّا يُؤْكَلُ فَدَفَعَ الْحَالِفُ إلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ لَحْمًا لِيَطْبُخَهُ فَطَبَخَهُ وَأُلْقِي فِيهِ قِطْعَةً مِنْ كَرِشِ بَقَرٍ ثُمَّ طُبِخَ الْقِدْرُ بِهِ فَأَكَلَ الْحَالِفُ مِنْ الْمَرَقِ قَالَ مُحَمَّدٌ لَا أُرَاهُ يَحْنَثُ إذَا أُلْقِيَ فِيهِ مِنْ اللَّحْمِ مَا لَا يُطْبَخُ وَحْدَهُ وَيُتَّخَذُ مِنْهُ مَرَقَةٌ لِقِلَّتِهِ وَإِنْ كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ يُطْبَخُ وَيَكُونُ لَهُ مَرَقَةٌ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْيَمِينَ عَلَى اللَّحْمِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ فُلَانٌ وَعَلَى مَرَقَتِهِ لَا تَكُونُ إلَّا بِدَسَمِ اللَّحْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ فَإِذَا اخْتَلَطَ بِهِ لَحْمٌ لَا يَكُونُ لَهُ مَرَقٌ لِقِلَّتِهِ فَلَمْ يَأْكُلْ مَا جَاءَ بِهِ فُلَانٌ وَإِذَا كَانَ مِمَّا يُفْرَدُ بِالطَّبْخِ وَيَكُونُ لَهُ مَرَقٌ وَالْمَرَقُ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَلَمْ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْغَلَبَةُ وَحَنِثَ. وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ قَالَ لَا آكُلُ مِمَّا يَجِيءُ بِهِ فُلَانٌ فَجَاءَ فُلَانٌ بِلَحْمٍ فَشَوَاهُ وَجَعَلَ تَحْتَهُ أَرُزًّا لِلْحَالِفِ فَأَكَلَ الْحَالِفُ مِنْ جَوَانِبِهِ حَنِثَ وَكَذَلِكَ لَوْ جَاءَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِحِمِّصٍ فَطَبَخَهُ فَأَكَلَ الْحَالِفُ مِنْ مَرَقَتِهِ وَفِيهِ طَعْمُ الْحِمِّصِ حَنِثَ وَكَذَلِكَ لَوْ جَاءَ بِرُطَبٍ فَسَالَ مِنْهُ رُبٌّ فَأَكَلَ مِنْهُ أَوْ جَاءَ بِزَيْتُونٍ فَعُصِرَ فَأَكَلَ مِنْ زَيْتِهِ حَنِثَ. قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَكْلُ مِنْ ثَمَرَةِ هَذَا الْبُسْتَانِ وَفِيهِ نَخْلٌ يُحْصَى أَوْ لَا آكُلُ مِنْ ثَمَرَةِ هَذَا النَّخْلِ وَهِيَ عَشَرَةٌ أَوْ ثَلَاثٌ أَوْ لَا آكُلُ مِنْ ثَمَرَةِ هَاتَيْنِ النَّخْلَتَيْنِ أَوْ مِنْ هَاتَيْنِ الرَّطْبَتَيْنِ أَوْ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ التُّفَّاحَاتِ أَوْ مِنْ هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ أَوْ لَا أَشْرَبُ مِنْ لَبَنِ هَاتَيْنِ الشَّاتَيْنِ فَأَكَلَ بَعْضَ ذَلِكَ أَوْ شَرِبَ بَعْضَهُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ أَكْلِ بَعْضِ الْمَذْكُورِ وَشُرْبِ بَعْضِهِ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ فَإِذَا أَكَلَ الْبَعْضَ أَوْ شَرِبَ حَنِثَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ لَبَنَ هَاتَيْنِ الشَّاتَيْنِ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَشْرَبَ مِنْ لَبَنِ كُلِّ شَاةٍ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى شُرْبِ لَبَنِهِمَا فَلَا يَحْنَثُ بِشُرْبِ لَبَنِ إحْدَاهُمَا وَإِذَا شَرِبَ جُزْءًا مِنْ لَبَنِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَنِثَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ

يَشْرَبَ جَمِيعِ لَبَنِ الشَّاةِ فَلَا يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ ذَلِكَ فَيَنْعَقِدُ يَمِينُهُ عَلَى الْبَعْضِ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَاءَ الْبَحْرِ قَالَ وَإِنْ كَانَ لَبَنٌ قَدْ حُلِبَ فَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ لَبَن هَاتَيْنِ الشَّاتَيْنِ لِلَبَنٍ بِعَيْنِهِ فَإِنْ كَانَ لَبَنًا يَقْدِرُ عَلَى شُرْبِهِ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَحْنَثْ. بِشُرْبِ بَعْضِهِ وَإِنْ كَانَ لَبَنًا لَا يَسْتَطِيعُ شُرْبَهُ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ يَحْنَثْ بِشُرْبِ بَعْضِهِ لِأَنَّ يَمِينَهُ وَقَعَتْ عَلَى شُرْبِ الْكُلِّ حَقِيقَةً فَإِذَا اسْتَطَاعَ شُرْبَهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ شُرْبَهُ دَفْعَةً يُحْمَلُ عَلَى الْجُزْءِ كَمَا فِي مَاءِ الْبَحْرِ وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لَا آكُلُ هَذَا الطَّعَامَ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَكْلِهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالُوا فِيمَنْ قَبَضَ مِنْ رَجُلٍ دَيْنًا عَلَيْهِ فَوَجَدَ فِيهِ دِرْهَمَيْنِ زَائِفَيْنِ فَقَالَ وَاَللَّهِ لَا آخُذُ مِنْهُمَا شَيْئًا فَأَخَذَ أَحَدَهُمَا حَنِثَ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ. وَقَالَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا آكُلُ لَحْمَ هَذَا الْخَرُوفِ فَهَذَا عَلَى بَعْضِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَكْلُ كُلِّهِ مَرَّةً وَاحِدَةً عَادَةً وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ فِيمَنْ قَالَ لَا آكُلُ هَذِهِ الرُّمَّانَةَ فَأَكَلَهَا إلَّا حَبَّةً أَوْ حَبَّتَيْنِ حَنِثَ فِي الِاسْتِحْسَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ فِي الْعُرْفِ لِمَنْ أَكَلَ رُمَّانَةً وَتَرَكَ مِنْهَا حَبَّةً أَوْ حَبَّتَيْنِ إنَّهُ أَكَلَ رُمَّانَةً وَإِنْ تَرَكَ نِصْفِهَا أَوْ ثُلُثَهَا أَوْ تَرَكَ أَكْثَرَ مِمَّا يَجْرِي فِي الْعُرْفِ أَنَّهُ يَسْقُطُ مِنْ الرُّمَّانَةِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى آكِلًا لِجَمِيعِهَا. وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَبِيعُك لَحْمَ هَذَا الْخَرُوفِ أَوْ خَابِيَةَ الزَّيْتِ فَبَاعَ بَعْضَهَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ الْيَمِينِ هَهُنَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ بَيْعَ الْكُلِّ مُمْكِنٌ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِيمَنْ قَالَ لَا أَشْتَرِي مِنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَشْتَرِيَ مِنْهُمَا وَلَا يُشْبِهُ هَذَا قَوْلَهُ لَا آكُلُ هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ لِأَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَيُمْكِنُ الْعَمَلُ بِالتَّبْعِيضِ فِي الْأَكْلِ وَلَا يُمْكِنُ فِي الشِّرَاءِ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَتَبَعَّضُ فَيُحْمَلُ عَلَى ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ أَوْ لَمْ يُكَلِّمْ بَنِي آدَمَ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ لِتَعَذُّرِ الْحَمْلِ عَلَى الْكُلِّ فَيُحْمَلُ عَلَى بَعْضِ الْجِنْسِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ فُلَانٍ فَالْكَسْبُ مَا صَارَ لَلْإِنْسَانِ أَنْ يَفْعَلَهُ كَالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْقَبُولِ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْأَخْذِ فِي الْمُبَاحَاتِ. فَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَلَا يَكُونُ كَسْبًا لِلْوَارِثِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ وَلَوْ مَاتَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَقَدْ كَسَبَ شَيْئًا فَوَرِثَهُ رَجُلٌ فَأَكَلَ الْحَالِفُ مِنْهُ حَنِثَ لِأَنَّ مَا فِي يَدِ الْوَارِثِ يُسَمَّى كَسْبَ الْمَيِّتِ بِمَعْنَى مَكْسُوبِهِ عُرْفًا فَلَوْ انْتَقَلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ الْمِيرَاثِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ صَارَ لِلثَّانِي بِفِعْلِهِ فَبَطَلَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْأَوَّلِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَكَذَا لَك إذَا قَالَ لَا آكُلُ مِمَّا مَلَكْت أَوْ مِمَّا يُمْلَكُ لَهُ أَوْ مِنْ مِلْكِكَ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ فَأَكَلَ مِنْهُ الْحَالِفُ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَهُ الثَّانِي لَمْ يَبْقَ مِلْكَ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَبْقَ مُضَافًا إلَيْهِ بِالْمِلْكِ قَالَ وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِمَّا اشْتَرَى فُلَانٌ أَوْ مِمَّا يَشْتَرِي فَاشْتَرَى الْمَحْلُوفَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ فَأَكَلَ مِنْهُ الْحَالِفُ حَنِثَ فَإِنْ بَاعَهُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ بِأَمْرِ الْمُشْتَرَى لَهُ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهُ الْحَالِفُ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الشِّرَاءَ إذَا طَرَأَ عَلَى الشِّرَاءِ بَطَلَتْ الْإِضَافَةُ الْأُولَى وَتَجَدَّدَتْ إضَافَةٌ أُخْرَى لَمْ تَتَنَاوَلْهَا الْيَمِينُ وَإِنَّمَا كَانَ الشِّرَاءُ لِغَيْرِهِ وَلِنَفْسِهِ سَوَاءً لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُشْتَرِي فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ لَا إلَى الْمُشْتَرَى لَهُ قَالَ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ مِيرَاثِ فُلَانٍ شَيْئًا فَمَاتَ فُلَانٌ فَأَكَلَ مِنْ مِيرَاثِهِ حَنِثَ فَإِنْ مَاتَ وَارِثُهُ فَأُورِثَ ذَلِكَ الْمِيرَاثُ فَأَكَلَ مِنْهُ الْحَالِفُ لَمْ يَحْنَثْ لِنَسْخِ الْمِيرَاثِ الْأَخِيرِ الْمِيرَاثَ الْأَوَّلَ كَذَا ذَكَرَ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ إذَا طَرَأَ عَلَى الْمِيرَاثِ بَطَلَتْ الْإِضَافَةُ الْأُولَى وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا قَالُوا. فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِمَّا زَرَعَ فُلَانٌ فَبَاعَ فُلَانٌ زَرْعَهُ فَأَكَلَهُ الْحَالِفُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي حَنِثَ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْأَوَّلِ لَا تَبْطُلُ بِالْبَيْعِ فَإِنْ بَذَرَهُ الْمُشْتَرِي وَزَرَعَهُ فَأَكَلَ الْحَالِفُ مِنْ هَذَا الزَّرْعِ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ بِالزَّرْعِ إنَّمَا تَكُونُ إلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامٍ يَصْنَعُهُ فُلَانٌ أَوْ مِنْ خُبْزٍ يَخْبِزُهُ فُلَانٌ فَتَنَاسَخَتْهُ الْبَاعَةُ ثُمَّ أَكَلَ الْحَالِفُ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يُقَالُ هُوَ مِنْ خُبْزِ فُلَانٍ وَمِنْ طَبِيخِهِ وَإِنْ بَاعَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ نَسْجِ فُلَانٍ فَنَسَجَ فُلَانٌ ثَوْبًا فَبَاعَهُ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يُبْطِلُ الْإِضَافَةَ وَلَوْ كَانَ ثَوْبَ خَزٍّ فَنُقِضَ وَنَسَجَهُ آخَرُ ثُمَّ لَبِسَهُ الْحَالِفُ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ النَّسْجَ الثَّانِيَ أَبْطَلَ الْإِضَافَةَ الْأُولَى وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي ثَوْبًا مَسَّهُ فُلَانٌ فَمَسَّ فُلَانٌ ثَوْبًا وَتَنَاسَخَتْهُ الْبَاعَةُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ إذَا اشْتَرَاهُ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ بِالْمَسِّ لَا تُبْطِلُ الْبَيْعَ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَا أَشْتَرِي ثَوْبًا كَانَ فُلَانٌ مَسَّهُ. بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْ هَذِهِ

الدَّرَاهِمِ فَاشْتَرَى بِهَا طَعَامًا فَأَكَلَهُ حَنِثَ وَإِنْ بَدَّلَهَا بِغَيْرِهَا وَاشْتَرَى مِمَّا أَبْدَلَ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ بِعَيْنِهَا لَا تَحْتَمِلُ الْأَكْلَ وَإِنَّمَا أَكْلُهَا فِي الْمُتَعَارَفِ أَكْلُ مَا يُشْتَرَى بِهَا وَلَمَّا اشْتَرَى بِبَدَلِهَا لَمْ يُوجَدْ أَكْلُ مَا اشْتَرَى بِهَا فَلَا يَحْنَثُ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ ثَمَنِ هَذَا الْعَبْدِ فَاشْتَرَى بِثَمَنِهِ طَعَامًا فَأَكَلَهُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ شَيْئًا وَأَبُوهُ حَيٌّ فَمَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَ مِنْهُ مَالًا فَاشْتَرَى بِهِ طَعَامًا فَأَكَلَهُ فَفِي الْقِيَاسِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ لِأَنَّ الطَّعَامَ الْمُشْتَرَى لَيْسَ بِمِيرَاثٍ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَحْنَثُ لِأَنَّ الْمَوَارِيثَ هَكَذَا تُؤْكَلُ وَيُسَمَّى ذَلِكَ أَكْلَ الْمِيرَاثِ عُرْفًا وَعَادَةً فَإِنْ اشْتَرَى بِالْمِيرَاثِ شَيْئًا فَاشْتَرَى بِذَلِكَ الشَّيْءِ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ مُشْتَرٍ بِكَسْبِهِ وَلَيْسَ بِمُشْتَرٍ بِمِيرَاثِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْمِيرَاثِ بِعَيْنِهِ إذَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَغَيَّرَهُ وَاشْتَرَى بِهِ لَمْ يَحْنَثْ لِمَا قُلْنَا قَالَ فَإِنْ كَانَ قَالَ لَا آكُلُ مِيرَاثًا يَكُونُ لِفُلَانٍ فَكَيْفَ مَا غَيَّرَهُ فَأَكَلَهُ حَنِثَ لِأَنَّ الْيَمِينَ الْمُطْلَقَةَ تُعْتَبَرُ فِيهَا الصِّفَةُ الْمُعْتَادَةُ وَفِي الْعَادَةِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِمَا وَرِثَهُ الْإِنْسَانُ إنَّهُ مِيرَاثٌ وَإِنْ غَيَّرَهُ وَقَالَ الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا حَلَفَ لَا يُطْعِمُ فُلَانًا مِمَّا وَرِثَ مِنْ أَبِيهِ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ وَرِثَ طَعَامًا فَأَطْعَمَهُ مِنْهُ حَنِثَ فَإِنْ اشْتَرَى بِذَلِكَ الطَّعَامِ طَعَامًا فَأَطْعَمَهُ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَقَعَتْ عَلَى الطَّعَامِ الْمَوْرُوثِ فَإِذَا بَاعَهُ بِطَعَامٍ آخَرَ فَالثَّانِي لَيْسَ بِمَوْرُوثٍ وَقَدْ أَمْكَنَ حَمْلُ الْيَمِينِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَا تُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ وَإِنْ كَانَ وَرِثَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِهَا طَعَامًا فَأَطْعَمَهُ مِنْهُ حَنِثَ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْيَمِينِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَحُمِلَتْ عَلَى الْمَجَازِ. وَقَالَ هِشَامٌ سَمِعْت مُحَمَّدًا يَقُولُ فِي رَجُلٍ مَعَهُ دَرَاهِمُ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَهَا فَاشْتَرَى بِهَا دَنَانِيرَ أَوْ فُلُوسًا ثُمَّ اشْتَرَى بِالدَّنَانِيرِ أَوْ الْفُلُوسِ طَعَامًا فَأَكَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ فَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِهَا عَرَضًا ثُمَّ بَاعَ ذَلِكَ الْعَرْضَ بِطَعَامٍ فَأَكَلَهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي قَوْلِهِ لَا أَشْتَرِي بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ الِامْتِنَاعُ مِنْ إنْفَاقِهَا فِي الطَّعَامِ وَالنَّفَقَةُ تَارَةً تَكُونُ بِالِابْتِيَاعِ وَتَارَةً بِتَصْرِيفِهَا بِمَا يُنْفَقُ فَحُمِلَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْعَادَةِ. فَأَمَّا ابْتِيَاعُ الْعُرُوضِ بِالدَّرَاهِمِ فَلَيْسَ بِنَفَقَةٍ فِي الطَّعَامِ فِي الْعَادَةِ فَلَا تُحْمَلُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ وَهَذَا خِلَافُ مَا حَكَاهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. ابْنُ رُسْتُمَ فِيمَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا آكُلُ مِنْ طَعَامِك وَهُوَ يَبِيعُ الطَّعَامَ فَاشْتَرَى مِنْهُ فَأَكَلَ حَنِثَ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْيَمِينِ يُرَادُ بِهَا مَنْعُ النَّفْسِ عَنْ الِابْتِيَاعِ قَالَ مُحَمَّدٌ. وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا آكُلُ مِنْ طَعَامِك هَذَا الطَّعَامَ بِعَيْنِهِ فَأَهْدَاهُ لَهُ فَأَكَلَهُ لَا يَحْنَثُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَيَحْنَثُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهَذَا فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ قَالَ لَا أَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ هَذِهِ فَبَاعَهَا فُلَانٌ ثُمَّ دَخَلَهَا وَالْمَسْأَلَةُ تَجِيءُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ مُحَمَّدٌ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِهِ فَأَكَلَ مِنْ طَعَامٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا حَنِثَ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الطَّعَامِ يُسَمَّى طَعَامًا فَقَدْ أَكَلَ مِنْ طَعَامِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ. عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ وَابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ غَلَّةِ أَرْضِهِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَأَكَلَ مِنْ ثَمَنِ الْغَلَّةِ حَنِثَ لِأَنَّ هَذَا فِي الْعَادَةِ يُرَادُ بِهِ اسْتِغْلَالُ الْأَرْضِ فَإِنْ نَوَى أَكْلَ نَفْسِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ فَأَكَلَ مِنْ ثَمَنِهِ دَيَّنْتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ أُدَيِّنْهُ فِي الْقَضَاءِ قَالَ الْقُدُورِيُّ وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ وَنَوَى الْجِنْسَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الظَّاهِرَةِ فَيُصَدَّقُ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ شَيْئًا وَأَكَلَ مِنْ ثَمَرِهَا أَوْ جُمَّارِهَا أَوْ طَلْعِهَا أَوْ بُسْرِهَا أَوْ الدِّبْسِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ رُطَبِهَا فَإِنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّ النَّخْلَةَ لَا يَتَأَتَّى أَكْلُهَا فَحُمِلَتْ الْيَمِينُ عَلَى مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا وَالدِّبْسُ اسْمٌ لِمَا يَسِيلُ مِنْ الرُّطَبِ لَا الْمَطْبُوخِ مِنْهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْكَرْمِ شَيْئًا فَأَكَلَ مِنْ عِنَبِهِ أَوْ زَبِيبِهِ أَوْ عَصِيرِهِ حَنِثَ لِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْخَارِجُ مِنْ الْكَرْمِ إذْ عَيْنُ الْكَرْمِ لَا تَحْتَمِلُ الْأَكْلَ كَمَا فِي النَّخْلَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا نَظَرَ إلَى عِنَبٍ فَقَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ أَكَلَ مِنْ هَذَا الْعِنَبِ فَأَكَلَ مِنْ زَبِيبِهِ أَوْ عَصِيرِهِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْعِنَبَ مِمَّا تُؤْكَلُ عَيْنُهُ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْحَمْلِ عَلَى مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الشَّاةِ فَأَكَلَ مِنْ لَبَنِهَا أَوْ زُبْدِهَا أَوْ سَمْنِهَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الشَّاةَ مَأْكُولَةٌ فِي نَفْسِهَا فَأَمْكَنَ حَمْلُ الْيَمِينِ عَلَى أَجْزَائِهَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا لَا عَلَى مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا قَالَ مُحَمَّدٌ. وَلَوْ أَكَلَ مِنْ نَاطِفٍ جُعِلَ مِنْ ثَمَرِ النَّخْلَةِ أَوْ نَبِيذٍ نُبِذَ مِنْ ثَمَرِهَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَقَدْ خَرَجَ هَذَا مَحْذُوفَ الصِّيغَةِ عَنْ حَالِ الِابْتِدَاءِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْيَمِينُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ فَأَكَلَ مِنْ زُبْدِهِ أَوْ سَمْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ اللَّبَنَ مَأْكُولٌ بِنَفْسِهِ فَتُحْمَلُ الْيَمِينُ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى الشُّرْبِ

فَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى الشُّرْبِ أَنَّهُ إيصَالُ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الْمَضْغُ مِنْ الْمَائِعَاتِ إلَى الْجَوْفِ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ فَأَكَلَ لَا يَحْنَثُ. كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَشَرِبَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ فِعْلَانِ مُتَغَايِرَانِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} [البقرة: 187] عَطَفَ الشُّرْبَ عَلَى الْأَكْلِ وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَإِذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَأَيَّ شَرَابٍ شَرِبَ مِنْ مَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مَنْعَ نَفْسَهُ عَنْ الشُّرْبِ عَامًّا وَسَوَاءٌ شَرِبَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا لِأَنَّ بَعْضَ الشَّرَابِ يُسَمَّى شَرَابًا وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا فَأَكَلَ شَيْئًا يَسِيرًا يَحْنَثُ لِأَنَّ قَلِيلَ الطَّعَامِ طَعَامٌ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ نَبِيذًا فَأَيَّ نَبِيذٍ شَرِبَ حَنِثَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ وَإِنْ شَرِبَ سَكَرًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ السَّكَرَ لَا يُسَمَّى نَبِيذًا لِأَنَّهُ اسْمٌ لِخَمْرِ التَّمْرِ وَهُوَ الَّذِي مِنْ مَاءِ التَّمْرِ إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ أَوْ لَمْ يَقْذِفْ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَكَذَا لَوْ شَرِبَ فَضِيخًا لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى نَبِيذًا إذْ هُوَ اسْمٌ لِلْمُثَلَّثِ يُصَبُّ فِيهِ الْمَاءُ وَكَذَا لَوْ شَرِبَ عَصِيرًا لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى نَبِيذًا. وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَعَ فُلَانٍ شَرَابًا فَشَرِبَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِنْ شَرَابٍ وَاحِدٍ حَنِثَ وَإِنْ كَانَ الْإِنَاءُ الَّذِي يَشْرَبَانِ فِيهِ مُخْتَلِفًا وَكَذَا لَوْ شَرِبَ الْحَالِفُ مِنْ شَرَابٍ وَشَرِبَ الْآخَرُ مِنْ شَرَابٍ غَيْرِهِ وَقَدْ ضَمَّهُمَا مَجْلِسٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الشُّرْبِ مَعَ فُلَانٍ فِي الْعُرْفِ هُوَ أَنْ يَشْرَبَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ اتَّحَدَ الْإِنَاءُ وَالشَّرَابُ أَوْ اخْتَلَفَا بَعْدَ أَنْ ضَمَّهُمَا مَجْلِسٌ وَاحِدٌ يُقَالُ شَرِبْنَا مَعَ فُلَانٍ وَشَرِبْنَا مَعَ الْمَلِكِ وَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ يَتَفَرَّدُ بِالشُّرْبِ مِنْ إنَاءٍ فَإِنْ نَوَى شَرَابًا وَاحِدًا وَمِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ يُصَدَّقْ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ دِجْلَةَ أَوْ مِنْ الْفُرَاتِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَرْعًا وَهُوَ أَنْ يَضَعَ فَاهُ عَلَيْهِ فَيَشْرَبَ مِنْهُ فَإِنْ أَخَذَ الْمَاءَ بِيَدِهِ أَوْ بِإِنَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَحْنَثُ شَرِبَ كَرْعًا أَوْ بِإِنَاءٍ أَوْ اغْتَرَفَ بِيَدِهِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ يُصْرَفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ وَالْمُتَعَارَفُ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ رَفَعَ الْمَاءَ مِنْ الْفُرَاتِ بِيَدِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَوَانِي أَنَّهُ يُسَمَّى شَارِبًا مِنْ الْفُرَاتِ فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ الْكَلَامِ عَلَى غَلَبَةِ الْمُتَعَارَفِ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُتَعَارَفًا كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَوْ مِنْ هَذَا الْقِدْرِ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ ذَلِكَ إلَى مَا يَخْرُجُ مِنْ الشَّجَرَةِ مِنْ الثَّمَرِ وَإِلَى مَا يُطْبَخُ فِي الْقِدْرِ مِنْ الطَّعَامِ كَذَلِكَ هَهُنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مُطْلَقَ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَحَقِيقَةُ الشُّرْبِ مِنْ الْفُرَاتِ هُوَ أَنْ يَكْرَعَ مِنْهُ كَرْعًا لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ هَهُنَا اُسْتُعْمِلَتْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ بِلَا خِلَافٍ لِتَعَذُّرِ حَمْلِهَا عَلَى التَّبْعِيضِ إذْ الْفُرَاتُ اسْمٌ لِلنَّهْرِ الْمَعْرُوفِ وَالنَّهْرُ اسْمٌ لِمَا بَيْنَ ضِفَّتَيْ الْوَادِي لَا لِلْمَاءِ الْجَارِي فِيهِ فَكَانَتْ كَلِمَةُ مِنْ هَهُنَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَتَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الشُّرْبُ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ وَلَنْ يَكُونَ شُرْبُهُ مِنْهُ إلَّا وَأَنْ يَضَعَ فَاهُ عَلَيْهِ فَيَشْرَبَ مِنْهُ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْكَرْعِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْكُوزِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَرِبَ مِنْ إنَاءٍ أُخِذَ فِيهِ الْمَاءُ مِنْ الْفُرَاتِ كَانَ شَارِبًا مِنْ ذَلِكَ الْإِنَاءِ حَقِيقَةً لَا مِنْ الْفُرَاتِ وَالْمَاءُ الْوَاحِدُ لَا يُشْرَبُ مِنْ مَكَانَيْنِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقِيقَةً وَلِهَذَا لَوْ قَالَ شَرِبْت مِنْ الْإِنَاءِ لَا مِنْ الْفُرَاتِ كَانَ مُصَدَّقًا وَلَوْ قَالَ عَلَى الْقَلْبِ كَانَ مُكَذَّبًا فَدَلَّ أَنَّ الشُّرْبَ مِنْ الْفُرَاتِ هُوَ الْكَرْعُ مِنْهُ وَأَنَّهُ مُمْكِنٌ وَمُسْتَعْمَلٌ فِي الْجُمْلَةِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى قَوْمًا فَقَالَ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ مَاءٍ بَاتَ فِي شَنٍّ وَإِلَّا كَرَعْنَا» وَيَسْتَعْمِلُهُ كَثِيرٌ فِي زَمَانِنَا مِنْ أَهْلِ الرَّسَاتِيقِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِعْلًا مُسْتَعْمَلًا فَذَا لَا يُوجِبُ كَوْنَ الِاسْمِ مَنْقُولًا عَنْ الْحَقِيقَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الِاسْمُ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ تَسْمِيَةً وَنُطْقًا كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ أَنَّهُ يَحْنَثُ وَإِنْ كَانَ لَا يُؤْكَلُ عَادَةً لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً تَسْمِيَةً وَنُطْقًا وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ قِلَّةَ الْحَقِيقَةِ وُجُودًا لَا يَسْلُبُ اسْمَ الْحَقِيقَةِ عَنْ الْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ أَوْ مِنْ هَذَا الْقِدْرِ لِأَنَّ هَهُنَا كَمَا لَا يُمْكِنُ جَعْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ لِتَبْعِيضِ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ بِخُرُوجِ الشَّجَرَةِ وَالْقِدْرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْأَكْلِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا ابْتِدَاءَيْنِ لِغَايَةِ الْأَكْلِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْأَكْلِ لَا يَحْصُلُ مِنْ الْمَكَانِ بَلْ مِنْ الْيَدِ لِأَنَّ الْمَأْكُولَ مُسْتَمْسِكٌ فِي نَفْسِهِ وَالْأَكْلُ عِبَارَةٌ عَنْ الْبَلْعِ عَنْ مَضْغٍ وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمَضْغُ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَأُضْمِرَ فِيهِ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ وَهُوَ الثَّمَرَةُ فِي الشَّجَرَةِ وَالْمَطْبُوخُ فِي الْقِدْرِ فَكَانَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَهَهُنَا أَمْكَنَ جَعْلُهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ لِأَنَّ الْمَاءَ يُشْرَبُ مِنْ مَكَان لَا مَحَالَةَ لِانْعِدَامِ اسْتِمْسَاكِهِ فِي نَفْسِهِ إذْ الشُّرْبُ هُوَ الْبَلْعُ مِنْ غَيْرِ مَضْغٍ وَمَا يُمْكِنُ ابْتِلَاعُهُ مِنْ غَيْرِ مَضْغٍ لَا يَكُونُ لَهُ فِي نَفْسِهِ اسْتِمْسَاكٌ فَلَا بُدَّ مِنْ حَامِلٍ لَهُ يُشْرَبُ مِنْهُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَلَوْ شَرِبَ مِنْ نَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْ

الْفُرَاتِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا أَمَّا عِنْدَهُ فَلَا يُشْكِلُ لِأَنَّ هَذَا النَّهْرَ لَيْسَ بِفُرَاتٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ شَرِبَ مِنْ آنِيَةٍ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فُلَانهمَا يَعْتَبِرَانِ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ وَمَنْ شَرِبَ مِنْ نَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْ الْفُرَاتِ لَا يُعْرَفُ شَارِبًا مِنْ الْفُرَاتِ لِأَنَّ الشُّرْبَ مِنْ الْفُرَاتِ عِنْدَهُمَا هُوَ أَخْذُ الْمَاءِ الْمُفْضِي إلَى الشُّرْبِ مِنْ الْفُرَاتِ وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا لِأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ نَهْرٍ لَا يُسَمَّى فُرَاتًا. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ فَشَرِبَ مِنْ نَهْرٍ أَخَذَ الْمَاءَ مِنْ الْفُرَاتِ فَإِنْ شَرِبَ مِنْهُ بِالِاغْتِرَافِ بِالْآنِيَةِ أَوْ بِالِاسْتِقَاءِ بِرَاوِيَةٍ يَحْنَثْ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَرَعَ مِنْهُ يَحْنَثْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّهْرَ لَمَّا أَخَذَ الْمَاءَ مِنْ الْفُرَاتِ فَقَدْ صَارَ مُضَافًا إلَيْهِ فَانْقَطَعَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْفُرَاتِ وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَنْعُ نَفْسِهِ عَنْ شُرْبِ جُزْءٍ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ دَخَلَتْ فِي الْمَاءِ صِلَةً لِلشُّرْبِ وَهُوَ قَابِلٌ لِفِعْلِ الشُّرْبِ فَكَانَتْ لِلتَّجْزِئَةِ وَبِالدُّخُولِ فِي نَهْرٍ انْشَعَبَ مِنْ الْفُرَاتِ لَا تَنْقَطِعُ إلَيْهِ النِّسْبَةُ كَمَا لَا تَنْقَطِعُ بِالِاغْتِرَافِ بِالْآنِيَةِ وَالِاسْتِقَاءِ بِالرَّاوِيَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَاءَ زَمْزَمَ يُنْقَلُ إلَيْنَا وَنَتَبَرَّكُ بِهِ وَنَقُولُ شَرِبْنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ فَهَذَا وَقَوْلُهُ لَا أَشْرَبُ مِنْ دِجْلَةَ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الشُّرْبَ مِنْ النَّهْرِ فَكَانَ عَلَى الِاخْتِلَافِ. وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ نَهْرٍ يَجْرِي ذَلِكَ النَّهْرُ إلَى دِجْلَةَ فَأَخَذَ مِنْ دِجْلَةَ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فَشَرِبَهُ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ لِزَوَالِ الْإِضَافَةِ إلَى النَّهْرِ الْأَوَّلِ بِحُصُولِهِ فِي دِجْلَةَ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْجُبِّ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ حَتَّى لَوْ اغْتَرَفَ مِنْ مَائِهِ فِي إنَاءٍ آخَرَ فَشَرِبَ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَضَعَ فَاهُ عَلَى الْجُبِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَحْنَثُ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مِنْ قَسَّمَ الْجَوَابَ فِي الْجُبِّ فَقَالَ إنْ كَانَ مَلْآنَ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ مَقْصُورَةُ الْوُجُودِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَلْآنَ فَاغْتَرَفَ يَحْنَثْ بِالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْحَقِيقَةِ فَتَنْصَرِفَ يَمِينُهُ إلَى الْمَجَازِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْكُوزِ انْصَرَفَتْ يَمِينُهُ إلَى الْحَقِيقَةِ إجْمَاعًا لِتَصَوُّرِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لِلْعُرْفِ فَإِنْ نُقِلَ الْمَاءُ مِنْ كُوزٍ إلَى كُوزٍ وَشَرِبَ مِنْ الثَّانِي لَا يُسَمَّى شَارِبًا مِنْ الْكُوزِ الْأَوَّلِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ هَذَا الْجُبِّ فَاغْتَرَفَ مِنْهُ بِإِنَاءٍ فَشَرِبَ حَنِثَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى مَاءِ ذَلِكَ الْجُبِّ وَقَدْ شَرِبَ مِنْ مَائِهِ فَإِنْ حَوَّلَ مَاءَهُ إلَى جُبٍّ آخَرَ فَشَرِبَ مِنْهُ فَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ فَشَرِبَ مِنْ نَهْرٍ يَأْخُذُ الْمَاءَ مِنْ الْفُرَاتِ وَقَدْ مَرَّ وَلَوْ قَالَ لَا أَشْرَبُ مِنْ مَاءِ هَذَا الْجُبِّ فَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ لَا أَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذِهِ الْبِئْرِ أَوْ مِنْ مَائِهَا فَاسْتَقَى مِنْهَا وَشَرِبَ حَنِثَ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةِ الْوُجُودِ فَيُصْرَفُ إلَى الْمَجَازِ. وَقَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ فَمُدَّتْ الدِّجْلَةُ مِنْ الْمَطَرِ فَشَرِبَ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ فِي الدِّجْلَةِ انْقَطَعَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمَطَرِ فَإِنْ شَرِبَ مِنْ مَاءِ وَادٍ سَالَ مِنْ الْمَطَرِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَاءٌ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ جَاءَ مِنْ مَاءِ مَطَرٍ مُسْتَنْقَعٍ فِي قَاعٍ حَنِثَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُضَفْ إلَى النَّهْرِ بَقِيَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمَطَرِ كَمَا كَانَتْ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فُرَاتٍ فَشَرِبَ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ أَوْ نَهْرٍ آخَرَ أَوْ بِئْرٍ عَذْبَةٍ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ شُرْبِ مَاءٍ عَذْبٍ إذْ الْفُرَاتُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَذْبِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27] وَلَمَّا أَطْلَقَ الْمَاءَ وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى الْفُرَاتِ فَقَدْ جَعَلَ الْفُرَاتَ نَعْتًا لِلْمَاءِ وَقَدْ شَرِبَ مِنْ الْمَاءِ الْمَنْعُوتِ فَيَحْنَثُ وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَضَافَ الْمَاءَ إلَى الْفُرَاتِ وَعَرَّفَ الْفُرَاتَ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ فَيُصْرَفُ إلَى النَّهْرِ الْمَعْرُوفِ الْمُسَمَّى بِالْفُرَاتِ. (وَأَمَّا) الْحَلِفُ عَلَى الذَّوْقِ فَالذَّوْقُ هُوَ إيصَالُ الْمَذُوقِ إلَى الْفَمِ ابْتَلَعَهُ أَوْ لَا بَعْدَ أَنْ وَجَدَ طَعْمَهُ لِأَنَّهُ مِنْ أَحَدِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْعِلْمِ بِالْمَذُوقَاتِ كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالشَّمِّ وَاللَّمْسِ لِلْعِلْمِ بِالْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ وَالْمَشْمُومَاتِ وَالْمَلْمُوسَاتِ وَالْعِلْمُ بِالطَّعْمِ يَحْصُلُ بِحُصُولِ الذَّوْقِ فِي فَمِهِ سَوَاءٌ ابْتَلَعَهُ أَوْ مَجَّهُ فَكُلُّ أَكْلٍ فِيهِ ذَوْقٌ وَلَيْسَ كُلُّ ذَوْقٍ أَكْلًا إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ إذَا حَلَفَ لَا يَذُوقُ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا فَأَدْخَلَهُ فِي فِيهِ حَنِثَ لِحُصُولِ الذَّوْقِ لِوُجُودِ مَعْنَاهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فَإِنْ قَالَ أَرَدْت بِقَوْلِي لَا أَذُوقُهُ لَا آكُلُهُ وَلَا أَشْرَبُهُ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِالذَّوْقِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ يُقَالُ فِي الْعُرْفِ مَا ذُقْت الْيَوْمَ شَيْئًا وَمَا ذُقْت إلَّا الْمَاءَ وَيُرَادُ بِهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فَإِذَا نَوَى ذَلِكَ لَا يَحْنَثُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِعُدُولِهِ عَنْ الظَّاهِرِ. قَالَ هِشَامٌ وَسَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ رَجُلً حَلَفَ

لَا يَذُوقُ فِي مَنْزِلِ فُلَانٍ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا فَذَاقَ مِنْهُ شَيْئًا أَدْخَلَهُ فَاهُ وَلَمْ يَصِلْ إلَى جَوْفِهِ فَقَالَ مُحَمَّدٌ هَذَا عَلَى الذَّوْقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ تَقَدَّمَ كَلَامٌ قُلْت فَإِنْ كَانَ قَالَ لَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ تَغَدَّ عِنْدِي الْيَوْمَ فَحَلَفَ لَا يَذُوقُ فِي مَنْزِلِهِ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا فَقَالَ مُحَمَّدٌ هَذَا عَلَى الْأَكْلِ لَيْسَ عَلَى الذَّوْقِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقِيقَةَ الذَّوْقِ هِيَ اكْتِسَاب سَبَبِ الْعِلْمِ بِالْمَذُوقِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَإِنْ تَقَدَّمَتْ هُنَاكَ دَلَالَةُ حَالٍ خَرَجَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ حُمِلَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهَا وَإِلَّا عَمِلْت بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَذُوقُ الْمَاءَ فَتَمَضْمَضَ لِلصَّلَاةِ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِطَعْمِ الْمَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى ذَوْقًا عُرْفًا وَعَادَةً إذْ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّطْهِيرُ لَا مَعْرِفَةُ طَعْمِ الْمَذُوقِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا أَوْ لَا يَشْرَبُ شَرَابًا أَوْ لَا يَذُوقُ وَنَوَى طَعَامًا دُونَ طَعَامٍ أَوْ شَرَابًا دُونَ شَرَابٍ. فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا أَنَّ الْحَالِفَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَنْوِيَ تَحْصِيص مَا هُوَ مَذْكُورٌ وَإِمَّا أَنْ نَوَى تَخْصِيصَ مَا لَيْسَ بِمَذْكُورٍ فَإِنْ نَوَى تَخْصِيصَ مَا هُوَ مَذْكُورٌ بِأَنْ ذَكَرَ لَفْظًا عَامًّا وَأَرَادَ بِهِ بَعْضَ مَا دَخَلَ تَحْتَ اللَّفْظِ الْعَامِّ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ بِالْعَامِّ عَلَى إرَادَةِ الْخَاصِّ جَائِزٌ إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ اللَّفْظَ وُضِعَ دَلَالَةً عَلَى الْعُمُومِ وَالظَّاهِرُ مِنْ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ دَلَالَةً عَلَى الْعُمُومِ فِي اللُّغَةِ إرَادَةُ الْعُمُومِ فَكَانَ نِيَّةُ الْخُصُوصِ خِلَافَ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً وَإِنْ نَوَى تَخْصِيصَ مَا لَيْسَ بِمَذْكُورٍ لَا يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَوَاءٌ كَانَ التَّخْصِيصُ رَاجِعًا إلَى الذَّاتِ أَوْ إلَى الصِّفَةِ أَوْ إلَى الْحَالِ لِأَنَّ الْخُصُوصَ وَالْعُمُومَ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْمَعَانِي فَغَيْرُ الْمَلْفُوظِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْمِيمَ وَالتَّخْصِيصَ وَالتَّقْيِيدَ فَإِذَا نَوَى التَّخْصِيصَ فَقَدْ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَلَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُ رَأْسًا وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَتُخَرَّجُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ إذَا قَالَ إنْ أَكَلْت طَعَامًا أَوْ شَرِبْت شَرَابًا أَوْ إنْ ذُقْت طَعَامًا أَوْ شَرَابًا فَعَبْدِي حُرٌّ، وَقَالَ عَنَيْت اللَّحْمَ أَوْ الْخُبْزَ فَأَكَلَ غَيْرَهُ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ مِنْ اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ فِي مَوْضِعِ الْعُمُومِ كَمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ إنْ أَكَلْت طَعَامًا بِمَعْنَى قَوْلِهِ لَا آكُلُ طَعَامًا فَيَتَنَاوَلُ بِظَاهِرِهِ كُلَّ طَعَامٍ فَإِذَا نَوَى بِهِ بَعْضَ الْأَطْعِمَةِ دُونَ بَعْضٍ فَقَدْ نَوَى الْخُصُوصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ قَالَ إنْ أَكَلْت أَوْ ذُقْت أَوْ شَرِبْت فَعَبْدِي حُرٌّ وَهُوَ يَنْوِي طَعَامًا بِعَيْنِهِ أَوْ شَرَابًا بِعَيْنِهِ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ غَيْرَهُ فَإِنَّ عَبْدَهُ يَعْتِقُ فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ مِنْ غَيْرِ الْمَذْكُورِ إذْ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ لَيْسَا بِمَذْكُورَيْنِ بَلْ يَثْبُتَانِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَزْعُمُ أَنَّ لِلْمُقْتَضَى عُمُومًا وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ مِنْ صِفَاتِ الْمَوْجُودِ دُونَ الْمَعْدُومِ إذْ الْمَعْدُومُ لَا يَحْتَمِلُ الصِّفَةَ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ يُجْعَلُ مَوْجُودًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ لِصِحَّةِ الْكَلَامِ فَيُبْقِي فِيمَا وَرَاءَهُ عَلَى حُكْمِ الْعَدَمِ وَأَمَّا التَّخْصِيصُ الرَّاجِعُ إلَى الصِّفَةِ وَالْحَالِ فَنَحْوُ مَا حَكَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ هَذَا الرَّجُلَ وَهُوَ قَائِمٌ وَعَنَى بِهِ وَمَا دَامَ قَائِمًا لَكِنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقِيَامِ كَانَتْ نِيَّتُهُ بَاطِلَةً وَحَنِثَ إنْ كَلَّمَهُ لِأَنَّ الْحَالَ وَالصِّفَةَ لَيْسَتْ بِمَذْكُورَةٍ فَلَا تَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الْقَائِمَ يُعْنَى بِهِ مَا دَامَ قَائِمًا وَسِعَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِوُرُودِ التَّخْصِيصِ عَلَى الْمَلْفُوظِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ فُلَانًا خَمْسِينَ وَهُوَ يَنْوِي بِسَوْطٍ بِعَيْنِهِ فَبِأَيِّ سَوْطٍ ضَرَبَهُ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ يَمِينِهِ وَالنِّيَّةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ آلَةَ الضَّرْبِ لَيْسَتْ بِمَذْكُورَةٍ فَبَطَلَتْ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ وَنَظِيرُ هَذَا مَا حَكَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ، وَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُ امْرَأَةً وَهُوَ يَنْوِي كُوفِيَّةً أَوْ بَصْرِيَّةً فَقَالَ لَيْسَ فِي هَذَا نِيَّةٌ فَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا فِي الْقَضَاءِ. وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُ امْرَأَةً يَعْنِي امْرَأَةً كَانَ أَبُوهَا يَعْمَلُ كَذَا وَكَذَا فَهَذَا كُلُّهُ لَا تَجُوزُ فِيهِ النِّيَّةُ وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُ امْرَأَةً يَعْنِي امْرَأَةً عَرَبِيَّةً أَوْ حَبَشِيَّةً قَالَ هَذَا جَائِزٌ يَدِينُ فِيمَا نَوَاهُ فَقَدْ جَعَلَ قَوْلَهُ عَرَبِيَّةً أَوْ حَبَشِيَّةً بَيَانَ النَّوْعِ وَقَوْلَهُ كُوفِيَّةً أَوْ بَصْرِيَّةً وَصْفًا فَجَوَّزَ تَخْصِيصَ النَّوْعِ وَلَمْ يُجَوِّزْ تَخْصِيصَ الْوَصْفِ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَيْسَتْ بِمَذْكُورَةٍ وَالْجِنْسُ مَذْكُورٌ وَهُوَ قَوْلُهُ امْرَأَةً لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ امْرَأَةٍ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِي نَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ لِاشْتِمَالِ اسْمِ الْجِنْسِ عَلَى الْأَنْوَاعِ وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُ امْرَأَةً عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ يَنْوِي امْرَأَةً بِعَيْنِهَا قَالَ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ

فصل في الحلف على اللبس والكسوة

وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ يَحْتَمِلُ تَخْصِيصَ جِنْسِ أَفْرَادِ الْعُمُومِ إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ قَالَ. وَلَوْ قَالَ لَا أَشْتَرِي جَارِيَةً وَنَوَى مُوَلَّدَةً فَإِنَّ نِيَّتَهُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَخْصِيصِ نَوْعٍ مِنْ جِنْسٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصُ صِفَةٍ فَأَشْبَهَ الْكُوفِيَّةَ وَالْبَصْرِيَّةَ. وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا آكُلُ الطَّعَامَ أَوْ لَا أَشْرَبُ الْمَاءَ أَوْ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَيَمِينُهُ عَلَى بَعْضِ الْجِنْسِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ صُدِّقَ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ. وَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَعْنَى الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ وَمَعْرِفَةِ وَقْتِهِمَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِبَارَةٌ عَنْ أَكْلِ مَا يُقْصَدُ بِهِ الشِّبَعُ عَادَةً فَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْعَادَةُ فِي كُلِّ بَلَدٍ فَمَا كَانَ غَدَاءً عِنْدَهُمْ حُمِلَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالُوا فِي أَهْلِ الْحَضَرِ إذَا حَلَفُوا عَلَى تَرْكِ الْغَدَاءِ فَشَرِبُوا اللَّبَنَ لَمْ يَحْنَثُوا لِأَنَّهُمْ لَا يَتَنَاوَلُونَ ذَلِكَ لِلشِّبَعِ عَادَةً وَلَوْ حَلَفَ الْبَدَوِيُّ فَشَرِبَ اللَّبَنَ حَنِثَ لِأَنَّ ذَلِكَ غَدَاءٌ فِي الْبَادِيَةِ وَإِذَا حَلَفَ لَا يَتَغَدَّى فَأَكَلَ غَيْرَ الْخُبْزِ مِنْ أَرُزٍّ أَوْ تَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ حَتَّى شَبِعَ لَمْ يَحْنَثْ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ غَدَاءً وَكَذَلِكَ إذَا أَكَلَ لَحْمًا بِغَيْرِ خُبْزٍ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ قَالَ. وَقَالَا لَيْسَ الْغَدَاءُ فِي مِثْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ إلَّا عَلَى الْخُبْزِ وَالْمَرْجِعُ فِي هَذَا إلَى الْعَادَةِ فَمَا كَانَ غَدَاءً مُتَعَادًّا عِنْدَ الْحَالِفِ حَنِثَ وَمَا لَا فَلَا وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَكْلِ الْهَرِيسَةِ وَالْأَرُزِّ أَنَّهُ يَحْنَثُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْهَرِيسَةِ وَالْفَالُوذَجِ وَالْخَبِيصِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ غَدَاءَهُ وَالْأَصْلُ أَنَّ غَدَاءَ كُلِّ بَلَدٍ مَا تَعَارَفُونَهُ غَدَاءً فَيُعْتَبَرُ عَادَةُ الْحَالِفِ فِيمَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ كُوفِيًّا يَقَعُ عَلَى خُبْزِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَلَا يَقَعُ عَلَى اللَّبَنِ وَالسَّوِيقِ وَإِنْ كَانَ بَدَوِيًّا يَقَعُ عَلَى اللَّبَنِ وَالسَّوِيقِ وَإِنْ كَانَ حِجَازِيًّا يَقَعُ عَلَى السَّوِيقِ وَفِي بِلَادِنَا يَقَعُ عَلَى خُبْزِ الْحِنْطَةِ وَأَمَّا الثَّانِي فَنَقُولُ وَقْتُ الْغَدَاءِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ لِأَنَّ الْغَدَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ أَكْلِ الْغُدْوَةِ وَمَا بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ لَا يَكُونُ غُدْوَةً وَالْعَشَاءُ مِنْ وَقْتِ الزَّوَالِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَكْلِ الْعَشِيَّةِ وَأَوَّلُ أَوْقَاتِ الْعِشَاءِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ» يُرِيدُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَفِي عُرْفِ دِيَارِنَا الْعِشَاءُ مَا بَعْدَ وَقْتِ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَأَمَّا السُّحُورُ فَمَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ السَّحَرِ وَهُوَ وَقْتُ السَّحَرِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِقْدَارُ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِأَمَتِهِ إنْ لَمْ تَتَعَشَّ اللَّيْلَةَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَأَكَلَتْ لُقْمَةً وَاحِدَةً لَمْ تَزِدْ عَلَيْهَا فَلَيْسَ هَذَا بِعَشَاءٍ وَلَا يَحْنَثُ حَتَّى تَأْكُلَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ شِبَعِهَا لِأَنَّ مَنْ أَكَلَ لُقْمَةً يَقُولُ فِي الْعَادَةِ مَا تَغَدَّيْت وَلَا تَعَشَّيْت فَإِذَا أَكَلَ أَكْثَرَ أَكْلِهِ يُسَمَّى ذَلِكَ غَدَاءً فِي الْعَادَةِ وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ حَلَفَ لَيَأْتِيَنه غُدْوَةً أَنَّهُ إذَا أَتَاهُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ فَقَدْ بَرَّ وَهُوَ غُدْوَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا وَقْتُ الْغَدَاءِ وَلَوْ قَالَ لَيَأْتِيَنه ضَحْوَةً فَهُوَ مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ السَّاعَةِ الَّتِي تَحِلُّ فِيهَا الصَّلَاةُ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ لِأَنَّ هَذَا وَقْتُ صَلَاةِ الضُّحَى قَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا حَلَفَ لَا يُصْبِحُ، فَالتَّصْبِيحُ عِنْدِي مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَبَيْنَ ارْتِفَاعِ الضُّحَى الْأَكْبَرِ، فَإِذَا ارْتَفَعَ الضُّحَى الْأَكْبَرُ ذَهَبَ وَقْتُ التَّصْبِيحِ لِأَنَّ التَّصْبِيحَ تَفْعِيلٌ مِنْ الصُّبْحِ وَالتَّفْعِيلُ لِلتَّكْثِيرِ فَيَقْتَضِي زِيَادَةً عَلَى مَا يُفِيدُهُ الْإِصْبَاحِ وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَى السَّحَرِ قَالَ إذَا دَخَلَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ فَلْيُكَلِّمْهُ لِأَنَّ وَقْتَ السَّحَرِ مَا قَرُبَ مِنْ الْفَجْرِ قَالَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ وَالْمَسَاءُ مَسَاءَانِ أَحَدُهُمَا إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ كَيْفَ أَمْسَيْت؟ وَالْمَسَاءُ الْأَخِيرُ إذَا غَرُبَتْ الشَّمْسُ فَإِذَا حَلَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَفْعَلُ كَذَا حَتَّى يُمْسِيَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْيَمِينِ عَلَى الْمَسَاءِ الْأَوَّلِ فَيُحْمَلُ عَلَى الثَّانِي وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى اللُّبْسِ وَالْكِسْوَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى اللُّبْسِ وَالْكِسْوَةِ إذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ قَمِيصًا أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ رِدَاءً فَاِتَّزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ أَوْ الْقَمِيصِ أَوْ الرِّدَاءِ لَمْ يَحْنَثْ وَكَذَا إذَا أَعْتَمَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَادَةُ وَالِاتِّزَارُ وَالتَّعَمُّمُ لَيْسَ بِمُعْتَادٍ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَا يَحْنَثُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الْقَمِيصَ أَوْ هَذَا الرِّدَاءَ فَعَلَى أَيِّ حَالٍ لَبِسَ ذَلِكَ حَنِثَ وَإِنْ اتَّزَرَ بِالرِّدَاءِ وَارْتَدَى بِالْقَمِيصِ أَوْ اغْتَسَلَ فَلَفَّ الْقَمِيصَ عَلَى رَأْسِهِ وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذِهِ الْعِمَامَةَ فَالِقَاهَا عَلَى عَاتِقِهِ لِأَنَّ الْيَمِينَ إذَا تَعَلَّقَتْ بِعَيْنٍ اُعْتُبِرَ فِيهَا وُجُودُ الِاسْمِ وَلَا تُعْتَبَرُ فِيهَا الصِّفَةُ الْمُعْتَادَةُ لِأَنَّ الصِّفَةَ فِي الْحَاضِرِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ

وَالِاسْمُ بَاقٍ وَهَذَا لَيْسَ بِمُعْتَادٍ فَيَحْنَثُ بِهِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حَرِيرًا فَلَبِسَ مُصَمَّتًا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الثَّوْبَ يُنْسَبُ إلَى اللُّحْمَةِ دُونَ السَّدَاءِ لِأَنَّهَا هِيَ الظَّاهِرَةُ مِنْهُ وَالسِّدَاءُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ وَنَظِيرُ مَسَائِلِ الْبَابِ مَا قَالَ فِي الْجَامِعِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ قَمِيصَيْنِ فَلَبِسَ قَمِيصًا ثُمَّ نَزَعَهُ ثُمَّ لَبِسَ آخَرَ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَلْبَسَهُمَا مَعًا لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ لُبْسِ الْقَمِيصَيْنِ فِي الْعُرْفِ هُوَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَلْبَسُ هَذَيْنِ الْقَمِيصَيْنِ فَلَبِسَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ نَزَعَهُ وَلَبِسَ الْآخَرَ حَنِثَ لِأَنَّ الْيَمِينَ هَهُنَا وَقَعَتْ عَلَى عَيْنٍ فَاعْتُبِرَ فِيهَا الِاسْمُ دُونَ اللُّبْسِ الْمُعْتَادِ وَقَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ شَيْئًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَلَبِسَ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ أَوْ دِرْعَ امْرَأَةٍ أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ قَلَنْسُوَةً أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلُّهُ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ اللُّبْسِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ سِلَاحًا فَتَقَلَّدَ سَيْفًا أَوْ تَنَكَّبَ قَوْسًا أَوْ تُرْسًا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى لُبْسًا يُقَالُ تَقَلَّدَ السَّيْفَ وَلَا يُقَالُ لَبِسَهُ وَلَوْ لَبِسَ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ أَوْ غَيْرِهِ حَنِثَ لِأَنَّ السِّلَاحَ هَكَذَا يُلْبَسُ وَقَالُوا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ قُطْنًا فَلَبِسَ ثَوْبَ قُطْنٍ يَحْنَثُ لِأَنَّ الْقُطْنَ لَا يَحْتَمِلُ اللُّبْسَ حَقِيقَةً فَيُحْمَلُ عَلَى لُبْسِ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ فَإِنْ لَبِسَ قَبَاءً لَيْسَ بِقُطْنٍ وَحَشْوُهُ قُطْنٌ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ الْحَشْوَ لِأَنَّ الْحَشْوَ لَيْسَ بِمَلْبُوسٍ فَلَا تَتَنَاوَلُهُ الْيَمِينُ فَإِنْ لَبِسَ ثَوْبًا مِنْ قُطْنٍ وَكَتَّانٍ حَنِثَ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْقُطْنِ تَتَنَاوَلُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ وَبَعْضُ الثَّوْبِ يُتَّخَذُ مِنْهُ رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَيَقْطَعَن مِنْ هَذَا الثَّوْبِ قَمِيصًا وَسَرَاوِيلَ فَقَطَعَهُ قَمِيصًا فَلَبِسَهُ مَا شَاءَ ثُمَّ قَطَعَ مِنْ الْقَمِيصِ سَرَاوِيلَ فَلَبِسَهُ فَإِنَّهُ يَبَرُّ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّ الْقَمِيصَ يُسَمَّى ثَوْبًا فَقَدْ قُطِعَ الثَّوْبُ سَرَاوِيلَ وَاسْمُ الثَّوْبِ لَمْ يَزُلْ فَلَا يَحْنَثُ وَإِنْ حَلَفَ عَلَى قَمِيصٍ لَيَقْطَعَن مِنْهُ قَبَاءً وَسَرَاوِيلَ فَقَطَعَ مِنْهُ قَبَاءً فَلَبِسَهُ أَوْ لَمْ يَلْبَسْهُ ثُمَّ قَطَعَ مِنْ الْقَبَاءِ سَرَاوِيلَ فَإِنَّهُ قَدْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ حِينَ قَطَعَ الْقَمِيصَ قَبَاءً لِأَنَّهُ قَطَعَ السَّرَاوِيلَ مِمَّا لَا يُسَمَّى قَمِيصًا وَيَمِينُهُ أَقْتَضَتْ أَنْ يَقْطَعَ السَّرَاوِيلَ مِنْ قَمِيصٍ لَا مِنْ قَبَاءٍ. وَقَالَ فِي الزِّيَادَاتِ إذَا قَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ لَمْ يَجْعَلْ مِنْ هَذَا الثَّوْبِ قَبَاءً وَسَرَاوِيلَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَجَعَلَهُ كُلَّهُ قَبَاءً وَخَاطَهُ ثُمَّ نَقَضَ الْقَبَاءَ وَجَعَلَهُ سَرَاوِيلَ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَنَى أَنْ يَجْعَلَ مِنْ بَعْضِهِ هَذَا أَوْ بَعْضِهِ هَذَا وَهُوَ عَلَى الْحَالَةِ الْأُولَى. وَقَالَ عَمْرٌو عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ فَقَطَعَهُ سَرَاوِيلِينَ فَلَبِسَ سَرَاوِيلَ بَعْدَ سَرَاوِيلَ لَا يَحْنَثُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ إذَا صَارَ سَرَاوِيلِينَ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَوْبًا لِأَنَّ لُبْسَ الثَّوْبِ الْمُشَارِ إلَيْهِ يُلْبَسُ جَمِيعُهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ فَأَخَذَ مِنْهُ قَلَنْسُوَاتٍ فَلَبِسَهَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَمَّا قَطَعَهُ قَلَنْسُوَاتٍ لَمْ يَبْقَ اسْمُ الثَّوْبِ لِأَنَّ الْقَلَنْسُوَةَ لَا تُسَمَّى ثَوْبًا وَإِنْ قَطَعَهُ قَمِيصًا فَفَضَلَ مِنْهُ فَضْلَةٌ عَنْ الْقَمِيصِ رُقْعَةٌ صَغِيرَةٌ يَتَّخِذُ مِنْهَا لَبِنَةً أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِمَّا لَا يُعْتَدُّ بِهِ فَكَانَ لَابِسًا كَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُمَّانَةً فَأَكَلَهَا إلَّا حَبَّةً وَكَذَا لَوْ اتَّخَذَ مِنْ الثَّوْبِ جَوَارِبَ فَلَبِسَهَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمَّا قَطَعَهُ جَوَارِبَ زَالَ اسْمُ الثَّوْبِ عَنْهَا. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِ فُلَانَةَ فَقَطَعَ بَعْضَهُ فَلَبِسَهُ فَإِنْ كَانَ لَا يَكُونُ مَا قَطَعَ إزَارًا أَوْ رِدَاءً لَمْ يَحْنَثْ فَإِنْ بَلَغَ ذَلِكَ حَنِثَ وَإِنْ قَطَعَهُ سَرَاوِيلَ فَلَبِسَهُ حَنِثَ لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَا تُسْتَرُ بِهِ الْعَوْرَةُ وَأَدْنَى ذَلِكَ الْإِزَارُ فَمَا دُونَهُ لَيْسَ بِلُبْسِ ثَوْبٍ وَكَذَا الْمَرْأَةُ إذَا حَلَفَتْ لَا تَلْبَسُ ثَوْبًا فَلَبِسَتْ خِمَارًا أَوْ مِقْنَعَةً لَمْ تَحْنَثْ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْخِمَارُ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ مِقْدَارَ الْإِزَارِ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ الْإِزَارَ حَنِثَ بِلُبْسِهِ وَإِنْ لَمْ تُسْتَرْ بِهِ الْعَوْرَةُ وَكَذَلِكَ إذَا لَبِسَ الْحَالِفُ عِمَامَةً لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَلُفَّ عَلَى رَأْسِهِ وَيَكُونَ قَدْرَ إزَارٍ أَوْ رِدَاءٍ أَوْ يَقْطَعَ مِنْ مِثْلِهَا قَمِيصًا أَوْ دِرْعًا أَوْ سَرَاوِيلَ لِأَنَّ الْعِمَامَةَ إذَا لَمْ تَبْلُغْ مِقْدَارَ الْإِزَارِ فَلَابِسُهَا لَا يُسَمَّى لَابِسَ ثَوْبٍ فَلَمْ يَحْنَثْ وَإِذَا بَلَغَتْ مِقْدَارَ الْإِزَارِ أَوْ الرِّدَاءِ فَقَدْ لَبِسَ مَا يُسَمَّى ثَوْبًا إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ مِنْ بَدَنِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ لَبِسَ الْقَمِيصَ عَلَى رَأْسِهِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ مِنْ غَزْلِ فُلَانَةَ وَلَمْ يَقُلْ ثَوْبًا لَمْ يَحْنَثْ فِي التِّكَّةِ وَالزِّرِّ وَالْعُرْوَةِ وَاللَّبِنَةِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِلُبْسٍ فِي الْعَادَةِ وَلَا يُقَالُ لِمَنْ كَانَ عَلَيْهِ لَابِسٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ لَبِسَ رُقْعَةً فِي ثَوْبٍ شِبْرًا فِي شِبْرٍ حَنِثَ لِأَنَّ هَذَا عِنْدَهُ فِي حُكْمِ الْكَثِيرِ فَصَارَ لَابِسًا لَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ إذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا لَا يَحْنَثُ فِي الْعِمَامَةِ وَالْمِقْنَعَةِ وَيَحْنَثُ فِي السَّرَاوِيلِ وَقَدْ قَالُوا إذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا فَلَبِسَ ثَوْبَ خَزٍّ غَزَلَتْهُ حَنِثَ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنْسَبُ إلَى الثَّوْبِ فَإِنَّهُ كَانَ كِسَاءٌ مِنْ غَزْلِهَا سُدَاهُ قُطْنٌ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُسَمَّى ثَوْبًا حَنِثَ وَإِلَّا لَمْ يَحْنَثْ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ نَسْجِ فُلَانٍ فَنَسَجَهُ غِلْمَانُهُ فَإِنْ كَانَ فُلَانٌ يَعْمَلُ بِيَدِهِ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَلْبَسَ مِنْ

فصل في الحلف على الركوب

عَمَلِهِ وَإِنْ كَانَ فُلَانٌ لَا يَعْمَلُ بِيَدِهِ حَنِثَ لِأَنَّ حَقِيقَةَ النَّسْجِ مَا فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ فَإِنْ أَمْكَنَ الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ يُحْمَلْ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ يُحْمَلْ عَلَى الْمَجَازِ فَإِذَا كَانَ فُلَانٌ لَا يَنْسِجُ بِيَدِهِ لَمْ تَكُنْ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً بِالْيَمِينِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْعَمَلِ وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ شَيْئًا مِنْ السَّوَادِ قَالَ هَذَا عَلَى مَا يَلْبَسُ مِثْلُهُ وَلَا يَحْنَثُ فِي التِّكَّةِ وَالزِّرِّ وَالْعُرْوَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِلُبْسٍ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَكْسُو فُلَانًا شَيْئًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَكَسَاهُ قَلَنْسُوَةً أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ جَوْرَبَيْنِ حَنِثَ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ اسْمٌ لِمَا يُكْسَى بِهِ وَذَلِكَ يُوجَدُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَرَوَى عَمْرٌو عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا حَلَفَ لَا يَكْسُو امْرَأَةً فَبَعَثَ إلَيْهَا مِقْنَعَةً قَالَ لَا يَحْنَثُ فَجَعَلَ الْكِسْوَةَ عِبَارَةً عَمَّا يُجْزِئُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَأَجْرَى ذَلِكَ مَجْرَى قَوْلِهِ لَا أَلْبَسُ ثَوْبًا. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْسُو فُلَانًا ثَوْبًا فَأَعْطَاهُ دَرَاهِمَ يَشْتَرِي بِهَا ثَوْبًا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكْسُهُ وَإِنَّمَا وَهَبَ لَهُ دَرَاهِمَ وَشَاوَرَهُ فِيمَا يَفْعَلُ بِهَا وَلَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ بِثَوْبٍ كِسْوَةً حَنِثَ لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُرْسَلِ. [فَصْلٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى الرُّكُوبِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى الرُّكُوبِ إذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً فَهُوَ عَلَى الدَّوَابِّ الَّتِي يَرْكَبُهَا النَّاسُ فِي حَوَائِجِهِمْ فِي مَوَاضِعِ إقَامَتِهِمْ فَإِنْ رَكِبَ بَعِيرًا أَوْ بَقَرَةً لَمْ يَحْنَثْ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ فِي رُكُوبِ كُلِّ حَيَوَانٍ لِأَنَّ الدَّابَّةَ اسْمٌ لِمَا يَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 55] إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَحَمَلُوا الْيَمِينَ عَلَى مَا يَرْكَبُهُ النَّاسُ فِي الْأَمْصَارِ وَلِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ غَالِبًا وَهُوَ الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ كُلَّ حَيَوَانٍ فَحَمَلْنَا مُطْلَقَ كَلَامِهِ عَلَى الْعَادَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفِيلَ وَالْبَقَرَةَ وَالْبَعِيرَ لَا يُرْكَبُ لِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ فِي الْأَمْصَارِ عَادَةً فَإِنْ نَوَى فِي يَمِينِهِ الْخَيْلَ خَاصَّةً دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْعُمُومِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ فَرَسًا فَرَكِبَ بِرْذَوْنًا أَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ بِرْذَوْنًا فَرَكِبَ فَرَسًا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْفَرَسَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَرَبِيِّ وَالْبِرْذَوْنَ عَنْ الشَّهْرِيِّ فَصَارَ كَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ رَجُلًا عَرَبِيًّا فَكَلَّمَ عَجَمِيًّا. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ، وَقَالَ نَوَيْت الْخَيْلَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّ الرُّكُوبَ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ فَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ الْخَيْلَ فَرَكِبَ بِرْذَوْنًا أَوْ فَرَسًا يَحْنَثْ لِأَنَّ الْخَيْلَ اسْمُ جِنْسٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ فَيَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً وَهُوَ رَاكِبُهَا فَمَكَثَ عَلَى حَالِهِ سَاعَةً وَاقِفًا أَوْ سَائِرًا حَنِثَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرُّكُوبَ يَحْتَمِلُ الِابْتِدَاءَ وَيَتَجَدَّدُ أَمْثَالُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ وَهُوَ لَابِسٌ أَوْ لَا يَجْلِسُ عَلَى هَذَا الْفِرَاشِ وَهُوَ جَالِسٌ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ نَزَلَ عَقِيبَ يَمِينِهِ أَوْ نَزَعَ أَوْ قَامَ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ فَرَكِبَ دَابَّةً لِعَبْدِ فُلَانٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ أَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هِيَ مُضَافَةٌ إلَى الْعَبْدِ دُونَ الْمَوْلَى وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهِيَ مُضَافَةٌ إلَى الْعَبْدِ فَلَمْ يَحْنَثْ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ مِلْكُ الْمَوْلَى حَقِيقَةً فَيَحْنَثُ بِرُكُوبِهَا وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ مَرْكَبًا وَلَا نَوَى شَيْئًا فَرَكِبَ سَفِينَةً أَوْ مَحْمَلًا أَوْ دَابَّةً بِإِكَافٍ أَوْ سَرْجٍ حَنِثَ لِوُجُودِ الرُّكُوبِ أَمَّا فِي الدَّابَّةِ بِالسَّرْجِ وَالْإِكَافِ فَلَا شَكَّ فِيهِ وَأَمَّا فِي السَّفِينَةِ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى ذَلِكَ رُكُوبًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} [هود: 41] وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى الْجُلُوسِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى الْجُلُوسِ فَإِذَا حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهَا وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ثِيَابِهِ فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ حَصِيرٌ أَوْ بِوَرَى أَوْ بِسَاطٌ أَوْ كُرْسِيٌّ أَوْ شَيْءٌ بَسَطَهُ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْجَالِسَ عَلَى الْأَرْضِ مَنْ بَاشَرَ الْأَرْضَ وَلَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا شَيْءٌ هَذَا هُوَ الْجُلُوسُ عَلَى الْأَرْضِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ الْجُلُوسَ عَلَيْهَا بِمَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ مِنْ ثِيَابِهِ يُسَمَّى جُلُوسًا عَلَى الْأَرْضِ عُرْفًا وَإِذَا حَالَ بَيْنَهُمَا مَا هُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ مِنْ الْبِسَاطِ وَالْحَصِيرِ لَا يُسَمَّى جُلُوسًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ جَلَسَ عَلَى الْبِسَاطِ وَالْحَصِيرِ لَا عَلَى الْأَرْضِ فَإِذَا حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى هَذَا الْفِرَاشِ أَوْ هَذَا الْحَصِيرِ أَوْ هَذَا الْبِسَاطِ فَجَعَلَ عَلَيْهِ مِثْلَهُ ثُمَّ جَلَسَ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْجُلُوسَ يُضَافُ إلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ أَلَا تَرَى أَنَّ الطِّنْفِسَةَ إذَا جُعِلَتْ عَلَى الْبُورِيِّ لَا يُقَالُ جَلَسَ عَلَى الْبُورِيِّ بَلْ يُقَالُ جَلَسَ عَلَى الطِّنْفِسَةِ وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلَ الْفِرَاشَ

فصل في الحلف على السكنى والمساكنة والإيواء والبيتوتة

عَلَى الْفِرَاشِ أَوْ الْبِسَاطَ عَلَى الْبِسَاطِ. وَخَالَفَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْفِرَاشِ خَاصَّةً فَقَالَ إذَا حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى هَذَا الْفِرَاشِ فَجَعَلَ فَوْقَهُ فِرَاشًا آخَرَ وَنَامَ عَلَيْهِ حَنِثَ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مَقْصُودَانِ بِالنَّوْمِ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُجْعَلُ لِزِيَادَةِ التَّوْطِئَةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى هَذَا الْفِرَاشِ فَجَعَلَ فَوْقَهُ قِرَامًا أَوْ مَحْبِسًا حَنِثَ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُقَالَ نَامَ عَلَى الْفِرَاشِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى هَذَا السَّرِيرِ أَوْ عَلَى هَذَا الدُّكَّانِ أَوْ لَا يَنَامُ عَلَى هَذَا السَّطْحِ فَجَعَلَ فَوْقه مُصَلًّى أَوْ فُرُشًا أَوْ بِسَاطًا ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ حَنِثَ لِأَنَّهُ يُقَالُ جَلَسَ الْأَمِيرُ عَلَى السَّرِيرِ وَإِنْ كَانَ فَوْقَهُ فِرَاشٌ وَيُقَالُ نَامَ عَلَى السَّطْحِ وَإِنْ كَانَ نَامَ عَلَى فِرَاشٍ فَلَوْ جَعَلَ فَوْقَ السَّرِيرِ سَرِيرًا أَوْ بَنَى فَوْقَ الدُّكَّانِ دُكَّانًا أَوْ فَوْقَ السَّطْحِ سَطْحًا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْجُلُوسَ يُضَافُ إلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ إذَا كَانَ نَوَى مُبَاشَرَتَهُ وَهِيَ أَنْ لَا يَكُونَ فَوْقَهُ شَيْءٌ لَمْ يُدَيَّنْ فِي الْقَضَاءِ يُعْنَى بِهِ إذَا حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى السَّرِيرِ فَنَامَ عَلَى الْفِرَاشِ فَوْقَ السَّرِيرِ لِأَنَّهُ نَوَى غَيْرَ ظَاهِرِ كَلَامِهِ وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَنَامُ عَلَى أَلْوَاحِ هَذَا السَّرِيرِ أَوْ أَلْوَاحِ هَذِهِ السَّفِينَةِ فَفَرَشَ عَلَى ذَلِكَ فِرَاشًا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ مَا نَامَ عَلَى أَلْوَاحٍ وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا حَلَفَ لَا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ فَمَشَى عَلَيْهَا وَفِي رِجْلِهِ خُفٌّ أَوْ نَعْلٌ يَحْنَثُ لِأَنَّ الْمَشْيَ عَلَى الْأَرْضِ هَكَذَا يَكُونُ عَادَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَا هُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ وَإِنْ مَشَى عَلَى بِسَاطٍ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ يُقَالُ مَشَى عَلَى الْبِسَاطِ وَجَاءَ فِي الشِّعْرِ نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقِ ... نَمْشِي عَلَى النَّمَارِقِ وَلَوْ مَشَى عَلَى السَّطْحِ حَنِثَ لِأَنَّهُ يُقَالُ هَذِهِ أَرْضُ السَّطْحِ وَيُقَالُ لِمَنْ عَلَى السَّطْحِ لَا تَنَمْ عَلَى الْأَرْضِ. [فَصْلٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى السُّكْنَى وَالْمُسَاكَنَةِ وَالْإِيوَاءِ وَالْبَيْتُوتَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى السُّكْنَى وَالْمُسَاكَنَةِ وَالْإِيوَاءِ وَالْبَيْتُوتَةِ أَمَّا السُّكْنَى فَإِذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ أَمَّا إنْ كَانَ فِيهَا سَاكِنًا أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا سَاكِنًا فَالسُّكْنَى فِيهَا أَنْ يَسْكُنَهَا بِنَفْسِهِ وَيَنْقُلَ إلَيْهَا مِنْ مَتَاعِهِ مَا يَتَأَثَّثُ بِهِ وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي مَنْزِلِهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ سَاكِنٌ وَحَانِثٌ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّ السُّكْنَى هِيَ الْكَوْنُ فِي الْمَكَانِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِقْرَارِ فَإِنَّ مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ وَبَاتَ فِيهِ لَا يُسَمَّى سَاكِنَ الْمَسْجِدِ وَلَوْ أَقَامَ فِيهِ بِمَا يَتَأَثَّثُ بِهِ يُسَمَّى بِهِ فَدَلَّ أَنَّ السُّكْنَى مَا ذَكَرْنَا وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِمَا يَسْكُنُ بِهِ فِي الْعَادَةِ وَذَلِكَ مَا قُلْنَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا سَاكِنًا فَحَلَفَ لَا يَسْكُنُهَا فَإِنَّهُ لَا يَبَرُّ حَتَّى يَنْتَقِلَ عَنْهَا بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ الَّذِينَ مَعَهُ وَمَتَاعِهِ وَمَنْ كَانَ يَأْوِيهَا لِخِدْمَتِهِ وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهِ فِي مَنْزِلِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَمْ يَأْخُذْ فِي النُّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ وَهِيَ مُمْكِنَةٌ حَنِثَ. هَهُنَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ أَحَدُهَا إذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ فَانْتَقَلَ بِأَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ فِي الْحَالِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَحْنَثُ وَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الرَّاكِبِ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ وَاللَّابِسِ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ فَنَزَلَ وَنَزَعَ فِي الْحَالِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَالثَّانِي إذَا انْتَقَلَ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ بِأَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا يَحْنَثُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَحْنَثُ وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ سُكْنَاهُ وَلَمْ يَسْكُنْ فَلَا يَحْنَثُ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ فِي بَلَدٍ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ وَتَرَكَ أَهْلَهُ فِيهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مُحْتَجًّا عَلَيْنَا إذَا خَرَجْت مِنْ مَكَّةَ وَخَلَّفْت دُفَيْتِرَاتٍ بِهَا أَفَأَكُونُ سَاكِنًا بِمَكَّةَ وَلَنَا أَنَّ سُكْنَى الدَّارِ إنَّمَا يَكُونُ بِمَا يُسْكَنُ بِهِ فِي الْعَادَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ اسْمٌ لِلْكَوْنِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْرَارِ وَلَا يَكُونُ الْكَوْنُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إلَّا بِمَا يُسْكَنُ بِهِ عَادَةً فَإِذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُهَا وَهُوَ فِيهَا فَالْبِرُّ فِي إزَالَةِ مَا كَانَ بِهِ سَاكِنًا فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ حَنِثَ وَهَذَا لِأَنَّهُ بِقَوْلِهِ لَا أَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ فَقَدْ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ سُكْنَى الدَّارِ وَكُرِهَ سُكْنَاهَا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الدَّارِ وَالْإِنْسَانُ كَمَا يَصُونُ نَفْسَهُ عَمَّا يَكْرَهُ يَصُونُ أَهْلَهُ عَنْهُ عَادَةً فَكَانَتْ يَمِينُهُ وَاقِعَةً عَلَى السُّكْنَى وَمَا يُسْكَنُ بِهِ عَادَةً فَإِذَا خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَمَتَاعَهُ فِيهِ وَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْبِرِّ فَيَحْنَثُ. وَالدَّفَاتِرُ لَا يُسْكَنُ بِهَا فِي الدُّورِ عَادَةً فَبَقَاؤُهَا لَا يُوجِبُ بَقَاءَ السُّكْنَى فَهَذَا كَانَ تَشْنِيعًا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَلِأَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ فِيهَا يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ سَاكِنَ الدَّارِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قِيلَ لَهُ وَهُوَ فِي السُّوقِ أَيْنَ تَسْكُنُ؟ يَقُولُ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فِيهِ وَبِهَذَا فَارَقَ الْبَلَدَ لِأَنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ بِالْبَصْرَةِ إنَّهُ سَاكِنٌ بِالْكُوفَةِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ إذَا انْتَقَلَ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ وَمَتَاعِهِ وَتَرَكَ مِنْ أَثَاثِهِ شَيْئًا يَسِيرًا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَحْنَثُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا كَانَ الْمَتَاعُ الْمَتْرُوكُ لَا يَشْغَلُ بَيْتًا وَلَا بَعْضَ الدَّارِ لَا يَحْنَثُ وَلَسْت أَجِدُ فِي هَذَا حَدًّا وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ وَعَلَى مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ. وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا تَرَكَ

شَيْئًا يَسِيرًا يَعْنِي مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَيُسْكَنُ بِمِثْلِهِ. فَأَمَّا إذَا خَلَّفَ فِيهَا وَتَدًا أَوْ مِكْنَسَةً لَمْ يَحْنَثْ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْيَسِيرَ مِنْ الْأَثَاثِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِأَنَّهُ يُسْكَنُ بِمِثْلِهِ فَصَارَ كَالْوَتَدِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إنَّ شَرْطَ الْبِرِّ إزَالَةُ مَا بِهِ صَارَ سَاكِنًا فَإِذَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْبِرِّ بِكَمَالِهِ فَيَحْنَثُ فَإِنْ مُنِعَ مِنْ الْخُرُوجِ وَالتَّحَوُّلِ بِنَفْسِهِ وَمَتَاعِهِ وَأَوْقَعُوهُ وَقَهَرُوهُ لَا يَحْنَثْ وَإِنْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا لِأَنَّهُ مَا يَسْكُنُهَا بَلْ أَسْكَنَ فِيهَا فَلَا يَحْنَثْ وَلِأَنَّ الْبَقَاءَ عَلَى السُّكْنَى يَجْرِي مَجْرَى الِابْتِدَاءِ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ خَارِجُ الدَّارِ فَحُمِلَ إلَيْهَا مُكْرَهًا لَمْ يَحْنَثْ كَذَا الْبَقَاءُ إذَا كَانَ بِإِكْرَاهٍ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ إذَا خَرَجَ مِنْ سَاعَتِهِ وَخَلَّفَ مَتَاعَهُ كُلَّهُ فِي الْمَسْكَنِ فَمَكَثَ فِي طَلَبِ الْمَنْزِلِ أَيَّامًا ثَلَاثًا فَلَمْ يَجِدْ مَا يَسْتَأْجِرُهُ وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَنْزِلِ وَيَضَعَ مَتَاعَهُ خَارِجَ الدَّارِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ النُّقْلَةِ إذْ النُّقْلَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْعَادَةِ وَالْمُعْتَادُ هُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ مَنْزِلٍ إلَى مَنْزِلٍ وَلِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي طَلَبِ الْمَنْزِلِ فَهُوَ مُتَشَاغِلٌ بِالِانْتِقَالِ كَمَا لَوْ خَرَجَ يَطْلُبُ مَنْ يَحْمِلُ رَحْلَهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ إنْ كَانَ السَّاكِنُ مُوسِرًا وَلَهُ مَتَاعٌ كَثِيرٌ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَأْجِرُ مَنْ يَنْقُلُ مَتَاعَهُ فِي يَوْمٍ فَلَمْ يَفْعَلْ وَجَعَلَ يَنْقُلُ بِنَفْسِهِ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَمَكَثَ فِي ذَلِكَ سَنَةً قَالَ إنْ كَانَ النَّقْلَانُ لَا يُفَتِّرَانِهِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْحِنْثَ يَقَعُ بِالِاسْتِقْرَارِ بِالدَّارِ وَالْمُتَشَاغِلُ بِالِانْتِقَالِ غَيْرُ مُسْتَقَرٍّ وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ عَلَى أَسْرَعِ الْوُجُوهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ بِالِانْتِقَالِ الْمُعْتَادِ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَسْرَعَ مِنْهُ فَإِنْ تَحَوَّلَ بِبَدَنِهِ. وَقَالَ ذَلِكَ أَرَدْت فَإِنْ كَانَ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ سَاكِنٌ فِيهَا لَا يُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَإِنْ كَانَ حَلَفَ وَهُوَ غَيْرُ سَاكِنٍ. وَقَالَ نَوَيْت الِانْتِقَالَ بِبَدَنِي دِينَ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ وَأَمَّا الْمُسَاكَنَةُ فَإِذَا كَانَ رَجُلٌ سَاكِنًا مَعَ رَجُلٍ فِي دَارٍ فَحَلَفَ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يُسَاكِنَ صَاحِبَهُ فَإِنْ أَخَذَ فِي النُّقْلَةِ وَهِيَ مُمْكِنَةٌ وَإِلَّا حَنِثَ وَالنُّقْلَةُ عَلَى مَا وَصَفْت لَك إذَا كَانَ سَاكِنًا فِي الدَّارِ فَحَلَفَ لَا يَسْكُنُهَا لِأَنَّ الْمُسَاكَنَةَ هِيَ أَنْ يَجْمَعَهُمَا مَنْزِلٌ وَاحِدٌ فَإِذَا لَمْ يَنْتَقِلْ فِي الْحَالِ فَالْبَقَاءُ عَلَى الْمُسَاكَنَةِ مُسَاكَنَةٌ فَيَحْنَثُ فَإِنْ وَهَبَ الْحَالِفُ مَتَاعَهُ لِلْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَوْ أَوْدَعَهُ أَوْ أَعَارَهُ ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِ مَنْزِلٍ فَلَمْ يَجِدْ مَنْزِلًا أَيَّامًا وَلَمْ يَأْتِ الدَّارَ الَّتِي فِيهَا صَاحِبُهُ قَالَ مُحَمَّدٌ إنْ كَانَ وَهَبَ لَهُ الْمَتَاعَ وَقَبَضَهُ مِنْهُ وَخَرَجَ مِنْ سَاعَتِهِ وَلَيْسَ مِنْ رَأْيِهِ الْعَوْدُ إلَيْهِ فَلَيْسَ بِمُسَاكِنٍ لَهُ فَلَا يَحْنَثُ وَكَذَلِكَ إنْ أَوْدَعَهُ الْمَتَاعَ ثُمَّ خَرَجَ لَا يُرِيدُ الْعَوْدَ إلَى ذَلِكَ الْمَنْزِلِ وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ لِأَنَّهُ إذَا وَهَبَهُ وَأَقْبَضَهُ وَخَرَجَ فَلَيْسَ بِمُسَاكِنٍ إيَّاهُ بِنَفْسِهِ وَلَا بِمَالِهِ وَإِذَا أَوْدَعَهُ فَلَيْسَ بِسَاكِنٍ بِهِ فَلَا يَحْنَثُ وَكَذَلِكَ إنْ أَوْدَعَهُ الْمَتَاعَ ثُمَّ خَرَجَ وَإِنَّمَا هُوَ فِي يَدِ الْمُودَعِ وَكَذَلِكَ إذَا أَعَارَهُ فَلَا يَحْنَثُ وَلَوْ كَانَ لَهُ فِي الدَّارِ زَوْجَةٌ فَرَاوَدَهَا عَلَى الْخُرُوجِ فَأَبَتْ وَامْتَنَعَتْ وَحَرَصَ عَلَى خُرُوجِهَا وَاجْتَهَدَ فَلَمْ تَفْعَلْ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ إذَا كَانَتْ هَذِهِ حَالَهَا لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ هُوَ فِي الدَّارِ مُكْرَهًا لَمْ يَحْنَثْ لِعَدَمِ اخْتِيَاره السُّكْنَى بِهِ فَكَذَا إذَا بَقِيَ مَا يُسْكَنُ بِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَاره وَإِذَا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا فَسَاكَنَهُ فِي عَرْصَةِ دَارٍ أَوْ بَيْتٍ أَوْ غُرْفَةٍ حَنِثَ لِأَنَّ الْمُسَاكَنَةَ هِيَ الْقُرَبُ وَالِاخْتِلَاطُ فَإِذَا سَكَنَهَا فِي مَوْضِعٍ يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى فَقَدْ وُجِدَ الْفِعْلُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَيَحْنَثُ فَإِنْ سَاكَنَهُ فِي دَارٍ هَذَا فِي حُجْرَةٍ وَهَذَا فِي حُجْرَةٍ أَوْ هَذَا فِي مَنْزِلٍ وَهَذَا فِي مَنْزِلٍ حَنِثَ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَارًا كَبِيرَةً قَالَ أَبُو يُوسُفَ مِثْلُ دَارِ الرَّقِيقِ وَنَحْوِهَا وَدَارِ الْوَلِيدِ بِالْكُوفَةِ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَكَذَا كُلُّ دَارٍ عَظِيمَةٍ فِيهَا مَقَاصِيرُ وَمَنَازِلُ. وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا وَلَمْ يُسَمِّ دَارًا فَسَكَنَ هَذَا فِي حُجْرَةٍ وَهَذَا فِي حُجْرَةٍ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يُسَاكِنَهُ فِي حُجْرَةٍ وَاحِدَةٍ قَالَ هِشَامٌ قُلْت فَإِنْ حَلَفَ لَا يُسَاكِنُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَسَكَنَ هَذَا فِي حُجْرَةٍ وَهَذَا فِي حُجْرَةٍ قَالَ يَحْنَثُ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْحُجْرَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ كَالدَّارَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّ السَّارِقَ مِنْ إحْدَاهُمَا إذَا نَقَلَ الْمَسْرُوقَ إلَى الْأُخْرَى قُطِعَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُهُ فِي دَارٍ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى أَنْ لَا يَجْمَعَهُمَا دَارٌ وَاحِدَةٌ وَقَدْ جَمَعْتَهُمَا وَإِنْ كَانَا فِي حُجَرِهَا وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُسَاكَنَةَ هِيَ الِاخْتِلَاطُ وَالْقُرْبُ فَإِذَا كَانَا فِي حُجْرَتَيْنِ فِي دَارٍ صَغِيرَةٍ فَقَدْ وُجِدَ الْقُرَبُ فَهُوَ كَبَيْتَيْنِ مِنْ دَارٍ وَإِنْ كَانَا فِي حُجْرَتَيْنِ مِنْ دَارٍ عَظِيمَةٍ فَلَا يُوجَدُ الْقُرَبُ فَهُوَ كَدَارَيْنِ فِي مَحَلَّةٍ فَإِنْ سَكَنَ هَذَا فِي بَيْتٍ مِنْ دَارٍ وَهَذَا فِي بَيْتٍ وَقَدْ حَلَفَ لَا يُسَاكِنُهُ وَلَمْ يُسَمِّ دَارًا حَنِثَ فِي قَوْلِهِمْ لِأَنَّ بُيُوتَ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ كَالْبَيْتِ الْوَاحِدِ أَلَا تَرَى أَنَّ السَّارِقَ لَوْ نَقَلَ الْمَسْرُوقَ

مِنْ أَحَدِ الْبَيْتَيْنِ إلَى الْآخَرِ لَمْ يُقْطَعْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فَإِنْ سَاكَنَهُ فِي حَانُوتٍ فِي السُّوقِ يَعْمَلَانِ فِيهِ عَمَلًا أَوْ يَبِيعَانِ فِيهِ تِجَارَةً فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَإِنَّمَا الْيَمِينُ عَلَى الْمَنَازِلِ الَّتِي هِيَ الْمَأْوَى وَفِيهَا الْأَهْلُ وَالْعِيَالُ. فَأَمَّا حَوَانِيتُ الْبَيْعِ وَالْعَمَلِ فَلَيْسَ يَقَعُ الْيَمِينُ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّهُ يَنْوِي أَوْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْيَمِينِ بَدَلٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا فَتَكُونُ الْيَمِينُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِهِمَا وَمَعَانِيهِمَا لِأَنَّ السُّكْنَى عِبَارَةٌ عَنْ الْمَكَانِ الَّذِي يَأْوِي إلَيْهِ النَّاسُ فِي الْعَادَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ فُلَانٌ يَسْكُنُ السُّوقَ وَإِنْ كَانَ يَتَّجِرُ فِيهَا فَإِنَّهُ جَعَلَ السُّوقَ مَأْوَاهُ قِيلَ إنَّهُ يَسْكُنُ السُّوقَ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ دَلَالَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالْيَمِينِ تَرْكَ الْمُسَاكَنَةِ فِي السُّوقِ حُمِلَتْ الْيَمِينُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلَالَةٌ فَقَالَ نَوَيْت الْمُسَاكَنَةَ فِي السُّوقِ أَيْضًا فَقَدْ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ قَالُوا إذَا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا بِالْكُوفَةِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَسَكَنَ أَحَدَهُمَا فِي دَارٍ وَالْآخَرُ فِي دَارٍ أُخْرَى فِي قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ مَحَلَّةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ دَرْبٍ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ حَتَّى تَجْمَعَهُمَا السُّكْنَى فِي دَارٍ لِأَنَّ الْمُسَاكَنَةَ هِيَ الْمُقَارَبَةُ وَالْمُخَالَطَةُ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ إذَا كَانَا فِي دَارَيْنِ وَذَكَرَ الْكُوفَةَ لِتَخْصِيصِ الْيَمِينِ بِهَا حَتَّى لَا يَحْنَثَ بِمُسَاكَنَتِهِ فِي غَيْرِهَا فَإِنْ قَالَ نَوَيْت أَنْ لَا أَسْكُنَ الْكُوفَةَ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِالْكُوفَةِ صُدِّقَ لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُهُ فِي الدَّارِ فَالْيَمِينُ عَلَى الْمُسَاكَنَةِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَوْ أَنَّ مَلَّاحًا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا فِي سَفِينَةٍ وَاحِدَةٍ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَهْلُهُ وَمَتَاعُهُ وَاتَّخَذَهَا مَنْزِلَهُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ إذَا جَمَعَتْهُمْ خَيْمَةٌ. وَإِنْ تَفَرَّقَتْ الْخِيَامُ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ تَقَارَبَتْ لِأَنَّ السُّكْنَى مَحْمُولَةٌ عَلَى الْعَادَةِ وَعَادَةُ الْمَلَّاحِينَ السُّكْنَى فِي السُّفُنِ وَعَادَةُ أَهْلِ الْبَادِيَةِ السُّكْنَى فِي الْأَخْبِيَةِ فَتُحْمَلُ يَمِينُهُمْ عَلَى عَادَاتِهِمْ وَأَمَّا الْإِيوَاءُ فَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْوِي مَعَ فُلَانٍ أَوْ لَا يَأْوِي فِي مَكَان أَوْ دَارٍ أَوْ فِي بَيْتٍ فَالْإِيوَاءُ الْكَوْنُ سَاكِنًا فِي الْمَكَانِ فَأَوَى مَعَ فُلَانٍ فِي مَكَان قَلِيلًا كَانَ الْمُكْثُ أَوْ كَثِيرًا لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا حَنِثَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرُ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ فَيَكُونُ عَلَى مَا نَوَى وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ فِي رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَأْوِيهِ وَفُلَانًا بَيْتٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيوَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَصِيرِ فِي الْمَوْضِعِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود: 43] أَيْ أَلْتَجِئُ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي قَلِيلِ الْوَقْتِ وَكَثِيرِهِ وَقَدْ كَانَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ: إنَّ الْإِيوَاءَ مِثْلُ الْبَيْتُوتَةِ وَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يُقِيمَ فِي الْمَكَانِ أَكْثَرَ اللَّيْلِ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ الْإِيوَاءَ كَمَا يَذْكُرُونَ الْبَيْتُوتَةَ فَيَقُولُونَ فُلَانٌ يَأْوِي فِي هَذِهِ الدَّارِ كَمَا يَقُولُونَ يَبِيتُ فِيهَا وَأَمَّا إذَا نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَالْأَمْرُ عَلَى مَا نَوَى لِأَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ فَإِنَّهُمْ يَذْكُرُونَ الْإِيوَاءَ وَيُرِيدُونَ بِهِ السُّكْنَى وَالْمَقَامَ وَقَدْ رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ قَالَ إنْ آوَانِي وَإِيَّاكَ بَيْتٌ أَبَدًا عَلَى طَرْفَةِ عَيْنٍ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرِ وَقَوْلِنَا إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ فَالْأَمْرُ عَلَى مَا نَوَى لِأَنَّ اللَّفْظَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ. وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا حَلَفَ لَا يَأْوِي فُلَانًا وَقَدْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي عِيَالِ الْحَالِفِ وَمَنْزِلِهِ لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يُعِيدَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا كَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي عِيَالِ الْحَالِفِ فَهَذَا عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ إنْ نَوَى أَنْ لَا يَعُولَهُ فَهُوَ كَمَا نَوَى وَكَذَلِكَ إنْ نَوَى لَا يُدْخِلُهُ عَلَيْهِ بَيْتَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يَأْوِيهِ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ ضَمُّهُ إلَى نَفْسِهِ وَمَنْزِلِهِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْقِيَامُ بِأَمْرِهِ فَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ دَلِيلٌ عَلَى شَيْءٍ وَإِلَّا يَرْجِعُ إلَى بَيْتِهِ فَإِنْ دَخَلَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَرَآهُ فَسَكَتَ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَإِذَا لَمْ يَأْمُرْهُ لَمْ يُوجَدْ فِعْلُهُ. وَقَالَ عُمَرُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ الْإِيوَاءُ عِنْدَ الْبَيْتُوتَةِ وَالسُّكْنَى فَإِنْ نَوَى الْمَبِيتَ فَهُوَ عَلَى ذَهَابِ الْأَكْثَرِ مِنْ اللَّيْلِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهُوَ عَلَى ذَهَابِ سَاعَةٍ. (وَأَمَّا) الْبَيُّوتَةُ فَإِذَا حَلَفَ لَا يَبِيتُ مَعَ فُلَانٍ أَوْ لَا يَبِيتُ فِي مَكَانِ كَذَا فَالْمَبِيتُ بِاللَّيْلِ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ وَإِذَا كَانَ أَقَلَّ لَمْ يَحْنَثْ وَسَوَاءٌ نَامَ فِي الْمَوْضِعِ أَوْ لَمْ يَنَمْ لِأَنَّ الْبَيْتُوتَةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْكَوْنِ فِي مَكَان أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ أَلَا يُرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَدْخُلُ عَلَى غَيْرِهِ لَيْلًا يُقِيمُ عِنْدَهُ قِطْعَةً مِنْ اللَّيْلِ وَلَا يُقَالُ بَاتَ عِنْدَهُ وَإِذَا أَقَامَ أَكْثَرَ اللَّيْلِ يُقَالُ بَاتَ عِنْدَهُ وَيُقَالُ فُلَانٌ بَائِتٌ فِي مَنْزِلِهِ وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ فِي غَيْرِهِ وَلَا يُعْتَبَرُ النَّوْمُ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَقْتَضِيهِ لُغَةً كَمَا لَا يَقْتَضِي الْيَقَظَةَ فَلَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهِ وَقَالَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَبِيتُ اللَّيْلَةَ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَقَدْ ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ ثُمَّ بَاتَ بَقِيَّةَ اللَّيْلِ قَالَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْبَيْتُوتَةَ إذَا كَانَتْ تَقَعُ عَلَى أَكْثَرِ اللَّيْلِ فَقَدْ حَلَفَ عَلَى مَا لَا يُتَصَوَّرُ فَلَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

فصل في الحلف على الاستخدام

[فَصْلٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى الِاسْتِخْدَامِ] فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى الِاسْتِخْدَامِ فَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ لَا يَسْتَخْدِمُ خَادِمَةً لَهُ قَدْ كَانَتْ تَخْدُمُهُ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَجَعَلَتْ الْخَادِمَةُ تَخْدُمُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهَا حَنِثَ لِأَنَّهُ لَمَّا مَكَّنَهَا مِنْ الْخِدْمَةِ فَقَدْ تَرَكَهَا عَلَى الِاسْتِخْدَامِ السَّابِقِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْهَا فَقَدْ اسْتَخْدَمَهَا دَلَالَةً وَإِنْ لَمْ يَسْتَخْدِمْ نَصًّا صَرِيحًا وَلَوْ كَانَ الْحَالِفُ عَلَى خَادِمَةٍ لَا يَمْلِكُهَا فَخَدَمَتْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يَحْنَثُ لِعَدَمِ سَبْقِ الِاسْتِخْدَامِ لِيَكُونَ التَّمْكِينُ مِنْ الْخِدْمَةِ إبْقَاءً لَهَا عَلَى الِاسْتِخْدَامِ وَلِتَعَذُّرِ جَعْلِ التَّمْكِينِ دَلَالَةَ الِاسْتِخْدَامِ لِأَنَّ اسْتِخْدَامَ جَارِيَةِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مَحْظُورٌ فَلَا يَكُونُ إذْنًا بِهِ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَهُوَ الْفَرْقُ حَتَّى لَوْ كَانَ نَهَى خَادِمَتَهُ الَّتِي كَانَتْ تَخْدُمُهُ عَنْ خِدْمَتِهِ ثُمَّ خَدَمَتْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ قِيلَ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ بِالتَّمْكِينِ قَطَعَ اسْتِخْدَامَهَا السَّابِقَ فَقَدْ وُجِدَ مِنْهَا بِغَيْرِ اسْتِخْدَامٍ فَلَا يَحْنَثُ وَلَوْ حَلَفَ لَا تَخْدُمُهُ فُلَانَةُ فَخَدَمَتْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أَوْ بِأَمْرِهِ وَهِيَ خَادِمَتُهُ أَوْ خَادِمَةُ غَيْرِهِ حَنِثَ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى فِعْلِهَا وَهُوَ خِدْمَتُهَا لَا عَلَى فِعْلِهِ وَهُوَ اسْتِخْدَامُهُ وَقَدْ خَدَمَتْهُ. وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ عَمَلِ بَيْتِهِ فَهُوَ خِدْمَتُهُ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ عِبَارَةٌ عَنْ عَمَلِ الْبَيْتِ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْغَالِبِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْتَخْدِمُ خَادِمَةً لِفُلَانٍ فَسَأَلَهَا وَضُوءًا أَوْ شَرَابًا أَوْ أَوْمَأَ إلَيْهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ حِينَ حَلَفَ حَنِثَ إنْ فَعَلْت ذَلِكَ أَوْ لَمْ تَفْعَلْ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى حِينَ حَلَفَ أَنْ لَا يَسْتَعِينَ بِهَا فَتُعِينَهُ فَلَا يَحْنَثُ حَتَّى تُعِينَهُ لِأَنَّهُ عَقَّهُ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِهِ وَهُوَ الِاسْتِخْدَامُ وَقَدْ اسْتَخْدَمَ وَإِنْ لَمْ تُجِبْهُ فَإِنْ عَنَى أَنْ تَخْدُمَهُ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ حَلَفَ لَا يَخْدُمُنِي خَادِمٌ لِفُلَانٍ فَهُوَ عَلَى الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ وَالصَّغِيرُ الَّذِي يَخْدُمُ وَالْكَبِيرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ لِأَنَّ اسْمَ الْخَادِمِ يَجْمَعُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ إذَا كَانَ الصَّغِيرُ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى الْخِدْمَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى الْمَعْرِفَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ فَإِذَا حَلَفَ عَلَى إنْسَانٍ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ وَهُوَ يَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ لَكِنَّهُ لَا يَعْرِفُ اسْمَهُ فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ وَلَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْرِفَ اسْمَهُ لَمْ يَعْرِفْهُ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «سَأَلَ رَجُلًا عَنْ رَجُلٍ، وَقَالَ لَهُ هَلْ تَعْرِفُهُ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ نَعَمْ فَقَالَ هَلْ تَدْرِي مَا اسْمُهُ؟ فَقَالَ لَا فَقَالَ إنَّك لَمْ تَعْرِفْهُ» وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْرِفْهُ بِاسْمِهِ وَإِنْ عَرَفَهُ بِوَجْهِهِ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَمِنْ شَرْطِ حِنْثِهِ الْمَعْرِفَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَمْ تُوجَدْ فَلَا يَحْنَثُ. وَقَالَ خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَدَخَلَ بِهَا وَلَا يَدْرِي مَا اسْمُهَا فَحَلَفَ إنَّهُ لَا يَعْرِفُهَا قَالَ لَا يَحْنَثُ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ فَأَخْرَجَهُ إلَى جَارٍ لَهُ وَلَمْ يَكُنْ سَمَّاهُ بَعْدُ فَحَلَفَ جَارُهُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ هَذَا الصَّبِيَّ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ بِمَعْرِفَةِ اسْمِهِ فَلَا يُعْرَفُ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ. [فَصْلٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى أَخْذِ الْحَقِّ وَقَبْضِهِ وَقَضَائِهِ وَاقْتِضَائِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى أَخْذِ الْحَقِّ وَقَبْضِهِ وَقَضَائِهِ وَاقْتِضَائِهِ إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ لَيَأْخُذَن مِنْ فُلَانٍ حَقَّهُ أَوْ لَيَقْبِضَن مِنْ فُلَانٍ حَقَّهُ فَأَخَذَ مِنْهُ بِنَفْسِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ وَكِيلُهُ أَوْ أَخَذَهُ مِنْ ضَامِنٍ عَنْهُ أَوْ مُحْتَالٍ عَلَيْهِ بِأَمْرِ الْمَطْلُوبِ بَرَّ لِأَنَّ حُقُوقَ الْقَضَاءِ لَا تَرْجِعُ إلَى الْفَاعِلِ فَتَرْجِعُ إلَى الْآمِرِ فَكَأَنَّ قَبْضَ وَكِيلِ الطَّالِبِ قَبْضُهُ مَعْنًى وَكَذَا الْقَبْضُ مِنْ وَكِيلِ الْمَطْلُوبِ أَوْ كَفِيلِهِ أَوْ الْمُحْتَالِ بِأَمْرِهِ عَلَيْهِ قَبْضًا مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَلَوْ قَبَضَ مِنْ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَطْلُوبِ أَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ أَوْ الْحَوَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَلَمْ يَبَرَّ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ مِنْ الْمَطْلُوبِ حَقَّهُ حَقِيقَةً فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ قَابِضًا عَنْهُ مَعْنًى فِي مَوْضِعِ الْآمِرِ وَجُعِلَ الْقَبْضُ مِنْ الْغَيْرِ كَالْقَبْضِ مِنْهُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَمْرِهِ لَمْ تَكُنْ إضَافَتُهُ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يَرْجِعْ إلَى الدَّافِعِ إلَيْهِ بِمَا أَعْطَاهُ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ قَبْضُ حَقِّهِ فَلَمْ يَبَرَّ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْحَالِفُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَالُ فَحَلَفَ لَيَقْضِيَن فُلَانًا حَقَّهُ أَوْ لَيُعْطِيَن فَأَعْطَاهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِرَسُولٍ أَوْ بِإِحَالَةٍ أَوْ أَمْرِ مَنْ ضَمِنَهُ لَهُ فَأَخَذَهُ الطَّالِبُ بَرَّ الْحَالِفُ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّ حُقُوقَ الْقَضَاءِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْفَاعِلِ فَتَتَعَلَّقُ بِالْآمِرِ. فَكَانَ هُوَ الْقَاضِيَ وَالْمُعْطِيَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ حَنِثَ الْحَالِفُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْضِ حَقَّهُ وَلَا أَعْطَاهُ أَصْلًا وَرَأْسًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ الدَّافِعُ إلَيْهِ وَإِنْ قَالَ الْحَالِفُ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَرَدْت أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِنَفْسِي كَانَ كَمَا قَالَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ حَنِثَ لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ حَلَفَ أَنْ لَا يُعْطِيَهُ فَأَعْطَاهُ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ حَنِثَ فَإِنْ قَالَ إنَّمَا أَرَدْت أَنْ لَا أُعْطِيَهُ أَنَا بِنَفْسِي لَمْ يُدَيَّنْ فِي الْقَضَاءِ وَدُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْعَطَاءَ بِفِعْلِهِ وَبِفِعْلِ غَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي الْقَصْدِ فَتَنَاوَلَهُ الْيَمِينُ فَإِذَا نَوَى أَنْ لَا يُعْطِيَهُ بِنَفْسِهِ

فصل في الحالف على الهدم

فَقَدْ نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ وَأَرَادَ التَّخْفِيفَ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَلَوْ أَخَذَ بِهِ ثَوْبًا أَوْ عَرَضًا فَقَبَضَ الْعَرْضَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ لِلْمَالِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِأَخْذِ الْعِوَضِ كَمَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِأَخْذِ نَفْسِ الْحَقِّ وَلَوْ حَلَفَ الطَّالِبُ لَيَأْخُذَن مَالَهُ مِنْهُ أَوْ لَيَقْضِيَنه أَوْ لَيَسْتَوْفِيَنه وَلَمْ يُوَقِّتْ وَقْتًا فَأَبْرَأَهُ مِنْ الْمَالِ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لَيْسَ بِقَبْضٍ وَلَا اسْتِيفَاءٍ فَفَاتَ شَرْطُ الْبِرِّ فَحَنِثَ وَلَوْ كَانَ وَقَّتَ وَقْتًا فَقَالَ الْيَوْمَ أَوْ إلَى كَذَا وَكَذَا فَأَبْرَأَهُ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إذَا جَاوَزَ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْنَثُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الْمُوَقَّتَةَ يَتَعَلَّقُ انْعِقَادُهَا بِآخِرِ الْوَقْتِ عِنْدَهُمَا فَكَأَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَأَقْبِضَنَّ مِنْهُ دَيْنِي وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَلَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ عِنْدَهُمَا وَتَنْعَقِدُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيَحْنَثُ. أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ إذَا حَلَفَ لَيَشْرَبَن الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ فَأُهْرِيقَ الْمَاءُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْيَوْمِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَإِنْ قَبَضَ الدَّيْنَ فَوَجَدَهُ زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً فَهُوَ قَبْضٌ وَبَرَّ فِي يَمِينِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَلِفُ عَلَى الْقَبْضِ أَوْ عَلَى الدَّفْعِ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُهُمَا فِي ثَمَنِ الصَّرْفِ فَوَقَعَ بِهِمَا الِاقْتِضَاءُ وَإِنْ كَانَتْ سَتُّوقَةً فَلَيْسَ هَذَا بِقَبْضٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ التَّجَوُّزُ بِهَا فِي ثَمَنِ الصَّرْفِ وَكَذَلِكَ لَوْ رَدَّ الثَّوْبَ الَّذِي أَخَذَ عَنْ الدَّيْنِ بِعَيْبٍ أَوْ اُسْتُحِقَّ كَانَ قَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ وَكَانَ هَذَا قَبْضًا لِأَنَّ الْعَيْبَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ وَكَذَا الْمُسْتَحَقُّ يَصِحُّ قَبْضُهُ ثُمَّ يَبْطُلُ لِعَدَمِ الْإِجَازَةِ فَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْحِنْثُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ قَالُوا إذَا اشْتَرَى بِدَيْنِهِ بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَهُ فَإِنْ كَانَ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِالْحَقِّ فَهُوَ قَابِضٌ لِدَيْنِهِ وَلَا يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَفَاءٌ حَنِثَ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ الْقِيمَةُ لَا الْمُسَمَّى وَلَوْ غَصَبَ الْحَالِفُ مَالًا مِثْلَ دَيْنِهِ بَرَّ لِأَنَّهُ وَقَعَ الِاقْتِضَاءُ بِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَهْلَكَ لَهُ دَنَانِيرَ أَوْ عُرُوضًا لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ فَيَصِيرُ قِصَاصًا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ إذَا قَالَ إنْ لَمْ أَتَّزِنْ مِنْ فُلَانٍ مَا لِي عَلَيْهِ أَوْ لَمْ أَقْبِضْ مَا لِي عَلَيْهِ فِي كِيسٍ أَوْ قَالَ إنْ لَمْ أَقْبِضْ مَا لِي عَلَيْك دَرَاهِمَ أَوْ بِالْمِيزَانِ أَوْ قَالَ إنْ لَمْ أَقْبِضْ دَرَاهِمَ قَضَاءً مِنْ الدَّرَاهِمِ الَّتِي لِي عَلَيْك فَأَخَذَ بِذَلِكَ عَرَضًا أَوْ شَيْئًا مِمَّا يُوزَنُ مِنْ الزَّعْفَرَانِ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ حَانِثٌ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْوَزْنَ وَالْكِيسَ وَالدَّرَاهِمَ فَقَدْ وَقَعَتْ يَمِينُهُ عَلَى جِنْسِ حَقِّهِ فَإِذَا أَخَذَ عِوَضًا عَنْهُ حَنِثَ [فَصْلٌ فِي الْحَالِفِ عَلَى الْهَدْمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَالِفُ عَلَى الْهَدْمِ قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ وَسَمِعْت أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِي رَجُلٍ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَهْدِمَن هَذِهِ الدَّارَ فَإِنْ هَدَمَ سُقُوفَهَا بَرَّ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُزِيلَ اسْمَ الدَّارِ بِالْهَدْمِ لِأَنَّهُ لَوْ هَدَمَ جَمِيعَ بِنَائِهَا لَكَانَتْ بِذَلِكَ تُسَمَّى دَارَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ فَحُمِلَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْكَسْرِ قَالَ مُحَمَّدٌ إذَا حَلَفَ لَيَنْقُضَن هَذَا الْحَائِطَ أَوْ لَيَهْدِمَنهُ الْيَوْمَ فَنَقَضَ بَعْضَهُ أَوْ هَدَمَ بَعْضَهُ وَلَمْ يَهْدِمْ مَا بَقِيَ حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ يَحْنَثُ قَالَ وَالْهَدْمُ عِنْدَنَا أَنْ يَهْدِمَ حَتَّى يُبْقِيَ مِنْهُ مَا لَا يُسَمَّى حَائِطًا لِأَنَّ الْحَائِطَ يُمْكِنُ هَدْمُهُ حَتَّى يُزِيلَ الِاسْمَ عَنْهُ فَوَقَعَتْ الْيَمِينُ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ الدَّارِ فَإِنْ نَوَى هَدْمَ بَعْضِهِ صُدِّقَ دِيَانَةً لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى هَدْمًا بِمَعْنَى الْكَسْرِ. وَلَوْ حَلَفَ لَيَكْسِرَن هَذَا الْحَائِطَ فَكَسَرَ بَعْضَهُ بَرَّ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ حَائِطٌ مَكْسُورٌ فَلَا يُعْتَبَرُ مَا يُزِيلُ بِهِ اسْمَ الْحَائِطِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَهُنَا أَلْفَاظًا ثَلَاثَةً الْهَدْمُ وَالنَّقْضُ وَالْكَسْرُ وَالْمَسَائِلُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ مَعْنَى كُلِّ لَفْظٍ فَالْهَدْمُ اسْمٌ لِإِزَالَةِ الْبِنَاءِ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْبِنَاءِ فَإِنْ فَعَلَ فِي الْحَائِطِ فِعْلًا يُنْظَرُ إنْ بَقِيَ بَعْدَهُ مَا يُسَمَّى مَبْنِيًّا حَنِثَ لِأَنَّهُ لَا وُجُودَ لِلشَّيْءِ مَعَ وُجُودِ مَا يُضَادُّهُ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مَا يُسَمَّى مَبْنِيًّا بَرَّ لِتَحْقِيقِهِ فِي نَفْسِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} [الحج: 40] وَالْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِئْصَالُهَا لَا إحْدَاث صَدْعٍ أَوْ وَهَنٍ فِي أَبْنِيَتِهَا وَكَذَلِكَ النَّقْضُ يُقَالُ فُلَانٌ نَقَضَ بَيْتَهُ كَذَا أَيْ أَزَالَهَا وَلَوْ نَقَضَ بَعْضَ الْحَائِطِ أَوْ هَدَمَ بَعْضَهُ. وَقَالَ عَنَيْت بِهِ بَعْضَهُ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ الْعُمُومِ وَإِنَّهُ مُحْتَمَلٌ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنْ الظَّاهِرِ وَالْكَسْرُ عِبَارَةٌ عَنْ إحْدَاثِ صَدْعٍ أَوْ شَقٍّ فِيمَا صَلُبَ مِنْ الْأَجْسَامِ بِمَنْزِلَةِ الْخَرْقِ فِيمَا اسْتَرْخَى مِنْهَا فَإِذَا ثَبَتَ فِيهِ هَذَا فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ وَإِنْ بَقِيَ التَّرْكِيبُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [فَصْلٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ قَالَ الْمُعَلَّى سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَيَضْرِبَنهَا حَتَّى يَقْتُلَهَا أَوْ حَتَّى تُرْفَعَ مَيِّتَةً وَلَا نِيَّةَ لَهُ قَالَ إنْ ضَرَبَهَا ضَرْبًا شَدِيدًا كَأَشَدِّ الضَّرْبِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْعَادَةِ

شِدَّةُ الضَّرْبِ دُونَ الْمَوْتِ قَالَ فَإِنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنهَا حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهَا أَوْ حَتَّى تَبُولَ فَمَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ لَمْ يَبَرَّ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّ هَذَا يَحْدُثُ عِنْدَ شِدَّةِ الضَّرْبِ غَالِبًا فَيُرَاعَى وُجُودُهُ لِلْبِرِّ. وَلَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَن غُلَامَهُ فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَضْرِبَهُ فِي كُلِّ مَا شُكِيَ بِحَقٍّ أَوْ بِبَاطِلٍ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَهُوَ الضَّرْبُ عِنْدَ كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَخْلُو مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا يَكُونُ عِنْدَ الشِّكَايَةِ فَإِذًا يَكُونُ الْمَوْلَى فِي ضَرْبِهِ أَبَدًا فَحُمِلَ الضَّرْبُ عَلَى الشِّكَايَةِ لِلْعُرْفِ وَلَا يَكُونُ الضَّرْبُ فِي هَذَا عِنْدَ الشِّكَايَةِ أَيْ لَا يُحْمَلُ الضَّرْبُ عَلَى فَوْرِ الشِّكَايَةِ لِأَنَّ الْيَمِينَ الْوَاقِعَةَ عَلَى فِعْلٍ مُطْلَقٍ عَنْ زَمَانٍ لَا تَتَوَقَّتُ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ بَلْ تَقَعُ عَلَى الْعُمْرِ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ بِهِ الْحَالَ فَيَكُونَ قَدْ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنْ شُكِيَ إلَيْهِ فَضَرَبَهُ ثُمَّ شُكِيَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ مَرَّةً أُخْرَى وَالْمَوْلَى يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ أَوْ لَا يَعْلَمُ فَذَلِكَ سَوَاءٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَضْرِبَهُ لِلشِّكَايَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ قَدْ ضَرَبَهُ فِيهَا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ الْوَاحِدِ الَّذِي وَقَعَتْ الشِّكَايَةُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ضَرْبٍ وَاحِدٍ فِي الْعُرْفِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ أَخْبَرْتنِي بِكَذَا فَلَكَ دِرْهَمٌ فَأَخْبَرَهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي إخْبَارًا كَالْأَوَّلِ كَذَا هَذَا. وَقَالَ الْمُعَلَّى سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَيَقْتُلَن فُلَانًا أَلْفَ مَرَّةٍ فَقَتَلَهُ ثُمَّ قَالَ إنَّمَا نَوَيْت أَنْ آلِي عَلَى نَفْسِي بِالْقَتْلِ قَالَ أَدِينُهُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهَذَا تَشْدِيدَ الْقَتْلِ دُونَ تَكَرُّرِهِ لِعَدَمِ تَصَوُّرِهِ وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ لَمْ أَضْرِبْك حَتَّى أَتْرُكَك لَا حَيَّةً وَلَا مَيِّتَةً فَهَذَا عَلَى أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا شَدِيدًا يَوْجَعُهَا فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ بَرَّ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنْ لَا يَتْرُكَهَا حَيَّةً سَلِيمَةً وَلَا مَيِّتَةً وَذَلِكَ بِالضَّرْبِ الشَّدِيدِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَقَدْ سَمِعَ فُلَانًا يُطَلِّق امْرَأَتَهُ أَلْفَ مَرَّةٍ وَقَدْ سَمِعَهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ يُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ حُكْمَ الثَّلَاثِ حُكْمُ الْأَلْفِ فِي الْإِيقَاعِ وَلِأَنَّهُ يُرَادُ بِمِثْلِهِ أَكْثَرُ عَدَدِ الطَّلَاقِ فِي الْعَادَةِ وَهُوَ الثَّلَاثُ وَلَوْ قَالَ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ لَمْ يَكُنْ لَقِيَ فُلَانًا أَلْفَ مَرَّةٍ وَقَدْ لَقِيَهُ مِرَارًا كَثِيرَةً لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ أَلْفَ مَرَّةٍ وَإِنَّمَا أَرَادَ كَثْرَةَ اللِّقَاءِ وَلَمْ يُرِدْ الْعَدَدَ إنِّي أَدِينُهُ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُذْكَرُ فِي الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ لِلتَّكْثِيرِ دُونَ الْعَدَدِ الْمَحْصُورِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى عَدَدِ السَّبْعِينَ بَلْ ذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلتَّكْثِيرِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْتُلُ فُلَانًا بِالْكُوفَةِ أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ بِالْكُوفَةِ فَضَرَبَهُ الْحَالِفُ بِبَغْدَادَ فَمَاتَ بِالْكُوفَةِ أَوْ زَوَّجَهُ الْوَلِيُّ امْرَأَةً كَبِيرَةً بِبَغْدَادَ فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ بِالْكُوفَةِ فَأَجَازَتْ حَنِثَ فِي الْيَمِينَيْنِ جَمِيعًا وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ عَلَى الزَّمَانِ فَقَالَ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَمَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ أَجَازَتْ النِّكَاحَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَنِثَ الْحَالِفُ وَلَوْ كَانَ حَلَفَ لَيَفْعَلَن ذَلِكَ بِالْكُوفَةِ أَوْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَكَانَ مَا ذَكَرْنَا بَرَّ فِي يَمِينِهِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ قَتْلٌ إنْ وُجِدَ بِبَغْدَادَ وَيَوْمَ السَّبْتِ لَكِنَّهُ مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمُخَاطَبِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَوْصُوفًا بِالْإِضَافَةِ وَقْتَ ثُبُوتِ أَثَرِهِ وَهُوَ زُهُوقُ الرُّوحِ وَذَلِكَ وُجِدَ بِالْكُوفَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ وَنَظِيرُهُ لَوْ قَالَ إنْ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى لِفُلَانٍ ابْنًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَعَبْدِي حُرٌّ فَحَصَلَ لَهُ وَلَدٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَحْنَثْ وَإِنْ كَانَ خَلْقُ اللَّهِ أَزَلِيًّا لَكِنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْمَخْلُوقِ إنَّمَا تَثْبُتُ عِنْدَ وُجُودِ أَثَرِهِ وَهُوَ وُجُودُ الْوَلَدِ كَذَا هَهُنَا وَالنِّكَاحُ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا بَعْدَ الْحِلِّ وَذَلِكَ إنَّمَا يُوجَدُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ ثُمَّ بَلَغَ الْمَوْلَى فَأَجَازَ فَإِنَّهُ مُشْتَرَى يَوْمَ أَجَازَهُ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ يَوْمُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ وَالْفَاسِدِ إنَّهُ بَائِعٌ يَوْمَ بَاعَ وَمُشْتَرٍ يَوْمَ اشْتَرَى وَقَالَ فِي الْقَتْلِ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ لِمُحَمَّدٍ إنَّ الْمِلْكَ عِنْدَ الْإِجَازَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَقْدِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عِنْدَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْإِجَازَةِ وَلَوْ كَانَتْ الضَّرْبَةُ قَبْلَ الْيَمِينِ وَمَاتَ بِالْكُوفَةِ أَوْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ وَإِنْ وُجِدَ الْقَتْلُ الْمُضَافُ إلَى الْمُخَاطَبِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ هَذَا الْقَتْلَ وُجِدَ مِنْهُ قَبْلَ الْيَمِينِ فَلَا يُتَصَوَّرُ امْتِنَاعُهُ عَنْ اتِّصَافِهِ بِصِفَةِ الْإِضَافَةِ وَالْإِنْسَانُ لَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَمَّا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ إذْ مَقْصُودُ الْحَالِفِ الْبِرُّ لَا الْحِنْثُ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ سَاكِنُهَا فَأَخَذَ فِي النُّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ لَا يَحْنَثُ فَإِنْ وَجَدَ السُّكْنَى وَعَرَفَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ أَنَّهُ أَرَادَ مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ قَتْلٍ مُضَافٍ إلَى مُخَاطَبٍ بَاشَرَهُ بَعْدَ الْيَمِينِ وَنَظِيرُهُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا ثُمَّ قَالَ لَهَا إنْ طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ فَجَاءَ غَدٌ فَطَلُقَتْ لَمْ يَعْتِقْ عَبْدُهُ. وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ

فصل في الحلف على المفارقة والوزن وما أشبه ذلك

طَلَّقْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ ثُمَّ قَالَ لَهَا إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَجَاءَ غَدٌ وَطَلُقَتْ عَتَقَ عَبْدَهُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَذَا هَذَا. [فَصْلٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى الْمُفَارَقَةِ وَالْوَزْنِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى الْمُفَارَقَةِ وَالْوَزْنِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يُفَارِقُ غَرِيمَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا عَلَيْهِ وَاشْتَرَى مِنْهُ شَيْئًا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ ثُمَّ فَارَقَهُ حَنِثَ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَصِرْ مُسْتَوْفِيًا فَإِنْ أَخَذَ بِهِ رَهْنًا أَوْ كَفِيلًا مِنْ غَيْرِ بَرَاءَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ ثُمَّ فَارَقَهُ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ بِحَالِهِ لَمْ يُسْتَوْفَ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَا يَبَرَّ لِأَنَّهُ فَارَقَهُ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ فَحَنِثَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي رَجُلٍ لَهُ عَلَى امْرَأَةٍ دَيْنٌ حَلَفَ أَنْ لَا يُفَارِقَهَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ وَفَارَقَهَا وَكَانَتْ عُقْدَةُ النِّكَاحِ جَائِزَةً فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ بِالنِّكَاحِ مِثْلُ دَيْنِهِ وَصَارَ قِصَاصًا فَجُعِلَ مُسْتَوْفِيًا وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَنِثَ لِأَنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَلَمْ يَصِرْ مُسْتَوْفِيًا فَإِنْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهَا وَمَهْرُ مِثْلِهَا مِثْلُ الدَّيْنِ أَوْ أَكْثَرُ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْمَهْرَ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ فَصَارَ مُسْتَوْفِيًا فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا فَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا وَسَقَطَ مَهْرُهَا وَفَارَقَهَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْمَهْرَ الْوَاجِبَ بِالْعَقْدِ قَدْ سَقَطَ وَإِنَّمَا عَادَ لَهُ دَيْنٌ بِالْفُرْقَةِ بَعْدَ انْحِلَال الْيَمِينِ فَلَا يَحْنَثُ وَلَوْ حَلَفَ لِيَزِنَن مَا عَلَيْهِ فَأَعْطَاهُ عَدَدًا فَكَانَتْ وَازِنَةً حَنِثَ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى الْوَزْنِ وَالْوَزْنُ فِعْلُهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ. وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْبِضَن مَا لِي عَلَيْك إلَّا جَمِيعًا وَلَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَعَلَى الطَّالِبِ لِرَجُلٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَأَمَرَ الَّذِي لَهُ الْخَمْسَةُ هَذَا الْحَالِفَ أَنْ يَحْتَسِبَ لِلْمَطْلُوبِ بِالْخَمْسَةِ الَّتِي عَلَيْهِ وَجَعَلَهَا قِصَاصًا وَدَفَعَ فُلَانٌ الْمَطْلُوبَ إلَى الْحَالِفِ خَمْسَةً فَكَأَنَّهُ قَالَ إذَا كَانَ مُتَوَافِرًا فَهُوَ جَائِزٌ فَلَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ دَفْعَةً وَاحِدَةً يَقَعُ عَلَى الْقَبْضِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَنْ يُعْرَفَ الْوَزْنُ أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّيْنَ إذَا كَانَ مَالًا كَثِيرًا لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ فِي وَزْنَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ قَبَضَ الْخَمْسَةَ حَقِيقَةً وَالْخَمْسَةَ بِالْمُقَاصَّةِ وَقَدْ رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا آخُذُ مَا لِي عَلَيْك إلَّا ضَرْبَةً وَاحِدَةً فَوَزَنَ خَمْسَمِائَةٍ وَأَخَذَهَا ثُمَّ وَزَنَ خَمْسَمِائَةٍ قَالَ فَقَدْ أَخَذَهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ هَذَا لَا يُعَدُّ مُتَفَرِّقًا قَالَ وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ يَزِنُهَا دِرْهَمًا دِرْهَمًا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ أَخَذَهَا الْيَوْمَ مِنْك دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَأَخَذَ مِنْهَا خَمْسَةً وَلَمْ يَأْخُذْ مَا بَقِيَ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ يَمِينَهُ وَقَعَتْ عَلَى أَخْذِ الْأَلْفِ مُتَفَرِّقَةً فِي الْيَوْمِ وَلَمْ يَأْخُذْ الْأَلْفَ بَلْ بَعْضَ الْأَلْفِ وَلَوْ قَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ أَخَذَ مِنْهَا الْيَوْمَ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَأَخَذَ مِنْهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَلَمْ يَأْخُذْ مَا بَقِيَ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ يَحْنَثُ حِينَ أَخْذِ الْخَمْسَةِ لِأَنَّ يَمِينَهُ مَا وَقَعَتْ عَلَى أَخْذِ الْكُلِّ مُتَفَرِّقًا بَلْ عَلَى أَخْذِ الْبَعْضِ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَلَوْ قَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ أَخَذَهَا الْيَوْمَ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَأَخَذَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ بَعْضَهَا وَفِي آخِرِ النَّهَارِ الْبَاقِيَ حَنِثَ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَخْذَ إلَى الْكُلِّ وَقَدْ أَخَذَ الْكُلَّ فِي يَوْمٍ مُتَفَرِّقًا. وَقَالَ أَصْحَابُنَا إذَا حَلَفَ لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا لَهُ عَلَيْهِ فَهَرَبَ أَوْ كَابَرَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَنَعَهُ مِنْهُ إنْسَانٌ كُرْهًا حَتَّى ذَهَبَ لَمْ يَحْنَثْ الْحَالِفُ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَهُوَ مُفَارَقَتُهُ إيَّاهُ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلُ الْمُفَارَقَةِ وَلَوْ كَانَ قَالَ لَا تُفَارِقْنِي حَتَّى آخُذَ مَا لِي عَلَيْك حَنِثَ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ الْغَرِيمِ وَقَدْ وُجِدَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى مَا يُضَافُ إلَى غَيْرِ الْحَالِفِ بِمِلْكٍ أَوْ غَيْرِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى مَا يُضَافُ إلَى غَيْرِ الْحَالِفِ بِمِلْكٍ أَوْ غَيْرِهِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْحَالِفَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِضَافَةِ وَإِمَّا أَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْإِضَافَةِ وَالْإِشَارَةِ وَالْإِضَافَةُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ إضَافَةَ مِلْكٍ أَوْ إضَافَةَ نِسْبَةٍ مِنْ غَيْرِ مِلْكٍ فَإِنْ اقْتَصَرَ فِي يَمِينِهِ عَلَى الْإِضَافَةِ وَالْإِضَافَةُ إضَافَةُ مِلْكٍ فَيَمِينُهُ عَلَى مَا فِي مِلْكِ فُلَانٍ يَوْمَ فِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحْنَثَ سَوَاءٌ كَانَ الَّذِي أَضَافَهُ إلَى مِلْكِ فُلَانٍ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامَ فُلَانٍ أَوْ لَا يَشْرَبُ شَرَابَ فُلَانٍ أَوْ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ أَوْ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ أَوْ لَا يَلْبَسُ ثَوْبَ فُلَانٍ أَوْ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا فِي مِلْكِهِ ثُمَّ اُسْتُحْدِثَ الْمِلْكُ فِيهَا هَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فِي الْأَصْلِ وَالزِّيَادَاتِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَرُوِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الْإِضَافَةَ إذَا كَانَتْ فِيمَا يُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فِيهِ حَالًا فَحَالًا فِي الْعَادَةِ فَإِنَّ الْيَمِينَ تَقَعُ عَلَى مَا فِي مَلَكَهُ يَوْمَ فَعَلَ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالدُّهْنِ وَإِنْ كَانَتْ الْإِضَافَةُ فِيمَا يُسْتَدَامُ فِيهِ الْمِلْكُ وَلَا يُسْتَحْدَثُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَادَةً فَالْيَمِينُ عَلَى مَا كَانَ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ كَالدَّارِ وَالْعَبْدِ وَالثَّوْبِ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ

عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَا فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَوْجَ فُلَانَةَ أَوْ امْرَأَةَ فُلَانٍ أَوْ صَدِيقَ فُلَانٍ أَوْ ابْنَ فُلَانٍ أَوْ أَخ فُلَانٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى مَا كَانَ يَوْمَ حَلَفَ وَلَا تَقَعُ عَلَى مَا يَحْدُثُ مِنْ الزَّوْجِيَّةِ وَالصَّدَاقَةِ وَالْوَلَدِ فَفَرَّقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ الْإِضَافَتَيْنِ وَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي النَّوَادِرِ وَجْهُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ الْإِضَافَةَ تَقْتَضِي الْوُجُودَ حَقِيقَةً إذْ الْمَوْجُودُ يُضَافُ لَا الْمَعْدُومُ فَلَا تَقَعُ يَمِينُهُ إلَّا عَلَى الْمَوْجُودِ يَوْمَ الْحَلِفِ وَلِهَذَا وَقَعَتْ عَلَى الْمَوْجُودِ فِي إحْدَى الْإِضَافَتَيْنِ وَهِيَ إضَافَةُ النِّسْبَةِ كَذَا فِي الْأُخْرَى وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِضَافَتَيْنِ أَنَّ فِي إضَافَةِ الْمِلْكِ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى مَذْكُورٍ مُضَافٍ إلَى فُلَانٍ بِالْمِلْكِ مُطْلَقًا عَنْ الْجِهَةِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَيْهِ بِمِلْكٍ كَانَ وَقْتَ الْحَلِفِ أَوْ بِمِلْكٍ اُسْتُحْدِثَ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَقَدْ وُجِدَتْ الْإِضَافَةُ عِنْدَ الْفِعْلِ فَيَحْنَثُ وَفِي إضَافَةِ النِّسْبَةِ قَامَ دَلِيلُ التَّقْيِيدِ وَهِيَ أَنَّ أَعْيَانَهُمْ مَقْصُودَةٌ بِالْيَمِينِ لِأَجْلِهِمْ عُرْفًا وَعَادَةً لِمَا تَبَيَّنَ فَانْعَقَدَتْ عَلَى الْوُجُودِ وَصَارَ كَمَا لَوْ ذَكَرَهُمْ بِأَسَامِيهِمْ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِمْ فَأَمَّا الْمِلْكُ فَلَا يُقْصَدُ بِالْيَمِينِ لِذَاتِهِ بَلْ لِمَالِكٍ فَيَزُولُ بِزَوَالِ مِلْكِهِ وَأَبُو يُوسُفَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ ادَّعَى تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ بِالْعُرْفِ. وَقَالَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ فِي الدَّارِ وَنَحْوِهَا غَيْرُ مُتَعَارَفٍ بَلْ هُوَ فِي حُكْمِ النُّدْرَةِ حَتَّى يُقَالَ الدَّارُ هِيَ أَوَّلُ مَا يُشْتَرَى وَآخِرُ مَا يُبَاعُ وَتَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِالْعُرْفِ جَائِزٌ فَتَقْيِيدُ الْيَمِينِ فِيهَا بِالْمَوْجُودِ وَقْتَ الْحَلِفِ لِلْعُرْفِ بِخِلَافِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَنَحْوِهِمَا لِأَنَّ اسْتِحْدَاثَ الْمِلْكِ فِيهَا مُعْتَادٌ فَلَمْ يُوجَدْ دَلِيلُ التَّقْيِيدِ وَالْجَوَابُ أَنَّ دَعْوَى الْعُرْفِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مَمْنُوعَةٌ بَلْ الْعُرْفُ مُشْتَرَكٌ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِعَادَةٍ مُشْتَرَكَةٍ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ لِأَنَّ كُلَّ إضَافَةٍ تُقَدَّرُ فِيهَا اللَّامُ فَكَانَ الْفَصْلَانِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَبْدِ وَنَحْوِهِمَا عَلَى الِاخْتِلَافِ ثُمَّ فِي إضَافَةِ الْمِلْكِ إذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي مِلْكِ الْحَالِفِ وَقْتَ الْحَلِفِ فَخَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ ثُمَّ فَعَلَ لَا يَحْنَثُ بِالْإِجْمَاعِ. (وَأَمَّا) فِي إضَافَةِ النِّسْبَةِ مِنْ الزَّوْجَةِ وَالصَّدِيقِ وَنَحْوِهِمَا إذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فَبَانَتْ مِنْهُ أَوْ عَادَى صَدِيقَهُ ثُمَّ كَلَّمَهُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَحْنَثُ. وَقِيلَ مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمَا ذُكِرَ فِي الزِّيَادَاتِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ الْمَذْكُورُ فِي النَّوَادِرِ وَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ يَمِينَهُ وَقَعَتْ عَلَى الْمَوْجُودِ وَقْتَ الْحَلِفِ فَحَصَلَ تَعْرِيفُ الْمَوْجُودِ بِالْإِضَافَةِ فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالْعُرْفِ لَا بِالْإِضَافَةِ وَجْهُ مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَنْ تَكْلِيمِ امْرَأَةٍ لِمَعْنًى فِيهَا وَقَدْ يَمْنَعُ مِنْ تَكْلِيمِهَا لِمَعْنًى فِي زَوْجِهَا فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْإِضَافَةِ مَعَ لِاحْتِمَالِ وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ الْمِلْكِ وَالْإِشَارَةِ بِأَنْ قَالَ لَا أُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ هَذَا أَوْ لَا أَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ هَذِهِ أَوْ لَا أَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ هَذِهِ أَوْ لَا أَلْبَسُ ثَوْبَ فُلَانٍ هَذَا فَبَاعَ فُلَانٌ عَبْدَهُ أَوْ دَارِهِ أَوْ دَابَّتَهُ أَوْ ثَوْبَهُ فَكَلَّمَ أَوْ دَخَلَ أَوْ رَكِبَ أَوْ لَبِسَ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ غَيْرَ ذَلِكَ الشَّيْءِ خَاصَّةً وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ مَا دَامَتْ مِلْكًا لِفُلَانٍ فَهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْإِشَارَةَ وَالْإِضَافَةَ جَمِيعًا وَقْتَ الْفِعْلِ لِلْحِنْثِ فَمَا لَمْ يُوجَدَا لَا يَحْنَثُ وَمُحَمَّدٌ يَعْتَبِرُ الْإِشَارَةَ دُونَ الْإِضَافَةِ وَأَمَّا فِي إضَافَةِ النِّسْبَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْإِضَافَةِ وَقْتَ الْفِعْلِ لِلْحِنْثِ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَوْجَةَ فُلَانٍ هَذَا أَوْ صَدِيقَ فُلَانٍ هَذَا فَبَانَتْ زَوْجَتُهُ مِنْهُ أَوْ عَادَى صَدِيقَهُ فَكَلَّمَ يَحْنَثُ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ أَنَّ الْإِضَافَةَ وَالْإِشَارَةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتَّعْرِيفِ وَالْإِشَارَةُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ لِأَنَّهَا تُخَصِّصُ الْعَيْنَ وَتَقْطَعُ الشَّرِكَةَ فَتَلْغُو الْإِضَافَةُ كَمَا فِي إضَافَةِ النِّسْبَةِ وَكَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَمَا شَاخَ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا وَلَهُمَا أَنَّ الْحَالِفَ لَمَّا جَمَعَ بَيْنَ الْإِضَافَةِ وَالْإِشَارَةِ لَزِمَ اعْتِبَارُهُمَا مَا أَمْكَنَ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ وَاجِبُ الِاعْتِبَارِ مَا أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْإِضَافَةِ هَهُنَا مَعَ وُجُودِ الْإِشَارَةِ لِأَنَّهُ بِالْيَمِينِ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ الْمَحْلُوفَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَنْ شَيْءٍ مَنْعًا مُؤَكَّدًا بِالْيَمِينِ إلَّا لِدَاعٍ يَدْعُوهُ إلَيْهِ وَهَذِهِ الْأَعْيَانُ لَا تُقْصَدُ بِالْمَنْعِ لِذَاتِهَا بَلْ لِمَعْنًى فِي الْمَالِكِ أَمَّا الدَّارُ وَنَحْوُهَا فَلَا شَكَّ فِيهِ وَكَذَا الْعَبْدُ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِالْمَنْعِ لِخَسَّتِهِ وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ مَوْلَاهُ وَقَدْ زَالَ بِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْمَالِكِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ مَهْمَا دَامَتْ لِفُلَانٍ مِلْكًا بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ وَالصَّدِيقِ لِأَنَّهُمَا يُقْصَدَانِ بِالْمَنْعِ لِأَنْفُسِهِمَا فَتَتَعَلَّقُ الْيَمِينُ بِذَاتَيْهِمَا وَالذَّاتُ لَا تَتَبَدَّلُ بِالْبَيْنُونَةِ وَالْمُعَادَاةِ فَيَحْنَثُ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَمَا صَارَ شَيْخًا وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ صَاحِبَ هَذَا الطَّيْلَسَانِ فَبَاعَ

فصل في الحلف على ما يخرج منه الحالف أو لا يخرج

الطَّيْلَسَانَ فَكَلَّمَهُ حَنِثَ لِأَنَّ الطَّيْلَسَانَ مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِالْمَنْعِ وَإِنَّمَا يُقْصَدُ ذَاتُ صَاحِبِهِ وَأَنَّهَا بَاقِيَةٌ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ إذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَوَابَّ فُلَانٍ أَوْ لَا يَلْبَسُ ثِيَابَهُ أَوْ لَا يُكَلِّمُ غِلْمَانَهُ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةٍ لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَا آكُلُ أَطْعِمَةَ فُلَانٍ أَوْ لَا أَشْرَبُ أَشْرِبَةَ فُلَانٍ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَطْعِمَةٍ وَثَلَاثَةِ أَشْرِبَةٍ لِمَا قُلْنَا وَيُعْتَبَرُ قِيَامُ الْمِلْكِ فِيهَا وَقْتَ الْفِعْلِ لَا وَقْتَ الْحَلِفِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَإِنْ قَالَ أَرَدْت جَمِيعَ مَا فِي مِلْكِهِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ لَمْ يُدَيَّنْ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ كَلَامِهِ كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ وَذُكِرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ مَا تَلَفَّظَ بِهِ فَيُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ أَوْ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ أَوْ لَا يُكَلِّمُ النَّاسَ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَنَوَى الْجَمِيعَ وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى إخْوَةِ فُلَانٍ أَوْ بَنِي فُلَانٍ أَوْ نِسَاءِ فُلَانٍ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُكَلِّمْ الْكُلَّ مِنْهُمْ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ وَيَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودِينَ وَقْتَ الْحَلِفِ لِأَنَّ هَذِهِ إضَافَةُ نِسْبَةٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُحْصَى فَالْيَمِينُ عَلَى جَمِيعِ مَا فِي مِلْكِهِ لِأَنَّهُ صَارَ مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ وَيُمْكِنُ اسْتِيعَابُهُ فَكَانَ كَالْمُعَرَّفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَإِنْ كَانَ لَا يُحْصَى إلَّا بِكِتَابٍ حَنِثَ بِالْوَاحِدِ مِنْهُ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِغْرَاقُ الْجِنْسِ فَيُصْرَفُ إلَى أَدْنَى الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَمِمَّا يُجَانِسُ مَسَائِلَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مَا قَالَ خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ سَأَلْت أَسَدًا عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ بِنْتَ فُلَانٍ أَوْ بِنْتًا لِفُلَانٍ فَوُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُ مِنْ بَنَاتِ فُلَانٍ وَلَا بَنَاتَ لَهُ ثُمَّ وُلِدَ لَهُ أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ مِنْ لَبَنِ بَقَرَةِ فُلَانٍ وَلَا بَقَرَةَ لَهُ ثُمَّ اشْتَرَى بَقَرَةً فَشَرِبَ مِنْ لَبَنِهَا أَوْ قَالَ لِصَبِيٍّ صَغِيرٍ وَاَللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُ مِنْ بَنَاتِك فَبَلَغَ فَوُلِدَ لَهُ فَتَزَوَّجَ مِنْهُنَّ أَيَحْنَثُ أَمْ لَا؟ ، وَقَالَ لَا آكُلُ مِنْ ثَمَرَةِ شَجَرَةِ فُلَانٍ وَلَا شَجَرَةَ لِفُلَانٍ ثُمَّ اشْتَرَى شَجَرَةً فَأَكَلَ مِنْ ثَمَرِهَا قَالَ أَمَّا إذَا حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ بِنْتَ فُلَانٍ وَلَا يَشْرَبُ مِنْ لَبَنِ بَقَرَةِ فُلَانٍ وَلَا يَأْكُلُ مِنْ ثَمَرَةِ شَجَرَةِ فُلَانٍ فَلَا يَحْنَثُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا أَتَزَوَّجُ بِنْتًا مِنْ بَنَاتِ فُلَانٍ أَوْ بِنْتًا لِفُلَانٍ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ وَتَلْزَمُهُ الْيَمِينُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ حَلَفَ يَوْمَ حَلَفَ عَلَى مَا لَمْ يُخْلَقْ حَالَ حَلَفَ وَسَأَلْت الْحَسَنَ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قَوْلَهُ لَا أَتَزَوَّجُ بِنْتَ فُلَانٍ يَقْتَضِي بِنْتًا مَوْجُودَةً فِي الْحَالِ فَلَمْ تُعْقَدْ الْيَمِينُ عَلَى الْإِضَافَةِ وَإِذَا قَالَ بِنْتًا لِفُلَانٍ فَقَدْ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى الْإِضَافَةِ فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهَا يَوْمَ الْحَلِفِ كَقَوْلِهِ عَبْدًا لِفُلَانٍ وَأَمَّا أَسَدٌ فَاعْتَبَرَ وُجُودِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَقْتَ الْيَمِينِ فَمَا كَانَ مَعْدُومًا لَا تَصِحُّ الْإِضَافَةُ فِيهِ فَلَا يَحْنَثُ. وَقَالَ خَلَفٌ سَأَلْت أَسَدًا عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الدَّارِ وَلَيْسَ لِلدَّارِ أَهْلٌ ثُمَّ سَكَنَهَا قَوْمٌ فَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ قَالَ يَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَحْنَثُ فِي قَوْلِي وَهُوَ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ اعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ. [فَصْلٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهُ الْحَالِف أَوْ لَا يَخْرُجُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهُ الْحَالِفِ أَوْ لَا يَخْرُجُ إذَا قَالَ إنْ دَخَلَ دَارِي هَذِهِ أَحَدٌ أَوْ رَكِبَ دَابَّتِي أَوْ ضَرَبَ عَبْدِي فَفَعَلَ ذَلِكَ الْحَالِفُ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَحَدٌ نَكِرَةٌ وَالْحَالِفُ صَارَ مَعْرِفَةً بِيَاءِ الْإِضَافَةِ وَالْمَعْرِفَةُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ النَّكِرَةِ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ مَا يَكُونُ مُتَمَيِّزَ الذَّاتِ مِنْ بَنِي جِنْسِهِ وَالنَّكِرَةُ مَا لَا يَكُونُ مُتَمَيِّزَ الذَّاتِ عَنْ بَنِي جِنْسِهِ بَلْ يَكُونُ مُسَمَّاهُ شَائِعًا فِي جِنْسِهِ أَوْ نَوْعِهِ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مُتَمَيِّزَ الذَّاتِ وَغَيْرَ مُتَمَيِّزِ الذَّاتِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ إنْ دَخَلَ دَارَك هَذِهِ أَحَدٌ أَوْ لَبِسَ ثَوْبَك أَوْ ضَرَبَ غُلَامَك فَفَعَلَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ صَارَ مَعْرِفَةً بِكَافِ الْخِطَابِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّكِرَةِ وَإِنْ فَعَلَهُ الْحَالِفُ حَنِثَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْرِفَةٍ لِانْعِدَامِ مَا يُوجِبُ كَوْنَهُ مَعْرِفَةً فَجَازَ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ النَّكِرَةِ. وَلَوْ قَالَ إنْ أَلْبَسْت هَذَا الْقَمِيصَ أَحَدًا فَلَبِسَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ صَارَ مَعْرِفَةً بِتَاءِ الْخِطَابِ وَإِنْ أَلْبَسَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ الْحَالِفَ حَنِثَ لِأَنَّ الْحَالِفَ نَكِرَةٌ فَيَدْخُلُ تَحْتَ نَكِرَةٍ وَإِنْ قَالَ إنْ مَسَّ هَذَا الرَّأْسَ أَحَدٌ وَأَشَارَ إلَى رَأْسِهِ لَمْ يَدْخُلْ الْحَالِفُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يُضِفْهُ إلَى نَفْسِهِ بِيَاءِ الْإِضَافَةِ لِأَنَّ رَأْسَهُ مُتَّصِلٌ بِهِ خِلْقَةً فَكَانَ أَقْوَى مِنْ إضَافَتِهِ إلَى نَفْسِهِ بِيَاءِ الْإِضَافَةِ وَلَوْ قَالَ إنْ كَلَّمَ غُلَامُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَحَدًا فَعَبْدِي حُرٌّ فَكَلَّمَ الْحَالِفُ وَهُوَ غُلَامُ الْحَالِفِ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ حَنِثَ وَطَعَنَ الْقَاضِي أَبُو حَازِمٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ الْعِرَاقِيُّ فِي هَذَا فِي الْجَامِعِ. وَقَالَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ لِأَنَّ الْحَلِفَ تَحْتِ اسْمِ الْعَلَمِ وَالْأَعْلَامُ مَعَارِفُ وَهِيَ عِنْدَ أَهْلِ النَّحْوِ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ الْإِشَارَةِ وَالْمَعْرِفَةُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ النَّكِرَةِ وَكَذَا عَرَّفَهُ بِالْإِضَافَةِ إلَى أَبِيهِ بِقَوْلِهِ ابْنِ مُحَمَّدٍ فَامْتَنَعَ دُخُولُهُ تَحْتَ النَّكِرَةِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ

فصل في الحلف على أمور شرعية

يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْعَلَمِ فِي مَوْضِعِ النَّكِرَةِ لِأَنَّ اسْمَ الْأَعْلَامِ وَإِنْ كَانَتْ مَعَارِفَ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ سَبْقِ الْمَعْرِفَةِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ وَالسَّامِعِ حَتَّى يُجْعَلَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَمًا عِنْدَهُ وَعِنْدَ سَبْقِ الْمَعْرِفَةِ مِنْهُمَا بِذَلِكَ إمَّا بِتَعَيُّنِ الْمُسَمَّى بِالْعَلَمِ بِاسْمِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ يُزَاحِمُهُ غَيْرُهُ وَالْعَلَمُ وَاحْتِمَالُ الْمُزَاحَمَةِ ثَابِتٌ وَإِذَا جَازَ اسْتِعْمَالُ الْعَلَمِ فِي مَوْضِعِ النَّكِرَةِ وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا دَلِيلُ انْصِرَافِ التَّسْمِيَةِ إلَى غَيْرِ الْحَالِفِ وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْعُرْفِ الظَّاهِرِ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ نَفْسَهُ بِاسْمِ الْعَلَمِ بَلْ يُضِيفُ غُلَامَهُ إلَيْهِ بِيَاءِ الْإِضَافَةِ فَيَقُولُ غُلَامِي فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ نَفْسَهُ وَأَنَّهُ مَا دَخَلَ تَحْتَ الْعَلَمِ الَّذِي هُوَ مَعْرِفَةٌ فَلَمْ يَخْرُجْ الْحَالِفُ عَنْ عُمُومِ هَذِهِ النَّكِرَةِ. [فَصْلٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى أُمُورٍ شَرْعِيَّةٍ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ الْحَلِفُ عَلَى أُمُورٍ شَرْعِيَّةٍ وَمَا يَقَعُ مِنْهَا عَلَى الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ أَوْ عَلَى الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ مِثْلِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالْمُعَارَضَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالنِّحْلَة وَالْعَطِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْقَرْضِ وَالتَّزْوِيجِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً فَاشْتَرَى دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ آنِيَةً أَوْ تِبْرًا أَوْ مَصُوغَ حِلْيَةٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَحْنَثُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَعْتَبِرُ الْحَقِيقَةَ وَمُحَمَّدٌ يَعْتَبِرُ الْعُرْفَ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ اسْمَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إذَا أُطْلِقَ لَا يُرَادُ بِهِ الدِّرْهَمُ وَالدَّنَانِيرُ فِي الْعُرْفِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا اخْتَصَّتْ بِاسْمٍ عَلَى حِدَةٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ اسْمِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ اسْمَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَقَعُ عَلَى الْكُلِّ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ وَكَوْنُهُ مَضْرُوبًا وَمَصُوغًا وَتِبْرًا أَسْمَاءُ أَنْوَاعٍ لَهُ وَاسْمُ الْجِنْسِ يَتَنَاوَلُ الْأَنْوَاعَ كَاسْمِ الْآدَمِيِّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] فَدَخَلَ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ كَأَثَرِ الْمَضْرُوبِ وَغَيْرِهِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي حَدِيدًا فَهُوَ عَلَى مَضْرُوبِ ذَلِكَ وَتِبْرِهِ سِلَاحًا كَانَ أَوْ غَيْرَ سِلَاحٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ حَدِيدًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ إنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ الْحَدِيدِ يُسَمَّى بَائِعُهُ حَدَّادًا يَحْنَثْ وَإِنْ كَانَ بَائِعُهُ لَا يُسَمَّى حَدَّادًا لَا يَحْنَثُ وَبَائِعُ التِّبْرِ لَا يُسَمَّى حَدَّادًا فَلَا يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ اسْمِ الْحَدِيدِ وَلَهَا اسْمٌ يَخُصُّهَا فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْيَمِينِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَدِيدَ اسْمُ جِنْسٍ فَيَتَنَاوَلُ الْمَعْمُولَ وَغَيْرَ الْمَعْمُولِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي بَابِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ نِيَّةٌ دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَالنِّيَّةُ فِي هَذَا وَاسِعَةٌ لِأَنَّهَا تَخْصِيصُ الْمَذْكُورِ. وَقَالَ فِي بَابِ الْحَدِيدِ لَوْ قَالَ عَنَيْت التِّبْرَ فَاشْتَرَى إنَاءً لَمْ يَحْنَثْ وَلَوْ قَالَ عَنَيْت قُمْقُمًا فَاشْتَرَى سَيْفًا أَوْ إبَرًا أَوْ سَكَاكِينَ أَوْ شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ لَمْ يَحْنَثْ وَيُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ وَهَذَا مُشْكِلٌ عَلَى مَذْهَبِهِ لِأَنَّ الِاسْمَ عِنْدَهُ عَامٌّ فَإِذَا نَوَى شَيْئًا مِنْهُ بِعَيْنِهِ فَقَدْ عَدَلَ عَنْ ظَاهِرِ الْعُمُومِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُصَدَّقَ فِي الْقَضَاءِ وَإِنْ صُدِّقَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي حَدِيدًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَاشْتَرَى دِرْعَ حَدِيدٍ أَوْ سَيْفًا أَوْ سِكِّينًا أَوْ سَاعِدَيْنِ أَوْ بَيْضَةً أَوْ إبَرًا أَوْ مَسَالَّ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا غَيْرَ مَضْرُوبٍ أَوْ إنَاءً مِنْ آنِيَةِ الْحَدِيدِ أَوْ مَسَامِيرَ وَأَقْفَالًا أَوْ كَانُونَ حَدِيدٍ يَحْنَثُ قَالَ لِأَنَّ الَّذِي يَبِيعُ السِّلَاحَ وَالْإِبَرَ وَالْمَسَالَّ لَا يُسَمَّى حَدَّادًا وَاَلَّذِي يَبِيعُ مَا وَصَفْت لَك يُسَمَّى حَدَّادًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ اشْتَرَى بَابَ حَدِيدٍ أَوْ كَانُونَ حَدِيدٍ أَوْ إنَاءَ حَدِيدٍ مَكْسُورٍ أَوْ نَصْلَ سَيْفٍ مَكْسُورٍ حَنِثَ فَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ الْحَقِيقَةَ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ حَدِيدٌ فَتَنَاوَلَهُ الْيَمِينُ وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ الْعُرْفَ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى حَدِيدًا فِي الْعُرْفِ حَتَّى لَا يُسَمَّى بَائِعُهُ حَدَّادًا قَالَ أَبُو يُوسُفَ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي صُفْرًا فَاشْتَرَى طَشْتَ صُفْرٍ أَوْ كُوزًا أَوْ تَوْرًا حَنِثَ وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ بَائِعَ ذَلِكَ يُسَمَّى صَفَّارًا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَوْ اشْتَرَى فُلُوسًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهَا لَا تُسَمَّى صُفْرًا فِي كَلَامِ النَّاسِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي صُوفًا فَاشْتَرَى شَاةً عَلَى ظَهْرِهَا صُوفٌ لَمْ يَحْنَثْ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي شَيْئًا فَاشْتَرَى غَيْرَهُ وَدَخَلَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ دَخَلَ مَقْصُودًا يَحْنَثْ وَالصُّوفُ هَهُنَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ مَقْصُودًا لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ الصُّوفَ وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ تَبَعًا لِلشَّاةِ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي آجُرًّا أَوْ خَشَبًا أَوْ قَصَبًا فَاشْتَرَى دَارًا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْبِنَاءَ يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ تَبَعًا لِدُخُولِهِ فِي الْعَقْدِ بِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ فَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي ثَمَرَ نَخْلٍ فَاشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا نَخْلٌ مُثْمِرَةٌ وَشَرَطَ الْمُشْتَرِي الثَّمَرَةَ يَحْنَثْ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ دَخَلْت فِي الْعَقْدِ مَقْصُودَةً

لَا عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُسَمِّهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَقْلًا فَاشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا بَقْلٌ وَاشْتَرَطَ الْمُشْتَرِي الْبَقْلَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ لِدُخُولِ الْبَقْلِ فِي الْبَيْعِ مَقْصُودًا لَا تَبَعًا وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي لَحْمًا فَاشْتَرَى شَاةً حَيَّةً لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ لَحْمَهَا لِأَنَّ لَحْمَ الشَّاةِ الْحَيَّةِ مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ زَيْتًا فَاشْتَرَى زَيْتُونًا لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَقَعْ عَلَى الزَّيْتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ؟ وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي قَصَبًا وَلَا خُوصًا فَاشْتَرَى بُورِيًّا أَوْ زِنْبِيلًا مِنْ خُوصٍ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الِاسْمَ لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي جَدْيًا فَاشْتَرَى شَاةً حَامِلًا بِجَدْيٍ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي لَبَنًا فَاشْتَرَى شَاةً فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي مَمْلُوكًا صَغِيرًا فَاشْتَرَى أَمَةً حَامِلًا وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي دَقِيقًا فَاشْتَرَى حِنْطَةً وَقَالُوا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي شَعِيرًا فَاشْتَرَى حِنْطَةً فِيهَا شَعِيرٌ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الشَّعِيرَ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ مَقْصُودًا وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ تَبَعًا بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَعِيرًا فَأَكَلَ حِنْطَةً فِيهَا شَعِيرٌ لِأَنَّ الْأَكْلَ فِعْلٌ فَإِذَا وَقَعَ فِي عَيْنَيْنِ لَمْ تَتْبَعْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى. فَأَمَّا الشِّرَاءُ فَهُوَ عَقْدٌ وَبَعْضُ الْعَيْنِ مَقْصُودَةٌ بِالْعَقْدِ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ وَقَدْ كَانَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي صُوفًا فَاشْتَرَى شَاةً عَلَى ظَهْرِهَا صُوفٌ يَحْنَثُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي لَبَنًا فَاشْتَرَى شَاةً فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ لَمْ يَحْنَثْ. وَقَالَ لِأَنَّ الصُّوفَ ظَاهِرٌ فَتَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ (وَأَمَّا) اللَّبَنُ فَبَاطِنٌ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ ثُمَّ رَجَعَ فَسَوَّى بَيْنَهُمَا لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي دُهْنًا فَهُوَ عَلَى دُهْنٍ جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ أَنْ يَدَّهِنُوا بِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَيْسَ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَدَّهِنُوا بِهِ مِثْلَ الزَّيْتِ وَالْبَزْرِ وَدُهْنِ الْأَكَارِعِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الدُّهْنَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُدْهَنُ بِهِ وَالْإِيمَان مَحْمُولَةٌ عَلَى الْعَادَةِ فَحُمِلَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْأَدْهَانِ الطَّيِّبَةِ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدَّهِنُ بِدُهْنٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَادَّهَنَ بِزَيْتٍ حَنِثَ وَإِنْ ادَّهَنَ بِسَمْنٍ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الزَّيْتَ لَوْ طُبِخَ بِالطِّيبِ صَارَ دُهْنًا فَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْأَدْهَانِ مِنْ وَجْهٍ وَلَمْ يُجْرِهِ مَجْرَاهَا مِنْ وَجْهٍ حَنِثَ قَالَ فِي الشِّرَاءِ لَا يَحْنَثُ وَفِي الْأَدْهَانِ يَحْنَثُ. فَأَمَّا السَّمْنُ فَإِنَّهُ لَا يُدَّهَنُ بِهِ بِحَالٍ فِي الْوَجْهَيْنِ فَلَمْ يَحْنَثْ. وَكَذَلِكَ دُهْنُ الْخِرْوَعِ وَالْبُزُورِ وَلَوْ اشْتَرَى زَيْتًا مَطْبُوخًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ حِينَ حَلَفَ يَحْنَثُ لِأَنَّ الزَّيْتَ مَطْبُوخٌ بِالنَّارِ وَالزِّئْبَقُ دُهْنٌ يُدَّهَنُ بِهِ كَسَائِرِ الْأَدْهَانِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا أَوْ حِنَّاءً أَوْ حَلَفَ لَا يَشُمُّهُمَا فَهُوَ عَلَى الدُّهْنِ وَالْوَرَقِ فِي الْبَابَيْنِ جَمِيعًا وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا أَنَّهُ عَلَى الدُّهْنِ دُونَ الْوَرَقِ وَهَذَا عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِأَنَّهُمْ إذَا أَطْلَقُوا الْبَنَفْسَجَ أَرَادُوا بِهِ الدُّهْنَ. فَأَمَّا فِي غَيْرِ عُرْفِ الْكُوفَةِ فَالِاسْمُ عَلَى الْوَرَقِ فَتُحْمَلُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ وَالْكَرْخِيُّ حَمَلَهُ عَلَيْهِمَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَأَمَّا الْحِنَّاءُ وَالْوَرْدُ فَهُوَ عَلَى الْوَرَقِ دُونَ الدُّهْنِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الدُّهْنَ فَيَدِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ اسْمَ الْوَرْدِ وَالْحِنَّاءِ إذَا أُطْلِقَ يُرَادُ بِهِ الْوَرَقُ لَا الدُّهْنُ وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْبَنَفْسَجَ عَلَى الدُّهْنِ وَالْوَرْدَ عَلَى وَرَقِ الْوَرْدِ وَجَعَلَ فِي الْأَصْلِ الْخَيْرِيَّ مِثْلَ الْوَرْدِ وَالْحِنَّاءِ فَحَمَلَهُ عَلَى الْوَرَقِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَزْرًا فَاشْتَرَى دُهْنَ بَزْرٌ حَنِثَ وَإِنْ اشْتَرَى حَبًّا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْبَزْرِ يَقَعُ عَلَى الدُّهْنِ لَا عَلَى الْحَبِّ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ أَوْ لَا يَشْتَرِي فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَفَعَلَ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلٍ فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَفَعَلَ إنَّ فِعْلَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ حُقُوقٌ أَوْ لَا حُقُوقَ لَهُ فَإِنْ كَانَ لَهُ حُقُوقٌ. فَإِمَّا أَنْ تَرْجِعَ إلَى الْفَاعِلِ أَوْ إلَى الْآمِرِ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ لَهُ حُقُوقٌ تَرْجِعُ إلَى الْفَاعِلِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالْقِسْمَةِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ حُقُوقَ هَذِهِ الْعُقُودِ إذَا كَانَتْ رَاجِعَةً إلَى فَاعِلِهَا لَا إلَى الْآمِرِ بِهَا كَانَتْ الْعُقُودُ مُضَافَةً إلَى الْفَاعِلِ لَا إلَى الْآمِرِ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ الْعَاقِدُ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِعْلُهُ وَإِنَّمَا لِلْآمِرِ حُكْمُ الْعَقْدِ شَرْعًا لَا لِفِعْلِهِ. وَعِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا يَقَعُ الْحُكْمُ لَهُ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْآمِرِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا إذَا كَانَ الْحَالِفُ مِمَّنْ لَا يَتَوَلَّى الْعُقُودَ بِنَفْسِهِ فَيَحْنَثُ بِالْأَمْرِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْتَنِعُ عَمَّا يُوجَدُ مِنْهُ عَادَةً وَهُوَ الْآمِرُ بِذَلِكَ لَا الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ هُوَ الْحَالِفَ قَالُوا يَحْنَثُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُقُوقَ رَاجِعَةٌ إلَيْهِ وَأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ حَقِيقَةً لَا الْآمِرُ وَإِنْ كَانَتْ حُقُوقُهُ رَاجِعَةً إلَى الْآمِرِ أَوْ كَانَ مِمَّا لَا حُقُوقَ لَهُ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْكِتَابَةِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالِاقْتِضَاءِ وَالْقَضَاءِ

وَالْحُقُوقِ وَالْخُصُومَةِ وَالشَّرِكَةِ بِأَنْ حَلَفَ لَا يُشَارِكُ رَجُلًا فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَعَقَدَ عَقْدَ الشَّرِكَةِ وَالذَّبْحِ وَالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَالْبِنَاءِ وَالْخِيَاطَةِ وَالنَّفَقَةِ وَنَحْوِهَا فَإِذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَفَعَلَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ حَنِثَ لِأَنَّ مَا لَا حُقُوقَ لَهُ أَوْ تَرْجِعُ حُقُوقُهُ إلَى الْآمِرِ لَا إلَى الْفَاعِلِ يُضَافُ إلَى الْآمِرِ لَا إلَى الْفَاعِلِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالنِّكَاحِ لَا يَقُولُ تَزَوَّجْت وَإِنَّمَا يَقُولُ زَوَّجْت فُلَانًا وَالْوَكِيلُ بِالطَّلَاقِ يَقُولُ طَلَّقْت امْرَأَةَ فُلَانٍ فَكَانَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ مُضَافًا إلَى الْآمِرِ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الصُّلْحِ. رَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْهُ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يُصَالِحُ فَوَكَّلَ بِالصُّلْحِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّ الصُّلْحَ إسْقَاطُ حَقٍّ كَالْإِبْرَاءِ فَإِنْ قَالَ الْحَالِفُ فِيمَا لَا تَرْجِعُ حُقُوقُهُ إلَى الْفَاعِلِ بَلْ إلَى الْآمِرِ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ نَوَيْت أَنْ أَلِيَ ذَلِكَ بِنَفْسِي يُدَيَّنْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ جُعِلَتْ مُضَافَةً إلَى الْآمِرِ لِرُجُوعِ حُقُوقِهَا إلَيْهِ لَا إلَى الْفَاعِلِ وَقَدْ نَوَى خِلَافَ ذَلِكَ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى الْمُحْتَمَلَ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ. وَلَوْ قَالَ فِيمَا لَا حُقُوقَ لَهُ مِنْ الضَّرْبِ وَالذَّبْحِ عَنَيْت أَنْ أَلِيَ ذَلِكَ بِنَفْسِي يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْقَضَاءِ أَيْضًا لِأَنَّ الضَّرْبَ وَالذَّبْحَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْحَقِيقِيَّةِ وَأَنَّهُ بِحَقِيقَتِهِ وُجِدَ مِنْ الْمُبَاشِرِ وَلَيْسَ بِتَصَرُّفٍ حُكِيَ فِيهِ لِتَغْيِيرِ وُقُوعِهِ حُكْمًا لِغَيْرِ الْمُبَاشِرِ فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ فِيهِ لِلْمُبَاشَرَةِ فَإِذَا نَوَى بِهِ أَنْ يَلِيَ بِنَفْسِهِ فَقَدْ نَوَى الْحَقِيقَةَ فَيُصَدَّقُ قَضَاءً وَدِيَانَةً وَلَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا فَأَوْجَبَ الْبَيْعَ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَقْبَلْ الْمُشْتَرِي وَلَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ لِفُلَانٍ شَيْئًا أَوْ لَا يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ أَوْ لَا يُعِيرُهُ أَوْ لَا يُنْحِلُ لَهُ أَوْ لَا يُعْطِيهِ ثُمَّ وَهَبَ لَهُ أَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ أَوْ أَعَارَهُ أَوْ نَحَلَهُ أَوْ أَعْطَاهُ فَلَمْ يَقْبَلْ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَحْنَثُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَحْنَثُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْهِبَةِ وَأَخَوَاتِهَا وَبَيْنَ الْبَيْعِ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا الْقَرْضُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَقْبَلْ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَفِي رِوَايَةٍ يَحْنَثُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقَرْضَ لَا تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى تَسْمِيَةِ عِوَضٍ فَأَشْبَهَ الْهِبَةَ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْقَرْضَ يُشْبِهُ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بَعُوضٍ. وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَوْ حَلَفَ لَا يَسْتَقْرِضُ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا فَاسْتَقْرَضَهُ فَلَمْ يُقْرِضْهُ أَنَّهُ حَانِثٌ فَرْقٌ بَيْنَ الْقَرْضِ وَبَيْنَ الِاسْتِقْرَاضِ لِأَنَّ الِاسْتِقْرَاضَ لَيْسَ بِقَرْضٍ بَلْ هُوَ طَلَبُ الْقَرْضِ كَالسَّوْمِ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَبَاعَ بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي وَقَبَضَ يَحْنَثُ لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ يَتَنَاوَلُ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ وَهُوَ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْبَيْعِ هُوَ الْوُصُولُ إلَى الْعِوَضِ وَهَذَا يَحْصُلُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَوْ بَاعَ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ لِانْعِدَامِ مَعْنَاهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا وَلِانْعِدَامِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَهُوَ الْمِلْكُ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْمِلْكَ وَلَوْ بَاعَ بَيْعًا فِيهِ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَحَنِثَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الْبَيْعِ الثَّابِتِ يَقَعُ عَلَى الْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ خِيَارٌ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَمَّى بَيْعًا فِي الْعُرْفِ إلَّا أَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ يَقِفُ عَلَى أَمْرٍ زَائِدٍ وَهُوَ الْإِجَازَةُ أَوْ عَلَى سُقُوطِ الْخِيَارِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْبَيْعِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَأَشْبَهَ الْإِيجَابَ بِدُونِ الْقَبُولِ قَالَ مُحَمَّدٌ سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ قَالَ فِيمَنْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت هَذَا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَضَتْ الْمُدَّةُ الثَّلَاثُ وَوَجَبَ الْبَيْعُ يَعْتِقُ وَإِنَّهُ عَلَى أَصْلِهِ صَحِيحٌ لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ عِنْدَهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْبَيْعَ الْمَشْرُوطَ فِيهِ الْخِيَارُ فَلَا يَصِيرُ مُشْتَرِيًا بِنَفْسِ الْقَبُولِ بَلْ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ وَالْعَبْدُ فِي مِلْكِهِ عِنْدَ ذَلِكَ يَعْتِقُ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ خِيَارِ الْبَائِعِ أَوْ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَحْنَثُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ وَأَصَّلَ فِيهِ أَصْلًا وَهُوَ أَنَّ كُلَّ بَيْعٍ يُوجِبُ الْمِلْكَ أَوْ تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ يَحْنَثُ بِهِ وَمَا لَا فَلَا هَذَا إذَا حَلَفَ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ أَوْ عَتَاقِ عَبْدِهِ بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ عَبْدُهُ حُرٌّ. فَأَمَّا إذَا حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ بِعِتْقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى أَوْ الْمَبِيعِ فَإِنْ كَانَ الْحَلِفُ عَلَى الشِّرَاءِ بِأَنْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت هَذَا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ يُنْظَرُ إنْ اشْتَرَاهُ شِرَاءً جَائِزًا بَاتًّا عَتَقَ بِلَا شَكٍّ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي فِيهِ بِالْخِيَارِ أَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَا يُشْكِلُ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمِلْكِ لَهُ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ

فَلِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَصِيرُ كَالْمُتَكَلَّمِ بِهِ عِنْدَ الشَّرْطِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بَعْدَ مَا اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَلَوْ أَعْتَقَهُ يَعْتِقُ لِأَنَّ إقْدَامه عَلَى الْإِعْتَاقِ يَكُونُ فَسْخًا لِلْخِيَارِ وَلَوْ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ فِيهِ بِالْخِيَارِ لَا يَعْتِقُ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ بِلَا خِلَافٍ وَسَوَاءٌ أَجَازَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ أَوْ لَمْ يُجِزْ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْإِجَازَةِ لَا بِالْعَقْدِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ إذَا أَجَازَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ يَعْتِقُ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ بِدَلِيلِ أَنَّ الزِّيَادَةَ الْحَادِثَةَ بَعْدَ الْعِتْقِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ تَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ هَذَا كُلُّهُ إنْ اشْتَرَاهُ شِرَاءً صَحِيحًا فَإِنْ اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَا يَعْتِقْ لِأَنَّهُ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ بَعْدُ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَكَانَ حَاضِرًا عِنْدَهُ وَقْتَ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لَهُ عَقِيبَ الْعَقْدِ فَمَلَكَهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فِي بَيْتِهِ أَوْ نَحْوِهِ فَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا بِنَفْسِهِ كَالْمَغْصُوبِ يَعْتِقْ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَإِنْ كَانَ أَمَانَةً أَوْ كَانَ مَضْمُونًا بِغَيْرِهِ كَالرَّهْنِ لَا يَعْتِقْ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا عَقِيبَ الْعَقْدِ هَذَا إذَا كَانَ الْحَلِفُ عَلَى الشِّرَاءِ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْبَيْعِ فَقَالَ إنْ بِعْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ بَيْعًا جَائِزًا أَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لَا يَعْتِقُ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الْمِلْكِ وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ يَعْتِقْ لِأَنَّهُ كَانَ فِي مِلْكِهِ وَقَدْ وُجِدَ شَرْطُهُ فَيَعْتِقُ وَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَوْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي غَائِبًا عَنْهُ بِأَمَانَةٍ أَوْ بِرَهْنٍ يَعْتِقْ لِأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا مَضْمُونًا بِنَفْسِهِ لَا يَعْتِقْ لِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَهُوَ عَلَى الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا فَاسِدًا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النِّكَاحِ الْحِلُّ وَلَا يَثْبُتُ بِالْفَاسِدِ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِسَبَبِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمِلْكُ وَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِالْفَاسِدِ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي وَلَا يَصُومُ فَهُوَ عَلَى الصَّحِيحِ حَتَّى لَوْ صَلِّي بِغَيْرِ طَهَارَةٍ أَوْ صَامَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْفَاسِدِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الْمَاضِي بِأَنْ قَالَ إنْ كُنْت صَلَّيْت أَوْ صُمْت أَوْ تَزَوَّجْت فَهُوَ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ. لِأَنَّ الْمَاضِيَ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْحِلُّ وَالتَّقَرُّبُ وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِخْبَارُ عَنْ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ وَالِاسْمُ يُطْلَقُ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ فَإِنْ عَنَى بِهِ الصَّحِيحَ دِينَ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ النِّكَاحُ الْمَعْنَوِيُّ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَكَبَّرَ وَدَخَلَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَرْكَعَ وَيَسْجُدَ سَجْدَةً اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ بِنَفْسِ الشُّرُوعِ لِأَنَّهُ كَمَا شَرَعَ فِيهِ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُصَلِّي فَيَحْنَثُ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَصُومُ فَنَوَى الصَّوْمَ وَشَرَعَ فِيهِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَبَيْنَ الصَّوْمِ أَنَّ الْحَالِفَ جَعَلَ شَرْطَ جِنْسه فِعْلَ الصَّلَاةِ وَالصَّلَاةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِعِبَادَةٍ مُتَرَكِّبَة مِنْ أَفْعَالٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْمُتَرَكِّبُ مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَقَعُ اسْمُ كُلِّهِ عَلَى بَعْضِهِ كَالسَّكَنْجَبِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَمَا لَمْ تُوجَدْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ لَا يُوجَدُ فِعْلُ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّ بِصَوْمِ سَاعَةٍ يَحْصُلُ فِعْلُ صَوْمٍ كَامِلٍ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِعِبَادَةٍ مُرَكَّبَةٍ مِنْ أَجْزَاءٍ مُتَّفِقَةٍ وَهِيَ الْإِمْسَاكَاتُ وَمَا هَذَا حَالُهُ فَاسْمُ كُلِّهِ يَنْطَلِقُ عَلَى بَعْضِهِ حَقِيقَةً كَاسْمِ الْمَاءِ أَنَّهُ كَمَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَاءِ الْبَحْرِ يَنْطَلِقُ عَلَى قَطْرَةٍ مِنْهُ وَقَطْرَةٌ مِنْ خَلٍّ مِنْ جُمْلَةِ دَنٍّ مِنْ خَلٍّ أَنَّهُ يُسَمَّى خَلًّا حَقِيقَةً فَإِذَا صَامَ سَاعَةً فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ فِعْلُ الصَّوْمِ الَّذِي مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْهُ فَيَحْنَثُ وَبِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يُصَلَّى صَلَاةً أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الصَّلَاةَ فَقَدْ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ مَا هُوَ صَلَاةٌ شَرْعًا وَأَقَلُّ مَا اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ مِنْ الصَّلَاةِ رَكْعَتَانِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ ثَمَّةَ شَرْطُ الْحِنْثِ هُنَاكَ فِعْلُ الصَّلَاةِ وَفِعْلُ الصَّلَاةِ يُوجَدُ بِوُجُودِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَمَا يُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى تَمَامِ مَا يَصِيرُ عِبَادَةً مَعْهُودَةً مُعْتَبَرَةً شَرْعًا تَكْرَارٌ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ فَلَا تَقِفُ تَسْمِيَةُ فِعْلِ الصَّلَاةِ عَلَى وُجُودِهِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] وَأَرَادَ بِهِ الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي صَلَاةِ السَّفَرِ ثُمَّ قَالَ: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] وَأَرَادَ بِهِ رَكْعَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ لَا يُصَلُّونَ إلَّا رَكْعَةً وَاحِدَةً. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَصُومُ يَوْمًا لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَصُومَ يَوْمًا تَامًّا لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ صَوْمًا مُقَدَّرًا بِالْيَوْمِ لِأَنَّهُ جَعَلَ كُلَّ الْيَوْمِ ظَرْفًا لَهُ وَلَا يَكُونُ كُلُّ الْيَوْمِ ظَرْفًا لَهُ إلَّا بِاسْتِيعَابِ الصَّوْمِ جَمِيعَ الْيَوْمِ وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَصُومُ صَوْمًا لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَصْدَرَ وَهُوَ الصَّوْمُ وَالصَّوْمُ اسْمٌ لِعِبَادَةٍ مُقَدَّرَةٍ بِالْيَوْمِ شَرْعًا فَيُصْرَفُ إلَى الْمَعْهُودِ الْمُعْتَبَرِ فِي الشَّرْعِ

بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَصُومُ لِأَنَّهُ جَعَلَ فِعْلَ الصَّوْمِ شَرْطًا وَبِصَوْمِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وُجِدَ فِعْلُ الصَّوْمِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي الظُّهْرَ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَتَشَهَّدَ بَعْدَ الْأَرْبَعِ لِأَنَّ الظُّهْرَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ فَمَا لَمْ تُوجَدْ الْأَرْبَعُ لَا تُوجَدُ الظُّهْرُ فَلَا يَحْنَثُ وَلَوْ قَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ أَدْرَكَ الظُّهْرَ مَعَ الْإِمَامِ فَأَدْرَكَهُ فِي التَّشَهُّدِ وَدَخَلَ مَعَهُ حَنِثَ لِأَنَّ إدْرَاك الشَّيْءِ لُحُوقُ آخِرِهِ يُقَالُ أَدْرَكَ فُلَانٌ زَمَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُرَادُ بِهِ لُحُوقَ آخِرِهِ وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي التَّشَهُّدِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ» وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ انْتَهَى يَوْمًا إلَى الْإِمَامِ فَأَدْرَكَهُ فِي التَّشَهُّدِ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ أَدْرَكْنَا مَعَهُ الصَّلَاةَ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي الْجُمُعَةَ مَعَ الْإِمَامِ فَأَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً فَصَلَّاهَا مَعَهُ ثُمَّ سَلَّمَ الْإِمَامُ وَأَتَمَّ هُوَ الثَّانِيَةَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ مَعَ الْإِمَامِ إذْ هِيَ اسْمٌ لِلْكُلِّ وَهُوَ مَا صَلَّى الْكُلَّ مَعَ الْإِمَامِ وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ نَامَ أَوْ أَحْدَثَ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ فَجَاءَ وَقَدْ سَلَّمَ الْإِمَامُ فَاتَّبَعَهُ فِي الصَّلَاةِ حَنِثَ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَدَاءُ الصَّلَاةِ مُقَارِنًا لِلْإِمَامِ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَعَ هَهُنَا لَا يُرَادُ بِهَا حَقِيقَةُ الْقُرْآنِ بَلْ كَوْنُهُ تَابِعًا لَهُ مُقْتَدِيًا بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَفْعَالَهُ وَانْتِقَالَهُ مِنْ رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ لَوْ حَصَلَ عَلَى التَّعَاقُبِ دُونَ الْمُقَارَنَةِ عُرِفَ مُصَلِّيًا مَعَهُ كَذَا هَهُنَا وَقَدْ وُجِدَ لِبَقَائِهِ مُقْتَدِيًا بِهِ تَابِعًا لَهُ وَلَوْ نَوَى حَقِيقَةَ الْمُقَارَنَةِ صَدَقَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَحُجُّ حَجَّةً أَوْ قَالَ لَا أَحُجُّ وَلَمْ يَقُلْ حَجَّةً لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَطُوفَ أَكْثَرَ طَوَافِ الزِّيَادَةِ لِأَنَّ حَجَّةً اسْمٌ لِعِبَادَةٍ رُكِّبَتْ مِنْ أَجْنَاسِ أَفْعَالٍ كَالصَّلَاةِ مِنْ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ كُلُّ الطَّوَافِ أَوْ أَكْثَرُهُ لَا يُوجَدُ الْحَجُّ فَإِنْ جَامَعَ فِيهَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ فَيَقَعُ الْيَمِينُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهُ كَالصَّلَاةِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَعْتَمِرُ فَأَحْرَمَ وَطَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ حَنِثَ لِأَنَّ رُكْنَ الْعُمْرَةِ هُوَ الطَّوَافُ وَقَدْ وُجِدَ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ. قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ قَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً بَعْدَ امْرَأَةٍ فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً ثُمَّ ثِنْتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى إحْدَى الْأَخِيرَتَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بَعْدَ امْرَأَةٍ وَإِنْ كَانَ مَعَهَا غَيْرُهَا فَوَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى إحْدَاهُمَا فَكَانَ لَهُ التَّعْيِينُ وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بَعْدَهُمَا طَلُقَتْ الْأَخِيرَةُ لِأَنَّهُ قَدْ تَزَوَّجَ بِهَا بَعْدَ امْرَأَةٍ وَالْأُولَيَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا بَعْدَ الْأُخْرَى فَكَانَتْ الْأُخْرَى هِيَ الْمُسْتَحَقَّةُ لِلشَّرْطِ وَلَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ صَبِيَّةً طَلُقَتْ لِأَنَّ غَرَضَهُ بِهَذِهِ الْيَمِينِ هُوَ الِامْتِنَاعُ مِنْ النِّكَاحِ فَيَتَنَاوَلُ الْبَالِغَةَ وَالصَّبِيَّةَ فَصَارَ قَوْلُهُ امْرَأَةً كَقَوْلِهِ أُنْثَى قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ إنْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ فَهُمَا طَالِقَتَانِ فَتَزَوَّجَ ثَلَاثًا فِي عُقْدَةٍ فَإِنَّهُ تَطْلُقُ امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِ فَوَقَعَ عَلَى ثِنْتَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ قَدْ تَزَوَّجَ بِاثْنَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا ثَالِثَةٌ وَلَيْسَ أَحَدَاهُنَّ بِالطَّلَاقِ بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيَرْجِعُ إلَى تَعْيِينِهِ قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي نَوَادِرِهِ فِي رَجُلٍ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُزَوِّجُ ابْنَتِي الصَّغِيرَةَ فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَأَجَازَ قَالَ هُوَ حَانِثٌ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ فَتَتَعَلَّقُ بِالْمُجِيزِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يُزَوِّجُ ابْنًا لَهُ كَبِيرًا فَأَمَرَ رَجُلًا فَزَوَّجَهُ ثُمَّ بَلَغَ الِابْنُ فَأَجَازَ أَوْ زَوَّجَهُ رَجُلٌ وَأَجَازَ الْأَبُ وَرَضِيَ الِابْنُ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَمَّا لَمْ تَتَعَلَّقْ بِالْعَاقِدِ تَعَلَّقَتْ بِالْمُجِيزِ فَنُسِبَ الْعَقْدُ إلَيْهِ. هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي نَوَادِرِهِ فِي رَجُلٍ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ ثَلَاثًا لَا يُزَوِّجُ بِنْتًا لَهُ صَغِيرَةً فَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِهِ أَوْ غَرِيبٌ وَالْأَبُ حَاضِرٌ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ حِينَ زُوِّجَتْ إلَّا أَنَّهُ سَاكِتٌ حَتَّى قَالَ الَّذِي زَوَّجَ لِلَّذِي خَطَبَ قَدْ زَوَّجْتُكهَا. وَقَالَ الْآخَرُ قَدْ قَبِلْت وَالْأَبُ سَاكِتٌ ثُمَّ قَالَ بَعْدَمَا وَقَعَتْ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ قَدْ أَجَزْت النِّكَاحَ فَزَعَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الَّذِي زَوَّجَ غَيْرُهُ وَإِنَّمَا أَجَازَهُ هُوَ وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ عَلَى أَمَتِهِ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى التَّزْوِيجِ وَالْإِجَازَةُ تُسَمَّى نِكَاحًا وَتَزْوِيجًا فَقَدْ فَعَلَ مَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الِاسْمُ فَلَا يَحْنَثُ. وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي نَوَادِرِهِ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ أَمْرِهَا زَوَّجَهُ وَلِيُّهَا ثُمَّ حَلَفَ الْمُتَزَوِّجُ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَهَا أَبَدًا ثُمَّ بَلَغَهَا فَرَضِيَتْ بِالنِّكَاحِ أَوْ كَانَ رَجُلٌ زَوَّجَهَا مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ثُمَّ حَلَفَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُهَا ثُمَّ بَلَغَهُ النِّكَاحُ فَأَجَازَ لَمْ يَحْنَثْ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّجْ بَعْدَ يَمِينِهِ أَنَّمَا أَجَازَ نِكَاحًا قَبْلَ يَمِينِهِ أَوْ أَجَازَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ لَوْ قَالَ لَا أَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ بِالْكُوفَةِ فَزَوَّجَهَا أَبُوهَا إيَّاهُ بِالْكُوفَةِ ثُمَّ أَجَازَتْ بِبَغْدَادَ كَانَ حَانِثًا وَإِنَّمَا أَجَازَ السَّاعَةَ بِإِجَازَتِهَا النِّكَاحَ الَّذِي كَانَ بِالْكُوفَةِ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْجَامِعِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِجَازَةَ لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ لِأَنَّ النِّكَاحَ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ

فَعِنْدَ انْضِمَامِ الْإِجَازَةِ إلَيْهِمَا كَانَ النِّكَاحُ حَاصِلًا بِالْكُوفَةِ فَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فَيَحْنَثُ وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ فَصَارَ مَعْتُوهًا فَزَوَّجَهُ إيَّاهَا أَبُوهُ قَالَ هُوَ حَانِثٌ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي النِّكَاحِ تَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ لَهُ فَكَانَ هُوَ الْمُتَزَوِّجَ فَحَنِثَ قَالَ الْمُعَلَّى سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ امْرَأَةٍ حَلَفَتْ لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا مِنْ فُلَانٍ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ رَجُلٌ بِأَمْرِهَا فَهِيَ حَانِثَةٌ وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّجَهَا رَجُلٌ فَرَضِيَتْ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ بِكْرًا فَزَوَّجَهَا أَبُوهَا فَسَكَتَتْ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا جَازَ بِرِضَاهَا وَحُقُوقُهُ تَتَعَلَّقُ بِهَا فَصَارَ كَأَنَّهَا عَقَدَتْ بِنَفْسِهَا وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ رِوَايَةِ هِشَامٍ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْذَنُ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَرَآهُ يَشْتَرِي وَيَبِيعُ أَنَّهُ إنْ سَكَتَ كَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ لِأَنَّ السُّكُوت إذْنٌ مِنْهُ فَكَأَنَّهُ إذْنٌ مِنْهُ لَهُ بِالنُّطْقِ. وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ السُّكُوتَ لَيْسَ بِإِذْنٍ وَإِنَّمَا هُوَ إسْقَاطُ حَقِّهِ عَنْ الْمَنْعِ مِنْ تَصَرُّفِ الْعَبْدِ ثُمَّ الْعَبْدُ يَتَصَرَّفُ بِمَالِكِيَّةِ نَفْسِهِ بَعْدَ زَوَالِ الْحَجْرِ فَإِنْ حَلَفَ لَا يُسَلِّمُ لِفُلَانٍ شُفْعَةً فَبَلَغَهُ أَنَّهُ اشْتَرَى دَارًا هُوَ شَفِيعُهَا فَسَكَتَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ السَّاكِتَ لَيْسَ بِمُسَلِّمٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُسْقِطٌ حَقَّهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الطَّلَبِ. قَالَ عَمْرٌو عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لَا يُزَوِّجُ عَبْدَهُ فَتَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى يَحْنَثُ. وَلَوْ حَلَفَ الْأَبُ لَا يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ فَزَوَّجَهَا عَمُّهَا وَأَجَازَ الْأَبُ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ غَرَضَ الْمَوْلَى بِالْيَمِينِ أَنْ لَا تَتَعَلَّقَ بِرَقَبَةِ عَبْدِهِ حُقُوقُ النِّكَاحِ وَقَدْ عَلَّقَ بِالْإِجَازَةِ وَغَرَضَ الْأَبِ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا يُسَمَّى نِكَاحًا وَالْإِجَازَةُ لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَبِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَوْ حَلَفَ لَا يُؤَخِّرُ عَنْ فُلَانٍ حَقَّهُ شَهْرًا وَسَكَتَ عَنْ تَقَاضِيهِ حَتَّى مَضَى الشَّهْرُ لَمْ يَحْنَثْ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ هُوَ التَّأْجِيلُ وَتَرْكُ التَّقَاضِي لَيْسَ بِتَأْجِيلٍ قَالَ وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً حَلَفَتْ لَا تَأْذَنُ فِي تَزْوِيجِهَا وَهِيَ بِكْرٌ فَزَوَّجَهَا أَبُوهَا فَسَكَتَتْ فَإِنَّهَا لَا تَحْنَثُ وَالنِّكَاحُ لَهَا لَازِمٌ لِأَنَّ السُّكُوتَ لَيْسَ بِإِذْنٍ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا أُقِيمَ مَقَامَ الْإِذْنِ بِالسُّنَّةِ وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ ثَوْبَهُ إلَّا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَبَاعَهُ بِخَمْسَةٍ وَدِينَارٍ حَنِثَ لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ كُلِّ بَيْعٍ وَاسْتَثْنَى بَيْعَهُ بِصِفَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِعَشَرَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ فَبَقِيَ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَإِنْ بَاعَهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ بَاعَهُ بِعَشَرَةٍ وَبِغَيْرِهَا وَالْعَشَرَةُ مُسْتَثْنَى. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَبِيعُك هَذَا الثَّوْبَ بِعَشَرَةٍ حَتَّى تَزِيدَنِي فَبَاعَهُ بِتِسْعَةٍ لَا يَحْنَثُ فِي الْقِيَاسِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَحْنَثُ وَبِالْقِيَاسِ آخُذُ (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ الْبَيْعُ بِعَشَرَةٍ وَمَا بَاعَ بِعَشَرَةٍ بَلْ بِتِسْعَةٍ (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ فِي الْعُرْفِ أَنْ لَا يَبِيعُهُ إلَّا بِالْأَكْثَرِ مِنْ عَشَرَةٍ وَقَدْ بَاعَهُ لَا بِأَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ فَيَحْنَثُ. وَقَالَ الْمُعَلَّى عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ هَذَا الثَّوْبَ بِعَشَرَةٍ إلَّا بِزِيَادَةٍ قَالَ إنْ بَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ أَوْ بِعَشَرَةٍ فَإِنَّهُ حَانِثٌ. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَا أَبِيعُهُ إلَّا بِزِيَادَةٍ عَلَى عَشَرَةٍ لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ كُلِّ بَيْعٍ وَاسْتَثْنَى بَيْعًا وَاحِدًا وَهُوَ الَّذِي يَزِيدُ ثَمَنُهُ عَلَى عَشَرَةٍ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا أَبِيعُ هَذَا الثَّوْبَ بِعَشَرَةٍ إلَّا بِزِيَادَةٍ أَيْ لَا أَبِيعُهُ إلَّا بِزِيَادَةٍ عَلَى الْعَشَرَةِ لِيَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَمَا بَاعَهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى عَشَرَةٍ فَيَحْنَثَ وَلَوْ قَالَ حَتَّى ازْدَادَ فَبَاعَهُ بِعَشَرَةٍ حَنِثَ وَإِنْ بَاعَهُ بِأَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى بَيْعٍ بِصِفَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِعَشَرَةٍ فَإِذَا بَاعَ بِتِسْعَةٍ لَمْ يُوجَدْ الْبَيْعُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَلَوْ قَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ اشْتَرَاهُ بِاثْنَيْ عَشَرَ فَاشْتَرَاهُ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِينَارًا حَنِثَ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ زِيَادَةٌ. وَلَوْ قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ أَوْ آخِرُ عَبْدٍ أَوْ أَوْسَطُ عَبْدٍ فَالْأَوَّلُ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ وَالْآخِرُ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ اسْمٌ لِفَرْدٍ لَاحِقٍ وَالْأَوْسَطُ اسْمٌ لِفَرْدٍ اكْتَنَفَتْهُ حَاشِيَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ إذَا قَالَ أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا وَاحِدًا بَعْدَ يَمِينِهِ عَتَقَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ عَبْدٍ اشْتَرَاهُ لِكَوْنِهِ فَرْدًا لَمْ يَتَقَدَّمْهُ غَيْرُهُ فِي الشِّرَاءِ فَإِنْ اشْتَرَى عَبْدًا وَنِصْفَ عَبْدٍ عَتَقَ الْعَبْدُ الْكَامِلُ لَا غَيْرُ لِأَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ لَا يُسَمَّى عَبْدًا فَصَارَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا وَثَوْبًا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَوَّلُ كُرٍّ أَشْتَرِيهِ صَدَقَةٌ فَاشْتَرَى كُرًّا وَنِصْفًا لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْكُرَّ لَيْسَ بِأَوَّلٍ بِدَلِيلِ أَنَّا لَوْ عَزَلْنَا كُرًّا فَالنِّصْفُ الْبَاقِي مَعَ نِصْفِ الْمَعْزُولِ يُسَمَّى كُرًّا فَلَمْ يَكُنْ هَذَا أَوَّلَ كُرٍّ اشْتَرَاهُ فَإِنْ كَانَ أَوَّلَ مَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَلَا يَعْتِقُ مَا اشْتَرَى بَعْدَهُمَا أَيْضًا لِانْعِدَامِ مَعْنَى الِانْفِرَادِ فِيهِمَا وَلِانْعِدَامِ مَعْنَى السَّبْقِ فِيمَا بَعْدَهُمَا وَلَوْ قَالَ آخِرُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَهَذَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا وَاحِدًا بَعْدَ غَيْرِهِ أَوْ يَمُوتَ الْمَوْلَى لِأَنَّ عِنْدَهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ آخِرٌ لِجَوَازِ أَنْ يَشْتَرِيَ غَيْرَهُ مَا دَامَ حَيًّا وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ عِتْقِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَعْتِقُ

فصل في الحلف على أمور متفرقة

يَوْمَ اشْتَرَاهُ حَتَّى يَعْتِقَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَعْتِقُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ وَيَعْتِقُ مِنْ الثُّلُثِ وَسَنَذْكُرُ هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ وَلَوْ قَالَ أَوْسَطُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَكُلُّ فَرْدٍ لَهُ حَاشِيَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ فِيمَا قِبَلَهُ وَفِيمَا بَعْدَهُ فَهُوَ أَوْسَطُ وَلَا يَكُونُ الْأَوَّلُ وَلَا الْآخِرُ وَسَطًا أَبَدًا وَلَا يَكُونُ الْوَسَطُ إلَّا فِي وِتْرٍ وَلَا يَكُونُ فِي شَفْعٍ فَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ عَبْدًا ثُمَّ عَبْدًا فَالثَّانِي هُوَ الْأَوْسَطُ فَإِنْ اشْتَرَى رَابِعًا خَرَجَ الثَّانِي مِنْ أَنْ يَكُونَ أَوْسَطَ فَإِنْ اشْتَرَى خَامِسًا صَارَ الثَّالِثُ هُوَ الْأَوْسَطَ فَإِنْ اشْتَرَى سَادِسًا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَوْسَطَ وَعَلَى هَذَا كُلَّمَا صَارَ الْعَدَدُ شَفْعًا فَلَا وَسَطَ لَهُ وَكُلُّ مَنْ حَصَلَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَسَطًا. [فَصْلٌ فِي الْحَلِفِ عَلَى أُمُورٍ مُتَفَرِّقَةٍ] (فَصْلٌ) : (وَأَمَّا) الْحَلِفُ عَلَى أُمُورٍ مُتَفَرِّقَةٍ إذَا قَالَ إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حِنْطَةً فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَإِذَا هِيَ حِنْطَةٌ وَتَمْرٌ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ كَوْنَ الْجُمْلَةِ حِنْطَةً وَالْجُمْلَةُ لَيْسَتْ بِحِنْطَةٍ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ وَلَوْ قَالَ إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ إلَّا حِنْطَةً فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَكَانَتْ تَمْرًا وَحِنْطَةً يَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَلَا يَحْنَثُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كَانَتْ الْجُمْلَةُ كُلُّهَا حِنْطَةً لَا يَحْنَثُ بِلَا خِلَافٍ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: إنَّ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ إنْ كَانَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ غَيْرُ حِنْطَةٍ فَامْرَأَتُهُ كَذَا وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ غَيْرَ حِنْطَةٍ فَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فَيَحْنَثُ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ إنَّ الْمُسْتَثْنَى لَا يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ تَحْتَ الْيَمِينِ إنَّمَا الدَّاخِلُ تَحْتَهَا الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ لَا وُجُودُ الْمُسْتَثْنَى وَإِذَا لَمْ يُعْتَبَرْ وُجُودُهُ لَا يُعْلَمُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَنَّهُ وُجِدَ أَمْ لَا فَلَا يَحْنَثُ وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالَ فِي الْجَامِعِ إنْ كَانَ لِي إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَكَانَ لَهُ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ مُسْتَثْنَاةٌ فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُهَا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ إنْ كَانَ الْحَلِفُ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا يَحْنَثُ وَإِنْ كَانَ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَلْزَمْهُ الْكَذِبُ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذَا حَلِفٌ عَلَى أَمْرٍ مَوْجُودٍ فَإِنْ كَانَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ أَوْ نَذْرٍ لَزِمَهُ وَإِنْ كَانَ بِاَللَّهِ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إنْ كَانَتْ الْجُمْلَةُ سِوَى الْحِنْطَةِ أَوْ غَيْرَ الْحِنْطَةِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ إلَّا حِنْطَةً لِأَنَّ غَيْرَ وَسِوَى مِنْ أَلْفَاظِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ وَاَللَّهِ مَا دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ ثُمَّ قَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَهَا فَإِنَّ عَبْدَهُ لَا يَعْتِقُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ وَاَللَّهِ مَا دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا وَهُوَ عَالِمٌ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّهَا يَمِينُ غَمُوسٍ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَهِيَ يَمِينُ اللَّغْوِ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَأَمَّا عَدَمُ عِتْقِ عَبْدِهِ فَلِأَنَّ الْحِنْثَ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى لَيْسَ مِمَّا يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ حَتَّى يَصِيرَ الْحُكْمُ بِهِ إكْذَابًا لِلثَّانِيَةِ لِأَنَّهَا يَمِينٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّهَا لَا تَدْخُلُ تَحْتَ حُكْمِ الْحَاكِمِ فَلَمْ يَصِرْ مُكَذَّبًا فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ بِالْيَمِينِ الْأُولَى فِي الْحُكْمِ فَلَا يَعْتِقُ الْعَبْدُ فَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ الْأُولَى بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ حَنِثَ فِي الْيَمِينَيْنِ جَمِيعًا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ إذَا قَالَ بَعْدَمَا حَلَفَ بِالْأُولَى أَوْ هَمَّتْ أَوْ نِيسَتْ أَوْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ آخَرَ أَوْ عَتَاقٍ أَنَّهُ دَخَلَهَا لَزِمَهُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْآخَرُ وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ أَكَذَبَ نَفْسَهُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْيَمِينَيْنِ بِالْأُخْرَى وَأَعْتَرِف بِوُقُوعِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَيَحْنَثُ وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّهُ أَكَذَبَ نَفْسَهُ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى بِالْآخِرَةِ وَلَمْ يُكْذِبْ نَفْسَهُ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ بَعْدَمَا عَقَدَهَا وَالْأَكْذَبُ قَبْلَ عَقْدِهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فَلَمْ يَحْنَثْ فِيهَا فَإِنْ رَجَعَ فَحَلَفَ ثَالِثًا لَمْ يَعْتِقْ الثَّالِثُ وَعَتَقَ الثَّانِي لِأَنَّهُ أَكَذَبَ نَفْسَهُ فِي الْيَمِينِ بَعْدَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ أَمَةً فَقَالَ لَهَا إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ فَمَاتَ الْمَوْلَى وَهُوَ وَارِثُهُ لَا وَرَاثَ لَهُ غَيْرُهُ طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا تَطْلُقُ وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَمَاتَ وَهُوَ وَارِثُهُ لَمْ يَعْتِقْ فِي قَوْلِهِمَا وَتَعْتِقُ عِنْدَ زُفَرَ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَرْجِعُ إلَى مَعْرِفَةِ أَوَانِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ فَزُفَرُ يَقُولُ وَقْتُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ عَقِيبَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ بِلَا فَصْلٍ فَكَمَا مَاتَ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْوَارِثِ فَقَدْ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى حَالِ الْمِلْكِ فَتَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَيْهِ وَلَمْ تَصِحَّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ لِأَنَّ حَالَ الْمِلْكِ حَالُ زَوَالِ النِّكَاحِ فَلَمْ تَصِحَّ كَمَا إذَا قَالَ لَهَا إذَا مَلَكْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ إنَّ الْمِلْكَ لِلْوَارِثِ يَثْبُتُ لَهُ عَقِيبَ زَوَالِ مِلْكِ الْمُوَرِّثِ فَيَزُولُ مِلْكُ الْمَيِّتِ عَقِيبَ الْمَوْتِ أَوَّلًا ثُمَّ يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ

كتاب الطلاق

مُضَافَانِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِلَا فَصْلٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ زَمَانُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ لَمْ تَصِحَّ إضَافَةُ الْعِتْقِ إلَيْهِ إذْ الْعِتْقُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ أَوْ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ وَصِحَّةُ إضَافَةِ الطَّلَاقِ لِانْعِدَامِ الْإِضَافَةِ إلَى حَالَةِ زَوَالِ النِّكَاحِ فَصَحَّتْ الْإِضَافَةُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ الْقِيَاسُ مَا قَالَ زُفَرُ إنَّ الْمِلْكَ لِلْوَارِثِ لَهُ يَثْبُتُ عَقِيبَ الْمَوْتِ بِلَا فَصْلٍ فَقَدْ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى زَمَانِ بُطْلَانِ النِّكَاحِ فَلَمْ يَصِحَّ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ إضَافَةُ الْعِتْقِ إلَيْهِ إلَّا إنِّي اسْتَحْسَنْتُ أَنْ لَا تَصِحَّ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إزَالَةُ الْمِلْكِ وَالْإِزَالَةُ تَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الثُّبُوتِ وَالْعِتْقُ مَعَ الْمِلْكِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَلَوْ قَالَ إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَمَلَكْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَمَاتَ الْمَوْلَى وَالزَّوْجُ وَارِثُهُ عَتَقَتْ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى الْمِلْكِ وَلَوْ قَالَ إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَمَلَكْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ فِي قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَهَا فَقَدْ زَالَ النِّكَاحُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الطَّلَاقُ وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِأَمَتِهِ إذَا مَاتَ فُلَانٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ فُلَانٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ قَالَ لَهَا إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى وَهُوَ وَارِثُهُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا يَقَعُ الْعَتَاقُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَقَعَانِ جَمِيعًا. وَقَالَ زُفَرُ يَقَعُ الْعَتَاقُ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ أَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَعَدَمُ الْوُقُوعِ عَلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ وَعَدَمُ ثُبُوتِ الْعِتْقِ عَلَى قَوْلِهِمَا فَلِمَا ذَكَرْنَا وَزُفَرُ يَقُولُ وُجِدَ عَقْدُ الْيَمِينِ فِي مِلْكِهِ وَالشَّرْطُ فِي مِلْكِهِ فَمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ كَمَنْ قَالَ لِأَمَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ حُرَّةٌ ثُمَّ بَاعَهَا وَاشْتَرَاهَا فَدَخَلَتْ الدَّارَ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الطَّلَاقِ] [الطَّلَاقِ بِحَقِّ الصِّفَةِ وَهُوَ نَوْعَانِ سُنَّة وَبِدْعَة] (كِتَابُ الطَّلَاقِ) : قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ يَقَعُ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ. فِي بَيَانِ صِفَةِ الطَّلَاقِ وَفِي بَيَانِ قَدْرِهِ وَفِي بَيَانِ رُكْنِهِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالطَّلَاقُ بِحَقِّ الصِّفَةِ نَوْعَانِ: طَلَاقُ سُنَّةٍ وَطَلَاقُ بِدْعَةٍ، وَإِنْ شِئْت قُلْتَ طَلَاقٌ مَسْنُونٌ وَطَلَاقٌ مَكْرُوهٌ أَمَّا. طَلَاقُ السُّنَّةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي تَفْسِيرِ طَلَاقِ السُّنَّةِ: أَنَّهُ مَا هُوَ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا طَلَاقُ السُّنَّةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَطَلَاقُ السُّنَّةِ نَوْعَانِ؛ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْعَدَدِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعَانِ حَسَنٌ وَأَحْسَنُ، وَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَصْنَافِ النِّسَاءِ، وَهُنَّ فِي الْأَصْلِ عَلَى صِنْفَيْنِ حَرَائِرُ وَإِمَاءٌ وَكُلُّ صِنْفٍ عَلَى صِنْفَيْنِ حَائِلَاتٌ وَحَامِلَاتٌ، وَالْحَائِلَاتُ عَلَى صِنْفَيْنِ ذَوَاتُ الْإِقْرَاءِ وَذَوَاتُ الْأَشْهُرِ. إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أَحْسَنُ الطَّلَاقِ فِي ذَوَاتِ الْقُرْءِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ وَلَا طَلَاقَ وَلَا فِي حَيْضَةِ طَلَاقٍ وَلَا جِمَاعٍ وَيَتْرُكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ثَلَاثُ حَيْضَاتٍ إنْ كَانَتْ حُرَّةً وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً حَيْضَتَانِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَحْسِنُونَ أَنْ لَا يُطَلِّقُوا لِلسُّنَّةِ إلَّا وَاحِدَةً ثُمَّ لَا يُطَلِّقُوا غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ فِي الْحِكَايَةِ عَنْهُمْ: وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ ثَلَاثَةً فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ وَلِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِمَكَانِ احْتِمَالِ النَّدَمِ، وَالطَّلَاقُ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ النَّدَمِ لِأَنَّ الطُّهْرَ الَّذِي لَا جِمَاعَ فِيهِ زَمَانُ كَمَالِ الرَّغْبَةِ. وَالْفَحْلُ لَا يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فِي زَمَانِ كَمَالِ الرَّغْبَةِ إلَّا لِشِدَّةِ حَاجَتِهِ إلَى الطَّلَاقِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ النَّدَمُ فَكَانَ طَلَاقٌ لِحَاجَةٍ فَكَانَ مَسْنُونًا، وَلَوْ لَحِقَهُ النَّدَمُ فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى التَّدَارُكِ مِنْ الثَّلَاثِ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ فَكَانَ أَحْسَنَ وَإِنَّمَا شَرَطَا أَنْ يَكُونَ فِي طُهْرٍ لَا طَلَاقَ فِيهِ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ أَوْ الطَّلْقَتَيْنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ مَكْرُوهٌ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا شَرَطْنَا أَنْ لَا يَكُونَ فِي حَيْضَةِ جِمَاعٍ وَلَا طَلَاقَ لِأَنَّهُ إذَا جَامَعَهَا فِي حَيْضِ هَذَا الطُّهْرِ اُحْتُمِلَ أَنَّهُ وَقَعَ الْجِمَاعُ مُعَلَّقًا فَيَظْهَرُ الْحَبَلُ فَيَنْدَمُ عَلَى صَنِيعِهِ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ طَلَّقَ لَا لِحَاجَةٍ وَإِذَا طَلَّقَهَا فِيهِ فَالطَّلَاقُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي بَعْدَهُ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَيْضَةَ لَا يُعْتَدُّ بِهَا وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ يُكْرَه لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى فِيهِ فَكَذَا إذَا طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ ثُمَّ طَهُرَتْ. وَأَمَّا فِي الْحَامِلِ إذَا اسْتَبَانَ حَمْلُهَا فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً وَإِنْ كَانَ قَدْ جَامَعَهَا وَطَلَّقَهَا عَقِيبَ الْجِمَاعِ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي ذَوَاتِ الْقُرْءِ لِاحْتِمَالِ النَّدَامَةِ لَا لِاحْتِمَالِ الْحَبَلِ فَمَتَى طَلَّقَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِالْحَبَلِ فَالظَّاهِرُ

أَنَّهُ لَا يَنْدَمُ، وَكَذَلِكَ فِي ذَوَاتِ الشَّهْرِ مِنْ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ الْأَحْسَنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً وَإِنْ كَانَ عَقِيبَ طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ يُفْصَلُ بَيْنَ طَلَاقِ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَبَيْنَ جِمَاعِهِمَا بِشَهْرٍ وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ أُقِيمَ مَقَامَ الْحَيْضَةِ فِيمَنْ تَحِيضُ ثُمَّ يُفْصَلُ فِي طَلَاقِ السُّنَّةِ بَيْنَ الْوَطْءِ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ بِحَيْضَةٍ، فَكَذَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا فِيمَنْ لَا تَحِيضُ بِشَهْرٍ كَمَا يُفْصَلُ بَيْنَ التَّطْلِيقَتَيْنِ وَلَنَا أَنَّ كَرَاهَةَ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي وُجِدَ الْجِمَاعُ فِيهِ فِي ذَوَاتِ الْإِقْرَاءِ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَحْبَلَ بِالْجِمَاعِ فَيَنْدَمَ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَإِنْ وُجِدَ الْجِمَاعُ؛ وَلِأَنَّ الْإِيَاسَ وَالصِّغَرَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَوْقَ الْحَيْضَةِ فِي ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَلَمَّا جَازَ الْإِيقَاعُ ثَمَّةَ عَقِيبَ الْحَيْضَةِ فَلَأَنْ يَجُوزَ هُنَا عَقِيبَ الْجِمَاعِ أَوْلَى. وَأَمَّا الْحُسْنُ فِي الْحُرَّةِ الَّتِي هِيَ ذَاتُ الْقُرْءِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ لَا جِمَاعَ فِيهَا بِأَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ ثُمَّ إذَا حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى وَطَهُرَتْ طَلَّقَهَا أُخْرَى ثُمَّ إذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ طَلَّقَهَا أُخْرَى وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ثُمَّ إذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ طَلَّقَهَا أُخْرَى وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ لَا أَعْرِفُ طَلَاقَ السُّنَّةِ إلَّا أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً وَيَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الطَّلَاقَ الْمَسْنُونَ هُوَ الطَّلَاقُ لِحَاجَةٍ، وَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ فَكَانَتْ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ تَطْلِيقًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَيُكْرَهُ لِهَذَا أَكْرَهُ الْجَمْعَ كَذَا التَّفْرِيقُ إذْ كُلُّ ذَلِكَ طَلَاقٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أَيْ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ كَذَا فَسَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ «عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَالَةَ الْحَيْضِ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَخْطَأْتَ السُّنَّةَ مَا هَكَذَا أَمَرَكَ رَبُّكَ إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا فَتُطَلِّقَهَا لِكُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطَّلَاقَ لِلْعِدَّةِ بِالثَّلَاثِ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِهِ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ النَّدْبُ، وَالْمَنْدُوبُ إلَيْهِ يَكُونُ حَسَنًا وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَّ عَلَى كَوْنِهِ سُنَّةً حَيْثُ قَالَ: " إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا فَتُطَلِّقَهَا لِكُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً " وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ فِي حِكَايَتِهِ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَحْسَنَ مِنْ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا كَانَ هَذَا حَسَنًا فِي نَفْسِهِ ضَرُورَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ تَطْلِيقٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَمَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى حَسْمِ بَابِ نِكَاحِ امْرَأَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ لِمَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ نِكَاحَهَا لَيْسَ بِسَبَبِ الْمَصْلَحَةِ لَهُ دُنْيَا وَدِينًا لَكِنْ يَمِيلُ قَلْبُهُ إلَيْهَا لِحُسْنِ ظَاهِرِهَا فَيَحْتَاجُ إلَى الْحَسْمِ عَلَى وَجْهٍ يَنْسَدُّ بَابُ الْوُصُولِ إلَيْهَا وَلَا يَلْحَقُهُ النَّدَمُ غَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ هَذِهِ الْحَاجَةِ بِالثَّلَاثِ جُمْلَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا تُعَقِّبُ النَّدَمَ عَسَى وَلَا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ فَيَقَعَ فِي الزِّنَا فَيَحْتَاجَ إلَى إيقَاعِ الثَّلَاثِ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، فَيُطَلِّقَهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ وَيُجَرِّبُ نَفْسَهُ أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا؟ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ رَاجَعَهَا وَإِنْ أَمْكَنَهُ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً أُخْرَى فِي الطُّهْرِ الثَّانِي وَيُجَرِّبُ نَفْسَهُ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا ثَالِثَةً فِي الطُّهْرِ الثَّالِثِ فَيَنْحَسِمُ بَابُ النِّكَاحِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَدَمٍ يَلْحَقُهُ ظَاهِرًا أَوْ غَالِبًا، فَكَانَ إيقَاعُ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ طَلَاقًا لِحَاجَةٍ فَكَانَ مَسْنُونًا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِدَلِيلِ الْحَاجَةِ لَا بِحَقِيقَتِهَا لِكَوْنِهَا أَمْرًا بَاطِنًا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ فَيُقَامُ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ مَقَامَ الْحَاجَةِ إلَى الطَّلَاقِ فَكَانَ تَكْرَارُ الطُّهْرِ دَلِيلَ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إذَا وَقَعَ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ فَقَدْ مَضَى مِنْ عِدَّتِهَا حَيْضَتَانِ إنْ كَانَتْ حُرَّةً لِأَنَّ الْعِدَّةَ بِالْحَيْضِ عِنْدَنَا، وَبَقِيَتْ حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَإِنْ وَقَعَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَانِ فِي طُهْرَيْنِ فَقَدْ مَضَتْ مِنْ عِدَّتِهَا حَيْضَةٌ وَبَقِيَتْ حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا حَاضَتْ حَيْضَةً أُخْرَى فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً وَإِذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا أُخْرَى، ثُمَّ إذَا مَضَى شَهْرٌ طَلَّقَهَا أُخْرَى ثُمَّ إذَا كَانَتْ حُرَّةً فَوَقَعَ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ وَمَضَى مِنْ عِدَّتِهَا شَهْرَانِ وَبَقِيَ شَهْرٌ وَاحِدٌ مِنْ عِدَّتِهَا فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ آخَرُ فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً وَوَقَعَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَانِ فِي شَهْرٍ وَبَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا نِصْفُ شَهْرٍ فَإِذَا مَضَى نِصْفُ شَهْرٍ فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ

يُطَلِّقُهَا ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَيَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ طَلَاقَيْهَا بِشَهْرٍ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُطَلِّقُ الْحَامِلَ لِلسُّنَّةِ إلَّا طَلْقَةً وَاحِدَةً وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَصْلِ: بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُمْتَدَّ طُهْرُهَا لَا تَطْلُقُ لِلسُّنَّةِ إلَّا وَاحِدَةً وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ: أَنَّ إبَاحَةَ التَّفْرِيقِ فِي الشَّرْعِ مُتَعَلِّقَةٌ بِتَجَدُّدِ فُصُولِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ كُلَّ قُرْءٍ فِي ذَوَاتِ الْإِقْرَاءِ فَصْلٌ مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ وَكُلَّ شَهْرٍ فِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ فَصْلٌ مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ، وَمُدَّةُ الْحَمْلِ كُلُّهَا فَصْلٌ وَاحِدٌ مِنْ الْعِدَّةِ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِبْرَاءِ بِهِ فِي حَقِّ الْحَامِلِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَلَا يُفْصَلُ بِالشَّهْرِ وَلِهَذَا لَمْ يُفْصَلْ فِي الْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا بِالشَّهْرِ كَذَا هَهُنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] شَرَعَ الثَّلَاثَ مُتَفَرِّقَاتٍ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْحَامِلِ وَالْحَائِلِ أَمَّا شَرْعِيَّةُ طَلْقَةٍ وَطَلْقَةٍ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] لِأَنَّ مَعْنَاهُ دَفْعَتَانِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَشَرْعِيَّةُ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] أَوْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّ الْحَامِلَ لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَيُفْصَلُ بَيْنَ طَلَاقَيْهَا بِشَهْرٍ كَالْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَالْجَامِعُ أَنَّ الْفَصْلَ هُنَاكَ بِشَهْرٍ لِكَوْنِ الشَّهْرِ زَمَانَ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ فِي الْعَادَةِ فَيَكُونُ زَمَانَ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْحَامِلِ فَيَفْصِلُ. فَأَمَّا كَوْنُ الشَّهْرِ فَصْلًا مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ فَلَا أَثَرَ لَهُ فَكَانَ مِنْ أَوْصَافِ الْوُجُودِ لَا مِنْ أَوْصَافِ التَّأْثِيرِ إنَّمَا الْمُؤَثِّرُ مَا ذَكَرْنَا فَيَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَيْهِ وَمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَصْلِ لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ لِأَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ «أَفْضَلُ طَلَاقِ الْحَامِلِ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً ثُمَّ يَدَعَهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا» وَبِهِ نَقُولُ إنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ وَلَا كَلَامَ فِيهِ وَأَمَّا الْمُمْتَدُّ طُهْرُهَا فَإِنَّمَا لَا تَطْلُقُ لِلسَّنَةِ إلَّا وَاحِدَةً لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لِأَنَّهَا قَدْ رَأَتْ الدَّمَ وَهِيَ شَابَّةٌ لَمْ تَدْخُلْ فِي حَدِّ الْإِيَاسِ إلَّا أَنَّهُ امْتَدَّ طُهْرُهَا لِدَاءٍ فِيهَا يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ سَاعَةً فَسَاعَةً فَبَقِيَ أَحْكَامُ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فِيهَا وَلَا تَطْلُقُ ذَوَاتُ الْأَقْرَاءِ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ لِلسُّنَّةِ إلَّا وَاحِدَةً وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ، وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ ثُمَّ رَاجَعَهَا بِالْقَوْلِ فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يُطَلَّقُ فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ لِلسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَلَوْ أَبَانَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ بِالْإِجْمَاعِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: إنَّ الطُّهْرَ طُهْرٌ وَاحِدٌ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ طَلَاقَيْنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ سُنَّةً كَمَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا رَاجَعَهَا فَقَدْ أَبْطَلَ حُكْمَ الطَّلَاقِ وَجَعَلَ الطَّلَاقَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَلِأَنَّهَا عَادَتْ إلَى الْحَالَةِ الْأَوْلَى بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى كَمَا إذَا أَبَانَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا رَاجَعَهَا بِالْقُبْلَةِ أَوْ بِاللَّمْسِ عَنْ شَهْوَةٍ أَوْ بِالنَّظَرِ إلَى فَرْجِهَا عَنْ شَهْوَةٍ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَمْسَكَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِشَهْوَةٍ فَقَالَ لَهَا فِي حَالِ الْمُلَامَسَةِ بِشَهْوَةٍ بِأَنْ كَانَ أَخَذَ بِيَدِهَا لِشَهْوَةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَذَلِكَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ عَلَى التَّعَاقُبِ لِلسُّنَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَتَقَعُ التَّطْلِيقَةُ الْأَوْلَى وَيَصِيرُ مُرَاجِعًا لَهَا بِالْإِمْسَاكِ عَنْ شَهْوَةٍ ثُمَّ تَقَعُ الْأُخْرَى وَيَصِيرُ مُرَاجِعًا بِالْإِمْسَاكِ ثُمَّ تَقَعُ الثَّالِثَةُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا لِلسُّنَّةِ إلَّا وَاحِدَةٌ، وَالطَّلَاقَانِ الْبَاقِيَانِ إنَّمَا يَقَعَانِ فِي الطُّهْرَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ، وَهَذَا إذَا رَاجَعَهَا بِالْقَوْلِ أَوْ بِفِعْلِ الْمَسِّ عَنْ شَهْوَةٍ،. فَأَمَّا إذَا رَاجَعَهَا بِالْجِمَاعِ بِأَنْ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ ثُمَّ جَامَعَهَا حَتَّى صَارَ مُرَاجِعًا لَهَا ثُمَّ إذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ قَدْ بَطَلَ بِالْمُرَاجَعَةِ فَبَقِيَ ذَلِكَ الطُّهْرُ طُهْرًا مُبْتَدَأً جَامَعَهَا فِيهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ هَذَا إذَا رَاجَعَهَا بِالْجِمَاعِ فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُ فَإِنْ حَمَلَتْ مِنْهُ فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا حَتَّى يَمْضِيَ شَهْرٌ مِنْ التَّطْلِيقَةِ الْأُولَى أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: هَذَا طُهْرٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ طَلَاقَيْنِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الرَّجْعَةَ أَبْطَلَتْ حُكْمَ الطَّلَاقِ وَأَلْحَقَتْهُ بِالْعَدَمِ وَكَرَاهَةُ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ لِمَكَانِ النَّدَمِ لِاحْتِمَالِ الْحَمْلِ فَإِذَا طَلَّقَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِالْحَمْلِ لَا يَنْدَمُ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ طَلَّقَهَا فِي هَذَا الطُّهْرِ وَلَكِنَّهُ جَامَعَهَا فِيهِ فَحَمَلَتْ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. وَلَوْ طَلَّقَ الصَّغِيرَةَ تَطْلِيقَةً ثُمَّ حَاضَتْ وَطَهُرَتْ قَبْلَ مُضِيِّ شَهْرٍ فَلَهُ

فصل في بيان الألفاظ التي يقع بها طلاق السنة

أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّهَا لَمَّا حَاضَتْ فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ الشَّهْرِ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا بَدَلٌ مِنْ الْحَيْضِ وَلَا حُكْمَ لِلْبَدَلِ مَعَ وُجُودِ الْمُبْدَلِ. وَأَمَّا إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ ثُمَّ أَيِسَتْ فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى حَتَّى تَيْأَسَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُطَلِّقُهَا حَتَّى يَمْضِيَ شَهْرٌ وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ هَذَا طُهْرٌ وَاحِدٌ فَلَا يَحْتَمِلُ طَلَاقَيْنِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُكْمَ الْحَيْضِ قَدْ بَطَلَ بِالْيَأْسِ وَانْتَقَلَ حَالُهَا مِنْ الْعِدَّةِ بِالْحَيْضِ إلَى الْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ وَذَلِكَ يَفْصِلُ بَيْنَ التَّطْلِيقَتَيْنِ كَالِانْتِقَالِ مِنْ الشُّهُورِ إلَى الْحَيْضِ فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ، وَهَذَا التَّفْرِيعُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي قَدَّرَتْ لِلْإِيَاسِ حَدًّا مَعْلُومًا خَمْسِينَ سَنَةً أَوْ سِتِّينَ سَنَةً، فَإِذَا تَمَّتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ بَعْدَ التَّطْلِيقَةِ جَازَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي لَمْ تُقَدِّرْ لِلْإِيَاسِ مُدَّةً مَعْلُومَةً وَإِنَّمَا عَلَّقَتْهُ بِالْعَادَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ هَذَا التَّفْرِيعُ. وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالِ الْحَيْضِ ثُمَّ رَاجَعَهَا ثُمَّ أَرَادَ طَلَاقَهَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا إذَا طَهُرَتْ ثُمَّ حَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ طَلَّقَهَا إنْ شَاءَ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَةَ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَجْهُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ: مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا طَلَّقَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ «مُرْ ابْنَك فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يَدَعْهَا إلَى أَنْ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا إنْ شَاءَ طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ» أَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَرْكِ الطَّلَاقِ إلَى غَايَةِ الطُّهْرِ الثَّانِي فَدَلَّ أَنَّ وَقْتَ طَلَاقِ السُّنَّةِ هُوَ الطُّهْرُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ وَلِأَنَّ الْحَيْضَةَ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ مِنْ الْعِدَّةِ فَكَانَ إيقَاعُ الطَّلَاقِ فِيهَا كَإِيقَاعِ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِيهَا، وَلَوْ طَلَّقَ فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِيهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِيهِ أُخْرَى كَذَا هَذَا وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ هَذَا طُهْرٌ لَا جِمَاعَ فِيهِ وَلَا طَلَاقَ حَقِيقَةً فَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ كَالطُّهْرِ الثَّانِي. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَخْطَأْتَ السُّنَّةَ مَا هَكَذَا أَمَرَكَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا فَتُطَلِّقَهَا لِكُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً» جَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطَّلَاقَ فِي كُلِّ طُهْرٍ طَلَاقًا عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ وَالطُّهْرُ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَةَ طُهْرٌ فَكَانَ الْإِيقَاعُ فِيهِ إيقَاعًا عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ فَيُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَتُحْمَلُ تِلْكَ الرِّوَايَةُ عَلَى الْأَحْسَنِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالتَّطْلِيقَةِ الْوَاحِدَةِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ، وَهَذَا أَحْسَنُ الطَّلَاقِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَلَى الْحُسْنِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالثَّلَاثِ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ؛ عَمَلًا بِهِمَا؛ جَمْعًا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا طَلَاقُ السُّنَّةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا طَلَاقُ السُّنَّةِ: فَالْأَلْفَاظُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا طَلَاقُ السُّنَّةِ نَوْعَانِ: نَصٌّ وَدَلَالَةٌ (أَمَّا) النَّصُّ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ مَدْخُولٌ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ لِلْحَالِ إنْ كَانَتْ طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ لَمْ تَقَعْ السَّاعَةَ، فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ وَقَعَتْ بِهَا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ إيقَاعُ تَطْلِيقَةٍ بِالسُّنَّةِ الْمُعَرَّفَةِ بِاللَّامِ لِأَنَّ اللَّامَ الْأُولَى لِلِاخْتِصَاصِ فَيَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ التَّطْلِيقَةُ مُخْتَصَّةً بِالسُّنَّةِ فَإِذَا أَدْخَلَ لَامَ التَّعْرِيفِ فِي السُّنَّةِ فَيَقْتَضِي اسْتِغْرَاقَ السُّنَّةِ وَهَذَا يُوجِبُ تَمَحُّضُهَا سُنَّةً بِحَيْثُ لَا يَشُوبُهَا مَعْنَى الْبِدْعَةِ أَوْ تَنْصَرِفُ إلَى السُّنَّةِ الْمُتَعَارَفَةِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ. وَالسُّنَّةُ الْمُتَعَارَفَةُ الْمَعْهُودَةُ فِي بَابِ الطَّلَاقِ مَا لَا يَشُوبُهَا مَعْنَى الْبِدْعَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا الْوَاقِعَ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ لِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ الْمُخْتَصَّةَ بِالسُّنَّةِ الْمُعَرَّفَةِ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ نَوْعَانِ: حَسَنٌ وَأَحْسَنُ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ، وَالْحَسَنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَةَ فَقَدْ نَوَى أَحَدَ نَوْعَيْ التَّطْلِيقَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالسُّنَّةِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَإِنْ أَرَادَ وَاحِدَةً بَائِنَةً لَمْ تَكُنْ بَائِنَةً لِأَنَّ لَفْظَةَ الطَّلَاقِ لَا تَدُلُّ عَلَى الْبَيْنُونَةِ وَكَذَا لَفْظُ السُّنَّةِ بَلْ تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْبَيْنُونَةِ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ لَيْسَتْ بِمَسْنُونَةٍ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَثْبُتَ بِاللَّفْظِ مَا يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ وَإِنْ نَوَى الثِّنْتَيْنِ لَمْ يَكُنْ ثِنْتَيْنِ لِأَنَّهُ عَدَدٌ مَحْضٌ بِخِلَافِ الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ كُلُّ جِنْسِ الطَّلَاقِ وَلَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: " طَالِقٌ " وَاحِدَةً وَبِقَوْلِهِ: " لِلسُّنَّةِ " أُخْرَى لَمْ يَقَعْ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِلسُّنَّةِ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ " أَنْتِ لِلسُّنَّةِ " وَنَوَى الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ وَلَوْ قَالَ " أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ لِلسُّنَّةِ " أَوْ " ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ " وَقَعَ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا تَطْلِيقَةٌ لِأَنَّهَا هِيَ

التَّطْلِيقَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِالسُّنَّةِ الْمُعَرَّفَةِ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ وَلَوْ قَالَ " أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ " وَنَوَى الْوُقُوعَ لِلْحَالِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَيَقَعُ الثَّلَاثُ مِنْ سَاعَةِ تَكَلَّمَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ وَتَتَفَرَّقُ عَلَى الْأَطْهَارِ. وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّهُ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ فَتَبْطُلُ نِيَّتُهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ " أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ " إيقَاعُ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ لِأَنَّهَا هِيَ التَّطْلِيقَاتُ الْمُخْتَصَّةُ بِالسُّنَّةِ الْمُعَرَّفَةِ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ " أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ "، وَلَوْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ وَنَوَى الْوُقُوعَ لِلْحَالِ لَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُ كَذَا هَذَا (وَلَنَا) أَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ فِي ذَاتِهِ وَإِنَّمَا الْحَظْرُ وَالْحُرْمَةُ فِي غَيْرِهِ لِمَا تَبَيَّنَ فَكَانَ كُلُّ طَلَاقٍ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ سُنَّةً، فَكَانَ إيقَاعُ الثَّلَاثِ فِي الْحَالِ إيقَاعًا عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تَنْصَرِفُ إلَى مَا لَا يَشُوبُهُ مَعْنَى الْبِدْعَةِ بِمُلَازَمَةِ الْحَرَامِ إيَّاهُ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَإِذَا نَوَى الْوُقُوعَ لِلْحَالِ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ وَلِأَنَّ السُّنَّةَ نَوْعَانِ: سُنَّةُ إيقَاعٍ وَسُنَّةُ وُقُوعٍ لِأَنَّ وُقُوعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً عُرِفَ بِالسُّنَّةِ لِمَا تَبَيَّنَ فَإِذَا نَوَى الْوُقُوعَ لِلْحَالِ فَقَدْ نَوَى أَحَدَ نَوْعَيْ السُّنَّةِ فَكَانَتْ نِيَّتُهُ مُحْتَمِلَةً لِمَا نَوَى فَصَحَّتْ وَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً أَوْ صَغِيرَةً فَقَالَ لَهَا: " أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ " وَلَا نِيَّةَ لَهُ طَلُقَتْ لِلْحَالِ وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَامَعَهَا وَكَذَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ بِقَوْلِهِ لِلْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ يَقَعُ لِلْحَالِ وَاحِدَةً وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى وَكَذَا فِي الْحَامِلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَامِلَ تَطْلُقُ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا تَطْلُقُ لِلسُّنَّةِ إلَّا وَاحِدَةً وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً لِلسُّنَّةِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ السُّنَّةِ. (وَأَمَّا) الدَّلَالَةُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْعِدَّةِ أَوْ طَلَاقَ الْعَدْلِ أَوْ طَلَاقَ الدِّينِ أَوْ طَلَاقَ الْإِسْلَامِ أَوْ طَلَاقَ الْحَقِّ أَوْ طَلَاقَ الْقُرْآنِ أَوْ طَلَاقَ الْكِتَابِ أَمَّا طَلَاقُ الْعِدَّةِ فَلِأَنَّهُ الطَّلَاقُ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ، وَطَلَاقُ الْعَدْلِ هُوَ الْمَائِلُ عَنْ الْبَاطِلِ إلَى الْحَقِّ لِأَنَّ الْعَدْلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الِاسْمُ فِي اللُّغَةِ وُضِعَ دَلَالَةً عَلَى مُطْلَقِ الْمَيْلِ كَاسْمِ الْجَوْرِ، وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَيْلِ مِنْ الْحَقِّ إلَى الْبَاطِلِ وَإِنْ وُضِعَ فِي اللُّغَةِ دَلَالَةً عَلَى مُطْلَقِ الْمَيْلِ وَالطَّلَاقُ الْمَائِلُ مِنْ الْبَاطِلِ إلَى الْحَقِّ هُوَ طَلَاقُ السُّنَّةِ وَطَلَاقُ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ وَالْكِتَابِ هُوَ مَا يَقْتَضِيهِ الدِّينُ وَالْإِسْلَامُ وَالْقُرْآنُ وَالْكِتَابُ وَهُوَ طَلَاقُ السُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ طَلَاقُ الْحَقِّ هُوَ مَا يَقْتَضِيهِ الدِّينُ إلَى الْحَقِّ وَذَلِكَ طَلَاقُ السُّنَّةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ " أَنْتِ طَالِقٌ أَحْسَنَ الطَّلَاقِ، أَوْ أَجْمَلَ الطَّلَاقِ، أَوْ أَعْدَلَ الطَّلَاقِ " لِأَنَّهُ أَدْخَلَ أَلِفَ التَّفْضِيلِ وَأَضَافَ إلَى الطَّلَاقِ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ الْوَاقِعَ عَلَى الْحُسْنِ فَيَقْتَضِي وُقُوعَ طَلَاقٍ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ بِالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالْعَدَالَةِ كَمَا إذَا قِيلَ: " فُلَانٌ أَعْلَمُ النَّاس " يُوجِبُ هَذَا مَزِيَّةً لَهُ عَلَى جَمِيعِ طَبَقَاتِ النَّاسِ فِي الْعِلْمِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ طَلَاقِ السُّنَّةِ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً حَسَنَةً أَوْ جَمِيلَةً يَقَعُ لِلْحَالِ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً عَدْلَةٌ أَوْ عَدْلِيَّةً أَوْ عَادِلَةً أَوْ سُنِّيَّةً يَقَعُ لِلسُّنَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ " أَنْتِ طَالِقٌ " لِلسُّنَّةِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً حَسَنَةً أَوْ جَمِيلَةً ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يَقَعُ لِلْحَالِ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ غَيْرَ حَائِضٍ جَامَعَهَا فِي طُهْرِهَا أَوْ لَمْ يُجَامِعْهَا وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً حَسَنَةً أَوْ جَمِيلَةً وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ قَوْلَهُ: " أَنْتِ طَالِقٌ " تَطْلِيقَةً سُنِّيَّةً، وَصَفَ التَّطْلِيقَةَ بِكَوْنِهَا سُنِّيَّةً، وَالطَّلَاقُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ فَهُوَ سُنِّيٌّ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ وَبِاقْتِرَانِ الْفَسْخِ بِهِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي ذَاتِهِ وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِصِحَّةِ الِاتِّصَافِ بِكَوْنِهَا سُنِّيَّةً، وَلَا يُشْتَرَطُ الْكَمَالُ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ يَقَعُ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَا يَنْصَرِفُ إلَى الْكَمَالِ وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ الْحَاصِلَةُ بِالثَّلَاثِ كَذَا هَهُنَا، وَلِهَذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ لِلْحَالِ فِي قَوْلِهِ " حَسَنَةً " أَوْ " جَمِيلَةً " بِخِلَافِ قَوْلِهِ " أَنْتِ طَالِقٌ " لِلسُّنَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ إيقَاعُ تَطْلِيقَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّ اللَّامَ الْأُولَى لِلِاخْتِصَاصِ كَمَا يُقَالُ: هَذَا اللِّجَامُ لِلْفَرَسِ، وَهَذَا الْإِكَافُ لِهَذِهِ الْبَغْلَةِ وَهَذَا الْقُفْلُ لِهَذَا الْبَابِ، وَاللَّامُ الثَّانِيَةُ لِلتَّعْرِيفِ فَإِنْ كَانَتْ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ وَهُوَ جِنْسُ السُّنَّةِ اقْتَضَى صِفَةَ التَّمَحُّضِ لِلسُّنَّةِ وَهُوَ أَنْ لَا يَشُوبَهَا بِدْعَةٌ وَإِنْ كَانَتْ لِتَعْرِيفِ الْمَعْهُودِ فَالسُّنَّةُ الْمَعْهُودَةُ فِي بَابِ الطَّلَاقِ مَا لَا يَشُوبُهَا مَعْنَى الْبِدْعَةِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا إيقَاعُ

فصل في طلاق البدعة

طَلَاقٍ مَوْصُوفٍ بِكَوْنِهِ سُنِّيًّا مُطْلَقًا فَلَا يَقَعُ إلَّا عَلَى صِفَةِ السُّنَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَالطَّلَاقُ السُّنِّيُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَقَعُ فِي غَيْرِ وَقْتِ السُّنَّةِ وَلِهَذَا يَقَعُ فِي وَقْتِ السُّنَّةِ فِي قَوْلِهِ " أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ " كَذَا هَذَا وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ السُّنِّيَّةِ وَبَيْنَ الْحَسَنَةِ وَالْجَمِيلَةِ، وَمَا كَانَ الْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ صِفَةً لِلطَّلَاقِ يُجْعَلُ صِفَةً لَهُ كَقَوْلِهِ سُنِّيَّةً وَعَدْلِيَّةً وَمَا كَانَ الْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ صِفَةً لِلْمَرْأَةِ يُجْعَلُ صِفَةً لَهَا كَقَوْلِهِ " حَسَنَةً وَجَمِيلَةً " لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَذْكُورَةٌ فِي اللَّفْظِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ وَالتَّطْلِيقَةُ مَذْكُورَةٌ أَيْضًا فَيُحْمَلُ عَلَى مَا يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيهِ وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ مِمَّنْ تَحِيضُ: " أَنْتِ طَالِقٌ لِلْحَيْضِ " وَقَعَ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مِنْ كُلِّ حَيْضَةٍ تَطْلِيقَةٌ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ الَّتِي يُضَافُ إلَيْهَا الطَّلَاقُ هِيَ أَطْهَارُ الْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فَقَالَ لَهَا: " أَنْتِ طَالِقٌ لِلْحَيْضِ " لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ عَلَّقَهُ لِشَرْطٍ لَمْ يُوجَدْ وَلَوْ قَالَ لَهَا وَهِيَ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ أَنْتِ طَالِقٌ لِلشُّهُورِ يَقَعُ لِلْحَالِ وَاحِدَةٌ وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى وَبَعْدَ شَهْرٍ أُخْرَى، لِأَنَّ الشُّهُورَ الَّتِي يُضَافُ إلَيْهَا الطَّلَاقُ هِيَ شُهُورُ الْعِدَّةِ. وَكَذَا الْحَامِلُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلَوْ نَوَى - بِشَيْءٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا طَلَاقُ السُّنَّةِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ الَّذِي لَا جِمَاعَ فِيهِ - الْوُقُوعَ لِلْحَالِ تَصِحُّ نِيَّتُهُ وَيَكُونُ عَلَى مَا عَنَى لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ أَمَّا فِي لَفْظِ الْأَحْسَنِ وَالْأَجْمَلِ وَالْأَعْدَلِ فَلِأَنَّ أَلِفَ التَّفْضِيلِ قَدْ تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الصِّفَةِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] أَيْ هَيِّنٌ عَلَيْهِ إذْ لَا تَفَاوُتَ لِلْأَشْيَاءِ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى قُدْرَتِهِ سَوَاءٌ وَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَلَا تُهْمَةَ فِي الْعُدُولِ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْدِيدِ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ مُصَدَّقًا وَكَذَا فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ فِي نَفْسِهِ فَكَانَ إيقَاعُهُ سُنَّةً فِي كُلِّ وَقْتٍ أَوْ لِأَنَّ وُقُوعَهُ عُرِفَ بِالسُّنَّةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ وَذَكَرَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْأَلْفَاظِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ: قِسْمٌ مِنْهَا يَكُونُ طَلَاقَ السُّنَّةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْقَضَاءِ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ، وَقِسْمٌ مِنْهَا يَكُونُ طَلَاقَ السُّنَّةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْقَضَاءِ إنْ نَوَى وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَا يَكُونُ لِلسُّنَّةِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ لِلْحَالِ، وَقِسْمٌ مِنْهَا مَا يُصَدَّقُ فِيهِ إذَا قَالَ نَوَيْتُ بِهِ طَلَاقَ السُّنَّةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَقَعُ فِي أَوْقَاتِهَا وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ بَلْ يَقَعُ لِلْحَالِ أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْعِدَّةِ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْعَدْلِ أَوْ طَلَاقَ الدِّينِ أَوْ طَلَاقَ الْإِسْلَامِ أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا عَدْلًا أَوْ طَلَاقَ عِدَّةٍ أَوْ طَلَاقَ سُنَّةٍ أَوْ أَحْسَنَ الطَّلَاقِ أَوْ أَجْمَلَ الطَّلَاقِ أَوْ طَلَاقَ الْحَقِّ أَوْ طَلَاقَ الْقُرْآنِ أَوْ طَلَاقَ الْكِتَابِ أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ أَوْ فِي السُّنَّةِ أَوْ بِالسُّنَّةِ أَوْ مَعَ السُّنَّةِ أَوْ عِنْدَ السُّنَّةِ أَوْ عَلَى السُّنَّةِ. (وَأَمَّا) الْقِسْمُ الثَّانِي: فَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دَلِيلُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ لِلسُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ لِأَنَّ فِيهِ شَرْعُ الطَّلَاقِ مُطْلَقًا فَكَانَ الطَّلَاقُ تَصَرُّفًا مَشْرُوعًا فِي نَفْسِهِ فَكَانَ كَلَامُهُ مُحْتَمِلَ الْأَمْرَيْنِ فَوُقِّفَ عَلَى نِيَّتِهِ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى الْكِتَابِ أَوْ بِالْكِتَابِ أَوْ عَلَى قَوْلِ الْقُضَاةِ أَوْ عَلَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْقُضَاةِ أَوْ طَلَاقَ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ يَقُولُونَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دَلِيلُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا لِمَا بَيَّنَّا فَكَانَ لَفْظُهُ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ فَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَقَعُ فِي وَقْتِ السُّنَّةِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلسُّنَّةِ وَاحِدَةً فَإِنَّهُ يَكْتُبُ إلَيْهَا إذَا جَاءَكِ كِتَابِي هَذَا ثُمَّ حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا يَكْتُبْ إلَيْهَا إذَا جَاءَكِ كِتَابِي هَذَا ثُمَّ حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ إذَا حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ إذَا حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الرُّقَيَّاتِ أَنَّهُ يَكْتُبُ إلَيْهَا إذَا جَاءَكِ كِتَابِي هَذَا فَعَلِمْت مَا فِيهِ ثُمَّ حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَتِلْكَ الرِّوَايَةُ أَحْوَطُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي طَلَاقِ الْبِدْعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا طَلَاقُ الْبِدْعَةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي تَفْسِيرِهِ وَفِي بَيَانِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا طَلَاقُ الْبِدْعَةِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَطَلَاقُ الْبِدْعَةِ نَوْعَانِ أَيْضًا: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْعَدَدِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ الرَّجْعِيَّةُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ إذَا كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً

لِمَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ " أَخْطَأْتَ السُّنَّةَ " وَلِأَنَّ فِيهِ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْحَيْضَةَ الَّتِي صَادَفَهَا الطَّلَاقُ فِيهِ غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ مِنْ الْعِدَّةِ فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ إضْرَارٌ بِهَا، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ لِلْحَاجَةِ هُوَ الطَّلَاقُ فِي زَمَانِ كَمَالِ الرَّغْبَةِ، وَزَمَانُ الْحَيْضِ زَمَانُ النُّفْرَةِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ فِيهِ دَلِيلَ الْحَاجَةِ إلَى الطَّلَاقِ فَلَا يَكُونُ الطَّلَاقُ فِيهِ سُنَّةً بَلْ يَكُونُ سَفَهًا. إلَّا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يُشْكِلُ بِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَالصَّحِيحُ هُوَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَإِذَا طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُرَاجِعَهَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ أَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُرَاجِعَهَا وَلِأَنَّهُ إذَا رَاجَعَهَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلسُّنَّةِ فَتَبِينُ مِنْهُ بِطَلَاقٍ غَيْرِ مَكْرُوهٍ فَكَانَتْ الرَّجْعَةُ أَوْلَى، وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْ الرَّجْعَةِ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا وَذُكِرَ فِي الْعُيُونِ أَنَّ الْأَمَةَ إذَا أُعْتِقَتْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا وَهِيَ حَائِضٌ وَكَذَلِكَ الصَّغِيرَةُ إذَا أَدْرَكَتْ وَهِيَ حَائِضٌ وَكَذَلِكَ امْرَأَةُ الْعِنِّينِ وَهِيَ حَائِضٌ وَالثَّانِي الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ الرَّجْعِيَّةُ فِي ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا حَمَلَتْ بِذَلِكَ الْجِمَاعِ وَعِنْدَ ظُهُورِ الْحَمْلِ يَنْدَمُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا لَا لِحَاجَةٍ وَفَائِدَةٍ فَكَانَ سَفَهًا فَلَا يَكُونُ سُنَّةً وَلِأَنَّهُ إذَا جَامَعَهَا فَقَدْ قَلَّتْ رَغْبَتُهُ إلَيْهَا فَلَا يَكُونُ الطَّلَاقُ فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ طَلَاقًا لِحَاجَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَمْ يَكُنْ سُنَّةً. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْعَدَدِ فَهُوَ إيقَاعُ الثَّلَاثِ أَوْ الثِّنْتَيْنِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْجَمْعِ بِأَنْ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ جُمْلَةً وَاحِدَةً أَوْ عَلَى التَّفَارِيقِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْكُلُّ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَا أَعْرِفُ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ سُنَّةً وَلَا بِدْعَةً بَلْ هُوَ مُبَاحٌ وَإِنَّمَا السُّنَّةُ وَالْبِدْعَةُ فِي الْوَقْتِ فَقَطْ احْتَجَّ بِعُمُومَاتِ الطَّلَاقِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236] شَرَعَ الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْفَرْدِ وَالْعَدَدِ وَالْمُفْتَرِقِ وَالْمُجْتَمِعِ وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ» وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عَدَدَ الطَّلَاقِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ مَشْرُوعٌ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَغَيْرُ الْمَشْرُوعِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ الْخَلِّ وَالصُّفْرِ وَنِكَاحَ الْأَجَانِبِ لَمَّا كَانَ مَشْرُوعًا كَانَ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ، وَبَيْعُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَنِكَاحُ الْمَحَارِمِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَهَهُنَا لَمَّا اُعْتُبِرَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ دَلَّ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ وَبِهَذَا عُرِفَتْ شَرْعِيَّةُ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ وَالثَّلَاثِ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ كَذَا الْمُجْتَمِعُ. (وَلَنَا) الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أَيْ فِي أَطْهَارِ عِدَّتِهِنَّ وَهُوَ الثَّلَاثُ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ كَذَا فَسَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ؛ أَمَرَ بِالتَّفْرِيقِ وَالْأَمْرُ بِالتَّفْرِيقِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ الْجَمْعِ ثُمَّ إنْ كَانَ الْأَمْرُ أَمْرَ إيجَابٍ كَانَ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ وَهُوَ الْجَمْعُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ وَإِنْ كَانَ أَمْرَ نَدْبٍ كَانَ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ وَهُوَ الْجَمْعُ نَهْيَ نَدْبٍ. وَكُلُّ ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُخَالِفِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالْآخَرَ يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَهُوَ لَا يَقُولُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وقَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] أَيْ دَفْعَتَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَعْطَى آخَرَ دِرْهَمَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ أَعْطَاهُ مَرَّتَيْنِ حَتَّى يُعْطِيَهُ دَفْعَتَيْنِ. وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْخَبَرَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى ظَاهِرِهِ يُؤَدِّي إلَى الْخُلْفِ فِي خَبَرِ مَنْ لَا يَحْتَمِلُ خَبَرُهُ الْخُلْفَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ قَدْ يُوجَدُ وَقَدْ يَخْرُجُ اللَّفْظُ مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَلَى إرَادَةِ الْجَمْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] أَيْ لِيَتَرَبَّصْنَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] أَيْ لَيُرْضِعْنَ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَذَا هَذَا، فَصَارَ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ طَلِّقُوهُنَّ مَرَّتَيْنِ إذَا أَرَدْتُمْ الطَّلَاقَ وَالْأَمْرُ بِالتَّفْرِيقِ نَهْيٌ عَنْ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْجَمْعِ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ ذَكَرَ جِنْسَ الطَّلَاقِ، وَجِنْسُ الطَّلَاقِ ثَلَاثٌ وَالثَّلَاثُ إذَا وَقَعَ دَفْعَتَيْنِ كَانَ الْوَاقِعُ فِي دَفْعَةٍ طَلْقَتَيْنِ فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الطَّلْقَتَيْنِ فِي دَفْعَةٍ مَسْنُونَتَيْنِ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ بِتَفْرِيقِ الطَّلَاقَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ لَا بِتَفْرِيقِ الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالرَّجْعَةِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ مَرَّتَيْنِ أَيْ دَفْعَتَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] أَيْ وَهُوَ الرَّجْعَةُ، وَتَفْرِيقُ الطَّلَاقِ وَهُوَ إيقَاعُهُ دَفْعَتَيْنِ لَا يَتَعَقَّبُ الرَّجْعَةَ فَكَانَ هَذَا أَمْرًا بِتَفْرِيقِ الطَّلَاقَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ لَا بِتَفْرِيقِ كُلِّ جِنْسِ الطَّلَاقِ وَهُوَ الثَّلَاثُ، وَالْأَمْرُ بِتَفْرِيقِ

طَلَاقَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَوَضَحَ وَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِالْآيَةِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. (وَأَمَّا) السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» نَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الطَّلَاقِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ الطَّلَاقِ لِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مُعْتَبَرًا شَرْعًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ بَعْدَ النَّهْيِ فَعُلِمَ أَنَّ هَهُنَا غَيْرًا حَقِيقِيًّا مُلَازِمًا لِلطَّلَاقِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَكَانَ النَّهْيُ عَنْهُ لَا عَنْ الطَّلَاقِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ مَنْ الْمُشَرَّعِ لِمَكَانِ الْحَرَامِ الْمُلَازِمِ لَهُ كَمَا فِي الطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ لَا يُؤْتَى بِرَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا إلَّا أَوْجَعَهُ ضَرْبًا وَأَجَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَيَكُونُ إجْمَاعًا. (وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مَصْلَحَةٍ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَالطَّلَاقُ إبْطَالٌ لَهُ وَإِبْطَالُ الْمَصْلَحَةِ مَفْسَدَةٌ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] وَهَذَا مَعْنَى الْكَرَاهَةِ الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَى بِهِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً لِعَدَمِ تَوَافُقِ الْأَخْلَاقِ وَتَبَايُنِ الطَّبَائِعِ أَوْ لِفَسَادٍ يَرْجِعُ إلَى نِكَاحِهَا بِأَنْ عَلِمَ الزَّوْجُ أَنَّ الْمَصَالِحَ تَفُوتُهُ بِنِكَاحِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَوْ أَنَّ الْمُقَامَ مَعَهَا سَبَبُ فَسَادِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَتَنْقَلِبُ الْمَصْلَحَةُ فِي الطَّلَاقِ لِيَسْتَوْفِيَ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ مِنْ امْرَأَةٍ أُخْرَى إلَّا أَنَّ احْتِمَالَ أَنَّهُ لَمْ يَتَأَمَّلْ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَلَمْ يَنْظُرْ حَقَّ النَّظَرِ فِي الْعَاقِبَةِ قَائِمٌ فَالشَّرْعُ وَالْعَقْلُ يَدْعُوَانِهِ إلَى النَّظَرِ وَذَلِكَ فِي أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً حَتَّى أَنَّ التَّبَايُنَ أَوْ الْفَسَادَ إذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ تَتُوبُ وَتَعُودُ إلَى الصَّلَاحِ إذَا ذَاقَتْ مَرَارَةَ الْفِرَاقِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتُوبُ نَظَرَ فِي حَالِ نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا؟ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا يُرَاجِعْهَا وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا يُطَلِّقْهَا فِي الطُّهْرِ الثَّانِي ثَانِيًا وَيُجَرِّبُ نَفْسَهُ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَيَخْرُجُ نِكَاحُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً ظَاهِرًا وَغَالِبًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ النَّدَمُ غَالِبًا فَأُبِيحَتْ الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ أَوْ الثَّلَاثُ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ عَلَى تَقْدِيرِ خُرُوجِ نِكَاحِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً وَصَيْرُورَةِ الْمَصْلَحَةِ فِي الطَّلَاقِ فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي حَالَةِ الْغَضَبِ؛ وَلَيْسَتْ حَالَةُ الْغَضَبِ حَالَةَ التَّأَمُّلِ؛ لَمْ يَعْرِفْ خُرُوجَ النِّكَاحِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً فَكَانَ الطَّلَاقُ إبْطَالًا لِلْمَصْلَحَةِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ فَكَانَ مَفْسَدَةً. وَالثَّانِي أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ مَسْنُونٌ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فَكَانَ الطَّلَاقُ قَطْعًا لِلسُّنَّةِ وَتَفْوِيتًا لِلْوَاجِبِ فَكَانَ الْأَصْلُ هُوَ الْحَظْرُ وَالْكَرَاهَةُ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لِلتَّأْدِيبِ أَوْ لِلتَّخْلِيصِ وَالتَّأْدِيبُ يَحْصُلُ بِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ الرَّجْعِيَّةِ لِأَنَّ التَّبَايُنَ أَوْ الْفَسَادَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِهَا فَإِذَا ذَاقَتْ مَرَارَةَ الْفِرَاقِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَتَأَدَّبُ وَتَتُوبُ وَتَعُودُ إلَى الْمُوَافَقَةِ وَالصَّلَاحِ، وَالتَّخْلِيصُ يَحْصُلُ بِالثَّلَاثِ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَالثَّابِتُ بِالرُّخْصَةِ يَكُونُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَحَقُّ الضَّرُورَةِ صَارَ مَقْضِيًّا بِمَا ذَكَرْنَا فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَبَقِيَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْحَظْرِ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَرُبَّمَا يَلْحَقُهُ النَّدَمُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ أَيْ نَدَامَةً عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ فِعْلِهِ أَوْ رَغْبَةً فِيهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ بِالنِّكَاحِ فَيَقَعُ فِي السِّفَاحِ فَكَانَ فِي الْجَمْعِ احْتِمَالُ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ وَلَيْسَ فِي الِامْتِنَاعِ ذَلِكَ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ مِثْلِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا وَعَقْلًا بِخِلَافِ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ مِنْ التَّدَارُكِ بِالرَّجْعَةِ وَبِخِلَافِ الثَّلَاثِ فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَقِّبُ النَّدَمَ ظَاهِرٌ إلَّا أَنَّهُ يُجَرِّبُ نَفْسَهُ فِي الْأَطْهَارِ الثَّلَاثَةِ فَلَا يَلْحَقُهُ النَّدَمُ. وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ عِنْدَنَا تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْهُ لِغَيْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ، وَيَسْتَوِي فِي كَرَاهَةِ الْجَمْعِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْكَرَاهَةِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ وَيَسْتَوِي فِي كَرَاهَةِ الْجَمْعِ وَالْخُلْعِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي لَا جِمَاعَ فِيهِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي الطَّلَاقِ الْوَاحِدِ الْبَائِنِ رِوَايَتَانِ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ يُكْرَهُ وَذَكَرَ فِي زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ الْبَائِنَ لَا يُفَارِقُ الرَّجْعِيَّ إلَّا فِي صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ، وَصِفَةُ الْبَيْنُونَةِ لَا تُنَافِي صِفَةَ السُّنَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلْقَةَ الْوَاحِدَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَائِنَةً وَأَنَّهَا سُنَّةٌ وَكَذَا الْخُلْعُ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ بَائِنٌ وَأَنَّهُ سُنَّةٌ (وَجْهُ) رِوَايَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّ الطَّلَاقَ شُرِعَ فِي الْأَصْلِ بِطَرِيقِ

فصل في الألفاظ التي يقع بها طلاق البدعة

الرُّخْصَةِ لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَائِنِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَنْدَفِعُ بِالرَّجْعِيِّ فَكَانَ الْبَائِنُ طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَلَمْ يَكُنْ سُنَّةً وَلِأَنَّ فِيهِ احْتِمَالَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ لِاحْتِمَالِ النَّدَمِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْمُرَاجَعَةُ وَرُبَّمَا لَا تُوَافِقُهُ الْمَرْأَةُ فِي النِّكَاحِ فَيَتْبَعَهَا بِطَرِيقٍ حَرَامٍ وَلَيْسَ فِي الِامْتِنَاعِ عَنْهُ احْتِمَالُ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ لِحَاجَةٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يُتَصَوَّرُ إيقَاعُهُ إلَّا بَائِنًا فَكَانَ طَلَاقًا لِحَاجَةٍ فَكَانَ مَسْنُونًا وَكَذَلِكَ الْخُلْعُ لِأَنَّهُ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْخُلْعِ وَلَا يُتَصَوَّرُ إيقَاعُهُ إلَّا بِصِفَةِ الْإِبَانَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ رَجْعِيًّا؟ وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَفَعَ الْجُنَاحَ فِي الْخُلْعِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] فَدَلَّ عَلَى كَوْنِهِ مُبَاحًا مُطْلَقًا، ثُمَّ الْبِدْعَةُ فِي الْوَقْتِ يَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا؛ فَيُكْرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَدْخُولَ بِهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَلَا يُكْرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ لِمَكَانِ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَأَمَّا كَوْنُهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَأَمَّا الْبِدْعَةُ فِي الْعَدَدِ فَيَسْتَوِي فِيهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا وَكَذَا يَسْتَوِي فِي السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ الْمُسْلِمَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ وَالْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْكُلِّ. [فَصْلٌ فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا طَلَاقُ الْبِدْعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا طَلَاقُ الْبِدْعَةِ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ " أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْبِدْعَةِ، أَوْ طَلَاقَ الْجَوْرِ أَوْ طَلَاقَ الْمَعْصِيَةِ أَوْ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ فَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا، فَهُوَ ثَلَاثٌ لِأَنَّ إيقَاعَ الثَّلَاثِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ وَالْوَاحِدَةِ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ بِدْعَةٌ، وَالطَّلَاقُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ بِدْعَةٌ فَإِذَا نَوَى بِهِ الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَصَحَّتْ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ بِهَا الرَّجْعَةَ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ لَمْ يُجْعَلْ لَهَا وَقْتٌ فِي الشُّرُوعِ لِتَنْصَرِفَ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ فَيَلْغُو قَوْلُهُ لِلْبِدْعَةِ وَيَبْقَى قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ فَيَقَعُ بِهِ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الْجَوْرِ أَوْ طَلَاقَ الْمَعْصِيَةِ أَوْ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ وَنَوَى الثَّلَاثَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَإِنْ كَانَ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ أَوْ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَقَعَ مِنْ سَاعَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَقَعْ لِلْحَالِ مَا لَمْ تَحِضْ أَوْ يُجَامِعْهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ طَلَاقِ الْبِدْعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ طَلَاقِ الْبِدْعَةِ فَهُوَ أَنَّهُ وَاقِعٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّهُ لَا يَقَعُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشِّيعَةِ أَيْضًا (وَجْهُ) قَوْلِهِمْ أَنَّ هَذَا الطَّلَاقَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا وَغَيْرُ الْمَشْرُوعِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَنَا وِلَايَةَ الْإِيقَاعِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ؛ وَمَنْ جُعِلَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ إيقَاعَهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْوَجْهِ كَالْوَكِيلِ بِالطَّلَاقِ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ إذَا طَلَّقَهَا لِلْبِدْعَةِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ بَعْضَ آبَائِهِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْفًا فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَانَتْ بِالثَّلَاثِ فِي مَعْصِيَةٍ وَتِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ» . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ إنَّ أَحَدَكُمْ يَرْكَبُ الْأُحْمُوقَةَ فَيُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ أَلْفَا ثُمَّ يَأْتِي فَيَقُولُ: " يَا ابْنَ عَبَّاسٍ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] وَإِنَّك لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَلَا أَجِدُ لَك مَخْرَجًا بَانَتْ امْرَأَتُك وَعَصَيْتَ رَبَّك وَرَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ لَا يُؤْتَى بِرَجُلٍ قَدْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا إلَّا أَوْجَعَهُ ضَرْبًا وَأَجَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَكَانَتْ قَضَايَاهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ. (وَأَمَّا) قَوْلُهُمْ: إنَّ غَيْرَ الْمَشْرُوعِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَنَعَمْ لَكِنَّ الطَّلَاقَ نَفْسَهُ مَشْرُوعٌ عِنْدَنَا مَا فِيهِ حَظْرٌ، وَإِنَّمَا الْحَظْرُ وَالْحُرْمَةُ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَسَادِ وَالْوُقُوعِ فِي الزِّنَا وَالسَّفَهِ وَتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، وَإِذَا كَانَ مَشْرُوعًا فِي نَفْسِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَإِنْ مُنِعَ عَنْهُ لِغَيْرِهِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ وَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ مَنْ وَلِيَ تَصَرُّفًا مَشْرُوعًا لَا يَمْلِكُ إيقَاعَهُ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَلِيَ لِأَنَّهُ مَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَلِيَ إيقَاعَهُ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ فِي نَفْسِهِ لَا يُتَصَوَّرُ إيقَاعُهُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ إلَّا أَنَّهُ بِهَذَا الطَّلَاقِ بَاشَرَ تَصَرُّفًا مَشْرُوعًا وَارْتَكَبَ مَحْظُورًا فَيَأْثَمُ

فصل في بيان قدر الطلاق وعدده

بِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ لَا بِمُبَاشَرَةِ الْمَشْرُوعِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَنَظَائِرِهِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالطَّلَاقِ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ تَوْكِيلٌ بِطَلَاقٍ مَشْرُوعٍ لَا يَتَضَمَّنُهُ ارْتِكَابُ حَرَامٍ بِوَجْهٍ، فَإِذَا طَلَّقَهَا لِلْبِدْعَةِ فَقَدْ أَتَى بِطَلَاقٍ مَشْرُوعٍ يُلَازِمُهُ حَرَامٌ فَلَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ بِهِ فَلَا يَقَعُ فَهُوَ الْفَرْقُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ قَدْرِ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ قَدْرِ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الزَّوْجَانِ إمَّا إنْ كَانَا حُرَّيْنِ وَإِمَّا إنْ كَانَا رَقِيقَيْنِ وَإِمَّا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ رَقِيقًا فَإِنْ كَانَا حُرَّيْنِ، فَالْحُرُّ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ الْحُرَّةَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَا رَقِيقَيْنِ فَالْعَبْدُ لَا يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ الْأَمَةَ إلَّا تَطْلِيقَتَيْنِ بِلَا خِلَافٍ أَيْضًا، وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ رَقِيقًا أَنَّ عَدَدَ الطَّلَاقِ يُعْتَبَرُ بِحَالِ الرَّجُلِ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ أَمْ بِحَالِ الْمَرْأَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: يُعْتَبَرُ بِحَالِ الْمَرْأَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُعْتَبَرُ بِحَالِ الرَّجُلِ حَتَّى إنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا إلَّا تَطْلِيقَتَيْنِ. وَالْحُرُّ إذَا كَانَتْ تَحْتَهُ أَمَةٌ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا إلَّا تَطْلِيقَتَيْنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِثْلُ قَوْلِنَا وَعَنْ عُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِثْلُ قَوْلِهِ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِحَالِ أَيِّهِمَا كَانَ رَقِيقًا وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعِدَّةَ تُعْتَبَرُ بِحَالِ الْمَرْأَةِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ» وَالْمُرَادُ مِنْهُ اعْتِبَارُ الطَّلَاقِ فِي الْقَدْرِ وَالْعَدَدِ لَا الْإِيقَاعُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُشْكِلُ وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يُطَلِّقُ الْعَبْدُ ثِنْتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ بِحَيْضَتَيْنِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ تَحْتَهُ أَمَةٌ أَوْ حُرَّةٌ. وَلِأَنَّ الرِّقَّ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي نُقْصَانِ الْحِلِّ لِكَوْنِ الْحِلِّ نِعْمَةً وَأَنَّهُ نِعْمَةٌ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ لَا فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ مَرْقُوقَةٌ فَلَا يُؤَثِّرُ رِقُّهَا فِي نُقْصَانِ الْحِلِّ. (وَلَنَا) الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْحُرَّةِ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ حِلَّ الْحُرَّةِ يَزُولُ بِالثَّلَاثِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ تَحْتَ حُرٍّ أَوْ تَحْتَ عَبْدٍ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْحُرَّةِ قَرَائِنُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَحَدُهَا أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وَالْأَمَةُ لَا تَمْلِكُ الِافْتِدَاءَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى، وَالثَّانِي قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَالْأَمَةُ لَا تَمْلِكُ إنْكَاحَ نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا وَالثَّالِثُ قَوْله تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230] أَيْ يَتَنَاكَحَا بَعْدَ طَلَاقِ الزَّوْجِ الثَّانِي وَذَا فِي الْحُرِّ وَالْحُرَّةِ وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» جَعَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طَلَاقَ جِنْسِ الْإِمَاءِ ثِنْتَيْنِ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ لَامَ الْجِنْسِ عَلَى الْإِمَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ: طَلَاقُ كُلِّ أَمَةٍ ثِنْتَانِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا أَوْ عَبْدًا وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الْحَظْرُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ فِيمَا تَقَدَّمَ إلَّا أَنَّهُ أُبِيحَتْ الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْخَلَاصِ عِنْدَ مُخَالَفَةِ الْأَخْلَاقِ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَصِيرُ الْمَصْلَحَةُ فِي الطَّلَاقِ لِيَزْدَوِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْ يُوَافِقُهُ فَتَحْصُلُ مَقَاصِدُ النِّكَاحِ إلَّا أَنَّ احْتِمَال النَّدَمِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَائِمٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] فَلَوْ ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يُشَرَّعْ طَلَاقٌ آخَرُ حَتَّى يَتَأَمَّلَ الزَّوْجُ فِيهِ رُبَّمَا يَنْدَمُ وَلَا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ بِالرَّجْعَةِ وَلَا تُوَافِقُهُ الْمَرْأَةُ فِي النِّكَاحِ وَلَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا فَيَقَعُ فِي الزِّنَا فَأُبِيحَتْ الطَّلْقَةُ الثَّانِيَةُ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ إلَى الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهَا فِي الْحُرَّةِ إذَا كَانَتْ تَحْتَ حُرٍّ وَعَبْدٍ إظْهَارًا لِخَطَرِ النِّكَاحِ وَإِبَانَةً لِشَرَفِهِ، وَمِلْكُ النِّكَاحِ فِي الْأَمَةِ فِي الشَّرَفِ وَالْخَطَرِ دُونَ مِلْكِ النِّكَاحِ فِي الْحُرَّةِ لِأَنَّ شَرَفَ النِّكَاحِ وَخَطَرَهُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مِنْهَا الْوَلَدُ وَالسَّكَنُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَيْنِ الْمَقْصُودَيْنِ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ دُونَهُمَا فِي نِكَاحِ الْحُرَّةِ لِأَنَّ وَلَدَ الْحُرَّةِ حُرٌّ وَوَلَدَ الرَّقِيقَةِ رَقِيقٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْوَلَدِ الِاسْتِئْنَاسُ وَالِاسْتِنْصَارُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالدَّعْوَةُ الصَّالِحَةُ فِي الْعُقْبَى وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ مِنْ الْوَلَدِ الرَّقِيقِ مِثْلُ مَا يَحْصُلُ مِنْ الْحُرِّ لِكَوْنِ الْمَرْقُوقِ مَشْغُولًا بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى وَكَذَا سُكُونُ نَفْسِ الزَّوْجِ إلَى امْرَأَتِهِ الْأَمَةِ لَا يَكُونُ مِثْلَ سُكُونِهِ إلَى امْرَأَتِهِ الْحُرَّةِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا فِي مَعْنَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَبَقِيَتْ الطَّلْقَةُ فِيهِ عَلَى

فصل في بيان ركن الطلاق

أَصْلِ الْحَظْرِ وَالثَّانِي أَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ زَوَالُ الْحِلِّ وَهُوَ حِلُّ الْمَحَلِّيَّةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْحِلِّ وَحِلُّ الْأَمَةِ أَنْقَصُ مِنْ حِلِّ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ يُنْقِصُ الْحِلَّ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ نِعْمَةٌ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى النَّعْمَةِ؛ وَهِيَ مَقَاصِدُ النِّكَاحِ وَالْوَسِيلَةُ إلَى النَّعْمَةِ نِعْمَةٌ، وَلِلرِّقِّ أَثَرٌ فِي نُقْصَانِ النِّعْمَةِ وَلِهَذَا أَثَرٌ فِي نُقْصَانِ الْمَالِكِيَّةِ حَتَّى يَمْلِكَ الْحُرُّ التَّزَوُّجَ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ التَّزَوُّجَ إلَّا بِامْرَأَتَيْنِ وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُمَا غَرِيبَانِ ثُمَّ إنَّهُمَا مِنْ الْآحَادِ وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا مُعَارَضَةُ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ بِهِ ثُمَّ نَقُولُ: لَا حُجَّةَ فِيهِمَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ «الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ» إلْصَاقُ الِاسْمِ بِالِاسْمِ فَيَقْتَضِي مُلْصَقًا مَحْذُوفًا، وَالْمُلْصَقُ الْمَحْذُوفُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْإِيقَاعُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الِاعْتِبَارُ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ وَقَوْلُهُ: " الْإِيقَاعُ لَا يُشْكِلُ " مَمْنُوعٌ بَلْ قَدْ يُشْكِلُ وَبَيَانُ الْإِشْكَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّكَاحَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الِانْعِقَادِ وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ عَقْدٍ - كَانَ انْعِقَادُهُ بِعَاقِدَيْنِ - أَنْ يَكُونَ ارْتِفَاعُهُ بِهِمَا أَيْضًا كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَالثَّانِي أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فِي الْأَحْكَامِ وَالْمَقَاصِدِ فَيُشْكِلُ أَنْ يَكُونَ الْإِيقَاعُ بِهِمَا عَلَى الشَّرِكَةِ فَحَلَّ الْإِشْكَالَ بِقَوْلِهِ " الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ " وَأَمَّا الثَّانِي فَفِيهِ أَنَّ الْعَبْدَ يُطَلِّقُ ثِنْتَيْنِ وَهَذَا لَا يَنْفِي الثَّالِثَةَ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يَمْلِكُ دِرْهَمَيْنِ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ» إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى الْأَمَةِ وَالْإِضَافَةُ لِلِاخْتِصَاصِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ الْمُخْتَصُّ بِالْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَلَوْ مَلَكَ الثَّالِثَةَ عَلَيْهَا لَبَطَلَ الِاخْتِصَاصُ، وَمِثَالُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ " مَالُ فُلَانٍ دِرْهَمَانِ " أَنَّهُ يَنْفِي الزِّيَادَةَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إنَّ الْحِلَّ فِي جَانِبِهَا لَيْسَ بِنِعْمَةٍ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ نِعْمَةٌ فِي حَقِّهَا أَيْضًا، لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى النَّعْمَةِ وَالْمِلْكُ فِي بَابِ النِّكَاحِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقَاصِدِ الَّتِي هِيَ نِعَمٌ، وَالْوَسِيلَةُ إلَى النَّعْمَةِ نِعْمَةٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ رُكْنِ الطَّلَاقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ رُكْنِ الطَّلَاقِ فَرُكْنُ الطَّلَاقِ هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي جُعِلَ دَلَالَةً عَلَى مَعْنَى الطَّلَاقِ لُغَةً وَهُوَ التَّخْلِيَةُ وَالْإِرْسَالُ وَرَفْعُ الْقَيْدِ فِي الصَّرِيحِ وَقَطْعُ الْوَصْلَةِ وَنَحْوُهُ فِي الْكِنَايَةِ أَوْ شَرْعًا، وَهُوَ إزَالَةُ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ فِي النَّوْعَيْنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ أَمَّا اللَّفْظُ فَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ فِي الْكِنَايَةِ: أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ أَبَنْتُكِ أَوْ يَقُولَ فِي الصَّرِيحِ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ طَلَّقْتُكِ وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى إلَّا أَنَّ التَّطْلِيقَ وَالطَّلَاقَ فِي الْعُرْفِ يُسْتَعْمَلَانِ فِي الْمَرْأَةِ خَاصَّةً وَالْإِطْلَاقُ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهَا يُقَالُ فِي الْمَرْأَةِ طَلَّقَ يُطَلِّقُ تَطْلِيقًا وَطَلَاقًا وَفِي الْبَعِيرِ وَالْأَسِيرِ وَنَحْوِهِمَا يُقَالُ أَطْلَقَ يُطْلِقُ إطْلَاقًا وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى فِي اللَّفْظَيْنِ لَا يَخْتَلِفُ فِي اللُّغَةِ وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ كَمَا يُقَالُ حَصَانٌ وَحِصَانٌ وَعَدِيلٌ وَعَدْلٌ فَالْحَصَانُ بِفَتْحِ الْحَاءِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَرْأَةِ وَبِالْخَفْضِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْفَرَسِ وَإِنْ كَانَا يَدُلَّانِ عَلَى مَعْنَى وَاحِدٍ لُغَةً وَهُوَ الْمَنْعُ. وَالْعَدِيلُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْآدَمِيِّ وَالْعَدْلُ فِيمَا سِوَاهُ، وَإِنْ كَانَا مَوْجُودَيْنِ فِي الْمُعَادَلَةِ فِي اللُّغَةِ كَذَا هَذَا، وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ مُطْلَقَةٌ مُخَفِّفًا يَرْجِعُ إلَى نِيَّتِهِ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ فِي الْعُرْفِ يُسْتَعْمَلُ فِي إثْبَاتِ الِانْطِلَاقِ عَنْ الْحَبْسِ وَالْقَيْدِ الْحَقِيقِيِّ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْقَيْدِ الْحُكْمِيِّ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَيَسْتَوِي فِي الرُّكْنِ ذِكْرُ التَّطْلِيقَةِ وَبَعْضِهَا حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ بَعْضَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ رُبْعَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ ثُلُثَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ جُزْءًا مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ تَطْلِيقَةٍ يَقَعُ تَطْلِيقَةً كَامِلَةً وَهَذَا عَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ الرَّأْيُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ لِأَنَّ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ لَا يَكُونُ تَطْلِيقَةً حَقِيقَةً بَلْ هُوَ بَعْضُ تَطْلِيقَةٍ وَبَعْضُ الشَّيْءِ لَيْسَ عَيْنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهُ. (وَلَنَا) أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَتَبَعَّضُ وَذِكْرُ الْبَعْضِ فِيمَا لَا يَتَبَعَّضُ ذِكْرٌ لِكُلِّهِ كَالْعَفْوِ عَنْ بَعْضِ الْقِصَاصِ أَنَّهُ يَكُونُ عَفْوًا عَنْ الْكُلِّ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً وَنِصْفَ أَوْ وَاحِدَةً وَثُلُثَ طَلُقَتْ اثْنَتَيْنِ لِأَنَّ الْبَعْضَ مِنْ تَطْلِيقَةٍ تَطْلِيقَةٌ كَامِلَةٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَنِصْفَهَا أَوْ ثُلُثَهَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ لِأَنَّ هُنَاكَ أَضَافَ النِّصْفَ إلَى الْوَاحِدَةِ الْوَاقِعَةِ وَالْوَاقِعُ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ ثَانِيًا وَهُنَا ذَكَرَ نَصًّا مُنَكَّرًا غَيْرَ مُضَافٍ إلَى وَاقِعٍ فَيَكُونُ إيقَاعُ تَطْلِيقَةٍ أُخْرَى. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ سُدُسَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ ثُلُثَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ ثُلُثَيْ تَطْلِيقَةٍ فَهُوَ ثَلَاثٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ التَّطْلِيقَةِ تَطْلِيقَةٌ كَامِلَةٌ هَذَا إذَا كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَلَا تَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى، كَمَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ سُدُسَ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثَهَا وَنِصْفَهَا بَعْدَ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ الْعَدَدُ عَنْ وَاحِدَةٍ لَوْ جُمِعَ ذَلِكَ فَهُوَ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ تَجَاوَزَ بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ سُدُسَ تَطْلِيقَةٍ وَرُبْعَهَا

فصل في شرائط ركن الطلاق وبعضها يرجع إلى الزوج

وَثُلُثَهَا وَنِصْفَهَا؛ لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَقَعُ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ فَهِيَ ثَلَاثٌ لِأَنَّ نِصْفَ التَّطْلِيقَتَيْنِ تَطْلِيقَةٌ، فَثَلَاثَةُ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَمْثَالِ تَطْلِيقَةٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ وَلَوْ كَانَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَقَالَ بَيْنَكُنَّ تَطْلِيقَةٌ طَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً لِأَنَّ الطَّلْقَةَ الْوَاحِدَةَ إذَا قُسِّمَتْ عَلَى أَرْبَعٍ أَصَابَ كُلَّ وَاحِدَةٍ رُبْعُهَا وَرُبْعُ تَطْلِيقَةٍ تَطْلِيقَةٌ كَامِلَةٌ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ بَيْنَكُنَّ تَطْلِيقَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ أَوْ أَرْبَعٌ لِأَنَّ التَّطْلِيقَتَيْنِ إذَا انْقَسَمَتَا بَيْنَ الْأَرْبَعِ يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ تَطْلِيقَةٍ، وَنِصْفُ التَّطْلِيقَةِ تَطْلِيقَةٌ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يُقَسِّمُ كُلَّ تَطْلِيقَةٍ بِحِيَالِهَا عَلَى الْأَرْبَعِ فَيَلْزَمُ تَطْلِيقَتَانِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَا فَعَلَ هَكَذَا بَلْ جَعَلَ التَّطْلِيقَتَيْنِ جَمِيعًا بَيْنَ الْأَرْبَعِ لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ لَا يَتَفَاوَتُ، وَالْقِسْمَةُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا يَتَفَاوَتُ يَقَعُ عَلَى جُمْلَتِهِ وَإِنَّمَا يُقْسَمُ الْآحَادُ إذَا كَانَ الشَّيْءُ مُتَفَاوِتًا فَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ تَطْلِيقَةٍ عَلَى حِيَالِهَا بَيْنَهُنَّ يَكُونُ عَلَى مَا نَوَى وَيَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَطْلِيقَتَانِ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهِ لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ فَيُصَدَّقُ وَلَوْ قَالَ: بَيْنَكُنَّ خَمْسُ تَطْلِيقَاتٍ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ لِأَنَّ الْخَمْسَ إذَا قُسِّمَتْ عَلَى الْأَرْبَعِ أَصَابَ كُلَّ وَاحِدَةٍ تَطْلِيقَةٌ وَرُبْعُ تَطْلِيقَةٍ؛ وَرُبْعُ تَطْلِيقَةٍ تَطْلِيقَةٌ كَامِلَةٌ فَيَكُونُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَعَلَى هَذَا مَا زَادَ عَلَى خَمْسَةٍ إلَى ثَمَانِيَةٍ. فَإِنْ قَالَ بَيْنَكُنَّ تِسْعُ تَطْلِيقَاتٍ وَقَعَتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ لِأَنَّ التِّسْعَ إذَا قُسِّمَتْ عَلَى أَرْبَعٍ أَصَابَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَطْلِيقَتَانِ وَرُبْعُ تَطْلِيقَةٍ، وَرُبْعُ تَطْلِيقَةٍ تَطْلِيقَةٌ كَامِلَةٌ فَيَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَةٌ وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ قَالَ أَشْرَكْتُ بَيْنَكُنَّ فِي تَطْلِيقَتَيْنِ أَوْ فِي ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ إنَّ هَذَا وَقَوْلُهُ بَيْنَكُنَّ سَوَاءٌ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْبَيْنِ تُنْبِي عَنْ الشَّرِكَةِ فَقَوْلُهُ " بَيْنَكُنَّ " كَذَا مَعْنَاهُ أَشْرَكْتُ بَيْنَكُنَّ كَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لِأُخْرَى قَدْ أَشْرَكْتُكِ فِي طَلَاقِهَا أَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَانِ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَشْرَكْتُك فِي طَلَاقِهَا إثْبَاتُ الشَّرِكَةِ فِي الْوَاقِعِ وَلَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ فِي الْوَاقِعِ إلَّا بِثُبُوتِ الشَّرِكَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَفْعُ التَّطْلِيقَةِ الْوَاقِعَةِ عَنْهَا وَإِيقَاعُهَا عَلَى الْأُخْرَى فَلَزِمَتْ الشَّرِكَةُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ التَّطْلِيقَتَيْنِ عَلَى الِانْفِرَادِ وَهَذَا يُوجِبُ وُقُوعَ تَطْلِيقَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى وَسَوَاءٌ كَانَ مُبَاشَرَةُ الرُّكْنِ مِنْ الزَّوْجِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْهُ بِالْوَكَالَةِ وَالرِّسَالَةِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مِمَّا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فَكَانَ فِعْلُ النَّائِبِ كَفِعْلِ الْمَنُوبِ عَنْهُ وَأَمَّا الَّذِي يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فَالْكِتَابَةُ وَالْإِشَارَةُ عَلَى مَا نُذْكَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي شَرَائِط رُكْن الطَّلَاق وبعضها يرجع إلَى الزَّوْج] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الزَّوْجِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَرْأَةِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ أَمَّا. الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الزَّوْجِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا فَلَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ لِأَنَّ بِهِ يَعْرِفُ كَوْنَ التَّصَرُّفِ مَصْلَحَةً وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ مَا شُرِعَتْ إلَّا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَأَمَّا السَّكْرَانُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ بِأَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ النَّبِيذَ طَوْعًا حَتَّى سَكِرَ وَزَالَ عَقْلُهُ فَطَلَاقُهُ وَاقِعٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَبِهِ أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ وَالْكَرْخِيُّ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَجْهُ قَوْلِهِمْ: إنَّ عَقْلَهُ زَائِلٌ وَالْعَقْلُ مِنْ شَرَائِطِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِهَذَا لَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَاَلَّذِي زَالَ عَقْلُهُ بِالْبَنْجِ وَالدَّوَاءِ كَذَا هَذَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ طَلَاقُهُ أَوْلَى. (وَلَنَا) عُمُومُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] إلَى قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ السَّكْرَانِ وَغَيْرِهِ إلَّا مَنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ» وَلِأَنَّ عَقْلَهُ زَالَ بِسَبَبٍ؛ هُوَ مَعْصِيَةٌ فَيُنَزَّلُ قَائِمًا عُقُوبَةً عَلَيْهِ وَزَجْرًا لَهُ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ وَلِهَذَا لَوْ قَذَفَ إنْسَانَا أَوْ قَتَلَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ وَأَنَّهُمَا لَا يَجِبَانِ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِلِ دَلَّ أَنَّ عَقْلَهُ جُعِلَ قَائِمًا وَقَدْ يُعْطَى لِلزَّائِلِ حَقِيقَةَ حُكْمِ الْقَائِمِ تَقْدِيرًا إذَا زَالَ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ لِلزَّجْرِ وَالرَّدْعِ كَمَنْ قَتَلَ مُوَرِّثَهُ أَنَّهُ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ وَيُجْعَلُ الْمُوَرِّثُ حَيًّا زَجْرًا لِلْقَاتِلِ وَعُقُوبَةً عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا زَالَ بِالْبَنْجِ وَالدَّوَاءِ لِأَنَّهُ مَا زَالَ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ إلَّا أَنَّهُ لَا تَصِحُّ رِدَّةُ السَّكْرَانِ اسْتِحْسَانًا نَظَرًا لَهُ لِأَنَّ بَقَاءَ الْعَقْلِ تَقْدِيرًا بَعْدَ زَوَالِهِ حَقِيقَةٌ لِلزَّجْرِ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى

الزَّاجِرِ فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ لِوُجُودِ الدَّاعِي إلَيْهِ طَبْعًا، وَالرِّدَّةُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهَا لِانْعِدَامِ الدَّاعِي إلَيْهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِبْقَاءِ عَقْلِهِ فِيهَا لِلزَّجْرِ وَلِأَنَّ جِهَةَ زَوَالِ الْعَقْلِ حَقِيقَةً تَقْتَضِي بَقَاءَ الْإِسْلَامِ وَجِهَةَ بَقَائِهِ تَقْدِيرًا تَقْتَضِي زَوَالَ الْإِسْلَامِ فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْبَقَاءِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْكَافِرِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِ الْمُسْلِمِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَأَجْرَى وَأَخْبَرَ أَنَّ قَلْبَهُ كَانَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ لَكِنْ حَصَلَ لَهُ بِهِ لَذَّةٌ بِأَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُكْرَهًا حَتَّى سَكِرَ أَوْ شَرِبَهَا عِنْدَ ضَرُورَةِ الْعَطَشِ فَسَكِرَ قَالُوا: إنْ طَلَاقَهُ وَاقِعٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ وَإِنْ زَالَ عَقْلُهُ فَإِنَّمَا حَصَلَ زَوَالُ عَقْلِهِ بِلَذَّةٍ فَيُجْعَلُ قَائِمًا وَيُلْحَقُ الْإِكْرَاهُ وَالِاضْطِرَارُ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ شَرِبَ طَائِعًا حَتَّى سَكِرَ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ وَلَمْ يَزُلْ عَقْلُهُ وَلَكِنْ صُدِّعَ فَزَالَ عَقْلُهُ بِالصُّدَاعِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ مَا زَالَ عَقْلُهُ بِمَعْصِيَةٍ وَلَا بِلَذَّةٍ فَكَانَ زَائِلًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا وَكَذَلِكَ إذَا شَرِبَ الْبَنْجَ أَوْ الدَّوَاءَ الَّذِي يُسْكِرُ وَزَالَ عَقْلُهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ لِمَا قُلْنَا. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَعْتُوهًا وَلَا مَدْهُوشًا وَلَا مُبَرْسَمًا وَلَا مُغْمَيًا عَلَيْهِ وَلَا نَائِمًا فَلَا يَقَعُ طَلَاقُ هَؤُلَاءِ لِمَا قُلْنَا فِي الْمَجْنُونِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ» . وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَالِغًا فَلَا يَقَعُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا عِنْدَ خُرُوجِ النِّكَاحِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ وَالصَّبِيُّ لِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ لَا يَتَأَمَّلُ فَلَا يَعْرِفُ. وَأَمَّا كَوْنُ الزَّوْجِ طَائِعًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ حَتَّى يَقَعُ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَقَعُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ بِإِسْنَادِهِ «أَنَّ امْرَأَةً اعْتَقَلَتْ زَوْجَهَا وَجَلَسَتْ عَلَى صَدْرِهِ وَمَعَهَا شَفْرَةٌ فَوَضَعَتْهَا عَلَى حَلْقِهِ، وَقَالَتْ: لَتُطَلِّقَنِّي ثَلَاثًا أَوْ لَأُنْفِذَنَّهَا فَنَاشَدَهَا اللَّهَ أَنْ لَا تَفْعَلَ فَأَبَتْ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ» . وَكَذَا كَوْنُهُ جَادًّا لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَقَعُ طَلَاقُ الْهَازِلِ بِالطَّلَاقِ وَاللَّاعِبِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ، وَرُوِيَ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ» وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ لَعِبَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ لَزِمَهُ» . وَقِيلَ فِيهِ نَزَلَ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] وَكَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُ فَيَقُولُ كُنْت لَاعِبًا وَيُعْتِقُ عَبْدَهُ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَقُولُ كُنْت لَاعِبًا فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ طَلَّقَ أَوْ حَرَّرَ أَوْ نَكَحَ فَقَالَ إنِّي كُنْت لَاعِبًا فَهُوَ جَائِزٌ مِنْهُ» . وَكَذَا التَّكَلُّمُ بِالطَّلَاقِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْكِتَابَةِ الْمُسْتَبِينَةِ وَبِالْإِشَارَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ الْأَخْرَسِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الْمُسْتَبِينَةَ تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةَ الْمَفْهُومَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْعِبَارَةِ. وَكَذَا الْخُلُوُّ عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَقَعُ طَلَاقُ شَارِطِ الْخِيَارِ فِي بَابِ الطَّلَاقِ بِغَيْرِ عِوَضٍ لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْفَسْخِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَاَلَّذِي مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ وَهُوَ الطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ» وَأَمَّا الْخُلُوُّ عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمَرْأَةِ فِي الطَّلَاقِ بِعِوَضٍ فَشَرْطٌ لِأَنَّ الَّذِي مِنْ جَانِبِهَا الْمَالُ فَكَانَ مِنْ جَانِبِهَا مُعَاوَضَةُ الْمَالِ وَأَنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ لِلْفَسْخِ فَصَحَّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهَا، فَيُمْنَعُ انْعِقَادُ السَّبَبِ كَالْبَيْعِ حَتَّى أَنَّهَا لَوْ رُدَّتْ بِحُكْمِ الْخِيَارِ بَطَلَ الْعَقْدُ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ. وَكَذَا صِحَّةُ الزَّوْجِ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَكَذَا إسْلَامُهُ فَيَقَعُ طَلَاقُ الْمَرِيضِ وَالْكَافِرِ لِأَنَّ الْمَرَضَ وَالْكُفْرَ لَا يُنَافِيَانِ أَهْلِيَّةَ الطَّلَاقِ وَكَذَا كَوْنُهُ عَامِدًا لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى يَقَعَ طَلَاقُ الْخَاطِئِ وَهُوَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ الطَّلَاقِ فَسَبَقَ لِسَانُهُ بِالطَّلَاقِ لِأَنَّ الْفَائِتَ بِالْخَطَأِ لَيْسَ إلَّا الْقَصْدُ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ كَالْهَازِلِ وَاللَّاعِبِ بِالطَّلَاقِ وَكَذَلِكَ الْعَتَاقُ لِمَا قُلْنَا فِي الطَّلَاقِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ فِي الْعَتَاقِ رِوَايَتَيْنِ فَإِنَّ هِشَامًا رَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ اسْقِينِي مَاءً فَقَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَقَعَ وَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ فَقَالَ أَنْتَ حُرٌّ لَمْ يَقَعْ وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْكَنَدِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا ذَكَرْنَا (وَجْهُ) رِوَايَةِ هِشَامٍ أَنَّ مِلْكَ الْبُضْعِ ثَبَتَ بِسَبَبٍ يَتَسَاوَى فِيهِ الْقَصْدُ وَعَدَمُ الْقَصْدِ وَهُوَ النِّكَاحُ فَعَلَى ذَلِكَ زَوَالُهُ بِخِلَافِ مِلْكِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِسَبَبٍ مُخْتَلِفٌ فِيهِ الْقَصْدُ وَعَدَمُ الْقَصْدِ وَهُوَ الْبَيْعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ زَوَالُهُ وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ لِأَنَّهُ

فصل في النية في أحد نوعي الطلاق وهو الكناية

قَدْ يُشْرَطُ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ مِنْ الشَّرَائِطِ مَا لَا يُشْرَطُ لِزَوَالِهِ، فَكَانَ الِاسْتِدْلَال بِالثُّبُوتِ عَلَى الزَّوَالِ اسْتِدْلَالًا فَاسِدًا. [فَصْلٌ فِي النِّيَّةِ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الطَّلَاقِ وَهُوَ الْكِنَايَةُ] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا النِّيَّةُ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الطَّلَاقِ وَهُوَ الْكِنَايَةُ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الشَّرْطِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي. بَيَانِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ فِي الشَّرْعِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ صِفَةِ الْوَاقِعِ بِهَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَلْفَاظُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ فِي الشَّرْعِ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ أَمَّا الصَّرِيحُ فَهُوَ اللَّفْظُ الَّذِي لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي حَلِّ قَيْدِ النِّكَاحِ، وَهُوَ لَفْظُ الطَّلَاقِ أَوْ التَّطْلِيقِ مِثْلُ قَوْلِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ " أَوْ " أَنْتِ الطَّلَاقُ، أَوْ طَلَّقْتُكِ، أَوْ أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ " مُشَدَّدًا، سُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ صَرِيحًا؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمُرَادِ مَكْشُوفُ الْمَعْنَى عِنْدَ السَّامِعِ مِنْ قَوْلِهِمْ: صَرَّحَ فُلَانٌ بِالْأَمْرِ أَيْ: كَشَفَهُ وَأَوْضَحَهُ، وَسُمِّيَ الْبِنَاءُ الْمُشْرِفُ صَرْحًا لِظُهُورِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَبْنِيَةِ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ ظَاهِرَةُ الْمُرَادِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الطَّلَاقِ عَنْ قَيْدِ النِّكَاحِ فَلَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى النِّيَّةِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ؛ إذْ النِّيَّةُ عَمَلُهَا فِي تَعْيِينِ الْمُبْهَمِ وَلَا إبْهَامَ فِيهَا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] شَرَعَ الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ النِّيَّةِ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] مُطْلَقًا. وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، حَكَمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِزَوَالِ الْحِلِّ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ وَرَوَيْنَا: " أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالِ الْحَيْضِ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُرَاجِعَهَا وَلَمْ يَسْأَلْهُ هَلْ نَوَى الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ يَنْوِ؟ . وَلَوْ كَانَتْ النِّيَّةُ شَرْطًا لَسَأَلَهُ وَلَا مُرَاجَعَةَ إلَّا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهَا طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ الطَّلَاقُ عَنْ قَيْدِ النِّكَاحِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي فِي صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ. وَكَذَا لَا يَسَعُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُصَدِّقَهُ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى قَلْبِهِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهَا طَالِقٌ مِنْ الْعَمَلِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ عَنْ الْعَمَلِ فَقَدْ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ أَصْلًا فَلَا يُصَدَّقُ أَصْلًا. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَقَالَ: نَوَيْتُ الطَّلَاقَ مِنْ عَمَلٍ أَوْ قَيْدٍ يُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ حَقِيقَةً فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ فَجَازَ أَنْ يُصَدَّقَ فِيهِ، وَلَوْ صَرَّحَ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ لَمْ يَقَعْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تُوصَفُ بِأَنَّهَا طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فَإِذَا صَرَّحَ بِهِ يُحْمَلُ عَلَيْهِ وَإِنْ صَرَّحَ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ عَنْ الْعَمَلِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا وَلَا يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ أَيْضًا فِي الْقَضَاءِ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ أَطْلَقُ مِنْ امْرَأَةِ فُلَانٍ وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ فَذَلِكَ عَلَى نِيَّتِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِمَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ أَفْعَلَ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي الْكَلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِآخَرَ: أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا صَرِيحًا حَتَّى لَا يَجِبُ الْحَدُّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ صَرِيحَ الْقَذْفِ يُوجِبُ الْحَدَّ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا وُقِفَ عَلَى النِّيَّةِ إلَّا إذَا خَرَجَ جَوَابًا لِسُؤَالِ الطَّلَاقِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ بِقَرِينَةِ السُّؤَالِ وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ مُطْلَقَةٌ وَخَفَّفَ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِانْطِلَاقَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي قَيْدِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْقَيْدِ الْحَقِيقِيِّ وَالْحَبْسِ فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فَوَقَفَ عَلَى النِّيَّةِ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كُونِي طَالِقًا أَوْ أَطْلِقِي. قَالَ: أَرَاهُ وَاقِعًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: كُونِي لَيْسَ أَمْرًا حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْأَمْرِ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إثْبَاتِ كَوْنِهَا طَالِقًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] إنَّ قَوْلَهُ: كُنْ لَيْسَ بِأَمْرٍ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْأَمْرِ، بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ التَّكْوِينِ وَلَا تَكُونُ طَالِقًا إلَّا بِالطَّلَاقِ وَكَذَا قَوْلُهُ: " اُطْلُقِي " وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كُونِي حُرَّةً أَوْ عَتْقَى وَلَوْ قَالَ: يَا مُطَلَّقَةُ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا مُطْلَقَةً وَلَا تَكُونُ مُطَلَّقَةً إلَّا بِالتَّطْلِيقِ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ الشَّتْمَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى فِيمَا هُوَ وَصْفٌ أَنْ لَا يَكُونَ وَصْفًا فَكَانَ عُدُولًا عَنْ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي، وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِمِثْلِهِ الشَّتْمُ وَلَوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَهُ، فَقَالَ: عَنَيْتُ ذَلِكَ الطَّلَاقَ دِينَ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا مُطْلَقَةً فِي نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ تَكُونُ مُطَلَّقَتَهُ وَقَدْ تَكُونُ مُطْلَقَةَ

زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، فَالنِّيَّةُ صَادَفَتْ مَحَلَّهَا فَصُدِّقَ فِي الْقَضَاءِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَهُ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةَ غَيْرِهِ فَانْصَرَفَ الْوَصْفُ إلَى كَوْنِهَا مُطَلَّقَةً لَهُ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ: قَدْ طَلَّقْتُكِ قَدْ طَلَّقْتُكِ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَدْ طَلَّقْتُكِ يَقَعُ ثِنْتَانِ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ جُمْلَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إيقَاعٌ تَامٌّ لِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلْوُقُوعِ، وَلَوْ قَالَ: عَنَيْتُ بِالثَّانِي الْإِخْبَارَ عَنْ الْأَوَّلِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ تُسْتَعْمَلُ فِي إنْشَاءِ الطَّلَاقِ فَصَرْفُهَا إلَى الْإِخْبَارِ يَكُونُ عُدُولًا عَنْ الظَّاهِرِ، فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ صِيغَتَهَا صِيغَةُ الْإِخْبَارِ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا قُلْتَ؟ فَقَالَ: طَلَّقْتُهَا أَوْ قَالَ قُلْتُ: هِيَ طَالِقٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ انْصَرَفَ إلَى الْإِخْبَارِ بِقَرِينَةِ الِاسْتِخْبَارِ. وَأَمَّا الطَّلَاقُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي فَارِسِيٍّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: بهشتم إنْ زن، أَوْ قَالَ: إنْ زن بهشتم، أَوْ قَالَ: بهشتم لَا يَكُونُ ذَلِكَ طَلَاقًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ بِالْعَرَبِيَّةِ خَلَّيْتُ، وَقَوْلُهُ: خَلَّيْتُ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَكَذَا هَذَا اللَّفْظُ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ فَرَّقَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إذَا نَوَى الطَّلَاقَ بِقَوْلِهِ: خَلَّيْتُ يَقَعُ بَائِنًا، وَإِذَا نَوَى الطَّلَاقَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ يَقَعُ رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا فِي لُغَتِهِمْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ. وَالثَّانِي قَالَ: إنَّ قَوْلَهُ: خَلَّيْتُ فِي حَالِ الْغَضَبِ وَفِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ يَكُونُ طَلَاقًا حَتَّى لَا يُدَيَّنَ فِي قَوْلِهِ إنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ، وَهَذَا اللَّفْظُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا حَتَّى لَوْ قَالَ: مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ يُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ أُقِيمَ مَقَامَ التَّخْلِيَةِ فَكَانَ أَضْعَفَ مِنْ التَّخْلِيَةِ فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ دَلَالَةُ الْحَالِ، وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: إنْ نَوَى بَائِنًا يَكُونُ بَائِنًا وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا يَكُونُ ثَلَاثًا كَمَا لَوْ قَالَ: خَلَّيْتُ وَنَوَى الْبَائِنَ أَوْ الثَّلَاثَ وَلَوْ نَوَى ثِنْتَيْنِ يَكُونُ وَاحِدَةً، كَمَا فِي قَوْلِهِ: خَلَّيْتُ إلَّا أَنَّ هَهُنَا يَكُونُ وَاحِدَةً يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ بِخِلَافِ لَفْظَةِ التَّخْلِيَةِ لِمَا بَيَّنَّا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا قَالَ: بهشتم إنْ زن، أَوْ قَالَ: إنْ زن بهشتم هِيَ طَالِقٌ نَوَى الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ يَنْوِ وَيَكُونُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً؛ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ خَالَطَ الْعَجَمَ وَدَخَلَ جُرْجَانَ فَعَرَفَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي لُغَتِهِمْ صَرِيحٌ قَالَ: وَإِنْ قَالَ: بهشتم، وَلَمْ يَقُلْ: إنْ زن، فَإِنْ قَالَ: ذَلِكَ فِي حَالِ سُؤَالِ الطَّلَاقِ أَوْ فِي حَالِ الْغَضَبِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَلَا يُدَيَّنُ إنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ قَالَ فِي غَيْرِ حَالِ الْغَضَبِ وَمُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ يُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ بهشتم خَلَّيْتُ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: خَلَّيْتُ إضَافَةٌ إلَى النِّكَاحِ وَلَا إلَى الزَّوْجَةِ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الطَّلَاقِ إلَّا بِقَرِينَةِ نِيَّةٍ أَوْ بِدَلَالَةِ حَالٍ، وَحَالُ الْغَضَبِ وَمُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ دَلِيلُ إرَادَةِ الطَّلَاقِ ظَاهِرًا فَلَا يُصَدَّقُ فِي الصَّرْفِ عَنْ الظَّاهِرِ قَالَ: وَإِنْ نَوَى بَائِنًا فَبَائِنٌ. وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ صَرِيحًا فِي الْفَارِسِيَّةِ فَمَعْنَاهُ التَّخْلِيَةُ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْبَيْنُونَةِ وَالثَّلَاثِ كَلَفْظَةِ التَّخْلِيَةِ فَجَازَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ بِالنِّيَّةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - فِي قَوْلِهِ: بهشتم إنْ زن، أَوْ إنْ زن بهشتم - إنَّ هَذَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ - فِي قَوْلِهِ: بهشتم إنَّهُ - إنْ كَانَ فِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَكَذَلِكَ وَلَا يُدَيَّنُ؛ إنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ يُدَيَّنُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ أَوْ الرِّضَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ بِالْعَرَبِيَّةِ: أَنْتِ مُخَلَّاةٌ أَوْ قَدْ خَلَّيْتُكِ. وَقَالَ زُفَرُ: إذَا قَالَ بهشتم وَنَوَى الطَّلَاقَ بَائِنًا أَوْ غَيْرَ بَائِنٍ فَهُوَ بَائِنٌ وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَاثْنَتَانِ وَأُجْرِي هَذِهِ اللَّفْظَةُ مَجْرَى قَوْلِهِ: خَلَّيْتُ، وَلَوْ قَالَ: خَلَّيْتُكِ وَنَوَى الطَّلَاقَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ نَوَى الْبَيْنُونَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا يَكُونُ ثَلَاثًا، وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ يَكُونُ اثْنَتَيْنِ عَلَى أَصْلِهِ فَكَذَا هَذَا. هَذَا مَا نُقِلَ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي الطَّلَاقِ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَالْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى فِي زَمَانِنَا هَذَا فِي الطَّلَاقِ بِالْفَارِسِيَّةِ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِيهَا لَفْظٌ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الطَّلَاقِ فَذَلِكَ اللَّفْظُ صَرِيحٌ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ إذَا أُضِيفَ إلَى الْمَرْأَةِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا: دها كنم أَوْ فِي عُرْفِ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ بهشتم؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَمَا كَانَ فِي الْفَارِسِيَّةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ وَفِي غَيْرِهِ فَهُوَ مِنْ كِنَايَاتِ الْفَارِسِيَّةِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ كِنَايَاتِ الْعَرَبِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى بِهِ الْإِبَانَةَ فَقَدْ لَغَتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى تَغْيِيرَ الشَّرْعِ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ

الْبَيْنُونَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُؤَجَّلًا إلَى مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِذَا نَوَى إبَانَتَهَا لِلْحَالِ مُعَجَّلًا فَقَدْ نَوَى تَغْيِيرَ الشَّرْعِ وَلَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فَبَطَلَتْ نِيَّتُهُ وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا لَغَتْ نِيَّتُهُ أَيْضًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَصِحُّ نِيَّتُهُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: " طَالِقٌ " مُشْتَقٌّ مِنْ الطَّلَاقِ كَالضَّارِبِ وَنَحْوِهِ، يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ مَأْخَذِ الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ الطَّلَاقُ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْ الْمَعَانِي، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الضَّارِبُ بِلَا ضَرْبٍ وَالْقَاتِلُ بِلَا قَتْلٍ وَلَا يُتَصَوَّرُ الطَّالِقُ بِلَا طَلَاقٍ؟ فَكَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَصَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ مِنْهُ كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَى الطَّلَاقِ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا وَكَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ بَائِنٌ، وَنَوَى الثَّلَاثَ أَنَّهُ تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] أَثْبَتَ الرَّجْعَةَ حَالَ قِيَامِ الْعِدَّةِ لِلْمُطَلِّقِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا نَوَى الثَّلَاثَ أَوْ لَمْ يَنْوِ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ حَقِّ الرَّجْعَةِ عِنْدَ مُطْلَقِ التَّطْلِيقِ إلَّا بِمَا قُيِّدَ بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ فَلَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ كَمَا إذَا قَالَ لَهَا: اسْقِينِي وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهُ نَوَى الثَّلَاثَ، وَقَوْلُهُ: طَالِقٌ لَا يَحْتَمِلُ الثَّلَاثَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ طَالِقٌ اسْمٌ لِلذَّاتِ، وَذَاتُهَا وَاحِدٌ، وَالْوَاحِدُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ إلَّا أَنَّ الطَّلَاقَ ثَبَتَ مُقْتَضَى الطَّالِقِ ضَرُورَةَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ بِكَوْنِهَا طَالِقًا؛ لِأَنَّ الطَّالِقَ بِدُونِ الطَّلَاقِ لَا يُتَصَوَّرُ كَالضَّارِبِ بِدُونِ الضَّرْبِ، وَهَذَا الْمُقْتَضَى غَيْرُ مُتَنَوِّعٍ فِي نَفْسِهِ فَكَانَ عَدَمًا فِيمَا وَرَاءَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ. وَذَلِكَ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي الثَّابِتِ ضَرُورَةً أَنَّهُ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي قَبُولِ نِيَّةِ الثَّلَاثِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ هُنَاكَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَكَانَ ثَابِتًا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَيَثْبُتُ فِي حَقِّ قَبُولِ النِّيَّةِ وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ؛ لِأَنَّ الْبَائِنَ مُقْتَضَاهُ الْبَيْنُونَةُ، وَإِنَّهَا مُتَنَوِّعَةٌ إلَى غَلِيظَةٍ وَخَفِيفَةٍ فَكَانَ اسْمُ الْبَائِنِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ لِتَنَوُّعِ مَحَلِّ الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ كَاسْمِ الْجَالِسِ؛ يُقَالُ: جَلَسَ أَيْ: قَعَدَ وَيُقَالُ جَلَسَ أَيْ: أَتَى نَجْدًا فَكَانَ الْجَالِسُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ لِتَنَوُّعِ مَحَلِّ الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ الْجُلُوسُ، فَكَذَا الْبَائِنُ وَالِاسْمُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَتَعَيَّنُ الْمُرَادُ مِنْهُ إلَّا بِمُعَيَّنٍ، فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ عَيَّنَ إحْدَى نَوْعَيْ الْبَيْنُونَةِ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِانْعِدَامِ الْمُعَيَّنِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: " طَالِقٌ " لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الطَّلَاقِ، وَالطَّلَاقُ فِي نَفْسِهِ لَا يَتَنَوَّعُ لِأَنَّهُ رَفْعُ الْقَيْدِ، وَالْقَيْدُ نَوْعٌ وَاحِدٌ. وَالثَّانِي: إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ صَارَ مَذْكُورًا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَكِنَّهُ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ قَيْدِ النِّكَاحِ؛ وَالْقَيْدُ فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ وَاحِدٌ فَيَكُونُ الطَّلَاقُ وَاحِدًا ضَرُورَةً فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى الْعَدَدَ فِيمَا لَا عَدَدَ لَهُ فَبَطَلَتْ نِيَّتُهُ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ الثَّلَاثُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ وُقُوعَهُ ثَبَتَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا فَإِنْ لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا كَانَ ثَلَاثًا، كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدَةً. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْمَصْدَرَ لِلتَّأْكِيدِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: طَالِقٌ يَقْتَضِي الطَّلَاقَ فَكَانَ قَوْلُهُ: " طَلَاقًا " تَنْصِيصًا عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الطَّالِقُ فَكَانَ تَأْكِيدًا كَمَا يُقَالُ: قُمْت قِيَامًا وَأَكَلْت أَكْلًا، فَلَا يُفِيدُ إلَّا مَا أَفَادَهُ الْمُؤَكِّدُ وَهُوَ قَوْلُهُ: " طَالِقٌ " فَلَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَنَوَى بِهِ الثَّلَاثَ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ قَوْلَهُ: - " طَلَاقًا " - مَصْدَرٌ فَيَحْتَمِلُ كُلَّ جِنْسِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَيَحْتَمِلُ الْكُلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان: 14] وَصَفَ الثُّبُورَ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ بِالْكَثْرَةِ، وَالثَّلَاثُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ كُلُّ جِنْسِ الطَّلَاقِ، فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يُحْمَلُ عَلَى الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا سَبَقَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى التَّأْكِيدِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهُ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ، وَهَهُنَا أَمْكَنَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَوْ نَوَى اثْنَتَيْنِ لَا عَلَى التَّقْسِيمِ فِي قَوْلِهِ: طَالِقٌ طَلَاقًا لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَصْدَرِ وَاحِدٌ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ مَعْنَى التَّوْحِيدِ فِيهِ، ثُمَّ الشَّيْءُ قَدْ يَكُونُ وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَاتُهُ وَاحِدًا مِنْ النَّوْعِ كَزَيْدٍ مِنْ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ يَكُونُ وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ النَّوْعُ كَالْإِنْسَانِ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَلَا تُوجَدُ فِي الِاثْنَيْنِ لَا مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ وَلَا مِنْ حَيْثُ النَّوْعُ فَكَانَ عَدَدًا مَحْضًا فَلَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظَةُ الْوَاحِدِ بِخِلَافِ الثَّلَاثِ فَإِنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ الْجِنْسُ؛ لِأَنَّهُ كُلُّ جِنْسِ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ الطَّلَاقِ فِي هَذَا النِّكَاحِ، وَكُلُّ جِنْسٍ مِنْ الْأَفْعَالِ يَكُونُ جِنْسًا وَاحِدًا أَلَا تَرَى أَنَّكَ مَتَى عَدَّدْتَ الْأَجْنَاسَ تَعُدُّهُ

جِنْسًا وَاحِدًا مِنْ الْأَجْنَاسِ، كَالضَّرْبِ يَكُونُ جِنْسًا وَاحِدًا مِنْ سَائِرِ أَجْنَاسِ الْفِعْلِ. وَكَذَا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَوْ نَوَى ثِنْتَيْنِ عَلَى التَّقْسِيمِ تَصِحُّ نِيَّتُهُ لِمَا نَذَرَ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ الطَّلَاقُ وَنَوَى الثَّلَاثَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ يُقَالُ: هَذَا الدِّرْهَمُ ضَرْبُ الْأَمِيرِ أَيْ: مَضْرُوبُهُ وَهَذَا عِلْمُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْ مَعْلُومُهُ فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْمَصْدَرِ لَلَغَا كَلَامُهُ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَعْنَى الْمَفْعُولِ لَصَحَّ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى وَصَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ تَتَّبِعُ الْمَذْكُورَ، وَالْمَذْكُورَ يُلَازِمُ الْجِنْسَ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بِدُونِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدَةً وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ الطَّالِقُ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ: أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يُعْرَفُ لَهُ وَجْهٌ إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدَةً وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ،. فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا، فَلَا يُتَبَيَّنُ وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَلَاقٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ الطَّلَاقُ. وَحُكِيَ أَنَّ الْكِسَائِيَّ سَأَلَ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ عَنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ: فَإِنْ تَرْفُقِي يَا هِنْدُ فَالرِّفْقُ أَيْمَنُ ... وَإِنْ تَخْرَقِي يَا هِنْدُ فَالْخُرْقُ أَشْأَمُ فَأَنْتِ طَلَاقٌ وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ... ثَلَاثٌ وَمَنْ يَخْرَقْ أَعَقُّ وَأَظْلَمُ فَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ قَالَ: وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ثَلَاثٌ طَلُقَتْ وَاحِدَةً بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَلَاقٌ، وَصَارَ قَوْلُهُ: وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ثَلَاثٌ ابْتِدَاءً وَخَبَرًا غَيْرَ مُتَعَلَّقٍ بِالْأَوَّلِ، وَإِنْ قَالَ: وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ثَلَاثًا طَلَقَتْ ثَلَاثًا، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ هِيَ فِي الْحَالِ تَفْسِيرُ الْمُوقَعَ فَاسْتَحْسَنَ الْكِسَائِيُّ جَوَابَهُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ وَنَوَى الثَّلَاثَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَصْدَرَ وَعَرَّفَهُ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ فَيَسْتَغْرِقُ كُلَّ جِنْسِ الْمَشْرُوعِ مِنْ الطَّلَاقِ فِي هَذَا الْمِلْكِ وَهُوَ الثَّلَاثُ، فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامه فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ لِقَرِينَةٍ تَمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ إلَيْهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَلَوْ نَوَى ثِنْتَيْنِ لَا عَلَى التَّقْسِيمِ لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ مَصْدَرٌ، وَالْمَصْدَرُ صِيغَتُهُ صِيغَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَانَ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّوْحِيدِ فِيهِ لَازِمًا، وَالِاثْنَانِ عَدَدٌ مَحْضٌ لَا تُوجَدُ فِيهِ بِوَجْهٍ فَلَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِلتَّوْحِيدِ، وَإِنَّمَا احْتَمَلَ الثَّلَاثَ مِنْ حَيْثُ التَّوْحِيدُ؛ لِأَنَّهُ كُلُّ جِنْسِ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ الطَّلَاقِ فِي هَذَا الْمِلْكِ، وَكُلُّ الْجِنْسِ جِنْسٌ وَاحِدٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَجْنَاسِ وَأَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّوْحِيدِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَا يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ عَرَّفَ الْمَصْدَرَ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ الْمَوْضُوعَةِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ لَكِنَّهُ انْصَرَفَ إلَى الْوَاحِدِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ إيقَاعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً مَحْظُورٌ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَرْتَكِبَ الْمَحْظُورَ فَانْصَرَفَ إلَى الْوَاحِدِ بِقَرِينَةٍ وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ أَوْ لَا يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ أَوْ لَا يُكَلِّمُ بَنِي آدَمَ أَنَّهُ إنْ نَوَى كُلَّ جِنْسٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ لِدَلَالَةِ الْحَالِ كَذَا هَذَا، وَلَوْ قَالَ: أَرَدْت بِقَوْلِي أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَبِقَوْلِي: الطَّلَاقُ أَوْ طَلَاقًا أُخْرَى صُدِّقَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْلُحُ إيقَاعًا تَامًّا أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ الطَّلَاقُ أَوْ طَلَاقٌ يَقَعُ أَيْضًا، فَإِذَا أَرَادَ ذَلِكَ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَكِ وَنَوَى بِهِ الثَّلَاثَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ حَتَّى لَوْ قَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِي ثَلَاثًا كَانَ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَصِيرُ مَذْكُورًا فِي الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَصِّلِي طَلَاقًا، وَالْمَصْدَرُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَيَحْتَمِلُ الْكُلَّ فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا، وَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ عَدَدٌ مَحْضٌ فَكَانَ مَعْنَى التَّوَحُّدِ فِيهِ مُنْعَدِمًا أَصْلًا وَرَأْسًا؛ فَلَا يَحْتَمِلُهُ صِيغَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ثُمَّ قَالَ لَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ: قَدْ جَعَلْتُ تِلْكَ التَّطْلِيقَةَ الَّتِي أَوْقَعْتُهَا عَلَيْك ثَلَاثًا أَوْ قَالَ قَدْ جَعَلْتُهَا بَائِنًا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ فِيهِ قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ يَكُونُ ثَلَاثًا وَيَكُونُ بَائِنًا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ ثَلَاثًا وَلَا بَائِنًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَكُونُ بَائِنًا وَلَا يَكُونُ ثَلَاثًا. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ وُقُوعِهِ شَرْعًا بِصِفَةٍ لَا يُحْتَمَلُ التَّغْيِيرُ عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرَهُ يَكُونُ تَغْيِيرَ الشَّرْعِ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً لَا تَصِيرُ وَاحِدَةً؟ وَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً فَجَعَلَهَا رَجْعِيَّةً لَا تَصِيرُ رَجْعِيَّةً لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّطْلِيقَةَ الرَّجْعِيَّةَ يُحْتَمَلُ

فصل في الكناية في الطلاق

أَنْ يَلْحَقَهَا الْبَيْنُونَةُ فِي الْجُمْلَةِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا تَصِيرُ بَائِنَةً فَجَازَ تَعْجِيلُ الْبَيْنُونَةِ فِيهَا أَيْضًا،. فَأَمَّا الْوَاحِدَةُ فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَصِيرَ ثَلَاثًا أَبَدًا فَلَغَا قَوْلَهُ: جَعَلْتُهَا ثَلَاثًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَمْلِكُ إيقَاعَ هَذِهِ التَّطْلِيقَةِ بَائِنَةً مِنْ الِابْتِدَاءِ فَيَمْلِكُ إلْحَاقَهَا بِالْبَائِنَةِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْإِبَانَةِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَمَا كَانَ يَمْلِكُهَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَمَعْنَى " جَعْلِ الْوَاحِدَةِ ثَلَاثًا " أَنَّهُ أَلْحَقَ بِهَا تَطْلِيقَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ لَا أَنَّهُ جَعَلَ الْوَاحِدَ ثَلَاثًا [فَصْلٌ فِي الْكِنَايَةِ فِي الطَّلَاق] (فَصْلٌ) : (وَأَمَّا) الْكِنَايَةُ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ هُوَ كِنَايَةٌ بِنَفْسِهِ وَضْعًا، وَنَوْعٌ هُوَ مُلْحَقٌ بِهَا شَرْعًا فِي حَقِّ النِّيَّةِ، أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ كُلُّ لَفْظٍ يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ وَيُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ نَحْوُ قَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ، أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ خَلِيَّةٌ بِرِئِيَّةٍ بَتَّةٌ أَمْرُكِ بِيَدِكِ اخْتَارِي اعْتَدِّي اسْتَبْرِئِي رَحِمَك أَنْتِ وَاحِدَةٌ خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ سَرَّحْتُكِ حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ فَارَقْتُكِ خَالَعْتكِ - وَلَمْ يَذْكُرْ الْعِوَضَ - لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْكِ لَا نِكَاحَ لِي عَلَيْكِ أَنْتِ حُرَّةٌ قَوْمِي اُخْرُجِي اُغْرُبِي انْطَلِقِي انْتَقِلِي تَقَنَّعِي اسْتَتِرِي تَزَوَّجِي ابْتَغِي الْأَزْوَاجَ الْحَقِي بِأَهْلِك وَنَحْوُ ذَلِكَ. سُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْأَلْفَاظِ كِنَايَةً؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ فِي اللُّغَةِ اسْمَ لَفْظٍ اسْتَتَرَ الْمُرَادُ مِنْهُ عِنْدَ السَّامِعِ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُسْتَتِرَةُ الْمُرَادِ عِنْدَ السَّامِعِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: " بَائِنٌ " يَحْتَمِلُ الْبَيْنُونَةَ عَنْ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْبَيْنُونَةَ عَنْ الْخَيْرِ أَوْ الشَّرِّ، وَقَوْلُهُ: " حَرَامٌ " يَحْتَمِلُ حُرْمَةَ الِاسْتِمْتَاعِ وَيَحْتَمِلُ حُرْمَةَ الْبَيْعِ وَالْقَتْلِ وَالْأَكْلِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: " خَلِيَّةٌ " مَأْخُوذٌ مِنْ الْخُلُوِّ فَيَحْتَمِلُ الْخُلُوَّ عَنْ الزَّوْجِ وَالنِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْخُلُوَّ عَنْ الْخَيْرِ أَوْ الشَّرِّ، وَقَوْلُهُ " بَرِيئَةٌ " مِنْ الْبَرَاءَةِ فَيَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ مِنْ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ مِنْ الْخَيْرِ أَوْ الشَّرِّ وَقَوْلُهُ: " بَتَّةٌ " مِنْ الْبَتِّ وَهُوَ الْقَطْعُ فَيَحْتَمِلُ الْقَطْعَ عَنْ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْقَطْعَ عَنْ الْخَيْرِ أَوْ عَنْ الشَّرِّ، وَقَوْلُهُ: " أَمْرُكِ بِيَدِكِ " يُحْتَمَلُ فِي الطَّلَاقِ. وَيُحْتَمَلُ فِي أَمْرٍ آخَرَ مِنْ الْخُرُوجِ وَالِانْتِقَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: " اخْتَارِي " يَحْتَمِلُ اخْتِيَارَ الطَّلَاقِ وَيَحْتَمِلُ اخْتِيَارَ الْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ وَقَوْلُهُ: " اعْتَدِّي " أَمْرٌ بِالِاعْتِدَادِ وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الِاعْتِدَادَ الَّذِي هُوَ مِنْ الْعِدَّةِ وَيَحْتَمِلُ الِاعْتِدَادَ الَّذِي هُوَ مِنْ الْعَدَدِ أَيْ اعْتَدِّي نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكِ وَقَوْلُهُ " اسْتَبْرِئِي رَحِمَك " أَمْرٌ بِتَعْرِيفِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَهُوَ طَهَارَتُهَا عَنْ الْمَاءِ وَأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ الِاعْتِدَادِ الَّذِي هُوَ مِنْ الْعِدَّةِ وَيَحْتَمِلُ اسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ لَأُطَلِّقكِ وَقَوْلُهُ " أَنْتِ وَاحِدَةٌ " يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاحِدَةُ صِفَةَ الطَّلْقَةِ أَيْ: طَالِقٌ وَاحِدَةً أَيْ: طَلْقَةً وَاحِدَةً وَيَحْتَمِلُ التَّوْحِيدَ فِي الشَّرَفِ أَيْ: أَنْتِ وَاحِدَةٌ فِي الشَّرَفِ، وَقَوْلُهُ " خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ " يَحْتَمِلُ سَبِيلَ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ سَبِيلَ الْخُرُوجِ مِنْ الْبَيْتِ لِزِيَارَةِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَمْرٍ آخَرَ، وَقَوْلُهُ " سَرَّحْتُك " يَعْنِي خَلَّيْتُكِ يُقَالُ: سَرَّحْتُ إبِلِي وَخَلَّيْتهَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَقَوْلُكَ حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِك اسْتِعَارَةٌ عَنْ التَّخْلِيَةِ؛ لِأَنَّ الْجَمَلَ إذَا أُلْقِيَ حَبْلُهُ عَلَى غَارِبِهِ فَقَدْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ يَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَ، وَقَوْلُهُ " فَارَقْتُكِ " يَحْتَمِلُ الْمُفَارَقَةَ عَنْ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْمُفَارِقَةَ عَنْ الْمَكَانِ وَالْمَضْجَعِ وَعَنْ الصَّدَاقَةِ، وَقَوْلُهُ " خَالَعْتكِ " وَلَمْ يَذْكُرْ الْعِوَضَ يَحْتَمِلُ الْخُلْعَ عَنْ نَفْسِهِ بِالطَّلَاقِ وَيَحْتَمِلُ الْخُلْعَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْهَجْرِ عَنْ الْفِرَاشِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: " لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ " يَحْتَمِلُ سَبِيلَ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ سَبِيلَ الْبَيْعِ وَالْقَتْلِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَكَذَا قَوْلُهُ: " لَا مِلْكَ لِي عَلَيْكَ " يَحْتَمِلُ مِلْكَ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ مِلْكَ الْبَيْعِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: لَا نِكَاحَ لِي عَلَيْك لِأَنِّي قَدْ طَلَّقْتُكِ وَيَحْتَمِلُ لَا نِكَاحَ لِي عَلَيْكِ أَيْ: لَا أَتَزَوَّجُكِ إنْ طَلَّقْتُكِ وَيَحْتَمِلُ لَا نِكَاحَ لِي عَلَيْك أَيْ: لَا أَطَؤُكِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْوَطْءِ وَقَوْلُهُ: أَنْتِ حَرَامٌ يَحْتَمِلُ الْخُلُوصَ عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْخُلُوصَ عَنْ مِلْكِ الْيَمِينِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: " قُومِي " وَاخْرُجِي وَاذْهَبِي يَحْتَمِلُ أَيْ: افْعَلِي ذَلِكَ لِأَنَّكَ قَدْ طَلُقْتِ. وَالْمَرْأَةُ إذَا طَلُقَتْ مِنْ زَوْجِهَا تَقُومُ وَتَخْرُجُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا وَتَذْهَبُ حَيْثُ تَشَاءُ، وَيَحْتَمِلُ التَّقَيُّدَ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ وَقَوْلُهُ: " اُغْرُبِي " عِبَارَةٌ عَنْ الْبُعْدِ أَيْ: تَبَاعَدِي فَيَحْتَمِلُ الْبُعْدَ مِنْ النِّكَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْبُعْدَ مِنْ الْفِرَاشِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: انْطَلِقِي وَانْتَقِلِي يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّهَا تَنْطَلِقُ وَتَنْتَقِلُ عَنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إذَا طَلُقَتْ وَيَحْتَمِلُ الِانْطِلَاقَ وَالِانْتِقَالَ إلَى بَيْتِ أَبَوَيْهَا لِلزِّيَارَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: " تَقَنَّعِي وَاسْتَتِرِي " أَمْرٌ بِالتَّقَنُّعِ وَالِاسْتِتَارِ فَيَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّهَا إذَا طَلُقَتْ يَلْزَمُهَا سَتْرُ رَأْسِهَا بِالْقِنَاعِ وَسَتْرُ أَعْضَائِهَا بِالثَّوْبِ عَنْ زَوْجِهَا، وَيَحْتَمِلُ تَقَنَّعِي وَاسْتَتِرِي أَيْ: كُونِي مُتَقَنِّعَةً وَمَسْتُورَةً لِئَلَّا يَقَعَ بَصَرُ أَجْنَبِيٍّ عَلَيْكِ، وَقَوْلُهُ: تَزَوَّجِي يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ إذْ لَا يَحِلُّ لَهَا التَّزَوُّجُ بِزَوْجٍ آخَرَ إلَّا بَعْدَ الطَّلَاقِ وَيَحْتَمِلُ تَزَوَّجِي إنْ طَلَّقْتُكِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: ابْتَغِي الْأَزْوَاجَ. وَقَوْلُهُ الْحَقِي بِأَهْلِك يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَلْحَقُ بِأَهْلِهَا إذَا

صَارَتْ مُطَلَّقَةً، وَيَحْتَمِلُ الطَّرْدَ وَالْإِبْعَادَ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ وَإِذَا احْتَمَلَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَ الطَّلَاقِ فَقَدْ اسْتَتَرَ الْمُرَادُ مِنْهَا عِنْدَ السَّامِعِ، فَافْتَقَرَتْ إلَى النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ الْمُرَادِ وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: سَرَّحْتُكِ، وَفَارَقْتُكِ، وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: قَوْلُهُ: سَرَّحْتُكِ وَفَارَقْتُكِ مِنْ الْكِنَايَاتِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِمَا إلَّا بِقَرِينَةِ النِّيَّةِ كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُمَا صَرِيحَانِ لَا يَفْتَقِرَانِ إلَى النِّيَّةِ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ، وَقَوْلُهُ: " أَنْتِ وَاحِدَةٌ " مِنْ الْكِنَايَاتِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ هُوَ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ حَتَّى لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ بِهِ وَإِنْ نَوَى (أَمَّا) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . وَالتَّسْرِيحُ هُوَ التَّطْلِيقُ وقَوْله تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وَالْمُفَارَقَةُ هِيَ التَّطْلِيقُ، فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الطَّلَاقَ بِثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ: الطَّلَاقِ وَالسَّرَاحِ وَالْفِرَاقِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلَّقْتُكِ كَانَ صَرِيحًا فَكَذَا إذَا قَالَ: سَرَّحْتُكِ أَوْ فَارَقْتُكِ. (وَلَنَا) أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الطَّلَاقِ عَنْ قَيْدِ النِّكَاحِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّرِيحَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمُرَادِ عِنْدَ السَّامِعِ وَمَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ لَا يَكُونُ ظَاهِرَ الْمُرَادِ، بَلْ يَكُونُ مُسْتَتِرَ الْمُرَادِ وَلَفْظُ السَّرَاحِ وَالْفِرَاقِ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ قَيْدِ النِّكَاحِ يُقَالُ: سَرَّحْتُ إبِلِي وَفَارَقْتُ صَدِيقِي فَكَانَ كِنَايَةً لَا صَرِيحًا فَيَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَتَيْنِ لِأَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِهِمَا: إنَّ السَّرَاحَ وَالْفِرَاقَ طَلَاقٌ، لَكِنْ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ لَا صَرِيحًا لِانْعِدَامِ مَعْنَى الصَّرِيحِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: " أَنْتِ وَاحِدَةٌ " صِفَةُ الْمَرْأَةِ فَلَا يُحْتَمَلُ الطَّلَاقُ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ قَائِمَةٌ وَقَاعِدَةٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا نَوَى الطَّلَاقَ فَقَدْ جَعَلَ الْوَاحِدَةَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: طَلْقَةً وَاحِدَةً وَهَذَا شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ أَعْطَيْته جَزِيلًا وَضَرَبْتُهُ وَجِيعًا أَيْ: عَطَاءً جَزِيلًا وَضَرْبًا وَجِيعًا؛ وَلِهَذَا يَقَعُ الرَّجْعِيُّ عِنْدَنَا دُونَ الْبَائِنِ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْخِلَافُ فِيمَا إذَا قَالَ " وَاحِدَةً " بِالْوَقْفِ وَلَمْ يُعْرِبْ. فَأَمَّا إذَا أَعْرَبَ الْوَاحِدَةَ فَلَا خِلَافَ فِيهَا لِأَنَّهُ إنْ رَفَعَهَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ صِفَةَ الشَّخْصِ وَإِنْ نَصَبَهَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَكَانَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ مَا إذَا وَقَفَهَا وَلَمْ يُعْرِبْهَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَوْضِعَ الرَّفْعِ مَحَلُّ الِاخْتِلَافِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنْتِ وَاحِدَةٌ أَيْ: أَنْتِ مُنْفَرِدَةٌ عَنْ النِّكَاحِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ: إنَّ الْخِلَافَ فِي الْكُلِّ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّ الْعَوَامَّ لَا يَهْتَدُونَ إلَى هَذَا وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ إعْرَابٍ وَإِعْرَابٍ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِشَيْءٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَإِنْ كَانَ قَدْ نَوَى الطَّلَاقَ يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْوِ لَا يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ يُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ سِرَّهُ وَنَجَوَاهُ. وَهَلْ يُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ؟ فَالْحَالُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ حَالَةَ الرِّضَا وَابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ وَإِمَّا إذَا كَانَتْ حَالَةَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ وَسُؤَالِهِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ حَالَةَ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ فَإِنْ كَانَتْ حَالَةَ الرِّضَا وَابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ يُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ، وَالْحَالُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِهِمَا فَيُسْأَلُ عَنْ نِيَّتِهِ وَيُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ قَضَاءً. وَإِنْ كَانَتْ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ وَسُؤَالِهِ أَوْ حَالَةَ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ فَقَدْ قَالُوا: إنَّ الْكِنَايَاتِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ: فِي قِسْمٍ مِنْهَا لَا يُدَيَّنُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ لَا فِي حَالَةِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ وَسُؤَالِهِ وَلَا فِي حَالَةِ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ، وَفِي قِسْمٍ مِنْهَا يُدَيَّنُ فِي حَالِ الْخُصُومَةِ وَالْغَضَبِ وَلَا يُدَيَّنُ فِي حَالِ ذِكْرِ الطَّلَاقِ وَسُؤَالِهِ، وَفِي قِسْمٍ مِنْهَا يُدَيَّنُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا (أَمَّا) الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَخَمْسَةُ أَلْفَاظٍ: " أَمْرُكِ بِيَدِكِ " " اخْتَارِي " " اعْتَدِّي " " اسْتَبْرِئِي رَحِمَك " " أَنْتِ وَاحِدَةٌ "؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ وَالْحَالُ يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ حَالَ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ إنْ كَانَتْ تَصْلُحُ لِلشَّتْمِ وَالتَّبْعِيدِ كَمَا تَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ فَحَالُ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ تَصْلُحُ لِلتَّبْعِيدِ وَالطَّلَاقِ، لَكِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَا تَصْلُحُ لِلشَّتْمِ وَلَا لِلتَّبْعِيدِ فَزَالَ احْتِمَالُ إرَادَةِ الشَّتْمِ وَالتَّبْعِيدِ فَتَعَيَّنَتْ الْحَالَةُ دَلَالَةً عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ فَتَرَجَّحَ جَانِبُ الطَّلَاقِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ فَثَبَتَتْ إرَادَةُ الطَّلَاقِ فِي كَلَامِهِ ظَاهِرًا فَلَا يُصَدَّقُ فِي الصَّرْفِ عَنْ الظَّاهِرِ كَمَا فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ عَنْ الْوَثَاقِ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. (وَأَمَّا) الْقِسْمُ الثَّانِي فَخَمْسَةُ أَلْفَاظٍ أَيْضًا

خَلِيَّةٌ " " بَرِيئَةٌ " " بَتَّةٌ " " بَائِنٌ " " حَرَامٌ "؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ كَمَا تَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ تَصْلُحُ لِلشَّتْمِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ عِنْدَ إرَادَةِ الشَّتْمِ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ مِنْ الْخَيْرِ، بَرِيئَةٌ مِنْ الْإِسْلَامِ، بَائِنٌ مِنْ الدِّينِ، بَتَّةٌ مِنْ الْمُرُوءَةِ، حَرَامٌ أَيْ مُسْتَخْبَثٌ، أَوْ حَرَامٌ الِاجْتِمَاعُ وَالْعِشْرَةُ مَعَكِ. وَحَالُ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ يَصْلُحُ لِلشَّتْمِ وَيَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ فَبَقِيَ اللَّفْظُ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا عَنِيَ بِهِ غَيْرَهُ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ، وَالظَّاهِرُ لَا يُكَذِّبُهُ فَيُصَدَّقَ فِي الْقَضَاءِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي حَالِ ذِكْرِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْحَالَ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَا تَصْلُحُ لِلتَّبْعِيدِ، وَالْحَالُ لَا يَصْلُحُ لِلشَّتْمِ فَيَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ لَا التَّبْعِيدِ وَلَا الشَّتْمِ فَتَرَجَّحَتْ جَنْبَةُ الطَّلَاقِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ زَادَ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْخَمْسَةِ خَمْسَةً أُخْرَى: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ فَارَقْتُكِ خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْكِ بِنْتِ مِنِّي لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تَحْتَمِلُ الشَّتْمَ كَمَا تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فَيَقُولُ الزَّوْجُ لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ لِشَرِّكِ وَفَارَقْتُكِ فِي الْمَكَانِ لِكَرَاهَةِ اجْتِمَاعِي مَعَكِ وَخَلَّيْتُ سَبِيلَكِ وَمَا أَنْتِ عَلَيْهِ وَلَا مِلْكَ لِي عَلَيْك لِأَنَّكِ أَقَلُّ مِنْ أَنْ أَتَمَلَّكَكِ وَبِنْتِ مِنَى لِأَنَّك بَائِنٌ مِنْ الدِّينِ أَوْ الْخَيْرِ وَحَالُ الْغَضَبِ يَصْلُحُ لَهُمَا، وَحَالُ ذِكْرِ الطَّلَاقِ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلطَّلَاقِ لِمَا ذَكَرْنَا فَالْتَحَقَتْ بِالْخَمْسَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. (وَأَمَّا) الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَبَقِيَّةُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ لَا تَصْلُحُ لِلشَّتْمِ وَتَصْلُحُ لِلتَّبْعِيدِ وَالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُبْعِدُ الزَّوْجَةَ عَنْ نَفْسِهِ حَالَ الْغَضَبِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَكَذَا حَالَ سُؤَالِ الطَّلَاقِ فَالْحَالُ لَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ أَحَدِهِمَا فَإِذَا قَالَ: مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَالظَّاهِرُ لَا يُخَالِفُهُ فَيُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: وَهَبْتُكِ لِأَهْلِكِ قَبِلُوهَا أَوْ لَمْ يَقْبَلُوهَا لِأَنَّهَا هُنَا تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ تُرَدُّ إلَى أَهْلِهَا وَتَحْتَمِلُ التَّبْعِيدَ عَنْ نَفْسِهِ وَالنَّقْلَ إلَى أَهْلِهَا مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ. وَالْحَالُ لَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ أَحَدِهِمَا فَبَقِيَ مُحْتَمَلًا، وَسَوَاءٌ قَبِلَهَا أَهْلُهَا أَوْ لَمْ يَقْبَلُوهَا؛ لِأَنَّ كَوْنَ التَّصَرُّفِ هِبَةً فِي الشَّرْعِ لَا يَقِفُ عَلَى قَبُولِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الْقَبُولِ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ فَكَانَ الْقَبُولُ شَرْطَ الْحُكْمِ وَهُوَ الْمِلْكُ، وَأَهْلُهَا لَا يَمْلِكُونَ طَلَاقَهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقَبُولِ. وَكَذَا إذَا قَالَ: وَهَبْتُكِ لِأَبِيكِ أَوْ لِأُمِّكِ أَوْ لِلْأَزْوَاجِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْمَرْأَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ تُرَدُّ إلَى أَبِيهَا وَأُمِّهَا وَتُسَلَّمُ إلَيْهِمَا وَيَمْلِكُهَا الْأَزْوَاجُ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَإِنْ قَالَ: وَهَبْتُكِ لِأَخِيكِ أَوْ لِأُخْتِكِ أَوْ لِخَالَتِكِ أَوْ لِعَمَّتِكِ أَوْ لِفُلَانٍ الْأَجْنَبِيِّ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُرَدُّ بَعْدَ الطَّلَاقِ عَلَى هَؤُلَاءِ عَادَةً، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: لَسْت - لِي بِامْرَأَةٍ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: مَا أَنَا بِزَوْجِكِ، أَوْ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ هَلْ لَك امْرَأَةٌ؟ فَقَالَ: لَا فَإِنْ قَالَ أَرَدْتُ الْكَذِبَ يُصَدَّقُ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ جَمِيعًا وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَإِنْ قَالَ: نَوَيْتُ الطَّلَاقَ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَإِنْ نَوَى وَلَوْ قَالَ: لَمْ أَتَزَوَّجْك وَنَوَى الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْإِجْمَاعِ. وَكَذَا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ لِي بِامْرَأَةٍ أَوْ قَالَ: عَلَيَّ حُجَّةٌ مَا أَنْتِ لِي بِامْرَأَةٍ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى بِالِاتِّفَاقِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: لَسْتِ لِي بِامْرَأَةٍ أَوْ لَا مَرْأَةَ لِي أَوْ مَا أَنَا بِزَوْجِك كَذِبٌ؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ انْتِفَاءِ الزَّوْجِيَّةِ مَعَ قِيَامِهَا فَيَكُونُ كَذِبًا فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ كَمَا إذَا قَالَ: لَمْ أَتَزَوَّجْكِ أَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ لِي بِامْرَأَةٍ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَسْتِ لِي بِامْرَأَةٍ لِأَنِّي قَدْ طَلَّقْتُكِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ، وَكُلُّ لَفْظٍ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ إذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا كَقَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِخِلَافِ لَمْ أَتَزَوَّجْكِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ نَفْيُ فِعْلِ التَّزَوُّجِ أَصْلًا وَرَأْسًا وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ لِي بِامْرَأَةٍ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى النَّفْيِ تَتَنَاوَلُ الْمَاضِيَ وَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْحَاجَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانِ قَدْ يَتَزَوَّجُ بِمَنْ لَا حَاجَةَ لَهُ إلَى تَزَوُّجِهَا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ النِّكَاحِ فَلَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ قَالَ: لِامْرَأَتِهِ أَفْلِحِي يُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ إنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَفْلِحِي بِمَعْنَى اذْهَبِي فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ لِلرَّجُلِ: أَفْلِحْ بِخَيْرٍ أَيْ: اذْهَبْ بِخَيْرٍ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: اذْهَبِي يُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا كَذَا هَذَا وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: أَفْلِحِي أَيْ: اظْفَرِي بِمُرَادِكِ يُقَالُ: أَفْلَحَ الرَّجُلُ إذَا ظَفِرَ بِمُرَادِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَرَادُهَا الطَّلَاقَ فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ فَإِذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَلَوْ قَالَ: فَسَخْتُ النِّكَاحَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ وَنَوَى الطَّلَاقَ يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ فَسْخَ النِّكَاحِ نَقْضُهُ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْإِبَانَةِ. وَلَوْ قَالَ: وَهَبْتُ لَك طَلَاقًا. وَقَالَ أَرَدْتُ بِهِ أَنْ يَكُونَ

الطَّلَاقُ فِي يَدِك لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَقْتَضِي زَوَالَ الْمِلْكِ، وَهِبَةُ الطَّلَاقِ مِنْهَا تَقْتَضِي زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْ الطَّلَاقِ وَذَلِكَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَجَعْلُ الطَّلَاقِ فِي يَدِهَا تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ إيَّاهَا فَلَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِلْإِزَالَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ، وَتَمْلِيكُ الطَّلَاقِ إيَّاهَا هُوَ أَنْ يُجْعَلَ إلَيْهَا إيقَاعُهُ، وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: وَهَبْتُ لَك طَلَاقَكِ أَيْ: أَعْرَضْتُ عَنْ إيقَاعِهِ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَقَالَتْ لَهُ: هَبْ لِي طَلَاقِي تُرِيدُ: أَعْرِضْ عَنْهُ فَقَالَ: قَدْ وَهَبْتُ لَك طَلَاقَك يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تَرْكَ الْإِيقَاعِ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ بِهِ فَيَنْصَرِفُ الْجَوَابُ إلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: تَرَكْتُ طَلَاقَكِ أَوْ خَلَّيْتُ سَبِيلَ طَلَاقِكِ، وَهُوَ يُرِيدُ الطَّلَاقَ وَقَعَ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الطَّلَاقِ وَتَخْلِيَةَ سَبِيلِهِ قَدْ يَكُونُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَقَدْ يَكُونُ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ وَذَلِكَ بِإِيقَاعِهِ فَكَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ، فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ، وَلَوْ قَالَ: أَعْرَضْتُ عَنْ طَلَاقِكِ أَوْ صَفَحْتُ عَنْ طَلَاقِكِ وَنَوَى الطَّلَاقَ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ الطَّلَاقِ يَقْتَضِي تَرْكَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَالصَّفْحُ هُوَ الْإِعْرَاضُ فَلَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَلَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ. وَكَذَا كُلُّ لَفْظٍ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ نَوَى، مِثْلُ قَوْلِهِ: بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْك أَوْ قَالَ لَهَا: أَطْعِمِينِي أَوْ اسْقِينِي وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ مَا يَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ وَبَيْنَ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ بِأَنْ قَالَ لَهَا: اذْهَبِي وَكُلِي، أَوْ قَالَ اذْهَبِي وَبِيعِي الثَّوْبَ، وَنَوَى الطَّلَاقَ بِقَوْلِهِ اذْهَبِي ذُكِرَ فِي اخْتِلَاف زُفَرَ وَيَعْقُوبَ أَنَّ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: لَا يَكُونُ طَلَاقًا وَفِي قَوْلِ زُفَرَ يَكُونُ طَلَاقًا. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَيْنِ: أَحَدَهُمَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَالْآخَرَ لَا يَحْتَمِلُهُ فَيَلْغُوَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَيَصِحُّ مَا يَحْتَمِلُهُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ قَوْلَهُ: اذْهَبِي مَقْرُونًا بِقَوْلِهِ كُلِي أَوْ بِيعِي لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اذْهَبِي لِتَأْكُلِي الطَّعَامَ وَاذْهَبِي لِتَبِيعِي الثَّوْبَ، وَالذَّهَابُ لِلْأَكْلِ وَالْبَيْعِ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فَلَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ، وَلَوْ نَوَى فِي شَيْءٍ مِنْ الْكِنَايَاتِ الَّتِي هِيَ بَوَائِنُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثًا مِثْلُ قَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَكُونُ ثَلَاثًا إلَّا فِي قَوْلِهِ: اخْتَارِي؛ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ نَوْعَانِ: غَلِيظَةٌ وَخَفِيفَةٌ، فَالْخَفِيفَةُ هِيَ الَّتِي تُحِلُّ لَهُ الْمَرْأَةَ بَعْدَ بَيْنُونَتِهَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ بِدُونِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَالْغَلِيظَةُ مَا لَا تُحِلُّ لَهُ إلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ بَعْدَ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رُكَانَةَ بْنَ زَيْدٍ أَوْ زَيْدَ بْنَ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ فَاسْتَحْلَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَرَدْتَ ثَلَاثًا فَلَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلثَّلَاثِ لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِحْلَافِ مَعْنًى. وَكَذَا قَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَحْتَمِلُ الْحُرْمَةَ الْغَلِيظَةَ وَالْخَفِيفَةَ فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى إحْدَى نَوْعَيْ الْحُرْمَةِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ وَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ كَانَتْ وَاحِدَةً فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: يَقَعُ مَا نَوَى. وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْحُرْمَةَ وَالْبَيْنُونَةَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: خَفِيفَةٌ وَغَلِيظَةٌ وَمُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ نَوَى أَحَدَ النَّوْعَيْنِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ فَكَذَا إذَا نَوَى الثَّلَاثَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الْكُلَّ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ. (وَلَنَا) أَنَّ قَوْلَهُ: بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ اسْمٌ لِلذَّاتِ، وَالذَّاتُ وَاحِدَةٌ فَلَا تَحْتَمِلُ الْعَدَدَ وَإِنَّمَا اُحْتُمِلَ الثَّلَاثُ مِنْ حَيْثُ التَّوَحُّدُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَلَا تَوَحُّدَ فِي الِاثْنَيْنِ أَصْلًا، بَلْ هُوَ عَدَدٌ مَحْضٌ فَلَا يَحْتَمِلُهُ الِاسْمُ الْمَوْضُوعُ لِلْوَاحِدِ مَعَ أَنَّ الْحَاصِلَ بِالثِّنْتَيْنِ، وَالْحَاصِلَ بِالْوَاحِدَةِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ أَثَرَهُمَا فِي الْبَيْنُونَةِ وَالْحُرْمَةِ سَوَاءٌ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَحِلُّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ مِنْ غَيْرِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ؟ فَكَانَ الثَّابِتُ بِهِمَا بَيْنُونَةً خَفِيفَةً وَحُرْمَةً خَفِيفَةً كَالثَّابِتِ بِالْوَاحِدِ فَلَا يَكُونُ هَهُنَا قِسْمٌ ثَالِثٌ فِي الْمَعْنَى، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ الْأَمَةِ: أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ يَنْوِي الِاثْنَتَيْنِ يَقَعُ مَا نَوَى؛ لِأَنَّ الِاثْنَتَيْنِ فِي الْأَمَةِ كُلُّ جِنْسِ الطَّلَاقِ فِي حَقِّهَا فَكَانَ الثِّنْتَانِ فِي حَقِّ الْأَمَةِ كَالثَّلَاثِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ، وَقَالُوا: لَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ وَاحِدَةً ثُمَّ قَالَ لَهَا: أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ يَنْوِي اثْنَتَيْنِ كَانَتْ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الِاثْنَتَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا لَيْسَا كُلَّ جِنْسِ طَلَاقِ الْحُرَّةِ بِدُونِ الطَّلْقَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَبِينُ فَالِاثْنَتَيْنِ بَيْنُونَةٌ غَلِيظَةٌ بِدُونِهَا، وَلَوْ نَوَى بِقَوْلِهِ اعْتَدِّي اسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ ثَلَاثًا لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي حُكْمِ الصَّرِيحِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاقِعَ بِهَا رَجْعِيَّةٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى بِهِ الثَّلَاثَ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ وَاحِدَةٌ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُفَسَّرَ بِالثَّلَاثِ فَلَا يَحْتَمِلُ نِيَّةَ الثَّلَاثِ وَكَذَا قَوْلُهُ: اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَك؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَجْعِيٌّ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ وَاحِدَةٌ. وَكَذَا لَوْ نَوَى بِهَا اثْنَتَيْنِ لَا يَصِحُّ لِمَا قُلْنَا، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الِاثْنَتَيْنِ عَدَدٌ مَحْضٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

فصل في بيان صفة الواقع بكل واحد من نوعي الطلاق

(فَصْلٌ) : وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى قِرْطَاسٍ أَوْ لَوْحٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ حَائِطٍ كِتَابَةً مُسْتَبِينَةً لَكِنْ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُخَاطَبَةِ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَيُسْأَلُ عَنْ نِيَّتِهِ؛ فَإِنْ قَالَ: نَوَيْتُ بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَ، وَإِنْ قَالَ: لَمْ أَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ صُدِّقَ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكْتُبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَيُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ وَقَدْ يَكْتُبُ لِتَجْوِيدِ الْخَطِّ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الطَّلَاقِ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَإِنْ كُتِبَتْ كِتَابَةٌ غَيْرُ مُسْتَبِينَةٍ بِأَنْ كَتَبَ عَلَى الْمَاءِ أَوْ عَلَى الْهَوَاءِ فَذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى لَا يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى؛ لِأَنَّ مَا لَا تَسْتَبِينُ بِهِ الْحُرُوفُ لَا يُسَمَّى كِتَابَةً فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَإِنْ كَتَبَ كِتَابَةً مَرْسُومَةً عَلَى طَرِيقِ الْخِطَابِ وَالرِّسَالَةِ مِثْلُ: أَنْ يَكْتُبَ أَمَّا بَعْدَ يَا فُلَانَةُ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ إذَا وَصَلَ كِتَابِي إلَيْك فَأَنْتِ طَالِقٌ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَلَوْ قَالَ: مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ أَصْلًا لَا يُصَدَّقُ إلَّا أَنْ يَقُولَ: نَوَيْت طَلَاقًا مِنْ وَثَاقٍ فَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الْمَرْسُومَةَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْخِطَابِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُبَلِّغُ بِالْخِطَابِ مِرَّةً وَبِالْكِتَابِ أُخْرَى وَبِالرَّسُولِ ثَالِثًا؟ ، وَكَانَ التَّبْلِيغُ بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ كَالتَّبْلِيغِ بِالْخِطَابِ فَدَلَّ أَنَّ الْكِتَابَةَ الْمَرْسُومَةَ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ فَصَارَ كَأَنَّهُ خَاطَبَهَا بِهَا بِالطَّلَاقِ عِنْدَ الْحَضْرَةِ فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهَا رَسُولًا بِالطَّلَاقِ عِنْدَ الْغَيْبَةِ فَإِذَا قَالَ: مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ فَقَدْ أَرَادَ صَرْفَ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَلَا يُصَدَّقُ، ثُمَّ إنْ كَتَبَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْسُومِ وَلَمْ يَعْقِلْهُ بِشَرْطٍ بِأَنْ كَتَبَ أَمَّا بَعْدُ يَا فُلَانَةُ فَأَنْتِ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَقِيبَ كِتَابَةِ لَفْظِ الطَّلَاقِ بِلَا فَصْلٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كِتَابَةَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى طَرِيقِ الْمُخَاطَبَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّلَفُّظِ بِهَا. وَإِنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطِ الْوُصُولِ إلَيْهَا بِأَنْ كَتَبَ إذَا وَصَلَ كِتَابِي إلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْوُقُوعَ بِشَرْطِ الْوُصُولِ فَلَا يَقَعُ قَبْلَهُ كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ آخَرَ، وَقَالُوا فِيمَنْ كَتَبَ كِتَابًا - عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ وَكَتَبَ إذَا وَصَلَ كِتَابِي إلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ مَحَا ذِكْرَ الطَّلَاقِ مِنْهُ وَأَنْفَذَ الْكِتَابَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ كَلَامٌ يُسَمَّى كِتَابًا وَرِسَالَةً - وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ وُصُولُ الْكِتَابِ إلَيْهَا، فَإِنْ مَحَا مَا فِي الْكِتَابِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ كَلَامٌ يَكُونُ رِسَالَةً لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ وَإِنْ وَصَلَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُصُولُ الْكِتَابِ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنْهُ لَا يُسَمَّى كِتَابًا فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ فِي الشَّرْعِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ صِفَةِ الْوَاقِعِ بِكُلِّ وَاحِد مِنْ نوعي الطَّلَاق] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ صِفَةِ الْوَاقِعِ بِهَا: فَالْوَاقِعُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا مِنْ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ نَوْعَانِ: رَجْعِيٌّ وَبَائِنٌ أَمَّا الصَّرِيحُ الرَّجْعِيُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً غَيْرَ مَقْرُونٍ بِعِوَضٍ وَلَا بِعَدَدِ الثَّلَاثِ لَا نَصًّا وَلَا إشَارَةً وَلَا مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تُنْبِئُ عَنْ الْبَيْنُونَةِ أَوْ تَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَلَا مُشَبَّهٍ بِعَدَدٍ أَوْ وَصْفٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا وَأَمَّا الصَّرِيحُ الْبَائِنُ فَبِخِلَافِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِحُرُوفِ الْإِبَانَةِ أَوْ بِحُرُوفِ الطَّلَاقِ، لَكِنْ قَبْلَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً أَوْ بَعْدَهُ، لَكِنْ مَقْرُونًا بِعَدَدِ الثَّلَاثِ نَصًّا أَوْ إشَارَةً أَوْ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهَا إذَا عُرِفَ هَذَا فَصَرِيحُ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً يَكُونُ بَائِنًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَنْ شَرْطٍ أَنْ يُفِيدَ الْحُكْمَ فِيمَا وُضِعَ لَهُ لِلْحَالِ وَالتَّأَخُّرِ فِيمَا بَعْدَ الدُّخُولِ إلَى وَقْتِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثَبَتَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْأَصْلِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيمَا قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى الْأَصْلِ، وَلَوْ خَلَا بِهَا خَلْوَةً صَحِيحَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا صَرِيحَ الطَّلَاقِ. وَقَالَ: لَمْ أُجَامِعْهَا كَانَ طَلَاقًا بَائِنًا حَتَّى لَا يَمْلِكَ مُرَاجَعَتَهَا وَإِنْ كَانَ لِلْخَلْوَةِ حُكْمُ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدُخُولٍ حَقِيقَةً فَكَانَ هَذَا طَلَاقًا قَبْلَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً فَكَانَ بَائِنًا وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِعِوَضٍ وَهُوَ الْخُلْعُ بِبَدَلٍ وَالطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ بِعِوَضٍ طَلَاقٌ عَلَى مَالٍ عِنْدَنَا عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالنَّفْسِ، وَقَدْ مَلَكَ الزَّوْجُ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ بِنَفْسِ الْقَبُولِ وَهُوَ مَالُهَا فَتَمْلِكُ هِيَ الْعِوَضَ الْآخَرَ وَهُوَ نَفْسَهَا تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَلَا تَمْلِكُ إلَّا بِالْبَائِنِ فَكَانَ الْوَاقِعُ بَائِنًا. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِعَدَدِ الثَّلَاثِ نَصًّا بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَكَذَا إذَا أَشَارَ إلَى عَدَدِ الثَّلَاثِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا يُشِيرُ بِالْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَإِنْ أَشَارَ بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَإِنْ أَشَارَ بِاثْنَتَيْنِ فَهِيَ اثْنَتَانِ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ مَتَى تَعَلَّقَتْ بِهَا الْعِبَارَةُ نُزِّلَتْ مَنْزِلَةَ الْكَلَامِ لِحُصُولِ مَا وُضِعَ لَهُ الْكَلَامُ بِهَا وَهُوَ الْإِعْلَامُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْعُرْفُ وَالشَّرْعُ أَيْضًا أَمَّا الْعُرْفُ فَظَاهِرٌ. (وَأَمَّا) الشَّرْعُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَصَابِعِ يَدَيْهِ كُلِّهَا» فَكَانَ بَيَانًا أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَحَبَسَ إبْهَامَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ» فَكَانَ بَيَانًا أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَإِذَا قَامَتْ الْإِشَارَةُ مَعَ تَعَلُّقِ الْعِبَارَةِ بِهَا مَقَامَ الْكَلَامِ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْأَصَابِعِ عَدَدُ الْمُرْسَلِ مِنْهَا دُونَ الْمَقْبُوضِ لِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَ: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَقَبَضَ إبْهَامَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ فُهِمَ مِنْهُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَلَوْ اُعْتُبِرَ الْمَقْبُوضُ لَكَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَدَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِشَارَةِ بِالْأَصَابِعِ الْمُرْسَلُ مِنْهَا لَا الْمَقْبُوضُ. وَكَذَا إذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تُنْبِئُ عَنْ الْبَيْنُونَةِ أَوْ تَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ مِثْلُ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ حَرَامٌ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ أَتَى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَأَنَّهُ مُعَقِّبٌ لِلرَّجْعَةِ، فَلَمَّا قَالَ: بَائِنٌ فَقَدْ أَرَادَ تَغْيِيرَ الْمَشْرُوعِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَالَ: أَعَرْتُكِ عَارِيَّةً لَا رَدَّ فِيهَا، وَكَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَقَالَ: أَرَدْتُ بِهِ الْإِبَانَةَ، وَلَنَا أَنَّهُ وَصَفَ الْمَرْأَةَ بِالْبَيْنُونَةِ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَأَنَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْبَيْنُونَةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَحْصُلُ الْبَيْنُونَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؟ فَكَانَ قَوْلُهُ: بَائِنٌ قَرِينَةً مُبَيِّنَةً لَا مُغَيِّرَةً، ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَا يَقَعُ تَطْلِيقَةٌ بِقَوْلِهِ طَالِقٌ وَالْأُخْرَى بِقَوْلِهِ بَائِنٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: بَائِنٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ يَصْلُحُ وَصْفًا لِلْمَرْأَةِ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا مُقْتَضًى وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ فَيُؤْخَذُ فِيهِ بِالْأَدْنَى. وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً قَوِيَّةً أَوْ شَدِيدَةً؛ لِأَنَّ الشِّدَّةَ تُنْبِئُ عَنْ الْقَوِيَّةِ، وَالْقَوِيُّ هُوَ الْبَائِنُ. وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً طَوِيلَةً أَوْ عَرِيضَةً؛ لِأَنَّ الطُّولَ وَالْعَرْضَ يَقْتَضِيَانِ الْقُوَّةَ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ هُنَا إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَهُوَ رَجْعِيٌّ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ هُوَ بَائِنٌ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالطُّولِ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً طَوِيلَةً (وَلَنَا) أَنَّهُ وَصَفَهُ بِالطُّولِ صُورَةً وَبِالْقَصْرِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إذَا وَقَعَ فِي مَكَان يَقَعُ فِي الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا فَكَانَ الْقَصْرُ عَلَى بَعْضِ الْأَمَاكِنِ وَصْفًا لَهُ بِالْقَصْرِ، وَالطَّلْقَةُ الْقَصِيرَةُ هِيَ الرَّجْعِيَّةُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَشَدَّ الطَّلَاقِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَائِنِ أَشَدُّ مِنْ حُكْمِ الرَّجْعِيِّ فَيَقَعُ بَائِنًا وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ أَلِفَ التَّفْضِيلِ قَدْ تُذْكَرُ لِبَيَانِ أَصْلِ التَّفَاوُتِ وَهُوَ مُطْلَقُ التَّفَاوُتِ وَذَلِكَ فِي الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ؛ لِأَنَّهَا أَشَدُّ حُكْمًا مِنْ الرَّجْعِيَّةِ وَقَدْ تُذْكَرُ لِبَيَانِ نِهَايَةِ التَّفَاوُتِ وَهُوَ مُطْلَقُ التَّفَاوُتِ وَذَلِكَ فِي الثَّلَاثِ، فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَدْنَى؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مِلْءَ الْبَيْتِ فَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ كَانَ ثَلَاثًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِلْءَ الْبَيْتِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْكَثْرَةَ وَالْعَدَدَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصِّفَةَ وَهِيَ الْعِظَمُ وَالْقُوَّةُ فَأَيُّ ذَلِكَ نَوَى فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَعِنْدَ انْعِدَامِ النِّيَّةِ يُحْمَلُ عَلَى الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا بِهَا، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَقْبَحَ الطَّلَاقِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ هُوَ رَجْعِيٌّ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ هُوَ بَائِنٌ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالْقُبْحِ وَالطَّلَاقُ الْقَبِيحُ هُوَ الطَّلَاقُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَهُوَ الْبَائِنُ فَيَقَعُ بَائِنًا وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَقْبَحَ الطَّلَاقِ يَحْتَمِلُ الْقُبْحَ الشَّرْعِيَّ، وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَيَحْتَمِلُ الْقُبْحَ الطَّبَعِيَّ وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ الطَّبِيعِيَّةُ وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي وَقْتٍ يُكْرَهُ الطَّلَاقُ فِيهِ طَبْعًا فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ فِيهِ بِالشَّكِّ. وَكَذَا قَوْلُهُ: أَقْبَحَ الطَّلَاقِ يَحْتَمِلُ الْقُبْحَ بِجِهَةِ الْإِبَانَةِ وَيَحْتَمِلُ الْقُبْحَ بِإِيقَاعِهِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْبَائِنِ وَقَدْ تَكُونُ فِي الطَّلَاقِ حَالَةَ الْحَيْضِ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ فَلَا تَثْبُت الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ وَنَوَى وَاحِدَةً بَائِنَةً تَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ، وَلَوْ شَبَّهَ صَرِيحَ الطَّلَاقَ بِالْعَدَدِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ شَبَّهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا لَهُ عَدَدٌ وَإِمَّا أَنْ شَبَّهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا لَا عَدَدَ لَهُ فَإِنْ شَبَّهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا هُوَ ذُو عَدَدٍ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَأَلْفٍ أَوْ مِثْلِ أَلْفٍ فَهُنَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ: (الْأَوَّلِ) هَذَا. (وَالثَّانِي) أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً كَأَلْفٍ أَوْ مِثْلِ أَلْفٍ، وَالثَّالِثِ أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ

فصل في ألفاظ الكناية في الطلاق

كَعَدَدِ أَلْفٍ (أَمَّا) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَهُوَ ثَلَاثٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ: مُحَمَّدٌ هُوَ ثَلَاثٌ، وَلَوْ قَالَ: نَوَيْت بِهِ وَاحِدَةً دَيَّنْته فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ أُدَيِّنْهُ فِي الْقَضَاءِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: كَأَلْفٍ تَشْبِيهٌ بِالْعَدَدِ إذْ الْأَلْفُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ فَصَارَ كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَى الْعَدَدِ فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَعَدَدِ أَلْفٍ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ كَانَ ثَلَاثًا كَذَا هَذَا، وَلَهُمَا أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْأَلْفِ يَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ وَيَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ وَهُوَ صِفَةُ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ الرِّجَالِ قَدْ يُشَبَّهُ بِأَلْفِ رَجُلٍ فِي الشَّجَاعَةِ، وَإِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لَهُمَا فَلَا يَثْبُتُ الْعَدَدُ إلَّا بِالنِّيَّةِ، فَإِذَا نَوَى فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَعِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ يُحْمَلُ عَلَى الْأَدْنَى؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ بِهِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْعَدَدِ بِالشَّكِّ. وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً كَأَلْفٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَى الْوَاحِدَةِ عُلِمَ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ التَّشْبِيهَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ فَتَعَيَّنَ التَّشْبِيهُ فِي الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ. وَذَلِكَ فِي الْبَائِنِ فَيَقَعُ بَائِنًا. وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَعَدَدِ أَلْفٍ أَوْ كَعَدَدِ ثَلَاثٍ أَوْ مِثْلِ عَدَدِ ثَلَاثٍ فَهُوَ ثَلَاثٌ فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ نَوَى غَيْرَ ذَلِكَ فَنِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْعَدَدِ يَنْفِي احْتِمَالَ إرَادَةِ الْوَاحِدِ فَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الثَّلَاثَ أَصْلًا كَمَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَنَوَى الْوَاحِدَةَ، وَإِنْ شَبَّهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا لَا عَدَدَ لَهُ بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِثْلُ عَدَدِ كَذَا أَوْ كَعَدَدِ كَذَا لِشَيْءٍ لَا عَدَدَ لَهُ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا لَا عَدَدَ لَهُ لَغْوٌ فَبَطَلَ التَّشْبِيهُ، وَقَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّشْبِيهِ يَقْتَضِي ضَرْبًا مِنْ الزِّيَادَةِ لَا مَحَالَةَ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الزِّيَادَةِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ فَيُحْمَلُ عَلَى الزِّيَادَةِ مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ، وَقَالُوا فِيمَنْ قَالَ: لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ عَدَدَ شَعْرِ رَاحَتِي أَوْ عَدَدَ مَا عَلَى ظَهْرِ كَفِّي مِنْ الشَّعْرِ وَقَدْ حَلَقَ ظَهَرَ كَفِّهِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ بِمَا لَا عَدَدَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِوُجُودِ الشَّعْرِ عَلَى رَاحَتِهِ أَوْ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ لِلْحَالِ وَلَيْسَ عَلَى رَاحَتِهِ وَلَا عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ شَعْرٌ لِلْحَالِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّشَبُّهُ بِالْعَدَدِ فَلَغَا التَّشَبُّهُ وَبَقِيَ قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ فَيَكُونُ رَجْعِيًّا وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَدَدَ شَعْرِ رَأْسِي وَعَدَدَ شَعْرِ ظَهْرِ كَفِّي وَقَدْ حَلَقَهُ طَلُقَتْ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ بِمَا لَهُ عَدَدٌ؛ لِأَنَّ شَعْرَ رَأْسِهِ ذُو عَدَدٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ فَكَانَ هَذَا تَشْبِيهًا بِهِ حَالَ وُجُودِهِ، وَهُوَ حَالَ وُجُودِهِ ذُو عَدَدٍ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيقُ التَّشْبِيهِ بِوُجُودِهِ لِلْحَالِ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ لِلْحَالِ، فَيَلْغُو التَّشْبِيهُ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مِثْلَ الْجَبَلِ أَوْ مِثْلَ حَبَّةِ الْخَرْدَلِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ قَوْلَهُ: مِثْلُ الْجَبَلِ أَوْ مِثْلُ حَبَّةِ الْخَرْدَلِ يَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ فِي التَّوَحُّدِ؛ لِأَنَّ الْجَبَلَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ يَقْتَضِي زِيَادَةً لَا مَحَالَةَ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذِي عَدَدٍ لِكَوْنِهِ وَاحِدًا فِي الذَّاتِ فَيُحْمَلُ عَلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الصِّفَةِ وَهِيَ الْبَيْنُونَةُ فَيُحْمَلُ عَلَى الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ؛ لِأَنَّهَا الْمُتَيَقَّنُ بِهَا، وَلَوْ قَالَ مِثْلَ عِظَمِ الْجَبَلِ أَوْ قَالَ: مِثْلَ عِظَمِ كَذَا فَأَضَافَ ذَلِكَ إلَى صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ وَاحِدَةً وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَهُوَ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْجَبَلِ فِي الْعِظَمِ فَهَذَا يَقْتَضِي زِيَادَةً لَا مَحَالَةَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الصَّرِيحُ ثُمَّ إنْ كَانَ قَدْ سَمَّى وَاحِدَةً تَعَيَّنَتْ الْوَاحِدَةُ الْبَائِنَةُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا لَا تَكُونُ إلَّا الْبَيْنُونَةَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُسَمِّ وَاحِدَةً احْتَمَلَ الزِّيَادَةَ فِي الصِّفَةِ وَهِيَ الْبَيْنُونَةُ بِوَاحِدَةٍ أَوْ بِالثَّلَاثِ فَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ يَكُونُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يُحْمَلُ عَلَى الْوَاحِدَةِ لِكَوْنِهَا أَدْنَى وَالْأَدْنَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ شَكٌّ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِثْلَ هَذَا وَهَذَا وَأَشَارَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ فَإِنْ نَوَى بِهِ ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً بَائِنَةً فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ الطَّلَاقَ بِمَا لَهُ عَدَدٌ فَيَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ وَيَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ فِي الصِّفَةِ وَهِيَ الشِّدَّةُ فَإِذَا نَوَى بِهِ الثَّلَاثَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ كَأَلْفٍ وَإِذَا نَوَى بِهِ الْوَاحِدَةَ كَانَتْ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ التَّشْبِيهَ فِي الصِّفَةِ. وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يُحْمَلُ عَلَى التَّشْبِيهِ مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ لِأَنَّهُ أَدْنَى وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي أَلْفَاظ الْكِنَايَةِ فِي الطَّلَاق] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ: مِنْ الْكِنَايَاتِ رَوَاجِعُ بِلَا خِلَافٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: اعْتَدِّي، وَاسْتَبِرِي رَحِمَك،

وَأَنْتِ وَاحِدَةً أَمَّا قَوْلُهُ: اعْتَدِّي فَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْقِيَاسُ فِي قَوْلِهِ اعْتَدِّي أَنْ يَكُونَ بَائِنًا وَإِنَّمَا اتَّبَعْنَا الْأَثَرَ وَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ بَائِنًا وَإِنَّمَا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اعْتَدِّي فَنَاشَدَتْهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا لِتَجْعَلَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حَتَّى تُحْشَرَ فِي جُمْلَةِ أَزْوَاجِهِ فَرَاجَعَهَا وَرَدَّ عَلَيْهَا يَوْمَهَا، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ اعْتَدِّي أَمْرٌ بِالِاعْتِدَادِ. وَالِاعْتِدَادُ يَقْتَضِي سَابِقَةَ الطَّلَاقِ وَالْمُقْتَضَى يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ فَيُتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِالْأَقَلِّ وَهُوَ الْوَاحِدَةُ الرَّجْعِيَّةُ فَلَا يَثْبُتُ مَا سِوَاهَا ثُمَّ قَوْلُهُ: اعْتَدِّي إنَّمَا يُجْعَلُ مُقْتَضِيًا لِلطَّلَاقِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا. وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَإِنَّهُ يُجْعَلُ مُسْتَعَارًا مِنْ الطَّلَاقِ، وَقَوْلُهُ: اسْتَبْرِي رَحِمَك تَفْسِيرُ قَوْلِهِ اعْتَدِّي؛ لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ شُرِعَ لِلِاسْتِبْرَاءِ فَيُفِيدُ مَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: اعْتَدِّي وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنْتِ وَاحِدَةً فَلِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى الطَّلَاقَ فَقَدْ جَعَلَ قَوْلَهُ: وَاحِدَةً نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ الطَّلْقَةُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً كَمَا يُقَالُ: أَعْطَيْتُهُ جَزِيلًا أَيْ: عَطَاءً جَزِيلًا وَاخْتُلِفَ فِي الْبَوَاقِي مِنْ الْكِنَايَاتِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إنَّهَا بَوَائِنُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: رَوَاجِعُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ كِنَايَاتُ الطَّلَاقِ فَكَانَتْ مَجَازًا عَنْ الطَّلَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَعْمَلُ بِدُونِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ فَكَانَ الْعَامِلُ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَهُوَ الْمُكَنَّى عَنْهُ لَا الْمَجَازُ الَّذِي هُوَ الْكِنَايَةُ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ رَوَاجِعَ فَكَذَا الْبَوَاقِي، وَلَنَا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَأَنَّهَا صَالِحَةٌ لِإِثْبَاتِ الْبَيْنُونَةِ، وَالْمَحِلُّ قَابِلٌ لِلْبَيْنُونَةِ فَإِذَا وُجِدَتْ مِنْ الْأَهْلِ ثَبَتَتْ الْبَيْنُونَةُ اسْتِدْلَالًا بِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَالِحَةٌ لِإِثْبَاتِ الْبَيْنُونَةِ فَإِنَّهُ تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَيَثْبُتُ بِهِ قَبُولُ الْمَحِلِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْبَيْنُونَةِ فِي مَحِلٍّ لَا يَحْتَمِلُهَا مُحَالٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ قَوْله تَعَالَى {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وقَوْله تَعَالَى {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] ، وَقَوْلُهُ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] . وَالتَّسْرِيحُ وَالْمُفَارَقَةُ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَرُوِيَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَرَأَى فِي كَشْحِهَا بَيَاضًا فَقَالَ لَهَا: الْحَقِي بِأَهْلِكِ، وَهَذَا مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ وَأَنَّ رُكَانَةَ بْنَ زَيْدٍ أَوْ زَيْدَ بْنَ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ فَحَلَّفَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَرَادَ بِهَا الثَّلَاثَ، وَقَوْلُهُ: أَلْبَتَّةَ مِنْ الْكِنَايَاتِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ مَشْرُوعٌ فَوُجُودُ التَّصَرُّفِ - حَقِيقَةً - بِوُجُودِ رُكْنِهِ وَوُجُودُهُ - شَرْعًا - بِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَحُلُولِهِ فِي مَحِلِّهِ، وَقَدْ وُجِدَ فَتَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ وَإِذَا ثَبَتَتْ الْبَيْنُونَةُ فَقَدْ زَالَ الْمِلْكُ فَلَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ؛ وَلِأَنَّ شَرْعَ الطَّلَاقِ فِي الْأَصْلِ لِمَكَانِ الْمَصْلَحَةِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ قَدْ تَخْتَلِفُ أَخْلَاقُهُمَا وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَخْلَاقِ لَا يَبْقَى النِّكَاحُ مَصْلَحَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى وَسِيلَةً إلَى الْمَقَاصِدِ فَتَنْقَلِبُ الْمَصْلَحَةُ إلَى الطَّلَاقِ لِيَصِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى زَوْجٍ يُوَافِقُهُ فَيَسْتَوْفِي مَصَالِحَ النِّكَاحِ مِنْهُ إلَّا أَنَّ الْمُخَالَفَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَقَدْ تَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ، فَالشَّرْعُ شَرَعَ الطَّلَاقَ وَفَوَّضَ طَرِيقَ دَفْعِ الْمُخَالَفَةِ وَالْإِعَادَةِ إلَى الْمُوَافَقَةِ إلَى الزَّوْجِ لِاخْتِصَاصِهِ بِكَمَالِ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ فَيَنْظُرُ فِي حَالِ نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ مِنْ جِهَتِهِ يُطَلِّقُهَا طَلَاقًا وَاحِدًا رَجْعِيًّا أَوْ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَيُجَرِّبُ نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا وَلَا يَمِيلُ قَلْبُهُ إلَيْهَا يَتْرُكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا رَاجَعَهَا وَإِنْ كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ مِنْ جِهَتِهَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى أَنْ تَتُوبَ وَتَعُودَ إلَى الْمُوَافَقَةِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ؛ لِأَنَّهَا إذَا عَلِمَتْ أَنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا قَائِمٌ لَا تَتُوبُ فَيُحْتَاجُ إلَى الْإِبَانَةِ الَّتِي بِهَا يَزُولُ الْحِلُّ وَالْمِلْكُ لِتَذُوقَ مَرَارَةَ الْفِرَاقِ فَتَعُودُ إلَى الْمُوَافَقَةِ عَسَى وَإِذَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي الطَّلَاقِ بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِ الْإِبَانَةِ عَاجِلًا وَآجِلًا تَحْقِيقًا لِمَصَالِحِ النِّكَاحِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَقَوْلُهُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَجَازٌ عَنْ الطَّلَاقِ مَمْنُوعٌ، بَلْ هِيَ حَقَائِقُ عَامِلَةٌ بِأَنْفُسِهَا؛ لِأَنَّهَا صَالِحَةٌ لِلْعَمَلِ بِأَنْفُسِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فَكَانَ وُقُوعُ الْبَيْنُونَةِ بِهَا لَا بِالْمُكَنَّى عَنْهُ عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا مَجَازٌ عَنْ الطَّلَاقِ فَلَفْظُ الْمَجَازِ عَامِلٌ بِنَفْسِهِ أَيْضًا كَلَفْظِ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الْمَجَازَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْكَلَامِ فَيَعْمَلُ بِنَفْسِهِ كَالْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ لِلْمَجَازِ عُمُومًا كَالْحَقِيقَةِ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لِتَنَوُّعِ الْبَيْنُونَةِ وَالْحُرْمَةِ إلَى الْغَلِيظَةِ وَالْخَفِيفَةِ فَكَانَ الشَّرْطُ فِي الْحَقِيقَةِ نِيَّةَ التَّمْيِيزِ وَتَعْيِينَ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ لَا نِيَّةَ الطَّلَاقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَسْتَوِي فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَالرَّجْعِيِّ وَالْبَائِنِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ الزَّوْجِ بِنَفْسِهِ

فصل في قوله أمرك بيدك

بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ أَوْ بِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ أَوْ أَمْرِهِ. وَذَلِكَ نَوْعَانِ: تَوْكِيلٌ، وَتَفْوِيضٌ أَمَّا التَّفْوِيضُ فَنَحْوُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ وَقَوْلِهِ اخْتَارِي، وَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ وَقَوْلِهِ: طَلِّقِي نَفْسَكِ. [فَصْلٌ فِي قَوْلِهِ أَمْرُكِ بِيَدِكِ] (فَصْلٌ) : أَمَّا قَوْلُهُ: أَمْرُك بِيَدِك فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ هَذَا التَّفْوِيضِ، وَهُوَ جَعْلُ الْأَمْرِ بِالْيَدِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ بَقَائِهِ وَمَا يَبْطُلُ بِهِ وَمَا لَا يَبْطُلُ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ وَفِي بَيَانِ مَا يَصْلُحُ جَوَابَ الْأَمْرِ بِالْيَدِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَبَيَانُ حُكْمِهَا إذَا وُجِدَتْ أَمَّا بَيَانُ صِفَتِهِ فَهُوَ أَنَّهُ لَازِمٌ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الرُّجُوعَ عَنْهُ وَلَا نَهْيَ الْمَرْأَةِ عَمَّا جُعِلَ إلَيْهَا وَلَا فَسْخَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ وَمَنْ مَلَّكَ غَيْرَهُ شَيْئًا فَقَدْ زَالَتْ وِلَايَتُهُ مِنْ الْمِلْكِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِالرُّجُوعِ وَالنَّهْيِ وَالْفَسْخِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْإِيجَابَ مِنْ الْبَائِعِ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، بَلْ هُوَ أَحَدُ رُكْنَيْ الْبَيْعِ فَاحْتُمِلَ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ وُجُودِهِ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ وَالْفَسْخَ فَكَذَا بَعْدَ إيجَابِهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِهِ فَيَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالرُّجُوعَ بَعْدَ إيجَابِهِ أَيْضًا؛ وَلِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّمْلِيكِ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فَلَا يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ. وَالْفَسْخُ كَسَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ الْمُطْلَقَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ رَأْسًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَامَ هُوَ عَنْ الْمَجْلِسِ لَا يَبْطُلُ الْجَعْلُ؛ لِأَنَّ قِيَامَهُ دَلِيلُ الْإِبْطَالِ لِكَوْنِهِ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ فَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ بِصَرِيحِ إبْطَالِهِ كَيْفَ يَبْطُلُ بِدَلِيلِ الْإِبْطَالِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ إذَا أَوْجَبَ الْبَائِعُ ثُمَّ قَامَ قَبْلَ قَبُولِ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَبْطُلُ الْإِيجَابُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الْإِبْطَالِ فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِدَلِيلِ الْإِبْطَالِ. وَأَمَّا مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْأَمْرَ بِيَدِهَا فَقَدْ خَيَّرَهَا بَيْنَ اخْتِيَارهَا نَفْسَهَا فِي التَّطْلِيقِ وَبَيْنَ اخْتِيَارهَا زَوْجَهَا، وَالتَّخْيِيرُ بِنَا فِي اللُّزُومَ. (وَأَمَّا) حُكْمُهُ فَهُوَ صَيْرُورَةُ الْأَمْرِ بِيَدِهَا فِي الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِيَدِهَا فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَعْلِ، وَالْمَحِلُّ قَابِلٌ لِلْجَعْلِ فَيَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا. (وَأَمَّا) شَرْطُ صَيْرُورَةِ الْأَمْرِ بِيَدِهَا فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا نِيَّةُ الزَّوْجِ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إيقَاعَهُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ، فَكَيْفَ يَمْلِكُ تَفْوِيضَهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ؟ حَتَّى لَوْ قَالَ الزَّوْجُ مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ يُصَدَّقُ وَلَا يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ إلَّا إذَا كَانَ الْحَالُ حَالَ الْغَضَبِ وَالْخُصُومَةِ أَوْ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ. لِأَنَّ الْحَالَ تَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ ظَاهِرًا فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْعُدُولِ عَنْ الظَّاهِرِ، فَإِنْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ ادَّعَتْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ أَوْ فِي حَالِ ذِكْرِ الطَّلَاقِ وَهُوَ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي عَلَيْهِ الطَّلَاقَ وَهُوَ يُنْكِرُ فَإِنْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ أَوْ ذِكْرِ الطَّلَاقِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهَا؛ لِأَنَّ حَالَ الْغَضَبِ وَذِكْرَ الطَّلَاقِ يَقِفُ الشُّهُودَ عَلَيْهَا وَيَتَعَلَّقُ عِلْمُهُمْ بِهَا فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ عَنْ عِلْمٍ بِالْمَشْهُودِ بِهِ فَتُقْبَلُ، وَلَوْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ نَوَى الطَّلَاقَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا وُقُوفَ لِلشُّهُودِ عَلَى النِّيَّةِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ فِي الْقَلْبِ فَكَانَتْ هَذِهِ شَهَادَةً لَا عَنْ عِلْمٍ بِالْمَشْهُودِ بِهِ فَلَمْ تُقْبَلْ. وَالثَّانِي عِلْمُ الْمَرْأَةِ بِجَعْلِ الْأَمْرِ بِيَدِهَا وَهِيَ غَائِبَةٌ أَوْ حَاضِرَةٌ لَمْ تَسْمَعْ لَا يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا مَا لَمْ تَسْمَعْ أَوْ يَبْلُغْهَا الْخَبَرُ لِأَنَّ مَعْنَى صَيْرُورَةِ الْأَمْرِ بِيَدِهَا فِي الطَّلَاقِ هُوَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهَا وَهُوَ اخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا بِالطَّلَاقِ أَوْ زَوْجَهَا بِتَرْكِ الطَّلَاقِ اخْتِيَارَ الْإِيثَارِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالتَّخْيِيرِ فَإِذَا عَلِمَتْ بِالتَّخْيِيرِ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ عَلِمَتْ إنْ كَانَ التَّفْوِيضُ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ وَإِنْ كَانَ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ وَعَلِمَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْوَقْتِ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا. فَأَمَّا إذَا عَلِمَتْ بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ كُلِّهِ لَا يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا بِهَذَا التَّفْوِيضِ أَبَدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِلْمٌ لَا يَنْفَعُ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ الْمُؤَقَّتَ بِوَقْتٍ يَنْتَهِي عِنْدَ انْتِهَاءِ الْوَقْتِ فَلَوْ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَصَارَ مِنْ غَيْرِ تَفْوِيضِهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ شَرْطِ بَقَاءِ هَذَا الْحُكْمِ وَمَا يَبْطُلُ بِهِ وَمَا لَا يَبْطُلُ فَلَنْ يُمْكِنَ مَعْرِفَتُهُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ جَعْلُ الْأَمْرِ بِالْيَدِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنَجَّزًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ وَالْمُنَجَّزُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا، فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا بِأَنْ قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِك فَشَرْطُ بَقَاءِ حُكْمِهِ بَقَاءُ الْمَجْلِسِ وَهُوَ مَجْلِسُ عِلْمِهَا بِالتَّفْوِيضِ فَمَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا فَالْأَمْرُ بِيَدِهَا؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْأَمْرِ بِيَدِهَا تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ مِنْهَا لِأَنَّهُ جَعَلَ أَمَرَهَا فِي الطَّلَاقِ بِيَدِهَا تَتَصَرَّفُ فِيهِ بِرَأْيِهَا وَتَدْبِيرِهَا كَيْفَ

شَاءَتْ بِمَشِيئَةِ الْإِيثَارِ وَهَذَا مَعْنَى الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ التَّصَرُّفُ عَنْ مَشِيئَةِ الْإِيثَارِ. وَالزَّوْجُ يَمْلِكُ التَّطْلِيقَ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَصَارَتْ مَالِكَةً لِلطَّلَاقِ بِتَمْلِيكِ الزَّوْجِ، وَجَوَابُ التَّمْلِيكِ مُقَيَّدٌ بِالْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الْخِطَابَ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ خَاطَبَ غَيْرَهُ يَطْلُبُ جَوَابَ خِطَابِهِ فِي الْمَجْلِسِ فَيَتَقَيَّدُ جَوَابُ التَّمْلِيكِ بِالْمَجْلِسِ كَمَا فِي قَبُولِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ قَصُرَ الْمَجْلِسُ أَوْ طَالَ؛ لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ جُعِلَتْ كَسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمَجْلِسِ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ وَلَا ضَابِطَ لَهُ إلَّا الْمَجْلِسَ فَقُدِّرَ بِالْمَجْلِسِ وَلِهَذَا جَعَلَهُ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَلْمُخَيَّرَةِ فَيَبْقَى الْأَمْرُ فِي يَدِهَا مَا بَقِيَ الْمَجْلِسُ فَإِنْ قَامَتْ عَنْ مَجْلِسِهَا بَطَلَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَطْلُبُ جَوَابَ التَّمْلِيكِ فِي الْمَجْلِسِ، وَالْقِيَامُ عَنْ الْمَجْلِسِ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ عَنْ جَوَابِ التَّمْلِيكِ فَكَانَ رَدًّا لِلتَّمْلِيكِ دَلَالَةً؛ وَلِأَنَّ الْمَالِكَ لَمَّا طَلَبَ الْجَوَابَ فِي الْمَجْلِسِ لَا يَمْلِكُ الْجَوَابَ فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَّكَهَا فِي غَيْرِهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ بِالْقِيَامِ فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْأَمْرِ فَائِدَةٌ فَيَبْطُلُ، وَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ مِنْهَا قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى إعْرَاضِهَا عَنْ الْجَوَابِ بِأَنْ دَعَتْ بِطَعَامٍ لِتَأْكُلَ أَوْ أَمَرَتْ وَكِيلَهَا بِشَيْءٍ أَوْ خَاطَبَتْ إنْسَانًا بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ كَانَتْ قَائِمَةً فَرَكِبَتْ أَوْ رَاكِبَةً فَانْتَقَلَتْ إلَى دَابَّةٍ أُخْرَى أَوْ وَاقِفَةً فَسَارَتْ أَوْ امْتَشَطَتْ أَوْ اغْتَسَلَتْ أَوْ مَكَّنَتْ زَوْجَهَا حَتَّى وَطِئَهَا أَوْ اشْتَغَلَتْ بِالنَّوْمِ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْجَوَابِ وَإِنْ كَانَتْ سَائِرَةً أَوْ كَانَا فِي مَحْمَلٍ وَاحِدٍ فَإِنْ أَجَابَتْ عَلَى الْفَوْرِ وَإِلَّا بَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ بِتَسْيِيرِ الرَّاكِبِ، وَإِنْ كَانَتْ سَائِرَةً فَوَقَفَتْ الدَّابَّةُ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي سَفِينَةٍ فَسَارَتْ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْبَيْتِ؛ وَكُلُّ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ إذَا كَانَتْ فِي الْبَيْتِ يَبْطُلُ بِهِ إذَا كَانَتْ فِي السَّفِينَةِ وَمَا لَا فَلَا فَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً فَقَعَدَتْ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ قَاعِدَةً فَقَامَتْ؛ لِأَنَّ الْقُعُودَ يَجْمَعُ الرَّأْيَ وَالْقِيَامَ يُفَرِّقُهُ فَكَانَ الْقُعُودُ دَلِيلَ إرَادَةِ التَّأَمُّلِ، وَالْقِيَامُ دَلِيلَ إرَادَة الْإِعْرَاضِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ مُتَّكِئَةً فَقَعَدَتْ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا لِمَا قُلْنَا فَإِنْ كَانَتْ قَاعِدَةً فَاتَّكَأَتْ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةً يَبْطُلُ خِيَارُهَا لِأَنَّ الْمُتَّكِئَ يَقْعُدُ لِيَجْتَمِعَ رَأْيُهُ فَأَمَّا الْقَاعِدُ فَلَا يَتَّكِئُ لِذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْمُتَأَمِّلَ يَنْتَقِلُ مِنْ الِاتِّكَاءِ إلَى الْقُعُودِ مِرَّةً وَمِنْ الْقُعُودِ إلَى الِاتِّكَاءِ أُخْرَى، وَقَدْ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا بِيَقِينٍ فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ؛ فَلَوْ كَانَتْ قَاعِدَةً فَاضْطَجَعَتْ يَبْطُلُ خِيَارُهَا فِي قَوْلِ زُفَرَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْهُ أَنَّهُ يَبْطُلُ كَمَا قَالَ زُفَرُ وَإِنْ ابْتَدَأَتْ الصَّلَاةَ بَطَلَ خِيَارُهَا فَرْضًا كَانَتْ الصَّلَاةُ أَوْ نَفْلًا أَوْ وَاجِبَةً؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَهَا بِالصَّلَاةِ إعْرَاضٌ عَنْ الْجَوَابِ فَإِنْ خَيَّرَهَا وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ فَأَتَمَّتْهَا فَإِنْ كَانَتْ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ أَوْ الْوَاجِبِ كَالْوِتْرِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ فِي الْإِتْمَامِ لِكَوْنِهَا مَمْنُوعَةً مِنْ الْإِفْسَادِ فَلَا يَكُونُ الْإِتْمَامُ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ وَإِنْ كَانَتْ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَإِنْ سَلَّمَتْ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا وَإِنْ زَادَتْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ بَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى الشَّفْعِ بِمَنْزِلَةِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ ابْتِدَاءً، وَلَوْ أُخْبِرَتْ وَهِيَ فِي الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ فَأَتَمَّتْ وَلَمْ تُسَلِّمْ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَبْطُلُ خِيَارُهَا كَمَا فِي التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَبْطُلُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ فَكَانَتْ مَنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا صَلَاةً وَاحِدَةً، وَلَوْ أَخَذَ الزَّوْجُ بِيَدِهَا فَأَقَامَهَا بَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّهَا إنْ قَدَرَتْ عَلَى الِامْتِنَاعِ فَلَمْ تَمْتَنِعْ فَقَدْ قَامَتْ بِاخْتِيَارِهَا وَهُوَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ. وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى أَنْ تَمْتَنِعَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَقُولَ قَبْلَ الْإِقَامَةِ اخْتَرْتُ نَفْسِي فَلَمَّا لَمْ تَقُلْ فَقَدْ أَعْرَضَتْ عَنْ الْجَوَابِ فَإِنْ أَكَلَتْ طَعَامًا يَسِيرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَدْعُوَ بِطَعَامٍ أَوْ شَرِبَتْ شَرَابًا قَلِيلًا أَوْ نَامَتْ قَاعِدَةً أَوْ لَبِسَتْ ثَوْبًا وَهِيَ قَائِمَةٌ أَوْ لَبِسَتْ وَهِيَ قَاعِدَةٌ وَلَمْ تَقُمْ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى إحْضَارِ الشُّهُودِ فَتَحْتَاجُ إلَى اللُّبْسِ لِتَسْتَتِرَ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْخِيَارِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ، وَالْأَكْلُ الْيَسِيرُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ وَكَذَا النَّوْمُ قَاعِدَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ تَشْتَغِلَ بِهِ. وَكَذَا إذَا سَبَّحَتْ أَوْ قَرَأَتْ شَيْئًا قَلِيلًا لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا لِأَنَّ التَّسْبِيحَ الْيَسِيرَ وَالْقِرَاءَةَ الْقَلِيلَةَ لَا يَدُلَّانِ عَلَى الْإِعْرَاضِ؛ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانِ لَا يَخْلُو عَنْ التَّسْبِيحِ الْقَلِيلِ وَالْقِرَاءَةِ الْقَلِيلَةِ، فَلَوْ جُعِلَ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِلْخِيَارِ لَانْسَدَّ بَابُ التَّفْوِيضِ وَإِنْ طَالَ ذَلِكَ بَطَلَ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الطَّوِيلَ مِنْهُ يَكُونُ دَلِيلَ الْإِعْرَاض وَلَا يَكْثُرُ

وُجُودُهُ، فَإِنْ قَالَتْ: اُدْعُ لِي شُهُودًا أُشْهِدُهُمْ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ صِيَانَةً لِاخْتِيَارِهَا عَنْ الْجُحُودِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْخِيَارِ فَلَمْ يَكُنْ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ: اُدْعُ لِي أَبِي أَسْتَشِيرُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ يَحْتَاجُ إلَى الْمَشُورَةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا أَرَادَ تَخْيِيرَ نِسَائِهِ قَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك أَمْرًا فَلَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْك» ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَشُورَةُ مُبْطِلَةً لِلْخِيَارِ لَمَا نَدَبَهَا إلَى الْمَشُورَةِ، وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْتُك أَوْ قَالَتْ: لَا أَخْتَارُ الطَّلَاقَ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا؛ لِأَنَّهَا صَرَّحَتْ بِرَدِّ التَّمْلِيكِ وَإِنَّهُ يَبْطُلُ بِدَلَالَةِ الرَّدِّ فَبِالصَّرِيحِ أَوْلَى، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّمْلِيكُ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا أَوْ بِدُونِهَا بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك كُلَّمَا شِئْت لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اخْتِيَارَهَا زَوْجَهَا رَدُّ التَّمْلِيكِ فَيَرْتَدُّ مَا جُعِلَ إلَيْهَا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ هَذَا إذَا كَانَ التَّفْوِيضُ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مُوَقَّتًا فَإِنْ أَطْلَقَ الْوَقْتَ بِأَنْ قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ إذَا شِئْتِ أَوْ إذَا مَا شِئْتِ أَوْ مَتَى مَا شِئْتِ أَوْ حَيْثُمَا شِئْتِ، فَلَهَا الْخِيَارُ فِي الْمَجْلِسِ وَغَيْرِ الْمَجْلِسِ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ حَتَّى لَوْ رَدَّتْ الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ رَدًّا. وَلَوْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا أَوْ أَخَذَتْ فِي عَمَلٍ آخَرَ أَوْ كَلَامٍ آخَرَ فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ مُطْلَقًا لِيَكُونَ طَالِبًا جَوَابَهَا فِي الْمَجْلِسِ، بَلْ مَلَّكَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَتْ، فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَتْ إلَّا أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لِمَا نَذْكُرُ فَإِنْ وَقَّتَهُ بِوَقْتٍ خَاصٍّ بِأَنْ قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً أَوْ قَالَ: الْيَوْمَ أَوْ الشَّهْرَ أَوْ السَّنَةَ أَوْ قَالَ: هَذَا الْيَوْمَ أَوْ هَذَا الشَّهْرَ أَوْ هَذِهِ السَّنَةَ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ وَلَهَا الْأَمْرُ فِي الْوَقْتِ كُلِّهِ تَخْتَارُ نَفْسَهَا فِيمَا شَاءَتْ مِنْهُ، وَلَوْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا أَوْ تَشَاغَلَتْ بِغَيْرِ الْجَوَابِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا مَا بَقِيَ الْوَقْتُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَيْهَا فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ فَيَبْقَى مَا بَقِيَ الْوَقْتُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ بَطَلَ الْأَمْرُ بِإِعْرَاضِهَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّوْقِيتِ فَائِدَةٌ، وَكَانَ الْوَقْتُ وَغَيْرُ الْوَقْتِ سَوَاءً غَيْرَ أَنَّهُ إنْ ذَكَرَ الْيَوْمَ أَوْ الشَّهْرَ أَوْ السَّنَةَ مُنْكِرًا فَلَهَا الْأَمْرُ مِنْ السَّاعَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ فِيهَا إلَى مِثْلِهَا مِنْ الْغَدِ وَالشَّهْرِ وَالسَّنَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى يَوْمٍ تَامٍّ وَشَهْرٍ تَامٍّ وَسَنَةٍ تَامَّةٍ وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِمَا قُلْنَا. وَيَكُونُ الشَّهْرُ هَهُنَا بِالْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ إذَا وُجِدَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْأَهِلَّةِ فَيُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ وَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ مُعَرَّفًا فَلَهَا الْخِيَارُ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ وَفِي بَقِيَّةِ الشَّهْرِ وَفِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّ الْمُعَرَّفَ مِنْهُ يَقَعُ عَلَى الْبَاقِي وَيُعْتَبَرُ الشَّهْرُ هَهُنَا بِالْهِلَالِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّهْرِ هُوَ الْهِلَالُ، وَالْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ هَهُنَا، وَلَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي الْوَقْتِ مَرَّةً لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي الْوَقْتَ وَلَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْت زَوْجِي أَوْ قَالَتْ: لَا أَخْتَارُ الطَّلَاقَ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ حَتَّى لَا تَمْلِكَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ بَقِيَ الْوَقْتُ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفُ يَبْطُلُ خِيَارُهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَلَا يَبْطُلُ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِهَا الِاخْتِلَافُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ. وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا أَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِيَدِهَا فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ، فَإِعْرَاضُهَا فِي بَعْضِ الْوَقْتِ لَا يُبْطِلُ خِيَارَهَا فِي الْجَمِيعِ كَمَا إذَا قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا أَوْ اشْتَغَلَتْ بِأَمْرٍ يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ. وَجْهُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا أَنَّ قَوْلَهَا: اخْتَرْتُ زَوْجِي رَدٌّ لِلتَّمْلِيكِ. وَالتَّمْلِيكُ تَمْلِيكٌ وَاحِدٌ فَيَبْطُلُ بِرَدٍّ وَاحِدٍ كَتَمْلِيكِ الْبَيْعِ بِخِلَافِ الْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَدٍّ حَقِيقَةً، بَلْ هُوَ امْتِنَاعٌ مِنْ الْجَوَابِ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ رَدًّا فِي التَّفْوِيضِ الْمُطْلَقِ مِنْ الْوَقْتِ ضَرُورَةَ أَنَّ الزَّوْجَ طَلَبَ الْجَوَابَ فِي الْمَجْلِسِ، وَالْمَجْلِسُ يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ فَلَوْ بَقِيَ الْأَمْرُ بَقِيَ خَالِيًا عَنْ الْفَائِدَةِ فَبَطَلَ ضَرُورَةُ عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْبَقَاءِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ طَلَبَ مِنْهَا الْجَوَابَ فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ لَا فِي الْمَجْلِسِ فَكَانَ فِي بَقَاءِ الْأَمْرِ بَعْدَ الْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ فَائِدَةٌ فَيَبْقَى؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ خَيَّرَهَا بَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا وَبَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ زَوْجَهَا وَلَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ فَكَذَا إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِك هَذَا الْيَوْمَ كَانَ عَلَى مَجْلِسِهَا؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ جَعَلَ الْيَوْمَ كُلَّهُ ظَرْفًا لِلْأَمْرِ بِالْيَدِ كَمَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ عُمْرِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ صَوْمُ جَمِيعِ عُمْرِهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ عُمْرَهُ ظَرْفًا لِلصَّوْمِ، فَإِذَا صَارَ الْيَوْمُ كُلُّهُ ظَرْفًا لِلْأَمْرِ بِالْيَدِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي جُعِلَ جُزْءًا مِنْ الْيَوْمِ ظَرْفًا كَمَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ فِي عُمْرِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا صَوْمُ يَوْمٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ جُزْءًا مِنْ عُمْرِهِ ظَرْفًا لِلصَّوْمِ، وَإِذَا صَارَ جُزْءًا مِنْ الْيَوْمِ ظَرْفًا لِلْأَمْرِ وَلَيْسَ جُزْءٌ أَوْلَى مِنْ جُزْءٍ فَيَخْتَصُّ

بِالْمَجْلِسِ، وَلَوْ قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِك إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ، وَلَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ وَالِاشْتِغَالِ بِتَرْكِ الْجَوَابِ وَهَلْ يَبْطُلُ بِاخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا؟ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَأَمَّا التَّفْوِيضُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا، فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا بِأَنْ قَالَ: إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَأَمْرُكِ بِيَدِك فَقَدِمَ فُلَانٌ فَالْأَمْرُ بِيَدِهَا إذَا عَلِمَتْ فِي مَجْلِسِهَا الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَ الشَّرْطِ فَيَصِيرُ قَائِلًا عِنْدَ الْقُدُومِ أَمْرُك بِيَدِك فَإِذَا عَلِمَتْ بِالْقُدُومِ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا. وَإِنْ مُوَقَّتًا بِأَنْ قَالَ: إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَأَمْرُك بِيَدِك يَوْمًا أَوْ قَالَ: الْيَوْمُ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ، فَإِذَا قَدِمَ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كُلِّهِ إذَا عَلِمَتْ بِالْقُدُومِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ الْيَوْمَ مُنَكَّرًا يَقَعُ عَلَى يَوْمٍ تَامٍّ. بِأَنْ قَالَ: إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَأَمْرُك بِيَدِك يَوْمًا. وَإِنْ عَرَّفَهُ يَقَعُ عَلَى بَقِيَّةِ الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ وَلَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ. وَهَلْ يَبْطُلُ بِاخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا؟ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا فِي الْوَقْتِ كُلِّهِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ لَمْ تَعْلَمْ بِقُدُومِهِ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ ثُمَّ عَلِمَتْ فَلَا خِيَارَ لَهَا بِهَذَا التَّفْوِيضِ أَبَدًا لِمَا مَرَّ. وَأَمَّا الْمُضَافُ إلَى الْوَقْتِ؛ بِأَنْ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا فَجَاءَ الْوَقْتُ؛ صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ فَكَذَا تَمْلِيكُهُ وَكَانَ عَلَى مَجْلِسِهَا مِنْ أَوَّلِ الْغَدِ وَرَأْسِ الشَّهْرِ وَأَوَّلِ الْغَدِ مِنْ حِينِ يَطْلُعُ الْفَجْرُ الثَّانِي وَرَأْسُ الشَّهْرِ لَيْلَةَ الْهِلَالِ وَيَوْمَهَا، وَإِنْ قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِك إذَا هَلَّ الشَّهْرُ يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا سَاعَةَ يَهُلُّ الْهِلَالُ وَيَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ. وَلَوْ قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا، أَوْ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ فَلَهَا الْأَمْرُ فِي الْيَوْمَيْنِ تَخْتَارُ نَفْسَهَا فِي أَيِّهِمَا شَاءَتْ، وَلَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْوَقْتَيْنِ. وَهَلْ يَبْطُلُ بِاخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا؟ فَهُوَ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ الِاخْتِلَافِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا الْيَوْمَ فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا بَعْدَ غَدٍ، وَكَذَلِكَ إذَا رَدَّتْ الْأَمْرَ فِي يَوْمِهَا بَطَلَ أَمْرُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَكَانَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا بَعْدَ غَدٍ حَتَّى كَانَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا بَعْدَ غَدٍ، ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَنَسَبَ الْقَوْلَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَذَكَرَهَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاخْتِلَافَ. وَالْوَجْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ بِيَدِهَا فِي وَقْتَيْنِ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا وَقْتًا لَا خِيَارَ لَهَا فِيهِ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَقْتَيْنِ شَيْئًا مُنْفَصِلًا عَنْ صَاحِبِهِ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ فِي الْأَمْرِ مُفْرَدًا بِهِ فَيَتَعَدَّدُ التَّفْوِيضُ مَعْنًى كَأَنَّهُ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَأَمْرُك بِيَدِك بَعْدَ غَدٍ فَرَدُّ الْأَمْرِ فِي أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ رَدًّا فِي الْآخَرِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِك الْيَوْمَ أَوْ الشَّهْرَ أَوْ السَّنَةَ أَوْ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا أَوْ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: يَبْطُلُ الْأَمْرُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الزَّمَانَ وَاحِدٌ لَا يَتَخَلَّلُهُ مَا لَا خِيَارَ لَهَا فِيهِ، فَكَانَ التَّفْوِيضُ وَاحِدًا فَرَدُّ الْأَمْرِ فِيهِ يُبْطِلُهُ، وَلَوْ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَأَمْرُك بِيَدِك غَدًا فَهُمَا أَمْرَانِ حَتَّى لَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا الْيَوْمَ أَوْ رَدَّتْ الْأَمْرَ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهَا غَدًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَرَّرَ اللَّفْظَ فَقَدْ تَعَدَّدَ التَّفْوِيضُ، فَرَدُّ أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ رَدًّا لِلْآخَرِ، وَلَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي الْيَوْمِ فَطَلُقَتْ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ فَأَرَادَتْ أَنْ تَخْتَارَ فَلَهَا ذَلِكَ، وَتَطْلُقُ أُخْرَى إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ التَّفْوِيضَيْنِ طَلَاقًا، فَالْإِيقَاعُ بِأَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ مِنْ الْإِيقَاعِ بِالْآخَرِ، وَلَوْ قَالَ: لَهَا أَمْرُك بِيَدِك هَذِهِ السَّنَةَ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَلْزَمَهَا الطَّلَاقُ فِي الْخِيَارِ الثَّانِي وَلَسْت أَرْوِي هَذَا عَنْهُ، وَلَكِنْ هَذَا قِيَاسُ قَوْلِهِ، وَلَوْ كَانَ تَرَكَ الْقِيَاسَ وَاسْتَحْسَنَ لَكَانَ مُسْتَقِيمًا، وَلَوْ لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا وَلَا زَوْجَهَا، وَلَكِنَّ الزَّوْجَ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ فَلَا خِيَارَ لَهَا فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَهَا الْخِيَارُ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الزَّوْجَ تَصَرَّفَ فِيمَا فَوَّضَ إلَيْهَا فَيَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا كَالْمُوَكِّلِ إذَا بَاعَ مَا وُكِّلَ بِبَيْعِهِ أَنَّهُ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جَعْلَ الْأَمْرِ بِالْيَدِ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فَزَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُبْطِلُهُ مَا دَامَ طَلَاقُ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ قَائِمًا كَمَا فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ، وَقَوْلُهُ: الزَّوْجُ تَصَرَّفَ فِيمَا فَوَّضَ إلَيْهَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ وَلَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهَا إلَّا وَاحِدَةً فَيَقْتَضِي خُرُوجَ الْمُفَوَّضِ مِنْ يَدِهِ لَا غَيْرُ، كَمَا إذَا وَكَّلَ إنْسَانًا يَبِيعُ ثَوْبَيْنِ لَهُ فَبَاعَ الْمُوَكَّلُ أَحَدَهُمَا لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. (وَأَمَّا) بَيَانُ صِفَةِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالتَّفْوِيضِ: فَمِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ حَتَّى تَمْلِكَ رَدَّهُ صَرِيحًا أَوْ

دَلَالَةً لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ جَعْلَ الْأَمْرِ بِيَدِهَا تَخْيِيرٌ لَهَا بَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا وَبَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ زَوْجَهَا، وَالتَّخْيِيرُ يُنَافِي اللُّزُومَ وَمِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا لَا يَعُودُ الْأَمْرُ إلَى يَدِهَا بِذَلِكَ الْجَعْلِ أَبَدًا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَمْرُك بِيَدِك لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ إلَّا إذَا قُرِنَ بِهِ مَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِأَنْ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك كُلَّمَا شِئْتِ فَيَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ وَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي كُلِّ مَجْلِسٍ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً حَتَّى تَبِينَ بِثَلَاثٍ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي تَكْرَارَ الْأَفْعَالِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] وَقَالَ: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64] فَيُقْتَضَى تَكْرَارُ التَّمْلِيكِ عِنْدَ تَكْرَارِ الْمَشِيئَةِ إلَّا أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي كُلِّ مَجْلِسٍ إلَّا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَائِلًا لَهَا فِي كُلِّ مَجْلِسٍ: أَمْرُك بِيَدِك فَإِذَا اخْتَارَتْ فَقَدْ انْتَهَى مُوجَبُ ذَلِكَ التَّمْلِيكِ، ثُمَّ يَتَجَدَّدُ لَهَا الْمِلْكُ بِتَمْلِيكٍ آخَرَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ عِنْدَ مَشِيئَةٍ أُخْرَى إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَإِنْ بَانَتْ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَعَادَتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَمْلِكُ تَطْلِيقَ نَفْسِهَا بِتَمْلِيكِ الزَّوْجِ، وَالزَّوْجُ إنَّمَا مَلَّكَهَا مَا كَانَ يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ إنَّمَا كَانَ يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ طَلَقَاتِ ذَلِكَ الْمِلْكِ الْقَائِمِ لَا طَلَقَاتِ مِلْكٍ لَمْ يُوجَدْ فَمَا لَا يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ كَيْفَ يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ؟ وَإِنْ بَانَتْ بِوَاحِدَةٍ أَوْ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ فَلَهَا أَنْ تَشَاءَ الطَّلَاقَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى تَسْتَوْفِيَ الثَّلَاثَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ مِنْ التَّطْلِيقَاتِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك إذَا شِئْتِ أَوْ إذَا مَا شِئْتِ أَوْ مَتَى شِئْتِ أَوْ مَتَى مَا شِئْت أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ غَيْرِهِ لَكِنَّهَا لَا تَمْلِكُ أَنْ تَخْتَارَ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِذَا اخْتَارَتْ مَرَّةً لَا يَتَكَرَّرُ لَهَا الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إذَا وَمَتَى لَا تُفِيدُ التَّكْرَارَ وَإِنَّمَا تُفِيدُ مُطْلَقَ الْوَقْتِ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْت، فَكَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي الْمَجْلِسِ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِذَا اخْتَارَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً انْتَهَى مُوجِبُ التَّفْوِيضِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ كُلَّمَا يَقْتَضِي تَكْرَارَ الْأَفْعَالِ فَيَتَكَرَّرُ التَّفْوِيضُ عِنْدَ تَكْرَارِ الْمَشِيئَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَصْلُحُ جَوَابَ جَعْلِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَمَا لَا يَصْلُحُ وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا وُجِدَ: فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا يَصْلُحُ مِنْ الْأَلْفَاظِ طَلَاقًا مِنْ الزَّوْجِ يَصْلُحُ جَوَابًا مِنْ الْمَرْأَةِ وَمَا لَا فَلَا إلَّا فِي لَفْظِ الِاخْتِيَارِ خَاصَّةً فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ طَلَاقًا مِنْ الزَّوْجِ وَيَصْلُحُ جَوَابًا مِنْ الْمَرْأَةِ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ مِنْ الزَّوْجِ تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ مِنْهَا، فَمَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ يَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَا لَا فَلَا هَذَا هُوَ الْأَصْلُ. إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: إذَا قَالَتْ طَلَّقْتُ نَفْسِي أَوْ أَبَنْتُ نَفْسِي أَوْ حَرَّمْتُ نَفْسِي يَكُونُ جَوَابًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ أَتَى بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ كَانَ طَلَاقًا. وَكَذَا إذَا قَالَتْ: أَنَا مِنْك بَائِنٌ أَوْ أَنَا عَلَيْك حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ مِنِّي بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَانَ طَلَاقًا. وَكَذَا إذَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ مِنِّي بَائِنٌ أَوْ أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لَهَا ذَلِكَ كَانَ طَلَاقًا، وَلَوْ قَالَتْ: أَنَا بَائِنٌ وَلَمْ تَقُلْ مِنْكَ أَوْ قَالَتْ أَنَا حَرَامٌ وَلَمْ تَقُلْ عَلَيْكَ فَهُوَ جَوَابٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ حَرَامٌ، وَلَمْ يَقُلْ مِنِّي وَعَلَيَّ كَانَ طَلَاقًا، وَلَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ بَائِنٌ وَلَمْ تَقُلْ مِنِّي أَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ حَرَامٌ وَلَمْ تَقُلْ عَلَيَّ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنَا بَائِنٌ أَوْ أَنَا حَرَامٌ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا، وَلَوْ قَالَتْ: أَنَا مِنْكَ طَالِقٌ فَهُوَ جَوَابٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مِنِّي كَانَ طَلَاقًا. وَكَذَا لَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنَا طَالِقٌ وَلَمْ تَقُلْ مِنْكَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ يَقُلْ مِنِّي كَانَ طَلَاقًا، وَلَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ مِنِّي طَالِقٌ لَمْ يَكُنْ جَوَابًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنَا مِنْك طَالِقٌ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْتُ نَفْسِي كَانَ جَوَابًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ الزَّوْجِ طَلَاقًا، وَأَنَّهُ حُكْمٌ ثَبَتَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْوَاقِعُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَصْلُحُ جَوَابًا فَطَلَاقٌ وَاحِدٌ بَائِنٌ عِنْدَنَا إنْ كَانَ التَّفْوِيضُ مُطْلَقًا عَنْ قَرِينَةِ الطَّلَاقِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك وَلَمْ يَنْوِ الثَّلَاثَ، أَمَّا وُقُوعُ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّفْوِيضِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْعَدَدِ. وَأَمَّا كَوْنُهَا بَائِنَةً فَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ جَوَابُ الْكِنَايَةِ، وَالْكِنَايَاتُ عَلَى أَصْلِنَا مُنْبِيَاتٌ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: أَمْرُك بِيَدِك جَعَلَ أَمْرَ نَفْسِهَا بِيَدِهَا فَتَصِيرُ عِنْدَ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا مَالِكَةَ نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مَالِكَةَ نَفْسِهَا بِالْبَائِنِ لَا بِالرَّجْعِيِّ. وَإِنْ قَرَنَ بِهِ ذِكْرَ الطَّلَاقِ بِأَنْ قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ فِي تَطْلِيقَةٍ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فِيهَا لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا الصَّرِيحَ حَيْثُ

فصل في قوله اختاري

نَصَّ عَلَيْهِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا مَلَّكَهَا نَفْسَهَا وَإِنَّمَا مَلَّكَهَا التَّطْلِيقَةَ وَخَيَّرَهَا بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ؛ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِنَصِّ كَلَامِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَطْلَقَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ فَقَدْ مَلَّكَهَا نَفْسَهَا وَلَا تَمْلِكُ نَفْسَهَا إلَّا بِالْبَائِنِ، وَلَوْ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك وَنَوَى الثَّلَاثَ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا كَانَ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا مُطْلَقًا فَيُحْتَمَلُ الْوَاحِدُ وَيُحْتَمَلُ الثَّلَاثُ، فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ مُطْلَقُ الْأَمْرِ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَكَذَا إذَا قَالَتْ: طَلَّقْت نَفْسِي أَوْ اخْتَرْتُ نَفْسِي وَلَمْ تَذْكُرْ الثَّلَاثَ فَهِيَ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّهُ جَوَابُ تَفْوِيضِ الثَّلَاثِ فَيَكُونُ ثَلَاثًا. وَكَذَا إذَا قَالَتْ: أَبَنْتُ نَفْسِي أَوْ حَرَّمْتُ نَفْسِي وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَصْلُحُ جَوَابًا، وَلَوْ قَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً أَوْ اخْتَرْتُ نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فَهِيَ بَائِنَةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى ثَلَاثًا فَقَدْ فَوَّضَ إلَيْهَا الثَّلَاثَ وَهِيَ أَتَتْ بِالْوَاحِدَةِ فَيَقَعُ وَاحِدَةٌ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً فَتَكُونُ بَائِنَةً لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا نَفْسَهَا وَلَا تَمْلِكُ نَفْسَهَا إلَّا بِالْبَائِنِ، وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْتُ نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ فَهُوَ ثَلَاثٌ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهَا طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً. وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا بِوَاحِدَةٍ أَيْ: بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَوَحُّدِ فِعْلِ الِاخْتِيَارِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُحْتَاجُ بَعْدَهُ إلَى اخْتِيَارٍ آخَرَ، وَانْقِطَاعُ الْعُلْقَةِ بَيْنَهُمَا بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى بَيْنَهُمَا أَمْرٌ بَعْدَ ذَلِكَ. وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالثَّلَاثِ بِخِلَافِ قَوْلِهَا طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهَا جَعَلَتْ التَّوَحُّدَ هُنَاكَ صِفَةَ الْمُخْتَارِ وَهُوَ الطَّلَاقُ لَا صِفَةَ فِعْلِ الِاخْتِيَارِ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي قَوْلِهِ اخْتَارِي] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا قَوْلُهُ: اخْتَارِي فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَوَاضِعِ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ، وَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَتَخْيِيرُهَا بَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا أَوْ زَوْجَهَا لَا يَخْتَلِفَانِ إلَّا فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الزَّوْجَ إذَا نَوَى الثَّلَاثَ فِي قَوْلِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِك يَصِحُّ، وَفِي قَوْلِهِ اخْتَارِي لَا يَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ وَالثَّانِي أَنَّ فِي اخْتَارِي لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ النَّفْسِ فِي أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ إمَّا فِي تَفْوِيضِ الزَّوْجِ وَإِمَّا فِي جَوَابِ الْمَرْأَةِ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَك وَتَقُولُ: اخْتَرْتُ أَوْ يَقُولَ لَهَا: اخْتَارِي فَتَقُولُ اخْتَرْتُ نَفْسِي أَوْ ذِكْرِ الطَّلَاقِ فِي كَلَامِ الزَّوْجِ أَوْ فِي كَلَامِ الْمَرْأَةِ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا: اخْتَارِي فَتَقُولُ: اخْتَرْتُ الطَّلَاقَ أَوْ ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ وَهُوَ تَكْرَارُ التَّخْيِيرِ مِنْ الزَّوْجِ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا: اخْتَارِي اخْتَارِي فَتَقُولُ: اخْتَرْتُ أَوْ ذِكْرُ الِاخْتِيَارِ فِي كَلَامِ الزَّوْجِ أَوْ فِي كَلَامِ الْمَرْأَةِ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا الزَّوْجُ: اخْتَارِي اخْتِيَارَةً، فَتَقُولُ الْمَرْأَةُ: اخْتَرْتُ اخْتِيَارَةً، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي قَوْلِهِ: اخْتَارِي أَنْ لَا يَقَعَ بِهِ شَيْءٌ وَإِنْ اخْتَارَتْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ لُغَةً. أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِهَذَا اللَّفْظِ؟ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: اخْتَرْت نَفْسِي لَا تَطْلُقُ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِهَذَا اللَّفْظِ بِنَفْسِهِ فَكَيْفَ يَمْلِكُ تَفْوِيضَهُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ شَرْعًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] إلَى قَوْلِهِ {أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29] أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ بَيْنَ اخْتِيَارِ الْفِرَاقِ وَالْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيَّرَهُنَّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ بِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْأَمْرِ بِالتَّخْيِيرِ مَعْنًى وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ بَدَأَ بِي فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عَلَيْك أَنْ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك، قَالَتْ: وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا لِيَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ قَالَتْ فَقَرَأَ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] إلَى قَوْلِهِ: {أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29] فَقُلْتُ أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَقَالَتْ: بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ» وَفَعَلَ سَائِرُ أَزْوَاجِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَتْ فَدَلَّ أَنَّهُ يُوجِبُ اخْتِيَارَ التَّفْرِيقِ وَالْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ الْمُخَيَّرَةَ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي مَجْلِسِهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَكَذَا شَبَّهُوا أَيْضًا هَذَا الْخِيَارَ بِالْخِيَارَاتِ الطَّارِئَةِ عَلَى النِّكَاحِ وَهُوَ خِيَارُ الْمُعْتَقَةِ وَامْرَأَةِ الْعِنِّينِ وَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بِذَلِكَ الْخِيَارِ، فَكَذَا بِهَذَا وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْوَاقِعِ عَلَى مَا نَذْكُرُ وَذَلِكَ دَلِيلُ أَصْلِ الْوُقُوعِ إذْ الْكَيْفِيَّةُ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ، وَالصِّفَةُ تَسْتَدْعِي

وُجُودَ الْمَوْصُوفِ فَثَبَتَ كَوْنُ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ بِالشَّرْعِ فَيُتَّبَعُ مَوْرِدُ الشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهِ مَعَ قَرِينَةِ الْفِرَاقِ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً أَوْ قَرِينَةِ النَّفْسِ فَإِنَّ اخْتِيَارَ الْفِرَاقِ مُضْمَرٌ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28] بِدَلِيلِ مَا يُقَابِلُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 29] فَدَلَّ عَلَى إضْمَارِ اخْتِيَارِ الْفِرَاقِ كَأَنَّهُ قَالَ {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28] مَعَ اخْتِيَارِ فِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ ذَلِكَ تَخْيِيرًا لَهُنَّ بَيْنَ أَنْ يَخْتَرْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا مَعَ اخْتِيَارِ فِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ أَنْ يَخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَكُنَّ مُخْتَارَاتٍ لِلطَّلَاقِ لَوْ اخْتَرْنَ الدُّنْيَا أَوْ كَانَ اخْتِيَارُهُنَّ الدُّنْيَا وَزْنِيَّتهَا اخْتِيَارًا لِفِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا. وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جَعَلُوا لِلْمُخَيَّرَةِ الْمَجْلِسَ، وَقَالُوا: إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي مَجْلِسِهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فَهَذَا مَوْرِدُ الشَّرْعِ فِي هَذَا اللَّفْظِ فَيُقْتَصَرُ حُكْمُهُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَإِذَا قَالَ لَهَا: اخْتَارِي فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَيَبْقَى الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ فَلَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: اخْتَارِي مَعْنَاهُ اخْتَارِي إيَّايَ أَوْ نَفْسَك فَإِذَا قَالَتْ: اخْتَرْتُ فَلَمْ تَأْتِ بِالْجَوَابِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا وَلَا زَوْجَهَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ شَيْءٌ وَإِذَا قَالَ: لَهَا اخْتَارِي نَفْسَك فَقَالَتْ: اخْتَرْت فَهَذَا جَوَابٌ؛ لِأَنَّهَا أَخْرَجَتْهُ مَخْرَجَ الْجَوَابِ كَقَوْلِهِ اخْتَارِي نَفْسَك فَيَنْصَرِفُ إلَيْهَا كَأَنَّهَا قَالَتْ اخْتَرْتُ نَفْسِي. وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ اخْتَارِي أَيْ اخْتَارِي إيَّايَ أَوْ نَفْسَك وَقَدْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَقَدْ أَتَتْ بِالْجَوَابِ. وَكَذَا لَوْ قَالَتْ: أَخْتَارُ نَفْسِي يَكُونُ جَوَابًا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ جَوَابًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا أَخْتَارُ يَحْتَمِلُ الْحَالَ وَيَحْتَمِلُ الِاسْتِقْبَالَ فَلَا يَكُونُ جَوَابًا مَعَ الِاحْتِمَالِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ صِيغَةَ أَفْعَلَ مَوْضُوعَةٌ لِلْحَالِ، وَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِقْبَالِ بِقَرِينَةِ السِّينِ وَسَوْفَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. وَكَذَا إذَا قَالَ اخْتَارِي اخْتَارِي فَقَالَتْ: اخْتَرْت فَيَكُونُ جَوَابًا وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذِكْرُ النَّفْسِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ الِاخْتِيَارِ دَلِيلُ إرَادَةِ اخْتِيَارِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ كَأَنَّهُ قَالَ: اخْتَارِي الطَّلَاقَ فَيَنْصَرِفُ الْجَوَابُ إلَيْهِ. وَكَذَا إذَا قَالَ اخْتَارِي اخْتِيَارَةً، فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ اخْتِيَارَةً فَهُوَ جَوَابٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: اخْتِيَارَةً يُفِيدُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدَهُمَا تَأْكِيدُ الْأَمْرِ وَالثَّانِي مَعْنَى التَّوَحُّدِ وَالتَّفَرُّدِ، فَالتَّقْيِيدُ بِمَا يُوجِبُ التَّفَرُّدَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ التَّخْيِيرَ فِيمَا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ وَهُوَ الطَّلَاقُ وَإِذَا قَالَ لَهَا: اخْتَارِي الطَّلَاقَ فَقَالَتْ اخْتَرْت فَهُوَ جَوَابٌ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا اخْتِيَارَ الطَّلَاقِ نَصًّا فَيَنْصَرِفُ الْجَوَابُ إلَيْهِ. وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: اخْتَارِي أَيْ اخْتَارِي إيَّايَ أَوْ نَفْسَك، فَإِذَا قَالَتْ: اخْتَرْتُ الطَّلَاقَ فَقَدْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَكَانَ جَوَابًا، وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ اخْتَرْتُ أَبِي وَأُمِّي أَوْ أَهْلِي وَالْأَزْوَاجَ، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ جَوَابًا وَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ جَوَابًا. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِ الزَّوْجِ وَلَا فِي لَفْظِ الْمَرْأَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا فَلَا يَصْلُحُ جَوَابًا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ فِي لَفْظِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ تَلْحَقُ بِأَبَوَيْهَا وَأَهْلِهَا وَتَخْتَارُ الْأَزْوَاجَ عَادَةً، فَكَانَ اخْتِيَارُهَا هَؤُلَاءِ دَلَالَةً عَلَى اخْتِيَارِهَا الطَّلَاقَ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: اخْتَرْتُ الطَّلَاقَ. (وَأَمَّا) الْوَاقِعُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ فَإِنْ كَانَ التَّخْيِيرُ وَاحِدًا وَلَمْ يَذْكُرْ الثَّلَاثَ فِي التَّخْيِيرِ فَلَا يَقَعُ إلَّا طَلَاقٌ وَاحِدٌ - وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ فِي التَّخْيِيرِ - وَيَكُونُ بَائِنًا عِنْدَنَا إنْ كَانَ التَّفْوِيضُ مُطْلَقًا عَنْ قَرِينَةِ الطَّلَاقِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا أَرَادَ الزَّوْجُ بِالتَّخْيِيرِ الطَّلَاقَ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَنَوَتْ الطَّلَاقَ يَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَهَذَا مَذْهَبُهُ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ أَيْضًا وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِيمَنْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا أَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا يَقَعُ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَالتَّرْجِيحُ لِقَوْلِ الْأَوَّلِينَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاخْتَرْنَاهُ فَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ طَلَاقًا» وَعَنْ مَسْرُوقٍ. عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ الرَّجُلِ يُخَيِّرُ امْرَأَتَهُ يَكُونُ طَلَاقًا؟ فَقَالَتْ: «خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ طَلَاقًا» ؛ وَلِأَنَّ التَّخْيِيرَ إثْبَاتُ الْخِيَارِ فِي الْفِرَاقِ وَالْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ. وَاخْتِيَارُهَا زَوْجَهَا دَلِيلُ الْإِعْرَاض عَنْ تَرْكِ النِّكَاحِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ

تَرْكِ النِّكَاحِ اسْتِبْقَاءُ النِّكَاحِ فَكَيْفَ يَكُونُ طَلَاقًا؟ وَلَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا قَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَهُوَ أَحَدِي الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهُوَ ثَلَاثٌ وَالتَّرْجِيحُ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: يَقَعُ بَائِنًا لَا رَجْعِيًّا وَلَا ثَلَاثًا أَمَّا وُقُوعُ الْبَائِنِ: فَلِأَنَّ الزَّوْجَ خَيَّرَهَا بَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا لِنَفْسِهَا وَبَيْنَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا لِزَوْجِهَا، فَإِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا لِنَفْسِهَا لَوْ كَانَ الْوَاقِعُ رَجْعِيًّا لَمْ يَكُنِ اخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا لِنَفْسِهَا، بَلْ لِزَوْجِهَا؛ إذْ لِزَوْجِهَا أَنْ يُرَاجِعَهَا شَاءَتْ أَوْ أَبَتْ. وَأَمَّا عَدَمُ وُقُوعِ الثَّلَاثِ وَإِنْ وُجِدَتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي التَّخْيِيرِ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَقَعَ بِالِاخْتِيَارِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَإِنَّمَا جُعِلَ طَلَاقًا بِالشَّرْعِ ضَرُورَةَ صِحَّةِ التَّخْيِيرِ، وَحَقُّ الضَّرُورَةِ يَصِيرُ مَقْضِيًّا بِالْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ، وَإِنْ كَانَ التَّفْوِيضُ مَقْرُونًا بِذِكْرِ الطَّلَاقِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي الطَّلَاقَ فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ الطَّلَاقَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَرَّحَ بِالطَّلَاقِ فَقَدْ خَيَّرَهَا بَيْنَ نَفْسِهَا بِتَطْلِيقَةٍ رَجْعِيَّةٍ وَبَيْنَ رَدِّ التَّطْلِيقَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِك فَإِنْ ذَكَرَ الثَّلَاثَ فِي التَّخْيِيرِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي ثَلَاثًا فَقَالَتْ: اخْتَرْت يَقَعُ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الثَّلَاثِ دَلِيلُ إرَادَةِ اخْتِيَارِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَعَدَّدُ، فَقَوْلُهَا اخْتَرْتُ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ، وَلَوْ كَرَّرَ التَّخْيِيرَ بِأَنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي اخْتَارِي وَنَوَى بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الطَّلَاقَ فَقَالَتْ اخْتَرْتُ يَقَعُ ثِنْتَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَخْيِيرٌ تَامٌّ بِنَفْسِهِ لِوُجُودِ رُكْنِهِ وَشَرْطِهِ وَهُوَ النِّيَّةُ، وَالثَّانِي لَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُفَسَّرُ بِنَفْسِهِ وَلَا يَصْلُحُ جَوَابًا أَيْضًا وَلَا عِلَّةً وَلَا حُكْمًا لِلْأَوَّلِ؛ فَيَكُونُ كَلَامًا مُبْتَدَأً، وَالتَّكْرَارُ دَلِيلُ إرَادَةِ الطَّلَاقِ، قَوْلُهَا اخْتَرْتُ يَكُونُ جَوَابًا لَهُمَا جَمِيعًا، وَالْوَاقِعُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَلَاقٌ بَائِنٌ فَيَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ بَائِنَتَانِ وَكَذَلِكَ إذَا ذَكَرَ الثَّانِي بِحَرْفِ الصِّلَةِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي وَاخْتَارِي أَوْ قَالَ اخْتَارِي فَاخْتَارِي؛ لِأَنَّ الْوَاوَ وَالْفَاءَ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ إلَّا أَنَّ الْفَاءَ قَدْ تُذْكَرُ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ وَقَدْ تُذْكَرُ فِي مَوْضِعِ الْحُكْمِ؛ كَمَا يُقَالُ: أَبْشِرْ فَقَدْ أَتَاكَ الْغَوْثُ، وَيُقَالُ قَدْ أَتَاك الْغَوْثُ فَأَبْشِرْ، لَكِنْ هَهُنَا لَا تَصْلُحُ عِلَّةً وَلَا حُكْمًا فَتَكُونُ لِلْعَطْفِ، وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ هُوَ الْأَصْلُ، وَلَوْ قَالَ: لَهَا اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي، أَوْ قَالَ: اخْتَارِي وَاخْتَارِي وَاخْتَارِي أَوْ قَالَ اخْتَارِي فَاخْتَارِي فَاخْتَارِي فَقَالَتْ: اخْتَرْت فَهِيَ ثَلَاثٌ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَالَ: لَهَا اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي فَقَالَتْ اخْتَرْتُ الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ فَهُوَ ثَلَاثٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ وَاحِدَةٌ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّهَا مَا أَوْقَعَتْ إلَّا وَاحِدَةً فَلَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِاخْتِيَارِهَا وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا إلَّا اخْتِيَارُ وَاحِدَةٍ فَلَا تَقَعُ بِهِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاحِدَةِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي ثَلَاثًا فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ وَاحِدَةً وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّوْجَ مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ جُمْلَةً وَالثَّلَاثُ جُمْلَةً لَيْسَ فِيهَا أُولَى وَلَا وُسْطَى وَلَا أَخِيرَةً فَقَوْلُهَا اخْتَرْتُ الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ يَكُونُ لَغْوًا فَيَبْطُلُ تَعْيِينُهَا وَيَبْقَى قَوْلُهُ اخْتَرْتُ وَأَنَّهُ يَصْلُحُ جَوَابَ الْكُلِّ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا قَالَ لَهَا: اخْتَارِي وَاخْتَارِي وَاخْتَارِي أَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي فَاخْتَارِي فَاخْتَارِي فَقَالَتْ: اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي أَوْ ذَكَرَ التَّخْيِيرَيْنِ بِحَرْفِ الْوَاوِ أَوْ بِحَرْفِ الْفَاءِ فَقَالَتْ: قَدْ اخْتَرْتُ اخْتِيَارَةً فَهُوَ ثَلَاثٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اخْتَرْتُ الْكُلَّ مَرَّةً فَيَقَعُ الثَّلَاثُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذِكْرُ النَّفْسِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّكْرَارَ مِنْ الزَّوْجِ دَلِيلُ إرَادَةِ اخْتِيَارِ الطَّلَاقِ. وَكَذَا إذَا قَالَتْ: اخْتَرْتُ الِاخْتِيَارَةَ أَوْ قَالَتْ اخْتَرْتُ مَرَّةً أَوْ بِمَرَّةٍ أَوْ دَفْعَةً أَوْ بِدَفْعَةٍ أَوْ بِوَاحِدَةٍ فَهُوَ ثَلَاثٌ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَالَتْ: قَدْ طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً أَوْ اخْتَرْتُ نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَتْ اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ فَهُوَ ثَلَاثٌ وَعَلَيْهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ غَيْرَ أَنَّهَا إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بِالْأَخِيرَةِ كَانَتْ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً وَعَلَيْهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بِالْأُولَى أَوْ بِالْوُسْطَى كَانَتْ وَاحِدَةً وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا. وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ تَعْيِينَ الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةِ لَغْوٌ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ جُمْلَةً وَالثَّلَاثُ الْمُمَلَّكَةُ جُمْلَةً لَيْسَ لَهَا أُولَى وَلَا وُسْطَى وَلَا أَخِيرَةً فَكَانَ التَّعْيِينُ هَهُنَا لَغْوًا فَبَطَلَ التَّعْيِينُ وَبَقِيَ قَوْلُهَا اخْتَرْتُ، وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْتُ طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَعَلَيْهَا الْأَلْفُ كَذَا

فصل في قوله أنت طالق إن شئت

هَذَا. وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ اخْتِيَارَ الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةِ صَحِيحٌ وَلَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ غَيْرَ أَنَّهُمَا يَقُولَانِ لَا يَلْزَمُهَا الْأَلْفُ إلَّا إذَا اخْتَارَتْ الْأَخِيرَةَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ التَّخْيِيرَاتِ عَلَى حِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ تَامٌّ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ حَرْفُ الْجَمْعِ فَيُجْعَلُ الْكُلُّ كَلَامًا وَاحِدًا فَبَقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَخْيِيرًا تَامًّا بِنَفْسِهِ فَيُعْطَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَ نَفْسِهِ. وَالْبَدَلُ لَمْ يُذْكَرْ إلَّا فِي التَّخْيِيرِ الْأَخِيرِ فَلَا يَجِبُ إلَّا بِاخْتِيَارِ الْأَخِيرَةِ، وَلَوْ ذَكَرَ حَرْفَ الْوَاوِ أَوْ حَرْفَ الْفَاءِ فَقَالَ: اخْتَارِي وَاخْتَارِي وَاخْتَارِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ قَالَ: اخْتَارِي فَاخْتَارِي فَاخْتَارِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا وَعَلَيْهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ لِمَا ذَكَرْنَا وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ بَيْنَ التَّخْيِيرَاتِ الثَّلَاثِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ جَعَلَ الْكُلَّ كَلَامًا وَاحِدًا وَقَدْ أَمَرَهَا أَنْ تُحَرِّمَ نَفْسَهَا عَلَيْهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَا تَمْلِكُ التَّحْرِيمَ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [فَصْلٌ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ اخْتَارِي فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ إلَّا أَنَّ الطَّلَاقَ هَهُنَا رَجْعِيٌّ وَهُنَاكَ بَائِنٌ؛ لِأَنَّ الْمُفَوِّضَ هَهُنَا صَرِيحٌ وَهُنَاكَ كِنَايَةٌ. وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ أَحْبَبْتِ أَوْ رَضِيَتْ أَوْ هَوَيْتِ أَوْ أَرَدْتِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ فَكَانَ مِثْلَ قَوْلِهِ إنْ شِئْت. وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ حَيْثُ شِئْتِ أَوْ أَيْنَ شِئْتِ أَوْ أَيْنَمَا شِئْتِ أَوْ حَيْثُمَا شِئْتِ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: إنْ شِئْت؛ لِأَنَّ حَيْثُ وَأَيْنَ اسْمُ مَكَان وَمَا صِلَةٌ فِيهِمَا وَلَا تَعَلُّقَ لِلطَّلَاقِ بِالْمَكَانِ فَيَلْغُو ذِكْرُهُمَا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ وَيَبْقَى ذِكْرُ الْمَشِيئَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَمْ شِئْت أَوْ مَا شِئْت غَيْرَ أَنْ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي الْمَجْلِسِ مَا شَاءَتْ وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كَمْ لِلْقَدْرِ وَقَدْرُ الطَّلَاقِ هُوَ الْعَدَدُ وَالْعَدَدُ هُوَ الْوَاقِعُ. وَكَذَا كَلِمَةُ مَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ تُذْكَرُ لِبَيَانِ الْقَدْرِ يُقَالُ: كُلْ مِنْ طَعَامِي مَا شِئْتَ أَيْ الْقَدْرَ الَّذِي شِئْتَ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْتِ أَوْ إذَا مَا شِئْت أَوْ مَتَى شِئْت أَوْ مَتَى مَا شِئْت فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَتْ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَهُ وَبَعْدَ الْقِيَامِ عَنْهُ لِمَا مَرَّ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا إلَّا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ عَلَى مَا مَرَّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّمَا شِئْتِ فَإِنَّ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ - وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا وَهُوَ الثَّابِتُ - مُقْتَضَى قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَهُوَ الطَّلَاقُ، لَكِنَّهُ عَلَّقَ الْمَشِيئَةَ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا، وَأَنَّهَا تَقْتَضِي تَكْرَارَ الْأَفْعَالِ فَيَتَكَرَّرُ الْمُعَلَّقُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ. وَإِذَا وَقَعَ الثَّلَاثُ عِنْدَ الْمَشِيئَاتِ الْمُتَكَرِّرَةِ يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ؛ وَلِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِكُلِّ مَشِيئَةٍ وَالْمُفَوَّضَ إلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الْبَائِنَةُ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَلَا تَمْلِكُ الثَّلَاثَ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْتِ طَلُقَتْ لِلْحَالِ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مَا لَمْ تَشَأْ؛ وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْتِ لَا يَتَعَلَّقُ أَصْلُ الطَّلَاقِ بِالْمَشِيئَةِ بَلْ الْمُعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ صِفَةُ الْوَاقِعِ وَتَتَقَيَّدُ مَشِيئَتُهَا بِالْمَجْلِسِ، وَعِنْدَهُمَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَصْلِ وَالْوَصْفِ الْمَشِيئَةُ وَتَتَقَيَّدُ مَشِيئَتُهَا بِالْمَجْلِسِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْكَيْفِيَّةَ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ وَقَدْ عَلَّقَ الْوَصْفَ بِالْمَشِيئَةِ، وَتَعْلِيقُ الْوَصْفِ بِالْمَشِيئَةِ تَعْلِيقُ الْأَصْلِ بِالْمَشِيئَةِ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ الصِّفَةِ بِدُونِ الْمَوْصُوفِ، وَإِذَا تَعَلَّقَ أَصْلُ الطَّلَاقِ بِالْمَشِيئَةِ لَا يَنْزِلُ مَا لَمْ تُوجَدْ الْمَشِيئَةُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّوْجَ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْتِ أَوْقَعَ أَصْلَ الطَّلَاقِ لِلْحَالِ وَفَوَّضَ تَكْيِيفَ الْوَاقِعِ إلَى مَشِيئَتِهَا؛ لِأَنَّ الْكَيْفِيَّةَ لِلْمَوْجُودِ لَا لِلْمَعْدُومِ إذْ الْمَعْدُومُ لَا يَحْتَمِلُ الْكَيْفِيَّةَ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ أَصْلِ الطَّلَاقِ لِتَتَخَيَّرَ هِيَ فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ: إنَّ الزَّوْجَ كَيَّفَ الْمَعْدُومَ، وَالْمَعْدُومُ لَا يُكَيَّفُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْوُجُودِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ الْوُجُودِ الْوُقُوعُ ثُمَّ إذَا شَاءَتْ فِي مَجْلِسِهَا فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الزَّوْجُ الْبَيْنُونَةَ وَلَا الثَّلَاثَ فَشَاءَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا كَانَ مَا شَاءَتْ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ فَوَّضَ الْكَيْفِيَّةَ إلَيْهَا فَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ الْبَيْنُونَةَ أَوْ الثَّلَاثَ فَإِذَا وَافَقَتْ مَشِيئَتُهَا نِيَّةَ

فصل في قوله طلقي نفسك

الزَّوْجِ بِأَنْ قَالَتْ فِي مَجْلِسِهَا: شِئْتُ وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا. وَقَالَ الزَّوْجُ: ذَلِكَ نَوَيْتُ، فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ أَوْ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُ نِيَّةٌ فَقَالَتْ شِئْت وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا كَانَ الْوَاقِعُ مَا شَاءَتْ؛ فَإِذَا وَاقَفَتْ مَشِيئَتُهَا نِيَّةَ الزَّوْجِ أَوْلَى، وَإِنْ خَالَفَتْ مَشِيئَتُهَا نِيَّةَ الزَّوْجِ بِأَنْ قَالَتْ: شِئْتُ ثَلَاثًا. وَقَالَ الزَّوْجُ نَوَيْتُ وَاحِدَةً لَا يَقَعُ بِهَذِهِ الْمَشِيئَةِ شَيْءٌ آخَرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ سِوَى تِلْكَ الْوَاحِدَةِ الْوَاقِعَةِ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا إذَا قَالَتْ: شِئْتُ وَاحِدَةً ثَانِيَةً فَتَصِيرُ تِلْكَ الطَّلْقَةُ ثَانِيَةً لِمَا قُلْنَا وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ وَاحِدَةٌ بِمَشِيئَتِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا لَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ وَاحِدَةٌ وَسَنَذْكُرُ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ قَالَتْ: شِئْتُ وَاحِدَةً. وَقَالَ الزَّوْجُ: نَوَيْتُ الثَّلَاثَ لَا يَقَعُ بِهَذِهِ الْمَشِيئَةِ شَيْءٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا إنْ شِئْتِ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الَّذِي يَلِيهِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَدْ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ حَالَ وُجُودِهِ، وَإِنْ لَمْ تَشَأْ الْمَرْأَةُ شَيْئًا حَتَّى قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا وَلَا نِيَّةَ لِلزَّوْجِ أَوْ نَوَى وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ وَهِيَ مُتَيَقَّنٌ بِهَا، وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَإِنْ شَاءَتْ لِخُرُوجِ الْأَمْرِ عَنْ يَدِهَا، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ فَقَالَتْ: شِئْتُ إنْ كَانَ كَذَا فَإِنْ عَلَّقَتْ بِشَيْءٍ مَوْجُودٍ نَحْوَ مَا إذَا قَالَتْ: إنْ كَانَ هَذَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا وَإِنْ كَانَ هَذَا أَبِي وَأُمِّي أَوْ زَوْجِي وَنَحْوُ ذَلِكَ يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ كَائِنٍ، وَالتَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ كَائِنٍ تَنْجِيزٌ وَإِنْ عَلَّقَتْ بِشَيْءٍ غَيْرِ مَوْجُودٍ فَقَالَتْ شِئْتُ إنْ شَاءَ فُلَانٌ يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا حَتَّى لَا يَقَعَ شَيْءٌ وَإِنْ شَاءَ فُلَانٌ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا التَّنْجِيزَ وَهِيَ أَبَتْ بِالتَّعْلِيقِ، وَالتَّنْجِيزُ غَيْرُ التَّعْلِيقِ؛ لِأَنَّ التَّنْجِيزَ تَطْلِيقٌ، وَالتَّعْلِيقُ يَمِينٌ فَلَمْ تَأْتِ بِمَا فَوَّضَ إلَيْهَا وَأَعْرَضَتْ عَنْهُ لِاشْتِغَالِهَا بِغَيْرِهِ فَيَبْطُلُ التَّفْوِيضُ وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ فُلَانٌ يَتَقَيَّدُ بِمَجْلِسِ عِلْمِ فُلَانٍ؛ فَإِنْ شَاءَ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ غَائِبًا وَبَلَغَهُ الْخَبَرُ يَقْتَصِرُ عَلَى مَجْلِسِ عِلْمِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ فَيَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلَ فُلَانٌ الدَّارَ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ فِي أَيِّ وَقْتٍ وُجِدَ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ، وَالتَّعْلِيقُ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ فَيَقِفُ الْوُقُوعُ عَلَى وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ وُجِدَ يَقَعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي قَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَكِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا قَوْلُهُ: طَلِّقِي نَفْسَكِ فَهُوَ تَمْلِيكٌ عِنْدَنَا سَوَاءٌ قَيَّدَهُ بِالْمَشِيئَةِ أَوْ لَا وَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ تَوْكِيلٌ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ قَيَّدَهُ بِالْمَشِيئَةِ أَوْ لَمْ يُقَيِّدْهُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: لِأَجْنَبِيٍّ: طَلِّقْ امْرَأَتِي تَوْكِيلٌ وَلَا يَتَقَيَّد بِالْمَجْلِسِ، وَهُوَ فَصْلُ التَّوْكِيلِ فَإِنْ قَيَّدَهُ بِالْمَشِيئَةِ بِأَنْ قَالَ لَهُ طَلِّقْ امْرَأَتِي إنْ شِئْتَ فَهَذَا تَمْلِيكٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ هُوَ تَوْكِيلٌ فَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ. أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَوْ أَضَافَ الْأَمْرَ بِالتَّطْلِيقِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْمَشِيئَةِ كَانَ تَوْكِيلًا بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا إذَا أَضَافَهُ إلَى الْمَرْأَةِ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْمَشِيئَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ إلَّا الشَّخْصُ وَالصِّيغَةُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّخْصِ. وَكَذَا إذَا قَيَّدَ بِالْمَشِيئَةِ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمَشِيئَةِ وَالسُّكُوتَ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهَا تُطَلِّقُ نَفْسَهَا بِمَشِيئَتِهَا وَاخْتِيَارِهَا إذْ هِيَ غَيْرُ مُضْطَرَّةٍ فِي ذَلِكَ فَكَانَ ذِكْرُ الْمَشِيئَةِ لَغْوًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَيَبْقَى قَوْلُهُ: طَلِّقِي نَفْسَك، وَأَنَّهُ تَوْكِيلٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ كَمَا فِي الْأَجْنَبِيِّ، وَلَنَا لِبَيَانِ أَنَّ قَوْلَهُ لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك تَمْلِيكٌ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ عَنْ مِلْكٍ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ بِرَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَالْمَرْأَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَكَانَتْ مُتَصَرِّفَةً عَنْ مِلْكٍ فَكَانَ تَفْوِيضُ التَّطْلِيقِ إلَيْهَا تَمْلِيكًا بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ الرَّأْيَ وَالتَّدْبِيرَ لِلزَّوْجِ وَالِاخْتِيَارَ لَهُ، فَكَانَ إضَافَةُ الْأَمْرِ إلَيْهِ تَوْكِيلًا لَا تَمْلِيكًا. وَالثَّانِي أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ عَنْ مِلْكٍ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ، وَالْمُتَصَرِّفَ عَنْ تَوْكِيلٍ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ لِغَيْرِهِ؛ وَالْمَرْأَةُ عَامِلَةٌ لِنَفْسِهَا لِأَنَّهَا بِالتَّطْلِيقِ تَرْفَعُ قَيْدَ الْغَيْرِ عَنْ نَفْسِهَا فَكَانَتْ مُتَصَرِّفَةً عَنْ مِلْكٍ،. فَأَمَّا الْأَجْنَبِيُّ فَإِنَّهُ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ لَا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ عَمَلِهِ عَائِدَةٌ إلَى غَيْرِهِ فَكَانَ مُتَصَرِّفًا عَنْ تَوْكِيلٍ وَأَمْرٍ لَا عَنْ مِلْكٍ. وَالثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَهُ لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ تَوْكِيلًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ تُجْعَلَ وَكِيلَةً فِي حَقِّ تَطْلِيقِ نَفْسِهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ مَالِكَةً لِلطَّلَاقِ بِتَمْلِيكِ الزَّوْجِ فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى

التَّمْلِيكِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ بِالتَّطْلِيقِ يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، وَالْإِنْسَانُ يَصْلُحُ وَكِيلًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ زُفَرَ فَوَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ الْكَلَامَ لَكَانَ تَوْكِيلًا فَكَذَا إذَا قَيَّدَهُ بِالْمَشِيئَةِ لِمَا مَرَّ أَنَّ التَّقْيِيدَ فِيهِ وَالْإِطْلَاقَ عَلَى السَّوَاءِ؛ لِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَ طَلَّقَ عَنْ مَشِيئَةٍ وَلَا مَحَالَةَ لِكَوْنِهِ مُخْتَارًا فِي التَّطْلِيقِ غَيْرَ مُضْطَرٍّ فِيهِ، وَلَنَا وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ وَهُوَ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ فِي الْمُطْلَقِ، فَيَتَصَرَّفُ بِرَأْيِ الْغَيْرِ وَتَدْبِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَكَانَ تَوْكِيلًا لَا تَمْلِيكًا. وَأَمَّا فِي الْمُقَيَّدِ فَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ عَنْ رَأْيِ نَفْسِهِ وَتَدْبِيرِ نَفْسِهِ، وَمَشِيئَتِهِ وَهَذَا مَعْنَى الْمَالِكِيَّةِ؛ وَهُوَ التَّصَرُّفُ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَهَذَا فَرْقٌ وَاضِحٌ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. (وَأَمَّا) قَوْلُهُ: التَّقْيِيدُ بِالْمَشِيئَةِ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مَتَى طَلَّقَ طَلَّقَ عَنْ مَشِيئَةٍ، فَمَمْنُوعٌ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَأَنَّهُ مَتَى طَلَّقَ طَلَّقَ عَنْ مَشِيئَةٍ؛ فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِمَا اخْتِيَارُ الْفِعْلِ وَتَرْكُهُ وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَنْفِي الْغَلَبَةَ وَالِاضْطِرَارَ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِنَا: الْمَعَاصِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَوَلَّى تَخْلِيقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مَغْلُوبٍ وَلَا مُضْطَرٍّ فِي فِعْلِهِ وَهُوَ التَّخْلِيقُ، بَلْ هُوَ مُخْتَارٌ، وَتُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا اخْتِيَارُ الْإِيثَارِ يُقَالُ: إنْ شِئْتُ فَعَلْتُ كَذَا وَإِنْ شِئْتُ لَمْ أَفْعَلْ أَيْ: إنْ شِئْت آثَرْتُ الْفِعْلَ وَإِنْ شِئْتُ آثَرْتُ التَّرْكَ عَلَى الْفِعْلِ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ مِنْ قَوْلِنَا: الْمُكْرَهُ لَيْسَ بِمُخْتَارٍ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْمَشِيئَةِ الْمَذْكُورَةِ هَهُنَا هُوَ اخْتِيَارُ الْإِيثَارِ لَا اخْتِيَارُ الْفِعْلِ وَتَرْكِهِ؛ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ لَلَغَا كَلَامُهُ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى اخْتِيَارِ الْإِيثَارِ لَمْ يَلْغُ، وَصِيَانَةُ كَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ اللَّغْوِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْإِمْكَان، وَاخْتِيَارِ الْإِيثَارِ فِي التَّمْلِيكِ لَا فِي التَّوْكِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَكِيلَ يَعْمَلُ عَنْ رَأْيِ الْمُوَكِّلِ وَتَدْبِيرِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَعِيرُ مِنْهُ الْعِبَارَةَ فَقَطْ فَكَانَ الْإِيثَارُ مِنْ الْمُوَكِّلِ لَا مِنْ الْوَكِيلِ. وَأَمَّا الْمُمَلَّكُ فَإِنَّمَا يَعْمَلُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَإِيثَارِهِ لَا بِالْمُمَلِّكِ فَكَانَ التَّقْيِيدُ بِالْمَشِيئَةِ مُفِيدًا، وَالْأَصْلُ أَنَّ التَّوْكِيلَ لُغَةً هُوَ الْإِنَابَةُ، وَالتَّفْوِيضَ هُوَ التَّسْلِيمُ بِالْكُلِّيَّةِ لِذَلِكَ سَمَّى مَشَايِخُنَا الْأَوَّلَ تَوْكِيلًا وَالثَّانِيَ تَفْوِيضًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُقَيَّدَ بِالْمَشِيئَةِ تَمْلِيكٌ وَالْمُطْلَقَ تَوْكِيلٌ وَالتَّمْلِيكَ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُمَلَّكَ إنَّمَا يَمْلِكُ بِشَرْطِ الْجَوَابِ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ بِالْخِطَابِ؛ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ خَاطَبَ غَيْرَهُ يَطْلُبُ جَوَابَ خِطَابِهِ فِي الْمَجْلِسِ فَلَا يَمْلِكُ نَهْيَهُ عَنْهُ لِمَا مَرَّ، ثُمَّ التَّوْكِيلُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِمَا وُكِّلَ بِتَحْصِيلِهِ فِي الْمَجْلِسِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ بِشَيْءٍ لَا يَحْضُرُهُ الْمُوَكِّلُ وَيُفْعَلُ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ حَاضِرًا يَسْتَغْنِي بِعِبَارَةِ نَفْسِهِ عَنْ اسْتِعَارَةِ عِبَارَةِ غَيْرِهِ فَلَوْ تَقَيَّدَ التَّوْكِيلُ بِالْمَجْلِسِ لَخَلَا عَنْ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ فَيَكُونُ سَفَهًا وَيَمْلِكُ نَهْيَهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلَهُ فَيَمْلِكُ عَزْلَهُ، وَلَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا فَقَدْ صَارَ الثَّلَاثُ بِيَدِهَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إيَّاهَا طَلِّقِي نَفْسَكَ أَيْ: حَصِّلِي طَلَاقًا، وَالْمَصْدَرُ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ وَالْعُمُومَ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ فَإِذَا نَوَى بِهِ الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَلَوْ أَرَادَ بِهِ الثِّنْتَيْنِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَصْدَرِ لَفْظُ وُحْدَانٍ وَالِاثْنَانِ عَدَدٌ لَا تَوَحُّدَ فِيهِ أَصْلًا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ تَنْصَرِفُ إلَى الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ بِالْفِعْلِ فِي الشَّاهِدِ يُصْرَفُ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي الْمُتَعَارَفِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِغُلَامِهِ: اسْقِ هَذِهِ الْأَرْضَ وَكَانَتْ الْأَرْضُ لَا تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ إلَّا بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ صَارَ مَأْمُورًا بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَصْلُحُ بِالسَّقْيِ مَرَّةً وَاحِدَةً صَارَ مَأْمُورًا بِهِ، وَمَنْ قَالَ لِغُلَامِهِ: اضْرِبْ هَذَا الَّذِي اسْتَخَفَّ بِي يَنْصَرِفُ إلَى ضَرْبٍ يَقَعُ بِهِ التَّأْدِيبُ عَادَةً وَيَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الِانْزِجَارُ وَمَنْ أَصَابَتْ ثَوْبَهُ نَجَاسَةٌ فَقَالَ لِجَارِيَتِهِ: اغْسِلِيهِ لَا تَصِيرُ مُؤْتَمِرَةً إلَّا بِغَسْلٍ مُحَصِّلٍ لِلْمَقْصُودِ وَهُوَ طَهَارَةُ الثَّوْبِ دَلَّ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ فِي الشَّاهِدِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْفِعْلِ فِي الْمُتَعَارَفِ وَالْعُرْفِ، وَالْمَقْصُودُ فِي قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك مُخْتَلِفٌ؛ فَقَدْ يُقْصَدُ بِهِ الطَّلَاقُ الْمُبْطِلُ لِلْمِلْكِ وَقَدْ يُقْصَدُ بِهِ الطَّلَاقُ الْمُبْطِلُ لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ سَدًّا لِبَابِ التَّدَارُكِ، فَأَيَّ ذَلِكَ نَوَى انْصَرَفَ إلَيْهِ ثُمَّ إذَا صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا أَوْ اثْنَتَيْنِ أَوْ وَاحِدَةً وَقَعَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ وَمَالِكُ الثَّلَاثِ لَهُ أَنْ يُوقِعَ الثَّلَاثَ أَوْ الِاثْنَتَيْنِ أَوْ الْوَاحِدَةَ كَالزَّوْجِ سَوَاءً، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ أَوْ أَرَدْتِ أَوْ رَضِيَتْ أَوْ إذَا شِئْتِ أَوْ مَتَى شِئْتِ أَوْ مَتَى مَا شِئْتِ أَوْ أَيْنَ شِئْتِ أَوْ حَيْثُ شِئْتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَنَوَى الثَّلَاثَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِمَا مَرَّ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ صِفَةٌ لِلْمَرْأَةِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الطَّلَاقُ اقْتِضَاءَ ضَرُورَةِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ بِكَوْنِهَا طَالِقًا وَلَا ضَرُورَةَ فِي قَبُولِ نِيَّةِ الثَّلَاثِ فَلَا

يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ وَمَالِكُ الثَّلَاثِ إذَا أَوْقَعَ وَاحِدَةً تَقَعُ كَالزَّوْجِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ فَقَدْ مَلَّكَهَا الْوَاحِدَةَ؛ لِأَنَّهَا بَعْضُ الثَّلَاثِ، وَبَعْضُ الْمَمْلُوكِ يَكُونُ مَمْلُوكًا، وَلَوْ قَالَ: لَهَا طَلِّقِي نَفْسَكِ وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ نَفْسهَا ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَقَعُ وَاحِدَةٌ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّهَا أَتَتْ بِمَا فَوَّضَ الزَّوْجُ إلَيْهَا وَزَادَتْ عَلَى الْقَدْرِ الْمُفَوَّضِ فَيَقَعُ الْقَدْرُ الْمُفَوَّضُ وَتَلْغُو الزِّيَادَةُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً فَقَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَاحِدَةً أَنَّهُ يَقَعُ وَاحِدَةٌ وَتَلْغُو الزِّيَادَةُ كَذَا هَذَا كَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ فَقَالَتْ: أَبَنْتُ نَفْسِي تَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَتَلْغُو صِفَةُ الْبَيْنُونَةِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وُجُوهٌ مِنْ الْفِقْهِ: أَحَدُهَا أَنَّهُ لَوْ وَقَعَتْ الْوَاحِدَةُ إمَّا أَنْ تَقَعَ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ مَقْصُودًا أَوْ ضِمْنًا أَوْ ضَرُورَةَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ إيقَاعُ الْوَاحِدَةِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لِانْعِدَامِ لَفْظِ الْوَاحِدَةِ وَوُجُودِ لَفْظٍ آخَرَ وَكَذَا لَمْ يُوجَدْ وَقْتَ وُقُوعِ الْوَاحِدَةِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهَا نَفْسِي وَسُكُوتِهَا عَلَيْهِ، وَوَقْتَ وُقُوعِهَا مَعَ الثَّلَاثِ عِنْدَ قَوْلِهَا ثَلَاثًا، وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَمْلِكْ الثَّلَاثَ إذْ الزَّوْجُ لَمْ يُمَلِّكْهَا الثَّلَاثَ فَلَا تَمْلِكُ إيقَاعَ الثَّلَاثِ فَلَا يَقَعُ الثَّلَاثُ فَلَا تَقَعُ الْوَاحِدَةُ ضِمْنًا لِوُقُوعِ الثَّلَاثِ فَتَعَذَّرَ الْقَوْلُ بِالْوُقُوعِ أَصْلًا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً لِأَنَّ هُنَاكَ مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ فَمَلَكَتْ إيقَاعَ الثَّلَاثِ، وَمَالِكُ إيقَاعِ الثَّلَاثِ يَمْلِكُ إيقَاعَ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْمَمْلُوكِ مَمْلُوكٌ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي وَاحِدَةً فَقَالَتْ: طَلَّقَتْ نَفْسِي وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ ثَمَّ أَوْقَعَتْ الْوَاحِدَةَ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لِوُجُودِ لَفْظِ الْوَاحِدَةِ وَقْتَ وُقُوعِهَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فَوَقَعَتْ وَاحِدَةٌ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ثُمَّ اشْتَغَلَتْ بِغَيْرِهَا وَهُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهَا فَلَغَا وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ: قَدْ أَبَنْتُ نَفْسِي؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَوْقَعَتْ مَا فُوِّضَ إلَيْهَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ؛ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ لُغَةً عَلَى مَا نَذْكُرُ إلَّا أَنَّهَا زَادَتْ عَلَى الْقَدْرِ الْمُفَوَّضِ صِفَةَ الْبَيْنُونَةِ فَلَغَتْ وَبَقِيَ أَصْلُ الطَّلَاقِ. وَالثَّانِي إنَّ الْمَرْأَةَ بِقَوْلِهَا: طَلَّقْت نَفْسِي ثَلَاثًا أَعْرَضَتْ عَمَّا فَوَّضَ الزَّوْجُ إلَيْهَا فَيَبْطُلُ التَّفْوِيضُ وَيَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا كَمَا إذَا اشْتَغَلَتْ بِأَمْرٍ آخَرَ أَوْ قَامَتْ عَنْ مَجْلِسِهَا، وَدَلَالَةُ أَنَّهَا أَعْرَضَتْ عَمَّا فُوِّضَ إلَيْهَا أَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا الْوَاحِدَةَ وَهِيَ أَتَتْ بِالثَّلَاثِ؛ وَالْوَاحِدَةُ مِنْ الثَّلَاثِ إنْ لَمْ تَكُنْ غَيْرَ الثَّلَاثِ وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ غَيْرُ الْوَاحِدَةِ ذَاتًا؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهَا وَالشَّيْءُ لَا يَكُونُ غَيْرَ نَفْسِهِ لَكِنَّهَا غَيْرُ الْوَاحِدَةِ لَفْظًا وَحُكْمًا وَوَقْتًا. (أَمَّا) اللَّفْظُ فَإِنَّ لَفْظَ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ لَفْظِ الثَّلَاثِ. وَكَذَا حُكْمُهَا غَيْرُ حُكْمِ الثَّلَاثِ. وَأَمَّا الْوَقْتُ فَإِنَّ وَقْتَ وُقُوعِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ وَقْتِ وُقُوعِ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ تَقَعُ عِنْدَ قَوْلِهَا طَلَّقْتُ نَفْسِي وَالثَّلَاثَ تَقَعُ عِنْدَ قَوْلِهَا ثَلَاثًا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَدَدَ وَهُوَ الْوَاقِعُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مَتَى اقْتَرَنَ بِذِكْرِ الطَّلَاقِ ذِكْرُ عَدَدٍ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ قَبْلَ ذِكْرِ الْعَدَدِ، وَيَقِفُ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ فَصَارَتْ الْمَرْأَةُ بِاشْتِغَالِهَا بِذِكْرِ الثَّلَاثِ لَفْظًا مُعْرِضَةً عَنْ الْوَاحِدَةِ لَفْظًا وَحُكْمًا وَوَقْتَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ لِصَيْرُورَتِهَا مُشْتَغِلَةً بِغَيْرِ مَا مَلَكَتْ تَارِكَةً لِلْمَمْلُوكِ، وَالِاشْتِغَالُ بِغَيْرِ الْمَمْلُوكِ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ عَمَّا مَلَكَتْ؛ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ مَا مَلَكَتْ يُوجِبُ بُطْلَانَ التَّمْلِيكِ وَخُرُوجَ الْأَمْرِ عَنْ يَدِهَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا أَعْرَضَتْ عَمَّا فُوِّضَ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا الثَّلَاثَ وَتَفْوِيضَ الثَّلَاثِ تَفْوِيضُ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ تَمْلِيكٌ، وَتَمْلِيكَ الثَّلَاثِ تَمْلِيكُ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَجْزَاءِ الثَّلَاثِ وَجُزْءُ الْمَمْلُوكِ مَمْلُوكٌ فَلَمْ تَصِرْ بِاشْتِغَالِهَا بِالْوَاحِدَةِ مُشْتَغِلَةً بِغَيْرِ مَا مَلَكَتْ وَلَا تَارِكَةً لِلْمَمْلُوكِ. فَأَمَّا تَمْلِيكُ الْجُزْءِ فَلَا يَكُونُ تَمْلِيكَ الْكُلِّ فَافْتَرَقَا. وَالثَّالِثُ أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يُمَلِّكْهَا إلَّا الْوَاحِدَةَ الْمُنْفَرِدَةَ، وَمَا أَتَتْ بِالْوَاحِدَةِ الْمُنْفَرِدَةِ فَلَمْ تَأْتِ بِمَا مَلَّكَهَا الزَّوْجُ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك فَأَعْتَقَتْ عَبْدَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يُمَلِّكْهَا إلَّا الْوَاحِدَةَ الْمُنْفَرِدَةَ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى التَّوَحُّدِ، وَالتَّوَحُّدُ يُنْبِئُ عَنْ التَّفَرُّدِ فِي اللُّغَةِ فَكَانَ الْمُفَوَّضُ إلَيْهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً مُنْفَرِدَةً عَنْ غَيْرِهَا؛ وَهِيَ وَإِنْ أَتَتْ بِالْوَاحِدَةِ بِإِتْيَانِهَا بِالثَّلَاثِ فَمَا أَتَتْ بِالْوَاحِدَةِ الْمُنْفَرِدَةِ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِثَلَاثٍ مُجْتَمِعَةٍ وَالثَّلَاثُ الْمُجْتَمِعَةُ لَا يُوجَدُ فِيهَا وَاحِدَةٌ مُنْفَرِدَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ لِتَضَادٍّ بَيْنَ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ فَلَمْ تَأْتِ بِمَا فَوَّضَ إلَيْهَا فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا

فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَتَتْ بِمَا فَوَّضَ إلَيْهَا لَكِنَّهَا زَادَتْ عَلَى الْقَدْرِ الْمُفَوَّضِ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا الثَّلَاثَ مُطْلَقًا عَنْ صِفَةِ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَةً وَقَعَتْ كَمَا لَوْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا مُجْتَمِعَةً، وَلَوْ كَانَ الْمُفَوَّضُ إلَيْهَا الثَّلَاثَ الْمُجْتَمِعَةَ لَمَا مَلَكَتْ إيقَاعَ الثَّلَاثِ الْمُتَفَرِّقَةِ، فَإِذَا صَارَتْ الثَّلَاثُ - مُطْلَقًا - مَمْلُوكَةً لَهَا، مُجْتَمَعَةً كَانَتْ أَوْ مُنْفَرِدَةً صَارَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ مَمْلُوكَةً لَهَا مُنْفَرِدَةً كَانَتْ أَوْ مُجْتَمَعَةً، فَإِذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً فَقَدْ أَتَتْ بِالْمَمْلُوكِ ضَرُورَةً، وَهُوَ الْجَوَابُ عَمَّا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ وَاحِدَةً فَقَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَاحِدَةً أَنَّهُ يَقَعُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِالْمُفَوَّضِ وَزِيَادَةً فَيَقَعُ الْقَدْرُ الْمُفَوَّضُ وَتَلْغُو الزِّيَادَةُ، وَهَهُنَا مَا أَتَتْ بِالْمُفَوَّضِ إلَيْهَا أَصْلًا وَرَأْسًا فَهُوَ الْفَرْقُ. وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ فَقَالَتْ: أَبَنْتُ نَفْسِي؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَيْضًا أَتَتْ بِالْمُفَوَّضِ إلَيْهَا وَزِيَادَةٍ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ فَوَّضَ إلَيْهَا أَصْلَ الطَّلَاقِ وَهِيَ أَتَتْ بِالْأَصْلِ وَالْوَصْفِ؛ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فَلَغَا الْوَصْفُ وَهُوَ وَصْفُ الْبَيْنُونَةِ وَبَقِيَ الْأَصْلُ وَهُوَ صَرِيحُ الطَّلَاقِ فَتَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قِيَاسَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ لَا يَقَعَ شَيْءٌ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا مَا إذَا قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً إنْ شِئْتِ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا. وَلَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا إنْ شِئْت فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ لَا يَقَعُ شَيْءٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا الثَّلَاثَ بِشَرْطِ مَشِيئَتِهَا الثَّلَاثَ فَإِذَا شَاءَتْ مَا دُونَ الثَّلَاثِ لَمْ تَمْلِكْ الثَّلَاثَ لِوُجُودِ بَعْضِ شَرْطِ الْمِلْكِ وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ وُجُودِ بَعْضِ الشَّرْطِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ مِنْ ثَلَاثٍ مَا شِئْت فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ: تُطَلِّقُ نَفْسَهَا ثَلَاثًا إنْ شَاءَتْ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ تُذْكَرُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: كُلْ مِنْ هَذَا الرَّغِيفِ مَا شِئْتَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّ الرَّغِيفِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلِمَةَ مَا كَلِمَةٌ عَامَّةٌ، وَكَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ حَقِيقَةً فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا وَذَلِكَ فِي أَنْ يَصِيرَ الْمُفَوَّضُ إلَيْهَا مِنْ الثَّلَاثِ بَعْضًا لَهُ عُمُومٌ وَذَلِكَ اثْنَانِ؛ فَتَمْلِكُ مَا فُوِّضَ إلَيْهَا وَهُوَ الثِّنْتَانِ. وَفِي مَسْأَلَةِ الرَّغِيفِ صُرِفَتْ كَلِمَةُ مِنْ عَنْ حَقِيقَتِهَا إلَى الْجِنْسِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّعَامِ هُوَ السَّمَاحُ دُونَ الشُّحِّ خُصُوصًا فِي حَقِّ مَنْ قُدِّمَ إلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ إنْ شِئْت فَقَالَتْ شِئْتُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت يَقَعُ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَمَرَهَا بِالتَّطْلِيقِ فَمَا لَمْ تُطَلِّقْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَمَشِيئَةُ التَّطْلِيقِ لَا تَكُونُ تَطْلِيقًا، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِمَشِيئَتِهَا وَقَدْ شَاءَتْ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ فَقَالَتْ: أَبَنْتُ نَفْسِي طَلُقَتْ وَاحِدَةً تَمْلِكُ الرَّجْعَةَ، وَإِنْ قَالَتْ: قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي لَمْ تَطْلُقْ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ قَوْلَهَا أَبَنْتُ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ قَطْعُ الْوَصْلَةِ لُغَةً، وَالطَّلَاقَ رَفْعُ الْقَيْدِ لُغَةً إلَّا أَنَّ عَمَلَ صَرِيحِ الطَّلَاقِ يَتَأَخَّرُ شَرْعًا فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إلَى مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَكَانَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مُوَافَقَةٌ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ فَإِذَا قَالَتْ: أَبَنْتُ نَفْسِي فَقَدْ أَتَتْ بِالْأَصْلِ وَزَادَتْ صِفَةَ الْبَيْنُونَةِ فَتَلْغُو الصِّفَةُ وَيَبْقَى الْأَصْلُ بِخِلَافِ قَوْلِهَا اخْتَرْتُ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ لُغَةً بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ اخْتَرْتُكِ أَوْ قَالَ: اخْتَرْتُ نَفْسِي لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ. وَكَذَا إذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ: طَلَّقْتُ نَفْسِي أَوْ أَبَنْتُ نَفْسِي وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ، وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي لَا يَقِفُ عَلَى إجَازَتِهِ، بَلْ يَبْطُلُ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ شَرْعًا بِالنَّصِّ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عِنْدَ خُرُوجِهِ جَوَابًا لِلتَّخْيِيرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْيَدِ فَلَا يَكُونُ جَوَابًا فِي غَيْرِهِ فَيَلْغُو، وَحَكَى الْقُدُورِيُّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فَقَالَ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ: أَبَنْتُ نَفْسِي لَا يَقَعُ شَيْءٌ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَوَقَعَ عِنْدَهُمَا تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ كَأَنَّهَا قَالَتْ: أَبَنْتُ نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ وَلَمْ يُذْكَرْ خِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَكِ وَاحِدَةً عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا `، وَلَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَكِ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا بَائِنًا أَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً فَطَلَّقَتْ رَجْعِيَّةً يَقَعُ مَا أَمَرَ بِهِ الزَّوْجُ لَا مَا أَتَتْ بِهِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَمْلِكُ تَطْلِيقَ نَفْسِهَا بِتَمْلِيكِ الزَّوْجِ لَهَا؛ فَتَمْلِكُ مَا مَلَّكَهَا الزَّوْجُ وَمَا أَتَتْ بِهِ مُوَافِقٌ لِمَا مَلَّكَهَا الزَّوْجُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا

فصل في الرسالة في الطلاق

مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا خَالَفَهُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ فَإِذَا وَقَعَ الْأَصْلُ اسْتَتْبَعَ الْوَصْفُ الْمُمَلَّكُ فَيَقَعُ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. [فَصْلٌ فِي الرِّسَالَةِ فِي الطَّلَاقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الرِّسَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَبْعَثَ الزَّوْجُ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ الْغَائِبَةِ عَلَى يَدِ إنْسَانٍ فَيَذْهَبُ الرَّسُولُ إلَيْهَا وَيُبَلِّغُهَا الرِّسَالَةَ عَلَى وَجْهِهَا فَيَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ يَنْقُلُ كَلَامَ الْمُرْسِلِ فَكَانَ كَلَامُهُ كَكَلَامِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. عَدَمُ الشَّكِّ مِنْ الزَّوْجِ فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ شَرْطُ الْحُكْمِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ حَتَّى لَوْ شَكَّ فِيهِ، لَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِهِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَزِلَ امْرَأَتَهُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي زَوَالِهِ بِالطَّلَاقِ فَلَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهِ بِالشَّكِّ كَحَيَاةِ الْمَفْقُودِ، أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ ثَابِتَةً وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي زَوَالِهَا لَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهَا بِالشَّكِّ حَتَّى لَا يُورَثَ مَالُهُ وَلَا يَرِثَ هُوَ أَيْضًا مِنْ أَقَارِبِهِ. وَالْأَصْلُ فِي نَفْيِ اتِّبَاعِ الشَّكِّ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ - «لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» اعْتَبَرَ الْيَقِينَ وَأَلْغَى الشَّكَّ ثُمَّ شَكُّ الزَّوْجِ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ وَقَعَ فِي أَصْلِ التَّطْلِيقِ أَطَلَّقَهَا أَمْ لَا؟ وَإِمَّا أَنْ وَقَعَ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ وَقَدْرِهِ؛ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ صِفَةِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً فَإِنْ وَقَعَ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ لَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْقَدْرِ يُحْكَمُ بِالْأَقَلِّ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَفِي الزِّيَادَةِ شَكٌّ، وَإِنْ وَقَعَ فِي وَصْفِهِ يُحْكَمُ بِالرَّجْعِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَضْعَفُ الطَّلَاقَيْنِ فَكَانَتْ مُتَيَقَّنًا بِهَا. [فَصْل فِي شَرَائِط رُكْن الطَّلَاق وبعضها يَرْجِعُ إلَى الْمَرْأَةِ] (فَصْل) وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَرْأَةِ فَمِنْهَا الْمِلْكُ أَوْ عَلَقَةٌ مِنْ عَلَائِقِهِ؛ فَلَا يَصِحُّ الطَّلَاقُ إلَّا فِي الْمِلْكِ أَوْ فِي عَلَقَةٍ مِنْ عَلَائِقِ الْمِلْكِ وَهِيَ عِدَّةُ الطَّلَاقِ أَوْ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ تَنْجِيزًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إضَافَةً إلَى وَقْتٍ أَمَّا التَّنْجِيزُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَالْعِدَّةِ فَبَاطِلٌ؛ بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ طَلَّقْتُكِ؛ لِأَنَّهُ إبْطَالُ الْحِلِّ وَرَفْعُ الْقَيْدِ وَلَا حِلَّ وَلَا قَيْدَ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ إبْطَالُهُ وَرَفْعُهُ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ» . وَإِنْ كَانَتْ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ وُقِفَ عَلَى إجَازَتِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ فَنَوْعَانِ: تَعْلِيقٌ فِي الْمِلْكِ، وَتَعْلِيقٌ بِالْمِلْكِ. وَالتَّعْلِيقُ فِي الْمِلْكِ نَوْعَانِ: حَقِيقِيٌّ، وَحُكْمِيٌّ أَمَّا الْحَقِيقِيُّ: فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا أَوْ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَإِنَّهُ صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِ، فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَكَانَ الْجَزَاءُ غَالِبَ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَحْصُلُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْيَمِينِ وَهُوَ التَّقَوِّي عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ فَصَحَّتْ الْيَمِينُ، ثُمَّ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ، وَالْمَرْأَةُ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي الْعِدَّةِ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِلَّا فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَكِنْ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ لَا إلَى جَزَاءٍ حَتَّى إنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ الدَّارَ وَهِيَ فِي مِلْكِهِ طَلُقَتْ. وَكَذَا إذَا أَبَانَهَا قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ فَدَخَلَتْ الدَّارَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْمُبَانَةَ يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ عِنْدَنَا، وَإِنْ أَبَانَهَا قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْعِدَّةِ، وَلَكِنْ تَبْطُلُ الْيَمِينُ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا ثَانِيًا وَدَخَلَتْ الدَّارَ لَا يَقَعُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَصِيرُ عِنْدَ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ، وَالتَّنْجِيزُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَالْعِدَّةِ بَاطِلٌ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ الصَّحِيحَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ جُنَّ فَدَخَلَتْ الدَّارَ أَنَّهُ يَقَعُ طَلَاقُهُ، وَلَوْ نَجَزَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يَقَعُ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ التَّطْلِيقَ كَلَامُهُ السَّابِقُ عِنْدَ الشَّرْطِ فَتُعْتَبَرُ الْأَهْلِيَّةُ وَقْتَ وُجُودِهِ وَقَدْ وُجِدَتْ، وَالثَّانِي أَنَّا إنَّمَا اعْتَبَرْنَاهُ تَنْجِيزًا حُكْمًا وَتَقْدِيرًا، وَالْمَجْنُونُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى امْرَأَتِهِ بِطَرِيقِ الْحُكْمِ، فَإِنَّ الْعِنِّينَ إذَا أَجَّلَ فَمَضَتْ الْمُدَّةُ وَقَدْ جُنَّ يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَيَكُونُ ذَلِكَ طَلَاقًا فَاطَّرَدَ الْكَلَامُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ أَبَانَهَا قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ وَلَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ حَتَّى تَزَوَّجَهَا ثُمَّ دَخَلَتْ يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمْ تَبْطُلْ بِالْإِبَانَةِ؛ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ عَوْدُ الْمِلْكِ فَمَا قَامَتْ الْجَزَاءُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ فَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ عَادَتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَدَخَلَتْ طَلُقَتْ ثَلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ طَالِقٌ مَا بَقِيَ مِنْ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ شَيْءٌ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ

امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَدَخَلَ بِهَا وَعَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ أَنَّهَا تَعُودُ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فِي قَوْلِهِمَا، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ تَعُودُ بِمَا بَقِيَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ هَلْ يَهْدِمُ الطَّلْقَةَ وَالطَّلْقَتَيْنِ؟ عِنْدَهُمَا يَهْدِمُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَهْدِمُ. وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِثْلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مِثْلُ مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] إلَى قَوْلِهِ {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا تَخَلَّلَتْ إصَابَةُ الزَّوْجِ الثَّانِي الثَّلَاثَ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْهَا وَهَذِهِ مُطَلَّقَةُ الثَّلَاثَ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ هَذِهِ طَلْقَةٌ قَدْ سَبَقَهَا طَلْقَتَانِ حَقِيقَةً، وَالطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ هِيَ الطَّلْقَةُ الَّتِي سَبَقَهَا طَلْقَتَانِ فَدَخَلَتْ تَحْتَ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ جُعِلَ فِي الشَّرْعِ مَنْهِيًّا لِلْحُرْمَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَحَتَّى كَلِمَةُ غَايَةٍ، وَغَايَةُ الْحُرْمَةِ لَا تُتَصَوَّرُ قَبْلَ وُجُودِ الْحُرْمَةِ، وَالْحُرْمَةُ لَمْ تَثْبُتْ قَبْلَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ فَلَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ الثَّانِي مَنْهِيًّا لِلْحُرْمَةِ فَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ النُّصُوصُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا النُّصُوصُ: فَالْعُمُومَاتُ الْوَارِدَةُ فِي بَابِ النِّكَاحِ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] . وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَأَمْثَالُهَا تَقْتَضِي جَوَازَ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُطَلَّقَةً أَوْ لَا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا تَخَلَّلَهَا إصَابَةُ الزَّوْجِ الثَّانِي أَوْ لَا إلَّا أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ الَّتِي لَمْ يَتَخَلَّلْهَا إصَابَةُ الزَّوْجِ الثَّانِي خُصَّتْ عَنْ النُّصُوصِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهَا تَحْتَهَا. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ النِّكَاحَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمَسْنُونٌ وَعَقْدٌ وَمَصْلَحَةٌ لِتَضَمُّنِهِ مَصَالِحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْمَصْلَحَةِ مَفْسَدَةٌ، وَالشَّرِيعَةُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ التَّنَاقُضِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً بِمُخَالَفَةِ الْأَخْلَاقِ وَمُبَايَنَةِ الطِّبَاعِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي وَيَقَعُ الْيَأْسُ عَنْ اسْتِيفَاءِ الْمَصَالِحِ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ فَشُرِعَ الطَّلَاقُ لِاسْتِيفَاءِ الْمَصَالِحِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ النِّكَاحِ مِنْ زَوْجَةٍ أُخْرَى، إلَّا أَنَّ خُرُوجَ النِّكَاحِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّجْرِبَةِ، وَلِهَذَا فُوِّضَ الطَّلَاقُ إلَى الزَّوْجِ لِاخْتِصَاصِهِ بِكَمَالِ الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ لِيَتَأَمَّلَ فَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا عَلَى ظَنِّ الْمُخَالَفَةِ، ثُمَّ مَالَ قَلْبُهُ إلَيْهَا حَتَّى تَزَوَّجَهَا بَعْدَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ النِّفَارِ فِي طِبَاعِ الْفَحْلِ وَنِهَايَةِ الْمَنْعِ دَلَّ أَنَّ طَرِيقَ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَهُمَا قَائِمٌ، وَأَنَّهُ أَخْطَأَ فِي التَّجْرِبَةِ وَقَصَّرَ فِي التَّأَمُّلِ؛ فَبَقِيَ النِّكَاحُ مَصْلَحَةً لِقِيَامِ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِحُرْمَتِهِ كَمَا فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ ثَمَّةَ لَمْ يُوجَدْ إلَّا دَلِيلُ أَصْلِ الْمُوَافَقَةِ وَهَهُنَا وُجِدَ دَلِيلُ كَمَالِ الْمُوَافَقَةِ وَهُوَ الْمَيْلُ إلَيْهَا مَعَ وُجُودِ مَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي النَّفْرَةِ ثُمَّ لَمَّا حَلَّ نِكَاحُهَا فِي الِابْتِدَاءِ لِتَحْقِيقِ الْمَقَاصِدِ فَبَعْدَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي أَوْلَى، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي بَعْدَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا، فَوُرُودُ الشَّرْعِ بِجَوَازِ النِّكَاحِ ثَمَّةَ يَكُونُ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً. وَالثَّانِي أَنَّ الْحِلَّ بَعْدَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي وَطَلَاقِهِ إيَّاهَا وَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا حِلٌّ جَدِيدٌ. وَالْحِلُّ الْجَدِيدُ لَا يَزُولُ إلَّا بِثَلَاثِ طَلَقَاتٍ كَمَا فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا حِلٌّ جَدِيدٌ أَنَّ الْحِلَّ الْأَوَّلَ قَدْ زَالَ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ عَرَضٌ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ، إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ الْحِلَّيْنِ حُرْمَةٌ يُجْعَلُ كَالدَّائِمِ بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهِ فَيَكُونُ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَكَانَ زَائِلًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَكَانَ الثَّانِي حِلًّا جَدِيدًا، وَالْحِلُّ الْجَدِيدُ لَا يَزُولُ إلَّا بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ كَمَا فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ. وَأَمَّا فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] فَنَقُولُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَتَنَاوَلُ طَلْقَةً ثَالِثَةً مَسْبُوقَةً بِطَلْقَتَيْنِ بِلَا فَصْلٍ، لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ بِلَا فَصْلٍ وَإِصَابَةُ الزَّوْجِ الثَّانِي هَهُنَا حَاصِلَةٌ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا، أَوْ تُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ الثَّانِي حَتَّى طَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ وَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ إصَابَةَ الزَّوْجِ الثَّانِي غَايَةً لِلْحُرْمَةِ فَنَقُولُ كَوْنُ الْإِصَابَةِ غَايَةً لِلْحُرْمَةِ يَقْتَضِي انْتِهَاءَ الْحُرْمَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِصَابَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَثْبُتُ حِلٌّ جَدِيدٌ بَعْدَ الْإِصَابَةِ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ الدُّخُولِ وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجِ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ فَدَخَلَتْ الدَّارَ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَقَعُ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُعَلَّقَ طَلَقَاتٌ مُطْلَقَةٌ لَا مُقَيَّدَةٌ

بِالْحِلِّ الْقَائِمِ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ أَطْلَقَ وَمَا قَيَّدَ، وَالْحِلُّ الْقَائِمُ إنْ بَطَلَ بِالتَّنْجِيزِ فَقَدْ وُجِدَ حِلٌّ آخَرُ؛ فَكَانَ التَّعْلِيقُ بَاقِيًا وَقَدْ وُجِدَ الْمِلْكُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ كَمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ الدُّخُولِ يَبْقَى تَعْلِيقُ الظِّهَارِ بِالدُّخُولِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَدَخَلَتْ الدَّارَ يَصِيرُ مُظَاهِرًا لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا. وَلَنَا أَنَّ الْمُعَلَّقَ طَلَقَاتُ الْحِلِّ الْقَائِمِ لِلْحَالِ، وَقَدْ بَطَلَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الطَّلَاقُ الْمُبْطِلُ لِلْحِلِّ الْقَائِمِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَتَبْقَى الْيَمِينُ كَمَا إذَا صَارَ الشَّرْطُ بِحَالٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ بِأَنْ جَعَلَ الدَّارَ بُسْتَانًا أَوْ حَمَّامًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُعَلَّقَ طَلَقَاتُ هَذَا الْحِلِّ أَنَّ الْمُعَلَّقَ طَلَاقٌ مَانِعٌ مِنْ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْيَمِينِ التَّقَوِّي عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ، وَالْمَنْعُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِكَوْنِهِ غَالِبَ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ. وَذَلِكَ هُوَ الْحِلُّ الْقَائِمُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ لِلْحَالِ، فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ فَيَصْلُحُ مَانِعًا، وَاَلَّذِي يَحْدُثُ بَعْدَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي عَدَمٌ لِلْحَالِ، فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ عَلَى الْعَدَمِ فَكَانَ غَالِبَ الْعَدَمِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَلَا يَصْلُحُ إطْلَاقهُ مَانِعًا فَلَا يَكُونُ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ مَا لَا يَكُونُ مُعَلَّقًا بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْحَالِفُ أَطْلَقَ فَنَعَمْ لَكِنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمُقَيَّدَ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ مِنْ التَّصَرُّفِ وَهُوَ التَّقَوِّي عَلَى الِامْتِنَاعِ. وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِتَطْلِيقَاتِ هَذَا الْحِلِّ فَيَتَقَيَّدُ بِهَا. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الظِّهَارِ فَفِيهَا اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ رَوَى أَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَبْطُلُ بِتَنْجِيزِ الثَّلَاثِ فَلَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا عِنْدَ دُخُولِ الدَّارِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ الْمِلْكِ أَوْ الْعِدَّةِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْمِلْكِ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ. فَإِنْ كَانَ بِشَرْطَيْنِ هَلْ يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ أَوْ الْعِدَّةِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرَطَيْنِ جَمِيعًا؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: لَا يُشْتَرَطُ بَلْ الشَّرْطُ قِيَامُ الْمِلْكِ أَوْ الْعِدَّةُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ الْأَخِيرِ. وَقَالَ زُفَرُ: يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطَيْنِ. وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ كَلَّمْت زَيْدًا وَعَمْرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَكَلَّمَتْ زَيْدًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَكَلَّمَتْ عَمْرًا طَلُقَتْ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تَطْلُقُ، وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ فِي الْمِلْكِ وَالثَّانِي فِي غَيْرِ الْمِلْكِ بِأَنْ كَلَّمَتْ زَيْدًا وَهِيَ فِي مِلْكِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ كَلَّمَتْ عَمْرًا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْحَالِفَ جَعَلَ كَلَامَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو جَمِيعًا شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَوُجُودُ جَمِيعِ الشَّرْطِ شَرْطٌ لِنُزُولِ الْجَزَاءِ، وَوَقْتُ نُزُولِ الْجَزَاءِ هُوَ وَقْتُ وُجُودِ الشَّرْطِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا إذَا كَلَّمَتْ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؟ فَكَذَا إذَا كَلَّمَتْ أَحَدَهُمَا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَذَلِكَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ كَمَا إذَا وُجِدَ الشَّرْطَانِ جَمِيعًا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيُشْتَرَطُ لِنُزُولِ الْجَزَاءِ وَوَقْتِ نُزُولِ الْجَزَاءِ وَهُوَ وَقْتُ وُجُودِ الشَّرْطِ الْأَخِيرِ فَيُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ عِنْدَهُ لَا غَيْرَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ إمَّا لِصِحَّةِ التَّعْلِيقِ أَوْ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ وَهُوَ نُزُولُ الْمُعَلَّقِ وَالْمِلْكِ الْقَائِمِ فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا. فَأَمَّا وَقْتُ وُجُودِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ وَقْتَ التَّعْلِيقِ وَلَا وَقْتَ نُزُولِ الْجَزَاءِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْمِلْكِ عِنْدَهُ. وَنَظِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ: كَمَالُ النِّصَابِ فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ وَنُقْصَانِهِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُشْتَرَطُ الْكَمَالُ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَى آخِرِهِ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الدُّخُولُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الدُّخُولَ شَرْطَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا عِنْدَ الدُّخُولِ: إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَالْيَمِينُ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا فِي الْمِلْكِ أَوْ مُضَافَةً إلَى الْمِلْكِ فَإِنْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ عِنْدَ دُخُولِهِ الدَّارَ صَحَّتْ الْيَمِينُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّرْطِ وَهُوَ الْكَلَامُ، فَإِذَا كَلَّمَتْ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي مِلْكِهِ عِنْدَ الدُّخُولِ بِأَنْ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ لَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيقُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْعِدَّةِ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ كَلَّمَتْ. وَإِنْ كَانَ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ كَلَّمَتْ فُلَانًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ تَنْجِيزًا فَيَصِحُّ تَعْلِيقُ طَلَاقِهَا أَيْضًا فِي حَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ كَالزَّوْجَةِ. وَإِذَا صَحَّ التَّعْلِيقُ وَوُجِدَ شَرْطُهُ فِي الْمِلْكِ أَوْ فِي الْعِدَّةِ يَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت فَهَذَا وَقَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَوْ إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا سَوَاءٌ؛ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَقِفُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى مَشِيئَتِهَا كَمَا يَقِفُ عَلَى دُخُولِهَا وَكَلَامِهَا إلَّا أَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيقٌ بِالشَّرْطِ، وَهَذَا تَمْلِيكٌ كَقَوْلِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِك وَاخْتَارِي وَلِهَذَا اقْتَصَرَ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَحْلِفُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِمَا سِوَى

اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ وَمَشِيئَتُهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ مَا جُعِلَ عِلْمَنَا عَلَى الطَّلَاقِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الطَّلَاقِ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ عِلَّةً لَا شَرْطًا، وَمَشِيئَتُهَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وُجُودُ الطَّلَاقِ، بَلْ هِيَ تَطْلِيقٌ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ مَشِيئَتُهُ بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتُ أَنَا. أَلَا تَرَى إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: شِئْت طَلَاقَك طَلُقَتْ، كَمَا إذَا قَالَ طُلِّقْتِ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ طَلَّقْتُكِ كَانَ تَعْلِيقًا لِلطَّلَاقِ بِشَرْطِ التَّطْلِيقِ حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا يَقَعُ الْمُنَجَّزُ ثُمَّ يَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ، وَالتَّعْلِيقُ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الطَّلَاقُ وَمَعَ هَذَا يَصْلُحُ شَرْطًا فَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّنْجِيزَ يَحْصُلُ بِهِ الطَّلَاقُ الْمُنَجَّزُ لَا الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بَلْ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ، فَكَانَ التَّنْجِيزُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ عِلْمًا مَحْضًا فَكَانَ شَرْطًا، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ هَوَيْتُ أَوْ أَرَدْتُ أَوْ أَحْبَبْتُ أَوْ رَضِيتُ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: إنْ شِئْتُ وَيَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِالْخَبَرِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إلَّا بِحَقَائِقِهَا، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى عُلِّقَ الطَّلَاقُ بِشَيْءٍ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا يَتَعَلَّقُ بِإِخْبَارِهَا عَنْهُ، وَمَتَى عُلِّقَ بِشَيْءٍ يُوقَفُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ إذَا قَالَ لَهَا: إنْ كُنْت تُحِبِّينِي أَوْ تُبْغِضِينِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ: أُحِبُّ أَوْ أَبْغَضُ يَقَعُ الطَّلَاقُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَقَعَ. وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَرْطٍ لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ فَأَشْبَهَ التَّعْلِيقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّهُ عَلَّقَهُ بِأَمْرٍ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا فَيَتَعَلَّقُ بِإِخْبَارِهَا عَنْهُ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: إنْ أَخْبَرْتِنِي عَنْ مَحَبَّتِكِ أَوْ بُغْضِكِ إيَّايَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ لَتَعَلَّقَ بِنَفْسِ الْإِخْبَارِ كَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لَهَا: إنْ كُنْت تُحِبِّينَ أَنْ يُعَذِّبَكِ اللَّهُ بِالنَّارِ أَوْ إنْ كُنْت تَكْرَهِينَ الْجَنَّةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ: أُحِبُّ النَّارَ أَوْ أَكْرَهُ الْجَنَّةَ، وَقَعَ الطَّلَاقُ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَالَ: إنْ كُنْت تُحِبِّينِي بِقَلْبِك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ: أُحِبُّكَ بِقَلْبِي وَفِي قَلْبِهَا غَيْرُ ذَلِكَ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَقَعُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا قَيَّدَ الْمَحَبَّةَ بِالْقَلْبِ فَقَدْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِحَقِيقَةِ الْمَحَبَّةِ لَا بِالْمُخَبِّرِ عَنْهَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهَا مَحَبَّةٌ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَهُمَا أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْكَرَاهَةَ لَمَّا كَانَتَا مِنْ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إلَّا مِنْ جِهَتِهَا تَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِنَفْسِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمَا دُونَ الْحَقِيقَةِ وَقَدْ وُجِدَ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لَهَا إنْ حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ حِضْتُ طَلُقَتْ حِينَ رَأَتْ الدَّمَ وَاسْتَمَرَّ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ قِبَلِهَا فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ، وَإِذَا اسْتَمَرَّ الدَّمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَأَتْ كَانَ حَيْضًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ فَوَقَعَ الطَّلَاقُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: إنْ حِضْتِ حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ تَحِضْ وَتَطْهُرْ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ اسْمٌ لِلْكَامِلِ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ «أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ» وَيَقَعُ عَلَى الْكَامِلِ حَتَّى يُقَدَّرَ الِاسْتِبْرَاءُ بِهِ، وَكَمَالُهَا بِانْقِضَائِهَا مِنْ ذَلِكَ بِاتِّصَالِ جُزْءٍ مِنْ الطُّهْرِ بِهَا فَكَانَ هَذَا فِي الْحَقَائِقِ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالطُّهْرِ. وَنَظِيرُهُ إذَا قَالَ: إذَا صُمْت يَوْمًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَقَعَ عَلَيَّ صَوْمُ كُلِّ الْيَوْمِ وَذَلِكَ بِدُخُولِ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ فَكَأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِدُخُولِ اللَّيْلِ وَكَذَا هَذَا. وَكَذَا إذَا قَالَ: إنْ حِضْت نِصْفَ حَيْضَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا تَطْلُقُ مَا لَمْ تَحِضْ وَتَطْهُرْ؛ لِأَنَّ نِصْفَ حَيْضَةٍ حَيْضَةٌ كَامِلَةٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إذَا حِضْتِ حَيْضَةً. وَكَذَا إذَا قَالَ: إذَا حِضْت سُدْسَ حَيْضَةٍ أَوْ ثُلُثَ حَيْضَةٍ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إذَا حِضْت نِصْفَ حَيْضَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِذَا حِضْت نِصْفَهَا الْآخَرَ فَأَنْتِ طَالِقٌ؛ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ تَحِضْ وَتَطْهُرْ فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ يَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلْقَةً بِنِصْفِ حَيْضَةٍ، وَنِصْفُ حَيْضَةٍ حَيْضَةٌ كَامِلَةٌ، وَعَلَّقَ طَلْقَةً أُخْرَى بِنِصْفِ تِلْكَ الْحَيْضَةِ بِعَيْنِهَا وَهِيَ حَيْضَةٌ كَامِلَةٌ فَكَانَ هَذَا تَعْلِيقَ طَلَاقَيْنِ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ كَامِلَةٍ؛ وَكَمَالُهَا بِانْقِضَائِهَا وَاتِّصَالِ الطُّهْرِ بِهَا وَإِذَا اتَّصَلَ بِهَا الطُّهْرُ طَلُقَتْ تَطْلِيقَتَيْنِ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فِي حَيْضِك أَوْ مَعَ حَيْضِك، فَحِينَ مَا رَأَتْ الدَّمَ تَطْلُقُ بِشَرْطِ أَنْ يَسْتَمِرَّ بِهَا الدَّمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ فِي لِلظَّرْفِ، وَالْحَيْضُ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا لِلطَّلَاقِ فَيُجْعَلُ شَرْطًا فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا حِضْت، وَكَلِمَةُ مَعَ لِلْمُقَارَنَةِ فَيَقْتَضِي كَوْنَ الطَّلَاقِ مُقَارِنًا لِحَيْضِهَا فَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَرْئِيَّ كَانَ حَيْضًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فِي حَيْضِك أَوْ مَعَ حَيْضَتِك فَمَا لَمْ تَحِضْ وَتَطْهُرْ لَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ اسْمٌ لِلْكَامِلِ وَذَلِكَ بِاتِّصَالِ الطُّهْرِ، وَلَوْ كَانَتْ حَائِضًا فِي هَذِهِ الْفُصُولِ كُلِّهَا لَا يَقَعُ مَا لَمْ تَطْهُرْ مِنْ

هَذِهِ الْحَيْضَةِ وَتَحِيضُ مَرَّةً أُخْرَى لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحَيْضَ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَالشَّرْطُ مَا يَكُونُ مَعْدُومًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَهُوَ الْحَيْضُ الَّذِي يُسْتَقْبَلُ لَا الْمَوْجُودُ فِي الْحَالِ فَكَانَ هَذَا تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِحَيْضٍ مُبْتَدَأٍ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: إذَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ مَعَكِ فَقَالَتْ: حِضْت؛ إنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَإِنْ كَذَّبَهَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا وَلَا يَقَعُ عَلَى صَاحِبَتِهَا؛ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهَا لَا فِي حَقِّ غَيْرِهَا فَثَبَتَ حَيْضُهَا فِي حَقِّهَا لَا فِي حَقِّ صَاحِبَتِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ مَقْبُولًا فِي حَقِّ شَخْصٍ غَيْرِ مَقْبُولٍ فِي حَقِّ شَخْصٍ آخَرَ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْبُولًا وَغَيْرَ مَقْبُولٍ فِي حَقِّ حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ إذَا قَامَتْ عَلَى السَّرِقَةِ أَنَّهَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْمَالِ وَلَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ. وَإِذَا قَالَ إذَا حِضْتِ فَامْرَأَتِي الْأُخْرَى طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ فَقَالَتْ: قَدْ حِضْتُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ إذَا صَدَّقَهَا الزَّوْجُ، وَإِنْ كَذَّبَهَا لَا يَقَعُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إقْرَارَهَا عَلَى غَيْرِهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْغَيْرِ. وَلَوْ قَالَ: إذَا وَلَدْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ وَلَدْت لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يُصَدِّقْهَا الزَّوْجُ أَوْ يَشْهَدْ عَلَى الْوِلَادَةِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ عَلَى الْوِلَادَةِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ وِلَادَتَهَا قَدْ ثَبَتَتْ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ لِكَوْنِ النِّكَاحِ قَائِمًا، وَالْوِلَادَةُ تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ فِي تَعْيِينِ الْوَلَدِ وَفِيمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ وَهُوَ النَّسَبُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَالطَّلَاقُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الْوِلَادَةِ فَلَا تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ. وَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ: دَخَلْتُ أَوْ كَلَّمْتُ، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يُصَدِّقْهَا الزَّوْجُ أَوْ يَشْهَدْ عَلَى ذَلِكَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا دَخَلْت أَوْ كَلَّمْت إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ وَهُوَ الزَّوْجُ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ فَكَانَ شَهَادَةً عَلَى الْغَيْرِ فَلَا تُقْبَلُ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ: إذَا حِضْتُمَا حَيْضَةً فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ أَوْ قَالَ إذَا حِضْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ الْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الزَّوْجَ مَتَى أَضَافَ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ إلَى امْرَأَتَيْنِ وَجَعَلَ وُجُودَهُ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِمَا يُنْظَرُ إنْ كَانَ يَسْتَحِيلُ وُجُودُ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْهُمَا كَانَ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِمَا وُجُودُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا كَانَ وُجُودُهُ مِنْهُمَا شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ يَجِبُ تَصْحِيحُهُ مَا أَمْكَنَ، إنْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ يُصَحَّحُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ يُصَحَّحْ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ: إذَا حِضْتُمَا حَيْضَةً فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ أَوْ إذَا وَلَدْتُمَا وَلَدًا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ فَحَاضَتْ إحْدَاهُمَا أَوْ وَلَدَتْ إحْدَاهُمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ حَيْضَةً وَاحِدَةً وَوِلَادَةً وَاحِدَةً مِنْ امْرَأَتَيْنِ مُحَالٌ فَلَمْ يَنْصَرِفْ إلَيْهِ كَلَامُ الْعَاقِلِ فَيَنْصَرِفُ إلَى وُجُودِ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْفِعْلِ إلَى اثْنَيْنِ عَلَى إرَادَةِ وُجُودِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا مُتَعَارَفٌ بَيْنَ أَهْلِ اللِّسَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى وَصَاحِبِهِ {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] وَإِنَّمَا نَسِيَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ فَتَاهُ. وَقَالَ تَعَالَى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْبَحْرُ الْمَالِحُ دُونَ الْعَذْبِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَعَمِّهِ: «إذَا سَافَرْتُمَا فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّأْذِينِ وَالْإِقَامَةِ كَانَ لِأَحَدِهِمَا فَكَانَ هَذَا تَعْلِيقَ طَلَاقِهِمَا بِحَيْضَةِ إحْدَاهُمَا وَبِوِلَادَةِ إحْدَاهُمَا، وَلَوْ قَالَتْ إحْدَاهُمَا: حِضْت إنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ طَلُقَتَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ حَيْضَتَهَا فِي حَقِّهَا ثَبَتَ بِإِخْبَارِهَا وَفِي حَقِّ صَاحِبَتِهَا ثَبَتَ بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَذَّبَهَا طَلُقَتْ هِيَ وَلَا تَطْلُقُ صَاحِبَتُهَا؛ لِأَنَّ حَيْضَهَا ثَبَتَ فِي حَقِّهَا وَلَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ صَاحِبَتِهَا، وَلَوْ قَالَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا: قَدْ حِضْتُ طَلُقَتَا جَمِيعًا، سَوَاءٌ صَدَّقَهُمَا الزَّوْجُ أَوْ كَذَّبَهُمَا أَمَّا إذَا صَدَّقَهُمَا فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ لَا يُثْبِتُ حَيْضَةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ صَاحِبَتِهَا. وَأَمَّا إذَا كَذَّبَهُمَا فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَيْضَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ صَاحِبَتِهَا لَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا. وَثُبُوتُ حَيْضَتِهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا يَكْفِي لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا كَمَا إذَا قَالَ لَهَا: إذَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهَذِهِ مَعَك فَقَالَتْ: حِضْت، وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ. وَلَوْ قَالَ: إذَا حِضْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ، وَإِذَا وَلَدْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ لَا تَطْلُقَانِ مَا لَمْ يُوجَدْ الْحَيْضُ وَالْوِلَادَةُ مِنْهَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْحَيْضَ أَوْ الْوِلَادَةَ إلَيْهِمَا وَيُتَصَوَّرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْحَيْضُ وَالْوِلَادَةُ، فَيُعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِوُجُودِ الْحَيْضِ أَوْ الْوِلَادَةِ مِنْهَا جَمِيعًا عَمَلًا بِالْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَلَوْ قَالَتْ كُلُّ

وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا: قَدْ حِضْت، إنْ صَدَّقَهُمَا الزَّوْجُ طَلُقَتَا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهُمَا بِوُجُودِ الْحَيْضِ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمَا مَعَ تَصْدِيقِ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَذَّبَهُمَا لَا تَطْلُقُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَقْبُولٌ فِي حَقِّ نَفْسِهَا لَا فِي حَقِّ صَاحِبَتِهَا، فَيَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَيْضُهَا لَا حَيْضُ صَاحِبَتِهَا، وَحَيْضُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ شَطْرُ الشَّرْطِ، وَطَلَاقُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقٌ بِوُجُودِ حَيْضِهِمَا جَمِيعًا، وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ لَا يَنْزِلُ بِوُجُودِ بَعْضِ الشَّرْطِ وَإِنْ صَدَّقَ إحْدَاهُمَا وَكَذَّبَ الْأُخْرَى تَطْلُقُ الْمُكَذَّبَةُ وَلَا تَطْلُقُ الْمُصَدَّقَةُ؛ لِأَنَّ حَيْضَ الْمُكَذَّبَةِ ثَبَتَ فِي حَقِّهَا بِإِخْبَارِهَا، وَحَيْضَ الْمُصَدَّقَةِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمُكَذَّبَةِ أَيْضًا بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ فَثَبَتَ الْحَيْضَتَانِ جَمِيعًا فِي حَقِّ الْمُكَذَّبَةِ فَوُجِدَ كُلُّ الشَّرْطِ فِي حَقِّهَا فَيَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ الْمُصَدَّقَةِ إلَّا حَيْضُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا وَلَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهَا حَيْضُ الْمُكَذَّبَةِ لِتَكْذِيبِ الزَّوْجِ الْمُكَذَّبَةَ فِي ثُبُوتِ حَيْضِهَا عِنْدَ الْمُصَدَّقَةِ فَكَانَ الْمَوْجُودُ فِي حَقِّ الْمُصَدَّقَةِ شَطْرَ الشَّرْطِ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إذَا حِضْتُمَا حَيْضَتَيْنِ أَوْ إذَا وَلَدْتُمَا وَلَدَيْنِ فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ، فَهَذَا وَقَوْلُهُ إذَا حِضْتُمَا أَوْ وَلَدْتُمَا سَوَاءٌ فَمَا لَمْ يَحِيضَا جَمِيعًا أَوْ يَلِدَا جَمِيعًا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ وُجُودَ حَيْضَتَيْنِ مِنْهُمَا وَوِلَادَةَ وَلَدَيْنِ مِنْهُمَا يَكُونُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَهُوَ أَنْ تَحِيضَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَيْضَةً وَتَلِدَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدًا. وَكَذَا إذَا قَالَ: إذَا دَخَلْتُمَا هَذِهِ الدَّارَ أَوْ كَلَّمْتُمَا فُلَانًا أَوْ لَبِسْتُمَا هَذَا الثَّوْبَ أَوْ رَكِبْتُمَا هَذِهِ الدَّابَّةَ أَوْ أَكَلْتُمَا هَذَا الطَّعَامَ أَوْ شَرِبْتُمَا هَذَا الشَّرَابَ؛ فَمَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا جَمِيعًا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ مِنْهُمَا فَيُعْمَلُ بِحَقِيقَةِ الْكَلَامِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ إذَا حِضْتُمَا حَيْضَةً أَوْ وَلَدْتُمَا وَلَدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ ثُمَّ التَّعْلِيقُ فِي الْمُلْكِ كَمَا يَصِحُّ بِشَرْطِ الْوُجُودِ يَصِحُّ بِشَرْطِ الْعَدَمِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ عَلَامَةٌ مَحْضَةٌ وَالْعَدَمُ يَصْلُحُ عِلْمًا مَحْضًا فَيَصْلُحُ شَرْطًا غَيْرَ أَنَّهُ إنْ وَقَّتَ يَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ عِنْدَ انْتِهَاءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِنْ أَطْلَقَ لَا يَنْزِلُ إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ، بَيَانُ ذَلِكَ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ لَمْ أَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ: إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِعَدَمِ الدُّخُولِ وَالْإِتْيَانِ مُطْلَقًا وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا مَا لَمْ يُثْبِتْهُ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَرْطِ عَدَمِ التَّطْلِيقِ مُطْلَقًا، وَالْعَدَمُ الْمُطْلَقُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك وَإِذَا مَا لَمْ أُطَلِّقْك فَإِنْ أَرَادَ بِإِذَا إنْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ نَوَى بِهِ مَتَى يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا فَرَغَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَسَكَتَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هِيَ بِمَعْنَى مَتَى (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ إذَا لِلْوَقْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] وَ {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1] وَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ فَكَانَتْ فِي مَعْنَى مَتَى، وَلَوْ قَالَ: مَتَى لَمْ أُطَلِّقْك يَقَعُ الطَّلَاقُ عَقِيبَ الْفَرَاغِ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ إذَا سَكَتَ كَذَا هَذَا، وَالدَّلِيلُ أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت لَا يُقْتَصَرُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَمَا لَوْ قَالَ: مَتَى شِئْت، وَلَوْ قَالَ إنْ شِئْت يُقْتَصَرُ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَلَوْ كَانَتْ لِلشَّرْطِ لَاقْتُصِرَتْ الْمَشِيئَةُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ إنْ شِئْت، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَمَا تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا الْوَقْتُ، تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا الشَّرْطُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: اسْتَغْنِ مَا أَغْنَاك رَبُّك بِالْغِنَى ... وَإِذَا تُصِبْك خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَزَمَ مَا بَعْدَهُ، فَإِنْ قَالَ أُرِيدُ بِهَا الْوَقْتَ يَقَعُ الطَّلَاقُ كَمَا فَرَغَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَسَكَتَ كَمَا فِي قَوْلِهِ مَتَى. وَإِنْ قَالَ: أُرِيدُ بِهَا الشَّرْطَ لَا يَقَعُ إلَّا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ كَمَا فِي كَلِمَةِ إنْ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ فَلَا يَقَعُ مَعَ الشَّكِّ، وَإِنَّمَا لَا يُقْتَصَرُ عَلَى الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَتْ الْمَشِيئَةُ فِي يَدِهَا بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت، وَأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ وَلِلشَّرْطِ فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الشَّرْطُ يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إنْ شِئْت. وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْوَقْتُ لَا يَبْطُلُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَتَى شِئْت؛ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْبُطْلَانِ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ فَلَا يَبْطُلُ مَعَ الشَّكِّ فَاطَّرَدَ كَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَعْنَى بِحَمْدِ اللَّهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى. وَلَوْ قَالَ لَهَا: إنْ لَمْ أَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ سَنَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ إنْ لَمْ أُكَلِّمْ فُلَانًا سَنَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ فَمَضَتْ السُّنَّةُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا أَوْ يُكَلِّمَهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْإِيلَاءُ بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ الْحُرَّةِ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ

فَمَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَقْرَبْهَا أَنَّهُ يَقَعُ طَلْقَةً بَائِنَةً؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ فِي الشَّرْعِ جَعْلُ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْفَيْءِ إلَيْهَا فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِالتَّعْلِيقِ الْحُكْمِيِّ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْإِيلَاءَ فِي حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ - وَهُوَ الْبِرُّ - تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِشَرْطِ الْبِرِّ فِي الْمُدَّةِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: إنْ لَمْ أَقْرَبْك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] فَإِذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ وَالْمَرْأَةُ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي الْعِدَّةِ يَقَعُ وَإِلَّا فَلَا كَمَا فِي التَّعْلِيقِ الْحُكْمِيِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَهُ حُكْمٌ آخَرُ وَهُوَ الْحِنْثُ عِنْدَ الْقُرْبَانِ وَسَنَذْكُرُهُ بِحُكْمِهِ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِالْمِلْكِ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنَّهُ صَحِيحٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَصِحُّ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَاحْتَجْ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ» . وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّعْلِيقُ؛ لِأَنَّ التَّنْجِيزَ مِمَّا لَا يُشْكِلُ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي التَّعْلِيقِ بِالْمِلْكِ تَطْلِيقٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الطَّلَاقَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَقَعُ بِهِ إذَا لَمْ يُوجَدْ كَلَامٌ آخَرُ سِوَاهُ فَكَانَ الْكَلَامُ السَّابِقُ تَطْلِيقًا، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ لِلْحَالِ لِلْمَانِعِ وَهُوَ عَدَمُ الشَّرْطِ. وَالتَّصَرُّفُ لَا يَنْعَقِدُ تَطْلِيقًا إلَّا فِي الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ هَهُنَا فَلَا يَنْعَقِدُ (وَلَنَا) أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ لَيْسَ تَطْلِيقًا لِلْحَالِ، بَلْ هُوَ تَطْلِيقٌ عِنْدَ الشَّرْطِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ عِلْمٌ عَلَى الِانْطِلَاقِ عِنْدَ الشَّرْطِ فَيَسْتَدْعِي قِيَامَ الْمِلْكِ عِنْدَهُ لَا فِي الْحَالِ، وَالْمِلْكُ مَوْجُودٌ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ بِمُوجَبِهِ: أَنْ «لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ» وَهَذَا طَلَاقٌ بِغَيْرِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ جَعَلَهُ طَلَاقًا بَعْدَ النِّكَاحِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَهُ عِلْمًا عَلَى الِانْطِلَاقِ بَعْدَ النِّكَاحِ لَا أَنْ يُجْعَلَ مُنْشِئًا لِلطَّلَاقِ بَعْدَ النِّكَاحِ، أَوْ يَبْقَى الْكَلَامُ السَّابِقُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مُحَالٌ، وَالْأَوَّلَ خِلَافُ الْحَقِيقَةِ، وَإِضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى الشَّرْعِ لَا إلَى الزَّوْجِ،. وَقِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْ التَّعْلِيقِ بِالْحُدُوثِ: إنَّ هَذَا لَيْسَ بِطَلَاقٍ، بَلْ هُوَ يَمِينٌ وَتَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ وَقَوْلُهُ: التَّنْجِيزُ لَا يُشْكِلُ مُسَلَّمٌ بَعْدَ وُرُودِ الْحَدِيثِ. فَأَمَّا قَبْلَهُ فَقَدْ كَانَ مُشْكِلًا، فَإِنَّهُ رُوِيَ: أَنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ أَجْنَبِيَّةً وَيَعْتَقِدُ حُرْمَتَهَا فَأَبْطَلَ الْحَدِيثُ ذَلِكَ، وَالْجَوَابُ: الْأَوَّلُ أَحَقُّ وَأَدَقُّ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً طَلُقَتْ عِنْدَنَا، وَلَوْ تَزَوَّجَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ ثَانِيًا لَا تَطْلُقُ. وَكَذَا هَذَا فِي قَوْلِهِ: إنْ تَزَوَّجْتُك لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يُوجِبُ التَّكْرَارَ، وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: كُلَّمَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ فِي كُلِّ مِرَّةٍ يَتَزَوَّجُهَا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلِّ دَخَلَتْ عَلَى الْعَيْنِ وَكَلِمَةَ كُلَّمَا دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَطَلُقَتْ فِي كُلِّ مِرَّةٍ، وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَعَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ فَتَزَوَّجَهَا طَلُقَتْ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِمَنْكُوحَةٍ: كُلَّمَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ ثَلَاثَةَ مَرَّاتٍ وَطَلُقَتْ فِي كُلِّ مِرَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ فَدَخَلَتْ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ هُنَاكَ طَلَقَاتُ الْمِلْكِ الْقَائِمِ الْمُبْطِلَةُ لِلْحَالِ الْقَائِمِ، وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ بِالثَّلَاثِ وَلَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى سَبَبِ مِلْكٍ حَادِثٍ وَحِلٍّ مُسْتَأْنَفٍ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ مَا يَمْلِكُ بِهِ مِنْ الطَّلْقَاتِ وَهَهُنَا قَدْ عُلِّقَ الطَّلَاقُ بِسَبَبِ الْمِلْكِ وَأَنَّهُ صَحِيحٌ عِنْدَنَا فَيَصِيرُ عِنْدَ كُلِّ تَزَوُّجٍ يُوجَدُ مِنْهُ لِامْرَأَةٍ قَائِلًا لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الَّتِي تَكَرَّرَ عَلَيْهَا طَلَاقُهَا أَوْ غَيْرُهَا مِنْ النِّسَاءِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ فَإِنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَانَتْ السَّمَاءُ فَوْقَنَا أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَانَ هَذَا نَهَارًا أَوْ إنْ كَانَ هَذَا لَيْلًا وَهُمَا فِي اللَّيْلِ أَوْ فِي النَّهَارِ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَحْقِيقٌ وَلَيْسَ بِتَعْلِيقٍ بِشَرْطٍ؛ إذْ الشَّرْطُ مَا يَكُونُ مَعْدُومًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَهَذَا مَوْجُودٌ. وَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ مِنْهُ تَحْقِيقُ النَّفْيِ حَيْثُ عَلَّقَهُ بِأَمْرٍ مُحَالٍ. وَأَمَّا الْإِضَافَةُ إلَى الْوَقْتِ فَالزَّوْجُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي وَإِمَّا أَنْ أَضَافَهُ إلَى الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنْ أَضَافَهُ إلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي يُنْظَرُ: إنْ لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ فِي مِلْكِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِلْحَالِ وَتَلْغُو الْإِضَافَةُ، بَيَانُهُ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ كَلَامِهِ بِطَرِيقِ الْإِخْبَارِ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ عَلَى مَا أُخْبِرَ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ إلَّا بِإِبْطَالِ الْإِسْنَادِ إلَى الْمَاضِي فَكَانَ التَّصْحِيحُ بِطَرِيقِ الْإِخْبَارِ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ لَا يَقَعُ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا أَوَّلَ مِنْ أَمْسِ يَقَعُ

السَّاعَةَ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ الْإِخْبَار لِانْعِدَامِ الْمُخْبَرِ بِهِ فَيَكُونُ كَذِبًا فَيُصَحَّحُ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ، ثُمَّ تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ إنْشَاءَ الْإِضَافَةِ؛ لِأَنَّ إسْنَادَ الطَّلَاقِ الْمَوْجُودِ لِلْحَالِ إلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي مُحَالٌ فَبَطَلَتْ الْإِضَافَةُ وَاقْتَصَرَ الْإِنْشَاءُ عَلَى الْحَالِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ لِلْحَالِ. وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا تَزَوَّجْتُكِ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بَعْدَ التَّزَوُّجِ ثُمَّ أَضَافَ الْوَاقِعَ إلَى مَا قَبْلَ التَّزَوُّجِ فَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَغَتْ الْإِضَافَةُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك إذَا تَزَوَّجْتُكِ فَتَزَوَّجَهَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَيَلْغُو قَوْلُهُ: قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَك، وَلَوْ قَدِمَ ذِكْرَ التَّزْوِيجِ فَقَالَ: إذَا تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَقَعُ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَصِيرُ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَصِيرُ قَائِلًا عِنْدَ التَّزْوِيجِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ لَا يَقَعُ كَذَا هَذَا. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بَعْدَ التَّزَوُّجِ ثُمَّ أَضَافَ الْوَاقِعَ إلَى زَمَانِ مَا قَبْلَ التَّزَوُّجِ فَتَلْغُو الْإِضَافَةُ وَيَبْقَى الْوَاقِعُ عَلَيَّ حَالِهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَضَافَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ إلَى مَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ الزَّمَانِ فَإِنْ أَضَافَهُ إلَى زَمَانٍ لَا مِلْكَ لَهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ قَطْعًا لَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ مَوْتِي. وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ مَوْتِي أَوْ مَعَ مَوْتِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِكَ،؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُعَلَّقٌ بِوُجُودِ الْمَوْتِ فَصَارَ الْمَوْتُ شَرْطًا إذْ الْجَزَاءُ يَعْقُبُ الشَّرْطَ فَكَانَ هَذَا إيقَاعَ الطَّلَاقِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا مِلْكَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَبَطَلَ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ أَمَةٌ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ مَعَ عِتْقِ مَوْلَاكِ فَأَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا فَإِنَّ زَوْجَهَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ طَلَاقُهَا بِعِتْقِ مَوْلَاهَا فَصَارَ عِتْقُ مَوْلَاهَا شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَيَقَعُ بَعْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ؛ وَهِيَ حُرَّةٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَجَاءَ غَدٌ طَلُقَتْ اثْنَتَيْنِ وَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ عِدَّتَهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ بِمَجِيءِ الْغَدِ فَكَانَ حَالُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَاحِدًا وَهُوَ حَالُ مَجِيءِ الْغَدِ فَيَقَعَانِ مَعًا، وَالْعِتْقُ حَالَ وُقُوعِهِ يَكُونُ وَاقِعًا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ حَالَ وُجُودِهِ يَكُونُ مَوْجُودًا، وَالشَّيْءُ فِي حَالِ قِيَامِهِ يَكُونُ قَائِمًا وَفِي حَالِ سَوَادِهِ يَكُونُ أَسْوَدَ، فَالطَّلْقَتَانِ يُصَادِفَانِهَا وَهِيَ حُرَّةٌ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ، وَلِهَذَا كَانَتْ عِدَّتُهَا ثَلَاثَ حِيَضٍ؛ وَلِهَذَا لَمْ تَثْبُتْ الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ. فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى كَذَا هَذَا. وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ لَمَّا عُلِّقَا بِمَجِيءِ الْغَدِ وَقَعَا مَعًا، ثُمَّ الْعِتْقُ يُصَادِفُهَا وَهِيَ أَمَةٌ. وَكَذَا الطَّلَاقُ فَيَثْبُتُ الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ بِثِنْتَيْنِ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، لِأَنَّ ثَمَّةَ تَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِالْعِتْقِ فَيَقَعُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعِتْقِ ضَرُورَةً عَلَى مَا بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْعِدَّةِ؛ فَإِنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ يَتَعَقَّبُ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يُصَادِفُهَا وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ، وَلَا عِدَّةَ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ فَلَا يَكُونُ وُجُوبُهَا مُقَارِنًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَكَانَ عَقِيبَ الطَّلَاقِ ضَرُورَةً، وَهِيَ حُرَّةٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَكَانَتْ عِدَّتُهَا عِدَّةَ الْحَرَائِرِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ فَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا أَوْ فِي غَدٍ صَحَّ لِوُجُودِ الْمِلْكِ وَقْتَ الْإِضَافَةِ، وَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ إلَى الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ فَصَحَّتْ الْإِضَافَةُ ثُمَّ إذَا جَاءَ غَدٌ أَوْ رَأْسُ الشَّهْرِ فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي الْعِدَّةِ أَوْ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْغَدِ وَالشَّهْرِ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِلَّا فَلَا كَمَا فِي التَّعْلِيقِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ مَتَى لَمْ أُطَلِّقْكِ وَسَكَتَ أَنَّهَا طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ مَتَى لِلْوَقْتِ فَقَدْ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ لَا يُطَلِّقُهَا فِيهِ فَكَمَا فَرَغَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَسَكَتَ وُجِدَ هَذَا الْوَقْتُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ. وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ مَا لَمْ أُطَلِّقْك أَيْ: فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا أُطَلِّقُكِ يُقَالُ فِي الْعُرْفِ: مَا دُمْتَ تَفْعَلُ كَذَا افْعَلْ كَذَا أَيْ: فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَفْعَلُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى خَبَرًا عَنْ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31] أَيْ: وَقْتَ حَيَاتِي فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا أُطَلِّقُكِ؛ فَكَمَا فَرَغَ وَسَكَتَ تَحَقَّقَ ذَلِكَ الْوَقْتُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ يُطَلِّقُهَا مَوْصُولًا بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ أَنْتِ طَالِقٌ. وَذَكَرَ الْعِبَارَتَيْنِ الْأُخْرَتَيْنِ فَهِيَ طَالِقٌ هَذِهِ التَّطْلِيقَةَ دُونَ التَّطْلِيقَةِ الْمُضَافَةِ إلَى زَمَانٍ لَا يُطَلِّقُهَا فِيهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ أَنْتِ طَالِقٌ تَقَعُ هَذِهِ الطَّلْقَةُ لَا غَيْرَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ لَا طَلَاقَ فِيهِ وَكَمَا فَرَغَ مِنْ

قَوْلِهِ مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ قَبْلَ قَوْلِهِ: طَالِقٌ وُجِدَ ذَلِكَ الْوَقْتُ فَيَقَعُ الْمُضَافُ، وَلَنَا أَنَّ الْمُضَافَ إلَيْهِ وَقْتٌ خَالٍ عَنْ الطَّلَاقِ وَلَمَّا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يُوجَدْ وَقْتٌ خَالٍ عَنْ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ بِجُمْلَتِهِ طَلَاقٌ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ وَاحِدٌ لِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، فَلَمْ يُوجَدْ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ وَقْتٌ لَا طَلَاقَ فِيهِ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ الْمُضَافُ لِانْعِدَامِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا. وَقَالَ: عَنَيْتُ آخِرَ النَّهَارِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ. وَقَالَ عَنَيْتُ فِي آخِرِ النَّهَارِ يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَإِنَّمَا يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا غَيْرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَقَعُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْغَدِ بِلَا خِلَافٍ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْغَدَ اسْمُ زَمَانٍ؛ وَالزَّمَانُ إذَا قُرِنَ بِالْفِعْلِ يَصِيرُ ظَرْفًا لَهُ، سَوَاءٌ قُرِنَ بِهِ حَرْفُ الظَّرْفِ وَهُوَ حَرْفُ فِي أَوْ لَمْ يُقْرَنْ بِهِ، فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ كَتَبْت فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ سَوَاءٌ، فَكَانَ ذِكْرُ حَرْفِ الظَّرْفِ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ لَمْ يُذْكَرْ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا. وَقَالَ: عَنَيْت آخِرَ النَّهَارِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ؛ وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَقَعُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْغَدِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ الزَّمَانِ ظَرْفًا لِلْفِعْلِ حَقِيقَةً؛ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ ظَرْفًا لَهُ يُذْكَرُ بِدُونِ حَرْفِ الظَّرْفِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ ظَرْفًا لَهُ مَجَازًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ ظَرْفًا لَهُ وَالْآخَرُ ظَرْفَ ظَرْفِهِ يُذْكَرُ مَعَ حُرُوفِ الظَّرْفِ، فَلَمَّا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا بِدُونِ حَرْفِ الظَّرْفِ فَقَدْ جَعَلَ الْغَدَ كُلَّهُ ظَرْفًا لِلطَّلَاقِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يَكُونُ كُلُّهُ ظَرْفًا لِلطَّلَاقِ حَقِيقَةً إذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ، فَإِذَا وَقَعَ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ يَبْقَى حُكْمًا وَتَقْدِيرًا فَيَكُونُ جَمِيعُ الْغَدِ ظَرْفًا لَهُ بَعْضُهُ حَقِيقَةً وَبَعْضُهُ تَقْدِيرًا أَمَّا إذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي آخِرِ النَّهَارِ لَا يَكُونُ كُلُّ الْغَدِ ظَرْفًا لَهُ، بَلْ يَكُونُ ظَرْفَ الظَّرْفِ، فَإِذَا قَالَ: عَنَيْت آخِرَ النَّهَارِ فَقَدْ أَرَادَ الْعُدُولَ مِنْ الظَّاهِرِ فِيمَا يُتَّهَمُ فِيهِ بِالْكَذِبِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ، وَلَمَّا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ فَلَمْ يَجْعَلْ الْغَدَ كَلِمَةَ ظَرْفٍ لِلطَّلَاقِ حَقِيقَةً، بَلْ جَعَلَهُ ظَرْفَ الظَّرْفِ وَبَيَّنَ أَنَّ الظَّرْفَ الْحَقِيقِيَّ لِلطَّلَاقِ هُوَ جُزْءٌ مِنْ الْغَدِ. وَذَلِكَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَكَانَ التَّعْيِينُ إلَيْهِ، فَإِذَا قَالَ: عَنَيْتُ آخِرَ النَّهَارِ فَقَدْ عَيَّنَ فَيُصَدَّقُ فِي التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، وَنَظِيرُهُ مَا إذَا قَالَ: إنْ صُمْت فِي الدَّهْرِ فَعَبْدِي حُرٌّ فَصَامَ سَاعَةً يَحْنَثُ، وَلَوْ قَالَ: إنْ صُمْتُ الدَّهْرَ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِصَوْمٍ الْأَبَدِ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْغَدِ؛ لِأَنَّ الْأَجْزَاءَ قَدْ تَعَارَضَتْ فَتَرَجَّحَ الْأَوَّلُ مِنْهَا احْتِيَاطًا لِثُبُوتِ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ مِنْ وَجْهِ الِاحْتِمَالِ أَنَّهُ ذَكَرَ حَرْفَ الظَّرْفِ لِتَأْكِيدِ ظَرْفِيَّةِ الْغَدِ لَا لِبَيَانِ أَنَّهُ ظَرْفُ الظَّرْفِ؛ فَتَرَجَّحَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ عَلَى سَائِرِ الْأَجْزَاءِ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الْجَوَازِ بِثُبُوتِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ وَجْهٍ فَيَقَعُ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا: إنَّ دُخُولَ حَرْفِ الظَّرْفِ فِي الْغَدِ وَعَدَمَ الدُّخُولِ سَوَاءٌ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوِمَ وَغَدًا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْيَوْمِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا ظَرْفًا لِكَوْنِهَا طَالِقًا وَلَنْ يَكُونَ الْوَقْتَانِ جَمِيعًا ظَرْفًا إلَّا عِنْدَ الْوُقُوعِ فِي أَوَّلِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ الْوُقُوعُ إلَى الْغَدِ لَكَانَ الظَّرْفُ أَحَدَهُمَا، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ غَدًا أَوْ غَدًا الْيَوْمَ، يُؤْخَذُ بِأَوَّلِ الْوَقْتَيْنِ الَّذِي تَفَوَّهَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي الْيَوْمِ وَوَصَفَ الْيَوْمَ بِأَنَّهُ غَدٌ وَهُوَ مُحَالٌ فَلَغَا قَوْلُهُ: غَدًا وَبَقِيَ قَوْلُهُ: الْيَوْمَ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْيَوْمِ، وَفِي الثَّانِي أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى الْغَدِ وَوَصَفَ الْغَدَ بِأَنَّهُ الْيَوْمُ وَهُوَ مُحَالٌ فَلَغَا قَوْلُهُ: الْيَوْمَ وَبَقِيَ قَوْلُهُ: غَدًا فَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي غَدٍ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مَتَى شِئْتِ أَوْ مَتَى مَا شِئْتِ أَوْ إذَا شِئْتِ أَوْ إذَا مَا شِئْت أَوْ كُلَّمَا شِئْتِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ تَشَأْ فَإِذَا شَاءَتْ وَقَعَ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتِ مَشِيئَتِهَا وَوَقْتُ مَشِيئَتِهَا هُوَ الزَّمَانُ الَّذِي تُوجَدُ فِيهِ مَشِيئَتُهَا فَإِذَا شَاءَتْ فَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ الزَّمَانُ فَيَقَعُ وَلَا يَقْتَصِرُ هَذَا عَلَى الْمَجْلِسِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إنْ شِئْتِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ؛ لِأَنَّ هَذَا إضَافَةٌ وَذَا تَمْلِيكٌ لِمَا نُبَيِّنُ فِي مَوْضِعِهِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ الطَّلَاقُ فِي الْعِدَّةِ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ أَوْ بَائِنٍ أَوْ خُلْعٍ فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَ صَرِيحًا أَوْ كِنَايَةً لِقِيَامِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ، وَلِهَذَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ وَإِيلَاؤُهُ وَيَثْبُتُ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ لَا تَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ. وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ خُلْعٍ وَهِيَ

الْمُبَانَةُ أَوْ الْمُخْتَلِعَةُ فَيَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْحَقُهَا. وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ فِي الْمِلْكِ بِالْإِزَالَةِ، وَالْمِلْكُ قَدْ زَالَ بِالْخُلْعِ وَالْإِبَانَةِ، وَإِزَالَةُ الزَّائِلِ مُحَالٌ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ الْخُلْعُ وَالْإِبَانَةُ وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ قَالَ: «الْمُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ» ؛ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ وَلِأَنَّهَا بِالْخُلْعِ وَالْإِبَانَةِ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ إنْ كَانَ مَا يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ لُغَةً - وَهُوَ الِانْطِلَاقُ وَالتَّخَلِّي وَزَوَالُ الْقَيْدِ - فَهِيَ مَحِلٌّ لِذَلِكَ لِأَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ فِي حَالِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَالتَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَالْقَيْدُ هُوَ الْمَنْعُ وَإِنْ كَانَ مَا لَا يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ لُغَةً - وَهُوَ زَوَالُ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ شَرْعًا - فَحِلُّ الْمَحَلِّيَّةِ قَائِمٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزُولُ إلَّا بِالطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ وَلَمْ تُوجَدْ فَكَانَتْ الْمُبَانَةُ وَالْمُخْتَلِعَةُ مَحِلَّيْنِ لِلطَّلَاقِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: - الطَّلَاقُ تَصَرُّفٌ فِي الْمِلْكِ بِالْإِزَالَةِ - غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ لُغَةً وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ شَرْعًا أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ وَاقِعٌ. وَلَا يَزُولُ الْمِلْكُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ رَاجَعَهَا لَا يَنْعَدِمُ الطَّلَاقُ، بَلْ يَبْقَى أَثَرُهُ فِي حَقِّ زَوَالِ الْمَحَلِّيَّةِ وَإِنْ انْعَدَمَ أَثَرُهُ فِي حَقِّ زَوَالِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الْإِبَانَةِ؛ لِأَنَّهَا إزَالَةُ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ دَلِيلٌ. وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَهَلْ يَلْحَقُهَا؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً وَهِيَ أَلْفَاظٌ وَهِيَ قَوْلُهُ: اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَك وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ يَلْحَقُهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهَا حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا اعْتَدِّي لَا يَلْحَقُهَا شَيْءٌ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذِهِ كِنَايَةٌ، وَالْكِنَايَةُ لَا تَعْمَلُ إلَّا فِي حَالِ قِيَامِ الْمِلْكِ كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوَاقِعَ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْكِنَايَةِ رَجْعِيٌّ فَكَانَ فِي مَعْنَى الصَّرِيحِ فَيَلْحَقُ الْخُلْعَ وَالْإِبَانَةَ فِي الْعِدَّةِ كَالصَّرِيحِ. وَإِنْ كَانَتْ بَائِنَةً كَقَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ وَنَحْوِهِ وَنَوَى الطَّلَاقَ لَا يَلْحَقُهَا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ قَطْعُ الْوَصْلَةِ، وَالْوَصْلَةُ مُنْقَطِعَةٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ قَطْعُهَا ثَانِيًا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْقَيْدِ وَإِزَالَةُ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَائِمٌ؛ وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُ هَذَا الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الْإِخْبَارِ لِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ؛ لِأَنَّ إبَانَةَ الْمُبَانِ مُحَالٌ فَيُصَحَّحُ بِطَرِيقِ الْإِخْبَارِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ كَذِبًا فَيُصَحَّحُ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْإِبَانَةَ تَحْرِيمٌ شَرْعًا، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ وَتَحْرِيمُ الْمُحَرَّمِ مُحَالٌ، وَسَوَاءٌ نَجَّزَ الْإِبَانَةَ فِي حَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ أَوْ عَلَّقَهَا بِشَرْطٍ بِأَنْ قَالَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ: إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ بَائِنٌ، وَنَوَى الطَّلَاقَ حَتَّى لَوْ دَخَلَتْ الدَّارَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ قَطْعُ الْوَصْلَةِ فَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا فِي حَالِ قِيَامِ الْوَصْلَةِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَنْعَقِدُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ ثُمَّ أَبَانَهَا أَوْ خَالَعَهَا ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارُ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ بِالشَّرْطِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَقَعُ وَيَبْطُلُ التَّعْلِيقُ وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يَصِيرُ تَنْجِيزًا عِنْدَ الشَّرْطِ تَقْدِيرًا، وَلَوْ نَجَزَ الْإِبَانَةَ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِعَدَمِ الْمِلْكِ. (وَلَنَا) أَنَّ التَّعْلِيقَ وَقَعَ صَحِيحًا لِقِيَامِ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَانْعَقَدَ مُوجِبًا لِلْبَيْنُونَةِ وَزَالَ الْمِلْكُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إلَّا أَنَّ الْإِبَانَةَ الطَّارِئَةَ أَوْجَبَتْ زَوَالَ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ لِلْحَالِ وَبَقِيَ مِنْ وَجْهٍ حَالَ قِيَامِ الْعِدَّةِ لِقِيَامِ بَعْضِ آثَارِ الْمِلْكِ فَخَرَجَ التَّعْلِيقُ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ عِنْدَ الشَّرْطِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِزَوَالِ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ لِلْحَالِ بِالتَّنْجِيزِ فَبَقِيَ سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ، وَفِيهِ تَصْحِيحُ التَّصَرُّفَيْنِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ تَصْحِيحِ أَحَدِهِمَا وَإِبْطَالِ الْآخَرِ، بِخِلَافِ تَنْجِيزِ الْإِبَانَةِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ الْمُبَانَةِ وَتَعْلِيقِهَا أَنَّهُمَا لَا يَصِحَّانِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ الْمِلْكَ وَقْتَ التَّنْجِيزِ، وَالتَّعْلِيقُ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَقِيَامُهُ مِنْ وَجْهٍ لِقِيَامِ الْعِدَّةِ يُوجِبُ الصِّحَّةَ، وَزَوَالُهُ مِنْ وَجْهٍ يَمْنَعُ الصِّحَّةَ وَمَا لَمْ تُعْرَفْ صِحَّتُهُ إذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي صِحَّتِهِ لَا يَصِحُّ بِالشَّكِّ بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ فِي مَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ صَحِيحًا بِيَقِينٍ لِقِيَامِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَتَنْجِيزُ الْإِبَانَةِ الْمُعْتَرِضَةِ يَقَعُ الشَّكُّ فِي بُطْلَانِهِ فَلَا يَبْطُلُ مَعَ الشَّكِّ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ آلَى مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ إيلَاؤُهُ فِي حُكْمِ الْبِرِّ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ فِي حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ - وَهُوَ الْبِرُّ - تَعْلِيقُ الْإِبَانَةِ شَرْعًا، وَشَرْطُ الْبِرِّ - وَهُوَ عَدَمُ الْقُرْبَانِ فِي الْمُدَّةِ وَقِيَامُ الْمِلْكِ - شَرْطُ صِحَّةِ الْإِبَانَةِ تَنْجِيزًا كَانَ أَوْ تَعْلِيقًا كَمَا فِي التَّعْلِيقِ الْحَقِيقِيِّ عَلَى مَا مَرَّ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْإِيلَاءِ إنَّمَا يَقَعُ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ قُرْبَانِهَا، وَيَصِيرُ فِيهِ ظَالِمًا يَمْنَعُ حَقَّهَا فِي الْوَطْءِ فِي الْمُدَّةِ وَلَا حَقَّ لِلْمُبَانَةِ وَالْمُخْتَلِعَةِ فِي الْوَطْءِ فَلَا يَصِحُّ الْإِيلَاءُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ، وَلَوْ آلَى مِنْ زَوْجَتِهِ ثُمَّ أَبَانَهَا وَنَوَى الطَّلَاقَ أَوْ خَلَعَهَا قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ يَقْرَبَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ

عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِبَانَةَ النَّاجِزَةَ يَلْحَقُهَا الْإِبَانَةُ بِتَعْلِيقٍ سَابِقٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ. وَلَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ مِنْ الْمُبَانَةِ وَالْمُخْتَلِعَةِ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ تَحْرِيمٌ وَالْمُحَرَّمَةُ قَدْ تَثْبُتُ بِالْإِبَانَةِ وَالْخُلْعِ السَّابِقِ وَتَحْرِيمُ الْمُحَرَّمِ مُمْتَنِعٌ. وَلَوْ عَلَّقَ الظِّهَارَ بِشَرْطٍ فِي الْمِلْكِ بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ أَبَانَهَا فَدَخَلَتْ الدَّارَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا مِنْهَا بِالْإِجْمَاعِ وَهَذَا حُجَّةُ زُفَرَ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَنَا بَيْنَ الظِّهَارِ وَبَيْنَ الْكِنَايَةِ الْبَائِنَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الظِّهَارَ يُوجِبُ حُرْمَةً مُؤَقَّتَةً بِالْكَفَّارَةِ وَقَدْ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِالْإِبَانَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يُحْتَمَلُ التَّحْرِيمُ بِالظِّهَارِ بِخِلَافِ الْكِنَايَةِ الْمُنَجَّزَةِ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا يُمْنَعُ ثُبُوتُ حُكْمِ التَّعْلِيقِ، وَالثَّانِي أَنَّ الظِّهَارَ يُوجِبُ حُرْمَةً تَرْتَفِعُ بِالْكَفَّارَةِ، وَالْإِبَانَةُ تُوجِبُ حُرْمَةً لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ الثَّابِتَةُ بِالْإِبَانَةِ أَقْوَى الْحُرْمَتَيْنِ، وَالثَّابِتَةُ بِالظِّهَارِ أَضْعَفَهُمَا فَلَا تَظْهَرُ بِمُقَابَلَةِ الْأَقْوَى بِخِلَافِ تَنْجِيزِ الْكِنَايَةِ وَتَعْلِيقِهَا فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي إيجَابِ الْبَيْنُونَةِ وَزَوَالِ الْمُلْكِ عَلَى السَّوَاءِ فَيُعْمَلُ بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَفِيمَا قُلْنَا عَمِلَ بِهِمَا جَمِيعًا عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَلَوْ خَيَّرَهَا فِي الْعِدَّةِ لَا يَصِحُّ بِأَنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي الْعِدَّةِ حَتَّى لَا يَقَعَ شَيْءٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ التَّنْجِيزَ تَمْلِيكٌ وَالتَّمْلِيكَ بِلَا مِلْكٍ لَا يُتَصَوَّرُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا جَاءَ غَدٌ فَاخْتَارِي، ثُمَّ أَبَانَهَا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي الْعِدَّةِ لَا يَقَعُ شَيْءٌ بِالْإِجْمَاعِ وَهَذَا أَيْضًا حُجَّةُ زُفَرَ، وَالْفَرْقُ لَنَا بَيْنَ التَّنْجِيزِ وَبَيْنَ تَعْلِيقِ الْكِنَايَةِ الثَّابِتَةِ بِشَرْطٍ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهَا إذَا جَاءَ غَدٌ فَاخْتَارِي فَقَدْ مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ غَدًا، وَلَمَّا أَبَانَهَا فَقَدْ أَزَالَ الْمِلْكَ لِلْحَالِ مِنْ وَجْهٍ وَبَقِيَ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْمُلْكُ مِنْ وَجْهٍ لَا يَكْفِي لِلتَّمْلِيكِ وَيَكْفِي لِلْإِزَالَةِ كَمَا فِي الِاسْتِيلَادِ وَالتَّدَبُّرِ الْمُطْلَقِ حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ وَيَجُوزُ إعْتَاقُهُمَا كَذَا هَذَا، وَلِأَنَّ التَّنْجِيزَ يُعْتَبَرُ فِيهِ جَانِبُ الِاخْتِيَارِ لَا جَانِبُ التَّنْجِيزِ، وَالتَّعْلِيقُ يُعْتَبَرُ فِيهِ جَانِبُ الْيَمِينِ لَا جَانِبُ الشَّرْطِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالتَّنْجِيزِ وَشَاهِدَانِ بِالِاخْتِيَارِ ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ فَالضَّمَانُ عَلَى شَاهِدَيْ الِاخْتِيَارِ لَا عَلَى شَاهِدَيْ التَّنْجِيزِ وَبِمِثْلِهِ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْيَمِينِ وَشَاهِدَانِ بِالدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعُوا ضَمِنَ شُهُودُ الْيَمِينِ لَا شُهُودُ الدُّخُولِ. وَإِذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي التَّنْجِيزِ هُوَ اخْتِيَارُ الْمَرْأَةِ لَا تَخْيِيرُ الزَّوْجِ يُعْتَبَرُ قِيَامُ الْمِلْكِ وَقْتَ اخْتِيَارِهَا، وَهِيَ مُبَانَةٌ وَقْتَ اخْتِيَارِهَا فَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَلَمَّا كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي التَّعْلِيقِ هُوَ الْيَمِينُ لَا الشَّرْطُ يُعْتَبَرُ قِيَامُ الْمِلْكِ وَقْتَ الْيَمِينِ لَا وَقْتَ الشَّرْطِ، وَلَوْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا لَا يُلَاعِنُ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَمْ يُشَرَّعْ إلَّا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] وَالزَّوْجِيَّةُ قَدْ انْقَطَعَتْ بِالْإِبَانَةِ وَالْخُلْعِ، وَكُلُّ فُرْقَةٍ تُوجِبُ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً كَحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَالرَّضَاعِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَلْحَقُهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُحَرَّمِ لَا يُتَصَوَّرُ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ بِالطَّلَاقِ حُرْمَةٌ مُؤَقَّتَةٌ وَالثَّابِتُ بِالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ وَالْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ أَقْوَى الْحُرْمَتَيْنِ فَلَا يَظْهَرُ الْأَضْعَفُ فِي مُقَابَلَةِ الْأَقْوَى، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى امْرَأَتَهُ بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا لَا يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُعْتَدَّةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَلَا يَحِلُّ وَطْءُ الْمُعْتَدَّةِ بِحَالٍ؟ وَكَذَا لَوْ قَالَ لِمَنْكُوحَتِهِ وَهِيَ أَمَةُ الْغَيْرِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا وَجَاءَ وَقْتُ السُّنَّةِ لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُعْتَدَّةٍ وَالطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ أَوْ الْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ لَا يَقَعُ فِي غَيْرِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَالْعِدَّةِ، وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ حُرَّةٌ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ ثُمَّ أَبَانَهَا ثُمَّ جَاءَ وَقْتُ السُّنَّةِ يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ أَمَةُ الْغَيْرِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا فَأَعْتَقَهَا ثُمَّ جَاءَ وَقْتُ السُّنَّةِ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْهُ لِظُهُورِ حُكْمِ الْعِدَّةِ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ. وَإِذَا ارْتَدَّ الرَّجُلُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَطَلَّقَ الْمَرْأَةَ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْمَرْأَةِ طَلَاقُهُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ؛؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بَيْنَهُمَا بِلِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ، كَمَا لَا يَقَعُ عَلَى الْمَرْأَةِ طَلَاقُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنْ عَادَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الطَّلَاقِ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ وَقَدْ زَالَ فَإِنْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَطَلَّقَ الْمَرْأَةَ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بِلِحَاقِهَا فِي بِدَارِ الْحَرْبِ فَصَارَتْ كَالْمُنْقَضِيَةِ الْعِدَّةَ، فَإِنْ عَادَتْ قَبْلَ الْحَيْضِ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْعِدَّةَ بَاقِيَةٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُهَا لِلْحَالِ لِمَانِعٍ وَهُوَ اللَّحَاقُ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، فَإِنْ عَادَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَظَهَرَ حُكْمُ

الْعِدَّةِ كَمَا فِي جَانِبِ الرَّجُلِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ بِلِحَاقِهَا بِدَارِ الْحَرْبِ صَارَتْ كَالْحَرْبِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُسْتَرَقُّ كَالْحَرْبِيَّةِ فَبَطَلَتْ الْعِدَّةُ فِي حَقِّهَا أَصْلًا فَلَا تَعُودُ بِعَوْدِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ عَدَدُ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنَّهُ إنْ أُوقِعَ مُجْتَمِعًا يَقَعُ الْكُلُّ وَإِنْ أُوقِعَ مُتَفَرِّقًا لَا يَقَعُ إلَّا الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ إذَا كَانَ مُجْتَمِعًا فَقَدْ صَادَفَ الْكُلُّ مَحِلَّهُ - وَهُوَ الْمِلْكُ - فَيَقَعُ الْكُلُّ. وَإِذَا كَانَ مُفْتَرِقًا فَقَدْ بَانَتْ بِالْأَوَّلِ، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ صَادَفَهَا وَلَا مِلْكَ وَلَا عِدَّةَ فَلَا يَقَعُ، وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ فِي مَسَائِلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ وَقَعَ ذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً وَيَلْغُو قَوْلُهُ: ثَلَاثًا أَوْ اثْنَتَيْنِ (وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ كَلَامٌ تَامٌّ لِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا وَقَدْ سَبَقَ الْعَدَدُ فِي الذِّكْرِ فَيَسْبِقُ فِي الْوُقُوعِ فَبِينَ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ، وَالْعَدَدُ يُصَادِفُهَا بَعْدَ حُصُولِ الْبَيْنُونَةِ فَيَلْغُو كَمَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ. (وَلَنَا) أَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَيَقَعُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الْعَدَدَ هُوَ الْوَاقِعُ وَهُوَ الثَّلَاثُ وَقَدْ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ مُجْتَمِعًا، وَالثَّانِي أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يَتِمُّ بِآخِرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ رُبَّمَا يُعَلِّقُ كَلَامَهُ بِشَرْطٍ أَوْ بِصِفَةٍ إلَى وَقْتٍ أَوْ يُلْحِقُ بِهِ الِاسْتِثْنَاءَ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ فَيَقِفُ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ، وَإِذَا وَقَفَ عَلَيْهِ صَارَ الْكُلُّ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَيَقَعُ الْكُلُّ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَلَا يَتَقَدَّمُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَمَاتَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ طَالِقٌ قَبْلَ قَوْلِهِ وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ هُوَ الْعَدَدُ وَذَلِكَ وُجِدَ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ فَمَاتَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ ثَلَاثًا قَبْلَ قَوْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ تَوَقَّفَ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى وُجُودِ آخِرِهِ الْمُغَيِّرِ لَهُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِأَوَّلِهِ حُكْمٌ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَلَا يَقَعُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِعَدَمِ التَّطْلِيقِ عِنْدَ وُجُودِ الِاسْتِثْنَاءِ وَعَدَمِ الْمَحِلِّ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ إذَا ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا هُوَ صِفَةٌ لَهُ وَقَعَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ كَمَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ مَعَ الْمَوْصُوفِ كَلَامٌ وَاحِدٌ فَلَا يُفْصَلُ الْبَعْضُ عَنْ الْبَعْضِ فِي الْوُقُوعِ. وَفَائِدَةُ هَذَا لَا تَظْهَرُ فِي التَّنْجِيزِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَقَعُ إلَّا بَائِنًا سَوَاءً وَصَفَهُ بِالْبَيْنُونَةِ أَمْ لَمْ يَصِفْهُ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ فِي التَّعْلِيقِ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ إنَّهُ لَا يَتَنَجَّزُ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالدُّخُولِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: بَائِنٌ بَيْنَ الْإِيقَاعِ وَالشَّرْطِ لَا يَقَعُ فَاصِلًا بَيْنَهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصِّفَةَ مَعَ الْمَوْصُوفِ كَلَامٌ وَاحِدٌ فَلَا يَكُونُ حَائِلًا بَيْنَ الْإِيقَاعِ وَالشَّرْطِ فَلَا يَمْنَعُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً مَعَ وَاحِدَةٍ أَوْ مَعَهَا وَاحِدَةٌ يَقَعُ ثِنْتَانِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلْمُقَارَنَةِ فَقَدْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَيْنِ مَعًا فَيَقَعَانِ مَعًا كَمَا لَوْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا. وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ أَوْ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا إيقَاعُ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ لِلْحَالِ وَإِضَافَةُ طَلْقَةٍ أُخْرَى إلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي فَيَقَعُ فِي الْحَالِ وَاحِدَةً وَلَمْ تَصِحَّ إضَافَةُ الْأُخْرَى إلَى الْمَاضِي لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ فَيَقَعُ فِي الْحَالِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ أَوْ وَاحِدَةً بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ يَقَعُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً وَأَعْقَبَهَا بِتَطْلِيقَةٍ أُخْرَى فَوَقَعَتْ الْأُولَى وَلَغَتْ الثَّانِيَةُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْعِدَّةِ. وَلَوْ كَرَّرَ لَفْظَ الطَّلَاقِ فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَرَّرَ بِدُونِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ نَجَّزَ أَوْ عَلَّقَ. فَإِنْ كَرَّرَ بِغَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَنَجَّزَ بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ؛ يَقَعُ الْأُولَى وَيَلْغُو الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ مُتَفَرِّقًا أَمَّا فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ؛ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ كَلَامٌ تَامٌّ؛ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجِدَ مُتَفَرِّقًا فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إيقَاعًا مُتَفَرِّقًا فَيَقْتَضِي الْوُقُوعَ مُتَفَرِّقًا فَتَحْصُلُ الْبَيْنُونَةُ بِالْأُولَى، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ يُصَادِفُهَا وَلَا مِلْكَ وَلَا عِدَّةَ فَيَلْغُوَا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ خَبَرٌ لَا مُبْتَدَأَ لَهُ فَيُعَادُ الْمُبْتَدَأُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ. وَإِنْ عَلَّقَ بِشَرْطٍ فَإِنْ قَدَّمَ الشَّرْطَ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ، فَالْأُولَى يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لِوُجُودِ التَّعْلِيقِ الصَّحِيحِ وَهُوَ ذِكْرُ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ فِي الْمِلْكِ، وَالثَّانِي يَنْزِلُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إيقَاعٌ تَامٌّ، وَقَوْلُهُ: وَطَالِقٌ مَعْنَاهُ أَنْتِ طَالِقٌ وَإِنَّهُ إيقَاعٌ تَامٌّ؛ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَقَدْ صَادَفَ مَحِلَّهُ - وَهُوَ الْمَنْكُوحَةُ - فَيَقَعُ وَيَلْغُو الثَّالِثُ لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ بِالْإِيقَاعِ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا وَدَخَلَتْ الدَّارَ يَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالْإِبَانَةِ فَوُجِدَ الشَّرْطُ وَهِيَ فِي مُلْكِهِ فَيَنْزِلُ الْجَزَاءُ، وَلَوْ دَخَلَتْ الدَّارَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ قَبْلَ التَّزَوُّجِ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ وَلَا

يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا؛ فَالْأَوَّلُ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ يَنْزِلَانِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إيقَاعٌ صَحِيحٌ لِمُصَادَفَتِهِ مَحِلَّهُ، وَإِنْ أَخَّرَ الشَّرْطَ بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَالْأَوَّلُ يَنْزِلُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ إيقَاعٌ تَامٌّ صَادَفَ مَحِلَّهُ، وَيَلْغُو الثَّانِي وَالثَّالِثُ بِحُصُولِ الْبَيْنُونَةِ بِالْأُولَى فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيقُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا يَقَعُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي لِلْحَالِ وَيَتَعَلَّقُ الثَّالِثُ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إيقَاعٌ تَامٌّ لِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا وَقَدْ صَادَفَ مَحِلَّهُ فَوَقَعَ لِلْحَالِ، وَالثَّالِثُ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ فَتَعَلَّقَ بِهِ لِحُصُولِ التَّعْلِيقِ حَالَ قِيَامِ الْعِدَّةِ فَصَادَفَ التَّعْلِيقُ مَحِلَّهُ فَصَحَّ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ كَرَّرَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ فَإِنْ نَجَّزَ الطَّلَاقَ بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ لَا يَقَعُ إلَّا الْأَوَّلُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ مُتَفَرِّقًا لِوُجُودِ حُرُوفٍ مَوْضُوعَةٍ لِلتَّفَرُّقِ؛ لِأَنَّ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّرَاخِي وَالْفَاءَ لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّعْقِيبِ. وَوُقُوعُ الطَّلْقَةِ الْأَوْلَى يَمْنَعُ مِنْ تَرْتِيبِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَقَعُ الثَّلَاثُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ وَالْجَمْعُ بِحَرْفِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَكَانَ هَذَا إيقَاعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. (وَلَنَا) أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، وَالْجَمْعُ الْمُطْلَقُ فِي الْوُجُودِ لَا يُتَصَوَّرُ، بَلْ يَكُونُ وُجُودُهُ عَلَى أَحَدِ الْوَضْعَيْنِ عَيْنًا، إمَّا الْقِرَانُ وَإِمَّا التَّرْتِيبُ فَإِنْ كَانَ الْوُقُوعُ بِصِفَةِ التَّرْتِيبِ لَا يَقَعُ إلَّا الْأَوَّلُ، وَإِنْ كَانَ بِصِفَةِ الْقِرَانِ يَقَعُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي وُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَلَا يَقَعُ بِالشَّكِّ، وَإِنْ عَلَّقَ بِشَرْطٍ فَإِمَّا أَنْ قَدَّمَ الشَّرْطَ عَلَى الْجَزَاءِ وَإِمَّا أَنْ أَخَّرَهُ عَنْهُ فَإِنْ قَدَّمَهُ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ، تَعَلَّقَ الْكُلُّ بِالشَّرْطِ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَا يَقَعَ شَيْءٌ قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ، فَإِذَا دَخَلَتْ الدَّارَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَيَقَعُ الثَّلَاثُ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ عَلَى الْجَمْعِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ الثَّلَاثُ. وَلَوْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيّ فَتَزَوَّجَهَا طَلُقَتْ وَلَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا مِنْهَا عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَلَوْ قَدِمَ الظِّهَارَ عَلَى الطَّلَاقِ بِأَنْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَأَنْتِ طَالِقٌ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ جَمِيعًا بِالْإِجْمَاعِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَيَقَعُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، كَمَا إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهُ جَمَعَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ - وَهُوَ الْوَاوُ - وَالْجَمْعُ بِحَرْفِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لُغَةً وَشَرْعًا: أَمَّا اللُّغَةُ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: جَاءَنِي زَيْدٌ وَزَيْدٌ وَزَيْدٌ، وَقَوْلُهُ: جَاءَنِي الزَّيْدُونَ سَوَاءٌ. وَأَمَّا الشَّرْعُ فَإِنَّ مَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِفُلَانٍ كَانَ الْأَلْفُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ قَالَ لِهَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ. وَكَذَا الْفُضُولِيُّ إذَا زَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَفُضُولِيٌّ آخَرُ زَوَّجَ أُخْتَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَبَلَغَهُ النِّكَاحَانِ فَقَالَ أَجَزْتُ نِكَاحَ هَذِهِ وَهَذِهِ، بَطَلَ النِّكَاحَانِ جَمِيعًا كَمَا لَوْ قَالَ: أَجَزْت نِكَاحَهُمَا فَثَبَتَ أَنَّ الْجَمْعَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَلَوْ جَمَعَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَوَقَعَ الثَّلَاثُ سَوَاءً دَخَلَتْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ بَعْدَ الدُّخُولِ كَذَا هَذَا، وَلَا يَلْزَمُ التَّنْجِيزُ فَإِنَّهُ لَوْ ذَكَرَ لَفْظَ الْجَمْعِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَقَعُ الثَّلَاثُ، وَلَوْ ذَكَرَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ وَالْجَمْعَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ إذَا صَحَّ الْعَطْفُ وَالْجَمْعُ فِي التَّنْجِيزِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ بَانَتْ بِوَاحِدَةٍ لِعَدَمِ الْعِدَّةِ فَامْتَنَعَ وُقُوعُ الثَّانِي وَالثَّالِثِ لِانْعِدَامِ مَحِلِّ الطَّلَاقِ بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ قَدْ صَحَّ، وَصَحَّ التَّكَلُّمُ بِالثَّانِي وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَائِمٌ بَعْدَ التَّعْلِيقِ فَصَحَّ التَّكَلُّمُ بِهِ، وَإِذَا صَحَّ التَّكَلُّمُ بِحَرْفِ الْجَمْعِ صَارَ التَّكَلُّمُ بِهِ كَالتَّكَلُّمِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ؛ وَلِهَذَا وَقَعَ الثَّلَاثُ إذَا أَخَّرَ الشَّرْطَ كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قَوْلَهُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إيقَاعُ الثَّلَاثِ مُتَفَرِّقًا فِي زَمَانِ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ فَيَقْتَضِي الْوُقُوعَ مُتَفَرِّقًا كَمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَهَا أُخْرَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيقَاعَ إنْ كَانَ مُتَفَرِّقًا يَكُونُ بِالْوُقُوعِ مُتَفَرِّقًا؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ عَلَى حَسَبِ الْإِيقَاعِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُهُ وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ

عَلَى وَفْقِ الْعِلَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ فِي زَمَانِ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ هُوَ كَلَامُهُ السَّابِقُ إذْ لَا كَلَامَ مِنْهُ سِوَاهُ، وَكَلَامُهُ مُتَفَرِّقٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ: طَالِقٌ كَلَامٌ تَامٌّ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَقَوْلُهُ: وَطَالِقٌ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَوَّلِ تَابِعًا فَيَكُونُ خَبَرُ الْأَوَّلِ خَبَرًا لَهُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ طَالِقٌ. وَهَذِهِ كَلِمَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ مُتَفَرِّقًا ضَرُورَةً فَيَقْتَضِي الْوُقُوعَ مُتَفَرِّقًا، وَهُوَ أَنْ يَقَعَ الْأَوَّلُ ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا فَدُخُولُ الْأَوَّلِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَقِيبَهُ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَالْعِدَّةِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ فِي التَّنْجِيزِ إلَّا وَاحِدَةٌ لِكَوْنِ الْإِيقَاعِ مُتَفَرِّقًا إلَّا أَنَّ هُنَاكَ أُوقِعَ مُتَفَرِّقًا فِي الْحَالِ فِي زَمَانِ بَعْدَ الشَّرْطِ وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا قَالَ لَهَا: إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَدَخَلَتْهَا إنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا أَوْقَعَ الثَّلَاثَ مُتَفَرِّقًا، أَوْقَعَهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا مَوْضُوعُ الْعَدَدِ مَعْلُومٌ لُغَة أَلَا تَرَى أَنَّ فِي التَّنْجِيزِ كَذَلِكَ؟ فَكَذَا فِي التَّعْلِيقِ، وَلَا يُلْزَمُ مَا إذَا أَخَّرَ الشَّرْطَ؛ لِأَنَّهُمْ وَضَعُوا هَذَا الْكَلَامَ عِنْدَ تَأْخِيرِ الشَّرْطِ ذِكْرًا لِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ جُمْلَةً وَإِنْ كَانَ مُتَفَرِّقًا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ لِضَرُورَةٍ دَعَتْهُمْ إلَى ذَلِكَ؛ وَهِيَ ضَرُورَةُ تَدَارُكِ الْغَلَطِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ مِمَّا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ غَلَطًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَوَضَعُوا الشَّرْطَ وَالِاسْتِثْنَاءَ فِي الْكَلَامِ لِتَدَارُكِ الْغَلَطِ حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ قَصْدِ الْحَقِّ الرَّجُلُ بِهِ الِاسْتِثْنَاءَ فَيَقُولُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ يَقُولُ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَصَارَ هَذَا الْكَلَامُ عِنْدَ تَأْخِيرِ الشَّرْطِ لِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ جُمْلَةً وَضْعًا وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ مُتَفَرِّقًا لِحَاجَتِهِمْ إلَى تَدَارُكِ الْغَلَطِ وَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ فَلَهُمْ وِلَايَةُ الْوَضْعِ، وَالْحَاجَةُ إلَى تَدَارُكِ الْغَلَطِ عِنْدَ تَأْخِيرِ الشَّرْطِ لَا عِنْدَ تَقْدِيمِهِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ الْوَضْعِ الْآخَرِ عِنْدَ التَّقْدِيمِ. وَلَا يُلْزَمُ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي: إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ: فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ: إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ دَخَلْتِ الدَّارَ أَنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ، وَإِنْ كَانَ الْإِيقَاعُ مُتَفَرِّقًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا أَوْقَعَ الثَّلَاثَ مُتَفَرِّقًا فِي زَمَانِ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا جُعِلَتْ عِلْمًا عَلَى الِانْطِلَاقِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بَعْدَ الشَّرْطِ فَكَانَ زَمَانُ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ - وَهُوَ دُخُولُ الدَّارِ - وَقْتَ الْحِنْثِ فِي الْأَيْمَانِ كُلِّهَا فَيَقَعُ جُمْلَةً ضَرُورَةً حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا: إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي: إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَقَعُ بِكُلِّ دَخْلَةٍ إلَّا طَلَاقٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ، لِكُلِّ وَاحِدٍ شَرْطٌ عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّ الْمَوْجُودَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، وَلَهَا شَرْطٌ وَاحِدٌ. وَقَدْ جَعَلَ الْحَالِفُ جَزَاءَ هَذِهِ الْيَمِينِ إيقَاعَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي زَمَانِ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَفَرُّقِ الْإِيقَاعَاتِ فِي زَمَانِ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ فَيَقَعُ كُلُّ جَزَاءٍ فِي زَمَانٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إنْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَهَا أُخْرَى، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَنِصْفً؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا أَوْقَعَ مُتَفَرِّقًا، بَلْ مُجْتَمِعًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: طَالِقٌ وَنِصْفٌ اسْمٌ وَاحِدٌ بِمُسَمًّى وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ النِّصْفُ مَعْطُوفًا عَلَى الْوَاحِدِ كَقَوْلِنَا أَحَدٌ وَعِشْرُونَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ تَطْلِيقَتَيْنِ عَلَى الْجَمْعِ وَلِهَذَا كَانَ فِي التَّخْيِيرِ كَذَلِكَ فَكَذَلِكَ فِي التَّعْلِيقِ. وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ ثِنْتَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إيقَاعُ الثَّلَاثِ عِلَّةً فِي زَمَانِ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الْوَاحِدَةَ ثُمَّ تَدَارَكَ الْغَلَطَ بِإِقَامَةِ الثِّنْتَيْنِ مَقَامَ الْوَاحِدَةِ وَالرُّجُوعِ عَنْ الْأَوَّلِ، وَالرُّجُوعُ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ لَا يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَصَحَّ إيقَاعُ التَّطْلِيقَتَيْنِ فَكَانَ إيقَاعُ الثَّلَاثِ بَعْدَ الشَّرْطِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْإِيقَاعَاتِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ وَهُوَ الْوَاوُ؛ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ التَّعَرُّضِ لِصِفَةِ الْقِرَانِ وَالتَّرْتِيبِ، وَالْجَمْعُ الْمُطْلَقُ فِي الْوُجُودِ لَا يُتَصَوَّرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ إلَّا مُقَيَّدًا بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ حَمْلُهُ عَلَى الْقِرَانِ يَكُونُ عُدُولًا عَنْ حَقِيقَةِ الْكَلِمَةِ وَجَعْلِهَا مَجَازًا عَنْ كَلِمَةِ مَعَ، وَنَحْنُ نَحْمِلُهُ عَلَى التَّرْتِيبِ وَنَجْعَلُهُ مَجَازًا عَنْ كَلِمَةِ ثُمَّ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِحَرْفِ الْوَاوِ مَعَ مَا أَنَّ التَّرْجِيحَ مَعَنَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى التَّرْتِيبِ مُوَافِقٌ لِلْحَقِيقَةِ لِوُجُودِ الْإِيقَاعِ مُتَفَرِّقًا حَقِيقَةً لَا مُوجَبَ حَرْفِ الْوَاوِ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْقِرَانِ يُخَالِفُ الْحَقِيقَةَ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى التَّرْتِيبِ أَوْلَى. وَالثَّانِي أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى التَّرْتِيبِ يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ

وَالْحَمْلُ عَلَى الْقِرَانِ يُوجِبُ الْوُقُوعَ فَلَا يَثْبُتُ الْوُقُوعُ بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ إنَّ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا، وَوَقْعُ الشَّكِّ فِي ثُبُوتِهِ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّهُ كَمَا لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ عَلَى الْمُقَارَنَةِ لَا يَجُوزُ عَلَى التَّرْتِيبِ فَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِحَرْفِ الْوَاوِ فِيمَا يَقْتَضِيهِ وَهُوَ الْجَمْعُ الْمُطْلَقُ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ تَوَقَّفَ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ لِضَرُورَةِ تَدَارُكِ الْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ؛ إذْ قَدْ يَكُونُ عَلَى إنْسَانٍ حَقٌّ لِاثْنَيْنِ فَيُقِرُّ بِكُلِّ الْحَقِّ لِأَحَدِهِمَا عَلَى السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ ثُمَّ يَتَذَكَّرُ فَيَتَدَارَكُ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ فَوَقَفَ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ وَصَارَتْ الْجُمْلَةُ إقْرَارًا وَاحِدًا لَهُمَا لِلضَّرُورَةِ كَمَا قُلْنَا فِي تَأْخِيرِ الشَّرْطِ فِي الطَّلَاقِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الضَّرُورَةِ فِي مَسْأَلَتِنَا مُنْعَدِمَةٌ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ. وَلَوْ عَلَّقَ بِحَرْفِ الْفَاءِ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ، فَجَعَلَ الْكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ حَرْفَ الْفَاءِ هَهُنَا كَحَرْفِ الْوَاوِ وَأَثْبَتَا الْخِلَافَ فِيهِ. وَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ جَعَلَهُ مِثْلَ كَلِمَةِ بَعْدَ وَعَدَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَقَالَ: إذَا كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الْأُسْتَاذُ عَلَاءُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّعْقِيبِ وَوُقُوعُ الْأَوَّلِ يَمْنَعُ مِنْ تَعَقُّبِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ فَالْأَوَّلُ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ وَالثَّانِي يَقَعُ لِلْحَالِ وَيَلْغُو الثَّالِثُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْوَاوَ وَلَا الْفَاءَ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ، فَإِنْ تَزَوَّجَ بِهَا وَدَخَلَتْ الدَّارَ وَلَمْ تَكُنْ دَخَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ الدَّارَ نَزَلَ الْمُعَلَّقُ، وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا يَتَعَلَّقُ الْأَوَّلُ بِالشَّرْطِ وَتَقَعُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ فِي الْحَالِ، فَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ أَوْ دَخَلَتْهَا بَعْدَ أَنْ رَاجَعَهَا نَزَلَ الْمُعَلَّقُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَتَعَلَّقُ الْكُلُّ بِالشَّرْطِ حَتَّى لَا يَقَعَ شَيْءٌ فِي الْحَالِ وَإِذَا دَخَلَتْ الدَّارَ يَقَعُ وَاحِدَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا يَقَعُ الثَّلَاثُ عَلَى التَّعَاقُبِ كَمَا إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَبَعْدَهَا وَاحِدَةٌ وَبَعْدَهَا وَاحِدَةٌ وَكَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَرْفِ الْوَاوِ: وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ عَطْفَ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ؛ لِأَنَّ ثُمَّ حَرْفُ عَطْفٍ كَالْوَاوِ فَيَتَعَلَّقُ الْكُلُّ بِالشَّرْطِ، ثُمَّ الْوُقُوعُ بَعْدَ الشَّرْطِ يَكُونُ عَلَى التَّعَاقُبِ بِمُقْتَضَى حَرْفِ ثُمَّ؛ لِأَنَّهُ لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّرَاخِي فَيُعْتَبَرُ أَنَّ مَعْنَى الْعَطْفِ فِي التَّعْلِيقِ وَمَعْنَى التَّرْتِيبِ فِي الْوُقُوعِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قَوْلَهُ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ يَمِينٌ تَامَّةٌ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَأَنَّهَا مُنْعَقِدَةٌ لِحُصُولِهَا فِي الْمِلْكِ، فَلَمَّا قَالَ: ثُمَّ طَالِقٌ فَقَدْ تَرَاخَى الْكَلَامُ الثَّانِي عَنْ الْأَوَّلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فَيَقَعُ فِي الْحَالِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ مَعْنَى الْكَلِمَةِ وَهُوَ التَّرَاخِي فِي نَفْسِ الْكَلَامِ فَكَانَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِالتَّرَاخِي كَالْفَصْلِ بِالسُّكُوتِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ أَخَّرَ الشَّرْطَ بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ تَعَلَّقَ الْكُلُّ بِالشَّرْطِ فَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ يَقَعُ الثَّلَاثُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ وَضَعُوا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى تَأْخِيرِ الشَّرْطِ لِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ جُمْلَةً فِي زَمَانِ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ لِحَاجَتِهِمْ إلَى تَدَارُكِ الْغَلَطِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، أَوْ قَدَّمَ الشَّرْطَ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، يَتَعَلَّقُ الْكُلُّ بِالدُّخُولِ فَمَا لَمْ تَدْخُلْ لَا يَقَعُ شَيْءٌ، وَإِذَا دَخَلَتْ الدَّارَ دَخْلَةً وَاحِدَةً يَقَعُ الثَّلَاثُ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا قُلْنَا أَنَّ هَذِهِ أَيْمَانٌ ثَلَاثَةٌ لَهَا شَرْطٌ وَاحِدٌ؛ كُلُّ يَمِينٍ إيقَاعُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ فَكَانَ إيقَاعُ الثَّلَاثِ جُمْلَةً - فِي زَمَانِ مَا بَعْدَ الشَّرْطِ - لَا مُتَفَرِّقًا فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ يَقَعُ جُمْلَةً. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، فَالْأَوَّلُ يَقَعُ لِلْحَالِ وَيَلْغُو الثَّانِي وَالثَّالِثُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا يَقَعُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي لِلْحَالِ وَيَتَعَلَّقُ الثَّالِثُ بِالشَّرْطِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَتَعَلَّقُ الْكُلُّ بِالشَّرْطِ وَلَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا يَقَعُ الثَّلَاثُ سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، وَجُعِلَ ثُمَّ عِنْدَهُمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَالْوَاوِ وَالْفَاءِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا: أَنَّ ثُمَّ حَرْفُ عَطْفٍ كَالْوَاوِ وَالْفَاءِ وَلَهَا مَعْنًى خَاصٌّ، وَهُوَ التَّرَاخِي فَيَجِبُ اعْتِبَارُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا فَاعْتَبَرْنَا مَعْنَى الْعَطْفِ فِي تَعْلِيقِ الْكُلِّ بِالشَّرْطِ كَمَا فِي حَرْفِ الْوَاوِ وَالْفَاءِ، وَاعْتَبَرْنَا مَعْنَى التَّرَاخِي فِي الْوُقُوعِ وَهَذَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ مَوْضُوعَةٌ

لِلتَّرَاخِي وَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى الْإِيقَاعِ فَيَقْتَضِي تَرَاخِيَ الثَّانِي عَنْ الْأَوَّلِ فِي الْإِيقَاعِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ: فَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَيَقَعُ الْأَوَّلُ لِلْحَالِ وَيَلْغُو الثَّانِي وَالثَّالِثُ؛ لِأَنَّهُمَا حَصَلَا بَعْدَ ثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ بِالْأَوَّلِ فَلَا يَقَعَانِ فِي الْحَالِ وَلَا يَتَعَلَّقَانِ بِالشَّرْطِ أَيْضًا لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَقْتَ التَّعْلِيقِ، فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيقُ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ مَعْنَى التَّرَاخِي فِي الْوُقُوعِ لَا فِي الْإِيقَاعِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ مَعْنَى التَّرَاخِي فِي الْإِيقَاعِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْإِيقَاعُ، وَاعْتِبَارُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ التَّرَاخِي دَخَلَتْ عَلَى الْإِيقَاعِ وَالتَّرَاخِي فِي الْإِيقَاعِ يُوجِبُ التَّرَاخِي فِي الْوُقُوعِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ عَلَى وَفْقِ الْعِلَّةِ،. فَأَمَّا الْقَوْلُ بِتَرَاخِي الْوُقُوعِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخِي الْإِيقَاعِ فَقَوْلٌ بِإِثْبَاتِ حُكْمِ الْعِلَّةِ عَلَى وَجْهٍ لَا تَقْتَضِيهِ الْعِلَّةُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ - أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ - إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، مَوْصُولًا أَوْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَوْ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَنَّهُ يُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَقَعُ فِي الْقَضَاءِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا كَلَامٌ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالطَّلَاقِ فَيَكُونُ فَاصِلًا بَيْنَ الْجَزَاءِ وَالشَّرْطِ فَيَمْنَعُ التَّعْلِيقَ كَمَا لَوْ سَكَتَ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةِ السُّعَالِ فَيَقَعُ فِي الْحَالِ فِي الْقَضَاءِ، وَلَا يُصَدَّقُ إنْ أَرَادَ بِهِ التَّعْلِيقَ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ. وَكَذَا إذَا تَنَحْنَحَ مِنْ غَيْرِ سُعَالٍ غَشِيَهُ أَوْ تَسَاعَلَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَنَحْنَحَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ أَوْ تَسَاعَلَ فَقَدْ قَطَعَ كَلَامَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَطَعَهُ بِالسُّكُوتِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَعِشْرِينَ أَوْ وَاحِدَةً وَثَلَاثِينَ أَوْ وَاحِدَةً وَأَرْبَعِينَ أَوْ قَالَ: أَحَدًا وَعِشْرِينَ أَوْ أَحَدًا وَثَلَاثِينَ أَوْ أَحَدًا وَأَرْبَعِينَ وَقَعَتْ ثَلَاثًا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ مُتَفَرِّقًا؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ عَدَدًا عَلَى عَدَدٍ، فَوُقُوعُ الْأَوَّلِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الثَّانِي كَمَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ أَوْ فَطَالِقٌ، وَلَنَا أَنَّ قَوْلَهُ: أَحَدًا وَعِشْرِينَ فِي الْوَضْعِ كَلَامٌ وَاحِدٌ وُضِعَ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؟ فَلَا يَفْصِلُ الْبَعْضَ عَنْ الْبَعْضِ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ أَوْ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَوْ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ أَوْ قَالَ: اثْنَيْ وَعِشْرِينَ أَوْ اثْنَيْ وَثَلَاثِينَ أَوْ اثْنَيْ وَأَرْبَعِينَ أَنَّهُ ثَلَاثٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ اثْنَتَانِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إحْدَى عَشْرَةَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ بِأَنْ يَأْتِيَ بِاللَّفْظِ الْمُعْتَادِ فَيَقُولُ إحْدَى عَشْرَةَ أَوْ أَحَدَ عَشَرَ فَإِذَا لَمْ يَقُلْ يُعْتَبَرُ عَطْفًا عَلَى الْوَاحِدِ فَكَانَ إيقَاعُ الْعَشَرَةِ بَعْدَ الْوَاحِدِ فَلَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ أَوْ فَطَالِقٌ أَوْ ثُمَّ طَالِقٌ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي إحْدَى وَعَشْرَةَ أَنَّهُ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ مَا يُفِيدُهُ قَوْلُنَا أَحَدَ عَشَرَ فَكَانَ مِثْلَهُ. قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَمِائَةً أَوْ وَاحِدَةً وَأَلْفًا كَانَ وَاحِدَةً كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ مِائَةً وَوَاحِدَةً وَأَلْفًا وَوَاحِدَةً؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعْتَادُ فَإِذَا قَدَّمَ الْوَاحِدَةَ فَقَدْ خَالَفَ الْمُعْتَادَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الْكُلَّ عَدَدًا وَاحِدًا فَيُجْعَلُ عَطْفًا فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدَةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا قَالَ: وَاحِدَةً وَمِائَةً تَقَعُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ فِي ذَلِكَ مُعْتَادٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الْعَادَةِ مِائَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَمِائَةً عَلَى السَّوَاءِ؟ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَنِصْفًا يَقَعُ اثْنَتَانِ فِي قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؟ فَكَانَ هَذَا اسْمًا لِمُسَمًّى وَاحِدٍ، وَالطَّلَاقُ لَا يَتَجَزَّأُ فَكَانَ ذِكْرُ بَعْضِهِ ذِكْرًا لِلْكُلِّ، فَكَانَ هَذَا إيقَاعَ تَطْلِيقَتَيْنِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفًا وَوَاحِدَةً يَقَعُ عَلَيْهَا ثِنْتَانِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَاحِدَةٌ، لَهُ أَنَّ التَّكَلُّمَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ مُعْتَادٍ بَلْ الْعَادَةُ قَوْلُهُمْ وَاحِدَةً وَنِصْفًا، فَإِذَا عَدَلَ عَنْ الْمُعْتَادِ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَجْعَلَ الْكُلَّ عَدَدًا وَاحِدًا فَيُجْعَلُ عَطْفًا، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: الِاسْتِعْمَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُعْتَادٌ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: وَاحِدَةً وَنِصْفًا وَوَاحِدَةً عَلَى السَّوَاءِ. وَمِنْهَا الْإِضَافَةُ إلَى الْمَرْأَةِ فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ حَتَّى لَوْ أَضَافَ الزَّوْجُ صَرِيحَ الطَّلَاقِ إلَى نَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ: أَنَا مِنْك طَالِقٌ، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْإِضَافَةُ إلَى الْمَرْأَةِ فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ حَتَّى لَوْ قَالَ: أَنَا مِنْك بَائِنٌ أَوْ أَنَا عَلَيْك حَرَامٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ يَصِحُّ. وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الزَّوْجَ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى مَحِلِّهِ فَيَصِحُّ كَمَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنَا مِنْك بَائِنٌ أَوْ أَنَا عَلَيْك حَرَامٌ. وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّ مَحِلَّ الطَّلَاقِ الْمُقَيَّدُ؛ لِأَنَّ التَّطْلِيقَ رَفْعُ الْقَيْدِ وَالرَّجُلُ مُقَيَّدٌ إذْ الْمُقَيَّدُ هُوَ الْمَمْنُوعُ، وَالزَّوْجُ مَمْنُوعٌ

عَنْ التَّزَوُّجِ بِأُخْتِهَا وَعَنْ التَّزَوُّجِ بِأَرْبَعٍ سِوَاهَا فَكَانَ مُقَيَّدًا فَكَانَ مَحِلًّا لِإِضَافَةِ الْكِنَايَةِ الْمُبِينَةِ إلَيْهِ لِمَا أَنَّ الْإِبَانَةَ قَطْعُ الْوَصْلَةِ وَأَنَّهَا ثَابِتَةٌ مِنْ جَانِبِهِ كَذَا هَذَا، وَلَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتَطْلِيقِهِنَّ وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ نَهْيٌ عَنْ تَرْكِهِ وَتَطْلِيقُ نَفْسِهِ تَرْكٌ لِتَطْلِيقِ امْرَأَتِهِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى نَفْسِهِ لَا إلَى امْرَأَتِهِ حَقِيقَةً فَيَكُونُ مَنْهِيًّا، وَالْمَنْهِيُّ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ، وَالتَّصَرُّفُ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا وَهُوَ تَفْسِيرُ عَدَمِ الصِّحَّةِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» ، نَهَى عَنْ التَّطْلِيقِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ مُضَافًا إلَى الزَّوْجِ أَوْ إلَى الزَّوْجَةِ وَأَكَّدَ النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّطْلِيقُ مَنْهِيًّا سَوَاءٌ أُضِيفَ إلَى الزَّوْجِ أَوْ إلَيْهَا ثُمَّ جَاءَتْ الرُّخْصَةُ فِي التَّطْلِيقِ الْمُضَافِ إلَى الزَّوْجَةِ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] وقَوْله تَعَالَى {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] وَنَحْوِ ذَلِكَ فَبَقِيَ التَّطْلِيقُ الْمُضَافُ إلَى الزَّوْجِ عَلَى أَصْلِ النَّهْيِ، وَالْمَنْهِيُّ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَالتَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ إذَا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَوِّعًا، لَا وُجُودَ لَهُ شَرْعًا فَلَا يَصِحُّ ضَرُورَةً. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّا مِنْك طَالِقٌ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ إخْبَارًا عَنْ كَوْنِهِ طَالِقًا كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الصِّيغَةِ وَإِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ إنْشَاءً - وَهُوَ إثْبَاتُ الِانْطِلَاقِ - وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَيْدُ النِّكَاحِ. وَإِثْبَاتُ الثَّابِتِ مُحَالٌ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إخْبَارًا عَنْ كَوْنِهِ طَالِقًا وَهُوَ صَادِقٌ فِي هَذَا الْإِخْبَارِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَيْدُ النِّكَاحِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ قَيْدَ النِّكَاحِ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ إنَّمَا ثَبَتَ لِضَرُورَةِ تَحْقِيقِ مَا هُوَ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ - وَهُوَ السَّكَنُ وَالنَّسَبُ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ وَالْبُرُوزَ يُرِيبُ فَلَا يَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ إلَيْهَا، وَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَا يَثِقُ بِكَوْنِهِ مِنْهُ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ قَيْدُ النِّكَاحِ، وَالثَّانِي أَنَّ قَيْدَ النِّكَاحِ هُوَ مِلْكُ النِّكَاحِ وَهُوَ الِاخْتِصَاصُ الْحَاجِزُ وَالزَّوْجُ مَالِكٌ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَمْلُوكَةٌ مِلْكَ النِّكَاحِ، وَالْمَمْلُوكُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَالِكٍ وَلَا مِلْكَ لِغَيْرِ الزَّوْجِ فِيهَا فَعُلِمَ أَنَّ الزَّوْجَ مَالِكُهَا؛ فَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا بِخِلَافِ مَا إذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَيْهَا، فَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ عَلَى الْإِخْبَارِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ كَذِبًا لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُنْطَلِقَةٍ لِثُبُوتِ قَيْدِ النِّكَاحِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِنْشَاءِ أَنَّهُ مُمْكِنٌ لِعَدَمِ الِانْطِلَاقِ قَبْلَهُ، بِخِلَافِ الْكِنَايَةِ الْمُبِينَةِ؛ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ قَطْعُ الْوَصْلَةِ وَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي الطَّرَفَيْنِ فَإِذَا زَالَتْ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ تَزُولُ مِنْ الطَّرَفِ الْآخَرِ ضَرُورَةً؛ لِاسْتِحَالَةِ اتِّصَالِ شَيْءٍ بِمَا هُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ، وَالتَّحْرِيمُ إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ، وَإِنَّهَا لَا تَثْبُتُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ حَلَالًا لِمَنْ هُوَ حَرَامٌ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الِانْطِلَاقِ وَرَفْعُ الْقَيْدِ، وَالْقَيْدُ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَإِنَّهُ قَائِمٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: الزَّوْجُ مَمْنُوعٌ عَنْ التَّزَوُّجِ بِأُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا فَنَعَمْ لَكِنْ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَإِنَّهُ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي النِّكَاحِ وَهَذَا كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ النِّكَاحِ أَلَا تَرَى لَوْ تَزَوَّجَهُمَا جَمِيعًا لَمْ يَجُزْ؟ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى امْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ مُبْهَمَةٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ أَوْ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ: إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ وَلَمْ يَنْوِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا صَحَّتْ الْإِضَافَةُ. وَقَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: لَا تَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى الْمُعَيَّنَةِ وَجْهُ قَوْلِهِمْ: لَمْ يَصْلُحْ مَحِلًّا لِلنِّكَاحِ فَلَا يَصْلُحُ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ؛ إذْ الطَّلَاقُ يَرْفَعُ مَا ثَبَتَ بِالنِّكَاحِ. وَكَذَا لَمْ يَصْلُحْ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ فَكَذَا الطَّلَاقُ. وَأَمَّا عُمُومَاتُ الطَّلَاقِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَقَوْلِهِ {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، وَقَوْلِهِ {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ طَلَاقٍ وَطَلَاقٍ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ الْمُضَافِ إلَى الْمُعَيَّنِ وَالْمَجْهُولِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَنْجِيزِ الطَّلَاقِ فِي الْحَقِيقَةِ، بَلْ هُوَ تَعْلِيقٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِشَرْطِ الْبَيَانِ لِمَا نَذْكُرُ، وَالطَّلَاقُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ؟ فَكَذَا بِهَذَا الشَّرْطِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَلَا تَكُونُ الْمَجْهُولَةُ مَحِلًّا لِلنِّكَاحِ. وَكَذَا الْإِجَارَةُ وَالْبَيْعُ وَسَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ هَذَا إيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي الْمَجْهُولَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ

بِشَرْطِ الْبَيَانِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْمُبَيَّنَةِ لَا فِي الْمَجْهُولَةِ، عَلَى أَنَّا إنْ قُلْنَا بِالْوُقُوعِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فَهَذِهِ جَهَالَةٌ يُمْكِنُ رَفْعُهَا بِالْبَيَانِ، فَالطَّلَاقُ يَحْتَمِلُ خَطَرًا لِجَهَالَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ خَطَرَ التَّعْلِيقِ وَالْإِضَافَةِ بِحَقِيقَةِ أَنَّ الْبَيْعَ يَحْتَمِلُ جَرَيَانَ الْجَهَالَةِ؟ فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ جَازَ. وَكَذَا إذَا بَاعَ أَحَدَ شَيْئَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ أَيَّهُمَا شَاءَ وَيَرُدُّ الْآخَرَ جَازَ، فَالطَّلَاقُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ فِي احْتِمَالِ الْخَطَرِ فَوْقَ الْبَيْعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ خَطَرَ التَّعْلِيقِ وَالْإِضَافَةِ، وَالْبَيْعُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ؟ فَلَمَّا جَازَ بَيْعُ الْمَجْهُولِ فَالطَّلَاقُ أَوْلَى وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْجَهَالَةُ مُقَارِنَةً أَوْ طَارِئَةً بِأَنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ عَيْنًا ثُمَّ نَسِيَ الْمُطَلَّقَةَ حَتَّى لَا يَحِلَّ لَهُ وَطْءُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ الْمُقَارِنَ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْإِضَافَةِ فَالطَّارِئُ لَأَنْ لَا يَرْفَعَ الْإِضَافَةَ الصَّحِيحَةَ أَوْلَى، لِأَنَّ الْمَنْعَ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا الْإِضَافَةُ إلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهَا أَوْ إلَى جُزْءٍ جَامِعٍ مِنْهَا أَوْ شَائِعٍ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى جُزْءٍ جَامِعٍ مِنْهَا كَالرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَالرَّقَبَةِ وَالْفَرْجِ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ يُقَالُ: فُلَانٌ يَمْلِكُ كَذَا وَكَذَا رَأْسًا مِنْ الرَّقِيقِ وَكَذَا وَكَذَا رَقَبَةً. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] وَالْمُرَادُ بِهَا الْجُمْلَةُ، وَفِي الْخَبَرِ: «لَعَنَ اللَّهُ الْفُرُوجَ عَلَى السُّرُوجِ» ، وَالْوَجْهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الذَّاتُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص: 88] أَيْ إلَّا هُوَ، وَمَنْ كَفَلَ بِوَجْهِ فُلَانٍ يَصِيرُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ فَيَثْبُتُ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ فَكَانَ ذِكْرُهَا ذِكْرًا لِلْبَدَنِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَكَذَا إذَا أَضَافَ إلَى وَجْهِهَا؛ لِأَنَّ قِوَامَ النَّفْسِ بِهَا؛ وَلِأَنَّ الرُّوحَ تُسَمَّى نَفْسًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] ، وَلَوْ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى دُبُرِهَا لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ الدُّبُرَ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِخِلَافِ الْفَرْجِ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّهُ إذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ مِنْهَا بِأَنْ قَالَ: نِصْفُكِ طَالِقٌ أَوْ ثُلُثُكِ طَالِقٌ أَوْ رُبْعُك طَالِقٌ أَوْ جُزْءٌ مِنْك، أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الشَّائِعَ مَحِلٌّ لِلنِّكَاحِ حَتَّى تَصِحَّ إضَافَةُ النِّكَاحِ إلَيْهِ فَيَكُونُ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ؛ وَلِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْجُزْءِ الشَّائِعِ تَقْتَضِي ثُبُوتَ حُكْمِ الطَّلَاقِ فِيهِ، وَإِنَّهُ شَائِعٌ فِي جُمْلَةِ الْأَجْزَاءِ بِعُذْرِ الِاسْتِمْتَاعِ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ لِمَا فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ اسْتِمْتَاعٌ بِالْجُزْءِ الْحَرَامِ فَلَمْ يَكُنْ فِي إبْقَاءِ النِّكَاحِ فَائِدَةٌ فَيَزُولَ ضَرُورَةً. وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى الْجُزْءِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالْأُصْبُعِ وَنَحْوِهَا؛ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَقَعُ الطَّلَاقَ. وَقَالَ زُفَرُ: يَقَعُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْيَدَ جُزْءٌ مِنْ الْبَدَنِ فَيَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَيْهَا كَمَا لَوْ أَضَافَ إلَى الْجُزْءِ الشَّائِعِ مِنْهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْيَدَ جُزْءٌ مِنْ الْبَدَنِ أَنَّ الْبَدَنَ عِبَارَةٌ عَنْ جُمْلَةِ أَجْزَاءٍ مُرَكَّبَةٍ مِنْهَا الْيَدُ فَكَانَتْ الْيَدُ بَعْضَ الْجُمْلَةِ الْمُرَكَّبَةِ، وَالْإِضَافَةُ إلَى بَعْضِ الْبَدَنِ إضَافَةٌ إلَى الْكُلِّ كَمَا فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَطْلِيقِ النِّسَاءِ، وَالنِّسَاءُ جَمْعُ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا. وَالْأَمْرُ بِتَطْلِيقِ الْجُمْلَةِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ تَطْلِيقِ جُزْءٍ مِنْهَا لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِتَطْلِيقِ جُمْلَةِ الْبَدَنِ، وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ نَهْيٌ عَنْ تَرْكِهِ وَالْمَنْهِيُّ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا فَلَا يَصِحُّ شَرْعًا، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: يَدُكِ طَالِقٌ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى مَا لَيْسَ مَحَلَّ الطَّلَاقِ فَلَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى خِمَارِهَا، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى يَدِهَا، وَيَدُهَا لَيْسَتْ بِمَحِلٍّ لِلطَّلَاقِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَحِلٍّ لِلنِّكَاحِ حَتَّى لَا تَصِحَّ إضَافَةُ النِّكَاحِ إلَيْهَا فَلَا تَكُونُ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ رَفْعُ مَا يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَحِلًّا لِلْإِقَالَةِ؛ لِأَنَّهَا فَسْخُ مَا ثَبَتَ بِالْبَيْعِ كَذَا هَذَا، وَالثَّانِي أَنَّ مَحَلَّ الطَّلَاقِ مَحَلُّ حُكْمٍ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ، وَحُكْمُ الطَّلَاقِ زَوَالُ قَيْدِ النِّكَاحِ، وَقَيْدُ النِّكَاحِ ثَبَتَ فِي جُمْلَةِ الْبَدَنِ لَا فِي الْيَدِ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ أُضِيفَ إلَى جُمْلَةِ الْبَدَنِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْقَيْدُ الثَّابِتُ فِي جُمْلَةِ الْبَدَنِ فِي الْيَدِ وَحْدَهَا فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْيَدِ وَحْدَهَا إضَافَةً إلَى مَا لَيْسَ مَحِلَّ الطَّلَاقِ فَلَا يَصِحُّ. وَكَذَا يُقَالُ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الْبَدَنِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْجُزْءِ الشَّائِعِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ - وَهُوَ عَدَمُ الْفَائِدَةِ - فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ، أَوْ يُضَافُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ الْإِضَافَةِ إلَى الْجُزْءِ الشَّائِعِ كَمَنْ قَطَعَ حَبْلًا مَمْلُوكًا لَهُ تَعَلَّقَ بِهِ قِنْدِيلُ غَيْرِهِ وَهَهُنَا لَا ضَرُورَةَ لَمْ تَثْبُتْ الْحُرْمَةُ فِي الْجُزْءِ الْمُعَيَّن مَقْصُورًا عَلَيْهِ لِإِمْكَانِ الِانْتِفَاعِ بِبَاقِي الْبَدَنِ فَكَانَ بَقَاءُ النِّكَاحِ مُفِيدًا، لَكِنْ لَا قَائِلَ بِهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْيَدُ جُزْءٌ مِنْ الْبَدَنِ فَنَقُولُ: إنْ سَلِمَ ذَلِكَ لَكِنَّهُ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ فَلِمَ يَكُنْ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ بِخِلَافِ

الْجُزْءِ الشَّائِعِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْجُزْءَ إذَا كَانَ شَائِعًا فَمَا مِنْ جُزْءٍ يُشَارُ إلَيْهِ إلَّا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُضَافُ إلَيْهِ الطَّلَاقُ فَتَعَذَّرَ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْبَدَنِ فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ النِّكَاحِ فَائِدَةٌ بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ عَلَى مَا مَرَّ. وَمِنْهَا قَبُولُ الْعِوَضِ مِنْ الْمَرْأَةِ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْخُلْعِ وَفِي الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَائِلٌ آخَرُ سِوَاهَا، أَمَّا الْخُلْعُ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْخُلْعَ نَوْعَانِ: خُلْعٌ بِعِوَضٍ، وَخُلْعٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَمَّا الَّذِي هُوَ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَنَحْوُ أَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: خَالَعْتكِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْعِوَضَ فَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ عِنْدَنَا، وَلَوْ نَوَى ثَلَاثًا كَانَ ثَلَاثًا. وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - خِلَافًا لِزُفَرَ - بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا مَرَّ. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْرُونًا بِالْعِوَضِ لِمَا ذَكَرْنَا بِأَنْ قَالَ: خَالَعْتكِ عَلَى كَذَا وَذَكَرَ عِوَضًا. وَاسْمُ الْخُلْعِ يَقَعُ عَلَيْهِمَا إلَّا أَنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى النَّوْعِ الثَّانِي فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ فَيَكُونُ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً وَشَرْعِيَّةً حَتَّى لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ اخْلَعْ امْرَأَتِي فَخَلَعَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ لَمْ يَصْلُحْ. وَكَذَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَتْ ثُمَّ قَالَ الزَّوْجُ: لَمْ أَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْعِوَضِ دَلِيلُ إرَادَةِ الطَّلَاقِ ظَاهِرًا فَلَا يَصْدُقُ فِي الْعُدُولِ عَنْ الظَّاهِرِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا: خَالَعْتكِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْعِوَضَ ثُمَّ قَالَ: مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ أَنَّهُ يُصَدَّقُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلَالَةُ حَالٍ تَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ مِنْ غَضَبٍ أَوْ ذِكْرِ طَلَاقٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْكِنَايَاتِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ عِنْدَ عَدَمِ ذِكْرِ التَّعْوِيضِ يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ وَفِي غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ لِيَنْصَرِفَ إلَى الطَّلَاقِ بِخِلَافِ مَا إذَا ذُكِرَ الْعِوَضُ؛ لِأَنَّهُ مَعَ ذِكْرِ الْعِوَضِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْعُرْفِ وَالشَّرْعِ إلَّا لِلطَّلَاقِ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِي هَذَا النَّوْعِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ مَاهِيَّتِهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ صِحَّتِهِ،، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِ الْعِوَضِ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِ مَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ أَخْذُهُ مِنْهَا مِنْ الْعِوَضِ، وَمَا لَا يَحِلُّ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَاهِيَّةِ الْخُلْعِ قَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ طَلَاقٌ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ مِثْلِ قَوْلِنَا، وَفِي قَوْلٍ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، بَلْ هُوَ فَسْخٌ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّهُ إذَا خَالَعَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا تَعُودُ إلَيْهِ بِطَلَاقَيْنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ تَطْلِيقَتَيْنِ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ حُرْمَةً غَلِيظَةً عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا تُحَرَّمُ إلَّا بِثَلَاثٍ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] إلَى قَوْلِهِ {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] . ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الطَّلَاقَ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ ذَكَرَ الْخُلْعَ بِقَوْلِهِ {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ثُمَّ ذَكَرَ الطَّلَاقَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] فَلَوْ جَعَلَ الْخُلْعَ طَلَاقًا لَازْدَادَ عَدَدُ الطَّلَاقِ عَلَى الثَّلَاثِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ فِي النِّكَاحِ قَدْ تَكُونُ بِالطَّلَاقِ وَقَدْ تَكُونُ بِالْفَسْخِ كَالْفُرْقَةِ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَخِيَارِ الْعَتَاقَةِ وَالرِّدَّةِ وَإِبَاءِ الْإِسْلَامِ، وَلَفْظُ الْخُلْعِ دَلِيلُ الْفَسْخِ، وَفَسْخُ الْعَقْدِ رَفْعُهُ مِنْ الْأَصْلِ فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا كَمَا لَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَتْ، وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ فُرْقَةٌ بِعِوَضٍ حَصَلَتْ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ فَتَكُونُ طَلَاقًا. وَقَوْلُهُ: الْفُرْقَةُ فِي النِّكَاحِ قَدْ تَكُونُ مِنْ طَرِيقِ الْفَسْخِ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ ضَرُورَةً لَا مَقْصُودًا إذْ النِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ مَقْصُودًا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ ثَبَتَ مَعَ قِيَامِ الْمُنَافِي لِلْجَوَازِ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ فِي الْحُرَّةِ وَقِيَامُ مِلْكِ الْيَمِينِ فِي الْأَمَةِ عَلَى مَا عُرِفَ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْمُنَافِي وَأَلْحَقهُ بِالْعَدَمِ لِحَاجَةِ النَّاسِ، وَحَاجَتُهُمْ تَنْدَفِعُ بِالطَّلَاقِ بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ، وَانْفِسَاخُهُ ضَرُورَةٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْفَسْخِ مَقْصُودًا فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْمُنَافِي فِي حَقِّ الْفَسْخِ مَقْصُودًا، وَالِانْفِسَاخُ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَوَاضِعِ مَا ثَبَتَ مَقْصُودًا بَلْ ضَرُورَةً وَلَا كَلَامَ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ يَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ لَا عَلَى الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْخُلْعِ وَهُوَ النَّزْعُ، وَالنَّزْعُ إخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ الشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43] أَيْ أَخْرَجْنَا. وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَنَزَعَ يَدَهُ} [الأعراف: 108] أَيْ: أَخْرَجَهَا مِنْ جَيْبِهِ فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ: خَلَعَهَا أَيْ: أَخْرَجَهَا عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَهَذَا مَعْنَى الطَّلَاقِ الْبَائِنِ، وَفَسْخُ النِّكَاحِ رَفْعُهُ مِنْ الْأَصْلِ وَجَعْلُهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ رَأْسًا فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْإِخْرَاجِ، وَإِثْبَاتُ حُكْمِ اللَّفْظِ عَلَى وَجْهٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ لُغَةً أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْعِوَضِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ كَالْإِقَالَةِ فِي بَابِ الْبَيْعِ، وَالْخُلْعُ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ النِّكَاحُ وَعَلَى غَيْرِهِ جَائِزٌ فَلَمْ يَكُنْ فَسْخًا. وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْخُلْعِ يَرْجِعُ إلَى الطَّلَاقَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهُمَا بِغَيْرِ عِوَضٍ ثُمَّ ذَكَرَ بِعِوَضٍ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ

وَتَعَالَى الثَّالِثَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] فَلَمْ تَلْزَمْ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ، بَلْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا لِئَلَّا يَلْزَمَنَا الْقَوْلُ بِتَغْيِيرِ الْمَشْرُوعِ مَعَ مَا أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] أَيْ: ثَلَاثًا وَبَيَّنَ حُكْمَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فَلَا يَلْزَمُ مَنْ جَعَلَ الْخُلْعَ طَلَاقًا شَرْعُ الطَّلْقَةِ الرَّابِعَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ هَذَا النَّوْعِ فَنَقُولُ لَهُ كَيْفِيَّتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنَّهُ طَلَاقٌ بَائِنٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، وَإِنَّهَا بَوَائِنُ عِنْدَنَا؛ وَلِأَنَّهُ طَلَاقٌ بِعِوَضٍ، وَقَدْ مَلَكَ الزَّوْجُ الْعِوَضَ بِقَبُولِهَا فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَمْلِكَ هِيَ نَفْسهَا تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ، وَلَا تَمْلِكُ نَفْسَهَا إلَّا بِالْبَائِنِ فَيَكُونُ طَلَاقًا بَائِنًا؛ وَلِأَنَّهَا إنَّمَا بَذَلَتْ الْعِوَضَ لِتَخْلِيصِ نَفْسِهَا عَنْ حِبَالَةِ الزَّوْجِ وَلَا تَتَخَلَّصُ إلَّا بِالْبَائِنِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يُرَاجِعُهَا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَلَا تَتَخَلَّصُ وَيَذْهَبُ مَالُهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَكَانَ الْوَاقِعُ بَائِنًا. وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ يَمِينٌ وَتَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِشَرْطٍ وَهُوَ قَبُولُهَا الْعِوَضَ وَمِنْ جَانِبِهَا مُعَاوَضَةُ الْمَالِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِعِوَضٍ حَتَّى لَوْ ابْتَدَأَ الزَّوْجُ الْخُلْعَ فَقَالَ: خَالَعْتكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ لَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ الرُّجُوعَ عَنْهُ وَلَا فَسْخَهُ وَلَا نَهْيَ الْمَرْأَةِ عَنْ الْقَبُولِ، وَلَا يَبْطُلُ بِقِيَامِهِ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ قَبُولِهَا وَلَا بِشَرْطِ حُضُورِ الْمَرْأَةِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ غَائِبَةً فَبَلَغَهَا فَلَهَا الْقَبُولُ، لَكِنْ فِي مَجْلِسِهَا؛ لِأَنَّهُ فِي جَانِبِهَا مُعَاوَضَةً لِمَا نَذْكُرُ، وَلَهُ أَنْ يُعَلِّقَهُ بِشَرْطٍ وَيُضِيفَهُ إلَى وَقْتٍ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: إذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَقَدْ خَالَعْتكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ يَقُولُ: خَالَعْتكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا. وَالْقَبُولُ إلَيْهَا بَعْدَ قُدُومِ زَيْدٍ وَبَعْدَ مَجِيءِ الْوَقْتِ حَتَّى لَوْ قَبِلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الْوَقْتِ تَطْلِيقٌ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالْوَقْتِ، فَكَانَ قَبُولُهَا قَبْلَ ذَلِكَ هَدَرًا، وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ: خَالَعْتكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ وَيَصِحُّ الْخُلْعُ إذَا قَبِلَتْ، وَإِنْ كَانَ الِابْتِدَاءُ مِنْ الْمَرْأَةِ بِأَنْ قَالَتْ: اخْتَلَعْتُ نَفْسِي مِنْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ قَبْلَ قَبُولِ الزَّوْجِ وَيَبْطُلُ بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ وَبِقِيَامِهِ أَيْضًا، وَلَا يَقِفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ بِأَنْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا حَتَّى لَوْ بَلَغَهُ وَقَبِلَ لَمْ يَصِحَّ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِشَرْطٍ وَلَا يَنْضَافُ إلَى وَقْتٍ، وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لَهَا بِأَنْ قَالَ: خَالَعْتكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَقَبِلَتْ جَازَ الشَّرْطُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ حَتَّى إنَّهَا إذَا اخْتَارَتْ فِي الْمُدَّةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَوَجَبَ الْمَالُ، وَإِنْ رُدَّتْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ شَرْطُ الْخِيَارِ بَاطِلٌ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَالْمَالُ لَازِمٌ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَانِبَانِ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا النَّوْعِ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ عِنْدَنَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ، بَلْ هُوَ مِلْكُ الزَّوْجِ لَا مِلْكُ الْمَرْأَةِ، فَإِنَّمَا يَقَعُ بِقَوْلِ الزَّوْجِ وَهُوَ قَوْلُهُ: خَالَعْتكِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَطْلِيقًا إلَّا أَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ، وَالطَّلَاقُ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، وَالْإِضَافَةُ إلَى الْوَقْتِ لَا تَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ وَالْفَسْخَ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ وَيَقِفُ الْغَائِبُ عَنْ الْمَجْلِسِ وَلَا يَحْتَمِلُ شَرْطَ الْخِيَارِ، بَلْ يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَيَصِحُّ الطَّلَاقُ. وَأَمَّا فِي جَانِبِهَا فَإِنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِعِوَضٍ، وَهَذَا مَعْنَى مُعَاوَضَةِ الْمَالِ فَتُرَاعَى فِيهِ أَحْكَامُ مُعَاوَضَةِ الْمَالِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِهَا، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا يَقُولَانِ فِي مَسْأَلَةِ الْخِيَارِ: إنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا شُرِعَ لِلْفَسْخِ، وَالْخُلْعُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ عِنْدَنَا، وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ هَذَا أَنْ يُحْمَلَ الْخِيَارُ فِي مَنْعِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا فَلَمْ يَكُنِ الْعَقْدُ مُنْعَقِدًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ لِلْحَالِ، بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ فِي عِلْمِنَا إلَى وَقْتِ سُقُوطِ الْخِيَارِ فَحِينَئِذٍ يُعْلَمُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسَائِلِ الْبُيُوعِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَأَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الطَّلَاقِ بِعِوَضٍ فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ، وَلَا يُسْتَحَقُّ الْعِوَضُ بِدُونِ الْقَبُولِ بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: خَالَعْتكِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْعِوَضَ وَنَوَى الطَّلَاقَ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ قَبِلَتْ أَوْ لَمْ تَقْبَلْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ طَلَاقٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ وَحَضْرَةُ السُّلْطَانِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْخُلْعِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ فَيَجُوزُ عِنْدَ غَيْرِ السُّلْطَانِ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جَوَّزُوا الْخُلْعَ بِدُونِ السُّلْطَانِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ عِنْدَ غَيْرِ السُّلْطَانِ فَكَذَا الْخُلْعُ. ثُمَّ الْخُلْعُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي فِي اللُّغَةِ وَهَلْ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ الْأَمْرُ وَالِاسْتِفْهَامُ؟ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِلَفْظَةِ الْخُلْعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِلَفْظَةِ الْبَيْعِ. وَالشِّرَاءُ وَكُلُّ ذَلِكَ

لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ أَوْ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ فَإِنْ كَانَ بِلَفْظَةِ الْخُلْعِ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ يَتِمُّ. إذَا كَانَ الْبَدَلُ مَعْلُومًا مَذْكُورًا بِلَا خِلَافٍ بِأَنْ قَالَ لَهَا: اخْلَعِي نَفْسَك مِنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَقُولُ: خَلَعْتُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْبَدَلُ مَذْكُورًا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: اخْلَعِي نَفْسَك مِنِّي فَقَالَتْ: خَلَعْتُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَا يَتِمُّ الْخُلْعُ حَتَّى يَقُولَ الزَّوْجُ خَلَعْت، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْخُلْعِ بِبَدَلٍ مُتَقَوِّمٍ تَوْكِيلٌ لَهَا. وَالْوَاحِدُ يَتَوَلَّى الْخُلْعَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَإِنْ كَانَ هَذَا النَّوْعُ مُعَاوَضَةً - وَالْوَاحِدُ لَا يَتَوَلَّى عَقْدَ الْمُعَاوَضَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَالْبَيْعِ -؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِلتَّنَافِي فِي الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ وَلَا تَنَافِيَ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ فِي بَابِ الْخُلْعِ تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ؛ وَلِهَذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ وَكِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي بَابِ النِّكَاحِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى لَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْأَمْرِ بِالْخُلْعِ تَوْكِيلًا لِجَهَالَةِ الْبَدَلِ فَلَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ فَلَوْ تَمَّ الْعَقْدُ بِالْوَاحِدِ لَصَارَ الْوَاحِدُ مُسْتَزِيدًا وَمُسْتَنْقِصًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ بِأَنْ قَالَ الزَّوْجُ لَهَا: أَخَلَعْتِ نَفْسَك مِنَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؟ فَقَالَتْ: خَلَعْتُ، اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَتِمُّ الْعَقْدُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتِمُّ مَا لَمْ يَقْبَلْ الزَّوْجُ وَبَعْضُهُمْ فَصَّلَ فَقَالَ إنْ نَوَى بِهِ التَّحْقِيقَ يَتِمُّ وَإِنْ نَوَى بِهِ السَّوْمَ لَا يَتِمُّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَخَلَعْت نَفْسَك مِنِّي؟ يَحْتَمِلُ السَّوْمَ، بَلْ ظَاهِرُهُ السَّوْمُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَطُلِبَ مِنْكِ أَنْ تَخْلَعِي نَفْسَك مِنَى فَلَا يُصْرَفُ إلَى التَّحْقِيقِ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَإِذَا نَوَى يَصِيرُ بِمَعْنَى التَّوْكِيلِ وَالْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِأَنْ قَالَ الزَّوْجُ لَهَا: اشْتَرِي نَفْسَك مِنِّي؛ فَإِنْ ذَكَرَ بَدَلًا مَعْلُومًا بِأَنْ قَالَ: بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَالَتْ اشْتَرَيْتُ، اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَتِمُّ الْعَقْدُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتِمُّ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يَقُلْ الزَّوْجُ بِعْتُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ إذَا ذَكَرَ بَدَلًا مَعْلُومًا صَحَّ الْأَمْرُ وَالتَّوْكِيلُ وَالْوَاحِدُ يَصْلُحُ وَكِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي الْخُلْعِ لِمَا بَيَّنَّا. وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ: خويشتن أزمن نجر بهزاردم يابكابين وهر نيه وعدت لَهُ وَاجِب شودا ازبس طَلَاق فَقَالَتْ: خريدم فَهُوَ عَلَى هَذَا، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْبَدَلَ - بِأَنْ قَالَ لَهَا: اشْتَرِي نَفْسَك مِنِّي فَقَالَتْ اشْتَرَيْتُ - لَا يَتِمُّ الْخُلْعُ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يَقُلْ الزَّوْجُ بِعْتُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ: خويشتن ارمننجر فَقَالَتْ: خريدم وَلَمْ يَقُلْ الزَّوْجُ فروختم لَا يَتِمُّ الْخُلْعُ وَلَا تَطْلُقُ حَتَّى يَقُولَ الزَّوْجُ فروختم فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ لَهَا بِلَفْظَةِ الْخُلْعِ: اخْلَعِي نَفْسَك مِنَى وَنَوَى الطَّلَاقَ فَقَالَتْ: خَلَعْت أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَهَا اخْلَعِي مَعَ نِيَّةِ الطَّلَاقِ أَمْرٌ لَهَا بِالطَّلَاقِ بِلَفْظَةِ الْخُلْعِ وَإِنَّهَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ بِأَمْرِ الزَّوْجِ وَتَوْكِيلِهِ فَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ وَالْأَمْرُ فَيُتَوَلَّى الْخُلْعُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَقَوْلُهُ لَهَا: اشْتَرِي نَفْسَكِ خويشتن ازمننجر أَمْرٌ بِالْخُلْعِ بِعِوَضٍ، وَالْعِوَضُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَلَمْ يَصِحَّ الْأَمْرُ. وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: ابْتَعْتِ نَفْسَك مِنِّي؟ ، فَإِنْ ذَكَرَ بَدَلًا مَعْلُومًا بِأَنْ قَالَ: بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ قَالَ: بِمَهْرِك وَنَفَقَةِ عِدَّتِك فَقَالَتْ: ابْتَعْتُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَتِمُّ الْعَقْدُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتِمُّ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ يَقُلْ الزَّوْجُ بِعْتُ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ: يَتِمُّ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتِمُّ إلَّا إذَا أَرَادَ بِهِ التَّحْقِيقَ دُونَ الْمُسَاوَمَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي لَفْظِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ وَالْأَمْرِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا أَنَّهَا بِالْأَمْرِ صَارَتْ وَكِيلَةً إذْ الْأَمْرُ بِالْخُلْعِ تَوْكِيلٌ بِهِ - إذَا كَانَ الْبَدَلُ مُقَدَّرًا - وَالْوَاحِدُ يَصْلُحُ وَكِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي الْخُلْعِ وَلَمْ يُوجَدْ الْأَمْرُ هَهُنَا فَلَمْ يُوجَدْ التَّوْكِيلُ فَيَبْقَى الشَّخْصُ الْوَاحِدُ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ مُسْتَزِيدًا وَمُسْتَنْقِصًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْبَدَلَ بِأَنْ قَالَ لَهَا: ابْتَعْتِ نَفْسَكِ مِنِّي؟ فَقَالَتْ: ابْتَعْت لَا يَتِمُّ مَا لَمْ يَقُلْ الزَّوْجُ بِعْتُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ فِي الْأَمْرِ فَلَأَنْ لَا يَتِمَّ فِي الِاسْتِفْهَامِ أَوْلَى، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَبُولُ مِنْهَا أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ لِأَنَّهَا لَوْ قَبِلَتْ بِنَفْسِهَا يَلْزَمُهَا الْبَدَلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمْلِكَ بِمُقَابَلَتِهِ شَيْئًا بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى لِإِنْسَانٍ شَيْئًا، عَلَى أَنَّ الْبَدَلَ عَلَيْهِ إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْأَجْنَبِيَّ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ بِمُقَابَلَةِ الْبَدَلِ شَيْئًا وَالْأَجْنَبِيُّ لَا، فَلَا يَجُوزُ إيجَابُهُ عَلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ بِمُقَابَلَتِهِ شَيْئًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ إذَا قَالَ لِلزَّوْجِ اخْلَعْ امْرَأَتَكَ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَك أَلْفًا أَوْ قَالَ عَلَى أَلْفٍ هُوَ عَلَيَّ، أَوْ قَالَ عَلَى أَلْفِي هَذِهِ، أَوْ عَبْدِي هَذَا، أَوْ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفِ أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ فَفَعَلَ صَحَّ الْخُلْعُ وَاسْتَحَقَّ الْمَالَ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ وُقِفَ عَلَى قَبُولِ الْمَرْأَةِ. وَلَوْ خَلَعَ ابْنَتَهُ - وَهِيَ صَغِيرَةٌ - عَلَى مَا لِهَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُلْعُ رَأْسًا أَوْ لَا يَجِبُ الْبَدَلُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْبَدَلُ فَأَمَّا

الطَّلَاقُ فَوَاقِعٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ عَلَيْهَا وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْخِلَافِ ابْتِدَاءُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَقِيلَ فِي الْمَسْأَلَةِ: رِوَايَتَانِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْمَالُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ فِي جَانِبِهَا مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ وَالصَّغِيرَةُ تَتَضَرَّرُ بِهَا، وَتَصَرُّفُ الْإِضْرَارِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ كَالْهِبَةِ وَلَا الصَّدَقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ. وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ صِحَّةَ الْخُلْعِ لَا تَقِفُ عَلَى وُجُوبِ الْعِوَضِ فَإِنَّ الْخُلْعَ يَصِحُّ عَلَى مَا لَا يَصْلُحُ عِوَضًا كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ عَدَمِ وُجُوبِ الْمَالِ عَدَمُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ. وَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْخُلْعَ مَتَى وَقَعَ عَلَى بَدَلٍ - هُوَ مَالٌ - يَتَعَلَّقُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِقَبُولٍ يَجِبُ بِهِ الْمَالُ. وَقَبُولُ الْأَبِ لَا يَجِبُ بِهِ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْقَبُولِ عَلَى الصَّغِيرَةِ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا بِهَا فَإِنْ خَلَعَهَا الْأَبُ عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنَّهُ ضَامِنٌ فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ، وَالْأَلْفُ عَلَيْهِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْخُلْعِ فِي حَقِّ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَوُجُوبِ الْبَدَلِ قَبُولَ مَا يَصْلُحْ بَدَلًا مِمَّنْ هُوَ أَهْلُ الْقَبُولِ، وَالْمَرْأَةُ وَالْأَبُ وَالْأَجْنَبِيُّ فِي هَذَا سَوَاءٌ لِمَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِ الْعِوَضِ وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي عَقْدِ الْخُلْعِ لَهُ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا قَبُولُ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْعِوَضِ كَمَا هُوَ شَرْطُ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ مِنْ جَانِبِهِ فَهُوَ شَرْطُ لُزُومِ الْعِوَضِ مِنْ جَانِبِهَا لِمَا ذَكَرْنَا، سَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ الْمَذْكُورُ فِي الْخُلْعِ مِنْ مَهْرِهَا الَّذِي اسْتَحَقَّتْهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ الْمُسَمَّى وَمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ مَالًا آخَرَ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْجُعْلِ فَهَذَا الشَّرْطُ يَعُمُّ الْعِوَضَيْنِ جَمِيعًا، وَالثَّانِي يَخُصُّ الْجُعْلَ؛ لِأَنَّ مَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي النِّكَاحِ يَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى وَلَيْسَ كُلُّ مَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ يَصْلُحُ عِوَضًا فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ بَابَ الْخُلْعِ أَوْسَعُ إذْ هُوَ يَتَحَمَّلُ جَهَالَةً لَا يَتَحَمَّلُهَا النِّكَاحُ عَلَى مَا نَذْكُرُ، لِذَلِكَ اُخْتُصَّ وُجُوبُ الْمُسَمَّى فِيهِ بِشَرْطٍ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي النِّكَاحِ لِوُجُوبِ الْمُسَمَّى وَهُوَ تَسْمِيَةُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مَوْجُودٍ وَقْتَ الْخُلْعِ مَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ جَهَالَةً قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُتَفَاحِشَةً فَإِنْ وُجِدَ هَذَا الشَّرْطُ وَجَبَ الْعَمَلُ وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ. وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا رَدُّ مَا اسْتَحَقَّتْهُ مِنْ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرِ الْمِثْلِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمُسَمَّى مَالًا مُتَقَوِّمًا يَجِبُ وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا وَقْتَ الْخُلْعِ أَوْ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً كَجَهَالَةِ الْجِنْسِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُسَمَّى مَالًا مُتَقَوِّمًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا أَصْلًا وَتَقَعُ الْفُرْقَةُ. الْجُعْلُ فِي الْخُلْعِ: إنْ كَانَ مِمَّا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَهْرِ أَعْنِي أَنَّ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ إنْ كَانَ مِمَّا يُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى تَسْلِيمِ عَيْنِهِ إلَى الْمَرْأَةِ فَفِي الْخُلْعِ تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى تَسْلِيمِ عَيْنِهِ إلَى الزَّوْجِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُتَخَيَّرُ الزَّوْجُ بَيْنَ تَسْلِيمِ الْوَسَطِ مِنْهُ وَبَيْنَ تَسْلِيمِ قِيمَتِهِ فَفِي الْخُلْعِ تُتَخَيَّرُ الْمَرْأَةُ، كَالْعَبْدِ وَالْفَرَسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدَيْنِ جَمِيعًا عِوَضٌ عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ إلَّا أَنَّهُ فِي أَحَدِهِمَا عِوَضٌ عَنْهُ ثُبُوتًا وَفِي الْآخَرِ سُقُوطًا فَيَعْتَبِرُ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ بِالْآخَرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَالْقِيمَةُ فِيمَا يُوجَبُ الْوَسَطُ مِنْهُ أَصْلٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ وَسَطًا يُعْرَفُ بِهَا عَلَى مَا مَرَّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. وَبَيَانُ هَذِهِ الشَّرَائِطِ فِي مَسَائِلَ إذَا خَلَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ الْجُعْلِ، وَلَا يَرُدُّ مِنْ مَهْرِهَا شَيْئًا. أَمَّا وُقُوعُ الْفُرْقَةِ فَلِأَنَّ الْخُلْعَ بِعِوَضٍ مُعَلَّقٌ بِقَبُولِ الْمَرْأَةِ مَا جُعِلَ عِوَضًا ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسَمَّى مِمَّا يَصْلُحُ عِوَضًا أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِشَرْطِ الْقَبُولِ وَقَدْ قَبِلَتْ فَصَارَ كَأَنَّهُ صَرَّحَ بِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِقَبُولِهَا الْعِوَضَ الْمَذْكُورَ فَقَبِلَتْ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَقَعَ الطَّلَاقُ إذَا قَبِلَتْ كَذَا هَذَا. وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ شَيْءٍ لَهُ عَلَى الْمَرْأَةِ؛ فَلِأَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ، وَالطَّلَاقَ قَدْ يَكُونُ بِعِوَضٍ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالْمَيْتَةُ وَالدَّمُ لَيْسَتْ بِمَالِ فِي حَقِّ أَحَدٍ فَلَا تَصْلُحُ عِوَضًا، وَالْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ لَا قِيمَةَ لَهُمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَصْلُحَا عِوَضًا فِي حَقِّهِمْ فَلَمْ تَصِحَّ تَسْمِيَةُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا خَلَعَهَا عَلَيْهِ فَقَدْ رَضِيَ بِالْفُرْقَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ، وَلِأَنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ إسْقَاطُ الْمِلْكِ، وَإِسْقَاطُ الْمِلْكِ قَدْ يَكُونُ بِعِوَضٍ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْإِعْتَاقِ، فَإِذَا ذَكَرَ مَا لَا يَصْلُحُ عِوَضًا أَصْلًا أَوْ مَا لَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ رَضِيَ بِالْإِسْقَاطِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا شَيْئًا، وَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ عِنْدَ الْخُرُوجِ عَنْ مِلْكِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْأَصْلِ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ مُتَقَوِّمَةٍ إلَّا أَنَّهَا جُعِلَتْ مُتَقَوِّمَةً عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ فَعِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ تَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ؛ وَلِأَنَّهَا إنَّمَا

أَخَذَتْ حُكْمَ التَّقَوُّمِ فِي بَابِ النِّكَاحِ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ احْتِرَامًا لَهَا تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ لِكَوْنِهَا سَبَبًا لِحُصُولِهِ فَجُعِلَتْ مُتَقَوِّمَةً شَرْعًا صِيَانَةً لَهَا عَنْ الِابْتِذَالِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الصِّيَانَةِ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ لَا عِنْدَ الْخُرُوجِ عَنْ الْمُلْكِ؛ لِأَنَّ بِالْخُرُوجِ يَزُولُ الِابْتِذَالُ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّقَوُّمِ فَبَقِيَتْ عَلَى الْأَصْلِ، وَجُعِلَ الْفَرْقُ بِمَا ذَكَرْنَا بَيْنَ الْخُلْعِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَبَيْنَ النِّكَاحِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يُشْرَع إلَّا بِعِوَضٍ لِمَا ذَكَرْنَا فِي مَسَائِلِ النِّكَاحِ وَالْمَذْكُورُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا فَالْتَحَقَ ذَلِكَ بِالْعَدَمِ وَوَجَبَ الْعِوَضُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ. فَأَمَّا الْخُلْعُ فَالْعِوَضُ فِيهِ غَيْرُ لَازِمٍ، بَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّتِهِ لُزُومُ الْعِوَضِ. وَكَذَا النِّكَاحُ تَمْلِيكُ الْبُضْعِ بِعِوَضٍ، وَالْخُلْعُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ. وَكَذَا مَنَافِعُ الْبُضْعِ عِنْدَ الدُّخُولِ أُعْطِيَ لَهَا حُكْمُ التَّقَوُّمِ شَرْعًا لِكَوْنِهَا وَسِيلَةً إلَى حُصُولِ الْآدَمِيِّ الْمُكَرَّمِ، وَالْخُلْعُ إبْطَالُ مَعْنَى التَّوَسُّلِ فَلَا يَظْهَرُ مَعْنَى التَّقَوُّمِ فِيهِ. وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى شَيْءٍ - أَشَارَتْ إلَيْهِ - مَجْهُولٍ فَقَالَتْ: عَلَى مَا فِي بُطُونِ غَنَمِي أَوْ نَعَمِي مِنْ وَلَدٍ أَوْ عَلَى مَا فِي ضُرُوعِهَا مِنْ لَبَنٍ أَوْ عَلَى مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِي مِنْ وَلَدٍ أَوْ عَلَى مَا فِي نَخْلِي أَوْ شَجَرِي مِنْ ثَمَرٍ؛ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ شَيْءٌ فَهُوَ لَهُ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا شَيْءَ لَهُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجَنِينَ فِي الْبَطْنِ وَاللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ عِوَضًا فِي النِّكَاحِ وَكَذَا فِي الْخُلْعِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ. وَلَنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْخُلْعِ وَبَيْنَ النِّكَاحِ وَهُوَ أَنَّ بَابَ الْخُلْعِ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ النِّكَاحِ أَلَا تَرَى لَوْ خَلَعَهَا عَلَى عَبْدٍ لَهُ آبِقٍ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ؟ وَلَوْ زَوَّجَهَا عَلَيْهِ لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ فَتَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى مَا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مَوْجُودٌ كَمَا تَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى الْعَبْدِ الْآبِقِ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ ذَاكَ لَهُ خَطَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَهَذَا مَوْجُودٌ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْخُلْعِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ عَلَى الْعَبْدِ الْآبِقِ. وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِهِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ شَرْطٌ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ رَدَّتْ عَلَيْهِ مَا اسْتَحَقَّتْ بِعَقْدِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا سَمَّتْ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَقَدْ غَرَّتْهُ بِتَسْمِيَةِ الْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ فَصَارَتْ مُلْتَزِمَةً تَسْلِيمَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ ضَامِنَةً لَهُ ذَلِكَ، وَالزَّوْجُ لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ إلَّا بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَيْهِ لِعَدَمِهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الرُّجُوعِ إلَى الْقِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ لِجَهَالَتِهَا وَلَا إلَى قِيمَةِ الْبُضْعِ لِمَا أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْبُضْعِ عِنْدَ الْخُرُوجِ عَنْ الْمِلْكِ لِمَا ذَكَرْنَا؛ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى مَا قَوَّمَ الْبُضْعَ عَلَى الزَّوْجِ عِنْدَ الدُّخُولِ وَهُوَ مَا اسْتَحَقَّتْهُ الْمَرْأَةُ مِنْ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ: عَلَيَّ مَا فِي بَيْتِي مِنْ مَتَاعٍ إنَّهُ إنْ كَانَ هُنَاكَ مَتَاعٌ فَهُوَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالْمَهْرِ؛ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ بِتَسْمِيَةِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَيَلْزَمُهَا ضَمَانُ الْغُرُورِ - وَهُوَ رَدُّ الْمَهْرِ الْمُسْتَحَقِّ - لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَالَتْ: عَلَيَّ مَا فِي بَطْنِ غَنَمِي أَوْ ضُرُوعِهَا أَوْ عَلَيَّ مَا فِي نَخْلِي أَوْ شَجَرِي وَلَمْ تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ شَيْءٌ أَخَذَهُ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ وَقَعَتْ عَلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مَوْجُودٍ لَكِنَّهُ مَجْهُولٌ، لَكِنَّ الْجَهَالَةَ لَيْسَتْ بِمُتَفَاحِشَةٍ فَلَا تَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الشَّيْءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ لِانْعِدَامِ تَسْمِيَةِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ؛ لِأَنَّهَا ذَكَرَتْ مَا فِي بَطْنِهَا وَقَدْ يَكُونُ فِي بَطْنِهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَقَدْ لَا يَكُونُ فَلَمْ تَصِرْ بِذِكْرِهِ غَارَّةً لِزَوْجِهَا بَلْ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي غَرَّ نَفْسَهُ، وَالرُّجُوعُ بِحُكْمِ الْغُرُورِ وَلَا غُرُورَ مِنْهَا فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، وَإِنْ قَالَتْ: اخْتَلَعْتُ مِنْك عَلَى مَا تَلِدُ غَنَمِي أَوْ تَحْلُبُ أَوْ بِثَمَرِ نَخْلِي أَوْ شَجَرِي أَوْ عَلَى مَا أَرِثُهُ الْعَامَ أَوْ أَكْسِبُهُ أَوْ مَا أَسْتَغِلُّ مِنْ عَقَارِي، فَقَبِلَ الزَّوْجُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَعَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ مَا اسْتَحَقَّتْ مِنْ الْمَهْرِ وَإِنْ وَلَدَتْ الْغَنَمُ وَأَثْمَرَ النَّخْلُ وَالشَّجَرُ. أَمَّا وُقُوعُ الْفُرْقَةِ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ يَقِفُ عَلَى قَبُولِ مَا يَصْلُحُ عِوَضًا صَحَّتْ تَسْمِيَتُهُ عِوَضًا وَأَمَّا وُجُوبُ رَدِّ الْمُسْتَحَقِّ؛ فَلِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْمُسَمَّى؛ لِكَوْنِهِ مَعْدُومًا وَقْتَ الْخُلْعِ وَيَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُوجَدَ، وَاسْتِحْقَاقُ الْمَعْدُومِ الَّذِي لَهُ خَطَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ وَوَرَدَ بِتَحَمُّلِ الْجَهَالَةِ إذَا لَمْ يَخْتَلِفْ الْمَعْقُودُ فِي قَدْرِ مَا يَتَحَمَّلُ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي احْتِمَالِ السَّعَةِ وَالضِّيقِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إهْدَارِ التَّسْمِيَةِ رَأْسًا؛ لِأَنَّهَا سَمَّتْ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَلَزِمَ الرُّجُوعُ إلَى الْمَهْرِ الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَلَوْ قَالَتْ: اخْلَعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ فُلُوسٍ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ لَهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّهَا سَمَّتْ مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَالْمُسَمَّى مَوْجُودٌ فَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى مَجْهُولَ الْقِيمَةِ وَلَهُ مَا فِي يَدِهَا مِنْ الْجِنْسِ الْمَذْكُورِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ

بِاسْمِ الْجَمْعِ فَيَتَنَاوَلُ الثَّلَاثَ فَصَاعِدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ أَوْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَعَلَيْهَا مِنْ كُلِّ صِنْفٍ سَمَّتْهُ ثَلَاثَةٌ وَزْنًا فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَعَدَدًا فِي الْفُلُوسِ لِوُجُودِ تَسْمِيَةِ الْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَالْفُلُوسَ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ، وَالْمَذْكُورُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ. وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهَا وَيَتَعَيَّنُ الْمُسَمَّى كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِالدَّرَاهِمِ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَالْعِتْقِ فَإِنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى مَا فِي يَدِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَلَيْسَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ يَجِبُ عَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَلَيْسَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَ الْخُرُوجِ عَنْ الْمِلْكِ فَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُسَمَّى مَعْلُومًا، وَاعْتُبِرَ الْمُسَمَّى مَعَ جَهَالَتِهِ فِي نَفْسِهِ وَحُمِلَ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ مُتَقَوِّمَةٌ. وَكَذَا الْعَبْدُ مُتَقَوِّمٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى اعْتِبَارِ الْمُسَمَّى الْمَجْهُولِ، وَلَوْ قَالَتْ: عَلَى مَا فِي يَدِي، وَلَمْ تُزِدْ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهَا شَيْءٌ فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ وَقَعَتْ عَلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مَوْجُودٍ فَصَحَّتْ وَاسْتُحِقَّ عَلَيْهَا مَا فِي يَدِهَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَا عَامَّةٌ فِيمَا لَا يُعْلَمُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ فَلَمْ تُوجَدْ تَسْمِيَةُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ؛ لِأَنَّهَا سَمَّتْ مَا فِي يَدِهَا وَقَدْ يَكُونُ فِي يَدِهَا شَيْءٌ مُتَقَوِّمٌ وَقَدْ لَا يَكُونُ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ وُجُوبِ شَيْءٍ فَلَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ. وَلَوْ اخْتَلَعَتْ الْأَمَةُ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى جُعْلٍ بِغَيْرِ أَمْرِ مَوْلَاهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا مِنْ الْجُعْلِ حَتَّى تُعْتَقَ أَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ؛ فَلِأَنَّهُ يَقِفُ عَلَى قَبُولِ مَا جُعِلَ عِوَضًا وَقَدْ وُجِدَ. وَأَمَّا وُجُوبُ الْجُعْلِ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ فَلِأَنَّهَا سَمَّتْ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَوْجُودًا وَهُوَ مَعْلُومٌ أَيْضًا وَهِيَ مِنْ أَهْلِ التَّسْمِيَةِ فَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الْوُجُوبُ لِلْحَالِ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَيَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لَزِمَهَا الْجُعْلُ وَتُبَاعُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ظَهَرَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَتُبَاعُ فِيهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى جُعْلٍ؛ يَجُوزُ الْخُلْعُ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَيَتَأَخَّرُ الْجُعْلُ إلَى مَا بَعْدَ الْعَتَاقِ وَإِنْ أَذِنَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهَا لَا تَحْتَمِلُ الْبَيْعَ فَلَا تَحْتَمِلُ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِهَا. وَلَوْ خَلَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى رَضَاعِ ابْنِهِ مِنْهَا سَنَتَيْنِ جَازَ الْخُلْعُ وَعَلَيْهَا أَنْ تَرْضِعَهُ سَنَتَيْنِ فَإِنْ مَاتَ ابْنُهَا قَبْلَ أَنْ تُرْضِعَهُ شَيْئًا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِقِيمَةِ الرَّضَاعِ لِلْمُدَّةِ، وَإِنْ مَاتَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِقِيمَةِ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ مِمَّا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فَيَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ جُعَلًا فِي الْخُلْعِ، وَهَلَاكُ الْوَلَدِ قَبْلَ الرَّضَاعِ كَهَلَاكِ عِوَضٍ اخْتَلَعَتْ عَلَيْهِ فَهَلَكَ فِي يَدِهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَيَرْجِعُ إلَى قِيمَتِهِ، وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهَا نَفَقَةَ الْوَلَدِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ وَضَرَبَ لِذَلِكَ أَجَلًا أَرْبَعَ سِنِينَ أَوْ ثَلَاثَ سِنِينَ فَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَإِنْ هَلَكَ الْوَلَدُ قَبْلَ تَمَامِ الرَّضَاعِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَيْسَ لَهَا مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً فَلَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ وَلَكِنْ الطَّلَاقُ وَاقِعٌ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ اخْتَلَعَتْ فِي مَرَضِهَا فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهَا مُتَبَرِّعَةٌ فِي قَبُولِ الْبَدَلِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنْ مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ مِيرَاثِهِ مِنْهَا. وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى حُكْمِهِ أَوْ حُكْمِهَا أَوْ حُكْمِ أَجْنَبِيٍّ فَعَلَيْهَا الْمَهْرُ الَّذِي اسْتَحَقَّتْهُ بَعْدَ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ عَلَى الْحُكْمِ خُلْعٌ بِتَسْمِيَةٍ فَاسِدَةٍ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ وَالْخَطَرِ أَيْضًا فَلَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ فَلَا تَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ عَلَى الْحُكْمِ خُلْعٌ عَلَى مَا يَقَعُ بِهِ الْحُكْمُ وَلَا يَقَعُ إلَّا بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ عَادَةً، فَكَانَ الْخُلْعُ عَلَى الْحُكْمِ خُلْعًا عَلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَقَدْ غَرَّتْهُ بِتَسْمِيَةِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ إلَّا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِحْقَاقِ مَا يَقَعُ بِهِ الْحُكْمُ لِكَوْنِهِ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً كَجَهَالَةِ الْجِنْسِ فَتَرْجِعُ إلَى مَا اسْتَحَقَّتْهُ مِنْ الْمَهْرِ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْحُكْمُ إلَى الزَّوْجِ فَإِنْ حَكَمَ بِمِقْدَارِ الْمَهْرِ تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى تَسْلِيمِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِالْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ. وَكَذَلِكَ إنْ حَكَمَ بِأَقَلَّ مِنْ مِقْدَارِ الْمَهْرِ لِأَنَّهُ حَطَّ بَعْضَهُ فَهُوَ تَمَلَّكَ حَطَّ بَعْضِهِ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ حَطَّ الْكُلِّ فَالْبَعْضُ أَوْلَى، وَإِنْ حَكَمَ بِأَكْثَرَ مِنْ الْمَهْرِ لَمْ تَلْزَمْهَا الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ لِنَفْسِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِرِضَاهَا، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ إلَيْهَا فَإِنْ حَكَمَتْ بِقَدْرِ الْمَهْرِ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا حَكَمَتْ بِالْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ وَكَذَلِكَ إنْ حَكَمَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهَا حَكَمَتْ لِنَفْسِهَا بِالزِّيَادَةِ وَهِيَ تَمْلِكُ بَذْلَ الزِّيَادَةِ وَإِنْ حَكَمَتْ بِأَقَلَّ مِنْ الْمَهْرِ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِرِضَا الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا حَطَّتْ بَعْضَ مَا عَلَيْهَا وَهِيَ لَا تَمْلِكُ حَطَّ مَا عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ إلَى الْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ حَكَمَ بِقَدْرِ الْمَهْرِ جَازَ وَإِنْ حَكَمَ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ لَمْ تَجُزْ الزِّيَادَةُ إلَّا بِرِضَا الْمَرْأَةِ وَالنُّقْصَانُ إلَّا بِرِضَا الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ فِي الزِّيَادَةِ إبْطَالَ حَقِّ الْمَرْأَةِ وَفِي النُّقْصَانِ إبْطَالَ حَقِّ الزَّوْجِ فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَوْ

اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ أَوْ نَوْعِهِ أَوْ قَدْرِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ وَعَلَى الزَّوْجِ الْبَيِّنَةُ،؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْبَدَلِ إلَى الْمَرْأَةِ، وَالزَّوْجُ يَدَّعِي عَلَيْهَا شَيْئًا وَهِيَ تُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا. وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلَّقْتُكِ أَمْسِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ تَقْبَلِي، فَقَالَتْ: لَا بَلْ كُنْتُ قَبِلْتُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ لِإِنْسَانٍ: بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ أَمْسِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ تَقْبَلْ فَقَالَ: لَا، بَلْ قَبِلْتُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الزَّوْجَ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ لَمْ يَصِرْ مُنَاقِضًا فِي قَوْلِهِ فَلَمْ تَقْبَلِي؛ لِأَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ طَلَّقَتْك أَمْسِ عَلَى أَلْفٍ يُسَمَّى طَلَاقًا عَلَى أَلْفٍ قَبِلَتْهُ الْمَرْأَةُ أَوْ لَمْ تَقْبَلْ فَلَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ فِي قَوْلِهِ فَلَمْ تَقْبَلِي مُنَاقِضًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ بِدُونِ الْقَبُولِ لَا يُسَمَّى بَيْعًا فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْإِيجَابِ إقْرَارًا بِالْقَبُولِ فَصَارَ الْبَائِعُ مُنَاقِضًا فِي قَوْلِهِ فَلَمْ تَقْبَلْ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي بَابِ الطَّلَاقِ تَدَّعِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي وُجُودَ شَرْطِ الْوُقُوعِ، وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ الْوُقُوعَ لِإِنْكَارِهِ شَرْطَ الْوُقُوعِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ قَدْرِ مَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ مِنْ أَخْذِ الْعِوَضِ وَمَا لَا يَحِلُّ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ النُّشُوزَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ وَإِمَّا إنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ فَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ الْعِوَضِ عَلَى الْمُخْلِعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] نَهَى عَنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا آتَاهَا مِنْ الْمَهْرِ وَأَكَّدَ النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 20] ، وَقَوْلُهُ: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] أَيْ: لَا تُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] أَيْ: إلَّا أَنْ يَنْشُزْنَ؛ نَهَى الْأَزْوَاجَ عَنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَوْهُنَّ وَاسْتَثْنَى حَالَ نُشُوزِهِنَّ. وَحُكْمُ الْمُسْتَثْنَى يُخَالِفُ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَيَقْتَضِي حُرْمَةَ أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَوْهُنَّ عِنْدَ عَدَمِ النُّشُوزِ مِنْهُنَّ، وَهَذَا فِي حُكْمِ الدِّيَانَةِ، فَإِنْ أَخْذَ جَازَ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ وَلَزِمَ حَتَّى لَا يَمْلِكَ اسْتِرْدَادَهُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَسْقَطَ مِلْكَهُ عَنْهَا بِعِوَضٍ رَضِيَتْ بِهِ، وَالزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ. وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْمُعَاوَضَةِ وَالرِّضَا فَيَجُوزُ فِي الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا قَدْرَ الْمَهْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] أَيْ: إلَّا أَنْ يَنْشُزْنَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّهْيِ إبَاحَةٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَقَوْلُهُ {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ؛ قِيلَ أَيْ: لَا جُنَاحَ عَلَى الزَّوْجِ فِي الْأَخْذِ وَعَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْإِعْطَاءِ. وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَهْرِ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَرِهَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٍ. وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهَا غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ - وَهُوَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ - وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ، رَفَعَ الْجُنَاحَ عَنْهُمَا فِي الْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ مِنْ الْفِدَاءِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ مَهْرَ الْمِثْلِ أَوْ زِيَادَةً عَلَيْهِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِ النَّصِّ، وَلِأَنَّهَا أَعْطَتْ مَالَ نَفْسِهَا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ؛ لِأَنَّ النُّشُوزَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ كَانَتْ هِيَ مَجْبُورَةً فِي دَفْعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا مَعَ رَغْبَتِهَا فِي الزَّوْجِ لَا تُعْطِي إذَا كَانَتْ مُضْطَرَّةً مِنْ جِهَتِهِ بِأَسْبَابٍ أَوْ مُغْتَرَّةً بِأَنْوَاعٍ التَّغْرِيرِ وَالتَّزْوِيرِ فَكُرِهَ الْأَخْذُ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] إلَى قَوْلِهِ {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] نَهَى عَنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا مِنْ الْمَهْرِ وَاسْتَثْنَى الْقَدْرَ الَّذِي أَعْطَاهَا مِنْ الْمَهْرِ عِنْدَ خَوْفِهِمَا تَرْكَ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَالنَّهْيُ عَنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ نَهْيٌ عَنْ أَخْذِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَهْرِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى كَالنَّهْيِ عَنْ التَّأْفِيفِ أَنَّهُ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ الضَّرْبِ - الَّذِي هُوَ فَوْقَهُ - بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. وَرُوِيَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَ لِامْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ وَزِيَادَةً قَالَ: أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا» نَهَى عَنْ الزِّيَادَةِ مَعَ كَوْنِ النُّشُوزِ مِنْ قِبَلِهَا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ {فِيمَا افْتَدَتْ} [البقرة: 229] قَدْرُ الْمَهْرِ لَا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ عَامًّا عَرَفْنَا بِبَيَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي هُوَ وَحْيٌ غَيْرُ مَتْلُوٍّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: فِي صَدْرِ الْآيَةِ {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229] ذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ مَا آتَاهَا فَكَانَ الْمَذْكُورُ فِي آخِرِهَا - وَهُوَ قَوْلُهُ: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]- مَرْدُودًا إلَى أَوَّلِهَا فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ {فِيمَا افْتَدَتْ} [البقرة: 229] أَيْ: بِمَا آتَاهَا

فصل في حكم الخلع

وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ: إنَّهُ يَحِلُّ لَهُ قَدْرُ مَا آتَاهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنَّهَا أَعْطَتْهُ مَالَ نَفْسِهَا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهَا فَنَعَمْ لَكِنَّ ذَاكَ دَلِيلُ الْجَوَازِ، وَبِهِ نَقُولُ: إنَّ الزِّيَادَةَ جَائِزَةٌ فِي الْحُكْمِ، وَالْقَضَاءِ، وَلِأَنَّ الْخُلْعَ - مِنْ جَانِبِهَا - مُعَاوَضَةُ حَالَةٍ عَنْ الطَّلَاقِ، وَإِسْقَاطُ مَا عَلَيْهَا مِنْ الْمِلْكِ، وَدَفْعُ الْمَالِ عِوَضًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ جَائِزٌ فِي الْحُكْمِ إذَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُرْغَبُ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَازَ الْعِتْقُ عَلَى قَلِيلِ الْمَالِ، وَكَثِيرِهِ، وَأَخْذُ الْمَالِ بَدَلًا عَنْ إسْقَاطِ الْمِلْكِ، وَالرِّقِّ، وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ لِمَا جَازَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَهُوَ بَدَلُ الْبُضْعِ فَكَذَا جَازَ أَنْ تَضْمَنَهُ الْمَرْأَةُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ سَلَامَةِ الْبُضْعِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، إلَّا أَنَّهُ نَهَى عَنْ الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الْمَهْرِ لَا لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْعَقْدِ بَلْ الْمَعْنَى فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ شُبْهَةُ الرِّبَا، وَالْإِضْرَارِ بِهَا، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ فَحَلَّ لَهُ أَخْذُ قَدْرِ الْمَهْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْخُلْعِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْخُلْعِ فَنَقُولُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: يَتَعَلَّقُ بِالْخُلْعِ أَحْكَامٌ بَعْضُهَا يَعُمُّ كُلَّ طَلَاقٍ بَائِنٍ، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْخُلْعَ أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ كُلَّ طَلَاقٍ بَائِنٍ فَنَذْكُرُهُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ الْخُلْعَ؛ فَالْخُلْعُ لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ كَانَ بِغَيْرِ بَدَلٍ. وَأَمَّا إنْ كَانَ بِبَدَلٍ فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ بَدَلٍ بِأَنْ قَالَ: خَالَعْتكِ، وَنَوَى الطَّلَاقَ فَحُكْمُهُ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ، وَإِنْ كَانَ بِبَدَلٍ فَإِنْ كَانَ الْبَدَلُ هُوَ الْمَهْرُ بِأَنْ خَلَعَهَا عَلَى الْمَهْرِ فَحُكْمُهُ أَنَّ الْمَهْرَ إنْ كَانَ غَيْرَ مَقْبُوضٍ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْمَهْرُ عَنْ الزَّوْجِ، وَتَسْقُطُ عَنْهُ النَّفَقَةُ الْمَاضِيَةُ، وَإِنْ كَانَ مَقْبُوضًا فَعَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّهُ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ الْبَدَلُ مَالًا آخَرَ سِوَى الْمَهْرِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ سُقُوطِ كُلِّ حُكْمٍ، وَجَبَ بِالنِّكَاحِ قَبْلَ الْخُلْعِ مِنْ الْمَهْرِ، وَالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ، وَوُجُوبِ الْبَدَلِ حَتَّى لَوْ خَلَعَهَا عَلَى عَبْدٍ أَوْ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا آخَرَ فَلَهُ ذَلِكَ ثُمَّ إنْ كَانَ لَمْ يُعْطِهَا الْمَهْرَ بَرِئَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ سَوَاءٌ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا أَوْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، وَكَذَلِكَ إذَا بَارَأَهَا عَلَى عَبْدٍ أَوْ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَهُوَ مِثْلُ الْخُلْعِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْمُبَارَأَةِ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ فِي الْخُلْعِ إنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ إلَّا مَا سَمَّيَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَسْقُطُ فِي الْخُلْعِ وَالْمُبَارَأَةِ جَمِيعًا إلَّا مَا سَمَّيَا حَتَّى إنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ -، وَمَهْرُهَا أَلْفِ دِرْهَمٍ - فَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ غَيْرَ مَقْبُوضٍ فَإِنَّهَا لَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا أَوْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَهُ عَلَيْهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ، وَلَهُ عَلَيْهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَيَصِيرُ قَدْرُ الْمِائَةِ قِصَاصًا فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعِمِائَةٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِ بِكُلِّ الْمَهْرِ إلَّا قَدْرَ الْمِائَةِ فَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِتِسْعِمِائَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ مَقْبُوضًا فَلَهُ عَلَيْهَا الْمِائَةُ لَا غَيْرَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ بَعْدَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ يَرْجِعُ إلَى الزَّوْجِ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَهْرِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، وَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْمُبَارَأَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَهُنَا ثَلَاثَ مَسَائِلَ: الْخُلْعَ، وَالْمُبَارَأَةَ وَالْمُبَارَأَةَ وَالطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ الَّتِي وَجَبَتْ لَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ. وَأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الْخُلْعِ، وَالْمُبَارَأَةِ، وَاتَّفَقَ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ فِي الْمُبَارَأَةِ، وَاخْتَلَفَ جَوَابُهُمَا فِي الْخُلْعِ، وَاتَّفَقَ جَوَابُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فِي الْخُلْعِ، وَاخْتَلَفَ فِي الْمُبَارَأَةِ فَأَبُو يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُبَارَأَةِ، وَمَعَ مُحَمَّدٍ فِي الْخُلْعِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ بِعِوَضٍ فَأَشْبَهَ الطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حَقَّ الْإِنْسَانِ لَا يَسْقُطُ مِنْ غَيْرِ إسْقَاطِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إلَّا إسْقَاطُ مَا سَمَّيَا، فَلَا يَسْقُطُ مَا لَمْ تَجُزْ بِهِ التَّسْمِيَةُ، وَلِهَذَا لَمْ يَسْقُطْ بِهِ سَائِرُ الدُّيُونِ الَّتِي لَمْ تَجِبْ بِسَبَبِ النِّكَاحِ. وَكَذَا لَا تَسْقُطُ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ كَذَا هَذَا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخُلْعِ، وَالْمُبَارَأَةِ أَنَّ الْمُبَارَأَةَ صَرِيحٌ فِي إيجَابِ الْبَرَاءَةِ؛ لِأَنَّهَا إثْبَاتُ الْبَرَاءَةِ نَصًّا فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الْبَرَاءَةِ مُطْلَقًا فَيَظْهَرُ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ،. فَأَمَّا الْخُلْعُ فَلَيْسَ نَصًّا فِي إيجَابِ الْبَرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْبَرَاءَةِ، وَإِنَّمَا تُثْبِتُ الْبَرَاءَةُ مُقْتَضَاهُ، وَالثَّابِتُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ لَا يَكُونُ ثَابِتًا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَثَبَتَتْ الْبَرَاءَةُ بِقَدْرِ مَا وَقَعَتْ التَّسْمِيَةُ لَا غَيْرُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخُلْعَ فِي مَعْنَى الْمُبَارَأَةِ؛ لِأَنَّ الْمُبَارَأَةَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْبَرَاءَةِ

فصل في الطلاق على مال

وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ فَكَانَ إسْقَاطًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ الْحُقُوقَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْعَقْدِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ كَالْمُتَخَاصَمِينَ فِي الدُّيُونِ إذَا اصْطَلَحَا عَلَى مَالٍ سَقَطَ بِالصُّلْحِ جَمِيعُ مَا تَنَازَعَا كَذَا بِالْمُبَارَأَةِ،، وَالْخُلْعُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْخَلْعِ، وَهُوَ النَّزْعُ، وَالنَّزْعُ إخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ الشَّيْءِ فَمَعْنَى قَوْلِنَا خَلَعَهَا أَيْ: أَخْرَجَهَا مِنْ النِّكَاحِ وَذَلِكَ بِإِخْرَاجِهَا مِنْ سَائِرِ الْأَحْكَامِ بِالنِّكَاحِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِسُقُوطِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِالنِّكَاحِ، وَهُوَ مَعْنَى الْبَرَاءَةِ فَكَانَ الْخُلْعُ فِي مَعْنَى الْبَرَاءَةِ. ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ. وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدٍ إنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا إسْقَاطُ غَيْرِ الْمُسَمَّى فَنَقُولُ: إنْ لَمْ يُوجَدْ نَصًّا فَقَدْ وُجِدَ دَلَالَةً لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ قَصْدَهُمَا مِنْ الْخُلْعِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ، وَإِزَالَةُ الْخُلْفِ بَيْنَهُمَا، وَالْمُنَازَعَةُ، وَالْخُلْفُ إنَّمَا وَقَعَا فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ، وَلَا تَنْدَفِعُ الْمُنَازَعَةُ، وَالْخُلْفُ إلَّا بِإِسْقَاطِ حُقُوقِهِ فَكَانَ ذَلِكَ تَسْمِيَةً مِنْهَا لِسَائِرِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّكَاحِ دَلَالَةً بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالنِّكَاحِ، وَلَمْ تَقَعْ الْمُنَازَعَةُ فِيهَا، وَلَا فِي سَبَبِهَا، فَلَا يَنْصَرِفُ الْإِسْقَاطُ إلَيْهَا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى إسْقَاطِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ لَا نَصًّا، وَلَا دَلَالَةً. وَأَمَّا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ؛ فَلِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً قَبْلَ الْخُلْعِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ إسْقَاطُهَا بِالْخُلْعِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً قَبْلَ الْخُلْعِ بِفَرْضِ الْقَاضِي أَوْ بِالتَّرَاضِي فَكَانَ الْخُلْعُ إسْقَاطًا بَعْدَ الْوُجُوبِ فَصَحَّ. وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى نَفَقَةِ الْعِدَّةِ صَحَّ، وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ، وَلَوْ أَبْرَأَتْ الزَّوْجَ عَنْ النَّفَقَةِ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ، وَتَجِبُ النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ فِي النِّكَاحِ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الزَّمَانِ يَوْمًا فَيَوْمًا فَكَانَ الْإِبْرَاءُ عَنْهَا إبْرَاءً قَبْلَ الْوُجُوبِ فَلَمْ يَصِحَّ،. فَأَمَّا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ فَإِنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ الْخُلْعِ فَكَانَ الْخُلْعُ عَلَى النَّفَقَةِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِهَا، وَلَا يَصِحُّ الْخُلْعُ عَلَى السُّكْنَى، وَالْإِبْرَاءُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] ، فَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ إسْقَاطَهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ فَهُوَ فِي أَحْكَامِهِ كَالْخُلْعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ طَلَاقٌ بِعِوَضٍ فَيُعْتَبَرُ فِي أَحَدِهِمَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الْآخَرِ إلَّا أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّ الْعِوَضَ إذَا أُبْطِلَ فِي الْخُلْعِ بِأَنْ وَقَعَ الْخُلْعُ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ يَبْقَى الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَفِي الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ إذَا أُبْطِلَ الْعِوَضُ بِأَنْ سَمَّيَا مَا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَالطَّلَاقُ يَكُونُ رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ كِنَايَةٌ، وَالْكِنَايَاتُ مُبَيِّنَاتٌ عِنْدَنَا،. فَأَمَّا الطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ فَصَرِيحٌ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِتَسْمِيَةِ الْعِوَضِ إذَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ صَرِيحُ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ رَجْعِيًّا. وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَتْ طَلُقَتْ، وَعَلَيْهَا أَلْفٌ؛ لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ حَرْفُ إلْصَاقٍ فَيَقْتَضِي إلْصَاقَ الْبَدَلِ بِالْمُبْدَلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ عَلَى كَلِمَةُ شَرْطٍ يُقَالُ: زُرْتُك عَلَى أَنْ تَزُورَنِي أَيْ: بِشَرْطِ أَنْ تَزُورَنِي. وَكَذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تَدْخُلِي الدَّارَ كَانَ دُخُولُ الدَّارِ شَرْطًا كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، وَهِيَ كَلِمَةُ إلْزَامٍ أَيْضًا فَكَانَ هَذَا إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِشَرْطِ أَنْ تُعْطِيَهُ الْأَلْفَ عَقِيبَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَيَلْزَمُهَا الْأَلْفُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِقَبُولِهَا، وَتَجِبُ عَلَيْهَا الْأَلْفُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَعَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ طَلُقَتْ الْمَرْأَةُ الرَّجْعِيَّةُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا مِنْ الْأَلْفِ سَوَاءٌ قَبِلَتْ أَوْ لَمْ تَقْبَلْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ إذَا قَبِلَتْ طَلُقَتْ بَائِنَةً، وَعَلَيْهَا الْأَلْفُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي، وَلَك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَهَا أَنَّهُ يَقَعُ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَلَا يَلْزَمُهَا الْبَدَلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَعَلَيْهَا الْأَلْفُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ أَنَّهُ يَعْتِقُ سَوَاءٌ قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا إذَا قَبِلَ يُعْتَقُ، وَعَلَيْهِ الْأَلْفُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنْ هَذِهِ الْوَاوَ وَاوُ حَالٍ فَيَقْتَضِي أَنَّ وُجُوبَ الْأَلْفِ حَالَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ تُسْتَعْمَلُ فِي الْإِبْدَالِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِآخَرَ: احْمِلْ هَذَا الشَّيْءَ إلَى مَكَانِ كَذَا، وَلَك دِرْهَمٌ فَحَمَلَ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: احْمِلْ بِدِرْهَمٍ،، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْكَلَامَيْنِ كَلَامٌ تَامٌّ بِنَفْسِهِ أَعْنِي: قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ وَقَوْلَهُ: وَعَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرٌ، فَلَا يُجْعَلُ الثَّانِي مُتَّصِلًا بِالْأَوَّلِ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَالضَّرُورَةُ فِيمَا كَانَ الْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِعِوَضٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ احْمِلْ هَذَا إلَى بَيْتِي، وَلَكَ أَلْفٌ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ وُجُودُهُمَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَلَا يُجْعَلُ الثَّانِي مُتَّصِلًا بِالْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُمَا الْوَاوُ وَاوُ حَالٍ فَمَمْنُوعٌ بَلْ وَاوُ عَطْفٍ فِي الْإِخْبَارِ مَعْنَاهُ أُخْبِرُكِ

فصل في شرائط ركن الطلاق وبعضها يرجع إلى نفس الركن

أَنَّك طَالِقٌ، وَأُخْبِرُكِ أَنَّ عَلَيْكِ أَلْفُ دِرْهَمٍ. وَلَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا يَقَعُ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ بِأَلْفٍ، وَهَذَا مِمَّا لَا إشْكَالَ فِيهِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ يَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ بِثُلُثِ الْأَلْفِ، وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا يَقَعُ ثَلَاثَةٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ بِثُلُثِ الْأَلْفِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ كَلِمَةَ عَلَى فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَحَرْفَ الْبَاءِ سَوَاءٌ يُقَالُ بِعْت عَنْك بِأَلْفٍ، وَبِعْت مِنْك عَلَى أَلْفٍ، وَيُفْهَمُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَوْنُ الْأَلْفِ بَدَلًا. وَكَذَا قَوْلُ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ احْمِلْ هَذَا الشَّيْءَ إلَى بَيْتِي عَلَى دِرْهَمٍ وَقَوْلُهُ: بِدِرْهَمٍ سَوَاءٌ حَتَّى يُسْتَحَقُّ الْبَدَلُ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَالْأَصْلُ أَنَّ أَجْزَاءَ الْبَدَلِ تَنْقَسِمُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمُبْدَلِ إذَا كَانَ مُتَعَدِّدًا فِي نَفْسِهِ فَتَنْقَسِمُ الْأَلْفُ عَلَى الثَّلَاثِ فَيَقَعُ وَاحِدَةٌ بِثُلُثِ الْأَلْفِ كَمَا لَوْ ذُكِرَتْ بِحَرْفِ الْبَاءِ فَكَانَتْ بَائِنَةً؛ لِأَنَّهَا طَلَاقٌ بِعِوَضٍ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلِمَةَ عَلَى كَلِمَةُ شَرْطٍ فَكَانَ وُجُودُ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْأَلْفِ فَكَانَتْ الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ بَعْضَ الشَّرْطِ، وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِوُجُودِ بَعْضِ الشَّرْطِ فَلَمَّا لَمْ يُطَلِّقْهَا ثَلَاثًا لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْأَلْفِ بِخِلَافِ حَرْفِ الْبَاءِ فَإِنَّهُ حَرْفُ مُبَادَلَةٍ فَيَقْتَضِي انْقِسَامَ الْبَدَلِ عَلَى الْمُبْدَلِ فَتَنْقَسِمُ الْأَلْفُ عَلَى التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ فَكَانَ بِمُقَابِلَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ ثُلُثُ الْأَلْفِ، وَلَا يُشْكِلُ هَذَا الْقَدْرُ بِمَا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَرْضَ بِالْبَيْنُونَةِ إلَّا بِكُلِّ الْأَلْفِ، فَلَا يَجُوزُ وُقُوعُ الْبَيْنُونَةِ بِبَعْضِهَا، فَإِذَا أَمَرَتْهُ بِالطَّلَاقِ فَقَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَدْ سَأَلَتْ الزَّوْجَ أَنْ يُبِينَهَا بِأَلْفٍ وَقَدْ أَبَانَهَا بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ زَادَهَا خَيْرًا، وَالْإِشْكَالُ أَنَّهَا سَأَلَتْهُ الْإِبَانَةَ الْغَلِيظَةَ بِأَلْفٍ، وَلَمْ يَأْتِ بِهَا بَلْ أَتَى بِالْخَفِيفَةِ، وَلَعَلَّ لَهَا غَرَضًا فِي الْغَلِيظَةِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ غَرَضَهَا فِي اسْتِيفَاءِ مَا لِهَا مَعَ حُصُولِ الْبَيْنُونَةِ الَّتِي وَضَعَ لَهَا الطَّلَاقُ أَشَدُّ. (وَأَمَّا) قَوْلُهُمَا إنَّ كَلِمَةَ عَلَى تُسْتَعْمَلُ فِي الْإِبْدَالِ فَنَعَمْ لَكِنْ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً، وَلَا تُتْرَكُ الْحَقِيقَةُ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَفِي الْبَيْعِ، وَنَحْوِهِ ضَرُورَةٌ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الطَّلَاقِ عَلَى مَا بَيَّنَّا عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ الشَّرْطِ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ لِمَا بَيَّنَّا، وَاعْتِبَارُ الْبَدَلِ يُوجِبُ فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي الْوُجُوبِ، فَلَا يَجِبُ مَعَ الشَّكِّ وَلَوْ قَالَتْ امْرَأَتَانِ لَهُ طَلِّقْنَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَهُمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا عَلَيْهِمَا بِالْأَلْفِ، وَهَذَا لَا يُشْكِلُ، وَلَوْ طَلَّقَ إحْدَاهُمَا وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الْأَلْفِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ أَنَّهُ لَا غَرَضَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ فِي طَلَاقِ الْأُخْرَى فَلَمْ يُعْتَبَرْ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَلِلْمَرْأَةِ غَرَضٌ فِي اجْتِمَاعِ تَطْلِيقَاتِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْوَى لِلتَّحْرِيمِ لِثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ الْغَلِيظَةِ بِهَا فَاعْتُبِرَ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي وَاحِدَةً بِأَلْفٍ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٍ ثَلَاثًا وَقَعَ الثَّلَاثُ مَجَّانًا بِغَيْرِ شَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ؛ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِأَلْفٍ، وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الثَّلَاثَ لَا تَصْلُحُ جَوَابًا لِلْوَاحِدَةِ فَإِذَا قَالَ ثَلَاثًا فَقَدْ عَدَلَ عَمَّا سَأَلَتْهُ فَصَارَ مُبْتَدِئًا بِالطَّلَاقِ فَتَقَعُ الثَّلَاثُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ فِي الثَّلَاثِ مَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ تُوجَدُ فِي الثَّلَاثِ فَقَدْ أَتَى بِمَا سَأَلَتْهُ، وَزِيَادَةٍ فَيَلْزَمُهَا الْأَلْفُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَوَاحِدَةً، وَوَاحِدَةً، وَلَوْ طَلِّقْنِي وَاحِدَةً بِأَلْفٍ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وُقِفَ عَلَى قَبُولِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ قَبِلَتْ جَازَ، وَإِلَّا بَطَلَ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ عَمَّا سَأَلَتْهُ فَصَارَ مُبْتَدِئًا طَلَاقًا بِعِوَضٍ فَيَقِفُ عَلَى قَبُولِهَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ يَقَعُ الثَّلَاثُ، وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِأَلْفٍ كَمَا سَأَلَتْ، وَاثْنَتَانِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَحَكَى الْجَصَّاصُ عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ قَالَ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي أَنَّ الثَّلَاثَ يَقَعُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِثُلُثِ الْأَلْفِ، وَالِاثْنَتَانِ تَقِفَانِ عَلَى قَبُولِ الْمَرْأَةِ قَالَ الْقُدُورِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى أَصْلِهِمَا؛ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ فِي مُقَابَلَةِ الْوَاحِدَةِ أَلْفًا فَإِذَا أَوْقَعَهَا بِثُلُثِ الْأَلْفِ فَقَدْ زَادَهَا خَيْرًا، وَابْتَدَأَ تَطْلِيقَتَيْنِ بِثُلُثَيْ الْأَلْفِ فَوَقَفَ ذَلِكَ عَلَى قَبُولِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ رُكْنِ الطَّلَاقِ وبعضها يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ فَمِنْهَا أَنْ لَا يَلْحَقَهُ اسْتِثْنَاءٌ أَصْلًا، وَرَأْسًا سَوَاءٌ كَانَ وَضْعِيًّا أَوْ عُرْفِيًّا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ الِاسْتِثْنَاءُ الْعُرْفِيُّ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَفِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ كُلِّ نَوْعٍ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي

الْأَصْلِ نَوْعَانِ: اسْتِثْنَاءٌ وَضْعِيٌّ، وَاسْتِثْنَاءٌ عُرْفِيٌّ أَمَّا الْوَضْعِيُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظٍ مَوْضُوعٍ لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ كَلِمَةُ إلَّا، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا نَحْوُ سِوَى، وَغَيْرَ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْعُرْفِيُّ فَهُوَ تَعْلِيقٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ فِي الْوَضْعِ لِانْعِدَامِ كَلِمَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بَلْ الْمَوْجُودُ كَلِمَةُ الشَّرْطِ إلَّا أَنَّهُمْ تَعَارَفُوا إطْلَاقَ اسْمِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 18] أَيْ: لَا يَقُولُونَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ مُنَاسَبَةٌ فِي مَعْنَى ظَاهِرِ لَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ الْمَنْعُ، وَالصَّرْفُ دُونَ الْحَقِيقَةِ فَأُطْلِقَ اسْمُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالَ الِاسْتِثْنَاءُ نَوْعَانِ اسْتِثْنَاءُ تَحْصِيلٍ، وَاسْتِثْنَاءُ تَعْطِيلٍ فَسُمِّيَ الْأَوَّلُ اسْتِثْنَاءَ تَحْصِيلٍ؛ لِأَنَّهُ تَكَلُّمٌ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثُّنْيَا، وَالثَّانِي تَعْطِيلًا لِمَا أَنَّهُ يَتَعَطَّلُ الْكَلَامُ بِهِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ كُلِّ نَوْعٍ أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ هِيَ الْمُخْتَارَةُ دُونَ قَوْلِهِمْ اسْتِخْرَاجُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُسْتَثْنَى إمَّا أَنْ يَدْخُلَ بَعْدَ نَصِّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَدْخُلَ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِخْرَاجُ، وَإِنْ دَخَلَ يَتَنَاقَضُ الْكَلَامُ؛ لِأَنَّ نَصَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يُثْبِتُ، وَنَصُّ الِاسْتِثْنَاءِ يَنْفِي، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ مُثْبَتًا، وَمَنْفِيًّا، وَلِهَذَا فُهِمَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] مَا ذَكَرْنَا حَتَّى يَصِيرَ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ: فَلَبِثَ فِيهِمْ تِسْعَمِائَةٍ، وَخَمْسِينَ عَامًا لَا مَعْنَى الْإِخْرَاجِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الْخُلْفِ فِي خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى. (وَأَمَّا) النَّوْعُ الثَّانِي فَهُوَ تَعْلِيقٌ بِالشَّرْطِ إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ إذَا كَانَ مِمَّا يُتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَيُعْلَمُ وُجُودُهُ يَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ عِنْدَ وُجُودِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ لَا يَنْزِلُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّعْلِيقِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) شَرْطُ صِحَّتِهِ فَلِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ شَرَائِطُ: بَعْضُهَا يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ أَحَدَهُمَا أَمَّا الَّذِي يَعُمُّهُمَا جَمِيعًا فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مَوْصُولًا بِمَا قَبْلَهُ مِنْ الْكَلَامِ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ حَتَّى لَوْ حَصَلَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِسُكُوتٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لَا يَصِحُّ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ إلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَصِحُّ مُتَّصِلًا، وَمُنْفَصِلًا وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ثُمَّ قَالَ بَعْدَ سَنَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» ، وَلَوْ لَمْ يَصِحَّ لَمَا قَالَ. وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاء فِي مَعْنَى التَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيَانٌ ثُمَّ التَّخْصِيصُ يَصِحُّ مُقَارِنًا، وَمُتَرَاخِيًا فَكَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، وَمُنْفَصِلًا، وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ كَلَامٍ تَامٍّ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ مُبْتَدَأً، وَخَبَرًا أَنْ لَا يَقِفَ حُكْمُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْوَقْفُ عِنْدَ الْوَصْلِ لِضَرُورَةٍ، وَهِيَ ضَرُورَةُ اسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالْمَوْصُولِ، فَلَا يَقِفُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْلِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقِفْ عَلَى الشَّرْطِ الْمُنْقَطِعِ فَكَذَا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ؛ وَلِأَنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ الْوُصُولِ لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ لُغَةً؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ، وَمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ لَا يَعُدُّونَهُ اسْتِثْنَاءً بَلْ يَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا تَكَادُ تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ إمَامًا فِي اللُّغَةِ كَمَا كَانَ إمَامًا فِي الشَّرِيعَةِ. وَأَمَّا التَّخْصِيصُ الْمُتَرَاخِي فَعِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لَيْسَ بِبَيَانٍ بَلْ هُوَ فَسْخٌ، فَلَا يَلْزَمُ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ بَيَانٌ لَكِنَّ إلْحَاقَ الْبَيَانِ بِالْمُجْمَلِ، وَالْعَامِّ الَّذِي يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ مُتَرَاخِيًا مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّهُ كَثِيرُ النَّظِيرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ تِلْكَ الْمَقَالَةِ بِسَنَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ تَصْحِيحَ الِاسْتِثْنَاءِ فَيُحْمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ اسْتِدْرَاكَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24] أَيْ: إلَّا أَنْ تَقُولَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَنَسِيَ ذَلِكَ فَتَذَكَّرَهُ بَعْدَ سَنَةٍ فَأُمِرَ بِاسْتِدْرَاكِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ أَمْرًا، وَأَرَادَ فِي قَلْبِهِ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ فَأَظْهَرَ الِاسْتِثْنَاءَ بِلِسَانِهِ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمِثْلُ هَذَا مُعْتَادٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَ الْفَصْلُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ،. فَأَمَّا إذَا كَانَ لِضَرُورَةِ التَّنَفُّسِ، فَلَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ فَصْلًا إلَّا أَنْ يَكُونَ سَكْتَةً هَكَذَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْفَصْلِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَلَا يُعْتَبَرُ فَصْلًا، وَيُعْطَى لَهُ حُكْمُ الْوَصْلِ لِلضَّرُورَةِ. وَأَمَّا كَوْنُ الِاسْتِثْنَاءِ مَسْمُوعًا فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ؟ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ حَرَّكَ لِسَانَهُ، وَأَتَى بِحُرُوفِ الِاسْتِثْنَاءِ يَصِحُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا. وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ شَرْطٌ، وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ بِدُونِهِ وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْكَلَامَ هُوَ الْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ

وَقَدْ وُجِدَتْ. فَأَمَّا السَّمَاعُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِكَوْنِهِ كَلَامًا فَإِنَّ الْأَصَمَّ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْمَعُ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ؛ لِأَنَّ الْحُرُوفَ الْمَنْظُومَةَ، وَإِنْ كَانَتْ كَلَامًا - عِنْدَ الْكَرْخِيِّ، وَعِنْدَنَا - هِيَ دَلَالَةٌ عَلَى الْكَلَامِ، وَعِبَارَةٌ عَنْهُ لَا نَفْسِ الْكَلَامِ فِي الْغَائِبِ، وَالشَّاهِدِ جَمِيعًا فَلَمْ تُوجَدْ الْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْحُرُوفَ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الصَّوْتِ فَالْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْأَصْوَاتِ الْمُتَقَطِّعَةِ بِتَقْطِيعٍ خَاصٍّ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الصَّوْتُ لَمْ تُوجَدْ الْحُرُوفُ فَلَمْ يُوجَدْ الْكَلَامُ عِنْدَهُ، وَلَا دَلَالَةُ الْكَلَامِ عِنْدَنَا فَلَمْ يَكُنْ اسْتِثْنَاءً، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الْوَضْعِيُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى بَعْضَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَا كُلَّهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، وَلَا يَكُونُ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى بَعْضَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَا كُلَّهُ،؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَجْرِي مَجْرَى التَّخْصِيصِ، وَالتَّخْصِيصُ يَرِدُ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْعُمُومِ لَا عَلَى الْكُلِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ نَسْخًا لَا تَخْصِيصًا. وَكَذَا الِاسْتِثْنَاءُ نَسْخُ الْحُكْمِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَالطَّلَاقُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ فَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ إنَّمَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ، وَالطَّلَاقُ مِمَّا لَا يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ. وَكَذَا الْعَتَاقُ. وَكَذَا الْإِعْتَاقُ. وَكَذَا الْإِقْرَارُ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَصَحَّ فِيمَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ - وَهُوَ الْوَصِيَّةُ - وَمَعَ هَذَا لَا يَصِحُّ حَتَّى لَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِثُلُثِ مَالِي إلَّا ثُلُثَ مَالِي لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ فَدَلَّ أَنَّ عَدَمَ الصِّحَّةِ لَيْسَ لِمَكَانِ الرُّجُوعِ بَلْ لِمَا قُلْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ. ، وَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْبَعْضِ مِنْ الْكُلِّ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَثْنَى أَقَلَّ مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَامَّةِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ مِنْ الْأَقَلِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ بَابِ اللُّغَةِ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِاسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ مِنْ الْأَقَلِّ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وُضِعَ فِي الْأَصْلِ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ، وَالْغَلَطُ يَجْرِي فِي الْأَقَلِّ لَا فِي الْأَكْثَرِ، وَلَنَا أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْأَقَلِّ، وَالْأَكْثَرِ إلَّا أَنَّهُ قَلَّ اسْتِعْمَالُهُمْ الِاسْتِثْنَاءَ فِي مِثْلِهِ لِقِلَّةِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهِ لِقِلَّةِ وُقُوعِ الْغَلَطِ فِيهِ. وَهَذَا لَا يَكُونُ مِنْهُمْ إخْرَاجًا لِلَّفْظِ مِنْ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً كَمَنْ أَكَلَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ لَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ أَكَلَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَإِنْ كَانَ يَقِلُّ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، لَكِنْ قِلَّةُ اسْتِعْمَالِهَا لِقِلَّةِ وُجُودِ الْأَكْلِ لَا لِانْعِدَامِ مَعْنَى اللَّفْظِ حَقِيقَةً كَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ مَسَائِلُ هَذَا النَّوْعِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً يَقَعُ ثِنْتَانِ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ لِكَوْنِهِ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، وَالْبَاقِي بَعْدَ اسْتِثْنَاءِ الْوَاحِدَةِ مِنْ الثَّلَاثِ ثِنْتَانِ إلَّا أَنَّ لِلثِّنْتَيْنِ اسْمَيْنِ: أَحَدَهُمَا ثِنْتَانِ، وَالْآخَرُ ثَلَاثٌ إلَّا وَاحِدَةً، وَلَوْ قَالَ: إلَّا اثْنَتَيْنِ يَقَعُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ مِنْ الْأَقَلِّ اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ قَالَ: إلَّا ثَلَاثًا وَقَعَ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَقَعَ الثَّلَاثُ، وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ جَازَ اسْتِثْنَاءُ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةِ، وَبَطَلَ اسْتِثْنَاءُ الثَّالِثَةِ، وَتَلْزَمُهُ وَاحِدَةٌ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةِ اسْتِثْنَاءُ الْبَعْضِ مِنْ الْكُلِّ فَصَحَّ إلَّا أَنَّهُ لَوْ سَكَتَ عَلَيْهِ لَجَازَ،. فَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الثَّالِثَةِ فَاسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ فَلَمْ يَصِحَّ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَيَقَعُ وَاحِدَةٌ،، وَلِأَبِي حَنِيفَةً، وَمُحَمَّدٍ أَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ يَقِفُ عَلَى آخِرِهِ فَكَانَ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ، فَلَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ إلَّا وَاحِدَةً، وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْكُلِّ بِحَرْفِ الْجَمْعِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إلَّا ثَلَاثًا. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إلَّا ثَلَاثًا يَقَعُ الثَّلَاثُ، وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا كَانَ مَوْصُولًا يَقِفُ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إلَى الْكُلِّ فَبَطَلَ؛ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ جُمْلَتَيْنِ وَجَمَعَ بَيْنَ كُلِّ جُمْلَةٍ بِحَرْفِ الْجَمْعِ فَكَانَ اسْتِثْنَاءَ الْجُمْلَةِ مِنْ الْجُمْلَةِ، فَلَا يَصِحُّ، وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ إلَّا اثْنَتَيْنِ يَقَعُ ثِنْتَانِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ زُفَرُ يَقَعُ ثَلَاثٌ كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ أَيْضًا، وَلَا يَنْصَرِفُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَمَتَى انْصَرَفَ إلَى مَا يَلِيهِ؛ كَانَ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ، فَلَا يَصِحُّ، وَلَهُمَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُصَحِّحُ مَا أَمْكَنَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مِمَّا يَلِيهِ لَبَطَلَ، وَلَوْ صُرِفَ إلَى الْجُمْلَتَيْنِ يَصِحُّ

؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَثْنِيًا مِنْ كُلِّ ثِنْتَيْنِ وَاحِدَةً فَبَقِيَ مِنْ كُلِّ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٌ. وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ وَاثْنَتَيْنِ إلَّا ثَلَاثًا إنَّهُ يَقَعُ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الِاسْتِثْنَاءِ هَهُنَا؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجُمْلَتَيْنِ وَقَفَ عَلَى آخِرِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَثْنِيًا مِنْ كُلِّ جُمْلَةٍ تَطْلِيقَةً، وَنِصْفًا، وَهَذَا اسْتِثْنَاءُ جَمِيعِ الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ وَاحِدَةٍ، وَنِصْفٍ اسْتِثْنَاءُ ثِنْتَيْنِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْبَعْضِ فِيمَا لَا يَتَبَعَّضُ ذِكْرٌ لِكُلِّهِ فَكَانَ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ، وَزِيَادَةً، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُصْرَفَ اثْنَتَانِ مِنْ الثَّلَاثِ أَوْ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ إلَى جُمْلَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ هَذَا خِلَافُ تَصَرُّفِهِ، وَإِنْشَاءُ تَصَرُّفٍ آخَرَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فَتَعَذَّرَ تَصْحِيحُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَبَطَلَ، وَالْإِشْكَالُ عَلَى الْقَسَمِ الْأَوَّلِ أَنَّ ذِكْرَ الْبَعْضِ فِيمَا لَا يَتَبَعَّضُ لَا يَكُونُ ذِكْرًا لِلْكُلِّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بَلْ هُوَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً، وَنِصْفًا يَقَعُ عَلَيْهَا ثِنْتَانِ، وَلَوْ كَانَ ذِكْرُ بَعْضِ الطَّلَاقِ ذِكْرًا لِكُلِّهِ فِي الِاسْتِثْنَاءَ لَوَقَعَ عَلَيْهَا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ، وَكَانَ الْفِقْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا فَيُنْظَرُ إلَى الْبَاقِي، وَالْبَاقِي هَهُنَا تَطْلِيقَةٌ، وَنِصْفٌ، وَنِصْفُ تَطْلِيقَةٍ تَطْلِيقَةٌ كَامِلَةٌ فَيَقَعُ ثِنْتَانِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ، وَإِذَا لَمْ يَصِرْ ذِكْرُ الْبَعْضِ ذِكْرًا لِلْكُلِّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ يَصِرْ مُسْتَثْنِيًا مِنْ كُلِّ جُمْلَةٍ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، وَتَلْغُو وَاحِدَةٌ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ إلْغَاءِ الْكُلِّ فَيَجِبُ أَنْ يَقَعَ ثِنْتَانِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى عِنْدَهُمَا، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إشْكَالٌ عَلَى مَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ. وَرَوَى هِشَامٌ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعًا إلَّا خَمْسًا أَنَّهَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالصَّرْفِ إلَى الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى الشُّيُوعِ، وَلَا بِالصَّرْفِ إلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَلَا يُصْرَفُ الْبَعْضُ عَيْنًا إلَى جُمْلَةٍ، وَالْبَعْضُ إلَى جُمْلَةٍ أُخْرَى لِمَا قُلْنَا، وَالْإِشْكَالُ عَلَى الْقَسَمِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَقَالَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَاثْنَتَيْنِ إلَّا اثْنَتَيْنِ أَنَّهُ ثَلَاثٌ -، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ -، وَالْوَجْهُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا، وَالْإِشْكَالُ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا، هَذَا إذَا كَانَ لَفْظُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. كَانَ شَيْئًا خِلَافَ جِنْسِهِ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَا تَطْلُقُ، وَإِنْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ الْمُسَمَّى نَحْوُ أَنْ يَقُولَ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ لَهُ نِسَاءٌ غَيْرُهُنَّ فَإِنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَا تُطْلَقُ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُعْتَبَرُ فِيهِ اللَّفْظُ، وَالْإِشَارَةُ مَعَ التَّسْمِيَةِ مُخْتَلِفَانِ لَفْظًا فَصَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا نِسَائِي؛ وَلِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ يَكُونُ مَعْنَاهُ نِسَائِي غَيْرَ هَؤُلَاءِ طَوَالِقُ، وَهَذَا إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى غَيْرِ هَؤُلَاءِ،. وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ الْأَرْبَعُ مَا دُونَ هَؤُلَاءِ، فَإِذَا كُنَّ أَرْبَعًا لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَطْلُقْنَ كُلُّهُنَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ اسْتِثْنَاءُ غَيْرِهِنَّ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ: نِسَائِي طَوَالِقُ، وَلَا نِسَاءَ لَهُ، وَهُنَاكَ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيُطَلَّقْنَ كُلُّهُنَّ فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: نِسَائِي إلَّا نِسَائِي طَوَالِقُ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ طُلِّقْنَ كَذَا هَذَا. وَكَذَا هَذَا فِي الْعَتَاقِ إذَا قَالَ: عَبِيدِي كُلُّهُمْ أَحْرَارٌ إلَّا عَبِيدِي لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَعَتَقُوا جَمِيعًا، وَلَوْ قَالَ: عَبِيدِي أَحْرَارٌ إلَّا هَؤُلَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ عَبِيدٌ غَيْرُ هَؤُلَاءِ لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْوَصِيَّةِ إذَا قَالَ: أَوْصَيْتَ بِثُلُثِ مَالِي لِفُلَانٍ أَوْ أَوْصَيْتَ لِفُلَانٍ بِثُلُثِ مَالِي إلَّا أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَمَاتَ، وَثُلُثُ مَالِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، وَلَوْ قَالَ أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي إلَّا ثُلُثَ مَالِي لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَكَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ مَالِهِ. قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَشْرًا إلَّا تِسْعًا يَقَعُ وَاحِدَةً، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّلَاثِ ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُ فَالِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إلَى جُمْلَةِ الْكَلَامِ لَا إلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَصِحُّ وُقُوعُهُ، وَهُوَ الثَّلَاثُ خَاصَّةً فَيَتْبَعُ اللَّفْظَ لَا الْحُكْمَ، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى، وَيَثْبُتُ فِيمَا بَقِيَ قَدْرُ مَا يَصِحُّ ثُبُوتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَشْرًا إلَّا تِسْعًا يَقَعُ وَاحِدَةً، وَلَوْ قَالَ: إلَّا ثَمَانِيًا يَقَعُ اثْنَتَانِ، وَإِذَا قَالَ: إلَّا سَبْعًا يَقَعُ ثَلَاثٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَتْبَعُ اللَّفْظَ لَا الْحُكْمَ فَصَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَدَخَلَ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ، وَعَمِلَ فِيهَا فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَدْرَ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَدْخُلْ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَا يَقَعُ قَدْرُ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَقَعُ الْبَاقِي - وَهُوَ الثَّلَاثُ -؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَصِحُّ وُقُوعُهُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إلَّا سِتًّا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ ثَلَاثًا أَوْ اثْنَتَيْنِ أَوْ وَاحِدَةً يَقَعُ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ هِيَ الَّتِي يَصِحُّ وُقُوعُهَا مِمَّا بَقِيَ إذْ لَا يَزِيدُ الطَّلَاقُ عَلَى الثَّلَاثِ. قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا

إلَّا ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً تَقَعُ وَاحِدَةً، وَالْأَصْلُ فِي مَسَائِلِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الِاسْتِثْنَاء أَنَّ لِتَخْرِيجِهَا طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْأَخِيرِ فَيُجْعَلُ اسْتِثْنَاءً مِمَّا يَلِيهِ ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى مَا بَقِيَ مِنْهُ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِمَّا يَلِيهِ هَكَذَا إلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى الْبَاقِي مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ فَيُسْتَثْنَى ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ فَمَا بَقِيَ مِنْهَا الْوَاقِعُ، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا إلَّا وَاحِدَةً - يَسْتَثْنِي الْوَاحِدَةَ مِنْ الثَّلَاثَةِ - يَبْقَى اثْنَتَانِ يَسْتَثْنِيهِمَا مِنْ الثَّلَاثَةِ فَتَبْقَى وَاحِدَةٌ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ يَقَعُ اثْنَتَانِ؛ لِأَنَّك تَسْتَثْنِي الِاثْنَتَيْنِ مِنْ الثَّلَاثَةِ فَتَبْقَى وَاحِدَةٌ تَسْتَثْنِيهَا مِنْ الثَّلَاثَةِ فَيَبْقَى اثْنَتَانِ. فَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا ثَلَاثًا إلَّا اثْنَتَيْنِ إلَّا وَاحِدَةً يَقَعُ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّك تَسْتَثْنِي الْوَاحِدَةَ مِنْ اثْنَتَيْنِ فَيَبْقَى وَاحِدَةٌ تَسْتَثْنِيهَا مِنْ الثَّلَاثِ فَيَبْقَى اثْنَتَانِ تَسْتَثْنِيهِمَا مِنْ الثَّلَاثِ فَيَبْقَى وَاحِدَةٌ هِيَ الْوَاقِعُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَشْرًا إلَّا تِسْعًا إلَّا ثَمَانِيًا إنَّكَ تَسْتَثْنِي ثَمَانِيًا مِنْ تِسْعٍ فَبَقِيَ وَاحِدَةٌ نَسْتَثْنِيهَا مِنْ الْعَشْرِ فَيَبْقَى تِسْعٌ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ تِسْعًا فَيَقَعُ ثَلَاثٌ فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَشْرًا إلَّا تِسْعًا إلَّا وَاحِدَةً يَقَعُ ثِنْتَانِ؛ لِأَنَّك إذَا اسْتَثْنَيْت الْوَاحِدَةَ مِنْ التِّسْعِ يَبْقَى ثَمَانِيَةٌ تَسْتَثْنِيهَا مِنْ الْعَشْرِ فَيَبْقَى اثْنَتَانِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَشْرًا إلَّا ثَمَانِيًا، وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ هَذَا الْوَجْهِ، وَقِيَاسُهُ، وَالثَّانِي يَرْجِعُ إلَى عَقْدِ الْيَدِ، وَهُوَ أَنْ تَعْقِدَ الْعَدَدَ الْأَوَّلَ بِيَمِينِكَ، وَالثَّانِي بِيَسَارِكَ، وَالثَّالِثَ تَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَمِينِك، وَالرَّابِعَ بِيَسَارِك تَضُمُّهُ إلَى مَا بِيَسَارِك ثُمَّ تَطْرَحُ مَا اجْتَمَعَ فِي يَسَارِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا اجْتَمَعَ فِي يَمِينِكَ فَمَا بَقِيَ فِي يَمِينِك فَهُوَ الْوَاقِعُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَسَائِلُ النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ الِاسْتِثْنَاء، وَهُوَ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَنَقُولُ: إذَا عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، سَوَاءٌ قَدَّمَ الطَّلَاقَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي الذِّكْرِ بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ أَخَّرَهُ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ، وَعَلَى هَذَا تَعْلِيقُ الْعِتْقِ، وَالنَّذْرِ، وَالْيَمِينِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَا يَكُونُ مَعْدُومًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ، وَمَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَزَلِيَّةٌ لَا تَحْتَمِلُ الْعَدَمَ فَكَانَ هَذَا تَعْلِيقًا بِأَمْرٍ كَائِنٍ فَيَكُونُ تَحْقِيقًا لَا تَعْلِيقًا كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَانَتْ السَّمَاءُ فَوْقَنَا، وَلَنَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرًا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ، وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ، وَالسَّلَامِ {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف: 69] وَصَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ حَتَّى لَمْ يَصِرْ بِتَرْكِ الصَّبْرِ مُخْلِفًا فِي الْوَعْدِ. وَلَوْلَا صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ لَصَارَ مُخْلِفًا فِي الْوَعْدِ بِالصَّبْرِ، وَالْخُلْفُ فِي الْوَعْدِ لَا يَجُوزُ، وَالنَّبِيُّ مَعْصُومٌ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24] أَيْ إلَّا أَنْ تَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ صِيَانَةُ الْخَبَرِ عَنْ الْخُلْفِ فِي الْوَعْدِ لَمْ يَكُنْ لِلْأَمْرِ بِهِ مَعْنًى. وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ، وَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ اسْتَثْنَى فَلَهُ ثُنْيَاهُ» ؛ وَلِأَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى تَعْلِيقٌ بِمَا لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ؛ لِأَنَّا لَا نَدْرِي أَنَّهُ شَاءَ وُقُوعَ هَذَا الطَّلَاقِ أَوْ لَمْ يَشَأْ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ وُقُوعَ هَذَا الطَّلَاقِ هَلْ دَخَلَ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لَمْ يَدْخُلْ؟ فَإِنْ دَخَلَ وَقَعَ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَلَا يَقَعُ بِالشَّكِّ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ تَعْلِيقًا بِأَمْرٍ كَائِنٍ؛ وَلِأَنَّ دُخُولَ الْوُقُوعِ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ فَقَالَ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَيَقَعُ الْعَتَاقُ، وَزَعَمَ بِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الْمَشِيئَةُ فِي الطَّلَاقِ، وَوُجِدَتْ فِي الْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مَكْرُوهُ الشَّرْعِ، وَالْعِتْقُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ إرَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى تَتَعَلَّقُ بِالْقُرْبِ، وَالطَّاعَاتِ لَا بِالْمَكَانِ، وَالْمَعَاصِي، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ كُلَّ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ مِنْ الْعَبْدِ ثُمَّ الْعَبْدُ قَدْ لَا يَفْعَلُهُ لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ، وَبُطْلَانُ مَذْهَبِهِمْ يُعْرَفُ فِي مَسَائِلِ الْكَلَامِ ثُمَّ أَنَّهُمْ نَاقَضُوا حَيْثُ قَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ فَقَالَ: لَأَصُومَنَّ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ قَالَ: لَأُصَلِّيَنَّ رَكْعَتَيْنِ أَوْ لَأَقْضِيَنَّ دَيْنَ فُلَانٍ فَمَضَى الْغَدُ، وَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ خَيْرٍ لَحَنِثَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ خَيْرَاتٌ وَقَدْ شَاءَهَا عِنْدَهُمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ قَالَ أَنْ لَوْ يَشَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَمَا قُلْنَا. وَكَذَا لَوْ قَالَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا يَقَعَ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الَّذِي شَاءَهُ اللَّهُ، تَعَالَى. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ

طَالِقٌ إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ تَعَالَى يَكُونُ الْمُسْتَثْنَى كَقَوْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ تَعْلِيقٌ بِعَدَمِ دُخُولِ الْوُقُوعِ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ قَالَ: فَإِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَكُنِ اسْتِثْنَاءً عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ حَالَ بَيْنَ الطَّلَاقِ، وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ - حَرْفٌ - هُوَ حَشْوٌ - فَيَصِيرُ فَاصِلًا بِمَنْزِلَةِ السَّكْتَةِ فَيُمْنَعُ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ فَيَقَعُ فِي الْحَالِ. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَقَعُ الثَّلَاثُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ: أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: الِاسْتِثْنَاءُ جَائِزٌ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَوَاحِدَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمَوْصُولِ يَقِفُ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ فَكَانَ قَوْلُهُ: ثَلَاثًا، وَثَلَاثًا كَلَامًا وَاحِدًا فَيَعْمَلُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ سِتًّا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ وَلِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ، وَهُوَ حَرْفُ الْوَاوِ فَصَارَ كَمَا لَوْ ذَكَرَهُمَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ سِتًّا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَدَدَ الثَّانِيَ وَقَعَ لَغْوًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ إذْ لَا مَزِيدَ لِلطَّلَاقِ عَلَى الثَّلَاثِ فَصَارَ فَاصِلًا فَمَنَعَ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ كَمَا لَوْ سَكَتَ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ سِتًّا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْكُلَّ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَلَا يُمْكِنُ فَصْلُ الْبَعْضِ عَنْ الْبَعْضِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَثَلَاثًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الثَّانِي هَهُنَا لَيْسَ بِلَغْوٍ؛ لِأَنَّهُ جُمْلَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ فَلَمْ يَصِرْ فَاصِلًا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ جُمْلَتَيْنِ بِحَرْفِ الْوَاوِ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ قَالَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ طَالِقٌ وَعَبْدُهُ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى انْصَرَفَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجُمْلَتَيْنِ جَمِيعًا حَتَّى لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ بِالِاتِّفَاقِ. وَكَذَا إذَا ذَكَرَ الشَّرْطَ فِي آخِرِ الْجُمْلَتَيْنِ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ أَوْ إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا. وَلَوْ قَالَ لِزَيْدٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِعَمْرٍو عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا خَمْسَمِائَةٍ انْصَرَفَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْجُمَلِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَنَوْا مَسْأَلَةَ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ إذَا تَابَ وَشَهِدَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] مُنْصَرِفٌ إلَى مَا يَلِيهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُمْ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ. وَجْهُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ إذَا دَخَلَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ يَجْعَلُهُمَا كَلَامًا وَاحِدًا كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ جَاءَنِي زَيْدٌ، وَعَمْرٌو مَعْنَاهُ جَاءَانِي، وَكَمَا إذَا قَالَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ، وَعَبْدُهُ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا بِالشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُمْلَةً تَامَّةً لَكِنْ لَمَّا دَخَلَ بَيْنَهُمَا وَاوُ الْعَطْفِ جُعِلَ كَلَامًا وَاحِدًا، وَتَعَلَّقَا جَمِيعًا بِالشَّرْطِ كَذَا هَذَا، وَلِهَذَا إذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ نَاقِصًا شَارَكَ الْأَوَّلَ فِي حُكْمِهِ وَجَعَلَ الْكُلَّ كَلَامًا وَاحِدًا بِأَنْ قَالَ: لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ، وَفُلَانَةُ حَتَّى يَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا كَذَا هَذَا، وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى مَا يَلِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ، وَمُتَّصِلٌ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ مُفِيدٍ بِنَفْسِهِ مُسْتَقِلٍّ بِذَاتِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ رَبْطِهِ بِغَيْرِهِ لِيَصِيرَ مُفِيدًا، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالصَّرْفِ إلَى مَا يَلِيهِ، فَانْصَرَفَ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِدُخُولِ حَرْفِ الْعَطْفِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ فَيَجْعَلُهُمَا كَلَامًا وَاحِدًا وَجُمْلَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ كَلَامًا وَاحِدًا وَالْجُمْلَتَانِ جُمْلَةً وَاحِدَةً بِوَاوِ الْعَطْفِ إذَا كَانَتْ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ نَاقِصَةً بِحَيْثُ لَوْ فُصِلَتْ عَنْ الْجُمْلَةِ الْأُخْرَى لَا تَكُونُ مُفِيدَةً،. فَأَمَّا إذَا كَانَتْ كَامِلَةً بِحَيْثُ لَوْ فُصِلَتْ عَنْ الْأُخْرَى كَانَتْ مُفِيدَةً، فَلَا يُجْعَلَانِ كَلَامًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْجَعْلَ لِلْعَطْفِ الْمُوجِبِ لِلشَّرِكَةِ وَالشَّرِكَةُ ثَابِتَةٌ بِدُونِ حُرُوفِ الْوَاوِ فَكَانَ الْوَصْلُ وَالْإِشْرَاكُ بِحَرْفِ الْوَاوِ، وَعَدَمِهِ سَوَاءً؛ وَلِأَنَّ جَعْلَ الْكَلَامَيْنِ كَلَامًا وَاحِدًا خِلَافُ الْحَقِيقَةِ، فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ - وَهِيَ أَنْ تَكُونَ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ نَاقِصَةً إمَّا صُورَةً أَوْ مَعْنًى - كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ جَاءَنِي زَيْدٌ، وَعَمْرٌو فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ نَاقِصَةٌ؛ لِأَنَّهَا مُبْتَدَأٌ لَا خَبَرَ لَهُ فَجُعِلَتْ كَامِلَةً بِالْإِشْرَاكِ بِحَرْفِ الْوَاوِ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتَيْهِ: زَيْنَبُ طَالِقٌ، وَعَمْرَةُ لِمَا قُلْنَا، أَوْ تَكُونُ نَاقِصَةً مَعْنًى فِي حَقِّ حُصُولِ غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ، وَعَبْدُهُ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَإِنَّ هُنَاكَ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ نَاقِصَةٌ فِي حَقِّ حُصُولِ غَرَضِ الْحَالِفِ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ أَنْ يَجْعَلَهُمَا جَمِيعًا جَزَاءً وَاحِدًا لِلشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي نَفْسِهِ يَصْلُحُ جَزَاءً تَامًّا، وَهَذَا الْغَرَضُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْإِشْرَاكِ وَالْوَصْلِ فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا بَعْضَ الْجَزَاءِ فَكَانَتْ جُمْلَةً نَاقِصَةً فِي الْمَعْنَى -، وَهُوَ تَحْصِيلُ غَرَضِهِ - فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ نَاقِصٌ فِي أَصْلِ الْإِفَادَةِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الضَّرُورَةِ لَمْ تُوجَدْ هَهُنَا فَبَقِيَتْ كُلُّ جُمْلَةٍ مُنْفَرِدَةً بِحُكْمِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَعْطُوفَةً بِحَرْفِ الْوَاوِ كَمَا لَوْ قَالَ جَاءَنِي زَيْدٌ، وَذَهَبَ عَمْرٌو فَإِنَّ هَذَا

عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ بِحَرْفِ الْوَاوِ، وَلَمْ تَثْبُتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْخَبَرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. وَلَوْ أَدْخَلَ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى جُمْلَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَمِينٌ بِأَنْ قَالَ امْرَأَتِي طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَعَبْدِي حُرٌّ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى انْصَرَفَ الِاسْتِثْنَاء إلَى مَا يَلِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَتَطْلُقُ امْرَأَتُهُ، وَلَا يُعْتَقُ عَبْدُهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَنْصَرِفُ إلَى الْجُمْلَتَيْنِ جَمِيعًا، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَا الْعَتَاقُ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَلَامَ مَعْطُوفٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بِحَرْفِ الْعَطْفِ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى بِحَرْفِ الْوَاوِ فَيَجْعَلُهُمَا كَلَامًا وَاحِدًا كَمَا فِي التَّنْجِيزِ بِأَنْ يَقُولَ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ، وَعَبْدُهُ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ التَّنْجِيزِ وَالتَّعْلِيقِ؟ ، وَحُجَّةُ أَبِي يُوسُفَ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَنْصَرِفَ لِمَا يَلِيهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَانْصِرَافُهُ إلَى غَيْرِهِ لِتَتِمَّ الْجُمْلَةُ النَّاقِصَةُ صُورَةً، وَمَعْنًى أَوْ مَعْنًى عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَهَهُنَا كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجُمْلَتَيْنِ تَامَّةٌ صُورَةً، وَمَعْنًى أَمَّا الصُّورَةُ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْمَعْنَى؛ فَلِأَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَ كُلَّ جَزَاءٍ بِشَرْطٍ عَلَى حِدَةٍ عُلِمَ أَنَّ غَرَضَهُ لَيْسَ جَعْلُهُمَا جَمِيعًا جَزَاءً وَاحِدًا؛ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ جَزَاءً تَامًّا صُورَةً، وَمَعْنًى. قَدَّمَ الِاسْتِثْنَاءَ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ الطَّلَاقَ بِالِاسْتِثْنَاءِ بِحَرْفِ الْوَصْلِ، وَهُوَ الْفَاءُ؛ فَيَصِحُّ التَّعْلِيقُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنْتِ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ فَتَصِيرُ الْجُمْلَةُ كَلَامًا وَاحِدًا. وَلَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْتِ طَالِقٌ جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ فِي الْقَضَاءِ، وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الِاسْتِثْنَاءَ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْجَزَاءَ إذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ الشَّرْطِ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ حَرْفِ الِاتِّصَالِ - وَهُوَ حَرْفُ الْفَاءِ - لِيَتَّصِلَ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَتَّصِلْ فَكَانَ قَوْلُهُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا فَلَمْ يَصِحَّ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ كَمَا إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ لِعَدَمِ حَرْفِ التَّعْلِيقِ - وَهُوَ حَرْفُ الْفَاءِ - فَيَبْقَى تَنْجِيزًا فَيَقَعُ الطَّلَاقُ كَذَا هَذَا، وَلَهُمَا أَنَّ الْفَاءَ يُضْمَرُ فِي كَلَامِهِ تَصْحِيحًا لِلِاسْتِثْنَاءِ وَالْإِضْمَارُ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ جَائِزٌ قَالَ الشَّاعِرُ مَنْ يَفْعَلْ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا ... وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلَانِ أَيْ: فَاَللَّهُ يَشْكُرُهَا، أَوْ يُجْعَلُ الْكَلَامُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ تَصْحِيحًا لِلِاسْتِثْنَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي الْكَلَامِ جَائِزٌ أَيْضًا فِي اللُّغَةِ. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ يَصِحَّانِ لِتَصْحِيحِ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ لَا يَتَعَلَّقُ، وَإِنْ أَمْكَنَ تَصْحِيحُ التَّعْلِيقِ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ لَمْ يَتَعَلَّقْ، وَلَا يَصْدُقُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ التَّعْلِيقَ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا يَصْدُقُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا غَيْرَ كَذَا هَذَا (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ذِكْرِ حَرْفِ الْفَاءِ فِي التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ - إذَا كَانَ الْجَزَاءُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الشَّرْطِ فِي الْمِلْكِ - لِيَتَّصِلَ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ فَيُوجَدُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ وَالْعِلْمُ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وَصْلِ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ بِحَرْفِ الْوَصْلِ بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَوُقُوعُ هَذَا الطَّلَاقِ مِمَّا لَا سَبِيلَ لَنَا إلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهِ رَأْسًا حَتَّى تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى وَصْلِ الْجَزَاءِ بِهِ لِيُوجَدَ عِنْدَ وُجُودِهِ فَكَانَ تَعْطِيلًا فِي عِلْمِنَا، فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ حَرْفِ الْوَصْلِ قَبْلَ هَذَا الشَّرْطِ وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ أَنَّهُ إذَا قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنْتِ طَالِقٌ، يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ، وَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ لِلْحَالِ، وَلَوْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ التَّعْلِيقَ لَا يَصْدُقُ قَضَاءً، وَلَا دِيَانَةً لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا، هَذَا كُلُّهُ إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَأَمَّا إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِمَشِيئَةِ غَيْرِ اللَّهِ فَإِنْ عَلَّقَ بِمَشِيئَةِ مَنْ يُوقَفُ عَلَى مَشِيئَتِهِ مِنْ الْعِبَادِ بِأَنْ قَالَ: إنْ شَاءَ زَيْدٌ فَالطَّلَاقُ مَوْقُوفٌ عَلَى مَشِيئَتِهِ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي يُعْلَمُ فِيهِ بِالتَّعْلِيقِ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّعْلِيقِ تَمْلِيكٌ لِمَا نَذْكُرُ فَيَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ كَسَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ، وَإِنْ عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ مَنْ لَا يُوقَفُ عَلَى مَشِيئَتِهِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: إنْ شَاءَ جِبْرِيلُ أَوْ الْمَلَائِكَةُ أَوْ الْجِنُّ أَوْ الشَّيَاطِينُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى مَشِيئَةِ هَؤُلَاءِ كَمَا

لَا يُوقَفُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ مَشِيئَةِ الْعِبَادِ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَشَاءَ زَيْدٌ فَشَاءَ زَيْدٌ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِشَرْطَيْنِ لَا يُعْلَمُ وُجُودُ أَحَدِهِمَا وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطَيْنِ لَا يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا، كَمَا لَوْ قَالَ إنْ شَاءَ زَيْدٌ، وَعُمَرُ فَشَاءَ أَحَدُهُمَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ انْتِهَاءَ الْغَايَةِ فَإِنْ كَانَ لَا يَقَعُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزُفَرَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَقَعُ، وَإِنْ جُعِلَ انْتِهَاءَ الْغَايَةِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ لَا يُشْتَرَطُ وَقَالَ زُفَرُ يُشْتَرَطُ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ عِنْدَ زُفَرَ الْغَايَتَانِ لَا يَدْخُلَانِ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ بَقِيَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ وَقَعَ، وَإِلَّا، فَلَا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ الْغَايَتَانِ تَدْخُلَانِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْأُولَى تَدْخُلُ لَا الثَّانِيَةُ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إلَى اثْنَتَيْنِ أَوْ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا هِيَ اثْنَتَانِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَقَعُ شَيْءٌ. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ أَوْ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ فَهِيَ اثْنَتَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا هِيَ ثَلَاثٌ، وَعِنْدَ زُفَرَ هِيَ وَاحِدَةٌ (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ كَلِمَةَ مَنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَكَلِمَةَ إلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ؛ يُقَالُ سِرْت مِنْ الْبَصْرَةِ إلَى الْكُوفَةِ أَيْ: الْبَصْرَةُ كَانَتْ ابْتِدَاءَ غَايَةِ الْمَسِيرِ وَالْكُوفَةُ كَانَتْ غَايَةَ الْمَسِيرِ، وَالْغَايَةُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ مَا ضُرِبَتْ لَهُ الْغَايَةُ كَمَا فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ إذْ قَالَ: بِعْت مِنْك مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ فَالْحَائِطَانِ لَا يَدْخُلَانِ فِي الْبَيْعِ فَكَانَ هَذَا مِنْهُ إيقَاعَ مَا ضُرِبَتْ لَهُ الْغَايَةُ لَا الْغَايَةُ، فَيَقَعُ مَا ضُرِبَتْ لَهُ الْغَايَةُ لَا الْغَايَةُ. وَكَذَا إذَا قَالَ: بِعْتُك مَا بَيْنَ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ لَا يَدْخُلُ الْحَائِطَانِ فِي الْبَيْعِ كَذَا هَهُنَا، وَلِهَذَا لَمْ تَدْخُلْ إحْدَى الْغَايَتَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَذَا الْأُخْرَى، وَلَهُمَا أَنَّ مَا جُعِلَ غَايَةً لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ إذْ الْمَعْدُومُ لَا يَصْلُحُ غَايَةً، وَمِنْ ضَرُورَةِ وُجُودِهِ وُقُوعُهُ، وَلِهَذَا دَخَلَتْ الْغَايَةُ الْأُولَى فَكَذَا الثَّانِيَةُ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْغَايَةَ هُنَاكَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْبَيْعِ فَلَمْ يَكُنْ وُجُودُهَا بِالْبَيْعِ لِيَكُونَ مِنْ ضَرُورَةِ وُجُودِهَا بِالْبَيْعِ دُخُولُهَا فِيهِ فَلَمْ تَدْخُلْ، وَأَبُو حَنِيفَةَ بَنَى الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى أَلْفٍ، وَيُرِيدُ بِهِ دُخُولَ الْغَايَةِ الْأُولَى لَا الثَّانِيَةِ. وَكَذَا يُقَالُ سِنُّ فُلَانٍ مِنْ تِسْعِينَ إلَى مِائَةٍ، وَيُرَادُ بِهِ دُخُولُ الْغَايَةِ الْأُولَى لَا الثَّانِيَةِ. وَكَذَا إذَا قِيلَ مَا بَيْنَ تِسْعِينَ إلَى مِائَةٍ،. وَقِيلَ إنَّ الْأَصْمَعِيَّ أَلْزَمَ زُفَرَ هَذَا الْفَصْلَ عَلَى بَابِ الرَّشِيدِ فَقَالَ لَهُ: كَمْ سِنُّكَ؟ فَقَالَ مِنْ سَبْعِينَ إلَى ثَمَانِينَ، وَكَانَ سِنُّهُ أَقَلَّ مِنْ ثَمَانِينَ فَتَحَيَّرَ زُفَرُ؛؛ وَلِأَنَّ انْتِهَاءَ الْغَايَةِ قَدْ تَدْخُلُ تَحْتَ مَا ضُرِبَتْ لَهُ الْغَايَةُ وَقَدْ لَا تَدْخُلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَاللَّيْلُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ فِيهِ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي دُخُولِ الْغَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي كَلَامِهِ، فَلَا يَدْخُلُ مَعَ الشَّكِّ، فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فِي قَوْلِهِ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ كَمَا قَالَ زُفَرُ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ، وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَقِيَاسُ ظَاهِرِ أَصْلِهِمَا فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى اثْنَتَيْنِ أَنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّ الْغَايَتَيْنِ يَدْخُلَانِ عِنْدَهُمَا إلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَعَلَ تِلْكَ الْوَاحِدَةَ دَاخِلَةً فِي الثِّنْتَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَعَلَهَا غَيْرَ الثِّنْتَيْنِ، فَلَا تَقَعُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثِّنْتَيْنِ بِالشَّكِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ إلَى اثْنَتَيْنِ أَنَّهُ يَقَعُ ثِنْتَانِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَعَلَ الِابْتِدَاءَ هُوَ الْغَايَةُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ اثْنَتَيْنِ إلَيْهِمَا. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ، وَثَلَاثٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَا جَعَلَ الثَّلَاثَ غَايَةً، وَإِنَّمَا أَوْقَعَ مَا بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ - وَهُوَ وَاحِدَةٌ - فَتَقَعُ الْوَاحِدَةُ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا بَيْنَ وَاحِدَةٍ إلَى أُخْرَى أَوْ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى وَاحِدَةٍ - فَهِيَ وَاحِدَةٌ - أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ فَلِأَنَّ الْغَايَةَ الْأُولَى تَدْخُلُ، وَلَا تَدْخُلُ الثَّانِيَةُ فَتَقَعُ وَاحِدَةً. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَالْغَايَتَانِ، وَإِنْ كَانَتَا يَدْخُلَانِ جَمِيعًا لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى وَاحِدَةٍ أَيْ: مِنْهَا وَإِلَيْهَا، فَلَا يَقَعُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ زُفَرَ فَالْغَايَتَانِ لَا يَدْخُلَانِ، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ مَضْرُوبًا فِيهِ فَإِنْ كَانَ لَا يَقَعُ، وَيَقَعُ الْمَضْرُوبُ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَقَعُ الْمَضْرُوبُ وَالْمَضْرُوبُ فِيهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي اثْنَتَيْنِ أَوْ قَالَ وَاحِدَةً فِي ثَلَاثٍ أَوْ اثْنَتَيْنِ فِي اثْنَتَيْنِ؛ وَجُمْلَةُ الْجَوَابِ فِيهِ أَنَّهُ إنْ نَوَى بِهِ الظَّرْفَ وَالْوِعَاءَ لَا يَقَعُ إلَّا الْمَضْرُوبُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَصْلُحُ

فصل في شرائط ركن الطلاق وبعضها يرجع إلى الوقت وهو مضي مدة الإيلاء

ظَرْفًا، وَإِنْ نَوَى مَعَ يَقَعُ الْمَضْرُوبُ وَالْمَضْرُوبُ فِيهِ بِقَدْرِ مَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ نَوَى بِهِ الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَقَعُ الْمَضْرُوبُ لَا الْمَضْرُوبُ فِيهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَعِنْدَ زُفَرَ يَقَعُ الْمَضْرُوبُ وَالْمَضْرُوبُ فِيهِ بِقَدْرِ مَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْوَاحِدَ فِي اثْنَتَيْنِ اثْنَانِ عَلَى طَرِيقِ الضَّرْبِ وَالْحِسَابِ وَالْوَاحِدُ فِي الثَّلَاثَةِ ثَلَاثَةٌ وَالِاثْنَانِ فِي الِاثْنَيْنِ أَرْبَعَةٌ، وَهَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْمَضْرُوبِ وَالْمَضْرُوبِ فِيهِ؛ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا إلَّا أَنَّ الْعَدَدَ الْمُجْتَمِعَ لَهُ عِبَارَتَانِ: إحْدَاهُمَا الِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ وَالْأَرْبَعَةُ، وَالْأُخْرَى وَاحِدٌ فِي اثْنَيْنِ، وَوَاحِدٌ فِي ثَلَاثَةٍ وَاثْنَانِ فِي اثْنَيْنِ (وَلَنَا) وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا أَنَّ الضَّرْبَ إنَّمَا يَتَقَدَّرُ فِيمَا لَهُ مِسَاحَةٌ. فَأَمَّا مَا لَا مِسَاحَةَ لَهُ، فَلَا يَتَقَدَّرُ فِيهِ الضَّرْبُ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ ضَرْبِ الِاثْنَيْنِ فِي الِاثْنَيْنِ خَطَّانِ يُضَمُّ إلَيْهِمَا خَطَّانِ آخَرَانِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ الِاثْنَانِ فِي الِاثْنَيْنِ أَرْبَعَةٌ وَالطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ الْمِسَاحَةَ، فَإِذَا نَوَى فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ الضَّرْبَ فَقَدْ أَرَادَ مُحَالًا فَبَطَلَتْ نِيَّتُهُ. وَالثَّانِي أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَعَدَّدُ بِالضَّرْبِ، وَإِنَّمَا يَتَكَرَّرُ أَجْزَاؤُهُ فَوَاحِدٌ فِي اثْنَيْنِ وَاحِدٌ لَهُ جُزْءَانِ وَاثْنَانِ فِي اثْنَيْنِ اثْنَانِ لَهُ أَرْبَعَةُ أَجْزَاءٍ، وَطَلَاقٌ لَهُ جُزْءٌ، وَطَلَاقٌ لَهُ جُزْءَانِ، وَثَلَاثَةٌ، وَأَرْبَعَةٌ، وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ. وَالثَّالِثُ إنَّهُ جَعَلَ الْمَضْرُوبَ فِيهِ ظَرْفًا لِلْمَضْرُوبِ وَالطَّلَاقُ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا إذْ ظَرْفُ الشَّيْءِ هُوَ الْمُحْتَوِي عَلَيْهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ احْتِوَاءُ الطَّلَاقِ عَلَى شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الِاحْتِوَاءَ مِنْ خَوَاصِّ الْأَجْسَامِ، فَلَا يَصْلُحُ ظَرْفًا لِلْمَضْرُوبِ، فَلَا يَقَعُ، وَهَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي دُخُولِك الدَّارَ، أَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فِي حَيْضَتِك لَا يَقَعُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الدُّخُولَ وَالْحَيْضَ ظَرْفًا، وَإِنَّهُمَا لَا يَصْلُحَانِ ظَرْفًا لِاسْتِحَالَةِ تَحَقُّقِ مَعْنَى الظَّرْفِ فِيهِمَا إلَّا أَنَّ ثَمَّةَ يَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِالدُّخُولِ وَالْحَيْضِ، وَيُجْعَلُ فِي بِمَعْنَى مَعَ لِمُنَاسِبَةٍ؛ لِأَنَّ مَعَ كَلِمَةُ مُقَارَنَةٍ وَالْمَظْرُوفُ يُقَارِنُ الظَّرْفَ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ دُخُولِ الدَّارِ أَوْ مَعَ حَيْضِك، وَهَهُنَا لَوْ أَرَادَ بِفِي مَعَ فِي قَوْلِهِ: فِي اثْنَيْنِ أَوْ فِي ثَلَاثٍ يَقَعُ الثَّلَاثُ. وَكَذَا لَوْ أَرَادَ بِكَلِمَةِ فِي حَرْفَ الْوَاوِ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ وَالظَّرْفُ يُجَامِعُ الْمَظْرُوفَ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ كُلُّهُ وَالظَّرْفُ عَلَى إرَادَةِ الْمُقَارَنَةِ أَوْ الِاجْتِمَاعِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ رُكْنِ الطَّلَاقِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ وَهُوَ مُضِيُّ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ فَهُوَ مُضِيُّ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ، وَهُوَ شَرْطُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِالْإِيلَاءِ حَتَّى لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ فِي حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ -، وَهُوَ الْبِرُّ - طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ تَرْكِ الْفَيْءِ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إنَّ عَزْمَ الطَّلَاقِ تَرْكُ الْفَيْءِ إلَيْهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَقَدْ جَعَلَ تَرَكَ الْفَيْءَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ شَرْطُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْإِيلَاءِ. وَالْكَلَامُ فِي الْإِيلَاءِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي. تَفْسِيرِ الْإِيلَاءِ لُغَةً، وَشَرْعًا، وَفِي بَيَانِ رُكْنِ الْإِيلَاءِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِيلَاءِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِيلَاءُ أَمَّا تَفْسِيرُهُ فَالْإِيلَاءُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْيَمِينِ يُقَالُ آلَى أَيْ: حَلَفَ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ الْيَمِينُ أَلِيَّةً وَجَمْعُهَا أَلَايَا؛ قَالَ الشَّاعِرُ قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ صَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بُرَّتْ ، وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِلَّذِينَ يُقْسِمُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَالْقَسَمُ وَالْيَمِينُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور: 22] أَيْ: وَلَا يَحْلِفُ. وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى تَرْكِ الْجِمَاعِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ، نَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَنْعِ النَّفْسِ عَنْ الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ مُؤَكَّدًا بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَاتِهِ أَوْ بِالْيَمِينِ بِالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ مِنْ جِمَاعِهَا أَوْ هَجْرِهَا سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مَا لَمْ يَأْتِ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَالْيَمِينُ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ، وَلَوْ أَتَى بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إيلَاءً فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبِرِّ إنَّمَا يَثْبُتُ لِصَيْرُورَتِهِ ظَالِمًا بِتَرْكِ الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِيهِ. وَلَوْ ذَكَرَ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ نَفْسِهِ عَنْ الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ بِطَرِيقٍ يُؤَكِّدُهُ بِالْيَمِينِ لَمْ يَكُنْ إيلَاءً؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ بِالْمَنْعِ وَالْمَنْعُ لَا يَتَأَكَّدُ إلَّا بِالْيَمِينِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: لَا يَكُونُ مُولِيًا إلَّا بِالْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَدْفَعُ هَذَا الْقَوْلَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] فَالْإِيلَاءُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْيَمِينِ وَاسْمُ الْيَمِينِ يَقَعُ

عَلَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَيَقَعُ عَلَى الْيَمِينِ بِالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لِتَحَقُّقِ مَعْنَى الْيَمِينِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ. وَلَوْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبِغَيْرِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى لَا تَبِينُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إنْ قَرِبَهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْيَمِينِ - وَهُوَ الْقُوَّةُ -. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ» ، وَرُوِيَ «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» . أَمَّا الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى مَنْعِ النَّفْسِ عَنْ الْجِمَاعِ فَأَنْوَاعُ بَعْضِهَا صَرِيحٌ، وَبَعْضُهَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ، وَبَعْضُهَا كِنَايَةٌ أَمَّا الصَّرِيحُ فَلَفْظُ الْمُجَامَعَةِ بِأَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يُجَامِعَهَا. وَأَمَّا الَّذِي يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ فَلَفْظُ الْقُرْبَانِ وَالْوَطْءِ وَالْمُبَاضَعَةِ وَالِافْتِضَاضِ فِي الْبِكْرِ؛ بِأَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا أَوْ لَا يَطَأَهَا أَوْ لَا يُبَاضِعَهَا أَوْ لَا يَفْتَضَّهَا، وَهِيَ بِكْرٌ. ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَانَ الْمُضَافَ إلَى الْمَرْأَةِ يُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ فِي الْعُرْفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] . وَكَذَا الْوَطْءُ الْمُضَافُ إلَيْهَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْجِمَاعِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ «أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ» ، وَالْمُبَاضَعَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْبُضْعِ، وَهُوَ الْجِمَاعُ أَوْ الْفَرْجُ، وَالِافْتِضَاضُ فِي الْعُرْفِ عِبَارَةٌ عَنْ جِمَاعِ الْبِكْرِ -، وَهُوَ كَسْرُ الْعُذْرَةِ - مَأْخُوذٌ مِنْ الْفَضِّ، وَهُوَ الْكَسْرُ. وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَغْتَسِلُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الِاغْتِسَالَ مِنْهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِالْجِمَاعِ، فَأَمَّا الْجِمَاعُ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ فَالِاغْتِسَالُ لَا يَكُونُ مِنْهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْإِنْزَالِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ مَا لَمْ يُنْزِلْ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ. وَفِي الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ لَا يَقِفُ وُجُوبُ الِاغْتِسَالِ عَلَى وُجُودِ الْإِنْزَالِ، وَلَوْ قَالَ لَمْ أَعْنِ بِهِ الْجِمَاعَ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِكَوْنِهِ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ فِي الْجُمْلَةِ. وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَنَحْوُ لَفْظَةِ الْإِتْيَانِ وَالْإِصَابَةِ بِأَنْ حَلَفَ لَا يَأْتِيهَا أَوْ لَا يُصِيبُ مِنْهَا يُرِيدُ الْجِمَاعَ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ كِنَايَاتِ الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ فِي الْجِمَاعِ، وَفِي غَيْرِهِ اسْتِعْمَالًا عَلَى السَّوَاءِ، فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ. وَكَذَا لَفْظَةُ الْغَشَيَانِ بِأَنْ حَلَفَ لَا يَغْشَاهَا؛ لِأَنَّ الْغَشَيَانَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجِمَاعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف: 189] أَيْ: جَامَعَهَا، وَيُسْتَعْمَل فِي الْمَجِيءِ، وَفِي السِّتْرِ وَالتَّغْطِيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ} [العنكبوت: 55] قِيلَ: يَأْتِيهِمْ،. وَقِيلَ يَسْتُرُهُمْ، وَيُغَطِّيهِمْ، فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ. وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَمَسُّ جِلْدُهُ جِلْدَهَا. وَقَالَ: لَمْ أَعْنِ بِهِ الْجِمَاعَ يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ، وَيَحْتَمِلُ الْمَسَّ الْمُطْلَقَ فَيَحْنَثُ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ، وَالْإِيلَاءُ مَا وَقَفَ الْحِنْثُ فِيهِ عَلَى الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ جِمَاعُهَا بِغَيْرِ مُمَاسَّةِ الْجِلْدِ بِأَنْ يَلُفَّ ذَكَرَهُ بِحَرِيرَةٍ فَيُجَامِعُهَا وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَمَسَّهَا لِمَا قُلْنَا. وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يُضَاجِعُهَا أَوْ لَا يَقْرَبُ فِرَاشَهَا. وَقَالَ لَمْ أَعْنِ بِهِ الْجِمَاعَ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجِمَاعِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا؛ وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ جِمَاعُهَا مِنْ غَيْرِ مُضَاجَعَةٍ، وَلَا قُرْبِ فِرَاشٍ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْتَمِعُ رَأْسِي، وَرَأْسُك فَإِنْ عَنَى بِهِ الْجِمَاعَ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ الْجِمَاعُ، وَإِنْ لَمْ يَعْنِ بِهِ الْجِمَاعَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، وَلَا يَجْتَمِعَانِ عَلَى فِرَاشٍ، وَلَا مِرْفَقَةٍ لِئَلَّا يَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ، وَلَهُ جِمَاعُهَا مِنْ غَيْرِ اجْتِمَاعٍ عَلَى الْفِرَاشِ، وَلَا شَيْءَ يَجْمَعُ رَأْسَهَا عَلَيْهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَجْمَعُ رَأْسِي، وَرَأْسَكِ وِسَادَةٌ أَوْ لَا يُؤْوِينِي، وَإِيَّاكِ بَيْتٌ أَوْ لَا أَبِيت مَعَك فِي فِرَاشٍ فَإِنْ عَنَى الْجِمَاعَ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ الْجِمَاعُ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ، وَكَيْفَمَا جَامَعَهَا فَهُوَ حَانِثٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْنِ بِهِ الْجِمَاعَ فَلَيْسَ بِمُولٍ، وَلَا يَأْوِي مَعَهَا فِي بَيْتٍ، وَلَا يَبِيتُ مَعَهَا فِي فِرَاشٍ، وَلَا يَجْتَمِعَانِ عَلَى وِسَادَةٍ لِئَلَّا تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ، وَيَطَؤُهَا عَلَى الْأَرْضِ وَالْبَوَادِي، وَلَوْ حَلَفَ لَأَسُوءَنَّكِ أَوْ لَأَغِيظَنَّكِ لَا يَكُونُ مُولِيًا إلَّا إذَا عَنَى بِهِ تَرْكَ الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَسَاءَةَ قَدْ تَكُونُ بِتَرْكِ الْجِمَاعِ وَقَدْ تَكُونُ بِغَيْرِهِ. وَكَذَا الْغَيْظُ، فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ. وَأَمَّا الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَبِصِفَاتِهِ فَهِيَ الْحَلِفُ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ بِلَفْظٍ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الصِّفَةِ أَوْ يُسْتَعْمَلُ فِي الصِّفَةِ، وَفِي غَيْرِهَا لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ الصِّفَةِ، وَمَوْضِعُ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كِتَابُ الْأَيْمَانِ. ثُمَّ الْإِيلَاءُ إذَا كَانَ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَالْمُولِي لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ أَطْلَقَ الْإِيلَاءَ. وَأَمَّا إنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ، وَأَمَّا إنْ أَضَافَهُ إلَى وَقْتٍ، وَأَمَّا إنْ وَقَّتَهُ إلَى غَايَةٍ فَإِنْ أَطْلَقَ بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك كَانَ مُولِيًا لِلْحَالِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَنْ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا، وَبِمَا يُحْلَفُ بِهِ عَادَةً يَصِيرُ مُولِيًا، أَوْ يُقَالُ: مَنْ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُ زَوْجَتِهِ فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الْيَمِينِ فَهُوَ مُولٍ وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَصْلُحُ مَانِعًا - تَحَرُّزًا عَنْ الْهَتْكِ -، وَهُوَ مَا يُحْلَفُ بِهِ عَادَةً، وَعُرْفًا. وَكَذَا لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُ زَوْجَتِهِ فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ - وَهُوَ الْكَفَّارَةُ - فَيَصِيرُ مُولِيًا.

وَكَذَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا، وَهَهُنَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا أَوْ يَقُولَ لِنِسَائِهِ الْأَرْبَعِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُنَّ، وَهُمَا فَصْلٌ وَاحِدٌ وَالثَّانِي أَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ إحْدَاكُمَا أَوْ إحْدَاكُنَّ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ وَاحِدَةً مِنْكُمَا أَوْ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ أَمَّا الْأَوَّلُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا صَارَ مُولِيًا مِنْهُمَا لِلْحَالِ حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَمْ يَقْرَبْهُمَا فِيهَا بَانَتَا جَمِيعًا، وَيَبْطُلُ. وَكَذَا إذَا قَالَ لِنِسَائِهِ الْأَرْبَعِ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُنَّ صَارَ مُولِيًا مِنْهُنَّ لِلْحَالِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْرَبْهُنَّ حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بِنَّ جَمِيعًا، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ - وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِيرَ مُولِيًا فِي الْأَوَّلِ مَا لَمْ يَطَأْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا فَيَصِيرُ مُولِيًا مِنْ الْأُخْرَى. وَفِي الثَّانِي مَا لَمْ يَطَأْ وَاحِدَةً فَيَصِيرُ مُولِيًا مِنْ الْأُخْرَى، وَفِي الثَّالِثِ مَا لَمْ يَطَأْ الثَّالِثَةَ مِنْهُنَّ فَيَصِيرُ مُولِيًا مِنْ الرَّابِعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُولِيَ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُ امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ، وَهَهُنَا يُمْكِنُهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى قُرْبَانُ إحْدَاهُمَا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِوَطْءِ إحْدَاهُمَا إذْ جُعِلَ شَرْطُ الْحِنْثِ قُرْبَانَهُمَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَفِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ يُمْكِنُهُ قُرْبَانُ الثَّلَاثِ مِنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِوَطْءِ الثَّلَاثِ مِنْهُنَّ فَلِمَ يُوجَدْ حَدُّ الْمُولِي، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا، وَإِذَا وَطِئَ إحْدَاهُمَا أَوْ وَطِئَ الثَّلَاثَ مِنْهُنَّ، فَلَا يُمْكِنُهُ وَطْءُ الْبَاقِيَةِ إلَّا بِحِنْثٍ يَلْزَمُهُ فَوُجِدَ حَدُّ الْإِيلَاءِ فَيَصِيرُ مُولِيًا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُولِي مَنْ لَا يُمْكِنُهُ وَطْءُ امْرَأَتِهِ فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الْيَمِينِ. وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُهُ وَطْؤُهَا فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَطِئَ إحْدَاهُمَا أَوْ الثَّلَاثَ مِنْهُنَّ لَزِمَهُ تَعْيِينُ الْأُخْرَى لِلْإِيلَاءِ، وَهَذَا شَيْءٌ يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الْيَمِينِ وَقَدْ وُجِدَ حَدُّ الْإِيلَاءِ فَيَكُونُ مُولِيًا، وَلَوْ قَرِبَ إحْدَاهُمَا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ شَرْطِ الْحِنْثِ، وَهُوَ قُرْبَانُهُمَا، وَلَكِنْ يَبْطُلُ إيلَاؤُهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْقُرْبَانِ وَقَدْ وُجِدَ، وَالْإِيلَاءُ فِي حَقِّ الْبَاقِيَةِ عَلَى حَالِهِ لِانْعِدَامِ الْمُبْطِلِ فِي حَقِّهِمَا، وَهُوَ الْقُرْبَانُ، وَلَوْ قَرِبَهُمَا جَمِيعًا بَطَلَ إيلَاؤُهُمَا، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ لِوُجُودِ الْمُبْطِلِ لَهُمَا وَالْمُوجِبِ لِلْكَفَّارَةِ، وَهُوَ قُرْبَانُهُمَا. وَلَوْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بَطَلَ إيلَاؤُهَا، وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ وَطِئَ الْأُخْرَى بَعْدَ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ قُرْبَانُهُمَا، وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَوْ طَلَّقَ إحْدَاهُمَا لَا يَبْطُلُ الْإِيلَاءُ. وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ مَا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ إحْدَاكُمَا فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُولِيًا مِنْ إحْدَاهُمَا حَتَّى لَوْ وَطِئَ إحْدَاهُمَا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَبَطَلَ الْإِيلَاءُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ، وَهُوَ قُرْبَانُ إحْدَاهُمَا، وَلَوْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا أَوْ طَلَّقَ إحْدَاهُمَا ثَلَاثًا أَوْ بَانَتْ بِلَا عِدَّةٍ تَعَيَّنَتْ الْبَاقِيَةُ لِلْإِيلَاءِ لِزَوَالِ الْمُزَاحَمَةِ، وَلَوْ لَمْ يَقْرَبْ إحْدَاهُمَا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ بَانَتْ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا، وَلَهُ خِيَارٌ أَنْ يُوقِعَ الطَّلَاقَ عَلَى أَيَّتِهِمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ شَرْعًا بِشَرْطِ تَرْكِ الْقُرْبَانِ فِي الْمُدَّةِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ لَمْ أَقْرَبْ إحْدَاكُمَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فِي إحْدَاكُمَا طَالِقٌ بَائِنٌ. وَلَوْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فَمَضَتْ الْمُدَّةُ، وَلَمْ يَقْرَبْ إحْدَاهُمَا طَلُقَتْ إحْدَاهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ، وَلَهُ الْخِيَارُ يُوقِعُ عَلَى أَيَّتِهِمَا شَاءَ كَذَا هَذَا، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُعَيِّنَ الْإِيلَاءَ فِي إحْدَاهُمَا قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ عَيَّنَ إحْدَاهُمَا ثُمَّ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ عَلَى الْمُعَيَّنَةِ بَلْ يَقَعُ عَلَى إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا، وَيُخَيَّرُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَعَلَّقَتْ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ فَالتَّعْيِينُ يَكُونُ تَغْيِيرَ الْيَمِينِ، فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرَ الْيَمِينِ إبْطَالُهَا مِنْ وَجْهٍ وَالْيَمِينُ عَقْدٌ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ، فَلَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ؛ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ فِي حَقِّ الْبِرِّ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْقُرْبَانِ فِي الْمُدَّةِ، وَمَتَى عَلَّقَ الطَّلَاقَ الْمُبْهَمَ بِشَرْطٍ ثُمَّ أَرَادَ التَّعْلِيقَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إذَا جَاءَ غَدٌ فَإِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُعَيِّنَ إحْدَاهُمَا قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ كَذَا هَذَا فَإِذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ، وَبَانَتْ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَلَهُ الْخِيَارُ فِي تَعْيِينِ أَيَّتِهِمَا شَاءَ لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إذَا وَقَعَ فِي الْمَجْهُولَةِ يَتَخَيَّرُ الزَّوْجُ فِي التَّعْيِينِ فَلَهُ أَنْ يُوقِعَ الطَّلَاقَ عَلَى إحْدَاهُمَا فَلَوْ لَمْ يُوقِعْ الطَّلَاقَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى، وَبَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِتَطْلِيقَةٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى الْأُخْرَى. وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ آلَى مِنْ إحْدَاهُمَا لَا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَلَا يَتَنَاوَلُ الْإِيلَاءُ إلَّا إحْدَاهُمَا. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ لِعَدَمِ الْحِنْثِ فَكَانَ تَعْلِيقُ طَلَاقِ إحْدَاهُمَا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ بَاقِيًا، فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى إحْدَاهُمَا فَقَدْ زَالَتْ

مُزَاحَمَتُهُمَا وَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ فَتَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِبَقَاءِ الْيَمِينِ فِي حَقِّهَا، وَتَعْلِيقِ طَلَاقِهَا كَمَا لَوْ زَالَتْ الْمُزَاحَمَةُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ قَبْلَ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ بِالْمَوْتِ بِأَنْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا أَلَيْسَ أَنَّهُ تَتَعَيَّنُ الْأُخْرَى كَذَا هَهُنَا. وَهَلْ يَتَكَرَّرُ الطَّلَاقُ عَلَى الْمُولَيْ مِنْهَا بِالْإِيلَاءِ السَّابِقِ بِتَكْرَارِ الْمُدَّةِ؟ لَا نَصَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، وَتَرْجِيحُ بَعْضِ الْأَقَاوِيلِ فِيهِ عَلَى الْبَعْضِ يُعْرَفُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَيَّنَ الطَّلَاقَ فِي إحْدَاهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى بَانَتْ الْأُخْرَى بِتَطْلِيقَةٍ عَلَى جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ، وَهُوَ مَا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ وَاحِدَةً مِنْكُمَا فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُولِيًا مِنْهُمَا جَمِيعًا حَتَّى لَوْ مَضَتْ مُدَّةُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَلَمْ يَقْرَبْهُمَا فِيهَا بَانَتَا جَمِيعًا كَذَا ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجَامِعِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ فَقَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ يَكُونُ مُولِيًا مِنْهُمَا اسْتِحْسَانًا. وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَكُونُ مُولِيًا مِنْ إحْدَاهُمَا، وَهُوَ الْقِيَاسُ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ قَوْلَهُ وَاحِدَةً مِنْكُمَا لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهُمَا بَلْ عَنْ إحْدَاهُمَا، فَصَارَ كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ إحْدَاكُمَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا قَرِبَ إحْدَاهُمَا يَحْنَثُ، وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فَدَلَّ أَنَّ الْيَمِينَ تَنَاوَلَتْ إحْدَاهُمَا لَا غَيْرَ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ - وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ - أَنَّ قَوْلَهُ إحْدَاكُمَا مَعْرِفَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَى الْكِنَايَةِ وَالْكِنَايَاتُ مَعَارِفُ بَلْ أَعْرَفُ الْمَعَارِفِ وَالْمُضَافُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مَعْرِفَةٌ، وَالْمَعْرِفَةُ تَخْتَصُّ فِي النَّفْيِ كَمَا تَخْتَصُّ فِي الْإِثْبَاتِ وَقَوْلُهُ: وَاحِدَةً مِنْكُمَا نَكِرَةٌ؛ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ بِنَفْسِهَا، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُوجِبُ صَيْرُورَتَهَا مَعْرِفَةً، وَهُوَ اللَّامُ أَوْ الْإِضَافَةُ فَبَقِيَتْ نَكِرَةً، وَأَنَّهَا فِي مَحَلِّ النَّفْيِ فَتَعُمُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ يَسْتَقِيمُ إدْخَالُ كَلِمَةِ الْإِحَاطَةِ وَالِاشْتِمَالِ - وَهِيَ كَلِمَةُ كُلٍّ - عَلَى وَاحِدَة مِنْكُمَا. وَلَا يَسْتَقِيمُ إدْخَالُهَا عَلَى إحْدَاكُمَا حَتَّى يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ كُلَّ إحْدَاكُمَا فَدَلَّ أَنَّ قَوْلَهُ وَاحِدَةً مِنْكُمَا يَصْلُحُ لَهُمَا وَقَوْلُهُ: إحْدَاكُمَا لَا يَصْلُحُ لَهُمَا، إلَّا أَنَّهُ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ وَاحِدَةً مِنْكُمَا فَقَرِبَ إحْدَاهُمَا يَبْطُلُ إيلَاؤُهُمَا جَمِيعًا، وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ، وَهُوَ قُرْبَانُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا فَقَرِبَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا إنَّهُ يَبْطُلُ إيلَاؤُهُمَا، وَلَا يَبْطُلُ إيلَاءُ الْبَاقِيَةِ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ أَمَّا بُطْلَانُ إيلَاءِ الَّتِي قَرِبَهَا فَلِوُجُودِ شَرْطِ الْبُطْلَانِ، وَهُوَ الْقُرْبَانُ، وَلَمْ يُوجَدْ الْقُرْبَانُ فِي الْبَاقِيَةِ، فَلَا يَبْطُلُ إيلَاؤُهَا، وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فَلِعَدَمِ شَرْطِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ قُرْبَانُهُمَا جَمِيعًا. قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَأَمَتِهِ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا، لَا يَكُونُ مُولِيًا مِنْ امْرَأَتِهِ مَا لَمْ يَقْرَبْ الْأَمَةَ فَإِذَا قَرِبَ الْأَمَةَ صَارَ مُولِيًا مِنْ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُولِيَ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُ امْرَأَتِهِ فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ، وَقَبْلَ أَنْ يَقْرَبَ الْأَمَةَ يُمْكِنُهُ قُرْبَانُ امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْحِنْثَ بِقُرْبَانِهِمَا، فَلَا يَثْبُتُ بِقُرْبَانِ إحْدَاهُمَا، فَإِذَا قَرِبَ الْأَمَةَ فَقَدْ صَارَ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُ زَوْجَتِهِ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ فَصَارَ مُولِيًا. وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ إحْدَاكُمَا، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا فِي حَقِّ الْبِرِّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ إحْدَاكُمَا مَعْرِفَةٌ لِكَوْنِهِ مُضَافًا إلَى الْمَعْرِفَةِ، وَالْمَعْرِفَةُ تَخُصُّ، وَلَا تَعُمُّ سَوَاءٌ كَانَ فِي مَحَلِّ الْإِثْبَاتِ أَوْ فِي مَحَلِّ النَّفْيِ، فَلَا يَتَنَاوَلُ إلَّا إحْدَاهُمَا، وَالْإِيلَاءُ فِي حَقِّ الْبِرِّ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِشَرْطِ تَرْكِ الْقُرْبَانِ فِي الْمُدَّةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ لَمْ أَقْرَبْ إحْدَاكُمَا فِي الْمُدَّةِ فَإِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا إذَا عَنَى امْرَأَتَهُ، وَمَا عَنَى هَهُنَا، فَلَا يُمْكِنُهُ جَعْلُهُ إيلَاءً فِي حَقِّ الْبِرِّ. وَلَوْ قَرِبَ إحْدَاهُمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ يَمِينًا فِي حَقِّ الْحِنْثِ وَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ثُمَّ قَرِبَهَا حَنِثَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إيلَاءً فِي حَقِّ الْبِرِّ كَذَا هَذَا. وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ وَاحِدَةً مِنْكُمَا كَانَ مُولِيًا مِنْ امْرَأَتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاحِدَةَ نَكِرَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي مَحَلِّ النَّفْيِ فَتَعُمُّ عُمُومَ الْأَفْرَادِ كَمَا لَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ وَاحِدًا مِنْ رِجَالِ حَلَبَ إلَّا أَنَّهُ لَوْ قَرِبَ إحْدَاهُمَا حَنِثَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ قُرْبَانُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَا قُرْبَانُهُمَا وَقَدْ وُجِدَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ حُرَّةٌ، وَأَمَةٌ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا صَارَ مُولِيًا مِنْهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَحَلُّ الْإِيلَاءِ فَإِذَا مَضَى شَهْرَانِ، وَلَمْ يَقْرَبْهُمَا بَانَتْ الْأَمَةُ لِمُضِيِّ مُدَّتِهَا مِنْ غَيْرِ قُرْبَانٍ، وَإِذَا مَضَى شَهْرَانِ آخَرَانِ بَانَتْ الْحُرَّةُ أَيْضًا لِتَمَامِ مُدَّتِهَا مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ إحْدَاكُمَا يَكُونُ مُولِيًا مِنْ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَحَلُّ الْإِيلَاءِ وَقَدْ أَضَافَ الْإِيلَاءَ إلَى إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَيَصِيرُ مُولِيًا مِنْ إحْدَاهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُعَيِّنَ إحْدَاهُمَا قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرَيْنِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا مَضَى شَهْرَانِ، وَلَمْ

يَقْرَبْهُمَا بَانَتْ الْأَمَةُ لَا؛ لِأَنَّهَا عُيِّنَتْ لِلْإِيلَاءِ بَلْ لِسَبْقِ مُدَّتِهَا، وَاسْتَوْثَقَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ عَلَى الْحُرَّةِ فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَمْ يَقْرَبْهَا بَانَتْ الْحُرَّةُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْحِنْثُ فَكَانَ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ عَلَى إحْدَاهُمَا بَاقِيًا، فَإِذَا مَضَى شَهْرَانِ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى الْأَمَةِ فَقَدْ زَالَتْ مُزَاحَمَتُهَا وَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ فَتَعَيَّنَتْ الْحُرَّةُ لِبَقَاءِ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّهَا، وَتَعْلِيقِ طَلَاقِهَا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَإِنَّمَا اسْتَوْثَقَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ عَلَى الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ انْعَقَدَتْ لَإِحْدَاهُمَا وَقَدْ تَعَيَّنَتْ الْأَمَةُ لِلسَّبْقِ فَيَبْتَدِئُ الْإِيلَاءُ عَلَى الْحُرَّةِ مِنْ وَقْتِ بَيْنُونَةِ الْأَمَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ انْعَقَدَتْ الْمُدَّةُ لَهُمَا فَإِذَا مَضَى شَهْرَانِ فَقَدْ تَمَّتْ مُدَّةُ الْأَمَةِ فَتُتِمُّ مُدَّةُ الْحُرَّةِ بِشَهْرَيْنِ آخَرَيْنِ، وَلَوْ مَاتَتْ الْأَمَةُ قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرَيْنِ تَعَيَّنَتْ الْحُرَّةُ لِلْإِيلَاءِ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ حَتَّى إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ تَبِينُ لِزَوَالِ الْمُزَاحَمَةِ بِمَوْتِ الْأَمَةِ، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ وَاحِدَةً مِنْكُمَا يَكُونُ مُولِيًا مِنْهُمَا جَمِيعًا حَتَّى لَوْ مَضَى شَهْرَانِ تَبِينُ الْأَمَةُ، ثُمَّ إذَا مَضَى شَهْرَانِ آخَرَانِ تَبِينُ الْحُرَّةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا إلَّا أَنَّ هَهُنَا إذَا قَرِبَ إحْدَاهُمَا حَنِثَ، وَبَطَلَ الْإِيلَاءُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلُ، وَإِنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ، وَإِنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك. إذَا أَضَافَهُ إلَى الْوَقْتِ بِأَنْ قَالَ: إذَا جَاءَ غَدٌ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك، أَوْ قَالَ: إذَا جَاءَ رَأْسُ شَهْرِ كَذَا فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك، وَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ أَوْ الْوَقْتُ فَيَصِيرُ مُولِيًا، وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ، وَالْيَمِينُ تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَإِنَّ وَقَّتَهُ إلَى غَايَةٍ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمَجْعُولُ غَايَةً لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ يَكُونُ مُولِيًا كَمَا إذَا قَالَ: وَهُوَ فِي شَعْبَانَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى أَصُومَ الْمُحَرَّمَ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ قُرْبَانِهَا بِمَا يَصْلُحُ مَانِعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا إلَّا بِحِنْثٍ يَلْزَمُهُ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ الْغَايَةِ - وَهُوَ صَوْمُ الْمُحَرَّمِ - فِي الْمُدَّةِ، وَكَذَلِكَ يُعَدُّ مَانِعًا فِي الْعُرْفِ؛ لِأَنَّهُ يُحْلَفُ بِهِ عَادَةً. وَكَذَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك إلَّا فِي مَكَانِ كَذَا، وَبَيَّنَهُ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ الْمَكَانَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِإِمْكَانِ الْقُرْبَانِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى تَفْطِمِي صَبِيَّكِ، وَبَيْنَهَا، وَبَيْنَ الْفِطَامِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا يَكُونُ مُولِيًا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى تَخْرُجَ الدَّابَّةُ مِنْ الْأَرْضِ أَوْ حَتَّى يَخْرُجَ الدَّجَّالُ أَوْ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ مُولِيًا لِتَصَوُّرِ وُجُودِ الْغَايَةِ فِي الْمُدَّةِ سَاعَةً فَسَاعَةً فَيُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَهَا عَلَامَاتٌ يَتَأَخَّرُ عَنْهَا بِأَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الْإِيلَاء عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْإِخْبَارُ، فَلَا تُوجَدُ هَذِهِ الْغَايَةُ فِي زَمَانِنَا فِي مُدَّةِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ عَادَةً فَلَمْ تَكُنِ الْغَايَةُ مُتَصَوَّرَةَ الْوُجُودِ عَادَةً، فَلَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ عَادَةً فَيَكُونُ مُولِيًا؛ وَلِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُذْكَرُ عَلَى إرَادَةِ التَّأْبِيدِ فِي الْعُرْفِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَبَدًا وَكَذَا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى تُقَوَّمَ السَّاعَةُ كَانَ مُولِيًا، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ فِي الْعَقْلِ قِيَامُ السَّاعَةِ سَاعَةً فَسَاعَةً لَكِنْ قَامَتْ دَلَائِلُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَقُومُ إلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ أَشْرَاطِهَا الْعِظَامِ كَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَخُرُوجِ يَأْجُوجَ، وَمَأْجُوجَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي زَمَانِنَا فَلَمْ تَكُنْ الْغَايَةُ قَبْلَهَا مُتَصَوَّرَةَ الْوُجُودِ عَادَةً عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْغَايَةِ تُذْكَرُ، وَيُرَادُ بِهَا التَّأْبِيدُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] أَيْ: لَا يَدْخُلُونَهَا أَصْلًا، وَرَأْسًا، وَكَمَا يُقَالُ: لَا أَفْعَلُ كَذَا حَتَّى يَبْيَضَّ الْفَأْرُ، وَيَشِيبَ الْغُرَابُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى تَمُوتِي أَوْ حَتَّى أَمُوتَ أَوْ حَتَّى تُقْتَلِي أَوْ حَتَّى أُقْتَلَ أَوْ حَتَّى أَقْبَلَك أَوْ حَتَّى تَقْبَلِينِي كَانَ مُولِيًا، وَإِنْ كَانَ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْمُدَّةِ لَكِنْ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ النِّكَاحِ بَعْدَ وُجُودِهَا فَيَصِيرُ حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك مَا دُمْت زَوْجَكِ أَوْ مَا دُمْتِ زَوْجَتِي أَوْ مَا دُمْتُ حَيًّا أَوْ مَا دُمْتِ حَيَّةً، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ كَانَ مُولِيًا إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لَمَا تُصُوِّرَ انْعِقَادُ الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ ثَابِتٌ فِي كُلِّ الْإِيلَاءِ. قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ أَمَةُ الْغَيْرِ - وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى أَمْلِكَكِ أَوْ أَمْلِكَ شِقْصًا مِنْك يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْقَى بَعْدَ مِلْكِهَا أَوْ شِقْصًا مِنْهَا فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك مَا دُمْتُ زَوْجَكِ أَوْ مَا دُمْتِ زَوْجَتِي، وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك

حَتَّى أَشْتَرِيَك لَا يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَرْتَفِعُ بِمُطْلَقِ الشِّرَاءِ لِجَوَازِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لِغَيْرِهِ، فَلَا يَمْلِكُهَا، فَلَا يَرْتَفِعُ النِّكَاحُ. وَكَذَا إذَا قَالَ: حَتَّى أَشْتَرِيَك لِنَفْسِي؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْتَرِيهَا شِرَاءً فَاسِدًا، فَلَا يَرْتَفِعُ النِّكَاحُ، فَلَا يَمْلِكُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَوْ قَالَ: حَتَّى أَشْتَرِيَك لِنَفْسِي، وَأَقْبِضَك كَانَ مُولِيًا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ فَيَرْتَفِعُ النِّكَاحُ فَيَصِيرُ تَقْدِيرُهُ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك مَا دُمْت فِي نِكَاحِي، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ النِّكَاحِ مَعَ وُجُودِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَوْ حَلَفَ بِهِ لَكَانَ مُولِيًا يَصِيرُ مُولِيًا إذَا جَعَلَهُ غَايَةً، وَإِلَّا، فَلَا. هَذَا أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ. وَأَصْلُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَهُ قُرْبَانُهَا فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا،، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى أَعْتِقَ عَبْدِي فُلَانًا أَوْ حَتَّى أُطَلِّقَ امْرَأَتِي فُلَانَةَ أَوْ حَتَّى أَصُومَ شَهْرًا أَنَّهُ يَصِيرُ مُولِيًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَكُونُ مُولِيًا، لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ هَذِهِ الْغَايَاتِ قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَيُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الْيَمِينِ، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا كَمَا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى أَدْخُلَ الدَّارَ أَوْ حَتَّى أُكَلِّمَ فُلَانًا، وَلَهُمَا أَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا، وَبِمَا يُحْلَفُ بِهِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَهُوَ عِتْقُ عَبْدِهِ، وَطَلَاقُ امْرَأَتِهِ وَصَوْمُ الشَّهْرِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَكَانَ مُولِيًا فَكَذَا إذَا جَعَلَهَا غَايَةً. وَكَذَا لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الْيَمِينِ: إمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ أَوْ عِتْقُ الْعَبْدِ أَوْ طَلَاقُ الْمَرْأَةِ أَوْ صَوْمُ الشَّهْرِ، فَيَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ قَرِبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَكَانَ مُولِيًا كَذَا هَذَا بِخِلَافِ الدُّخُولِ وَالْكَلَامِ. قَالَ لَا أَقْرَبُك حَتَّى أَقْتُلَ عَبْدِي أَوْ حَتَّى أَشْتُمَ عَبْدِي أَوْ حَتَّى أَشْتُمَ فُلَانًا أَوْ أَضْرِبَ فُلَانًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْلَفْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عُرْفًا، وَعَادَةً، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا فَكَذَا إذَا جَعَلَهُ غَايَةً لِلْإِيلَاءِ. وَكَذَا إذَا قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ قَتْلُ عَبْدِي أَوْ ضَرْبُ عَبْدِي أَوْ شَتْمُ عَبْدِي أَوْ قَتْلُ فُلَانٍ أَوْ ضَرْبُ فُلَانٍ أَوْ شَتْمُ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا كَمَا لَوْ قَالَ: فَعَلَيَّ أَنْ أَدْخُلَ الدَّارَ أَوْ أُكَلِّمَ فُلَانًا لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَأَمَّا الْيَمِينُ بِالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَنَحْوُ قَوْلِهِ: إنْ قَرِبْتُك فَامْرَأَتِي الْأُخْرَى طَالِقٌ، أَوْ قَالَ: هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ: فَعَبْدِي هَذَا حُرٌّ أَوْ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ قَالَ: فَعَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ أَوْ فَعَلَيَّ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ أَوْ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ فَعَلَيَّ هَدْيٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ صَوْمٌ أَوْ اعْتِكَافٌ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ وَالْيَمِينُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُوَّةِ، وَالْحَالِفُ يَتَقَوَّى بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ قُرْبَانِ امْرَأَتِهِ فِي الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَصْلُحُ مَانِعًا مِنْ الْقُرْبَانِ فِي الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَى الطَّبْعِ، وَيَشُقُّ عَلَيْهِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِحُصُولِ مَا وُضِعَ لَهُ الْيَمِينُ، وَهُوَ التَّقَوِّي عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ. وَكَذَا يُعَدُّ مَانِعًا فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَإِنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَكَذَا لِبَعْضِهَا مَدْخَلٌ فِي الْكَفَّارَةِ، وَهُوَ الْعِتْقُ وَالصَّدَقَةُ، وَهِيَ الْإِطْعَامُ وَالصَّوْمُ وَالْهَدْيُ، وَالِاعْتِكَافُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَدْخَلٌ فِي الْكَفَّارَةِ فَلَهُمَا تَعَلُّقٌ بِالْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِمَا إلَّا بِمَالٍ غَالِبًا فَأَشْبَهَ الْعِتْقَ وَالصَّدَقَةَ لِتَعَلُّقِهِمَا بِالْمَالِ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ إنْ قَرِبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَكُونُ مُولِيًا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي الْخِلَافَ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُولِيَ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُ امْرَأَتِهِ فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِحِنْثٍ يَلْزَمُهُ، وَهَهُنَا يُمْكِنُهُ الْقُرْبَانُ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ بِأَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ قَبْلَ أَنْ يَقْرَبَهَا ثُمَّ يَقْرَبُهَا، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ قُرْبَانِهَا بِمَا يَصْلُحُ مَانِعًا، وَيُعَدُّ مَانِعًا فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَكَانَ مُولِيًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: يُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ قَبْلَ الْقُرْبَانِ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِالْقُرْبَانِ، فَيَكُونُ الْمِلْكُ قَائِمًا لِلْحَالِ وَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ وَالْبَيْعُ مَوْهُومٌ فَكَانَ الْحِنْثُ عِنْدَ الْقُرْبَانِ لَازِمًا عَلَى اعْتِبَارِ الْحَالِ ظَاهِرًا، وَغَالِبًا، وَلَوْ قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَكُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ حُرًّا. وَقَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَهُوَ مُولٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَكُونُ مُولِيًا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ عَلَّقَ الْيَمِينَ بِالْقُرْبَانِ، وَعِنْدَ وُجُودِ الْقُرْبَانِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بَعْدَ التَّمْلِيكِ وَالتَّزَوُّجِ وَالْجَزَاءُ الْمَانِعُ مِنْ الْقُرْبَانِ مَا يُلْزَمُ عِنْدَ الْقُرْبَانِ؛ وَلِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ التَّمَلُّكِ وَالتَّزَوُّجِ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ جَعَلَ الْقُرْبَانَ شَرْطَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ، وَكَوْنُ الْقُرْبَانِ شَرْطَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ يَصْلُحُ مَانِعًا لَهُ عَنْ الْقُرْبَانِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَرِبَهَا

انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ وَالْيَمِينُ إذَا انْعَقَدَتْ يَحْتَاجُ إلَى مَنْعِ النَّفْسِ عَنْ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ خَوْفًا عَنْ نُزُولِ الْجَزَاءِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ وَقْتَ الْقُرْبَانِ، وَهُوَ انْعِقَادُ الْيَمِينِ الَّتِي يَلْزَمُ عِنْدَ انْحِلَالِهَا حُكْمُ الْحِنْثِ فَيَصِيرُ مُولِيًا وَقَوْلُهُ: يُمْكِنُهُ أَنْ لَا يَتَمَلَّكَ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ قُلْنَا وَقَدْ يَمْلِكُ مِنْ غَيْرِ تَمَلُّكٍ بِالْإِرْثِ، فَلَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ. لَوْ قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرِ كَذَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ يَمْضِي قَبْلَ مُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ إذَا مَضَى يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْضِي قَبْلَ مُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ وَطْؤُهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِصِيَامٍ يَلْزَمُهُ، وَلَوْ قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ أَوْ عَلَيَّ أَنْ أَغْزُوَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ مُولِيًا كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ وَذَكَرَ الْقَاضِي - فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ - الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الصَّلَاةَ مِمَّا يَصِحُّ إيجَابُهَا بِالنَّذْرِ كَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ فَيَصِيرُ مُولِيًا كَمَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ صَوْمٌ أَوْ حَجٌّ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ مَانِعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْقُلُ عَلَى الطَّبْعِ بَلْ يَسْهُلُ، وَلَا يُعَدُّ مَانِعًا فِي الْعُرْفِ أَيْضًا أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَعَارَفُوا الْحَلِفَ بِالصَّلَاةِ وَالْغَزْوِ بِخِلَافِ الْحَجِّ وَالصَّوْمِ، فَلَا يَصِيرُ مُولِيًا، كَمَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ أَوْ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ. وَكَذَا لَا مَدْخَلَ لِلصَّلَاةِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْمَالِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَلَوْ قَالَ إنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ كَفَّارَةٌ أَوْ قَالَ: فَعَلَيَّ يَمِينٌ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَعَلَيَّ كَفَّارَةٌ الْتِزَامُ الْكَفَّارَةِ نَصًّا، وَقَوْلُهُ: عَلَيَّ يَمِينٌ مُوجِبُ الْيَمِينِ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: فَعَلَيَّ كَفَّارَةٌ وَقَالُوا فِيمَنْ قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ نَحْرُ وَلَدِي أَنَّهُ مُولٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّذْرَ بِنَحْرِ الْوَلَدِ يَصِحُّ، وَيَجِبُ ذَبْحُ شَاةٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ هُوَ بَاطِلٌ لَا يُوجِبُ شَيْئًا وَلَوْ قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ امْرَأَةِ فُلَانٍ، وَفُلَانٍ كَانَ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ فَإِنْ نَوَى الْإِيلَاءَ كَانَ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِامْرَأَةٍ آلَى مِنْهَا زَوْجُهَا لِإِتْيَانِهِ بِلَفْظٍ مَوْضُوعٍ لِلتَّشْبِيهِ فَإِذَا نَوَى بِهِ الْإِيلَاءَ انْصَرَفَ التَّشْبِيهُ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ التَّحْرِيمَ وَلَا الْيَمِينَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّ التَّشْبِيهَ لَا يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ وَقَالُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنَا مِنْك مُولٍ إنَّهُ إنْ عَنَى بِهِ الْخَبَرَ بِالْكَذِبِ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ وَلَا يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الْخَبَرِ، وَخَبَرُ غَيْرِ الْمَعْصُومِ يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ خَبَرَهُ يُحْمَلُ عَلَى الصِّدْقِ وَلَا يَكُونُ صَادِقًا إلَّا بِثُبُوتِ الْمُخْبَر بِهِ، وَإِنْ عَنَى بِهِ الْإِيجَابَ كَانَ مُولِيًا فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِيجَابِ فِي الْعُرْفِ وَلَوْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى قَدْ أَشْرَكْتُك فِي إيلَائِهَا كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْإِيلَاءِ لَوْ صَحَّتْ لَثَبَتَتْ الشَّرِكَةُ فِي الْمُدَّةِ فَيَصِيرُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِيلَاءِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَهُوَ مُولٍ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ إذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَقَدْ جَعَلَ الطَّلَاقَ جَزَاءً مَانِعًا مِنْ الْقُرْبَانِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَصَارَ مُولِيًا كَذَا هَذَا، وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ فَهُوَ مُولٍ لِلْحَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ مُولِيًا مَا لَمْ يَقْرَبْهَا (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ إذَا نَوَى بِهِ الْيَمِينَ أَوْ لَا نِيَّةَ لَهُ يَكُونُ إيلَاءً بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا كَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَصَارَ الْإِيلَاءُ مُعَلَّقًا بِالْقُرْبَانِ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَقْرَبَهَا كَذَا هَذَا،، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ قُرْبَانِ امْرَأَتِهِ فِي الْمُدَّةِ بِمَا لَا يَصْلُحُ مَانِعًا - وَهُوَ التَّحْرِيمُ، وَهُوَ حَدُّ الْمُولِي - فَيَصِيرُ مُولِيًا كَمَا لَوْ قَالَ إنْ قَرِبْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَسْأَلَةِ الْحَرَامِ؛ أَعْنِي قَوْلَهُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ مِنْ غَيْرِ التَّعْلِيقِ بِشَرْطِ الْقُرْبَانِ أَنَّ حُكْمَهَا مَا هُوَ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَى شَيْءٍ خَاصٍّ نَحْوِ امْرَأَتِهِ أَوْ الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ أَوْ اللِّبَاسِ. وَأَمَّا إنْ أَضَافَهُ إلَى كُلِّ حَلَالٍ عَلَى الْعُمُومِ فَإِنْ أَضَافَهُ إلَى امْرَأَتِهِ بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ قَدْ حَرَّمْتُك عَلَيَّ أَوْ أَنَا عَلَيْك حَرَامٌ أَوْ قَدْ حَرَّمْت نَفْسِي عَلَيْك أَوْ أَنْتِ مُحْرِمَةٌ عَلَيَّ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاقٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ، وَغَيْرَهُ، فَإِذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ انْصَرَفَ إلَيْهِ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا يَكُونُ ثَلَاثًا، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً يَكُونُ وَاحِدَةً بَائِنَةً، وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ يَكُونُ وَاحِدَةً بَائِنَةً عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ، وَنَوَى التَّحْرِيمَ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ

يَمِينٌ عِنْدَنَا، وَيَصِيرُ مُولِيًا حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا لِمَا تَبَيَّنَ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت بِهِ الْكَذِبَ، يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَكُونُ شَيْئًا وَلَا يُصَدَّقُ فِي نَفْيِ الْيَمِينِ فِي الْقَضَاءِ وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: الْحَرَامُ يَمِينٌ حَتَّى رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: إذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَهُوَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا أَمَا كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إنْ نَوَى طَلَاقًا فَطَلَاقٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَلَاقًا فَيَمِينٌ كَفَّرَهَا، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ طَلَاقًا ثَلَاثًا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا، وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مَا أُبَالِي حُرْمَتَهَا أَوْ قِطْعَةً مِنْ ثَرِيدٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَفِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بِنَفْسِ اللَّفْظِ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ هَلْ هُوَ يَمِينٌ؟ عِنْدَنَا يَمِينٌ، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ تَغْيِيرُ الشَّرْعِ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَ الشَّرْعِ، وَلِهَذَا خَرَجَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] مَخْرَجَ الْعِتَابِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى - وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْيَمِينَ لَا يُحَرِّمُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ عَلَى الْحَالِفِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ بِكَوْنِهِ حَلَالًا. (وَلَنَا) الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ: - عَزَّ وَجَلَّ - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلَى قَوْلِهِ {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] قِيلَ: نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي تَحْرِيمِ جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ لَمَّا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ يَمِينًا بِقَوْلِهِ {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] أَيْ: وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أَوْ أَبَاحَ لَكُمْ أَنْ تُحِلُّوا مِنْ أَيْمَانِكُمْ بِالْكَفَّارَةِ، وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ كَفَّارَةَ أَيْمَانِكُمْ وَالْخِطَابُ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتَهُ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْحَرَامَ يَمِينًا. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَمَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْحَرَامَ يَمِينًا، وَبَعْضُهُمْ نَصَّ عَلَى وُجُوبِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِيهِ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ - وَلَا يَمِينَ - لَا تُتَصَوَّرُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَمِينٌ وَقَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ طَلَاقًا ثَلَاثًا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا نَوَى الثَّلَاثَ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ نَوْعَانِ غَلِيظَةٌ، وَخَفِيفَةٌ فَكَانَتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ تَعْيِينَ بَعْضِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ فَيَصِحُّ، وَإِذَا نَوَى وَاحِدَةً كَانَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْ الْحُرْمَةِ وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ لِلْحَالِ، وَإِثْبَاتُ حُكْمِ اللَّفْظِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْمُخَالِفَ يُوجِبُ فِيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ تَسْتَدْعِي وُجُودَ الْيَمِينِ فَدَلَّ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَمِينٌ فِي الشَّرْعِ فَإِذَا نَوَى بِهِ الْكَذِبَ لَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ الْيَمِينِ فِي الْقَضَاءِ بِعُدُولِهِ عَنْ الظَّاهِرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ تَغْيِيرُ الشَّرْعِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ مِنْ الْحَالِفِ حَقِيقَةً بَلْ مِنْ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى -؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ إثْبَاتُ الْحُرْمَةِ كَالتَّحْلِيلِ إثْبَاتُ الْحِلِّ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بَلْ الْحُرْمَةُ وَالْحِلُّ، وَسَائِرُ الْحُكُومَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ثَبَتَتْ بِإِثْبَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهَا أَصْلًا إنَّمَا مِنْ الْعَبْدِ مُبَاشَرَةُ سَبَبِ الثُّبُوتِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ الزَّوْجِ تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّهُ - اللَّهُ تَعَالَى - بَلْ مُبَاشَرَةَ سَبَبِ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ أَوْ مَنْعَ النَّفْسِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْحَلَالِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَنْعِ وَقَدْ يُمْنَعُ الْمَرْءُ مِنْ تَنَاوُلِ الْحَلَالِ لِغَرَضٍ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ تَحْرِيمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 12] وَالْمُرَادُ مِنْهُ امْتِنَاعُ سَيِّدِنَا مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ الِارْتِضَاعِ مِنْ غَيْرِ ثَدْيِ أُمِّهِ لَا التَّحْرِيمُ الشَّرْعِيُّ، وَعَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يُحْمَلُ التَّحْرِيمُ الْمُضَافُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ حَقِيقَةً فَمَا مَعْنَى إلْحَاقِ الْعِتَابِ بِهِ؟ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْكَلَامِ إنْ كَانَ يُوهِمُ الْعِتَابَ فَلَيْسَ بِعِتَابٍ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ تَخْفِيفُ الْمُؤْنَةِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ مَعَ أَزْوَاجِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَنْدُوبًا إلَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ مَعَهُنَّ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ وَالرَّحْمَةِ بِهِنَّ فَبَلَغَ مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ مَبْلَغًا امْتَنَعَ عَنْ الِامْتِنَاعِ بِمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ يَبْتَغِي بِهِ حُسْنَ الْعِشْرَةِ فَخَرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ تَخْفِيفِ الْمُؤْنَةِ فِي حُسْنِ

الْعِشْرَةِ مَعَهُنَّ لَا مَخْرَجَ النَّهْيِ وَالْعِتَابِ، وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ النَّهْيِ وَالْعِتَابِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] وَالثَّانِي: إنْ كَانَ ذَلِكَ الْخِطَابُ عِتَابًا فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنَّمَا عُوتِبَ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ بِلَا إذْنٍ سَبَقَ مِنْ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَإِنْ كَانَ مَا فَعَلَ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ مَنْعُ النَّفْسِ عَنْ تَنَاوُلِ الْحَلَالِ وَالْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُعَاتَبُونَ عَلَى أَدْنَى شَيْءٍ مِنْهُمْ يُوجَدُ مِمَّا لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ لَعُدَّ مِنْ أَفْضَلِ شَمَائِلِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] وَقَوْلِهِ {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1] {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس: 2] وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالثَّانِي: إنْ كَانَ هَذَا تَحْرِيمَ الْحَلَالِ لَكِنْ لِمَ قُلْت إنَّ كُلَّ تَحْرِيمِ حَلَالٍ مِنْ الْعَبْدِ تَغْيِيرٌ لِلشَّرْعِ بَلْ ذَلِكَ نَوْعَانِ: تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مُطْلَقًا. وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ بَلْ اعْتِقَادُهُ كُفْرٌ، وَتَحْرِيمُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ مُؤَقَّتًا إلَى غَايَةٍ لَا يَكُونُ تَغْيِيرًا بَلْ يَكُونُ بَيَانَ نِهَايَةِ الْحَلَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ مَشْرُوعٌ، وَإِنْ كَانَ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْحِلُّ مُؤَقَّتًا إلَى غَايَةِ وُجُودِ الطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ التَّطْلِيقُ مِنْ الزَّوْجِ تَغْيِيرًا لِلشَّرْعِ بَلْ كَانَ بَيَانَ انْتِهَاءِ الْحِلِّ،، وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ وَالسُّقُوطَ، وَعَلَى هَذَا سَبِيلُ النَّسْخِ فِيمَا يَحْتَمِلُ التَّنَاسُخَ، فَكَذَا قَوْلُهُ: لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ ظِهَارًا (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الظِّهَارَ تَشْبِيهُ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ، وَالتَّشْبِيهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَرْفِ التَّشْبِيهِ وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَا يَكُونُ ظِهَارًا وَلَهُمَا أَنَّهُ وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً وَالْمَرْأَةُ تَارَةً تَكُونُ مُحَرَّمَةً بِالطَّلَاقِ، وَتَارَةً تَكُونُ مُحَرَّمَةً بِالظِّهَارِ فَأَيَّ ذَلِكَ نَوَى فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَيُصَدَّقُ فِيهِ هَذَا إذَا أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَى الْمَرْأَةِ. فَأَمَّا إذَا أَضَافَهُ إلَى الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ أَوْ اللِّبَاسِ بِأَنْ قَالَ: هَذَا الطَّعَامُ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ هَذَا الشَّرَابُ أَوْ هَذَا اللِّبَاسُ فَهُوَ يَمِينٌ عِنْدَنَا، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إذَا فَعَلَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا قَالَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالْجَارِيَةِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ أَنَّهُ يَمِينٌ أَمْ لَا؟ وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] قِيلَ: نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي تَحْرِيمِ الْعَسَلِ وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى يَمِينًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] فَدَلَّ أَنَّ تَحْرِيمَ غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالْجَارِيَةِ يَمِينٌ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ تَحِلَّةَ الْيَمِينِ هِيَ الْكَفَّارَةُ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَحْرِيمِ جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ نَزَلَتْ فِيهِمَا لِعَدَمِ التَّنَافِي؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَى الزَّوْجَةِ وَالْجَارِيَةِ لَكَانَ يَمِينًا، فَكَذَا إذَا أُضِيفَ إلَى غَيْرِهِمَا كَانَ يَمِينًا؛ كَلَفْظِ الْقَسَمِ إذَا أُضِيفَ إلَى الزَّوْجَةِ وَالْجَارِيَةِ كَانَ يَمِينًا، وَإِذَا أُضِيفَ إلَى غَيْرِهِمَا كَانَ يَمِينًا أَيْضًا، كَذَا هَذَا، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ يَمِينًا مِمَّا حَرَّمَهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا حَنِثَ وَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ الْمُضَافَ إلَى الْمُعَيَّنِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُعَيَّنِ كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَإِذَا تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْهُ فَقَدْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَيَحْنَثُ، وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الطَّعَامَ فَأَكَلَ بَعْضَهُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ هُنَاكَ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ - وَهُوَ أَكْلُ كُلِّ الطَّعَامِ - وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ لَا يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ بَعْضِ الشَّرْطِ. وَلَوْ قَالَ: نِسَائِي عَلَيَّ حَرَامٌ وَلَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ فَقَرِبَ إحْدَاهُنَّ كَفَّرَ، وَسَقَطَتْ الْيَمِينُ فِيهِنَّ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَى جَمْعٍ فَيُوجِبُ تَحْرِيمَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجَمْعِ فَصَارَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجَمْعِ مُحَرَّمًا عَلَى الِانْفِرَادِ فَإِذَا قَرِبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَقَدْ فَعَلَ مَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَحْنَثُ، وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ، وَإِنْ لَمْ يَقْرُبْ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بِنَّ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى انْفِرَادِهَا وَالْإِيلَاءُ يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ، هَذَا إذَا أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَى نَوْعٍ خَاصٍّ،. فَأَمَّا إذَا أَضَافَهُ إلَى الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا بِأَنْ قَالَ: كُلُّ حَلَالٍ عَلَيَّ حَرَامٌ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ خَاصَّةً اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ عَقِيبَ كَلَامِهِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ اللَّفْظَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْعُمُومِ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ حَلَالٍ، وَكَمَا فَرَغَ عَنْ يَمِينِهِ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ حَلَالٍ يُوجَدُ مِنْهُ فَيَحْنَثُ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا عَامٌّ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى كُلِّ مُبَاحٍ مِنْ فَتْحِ عَيْنِهِ، وَغَضِّ بَصَرِهِ، وَتَنَفُّسِهِ، وَغَيْرِهَا مِنْ حَرَكَاتِهِ، وَسَكَنَاتِهِ الْمُبَاحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ وَالْعَاقِلُ لَا يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ مَنْعَ نَفْسِهِ عَمَّا لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ فَلَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِعُمُومِ هَذَا اللَّفْظِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْخُصُوصِ - وَهُوَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ - بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِمَا فِي الْعُرْفِ، وَنَظِيرُهُ

فصل في شرائط ركن الإيلاء

قَوْله تَعَالَى {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ لِثُبُوتِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ حُمِلَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَهُوَ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ، كَذَا هَذَا فَإِنْ نَوَى مَعَ ذَلِكَ اللِّبَاسَ أَوْ امْرَأَتَهُ فَالتَّحْرِيمُ وَاقِعٌ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ. وَأَيَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَ، وَحْدَهُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِتَنَاوُلِ كُلِّ الْمُبَاحَاتِ، وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِدَلِيلِ الْعُرْفِ فَإِذَا نَوَى شَيْئًا زَائِدًا عَلَى الْمُتَعَارَفِ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ، فَإِذَا نَوَى شَيْئًا بِعَيْنِهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ بِأَنْ نَوَى الطَّعَامَ خَاصَّةً أَوْ الشَّرَابَ خَاصَّةً أَوْ اللِّبَاسَ خَاصَّةً أَوْ امْرَأَتَهُ خَاصَّةً فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْقَضَاءِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مَتْرُوكُ الْعَمَلِ بِظَاهِرِ عُمُومِهِ، وَمِثْلُهُ يُحْمَلُ عَلَى الْخُصُوصِ، فَإِذَا قَالَ أَرَدْت وَاحِدًا بِعَيْنِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَقَدْ تَرَكَ ظَاهِرَ لَفْظٍ هُوَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْعُدُولُ فَيُصَدَّقُ، وَإِنْ قَالَ كُلُّ حِلٍّ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَنَوَى امْرَأَتَهُ كَانَ عَلَيْهَا، وَعَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ دَخَلَا تَحْتَ ظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ وَلَمْ يَنْفِهِمَا بِنِيَّتِهِ فَبَقِيَا دَاخِلَيْنِ تَحْتَ اللَّفْظِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ نَوَى امْرَأَتَهُ خَاصَّةً، وَنَفَى الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ بِنِيَّتِهِ فَلَمْ يَدْخُلَا وَهَهُنَا لَمْ يَنْفِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ نِيَّتَهُ وَقَدْ دَخَلَا تَحْتَ اللَّفْظِ فَبَقِيَا كَذَلِكَ مَا لَمْ يُنْفَيَا بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ نَوَى فِي امْرَأَتِهِ الطَّلَاقَ لَزِمَهُ الطَّعَامُ فِيهَا فَإِنْ أَكْلَ أَوْ شَرِبَ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الطَّلَاقِ وَالْيَمِينِ لِاخْتِلَافِ مَعْنَيَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِذَا أَرَادَ بِهِ فِي الزَّوْجَةِ الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ الْأَمْرَيْنِ، وَأَغْلَظُهُمَا لَا يَبْقَى الْآخَرُ مُرَادًا. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ: أَنْتُمَا عَلَيَّ حَرَامٌ، يَعْنِي فِي إحْدَاهُمَا الطَّلَاقَ، وَفِي الْأُخْرَى الْإِيلَاءَ فَهُمَا طَالِقَانِ جَمِيعًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِذَا أَرَادَهُمَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ يُحْمَلُ عَلَى أَغْلَظِهِمَا، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا. وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ عَلَيَّ حَرَامٌ - يَنْوِي الطَّلَاقَ - وَهَذِهِ عَلَيَّ حَرَامٌ - يَنْوِي الْإِيلَاءَ - كَانَ كَمَا نَوَى؛؛ لِأَنَّهُمَا لَفْظَانِ فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِأَحَدِهِمَا خِلَافُ مَا يُرَادُ بِالْآخَرِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: أَنْتُمَا عَلَيَّ حَرَامٌ يَنْوِي فِي إحْدَاهُمَا ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَفِي الْأُخْرَى وَاحِدَةً أَنَّهُمَا جَمِيعًا طَالِقَانِ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ خِلَافُ حُكْمِ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ الْغَلِيظَةَ وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَتَنَاوَلُ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِذَا نَوَاهُمَا يُحْمَلُ عَلَى أَغْلَظِهِمَا، وَأَشَدِّهِمَا. وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ: سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِي رَجُلٍ قَالَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ مِنْ مَالٍ وَأَهْلٍ وَنَوَى الطَّلَاقَ فِي أَهْلِهِ قَالَ: وَلَا نِيَّةَ لَهُ فِي الطَّعَامِ فَإِنْ أَكْلَ لَمْ يَحْنَثْ لِمَا قُلْنَا. قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هَذَا الطَّعَامُ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَهَذِهِ - يَنْوِي الطَّلَاقَ -؛ لِأَنَّ اللَّفْظَةَ وَاحِدَةٌ وَقَدْ تَنَاوَلَتْ الطَّلَاقَ، فَلَا تَتَنَاوَلُ تَحْرِيمَ الطَّعَامِ. وَقَالُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَالدَّمِ أَوْ الْمَيْتَةِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَوْ كَالْخَمْرِ أَنَّهُ يُسْأَلُ عَنْ نِيَّتِهِ؛ فَإِنْ نَوَى كَذِبًا فَهُوَ كَذِبٌ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَيْسَ صَرِيحًا فِي التَّحْرِيمِ لِيُجْعَلَ يَمِينًا فَيُصَدَّقُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْكَذِبَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ فَكَانَ يَمِينًا، وَإِنْ نَوَى التَّحْرِيمَ فَهُوَ إيلَاءٌ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِمَا هُوَ مُحَرَّمٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ حَرَامٌ. وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَنْوِي الطَّلَاقَ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ أُمِّي - يُرِيدُ التَّحْرِيمَ - قَالَ: هُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهَا مِثْلَ أُمِّهِ لِيَكُونَ تَحْرِيمًا، وَإِنَّمَا جَعَلَهَا أُمَّهُ فَيَكُونُ كَذِبًا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَوْ ثَبَتَ التَّحْرِيمُ بِهَذَا لَثَبَتَ إذَا قَالَ أَنْتِ حَوَّاءُ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ. وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ مَعِي حَرَامٌ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ يُقَامُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ رُكْنِ الْإِيلَاءِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ رُكْنِ الْإِيلَاءِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ هُوَ شَرْطُ صِحَّتِهِ فِي حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ، وَنَوْعٌ هُوَ شَرْطُ صِحَّتِهِ فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ، وَهُوَ الطَّلَاقُ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَوْضِعُ بَيَانِهِ كِتَابُ الْأَيْمَانِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يُسَاوِي سَائِرَ الْأَيْمَانِ فِي حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، وَهُوَ حُكْمُ الْحِنْثِ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُهَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ الْآخَرِ، وَهُوَ حُكْمُ الْبِرِّ؛ وَلِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِسَائِرِ الْأَيْمَانِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْبِرِّ فِيهَا وَلِلْإِيلَاءِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْبِرِّ حُكْمٌ، وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ؛ إذْ هُوَ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ شَرْعًا بِشَرْطِ الْبِرِّ كَأَنَّهُ قَالَ: إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ أَقْرَبْكِ فِيهَا فَأَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ، فَنَذْكُرُ الشَّرَائِطَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ فَنَقُولُ: لِرُكْنِ

الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا يَعُمُّ كُلَّ يَمِينٍ بِالطَّلَاقِ، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْإِيلَاءَ. أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ فَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الشَّرَائِطِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَقِيَامِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الْمِلْكِ حَتَّى لَا يَصْلُحَ إيلَاءُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ. وَكَذَا لَوْ آلَى مِنْ أَمَتِهِ أَوْ مُدَبَّرَتِهِ أَوْ أُمِّ وَلَدِهِ لَمْ يَصِحَّ إيلَاؤُهُ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الْإِيلَاءَ بِالزَّوْجَاتِ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] وَالزَّوْجَةُ اسْمٌ لِلْمَمْلُوكَةِ بِمِلْكِ النِّكَاحِ، وَشَرْعُ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَأَنَّهَا، وَرَدَتْ فِي الْأَزْوَاجِ فَتَخْتَصُّ بِهِمْ،؛ وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهَا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ لِمَنْعِهِ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ مَنْعًا مُؤَكَّدًا بِالْيَمِينِ وَلَا حَقَّ لِلْأَمَةِ قِبَلَ مَوْلَاهَا فِي الْجِمَاعِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الظُّلْمُ، فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الدَّفْعِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ؛ وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ الْحَاصِلَةَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ وَلَا طَلَاقَ بِدُونِ النِّكَاحِ، وَلَوْ آلَى مِنْهَا وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَهُوَ مُولٍ لِقِيَامِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلِهَذَا صَحَّ طَلَاقُهُ، وَظِهَارُهُ، وَيَتَوَارَثَانِ، وَإِنْ كَانَ بَائِنًا أَوْ ثَلَاثًا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ وَالْمَحَلِّ بِالْإِبَانَةِ وَالثَّلَاثِ وَالْإِيلَاءُ لَا يَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً، وَإِنْ كَانَ يَبْقَى بِدُونِ الْمِلْكِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُولِيًا فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا بَعْدَ التَّزَوُّجِ وَلَمْ يَفِئْ إلَيْهَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الْمِلْكِ وَلَوْ قَرِبَهَا بَعْدَ التَّزَوُّجِ أَوْ قَبْلَهُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ فِي حَقِّ الْحِنْثِ وَلَوْ قَالَ لَهَا: إنْ تَزَوَّجْتُك فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَتَزَوَّجَهَا صَارَ مُولِيًا عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْمِلْكِ عِنْدَ التَّزَوُّجِ وَالْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ يَصِحُّ فِي الْمِلْكِ أَوْ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ، وَهَهُنَا وُجِدَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ فَيَصِيرُ مُولِيًا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَكَذَا جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ التَّطْلِيقِ فَهُوَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ. وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ الْإِيلَاءَ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُدَّةُ، وَهِيَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فِي الْحُرَّةِ أَوْ يَحْلِفَ مُطْلَقًا أَوْ مُؤَبَّدًا حَتَّى لَوْ حَلَفَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا فِي حَقِّ الطَّلَاقِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ، يَسْتَوِي فِيهَا الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا يَوْمًا أَوْ سَاعَةً كَانَ مُولِيًا حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إنَّ الْإِيلَاءَ عَلَى الْأَبَدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَحْلِفَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَجْهُ قَوْلِ الْأَوَّلِينَ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا فَلَمَّا كَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا تَرَكَ إيلَاءَهُنَّ فَقِيلَ لَهُ إنَّك آلَيْتَ شَهْرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ الشَّهْرُ تِسْعَةٌ، وَعِشْرُونَ يَوْمًا» ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكَرْ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ لِلْإِيلَاءِ مُدَّةً بَلْ أَطْلَقَهُ إطْلَاقًا بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمُدَّةَ لِثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ حَتَّى تَبِينَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ لَا لِيَصِيرَ إيلَاءً شَرْعًا، وَبِهِ نَقُولُ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] ذِكْرٌ لِلْإِيلَاءِ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ مُدَّةً مُقَدَّرَةً، فَلَا يَكُونُ الْحَلِفُ عَلَى مَا دُونَهَا إيلَاءً فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا جُعِلَ طَلَاقًا مُعَلَّقًا بِشَرْطِ الْبِرِّ شَرْعًا بِوَصْفِ كَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ الْجِمَاعِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، فَلَا يُجْعَلُ طَلَاقًا بِدُونِهِ؛ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ هُوَ الْيَمِينُ الَّتِي تَمْنَعُ الْجِمَاعَ خَوْفًا مِنْ لُزُومِ الْحِنْثِ، وَبَعْدَ مُضِيِّ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَطَأَهَا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ، فَلَا يَكُونُ هَذَا إيلَاءً. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْمُدَّةَ ذُكِرَتْ لِثُبُوتِ حُكْمِ الْإِيلَاءِ لَا لِلْإِيلَاءِ فَنَقُولُ: ذِكْرُ الْمُدَّةِ فِي حُكْمِ الْإِيلَاءِ لَا يَكُونُ ذِكْرًا فِي الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ بِالْإِيلَاءِ إذْ بِهِ يَتَأَكَّدُ الْمَنْعُ الْمُحَقِّقُ لِلظُّلْمِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمَرْوِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آلَى أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى نِسَائِهِ شَهْرًا، وَعِنْدَنَا مَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً لَا يَكُونُ مُولِيًا فِي حَقِّ حُكْمِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ يَمْنَعُ الْجِمَاعَ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ الْجِمَاعَ وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: " الْإِيلَاءُ عَلَى الْأَبَدِ " مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِيلَاءَ إذَا ذُكِرَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ يَقَعُ عَلَى الْأَبَدِ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ الْأَبَدُ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّ ذِكْرَ الْأَبَدِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ حُكْمِ الطَّلَاقِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَقَاوِيلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: كَانَ إيلَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ

وَالسَّنَتَيْنِ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَوَقَّتَهُ اللَّهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَمَنْ كَانَ إيلَاؤُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّصِّ شَرْطُ الْأَبَدِ فَيَلْزَمُهُ إثْبَاتُ حُكْمِ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ عِنْدَ تَرَبُّصِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَمَبْنِيٌّ عَلَى حُكْمِ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ، فَعِنْدَنَا إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ تَبِينُ مِنْهُ، وَعِنْدَهُ لَا تَبِينُ بَلْ تُوقَفُ بَعْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْفَيْءِ وَالتَّطْلِيقِ، فَلَا بُدَّ، وَأَنْ تَزِيدَ الْمُدَّةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِيلَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِيلَاءُ فِي حَالِ الرِّضَا أَوْ الْغَضَبِ أَوْ أَرَادَ بِهِ إصْلَاحَ وَلَدِهِ فِي الرَّضَاعِ أَوْ الْإِضْرَارَ بِالْمَرْأَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ نَصَّ الْإِيلَاءِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ حَالٍ، وَحَالٍ؛ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ، فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِالرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَإِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ وَالْإِضْرَارِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَأَمَّا مُدَّةُ إيلَاءِ الْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ فَشَهْرَانِ فَصَاعِدًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُدَّةُ إيلَاءِ الْأَمَةِ كَمُدَّةِ إيلَاءِ الْحُرَّةِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ وَالْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْلٍ نَذْكُرُهُ فِي حُكْمِ الْإِيلَاءِ، وَهُوَ أَنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ ضُرِبَتْ أَجَلًا لِلْبَيْنُونَةِ عِنْدَنَا فَأَشْبَهَ مُدَّةَ الْعِدَّةِ فَيَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ كَمُدَّةِ الْعِدَّةِ، وَعِنْدَهُ ضُرِبَتْ لِإِظْهَارِ ظُلْمِ الزَّوْجِ بِمَنْعِ حَقِّهَا عَنْ الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ، وَهَذَا يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ فِي الْمُدَّةِ كَأَجَلِ الْعِنِّينِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّهَا تَنَاوَلَتْ الْحَرَائِرَ لَا الْإِمَاءَ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى ذَكَرَ عَزْمَ الطَّلَاقِ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ، وَهِيَ عِدَّةُ الْحَرَائِرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا أَوْ حُرًّا فَالْعِبْرَةُ لِرِقِّ الْمِرْأَةِ، وَحُرِّيَّتِهَا لَا لِرِقِّ الرَّجُلِ، وَحُرِّيَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ فِي حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ طَلَاقٌ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ جَانِبُ النِّسَاءِ. وَلَوْ اعْتَضَّ الْعِتْقُ عَلَى الرِّقِّ بِأَنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً وَقْتَ الْإِيلَاءِ ثُمَّ أُعْتِقَتْ تَحَوَّلَتْ مُدَّتُهَا مُدَّةَ الْحَرَائِرِ، بِخِلَافِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا إذَا طَلُقَتْ طَلَاقًا بَائِنًا ثُمَّ أُعْتِقَتْ لَا تَنْقَلِبُ عِدَّتُهَا عِدَّةَ الْحَرَائِرِ، وَفِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ تَنْقَلِبُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ الْحُرَّةِ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إلَّا يَوْمًا - لَا يَكُونُ مُولِيًا لِنُقْصَانِ الْمُدَّةِ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ شَهْرَيْنِ، وَشَهْرَيْنِ بَعْدَ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ فَهُوَ مُولٍ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ شَهْرَيْنِ وَشَهْرَيْنِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ، وَالْجَمْعُ بِحَرْفِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ شَهْرَيْنِ فَمَكَثَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ شَهْرَيْنِ بَعْدَ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ إذَا سَكَتَ يَوْمًا فَقَدْ مَضَى يَوْمٌ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَيْنِ لَيْسَا بِمُدَّةِ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ، فَإِذَا قَالَ: وَشَهْرَيْنِ بَعْدَ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ فَقَدْ جَمَعَ الشَّهْرَيْنِ الْآخَرَيْنِ إلَى الْأُولَيَيْنِ بَعْدَمَا مَضَى يَوْمٌ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ الْإِيلَاءِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إلَّا يَوْمًا وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِنُقْصَانِ الْمُدَّةِ، كَذَا هَذَا. وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ سَنَةً إلَّا يَوْمًا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِلْحَالِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَكُونُ مُولِيًا لِلْحَالِ حَتَّى لَوْ مَضَتْ السَّنَةُ وَلَمْ يَقْرَبْهَا فِيهَا لَا تَبِينُ وَلَوْ قَرِبَهَا يَوْمًا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مُنْذُ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَلَمْ يَقْرَبْهَا فِيهَا تَبِينُ لَوْ قَرِبَهَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْيَوْمَ الْمُسْتَثْنَى يَنْصَرِفُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ أَجَّرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ سَنَةً إلَّا يَوْمًا انْصَرَفَ الْيَوْمُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ حَتَّى صَحَّتْ الْإِجَارَةُ، كَذَا هَهُنَا. وَإِذَا انْصَرَفَ إلَى آخِرِ السَّنَةِ كَانَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَزِيَادَةً فَيَصِيرُ مُولِيًا؛ وَلِأَنَّهُ إذَا انْصَرَفَ إلَى آخِرِ السَّنَةِ، فَلَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُ امْرَأَتِهِ فِي الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ، وَهَذَا حَدُّ الْمُولِي وَلَنَا أَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَوْمٌ مُنْكَرٌ فَتَعْيِينُ الْيَوْمِ الْآخَرِ تَغْيِيرُ الْحَقِيقَةِ وَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَبَقِيَ الْمُسْتَثْنَى يَوْمًا شَائِعًا فِي السَّنَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَيَّ يَوْمٍ شَاءَ، فَلَا تَكْمُلُ الْمُدَّةُ؛ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَثْنَى يَوْمًا شَائِعًا فِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَمْنَعْ نَفْسَهُ عَنْ قُرْبَانِ امْرَأَتِهِ بِمَا يَصْلُحُ مَانِعًا مِنْ الْقُرْبَانِ فِي الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ يَوْمًا لَلْقُرْبَانِ أَيَّ يَوْمٍ كَانَ فَيَقْرَبُهَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا. وَفِي بَابِ الْإِجَارَةِ مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى تَعْيِينِ الْحَقِيقَةِ لِتَصْحِيحِ الْإِجَارَةِ؛ إذْ لَا صِحَّةَ لَهَا بِدُونِهِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمُدَّةِ مَعْلُومَةً فِي الْإِجَارَةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِجَارَةِ وَلَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً إلَّا بِانْصِرَافِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْيَوْمِ الْأَخِيرِ، وَهَهُنَا لَا ضَرُورَةَ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمُدَّةِ لَا تُبْطِلُ الْيَمِينَ، فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ ثُمَّ قَرِبَهَا

يَوْمًا يُنْظَرْ: إنْ كَانَ قَدْ بَقِيَ مِنْ السَّنَةِ أَرْبَعَةٌ فَصَاعِدًا صَارَ مُولِيًا لِوُجُودِ كَمَالِ الْمُدَّةِ، وَلِوُجُودِ حَدِّ الْمُولِي، وَإِنْ بَقِيَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَصِرْ مُولِيًا لِنُقْصَانِ الْمُدَّةِ، وَلِانْعِدَامِ حَدِّ الْإِيلَاءِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ سَنَةً إلَّا مَرَّةً غَيْرَ أَنَّ فِي قَوْلِهِ " إلَّا يَوْمًا " إذَا قَرِبَهَا وَقَدْ بَقِيَ مِنْ السَّنَةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَا يَصِيرُ مُولِيًا مَا لَمْ تَغْرُبْ الشَّمْسُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ اسْمٌ لِجَمِيعِ هَذَا الْوَقْتِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ، فَلَا يَنْتَهِي إلَّا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، وَفِي قَوْلِهِ " إلَّا مَرَّةً " يَصِيرُ مُولِيًا عَقِيبَ الْقُرْبَانِ بِلَا فَصْلٍ فَصْلٌ وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ فَرَاغِهِ مِنْ الْقُرْبَانِ مَرَّةً؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى هَهُنَا هُوَ الْقُرْبَانُ مَرَّةً لَا الْيَوْمَ وَالْمُسْتَثْنَى هُنَاكَ هُوَ الْيَوْمُ لَا الْمَرَّةُ؛ لِذَلِكَ افْتَرَقَا ثُمَّ مُدَّةُ أَشْهُرِ الْإِيلَاءِ تُعْتَبَرُ بِالْأَهِلَّةِ أَمْ بِالْأَيَّامِ؟ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْإِيلَاءَ إذَا وَقَعَ فِي غُرَّةِ الشَّهْرِ تُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ بِالْأَهِلَّةِ، وَإِذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ لَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَصُّ رِوَايَةٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ تُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ، وَذَلِكَ مِائَةٌ، وَعِشْرُونَ يَوْمًا. وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ وَالشَّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثَ بِالْأَهِلَّةِ، وَتُكَمَّلُ أَيَّامُ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ بِالْأَيَّامِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ الرَّابِعِ، وَيُحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالثَّانِي تَرْكُ الْفَيْءِ فِي الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ عَزْمَ الطَّلَاقِ شَرْطَ وُقُوعِهِ بِقَوْلِهِ {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] وَكَلِمَةُ " إنْ " لِلشَّرْطِ، وَعَزْمُ الطَّلَاقِ تَرْكُ الْفَيْءِ فِي الْمُدَّةِ وَالْكَلَامُ فِي الْفَيْءِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الْفَيْءِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ مَا هُوَ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ صِحَّةِ الْفَيْءِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ الْفَيْءِ أَنَّهُ فِي الْمُدَّةِ أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْفَيْءُ عِنْدَنَا عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا بِالْفِعْلِ، وَهُوَ الْجِمَاعُ فِي الْفَرْجِ حَتَّى لَوْ جَامَعَهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ أَوْ قَبْلَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ لَمَسَهَا لِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا عَنْ شَهْوَةٍ لَا يَكُونُ ذَلِكَ فَيْئًا؛؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ فَصَارَ ظَالِمًا بِمَنْعِهِ، فَلَا يَنْدَفِعُ الظُّلْمُ إلَّا بِهِ، فَلَا يَحْصُلُ الْفَيْءُ، وَهُوَ الرُّجُوعُ عَمَّا عَزَمَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ إلَّا بِهِ، بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ أَنَّهَا تَثْبُتُ بِالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ. وَبِالْمَسِّ عَنْ شَهْوَةٍ وَالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ عَنْ شَهْوَةٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ هُنَاكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ تَثْبُتُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِ الطَّلَاقِ مِنْ وَجْهٍ فَلَوْ لَمْ تَثْبُتْ الرَّجْعَةُ بِهِ لَصَارَ مُرْتَكِبًا لِلْحَرَامِ فَجُعِلَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ دَلَالَةَ الرَّجْعَةِ تَحَرُّزًا عَنْ الْحَرَامِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ثَبَتَتْ مَقْصُورَةً عَلَى الْحَالِ فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ مِنْهُ فَيْئًا لَمْ يَصِرْ مُرْتَكِبًا لِلْحَرَامِ لِذَلِكَ فَافْتَرَقَا، وَالثَّانِي: بِالْقَوْلِ؛ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي صُورَةِ الْفَيْءِ بِالْقَوْلِ وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ شَرْطِ صِحَّتِهِ؛ أَمَّا صُورَتُهُ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ لَهَا فِئْت إلَيْكِ أَوْ رَاجَعْتُكِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَذَكَرَ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي صِفَةِ الْفَيْءِ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ: اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ فِئْت إلَى امْرَأَتِي، وَأَبْطَلْت الْإِيلَاءَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ شَرْطَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْفَيْءِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ بِدُونِ الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشَّهَادَةَ احْتِيَاطًا لِبَابِ الْفُرُوجِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَدَّعِيَ الزَّوْجُ الْفَيْءَ إلَيْهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَتُكَذِّبَهُ الْمَرْأَةُ فَيَحْتَاجَ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْفَيْءِ وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّهُ. إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ فِي الْفَيْءِ مَعَ بَقَاءِ الْمُدَّةِ وَالزَّوْجُ ادَّعَى الْفَيْءَ وَأَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ إذَا كَانَتْ بَاقِيَةً فَالزَّوْجُ يَمْلِكُ الْفَيْءَ فِيهَا وَقَدْ ادَّعَى الْفَيْءَ فِي وَقْتٍ يَمْلِكُ إنْ شَاءَهُ فِيهِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي الْفَيْءَ فِي وَقْتٍ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْفَيْءِ فِيهِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا عَلَيْهِ لِلْمَرْأَةِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا. وَأَمَّا شَرْطُ صِحَّتِهِ فَلِصِحَّةِ الْفَيْءِ بِالْقَوْلِ شَرَائِطُ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا الْعَجْزُ عَنْ الْجِمَاعِ، فَلَا يَصِحُّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْفَيْءُ بِالْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ بِهِ يَنْدَفِعُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ خَلَفَ عَنْهُ وَلَا عِبْرَةَ بِالْخَالِفِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ثُمَّ الشَّرْطُ هُوَ الْعَجْزُ عَنْ الْجِمَاعِ حَقِيقَةً أَوْ مُطْلَقُ الْعَجْزِ إمَّا حَقِيقَةً، وَإِمَّا حُكْمًا، فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْعَجْزَ نَوْعَانِ: حَقِيقِيٌّ، وَحُكْمِيٌّ؛ أَمَّا الْحَقِيقِيُّ فَنَحْوُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَرِيضًا مَرَضًا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْجِمَاعُ أَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ صَغِيرَةً لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا أَوْ رَتْقَاءَ أَوْ يَكُونَ الزَّوْجُ مَجْبُوبًا أَوْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَطْعِهَا فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ أَوْ تَكُونَ نَاشِزَةً مُحْتَجِبَةً فِي مَكَان لَا يَعْرِفُهُ أَوْ يَكُونَ مَحْبُوسًا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَهَا، وَفَيْؤُهُ فِي هَذَا كُلِّهِ بِالْقَوْلِ. كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَوْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ مَحْبُوسَةٌ أَوْ هُوَ مَحْبُوسٌ أَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ مَسَافَةٌ أَقَلَّ مِنْ

أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إلَّا أَنَّ الْعَدُوَّ أَوْ السُّلْطَانَ مَنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ فَيْأَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْفِعْلِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُوَفَّقَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْحَبْسِ بِأَنْ يُحْمَلَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَلَى أَنْ يَقْدِرَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنْ يَصِلَ إلَى صَاحِبِهِ فِي السِّجْنِ وَالْوَجْهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْعَدُوِّ أَوْ السُّلْطَانِ أَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ، وَعَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ. وَأَمَّا الْحُكْمِيُّ فَمِثْلُ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا وَقْتَ الْإِيلَاءِ، وَبَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْحَجِّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْجِمَاعِ حَقِيقَةً أَنَّهُ يَنْتَقِلُ الْفَيْءُ بِالْجِمَاعِ إلَى الْفَيْءِ بِالْقَوْلِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْجِمَاعِ حَقِيقَةً وَعَاجِزًا عَنْهُ حُكْمًا أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: لَا يَصِحُّ وَلَا يَكُونُ فَيْؤُهُ إلَّا بِالْجِمَاعِ وَقَالَ زُفَرُ: يَصِحُّ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْعَجْزَ حُكْمًا كَالْعَجْزِ حَقِيقَةً فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ كَمَا فِي الْخَلْوَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَوِي الْمَانِعُ الْحَقِيقِيُّ وَالشَّرْعِيُّ فِي الْمَنْعِ مِنْ صِحَّةِ الْخَلْوَةِ. كَذَا هَذَا. وَلَنَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْجِمَاعِ حَقِيقَةً فَيَصِيرُ ظَالِمًا بِالْمَنْعِ، فَلَا يَنْدَفِعُ الظُّلْمُ عَنْهَا إلَّا بِإِيفَائِهَا حَقَّهَا بِالْجِمَاعِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ لَا يَسْقُطُ لِأَجْلِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجُمْلَةِ؛ لِغِنَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَحَاجَةِ الْعَبْدِ وَالثَّانِي دَوَامُ الْعَجْزِ عَنْ الْجِمَاعِ إلَى أَنْ تَمْضِيَ الْمُدَّةُ حَتَّى لَوْ قَدِرَ عَلَى الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ بَطَلَ الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ وَانْتَقَلَ إلَى الْفَيْءِ بِالْجِمَاعِ، حَتَّى وَلَوْ تَرَكَهَا وَلَمْ يَقْرَبْهَا فِي الْمُدَّةِ حَتَّى مَضَتْ تَبِينُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَيْءَ بِاللِّسَانِ بَدَلٌ عَنْ الْفَيْءِ بِالْجِمَاعِ، وَمَنْ قَدِرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ بَطَلَ حُكْمُ الْبَدَلِ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا قَدِرَ عَلَى الْمَاءِ فِي الصَّلَاةِ،، وَكَذَا إذَا آلَى وَهُوَ صَحِيحٌ ثُمَّ مَرِضَ فَإِنْ كَانَ قَدْرُ مُدَّةِ صِحَّتِهِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْجِمَاعُ فَفَيْؤُهُ بِالْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْجِمَاعِ فِي مُدَّةِ الصِّحَّةِ فَإِذَا لَمْ يُجَامِعْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَقَدْ فَرَّطَ فِي إيفَاءِ حَقِّهَا، فَلَا يُعْذَرُ بِالْمَرَضِ الْحَادِثِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ فَيْؤُهُ بِالْجِمَاعِ لِقِصَرِهِ فَفَيْؤُهُ بِالْقَوْلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْجِمَاعِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا فِي تَرْكِ الْجِمَاعِ فَكَانَ مَعْذُورًا وَلَوْ آلَى، وَهُوَ مَرِيضٌ فَلَمْ يَفِئْ بِاللِّسَانِ إلَيْهَا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَبَانَتْ ثُمَّ صَحَّ ثُمَّ مَرِضَ فَتَزَوَّجَهَا، وَهُوَ مَرِيضٌ فَفَاءَ إلَيْهَا بِاللِّسَانِ صَحَّ فَيْؤُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ حَتَّى لَوْ تَمَّتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ التَّزَوُّجِ لَا تَبِينُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَصِحُّ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ إذَا صَحَّ فِي الْمُدَّةِ الثَّانِيَةِ فَقَدْ قَدِرَ عَلَى الْجِمَاعِ حَقِيقَةً فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْفَيْءِ بِاللِّسَانِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى جِمَاعِهَا إلَّا بِمَعْصِيَةٍ كَمَا إذَا كَانَ مُحْرِمًا فَفَاءَ بِلِسَانِهِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فَيْؤُهُ بِاللِّسَانِ لِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْجِمَاعِ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا بِمَعْصِيَةٍ كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الصِّحَّةَ إنَّمَا تَمْنَعُ الْفَيْءَ بِاللِّسَانِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى إيفَائِهَا حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ وَلَا حَقَّ لَهَا فِي حَالَةِ الْبَيْنُونَةِ، فَلَا تُعْتَبَرُ الصِّحَّةُ مَانِعَةً مِنْهُ. وَالثَّالِثُ قِيَامُ مِلْكِ النِّكَاحِ وَقْتَ الْفَيْءِ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ فِي حَالِ مَا يَفِيءُ إلَيْهَا زَوْجَتَهُ غَيْرَ بَائِنَةٍ مِنْهُ؛ فَإِنْ كَانَتْ بَائِنَةً مِنْهُ فَفَاءَ بِلِسَانِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَيْئًا، وَيَبْقَى الْإِيلَاءُ؛ لِأَنَّ الْفَيْءَ بِالْقَوْلِ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ إنَّمَا يَرْفَعُ الْإِيلَاءَ فِي حَقِّ حُكْمِ الطَّلَاقِ لِحُصُولِ إيفَاءِ حَقِّهَا بِهِ وَلَا حَقَّ لَهَا حَالَةَ الْبَيْنُونَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ وَلَا يُعْتَبَرُ الْفَيْءُ وَصَارَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ فَيَبْقَى الْإِيلَاءُ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا، وَمَضَتْ الْمُدَّةُ تَبِينُ مِنْهُ، بِخِلَافِ الْفَيْءِ بِالْفِعْلِ - وَهُوَ الْجِمَاعُ - أَنَّهُ يَصِحُّ بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ، وَثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ حَتَّى لَا يَبْقَى الْإِيلَاءُ بَلْ يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ حِنْثٌ بِالْوَطْءِ فَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ، وَبَطَلَتْ وَلَمْ يُوجَدْ الْحِنْثُ هَهُنَا، فَلَا تَنْحَلُّ الْيَمِينُ، فَلَا يَرْتَفِعُ الْإِيلَاءُ ثُمَّ الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ عِنْدَنَا، إنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ حُكْمِ الطَّلَاقِ حَتَّى لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ إلَّا فِي حَقِّ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ بَاقِيَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْحَلُّ إلَّا بِالْحِنْثِ وَالْحِنْثُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَالْقَوْلُ لَيْسَ مَحْلُوفًا عَلَيْهِ، فَلَا تَنْحَلُّ بِهِ الْيَمِينُ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا فَيْءَ إلَّا بِالْجِمَاعِ، وَإِلَيْهِ مَالَ الطَّحَاوِيَّ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْفَيْءَ بِالْحِنْثِ وَلَا حِنْثَ بِاللِّسَانِ، فَلَا يَحْصُلُ الْفَيْءُ بِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ هُوَ فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ هُوَ الْقُرْبَانُ، فَلَا يَحْصُلُ الْفَيْءُ إلَّا بِهِ وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: الْفَيْءُ عِنْدَ الْعَجْزِ بِالْقَوْلِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِثْلِ مَسْرُوقٍ وَالشَّعْبِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ؛ وَلِأَنَّ الْفَيْءَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الرُّجُوعُ؛ يُقَالُ: فَاءَ الظِّلُّ أَيْ: رَجَعَ، وَمَعْنَى الرُّجُوعِ فِي الْإِيلَاءِ هُوَ أَنَّهُ بِالْإِيلَاءِ عَزَمَ عَلَى مَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ، وَأَكَّدَ الْعَزْمَ بِالْيَمِينِ فَبِالْفَيْءِ رَجَعَ عَمَّا عَزَمَ، وَالرُّجُوعُ كَمَا يَكُونُ بِالْفِعْلِ يَكُونُ بِالْقَوْلِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ لِصَيْرُورَتِهِ ظَالِمًا بِمَنْعِ حَقِّهَا وَالظُّلْمُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْجِمَاعِ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فَيَكُونُ إزَالَةُ الظُّلْمِ بِإِيفَاءِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فَيَكُونُ إزَالَةُ هَذَا الظُّلْمِ بِذِكْرِ إيفَاءِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ أَيْضًا، وَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْجِمَاعِ يَكُونُ بِإِيذَائِهِ إيَّاهَا مَنْعَ حَقِّهَا

فصل في حكم الإيلاء

فِي الْجِمَاعِ لِيَكُونَ إزَالَةُ هَذَا الظُّلْمِ بِقَدْرِ الظُّلْمِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِ الْعِلَّةِ. وَأَمَّا وَقْتُ الْفَيْءِ فَالْفَيْءُ عِنْدَنَا فِي الْمُدَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِيلَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْمُولِي فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ إيلَائِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَمِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ حَتَّى لَوْ قَالَ الْعَبْدُ لِامْرَأَتِهِ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، أَوْ قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ صَوْمٌ أَوْ حَجٌّ أَوْ عُمْرَةٌ، أَوْ امْرَأَتِي طَالِقٌ يَصِحُّ إيلَاؤُهُ حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْرَبْهَا تَبِينُ مِنْهُ فِي الْمُدَّةِ وَلَوْ قَرِبَهَا فَفِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالصَّوْمِ، وَفِي غَيْرِهَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ الْمَذْكُورُ؛ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ يَحْلِفُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ بِأَنْ قَالَ: إنْ قَرِبْتُكِ فَعَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، أَوْ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِكَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ. وَأَمَّا إسْلَامُ الْمُولِي فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِيلَاءِ؟ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ أَنَّهُ يَصِحُّ إيلَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّهُ إذَا آلَى بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرَبِ كَالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ قَرِبْتُكِ فَعَلَيَّ صَوْمٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْقُرَبِ لَا يَكُونُ مُولِيًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ فَيُمْكِنُهُ قُرْبَانُ امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا،، وَكَذَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ قَرِبْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ فُلَانَةُ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الظِّهَارِ عِنْدَنَا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ، فَلَا يَكُونُ مُولِيًا. وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا آلَى بِاَللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك، تَنْعَقِدُ مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْحِنْثِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَكُونُ مُولِيًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ مُولِيًا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا تَنْعَقِدُ مِنْ الذِّمِّيِّ كَمَا فِي غَيْرِ الْإِيلَاءِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى تَنْعَقِدُ مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْحِنْثِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ،، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ الْمُسْلِمِ؛ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ بِاَللَّهِ يَمِينٌ يَمْنَعُ الْقُرْبَانَ خَوْفًا مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَالذِّمِّيُّ يَعْتَقِدُ حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى الدَّعَاوَى كَالْمُسْلِمِ، وَيَتَعَلَّقُ حِلُّ الذَّبِيحَةِ بِتَسْمِيَتِهِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِتَسْمِيَةِ الْمُسْلِمِ، فَإِنَّهُ إذَا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أُكِلَتْ، وَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ لَمْ تُؤْكَلْ، فَيَصِحُّ إيلَاؤُهُ كَمَا يَصِحُّ إيلَاءُ الْمُسْلِمِ، وَإِذَا صَحَّ إيلَاؤُهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى تَثْبُتُ أَحْكَامُ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّهِ كَمَا تَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَادَةٌ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ، وَهُوَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ وَلَوْ آلَى مُسْلِمٌ أَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ رَجَعَ مُسْلِمًا وَتَزَوَّجَهَا فَهُوَ مُولٍ، وَمُظَاهِرٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَسْقُطُ عَنْهُ الْإِيلَاءُ وَالظِّهَارُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْكُفْرَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ ابْتِدَاءً فَيَمْنَعُ بَقَاءَهُمَا عَلَى الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْحِنْثِ، وَحُكْمُ الظِّهَارِ حُرْمَةٌ مُؤَقَّتَةٌ إلَى غَايَةِ التَّكْفِيرِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ،، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكُفْرَ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ انْعِقَادَ الْإِيلَاءِ لِمَا بَيَّنَّا فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ بَقَاءَهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ؛ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ قَدْ انْعَقَدَ لِوُجُودِهِ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْعَارِضُ هُوَ الرِّدَّةُ. وَأَثَرُهَا فِي زَوَالِ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَزَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْيَمِينِ فَتَبْقَى الْيَمِينُ فَإِذَا عَادَ يَعُودُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَارِضٍ عَلَى أَصْلٍ يَلْتَحِقُ بِالْعَدَمِ مِنْ الْأَصْلِ إذَا ارْتَفَعَ، وَيُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ؛ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ انْعَقَدَ بِيَقِينٍ وَالْعَارِضُ، وَهُوَ الرِّدَّةُ يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ وَالتَّصَرُّفَ الشَّرْعِيَّ إذَا انْعَقَدَ بِيَقِينٍ لِاحْتِمَالِ الْفَائِدَةِ فِي الْبَقَاءِ، وَاحْتِمَالُ الْفَائِدَةِ هَهُنَا ثَابِتٌ؛ لِأَنَّ رَجَاءَ الْإِسْلَامِ قَائِمٌ وَالظِّهَارُ قَدْ انْعَقَدَ مُوجِبًا حُكْمَهُ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ الْمُؤَقَّتَةُ لِصُدُورِهِ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَبِالرِّدَّةِ زَالَتْ صِفَةُ الْحُكْمِ، وَبَقِيَ الْأَصْلُ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ إذْ الْكَافِرُ مِنْ أَهْلِ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ، وَبَقَائِهَا فِي حَقِّهِ؛؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحُرْمَةِ وُجُوبُ الِامْتِنَاعِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الِامْتِنَاعِ بِخِلَافِ الْقُرْبَةِ، وَلِهَذَا خُوطِبَ بِالْحُرُمَاتِ دُونَ الْقُرُبَاتِ وَالطَّاعَاتِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْإِيلَاءِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْإِيلَاءِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْإِيلَاءِ حُكْمَانِ: حُكْمُ الْحِنْثِ، وَحُكْمُ الْبِرِّ، أَمَّا حُكْمُ الْحِنْثِ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَحْلُوفِ بِهِ: فَإِنْ كَانَ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ وُجُوبُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ بِاَللَّهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَلِفُ بِالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَلُزُومُ الْمَحْلُوفِ بِهِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ بِالشُّرُوطِ وَالْأَجْزِيَةِ أَوْ لُزُومُ حُكْمِهِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا حُكْمُ الْبِرِّ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ، وَفِي بَيَانِ وَصْفِهِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِهِ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهِ، أَمَّا أَصْلُ الْحُكْمِ فَهُوَ

وُقُوعُ الطَّلَاقِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِيلَاءِ عَزَمَ عَلَى مَنْعِ نَفْسِهِ مِنْ إيفَاءِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ، وَأَكَّدَ الْعَزْمَ بِالْيَمِينِ فَإِذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَفِئْ إلَيْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْفَيْءِ فَقَدْ حَقَّقَ الْعَزْمَ الْمُؤَكَّدَ بِالْيَمِينِ بِالْفِعْلِ فَتَأَكَّدَ الظُّلْمُ فِي حَقِّهَا فَتَبِينُ مِنْهُ عُقُوبَةً عَلَيْهِ جَزَاءً عَلَى ظُلْمِهِ، وَمَرْحَمَةً عَلَيْهَا، وَنَظَرًا لَهَا بِتَخْلِيصِهَا عَنْ حِبَالِهِ لِتَتَوَصَّلَ إلَى إيفَاءِ حَقِّهَا مِنْ زَوْجٍ آخَرَ، وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الْبِرِّ هُوَ الْوَقْفُ، وَهُوَ أَنْ يُوقَفَ الزَّوْجُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَيُخَيَّرَ بَيْنَ الْفَيْءِ إلَيْهَا بِالْجِمَاعِ، وَبَيْنَ تَطْلِيقِهَا، فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ طَلَّقَ عَلَيْهِ الْقَاضِي، فَاشْتَمَلَتْ مَعْرِفَةُ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى مَعْرِفَةِ مَسْأَلَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَا يُوقَفُ الْمُولِي بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ عِنْدَنَا بَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَقِبَ انْقِضَائِهَا بِلَا فَصْلٍ، وَعِنْدَهُ يُوقَفُ، وَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْفَيْءِ وَالتَّطْلِيقِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْفَيْءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُدَّةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ. وَالْمَسْأَلَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227] خَيَّرَ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى الْمُولِيَ بَيْنَ الْفَيْءِ، وَبَيْنَ الْعَزْمِ عَلَى الطَّلَاقِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَدَلَّ أَنَّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الْبِرِّ هُوَ تَخْيِيرُ الزَّوْجِ بَيْنَ الْفَيْءِ وَالطَّلَاقِ بَعْدَ الْمُدَّةِ لَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَإِنْ وَقَّتَ الْفَيْءَ بَعْدَ الْمُدَّةِ لَا فِي الْمُدَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] أَيْ: سَمِيعٌ لِلطَّلَاقِ، فَلَا بُدَّ، وَأَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ مَسْمُوعًا، وَذَلِكَ بِوُجُودِ صَوْتِ الطَّلَاقِ إذْ غَيْرُ الصَّوْتِ لَا يَحْتَمِلُ السَّمَاعَ، وَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِنَفْسِ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ وُجِدَ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ الْقَاضِي لَمْ يَتَحَقَّقْ صَوْتُ الطَّلَاقِ، فَلَا يَنْعَقِدُ سَمَاعُهُ؛ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ يَمْنَعُ مِنْ الْجِمَاعِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَطْ لَا عَلَى الطَّلَاقِ، فَالْقَوْلُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ قَوْلٌ بِالْوُقُوعِ مِنْ غَيْرِ إيقَاعٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. (وَلَنَا) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَالْوَقْفُ يُوجِبُ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، وَهِيَ مُدَّةُ اخْتِيَارِ الْفَيْءِ أَوْ الطَّلَاقِ مِنْ يَوْمٍ أَوْ سَاعَةٍ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلِهَذَا لَمَّا جَعَلَ الشَّرْعُ لِسَائِرِ الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِقْدَارًا مَعْلُومًا مِنْ الْمُدَّةِ، وَمُدَّةُ الْعِنِّينِ لَمْ تَحْتَمِلْ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ فَكَذَا مُدَّةُ الطَّلَاقِ؛ وَلِأَنَّ الْفَيْءَ نَقَضَ الْيَمِينَ، وَنَقْضُهَا حَرَامٌ فِي الْأَصْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا} [النحل: 91] إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ الْإِطْلَاقُ فِي الْمُدَّةِ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ " فَبَقِيَ النَّقْضُ حَرَامًا فِيمَا وَرَاءَهَا، فَلَا يَحِلُّ الْفَيْءُ فِيمَا وَرَاءَهَا فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِالْفَيْءِ فِي الْمُدَّةِ، وَبِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ مُضِيِّهَا؛ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ كَانَ طَلَاقًا مُعَجَّلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَجَعَلَهُ الشَّرْعُ طَلَاقًا مُؤَجَّلًا، وَالطَّلَاقُ الْمُؤَجَّلُ يَقَعُ نَفْسِ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ مِنْ غَيْرِ إيقَاعِ أَحَدٍ بَعْدَهُ كَمَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ رَأْسَ الشَّهْرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْفَيْءَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ " فَنَعَمْ، لَكِنْ هَذَا لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْفَيْءُ بَعْدَ مُضِيِّهَا. أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] ذَكَرَ تَعَالَى الْإِمْسَاكَ بِمَعْرُوفٍ بَعْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ، وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْإِمْسَاكَ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ، وَهُوَ الْعِدَّةُ بَلْ يُوجِبُ الْإِمْسَاكَ، وَهُوَ الرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ، وَالْبَيْنُونَةُ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، كَذَا هَهُنَا. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: إنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ " سَمِيعٌ " فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْ: سَمِيعٌ بِإِيلَائِهِ، وَالْإِيلَاءُ مِمَّا يُنْطَقُ بِهِ، وَيُقَالُ فَيَكُونُ مَسْمُوعًا. وقَوْله تَعَالَى " عَلِيمٌ " يَنْصَرِفُ إلَى الْعَزْمِ أَيْ: عَلِيمٌ بِعَزْمِهِ الطَّلَاقَ، وَهُوَ تَرْكُ الْفَيْءِ، وَدَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَوْلَهُ " سَمِيعٌ عَلِيمٌ " عَقِيبَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَحْتَمِلُ، وَهُوَ الْإِيلَاءُ، وَالْآخَرُ لَا يَحْتَمِلُ، وَهُوَ عَزْمُ الطَّلَاقِ فَيَنْصَرِفُ كُلُّ لَفْظٍ إلَى مَا يَلِيقُ بِهِ لِيُفِيدَ فَائِدَتَهُ، وَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73] عَقِيبَ ذِكْرِ اللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ بِقَوْلِهِ {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67] أَنَّهُ صَرَفَ إلَى كُلِّ مَا يَلِيقُ بِهِ لِيُفِيدَ فَائِدَتَهُ، وَهُوَ السُّكُونُ إلَى اللَّيْلِ وَابْتِغَاءُ الْفَضْلِ إلَى النَّهَارِ. كَذَا هَهُنَا؛ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّهُ " سَمِيعٌ عَلِيمٌ " وَكُلُّ مَسْمُوعٍ مَعْلُومٌ وَلَيْسَ كُلُّ مَعْلُومٍ مَسْمُوعًا؛ لِأَنَّ السَّمَاعَ لَا يَكُونُ إلَّا لِلصَّوْتِ، فَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي الْإِيلَاءِ بِالْقَوْلِ لَكَانَ مَسْمُوعًا، وَالْإِيلَاءُ مَسْمُوعٌ أَيْضًا فَوَقَعَتْ الْكِفَايَةُ بِذِكْرِ السَّمِيعِ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِذِكْرِ الْعَلِيمِ فَائِدَةٌ مُبْتَدَأَةٌ. وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْنَا إنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ يُسْمَعُ لَانْصَرَفَ ذِكْرُ الْعَلِيمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَسْمُوعٍ

حَتَّى يُغْنِيَ ذِكْرُ السَّمِيعِ عَنْ ذِكْرِ الْعَلِيمِ فَيَتَعَلَّقَ بِذِكْرِ الْعَلِيمِ فَائِدَةٌ جَدِيدَةٌ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى مَعَ مَا أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ سَمَاعَ الطَّلَاقِ يَقِفُ عَلَى ذِكْرِ الطَّلَاقِ بِحُرُوفِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ طَلَاقٌ، وَهِيَ مَسْمُوعَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ مَسْمُوعًا مَذْكُورًا بِحُرُوفِهِ، وَكَذَا طَلَاقُ الْأَخْرَسِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الْإِيلَاءِ طَلَاقًا التَّلَفُّظُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، فَلَا يَقِفُ سَمَاعُ صَوْتِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ: " لَفْظُ الْإِيلَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ " مَمْنُوعٌ بَلْ يَدُلُّ عَلَيْهِ شَرْعًا فَإِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْإِيلَاءَ طَلَاقًا مُعَلَّقًا بِشَرْطِ الْبِرِّ فَيَصِيرُ الزَّوْجُ بِالْإِصْرَارِ عَلَى مُوجِبِ هَذِهِ الْيَمِينِ مُعَلِّقًا طَلَاقًا بَائِنًا بِتَرْكِ الْقُرْبَانِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ كَأَنَّهُ قَالَ: إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ أَقْرَبْكِ فِيهَا فَأَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ، عَرَفْنَا ذَلِكَ بِإِشَارَةِ النَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] سَمَّى تَرْكَ الْفَيْءِ فِي الْمُدَّةِ عَزْمَ الطَّلَاقِ، وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى أَنَّهُ سَمِيعٌ لِلْإِيلَاءِ فَدَلَّ أَنَّ الْإِيلَاءَ السَّابِقَ يَصِيرُ طَلَاقًا عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ، وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ. وَأَمَّا صِفَتُهُ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْوَاقِعَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ طَلَاقٌ بَائِنٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا خُيِّرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَاخْتَارَ الطَّلَاقَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ يَقَعُ بِإِيقَاعٍ مُبْتَدَإٍ، وَهُوَ صَرِيحُ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ رَجْعِيًّا. (وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ؛ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا يَقَعُ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ دَفْعًا لِلظُّلْمِ، فَلَا يَنْدَفِعُ الظُّلْمُ عَنْهَا إلَّا بِالْبَائِنِ لِتَتَخَلَّصَ عَنْهُ فَتَتَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهَا مِنْ زَوْجٍ آخَرَ وَلَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِالْبَائِنِ؛ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ يُؤَدِّي إلَى الْعَبَثِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ إذَا أَبَى الْفَيْءَ، وَالتَّطْلِيقَ يُقَدَّمُ إلَى الْحَاكِمِ لِيُطَلِّقَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ عِنْدَهُ ثُمَّ إذَا طَلَّقَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ يُرَاجِعُهَا الزَّوْجُ فَيَخْرُجُ فِعْلُ الْحَاكِمِ مَخْرَجَ الْعَبَثِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا قَدْرُهُ، وَهُوَ قَدْرُ الْوَاقِعِ مِنْ الطَّلَاقِ فِي الْإِيلَاءِ، فَالْأَصْلُ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْإِيلَاءِ يَتْبَعُ الْمُدَّةَ لَا الْيَمِينَ فَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ الْمُدَّةِ، وَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهَا، وَفِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَتْبَعُ الْيَمِينَ فَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْيَمِينِ، وَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِهَا، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ هُوَ الْيَمِينُ فَيُنْظَرُ إلَى الْيَمِينِ فِي الِاتِّحَادِ، وَالتَّعَدُّدِ لَا إلَى الْمُدَّةِ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، وَلُزُومَ الْكَفَّارَةِ حُكْمُ الْإِيلَاءِ، وَالْإِيلَاءُ يَمِينٌ فَيَدُورُ الْحُكْمُ مَعَ الْيَمِينِ فَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِهَا، وَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهَا لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ السَّبَبِ، وَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِهِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْإِيلَاءَ إنَّمَا اُعْتُبِرَ طَلَاقًا مِنْ الزَّوْجِ لِمَنْعِهِ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ مَنْعًا مُؤَكَّدًا بِالْيَمِينِ إذْ بِهِ يَصِيرُ ظَالِمًا، وَالْمَنْعُ يَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ الْمُدَّةِ فَيَتَّحِدُ الظُّلْمُ فَيَتَّحِدُ الطَّلَاقُ، وَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهَا فَيَتَعَدَّدُ الظُّلْمُ فَيَتَعَدَّدُ الطَّلَاقُ، فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَإِنَّهَا تَجِبُ لِهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَالْهَتْكُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الِاسْمِ، وَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِهِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، فَلَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ قَرِبَهَا لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِاتِّحَادِ الْمُدَّةِ، وَالْيَمِينِ جَمِيعًا، وَلَوْ قَالَ لَهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، فَإِنْ عَنَى بِهِ التَّكْرَارَ فَهُوَ إيلَاءٌ وَاحِدٌ فِي حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ، وَالْبِرِّ جَمِيعًا حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَقْرَبْهَا بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ قَرِبَهَا فِي الْمُدَّةِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُذْكَرُ لِلتَّكْرَارِ فِي الْعُرْفِ، وَالْعَادَةِ فَإِذَا نَوَى بِهِ تَكْرَارَ الْأَوَّلِ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَيُصَدَّقُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ إيلَاءٌ وَاحِدٌ فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَثَلَاثٌ فِي حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ بِالْإِجْمَاعِ، حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَقْرَبْهَا بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَلَوْ قَرِبَهَا فِي الْمُدَّةِ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَعِنْدَ زُفَرَ هُوَ ثَلَاثُ إيلَاءَاتٍ فِي حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ، وَالْبِرِّ جَمِيعًا، وَيَنْعَقِدُ كُلُّ إيلَاءٍ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَفِئْ بِتَطْلِيقَةٍ ثُمَّ إذَا مَضَتْ سَاعَةٌ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ أُخْرَى ثُمَّ إذَا مَضَتْ سَاعَةٌ أُخْرَى بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ قَرِبَهَا فِي الْمُدَّةِ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا جَاءَ غَدٌ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك، قَالَهُ ثَلَاثًا فَجَاءَ غَدٌ يَصِيرُ مُولِيًا فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ إيلَاءً وَاحِدًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَصِيرُ مُولِيًا ثَلَاثَ إيلَاءَاتٍ فِي حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّغْلِيظَ، وَالتَّشْدِيدَ فَكَذَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إيلَاءٌ وَاحِدٌ فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَزُفَرَ هُوَ ثَلَاثٌ فِي حَقِّ الْبِرِّ، وَالْحِنْثِ جَمِيعًا، وَهُوَ الْقِيَاسُ

فصل في بيان ما يبطل به الإيلاء

أَمَّا زُفَرُ فَقَدْ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْحُكْمَ لِلْيَمِينِ لَا لِلْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ هِيَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ وَقَدْ تَعَدَّدَتْ فَيَتَعَدَّدُ السَّبَبُ بِتَعَدُّدِ الْحُكْمِ. وَأَمَّا وَجْهُ الْقِيَاسِ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُدَّةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَيْمَانِ وُجِدَتْ فِي زَمَانٍ فَكَانَتْ مُدَّةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مُدَّةِ الْأُخْرَى فَصَارَ كَمَا لَوْ آلَى مِنْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي ثَلَاثِ مَجَالِسَ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُدَدَ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ حَقِيقَةً فَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ حُكْمًا لِتَعَذُّرِ ضَبْطِ الْوَقْتِ الَّذِي بَيْنَ الْيَمِينَيْنِ عِنْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَصَارَتْ مُدَّةُ الْأَيْمَانِ كُلُّهَا مُدَّةً وَاحِدَةً حُكْمًا، وَالثَّابِتُ حُكْمًا مُلْحَقٌ بِالثَّابِتِ حَقِيقَةً. وَلَوْ قَالَ: إذَا جَاءَ غَدٌ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ وَإِذَا جَاءَ بَعْدُ غَدٍ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ؛ يَصِيرُ مُولِيًا إيلَاءَيْنِ فِي حَقِّ الْحِنْثِ، وَالْبِرِّ جَمِيعًا، إذَا جَاءَ غَدٌ يَصِيرُ مُولِيًا، وَإِذَا جَاءَ بَعْدُ غَدٍ يَصِيرُ مُولِيًا إيلَاءً آخَرَ، وَكَذَلِكَ إذَا آلَى مِنْهَا فِي مَجْلِسٍ، ثُمَّ آلَى مِنْهَا فِي مَجْلِسٍ آخَرَ بِأَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، فَمَكَثَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ يَصِيرُ مُولِيًا إيلَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي الْحَالِ، وَالْآخَرُ فِي الْغَدِ فِي حَقِّ الْحِنْثِ، وَالْبِرِّ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمُدَدَ قَدْ تَعَدَّدَتْ حَقِيقَةً، وَحُكْمًا لِاخْتِلَافِ ابْتِدَاءِ كُلِّ مُدَّةٍ وَانْتِهَائِهَا، وَإِمْكَانِ ضَبْطِ الْوَقْتِ الَّذِي بَيْنَ الْيَمِينَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، أَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ كُلَّمَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ يَصِيرُ مُولِيًا إيلَاءَيْنِ فِي حَقِّ الْبِرِّ، وَإِيلَاءً وَاحِدًا فِي حَقِّ الْحِنْثِ فَإِذَا دَخَلَ الدَّارَ دَخْلَتَيْنِ يَنْعَقِدُ الْإِيلَاءُ: الْأَوَّلُ عِنْدَ الدَّخْلَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِي عِنْدَ الدَّخْلَةِ الثَّانِيَةِ، حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الدَّخْلَةِ الْأُولَى بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ، وَإِذَا تَمَّتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الدَّخْلَةِ الثَّانِيَةِ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ أُخْرَى. وَلَوْ قَرِبَهَا بَعْدَ الدَّخْلَتَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِتَعَدُّدِ الْمُدَّةِ وَاتِّحَادِ الْيَمِينِ فِي حُكْمِ الْحِنْثِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَتَى عُلِّقَتْ بِشَرْطٍ مُتَكَرِّرٍ لَا يَتَكَرَّرُ انْعِقَادُهَا بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ، وَالْيَمِينُ بِمَا هُوَ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ إذَا عُلِّقَتْ بِشَرْطٍ مُتَكَرِّرٍ تَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ الشَّرْطِ. وَقَوْلُهُ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ - يَمِينٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْحِنْثِ، وَيَمِينٌ بِالطَّلَاقِ فِي حَقِّ الْبِرِّ، وَدَلِيلُ هَذَا الْأَصْلِ، وَبَيَانُ فُرُوعِهِ يُعْرَفُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: كُلَّمَا دَخَلْتُ وَاحِدَةً مِنْ هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أَوْ قَالَ: كُلَّمَا كَلَّمْتُ وَاحِدًا مِنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، فَدَخَلَ إحْدَاهُمَا أَوْ كَلَّمَ أَحَدَهُمَا صَارَ مُولِيًا، وَإِذَا دَخَلَ مَرَّةً أُخْرَى أَوْ كَلَّمَهُ أُخْرَى صَارَ مُولِيًا إيلَاءً آخَرَ فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ، وَهُوَ إيلَاءٌ وَاحِدٌ فِي حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِيلَاءُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِيلَاءُ فَمَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِيلَاءُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَبْطُلُ بِهِ أَصْلًا فِي حَقِّ الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا، وَهُوَ الْبِرُّ، وَالْحِنْثُ، وَنَوْعٌ يَبْطُلُ بِهِ فِي حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، وَهُوَ حُكْمُ الْبِرِّ، وَيَبْقَى فِي حَقِّ الْحُكْمِ الْآخَرِ، وَهُوَ حُكْمُ الْحِنْثِ، أَمَّا الَّذِي يَبْطُلُ بِهِ الْإِيلَاءُ فِي حَقِّ الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا فَشَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْفَيْءُ بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ فِي الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْنَثُ بِهِ، وَالْيَمِينُ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّ حِنْثَ الْيَمِينِ نَقَضَهَا، وَالشَّيْءُ لَا يَبْقَى مَعَ وُجُودِ مَا يَنْقُضُهُ وَأَمَّا مَا يَبْطُلُ بِهِ فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ دُونَ الْحِنْثِ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ الَّتِي وَصَفْنَاهَا فَيَبْطُلُ بِهِ الْإِيلَاءُ فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ حَتَّى لَا تَبِينَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَرْكَ الْفَيْءِ فِي الْمُدَّةِ شَرْطُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ مُضِيِّهَا إذْ هُوَ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ، وَأَنَّهَا شَرْطٌ بِالنَّصِّ لَكِنَّهُ يَبْقَى فِي حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ حَتَّى لَوْ فَاءَ إلَيْهَا بِالْقَوْلِ فِي الْمُدَّةِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْجِمَاعِ بَعْدَ الْمُدَّةِ فَجَامَعَهَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ مُعَلَّقٌ بِالْحِنْثِ. وَالْحِنْثُ هُوَ فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ هُوَ الْجِمَاعُ فِي الْفَرْجِ، فَلَا يَحْصُلُ الْحِنْثُ بِدُونِهِ. وَالثَّانِي الطَّلْقَاتُ الثَّلَاثُ حَتَّى لَوْ وَقَعَ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ بِالْإِيلَاءِ أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا عَقِيبَ الْإِيلَاءِ فَتَزَوَّجَتْ ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَمْ يَطَأْهَا فِيهَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَبْطُلُ بِهَا الْإِيلَاءُ، وَيَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ بِالْإِيلَاءِ أَبَدًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ اسْتِيفَاءَ طَلَاقِ الْمِلْكِ الْقَائِمِ لِلْحَالِ يُبْطِلُ الْيَمِينَ، وَعِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يُبْطِلُهَا وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَلَوْ آلَى مِنْهَا وَلَمْ يَفِئْ إلَيْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَبَانَتْ مِنْهُ بِتَطْلِيقَةٍ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ عَادَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِمَا بَقِيَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِي يَهْدِمُ الطَّلْقَةَ، وَالطَّلْقَتَيْنِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ لَا يَهْدِمُ. وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ وَلَا يَبْطُلُ بِالْإِبَانَةِ حَتَّى لَوْ آلَى مِنْهَا ثُمَّ أَبَانَهَا قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَمَضَتْ الْمُدَّةُ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ تَبِينُ بِتَطْلِيقَةٍ

أُخْرَى بِالْإِيلَاءِ السَّابِقِ وَلَوْ أَبَانَهَا وَلَمْ يَتَزَوَّجْهَا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ يَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَقَعُ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ، وَهَلْ يَبْطُلُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ فَإِنْ كَانَ الْإِيلَاءُ مُطْلَقًا أَوْ مُؤَبَّدًا بِأَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أَبَدًا أَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، وَلَمْ يُذْكَرْ الْوَقْتَ فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ حَتَّى بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ لَا يَبْطُلُ الْإِيلَاءُ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى مُنْذُ تَزَوَّجَ يَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ عُقِدَتْ مُطْلَقَةً أَوْ مُؤَبَّدَةً، وَالْعَارِضُ لَيْسَ إلَّا الْبَيْنُونَةُ، وَأَثَرُهَا فِي زَوَالِ الْمِلْكِ، وَزَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْيَمِينَ إذَا انْعَقَدَتْ تَبْقَى لِاحْتِمَالِ الْفَائِدَةِ، وَاحْتِمَالُ الْفَائِدَةِ ثَابِتٌ لِاحْتِمَالِ التَّزَوُّجِ؛ فَيَبْقَى الْيَمِينُ، إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمِلْكِ لِانْعِقَادِ الْمُدَّةِ الثَّانِيَةِ فَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَادَ الْمِلْكُ فَعَادَ حَقُّهَا فِي الْجِمَاعِ فَإِذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ الثَّانِيَةُ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ إلَيْهَا فَقَدْ مَنَعَهَا حَقَّهَا فَقَدْ ظَلَمَهَا فَيَقَعُ تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى جَزَاءً عَلَى ظُلْمِهِ. وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَمَا بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ ثَانِيَةٍ، وَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى مُنْذُ تَزَوَّجَهَا تَبِينُ بِثَالِثَةٍ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَمْ يَقْرَبْهَا فِيهَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَلَوْ آلَى مِنْهَا مُطْلَقًا أَوْ أَبَدًا فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَفِئْ إلَيْهَا حَتَّى بَانَتْ ثُمَّ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ قَدْ بَطَلَتْ بَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّهَا مُبَانَةٌ لَا تَسْتَحِقُّ الْوَطْءَ عَلَى الزَّوْجِ، فَلَا يَصِيرُ الزَّوْجُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ قُرْبَانِهَا فِي الْمُدَّةِ ظَالِمًا، وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ كَانَ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَا يَقَعُ لَكِنْ تَبْقَى الْيَمِينُ، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا، وَمَضَتْ الْمُدَّةُ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ يَقَعُ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُدَّةَ الْمُنْعَقِدَةَ لَا تَبْطُلُ بِالْبَيْنُونَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْمُبَانَةِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ وَلَوْ قَرِبَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ وَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فَيَحْنَثُ وَلَوْ كَانَ الْإِيلَاءُ مُؤَقَّتًا إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ فَمَضَتْ الْمُدَّةُ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ حَتَّى وَقَعَ الطَّلَاقُ لَا يَبْقَى الْإِيلَاءُ، وَيَنْتَهِي حَتَّى لَوْ قَرِبَهَا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَلَوْ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛؛ لِأَنَّ الْمُؤَقَّتَ إلَى وَقْتٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْوَقْتِ وَلَوْ حَلَفَ عَلَى قُرْبَانِ امْرَأَتِهِ بِعِتْقِ عَبْدٍ لَهُ ثُمَّ بَاعَهُ سَقَطَ الْإِيلَاءُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِقُرْبَانِهَا ثُمَّ إذَا دَخَلَ فِي مِلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ قَبْلَ الْقُرْبَانِ عَادَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَمْ يَقْرَبْهَا فِيهَا تَبِينُ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمِلْكِ الْقَائِمِ لِلْحَالِ كَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَدَخَلَ الدَّارَ أَنَّهُ يُعْتَقُ وَلَوْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ بَعْدَ الْقُرْبَانِ لَا يَعُودُ الْإِيلَاءُ لِبُطْلَانِهِ بِالْقُرْبَانِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْعَبْدُ بَطَلَ الْإِيلَاءُ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ صَارَ بِحَالٍ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ فَبَطَلَتْ الْيَمِينُ. وَلَوْ قَالَ: إنْ قَرِبْتُك فَعَبْدَيَّ هَذَانِ حُرَّانِ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ بَاعَ أَحَدَهُمَا لَا يَبْطُلُ الْإِيلَاءُ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِالْقُرْبَانِ عِتْقٌ وَلَوْ مَاتَا جَمِيعًا بَطَلَ الْإِيلَاءُ، وَكَذَا لَوْ بَاعَهُمَا جَمِيعًا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ وَلَوْ بَاعَهُمَا ثُمَّ دَخَلَ أَحَدُهُمَا فِي مِلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ قَبْلَ الْقُرْبَانِ عَادَ الْإِيلَاءُ فِيهِ ثُمَّ إذَا دَخَلَ الْآخَرُ فِي مِلْكِهِ عَادَ الْإِيلَاءُ فِيهِ مِنْ وَقْتِ دُخُولِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْعَائِدَ عَيْنُ الْأَوَّلِ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَقْرَبَكِ بِشَهْرٍ، فَقَرِبَهَا قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ بَطَلَتْ الْيَمِينُ وَلَوْ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى مَضَى شَهْرٌ يَصِيرُ مُولِيًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ: إذَا مَضَى شَهْرٌ لَمْ أَقْرَبْكِ فِيهِ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ قَرِبْتُكِ وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ، وَمَضَى شَهْرٌ لَمْ يَقْرَبْهَا فِيهِ لَصَارَ مُولِيًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ قَرِبْتُكِ " إيلَاءٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ، وَهُوَ الطَّلَاقُ، وَهَذَا حَدُّ الْمُولِي فَإِذَا صَارَ مُولِيًا فَإِنْ قَرِبَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِالْقُرْبَانِ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الْبِرِّ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ أَقْرَبَكِ وَلَمْ يَقُلْ " بِشَهْرٍ " لَا يَصِيرُ مُولِيًا، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ مِنْ سَاعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي وَقْتٍ هُوَ قَبْلَ الْقُرْبَانِ، وَكَمَا فَرَغَ مِنْ كَلَامِهِ فَقَدْ وُجِدَ هَذَا الْوَقْتُ فَيَقَعُ، وَلَوْ قَالَ: " قَبْلَ أَنْ أَقْرَبَكِ " يَصِيرُ مُولِيًا؛ لِأَنَّ قَبْلَ الشَّيْءِ اسْمٌ لِزَمَانٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، وَكَمَا فَرَغَ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَقَدْ وُجِدَ زَمَانٌ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ مُتَّصِلٌ بِهِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ الْقُرْبَانُ لَا يُعْرَفُ هَذَا الزَّمَانُ فَكَانَ هَذَا تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالْقُرْبَانِ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ قَرِبْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ قَرِبَهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الْقُرْبَانِ بِلَا فَصْلٍ، فَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَى التَّعْلِيقِ بِالْقُرْبَانِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

فصل في بيان حكم الطلاق

[فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ الطَّلَاقِ] فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الطَّلَاقِ فَحُكْمُ الطَّلَاقِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطَّلَاقِ مِنْ الرَّجْعِيِّ، وَالْبَائِنِ، وَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحْكَامٌ بَعْضُهَا أَصْلِيٌّ، وَبَعْضُهَا مِنْ التَّوَابِعِ، أَمَّا الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ فَالْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لَهُ هُوَ نُقْصَانُ الْعَدَدِ، فَأَمَّا زَوَالُ الْمِلْكِ، وَحِلُّ الْوَطْءِ فَلَيْسَ بِحُكْمٍ أَصْلِيٍّ لَهُ لَازِمٍ حَتَّى لَا يَثْبُتَ لِلْحَالِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي الثَّانِي بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا بَلْ تَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَانَتْ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ زَوَالُ حِلِّ الْوَطْءِ مِنْ أَحْكَامِهِ الْأَصْلِيَّةِ؛ حَتَّى لَا يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ، وَإِلَيْهِ مَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ. وَأَمَّا زَوَالُ الْمِلْكِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمِلْكُ يَزُولُ فِي حَقِّ حِلِّ الْوَطْءِ لَا غَيْرُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَزُولُ أَصْلًا، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ وَطْؤُهَا مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَالْوَطْءِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ لِلْحَالِ، فَلَا بُدَّ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ أَثَرٌ نَاجِزٌ، وَهُوَ زَوَالُ حِلِّ الْوَطْءِ، وَزَوَالُ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الْحِلِّ وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ الزَّوَالِ فِي الْأَحْكَامِ حَتَّى لَا يَحِلَّ لَهُ الْمُسَافَرَةُ بِهَا، وَالْخَلْوَةُ، وَيَزُولَ قَسَمُهَا، وَالْأَقْرَاءُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ مَحْسُوبَةٌ مِنْ الْعِدَّةِ، وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الرَّجْعَةَ رَدًّا فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَبُعُولَتُهُنَّ} [البقرة: 228] أَيْ: أَزْوَاجُهُنَّ {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] ، وَالرَّدُّ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إعَادَةِ الْغَائِبِ فَيَدُلُّ عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] وقَوْله تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ} [البقرة: 228] أَيْ: أَزْوَاجُهُنَّ وقَوْله تَعَالَى هُنَّ كِنَايَةٌ عَنْ الْمُطَلَّقَاتِ. سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى زَوْجَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ وَلَا يَكُونُ زَوْجًا إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ فَدَلَّ أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَائِمَةٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَحَلَّ لِلرَّجُلِ وَطْءَ زَوْجَتِهِ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] وقَوْله تَعَالَى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] وَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى قِيَامِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ، وَظِهَارُهُ، وَإِيلَاؤُهُ، وَيَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا، وَيَتَوَارَثَانِ، وَهَذِهِ أَحْكَامُ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَكَذَا يَمْلِكُ مُرَاجَعَتَهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا وَلَوْ كَانَ مِلْكُ النِّكَاحِ زَائِلًا مِنْ وَجْهٍ لَكَانَتْ الرَّجْعَةُ إنْ شَاءَ النِّكَاحِ عَلَى الْحُرَّةِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا مِنْ وَجْهٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: الطَّلَاقُ وَاقِعٌ فِي الْحَالِ - فَمُسَلَّمٌ لَكِنْ التَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ قَدْ يَظْهَرُ أَثَرُهُ لِلْحَالِ وَقَدْ يَتَرَاخَى عَنْهُ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَكَالتَّصَرُّفِ الْحِسِّيِّ، وَهُوَ الرَّمْيُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَجَازَ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُ هَذَا الطَّلَاقِ بَعْدَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، وَهُوَ زَوَالُ الْمِلْكِ، وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ، عَلَى أَنَّ لَهُ أَثَرًا نَاجِزًا، وَهُوَ نُقْصَانُ عَدَدِ الطَّلَاقِ، وَنُقْصَانُ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ. وَأَمَّا الْمُسَافَرَةُ بِهَا فَقَدْ قَالَ زُفَرُ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْمُسَافَرَةُ بِهَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ فَإِنَّمَا لَا تَحِلُّ لَا لِزَوَالِ الْمِلْكِ بَلْ لِكَوْنِهَا مُعْتَدَّةً وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُعْتَدَّاتِ {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] نَهَى الرِّجَالَ عَنْ الْإِخْرَاجِ، وَالنِّسَاءَ عَنْ الْخُرُوجِ فَيُسْقِطُ الزَّوْجُ الْعِدَّةَ بِالرَّجْعَةِ؛ لِتَزُولَ الْحُرْمَةُ ثُمَّ يُسَافِرُ. وَأَمَّا الْخَلْوَةُ فَإِنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ الرَّجْعَةُ لَا يُكْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الْمُرَاجَعَةُ يُكْرَهُ، لَكِنْ لَا لِزَوَالِ النِّكَاحِ وَارْتِفَاعِ الْحِلِّ بَلْ لِلْإِضْرَارِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ اسْتِيفَاءُ النِّكَاحِ بِالرَّجْعَةِ فَمَتَى خَلَا بِهَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا الْمِسَاسُ عَنْ شَهْوَةٍ فَيَصِيرُ مُرَاجِعًا لَهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا ثَانِيًا فَيُؤَدِّي إلَى تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا فَتَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] ، وَكَذَلِكَ الْقَسَمُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْقَسَمُ لَخَلَا بِهَا فَيُؤَدِّي إلَى مَا ذَكَرْنَا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يُرَاجِعَهَا، حَتَّى لَوْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يُرَاجِعَهَا لَكَانَ لَهَا الْقَسَمُ وَلَهُ الْخَلْوَةُ بِهَا، وَإِنَّمَا احْتَسَبْنَا الْأَقْرَاءَ مِنْ الْعِدَّةِ لِانْعِقَادِ الطَّلَاقِ سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ، وَالْحِلِّ لِلْحَالِ عَلَى وَجْهٍ يَتِمُّ عَلَيْهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الرَّجْعَةَ رَدًّا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إطْلَاقُ اسْمِ الرَّدِّ عِنْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ زَوَالِ الْمِلْك بِدُونِ الزَّوَالِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ خِيَارِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَنَّهُ يُطْلَقُ اسْمُ الرَّدِّ عِنْدَ اخْتِيَارِ الْفَسْخِ، وَإِنْ لَمْ يَزُلْ الْمِلْكُ عَنْ الْبَائِعِ وَلَمْ يَثْبُتْ لِلْمُشْتَرِي؛ لِانْعِقَادِ سَبَبِ الزَّوَالِ بِدُونِ الزَّوَالِ، وَيَكُونُ الرَّدُّ فَسْخًا لِلسَّبَبِ، وَمَنْعًا لَهُ عَنْ الْعَمَلِ فِي إثْبَاتِ الزَّوَالِ. كَذَا هَهُنَا. وَيُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَتَشَوَّفَ، وَتَتَزَيَّنَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَائِمَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَيُسْتَحَبُّ لَهَا ذَلِكَ لَعَلَّ زَوْجَهَا يُرَاجِعُهَا، وَعَلَى هَذَا يُبْنَى حَقُّ الرَّجْعَةِ أَنَّهُ ثَابِتٌ لِلزَّوْجِ بِالْإِجْمَاعِ سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ، أَمَّا عِنْدَنَا فَلِقِيَامِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِقِيَامِهِ فِيمَا وَرَاءَ حِلِّ الْوَطْءِ. [الرَّجْعَةِ] [بَيَانِ شَرْعِيَّةِ الرَّجْعَةِ] ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الرَّجْعَةِ فِي

بيان ماهية الرجعة

مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ شَرْعِيَّةِ الرَّجْعَةِ، وَفِي بَيَانِ مَاهِيَّتِهَا، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهَا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ الرُّكْنِ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَالرَّجْعَةُ مَشْرُوعَةٌ عُرِفَتْ شَرْعِيَّتُهَا بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْمَعْقُولِ؛ أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] أَيْ: رَجْعَتِهِنَّ وقَوْله تَعَالَى {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] وقَوْله تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، وَالْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الرَّجْعَةُ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَيْنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُرْ ابْنَك يُرَاجِعْهَا» الْحَدِيثَ، وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا طَلَّقَ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - جَاءَهُ جِبْرِيلُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: رَاجِعْ حَفْصَةَ فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ فَرَاجَعَهَا» ، وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَّقَ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ثُمَّ رَاجَعَهَا، وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ؛ فَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ إلَى الرَّجْعَةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يَنْدَمُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَا أَشَارَ الرَّبُّ - سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ - بِقَوْلِهِ: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] فَيَحْتَاجُ إلَى التَّدَارُكِ فَلَوْ لَمْ تَثْبُتْ الرَّجْعَةُ لَا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ لِمَا عَسَى لَا تُوَافِقُهُ الْمَرْأَةُ فِي تَجْدِيدِ النِّكَاحِ وَلَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا فَيَقَعُ فِي الزِّنَا. [بَيَانُ مَاهِيَّةِ الرَّجْعَةِ] وَأَمَّا بَيَانُ مَاهِيَّةِ الرَّجْعَةِ فَالرَّجْعَةُ عِنْدَنَا: اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ الْقَائِمِ، وَمَنْعُهُ مِنْ الزَّوَالِ، وَفَسْخُ السَّبَبِ الْمُنْعَقِدِ لِزَوَالِ الْمِلْكِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: هِيَ اسْتِدَامَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَإِنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ بِنَاءً، عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ، زَائِلٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ عِنْدَنَا قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي أَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الرَّجْعَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ شَرْطٌ وَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطُ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، وَإِنْشَائِهِ لَا شَرْطُ الْبَقَاءِ، وَالرَّجْعَةُ اسْتِيفَاءُ الْعَقْدِ عِنْدَنَا، فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الشَّهَادَةُ، وَعِنْدَهُ هِيَ اسْتِيفَاءٌ مِنْ وَجْهٍ، وَإِنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ فَيُشْتَرَطُ لَهَا الشَّهَادَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ إنْ شَاءٌ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ اسْتِيفَاءٌ فَصَحَّ الْبِنَاءُ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الِابْتِدَاءِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] فَظَاهِرُ الْأَمْرِ وُجُوبُ الْعَمَلِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ الشَّهَادَةِ. وَلَنَا نُصُوصُ الرَّجْعَةِ مِنْ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ مُطْلَقَةً عَنْ شَرْطِ الْإِشْهَادِ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا إذْ لَوْ لَمْ يَشْهَدْ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، فَلَا تُصَدِّقُهُ الْمَرْأَةُ فِي الرَّجْعَةِ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَنُدِبَ إلَى الْإِشْهَادِ لِهَذَا. وَعَلَى هَذَا تُحْمَلُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَفِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ - سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى - قَالَ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] جَمَعَ بَيْنَ الْفُرْقَةِ، وَالرَّجْعَةِ، أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْإِشْهَادِ بِقَوْلِهِ {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى الْفُرْقَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ. كَذَا عَلَى الرَّجْعَةِ أَوْ تُحْمَلُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ النُّصُوصِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَكَذَا لَا مَهْرَ فِي الرَّجْعَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا رِضَا الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ شَرَائِطِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لَا مِنْ شَرْطِ الْبَقَاءِ، وَكَذَا إعْلَامُهَا بِالرَّجْعَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ لَمْ يُعْلِمْهَا بِالرَّجْعَةِ جَازَتْ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ حَقُّهُ عَلَى الْخُلُوصِ لِكَوْنِهِ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَالِاسْتِدَامَةِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إعْلَامُ الْغَيْرِ كَالْإِجَازَةِ فِي الْخِيَارِ لَكِنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَمُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّهُ إذَا رَاجَعَهَا وَلَمْ يُعْلِمْهَا بِالرَّجْعَةِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهَا تَتَزَوَّجُ عِنْدَ مُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ ظَنًّا مِنْهَا أَنَّ عِدَّتَهَا قَدْ انْقَضَتْ، فَكَانَ تَرْكُ الْإِعْلَامِ فِيهِ تَسَبُّبًا إلَى عَقْدٍ حَرَامٍ عَسَى فَاسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُعْلِمَهَا. وَلَوْ رَاجَعَهَا وَلَمْ يُعْلِمْهَا حَتَّى انْقَضَتْ مُدَّةُ عِدَّتِهَا، وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ جَاءَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ سَوَاءٌ كَانَ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهَا، وَبَيْنَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ صَحَّتْ بِدُونِ عِلْمِهَا فَتَزَوَّجَهَا الثَّانِي، وَهِيَ امْرَأَةُ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَصِحَّ،، وَعَلَى هَذَا تُبْنَى الرَّجْعَةُ بِالْفِعْلِ بِأَنْ جَامَعَهَا أَنَّهَا جَائِزَةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ الرَّجْعَةُ إلَّا بِالْقَوْلِ وَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الرَّجْعَةَ عِنْدَهُ إنْشَاءُ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ، وَإِنْشَاءُ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْقَوْلِ، فَكَذَا إنْشَاؤُهُ مِنْ وَجْهٍ، وَعِنْدَنَا هِيَ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلَا تَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ، وَيُبْنَى أَيْضًا عَلَى حِلِّ الْوَطْءِ، وَحُرْمَتِهِ. وَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ الْوَطْءَ لَمَّا كَانَ حَلَالًا عِنْدَنَا فَإِذَا وَطِئَهَا فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ الْوَطْءُ دَلَالَةَ الرَّجْعَةِ، وَرُبَّمَا لَا يُرَاجِعُهَا بِالْقَوْلِ بَلْ يَتْرُكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَيَزُولَ الْمِلْكُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالطَّلَاقِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّهُ لَا فِعْلَ مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ فَيَزُولُ الْمِلْكُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ وُجُودِ الطَّلَاقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْكُ كَانَ زَائِلًا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ مِنْ وَجْهٍ، فَيَظْهَرُ أَنَّ الْوَطْءَ كَانَ حَرَامًا، فَجُعِلَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْوَطْءِ دَلَالَةَ الرَّجْعَةِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ الْحَرَامِ

وَعِنْدَهُ لَمَّا كَانَ الْوَطْءُ حَرَامًا لَا يُقْدَمُ عَلَيْهِ، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى جَعْلِهِ دَلَالَةَ الرَّجْعَةِ ثُمَّ ابْتِدَاءُ الدَّلِيلِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْله تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] سَمَّى الرَّجْعَةَ رَدًّا، وَالرَّدُّ لَا يَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ» وقَوْله تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] سَمَّى الرَّجْعَةَ إمْسَاكًا، وَالْإِمْسَاكُ حَقِيقَةً يَكُونُ بِالْفِعْلِ، وَكَذَا إنْ جَامَعَتْهُ، وَهُوَ نَائِمٌ أَوْ مَجْنُونٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَلَالٌ لَهَا عِنْدَنَا فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ رَجْعَةً لَصَارَتْ مُرْتَكِبَةً لِلْحَرَامِ عَلَى تَقْدِيرِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِ رَجْعَةٍ مِنْ الزَّوْجِ فَجُعِلَ ذَلِكَ مِنْهَا رَجْعَةً شَرْعًا ضَرُورَةَ التَّحَرُّزِ عَنْ الْحَرَامِ؛ وَلِأَنَّ جِمَاعَهَا كَجِمَاعِهِ لَهَا فِي بَابِ التَّحْرِيمِ، فَكَذَا فِي بَابِ الرَّجْعَةِ. وَكَذَلِكَ إذَا لَمَسَهَا لِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا عَنْ شَهْوَةٍ فَهُوَ مُرَاجِعٌ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ لَمَسَ أَوْ نَظَرَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَكُ رَجْعَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَلَالٌ فِي الْجُمْلَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَابِلَةَ، وَالطَّبِيبَ يَنْظُرَانِ إلَى الْفَرْجِ، وَيَمَسُّ الطَّبِيبُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى جَعْلِهِ رَجْعَةً، وَكَذَلِكَ إذَا نَظَرَ إلَى غَيْرِ الْفَرْجِ لِشَهْوَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا مُبَاحٌ فِي الْجُمْلَةِ. وَيُكْرَهُ التَّقْبِيلُ، وَاللَّمْسُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الْمُرَاجَعَةَ، وَكَذَا يُكْرَهُ أَنْ يَرَاهَا مُتَجَرِّدَةً لِغَيْرِ شَهْوَةٍ. كَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَشْتَهِيَ فَيَصِيرَ مُرَاجِعًا مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَكَذَا لَا يَأْمَنُ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَشْتَهِيَ فَيَصِيرَ بِهِ مُرَاجِعًا، وَهُوَ لَا يُرِيدُ إمْسَاكَهَا فَيُطَلِّقُهَا فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا فَتَتَضَرَّرُ بِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] ، وَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ أَنَّ الْأَحْسَنَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا أَنْ يَتَنَحْنَحَ، وَيُسْمِعَهَا خَفْقَ نَعْلَيْهِ لَيْسَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا حَرَامٌ وَلَكِنْ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَرَى الْفَرْجَ بِشَهْوَةٍ فَيَكُونَ رَجْعَةً بِغَيْرِ إشْهَادٍ، وَهَذِهِ عِبَارَةُ أَبِي يُوسُفَ وَلَوْ نَظَرَ إلَى دُبُرِهَا مَوْضِعِ خُرُوجِ الْغَائِطِ بِشَهْوَةٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رَجْعَةً كَذَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ الْأَخِيرُ، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا إنَّهُ يَكُونُ رَجْعَةً ثُمَّ رَجَعَ، حَكَى إبْرَاهِيمُ بْنُ رُسْتُمَ رُجُوعَهُ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ السَّبِيلَ لَا يَجْرِي مَجْرَى الْفَرْجِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَطْءَ فِيهِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَهُ فَكَانَ النَّظَرُ إلَيْهِ كَالنَّظَرِ إلَى سَائِرِ الْبَدَنِ؛ وَلِأَنَّ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ بِشَهْوَةٍ إنَّمَا كَانَ رَجْعَةً لِكَوْنِ الْوَطْءِ حَلَالًا تَقْرِيرًا لِلْحِلِّ صِيَانَةً عَنْ الْحَرَامِ، وَالنَّظَرُ إلَى هَذَا الْمَحَلِّ عَنْ شَهْوَةٍ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْحِلَّ بِحَالٍ كَمَا أَنَّ الْفِعْلَ فِيهِ لَا يَحْتَمِلُ الْحِلَّ بِحَالٍ، فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الرَّجْعَةِ. وَلَوْ نَظَرَتْ إلَى فَرْجِهِ بِشَهْوَةٍ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَكُونَ رَجْعَةً، وَهَذَا قَبِيحٌ وَلَا يَكُونُ رَجْعَةً، وَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَالصَّحِيحُ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا جَامَعَتْهُ، وَهُوَ نَائِمٌ أَوْ مَجْنُونٌ؛ وَلِأَنَّ النَّظَرَ حَلَالٌ لَهَا كَالْوَطْءِ فَيُجْعَلُ رَجْعَةً تَقْرِيرًا لِلْحِلِّ وَصِيَانَةً عَنْ الْحُرْمَةِ؛ وَلِأَنَّ النَّظَرَيْنِ يَسْتَوِيَانِ فِي التَّحْرِيمِ. أَلَا تَرَى أَنَّ نَظَرَهَا إلَى فَرْجِهِ كَنَظَرِهِ إلَى فَرْجِهَا فِي التَّحْرِيمِ فَكَذَا فِي الرَّجْعَةِ. وَلَوْ لَمَسَتْهُ لِشَهْوَةٍ مُخْتَلِسَةً أَوْ كَانَ نَائِمًا أَوْ اعْتَرَفَ الزَّوْجُ أَنَّهُ كَانَ بِشَهْوَةٍ فَهُوَ رَجْعَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَيْسَ بِرَجْعَةٍ فَأَبُو حَنِيفَةَ سَوَّى بَيْنَهَا، وَبَيْنَ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي إذَا لَمَسَتْ الْمُشْتَرِيَ أَنَّهُ يَبْطُلُ خِيَارُهُ، وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: هَهُنَا يَكُونُ رَجْعَةً، وَهُنَاكَ لَا يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْجَارِيَةِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ فَرَّقَ فَقَالَ: ثَمَّةَ يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ، وَهَهُنَا لَا يَكُونُ رَجْعَةً، وَفِي رِوَايَةٍ سَوَّى بَيْنَهُمَا فَقَالَ: فِعْلُهَا لَا يَكُونُ رَجْعَةً هَهُنَا وَلَا فِعْلُ الْأَمَةِ يَكُونُ إجَازَةً ثَمَّةَ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ بُطْلَانَ الْخِيَارِ لَا يَقِفُ عَلَى فِعْلِ الْمُشْتَرِي بَلْ قَدْ يَبْطُلُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ كَمَا إذَا تَعَيَّبَتْ فِي يَدِهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَأَمَّا الرَّجْعَةُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ إلَّا بِاخْتِيَارِ الزَّوْجِ حَتَّى قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّهَا إذَا لَمَسَتْهُ فَتَرَكَهَا، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهَا كَانَ ذَلِكَ رَجْعَةً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَكَّنَهَا مِنْ اللَّمْسِ فَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمَسَهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا ابْتَدَأَتْ اللَّمْسَ، وَهُوَ مُطَاوِعٌ لَهَا أَنَّهُ يَكُونُ رَجْعَةً لِمَا قُلْنَا، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ إسْقَاطَ الْخِيَارِ إدْخَالُ الشَّيْءِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَالْأَمَةُ لَا تَمْلِكُ ذَلِكَ وَلَيْسَتْ الرَّجْعَةُ إدْخَالَ الْمَرْأَةِ عَلَى مِلْكِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا عَلَى مِلْكِهِ فَلَوْ جَعَلْنَاهُ بِفِعْلِهَا لَمْ تَمْلِكْهُ مَا لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لَهُ فَصَحَّتْ الرَّجْعَةُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ أَنَّ اللَّمْسَ حَلَالٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عِنْدَنَا فَلَزِمَ تَعَذُّرُ الْحِلِّ فِيهِ، وَصِيَانَتُهُ عَنْ الْحُرْمَةِ، وَذَلِكَ يَجْعَلُهُ رَجْعَةً عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ كَمَا قَالَ فِي الْجَارِيَةِ إنَّ اللَّمْسَ مِنْهَا لَوْ لَمْ يُجْعَلْ إجَازَةً لِلْبَيْعِ، وَرُبَّمَا يُفْسَخُ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ اللَّمْسَ حَصَلَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ مِنْ وَجْهٍ، وَمَا

ركن الرجعة

ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تُعْتَبَرُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ يُشْكِلُ بِمَا إذَا جَامَعَتْهُ، وَهُوَ نَائِمٌ أَنَّهُ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ، وَمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّ إسْقَاطَ الْخِيَارِ إدْخَالُ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ بِمَمْنُوعٍ بَلْ الْمَبِيعُ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ عَلَى أَنَّ هَذَا فَرْقًا بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِيمَا وَرَاءَ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِيمَا وَرَاءَ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ لَا يَقْدَحُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَوْ صَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّهَا لَمَسَتْهُ بِشَهْوَةٍ لَكَانَ ذَلِكَ رَجْعَةً؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ قَامُوا مَقَامَهُ فَكَأَنَّهُ صَدَّقَهَا قَبْلَ مَوْتِهِ، وَلَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهَا قَبَّلَتْهُ لِشَهْوَةٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ الشُّهُودُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِيهِ، وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى الْجِمَاعِ قُبِلَتْ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مَعْنًى يُوقَفُ عَلَيْهِ، وَيُشَاهَدُ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْطِ الشَّهْوَةِ فَتُقْبَلُ فِيهِ الشَّهَادَةُ. [رُكْنُ الرَّجْعَةِ] وَأَمَّا رُكْنُ الرَّجْعَةِ فَهُوَ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى الرَّجْعَةِ: أَمَّا الْقَوْلُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لَهَا: رَاجَعْتُك أَوْ رَدَدْتُك أَوْ رَجَعْتُك أَوْ أَعَدْتُك أَوْ رَاجَعْت امْرَأَتِي أَوْ رَاجَعْتهَا أَوْ رَدَّدْتهَا أَوْ أَعَدْتهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ رَدٌّ، وَإِعَادَةٌ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، وَلَوْ قَالَ لَمَّا نَكَحْتُك أَوْ تَزَوَّجْتُك كَانَ رَجْعَةً فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ رَجْعَةً؛ وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ قَوْلُهُ: نَكَحْتُك إثْبَاتَ الثَّابِتِ، وَأَنَّهُ مُحَالٌ فَلَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ شَرْعًا فَلَمْ يَكُنْ رَجْعَةً بِخِلَافِ قَوْلِهِ رَاجَعْتُك؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِثْبَاتِ النِّكَاحِ بَلْ هُوَ اسْتِيفَاءُ النِّكَاحِ الثَّابِتِ، وَأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ سَبَبُ زَوَالِهِ، وَالرَّجْعَةُ فَسْخُ السَّبَبِ، وَمَنْعٌ لَهُ عَنْ الْعَمَلِ فَيَصِحُّ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ النِّكَاحَ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا حَقِيقَةً لَكِنْ الْمَحَلُّ لَا يَحْتَمِلُ الْإِثْبَاتَ فَيُجْعَلُ مَجَازًا عَنْ اسْتِيفَاءِ الثَّابِتِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُشَابَهَةِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَقَدْ قِيلَ فِي أَحَدِ تَأْوِيلَيْ قَوْله تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] أَيْ: أَزْوَاجُهُنَّ أَحَقُّ بِنِكَاحِهِنَّ فِي الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الرِّجَالِ، وَالنِّكَاحُ الْمُضَافُ إلَى الْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الرَّجْعِيَّةِ بِالنِّكَاحِ. وَأَمَّا الْفِعْلُ الدَّالُّ عَلَى الرَّجْعَةِ فَهُوَ أَنْ يُجَامِعَهَا أَوْ يَمَسَّ شَيْئًا مِنْ أَعْضَائِهَا لِشَهْوَةٍ أَوْ يَنْظُرَ إلَى فَرْجِهَا عَنْ شَهْوَةٍ أَوْ يُوجَدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ هَهُنَا عَلَى مَا بَيَّنَّا،، وَوَجْهُ دَلَالَةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَلَى الرَّجْعَةِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا عِنْدَنَا، فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، فَلَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ إلَّا بِالْقَوْلِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ جَوَازِ الرَّجْعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الرَّجْعَةِ فَمِنْهَا قِيَامُ الْعِدَّةِ، فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ يَزُولُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَلَا تُتَصَوَّرُ الِاسْتِدَامَةُ إذْ الِاسْتِدَامَةُ لِلْقَائِمِ لِصِيَانَتِهِ عَنْ الزَّوَالِ لَا لِلْمُزِيلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ إذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ بِزَوَالِ مِلْكِهِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ. كَذَا هَذَا، وَلَوْ طَهُرَتْ عَنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ ثُمَّ رَاجَعَهَا فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا فِي الْحَيْضِ عَشْرًا لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ، وَتَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ انْقِضَاءَهَا بِانْقِضَاءِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَقَدْ انْقَضَتْ بِيَقِينٍ لِانْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ بِيَقِينٍ إذْ لَا مَزِيدَ لِلْحَيْضِ عَلَى عَشَرَةٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا إذَا رَأَتْ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ لَمْ يَكُنْ الزَّائِدُ عَلَى الْعَشَرَةِ حَيْضًا فَتَيَقَّنَّا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَلَا رَجْعَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَإِنْ كَانَتْ تَجِدُ مَاءً فَلَمْ تَغْتَسِلْ وَلَا تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ بِهِ وَلَا مَضَى عَلَيْهَا وَقْتٌ كَامِلٌ مِنْ أَوْقَاتِ أَدْنَى الصَّلَوَاتِ إلَيْهَا لَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ، وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا أَعْرِفُ بَعْدَ الْأَقْرَاءِ مَعْنًى مُعْتَبَرًا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] أَيْ: يَغْتَسِلْنَ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الزَّوْجُ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا مَا دَامَتْ فِي مُغْتَسَلِهَا» . وَرُوِيَ «مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ» ، وَأَمَّا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُ رَوَى عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كُنْت عِنْدَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَجَاءَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَقَالَ الرَّجُلُ: زَوْجَتِي طَلَّقْتُهَا وَرَاجَعْتُهَا فَقَالَتْ: مَا يَمْنَعُنِي مَا صَنَعَ أَنْ أَقُولَ مَا كَانَ، إنَّهُ طَلَّقَنِي، وَتَرَكَنِي حَتَّى حِضْت الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ وَانْقَطَعَ الدَّمُ، وَغَلَّقْت بَابِي، وَوَضَعْت غُسْلِي، وَخَلَعْت ثِيَابِي فَطَرَقَ الْبَابَ فَقَالَ قَدْ رَاجَعْتُك، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قُلْ فِيهَا يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ فَقُلْت: أَرَى أَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ صَحَّتْ مَا لَمْ تَحِلَّ لَهَا الصَّلَاةُ، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ قُلْت غَيْرَ هَذَا لَمْ أَرَهُ صَوَابًا

وَرُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَأَبَا الدَّرْدَاءِ، وَعُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يَقُولُونَ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ إنَّهُ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، تَرِثُهُ، وَيَرِثُهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَاتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى اعْتِبَارِ الْغُسْلِ فَكَانَ قَوْلُهُ مُخَالِفًا لِلْحَدِيثِ، وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ. وَلِأَنَّ أَيَّامَهَا إذَا كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ لَمْ تُسْتَيْقَنْ بِانْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ لِاحْتِمَالِ الْمُعَاوَدَةِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ، إذْ الدَّمُ لَا يُدَرُّ دَرًّا وَاحِدًا وَلَكِنَّهُ يُدَرُّ مَرَّةً، وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى فَكَانَ احْتِمَالُ الْعَوْدِ قَائِمًا، وَالْعَائِدُ يَكُونُ دَمَ حَيْضٍ إلَى الْعَشَرَةِ فَلَمْ يُوجَدْ انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ بِيَقِينٍ، فَلَا يَثْبُتُ الطُّهْرُ بِيَقِينٍ فَتَبْقَى الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ ثَابِتَةً بِيَقِينٍ،، وَالثَّابِتُ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ كَمَنْ اسْتَيْقَنَ بِالْحَدَثِ، وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشْرًا؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ لَا يَحْتَمِلُ عَوْدُ دَمِ الْحَيْضِ بَعْدَ الْعَشَرَةِ إذْ الْعَشَرَةُ أَكْثَرُ الْحَيْضِ فَتَيَقَّنَّا بِانْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ فَيَزُولُ الْحَيْضُ ضَرُورَةً، وَيَثْبُتُ الطُّهْرُ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالشَّافِعِيُّ بَنَى قَوْلَهُ فِي هَذَا عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِالْأَطْهَارِ لَا بِالْحِيَضِ فَإِذَا طَعَنَتْ فِي أَوَّلِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدْ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْأَصْلِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَيَبْطُلُ الْفَرْعُ ضَرُورَةً، وَإِذَا اغْتَسَلَتْ انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ، وَهُوَ إبَاحَةُ أَدَاءِ الصَّلَاةِ إذْ لَا يُبَاحُ أَدَاؤُهَا لِلْحَائِضِ فَتَقَرَّرَ الِانْقِطَاعُ بِقَرِينَةِ الِاغْتِسَالِ فَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ،، وَكَذَا إذَا لَمْ تَغْتَسِلْ لَكِنْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ صَارَتْ الصَّلَاةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا، وَهَذَا مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ إذْ لَا تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى الْحَائِضِ، فَلَا تَصِيرُ دَيْنًا عَلَيْهَا فَاسْتَحْكَمَ الِانْقِطَاعُ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ فَانْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ تَجِدْ الْمَاءَ بِأَنْ كَانَتْ مُسَافِرَةً فَتَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الصَّلَاةِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ إذْ لَا صِحَّةَ لَهَا مَعَ قِيَامِ الْحَيْضِ فَقَدْ يُضَافُ إلَى الِانْقِطَاعِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ فَاسْتَحْكَمَ الِانْقِطَاعُ فَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ فَأَمَّا إذَا تَيَمَّمَتْ وَلَمْ تُصَلِّ فَهَلْ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ؟ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: لَا تَنْقَطِعُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَنْقَطِعُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهَا لَمَّا تَيَمَّمَتْ فَقَدْ ثَبَتَ لَهَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ، وَهُوَ إبَاحَةُ الصَّلَاةِ، فَلَا يَبْقَى الْحَيْضُ ضَرُورَةً كَمَا لَوْ اغْتَسَلَتْ أَوْ تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ بِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَيَّامَهَا إذَا كَانَتْ دُونَ الْعَشَرَةِ لَمْ تَسْتَيْقِنْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِنَفْسِ انْقِطَاعِ الدَّمِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ تَنْضَمُّ إلَيْهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُعَاوِدَهَا الدَّمُ فِي الْعَشَرَةِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا حَائِضٌ، وَالْحَيْضُ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ، فَلَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهِ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الطُّهْرِ بِيَقِينٍ وَلَمْ يُوجَدْ، وَبِقَرِينَةِ التَّيَمُّمِ لَا تَصِيرُ فِي حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَهُورٍ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا جُعِلَ طَهُورًا شَرْعًا عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَوْ رَأَتْ الْمَاءَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ بَعْدَمَا شَرَعَتْ فِيهَا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا بَطَلَ تَيَمُّمُهَا فَكَانَ التَّيَمُّمُ طَهَارَةً مُطْلَقَةً شَرْعًا لَكِنْ حَالُ عَدَمِ الْمَاءِ وَاحْتِمَالُ وُجُودِ الْمَاءِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ قَائِمٌ، فَكَانَ احْتِمَالُ عَدَمِ الطَّهُورِيَّةِ ثَابِتًا فَلَمْ تُوجَدْ الطَّهَارَةُ الْحَاصِلَةُ بِيَقِينٍ فَتَبْقَى نَجَاسَةُ الْحَيْضِ إلَّا أَنَّهُ أُبِيحَ لَهَا أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِهِ لِعَدَمِ الْمَاءِ فِي الْحَالَيْنِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ مَعَ احْتِمَالِ الْوُجُودِ فَإِذَا لَمْ تَجِدْ الْمَاءَ وَصَلَّتْ بِهِ، وَفَرَغَتْ مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ اُسْتُحْكِمَ الْعَدَمُ فَاسْتَحْكَمَتْ الطَّهَارَةُ الْحَاصِلَةُ بِالتَّيَمُّمِ، فَلَا يَبْقَى الْحَيْضُ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَاحْتِمَالُ عَدَمِ الطَّهَارَةِ ثَابِتٌ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الْمَاءِ، فَلَا يَكُونُ طَهَارَةً شَرْعًا بِيَقِينٍ بَلْ مَعَ الِاحْتِمَالِ فَيَبْقَى حُكْمُ الْحَيْضِ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ، بِخِلَافِ الِاغْتِسَالِ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ بِيَقِينٍ لِكَوْنِ الْمَاءِ طَهُورًا مُطْلَقًا فَإِذَا ثَبَتَتْ الطَّهَارَةُ بِيَقِينٍ انْتَفَى الْحَيْضُ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهَا بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا مَضَى عَلَيْهَا وَقْتٌ كَامِلٌ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ صَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا بِيَقِينٍ فَقَدْ ثَبَتَ فِي حَقِّهَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ بِيَقِينٍ، فَلَا يَبْقَى الْحَيْضُ بِيَقِينٍ فَتَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ بِيَقِينٍ وَلَوْ اغْتَسَلَتْ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ بِنَفْسِ الِاغْتِسَالِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَكِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ؛ لِأَنَّ سُؤْرَ الْحِمَارِ مَشْكُوكٌ فِيهِ إمَّا فِي طَهُورِيَّتِهِ أَوْ فِي طَهَارَتِهِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ طَاهِرًا أَوْ طَهُورًا انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ، وَتَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِتَقَرُّرِ الِانْقِطَاعِ بِالِاغْتِسَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْ كَانَ طَاهِرًا غَيْرَ طَهُورٍ لَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ فَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ لَزِمَ الِاحْتِيَاطُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا، وَهُوَ أَنْ تَنْقَطِعَ الرَّجْعَةُ وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ أَخْذًا بِالثِّقَةِ فِي الْحُكْمَيْنِ احْتِرَازًا عَنْ الْحُرْمَةِ فِي الْبَابَيْنِ وَلَا

تُصَلِّي بِذَلِكَ الْغُسْلِ مَا لَمْ تَتَيَمَّمْ، وَلَوْ اغْتَسَلَتْ الْمُعْتَدَّةُ وَبَقِيَ مِنْ بَدَنِهَا شَيْءٌ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ فَالْبَاقِي لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ كَانَ عُضْوًا كَامِلًا. وَأَمَّا إنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ فَإِنْ كَانَ عُضْوًا كَامِلًا فَلَهُ الرَّجْعَةُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ، فَلَا رَجْعَةَ لَهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: قَوْلُهُ: لَا رَجْعَةَ لَهُ فِي الْأَقَلِّ هَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ الرَّجْعَةُ، فَمُحَمَّدٌ قَاسَ الْمَتْرُوكَ إذَا كَانَ عُضْوًا عَلَى تَرْكِ الْمَضْمَضَةِ، وَالِاسْتِنْشَاقِ. وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُنَاكَ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ، وَالْقِيَاسُ عَلَيْهِ أَنْ تَنْقَطِعَ هُنَا أَيْضًا إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَقَالُوا لَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّ الْعُضْوَ الْكَامِلَ مُجْمَعٌ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِهِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُتَغَافَلُ عَنْهُ عَادَةً فَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ كَمَا لَوْ كَانَ الْمَتْرُوكُ زَائِدًا عَلَى عُضْوٍ بِخِلَافِ الْمَضْمَضَةِ، وَالِاسْتِنْشَاقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُجْمَعٍ عَلَى وُجُوبِهِ، مُجْتَهَدٌ فِيهِ،، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: الْمَتْرُوكُ، وَإِنْ قَلَّ فَحُكْمُ الْحَدَثِ بَاقٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تُبَاحُ مَعَهُ، وَإِنْ قَلَّ، وَمَعَ بَقَاءِ الْحَدَثِ لَا تَثْبُتُ الطَّهَارَةُ، وَهَذَا يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فِي الْقَلِيلِ، وَهُوَ مَا دُونَ الْعُضْوِ فَقَالُوا: إنَّهُ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِمَّا يُتَغَافَلُ عَنْهُ عَادَةً، وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّهُ أَصَابَهُ الْمَاءُ ثُمَّ جَفَّ فَيُحْكَمُ بِانْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ فِيهِ، وَيَبْقَى الْأَمْرُ فِي الْعُضْوِ التَّامِّ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَضْمَضَةِ، وَالِاسْتِنْشَاقِ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَبِينُ مِنْ زَوْجِهَا وَلَكِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ. وَجْهُ قَوْلِهِ هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي انْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ أَنَّ وُجُوبَ الْمَضْمَضَةِ، وَالِاسْتِنْشَاقِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمَوْضِعُ الِاجْتِهَادِ مَوْضِعُ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، فَلَا يَخْلُو عَنْ الشَّكِّ، وَالشُّبْهَةِ، وَالرَّجْعَةُ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكُ الِاحْتِيَاطِ، فَلَا يَجُوزُ بَقَاؤُهَا بِالشَّكِّ فَيَنْقَطِعُ وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ حَالِ التَّزَوُّجِ بِالشَّكِّ أَيْضًا، لِذَلِكَ لَمْ يُجِزْهُ مُحَمَّدٌ. وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ بَقِيَ فِي عُضْوٍ كَامِلٍ فَتَبْقَى الرَّجْعَةُ، هَذَا إذَا كَانَتْ الْمُطَلَّقَةُ مُسْلِمَةً، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ كِتَابِيَّةً فَقَدْ قَالُوا: إنَّ الرَّجْعَةَ تَنْقَطِعُ عَنْهَا بِنَفْسِ انْقِطَاعِ الدَّمِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ بِالْغُسْلِ وَلَا يَلْزَمُهَا فَرْضُ الْغُسْلِ كَالْمُسْلِمَةِ إذَا اغْتَسَلَتْ. (وَمِنْهَا) عَدَمُ التَّطْلِيقِ بِشَرْطٍ، وَالْإِضَافَةُ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ حَتَّى لَوْ قَالَ الزَّوْجُ بَعْدَ الطَّلَاقِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَقَدْ رَاجَعْتُكِ، أَوْ رَاجَعْتُكِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، أَوْ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا أَوْ إذَا جَاءَ غَدٌ فَقَدْ رَاجَعْتُك غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِيفَاءُ مِلْكِ النِّكَاحِ، فَلَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ، وَالْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا لَا يَحْتَمِلُهَا إنْشَاءُ الْمِلْكِ؛ وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ تَتَضَمَّنُ انْفِسَاخَ الطَّلَاقِ فِي انْعِقَادِهِ سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ، وَمَنْعَهُ عَنْ عَمَلِهِ فِي ذَلِكَ فَإِذَا عَلَّقَهَا بِشَرْطٍ أَوْ أَضَافَهَا إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَقَدْ اسْتَبْقَى الطَّلَاقَ إلَى غَايَةٍ، وَاسْتِبْقَاءُ الطَّلَاقِ إلَى غَايَةٍ يَكُونُ تَأْبِيدًا لَهُ إذْ هُوَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ كَمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّوْقِيتُ، وَيَتَأَبَّدُ الطَّلَاقُ، فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ، هَذَا إذَا أَنْشَأَ الرَّجْعَةَ، فَأَمَّا إذَا أَخْبَرَ عَنْ الرَّجْعَةِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي بِأَنْ قَالَ: كُنْت رَاجَعْتُك أَمْسِ فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فَقَدْ ثَبَتَتْ الرَّجْعَةُ، سَوَاءٌ قَالَ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي الْعِدَّةِ أَمْسِ. وَإِنْ كَذَّبَتْهُ فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا يَمْلِكُ إنْ شَاءَهُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فِي الْحَالِ، وَمَنْ أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ يَمْلِكُ إنْ شَاءَهُ فِي الْحَالِ يُصَدَّقْ فِيهِ. إذْ لَوْ لَمْ يُصَدَّقْ يُنْشِئُهُ لِلْحَالِ، فَلَا يُفِيدُ التَّكْذِيبَ فَصَارَ كَالْوَكِيلِ قَبْلَ الْعَزْلِ إذَا قَالَ بِعْته أَمْسِ، وَإِنْ قَالَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَصَارَ كَالْوَكِيلِ بَعْدَ الْعَزْلِ إذَا قَالَ قَدْ بِعْت، وَكَذَّبَهُ الْمُوَكِّلُ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ تُسْتَحْلَفُ. وَهَذِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَعْدُودَةِ الَّتِي لَا يَجْرِي فِيهَا الِاسْتِحْلَافُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى فَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ بَيِّنَةً قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَتَثْبُتُ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَامَتْ عَلَى الرَّجْعَةِ فِي الْعِدَّةِ فَتُسْمَعُ وَلَوْ كَانَتْ الْمُطَلَّقَةُ أَمَةَ الْغَيْرِ فَقَالَ زَوْجُهَا - بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ - كُنْت رَاجَعْتُكِ، وَكَذَّبَتْهُ الْأَمَةُ وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ، وَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، وَالْمَوْلَى، وَتَثْبُتُ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُ الْمَوْلَى،، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا إخْبَارٌ مِنْهَا عَنْ حَيْضِهَا، وَذَلِكَ إلَيْهَا لَا إلَى الْمَوْلَى كَالْحُرَّةِ، فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ لَهَا: قَدْ رَاجَعْتُكِ، فَقَالَتْ - مُجِيبَةً لَهُ: قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ يَمِينِهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ،، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا لَوْ سَكَتَتْ

سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ: انْقَضَتْ عِدَّتِي - يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّهَا إذَا بَدَأَتْ فَقَالَتْ: انْقَضَتْ عِدَّتِي فَقَالَ الزَّوْجُ - مُجِيبًا لَهَا مَوْصُولًا بِكَلَامِهَا: رَاجَعْتُكِ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا؛ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَ الزَّوْجِ رَاجَعْتُكِ وَقَعَ رَجْعَةً صَحِيحَةً لِقِيَامِ الْعِدَّةِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَرْأَةِ انْقَضَتْ عِدَّتِي إخْبَارًا عَنْ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَا عِدَّةَ لِبُطْلَانِهَا بِالرَّجْعَةِ، فَلَا يُسْمَعُ، كَمَا لَوْ سَكَتَتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ: انْقَضَتْ عِدَّتِي؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهَا " انْقَضَتْ عِدَّتِي " إنْ كَانَ إخْبَارًا عَنْ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي زَمَانٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى قَوْلِ الزَّوْجِ - لَا يُقْبَلْ مِنْهَا بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا لَوْ أَسْنَدَتْ الْخَبَرَ عَنْ الِانْقِضَاءِ إلَيْهِ نَصًّا بِأَنْ قَالَتْ: كَانَتْ عِدَّتِي قَدْ انْقَضَتْ قَبْلَ رَجْعَتِكَ؛ لِأَنَّهَا مُتَّهَمَةٌ فِي التَّأْخِيرِ فِي الْإِخْبَارِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ إخْبَارًا عَنْ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي زَمَانٍ مُقَارِنٍ لِقَوْلِ الزَّوْجِ فَهَذَا نَادِرٌ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا. ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَرْأَةَ أَمِينَةٌ فِي إخْبَارِهَا عَنْ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ الشَّرْعَ ائْتَمَنَهَا فِي هَذَا الْبَابِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 228] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: إنَّهُ الْحَيْضُ، وَالْحَبَلُ نَهَاهُنَّ - سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى - عَنْ الْكِتْمَانِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْكِتْمَانِ أَمْرٌ بِالْإِظْهَارِ، إذْ النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، وَالْأَمْرُ بِالْإِظْهَارِ أَمْرٌ بِالْقَبُولِ لِتَظْهَرَ فَائِدَةُ الْإِظْهَارِ فَلَزِمَ قَبُولُ قَوْلِهَا، وَخَبَرِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ قَبُولِ الْإِخْبَارِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حِلُّهَا لِلْأَزْوَاجِ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ عِدَّتُهَا انْقَضَتْ قَبْلَ قَوْلِ الزَّوْجِ رَاجَعْتُكِ - فَقَوْلُهُ رَاجَعْتُكِ يَقَعُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَلَا يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَتْ انْقَضَتْ حَالَ قَوْلِهِ رَاجَعْتُكِ فَيَقَعُ حَالَ قَوْلِهِ رَاجَعْتُكِ حَالَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَكَمَا لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَا تَصِحُّ حَالَ انْقِضَائِهَا؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ حَالَ انْقِضَائِهَا مُنْقَضِيَةٌ فَكَانَ ذَلِكَ رَجْعَةً لِمُنْقَضِيَةِ الْعِدَّةِ، فَلَا تَصِحُّ، فَإِنْ قِيلَ يَحْتَمِلُ أَنَّهَا انْقَضَتْ حَالَ إخْبَارِهَا عَنْ الِانْقِضَاءِ، وَإِخْبَارُهَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ قَوْلِهِ رَاجَعْتُكِ فَكَانَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ ضَرُورَةً فَتَصِحُّ الرَّجْعَةُ فَالْجَوَابُ إذَا احْتَمَلَ مَا قُلْنَا وَاحْتَمَلَ مَا قُلْتُمْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي صِحَّةِ الرَّجْعَةِ،، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا إذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِهِ - لَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ، وَالِاحْتِمَالِ خُصُوصًا فِيمَا يُحْتَاطُ فِيهِ وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ جِهَةُ الْفَسَادِ آكَدَ، وَهَهُنَا جِهَةُ الْفَسَادِ آكَدُ؛ لِأَنَّهَا تَصِحُّ مِنْ وَجْهٍ، وَتَفْسُدُ مِنْ وَجْهَيْنِ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَصِحَّ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمُوَفِّقُ ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تُسْتَحْلَفُ، وَإِذَا نَكَلَتْ يُقْضَى بِالرَّجْعَةِ، وَهَذَا يُشْكِلُ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لِلنُّكُولِ، وَالنُّكُولُ بَدَلٌ عِنْدَهُ، وَالرَّجْعَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَدَلَ لَكِنَّ الِاسْتِحْلَافَ قَدْ يَكُونُ لِلنُّكُولِ لِيُقْضَى بِهِ وَقَدْ يَكُونُ لَا لِلنُّكُولِ بَلْ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ بِالْحَلِفِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عِنْدَهُ فِيمَا لَا يُقْضَى بِالنُّكُولِ أَصْلًا كَمَا فِي دَعْوَى الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ، وَالْمَرْأَةُ، وَإِنْ كَانَتْ أَمِينَةً لَكِنْ الْأَمِينُ قَدْ يُسْتَحْلَفُ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ بِالْحَلِفِ فَإِذَا نَكَلَتْ فَقَدْ تَحَقَّقَتْ التُّهْمَةُ فَلَمْ يَبْقَ قَوْلُهَا حُجَّةً فَبَقِيَتْ الرَّجْعَةُ عَلَى حَالِهَا حُكْمًا لِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ لِعَدَمِ دَلِيلِ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ نُكُولُهَا بَدَلًا مَعَ مَا أَنَّهُ يُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْبَدَلِ هَهُنَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا بِالنُّكُولِ صَارَتْ مُتَّهَمَةً فَخَرَجَ قَوْلُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لِلتُّهْمَةِ فَتَبْقَى الْعِدَّةُ، وَأَثَرُهَا فِي الْمَنْعِ مِنْ الْأَزْوَاجِ، وَالسُّكُونِ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ فَقَطْ، ثُمَّ يُقْضَى بِالرَّجْعَةِ حُكْمًا لِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ؛ لِأَنَّهَا بِإِخْبَارِهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ، وَإِذَا نَكَلَتْ فَقَدْ بَدَّلَتْ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْأَزْوَاجِ، وَالسُّكُونِ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ، وَهَذَا مَعْنًى يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ، وَمِنْهَا عَدَمُ شَرْطِ الْخِيَارِ حَتَّى لَوْ شُرِطَ الْخِيَارُ فِي الرَّجْعَةِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهَا اسْتِبْقَاءُ النِّكَاحِ، فَلَا يَحْتَمِلُ شَرْطَ الْخِيَار كَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ أَحَدُ نَوْعَيْ رُكْنِ الرَّجْعَةِ -، وَهُوَ الْقَوْلُ - مِنْهُ لَا مِنْهَا حَتَّى لَوْ قَالَتْ لِلزَّوْجِ رَاجَعْتُك لَمْ يَصِحَّ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] أَيْ: أَحَقُّ بِرَجْعَتِهِنَّ مِنْهُنَّ وَلَوْ كَانَتْ لَهَا وِلَايَةُ الرَّجْعَةِ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ أَحَقَّ بِالرَّجْعَةِ مِنْهَا، فَظَاهِرُ النَّصِّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا وِلَايَةُ الرَّجْعَةِ أَصْلًا إلَّا أَنَّ جَوَازَ الرَّجْعَةِ بِالْفِعْلِ مِنْهَا عَرَفْنَاهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ مَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا رِضَا الْمَرْأَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الرَّجْعَةِ، وَكَذَا الْمَهْرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الرِّضَا، وَالْمَهْرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ شُرِطَ الرِّضَا، وَالْمَهْرُ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ أَحَقَّ بِرَجْعَتِهَا مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِدُونِ رِضَاهَا، وَالْمَهْرِ فَيُؤَدِّي إلَى الْخُلْفِ فِي خَبَرِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ شُرِعَتْ لِإِمْكَانِ التَّدَارُكِ عِنْدَ النَّدَمِ فَلَوْ شُرِطَ رِضَاهَا لَا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ؛ لِأَنَّهَا عَسَى لَا تَرْضَى، وَعَسَى لَا يَجِدُ الزَّوْجُ الْمَهْرَ، وَكَذَا كَوْنُ الزَّوْجِ طَائِعًا وَجَادًّا، وَعَامِدًا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الرَّجْعَةِ فَتَصِحُّ الرَّجْعَةُ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَالْهَزْلِ وَاللَّعِبِ وَالْخَطَأِ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِبْقَاءُ النِّكَاحِ، وَأَنَّهُ دُونَ الْإِنْشَاءِ وَلَمْ تُشْتَرَطْ هَذِهِ

فصل في حكم الطلاق البائن

الْأَشْيَاءُ لِلْإِنْشَاءِ فَلَأَنْ لَا تُشْتَرَطَ لِلِاسْتِبْقَاءِ أَوْلَى، وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ النِّكَاحُ، وَالرَّجْعَةُ، وَالطَّلَاقُ» . [فَصْلٌ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ فَالطَّلَاقُ الْبَائِنُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا الطَّلْقَاتُ، وَالثَّانِي الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ الْبَائِنَةُ، وَالثِّنْتَانِ الْبَائِنَتَانِ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ أَمَّا إنْ كَانَا حُرَّيْنِ. وَأَمَّا إنْ كَانَا مَمْلُوكَيْنِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا، وَالْآخَرُ مَمْلُوكًا فَإِنْ كَانَا حُرَّيْنِ فَالْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِمَا دُونَ الثَّلَاثِ مِنْ الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ، وَالثِّنْتَيْنِ الْبَائِنَتَيْنِ هُوَ نُقْصَانُ عَدَدِ الطَّلَاقِ، وَزَوَالُ الْمِلْكِ أَيْضًا حَتَّى لَا يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا إلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ وَلَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ، وَإِيلَاؤُهُ وَلَا يَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا وَلَا يَجْرِي التَّوَارُثُ وَلَا يُحَرَّمُ حُرْمَةً غَلِيظَةً حَتَّى يَجُوزَ لَهُ نِكَاحُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثَةِ - وَإِنْ كَانَ بَائِنًا - فَإِنَّهُ يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ لَا زَوَالَ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ. وَأَمَّا الطَّلْقَاتُ الثَّلَاثُ فَحُكْمُهَا الْأَصْلِيُّ هُوَ زَوَالُ الْمِلْكِ، وَزَوَالُ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ أَيْضًا حَتَّى لَا يَجُوزَ لَهُ نِكَاحُهَا قَبْلَ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ؛ لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، وَسَوَاءٌ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مُتَفَرِّقًا أَوْ جُمْلَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي مَوَاضِعِ التَّطْلِيقَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] بَعْدَ قَوْلِهِ {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وَقَالُوا: الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الرَّجْعَةُ، وَالتَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ هُوَ أَنْ يَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ قَوْله تَعَالَى {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فَالتَّسْرِيحُ هُوَ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ، وَعَلَى ذَلِكَ جَاءَ الْخَبَرُ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ مُحْتَمَلٌ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ التَّسْرِيحُ هُوَ تَرْكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا كَانَ تَقْدِيرُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ} [البقرة: 230] أَيْ: طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً ثَالِثَةً، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ التَّسْرِيحِ التَّطْلِيقَةُ الثَّالِثَةُ كَانَ تَقْدِيرُ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] أَيْ: طَلَّقَهَا طَلَاقًا ثَلَاثًا، فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَإِنَّمَا تَنْتَهِي الْحُرْمَةُ وَتَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِشَرَائِطَ مِنْهَا النِّكَاحُ، وَهُوَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] نَفَى الْحِلَّ، وَحَدَّ النَّفْيَ إلَى غَايَةِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَالْحُكْمُ الْمَمْدُودُ إلَى غَايَةٍ لَا يَنْتَهِي قَبْلَ وُجُودِ الْغَايَةِ، فَلَا تَنْتَهِي الْحُرْمَةُ قَبْلَ التَّزَوُّجِ، فَلَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ قَبْلَهُ ضَرُورَةً، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا وَطِئَهَا إنْسَانٌ بِالزِّنَا أَوْ بِشُبْهَةٍ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِزَوْجِهَا لِعَدَمِ النِّكَاحِ، وَكَذَا إذَا وَطِئَهَا الْمَوْلَى بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِأَنْ حَرُمَتْ أَمَتُهُ الْمَنْكُوحَةُ عَلَى زَوْجِهَا حُرْمَةً غَلِيظَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَوَطِئَهَا الْمَوْلَى لَا تَحِلُّ لِزَوْجِهَا؛؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَفَى الْحِلَّ إلَى غَايَةٍ، فَلَا يَنْتَهِي النَّفْيُ قَبْلَ وُجُودِ النِّكَاحِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: لَيْسَ بِزَوْجٍ يَعْنِي: الْمَوْلَى. وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ عُثْمَانُ، وَزَيْدٌ وَقَالَا: هُوَ زَوْجٌ، فَقَامَ عَلِيٌّ مُغْضَبًا كَارِهًا لِمَا قَالَا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِزَوْجٍ،. وَكَذَا إنْ اشْتَرَاهَا الزَّوْجُ قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَكَذَا إذَا أُعْتِقَتْ لِمَا قُلْنَا. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ رُجُوعِ الْمَبْتُوتَةِ لِزَوْجِهَا] (فَصْلٌ) : وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ الثَّانِي صَحِيحًا حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَتْ رَجُلًا نِكَاحًا فَاسِدًا وَدَخَلَ بِهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَيْسَ بِنِكَاحٍ حَقِيقَةً، وَمُطْلَقُ النِّكَاحِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ نِكَاحٌ حَقِيقَةً وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ الثَّانِي مُخْتَلِفًا فِي فَسَادِهِ، وَدَخَلَ بِهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِفَسَادِهِ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ تَزَوَّجْت بِزَوْجٍ آخَرَ وَمِنْ نِيَّتِهَا التَّحْلِيلُ فَإِنْ لَمْ يَشْرُطَا ذَلِكَ بِالْقَوْلِ، وَإِنَّمَا نَوَيَا، وَدَخَلَ بِهَا عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَوَقَعَ النِّكَاحُ صَحِيحًا لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ فَتَحِلُّ لِلْأَوَّلِ كَمَا لَوْ نَوَيَا التَّوْقِيتَ، وَسَائِرَ الْمَعَانِي الْمُفْسِدَةِ. وَإِنْ شَرَطَ الْإِحْلَالَ بِالْقَوْلِ، وَأَنَّهُ يَتَزَوَّجُهَا لِذَلِكَ، وَكَانَ الشَّرْطُ مِنْهَا فَهُوَ نِكَاحٌ صَحِيحٌ عَنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزُفَرَ، وَتَحِلُّ لِلْأَوَّلِ، وَيُكْرَهُ لِلثَّانِي، وَالْأَوَّلِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: النِّكَاحُ الثَّانِي فَاسِدٌ، وَإِنْ وَطِئَهَا لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: النِّكَاحُ الثَّانِي صَحِيحٌ وَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ النِّكَاحَ بِشَرْطِ الْإِحْلَالِ فِي مَعْنَى النِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ، وَشَرْطُ التَّوْقِيتِ فِي النِّكَاحِ يُفْسِدُهُ، وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ لَا يَقَعُ بِهِ التَّحْلِيلُ، وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ مُؤَبَّدٌ فَكَانَ شَرْطُ الْإِحْلَالِ اسْتِعْجَالَ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِغَرَضِ الْحِلِّ فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَيَبْقَى النِّكَاحُ صَحِيحًا لَكِنْ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْغَرَضُ كَمَنْ قَتَلَ مُوَرِّثَهُ أَنَّهُ

يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لِمَا قُلْنَا. كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عُمُومَاتِ النِّكَاحِ تَقْتَضِي الْجَوَازَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا شُرِطَ فِيهِ الْإِحْلَالُ أَوْ لَا فَكَانَ النِّكَاحُ بِهَذَا الشَّرْطِ نِكَاحًا صَحِيحًا فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فَتَنْتَهِي الْحُرْمَةُ عِنْدَ وُجُودِهِ إلَّا أَنَّهُ كُرِهَ النِّكَاحُ بِهَذَا الشَّرْطِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي الْمَقْصُودَ مِنْ النِّكَاحِ، وَهُوَ السَّكَنُ، وَالتَّوَالُدُ، وَالتَّعَفُّفُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْبَقَاءِ، وَالدَّوَامِ عَلَى النِّكَاحِ، وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مَعْنَى إلْحَاقِ اللَّعْنِ بِالْمُحَلِّلِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ، وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» . وَأَمَّا إلْحَاقُ اللَّعْنِ بِالزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْمُحَلَّلُ لَهُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَبَبٌ لِمُبَاشَرَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي هَذَا النِّكَاحَ لِقَصْدِ الْفِرَاقِ، وَالطَّلَاقِ دُونَ الْإِبْقَاءِ، وَتَحْقِيقِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَالْمُسَبِّبُ شَرِيكُ الْمُبَاشِرِ فِي الِاسْمِ، وَالثَّوَابِ فِي التَّسَبُّبِ لِلْمَعْصِيَةِ، وَالطَّاعَةِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ بَاشَرَ مَا يُفْضِي إلَى الَّذِي تَنْفِرُ مِنْهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ، وَتَكْرَهُهُ مِنْ عَوْدِهَا إلَيْهِ مِنْ مُضَاجَعَةِ غَيْرِهِ إيَّاهَا وَاسْتِمْتَاعِهِ بِهَا، وَهُوَ الطَّلْقَاتُ الثَّلَاثُ إذْ لَوْلَاهَا لَمَا وَقَعَ فِيهِ فَكَانَ إلْحَاقُهُ اللَّعْنَ بِهِ لِأَجْلِ الطَّلْقَاتِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إنَّ التَّوْقِيتَ فِي النِّكَاحِ يُفْسِدُ النِّكَاحَ فَنَقُولُ: الْمُفْسِدُ لَهُ هُوَ التَّوْقِيتُ نَصًّا. أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ مُؤَقَّتٍ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّتُ بِالطَّلَاقِ، وَبِالْمَوْتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يُوجَدْ التَّوْقِيتُ نَصًّا، فَلَا يَفْسُدُ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ إنَّهُ اسْتِعْجَالُ مَا أَجَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ اسْتِعْجَالَ مَا أَجَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُتَصَوَّرُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا ضَرَبَ لِأَمْرٍ أَجَلًا لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ فَإِذَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَّلَ هَذَا النِّكَاحَ إلَيْهِ، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. وَمِنْهَا الدُّخُولُ مِنْ الزَّوْجِ الثَّانِي، فَلَا تَحِلُّ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ بِالنِّكَاحِ الثَّانِي حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ تَحِلُّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، وَالنِّكَاحُ هُوَ الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَقْدِ، وَالْوَطْءِ جَمِيعًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَكِنَّهُ يُصْرَفُ إلَى الْعَقْدِ عِنْدَ وُجُودِ الْقَرِينَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ النِّكَاحَ إلَى الْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، وَالْعَقْدُ يُوجَدُ مِنْهَا كَمَا يُوجَدُ مِنْ الرَّجُلِ، فَأَمَّا الْجِمَاعُ فَإِنَّهُ يَقُومُ بِالرَّجُلِ، وَحْدَهُ، وَالْمَرْأَةُ مَحَلُّهُ فَانْصَرَفَ إلَى الْعَقْدِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ فَإِذَا وُجِدَ الْعَقْدُ تَنْتَهِي الْحُرْمَةُ بِظَاهِرِ النَّصِّ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، وَالْمُرَادُ مِنْ النِّكَاحِ: الْجِمَاعُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الضَّمُّ حَقِيقَةً، وَحَقِيقَةُ الضَّمِّ فِي الْجِمَاعِ، وَإِنَّمَا الْعَقْدُ سَبَبٌ دَاعٍ إلَيْهِ فَكَانَ حَقِيقَةً لِلْجِمَاعِ مَجَازًا لِلْعَقْدِ مَعَ مَا أَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعَقْدِ لَكَانَ تَكْرَارًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْعَقْدِ يُفِيدُهُ ذِكْرُ الزَّوْجِ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى الْجِمَاعِ أَوْلَى، بَقِيَ قَوْلُهُ: أَنَّهُ أَضَافَ النِّكَاحَ إلَيْهَا. وَالْجِمَاعُ مِمَّا تَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى الزَّوْجَيْنِ لِوُجُودِ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ مِنْهُمَا حَقِيقَةً، فَأَمَّا الْوَطْءُ فَفِعْلُ الرَّجُلِ حَقِيقَةً لَكِنْ إضَافَةُ النِّكَاحِ إلَيْهَا مِنْ حَيْثُ هُوَ ضَمٌّ وَجَمْعٌ لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ وَطْءٌ ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ النِّكَاحِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْعَقْدُ فَالْجِمَاعُ يُضْمَرُ فِيهِ، عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَضَرْبٍ مِنْ الْمَعْقُولِ أَمَّا الْحَدِيثُ فَمَا رَوَيْنَا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَتْ: إنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي، وَبَتَّ طَلَاقِي؛ فَتَزَوَّجَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ لَا، حَتَّى تَذُوقِي مِنْ عُسَيْلَتِهِ، وَيَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِكِ» . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الْحَدِيثُ وَلَمْ يَذْكُرَا قِصَّةَ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ فَأَغْلَقَ الْبَابَ، وَأَرْخَى السِّتْرَ، وَكَشَفَ الْخِمَارَ ثُمَّ فَارَقَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَذُوقَ عُسَيْلَةَ الْآخَرِ» . وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْحُرْمَةَ الْغَلِيظَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ عُقُوبَةً لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِمَا أَقْدَمَ عَلَى الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ الَّذِي هُوَ مَكْرُوهٌ شَرْعًا زَجْرًا، وَمَنْعًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ لَكِنْ إذَا تَفَكَّرَ فِي حُرْمَتِهَا عَلَيْهِ إلَّا بِزَوْجٍ آخَرَ - الَّذِي تَنْفِرُ مِنْهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ، وَتَكْرَهُهُ - انْزَجَرَ عَنْ ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ لَا تَنْفِرُ عَنْهُ الطِّبَاعُ وَلَا تَكْرَهُهُ إذْ لَا يَشْتَدُّ عَلَى الْمَرْأَةِ مُجَرَّدُ النِّكَاحِ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْجِمَاعُ فَكَانَ الدُّخُولُ شَرْطًا فِيهِ لِيَكُونَ زَجْرًا لَهُ، وَمَنْعًا عَنْ ارْتِكَابِهِ فَكَانَ الْجِمَاعُ مُضْمَرًا فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كَأَنَّهُ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ

وَيُجَامِعَهَا. وَأَمَّا الْإِنْزَالُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْإِحْلَالِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْجِمَاعَ غَايَةَ الْحُرْمَةِ،، وَالْجِمَاعُ فِي الْفَرْجِ هُوَ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ فَإِذَا وُجِدَ فَقَدْ انْتَهَتْ الْحُرْمَةُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ الثَّانِي بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا يُجَامِعُ فَجَامَعَهَا أَوْ مَجْنُونًا فَجَامَعَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ زَوْجٍ، وَزَوْجٍ؛ وَلِأَنَّ وَطْءَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ مِنْ الْمَهْرِ وَالتَّحْرِيمِ كَوَطْءِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ، وَكَذَلِكَ الصَّغِيرَةُ الَّتِي يُجَامَعُ مِثْلُهَا إذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ الثَّانِي حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ؛ وَلِأَنَّ وَطْأَهَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْوَطْءِ مِنْ الْمَهْرِ، وَالتَّحْرِيمِ فَصَارَ كَوَطْءِ الْبَالِغَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ الثَّانِي حُرًّا أَوْ عَبْدًا قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، وَدَخَلَ بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ؛ وَلِأَنَّ أَحْكَامَ النِّكَاحِ تَتَعَلَّقُ بِوَطْءِ هَؤُلَاءِ كَمَا تَتَعَلَّقُ بِوَطْءِ الْحُرِّ، وَكَذَا إذَا كَانَ مَشْلُولًا يَنْتَشِرُ لَهُ، وَيُجَامِعُ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، وَإِنَّمَا الْفَائِتُ هُوَ الْإِنْزَالُ، وَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ كَالْفَحْلِ إذَا جَامَعَ وَلَمْ يُنْزِلْ. وَأَمَّا الْمَجْبُوبُ فَإِنَّهُ لَا يُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْجِمَاعُ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ مِنْهُ السَّحْقُ، وَالْمُلَاصَقَةُ، وَالتَّحْلِيلُ يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ، وَأَنَّهُ اسْمٌ لِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ، وَإِنْ حَمَلَتْ امْرَأَةُ الْمَجْبُوبِ وَوَلَدَتْ هَلْ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ، وَكَانَتْ مُحْصَنَةً. وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ وَلَا تَكُونُ مُحْصَنَةً، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ لَيْسَ بِوَطْءٍ حَقِيقَةً بَلْ يُقَامُ مَقَامَ الْوَطْءِ حُكْمًا، وَالتَّحْلِيلُ يَتَعَلَّقُ حَقِيقَةً لَا حُكْمًا كَالْخَلْوَةِ فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُ الْحِلَّ، وَإِنْ أُقِيمَ مَقَامَ الْوَطْءِ حُكْمًا كَذَا هَذَا؛ وَلِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مِنْ صَاحِبِ الْفِرَاشِ مَعَ كَوْنِ الْمَرْأَةِ زَانِيَةً حَقِيقَةً لِكَوْنِهِ مَوْلُودًا عَلَى الْفِرَاشِ، وَالتَّحْلِيلُ لَا يَقَعُ بِالزِّنَا وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ النَّسَبَ ثَابِتٌ مِنْهُ، وَثُبُوتُ النَّسَبِ حُكْمُ الْوَطْءِ فِي الْأَصْلِ فَصَارَ كَالدُّخُولِ سَوَاءٌ وَطِئَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ إحْرَامٍ لِوُجُودِ الدُّخُولِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَلَوْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَنَكَحَتْ كِتَابِيًّا نِكَاحًا يُقَرَّانِ عَلَيْهِ لَوْ أَسْلَمَا وَدَخَلَ بِهَا فَإِنَّهَا تَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ الدُّخُولِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فِي حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَصَارَ كَنِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُطَلَّقَةً مِنْ زَوْجٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ زَوْجَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَالزَّوْجُ الْوَاحِدُ إذَا دَخَلَ بِهَا تَحِلُّ لِلزَّوْجَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ فَطَلَّقَهَا الثَّانِي قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ زَوْجًا ثَالِثًا، وَدَخَلَ بِهَا حَلَّتْ لِلْأَوَّلَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] جَعَلَ الزَّوْجَ الثَّانِي مَنْهِيًّا لِلْحُرْمَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا حَرُمَتْ عَلَى زَوْجٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ وَطْءُ الزَّوْجُ الثَّانِي هَلْ يَهْدِمُ مَا كَانَ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ مِنْ الطَّلَاقِ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَهْدِمُ الثَّلَاثَ، وَهَلْ يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: يَهْدِمُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَهْدِمُ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْحُجَجَ، وَالشُّبَهَ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَغَابَتْ عَنْهُ مُدَّةً ثُمَّ أَتَتْهُ فَقَالَتْ: إنِّي تَزَوَّجْت زَوْجًا غَيْرَكَ وَدَخَلَ بِي وَطَلَّقَنِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَيُصَدِّقَهَا إذَا كَانَتْ ثِقَةً عِنْدَهُ أَوْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الدِّيَانَةِ، وَخَبَرُ الْعَدْلِ فِي بَابِ الدِّيَانَةِ مَقْبُولٌ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً، كَمَا فِي الْإِخْبَارِ عَنْ طَهَارَةِ الْمَاءِ، وَنَجَاسَتِهِ، وَكَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ تُخْبِرْهُ بِشَيْءٍ فَلَمَّا وَقَعَ قَالَتْ: لَمْ أَتَزَوَّجْ زَوْجًا غَيْرَكَ أَوْ قَالَتْ: تَزَوَّجْت وَلَمْ يَدْخُلْ بِي، أَوْ قَالَتْ: قَدْ خَلَا بِي وَجَامَعَنِي فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَكَذَّبَهَا الْأَوَّلُ. وَقَالَ: قَدْ دَخَلَ بِك الثَّانِي، لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا كَمَا فِي الْخَبَرِ عَنْ الْحَيْضِ، وَالْحَبَلِ، وَفِيهِ إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا إذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهَا مَا يُكَذِّبُهَا، وَقَدْ سَبَقَ مِنْهَا مَا يُكَذِّبُهَا فِي قَوْلِهَا، وَهُوَ إقْدَامُهَا عَلَى النِّكَاحِ مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَالدُّخُولِ بِهَا فَكَانَ فِعْلُهَا مُنَاقِضًا لِقَوْلِهَا، فَلَا يُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي قَالَ لَهَا لَمْ تَتَزَوَّجِي أَوْ قَالَ لَمْ يَدْخُلْ بِك الثَّانِي. وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ قَدْ دَخَلَ بِي قَالَ الْحَسَنُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ، وَهَذَا صَحِيحٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا إنَّمَا يُعْلَمُ مِنْ جِهَتِهَا وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا دَلِيلُ التَّنَاقُضِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا، قَالَ، وَيَفْسُدُ النِّكَاحُ بِقَوْلِ الزَّوْجِ وَلَهَا نِصْفُ

فصل في توابع الطلاق

الْمُسَمَّى إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَالْكُلُّ إنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مُعْتَرِفٌ بِالْحُرْمَةِ وَقَوْلُهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْحُرْمَةِ مَقْبُولٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْحُرْمَةِ فَكَانَ اعْتِرَافُهُ بِفَسَادِ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْفُرْقَةِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ وَلَا يُقْبَلُ فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا مِنْ الْمَهْرِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ مَمْلُوكَيْنِ فَحُكْمُ الْوَاحِدَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَخْتَلِفُ. وَأَمَّا حُكْمُ الِاثْنَتَيْنِ فَحُكْمُهُمَا فِي الْمَمْلُوكَيْنِ مَا هُوَ حُكْمُ الثَّلَاثِ فِي الْحُرَّيْنِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُطَلِّقُ الْعَبْدُ ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ مَمْلُوكًا فَيُعْتَبَرُ فِيهِ جَانِبُ النِّسَاءِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ جَانِبُ الرِّجَالِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ الطَّلَاقِ بِهِنَّ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ بِهِمْ لَا بِهِنَّ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ تَقَدَّمَتْ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي تَوَابِعِ الطَّلَاقِ] (فَصْلٌ) : هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانُ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ لِلطَّلَاقِ، وَأَمَّا الَّذِي هُوَ مِنْ التَّوَابِعِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَعُمُّ الطَّلَاقَ الْمُعَيَّنَ، وَالْمُبْهَمَ، وَنَوْعٌ يَخُصُّ الْمُبْهَمَ أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ الْمُعَيَّنَ، وَالْمُبْهَمَ فَوُجُوبُ الْعِدَّةِ عَلَى بَعْضِ الْمُطَلَّقَاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ الْمَدْخُولُ بِهَا، وَالْكَلَامُ فِي الْعِدَّةِ فِي مَوَاضِعَ: فِي تَفْسِيرِ الْعِدَّةِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، وَبَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهَا، وَفِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْعِدَدِ، وَسَبَبِ وُجُوبِ كُلِّ نَوْعٍ، وَمَا لَهُ وَجَبَ، وَشَرْطِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ مَقَادِيرِ الْعِدَدِ، وَفِي بَيَانِ انْتِقَالِ الْعِدَّةِ، وَتَغَيُّرِهَا، وَفِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْعِدَّةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُعْرَفُ بِهِ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا: أَمَّا تَفْسِيرُ الْعِدَّةِ، وَبَيَانُ وَقْتِ وُجُوبِهَا فَالْعِدَّةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ: اسْمٌ لِأَجَلٍ ضُرِبَ لِانْقِضَاءِ مَا بَقِيَ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هِيَ اسْمٌ لِفِعْلِ التَّرَبُّصِ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي الْعِدَّتَانِ إذَا وَجَبَتَا أَنَّهُمَا يَتَدَاخَلَانِ سَوَاءٌ كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ. وَصُورَةُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ: الْمُطَلَّقَةُ إذَا تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ ثُمَّ تَتَارَكَا حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ أُخْرَى فَإِنَّ الْعِدَّتَيْنِ يَتَدَاخَلَانِ عِنْدَنَا وَصُورَةُ الْجِنْسَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ تَدَاخَلَتْ أَيْضًا، وَتَعْتَدُّ بِمَا رَأَتْهُ مِنْ الْحَيْضِ فِي الْأَشْهُرِ مِنْ عِدَّةِ الْوَطْءِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَمْضِي فِي الْعِدَّةِ الْأُولَى فَإِذَا انْقَضَتْ اسْتَأْنَفَتْ الْأُخْرَى احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وقَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وقَوْله تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] أَيْ: فِي التَّرَبُّصِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الزَّوْجَ إنَّمَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فِي الْعِدَّةِ فَدَلَّ أَنَّ الْعِدَّةَ تَرَبُّصٌ، سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْعِدَّةَ تَرَبُّصًا، وَهُوَ اسْمٌ لِلْفِعْلِ، وَهُوَ الْكَفُّ، وَالْفِعْلَانِ - وَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ - لَا يَتَأَدَّيَانِ بِأَحَدِهِمَا كَالْكَفِّ فِي بَابِ الصَّوْمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْعِدَّةَ أَجَلًا، وَالْأَجَلُ اسْمٌ لِزَمَانٍ مُقَدَّرٍ مَضْرُوبٍ لِانْقِضَاءِ أَمْرٍ كَآجَالِ الدُّيُونِ، وَغَيْرِهَا سُمِّيَتْ الْعِدَّةُ أَجَلًا لِكَوْنِهِ وَقْتًا مَضْرُوبًا لِانْقِضَاءِ مَا بَقِيَ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ، وَالْآجَالُ إذَا اجْتَمَعَتْ تَنْقَضِي بِمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ كَالْآجَالِ فِي بَابِ الدُّيُونِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا اسْمٌ لِلْأَجَلِ لَا لِلْفِعْلِ أَنَّهَا تَنْقَضِي مِنْ غَيْرِ فِعْلِ التَّرَبُّصِ بِأَنْ لَمْ تُجْتَنَبْ عَنْ مَحْظُورَاتِ الْعِدَّةِ حَتَّى انْقَضَتْ الْمُدَّةُ، وَلَوْ كَانَتْ فِعْلًا لَمَا تُصُوِّرَ انْقِضَاؤُهَا مَعَ ضِدِّهَا، وَهُوَ التَّرْكُ. وَأَمَّا الْآيَاتُ فَالتَّرَبُّصُ هُوَ التَّثَبُّتُ، وَالِانْتِظَارُ قَالَ تَعَالَى {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 25] . وَقَالَ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} [التوبة: 98] وَقَالَ سُبْحَانَهُ {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52] ، وَالِانْتِظَارُ يَكُونُ فِي الْآجَالِ الْمُعْتَدَّةِ تَنْتَظِرُ انْقِضَاءَ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ التَّرَبُّصَ لَيْسَ هُوَ فِعْلَ الْكَفِّ، عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ كَفٌّ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ فِي الْبَابِ بَلْ هُوَ تَابِعٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِدُونِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَكَذَا تَنْقَضِي بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ وَلَوْ كَانَ رُكْنًا لَمَا تُصُوِّرَ الِانْقِضَاءُ بِدُونِهِ، وَبِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ. وَعَلَى هَذَا يُبْنَى وَقْتُ وُجُوبِ الْعِدَّةِ أَنَّهَا تَجِبُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ مِنْ الطَّلَاقِ، وَالْوَفَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ بَلَغَ الْمَرْأَةَ طَلَاقُ زَوْجِهَا أَوْ مَوْتُهُ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ يَوْمِ طَلَّقَ أَوْ مَاتَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مِنْ يَوْمِ يَأْتِيهَا الْخَبَرُ وَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْفِعْلَ لَمَّا كَانَ رُكْنًا عِنْدَهُ فَإِيجَابُ الْفِعْلِ عَلَى مَنْ لَا عَلِمَ لَهُ بِهِ وَلَا سَبَبَ إلَى الْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِهِ مُمْتَنِعٌ، فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ إلَّا مِنْ وَقْتِ بُلُوغِ الْخَبَرِ؛؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ حُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ وَلَمَّا كَانَ الرُّكْنُ هُوَ الْأَجَلُ عِنْدَنَا، وَهُوَ مُضِيُّ الزَّمَانِ لَا يَقِفُ وُجُوبُهُ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ كَمُضِيِّ سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَقِفُ عَلَى فِعْلِهَا أَصْلًا، وَهُوَ الْكَفُّ فَإِنَّهَا لَوْ عَلِمَتْ فَلَمْ

تَكُفَّ وَلَمْ تَجْتَنِبْ مَا تَجْتَنِبُهُ الْمُعْتَدَّةُ حَتَّى انْقَضَتْ الْمُدَّةُ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا. وَإِذَا لَمْ يَقِفْ عَلَى فِعْلِهَا فَلَأَنْ لَا يَقِفَ عَلَى عِلْمِهَا بِهِ أَوْلَى، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ وَقْتَ الْمَوْتِ فَأَمَرَهَا بِالْأَخْذِ بِالْيَقِينِ، وَبِهِ نَقُولُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْعِدَّةِ أَنَّهَا مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ مِثْلُ قَوْلِ الْعَامَّةِ، فَأَمَّا إنْ يُحْمَلَ عَلَى الرُّجُوعِ أَوْ عَلَى مَا قُلْنَا. وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِ الْعِدَدِ فَالْعِدَدُ فِي الشَّرْعِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: عِدَّةُ الْأَقْرَاءِ، وَعِدَّةُ الْأَشْهُرِ، وَعِدَّةُ الْحَبَلِ أَمَّا عِدَّةُ الْأَقْرَاءِ فَلِوُجُوبِهَا أَسْبَابٌ مِنْهَا: الْفُرْقَةُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِطَلَاقٍ أَوْ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَإِنَّمَا تَجِبُ هَذِهِ الْعِدَّةُ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ، وَتُعْرَفُ بَرَاءَتُهَا عَنْ الشُّغْلِ بِالْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَجِبْ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا حَمَلَتْ مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَتَتَزَوَّجُ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ الْأَوَّلِ فَيَطَأُهَا الثَّانِي فَيَصِيرُ سَاقِيًا مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَسْقِيَنَّ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» ، وَكَذَا إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ يُشْتَبَهُ النَّسَبُ، فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَيَضِيعُ الْوَلَدُ أَيْضًا لِعَدَمِ الْمُرَبِّي، وَالنِّكَاحُ سَبَبُهُ فَكَانَ تَسَبُّبًا إلَى هَلَاكِ الْوَلَدِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ لِيُعْلَمَ بِهَا فَرَاغُ الرَّحِمِ، وَشَغْلُهَا؛، فَلَا يُؤَدِّي إلَى هَذِهِ الْعَوَاقِبِ الْوَخِيمَةِ. وَشَرْطُ وُجُوبِهَا الدُّخُولُ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الدُّخُولِ، وَهُوَ الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ، فَلَا يَجِبُ بِدُونِ الدُّخُولِ، وَالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَهَا بِطَرِيقِ اسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْحَاجَةُ إلَى الِاسْتِبْرَاءِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا قَبْلَهُ إلَّا أَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أُقِيمَتْ مَقَامَ الدُّخُولِ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ الَّتِي فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى يُحْتَاطُ فِي إيجَابِهِ؛ وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ بِالْوَاجِبِ بِالنِّكَاحِ قَدْ حَصَلَ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ فَتَجِبُ بِهِ الْعِدَّةُ كَمَا تَجِبُ بِالدُّخُولِ بِخِلَافِ الْخَلْوَةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ إنَّمَا أُقِيمَتْ مَقَامَ الدُّخُولِ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِدُخُولٍ حَقِيقَةً لِكَوْنِهَا سَبَبًا مُفْضِيًا إلَيْهِ فَأُقِيمَتْ مَقَامَهُ احْتِيَاطًا إقَامَةً لِلسَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ فِيمَا يُحْتَاطُ فِيهِ. وَالْخَلْوَةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا تُفْضِي إلَى الدُّخُولِ لِوُجُودِ الْمَانِعِ، وَهُوَ فَسَادُ النِّكَاحِ، وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ، فَلَمْ تُوجَدْ الْخَلْوَةُ الْحَقِيقِيَّةُ إذْ هِيَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ انْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ أَوْ وُجِدَتْ بِصِفَةِ الْفَسَادِ، فَلَا تَقُومُ مَقَامَ الدُّخُولِ، وَكَذَا التَّسْلِيمُ الْوَاجِبُ بِالْعَقْدِ لَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا يُوجِبُ التَّسْلِيمَ، فَلَا تَجِبُ الْعِدَّةُ. وَأَمَّا الْخَلْوَةُ الْفَاسِدَةُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْصِيلَ الْكَلَامِ فِيهَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمُطَلَّقَةُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً قِنَّةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ مُسْتَسْعَاةً لَا يَخْتَلِفُ أَصْلُ الْحُكْمِ بِاخْتِلَافِ الرِّقِّ، وَالْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ لَهُ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِمَا، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ فِي الْقَدْرِ لِمَا تَبَيَّنَ، وَالْكَلَامُ فِي الْقَدْرِ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ، الْحُرَّةُ كَالْحُرَّةِ، وَالْأَمَةُ كَالْأَمَةِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ بِحَقِّ اللَّهِ، وَبِحَقِّ الزَّوْجِ، قَالَ تَعَالَى {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] وَالْكِتَابِيَّةُ مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَتَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَتُجْبَرُ عَلَيْهَا لِأَجْلِ حَقِّ الزَّوْجِ، وَالْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ إيفَاءِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَ ذِمِّيٍّ، فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فِي الْفُرْقَةِ وَلَا فِي الْمَوْتِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي دِينِهِمْ، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَتْ فِي الْحَالِ جَازَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي جَامِعِهِ فِي الذِّمِّيَّةِ تَحْتَ ذِمِّيٍّ إذَا مَاتَ عَنْهَا أَوْ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَتْ فِي الْحَالِ جَازَ إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا؛ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الذِّمِّيَّةَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يَجْرِي عَلَيْهِمْ سَائِرُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ. كَذَا هَذَا الْحُكْمُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ أَمَّا إنْ تَجِبَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِحَقِّ الزَّوْجِ وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِهَا بِحَقِّ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَعْتَقِدُ حَقًّا لِنَفْسِهِ وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِهَا بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا مَعْنَى الْقُرْبَةِ، وَهِيَ غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ بِالْقُرُبَاتِ إلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا تُمْنَعُ مِنْ التَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ الثَّانِي يُوجِبُ اشْتِبَاهَ النَّسَبِ، وَحِفْظُ النَّسَبِ حَقُّ الْوَلَدِ، فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ فَكَانَ عَلَى الْحُكْمِ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ بِالْمَنْعِ مِنْ التَّزْوِيجِ وَلَا عِدَّةَ عَلَى الْمُهَاجِرَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهَا الْعِدَّةُ،، وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، فَإِنْ جَاءَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا وَتَرَكَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْكَافِرَةُ تَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ لِحَقِّ الْمُسْلِمِ وَاخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحَقِّ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَعَلَى أَصْلِهِمَا وُجُوبُ

فصل في عدة الأشهر

الْعِدَّةِ عَلَى الْكَافِرَةِ لِجَرَيَانِ حُكْمِنَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا يَجْرِي حُكْمُنَا عَلَى الْحَرْبِيَّةِ وَلَا عِدَّةَ عَلَى الزَّانِيَةِ حَامِلًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ. وَمِنْهَا الْفُرْقَةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي أَوْ بِالْمُتَارَكَةِ، وَشَرْطُهَا الدُّخُولُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ يُجْعَلُ مُنْعَقِدًا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَهِيَ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ وَقَدْ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى الِانْعِقَادِ لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَصِيَانَةً لِلْمَاءِ عَنْ الضَّيَاعِ بِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَتَجِبُ هَذِهِ الْعِدَّةُ عَلَى الْحُرَّةِ، وَالْأَمَةِ، وَالْمُسْلِمَةِ، وَالْكِتَابِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ، وَيَسْتَوِي فِيهَا الْفُرْقَةُ، وَالْمَوْتُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذِهِ الْعِدَّةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِبْرَاءِ وَقَدْ مَسَّتْ الْحَاجَةُ فِي الِاسْتِبْرَاءِ؛ لِوُجُودِ الْوَطْءِ، فَأَمَّا عِدَّةُ الْوَفَاةِ فَإِنَّمَا تَجِبُ لِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ إظْهَارُ الْحُزْنِ عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ نِعْمَةِ النِّكَاحِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ - اللَّهُ تَعَالَى - وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَمْ يَكُنْ نِعْمَةً ثُمَّ يُعْتَبَرُ الْوُجُوبُ فِي الْفُرْقَةِ مِنْ وَقْتِ الْفُرْقَةِ، وَفِي الْمَوْتِ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ مِنْ آخِرِ وَطْءٍ وَطِئَهَا، وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. وَمِنْهَا الْوَطْءُ عَنْ شُبْهَةِ النِّكَاحِ بِأَنْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تُقَامُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ، وَإِيجَابُ الْعِدَّةِ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ. وَمِنْهَا عِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ. وَمِنْهَا مَوْتُ مَوْلَاهَا بِأَنْ أَعْتَقَهَا سَيِّدُهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا، وَسَبَبُ وُجُوبِ هَذِهِ الْعِدَّةِ هُوَ زَوَالُ الْفِرَاشِ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا عَلَيْهَا الِاسْتِبْرَاءُ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا عِنْدَهُ هُوَ زَوَالُ مِلْكِ الْيَمِينِ، وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي بَيَانِ مَقَادِيرِ الْعِدَدِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي عِدَّةِ الْأَشْهُرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا عِدَّةُ الْأَشْهُرِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَجِبُ بَدَلًا عَنْ الْحَيْضِ، وَنَوْعٌ يَجِبُ أَصْلًا بِنَفْسِهِ أَمَّا الَّذِي يَجِبُ بَدَلًا عَنْ الْحَيْضِ فَهُوَ عِدَّةُ الصَّغِيرَةِ وَالْآيِسَةِ وَالْمَرْأَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ رَأْسًا فِي الطَّلَاقِ، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا هُوَ الطَّلَاقُ، وَهُوَ سَبَبُ وُجُوبِ عِدَّةِ الْأَقْرَاءِ، وَأَنَّهَا تَجِبُ قَضَاءً لِحَقِّ النِّكَاحِ الَّذِي اُسْتُوْفِيَ فِيهِ الْمَقْصُودُ، وَشَرْطُ وُجُوبِهَا شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا - أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ: الصِّغَرُ أَوْ الْكِبَرُ، أَوْ فَقْدُ الْحَيْضِ أَصْلًا مَعَ عَدَمِ الصِّغَرِ، وَالْكِبَرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] ، وَالثَّانِي: الدُّخُولُ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ إلَّا أَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أُلْحِقَتْ بِالدُّخُولِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعِدَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا أُلْحِقَتْ بِهِ فِي حَقِّ تَأْكِيدِ كُلِّ الْمَهْرِ فَفِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ أَوْلَى احْتِيَاطًا، وَتَجِبُ هَذِهِ الْعِدَّةُ عَلَى الْحُرَّةِ، وَالْأَمَةِ. وَأَصْلُ الْوُجُوبِ أَنَّ مَا وَجَبَتْ لَهُ لَا يَخْتَلِفُ، وَهُوَ مَا بَيَّنَّا، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا يَسْتَوِي فِيهَا الْمُسْلِمَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ لِعُمُومِ النَّصِّ، وَكَذَا الْمَعْنَى الَّذِي لَهُ وَجَبَتْ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ. وَأَمَّا الَّذِي يَجِبُ أَصْلًا بِنَفْسِهِ فَهُوَ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا الْوَفَاةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] ، وَأَنَّهَا تَجِبُ لِإِظْهَارِ الْحُزْنِ بِفَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ إذْ النِّكَاحُ كَانَ نِعْمَةً عَظِيمَةً فِي حَقِّهَا فَإِنَّ الزَّوْجَ كَانَ سَبَبَ صِيَانَتِهَا، وَعَفَافِهَا، وَإِيفَائِهَا بِالنَّفَقَةِ، وَالْكُسْوَةِ، وَالْمَسْكَنِ فَوَجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ إظْهَارًا لِلْحُزْنِ بِفَوْتِ النِّعْمَةِ، وَتَعْرِيفًا لِقَدْرِهَا، وَشَرْطُ وُجُوبِهَا النِّكَاحُ الصَّحِيحُ فَقَطْ فَتَجِبُ هَذِهِ الْعِدَّةُ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ أَوْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] ، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَجِبُ إظْهَارًا لِلْحُزْنِ بِفَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ وَقَدْ وُجِدَ، وَإِنَّمَا شَرَطْنَا النِّكَاحَ الصَّحِيحَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَهَا عَلَى الْأَزْوَاجِ وَلَا يَصِيرُ زَوْجًا حَقِيقَةً إلَّا بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ لِعُمُومِ النَّصِّ، وَلِوُجُوبِ الْمَعْنَى الَّذِي وَجَبَتْ لَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ مُسْتَسْعَاةً لَا يَخْتَلِفُ أَصْلُ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَتْ لَهُ لَا يَخْتَلِفُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ الْقَدْرُ لِمَا نَذْكُرُ. [فَصْلٌ فِي عِدَّةِ الْحَبَلِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا عِدَّةُ الْحَبَلِ فَهِيَ مُدَّةُ الْحَمْلِ، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا الْفُرْقَةُ أَوْ الْوَفَاةُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] أَيْ: انْقِضَاءُ أَجَلِهِنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، وَإِذَا كَانَ انْقِضَاءُ أَجَلِهِنَّ بِوَضْعِ حَمْلِهِنَّ كَانَ

فصل في بيان مقادير العدة وما تنقضي به

أَجَلَهُنَّ؛ لِأَنَّ أَجَلَهُنَّ مُدَّةُ حَمْلِهِنَّ، وَهَذِهِ الْعِدَّةُ إنَّمَا تَجِبُ لِئَلَّا يَصِيرَ الزَّوْجُ بِهَا سَاقِيًا مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، وَشَرْطُ وُجُوبِهَا أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ مِنْ النِّكَاحِ صَحِيحًا كَانَ أَوْ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ يُوجِبُ الْعِدَّةَ، وَلَا تَجِبُ عَلَى الْحَامِلِ بِالزِّنَا؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُوجِبُ الْعِدَّةَ إلَّا أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ الزِّنَا جَازَ النِّكَاحُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا مَا لَمْ تَضَعْ لِئَلَّا يَصِيرَ سَاقِيًا مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَقَادِيرِ الْعِدَّةِ وَمَا تَنْقَضِي بِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَقَادِيرِ الْعِدَّةِ، وَمَا تَنْقَضِي بِهِ، فَأَمَّا عِدَّةُ الْأَقْرَاءِ فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ حُرَّةً فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ، وَسَوَاءٌ وَجَبَتْ بِالْفُرْقَةِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَوْ بِالْفُرْقَةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَوْ بِالْوَطْءِ عَنْ شُبْهَةِ النِّكَاحِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ بَعْدَ الدُّخُولِ يُجْعَلُ مُنْعَقِدًا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَيَلْحَقُ بِهِ فِيهِ، وَشُبْهَةُ النِّكَاحِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِيمَا يُحْتَاطُ فِيهِ، وَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْمُطَلَّقَةِ يَكُونُ وَارِدًا فِيهَا دَلَالَةً، وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ إذَا أُعْتِقَتْ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى أَوْ بِمَوْتِهِ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَعْتَدُّ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ لَمْ تَجِبْ بِزَوَالِ مِلْكِ النِّكَاحِ لِعَدَمِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ بِزَوَالِ مِلْكِ الْيَمِينِ فَكَانَ وُجُوبُهَا بِطَرِيقِ الِاسْتِبْرَاءِ فَيُكْتَفَى بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فِي اسْتِبْرَاءِ سَائِرِ الْمَمْلُوكَاتِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَهَذَا نَصٌّ فِيهِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ عِدَّةٌ وَلَيْسَ بِاسْتِبْرَاءٍ إلَّا أَنَّهُمْ سَمَّوْهُ عِدَّةً، وَالْعِدَّةُ لَا تُقَدَّرُ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ عِدَّةٌ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحُرَّةِ، وَالْحُرَّةُ لَا يَلْزَمُهَا الِاسْتِبْرَاءُ. وَإِذَا كَانَ عِدَّةً لَا يَجُوزُ تَقْدِيرُهَا بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ كَسَائِرِ الْعِدَدِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ تَجِبُ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَهَا فِرَاشٌ إلَّا أَنَّ فِرَاشَهَا قَبْلَ الْعِتْقِ غَيْرُ مُسْتَحْكَمٍ بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ لِاحْتِمَالِهِ النَّقْلَ إلَى غَيْرِهِ فَإِذَا أُعْتِقَتْ فَقَدْ اسْتَحْكَمَ فَالْتَحَقَ بِالْفِرَاشِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ، وَالْعِدَّةِ الَّتِي تَجِبُ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ، وَهُوَ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ مُقَدَّرَةً بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَلِهَذَا اسْتَوَى فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهَا الْمَوْتُ، وَالْعِتْقُ كَمَا فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَعِدَّةُ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ لِعُمُومِ النَّصِّ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَقُرْءَانِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ كَعِدَّةِ الْحُرَّةِ احْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ الْحُرَّةِ. (وَلَنَا) الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ وَلَوْ اسْتَطَعْت لَجَعَلْتهَا حَيْضَةً، وَنِصْفًا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِمَاءَ مَخْصُوصَاتٌ مِنْ عُمُومِ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ، وَتَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ مُقَدَّرٌ فَيُؤَثِّرُ الرِّقُّ فِي تَنْصِيفِهِ كَالْقَسَمِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَنَصَّفَ فَتَعْتَدُّ حَيْضَةً، وَنِصْفًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَتَجَزَّأُ فَتَكَامَلَتْ ضَرُورَةً، وَسَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا أَوْ عَبْدًا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ تُعْتَبَرُ بِالنِّسَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، وَيَسْتَوِي فِي مِقْدَارِ هَذِهِ الْعِدَّةِ الْمُسْلِمَةُ، وَالْكِتَابِيَّةُ، الْحُرَّةُ كَالْحُرَّةِ، وَالْأَمَةُ كَالْأَمَةِ؛ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا تَنْقَضِي بِهِ هَذِهِ الْعِدَّةُ أَنَّهُ الْحَيْضُ أَمْ الْأَطْهَارُ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا: الْحَيْضُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْأَطْهَارُ، وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ لَا يُحْتَسَبُ بِذَلِكَ الطُّهْرِ مِنْ الْعِدَّةِ عِنْدَنَا حَتَّى لَا تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مَا لَمْ تَحِضْ ثَلَاثَ حِيَضٍ بَعْدَهُ، وَعِنْدَهُ يُحْتَسَبُ بِذَلِكَ الطُّهْرِ مِنْ الْعِدَّةِ فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِانْقِضَاءِ ذَلِكَ الطُّهْرِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ، وَبِطُهْرٍ آخَرَ بَعْدَهُ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: الزَّوْجُ أَحَقُّ بِمُرَاجَعَتِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِثْلُ قَوْلِهِ، وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ الْقُرْءَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] مَا هُوَ الْحَيْضُ أَمْ الطُّهْرِ فَعِنْدَنَا الْحَيْضُ، وَعِنْدَهُ الطُّهْرُ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي أَنَّ الْقُرْءَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ يُذْكَرُ، وَيُرَادُ بِهِ الْحَيْضُ، وَيُذْكَرُ، وَيُرَادُ بِهِ الطُّهْرُ عَلَى طَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ فَيَكُونُ حَقِيقَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ مِنْ اسْمِ الْعَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَيْضِ فَلِقَوْلِ

النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا» أَيْ: أَيَّامَ حَيْضِهَا إذْ أَيَّامُ الْحَيْضِ هِيَ الَّتِي تَدَعُ الصَّلَاةَ فِيهَا لَا أَيَّامَ الطُّهْرِ. وَأَمَّا فِي الطُّهْرِ فَلِمَا رَوَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا فَتُطَلِّقَهَا لِكُلِّ قُرْءٍ تَطْلِيقَةً أَيْ: طُهْرٍ» ، وَإِذَا كَانَ الِاسْمُ حَقِيقَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي التَّرْجِيحِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِدَّةَ بِالطُّهْرِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ «فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» فَدَلَّ أَنَّ الْعِدَّةَ بِالطُّهْرِ لَا بِالْحَيْضِ؛ وَلِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْهَاءَ فِي الثَّلَاثَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . وَإِنَّمَا تَدْخُلُ الْهَاءُ فِي جَمْعِ الْمُذَكَّرِ لَا فِي جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ يُقَالُ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ، وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ، وَالْحَيْضُ مُؤَنَّثٌ، وَالطُّهْرُ مُذَكَّرٌ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا الْأَطْهَارُ،؛ وَلِأَنَّكُمْ لَوْ حَمَلْتُمْ الْقُرْءَ الْمَذْكُورَ عَلَى الْحَيْضِ لَلَزِمَكُمْ الْمُنَاقَضَةُ؛ لِأَنَّكُمْ قُلْتُمْ فِي الْمُطَلَّقَةِ إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَانْقَطَعَ دَمُهَا أَنَّهُ لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَقَدْ جَعَلْتُمْ الْعِدَّةَ بِالطُّهْرِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ. (وَلَنَا) الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَلَوْ حُمِلَ الْقُرْءُ عَلَى الطُّهْرِ لَكَانَ الِاعْتِدَادُ بِطُهْرَيْنِ، وَبَعْضِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ بَقِيَّةَ الطُّهْرِ الَّذِي صَادَفَهُ الطَّلَاقُ مَحْسُوبٌ مِنْ الْأَقْرَاءِ عِنْدَهُ، وَالثَّلَاثَةُ اسْمٌ لِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، وَالِاسْمُ الْمَوْضُوعُ لِعَدَدٍ لَا يَقَعُ عَلَى مَا دُونَهُ فَيَكُونُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْحَيْضِ يَكُونُ الِاعْتِدَادُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ كَوَامِلَ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الطُّهْرِ غَيْرُ مَحْسُوبٍ مِنْ الْعِدَّةِ عِنْدَنَا فَيَكُونُ عَمَلًا بِالْكِتَابِ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى مَا قُلْنَا أَوْلَى وَلَا يَلْزَمُ قَوْله تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] أَنَّهُ ذَكَرَ الْأَشْهُرَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ شَهْرَانِ، وَبَعْضُ الثَّالِثِ، فَكَذَا الْقُرُوءُ جَائِزٌ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْقُرْءَانِ، وَبَعْضُ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ الْأَشْهُرَ اسْمُ جَمْعٍ لَا اسْمُ عَدَدٍ وَاسْمُ الْجَمْعِ جَازَ أَنْ يُذْكَرَ، وَيُرَادَ بِهِ بَعْضُ مَا يَنْتَظِمُهُ مَجَازًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ الِاسْمُ الْمَوْضُوعُ لِعَدَدٍ مَحْصُورٍ، وَيُرَادُ بِهِ مَا دُونَهُ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: رَأَيْت ثَلَاثَةَ رِجَالٍ، وَيُرَادُ بِهِ رَجُلَانِ وَجَازَ أَنْ يُقَالَ رَأَيْت رِجَالًا، وَيُرَادُ بِهِ رَجُلَانِ مَعَ أَنَّ هَذَا إنْ كَانَ فِي حَدِّ الْجَوَازِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ؛ إذْ الْحَقِيقَةُ هِيَ الْأَصْلُ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ لِلْعَمَلِ بِهَا، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ الِاعْتِقَادِ يَجِبُ التَّوَقُّفُ لِمُعَارَضَةِ الْمَجَازِ الْحَقِيقَةَ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَفِي بَابِ الْحَجِّ قَامَ دَلِيلُ الْمَجَازِ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] جَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأَشْهُرَ بَدَلًا عَنْ الْأَقْرَاءِ عِنْدَ الْيَأْسِ عَنْ الْحَيْضِ، وَالْمُبْدَلُ هُوَ الَّذِي يُشْتَرَطُ عَدَمُهُ لِجَوَازِ إقَامَةِ الْبَدَلِ مَقَامَهُ فَدَلَّ أَنَّ الْمُبْدَلَ هُوَ الْحَيْضُ فَكَانَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْقُرْءِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] لَمَّا شَرَطَ عَدَمَ الْمَاءِ عِنْدَ ذِكْرِ الْبَدَلِ، وَهُوَ التَّيَمُّمُ دَلَّ أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَنْ الْمَاءِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْغُسْلُ الْمَذْكُورُ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ، وَهُوَ الْغَسْلُ بِالْمَاءِ. كَذَا هَهُنَا. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الْحُرَّةِ، وَالْأَمَةِ فِي الْعِدَّةِ فِيمَا يَقَعُ بِهِ الِانْقِضَاءُ؛ إذْ الرِّقُّ أَثَرُهُ فِي تَنْقِيصِ الْعِدَّةِ الَّتِي تَكُونُ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ لَا فِي تَغْيِيرِ أَصْلِ الْعِدَّةِ، فَدَلَّ أَنَّ أَصْلَ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ هُوَ الْحَيْضُ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ وَجَبَتْ لِلتَّعْرِيفِ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَالْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ يَحْصُلُ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ فَكَانَ الِاعْتِدَادُ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَالْمُرَادُ مِنْ الْعِدَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الطُّهْرَ عِدَّةَ الطَّلَاقِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ «فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» ، وَالْكَلَامُ فِي الْعِدَّةِ عَنْ الطَّلَاقِ أَنَّهَا مَا هِيَ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ أَدْخَلَ الْهَاءَ فِي الثَّلَاثَةِ فَنَعَمْ لَكِنْ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الطُّهْرُ مِنْ الْقُرُوءِ؛ لِأَنَّ اللُّغَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ تَسْمِيَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِاسْمِ التَّذْكِيرِ، وَالتَّأْنِيثِ كَالْبُرِّ، وَالْحِنْطَةِ فَيُقَالُ: هَذَا الْبُرُّ، وَهَذِهِ الْحِنْطَةُ، وَإِنْ كَانَتْ الْبُرُّ، وَالْحِنْطَةُ شَيْئًا وَاحِدًا، فَكَذَا الْقُرْءُ، وَالْحَيْضُ أَسْمَاءٌ لِلدَّمِ الْمُعْتَادِ، وَأَحَدُ الِاسْمَيْنِ مُذَكَّرٌ، وَهُوَ الْقُرْءُ فَيُقَالُ: ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، وَالْآخَرُ مُؤَنَّثٌ، وَهُوَ الْحَيْضُ فَيُقَالُ: ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَدَعْوَى التَّنَاقُضِ مَمْنُوعَةٌ فَإِنَّ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الْحَيْضُ بَاقٍ، وَإِنْ كَانَ الدَّمُ مُنْقَطِعًا؛ لِأَنَّ انْقِطَاعَ الدَّمِ لَا يُنَافِي الْحَيْضَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ

الدَّمَ لَا يُدَرُّ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ بَلْ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَاحْتِمَالُ الدُّرُورِ فِي وَقْتِ الْحَيْضِ قَائِمٌ فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ الطُّهْرُ عِدَّةً لَا يَلْزَمُنَا التَّنَاقُضُ. وَأَمَّا الْمُمْتَدُّ طُهْرُهَا وَهِيَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تَحِيضُ ثُمَّ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا مِنْ غَيْرِ حَمْلٍ وَلَا يَأْسٍ فَانْقِضَاءُ عِدَّتِهَا فِي الطَّلَاقِ، وَسَائِرِ وُجُوهِ الْفَرْقِ بِالْحَيْضِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ذَاتِ الْأَقْرَاءِ إلَّا أَنَّهُ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لِعَارِضٍ، فَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ أَوْ حَتَّى تَدْخُلَ فِي حَدِّ الْإِيَاسِ فَتُسْتَأْنَفَ عِدَّةُ الْآيِسَةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ، وَعُثْمَانَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهَا تَمْكُثُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ لَمْ تَحِضْ اعْتَدَّتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] نَقَلَ اللَّهُ الْعِدَّةَ عِنْدَ الِارْتِيَابِ إلَى الْأَشْهُرِ. وَاَلَّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا فَهِيَ مُرْتَابَةٌ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ عِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الِارْتِيَابِ الْمَذْكُورِ هُوَ الِارْتِيَابُ فِي الْيَأْسِ بَلْ الْمُرَادُ مِنْهُ ارْتِيَابُ الْمُخَاطَبِينَ فِي عِدَّةِ الْآيِسَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ. كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ لَهُمْ عِدَّةَ ذَاتِ الْقُرُوءِ، وَعِدَّةَ الْحَامِلِ شَكُّوا فِي الْآيِسَةِ فَلَمْ يَدْرُوا مَا عِدَّتُهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَفِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4] وَلَا يَأْسَ مَعَ الِارْتِيَابِ؛ إذْ الِارْتِيَابُ يَكُونُ وَقْتَ رَجَاءِ الْحَيْضِ، وَالرَّجَاءُ ضِدُّ الْيَأْسِ. وَكَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ " إنْ ارْتَبْتُمْ " وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِارْتِيَابُ فِي الْإِيَاسِ لَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: إنْ ارْتَبْنَ، فَدَلَّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى أَرَادَ بِهِ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا عِدَّةُ الْأَشْهُرِ فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي مَوْضِعَيْنِ أَيْضًا: فِي بَيَانِ مِقْدَارِهَا وَمَا تَنْقَضِي بِهِ وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ مَا يُعْتَبَرُ بِهِ الِانْقِضَاءُ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا وَجَبَ بَدَلًا عَنْ الْحَيْضِ، وَهُوَ عِدَّةُ الْآيِسَةِ، وَالصَّغِيرَةِ، وَالْبَالِغَةِ الَّتِي لَمْ تَرَ الْحَيْضَ أَصْلًا فَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ إنْ كَانَتْ حُرَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] ؛ وَلِأَنَّ الْأَشْهُرَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ تَدُلُّ عَلَى الْأَقْرَاءِ، وَالْأَصْلُ مُقَدَّرٌ بِالثَّلَاثِ كَذَا الْبَدَلُ، سَوَاءٌ وَجَبَتْ الْفُرْقَةُ بِطَلَاقٍ أَوْ بِغَيْرِ طَلَاقٍ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ لِعُمُومِ النَّصِّ أَوْ وَجَبَتْ بِالْفُرْقَةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَوَبِالْوَطْءِ عَنْ شُبْهَةٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي عِدَّةِ الْأَقْرَاءِ. وَكَذَا إذَا وَجَبَتْ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ بِالْعِتْقِ أَوْ بِمَوْتِ الْمَوْلَى عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَشَهْرٌ، وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ وَقَدْ تَنَصَّفَ الْمُبْدَلُ فَيَتَنَصَّفُ الْبَدَلُ؛ وَلِأَنَّ الرِّقَّ مُتَنَصَّفٌ، وَالتَّكَامُلُ فِي عِدَّةِ الْأَقْرَاءِ ثَبَتَ لِضَرُورَةِ عَدَمِ التَّجْزِيء، وَالشَّهْرُ مُتَجَزِّئٌ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى الْأَصْلِ، وَلِهَذَا تَتَنَصَّفُ عِدَّتُهَا فِي الْوَفَاةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا أَوْ عَبْدًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْعِدَّةِ جَانِبُ النِّسَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ قِنَّةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ مُسْتَسْعَاةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا فِي مُدَّةِ الْأَقْرَاءِ، وَكَذَا إذَا وَجَبَتْ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ بِالْعِتْقِ أَوْ بِمَوْتِ الْمَوْلَى عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. وَمَا وَجَبَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ، وَهُوَ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقِيلَ إنَّمَا قُدِّرَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ إنْ كَانَتْ حُرَّةً لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وَقِيلَ: إنَّمَا قُدِّرَتْ هَذِهِ الْعِدَّةُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَةً ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فِي الْعَشْرِ، فَأُمِرَتْ بِتَرَبُّصِ هَذِهِ الْمُدَّةِ لِيَسْتَبِينَ الْحَبَلُ إنْ كَانَ بِهَا حَبَلٌ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَشَهْرَانِ، وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ؛ لِمَا بَيَّنَّا بِالْإِجْمَاعِ، سَوَاءٌ كَانَتْ قِنَّةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ مُسْتَسْعَاةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمُسْلِمَةُ، وَالْكِتَابِيَّةُ سَوَاءٌ كَانَ فِي مِقْدَارِ هَاتَيْنِ الْعِدَّتَيْنِ الْحُرَّةُ كَالْحُرَّةِ، وَالْأَمَةُ كَالْأَمَةِ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا وَانْقِضَاءُ هَذِهِ الْعِدَّةِ بِانْقِضَاءِ هَذِهِ الْمُدَّةِ فِي الْحُرَّةِ، وَالْأَمَةِ. (وَأَمَّا الثَّانِي) وَهُوَ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ مَا يُعْتَبَرُ بِهِ انْقِضَاءُ هَذِهِ الْعِدَّةِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ هَذِهِ الْعِدَّةِ مِنْ الْوَفَاةِ، وَالطَّلَاقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا اتَّفَقَ فِي غُرَّةِ الشَّهْرِ اُعْتُبِرَتْ الْأَشْهُرُ بِالْأَهِلَّةِ، وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ الْعَدَدِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] فَلَزِمَ اعْتِبَارُ الْأَشْهُرِ، وَالشَّهْرُ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً، وَعِشْرِينَ يَوْمًا بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا، وَأَشَارَ بِأَصَابِعِ يَدَيْهِ كُلِّهَا، ثُمَّ قَالَ: الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا، وَحَبَسَ إبْهَامَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ» وَإِنْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ

اخْتَلَفُوا فِيهِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ فَتَعْتَدُّ مِنْ الطَّلَاقِ، وَأَخَوَاتِهِ تِسْعِينَ يَوْمًا، وَمِنْ الْوَفَاةِ مِائَةً، وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي صَوْمِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ إذَا ابْتَدَأَ الصَّوْمُ فِي نِصْفِ الشَّهْرِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَعْتَدُّ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ، وَبَاقِي الشُّهُورِ بِالْأَهِلَّةِ، وَتُكْمِلُ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ مِنْ الشَّهْرِ الْأَخِيرِ بِالْأَيَّامِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ الْأَخِيرُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الِاعْتِدَادُ بِالشَّهْرِ، وَالْأَشْهُرُ اسْمُ الْأَهِلَّةِ فَكَانَ الْأَصْلُ فِي الِاعْتِدَادِ هُوَ الْأَهِلَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] جَعَلَ الْهِلَالَ لِمَعْرِفَةِ الْمَوَاقِيتِ، وَإِنَّمَا يُعْدَلُ إلَى الْأَيَّامِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْهِلَالِ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَعَدَلْنَا عَنْهُ إلَى الْأَيَّامِ وَلَا تَعَذُّرَ فِي بَقِيَّةِ الْأَشْهُرِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا بِالْأَهِلَّةِ، وَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا كَذَلِكَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ إذَا وَقَعَتْ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ. كَذَا هَهُنَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعِدَّةَ يُرَاعَى فِيهَا الِاحْتِيَاطُ فَلَوْ اعْتَبَرْنَاهَا فِي الْأَيَّامِ لَزَادَتْ عَلَى الشُّهُورِ وَلَوْ اعْتَبَرْنَاهَا بِالْأَهِلَّةِ لَنَقَصَتْ عَنْ الْأَيَّامِ فَكَانَ إيجَابُ الزِّيَادَةِ أَوْلَى احْتِيَاطًا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَنَافِعُ تُوجَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الزَّمَانِ فَيَصِيرُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا كَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَقْدًا مُبْتَدَأً فَيَصِيرُ عِنْدَ اسْتِهْلَاكِ الشَّهْرِ كَأَنَّهُ ابْتَدَأَ الْعَقْدَ فَيَكُونُ بِالْأَهِلَّةِ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهَا لَيْسَ كَعِدَّةٍ مُبْتَدَأَةٍ. وَأَمَّا الْإِيلَاءُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ، وَزُفَرَ فِي كَيْفِيَّةِ اعْتِبَارِ الشَّهْرِ فِيهِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ فَيُكْمِلُ مِائَةً، وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَلَا يُنْظَرُ إلَى نُقْصَانِ الشَّهْرِ وَلَا إلَى تَمَامِهِ. وَعِنْدَ زُفَرَ يُعْتَبَرُ بِالْأَهِلَّةِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ كَمُدَّةِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَيْنُونَةُ،، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْأَيَّامِ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ يُوجِبُ تَأْخِيرَ الْفُرْقَةِ، وَاعْتِبَارُ الْأَشْهُرِ يُوجِبُ التَّعْجِيلَ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَلَا يَقَعُ بِالشَّكِّ كَمَنْ عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِمُدَّةٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَشَكَّ فِي الْمُدَّةِ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ هُنَاكَ وَاقِعٌ بِيَقِينٍ، وَحُكْمُهُ مُتَأَجِّلٌ، فَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي التَّأْجِيلِ لَا يَتَأَجَّلُ بِالشَّكِّ. وَأَمَّا عِدَّةُ الْحَبَلِ فَمِقْدَارُهَا بَقِيَّةُ مُدَّةِ الْحَمْلِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ حَتَّى لَوْ وَلَدَتْ بَعْدَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ بِيَوْمٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا لَوْ وَلَدَتْ وَالْمَيِّتُ عَلَى سَرِيرِهِ انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ هَكَذَا ذُكِرَ، وَالسُّنَّةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا وَلَدَتْ وَزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِهِ جَازَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَشَرْطُ انْقِضَاءِ هَذِهِ الْعِدَّةِ أَنْ يَكُونَ مَا وَضَعَتْ قَدْ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أَوْ بَعْضُ خَلْقِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَبِنْ رَأْسًا بِأَنْ أَسْقَطَتْ عَلَقَةً أَوْ مُضْغَةً لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أَوْ بَعْضُ خَلْقِهِ فَهُوَ وَلَدٌ فَقَدْ وُجِدَ وَضْعُ الْحَمْلِ فَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَبِنْ لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ وَلَدًا بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ فَيَقَعَ الشَّكُّ فِي وَضْعِ الْحَمْلِ، فَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِالشَّكِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ يُرَى لِلنِّسَاءِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُنَّ لَمْ يُشَاهِدْنَ انْخِلَاقَ الْوَلَدِ فِي الرَّحِمِ لِيَقِسْنَ هَذَا عَلَيْهِ فَيَعْرِفْنَ. وَقَالَ فِي قَوْلٍ آخَرَ: يُجْعَلُ فِي الْمَاءِ الْحَارِّ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ انْحَلَّ فَلَيْسَ بِوَلَدٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْحَلَّ فَهُوَ وَلَدٌ، وَهَذَا أَيْضًا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنْ كَبِدِهَا أَوْ لَحْمِهَا انْفَصَلَتْ مِنْهَا، وَأَنَّهَا لَا تَنْحَلُّ بِالْمَاءِ الْحَارِّ كَمَا لَا يَنْحَلُّ الْوَلَدُ، فَلَا يُعْلَمُ بِهِ أَنَّهُ وَلَدٌ. وَلَوْ ظَهَرَ أَكْثَرُ الْوَلَدِ لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَقَدْ قَالُوا فِي الْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا: إنَّهُ إذَا ظَهَرَ مِنْهَا أَكْثَرُ وَلَدِهَا أَنَّهَا تَبِينُ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ أَيْضًا بِظُهُورِ أَكْثَرِ الْوَلَدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَيُقَامَ الْأَكْثَرُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي انْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ احْتِيَاطًا وَلَا يُقَامُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَتَّى لَا تَحِلَّ لِلْأَزْوَاجِ احْتِيَاطًا أَيْضًا ثُمَّ انْقِضَاءُ عِدَّةِ الْحَمْلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ بِلَا خِلَافٍ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ مُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: عِدَّتُهَا بِوَضْعِ مَا فِي بَطْنِهَا، وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا عَلَى السَّرِيرِ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ الْحَامِلَ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَعِدَّتُهَا أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ وُضِعَ الْحَمْلُ أَوْ مَضَى أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ أَيُّهُمَا كَانَ أَخِيرًا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ. (وَجْهُ) هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الِاعْتِدَادَ بِوَضْعِ الْحَمْلِ إنَّمَا ذُكِرَ

فِي الطَّلَاقِ لَا فِي الْوَفَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] ، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] الْمُطَلَّقَاتُ؛ وَلِأَنَّ فِي الِاعْتِدَادِ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ جَمْعًا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ؛ لِأَنَّ فِيهِ عَمَلًا بِآيَةِ عِدَّةِ الْحَبَلِ إنْ كَانَ أَجَلُ تِلْكَ الْعِدَّةِ أَبْعَدَ، وَعَمَلًا بِآيَةِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ إنْ كَانَ أَجَلُهَا أَبْعَدَ فَكَانَ عَمَلًا بِهِمَا جَمِيعًا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَفِيمَا قُلْتُمْ عَمَلٌ بِإِحْدَاهُمَا، وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِالْأُخْرَى أَصْلًا فَكَانَ مَا قُلْنَا أَوْلَى، وَلِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَوْله تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَوْلُهُ هَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4] مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ ابْتِدَاءُ خِطَابٍ، وَفِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ {إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَقَعُ الِارْتِيَابُ فِيمَنْ يَحْتَمِلُ الْقُرْءَ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَشْهُرَ فِي الْآيِسَاتِ إنَّمَا أُقِيمَتْ مَقَامَ الْأَقْرَاءِ فِي ذَوَاتِ الْحَيْضِ، وَإِذَا كَانَتْ الْحَامِلُ مِمَّنْ تَحِيضُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ لَهُمْ شَكٌّ فِي عِدَّتِهَا لِيَسْأَلُوا عَنْ عِدَّتِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ خِطَابٌ مُبْتَدَأٌ، وَإِذَا كَانَ خِطَابًا مُبْتَدَأً تَنَاوَلَ الْعِدَدَ كُلَّهَا. وَقَوْلُهُ الِاعْتِدَادُ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ عَمَلٌ بِالْآيَتَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فَيُقَالُ إنَّمَا يُعْمَلُ بِهِمَا إذَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُ إحْدَاهُمَا بِالتَّقَدُّمِ، وَالتَّأَخُّرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ إحْدَاهُمَا أَوْلَى بِالْعَمَلِ بِهَا، وَقَدْ قِيلَ إنَّ آيَةَ وَضْعِ الْحَمْلِ آخِرُهُمَا نُزُولًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ قَوْلَهُ {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] نَزَلَ بَعْدَ قَوْلِهِ {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] ، فَأَمَّا نَسْخُ الْأَشْهُرِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ إذَا كَانَ بَيْنَ نُزُولِ الْآيَتَيْنِ زَمَانٌ يَصْلُحُ لِلنَّسْخِ فَيُنْسَخُ الْخَاصُّ الْمُتَقَدِّمُ بِالْعَامِّ الْمُتَأَخِّرِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَشَايِخِنَا بِالْعِرَاقِ وَلَا يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ أَوْ يُعْمَلُ بِالنَّصِّ الْعَامِّ بِعُمُومِهِ، وَيُتَوَقَّفُ فِي حَقِّ الِاعْتِقَادِ فِي التَّخْرِيجِ عَلَى التَّنَاسُخِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَشَايِخِنَا بِسَمَرْقَنْدَ، وَلَا يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ حِينَ نُزُولِ قَوْلِهِ {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] أَنَّهَا فِي الْمُطَلَّقَةِ أَمْ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فِيهِمَا جَمِيعًا» وَقَدْ رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ سُبَيْعَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةَ وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِبِضْعٍ، وَعِشْرِينَ لَيْلَةً فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ تَتَزَوَّجَ» . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي السَّنَابِلِ بْنِ بَعْكَكٍ «أَنَّ سُبَيْعَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةَ وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِبِضْعٍ، وَعِشْرِينَ لَيْلَةً فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ تَتَزَوَّجَ» . وَرُوِيَ أَنَّهَا لَمَّا مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا، وَسَأَلَتْ أَبَا السَّنَابِلِ بْنَ بَعْكَكٍ هَلْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ؟ فَقَالَ لَهَا: حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ ابْتَغِي الْأَزْوَاجَ» ، وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ لَا مَسَاغَ لِأَحَدٍ فِي الْعُدُولِ عَنْهَا؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعِدَّةِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ الْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَوَضْعِ الْحَمْلِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْبَرَاءَةِ فَوْقَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَكَانَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِهِ أَوْلَى مِنْ الِانْقِضَاءِ بِالْمُدَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ حُرَّةً أَوْ مَمْلُوكَةً قِنَّةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُسْتَسْعَاةً مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً لِعُمُومِ النَّصِّ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ كَذَلِكَ إلَّا فِي امْرَأَةِ الصَّغِيرِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ بِأَنْ مَاتَ الصَّغِيرُ عَنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ فَإِنَّ عِدَّتَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ عِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا الْحَمْلَ لَيْسَ مِنْهُ بِيَقِينٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ فَكَانَ مِنْ الزِّنَا، فَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ كَالْحَمْلِ مِنْ الزِّنَا، وَكَالْحَمْلِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَهُمَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَقَوْلُهُ: الْحَمْلُ مِنْ الزِّنَا لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَهَذَا حَمْلٌ مِنْ الزِّنَا فَيَكُونُ مَخْصُوصًا مِنْ الْعُمُومِ، فَنَقُولُ: الْحَمْلُ مِنْ الزِّنَا قَدْ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً حَامِلًا مِنْ الزِّنَا جَازَ نِكَاحُهَا عِنْدَهُمَا وَلَوْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَوَضَعَتْ حَمْلَهَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا عِنْدَهُمَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ مِنْ الزِّنَا؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ لِلْعِلْمِ بِحُصُولِ فَرَاغِ الرَّحِمِ، وَالْوِلَادَةِ دَلِيلُ فَرَاغِ الرَّحِمِ بِيَقِينٍ، وَالشَّهْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَرَاغِ بِيَقِينٍ فَكَانَ إيجَابُ مَا دَلَّ عَلَى الْفَرَاغِ بِيَقِينٍ أَوْلَى وَلَا أَثَرَ لِلنَّسَبِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَإِنَّمَا الْأَثَرُ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنْ مَاتَ وَهِيَ حَائِلٌ ثُمَّ حَمَلَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَعِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ

فصل في بيان ما يعرف به انقضاء العدة

وَعَشْرٌ بِالْإِجْمَاعِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] ؛ وَلِأَنَّ الْحَمْلَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَوْتِ وَجَبَتْ الْعِدَّةُ بِالْأَشْهُرِ، فَلَا تَتَغَيَّرُ بِالْحَمْلِ الْحَادِثِ، وَإِذَا كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَوْتِ وَجَبَتْ عِدَّةُ الْحَبَلِ فَكَانَ انْقِضَاؤُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَحْصُلُ عَادَةً إلَّا مِنْ الْمَاءِ، وَالصَّبِيُّ لَا مَاءَ لَهُ حَقِيقَةً، وَيَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ عَادَةً فَيَسْتَحِيلُ تَقْدِيرُهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ فِي زَوْجَةِ الْكَبِيرِ تَأْتِي بِوَلَدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَقَدْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهَا عَلَى النِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إقْرَارٌ مِنْهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِتَحَرُّزِ الْمُسْلِمَةِ عَنْ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ. وَلَمْ يَرِدْ عَلَى إقْرَارِهَا مَا يُبْطِلُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ جَاءَتْ بَعْدَ التَّزْوِيجِ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا لِمَا بَيَّنَّا فَهَهُنَا أَوْلَى، وَإِذَا كَانَتْ الْمُعْتَدَّةُ حَامِلًا فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَخِيرِ مِنْهُمَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إذَا وَضَعَتْ أَحَدَ الْوَلَدَيْنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَلَمْ يَقُلْ: أَحْمَالَهُنَّ، فَإِذَا وَضَعَتْ إحْدَاهُمَا فَقَدْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا، إلَّا أَنَّ مَا قَالَهُ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قُرِئَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " أَنْ يَضَعْنَ أَحْمَالَهُنَّ "، وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَّقَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ لَا بِالْوِلَادَةِ حَيْثُ قَالَ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى: {يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَلَمْ يَقُلْ: " يَلِدْنَ "، وَالْحَمْلُ: اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا فِي بَطْنِهَا، وَوَضْعُ أَحَدِ الْوَلَدَيْنِ وَضْعُ بَعْضِ حَمْلِهَا، لَا وَضْعُ حَمْلِهَا، فَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ؛ وَلِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ إنَّمَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ بِوَضْعِهِ، وَمَا دَامَ فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ لَا تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ بِهِ، فَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يُعْرَفُ بِهِ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ] (فَصْلٌ) : (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُعْرَفُ بِهِ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ، فَمَا يُعْرَفُ بِهِ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ نَوْعَانِ: قَوْلٌ، وَفِعْلٌ (أَمَّا) الْقَوْلُ فَهُوَ إخْبَارُ الْمُعْتَدَّةِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي مُدَّةٍ يَحْتَمِلُ الِانْقِضَاءُ فِي مِثْلِهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَقَلِّ الْمُدَّةِ الَّتِي تُصَدَّقُ فِيهَا الْمُعْتَدَّةُ فِي إقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ إنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ فَإِنَّهَا لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ إنْ كَانَتْ حُرَّةً، وَمِنْ شَهْرٍ، وَنِصْفٍ إنْ كَانَتْ أَمَةً، وَفِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ إنْ كَانَتْ حُرَّةً، وَمِنْ شَهْرَيْنِ، وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ إنْ كَانَتْ أَمَةً وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ وَفَاةٍ فَكَذَلِكَ لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي الْحُرَّةِ، وَالْأَمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ: فَإِنْ أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فِي مُدَّةٍ تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ يُقْبَلُ قَوْلُهَا، وَإِنْ أَخْبَرَتْ فِي مُدَّةٍ لَا تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إلَّا إذَا فَسَّرَتْ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَتْ: أَسْقَطْت سَقْطًا مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ أَوْ بَعْضِهِ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي إخْبَارِهَا عَنْ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى ائْتَمَنَهَا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: إنَّهُ الْحَيْضُ، وَالْحَبَلُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ كَالْمُودِعِ إذَا قَالَ: رَدَدْت الْوَدِيعَةَ، أَوْ هَلَكَتْ، فَإِذَا أَخْبَرَتْ بِالِانْقِضَاءِ فِي مُدَّةٍ تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا وَلَا يُقْبَلُ إذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ مِمَّا لَا تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْأَمِينِ إنَّمَا يُقْبَلُ فِيمَا لَا يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ. وَالظَّاهِرُ هَهُنَا يُكَذِّبُهَا، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إلَّا إذَا فَسَّرَتْ فَقَالَتْ: أَسْقَطْتُ سَقْطًا مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ أَوْ بَعْضِ الْخَلْقِ، مَعَ يَمِينِهَا، فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا مَعَ هَذَا التَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يُكَذِّبُهَا مَعَ التَّفْسِيرِ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي أَقَلَّ مَا تُصَدَّقُ فِيهِ الْمُعْتَدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَقَلُّ مَا تُصَدَّقُ فِيهِ الْحُرَّةُ سِتُّونَ يَوْمًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: تِسْعَةٌ، وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي تَخْرِيجِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَتَخْرِيجُهُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ بِالْحَيْضِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ بِالْحَيْضِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ بِالْحَيْضِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ فَتِلْكَ سِتُّونَ يَوْمًا، وَتَخْرِيجُهُ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِالْحَيْضِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ثُمَّ بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ بِالْحَيْضِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ثُمَّ بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ بِالْحَيْضِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فَذَلِكَ سِتُّونَ يَوْمًا، فَاخْتَلَفَ التَّخْرِيجُ مَعَ اتِّفَاقِ الْحُكْمِ، وَتَخْرِيجُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِالْحَيْضِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ بِالْحَيْضِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ بِالْحَيْضِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَذَلِكَ تِسْعَةٌ، وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ أَمِينَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالْأَمِينُ يُصَدَّقُ مَا أَمْكَنَ، وَأَمْكَنَ تَصْدِيقُهَا هَهُنَا بِأَنْ يُحْكَمَ بِالطَّلَاقِ فِي آخِرِ الطُّهْرِ فَيُبْدَأُ بِالْعِدَّةِ مِنْ الْحَيْضِ فَيُعْتَبَرُ أَقَلُّهُ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ أَقَلُّ الطُّهْرِ، وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ أَقَلُّ الْحَيْضِ ثُمَّ أَقَلُّ الطُّهْرِ ثُمَّ أَقَلُّ الْحَيْضِ

فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تِسْعَةً، وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى تَخْرِيجِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ، وَإِنْ كَانَتْ أَمِينَةً فِي الْأَقْرَاءِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَكِنْ الْأَمِينُ إنَّمَا يُصَدَّقُ فِيمَا لَا يُخَالِفُهُ الظَّاهِرُ، فَأَمَّا فِيمَا يُخَالِفُهُ الظَّاهِرُ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، كَالْوَصِيِّ إذَا قَالَ: أَنْفَقْتُ عَلَى الْيَتِيمِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمَا قَالَاهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ فَإِنَّمَا يُوقِعُهُ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ، وَكَذَا حَيْضُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ نَادِرٌ، وَحَيْضُ عَشَرَةٍ نَادِرٌ أَيْضًا فَيُؤْخَذُ بِالْوَسَطِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَاعْتِبَارُ هَذَا التَّخْرِيجِ يُوجِبُ أَنَّ أَقَلَّ مَا تُصَدَّقُ فِيهِ سِتُّونَ يَوْمًا. وَأَمَّا الْوَجْهُ عَلَى تَخْرِيجِ رِوَايَةِ الْحَسَنِ فَهُوَ أَنْ يُحْكَمَ بِالطَّلَاقِ فِي آخِرِ الطُّهْرِ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ، وَإِنْ كَانَ سُنَّةً لَكِنْ الظَّاهِرُ هُوَ الْإِيقَاعُ فِي آخِرِ الطُّهْرِ؛ لِأَنَّهُ يُجَرِّبُ نَفْسَهُ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ هَلْ يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا ثُمَّ يُطَلِّقُ فَكَانَ الظَّاهِرُ هُوَ الْإِيقَاعُ فِي آخِرِ الطُّهْرِ لَا أَنَّهُ يَعْتَبِرُ مُدَّةَ الْحَيْضِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّا قَدْ اعْتَبَرْنَا فِي الطُّهْرِ أَقَلَّهُ، فَلَوْ نَقَصْنَا مِنْ الْعَشَرَةِ فِي الْحَيْضِ لَلَزِمَ النَّقْصُ فِي الْعِدَّةِ فَيَفُوتُ حَقُّ الزَّوْجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُحْكَمُ بِأَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَأَقَلِّ الطُّهْرِ رِعَايَةً لِلْحَقَّيْنِ وَاعْتِبَارُ هَذَا التَّخْرِيجِ أَيْضًا يُوجِبُ مَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَقَلّ مَا تُصَدَّقُ فِيهِ سِتُّونَ. وَأَمَّا الْأَمَةُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَقَلُّ مَا تُصَدَّقُ فِيهِ عَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَهُوَ أَنْ يُقَدِّرَ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ فَيُبْدَأَ بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ بِالْحَيْضِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ بِالْحَيْضِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ فَذَلِكَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا. وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ فَأَقَلُّ مَا تُصَدَّقُ فِيهِ خَمْسَةٌ، وَثَلَاثُونَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ كَأَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ فِي آخِرِ الطُّهْرِ فَيُبْدَأُ بِالْحَيْضِ عَشَرَةً ثُمَّ بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ بِالْحَيْضِ عَشَرَةً فَذَلِكَ خَمْسَةٌ، وَثَلَاثُونَ يَوْمًا فَاخْتَلَفَ حُكْمُ رِوَايَتِهِمَا فِي الْأَمَةِ وَاتَّفَقَ فِي الْحُرَّةِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فَأَقَلُّ مَا تُصَدَّقُ فِيهِ إحْدَى، وَعِشْرُونَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُمَا يُقَدِّرَانِ الطَّلَاقَ فِي آخِرِ الطُّهْرِ، وَيَبْتَدِئَانِ بِالْحَيْضِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ بِالطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ بِالْحَيْضِ ثَلَاثَةً فَذَلِكَ أَحَدٌ، وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ إذَا كَانَتْ نُفَسَاءَ بِأَنْ وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ، وَطَلَّقَهَا عَقِيبَ الْوِلَادَةِ ثُمَّ قَالَتْ: انْقَضَتْ عِدَّتِي، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ: لَا تُصَدَّقُ الْحُرَّةُ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ، وَثَمَانِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ النِّفَاسُ خَمْسَةً، وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَثْبُتَ بَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا ثُمَّ يُحْكَمَ بِالدَّمِ فَيَبْطُلَ الطُّهْرُ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الدَّمَيْنِ فِي الْأَرْبَعِينَ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا طُهْرٌ، وَإِنْ كَثُرَ حَتَّى لَوْ رَأَتْ فِي أَوَّلِ النِّفَاسِ سَاعَةً دَمًا، وَفِي آخِرِهَا سَاعَةً كَانَ الْكُلُّ نِفَاسًا عِنْدَهُ فَجَعَلَ النِّفَاسَ خَمْسَةً، وَعِشْرِينَ يَوْمًا حَتَّى يَثْبُتَ بَعْدَهُ طُهْرُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَقَعَ الدَّمُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ خَمْسَةً حَيْضًا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا، وَخَمْسَةً حَيْضًا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا، وَخَمْسَةً حَيْضًا فَذَلِكَ خَمْسَةٌ، وَثَمَانُونَ. وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ، فَلَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ يَوْمٍ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ عَشَرَةٌ حَيْضًا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا، وَعَشَرَةٌ حَيْضًا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا، وَعَشَرَةٌ حَيْضًا فَذَلِكَ مِائَةٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ، وَسِتِّينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا نِفَاسًا؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ أَقَلَّ النِّفَاسِ يَزِيدُ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ ثُمَّ يَثْبُتُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا، وَثَلَاثَةٌ حَيْضًا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا، وَثَلَاثَةٌ حَيْضًا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا، وَثَلَاثَةٌ حَيْضًا فَذَلِكَ خَمْسَةٌ، وَسِتُّونَ يَوْمًا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَخَمْسِينَ، وَسَاعَةٍ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ النِّفَاسِ مَا وُجِدَ مِنْ الدَّمِ فَيُحْكَمُ بِنِفَاسِ سَاعَةٍ، وَبَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا، وَثَلَاثَةٌ حَيْضًا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا، وَثَلَاثَةٌ حَيْضًا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا، وَثَلَاثَةٌ حَيْضًا فَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ، وَسَاعَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَعَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ، وَسِتِّينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ خَمْسَةٌ حَيْضًا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا، وَخَمْسَةٌ حَيْضًا فَذَلِكَ خَمْسَةٌ، وَسِتُّونَ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ، وَسَبْعِينَ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ عَشَرَةٌ حَيْضًا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا، وَعَشَرَةٌ حَيْضًا فَذَلِكَ خَمْسَةٌ، وَسَبْعُونَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ سَبْعَةٍ، وَأَرْبَعِينَ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا نِفَاسًا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا، وَثَلَاثَةٌ حَيْضًا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا، وَثَلَاثَةٌ حَيْضًا فَذَلِكَ سَبْعَةٌ، وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتَّةٍ، وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَسَاعَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ سَاعَةً نِفَاسًا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا، وَثَلَاثَةً حَيْضًا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا، وَثَلَاثَةً حَيْضًا فَذَلِكَ سِتَّةٌ، وَثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَسَاعَةٌ. وَأَمَّا الْفِعْلُ فَنَحْوُ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ بَعْدَمَا مَضَتْ مُدَّةٌ تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ حَتَّى لَوْ قَالَتْ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتِي لَمْ تُصَدَّقْ لَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ

فصل في بيان انتقال العدة

الْأَوَّلِ وَلَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ الثَّانِي، وَنِكَاحُ الزَّوْجِ الثَّانِي جَائِزٌ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهَا عَلَى التَّزَوُّجِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَحْتَمِلُ الِانْقِضَاءَ، فِي مِثْلِهَا دَلِيلُ الِانْقِضَاءِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ انْتِقَالِ الْعِدَّةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ انْتِقَالِ الْعِدَّةِ، وَتَغَيُّرِهَا، أَمَّا انْتِقَالُ الْعِدَّةِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: انْتِقَالُهَا مِنْ الْأَشْهُرِ إلَى الْأَقْرَاءِ، وَالثَّانِي: انْتِقَالُهَا مِنْ الْأَقْرَاءِ إلَى الْأَشْهُرِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوُ الصَّغِيرَةِ اعْتَدَّتْ بِبَعْضِ الْأَشْهُرِ ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ تَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا مِنْ الْأَشْهُرِ إلَى الْأَقْرَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ بَدَلٌ عَنْ الْأَقْرَاءِ وَقَدْ تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُبْدَلِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمُبْدَلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ يُبْطِلُ حُكْمَ الْبَدَلِ كَالْقُدْرَةِ عَلَى الْوُضُوءِ فِي حَقِّ الْمُتَيَمِّمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيُبْطِلُ حُكْمَ الْأَشْهُرِ فَانْتَقَلَتْ عِدَّتُهَا إلَى الْحَيْضِ، وَكَذَا الْآيِسَةُ إذَا اعْتَدَّتْ بِبَعْضِ الْأَشْهُرِ ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ تَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا إلَى الْحَيْضِ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ الَّتِي لَمْ يُقَدِّرُوا لِلْإِيَاسِ تَقْدِيرًا بَلْ هُوَ غَالِبٌ عَلَى ظَنِّهَا أَنَّهَا آيِسَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا رَأَتْ الدَّمَ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ آيِسَةً، وَأَنَّهَا أَخْطَأَتْ فِي الظَّنِّ، فَلَا يُعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ فِي حَقِّهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا بَدَلٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ. وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي وَقَّتُوا لِلْإِيَاسِ وَقْتًا إذَا بَلَغَتْ ذَلِكَ الْوَقْتَ ثُمَّ رَأَتْ بَعْدَهُ الدَّمَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الدَّمُ حَيْضًا، كَالدَّمِ الَّذِي تَرَاهُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَا يَحِيضُ مِثْلُهَا، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ أَنَّ ذَلِكَ فِي الَّتِي ظَنَّتْ أَنَّهَا آيِسَةٌ، فَأَمَّا الْآيِسَةُ فَمَا تَرَى مِنْ الدَّمِ لَا يَكُونُ حَيْضًا. أَلَا تَرَى أَنَّ وُجُودَ الْحَيْضِ مِنْهَا كَانَ مُعْجِزَةَ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْمُعْجِزَةِ. كَذَا عَلَّلَ الْجَصَّاصُ. وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ انْتِقَالُ الْعِدَّةِ مِنْ الْأَقْرَاءِ إلَى الْأَشْهُرِ فَنَحْوُ ذَاتِ الْقُرْءِ اعْتَدَّتْ بِحَيْضَةٍ أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ أَيِسَتْ تَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا مِنْ الْحَيْضِ إلَى الْأَشْهُرِ فَتَسْتَقْبِلُ الْعِدَّةَ بِالْأَشْهُرِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا أَيِسَتْ فَقَدْ صَارَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَشْهُرِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] ، وَالْأَشْهُرُ بَدَلٌ عَنْ الْحَيْضِ فَلَوْ لَمْ تَسْتَقْبِلْ، وَثَبَتَتْ عَلَى الْأَوَّلِ لَصَارَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ أَصْلًا، وَبَدَلًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بِالْوُضُوءِ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَلَمْ يَجِدْ مَاءً أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ، وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ، وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْبَدَلِ، وَالْمُبْدَلِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَهَلَّا جَازَ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ كَوْنُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بَدَلًا، وَأَصْلًا، وَهَهُنَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَفَصْلُ الصَّلَاةِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ الْبَدَلِ، وَالْمُبْدَلِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُصَلِّي بَعْضَ صَلَاتِهِ قَائِمًا بِرُكُوعٍ، وَسُجُودٍ، وَبَعْضَهَا بِالْإِيمَاءِ، وَيَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ الْبَدَلِ، وَالْمُبْدَلِ فِي صَلَاتِهِ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ مَاتَ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا انْتَقَلَتْ عِدَّتُهَا إلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ سَوَاءٌ طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْمَرَضِ أَوْ الصِّحَّةِ وَانْهَدَمَتْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ إذْ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الزَّوْجِيَّةِ، وَمَوْتُ الزَّوْجِ يُوجِبُ عَلَى زَوْجَتِهِ عِدَّةَ الْوَفَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ بَائِنًا أَوْ ثَلَاثًا فَإِنْ لَمْ تَرِثْ بِأَنْ طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ لَا تَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ عَلَى الزَّوْجَاتِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 234] وَقَدْ زَالَتْ الزَّوْجِيَّةُ بِالْإِبَانَةِ، وَالثَّلَاثِ فَتَعَذَّرَ إيجَابُ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَبَقِيَتْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ عَلَى حَالِهَا. وَإِنْ وَرِثَتْ بِأَنْ طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْمَرَضِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَوَرِثَتْ اعْتَدَّتْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، فِيهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ، حَتَّى أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَرَ فِي مُدَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَالْعَشْرِ ثَلَاثَ حِيَضٍ تَسْتَكْمِلُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مُعْتَدَّةٍ، وَرِثَتْ. كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ، وَعَنَى بِذَلِكَ امْرَأَةَ الْمُرْتَدِّ بِأَنْ ارْتَدَّ زَوْجُهَا بَعْدَمَا دَخَلَ بِهَا، وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ثُمَّ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، وَوَرِثَتْهُ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي امْرَأَةِ الْمُرْتَدِّ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَيْسَ عَلَيْهَا إلَّا ثَلَاثُ حِيَضٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا أَوْجَبَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ عَلَى الزَّوْجَاتِ وَقَدْ بَطَلَتْ الزَّوْجِيَّةُ بِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ إلَّا أَنَّا بَقَّيْنَاهَا فِي حَقِّ الْإِرْثِ خَاصَّةً لِتُهْمَةِ الْفِرَارِ مِمَّنْ ادَّعَى بَقَاءَهَا فِي حَقِّ وُجُوبِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا بَقِيَ فِي حَقِّ الْإِرْثِ فَلَأَنْ يَبْقَى فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعِدَّةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ يُحْتَاطُ فِي إيجَابِهَا فَكَانَ قِيَامُ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ كَافِيًا لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ احْتِيَاطًا فَيَجِبُ عَلَيْهَا الِاعْتِدَادُ

فصل في تغيير العدة

أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فِيهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ. وَلَوْ حَمَلَتْ الْمُعْتَدَّةُ فِي عِدَّتِهَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ مَنْ حَمَلَتْ فِي عِدَّتِهَا فَالْعِدَّةُ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ وَقَدْ فَصَلَ مُحَمَّدٌ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَنْ مَاتَ عَنْ امْرَأَتِهِ وَهُوَ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ ثُمَّ حَمَلَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَعِدَّتُهَا الشُّهُورُ، فَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا تَنْتَقِلُ بِوُجُودِ الْحَمْلِ مِنْ الْأَشْهُرِ إلَى وَضْعِ الْحَمْلِ، قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ فَحَبِلَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَعُلِمَ بِذَلِكَ فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا. وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ أَصْلُ الْعِدَدِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ وُضِعَتْ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ، وَلَا شَيْءَ أَدَلُّ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ وَضْعِ الْحَمْلِ فَيَجِبُ أَنْ يَسْقُطَ مَعَهُ مَا سِوَاهُ كَمَا تَسْقُطُ الشُّهُورُ مَعَ الْحَيْضِ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ أَنَّ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا تَتَغَيَّرُ بِوُجُودِ الْحَمْلِ بَعْدَ الْوَفَاةِ وَلَا تَنْتَقِلُ مِنْ الْأَشْهُرِ إلَى وَضْعِ الْحَمْلِ بِخِلَافِ عِدَّةِ الطَّلَاقِ. وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعِدَّتَيْنِ أَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ إنَّمَا وَجَبَتْ لِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَتَأَدَّى بِالْأَشْهُرِ مَعَ وُجُودِ الْحَيْضِ وَكَذَا تَجِبُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِإِظْهَارِ التَّأَسُّفِ عَلَى فَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ، وَكَانَ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ هُوَ الْأَشْهُرُ إلَّا إذَا كَانَتْ حَامِلًا وَقْتَ الْوَفَاةِ فَيَتَعَلَّقُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَإِذَا كَانَتْ حَامِلًا بَقِيَتْ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فَلَا تَتَغَيَّرُ بِوُجُودِ الْحَمْلِ فَلَا تَنْتَقِلُ، بِخِلَافِ عِدَّةِ الطَّلَاقِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الِاسْتِبْرَاءُ، وَوَضْعُ الْحَمْلِ أَصْلٌ فِي الِاسْتِبْرَاءِ فَإِذَا قَدَرَتْ عَلَيْهِ سَقَطَ مَا سِوَاهُ، أَوْ يُحْمَلُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ عَلَى الْخُصُوصِ وَهِيَ الَّتِي حَبِلَتْ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ، وَذِكْرُ الْعَامِّ عَلَى إرَادَةِ الْخَاصِّ مُتَعَارَفٌ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ: إنَّهَا إذَا حَبِلَتْ فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهَا حَبِلَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَقَدْ حَكَمْنَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بَعْدَ الْوَضْعِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ حَمْلًا لِأَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمَةِ أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ فِي عِدَّتِهَا فَيُحْكَمَ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قَبْلَ التَّزَوُّجِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي تَغْيِيرُ الْعِدَّةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا تَغْيِيرُ الْعِدَّةِ فَنَحْوُ الْأَمَةِ إذَا طَلُقَتْ ثُمَّ أُعْتِقَتْ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا تَتَغَيَّرُ عِدَّتُهَا إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلُ الزَّوْجِيَّةَ، فَهَذِهِ حُرَّةٌ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَهِيَ زَوْجَتُهُ فَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْحَرَائِرِ كَمَا إذَا عَتَقَهَا الْمَوْلَى ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ، وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا لَا تَتَغَيَّرُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَتَغَيَّرُ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِدَّةِ هُوَ الْكَمَالُ وَإِنَّمَا النُّقْصَانُ بِعَارِضِ الرِّقِّ فَإِذَا أُعْتِقَتْ فَقَدْ زَالَ الْعَارِضُ وَأَمْكَنَ تَكْمِيلُهَا فَتَكْمُلُ، وَلَنَا أَنَّ الطَّلَاقَ أَوْجَبَ عَلَيْهَا عِدَّةَ الْإِمَاءِ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَهَا وَهِيَ أَمَةٌ وَالْإِعْتَاقُ وُجِدَ وَهِيَ مُبَانَةٌ فَلَا يَتَغَيَّرُ الْوَاجِبُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ كَعِدَّةِ الْوَفَاةِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ فَوُجِدَ الْإِعْتَاقُ وَهِيَ زَوْجَتُهُ فَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَهِيَ حُرَّةٌ فَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْحَرَائِرِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِيلَاءِ بِأَنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ مَمْلُوكَةً وَقْتَ الْإِيلَاءِ ثُمَّ أُعْتِقَتْ أَنَّهُ تَنْقَلِبُ عِدَّتُهَا إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ وَإِنْ كَانَ الْإِيلَاءُ طَلَاقًا بَائِنًا، وَقَدْ سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّجْعِيِّ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ فِي الْإِيلَاءِ لَا تَثْبُتُ لِلْحَالِ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَكَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً لِلْحَالِ فَأَشْبَهَ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ بِأَنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ رَجْعِيًّا ثُمَّ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى، وَهُنَاكَ تَنْقَلِبُ عِدَّتُهَا عِدَّةَ الْحَرَائِرِ فَكَذَا مُدَّتُهَا هَهُنَا، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ لِلْحَالِ وَقَدْ وَجَبَتْ عِدَّةُ الْإِمَاءِ بِالطَّلَاقِ فَلَا تَتَغَيَّرُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ بِالْعِتْقِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ إذَا رَاجَعَهَا الزَّوْجُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا قَالَ أَصْحَابُنَا: عَلَيْهَا عِدَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: إنَّهَا تُكْمِلُ الْعِدَّةَ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهَا تَعْتَدُّ عَنْ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ لَا عَنْ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّانِي طَلَاقٌ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا يُوجِبُ الْعِدَّةَ، وَلَنَا أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّانِي طَلَاقٌ بَعْدَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَيْسَتْ إنْشَاءَ النِّكَاحِ بَلْ هِيَ فَسْخُ الطَّلَاقِ وَمَنْعُهُ عَنْ الْعَمَلِ بِثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَانَتْ مُطْلَقَةً بِالطَّلَاقِ الثَّانِي بَعْدَ الدُّخُولِ فَتَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . وَلَوْ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا وَهِيَ تَحْتَ زَوْجٍ أَوْ فِي عِدَّةٍ مِنْ زَوْجٍ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا بِمَوْتِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ إنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهَا بِمَوْتِ الْمَوْلَى لِزَوَالِ الْفِرَاشِ فَإِذَا كَانَتْ تَحْتَ زَوْجٍ أَوْ فِي عِدَّةٍ مِنْ زَوْجٍ لَمْ تَكُنْ فِرَاشًا لَهُ لِقِيَامِ فِرَاشِ الزَّوْجِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَإِنْ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ فَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْحَرَائِرِ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ الْمَوْلَى صَادَفَهَا وَهِيَ فِرَاشُ الزَّوْجِ فَلَا يُوجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ، وَطَلَاقُ الزَّوْجِ صَادَفَهَا وَهِيَ حُرَّةٌ فَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْحَرَائِرِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ أَوَّلًا ثُمَّ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى فَإِنْ

كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا تَتَغَيَّرُ عِدَّتُهَا إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ، وَإِنْ كَانَ بَائِنًا لَا تَتَغَيَّرُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَعَلَيْهَا بِمَوْتِ الْمَوْلَى ثَلَاثُ حِيَضٍ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْ الزَّوْجِ فَقَدْ عَادَ فِرَاشُ الْمَوْلَى ثُمَّ زَالَ بِالْمَوْتِ فَتَجِبُ الْعِدَّةُ لِزَوَالِ الْفِرَاشِ، كَمَا إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُزَوِّجَهَا، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى وَالزَّوْجُ فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو: إمَّا إنْ عُلِمَ أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا وَإِمَّا أَنْ لَا يُعْلَمَ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو: إمَّا إنْ عُلِمَ كَمْ بَيْنَ مَوْتَيْهِمَا وَإِمَّا إنْ لَمْ يُعْلَمْ: فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الزَّوْجَ مَاتَ أَوَّلًا وَعُلِمَ أَنَّ بَيْنَ مَوْتَيْهِمَا أَكْثَرَ مِنْ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ فَعَلَيْهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ مُدَّةُ عِدَّةِ الْأَمَةِ فِي وَفَاةِ الزَّوْجِ، فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى فَعَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْ الْوَفَاةِ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ الْمَوْلَى وَذَلِكَ ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ مَوْتَيْهِمَا أَقَلُّ مِنْ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ فَكَذَلِكَ عَلَيْهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ مُدَّةُ عِدَّةِ وَفَاةِ الزَّوْجِ فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى لَا شَيْءَ عَلَيْهَا بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ وَهِيَ فِي عِدَّةِ الزَّوْجِ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْمَوْلَى مَاتَ أَوَّلًا فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا تَحْتَ زَوْجٍ فَلَمْ تَكُنْ فِرَاشًا لِلْمَوْلَى فَإِذَا مَاتَ الزَّوْجُ فَعَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ عِدَّةُ الْوَفَاةِ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا أُعْتِقَتْ بِمَوْتِ الْمَوْلَى، وَعِدَّةُ الْحُرَّةِ فِي الْوَفَاةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا: فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ بَيْنَ مَوْتِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ فَعَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٌ وَعَشْرٌ فِيهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَتَفْسِيرُهُ أَنَّهَا إذَا لَمْ تَرَ ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ تَسْتَكْمِلُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ الزَّوْجُ أَوَّلًا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّهَا أَمَةٌ وَعِدَّةُ الْأَمَةِ مِنْ زَوْجِهَا الْمُتَوَفَّى هَذَا الْقَدْرُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَوَجَبَ عَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ عِدَّةُ الْمَوْلَى. وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا فَقَدْ عَتَقَتْ بِمَوْتِهِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِرَاشًا لَهُ، وَعِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ مَوْلَاهَا تَجِبُ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ فَلَمَّا مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى فَقَدْ مَاتَ الزَّوْجُ وَهِيَ حُرَّةٌ فَوَجَبَ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْحَرَائِرِ فِي الْوَفَاةِ وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فَإِذًا فِي حَالٍ يَجِبُ عَلَيْهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ وَثَلَاثُ حِيَضٍ، وَفِي حَالٍ يَجِبُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَالشَّهْرَانِ يَدْخُلَانِ فِي الشُّهُورِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فِيهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا احْتِيَاطًا، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ بَيْنَ مَوْتَيْهِمَا أَقَلُّ مِنْ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ فَعَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا حَالَ هَهُنَا لِوُجُوبِ الْحَيْضِ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا لَمْ يَجِبْ بِمَوْتِهِ شَيْءٌ لِأَنَّهَا تَحْتَ زَوْجٍ، فَإِذَا مَاتَ وَجَبَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِمَوْتِ الْمَوْلَى، وَعِدَّةُ الْحُرَّةِ فِي الْوَفَاةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ أَوَّلًا وَجَبَ عَلَيْهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهَا أَمَةٌ فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ وَهِيَ فِي عِدَّةِ الزَّوْجِ فَلَمْ تَكُنْ فِرَاشًا لَهُ، فَإِذًا فِي حَالٍ يَجِبُ عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فَقَطْ، وَفِي حَالٍ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ فَقَطْ فَأَوْجَبْنَا الِاعْتِدَادَ بِأَكْثَرِ الْمُدَّتَيْنِ احْتِيَاطًا فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا وَلَمْ يُعْلَمْ أَيْضًا كَمْ بَيْنَ مَوْتِهِمَا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ لَا حَيْضَ فِيهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فِيهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الزَّوْجَ مَاتَ أَوَّلًا وَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى مَاتَ أَوَّلًا فَعَتَقَتْ بِمَوْتِهِ ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ فَيَجِبُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فَيُرَاعَى فِيهِ الِاحْتِيَاطُ فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ وَالْحَيْضِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وَهَذَا تَقْدِيرٌ لِعِدَّةِ الْوَفَاةِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ أَمْرَيْنِ حَادِثَيْنِ لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُ مَا بَيْنَهُمَا أَنْ يُحْكَمَ بِوُقُوعِهِمَا مَعًا كَالْغَرْقَى وَالْحَرْقَى وَالْهَدْمَى، وَإِذَا حُكِمَ بِمَوْتِ الزَّوْجِ مَعَ مَوْتِ الْمَوْلَى فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَهِيَ حُرَّةٌ فَكَانَتْ عِدَّةَ الْحَرَائِرِ فَلَمْ يَكُنْ لِإِيجَابِ الْحَيْضِ حَالٌ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا تَزَوَّجَ أُمَّ الْوَلَدِ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ وَالْمَوْلَى وَلَا يُعْلَمْ أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا وَلَا كَمْ بَيْنَ مَوْتَيْهَا فَعَلَيْهَا حَيْضَتَانِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِمَا مَعًا، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ عَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي اعْتِبَارِ الِاحْتِيَاطِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمَوْلَى مَاتَ أَوَّلًا فَنَفَذَ النِّكَاحُ لِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ فَجَازَ نِكَاحُهَا بِعِتْقِهَا ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ وَهِيَ حُرَّةٌ فَوَجَبَ

عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ الزَّوْجُ أَوَّلًا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْمَوْلَى ثَلَاثُ حِيَضٍ فَوَجَبَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فِيهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ احْتِيَاطًا، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ بَيْنَ مَوْتَيْهِمَا مَا لَا تَحِيضُ فِيهِ حَيْضَتَيْنِ فَعَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فِيهَا حَيْضَتَانِ؛ لِأَنَّ عِدَّةَ الْمَوْلَى قَدْ سَقَطَتْ، سَوَاءٌ مَاتَ أَوَّلًا أَوْ آخِرًا إذَا كَانَ بَيْنَ مَوْتَيْهِمَا مَا لَا تَحِيضُ فِيهِ حَيْضَتَيْنِ وَوَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي عِدَّةِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا فَعَتَقَتْ نَفَذَ نِكَاحُهَا بِعِتْقِهَا فَوَجَبَ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْحَرَائِرِ بِالْوَفَاةِ، وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ أَوَّلًا وَجَبَ عَلَيْهَا حَيْضَتَانِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا، وَلَوْ حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ بَيْنَ مَوْتَيْهِمَا فَعَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فِيهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا فَعَتَقَتْ فَنَفَذَ نِكَاحُهَا فَلَمَّا مَاتَ الزَّوْجُ وَجَبَ عَلَيْهَا عِدَّةُ الشُّهُورِ، وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ أَوَّلًا ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ فَيُجْمَعُ بَيْنَ الشُّهُورِ وَالْحِيَضِ احْتِيَاطًا. وَلَوْ اشْتَرَى الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ فَأَعْتَقَهَا فَعَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ حَيْضَتَانِ مِنْ النِّكَاحِ تَجْتَنِبُ فِيهِمَا مَا تَجْتَنِبُ الْمَنْكُوحَةُ وَحَيْضَةٌ مِنْ الْعِتْقِ لَا تَجْتَنِبُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهَا فَقَدْ فَسَدَ نِكَاحُهَا وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَصَارَتْ مُعْتَدَّةً فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَدَّةً فِي حَقِّهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا فَإِذَا أَعْتَقَهَا صَارَتْ مُعْتَدَّةً فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مِنْ كَوْنِهَا مُعْتَدَّةً فِي حَقِّهِ هُوَ إبَاحَةُ وَطْئِهَا وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِزَوَالِ مِلْكِ الْيَمِينِ فَزَالَ الْمَانِعُ فَظَهَرَ حُكْمُ الْعِدَّةِ فِي حَقِّهِ أَيْضًا فَيَجِبُ عَلَيْهَا حَيْضَتَانِ مِنْ فَسَادِ النِّكَاحِ وَهُمَا مُعْتَبَرَانِ مِنْ الْإِعْتَاقِ أَيْضًا، وَعِدَّةُ النِّكَاحِ يَجِبُ فِيهَا الْإِحْدَادُ، وَأَمَّا الْحَيْضَةُ الثَّالِثَةُ فَإِنَّمَا تَجِبُ مِنْ الْعِتْقِ خَاصَّةً. وَعِدَّةُ الْعِتْقِ لَا إحْدَادَ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً بَائِنَةً ثُمَّ اشْتَرَاهَا حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا وَكَانَ لَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ سَبَبٌ لِحِلِّ الْوَطْءِ فِي الْأَصْلِ لَا لِمَانِعٍ، وَمَاؤُهُ لَا يَصْلُحُ مَانِعًا لِوَطْئِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ جَدَّدَ النِّكَاحَ فَإِذَا حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا سَقَطَ عَنْهَا الْإِحْدَادُ فَإِنْ حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ قَبْلَ الْعِتْقِ ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْ النِّكَاحِ وَتَعْتَدُّ فِي الْعِتْقِ ثَلَاثَ حِيَضٍ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَدَّةً فِي حَقِّهِ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَهِيَ مُعْتَدَّةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَإِذَا مَضَتْ الْحِيَضُ بَعْدَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ تَعْتَدُّ بِهَا فَإِذَا أَعْتَقَهَا وَجَبَ عَلَيْهَا بِالْعِتْقِ عِدَّةٌ أُخْرَى وَهِيَ عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ ثَلَاثُ حِيَضٍ. وَإِذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ زَوْجَتَهُ ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً فَأَدَّتْ الْمُكَاتَبَةُ فَسَدَ النِّكَاحُ قَبْلَ الْمَوْتِ بِلَا فَصْلٍ وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ فَسَادِ النِّكَاحِ حَيْضَتَانِ إذَا كَانَتْ لَمْ تَلِدْ مِنْهُ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا، أَمَّا فَسَادُ النِّكَاحِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِلَا فَصْلٍ فَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً فَأُدِّيَ يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ وَإِذَا أُعْتِقَ مَلَكَهَا الْآنَ فَفَسَدَ نِكَاحُهَا. وَأَمَّا وُجُوبُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا حَيْضَتَانِ فَلِأَنَّهَا بَانَتْ وَهِيَ أَمَةٌ فَإِنْ كَانَتْ وَلَدَتْ فَعَلَيْهَا تَمَامُ ثَلَاثِ حِيَضٍ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ فَيَجِبُ عَلَيْهَا حَيْضَتَانِ بِالنِّكَاحِ وَالْعِتْقِ وَحَيْضَةٌ بِالْعِتْقِ خَاصَّةً، فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُ فَعَلَيْهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا إذَا لَمْ تَكُنْ وَلَدَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ عَاجِزًا لَمْ يَفْسُدْ نِكَاحُهَا؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا فَلَمْ يَمْلِكْهَا فَمَاتَ عَنْ مَنْكُوحَتِهِ وَهِيَ زَوْجَتُهُ أَمَةً فَيَجِبُ عَلَيْهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ عِدَّةُ الْأَمَةِ فِي الْوَفَاةِ وَيَسْتَوِي فِيهِ الدُّخُولُ وَعَدَمُ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ عِدَّةُ الْوَفَاةِ فَإِنْ كَانَتْ وَلَدَتْ مِنْهُ سَعَتْ وَسَعَى وَلَدُهَا عَلَى نُجُومِهِ. فَإِنْ عَجَزَا فَعِدَّتُهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ لِمَا بَيَّنَّا فَإِنْ أَدَّيَا عَتَقَا وَعَتَقَ الْمُكَاتَبُ، فَإِنْ كَانَ الْأَدَاءُ فِي الْعِدَّةِ فَعَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ مُسْتَأْنَفَةٍ مِنْ يَوْمِ عَتَقَا يَسْتَكْمِلُ فِيهَا شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنْ يَوْمِ مَاتَ الْمُكَاتَبُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا تَرَكَ وَلَدًا وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَاكْتَسَبَ الْوَلَدُ وَأَدَّى يُحْكَمُ بِعِتْقِ الْمُكَاتَبِ فِي الْحَالِ وَيُسْتَنَدُ إلَى مَا قَبْلَ الْمَوْتِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَقَدْ مَاتَ عَاجِزًا فِي الظَّاهِرِ فَلَمْ يُحْكَمْ بِعِتْقِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ مَعَ الْعَجْزِ وَإِنَّمَا يُحْكَمُ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَيُحْكَمُ بِعِتْقِهِ لِلْحَالِ ثُمَّ يُسْتَنَدُ فَيُعْتَقُ بِعِتْقِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْحَيْضُ بَعْدَ الْعِتْقِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَرَكَ وَفَاءً؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ فَالدَّيْنُ وَهُوَ بَدَلُ الْكِتَابَةِ يَنْتَقِلُ مِنْ ذِمَّتِهِ إلَى الْمَالِ فَيَمْنَعُ ظُهُورَ الْعَجْزِ فَإِذَا أَدَّى يُحْكَمُ بِسُقُوطِ دَيْنِ الْكِتَابَةِ عَنْهُ وَسَلَامَتِهِ لِلْمَوْلَى فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَيُعْتَقُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَعِنْدَ زُفَرَ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَيُجْعَلُ الْوَلَدُ إذَا أَدَّى كَالْكَسْبِ إذَا أَدَّى عَنْهُ وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَإِنْ أَدَّيَا فَعَتَقَا بَعْدَمَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِالشَّهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ فَعَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ مُسْتَقْبَلَةٍ؛ لِأَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ لَمَّا

فصل في أحكام العدة

انْقَضَتْ تَجَدَّدَ وُجُوبُ عِدَّةٍ أُخْرَى بِالْعِتْقِ فَكَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِهَا. وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ امْرَأَتَهُ وَوَلَدَهُ مِنْهَا وَمَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً مِنْ دُيُونٍ لَهُ أَوْ مَالٍ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ فِي شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ لِأَنِّي لَا أَعْلَمُ يُؤَدَّى الْمَالُ فَيُحْكَمُ بِعِتْقِهِ أَوْ يَنْوِي فَيُحْكَمُ بِعَجْزِهِ فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعِدَّتَيْنِ، وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ بِنْتَ مَوْلَاهُ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى وَمَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ وَفَاءً فَعَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ عِنْدَنَا لَا يَفْسُدُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى، فَإِذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ مَنْكُوحَتِهِ الْحُرَّةِ وَجَبَتْ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْحَرَائِرِ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَعَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ إنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَاجِزًا فَمَلَكَتْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالْفُرْقَةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا وَإِلَّا فَلَا. [فَصْلٌ فِي أَحْكَامُ الْعِدَّةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا أَحْكَامُ الْعِدَّةِ فَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ نِكَاحُ الْمُعْتَدَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] قِيلَ: أَيْ لَا تَعْزِمُوا عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ، وَقِيلَ: أَيْ لَا تَعْقِدُوا عَقْدَ النِّكَاحِ حَتَّى يَنْقَضِيَ مَا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا مِنْ الْعِدَّةِ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَبَعْدَ الثَّلَاثِ وَالْبَائِنِ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ حَالَ قِيَامِ الْعِدَّةِ لِقِيَامِ بَعْضِ الْآثَارِ، وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ كَالثَّابِتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا، وَيَجُوزُ لِصَاحِبِ الْعِدَّةِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ التَّزَوُّجِ لِلْأَجَانِبِ لَا لِلْأَزْوَاجِ؛ لِأَنَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ إنَّمَا لَزِمَتْهَا حَقًّا لِلزَّوْجِ لِكَوْنِهَا بَاقِيَةً عَلَى حُكْمِ نِكَاحِهِ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ التَّحْرِيمِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ لَا عَلَى الزَّوْجِ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ حَقَّهُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ خِطْبَةُ الْمُعْتَدَّةِ صَرِيحًا سَوَاءٌ كَانَتْ مُطَلَّقَةً أَوْ مُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَلِأَنَّهَا زَوْجَةُ الْمُطَلِّقِ لِقِيَامِ مِلْكِ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَجُوزُ خِطْبَتُهَا كَمَا لَا يَجُوزُ قَبْلَ الطَّلَاقِ. وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا أَوْ بَائِنًا وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَلِأَنَّ النِّكَاحَ حَالَ قِيَامِ الْعِدَّةِ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِقِيَامِ بَعْضِ آثَارِهِ كَالثَّابِتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي بَابِ الْحُرْمَةِ وَلِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِالْخِطْبَةِ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهِ وُقُوفِ مَوْقِفِ التُّهْمَةِ وَرَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» فَلَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ بِالْخِطْبَةِ فِي الْعِدَّةِ أَصْلًا. وَأَمَّا التَّعْرِيضُ فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ الْخُرُوجُ مِنْ مَنْزِلِهَا أَصْلًا بِاللَّيْلِ وَلَا بِالنَّهَارِ فَلَا يُمْكِنُ التَّعْرِيضُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ النَّاسُ وَالْإِظْهَارُ بِذَلِكَ بِالْحُضُورِ إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا قَبِيحٌ. وَأَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَيُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ نَهَارًا فَيُمْكِنُ التَّعْرِيضُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ سِوَاهَا، وَالثَّانِي أَنَّ تَعْرِيضَ الْمُطَلَّقَةِ اكْتِسَابُ عَدَاوَةٍ وَبُغْضٍ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا إذْ الْعِدَّةُ مِنْ حَقِّهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ، وَمَعْنَى الْعَدَاوَةِ لَا يَتَقَدَّرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَيِّتِ وَلَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَرَثَتِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَيْسَتْ لِحَقِّ الزَّوْجِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَجِبُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَا يَكُونُ التَّعْرِيضُ فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ تَسْبِيبًا إلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبُغْضِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَرَثَةِ الْمُتَوَفَّى فَلَمْ يَكُنْ بِهَا بَأْسٌ، وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ التَّعْرِيضِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ قَوْله تَعَالَى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي التَّعْرِيضِ أَنَّهُ مَا هُوَ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا إنَّكِ الْجَمِيلَةُ وَإِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ وَإِنَّك لَتُعْجِبِينَنِي أَوْ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ نَجْتَمِعَ أَوْ مَا أُجَاوِزُكِ إلَى غَيْرِكِ وَإِنَّكِ لَنَافِعَةٌ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُشَافِهَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا لِلْحَالِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهَا صَرِيحٌ فِي الْخِطْبَةِ وَبَعْضَهَا صَرِيحٌ فِي إظْهَارِ الرَّغْبَةِ فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُرَخَّصُ هُوَ التَّعْرِيضُ وَهُوَ أَنْ يَرَى مِنْ نَفْسِهِ الرَّغْبَةَ فِي نِكَاحِهَا بِدَلَالَةٍ فِي الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِهِ إذْ التَّعْرِيضُ فِي اللُّغَةِ هُوَ تَضْمِينُ الْكَلَامِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ التَّصْرِيحِ بِهِ بِالْقَوْلِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ لَمَّا اسْتَشَارَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ فَقَالَ لَهَا «إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُكِ فَآذِنِينِي فَآذَنَتْهُ فِي رَجُلَيْنِ كَانَا خَطَبَاهَا، فَقَالَ لَهَا: أَمَّا فُلَانٌ فَإِنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْعَصَا عَنْ عَاتِقِهِ وَأَمَّا فُلَانٌ فَإِنَّهُ صُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، فَهَلْ لَكِ فِي أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ؟» فَكَانَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آذِنِينِي كِنَايَةَ خِطَابٍ إلَى أَنْ أَشَارَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ

وَصَرَّحَ بِهِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: التَّعْرِيضُ بِالْخِطْبَةِ أَنْ يَقُولَ لَهَا: أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ أَمْرِهَا كَذَا وَكَذَا يُعَرِّضُ لَهَا بِالْقَوْلِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا حُرْمَةُ الْخُرُوجِ مِنْ الْبَيْتِ لِبَعْضِ الْمُعْتَدَّاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْحُكْمِ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مُعْتَدَّةً مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُعْتَدَّةً مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ حُرَّةً وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَمَةً بَالِغَةً أَوْ صَغِيرَةً عَاقِلَةً أَوْ مَجْنُونَةً مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً مُطَلَّقَةً أَوْ مُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَالْحَالُ حَالُ الِاخْتِيَارِ أَوْ حَالُ الِاضْطِرَارِ: فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَهِيَ حُرَّةٌ مُطَلَّقَةٌ بَالِغَةٌ عَاقِلَةٌ مُسْلِمَةٌ وَالْحَالُ حَالُ الِاخْتِيَارِ فَإِنَّهَا لَا تَخْرُجُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا أَوْ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا أَمَّا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] إلَّا أَنْ تَزْنِيَ فَتَخْرُجَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: الْفَاحِشَةُ هِيَ الْخُرُوجُ نَفْسُهُ أَيْ إلَّا أَنْ يَخْرُجْنَ فَيَكُونَ خُرُوجُهُنَّ فَاحِشَةً، نَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْأَزْوَاجَ عَنْ الْإِخْرَاجِ وَالْمُعْتَدَّاتِ عَنْ الْخُرُوجِ وقَوْله تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] وَالْأَمْرُ بِالْإِسْكَانِ نَهْيٌ عَنْ الْإِخْرَاجِ وَالْخُرُوجِ وَلِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِقِيَامِ مِلْكِ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ إلَّا أَنَّ بَعْدَ الطَّلَاقِ لَا يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ وَإِنْ أُذِنَ لَهَا بِالْخُرُوجِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ. لِأَنَّ حُرْمَةَ الْخُرُوجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِمَكَانِ الْعِدَّةِ وَفِي الْعِدَّةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَمَّةَ لِحَقِّ الزَّوْجِ خَاصَّةً فَيَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّ نَفْسِهِ بِالْإِذْنِ بِالْخُرُوجِ، وَلِأَنَّ الزَّوْجَ يَحْتَاجُ إلَى تَحْصِينِ مَائِهِ وَالْمَنْعُ مِنْ الْخُرُوجِ طَرِيقُ التَّحْصِينِ لِلْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ يُرِيبُ الزَّوْجَ أَنَّهُ وَطِئَهَا غَيْرُهُ فَيَشْتَبِهُ النَّسَبُ إذَا حَبِلَتْ. وَأَمَّا فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَوْ الْبَائِنِ فَلِعُمُومِ النَّهْيِ وَمِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَى تَحْصِينِ الْمَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَلَا تَخْرُجُ لَيْلًا وَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَخْرُجَ نَهَارًا فِي حَوَائِجِهَا؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ بِالنَّهَارِ لِاكْتِسَابِ مَا تُنْفِقُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا مِنْ الزَّوْجِ الْمُتَوَفَّى بَلْ نَفَقَتُهَا عَلَيْهَا فَتَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ لِتَحْصِيلِ النَّفَقَةِ، وَلَا تَخْرُجُ بِاللَّيْلِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى الْخُرُوجِ بِاللَّيْلِ بِخِلَافِ الْمُطَلَّقَةِ فَإِنَّ نَفَقَتَهَا عَلَى الزَّوْجِ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ حَتَّى لَوْ اخْتَلَعَتْ بِنَفَقَةِ عِدَّتِهَا، بَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا؛ يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ بِالنَّهَارِ لِلِاكْتِسَابِ؛ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: لَا يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَبْطَلَتْ النَّفَقَةَ بِاخْتِيَارِهَا وَالنَّفَقَةُ حَقٌّ لَهَا فَتَقْدِرُ عَلَى إبْطَالِهِ، فَأَمَّا لُزُومُ الْبَيْتِ فَحَقٌّ عَلَيْهَا فَلَا تَمْلِكُ إبْطَالَهُ، وَإِذَا خَرَجَتْ بِالنَّهَارِ فِي حَوَائِجِهَا لَا تَبِيتُ عَنْ مَنْزِلِهَا الَّذِي تَعْتَدُّ فِيهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ فُرَيْعَةَ أُخْتَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا قُتِلَ زَوْجُهَا أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَأْذَنَتْهُ فِي الِانْتِقَالِ إلَى بَنِي خُدْرَةَ فَقَالَ لَهَا: اُمْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ «لَمَّا اسْتَأْذَنَتْ أَذِنَ لَهَا ثُمَّ دَعَاهَا فَقَالَ: أَعِيدِي الْمَسْأَلَةَ فَأَعَادَتْ فَقَالَ: لَا، حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» أَفَادَنَا الْحَدِيثُ حُكْمَيْنِ: إبَاحَةُ الْخُرُوجِ بِالنَّهَارِ، وَحُرْمَةُ الِانْتِقَالِ حَيْثُ لَمْ يُنْكِرْ خُرُوجَهَا وَمَنَعَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الِانْتِقَالِ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْخُرُوجِ بِالنَّهَارِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ، وَرَوَى عَلْقَمَةُ أَنَّ نِسْوَةً مِنْ هَمْدَانَ نُعِيَ إلَيْهِنَّ أَزْوَاجُهُنَّ فَسَأَلْنَ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقُلْنَ إنَّا نَسْتَوْحِشُ فَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَجْتَمِعْنَ بِالنَّهَارِ فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ فَلْتَرُحْ كُلُّ امْرَأَةٍ إلَى بَيْتِهَا وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ تَنَامَ عَنْ بَيْتِهَا أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ الْبَيْتُوتَةَ فِي الْعُرْفِ عِبَارَةٌ عَنْ الْكَوْنِ فِي الْبَيْتِ أَكْثَرَ اللَّيْلِ، فَمَا دُونَهُ لَا يُسَمَّى بَيْتُوتَةً فِي الْعُرْفِ، وَمَنْزِلُهَا الَّذِي تُؤْمَرُ بِالسُّكُونِ فِيهِ لِلِاعْتِدَادِ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُهُ قَبْلَ مُفَارَقَةِ زَوْجِهَا وَقَبْلَ مَوْتِهِ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ سَاكِنًا فِيهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ الْبَيْتَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَالْبَيْتُ الْمُضَافُ إلَيْهَا هُوَ الَّذِي تَسْكُنُهُ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّهَا إذَا زَارَتْ أَهْلَهَا فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَعُودَ إلَى مَنْزِلِهَا الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُ فِيهِ فَتَعْتَدَّ ثَمَّةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُضَافُ إلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ هِيَ فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ. وَأَمَّا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَإِنْ اُضْطُرَّتْ إلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهَا بِأَنْ خَافَتْ سُقُوطَ مَنْزِلِهَا أَوْ خَافَتْ عَلَى مَتَاعِهَا أَوْ كَانَ الْمَنْزِلُ بِأُجْرَةٍ وَلَا تَجِدُ مَا تُؤَدِّيهِ فِي أُجْرَتِهِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَلَا بَأْسَ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ تَنْتَقِلَ، وَإِنْ كَانَتْ تَقْدِرُ عَلَى الْأُجْرَةِ لَا تَنْتَقِلُ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْزِلُ لِزَوْجِهَا وَقَدْ مَاتَ عَنْهَا فَلَهَا أَنْ تَسْكُنَ فِي نَصِيبِهَا إنْ كَانَ

نَصِيبُهَا مِنْ ذَلِكَ مَا تَكْتَفِي بِهِ فِي السُّكْنَى وَتَسْتَتِرُ عَنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا، وَإِنْ كَانَ نَصِيبُهَا لَا يَكْفِيهَا أَوْ خَافَتْ عَلَى مَتَاعِهَا مِنْهُمْ فَلَا بَأْسَ أَنْ تَنْتَقِلَ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهَا، وَالْعِبَادَاتُ تَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَقَلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُمَّ كُلْثُومٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي دَارِ الْإِجَارَةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - نَقَلَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا قُتِلَ طَلْحَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الِانْتِقَالِ لِلْعُذْرِ، وَإِذَا كَانَتْ تَقْدِرُ عَلَى أُجْرَةِ الْبَيْتِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَلَا عُذْرَ، فَلَا تَسْقُطُ عَنْهَا الْعِبَادَةُ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا قَدَرَ عَلَى شِرَاءِ الْمَاءِ بِأَنْ وَجَدَ ثَمَنَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الشِّرَاءُ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ لَا يَجِبُ لِعُذْرِ الْعَدَمِ. كَذَا هَهُنَا، وَإِذَا انْتَقَلَتْ لِعُذْرٍ يَكُونُ سُكْنَاهَا فِي الْبَيْتِ الَّذِي انْتَقَلَتْ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهَا فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي انْتَقَلَتْ مِنْهُ فِي حُرْمَةِ الْخُرُوجِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ الْأَوَّلِ إلَيْهِ كَانَ لِعُذْرٍ فَصَارَ الْمَنْزِلُ الَّذِي انْتَقَلَتْ إلَيْهِ كَأَنَّهُ مَنْزِلُهَا مِنْ الْأَصْلِ فَلَزِمَهَا الْمُقَامُ فِيهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، وَكَذَا لَيْسَ لِلْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقِ ثَلَاثٍ أَوْ بَائِنٍ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهَا الَّذِي تَعْتَدُّ فِيهِ إلَى سَفَرٍ إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَهِيَ عَلَى الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَ {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: " هُنَّ " كِنَايَةٌ عَنْ الْمُعْتَدَّاتِ؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَدْ زَالَتْ بِالثَّلَاثِ وَالْبَائِنِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْمُسَافَرَةُ بِهَا، وَكَذَا الْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى سَفَرٍ سَوَاءٌ كَانَ سَفَرَ حَجٍّ فَرِيضَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، لَا مَعَ زَوْجِهَا وَلَا مَعَ مَحْرَمٍ غَيْرِهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا أَوْ يُرَاجِعَهَا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ خُرُوجٍ وَخُرُوجٍ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَائِمَةٌ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ فَلَا يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَمَّا مَنَعَتْ أَصْلَ الْخُرُوجِ فَلَأَنْ تُمْنَعَ مِنْ خُرُوجٍ مَدِيدٍ وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ السَّفَرِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا اسْتَوَى فِيهِ سَفَرُ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ حَجُّ الْإِسْلَامِ فَرْضًا؛ لِأَنَّ الْمُقَامَ فِي مَنْزِلِهَا وَاجِبٌ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَسَفَرُ الْحَجِّ وَاجِبٌ يُمْكِن تَدَارُكُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعُمُرِ وَقْتُهُ فَكَانَ تَقْدِيمَ وَاجِبٍ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ بَعْدَ الْفَوْتِ جَمْعًا بَيْنَ الْوَاجِبِينَ فَكَانَ أَوْلَى، وَلَيْسَ لِزَوْجِهَا أَنْ يُسَافِرَ بِهَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: لَهُ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي تَخْرِيجِ قَوْلِ زُفَرَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ مِنْ أَصْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ عَدَمٌ فِي حَقِّ الْحُكْمِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَانَ الْحَالُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ وَبَعْدَهَا سَوَاءً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَةَ بِهَا رَجْعَةٌ عِنْدَهُ دَلَالَةً، وَوَجْهُهُ أَنَّ إخْرَاجَ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ بَيْتِ الْعِدَّةِ حَرَامٌ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الرَّجْعَةُ لَمْ يُسَافِرْ بِهَا ظَاهِرًا تَحَرُّزًا عَنْ الْحَرَامِ فَيَجْعَلُ الْمُسَافِرَةَ بِهَا رَجْعَةً دَلَالَةً حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاحِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ، وَلِهَذَا جَعَلْنَا الْقُبْلَةَ وَاللَّمْسَ عَنْ شَهْوَةٍ رَجْعَةً، كَذَا هَذَا وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] نَهَى الْأَزْوَاجَ عَنْ الْإِخْرَاجِ وَالنِّسَاءَ عَنْ الْخُرُوجِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ فَسَادُ التَّخْرِيجِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ نَصَّ الْكِتَابِ الْعُزَيْرِ يَقْتَضِي حُرْمَةَ إخْرَاجِ الْمُعْتَدَّةِ وَإِنْ كَانَ مِلْكُ النِّكَاحِ قَائِمًا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَيُتْرَكُ الْقِيَاسُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُسَافِرْ بِهَا؛ لَيْسَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ غَيْرُ زَوْجٍ وَهُوَ زَوْجٌ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْرَمِ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] وَأَمَّا التَّخْرِيجُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إنَّ مُسَافَرَةَ الزَّوْجِ بِهَا دَلَالَةُ الرَّجْعَةِ فَمَمْنُوعٌ وَمَا ذَكَرُوا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الرَّجْعَةَ تَحَرُّزًا عَنْ الْحَرَامِ فَذَلِكَ فِيمَا كَانَ النَّهْيُ فِي التَّحْرِيمِ ظَاهِرًا، فَأَمَّا فِيمَا كَانَ خَفِيًّا فَلَا، وَحُرْمَةُ إخْرَاجِ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ مَعَ قِيَامِ مِلْكِ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِمَّا لَا يَخْفَى عَنْ الْفُقَهَاءِ فَضْلًا عَنْ الْعَوَامّ فَلَا يَثْبُتُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ مَعَ مَا أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ يَقُولُ: إنَّهُ لَا يُرَاجِعُهَا نَصًّا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالدَّلَالَةِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهَا. وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْمُسَافَرَةُ بِهَا دَلَالَةَ الرَّجْعَةِ فَلَوْ أَخْرَجَهَا لَأَخْرَجَهَا مَعَ قِيَامِ الْعِدَّةِ وَهَذَا حَرَامٌ بِالنَّصِّ، وَقَدْ قَالُوا فِيمَنْ خَرَجَتْ مُحْرِمَةً فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مِصْرِهَا أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَنَّهَا تَرْجِعُ وَتَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْصَرِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَمْنُوعَةً مِنْ الْمُضِيِّ فِي حَجِّهَا لِمَكَانِ الْعِدَّةِ، فَأَمَّا إذَا رَاجَعَهَا الزَّوْجُ فَقَدْ بَطَلَتْ الْعِدَّةُ وَعَادَتْ الزَّوْجِيَّةُ فَجَازَ لَهُ السَّفَرُ بِهَا، وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ فِي حُرْمَةِ الْخُرُوجِ وَالْإِخْرَاجِ إلَى السَّفَرِ وَمَا دُونَ ذَلِكَ لِعُمُومِ النَّهْيِ إلَّا أَنَّ النَّهْيَ

عَنْ الْخُرُوجِ وَالْإِخْرَاجِ إلَى مَا دُونَ السَّفَرِ أَخَفُّ لِخِفَّةِ الْخُرُوجِ وَالْإِخْرَاجِ فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا خَرَجَ مَعَ امْرَأَتِهِ مُسَافِرًا فَطَلَّقَهَا فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَإِنْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مِصْرِهَا الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَقْصِدِهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا رَجَعَتْ إلَى مِصْرِهَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ مَضَتْ لَاحْتَاجَتْ إلَى إنْشَاءِ سَفَرٍ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ، وَلَوْ رَجَعَتْ مَا احْتَاجَتْ إلَى ذَلِكَ فَكَانَ الرُّجُوعُ أَوْلَى كَمَا إذَا طَلُقَتْ فِي الْمِصْرِ خَارِجَ بَيْتِهَا أَنَّهَا تَعُودُ إلَى بَيْتِهَا، كَذَا هَذَا. وَإِنْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مِصْرِهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَقْصِدِهَا أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَإِنَّهَا تَمْضِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُضِيِّ إنْشَاءُ سَفَرٍ، وَفِي الرُّجُوعِ إنْشَاءُ سَفَرٍ وَالْمُعْتَدَّةُ مَمْنُوعَةٌ عَنْ السَّفَرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَصْلُحُ لِلْإِقَامَةِ كَالْمَفَازَةِ وَنَحْوِهَا أَوْ فِي مَوْضِعٍ يَصْلُحُ لَهَا كَالْمِصْرِ وَنَحْوِهَا، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مِصْرِهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَقْصِدِهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي الْمَفَازَةِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ لَا يَصْلُحُ لِلْإِقَامَةِ بِأَنْ خَافَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ مَتَاعِهَا فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَإِذَا عَادَتْ أَوْ مَضَتْ فَبَلَغَتْ أَدْنَى الْمَوَاضِعِ فَهِيَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَتْ مَضَتْ وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ إلَى الَّتِي تَصْلُحُ لِلْإِقَامَةِ فِي مُضِيِّهَا أَوْ رُجُوعِهَا، أَقَامَتْ فِيهِ وَاعْتَدَّتْ إنْ لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ وَجَدَتْ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ الطَّلَاقُ فِيهِ ابْتِدَاءً لَكَانَ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَجَاوَزَهُ عِنْدَهُ، وَإِنْ وَجَدَتْ مَحْرَمًا فَكَذَا إذَا وَصَلَتْ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي الْمِصْرِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ يَصْلُحُ لِلْإِقَامَةِ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُقِيمُ فِيهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَلَا تَخْرُجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا إلَّا مَعَ مَحْرَمٍ، حَجًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ مَضَتْ عَلَى سَفَرِهَا (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ حُرْمَةَ الْخُرُوجِ لَيْسَتْ لِأَجْلِ الْعِدَّةِ بَلْ لِمَكَانِ السَّفَرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ مَقْصِدِهَا وَمَنْزِلِهَا مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ لِلْعِدَّةِ لَا تَخْتَلِفُ بِالسَّفَرِ وَغَيْرِ السَّفَرِ، وَإِذَا كَانَتْ الْحُرْمَةُ لِمَكَانِ السَّفَرِ تَسْقُطُ بِوُجُودِ الْمَحْرَمِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعِدَّةَ مَانِعَةٌ مِنْ الْخُرُوجِ وَالسَّفَرِ فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّ الْخُرُوجَ إلَى مَا دُونَ السَّفَرِ هَهُنَا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخُرُوجٍ مُبْتَدَإٍ بَلْ هُوَ خُرُوجٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخُرُوجِ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ مُبْتَدَأٌ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا مَسِيرَةُ سَفَرٍ كَانَتْ مُنْشِئَةً لِلْخُرُوجِ بِاعْتِبَارِ السَّفَرِ فَيَتَنَاوَلُهُ التَّحْرِيمُ، وَمَا حُرِّمَ لِأَجْلِ الْعِدَّةِ لَا يَسْقُطُ بِوُجُودِ الْمَحْرَمِ. (وَأَمَّا) الْمُعْتَدَّةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْعِدَّةِ مُرَتَّبَةٌ عَلَى أَحْكَامِ النِّكَاحِ بَلْ هِيَ أَحْكَامُ النِّكَاحِ السَّابِقِ فِي الْحَقِيقَةِ بَقِيَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ، وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ لَا يُفِيدُ الْمَنْعَ مِنْ الْخُرُوجِ فَكَذَا الْعِدَّةُ إلَّا إذَا مَنَعَهَا الزَّوْجُ لِتَحْصِينِ مَائِهِ فَلَهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْأَمَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْمُسْتَسْعَاةُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَخْرُجْنَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ: أَمَّا الْأَمَةُ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَالَ الْعِدَّةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حَالِ النِّكَاحِ وَلَا يَلْزَمُهَا الْمُقَامُ فِي مَنْزِلِ زَوْجِهَا فِي حَالِ النِّكَاحِ كَذَا فِي حَالِ الْعِدَّةِ؛ وَلِأَنَّ خِدْمَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى فَلَوْ مَنَعْنَاهَا مِنْ الْخُرُوجِ لَأَبْطَلْنَا حَقَّ الْمَوْلَى فِي الْخِدْمَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا بَوَّأَهَا مَوْلَاهَا مَنْزِلًا فَحِينَئِذٍ لَا تَخْرُجُ مَا دَامَتْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّ نَفْسِهِ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَوْلَى أَنْ يُخْرِجَهَا فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ لِلْمَوْلَى وَإِنَّمَا كَانَ أَعَارَهَا لِلزَّوْجِ، وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْعَارِيَّةُ؛ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَالَ الْعِدَّةِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ النِّكَاحِ مُرَتَّبَةٌ عَلَيْهَا وَلَوْ بَوَّأَهَا الْمَوْلَى فِي حَالِ النِّكَاحِ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ حَتَّى يَبْدُوَ لِلْمَوْلَى فَكَذَا فِي حَالِ الْعِدَّةِ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْأَمَةِ إذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَكَانَ الْمَوْلَى مُسْتَغْنِيًا عَنْ خِدْمَتِهَا فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: إذَا جَازَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِإِذْنِهِ جَازَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِكُلِّ وَجْهٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ حُرْمَةَ الْخُرُوجِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَوْ لَزِمَهَا لَمْ يَسْقُطْ بِإِذْنِهِ وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ؛ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ إذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا لِأَنَّهَا أَمَةُ الْمَوْلَى وَكَذَا إذَا عَتَقَتْ أَوْ مَاتَ عَنْهَا سَيِّدُهَا لَهَا أَنْ تَخْرُجَ؛ لِأَنَّ عِدَّتَهَا عِدَّةُ وَطْءٍ فَكَانَتْ كَالْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا. وَأَمَّا الْمُكَاتَبَةُ فَلِأَنَّ سِعَايَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى إذْ بِهَا يَصِلُ الْمَوْلَى إلَى حَقِّهِ فَلَوْ مَنَعْنَاهَا مِنْ الْخُرُوجِ لَتَعَذَّرَتْ عَلَيْهَا السِّعَايَةُ، وَالْمُعْتَقُ بَعْضُهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا حُرَّةٌ، وَلَوْ أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ فِي الْعِدَّةِ يَلْزَمُهَا فِيمَا بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا مَا يَلْزَمُ الْحُرَّةَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ

الْخُرُوجِ قَدْ زَالَ. وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهَا إذَا كَانَتْ الْفُرْقَةُ لَا رَجْعَةَ فِيهَا، سَوَاءٌ أَذِنَ الزَّوْجُ لَهَا أَوْ لَمْ يَأْذَنْ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ السُّكْنَى فِي الْبَيْتِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الزَّوْجِ، وَحَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ، وَحَقُّ الزَّوْجِ فِي حِفْظِ الْوَلَدِ، وَلَا وَلَدَ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ رَجْعِيَّةً فَلَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا بِالْخُرُوجِ، وَكَذَا الْمَجْنُونَةُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ كَالصَّغِيرَةِ إلَّا أَنَّ لِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ لِتَحْصِينِ مَائِهِ بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ فَإِنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ مَنْعَهَا؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ فِي حَقِّ الْمَجْنُونَةِ لِصِيَانَةِ الْمَاءِ لِاحْتِمَالِ الْحَبَلِ، وَالصَّغِيرَةُ لَا تَحْبَلُ وَالْمَنْعُ مِنْ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِكَوْنِهَا زَوْجَتَهُ. وَأَمَّا الْكِتَابِيَّةُ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وَجْهٍ فَتَكُونُ عِبَادَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْكُفَّارُ لَا يُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ إلَّا إذَا مَنَعَهَا الزَّوْجُ مِنْ الْخُرُوجِ لِتَحْصِينِ مَائِهِ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ حَقٌّ فِي الْعِدَّةِ وَهُوَ صِيَانَةُ مَائِهِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ فَإِنْ أَسْلَمَتْ الْكِتَابِيَّةُ فِي الْعِدَّةِ لَزِمَهَا فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْعِدَّةِ مَا يَلْزَمُ الْمُسْلِمَةَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ اللُّزُومِ هُوَ الْكُفْرُ وَقَدْ زَالَ بِالْإِسْلَامِ، وَكَذَا الْمَجُوسِيَّةُ إذَا أَسْلَمَ زَوْجُهَا وَأَبَتْ الْإِسْلَامَ حَتَّى وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ دَخَلَ بِهَا لَهَا أَنْ تَخْرُجَ؛ لِمَا قُلْنَا، إلَّا إذَا أَرَادَ الزَّوْجُ مَنْعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ لِتَحْصِينِ مَائِهِ، فَإِذَا طَلَبَ مِنْهَا ذَلِكَ يَلْزَمُهَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْإِنْسَانِ يَجِبُ إبْقَاؤُهُ عِنْدَ طَلَبِهِ، وَلَوْ قَبَّلَتْ الْمُسْلِمَةُ ابْنَ زَوْجِهَا حَتَّى وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ إذَا كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهَا؛ لِأَنَّ السُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَا دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ بِلَا مَحْرَمٍ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فَلَوْ شُرِطَ لَهُ الْمَحْرَمُ لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَيْهَا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَسِيرَةِ سَفَرٍ إلَّا مَعَ الْمَحْرَمِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو رَحِمِ مَحْرَمٍ مِنْهَا» وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَحْرَمُ مِنْ النَّسَبِ أَوْ الرَّضَاعِ أَوْ الْمُصَاهَرَةِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَإِنْ وَرَدَ فِي ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمَحْرَمِيَّةُ وَهُوَ حُرْمَةُ الْمُنَاكَحَةِ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّأْبِيدِ وَقَدْ وُجِدَ فَكَانَ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَارِدٌ فِي الْمَحْرَمِ بِلَا رَحِمٍ دَلَالَةً. وَمِنْهَا وُجُوبُ الْإِحْدَادِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا فِي تَفْسِيرِ الْإِحْدَادِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ أَنَّ الْإِحْدَادَ وَاجِبٌ فِي الْجُمْلَةِ أَوَّلًا، وَالثَّالِثُ فِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِهِ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْإِحْدَادُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الِامْتِنَاعِ مِنْ الزِّينَةِ، يُقَالُ: أَحَدَّتْ عَلَى زَوْجِهَا وَحَدَّتْ أَيْ امْتَنَعَتْ مِنْ الزِّينَةِ وَهُوَ أَنْ تَجْتَنِبَ الطِّيبَ وَلُبْسَ الْمُطَيَّبِ وَالْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ، وَتَجْتَنِبَ الدُّهْنَ وَالْكُحْلَ وَلَا تَخْتَضِبَ وَلَا تَمْتَشِطَ وَلَا تَلْبَسَ حُلِيًّا وَلَا تَتَشَوَّفَ. أَمَّا الطِّيبُ فَلِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى الْمُعْتَدَّةَ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْحِنَّاءُ طِيبٌ " فَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اجْتِنَابِ الطِّيبِ، وَلِأَنَّ الطِّيبَ فَوْقَ الْحِنَّاءِ فَالنَّهْيُ عَنْ الْحِنَّاءِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ الطِّيبِ دَلَالَةً، كَالنَّهْيِ عَنْ التَّأْفِيفِ نَهِيٌّ عَنْ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ دَلَالَةً، وَكَذَا لُبْسُ الثَّوْبِ الْمُطَيَّبِ وَالْمَصْبُوغِ بِالْعُصْفُرِ وَالزَّعْفَرَانِ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَكَانَ كَالطِّيبِ وَأَمَّا الدُّهْنُ فَلِمَا فِيهِ مِنْ زِينَةِ الشَّعْرِ، وَفِي الْكُحْلِ زِينَةُ الْعَيْنِ وَلِهَذَا حُرِّمَ عَلَى الْمُحْرِمِ جَمِيعُ ذَلِكَ وَهَذَا فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، فَأَمَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ بِأَنْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَكْتَحِلَ أَوْ اشْتَكَتْ رَأْسَهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ تَصُبَّ فِيهِ الدُّهْنَ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا إلَّا ثَوْبٌ مَصْبُوغٌ فَلَا بَأْسَ أَنْ تَلْبَسَهُ لَكِنْ لَا تَقْصِدُ بِهِ الزِّينَةَ؛ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا بَأْسَ أَنْ تَلْبَسَ الْقَصَبَ وَالْخَزَّ الْأَحْمَرَ وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ: وَلَا تَلْبَسُ قَصَبًا وَلَا خَزًّا تَتَزَيَّنُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْخَزَّ وَالْقَصَبَ قَدْ يُلْبَسُ لِلزِّينَةِ وَقَدْ يُلْبَسُ لِلْحَاجَةِ وَالرَّفَاءِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْقَصْدُ، فَإِنْ قُصِدَ بِهِ الزِّينَةُ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ جَازَ. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ أَنَّهُ وَاجِبٌ أَمْ لَا فَنَقُولُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا يَلْزَمُهَا الْإِحْدَادُ. وَقَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: لَا إحْدَادَ عَلَيْهَا، وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِالْأَحَادِيثِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَمَّا الْأَحَادِيثُ فَمِنْهَا مَا رُوِيَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمَّا بَلَغَهَا مَوْتُ أَبِيهَا أَبِي سُفْيَانَ انْتَظَرَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ دَعَتْ بِطِيبٍ. وَقَالَتْ: مَا لِي إلَى الطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، لَكِنْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا عَلَى زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» وَرُوِيَ

أَنَّ امْرَأَةً مَاتَ زَوْجُهَا فَجَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْتَأْذِنُهُ فِي الِانْتِقَالِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ إحْدَاكُنَّ كَانَتْ تَمْكُثُ فِي شَرِّ أَحْلَاسِهَا إلَى الْحَوْلِ ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُلْقِي الْبَعْرَةَ أَفَلَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» فَدَلَّ الْحَدِيثُ أَنَّ عِدَّتَهُنَّ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَتْ حَوْلًا وَأَنَّهُنَّ كُنَّ فِي شَرِّ أَحْلَاسِهِنَّ مُدَّةَ الْحَوْلِ ثُمَّ اُنْتُسِخَ مَا زَادَ عَلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ وَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيمَا بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ النَّسْخِ، وَهُوَ أَنْ تَمْكُثَ الْمُعْتَدَّةُ هَذِهِ الْمُدَّةَ فِي شَرِّ أَحْلَاسِهَا، وَهَذَا تَفْسِيرُ الْحِدَادِ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَغَيْرُهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِثْلُ قَوْلِنَا وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا أَوْ بَائِنًا قَالَ أَصْحَابُنَا: يَلْزَمُهَا الْحِدَادُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهَا الْحِدَادُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْحِدَادَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إنَّمَا وَجَبَ لِحَقِّ الزَّوْجِ تَأَسُّفًا عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَإِدَامَةِ الصُّحْبَةِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي الْمُطَلَّقَةِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَوْحَشَهَا بِالْفُرْقَةِ وَقَطَعَ الْوُصْلَةَ بِاخْتِيَارٍ وَلَمْ يَمُتْ عَنْهَا فَلَا يَلْزَمُهَا التَّأَسُّفُ، وَلَنَا أَنَّ الْحِدَادَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لِفَوَاتِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ فِي الدِّينِ خَاصَّةً فِي حَقِّهَا لِمَا فِيهِ مِنْ قَضَاءِ شَهْوَتِهَا وَعِفَّتِهَا عَنْ الْحَرَامِ وَصِيَانَةِ نَفْسِهَا عَنْ الْهَلَاكِ بِدُرُورِ النَّفَقَةِ، وَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْمَوْتِ فَلَزِمَهَا الْإِحْدَادُ إظْهَارًا لِلْمُصِيبَةِ وَالْحُزْنِ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثِ وَالْمُبَانَةِ فَيَلْزَمُهَا الْإِحْدَادُ، وَقَوْلُهُ: الْإِحْدَادُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَجَبَ لِحَقِّ الزَّوْجِ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِحَقِّ الزَّوْجِ لَمَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَمَا فِي مَوْتِ الْأَبِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فِي شَرَائِطِ وُجُوبِهِ فَهِيَ أَنْ تَكُونَ الْمُعْتَدَّةُ بَالِغَةً عَاقِلَةً مُسْلِمَةً مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَوْ مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا أَوْ بَائِنًا فَلَا يَجِبُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ الْكَبِيرَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ وَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَالْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا، وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ؛ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْحِدَادَ مِنْ أَحْكَامِ الْعِدَّةِ وَقَدْ لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ فَيَلْزَمُهَا حُكْمُهَا، وَلَنَا أَنَّ الْحِدَادَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْكَافِرَةِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا بِخِلَافِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا اسْمٌ لِمُضِيِّ زَمَانٍ وَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ وَالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا قَالُوا: لَا تَجِبُ عَلَيْهِمَا الْعِدَّةُ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَتَزَوَّجَهُمَا وَلَا إحْدَادَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا تَعْتَدُّ مِنْ الْوَطْءِ كَالْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا وَلَا إحْدَادَ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَكَذَا عَلَيْهَا وَلَا إحْدَادَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ إظْهَارًا لِلْمُصِيبَةِ عَلَى فَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ غَيْرُ فَائِتٍ بَلْ هُوَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَجِبُ الْحِدَادُ بَلْ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ لِتَحْسُنَ فِي عَيْنِ الزَّوْجِ فَيُرَاجِعَهَا وَلَا إحْدَادَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَيْسَ بِنِعْمَةٍ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَمِنْ الْمُحَالِ إيجَابُ إظْهَارِ الْمُصِيبَةِ عَلَى فَوَاتِ الْمَعْصِيَةِ بَلْ الْوَاجِبُ إظْهَارُ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ عَلَى فَوَاتِهَا. وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْإِحْدَادِ فَيَجِبُ عَلَى الْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ فَمَاتَ عَنْهَا أَوْ طَلَّقَهَا وَالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُسْتَسْعَاةِ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ لَهُ الْحِدَادُ لَا يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَكَانَتْ الْأَمَةُ فِيهِ كَالْحُرَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا وُجُوبُ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَهُوَ مُؤْنَةُ السُّكْنَى لِبَعْضِ الْمُعْتَدَّاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ إمَّا إنْ كَانَتْ عَنْ طَلَاقٍ أَوْ عَنْ فُرْقَةٍ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَإِمَّا إنْ كَانَتْ عَنْ وَفَاةٍ، وَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُعْتَدَّةً مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى النِّكَاحِ الْفَاسِدِ: فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ عَنْ طَلَاقٍ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ فَكَانَ الْحَالُ بَعْدَ الطَّلَاقِ كَالْحَالِ قَبْلَهُ وَلِمَا نَذْكُرُ مِنْ دَلَائِلَ أُخَرَ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا أَوْ بَائِنًا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى إنْ كَانَتْ حَامِلًا بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] خَصَّ الْحَامِلَ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا فَلَوْ وَجَبَ الْإِنْفَاقُ عَلَى غَيْرِ الْحَامِلِ لَبَطَلَ التَّخْصِيصُ. وَرُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّهَا قَالَتْ: «طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا فَلَمْ يَجْعَلْ لِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى» وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِالْمِلْكِ، وَقَدْ زَالَ الْمِلْكُ بِالثَّلَاثِ وَالْبَائِنِ إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: عَرَفْتُ وُجُوبَ السُّكْنَى فِي الْحَامِلِ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْبَائِنِ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]

وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ " وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ لَكِنَّ إحْدَاهُمَا تَفْسِيرُ الْأُخْرَى كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أَيْمَانَهُمَا " وَلَيْسَ ذَلِكَ اخْتِلَافَ الْقِرَاءَةِ بَلْ قِرَاءَتُهُ تَفْسِيرُ الْقِرَاءَةِ الظَّاهِرَةِ كَذَا هَذَا. وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِسْكَانِ أَمْرٌ بِالْإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً مَمْنُوعَةً عَنْ الْخُرُوجِ لَا تَقْدِرُ عَلَى اكْتِسَابِ النَّفَقَةِ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ نَفَقَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ وَلَا مَالَ لَهَا لَهَلَكَتْ، أَوْ ضَاقَ الْأَمْرُ عَلَيْهَا وَعَسُرَ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وقَوْله تَعَالَى {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ فِي الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ قَبْلَ الطَّلَاقِ لِكَوْنِهَا مَحْبُوسَةً عَنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ لِحَقِّ الزَّوْجِ وَقَدْ بَقِيَ ذَلِكَ الِاحْتِبَاسُ بَعْدَ الطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْعِدَّةِ وَتَأَبَّدَ بِانْضِمَامِ حَقِّ الشَّرْعِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ قَبْلَ الطَّلَاقِ كَانَ حَقًّا لِلزَّوْجِ عَلَى الْخُلُوصِ وَبَعْدَ الطَّلَاقِ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الشَّرْعِ حَتَّى لَا يُبَاحَ لَهَا الْخُرُوجُ، وَإِنْ أَذِنَ الزَّوْجُ لَهَا بِالْخُرُوجِ فَلِمَا وَجَبَتْ بِهِ النَّفَقَةُ قَبْلَ التَّأَكُّدِ فَلَأَنْ تَجِبَ بَعْدَ التَّأَكُّدِ أَوْلَى. وَأَمَّا الْآيَةُ فَفِيهَا أَمْرٌ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْحَامِلِ وَأَنَّهُ لَا يَنْفِي وُجُوبَ الْإِنْفَاقِ عَلَى غَيْرِ الْحَامِلِ وَلَا يُوجِبُهُ أَيْضًا فَيَكُونُ مَسْكُونًا مَوْقُوفًا عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ وَقَدْ قَامَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَدْ رَدَّهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهَا لَمَّا رَوَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا وَنَأْخُذُ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَعَلَّهَا نَسِيَتْ أَوْ شُبِّهَ لَهَا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ وَقَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا " يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ، كَمَا هُوَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيَكُونُ هَذَا قِرَاءَةَ عُمَرَ أَيْضًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] مُطْلَقًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا فِي السُّكْنَى خَاصَّةً وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] كَمَا هُوَ الْقِرَاءَةُ الظَّاهِرَةُ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " سُنَّةَ نَبِيِّنَا " مَا رُوِيَ عَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي هَذَا تِلَاوَةٌ رُفِعَتْ عَيْنُهَا وَبَقِيَ حُكْمُهَا فَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: " لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا " تِلْكَ الْآيَةَ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي بَابِ الزِّنَا: كُنَّا نَتْلُوا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، ثُمَّ رُفِعَتْ التِّلَاوَةُ وَبَقِيَ حُكْمُهَا. كَذَا هَهُنَا وَرُوِيَ أَنَّ زَوْجَهَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ كَانَ إذَا سَمِعَهَا تَتَحَدَّثُ بِذَلِكَ حَصَبَهَا بِكُلِّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ لَهَا: لَقَدْ فَتَنْتِ النَّاسَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَأَقَلُّ أَحْوَالِ إنْكَارِ الصَّحَابَةِ عَلَى رَاوِي الْحَدِيثِ أَنْ يُوجِبَ طَعْنًا فِيهِ، ثُمَّ قَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ إنَّهَا كَانَتْ تَبْدُو عَلَى أَحْمَائِهَا أَيْ تَفْحُشُ عَلَيْهِمْ بِاللِّسَانِ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَذَوْتُ عَلَى فُلَانٍ، أَيْ فَحُشْتُ عَلَيْهِ، أَيْ كَانَتْ تُطِيلُ لِسَانَهَا عَلَيْهِمْ بِالْفُحْشِ فَنَقَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ كَالنَّاشِزَةِ إذْ كَانَ سَبَبُ الْخُرُوجِ مِنْهَا، وَهَكَذَا نَقُولُ فِيمَنْ خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا فِي عِدَّتِهَا أَوْ كَانَ مِنْهَا سَبَبٌ أَوْجَبَ الْخُرُوجَ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ مَا دَامَتْ فِي بَيْتِ غَيْرِ الزَّوْجِ، وَقِيلَ: إنَّ زَوْجَهَا كَانَ غَائِبًا فَلَمْ يُقْضَ لَهَا بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى عَلَى الزَّوْجِ لِغَيْبَتِهِ؛ إذْ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ، فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ إلَى الشَّامِ وَقَدْ كَانَ وَكَّلَ أَخَاهُ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا وَكَّلَهُ بِطَلَاقِهَا وَلَمْ يُوَكِّلْهُ بِالْخُصُوصِيَّةِ، وَقَوْلُهُمَا إنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لَهَا بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ لِلْمِلْكِ ضَمَانًا آخَرَ وَهُوَ الْمَهْرُ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا تَجِبُ بِالِاحْتِبَاسِ، وَقَدْ بَقِيَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَالْبَائِنِ فَتَبْقَى النَّفَقَةُ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ، وَلَا نَفَقَةَ وَلَا سُكْنَى لِلْأَمَةِ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ إذَا لَمْ يُبَوِّئْهَا الْمَوْلَى بَيْتًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُبَوِّئْهَا الْمَوْلَى بَيْتًا فَحَقُّ الْحَبْسِ لَمْ يَثْبُتْ لِلزَّوْجِ. أَلَا تَرَى أَنَّ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى قَدْ بَوَّأَهَا بَيْتًا فَلَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ لِثُبُوتِ حَقِّ الْحَبْسِ لِلزَّوْجِ، وَكَذَلِكَ

الْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا طَلَّقَهُمَا وَبَوَّأَهُمَا الْمَوْلَى بَيْتًا أَوْ لَمْ يُبَوِّئْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَمَةٌ، وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ وَالْمُسْتَسْعَاةُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ أُعْتِقَتْ أَمُّ الْوَلَدِ أَوْ مَاتَ عَنْهَا مَوْلَاهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَحْبُوسَةٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ فَلَا تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى كَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ؛ لِأَنَّ عِدَّتَهَا كَعِدَّةِ الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا، هَذَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلَاقٍ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَلَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَالَ الْعِدَّةِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ النِّكَاحِ وَلَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، فَكَذَا فِي الْعِدَّةِ مِنْهُ، هَذَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلَاقٍ فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ فُرْقَةٍ بِغَيْرِ طَلَاقٍ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَإِنْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى كَيْفَمَا كَانَتْ الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ قِبَلِهَا فَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبٍ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ كَالْأَمَةِ إذَا أُعْتِقَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، وَامْرَأَةِ الْعِنِّينِ إذَا اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ فَلَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ، وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ كَالْمُسْلِمَةِ قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا بِشَهْوَةٍ قَالُوا: لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَهَا السُّكْنَى؛ لِأَنَّ السُّكْنَى فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ مُسْلِمَةٌ مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَتَجِبُ حَقًّا لَهَا عَلَى الْخُلُوصِ فَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَدْ أَبْطَلَتْ حَقَّ نَفْسِهَا بِخِلَافِ الْمُعْتَقَةِ وَامْرَأَةِ الْعِنِّينِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ مِنْ قِبَلِهِمَا بِحَقٍّ فَلَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ، هَذَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلَاقٍ أَوْ عَنْ فُرْقَةٍ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ وَفَاةٍ فَلَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ فِي مَالِ الزَّوْجِ سَوَاءٌ كَانَتْ حَائِلًا أَوْ حَامِلًا فَإِنَّ النَّفَقَةَ فِي بَابِ النِّكَاحِ لَا تَجِبُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ دَفْعَةً وَاحِدَةً كَالْمَهْرِ وَإِنَّمَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ مُرُورِ الزَّمَانِ، فَإِذَا مَاتَ الزَّوْجُ انْتَقَلَ مِلْكُ أَمْوَالِهِ إلَى الْوَرَثَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَجِبَ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فِي مَالِ الْوَرَثَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً، كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً، مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ الْمُسْلِمَةَ الْكَبِيرَةَ لَمَّا لَمْ تَسْتَحِقَّ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَهَؤُلَاءِ أَوْلَى، وَكَذَا الْمُعْتَدَّةُ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ فِي الْوَفَاةِ لَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُسْتَحَقَّانِ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ فَبِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا ثُبُوتُ النَّسَبِ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي الْأَصْلِ:. أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ مَا يَثْبُتُ فِيهِ نَسَبُ وَلَدِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ الْمُدَّةِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يَثْبُتُ بِهِ نَسَبُهُ مِنْ الْحُجَّةِ أَيْ يَظْهَرُ بِهِ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ثَلَاثِينَ شَهْرًا مُدَّةَ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ جَمِيعًا ثُمَّ جَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْفِصَالَ وَهُوَ الْفِطَامُ فِي عَامَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] فَيَبْقَى لِلْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال مَنْقُولٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهَمَّ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِرَجْمِهَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَمَا إنَّهُ لَوْ خَاصَمْتُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ لَخَصَمْتُكُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وَقَالَ سُبْحَانَهُ {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] أَشَارَ إلَى مَا ذَكَرْنَا فَدَلَّ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَأَكْثَرَهَا سَنَتَانِ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَرْبَعُ سِنِينَ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «لَا يَبْقَى الْوَلَدُ فِي رَحِمِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَوْ بِفَلْكَةِ مِغْزَلٍ» وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قَالَتْ ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ هَذَا بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، وَلَا يُظَنُّ بِهَا أَنَّهَا قَالَتْ ذَلِكَ جُزَافًا وَتَخْمِينًا فَتَعَيَّنَ السَّمَاعُ، وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّ كُلَّ مُطَلَّقَةٍ لَمْ تَلْزَمْهَا الْعِدَّةُ بِأَنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا فَنَسَبُ وَلَدِهَا لَا يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ إلَّا إذَا عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَكُلُّ مُطَلَّقَةٍ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَنَسَبُ وَلَدِهَا يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ إلَّا إذَا عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ يُوجِبُ انْقِطَاعَ النِّكَاحِ بِجَمِيعِ عَلَائِقِهِ فَكَانَ النِّكَاحُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ زَائِلًا بِيَقِينٍ، وَمَا زَالَ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ فَقَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ وُجِدَ فِي حَالِ الْفِرَاشِ وَأَنَّهُ وَطِئَهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ إذْ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِوَطْءٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَلِدُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَكَانَ مِنْ وَطْءٍ وُجِدَ عَلَى فِرَاشِ الزَّوْجِ، وَكَوْنُ الْعُلُوقِ فِي فِرَاشِهِ يُوجِبُ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْهُ، فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يُسْتَيْقَنْ بِكَوْنِهِ مَوْلُودًا عَلَى الْفِرَاشِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ بِوَطْءٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَالْفِرَاشُ كَانَ زَائِلًا بِيَقِينٍ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُول بِهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ

مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُذْ طَلَّقَهَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ لِتَيَقُّنِنَا بِعُلُوقِهِ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ، وَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَا يَلْزَمُهُ لِعَدَمِ التَّيَقُّنِ بِذَلِكَ، وَيَسْتَوِي فِي هَذَا الْحُكْمِ ذَوَاتُ الْأَقْرَاءِ وَذَوَاتُ الْأَشْهُرِ لِمَا قُلْنَا. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَطَلُقَتْ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ أَنَّهَا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ يَثْبُتُ النَّسَبُ؛ لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ كَانَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عَقِيبَ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ أَوْقَعَهُ كَذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: فَهِيَ طَالِقٌ " وَالْفَاءُ " لِلتَّعْقِيبِ بِلَا تَرَاخِي. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ، وَرُوِيَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِ ثُمَّ رَجَعَ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ بِعَقْدِ إمْكَانٍ بِوَطْءٍ وَلَمْ يُوجَدْ؛ إذْ لَيْسَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ زَمَانٌ يَسَعُ فِيهِ الْوَطْءَ بَلْ كَمَا وُجِدَ النِّكَاحُ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَقِيبَهُ بِلَا فَصْلٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْوَطْءُ فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ، وَإِنَّا نَقُولُ يُمْكِنُ تَصَوُّرُهُ بِأَنْ كَانَ يُخَالِطُ امْرَأَةً فَدَخَلَ الرِّجَالُ عَلَيْهِ فَتَزَوَّجَهَا وَهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَهُ وَأَنْزَلَ مِنْ سَاعَتِهِ وَإِذَا تُصُوِّرَ الْوَطْءُ فَالنِّكَاحُ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَطْءِ الْمُنْزِلِ عِنْدَ تَصَوُّرِهِ شَرْعًا؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ لِأَنَّا عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّهُ لِوَطْءٍ وُجِدَ قَبْلَ النِّكَاحِ. ثُمَّ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ حَتَّى يَثْبُتَ النَّسَبُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ مَهْرٌ كَامِلٌ. كَذَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ مَهْرٌ وَنِصْفُ مَهْرٍ، نِصْفُ مَهْرٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَمَهْرٌ كَامِلٌ بِالدُّخُولِ، وَوَجْهُهُ أَنْ يُجْعَلَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا كَمَا تَزَوَّجَ فَيَجِبُ نِصْفُ مَهْرٍ لِوُجُودِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ يُجْعَلُ وَاجِبًا بَعْدَ الدُّخُولِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الطَّلَاقَ غَيْرُ وَاقِعٍ؛ لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ تَعْلِيقَ النِّكَاحِ بِالْمِلْكِ لَا يَصْلُحُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَيَجِبُ الْمَهْرُ بِهَذَا الْوَطْءِ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُجْتَهَدٌ فِيهَا فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ زِنًا إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ وَقَالَ: لَا يَجِبُ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهَا كَالْمَدْخُولِ بِهَا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ فَيَتَأَكَّدُ الْمَهْرُ. وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْمُعْتَدَّةِ أَنْ يُقَالَ: الْمُعْتَدَّةُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ، وَإِمَّا إنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ وَفَاةٍ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ لَمْ تُقِرَّ، فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلَاقٍ فَالطَّلَاقُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بَائِنًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَجْعِيًّا، فَإِنْ كَانَ بَائِنًا وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَلَمْ تَكُنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ إلَى سَنَتَيْنِ عِنْدَ الطَّلَاقِ لَزِمَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعُلُوقُ مِنْ وَطْءٍ حَادِثٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءٍ وُجِدَ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ وَكَانَتْ حَامِلًا وَقْتَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَبْقَى فِي الْبَطْنِ إلَى سَنَتَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ، وَهَذَا ظَاهِرُ الِاحْتِمَالَيْنِ إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمَةِ أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ فِي الْعِدَّةِ، وَحَمْلُ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّلَاحِ وَالسَّدَادِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ؛ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ أَوْ نَقُولُ النِّكَاحُ كَانَ قَائِمًا بِيَقِينٍ وَالْفِرَاشُ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ لِقِيَامِ النِّكَاحِ، وَالثَّابِتُ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ فَإِذَا كَانَ احْتِمَالُ الْعُلُوقِ عَلَى الْفِرَاشِ قَائِمًا لَمْ نَسْتَيْقِنْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَزَوَالِ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَمْ نَسْتَيْقِنْ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ فَلَا نَحْكُمُ بِالزَّوَالِ بِالشَّكِّ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ إنْ أَنْكَرَهُ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ مَا لَمْ يَدَّعِ فَإِذَا ادَّعَى ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ تَصْدِيقُهَا فِيهِ؟ رِوَايَتَانِ، وَاخْتُلِفَ فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يُحْكَمُ بِانْقِضَائِهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَتَرُدُّ مَا أَخَذَتْ مِنْ نَفَقَتِهِ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَلَا تَرُدُّ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَطِئَهَا أَجْنَبِيٌّ بِشُهْبَةٍ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الزَّوْجَ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ فَلَا تَرُدُّ النَّفَقَةَ بِالشَّكِّ، وَلَهُمَا أَنَّ الْوَلَدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءٍ حَادِثٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ وَطِئَهَا؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ وَلَا عَلَى أَنَّ أَجْنَبِيًّا وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ أَيْضًا، وَظَاهِرُ حَالِ الْمُسْلِمِ التَّحَرُّجُ عَنْ الْحَرَامِ فَتَعَيَّنَ الْحَمْلُ عَلَى وَطْءٍ حَلَالٍ وَهُوَ الْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ عِدَّتَهَا قَدْ انْقَضَتْ وَتَزَوَّجَتْ، وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَوَجَبَ رَدُّ نَفَقَةِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ عَلَى أَنَّا إنْ حَمَلْنَا عَلَى أَنَّ أَجْنَبِيًّا وَطِئَهَا

بِشُبْهَةٍ تَسْقُطُ النَّفَقَةُ عَنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْمَنْكُوحَةِ إذَا تَزَوَّجَتْ فَحَمَلَتْ مِنْ غَيْرِ زَوْجِهَا أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَذَلِكَ فِي مُدَّةٍ تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فِي سَنَتَيْنِ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ أَقَرَّتْ لَزِمَهُ أَيْضًا، وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مُصَدَّقَةٌ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا إذْ الشَّرْعُ ائْتَمَنَهَا عَلَى ذَلِكَ فَتُصَدَّقُ مَا لَمْ يَظْهَرْ غَلَطُهَا أَوْ كَذِبُهَا بِيَقِينٍ فَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ ظَهَرَ غَلَطُهَا أَوْ كَذِبُهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً وَقْتَ الْإِقْرَارِ إذْ الْمَرْأَةُ لَا تَلِدُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِقْرَارُهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ يَكُونُ غَلَطًا أَوْ يَكُونُ كَذِبًا إذْ هُوَ إخْبَارٌ عَنْ الْخَبَرِ لَا عَلَى مَا هُوَ بِهِ، وَهَذَا حَدُّ الْكَذِبِ فَالْتَحَقَ إقْرَارُهَا بِالْعَدَمِ، وَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ إقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَجَاءَتْ مِنْهُ بِوَلَدٍ فَلَمْ يَكُنْ وَلَدَ زِنًا لَكِنْ لَيْسَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَلَزِمَ تَصْدِيقُهَا فِي إخْبَارِهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا عَلَى الْأَصْلِ فَلَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ مِنْ الزَّوْجِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مَذْهَبُنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا أَقَرَّتْ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ إقْرَارَهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الصَّبِيِّ وَهُوَ تَضْيِيعُ نَسَبِهِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ حَقًّا لِلصَّبِيِّ فَلَا يُقْبَلُ، وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرْعَ ائْتَمَنَهَا فِي الْإِخْبَارِ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا حَيْثُ نَهَاهَا عَنْ كِتْمَانِ مَا فِي رَحِمِهَا، وَالنَّهْيُ عَنْ الْكِتْمَانِ أَمْرٌ بِالْإِظْهَارِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْقَبُولِ، وَقَوْلُهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الصَّبِيِّ فِي النَّسَبِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ إبْطَالَ الْحَقِّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ يَكُونُ، وَالنَّسَبُ هَهُنَا غَيْرُ ثَابِتٍ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ لَزِمَ الزَّوْجَ أَيْضًا وَصَارَ مُرَاجِعًا لَهَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ مِنْ وَطْءٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْوَطْءِ الْحَلَالِ وَهُوَ وَطْءُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُحَرِّمُ الْوَطْءَ فَيَمْلِكُ وَطْأَهَا مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَمَتَى حُمِلَ عَلَيْهِ صَارَ مُرَاجِعًا بِالْوَطْءِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ، وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ مُمْتَدَّةَ الطُّهْرِ فَوَطِئَهَا فِي آخِرِ الطُّهْرِ فَعَلِقَتْ فَصَارَ مُرَاجِعًا. فَإِنْ قِيلَ هَلَّا حُمِلَ عَلَيْهِ فِيمَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ لِيَصِيرَ مُرَاجِعًا لَهَا فَالْجَوَابُ أَنَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَيْهِ لَلَزِمَ إثْبَاتُ الرَّجْعَةِ بِالشَّكِّ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعُلُوقُ مِنْ وَطْءٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ رَجْعَةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءٍ قَبْلَهُ فَلَا يَكُونُ رَجْعَةً، فَلَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ مَعَ الشَّكِّ، أَمَّا هَهُنَا فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعُلُوقُ مِنْ وَطْءٍ قَبْلَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْوَطْءِ الْحَلَالِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ مُرَاجِعًا بِالْوَطْءِ فَافْتَرَقَا، وَإِنْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي مُدَّةٍ تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ أَقَرَّتْ لَزِمَهُ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ لَا يَلْزَمُهُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ، هَذَا إذَا كَانَتْ الْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ فَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا فَإِنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا وَلَدَتْ عُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِآيِسَةٍ بَلْ هِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَإِنْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَإِنْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِهِ مُفَسَّرًا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ آيِسَةً تَبَيَّنَ أَنَّ عِدَّتَهَا لَمْ تَكُنْ بِالْأَشْهُرِ فَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالْأَشْهُرِ فَالْتَحَقَ إقْرَارُهَا بِالْعَدَمِ فَجُعِلَ كَأَنَّهَا لَمْ تُقِرَّ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِهِ مُطْلَقًا فِي مُدَّةٍ تَصْلُحُ لِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ فَإِنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ أَقَرَّتْ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ الْيَأْسُ بَعُدَ حَمْلُ إقْرَارِهَا عَلَى الْأَقْرَاءِ بِالِانْقِضَاءِ بِالْأَشْهُرِ لِبُطْلَانِ الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهُرِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَقْرَاءِ بِالِانْقِضَاءِ بِالْأَقْرَاءِ حَمْلًا لِكَلَامِ الْعَاقِلَةِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الصِّحَّةِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ. وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا إنْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَعْدَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَإِمَّا إنْ كَانَتْ لَمْ تُقِرَّ وَلَكِنَّهَا أَقَرَّتْ أَنَّهَا حَامِلٌ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ وَهِيَ الثَّلَاثَةُ الْأَشْهُرِ، وَإِمَّا إنْ سَكَتَتْ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا إنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَإِمَّا إنْ كَانَ رَجْعِيًّا. فَإِنْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عِنْدَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ أَقَرَّتْ ثَبَتَ النَّسَبُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّغِيرَةِ

بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مَقْبُولٌ فِي الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهَا أَعْرَفُ بِعِدَّتِهَا مِنْ غَيْرِهَا، وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّتْ بِالْبُلُوغِ يُقْبَلُ إقْرَارُهَا غَيْرَ أَنَّهَا لَمَّا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ فَقَدْ ظَهَرَ كَذِبُهَا فِي إقْرَارِهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَأُلْحِقَ إقْرَارُهَا بِالْعَدَمِ. وَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهَا فِي إقْرَارِهَا لِجَوَازِ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَهَذَا الْوَلَدُ مِنْهُ، وَالطَّلَاقُ الْبَائِنُ وَالرَّجْعِيُّ فِي هَذَا الْوَجْهِ سَوَاءٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَكِنَّهَا أَقَرَّتْ بِالْحَمْلِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا يَثْبُتُ إلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا أَقَرَّتْ بِالْحَمْلِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ فَقَدْ حَكَمْنَا بِبُلُوغِهَا فَصَارَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْبَالِغَةِ فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا لِمَا مَرَّ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِالْعُلُوقِ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ وَثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ فِي الْعِدَّةِ وَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَالْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ إذَا عَلِقَتْ فِي الْعِدَّةِ يَصِيرُ الزَّوْجُ مُرَاجِعًا لَهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ الثَّلَاثَةِ الْأَشْهُرِ وَلِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا لَهَا، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِشَيْءٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: سُكُوتُهَا كَإِقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنَّهَا إنْ جَاءَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَا يَثْبُتُ سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: سُكُوتُهَا كَإِقْرَارِهَا بِالْحَمْلِ أَوْ دَعْوَى الْحَمْلِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا يَثْبُتُ إلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُرَاهِقَةَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا حَبِلَتْ وَلَمْ تَعْلَمْ بِذَلِكَ فَمَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لَا يُحْكَمُ بِالِانْقِضَاءِ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَلَهُمَا أَنَّ عِدَّةَ الصَّغِيرَةِ ذَاتُ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَصْلِ إذْ الْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ الْبُلُوغِ فَكَانَ انْقِضَاؤُهَا بِانْقِضَاءِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَإِقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَلَوْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا كَانَ الْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا. كَذَا هَذَا بِخِلَافِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِمُضِيِّ الشُّهُورِ؛ لِأَنَّ عِدَّتَهَا ذَاتُ جِهَتَيْنِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِالشُّهُورِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَمَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّة لَا يُحْكَمُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ. وَأَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ مَدْخُولٌ بِهَا فَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ وَلَمْ تَكُنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ الزَّوْجِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: إذَا لَمْ تَدَّعِ الْحَمْلَ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ ثُمَّ جَاءَتْ بِهِ لِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا هِيَ الْأَشْهُرُ عِنْدَ عَدَمِ الْحَمْلِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْحَمْلِ فَإِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَصَارَ كَأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُنَاكَ لَوْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ يَثْبُتُ النَّسَبُ. وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَا يَثْبُتُ كَذَا هَذَا، وَلِهَذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الصَّغِيرَةِ مَا وَصَفْنَا كَذَا فِي الْكَبِيرَةِ. وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا ذَاتُ جِهَتَيْنِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ فَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْأَشْهُرِ فَمَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لَا يُحْكَمُ بِالِانْقِضَاءِ كَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ الطَّلَاقِ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ لَا يَثْبُتُ لِمَا مَرَّ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ فَإِنَّ عِدَّتَهَا ذَاتُ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْحَبَلِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يُحْتَمَلُ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَحَلًّا بِالْبُلُوغِ وَفِيهِ شَكٌّ فَيَبْقَى حُكْمُ الْأَصْلِ، فَأَمَّا عِدَّةُ الْكَبِيرَةِ فَذَاتُ جِهَتَيْنِ لِمَا قَرَّرْنَا مِنْ الِاحْتِمَالِ وَالتَّرَدُّدِ فَلَا يُحْكَمُ بِالِانْقِضَاءِ بِالْأَشْهُرِ مَعَ الِاحْتِمَالِ وَإِنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ فَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ أَقَرَّتْ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَثْبُتُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ. وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ فَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً أَوْ صَغِيرَةً فَحُكْمُهَا فِي الْفَوَاتِ مَا هُوَ حُكْمُهَا فِي الطَّلَاقِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كُلَّهُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْفِرَاقِ وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ إذَا جَاءَتْ الْمُعْتَدَّةُ

بِوَلَدٍ قَبْلَ التَّزْوِيجِ بِزَوْجٍ آخَرَ. فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ أَوْ مَاتَ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي وَإِمَّا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ أَوْ مَاتَ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي وَإِمَّا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ أَوْ مَاتَ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي وَإِمَّا إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ أَوْ مَاتَ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي فَالْوَلَدُ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الثَّانِي إذْ الْمَرْأَةُ لَا تَلِدُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ إلَى سَنَتَيْنِ وَفِي الْحَمْلِ عَلَيْهِ حُمِلَ أَمْرُهَا عَلَى الصَّلَاحِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ. وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ أَوْ مَاتَ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي فَهُوَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَوَّلِ إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْعَاقِلَةِ الْمُسْلِمَةِ أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ وَهِيَ مُعْتَدَّةُ الْغَيْرِ فَصَحَّ نِكَاحُ الثَّانِي فَكَانَ مَوْلُودًا عَلَى فِرَاشٍ صَحِيحٍ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ أَوْ مَاتَ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي لَمْ يَكُنْ لِلْأَوَّلِ وَلَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَالْمَرْأَةُ لَا تَلِدُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَهَلْ يَجُوزُ نِكَاحُ الثَّانِي؟ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ جَائِزٌ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْ الْأَوَّلِ وَلَا مِنْ الثَّانِي كَانَ هَذَا الْحَمْلُ مِنْ الزِّنَا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ الزِّنَا. وَذَلِكَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ جَازَ نِكَاحُهَا وَلَكِنْ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَضَعَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ مَا لَمْ تَضَعْ حَمْلَهَا هَذَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ وَقْتَ التَّزَوُّجِ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا فَإِنْ عُلِمَ ذَلِكَ وَقَعَ النِّكَاحُ الثَّانِي فَاسِدًا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَإِنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مِنْ الْأَوَّلِ إنْ أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ مِنْهُ بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِي فَاسِدٌ وَمَهْمَا أَمْكَنَ إحَالَةُ النَّسَبِ إلَى الْفِرَاشِ الصَّحِيحِ كَانَ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إثْبَاتُهُ مِنْهُ وَأَمْكَنَ إثْبَاتُهُ مِنْ الثَّانِي فَالنَّسَبُ يَثْبُتُ مِنْ الثَّانِي بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ أَوْ مَاتَ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لَكِنْ لَمَّا تَعَذَّرَ إثْبَاتُ النَّسَبِ مِنْ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَإِثْبَاتُهُ مِنْ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الزِّنَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَإِذَا نُعِيَ إلَى الْمَرْأَةِ زَوْجُهَا فَاعْتَدَّتْ وَتَزَوَّجَتْ وَوَلَدَتْ ثُمَّ جَاءَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَنْكُوحَتَهُ وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى النِّكَاحِ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ فَبَقِيَتْ عَلَى النِّكَاحِ السَّابِقِ وَلَكِنْ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ الثَّانِي. وَأَمَّا الْوَلَدُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ لِلْأَوَّلِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَتْ وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ وَطِئَهَا الثَّانِي فَهُوَ لِلْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَتْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ فَهُوَ لِلثَّانِي، وَقَالَ مُحَمَّدٌ إنْ كَانَتْ وَلَدَتْهُ لِسَنَتَيْنِ مِنْ حِينِ وَطِئَهَا الثَّانِي فَهُوَ لِلْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَتْ وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَهُوَ لِلثَّانِي وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ وَلَدَتْهُ لِسَنَتَيْنِ مِنْ حِينِ وَطِئَهَا الثَّانِي أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْفِرَاشِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَبْقَى فِي الْبَطْنِ إلَى سَنَتَيْنِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَتْ وَلَدَتْهُ إلَى سَنَتَيْنِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَتْ وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهُ عَلَى الْفِرَاشِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْفِرَاشِ الْفَاسِدِ ضَرُورَةً. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا إذَا وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ وَطِئَهَا الثَّانِي تَيَقَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَلِدُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْفِرَاشِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ وَإِذَا وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ الثَّانِي. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفِرَاشَ الصَّحِيحَ لِلْأَوَّلِ فَيَكُونُ الْوَلَدُ لِلْأَوَّلِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» وَمُطْلَقُ الْفِرَاشِ يَنْصَرِفُ إلَى الصَّحِيحِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ مَا يَثْبُتُ بِهِ نَسَبُ وَلَدِ الْمُعْتَدَّةِ أَيْ يَظْهَرُ بِهِ. فَجُمْلَةٌ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ادَّعَتْ أَنَّهَا وَلَدَتْ هَذَا الْوَلَدَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ فَقَدْ ثَبَتَ وِلَادَتُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مَنْكُوحَةً أَوْ مُعْتَدَّةً وَإِنْ كَذَّبَهَا تَثْبُتُ وِلَادَتُهَا بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ثِقَةٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ حَتَّى لَوْ نَفَاهُ، يُلَاعِنُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ ثِقَاتٍ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا نَوْعُ شَهَادَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِيهِ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الشَّهَادَاتِ فَيُقَامُ كُلُّ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ

مَقَامَ رَجُلٍ فَإِذَا كُنَّ أَرْبَعًا يَقُمْنَ مَقَامَ رَجُلَيْنِ فَيَكْمُلُ الْعَدَدُ (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ فِي الْوِلَادَةِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ شَهَادَتِهَا فِي الْوِلَادَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ النِّسَاءِ بِانْفِرَادِهِنَّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ مِنْهُنَّ عَلَى هَذَا أُصُولُ الشَّرْعِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ وَالْإِخْبَارِ عَنْ طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ وَعَنْ الْوَكَالَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الدِّيَانَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ. وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ أَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيمَا لَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ النِّسَاءِ بِانْفِرَادِهِنَّ وَهَهُنَا يُقْبَلُ فَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِيهِنَّ. وَلَوْ نَفَى الْوَلَدَ يُلَاعِنُ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ بِالنِّكَاحِ لَا بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ بِشَهَادَتِهَا الْوِلَادَةُ وَتَعَيَّنَ أَيْ الَّذِي وَلَدَتْهُ هَذَا لِجَوَازِ أَنَّهَا وَلَدَتْ مَيِّتًا أَوْ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَإِذَا نَفَى الْوَلَدَ فَقَدْ صَارَ قَاذِفًا لِأُمِّهِ بِالزِّنَا، وَقَذْفُ الزَّوْجَةِ بِالزِّنَا يُوجِبُ اللِّعَانَ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: إنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ وَلَدٌ فَهُوَ مِنِّي فَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِفِرَاشِ الْمِلْكِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ. وَقَوْلُهُ: إنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ وَلَدٌ فَهُوَ مِنِّي دَعْوَى النَّسَبِ وَالْحَاجَةِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْوِلَادَةِ وَتَعَيَّنَ الْوَلَدُ، وَذَلِكَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ وَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ مِنْ ضَرُورَاتِ ثُبُوتِ النَّسَبِ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا وَلَدْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَتْ: وَلَدْتُ، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ الْوِلَادَةَ فَشَهِدَتْ قَابِلَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ أَقَرَّ بِالْحَبَلِ وَلَا كَانَ الْحَبَلُ ظَاهِرًا فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقَعُ مَا لَمْ يَشْهَدْ عَلَى الْوِلَادَةِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَقَعُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ إذَا كَانَتْ عَدْلًا. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوِلَادَةَ قَدْ تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَلِهَذَا ثَبَتَ النَّسَبُ وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْوِلَادَةِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِهَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةُ فَرْدٍ ثُمَّ هُوَ أُنْثَى فَيَظْهَرُ فِيمَا فِيهِ الضَّرُورَةُ، وَفِيمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِ تِلْكَ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ فِي الْوِلَادَةِ، فَيَظْهَرُ فِيهَا، فَتَثْبُتُ الْوِلَادَةُ، وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْوِلَادَةِ لِتَصَوُّرِ الْوِلَادَةِ بِدُونِ الطَّلَاقِ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى إثْبَاتِ الْوِلَادَةِ فِي حَقِّ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ. وَالنَّسَبُ مَا ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ لِقِيَامِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ بِالشَّهَادَةِ الْوِلَادَةُ، وَتَعَيُّنُ الْوَلَدِ وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْوِلَادَةِ وَلَا مِنْ ضَرُورَاتِ ثُبُوتِ النَّسَبِ أَيْضًا، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ الْوِلَادَةِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ أَقَرَّ بِالْحَبَلِ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ ظَاهِرًا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ الْقَابِلَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ إلَّا بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ تَدَّعِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يُعْطِي شَيْئًا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي عَارَضَهَا إنْكَارُ الْمُنْكِرِ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ " الْحَدِيثَ إلَّا فِيمَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ فَيُجْعَلُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُ لِلضَّرُورَةِ، كَمَا فِي الْحَيْضِ. وَالْوِلَادَةُ أَمْرٌ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةٍ غَيْرِهَا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِيهِ. وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ بِقَوْلِهَا بِدُونِ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ. كَذَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي وَهُوَ يُنْكِرُ. وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ حَتَّى يُقِيمَ لِلْمُدَّعِي حُجَّتَهُ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ الْحَبَلُ وَهُوَ كَوْنُ الْوَلَدِ فِي الْبَطْنِ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ أَوْ يَكُونُ الْحَبَلُ ظَاهِرًا وَأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْوِلَادَةِ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ يُوضَعُ لَا مَحَالَةَ فَكَانَتْ الْوِلَادَةُ أَمْرًا كَائِنًا لَا مَحَالَةَ فَيُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُهَا كَمَا فِي دَمِ الْحَيْضِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَتْ: حِضْتُ، يَقَعُ الطَّلَاقُ. كَذَا هَهُنَا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي حَقِّ إثْبَاتِ النَّسَبِ بِدُونِ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ؛ لِأَنَّهَا مُتَّهَمَةٌ فِي تَعْيِينِ الْوَلَدِ فَلَا تُصَدَّقُ عَلَى التَّعْيِينِ فِي حَقِّ إثْبَاتِ النَّسَبِ وَلَا تُهْمَةَ فِي التَّعْيِينِ فِي حَقِّ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَتُصَدَّقُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ، وَنَظِيرُهُ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَامْرَأَتِي الْأُخْرَى فُلَانَةُ مَعَكِ، فَقَالَتْ حِضْتُ، وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ تَطْلُقُ هِيَ وَلَا تَطْلُقُ ضَرَّتُهَا وَيَثْبُتُ حَيْضُهَا فِي حَقِّهَا وَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ ضَرَّتِهَا إلَّا بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ لِكَوْنِهَا مُتَّهَمَةً فِي حَقِّ ضَرَّتِهَا وَانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِي حَقِّ نَفْسِهَا. كَذَا هَهُنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ مِنْ وَفَاةٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ إلَى سَنَتَيْنِ فَأَنْكَرَ الزَّوْجُ الْوِلَادَةَ أَوْ وَرِثَتْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَادَّعَتْ هِيَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ أَقَرَّ بِالْحَبَلِ وَلَا كَانَ الْحَبَلُ ظَاهِرًا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ

وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى الْوِلَادَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَالْوَفَاةِ بَاقٍ فِي حَقِّ الْفِرَاشِ فَلَا حَاجَةَ إلَى مَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ كَمَا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الْوِلَادَةِ وَتَعْيِينِ الْوَلَدِ وَذَلِكَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ كَمَا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفِرَاشَ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْوِلَادَةِ لِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِجَمِيعِ عَلَائِقِهِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالْوِلَادَةِ وَتَصِيرُ أَجْنَبِيَّةً، فَكَانَ الْقَضَاءُ بِثُبُوتِ الْوِلَادَةِ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ قَضَاءً بِثُبُوتِ النَّسَبِ لِوَلَدِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ أَقَرَّ بِالْحَبَلِ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ ظَاهِرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي الْوِلَادَةِ. وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ لَهَا قَابِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ بِدُونِ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ، وَالْكَلَامُ فِي الطَّرَفَيْنِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ فَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَسَوَّى بَيْنَ الرَّجْعِيِّ وَالْبَائِنِ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَجْنَبِيَّةٌ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا فَلَا تُصَدَّقُ عَلَى الْوِلَادَةِ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ مُقِرًّا بِالْحَبَلِ وَلَا كَانَ الْحَبَلُ ظَاهِرًا. وَإِنْ كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِالْحَبَلِ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ ظَاهِرًا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ وَأَتَتْ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ بَعْدَ وَفَاتِهِ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوِلَادَةِ سَنَتَيْنِ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى الْوِلَادَةِ أَحَدٌ لَا الْقَابِلَةُ وَلَا غَيْرُهَا وَلَكِنْ صَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ فِي أَنَّهَا وَلَدَتْهُ، ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِقَوْلِهِمْ. وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ إنْ كَانَ وَرَثَتُهُ ابْنَيْنِ أَوْ ابْنًا وَبِنْتَيْنِ، وَاخْتِلَافُ الْعِبَارَتَيْنِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ ثُبُوتَ نَسَبِهِ بِتَصْدِيقِهِمْ مِنْ طَرِيقِ الشَّهَادَةِ أَوْ مِنْ طَرِيقِ الْإِقْرَارِ، فَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الشَّهَادَةِ حَيْثُ شُرِطَ أَنْ يَكُونَ الْوَرَثَةُ ابْنَيْنِ أَوْ ابْنًا وَبِنْتَيْنِ. وَمَا ذَكَرْنَا فِي الْجَامِعِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فَصَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ، وَالشَّهَادَةُ لَا تُسَمَّى تَصْدِيقًا فِي الْعُرْفِ وَكَذَا الْحَاجَةُ إلَى الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ، وَلَا مُنَازِعَ هَهُنَا وَمِنْ هَذَا إنْشَاءُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ مَشَايِخِنَا فَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ التَّصْدِيقَ مِنْهُ شَهَادَةً وَبَعْضُهُمْ إقْرَارًا، فَمِنْ اعْتَبَرَهُ شَهَادَةً قَالَ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إلَّا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَمَجْلِسُ الْحُكْمِ، وَإِذَا صَدَّقَهَا الْبَعْضُ وَجَحَدَ الْبَعْضُ؛ فَإِنْ صَدَّقَهَا رَجُلَانِ مِنْهُمْ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يُشَارِكُ الْوَلَدُ الْمُقِرِّينَ مِنْهُمْ وَالْمُنْكِرِينَ جَمِيعًا مِنْهُمْ فِي الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ فَكَانَتْ حُجَّةً عَلَى الْكُلِّ فَيَظْهَرُ نَسَبُهُ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَمَنْ اعْتَبَرَهُ إقْرَارًا قَالَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ إذَا صَدَّقَهَا جَمِيعُ الْوَرَثَةِ سَوَاءٌ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا وَلَا يُرَاعَى لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَمَجْلِسُ الْحُكْمِ فَإِذَا صَدَّقَهَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ وَجَحَدَ الْبَاقُونَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ فِي حَقِّهِمْ وَيُشَارِكُهُمْ فِي نَصِيبِهِمْ مِنْ الْمِيرَاثِ وَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُمْ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمْ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ. وَمِنْ هَذَا أَيْضًا إنْشَاءُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا فَصَدَّقَهَا فِي الْوِلَادَةِ فَقَالَ الْكَرْخِيُّ: إنَّ نَسَبَهُ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِيهِ الِاخْتِلَافَ فَقَالَ: لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَثْبُتُ كَأَنَّهُمَا اعْتَبَرَا قَوْلَهُ شَهَادَةً، وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ لَا تُقْبَلُ وَاعْتَبَرَهُ أَبُو يُوسُفَ إقْرَارًا وَإِقْرَارُ الْفَرْدِ مَقْبُولٌ، هَذَا إذَا صَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ أَوْ بَعْضُهُمْ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُصَدِّقْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الزَّوْجَ إذَا لَمْ يَكُنْ أَقَرَّ بِالْحَمْلِ وَلَا كَانَ الْحَمْلُ ظَاهِرًا لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى الْوِلَادَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ أَقَرَّ بِالْحَبَلِ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ ظَاهِرًا تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا وَلَدْتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. (رَجُلٌ) قَالَ لِغُلَامٍ هَذَا ابْنِي ثُمَّ مَاتَ فَجَاءَتْ أُمُّ الْغُلَامِ فَقَالَتْ أَنَا امْرَأَتُهُ، لَا شَكَّ أَنَّ الْغُلَامَ يَرِثُهُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ بِإِقْرَارِهِ، وَهَلْ تَرِثُهُ هَذِهِ أَمْ لَا؟ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهَا تَرِثُهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا الْمِيرَاثُ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أُمُّ الْغُلَامِ حُرَّةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَمَةً، وَلَوْ كَانَتْ حُرَّةً فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَهَا، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَطِئَهَا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ وَيُحْتَمَلُ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ بِشُبْهَةِ نِكَاحٍ فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي الْإِرْثِ فَلَا تَرِثُ بِالشَّكِّ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْإِرْثِ فِي حَقِّهَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ بِنَسَبِ الْوَلَدِ وَهُوَ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِي امْرَأَةٍ مَعْرُوفَةٍ

بِالْحُرِّيَّةِ وَبِأُمُومَةِ هَذَا الْوَلَدِ فَإِذَا أَقَرَّ بِنَسَبِ الْوَلَدِ أَنَّهُ مِنْهُ وَالنَّسَبُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْفِرَاشِ. وَالْأَصْلُ فِي الْفِرَاشِ هُوَ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ فَكَانَ دَعْوَى نَسَبِ الْوَلَدِ إقْرَارًا مِنْهُ أَنَّهُ مِنْ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَإِذَا صَدَّقَهَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ ظَاهِرًا فَتَرِثُهُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالظَّاهِرِ وَاجِبٌ فَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً بِذَلِكَ وَأَنْكَرَتْ الْوَرَثَةُ كَوْنَهَا حُرَّةً أَوْ أُمًّا لَهُ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَبْقَى مُحْتَمِلًا فَلَا تَرِثُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِحَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ عَنْ الطَّلَاقِ مِنْ الْأَحْكَامِ. مِنْهَا الْإِرْثُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ وَإِمَّا إنْ كَانَتْ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ وَالْحَالُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ حَالَ الصِّحَّةِ وَإِمَّا إنْ كَانَتْ حَالَ الْمَرَضِ فَإِنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ فَمَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَرِثَهُ الْآخَرُ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ فِي حَالِ الْمَرَضِ أَوْ فِي حَالِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ مِنْهُ لَا يُزِيلُ النِّكَاحَ فَكَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَائِمَةً مِنْ وَجْهٍ وَالنِّكَاحُ الْقَائِمُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ رِضَاهَا أَوْ بِرِضَاهَا فَإِنَّ مَا رَضِيَتْ بِهِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِبُطْلَانِ النِّكَاحِ حَتَّى يَكُونَ رِضًا بِبُطْلَانِ حَقِّهَا فِي الْمِيرَاثِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ حُرَّةً مُسْلِمَةً وَقْتَ الطَّلَاقِ أَوْ مَمْلُوكَةً أَوْ كِتَابِيَّةً ثُمَّ أُعْتِقَتْ أَوْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَا دَامَتْ الْعِدَّةُ قَائِمَةً وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ. وَإِنْ كَانَتْ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَرِثْهُ صَاحِبُهُ سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ بِرِضَاهَا أَوْ بِغَيْرِ رِضَاهَا، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْمَرَضِ فَإِنْ كَانَ بِرِضَاهَا لَا تَرِثُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ رِضَاهَا فَإِنَّهَا تَرِثُ مِنْ زَوْجِهَا عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَرِثُ. وَمَعْرِفَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ وَشَرْطِ الِاسْتِحْقَاقِ وَوَقْتِهِ أَمَّا السَّبَبُ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ أَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ فِي حَقِّهَا النِّكَاحُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَدَارَ الْإِرْثَ فِيمَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مِنْ مِيرَاثِ الزَّوْجَيْنِ وَلِأَنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ فِي الشَّرْعِ ثَلَاثَةٌ لَا رَابِعَ لَهَا: الْقَرَابَةُ وَالْوَلَاءُ وَالزَّوْجِيَّةُ، وَاخْتُلِفَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُصَيِّرُ النِّكَاحَ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ وَقْتُ الْمَوْتِ فَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا وَقْتَ الْمَوْتِ ثَبَتَ الْإِرْثُ وَإِلَّا فَلَا. وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَقْتُ مَرَضِ الْمَوْتِ، وَالنِّكَاحُ كَانَ قَائِمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِنْ أَوَّلِ مَرَضِ الْمَوْتِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إبْقَائِهِ مِنْ وَجْهٍ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ لِيَصِيرَ سَبَبًا. وَتَفْسِيرُ الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَهُمْ هُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِلْوَارِثِ مِنْ وَقْتِ الْمَرَضِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ، وَمِنْ وَجْهٍ وَقْتُ الْمَوْتِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَهُوَ طَرِيقُ الِاسْتِنَادِ، وَهُمَا طَرِيقَتَا مَشَايِخِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ طَرِيقُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ إنَّ النِّكَاحَ الْقَائِمَ وَقْتَ مَرَضِ الْمَوْتِ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ هُوَ ثُبُوتُ حَقِّ الْإِرْثِ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ أَصْلًا لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَا مِنْ وَجْهٍ. (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِرْثَ لَا يَثْبُتُ إلَّا عِنْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ قَبْلَ الْمَوْتِ مِلْكُ الْمُوَرِّثِ بِدَلِيلِ نَفَاذِ تَصَرُّفَاتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ السَّبَبِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَا سَبَبَ هَهُنَا إلَّا النِّكَاحُ وَقَدْ زَالَ بِالْإِبَانَةِ وَالثَّلَاثِ فَلَا يَثْبُتُ الْإِرْثُ، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَا يَرِثُ الزَّوْجُ مِنْهَا بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا فِي حَقِّ الْإِرْثِ لَوَرِثَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ لَا تَقُومُ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَدَلَّ أَنَّهَا زَائِلَةٌ. وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالْمَعْقُولُ: أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ وَلَا يَخْتَلِفُونَ مَنْ فَرَّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى رُدَّ إلَيْهِ أَيْ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ فَإِنَّهَا تَرِثُهُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ. وَهَذَا مِنْهُ حِكَايَةٌ عَنْ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ. وَكَذَا رُوِيَ تَوْرِيثُ امْرَأَةِ الْفَارِّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، مِثْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ إلَى شُرَيْحٍ بِخَمْسِ خِصَالٍ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْهُنَّ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ ثَلَاثًا وَرِثَتْ مِنْهُ مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ أُمَّ الْبَنِينَ بِنْتَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ كَانَتْ تَحْتَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمَّا اُحْتُضِرَ طَلَّقَهَا، وَقَدْ كَانَ أَرْسَلَ إلَيْهَا بُشْرَى فَلَمَّا قُتِلَ أَتَتْ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَرَكَهَا حَتَّى إذَا أَشْرَفَ عَلَى

الْمَوْتِ طَلَّقَهَا، فَوَرَّثَهَا. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تُمَاضِرَ الْكَلْبِيَّةَ فِي مَرَضِهِ آخِرَ تَطْلِيقَاتِهَا الثَّلَاثِ وَكَانَتْ تَحْتَهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ أُخْتُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَوَرَّثَهَا عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ مَا أَتَّهِمُهُ وَلَكِنْ لَا أُرِيدَ أَنْ تَكُونَ سُنَّةً. وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: إنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا وَهُوَ مَرِيضٌ تَرِثُهُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ تَرِثُهُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ فَإِنْ قِيلَ إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ مُخَالِفٌ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي قِصَّةِ تُمَاضِرَ وَرَّثَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُوَرِّثْهَا فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ مَعَ مُخَالَفَتِهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْخِلَافَ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَوْ كُنْت أَنَا لَمَا وَرَّثْتُهَا أَيْ عِنْدِي أَنَّهَا لَا تَرِثُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَيْ ظَهَرَ لَهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالصَّوَابِ مَا لَوْ كُنْت مَكَانَهُ لَكَانَ لَا يَظْهَرُ لِي فَكَانَ تَصْوِيبًا لَهُ فِي اجْتِهَادِهِ وَأَنَّ الْحَقَّ فِي اجْتِهَادِهِ فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِلَافُ مَعَ الِاحْتِمَالِ بَلْ حَمْلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فِيهِ تَحْقِيقُ الْمُوَافَقَةِ أَوْلَى، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ سَأَلَتْ الطَّلَاقَ فَرَأَى عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَوْرِيثَهَا مَعَ سُؤَالِهَا الطَّلَاقَ فَيَرْجِعُ قَوْلُهُ: لَوْ كُنْت أَنَا لَمَا وَرَّثْتُهَا إلَى سُؤَالِهَا الطَّلَاقَ فَلَمَّا وَرَّثَهَا عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ مَسْأَلَتِهَا الطَّلَاقَ فَعِنْدَ عَدَمِ السُّؤَالِ أَوْلَى عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي وِلَايَتِهِ وَقَدْ كَانَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ قَبْلَهُ مِنْهُمْ عَلَى التَّوْرِيثِ فَخِلَافُهُ بَعْدَ وُقُوعِ الِاتِّفَاقِ مِنْهُمْ لَا يَقْدَحُ فِي الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ وُجِدَ مَعَ شَرَائِطِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَحِقُّ الْإِرْثَ كَمَا إذَا طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا، وَلَا كَلَامَ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَشَرَائِطِهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي وَقْتِ الِاسْتِحْقَاقِ فَنَقُولُ: وَقْتُ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ أَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ النَّصُّ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولُ: أَمَّا النَّصُّ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً عَلَى أَعْمَالِكُمْ» أَيْ تَصَدَّقَ بِاسْتِيفَاءِ مِلْكِكُمْ عَلَيْكُمْ فِي ثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً عَلَى أَعْمَالِكُمْ أَخْبَرَ عَنْ مِنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَنَّهُ اسْتَبْقَى لَهُمْ الْمِلْكَ فِي ثُلُثِ أَمْوَالِهِمْ لِيَكُونَ وَسِيلَةً إلَى الزِّيَادَةِ فِي أَعْمَالِهِمْ بِالصَّرْفِ إلَى وُجُوهِ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يَخْرُجُ مَخْرَجَ الْإِخْبَارِ عَنْ الْمِنَّةِ، وَآخِرُ أَعْمَارِهِمْ مَرَضُ الْمَوْتِ فَدَلَّ عَلَى زَوَالِ مِلْكِهِمْ عَنْ الثُّلُثَيْنِ إذْ لَوْ لَمْ يَزَلْ لَمْ يَكُنْ لِيَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِالتَّصَدُّقِ بِالثُّلُثِ بَلْ بِالثُّلُثَيْنِ إذْ الْحَكِيمُ فِي مَوْضِعِ بَيَانِ الْمِنَّةِ لَا يَتْرُكُ أَعْلَى الْمِنَّتَيْنِ وَيَذْكُرُ أَدْنَاهُمَا، وَإِذَا زَالَ مِلْكُهُ عَنْ الثُّلُثَيْنِ يَئُولُ إلَى وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ فَيَرْضَى بِالزَّوَالِ إلَيْهِمْ لِرُجُوعِ مَعْنَى الْمِلْكِ إلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَالصَّدَقَةِ وَأَنْوَاعِ الْخَيْرِ بِخِلَافِ الْأَحَادِيثِ. وَأَمَّا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إنِّي كُنْت نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي بِالْعَالِيَةِ وَإِنَّكِ لَمْ تَكُونِي حُزْتِيهِ وَلَا قَبَضْتِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ وَلَمْ تَدَّعِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَلَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ مَالَ الْمَرِيضِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ يَصِيرُ مِلْكَ الْوَارِثِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ. وَأَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَهِيَ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ تَبَرُّعُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ، وَفِي حَقِّ الْوَرَثَةِ لَا يَنْفُذُ بِشَيْءٍ أَصْلًا وَرَأْسًا حَتَّى كَانَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَأْخُذُوا الْمَوْهُوبَ مِنْ يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ إذَا لَمْ يَدْفَعْ الْقِيمَةَ وَلَوْ نَفَذَ لَمَا كَانَ لَهُمْ الْأَخْذُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ فَدَلَّ عَدَمُ النَّفَاذِ عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ وَإِذَا زَالَ يَزُولُ إلَى الْوَرَثَةِ لِمَا بَيَّنَّا وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْمَالَ الْفَاضِلَ عَنْ حَاجَةِ الْمَيِّتِ يُصْرَفُ إلَى الْوَرَثَةِ بِلَا خِلَافٍ وَالْكَلَامُ فِيمَا إذَا فَضَلَ وَوَقَعَ مِنْ وَقْتِ الْمَرَضِ الْفَرَاغُ عَنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ فَهَذِهِ الدَّلَائِلُ تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِلْوَارِثِ فِي الْمَالِ الْفَاضِلِ عَنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ فَيَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ لَا مَحَالَةَ. وَأَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّالِثِ وَهُوَ ثُبُوتُ حَقِّ الْمِلْكِ رَأْسًا فَلِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ: أَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ أَنْ يُنْقَضَ تَبَرُّعُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَوْلَا تَعَلُّقُ حَقِّ الْوَارِثِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لَكَانَ التَّبَرُّعُ تَصَرُّفًا مِنْ أَهْلٍ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ لَا حَقَّ لِلْغَيْرِ فِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْقَضَ فَدَلَّ حَقُّ النَّقْضِ عَلَى تَعَلُّقِ الْحَقِّ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ

حَالَ مَرَضِ الْمَوْتِ صَارَ وَسِيلَةً إلَى الْإِرْثِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَوَسِيلَةُ حَقِّ الْإِنْسَانِ حَقُّهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ وَالطَّلَاقُ الْبَائِنُ وَالثَّلَاثُ إبْطَالٌ لِهَذِهِ الْوَسِيلَةِ فَيَكُونُ إبْطَالًا لِحَقِّهَا وَذَلِكَ إضْرَارٌ بِهَا فَيُرَدُّ عَلَيْهِ، وَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ فِي حَقِّ إبْطَالِ الْإِرْثِ فِي الْحَالِ عَمَلًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» فَلَمْ يَعْمَلْ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ فِي إبْطَالِ سَبَبِيَّةِ النِّكَاحِ لِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ وَكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَيْهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا وَتَأَخُّرِ عَمَلِهِ فِيهِ إلَى مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَبَانَهَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ بِأَنْ اخْتَارَ نَفْسَهُ، وَتَقْبِيلِ ابْنَتِهَا أَوْ أُمِّهَا وَرِدَّتِهِ أَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ فِي الصِّحَّةِ لَا تَرِثُ هِيَ مِنْهُ وَلَا هُوَ مِنْهَا بِالْإِجْمَاعِ كَمَا لَوْ أَبَانَهَا بِالطَّلَاقِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي وَقْتِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ إلَّا فِي الرِّدَّةِ بِأَنْ ارْتَدَّ الزَّوْجُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ فَمَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا تَرِثُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ مِنْ الزَّوْجِ فِي مَعْنَى مَرَضِ الْمَوْتِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ فِي حَالِ الْمَرَضِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ أَنَّهَا تَرِثُ مِنْهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَلَا يَرِثُ هُوَ مِنْهَا بِالْإِجْمَاعِ. وَلَوْ جَامَعَهَا ابْنُهُ مُكْرَهَةً أَوْ مُطَاوِعَةً لَا تَرِثُ، أَمَّا إذَا كَانَتْ مُطَاوِعَةً فَلِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِإِبْطَالِ حَقِّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً فَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الزَّوْجِ إبْطَالُ حَقِّهَا الْمُتَعَلِّقِ بِالْإِرْثِ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْبَيُونَةُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ كَمَا إذَا قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ أَبَاهُ بِشَهْوَةٍ طَائِعَةً أَوْ مُكْرَهَةً أَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي خِيَارِ الْإِدْرَاكِ أَوْ الْعَتَاقِ أَوْ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ فَإِنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا إذَا كَانَتْ الْبَيُونَةُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَكَذَا إذَا ارْتَدَّتْ بِخِلَافِ رِدَّةِ الزَّوْجِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ رِدَّةَ الزَّوْجِ فِي مَعْنَى مَرَضِ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَى الْمَوْتِ إلَّا أَنَّ احْتِمَالَ الصِّحَّةِ بِاحْتِمَالِ الْإِسْلَامِ قَائِمٌ فَإِذَا قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ مَاتَ عَلَيْهَا فَقَدْ زَالَ الِاحْتِمَالُ، وَكَذَا إذَا أُلْحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَعُودُ فَتَقَرَّرَ الْمَرَضُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ كَانَ ثَابِتًا فِي وَقْتِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ وَأَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ وُجِدَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فَتَرِثُ مِنْهُ كَمَا لَوْ كَانَ مَرِيضًا حَقِيقَةً فَأَمَّا رِدَّتُهَا فَلَيْسَتْ فِي مَعْنَى مَرَضِ مَوْتِهَا لِيُقَالَ يَنْبَغِي أَنْ يَرِثَ الزَّوْجُ مِنْهَا وَإِنْ كَانَتْ هِيَ لَا تَرِثُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُفْضِي إلَى الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ عِنْدَنَا فَلَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ الْقَائِمُ حَالَ رِدَّتِهَا سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ فِي حَقِّهِ لِانْعِدَامِهِ وَقْتَ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ لِذَلِكَ افْتَرَقَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْمَرَضِ فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ مَرَضِ الزَّوْجِ لَا تَرِثُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ لِعَدَمِ شَرْطِ الْإِرْثِ وَهُوَ عَدَمُ رِضَاهَا بِسَبَبِ الْفُرْقَةِ وَلِحُصُولِ الْفُرْقَةِ بِفِعْلِ غَيْرِ الزَّوْجِ، وَيَرِثُ الزَّوْجُ مِنْهَا إنْ كَانَ سَبَبُ الْفُرْقَةِ مِنْهَا فِي مَرَضِهَا وَمَاتَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لِوُجُوبِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ النِّكَاحُ فِي وَقْتِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ مَرَضُ مَوْتِهَا وَلِوُجُودِ سَبَبِ إبْطَالِ حَقِّهِ مِنْهَا فِي حَالِ الْمَرَضِ، وَالْقِيَاسُ فِيمَا إذَا ارْتَدَّتْ فِي مَرَضِهَا ثُمَّ مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ أَنْ لَا يَرِثَهَا زَوْجُهَا وَإِنَّمَا يَرِثُهَا اسْتِحْسَانًا. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَقَعْ بِفِعْلِهَا؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا الرِّدَّةَ وَالْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ بِهَا وَإِنَّمَا تَقَعُ بِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ وَلَا صَنِيعَ لَهَا فِي ذَلِكَ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا فِي مَرَضِهَا إبْطَالُ حَقِّ الزَّوْجِ لِيَرُدَّ عَلَيْهَا فَلَا يَرِثُ مِنْهَا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرْنَا وَلَسْنَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَقَعْ بِفِعْلِهَا فَإِنَّ الرِّدَّةَ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ وَقَدْ حَصَلَتْ مِنْهَا فِي حَالِ تَعَلُّقِ حَقِّهِ بِالْإِرْثِ وَهُوَ مَرَضُ مَوْتِهَا فَيَرِثُ مِنْهَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا شَرَائِطُ الِاسْتِحْقَاقِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَعُمُّ أَسْبَابَ الْإِرْثِ كُلِّهَا، وَنَوْعٌ يَخُصُّ النِّكَاحَ أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ الْأَسْبَابَ كُلَّهَا فَمِنْهَا شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَارِثُ مَمْلُوكًا وَلَا مُرْتَدًّا وَلَا قَاتِلًا، فَلَا يَرِثُ الْمَمْلُوكُ وَلَا الْمُرْتَدُّ مِنْ أَحَدٍ وَلَا يَرِثُ الْقَاتِلُ مِنْ الْمَقْتُولِ، وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيُعْتَبَرُ وُجُودُ الْأَهْلِيَّةِ مِنْهَا وَقْتَ الطَّلَاقِ وَدَوَامُهَا إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً أَوْ كِتَابِيَّةً وَقْتَ الطَّلَاقِ لَا تَرِثُ وَإِنْ أُعْتِقَتْ أَوْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَا يَنْعَقِدُ مُفِيدًا لِلْحُكْمِ بِدُونِ شَرْطِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَقْتُ صَيْرُورَةِ النِّكَاحِ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا فَلَا يُعْتَبَرُ حُدُوثُ الْأَهْلِيَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَتْ مُسْلِمَةً وَقْتَ الطَّلَاقِ ثُمَّ ارْتَدَّتْ فِي عِدَّتِهَا ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا. وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ وَقْتَ الطَّلَاقِ أَمَّا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِنَادِ فَلِأَنَّ الْحُكْمَ مِنْ وَجْهٍ يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ السَّبَبِ مِنْ وَجْهٍ عِنْدَهُ لِيَثْبُتَ ثُمَّ يَسْتَنِدَ وَقَدْ بَطَلَ بِالرِّدَّةِ رَأْسًا

فَتَعَيَّنَ الِاسْتِنَادُ، وَكَذَا مَنْ يَقُولُ بِثُبُوتِ الْحِلِّ فِي الْمَرَضِ دُونَ الْمِلْكِ يُعْتَبَرُ قِيَامُ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الْإِرْثِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَمْ يَبْقَ لِبُطْلَانِهِ بِالرِّدَّةِ. وَأَمَّا عَلَى طَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ فَيُشْكِلُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْكَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ ثَابِتًا لِلْوَارِثِ وَقْتَ الْمَرَضِ، وَالنِّكَاحُ كَانَ قَائِمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْأَهْلِيَّةُ كَانَتْ مَوْجُودَةً، وَبَقَاءُ السَّبَبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ الْحُكْمِ، وَكَذَا الْأَهْلِيَّةُ شَرْطُ الثُّبُوتِ لَا شَرْطُ الْبَقَاءِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ ثُمَّ قَبَّلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ أَبَاهُ بِشَهْوَةٍ فِي عِدَّتِهَا تَرِثُ؛ لِأَنَّهَا بِالتَّقْبِيلِ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْإِرْثِ إذْ لَيْسَ تَحْتَ التَّقْبِيلِ إلَّا التَّحْرِيمُ، وَالتَّحْرِيمُ لَا يُبْطِلُ أَهْلِيَّةَ الْإِرْثِ بِخِلَافِ الرِّدَّةِ فَإِنَّهَا مُبْطِلَةٌ لِلْأَهْلِيَّةِ وَمِنْهَا شَرْطُ الْمَحَلِّيَّةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَتْرُوكُ مَالًا فَاضِلًا فَارِغًا عَنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ حَاجَةً أَصْلِيَّةً فَلَا يَثْبُتُ الْإِرْثُ فِي الْمَالِ الْمَشْغُولِ بِحَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ، وَمِنْهَا اتِّحَادُ الدَّيْنِ، وَمِنْهَا اتِّحَادُ الدَّارِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ. وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ النِّكَاحَ فَشَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا قِيَامُ الْعِدَّةِ حَتَّى لَوْ مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لَا تَرِثُ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَرِثُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ جَرَيَانَ الْإِرْثِ بَعْدَ الْإِبَانَةِ وَالثَّلَاثِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَهُمْ شَرَطُوا قِيَامَ الْعِدَّةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا عَنْهُمْ فَصَارَ شَرْطًا بِالْإِجْمَاعِ غَيْرَ مَعْقُولٍ فَيَتْبَعُ مَعْقِدَ الْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ إذَا كَانَتْ قَائِمَةً كَانَ بَعْضُ أَحْكَامِ النِّكَاحِ قَائِمًا مِنْ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَالْفِرَاشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ إبْقَاؤُهُ فِي حَقِّ حُكْمِ الْإِرْثِ فَالتَّوْرِيثُ يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْأُصُولِ. وَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ عَلَائِقِ النِّكَاحِ فَكَانَ الْقَوْلُ بِالتَّوْرِيثِ نَصْبَ شَرْعٍ بِالرَّأْيِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَقَالُوا فِيمَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي مَرَضِهِ وَدَامَ بِهِ الْمَرَضُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَمَاتَ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَهَا الْمِيرَاثُ بِنَاءً عَلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالْأَقْرَاءِ وَبِوَضْعِ الْحَمْلِ عِنْدَهُمَا بِالْأَقْرَاءِ، وَعِنْدَهُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَمْلَ حَادِثٌ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ فَلَا يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا إلَّا بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَلَمْ تَكُنْ مَقْضِيَّةَ الْعِدَّةِ عِنْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ فَتَرِثُ وَهُمَا يَقُولَانِ لَا شَكَّ أَنَّ الْوَلَدَ حَصَلَ بِوَطْءٍ حَادِثٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ وَطِئَهَا أَوْ غَيْرُهُ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ وَطْأَهُ إيَّاهَا حَرَامٌ وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَرْتَكِبُ الْحَرَامَ. وَلَا وَجْه لِلثَّانِي؛ لِأَنَّ غَيْرَ الزَّوْجِ إمَّا أَنْ وَطِئَهَا بِنِكَاحٍ أَوْ بِشُبْهَةٍ وَالْوَطْءُ بِشُبْهَةٍ حَرَامٌ أَيْضًا فَتَعَيَّنَ حَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَهُوَ أَنَّ عِدَّتَهَا انْقَضَتْ قَبْلَ التَّزَوُّجِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ فَكَانَتْ عِدَّتُهَا مُنْقَضِيَةً قَبْلَ مَوْتِ الزَّوْجِ فَلَا تَرِثُ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ أَنَّهَا تَرُدُّ نَفَقَةَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا تَرُدُّ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَالثَّانِي عَدَمُ الرِّضَا مِنْهَا بِسَبَبِ الْفُرْقَةِ وَشَرْطِهَا، فَإِنْ رَضِيَتْ بِذَلِكَ لَا تَرِثُ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِبُطْلَانِ حَقِّهَا، وَالتَّوْرِيثُ ثَبَتَ نَظَرًا لَهَا لِصِيَانَةِ حَقِّهَا فَإِذَا رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا لَمْ تَبْقَ مُسْتَحِقَّةً لِلنَّظَرِ وَعَلَى هَذَا تَخْرِيجِ مَا إذَا قَالَ لَهَا فِي مَرَضِهِ أَمْرُكِ بِيَدِكِ أَوْ اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا فَفَعَلَتْ أَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي ثَلَاثًا فَفَعَلَ أَوْ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ أَنَّهَا لَا تَرِثُ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِسَبَبِ الْبُطْلَانِ أَوْ بِشَرْطِهِ أَمَّا إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا بَاشَرَتْ سَبَبَ الْبُطْلَانِ بِنَفْسِهَا. وَكَذَا إذَا أَمَرَهَا بِالطَّلَاقِ فَطَلَّقَتْ وَكَذَا إذَا سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ فَطَلَّقَهَا؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ مِنْ الزَّوْجِ وَفِي الْخُلْعِ بَاشَرَتْ الشَّرْطَ بِنَفْسِهَا فَكُلُّ ذَلِكَ دَلِيلُ الرِّضَا وَلَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي لِلرَّجْعَةِ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَرِثَتْ؛ لِأَنَّ مَا رَضِيَتْ بِهِ وَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِبُطْلَانِ الْإِرْثِ وَمَا هُوَ سَبَبُ الْبُطْلَانِ وَهُوَ مَا أَتَى بِهِ الزَّوْجُ مَا رَضِيَتْ بِهِ فَتَرِثُ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ فِي مَرَضِهِ أَوْ صِحَّتِهِ بِشَرْطٍ وَكَانَ الشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ التَّعْلِيقُ وَوُجُودُ الشَّرْطِ جَمِيعًا فِي الصِّحَّةِ، وَإِمَّا إنْ كَانَا جَمِيعًا فِي الْمَرَضِ، وَإِمَّا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي الصِّحَّةِ وَالْآخَرُ فِي الْمَرَضِ وَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ عَلَّقَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ أَوْ بِفِعْلِهَا أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أَوْ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ وَوُجُودُ الشَّرْطِ جَمِيعًا فِي الصِّحَّةِ لَا شَكَّ أَنَّهَا لَا تَرِثُ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ الْمُعَلَّقُ بِهِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ فِي وَقْتِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ وَقْتُ مَرَضِ

الْمَوْتِ وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا فِي الْمَرَضِ فَإِنَّهَا تَرِثُ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ الْمُعَلَّقُ بِهِ لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي وَقْتِهِ وَانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْهَا بِبُطْلَانِ حَقِّهَا إلَّا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بِفِعْلِهَا الَّذِي لَهَا مِنْهُ بُدٌّ فَإِنَّهَا لَا تَرِثُ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهَا بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهَا فَعَلَتْ مِنْ اخْتِيَارٍ وَلَوْ أَجَّلَ الْعِنِّينُ وَهُوَ مَرِيضٌ وَمَضَى الْأَجَلُ وَهُوَ مَرِيضٌ وَخُيِّرَتْ الْمَرْأَةُ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِاخْتِيَارِهَا؛ لِأَنَّهَا تَقْدِرُ أَنْ تَصْبِرَ عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ تَصْبِرْ وَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَقَدْ بَاشَرَتْ سَبَبَ بُطْلَانِ حَقِّهَا بِاخْتِيَارِهَا وَرِضَاهَا فَلَا تَرِثُ. وَلَوْ آلَى مِنْهَا وَهُوَ مَرِيضٌ وَبَانَتْ بِالْإِيلَاءِ وَهُوَ مَرِيضٌ وَرِثَتْ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي وَقْتِهِ مَعَ شَرَائِطِهِ وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا وَقْتَ الْإِيلَاءِ وَانْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ وَهُوَ مَرِيضٌ لَمْ تَرِثْ لِعَدَمِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي وَقْتِهِ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ الطَّلَاقَ فِي صِحَّتِهِ وَلَمْ يَصْنَعْ فِي الْمَرَضِ شَيْئًا. وَلَوْ قَذْفَ امْرَأَتَهُ فِي الْمَرَضِ أَوْ لَاعَنَهَا فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ وُجِدَ فِي وَقْتِ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِالْإِرْثِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا دَلِيلُ الرِّضَا بِبُطْلَانِ حَقِّهَا لِكَوْنِهَا مُضْطَرَّةً إلَى الْمُطَالَبَةِ بِاللِّعَانِ لِدَفْعِ الشَّيْنِ عَنْ نَفْسِهَا وَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي اضْطَرَّهَا بِقَذْفِهِ فَيُضَافَ فِعْلُهَا إلَيْهِ كَأَنَّهُ أَكْرَهَهَا عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ فِي الصِّحَّةِ وَاللِّعَانُ فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَرِثُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ وُجِدَ مِنْ الزَّوْجِ فِي حَالٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهَا بِالْإِرْثِ وَهُوَ حَالُ الصِّحَّةِ، وَالْمَرْأَةُ مُخْتَارَةٌ فِي اللِّعَانِ فَلَا يُضَافُ إلَى الزَّوْجِ. وَلَهُمَا أَنَّ فِعْلَ الْمَرْأَةِ يُضَافُ إلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ فِي الْمُطَالَبَةِ بِاللِّعَانِ لِاضْطِرَارِهَا إلَى دَفْعِ الْعَارِ عَنْ نَفْسِهَا وَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي أَلْجَأَهَا إلَى هَذَا فَيُضَافُ فِعْلُهَا إلَيْهِ كَأَنَّهُ أَوْقَعَ الْفُرْقَةَ فِي الْمَرَضِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي الصِّحَّةِ وَالْآخَرُ فِي الْمَرَضِ فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ بِأَنْ قَالَ لَهَا إذَا جَاءَ رَأْسُ شَهْرِ كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَجَاءَ وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَا تَرِثُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ تَرِثُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ عِنْدَ الشَّرْطِ فَيَصِيرُ قَائِلًا عِنْدَ الشَّرْطِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهُوَ مَرِيضٌ. (وَلَنَا) أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَصْنَعْ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ شَيْئًا لَا السَّبَبَ وَلَا الشَّرْطَ لِيُرَدَّ عَلَيْهِ فِعْلَهُ فَلَمْ يَصِرْ فَارًّا، وَقَوْلُهُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يُجْعَلُ مُنَجَّزًا عِنْدَ الشَّرْطِ مَمْنُوعٌ بَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَدَّرَ بَاقِيًا إلَى وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَكَذَا إنْ كَانَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ سَوَاءٌ كَانَ مِنْهُ بُدٌّ كَقُدُومِ زَيْدٍ أَوْ لَا بُدَّ مِنْهُ كَالصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ وَنَحْوِهِمَا لِمَا قُلْنَا إنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الزَّوْجِ صُنْعٌ فِي الْمَرَضِ لَا بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ وَلَا بِمُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ تَرِثُ سَوَاءٌ كَانَ فِعْلًا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ كَمَا إذَا قَالَ لَهَا إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ لَا بُدَّ مِنْهُ كَمَا إذَا قَالَ إنْ صَلَّيْتُ أَنَا الظُّهْرَ فَأَنْتِ طَالِقٌ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ شَرْطَ بُطْلَانِ حَقِّهَا فَصَارَ مُتَعَدِّيًا عَلَيْهَا مُضِرًّا بِهَا لِمُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ رَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ لَا يُعْتَبَرُ فِي مَوْضِعِ التَّعَدِّي وَالضَّرَرِ، كَمَنْ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ نَائِمًا أَوْ خَاطِئًا أَوْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ فَأَكَلَ طَعَامَ غَيْرِهِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَلَمْ يُجْعَلْ مَعْذُورًا فِي مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ الَّذِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ لِمَا قُلْنَا. كَذَا هَذَا. وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ فَإِنْ كَانَ فِعْلًا لَهَا مِنْهُ بُدٌّ كَدُخُولِ الدَّارِ وَكَلَامِ زَيْدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا تَرِثُ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِبُطْلَانِ حَقِّهَا حَيْثُ بَاشَرَتْ شَرْطَ الْبُطْلَانِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِعْلًا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ وَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَكَلَامِ أَبَوَيْهَا وَاقْتِضَاءِ الدُّيُونِ مِنْ غَرِيمِهَا فَإِنَّهَا تَرِثُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَرِثُ. وَكَذَا إذَا عَلَّقَ بِدُخُولِ دَارٍ لَا غِنَى لَهَا عَنْ دُخُولِهَا فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الزَّوْجِ مُبَاشَرَةُ بُطْلَانِ حَقِّهَا وَلَا شَرْطُ الْبُطْلَانِ فَلَا يَصِيرُ فَارًّا كَمَا لَوْ عَلَّقَ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أَوْ بِفِعْلِهَا الَّذِي لَهَا مِنْهُ بُدٌّ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ فِيمَا فَعَلَتْ مِنْ الشَّرْطِ عَامِلَةٌ لِلزَّوْجِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ عَمَلِهَا عَائِدَةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَهَا عَمَّا لَوْ امْتَنَعَتْ عَنْهُ لَحِقَ الزَّوْجَ مَأْثَمٌ فَإِذَا لَمْ تَمْتَنِعْ وَفَعَلَتْ لَمْ يَلْحَقْهُ مَأْثَمٌ فَكَانَتْ مَنْفَعَةُ فِعْلِهَا عَائِدَةً عَلَيْهِ فَجُعِلَ ذَلِكَ فِعْلًا لَهُ مِنْ وَجْهٍ فَوَجَبَ إبْطَالُ فِعْلِهِ صِيَانَةً لِحَقِّهَا وَمِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَقِيَ مَقْصُورًا عَلَيْهَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ لِلرِّضَا؛ لِأَنَّهَا فَعَلَتْهُ مُضْطَرَّةً لِدَفْعِ الْعُقُوبَةِ عَنْ نَفْسِهَا فِي الْآخِرَةِ لَا بِرِضَاهَا. وَقَالُوا فِيمَنْ فَوَّضَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ فِي الصِّحَّةِ فَطَلَّقَهَا فِي الْمَرَضِ أَنَّ التَّفْوِيضَ إنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ

عَزْلَهُ عَنْهُ بِأَنْ مَلَّكَهُ الطَّلَاقَ لَا تَرِثُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى فَسْخِهِ بَعْدَ مَرَضِهِ صَارَ الْإِيقَاعُ فِي الْمَرَضِ كَالْإِيقَاعِ فِي الصِّحَّةِ. وَإِنْ كَانَ التَّفْوِيضُ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُهُ الْعَزْلُ عَنْهُ فَطَلَّقَ فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمْكَنَهُ عَزْلُهُ بَعْدَ مَرَضِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَصَارَ كَأَنَّهُ أَنْشَأَ التَّوْكِيلَ فِي الْمَرَضِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ غَيْرِ لَازِمٍ أَنْ يَكُونَ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ. وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ فِي صِحَّتِهِ لِامْرَأَتِهِ إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَلَمْ يَأْتِهَا حَتَّى مَاتَ وَرِثَتْهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِعَدَمِ إتْيَانِهِ الْبَصْرَةَ فَلَمَّا بَلَغَ إلَى حَالَةٍ وَقَعَ الْيَأْسُ لَهُ عَنْ إتْيَانِهِ الْبَصْرَةَ فَقَدْ تَحَقَّقَ الْعَدَمُ وَهُوَ مَرِيضٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقَدْ بَاشَرَ شَرْطَ بُطْلَانِ حَقِّهَا فِي الْمِيرَاثِ فَصَارَ فَارًّا فَتَرِثُهُ. وَإِنْ مَاتَتْ هِيَ وَبَقِيَ الزَّوْجُ وَرِثَهَا؛ لِأَنَّهَا مَاتَتْ وَهِيَ زَوْجَتُهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ لِعَدَمِ شَرْطِ الْوُقُوعِ وَهُوَ عَدَمُ إتْيَانِهِ الْبَصْرَةَ لِجَوَازِ أَنْ يَأْتِيَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا فَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ فَمَاتَتْ وَهِيَ زَوْجَتُهُ فَيَرِثُهَا. وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ لَمْ تَأْتِ الْبَصْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَلَمْ تَأْتِهَا حَتَّى مَاتَ الزَّوْجُ وَرِثَتْهُ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ زَوْجُهَا لِعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ لِانْعِدَامِ شَرْطِ وُقُوعِهِ؛ لِأَنَّهَا مَا دَامَتْ حَيَّةً يُرْجَى مِنْهَا الْإِتْيَانُ وَإِنْ مَاتَتْ هِيَ وَبَقِيَ الزَّوْجُ لَمْ يَرِثْهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا سَبَبُ الْفُرْقَةِ فِي مَرَضِهَا فَلَمْ تَصِرْ فَارَّةً فَلَا يَرِثُهَا. وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَلَمْ يُطَلِّقْهَا حَتَّى مَاتَ وَرِثَتْهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِشَرْطِ عَدَمِ التَّطْلِيقِ مِنْهُ وَقَدْ تَحَقَّقَ الْعَدَمُ إذَا صَارَ إلَى حَالَةٍ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ التَّطْلِيقُ وَهُوَ مَرِيضٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَيَصِيرُ فَارًّا بِمُبَاشَرَةِ شَرْطِ بُطْلَانِ حَقِّهَا فَتَرِثُهُ. وَلَوْ مَاتَتْ هِيَ وَبَقِيَ الزَّوْجُ لَمْ يَرِثْهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ فَارَّةً لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ مِنْهَا فِي مَرَضِهَا فَلَا يَرِثُهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا إنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ وَرِثَتْهُ. وَإِنْ مَاتَتْ هِيَ وَبَقِيَ الزَّوْجُ لَمْ يَرِثْهَا لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي صِحَّتِهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثُمَّ مَرِضَ فَعَيَّنَ الطَّلَاقَ فِي إحْدَاهُمَا ثُمَّ مَاتَ وَرِثَتْهُ الْمُطَلَّقَةُ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ الْمُضَافِ إلَى الْمُبْهَمِ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ الْبَيَانِ هُوَ الصَّحِيحُ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالصَّحِيحُ إذَا عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِفِعْلٍ فِي مَرَضِهِ فَإِنَّهَا تَرِثُهُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَقَالَ فِيمَنْ قَالَ فِي صِحَّتِهِ لِأَمَتَيْنِ تَحْتَهُ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ فَأُعْتِقَتَا ثُمَّ اخْتَارَ الزَّوْجُ أَنْ يُوقِعَ عَلَى إحْدَاهُمَا فِي مَرَضِهِ فَلَا مِيرَاثَ لِلْمُطَلَّقَةِ وَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ الرَّجْعَةَ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ فِي الْمُعَيَّنِ، وَالْبَيَانُ تَعْيِينُ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ لَا شَرْطُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ. وَيُقَالُ إنَّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ وَالْوُقُوعَ حَصَلَا فِي حَالٍ لَاحِقٍ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَهِيَ حَالَةُ الصِّحَّةِ فَلَا تَرِثُ وَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ الرَّجْعَةَ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ صَادَفَهَا وَهِيَ أَمَةٌ وَطَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ فَلَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ لِلْحَالِ بَلْ مُعَلَّقٌ وُقُوعُهُ بِالِاخْتِيَارِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْإِيقَاعِ فِي الذِّمَّةِ وَيُقَالُ إنَّهُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَرِثَ وَيَمْلِكُ الرَّجْعَةَ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ تَعَلَّقَ بِشَرْطِ اخْتِيَارِهِ. وَالصَّحِيحُ إذَا عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِفِعْلِهِ فَفَعَلَ وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ تَرِثُهُ سَوَاءٌ كَانَ فِعْلًا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ، أَوْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ كَمَا إذَا قَالَ وَهُوَ صَحِيحٌ إنْ دَخَلْتُ أَنَا الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَهَا وَهُوَ مَرِيضٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ عَلَيْهَا وَهِيَ حُرَّةٌ فَلَا تَحْرُمُ حُرْمَةً غَلِيظَةً فَيَمْلِكُ مُرَاجَعَتَهَا. وَلَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا حُرَّةً فَقَالَ فِي صِحَّتِهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ فَأُعْتِقَتْ الْأَمَةُ ثُمَّ مَرِضَ الزَّوْجُ فَبَيَّنَ الطَّلَاقَ فِي الْأَمَةِ فَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ وَلِلْمُطَلَّقَةِ الْمِيرَاثُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ إذَا اخْتَارَ أَنْ يُوقِعَ عَلَى الَّتِي كَانَتْ أَمَةً فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ وَذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الزِّيَادَاتِ وَقَالَ فِي جَوَابِهَا إنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ وَلَهَا الْمِيرَاثُ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا. وَاخْتِلَافُ الْجَوَابِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الطَّرِيقِ فَمَنْ جَعَلَ الطَّلَاقَ وَاقِعًا فِي الْجُمْلَةِ وَجَعَلَ الْبَيَانَ تَعْيِينَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ يَقُولُ لَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا وَهِيَ أَمَةٌ فَحُرِّمَتْ حُرْمَةً غَلِيظَةً وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَرِثَ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ وَالْوُقُوعَ كُلُّ ذَلِكَ وُجِدَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ بِالتَّوْرِيثِ لِكَوْنِ الزَّوْجِ مُتَّهَمًا فِي الْبَيَانِ لِجَوَازِ أَنَّهُ كَانَ فِي قَلْبِهِ الْأُخْرَى وَقْتَ الطَّلَاقِ فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ فَكَانَ مُتَّهَمًا فِي الْبَيَانِ فَتَرِثُ فَأَمَّا مَنْ لَا يَرَى الطَّلَاقَ وَاقِعًا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ يَقُولُ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَيْنِ وَقَعَا وَهِيَ حُرَّةٌ فَلَا تُحَرَّمُ حُرْمَةً غَلِيظَةً وَتَرِثُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ رَجْعِيٌّ. وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الْمَرَضِ وَالشَّرْطُ فِي الصِّحَّةِ بِأَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ بَائِنًا

وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ صَحَّ ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَرِثْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَرَضَ لَمْ يَكُنْ مَرَضَ الْمَوْتِ فَلَمْ يُوجَدْ الْإِيقَاعُ وَلَا الشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ؛ فَكَانَ هَذَا وَالْإِيقَاعُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ سَوَاءً، وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْمَرَضُ وَالصِّحَّةُ سَوَاءً فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ. وَأَمَّا وَقْتُ الِاسْتِحْقَاقِ فَهُوَ وَقْتُ مَرَضِ الْمَوْتِ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَرَضِ الْمَوْتِ لِتَفْرِيقِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ هُوَ الَّذِي أَضْنَاهُ الْمَرَضُ وَصَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَأَمَّا إذَا كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُحَمُّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ. وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: الْمَرِيضَ الَّذِي إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ كَانَ فَارًّا هُوَ أَنْ يَكُونَ مُضْنًى لَا يَقُومُ إلَّا بِشِدَّةٍ وَهُوَ فِي حَالٍ يُعْذَرُ فِي الصَّلَاةِ جَالِسًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَرَضَ الْمَوْتِ هُوَ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ غَالِبًا. وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ مَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُضْنًى لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ إلَّا بِشِدَّةٍ يُخْشَى عَلَيْهِ الْمَوْتُ. وَكَذَا إذَا كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ وَكَذَا إذَا كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَلَا يُخْشَى عَلَيْهِ الْمَوْتُ غَالِبًا. وَإِنْ كَانَ يُحَمُّ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَرَضَ الْمَوْتِ وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْفَالِجِ وَالسُّلِّ وَالنَّقْرَسِ وَنَحْوِهَا إذَا طَالَ بِهِ ذَلِكَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إذَا طَالَ لَا يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ غَالِبًا فَلَمْ يَكُنْ مَرَضَ الْمَوْتِ إلَّا إذَا تَغَيَّرَ حَالُهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ التَّغَيُّرِ فَيَكُونُ حَالَ التَّغَيُّرِ مَرَضَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَغَيَّرَ يُخْشَى مِنْهُ الْمَوْتُ غَالِبًا فَيَكُونُ مَرَضَ الْمَوْتِ. وَكَذَا الزَّمِنُ وَالْمُقْعَدُ وَيَابِسُ الشِّقِّ. وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي الْمَحْصُورِ وَالْوَاقِفِ فِي صَفِّ الْقِتَالِ وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ فَحُبِسَ لِيُقْتَلَ أَنَّهُ كَالصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْغَالِبُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْمَوْتَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَتَخَلَّصُ مِنْهَا غَالِبًا لِكَثْرَةِ أَسْبَابِ الْخَلَاصِ وَلَوْ قَدِمَ لِيَقْتُلَ أَوْ بَارَزَ قِرْنَهُ وَخَرَجَ مِنْ الصَّفِّ فَهُوَ كَالْمَرِيضِ إذْ الْغَالِبُ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ الْهَلَاكُ فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمَرِيضِ إذَا مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ. وَلَوْ كَانَ فِي السَّفِينَةِ فَهُوَ كَالصَّحِيحِ إلَّا إذَا هَاجَتْ الْأَمْوَاجُ فَيَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمَرِيضِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْهَا الْمَوْتُ غَالِبًا وَلَوْ أُعِيدَ الْمُخْرَجُ إلَى الْقَتْلِ أَوْ إلَى الْحَبْسِ أَوْ إذَا رَجَعَ الْمُبَارِزُ بَعْدَ الْمُبَارِزَةِ إلَى الصَّفِّ أَوْ سَكَنَ الْمَوْجُ صَارَ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ كَالْمَرِيضِ إذَا بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ وَالْمَرْأَةُ إذَا مَا أَخَذَهَا الطَّلْقُ فَهِيَ فِي حُكْمِ الْمَرِيضِ إذَا مَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُ خَوْفُ الْهَلَاكِ وَإِذَا سَلِمَتْ مِنْ ذَلِكَ فَهِيَ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ كَمَا إذَا كَانَتْ مَرِيضَةً ثُمَّ صَحَّتْ. وَلَوْ طَلَّقَهَا وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ صَحَّ وَقَامَ مِنْ مَرَضِهِ وَكَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَيَقْوَى عَلَى الصَّلَاةِ قَائِمًا ثُمَّ نُكِسَ فَعَادَ إلَى حَالَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَرِثْهُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ تَرِثُهُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ وَقْتَ تَعَلُّقِ الْحَقِّ بِالْإِرْثِ وَوَقْتَ الْمَوْتِ وَقْتُ ثُبُوتِ الْإِرْثِ، وَالْمَرَضُ قَدْ أَحَاطَ بِالْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا فَانْقِطَاعُهُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَقْتَ التَّعْلِيقِ وَلَا وَقْتَ الْإِرْثِ. وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ بَعْدَ الْمَرَضِ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَرَضَ الْمَوْتِ فَلَمْ يُوجَدْ الطَّلَاقُ فِي حَالِ الْمَرَضِ فَلَا تَرِثُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ الطَّلَاقَ الْمُبْهَمَ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الطَّلَاقِ مُضَافًا إلَى مَجْهُولَةٍ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْجَهَالَةَ إمَّا إنْ كَانَتْ أَصْلِيَّةً وَإِمَّا إنْ كَانَتْ طَارِئَةً: أَمَّا. الْجَهَالَةُ الْأَصْلِيَّةُ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الطَّلَاقِ مِنْ الِابْتِدَاءِ مُضَافًا إلَى الْمَجْهُولِ وَجَهَالَةُ الْمُضَافِ إلَيْهِ تَكُونُ لِمُزَاحَمَةِ غَيْرِهِ إيَّاهُ فِي الِاسْمِ وَالْمُزَاحِمُ إيَّاهُ فِي الِاسْمِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُحْتَمِلًا لَهُ، وَالْمُحْتَمِلُ لِلطَّلَاقِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ الزَّوْجُ طَلَاقَهُ أَوْ لَا يَمْلِكُ طَلَاقَهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَمْلِكُ طَلَاقَهُ صَحَّتْ الْإِضَافَةُ بِالْإِجْمَاعِ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ لِنِسَائِهِ الْأَرْبَعِ إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ ثَلَاثًا أَوْ يَقُولَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثَلَاثًا. وَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوْضِعَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا فِي. بَيَانِ كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّصَرُّفِ أَعْنِي قَوْلَهُ لِامْرَأَتَيْهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّصَرُّفِ قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ إيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِلْحَالِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غَيْرِ عَيْنٍ، وَاخْتَارَ الطَّلَاقَ فِي إحْدَاهُمَا وَبَيَانُ الطَّلَاقِ فِيهِمَا تَعْيِينٌ لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ. وَيُقَالُ إنَّ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ إيقَاعُ الطَّلَاقِ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ الْبَيَانِ مَعْنًى، وَمَعْنَاهُ أَنَّ قَوْلَهُ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِلْحَالِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْبَيَانِ، وَالِاخْتِيَارُ لَا لِلْحَالِ بِمَنْزِلَةِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ مِنْ دُخُولِ الدَّارِ وَغَيْرِهِ غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ الشَّرْطَ يَدْخُلُ عَلَى السَّبَبِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا وَهَهُنَا يَدْخُلُ عَلَى الْحُكْمِ لَا عَلَى السَّبَبِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِذَا

اخْتَارَ طَلَاقَ إحْدَاهُمَا فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي حَقِّهَا فَيَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بِالْكَلَامِ السَّابِقِ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ الْوُقُوعِ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ كَأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِهِ نَصًّا فَقَالَ إنْ اخْتَرْت طَلَاقَ إحْدَاكُمَا فَهِيَ طَالِقٌ. وَيُقَالُ إنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَالْمَسَائِلُ مُتَعَارِضَةٌ فِي الظَّاهِرِ بَعْضُهَا يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَبَعْضُهَا يَنْصُرُ الْقَوْلَ الثَّانِي وَنَحْنُ نُشِيرُ إلَى ذَلِكَ هَهُنَا وَنَذْكُرُ وَجْهَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ وَتَرْجِيحَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَتَخْرِيجَ الْمَسَائِلِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْبَيَانُ إظْهَارٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَزَعَمُوا أَنَّ الْمَسَائِلَ تُخَرَّجُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ كَلَامٌ لَا يُعْقَلُ بَلْ هُوَ مُحَالٌ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ. الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي حَالِ حَيَاةِ الزَّوْجِ وَنَوْعٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ. أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَنَقُولُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثَلَاثًا فَلَهُ خِيَارُ التَّعْيِينِ يَخْتَارُ أَيَّهُمَا شَاءَ لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ الْإِبْهَامَ مَلَكَ التَّعْيِينَ. وَلَوْ خَاصَمَتَاهُ وَاسْتَعْدَتَا عَلَيْهِ الْقَاضِي حَتَّى يُبِينَ، أَعْدَى عَلَيْهِ وَكَلَّفَهُ الْبَيَانَ. وَلَوْ امْتَنَعَ أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَقًّا إمَّا اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ النِّكَاحِ مِنْهُ وَإِمَّا التَّوَصُّلُ إلَى زَوْجٍ آخَرَ، وَحَقُّ الْإِنْسَانِ يَجِبُ إيفَاؤُهُ عِنْدَ طَلَبِهِ وَإِذَا امْتَنَعَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى الْإِيفَاءِ وَذَلِكَ بِالْبَيَانِ هَهُنَا فَكَانَ الْبَيَانُ حَقَّهَا لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى حَقِّهَا، وَوَسِيلَةُ حَقِّ الْإِنْسَانِ حَقُّهُ، وَالْجَبْرُ عَلَى الْبَيَانِ يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ لَوْ كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ الْبَيَانِ لَمَا أُجْبِرَ إذْ الْحَالِفُ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَحْصِيلِ الشَّرْطِ وَلِأَنَّ الْبَيَانَ إظْهَارُ الثَّابِتِ، وَإِظْهَارُ الثَّابِتِ وَلَا ثَابِتَ مُحَالٌ، ثُمَّ الْبَيَانُ نَوْعَانِ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ أَمَّا النَّصُّ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ إيَّاهَا عَنَيْت أَوْ نَوَيْت أَوْ أَرَدْت أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى هَذَا. وَلَوْ قَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ طَلَّقَ إحْدَاهُمَا عَيْنًا بِأَنْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَقَالَ أَرَدْت بِهِ بَيَانَ الطَّلَاقِ الَّذِي لَزِمَنِي لَا طَلَاقًا مُسْتَقْبَلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ يَحْتَمِلُ الْبَيَانَ؛ لِأَنَّهُ إنْ جُعِلَ إنْشَاءً فِي الشَّرْعِ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ فَيَحْتَمِلُ الْبَيَانَ إذْ هُوَ إخْبَارٌ عَنْ كَائِنٍ وَهَذَا أَيْضًا يَنْصُرُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا لَمْ يُصَدَّقْ فِي إرَادَةِ الْبَيَانِ لِلْوَاقِعِ وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَنَحْوُ أَنْ يَفْعَلَ أَوْ يَقُولَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْبَيَانِ نَحْوُ أَنْ يَطَأَ إحْدَاهُمَا أَوْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يُطَلِّقَهَا أَوْ يَحْلِفَ بِطَلَاقِهَا أَوْ يُظَاهِرُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْمَنْكُوحَةِ فَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ تَعْيِينًا لِهَذِهِ بِالنِّكَاحِ. وَإِذَا تَعَيَّنَتْ هِيَ لِلنِّكَاحِ تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ الْمُزَاحِمِ. وَإِذَا كُنَّ أَرْبَعًا أَوْ ثَلَاثًا تَعَيَّنَتْ الْبَاقِيَاتُ لِبَيَانِ الطَّلَاقِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقَوْلِ بِأَنْ يَطَأَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ فَتَتَعَيَّنُ الرَّابِعَةُ لِلطَّلَاقِ أَوْ يَقُولَ هَذِهِ مَنْكُوحَةٌ وَهَذِهِ الرَّابِعَةُ إنْ كُنَّ أَرْبَعًا وَإِنْ كُنَّ ثَلَاثًا تَتَعَيَّنُ الثَّالِثَةُ لِلطَّلَاقِ بِوَطْءِ الثَّانِيَةِ أَوْ بِقَوْلِهِ لِلثَّانِيَةِ: هَذِهِ مَنْكُوحَةٌ. وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَتْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْبَيَانِ طَلُقَتْ الْبَاقِيَةُ؛ لِأَنَّ الَّتِي مَاتَتْ خَرَجَتْ عَنْ احْتِمَالِ الْبَيَانِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عِنْدَ الْبَيَانِ وَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ احْتِمَالِ الطَّلَاقِ فَخَرَجَتْ عَنْ احْتِمَالِ الْبَيَانِ فَتَعَيَّنَتْ الْبَاقِيَةُ لِلطَّلَاقِ وَهَذَا يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَوْ كَانَ وَقَعَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ لَمَا افْتَرَقَتْ الْحَالُ فِي الْبَيَانِ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ إذْ هُوَ إظْهَارُ مَا كَانَ، فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا بَاعَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ يَأْخُذُ أَيَّهُمَا شَاءَ وَيَرُدُّ الْآخَرَ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْبَيَانِ أَنَّهُ لَا يُتَعَيَّنُ الْبَاقِي مِنْهُمَا لِلْبَيْعِ بَلْ يَتَعَيَّنُ الْمَيِّتُ لِلْبَيْعِ وَيَصِيرُ الْمُشْتَرِي مُخْتَارًا لِلْبَيْعِ فِي الْمَيِّتِ قُبَيْلَ الْمَوْتِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الْبَاقِي إلَى الْبَائِعِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ هُنَاكَ وُجِدَ الْمُبْطِلُ لِلْخِيَارِ قُبَيْلَ الْمَوْتِ وَهُوَ حُدُوثُ عَيْبٍ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الشِّرَاءِ وَهُوَ الْمَرَضُ إذْ لَا يَخْلُو الْإِنْسَانُ عَنْ مَرَضٍ قُبَيْلَ الْمَوْتِ عَادَةً، وَحُدُوثُ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ الَّذِي فِيهِ خِيَارٌ مُبْطِلٌ لِلْخِيَارِ فَبَطَلَ الْخِيَارُ قُبَيْلَ الْمَوْتِ وَدَخَلَ الْعَبْدُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلرَّدِّ ضَرُورَةً، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْعَيْبِ فِي الْمُطَلَّقَةِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْخِيَارِ. وَلَوْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْبَيَانِ فَقَالَ الزَّوْجُ إيَّاهَا عَنَيْت لَمْ يَرِثْهَا وَطَلُقَتْ الْبَاقِيَةُ؛ لِأَنَّهَا كَمَا مَاتَتْ تَعَيَّنَتْ الْبَاقِيَةُ لِلطَّلَاقِ فَإِذَا قَالَ عَنَيْت الْأُخْرَى فَقَدْ أَرَادَ صَرْفَ الطَّلَاقِ عَنْ الْبَاقِيَةِ فَلَا يُصَدَّقُ فِيهِ وَيُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ الْإِرْثِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقَّهُ وَالْإِنْسَانُ فِي إقْرَارِهِ بِإِبْطَالِ حَقِّ نَفْسِهِ مُصَدَّقٌ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَتَا جَمِيعًا أَوْ إحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى ثُمَّ قَالَ عَنَيْت الَّتِي مَاتَتْ أَوَّلًا لَمْ يَرِثْ مِنْهُمَا، أَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِتَعَيُّنِهَا لِلطَّلَاقِ بِمَوْتِ الْأُولَى. وَأَمَّا مِنْ الْأُولَى فَلِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي مِيرَاثِهَا وَهُوَ مُصَدَّقٌ عَلَى نَفْسِهِ. وَلَوْ مَاتَتَا جَمِيعًا بِأَنْ سَقَطَ عَلَيْهِمَا حَائِطٌ

أَوْ غَرِقَتَا يَرِثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفَ مِيرَاثِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِيرَاثَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي حَالٍ وَلَا يَسْتَحِقُّهُ فِي حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ كَمَا هُوَ أَصْلُنَا فِي اعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ. وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَتَا جَمِيعًا أَوْ إحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى لَكِنْ لَا يُعْرَفُ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِمَا مَعًا. وَلَوْ مَاتَتَا مَعًا ثُمَّ عَيَّنَ إحْدَاهُمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا وَقَالَ إيَّاهَا عَنَيْت لَا يَرِثُ مِنْهَا وَيَرِثُ مِنْ الْأُخْرَى نِصْفَ مِيرَاثِ زَوْجٍ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا مَاتَتَا فَقَدْ اسْتَحَقَّ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفَ مِيرَاثٍ لِمَا بَيَّنَّا فَإِذَا أَرَادَ إحْدَاهُمَا عَيْنًا فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ مِيرَاثِهَا وَهُوَ النِّصْفُ فَيَرِثُ مِنْ الْأُخْرَى النِّصْفَ. وَلَوْ ارْتَدَّتَا جَمِيعًا قَبْلَ الْبَيَانِ فَانْقَضَتْ عِدَّتُهُمَا وَبَانَتَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبِينَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ فِي إحْدَاهُمَا أَمَّا الْبَيْنُونَةُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ زَالَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِالرِّدَّةِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَإِذَا زَالَ الْمِلْكُ لَا يَمْلِكُ الْبَيَانَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ قَبْلَ الْبَيَانِ إذْ لَوْ وَقَعَ لَصَحَّ الْبَيَانُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَعْيِينَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ فَلَا تَفْتَقِرُ صِحَّتُهُ إلَى قِيَامِ الْمِلْكِ. وَلَوْ كَانَتَا رَضِيعَتَيْنِ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَأَرْضَعَتْهُمَا قُبَيْلَ الْبَيَانِ بَانَتَا، وَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى إحْدَاهُمَا لَصَارَتْ أَجْنَبِيَّةً فَلَا يَتَحَقَّقُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِالرَّضَاعِ نِكَاحًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَبِينَا وَقَدْ بَانَتَا وَإِذَا بَانَتَا بِالرَّضَاعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبَيِّنَ الطَّلَاقَ فِي إحْدَاهُمَا لِمَا قُلْنَا وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَا وَلَوْ بَيَّنَ الطَّلَاقَ فِي إحْدَاهُمَا تَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ وَقْتِ الْبَيَانِ. كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ حَتَّى لَوْ رَاجَعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ وَكَذَا إذَا بَيَّنَ الطَّلَاقَ فِي إحْدَاهُمَا وَقَدْ كَانَتْ حَاضَتْ قَبْلَ الْبَيَانِ ثَلَاثَ حِيَضٍ لَا تَعْتَدُّ بِمَا حَاضَتْ قَبْلَهُ وَتَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ مِنْ وَقْتِ الْبَيَانِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا قَبْلَ الْبَيَانِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ تَجِبُ الْعِدَّةُ مِنْ وَقْتِ الْإِرْسَالِ وَتَنْقَضِي إذَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ نَازِلٌ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ. وَمِنْ هَذَا حَقَّقَ الْقُدُورِيُّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّصَرُّفِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقَوْلَيْنِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْخِلَافِ بِمَسْأَلَةِ الْعِدَّةِ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَالْأُخْرَى طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَحَاضَتْ إحْدَاهُمَا ثَلَاثَ حِيَضٍ بَانَتْ بِوَاحِدَةٍ وَالْأُخْرَى طَالِقٌ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُطَلَّقَةٌ إلَّا أَنَّ إحْدَاهُمَا بِوَاحِدَةٍ وَالْأُخْرَى بِثَلَاثٍ فَإِذَا حَاضَتْ إحْدَاهُمَا ثَلَاثَ حِيَضٍ فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا بِيَقِينٍ فَخَرَجَتْ عَنْ احْتِمَالِ بَيَانِ الثَّلَاثِ فِيهَا فَتَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِلثَّلَاثِ ضَرُورَةً. وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ لَمْ يَدْخُلْ بِهِنَّ فَقَالَ: إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْرَى جَازَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مَدْخُولًا بِهِنَّ فَتَزَوَّجَ أُخْرَى لَمْ يَجُزْ وَهَذَا حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا فِي إحْدَاهُنَّ لَمَا جَازَ نِكَاحُ امْرَأَةٍ أُخْرَى فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ نِكَاحَ الْخَامِسَةِ وَلَجَازَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ نِكَاحَ الرَّابِعَةِ وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ دَلَّ أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا قَبْلَ الْبَيَانِ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي الصِّحَّةِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثُمَّ بَيَّنَ فِي إحْدَاهُمَا فِي مَرَضِهِ يَصِيرُ فَارًّا؛ وَتَرِثُهُ الْمُطَلَّقَةُ مَعَ الْمَنْكُوحَةِ وَيَكُونُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَهَذَا حُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَوْ كَانَ وَاقِعًا فِي إحْدَاهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ لَكَانَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي الصِّحَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِيرَ فَارًّا، كَمَا إذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا عَيْنًا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمَا بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ فَأَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: حُكْمُ الْمَهْرِ، وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ، وَحُكْمُ الْعِدَّةِ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ:. أَمَّا حُكْمُ الْمَهْرِ فَإِنْ كَانَتَا مَدْخُولًا بِهِمَا فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَمِيعُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَهْرِ مَنْكُوحَةً كَانَتْ أَوْ مُطَلَّقَةً أَمَّا الْمَنْكُوحَةُ فَلَا شَكَّ فِيهَا وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ فَلِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ بَعْدَ الدُّخُولِ وَإِنْ كَانَتَا غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهِمَا فَلَهُمَا مَهْرٌ وَنِصْفُ مَهْرٍ بَيْنَهُمَا، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةً فَإِنْ كَانَتْ مَنْكُوحَةً تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ. وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً تَسْتَحِقُّ النِّصْفَ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ قَدْ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كُلُّ الْمَهْرِ فِي حَالٍ وَالنِّصْفُ فِي حَالٍ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيَتَنَصَّفُ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَهْرٍ هَذَا إذَا كَانَ قَدْ سَمَّى لَهُمَا مَهْرًا فَإِنْ كَانَ لَمْ يُسَمِّ لَهُمَا مَهْرًا فَلَهُمَا مَهْرٌ وَمُتْعَةٌ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إنْ كَانَتْ مَنْكُوحَةً فَلَهَا كَمَالُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً فَلَهَا كَمَالُ الْمُتْعَةِ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَسْتَحِقُّ كَمَالَ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي حَالٍ وَلَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي حَالٍ. وَكَذَا الْمُتْعَةُ فَتَتَنَصَّفُ كُلُّ وَاحِدَةٍ

مِنْهُمَا فَيَكُونُ لَهُمَا مَهْرٌ وَمُتْعَةٌ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَنِصْفُ مُتْعَةٍ وَإِنْ كَانَ سَمَّى لِإِحْدَاهُمَا مَهْرًا وَلَمْ يُسَمِّ لِلْأُخْرَى فَلِلْمُسَمَّى لَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ وَلِلَّتِي لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى لَهَا إذَا كَانَتْ مَنْكُوحَةً فَلَهَا جَمِيعُ الْمُسَمَّى وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً فَلَهَا النِّصْفُ فَيَتَنَصَّفُ كُلُّ ذَلِكَ فَيَكُونُ لَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى. وَاَلَّتِي لَمْ يُسَمِّ لَهَا إنْ كَانَتْ مَنْكُوحَةً فَلَهَا جَمِيعُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً فَلَيْسَ لَهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ شَيْءٌ فَاسْتَحَقَّتْ فِي حَالٍ وَلَمْ تَسْتَحِقَّ شَيْئًا مِنْهُ فِي حَالٍ فَيَكُونُ لَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهَا نِصْفُ الْمُتْعَةِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَيْسَ لَهَا إلَّا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ مَنْكُوحَةً فَلَهَا كَمَالُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً فَلَهَا كَمَالُ الْمُتْعَةِ فَكَانَ لَهَا كَمَالُ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي حَالٍ وَكَمَالُ الْمُتْعَةِ فِي حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ لَهَا نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا وَنِصْفُ مُتْعَتِهَا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ نِصْفَ مَهْرِ الْمِثْلِ إذَا وَجَبَ لَهَا امْتَنَعَ وُجُوبُ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُتْعَةَ بَدَلٌ عَنْ نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَالْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ لَا يَجْتَمِعَانِ هَذَا إذَا كَانَتْ الْمُسَمَّى لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ مَعْلُومَةً فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً فَلَهَا مَهْرٌ وَرُبْعُ مَهْرٍ إذَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا سَوَاءً وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُسَمَّى لَهَا الْمَهْرُ فَيَكُونُ لَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ الْمُسَمَّى لَهَا الْمَهْرُ فَيَكُونُ لَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ فَفِي حَالٍ يَجِبُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ وَفِي حَالٍ يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ فَيَتَنَصَّفُ كُلُّ ذَلِكَ فَيَكُونُ لَهُمَا مَهْرٌ وَرُبْعُ مَهْرٍ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ مَهْرٍ وَثُمُنُ مَهْرٍ نِصْفُ مَهْرِ الْمُسَمَّى وَثُمُنُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا تَجِبُ الْمُتْعَةُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ نِصْفُ الْمُتْعَةِ أَيْضًا وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَجْهُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ وَقَعَ فِي إحْدَاهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ وَقْتَ الْإِرْسَالِ حَيْثُ شَاعَ فِيهِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ إذْ الْوَاقِعُ يَشِيعُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ. وَأَمَّا حُكْمُ الْمِيرَاثِ فَهُوَ أَنَّهُمَا يَرِثَانِ مِنْهُ مِيرَاثَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا مَنْكُوحَةٌ بِيَقِينٍ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيَكُونُ قَدْرُ مِيرَاثِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ لِلزَّوْجِ امْرَأَةٌ أُخْرَى سِوَاهُمَا لَمْ يُدْخِلْهَا فِي الطَّلَاقِ فَلَهَا نِصْفُ مِيرَاثِ النِّسَاءِ وَلَهُمَا النِّصْفُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُزَاحِمُهَا إلَّا وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا وَالْأُخْرَى مُطَلَّقَةٌ فَكَانَ لَهَا النِّصْفُ ثُمَّ النِّصْفُ الثَّانِي يَكُونُ بَيْنَ الْأُخْرَيَيْنِ نِصْفَيْنِ إذْ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى. وَأَمَّا حُكْمُ الْعِدَّةِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَعِدَّةُ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا مَنْكُوحَةٌ وَالْأُخْرَى مُطَلَّقَةٌ وَعَلَى الْمَنْكُوحَةِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ لَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ وَعَلَى الْمُطَلَّقَةِ عِدَّةُ الطَّلَاقِ لَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ فَدَارَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِدَّتَيْنِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَعَدَمِ الْوُجُوبِ. وَالْعِدَّةُ يُحْتَاطُ فِي إيجَابِهَا وَمِنْ الِاحْتِيَاطِ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ طَلَاقَهَا لَا تَصِحُّ الْإِضَافَةُ بِالْإِجْمَاعِ بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ أَجْنَبِيَّةٍ فَقَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ حَتَّى لَا تَطْلُقَ زَوْجَتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِنْشَاءِ وَيُسْتَعْمَلُ لِلْإِخْبَارِ وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْإِخْبَارِ لَصَحَّ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ أَنَّ إحْدَاهُمَا طَالِقٌ وَالْأَمْرُ عَلَى مَا أَخْبَرَ وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْإِنْشَاءِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا وَهِيَ الْأَجْنَبِيَّةُ لَا تَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ لِعَدَمِ النِّكَاحِ وَلَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ أَوْلَى. هَذَا إذَا كَانَ الْمُزَاحِمُ فِي الِاسْمِ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ نَحْوُ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ حَجَرٍ أَوْ بَهِيمَةٍ فَقَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ فَهَلْ تَصِحُّ الْإِضَافَةُ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ تَصِحُّ حَتَّى يَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى امْرَأَتِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا تَصِحُّ وَلَا تَطْلُقُ امْرَأَتُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَنْكُوحَةِ وَغَيْرِ الْمَنْكُوحَةِ يُوجِبُ شَكًّا فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْمَنْكُوحَةِ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَبَيْنَ أَجْنَبِيَّةٍ وَقَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ فَلَا يَقَعُ مَعَ الشَّكِّ. وَلَهُمَا أَنَّهُ إذَا جَمَعَ بَيْنَ مَنْ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَبَيْنَ مَنْ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فِي الِاسْمِ وَأَضَافَ الطَّلَاقَ إلَيْهِمَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَنْ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ لَا مَنْ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الطَّلَاقِ إلَى مَنْ لَا يَحْتَمِلُهُ سَفَهٌ؛ فَانْصَرَفَ مُطْلَقُ الْإِضَافَةِ إلَى زَوْجَتِهِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَجْنَبِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّةَ مُحْتَمِلَةٌ لِلطَّلَاقِ فِي الْجُمْلَةِ وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلطَّلَاقِ فِي الْحَالِ إخْبَارًا إنْ كَانَتْ لَا تَحْتَمِلُهُ إنْشَاءً، وَفِي الصَّرْفِ إلَى الْإِخْبَارِ صِيَانَةُ كَلَامِهِ عَنْ اللَّغْوِ فَصُرِفَ إلَيْهِ. وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ زَوْجَتِهِ وَبَيْنَ رَجُلٍ فَقَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ لَمْ يَصِحَّ

فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى لَا تَطْلُقَ زَوْجَتُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَصِحُّ وَتَطْلُقُ زَوْجَتُهُ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنَا مِنْكِ طَالِقٌ لَمْ يَصِحَّ فَصَارَ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ حَجَرٍ أَوْ بَهِيمَةٍ وَقَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الرَّجُلَ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فِي الْجُمْلَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْبَيْنُونَةَ حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنَا مِنْكِ بَائِنٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ يَصِحُّ وَالْإِبَانَةُ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ نَوْعَانِ رَجْعِيٌّ وَبَائِنٌ، وَإِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ فِي الْجُمْلَةِ حُمِلَ كَلَامُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَجْنَبِيَّةٍ وَقَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ. وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ امْرَأَةٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ وَأَشَارَ إلَى الْمَيِّتَةِ لَمْ تَصِحَّ الْإِضَافَةُ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَا تَطْلُقَ زَوْجَتُهُ الْحَيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَةَ مِنْ جِنْسِ مَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَقَدْ كَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلطَّلَاقِ قَبْلَ مَوْتِهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَجْنَبِيَّةٍ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ. وَأَمَّا الْجَهَالَةُ الطَّارِئَةُ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ مُضَافًا إلَى مَعْلُومَةٍ ثُمَّ تُجْهَلُ كَمَا إذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا مِنْ نِسَائِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ نَسِيَ الْمُطَلَّقَةَ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَيْضًا أَحَدُهُمَا فِي. بَيَانِ كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّصَرُّفِ وَالثَّانِي فِي بَيَانِ أَحْكَامِهِ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهُنَّ طَالِقٌ قَبْلَ الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى مُعَيَّنَةٍ وَإِنَّمَا طَرَأَتْ الْجَهَالَةُ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْمُعَيَّنَةُ مَحَلٌّ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ الْبَيَانُ هَهُنَا إظْهَارًا أَوْ تَعْيِينًا لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ. وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا عَلَى مَا مَرَّ أَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي حَالِ حَيَاةِ الزَّوْجِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ حَتَّى يَعْلَمَ الَّتِي طَلَّقَ فَيَجْتَنِبَهَا؛ لِأَنَّ إحْدَاهُنَّ مُحَرَّمَةٌ بِيَقِينٍ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُحَرَّمَةُ فَلَوْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْمُحَرَّمَةِ فَرُبَّمَا وَطِئَ الْمُحَرَّمَةَ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِوَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَطْلُقَ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ بِالتَّحَرِّي وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّحَرِّي، وَالْفَرْجُ لَا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ التَّحَرِّي بِخِلَافِ الذَّكِيَّةِ إذَا اخْتَلَطَتْ بِالْمَيِّتَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّحَرِّي فِي الْجُمْلَةِ وَهِيَ مَا إذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلذَّكِيَّةِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَةَ مِمَّا تُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَإِنْ جَحَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنْ تَكُونَ الْمُطَلَّقَةَ فَاسْتَعْدَيْنَ عَلَيْهِ الْحَاكِمَ فِي النَّفَقَةِ وَالْجِمَاعِ أَعْدَى عَلَيْهِ وَحَبَسَهُ عَلَى بَيَانِ الَّتِي طَلَّقَ مِنْهُنَّ وَأَلْزَمَهُ النَّفَقَةَ لَهُنَّ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِحُقُوقِ النِّكَاحِ، وَمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِيفَاءِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ يُحْبَسُ كَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ قَضَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى قَضَائِهِ فَيَحْبِسُهُ الْحَاكِمُ وَيَقْضِي بِنَفَقَتِهِنَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ فَإِنْ ادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنَّهَا هِيَ الْمُطَلَّقَةُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهَا وَجَحَدَ الزَّوْجُ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ لِلنُّكُولِ. وَالنُّكُولُ بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ، وَالطَّلَاقُ يَحْتَمِلُ الْبَذْلَ وَالْإِقْرَارَ فَيُسْتَحْلَفُ فِيهِ فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ الطَّلَاقَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَوْ أَقَرَّ بِهِ وَالطَّلَاقُ يَحْتَمِلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَإِنْ حَلَفَ لَهُنَّ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْبَيَانُ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَرْتَفِعُ بِالْيَمِينِ فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فَيُؤْخَذُ بِالْبَيَانِ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ إذَا كَانَتَا امْرَأَتَيْنِ فَحَلَفَ لِلْأُولَى طَلُقَتْ الَّتِي لَمْ يَحْلِفْ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ لِلْأُولَى أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةً تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ ضَرُورَةً وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لِلْأُولَى طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهُ بِالنُّكُولِ بَذَلَ الطَّلَاقَ لَهَا أَوْ أَقَرَّ بِهِ فَإِنْ تَشَاحَنَا عَلَى الْيَمِينِ حَلَفَ لَهُمَا جَمِيعًا بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الدَّعْوَى وَيُمْكِنُ إيفَاءُ حَقِّهِمَا فِي الْحَلِفِ فَيَحْلِفُ لَهُمَا جَمِيعًا فَإِنْ حَلَفَ لَهُمَا جَمِيعًا حُجِبَ عَنْهُمَا حَتَّى يُبَيِّنَ؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا قَدْ بَقِيَتْ مُطَلَّقَةً بَعْدَ الْحَلِفِ إذْ الطَّلَاقُ لَا يَرْتَفِعُ بِالْيَمِينِ فَكَانَتْ إحْدَاهُمَا مُحَرَّمَةً فَلَا يُمَكَّنُ مِنْهَا إلَى أَنْ يُبَيِّنَ فَإِنْ وَطِئَ إحْدَاهُمَا فَالَّتِي لَمْ يَطَأْهَا مُطَلَّقَةٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِالْبَيَانِ فَكَانَ الْوَطْءُ بَيَانًا أَنَّ الْمَوْطُوءَةَ مَنْكُوحَةٌ فَتَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ الْمُزَاحِمِ، كَمَا لَوْ قَالَ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثُمَّ وَطِئَ إحْدَاهُمَا. وَإِذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ بِعَيْنِهَا فَنَسِيَهَا وَلَمْ يَتَذَكَّرْ فَيَنْبَغِي فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُطَلِّقَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً وَيَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَتَبِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهُنَّ فَيَقْرَبَهُنَّ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ إحْدَاهُنَّ مُحَرَّمَةٌ بِيَقِينٍ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطَأَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِالتَّحَرِّي؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّحَرِّي فِي الْفَرْجِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُنَّ بِغَيْرِ بَيَانٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِنَّ بِإِبْطَالِ حُقُوقِهِنَّ مِنْ هَذَا الزَّوْجِ وَمَنْ غَيْرِهِ

كتاب الظهار

بِالنِّكَاحِ إذْ لَا يَحِلُّ لَهُنَّ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً فَيُوقِعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً وَيَتْرُكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَتَبِينَ وَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ وَبِنَّ فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكُلَّ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ مُطَلَّقَةٌ ثَلَاثَةً بِيَقِينٍ. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَهَا إلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ كُلُّهُنَّ بِزَوْجٍ آخَرَ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الَّتِي يَتَزَوَّجُهَا هِيَ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا فَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِذَا تَزَوَّجْنَ بِغَيْرِهِ فَقَدْ حَلَلْنَ بِيَقِينٍ فَلَوْ أَنَّهُ تَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ بِغَيْرِهِ جَازَ نِكَاحُهَا؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ يُحْمَلُ عَلَى الْجَوَازِ وَالصِّحَّةِ وَلَا يَصِحُّ إلَّا بِالْبَيَانِ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى نِكَاحِهَا بَيَانًا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُطَلَّقَةٍ بَلْ هِيَ مَنْكُوحَةٌ. وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ جَازَ لِمَا قُلْنَا وَتَعَيَّنَتْ الرَّابِعَةُ لِلطَّلَاقِ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ الْمُزَاحِمِ. وَكَذَا إذَا كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَتَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّا نَحْمِلُ نِكَاحَ الَّتِي تَزَوَّجَهَا عَلَى الْجَوَازِ وَلَا جَوَازَ لَهُ إلَّا بِتَعْيِينِ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ فَتَتَعَيَّنُ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ ضَرُورَةً هَذَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا فَإِنْ كَانَ بَائِنًا يَنْكِحُهُنَّ جَمِيعًا نِكَاحًا جَدِيدًا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا يُرَاجِعُهُنَّ جَمِيعًا. وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا فَمَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ قَبْلَ الْبَيَانِ فَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا يَطَأَ الْبَاقِيَاتِ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ الْمُطَلَّقَةِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمُطَلَّقَةُ فِيهِنَّ، وَإِنْ وَطِئَهُنَّ قَبْلَ الْبَيَانِ جَازَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْعَاقِلِ الْمُسْلِمِ يُحْمَلُ عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ مَا أَمْكَنَ وَهَهُنَا أَمْكَنَ بِأَنْ يُحْمَلَ فِعْلُهُ عَلَى أَنَّهُ تَذَكَّرَ أَنَّ الْمَيِّتَةَ كَانَتْ هِيَ الْمُطَلَّقَةُ إذْ الْبَيَانُ فِي الْجَهَالَةِ الطَّارِئَةِ إظْهَارٌ وَتَعْيِينٌ لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ بِلَا خِلَافٍ فَلَا تَكُونُ حَيَاتُهَا شَرْطًا لِجَوَازِ بَيَانِ الطَّلَاقِ فِيهَا وَإِذَا تَعَيَّنَتْ هِيَ لِلطَّلَاقِ تَعَيَّنَتْ الْبَاقِيَاتُ لِلنِّكَاحِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهِنَّ بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ إذَا مَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ هُنَاكَ يَقَعُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْبَيَانُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، وَالْمَحَلُّ لَيْسَ بِقَابِلٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَقْتَ الْبَيَانِ ثُمَّ الْبَيَانُ ضَرْبَانِ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ: أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ أَنْ يُبَيِّنَ الْمُطَلَّقَةَ نَصًّا فَيَقُولُ هَذِهِ هِيَ الَّتِي كُنْت طَلَّقْتُهَا. وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَفْعَلَ أَوْ يَقُولَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْبَيَانِ، مِثْلُ أَنْ يَطَأَ وَاحِدَةً أَوْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يُطَلِّقَهَا أَوْ يَحْلِفَ بِطَلَاقِهَا أَوْ يُظَاهِرَ مِنْهَا فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ أَوْ قَوْلَهُ يُحْمَلُ عَلَى الْجَوَازِ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِتَعْيِينِ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ فَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ تَعْيِينًا لِلْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ ضَرُورَةً. وَكَذَا إذَا قَالَ هَذِهِ مَنْكُوحَةٌ، وَأَشَارَ إلَى إحْدَاهُمَا تَتَعَيَّنُ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ ضَرُورَةً. وَكَذَا إذَا قَالَ هَذِهِ مَنْكُوحَةٌ، وَإِنْ كُنَّ أَرْبَعًا أَوْ ثَلَاثًا تَعَيَّنَتْ الْبَاقِيَاتُ لِكَوْنِ الْمُطَلَّقَةُ فِيهِنَّ فَتَتَعَيَّنُ بِالْبَيَانِ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقَوْلِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَلَوْ كُنَّ أَرْبَعًا وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهِنَّ فَتَزَوَّجَ أُخْرَى قَبْلَ الْبَيَانِ جَازَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ فِي إحْدَاهُنَّ فَكَانَ هَذَا نِكَاحَ الرَّابِعَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْخَمْسِ فَيَجُوزُ. وَإِنْ كُنَّ مَدْخُولًا بِهِنَّ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ الْجَمْعُ لِقِيَامِ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ لِقِيَامِ الْعِدَّةِ وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي الصِّحَّةِ فَبَيَّنَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَرِثْهُ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ هَهُنَا إظْهَارٌ وَتَعْيِينٌ لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ وَالْوُقُوعُ كَانَ فِي الصِّحَّةِ فَلَا تَرِثُ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ فَأَحْكَامُهُ ثَلَاثَةٌ: حُكْمُ الْمَهْرِ، وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ، وَحُكْمُ الْعِدَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَالْفَصْلَانِ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَمَا عَرَفْت مِنْ الْجَوَابِ فِي الْأَوَّلِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي الثَّانِي، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [كِتَابُ الظِّهَارِ] [رُكْن الظِّهَار] (كِتَابُ الظِّهَارِ) : يُحْتَاجُ فِي هَذَا الْكِتَابِ إلَى مَعْرِفَةِ رُكْنِ الظِّهَارِ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ الظِّهَارِ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَنْتَهِي بِهِ حُكْمُهُ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَمَّا. رُكْنُ الظِّهَارِ فَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الظِّهَارِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، يُقَالُ: ظَاهَرَ الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ وَظَاهَرَ وَتَظَاهَرَ وَأَظْهَرَ وَتَظْهَرُ أَيْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَيَلْحَقُ بِهِ قَوْلُهُ أَنْتِ عَلَيَّ كَبَطْنِ أُمِّي أَوْ فَخِذِ أُمِّي أَوْ فَرْجِ أُمِّي، وَلِأَنَّ مَعْنَى الظِّهَارِ تَشْبِيهُ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ؛ وَلِهَذَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِكَوْنِهِ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي آيَةِ الظِّهَارِ {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] . وَبَطْنُ الْأُمِّ وَفَخِذُهَا فِي الْحُرْمَةِ مِثْلُ ظَهْرِهَا، وَلِفَرْجِهَا مَزِيدُ حُرْمَةٍ فَتَزْدَادُ جِنَايَتُهُ فِي كَوْنِ قَوْلِهِ مُنْكَرًا وَزُورًا فَيَتَأَكَّدُ الْجَزَاءُ وَهُوَ الْحُرْمَةُ.

فصل في شرائط ركن الظهار وبعضها يرجع إلى المظاهر

[فَصْلٌ فِي شَرَائِط رُكْن الظِّهَار وبعضها يرجع إلَى الْمُظَاهِر] فَصْلٌ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُظَاهِرِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُظَاهَرِ مِنْهُ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُظَاهَرِ بِهِ. أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَظَاهِرِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا إمَّا حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا فَلَا يَصِحُّ ظِهَارُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحُرْمَةِ وَخِطَابَ التَّحْرِيمِ لَا يَتَنَاوَلُ مَنْ لَا يَعْقِلُ. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَعْتُوهًا وَلَا مَدْهُوشًا وَلَا مُبَرْسَمًا وَلَا مُغْمًى عَلَيْهِ وَلَا نَائِمًا فَلَا يَصِحُّ ظِهَارُ هَؤُلَاءِ كَمَا لَا يَصِحُّ طَلَاقُهُمْ، وَظِهَارُ السَّكْرَانِ كَطَلَاقِهِ وَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَالِغًا فَلَا يَصِحُّ ظِهَارُ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا؛ لِمَا مَرَّ فِي ظِهَارِ الْمَجْنُونِ وَلِأَنَّ الظِّهَارَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ فَلَا يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ كَمَا لَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي هِيَ ضَارَّةٌ مَحْضَةٌ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونُ مُسْلِمًا فَلَا يَصِحُّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ وَهَذَا عِنْدَنَا، عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إسْلَامُ الْمُظَاهِرِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ ظِهَارِهِ وَيَصِحُّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ وَاحْتَجَّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ الْحُرْمَةُ، وَالْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ، وَلِهَذَا كَانَ أَهْلًا لِلطَّلَاقِ فَكَذَا لِلظِّهَارِ. وَلَنَا أَنَّ عُمُومَاتِ النِّكَاحِ لَا تَقْتَضِي حِلَّ وَطْءِ الزَّوْجَاتِ عَلَى الْأَزْوَاجِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] . وَالظِّهَارُ لَا يُوجِبُ زَوَالَ النِّكَاحِ وَالزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الظِّهَارِ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ وَلِهَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ النِّكَاحِ بَعْدَ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ صَارَ مَخْصُوصًا، فَمَنْ ادَّعَى تَخْصِيصَ الذِّمِّيِّ يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ؛ وَلِأَنَّ حُكْمَ الظِّهَارِ حُرْمَةٌ مُؤَقَّتَةٌ بِالْكَفَّارَةِ أَوْ بِتَحْرِيرٍ يَخْلُفُهُ الصَّوْمُ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْحُكْمِ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الظِّهَارِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى وَأَمَّا آيَةُ الظِّهَارِ فَإِنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْمُسْلِمَ لِدَلَائِلَ: أَحَدُهَا أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ خَاصٌّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ} [المجادلة: 2] فَقَوْلُهُ تَعَالَى (مِنْكُمْ) كِنَايَةٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18] ؟ وَالْكَافِرُ غَيْرُ جَائِزِ الْمَغْفِرَةِ. وقَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] بِنَاءً عَلَى الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي أَنَّ فِيهَا أَمْرًا بِتَحْرِيرٍ يَخْلُفُهُ الصِّيَامُ إذَا لَمْ يَجِدْ الرَّقَبَةَ وَالصِّيَامُ يَخْلُفُهُ الطَّعَامُ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَالثَّالِثُ أَنَّ الْمُسْلِمَ مُرَادٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بِلَا شَكٍّ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الْعَامَّ يُبْنَى عَلَى الْخَاصِّ وَمَتَى بُنِيَ الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ خَرَجَ الْمُسْلِمُ مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ. وَأَمَّا كَوْنُهُ حُرًّا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الظِّهَارِ فَيَصِحُّ ظِهَارُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ تَحْرِيمٌ وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ التَّحْرِيمِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّحْرِيمَ بِالطَّلَاقِ؟ فَكَذَا بِالظِّهَارِ وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْآيَةُ لَا تَتَنَاوَلُ الْعَبْدَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ حُكْمَ الظِّهَارِ التَّحْرِيرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّحْرِيرِ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ حُكْمِ الظِّهَارِ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الظِّهَارِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ نَصُّ الظِّهَارِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ، أَنَّهُ جَعَلَ حُكْمَ الظِّهَارِ التَّحْرِيرَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ جَعَلَ حُكْمَهُ فِي حَقِّ مَنْ وَجَدَ فَأَمَّا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَجِدْ فَإِنَّمَا جَعَلَ حُكْمَهُ الصِّيَامَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] وَالْعَبْدُ غَيْرُ وَاجِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ وَاجِدًا إلَّا بِالْمِلْكِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَلَا يَكُونُ وَاجِدًا فَلَا يَكُونُ الْإِعْتَاقُ حُكْمَ الظِّهَارِ فِي حَقِّهِ إذْ لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالْإِعْتَاقِ وَكَذَا بِالْإِطْعَامِ إذْ الْإِطْعَامُ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ أَوْ الْإِبَاحَةِ، وَالْإِبَاحَةُ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمِلْكِ. وَلَوْ كَفَّرَ الْعَبْدُ بِهِمَا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ أَوْ الْمَوْلَى كَفَّرَ عَنْهُ بِهِمَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فَلَا يَقَعُ الْإِعْتَاقُ وَالْإِطْعَامُ عَنْهُ بِخِلَافِ الْفَقِيرِ إذَا أَعْتَقَ عَنْهُ غَيْرُهُ أَوْ أَطْعَمَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يُؤَدَّى عَنْهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَلَا يَمْلِكُ الْمُؤَدَّى فَلَا يَجْزِيهِ فِي الْكَفَّارَةِ إلَّا الصِّيَامُ وَلَيْسَ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ صِيَامِ الظِّهَارِ بِخِلَافِ صِيَامِ النَّذْرِ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ صَوْمَ الظِّهَارِ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِبَاحَةُ وَطْئِهَا الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَكَانَ مَنْعُهُ إيَّاهَا عَنْ الصِّيَامِ مَنْعًا لَهُ عَنْ إيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لِلْغَيْرِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بِخِلَافِ صَوْمِ النَّذْرِ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ أَحَدٍ فَكَانَ الْعَبْدُ بِالصَّوْمِ مُتَصَرِّفًا فِي الْمَنَافِعِ الْمَمْلُوكَةِ لِمَوْلَاهُ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ فَكَانَ لَهُ مَنْعُهُ عَنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ

كَانَ الْعَبْدُ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ مُسْتَسْعًى، عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا قُلْنَا. وَكَذَا كَوْنُهُ جَادًّا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الظِّهَارِ حَتَّى يَصِحَّ ظِهَارُ الْهَازِلِ كَمَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ، وَكَذَا كَوْنُهُ طَائِعًا أَوْ عَامِدًا لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا فَيَصِحُّ ظِهَارُ الْمُكْرَهِ وَالْخَاطِئِ كَمَا يَصِحُّ طَلَاقُهُمَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ فَلَا يَصِحُّ ظِهَارُهُمَا كَمَا لَا يَصِحُّ طَلَاقُهُمَا وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْإِكْرَاهِ. وَكَذَا التَّكَلُّمُ بِالظِّهَارِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى يَصِيرَ مُظَاهِرًا بِالْكِتَابَةِ الْمُسْتَبِينَةِ وَالْإِشَارَةِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ الْأَخْرَسِ، وَكَذَا الْخُلُوُّ عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ ظِهَارُ شَرْطِ الْخِيَارِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ. وَأَمَّا كَوْنُ الْمُظَاهِرِ رَجُلًا فَهَلْ هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الظِّهَارِ؟ ، قَالَ أَبُو يُوسُفُ: لَيْسَ بِشَرْطٍ وَقَالَ مُحَمَّدٌ شَرْطٌ حَتَّى لَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي تَصِيرُ مُظَاهِرَةً عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعَلَيْهَا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَصِيرُ مُظَاهِرَةً وَلَمَّا حُكِيَ قَوْلُهُمَا لِلْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ: هُمَا شَيْخَا الْفِقْهِ أَخْطَآ، عَلَيْهِمَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ إذَا وَطِئَهَا زَوْجُهَا. (وَجْهُ) قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ الظِّهَارَ تَحْرِيمٌ فَتَصِيرُ كَأَنَّهَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَلَوْ قَالَتْ ذَلِكَ تَلْزَمُهَا الْكَفَّارَةُ إذَا وَطِئَهَا كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الظِّهَارَ تَحْرِيمٌ بِالْقَوْلِ وَالْمَرْأَةُ لَا تَمْلِكُ التَّحْرِيمَ بِالْقَوْلِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ؟ فَكَذَا الظِّهَارُ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الظِّهَارَ تَحْرِيمٌ يَرْتَفِعُ بِالْكَفَّارَةِ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ فَكَانَتْ مِنْ أَهْلِ الظِّهَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا النِّيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الظِّهَارِ دُونَ بَعْضٍ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ مُظَاهِرًا سَوَاءٌ نَوَى الظِّهَارَ أَوْ لَا نِيَّةَ لَهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ إذْ هُوَ ظَاهِرُ الْمُرَادِ مَكْشُوفُ الْمَعْنَى عِنْدَ السَّمَاعِ بِحَيْثُ يَسْبِقُ إلَى إفْهَامِ السَّامِعِينَ فَكَانَ صَرِيحًا لَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ كَصَرِيحِ الطَّلَاقِ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَكَذَا إذَا نَوَى بِهِ الْكَرَامَةَ أَوْ الْمَنْزِلَةَ أَوْ الطَّلَاقَ أَوْ تَحْرِيمَ الْيَمِينِ لَا يَكُونُ إلَّا ظِهَارًا؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ فَإِذَا نَوَى بِهِ غَيْرَهُ فَقَدْ أَرَادَ صَرْفَ اللَّفْظِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ إلَى غَيْرِهِ فَلَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ، كَمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ عَنْ الْوَثَاقِ أَوْ الطَّلَاقَ عَنْ الْعَمَلِ أَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ الْإِخْبَارَ عَمَّا مَضَى كَذِبًا لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الشَّرْعِ جُعِلَ إنْشَاءً فَلَا يَصْدُقُ فِي إرَادَةِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا أَرَادَ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ الْمَاضِي كَذِبًا وَلَا يَسَعُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُصَدِّقَهُ كَمَا لَا يَسَعُ لِلْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَاضِي إنَّمَا يُصَدِّقُهُ لِادِّعَائِهِ خِلَافَ الظَّاهِرِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ، وَكَذَا إذَا قَالَ: أَنَا مِنْكِ مُظَاهِرٌ وَقَدْ ظَاهَرْتُكِ فَهُوَ مُظَاهِرٌ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ أَوْ لَا نِيَّةَ لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ أَيْضًا إذْ هُوَ مَكْشُوفُ الْمُرَادِ عِنْدَ السَّامِعِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ، وَأَيَّ شَيْءٍ نَوَى لَا يَكُونَ إلَّا ظِهَارًا وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْخَبَرَ عَنْ الْمَاضِي كَاذِبًا لَا يُصَدَّقُ قَضَاءً وَيُصَدَّقُ دِيَانَةً لِمَا قُلْنَا كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ أَوْ قَدْ طَلَّقْتُكِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَبَطْنِ أُمِّي أَوْ كَفَخِذِ أُمِّي أَوْ كَفَرْجِ أُمِّي فَهَذَا وَقَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي عَلَى السَّوَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي أَوْ مِثْلُ أُمِّي يَرْجِعُ إلَى نِيَّتِهِ فَإِنْ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ كَانَ مُظَاهِرًا، وَإِنْ نَوَى بِهِ الْكَرَامَةَ كَانَ كَرَامَةً، وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا، وَإِنْ نَوَى بِهِ الْيَمِينَ كَانَ إيلَاءً؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ كُلَّ ذَلِكَ إذْ هُوَ تَشْبِيهُ الْمَرْأَةِ بِالْأُمِّ فَيَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ فِي الْكَرَامَةِ وَالْمَنْزِلَةِ أَيْ أَنْتِ عَلَيَّ فِي الْكَرَامَةِ وَالْمَنْزِلَةِ كَأُمِّي وَيَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ فِي الْحُرْمَةِ ثُمَّ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ حُرْمَةَ الظِّهَارِ وَيَحْتَمِلُ حُرْمَةَ الطَّلَاقِ وَحُرْمَةَ الْيَمِينِ فَأَيَّ ذَلِكَ نَوَى فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ فَيَكُونُ عَلَى مَا نَوَى. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَا يَكُونُ ظِهَارًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَكُونُ شَيْئًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ تَحْرِيمَ الْيَمِينِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ ظِهَارًا وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الظِّهَارِ رَدَّا عَلَى الْمُظَاهِرِينَ {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] وَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأُمَّ وَلَمْ يَذْكُرْ ظَهْرَ الْأُمِّ فَدَلَّ أَنَّ تَشْبِيهَ الْمَرْأَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي ظِهَارٌ حَقِيقَةً كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي تَشْبِيهُ الْمَرْأَةِ بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا، وَقَوْلُهُ أَنْتِ كَأُمِّي تَشْبِيهٌ بِكُلِّهَا ثُمَّ ذَاكَ لَمَّا كَانَ ظِهَارًا فَهَذَا أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ كَافَ التَّشْبِيهِ تَخْتَصُّ بِالظِّهَارِ فَعِنْدَ الطَّلَاقِ تُحْمَلُ عَلَيْهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الظِّهَارَ وَغَيْرَهُ احْتِمَالًا عَلَى السَّوَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَتَعَيَّنُ الظِّهَارُ إلَّا بِدَلِيلٍ

فصل في بيان الشرائط التي ترجع إلى المظاهر منه

مُعَيَّنٍ وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ يُحْمَلُ عَلَى تَحْرِيمِ الْيَمِينِ لِأَنَّ الظِّهَارَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَذَا التَّشْبِيهِ التَّشْبِيهَ فِي التَّحْرِيمِ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ وَتَحْرِيمَ الْيَمِينِ إلَّا أَنَّ تَحْرِيمَ الْيَمِينِ أَدْنَى فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ التَّشْبِيهَ فِي التَّحْرِيمِ بَلْ هُوَ مُحْتَمَلٌ يَحْتَمِلُ الْحُرْمَةَ وَغَيْرَهَا فَلَا يَتَغَيَّرُ التَّحْرِيمُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مَعَ مَا أَنَّ مَعْنَى الْكَرَامَةِ وَالْمَنْزِلَةِ أَدْنَى فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ التَّشْبِيهِ عَلَيْهِ. وَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْأُمَّهَاتِ لَا ظُهُورَهُنَّ قُلْنَا هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْأُمِّ ظِهَارٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً لَقَالَ مَا هُنَّ كَأُمَّهَاتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْأُمُومِيَّةَ لَهَا وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَأُمِّي حُمِلَ عَلَى نِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا ذَكَرَ مَعَ التَّشْبِيهِ التَّحْرِيمَ لَمْ يَحْتَمِلْ مَعْنَى الْكَرَامَةِ فَتَعَيَّنَ التَّحْرِيمُ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ تَحْرِيمَ الظِّهَارِ وَيَحْتَمِلُ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ وَالْإِيلَاءِ فَيُرْجَعُ إلَى نِيَّتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَكُونُ ظِهَارًا؛ لِأَنَّ حَرْفَ التَّشْبِيهِ يَخْتَصُّ بِالظِّهَارِ فَمُطْلَقُ التَّحْرِيمِ يُحْمَلُ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي فَإِنْ نَوَى الظِّهَارَ أَوْ لَا نِيَّةَ لَهُ أَصْلًا فَهُوَ ظِهَارٌ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ لَمْ يَكُنْ إلَّا ظِهَارًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَكُونُ طَلَاقًا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَكُونُ ظِهَارًا وَطَلَاقًا مَعًا. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ كَمَا يَحْتَمِلُ الظِّهَارَ فَإِذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: لَمَّا قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي فَقَدْ فَسَّرَ التَّحْرِيمَ بِتَحْرِيمِ الظِّهَارِ فَزَالَ الِاحْتِمَالُ فَكَانَ صَرِيحًا فِي الظِّهَارِ فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ النِّيَّةُ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ حَمَلَ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَنْتَظِمُ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ، أَوْ كَالدَّمِ، أَوْ كَالْخَمْرِ، أَوْ كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ يُرْجَعُ إلَى نِيَّتِهِ إنْ نَوَى الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا وَإِنْ نَوَى التَّحْرِيمَ أَوْ لَا نِيَّةَ لَهُ يَكُونُ يَمِينًا وَيَصِيرُ مُولِيًا. وَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ بِهِ الْكَذِبَ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا وَلَا يُصَدَّقُ فِي نَفْيِ الْيَمِينِ فِي الْقَضَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِي فَصْلِ الْإِيلَاءِ. [فَصْلٌ فِي بَيَان الشَّرَائِط الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمُظَاهَرِ مِنْهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُظَاهَرِ مِنْهُ فَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لَهُ بِمِلْكِ النِّكَاحِ فَلَا يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَيَصِحُّ ظِهَارُ زَوْجَتِهِ تَنْجِيزًا وَتَعْلِيقًا وَإِضَافَةً إلَى وَقْتٍ بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إلَى رَأْسِ شَهْرِ كَذَا لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَتَعْلِيقًا فِي الْمِلْكِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ أَوْ إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لِوُجُودِ الْمِلْكِ وَقْتَ الْيَمِينِ. وَأَمَّا تَعْلِيقُهُ بِالْمِلْكِ وَهُوَ إضَافَتُهُ إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ فَصَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ بِأَنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا صَارَ مُظَاهِرًا عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ، وَعِنْدَهُ لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ الْمِلْكِ لِلْحَالِ. وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَا يَقَعُ الظِّهَارُ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا فَدَخَلَتْ الدَّارَ لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا بِالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْإِضَافَةِ إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الظِّهَارُ مِنْ الْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُسْتَسْعَاةِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ ثُمَّ إنَّمَا كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْإِظْهَارِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِالظِّهَارِ أَمْرٌ ثَبَتَ تَعَبُّدًا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي تَشْبِيهُ الْمَرْأَةِ بِالْأُمِّ وَأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ يَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ فِي الْكَرَامَةِ وَالْمَنْزِلَةِ وَيَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ فِي الْحُرْمَةِ، ثُمَّ التَّشْبِيهُ فِي الْحُرْمَةِ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا يَحْتَمِلُ حُرْمَةَ الظِّهَارِ وَهِيَ الْحُرْمَةُ الْمُؤَقَّتَةُ بِالْكَفَّارَةِ وَيَحْتَمِلُ حُرْمَةَ الطَّلَاقِ وَحُرْمَةَ الْيَمِينِ وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا فِي احْتِمَالِ اللَّفْظِ سَوَاءٌ فَلَا يَجُوزُ تَنْزِيلُهُ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ شَرْعًا غَيْرَ مَعْقُولٍ فَيُقْصَرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ وَهِيَ الزَّوْجِيَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] وَالْمُرَادُ مِنْهُ الزَّوْجَاتُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] وقَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الزَّوْجَةُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً قِنَّةً أَوْ مُدَبَّرَةً وَأُمَّ وَلَدٍ وَوَلَدَ أُمِّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ مُسْتَسْعَاةً عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] . وَمِنْهَا قِيَامُ مِلْكِ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَصِحُّ الظِّهَارُ مِنْ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَلَا الْمُبَانَةِ وَالْمُخْتَلِعَةِ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ وَالْمُبَانَةَ يَلْحَقُهُمَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ تَحْرِيمٌ وَقَدْ ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ بِالْإِبَانَةِ وَالْخُلْعِ، وَتَحْرِيمُ الْمُحَرَّمِ مُحَالٌ وَلِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ لَا يُفِيدُ إلَّا مَا أَفَادَهُ الْأَوَّلُ فَيَكُونُ عَبَثًا لِخُلُوِّهِ عَنْ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ؛ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إزَالَةُ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ وَأَنَّهُ قَائِمٌ بَعْدَ الْإِبَانَةِ فَلَمْ يَكُنْ إثْبَاتَ الثَّابِتِ فَلَمْ يَكُنْ مُسْتَحِيلًا وَكَذَا الثَّانِي يُفِيدُ غَيْرَ مَا أَفَادَهُ

فصل في بيان الشرائط التي ترجع إلى المظاهر به

الْأَوَّلُ وَهُوَ نُقْصَانُ الْعَدَدِ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَكَذَا إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَرْطٍ ثُمَّ أَبَانَهَا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ الظِّهَارُ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلَّقَ الْإِبَانَةَ بِشَرْطٍ فَنَجَّزَ الْإِبَانَةَ ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ أَنَّهُ يَلْحَقُهَا الْبَائِنُ الْمُعَلَّقُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الظِّهَارَ تَحْرِيمٌ وَالْمُبَانَةُ مُحَرَّمَةٌ فَلَوْ لَحِقَهَا الظِّهَارُ بِيَمِينٍ كَانَتْ قَبْلَ الْإِبَانَةِ لَكَانَ تَحْرِيمَ الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ ثُمَّ هُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ فَاسْتَوَى فِيهِ الظِّهَارُ الْمُبْتَدَأُ وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ بِخِلَافِ الْبَيْنُونَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا بَعْدَ تَنْجِيزِ الْإِبَانَةِ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ وَهُوَ مُفِيدٌ أَيْضًا وَهُوَ نُقْصَانُ الْعَدَدِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الظِّهَارُ مُضَافًا إلَى بَدَنِ الزَّوْجَةِ أَوْ إلَى عُضْوٍ مِنْهَا جَامِعٍ أَوْ شَائِعٍ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَصِحُّ الْإِضَافَةُ إلَيْهَا أَوْ إلَى كُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قَالَ لَهَا: رَأْسُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ وَجْهُكِ أَوْ رَقَبَتُكِ أَوْ فَرْجُكِ أَنَّهُ يَصِيرُ مُظَاهِرًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهَا إلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا ثُلُثُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ رُبْعُكِ أَوْ نِصْفُكِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْزَاءِ الشَّائِعَةِ. وَلَوْ قَالَ: يَدُكِ أَوْ رِجْلُكِ أَوْ أُصْبُعُكِ لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ قَدْ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ. [فَصْلٌ فِي بَيَان الشَّرَائِط الَّتِي تُرْجَعُ إلَى الْمُظَاهَرِ بِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يُرْجَعُ إلَى الْمُظَاهَرِ بِهِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ النِّسَاءِ حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي أَوْ ابْنِي لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ عُرْفًا مُوجِبًا بِالشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا وَرَدَ بِهَا فِيمَا إذَا كَانَ الْمُظَاهَرِ بِهِ امْرَأَةً. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عُضْوًا لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَالْفَخِذِ وَالْفَرْجِ حَتَّى لَوْ شَبَّهَهَا بِرَأْسِ أُمِّهِ أَوْ بِوَجْهِهَا أَوْ يَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ مِنْ أُمِّهِ يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا. وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ مِنْ امْرَأَةٍ يَحْرُمُ نِكَاحُهَا عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ سَوَاءٌ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِالرَّحِمِ كَالْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ وَبِنْتِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، أَوْ بِالرَّضَاعِ، أَوْ بِالصِّهْرِيَّةِ كَامْرَأَةِ أَبِيهِ وَحَلِيلَةِ ابْنِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُهُنَّ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَكَذَا أُمُّ امْرَأَتِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ امْرَأَتُهُ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ مُحَرِّمٌ لِلْأُمِّ فَكَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَأَمَّا بِنْتُ امْرَأَتِهِ فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَتُهُ مَدْخُولًا بِهَا فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا دَخَلَ بِهَا فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ ابْنَتُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا لِعَدَمِ الْحُرْمَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَلَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ امْرَأَةٍ زَنَى بِهَا أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ هُوَ مُظَاهِرٌ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَيْسَ بِمُظَاهِرٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَاضِيًا لَوْ قَضَى بِجَوَازِ نِكَاحِ امْرَأَةٍ زَنَى بِهَا أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ حَتَّى لَوْ رُفِعَ قَضَاؤُهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ أَبْطَلَهُ فَكَانَتْ مُحَرَّمَةَ النِّكَاحِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي الثَّانِي أَنْ يُبْطِلَهُ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ فَلَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ حُرْمَةَ نِكَاحِ مَوْطُوءَةِ الْأَبِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا قَالَ اللَّهَ تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي اللُّغَةِ الضَّمُّ وَحَقِيقَةُ الضَّمِّ فِي الْوَطْءِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ إذْ الِاجْتِهَادُ الْمُخَالِفُ لِلنُّصُوصِ بَاطِلٌ فَالْقَضَاءُ بِالْجَوَازِ يَكُونُ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ فَكَانَ بَاطِلًا بِخِلَافِ مَا إذَا شَبَّهَهَا بِامْرَأَةٍ قَدْ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بِاللِّعَانِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا عِنْدِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِجَوَازِ نِكَاحِهَا جَازَ لِأَنَّ حُرْمَةَ نِكَاحِهَا غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فَلَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْيِيدِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ ظَاهِرُ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ فِي السَّلَفِ فَكَانَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ، وَظَاهِرُ النَّصِّ مُحْتَمِلُ التَّأْوِيلِ فَكَانَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغًا وَلِلرَّأْيِ مَجَالًا. وَلَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ امْرَأَةٍ هِيَ أُمُّ الْمَزْنِيِّ بِهَا أَوْ بِنْتُ الْمَزْنِيِّ بِهَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا؛ لِأَنَّ هَذَا فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ ظَاهِرُ الِاجْتِهَادِ فِي السَّلَفِ فَلَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ الْمُظَاهَرُ بِهَا مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ وَلَوْ قَبَّلَ أَجْنَبِيَّةً بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ ثُمَّ شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِابْنَتِهَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْوَطْءَ، الْوَطْءُ أَبْيَنُ وَأَظْهَرُ عَنَى بِذَلِكَ لَوْ شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِبِنْتِ مَوْطُوءَتِهِ فَلَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا فَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّقْبِيلَ وَاللَّمْسَ وَالنَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ سَبَبٌ مُفْضٍ إلَى الْوَطْءِ فَكَانَ دُونَ حَقِيقَةِ الْوَطْءِ فَلَمَّا لَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا بِذَلِكَ فَبِهَذَا أَوْلَى. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ مُظَاهِرًا؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِالنَّظَرِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا» وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَبَّهَهَا بِامْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَهِيَ مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ فِي حَالٍ

فصل في حكم الظهار

أُخْرَى كَأُخْتِ امْرَأَتِهِ أَوْ امْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ أَوْ مُرْتَدَّةٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ عَلَى التَّأْبِيدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي حُكْمُ الظِّهَارِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الظِّهَارِ فَلِلظِّهَارِ أَحْكَامٌ: مِنْهَا حُرْمَةُ الْوَطْءِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ وَلِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] أَيْ فَلْيُحَرِّرُوا كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] أَيْ لِيُرْضِعْنَ. وقَوْله تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] أَيْ لِيَتَرَبَّصْنَ، أَمَرَ الْمُظَاهِرَ بِتَحْرِيرِ رَقَبَةٍ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَوْ لَمْ يُحَرِّمْ الْوَطْءَ قَبْلَ الْمَسِيسِ لَمْ يَكُنْ لِلْأَمْرِ بِتَقْدِيمِ التَّحْرِيرِ قَبْلَ الْمَسِيسِ مَعْنًى وَهُوَ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] وَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ النَّجْوَى قَبْلَ الصَّدَقَةِ إذْ لَوْ لَمْ يَحْرُمْ لَمْ يَكُنْ لِلْأَمْرِ بِتَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى النَّجْوَى مَعْنًى فَكَذَا هَذَا. وَرُوِيَ أَنَّ مَسْلَمَةُ بْنَ صَخْرٍ الْبَيَاضِيُّ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ أَبْصَرَهَا فِي لَيْلَةٍ قَمْرَاءَ وَعَلَيْهَا خَلْخَالٌ فِضَّةٌ فَأَعْجَبَتْهُ فَوَطِئَهَا فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ» أَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاسْتِغْفَارِ وَالِاسْتِغْفَارُ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ الذَّنْبِ فَدَلَّ عَلَى حُرْمَةِ الْوَطْءِ وَكَذَا نَهَى الْمُظَاهِرَ عَنْ الْعَوْدِ إلَى الْجِمَاعِ، وَمُطْلَقُ النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ فَيَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الْجِمَاعِ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ إذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ وَمِنْهَا حُرْمَةُ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا مِنْ الْمُبَاشَرَةِ وَالتَّقْبِيلِ وَاللَّمْسِ عَنْ شَهْوَةٍ وَالنَّظَرِ إلَى فَرْجِهَا عَنْ شَهْوَةٍ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] وَأَخَفُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسِّ هُوَ اللَّمْسُ بِالْيَدِ إذْ هُوَ حَقِيقَةٌ لَهُمَا جَمِيعًا أَعْنِي الْجِمَاعَ وَاللَّمْسَ بِالْيَدِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمَسِّ بِالْيَدِ فِيهِمَا؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ دَاعٍ إلَى الْجِمَاعِ فَإِذَا حَرُمَ الْجِمَاعُ حَرُمَ الدَّاعِي إلَيْهِ إذْ لَوْ لَمْ يَحْرُمْ لَأَدَّى إلَى التَّنَاقُضِ وَلِهَذَا حَرُمَ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَفِي الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ بَابِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ هُنَاكَ يُفْضِي إلَى الْجِمَاعِ لِوُجُودِ الْمَانِعِ وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْأَذَى فَامْتَنَعَ عَمَلُ الدَّاعِي لِلتَّعَارُضِ فَلَا يُفْضِي إلَى الْجِمَاعِ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ إنَّمَا حَصَلَتْ بِتَشْبِيهِ امْرَأَتِهِ بِأُمِّهِ فَكَانَتْ قَبْلَ انْتِهَائِهَا بِالتَّكْفِيرِ وَحُرْمَةُ الْأُمِّ سَوَاءً، وَتِلْكَ الْحُرْمَةُ تَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ كَذَا هَذِهِ وَلِأَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقَ الْقَوْمِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنَقَلَهُ الشَّرْعُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَحَلِّ إلَى تَحْرِيمِ الْفِعْلِ فَكَانَتْ حُرْمَةُ الْفِعْلِ فِي الْمُظَاهَرِ مِنْهَا مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ كَحُرْمَةِ الْفِعْلِ فِي الْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ زَوَالِ النِّكَاحِ، وَتِلْكَ الْحُرْمَةُ تَعُمُّ الْبَدَنَ كُلَّهُ كَذَا هَذِهِ. وَلَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ إذَا ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا أَنْ تَدَعَهُ يَقْرَبُهَا بِالْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ حَتَّى يُكَفِّرَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَيْهِ وَالتَّمْكِينُ مِنْ الْحَرَامِ حَرَامٌ. وَمِنْهَا أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُطَالِبَهُ بِالْوَطْءِ وَإِذَا طَالَبَتْهُ بِهِ فَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُجْبِرَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ وَيَطَأَ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّحْرِيمِ بِالظِّهَارِ أَضَرَّ بِهَا حَيْثُ مَنَعَهَا حَقَّهَا فِي الْوَطْءِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ فَكَانَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِإِيفَاءِ حَقِّهَا وَدَفْعِ التَّضَرُّرِ عَنْهَا وَفِي وُسْعِهِ إيفَاءُ حَقِّهَا بِإِزَالَةِ الْحُرْمَةِ بِالْكَفَّارَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ لَوْ امْتَنَعَ. وَيَسْتَوِي فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْكَفَّارَاتِ كُلِّهَا مِنْ الْإِعْتَاقِ وَالصِّيَامِ وَالطَّعَامِ أَعْنِي كَمَا أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ وَطْؤُهَا وَالِاسْتِمْتَاعُ بِهَا قَبْلَ التَّحْرِيرِ وَالصَّوْمِ لَا يُبَاحُ لَهُ قَبْلَ الْإِطْعَامِ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَتْ كَفَّارَتُهُ الْإِطْعَامَ جَازَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا شَرَطَ تَقْدِيمَ هَذَا النَّوْعِ عَلَى الْمَسِيسِ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا؟ وَإِنَّمَا شَرَطَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَقَطْ فَيَقْتَصِرُ الشَّرْطُ عَلَى الْمَوْضِعِ الْمَذْكُورِ وَلَنَا أَنَّهُ لَوْ أُبِيحَ لَهُ الْوَطْءُ قَبْلَ الْإِطْعَامِ فَيَطَؤُهَا وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْإِعْتَاقِ وَالصِّيَامِ فِي خِلَالِ الطَّعَامِ فَتَنْتَقِلُ كَفَّارَتُهُ إلَيْهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ وَطْأَهُ كَانَ حَرَامًا فَيَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنْ الْحَرَامِ بِإِيجَابِ تَقْدِيمِ الْإِطْعَامِ احْتِيَاطًا وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا ظَاهَرَ الرَّجُلُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ أَنَّ عَلَيْهِ أَرْبَعَ كَفَّارَاتٍ سَوَاءٌ ظَاهَرَ مِنْهُنَّ بِأَقْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ أَوْ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا ظَاهَرَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الظِّهَارَ أَحَدُ نَوْعَيْ التَّحْرِيمِ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ الْإِيلَاءُ، وَهُنَاكَ لَا يَجِبُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ بِأَنْ قَالَ لِنِسَائِهِ الْأَرْبَعِ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُنَّ فَقَرِبَهُنَّ فَكَذَا هَهُنَا. (وَلَنَا) الْفَرْقُ بَيْنَ الظِّهَارِ وَبَيْنَ الْإِيلَاءِ وَهُوَ أَنَّ الظِّهَارَ وَإِنْ كَانَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهَا تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى حِيَالِهَا فَصَارَ مُظَاهِرًا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. وَالظِّهَارُ تَحْرِيمٌ

فصل في ما ينتهي به حكم الظهار أو يبطل

لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ فَإِذَا تَعَدَّدَ التَّحْرِيمُ تَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ بِخِلَافِ الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ ثَمَّةَ تَجِبُ لِحُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى جَبْرًا لِهَتْكِهِ وَالِاسْمُ اسْمٌ وَاحِدٌ فَلَا تَجِبُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَا إذَا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ يَلْزَمُهُ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَرْبَعِ تَحْرِيمَاتٍ، وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ ظِهَارٍ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ ظِهَارٍ يُوجِبُ تَحْرِيمًا لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ فَإِنْ قِيلَ أَنَّهَا إذَا حَرُمَتْ بِالظِّهَارِ الْأَوَّلِ فَكَيْفَ تَحْرُمُ بِالثَّانِي؟ وَأَنَّهُ إثْبَاتُ الثَّابِتِ وَأَنَّهُ مُحَالٌ ثُمَّ هُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ فَالْجَوَابُ أَنَّ الثَّانِيَ إنْ كَانَ لَا يُفِيدُ تَحْرِيمًا جَدِيدًا فَإِنَّهُ يُفِيدُ تَأْكِيدَ الْأَوَّلِ فَلَئِنْ تَعَذَّرَ إظْهَارُهُ فِي التَّحْرِيمِ أَمْكَنَ إظْهَارُهُ فِي التَّكْفِيرِ فَكَانَ مُفِيدًا فَائِدَةَ التَّكْفِيرِ، وَإِنْ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ الْأَوَّلَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ صِيغَتَهُ صِيغَةُ الْخَبَرِ وَقَدْ يُكَرِّرُ الْإِنْسَانُ اللَّفْظَ عَلَى إرَادَةِ التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ دُونَ التَّجْدِيدِ، وَالظِّهَارُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الْعَدَدِ فِي الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ وَلَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْوَطْءُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ وَإِنْ جَامَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ لَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَإِنَّمَا عَلَيْهِ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعُودَ حَتَّى يُكَفِّرَ لَمَا رَوَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَوَاقَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ: «اسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ» فَأَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاسْتِغْفَارِ لِمَا فَعَلَ لَا بِالْكَفَّارَةِ وَنَهَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْعَوْدِ إلَيْهِ إلَّا بِتَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي مَا يَنْتَهِي بِهِ حُكْمُ الظِّهَارِ أَوْ يَبْطُلُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَنْتَهِي بِهِ حُكْمُ الظِّهَارِ أَوْ يَبْطُلُ فَحُكْمُ الظِّهَارِ يَنْتَهِي بِمَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِبُطْلَانِ مَحَلِّ حُكْمِ الظِّهَارِ وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَيَنْتَهِي بِالْكَفَّارَةِ وَبِالْوَقْتِ إنْ كَانَ مُوَقَّتًا وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الظِّهَارَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مُطْلَقًا وَإِمَّا أَنْ كَانَ مُوَقَّتًا فَالْمُطْلَقُ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَحُكْمُهُ لَا يَنْتَهِي إلَّا بِالْكَفَّارَةِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ الْمُظَاهِرِ «اسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ» نَهَاهُ عَنْ الْجِمَاعِ وَمَدَّ النَّهْيَ إلَى غَايَةِ التَّكْفِيرِ فَيَمْتَدُّ إلَيْهَا وَلَا يَبْطُلُ بِبُطْلَانِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَلَا بِبُطْلَانِ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ حَتَّى لَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا طَلَاقًا ثُمَّ طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَالِاسْتِمْتَاعُ بِهَا حَتَّى يُكَفِّرَ. وَكَذَا إذَا كَانَتْ زَوْجَتُهُ أَمَةً فَظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ اشْتَرَاهَا حَتَّى بَطَلَ النِّكَاحُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ حُرَّةً فَارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَسُبِيَتْ ثُمَّ اشْتَرَاهَا. وَكَذَا إذَا ظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْإِيلَاءِ وَكَذَا إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بِدُونِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ قَدْ انْعَقَدَ مُوجِبًا حُكْمَهُ وَهُوَ الْحُرْمَةُ وَالْأَصْلُ أَنَّ التَّصَرُّفَ الشَّرْعِيَّ إذَا انْعَقَدَ مُفِيدًا لِحُكْمِهِ وَفِي بَقَائِهِ احْتِمَالُ الْفَائِدَةِ أَوْ وَهْمُ الْفَائِدَةِ يَبْقَى لِفَائِدَةٍ مُحْتَمَلَةٍ أَوْ مَوْهُومَةٍ أَصْلُهُ الْإِبَاقُ الطَّارِئُ عَلَى الْبَيْعِ، وَاحْتِمَالُ الْعَوْدِ هَهُنَا قَائِمٌ فَيَبْقَى وَإِذَا بَقِيَ يَبْقَى عَلَى مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ وَهُوَ ثُبُوتُ حُرْمَةٍ لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ وَإِنْ كَانَ مُوَقَّتًا بِأَنْ كَانَ قَالَ: لَهَا أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً صَحَّ التَّوْقِيتُ وَيَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْوَقْتِ بِدُونِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ يَبْطُلُ التَّأْقِيتُ وَيَتَأَبَّدُ الظِّهَارُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الظِّهَارَ أَخُو الطَّلَاقِ إذْ هُوَ أَحَدُ نَوْعَيْ التَّحْرِيمِ، ثُمَّ تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْقِيتَ كَذَا تَحْرِيمُ الظِّهَارِ وَلَنَا أَنَّ تَحْرِيمَ الظِّهَارِ أَشْبَهَ بِتَحْرِيمِ الْيَمِينِ مِنْ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ تُحِلُّهُ الْكَفَّارَةُ كَالْيَمِينِ يُحِلُّهُ الْحِنْثُ، ثُمَّ الْيَمِينُ تَتَوَقَّتُ كَذَا الظِّهَارُ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحِلُّهُ شَيْءٌ فَلَا يَتَوَقَّتُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَفِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِهَا، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهَا، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ جَوَازِهَا أَمَّا تَفْسِيرُهَا فَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ أَحَدِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ لَكِنْ عَلَى التَّرْتِيبِ الْإِعْتَاقُ ثُمَّ الصِّيَامُ ثُمَّ الْإِطْعَامُ. وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْعَوْدِ وَالظِّهَارِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] غَيْرَ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي الْعَوْدِ. قَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ هُوَ أَنْ يُكَرِّرَ لَفْظَ الظِّهَارِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ إمْسَاكُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّكَاحِ بَعْدَ

الظِّهَارِ وَهُوَ أَنْ يَسْكُت عَنْ طَلَاقهَا عَقِيبَ الظِّهَارِ مِقْدَارَ مَا يُمْكِنُهُ طَلَاقَهَا فِيهِ إذَا أَمْسَكَهَا عَلَى النِّكَاحِ عَقِيبَ الظِّهَارِ مِقْدَارَ مَا يُمْكِنُهُ طَلَاقُهَا فِيهِ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بَعْدَ ذَلِكَ سَوَاءٌ غَابَتْ أَوْ مَاتَتْ. وَإِذَا غَابَ فَسَوَاءٌ طَلَّقَهَا أَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا رَاجَعَهَا أَوْ لَمْ يُرَاجِعْهَا وَلَوْ طَلَّقَهَا عَقِيبَ الظِّهَارِ بِلَا فَصْلٍ يُبْطِلُ الظِّهَارَ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِعَدَمِ إمْسَاكِ الْمَرْأَةِ عَقِيبَ الظِّهَارِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْعَوْدُ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى وَطْئِهَا عَزْمًا مُؤَكَّدًا حَتَّى لَوْ عَزَمَ ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي أَنْ يَطَأَهَا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْعَزْمِ الْمُؤَكَّد لَا أَنَّهُ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِنَفْسِ الْعَزْمِ ثُمَّ سَقَطَتْ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ بَعْدَ سُقُوطِهَا لَا تَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ. وَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ التَّمَسُّكُ بِظَاهِرِ لَفْظَةِ الْعَوْدِ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ فِي الْقَوْلِ عِبَارَةٌ عَنْ تَكْرَارِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة: 8] فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أَيْ يَرْجِعُونَ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَيُكَرِّرُونَهُ. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ} [المجادلة: 3] يَقْتَضِي وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْعَوْدِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا لَا فِيمَا قُلْتُمْ؛ لِأَنَّ عِنْدَكُمْ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْوَطْءُ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الْكَفَّارَةَ فَتُرْفَعَ الْحُرْمَةُ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ. وَلَنَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا ثُمَّ عَادَ، قَالَ فِي اللُّغَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ عَادَ إلَى مَا قَالَ وَفِيمَا قَالَ أَيْ كَرَّرَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ عَادَ لِنَقْضِ مَا قَالَ فَإِنَّهُ حُكِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا تَكَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْ الْأَصْمَعِيِّ بِأَنَّهُ كَانَ يَبْنِي بِنَاءً ثُمَّ يَعُودُ لَهُ فَقَالَ لَهُ الْأَصْمَعِيُّ: مَا أَرَدْتَ بِقَوْلِك أَعُودُ لَهُ فَقَالَ أَنْقُضُهُ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ التَّكْرَارُ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ؛ لِأَنَّ التَّكْرَارَ إعَادَةُ عَيْنِ الْأَوَّلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْإِعْرَاضِ لِكَوْنِهَا مُسْتَحِيلَةَ الْبَقَاءِ فَلَا يُتَصَوَّرُ إعَادَتُهَا، وَكَذَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَمَرَ أُوَيْسًا بِالْكَفَّارَةِ لَمْ يَسْأَلْهُ أَنَّهُ هَلْ كَرَّرَ الظِّهَارَ أَمْ لَا؟ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا لَسَأَلَهُ إذْ الْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الْإِشْكَالِ وَكَذَا الظِّهَارُ الَّذِي كَانَ مُتَعَارَفًا بَيْنَ أَهْلٍ كُرِّرَ الظِّهَارُ أَمْ لَا؟ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا لَسَأَلَهُ إذْ الْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الْإِشْكَالِ، وَكَذَا الظِّهَارُ الَّذِي كَانَ مُتَعَارَفًا بَيْنَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَكْرَارُ الْقَوْلِ وَإِذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يُحْمَلُ عَلَى الثَّانِي وَهُوَ الْعَوْدُ لِنَقْضِ مَا قَالُوا وَفَسْخِهِ فَكَانَ مَعْنَاهُ ثُمَّ يَرْجِعُونَ عَمَّا قَالُوا وَذَلِكَ بِالْعَزْمِ عَلَى الْوَطْءِ؛ لِأَنَّ مَا قَالَهُ الْمُظَاهِرُ هُوَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ فَكَانَ الْعَوْدُ لِنَقْضِهِ وَفَسْخِهِ اسْتِبَاحَةَ الْوَطْءِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ تَأْوِيلِ الشَّافِعِيِّ الْعَوْدَ بِإِمْسَاكِ الْمَرْأَةِ وَاسْتِبْقَاءَ النِّكَاحِ لِأَنَّ إمْسَاكَ الْمَرْأَةِ لَا يُعْرَفُ عَوْدًا فِي اللُّغَةِ وَلَا إمْسَاكُ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ يُتَكَلَّمُ فِيهِ بِالْعَوْدِ وَلِأَنَّ الظِّهَارَ لَيْسَ بِرَفْعِ النِّكَاحِ حَتَّى يَكُونَ الْعُودُ لِمَا قَالَ اسْتِبْقَاءً لِلنِّكَاحِ فَبَطَلَ تَأْوِيلُ الْعَوْدِ بِالْإِمْسَاكِ عَلَى النِّكَاحِ وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] وَثُمَّ لِلتَّرَاخِي فَمَنْ جَعَلَ الْعَوْدَ عِبَارَةً عَنْ اسْتِبْقَاءِ النِّكَاحِ وَإِمْسَاكِ الْمَرْأَةِ عَلَيْهِ فَقَدْ جَعَلَهُ عَائِدًا عَقِيبَ الْقَوْلِ بِلَا تَرَاخِي وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ. أَمَّا قَوْلُهُ إنَّ النَّصَّ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ وَعِنْدَكُمْ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ عِنْدَنَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ إذَا عَزَمَ عَلَى الْوَطْءِ كَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى إذَا عَزَمْتَ عَلَى الْوَطْءِ فَكَفِّرْ قَبْلَهُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا} [المجادلة: 12] وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي سَبَبِ وُجُوبِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهَا تَجِبُ بِالظِّهَارِ وَالْعَوْدِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَهَا بِهِمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَبَبُ الْوُجُوبِ هُوَ الظِّهَارُ وَالْعَوْدُ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ ذَنْبٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا؟ وَالْحَاجَةُ إلَى رَفْعِ الذَّنْبِ وَالزَّجْرِ عَنْهُ فِي الْمُسْتَقْبِلِ ثَابِتَةٌ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهَا رَافِعَةٌ لِلذَّنْبِ وَزَاجِرَةٌ عَنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تُضَافُ الْكَفَّارَةُ إلَى الظِّهَارِ لَا إلَى الْعَوْدِ يُقَالُ: كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْأَحْكَامَ تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا لَا إلَى شُرُوطِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَبَبُ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْعَوْدُ وَالظِّهَارُ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَادَةٌ وَالظِّهَارُ مَحْظُورٌ مَحْضٌ فَلَا يَصِحُّ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْعِبَادَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطٌ، وَسَبَبُ الْوُجُوبِ أَمْرٌ ثَالِثٌ هُوَ كَوْنُ الْكَفَّارَةِ طَرِيقًا مُتَعَيِّنًا لِإِيفَاءِ الْوَاجِبِ، وَكَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى الْإِيفَاءِ؛ لِأَنَّ إيفَاءَ حَقِّهَا فِي الْوَطْءِ وَاجِبٌ وَيَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ إنْ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا وَلَمْ يَطَأْهَا مَرَّةً وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا وَقَدْ وَطِئَهَا مَرَّةً لَا تَجِبُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى اتِّصَالُ ذَلِكَ أَيْضًا لِإِيفَاءِ حَقِّهَا، وَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا يَجِبُ فِي الْحُكْمِ أَيْضًا حَتَّى يُجْبَرَ عَلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُهُ إيفَاءُ الْوَاجِبِ إلَّا بِرَفْعِ الْحُرْمَةِ وَلَا تَرْتَفِعُ الْحُرْمَةُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ فَتُلْزِمُهُ الْكَفَّارَةُ ضَرُورَةَ إيفَاءِ

كتاب اللعان

الْوَاجِبِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ إيجَابَ الشَّيْءِ إيجَابٌ لَهُ وَلِمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِهِ كَالْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ يَكُونُ أَمْرًا بِالطَّهَارَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) شَرْطُ وُجُوبِهَا فَالْقُدْرَةُ عَلَى أَدَائِهَا لِاسْتِحَالَةِ وُجُوبِ الْفِعْلِ بِدُونِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَلَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْقَادِرِ وَكَذَا الْعَوْدُ أَوْ الظِّهَارُ أَوْ كِلَاهُمَا عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ فِيهِ عَلَى مَا مَرَّ. وَأَمَّا شَرْطُ جَوَازِهَا فَلِجَوَازِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ أَعْنِي الْإِعْتَاقَ وَالصِّيَامَ وَالْإِطْعَامَ شَرَائِطُ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [كِتَابُ اللِّعَانِ] [بَيَانِ صُورَةِ اللِّعَانِ وَكَيْفِيَّتِهِ] (كِتَابُ اللِّعَانِ) : الْكَلَامُ فِي اللِّعَانِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ صُورَةِ اللِّعَانِ وَكَيْفِيَّتِهِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ اللِّعَانِ، وَفِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَالْجَوَازِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ سَبَبُ الْوُجُوبِ عِنْدَ الْقَاضِي، وَفِي بَيَانِ مَعْنَى اللِّعَانِ وَمَاهِيَّتِهِ شَرْعًا، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ اللِّعَانِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُ اللِّعَانَ بَعْدَ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا سَقَطَ أَوْ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا مَعَ وُجُودِ الْقَذْفِ. (أَمَّا) . صُورَةُ اللِّعَانِ وَكَيْفِيَّتُهُ فَالْقَذْفُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالزِّنَا أَوْ بِنَفْيِ الْوَلَدِ. فَإِنْ كَانَ بِالزِّنَا فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُقِيمَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَمَاثِلَيْنِ فَيَأْمُرَ الزَّوْجَ أَوَّلًا أَنْ يَقُولَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا، وَيَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا، ثُمَّ يَأْمُرُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَقُولَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا، وَتَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا. هَكَذَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى لَفْظِ الْمُوَاجَهَةِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ: فِيمَا رَمَيْتُك بِهِ مِنْ الزِّنَا وَتَقُول الْمَرْأَةُ: فِيمَا رَمَيْتنِي بِهِ مِنْ الزِّنَا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَوَجْهُهُ أَنَّ خِطَابَ الْمُعَايَنَةِ فِيهِ احْتِمَالٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهَا وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهَا وَلَا احْتِمَالَ فِي خِطَابِ الْمُوَاجَهَةِ فَالْإِتْيَانُ بِلَفْظٍ لَا احْتِمَالَ فِيهِ أَوْلَى وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَأَشَارَ إلَيْهَا فَقَدْ زَالَ الِاحْتِمَالُ لِتَعْيِينِهَا بِالْإِشَارَةِ فَكَانَ لَفْظُ الْمُوَاجَهَةِ وَالْمُعَايَنَةِ فِيهِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ اللِّعَانُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الزَّوْجَ يَقُولُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ: فِيمَا رَمَيْتُكِ بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِكِ، وَتَقُولُ الْمَرْأَةُ: فِيمَا رَمَيْتنِي بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِي. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الزَّوْجَ يَقُولُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ: فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا فِي نَفْيِ وَلَدِهَا، وَتَقُولُ الْمَرْأَةُ: فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا فِي نَفْيِ وَلَدِهِ. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا لَاعَنَ الرَّجُلُ بِوَلَدٍ فَقَالَ فِي اللِّعَانِ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا فِي نَفْيِ وَلَدِهَا بِأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ لَيْسَ مِنِّي، وَتَقُولُ الْمَرْأَةُ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنَّك لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتنِي بِهِ مِنْ الزِّنَا بِأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْك. وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّهُ قَالَ إذَا نَفَى الْوَلَدَ يَشْهَدُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ إنَّهُ لَصَادِقٌ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَنَفْيِ هَذَا الْوَلَدِ قَالَ الْقُدُورِيُّ: وَهَذَا لَيْسَ بِاخْتِلَافِ رِوَايَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ حَالِ الْقَذْفِ فَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ مِنْ الزَّوْجِ بِقَوْلِهِ: هَذَا الْوَلَدُ لَيْسَ مِنِّي يَكْفِي فِي اللِّعَانِ أَنْ يَقُولَ: فِيمَا رَمَيْتُكِ بِهِ مِنْ نَفْيِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ مَا قَذَفَهَا إلَّا بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ بِالزِّنَا وَنَفْيِ الْوَلَدِ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَإِنَّمَا بُدِئَ بِالرَّجُلِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6] وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِعَانُ الزَّوْجِ عَقِيبَ الْقَذْفِ فَيَقَعُ لِعَانُ الْمَرْأَةِ بَعْدَ لِعَانِهِ. وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ وَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُجْرِيَ اللِّعَانَ عَلَى ذَيْنَك الزَّوْجَيْنِ بَدَأَ بِلِعَانِ الرَّجُلِ وَهُوَ قُدْوَةٌ؛ لِأَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ وَجَبَ حَقًّا لَهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَلْحَقَ بِهَا الْعَارَ بِالْقَذْفِ فَهِيَ بِمُطَالَبَتِهَا إيَّاهُ بِاللِّعَانِ تَدْفَعُ الْعَارَ عَنْ نَفْسِهَا وَدَفْعُ الْعَارِ عَنْ نَفْسِهَا حَقُّهَا وَصَاحِبُ الْحَقِّ إذَا طَالَبَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِإِيفَاءِ حَقِّهِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ كَمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَإِنْ أَخْطَأَ الْحَاكِمُ فَبَدَأَ بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ بِالرَّجُلِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعِيدَ اللِّعَانَ عَلَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ وَالْمَرْأَةُ بِشَهَادَتِهَا تَقْدَحُ فِي شَهَادَةِ الزَّوْجِ فَلَا يَصِحُّ قَبْلَ وُجُودِ شَهَادَتِهِ؛ وَلِهَذَا فِي بَابِ الدَّعَاوَى يُبْدَأُ بِشَهَادَةِ الْمُدَّعِي ثُمَّ بِشَهَادَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ لَهُ كَذَا هَهُنَا فَإِنْ لَمْ يُعِدْ لِعَانَهَا حَتَّى فُرِّقَ بَيْنَهُمَا نَفَذَتْ الْفُرْقَةُ؛ لِأَنَّ تَفْرِيقَهُ صَادَفَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ اللِّعَانَ لَيْسَ بِشَهَادَةٍ بَلْ هُوَ يَمِينٌ وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ

فصل في صفة اللعان

إحْدَى الْيَمِينَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى كَتَحَالُفِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِيهِ بَلْ يَجُوزُ تَقْدِيمُ أَحَدِهِمَا أَيُّهُمَا كَانَ فَكَانَ تَفْرِيقُهُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فَنَفَذَ وَالْقِيَامُ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَضُرُّهُ قَائِمًا لَاعَنَ أَوْ قَاعِدًا؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَإِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ أَوْ يُعْتَبَرَ فِيهِ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا، وَالْقِيَامُ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِيهِمَا إلَّا أَنَّهُ يُنْدَبُ إلَيْهِ؛ «لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَدَبَ عَاصِمًا وَامْرَأَتَهُ إلَيْهِ فَقَالَ: يَا عَاصِمُ قُمْ فَاشْهَدْ بِاَللَّهِ وَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: قُومِي فَاشْهَدِي بِاَللَّهِ» ؛ وَلِأَنَّ اللِّعَانَ مِنْ جَانِبِهِ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ وَمِنْ جَانِبِهَا قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا وَالسُّنَّةُ فِي الْحُدُودِ إقَامَتُهَا عَلَى الْإِشْهَادِ وَالْإِعْلَانِ وَالْقِيَامُ أَقْرَبُ إلَى ذَلِكَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي صِفَةُ اللِّعَانِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ اللِّعَانِ فَلَهُ صِفَاتٌ مِنْهَا أَنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ إنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى الزَّوْجِ بِقَذْفِهَا هُوَ الْحَدُّ إلَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ عَنْهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِاللِّعَانِ. وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا لَاعَنَ الزَّوْجُ هُوَ حَدُّ الزِّنَا وَلَهَا أَنْ تُخَلِّصَ نَفْسَهَا عَنْهُ بِاللِّعَانِ حَتَّى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُخَاصِمَهُ إلَى الْحَاكِمِ وَتُطَالِبَهُ بِاللِّعَانِ عِنْدَنَا، وَإِذَا طَالَبَتْهُ يُجْبِرُهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ امْتَنَعَ يُحْبَسُ لِامْتِنَاعِهِ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ كَالْمُمْتَنِعِ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَيُحْبَسُ حَتَّى يُلَاعِنَ أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ وَعِنْدَهُ لَيْسَ لَهَا وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِاللِّعَانِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَا يُحْبَسُ إذَا امْتَنَعَ بَلْ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَكَذَا إذَا الْتَعَنَ الرَّجُلُ تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى اللِّعَانِ وَلَوْ امْتَنَعَتْ تُحْبَسُ حَتَّى تُلَاعِنَ أَوْ تُقِرَّ بِالزِّنَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا تُجْبَرُ وَلَا تُحْبَسُ بَلْ يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْجَلْدَ عَلَى الْقَاذِفِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الزَّوْجِ وَغَيْرِهِ إلَّا أَنَّ الْقَاذِفَ إذَا كَانَ زَوْجًا لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ بِالْبَيِّنَةِ إنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ يَدْفَعُهُ بِاللِّعَانِ فَكَانَ اللِّعَانُ مُخَلِّصًا لَهُ عَنْ الْحَدِّ. وقَوْله تَعَالَى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8] جَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِعَانَهَا دَفْعًا لِحَدِّ الزِّنَا عَنْهَا إذْ الدَّرْءُ هُوَ الدَّفْعُ لُغَةً فَدَلَّ أَنَّ الْحَدَّ وَجَبَ عَلَيْهَا بِلِعَانِهِ ثُمَّ تَدْفَعُهُ بِلِعَانِهَا وَلِأَنَّ بِلِعَانِهِ يَظْهَرُ صِدْقُهُ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يُلَاعِنُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ إلَّا أَنَّ لَهَا أَنْ تُخَلِّصَ نَفْسَهَا عَنْهُ بِاللِّعَانِ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَاعَنَتْ وَقَعَ التَّعَارُضُ فَلَا يَظْهَرُ صِدْقُ الزَّوْجِ فِي الْقَذْفِ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] أَيْ فَلْيَشْهَدْ أَحَدُهُمْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ جَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُوجِبَ قَذْفِ الزَّوْجَاتِ اللِّعَانَ فَمَنْ أَوْجَبَ الْحَدَّ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَجِبُ لِظُهُورِ كِذْبِهِ فِي الْقَذْفِ وَبِالِامْتِنَاعِ مِنْ اللِّعَانِ لَا يَظْهَرُ كِذْبُهُ إذْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الشَّهَادَةِ أَوْ الْيَمِينِ يَظْهَرُ كَذِبُهُ فِيهِ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْهُ صَوْنًا لِنَفْسِهِ عَنْ اللَّعْنِ وَالْغَضَبِ وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ فَكَيْفَ يَجِبُ مَعَ الِاحْتِمَالِ؛ وَلِأَنَّ الِاحْتِمَالَ مِنْ الْيَمِينِ بَدَلٌ وَإِبَاحَةٌ وَالْإِبَاحَةُ لَا تَجْرِي فِي الْحُدُودِ فَإِنَّ مَنْ أَبَاحَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقِيمَ. وَأَمَّا آيَةُ الْقَذْفِ فَقَدْ قِيلَ أَنَّ مُوجَبَ الْقَذْفِ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ هُوَ الْحَدَّ فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ وَالزَّوْجَاتِ جَمِيعًا ثُمَّ نُسِخَ فِي الزَّوْجَاتِ وَجُعِلَ مُوجَبُ قَذْفِهِنَّ اللِّعَانَ بِآيَةِ اللِّعَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَجِدُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَإِنْ قَتَلَهُ قَتَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَكَلَّمَ بِهِ جَلَدْتُمُوهُ وَإِنْ أَمْسَكَ أَمْسَكَ عَلَى غَيْظٍ ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ افْتَحْ فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ دَلَّ قَوْلُهُ: " وَإِنْ تَكَلَّمَ بِهِ جَلَدْتُمُوهُ " عَلَى أَنَّ مُوجَبَ قَذْفِ الزَّوْجَةِ كَانَ الْحَدَّ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ اللِّعَانِ ثُمَّ نُسِخَ فِي الزَّوْجَاتِ بِآيَةِ اللِّعَانِ فَيَنْسَخُ الْخَاصُّ الْمُتَأَخِّرُ الْعَامَّ الْمُتَقَدِّمَ بِقَدْرِهِ هَكَذَا هُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْعَامِّ مَا وَرَاءَ قَدْرِ الْخَاصِّ سَوَاءٌ كَانَ الْخَاصُّ سَابِقًا أَوْ لَاحِقًا وَسَوَاءٌ عَلِمَ التَّارِيخَ وَبَيْنَهُمَا زَمَانٌ يَصْلُحُ لِلنَّسْخِ أَوْ لَا يَصْلُحُ، أَوْ جَهِلَ التَّارِيخَ بَيْنَهُمَا فَلَمْ تَكُنْ الزَّوْجَاتُ دَاخِلَاتٍ تَحْتَ آيَةِ الْقَذْفِ عَلَى قَوْلِهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ احْتِجَاجُهُ بِهَا؟ . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْعَذَابِ يَقْتَضِي تَوَجُّهَ الْعَذَابِ لَا وُجُوبَهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ رَفْعًا لَا دَفْعًا عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْعَذَابِ هُوَ الْحَبْسُ إذْ الْحَبْسُ يُسَمَّى عَذَابًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْهُدْهُدِ {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} [النمل: 21] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ لَأَحْبِسَنَّهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَذَابَ يُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى الْمَنْعِ

فصل في بيان سبب وجوب اللعان

فِي اللُّغَةِ يُقَالُ: أَعْذَبَ أَيْ مَنَعَ وَأَعْذَبَ أَيْ امْتَنَعَ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا وَمَعْنَى الْمَنْعِ يُوجَدُ فِي الْحَبْسِ وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُنَا أَنَّهَا إذَا امْتَنَعَتْ مِنْ اللِّعَانِ تُحْبَسُ حَتَّى تُلَاعِنَ أَوْ تُقِرَّ بِالزِّنَا فَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ وَهُوَ الْحَبْسُ بِاللِّعَانِ فَإِذَا قُلْنَا بِمُوجَبِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَالْإِبْرَاءَ وَالصُّلْحَ؛ لِأَنَّهُ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ وَفِي جَانِبِهَا قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَالْإِبْرَاءَ وَالصُّلْحَ؛ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحُدُودِ. وَكَذَا لَوْ عَفَتْ عَنْهُ قَبْلَ الْمُرَافَعَةِ أَوْ صَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ لَمْ يَصِحَّ وَعَلَيْهَا رَدُّ بَدَلِ الصُّلْحِ وَلَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِاللِّعَانِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ وَمِنْهَا أَنْ لَا تُجْرَى فِيهِ النِّيَابَةُ حَتَّى لَوْ وَكَّلَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بِاللِّعَانِ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِّ فَلَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ كَسَائِرِ الْحُدُودِ؛ وَلِأَنَّهُ شَهَادَةٌ أَوْ يَمِينٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ فَأَمَّا التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِ الْقَذْفِ بِالْبَيِّنَةِ فَجَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَة إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ سَبَبِ وُجُوبِ اللِّعَانِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ سَبَبِ وُجُوبِ اللِّعَانِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ الْقَذْفُ بِالزِّنَا وَأَنَّهُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ نَفْيِ الْوَلَدِ، وَالثَّانِي بِنَفْيِ الْوَلَدِ أَمَّا الَّذِي بِغَيْرِ نَفْيِ الْوَلَدِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةُ أَوْ زَنَيْتِ أَوْ رَأَيْتُك تَزْنِينَ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: جُومِعْتِ جِمَاعًا حَرَامًا أَوْ وُطِئْتِ وَطْئًا حَرَامًا فَلَا لِعَانَ وَلَا حَدَّ لِعَدَمِ الْقَذْفِ بِالزِّنَا. وَلَوْ قَذَفَهَا بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ فَلَا لِعَانَ وَلَا حَدَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ اللِّعَانُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ بِزِنًا عِنْدَهُ فَلَمْ يُوجِبْ الْقَذْفَ بِالزِّنَا وَعِنْدَهُمَا هُوَ زِنَا. وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَقَذَفَهُنَّ جَمِيعًا بِالزِّنَا فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ أَوْ قَذَفَ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِالزِّنَا بِكَلَامٍ عَلَى حِدَةٍ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ وَهُنَّ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ يُلَاعِنُ فِي كُلِّ قَذْفٍ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى حِدَةٍ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ اللِّعَانِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَهُوَ الْقَذْفُ بِالزِّنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَيُكْتَفَى بِحَدٍّ وَاحِدٍ عَنْ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَتَدَاخَلُ. وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ وَالْبَعْضُ مِنْهُنَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ يُلَاعِنُ مِنْهُنَّ مَنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ لَا غَيْرُ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ اللِّعَانُ وَالْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ زَوْجَتَهُ وَقَذَفَ أُمَّهَا وَقَذْفُ الزَّوْجَةِ يُوجِبُ اللِّعَانَ وَقَذْفُ الْأَجْنَبِيَّةِ يُوجِبُ الْحَدَّ ثُمَّ إنَّهُمَا إذَا اجْتَمَعَا عَلَى مُطَالَبَةِ الْحَدِّ بُدِئَ بِالْحَدِّ لِأَجْلِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ فِي الْبِدَايَةِ إسْقَاطَ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَاللِّعَانُ شَهَادَةٌ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَدَّيْنِ إذَا اجْتَمَعَا وَفِي الْبِدَايَةِ بِأَحَدِهِمَا إسْقَاطُ الْآخَرِ بُدِئَ بِمَا فِيهِ إسْقَاطُ الْآخِرِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَقَدْ اسْتَطَعْنَا دَرْءَ الْحَدِّ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَإِنْ لَمْ تُطَالِبْهُ الْأُمُّ وَطَالَبَتْهُ الْمَرْأَةُ يُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا وَيُقَامُ حَدُّ الْقَذْفِ لِلْأُمِّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ طَالَبَتْهُ بِهِ كَذَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ لِلْأُمِّ بَعْدَ اللِّعَانِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ إقَامَةِ اللِّعَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى هُوَ خُرُوجُ الزَّوْجِ مِنْ أَهْلِيَّةِ اللِّعَانِ لِصَيْرُورَتِهِ مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أُمُّهَا مَيِّتَةً فَقَالَ لَهَا: يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ كَانَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ وَالْخُصُومَةُ فِي الْقَذْفَيْنِ لِوُجُوبِ اللِّعَانِ وَالْحَدِّ ثُمَّ إنْ خَاصَمَتْهُ فِي الْقَذْفَيْنِ جَمِيعًا يُبْدَأُ بِالْحَدِّ فَيُحَدُّ لِلْأُمِّ حَدَّ الْقَذْفِ لِمَا فِيهِ مِنْ إسْقَاطِ اللِّعَانِ، وَإِنْ لَمْ تُخَاصِمْ فِي قَذْفِ أُمِّهَا وَلَكِنَّهَا خَاصَمَتْ فِي قَذْفِ نَفْسِهَا يُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا وَيُحَدُّ لِلْأُمِّ لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إذَا قَذَفَ أَجْنَبِيَّةَ بِالزِّنَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَقَذَفَهَا بِالزِّنَا بَعْدَ التَّزَوُّجِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَاللِّعَانُ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ إنْ خَاصَمَتْهُ فِي الْقَذْفَيْنِ جَمِيعًا يُبْدَأُ بِحَدِّ الْقَذْفِ حَتَّى يَسْقُطَ اللِّعَانُ وَلَوْ لَمْ تُخَاصِمْ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَخَاصَمَتْ فِي اللِّعَانِ يُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ إذَا خَاصَمَتْ فِي الْحَدِّ يُحَدُّ لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا الَّذِي يَنْفِي الْوَلَدَ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: هَذَا الْوَلَدُ مِنْ الزِّنَا، أَوْ يَقُولَ: هَذَا الْوَلَدُ لَيْسَ مِنِّي فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ هَذَا الْوَلَدُ لَيْسَ مِنِّي لَا يَكُونُ قَذْفًا لَهَا بِالزِّنَا لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ ابْنَهُ بَلْ يَكُونُ ابْنَ غَيْرِهِ وَلَا تَكُونُ هِيَ زَانِيَةً بِأَنْ كَانَتْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ فَالْجَوَابُ نَعَمْ هَذَا الِاحْتِمَالُ ثَابِتٌ لَكِنَّهُ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّهُ إنْ نَفَاهُ عَنْ الْأَبِ الْمَشْهُورِ بِأَنْ قَالَ لَهُ: لَسْتُ بِأَبِيكَ يَكُونُ قَاذِفًا لِأُمِّهِ حَتَّى يَلْزَمَهُ حَدُّ الْقَذْفِ مَعَ وُجُودِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَلَوْ جَاءَتْ زَوْجَتُهُ بِوَلَدٍ فَقَالَ لَهَا: لَمْ تَلِدِيهِ لَمْ يَجِبْ اللِّعَانُ لِعَدَمِ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ الْوِلَادَةَ، وَإِنْكَارُ الْوِلَادَةِ لَا يَكُونُ قَذْفًا فَإِنْ أَقَرَّ بِالْوِلَادَةِ أَوْ شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ عَلَى

فصل في شرائط وجوب اللعان وجوازه

الْوِلَادَةِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَيْسَ بِابْنِي وَجَبَ اللِّعَانُ لِوُجُودِ الْقَذْفِ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ: لَيْسَ هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي لَمْ يَجِبْ اللِّعَانُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِعَدَمِ الْقَذْفِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْقَذْفِ وَجَبَ اللِّعَانُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَجِبْ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْقَذْفِ فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ وَقْتَ الْقَذْفِ وَلِهَذَا لَوْ أَوْصَى لِحَمْلِ امْرَأَتِهِ فَجَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ اسْتَحَقَّ الْوَصِيَّةَ، وَإِذَا تَيَقَّنَّا بِوُجُودِهِ وَقْتَ النَّفْيِ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّفْيِ إذْ الْحَمْلُ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ، فَإِنَّ الْجَارِيَةَ تُرَدُّ عَلَى بَائِعِهَا وَيَجِبُ لِلْمُعْتَدَّةِ النَّفَقَةُ لِأَجْلِ حَمْلِهَا فَإِذَا نَفَاهُ يُلَاعِنُ فَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلَمْ تَتَيَقَّنْ بِوُجُودِهِ عِنْدَ الْقَذْفِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ حَادِثٌ وَلِهَذَا لَا تَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَذْفَ بِالْحَمْلِ لَوْ صَحَّ إمَّا أَنْ يَصِحَّ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الثَّانِي لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ لِلْحَالِ لِجَوَازِ أَنَّهُ رِيحٌ لَا حَمْلٌ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ كُنْتِ حَامِلًا فَأَنْتِ زَانِيَةٌ وَالْقَذْفُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِعَيْبِ الْحَبَلِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالرَّدِّ عَلَى اعْتِبَارِ الْحَالِ لِوُجُودِ الْعَيْبِ ظَاهِرًا، وَاحْتِمَالُ الرِّيحِ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُورِثُ إلَّا شُبْهَةً وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ لَا يَمْتَنِعُ بِالشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ الْقَذْفِ، وَالنَّفَقَةُ لَا يَخْتَصُّ وُجُوبُهَا بِالْحَمْلِ عِنْدَنَا فَإِنَّهَا تَجِبُ لِغَيْرِ الْحَامِلِ، وَلَا يُقْطَعُ نَسَبُ الْحَمْلِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُلَاعَنُ وَقَطْعُ النَّسَبِ مِنْ أَحْكَامِ اللِّعَانِ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ إنَّمَا تَثْبُتُ لِلْوَلَدِ لَا لِلْحَمْلِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْوَلَدِ بِالِانْفِصَالِ وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ إلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُلَاعَنُ وَيُقْطَعُ نَسَبُ الْحَمْلِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاعَنَ بَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِهَا فَدَلَّ أَنَّ الْقَذْفَ بِالْحَمْلِ يُوجِبُ اللِّعَانَ وَقَطْعَ نَسَبِ الْحَمْلِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ هِلَالًا لَمْ يَقْذِفْهَا بِالْحَمْلِ بَلْ بِصَرِيحِ الزِّنَا وَذَكَرَ الْحَمْلَ وَبِهِ نَقُولُ أَنَّ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ حَامِلٌ يُلَاعَنُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْ الْقَذْفَ بِالشَّرْطِ وَأَمَّا قَطْعُ النَّسَبِ فَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّ هُنَاكَ وَلَدًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَةِ كَذَا فَهُوَ لِكَذَا وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَةِ كَذَا فَهُوَ لِكَذَا وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِالْوَحْيِ وَلَا طَرِيقَ لَنَا إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَلَا يُنْفَى الْوَلَدُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ وُجُوبِ اللِّعَانِ وَجَوَازِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ اللِّعَانِ وَجَوَازِهِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاذِفِ خَاصَّةً، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ خَاصَّةً، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ فِيهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعَ إلَى نَفْسِ الْقَذْفِ. أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَاذِفِ خَاصَّةً فَوَاحِدٌ وَهُوَ عَدَمُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ ذَلِكَ فِي آيَةِ اللِّعَانِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] الْآيَةَ حَتَّى لَوْ أَقَامَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهُودِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِالزِّنَا لَا يَثْبُتُ اللِّعَانُ وَيُقَامُ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ زِنَاهَا بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَحَدُهُمْ الزَّوْجُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الزَّوْجِ قَذْفٌ قَبْلَ ذَلِكَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَيُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الزَّوْجَ مُتَّهَمٌ فِي شَهَادَتِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ حَمَلَهُ الْغَيْظُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ يَدْفَعُ الْمَغْرَمَ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ اللِّعَانُ وَلَا شَهَادَةَ لِدَافِعِ الْمَغْرَمِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَنَا أَنَّ شَهَادَتَهُ بِالْقَبُولِ أَوْلَى مِنْ شَهَادَةِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهَا أَبْعَدُ مِنْ التُّهْمَةِ إذْ الْعَادَةُ أَنَّ الرَّجُلَ يَسْتُرُ عَلَى امْرَأَتِهِ مَا يَلْحَقُهُ بِهِ شَيْنٌ فَلَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا فِي شَهَادَتِهِ فَتُقْبَلُ كَشَهَادَةِ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ، وَقَوْلُهُ إنَّهُ يَدْفَعُ الْمَغْرَمَ عَنْ نَفْسِهِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ قَذْفٌ يُوجِبُ اللِّعَانَ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ هَذِهِ الشَّهَادَةَ قَذْفٌ لِيَدْفَعَ اللِّعَانَ بِهَا فَصَارَ كَشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ وَلَا يُجْعَلُ دَافِعًا لِلْحَدِّ عَنْ نَفْسِهِ كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَذَفَهَا أَوَّلًا ثُمَّ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ سِوَاهُ فَشَهِدُوا فَهُمْ قَذَفَةٌ يُحَدُّونَ وَعَلَى الزَّوْجِ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَبَقَ مِنْهُ الْقَذْفُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ اللِّعَانُ فَهُوَ بِشَهَادَتِهِ جُعِلَ دَافِعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَالزِّنَا لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ ثَلَاثَةٍ فَصَارَ قَذَفَةً فَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ، وَيُلَاعَنُ الزَّوْجُ لِقَذْفِ زَوْجَتِهِ فَإِنْ جَاءَ هُوَ وَثَلَاثَةٌ شَهِدُوا أَنَّهَا قَدْ زَنَتْ فَلَمْ يَعْدِلُوا فَلَا

حَدَّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ زِنَاهَا لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِشَهَادَةِ الْفُسَّاقِ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالتَّوْفِيقِ فِي بَيَانِهِ؟ فَقَدْ وُجِدَ إتْيَانُ أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ؟ وَلَا لِعَانَ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ وَلَيْسَ بِقَاذِفٍ فَإِنْ شَهِدُوا مَعَهُ ثَلَاثَةٌ عُمْيٌ حُدَّ وَحُدُّوا أَيْ يُلَاعَنُ الزَّوْجُ وَيُحَدُّونَ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الْعُمْيَانَ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ قَطْعًا فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ حُجَّةً أَصْلًا فَكَانُوا قَذَفَةً فَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ وَيُلَاعَنُ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ قَذْفَ الزَّوْجِ يُوجِبُ اللِّعَانَ إذَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَلَمْ يَأْتِ بِهِمْ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ خَاصَّةً فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا إنْكَارُهَا وُجُودَ الزِّنَا مِنْهَا حَتَّى لَوْ أَقَرَّتْ بِذَلِكَ لَا يَجِبُ اللِّعَانُ وَيَلْزَمُهَا حَدُّ الزِّنَا وَهُوَ الْجَلْدُ إنْ كَانَتْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ وَالرَّجْمُ إنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً لِظُهُورِ زِنَاهَا بِإِقْرَارِهَا، وَالثَّانِي عِفَّتُهَا عَنْ الزِّنَا فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَفِيفَةً لَا يَجِبُ اللِّعَانُ بِقَذْفِهَا كَمَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيَّةِ إذَا لَمْ تَكُنْ عَفِيفَةً؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ عَفِيفَةً فَقَدْ صَدَّقَتْهُ بِفِعْلِهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ صَدَّقَتْهُ بِقَوْلِهَا وَلِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ وَنَذْكُرُ تَفْسِيرَ الْعِفَّةِ عَنْ الزِّنَا فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي الْمَرْأَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ ثُمَّ قَذَفَهَا زَوْجُهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اللِّعَانُ وَلَوْ قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهَا وُطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا فَذَهَبَتْ عِفَّتُهَا، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ: يَجِبُ بِقَذْفِهَا الْحَدُّ وَاللِّعَانُ؛ لِأَنَّ هَذَا وَطْءٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ وَوُجُوبُ الْمَهْرِ فَكَانَ كَالْمَوْجُودِ فِي النِّكَاحِ فَلَا يُزِيلُ الْعِفَّةَ عَنْ الزِّنَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَطْءَ حَرَامٌ لِعَدَمِ النِّكَاحِ إنَّمَا الْمَوْجُودُ شُبْهَةُ النِّكَاحِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْحَدُّ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَلَأَنْ يَسْقُطَ الْحَدُّ وَاللِّعَانُ عَنْ الْقَاذِفِ لِمَكَانِ الْحَقِيقَةِ أَوْلَى. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَهُوَ أَنْ يَكُونَا زَوْجَيْنِ حُرَّيْنِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ مُسْلِمَيْنِ نَاطِقَيْنِ غَيْرَ مَحْدُودَيْنِ فِي الْقَذْفِ أَمَّا اعْتِبَارُ الزَّوْجِيَّةِ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَصَّ اللِّعَانَ بِالْأَزْوَاجِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6] وَأَنَّهُ حُكْمٌ ثَبَتَ تَعَبُّدًا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ التَّعَبُّدِ وَإِنَّمَا وَرَدَ التَّعَبُّدُ بِهِ فِي الْأَزْوَاجِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا ثُمَّ قَذَفَهَا لَمْ يُلَاعِنْهَا لِعَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ إذْ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ حَقِيقَةً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُلَاعِنُهَا إذَا كَانَ الْقَذْفُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ إذَا كَانَ بِنَفْيِ الْوَلَدِ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى قَطْعِ النَّسَبِ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ كَمَا يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَيُشْرَعُ اللِّعَانُ لِقَطْعِ النَّسَبِ وَالْجَوَابُ أَنَّ قَطْعَ النَّسَبِ يَكُونُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ اللِّعَانِ وَلَا لِعَانَ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِهِ وَلَا وُجُوبَ لِعَدَمِ شَرْطِهِ وَهُوَ الزَّوْجِيَّةُ. وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ قَذَفَهَا بِالزِّنَا لَا يَجِبُ اللِّعَانُ لِعَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ لِبُطْلَانِهَا بِالْإِبَانَةِ وَالثَّلَاثِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ قَذَفَهَا يَجِب اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُبْطِلُ الزَّوْجِيَّةَ وَلَوْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِزِنًى كَانَ قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَاحْتَجَّ بِآيَةِ الْقَذْفِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ، وَلَنَا آيَةُ اللِّعَانِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] مِنْ غَيْرِ فَضْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْقَذْفُ بِزِنًا بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ أَوْ قَبْلَهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ قَذَفَ زَوْجَتَهُ أَنَّهُ أَضَافَ الْقَذْفَ إلَيْهَا وَهِيَ لِلْحَالِ زَوْجَتُهُ إلَّا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِزِنًى مُتَقَدِّمٍ وَبِهَذَا لَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ زَوْجَتَهُ فِي الْحَالِ كَمَا إذَا قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً بِزِنًا مُتَقَدِّمٍ حَتَّى يَلْزَمَهُ الْقَذْفُ كَذَا هَهُنَا. وَأَمَّا آيَةُ الْقَذْفِ فَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى آيَةِ اللِّعَانِ فَيَجِبُ تَخْرِيجُهَا عَلَى التَّنَاسُخِ فَيَنْسَخُ الْخَاصُّ الْمُتَأَخِّرُ الْعَامَّ الْمُتَقَدِّمَ بِقَدْرِهِ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا وَعِنْدَهُ يَقْضِي الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ عَلَى مَا مَرَّ وَلَوْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ مَوْتِهَا لَمْ يُلَاعَنُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُلَاعَنُ عَلَى قَبْرِهَا وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي آيَةِ اللِّعَانِ {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الْآيَةَ خَصَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اللِّعَانَ بِالْأَزْوَاجِ وَقَدْ زَالَتْ الزَّوْجِيَّةُ بِالْمَوْتِ فَلَمْ يُوجَدْ قَذْفُ الزَّوْجَةِ فَلَا يَجِبُ اللِّعَانُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَيِّتَةَ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ بِقَذْفِ الْأَزْوَاجِ بِقَوْلِهِ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ تَبْقَ زَوْجَةً لَهُ. وَأَمَّا اعْتِبَارُ الْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالْإِسْلَامِ وَالنُّطْقِ وَعَدَمِ الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ فَالْكَلَامُ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ شَرْطًا لِوُجُوبِ اللِّعَانِ فَرْعٌ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى اللِّعَانِ وَمَا يُثْبِتُهُ شَرْعًا وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْأَيْمَانِ مَقْرُونَةٌ بِاللَّعْنِ

وَبِالْغَضَبِ وَإِنَّهُ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ وَفِي جَانِبِهَا قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: اللِّعَانُ أَيْمَانٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ مَقْرُونَةٌ بِاللَّعْنِ وَالْغَضَبِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ وَمَنْ لَا فَلَا عِنْدَنَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ عِنْدَهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ اللِّعَانِ {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] فَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى اللِّعَانَ بِالشَّهَادَةِ بِاَللَّهِ وَالشَّهَادَةُ بِاَللَّهِ يَمِينٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ يَكُونُ يَمِينًا إلَّا أَنَّهُ يَمِينٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ؛ وَلِأَنَّ اللِّعَانَ لَوْ كَانَ شَهَادَةً لَمَا قَرَنَهُ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْيَمِينُ هِيَ الَّتِي تَفْتَقِرُ إلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَهَادَةً لَكَانَتْ شَهَادَةً عَلَى النِّصْفِ مِنْ شَهَادَةِ الرَّجُلِ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي لِلْمَرْأَةِ فِيهَا شَهَادَةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ تَشْهَدَ الْمَرْأَةُ عَشْرَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَهَادَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَمِينٌ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ حُبْلَى فَقَالَ لَهَا: «إذَا وَلَدْتِ وَلَدًا فَلَا تُرْضِعِيهِ حَتَّى تَأْتِينِي بِهِ فَلَمَّا انْصَرَفُوا عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ وَلَدَتْهُ أَحْمَرَ مِثْلَ الدِّبْسِ فَهُوَ يُشْبِهُ أَبَاهُ الَّذِي نَفَاهُ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ أَسْوَدَ أَدْعَجَ جَعْدًا قَطَطًا فَهُوَ يُشْبِهُ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ فَلَمَّا وَضَعَتْ وَأَتَتْ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَظَرَ إلَيْهِ فَإِذَا هُوَ أَسْوَدُ أَدْعَجُ جَعْدٌ قَطَطٌ عَلَى مَا نَعَتَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْلَا الْأَيْمَانُ الَّتِي سَبَقَتْ لَكَانَ لِي فِيهَا رَأْيٌ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» فَقَدْ سَمَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللِّعَانَ أَيْمَانًا لَا شَهَادَةً فَدَلَّ أَنَّهُ يَمِينٌ لَا شَهَادَةٌ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ شُهَدَاءَ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الشُّهَدَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] وَالْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَالثَّانِي أَنَّهُ سَمَّى اللِّعَانَ شَهَادَةً نَصًّا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] وَالْخَامِسَةُ أَيْ الشَّهَادَةُ الْخَامِسَةُ وَقَالَ تَعَالَى فِي جَانِبِهَا {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8] وَالْخَامِسَةُ أَيْ الشَّهَادَةُ الْخَامِسَةُ إلَّا أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ شَهَادَةً بِاَللَّهِ تَأْكِيدًا لِلشَّهَادَةِ بِالْيَمِينِ، فَقَوْلُهُ أَشْهَدُ يَكُونُ شَهَادَةً وَقَوْلُهُ بِاَللَّهِ يَكُونُ يَمِينًا وَهَذَا مَذْهَبُنَا أَنَّهُ شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْأَيْمَانِ وَهُوَ أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ الْمُخَالِفُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِاللَّفْظَيْنِ فِي مَعْنَيَيْنِ وَفِيمَا قَالَهُ حَمَلَ اللَّفْظَيْنِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ شَهَادَةٌ أَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ لَفْظَ الشَّهَادَةِ وَحَضْرَةَ الْحَاكِمِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لَوْ كَانَ شَهَادَةً لَكَانَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ شَهَادَةِ الرَّجُلِ فَنَقُولُ هُوَ شَهَادَةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْيَمِينِ فَيُرَاعَى فِيهِ مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَمَعْنَى الْيَمِينِ وَقَدْ رَاعِينَا مَعْنَى الشَّهَادَةِ فِيهِ بِاشْتِرَاطِ لَفْظَةِ الشَّهَادَةِ فَيُرَاعَى مَعْنَى الْيَمِينِ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْعَدَدِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ جَمِيعًا وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ الشَّهَادَاتِ وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ حَيْثُ سَمَّاهُ شَهَادَةً نَقُولُ بِمُوجَبِهِ أَنَّهُ يَمِينٌ لَكِنَّ هَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ شَهَادَةً فَهُوَ شَهَادَةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْيَمِينِ وَاَللَّه تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ تُخَرَّجُ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ، أَمَّا اعْتِبَارُ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ فَلِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ فَلَا يَكُونَانِ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَالْمَمْلُوكُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْكَافِرِ. وَإِذَا كَانَا كَافِرَيْنِ فَالْكَافِرُ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْكَافِرِ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ حُكْمِهَا وَهُوَ الْكَفَّارَةُ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ عِنْدَنَا، وَاللِّعَانُ عِنْدَنَا شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْأَيْمَانِ فَمَنْ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ. وَأَمَّا اعْتِبَارُ النُّطْقِ فَلِأَنَّ الْأَخْرَسَ لَا شَهَادَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ؛ وَلِأَنَّ الْقَذْفَ مِنْهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْإِشَارَةِ، وَالْقَذْفُ بِالْإِشَارَةِ يَكُونُ فِي مَعْنَى الْقَذْفِ بِالْكِتَابَةِ وَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ اللِّعَانَ كَمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي الْحُدُودِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ فَلَا شَهَادَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَدَّ شَهَادَتَهُ عَلَى التَّأْبِيدِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَذْفُ الْفَاسِقِ وَالْأَعْمَى فَإِنَّهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ وَلَا شَهَادَةَ لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ لَهُ شَهَادَةٌ فِي الْجُمْلَةِ وَلَهُمَا جَمِيعًا أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِشَهَادَتِهِمَا جَازَ قَضَاؤُهُ وَمَعْلُومٌ

فصل في بيان ما يظهر به سبب وجوب اللعان

أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَمْلُوكِ إلَّا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، ثُمَّ هَذِهِ الشَّرَائِطُ كَمَا هِيَ شَرْطُ وُجُوبِ اللِّعَانِ فَهِيَ شَرْطُ صِحَّةِ اللِّعَانِ وَجَوَازِهِ حَتَّى لَا يَجْرِي اللِّعَانُ بِدُونِهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَ الْمَمْلُوكَيْنِ وَالْأَخْرَسَيْنِ وَالْمَحْدُودَيْنِ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ فَكَانُوا مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ وَكَذَا بَيْنَ الْكَافِرِينَ؛ لِأَنَّ يَمِينَ الْكَافِرِ صَحِيحَةٌ عِنْدَهُ لَا مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ وَلِهَذَا قَالَ يَجُوزُ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمَا إذَا الْتَعْنَا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا حَتَّى عُزِلَ أَوْ مَاتَ فَالْحَاكِمُ الثَّانِي يَسْتَقْبِلُ اللِّعَانَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَمَّا كَانَ شَهَادَةً فَالشُّهُودُ إذَا شَهِدُوا عِنْدَ الْحَاكِمِ فَمَاتَ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يَعْتَدَّ الْحَاكِمُ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَسْتَقْبِلُ اللِّعَانَ. وَقَوْلُهُ لَا يُخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَلَكِنَّ الْوَجْهَ لَهُ أَنَّ اللِّعَانَ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَدِّ فَإِذَا الْتَعْنَا فَكَأَنَّهُ أُقِيمَ الْحَدُّ، وَالْحَدُّ بَعْدَ إقَامَتِهِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْعَزْلُ وَالْمَوْتُ وَالْجَوَابُ أَنَّ حُكْمَ الْقَذْفِ لَا يَتَنَاهَى إلَّا بِالتَّفْرِيقِ فَيُؤَثِّرُ الْعَزْلُ وَالْمَوْتُ قَبْلَهُ، ثُمَّ ابْتِدَاءُ الدَّلِيلِ لَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعَةٌ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِمْ: لَا لِعَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَالْعَبْدِ وَالْحُرَّةِ، وَالْحُرِّ وَالْأَمَةِ وَالْكَافِرِ وَالْمُسْلِمَةِ» وَصُورَتُهُ الْكَافِرُ أَسْلَمَتْ زَوْجَتُهُ فَقَبْلَ أَنْ يُعْرَضَ الْإِسْلَامُ عَلَى زَوْجِهَا قَذَفَهَا بِالزِّنَا. (وَلَنَا) أَصْلٌ آخَرُ لِتَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ قَذْفٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ لَوْ كَانَ الْقَاذِفُ أَجْنَبِيًّا لَا يُوجِبُ اللِّعَانَ إذَا كَانَ الْقَاذِفُ زَوْجًا؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ مُوجَبُ الْقَذْفِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ كَمَا أَنَّ الْحَدَّ مُوجَبُ الْقَذْفِ فِي الْأَجْنَبِيِّ وَقَذْفُ وَاحِدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَإِذَا كَانَ زَوْجًا لَا يُوجِبُ اللِّعَانَ. وَابْتِدَاءُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عُمُومُ آيَةِ اللِّعَانِ إلَّا مَنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ شُهَدَاءَ فِي آيَةِ اللِّعَانِ وَاسْتَثْنَاهُمْ مِنْ الشُّهَدَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي آيَةِ الْقَذْفِ وَلَمْ يَدْخُلْ وَاحِدٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُمْ فَكَذَا فِي الْمُسْتَثْنَى؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اسْتِخْرَاجٌ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ وَتَحْصِيلٌ مِنْهَا، وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ وَالْمَقْذُوفِ فِيهِ وَنَفْسِ الْقَذْفِ فَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ سَبَبُ وُجُوبِ اللِّعَانِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ سَبَبُ وُجُوبِ اللِّعَانِ وَهُوَ الْقَذْفُ عِنْدَ الْقَاضِي فَسَبَبُ ظُهُورِ الْقَذْفِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةُ إذَا خَاصَمَتْ الْمَرْأَةُ فَأَنْكَرَ الْقَذْفَ وَالْأَفْضَلُ أَنْ تَتْرُكَ الْخُصُومَةَ وَالْمُطَالَبَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ وَكَذَا تَرْكُهَا مِنْ بَابِ الْفَضْلِ وَالْإِكْرَامِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] فَإِنْ لَمْ تَتْرُكْ وَخَاصَمَتْهُ إلَى الْقَاضِي يُسْتَحْسَنُ لِلْقَاضِي أَنْ يَدْعُوَهُمَا إلَى التَّرْكِ فَيَقُولُ لَهَا: اُتْرُكِي وَأَعْرِضِي عَنْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ إلَى سَتْرِ الْفَاحِشَةِ وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَإِنْ تَرَكَتْ وَانْصَرَفَتْ ثُمَّ بَدَا لَهَا أَنْ تُخَاصِمَهُ فَلَهَا ذَلِكَ وَإِنْ تَقَادَمَ الْعَهْدُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهَا وَحَقُّ الْعَبْدِ لَا يَسْقُطُ بِالتَّقَادُمِ فَإِنْ خَاصَمَتْهُ وَادَّعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَا فَجَحَدَ الزَّوْجُ لَا يُقْبَلُ مِنْهَا فِي إثْبَاتِ الْقَذْفِ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ، وَلَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي كَمَا لَا يُقْبَلُ فِي إثْبَاتِ الْقَذْفِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ وَأَسْبَابِ الْحُدُودِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي إثْبَاتِهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى النِّسَاءِ وَلَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَلَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لِتُمْكِنَ زِيَادَةُ شُبْهَةٍ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهَا وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالثَّانِي الْإِقْرَارُ بِالْقَذْفِ وَشَرْطُ ظُهُورِ الْقَذْفِ بِالْبَيِّنَةِ، وَالْإِقْرَارُ هُوَ الْخُصُومَةُ وَالدَّعْوَى لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يُسْقِطُ اللِّعَانَ بَعْدَ وُجُوبِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُ اللِّعَانَ بَعْدَ وُجُوبِهِ وَبَيَانُ حُكْمِهِ إذَا سَقَطَ أَوْ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: كُلُّ مَا يَمْنَعُ وُجُوبَ اللِّعَانِ إذَا اعْتَرَضَ بَعْدَ وُجُوبِهِ يُسْقِطُ كَمَا إذَا جُنَّا بَعْدَ الْقَذْفِ أَوْ جُنَّ أَحَدُهُمَا، أَوْ ارْتَدَّا أَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا، أَوْ خَرِسَا أَوْ خَرِسَ أَحَدُهُمَا، أَوْ قَذَفَ أَحَدُهُمَا إنْسَانًا فَحُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ أَوْ وُطِئَتْ الْمَرْأَةُ وَطْئًا حَرَامًا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَكَذَا إذَا أَبَانَهَا بَعْدَ الْقَذْفِ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْحَدِّ فَلِأَنَّ الْقَذْفَ أَوْجَبَ اللِّعَانَ فَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ. وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ اللِّعَانِ فَلِزَوَالِ الزَّوْجِيَّةِ وَقِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ شَرْطُ جَرَيَانِ حَدِّ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ

فصل في حكم اللعان

وَتَعَالَى خَصَّ اللِّعَانَ بِالْأَزْوَاجِ وَلَوْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا لَا يَسْقُطُ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُبْطِلُ الزَّوْجِيَّةَ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: يَا زَانِيَةُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ يَا زَانِيَةُ أَوْجَبَ اللِّعَانَ لَا الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ الزَّوْجَةَ وَلَمَّا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَقَدْ أَبْطَلَ الزَّوْجِيَّةَ، وَاللِّعَانُ لَا يَجْرِي فِي غَيْرِ الْأَزْوَاج وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا زَانِيَةُ يَجِبُ الْحَدُّ وَلَا يَجِبُ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا بَعْدَ الْإِبَانَةِ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ بَعْدَ الْإِبَانَةِ وَقَذْفُ الْأَجْنَبِيَّةِ يُوجِبُ الْحَدَّ لَا اللِّعَانَ، وَلَوْ أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ سَقَطَ اللِّعَانُ لِتَعَذُّرِ الْإِتْيَانِ بِهِ إذْ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُؤْمَرَ أَنْ يَشْهَدَ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ وَهُوَ يَقُولُ إنَّهُ كَاذِبٌ، وَيَجِبُ الْحَدُّ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ أَكْذَبَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فِي الْإِنْكَارِ وَصَدَّقَتْ الزَّوْجَ فِي الْقَذْفِ سَقَطَ اللِّعَانُ لِمَا قُلْنَا وَلَا حَدَّ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ الْقَذْفُ مُوجِبًا لِلِّعَانِ أَصْلًا لِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَهَلْ يَجِبُ الْحَدُّ؟ فَمَشَايِخُنَا أَصَّلُوا فِي ذَلِكَ أَصْلًا فَقَالُوا: إنْ كَانَ عَدَمُ وُجُوبِ اللِّعَانِ أَوْ سُقُوطُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ لِمَعْنًى مِنْ جَانِبِهَا فَلَا حُدُودَ وَلَا لِعَانَ، وَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ لِمَعْنًى مِنْ جَانِبِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقَذْفُ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا يُحَدُّ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ خَرَّجُوا جِنْسَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، فَقَالُوا: إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ يُحَدُّ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ اللِّعَانِ لِمَعْنًى مِنْ جَانِبِهِ وَهُوَ إكْذَابُهُ نَفْسَهُ وَالْقَذْفُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ قَذْفُ عَاقِلٍ بَالِغٍ فَيَجِبُ الْحَدُّ، وَلَوْ أَكَذَبَتْ نَفْسَهَا فِي الْإِنْكَارِ وَصَدَّقَتْ الزَّوْجَ فِي الْقَذْفِ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى صِفَةِ الِالْتِعَانِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ اللِّعَانِ لِمَعْنًى مِنْ جَانِبِهَا وَهُوَ إكْذَابُهَا نَفْسَهَا وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى صِفَةِ الِالْتِعَانِ وَالزَّوْجُ عَبْدٌ أَوْ كَافِرٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ قَذْفَهَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا سَقَطَ اللِّعَانُ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ أَنَّهُ عَلَى صِفَةٍ لَا يَصِحُّ مِنْهُ اللِّعَانُ وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى صِفَةِ الِالْتِعَانِ؛ لِأَنَّ قَذْفَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا غَيْرَ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ وَالزَّوْجَةُ لَا بِصِفَةِ الِالْتِعَانِ بِأَنْ كَانَتْ كَافِرَةً أَوْ مَمْلُوكَةً أَوْ صَبِيَّةً أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ زَانِيَةً فَلَا حَدَّ عَلَى الزَّوْجِ وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّ قَذْفَهَا لَيْسَ بِقَذْفٍ صَحِيحٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَجْنَبِيًّا لَوْ قَذَفَهَا لَا يُحَدُّ وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُسْلِمَةً حُرَّةً عَاقِلَةً عَفِيفَةً إلَّا أَنَّهَا مَحْدُودَةٌ فِي الْقَذْفِ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَكِنَّ سُقُوطَ اللِّعَانِ لِمَعْنًى مِنْ جَانِبِهَا وَهُوَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَلَا يَجِبُ اللِّعَانُ وَلَا الْحَدُّ كَمَا لَوْ صَدَّقَتْهُ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَقَذَفَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ صَحِيحٌ وَسُقُوطُ اللِّعَانِ لِمَعْنًى فِي الزَّوْجِ وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ سَقَطَ لِمَعْنًى فِي الْمَرْأَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَحْدُودًا وَالْمَرْأَةُ مَحْدُودَةٌ لَا يَجِبُ اللِّعَانُ لِاعْتِبَارِ جَانِبِهَا. وَإِنْ كَانَ السُّقُوطُ لِمَعْنًى مِنْ جَانِبِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ اللِّعَانُ وَلَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْقَذْفُ الصَّحِيحُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِيهِ صِفَاتُ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَ الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ لَا تُعْتَبَرُ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ صِفَاتُ الزَّوْجِ فَيُعْتَبَرُ الْمَانِعُ بِمَا فِيهِ لَا بِمَا فِيهَا فَكَانَ سُقُوطُ اللِّعَانِ لِمَعْنًى فِي الزَّوْجِ بَعْدَ صِحَّةِ الْقَذْفِ فَيُحَدُّ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي حُكْمُ اللِّعَانِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ اللِّعَانِ فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ حُكْمِ اللِّعَانِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يُبْطِلُ حُكْمَهُ. أَمَّا بَيَانُ حُكْمِ اللِّعَانِ فَلِلِّعَانِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا أَصْلِيٌّ، وَالْآخَرُ لَيْسَ بِأَصْلِيٍّ. أَمَّا الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلِّعَانِ فَنَذْكُرُ أَصْلَ الْحُكْمِ وَوَصْفَهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: هُوَ وُجُوبُ التَّفْرِيقِ مَا دَامَا عَلَى حَالِ اللِّعَانِ لَا وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِنَفْسِ اللِّعَانِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ حَتَّى يَجُوزَ طَلَاقُ الزَّوْجِ وَظِهَارُهُ وَإِيلَاؤُهُ وَيَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ التَّفْرِيقِ وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: هُوَ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بِنَفْسِ اللِّعَانِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ زُفَرَ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ مَا لَمْ يَلْتَعِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ قَبْلَ أَنْ تَلْتَعِنَ الْمَرْأَةُ. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْفُرْقَةَ أَمْرٌ يَخْتَصُّ بِالزَّوْجِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِسَبَبِ الْفُرْقَةِ؟ فَلَا يَقِفُ وُقُوعُهَا عَلَى فِعْلِ الْمَرْأَةِ كَالطَّلَاقِ، وَاحْتَجَّ زُفَرُ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» وَفِي بَقَاءِ النِّكَاحِ اجْتِمَاعُهُمَا وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ. وَلَنَا مَا رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فَفَرَّقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا لَاعَنَ بَيْنَ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ

وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا» . وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانَيْ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ اللِّعَانِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا لَكَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟» قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا فَأَبَيَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَدَلَّتْ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَلَا بِلِعَانِهَا إذْ لَوْ وَقَعَتْ لَمَا اُحْتُمِلَ التَّفْرِيقُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا بِنَفْسِ اللِّعَانِ؛ وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ اللِّعَانِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمِلْكَ مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِإِزَالَتِهِ أَوْ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي حَقِّهِ لِعَجْزِهِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَلَمْ تُوجَدْ الْإِزَالَةُ مِنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا يُنْبِئُ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْيَمِينِ أَوْ يَمِينٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يُنْبِئُ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ وَلِهَذَا لَا يَزُولُ بِسَائِرِ الشَّهَادَاتِ وَالْأَيْمَانِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الِامْتِنَاعِ ثَابِتَةٌ فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ مُخَالِفٌ لِآيَةِ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ الْأَزْوَاجَ بِاللِّعَانِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ فَلَوْ ثَبَتَتْ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ فَالزَّوْجَةُ تُلَاعِنُهُ وَهِيَ غَيْرُ زَوْجَةٍ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ. وَأَمَّا زُفَرُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْمُتَلَاعِنَ مُتَفَاعِلٌ مِنْ اللَّعْنِ وَحَقِيقَةُ الْمُتَفَاعِلِ الْمُتَشَاغِلُ بِالْفِعْلِ فَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ لَا يَبْقَى فَاعِلًا حَقِيقَةً فَلَا يَبْقَى مُلَاعِنًا حَقِيقَةً فَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ لِإِثْبَاتِ الْفُرْقَةِ عَقِيبَ اللِّعَانِ فَلَا تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ عَقِيبَهُ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ عَقِيبَهُ وُجُوبُ التَّفْرِيقِ فَإِنْ فَرَّقَ الزَّوْجُ بِنَفْسِهِ وَإِلَّا يَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّفْرِيقِ فَإِذَا فَرَّقَ بَعْدَ تَمَامِ اللِّعَانِ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ فَإِنْ أَخْطَأَ الْقَاضِي فَفَرَّقَ قَبْلَ تَمَامِ اللِّعَانِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ الْتَعَنَ أَكْثَرَ اللِّعَانِ نَفَّذَ الْقَاضِي إذَا وَقَعَ بَعْدَ أَكْثَرِ اللِّعَانِ فَقَدْ قَضَى بِالِاجْتِهَادِ فِي مَوْضِعٍ يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ فَيَنْفُذُ قَضَاؤُهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ تَفْرِيقَهُ صَادَفَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا أَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ فَاقْتَضَى اجْتِهَادُهُ إلَى أَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي اللِّعَانِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ اجْتَهَدَ أَنَّ التَّكْرَارَ فِي اللِّعَانِ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّغْلِيظِ وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الْأَكْثَرِ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ لَمَّا سَاغَ لِلشَّافِعِيِّ الِاقْتِصَارُ عَلَى لِعَانِ الزَّوْجِ إذَا قَذَفَ الْمَجْنُونَةَ أَوْ الْمَيِّتَةَ فَلَأَنْ يَسُوغَ لَهُ الِاجْتِهَادُ بَعْدَ إكْمَالِ الزَّوْجِ لِعَانَهُ وَإِتْيَانِ الْمَرْأَةِ بِأَكْثَرِ اللِّعَانِ أَوْلَى فَثَبَتَ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي صَادَفَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ فَيَنْفُذُ فَإِنْ قِيلَ شَرْطُ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ أَنْ لَا يُخَالِفَ النَّصَّ وَهَذَا قَدْ خَالَفَ النَّصَّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ وَرَدَ بِاللِّعَانِ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ وَكَذَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى ذَلِكَ الْعَدَدِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْعَدَدُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فَالِاجْتِهَادُ إذَا خَالَفَ النَّصَّ بَاطِلٌ فَالْجَوَابُ مَمْنُوعٌ إنْ اجْتِهَادُ الْقَاضِي خَالَفَ النَّصَّ فَإِنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى عَدَدٍ لَا يَنْفِي جَوَازَ الْأَكْثَرِ وَإِقَامَتَهُ مَقَامَ الْكُلِّ وَلَا يَقْتَضِي الْجَوَازَ أَيْضًا، فَلَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بَلْ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَكَانَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ، وَفَائِدَتُهُ التَّنْصِيصُ عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى الْأَصْلِ وَالْأَوْلَى وَهَذَا لَا يَنْفِي الْجَوَازَ. وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ أَيْضًا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: الْفُرْقَةُ فِي اللِّعَانِ فُرْقَةٌ بِتَطْلِيقَةٍ بَائِنَةٍ فَيَزُولُ مِلْكُ النِّكَاحِ وَتَثْبُتُ حُرْمَةُ الِاجْتِهَادِ وَالتَّزَوُّجِ مَا دَامَا عَلَى حَالَةِ اللِّعَانِ فَإِنْ أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ فَجُلِدَ الْحَدَّ أَوْ أَكْذَبَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِأَنْ صَدَّقَتْهُ جَازَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا وَيَجْتَمِعَانِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: هِيَ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَإِنَّهَا تُوجِبُ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» وَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَابِ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِثْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا لَاعَنَ بَيْنَ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيُّ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ كَذَبْتُ عَلَيْهَا إنْ لَمْ أُفَارِقْهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَصَارَ طَلَاقُ الزَّوْجِ عَقِيبَ اللِّعَانِ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ؛ لِأَنَّ عُوَيْمِرٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا بَعْدَ اللِّعَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْفَذَهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُلَاعَنٍ أَنْ يُطَلِّقَ فَإِذَا امْتَنَعَ يَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي

التَّفْرِيقِ فَيَكُونُ طَلَاقًا كَمَا فِي الْعِنِّينِ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْفُرْقَةِ قَذْفُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ وَاللِّعَانُ يُوجِبُ التَّفْرِيقَ وَالتَّفْرِيقُ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ فَكَانَتْ الْفُرْقَةُ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ مُضَافَةً إلَى الْقَذْفِ السَّابِقِ وَكُلُّ فُرْقَةٍ تَكُونُ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ يَكُونُ فِعْلُ الزَّوْجِ سَبَبَهَا تَكُونُ طَلَاقًا كَمَا فِي الْعِنِّينِ وَالْخُلْعِ وَالْإِيلَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ: إنَّ كُلَّ فُرْقَةٍ وَقَعَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَهِيَ طَلَاقٌ مِنْ نَحْوِ إبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُتَفَاعِلِ هُوَ الْمُتَشَاغِلُ بِالْفِعْلِ وَكَمَا فَرَغَا مِنْ اللِّعَانِ مَا بَقِيَا مُتَلَاعِنَيْنِ حَقِيقَةً فَانْصَرَفَ الْمُرَادُ إلَى الْحُكْمِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ اللِّعَانِ فِيهِمَا ثَابِتًا فَإِذَا أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ وَحُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ بَطَلَ حُكْمُ اللِّعَانِ فَلَمْ يَبْقَ مُتَلَاعِنًا حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 20] أَيْ مَا دَامُوا فِي مِلَّتِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَفْعَلُوا يُفْلِحُوا فَكَذَا هَذَا وَأَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي لَيْسَ بِأَصْلِيٍّ لِلِّعَانِ فَهُوَ وُجُوبُ قَطْعِ النَّسَبِ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْقَذْفِ وَهُوَ الْقَذْفُ بِالْوَلَدِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا لَاعَنَ بَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا نَفَى الْوَلَدَ عَنْهُ وَأَلْحَقَهُ بِالْمَرْأَةِ فَصَارَ النَّفْيُ أَحَدَ حُكْمَيْ اللِّعَانِ وَلِأَنَّ الْقَذْفَ إذَا كَانَ بِالْوَلَدِ فَغَرَضُ الزَّوْجِ أَنْ يَنْفِيَ وَلَدًا لَيْسَ مِنْهُ فِي زَعْمِهِ فَوَجَبَ النَّفْيُ تَحْقِيقًا لِغَرَضِهِ وَإِذَا كَانَ وُجُوبُ نَفْيِهِ أَحَدَ حُكْمَيْ اللِّعَانِ فَلَا يَجِبُ قَبْلَ وُجُودِهِ وَعَلَى هَذَا قُلْنَا إنَّ الْقَذْفَ إذَا لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا اللِّعَانَ أَوْ سَقَطَ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَوَجَبَ الْحَدُّ أَوْ لَمْ يَجِبْ أَوْ لَمْ يَسْقُطْ لَكِنَّهُمَا لَمْ يَتَلَاعَنَا بَعْدُ لَا يَنْقَطِعُ نَسَبُ الْوَلَدِ، وَكَذَا إذَا نَفَى نَسَبَ وَلَدِ حُرَّةٍ فَصَدَّقَتْهُ لَا يَنْقَطِعُ نَسَبُهُ لِتَعَذُّرِ اللِّعَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّنَاقُضِ حَيْثُ تَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ، وَقَدْ قَالَتْ: إنَّهُ صَادِقٌ وَإِذَا تَعَذَّرَ اللِّعَانُ تَعَذَّرَ قَطْعُ النَّسَبِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُهُ وَيَكُونُ ابْنَهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ عَلَى نَفْيِهِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ قَدْ ثَبَتَ وَالنَّسَبُ الثَّابِتُ بِالنِّكَاحِ لَا يَنْقَطِعُ إلَّا بِاللِّعَانِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَا يُعْتَبَرُ تَصَادُقُهُمَا عَلَى النَّفْيِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ حَقًّا لِلْوَلَدِ وَفِي تَصَادُقِهِمَا عَلَى النَّفْيِ إبْطَالُ حَقِّ الْوَلَدِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ عُلُوقُ الْوَلَدِ فِي حَالٍ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا فِيهَا ثُمَّ صَارَتْ بِحَيْثُ يَقَعُ بَيْنَهُمَا اللِّعَانُ نَحْوُ مَا إذَا عُلِّقَتْ وَهِيَ كِتَابِيَّةٌ أَوْ أَمَةٌ ثُمَّ أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ أَوْ أَسْلَمَتْ الْكِتَابِيَّةُ فَوَلَدَتْ فَنَفَاهُ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَلَاعُنَ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ اللِّعَانِ وَقْتَ الْعُلُوقِ. وَقَطْعُ النَّسَبِ حُكْمُ اللِّعَانِ ثُمَّ لِوُجُودِ قَطْعِ النَّسَبِ شَرَائِطُ: مِنْهَا التَّفْرِيقُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَبْلَ التَّفْرِيقِ قَائِمٌ فَلَا يَجِبُ النَّفْيُ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ بِالنَّفْيِ بِحَضْرَةِ الْوِلَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا بِيَوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيْنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مُدَّةٍ تُوجَدُ فِيهَا لِتَهْنِئَةٍ أَوْ ابْتِيَاعِ آلَاتِ الْوِلَادَةِ عَادَةً فَإِنْ نَفَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَنْتَفِي وَلَمْ يُوَقِّتْ أَبُو حَنِيفَةَ لِذَلِكَ وَقْتًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ وَقَّتَ لَهُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَّتَاهُ بِأَكْثَرِ النِّفَاسِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ الْفَوْرَ فَقَالَ: إنْ نَفَاهُ عَلَى الْفَوْرِ انْتَفَى وَإِلَّا لَزِمَهُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ تَرْكَ النَّفْيِ عَلَى الْفَوْرِ إقْرَارٌ مِنْهُ دَلَالَةً فَكَانَ كَالْإِقْرَارِ نَصًّا. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ النِّفَاسَ أَثَرُ الْوِلَادَةِ فَيَصِحُّ نَفْيُ الْوَلَدِ مَا دَامَ أَثَرُ الْوِلَادَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ يَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ زَمَانِ التَّأَمُّلِ وَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَتَعَذَّرَ التَّوْقِيتُ فِيهِ فَيَحْكُمُ فِيهِ الْعَادَةُ مِنْ قَبُولِ التَّهْنِئَةِ وَابْتِيَاعِ آلَاتِ الْوِلَادَةِ أَوْ مُضِيِّ مُدَّةٍ يُفْعَلُ ذَلِكَ فِيهَا عَادَةً فَلَا يَصِحُّ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ اعْتِبَارُ الْفَوْرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّأَمُّلِ وَالتَّرَوِّي لَا يَحْصُلُ بِالْفَوْرِ وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي الْغَائِبِ عَنْ امْرَأَتِهِ: إذَا وَلَدَتْ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْوِلَادَةِ حَتَّى قَدِمَ أَوْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ وَهُوَ غَائِبٌ أَنَّهُ لَهُ أَنْ يَنْفِيَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مِقْدَارِ تَهْنِئَةِ الْوَلَدِ وَابْتِيَاعِ آلَاتِ الْوِلَادَةِ وَعِنْدَهُمَا فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ النِّفَاسِ بَعْدَ الْقُدُومِ أَوْ بُلُوغِ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ فَصَارَ حَالُ الْقُدُومِ وَبُلُوغِ الْخَبَرِ كَحَالِ الْوِلَادَةِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ جَمِيعًا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إنْ قَدِمَ قَبْلَ الْفِصَالِ فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ النِّفَاسِ وَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ الْفِصَالِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ وَلَمْ يُرْوَ هَذَا التَّفْصِيلُ عَنْ مُحَمَّدٍ. كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَلَدَ قَبْلَ الْفِصَالِ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ غِذَائِهِ الْأَوَّلِ فَصَارَ كَمُدَّةِ النِّفَاسِ وَبَعْدَ الْفِصَالِ انْتَقَلَ عَنْ ذَلِكَ الْغِذَاءِ وَخَرَجَ عَنْ حَالِ الصِّغَرِ فَلَوْ احْتَمَلَ النَّفْيَ بَعْدَ ذَلِكَ لَاحْتَمَلَ بَعْدَمَا صَارَ شَيْخًا وَذَلِكَ قَبِيحٌ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إنْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَ إلَى تَمَامِ مُدَّةِ النِّفَاسِ وَإِنْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ

أَنَّهُ قَالَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَ إلَى تَمَامِ سَنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَضَى وَقْتُ النِّفَاسِ يُعْتَبَرُ وَقْتُ الرَّضَاعِ وَمُدَّتُهُ سَنَتَانِ عِنْدَهُمَا، وَلَوْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ بَعْدَ حَوْلَيْنِ فَنَفَاهُ ذُكِرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ النَّسَبَ وَيُلَاعِنُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: يَنْتَفِي الْوَلَدُ إذَا نَفَاهُ بَعْدَ بُلُوغِ الْخَبَرِ إلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَسْبِقَ النَّفْيُ عَنْ الزَّوْجِ مَا يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُ بِنَسَبِ الْوَلَدِ لَا نَصًّا وَلَا دَلَالَةً فَإِنْ سَبَقَ لَا يَقْطَعُ النَّسَبَ مِنْ الْأَبِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّفْيَ بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَقَدْ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَالنَّسَبُ حَقُّ الْوَلَدِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ بِالنَّفْيِ فَالنَّصُّ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: هَذَا وَلَدِي، أَوْ هَذَا الْوَلَدُ مِنِّي. وَالدَّلَالَةُ هِيَ أَنْ يَسْكُتَ إذَا هُنِّئَ وَلَا يَرُدُّ عَلَى الْمُهَنِّئِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَسْكُتُ عِنْدَ التَّهْنِئَةِ بِوَلَدٍ لَيْسَ مِنْهُ عَادَةً فَكَانَ السُّكُوتُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ اعْتِرَافًا بِنَسَبِ الْوَلَدِ فَلَا يَمْلِكُ نَفْيَهُ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا هُنِّئَ بِوَلَدِ الْأَمَةِ فَسَكَتَ لَمْ يَكُنْ اعْتِرَافًا وَإِنْ سَكَتَ فِي وَلَدِ الزَّوْجَةِ كَانَ اعْتِرَافًا. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ نَسَبَ وَلَدِ الزَّوْجَةِ قَدْ ثَبَتَ بِالْفِرَاشِ إلَّا أَنَّ لَهُ غَرَضِيَّةَ النَّفْيِ مِنْ الزَّوْجِ فَإِذَا سَكَتَ عِنْدَ التَّهْنِئَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفِيهِ فَبَطَلَتْ الْغَرَضِيَّةُ فَتَقَرَّرَ النَّسَبُ فَأَمَّا وَلَدُ الْأَمَةِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالدَّعْوَةِ وَلَمْ تُوجَدْ فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ فَأَقَرَّ بِأَحَدِهِمَا وَنَفَى الْآخَرَ فَإِنْ أَقَرَّ بِالْأَوَّلِ وَنَفَى الثَّانِي لَاعَنَ وَلَزِمَهُ الْوَلَدَانِ جَمِيعًا أَمَّا لُزُومُ الْوَلَدَيْنِ فَلِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْأَوَّلِ إقْرَارٌ بِالثَّانِي؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ حَمْلٌ وَاحِدٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ بَعْضِ نَسَبِ الْحَمْلِ دُونَ بَعْضٍ كَالْوَاحِدِ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ نَسَبِ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ فَإِذَا نَفَى الثَّانِيَ فَقَدْ رَجَعَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ. وَالنَّسَبُ الْمَقَرُّ بِهِ لَا يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ عَنْهُ فَلَمْ يَصِحَّ نَفْيُهُ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُمَا جَمِيعًا وَيُلَاعَنُ؛ لِأَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ وَلَدٍ ثُمَّ نَفَاهُ يُلَاعِنُ وَإِنْ كَانَ لَا يُقْطَعُ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّ قَطْعَ النَّسَبِ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ اللِّعَانِ بَلْ يَنْفَصِلُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ شُرِعَ فِي الْمَقْذُوفَةِ بِغَيْرِ وَلَدٍ ثُمَّ إنَّمَا وَجَبَ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالْأَوَّلِ فَقَدْ وَصَفَ امْرَأَتَهُ بِالْعِفَّةِ وَلَمَّا نَفَى الْوَلَدَ فَقَدْ وَصَفَهَا بِالزِّنَا، وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَفِيفَةٌ ثُمَّ قَالَ لَهَا أَنْتِ زَانِيَةٌ يُلَاعَنُ وَإِنْ نَفَى الْأَوَّلَ وَأَقَرَّ بِالثَّانِي حُدَّ وَلَا لِعَانَ وَيَلْزَمَانِهِ جَمِيعًا أَمَّا ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدَيْنِ فَلِأَنَّ نَفْيَ الْأَوَّلِ وَإِنْ تَضَمَّنَ نَفْيَ الثَّانِي فَالْإِقْرَارُ بِالثَّانِي يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْأَوَّلِ فَيَصِيرُ مُكَذِّبًا نَفْسَهُ وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ اللِّعَانُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ يُحَدُّ وَإِذَا حُدَّ لَا يُلَاعَنُ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى الْأَوَّلَ فَقَدْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا فَلَمَّا أَقَرَّ بِالثَّانِي فَقَدْ وَصَفَهَا بِالْعِفَّةِ. وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ زَانِيَةٌ ثُمَّ قَالَ لَهَا أَنْتِ عَفِيفَةٌ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَلَا يُلَاعَنُ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ حَيًّا وَقْتَ قَطْعِ النَّسَبِ وَهُوَ وَقْتُ التَّفْرِيقِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يُقْطَعُ نَسَبُهُ مِنْ الْأَبِ حَتَّى لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَمَاتَ ثُمَّ نَفَاهُ الزَّوْجُ يُلَاعِنُ وَيَلْزَمُهُ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَتَقَرَّرُ بِالْمَوْتِ فَلَا يَحْتَمِلُ الِانْقِطَاعَ وَلَكِنَّهُ يُلَاعِنُ لِوُجُودِ الْقَذْفِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَانْقِطَاعُ النَّسَبِ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ اللِّعَانِ وَكَذَلِكَ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا مَيِّتٌ فَنَفَاهُمَا يُلَاعَنُ وَيَلْزَمُهُ الْوَلَدَانِ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ الزَّوْجُ ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ اللِّعَانِ يُلَاعِنُ الزَّوْجُ وَيَلْزَمُهُ الْوَلَدُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ فَنَفَاهُمَا ثُمَّ مَاتَا قَبْلَ اللِّعَانِ أَوْ قُتِلَا يُلَاعِنُ وَيَلْزَمُهُ الْوَلَدَانِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَحْتَمِلُ الْقَطْعَ وَيُلَاعَنُ لِمَا قُلْنَا. وَكَذَا لَوْ نَفَاهُمَا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ اللِّعَانِ أَوْ قُتِلَ لَزِمَهُ الْوَلَدَانِ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقَطْعَ لِتَقَرُّرِهِ بِالْمَوْتِ فَكَذَا نَسَبُ الْحَيِّ؛ لِأَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ وَأَمَّا اللِّعَانُ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يُلَاعَنُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ، وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَبْطُلُ اللِّعَانُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَبْطُلُ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ اللِّعَانَ قَدْ وَجَبَ بِالنَّفْيِ فَلَوْ بَطَلَ إنَّمَا يَبْطُلُ لِامْتِنَاعِ قَطْعِ النَّسَبِ وَامْتِنَاعُهُ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ اللِّعَانَ؛ لِأَنَّ قَطْعَ النَّسَبِ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ اللِّعَانِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ اللِّعَانِ الْوَاجِبِ بِهَذَا الْقَذْفِ أَعْنِي الْقَذْفَ بِنَفْيِ الْوَلَدِ هُوَ نَفْيُ الْوَلَدِ فَإِذَا تَعَذَّرَ تَحْقِيقُ هَذَا الْمَقْصُودِ لَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ اللِّعَانِ فَائِدَةٌ فَلَا يَنْفِي الْوَلَدَ. وَلَوْ وَلَدَتْ فَنَفَاهُ وَلَاعَنَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا وَفَرَّقَ وَأَلْزَمَ الْوَلَدَ أُمَّهُ أَوْ لَزِمَهَا بِنَفْسِ التَّفْرِيقِ ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا آخَرَ مِنْ الْغَدِ لَزِمَهُ الْوَلَدَانِ جَمِيعًا وَاللِّعَانُ مَاضٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ الثَّانِي إذْ لَا يُمْكِنُ قَطْعُهُ بِمَا وَجَدَ مِنْ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ اللِّعَانِ قَدْ بَطَلَ بِالْفُرْقَةِ فَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ الثَّانِي وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ هُمَا ابْنَايَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي إقْرَارِهِ بِنَسَبِ الْوَلَدَيْنِ لِكَوْنِهِمَا ثَابِتَيْ النَّسَبِ مِنْهُ شَرْعًا فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ إنَّهُ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ هُمَا ابْنَايَ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ مِنْهُ نَفْيُ الْوَلَدِ وَمَنْ

فصل في بيان ما يبطل به حكم اللعان

نَفَى الْوَلَدَ فَلُوعِنَ ثُمَّ أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَمَا إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ وَاحِدٍ فَقَالَ: هَذَا الْوَلَدُ لَيْسَ مِنِّي فَلَاعَنَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَالَ: هُوَ ابْنِي فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ هُمَا ابْنَايَ يَحْتَمِلُ الْإِكْذَابَ وَيَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ عَنْ حُكْمٍ لَزِمَهُ شَرْعًا وَهُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدَيْنِ فَلَا يُجْعَلُ إكْذَابًا مَعَ الِاحْتِمَالِ بَلْ حَمْلُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ إكْذَابًا لَلَزِمَهُ الْحَدُّ، وَلَوْ جُعِلَ إخْبَارًا عَمَّا قُلْنَا لَا يَلْزَمُهُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» ، وَقَالَ «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» حَتَّى لَوْ قَالَ: كَذَبْت فِي اللِّعَانِ وَفِيمَا قَذَفْتُهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْإِكْذَابِ فَزَالَ الِاحْتِمَالُ، وَقَدْ قَالَ مَشَايِخُنَا: إنَّ الْإِقْرَارَ بِالْوَلَدِ بَعْدَ النَّفْيِ إنَّمَا يَكُونُ إكْذَابًا إذَا كَانَ الْمُقِرُّ بِحَالٍ لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ لَلُوعِنَ بِهِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ وَهَهُنَا لَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِهِمَا لَمْ يُلَاعَنْ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِهِمَا لَلُوعِنَ بِهِ. وَعَلَى هَذَا قَالُوا: لَوْ وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ وَلَدًا فَقَالَ: هُوَ ابْنِي ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ فَنَفَاهُ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُكَذِّبًا نَفْسَهُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ لَا يُلَاعَنُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ لِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: لَيْسَا بِابْنَيَّ كَانَا ابْنَيْهِ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَعَادَ الْقَذْفَ الْأَوَّلَ وَكَرَّرَهُ؛ لِتَقَدُّمِ الْقَذْفِ مِنْهُ وَاللِّعَانِ، وَالْمُلَاعِنُ إذَا كَرَّرَ الْقَذْفَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بِيَوْمٍ فَنَفَاهُ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ سَنَتَيْنِ بِيَوْمٍ فَأَقَرَّ بِهِ فَقَدْ بَانَتْ وَلَا لِعَانَ وَلَا حَدَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هَذِهِ رَجْعِيَّةٌ وَعَلَى الزَّوْجِ الْحَدُّ فَنَذْكُرُ أَصْلَهُمَا وَأَصْلَهُ وَتُخَرَّجُ الْمَسْأَلَةُ عَلَيْهِ فَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْوَلَدَ الثَّانِيَ يَتْبَعُ الْوَلَدَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ فِي مُدَّةٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ فِيهَا وَهَكَذَا هُوَ سَابِقٌ فِي الْوِلَادَةِ فَكَانَ الثَّانِي تَابِعًا لَهُ فَجُعِلَ كَأَنَّهَا جَاءَتْ بِهِمَا لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ فَلَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ فَتَبِينُ بِالْوَلَدِ الثَّانِي فَتَصِيرُ أَجْنَبِيَّةً فَيَتَعَذَّرُ اللِّعَانُ. وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ حَصَلَ مِنْ وَطْءٍ حَادِثٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ بِيَقِينٍ إذْ الْوَلَدُ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَالْأَوَّلُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ حَصَلَ مِنْ وَطْءٍ حَادِثٍ أَيْضًا وَإِنَّنَا نَرُدُّ الْمُحْتَمَلَ إلَى الْمُحْكَمِ فَجُعِلَ الْأَوَّلُ تَابِعًا لِلثَّانِي فَصَارَ كَأَنَّهَا وَلَدَتْهُمَا بَعْدَ سَنَتَيْنِ. وَالْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ ثَبَتَتْ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ وَطْءٍ حَادِثٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ بِيَقِينٍ فَيَصِيرُ مُرَاجِعًا لَهَا بِالْوَطْءِ، فَإِذَا أَقَرَّ بِالثَّانِي بَعْدَ نَفْيِ الْأَوَّلِ فَقَدْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَيُحَدُّ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا يُحَدُّ وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدَيْنِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدَيْنِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْوَلَدَ الثَّانِيَ يَتْبَعُ الْأَوَّلَ فَتُجْعَلُ كَأَنَّهَا جَاءَتْ بِهِمَا لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُمَا وَلَا يَجِبُ اللِّعَانُ لِزَوَالِ الزَّوْجِيَّةِ وَيَجِبُ الْحَدُّ لِإِكْذَابِ نَفْسِهِ. وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْأَوَّلَ يَتْبَعُ الثَّانِيَ وَتُجْعَلُ كَأَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَالْمَرْأَةُ مَبْتُوتَةٌ وَالْمَبْتُوتَةُ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا؛ لِأَنَّ مَعَهَا عَلَامَةَ الزِّنَا وَهُوَ وَلَدٌ غَيْرُ ثَابِتِ النَّسَبِ فَلَمْ تَكُنْ عَفِيفَةً فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ نَسَبُ الْوَلَدِ مَحْكُومًا بِثُبُوتِهِ شَرْعًا كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فَإِنْ كَانَ لَا يُقْطَعُ نَسَبُهُ فَصُورَتُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ جَاءَتْ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ وَلَمْ يُلَاعِنْ حَتَّى قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ بِالْوَلَدِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ فَضَرَبَ الْقَاضِي الْأَجْنَبِيَّ الْحَدَّ فَإِنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ وَيَسْقُطُ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا حَدَّ قَاذِفَهَا بِالْوَلَدِ فَقَدْ حَكَمَ بِكَذِبِهِ وَالْحُكْمُ بِكَذِبِهِ حُكْمٌ بِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ وَالنَّسَبُ الْمَحْكُومُ بِثُبُوتِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّفْيَ بِاللِّعَانِ كَالنَّسَبِ الْمَقَرِّ بِهِ وَإِنَّمَا سَقَطَ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَمَّا حَدَّ قَاذِفَهَا فَقَدْ حَكَمَ بِإِحْصَانِهَا فِي عَيْنِ مَا قُذِفَتْ بِهِ ثُمَّ إذَا قَطَعَ النَّسَبَ مِنْ الْأَبِ وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْأُمِّ يَبْقَى النَّسَبُ فِي حَقِّ سَائِرِ الْأَحْكَامِ مِنْ الشَّهَادَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهَا حَتَّى لَا يَجُوزَ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ وَصَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَبِ بِقَتْلِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا. وَلَا نَفَقَةَ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ بِاللِّعَانِ يَثْبُتُ شَرْعًا بِخِلَافِ الْأَصْلِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ وَظَنِّهِ مَعَ كَوْنِهِ مَوْلُودًا عَلَى فِرَاشِهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ سَائِرِ الْأَحْكَامِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ حُكْمُ اللِّعَانِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ حُكْمُ اللِّعَانِ فَكُلُّ مَا يُسْقِطُ اللِّعَانَ بَعْدَ وُجُوبِهِ يُبْطِلُ الْحُكْمَ بَعْدَ وُجُودِهِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ جُنُونِهِمَا بَعْدَ اللِّعَانِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ، أَوْ جُنُونِ أَحَدِهِمَا، أَوْ خَرَسِهِمَا أَوْ خَرَسِ أَحَدِهِمَا، أَوْ رِدَّتِهِمَا أَوْ رِدَّةِ أَحَدِهِمَا، أَوْ صَيْرُورَةِ أَحَدِهِمَا مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ أَوْ صَيْرُورَةِ الْمَرْأَةِ مَوْطُوءَةً وَطْئًا حَرَامًا وَإِكْذَابِ أَحَدِهِمَا نَفْسَهُ حَتَّى

لَا يُفَرِّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا وَيَكُونَانِ عَلَى نِكَاحِهِمَا وَالْأَصْلُ أَنَّ بَقَاءَهُمَا عَلَى حَالِ اللِّعَانِ شَرْطُ بَقَاءِ حُكْمِ اللِّعَانِ فَإِنْ بَقِيَا عَلَى حَالِ اللِّعَانِ بَقِيَ حُكْمُ اللِّعَانِ وَإِلَّا فَلَا. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ وَلَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ الشَّاهِدِ عَلَى صِفَةِ الشَّهَادَةِ إلَى أَنْ يَتَّصِلَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ حَتَّى يَجِبَ الْقَضَاءُ بِهَا. وَقَدْ زَالَتْ صِفَةُ الشَّهَادَةِ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ فَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي التَّفْرِيقُ وَلَوْ لَاعَنَهَا بِالْوَلَدِ ثُمَّ قَذَفَهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَلَوْ لَاعَنَهَا بِغَيْرِ الْوَلَدِ ثُمَّ قَذَفَهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَالْفَرْقُ أَنَّ اللِّعَانَ لَا يُوجِبُ تَحْقِيقَ الزِّنَا مِنْهَا فَلَا تَزُولُ عِفَّتُهَا بِاللِّعَانِ إلَّا أَنَّ فِي اللِّعَانِ بِالْوَلَدِ قَذْفَهَا وَمَعَهَا عَلَامَةُ الزِّنَا وَهُوَ الْوَلَدُ بِغَيْرِ أَبٍ فَلَمْ تَكُنْ عَفِيفَةً فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي اللِّعَانِ بِغَيْرِ وَلَدٍ فَبَقِيَتْ عِفَّتُهَا فَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا وَلَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ بِوَلَدٍ أَوْ بِغَيْرِ وَلَدٍ ثُمَّ قَذَفَهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ يَجِبُ الْحَدُّ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا يُحَقِّقُ الزِّنَا وَالْوَلَدُ بِلَا أَبٍ مَعَ الْإِكْذَابِ لَا يَكُونُ عَلَامَةَ الزِّنَا فَتَكُونُ عِفَّتُهَا قَائِمَةً فَيُحَدُّ قَاذِفُهَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

كتاب الرضاع

[كِتَابُ الرَّضَاعِ] [فَصْلٌ فِي الْمُحْرِمَات بِالرَّضَاعِ] قَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نِكَاحًا عَلَى التَّأْبِيدِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: مُحَرَّمَاتٌ بِالْقَرَابَةِ، وَمُحَرَّمَاتٌ بِالصِّهْرِيَّةِ، وَمُحَرَّمَاتٌ بِالرَّضَاعِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمُحَرَّمَاتِ بِالْقَرَابَةِ وَالصِّهْرِيَّةِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَهَذَا الْكِتَابُ وُضِعَ لِبَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالرَّضَاعِ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا فِي. بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالرَّضَاعِ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ صِفَةِ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ، وَالثَّالِثُ: فِي بَيَانِ مَا يَثْبُتُ بِهِ الرَّضَاعُ (فَصْلٌ) : أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَحْرُمُ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ مِنْ الْفِرَقِ السَّبْعِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ؛ يَحْرُمُ بِسَبَبِ الرَّضَاعَةِ إلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ فِي جَانِبِ الْمُرْضِعَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَفِي جَانِبِ زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا. أَمَّا تَفْسِيرُ الْحُرْمَةِ فِي جَانِبِ الْمُرْضِعَةِ فَهُوَ أَنَّ الْمُرْضِعَةَ تَحْرُمُ عَلَى الْمُرْضَعِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمًّا لَهُ بِالرَّضَاعِ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] مَعْطُوفًا عَلَى قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] فَسَمَّى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُرْضِعَةَ أُمَّ الْمُرْضَعِ وَحَرَّمَهَا عَلَيْهِ، وَكَذَا بَنَاتُهَا يَحْرُمْنَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كُنَّ مِنْ صَاحِبِ اللَّبَنِ أَوْ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ اللَّبَنِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُنَّ وَمَنْ تَأَخَّرَ؛ لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] أَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى الْأُخُوَّةَ بَيْنَ بَنَاتِ الْمُرْضِعَةِ وَبَيْنَ الْمُرْضَعِ وَالْحُرْمَةَ بَيْنَهُمَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أُخْتٍ وَأُخْتٍ، وَكَذَا بَنَاتُ بَنَاتِهَا وَبَنَاتُ أَبْنَائِهَا وَإِنْ سَفَلْنَ؛ لِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ أَخِ الْمُرْضَعِ وَأُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَهُنَّ يَحْرُمْنَ مِنْ النَّسَبِ كَذَا مِنْ الرَّضَاعَةِ. وَلَوْ أَرْضَعَتْ امْرَأَةٌ صَغِيرَيْنِ مِنْ أَوْلَادِ الْأَجَانِبِ صَارَا أَخَوَيْنِ لِكَوْنِهِمَا مِنْ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ فَلَا يَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أُنْثَى، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ اجْتَمَعَا عَلَى ثَدْيٍ وَاحِدٍ صَارَا أَخَوَيْنِ أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ أَخًا وَأُخْتًا مِنْ الرَّضَاعَةِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ

يَتَزَوَّجَ بِالْآخَرِ وَلَا بِوَلَدِهِ كَمَا فِي النَّسَبِ، وَأُمَّهَاتُ الْمُرْضِعَةِ يَحْرُمْنَ عَلَى الْمُرْضَعِ؛ لِأَنَّهُنَّ جَدَّاتُهُ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَآبَاءُ الْمُرْضِعَةِ أَجْدَادُ الْمُرْضَعِ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي النَّسَبِ. وَأَخَوَاتُ الْمُرْضِعَةِ يَحْرُمْنَ عَلَى الْمُرْضَعِ؛ لِأَنَّهُنَّ خَالَاتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَإِخْوَتُهَا أَخْوَالُ الْمُرْضَعِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي النَّسَبِ فَأَمَّا بَنَاتُ إخْوَةِ الْمُرْضِعَةِ وَأَخَوَاتُهَا فَلَا يَحْرُمْنَ عَلَى الْمُرْضَعِ؛ لِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ أَخْوَالِهِ وَخَالَاتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأَنَّهُنَّ لَا يَحْرُمْنَ مِنْ النَّسَبِ فَكَذَا مِنْ الرَّضَاعَةِ وَتَحْرُمُ الْمُرْضِعَةُ عَلَى أَبْنَاءِ الْمُرْضَعِ وَأَبْنَاءِ أَبْنَائِهِ وَإِنْ سَفَلُوا كَمَا فِي النَّسَبِ هَذَا تَفْسِيرُ الْحُرْمَةِ فِي جَانِبِ الْمُرْضِعَةِ وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ. وَأَمَّا الْحُرْمَةُ فِي جَانِبِ زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ الَّتِي نَزَلَ لَهَا مِنْهُ لَبَنٌ فَثَبَتَتْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَرُوِيَ عَنْ رَافِعٍ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا تَثْبُتُ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَمَالِكٍ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُلَقَّبَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِلَبَنِ الْفَحْلِ أَنَّهُ هَلْ يُحَرِّمُ أَوْ لَا؟ وَتَفْسِيرُ تَحْرِيمِ لَبَنِ الْفَحْلِ أَنَّ الْمُرْضَعَةَ تَحْرُمُ عَلَى زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ؛ لِأَنَّهَا بِنْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ وَكَذَا عَلَى أَبْنَائِهِ الَّذِينَ مِنْ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إخْوَتُهَا لِأَبٍ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَكَذَا عَلَى أَبْنَاءِ أَبْنَائِهِ وَأَبْنَاءِ بَنَاتِهِ مِنْ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ إخْوَةِ الْمُرْضِعَةِ وَأَخَوَاتُهَا لِأَبٍ مِنْ الرَّضَاعَةِ. وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ امْرَأَتَانِ فَحَمَلَتَا مِنْهُ وَأَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَغِيرًا أَجْنَبِيًّا؛ فَقَدْ صَارَا أَخَوَيْنِ لِأَبٍ مِنْ الرَّضَاعَةِ. فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أُنْثَى فَلَا يَجُوزُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَخُوهَا لِأَبِيهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَإِنْ كَانَا أُنْثَيَيْنِ لَا يَجُوزُ لِرَجُلٍ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا أُخْتَانِ لِأَبٍ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَتَحْرُمُ عَلَى آبَاءِ زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَجْدَادُهَا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَكَذَا عَلَى إخْوَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْمَامُهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأَخَوَاتُهُ عَمَّاتُ الْمُرْضَعِ فَيَحْرُمْنَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا أَوْلَادُ إخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ فَلَا تَحْرُمُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَيَجُوزُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمْ فِي النَّسَبِ فَيَجُوزُ فِي الرَّضَاعِ. هَذَا تَفْسِيرُ لَبَنِ الْفَحْلِ. احْتَجَّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يُحَرِّمُ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَيَّنَ الْحُرْمَةَ فِي جَانِبِ الْمُرْضِعَةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وَلَوْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي جَانِبِهِ؛ لَبَيَّنَهَا كَمَا بَيَّنَ فِي النَّسَبِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] وَلِأَنَّ الْمُحَرِّمَ هُوَ الْإِرْضَاعُ وَإِنَّهُ وُجِدَ مِنْهَا لَا مِنْهُ فَصَارَتْ بِنْتًا لَهَا لَا لَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ لِلزَّوْجِ لَبَنٌ فَارْتَضَعَتْ مِنْهُ صَغِيرَةٌ؛ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الْحُرْمَةُ بِلَبَنِهِ فَكَيْف تَثْبُتُ بِلَبَنِ غَيْرِهِ؟ ، وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «جَاءَ عَمِّي مِنْ الرَّضَاعَةِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيَّ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّمَا هُوَ عَمُّكِ فَأْذَنِي لَهُ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّهُ عَمُّك فَلْيَلِجْ عَلَيْك قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ ضُرِبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ» أَيْ: بَعْدَ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ النِّسَاءَ بِالْحِجَابِ عَنْ الْأَجَانِبِ، وَقِيلَ: كَانَ الدَّاخِلُ عَلَيْك أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ وَكَانَتْ امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ أَرْضَعَتْهَا، وَعَنْ عَمْرَةَ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَخْبَرَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عِنْدَهَا وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِك فَقَالَ: «أُرَاهُ فُلَانًا - لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنْ الرَّضَاعَةِ - فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ كَانَ فُلَانًا حَيًّا - لِعَمِّي مِنْ الرَّضَاعَةِ - أَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ إنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ» وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا تَنْكِحْ مَنْ أَرْضَعَتْهُ امْرَأَةُ أَبِيك وَلَا امْرَأَةُ أَخِيك وَلَا امْرَأَةُ ابْنِك وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ امْرَأَتَانِ أَوْ جَارِيَةٌ وَامْرَأَةٌ فَأَرْضَعَتْ هَذِهِ غُلَامًا وَهَذِهِ جَارِيَةً: هَلْ يَصْلُحُ لِلْغُلَامِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْجَارِيَةَ؟ فَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا اللِّقَاحُ وَاحِدٌ بَيَّنَ الْحُكْمَ وَأَشَارَ إلَى الْمَعْنَى وَهُوَ اتِّحَادُ اللِّقَاحِ؛ وَلِأَنَّ الْمُحَرِّمَ هُوَ اللَّبَنُ وَسَبَبُ اللَّبَنِ هُوَ مَاءُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّضَاعُ مِنْهُمَا جَمِيعًا كَمَا كَانَ الْوَلَدُ لَهُمَا جَمِيعًا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ الْحُرْمَةَ فِي جَانِبِ الْمُرْضِعَةِ لَا فِي جَانِبِ زَوْجِهَا فَنَقُولُ: إنْ لَمْ يُبَيِّنْهَا نَصًّا فَقَدْ بَيَّنَهَا دَلَالَةً؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْبَيَانَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِطَرِيقَيْنِ: بَيَانُ إحَاطَةٍ وَبَيَانُ كِفَايَةٍ، فَبَيَّنَ فِي النَّسَبِ بَيَانَ إحَاطَةٍ وَبَيَّنَ فِي الرَّضَاعِ بَيَانَ كِفَايَةٍ تَسْلِيطًا

لِلْمُجْتَهِدِينَ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ أَنَّ الْحُرْمَةَ فِي جَانِبِ الْمُرْضِعَةِ لِمَكَانِ اللَّبَنِ وَسَبَبُ حُصُولِ اللَّبَنِ وَنُزُولِهِ هُوَ مَاؤُهُمَا جَمِيعًا؛ فَكَانَ الرَّضَاعُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ إنَّمَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ لِأَجْلِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَيُنْشِرُ الْعَظْمَ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ، وَلَمَّا كَانَ سَبَبُ حُصُولِ اللَّبَنِ وَنُزُولِهِ مَاءَهُمَا جَمِيعًا، وَبِارْتِضَاعِ اللَّبَنِ تَثْبُتُ الْجُزْئِيَّةُ بِوَاسِطَةِ نَبَاتِ اللَّحْمِ؛ يُقَامُ سَبَبُ الْجُزْئِيَّةِ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْجُزْئِيَّةِ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا وَالسَّبَبُ يُقَامُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ خُصُوصًا فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ أَيْضًا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْرُمُ عَلَى جَدِّهَا كَمَا تَحْرُمُ عَلَى أَبِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُهَا عَلَى جَدِّهَا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مُبَيَّنًا بَيَانَ كِفَايَةٍ وَهُوَ أَنَّ الْبِنْتَ وَإِنْ حَدَثَتْ مِنْ مَاءِ الْأَبِ حَقِيقَةً دُونَ مَاءِ الْجَدِّ لَكِنَّ الْجَدَّ سَبَبُ مَاءِ الْأَبِ أُقِيمَ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا كَذَا هَهُنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَذْكُرْ الْبَنَاتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ نَصًّا؛ لَمْ يَذْكُرْ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ نَصًّا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَخَوَاتِ ثُمَّ ذَكَرَ لِبَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ دَلَالَةً حَتَّى حُرِّمْنَ بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هَهُنَا. عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُبَيِّنْ بِوَحْيٍ مَتْلُوٍّ فَقَدْ بَيَّنَ بِوَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْإِرْضَاعَ وُجِدَ مِنْهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ حُصُولِ اللَّبَنِ مَاؤُهُمَا جَمِيعًا فَكَانَ الْإِرْضَاعُ مِنْهُمَا جَمِيعًا. وَأَمَّا الزَّوْجُ إذَا نَزَلَ لَهُ لَبَنٌ فَارْتَضَعَتْ بِهِ صَغِيرَةٌ فَذَاكَ لَا يُسَمَّى رَضَاعًا عُرْفًا وَعَادَةً، وَمَعْنَى الرَّضَاعِ أَيْضًا لَا يَحْصُلُ بِهِ وَهُوَ اكْتِفَاءُ الصَّغِيرِ بِهِ فِي الْغِذَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُغْنِيهِ مِنْ جُوعٍ فَصَارَ كَلَبَنِ الشَّاةِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. ثُمَّ إنَّمَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ بِأَنْ وَلَدَتْ مِنْ الزِّنَا فَنَزَلَ لَهَا لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ بِهِ صَبِيًّا فَالرَّضَاعُ يَكُونُ مِنْهَا خَاصَّةً لَا مِنْ الزَّانِي؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ يَثْبُتُ مِنْهَا لَا مِنْ الزَّانِي وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَثْبُتُ مِنْهُ النَّسَبُ يَثْبُتُ مِنْهُ الرَّضَاعُ وَمَنْ لَا يَثْبُتُ مِنْهُ النَّسَبُ لَا يَثْبُتُ مِنْهُ الرَّضَاعُ، وَكَذَا الْبِكْرُ إذَا نَزَلَ لَهَا لَبَنٌ وَهِيَ لَمْ تَتَزَوَّجْ قَطُّ؛ فَالرَّضَاعُ يَكُونُ مِنْهَا خَاصَّةً وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَكَذَا كُلُّ مَنْ يَحْرُمُ بِسَبَبِ الْمُصَاهَرَةِ مِنْ الْفِرَقِ الْأَرْبَعِ الَّذِينَ وَصَفْنَاهُمْ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ - يَحْرُمُ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أُمُّ زَوْجَتِهِ وَبِنْتُهَا مِنْ زَوْجٍ آخَرَ مِنْ الرَّضَاعِ كَمَا فِي النَّسَبِ إلَّا أَنَّ الْأُمَّ تَحْرُمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ إذَا كَانَ صَحِيحًا، وَالْبِنْتُ لَا تَحْرُمُ إلَّا بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ كَمَا فِي النَّسَبِ وَكَذَا جَدَّاتُ زَوْجَتِهِ مِنْ أَبِيهَا وَأُمِّهَا وَإِنْ عَلَوْنَ أَوْ بَنَاتِ بَنَاتِهَا وَبَنَاتِ أَبْنَائِهَا وَإِنْ سَفَلْنَ مِنْ الرَّضَاعِ كَمَا فِي النَّسَبِ، وَكَذَا تَحْرُمُ حَلِيلَةُ ابْنِ الرَّضَاعِ وَابْنِ ابْنِ الرَّضَاعِ وَإِنْ سَفَلَ عَلَى أَبُ الرَّضَاعِ وَأَبِ أَبِيهِ وَإِنْ عَلَا كَمَا فِي النَّسَبِ، وَتَحْرُمُ مَنْكُوحَةُ أَبُ الرَّضَاعِ وَأَبِ أَبِيهِ وَإِنْ عَلَا عَلَى ابْنِ الرَّضَاعِ وَابْنِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلَ كَمَا فِي النَّسَبِ، وَكَذَا يَحْرُمُ بِالْوَطْءِ أُمُّ الْمَوْطُوءَةِ وَبِنْتُهَا مِنْ الرَّضَاعِ عَلَى الْوَاطِئِ، وَكَذَا جَدَّاتُهَا وَبَنَاتُ بَنَاتِهَا كَمَا فِي النَّسَبِ وَتَحْرُمُ الْمَوْطُوءَةُ عَلَى أَبُ الْوَاطِئِ وَابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ وَكَذَا عَلَى أَجْدَادِهِ وَإِنْ عَلَوْا، وَعَلَى أَبْنَاءِ أَبْنَائِهِ وَإِنْ سَفَلُوا كَمَا فِي النَّسَبِ سَوَاءٌ كَانَ الْوَطْءُ حَلَالًا بِأَنْ كَانَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَوْ الْوَطْءُ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ شُبْهَةِ نِكَاحٍ، أَوْ كَانَ بِزِنًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: الزِّنَا لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ فَلَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الرَّضَاعِ وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. ثُمَّ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» مُجْرَى عَلَى عُمُومِهِ إلَّا فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِ ابْنِهِ مِنْ النَّسَبِ لِأُمِّهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِابْنِهِ أُخْتٌ لِأُمِّهِ مِنْ النَّسَبِ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ كَانَ لَهَا، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ أُخْتٌ مِنْ النَّسَبِ لَمْ تُرْضِعْهَا امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ فِي النَّسَبِ كَوْنُ أُمِّ الْأُخْتِ مَوْطُوءَةَ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ أُمَّهَا إذَا كَانَتْ مَوْطُوءَةً؛ كَانَتْ هِيَ بِنْتَ الْمَوْطُوءَةِ، وَإِنَّهَا حَرَامٌ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الرَّضَاعِ، وَلَوْ وُجِدَ؛ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي النَّسَبِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ أُخْتِهِ مِنْ النَّسَبِ لِأَبِيهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أُخْتٌ مِنْ أَبِيهِ مِنْ النَّسَبِ لَا مِنْ أُمِّهِ؛ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ هَذِهِ الْأُخْتِ وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أُخْتٌ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَيَتَزَوَّجَ أُمَّهَا مِنْ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ فِي النَّسَبِ كَوْنُ الْمُتَزَوِّجَةِ مَوْطُوءَةَ أَبِيهِ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الرَّضَاعِ حَتَّى لَوْ وُجِدَ؛ لَا يَجُوزُ كَمَا فِي النَّسَبِ. وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ أَخِيهِ لِأَبِيهِ مِنْ النَّسَبِ وَصُورَتُهُ

فصل في صفة الرضاع المحرم

مَنْكُوحَةُ أَبِيهِ إذَا وَلَدَتْ ابْنًا وَلَهَا بِنْتٌ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ؛ فَهِيَ أُخْتُ أَخِيهِ لِأَبِيهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَكَذَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَيَجُوزُ لِزَوْجِ الْمُرْضِعَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ الْمُرْضَعِ مِنْ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ الْمُرْضَعَ ابْنُهُ، وَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ ابْنِهِ مِنْ النَّسَبِ وَكَذَا أَبَ الْمُرْضَعِ مِنْ النَّسَبِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُرْضِعَةَ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ فَهِيَ كَأُمِّ ابْنِهِ مِنْ النَّسَبِ، وَكَذَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِمَحَارِمِ أَبِي الصَّبِيِّ مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ النَّسَبِ كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُمِّهِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي صفة الرَّضَاع الْمُحَرِّمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ فَالرَّضَاعُ الْمُحَرِّمُ مَا يَكُونُ فِي حَالِ الصِّغَرِ فَأَمَّا مَا يَكُونُ فِي حَالِ الْكِبَرِ فَلَا يُحَرِّمُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ يُحَرِّمُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ جَمِيعًا وَاحْتَجَّتْ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالِ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ تَبَنَّى سَالِمًا وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ «فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ أَتَتْ سَهْلَةُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَلَيْسَ لَنَا إلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ فَمَاذَا تَرَى فِي شَأْنِهِ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرْضِعِيهِ عَشْرَ رَضَعَاتٍ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْكِ» . وَكَانَ سَالِمًا كَبِيرًا فَدَلَّ أَنَّ الرَّضَاعَ فِي حَالِ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ مُحَرِّمٌ وَقَدْ عَمِلَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِهَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ إذَا أَرَادَتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ أَمَرَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَبَنَاتِ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُرْضِعْنَهُ فَدَلَّ عَمَلُهَا بِالْحَدِيثِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَخَلَ يَوْمًا عَلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَوَجَدَ عِنْدَهَا رَجُلًا فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: هَذَا عَمِّي مِنْ الرَّضَاعَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اُنْظُرْنَ مَا أَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ إنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ» . أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَنَّ الرَّضَاعَ فِي الصِّغَرِ هُوَ الْمُحَرِّمُ؛ إذْ هُوَ الَّذِي يَدْفَعُ الْجُوعَ فَأَمَّا جُوعُ الْكَبِيرِ فَلَا يَنْدَفِعُ بِالرَّضَاعِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ» وَذَلِكَ هُوَ رَضَاعُ الصَّغِيرِ دُونَ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّ إرْضَاعَهُ لَا يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَلَا يُنْشِزُ الْعَظْمَ وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الرَّضَاعُ مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ» وَرَضَاعُ الصَّغِيرِ هُوَ الَّذِي يَفْتُقُ الْأَمْعَاءَ، لَا رَضَاعُ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّ أَمْعَاءَ الصَّغِيرِ تَكُونُ ضَيِّقَةً لَا يَفْتُقُهَا إلَّا اللَّبَنُ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ أَلْطَفِ الْأَغْذِيَةِ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] فَأَمَّا أَمْعَاءُ الْكَبِيرِ فَمُنْفَتِقَةٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى الْفَتْقِ بِاللَّبَنِ وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ» . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ وَلَدًا فَمَاتَ وَلَدُهَا فَوَرِمَ ثَدْيُ الْمَرْأَةِ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَمُصُّهُ وَيَمُجُّهُ فَدَخَلَتْ جَرْعَةٌ مِنْهُ حَلْقَهُ فَسَأَلَ عَنْهُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْكَ ثُمَّ جَاءَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسَأَلَهُ فَقَالَ: هَلْ سَأَلْت أَحَدًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، سَأَلْت أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ؛ فَقَالَ: حُرِّمَتْ عَلَيْك فَجَاءَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ لَهُ: أَمَا عَلِمْت أَنَّهُ إنَّمَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: كَانَتْ لِي وَلِيدَةٌ أَطَؤُهَا فَعَمَدَتْ امْرَأَتِي إلَيْهَا فَأَرْضَعَتْهَا فَدَخَلْت عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: دُونَكَ مَقْدُورُ اللَّهِ أَرْضَعْتهَا فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَاقِعْهَا فَهِيَ جَارِيَتُك فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ عِنْدَ الصِّغَرِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ رَضَاعَةَ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَّرَ الرَّضَاعَ الْمُحَرِّمَ بِكَوْنِهِ دَافِعًا لِلْجُوعِ مُنْبِتًا لِلَّحْمِ مُنْشِزًا لِلْعَظْمِ فَاتِقًا لِلْأَمْعَاءِ، وَهَذَا وَصْفُ رَضَاعِ الصَّغِيرِ لَا الْكَبِيرِ؛ فَصَارَتْ السُّنَّةُ مُبَيِّنَةً لِمَا فِي الْكِتَابِ أَصْلُهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ سَالِمٍ فَالْجَوَابُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ سَائِرَ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ بِالرَّضَاعِ فِي حَالِ الْكِبَرِ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ وَقُلْنَ: مَا نَرَى الَّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ إلَّا رُخْصَةً فِي سَالِمٍ وَحْدَهُ

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَالِمًا كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ، وَمَا كَانَ مِنْ خُصُوصِيَّةِ بَعْضِ النَّاسِ لِمَعْنًى لَا نَعْقِلُهُ لَا يَحْتَمِلُ الْقِيَاسَ، وَلَا نَتْرُكُ بِهِ الْأَصْلَ الْمُقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ كَانَ مُحَرِّمًا ثُمَّ صَارَ مَنْسُوخًا بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ. وَأَمَّا عَمَلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَدْ رُوِيَ عَنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهَا فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَالدَّمَ. وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِنْتَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنْ تُرْضِعَ الصِّبْيَانَ حَتَّى يَدْخُلُوا عَلَيْهَا إذَا صَارُوا رِجَالًا عَلَى أَنَّ عَمَلَهَا مُعَارَضٌ بِعَمَلِ سَائِرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُنَّ كُنَّ لَا يَرَيْنَ أَنْ يَدْخُلْنَ عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ؛ وَالْمُعَارَضُ لَا يَكُونُ حُجَّةً. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ لَا يُحَرِّمُ وَرَضَاعَ الصَّغِيرِ مُحَرِّمٌ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فِي حُكْمِ الرَّضَاعِ وَهُوَ بَيَانُ مُدَّةِ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ثَلَاثُونَ شَهْرًا وَلَا يُحَرِّمُ بَعْدَ ذَلِكَ سَوَاءٌ فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -: حَوْلَانِ لَا يُحَرِّمُ بَعْدَ ذَلِكَ فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ زُفَرُ: ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرْبَعُونَ سَنَةً. احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بِقَوْلِهِ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَوْلَيْنِ الْكَامِلَيْنِ تَمَامَ مُدَّةِ الرَّضَاعِ وَلَيْسَ وَرَاءَ التَّمَامِ شَيْءٌ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَبَقِيَ مُدَّةُ الْفِصَالِ حَوْلَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ» وَهَذَا نَصُّ فِي الْبَابِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] أَثْبَتَ الْحُرْمَةَ بِالرَّضَاعِ مُطْلَقًا عَنْ التَّعَرُّضِ لِزَمَانِ الْإِرْضَاعِ إلَّا أَنَّهُ أَقَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ زَمَانَ مَا بَعْدَ الثَّلَاثِينَ شَهْرًا لَيْسَ بِمُرَادٍ فَيُعْمَلُ بِإِطْلَاقِهِ فِيمَا وَرَاءَهُ وقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} [البقرة: 233] وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُمَا إرَادَةَ الْفِصَالِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ فَيَقْتَضِي بَقَاءَ الرَّضَاعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ لِيَتَحَقَّقَ الْفِصَالُ بَعْدَهُمَا وَالثَّانِي أَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُمَا إرَادَةَ الْفِصَالِ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ، وَلَا يَكُونُ الْفِصَالُ إلَّا عَنْ الرَّضَاعِ فَدَلَّ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِ الرَّضَاعِ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ إلَى أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى التَّقْيِيدِ وقَوْله تَعَالَى {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ} [البقرة: 233] أَثْبَتَ لَهُمَا إرَادَةَ الِاسْتِرْضَاعِ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ فَمَنْ ادَّعَى التَّقْيِيدَ بِالْحَوْلَيْنِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَلِأَنَّ الْإِرْضَاعَ إنَّمَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ لِكَوْنِهِ مُنْبِتًا لِلَّحْمِ مُنْشِزًا لِلْعَظْمِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ. وَمِنْ الْمُحَالِ عَادَةً أَنْ يَكُونَ مُنْبِتًا لِلَّحْمِ إلَى الْحَوْلَيْنِ ثُمَّ لَا يَنْبُتُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِسَاعَةٍ لَطِيفَةٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَجْرَى الْعَادَةَ بِتَغْيِيرِ الْغِذَاءِ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ مُعْتَبَرَةٍ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَلِدُ فِي الْبَرْدِ الشَّدِيدِ وَالْحَرِّ الشَّدِيدِ فَإِذَا تَمَّ عَلَى الصَّبِيِّ سَنَتَانِ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْمَرَ الْمَرْأَةُ بِفِطَامِهِ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ عَلَى الْوَلَدِ؛ إذْ لَوْ لَمْ يُعَوَّدْ بِغَيْرِهِ مِنْ الطَّعَامِ؛ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تُؤْمَرَ بِالرَّضَاعِ وَمُحَالٌ أَنْ تُؤْمَرَ بِالرَّضَاعِ وَيُحَرَّمُ عَلَيْهَا الرَّضَاعُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَدَلَّ أَنَّ الرَّضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ يَكُونُ رَضَاعًا إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ فِي تَقْدِيرِهِ مُدَّةَ إبْقَاءِ حُكْمِ الرَّضَاعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مُدَّةِ تَغَيُّرِ الْوَلَدِ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَتَغَذَّى بِغِذَائِهَا ثُمَّ يَنْفَصِلُ فَيَصِيرُ أَصْلًا فِي الْغِذَاءِ وَزُفَرُ اعْتَبَرَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ سَنَةً كَامِلَةً فَقَالَ: لَمَّا ثَبَتَ حُكْمُ الرَّضَاعِ فِي ابْتِدَاءِ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ - لِمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ -؛ يَثْبُتُ فِي بَقِيَّتِهَا كَالسَّنَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَفِيهَا أَنَّ الْحَوْلَيْنِ مُدَّةُ الرَّضَاعِ فِي حَقِّ مَنْ أَرَادَ تَمَامَ الرَّضَاعَةِ وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الزَّائِدُ عَلَى الْحَوْلَيْنِ مُدَّةَ الرَّضَاعِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ مَعَ مَا أَنَّ ذِكْرَ الشَّيْءِ بِالتَّمَامِ لَا يَمْنَعُ مِنْ احْتِمَالِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» وَهَذَا لَا يَمْنَعُ زِيَادَةَ الْفَرْضِ عَلَيْهِ فَإِنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ عَلَى أَنَّ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْحَوْلَيْنِ تَمَامُ مُدَّةِ الرَّضَاعِ لَكِنَّهَا تَمَامُ مُدَّةِ الرَّضَاعِ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ أَوْ فِي حَقِّ وُجُوبِ أَجْرِ الرَّضَاعِ عَلَى الْأَبِ فَالنَّصُّ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ، وَعِنْدَهُمَا: تَمَامُ مُدَّةِ الرَّضَاعِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأَجْرِ عَلَى الْأَبِ حَتَّى أَنَّ الْأُمَّ الْمُطَلَّقَةَ إذَا طَلَبَتْ الْأَجْرَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ - وَلَا تُرْضِعُ بِلَا أَجْرٍ -؛ لَمْ يُجْبَرْ الْأَبُ عَلَى أَجْرِ الرَّضَاعِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْحَوْلَيْنِ أَوْ تُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَى هَذَا

تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ؛ لِأَنَّ دَلَائِلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا تَتَنَاقَضُ. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَالْفِصَالُ فِي عَامَيْنِ لَا يَنْفِي الْفِصَالَ فِي أَكْثَرِ مِنْ عَامَيْنِ كَمَا لَا يَنْفِيهِ فِي أَقَلَّ مِنْ عَامَيْنِ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَكَانَ هَذَا اسْتِدْلَالًا بِالْمَسْكُوتِ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] الْآيَةَ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ جَوَازُ الْكِتَابَةِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ فِيهِمْ خَيْرًا. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ فَتَحْتَمِلُ مَا ذَكَرْتُمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْحَمْلِ هُوَ الْحَمْلُ بِالْبَطْنِ وَالْفِصَالُ هُوَ الْفِطَامُ فَيَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ الرَّضَاعِ سَنَتَيْنِ وَمُدَّةُ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَتَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْحَمْلِ الْحَمْلَ بِالْيَدِ وَالْحِجْرِ، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الثَّلَاثُونَ مُدَّةَ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ بِالْيَدِ وَالْحِجْرِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ غَالِبًا لَا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ هَذِهِ الْمُدَّةِ مُدَّةَ الْحَمْلِ وَبَعْضُهَا مُدَّةَ الْفِصَالِ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ السَّنَتَيْنِ إلَى الْوَقْتِ لَا تَقْتَضِي قِسْمَةَ الْوَقْتِ عَلَيْهِمَا بَلْ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ الْوَقْتِ مُدَّةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ: صَوْمُك وَزَكَاتُك فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. هَذَا لَا يَقْتَضِي قِسْمَةَ الشَّهْرِ عَلَيْهِمَا بَلْ يَقْتَضِي كَوْنَ الشَّهْرِ كُلِّهِ وَقْتًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الثَّلَاثُونَ شَهْرًا مُدَّةَ الرَّضَاعِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ. عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْآيَاتِ ظَاهِرًا لَكِنْ مَا تَلَوْنَا حَاظِرٌ وَمَا تَلَوْتُمْ مُبِيحٌ وَالْعَمَلُ بِالْحَاظِرِ أَوْلَى احْتِيَاطًا وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمَشْهُورُ: «لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ» . وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْحَدِيثِ هَذَا وَأَنَّ مَنْ ذَكَرَ الْحَوْلَيْنِ حَمَلَهُ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَهُ، وَلَوْ ثَبَتَ هَذَا اللَّفْظُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْإِرْضَاعَ عَلَى الْأَبِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ أَيْ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأَجْرِ عَلَيْهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى هَذِهِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. ثُمَّ الرَّضَاعُ يُحَرِّمُ فِي الْمُدَّةِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهَا سَوَاءٌ فُطِمَ فِي الْمُدَّةِ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ، هَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا حَتَّى لَوْ فُصِلَ الرَّضِيعُ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ ثُمَّ سُقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمُدَّةِ؛ كَانَ ذَلِكَ رَضَاعًا مُحَرِّمًا وَلَا يُعْتَبَرُ الْفِطَامُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ فَيُحَرِّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا كَانَ فِي السَّنَتَيْنِ وَنِصْفٍ وَعِنْدَهُمَا مَا كَانَ فِي السَّنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ فِي وَقْتِهِ عُرِفَ مُحَرِّمًا فِي الشَّرْعِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا فُطِمَ فِي السَّنَتَيْنِ حَتَّى اسْتَغْنَى بِالْفِطَامِ ثُمَّ ارْتَضَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّنَتَيْنِ أَوْ الثَّلَاثِينَ شَهْرًا؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رَضَاعًا؛ لِأَنَّهُ لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِطَامِ وَإِنْ هِيَ فَطَمَتْهُ فَأَكَلَ أَكْلًا ضَعِيفًا لَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ الرَّضَاعِ ثُمَّ عَادَ فَأُرْضِعَ كَمَا يُرْضَعُ أَوَّلًا فِي الثَّلَاثِينَ شَهْرًا فَهُوَ رَضَاعٌ مُحَرِّمٌ كَمَا يُحَرِّمُ رَضَاعُ الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يُفْطَمْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ تَفْسِيرًا لِظَاهِرِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ أَنَّ الرَّضَاعَ فِي الْمُدَّةِ بَعْدَ الْفِطَامِ إنَّمَا يَكُونُ رَضَاعًا مُحَرِّمًا لَمْ يَكُنْ الْفِطَامُ تَامًّا بِأَنْ كَانَ لَا يَسْتَغْنِي بِالطَّعَامِ عَنْ الرَّضَاعِ، فَإِنْ اسْتَغْنَى لَا يُحَرِّمُ بِالْإِجْمَاعِ وَيُحْمَلُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ» عَلَى الْفِصَالِ الْمُتَعَارَفِ الْمُعْتَادِ وَهُوَ الْفِصَالُ التَّامُّ الْمُغْنِي عَنْ الرَّضَاعِ. وَيَسْتَوِي فِي الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنَّ قَلِيلَ الرَّضَاعِ لَا يُحَرِّمُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: لَا يُحَرِّمُ إلَّا خَمْسُ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ فِيمَا نَزَلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ يُحَرِّمُ، ثُمَّ صِرْنَ إلَى خَمْسٍ فَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِيمَا يُقْرَأُ» . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَةُ والإملاجتان» وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِالرَّضَاعِ لِكَوْنِهِ مُنْبِتًا لِلَّحْمِ وَمُنْشِزًا لِلْعَظْمِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ بِالْقَلِيلِ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ الْقَلِيلُ مُحَرِّمًا وَلَنَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] مُطْلَقًا عَنْ الْقَدْرِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: قَلِيلُ الرَّضَاعِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: الرَّضْعَةُ الْوَاحِدَةُ تُحَرِّمُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ، فَقَالَ: قَضَاءُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ قَضَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] . وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تَقُولُ: لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ فَقَالَ: حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى وَخَيْرٌ مِنْ حُكْمِهَا. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهَا وَهُوَ الظَّاهِرُ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهَا قَالَتْ: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مِمَّا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ فَمَا الَّذِي نَسَخَهُ وَلَا نَسْخَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وَلَا

يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الرَّضَاعُ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَلِهَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَأَنَّهُ مِنْ صَيَارِفَةِ الْحَدِيثِ وَلَئِنْ ثَبَتَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ فَنُسِخَ الْعَدَدُ بِنَسْخِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْمَصَّةِ وَالْمَصَّتَيْنِ فَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ فِي إسْنَادِهِ اضْطِرَابًا؛ لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عُرْوَةُ عَنْ الرَّضَاعَةِ فَقَالَ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَ قَطْرَةً وَاحِدَةً مُحَرِّمٌ وَالرَّاوِي إذَا عَمِلَ بِخِلَافِ مَا رَوَى أَوْجَبَ ذَلِكَ وَهْنًا فِي ثُبُوتِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ عِنْدَهُ لَعَمِلَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْحُرْمَةَ لَمْ تَثْبُتْ لِعَدَمِ الْقَدْرِ الْمُحَرِّمِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَنَّ اللَّبَنَ وَصَلَ إلَى جَوْفِ الصَّبِيِّ أَمْ لَا وَمَا لَمْ يَصِلْ لَا يُحَرِّمُ فَلَا يَثْبُتُ لِعَدَمِ الْقَدْرِ الْمُحْتَرَمِ وَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِالِاحْتِمَالِ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذَا عَقَى الصَّبِيُّ فَقَدْ حُرِّمَ حِينَ سُئِلَ عَنْ الرَّضْعَةِ الْوَاحِدَةِ هَلْ تُحَرِّمُ؛ لِأَنَّ الْعِقْيَ اسْمٌ لِمَا يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ الصَّبِيِّ حِينَ يُولَدُ أَسْوَدُ لَزِجٌ إذَا وَصَلَ اللَّبَنُ إلَى جَوْفِهِ يُقَالُ هَلْ عَقَى صَبِيُّكُمْ أَيْ هَلْ سَقَيْتُمُوهُ عَسَلًا لِيَسْقُطَ عَنْهُ عِقْيُهُ إنَّمَا ذُكِرَ ذَلِكَ لِيُعْلَمَ أَنَّ اللَّبَنَ قَدْ صَارَ فِي جَوْفِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْقَى مِنْ ذَلِكَ اللَّبَنِ حَتَّى يَصِيرَ فِي جَوْفِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي إرْضَاعِ الْكَبِيرِ حِينَ كَانَ مُحَرِّمًا ثُمَّ نُسِخَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الرَّضَاعَ إنَّمَا يُحَرِّمُ لِكَوْنِهِ مُنْبِتًا لِلَّحْمِ مُنْشِزًا لِلْعَظْمِ فَنَقُولُ: الْقَلِيلُ يُنْبِتُ وَيُنْشِزُ بِقَدْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُحَرِّمَ بِأَصْلِهِ وَقَدْرِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إنْ ثَبَتَتْ فَهِيَ مُبِيحَةٌ وَمَا تَلَوْنَا مُحَرِّمٌ وَالْمُحَرِّمُ يَقْضِي عَلَى الْمُبِيحِ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ الْجُرْعَةَ الْكَثِيرَةَ عِنْدَهُ لَا تُحَرِّمُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَرْعَةَ الْوَاحِدَةَ الْكَثِيرَةَ فِي إثْبَاتِ اللَّحْمِ وَإِنْشَازِ الْعَظْمِ فَوْقَ خَمْسِ رَضَعَاتٍ صِغَارٍ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا مَدَارَ عَلَى هَذَا. وَكَذَا يَسْتَوِي فِيهِ لَبَنُ الْحَيَّةِ وَالْمَيِّتَةِ بِأَنْ حُلِبَ لَبَنُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا فِي قَدَحٍ فَأُوجِرَ بِهِ صَبِيٌّ يُحَرِّمُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَبَنُ الْمَيِّتَةِ لَا يُحَرِّمُ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا حَلَبَ لَبَنَهَا فِي حَالِ حَيَاتِهَا فِي إنَاءٍ فَأُوجِرَ بِهِ الصَّبِيُّ بَعْدَ مَوْتِهَا أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ. (وَجْهٌ) قَوْلُهُ إنَّ حُكْمَ الرَّضَاعِ هُوَ الْحُرْمَةُ وَالْمَرْأَةُ بِالْمَوْتِ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِهَذَا الْحُكْمِ وَلِهَذَا لَمْ تَثْبُتْ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِوَطْئِهَا عِنْدَكُمْ فَصَارَ لَبَنُهَا كَلَبَنِ الْبَهَائِمِ وَلَوْ ارْتَضَعَ صَغِيرَانِ مِنْ لَبَنِ بَهِيمَةٍ لَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ بَيْنَهُمَا كَذَا هَذَا وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّهَا لَا تَثْبُتُ فِي حَقِّ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْمُرْضِعَةَ أَصْلٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ فَأَوَّلًا يَثْبُتُ فِي حَقِّهَا ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهَا فَكَيْفَ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا بِخِلَافِ مَا إذَا حُلِبَ حَالَ حَيَاتِهَا ثُمَّ أُوجِرَ الصَّبِيُّ بَعْدَ وَفَاتِهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَحَلًّا قَابِلًا لِلْحُكْمِ وَقْتَ انْفِصَالِ اللَّبَنِ مِنْهَا فَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وَلِأَنَّ اللَّبَنَ قَدْ يَنْجُسُ بِمَوْتِهَا لِتَنَجُّسِ وِعَائِهِ وَهُوَ الثَّدْيُ فَأَشْبَهَ الْبَوْلَ وَالدَّمَ وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» وَاسْمُ الرَّضَاعِ لَا يَقِفُ عَلَى الِارْتِضَاعِ مِنْ الثَّدْيِ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ يَتِيمٌ رَاضِعٌ وَإِنْ كَانَ يَرْضَعُ بِلَبَنِ الشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَلَا عَلَى فِعْلِ الِارْتِضَاعِ مِنْهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ ارْتَضَعَ الصَّبِيُّ مِنْهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ يُسَمَّى ذَلِكَ رَضَاعًا حَتَّى يُحَرِّمَ وَيُقَالُ أَيْضًا: أُرْضِعَ هَذَا الصَّبِيُّ بِلَبَنِ هَذِهِ الْمَيِّتَةِ كَمَا يُقَالُ: أُرْضِعَ بِلَبَنِ الْحَيَّةِ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرَّضَاعُ مِنْ الْمَجَاعَةِ» وَقَوْلُهُ «الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرَّضَاعُ مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ» وَلَبَنُ الْمَيِّتَةِ يَدْفَعُ الْجُوعَ وَيُنْبِتُ اللَّحْمَ وَيُنْشِزُ الْعَظْمَ وَيَفْتُقُ الْأَمْعَاءَ فَيُوجِبُ الْحُرِّيَّةَ، وَلِأَنَّ اللَّبَنَ كَانَ مُحَرِّمًا فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَالْعَارِضُ هُوَ الْمَوْتُ وَاللَّبَنُ لَا يَمُوتُ كَالْبَيْضَةِ كَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ اللَّبَنُ لَا يَمُوتُ وَلِأَنَّ الْمَوْتَ يَحِلُّ مَحَلَّ الْحَيَاةِ وَلَا حَيَاةَ فِي اللَّبَنِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَمْ تَتَأَلَّمْ بِأَخْذِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهَا، وَالْحَيَوَانُ يَتَأَلَّمُ بِأَخْذِ مَا فِيهِ حَيَاةٌ مِنْ لَحْمِهِ وَسَائِرِ أَعْضَائِهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَيَاةٌ؛ كَانَ حَالُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرْأَةِ كَحَالِهِ قَبْلَ مَوْتِهَا وَقَبْلَ مَوْتِهَا مُحَرِّمٌ كَذَا بَعْدَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ الْمَرْأَةُ بِالْمَوْتِ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلْحُرْمَةِ وَهِيَ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْحُرْمَةِ فَنَقُولُ الْحُرْمَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مَا ثَبَتَتْ بِاعْتِبَارِ الْأَصَالَةِ وَالتَّبَعِيَّةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ إنْبَاتِ اللَّحْمِ وَإِنْشَازِ الْعَظْمِ وَقَدْ بَقِيَ هَذَا الْمَعْنَى بَعْدَ الْمَوْتِ فَتَبْقَى الْحُرْمَةِ بِخِلَافِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ لِدَفْعِ فَسَادِ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ لِكَوْنِ الْوَطْءِ سَبَبًا لِحُصُولِ الْوَلَدِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ لَا يَتَقَدَّرُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِذَلِكَ افْتَرَقَا وَقَوْلُهُ اللَّبَنُ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ مَمْنُوعٌ وَهَذَا شَيْءٌ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا فَاللَّبَنُ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَإِنْ تَنَجَّسَ الْوِعَاءُ

الْأَصْلِيُّ لَهُ وَنَجَاسَةُ الظَّرْفِ إنَّمَا تُوجِبُ نَجَاسَةَ الْمَظْرُوفِ إذَا لَمْ يَكُنْ الظَّرْفُ مَعْدِنًا لِلْمَظْرُوفِ وَمَوْضِعًا لَهُ فِي الْأَصْلِ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الْأَصْلِ مَوْضِعُهُ وَمَظَانُّهُ فَنَجَاسَتُهُ لَا تُوجِبُ نَجَاسَةَ الْمَظْرُوفِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَجْرِي بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْجِلْدِ فِي الْمُذَكَّاةِ لَا يُنَجِّسُ اللَّحْمَ لَمَّا كَانَ فِي مَعْدِنِهِ وَمَظَانِّهِ فَكَذَلِكَ اللَّبَنُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ حَلَبَ لَبَنَهَا فِي حَالِ حَيَاتِهَا فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ فَأُوجِرَ بِهِ الصَّبِيُّ يُحَرِّمُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوِعَاءَيْنِ؛ إذْ النَّجَسُ فِي الْحَالَيْنِ مَا يُجَاوِرُ اللَّبَنَ لَا عَيْنَهُ ثُمَّ نَجَاسَةُ الْوِعَاءِ الَّذِي لَيْسَ بِمَعْدِنِ اللَّبَنِ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ وُقُوعَ التَّحْرِيمِ فَمَا هُوَ مَعْدِنٌ لَهُ أَوْلَى، وَيَسْتَوِي فِي تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ الِارْتِضَاعُ مِنْ الثَّدْيِ وَالْإِسْعَاطِ وَالْإِيجَارِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي التَّحْرِيمِ مِمَّا هُوَ مَعْدِنٌ لَهُ أَوْلَى وَيَسْتَوِي فِي تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ الِارْتِضَاعُ مِنْ الثَّدْيِ وَالْإِسْعَاطِ وَالْإِيجَارِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي التَّحْرِيمِ هُوَ حُصُولُ الْغِذَاءِ بِاللَّبَنِ وَإِنْبَاتِ اللَّحْمِ وَإِنْشَازِ الْعَظْمِ وَسَدِّ الْمَجَاعَةِ لَأَنْ يَتَحَقَّقَ الْجُزْئِيَّةُ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْإِسْعَاطِ وَالْإِيجَارِ؛ لِأَنَّ السَّعُوطَ يَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ وَإِلَى الْحَلْقِ فَيُغَذِّي وَيَسُدُّ الْجُوعَ وَالْوَجُورُ يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ فَيُغَذِّي. وَأَمَّا الْإِقْطَارُ فِي الْأُذُنِ فَلَا يُحَرِّمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ وُصُولُهُ إلَى الدِّمَاغِ لِضِيقِ الْخَرْقِ فِي الْأُذُنِ وَكَذَلِكَ الْإِقْطَارُ فِي الْإِحْلِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ فَضْلًا عَنْ الْوُصُولِ إلَى الْمَعِدَةِ وَكَذَلِكَ الْإِقْطَارُ فِي الْعَيْنِ وَالْقُبُلِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ الْإِقْطَارُ فِي الْجَائِفَةِ وَفِي الْآمَّةِ؛ لِأَنَّ الْجَائِفَةَ تَصِلُ إلَى الْجَوْفِ لَا إلَى الْمَعِدَةِ وَالْآمَّةُ إنْ كَانَ يَصِلُ إلَى الْمَعِدَةِ لَكِنْ مَا يَصِلُ إلَيْهَا مِنْ الْجِرَاحَةِ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْغِذَاءُ فَلَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ وَالْحُقْنَةُ لَا تُحَرِّمُ بِأَنْ حُقِنَ الصَّبِيُّ بِاللَّبَنِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تُحَرِّمُ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا وَصَلَتْ إلَى الْجَوْفِ حَتَّى أَوْجَبَتْ فَسَادَ الصَّوْمِ فَصَارَ كَمَا لَوْ وَصَلَ مِنْ الْفَمِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي هَذِهِ الْحُرْمَةِ هُوَ مَعْنَى التَّغَذِّي وَالْحُقْنَةُ لَا تَصِلُ إلَى مَوْضِعِ الْغِذَاءِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْغِذَاءِ هُوَ الْمَعِدَةُ وَالْحُقْنَةُ لَا تَصِلُ إلَيْهَا فَلَا يَحْصُلُ بِهَا نَبَاتُ اللَّحْمِ وَنُشُوزُ الْعَظْمِ وَانْدِفَاعُ الْجُوعِ فَلَا تُوجِبُ الْحُرْمَةَ. وَلَوْ جُعِلَ اللَّبَنُ مَخِيضًا أَوْ رَائِبًا أَوْ شِيرَازًا أَوْ جُبْنًا أَوْ أَقِطًا أَوْ مَصْلًا فَتَنَاوَلَهُ الصَّبِيُّ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الرَّضَاعِ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ وَكَذَا لَا يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَلَا يُنْشِزُ الْعَظْمَ وَلَا يَكْتَفِي بِهِ الصَّبِيُّ فِي الِاغْتِذَاءِ فَلَا يُحَرِّمُ وَلَوْ اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِغَيْرِهِ فَهَذَا عَلَى وُجُوهٍ أَمَّا إنْ اخْتَلَطَ بِالطَّعَامِ أَوْ بِالدَّوَاءِ أَوْ بِالْمَاءِ أَوْ بِلَبَنِ الْبَهَائِمِ أَوْ بِلَبَنِ امْرَأَةٍ أُخْرَى فَإِنْ اخْتَلَطَ بِالطَّعَامِ فَإِنْ مَسَّتْهُ النَّارُ حَتَّى نَضِجَ لَمْ يُحَرِّمْ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَنْ طَبْعِهِ بِالطَّبْخِ وَإِنْ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الطَّعَامَ؛ لَمْ تَثْبُتْ الْحُرْمَةُ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ إذَا غَلَبَ سَلَبَ قُوَّةَ اللَّبَنِ وَأَزَالَ مَعْنَاهُ وَهُوَ التَّغَذِّي فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ. وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا لِلطَّعَامِ وَهُوَ طَعَامٌ يَسْتَبِينُ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَثْبُتُ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ اعْتِبَارَ الْغَالِبِ وَإِلْحَاقَ الْمَغْلُوبِ بِالْعَدَمِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ مَا أَمْكَنَ كَمَا إذَا اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ أَوْ بِلَبَنِ شَاةٍ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الطَّعَامَ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ اللَّبَنِ فَإِنَّهُ يَسْلُبُ قُوَّةَ اللَّبَنِ؛ لِأَنَّهُ يَرِقُّ وَيَضْعُفُ بِحَيْثُ يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي حِسِّ الْبَصَرِ فَلَا تَقَعُ الْكِفَايَةُ بِهِ فِي تَغْذِيَةِ الصَّبِيِّ فَكَانَ اللَّبَنُ مَغْلُوبًا مَعْنًى وَإِنْ كَانَ غَالِبًا صُورَةً وَإِنْ اخْتَلَطَ بِالدَّوَاءِ أَوْ بِالدُّهْنِ أَوْ بِالنَّبِيذِ؛ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْغَالِبُ فَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا يُحَرِّمُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تَحِلُّ بِصِفَةِ اللَّبَنِ وَصَيْرُورَتِهِ غِذَاءً بَلْ بِقَدْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُخْلَطُ بِاللَّبَنِ لِيُوصَلَ اللَّبَنُ إلَى مَا كَانَ لَا يَصِلُ إلَيْهِ بِنَفْسِهِ لِاخْتِصَاصِهَا بِقُوَّةِ التَّنْفِيذِ ثُمَّ اللَّبَنُ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ فَمَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الدَّوَاءُ هُوَ الْغَالِبَ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ إذَا صَارَ مَغْلُوبًا صَارَ مُسْتَهْلَكًا فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّغَذِّي فَلَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ وَكَذَا إذَا اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْغَالِبُ أَيْضًا فَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا لَا يَثْبُتُ بِهِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذَا قُطِّرَ مِنْ الثَّدْيِ مِقْدَارَ خَمْسِ رَضَعَاتٍ فِي جُبِّ مَاءٍ فَسُقِيَ مِنْهُ الصَّبِيُّ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّبَنَ وَصَلَ إلَى جَوْفِ الصَّبِيِّ بِقَدْرِهِ فِي وَقْتِهِ فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ كَمَا إذَا كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا وَلَا شَكَّ فِي وَقْتِ الرَّضَاعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقَدْرَ الْمُحَرِّمَ مِنْ اللَّبَنِ وَصَلَ إلَى جَوْفِ الصَّبِيِّ أَنَّ اللَّبَنَ وَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا فَهُوَ مَوْجُودٌ شَائِعٌ فِي أَجْزَاءِ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ لَا يُرَى فَيُوجِبُ الْحُرْمَةَ وَلَنَا أَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ الْحُرْمَةَ فِي بَابِ الرَّضَاعِ بِمَعْنَى التَّغَذِّي عَلَى مَا نَطَقَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ وَاللَّبَنُ الْمَغْلُوبُ بِالْمَاءِ لَا يُغَذِّي الصَّبِيَّ لِزَوَالِ قُوَّتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ الِاكْتِفَاءُ بِهِ فِي تَغْذِيَةِ الصَّبِيِّ فَلَمْ يَكُنْ مُحَرِّمًا وَقَدْ

خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ، وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ جَوَابَ الْكِتَابِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلَهُمَا فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْبَغِي أَنْ يُحَرِّمَ وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا وَقَاسَ الْمَاءَ عَلَى الطَّعَامِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ اخْتِلَاطَهُ بِالْمَاءِ يَسْلُبُ قُوَّتَهُ وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا كَاخْتِلَاطِهِ بِالطَّعَامِ الْقَلِيلِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَطْلَقَ الْجَوَابَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ وَلَوْ اخْتَلَطَ بِلَبَنِ الْبَهَائِمِ كَلَبَنِ الشَّاةِ وَغَيْرِهِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْغَالِبُ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ اخْتَلَطَ لَبَنُ امْرَأَةٍ بِلَبَنِ امْرَأَةٍ أُخْرَى فَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ مِنْهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَذَلِكَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ اللَّبَنَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَالْجِنْسُ لَا يَغْلِبُ الْجِنْسَ فَلَا يَكُونُ خَلْطُ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ اسْتِهْلَاكًا فَلَا يَصِيرُ الْقَلِيلُ مُسْتَهْلَكًا فِي الْكَثِيرِ فَيُغَذِّي الصَّبِيَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِهِ بِإِنْبَاتِ اللَّحْمِ وَإِنْشَازِ الْعَظْمِ أَوْ سَدِّ الْجُوعِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَسْلُبُ قُوَّةَ الْآخَرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ خَلْطَ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ لَا يَكُونُ اسْتِهْلَاكًا لَهُ أَنَّ مَنْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ زَيْتًا فَخَلَطَهُ بِزَيْتٍ آخَرَ اشْتَرَكَا فِيهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَلَوْ خَلَطَهُ بِشَيْرَجٍ أَوْ بِدُهْنٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ يُعْتَبَرُ الْغَالِبُ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْمَغْصُوبَ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيُعْطِيَهُ قِسْطَ مَا اخْتَلَطَ بِزَيْتِهِ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ غَيْرَ الْمَغْصُوبِ صَارَ الْمَغْصُوبُ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ وَلَكِنَّ الْغَاصِبَ يَغْرَمُ لَهُ مِثْلَ مَا غَصَبَهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حُكْمِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ وَالْجِنْسَيْنِ وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِاخْتِلَاطِ بِاخْتِلَاطِ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ وَهُنَاكَ الْحُكْمُ لِلْغَالِبِ كَذَا هَهُنَا وَلِمُحَمَّدٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فَإِنَّ اخْتِلَاطَ اللَّبَنِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ لَا يُوجِبُ الْإِخْلَالَ بِمَعْنَى التَّغَذِّي مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِهِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَسْلُبُ قُوَّةَ الْآخَرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ اخْتِلَاطُ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ، وَاللَّبَنُ مَغْلُوبٌ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَسْلُبُ قُوَّةَ اللَّبَنِ أَوْ يُخِلُّ بِهِ فَلَا يَحْصُلُ التَّغَذِّي أَوْ يَخْتَلُّ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَلَهَا لَبَنٌ مِنْ وَلَدٍ كَانَتْ وَلَدَتْهُ مِنْهُ فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَهِيَ كَذَلِكَ فَأَرْضَعَتْ صَبِيًّا عِنْدَ الثَّانِي يُنْظَرُ إنْ أَرْضَعَتْ قَبْلَ أَنْ تَحْمِلَ مِنْ الثَّانِي فَالرَّضَاعُ مِنْ الْأَوَّلِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ نَزَلَ مِنْ الْأَوَّلِ فَلَا يَرْتَفِعُ حُكْمُهُ بِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ كَمَا لَا يَرْتَفِعُ بِالْمَوْتِ وَكَمَا لَوْ حَلَبَ مِنْهَا اللَّبَنَ ثُمَّ مَاتَتْ لَا يَبْطُلُ حُكْمُ الرَّضَاعِ مِنْ لَبَنِهَا كَذَا هَذَا، وَإِنْ أَرْضَعَتْ بَعْدَمَا وَضَعَتْ مِنْ الثَّانِي فَالرَّضَاعُ مِنْ الثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ مِنْهُ ظَاهِرًا، وَإِنْ أَرْضَعَتْ بَعْدَمَا حَمَلَتْ مِنْ الثَّانِي قَبْلَ أَنْ تَضَعَ؛ فَالرَّضَاعُ مِنْ الْأَوَّلِ إلَى أَنْ تَضَعَ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا اللَّبَنَ مِنْ الثَّانِي بِأَنْ ازْدَادَ لَبَنُهَا فَالرَّضَاعُ مِنْ الثَّانِي وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فَالرَّضَاعُ مِنْ الْأَوَّلِ، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْهُ أَنَّهَا إذَا حَبِلَتْ فَاللَّبَنُ لِلثَّانِي، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: الرَّضَاعُ مِنْهُمَا جَمِيعًا إلَى أَنْ تَلِدَ فَإِذَا وَلَدَتْ فَهُوَ مِنْ الثَّانِي، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ اللَّبَنَ الْأَوَّلَ بَاقٍ وَالْحَمْلَ سَبَبٌ لِحُدُوثِ زِيَادَةِ لَبَنٍ فَيَجْتَمِعُ لَبَنَانِ فِي ثَدْيٍ وَاحِدٍ فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِهِمَا كَمَا قَالَ فِي اخْتِلَاطِ أَحَدِ اللَّبَنَيْنِ بِالْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَضَعَتْ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ الْأَوَّلَ يَنْقَطِعُ بِالْوَضْعِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا فَكَانَ اللَّبَنُ مِنْ الثَّانِي؛ فَكَانَ الرَّضَاعُ مِنْهُ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَامِلَ قَدْ يَنْزِلُ لَهَا لَبَنٌ فَلَمَّا ازْدَادَ لَبَنُهَا عِنْدَ الْحَمْلِ مِنْ الثَّانِي دَلَّ أَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ الْحَمْلِ الثَّانِي؛ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لَكَانَ لَا يَزْدَادُ بَلْ يَنْقُصُ؛ إذْ الْعَادَةُ أَنَّ اللَّبَنَ يَنْقُصُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَلَا يَزْدَادُ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْحَمْلِ الثَّانِي لَا مِنْ الْأَوَّلِ. وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ أَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ بِالْحَمْلِ يَنْقَطِعُ اللَّبَنُ الْأَوَّلُ وَيَحْدُثُ عِنْدَهُ لَبَنٌ آخَرُ فَكَانَ الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْحَمْلِ الثَّانِي مِنْ الْحَمْلِ الثَّانِي لَا مِنْ الْأَوَّلِ؛ فَكَانَ الرَّضَاعُ مِنْهُ لَا مِنْ الْأَوَّلِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ نُزُولَ اللَّبَنِ مِنْ الْأَوَّلِ ثَبَتَ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ سَبَبٌ لِنُزُولِ اللَّبَنِ بِيَقِينٍ عَادَةً فَكَانَ حُكْمُ الْأَوَّلِ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا يَبْطُلُ حُكْمُهُ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ آخَرُ مِثْلُهُ بِيَقِينٍ وَهُوَ وِلَادَةٌ أُخْرَى لَا الْحَمْلُ؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ قَدْ يَنْزِلُ لَهَا لَبَنٌ بِسَبَبِ الْحَمْلِ وَقَدْ لَا يَنْزِلُ حَتَّى تَضَعَ وَالثَّابِتُ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ: لَمَّا ازْدَادَ اللَّبَنُ دَلَّ عَلَى حُدُوثِ اللَّبَنِ مِنْ الثَّانِي فَمَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ اللَّبَنِ تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ اللَّبَنِ مِنْ الْحَمْلِ فَإِنَّ لِزِيَادَةِ اللَّبَنِ أَسْبَابًا مِنْ زِيَادَةِ الْغِذَاءِ وَجَوْدَتِهِ وَصِحَّةِ الْبَدَنِ وَاعْتِدَالِ الطَّبِيعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا يَدُلُّ الْحَمْلُ عَلَى حُدُوثِ الزِّيَادَةِ بِالشَّكِّ فَلَا يَنْقَطِعُ الْحُكْمُ عَنْ الْأَوَّلِ بِالشَّكِّ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. وَيَسْتَوِي فِي تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ الرَّضَاعُ الْمُقَارِنُ لِلنِّكَاحِ وَالطَّارِئُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ دَلَائِلَ التَّحْرِيمِ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ فِي

مَسَائِلَ إذَا تَزَوَّجَ صَغِيرَةً فَأَرْضَعَتْهَا أُمُّهُ مِنْ النَّسَبِ أَوْ مِنْ الرَّضَاعِ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتًا لَهُ مِنْ الرَّضَاعِ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ كَمَا فِي النَّسَبِ وَكَذَا إذَا أَرْضَعَتْهَا أُخْتُهُ أَوْ بِنْتُهُ مِنْ النَّسَبِ أَوْ مِنْ الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتَ أُخْتِهِ أَوْ بِنْتَ بِنْتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأَنَّهَا تَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ كَمَا تَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ وَلَوْ تَزَوَّجَ صَغِيرَتَيْنِ رَضِيعَتَيْنِ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ فَأَرْضَعَتْهُمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ حُرِّمَتَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَيَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ كَمَا يَحْرُمُ فِي حَالَةِ الِابْتِدَاءِ كَمَا فِي النَّسَبِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا أَيَّتَهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْجَمْعُ كَمَا فِي النَّسَبِ فَإِنْ كُنَّ ثَلَاثًا فَأَرْضَعَتْهُنَّ جَمِيعًا مَعًا حُرِّمْنَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُنَّ صِرْنَ أَخَوَاتٍ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَيَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ أَيَّتَهُنَّ شَاءَ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ أَرْضَعَتْهُنَّ عَلَى التَّعَاقُبِ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ؛ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْأُولَتَانِ وَكَانَتْ الثَّالِثَةُ زَوْجَتَهُ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا أَرْضَعَتْ الْأُولَى ثُمَّ الثَّانِيَةَ؛ صَارَتَا أُخْتَيْنِ فَبَانَتَا مِنْهُ فَإِذَا أَرْضَعَتْ الثَّالِثَةَ فَقَدْ صَارَتْ أُخْتًا لَهُمَا لَكِنَّهُمَا أَجْنَبِيَّتَيْنِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْجَمْعُ فَلَا تَبِينُ مِنْهُ كَذَا إذَا أَرْضَعَتْ الْبِنْتَيْنِ مَعًا ثُمَّ الثَّالِثَةَ حُرِّمَتَا وَالثَّالِثَةُ امْرَأَتُهُ؛ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ أَرْضَعَتْ الْأُولَى ثُمَّ الثِّنْتَيْنِ مَعًا حُرِّمْنَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْأُولَى لَمْ تَحْرُمْ وَكَذَا الْإِرْضَاعُ لِعَدَمِ الْجَمْعِ فَإِذَا أَرْضَعَتْ الْأُخْرَتَيْنِ مَعًا صِرْنَ أَخَوَاتٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَفْسُدُ نِكَاحُهُنَّ وَلَوْ كُنَّ أَرْبَعَ صَبِيَّاتٍ فَأَرْضَعَتْهُنَّ عَلَى التَّعَاقُبِ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ حُرِّمْنَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ فَقَدْ صَارَتْ أُخْتًا لِلْأُولَى فَحَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَبَانَتَا، وَلَمَّا أَرْضَعَتْ الرَّابِعَةَ فَقَدْ صَارَتْ أُخْتًا لِلثَّالِثَةِ فَحَصَلَ الْجَمْعُ؛ فَبَانَتَا. وَحُكْمُ الْمَهْرِ وَالرُّجُوعِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ نَذْكُرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَهِيَ مَا إذَا تَزَوَّجَ صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ أَمَّا حُكْمُ النِّكَاحِ فَقَدْ حُرِّمَتَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ صَارَتْ بِنْتًا لَهَا وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ مِنْ الرَّضَاعِ نِكَاحًا حَرَامٌ كَمَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ؛ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا أَبَدًا كَمَا فِي النَّسَبِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِالْكَبِيرَةِ؛ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الصَّغِيرَةَ؛ لِأَنَّهَا رَبِيبَتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ لَمْ يَدْخُلْ بِأُمِّهَا فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا كَمَا فِي النَّسَبِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكَبِيرَةَ أَبَدًا؛ لِأَنَّهَا أُمُّ مَنْكُوحَتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ فَتَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ نِكَاحِ الْبِنْتِ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا كَمَا فِي النَّسَبِ. وَأَمَّا حُكْمُ الْمَهْرِ فَأَمَّا الْكَبِيرَةُ فَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا جَمِيعُ مَهْرِهَا سَوَاءٌ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ تَتَعَمَّدْ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ قَدْ تَأَكَّدَ بِالدُّخُولِ فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهَا مَهْرُهَا وَلَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّ السُّكْنَى حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَسْقُطُ بِفِعْلِهَا، وَالنَّفَقَةُ تَجِبُ حَقًّا لَهَا بِطَرِيقَةِ الصِّلَةِ وَبِالْإِرْضَاعِ خَرَجَتْ عَنْ اسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا سَقَطَ مَهْرُهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ سَوَاءٌ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ تَتَعَمَّدْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْفُرْقَةَ الْحَاصِلَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ تُوجِبُ سُقُوطَ كُلِّ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْمُبْدَلَ يَعُودُ سَلِيمًا إلَى الْمَرْأَةِ وَسَلَامَةُ الْمُبْدَلِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يُوجِبُ سَلَامَةَ الْبَدَلِ لِلْآخَرِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْمُبْدَلُ وَالْبَدَلُ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ فِي عَقْدِ الْمُبَادَلَةِ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الزَّوْجِ شَيْءٌ سَوَاءٌ كَانَتْ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ أَوْ بِطَلَاقٍ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ مَالًا مُقَدَّرًا بِنِصْفِ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ صِلَةً لَهَا تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا لِمَا لَحِقَهَا مِنْ وَحْشَةِ الْفِرَاقِ بِفَوَاتِ نِعْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا فَإِذَا أَرْضَعَتْ فَقَدْ رَضِيَتْ بِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ فَلَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا. وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ لَا شَيْءَ لَهَا، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا لِوُجُودِ عِلَّةِ الْفُرْقَةِ مِنْهَا وَهِيَ ارْتِضَاعُهَا؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَحْصُلُ اللَّبَنُ فِي جَوْفِهَا فَيُنْبِتُ اللَّحْمَ وَيُنْشِزُ الْعَظْمَ فَتَحْصُلُ الْجُزْئِيَّةُ الَّتِي هِيَ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرُ فِي الْحُرْمَةِ، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ مِنْ الْمُرْضِعَةِ التَّمْكِينُ مِنْ ارْتِضَاعِهَا بِإِلْقَامِهَا ثَدْيَهَا فَكَانَتْ مُحَصِّلَةً لِلشَّرْطِ وَالْحُكْمُ لِلْعِلَّةِ لَا لِلشَّرْطِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ لِلصَّغِيرَةِ شَيْءٌ وَلَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ لِلْمُرْضِعَةِ شَيْءٌ أَيْضًا وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ أَيِّهِمَا كَانَتْ تُوجِبُ سُقُوطَ كُلِّ الْمَهْرِ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنَّمَا يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ مُقَدَّرًا بِالْمُسَمَّى ابْتِدَاءً صِلَةٌ لِلْمَرْأَةِ نَظَرًا لَهَا وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الصَّغِيرَةِ مَا يُوجِبُ خُرُوجَهَا عَنْ اسْتِحْقَاقِ النَّظَرِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا لَا يُوصَفُ بِالْخَطَرِ، وَلَيْسَتْ هِيَ مِنْ أَهْلِ الرِّضَا لِنَجْعَلَ فِعْلَهَا دَلَالَةُ الرِّضَا بِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ فَلَا تُحْرَمُ نِصْفَ الصَّدَاقِ بِخِلَافِ الْكَبِيرَةِ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهَا عَلَى الْإِرْضَاعِ دَلَالَةُ الرِّضَا بِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الرِّضَا، وَإِرْضَاعُهَا جِنَايَةٌ فَلَا تَسْتَحِقُّ النَّظَرَ بِإِيجَابِ نِصْفِ الْمَهْرِ لَهَا ابْتِدَاءً؛ إذْ الْجَانِي لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ عَلَى جِنَايَتِهِ بَلْ يَسْتَحِقُّ الزَّجْرَ وَذَلِكَ بِالْحِرْمَانِ

لِئَلَّا يَفْعَلَ مِثْلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَجِبُ لَهَا شَيْءٌ سَوَاءٌ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ تَتَعَمَّدْ؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا جِنَايَةٌ فِي الْحَالَيْنِ وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِمَا أَدَّى عَلَى الْكَبِيرَةِ إنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَتَعَمَّدْ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا كَذَا ذَكَرَ الْمَشَايِخُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا سَوَاءٌ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ تَتَعَمَّدْ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالشَّافِعِيِّ، وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ هَذَا ضَمَانُ الْإِتْلَافِ وَأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا ضَمَانُ الْإِتْلَافِ أَنَّ الْفُرْقَةَ حَصَلَتْ مِنْ قِبَلِهَا بِإِرْضَاعِهَا وَلِهَذَا لَمْ تَسْتَحِقَّ الْمَهْرَ أَصْلًا وَرَأْسًا سَوَاءٌ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ تَتَعَمَّدْ، وَإِذَا كَانَ حُصُولُ الْفُرْقَةِ مِنْ قِبَلِهَا بِإِرْضَاعِهَا صَارَتْ بِالْإِرْضَاعِ مُؤَكِّدَةً نِصْفَ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلسُّقُوطِ بِرِدَّتِهَا أَوْ تَمْكِينِهَا مِنْ ابْنِ الزَّوْجِ أَوْ تَقْبِيلِهَا إذَا كَبُرَتْ فَهِيَ بِالْإِرْضَاعِ أَكَّدَتْ نِصْفَ الْمَهْرِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فَصَارَتْ مُتْلِفَةً عَلَيْهِ مَالَهُ فَتَضْمَنُ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا وَإِنْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ فَهِيَ صَاحِبَةُ شَرْطٍ فِي ثُبُوتِ الْفُرْقَةِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْفُرْقَةِ هِيَ الِارْتِضَاعُ لِلصَّغِيرَةِ لِمَا بَيَّنَّا وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ لَا إلَى الشَّرْطِ عَلَى أَنَّ إرْضَاعَهَا إنْ كَانَ سَبَبَ الْفُرْقَةِ فَهُوَ سَبَبٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ طَرَأَ عَلَيْهِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ وَهُوَ ارْتِضَاعُ الصَّغِيرَةِ وَالسَّبَبُ إذَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ يَكُونُ سَبَبًا مَحْضًا، وَالسَّبَبُ الْمَحْضُ لَا حُكْمَ لَهُ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ السَّبَبِ مُتَعَمِّدًا فِي مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ كَفَتْحِ بَابِ الْإِصْطَبْلِ وَالْقَفَصِ حَتَّى خَرَجَتْ الدَّابَّةُ وَضَلَّتْ أَوْ طَارَ الطَّيْرُ وَضَاعَ؛ وَلِأَنَّ الضَّمَانَ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهَا إمَّا أَنْ يَجِبَ بِإِتْلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ أَوْ بِإِتْلَافِ الصَّدَاقِ أَوْ بِتَأْكِيدِ نِصْفِهِ عَلَى الزَّوْجِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْإِتْلَافِ عَلَى أَصْلِنَا وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهَا مَا أَتْلَفَتْ الصَّدَاقَ بَلْ أَسْقَطَتْ نِصْفَهُ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي بَقِيَ وَاجِبًا بِالنِّكَاحِ السَّابِقِ وَلَا وَجْهَ لِلثَّالِثِ؛ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يُمَاثِلُ التَّفْوِيتَ فَلَا يَكُونُ اعْتِدَاءً بِالْمِثْلِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْكَبِيرَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُحَصِّلَةً شَرْطَ الْفُرْقَةِ، وَعِلَّةُ الْفُرْقَةِ مِنْ الصَّغِيرَةِ كَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لَكِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الشَّرْطَ مَعَ الْعِلَّةِ إذَا اشْتَرَكَا فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ أَيْ فِي سَبَبِ الْمُؤَاخَذَةِ وَعَدَمِهِ فَإِضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى الْعِلَّةِ أَوْلَى مِنْ إضَافَتِهِ إلَى الشَّرْطِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الشَّرْطُ مَحْظُورًا وَالْعِلَّةُ غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ بِالْحَظْرِ فَإِضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ أَوْلَى مِنْ إضَافَتِهِ إلَى الْعِلَّةِ كَمَا فِي حَقِّ الْبِئْرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَالْكَبِيرَةُ إذَا لَمْ تَكُنْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ فَقَدْ اسْتَوَى الشَّرْطُ وَالْعِلَّةُ فِي عَدَمِ الْحَظْرِ فَكَانَتْ الْفُرْقَةُ مُضَافَةً إلَى الْعِلَّةِ وَهِيَ ارْتِضَاعُهَا وَإِنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ؛ كَانَ الشَّرْطُ مَحْظُورًا وَهُوَ إرْضَاعُ الْكَبِيرَةِ وَالْعِلَّةُ غَيْرُ مَوْصُوفَةٍ بِالْحَظْرِ وَهِيَ ارْتِضَاعُ الصَّغِيرَةِ فَكَانَ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ أَوْلَى وَإِذَا أُضِيفَتْ الْفُرْقَةُ إلَى الْكَبِيرَةِ عِنْدَ تَعَمُّدِهَا الْفَسَادَ وَوَجَبَ نِصْفُ الْمَهْرِ لِلصَّغِيرَةِ عَلَى الزَّوْجِ ابْتِدَاءً مُلَازِمًا لِلْفُرْقَةِ؛ صَارَتْ الْفُرْقَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْهَا كَأَنَّهَا عِلَّةُ لِوُجُوبِهِ لَا أَنَّهُ بَقِيَ النِّصْفُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ وَاجِبًا بِالنِّكَاحِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ بِبَقَاءِ نِصْفِ الْمَهْرِ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُسْقِطَةِ لِكُلِّهِ وَإِنَّهُ بَاطِلٌ فَصَارَتْ الْكَبِيرَةُ مُتْلِفَةً هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمَالِ عَلَى الزَّوْجِ؛ إذْ الْأَدَاءُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْوُجُوبِ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهَا وَلِهَذَا الْمَعْنَى وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا رَجَعُوا بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَتَعَمَّدْ الْفَسَادَ؛ لِأَنَّ عِنْدَ عَدَمِ التَّعَمُّدِ لَا تَكُونُ الْفُرْقَةُ مُضَافَةً إلَى فِعْلِ الْكَبِيرَةِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا عِلَّةُ وُجُوبِ نِصْفِ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ فَتْحِ بَابِ الْإِصْطَبْلِ وَالْقَفَصِ فَكَمَا يَلْزَمُهَا يَلْزَمُ مُحَمَّدًا لِأَنَّ عِنْدَهُ يَضْمَنُ الْفَاتِحُ وَإِنْ اعْتَرَضَ عَلَى الْفَتْحِ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا؛ فَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ الْبَاقِي فَافْهَمْ ثُمَّ تَعَمُّدُ الْفَسَادِ يَثْبُتُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِعِلْمِهَا بِنِكَاحِ الصَّغِيرَةِ، وَعِلْمِهَا بِفَسَادِ النِّكَاحِ بِإِرْضَاعِهَا وَعَدَمِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ خَوْفِ الْهَلَاكِ عَلَى الصَّغِيرَةِ لَوْ لَمْ تُرْضِعْهَا، وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي أَنَّهَا لَمْ تَتَعَمَّدْ الْفَسَادَ مَعَ يَمِينِهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ بِدَعْوَى تَعَمُّدِ الْفَسَادِ يَدَّعِي عَلَيْهَا الضَّمَانَ وَهِيَ تُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الْمَهْرِ وَالرُّجُوعِ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ. وَلَوْ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً وَصَغِيرَتَيْنِ فَأَرْضَعَتْهُمَا الْكَبِيرَةُ فَإِنْ أَرْضَعَتْهُمَا مَعًا حُرِّمْنَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا صَارَتَا بِنْتَيْنِ لِلْمُرْضِعَةِ فَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُنَّ نِكَاحًا فَحُرِّمْنَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكَبِيرَةَ أَبَدًا سَوَاءٌ كَانَ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّهَا أُمُّ مَنْكُوحَتِهِ فَتَحْرُمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّغِيرَتَيْنِ نِكَاحًا أَبَدًا؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِإِحْدَاهُمَا إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ

بِالْكَبِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا رَبِيبَتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ فَلَا تَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ كَمَا فِي النَّسَبِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا؛ لَا يَجُوزُ كَمَا فِي النَّسَبِ وَإِنْ أَرْضَعَتْهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ: وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى فَقَدْ حَرُمَتْ الْكَبِيرَةُ مَعَ الصَّغِيرَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا لَمَّا أَرْضَعَتْ الْأُولَى صَارَتْ بِنْتًا لَهَا فَحَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فَبَانَتَا مِنْهُ. وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّمَا أَرْضَعَتْهَا بَعْدَ مَا بَانَتْ الْكَبِيرَةُ فَلَمْ يَصِرْ جَامِعًا لَكِنَّهَا رَبِيبَتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ فَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِأُمِّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّغِيرَتَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً وَثَلَاثَ صَبِيَّاتٍ فَأَرْضَعَتْهُنَّ عَلَى التَّعَاقُبِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى حَرُمْنَ عَلَيْهِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا أَرْضَعَتْ الْأُولَى صَارَتْ بِنْتًا لَهَا فَحَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فَحُرِّمَتَا عَلَيْهِ، لَمَّا أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ فَقَدْ أَرْضَعَتْهَا وَالْكَبِيرَةُ وَالصَّغِيرَةُ الْأُولَى مُبَانَتَانِ فَلَا يَحْرُمُ بِسَبَبِ الْجَمْعِ لِعَدَمِ الْجَمْعِ وَلَكِنْ يُنْظَرُ إنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ تَحْرُمُ عَلَيْهِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهَا رَبِيبَتُهُ وَقَدْ دَخَلَ بِأُمِّهَا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِأُمِّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ لِلْحَالِ حَتَّى تُرْضِعَ الثَّالِثَةَ فَإِذَا أَرْضَعَتْ الثَّالِثَةَ حُرِّمَتَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ وَالْحُكْمُ فِي تَزَوُّجِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْجَمْعُ بَيْنَ صَغِيرَتَيْنِ وَتَزَوُّجِ إحْدَى الصَّغَائِرِ مَا ذَكَرْنَا وَلَوْ تَزَوَّجَ صَغِيرَتَيْنِ وَكَبِيرَتَيْنِ فَعَمَدَتْ الْكَبِيرَتَانِ إلَى إحْدَى الصَّغِيرَتَيْنِ فَأَرْضَعَتَاهَا إحْدَاهُمَا بَعْدَ أُخْرَى ثُمَّ أَرْضَعَتَا الصَّغِيرَةَ الثَّانِيَةَ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى بَانَتْ الْكَبِيرَتَانِ وَالصَّغِيرَةُ الْأُولَى وَالصَّغِيرَةُ الثَّانِيَةُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا أَرْضَعَتَا الصَّغِيرَةَ الْأُولَى صَارَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْكَبِيرَتَيْنِ أُمَّ امْرَأَتِهِ وَصَارَتْ الصَّغِيرَةُ بِنْتَ امْرَأَتِهِ فَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُنَّ فَحُرِّمْنَ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَرْضَعَتَا الثَّانِيَةَ فَقَدْ أَرْضَعَتَاهَا بَعْدَ ثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ فَلَمْ يَصِرْ جَامِعًا فَلَا تَحْرُمُ هَذِهِ الصَّغِيرَةُ بِسَبَبِ الْجَمْعِ وَلَكِنَّهَا ابْنَةُ مَنْكُوحَةٍ كَانَتْ لَهُ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا تَحْرُمُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْ الْكَبِيرَتَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَالٍ وَالْأَمْرُ فِي جَوَازِ نِكَاحِ الصَّغِيرَةِ الْأُولَى عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي مَرَّ وَلَوْ كَانَتْ إحْدَى الْكَبِيرَتَيْنِ أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَتَيْنِ وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى ثُمَّ أَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الْأُخْرَى الصَّغِيرَتَيْنِ وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ الْكَبِيرَةُ الْأَخِيرَةُ بَدَأَتْ بِاَلَّتِي بَدَأَتْ بِهَا الْكَبِيرَةُ الْأُولَى؛ بَانَتْ الْكَبِيرَتَانِ وَالصَّغِيرَةُ الْأُولَى وَالصَّغِيرَةُ الْأُخْرَى امْرَأَتُهُ وَإِنْ كَانَتْ بَدَأَتْ بِاَلَّتِي لَمْ تَبْدَأْ بِهَا الْأُولَى حُرِّمْنَ عَلَيْهِ جَمِيعًا وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَةَ الْأُولَى لَمَّا أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ الْأُولَى فَقَدْ صَارَتْ بِنْتَهَا فَحَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فَحُرِّمَتَا عَلَيْهِ. فَلَمَّا أَرْضَعَتْ الْأُخْرَى أَرْضَعَتْهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْجَمْعُ لَكِنْ صَارَتْ الْأُخْرَى رَبِيبَتَهُ. فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِأُمِّهَا لَا تَحْرُمُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا تَحْرُمُ فَلَمَّا جَاءَتْ الْكَبِيرَةُ الْأَخِيرَةُ فَأَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ الْأُولَى فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ مَنْكُوحَتِهِ فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ الْأُخْرَى فَقَدْ أَرْضَعَتْهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ فَصَارَتْ رَبِيبَتَهُ فَلَا تَحْرُمُ إذَا كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِأُمِّهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِأُمِّهَا تَحْرُمُ وَإِنْ كَانَتْ الْكَبِيرَةُ الْأَخِيرَةُ بَدَأَتْ بِاَلَّتِي لَمْ تَبْدَأْ بِهَا الْكَبِيرَةُ الْأُولَى فَقَدْ صَارَتْ بِنْتًا لَهَا فَصَارَ جَامِعَهَا مَعَ أُمِّهَا فَحُرِّمَتَا عَلَيْهِ كَمَا حُرِّمَتْ الْكَبِيرَةُ الْأُولَى مَعَ الصَّغِيرَةِ الْأُولَى فَحُرِّمْنَ جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْ أُمُّ الْكَبِيرَةِ الصَّغِيرَةَ بَانَتَا؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ وَكَذَا إذَا أَرْضَعَتْ أُخْتُ الْكَبِيرَةِ الصَّغِيرَةَ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتَ أُخْتِ امْرَأَتِهِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ بِنْتِ أُخْتِهَا لَا يَجُوزُ فِي الرَّضَاعِ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي النَّسَبِ وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا عَمَّةُ الْكَبِيرَةِ أَوْ خَالَتُهَا لَمْ تَبِنْ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتَ عَمَّةِ امْرَأَتِهِ أَوْ بِنْتَ خَالَتِهَا وَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَبَيْنَ بِنْتِ عَمَّتِهَا أَوْ بِنْتِ خَالَتِهَا فِي النَّسَبِ فَكَذَا فِي الرَّضَاعِ وَلَوْ طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَته ثَلَاثًا ثُمَّ أَرْضَعَتْ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا امْرَأَةً لَهُ صَغِيرَةً بَانَتْ الصَّغِيرَةُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتًا لَهُ فَحَصَلَ الْجَمْعُ فِي حَالِ الْعِدَّةِ وَالْجَمْعُ فِي حَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ كَالْجَمْعِ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ، وَلَوْ زَوَّجَ ابْنَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ امْرَأَةً لَهَا لَبَنٌ فَارْتَدَّتْ وَبَانَتْ مِنْ الصَّبِيِّ ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ فَحَبِلَتْ مِنْهُ ثُمَّ أَرْضَعَتْ بِلَبَنِهَا ذَلِكَ الصَّبِيَّ الَّذِي كَانَ زَوْجَهَا حُرِّمَتْ عَلَى زَوْجِهَا الثَّانِي كَذَا رَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الصَّبِيَّ صَارَ ابْنًا لِزَوْجِهَا فَصَارَتْ هِيَ مَنْكُوحَةَ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعِ فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ، وَلَوْ زَوَّجَ رَجُلٌ أُمَّ وَلَدِهِ مَمْلُوكًا لَهُ صَغِيرًا فَأَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ السَّيِّدِ حُرِّمَتْ عَلَى زَوْجِهَا وَعَلَى مَوْلَاهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ صَارَ ابْنًا لِزَوْجِهَا فَصَارَتْ هِيَ مَوْطُوءَةَ أَبِيهِ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ لِلْمَوْلَى أَنْ يَطَأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهَا

فصل في بيان ما يثبت به الرضاع

مَنْكُوحَةُ ابْنِهِ وَلَوْ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً فَطَلَّقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً لَهَا لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ مَنْكُوحَةٍ كَانَتْ لَهُ فَتَحْرُمُ بِنِكَاحِ الْبِنْتِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَثْبُتُ بِهِ الرَّضَاعُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَثْبُتُ بِهِ الرَّضَاعُ أَيْ: يَظْهَرُ بِهِ فَالرَّضَاعُ يَظْهَرُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْإِقْرَارُ وَالثَّانِي الْبَيِّنَةُ. أَمَّا الْإِقْرَارُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا: هِيَ أُخْتِي مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ أُمِّي مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ بِنْتِي مِنْ الرَّضَاعِ وَيَثْبُتُ عَلَى ذَلِكَ وَيَصْبِرُ عَلَيْهِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِبُطْلَانِ مَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ لِلْحَالِ فَيُصَدَّقُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا صُدِّقَ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَالِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فَلَا يَكُونُ فِي إبْقَاءِ النِّكَاحِ فَائِدَةٌ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ صَدَّقَتْهُ أَوْ كَذَّبَتْهُ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ فِي زَعْمِهِ، ثُمَّ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ إنْ كَذَّبَتْهُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مُصَدِّقٌ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَيْهَا بِإِبْطَالِ حَقِّهَا فِي الْمَهْرِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا كَمَالُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ بِإِبْطَالِ حَقِّهَا فَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: أَوْهَمْت أَوْ أَخْطَأْت أَوْ غَلِطْت أَوْ نَسِيت أَوْ كَذَبْت؛ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى الْخَطَأِ وَغَيْرِهِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الْفُرْقَةِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ رَجَعَ بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كُنْت طَلَّقْتُك ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: أَوْهَمْت، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: هَذِهِ امْرَأَتِي أَوْ أُمِّي أَوْ أُخْتِي أَوْ ابْنَتِي ثُمَّ قَالَ: أَوْهَمْت؛ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ وَتَعْتِقُ كَذَا هَهُنَا وَلَنَا أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ فَقَوْلُهُ: هَذِهِ أُخْتِي إخْبَارٌ مِنْهُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ زَوْجَتَهُ قَطُّ لِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ. فَإِذَا قَالَ: أَوْهَمْت؛ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: مَا تَزَوَّجْتهَا ثُمَّ قَالَ: تَزَوَّجْتهَا وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ؛ يُقَرَّانِ عَلَى النِّكَاحِ كَذَا هَذَا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: كُنْت طَلَّقْتُك ثَلَاثًا إقْرَارٌ مِنْهُ بِإِنْشَاءِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مِنْ جِهَتِهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ إنْشَاءُ الطَّلَاقِ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ فَإِذَا أَقَرَّ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ لَمْ يُصَدَّقْ وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ لِأَمَتِهِ: هَذِهِ أُمِّي أَوْ ابْنَتِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْمِلْكِ فِي الْأَصْلِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أُمَّهُ أَوْ ابْنَتَهُ حَقِيقَةً؛ جَازَ دُخُولُهَا فِي مِلْكِهِ حَتَّى يَقَعَ الْعِتْقُ عَلَيْهَا مِنْ جِهَتِهِ، فَتَضَمَّنَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ إنْشَاءَ الْعِتْقِ عَلَيْهَا فَإِذَا قَالَ: أَوْهَمْت لَا يُصَدَّقُ كَمَا لَوْ قَالَ: هَذِهِ حُرَّةٌ ثُمَّ قَالَ: أَوْهَمْت وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ بِهَذَا قَبْلَ النِّكَاحِ فَقَالَ هَذِهِ أُخْتِي مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ أُمِّي أَوْ ابْنَتِي وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ وَدَاوَمَ عَلَيْهِ؛ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَوْ تَزَوَّجَهَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ قَالَ: أَوْهَمْت أَوْ غَلِطْت جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ جَحَدَ الْإِقْرَارَ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى إقْرَارِهِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِالنَّسَبِ فَقَالَ: هَذِهِ أُمِّي مِنْ النَّسَبِ أَوْ ابْنَتِي أَوْ أُخْتِي وَلَيْسَ لَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ وَأَنَّهَا تَصْلُحُ بِنْتًا لَهُ أَوْ أُمًّا لَهُ فَإِنَّهُ يُسْأَلُ مَرَّةً أُخْرَى فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ وَثَبَتَ عَلَيْهِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِظُهُورِ النَّسَبِ بِإِقْرَارِهِ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ قَالَ: أَوْهَمْت أَوْ أَخْطَأْت أَوْ غَلِطْت؛ يُصَدَّقُ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَ لَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ أَوْ لَا تَصْلُحُ أُمًّا أَوْ بِنْتًا لَهُ؛ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ دَامَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَاذِبٌ فِي إقْرَارِهِ بِيَقِينٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ: فَهِيَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الرَّضَاعِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَلَا يُقْبَلُ عَلَى الرَّضَاعِ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَلَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ بِانْفِرَادِهِنَّ. وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الرَّضَاعِ شَهَادَةٌ عَلَى عَوْرَةٍ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ إلَّا بَعْدَ النَّظَرِ إلَى الثَّدْيِ وَإِنَّهُ عَوْرَةٌ فَيُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ كَالْوِلَادَةِ وَلَنَا مَا رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا يُقْبَلُ عَلَى الرَّضَاعِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ النَّكِيرُ مِنْ أَحَدٍ؛ فَيَكُونَ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ هَذَا بَابٌ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ كَالْمَالِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ أَمَّا ثَدْيُ الْأَمَةِ فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَجَانِبِ النَّظَرُ إلَيْهِ. وَأَمَّا ثَدْيُ الْحُرَّةِ فَيَجُوزُ لِمَحَارِمِهَا النَّظَرُ إلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ؛ لِأَنَّ قَبُولَ شَهَادَتِهِنَّ بِانْفِرَادِهِنَّ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ عَدَمِ اطِّلَاعِ الرِّجَالِ عَلَى الْمَشْهُودِ بِهِ فَإِذَا جَازَ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ؛ لَمْ تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ بِخِلَافِ الْوِلَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ فِيهَا مِنْ الرِّجَالِ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْقَبُولِ وَإِذَا شَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الرَّضَاعِ فَالْأَفْضَلُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُفَارِقَهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ: تَزَوَّجْت بِنْتَ أَبِي إهَابٍ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: إنِّي أَرْضَعْتُكُمَا فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

كتاب النفقة

فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَارِقْهَا فَقُلْت إنَّهَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ وَإِنَّهَا كَيْت وَكَيْت فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ: وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ عُقْبَةُ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْرَضَ ثُمَّ ذَكَرْتُهُ فَأَعْرَضَ حَتَّى قَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ: فَدَعْهَا إذًا» وَقَوْلُهُ: فَارِقْهَا أَوْ فَدَعْهَا إذًا نَدْبٌ إلَى الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى. أَلَا تَرَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا بَلْ أَعْرَضَ وَلَوْ كَانَ التَّفْرِيقُ وَاجِبًا لَمَا أَعْرَضَ فَدَلَّ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَارِقْهَا عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَزَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا فَسَأَلَ الرَّجُلُ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ هِيَ امْرَأَتُك لَيْسَ أَحَدٌ يُحَرِّمُهَا عَلَيْك فَإِنْ تَنَزَّهْت فَهُوَ أَفْضَلُ وَسَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ صَادِقَةً فِي شَهَادَتِهَا فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ هُوَ الْمُفَارَقَةَ. فَإِذَا فَارَقَهَا فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا نِصْفَ الْمَهْرِ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لِاحْتِمَالِ صِحَّةِ النِّكَاحِ لِاحْتِمَالِ كَذِبِهَا فِي الشَّهَادَةِ وَالْأَفْضَلُ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهُ لِاحْتِمَالِ فَسَادِ النِّكَاحِ لِاحْتِمَالِ صِدْقِهَا فِي الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَالْأَفْضَلُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُعْطِيَهَا كَمَالَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لِاحْتِمَالِ جَوَازِ النِّكَاحِ وَالْأَفْضَلُ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا وَمِنْ الْمُسَمَّى وَلَا تَأْخُذُ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى لِاحْتِمَالِ الْفَسَادِ وَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ الْمُقَامِ مَعَهَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ فِي الْحُكْمِ، وَكَذَا إذَا شَهِدَتْ امْرَأَتَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ أَوْ رَجُلَانِ غَيْرُ عَدْلَيْنِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ غَيْرُ عُدُولٍ لِمَا قُلْنَا، وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَدْلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَا شَيْءَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ فَاسِدًا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فِي سَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [كِتَابُ النَّفَقَةِ] [نَفَقَة الزَّوْجَات وَبَيَان وُجُوبهَا] (كِتَابُ النَّفَقَةِ) : النَّفَقَةُ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ: نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ، وَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ، وَنَفَقَةُ الرَّقِيقِ، وَنَفَقَةُ الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ أَمَّا نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي. بَيَانِ وُجُوبِهَا وَفِي بَيَانِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهَا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا وَبَيَانِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا وَصَيْرُورَتِهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ. أَمَّا وُجُوبُهَا فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] أَيْ: عَلَى قَدْرِ مَا يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ مِنْ السَّعَةِ وَالْمَقْدِرَةِ وَالْأَمْرُ بِالْإِسْكَانِ أَمْرٌ بِالْإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصِلُ إلَى النَّفَقَةِ إلَّا بِالْخُرُوجِ وَالِاكْتِسَابِ وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ وَهُوَ نَصٌّ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] أَيْ: لَا تُضَارُّوهُنَّ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ فَتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ النَّفَقَةَ فَيَخْرُجْنَ أَوْ لَا تُضَارُّوهُنَّ فِي الْمَسْكَنِ فَتَدْخُلُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ الْمَسْكَنَ فَيَخْرُجْنَ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] قِيلَ: هُوَ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ لَا يَمْلِكْنَ لِأَنْفُسِهِنَّ شَيْئًا وَإِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ حَقٌّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِأَحَدٍ تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ خِفْتُمْ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ كِسْوَتُهُنَّ وَرِزْقُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ثُمَّ قَالَ ثَلَاثًا: أَلَا هَلْ بَلَّغْت» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ تَفْسِيرًا لِمَا أَجْمَلَ الْحَقُّ فِي قَوْلِهِ {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] فَكَانَ الْحَدِيثُ مُبَيِّنًا لِمَا فِي الْكِتَابِ أَصْلُهُ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مَا حَقُّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُطْعِمُهَا إذَا طَعِمَ وَيَكْسُوهَا إذَا كُسِيَ وَأَنْ لَا يَهْجُرَهَا إلَّا فِي الْمَبِيتِ وَلَا يَضْرِبَهَا وَلَا يُقَبِّحْ» وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدٍ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ «خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك

فصل في سبب وجوب هذه النفقة

بِالْمَعْرُوفِ» وَلَوْ لَمْ تَكُنْ النَّفَقَةُ وَاجِبَةً؛ لَمْ يُحْتَمَلْ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا بِالْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى هَذَا، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَحْبُوسَةٌ بِحَبْسِ النِّكَاحِ حَقًّا لِلزَّوْجِ مَمْنُوعَةٌ عَنْ الِاكْتِسَابِ بِحَقِّهِ فَكَانَ نَفْعُ حَبْسِهَا عَائِدًا إلَيْهِ فَكَانَتْ كِفَايَتُهَا عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» وَلِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً بِحَبْسَةٍ مَمْنُوعَةٍ عَنْ الْخُرُوجِ لِلْكَسْبِ بِحَقِّهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ كِفَايَتُهَا عَلَيْهِ لَهَلَكَتْ وَلِهَذَا جُعِلَ لِلْقَاضِي رِزْقٌ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لِحَقِّهِمْ؛ لِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ لِجِهَتِهِمْ مَمْنُوعٌ عَنْ الْكَسْبِ فَجُعِلَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِمْ وَهُوَ بَيْتُ الْمَالِ كَذَا هَهُنَا. [فَصْلٌ فِي سَبَبِ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: سَبَبُ وُجُوبِهَا اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ السَّبَبُ هُوَ الزَّوْجِيَّةُ وَهُوَ كَوْنُهَا زَوْجَةً لَهُ وَرُبَّمَا قَالُوا: مِلْكُ النِّكَاحِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا وَرُبَّمَا قَالُوا: الْقِوَامَةُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] أَوْجَبَ النَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ قَوَّامِينَ وَالْقِوَامَةُ تَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ فَكَانَ سَبَبَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْمَمْلُوكِ مِنْ بَابِ إصْلَاحِ الْمِلْكِ وَاسْتِبْقَائِهِ فَكَانَ سَبَبَ وُجُوبِهِ الْمِلْكُ، كَنَفَقَةِ الْمَمَالِيكِ وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ الثَّابِتِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ مُؤَثِّرٌ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ لَهَا عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا فَأَمَّا الْمِلْكُ فَلَا أَثَرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قُوبِلَ بِعِوَضٍ مَرَّةً وَهُوَ الْمَهْرُ فَلَا يُقَابَلُ بِعِوَضٍ آخَرَ؛ إذْ الْعِوَضُ الْوَاحِدُ لَا يُقَابَلُ بِعِوَضَيْنِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا إثْبَاتَ الْقِوَامَةِ بِسَبَبِ النَّفَقَةِ لَا إيجَابَ النَّفَقَةِ بِسَبَبِ الْقِوَامَةِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ حَقُّ الْحَبْسِ الثَّابِتِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ لَا يَثْبُتُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَكَذَا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ حَقِيقَةً وَكَذَا فِي عِدَّةٍ مِنْهُ إنْ ثَبَتَ حَقُّ الْحَبْسِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِسَبَبِ النِّكَاحِ لِانْعِدَامِهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِتَحْصِينِ الْمَاءِ وَلِأَنَّ حَالَ الْعِدَّةِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ حَالِ النِّكَاحِ فَلَمَّا لَمْ تَجِبْ فِي النِّكَاحِ فَلَأَنْ لَا تَجِبَ فِي الْعِدَّةِ أَوْلَى وَتَجِبُ فِي الْعِدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ فَتَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ كَمَا كَانَتْ تَسْتَحِقُّهَا قَبْلَ الْفُرْقَةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ تَأَكَّدَ بِحَقِّ الشَّرْعِ وَتَأَكُّدُ السَّبَبِ يُوجِبُ تَأَكُّدَ الْحُكْمِ فَلَمَّا وَجَبَتْ قَبْلَ الْفُرْقَةِ؛ فَبَعْدَهَا أَوْلَى سَوَاءٌ كَانَتْ الْعِدَّةُ عَنْ فُرْقَةٍ بِطَلَاقٍ أَوْ عَنْ فُرْقَةٍ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ إلَّا إذَا كَانَتْ مِنْ قِبَلِهَا بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ اسْتِحْسَانًا، أَوْ شَرْحُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ بِطَلَاقٍ؛ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا وَسَوَاءٌ كَانَتْ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا عِنْدَنَا لِقِيَامِ حَقِّ حَبْسِ النِّكَاحِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً طَلَاقًا رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا وَهِيَ حَامِلٌ فَكَذَلِكَ. فَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَلَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِزَوَالِ النِّكَاحِ بِالْإِبَانَةِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا السُّكْنَى إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ فِي السُّكْنَى بِالنَّصِّ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا نَفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ وَلَا سُكْنَى لَهَا وَالْمَسْأَلَةُ ذُكِرَتْ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَفِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْعِدَّةِ وَسَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ بِبَدَلٍ أَوْ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَهُوَ الْخُلْعُ وَالطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى أَنْ يَبْرَأَ مِنْ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى؛ يَبْرَأُ مِنْ النَّفَقَةِ وَلَا يَبْرَأُ مِنْ السُّكْنَى لَكِنَّهُ يَبْرَأُ عَنْ مُؤْنَةِ السُّكْنَى؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقُّهَا عَلَى الْخُلُوصِ وَكَذَا مُؤْنَةُ السُّكْنَى فَتَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ عَنْ حَقِّهَا فَأَمَّا السُّكْنَى فَفِيهَا حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا تَمْلِكُ الْمُعْتَدَّةُ إسْقَاطَهُ وَلَوْ أَبْرَأَتْهُ عَنْ النَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ فَيَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْوُجُوبِ وَالنَّفَقَةُ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ مُرُورِ الزَّمَانِ فَكَانَ الْإِبْرَاءُ إسْقَاطًا قَبْلَ الْوُجُوبِ فَلَمْ يَصِحَّ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَعَتْ نَفْسَهَا عَلَى نَفَقَتِهَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْخُلْعِ وَلِأَنَّهَا جَعَلَتْ الْإِبْرَاءَ عَنْ النَّفَقَةِ عِوَضًا عَنْ نَفْسِهَا فِي الْعَقْدِ وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ سَابِقَةِ الْوُجُوبِ فَيُثْبِتُ الْوُجُوبُ مُقْتَضَى الْخُلْعِ بِاصْطِلَاحِهِمَا كَمَا لَوْ اصْطَلَحَا عَلَى النَّفَقَةِ أَنَّهَا تَجِبُ وَتَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ إذَا كَانَتْ مِنْ قِبَلِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى سَوَاءٌ كَانَتْ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ كَخِيَارِ الْبُلُوغِ أَوْ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ كَالرِّدَّةِ وَوَطْءِ أُمِّهَا أَوْ ابْنَتِهَا أَوْ تَقْبِيلِهِمَا بِشَهْوَةٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا لِقِيَامِ السَّبَبِ وَهُوَ حَقُّ

الْحَبْسِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَإِذَا كَانَتْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ فَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ كَخِيَارِ الْإِدْرَاكِ وَخِيَارِ الْعِتْقِ وَخِيَارِ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَكَذَلِكَ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى، وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ بِأَنْ ارْتَدَّتْ أَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ أَبَاهُ أَوْ لَمَسَتْهُ بِشَهْوَةٍ؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا اسْتِحْسَانًا وَلَهَا السُّكْنَى وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَكْرَهَةً وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ قَائِمٌ وَتَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ كَمَا إذَا كَانَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا بِسَبَبٍ مُبَاحٍ وَكَمَا إذَا كَانَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ أَوْ مَحْظُورٍ وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ قَدْ بَطَلَ بِرِدَّتِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُحْبَسُ بَعْدَ الرِّدَّةِ جَبْرًا لَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ لِثُبُوتِ بَقَاءِ حَقِّ النِّكَاحِ فَلَمْ تَجِبْ النَّفَقَةُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْفُرْقَةُ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ حَبْسَ النِّكَاحِ قَائِمٌ فَبَقِيَتْ النَّفَقَةُ وَكَذَا إذَا كَانَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تُحْبَسُ بِرِدَّةِ الزَّوْجِ فَيَبْقَى حَبْسُ النِّكَاحِ فَتَبْقَى الْعِدَّةُ لَكِنْ هَذَا يُشْكَلُ بِمَا إذَا طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ قَبَّلَتْهُ بِشَهْوَةٍ؛ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَإِنْ بَقِيَ حَبْسُ النِّكَاحِ مَا دَامَتْ الْعِدَّةُ قَائِمَةً وَلَا إشْكَالَ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ عَدَمَ الِاسْتِحْقَاقِ لِانْعِدَامِ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا خَاصَّةً بِفِعْلٍ هُوَ مَحْظُورٌ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ وَهُوَ حَبْسُ النِّكَاحِ فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالثَّانِي أَنَّ حَبْسَ النِّكَاحِ إنَّمَا أَوْجَبَ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ صِلَةً لَهَا فَإِذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِفِعْلِهَا الَّذِي هُوَ مَعْصِيَةٌ لَمْ تَسْتَحِقَّ الصِّلَةَ؛ إذْ الْجَانِي لَا يَسْتَحِقُّ الصِّلَةَ بَلْ يَسْتَحِقُّ الزَّجْرَ وَذَلِكَ فِي الْحِرْمَانِ لَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَمَنْ قَتَلَ مُوَرِّثَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَنَّهُ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُسْتَكْرَهَةً عَلَى الْوَطْءِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا لَيْسَ بِجِنَايَةٍ فَلَا يُوجِبُ حِرْمَانَ الصِّلَةِ وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْفُرْقَةُ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ وَبِخِلَافِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقُّهَا قِبَلَ الزَّوْجِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِعْلُهُ الَّذِي هُوَ مَعْصِيَةٌ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الْغَيْرِ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَإِنَّمَا لَمْ تُحْرَمْ السُّكْنَى بِفِعْلِهَا الَّذِي هُوَ مَعْصِيَةٌ لِمَا قُلْنَا إنَّ فِي السُّكْنَى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِفِعْلِ الْعَبْدِ، وَلَوْ ارْتَدَّتْ فِي النِّكَاحِ حَتَّى حُرِمَتْ النَّفَقَةَ ثُمَّ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ؛ لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَلَوْ ارْتَدَّتْ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ تَعُودُ النَّفَقَةُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ النَّفَقَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي بَقِيَتْ وَاجِبَةً بَعْدَ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الرِّدَّةِ لِبَقَاءِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ حَبْسُ النِّكَاحِ وَقْتَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ ثُمَّ امْتَنَعَ وُجُوبُهَا مِنْ بَعْدِ تَعَارُضِ الرِّدَّةِ فَإِذَا عَادَتْ إلَى الْإِسْلَامِ فَقَدْ زَالَ الْعَارِضُ فَتَعُودُ النَّفَقَةُ. وَأَمَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَالنَّفَقَةُ لَمْ تَبْقَ وَاجِبَةً وَقْتَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ لِبُطْلَانِ سَبَبِ وُجُوبِهَا بِالرِّدَّةِ فِي حَقِّ حَبْسِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ أَوْجَبَتْ بُطْلَانَ ذَلِكَ الْحَبْسِ فَلَا يَعُودُ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ النِّكَاحِ فَلَا تَعُودُ النَّفَقَةُ بِدُونِهِ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ لَمْ تَبْطُلْ نَفَقَتُهَا بِالْفُرْقَةِ ثُمَّ بَطَلَتْ فِي الْعِدَّةِ لِعَارِضٍ مِنْهَا ثُمَّ زَالَ الْعَارِضُ فِي الْعِدَّةِ؛ تَعُودُ نَفَقَتُهَا وَكُلُّ مَنْ بَطَلَتْ نَفَقَتُهَا بِالْفُرْقَةِ لَا تَعُودُ النَّفَقَةُ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ زَالَ سَبَبُ الْفُرْقَةِ فِي الْعِدَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا نَشَزَتْ ثُمَّ عَادَتْ؛ أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّ النُّشُوزَ لَمْ يُوجِبْ بُطْلَانَ حَقِّ الْحَبْسِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ وَإِنَّمَا فَوَّتَ التَّسْلِيمَ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ فَإِذَا عَادَتْ فَقَدْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا فَاسْتَحَقَّتْ النَّفَقَةَ وَلَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ أَبَاهُ فِي الْعِدَّةِ أَوْ لَمَسَتْهُ بِشَهْوَةٍ فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ وَهُوَ رَجْعِيٌّ؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مَا وَقَعَتْ بِالطَّلَاقِ وَإِنَّمَا وَقَعَتْ بِسَبَبٍ وُجِدَ مِنْهَا وَهُوَ مَحْظُورٌ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً عَنْ فُرْقَةٍ بِغَيْرِ طَلَاقٍ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى بِخِلَافِ مَا إذَا ارْتَدَّتْ فِي الْعِدَّةِ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا إلَى أَنْ تَعُودَ إلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ حَبْسَ النِّكَاحِ يَفُوتُ بِالرِّدَّةِ وَلَا يَفُوتُ بِالْمُطَاوَعَةِ وَالْمَسِّ، وَلَوْ ارْتَدَّتْ فِي الْعِدَّةِ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَتْ وَأَسْلَمَتْ أَوْ سُبِيَتْ وَأُعْتِقَتْ أَوْ لَمْ تُعْتَقْ؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِأَنَّ الْعِدَّةَ قَدْ بَطَلَتْ بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ مَعَ اللَّحَاقِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ، وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ أَمَةٌ طَلَاقًا بَائِنًا وَقَدْ كَانَ الْمَوْلَى بَوَّأَهَا مَعَ زَوْجِهَا بَيْتًا حَتَّى وَجَبَتْ النَّفَقَةُ ثُمَّ أَخْرَجَهَا الْمَوْلَى لِخِدْمَتِهِ حَتَّى سَقَطَتْ النَّفَقَةُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُعِيدَهَا إلَى الزَّوْجِ وَيَأْخُذَ النَّفَقَةَ؛ كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَوَّأَهَا الْمَوْلَى بَيْتًا حَتَّى طَلَّقَهَا الزَّوْجُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُبَوِّئَهَا مَعَ الزَّوْجِ فِي الْعِدَّةِ لِتَجِبَ النَّفَقَةُ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ، وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ النَّفَقَةَ كَانَتْ وَاجِبَةً فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ - وَهُوَ الِاحْتِبَاسُ - وَشَرْطِهِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَهَا إلَى خِدْمَتِهِ فَقَدْ فَوَّتَ عَلَى الزَّوْجِ الِاحْتِبَاسَ الثَّابِتَ حَقًّا لَهُ وَالتَّسْلِيمَ؛ فَامْتَنَعَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ لَهُ، فَإِذَا أَعَادَهَا إلَى الزَّوْجِ عَادَ حَقُّهُ فَيَعُودُ حَقُّ

فصل في شرط وجوب هذه النفقة

الْمَوْلَى فِي النَّفَقَةِ فَأَمَّا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فَالنَّفَقَةُ مَا كَانَتْ وَاجِبَةً فِي الْعِدَّةِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوُجُوبِ أَوْ شَرْطِ الْوُجُوبِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ فَهُوَ بِالْبَيْنُونَةِ يُرِيدُ إلْزَامَ الزَّوْجِ النَّفَقَةَ ابْتِدَاءً فِي الْعِدَّةِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ كَانَتْ لَهَا النَّفَقَةُ يَوْمَ الطَّلَاقِ ثُمَّ صَارَتْ إلَى حَالٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا فِيهَا؛ فَلَهَا أَنْ تَعُودَ وَتَأْخُذَ النَّفَقَةَ، وَكُلُّ امْرَأَةٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا يَوْمَ الطَّلَاقِ فَلَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ أَبَدًا إلَّا النَّاشِزَةَ وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ وَالْوَجْهُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا وَيَسْتَوِي فِي نَفَقَةِ الْمُعْتَدَّةِ عِدَّةُ الْأَقْرَاءِ وَعِدَّةُ الْأَشْهُرِ وَعِدَّةُ الْحَمْلِ؛ لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيُنْفِقُ عَلَيْهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ تَطَاوَلَتْ الْمُدَّةُ لِعُذْرِ الْحَبَلِ أَوْ لِعُذْرٍ آخَرَ وَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ يُعْرَفُ مِنْ قِبَلِهَا حَتَّى لَوْ ادَّعَتْ أَنَّهَا حَامِلٌ أَنْفَقَ عَلَيْهَا إلَى سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَبْقَى فِي الْبَطْنِ إلَى سَنَتَيْنِ فَإِنْ مَضَتْ سَنَتَانِ وَلَمْ تَضَعْ فَقَالَتْ: كُنْتُ أَتَوَهَّمُ أَنِّي حَامِلٌ وَلَمْ أَحِضْ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ وَطَلَبَتْ النَّفَقَةَ لِعُذْرِ امْتِدَادِ الطُّهْرِ وَقَالَ الزَّوْجُ: إنَّك ادَّعَيْت الْحَمْلَ فَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَيَّ النَّفَقَةُ لِعِلَّةِ الْحَمْلِ، وَأَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْلِ سَنَتَانِ وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيَّ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِهِ وَيُلْزِمُهُ النَّفَقَةَ إلَى أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ وَتَدْخُلَ فِي عِدَّةِ الْإِيَاسِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْعُذْرَيْنِ إنْ بَطَلَ وَهُوَ عُذْرُ الْحَمْلِ فَقَدْ بَقِيَ الْآخَرُ وَهُوَ عُذْرُ امْتِدَادِ الطُّهْرِ؛ إذْ الْمُمْتَدُّ طُهْرُهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَهِيَ مُصَدَّقَةٌ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ لَمْ تَحِضْ حَتَّى دَخَلَتْ فِي حَدِّ الْإِيَاسِ؛ أَنْفَقَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ حَاضَتْ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ وَاسْتَقْبَلَتْ الْعِدَّةَ بِالْحَيْضِ فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَطَلَّقَهَا بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ حَاضَتْ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ وَاسْتَقْبَلَتْ عِدَّةَ الْأَقْرَاءِ أَنْفَقَ عَلَيْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا لِمَا قُلْنَا وَإِنْ طَالَبَتْهُ امْرَأَةٌ بِالنَّفَقَةِ وَقَدَّمَتْهُ إلَى الْقَاضِي فَقَالَ الرَّجُلُ لِلْقَاضِي: قَدْ كُنْتُ طَلَّقْتهَا مُنْذُ سَنَةٍ وَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَجَحَدَتْ الْمَرْأَةُ الطَّلَاقَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْبَلُ قَوْلَ الزَّوْجِ إنَّهُ طَلَّقَهَا مُنْذُ سَنَةٍ، وَلَكِنْ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا مُنْذُ أَقَرَّ بِهِ عِنْدَ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ فَإِنْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى أَنَّهُ طَلَّقَهَا مُنْذُ سَنَةٍ وَالْقَاضِي لَا يَعْرِفُهُمَا أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ وَفَرَضَ لَهَا عَلَيْهِ النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مُنْذُ سَنَةٍ لَمْ تَظْهَرْ بَعْدُ فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَادِلَةً أَوْ أَقَرَّتْ هِيَ أَنَّهَا قَدْ حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ كَانَتْ أَخَذَتْ مِنْهُ شَيْئًا تَرُدُّهُ عَلَيْهِ لِظُهُورِ ثُبُوتِ الْفُرْقَةِ مُنْذُ سَنَةٍ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَإِنْ قَالَتْ لَمْ أَحِضْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَلَهَا النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَوْلُهَا. فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ: قَدْ أَخْبَرَتْنِي أَنَّ عِدَّتَهَا قَدْ انْقَضَتْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي إبْطَالِ نَفَقَتِهَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَيْهَا فِي إبْطَالِ حَقِّهَا، وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أَوْ بَائِنًا فَامْتَدَّتْ عِدَّتُهَا إلَى سَنَتَيْنِ ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَقَدْ كَانَ الزَّوْجُ أَعْطَاهَا النَّفَقَةَ إلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَيَسْتَرِدُّ نَفَقَةَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ قَبْلَ الْوِلَادَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَسْتَرِدُّ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالِ الْمَرَضِ فَامْتَدَّ مَرَضُهُ إلَى سَنَتَيْنِ وَامْتَدَّتْ عِدَّتُهَا إلَى سَنَتَيْنِ ثُمَّ وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِشَهْرٍ وَقَدْ كَانَ أَعْطَاهَا النَّفَقَةَ إلَى وَقْتِ الْوَفَاةِ؛ فَإِنَّهَا لَا تَرِثُ وَيَسْتَرِدُّ مِنْهَا نَفَقَةَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَرِثُ وَلَا يَسْتَرِدُّ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَتَانِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَلَا نَفَقَةَ فِي الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَتْ لِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَنْعَدِمُ السَّبَبُ وَهُوَ الْحَبْسُ الثَّابِتُ بِالنِّكَاحِ وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَإِنْ كَانَتْ مَحْبُوسَةً مَمْنُوعَةً عَنْ الْخُرُوجِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَبْسَ لَمْ يَثْبُتْ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِتَحْصِينِ الْمَاءِ فَأَشْبَهَتْ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَلِأَنَّ نَفَقَتَهَا قَبْلَ الْعِتْقِ إنَّمَا وَجَبَتْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَا بِالِاحْتِبَاسِ وَقَدْ زَالَ بِالْإِعْتَاقِ وَنَفَقَةُ الزَّوْجَةِ إنَّمَا وَجَبَتْ بِالِاحْتِبَاسِ وَإِنَّهُ قَائِمٌ. [فَصْلٌ فِي شَرْطِ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ فَلِوُجُوبِهَا شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا أَعْنِي: نَفَقَةَ النِّكَاحِ وَنَفَقَةَ الْعِدَّةِ. وَالثَّانِي يَخُصُّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَتَسْلِيمُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا إلَى الزَّوْجِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَنَعْنِي بِالتَّسْلِيمِ: التَّخْلِيَةَ وَهِيَ أَنْ تَخْلِي بَيْنَ نَفْسِهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا بِرَفْعِ الْمَانِعِ مِنْ وَطْئِهَا أَوْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا حَقِيقَةً إذَا كَانَ الْمَانِعُ مِنْ قِبَلِهَا أَوْ مِنْ قِبَلِ غَيْرِ الزَّوْجِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَسَائِلُ: إذَا

تَزَوَّجَ بَالِغَةً حُرَّةً صَحِيحَةً سَلِيمَةً وَنَقَلَهَا إلَى بَيْتِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَنْقُلْهَا وَهِيَ بِحَيْثُ لَا تَمْنَعُ نَفْسَهَا وَطَلَبَتْ النَّفَقَةَ وَلَمْ يُطَالِبْهَا بِالنُّقْلَةِ فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ وَشَرْطُهُ وَهُوَ التَّسْلِيمُ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا فَالزَّوْجُ بِتَرْكِ النُّقْلَةِ تَرَكَ حَقَّ نَفْسِهِ مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهَا فِي النَّفَقَةِ فَإِنْ طَالَبَهَا بِالنُّقْلَةِ فَامْتَنَعَتْ فَإِنْ كَانَ امْتِنَاعُهَا بِحَقٍّ بِأَنْ امْتَنَعَتْ لِاسْتِيفَاءِ مَهْرِهَا الْعَاجِلِ - فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا التَّسْلِيمُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْعَاجِلِ مِنْ مَهْرِهَا، فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا الِامْتِنَاعُ مِنْ التَّسْلِيمِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَعَلَى هَذَا قَالُوا: لَوْ طَالَبَهَا بِالنُّقْلَةِ بَعْدَ مَا أَوْفَاهَا الْمَهْرَ إلَى دَارٍ مَغْصُوبَةٍ فَامْتَنَعَتْ فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهَا بِحَقٍّ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا التَّسْلِيمُ فَلَمْ تَمْتَنِعْ مِنْ التَّسْلِيمِ حَالَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَلَوْ كَانَتْ سَاكِنَةً مَنْزِلَهَا فَمَنَعَتْهُ مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهَا لَا عَلَى سَبِيلِ النُّشُوزِ فَإِنْ قَالَتْ حَوِّلْنِي إلَى مَنْزِلِك أَوْ اكْتَرِ لِي مَنْزِلًا أَنْزِلُهُ فَإِنِّي أَحْتَاجُ إلَى مَنْزِلِي هَذَا آخُذُ كِرَاءَهُ - فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهَا عَنْ التَّسْلِيمِ فِي بَيْتِهَا لِغَرَضِ التَّحْوِيلِ إلَى مَنْزِلِهِ أَوْ إلَى مَنْزِلِ الْكِرَاءِ امْتِنَاعٌ بِحَقٍّ؛ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا الِامْتِنَاعُ مِنْ التَّسْلِيمِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ بِأَنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ أَوْفَاهَا مَهْرَهَا أَوْ كَانَ مُؤَجَّلًا؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِانْعِدَامِ التَّسْلِيمِ حَالَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَلَا تَجِبُ، وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ النَّفَقَةُ لِلنَّاشِزَةِ وَهَذِهِ نَاشِزَةٌ، وَلَوْ مَنَعَتْ نَفْسَهَا عَنْ زَوْجِهَا بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا بِرِضَاهَا لِاسْتِيفَاءِ مَهْرِهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مَنْعٌ بِحَقٍّ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا نَفَقَةَ لَهَا لِكَوْنِهِ مَنْعًا بِغَيْرِ حَقٍّ عِنْدَهُمَا وَلَوْ مَنَعَتْ نَفْسَهَا عَنْ زَوْجِهَا بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا عَلَى كُرْهٍ مِنْهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهَا مُحِقَّةٌ فِي الْمَنْعِ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَهِيَ كَالْبَالِغَةِ فِي النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِلنَّفَقَةِ يَجْمَعُهُمَا وَإِنْ كَانَتْ لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهَا النَّفَقَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ عِنْدَهُ النِّكَاحُ وَشَرْطُهُ عَدَمُ النُّشُوزِ وَقَدْ وُجِدَ وَشَرْطُ الْوُجُوبِ عِنْدَنَا تَسْلِيمُ النَّفْسِ وَلَا يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ فِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا لَا مِنْهَا وَلَا مِنْ غَيْرِهَا لِقِيَامِ الْمَانِعِ فِي نَفْسِهَا مِنْ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ لِذَلِكَ فَانْعَدَمَ شَرْطُ الْوُجُوبِ؛ فَلَا يَجِبُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا كَانَتْ الصَّغِيرَةُ تَخْدُمُ الزَّوْجَ وَيَنْتَفِعُ الزَّوْجُ بِهَا بِالْخِدْمَةِ فَسَلَّمَتْ نَفْسَهَا إلَيْهِ فَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا. فَإِنْ أَمْسَكَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ رَدَّهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَحْتَمِلْ الْوَطْءَ لَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمُ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْقَبُولِ فَإِنْ أَمْسَكَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مِنْهَا نَوْعُ مَنْفَعَةٍ وَضَرْبٌ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَقَدْ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ الْقَاصِرِ، وَإِنْ رَدَّهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا حَتَّى يَجِيءَ حَالٌ يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى جِمَاعِهَا لِانْعِدَامِ التَّسْلِيمِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَعَدَمِ رِضَاهُ بِالتَّسْلِيمِ الْقَاصِرِ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا وَالْمَرْأَةُ كَبِيرَةً؛ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ مِنْهَا عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَإِنَّمَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَنْ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الزَّوْجُ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا أَوْ مَحْبُوسًا فِي دَيْنٍ أَوْ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ أَوْ خَارِجًا لِلْحَجِّ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَرِيضَةً قَبْلَ النُّقْلَةِ مَرَضًا يَمْنَعُ مِنْ الْجِمَاعِ فَنُقِلَتْ وَهِيَ مَرِيضَةٌ فَلَهَا النَّفَقَةُ بَعْدَ النُّقْلَةِ وَقَبْلَهَا أَيْضًا فَإِذَا طَلَبَتْ النَّفَقَةَ فَلَمْ يَنْقُلْهَا الزَّوْجُ وَهِيَ لَا تَمْتَنِعُ مِنْ النُّقْلَةِ لَوْ طَالَبَهَا الزَّوْجُ وَإِنْ كَانَتْ تَمْتَنِعُ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا كَالصَّحِيحَةِ كَذَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا قَبْلَ النُّقْلَةِ فَإِذَا نُقِلَتْ وَهِيَ مَرِيضَةٌ؛ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا، وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمُ؛ إذْ هُوَ تَخْلِيَةٌ وَتَمْكِينٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مَعَ الْمَانِعِ وَهُوَ تَبَوُّءُ الْمَحَلِّ فَلَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ كَالصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْوَطْءَ وَإِذَا أَسْلَمَتْ نَفْسَهَا وَهِيَ مَرِيضَةٌ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَهُوَ التَّسْلِيمُ الْمُمَكِّنُ مِنْ الْوَطْءِ لَمَّا لَمْ يُوجَدْ؛ كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ التَّسْلِيمَ الَّذِي لَمْ يُوجِبْهُ الْعَقْدُ وَهَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ يُجَامَعُ مِثْلُهَا: أَنَّ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا؛ لِمَا قُلْنَا، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّسْلِيمَ فِي حَقِّ التَّمْكِينِ مِنْ الْوَطْءِ إنْ لَمْ يُوجَدْ فَقَدْ وُجِدَ فِي حَقِّ التَّمْكِينِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَهَذَا يَكْفِي لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ كَمَا فِي الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالصَّائِمَةِ صَوْمَ رَمَضَانَ وَإِذَا امْتَنَعَتْ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا التَّسْلِيمُ رَأْسًا؛ فَلَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا كَانَتْ الْمَرِيضَةُ تُؤْنِسُهُ وَيَنْتَفِعُ بِهَا فِي غَيْرِ الْجِمَاعِ فَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا فَإِنْ أَمْسَكَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ رَدَّهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّغِيرَةِ وَإِنْ نُقِلَتْ وَهِيَ صَحِيحَةٌ ثُمَّ مَرِضَتْ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ مَرَضًا لَا تَسْتَطِيعُ مَعَهُ الْجِمَاعَ لَمْ تَبْطُلْ نَفَقَتُهَا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ وَهُوَ التَّسْلِيمُ

الْمُمَكِّنُ مِنْ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ قَدْ حَصَلَ بِالِانْتِقَالِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ صَحِيحَةً كَذَا الِانْتِقَالُ ثُمَّ قَصُرَ التَّسْلِيمُ لِعَارِضٍ يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ فَأَشْبَهَ الْحَيْضَ أَوْ نَقُولُ التَّسْلِيمُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فِي حَقِّ الْمَرِيضَةِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ قَبْلَ الِانْتِقَالِ وَبَعْدَهُ هُوَ التَّسْلِيمُ فِي حَقِّ الِاسْتِمْتَاعِ لَا فِي حَقِّ الْوَطْءِ كَمَا فِي حَقِّ الْحَائِضِ وَكَذَا إذَا نَقَلَهَا ثُمَّ ذَهَبَ عَقْلُهَا فَصَارَتْ مَعْتُوهَةً مَغْلُوبَةً أَوْ كَبِرَتْ فَطَعَنَتْ فِي السِّنِّ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ زَوْجُهَا جِمَاعَهَا أَوْ أَصَابَهَا بَلَاءٌ - فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ حُبِسَتْ فِي دَيْنٍ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنْ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَمْ يُفَصِّلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْحَبْسُ قَبْلَ الِانْتِقَالِ أَوْ بَعْدَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى التَّخْلِيَةِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ حَبْسَ النِّكَاحِ قَدْ بَطَلَ بِإِعْرَاضِ حَبْسِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ أَحَقُّ بِحَبْسِهَا بِالدَّيْنِ وَفَاتَ التَّسْلِيمُ أَيْضًا بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِهَا وَهُوَ مَطْلَبُهَا فَصَارَتْ كَالنَّاشِزِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً فِي دَيْنٍ مِنْ قَبْلِ النُّقْلَةِ فَإِنْ كَانَتْ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخْلِيَةِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَهَذَا تَفْسِيرُ مَا أَجْمَلَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تُوصِلَهُ إلَيْهَا؛ فَالظَّاهِرُ مِنْهَا عَدَمُ الْمَنْعِ لَوْ طَالَبَهَا الزَّوْجُ وَهَذَا تَفْسِيرُ التَّسْلِيمِ فَإِنْ لَمْ يُطَالِبْهَا فَالتَّقْصِيرُ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخْلِيَةِ فَالتَّسْلِيمُ فَاتَ بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِهَا وَهُوَ مُمَاطَلَتُهَا فَلَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ وَلَوْ حُبِسَتْ بَعْدَ النُّقْلَةِ لَمْ تَبْطُلْ نَفَقَتُهَا لِمَا قُلْنَا فِي الْمَرِيضَةِ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي الْحَبْسِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً لَا تَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى الْقَضَاءِ فَلَمْ تَقْضِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَقْضِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقَضَاءِ صَارَتْ كَأَنَّهَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا فَتَصِيرُ بِمَعْنَى النَّاشِزَةِ وَلَوْ فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا النَّفَقَةَ ثُمَّ أَخَذَهَا رَجُلٌ كَارِهَةً فَهَرَبَ بِهَا شَهْرًا أَوْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي مَنَعَهَا لِفَوَاتِ التَّسْلِيمِ لَا لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّ الْفَوَاتَ مَا جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا، وَالرَّتْقَاءُ وَالْقَرْنَاءُ لَهُمَا النَّفَقَةُ بَعْدَ النُّقْلَةِ وَقَبْلَهَا إذَا طَلَبَتَا وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمَا الِامْتِنَاعُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لَهُمَا النَّفَقَةَ بَعْدَ الِانْتِقَالِ فَأَمَّا قَبْلَ الِانْتِقَالِ فَلَا نَفَقَةَ لَهُمَا، وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّسْلِيمَ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِمَا قَبْلَ الِانْتِقَالِ وَبَعْدَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَبِلَهُمَا مَعَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ فَقَدْ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ الْقَاصِرِ كَمَا قَالَ فِي الْمَرِيضَةِ، إلَّا أَنَّ هَهُنَا قَالَ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا، وَقَالَ فِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا فِي الْخِدْمَةِ وَالْمَرِيضَةِ الَّتِي يَسْتَأْنِسُ بِهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ فِي حَقِّهِمَا مُوجِبًا تَسْلِيمَ مِثْلِهِمَا وَهُوَ التَّمْكِينُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ دُونَ الْوَطْءِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّسْلِيمِ يَكْفِي لِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ كَتَسْلِيمِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمُحْرِمَةِ وَالصَّائِمَةِ مَعَ مَا أَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمَا بِوَاسِطَةِ إزَالَةِ الْمَانِعِ مِنْ الرَّتَقِ وَالْقَرَنِ بِالْعِلَاجِ فَيُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا وَطْئًا، وَلَوْ حَجَّتْ الْمَرْأَةُ حَجَّةَ فَرِيضَةٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ النُّقْلَةِ فَإِنْ حَجَّتْ بِلَا مَحْرَمٍ وَلَا زَوْجٍ؛ فَهِيَ نَاشِزَةٌ وَإِنْ حَجَّتْ مَعَ مَحْرَمٍ لَهَا دُونَ الزَّوْجِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهَا امْتَنَعَتْ مِنْ التَّسْلِيمِ بَعْدَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَصَارَتْ كَالنَّاشِزَةِ، وَإِنْ كَانَتْ انْتَقَلَتْ إلَى مَنْزِلِ الزَّوْجِ ثُمَّ حَجَّتْ مَعَ مَحْرَمٍ لَهَا دُونَ الزَّوْجِ فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهَا النَّفَقَةُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا نَفَقَةَ لَهَا، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّسْلِيمَ قَدْ فَاتَ بِأَمْرٍ مِنْ قِبَلِهَا وَهُوَ خُرُوجُهَا فَلَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ كَالنَّاشِزَةِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ قَدْ حَصَلَ بِالِانْتِقَالِ إلَى مَنْزِلِ الزَّوْجِ ثُمَّ فَاتَ بِعَارِضِ أَدَاءِ فَرْضٍ وَهَذَا لَا يُبْطِلُ النَّفَقَةَ كَمَا لَوْ انْتَقَلَتْ إلَى مَنْزِلِ زَوْجِهَا ثُمَّ لَزِمَهَا صَوْمُ رَمَضَانَ أَوْ نَقُولُ حَصَلَ التَّسْلِيمُ الْمُطْلَقُ بِالِانْتِقَالِ ثُمَّ فَاتَ لِعُذْرٍ فَلَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ كَالْمَرِيضَةِ ثُمَّ إذَا وَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ يَفْرِضُ لَهَا الْقَاضِي نَفَقَةَ الْإِقَامَةِ لَا نَفَقَةَ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا نَفَقَةُ الْحَضَرِ فَأَمَّا زِيَادَةُ الْمُؤْنَةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَيْهَا الْمَرْأَةُ فِي السَّفَرِ مِنْ الْكِرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهِيَ عَلَيْهَا لَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لِأَدَاءِ الْفَرْضِ، وَالْفَرْضُ عَلَيْهَا فَكَانَتْ تِلْكَ الْمُؤْنَةِ عَلَيْهَا لَا عَلَيْهِ كَمَا لَوْ مَرِضَتْ فِي الْحَضَرِ كَانَتْ الْمُدَاوَاةُ عَلَيْهَا لَا عَلَى الزَّوْجِ فَإِنْ جَاوَرَتْ بِمَكَّةَ أَوْ أَقَامَتْ بِهَا بَعْدَ أَدَاءِ الْحَجِّ إقَامَةً لَا تَحْتَاجُ إلَيْهَا سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَعْذُورَةٍ فِي ذَلِكَ فَصَارَتْ كَالنَّاشِزَةِ فَإِنْ طَلَبَتْ نَفَقَةَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ قَدْرَ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ؛ لَمْ يَكُنْ عَلَى الزَّوْجِ ذَلِكَ وَلَكِنْ يُعْطِيهَا نَفَقَةَ شَهْرٍ وَاحِدٍ فَإِذَا عَادَتْ أَخَذَتْ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ لَهَا نَفَقَةُ الْإِقَامَةِ لَا نَفَقَةُ السَّفَرِ، وَنَفَقَةُ الْإِقَامَةِ تُفْرَضُ لَهَا كُلَّ شَهْرٍ فَشَهْرٍ

وَهَذِهِ الْجُمْلَةِ لَا تَتَفَرَّعُ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ هَذَا إذَا لَمْ يَخْرُجْ الزَّوْجُ مَعَهَا إلَى الْحَجِّ، فَأَمَّا إذَا خَرَجَ فَلَهَا النَّفَقَةُ بِلَا خِلَافٍ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ الْمُطْلَقِ لِإِمْكَانِ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَطْئًا وَاسْتِمْتَاعًا فِي الطَّرِيقِ فَصَارَتْ كَالْمُقِيمَةِ فِي مَنْزِلِهِ، وَلَوْ آلَى مِنْهَا أَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ قَائِمٌ وَالتَّسْلِيمَ مَوْجُودٌ وَلِتَمَكُّنِهِ مِنْ وَطْئِهَا وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فِي الْإِيلَاءِ وَبِوَاسِطَةِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ فِي الظِّهَارِ فَوُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَشَرْطُ وُجُوبِهَا فَتَجِبُ، وَلَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَ امْرَأَتِهِ أَوْ عَمَّتَهَا أَوْ خَالَتَهَا وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ حَتَّى دَخَلَ بِهَا؛ فُرِّقَ بَيْنَهُمْ وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَزِلَهَا مُدَّةَ عِدَّةِ أُخْتِهَا فَلِامْرَأَتِهِ النَّفَقَةُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِعَارِضٍ يَزُولُ فَأَشْبَهَ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ وَصَوْمَ رَمَضَانَ وَلَا نَفَقَةَ لِأُخْتِهَا وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ مَا إذَا تَزَوَّجَ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ أَمَةً أَوْ قِنَّةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَنَّهُ إنْ بَوَّأَهَا الْمَوْلَى تَجِبُ النَّفَقَةُ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وَهُوَ حَقُّ الْحَبْسِ وَشَرْطُهُ وَهُوَ التَّسْلِيمُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ التَّبْوِئَةِ؛ لِأَنَّ التَّبْوِئَةَ هُوَ أَنْ يُخَلِّيَ الْمَوْلَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا فِي مَنْزِلِ زَوْجِهَا لَا يَسْتَخْدِمُهَا فَإِذَا كَانَتْ مَشْغُولَةً بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى؛ لَمْ تَكُنْ مَحْبُوسَةً عِنْدَ الزَّوْجِ وَلَا مُسَلَّمَةً إلَيْهِ وَلَا يُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى التَّبْوِئَةِ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى فَلَا يُجْبَرُ الْإِنْسَانُ عَلَى إيفَاءِ حَقِّ نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ فَإِنْ بَوَّأَهَا الْمَوْلَى ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا فَلَهُ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ خِدْمَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَإِنَّمَا أَعَارَهَا لِلزَّوْجِ بِالتَّبْوِئَةِ وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَسْتَرِدَّ عَارِيَّتَهُ وَلَا نَفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ مُدَّةَ الِاسْتِخْدَامِ لِفَوَاتِ التَّسْلِيمِ فِيهَا مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى، وَلَوْ بَوَّأَهَا مَوْلَاهَا بَيْتَ الزَّوْجِ فَكَانَتْ تَجِيءُ فِي أَوْقَاتٍ إلَى مَوْلَاهَا فَتَخْدُمُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا قَالُوا لَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِرْدَادَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالِاسْتِخْدَامِ وَلَمْ يُوجَدْ وَلِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْخِدْمَةِ لَا يَقْدَحُ فِي التَّسْلِيمِ كَالْحُرَّةِ إذَا خَرَجَتْ إلَى مَنْزِلِ أَبِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مُكَاتَبَةً تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ الْمَوْلَى حَتَّى جَازَ الْعَقْدُ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَلَا يُشْتَرَطُ التَّبْوِئَةُ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا لَيْسَتْ حَقَّ الْمَوْلَى؛ إذْ لَا حَقَّ لِلْمَوْلَى فِي مَنَافِعِهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا فَكَانَتْ فِي مَنَافِعِهَا كَالْحُرَّةِ فَيُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى التَّسْلِيمِ وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةُ. وَالْعَبْدُ إذَا تَزَوَّجَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى حُرَّةً أَوْ أَمَةً فَهُوَ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ كَالْحُرِّ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ حَقُّ الْحَبْسِ وَشَرْطُهُ وَهُوَ التَّسْلِيمُ؛ وَلِهَذَا اسْتَوَيَا فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّفَقَةَ إذَا صَارَتْ مَفْرُوضَةً عَلَى الْعَبْدِ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ؛ يُبَاعُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى فَيَسْقُطَ حَقُّ الْغَرِيمِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَيَبْدَأُ بِهَا قَبْلَ الْغَلَّةِ لِمَوْلَاهُ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى ضَرَبَ عَلَيْهِ ضَرِيبَةً فَإِنَّ نَفَقَةَ امْرَأَتِهِ تُقَدَّمُ عَلَى ضَرِيبَةِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهَا بِالْفَرْضِ صَارَتْ دَيْنًا فِي رَقَبَتِهِ حَتَّى يُبَاعَ بِهَا فَأَشْبَهَ سَائِرَ الدُّيُونِ بِخِلَافِ الْغَلَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْبَيْعِ؛ بَطَلَتْ النَّفَقَةُ وَلَا يُؤْخَذُ الْمَوْلَى بِشَيْءٍ لِفَوَاتِ مَحَلِّ التَّعْلِيقِ فَيَبْطُلُ التَّعْلِيقُ كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إذَا هَلَكَ يَبْطُلُ الدَّيْنُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قُتِلَ الْعَبْدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ إذَا قُتِلَ كَانَتْ النَّفَقَةُ فِي قِيمَتِهِ وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْقِيمَةَ قَامَتْ مَقَامَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُهُ فَتَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا تُقَامُ مَقَامَ الرَّقَبَةِ فِي الدُّيُونِ الْمُطْلَقَةِ لَا فِيمَا يَجْرِي مَجْرَى الصِّلَاتِ، وَالنَّفَقَةُ تَجْرِي مَجْرَى الصِّلَاتِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا - لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَسَائِرِ الصِّلَاتِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا فَقُتِلَ خَطَأً؛ سَقَطَتْ عِنْدَنَا وَلَا تُقَامُ الدِّيَةُ مَقَامَهُ فَكَذَا إذَا كَانَ عَبْدًا وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ - لِمَا قُلْنَا - غَيْرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُبَاعُونَ؛ لِأَنَّ دُيُونَهُمْ تَتَعَلَّقُ بِأَكْسَابِهِمْ لَا بِرِقَابِهِمْ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهَا مِنْ رِقَابِهِمْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ بِالْبَيْعِ، وَرِقَابُهُمْ لَا تَحْتَمِلُ الْبَيْعَ. وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَعِنْدَنَا يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ كَالْقِنِّ لِتَصَوُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ رَقَبَتِهِ لِاحْتِمَالِ الْعَجْزِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ يَعُودُ قِنًّا فَيَسْعَى فِيهَا مَا دَامَ مُكَاتَبًا فَإِذَا قُضِيَ بِعَجْزِهِ وَصَارَ قِنًّا يُبَاعُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى كَمَا فِي الْكِتَابَةِ. وَأَمَّا الْمُعْتَقُ الْبَعْضِ فَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْعَجْزُ وَالْبَيْعُ فِي الدَّيْنِ فَيَسْعَى فِي نَفَقَتِهَا وَعِنْدَهُمَا هُوَ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ حُرَّةٍ يَكُونُ حُرًّا فَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ نَفَقَةُ

الْحُرِّ وَتَكُونُ عَلَى الْأُمِّ نَفَقَتُهُ إنْ كَانَتْ غَنِيَّةً وَإِنْ كَانَتْ مُحْتَاجَةً فَعَلَى مَنْ يَرِثُ الْوَلَدَ مِنْ الْقَرَابَةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمَةٍ فَيَكُونُ عَبْدًا لِمَوْلَاهَا فَلَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ نَفَقَتُهُ، وَكَذَلِكَ الْحُرُّ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا فَنَفَقَةُ الْأَوْلَادِ عَلَى مَوْلَى الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ مَمَالِيكُهُ، وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي هَذَا كَالْأَمَةِ الْقِنَّةِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كَانَ مَوْلَى الْأَمَةِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَقِيرًا وَالزَّوْجُ أَبَ الْوَلَدِ غَنِيًّا لَا يُؤْمَرُ الْأَبُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى وَلَدِهِ بَلْ إمَّا أَنْ يَبِيعَهُ مَوْلَاهُ أَوْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ أَمَةٍ قِنَّةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ مُدَبَّرَةٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ يُنْفِقُ الْأَبُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى إذَا أَيْسَرَ لِتَعَذُّرِ الْجَبْرِ عَلَى الْبَيْعِ هَهُنَا لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُكَاتَبَةً فَنَفَقَةُ أَوْلَادِهَا لَا تَجِبُ عَلَى زَوْجِهَا وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْأُمِّ الْمُكَاتَبَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبَةِ مِلْكُ الْمَوْلَى رَقَبَةً وَهُوَ حَقُّ الْمُكَاتَبَةِ كَسْبًا. أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَسْتَعِينُ بِأَكْسَابِهِ فِي رَقَبَتِهَا وَعِتْقِهَا وَإِذَا كَانَتْ أَكْسَابُهُ حَقًّا لَهَا؛ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْإِنْسَانِ تَتْبَعُ كَسْبَهُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ» وَإِنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْبِنْتَ يَجِبُ لَهَا عَلَى أَبِيهَا دَيْنٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَجِبَ عَلَى عَبْدِ أَبِيهَا وَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ فَنَفَقَتُهُمَا جَمِيعًا عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِلْكُ الْمَوْلَى وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَالْكِتَابِيَّةُ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْمُسْلِمِ كَالْمُسْلِمَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَشَرْطِهِ وَالذِّمِّيُّ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ لِزَوْجَتِهِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ مَحَارِمِهِ كَالْمُسْلِمِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَلِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَائِلِ الْوُجُوبِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي النَّفَقَةِ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَإِذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَعَلَى الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ فَهَكَذَا عَلَى الذِّمِّيِّ. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ مِنْ مَحَارِمِهِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهَا إذَا طَلَبَتْ النَّفَقَةَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالنَّفَقَةِ لَهَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَقْضِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ فَاسِدٌ عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ صَحِيحٌ عِنْدَهُمْ حَتَّى قَالَ إنَّهُمَا يُقَرَّانِ عَلَيْهِ وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمَا قَبْلَ أَنْ يَتَرَافَعَا أَوْ يُسْلِمَ أَحَدُهُمَا، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ فَاسِدٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا أَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ النَّفَقَةَ مَعَ فَسَادِ هَذَا النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُمَا يُقَرَّانِ عَلَيْهِ مَعَ فَسَادِهِ عِنْدَهُ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: إنِّي أَفْرِضُ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ لِكُلِّ امْرَأَةٍ أُقِرَّتْ عَلَى نِكَاحِهَا جَائِزًا كَانَ النِّكَاحُ عِنْدِي أَوْ بَاطِلًا، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّهُ عَلَى نِكَاحِهَا فَقَدْ أَلْحَقَ هَذَا النِّكَاحَ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ فِي حَقِّ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَقَدْ يُلْحَقُ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ بِالصَّحِيحِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ مِنْ النَّسَبِ وَالْعِدَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَيَسْتَوِي فِي اسْتِحْقَاقِ هَذِهِ النَّفَقَةِ الْمُعْسِرَةُ وَالْمُوسِرَةُ فَتَسْتَحِقُّ الزَّوْجَةُ النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا وَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَشَرْطِهِ وَلِأَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ لَهَا شَبَهٌ بِالْأَعْوَاضِ فَيَسْتَوِي فِيهَا الْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ كَنَفَقَةِ الْقَاضِي وَالْمُضَارِبِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْمَحَارِمِ أَنَّهَا لَا تَجِبُ لِلْغَنِيِّ لِأَنَّهَا تَجِبُ صِلَةً مَحْضَةً لِمَكَانِ الْحَاجَةِ فَلَا تَجِبُ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ وَتَجِبُ هَذِهِ النَّفَقَةُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَكِنَّهَا لَا تَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إلَّا بِقَضَاءٍ أَوْ رِضًا عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَنَفَقَةُ الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ تَجِبُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُذْكَرُ فِي نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا نَفَقَةَ لِلنَّاشِزَةِ لِفَوَاتِ التَّسْلِيمِ بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا وَهُوَ النُّشُوزُ وَالنُّشُوزُ فِي النِّكَاحِ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْ الزَّوْجِ بِغَيْرِ حَقٍّ خَارِجَةً مِنْ مَنْزِلِهِ بِأَنْ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَغَابَتْ أَوْ سَافَرَتْ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ فِي مَنْزِلِهِ وَمَنَعَتْ نَفْسَهَا فِي رِوَايَةٍ فَلَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ لِحَقِّهِ مُنْتَفِعٌ بِهَا ظَاهِرًا وَغَالِبًا فَكَانَ مَعْنَى التَّسْلِيمِ حَاصِلًا وَالنُّشُوزُ فِي الْعِدَّةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِ الْعِدَّةِ مُرَاغِمَةً لِزَوْجِهَا أَوْ تَخْرُجَ لِمَعْنًى مِنْ قِبَلِهَا وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ كَانَتْ تَبْدُو عَلَى أَحْمَائِهَا فَنَقَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى» ؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ كَانَ بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِهَا فَصَارَتْ كَأَنَّهَا خَرَجَتْ بِنَفْسِهَا مُرَاغِمَةً لِزَوْجِهَا. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ الشَّرْطُ الَّذِي يَخُصُّ نَفَقَةَ الْعِدَّةِ فَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ بِفُرْقَةٍ حَاصِلَةٍ مِنْ قِبَلِهَا بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَقَدْ مَرَّ، وَجْهُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَكُلُّ امْرَأَةٍ لَهَا النَّفَقَةُ فَلَهَا الْكِسْوَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا

فصل في بيان مقدار الواجب من النفقة

لَا يَخْتَلِفُ وَكَذَا شَرْطُ الْوُجُوبِ وَيَجِبَانِ عَلَى الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْوُجُوبِ لَا يَفْصِلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَكُلُّ امْرَأَةٍ لَهَا النَّفَقَةُ لَهَا السُّكْنَى لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْوُجُوبِ وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِهِمَا أَصْلُ الْوُجُوبِ الْمُوسِرُ وَالْمُعْسِرُ؛ لِأَنَّ دَلَائِلَ الْوُجُوبِ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهُمَا - وَسَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِهِ -، وَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يُسْكِنَهَا مَعَ ضَرَّتِهَا أَوْ مَعَ أَحْمَائِهَا كَأُمِّ الزَّوْجِ وَأُخْتِهِ وَبِنْتِهِ مِنْ غَيْرِهَا وَأَقَارِبِهِ فَأَبَتْ ذَلِكَ؛ عَلَيْهِ أَنْ يُسْكِنَهَا فِي مَنْزِلٍ مُفْرَدٍ؛ لِأَنَّهُنَّ رُبَّمَا يُؤْذِينَهَا وَيَضْرُرْنَ بِهَا فِي الْمُسَاكَنَةِ وَإِبَاؤُهَا دَلِيلُ الْأَذَى وَالضَّرَرِ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُجَامِعَهَا وَيُعَاشِرَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ يَتَّفِقُ وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ حَتَّى لَوْ كَانَ فِي الدَّارِ بُيُوتٌ فَفَرَّغَ لَهَا بَيْتًا وَجَعَلَ لِبَيْتِهَا غَلْقًا عَلَى حِدَةٍ قَالُوا: إنَّهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِبَيْتٍ آخَرَ، وَلَوْ كَانَتْ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ وَلَيْسَ مَعَهَا أَحَدٌ يُسَاكِنُهَا فَشَكَتْ إلَى الْقَاضِي أَنَّ الزَّوْجَ يَضْرِبُهَا وَيُؤْذِيهَا؛ سَأَلَ الْقَاضِي جِيرَانَهَا فَإِنْ أَخْبَرُوا بِمَا قَالَتْ وَهُمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ فَالْقَاضِي يُؤَدِّبُهُ وَيَأْمُرُهُ بِأَنْ يُحْسِنَ إلَيْهَا وَيَأْمُرَ جِيرَانَهُ أَنْ يَتَفَحَّصُوا عَنْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْجِيرَانُ قَوْمًا صَالِحِينَ أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يُحَوِّلَهَا إلَى جِيرَانٍ صَالِحِينَ فَإِنْ أَخْبَرُوا الْقَاضِي بِخِلَافِ مَا قَالَتْ؛ أَقَرَّهَا هُنَاكَ وَلَمْ يُحَوِّلْهَا وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ أَبَاهَا وَأُمَّهَا وَوَلَدَهَا مِنْ غَيْرِهِ وَمَحَارِمَهَا مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ مَنْزِلُهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ شَاءَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهَا وَكَلَامِهَا خَارِجِ الْمَنْزِلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ فِتْنَةٌ بِأَنْ يَخَافَ عَلَيْهَا الْفَسَادَ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْ النَّفَقَة] وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهَا فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ مَا تُقَدَّرُ بِهِ هَذِهِ النَّفَقَةُ وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ مَنْ تُقَدَّرُ بِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذِهِ النَّفَقَةُ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِكِفَايَتِهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مُقَدَّرَةٌ بِنَفْسِهَا، عَلَى الْمُوسِرِ مُدَّانِ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ مُدٌّ وَنِصْفٌ، وَعَلَى الْمُعْسِرِ نِصْفُ مُدٍّ وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] أَيْ قَدْرَ سَعَتِهِ فَدَلَّ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ وَلِأَنَّهُ إطْعَامٌ وَاجِبٌ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا كَالْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَاتِ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ عِنْدِي وَمُقَابَلَةِ الْحَبْسِ عِنْدَكُمْ فَكَانَتْ مُقَدَّرَةً كَالثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ وَالْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] مُطْلَقًا عَنْ التَّقْدِيرِ فَمَنْ قَدَّرَ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ وَلِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا بِاسْمِ الرِّزْقِ وَرِزْقُ الْإِنْسَانِ كِفَايَتُهُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَرِزْقِ الْقَاضِي وَالْمُضَارِبِ. وَرُوِيَ أَنَّ هِنْدَ امْرَأَةَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» نَصَّ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى الْكِفَايَةِ فَدَلَّ أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِكَوْنِهَا مَحْبُوسَةً بِحَقِّ الزَّوْجِ مَمْنُوعَةً عَنْ الْكَسْبِ لِحَقِّهِ فَكَانَ وُجُوبُهَا بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ كَنَفَقَةِ الْقَاضِي وَالْمُضَارِبِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِيهَا أَمْرَ الَّذِي عِنْدَهُ السَّعَةُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى قَدْرِ السَّعَةِ مُطْلَقًا عَنْ التَّقْدِيرِ بِالْوَزْنِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِهِ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقٍ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَقَوْلُهُ: إنَّهُ إطْعَامٌ وَاجِبٌ يَبْطُلُ بِنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ فَإِنَّهُ إطْعَامٌ وَاجِبٌ وَهِيَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْكِفَايَةِ، وَالتَّقْدِيرُ بِالْوَزْنِ فِي الْكَفَّارَاتِ لَيْسَ لِكَوْنِهَا نَفَقَةً وَاجِبَةً بَلْ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً مَحْضَةً لِوُجُوبِهَا عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ كَالزَّكَاةِ فَكَانَتْ مُقَدَّرَةً بِنَفْسِهَا كَالزَّكَاةِ وَوُجُوبُ هَذِهِ النَّفَقَةِ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الْكِفَايَةِ فَتَتَقَدَّرُ بِكِفَايَتِهَا كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا مَمْنُوعٌ، وَلَسْنَا نَقُولُ: إنَّهَا تَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْحَبْسِ بَلْ تَجِبُ جَزَاءً عَلَى الْحَبْسِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً بِمُقَابَلَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِذَا كَانَ وُجُوبُهَا عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ فَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ النَّفَقَةِ قَدْرُ مَا يَكْفِيهَا مِنْ الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ وَالدُّهْنِ؛ لِأَنَّ الْخُبْزَ لَا يُؤْكَلُ عَادَةً إلَّا مَأْدُومًا وَالدُّهْنُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِلنِّسَاءِ وَلَا تُقَدَّرُ نَفَقَتُهَا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَلَى أَيِّ سِعْرٍ كَانَتْ؛ لِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ؛ إذْ السِّعْرُ قَدْ يَغْلُو وَقَدْ يَرْخُصُ بَلْ تُقَدَّرُ لَهَا عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَسْعَارِ غَلَاءً وَرُخْصًا رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْكِسْوَةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ صَيْفِيَّةً وَشَتْوِيَّةً؛ لِأَنَّهَا كَمَا تَحْتَاجُ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ تَحْتَاجُ إلَى اللِّبَاسِ

لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَلِدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْمُعْسِرَ يُفْرَضُ عَلَيْهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فِي الشَّهْرِ وَالْمُوسِرَ عَشَرَةٌ وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى اعْتِبَارِ قَرَارِ السِّعْرِ فِي الْوَقْتِ، وَلَوْ جَاءَ الزَّوْجُ بِطَعَامٍ يَحْتَاجُ إلَى الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ فَأَبَتْ الْمَرْأَةُ الطَّبْخَ وَالْخَبْزَ يَعْنِي بِأَنْ تَطْبُخَ وَتَخْبِزَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ الْأَعْمَالَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَجَعَلَ أَعْمَالَ الْخَارِجِ عَلَى عَلِيٍّ وَأَعْمَالَ الدَّاخِلِ عَلَى فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَكِنَّهَا لَا تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ إنْ أَبَتْ وَيُؤْمَرُ الزَّوْجُ أَنْ يَأْتِيَ لَهَا بِطَعَامٍ مُهَيَّأٍ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِلطَّبْخِ وَالْخَبْزِ؛ لَمْ يَجُزْ وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَوْ أَخَذَتْ الْأُجْرَةَ لَأَخَذَتْهَا عَلَى عَمَلٍ وَاجِبٍ عَلَيْهَا فِي الْفَتْوَى فَكَانَ فِي مَعْنَى الرِّشْوَةِ فَلَا يَحِلُّ لَهَا الْأَخْذُ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّ هَذَا إذَا كَانَ بِهَا عِلَّةٌ لَا تَقْدِرُ عَلَى الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ أَوْ كَانَتْ مِنْ بَنَاتِ الْأَشْرَافِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَهِيَ مِمَّنْ تَخْدُمُ بِنَفْسِهَا تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ يَجِبُ لِخَادِمِهَا أَيْضًا النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ إذَا كَانَتْ مُتَفَرِّغَةً لِشُغُلِهَا وَلِخِدْمَتِهَا لَا شُغْلَ لَهَا غَيْرُهَا؛ لِأَنَّ أُمُورَ الْبَيْتِ لَا تَقُومُ بِهَا وَحْدَهَا فَتَحْتَاجُ إلَى خَادِمٍ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِأَكْثَرَ مِنْ خَادِمٍ وَاحِدٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ لِخَادِمَيْنِ وَلَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ يَجِلُّ مِقْدَارُهَا عَنْ خِدْمَةِ خَادِمٍ وَاحِدٍ وَتَحْتَاجُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَجِبُ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ وَبِهِ أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ وَجْهُ ظَاهِرِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ خِدْمَةَ امْرَأَةٍ لَا تَقُومُ بِخَادِمٍ وَاحِدٍ بَلْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى خَادِمَيْنِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُعِينًا لِلْآخَرِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَامَ بِخِدْمَتِهَا بِنَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ خَادِمٍ أَصْلًا وَخَادِمٌ وَاحِدٌ يَقُومُ مَقَامَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَامَ مَقَامَهُ؛ صَارَ كَأَنَّهُ خَدَمَ بِنَفْسِهِ وَلِأَنَّ الْخَادِمَ الْوَاحِدَ لَا بُدَّ مِنْهُ وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ يُقَدَّرُ بِهِ فَلَا يَكُونُ اعْتِبَارُ الْخَادِمَيْنِ أَوْلَى مِنْ الثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ فَيُقَدَّرَ بِالْأَقَلِّ وَهُوَ الْوَاحِدُ هَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُوسِرًا فَأَمَّا إذَا كَانَ مُعْسِرًا فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ خَادِمٍ وَإِنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَإِلَّا فَلَا، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهَا خَادِمٌ عُلِمَ أَنَّهَا لَا تَرْضَى بِالْخِدْمَةِ بِنَفْسِهَا فَكَانَ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةُ خَادِمِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا خَادِمٌ؛ دَلَّ أَنَّهَا رَاضِيَةٌ بِالْخِدْمَةِ بِنَفْسِهَا فَلَا يُجْبَرُ عَلَى اتِّخَاذِ خَادِمٍ لَمْ يَكُنْ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الزَّوْجِ الْمُعْسِرِ مِنْ النَّفَقَةِ أَدْنَى الْكِفَايَةِ، وَقَدْ تُكْفَى الْمَرْأَةُ بِخِدْمَةِ نَفْسِهَا فَلَا يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْخَادِمِ وَإِنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ بَيَانُ مَنْ يُقَدَّرُ بِهِ هَذِهِ النَّفَقَةَ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ قَدْرَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ يُعْتَبَرُ بِحَالِ الزَّوْجِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ لَا بِحَالِهَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِحَالِهِمَا جَمِيعًا حَتَّى لَوْ كَانَا مُوسِرَيْنِ فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْيَسَارِ وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْإِعْسَارِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا وَالْمَرْأَةُ مُوسِرَةً، وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُوسِرًا وَالْمَرْأَةُ مُعْسِرَةً؛ فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْيَسَارِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَعَلَى قَوْلِ الْخَصَّافِ عَلَيْهِ أَدْنَى مِنْ نَفَقَةِ الْمُوسِرَاتِ وَأَوْسَعُ مِنْ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِينَ حَتَّى لَوْ كَانَ الزَّوْجُ مُفْرِطًا فِي الْيَسَارِ يَأْكُلُ خُبْزَ الْحُوَّارَى وَلَحْمَ الْحَمَلِ وَالدَّجَاجِ، وَالْمَرْأَةُ مُفْرِطَةً فِي الْفَقْرِ تَأْكُلُ فِي بَيْتِهَا خُبْزَ الشَّعِيرِ؛ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَهَا مَا يَأْكُلُهُ وَلَا يُطْعِمُهَا مَا كَانَتْ تَأْكُلُ فِي بَيْتِ أَهْلِهَا أَيْضًا وَلَكِنْ يُطْعِمُهَا خُبْزَ الْحِنْطَةِ وَلَحْمَ الشَّاةِ وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ، وَجْهُ قَوْلِ الْخَصَّافِ إنَّ فِي اعْتِبَارِ حَالَتِهِمَا فِي تَقْدِيرِ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ نَظَرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ حَالِ أَحَدِهِمَا وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا يُنْفِقْ عَلَيْهَا أَدْنَى مَا يَكْفِيهَا مِنْ الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ وَالدُّهْنِ بِالْمَعْرُوفِ وَمِنْ الْكِسْوَةِ أَدْنَى مَا يَكْفِيهَا مِنْ الصَّيْفِيَّةِ وَالشِّتْوِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا يُنْفِقْ عَلَيْهَا أَوْسَعَ مِنْ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ وَمِنْ الْكِسْوَةِ أَرْفَعَ مِنْ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا يُنْفِقْ عَلَيْهَا أَوْسَعَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْمَعْرُوفِ وَمِنْ الْكِسْوَةِ أَرْفَعَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنَّمَا كَانَتْ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الزَّوْجَيْنِ وَاجِبٌ وَذَلِكَ فِي إيجَابِ الْوَسَطِ مِنْ الْكِفَايَةِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْمَعْرُوفِ فَيَكْفِيهَا مِنْ الْكِسْوَةِ فِي الصَّيْفِ قَمِيصٌ وَخِمَارٌ

فصل في بيان كيفية وجوب هذه النفقة

وَمِلْحَفَةٌ وَسَرَاوِيلُ - أَيْضًا فِي عُرْفِ دِيَارِنَا - عَلَى قَدْرِ حَالِهِ مِنْ الْخَشِنِ وَاللَّيِّنِ وَالْوَسَطِ، وَالْخَشِنُ إذَا كَانَ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَاللَّيِّنُ إذَا كَانَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَالْوَسَطُ إذَا كَانَ مِنْ الْأَوْسَاطِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْقُطْنِ أَوْ الْكَتَّانِ عَلَى حَسَبِ عَادَاتِ الْبُلْدَانِ إلَّا الْخِمَارُ فَإِنَّهُ يُفْرَضُ عَلَى الْغَنِيِّ خِمَارٌ حَرِيرٌ فِي الشِّتَاءِ يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ حَشْوِيًّا وَفَرْوَةً بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْبِلَادِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ. وَأَمَّا نَفَقَةُ الْخَادِمِ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الزَّوْجَ الْمُوسِرَ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْخَادِمِ كَمَا يَلْزَمُ الْمُعْسِرَ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ وَهُوَ أَدْنَى الْكِفَايَةِ وَكَذَا الْكِسْوَةُ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: إنَّهُ مُوسِرٌ وَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ، وَقَالَ الزَّوْجُ: إنِّي مُعْسِرٌ وَعَلَيَّ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ وَالْقَاضِي لَا يَعْلَمُ بِحَالِهِ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي وَالْخَصَّافُ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ مَعَ يَمِينِهَا وَأَصْلُ هَذَا أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الطَّالِبِ وَبَيْنَ الْمَطْلُوبِ فِي يَسَارِ الْمَطْلُوبِ وَإِعْسَارِهِ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ فَالْمَشَايِخُ اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْمَطْلُوبِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الطَّالِبِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَّمَ فِيهِ رَأْيَ الْمَطْلُوبِ وَمُحَمَّدٌ فَصَلَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَجَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الطَّالِبِ فِي الْبَعْضِ وَقَوْلَ الْمَطْلُوبِ فِي الْبَعْضِ، وَذَكَرَ فِي الْفَصْلِ أَصْلًا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ قَوْلَ الْمَرْأَةِ وَكَذَا فَصَلَ الْخَصَّافُ لَكِنَّهُ ذَكَرَ أَصْلًا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ قَوْلَ الزَّوْجِ. وَبَيَانُ الْأَصْلَيْنِ وَذِكْرُ الْحُجَجِ يَأْتِي فِي كِتَابِ الْحَبْسِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنْ أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى يَسَارِهِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهَا وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهَا؛ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ وَبَيِّنَةُ الزَّوْجِ لَا تُثْبِتُ شَيْئًا، وَلَوْ فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا نَفَقَةَ شَهْرٍ وَهُوَ مُعْسِرٌ ثُمَّ أَيْسَرَ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ يَزِيدُهَا فِي الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَكَذَلِكَ لَوْ فَرَضَ لَهَا فَرِيضَةً لِلْوَقْتِ وَالسِّعْرُ رَخِيصٌ ثُمَّ غَلَا فَلَمْ يَكْفِهَا مَا فَرَضَ لَهَا فَإِنَّهُ يَزِيدُهَا فِي الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ كِفَايَةُ الْوَقْتِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السِّعْرِ، وَلَوْ فَرَضَ لَهَا نَفَقَةَ شَهْرٍ فَدَفَعَهَا الزَّوْجُ إلَيْهَا ثُمَّ ضَاعَتْ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ أُخْرَى حَتَّى يَمْضِيَ الشَّهْرُ وَكَذَا إذَا كَسَاهَا الزَّوْجُ فَضَاعَتْ الْكِسْوَةُ قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ فَلَا كِسْوَةَ لَهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَمْضِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي أَخَذَتْ لَهَا الْكِسْوَةَ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ فَإِنَّ هُنَاكَ يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَةٍ أُخْرَى وَكِسْوَةٍ أُخْرَى لِتَمَامِ الْمُدَّةِ الَّتِي أَخَذَ لَهَا الْكِسْوَةَ إذَا حَلَفَ أَنَّهَا ضَاعَتْ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ تِلْكَ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِلْحَاجَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا لِلْمُحْتَاجِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ إلَى نَفَقَةٍ أُخْرَى وَكِسْوَةٍ أُخْرَى وَوُجُوبُ هَذِهِ النَّفَقَةِ لَيْسَ مَعْلُولًا بِالْحَاجَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَجِبُ لِلْمُوسِرَةِ إلَّا أَنَّ لَهَا شَبَهًا بِالْأَعْوَاضِ وَقَدْ جُعِلَتْ عِوَضًا عَنْ الِاحْتِبَاسِ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ فَلَا يَلْزَمُهُ عِوَضٌ آخَرُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَلَوْ فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا نَفَقَةً أَوْ كِسْوَةً فَمَضَى الْوَقْتُ الَّذِي أَخَذَتْ لَهُ وَقَدْ بَقِيَتْ تِلْكَ النَّفَقَةُ أَوْ الْكِسْوَةُ بِأَنْ أَكَلَتْ مِنْ مَالٍ آخَرَ أَوْ لَبِسَتْ ثَوْبًا آخَرَ فَلَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةٌ أُخْرَى وَكِسْوَةٌ أُخْرَى بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَالْفَرْقُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ تَجِبُ بِعِلَّةِ الْحَاجَةِ صِلَةً مَحْضَةً وَلَا حَاجَةَ عِنْدَ بَقَاءِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، وَنَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ لَا تَجِبُ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ وَإِنَّمَا تَجِبُ جَزَاءً عَلَى الِاحْتِبَاسِ لَكِنْ لَهَا شُبْهَةُ الْعِوَضِيَّةِ عَنْ الِاحْتِبَاسِ وَقَدْ جُعِلَتْ عِوَضًا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَهِيَ مُحْتَبِسَةٌ بَعْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِحَبْسٍ آخَرَ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ عِوَضٍ آخَرَ، وَلَوْ نَفِدَتْ نَفَقَتُهَا قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ الَّتِي لَهَا أُخِذَتْ أَوْ تَخَرَّقَ الثَّوْبُ؛ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ وَلَا كِسْوَةَ حَتَّى تَمْضِيَ الْمُدَّةُ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَكِسْوَتِهِمْ، وَالْفَرْقُ نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ] وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهَا تَجِبُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِتَرَاضِي الزَّوْجَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدُ هَذَيْنِ؛ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهَا تَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا رِضَاهُ وَلَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَنَّ الْفَرْضَ مِنْ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي هَلْ هُوَ شَرْطُ صَيْرُورَةِ هَذِهِ النَّفَقَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ أَمْ لَا وَفِي بَيَانِ شَرْطِ جَوَازِ فَرْضِهَا مِنْ الْقَاضِي عَلَى الزَّوْجِ إذَا كَانَ شَرْطًا، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ صَيْرُورَتِهَا دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا. احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] عَلَى كَلِمَةُ إيجَابٍ، فَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ مُطْلَقًا عَنْ الزَّمَانِ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7]

أَمَرَ تَعَالَى بِالْإِنْفَاقِ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ قَدْ وَجَبَتْ وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى إنْسَانٍ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْإِيصَالِ أَوْ الْإِبْرَاءِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عِوَضًا لِوُجُوبِهَا بِمُقَابَلَةِ الْمُتْعَةِ فَبَقِيَتْ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ كَالْمَهْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الزَّوْجَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ النَّفَقَةِ وَيُحْبَسُ عَلَيْهَا وَالصِّلَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْحَبْسَ وَالْجَبْرَ وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ تَجْرِي مَجْرَى الصِّلَةِ وَإِنْ كَانَتْ تُشْبِهُ الْأَعْوَاضَ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِعِوَضٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عِوَضًا حَقِيقَةً فَأَمَّا إنْ كَانَتْ عِوَضًا عَنْ نَفْسِ الْمُتْعَةِ وَهِيَ الِاسْتِمْتَاعُ. وَأَمَّا إنْ كَانَتْ عِوَضًا عَنْ مِلْكِ الْمُتْعَةِ وَهِيَ الِاخْتِصَاصُ بِهَا لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَكَ مُتْعَتَهَا بِالْعَقْدِ فَكَانَ هُوَ بِالِاسْتِمْتَاعِ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعَ مَمْلُوكَةٍ لَهُ وَمَنْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ عِوَضٌ لِغَيْرِهِ وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ قَدْ قُوبِلَ بِعِوَضٍ مَرَّةً فَلَا يُقَابَلُ بِعِوَضٍ آخَرَ فَخَلَتْ النَّفَقَةُ عَنْ مُعَوَّضٍ فَلَا يَكُونُ عِوَضًا حَقِيقَةً بَلْ كَانَتْ صِلَةً؛ وَلِذَلِكَ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى رِزْقًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وَالرِّزْقُ اسْمٌ لِلصِّلَةِ كَرِزْقِ الْقَاضِي، وَالصِّلَاتُ لَا تُمْلَكُ بِأَنْفُسِهَا بَلْ بِقَرِينَةٍ تَنْضَمُّ إلَيْهَا وَهِيَ الْقَبْضُ كَمَا فِي الْهِبَةِ أَوْ قَضَاءِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ التَّرَاضِي؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى مِنْ وِلَايَةِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ أُوجِبَ بِمُقَابَلَةِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ فَكَانَ عِوَضًا مُطْلَقًا فَلَا يَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْمُطْلَقَةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَتَيْنِ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا وُجُوبَ النَّفَقَةِ لَا بَقَاؤُهَا وَاجِبَةً؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَعَرَّضَانِ لِلْوَقْتِ فَلَوْ ثَبَتَ الْبَقَاءُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِإِلْزَامِ الْخَصْمِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْأَصْلَ فِيمَا وَجَبَ عَلَى إنْسَانٍ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْإِيصَالِ أَوْ الْإِبْرَاءِ فَنَقُولُ: هَذَا حُكْمُ الْوَاجِبِ مُطْلَقًا لَا حُكْمَ الْوَاجِبِ عَلَى طَرِيقِ الصِّلَةِ بَلْ حُكْمُهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَأُجْرَةِ الْمَسْكَنِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إنَّهَا وَجَبَتْ عِوَضًا. وَأَمَّا الْجَبْرُ وَالْحَبْسُ فَالصِّلَةُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَيُحْبَسُ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ صِلَةً وَكَذَا مَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُوهَبَ عَبْدُهُ مِنْ فُلَانٍ بَعْدَ مَوْتِهِ فَمَاتَ الْمُوصِي فَامْتَنَعَ الْوَارِثُ مِنْ تَنْفِيذِ الْهِبَةِ فِي الْعَبْدِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَيُحْبَسُ؛ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ صِلَةً فَدَلَّ أَنَّ الْجَبْرَ وَالْحَبْسَ لَا يَنْفِيَانِ مَعْنَى الصِّلَةِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اسْتَدَانَتْ عَلَى الزَّوْجِ قَبْلَ الْفَرْضِ أَوْ التَّرَاضِي فَأَنْفَقَتْ أَنَّهَا لَا تَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ بَلْ تَكُونُ مُتَطَوِّعَةً فِي الْإِنْفَاقِ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا أَنَّهَا لَمْ تَصِرْ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ لِعَدَمِ شَرْطِ صَيْرُورَتِهَا دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَكَانَتْ الِاسْتِدَانَةُ إلْزَامَ الدَّيْنِ الزَّوْجَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَأَمْرِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْأَمْرِ فَلَمْ يَصِحَّ وَكَذَا إذَا أَنْفَقَتْ مِنْ مَالِ نَفْسِهَا لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا لَوْ أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا مِنْ النَّفَقَةِ قَبْلَ فَرْضِ الْقَاضِي وَالتَّرَاضِي لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ؛ لِأَنَّهُ إبْرَاءٌ عَمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ مُمْتَنِعٌ وَكَذَا لَوْ صَالَحَتْ زَوْجَهَا عَلَى نَفَقَةٍ وَذَلِكَ لَا يَكْفِيهَا ثُمَّ طَلَبَتْ مِنْ الْقَاضِي مَا يَكْفِيهَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَفْرِضُ لَهَا مَا يَكْفِيهَا؛ لِأَنَّهَا حَطَّتْ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَالْحَطُّ قَبْلَ الْوُجُوبِ بَاطِلٌ كَالْإِبْرَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِوُجُوبِ الْفَرْضِ عَلَى الْقَاضِي وَجَوَازِهِ مِنْهُ شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا طَلَبُ الْمَرْأَةِ الْفَرْضَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْرِضُ النَّفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ حَقًّا لَهَا فَلَا بُدَّ مِنْ الطَّلَبِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ وَالثَّانِي: حَضْرَةُ الزَّوْجِ حَتَّى لَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا فَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَفْرِضَ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةً لَمْ يَفْرِضْ وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي عَالِمًا بِالزَّوْجِيَّةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يَقُولُ: وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ: إنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيَفْرِضُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ عَلَى الْغَائِبِ وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لِهِنْدٍ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» وَذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فَرْضًا لِلنَّفَقَةِ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَ غَائِبًا وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَخِيرِ أَنَّ الْفَرْضَ مِنْ الْقَاضِي عَلَى الْغَائِبِ قَضَاءٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ صَحَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ وَلَمْ يُوجَدْ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا قَالَ لِهِنْدٍ عَلَى سَبِيلِ الْفَتْوَى لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْ لَهَا مَا تَأْخُذُهُ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ وَفَرْضُ النَّفَقَةِ مِنْ الْقَاضِي تَقْدِيرُهَا فَإِذَا لَمْ تُقَدَّرْ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا فَلَمْ تَكُنْ قَضَاءً تَحْقِيقُهُ أَنَّ مَنْ يُجَوِّزُ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ فَإِنَّمَا يُجَوِّزُهُ إذَا كَانَ غَائِبًا

غَيْبَةَ سَفَرٍ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الْمِصْرِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ غَائِبًا وَأَبُو سُفْيَانَ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ إعَانَةً لَا قَضَاءً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي عَالِمًا بِالزَّوْجِيَّةِ فَسَأَلَتْ الْقَاضِيَ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَتَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ وَيَفْرِضَ عَلَى الْغَائِبِ - قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَسْمَعُهَا وَلَا يَفْرِضُ، وَقَالَ زُفَرُ: يَسْمَعُ وَيَفْرِضُ لَهَا وَتَسْتَدِينُ عَلَيْهِ فَإِذَا حَضَرَ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَ يَأْمُرُهَا بِإِعَادَةِ الْبَيِّنَةِ فِي وَجْهِهِ فَإِنْ فَعَلَتْ نُفِّذَ الْفَرْضُ وَصَحَّتْ الِاسْتِدَانَةُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يُنَفَّذْ وَلَمْ يَصِحَّ، وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَسْمَعُ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ لَا لِإِثْبَاتِ النِّكَاحِ عَلَى الْغَائِبِ لِيُقَالَ: إنَّ الْغَيْبَةَ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ بَلْ لِيَتَوَصَّلَ بِهَا إلَى الْفَرْضِ، وَيَجُوزُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ حُكْمٍ دُونَ حُكْمٍ كَشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى السَّرِقَةِ وَأَنَّهَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْمَالِ وَلَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ كَذَا هَهُنَا تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْفَرْضِ لَا فِي إثْبَاتِ النِّكَاحِ فَإِذَا حَضَرَ وَأَنْكَرَ اسْتَعَادَ مِنْهَا الْبَيِّنَةَ فَإِنْ أَعَادَتْ؛ نُفِّذَ الْفَرْضُ وَصَحَّتْ الِاسْتِدَانَةُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا لَا تُسْمَعُ إلَّا عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ وَلَا خَصْمَ فَلَا تُسْمَعُ، وَمَا ذَكَرَهُ زُفَرُ أَنَّ بَيِّنَتَهَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْفَرْضِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْفَرْضِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ثُبُوتِ الزَّوْجِيَّةِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إلَى إثْبَاتِ الزَّوْجِيَّةِ بِالْبَيِّنَةِ سَبِيلٌ لِعَدَمِ الْخَصْمِ؛ لَمْ يَصِحَّ، فَلَا سَبِيلَ إلَى الْقَبُولِ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْفَرْضِ ضَرُورَةً هَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهَا وَهُوَ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ فَلَهَا أَنْ تُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا مِنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي لِحَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ فَلَوْ طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْقَاضِي فَرْضَ النَّفَقَةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ وَعَلِمَ الْقَاضِي بِالزَّوْجِيَّةِ وَبِالْمَالِ فَرَضَ لَهَا النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّ لَهَا أَنْ تَأْخُذَهُ فَتُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ فَرْضِ الْقَاضِي فَلَمْ يَكُنْ الْفَرْضُ مِنْ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ قَضَاءً بَلْ كَانَ إعَانَةً لَهَا عَلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهَا وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ مُودِعِهِ أَوْ مُضَارِبِهِ أَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ مُقِرًّا الْوَدِيعَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ أَوْ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ وَالزَّوْجِيَّةِ أَوْ كَانَ الْقَاضِي عَالِمًا بِذَلِكَ فَرَضَ لَهَا فِي ذَلِكَ الْمَالِ نَفَقَتَهَا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَفْرِضُ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ هَذَا قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ؛ إذْ الْمُودِعُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَلَى الزَّوْجِ وَكَذَا الْمَدْيُونُ فَلَا يَجُوزُ وَلَنَا أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ وَهُوَ الْمُودِعُ إذَا أَقَرَّ الْوَدِيعَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ أَوْ أَقَرَّ الْمَدْيُونُ بِالدَّيْنِ وَالزَّوْجِيَّةِ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ لَهَا حَقَّ الْأَخْذِ وَالِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمُدَّ يَدَهَا إلَى مَالِ زَوْجِهَا فَتَأْخُذَ كِفَايَتَهَا مِنْهُ لِحَدِيثِ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ فَلَمْ يَكُنْ الْقَاضِي فَرَضَ لَهَا النَّفَقَةَ فِي ذَلِكَ الْمَالِ قَضَاءً بَلْ كَانَ إعَانَةً لَهَا عَلَى أَخْذِ حَقِّهَا وَلَهُ عَلَى إحْيَاءِ زَوْجَتِهِ؛ فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ جَحَدَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَلَا عِلْمَ لِلْقَاضِي بِهِ وَلَمْ يَسْمَعْ الْبَيِّنَةَ وَلَمْ يَفْرِضْ؛ لِأَنَّ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ وَالْفَرْضِ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَنْكَرَ الزَّوْجِيَّةَ لَا يُمْكِنُهَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُودِعَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْهُ فِي الزَّوْجِيَّةِ وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَدِيعَةَ أَوْ الدَّيْنَ لَا يُمْكِنُهَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِخَصْمٍ عَنْ زَوْجِهَا فِي إثْبَاتِ حُقُوقِهِ فَكَانَ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا هَذَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ وَالدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ بِأَنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ طَعَامًا أَوْ ثِيَابًا مِنْ جِنْسِ كِسْوَتِهَا فَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ طَلَبَتْ مِنْ الْقَاضِي فَرَضَ النَّفَقَةَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ عَقَارًا لَا يَفْرِضُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ النَّفَقَةِ فِيهِ إلَّا بِالْبَيْعِ وَلَا يُبَاعُ الْعَقَارُ عَلَى الْغَائِبِ فِي النَّفَقَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا مِنْ الْعُرُوضِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ الْخِلَافَ فِيهِ فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَبِيعُ الْعُرُوضَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا: لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا عَلَيْهِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الِاتِّفَاقِ فَقَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا يَبِيعُ عَلَى أَصْلِهِمَا عَلَى الْحَاضِرِ الْمُمْتَنِعِ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِكَوْنِهِ ظَالِمًا فِي الِامْتِنَاعِ دَفْعًا لِظُلْمِهِ وَالْغَائِبُ لَا يُعْلَمُ امْتِنَاعُهُ فَلَا يُعْلَمُ ظُلْمُهُ فَلَا يُبَاعُ عَلَيْهِ وَإِذَا فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا النَّفَقَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَخَذَ مِنْهَا كَفِيلًا فَهُوَ حَسَنٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَحْضُرَ الزَّوْجُ فَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى طَلَاقِهَا أَوْ عَلَى إيفَاءِ حَقِّهَا فِي النَّفَقَةِ عَاجِلًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوْثِقَ فِيمَا يُعْطِيهَا بِالْكَفَالَةِ ثُمَّ إذَا رَجَعَ الزَّوْجُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ لَمْ يُعَجِّلْ لَهَا النَّفَقَةَ؛ فَقَدْ مَضَى الْأَمْرُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَجَّلَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُقِمْ لَهُ بَيِّنَةً وَاسْتَحْلَفَهَا فَنَكَلَتْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْمَرْأَةِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْكَفِيلِ

وَلَوْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ تَعَجَّلَتْ النَّفَقَةَ مِنْ الزَّوْجِ فَإِنَّ الزَّوْجَ يَأْخُذُ مِنْهَا وَلَا يَأْخُذُ مِنْ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّهَا لَا فِي حَقِّ الْكَفِيلِ، وَلَوْ طَلَبَتْ الزَّوْجَةُ مِنْ الْحَاكِمِ أَنْ يَدْفَعَ مَهْرَهَا وَنَفَقَتَهَا مِنْ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ؛ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالنَّفَقَةِ فِي الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ كَانَ نَظَرًا لِلْغَائِبِ لِمَا فِي الْإِنْفَاقِ مِنْ إحْيَاءِ زَوْجَتِهِ بِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَرْضَى بِذَلِكَ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْمَهْرِ وَالدَّيْنِ، وَلَوْ كَانَ الْحَاكِمُ فَرَضَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةَ قَبْلَ غَيْبَتِهِ فَطَلَبَتْ مِنْ الْحَاكِمِ أَنْ يَقْضِيَ لَهَا بِنَفَقَةٍ مَاضِيَةٍ فِي الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ قَضَى لَهَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الْقَضَاءُ بِالنَّفَقَةِ فِي الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنُ يَسْتَوِي فِيهِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلُ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ الْجَوَازِ لَا يَخْتَلِفُ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لِلْغَائِبِ مَالٌ حَاضِرٌ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ فُقَرَاءُ وَكِبَارٌ ذُكُورٌ زَمْنَى فُقَرَاءُ أَوْ إنَاثٌ فَقِيرَاتٌ وَوَالِدَانِ فَقِيرَانِ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي أَيْدِيهِمْ فَلَهُمْ أَنْ يُنْفِقُوا مِنْهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَإِنْ طَلَبُوا مِنْ الْقَاضِي فَرْضَ النَّفَقَةِ مِنْهُ فَرَضَ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ مِنْهُ يَكُونُ إعَانَةً لَا قَضَاءً وَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ مُودِعِهِ أَوْ كَانَ دَيْنًا عَلَى إنْسَانٍ فَرَضَ الْقَاضِي نَفَقَتَهُمْ مِنْهُ وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ الْمُودِعُ وَالْمَدْيُونُ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ وَالنَّسَبِ أَوْ عَلِمَ الْقَاضِي بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ تَجِبُ بِطَرِيقِ الْإِحْيَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرْضَى بِإِحْيَاءِ كُلِّهِ وَجُزْئِهِ مِنْ مَالِهِ وَلِهَذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَى مَالِ الْآخَرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيَأْخُذَهُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ هَهُنَا فَكَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَفْرِضَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْإِعَانَةِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ، وَإِنْ جَحَدَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا وَلَا عِلْمَ لِلْقَاضِي بِهِ لَمْ يَفْرِضْ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الزَّوْجَةِ وَلَا يُفْرَضُ لِغَيْرِهِمَا وَلَا مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ نَفَقَتُهُمْ فِي مَالِ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ مِنْ طَرِيقِ الصِّلَةِ الْمَحْضَةِ؛ إذْ لَيْسَ لَهُمْ حَقٌّ فِي مَالِ الْغَائِبِ أَصْلًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَى مَالِ صَاحِبِهِ فَيَأْخُذَهُ وَإِنْ مَسَّتْ حَاجَتُهُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَكَانَ الْفَرْضُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ؛ فَلَا يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَالُ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ؛ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ عَلَى الْغَائِبِ فِي النَّفَقَةِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْعَقَارَ بِالْإِجْمَاعِ وَالْحُكْمُ فِي الْعُرُوضِ مَا بَيَّنَّا مِنْ الِاتِّفَاقِ أَوْ الِاخْتِلَافِ وَفِي بَيْعِ الْأَبِ الْعُرُوضَ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ فِي نَفَقَةِ الْمَحَارِمِ. وَأَمَّا يَسَارُ الزَّوْجِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْفَرْضِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُعْسِرًا وَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ الْفَرْضَ مِنْ الْقَاضِي فَرَضَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ حَاضِرًا وَتَسْتَدِينُ عَلَيْهِ فَتُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهَا؛ لِأَنَّ الْإِعْسَارَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ هَذِهِ النَّفَقَةِ فَلَا يَمْنَعُ الْفَرْضَ، وَإِذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْقَاضِي فَرْضَ النَّفَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْحَاضِرِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ النُّقْلَةِ وَهِيَ بِحَيْثُ لَا تَمْتَنِعُ مِنْ التَّسْلِيمِ لَوْ طَالَبَهَا بِالتَّسْلِيمِ أَوْ كَانَ امْتِنَاعُهَا بِحَقٍّ - فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا إعَانَةً لَهَا عَلَى الْوُصُولِ إلَى حَقِّهَا الْوَاجِبِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَمَا حَوَّلَهَا إلَى مَنْزِلِهِ فَزَعَمَتْ أَنَّهُ لَيْسَ يُنْفِقُ عَلَيْهَا أَوْ شَكَتْ التَّضْيِيقَ فِي النَّفَقَةِ؛ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ بِالْفَرْضِ وَلَكِنَّهُ يَأْمُرُهُ بِالنَّفَقَةِ وَالتَّوْسِيعِ فِيهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَيَتَأَتَّى فِي الْفَرْضِ وَيَتَوَلَّى الزَّوْجُ الْإِنْفَاقَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الْفَرْضِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّرْكِ وَالتَّضْيِيقِ فِي النَّفَقَةِ فَحِينَئِذٍ يَفْرِضُ عَلَيْهِ نَفَقَةً كُلَّ شَهْرٍ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَدْفَعَ النَّفَقَةَ إلَيْهَا لِتُنْفِقَ هِيَ بِنَفْسِهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَلَوْ قَالَتْ: أَيُّهَا الْقَاضِي إنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَغِيبَ فَخُذْ لِي مِنْهُ كَفِيلًا بِالنَّفَقَةِ لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِلْحَالِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْكَفِيلِ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى التَّكْفِيلِ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ فَكَيْفَ بِغَيْرِ الْوَاجِبِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: لَا أُوجِبُ عَلَيْهِ كَفِيلًا بِنَفَقَةٍ لَمْ تَجِبْ لَهَا بَعْدُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ أَسْتَحْسِنُ أَنْ آخُذَ لَهَا مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفَقَةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ يَجِبُ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ يَمْتَدُّ إلَى شَهْرٍ غَالِبًا وَالْجَوَابُ أَنَّ نَفَقَةَ الشَّهْرِ لَا تَجِبُ قَبْلَ الشَّهْرِ فَكَانَ تَكْفِيلًا بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَوْ أَعْطَاهَا كَفِيلًا جَازَ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَا يَنُوبُ عَلَى فُلَانٍ جَائِزَةٌ. وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ بَيَانُ حُكْمِ صَيْرُورَةِ هَذِهِ النَّفَقَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ فَنَقُولُ إذَا فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا نَفَقَةً كُلَّ شَهْرٍ أَوْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ مَنَعَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ ذَلِكَ أَشْهُرًا غَائِبًا كَانَ أَوْ حَاضِرًا فَلَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِنَفَقَةِ مَا مَضَى؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا بِالْفَرْضِ أَوْ التَّرَاضِي؛ صَارَتْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ بِهَا كَسَائِرِ الدُّيُونِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ إذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ تُؤْخَذْ أَنَّهَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ دَيْنًا رَأْسًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا

فصل في بيان ما يسقط نفقة الزوجة بعد وجوبها وصيرورتها دينا في ذمة الزوج

لِلْكِفَايَةِ وَقَدْ حَصَلَتْ الْكِفَايَةُ فِيمَا مَضَى فَلَا يَبْقَى الْوَاجِبُ كَمَا لَوْ اسْتَغْنَى بِمَالِهِ فَأَمَّا وُجُوبُ هَذِهِ النَّفَقَةِ فَلَيْسَ لِلْكِفَايَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِالْكِفَايَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَجِبُ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ بِأَنْ كَانَتْ مُوسِرَةً وَلَيْسَ فِي مُضِيِّ الزَّمَانِ إلَّا الِاسْتِغْنَاءَ فَلَا يُمْنَعُ بَقَاءُ الْوَاجِبِ، وَلَوْ أَنْفَقَتْ مِنْ مَالِهَا بَعْدَ الْفَرْضِ أَوْ التَّرَاضِي لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَدَانَتْ عَلَى الزَّوْجِ لِمَا قُلْنَا سَوَاءٌ كَانَتْ اسْتِدَانَتُهَا بِإِذْنِ الْقَاضِي أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ غَيْرَ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي؛ كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهَا خَاصَّةً وَلَمْ يَكُنْ لِلْغَرِيمِ أَنْ يُطَالِبَ الزَّوْجَ بِمَا اسْتَدَانَتْ وَإِنْ كَانَتْ بِإِذْنِ الْقَاضِي؛ لَهَا أَنْ تُحِيلَ الْغَرِيمَ عَلَى الزَّوْجِ فَيُطَالِبَهُ بِالدَّيْنِ وَهُوَ فَائِدَةُ إذْنِ الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ، وَلَوْ فَرَضَ الْحَاكِمُ النَّفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ فَامْتَنَعَ مِنْ دَفْعِهَا وَهُوَ مُوسِرٌ وَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ حَبْسَهُ لَهَا أَنْ تَحْبِسَهُ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَمَّا صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ بِالْقَضَاءِ؛ صَارَتْ كَسَائِرِ الدُّيُونِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْبِسَهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ تَقَدَّمَ إلَيْهِ بَلْ يُؤَخِّرُ الْحَبْسَ إلَى مَجْلِسَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ يَعِظُهُ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ يُقَدَّمُ إلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ؛ حَبَسَهُ حِينَئِذٍ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْحَبْسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذَا حُبِسَ لِأَجْلِ النَّفَقَةِ فَمَا كَانَ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ سَلَّمَهُ الْقَاضِي إلَيْهَا بِغَيْرِ رِضَاهُ بِالْإِجْمَاعِ وَمَا كَانَ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ لَا يَبِيعُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَأْمُرُهُ أَنْ يَبِيعَ بِنَفْسِهِ وَكَذَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَبِيعُ عَلَيْهِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الْحَجْرِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ قَدْ أَعْطَاهَا النَّفَقَةَ وَأَنْكَرَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي قَضَاءَ دَيْنٍ عَلَيْهِ وَهِيَ مُنْكِرَةٌ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ، وَلَوْ أَعْطَاهَا الزَّوْجُ مَالًا فَاخْتَلَفَا فَقَالَ الزَّوْجُ: هُوَ مِنْ الْمَهْرِ وَقَالَتْ هِيَ: هُوَ مِنْ النَّفَقَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ إلَّا أَنْ تُقِيمَ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْهُ فَكَانَ هُوَ أَعْرَفَ بِجِهَةِ التَّمْلِيكِ كَمَا لَوْ بَعَثَ إلَيْهَا شَيْئًا فَقَالَتْ: هُوَ هَدِيَّةٌ، وَقَالَ: هُوَ مِنْ الْمَهْرِ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُهُ إلَّا فِي الطَّعَامِ الَّذِي يُؤْكَلُ - لِمَا قُلْنَا - كَذَا هَذَا، وَلَوْ كَانَ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا دَيْنٌ فَاحْتَسَبَتْ عَنْ نَفَقَتِهَا؛ جَازَ لَكِنْ بِرِضَا الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ التَّقَاصُرَ إنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الدَّيْنَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ بَيْنَ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ وَدَيْنُ الزَّوْجِ أَقْوَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَدَيْنُ النَّفَقَةِ يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فَاشْتَبَهَ الْجَيِّدُ بِالرَّدِيءِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُقَاصَّةِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الدُّيُونِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يُسْقِطُ نَفَقَة الزَّوْجَة بَعْدَ وُجُوبِهَا وَصَيْرُورَتِهَا دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا وَصَيْرُورَتِهَا دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ فَالْمُسْقِطُ لَهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ قِيلَ صَيْرُورَتُهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَاحِدٌ وَهُوَ مُضِيُّ الزَّمَانِ مِنْ غَيْرِ فَرْضِ الْقَاضِي وَالتَّرَاضِي. وَأَمَّا الْمُسْقِطُ لَهَا بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فَأُمُورٌ: مِنْهَا الْإِبْرَاءُ عَنْ النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ كَانَ الْإِبْرَاءُ إسْقَاطًا لِدَيْنٍ وَاجِبٍ فَيَصِحُّ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ، وَلَوْ أَبْرَأَتْهُ عَمَّا يُسْتَقْبَلُ مِنْ النَّفَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ؛ لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الزَّمَانِ فَكَانَ الْإِبْرَاءُ مِنْهَا إسْقَاطَ الْوَاجِبِ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ أَيْضًا وَهُوَ حَقُّ الْحَبْسِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الزَّمَانِ؛ فَلَمْ يَصِحَّ وَكَذَا يَصِحُّ هِبَةُ النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ يَكُونُ إبْرَاءً عَنْهُ فَيَكُونُ إسْقَاطَ دَيْنٍ وَاجِبٍ فَيَصِحُّ وَلَا تَصِحُّ هِبَةُ مَا يُسْتَقْبَلُ لِمَا قُلْنَا. وَمِنْهَا: مَوْتُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى لَوْ مَاتَ الرَّجُلُ قَبْلَ إعْطَاءِ النَّفَقَةِ لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَهَا مِنْ مَالِهِ، وَلَوْ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهَا أَنْ يَأْخُذُوا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الصِّلَةِ وَالصِّلَةُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْهِبَةِ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ أَسَلَفَهَا نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ تَرْجِعْ وَرَثَتُهُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ سَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا أَوْ مُسْتَهْلَكًا، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَتْ هِيَ لَمْ يَرْجِعْ الزَّوْجُ فِي تَرِكَتِهَا عِنْدَهُمَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهَا حِصَّةُ مَا مَضَى مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَيَجِبُ رَدُّ الْبَاقِي إنْ كَانَ قَائِمًا وَإِنْ كَانَ هَالِكًا فَلَا شَيْءَ بِالْإِجْمَاعِ، وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ قَبَضَتْ نَفَقَةَ شَهْرٍ فَمَا دُونَهُ؛ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ وَإِنْ كَانَ الْمَفْرُوضُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَرْفَعُ عَنْهَا نَفَقَةَ شَهْرٍ وَرَدَّتْ مَا بَقِيَ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الشَّهْرَ فَمَا دُونَهُ فِي حُكْمِ الْقَلِيلِ فَصَارَ كَنَفَقَةِ الْحَالِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الْكَثِيرِ فَيَثْبُتُ بِهِ الرُّجُوعُ كَالدَّيْنِ، وَجْهُ ظَاهِرِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ تُشْبِهُ الْأَعْوَاضَ فَتَسْلَمُ لَهَا بِقَدْرِ مَا سَلِمَ لِلزَّوْجِ مِنْ الْمُعَوَّضِ كَالْإِجَارَةِ إذَا عَجَّلَ الْمُسْتَأْجِرُ الْأُجْرَةَ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا

فصل في نفقة الأقارب

قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذِهِ صِلَةٌ اتَّصَلَ بِهَا الْقَبْضُ فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا الرُّجُوعُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَسَائِرِ الصِّلَاتِ الْمَقْبُوضَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهَا تُشْبِهُ الْأَعْوَاضَ فَنَعَمْ لَكِنْ بِوَصْفِهَا لَا بِأَصْلِهَا بَلْ هِيَ صِلَةٌ بِأَصْلِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصِّلَةِ فَيُرَاعِي فِيهَا الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا فَرَاعَيْنَا مَعْنَى الْأَصْلِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَقُلْنَا: إنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا الرُّجُوعُ اعْتِبَارًا لِلْأَصْلِ وَرَاعَيْنَا مَعْنَى الْوَصْفِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَقُلْنَا: إنَّهَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالصِّلَاتِ وَرَاعَيْنَا مَعْنَى الْوَصْفِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَقُلْنَا: لَا يَثْبُتُ فِيهَا الرُّجُوعُ كَالْأَعْوَاضِ اعْتِبَارًا لِلْأَصْلِ وَالْوَصْفِ جَمِيعًا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْعَمَلِ بِالشَّبَهَيْنِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ فَالْكَلَامُ فِيهَا أَيْضًا يَقَعُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَهِيَ بَيَانُ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ وَسَبَبُ وُجُوبِهَا وَشَرْطُ الْوُجُوبِ وَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ وَكَيْفِيَّةُ الْوُجُوبِ وَمَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ بَيَانُ الْوُجُوبِ فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ الْقَرَابَاتِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْقَرَابَةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: قَرَابَةُ الْوِلَادَةِ، وَقَرَابَةُ غَيْرِ الْوِلَادَةِ وَقَرَابَةُ غَيْرِ الْوِلَادَةِ نَوْعَانِ أَيْضًا: قَرَابَةٌ مُحَرِّمَةٌ لِلنِّكَاحِ كَالْأُخُوَّةِ وَالْعُمُومَةِ وَالْخُؤُولَةِ وَقَرَابَةٌ غَيْرُ مُحَرِّمَةٍ لِلنِّكَاحِ كَقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ وَأَمَّا نَفَقَةُ الْوَالِدَيْنِ فَلِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] أَيْ: أَمَرَ رَبُّك وَقَضَى أَنْ لَا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ. أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَوَصَّى بِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا، وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا حَالَ فَقْرِهِمَا مِنْ أَحْسَنِ الْإِحْسَانِ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] وقَوْله تَعَالَى {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] وَالشُّكْرُ لِلْوَالِدَيْنِ هُوَ الْمُكَافَأَةُ لَهُمَا أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْوَلَدَ أَنْ يُكَافِئَ لَهُمَا وَيُجَازِيَ بَعْضَ مَا كَانَ مِنْهُمَا إلَيْهِ مِنْ التَّرْبِيَةِ وَالْبِرِّ وَالْعَطْفِ عَلَيْهِ وَالْوِقَايَةِ مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَمَكْرُوهٍ وَذَلِكَ عِنْدَ عَجْزِهِمَا عَنْ الْقِيَامِ بِأَمْرِ أَنْفُسِهِمَا وَالْحَوَائِجِ لَهُمَا وَإِدْرَارُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمَا حَالَ عَجْزِهِمَا وَحَاجَتِهِمَا مِنْ بَابِ شُكْرِ النِّعْمَةِ فَكَانَ وَاجِبًا وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] وَهَذَا فِي الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ فَالْمُسْلِمَانِ أَوْلَى وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الْحَاجَةِ مِنْ أَعْرَفِ الْمَعْرُوفِ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] وَأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ كَلَامٍ فِيهِ ضَرْبُ إيذَاءٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْنَى التَّأَذِّي بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا عِنْدَ عَجْزِهِمَا وَقُدْرَةِ الْوَلَدِ أَكْثَرُ فَكَانَ النَّهْيُ عَنْ التَّأْفِيفِ نَهْيًا عَنْ تَرْكِ الْإِنْفَاقِ دَلَالَةً، كَمَا كَانَ نَهْيًا عَنْ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ دَلَالَةً. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ أَبُوهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي مَالًا وَإِنَّ لِي أَبًا وَلَهُ مَالٌ وَإِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مَالِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك» أَضَافَ مَالَ الِابْنِ إلَى الْأَبِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلْأَبِ فِي مَالِ ابْنِهِ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ فَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ الْحَقِيقَةُ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حَقُّ التَّمْلِيكِ عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ إذَا احْتَجْتُمْ إلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ» وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ بِأَوَّلِهِ وَآخِرِهِ أَمَّا بِآخِرِهِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَطْلَقَ لِلْأَبِ الْأَكْلَ مِنْ كَسْبِ وَلَدِهِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْإِذْنِ وَالْعِوَضِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ. وَأَمَّا بِأَوَّلِهِ فَلِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ أَيْ: كَسْبُ وَلَدِهِ مِنْ كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ كَسْبَ الرَّجُلِ أَطْيَبَ الْمَأْكُولِ وَالْمَأْكُولُ كَسْبُهُ لَا نَفْسُهُ وَإِذَا كَانَ كَسْبُ وَلَدِهِ كَسْبَهُ كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْإِنْسَانِ فِي كَسْبِهِ وَلِأَنَّ وَلَدَهُ لَمَّا كَانَ مِنْ كَسْبِهِ؛ كَانَ كَسْبُ وَلَدِهِ كَكَسْبِهِ وَكَسْبُ كَسْبِ الْإِنْسَانِ كَسْبُهُ، كَكَسْبِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِيهِ. وَأَمَّا نَفَقَةُ الْوَلَدِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] إلَى قَوْلِهِ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] أَيْ: رِزْقُ الْوَالِدَاتِ الْمُرْضِعَاتِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْوَالِدَاتِ الْمُرْضِعَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ الْمُنْقَضِيَاتِ الْعِدَّةِ؛ فَفِيهَا إيجَابُ نَفَقَةِ الرَّضَاعِ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ وَهُوَ الْأَبُ لِأَجْلِ الْوَلَدِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ (هُنَّ) الْمَنْكُوحَاتِ أَوْ الْمُطَلَّقَاتِ الْمُعْتَدَّاتِ فَإِنَّمَا ذَكَرَ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ فِي حَالِ الرَّضَاعِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى فَضْلِ إطْعَامٍ وَفَضْلِ كِسْوَةٍ لِمَكَانِ الرَّضَاعِ. أَلَا تَرَى أَنَّ لَهَا أَنْ تُفْطِرَ لِأَجْلِ الرَّضَاعِ إذَا كَانَتْ صَائِمَةً لِزِيَادَةِ حَاجَتِهَا إلَى الطَّعَامِ بِسَبَبِ

فصل في سبب وجوب هذه النفقة

الْوَلَدِ وَلِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عِنْدَ الْحَاجَةَ مِنْ بَابِ إحْيَاءِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ وَالْوَلَدُ جُزْءُ الْوَالِدِ وَإِحْيَاءُ نَفْسِهِ وَاجِبٌ كَذَا إحْيَاءُ جُزْئِهِ وَاعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ النَّفَقَةَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْقَرَابَةَ مُفْتَرَضَةُ الْوَصْلِ مُحَرَّمَةُ الْقَطْعِ بِالْإِجْمَاعِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ بَابِ الصِّلَةِ فَكَانَ وَاجِبًا وَتَرْكُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ لِلْمُنْفِقِ وَتَحَقُّقِ حَاجَةِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ يُؤَدِّي إلَى الْقَطْعِ فَكَانَ حَرَامًا وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهَا فِي الْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلنِّكَاحِ سِوَى قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا: تَجِبُ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تَجِبُ غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا يَقُولُ: لَا نَفَقَةَ إلَّا عَلَى الْأَبِ لِلِابْنِ وَالِابْنِ لِلْأَبِ حَتَّى قَالَ: لَا نَفَقَةَ عَلَى الْجَدِّ لِابْنِ الِابْنِ وَلَا عَلَى ابْنِ الِابْنِ لِلْجَدِّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ عَلَى الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَرَابَةَ مُفْتَرَضَةُ الْوَصْلِ مُحَرَّمَةُ الْقَطْعِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُمَا وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي الْعِتْقُ عِنْدَ الْمِلْكِ، وَوُجُوبُ الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْعَتَاقِ نَذْكُرُهَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَبِ لَا غَيْرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] فَمَنْ كَانَ مِثْلَ حَالِهِ فِي الْقُرْبِ يَلْحَقُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا وَلَا يُقَالُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَرَفَ قَوْلَهُ ذَلِكَ إلَى تَرْكِ الْمُضَارَّةِ لَا إلَى النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ؛ فَكَانَ مَعْنَاهُ لَا يُضَارُّ الْوَارِثُ بِالْيَتِيمِ كَمَا لَا تُضَارُّ الْوَالِدَةُ وَالْمَوْلُودُ لَهُ بِوَلَدِهِمَا وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ لَا غَيْرُ، لَا عَلَى تَرْكِ الْمُضَارَّةِ مَعْنَاهُ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ مَا عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ؛ وَمِصْدَاقُ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ لَوْ جُعِلَ عَطْفًا عَلَى هَذَا؛ لَكَانَ عَطْفَ الِاسْمِ عَلَى الِاسْمِ وَإِنَّهُ شَائِعٌ، وَلَوْ عُطِفَ عَلَى تَرْكِ الْمُضَارَّةِ لَكَانَ عَطْفَ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ؛ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَلِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ {لا تُضَارَّ} [البقرة: 233] لَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: وَالْوَارِثُ مِثْلُ ذَلِكَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَطَفُوا عَلَى الْكُلِّ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَتَرْكِ الْمُضَارَّةِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ مَعْطُوفٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بِحَرْفِ الْوَاوِ وَإِنَّهُ حَرْفُ جَمْعٍ فَيَصِيرُ الْكُلُّ مَذْكُورًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَنْصَرِفُ قَوْلُهُ ذَلِكَ إلَى الْكُلِّ أَيْ: عَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَأَنَّهُ لَا يُضَارُّهَا، وَلَا تُضَارُّهُ فِي النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا وَبِهِ تَبَيَّنَ رُجْحَانُ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ عَلَى تَأْوِيلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَلَى أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَابَعَهُ لَا يَنْفِي وُجُوبَ النَّفَقَةِ عَلَى الْوَارِثِ بَلْ يُوجِبُ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] نَهَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ الْمُضَارَّةِ مُطْلَقًا فِي النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا فَإِذَا كَانَ مَعْنَى إضْرَارِ الْوَالِدِ الْوَالِدَةَ بِوَلَدِهَا بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا أَوْ بِانْتِزَاعِ الْوَلَدِ مِنْهَا وَقَدْ أُمِرَ الْوَارِثُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] أَنَّهُ لَا يُضَارُّهَا؛ فَإِنَّمَا يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى مِثْلِ مَا لَزِمَ الْأَبَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَجِبَ عَلَى الْوَارِثِ أَنْ يَسْتَرْضِعَ الْوَالِدَةَ بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا وَلَا يُخْرِجُ الْوَلَدَ مِنْ يَدِهَا إلَى يَدِ غَيْرِهَا إضْرَارًا بِهَا وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ عَلَى كُلِّ وَارِثٍ أَوْ عَلَى مُطْلَقِ الْوَارِثِ إلَّا مَنْ خُصَّ أَوْ قُيِّدَ بِدَلِيلٍ. وَأَمَّا الْقَرَابَةُ الَّتِي بِمُحَرِّمَةٍ لِلنِّكَاحِ فَلَا نَفَقَةَ فِيهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ وَارِثٍ وَوَارِثٍ، وَإِنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ مِنْ الْوَارِثِ الْأَقَارِبُ الَّذِي لَهُ رَحِمٌ مَحْرَمٌ لَا مُطْلَقُ الْوَارِثِ، عَرَفْنَا ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذَلِكَ وَلِأَنَّ وُجُوبَهَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مَعْلُولًا بِكَوْنِهَا صِلَةَ الرَّحِمِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ الْقَطِيعَةِ فَيَخْتَصُّ وُجُوبُهَا بِقَرَابَةٍ يَجِبُ وَصْلُهَا وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا وَلَمْ تُوجَدْ؛ فَلَا تَجِبُ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ عِنْدَ الْمِلْكِ وَلَا يَحْرُمُ النِّكَاحُ وَلَا يُمْنَعُ وُجُوبُ الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي سَبَبُ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ أَمَّا نَفَقَةُ الْوِلَادَةِ فَسَبَبُ وُجُوبِهَا هُوَ الْوِلَادَةُ؛ لِأَنَّ بِهِ تَثْبُتُ الْجُزْئِيَّةُ وَالْبَعْضِيَّةُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَى الْمُحْتَاجِ إحْيَاءٌ لَهُ وَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ إحْيَاءُ كُلِّهِ وَجُزْئِهِ وَإِنْ شِئْت قُلْت: سَبَبُ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ فِي الْوِلَادَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ هُوَ الْقَرَابَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَرُمَ قَطْعُهَا يَحْرُمُ كُلُّ سَبَبٍ مُفْضٍ إلَى الْقَطْعِ. وَتَرْكُ الْإِنْفَاقِ مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مَعَ قُدْرَتِهِ وَحَاجَةِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ تُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ فَيَحْرُمُ التَّرْكُ وَإِذَا حَرُمَ التَّرْكُ؛ وَجَبَ الْفِعْلُ ضَرُورَةً وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: الْحَالُ فِي الْقَرَابَةِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّفَقَةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ حَالَ الِانْفِرَادِ وَإِمَّا إنْ كَانَتْ حَالَ

الِاجْتِمَاعِ فَإِنْ كَانَتْ حَالَ الِانْفِرَادِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ إلَّا وَاحِدًا تَجِبُ كُلُّ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ كُلِّ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ وَالرَّحِمُ الْمَحْرَمُ وَشَرْطُهُ مِنْ غَيْرِ مُزَاحِمٍ، وَإِنْ كَانَتْ حَالَ الِاجْتِمَاعِ فَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ؛ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَقْرَبِ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ فَفِي قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ يُطْلَبُ التَّرْجِيحُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَتَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَى مَنْ وُجِدَ فِي حَقِّهِ نَوْعُ رُجْحَانٍ فَلَا تَنْقَسِمُ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَارِثًا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ التَّرْجِيحُ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا. وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ أَحَدَهُمَا وَالْآخَرُ مَحْجُوبًا؛ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْوَارِثِ وَيُرَجَّحُ بِكَوْنِهِ وَارِثًا وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَارِثًا فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ تَجِبُ بِحَقِّ الْوِلَادَةِ لَا بِحَقِّ الْوِرَاثَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] عَلَّقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وُجُوبَهَا بِاسْمِ الْوِلَادَةِ، وَفِي غَيْرِهَا مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ تَجِبُ بِحَقِّ الْوِرَاثَةِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] عَلَّقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الِاسْتِحْقَاقَ بِالْإِرْثِ فَتَجِبُ بِقَدْرِ الْمِيرَاثِ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ مَنْ أَوْصَى لِوَرَثَةِ فُلَانٍ وَلَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ فَالْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلَوْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ؛ كَانَ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءً فَدَلَّ بِهِ مَا ذَكَرْنَا. وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ إذَا كَانَ لَهُ ابْنٌ وَابْنُ ابْنٍ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الِابْنِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ، وَلَوْ كَانَ الِابْنُ مُعْسِرًا وَابْنُ الِابْنِ مُوسِرًا فَالنَّفَقَةُ عَلَى الِابْنِ أَيْضًا إذَا لَمْ يَكُنْ زَمِنًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَقْرَبُ وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبْعَدِ مَعَ قِيَامِ الْأَقْرَبِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُ ابْنَ الِابْنِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ إذَا أَيْسَرَ فَيَصِيرُ الْأَبْعَدُ نَائِبًا عَنْ الْأَقْرَبِ فِي الْأَدَاءِ، وَلَوْ أَدَّى بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي لَمْ يَرْجِعْ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَبٌ وَجَدٌّ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ لَا عَلَى الْجَدِّ؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَقْرَبُ، وَلَوْ كَانَ الْأَبُ مُعْسِرًا وَالْجَدُّ مُوسِرًا فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْأَبِ أَيْضًا إذَا لَمْ يَكُنْ زَمِنًا لَكِنْ يُؤْمَرُ الْجَدُّ بِأَنْ يُنْفِقَ ثُمَّ يَرْجِعَ عَلَى الْأَبِ إذَا أَيْسَرَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَبٌ وَابْنُ ابْنٍ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَبُ مُعْسِرًا غَيْرَ زَمِنٍ وَابْنُ الِابْنِ مُوسِرًا فَإِنَّهُ يُؤَدِّي عَنْ الْأَبِ بِأَمْرِ الْقَاضِي ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا أَيْسَرَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَبٌ وَابْنٌ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الِابْنِ لَا عَلَى الْأَبِ وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ وَالْوِرَاثَةِ وَيَرْجِعُ الِابْنُ بِالْإِيجَابِ عَلَيْهِ؛ لِكَوْنِهِ كَسْبَ الْأَبِ فَيَكُونُ لَهُ حَقًّا فِي كَسْبِهِ وَكَوْنِ مَالِهِ مُضَافًا إلَيْهِ شَرْعًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» وَلَا يُشَارِكُ الْوَلَدَ فِي نَفَقَةِ وَالِدِهِ أَحَدٌ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا فِي نَفَقَة وَالِدَتِهِ لِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي السَّبَبِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ، وَالِاخْتِصَاصُ بِالسَّبَبِ يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِالْحُكْمِ وَكَذَا لَا يُشَارِكُ الْإِنْسَانَ أَحَدٌ فِي نَفَقَةِ جَدِّهِ وَجَدَّتِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ وَالْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَالْجَدَّةُ تَقُومُ مَقَامَ الْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِهَا. وَلَوْ كَانَ لَهُ ابْنَانِ فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ وَكَذَا إذَا كَانَ لَهُ ابْنٌ وَبِنْتٌ وَلَا يُفَضِّلُ الذَّكَرَ عَلَى الْأُنْثَى فِي النَّفَقَةِ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ بِنْتٌ وَأُخْتٌ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْبِنْتِ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ لَهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تُعْتَبَرُ بِالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْأُخْتَ تَرِثُ مَعَ الْبِنْتِ وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهَا مَعَ الْبِنْتِ وَلَا تَجِبُ عَلَى الِابْنِ نَفَقَةُ مَنْكُوحَةِ أَبِيهِ؛ لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَبُ مُحْتَاجًا إلَى مَنْ يَخْدُمُهُ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤْمَرُ بِخِدْمَةِ الْأَبِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْأَجِيرِ، وَلَوْ كَانَ لِلصَّغِيرِ أَبَوَانِ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْأَبِ لَا عَلَى الْأُمِّ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ وَالْوِلَادَةِ وَلَا يُشَارِكُ الْأَبَ فِي نَفَقَةِ وَلَدِهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الْأَبَ بِتَسْمِيَتِهِ بِكَوْنِهِ مَوْلُودًا لَهُ وَأَضَافَ الْوَلَدَ إلَيْهِ فَاللَّامُ الْمِلْكِ وَخَصَّهُ بِإِيجَابِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233] أَيْ رِزْقُ الْوَالِدَاتِ الْمُرْضِعَاتِ سَمَّى الْأُمَّ وَالِدَةً وَالْأَبَ مَوْلُودًا لَهُ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] خَصَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأَبَ بِإِيتَاءِ أَجْرِ الرَّضَاعِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَكَذَا أَوْجَبَ فِي الْآيَتَيْنِ كُلَّ نَفَقَةِ الرَّضَاعِ عَلَى الْأَبِ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَلَيْسَ وَرَاءَ الْكُلِّ شَيْءٌ وَلَا يُقَالُ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233] ثُمَّ قَالَ {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وَالْأُمُّ وَارِثَةٌ فَيَقْتَضِي أَنْ تُشَارِكَ فِي النَّفَقَةِ كَسَائِرِ الْوَرَثَةِ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَكَمَنْ قَالَ: أَوْصَيْت لِفُلَانٍ مِنْ مَالِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَوْصَيْت لِفُلَانٍ مِثْلَ ذَلِكَ وَلَمْ تَخْرُجْ الْوَصِيَّتَانِ مِنْ الثُّلُثِ أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ كَذَا هَذَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ بِقَوْلِهِ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233] تَعَذَّرَ إيجَابُهَا عَلَى الْأُمِّ

حَالَ قِيَامِ الْأَبِ فَيُحْمَلُ عَلَى حَالِ عَدَمِهِ لِيَكُونَ عَمَلًا بِالنَّصِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الْحَالَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُ هَذَا فِي سَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَفِي بَابِ الْوَصِيَّةِ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْوَصِيَّتَيْنِ فِي حَالَيْنِ وَقَدْ ضَاقَ الْمَحَلُّ عَنْ قَبُولِهِمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِالشَّرِكَةِ ضَرُورَةً، وَلَوْ كَانَ الْأَبُ مُعْسِرًا غَيْرَ عَاجِزٍ عَنْ الْكَسْبِ وَالْأُمُّ مُوسِرَةً فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ لَكِنْ تُؤْمَرُ الْأُمُّ بِالنَّفَقَةِ ثُمَّ تَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْأَبِ إذَا أَيْسَرَ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ إذَا أَنْفَقَتْ بِأَمْرِ الْقَاضِي، وَلَوْ كَانَ لِلصَّغِيرِ أَبٌ وَأُمُّ أُمٍّ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَبِ وَالْحَضَانَةُ عَلَى الْجَدَّةِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ لَمَّا لَمْ تُشَارِكْ الْأَبَ فِي نَفَقَةِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ مَعَ قُرْبِهَا؛ فَالْجَدَّةُ مَعَ بُعْدِهَا أَوْلَى هَذَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا فَقِيرًا وَلَهُ أَبَوَانِ مُوسِرَانِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ كَبِيرًا وَهُوَ ذَكَرٌ فَقِيرٌ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ نَفَقَتَهُ أَيْضًا عَلَى الْأَبِ خَاصَّةً، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ عَلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا عَلَى الْأَبِ وَثُلُثُهَا عَلَى الْأُمِّ، وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ أَنَّ الْأَبَ إنَّمَا خُصَّ بِإِيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْوِلَايَةِ وَقَدْ زَالَتْ وِلَايَتُهُ بِالْبُلُوغِ فَيَزُولُ الِاخْتِصَاصُ فَتَجِبُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا، وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ تَخْصِيصَ الْأَبِ بِالْإِيجَابِ حَالَ الصِّغَرِ لِاخْتِصَاصِهِ بِتَسْمِيَتِهِ بِكَوْنِهِ مَوْلُودًا لَهُ وَهَذَا ثَابِتٌ بَعْدَ الْكِبَرِ فَيَخْتَصُّ بِنَفَقَتِهِ كَالصِّغَرِ، وَاعْتِبَارُ الْوِلَايَةِ وَالْإِرْثِ فِي هَذِهِ النَّفَقَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَلَا وِلَايَةَ وَلَا إرْثَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَلَا يُشَارِكُ الْجَدَّ أَحَدٌ فِي نَفَقَةِ وَلَدِ وَلَدِهِ عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ وَلَدِهِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَلَا يُشَارِكُ الزَّوْجَ فِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي سَبَبِ وُجُوبِهَا وَهُوَ حَقُّ الْحَبْسِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ، حَتَّى لَوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ مُعْسِرٌ وَابْنٌ مُوسِرٌ مِنْ غَيْرِ هَذَا الزَّوْجِ أَوْ أَبٌ مُوسِرٌ أَوْ أَخٌ مُوسِرٌ؛ فَنَفَقَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ لَا عَلَى الْأَبِ وَالِابْنِ وَالْأَخِ، لَكِنْ يُؤْمَرُ الْأَبُ أَوْ الِابْنُ أَوْ الْأَخُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا ثُمَّ يَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ إذَا أَيْسَرَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ جَدٌّ وَابْنُ ابْنٍ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا فِي الْقَرَابَةِ وَالْوِرَاثَةِ سَوَاءٌ وَلَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَكَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ: السُّدُسُ عَلَى الْجَدِّ وَالْبَاقِي عَلَى ابْنِ الِابْنِ كَالْمِيرَاثِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أُمٌّ وَجَدٌّ كَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا: الثُّلُثُ عَلَى الْأُمِّ وَالثُّلُثَانِ عَلَى الْجَدِّ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ أُمٌّ وَأَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ ابْنُ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ عَمٌّ لِأُمٍّ وَأَبٍ أَوْ لِأَبٍ؛ كَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا: ثُلُثُهَا عَلَى الْأُمِّ وَالثُّلُثَانِ عَلَى الْأَخِ وَابْنِ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ؛ كَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخٌ لِأُمٍّ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَسْدَاسًا سُدُسُهَا عَلَى الْأَخِ لِأُمٍّ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِهَا عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَلَوْ كَانَ لَهُ جَدٌّ وَجَدَّةٌ كَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَسْدَاسًا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَعَمَّةٌ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْعَمِّ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلْقَطْعِ، وَالْعَمُّ هُوَ الْوَارِثُ فَيُرَجَّحُ بِكَوْنِهِ وَارِثًا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَخَالٌ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمَّةٌ وَخَالَةٌ أَوْ خَالٌ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا: ثُلُثَاهَا عَلَى الْعَمَّةِ وَالثُّلُثُ عَلَى الْخَالِ أَوْ الْخَالَةِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ خَالٌ وَابْنُ عَمٍّ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْخَالِ لَا عَلَى ابْنِ الْعَمِّ؛ لِأَنَّهُمَا مَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الرَّحِمُ الْمُحَرِّمُ لِلْقَطْعِ؛ إذْ الْخَالُ هُوَ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَاسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ لِلتَّرْجِيحِ وَالتَّرْجِيحُ يَكُونُ بَعْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي رُكْنِ الْعِلَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمَّةٌ وَخَالَةٌ وَابْنُ عَمٍّ فَعَلَى الْخَالَةِ الثُّلُثُ وَعَلَى الْعَمَّةِ الثُّلُثَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ فَيَكُونُ النَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ وَلَا شَيْءَ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الْقَرَابَةُ الْمُحَرِّمَةُ الْقَطْعِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ وَابْنُ عَمٍّ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَخَوَاتِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَسَهْمٌ عَلَى الْأُخْتِ لِأُمٍّ وَسَهْمٌ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ وَلَا يُعْتَدُّ بِابْنِ الْعَمِّ فِي النَّفَقَةِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي حَقِّهِ فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا الْأَخَوَاتُ وَمِيرَاثُهُ لَهُنَّ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ كَذَا النَّفَقَةُ عَلَيْهِنَّ، وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَعَلَى الْأَخِ لِلْأُمِّ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ أَسْدَاسًا؛ لِأَنَّ الْأَخَ لَا يَرِثُ مَعَهُمَا فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَعَمَّةٌ وَخَالَةٌ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْعَمِّ؛ لِأَنَّ الْعَمَّ مُسَاوٍ لَهُمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الرَّحِمُ وَفَضَلَهُمَا بِكَوْنِهِ وَارِثًا؛ إذْ الْمِيرَاثُ لَهُ لَا لَهُمَا فَكَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ لَا عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْعَمُّ مُعْسِرًا فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ كَالْمَيِّتِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ يَحُوزُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ

فصل في شرائط وجوب هذه النفقة

وَهُوَ مُعْسِرٌ يُجْعَلُ كَالْمَيِّتِ وَإِذَا جُعِلَ كَالْمَيِّتِ؛ كَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَى الْبَاقِينَ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ وَكُلُّ مَنْ كَانَ يَحُوزُ بَعْضَ الْمِيرَاثِ لَا يُجْعَلُ كَالْمَيِّتِ فَكَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِ مَنْ يَرِثُ مَعَهُ بَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ: رَجُلٌ مُعْسِرٌ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ وَلَهُ ابْنٌ مُعْسِرٌ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ أَوْ هُوَ صَغِيرٌ وَلَهُ ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ فَنَفَقَةُ الْأَبِ عَلَى أَخِيهِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَعَلَى أَخِيهِ لِأُمِّهِ أَسْدَاسًا: سُدُسُ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَخِ لِأُمٍّ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِهَا عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْأَبَ يَحُوزُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ فَيُجْعَلُ كَالْمَيِّتِ فَيَكُونُ نَفَقَةُ الْأَبِ عَلَى الْأَخَوَيْنِ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا مِنْهُ وَمِيرَاثِهِمَا مِنْ الْأَبِ هَذَا فَأَمَّا الِابْنُ فَوَارِثُهُ الْعَمُّ لِأَبٍ وَأُمٍّ لَا الْعَمُّ لِأَبٍ وَلَا الْعَمُّ لِأُمٍّ؛ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى عَمِّهِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَلَوْ كَانَ لِلرَّجُلِ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِنَّ أَخْمَاسًا: ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهَا عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَخُمْسٌ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ وَخُمْسٌ عَلَى الْأُخْتِ لِأُمٍّ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِنَّ وَنَفَقَةُ الِابْنِ عَلَى عَمَّتِهِ لِأَبٍ وَأُمٍّ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْوَارِثَةُ مِنْهُ لَا غَيْرُ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الِابْنِ بِنْتٌ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا؛ فَنَفَقَةُ الْأَبِ فِي الْإِخْوَةِ الْمُتَفَرِّقِينَ عَلَى أَخِيهِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَفِي الْأَخَوَاتِ الْمُتَفَرِّقَاتِ عَلَى أُخْتِهِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ؛ لِأَنَّ الْبِنْتَ لَا تَحُوزُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ تُجْعَلَ كَالْمَيِّتَةِ فَكَانَ الْوَارِثُ مَعَهَا الْأَخَ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لَا غَيْرُ وَالْأُخْتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ الْأَخَ وَالْأُخْتَ لِأُمٍّ لَا يَرِثَانِ مَعَ الْوَلَدِ وَالْأَخُ لِأَبٍ لَا يَرِثُ مَعَ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْأُخْتُ لِأَبٍ لَا تَرِثُ مَعَ الْبِنْتِ وَالْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ؛ لِأَنَّ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ وَفِي الْعَصَبَاتِ يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ فَكَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا وَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْبِنْتِ عَلَى الْعَمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ عَلَى الْعَمَّةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ؛ لِأَنَّهُمَا وَارِثَاهَا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ الْإِيجَابُ لِلنَّفَقَةِ عَلَى الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ إلَّا بِجَعْلِ الِابْنِ كَالْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ يَحُوزُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى أَنْ يُجْعَلَ مَيِّتًا حُكْمًا، وَلَوْ كَانَ الِابْنُ مَيِّتًا كَانَ مِيرَاثُ الْأَبِ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَلِلْأَخِ لِأُمٍّ أَسْدَاسًا وَلِلْأَخَوَاتِ أَخْمَاسًا، فَكَذَا النَّفَقَةُ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ] وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُنْفِقِ خَاصَّةً، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِمَا أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ خَاصَّةً فَأَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا إعْسَارُهُ فَلَا تَجِبُ لِمُوسِرٍ عَلَى غَيْرِهِ نَفَقَةٌ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ وَغَيْرِهَا مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا مَعْلُولٌ بِحَاجَةِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ فَلَا تَجِبُ لِغَيْرِ الْمُحْتَاجِ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ غَنِيًّا لَا يَكُونُ هُوَ بِإِيجَابِ النَّفَقَةِ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى مِنْ الْإِيجَابِ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ فَيَقَعُ التَّعَارُضُ فَيَمْتَنِعُ الْوُجُوبُ بَلْ إذَا كَانَ مُسْتَغْنًى بِمَالِهِ كَانَ إيجَابُ النَّفَقَةِ فِي مَالِهِ أَوْلَى مِنْ إيجَابِهَا فِي مَالِ غَيْرِهِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ أَنَّهَا تَجِبُ لِلزَّوْجَةِ الْمُوسِرَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ تِلْكَ النَّفَقَةِ لَا يَتْبَعُ الْحَاجَةَ بَلْ لَهَا شَبَهٌ بِالْأَعْوَاضِ فَيَسْتَوِي فِيهَا الْمُعْسِرَةُ وَالْمُوسِرَةُ كَثَمَنِ الْبَيْعِ وَالْمَهْرِ وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْمُعْسِرِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ قِيلَ: هُوَ الَّذِي يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَقِيلَ: هُوَ الْمُحْتَاجُ. وَلَوْ كَانَ لَهُ مَنْزِلٌ وَخَادِمٌ هَلْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ عَلَى قَرِيبِهِ الْمُوسِرِ؟ فِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ. فِي رِوَايَةٍ لَا يَسْتَحِقُّ حَتَّى لَوْ كَانَ أُخْتًا لَا يُؤْمَرُ الْأَخُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ بِنْتًا لَهُ أَوْ أُمًّا وَفِي رِوَايَةٍ يَسْتَحِقُّ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَجِبُ لِغَيْرِ الْمُحْتَاجِ وَهَؤُلَاءِ غَيْرُ مُحْتَاجِينَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِاكْتِفَاءُ بِالْأَدْنَى بِأَنْ يَبِيعَ بَعْضَ الْمَنْزِلِ أَوْ كُلَّهُ وَيَكْتَرِيَ مَنْزِلًا فَيَسْكُنَ بِالْكِرَاءِ أَوْ يَبِيعَ الْخَادِمَ، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ بَيْعَ الْمَنْزِلِ لَا يَقَعُ إلَّا نَادِرًا وَكَذَا لَا يُمْكِنُ لِكُلِّ أَحَدٍ السُّكْنَى بِالْكِرَاءِ أَوْ بِالْمَنْزِلِ الْمُشْتَرَكِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ أَنْ لَا يُؤْمَرَ أَحَدٌ بِبَيْعِ الدَّارِ بَلْ يُؤْمَرُ الْقَرِيبُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِهَؤُلَاءِ وَلَا يُؤْمَرُونَ بِبَيْعِ الْمَنْزِلِ ثُمَّ الْوَلَدُ الصَّغِيرُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ حَتَّى كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى الْأَبِ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مُوسِرًا فَإِنْ كَانَ الْمَالُ حَاضِرًا فِي يَدِ الْأَبِ أَنْفَقَ مِنْهُ عَلَيْهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ؛ إذْ لَوْ لَمْ يُشْهِدْ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يُنْكِرَ الصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ فَيَقُولُ لِلْأَبِ إنَّك أَنْفَقْت مِنْ مَالِ نَفْسِك لَا مِنْ مَالِي فَيُصَدِّقُهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُوسِرَ يُنْفِقُ عَلَى وَلَدِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ لِوَلَدِهِ مَالٌ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْوَلَدِ فَيَبْطُلُ حَقُّ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ غَائِبًا يُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي إيَّاهُ بِالْإِنْفَاقِ لِيَرْجِعَ أَوْ يُشْهِدَ عَلَى أَنَّهُ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِيَرْجِعَ بِهِ فِي مَالِ وَلَدِهِ لِيُمْكِنَهُ الرُّجُوعُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَبَرَّعُ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ عَلَى وَلَدِهِ فَإِذَا أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِهِ لِيَرْجِعَ أَوْ أَشْهَدَ

عَلَى أَنَّهُ يُنْفِقُ لِيَرْجِعَ فَقَدْ بَطَلَ الظَّاهِرُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَرْضِ وَهُوَ يَمْلِكُ إقْرَاضَ مَالِهِ مِنْ الصَّبِيِّ فَيُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ وَهَذَا فِي الْقَضَاءِ فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَسَعُهُ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي وَالْإِشْهَادِ بَعْدَ أَنْ نَوَى بِقَلْبِهِ أَنَّهُ يُنْفِقُ لِيَرْجِعَ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَوَى صَارَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الصَّغِيرِ وَهُوَ يَمْلِكُ إثْبَاتَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إقْرَاضَ مَالِهِ مِنْهُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَالِمٌ بِنِيَّتِهِ فَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالثَّانِي عَجْزُهُ عَنْ الْكَسْبِ بِأَنْ كَانَ بِهِ زَمَانَةٌ أَوْ قَعَدٌ أَوْ فَلَجٌ أَوْ عَمًى أَوْ جُنُونٌ أَوْ كَانَ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ أَوْ أَشَلَّهُمَا أَوْ مَقْطُوعَ الرِّجْلَيْنِ أَوْ مَفْقُوءَ الْعَيْنَيْنِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْعَوَارِضِ الَّتِي تَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ الِاكْتِسَابِ حَتَّى لَوْ كَانَ صَحِيحًا مُكْتَسِبًا لَا يُقْضَى لَهُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا إلَّا لِلْأَبِ خَاصَّةً وَالْجَدِّ عِنْدَ عَدَمِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِنَفَقَةِ الْأَبِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُعْسِرًا عَلَى وَلَدِهِ الْمُوسِرِ وَكَذَا نَفَقَةُ الْجَدِّ عَلَى وَلَدِ وَلَدِهِ إذَا كَانَ مُوسِرًا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُنْفَقَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ كَانَ مُسْتَغْنًى بِكَسْبِهِ فَكَانَ غِنَاهُ بِكَسْبِهِ كَغِنَاهُ بِمَالِهِ فَلَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا الْوَلَدَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَهَى الْوَلَدَ عَنْ إلْحَاقِ أَدْنَى الْأَذَى بِالْوَالِدَيْنِ وَهُوَ التَّأْفِيفُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] وَمَعْنَى الْأَذَى فِي إلْزَامِ الْأَبِ الْكَسْبَ مَعَ غِنَى الْوَلَدِ أَكْثَرُ فَكَانَ أَوْلَى بِالنَّهْيِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الِابْنِ وَلِهَذَا لَا يُحْبَسُ الرَّجُلُ بِدَيْنِ ابْنِهِ وَيُحْبَسُ بِدَيْنِ أَبِيهِ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَضَافَ مَالَ الِابْنِ إلَى الْأَبِ فَاللَّامُ الْمِلْكِ فَكَانَ مَالُهُ كَمَالِهِ وَكَذَا هُوَ كَسْبُ كَسْبِهِ؛ فَكَانَ كَكَسْبِهِ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِيهِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الطَّلَبَ وَالْخُصُومَةَ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي فِي أَحَدِ نَوْعَيْ النَّفَقَةِ وَهِيَ نَفَقَةُ غَيْرِ الْوِلَادِ فَلَا تَجِبُ بِدُونِهِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ بِدُونِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَالْقَضَاءُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الطَّلَبِ وَالْخُصُومَةِ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُنْفِقِ خَاصَّةً فَيَسَارُهُ فِي قَرَابَةِ غَيْرِ الْوِلَادِ مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمُوسِرِ فِي هَذِهِ الْقَرَابَةِ نَفَقَةٌ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذِهِ النَّفَقَةِ مِنْ طَرِيقِ الصِّلَةِ وَالصِّلَاتُ تَجِبُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ لَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَإِذَا كَانَ يَسَارُ الْمُنْفِقِ شَرْطَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ فِي قَرَابَةِ ذِي الرَّحِمِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ حَدِّ الْيَسَارِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ هَذِهِ النَّفَقَةِ. رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ أَنَّهُ اعْتَبَرَ نِصَابَ الزَّكَاةِ قَالَ: ابْنُ سِمَاعَةَ قَالَ فِي نَوَادِرِهِ: سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ قَالَ: لَا أُجْبِرُ عَلَى نَفَقَةِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ إلَّا دِرْهَمًا وَلَيْسَ لَهُ عِيَالٌ وَلَهُ أُخْتٌ مُحْتَاجَةٌ لَمْ أُجْبِرْهُ عَلَى نَفَقَتِهَا وَإِنْ كَانَ يَعْمَلُ بِيَدِهِ وَيَكْتَسِبُ فِي الشَّهْرِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ لَهُ نَفَقَةُ شَهْرٍ وَعِنْدَهُ فَضْلٌ عَنْ نَفَقَةِ شَهْرٍ لَهُ وَلِعِيَالِهِ؛ أُجْبِرُهُ عَلَى نَفَقَةِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَمَّا مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ وَهُوَ يَكْتَسِبُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا يَكْتَفِي مِنْهُ بِأَرْبَعَةِ دَوَانِيقَ فَإِنَّهُ يَرْفَعُ لِنَفْسِهِ وَلِعِيَالِهِ مَا يَتَّسِعُ بِهِ وَيُنْفِقُ فَضْلَهُ عَلَى مَنْ يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَتِهِ، وَجْهُ رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ كِفَايَةُ شَهْرٍ فَمَا زَادَ عَلَيْهَا فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُ فِي الْحَالِ وَالشَّهْرُ يَتَّسِعُ لِلِاكْتِسَابِ؛ فَكَانَ عَلَيْهِ صَرْفُ الزِّيَادَةِ إلَى أَقَارِبِهِ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ نَفَقَةَ ذِي الرَّحِمِ صِلَةٌ وَالصِّلَاتُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ كَالصَّدَقَةِ وَحَدُّ الْغِنَى فِي الشَّرِيعَةِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ أَوْفَقُ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ كَسْبٌ دَائِمٌ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى جَمِيعِهِ فَمَا زَادَ عَلَى كِفَايَتِهِ يَجِبُ صَرْفُهُ إلَى أَقَارِبِهِ كَفَضْلِ مَالِهِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ وَلَا يُعْتَبَرُ النِّصَابُ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالِيَّةِ وَالنَّفَقَةُ حَقُّ الْعَبْدِ فَلَا مَعْنَى لِلِاعْتِبَارِ بِالنِّصَابِ فِيهَا وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهَا إمْكَانُ الْأَدَاءِ، وَلَوْ طَلَبَ الْفَقِيرُ الْعَاجِزُ عَنْ الْكَسْبِ مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ نَفَقَةً فَقَالَ: أَنَا فَقِيرٌ وَادَّعَى هُوَ أَنَّهُ غَنِيٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْفَقْرُ وَالْغِنَى عَارِضٌ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَمُحَمَّدٌ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَالْفَرْقُ لَهُ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى النِّكَاحِ دَلِيلُ الْقُدْرَةِ فَبَطَلَتْ شَهَادَةُ الظَّاهِرِ. وَأَمَّا قَرَابَةُ الْوِلَادِ فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمُنْفِقُ هُوَ الْأَبَ؛ فَلَا يُشْتَرَطُ يَسَارُهُ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ بَلْ قُدْرَتُهُ عَلَى الْكَسْبِ كَافِيَةٌ حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ عَلَى أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ الذُّكُورِ الزَّمْنَى الْفُقَرَاءِ وَالْإِنَاثِ الْفَقِيرَاتِ وَإِنْ كُنَّ صَحِيحَاتٍ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ وَعَجْزِهِمْ عَنْ الْكَسْبِ إحْيَاؤُهُمْ وَإِحْيَاؤُهُمْ إحْيَاءُ نَفْسِهِ؛ لِقِيَامِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ وَإِحْيَاءُ نَفْسِهِ وَاجِبٌ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ جَدٌّ مُوسِرٌ لَمْ يُفْرَضْ النَّفَقَةُ عَلَى الْجَدِّ وَلَكِنْ يُؤْمَرُ

الْجَدُّ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى ابْنِهِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَجِبُ عَلَى الْجَدِّ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ إذَا كَانَ الْأَبُ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ ابْنِهِ فَنَفَقَةُ أَوْلَادِهِ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَبُ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ بِأَنْ كَانَ زَمِنًا قُضِيَ بِنَفَقَتِهِمْ عَلَى الْجَدِّ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ نَفَقَةَ أَبِيهِمْ فَكَذَا نَفَقَتُهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي صَغِيرٍ لَهُ وَالِدٌ مُحْتَاجٌ وَهُوَ زَمِنٌ فُرِضَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى قَرَابَتِهِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ دُونَ قَرَابَتِهِ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ كُلُّ مَنْ أَجْبَرْته عَلَى نَفَقَةِ الْأَبِ أَجْبَرْته عَلَى نَفَقَةِ الْغُلَامِ إذَا كَانَ زَمِنًا؛ لِأَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ زَمِنًا كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى قَرَابَتِهِ فَكَذَا نَفَقَةُ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ جُزْؤُهُ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرَابَةٌ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ قَضَيْت بِنَفَقَتِهِ عَلَى أَبِيهِ وَأَمَرْت الْخَالَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَيَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الْأَبِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَرَابَةِ الْأَبِ وَقَرَابَةِ الْأُمِّ أَنَّ قَرَابَةَ الْأَبِ تَجِبُ عَلَيْهِمْ نَفَقَةُ الْأَبِ إذَا كَانَ زَمِنًا فَكَذَا نَفَقَةُ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَأَمَّا قَرَابَةُ الْأُمِّ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ نَفَقَةُ الْأَبِ وَلَا نَفَقَةُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي نَفَقَةِ وَلَدِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُنْفِقُ هُوَ الِابْنَ وَهُوَ مُعْسِرٌ مُكْتَسِبٌ يُنْظَرُ فِي كَسْبِهِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَنْ قُوتِهِ يُجْبَرُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَبِ مِنْ الْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إحْيَائِهِ مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَفْضُلُ مِنْ كَسْبِهِ شَيْءٌ يُؤْمَرُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُوَاسِيَ أَبَاهُ؛ إذْ لَا يَحْسُنُ أَنْ يَتْرُكَ أَبَاهُ ضَائِعًا جَائِعًا يَتَكَفَّفُ النَّاسَ وَلَهُ كَسْبٌ وَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَتُفْرَضَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ إذَا طَلَبَ الْأَبُ الْفَرْضَ أَوْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ إذَا طَلَبَ الْأَبُ ذَلِكَ قَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ: إنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَصَابَ النَّاسَ السَّنَةُ لَأَدْخَلْت عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ مِثْلَهُمْ فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَهْلِكُوا عَلَى أَنْصَافِ بُطُونِهِمْ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ» وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ أَنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَالْإِشْرَاكِ فِي نَفَقَةِ الْوَلَدِ الْمُعْسِرِ يُؤَدِّي إلَى إعْجَازِهِ عَنْ الْكَسْبِ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ لَا يَقُومُ إلَّا بِكَمَالِ الْقُوَّةِ وَكَمَالُ الْقُوَّةِ بِكَمَالِ الْغِذَاءِ فَلَوْ جَعَلْنَاهُ نِصْفَيْنِ؛ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَسْبِ وَفِيهِ خَوْفُ هَلَاكِهِمَا جَمِيعًا، وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَ الِابْنُ يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِ رَجُلٍ غَنِيٍّ يُعْطِيهِ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا أَوْ رَغِيفَيْنِ أَيُؤْمَرُ الِابْنُ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدَهُمَا أَبَاهُ؟ قَالَ: لَا يُؤْمَرُ بِهِ، وَلَوْ قَالَ الْأَبُ لِلْقَاضِي: إنَّ ابْنِي هَذَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَكْتَسِبَ مَا يَفْضُلُ عَنْ كَسْبِهِ مِمَّا يُنْفِقُ عَلَيَّ لَكِنَّهُ يَدَعُ الْكَسْبَ عَمْدًا يَقْصِدُ بِذَلِكَ عُقُوقِي؛ يَنْظُرُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَ الْأَبُ صَادِقًا فِي مَقَالَتِهِ أَمَرَ الِابْنَ بِأَنْ يَكْتَسِبَ فَيُنْفِقَ عَلَى أَبِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَادِقًا بِأَنْ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى اكْتِسَابِ زِيَادَةٍ؛ تَرَكَهُ، هَذَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ وَاحِدًا. فَإِنْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ وَزَوْجَةٌ وَلَا يَفْضُلُ مِنْ كَسْبِهِ شَيْءٌ يُنْفِقُ عَلَى أَبِيهِ فَطَلَبَ الْأَبُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يُدْخِلَهُ فِي النَّفَقَةِ عَلَى عِيَالِهِ يُدْخِلُهُ الْقَاضِي هَهُنَا؛ لِأَنَّ إدْخَالَ الْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ لَا يُخِلُّ بِطَعَامِهِمْ خَلَلًا بَيِّنًا بِخِلَافِ إدْخَالِ الْوَاحِدِ عَلَى الْوَاحِدِ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَبُ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ فَأَمَّا إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ بِأَنْ كَانَ زَمِنًا يُشَارِكُ الِابْنَ فِي قُوتِهِ وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ فَيَأْكُلُ مَعَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِيَالٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُشَارَكَةِ خَوْفُ الْهَلَاكِ وَفِي تَرْكِ الْمُشَارَكَةِ خَوْفُ هَلَاكِ الْأَبِ فَتَجِبُ الْمُشَارَكَةُ وَكَذَلِكَ الْأُمُّ إذَا كَانَتْ فَقِيرَةً تَدْخُلُ عَلَى ابْنِهَا فَتَأْكُلُ مَعَهُ لَكِنْ لَا يُفْرَضُ لَهُمَا عَلَيْهِ نَفَقَةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا اتِّحَادُ الدِّينِ فِي غَيْرِ قَرَابَةِ الْوِلَادِ مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَا تَجْرِي النَّفَقَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي هَذِهِ الْقَرَابَةِ فَأَمَّا فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ فَاتِّحَادُ الدِّينِ فِيهِمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ آبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَيَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ نَفَقَةُ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ الَّذِينَ أُعْطِيَ لَهُمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بِإِسْلَامِ أُمِّهِمْ وَنَفَقَةُ أَوْلَادِهِ الْكِبَارِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ وُجُوبَ هَذِهِ النَّفَقَةِ عَلَى طَرِيقِ الصِّلَةِ وَلَا تَجِبُ صِلَةُ رَحِمِ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَتَجِبُ صِلَةُ رَحِمِ الْوَالِدَيْنِ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِقَتْلِ أَخِيهِ الْحَرْبِيِّ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِقَتْلِ أَبِيهِ الْحَرْبِيِّ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ فِي الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] وَلَمْ يَرِدْ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالثَّانِي: أَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ بِحَقِّ الْوِلَادَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوِلَادَةَ تُوجِبُ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةَ بَيْنَ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ؛ فَلَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ وَالْوُجُوبُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ بِحَقِّ الْوِرَاثَةِ وَلَا وِرَاثَةَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدِّينِ

فَلَا نَفَقَةَ، وَلَوْ كَانَ لِلْمُسْلِمِ ابْنَانِ أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ وَالْآخَرُ ذِمِّيٌّ فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ نَفَقَةَ الْوِلَادَةِ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ. وَالثَّانِي اتِّحَادُ الدَّارِ فِي غَيْرِ قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَا تَجْرِي النَّفَقَةُ بَيْنَ الذِّمِّيِّ الَّذِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ وَلَا بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَإِنَّمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ لِحَوَائِجَ يَقْضِيهَا ثُمَّ يَعُودُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ يُمَكِّنُهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَلَا يُمَكِّنُهُ مِنْ إطَالَةِ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَاخْتَلَفَ الدَّارَانِ وَكَذَا لَا نَفَقَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ الْمُتَوَطِّنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ الْحَرْبِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وُجُوبَ هَذِهِ النَّفَقَةِ فِي هَذِهِ الْقَرَابَةِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَلَا تَجِبُ هَذِهِ الصِّلَةُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ وَتَجِبُ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْوُجُوبَ هَهُنَا بِحَقِّ الْوِرَاثَةِ وَلَا وِرَاثَةَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ وَالْوُجُوبُ هُنَاكَ بِحَقِّ الْوِلَادَةِ وَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِمَا فَقَضَاءُ الْقَاضِي فِي أَحَدِ نَوْعَيْ النَّفَقَةِ وَهِيَ نَفَقَةُ غَيْرِ الْوِلَادِ مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَا تَجِبُ هَذِهِ النَّفَقَةُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي نَفَقَةِ الْوِلَادِ حَتَّى تَجِبَ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ كَمَا تَجِبُ نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ نَفَقَةَ الْوِلَادِ تَجِبُ بِطَرِيقِ الْإِحْيَاءِ لِمَا فِيهَا مِنْ دَفْعِ الْهَلَاكِ لِتَحَقُّقِ مَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ بَيْنَ الْمُنْفِقِ وَالْمُنْفَقِ عَلَيْهِ وَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ إحْيَاءُ نَفْسِهِ بِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَقِفُ وُجُوبُهُ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي فَأَمَّا نَفَقَةُ سَائِرِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَيْسَ وُجُوبُهَا مِنْ طَرِيقِ الْإِحْيَاءِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ وَإِنَّمَا تَجِبُ صِلَةً مَحْضَةً فَجَازَ أَنْ يَقِفَ وُجُوبُهَا عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي وَبِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ؛ لِأَنَّ لَهَا شَبَهًا بِالْأَعْوَاضِ فَمِنْ حَيْثُ هِيَ صِلَةٌ لَمْ تَصِرْ دَيْنًا مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَرِضًا وَمِنْ حَيْثُ هِيَ عِوَضٌ تَجِبُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ غَائِبًا وَلَهُ مَالٌ حَاضِرٌ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَأْمُرُ أَحَدًا بِالنَّفَقَةِ مِنْ مَالِهِ إلَّا الْأَبَوَيْنِ الْفَقِيرَيْنِ وَأَوْلَادَهُ الْفُقَرَاءَ الصِّغَارَ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ وَالْكِبَارَ الذُّكُورَ الْفُقَرَاءَ الْعَجَزَةَ عَنْ الْكَسْبِ وَالْإِنَاثَ الْفَقِيرَاتِ وَالزَّوْجَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي مَالِهِ إلَّا لِهَؤُلَاءِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَى مَالِهِ فَيَأْخُذَهُ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا مُحْتَاجًا وَلَهُمْ ذَلِكَ؛ فَكَانَ الْأَمْرُ مِنْ الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِهِ لِغَيْرِهِمْ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ قَضَاءً بَلْ يَكُونُ إعَانَةً ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَالُ حَاضِرًا عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَكَانَ النَّسَبُ مَعْرُوفًا أَوْ عَلِمَ الْقَاضِي بِذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِالنَّفَقَةِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ وَاجِبَةٌ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَكَانَ الْأَمْرُ مِنْ الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ إعَانَةً لَا قَضَاءً وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالنَّسَبِ فَطَلَبَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُثْبِتَ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ لَا تُسْمَعُ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَالُهُ وَدِيعَةً عِنْدَ إنْسَانٍ وَهُوَ مُقِرٌّ بِهَا أَمَرَهُمْ الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ مِنْهَا وَكَذَا إذَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى إنْسَانٍ وَهُوَ مُقِرٌّ بِهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ دَفَعَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْ الْمَدْيُونُ إلَيْهِمْ بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي يَضْمَنُ، وَإِذَا وَقَعَ بِإِذْنِهِ لَا يَضْمَنُ وَاسْتَوْثَقَ الْقَاضِي مِنْهُمْ كَفِيلًا إنْ شَاءَ وَكَذَا لَا يَأْمُرُ الْجَدَّ وَوَلَدَ الْوَلَدِ حَالَ وُجُودِ الْأَبِ وَالْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُمَا حَالَ وُجُودِهِمَا بِمَنْزِلَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَيَأْمُرُهُمَا حَالَ عَدَمِهِمَا؛ لِأَنَّ الْجَدَّ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ حَالَ عَدَمِهِ وَوَلَدَ الْوَلَدِ يَقُومُ مَقَامَ الْوَلَدِ حَالَ عَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْ الْمَدْيُونُ مُنْكِرًا فَأَرَادُوا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ لَمْ يَلْتَفِتْ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ أَنْفَقَ الْأَبُ مِنْ مَالِ ابْنِهِ ثُمَّ حَضَرَ الِابْنُ فَقَالَ لِلْأَبِ: كُنْت مُوسِرًا، وَقَالَ الْأَبُ: كُنْت مُعْسِرًا يُنْظَرُ إلَى حَالِ الْأَبِ وَقْتَ الْخُصُومَةِ فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الِابْنِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ اسْتِمْرَارُ حَالِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَالتَّغَيُّرُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَيُحَكَّمُ الْحَالُ وَصَارَ هَذَا كَالْآجِرِ مَعَ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا اخْتَلَفَا فِي جَرَيَانِ الْمَاءِ وَانْقِطَاعِهِ أَنَّهُ يُحَكَّمُ الْحَالُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الِابْنِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَمْرًا زَائِدًا وَهُوَ الْغِنَى. هَذَا إذَا كَانَ الْمَالُ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا فَالْقَاضِي لَا يَبِيعُ عَلَى الْغَائِبِ الْعَقَارَ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ بِالْإِنْفَاقِ وَكَذَا الْأَبُ إلَّا إذَا كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا فَلْيَبِعْ الْعَقَارَ. وَأَمَّا الْعُرُوض فَهَلْ يَبِيعُهَا الْقَاضِي؟ فَالْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ وَهَلْ يَبِيعُهَا الْأَبُ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَبِيعُ مِقْدَارَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَا الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ

فصل في بيان مقدار الواجب من هذه النفقة

اسْتِحْسَانٌ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَبِيعُ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْأُمَّ لَا تَبِيعُ مَالَ وَلَدِهَا الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَكَذَا الْأَوْلَادُ لَا يَبِيعُونَ مَالَ الْأَبَوَيْنِ. (وَجْهٌ) قَوْلِهِمَا - وَهُوَ الْقِيَاسُ - أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَبِ عَلَى الْوَلَدِ الْكَبِيرِ فَكَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَقَارِبِ سَوَاءً؛ وَلِهَذَا لَا يَبِيعُ الْعَقَارَ وَكَذَا الْعُرُوض وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِي بَيْعِ الْعُرُوضِ نَظَرًا لِلْوَلَدِ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ مِمَّا يُخَافُ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ فَكَانَ بَيْعُهَا مِنْ بَابِ الْحِفْظِ وَالْأَبُ يَمْلِكُ النَّظَرَ لِوَلَدِهِ بِحِفْظِ مَالِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْعَقَارِ فَإِنَّهُ مَحْفُوظٌ بِنَفْسِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى حِفْظِهِ بِالْبَيْعِ فَيَبْقَى بَيْعُهُ تَصَرُّفًا عَلَى الْوَلَدِ الْكَبِيرِ فَلَا يَمْلِكُهُ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَضَافَ مَالَ الْوَلَدِ إلَى الْوَالِدِ وَسَمَّاهُ كَسْبًا لَهُ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ فِي حَقِيقَةِ الْمِلْكِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَظْهَرَ فِي وِلَايَةِ بَيْعِ عَرَضِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْ هَذِهِ النَّفَقَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْ هَذِهِ النَّفَقَةِ فَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ لِلْحَاجَةِ فَتَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَكُلُّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ غَيْرِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ لَهُ الْمَأْكَلُ وَالْمَشْرَبُ وَالْمَلْبَسُ وَالسُّكْنَى وَالرَّضَاعُ إنْ كَانَ رَضِيعًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لِلْكِفَايَةِ وَالْكِفَايَةُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَإِنْ كَانَ لِلْمُنْفَقِ عَلَيْهِ خَادِمٌ يَحْتَاجُ إلَى خِدْمَتِهِ تُفْرَضُ لَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْكِفَايَةِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ نَفَقَة الْأَقَارِب] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا فَهَذِهِ النَّفَقَةُ تَجِبُ عَلَى وَجْهٍ لَا تَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ أَصْلًا سَوَاءٌ فَرَضَهَا الْقَاضِي أَوْ لَا بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ فَإِنَّهَا تَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِفَرْضِ الْقَاضِي أَوْ بِالتَّرَاضِي حَتَّى لَوْ فَرَضَ الْقَاضِي لِلْقَرِيبِ نَفَقَةَ شَهْرٍ فَمَضَى الشَّهْرُ وَلَمْ يَأْخُذْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهَا بَلْ تَسْقُطُ وَفِي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ لِلْمَرْأَةِ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِمَا مَضَى مِنْ النَّفَقَةِ فِي مُدَّةِ الْفَرْضِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ فَيَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّفَقَتَيْنِ فِي أَشْيَاءَ: مِنْهَا مَا وَصَفْنَاهُ آنِفًا أَنَّ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ تَصِيرُ دَيْنًا بِالْقَضَاءِ أَوْ بِالرِّضَا وَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا أَصْلًا وَرَأْسًا، وَمِنْهَا أَنَّ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ أَوْ كِسْوَتَهُمْ لَا تَجِبُ لِغَيْرِ الْمُعْسِرِ وَنَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ أَوْ كِسْوَتُهُنَّ تَجِبُ لِلْمُعْسِرَةِ وَالْمُوسِرَةِ وَمِنْهَا أَنَّ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ أَوْ كِسْوَتَهُمْ إذَا هَلَكَتْ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْفَرْضِ تَجِبُ نَفَقَةٌ أُخْرَى وَكِسْوَةٌ أُخْرَى وَفِي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ لَا تَجِبُ. وَمِنْهَا أَنَّ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ أَوْ كِسْوَتَهُمْ إذَا تَعَيَّبَتْ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لَا تَجِبُ أُخْرَى وَفِي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ تَجِبُ وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي فَصْلِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا عَجَّلَ نَفَقَةَ مُدَّةٍ فِي الْأَقَارِبِ فَمَاتَ الْمُنْفَقُ عَلَيْهِ قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ لَا يَسْتَرِدُّ شَيْئًا مِنْهَا بِلَا خِلَافٍ وَفِي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ خِلَافٌ مُحَمَّدٌ وَيُحْبَسُ فِي نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ كَمَا يُحْبَسُ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ أَمَّا غَيْرُ الْأَبِ فَلَا شَكَّ فِيهِ. وَأَمَّا الْأَبُ فَيُحْبَسُ فِي نَفَقَةِ الْوَلَدِ أَيْضًا وَلَا يُحْبَسُ فِي سَائِرِ دُيُونِهِ؛ لِأَنَّ إيذَاءَ الْأَبِ حَرَامٌ فِي الْأَصْلِ وَفِي الْحَبْسِ إيذَاؤُهُ إلَّا أَنَّ فِي النَّفَقَةِ ضَرُورَةً وَهِيَ ضَرُورَةُ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ الْوَلَدِ؛ إذْ لَوْ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهِ لَهَلَكَ فَكَانَ هُوَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ كَالْقَاصِدِ إهْلَاكَهُ فَدُفِعَ قَصْدُهُ بِالْحَبْسِ وَيَحْمِلُ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْأَذَى لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ وَلِأَنَّ هَهُنَا ضَرُورَةً أُخْرَى وَهِيَ ضَرُورَةُ اسْتِدْرَاكِ هَذَا الْحَقِّ أَعْنِي: النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّهَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الِاسْتِدْرَاكِ بِالْحَبْسِ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ يَحْمِلُهُ عَلَى الْأَدَاءِ فَيَحْصُلُ الِاسْتِدْرَاكُ، وَلَوْ لَمْ يُحْبَسْ يَفُوتُ حَقُّهُ رَأْسًا فَشُرِعَ الْحَبْسُ فِي حَقِّهِ لِضَرُورَةِ اسْتِدْرَاكِ الْحَقِّ صِيَانَةً لَهُ عَنْ الْفَوَاتِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفُوتُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الِاسْتِدْرَاكِ بِالْحَبْسِ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنْ النَّفَقَةِ يُضَرُّ وَلَا يُحْبَسُ بِخِلَافِ الْمُمْتَنِعِ مِنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُ هَذَا الْحَقِّ بِالْحَبْسِ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَيُسْتَدْرَكُ بِالضَّرْبِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ وَكَذَلِكَ الْجَدُّ أَبَ الْأَبِ وَإِنْ عَلَا لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ الْمُسْقِطِ لِنَفَقَةِ الْأَقَارِبَ بَعْدَ الْوُجُوبِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ الْمُسْقِطِ لَهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ فَالْمُسْقِطُ لَهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ هُوَ مُضِيُّ الزَّمَانِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ وَلَا اسْتِدَانَةٍ حَتَّى لَوْ فَرَضَ الْقَاضِي نَفَقَةَ شَهْرٍ لِلْقَرِيبِ فَلَمْ يَقْبِضْ وَلَا اسْتَدَانَ عَلَيْهِ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ - سَقَطَتْ النَّفَقَةُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ تَجِبُ صِلَةً مَحْضَةً فَلَا يَتَأَكَّدُ وُجُوبُهَا إلَّا بِالْقَبْضِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي نَفَقَةُ الرَّقِيقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا نَفَقَةُ الرَّقِيقِ فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ، وَفِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِهَا، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَوُجُوبُهَا ثَابِتٌ

فصل في سبب وجوب نفقة الرقيق

بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إلَى الْمَمَالِيكِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ يُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ إحْسَانٌ بِهِمْ فَكَانَ وَاجِبًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِالْإِحْسَانِ إلَى الْمَمَالِيكِ أَمْرًا بِتَوْسِيعِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَتْرُكُ أَصْلَ النَّفَقَةِ عَلَى مَمْلُوكِهِ إشْفَاقًا عَلَى مِلْكِهِ وَقَدْ يُقَتِّرُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا فِي يَدِهِ فَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّادَاتِ بِتَوْسِيعِ النَّفَقَةِ عَلَى مَمَالِيكِهِمْ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ حَيْثُ جَعَلَ مَنْ هُوَ مِنْ جَوْهَرِهِمْ وَأَمْثَالِهِمْ فِي الْخِلْقَةِ خَدَمًا وَخَوَلًا أَذِلَّاءَ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ يَسْتَخْدِمُونَهُمْ وَيَسْتَعْمِلُونَهُمْ فِي حَوَائِجِهِمْ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوصِي بِالْمَمْلُوكِ خَيْرًا وَيَقُولُ «أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] » وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ كَانَ آخِرُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ «الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَجَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُغَرْغِرُ بِهَا فِي صَدْرِهِ وَمَا يَقْبِضُ بِهَا لِسَانَهُ» وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَنَّ نَفَقَةَ الْمَمْلُوكِ وَاجِبَةٌ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ فَلَوْ لَمْ تُجْعَلْ نَفَقَتُهُ عَلَى مَوْلَاهُ؛ لَهَلَكَ. [فَصْلٌ فِي سَبَبُ وُجُوبِ نَفَقَة الرَّقِيق] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِهَا فَالْمِلْكُ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِالْمَمْلُوكِ انْتِفَاعًا وَتَصَرُّفًا وَهُوَ نَفْسُ الْمِلْكِ فَإِذَا كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ لِلْمَالِكِ كَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِ؛ إذْ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَعَلَى هَذَا يُبْنَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ أُمَّهُ إنْ كَانَتْ حُرَّةً؛ فَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً؛ فَهُوَ مِلْكُ مَوْلَاهَا فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى الْمَوْلَى وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا مَالَ لَهُ بَلْ هُوَ وَمَا فِي يَدِهِ لِمَوْلَاهُ وَالْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ عَنْ هَذَا الْوَلَدِ فَكَيْفَ تَجِبُ النَّفَقَةُ فِي مَالِ الْغَيْرِ لِمِلْكِ الْغَيْرِ؟ وَكَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْحُرِّ نَفَقَةُ وَلَدِهِ الْمَمْلُوكِ بِأَنْ تَزَوَّجَ حُرٌّ أَمَةَ غَيْرِهِ فَوَلَدَتْ وَلَدًا؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ غَيْرِهِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ مَمْلُوكِ غَيْرِهِ. وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بَطَلَتْ النَّفَقَةُ لِبُطْلَانِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْمِلْكُ ثُمَّ إنْ كَانَ بَالِغًا صَحِيحًا فَنَفَقَتُهُ فِي كَسْبِهِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ زَمِنًا؛ قَالُوا: إنَّ نَفَقَتَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حُرٌّ عَاجِزٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ قَرِيبٌ وَبَيْتُ الْمَالِ مَالُ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِيهِ، وَكَذَا اللَّقِيطُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَالٌ فَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا، وَقَالُوا فِي الصَّغِيرِ فِي يَدِ رَجُلٍ: قَالَ لِرَجُلٍ: هَذَا عَبْدُك أَوْدَعْتَنِيهِ فَجَحَدَ قَالَ مُحَمَّدٌ: أَسْتَحْلِفُهُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَوْدَعْته فَإِنْ حَلَفَ قَضَيْت بِنَفَقَتِهِ عَلَى الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِرِقِّهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ وَقَدْ رَدَّ الْغَيْرُ إقْرَارَهُ فَبَقِيَ فِي يَدِهِ وَالْيَدُ دَلِيلُ الْمِلْكِ فَيَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَوْ كَانَ كَبِيرًا لَمْ أَسْتَحْلِفْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَبِيرًا كَانَ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَكَانَ دَعْوَاهُ هَدَرًا فَيَقِفُ الْأَمْرُ عَلَى دَعْوَى الْكَبِيرِ فَكُلُّ مَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَصَدَّقَهُ؛ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ لَهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمَا وَقَالُوا فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَتَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ الْمَوْلَيَانِ: إنَّ نَفَقَةَ هَذَا الْوَلَدِ عَلَيْهِمَا وَعَلَى الْوَلَدِ إذَا كَبِرَ نَفَقَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَبٌ كَامِلٌ فِي حَقِّهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي شَرْطُ وُجُوبِ نَفَقَة الرَّقِيق] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِهَا فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّقِيقُ مَمْلُوكَ الْمَنَافِعِ وَالْمَكَاسِبِ لِلْمَوْلَى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ نَفَقَةُ عَبْدِهِ الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ أَكْسَابَهُمْ مِلْكُ الْمَوْلَى، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ مُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكِ الْمَكَاسِبِ لِمَوْلَاهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ مَوْلَاهُ فَكَانَ فِي مَكَاسِبِهِ كَالْحُرِّ؛ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي كَسْبِهِ كَالْحُرِّ وَكَذَا مُعْتَقُ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا: حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَالْعَبْدُ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ - نَفَقَتُهُ عَلَى صَاحِبِ الْخِدْمَةِ لَا عَلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ، وَنَفَقَةُ عَبْدِ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الذَّاتِ وَالْمَنْفَعَةِ لَهُ، وَنَفَقَةُ عَبْدِ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُودِعِ لِمَا قُلْنَا، وَنَفَقَةُ عَبْدِ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ فِي زَمَنِ الْعَارِيَّةِ لَهُ؛ إذْ الْإِعَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ، وَنَفَقَةُ عَبْدِ الْغَصْبِ قَبْلَ الرَّدِّ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ - عَلَى بَعْضِ طُرُقِ أَصْحَابِنَا حَتَّى لَوْ لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً عَلَى الْغَاصِبِ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ رَدَّ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْغَاصِبِ وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ لِكَوْنِهَا مِنْ ضَرُورَاتِ الرَّدِّ وَالنَّفَقَةُ مِنْ ضَرُورَاتِ الرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إلَّا بِاسْتِبْقَائِهِ وَلَا يَبْقَى عَادَةً إلَّا بِالنَّفَقَةِ فَكَانَتْ النَّفَقَةُ مِنْ مُؤْنَاتِ الرَّدِّ لِكَوْنِهَا مِنْ ضَرُورَاتِهِ فَكَانَتْ عَلَى الْغَاصِبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فصل في مقدار الواجب من نفقة الرقيق

[فَصْلٌ فِي مِقْدَارُ الْوَاجِبِ مِنْ نَفَقَة الرَّقِيق] فَصْلٌ) : وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ مِنْهَا فَمِقْدَارُ الْكِفَايَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لِلْكِفَايَةِ فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ. [فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةُ وُجُوب نَفَقَة الرَّقِيق] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِهَا فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى وَجْهٍ يُجْبَرُ عَلَيْهَا عِنْدَ الطَّلَبِ وَالْخُصُومَةِ فِي الْجُمْلَةِ بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَمْلُوكَ إذَا خَاصَمَ مَوْلَاهُ فِي النَّفَقَةِ عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُهُ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ فَإِنْ أَبَى يَنْظُرُ الْقَاضِي فَكُلُّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِجَارَةِ يُؤَاجِرُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ أُجْرَتِهِ أَوْ يَبِيعُهُ إنْ كَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالْقِنِّ، وَرَأْيُ الْبَيْعِ أَصْلَحُ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ لِلْإِجَارَةِ بِأَنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ جَارِيَةً وَلَا مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ يُجْبِرُهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ وَلَا إجَارَتُهُ، وَتَرْكُهُ جَائِعًا تَضْيِيعٌ إلَى آدَمِيٍّ فَيُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى الْإِنْفَاقِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) نَفَقَةُ الْبَهَائِمِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَكِنَّهُ يُفْتَى فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ جَائِعًا تَعْذِيبَ الْحَيَوَانِ بِلَا فَائِدَةٍ وَتَضْيِيعَ الْمَالِ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَلِأَنَّهُ سَفَهٌ لِخُلُوِّهِ عَنْ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ وَالسَّفَهُ حَرَامٌ عَقْلًا، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْحَقِّ يَكُونُ عِنْدَ الطَّلَبِ وَالْخُصُومَةِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَلَا خَصْمَ؛ فَلَا يُجْبَرُ وَلَكِنْ تَجِبُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ. وَأَمَّا نَفَقَةُ الْجَمَادَاتِ كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا لِمَا قُلْنَا، وَلَا يُفْتَى أَيْضًا بِالْوُجُوبِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ تَضْيِيعَ الْمَالِ فَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْحَضَانَةِ] [تَفْسِير الْحَضَانَة] (كِتَابُ الْحَضَانَةِ) : الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ: فِي تَفْسِيرِ الْحَضَانَةِ وَفِي بَيَانِ مَنْ لَهُ الْحَضَانَةُ، وَفِي بَيَانِ مُدَّةِ الْحَضَانَةِ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِ الْحَضَانَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْحَضَانَةُ فِي اللُّغَةِ تُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا جَعْلُ الشَّيْءِ فِي نَاحِيَةٍ يُقَالُ: حَضَنَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ أَيْ اعْتَزَلَهُ فَجَعَلَهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهُ، وَالثَّانِي: الضَّمُّ إلَى الْجَنْبِ يُقَالُ: حَضَنْته وَاحْتَضَنْته إذَا ضَمَمْته إلَى جَنْبِك، وَالْحَضْنُ الْجَنْبُ فَحَضَانَةُ الْأُمِّ وَلَدَهَا هِيَ ضَمُّهَا إيَّاهُ إلَى جَنْبِهَا وَاعْتِزَالُهَا إيَّاهُ مِنْ أَبِيهِ لِيَكُونَ عِنْدَهَا فَتَقُومَ بِحِفْظِهِ وَإِمْسَاكِهِ وَغَسْلِ ثِيَابِهِ وَلَا تُجْبَرُ الْأُمُّ عَلَى إرْضَاعِهِ إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ مَنْ تُرْضِعُهُ فَتُجْبَرَ عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَتْ شَرِيفَةً لَمْ تُجْبَرْ وَإِنْ كَانَتْ دَنِيَّةً تُجْبَرْ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] قِيلَ: فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ أَيْ: لَا تُضَارَّ بِإِلْزَامِ الْإِرْضَاعِ مَعَ كَرَاهَتِهَا وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْمُطَلَّقَاتِ {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] جَعَلَ تَعَالَى أَجْرَ الرَّضَاعِ عَلَى الْأَبِ لَا عَلَى الْأُمِّ مَعَ وُجُودِهَا؛ فَدَلَّ أَنَّ الرَّضَاعَ لَيْسَ عَلَى الْأُمِّ وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] أَيْ: رِزْقُ الْوَالِدَاتِ الْمُرْضِعَاتِ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمُطَلَّقَاتُ؛ فَفِيهِ أَنَّهُ لَا إرْضَاعَ عَلَى الْأُمِّ حَيْثُ أَوْجَبَ بَدَلَ الْإِرْضَاعِ عَلَى الْأَبِ مَعَ وُجُودِ الْأُمِّ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَنْكُوحَاتُ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ - إيجَابَ زِيَادَةِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ لِلْأُمِّ الْمُرْضِعَةِ لِأَجْلِ الْوَلَدِ، وَإِلَّا فَالنَّفَقَةُ تَسْتَحِقُّهَا الْمَنْكُوحَةُ مِنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلِأَنَّ الْإِرْضَاعَ إنْفَاقٌ عَلَى الْوَلَدِ وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ يَخْتَصُّ بِهَا الْوَالِدُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا الْأُمُّ كَنَفَقَتِهِ بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ. فَكَمَا لَا تَجِبُ عَلَيْهَا نَفَقَتُهُ بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ؛ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا قَبْلَهُ، وَهُوَ إرْضَاعُهُ وَهَذَا فِي الْحُكْمِ. وَأَمَّا فِي الْفَتْوَى فَتُفْتَى بِأَنَّهَا تُرْضِعُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] قِيلَ فِي بَعْضِ تَأْوِيلَاتِ الْآيَةِ: أَيْ لَا تُضَارَّ بِوَلَدِهَا بِأَنْ تَرْمِيَهُ عَلَى الزَّوْجِ بَعْدَ مَا عَرَفَهَا وَأَلِفَهَا وَلَا تُرْضِعَهُ فَيَتَضَرَّرَ الْوَلَدُ وَمَتَى تَضَرَّرَ الْوَلَدُ تَضَرَّرَ الْوَالِدُ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَلَّمُ قَلْبُهُ بِذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233] أَيْ: لَا يُضَارَّ الْمَوْلُودُ لَهُ بِسَبَبِ الْإِضْرَارِ بِوَلَدِهِ كَذَا قِيلَ: فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ سَكَنٍ وَازْدِوَاجٍ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى مَصَالِحِ النِّكَاحِ وَمِنْهَا إرْضَاعُ الْوَلَدِ فَيُفْتَى بِهِ وَلَكِنَّهَا إنْ أَبَتْ لَا تُجْبَرُ عَلَيْهِ؛ لِمَا قُلْنَا، إلَّا إذَا كَانَ لَا يُوجَدُ مَنْ يُرْضِعُهُ فَحِينَئِذٍ تُجْبَرُ عَلَى إرْضَاعِهِ؛ إذْ لَوْ لَمْ تُجْبَرْ عَلَيْهِ لَهَلَكَ الْوَلَدُ، وَلَوْ الْتَمَسَ الْأَبُ لِوَلَدِهِ مُرْضِعًا فَأَرَادَتْ الْأُمُّ أَنْ تُرْضِعَهُ بِنَفْسِهَا فَهِيَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَشْفَقُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ فِي انْتِزَاعِ الْوَلَدِ مِنْهَا إضْرَارًا بِهَا وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] قِيلَ فِي بَعْضِ الْأَقَاوِيلِ: أَيْ لَا يُضَارَّهَا زَوْجُهَا بِانْتِزَاعِ الْوَلَدِ مِنْهَا وَهِيَ تُرِيدُ إمْسَاكَهُ وَإِرْضَاعَهُ فَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَأْخُذَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا فِي صُلْبِ النِّكَاحِ لَمْ يَجُزْ لَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهَا فِي الْحُكْمِ فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ فِي الْفَتْوَى وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ

فصل في بيان من له الحضانة

الْأَجْرِ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَحَقٍّ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ رِشْوَةً وَلِأَنَّهَا قَدْ اسْتَحَقَّتْ نَفَقَةَ النِّكَاحِ وَأُجْرَةَ الرَّضَاعِ، وَأُجْرَةُ الرَّضَاعِ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ فَلَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَتَيْنِ وَلِأَنَّ أَجْرَ الرَّضَاعِ يَجِبُ لِحِفْظِ الصَّبِيِّ وَغُسْلِهِ وَهُوَ مِنْ نَظَافَةِ الْبَيْتِ، وَمَنْفَعَةُ الْبَيْتِ تَحْصُلُ لِلزَّوْجَيْنِ فَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ عِوَضًا عَنْ مَنْفَعَةٍ تَحْصُلُ لَهَا حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَهَا عَلَى إرْضَاعِ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهَا جَازَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهَا فَلَا يَكُونُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى فِعْلٍ وَاجِبٍ عَلَيْهَا وَكَذَا لَيْسَ فِي حِفْظِهِ مَنْفَعَةٌ تَعُودُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُسْكِنَهُ مَعَهَا وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْأُجْرَةَ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ: لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْأَجْرَ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَحِقَّةٌ لِلنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى فِي حَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ فَلَا يَحِلُّ لَهَا الْأُجْرَةُ كَمَا لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ زَالَ بِالْإِبَانَةِ فَصَارَتْ كَالْأَجْنَبِيَّةِ وَأَمَّا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَالْتَمَسَتْ أُجْرَةَ الرَّضَاعِ وَقَالَ الْأَبُ: أَنَا أَجِدُ مَنْ يُرْضِعُهُ بِغَيْرِ أَجْرٍ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَذَلِكَ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] وَلِأَنَّ فِي إلْزَامِ الْأَبِ بِمَا تَلْتَمِسُهُ الْأُمُّ إضْرَارًا بِالْأَبِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233] أَيْ: لَا يُضَارَّ الْأَبُ بِالْتِزَامِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا تَلْتَمِسُهُ الْأَجْنَبِيَّةُ كَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ وَلَكِنْ تُرْضِعُهُ عِنْدَ الْأُمِّ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِمَا فِيهِ مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْأُمِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْل فِي بَيَانُ مَنْ لَهُ الْحَضَانَةُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ لَهُ الْحَضَانَةُ فَالْحَضَانَةُ تَكُونُ لِلنِّسَاءِ فِي وَقْتٍ وَتَكُونُ لِلرِّجَالِ فِي وَقْتٍ وَالْأَصْلُ فِيهَا النِّسَاءُ؛ لِأَنَّهُنَّ أَشْفَقُ وَأَرْفَقُ وَأَهْدَى إلَى تَرْبِيَةِ الصِّغَارِ ثُمَّ تُصْرَفُ إلَى الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُمْ عَلَى الْحِمَايَةِ وَالصِّيَانَةِ وَإِقَامَةِ مَصَالِحِ الصِّغَارِ أَقْدَرُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطٌ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ شَرْطِ الْحَضَانَتَيْنِ وَوَقْتِهِمَا أَمَّا الَّتِي لِلنِّسَاءِ فَمِنْ شَرَائِطِهَا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الصِّغَارِ فَلَا حَضَانَةَ لِبَنَاتِ الْعَمِّ وَبَنَاتِ الْخَالِ وَبَنَاتِ الْعَمَّةِ وَبَنَاتِ الْخَالَةِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْحَضَانَةِ عَلَى الشَّفَقَةِ، وَالرَّحِمُ الْمَحْرَمُ هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِالشَّفَقَةِ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فِيهَا الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ فَأَحَقُّ النِّسَاءِ مِنْ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ بِالْحَضَانَةِ الْأُمُّ؛ لِأَنَّهُ لَا أَقْرَبَ مِنْهَا ثُمَّ أُمُّ الْأُمِّ ثُمَّ أُمُّ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْجَدَّتَيْنِ وَإِنْ اسْتَوَيَتَا فِي الْقُرْبِ لَكِنْ إحْدَاهُمَا مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ أَوْلَى. وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ فَكُلُّ مَنْ يُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأُمِّ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ أَشْفَقَ ثُمَّ الْأَخَوَاتُ فَأُمُّ الْأَبِ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ؛ لِأَنَّ لَهَا وِلَادًا فَكَانَتْ أَدْخَلَ فِي الْوِلَايَةِ وَكَذَا هِيَ أَشْفَقُ، وَأَوْلَى الْأَخَوَاتِ الْأُخْتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ الْأُخْتُ لِأُمٍّ ثُمَّ الْأُخْتُ لِأَبٍ؛ لِأَنَّ الْأُخْتَ لِأَبٍ وَأُمٍّ تُدْلِي بِقَرَابَتَيْنِ فَتُرَجَّحُ عَلَى الْأُخْتِ لِأُمٍّ بِقَرَابَةِ الْأَبِ وَتُرَجَّحُ الْأُخْتُ لِأُمٍّ؛ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأُمِّ فَكَانَتْ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ لِأَبٍ، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْأُخْتِ لِأَبٍ مَعَ الْخَالَةِ أَيَّتُهُمَا أَوْلَى؟ رُوِيَ عَنْهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْخَالَةَ أَوْلَى وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ. وَرُوِيَ عَنْهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّ الْأُخْتَ لِأَبٍ أَوْلَى، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مَا رُوِيَ أَنَّ بِنْتَ حَمْزَةَ لَمَّا رَأَتْ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَمَسَّكَتْ بِهِ وَقَالَتْ: ابْنَ عَمِّي فَأَخَذَهَا فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَجَعْفَرٌ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بِنْتُ عَمِّي وَقَالَ جَعْفَرٌ: بِنْتُ عَمِّي وَخَالَتُهَا عِنْدِي وَقَالَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بِنْتُ أَخِي آخَيْت بَيْنِي وَبَيْنَ حَمْزَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا لِخَالَتِهَا وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْخَالَةُ وَالِدَةٌ» فَقَدْ سَمَّى الْخَالَةَ وَالِدَةً فَكَانَتْ أَوْلَى وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْأُخْتَ لِأَبٍ بِنْتُ الْأَبِ وَالْخَالَةَ بِنْتُ الْجَدِّ فَكَانَتْ الْأُخْتُ أَقْرَبَ فَكَانَتْ أَوْلَى وَبِنْتُ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْلَى مِنْ الْخَالَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ وَكَذَا بِنْتُ الْأُخْتِ لِأُمٍّ؛ لِأَنَّهَا مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ وَالْخَالَةُ وَلَدُ الْجَدِّ، وَكَذَا بِنْتُ الْأُخْتِ لِأَبٍ أَوْلَى مِنْ الْخَالَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ وَلَدِ الْأَبِ، وَالْخَالَةُ وَلَدُ الْجَدِّ فَكَانَتْ أَوْلَى. وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَالَةَ تَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا تَتَقَدَّمُ عَلَى أُمِّهَا وَهِيَ الْأُخْتُ لِأَبٍ فَلَأَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَى بِنْتِهَا - وَهِيَ أَبْعَدُ مِنْ أُمِّهَا - أَوْلَى، وَبَنَاتُ الْأُخْتِ أَوْلَى مِنْ بَنَاتِ الْأَخِ لِأَنَّ الْأَخَ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْحَضَانَةِ، وَالْأُخْتُ لَهَا حَقٌّ فِيهَا فَكَانَ وَلَدُ الْأُخْتِ أَوْلَى وَالْخَالَاتُ أَوْلَى مِنْ بَنَاتِ الْأَخِ؛ لِأَنَّ بِنْتَ الْأَخِ تُدْلِي بِقَرَابَةِ الذَّكَرِ وَالْخَالَةُ تُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأُمِّ؛ فَكَانَتْ الْخَالَةُ أَوْلَى، وَبَنَاتُ الْأَخِ أَوْلَى مِنْ الْعَمَّاتِ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَعْنِي: بِنْتَ الْأَخِ وَالْعَمَّةَ تُدْلِي بِذَكَرٍ لَكِنَّ بِنْتَ الْأَخِ أَقْرَبُ؛ لِأَنَّهَا وَلَدُ الْأَبِ وَالْعَمَّةُ وَلَدُ الْجَدِّ فَكَانَتْ بِنْتُ الْأَخِ أَقْرَبَ فَكَانَتْ أَوْلَى ثُمَّ الْخَالَاتُ أَوْلَى مِنْ

فصل في وقت الحضانة

الْعَمَّاتِ وَإِنْ تَسَاوَيْنَ فِي الْقُرْبِ؛ لِأَنَّ الْخَالَاتِ يُدْلِينَ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ فَكُنَّ أَشْفَقَ، وَأَوْلَى الْخَالَاتِ الْخَالَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ؛ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِقَرَابَتَيْنِ ثُمَّ الْخَالَةُ لِأُمٍّ لِإِدْلَائِهَا بِقَرَابَةِ الْأُمِّ ثُمَّ الْخَالَةُ لِأَبٍ ثُمَّ الْعَمَّاتُ، وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّ أُمَّ الْأَبِ أَوْلَى مِنْ الْخَالَةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ زُفَرُ: الْخَالَةُ أَوْلَى، وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْخَالَةُ وَالِدَةٌ» وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ أُمَّ الْأَبِ لَهَا أَوْلَادٌ وَالْوِلَايَةُ فِي الْأَصْلِ مُسْتَفَادَةٌ بِالْوِلَادِ، وَأَوْلَى الْعَمَّاتِ الْعَمَّةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ؛ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِقَرَابَتَيْنِ ثُمَّ الْعَمَّةُ لِأُمٍّ لِاتِّصَالِهَا بِجِهَةِ الْأُمِّ ثُمَّ الْعَمَّةُ لِأَبٍ. وَأَمَّا بَنَاتُ الْعَمِّ وَالْخَالِ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ فَلَا حَقَّ لَهُنَّ فِي الْحَضَانَةِ لِعَدَمِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ ذَاتَ زَوْجٍ أَجْنَبِيٍّ مِنْ الصَّغِيرِ فَإِنْ كَانَتْ فَلَا حَقَّ لَهَا فِي الْحَضَانَةِ، وَأَصْلُهُ مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً وَيَزْعُمُ أَبُوهُ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنِّي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ مَا لَمْ تَنْكِحِي» . وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: طَلَّقَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُمَّ ابْنِهِ عَاصِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَقِيَهَا وَمَعَهَا الصَّبِيُّ فَنَازَعَهَا وَارْتَفَعَا إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَضَى أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِأُمِّهِ مَا لَمْ يَشِبَّ أَوْ تَتَزَوَّجْ وَقَالَ: إنَّ رِيحَهَا وَفِرَاشَهَا خَيْرٌ لَهُ حَتَّى يَشِبَّ أَوْ تَتَزَوَّجَ، وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ يَلْحَقُهُ الْجَفَاءُ وَالْمَذَلَّةُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ يَبْغَضُهُ لِغَيْرَتِهِ وَيَنْظُرُ إلَيْهِ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ وَيُقَتِّرُ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَتْ بِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الصَّبِيِّ لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا فِي الْحَضَانَةِ كَالْجَدَّةِ إذَا تَزَوَّجَتْ بِجَدِّ الصَّبِيِّ أَوْ الْأُمِّ تَزَوَّجَتْ بِعَمِّ الصَّبِيِّ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْجَفَاءُ مِنْهُمَا لِوُجُودِ الْمَانِعِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْقَرَابَةُ الْبَاعِثَةُ عَلَى الشَّفَقَةِ، وَلَوْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا أَوْ أَبَانَهَا عَادَ حَقُّهَا فِي الْحَضَانَةِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ فَيَزُولُ الْمَنْعُ وَيَعُودُ حَقُّهَا وَتَكُونُ هِيَ أَوْلَى مِمَّنْ هِيَ أَبْعَدُ مِنْهَا كَمَا كَانَتْ، وَمِنْهَا: عَدَمُ رِدَّتِهَا حَتَّى لَوْ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ بَطَلَ حَقُّهَا فِي الْحَضَانَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُحْبَسُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الصَّبِيُّ، وَلَوْ تَابَتْ وَأَسْلَمَتْ يَعُودُ حَقُّهَا لِزَوَالِ الْمَانِعِ، وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ عَنْ النِّسَاءِ إذَا اجْتَمَعْنَ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ؟ قَالَ: يَضَعُهُ الْقَاضِي حَيْثُ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُنَّ فَصَارَ كَمَنْ لَا قَرَابَةَ لَهُ وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ حُرَّةً فَلَا حَقَّ لِلْأَمَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فِي حَضَانَةِ الْوَلَدِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ الْحَضَانَةَ ضَرْبٌ مِنْ الْوِلَايَةِ وَهُمَا لَيْسَتَا مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَأَمَّا إذَا أُعْتِقَتَا فَهُمَا فِي الْحَضَانَةِ كَالْحُرَّةِ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَفَادَتَا الْوِلَايَةَ بِالْعِتْقِ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي هَذِهِ الْحَضَانَةِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَقَّ إنَّمَا يَثْبُتُ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ وَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، وَكَذَا اتِّحَادُ الدِّينِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ هَذَا الْحَقِّ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْحَاضِنَةُ كِتَابِيَّةً وَالْوَلَدُ مُسْلِمٌ؛ كَانَتْ فِي الْحَضَانَةِ كَالْمُسْلِمَةِ كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ لِمَا قُلْنَا وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّازِيّ يَقُولُ: إنَّهَا أَحَقُّ بِالصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ حَتَّى يَعْقِلَا فَإِذَا عَقَلَا؛ سَقَطَ حَقُّهَا؛ لِأَنَّهَا تُعَوِّدُهُمَا أَخْلَاقَ الْكَفَرَةِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِمَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي وَقْتُ الْحَضَانَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وَقْتُ الْحَضَانَةِ الَّتِي مِنْ قِبَلِ النِّسَاءِ فَالْأُمُّ وَالْجَدَّتَانِ أَحَقُّ بِالْغُلَامِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهُنَّ فَيَأْكُلَ وَحْدَهُ وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ وَيَلْبَسَ وَحْدَهُ كَذَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد بْنُ رَشِيدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ وَيَتَوَضَّأُ وَحْدَهُ يُرِيدُ بِهِ الِاسْتِنْجَاءَ أَيْ وَيَسْتَنْجِي وَحْدَهُ وَلَمْ يُقَدِّرْ فِي ذَلِكَ تَقْدِيرًا وَذَكَرَ الْخَصَّافُ سَبْعَ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَهِيَ أَحَقُّ بِهَا حَتَّى تَحِيضَ كَذَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَحَكَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ حَتَّى تَبْلُغَ أَوْ تَشْتَهِيَ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ تَتَوَقَّتَ الْحَضَانَةُ بِالْبُلُوغِ فِي الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهَا ضَرْبُ وِلَايَةٍ وَلِأَنَّهَا ثَبَتَتْ لِلْأُمِّ فَلَا تَنْتَهِي إلَّا بِالْبُلُوغِ كَوِلَايَةِ الْأَبِ فِي الْمَالِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي الْغُلَامِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَضَى بِعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ لِأُمِّهِ مَا لَمْ يَشِبَّ عَاصِمٌ أَوْ تَتَزَوَّجْ أُمُّهُ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي الْغُلَامِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِي الْجَارِيَةِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ؛ وَلِأَنَّ الْغُلَامَ إذَا اسْتَغْنَى يَحْتَاجُ إلَى التَّأْدِيبِ وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ الرِّجَالِ وَتَحْصِيلِ أَنْوَاعِ الْفَضَائِلِ وَاكْتِسَابِ أَسْبَابِ الْعُلُومِ وَالْأَبُ عَلَى ذَلِكَ أَقْوَمُ وَأَقْدَرُ مَعَ مَا أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ فِي يَدِهَا لَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ النِّسَاءِ وَتَعَوَّدَ بِشَمَائِلِهِنَّ وَفِيهِ ضَرَرٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْجَارِيَةِ فَتُتْرَكُ فِي يَدِ الْأُمِّ بَلْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى التَّرْكِ فِي يَدِهَا إلَى

وَقْتِ الْبُلُوغِ لِحَاجَتِهَا إلَى تَعَلُّمِ آدَابِ النِّسَاءِ وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِنَّ وَخِدْمَةِ الْبَيْتِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا وَأَنْ تَكُونَ عِنْدَ الْأُمِّ ثُمَّ بَعْدَ مَا حَاضَتْ أَوْ بَلَغَتْ عِنْدَ الْأُمِّ حَدَّ الشَّهْوَةِ؛ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى حِمَايَتِهَا وَصِيَانَتِهَا وَحِفْظِهَا عَمَّنْ يَطْمَعُ فِيهَا لِكَوْنِهَا لَحْمًا عَلَى وَضَمٍ فَلَا بُدَّ مِمَّنْ يَذُبُّ عَنْهَا وَالرِّجَالُ عَلَى ذَلِكَ أَقْدَرُ. وَأَمَّا غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْ الْأَخَوَاتِ وَالْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ إذَا كَانَ الصَّغِيرُ عِنْدَهُنَّ فَالْحُكْمُ فِي الْجَارِيَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْغُلَامِ وَهُوَ أَنَّهَا تُتْرَكُ فِي أَيْدِيهِنَّ إلَى أَنْ تَأْكُلَ وَحْدَهَا وَتَشْرَبَ وَحْدَهَا وَتَلْبَسَ وَحْدَهَا ثُمَّ تُسَلَّمَ إلَى الْأَبِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَاجُ بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ إلَى تَعَلُّمِ آدَابِ النِّسَاءِ لَكِنْ فِي تَأْدِيبِهَا اسْتِخْدَامُهَا وَوِلَايَةُ الِاسْتِخْدَامِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ لِغَيْرِ الْأُمَّهَاتِ مِنْ الْأَخَوَاتِ وَالْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ فَتُسَلِّمُهَا إلَى الْأَبِ احْتِرَازًا عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَةِ. وَأَمَّا الَّتِي لِلرِّجَالِ فَأَمَّا وَقْتُهَا فَمَا بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ فِي الْغُلَامِ إلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ وَبَعْدَ الْحَيْضِ فِي الْجَارِيَةِ إذَا كَانَتْ عِنْدَ الْأُمِّ أَوْ الْجَدَّتَيْنِ وَإِنْ كَانَا عِنْدَ غَيْرِهِنَّ فَمَا بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ فِيهِمَا جَمِيعًا إلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى وَإِنَّمَا تَوَقَّتَ هَذَا الْحَقُّ إلَى وَقْتِ بُلُوغِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الرِّجَالِ عَلَى الصِّغَارِ وَالصَّغَائِرِ تَزُولُ بِالْبُلُوغِ كَوِلَايَةِ الْمَالِ غَيْرَ أَنَّ الْغُلَامَ إذَا كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ فَلِلْأَبِ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى نَفْسِهِ وَلَا يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ كَيْ لَا يَكْتَسِبَ شَيْئًا عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ فَأَمَّا إذَا بَلَغَ عَاقِلًا وَاجْتَمَعَ رَأْيُهُ وَاسْتَغْنَى عَنْ الْأَبِ وَهُوَ مَأْمُونٌ عَلَيْهِ؛ فَلَا حَقَّ لِلْأَبِ فِي إمْسَاكِهِ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ مَالِهِ فَيُخَلِّيَ سَبِيلَهُ فَيَذْهَبَ حَيْثُ شَاءَ وَالْجَارِيَةُ إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا وَهِيَ غَيْرُ مَأْمُونَةٍ عَلَى نَفْسِهَا لَا يُخَلِّيَ سَبِيلَهَا وَيَضُمَّهَا إلَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَتْ مَأْمُونَةً عَلَى نَفْسِهَا؛ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهَا وَيُخَلِّي سَبِيلَهَا وَتُتْرَكُ حَيْثُ أَحَبَّتْ وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا لَا يُخَلِّي سَبِيلَهَا وَإِنْ كَانَتْ مَأْمُونَةً عَلَى نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهَا مَطْمَعٌ لِكُلِّ طَامِعٍ وَلَمْ تَخْتَبِرْ الرِّجَالَ فَلَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا الْخِدَاعُ. وَأَمَّا شَرْطُهَا فَمِنْ شَرَائِطِهَا الْعُصُوبَةِ فَلَا تَثْبُتُ إلَّا لِلْعَصَبَةِ مِنْ الرِّجَالِ وَيَتَقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ الْأَبُ ثُمَّ الْجَدُّ أَبُوهُ وَإِنْ عَلَا ثُمَّ الْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ الْأَخُ لِأَبٍ ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ لِأَبٍ ثُمَّ الْعَمُّ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ الْعَمُّ لِأَبٍ ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ لِأَبٍ، إنْ كَانَ الصَّبِيُّ غُلَامًا وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَلَا تُسَلَّمُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا فَلَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْغُلَامُ فَإِنَّهُ عَصَبَةٌ وَأَحَقُّ بِهِ مِمَّنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ ثُمَّ عَمُّ الْأَبِ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ عَمُّ الْأَبِ لِأَبٍ ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ لِأَبٍ، وَلَوْ كَانَ لَهَا ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ كُلُّهُمْ عَلَى دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَنْ كَانُوا كُلُّهُمْ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ، أَوْ ثَلَاثَةُ أَعْمَامٍ كُلُّهُمْ عَلَى دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَأَفْضَلُهُمْ صَلَاحًا وَوَرَعًا أَوْلَى فَإِنْ كَانُوا فِي ذَلِكَ سَوَاءً؛ فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا أَوْلَى بِالْحَضَانَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْجَارِيَةِ مِنْ عَصَبَاتِهَا غَيْرُ ابْنِ الْعَمِّ اخْتَارَ لَهَا الْقَاضِي أَفْضَلَ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَيْهِ فَيُرَاعِي الْأَصْلَحَ فَإِنْ رَآهُ أَصْلَحَ؛ ضَمَّهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَيَضَعْهَا عِنْدَ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَمِينَةٍ وَكُلُّ ذَكَرٍ مِنْ قِبَلِ النِّسَاءِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْوَلَدِ مِثْلُ الْأَخِ لِأُمٍّ وَالْخَالِ وَأَبِي الْأُمِّ لِانْعِدَامِ الْعُصُوبَةِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ لِلْجَارِيَةِ ابْنُ عَمٍّ وَخَالٌ وَكِلَاهُمَا لَا بَأْسَ بِهِ فِي دِينِهِ؛ جَعَلَهَا الْقَاضِي عِنْدَ الْخَالِ؛ لِأَنَّهُ مَحْرَمٌ وَابْنُ الْعَمِّ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ فَكَانَ الْمَحْرَمُ أَوْلَى وَالْأَخُ مِنْ الْأَبِ أَحَقُّ مِنْ الْخَالِ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ وَهُوَ أَيْضًا أَقْرَبُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَوْلَادِ الْأَبِ وَالْخَالُ مِنْ أَوْلَادِ الْجَدِّ، وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرَابَةٌ مِنْ قِبَلِ النِّسَاءِ فَالْعَمُّ أَوْلَى بِهِ مِنْ الْخَالِ وَأَبِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَتُهُ وَالْأَخُ لِأَبٍ أَوْلَى مِنْ الْعَمِّ وَكَذَلِكَ ابْنُ الْأَخِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ قَرَابَةٌ أَشْفَقُ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْأُمَّ أَوْلَى مِنْ الْخَالِ وَالْأَخِ لِأُمٍّ؛ لِأَنَّ لَهَا وِلَادًا وَهِيَ أَشْفَقُ مِمَّنْ لَا وِلَادَ لَهُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ. وَمِنْهَا: إذَا كَانَ الصَّغِيرُ جَارِيَةً أَنْ تَكُونَ عَصَبَتُهَا مِمَّنْ يُؤْتَمَنُ عَلَيْهَا فَإِنْ كَانَ لَا يُؤْتَمَنُ لِفِسْقِهِ وَلِخِيَانَتِهِ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ؛ لِأَنَّ فِي كَفَالَتِهِ لَهَا ضَرَرًا عَلَيْهَا وَهَذِهِ وِلَايَةُ نَظَرٍ فَلَا تَثْبُتُ مَعَ الضَّرَرِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْإِخْوَةُ وَالْأَعْمَامُ غَيْرَ مَأْمُونِينَ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا؛ لَا تُسَلَّمُ إلَيْهِمْ وَيَنْظُرُ الْقَاضِي امْرَأَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثِقَةً عَدْلَةٌ أَمِينَةٍ فَيُسَلِّمُهَا إلَيْهَا إلَى أَنْ تَبْلُغَ فَتُتْرَكَ حَيْثُ شَاءَتْ وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا. وَمِنْهَا: اتِّحَادُ الدِّينِ فَلَا حَقَّ لِلْعَصَبِيَّةِ فِي الصَّبِيِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى دِينِهِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ وَقَالَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقِيَاسُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ إلَّا لِلْعَصَبَةِ وَاخْتِلَافُ الدِّينِ يَمْنَعُ التَّعْصِيبَ وَقَدْ قَالُوا فِي الْأَخَوَيْنِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ يَهُودِيًّا وَالصَّبِيُّ يَهُودِيٌّ: إنَّ الْيَهُودِيَّ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ لَا الْمُسْلِمَ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ. وَلَا خِيَارَ لِلْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ إذَا اخْتَلَفَ الْأَبَوَانِ فِيهِمَا قَبْلَ

فصل في بيان مكان الحضانة

الْبُلُوغِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيّ يُخَيَّرُ الْغُلَامُ إذَا عَقَلَ التَّخْيِيرَ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَنْتَزِعَ ابْنَهُ مِنِّي وَإِنَّهُ قَدْ نَفَعَنِي وَسَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ فَقَالَ «اسْتَهِمَا عَلَيْهِ فَقَالَ الرَّجُلُ: مَنْ يُشَاقُّنِي فِي ابْنِي فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْغُلَامِ اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْت فَاخْتَارَ أُمَّهُ فَأَعْطَاهَا إيَّاهُ» وَلِأَنَّ فِي هَذَا نَظَرٌ لِلصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ الْأَشْفَقَ وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِلْأُمِّ «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي وَلَمْ يُخَيِّرْ» وَلِأَنَّ تَخْيِيرَ الصَّبِيِّ لَيْسَ بِحِكْمَةٍ؛ لِأَنَّهُ لِغَلَبَةِ هَوَاهُ يَمِيلُ إلَى اللَّذَّةِ الْحَاضِرَةِ مِنْ الْفَرَاغِ وَالْكَسَلِ وَالْهَرَبِ مِنْ الْكُتَّابِ وَتَعَلُّمِ آدَابِ النَّفْسِ وَمَعَالِمِ الدِّينِ فَيَخْتَارُ شَرَّ الْأَبَوَيْنِ وَهُوَ الَّذِي يُهْمِلُهُ وَلَا يُؤَدِّبُهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّخْيِيرُ فِي حَقِّ الْبَالِغِ؛ لِأَنَّهَا قَالَتْ: نَفَعَنِي وَسَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، وَمَعْنَى قَوْلِهَا: نَفَعَنِي أَيْ: كَسَبَ عَلَيَّ وَالْبَالِغُ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ وَقَدْ قِيلَ: إنَّ بِئْرَ أَبِي عِنَبَةَ بِالْمَدِينَةِ لَا يُمْكِنُ الصَّغِيرُ الِاسْتِقَاءَ مِنْهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّخْيِيرُ فِي حَقِّ الْبَالِغِ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ: إنَّ الصَّبِيَّ إذَا بَلَغَ يُخَيَّرُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ أَنَّهُ قَالَ: غَزَا أَبِي الْبَحْرَيْنِ فَقُتِلَ فَجَاءَ عَمِّي لِيَذْهَبَ بِي فَخَاصَمَتْهُ أُمِّي إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَعِي أَخٌ لِي صَغِيرٌ فَخَيَّرَنِي عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَلَاثًا فَاخْتَرْت أُمِّي فَأَبَى عَمِّي أَنْ يَرْضَى فَوَكَزَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِيَدِهِ وَضَرَبَهُ بِدِرَّتِهِ وَقَالَ: لَوْ بَلَغَ هَذَا الصَّبِيُّ أَيْضًا خُيِّرَ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّخْيِيرَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَكَانِ الْحَضَانَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَكَانِ الْحَضَانَةِ فَمَكَانُ الْحَضَانَةِ مَكَانُ الزَّوْجَيْنِ إذَا كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَيْنَهُمَا قَائِمَةً حَتَّى لَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْبَلَدِ وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ وَلَدَهُ الصَّغِيرَ مِمَّنْ لَهُ الْحَضَانَةُ مِنْ النِّسَاءِ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا أَحَقُّ بِالْحَضَانَةِ مِنْهُ فَلَا يَمْلِكُ انْتِزَاعَهُ مِنْ يَدِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهَا فَضْلًا عَنْ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْبَلَدِ وَإِنْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمِصْرِ الَّذِي هِيَ فِيهِ إلَى غَيْرِهِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا الْمُقَامَ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً لَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ مَعَ الْوَلَدِ وَبِدُونِهِ وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ إخْرَاجُهَا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] وَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ فَأَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا مِنْ الْبَلَدِ الَّذِي هِيَ فِيهِ إلَى بَلَدٍ فَهَذَا عَلَى أَقْسَامٍ: إنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ إلَى بَلَدِهَا وَقَدْ وَقَعَ النِّكَاحُ فِيهِ؛ فَلَهَا ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَزَوَّجَ كُوفِيَّةً بِالْكُوفَةِ ثُمَّ نَقَلَهَا إلَى الشَّامِ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا ثُمَّ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا وَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ فَأَرَادَتْ أَنْ تَنْقُلَ أَوْلَادَهَا إلَى الْكُوفَةِ فَلَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ ضَرَرُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَلَدِهِ وَقَدْ رَضِيَ بِهِ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرِّضَا وَهُوَ التَّزَوُّجُ بِهَا فِي بَلَدِهَا؛ لِأَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي بَلَدِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُقِيمُ فِيهِ وَالْوَلَدُ مِنْ ثَمَرَاتِ النِّكَاحِ فَكَانَ رَاضِيًا بِحَضَانَةِ الْوَلَدِ فِي ذَلِكَ فَكَانَ رَاضِيًا بِالتَّفْرِيقِ إلَّا أَنَّ النِّكَاحَ مَا دَامَ قَائِمًا يَلْزَمُهَا اتِّبَاعُ الزَّوْجِ فَإِذَا زَالَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ وَإِنْ وَقَعَ النِّكَاحُ فِي غَيْرِ بَلَدِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ بِوَلَدِهَا إلَى بَلَدِهَا بِأَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً كُوفِيَّةً بِالشَّامِ فَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ فَأَرَادَتْ أَنْ تَنْقُلَ وَلَدَهَا إلَى الْكُوفَةِ؛ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقَعْ النِّكَاحُ فِي بَلَدِهَا لَمْ تُوجَدْ دَلَالَةُ الرِّضَا بِالْمُقَامِ فِي بَلَدِهَا فَلَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِحَضَانَةِ الْوَلَدِ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِضَرَرِ التَّفْرِيقِ، وَلَوْ أَرَادَتْ أَنْ تَنْقُلَ الْوَلَدَ إلَى بَلَدٍ لَيْسَ ذَلِكَ بِبَلَدِهَا وَلَكِنْ وَقَعَ النِّكَاحُ فِيهِ كَمَا إذَا تَزَوَّجَ كُوفِيَّةً بِالشَّامِ فَنَقَلهَا إلَى الْبَصْرَةِ فَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا فَأَرَادَتْ أَنْ تَنْتَقِلَ بِأَوْلَادِهَا إلَى الشَّامِ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْبَلَدَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النِّكَاحُ لَيْسَ بِبَلَدِهَا وَلَا بَلَدِ الزَّوْجِ بَلْ هُوَ دَارُ غُرْبَةٍ لَهَا كَالْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الزَّوْجُ فَلَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ فِيهِ دَلِيلَ الرِّضَا بِالْمُقَامِ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِحَضَانَةِ الْوَلَدِ الَّذِي هُوَ مِنْ ثَمَرَاتِ النِّكَاحِ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِضَرَرِ التَّفْرِيقِ فَاعْتَبَرَ فِي الْأَصْلِ شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ الَّذِي تُرِيدُ أَنْ تَنْقُلَ إلَيْهِ الْوَلَدَ بَلَدَهَا، وَالثَّانِي: وُقُوعُ النِّكَاحِ فِيهِ فَمَا لَمْ يُوجَدَا لَا يَثْبُتُ لَهَا وِلَايَةُ النَّقْلِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لَهَا ذَلِكَ وَاعْتَبَرَ مَكَانَ الْعَقْدِ فَقَطْ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَقَالَ: وَإِنَّمَا أَنْظُرُ فِي هَذَا إلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ أَيْنَ وَقَعَتْ؟ وَهَكَذَا اعْتَبَرَ الطَّحَاوِيُّ وَالْخَصَّافُ اتِّبَاعًا لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا وَإِنْ أَجْمَلَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجَامِعِ فَقَدْ فَصَّلَهَا فِي الْأَصْلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَصَفْنَا وَالْمُجْمَلُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُفَسَّرِ وَقَدْ يَكُونُ الْمُفَسَّرُ بَيَانًا لِلْمُجْمَلِ كَالنَّصِّ

كتاب الإعتاق

الْمُجْمَلِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إذَا لَحِقَ بِهِ التَّفْسِيرُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُفَسَّرًا مِنْ الْأَصْلِ كَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ. هَذَا إذَا كَانَتْ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ بَعِيدَةً، فَإِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً بِحَيْثُ يَقْدِرُ الْأَبُ أَنْ يَزُورَ وَلَدَهُ وَيَعُودَ إلَى مَنْزِلِهِ قَبْلَ اللَّيْلِ فَلَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ الْأَبَ كَبِيرُ ضَرَرٍ بِالنَّقْلِ بِمَنْزِلَةِ النَّقْلِ إلَى أَطْرَافِ الْبَلَدِ. وَأَمَّا أَهْلُ السَّوَادِ فَالْحُكْمُ فِي السَّوَادِ كَالْحُكْمِ فِي الْمِصْرِ فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ إلَّا فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ. وَبَيَانُهُ: أَنَّ النِّكَاحَ إذَا وَقَعَ فِي الرُّسْتَاقِ فَأَرَادَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَنْقُلَ الصَّبِيَّ إلَى قَرْيَتِهَا فَإِنْ كَانَ أَصْلُ النِّكَاحِ وَقَعَ فِيهَا؛ فَلَهَا ذَلِكَ كَمَا فِي الْمِصْرِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَ وَقَعَ فِي غَيْرِهَا فَلَيْسَ لَهَا نَقْلُهُ إلَى قَرْيَتِهَا وَلَا إلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا النِّكَاحُ إذَا كَانَتْ بَعِيدَةً لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمِصْرِ وَإِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً - عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا -؛ فَلَهَا ذَلِكَ كَمَا فِي الْمِصْرِ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مُتَوَطِّنًا فِي الْمِصْرِ فَأَرَادَتْ نَقْلَ الْوَلَدِ إلَى الْقَرْيَةِ فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا فِيهَا وَهِيَ قَرْيَتُهَا فَلَهَا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً عَنْ الْمِصْرِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمِصْرِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ قَرْيَتَهَا فَإِنْ كَانَتْ قَرْيَتَهُ وَوَقَعَ فِيهَا أَصْلُ النِّكَاحِ فَلَهَا ذَلِكَ كَمَا فِي الْمِصْرِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقَعْ النِّكَاحُ فِيهَا فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْ الْمِصْرِ بِخِلَافِ الْمِصْرَيْنِ؛ لِأَنَّ أَخْلَاقَ أَهْلِ السَّوَادِ لَا تَكُونُ مِثْلَ أَخْلَاقِ أَهْلِ الْمِصْرِ بَلْ تَكُونُ أَجْفَى فَيَتَخَلَّقُ الصَّبِيُّ بِأَخْلَاقِهِمْ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْأَبِ دَلِيلُ الرِّضَا بِهَذَا الضَّرَرِ؛ إذْ لَمْ يَقَعْ أَصْلُ النِّكَاحِ فِي الْقَرْيَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ، وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْقُلَ وَلَدَهَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَهَا هُنَاكَ وَكَانَتْ حَرْبِيَّةً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إضْرَارًا بِالصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ الْكَفَرَةِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ كِلَاهُمَا حَرْبِيَّيْنِ فَلَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ تَبَعٌ لَهُمَا وَهُمَا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَهُوَ الْمُوَفِّقُ. [كِتَابُ الْإِعْتَاقِ] [أَنْوَاعِ الْإِعْتَاقِ] (كِتَابُ الْإِعْتَاقِ) : الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْإِعْتَاقِ وَفِي بَيَانِ رُكْنِ الْإِعْتَاقِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْإِعْتَاقِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِعْتَاقِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِ حُكْمِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ الْإِعْتَاقُ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْإِعْتَاقُ فِي الْقِسْمَةِ الْأُولَى يَنْقَسِمُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: وَاجِبٌ، وَمَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَمُبَاحٌ، وَمَحْظُورٌ أَمَّا الْوَاجِبُ: فَالْإِعْتَاقُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ وَالْإِفْطَارِ إلَّا أَنَّهُ فِي بَابِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَاجِبٌ عَلَى التَّعْيِينِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَفِي الْيَمِينِ وَاجِبٌ عَلَى التَّخْيِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] وَفِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] وَإِنَّهُ أَمْرٌ بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] وقَوْله تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ «أَعْتِقْ رَقَبَةً» . وَأَمَّا الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ: فَهُوَ الْإِعْتَاقُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَدَبَ إلَى ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَعْتَقَ مُؤْمِنًا فِي الدُّنْيَا أَعْتَقَ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ» وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ «أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقْ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ» وَعَنْ أَبِي نَجِيحٍ السُّلَمِيُّ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالطَّائِفِ فَسَمِعْته يَقُولُ «مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَيُّمَا رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ رَجُلًا مُسْلِمًا كَانَ بِهِ وِقَاءُ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِ مُحَرَّرِهِ مِنْ النَّارِ وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتْ امْرَأَةً مُسْلِمَةً كَانَ بِهَا وِقَاءُ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِ مُحَرَّرَتِهَا مِنْ النَّارِ» وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْتِقْ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ فَقَالَ: أَوَ لَيْسَا وَاحِدًا؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا، عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي إفْكَاكِهَا» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا. وَأَمَّا الْمُبَاحُ: فَهُوَ الْإِعْتَاقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ فِيهِ وَهِيَ تَخْيِيرُ الْعَاقِلِ بَيْنَ تَحْصِيلِ الْفِعْلِ وَتَرْكِهِ شَرْعًا وَأَمَّا الْمَحْظُورُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ الشَّيْطَانِ

فصل في ركن الإعتاق

وَيَقَعُ الْعِتْقُ لِوُجُودِ رُكْنِ الْإِعْتَاقِ وَشَرْطِهِ، وَقَوْلُهُ لِوَجْهِ الشَّيْطَانِ لِبَيَانِ الْغَرَضِ وَنُقَسِّمُهُ أَيْضًا أَقْسَامًا أُخَرَ نَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي رُكْنُ الْإِعْتَاقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُ الْإِعْتَاقِ فَهُوَ اللَّفْظُ الَّذِي جُعِلَ دَلَالَةً عَلَى الْعِتْقِ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فَيُحْتَاجُ فِيهِ إلَى بَيَانِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الْعِتْقُ فِي الْجُمْلَةِ إمَّا مَعَ النِّيَّةِ أَوْ بِدُونِ النِّيَّةِ وَإِلَى بَيَانِ مَا لَا يَثْبُتُ بِهِ الْعِتْقُ مِنْ الْأَلْفَاظِ رَأْسًا أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْأَلْفَاظُ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الْعِتْقُ فِي الْجُمْلَةِ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: صَرِيحٌ، وَمُلْحَقٌ بِالصَّرِيحِ، وَكِنَايَةٌ أَمَّا الصَّرِيحُ: فَهُوَ اللَّفْظُ الْمُشْتَقُّ مِنْ الْعِتْقِ أَوْ الْحُرِّيَّةِ أَوْ الْوَلَاءِ نَحْوُ قَوْلِهِ: أَعْتَقْتُك أَوْ حَرَّرْتُك أَوْ أَنْتَ عَتِيقٌ أَوْ مُعْتَقٌ أَوْ أَنْتَ مَوْلَايَ؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَعْنَى مَكْشُوفُ الْمُرَادِ عِنْدَ السَّامِعِ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، أَمَّا لَفْظُ الْعِتْقِ وَالْحُرِّيَّةِ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْعِتْقِ فَكَانَ ظَاهِرَ الْمُرَادِ عِنْدَ السَّامِعِ فَكَانَ صَرِيحًا فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ كَصَرِيحِ الطَّلَاقِ؛ إذْ النِّيَّةُ لِتَعْيِينِ الْمُحْتَمَلِ. وَأَمَّا لَفْظُ الْوَلَاءِ فَالْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي الْأَصْلِ لِوُقُوعِهِ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الْحُدُودِ وَالْحَقَائِقِ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْعَيْنِ وَالْقُرْءِ وَغَيْرِهِمَا؛ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى النَّاصِرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] وَيَقَعُ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَبَرًا عَنْ نَبِيِّهِ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم: 5] وَيَقَعُ عَلَى الْمُعْتِقِ وَالْمُعْتَقِ لَكِنْ هَهُنَا لَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى النَّاصِرِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَنْصِرُ بِعَبْدِهِ وَلَا ابْنَ الْعَمِّ إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَعْرُوفَ النَّسَبِ وَلَا الْمُعْتَقِ إذْ الْعَبْدُ لَا يُعْتِقُ مَوْلَاهُ فَتَعَيَّنَ الْمُعْتِقُ مُرَادًا بِهِ، وَاللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ يَتَعَيَّنُ بَعْضَ الْوُجُوهِ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ مُرَادُهُ بِدَلِيلٍ مُعَيَّنٍ فَكَانَ صَرِيحًا فِي الْعِتْقِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ كَقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ أَوْ عَتِيقٌ وَكَذَا إذَا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ بِصِيغَةِ النِّدَاءِ بِأَنْ قَالَ يَا حُرُّ يَا عَتِيقُ يَا مُعْتَقُ؛ لِأَنَّهُ نَادَاهُ بِمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْعِتْقِ لِكَوْنِ اللَّفْظِ مَوْضُوعًا لِلْعِتْقِ وَالْحُرِّيَّةِ وَلَا يُعْتَبَرُ الْمَعْنَى بِالْمَوْضُوعَاتِ فَيَثْبُتُ الْعِتْقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ كَقَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ أَوْ عَتِيقٌ أَوْ مُعْتَقٌ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْمُ الْعَبْدِ حُرًّا وَعُرِفَ بِذَلِكَ الِاسْمِ فَقَالَ لَهُ: يَا حُرُّ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُسَمًّى بِذَلِكَ الِاسْمِ مَعْرُوفًا بِهِ لِنِدَائِهِ يُحْمَلُ عَلَى الِاسْمِ الْعَلَمِ لَا عَلَى الصِّفَةِ فَلَا يَعْتِقُ وَكَذَا إذَا قَالَ لَهُ: يَا مَوْلَايَ؛ يَعْتِقُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ لَا يَعْتِقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: يَا مَوْلَايَ يَحْتَمِلُ التَّعْظِيمَ وَيَحْتَمِلُ الْعِتْقَ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى التَّحْقِيقِ إلَّا بِالنِّيَّةِ كَقَوْلِهِ: يَا سَيِّدِي وَيَا مَالِكِي، وَلَنَا أَنَّ النِّدَاءَ لِلْعَبْدِ بِاسْمِ الْمَوْلَى لَا يُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ لِلْعَبْدِ وَإِكْرَامُهُ عَادَةً وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْإِعْتَاقُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ كَأَنْ قَالَ: أَنْتَ مَوْلَايَ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ؛ يَعْتِقُ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: يَا سَيِّدِي وَيَا مَالِكِي؛ لِأَنَّ هَذَا قَدْ يُذْكَرُ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالْإِكْرَامِ؛ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْعِتْقُ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ وَعَلَّلَ مُحَمَّدٌ لِهَذَا فَقَالَ: لِأَنَّا إنَّمَا أَعْتَقْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: يَا مَوْلَايَ لِأَجْلِ الْوَلَاءِ لَا لِأَجْلِ الْمِلْكِ، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِنْ قَوْلِهِ: أَعْتَقْتُك أَوْ نَحْوِهِ؛ عَنَيْت بِهِ الْخَبَرَ كَذِبًا لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِعُدُولِهِ عَنْ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي إنْشَاءِ الْعِتْقِ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِخْبَارِ فَإِنَّ الْعَرَبَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ كَانُوا يُعْتِقُونَ عَبِيدَهُمْ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ وَفِي الْحَمْلِ عَلَى الْخَبَرِ حَمْلٌ عَلَى الْكَذِبِ، وَظَاهِرُ حَالِ الْعَاقِلِ بِخِلَافِهِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: طَلَّقْتُك وَنَوَى بِهِ الْإِخْبَارَ كَذِبًا لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَيُصَدَّقُ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ وَإِنْ كَانَ إرَادَتُهُ الْخَبَرَ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَلَوْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ أَنَّهُ كَانَ خَبَرًا فَإِنْ كَانَ مُوَكَّدًا لَا يُصَدَّقُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ مَحْضٌ وَإِنْ كَانَ إنْشَاءً لَا يُصَدَّقُ قَضَاءً؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إرَادَةُ الْإِنْشَاءِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْعُدُولِ عَنْ الظَّاهِرِ وَيُصَدَّقُ دِيَانَةً؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ عَنْ الْمَاضِي، وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ مِنْ عَمَلِ كَذَا أَوْ أَنْتَ حُرٌّ الْيَوْمَ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ عَتَقَ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَعْمَالِ وَالْأَزْمَانِ لَا يَتَجَزَّأُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَعْتِقَ الْيَوْمَ وَيُسْتَرَقَّ غَدًا أَوْ يَعْتِقَ فِي عَمَلٍ وَيُرَقَّ فِي عَمَلٍ فَكَانَ الْإِعْتَاقُ فِي عَمَلٍ دُونَ عَمَلٍ وَفِي زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ إعْتَاقًا مِنْ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا وَفِي الْأَزْمَانِ بِأَسْرِهَا فَإِذَا نَوَى بَعْضَ الْأَعْمَالِ وَالْأَزْمَانِ فَقَدْ نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي وَكَذَا إذَا قَالَ: أَنْتَ مَوْلَايَ وَقَالَ: عَنَيْت بِهِ الْمُوَالَاةَ فِي الدِّينِ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ؛ إذْ هُوَ يُسْتَعْمَلُ لِوَلَاءِ الْعِتْقِ ظَاهِرًا

وَيُصَدَّقُ دِيَانَةً؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ مَا نَوَى، وَلَوْ قَالَ: مَا أَنْتَ إلَّا حُرٌّ عَتَقَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا أَنْتَ إلَّا حُرٌّ آكَدُ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ بَعْدَ النَّفْيِ كَقَوْلِنَا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَلَوْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى عَتَقَ؛ لِأَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لَامُ الْغَرَضِ فَقَدْ نَجَّزَ الْحُرِّيَّةَ وَبَيَّنَ أَنَّ غَرَضَهُ مِنْ التَّحْرِيرِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ الشَّيْطَانِ؛ عَتَقَ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَبَيَّنَ غَرَضَهُ الْفَاسِدَ مِنْ الْإِعْتَاقِ فَلَا يَقْدَحُ فِي الْعِتْقِ، وَلَوْ دَعَا عَبْدَهُ سَالِمًا فَقَالَ: يَا سَالِمُ فَأَجَابَهُ مَرْزُوقٌ فَقَالَ: أَنْتَ حُرٌّ وَلَا نِيَّةَ لَهُ عَتَقَ الَّذِي أَجَابَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتَ حُرٌّ خِطَابٌ وَالْمُتَكَلِّمُ أَوْلَى بِصَرْفِ الْخِطَابِ إلَيْهِ مِنْ السَّاكِتِ، وَلَوْ قَالَ: عَنَيْت سَالِمًا عَتَقَا فِي الْقَضَاءِ أَمَّا مَرْزُوقٌ فَلِأَنَّ الْإِشَارَةَ مَصْرُوفَةٌ إلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا فَلَا يُصَدَّقُ فِي أَنَّهُ مَا عَنَاهُ. وَأَمَّا سَالِمٌ فَبِإِقْرَارِهِ وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّمَا يَعْتِقُ الَّذِي عَنَاهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِ، وَلَوْ قَالَ: يَا سَالِمُ أَنْتَ حُرٌّ فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ آخَرُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ عَتَقَ سَالِمُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُخَاطَبَ هَهُنَا إلَّا سَالِمٌ فَيُصْرَفُ قَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ إلَيْهِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي هُوَ مُلْحَقٌ بِالصَّرِيحِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: وَهَبْت لَك نَفْسَك أَوْ وَهَبْت نَفْسَك مِنْك أَوْ بِعْت نَفْسَك مِنْك وَيَعْتِقُ سَوَاءٌ قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ مِنْ الْوَاهِبِ أَوْ الْبَائِعِ إزَالَةُ الْمِلْكِ مِنْ الْمَوْهُوبِ أَوْ الْمَبِيعِ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الْقَبُولِ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُشْتَرِي لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُمَا وَهَهُنَا لَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مَمْلُوكًا لِنَفْسِهِ فَتَبْقَى الْهِبَةُ، وَالْبَيْعُ إزَالَةُ الْمِلْكِ عَنْ الرَّقِيقِ لَا إلَى أَحَدٍ وَهَذَا مَعْنَى الْإِعْتَاقِ وَلِهَذَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْمَوْهُوبِ وَالْمَبِيعِ، وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةُ الْمِلْكِ وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: وَهَبْت لَك نَفْسَك وَقَالَ: أَرَدْت وَهَبْت لَهُ عِتْقَهُ أَيْ: لَا أَعْتِقُهُ؛ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ وُضِعَتْ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ عَنْ الْمَوْهُوبِ وَهِبَةُ الْعِتْقِ اسْتِبْقَاءُ الْمِلْكِ عَلَى الْمَوْهُوبِ فَقَدْ عَدَلَ عَنْ ظَاهِرِ الْكَلَامِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ مَوْلَى فُلَانٍ أَوْ عَتِيقُ فُلَانٍ؛ أَنَّهُ يَعْتِقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ مُعْتَقُ فُلَانٍ وَلَا يَكُونُ مُعْتَقَ فُلَانٍ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِفُلَانٍ فَأَعْتَقَهُ فَإِنْ أَعْتَقَك فُلَانٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَعْتَقَك فُلَانٌ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ فُلَانًا أَنْشَأَ الْعِتْقَ فِيك وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْمِلْكِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ قَالَ لَك لِلْحَالِ: أَنْتَ حُرٌّ وَلَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ فَلَا يَعْتِقُ بِالشَّكِّ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ أَوْ ابْنَهُ؛ عَتَقَ عَلَيْهِ، نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ جُعِلَ إعْتَاقًا شَرْعًا حَتَّى تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ نَاوِيًا عَنْ الْكَفَّارَةِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا يَعْتِقُ إلَّا بِإِعْتَاقٍ مُبْتَدَأٍ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَمْلِكُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ بِالشِّرَاءِ أَوْ بِقَبُولِ الْهِبَةِ أَوْ الصَّدَقَةِ أَوْ الْوَصِيَّةِ أَوْ بِالْإِرْثِ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَعْتِقُ بِالْمِلْكِ إلَّا مَنْ لَهُ أَوْلَادٌ فَأَمَّا مَنْ لَا أَوْلَادَ لَهُ فَلَا يَعْتِقُ إلَّا بِإِعْتَاقٍ مُبْتَدَأٍ، أَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» حَقَّقَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِعْتَاقَ عَقِيبَ الشِّرَاءِ، وَلَوْ كَانَ الشِّرَاءُ نَفْسُهُ إعْتَاقًا لَمْ يَتَحَقَّقْ الْإِعْتَاقُ عَقِيبَهُ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ الْمُعْتَقِ لَا يُتَصَوَّرُ فَدَلَّ أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ لَيْسَ بِإِعْتَاقٍ وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةُ الْمِلْكِ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ فَكَيْفَ يَكُونُ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ إثْبَاتًا وَإِزَالَةً وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي دَخَلْت السُّوقَ فَوَجَدْت أَخِي يُبَاعُ فَاشْتَرَيْته وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَهُ فَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْتَقَهُ» ، وَالْحَدِيثَانِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَتُعْتِقَهُ أَيْ: تُعْتِقَهُ بِالشِّرَاءِ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا عَمَلًا بِالْأَحَادِيثِ كُلِّهَا صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: الشِّرَاءُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةُ الْمِلْكِ فَنَعَمْ وَلَكِنَّ الْمُمْتَنَعَ إثْبَاتُ حُكْمٍ وَضِدِّهِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَأَمَّا فِي زَمَانَيْنِ فَلَا؛ لِأَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ فِي الْحَقِيقَةِ دَلَائِلُ وَأَعْلَامٌ عَلَى الْمَحْكُومَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الشِّرَاءِ السَّابِقِ عَلَمًا عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ اللَّفْظُ بِعَيْنِهِ عَلَمًا عَلَى ثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي؛ إذْ لَا تَنَافِيَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الزَّمَانِ. وَأَمَّا

الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُحَرِّمَةَ لِلنِّكَاحِ فِيمَا سِوَى الْوِلَادِ وَهِيَ قَرَابَةُ الْأُخُوَّةِ وَالْعُمُومَةِ وَالْخُؤُولَةِ حَرَامَ الْقَطْعِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَحْرُمُ قَطْعُهَا، وَعَلَى هَذَا يُبْنَى وُجُوبُ الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ وَوُجُوبُ النَّفَقَةِ فِي هَذِهِ الْقَرَابَةِ أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ وَيَجِبُ النَّفَقَةُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ قَرَابَةَ الْوِلَادِ حَرَامُ الْقَطْعِ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي لَا تُحَرِّمُ النِّكَاحَ كَقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ غَيْرُ مُحَرَّمَةِ الْقَطْعِ فَالشَّافِعِيُّ يُلْحِقُ هَذِهِ الْقَرَابَةَ بِقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ وَنَحْنُ نُلْحِقُهَا بِقَرَابَةِ الْوِلَادِ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْعِتْقَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَرَابَةِ لِكَوْنِ الْعِتْقِ صِلَةً وَكَوْنِ الْقَرَابَةِ مُسْتَدْعِيَةً لِلصِّلَةِ، وَالْإِحْسَانُ إلَى الْقَرِيبِ وَالْعِتْقُ مِنْ أَعْلَى الصِّلَاتِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَعْلَى الْقَرَابَاتِ وَهِيَ قَرَابَةُ الْوِلَادِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْقَرَابَةِ فَلَا يُلْحَقُ بِهَا بَلْ يُلْحَقُ بِالْقَرَابَةِ الْبَعِيدَةِ وَهِيَ قَرَابَةُ بَنِي الْأَعْمَامِ وَلِهَذَا أُلْحِقَ بِهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَهِيَ جَرَيَانُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَالطَّرَفِ وَقَبُولُ الشَّهَادَةِ وَالْحَبْسُ بِالدَّيْنِ وَجَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ وَنِكَاحُ الْحَلِيلَةِ وَعَدَمُ التَّكَاتُبِ وَلَنَا أَنَّ قَرَابَةَ الْوِلَادِ إنَّمَا أَوْجَبَتْ الْعِتْقَ عِنْدَ الْمِلْكِ لِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةَ الْقَطْعِ وَإِبْقَاءُ الْمِلْكِ فِي الْقَرِيبِ يُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ نَفْسَهُ مِنْ بَابِ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ فَيُورِثُ وَحْشَةً وَإِنَّهَا تُوجِبُ التَّبَاعُدَ بَيْنَ الْقَرِيبِينَ وَهُوَ تَفْسِيرُ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَشَرْعُ السَّبَبِ الْمُفْضِي إلَى الْقَطْعِ مَعَ تَحْرِيمِ الْقَطْعِ مُتَنَاقِضٌ فَلَا يَبْقَى الْمِلْكُ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ فَلَا يَبْقَى الرِّقُّ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ بَقَاؤُهُ فِي الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ إلَّا لِأَجْلِ الْمِلْكِ الْمُحْتَرَمِ لِلْمَالِكِ الْمَعْصُومِ وَإِذَا زَالَ الرِّقُّ ثَبَتَ الْعِتْقُ ضَرُورَةً، وَالْقَرَابَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلنِّكَاحِ مُحَرَّمَةُ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُقْتَضِيَةَ لِحُرْمَةِ قَطْعِ الرَّحِمِ عَامَّةٌ أَوْ مُطْلَقَةٌ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] مَعْنَاهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ فَلَا تَعْصُوهُ وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ فَلَا تَقْطَعُوهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَصِلُوا الْأَرْحَامَ وَقَدْ رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «صِلُوا الْأَرْحَامَ فَإِنَّهُ أَبْقَى لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَخَيْرٌ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» وَالْأَمْرُ بِالْوَصْلِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ يَا رَبِّ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ قُطِعْتُ وَلَمْ أُوصَلْ فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَا يَكْفِيك أَنِّي شَقَقْت لَك اسْمًا مِنْ اسْمِي أَنَا الرَّحْمَنُ وَأَنْتِ الرَّحِمُ فَمَنْ وَصَلَك وَصَلْته وَمِنْ قَطَعَك بَتَتُّهُ» وَمِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يَكُونُ إلَّا بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ فَدَلَّ أَنَّ قَطْعَ الرَّحِمِ حَرَامٌ وَالرَّحِمُ هُوَ الْقَرَابَةُ سُمِّيَتْ الْقَرَابَةُ رَحِمًا إمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الرَّحِمَ مُشْتَقٌّ مِنْ الرَّحْمَةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَالْقَرَابَةُ سَبَبُ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ طَبْعًا وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ الْعُضْوِ الْمَخْصُوصِ مِنْ النِّسَاءِ الْمُسَمَّى بِالرَّحِمِ مَحَلُّ السَّبَبِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُودُ الْقَرَابَاتِ فَكَانَ كُلُّ قَرَابَةٍ أَوْ مُطْلَقُ الْقَرَابَةِ مُحَرَّمَةَ الْقَطْعِ بِظَاهِرِ النُّصُوصِ إلَّا مَا خُصَّ أَوْ قُيِّدَ بِدَلِيلٍ ثُمَّ نُخْرِجُ الْأَحْكَامَ، أَمَّا جَرَيَانُ الْقِصَاصِ فَلَا يُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ جَزَاءُ الْفِعْلِ، وَجَزَاءُ الْفِعْلِ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ فَكَانَ الْأَخُ الْقَاتِلُ أَوْ الْقَاطِعُ هُوَ قَاطَعَ الرَّحِمِ فَكَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ أَوْ قَطَعَ طَرَفَهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَكَذَا الْحَبْسُ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْمَطْلِ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ فَكَانَ مُضَافًا إلَيْهِ. وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَهِيَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِالْمَالِ وَإِنَّهُ حَصَلَ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يُفْضِي إلَى الْقَطْعِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَبِ ابْنَهُ فِي الْخِدْمَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْأَبُ لَا لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ بَلْ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَحَقُّ عَلَى الِابْنِ شَرْعًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ فِي مُقَابَلَتِهِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الِابْنُ أَبَاهُ يَصِحُّ وَلَكِنْ يُفْسَخُ احْتِرَامًا لِلْأَبِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ لِلْأَبِ زِيَادَةَ احْتِرَامٍ شَرْعًا يَظْهَرُ فِي حَقِّ هَذَا وَفِي حَقِّ الْقِصَاصِ وَالْحَبْسِ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ. وَأَمَّا نِكَاحُ الْحَلِيلَةِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ غَضَاضَةٍ لَكِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْغَضَاضَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي تَحْرِيمِ الْقَطْعِ فَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ حُرِّمَ لِلصِّيَانَةِ عَنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ ثُمَّ يَجُوزُ نِكَاحُ الْأُخْتِ بَعْدَ طَلَاقِ أُخْتِهَا وَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ غَضَاضَةٍ. وَأَمَّا التَّكَاتُبُ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَتَكَاتَبُ الْأَخُ كَمَا فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ، ثُمَّ نَقُولُ عَدَمُ تَكَاتُبِ الْأَخِ لَا يُفْضِي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَا يَصْلُحُ لِلتَّكَاتُبِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الصِّلَةِ وَالتَّبَرُّعِ وَمِلْكُ الْمُكَاتَبِ مِلْكٌ ضَرُورِيٌّ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ التَّبَرُّعِ وَالْعِتْقِ فَإِذَا لَمْ يُتَكَاتَبْ عَلَيْهِ لَمْ يَقْدِرْ الْأَخُ عَلَى إزَالَةِ الذُّلِّ عَنْهُ وَهُوَ الْمِلْكُ؛ فَلَا يُفْضِي إلَى الْغَضَاضَةِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُكَاتَبِ وَإِنْ كَانَ ضَرُورِيًّا لَمْ يُشْرَعْ إلَّا فِي حَقِّ حُرِّيَّةِ نَفْسِهِ لَكِنَّ

حُرِّيَّةَ أَبِيهِ وَابْنِهِ فِي مَعْنَى حُرِّيَّةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ يَسْعَى لِحُرِّيَّةِ أَوْلَادِهِ وَآبَائِهِ مِثْلَ مَا يَسْعَى لِحُرِّيَّةِ نَفْسِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالِكُ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا؛ يَعْتِقُ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ» وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الْحُكْمَ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ بِالْمِلْكِ فَيَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ؛ كَانَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْحُكْمِ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَكَانَا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْحُكْمِ فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ وَشِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا حَتَّى تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ وَالصَّبِيُّ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْتِقَ أَوْ لَا يَكُونَ الشِّرَاءُ إعْتَاقًا قِيلَ: إنَّ كَوْنَ شِرَاءِ الْأَبِ إعْتَاقًا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالنَّصُّ قَابِلٌ لِلتَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ بِمُرَادٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ فَلَا يَكُونُ الشِّرَاءُ مِنْ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا إعْتَاقًا بَلْ يَكُونُ تَمْلِيكًا فَقَطْ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ شَرْعًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ» لَا بِالْإِعْتَاقِ. وَلَوْ مَلَكَ حَلِيلَةَ ابْنِهِ أَوْ مَنْكُوحَةَ أَبِيهِ أَوْ أُمَّهُ مِنْ الرَّضَاعِ لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ وَكَذَا إذَا مَلَكَ ابْنَ الْعَمِّ أَوْ الْعَمَّةِ أَوْ ابْنَتَهَا أَوْ ابْنَ الْخَالِ أَوْ الْخَالَةِ أَوْ بِنْتَيْهِمَا لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ مِلْكُ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِمَا أَعْنِي الرَّحِمَ الْمَحْرَمَ فَفِي الْأَوَّلِ وُجِدَ الْمَحْرَمُ بِلَا رَحِمٍ وَفِي الثَّانِي وُجِدَ الرَّحِمُ بِلَا مَحْرَمٍ فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ وَأَهْلُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي حُرْمَةِ قَطْعِ الرَّحِمِ وَأَهْلِيَّةِ الْإِعْتَاقِ وَأَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ وَوَلَاءُ الْمُعْتَقِ لِمَنْ عَتَقَ عَلَيْهِ» ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إنْ وَقَعَ بِالشِّرَاءِ فَالشِّرَاءُ إعْتَاقٌ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَإِنْ وَقَعَ بِالْمِلْكِ شَرْعًا فَالْمِلْكُ لِلْمُعْتَقِ عَلَيْهِ فَكَانَ الْوَلَاءُ لَهُ. وَلَوْ اشْتَرَى أَمَةً وَهِيَ حُبْلَى مِنْ أَبِيهِ وَالْأَمَةُ لِغَيْرِ الْأَبِ؛ جَازَ الشِّرَاءُ وَعَتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا وَلَا تَعْتِقُ الْأَمَةُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْلَ أَنْ تَضَعَ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا إذَا وَضَعَتْ، أَمَّا جَوَازُ الشِّرَاءِ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْأَخِ جَائِزٌ كَشِرَاءِ الْأَبِ وَسَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ. وَأَمَّا عِتْقُ الْحَمْلِ فَلِأَنَّهُ أَخُوهُ وَقَدْ مَلَكَهُ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ وَلَا تَعْتِقُ الْأُمُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ عَنْهُ لِعَدَمِ الْقَرَابَةِ بَيْنَهُمَا؛ يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لَوْ مَلَكَهَا أَبُوهُ لَا تَعْتِقُ عَلَيْهِ فَابْنُهُ أَوْلَى. وَأَمَّا عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِهَا مَا دَامَ الْحَمْلُ قَائِمًا فَلِأَنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا حُرًّا وَلِأَنَّ بَيْعَ الْحَامِلِ بِدُونِ الْحَمْلِ لَا يَجُوزُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهَا وَاسْتَثْنَى الْحَمْلَ يَفْسُدُ الْبَيْعُ فَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا وَالْحُرُّ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ اسْتَثْنَى الْوَلَدَ وَإِذَا وَضَعَتْ جَازَ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ. وَإِذَا مَلَكَ شِقْصًا مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ قَدْرُ مَا مَلَكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَعْتِقُ كُلُّهُ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ لَهُ أَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمْ لَا يَتَجَزَّأُ، وَلَوْ مَلَكَ رَجُلَانِ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَحَدِهِمَا حَتَّى عَتَقَ عَلَيْهِ فَهَذَا لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ مَلَكَاهُ بِسَبَبٍ لَهُمَا فِيهِ صَنِيعٌ، وَإِمَّا إنْ مَلَكَاهُ بِسَبَبٍ لَا صَنِيعَ لَهُمَا فِيهِ. فَإِنْ مَلَكَاهُ بِسَبَبٍ لَهُمَا فِيهِ صُنْعٌ بِأَنْ مَلَكَاهُ بِالشِّرَاءِ أَوْ بِقَبُولِ الْهِبَةِ أَوْ الصَّدَقَةِ أَوْ الْوَصِيَّةِ لَا يَضْمَنُ مَنْ عَتَقَ عَلَيْهِ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَكِنْ يَسْعَى لَهُ الْعَبْدُ فِي نَصِيبِهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَضْمَنُ الَّذِي عَتَقَ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا بَاعَ رَجُلٌ نِصْفَ عَبْدِهِ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ عَبْدِهِ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ حَتَّى عَتَقَ عَلَيْهِ؛ لَا يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي نَصِيبَ الْبَائِعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُوسِرًا كَانَ الْقَرِيبُ أَوْ مُعْسِرًا، وَلَكِنْ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْبَائِعِ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا يَسْعَى الْعَبْدُ. وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِعَبْدٍ لَيْسَ بِقَرِيبٍ لَهُ: إنْ مَلَكْته فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْحَالِفُ وَغَيْرُهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً ذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنِّي لَا أَعْرِفُ الرِّوَايَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ قَرِيبِ الْعَبْدِ حَتَّى عَتَقَ عَلَيْهِ؛ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُ نَصِيبَ الشَّرِيكِ السَّاكِتِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَلَا يَضْمَنُ الْبَائِعُ شَيْئًا وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ، وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُمَا وَشِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ فَكَانَ شِرَاءُ نَصِيبِهِ إعْتَاقًا لِنَصِيبِهِ وَإِعْتَاقُ نَصِيبِهِ إعْتَاقٌ لِنَصِيبِ صَاحِبِهِ فَيَعْتِقُ كُلُّهُ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ وَلَمَّا كَانَ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ كَانَ شِرَاءُ نَصِيبِهِ

إعْتَاقًا لِنَصِيبِهِ خَاصَّةً فَلَمْ يَكُنْ إفْسَادًا لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ وَلَا تَمْلِيكًا لِنَصِيبِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ لِضَرُورَةِ تَكْمِيلِ الْإِعْتَاقِ لِضَرُورَةِ عَدَمِ التَّجْزِئَةِ فَإِذَا كَانَ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى التَّكْمِيلِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّمْلِيكِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ إذَا كَانَ مُعْسِرًا وَضَمَانُ الْإِتْلَافِ وَالتَّمْلِيكِ لَا يَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَى الشَّرِيكِ الْمُعْتِقِ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا وُجُوبَ الضَّمَانِ ثَمَّةَ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ بِالنَّصِّ نَظَرًا لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ؛ إذْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الرِّضَا بِمُبَاشَرَةِ الْإِعْتَاقِ مِنْ الشَّرِيكِ وَلَا بِمُبَاشَرَةِ شَرْطِهِ وَهَهُنَا وُجِدَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ رَاضٍ بِشِرَاءِ صَاحِبِهِ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ رَاضِيًا بِهِ، وَإِنَّ شِرَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ شِرَاءِ صَاحِبِهِ حَتَّى لَوْ أَوْجَبَ الْبَائِعُ لَهُمَا فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ لَمْ يَصِحَّ وَكَذَا الْبَائِعُ نِصْفَ عَبْدِهِ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ رَاضٍ بِشِرَائِهِ وَمَنْ رَضِيَ بِالضَّرَرِ لَا يُنْظَرُ لَهُ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعُ نَظِيرَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى الْأَصْلِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ دَلِيلُ الرِّضَا مِنْ الشَّرِيكِ السَّاكِتِ بِشِرَاءِ الْقَرِيبِ أَصْلًا حَتَّى يُوجِبَ سُقُوطَ حَقِّهِ فِي الضَّمَانِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَيَلْحَقُ بِهِ ثُمَّ وَجْهُ الْكَلَامِ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى طَرِيقِ الِابْتِدَاءِ أَنَّهُ وَإِنْ سَلَّمَ أَنَّ شِرَاءَ نَصِيبِهِ إعْتَاقٌ لِنَصِيبِهِ وَإِفْسَادٌ لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ لَكِنَّ هَذَا إفْسَادٌ مَرْضِيٌّ بِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِشِرَاءِ نَفْسِهِ وَإِثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ فِي نَصِيبِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِدُونِ شِرَاءِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا أَوْجَبَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ لَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ مُوَافِقًا لِلْإِيجَابِ؛ إذْ الْبَائِعُ مَا رَضِيَ إلَّا بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْت مِنْكُمَا فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ؛ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ فَكَانَ الرِّضَا بِشِرَاءِ نَفْسِهِ رِضًا بِشِرَاءِ صَاحِبِهِ فَكَانَ شِرَاءُ الْقَرِيبِ إفْسَادًا لِنَصِيبِ الشَّرِيكِ بِرِضَا الشَّرِيكِ فَلَا يُوجِبَ الضَّمَانَ كَمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَعْتِقْ نَصِيبَك أَوْ رَضِيت بِإِعْتَاقِ نَصِيبِك فَأَعْتَقَ؛ لَا يَضْمَنُ، كَذَا هَذَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ النُّكْتَةُ لَا تَتَمَشَّى فِي الْهِبَةِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا إذَا قَبِلَ الْهِبَةَ دُونَ الْآخَرِ يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ فَلَمْ يَكُنْ الرِّضَا بِقَبُولِ الْهِبَةِ فِي نَصِيبِهِ رِضًا بِقَبُولِ صَاحِبِهِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا إفْسَادًا مَرْضِيًّا بِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرِيكِ وَكَذَا لَا تَتَمَشَّى فِيمَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الشَّرِيكُ الْأَجْنَبِيُّ أَنَّ شَرِيكَهُ قَرِيبُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَمْ يَعْلَمْ كَوْنَ شِرَاءِ الشَّرِيكِ إعْتَاقًا لِنَصِيبِهِ فَلَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ إفْسَادًا لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ فَلَا يَثْبُتُ رِضَاهُ بِالْإِفْسَادِ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِالشَّيْءِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ مُحَالٌ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ عَكْسِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَرَاهُ الْحُكْمَ مَعَ عَدَمِ الْعِلَّةِ وَهَذَا تَفْسِيرُ الْعَكْسِ وَالْعَكْسُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ شَرْعِيٍّ عِلَلٌ فَنَحْنُ نَفَيْنَا وُجُوبَ الضَّمَانِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ بِمَا ذَكَرْنَا وَنُبْقِيهِ فِي غَيْرِهِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى ثُمَّ نَقُولُ: أَمَّا فَصْلُ الْهِبَةِ فَنَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبُولُهُ شَرْطَ صِحَّةِ قَبُولِ الْآخَرِ حَتَّى يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقَبُولِ لَكِنَّهُمَا إذَا قَبِلَا جَمِيعًا كَانَ قَبُولُهُمَا بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ جَوَابُ إيجَابٍ وَاحِدٍ مِثَالُهُ: إذَا قَرَأَ الْمُصَلِّي آيَةً وَاحِدَةً قَصِيرَةً أَوْ طَوِيلَةً عَلَى الِاخْتِلَافِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَوَازُ، وَلَوْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ يَتَعَلَّقُ الْجَوَازُ بِالْكُلِّ وَيُجْعَلُ الْكُلُّ كَآيَةٍ وَاحِدَةٍ كَذَا هَذَا. وَأَمَّا فَصْلُ الْعِلْمِ فَتَخْرِيجُهُ عَلَى جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ أَنَّ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ سَوَاءٌ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ عِنْدَهُمَا يَجِبُ مَعَ الْعِلْمِ فَمَعَ الْجَهْلِ أَوْلَى. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ سُقُوطَ ضَمَانِ الْإِتْلَافِ عِنْدَ الْإِذْنِ وَالرِّضَا بِهِ لَا يَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: كُلْ هَذَا الطَّعَامَ وَالْآذِنُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ طَعَامُ نَفْسِهِ فَأَكَلَهُ الرَّجُلُ لَا يَسْتَحِقُّ الضَّمَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَهَذَا لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي بِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ بَلْ الْمُعْتَبَرُ هُوَ سَبَبُ حُصُولِ الْعِلْمِ وَالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إلَيْهِ وَيُقَامُ ذَلِكَ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ كَمَا يُقَامُ سَبَبُ الْقُدْرَةِ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ وَطَرِيقُ حُصُولِ الْعِلْمِ هَهُنَا فِي يَدِهِ وَهُوَ السُّؤَالُ وَالْفَحْصُ عَنْ حَقِيقَةِ الْحَالِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ قَصَّرَ فَلَا يَسْتَحِقُّ الضَّمَانَ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ فَقَالَ: إنْ كَانَ الْأَجْنَبِيُّ يَعْرِفُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَعْتِقُ وَيَسْعَى لِلْأَجْنَبِيِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ تَمَّ عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الشِّرَاءَ مَعَ شَرِكَةِ الْأَبِ عَيْبٌ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْعُيُوبِ أَنَّهُ إنْ عَلِمَ بِهِ الْمُشْتَرِي يَلْزَمُهُ الْبَيْعُ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُيُوبِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ؛ لَمْ يَلْزَمْهُ مَعَ الْعَيْبِ، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَقْدُ

فِي حَقِّ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ؛ لَمْ يَلْزَمْ فِي حَقِّ الْآخَرِ فَلَا يَعْتِقُ الْعَبْدُ وَيَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْفَسْخِ. وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ نِصْفَ عَبْدٍ ثُمَّ اشْتَرَى أَبَ الْعَبْدِ النِّصْفَ الْبَاقِيَ وَهُوَ مُوسِرٌ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَجْنَبِيِّ مَا هُوَ دَلِيلُ الرِّضَا فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْ الْأَبِ فَلَا يَسْقُطُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ لَوْ أَنَّ عَبْدًا اشْتَرَى نَفْسَهُ هُوَ وَأَجْنَبِيٌّ مِنْ مَوْلَاهُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ فِي حِصَّةِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْعِتْقُ، وَالْبَيْعُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ بَيْعَ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْهُ إعْتَاقٌ عَلَى مَالٍ فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ بِخِلَافِ الرَّجُلَيْنِ اشْتَرَيَا ابْنَ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ يَصِحُّ، وَإِنْ اجْتَمَعَ الشِّرَاءُ وَالْعِتْقُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ تَمَلُّكٌ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ وَإِعْتَاقٌ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي، وَإِنَّهُ جَائِزٌ لِمَا بَيَّنَّا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ: إنْ مَلَكْت مِنْ هَذَا الْعَبْدِ شَيْئًا فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْحَالِفُ وَأَبُوهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً عَتَقَ عَلَى الْأَبِ وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُ لَا يَتَجَزَّأُ، وَقَدْ اجْتَمَعَ لِلْعِتْقِ سَبَبَانِ: الْقَرَابَةُ وَالْيَمِينُ إلَّا أَنَّ الْقَرَابَةَ سَابِقَةٌ عَلَى الْيَمِينِ فَإِذَا مَلَكَاهُ صَارَ كَأَنَّ عِتْقَ الْأَبِ أَسْبَقُ فَيَعْتِقُ النَّصِيبَانِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ: إنْ اشْتَرَيْت فُلَانًا أَوْ بَعْضَهُ فَهُوَ حُرٌّ فَادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ أَنَّهُ ابْنُهُ ثُمَّ اشْتَرَيَاهُ عَتَقَ عَلَيْهِمَا، وَنِصْفُ وَلَائِهِ لِلَّذِي أَعْتَقَهُ وَهُوَ ابْنٌ لِلَّذِي ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ هَهُنَا لَمْ يَسْبِقْ الْيَمِينَ فَيَعْتِقُ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ وَوَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَيْهِمَا وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ وَإِنْ مَلَكَ اثْنَانِ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَحَدِهِمَا بِسَبَبٍ لَا صُنْعَ لَهُمَا فِيهِ بِأَنْ وَرِثَا عَبْدًا وَهُوَ قَرِيبُ أَحَدِهِمَا حَتَّى عَتَقَ عَلَيْهِ لَا يَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا وَلَكِنْ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ هَهُنَا ثَبَتَ بِالْمِلْكِ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ إعْتَاقٍ مِنْ جِهَةِ أَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ إذْ لَا صُنْعَ لِأَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ فِي الْإِرْثِ وَوُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْمَرْءِ يَعْتَمِدُ شَرْعًا صُنْعًا مِنْ جِهَتِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْقَرِيبِ؛ فَلَا يَضْمَنُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَلْفَاظُ النَّسَبِ وَذِكْرُهَا لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الصِّفَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْفِدَاءِ فَإِنْ ذَكَرَهَا عَلَى طَرِيقِ الصِّفَةِ بِأَنْ قَالَ لِمَمْلُوكِهِ: هَذَا ابْنِي فَهُوَ لَا يَخْلُو: إمَّا إنْ كَانَ يَصْلُحُ ابْنًا لَهُ بِأَنْ كَانَ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ، وَإِمَّا إنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ، وَلَا يَخْلُو: إمَّا إنْ كَانَ مَجْهُولَ النَّسَبِ أَوْ مَعْرُوفَ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ. فَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ ابْنًا لَهُ فَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ النَّسَبِ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَالْعِتْقُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفَ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِلَا شَكٍّ وَلَكِنْ يَثْبُتُ الْعِتْقُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ الْعِتْقَ بِنَاءٌ عَلَى النَّسَبِ فَإِنْ ثَبُتَ النَّسَبُ ثَبُتَ الْعِتْقُ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ ابْنًا لَهُ فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِلَا شَكٍّ وَهَلْ يَعْتِقُ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَعْتِقُ سَوَاءٌ كَانَ مَجْهُولَ النَّسَبِ أَوْ مَعْرُوفَ النَّسَبِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَعْتِقُ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ الْعِتْقَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَصَوُّرِ النَّسَبِ وَاحْتِمَالِ ثُبُوتِهِ فَإِنْ تُصُوِّرَ ثُبُوتُهُ؛ ثَبَتَ الْعِتْقُ وَإِلَّا فَلَا وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ثُبُوتَ الْعِتْقِ لَا يَقِفُ عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ وَلَا عَلَى تَصَوُّرِ ثُبُوتِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِمَمْلُوكَتِهِ: هَذِهِ بِنْتِي فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ وَالِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الِابْنِ، وَجْهُ قَوْلِهِمْ: أَنَّ الْعِتْقَ لَوْ ثَبَتَ لَا يَخْلُو: إمَّا إنْ ثَبَتَ ابْتِدَاءً أَوْ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْإِعْتَاقُ ابْتِدَاءً وَلَا سَبِيلَ لِلثَّانِي، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلِأَنَّ النَّسَبَ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِنَاءً عَلَيْهِ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ النَّسَبِ فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْهُ حَقِيقَةً بِالزِّنَا وَالِاشْتِهَارِ مِنْ غَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى النَّسَبِ الظَّاهِرِ فَيَعْتِقُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ الْمُتَدَيِّنِ يُحْمَلُ عَلَى الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ مَا أَمْكَنَ لِاعْتِبَارِ عَقْلِهِ وَدِينِهِ دَلَالَةً وَأَمْكَنَ تَصْحِيحُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْكِنَايَةُ وَالْمَجَازُ أَمَّا الْكِنَايَةُ فَلِوُجُودِ طَرِيقِ الْكِنَايَةِ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ الْمُلَازَمَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَوْ الْمُجَاوَرَةُ بَيْنَهُمَا غَالِبًا عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَعَلُّقُ الْوُجُودِ بِهِ أَوْ عِنْدَهُ أَوْ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ وَتَكُونُ الْكِنَايَةُ كَالتَّابِعِ لِلْمُكَنَّى، وَالْمُكَنَّى هُوَ الْمَقْصُودُ فَيُتْرَكُ اسْمُ الْأَصْلِ صَرِيحًا وَيُكَنَّى عَنْهُ بِاسْمِ الْمُلَازِمِ إيَّاهُ التَّابِعِ لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] وَالْغَائِطُ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْخَالِي الْمُطْمَئِنِّ مِنْ الْأَرْضِ كَنَّى بِهِ عَنْ الْحَدَثِ لِمُلَازَمَةٍ بَيْنَ هَذَا الْمَكَانِ وَبَيْنَ الْحَدَثِ غَالِبًا وَعَادَةً؛ إذْ الْعَادَةُ أَنَّ الْحَدَثَ يُوجَدُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكَانِ تَسَتُّرًا عَنْ النَّاسِ، وَكَذَا الِاسْتِنْجَاءُ وَالِاسْتِجْمَارُ كِنَايَةٌ عَنْ تَطْهِيرِ مَوْضِعِ الْحَدَثِ؛ إذْ الِاسْتِنْجَاءُ طَلَبُ النَّجْوِ وَالِاسْتِجْمَارُ طَلَبُ الْجِمَارِ

وَكَذَا الْعَرَبُ تَقُولُ: مَازِلْنَا نَطَأُ السَّمَاءَ حَتَّى أَتَيْنَاكُمْ أَيْ نَطَأُ الْمَطَرَ؛ إذْ الْمَطَرُ يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعِ الِاسْتِعْمَالِ، وَالْبُنُوَّةُ فِي الْمِلْكِ مُلَازِمَةٌ لِلْحُرِّيَّةِ فَجَازَ أَنْ يُكَنِّي بِقَوْلِهِ: هَذَا ابْنِي عَنْ قَوْلِهِ: هَذَا مُعْتَقِي وَذِكْرُ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ فِي الْكَلَامِ سَوَاءٌ، وَلَوْ صَرَّحَ فَقَالَ: هَذَا مُعْتَقِي عَتَقَ فَكَذَا إذَا كَنَّى بِهِ. وَأَمَّا الْمَجَازُ فَلِأَنَّ مِنْ طُرُقِهِ الْمُشَابَهَةَ بَيْنَ الذَّاتَيْنِ فِي الْمَعْنَى الْمُلَازِمِ الْمَشْهُورِ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ فَيُطْلَقُ اسْمُ الْمُسْتَعَارِ عَنْهُ عَلَى الْمُسْتَعَارِ لَهُ لِإِظْهَارِ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْمُسْتَعَارِ عَنْهُ خَفِيٌّ فِي الْمُسْتَعَارِ لَهُ كَمَا فِي الْأَسَدِ مَعَ الشُّجَاعِ، وَالْحِمَارِ مَعَ الْبَلِيدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ وُجِدَ هَذَا الطَّرِيقُ هَهُنَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الِابْنَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ مَاءِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَفِيهِ مَعْنًى ظَاهِرٌ لَازِمٌ وَهُوَ كَوْنُهُ مُنْعَمًا عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ بِالْإِحْيَاءِ لِاكْتِسَابِ سَبَبِ وُجُودِهِ وَبَقَائِهِ بِالتَّرْبِيَةِ وَالْمُعْتَقُ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتِقِ؛ إذْ الْإِعْتَاقُ إنْعَامٌ عَلَى الْمُعْتَقِ وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا مُشَابَهَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِنَّهُ مَعْنًى لَازِمٌ مَشْهُورٌ فَيَجُوزُ إطْلَاقُ اسْمِ الِابْنِ عَلَى الْمُعْتَقِ مَجَازًا لِإِظْهَارِ نِعْمَةِ الْعِتْقِ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْأَسَدِ عَلَى الشُّجَاعِ وَالْحِمَارِ عَلَى الْبَلِيدِ، وَالثَّانِي: أَنَّ بَيْنَ مُعْتِقِ الرَّجُلِ وَبَيْنَ ابْنِهِ الدَّاخِلِ فِي مِلْكِهِ مُشَابَهَةً فِي مَعْنَى الْحُرِّيَّةِ وَهُوَ مَعْنًى لَازِمٌ لِلِابْنِ الدَّاخِلِ فِي مِلْكِهِ بِحَيْثُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ وَإِنَّهُ مَشْهُورٌ فِيهِ فَوُجِدَ طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ فَصَحَّتْ الِاسْتِعَارَةُ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْعِتْقَ إمَّا إنْ ثَبَتَ ابْتِدَاءً أَوْ بِنَاءً عَلَى النَّسَبِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: ابْتِدَاءً لَكِنْ بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ وَهُوَ الْكِنَايَةُ أَوْ الْمَجَازُ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا يَلْزَمُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَذِهِ بِنْتِي وَمِثْلُهُ لَا يَلِدُ مِثْلَهَا أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِكَوْنِهَا بِنْتًا لَهُ نَفَى النِّكَاحَ لِأَجْلِ النَّسَبِ وَهَهُنَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ فَلَا يَنْتَفِي النِّكَاحُ فَأَمَّا ثُبُوتُ الْعِتْقِ فَلَيْسَ يَقِفُ عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَهِيَ مَعْرُوفَةُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ: هَذِهِ بِنْتِي لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ، وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: هَذِهِ بِنْتِي وَهِيَ مَعْرُوفَةُ النَّسَبِ تَعْتِقُ وَمَا افْتَرَقَا إلَّا لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: هَذِهِ بِنْتِي وَهِيَ تَصْلُحُ بِنْتًا لَهُ ثُمَّ قَالَ: أَوْهَمْت أَوْ أَخْطَأْت لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ، وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: هَذِهِ بِنْتِي وَهِيَ تَصْلُحُ بِنْتًا ثُمَّ قَالَ: أَوْهَمْت أَوْ أَخْطَأْت يَقَعُ الْعِتْقُ فَدَلَّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هَذَا أَبِي فَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ أَبًا لَهُ وَلَيْسَ لِلْقَائِلِ أَبٌ مَعْرُوفٌ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَالْعِتْقُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ أَبًا لَهُ وَلَكِنْ لِلْقَائِلِ أَبٌ مَعْرُوفٌ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَعْتِقُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ أَبًا لَهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِلَا شَكٍّ وَلَكِنْ يَعْتِقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَعْتِقُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هَذِهِ أُمِّي فَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْأَبِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْحُرِّيَّةِ بِأَنْ كَانَ الْمَمْلُوكُ أَمَةً؛ فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: هَذِهِ بِنْتِي أَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: هَذَا ابْنِي اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْتِقُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَعْتِقُ، وَلَوْ قَالَ لِمَمْلُوكِهِ: هَذَا عَمِّي أَوْ خَالِي يَعْتِقُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَلَوْ قَالَ: هَذَا أَخِي أَوْ أُخْتِي ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: هَذَا ابْنِي أَوْ أَبِي أَوْ عَمِّي أَوْ خَالِي، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَعْتِقُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: عَمِّي أَوْ خَالِي وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ وَصَفَ مَمْلُوكَهُ بِصِفَةِ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ كَمَا إذَا قَالَ: هَذَا عَمِّي أَوْ خَالِي، وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ قَوْلَهُ: هَذَا أَخِي يَحْتَمِلُ تَحْقِيقَ الْعِتْقِ وَيَحْتَمِلُ الْإِكْرَامَ وَالتَّخَفِّي بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ عُرْفًا وَشَرْعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ بِخِلَافِ اسْمِ الْخَالِ وَالْعَمِّ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِكْرَامِ عُرْفًا وَعَادَةً فَلَا يُقَالُ: هَذَا خَالِي أَوْ عَمِّي عَلَى إرَادَةِ الْإِكْرَامِ فَكَانَ ذِكْرُهُ لِلتَّحْقِيقِ وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ: هَذَا ابْنِي أَوْ هَذَا أَبِي؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِكْرَامِ عُرْفًا وَشَرْعًا وَقَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4] وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] . وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] فَكَفُّوا عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فِي الْإِكْرَامِ يُحْمَلُ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَأَمَّا النِّدَاءُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: يَا بُنَيَّ يَا أَبِي يَا ابْنَتِي يَا أُمِّي يَا خَالِي يَا عَمِّي أَوْ يَا أُخْتِي أَوْ يَا أَخِي عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ لَا يَعْتِق فِي هَذِهِ الْفُصُولِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ بِذِكْرِ اسْمِ النِّدَاءِ هُوَ اسْتِحْضَارُ الْمُنَادَى لَا تَحْقِيقُ مَعْنَى الِاسْمِ فِيهِ إلَّا إذَا كَانَ الِاسْمُ مَوْضُوعًا لَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا

فَاحْتَمَلَ أَنَّهُ أَرَادَ النِّدَاءَ عَلَى طَرِيقِ الْإِكْرَامِ دُونَ تَحْقِيقِ الْعِتْقِ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: يَا ابْنُ أَوْ لِأَمَتِهِ: يَا ابْنَةُ لَا يَعْتِقُ لِعَدَمِ الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ قَالَ: يَا بُنَيَّ أَوْ يَا بُنَيَّةُ؛ يَعْتِقُ لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ. وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَنَحْوُ قَوْلِهِ: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك أَوْ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك أَوْ خَلَّيْت سَبِيلَك أَوْ خَرَجْت مِنْ مِلْكِي فَإِنْ نَوَى الْعِتْقَ يَعْتِقُ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ يَحْتَمِلُ الْعِتْقَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فَإِنَّ قَوْلَهُ: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك يَحْتَمِلُ سَبِيلَ اللَّوْمِ وَالْعُقُوبَةِ أَيْ: لَيْسَ لِي عَلَيْك سَبِيلُ اللَّوْمِ وَالْعُقُوبَةِ لِوَفَائِك بِالْخِدْمَةِ وَالطَّاعَةِ وَيَحْتَمِلُ: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك لِأَنِّي كَاتَبْتُك فَزَالَتْ يَدِي عَنْكَ وَيَحْتَمِلُ: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك لِأَنِّي أَعْتَقْتُك فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْعِتْقِ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَيُصَدَّقُ إذَا قَالَ: عَنَيْت بِهِ غَيْرَ الْعِتْقِ إلَّا إذَا قَالَ: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك إلَّا سَبِيلُ الْوَلَاءِ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ فِي الْقَضَاءِ وَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ نَفَى كُلَّ سَبِيلٍ وَأَثْبَتَ سَبِيلَ الْوَلَاءِ وَإِطْلَاقُ الْوَلَاءِ يُرَادُ بِهِ وَلَاءُ الْعِتْقِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَلَوْ قَالَ: إلَّا سَبِيلَ الْمُوَالَاةِ دَيْنٌ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْمُوَالَاةِ يُرَادُ بِهَا الْمُوَالَاةُ فِي الدَّيْنِ أَوْ يُسْتَعْمَلُ فِي وَلَاءِ الدَّيْنِ وَوَلَاءِ الْعِتْقِ. فَأَيُّ ذَلِكَ نَوَى؛ يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَقَوْلُهُ: لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك يَحْتَمِلُ مِلْكَ الْيَدِ أَيْ: كَاتَبْتُك فَزَالَتْ يَدِي عَنْك وَيَحْتَمِلُ: لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك؛ لِأَنِّي بِعْتُك وَيَحْتَمِلُ: لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك؛ لِأَنِّي أَعْتَقْتُك فَتَقِفُ عَلَى النِّيَّةِ وَقَوْلُهُ: خَلَّيْت سَبِيلَك يَحْتَمِلُ سَبِيلَ الِاسْتِخْدَامِ أَيْ: لَا أَسْتَخْدِمُك وَيَحْتَمِلُ أَعْتَقْتُك، وَلَوْ قَالَ لَهُ: أَمْرُك بِيَدِك أَوْ قَالَ لَهُ: اخْتَرْ، وَقَفَ عَلَى النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْعِتْقَ وَغَيْرَهُ فَكَانَ كِنَايَةً، وَلَوْ قَالَ لَهُ: أَمْرُ عِتْقِك بِيَدِك أَوْ جَعَلْت عِتْقَك فِي يَدِك أَوْ قَالَ لَهُ: اخْتَرْ الْعِتْقَ أَوْ خَيَّرْتُك فِي عِتْقِك أَوْ فِي الْعِتْقِ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ الْعِتْقَ وَيَقِفُ عَلَى الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ وَقَوْلُهُ: خَرَجْت عَنْ مِلْكِي يَحْتَمِلُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى كَاتَبْتُك وَيَحْتَمِلُ أَعْتَقْتُك، وَلَوْ قَالَ لِمَمْلُوكِهِ نَسَبُك حُرٌّ أَوْ أَصْلُك حُرٌّ فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سُبِيَ لَا يَعْتِقُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سُبِيَ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ حُرِّيَّةَ الْأَبَوَيْنِ تَقْتَضِي حُرِّيَّةَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلَّدَ مِنْ الْحُرَّيْنِ يَكُونُ حُرًّا إلَّا أَنَّ حُرِّيَّةَ الْمَسْبِيِّ بَطَلَتْ بِالسَّبْيِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِي غَيْرِ الْمَسْبِيِّ عَلَى الْأَصْلِ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لَمْ يَعْتِقْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ نَوَى الْعِتْقَ يَعْتِقُ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: لِلَّهِ تَعَالَى يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانَ جِهَةِ الْقُرْبَةِ لِلْإِعْتَاقِ الْمَحْذُوفِ، فَإِذَا نَوَى الْعِتْقَ يَعْتِقُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ لِلَّهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ صِفَةٍ لِمَمْلُوكٍ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً قَبْلَ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الْعِتْقِ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْإِعْتَاقِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إعْتَاقًا فَلَا يَعْتِقُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ لَمْ يَعْتِقْ بِلَا خِلَافٍ أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ إنْشَاءُ الْعِتْقِ فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ ثَابِتًا قَبْلَهُ وَكَوْنُهُ عَبْدَ اللَّهِ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ لَهُ قَبْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ عَبْدَ اللَّهِ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جِهَةَ الْقُرْبَةِ لِلْإِعْتَاقِ وَقَوْلُهُ: لِلَّهِ تَعَالَى يَحْتَمِلُ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: قَدْ جَعَلْتُك لِلَّهِ تَعَالَى فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ، وَقَالَ: لَمْ أَنْوِ الْعِتْقَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا حَتَّى مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ لَا يَعْتِقُ، وَإِنْ نَوَى الْعِتْقَ عَتَقَ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ هَذَا فِي مَرَضِهِ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ فَهُوَ عَبْدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ النَّذْرَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْعِتْقَ فَلَا يَعْتِقُ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَلَا يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ الصَّدَقَةُ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ عِنْدَنَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: أَطْلَقْتُك يُرِيدُ بِهِ الْعِتْقَ تَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ إزَالَةُ الْيَدِ وَالْمَرْءُ يُزِيلُ يَدَهُ عَنْ عَبْدِهِ بِالْعِتْقِ وَبِغَيْرِ الْعِتْقِ بِالْكِتَابَةِ فَإِذَا نَوَى بِهِ الْعِتْقَ تَعْتِقُ كَمَا لَوْ قَالَ: لَهَا خَلَّيْت سَبِيلَك، وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلَّقْتُك يُرِيدُ بِهِ الْعِتْقَ؛ لَا تَعْتِقُ عِنْدَنَا لِمَا نَذْكُرُ، وَلَوْ قَالَ فَرْجُك عَلَيَّ حَرَامٌ يُرِيدُ الْعِتْقَ لَمْ تَعْتِقْ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْفَرْجِ مَعَ الرِّقِّ يَجْتَمِعَانِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ جَارِيَةً قَدْ وَطِئَ أُمَّهَا أَوْ بِنْتَهَا أَوْ جَارِيَةً مَجُوسِيَّةً أَنَّهَا لَا تَعْتِقُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ، أَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَتَهَجَّى ذَلِكَ هِجَاءً إنْ نَوَى الْعِتْقَ أَوْ الطَّلَاقَ وَقَعَ؛ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ عِنْدَ انْفِرَادِهَا مَا يُفْهَمُ عِنْدَ التَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَرِيحَةٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ انْفِرَادِهَا لَمْ تُوضَعْ لِلْمَعْنَى فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْكِنَايَةِ فَتَقِفُ عَلَى النِّيَّةِ. وَأَمَّا مَا يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْعِتْقِ فَالْكِتَابَةُ الْمُسْتَبِينَةُ؛ لِأَنَّهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ إلَّا أَنَّ فِيهَا ضَرْبَ اسْتِتَارٍ وَإِبْهَامٍ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكْتُبُ ذَلِكَ لِإِرَادَةِ الْعِتْقِ وَقَدْ

يَكْتُبُ لِتَجْوِيدِ الْخَطِّ فَالْتُحِقَ بِسَائِرِ الْكِنَايَاتِ فَافْتَقَرَ إلَى النِّيَّةِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا كَالْكَلَامِ فِي الطَّلَاقِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الطَّلَاقِ وَكَذَا الْإِشَارَةُ مِنْ الْأَخْرَسِ إذَا كَانَتْ مُعْلَمَةً مَفْهُومَةَ الْمُرَادِ؛ لِأَنَّهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ فِي حَقِّهِ كَالْعِبَارَةِ فِي الطَّلَاقِ، وَالْأَصْلُ فِي قِيَامِ الْإِشَارَةِ مَقَامَ الْعِبَارَةِ قَوْله تَعَالَى خِطَابًا لِمَرْيَمَ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] أَيْ: صَمْتًا وَإِمْسَاكًا وَذَلِكَ عَلَى الْإِشَارَةِ لَا عَلَى الْقَوْلِ مِنْهَا، وَقَدْ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى قَوْلًا فَدَلَّ أَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ الْقَوْلِ. وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الْعِتْقُ أَصْلًا نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: قُمْ أَوْ اُقْعُدْ أَوْ اسْقِنِي وَنَوَى بِهِ الْعِتْقَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَا تَحْتَمِلُ الْعِتْقَ فَلَا تَصِحُّ فِيهَا نِيَّةُ الْعِتْقِ وَكَذَا لَوْ قَالَ: لَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْك؛ لِأَنَّ السَّلْطَنَةَ عِبَارَةٌ عَنْ نَفَاذِ الْمَشِيئَةِ عَلَى وَجْهِ الْقَهْرِ فَانْتِفَاؤُهَا لَا يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الرِّقِّ كَالْمُكَاتَبِ فَلَا يَقْتَضِي الْعِتْقَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك؛ لِأَنَّهُ نَفَى السُّبُلَ كُلَّهَا وَلَا يَنْتَفِي السَّبِيلُ عَلَيْهَا مَعَ قِيَامِ الرِّقِّ. أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَوْلَى عَلَى مُكَاتَبِهِ سَبِيلَ الْمُطَالَبَةِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَكَذَا السُّلْطَانُ يَحْتَمِلُ الْحُجَّةَ أَيْضًا، فَقَوْلُهُ: لَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْك أَيْ: لَا حُجَّةَ لِي عَلَيْك وَانْتِفَاءُ حُجَّتِهِ عَلَى عَبْدِهِ لَا يُوجِبُ حُرِّيَّتَهُ وَكَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: اذْهَبْ حَيْثُ شِئْت أَوْ تَوَجَّهْ حَيْثُ شِئْت مِنْ بِلَادِ اللَّهِ تَعَالَى يُرِيدُ بِهِ الْعِتْقَ أَوْ قَالَ لَهُ: أَنْتَ طَالِقٌ أَوْ طَلَّقْتُك أَوْ أَنْتَ بَائِنٌ أَوْ أَبَنْتُك أَوْ قَالَ: لِأَمَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ طَلَّقْتُك أَوْ أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ أَبَنْتُك أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ حَرَّمْتُك أَوْ أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِّيَّةٌ أَوْ بَتَّةٌ أَوْ اذْهَبِي أَوْ اُخْرُجِي أَوْ اُعْزُبِي أَوْ تَقَنَّعِي أَوْ اسْتَبْرِئِي أَوْ اخْتَارِي وَنَوَى الْعِتْقَ فَاخْتَارَتْ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقَعُ الْعِتْقُ بِهَا إذَا نَوَى وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ وَكِنَايَاتِهِ لَا يَقَعُ بِهَا الْعَتَاقُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ قَوْلَهُ لِمَمْلُوكَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ طَلَّقْتُك إثْبَاتُ الِانْطِلَاقِ أَوْ إزَالَةُ الْقَيْدِ وَأَنَّهُ نَوْعَانِ: كَامِلٌ وَذَلِكَ بِزَوَالِ الْمِلْكِ وَالرِّقِّ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْعِتْقِ، وَنَاقِصٌ وَذَلِكَ بِزَوَالِ الْيَدِ لَا غَيْرُ كَمَا فِي الْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ فَإِذَا نَوَى بِهِ الْعِتْقَ فَقَدْ نَوَى أَحَدَ النَّوْعَيْنِ فَنَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ وَلِهَذَا إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ حُرَّةٌ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ؛ طَلُقَتْ كَذَا هَذَا، وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الْمُضَافَةَ إلَى الْمَمْلُوكِ عِبَارَاتٌ عَنْ زَوَالِ يَدِ الْمَالِكِ عَنْهُ أَمَّا قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ فَلِأَنَّ الطَّلَاقَ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ الْقَيْدِ، وَالْقَيْدُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَنْعِ عَنْ الْعَمَلِ لَا عَنْ الْمِلْكِ وَالْمَانِعُ يَدُ الْمَالِكِ فَرَفْعُ الْمَانِعِ يَكُونُ بِزَوَالِ يَدِهِ، وَزَوَالُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ الْمَمْلُوكِ لَا يَقْتَضِي الْعِتْقَ كَالْمُكَاتَبِ وَكَذَا قَوْلُهُ: اذْهَبْ حَيْثُ شِئْت أَوْ تَوَجَّهْ إلَى أَيْنَ شِئْت؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ الْيَدِ عَنْهُ وَأَنَّهُ لَا يَنْفِي الرِّقَّ كَالْمُكَاتَبِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَيْدَ لَيْسَ بِمُتَنَوِّعٍ، بَلْ هُوَ نَوْعٌ وَاحِدٌ وَزَوَالُهُ عَنْ الْمَمْلُوكِ لَا يَقْتَضِي زَوَالَ الْمِلْكِ كَالْمُكَاتَبِ وَكَذَا قَوْلُهُ: أَنْتَ بَائِنٌ أَوْ أَبَنْتُك؛ لِأَنَّهُ يُنَبِّئُ عَنْ الْفَصْلِ وَالتَّبْعِيدِ وَكَذَا التَّحْرِيمُ بِجَامِعِ الرِّقِّ كَالْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ حُرَّةٌ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ تَخْلِيصٌ وَالْقَيْدُ ثُبُوتٌ فَيُنَافِيهِ وَلِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ لَا يَثْبُتُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَمَا لَا يُمْلَكُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ لَا يَزُولُ الْمِلْكُ عَنْهُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ رَفْعُ مَا يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ مِلْكُ الْيَمِين بِلَفْظِ النِّكَاحِ لَا يُتَصَوَّرُ رَفْعُهُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ حُرَّةٌ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ لَا يَخْتَصُّ ثُبُوتُهُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ كَمَا يَثْبُتُ بِغَيْرِ النِّكَاحِ يَثْبُتُ بِغَيْرِهِ مِنْ الشِّرَاءِ وَغَيْرِهِ فَلَا يَخْتَصُّ زَوَالُهُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَزُولُ بِرِدَّةِ الْمَرْأَةِ، وَكَذَا بِشِرَائِهَا بِأَنْ اشْتَرَى الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ فَجَازَ أَنْ يَزُولَ بِلَفْظِ التَّحْرِيرِ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: رَأْسُك رَأْسُ حُرٍّ أَوْ بَدَنُك بَدَنُ حُرٍّ أَوْ فَرْجُك فَرْجُ حُرٍّ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ لَكِنْ بِحَذْفِ حَرْفِ التَّشْبِيهِ وَإِنَّهُ جَائِزٌ مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88] أَيْ كَمَرِّ السَّحَابِ وَقَالَ الشَّاعِرُ وَعَيْنَاكِ عَيْنَاهَا وَجِيدُكَ جِيدُهَا ... سِوَى أَنَّ عَظْمَ السَّاقِ مِنْكِ دَقِيقُ فَتَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ بَيْنَهُمَا فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: كَلَامُ التَّشْبِيهِ لَا عُمُومَ لَهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 58] وَقَالَ تَعَالَى {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 49] فَلَا يَعْتِقُ، وَلَوْ نَوَّنَ فَقَالَ: رَأْسُك رَأْسٌ حُرٌّ وَبَدَنُك بَدَنٌ حُرٌّ وَفَرْجُك فَرْجٌ حُرٌّ فَهُوَ حُرٌّ؛ هَذَا لَيْسَ بِتَشْبِيهٍ بَلْ هُوَ وَصْفٌ وَقَدْ وُصِفَ جُمْلَةً أَوْ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جُمْلَةٍ بِالْحُرِّيَّةِ فَيَعْتِقُ، وَلَوْ قَالَ: مَا أَنْتَ إلَّا مِثْلُ الْحُرِّ أَوْ أَنْتَ مِثْلُ الْحُرِّ؛ لَمْ يَعْتِقْ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ

فصل في شرائط ركن الإعتاق

لِأَنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ بِحَرْفِ التَّشْبِيهِ وَالتَّشْبِيهُ لَا يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: مَا أَنْتَ إلَّا حُرٌّ؛ لِأَنَّ ذَاكَ لَيْسَ بِتَشْبِيهٍ بَلْ هُوَ تَحْرِيرٌ؛ لِأَنَّهُ نَفَى وَأَثْبَتَ وَالنَّفْيُ مَا زَادَهُ إلَّا تَأْكِيدًا كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ: مَا أَنْتَ إلَّا فَقِيهٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ: كُلُّ مَالِي حُرٌّ وَلَهُ عَبِيدٌ لَمْ يَعْتِقُوا؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَمْوَالِ وَوَصَفَ الْكُلَّ بِالْحُرِّيَّةِ بِقَوْلِهِ: كُلُّ مَالِي حُرٌّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَيْرَ الْعَبِيدِ مِنْ الْأَمْوَالِ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالْحُرِّيَّةِ الَّتِي هِيَ الْعِتْقُ فَيَنْصَرِفُ الْوَصْفُ بِالْحُرِّيَّةِ إلَى الْحُرِّيَّةِ الَّتِي يَحْتَمِلُهَا الْكُلُّ وَهِيَ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ أَمْوَالِهِ خَالِصَةً صَافِيَةً لَهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهَا فَلَا تَعْتِقُ عَبِيدُهُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ رُكْنِ الْإِعْتَاقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتِقِ خَاصَّةً، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَقِ خَاصَّةً وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَبَعْضُهَا يَرْجِعْ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتِقِ خَاصَّةً. فَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا حَتَّى لَا يَصِحَّ الْإِعْتَاقُ مِنْ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَالْمَجْنُونِ كَمَا لَا يَصِحُّ الطَّلَاقُ مِنْهُمَا. وَأَمَّا الْمَجْنُونُ الَّذِي يُجَنُّ فِي حَالٍ وَيُفِيقُ فِي حَالٍ فَمَا يُوجَدُ مِنْهُ حَالَ إفَاقَتِهِ فَهُوَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْعُقَلَاءِ وَمَا يُوجَدُ مِنْهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَجْنُونِ الْمُطْبِقِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ وَأَمَّا السَّكْرَانُ فَإِعْتَاقُهُ كَطَلَاقِهِ وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ مَعْتُوهًا وَلَا مَدْهُوشًا وَلَا مُبَرْسَمًا وَلَا مُغْمًى عَلَيْهِ وَلَا نَائِمًا حَتَّى لَا يَصِحَّ الْإِعْتَاقُ مِنْ هَؤُلَاءِ كَمَا لَا يَصِحُّ الطَّلَاقُ مِنْهُمْ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ بَالِغًا فَلَا يَصِحُّ الْإِعْتَاقُ مِنْ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا كَمَا لَا يَصِحُّ الطَّلَاق مِنْهُ، وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ: أَعْتَقْت عَبْدِي وَأَنَا صَبِيٌّ أَوْ قَالَ: وَأَنَا نَائِمٌ؛ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْإِعْتَاقَ إلَى حَالٍ مَعْلُومِ الْكَوْنِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ فِيهَا يُصَدَّقُ بِأَنْ قَالَ: أَعْتَقْته وَأَنَا صَبِيٌّ أَوْ وَأَنَا نَائِمٌ أَوْ مَجْنُونٌ وَقَدْ عُلِمَ جُنُونُهُ أَوْ وَأَنَا حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَدْ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْإِعْتَاقَ إلَى زَمَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِعْتَاقُ عُلِمَ إنْ أَرَادَ بِهِ صِيغَةَ الْإِعْتَاقِ لَا حَقِيقَةَ الْإِعْتَاقِ فَلَمْ يَصِرْ مُعْتَرِفًا بِالْإِعْتَاقِ، وَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْته وَأَنَا مَجْنُونٌ وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ جُنُونٌ لَا يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَضَافَهُ إلَى حَالَةٍ لَا يُتَيَقَّنُ وُجُودُهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ الرُّجُوعَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُهُ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ أَوْ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ؛ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ زَمَانَ مَا قَبْلَ انْخِلَاقِهِ وَانْخِلَاقُ الْعَبْدِ مَعْلُومٌ فَقَدْ أَضَافَ الْإِعْتَاقَ إلَى زَمَانٍ مَعْلُومِ الْكَوْنِ وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ فِيهِ الْإِعْتَاقُ فَلَا يَعْتِقُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ طَائِعًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَكَوْنُهُ جَادًّا لَيْسَ بِشَرْطٍ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى يَصِحَّ إعْتَاقُ الْهَازِلِ وَكَذَا كَوْنُهُ عَامِدًا حَتَّى يَصِحَّ إعْتَاقُ الْخَاطِئِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ وَكَذَا التَّكَلُّمُ بِاللِّسَانِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ الْإِعْتَاقُ بِالْكِتَابَةِ الْمُسْتَبِينَةِ وَالْإِشَارَةِ الْمَفْهُومَةِ وَكَذَا الْخُلُوُّ عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْإِعْتَاقِ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمَوْلَى حَتَّى يَقَعَ الْعِتْقُ وَيَبْطُلَ الشَّرْطُ أَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِفَائِدَةِ الْفَسْخِ، وَالْإِعْتَاقُ بِغَيْرِ الْعِوَضِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَكَذَا إنْ كَانَ بِعِوَضٍ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى هُوَ الْعِتْقُ وَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ فَلَا مَعْنَى لِلْخِيَارِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْعَبْدِ فَخُلُوُّهُ عَنْ خِيَارِهِ شَرْطُ صِحَّتِهِ حَتَّى لَوْ رَدَّ الْعَبْدُ الْعَقْدَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَلَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ فِي جَانِبِهِ هُوَ الْمَالُ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ فَيَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَعَلَى هَذَا الصُّلْحُ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَأَنَّ الْخِيَارَ إنْ كَانَ مَشْرُوطًا لِلْمَوْلَى؛ يَبْطُلُ الْخِيَارُ وَيَصِحُّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ لِثُبُوتِ الْفَسْخِ وَاَلَّذِي مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى وَهُوَ الْعَفْوُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْقَاتِلِ جَازَ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْعِوَضُ مِنْ جَانِبِهِ وَهُوَ الْمَالُ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ ثُمَّ إذَا جَازَ الْخِيَارُ وَفَسَخَ الْقَاتِلُ الْعَقْدَ هَلْ يَبْطُلُ الْعَفْوُ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَبْطُلَ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِشَرْطِ الْمَالِ وَلَمْ يَسْلَمْ الْمَالُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَبْطُلُ وَيَلْزَمُ الْقَاتِلَ الدِّيَةُ كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَمَّا صِحَّةُ الْعَفْوِ وَسُقُوطُ الْقِصَاصِ فَلِأَنَّ عَفْوَ الْوَلِيِّ يَصِيرُ شُبْهَةً وَالْقِصَاصُ يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ. وَأَمَّا وُجُوبُ الدِّيَةِ فَلِأَنَّ الْوَلِيَّ لَمْ يَرْضَ بِإِسْقَاطِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا عِوَضَ إلَّا الدِّيَةُ؛ إذْ هِيَ قِيمَةُ النَّفْسِ ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ وَبَيْنَ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهَا شَرْطُ الْخِيَارِ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ فَيَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي طَرَفَيْهَا كَالْبَيْعِ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ

الْمُوَفِّقُ، وَكَذَا إسْلَامُ الْمُعْتِقِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ الْإِعْتَاقُ مِنْ الْكَافِرِ إلَّا أَنَّ إعْتَاقَ الْمُرْتَدِّ لَا يَنْفُذُ فِي الْحَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ وَعِنْدَهُمَا نَافِذٌ وَإِعْتَاقُ الْمُرْتَدِّ نَافِذٌ بِلَا خِلَافٍ وَالْمَسْأَلَةُ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ السِّيَرِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَذَا صِحَّةُ الْمُعْتِقِ فَيَصِحُّ الْإِعْتَاقُ مِنْ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْجَوَازِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ إلَّا أَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْ الْمَرِيضِ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَصِيَّةً وَمِنْهَا: النِّيَّةُ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْإِعْتَاقِ وَهُوَ الْكِنَايَةُ دُونَ الصَّرِيحِ، وَيَسْتَوِي فِي صَرِيحِ الْإِعْتَاقِ وَكِنَايَاتِهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ الْمَوْلَى بِنَفْسِهِ عَلَى طَرِيقِ الْأَصَالَةِ أَوْ بِغَيْرِهِ عَلَى طَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْمَوْلَى بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ وَذَلِكَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: تَفْوِيضٌ، وَتَوْكِيلٌ، وَرِسَالَةٌ. فَالتَّفْوِيضُ: هُوَ التَّخْيِيرُ وَالْأَمْرُ بِالْيَدِ صَرِيحًا وَكِنَايَةً عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْأَمْرُ بِالْإِعْتَاقِ كَقَوْلِهِ: أَعْتِقْ نَفْسَك وَقَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ شِئْت وَالتَّوْكِيلُ هُوَ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِالْإِعْتَاقِ بِأَنْ يَقُولَ لِغَيْرِهِ: أَعْتِقْ عَبْدِي فُلَانًا مِنْ غَيْرِ التَّقْيِيدِ بِالْمَشِيئَةِ، وَالرِّسَالَةُ مَعْرُوفَةٌ وَقَدْ فَسَّرْنَاهَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ فِي الْعَتَاقِ كَالْحُكْمِ فِيهَا فِي الطَّلَاقِ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ فِيهَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْهَا: عَدَمُ الشَّكِّ فِي الْإِعْتَاقِ وَهُوَ شَرْطُ الْحُكْمِ بِثُبُوتِ الْعِتْقِ فَإِنْ كَانَ شَاكًّا فِيهِ لَا يَحْكُمُ بِثُبُوتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَقِ خَاصَّةً فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الْإِضَافَةُ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُضَافُ إلَيْهِ الْعِتْقُ مَوْجُودًا بِيَقِينٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؛ لَمْ تَصِحَّ الْإِضَافَةُ بِأَنْ قَالَ لِجَارِيَةٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ: حَمْلُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ حُرٌّ أَوْ مَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ حُرٌّ فَإِنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ التَّكَلُّمِ؛ عَتَقَ وَإِنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهَا إذَا وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ تَيَقَّنَّا بِوُجُودِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَلِدُ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ وَلَدَتْ وَاحِدًا لِأَقَلَّ مِنْهَا بِيَوْمٍ ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ لِأَكْثَرَ مِنْهَا بِيَوْمٍ عَتَقَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَتَقَ لِكَوْنِهِ فِي الْبَطْنِ يَوْمَ الْكَلَامِ فَإِذَا عَتَقَ الْأَوَّلُ عَتَقَ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ. وَأَمَّا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ التَّكَلُّمِ فَلَا نَسْتَيْقِنُ بِوُجُودِهِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ لِاحْتِمَالِ حُدُوثِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ فَلَا تَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ، وَمِنْهَا: الْإِضَافَةُ إلَى بَدَنِ الْمُعْتَقِ أَوْ إلَى جُزْءٍ جَامِعٍ مِنْهُ وَهُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ أَوْ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ حَتَّى لَوْ أَضَافَ إلَى جُزْءٍ مُعَيَّنٍ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ؛ لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَصِحُّ كَمَا فِي الطَّلَاقِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ مِنْهُ لَا يَعْتِقُ كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنَّمَا يَعْتِقُ قَدْرُ مَا أَضَافَ إلَيْهِ لَا غَيْرُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَعْتِقُ كُلُّهُ وَفِي الطَّلَاقِ تَطْلُقُ كُلُّهَا بِلَا خِلَافٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَالطَّلَاقُ لَا يَتَجَزَّأُ بِالْإِجْمَاعِ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا الْوَطْءُ وَالِاسْتِمْتَاعُ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ؛ فَلَا يَكُونُ إثْبَاتُ حُكْمِ الطَّلَاقِ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ مُفِيدًا؛ فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِالتَّكَامُلِ. فَأَمَّا مِلْكُ الْيَمِينِ فَلَمْ يُوضَعْ لِلِاسْتِمْتَاعِ وَالْوَطْءِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ حُرْمَةِ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ كَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْمُحَرَّمَةِ بِالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَإِنَّمَا وُضِعَ لِلِاسْتِرْبَاحِ أَوْ الِاسْتِخْدَامِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ؛ فَكَانَ ثُبُوتُ الْعِتْقِ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ مُفِيدًا فَهُوَ الْفَرْقُ، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى التَّكَامُلِ. وَأَمَّا كَوْنُ الْمُضَافِ إلَيْهِ الْعِتْقَ مَعْلُومًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِضَافَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ فَيَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى الْمَجْهُولِ بِأَنْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ أَوْ قَالَ: هَذَا حُرٌّ أَوْ قَالَ ذَلِكَ لِأَمَتَيْهِ وَقَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسُ: شَرْطٌ حَتَّى لَا تَصِحَّ الْإِضَافَةُ إلَى الْمَجْهُولِ عِنْدَهُمْ وَالْكَلَامُ فِي الْعَتَاقِ عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي الطَّلَاقِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْجَهَالَةُ مُقَارِنَةً أَوْ طَارِئَةً بِأَنْ عَتَقَ وَاحِدًا مِنْ عَبِيدِهِ عَيْنًا ثُمَّ نَسِيَ الْمُعْتَقَ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَمِنْهَا قَبُولُ الْعَبْدِ فِي الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ فَمَا لَمْ يُقْبَلْ؛ لَا يَعْتِقُ، وَمِنْهَا: الْمَجْلِسُ وَهُوَ مَجْلِسُ الْإِعْتَاقِ إنْ كَانَ الْعَبْدُ حَاضِرًا وَمَجْلِسُ الْعِلْمِ إنْ كَانَ غَائِبًا لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَهُوَ الْمِلْكُ؛ إذْ الْمَالِكُ وَالْمَمْلُوكُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ وَالْعَلَاقَةُ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا الْإِضَافَةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ هِيَ الْمِلْكُ فَكَوْنُ الْمُعْتَقِ مَمْلُوكَ الْمُعْتِقِ رَقَبَةً وَقْتَ ثُبُوتِ الْعِتْقِ شَرْطُ ثُبُوتِهِ فَيَحْتَاجُ فِي هَذَا الْفَصْلِ إلَى بَيَانِ كَوْنِ الْمُعْتَقِ مَمْلُوكَ الْمُعْتِقِ رَقَبَةً وَقْتَ ثُبُوتِ الْعِتْقِ شَرْطَ ثُبُوتِهِ وَإِلَى بَيَانِ أَنَّهُ: هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكَهُ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ وَهُوَ التَّكَلُّمُ بِالْعِتْقِ أَمْ لَا؟ وَإِلَى بَيَانِ مَنْ

يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ اسْمِ الْمَمْلُوكِ فِي الْإِعْتَاقِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَمَنْ لَا يَدْخُلُ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ» وَلِأَنَّ زَوَالَ مِلْكِ الْمَحَلِّ شَرْطُ ثُبُوتِ الْعِتْقِ فِيهِ وَلَا بُدَّ لِلزَّوَالِ مِنْ سَابِقَةِ الثُّبُوتِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ إعْتَاقُ عَبْدِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ إذْ لَا يَنْفُذُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَتَوَقَّفُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ وَمَوْضِعُهَا كِتَابُ الْبُيُوعِ وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ وَكَذَا الْمُكَاتَبُ؛ لِانْعِدَامِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ أَوْ الْمُكَاتَبُ ذَا رَحِمٍ مِنْهُ؛ لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ اشْتَرَى الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ مَوْلَاهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِرَقَبَتِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَدْ مَلَكَهُ الْمَوْلَى فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِرَقَبَتِهِ؛ لَا يَعْتِقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَعْتِقُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْمَأْذُونِ، وَلَوْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ ابْنَهُ مِنْ مَوْلَاهُ أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ مَوْلَاهُ؛ لَمْ يَعْتِقُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَمْ يَمْلِكْهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ وَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ أَكْسَابَ مُكَاتَبِهِ فَلَا يَعْتِقُ، وَلَوْ اشْتَرَتْ الْمُكَاتَبَةُ ابْنَهَا مِنْ سَيِّدِهَا عَتَقَ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ الْمَوْلَى يَنْفُذُ فِي الْمُكَاتَبَةِ وَوَلَدِهَا فَيَعْتِقُ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ لِأَجْلِ النَّسَبِ وَيَجُوزُ إعْتَاقُ الْمَوْلَى الْمُكَاتَبَ وَالْعَبْدَ الْمَأْذُونَ وَالْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْمَرْهُونَ وَالْمُسْتَأْجَرَ لِقِيَامِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَكَذَا الْعَبْدُ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ إذَا أَعْتَقَهُ الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ لِمَا قُلْنَا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْحَرْبِيِّ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا حَرْبِيًّا لَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَنَّهُ يَعْتِقُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَلَا يَعْتِقُ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا أَعْتَقَهُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ يَعْتِقُ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا خِلَافَ فِي الْعِتْقِ أَنَّهُ يَعْتِقُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْوَلَاءِ أَنَّهُ هَلْ يَثْبُتُ مِنْهُ أَمْ لَا؟ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ وَلَا يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِلْمُعْتِقِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِي الْعِتْقِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي الْحَرْبِيِّ إذَا دَخَلَ إلَيْنَا وَمَعَهُ مَمَالِيكُ فَقَالَ: هُمْ مُدَبَّرُونَ: إنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ قَالَ: هُمْ أَوْلَادِي أَوْ هُنَّ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِي قُبِلَ قَوْلُهُ؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَرِوَايَةُ الطَّحَاوِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا وَلَاءَ لَهُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتِقْ بِإِعْتَاقِهِ وَإِنَّمَا عَتَقَ بِخُرُوجِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَتَقَ بِإِعْتَاقِ مَوْلَاهُ لَهُ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي مَسْأَلَةِ الْعِتْقِ أَنَّهُ أَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَيَعْتِقُ كَمَا لَوْ بَاعَهُ وَكَمَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ حَرْبِيًّا أَوْ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا وَكَالْمُسْلِمِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ أَمْلَاكُهُمْ حَقِيقَةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَرِثُونَ وَيُورَثُ عَنْهُمْ، وَلَوْ كَانَتْ جَارِيَةٌ يَصِحُّ مِنْ الْحَرْبِيِّ اسْتِيلَاؤُهَا إلَّا أَنَّهُ مِلْكٌ غَيْرُ مَعْصُومٍ وَلَهُمَا أَنَّ إعْتَاقَ الْحَرْبِيِّ عَبْدَهُ الْحَرْبِيَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِدُونِ التَّخْلِيَةِ لَا يُفِيدُ مَعْنَى الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِبَارَةٌ عَنْ قُوَّةٍ حُكْمِيَّةٍ تَثْبُتُ لِلْمَحَلِّ يَدْفَعُ بِهَا يَدَ الِاسْتِيلَاءِ وَالتَّمَلُّكِ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِهَذَا الْإِعْتَاقِ بِدُونِ التَّخْلِيَةِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ تَكُونُ قَائِمَةً حَقِيقَةً وَمِلْكُ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي دِيَانَتِهِمْ بِنَاءً عَلَى الْقَهْرِ الْحِسِّيِّ وَالْغَلَبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ حَتَّى إنَّ الْعَبْدَ إذَا قَهَرَ مَوْلَاهُ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ؛ مَلَكَهُ، وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ التَّخْلِيَةُ كَانَ تَحْتَ يَدِهِ وَقَهْرِهِ حَقِيقَةً فَلَا يَظْهَرُ مَعْنَى الْعِتْقِ. هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمَشَايِخِ مُعْتَقٌ بِلِسَانِهِ مُسْتَرَقٌّ بِيَدِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُعْتِقَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ يَدَ الِاسْتِيلَاءِ وَالتَّمَلُّكِ تَنْقَطِعُ بِثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَظْهَرُ مَعْنَى الْعِتْقِ وَهُوَ الْقُوَّةُ الدَّافِعَةُ يَدَ الِاسْتِيلَاءِ وَبِخِلَافِ الْمُسْلِمِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُدِينُ الْمِلْكَ بِالِاسْتِيلَاءِ وَالْغَلَبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ عَبْدُهُ حَرْبِيًّا فَأَعْتَقَهُ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَعْتِقُ مِنْ غَيْرِ تَخْلِيَةٍ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ عِنْدَهُمَا كَالْحَرْبِيِّ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ الْحَرْبِيَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا مَلَكَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْقَرِيبِ يُوجِبُ الْعِتْقَ فَكَانَ الْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي الْإِعْتَاقِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَالْإِعْتَاقُ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ تَنْجِيزًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إضَافَةً إلَى وَقْتٍ. فَإِنْ كَانَ تَنْجِيزًا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ وَقْتَ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ التَّنْجِيزَ إثْبَاتُ

الْعِتْقِ لِلْحَالِ وَلَا عِتْقَ بِدُونِ الْمِلْكِ وَإِنْ كَانَ تَعْلِيقًا فَالتَّعْلِيقُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: تَعْلِيقٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَتَعْلِيقٌ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَيَكُونُ تَعْلِيقًا مِنْ وَجْهٍ وَمُعَاوَضَةً مِنْ وَجْهٍ، وَالتَّعْلِيقُ الْمَحْضُ نَوْعَانِ أَيْضًا: تَعْلِيقٌ بِمَا سِوَى الْمِلْكِ وَسَبَبِهِ مِنْ الشُّرُوطِ، وَتَعْلِيقٌ بِالْمِلْكِ أَوْ بِسَبَبِ الْمِلْكِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: تَعْلِيقٌ صُورَةً وَمَعْنًى، وَتَعْلِيقٌ مَعْنًى لَا صُورَةً، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي الْحَاصِلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ التَّعْلِيقِ، مَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ قِيَامُ الْمِلْكِ وَقْتَ وُجُودِهِ وَمَا لَا يُشْتَرَطُ وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ وُجُودُ الشَّرْطِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالتَّعْلِيقُ الْمَحْضُ بِمَا سِوَى الْمِلْكِ وَسَبَبِهِ مِنْ الشُّرُوطِ. فَنَحْوُ التَّعْلِيقِ بِدُخُولِ الدَّارِ وَكَلَامِ زَيْدٍ وَقُدُومِ عَمْرٍو وَنَحْوِ ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا أَوْ إذَا قَدِمَ فُلَانٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعْلِيقٌ صُورَةً وَمَعْنًى لِوُجُودِ حَرْفِ التَّعْلِيقِ وَالْجَزَاءِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّعْلِيقِ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِعَبْدٍ لَا يَمْلِكُهُ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَدَخَلَ الدَّارَ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ لَيْسَ إلَّا إثْبَاتَ الْعِتْقِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا مَحَالَةَ، وَلَا عِتْقَ بِدُونِ الْمِلْكِ وَلَا يُوجَدُ الْمِلْكُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إلَّا إذَا كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ التَّعْلِيقِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ بَقَاؤُهُ إلَى وَقْتِ الشَّرْطِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ التَّعْلِيقِ؛ كَانَ الظَّاهِرُ عَدَمَهُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ عِنْدَ وُجُودِهِ لَا مَحَالَةَ وَلِأَنَّ الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ وَالْجَزَاءُ مَا يَكُونُ غَالِبَ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ أَوْ مُتَيَقَّنَ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِهِ لِتَحْصِيلِ مَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ التَّقَوِّي عَلَى الِامْتِنَاعِ أَوْ عَلَى التَّحْصِيلِ فَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ ثَابِتًا وَقْتَ التَّعْلِيقِ؛ كَانَ الْجَزَاءُ غَالِبَ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ بَقَاءُ الْمِلْكِ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَحْصُلُ مَعْنَى الْيَمِينِ، وَكَذَا إذَا أَضَافَ الْيَمِينَ إلَى الْمِلْكِ أَوْ سَبَبِهِ كَانَ الْجَزَاءُ مُتَيَقَّنَ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَحْصُلُ مَعْنَى الْيَمِينِ فَتَنْعَقِدُ الْيَمِينُ، ثُمَّ إذَا وُجِدَ التَّعْلِيقُ فِي الْمِلْكِ حَتَّى صَحَّ؛ فَالْعَبْدُ عَلَى مِلْكِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ يَعْتِقُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ تَنْحَلُ الْيَمِينُ لَا إلَى جَزَاءٍ حَتَّى لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ فَدَخَلَ الدَّارَ وَهُوَ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ يَبْطُلُ الْيَمِينُ، وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ حَتَّى اشْتَرَاهُ ثَانِيًا فَدَخَلَ الدَّارَ عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا يَبْطُلُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ فِي بَقَائِهَا فَائِدَةً لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ بِالشِّرَاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ الْجَزَاءُ عِنْدَ الشَّرْطِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَإِذَا عَادَ الْمِلْكُ وَالْيَمِينُ قَائِمٌ؛ عَتَقَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ بِعْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ بَيْعًا صَحِيحًا لَا يَعْتِقُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ لَهُ فِيهِ عِنْدَ الشَّرْطِ، وَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا وَهُوَ فِي يَدِهِ؛ حَنِثَ لِوُجُودِ الْمِلْكِ لَهُ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الْمِلْكِ بِشَرْطَيْنِ يُرَاعَى قِيَامُ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ الْأَخِيرِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ حَتَّى لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْت هَذَيْنِ الدَّارَيْنِ فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَدَخَلَ إحْدَى الدَّارَيْنِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَدَخَلَ الدَّارَ الْأُخْرَى يَعْتِقُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَعْتِقُ وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا يُعْتَبَرُ قِيَامُ الْمِلْكِ عِنْدَ الدُّخُولِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الدُّخُولَ شَرْطَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَالْيَمِينُ بِالْعَتَاقِ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا فِي الْمِلْكِ أَوْ مُضَافَةً إلَى الْمِلْكِ أَوْ بِسَبَبِهِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ عِنْدَ الدُّخُولِ: إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ إنْ شِئْت أَوْ أَحْبَبْت أَوْ رَضِيت أَوْ هَوَيْت أَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: إنْ كُنْتِ تُحِبِّينِي أَوْ تُبْغِضِينِي أَوْ إذَا حِضْت فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الطَّلَاقِ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسَائِلَ وَأَخَوَاتِهَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ لَمْ يَشَأْ فُلَانٌ فَإِنْ قَالَ فُلَانٌ: شِئْت فِي مَجْلِسِ عِلْمِهِ لَا يَعْتِقْ لِعَدَمِ شَرْطِهِ، وَإِنْ قَالَ: لَا أَشَاءُ؛ يَعْتِقْ لَكِنْ لَا بِقَوْلِ: لَا أَشَاءُ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَشَاءَ فِي الْمَجْلِسِ بَلْ لِبُطْلَانِ الْمَجْلِسِ بِإِعْرَاضِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ لَا أَشَاءُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: إنْ لَمْ يَشَأْ فُلَانٌ الْيَوْمَ؛ فَأَنْتَ حُرٌّ فَقَالَ فُلَانٌ: شِئْت لَا يَعْتِقُ، وَلَوْ قَالَ: لَا أَشَاءُ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَشَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا دَامَتْ الْمُدَّةُ بَاقِيَةً إلَّا إذَا مَضَى الْيَوْمُ وَلَمْ يَشَأْ فَحِينَئِذٍ يَعْتِقُ، وَلَوْ عَلَّقَ بِمَشِيئَةِ نَفْسِهِ فَقَالَ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ شِئْت أَنَا فَمَا لَمْ تُوجَدْ الْمَشِيئَةُ مِنْهُ فِي عُمُرِهِ لَا يَعْتِقُ، وَلَا يُقْتَصَرُ عَلَى الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَفْرِيقٍ؛ إذْ الْعَتَاقُ بِيَدِهِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ لَمْ تَشَأْ فَإِنْ قَالَ: شِئْت لَا يَعْتِقُ؛ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَإِنْ قَالَ: لَا أَشَاءُ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَتَحَقَّقُ بِقَوْلِهِ: لَا أَشَاءُ؛ إذْ لَهُ أَنْ يَشَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَمُوتَ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَجْلِسِ فَإِذَا قَالَ: لَا أَشَاءُ فَقَدْ أَعْرَضَ عَنْ الْمَجْلِسِ وَهَهُنَا لَا يَقْتَصِرُ عَلَى

الْمَجْلِسِ فَلَهُ أَنْ يَشَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى يَمُوتَ فَإِذَا مَاتَ فَقَدْ تَحَقَّقَ الْعَدَمُ فَيَعْتِقُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِلَا فَصْلٍ وَيُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ كَوُقُوعِ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ إذْ الْمَوْتُ لَا يَخْلُو عَنْ مُقَدَّمَةِ مَرَضٍ وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ غَدًا إنْ شِئْت فَالْمَشِيئَةُ فِي الْغَدِ فَإِنْ شَاءَ فِي الْحَالِ لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يَشَأْ فِي الْغَدِ وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ شِئْت غَدًا فَالْمَشِيئَةُ إلَيْهِ فِي الْحَالِ فَإِذَا شَاءَ فِي الْحَالِ عَتَقَ غَدًا لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ عُلِّقَ الْإِعْتَاقُ الْمُضَافُ إلَى الْغَدِ بِالْمَشِيئَةِ فَيَقْتَضِي الْمَشِيئَةَ فِي الْغَدِ وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي أَضَافَ الْإِعْتَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ إلَى الْغَدِ فَيَقْتَضِي تَقَدُّمَ الْمَشِيئَةِ عَلَى الْغَدِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْمَشِيئَةُ فِي الْغَدِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا وَقَالَ زُفَرُ: الْمَشِيئَةُ إلَيْهِ لِلْحَالِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ الرَّجُلِ لِعَبْدِهِ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ صُورَةً وَمَعْنًى لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَيَصِحُّ فِي الْمِلْكِ وَيَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْأَدَاءُ إلَيْهِ فِي مِلْكِهِ فَإِذَا جَاءَ بِأَلْفٍ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَلْفِ شَاءَ الْمَوْلَى أَوْ أَبَى وَهُوَ تَفْسِيرُ الْجَبْرِ عَلَى الْقَوْلِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ يَجْبُرُهُ عَلَى الْقَبْضِ بِالْحَبْسِ كَذَا فَسَّرَهُ مُحَمَّدٌ فَقَالَ: إنَّ الْعَبْدَ إذَا أَحْضَرَ الْمَالَ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ الْمَوْلَى مِنْ الْقَبْضِ عَتَقَ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ مَا لَمْ يَقْبِضْ أَوْ يَقْبَلْ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِشَرْطِ الْأَدَاءِ إلَيْهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْأَدَاءُ إلَيْهِ إلَّا بِالْقَبْضِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَعْتِقُ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ عَبْدًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَجَاءَ بِعَبْدٍ رَدِيءٍ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ لَا يَعْتِقُ، وَلَوْ قَبِلَ يَعْتِقُ، وَكَذَا إذَا قَالَ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَدَّى كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ وَلَوْ قَبِلَ يَعْتِقُ، وَكَذَا إذَا قَالَ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ ثَوْبًا أَوْ دَابَّةً فَأَتَى بِثَوْبٍ مُطْلَقٍ أَوْ دَابَّةٍ مُطْلَقَةٍ لَا يَعْتِقُ بِدُونِ الْقَبُولِ، وَكَذَا إذَا قَالَ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا أَحُجُّ بِهَا أَوْ حَجَجْت بِهَا لَا يَعْتِقُ بِتَسْلِيمِ الْأَلْفِ مَا لَمْ يَقْبَلْ، وَكَذَا إذَا قَالَ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ هَذَا الدَّنَّ مِنْ الْخَمْرِ لَا يَعْتِقُ بِالتَّخْلِيَةِ بِدُونِ الْقَبُولِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ أَدَاءَ الْمَالِ إلَى الْإِنْسَانِ عِبَارَةٌ عَنْ تَسْلِيمِهِ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] أَيْ: تُسَلِّمُوا وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَبَرًا عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} [الدخان: 18] أَيْ سَلِّمُوا وَتَسْلِيمُ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِهِ سَالِمًا خَالِصًا لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ وَهَذَا يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ وَلِهَذَا كَانَتْ التَّخْلِيَةُ تَسْلِيمًا فِي الْكِتَابَةِ وَكَذَا فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَبْضِ كَمَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْكِتَابَةِ وَالْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ مَعَ مَا أَنَّ التَّخْلِيَةَ تَتَضَمَّنُ الْقَبْضَ؛ لِأَنَّهَا تُفِيدُ التَّمَكُّنَ مِنْ التَّصَرُّفِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْقَبْضِ لَا الْجَعْلِ الْبَرَاجِمِ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ. وَأَمَّا الْمَسَائِلُ فَهُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ أَمَّا مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ ذُكِرَ الْعَبْدُ مُطْلَقًا فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمُقَيَّدَ وَهُوَ الْعَبْدُ الْمَرْغُوبُ فِيهِ لَا مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْعَبْدِ عُلِمَ ذَلِكَ بِدَلَالَةِ حَالِهِ فَلَا يَعْتِقُ بِأَدَاءِ الرَّدِيءِ فَإِذَا قَبِلَ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَبِلَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الْمُقَيَّدَ بَلْ الْمُطْلَقَ وَعُلِمَ أَنَّ لَهُ فِيهِ غَرَضًا آخَرَ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ الدَّلَالَةُ مَعَ الصَّرِيحِ بِخِلَافِهِ حَتَّى لَوْ أَتَى بِعَبْدٍ جَيِّدٍ أَوْ وَسَطٍ وَخَلَّى يَعْتِقُ وَهُوَ الْجَوَابُ فِي مَسْأَلَةِ الْكُرِّ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الثَّوْبِ فَثَمَّ لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يَقْبَلْ وَلَا يَعْتِقُ بِأَدَاءِ الْوَسَطِ لِأَنَّ الثِّيَابَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ وَأَنْوَاعٌ مُتَفَاوِتَةٌ وَاسْمُ الثَّوْبِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ عَلَى الِانْفِرَادِ مِنْ الدِّيبَاجِ وَالْخَزِّ وَالْكَتَّانِ وَالْكِرْبَاسِ وَالصُّوفِ وَكُلِّ جِنْسٍ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ فَكَانَ الْوَسَطُ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً وَلَا يَقَعُ عَلَى أَدْنَى الْوَسَطِ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ كَمَا لَا يَقَعُ عَلَى أَدْنَى الرَّدِيءِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ أَدْنَى الْوَسَطِ وَهُوَ الْكِرْبَاسُ وَهُوَ ثَوْبٌ تُسْتَرُ بِهِ الْعَوْرَةُ مِمَّا لَا يُرْغَبُ فِيهِ بِمُقَابَلَةِ إزَالَةِ الْمِلْكِ عَنْ عَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفٌ، وَمَتَى بَقِيَ مَجْهُولًا لَا تَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ وَالتَّخْلِيَةُ حَتَّى لَوْ قَالَ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ ثَوْبًا هَرَوِيًّا فَأَنْتَ حُرٌّ يَقَعُ عَلَى الْوَسَطِ وَإِذَا جَاءَ بِهِ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ مَسْأَلَةِ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ الدَّوَابَّ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ تَحْتَهَا أَنْوَاعٌ مُتَفَاوِتَةٌ وَاسْمُ الدَّابَّةِ يَقَعَ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ عَلَى الِانْفِرَادِ حَتَّى لَوْ قَالَ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ فَرَسًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَقَدْ قَالُوا: إنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْوَسَطِ وَيُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْحَجِّ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ إنْ قَالَ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَحَجَجْت بِهَا أَوْ قَالَ: وَحَجَجْت بِهَا فَأَتَى بِالْأَلْفِ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِشَرْطَيْنِ فَلَا يَعْتِقُ بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا وَلَوْ قَالَ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا أَحُجُّ بِهَا يَعْتِقُ إذَا خَلَّى وَيَكُونُ قَوْلُهُ أَحُجُّ بِهَا لِبَيَانِ الْغَرَضِ تَرْغِيبًا لِلْعَقْدِ فِي الْأَدَاءِ حَيْثُ يَصِيرُ كَسْبُهُ مَصْرُوفًا إلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ. وَمَسْأَلَةُ الْخَمْرِ لَا رِوَايَةَ فِيهَا وَلَكِنْ ذُكِرَ فِي الْكِتَابَةِ أَنَّهُ إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى دَنٍّ مِنْ خَمْرٍ أَوْ عَلَى كَذَا عَدَدٍ مِنْ الْخَنَازِيرِ عَلَى أَنَّهُ مَتَى أَتَى

بِهَا فَهُوَ حُرٌّ فَقَبِلَ؛ يَكُونُ كِتَابَةً فَاسِدَةً فَلَوْ جَاءَ بِهَا الْمُكَاتَبُ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا يَعْتِقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَيَلْزَمُهُ قِيمَةُ نَفْسِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ وَيُقَالَ: يَعْتِقُ هَهُنَا بِالتَّخْلِيَةِ أَيْضًا وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إنَّ الْعِتْقَ فِي هَذَا الْفَصْلِ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ لَا بِوُجُودِ الشَّرْطِ حَقِيقَةً كَمَا فِي الْكِتَابَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ ثَبَتَ بِوُجُودِ الشَّرْطِ حَقِيقَةً كَمَا فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ بِشُرُوطِهَا لَا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ. وَالْمَسَائِلُ تَدُلُّ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ ذُكِرَ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ قَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ لِعَبْدِهِ: إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ مَتَى أَدَّيْت أَوْ إنْ أَدَّيْت: فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِمُكَاتَبٍ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَبِيعَهُ وَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَإِنْ أَدَّى قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا قَالُوا: يُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى قَبُولِهِ وَيَعْتِقُ اسْتِحْسَانًا فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَلْفَ فَالْعَبْدُ رَقِيقٌ يُورَثُ مَعَ أَكْسَابِهِ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ، وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَتَرَكَ مَالًا فَمَالُهُ كُلُّهُ لِلْمَوْلَى وَلَا يُؤَدِّي عَنْهُ فَيَعْتِقُ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ، وَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ الْأَدَاءِ فِي يَدِهِ مَالٌ مِمَّا اكْتَسَبَهُ فَهُوَ لِلْمَوْلَى بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَلَا سَبِيلَ لِلْمَوْلَى عَلَى أَكْسَابِهِ مَعَ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ فَبَعْدَ الْحُرِّيَّةِ أَوْلَى، وَقَالُوا: إنَّ الْمَوْلَى لَوْ بَاعَهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ صَحَّ كَمَا فِي قَوْلِهِ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمُكَاتِبِ وَإِذَا رَضِيَ تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدَيْنِ لَهُ: إنْ أَدَّيْتُمَا إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتُمَا حُرَّانِ فَإِنْ أَدَّى أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ لَمْ يَعْتِقْ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِأَدَاءِ الْأَلْفِ وَلَمْ يُوجَدْ وَكَذَا إذَا أَدَّى أَحَدُهُمَا الْأَلْفَ كُلَّهَا مِنْ عِنْدِهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ عِتْقِهِمَا أَدَاءَهُمَا جَمِيعًا الْأَلْفَ وَلَمْ يُوجَدْ الْأَلْفُ فَلَا يَعْتِقَانِ كَمَا إذَا قَالَ لَهُمَا: إنْ دَخَلْتُمَا هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ فَأَنْتُمَا حُرَّانِ فَدَخَلَ أَحَدُهُمَا لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يَدْخُلْ الْآخَرُ وَإِنْ أَدَّى أَحَدُهُمَا الْأَلْفَ كُلَّهَا وَقَالَ: خَمْسُمِائَةٍ مِنْ عِنْدِي وَخَمْسُمِائَةٍ أُخْرَى بَعَثَ بِهَا صَاحِبِي لِيُؤَدِّيَهَا إلَيْك عَتَقَا لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ أَدَاءُ الْأَلْفِ مِنْهُمَا: حِصَّةُ أَحَدِهِمَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَحِصَّةُ الْآخَرِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا بَابٌ تُجْزِئُ فِيهِ النِّيَابَةُ فَقَامَ أَدَاؤُهُ مَقَامَ أَدَاءِ صَاحِبِهِ، وَلَوْ أَدَّى عَنْهُمَا رَجُلٌ آخَرُ لَمْ يَعْتِقَا؛ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَهُوَ أَدَاؤُهُمَا. وَأَمَّا إذَا أَدَّى الْأَجْنَبِيُّ الْأَلْفَ وَقَالَ: أُؤَدِّيهَا إلَيْك عَلَى أَنَّهُمَا حُرَّانِ فَقَبِلَهَا الْمَوْلَى عَلَى ذَلِكَ عَتَقَا؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ آخَرَ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَعَبْدِي حُرٌّ وَيُرَدُّ الْمَالُ إلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَحِقُّ الْمَالَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ قَبْلَ الْغَيْرِ وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ هَذَا الْعِتْقِ تَحْصُلُ لَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِذَلِكَ عَلَى الْغَيْرِ مَالًا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِآخَرَ: طَلِّقْ امْرَأَتَك عَلَى أَلْفِي هَذِهِ وَدَفَعَ إلَيْهِ فَطَلَّقَ أَنَّ الْأَلْفَ تَكُونُ لِلْمُطَلِّقِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِالطَّلَاقِ مَنْفَعَةٌ إذْ هُوَ إسْقَاطُ حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ صَارَ مُتَبَرِّعًا عَنْهَا بِذَلِكَ فَأَشْبَهَ مَا إذَا قَضَى عَنْهَا دَيْنًا بِخِلَافِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَتْ لِلْمَوْلَى مَنْفَعَةٌ وَهُوَ الْوَلَاءُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بَدَلًا عَلَى الْغَيْرِ وَلَوْ أَدَّاهَا الْأَجْنَبِيُّ وَقَالَ: هُمَا أَمَرَانِي أَنْ أُؤَدِّيَهَا عَنْهُمَا فَقَبِلَهَا الْمَوْلَى عَتَقَا لِوُجُودِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ رَسُولًا عَنْهُمَا فَأَدَاءُ الرَّسُولِ أَدَاءُ الْمُرْسِلِ فَإِنْ أَدَّى الْعَبْدُ مِنْ مَالٍ اكْتَسَبَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ عَتَقَ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَيَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا أَذِنَ لَهُ بِالْأَدَاءِ مِنْ هَذَا الْكَسْبِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ ثَبَتَ بِمُقْتَضَى الْقَبُولِ، وَالْكَسْبُ كَانَ قَبْلَ الْقَبُولِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ بِأَنْ غَصَبَ أَلْفًا مِنْ رَجُلٍ وَأَدَّى وَلَمْ يُجِزْ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَدَاءَهُ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَعْتِقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَغْصُوبَ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ بِمِثْلِهَا وَإِنْ أَدَّى مِنْ مَالٍ اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الْقَبُولِ؛ صَحَّ الْأَدَاءُ وَعَتَقَ الْعَبْدُ وَلَا يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ بِمِثْلِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَرْجِعَ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَالَ الْمَوْلَى فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ اكْتَسَبَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِأَنَّ اكْتِسَابَهُ مِلْكُهُ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فَقَالُوا: إنَّهُ لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى هَذَا الْقَبُولِ إذْنًا لَهُ بِالتِّجَارَةِ دَلَالَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَدَاءِ الْأَلْفِ إلَّا بِالتِّجَارَةِ فَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ فَقَدْ حَصَلَ الْأَدَاءُ مِنْ كَسْبٍ هُوَ مَأْذُونٌ فِي الْأَدَاءِ مِنْهُ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى فَلَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ أَوْ نَقُولُ: الْكَسْبُ الْحَاصِلُ بَعْدَ الْقَبُولِ لَيْسَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَوْلَى فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُؤَدِّي كَكَسْبِ الْمُكَاتَبِ فَصَارَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالْمُكَاتَبِ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ أَمَةً فَوَلَدَتْ ثُمَّ أَدَّتْ لَمْ يَعْتِقْ وَلَدُهَا بِخِلَافِ الْمُكَاتَبَةِ إذَا وَلَدَتْ ثُمَّ أَدَّتْ فَعَتَقَتْ أَنَّهُ يَعْتِقُ وَلَدُهَا. وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ لِلْمَوْلَى: حُطَّ عَنِّي مِائَةً فَحَطَّ عَنْهُ فَأَدَّى تِسْعَمِائَةٍ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ

الْكِتَابَةِ، فَإِنَّ الْعِتْقَ فِيهَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، وَالْحَطُّ يُلْتَحَقُ بِأَصْلِ الْعَفْوِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ، وَكَذَا لَوْ أَدَّى مَكَانَ الدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ لَا يَعْتِقُ وَإِنْ قَبِلَ لِعَدَمِ الشَّرْطِ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ خَدَمْتَنِي سَنَةً فَأَنْتَ حُرٌّ فَخَدَمَهُ أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ لَمْ يَعْتِقْ حَتَّى يُكْمِلَ خِدْمَتَهُ، وَكَذَا إنْ صَالَحَهُ مِنْ الْخِدْمَةِ عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ مِنْ الدَّرَاهِمِ الَّتِي جَعَلَ عَلَيْهِ عَلَى دَنَانِيرَ، وَكَذَا إذَا قَالَ: اخْدِمْ أَوْلَادِي سَنَةً وَأَنْتَ حُرٌّ فَمَاتَ بَعْضُهُمْ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ لَمْ يَعْتِقْ وَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ ثَبَتَ بِوُجُودِ الشَّرْطِ حَقِيقَةً فَلَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهِ بِالرِّضَا وَعَدَمِهِ وَإِسْقَاطِ بَعْضِ الشَّرْطِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ: إنْ دَخَلْت هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ فَأَنْتَ حُرٌّ فَدَخَلَ إحْدَاهُمَا وَقَالَ الْمَوْلَى: أَسْقَطْت عَنْك دُخُولَ الْأُخْرَى لَا يَسْقُطُ كَذَا هَذَا. وَلَوْ أَبْرَأَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ مِنْ الْأَلْفِ لَمْ يَعْتِقْ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْأَدَاءُ وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُكَاتَبَ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يَعْتِقُ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ إذَا قَالَ: إنْ أَدَّيْت لِي أَلْفًا فِي كِيسٍ أَبْيَضَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَدَّاهَا فِي كِيسٍ أَسْوَدَ؛ لَا يَعْتِقُ وَفِي الْكِتَابَةِ يَعْتِقُ وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ هَهُنَا يَثْبُتُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ لَا مِنْ طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ بَاعَ هَذَا الْعَبْدَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ وَأَدَّى إلَيْهِ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ: لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهَا فَإِنْ قَبِلَهَا عَتَقَ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ وَعَلَى هَذَا إذَا رَدَّهُ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارٍ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ مُطَّرِدٌ عَلَى الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ تَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ، وَالْجَزَاءُ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمِلْكِ الْقَائِمِ فَكَانَ حُكْمُهُ فِي الْمِلْكِ الثَّانِي كَحُكْمِهِ فِي الْمِلْكِ الْأَوَّلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَدَخَلَ. وَأَمَّا الْوَجْهُ لِمُحَمَّدٍ فَهُوَ أَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ دَلَّتْ عَلَى التَّقْيِيدِ بِالْمِلْكِ الْقَائِمِ ظَاهِرًا لِأَنَّ غَرَضَهُ مِنْ التَّعْلِيقِ بِالْأَدَاءِ تَحْرِيضُهُ عَلَى الْكَسْبِ لِيَصِلَ إلَيْهِ الْمَالُ وَذَلِكَ فِي الْمَالِ الْقَائِمِ وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِوُجُودِ الْعِتْقِ الْمُرَغِّبِ لَهُ فِي الْكَسْبِ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مُطْلَقُ الْمِلْكِ فَإِذَا أَتَى بِالْمَالِ بَعْدَ مَا بَاعَهُ وَاشْتَرَاهُ فَلَمْ يَقْبَلْ لَا يَعْتِقُ لِتَقَيُّدِهِ بِالْمِلْكِ الْقَائِمِ ظَاهِرًا بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَإِذَا قَبِلَ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُطْلَقُ. وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا كُلَّ شَهْرٍ مِائَةً فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَقَبِلَتْ ذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا بِكِتَابَةٍ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مَا لَمْ تُؤَدِّ وَإِنْ كَسَرَتْ شَهْرًا لَمْ تُؤَدِّ إلَيْهِ ثُمَّ أَدَّتْ إلَيْهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الشَّهْرِ لَمْ تَعْتِقْ كَذَا ذَكَرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ وَهِشَامٍ، وَذَكَرَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَقَالَ: هَذِهِ مُكَاتَبَةٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا، وَإِنْ كَسَرَتْ شَهْرًا وَاحِدًا ثُمَّ أَدَّتْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الشَّهْرِ؛ كَانَ جَائِزًا وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَدْخَلَ فِيهِ الْأَجَلَ فَدَلَّ أَنَّهُ كِتَابَةٌ، وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِشَرْطٍ فِي وَقْتٍ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كِتَابَةٌ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: إنْ دَخَلْت دَارَ فُلَانٍ الْيَوْمَ أَوْ دَارَ فُلَانٍ غَدًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ لَا يَكُونُ ذَلِكَ كِتَابَةً وَإِنْ أَدْخَلَ الْأَجَلَ فِيهِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهَا: إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فِي هَذَا الشَّهْرِ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَلَمْ تُؤَدِّهَا فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ وَأَدَّتْهَا فِي غَيْرِهِ؛ لَمْ تَعْتِقْ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كِتَابَةً لَمَا بَطَلَ ذَلِكَ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ بِتَرَاضِيهِمَا فَدَلَّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكِتَابَةٍ بَلْ هُوَ تَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ لَكِنْ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ثُمَّ التَّعْلِيقُ بِالْأَدَاءِ هَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ؟ فَإِنْ قَالَ: مَتَى أَدَّيْت أَوْ مَتَى مَا أَدَّيْت أَوْ إذَا مَا أَدَّيْت فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَعْنَى الْوَقْتِ وَإِنْ قَالَ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يُقْتَصَرُ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَظَاهِرُ مَا رَوَاهُ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَدُلُّ أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ مَتَى أَدَّيْت أَوْ إنْ أَدَّيْت فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ ثُمَّ فِي كَلِمَةِ: إذَا أَوْ مَتَى لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ فَكَذَا فِي كَلِمَةِ إنْ وَكَذَا ذَكَرَ بِشْرٌ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ عَطْفًا عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إنَّ الْمَوْلَى إذَا بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَأَدَّى الْمَالَ عَتَقَ وَيَبْعُدُ أَنْ يَنْفُذَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَأَدَاءُ الْمَالِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ فِي الْأَلْفَاظِ كُلِّهَا وَالْوَجْهُ فِيهِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ فَلَا يَقِفُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ مِنْ قَوْلِهِ: إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الْعِتْقَ الْمُعَلَّقَ بِالْأَدَاءِ مُعَلَّقٌ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ شِئْت وَلَوْ قَالَ: إنْ شِئْت يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ وَلَوْ قَالَ: إذَا شِئْت أَوْ مَتَى شِئْت لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَذَا هَهُنَا، وَسَوَاءٌ أَدَّى الْأَلْفَ جُمْلَةً وَاحِدَةً أَوْ عَلَى التَّفَارِيقِ: خَمْسَةٍ وَعَشَرَةٍ وَعِشْرِينَ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ حَتَّى إذَا تَمَّ الْأَلْفُ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ

الْعِتْقَ بِأَدَاءِ الْأَلْفِ مُطْلَقًا وَقَدْ أَدَّى، وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ فِي مَرَضِهِ: إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفٌ فَأَدَّاهَا مِنْ مَالٍ اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ اسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ، وَقَالَ زُفَرُ: يَعْتِقُ مِنْ الثُّلُثِ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْكَسْبَ حَصَلَ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ فَإِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ عَنْ الرَّقَبَةِ كَانَ مُتَبَرِّعًا فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ أَكْسَابَ الْعَبْدِ الْمُكَاتَبِ فَكَانَ كَسْبُهُ عِوَضًا عَنْ الرَّقَبَةِ فَيَعْتِقُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يُؤَدَّى مِنْ الْكَسْبِ الْحَاصِلِ بَعْدَ الْقَوْلِ لَيْسَ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى كَكَسْبِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى أَطْمَعَهُ الْعِتْقَ بِأَدَائِهِ إلَيْهِ فَصَارَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِهِ سَبَبًا دَاعِيًا إلَى تَحْصِيلِهِ فَصَارَ كَسْبُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ، وَلَوْ قَالَ لَهُ: أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ فَمَا لَمْ يُؤَدِّ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِجَوَابِ الْأَمْرِ لِأَنَّ جَوَابَ الْأَمْرِ بِالْوَاوِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ مَا تَعَلَّقَ بِالْأَمْرِ وَهُوَ الْأَدَاءُ وَلَوْ قَالَ: أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَلَا رِوَايَةَ فِي هَذَا وَقِيلَ هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لَا يَعْتِقُ إلَّا بِأَدَاءِ الْمَالِ إلَيْهِ لِأَنَّ جَوَابَ الْأَمْرِ قَدْ يَكُونُ بِحَرْفِ الْفَاءِ وَلَوْ قَالَ: أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا أَنْتَ حُرٌّ يَعْتِقُ لِلْحَالِ أَدَّى أَوْ لَمْ يُؤَدِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هَهُنَا مَا يُوجِبُ تَعَلُّقَ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ حَيْثُ لَمْ يَأْتِ بِحَرْفِ الْجَوَابِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: إنْ وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ أَوْ قَالَ: إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ وَيُعْتَبَرُ لِصِحَّةِ قِيَامِ الْمِلْكِ فِي الْأَمَةِ وَقْتُ التَّعْلِيقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إنْ وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ إذَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْأَمَةِ وَقْتَ التَّصَرُّفِ فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ إلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إضَافَةِ الْوِلَادَةِ إلَى الْمِلْكِ فَيَصِحُّ فَإِذَا صَحَّ التَّعْلِيقُ فَكُلُّ وَلَدٍ تَلِدُهُ فِي مِلْكِهِ يَعْتِقُ وَإِنْ وَلَدَتْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَا يَعْتِقُ وَتَبْطُلُ الْيَمِينُ بِأَنْ وَلَدَتْ بَعْدَ مَا مَاتَ الْمَوْلَى أَوْ بَعْدَ مَا بَاعَهَا وَلَوْ ضَرَبَ ضَارِبٌ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا؛ كَانَ فِيهِ مَا فِي جَنِينِ الْأَمَةِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَحْصُلُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَالضَّرْبُ حَصَلَ قَبْلَ الْوِلَادَةِ فَكَانَ عَبْدًا فَلَا يَجِبُ ضَمَانُ الْحُرِّ، وَلَوْ قَالَ: إذَا حَمَلْت بِوَلَدٍ فَهُوَ حُرٌّ كَانَ فِيهِ مَا فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَحْصُلُ مِنْهَا لِلْحَمْلِ فَالضَّرْبُ صَادَفَهُ وَهُوَ حُرٌّ إلَّا أَنَّا لَا نَحْكُمُ بِهِ مَا لَمْ تَلِدْ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ بِوُجُودِهِ فَإِذَا أَلْقَتْ فَقَدْ عَلِمْنَا بِوُجُودِهِ وَقْتَ الضَّرْبِ فَإِنْ قِيلَ: الْحُرِّيَّةُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ حُدُوثِ الْحَيَاةِ فِيهِ وَلَا نَعْلَمُ ذَلِكَ فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ: لَمَّا حَكَمَ الشَّرْعُ بِالْأَرْشِ عَلَى الضَّارِبِ فَقَدْ صَارَ مَحْكُومًا بِحُدُوثِ الْحَيَاةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ لَا يَجِبُ إلَّا بِإِتْلَافِ الْحَيِّ وَلَوْ بَاعَهَا الْمَوْلَى فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ مُضِيِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ بَاعَهَا وَالْحَمْلُ مَوْجُودٌ وَالْحُرِّيَّةُ ثَابِتَةٌ فِيهِ وَحُرِّيَّةُ الْحَمْلِ تَمْنَعُ جَوَازَ بَيْعِ الْأُمِّ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا؛ لَمْ يَعْتِقْ لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِحُصُولِ الْوَلَدِ يَوْمَ الْبَيْعِ فَلَا يَجُوزُ فَسْخُ الْبَيْعِ وَإِثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ. وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: إنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَوْجُهٍ: إمَّا إنْ عُلِمَ أَيُّهُمَا وُلِدَ أَوَّلًا بِأَنْ اتَّفَقَ الْمَوْلَى وَالْأَمَةُ عَلَى أَنَّهُمَا يَعْلَمَانِ ذَلِكَ، وَإِمَّا إنْ لَمْ يُعْلَمْ بِأَنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَعْلَمَانِ، وَإِمَّا إنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ. فَإِنْ عُلِمَ أَيُّهُمَا وُلِدَ أَوَّلًا فَإِنْ كَانَ الْغُلَامُ هُوَ الْأَوَّلُ فَهُوَ رَقِيقٌ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِوِلَادَتِهِ عِتْقُ الْأُمِّ وَهِيَ إنَّمَا تَعْتِقُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَكَانَ انْفِصَالُ الْوَلَدِ عَلَى حُكْمِ الرِّقِّ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ عِتْقُ الْأُمِّ وَتَعْتِقُ الْأُمُّ بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَتَعْتِقُ الْجَارِيَةُ بِعِتْقِهَا وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ هِيَ الْأُولَى لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِعَدَمِ شَرْطِ الْعِتْقِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فَالْغُلَامُ رَقِيقٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَالَ لَهُ فِي الْحُرِّيَّةِ أَصْلًا سَوَاءٌ كَانَ مُتَقَدِّمًا فِي الْوِلَادَةِ أَوْ مُتَأَخِّرًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أَوَّلًا فَذَاكَ شَرْطُ عِتْقِ أُمِّهِ لَا شَرْطُ عِتْقِهِ، وَعِتْقُ أُمِّهِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ أَوَّلًا فَوِلَادَتُهَا لَمْ تَجْعَلْ شَرْطَ الْعِتْقِ فِي حَقِّ أَحَدٍ؛ فَلَمْ يَكُنْ لِلْغُلَامِ حَالٌ فِي الْحُرِّيَّةِ رَأْسًا فَكَانَ رَقِيقًا عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَأَمَّا الْجَارِيَةُ وَالْأُمُّ فَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا وَتَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَعْتِقُ فِي حَالٍ وَتُرَقُّ فِي حَالٍ؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ إنْ كَانَ أَوَّلًا عَتَقَتْ الْأُمُّ وَالْجَارِيَةُ أَمَّا الْأُمُّ فَلِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ فِيهَا. وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَلِعِتْقِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ إذَا عَتَقَتْ؛ عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ بِعِتْقِ الْأُمِّ تَبَعًا لَهَا فَعَتَقَتَا جَمِيعًا وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ أَوَّلًا لَا يَعْتِقَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْعِتْقِ فِي الْأُمِّ، وَإِذَا لَمْ تَعْتِقْ الْأُمُّ؛ لَا تَعْتِقُ الْجَارِيَةُ لِأَنَّ عِتْقَهَا بِعِتْقِهَا فَإِذًا هُمَا يَعْتِقَانِ فِي حَالٍ وَيُرَقَّانِ فِي حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ الْعِتْقُ فِيهِمَا فَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ لِأَصْحَابِنَا فِي اعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ عِنْدَ اشْتِبَاهِهَا، وَالْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ

الْمَوْلَى عَلَى عِلْمِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا يَعْلَمُ الْغُلَامَ وُلِدَ أَوَّلًا فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ عَتَقَتْ الْأُمُّ وَابْنَتُهَا وَكَانَ الْغُلَامُ عَبْدًا وَإِنْ حَلَفَ؛ كَانُوا جَمِيعًا أَرِقَّاءَ وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُخَاصِمْ الْمَوْلَى حَتَّى مَاتَ وَخُوصِمَ وَارِثُهُ بَعْدَهُ فَأَقَرَّ أَنَّهُ لَا يَدْرِي وَحَلَفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا يَعْلَمُ الْغُلَامَ وُلِدَ أَوَّلًا رُقُّوا،، وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأَحْوَالَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْبَيَانِ وَالْبَيَانُ هَهُنَا مُمْكِنٌ بِالرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ الْحَالِفِ فَلَا تُعْتَبَرُ الْأَحْوَالُ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْبَيَانِ بِالْيَمِينِ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْخَصْمَيْنِ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَعْلَمَانِ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا فَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُكَلِّفَ الْمَوْلَى الْحَلِفَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا مَعَ تَصَادُقِهِمَا عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى: إنَّ الْجَارِيَةَ هِيَ الْأُولَى لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْعِتْقَ، وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: إنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْغُلَامَ كَانَ أَوَّلًا عَتَقَتْ الْأُمُّ وَالْجَارِيَةُ لَا غَيْرُ أَمَّا الْأُمُّ: فَلِوُجُودِ الشَّرْطِ. وَأَمَّا الْجَارِيَةُ: فَلِعِتْقِ الْأُمِّ. وَأَمَّا رِقُّ الْغُلَامِ فَلِانْفِصَالِهِ عَلَى حُكْمِ الرِّقِّ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ عِتْقُ الْأُمِّ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْجَارِيَةَ كَانَتْ هِيَ الْأُولَى عَتَقَتْ هِيَ لَا غَيْرُ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِوِلَادَتِهَا عِتْقُهَا لَا غَيْرُ وَعِتْقُهَا لَا يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهَا وَإِنْ لَمْ يُعْلَمُ أَيُّهُمَا أَوَّلٌ فَالْجَارِيَةُ حُرَّةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَالْغُلَامُ عَبْدٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَيَعْتِقُ نِصْفُ الْأُمِّ وَتَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا أَمَّا حُرِّيَّةُ الْجَارِيَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلِأَنَّهُ لَا حَالَ لَهَا فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ إنْ كَانَ أَوَّلًا عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ؛ لِأَنَّ أُمَّهَا تَعْتِقُ فَتُعْتَقُ هِيَ بِعِتْقِ الْأُمِّ وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ أَوَّلًا فَقَدْ عَتَقَتْ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ فِي حَقِّهَا فَكَانَتْ حُرَّةً عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَأَمَّا رِقُّ الْغُلَامِ عَلَى كُلِّ حَالٍ: فَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَالٌ فِي الْحُرِّيَّةِ سَوَاءٌ وُلِدَ أَوَّلًا أَوْ آخِرًا. وَأَمَّا الْأُمُّ فَإِنَّمَا يَعْتِقُ نِصْفُهَا؛ لِأَنَّهَا تَعْتِقُ فِي حَالٍ وَتُرَقُّ فِي حَالٍ لِأَنَّ الْغُلَامَ إنْ كَانَ هُوَ الْأَوَّلُ تَعْتِقُ الْأُمُّ وَالْجَارِيَةُ أَيْضًا بِعِتْقِ الْأُمِّ، وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ أَوَّلًا تَعْتِقُ الْجَارِيَةُ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِهِ عِتْقُهَا لَا غَيْرُ وَعِتْقُهَا لَا يَتَعَدَّى إلَى عِتْقِ الْأُمِّ فَإِذًا تَعْتِقُ الْأُمُّ فِي حَالٍ وَلَا تَعْتِقُ فِي حَالٍ فَيَعْتِقُ نِصْفُهَا اعْتِبَارًا لِلْأَحْوَالِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ قَالَ لَهَا: إنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَهُوَ حُرٌّ وَإِنْ كَانَ جَارِيَةً فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْغُلَامَ وُلِدَ أَوَّلًا عَتَقَ هُوَ لَا غَيْرُ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْجَارِيَةَ وُلِدَتْ أَوَّلًا عَتَقَتْ الْأُمُّ وَالْغُلَامُ لَا غَيْرُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا وُلِدَ أَوَّلًا فَالْغُلَامُ حُرٌّ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَالَ لَهُ فِي الرِّقِّ سَوَاءٌ كَانَ أَوَّلًا أَوْ آخِرًا، وَالْجَارِيَةُ رَقِيقَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَالَ لَهَا فِي الْحُرِّيَّةِ تَقَدَّمَتْ فِي الْوِلَادَةِ أَوْ تَأَخَّرَتْ لِأَنَّ الْغُلَامَ إنْ كَانَ هُوَ الْأَوَّلَ لَا يَعْتِقُ إلَّا هُوَ وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ هِيَ الْأُولَى لَا تَعْتِقُ إلَّا الْأُمُّ وَالْغُلَامُ فَلَمْ يَكُنْ لِلْجَارِيَةِ حَالٌ فِي الْحُرِّيَّةِ فَبَقِيَتْ رَقِيقَةً وَالْأُمُّ يَعْتِقُ مِنْهَا نِصْفُهَا وَتَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ إنْ كَانَتْ هِيَ الْأُولَى تَعْتِقُ الْأُمُّ كُلُّهَا وَإِنْ كَانَ الْغُلَامُ هُوَ الْأَوَّلُ لَا يَعْتِقُ شَيْءٌ مِنْهَا فَتَعْتِقُ فِي حَالٍ وَلَا تَعْتِقُ فِي حَالٍ فَيَعْتِقُ نِصْفُهَا وَتَسْعَى فِي النِّصْفِ اعْتِبَارًا لِلْحَالَيْنِ وَعَمَلًا بِهِمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا. هَذَا إذَا وَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فَأَمَّا إذَا وَلَدَتْ غُلَامَيْنِ وَجَارِيَتَيْنِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنْ عُلِمَ أَوَّلُهُمْ أَنَّهُ ابْنٌ يَعْتِقُ هُوَ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عِتْقُهُ لَا غَيْرُ يَعْتِقُ هُوَ لَا غَيْرُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ جَارِيَةٌ فَهِيَ رَقِيقَةٌ وَمَنْ سِوَاهَا أَحْرَارٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ وِلَادَتَهَا أَوَّلًا شَرْطَ حُرِّيَّةِ الْأُمِّ فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ عَتَقَتْ الْأُمُّ وَيَعْتِقُ كُلُّ مَنْ وُلِدَ بَعْدَ ذَلِكَ بِعِتْقِ الْأُمِّ تَبَعًا لَهَا وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مَنْ كَانَ أَوَّلَهُمْ يَعْتِقُ مِنْ الْغُلَامَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَيَسْعَى فِي رُبُعِ قِيمَتِهِ وَيَعْتِقُ مِنْ الْأُمِّ نِصْفُهَا وَتَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا وَيَعْتِقُ مِنْ الْبِنْتَيْنِ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رُبُعُهَا وَتَسْعَى فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ أَمَّا الْغُلَامَانِ فَلِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ وَلَدَتْ إنْ كَانَ غُلَامًا عَتَقَ الْغُلَامُ كُلُّهُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ جَارِيَةً عَتَقَ الْغُلَامَانِ لِأَنَّ الْأُمَّ تَعْتِقُ وَيَعْتِقُ كُلُّ مَنْ وُلِدَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُمْ الْغُلَامَانِ وَالْجَارِيَةُ الْأُخْرَى وَقَدْ تَيَقَّنَّا بِحُرِّيَّةِ أَحَدِ الْغُلَامَيْنِ وَشَكَكْنَا فِي الْآخَرِ وَلَهُ حَالَتَانِ: يَعْتِقُ فِي حَالٍ، وَلَا يَعْتِقُ فِي حَالٍ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ نِصْفَيْنِ فَيَعْتِقُ غُلَامٌ وَاحِدٌ وَنِصْفٌ مِنْ الْآخَرِ وَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا عَتَقَ كُلُّهُ وَأَيُّهُمَا عَتَقَ نِصْفُهُ فَاسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا فِي ذَلِكَ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَيَسْعَى فِي رُبُعِ قِيمَتِهِ. وَأَمَّا الْأَمُّ فَإِنَّهَا تَعْتِقُ فِي حَالٍ وَلَا تَعْتِقُ فِي حَالٍ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ مَا وَلَدَتْ إنْ كَانَ غُلَامًا لَا تَعْتِقُ أَصْلًا وَإِنْ كَانَ جَارِيَةً تَعْتِقُ فَتَعْتِقُ فِي حَالٍ وَتُرَقُّ فِي حَالٍ فَيَعْتِقُ نِصْفُهَا وَتَسْعَى فِي نِصْفِهَا. وَأَمَّا الْجَارِيَتَانِ فَإِحْدَاهُمَا أَمَةٌ بِلَا شَكٍّ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ مَا وَلَدَتْ إنْ كَانَ غُلَامًا فَهُمَا رَقِيقَانِ

وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَإِنَّ الْأُولَى لَا تَعْتِقُ وَتَعْتِقُ الْأُخْرَى بِعِتْقِ الْأُمِّ فَإِذًا فِي حَالَةٍ لَهُمَا حُرِّيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَفِي حَالَةٍ لَا شَيْءَ لَهُمَا فَيَثْبُتُ لَهُمَا نِصْفُ ذَلِكَ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيَصِيرَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَهُوَ رُبُعُ الْكُلِّ فَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رُبُعُهَا وَتَسْعَى فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: إنْ وَلَدْت غُلَامًا ثُمَّ جَارِيَةً فَأَنْتِ حُرَّةٌ وَإِنْ وَلَدْت جَارِيَةً ثُمَّ غُلَامًا فَالْغُلَامُ حُرٌّ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فَإِنْ كَانَ الْغُلَامُ أَوَّلًا عَتَقَتْ الْأُمُّ لِوُجُودِ شَرْطِ عِتْقِهَا وَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ رَقِيقَانِ لِانْفِصَالِهِمَا عَلَى حُكْمِ الرِّقِّ وَعِتْقُ الْأُمِّ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِمَا وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ أَوَّلًا عَتَقَ الْغُلَامُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَالْأُمُّ وَالْجَارِيَةُ رَقِيقَتَانِ لِأَنَّ عِتْقَ الْغُلَامِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِمَا وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا أَوَّلًا وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَعْلَمَانِ ذَلِكَ فَالْجَارِيَةُ رَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا حَالَ لَهَا فِي الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تُرَقُّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَأَمَّا الْغُلَامُ وَالْأُمُّ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتِقُ فِي حَالٍ وَيُرَقُّ فِي حَالٍ فَيَعْتِقُ نِصْفُهُ وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ وَإِذَا اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ. هَذَا إذَا وَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فَأَمَّا إذَا وَلَدَتْ غُلَامَيْنِ وَجَارِيَتَيْنِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامَيْنِ ثُمَّ جَارِيَتَيْنِ؛ عَتَقَتْ الْأُمُّ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَعَتَقَتْ الْجَارِيَةُ الثَّانِيَةُ بِعِتْقِهَا وَبَقِيَ الْغُلَامَانِ وَالْجَارِيَةُ الْأُولَى أَرِقَّاءَ، وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا ثُمَّ جَارِيَتَيْنِ ثُمَّ غُلَامًا؛ عَتَقَتْ الْأُمُّ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَارِيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْغُلَامُ الثَّانِي بِعِتْقِ الْأُمِّ، وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا ثُمَّ جَارِيَةً، ثُمَّ غُلَامًا ثُمَّ جَارِيَةً عَتَقَتْ الْأُمُّ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَالْغُلَامُ الثَّانِي وَالْجَارِيَةُ الثَّانِيَةُ بِعِتْقِ الْأُمِّ، وَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَتَيْنِ ثُمَّ غُلَامَيْنِ عَتَقَ الْغُلَامُ الْأَوَّلُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَالْغُلَامُ الثَّانِي وَالْجَارِيَةُ الثَّانِيَةُ بِعِتْقِ الْأُمِّ، وَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَتَيْنِ ثُمَّ غُلَامَيْنِ عَتَقَ الْغُلَامُ الْأَوَّلُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَبَقِيَ مَنْ سِوَاهُ رَقِيقًا وَكَذَلِكَ إذَا وَلَدَتْ جَارِيَةً ثُمَّ غُلَامَيْنِ ثُمَّ جَارِيَةً عَتَقَ الْغُلَامُ الْأَوَّلُ لَا غَيْرُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ فِي حَقِّهِ لَا غَيْرُ، وَكَذَلِكَ إذَا وَلَدَتْ جَارِيَةً ثُمَّ غُلَامًا ثُمَّ جَارِيَةً ثُمَّ غُلَامًا عَتَقَ الْغُلَامُ الْأَوَّلُ لَا غَيْرُ؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِأَنْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَيَّهُمْ الْأَوَّلَ يَعْتِقُ مِنْ الْأَوْلَادِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ رُبُعُهُ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْغُلَامَيْنِ مَعَ إحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ رَقِيقَانِ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا حَالٌ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْجَارِيَةُ الْأُخْرَى وَالْغُلَامُ الْآخَرُ يَعْتِقُ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمَا فِي حَالٍ وَيُرَقُّ فِي حَالٍ فَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُهُ فَمَا أَصَابَ الْجَارِيَةَ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجَارِيَةِ الْأُخْرَى نِصْفَيْنِ إذْ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ رُبُعُهَا وَكَذَلِكَ مَا أَصَابَ الْغُلَامَ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغُلَامِ الْآخَرِ نِصْفَيْنِ لِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا الْأُمُّ فَيَعْتِقُ مِنْهَا نِصْفُهَا لِأَنَّهُ إنْ سَبَقَ وِلَادَةُ الْغُلَامِ فَتَعْتِقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَإِنْ سَبَقَتْ وِلَادَةُ الْجَارِيَةِ لَا تَعْتِقُ فَيَعْتِقُ نِصْفُهَا وَتَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ قَالَ لَهَا: إنْ وَلَدْت مَا فِي بَطْنِك فَهُوَ حُرٌّ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ حَلَفَ عَتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ تَيَقَّنَّا بِكَوْنِهِ مَوْجُودًا وَقْتَ التَّعْلِيقِ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يُولَدُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَتَيَقَّنَّا بِكَوْنِهِ دَاخِلًا تَحْتَ الْإِيجَابِ وَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِوُجُودِهِ بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ مَوْجُودًا ثُمَّ وُجِدَ بَعْدُ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِيجَابِ مَعَ الشَّكِّ وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا: مَا فِي بَطْنِك حُرٌّ إلَّا أَنَّ هَهُنَا يَعْتِقُ مِنْ يَوْمِ حَلَفَ وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ: يَوْمَ تَلِدُ لِأَنَّ هُنَاكَ شُرِطَ الْوِلَادَةُ وَلَمْ تُشْتَرَطْ هَهُنَا وَلَوْ قَالَ لَهَا: إذَا حَمَلْت فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ لِسَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْكَلَامِ لَا تَعْتِقُ وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ تَعْتِقْ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ تَقَعُ عَلَى حَمْلٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الْيَمِينِ فَإِذَا وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ لِسَنَتَيْنِ؛ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ حُبْلَى مِنْ وَقْتِ الْكَلَامِ لَا تَعْتِقُ وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ لِسَنَتَيْنِ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ حُبْلَى وَقْتَ الْيَمِينِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ حَدَثَ الْحَمْل بَعْدَ الْيَمِينِ فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي شَرْطِ ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ مَعَ الشَّكِّ، فَأَمَّا إذَا وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَقَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّ الْحَمْلَ حَصَلَ بَعْدَ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الْعِتْقِ وَهُوَ الْحَمْلُ بَعْدَ الْيَمِينِ فَيَعْتِقُ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ مِنْ أَصْلِكُمْ أَنَّ الْوَطْءَ إذَا كَانَ مُبَاحًا تُقَدَّرُ مُدَّةُ الْحَبَلِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهَلَّا قَدَّرْتُمْ هَهُنَا كَذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ: هَذَا مِنْ أَصْلِنَا فِيمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إثْبَاتُ رَجْعَةٍ أَوْ إعْتَاقٍ بِالشَّكِّ وَلَوْ جَعَلْنَا مُدَّةَ الْحَمْلِ هَهُنَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ لَكَانَ فِيهِ إثْبَاتُ الْعِتْقِ بِالشَّكِّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ ثُمَّ إنْ وَلَدَتْ بَعْدَ الْمَقَالَةِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ

حَتَّى عَتَقَتْ وَقَدْ كَانَ وَطِئَهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ فَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ وَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَا عُقْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا إذَا وَلَدَتْ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ وَطِئَهَا عُلِمَ أَنَّهُ وَطِئَهَا وَهِيَ حَامِلٌ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا وَضَعْت لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْوَطْءِ؛ عُلِمَ أَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ قَبْلَ هَذَا الْوَطْءِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعُقْرُ؛ لِأَنَّهُ عُلِمَ أَنَّهُ وَطِئَهَا بَعْدَ ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ، فَإِذَا وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ يُحْتَمَل أَنَّ الْحَمْلَ حَصَلَ بِذَلِكَ الْوَطْءِ فَلَا يَجِبُ الْعُقْرُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَمْ يُصَادِفْ الْحُرِّيَّةَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ حَصَلَ بِوَطْءٍ قَبْلَهُ فَيَجِبُ الْعُقْرُ فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي وُجُوبِ الْعُقْرِ فَلَا يَجِبُ مَعَ الشَّكِّ وَيَنْبَغِي فِي الْوَرَعِ وَالتَّنَزُّهِ إذَا قَالَ لَهَا هَذِهِ الْمَقَالَةَ ثُمَّ وَطِئَهَا أَنْ يَعْتَزِلَهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَحَامِلٌ أَمْ لَا فَإِنْ حَاضَتْ وَطِئَهَا بَعْدَ مَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا لِجَوَازِ أَنَّهَا قَدْ حَمَلَتْ بِذَلِكَ الْوَطْءِ فَعَتَقَتْ فَإِذَا وَطِئَهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ وَطْءَ الْحُرَّةِ فَيَكُونُ حَرَامًا فَيَعْتَزِلُهَا صِيَانَةً لِنَفْسِهِ عَنْ الْحَرَامِ، فَإِذَا حَاضَتْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَمْلَ لَمْ يُوجَدْ إذْ الْحَامِلُ لَا تَحِيضُ وَلِهَذَا تُسْتَبْرَأُ الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَاةُ بِحَيْضَةٍ لِدَلَالَتِهَا عَلَى فَرَاغِ الرَّحِمِ، وَلَوْ بَاعَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ قَبْلَ أَنْ تَلِدَ ثُمَّ وَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يُنْظَرُ: إنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ لِسَنَتَيْنِ بَعْدَ الْيَمِينِ؛ يَصِحُّ الْبَيْعُ لِجَوَازِ أَنَّ الْوَلَدَ حَدَثَ بَعْدَ الْيَمِينِ فَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِالشَّكِّ وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بَعْدَ الْيَمِينِ يُنْظَرُ: إنْ كَانَ ذَلِكَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ قَبْلَ الْبَيْعِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ الْوَلَدُ قَبْلَ الْبَيْعِ فَعَتَقَتْ هِيَ وَوَلَدُهَا، وَبَيْعُ الْحُرِّ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ فَإِنَّهَا لَا تَعْتِقُ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الْوَلَدَ حَدَثَ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالْبَيْعُ قَدْ صَحَّ فَلَا يُفْسَخُ بِالشَّكِّ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: إنْ كَانَ حَمْلُك غُلَامًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ وَإِنْ كَانَ جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ فَكَانَ حَمْلُهَا غُلَامًا وَجَارِيَةً لَمْ يَعْتِقْ أَحَدٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا فِي الرَّحِمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَالْمُرَادُ مِنْهُ: جَمِيعُ مَا فِي الْبَطْنِ حَتَّى لَا تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ إلَّا بِوَضْعِ جَمِيعِ مَا فِي الرَّحِمِ وَلَيْسَ كُلُّ الْحَمْلِ الْغُلَامَ وَحْدَهُ وَلَا الْجَارِيَةَ وَحْدَهَا بَلْ بَعْضُهُ غُلَامٌ وَبَعْضُهُ جَارِيَةٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ كُلُّ حَمْلِك غُلَامًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ حَمْلِك جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فَلَا يَعْتِقُ أَحَدُهُمْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِك لِأَنَّ هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ جَمِيعِ مَا فِي بَطْنِهَا وَلَوْ قَالَ: إنْ كَانَ فِي بَطْنِك عَتَقَ الْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إنْ كَانَ فِي بَطْنِك غُلَامٌ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ مَا فِي الْبَطْنِ بَلْ يَقْتَضِي وُجُودَهُ وَقَدْ وُجِدَ غُلَامٌ وَوُجِدَ أَيْضًا جَارِيَةٌ فَعَتَقَا وَلَوْ قَالَ لَهَا: إنْ كُنْت حُبْلَى فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهِيَ حُرَّةٌ وَوَلَدُهَا، وَإِنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَعْتِقْ لِأَنَّ أَقَلَّ مُدَّةٍ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَإِذَا أَتَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ عُلِمَ أَنَّ الْحَمْلَ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْيَمِينِ فَتَعْتِقُ الْأُمُّ لِوُجُودِ شَرْطِ عِتْقِهَا وَهُوَ كَوْنُهَا حَامِلًا وَقْتَ الْيَمِينِ وَيَعْتِقُ الْحَمْلُ بِعِتْقِهَا تَبَعًا لَهَا، وَإِذَا أَتَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِحَمْلٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْيَمِينِ فَلَا يَعْتِقُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِحَمْلٍ مَوْجُودٍ وَقْتَ الْيَمِينِ فَيَعْتِقُ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْعِتْقِ فَلَا يَعْتِقُ مَعَ الشَّكِّ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ التَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِشَرْطِ الْمَوْتِ إلَّا أَنَّ التَّدْبِيرَ: تَعْلِيقٌ بِالشَّرْطِ قَوْلًا، وَالِاسْتِيلَادُ: تَعْلِيقٌ بِالشَّرْطِ فِعْلًا لَكِنْ الشَّرْطُ فِيهِمَا يَدْخُلُ عَلَى الْحُكْمِ لَا عَلَى السَّبَبِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كِتَابٌ مُفْرَدٌ. وَأَمَّا التَّعْلِيقُ الْمَحْضُ بِمَا سِوَى الْمِلْكِ وَسَبَبِهِ مَعْنًى لَا صُورَةً. فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِأَمَتِهِ: كُلُّ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَهُوَ حُرٌّ، وَهَذَا لَيْسَ بِتَعْلِيقٍ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ؛ لِانْعِدَامِ حَرْفِ التَّعْلِيقِ وَهُوَ " إنْ " وَإِذَا وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلٍّ لَيْسَتْ كَلِمَةَ تَعْلِيقٍ بَلْ هِيَ كَلِمَةُ الْإِحَاطَةِ بِمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ تَعْلِيقٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِوُجُودِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الْعِتْقَ عَلَى مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ وَهُوَ الْوَلَدُ الَّذِي تَلِدُهُ فَيَتَوَقَّفُ وُقُوعُ الْعِتْقِ عَلَى اتِّصَافِهِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ بِهِ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ: إنْ وَلَدْت وَلَدًا أَوْ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَكَانَ مَعْنَى التَّعْلِيقِ مَوْجُودًا فِيهِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ التَّعْلِيقِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِأَمَةٍ لَا يَمْلِكُهَا: كُلُّ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَهُوَ حُرٌّ لَا يَصِحُّ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَاهَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا لَا يَعْتِقُ الْوَلَدُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَقْتَ التَّعْلِيقِ وَعَدَمِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمِلْكِ وَسَبَبِهِ، وَيَصِحُّ إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ التَّعْلِيقِ وَقِيَامُ الْمِلْكِ فِي الْأَمَةِ يَكْفِي لِصِحَّتِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ إضَافَةُ الْوِلَادَةِ إلَى الْمِلْكِ لِلصِّحَّةِ بِأَنْ يَقُولَ كُلُّ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ وَأَنْتِ فِي مِلْكِي فَهُوَ حُرٌّ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ إنْ وَلَدَتْ فِي مِلْكِهِ يَعْتِقُ الْوَلَدُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي الْمِلْكِ، وَإِنْ وَلَدَتْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ

لَا يَعْتِقُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَتَبْطُلُ الْيَمِينُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ. كَمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ فَدَخَلَ الدَّارَ يَبْطُلُ الْيَمِينُ حَتَّى لَوْ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا فَدَخَلَ الدَّارَ؛ لَا يَعْتِقُ كَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لِعَبْدٍ يَمْلِكُهُ أَوْ لَا يَمْلِكُهُ: كُلُّ وَلَدٍ يُولَدُ لَك فَهُوَ حُرٌّ فَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ أَمَةٍ فَإِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مِلْكَ الْحَالِفِ يَوْمَ حَلِفَ عَتَقَ الْوَلَدُ وَإِلَّا فَلَا وَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إلَى مِلْكِ الْأَمَةِ لَا إلَى مِلْكِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ يَتْبَعُ الْأُمَّ لَا الْأَبَ، فَإِذَا كَانَتْ الْأَمَةُ عَلَى مِلْكِهِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ فَالظَّاهِرُ بَقَاءُ الْمِلْكِ فِيهَا إلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ وَمِلْكُ الْأُمِّ سَبَبُ ثُبُوتِ مِلْكِ الْوَلَدِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: كُلُّ وَلَدٍ يُولَدُ لَك مِنْ أَمَةٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ فَإِذَا لَمْ تَكُنِ الْأَمَةُ مَمْلُوكَةً فِي الْحَالِ فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ عَلَى الْعَدَمِ لَا يُوجَدُ مِلْكُ الْوَلَدِ وَقْتَ الْوِلَادَةِ ظَاهِرًا فَلَمْ يُوجَدْ التَّعْلِيقُ فِي الْمِلْكِ وَلَا الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ فَلَا يَصِحُّ هَذَا إذَا وُلِدَ الْوَلَدُ مِنْ أَمَةٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْحَالِفِ مِنْ نِكَاحٍ فَأَمَّا إذَا وُلِدَ مِنْهَا مِنْ سِفَاحٍ بِأَنْ زَنَى الْغُلَامُ بِهَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ هَلْ يَعْتِقُ أَمْ لَا؟ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ. وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَهُوَ حُرٌّ وَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا حَيًّا لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ الْوَلَدُ الْمَيِّتُ وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ الْمَيِّتُ وَلَدًا حَقِيقَةً، وَهَلْ يَعْتِقُ الْوَلَدُ الْحَيُّ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَعْتِقُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَعْتِقُ وَحَاصِلُ الْكَلَامِ يَرْجِعُ إلَى كَيْفِيَّةِ الشَّرْطِ أَنَّ الشَّرْطَ وِلَادَةُ وَلَدٍ مُطْلَقٍ أَوْ وِلَادَةُ وَلَدٍ حَيٍّ فَعِنْدَهُمَا: الشَّرْطُ وِلَادَةُ وَلَدٍ مُطْلَقٍ فَإِذَا وَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَنْحَلُّ الْيَمِينُ فَلَا يُتَصَوَّرُ نُزُولُ الْجَزَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: الشَّرْطُ وِلَادَةُ وَلَدٍ حَيٍّ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الشَّرْطُ بِوِلَادَةِ وَلَدٍ مَيِّتٍ فَيَبْقَى الْيَمِينُ فَيَنْزِلُ الْجَزَاءُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ وِلَادَةُ وَلَدٍ حَيٍّ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحَالِفَ جَعَلَ الشَّرْطَ وِلَادَةَ وَلَدٍ مُطْلَقٍ؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ الْوَلَدِ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِصِفَةِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالْوَلَدُ الْمَيِّتُ وُلِدَ حَقِيقَةً حَتَّى تَصِيرَ الْمَرْأَةُ بِهِ نُفَسَاءَ وَتَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ وَتَصِيرَ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْمُعَلَّقُ عِتْقَ عَبْدٍ آخَرَ أَوْ طَلَاقَ امْرَأَةٍ نَزَلَ عِنْدَ وِلَادَةِ وَلَدٍ مَيِّتٍ وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا: إنْ وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ وَعَبْدِي فُلَانٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا عَتَقَ عَبْدُهُ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْوِلَادَةُ شَرْطًا لَمَا عَتَقَ فَإِذَا وَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ لَكِنْ الْمَحَلُّ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْجَزَاءِ فَيَنْحَلُّ الْيَمِينِ لَا إلَى جَزَاءٍ وَتَبْطُلُ كَمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ دَخَلَ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ لَكِنْ لَا إلَى جَزَاءٍ حَتَّى لَوْ اشْتَرَاهُ وَدَخَلَ لَا يَعْتِقُ وَإِنْ أَمْكَنَ تَقْيِيدُ التَّعْلِيقِ بِالْمِلْكِ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَأَنْتَ فِي مِلْكِي مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِهِ كَذَا هَهُنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إنَّ الْإِيجَابَ أُضِيفَ إلَى مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلْحُرِّيَّةِ؛ إذْ الْعَاقِلُ الَّذِي لَا يَقْصِدُ إيجَابَ الْحُرِّيَّةِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْحُرِّيَّةَ؛ لِأَنَّهُ سَفَهٌ وَالْقَابِلُ لِلْحُرِّيَّةِ هُوَ الْوَلَدُ الْحَيُّ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ وَلَدٍ وَلِدَتَيْهِ حَيًّا فَهُوَ حُرٌّ كَمَا إذَا قَالَ لِآخَرَ: إنْ ضَرَبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ أَنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِحَالِ الْحَيَاةِ لِلْمَضْرُوبِ حَتَّى لَوْ ضَرَبَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَحْنَثُ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ لِلضَّرْبِ كَذَا هَهُنَا، وَلَا فَرْقَ سِوَى أَنَّ هَهُنَا تَقَيَّدَ لِنُزُولِ الْجَزَاءِ وَهُنَاكَ تَقَيَّدَ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلَّقَ بِالْوِلَادَةِ عِتْقَ عَبْدٍ آخَرَ أَوْ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَحَلَّ الْمُضَافَ إلَيْهِ الْإِيجَابُ قَابِلٌ لِلْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى التَّقْيِيدِ بِحَيَاةِ الْوَلَدِ كَمَا إذَا قَالَ لَهَا: إنْ وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ أَوْ قَالَ: أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا عَتَقَتْ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ وَعَبْدِي فُلَانٌ، أَنَّ وِلَادَةَ الْوَلَدِ الْمَيِّتِ تَصْلُحُ شَرْطًا فِي عِتْقِ عَبْدٍ آخَرَ لِكَوْنِ الْمَحَلِّ قَابِلًا لِلتَّعْلِيقِ وَلَا تَصْلُحُ شَرْطًا فِي عِتْقِ الْوَلَدِ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ جَزَاءَانِ ثُمَّ يُنْزَلُ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لِمَانِعٍ كَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ مَعَك فَقَالَتْ: حِضْت فَكَذَّبَهَا؛ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا وَلَا يَقَعُ عَلَى الْأُخْرَى وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ وَاحِدًا كَذَا هَذَا. وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِدُخُولِ الدَّارِ فَإِنَّمَا لَمْ يَتَقَيَّدْ بِالْمِلْكِ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ لِلتَّصْحِيحِ وَالْإِيجَابِ هُنَاكَ صَحِيحٌ بِدُونِ الْمِلْكِ لِقَبُولِ الْمَحَلِّ الْعِتْقَ عِنْد وُجُودِ الشَّرْطِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ، وَالْبَاطِلُ لَا يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ وَإِنَّمَا الْمِلْكُ شَرْطُ النَّفَاذِ أَمَّا هَهُنَا فَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِ الْإِيجَابِ فِي الْمَيِّتِ رَأْسًا لِعَدَمِ احْتِمَالِ الْمَحَلِّ؛ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى إعْتَاقِ الْمَيِّتِ بِوَجْهٍ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى التَّقْيِيدِ بِصِفَةِ الْحَيَاةِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: إذَا قَالَ: أَوَّلُ عَبْدٍ يَدْخُلُ فَهُوَ حُرٌّ فَأُدْخِلَ عَلَيْهِ عَبْدٌ مَيِّتٌ ثُمَّ حَيٌّ عَتَقَ الْحَيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ الْإِيجَابُ وَهُوَ الْعَبْدُ لَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ إلَّا بِصِفَةِ الْحَيَاةِ فَصَارَ

كَأَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ عَبْدٍ يَدْخُلُ عَلَيَّ حَيًّا فَهُوَ حُرٌّ كَمَا فِي الْوِلَادَةِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ أَطْلَقَ اسْمَ الْعَبْدِ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ وَلَا يُقَيَّدُ بِحَيَاةِ الْعَبْدِ كَمَا فِي الْوِلَادَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا قَالَ الْقُدُورِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِاسْمِ الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ اسْمٌ لِلْمَرْقُوقِ وَقَدْ بَطَلَ الرِّقُّ بِالْمَوْتِ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ بِإِدْخَالِهِ عَلَيْهِ فَيَعْتِقُ الثَّانِي لِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي حَقِّهِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ اسْمٌ لِلْمَوْلُودِ وَالْمَيِّتُ مَوْلُودٌ حَقِيقَةً فَإِنْ قِيلَ: الرِّقُّ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى كَفَنُ عَبْدِهِ الْمَيِّتِ فَالْجَوَابُ: إنَّ وُجُوبَ الْكَفَنِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا فَكَفَنُهُ عَلَى أَقَارِبِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مِلْكٌ، وَإِذَا زَالَ مِلْكُهُ عَنْ الْمَيِّتِ؛ صَارَ الثَّانِي أَوَّلَ عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ أُدْخِلَ عَلَيْهِ فَوُجِدَ الشَّرْطُ فَيَعْتِقُ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ الرَّجُلِ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ وَيَقَعُ عَلَى مَا فِي مِلْكِهِ فِي الْحَالِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ شَيْئًا يَوْمَ الْحَلِفِ؛ كَانَ الْيَمِينُ لَغْوًا حَتَّى لَوْ مَلَكَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا لِلْحَالِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عِتْقُ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ فِي الْحَالِ وَكَذَا إذَا عُلِّقَ بِشَرْطٍ قُدِّمَ الشَّرْطُ أَوْ أُخِّرَ بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ أَوْ قَالَ: إذَا دَخَلْت أَوْ إذَا مَا دَخَلْت أَوْ مَتَى دَخَلْت أَوْ مَتَى مَا دَخَلْت أَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَهَذَا كُلُّهُ عَلَى مَا فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ وَكَذَا إذَا قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ وَلَا نِيَّةَ لَهُ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ أَفْعَلَ وَإِنْ كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ لَكِنْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُرَادُ بِهِ الْحَالُ عُرْفًا وَشَرْعًا وَلُغَةً أَمَّا الْعُرْفُ: فَإِنَّ مَنْ قَالَ: فُلَانٌ يَأْكُلُ أَوْ يَفْعَلُ كَذَا يُرِيدُ بِهِ الْحَالَ أَوْ يَقُولُ الرَّجُلُ: أَنَا أَمْلِكُ أَلْفَ دِرْهَمٍ يُرِيدُ بِهِ الْحَالَ. وَأَمَّا الشَّرْعُ: فَإِنَّ مَنْ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا وَلَوْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا يَكُونُ شَاهِدًا، وَلَوْ قَالَ: أُقِرُّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا صَحَّ إقْرَارُهُ. وَأَمَّا اللُّغَةُ: فَإِنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلْحَالِ عَلَى طَرِيقِ الْأَصَالَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْحَالِ صِيغَةٌ أُخْرَى وَلِلِاسْتِقْبَالِ السِّينُ وَسَوْفَ، فَكَانَتْ الْحَالُ أَصْلًا فِيهَا وَالِاسْتِقْبَالُ دَخِيلًا فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُصْرَفُ إلَى الْحَالِ وَلَوْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ مَا اُسْتُقْبِلَ مِلْكُهُ؛ عَتَقَ مَا فِي مِلْكِهِ لِلْحَالِ وَمَا اُسْتُحْدِثَ الْمِلْكُ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الصِّيغَةِ لِلْحَالِ فَإِذَا قَالَ: أَرَدْت بِهِ الِاسْتِقْبَالَ فَقَدْ أَرَادَ صَرْفَ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَلَا يُصَدَّقُ فِيهِ، وَيُصَدَّقُ فِي قَوْلِهِ: أَرَدْت مَا يَحْدُثُ مَلِكِي فِيهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ كَمَا إذَا قَالَ: زَيْنَبُ طَالِقٌ وَلَهُ امْرَأَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ ثُمَّ قَالَ: لِي امْرَأَةٌ أُخْرَى بِهَذَا الِاسْمِ عَنَيْتهَا طَلُقَتْ الْمَعْرُوفَةُ بِظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ وَالْمَجْهُولَةُ بِاعْتِرَافِهِ كَذَا هَهُنَا وَكَذَا لَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ السَّاعَةَ فَهُوَ حُرٌّ أَنَّ هَذَا يَقَعُ عَلَى مَا فِي مِلْكِهِ وَقْتَ الْحَلِفِ وَلَا يَعْتِقُ مَا يَسْتَفِيدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَى لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ السَّاعَةِ الْمَذْكُورَةِ هِيَ السَّاعَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ النَّاسِ وَهِيَ الْحَالُ لَا السَّاعَةُ الزَّمَانِيَّةُ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْمُنَجِّمُونَ؛ فَيَتَنَاوَلُ هَذَا الْكَلَامُ مَنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ لَا مَنْ يَسْتَفِيدُهُ بَعْدَهُ فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت بِهِ مَنْ أَسْتَفِيدُهُ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ الزَّمَانِيَّةِ يُصَدَّقُ فِيهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ وَلَكِنْ لَا يُصَدَّقُ فِي صَرْفِهِ اللَّفْظَ عَمَّنْ يَكُونُ فِي مِلْكِهِ لِلْحَالِ سَوَاءٌ أَطْلَقَ أَوْ عَلَّقَ بِشَرْطٍ - قَدَّمَ الشَّرْطَ أَوْ أَخَّرَ - بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ؛ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ حُرٌّ أَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ حُرٌّ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ فِي أَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِشَرْطٍ فَيَتَنَاوَلُ مَا فِي مِلْكِهِ لَا مَا يَسْتَفِيدُهُ كَمَا إذَا قَالَ: كُلُّ عَبْدٍ يَدْخُلُ الدَّارَ فَهُوَ حُرٌّ فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت بِهِ مَا اُسْتُحْدِثَ مِلْكُهُ؛ عَتَقَ مَا فِي مِلْكِهِ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ بِالْيَمِينِ وَمَا يُسْتَحْدَثُ بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَيَصَدَّقُ فِي التَّشْدِيدِ عَلَى نَفْسِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ مَمْلُوكٌ فَالْيَمِينُ لَغْوٌ؛ لِأَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْحَالَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَمْلُوكٌ لِلْحَالِ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ لِانْعِدَامِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إنْ كَلَّمْت فُلَانًا أَوْ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ أَوْ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَشْتَرِي أَوْ أَتَزَوَّجُ لَا يَحْتَمِلُ الْحَالَ فَاقْتَضَى مِلْكًا مُسْتَأْنَفًا وَقَدْ جَعَلَ الْكَلَامَ أَوْ الدُّخُولَ شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ فِيمَنْ يَشْتَرِي أَوْ يَتَزَوَّجُ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ بَعْدَ الْيَمِينِ. وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ الْيَوْمَ فَهُوَ حُرٌّ وَلَا نِيَّةَ لَهُ وَلَهُ مَمْلُوكٌ فَاسْتَفَادَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ مَمْلُوكًا آخَرَ؛ عَتَقَ مَا فِي مِلْكِهِ وَمَا اسْتَفَادَ مِلْكُهُ فِي الْيَوْمِ لَوْ قَالَ: هَذَا الشَّهْرَ أَوْ هَذِهِ السَّنَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَّتَ بِالْيَوْمِ أَوْ الشَّهْرِ أَوْ السَّنَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ التَّوْقِيتُ مُقَيَّدًا وَلَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا مَا فِي مِلْكِهِ يَوْمَ الْحَلِفِ؛ لَمْ يَكُنْ مُقَيَّدًا فَإِنْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ أَحَدَ الصِّنْفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ؛ لَمْ يُدَيَّنْ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ

نَوَى تَخْصِيصَ الْعُمُومِ وَأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى نِيَّتِهِ وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ غَدًا فَهُوَ حُرٌّ وَلَا نِيَّةَ لَهُ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ يَعْتِقُ مِنْ مِلْكِهِ فِي غَدٍ، وَمَنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ أَيْضًا وَهُوَ إحْدَى رِوَايَتَيْ أَبِي سِمَاعَةَ عَنْهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَعْتِقُ إلَّا مَنْ اسْتَفَادَ مِلْكُهُ فِي غَدٍ وَلَا يَعْتِقُ مَنْ جَاءَ غَدٌ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ وَهُوَ إحْدَى رِوَايَتَيْ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَوْجَبَ الْعِتْقَ لِكُلِّ مَنْ يُضَافُ إلَيْهِ الْمِلْكُ فِي غَدٍ فَيَتَنَاوَلُ الَّذِي مَلَكَهُ فِي غَدٍ وَاَلَّذِي مَلَكَهُ قَبْلَ الْغَدِ كَأَنَّهُ قَالَ: فِي الْغَدِ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ الْيَوْمَ فَهُوَ حُرٌّ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَمْلِكُ إنْ كَانَ لِلْحَالِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَلَكِنَّهُ لَمَّا أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ انْصَرَفَ إلَى الِاسْتِقْبَالِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ كَمَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ بِقَرِينَةِ السِّينِ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْحَالَ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا فَهُوَ حُرٌّ، وَرَأْسُ الشَّهْرِ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَهِلُّ فِيهَا الْهِلَالُ وَمِنْ الْغَدِ إلَى اللَّيْلِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الشَّهْرِ أَوَّلَ سَاعَةٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ رَأْسَ كُلِّ شَهْرٍ مَا رَأَسَ عَلَيْهِ وَهُوَ أَوَّلُهُ إلَّا أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ اسْمًا لِمَا ذَكَرْنَا لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَإِنَّهُ يُقَالُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لِأَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ الشَّهْرِ: هَذَا رَأْسُ الشَّهْرِ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَهُوَ حُرٌّ قَالَ: لَيْسَ هَذَا عَلَى مَا فِي مِلْكِهِ إنَّمَا هُوَ مَا يَمْلِكُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٍ فَإِنْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَهَذَا عَلَى مَنْ فِي مِلْكِهِ يَعْتِقُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَيْسَ هُوَ عَلَى مَا يُسْتَقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى مَنْ فِي مِلْكِهِ فِي الْحَالِ وَجَعَلَ عِتْقَهُمْ مُوَقَّتًا بِالْجُمُعَةِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الِاسْتِقْبَالُ فَأَمَّا إذَا قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ إذَا جَاءَ غَدٌ هُوَ حُرٌّ فَهَذَا عَلَى مَا فِي مِلْكِهِ فِي قَوْلِهِمْ: لِأَنَّهُ جَعَلَ مَجِيءَ الْغَدِ شَرْطًا لِثُبُوتِ الْعِتْقِ لَا غَيْرُ فَيَعْتِقُ مَنْ فِي مِلْكِهِ لَكِنْ عِنْدَ مَجِيءِ غَدٍ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْإِعْتَاقُ الْمُضَافُ إلَى الْمَجْهُولِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ مَعْنًى لَا صُورَةً وَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ فِي أَحَدِهِمَا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا عَيْنًا وَهُوَ الَّذِي يُخْتَارُ الْعِتْقُ فِيهِ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ كَأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَ أَحَدِهِمَا بِشَرْطِ اخْتِيَارِ الْعِتْقِ فِيهِ كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ وَمِنْ دُخُولِ الدَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ ثَمَّةَ الشَّرْطُ يَدْخُلُ عَلَى السَّبَبِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا وَهَهُنَا يَدْخُلُ عَلَى الْحُكْمِ لَا عَلَى السَّبَبِ كَالتَّدْبِيرِ وَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ كَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا فِي كَيْفِيَّةِ الْإِعْتَاقِ الْمُضَافِ إلَى الْمَجْهُولِ وَبَعْضُهُمْ نَسَبَ هَذَا الْقَوْلَ لِأَبِي يُوسُفَ وَيُقَالُ: إنَّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ تَنْجِيزُ الْعِتْقِ فِي غَيْرِ الْعِتْقِ لِلْحَالِ وَاخْتِيَارُ الْعِتْقِ فِي أَحَدِهِمَا بَيَانٌ وَتَعْيِينٌ لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ وَبَعْضُهُمْ نَسَبَ هَذَا الْقَوْلَ إلَى مُحَمَّدٍ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّصَرُّفِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَصَفْنَا غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا لَكِنَّهُ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ وَمُشَارٌ إلَيْهِ أَمَّا الدَّلَالَةُ فَإِنَّهُ ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي الطَّلَاقِ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ أَنَّ الْعِدَّةَ تُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَالْعِدَّةُ إنَّمَا تَجِبُ مِنْ وَقْتِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا وَإِنَّمَا يَقَعُ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ تُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الْكَلَامِ السَّابِقِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ وَقَعَ مِنْ حَيْثُ وُجُودُهُ، وَإِنَّمَا الِاخْتِيَارُ بَيَانٌ وَتَعْيِينٌ لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ وَأَمَّا الْإِشَارَةُ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ تَعَلَّقَ الْعِتْقُ بِذِمَّتِهِ وَيُقَالُ لَهُ: أَعْتِقْ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ فِي الْمَحَلِّ؛ إذْ لَوْ كَانَ نَازِلًا لَمَا كَانَ مُعَلَّقًا بِالذِّمَّةِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: يُقَالُ لَهُ أَعْتِقْ أَيْ: اخْتَرْ الْعِتْقَ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ بِإِنْشَاءِ الْإِعْتَاقِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ يُقَالُ لَهُ: بَيِّنْ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى الْوُقُوعِ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ لِلْمَوْجُودِ لَا لِلْمَعْدُومِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْكَرْخِيُّ وَالْقُدُورِيُّ وَحَقَّقَا الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إلَّا أَنَّ الْقُدُورِيَّ حَكَى عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ فَيَجْعَلُ الِاخْتِيَارَ بَيَانًا فِي الطَّلَاقِ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْعَتَاقِ يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ فِي الذِّمَّةِ وَالطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ قَالَ: وَكَانَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا يُسَوِّي بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ أَيْضًا يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ فِي الذِّمَّةِ فِي الْجُمْلَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُرْقَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْعِنِّينِ وَإِنَّمَا يَقُومُ الْقَاضِي مَقَامَهُ فِي التَّفْرِيقِ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْعِتْقِ بِالذِّمَّةِ لَيْسَ مَعْنَاهُ إلَّا انْعِقَادَ سَبَبِ الْوُقُوعِ مِنْ غَيْرِ وُقُوعٍ وَهُوَ مَعْنَى حَقِّ الْحُرِّيَّةِ دُونَ

الْحَقِيقَةِ وَهُمَا فِي هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوِيَانِ، وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ أَحَدُكُمَا حُرٌّ تَنْجِيزُ الْحُرِّيَّةِ فِي أَحَدِهِمَا وَلَيْسَ بِتَعْلِيقٍ حَقِيقَةً لِانْعِدَامِ حَرْفِ التَّعْلِيقِ إلَّا أَنَّهُ تَنْجِيزٌ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَيَتَعَيَّنُ بِالِاخْتِيَارِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْعِتْقَ إمَّا أَنْ يَثْبُتَ بِاخْتِيَارِ الْعِتْقِ وَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ، وَالثَّانِي لَا سَبِيلَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْعِتْقِ لَمْ يُعْرَفْ إعْتَاقًا فِي الشَّرْعِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: اخْتَرْت عِتْقَك لَا يَعْتِقُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَثْبُتَ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ فَلَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَثْبُتَ حَالَ وُجُودِهِ فِي أَحَدِهِمَا غَيْرُ عَيْنٍ وَيَتَعَيَّنُ بِاخْتِيَارِهِ وَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ وُجُودِ الِاخْتِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا عَيْنًا وَهُوَ تَفْسِيرُ التَّعْلِيقِ بِشَرْطِ الِاخْتِيَارِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَخْتَارُ غَيْرَ الْحُرِّ فَيَلْزَمُ الْقَوْلُ بِانْتِقَالِ الْحُرِّيَّةِ مِنْ الْحُرِّ إلَى الرَّقِيقِ، أَوْ انْتِقَالِ الرِّقِّ مِنْ الرَّقِيقِ إلَى الْحُرِّ أَوْ اسْتِرْقَاقِ الْحُرِّ وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ وَالثَّانِي غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي ضَرُورَةً وَهِيَ أَنْ يَثْبُتَ الْعِتْقُ عِنْدَ وُجُودِ الِاخْتِيَارِ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ مَقْصُورًا عَلَى حَالِ الِاخْتِيَارِ وَهُوَ تَفْسِيرُ التَّعْلِيقِ ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِالْبَيَانِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْبَيَانِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْبَيَانُ إظْهَارٌ مَحْضٌ وَمِنْهُمْ مِنْ قَالَ: هُوَ إظْهَارٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: بَيِّنْ، وَفِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: أَعْتِقْ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْمَسَائِلَ تَتَخَرَّجُ عَلَيْهِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ إظْهَارًا وَإِنْشَاءً؛ إذْ الْإِنْشَاءُ إثْبَاتُ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ وَالْإِظْهَارُ إبْدَاءُ أَمْرٍ قَدْ كَانَ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ وَثَمَرَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي الْأَحْكَامِ وَإِنَّهَا فِي الظَّاهِرِ مُتَعَارِضَةٌ: بَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَبَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الثَّانِي وَنَحْنُ نُشِيرُ إلَى ذَلِكَ إذَا انْتَهَيْنَا إلَى بَيَانِ حُكْمِ الْإِعْتَاقِ وَبَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِ حُكْمِهِ فَأَمَّا تَرْجِيحُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَتَخَرُّجُ الْمَسَائِلِ عَلَيْهِ فَمَذْكُورَانِ فِي الْخِلَافِيَّاتِ. وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِالْمِلْكِ أَوْ بِسَبَبِهِ صُورَةً وَمَعْنًى فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدٍ لَا يَمْلِكُهُ: إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ وَإِنَّهُ صَحِيحٌ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ مَلَكَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ يَعْتِقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمِلْكُ مَوْجُودًا وَقْتَ التَّعْلِيقِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ وَلَا يَعْتِقُ وَقَالَ بِشْرُ الْمَرِيسِيِّ يَصِحُّ التَّعْلِيقُ بِالْمِلْكِ، وَلَا يَصِحُّ بِسَبَبِ الْمِلْكِ وَهُوَ الشِّرَاءُ أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَعَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَأَمَّا مَعَ بِشْرٍ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ أَوْ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ وَلَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ قَدْ يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي وَقَدْ لَا يُفِيدُ كَالشِّرَاءِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَشِرَاءِ الْوَكِيلِ؛ فَلَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ فَلَا يَصِحُّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إنْ مَلَكْتُك، وَلَنَا أَنَّ مُطْلَقَ الشِّرَاءِ يَنْصَرِفُ إلَى الشِّرَاءِ الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ الشِّرَاءُ لِنَفْسِهِ وَمِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْخِيَارِ وَإِنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَكَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرًا لِلْمِلْكِ، وَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ إضَافَةٌ إلَى الْمِلْكِ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالشِّرَاءِ - وَلَا بُدَّ مِنْ الْمِلْكِ عِنْدَ الشِّرَاءِ لِثُبُوتِ الْعِتْقِ - كَانَ هَذَا تَعْلِيقَ الْعِتْقِ بِالشِّرَاءِ الْمُوجِبِ لِلْمِلْكِ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ اشْتَرَيْتُك شِرَاءً مُوجِبًا لِلْمِلْكِ فَأَنْتَ حُرٌّ فَإِذَا اشْتَرَاهُ شِرَاءً مُوجِبًا لِلْمِلْكِ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَعْتِقُ. وَلَوْ قَالَ: إنْ تَسَرَّيْت جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ فَاشْتَرَى جَارِيَةً فَتَسَرَّاهَا لَا تَعْتِقُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ تَعْتِقُ وَلَوْ تَسَرَّى جَارِيَةً كَانَتْ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ عَتَقَتْ بِالْإِجْمَاعِ، وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ وُجِدَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ التَّسَرِّيَ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الْمِلْكِ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى التَّسَرِّي إضَافَةً إلَى الْمِلْكِ فَيَصِحُّ التَّعْلِيقُ، وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْمِلْكُ وَقْتَ التَّعْلِيقِ وَلَا الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ وَالْكَلَامُ فِيهِ وَلَا إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ التَّسَرِّيَ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ؛. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ كَالْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالْيَمِينُ بِالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ أَوْ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ أَوْ سَبَبِهِ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ التَّسَرِّيَ لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الْمِلْكِ فَهَذَا مُسَلَّمٌ أَنَّ الْمِلْكَ شَرْطُ صِحَّةِ التَّسَرِّي، وَجَوَازِهِ لَكِنْ الْحَالِفُ جَعَلَ وُجُودَهُ شَرْطَ الْعِتْقِ، وَالتَّسَرِّي نَفْسُهُ يُوجَدُ مِنْ غَيْرِ مِلْكٍ فَلَمْ يَكُنْ التَّعْلِيقُ بِهِ تَعْلِيقًا بِسَبَبِ الْمِلْكِ فَلَمْ يَصِحَّ ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ التَّسَرِّي: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: هُوَ أَنْ يَطَأَهَا وَيُحَصِّنَهَا وَيَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ سَوَاءٌ طَلَبَ مِنْهَا الْوَلَدَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: طَلَبُ الْوَلَدِ مَعَ التَّحْصِينِ شَرْطٌ، وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْإِنْسَانَ يَطَأُ جَارِيَتَهُ وَيُحَصِّنُهَا وَلَا يُقَالُ لَهَا: سَرِيَّةٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ إذَا كَانَ يَطْلُبُ مِنْهَا الْوَلَدَ أَوْ تَكُونُ أُمَّ وَلَدِهِ. هَذَا هُوَ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ، وَلَهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِ التَّسَرِّي مَا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ السَّرْوِ وَهُوَ الشَّرَفُ فَتُسَمَّى الْجَارِيَةُ سَرِيَّةً بِمَعْنَى أَنَّهُ أَسْرَى الْجَوَارِي أَيْ: أَشْرَفُهُنَّ وَإِمَّا

أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ السِّرِّ وَهُوَ الْجِمَاعُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] قِيلَ جِمَاعًا وَلَيْسَ فِي أَحَدِهِمَا مَا يُنْبِئُ عَنْ طَلَبِ الْوَلَدِ، وَلَوْ وَطِئَ جَارِيَةً كَانَتْ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ الْحَلِفَ فَعَلِقَتْ مِنْهُ لَمْ تَعْتِقْ لِعَدَمِ التَّسَرِّي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا الْوَطْءُ وَالْوَطْءُ وَحْدَهُ لَا يَكُونُ تَسَرِّيًا بِلَا خِلَافٍ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْعِتْقِ فَلَا تَعْتِقُ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ حُرَّةٍ: إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ أَوْ قَالَ لَهَا: إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ سُبِيَتْ فَاشْتَرَاهَا الْحَالِفُ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ أَنَّ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَعْتِقُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَعْتِقُ يَعْنِي بِهِ قِيَاسَ قَوْلِهِ فِي الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا قَالَ: كُلُّ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا اُسْتُقْبِلَ فَهُوَ حُرٌّ وَقَالَ: كُلُّ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَيَعْتِقُ ثُمَّ مَلَكَ عَبْدًا أَوْ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَعْتِقُ وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَعْتِقُ وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا. وَلَوْ قَالَ لِأَمَةٍ لَا يَمْلِكُهَا: إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِي فَاشْتَرَاهَا صَارَتْ مُدَبَّرَةً؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ تَدْبِيرَهَا بِسَبَبِ الْمِلْكِ وَهُوَ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِي صُورَةُ التَّدْبِيرِ وَقَدْ عَلَّقَهُ بِالشِّرَاءِ فَيَصِيرُ عِنْدَ الشِّرَاءِ قَائِلًا أَنْتِ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِي. وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِالْمِلْكِ أَوْ بِسَبَبِهِ مَعْنًى لَا صُورَةً فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْحُرُّ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ فَهُوَ حُرٌّ وَيَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِمِلْكٍ يَسْتَفِيدُهُ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّوَادِرِ إذَا قَالَ: كُلُّ جَارِيَةٍ أَشْتَرِيهَا إلَى سَنَةٍ فَهِيَ حُرَّةٌ فَكُلُّ جَارِيَةٍ يَشْتَرِيهَا إلَى سَنَةٍ فَهِيَ حُرَّةٌ سَاعَةَ يَشْتَرِيهَا قَالَ: وَإِنْ قَالَ: كُلُّ جَارِيَةٍ أَشْتَرِيهَا فَهِيَ حُرَّةٌ إلَى سَنَةٍ فَاشْتَرَى جَارِيَةً لَمْ تَعْتِقْ إلَى سَنَةٍ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الشِّرَاءِ فِي السَّنَةِ فَتَعْتِقُ كُلُّ جَارِيَةٍ يَشْتَرِيهَا فِي السَّنَةِ سَاعَةَ الشِّرَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الشِّرَاءِ: أَنْتِ حُرَّةٌ فَتَعْتِقُ وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي جَعَلَ الشِّرَاءُ شَرْطًا لِعِتْقٍ مُؤَقَّتٍ بِالسَّنَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ الشِّرَاءِ: أَنْتِ حُرَّةٌ إلَى سَنَةٍ، قَالَ: وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ غَدًا فَهَذَا عِنْدِي عَلَى كُلِّ مَمْلُوكٍ يَشْتَرِيهِ قَبْلَ الْغَدِ وَإِنْ اشْتَرَى مَمْلُوكًا غَدًا لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الشِّرَاءَ شَرْطًا لِزَوَالِ حُرِّيَّةٍ مُؤَقَّتَةٍ بِوُجُودِ الْغَدِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ الْمِلْكِ عَلَى الْغَدِ لِيَنْزِلَ الْعِتْقُ الْمُؤَقَّتُ بِهِ وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ إلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً فَهَذَا عَلَى مَا يُسْتَقْبَلُ مِلْكُهُ فِي الثَّلَاثِينَ سَنَةٍ أَوَّلُهَا: مِنْ حِينِ حَلَفَ بَعْدَ سُكُوتِهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَلَا يَكُونُ عَلَى مَا فِي مِلْكِهِ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى الِاسْتِقْبَالِ تَعَيَّنَ اللَّفْظُ لِلْمُسْتَقْبَلِ وَإِذَا انْصَرَفَ إلَى الِاسْتِقْبَالِ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْحَالِ إذْ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَنْتَظِمُ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: غَدًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ ذَاكَ لَيْسَ أَصْلًا إلَى الِاسْتِقْبَالِ بَلْ هُوَ إيقَاعُ عِتْقٍ عَلَى مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ ثَلَاثِينَ سَنَةً أَوْ فِي ثَلَاثِينَ سَنَةً أَوْ قَالَ: أَمْلِكُهُ إلَى سَنَةٍ أَوْ سَنَةً أَوْ فِي سَنَةٍ أَوْ قَالَ: أَمْلِكُهُ أَبَدًا أَوْ إلَى أَنْ أَمُوتَ فَهَذَا كُلُّهُ بَابٌ وَاحِدٌ يَدْخُلُ فِيهِ مَا يُسْتَقْبَلُ دُونَ مَا كَانَ فِي مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْحُرِّيَّةَ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت بِقَوْلِي كُلَّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ سَنَةً أَنْ يَكُونَ مَا فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ مُسْتَدَامًا سَنَةً دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُدَيَّنْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا وَقَّتَ السَّنَةَ لِاسْتِفَادَةِ الْمِلْكِ لَا لِاسْتِمْرَارِ الْمِلْكِ الْقَائِمِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْعُدُولِ عَنْ الظَّاهِرِ. وَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ يَوْمَئِذٍ فَهُوَ حُرٌّ أَوْ قَالَ: إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ يَوْمَئِذٍ فَهُوَ حُرٌّ وَلَا نِيَّةَ لَهُ عَتَقَ مَا فِي مِلْكِهِ يَوْمَ دَخَلَ الدَّارَ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَ كُلِّ عَبْدٍ يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ يَوْمَ الدُّخُولِ بِالدُّخُولِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ أَيْ: يَوْمَ الدُّخُولِ. هَذَا هُوَ مُقْتَضَى اللُّغَةِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ يَوْمَ إذَا دَخَلَ الدَّارَ؛ لِأَنَّهُ حَذَفَ الْفِعْلَ وَعَوَّضَ عَنْهُ بِالتَّنْوِينِ فَيَعْتِقُ كُلُّ مَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ يَوْمَ الدُّخُولِ فَكَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الدُّخُولِ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ وَسَوَاءٌ دَخَلَ الدَّارَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ الْمُطْلَقُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] وَهَذَا الْوَعْدُ يَلْحَقُ الْمُوَلِّيَ دُبُرَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا وَلِأَنَّ غَرَضَ الْحَالِفِ الِامْتِنَاعُ مِنْ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ فَلَا يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ إنْ كَلَّمْت أَوْ إذَا كَلَّمْت فُلَانًا أَوْ إذَا جَاءَ غَدٌ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهَذَا يَقَعُ عَلَى مَا يَشْتَرِيهِ قَبْلَ الْكَلَامِ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ اشْتَرَاهُ قَبْلَ الْكَلَامِ ثُمَّ تَكَلَّمَ عَتَقَ وَمَا اشْتَرَاهُ بَعْدَ الْكَلَامِ لَا يَعْتِقُ وَلَوْ قَدَّمَ الشَّرْطَ فَقَالَ: إنْ كَلَّمْت فُلَانًا أَوْ إذَا كَلَّمْت فُلَانًا أَوْ إذَا جَاءَ غَدٌ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ فَهَذَا عَلَى مَا يَشْتَرِيهِ بَعْدَ الْكَلَامِ لَا قَبْلَهُ حَتَّى لَوْ كَانَ اشْتَرَى مَمَالِيكَ قَبْلَ الْكَلَامِ ثُمَّ كَلَّمَ لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَمَا اشْتَرَى بَعْدَهُ يَعْتِقُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي

الْفَصْلِ الْأَوَّلِ جَعَلَ الْكَلَامَ شَرْطَ انْحِلَالِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ يَمِينٌ تَامَّةٌ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَإِذَا قَالَ: إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَقَدْ جَعَلَ كَلَامَ فُلَانٍ غَايَةً لِانْحِلَالِهَا فَإِذَا كَلَّمَهُ انْحَلَّتْ فَلَا يَدْخُلُ مَا بَعْدَ الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي جَعَلَ كَلَامَ فُلَانٍ شَرْطَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ فَإِذَا كَلَّمَهُ الْآنَ انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا بَعْدَهُ لَا مَا قَبْلَهُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الْكَلَامِ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ، وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْمُسْتَقْبَلَ وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيه إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَهُوَ حُرٌّ أَوْ قَالَ: إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَهَذَا عَلَى مَا يَشْتَرِي بَعْدَ الْفِعْلِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ وَلَا يَعْتِقُ مَا اشْتَرَى قَبْلَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُعَيِّنَهُمْ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ دُخُولَ الدَّارِ شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ فَيَصِيرُ عَنْدَ دُخُولِ الدَّارِ كَأَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٌ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ دُخُولَ الدَّارِ شَرْطَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ أَنَّ قَوْلَهُ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيهِ شَرْطٌ، وَقَوْلُهُ: إذَا دَخَلْت الدَّارَ شَرْطٌ آخَرُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَا شَرْطًا وَاحِدًا لِعَدَمِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَلَا سَبِيلَ إلَى إلْغَاءِ الشَّرْطِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ إلْغَاءَ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ مَعَ إمْكَانِ تَصْحِيحِهِ خَارِجٌ عَنْ الْعَقْلِ وَلِتَصْحِيحِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُجْعَلَ الشَّرْطُ الثَّانِي مَعَ جَزَائِهِ يَمِينًا وَجَزَاءُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ مِنْ إدْرَاجِ حَرْفِ الْفَاءِ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ الْمُتَعَقِّبَ لِلشَّرْطِ لَا يَكُونُ بِدُونِ حَرْفِ الْفَاءِ وَفِيهِ تَغْيِيرٌ، وَالثَّانِي: أَنْ يُجْعَلَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ وَفِيهِ تَغْيِيرٌ أَيْضًا بِجَعْلِ الْمُقَدَّمِ مِنْ الشَّرْطَيْنِ مُؤَخَّرًا إلَّا أَنَّ التَّغْيِيرَ فِيهِ أَقَلُّ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَبْدِيلَ مَحَلِّ الْكَلَامِ لَا غَيْرُ وَفِي الْأَوَّلِ إثْبَاتُ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ فَكَانَ الثَّانِي أَقَلَّ تَغْيِيرًا فَكَانَ التَّصْحِيحُ بِهِ أَوْلَى وَتُسَمَّى هَذِهِ الْيَمِينُ الْيَمِينَ الْمُعْتَرِضَةَ لِاعْتِرَاضِ شَرْطٍ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَلَوْ نَوَى الْوَجْهَ الْأَوَّلَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ: إلَّا أَنْ يَعْنِيَ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَكُونَ عَلَى مَا عَنَى. وَلَوْ قَالَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ: كُلُّ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ فَعَتَقَ ثُمَّ مَلَكَ عَبْدًا لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَمْلِكُ لِلْحَالِ لِمَا يَتَنَاوَلُهُ لِلْحَالِ نَوْعَ مِلْكٍ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ لِلْإِعْتَاقِ فَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ لَا إلَى جَزَاءٍ، وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ إذَا أَعْتَقْت فَهُوَ حُرٌّ فَعَتَقَ فَمَلَكَ عَبْدًا عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالْمِلْكِ الْحَاصِلِ لَهُ بَعْدَ عِتْقِهِ وَإِنَّهُ مِلْكٌ صَالِحٌ لِلْإِعْتَاقِ فَصَحَّتْ الْإِضَافَةُ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ إذَا قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ بَلَغَ فَمَلَكَ عَبْدًا أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ تَنْجِيزًا وَتَعْلِيقًا لِكَوْنِهِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ. فَأَمَّا الْعَبْدُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ لِكَوْنِهِ عَاقِلًا بَالِغًا إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ تَنْجِيزُ الْعِتْقِ مِنْهُ لِعَدَمِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ الصَّالِحُ فَإِذَا عُلِّقَ بِمِلْكٍ يَصْلُحُ شَرْطًا لَهُ صَحَّ. وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا اُسْتُقْبِلَ فَهُوَ حُرٌّ أَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَعَتَقَ فَمَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ عَبْدًا أَوْ اشْتَرَى عَبْدًا لَا يَعْتِقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَعْتِقُ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَهُ: أَمْلِكُهُ فِيمَا اُسْتُقْبِلَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَمْلِكُهُ إلَى آخِرِ عُمُرِهِ فَيُعْمَلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ كَمَا فِي الْحُرِّ؛ وَلِأَنَّ فِي الْحَمْلِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ تَصْحِيحَ تَصَرُّفِهِ وَفِي الْحَمْلِ عَلَى الْحَالِ إبْطَالٌ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ أَوْلَى وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَلْمُكَاتَبِ نَوْعَ مِلْكٍ ضَرُورِيٍّ يُنْسَبُ إلَيْهِ فِي حَالَةِ الرِّقِّ فِي حَالَةِ الْكِتَابَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَجَازِ لِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ» الْحَدِيثَ أَضَافَ الْمَالَ إلَيْهِ فَاللَّامُ الْمِلْكِ دَلَّ أَنَّ لَهُ نَوْعَ مِلْكٍ فَهُوَ مُرَادٌ بِهَذَا الْإِيجَابِ بِالْإِجْمَاعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ مَلَكْتُ هَذَا الْعَبْدَ بِعَيْنِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَهُوَ حُرٌّ فَمَلَكَهُ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ فَبَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بَعْدَمَا صَارَ حُرًّا لَا يَعْتِقُ وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ بِالشِّرَاءِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْمَجَازِيَّ مُرَادٌ فَخَرَجَتْ الْحَقِيقَةُ عَنْ الْإِرَادَةِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ وَقَدْ قَالُوا فِي عَبْدٍ قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ عِتْقُ نَسَمَةٍ أَوْ إطْعَامُ مِسْكِينٍ: لَزِمَهُ ذَلِكَ وَكَانَ عَلَيْهِ إذَا عَتَقَ؛ لِأَنَّ هَذَا إيجَابُ الْإِعْتَاقِ، وَالْإِطْعَامُ فِي الذِّمَّةِ وَذِمَّتُهُ تَحْتَمِلُ الْإِيجَابَ فَيَصِحُّ وَيَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَلَوْ قَالَ: إنْ اشْتَرَيْت هَذَا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ أَوْ إنْ اشْتَرَيْت هَذِهِ الشَّاةَ فَهِيَ هَدْيٌ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يُضِيفَ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ فَيَقُولَ: إنْ اشْتَرَيْته بَعْدَ الْعِتْقِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَلْزَمَانِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَبْدَ يُضَافُ إلَيْهِ الشِّرَاءُ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَجَازِ بِمُقَابَلَةِ الشِّرَاءِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ، وَالْمَجَازُ مُرَادٌ فَلَا تَكُونُ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً وَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ مَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ الشِّرَاءِ فِي عُمُرِهِ وَتَصْحِيحُ الْيَمِينِ أَيْضًا أَوْلَى مِنْ إبْطَالِهَا وَقَدْ قَالُوا جَمِيعًا فِي مُكَاتَبٍ أَوْ عَبْدٍ قَالَ: إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَعَبْدِي هَذَا حُرٌّ ثُمَّ أُعْتِقَ فَدَخَلَ الدَّارَ لَمْ يَعْتِقْ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمِلْكَ غَيْرُ صَالِحٍ لِلْعِتْقِ وَلَمْ تُوجَدْ

الْإِضَافَةُ إلَى مَا يَصْلُحُ. وَقَالُوا فِي حُرٍّ قَالَ لِامْرَأَةٍ حُرَّةٍ: إذَا مَلَكْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ أَوْ إذَا اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ سُبِيَتْ فَاشْتَرَاهَا الْحَالِفُ: أَنَّهَا لَا تَعْتِقُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا تَعْتِقُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُحْمَلُ الْمِلْكُ أَوْ الشِّرَاءُ عَلَى مَا يَقْبَلُهُ الْمَحَلُّ فِي الْحَالِ وَهُوَ مِلْكُ النِّكَاحِ هَهُنَا وَالشِّرَاءُ أَيْضًا يَصْلُحُ عِبَارَةً عَنْ سَبَبِ هَذَا الْمِلْكِ وَهُوَ النِّكَاحُ، وَالْحُرِّيَّةُ أَيْضًا تَصْلُحُ عِبَارَةً عَمَّا يُبْطِلُهُ وَهُوَ الطَّلَاقُ وَكَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْفَصْلِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تُحْمَلُ عَلَى مَا يَسْبِقُ إلَى الْأَوْهَامِ وَلَا تَنْصَرِفُ الْأَوْهَامُ إلَى ارْتِدَادِهَا وَلُحُوقِهَا بِدَارِ الْحَرْبِ وَسَبْيِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَظْنُونٍ بِالْمُسْلِمَةِ فَكَانَ صَرْفُ كَلَامِهِ إلَى مَا ذَكَرْنَا أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إلَى مَا تَسْبِقُ إلَيْهِ الْأَوْهَامُ وَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّهُ يُحْمَلُ مُطْلَقُ الْمِلْكِ عَلَى الْمِلْكِ الْحَقِيقِيِّ الصَّالِحِ لِلْإِعْتَاقِ وَهُوَ الَّذِي يُوجَدُ بَعْدَ السَّبْيِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: إذَا ارْتَدَدْتِ وَسُبِيت فَمَلَكْتُك أَوْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَكَانَ ذَلِكَ؛ عَتَقَتْ فِي قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى الْمِلْكِ الْحَقِيقِيِّ فَيُضَافُ إلَيْهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إذَا قَالَ: أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ وَقَدْ وُجِدَ وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ مَعًا لَمْ يَعْتِقْ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّهُ إنْ وُجِدَ مَعْنَى السَّبْقِ فَلَمْ يُوجَدْ مَعْنَى التَّفَرُّدِ. فَإِنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ مَعًا ثُمَّ اشْتَرَى آخَرَ لَمْ يَعْتِقْ الثَّالِثُ؛ لِأَنَّهُ إنْ وُجِدَ فِيهِ مَعْنَى التَّفَرُّدِ فَقَدْ انْعَدَمَ مَعْنَى السَّبْقِ وَقَدْ اسْتَشْهَدَ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ لِبَيَانِ الثَّالِثِ لَيْسَ بِأَوَّلٍ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: آخِرُ عَبْدٍ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ، فَاشْتَرَى عَبْدَيْنِ مَعًا ثُمَّ اشْتَرَى آخَرَ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى أَنَّهُ يَعْتِقُ الثَّالِثُ فَدَلَّ أَنَّهُ آخِرٌ، وَإِذَا كَانَ آخِرًا لَا يَكُونُ أَوَّلًا ضَرُورَةً لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ ذَاتًا وَاحِدَةً مِنْ الْمَخْلُوقِينَ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَلَوْ قَالَ: أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ وَاحِدًا فَهُوَ حُرٌّ؛ عَتَقَ الثَّالِثُ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ فَرْدًا سَابِقًا فِي حَالِ الشِّرَاءِ وَقَدْ وُجِدَ هَذَا الْوَصْفُ فِي الْعَبْدِ الثَّالِثِ، وَلَوْ قَالَ: آخِرُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ لَمْ يَشْتَرِ غَيْرَهُ حَتَّى مَاتَ الْمَوْلَى لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ الْآخِرَ اسْمٌ لِفَرْدٍ لَاحِقٍ وَهَذَا فَرْدٌ سَابِقٌ فَكَانَ أَوَّلًا لَا آخِرًا، وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ آخِرُ عَبْدٍ اشْتَرَاهُ وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ ثُبُوتِ الْعِتْقِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَعْتِقُ يَوْمَ اشْتَرَاهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَوْمَ مَاتَ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِصِفَةِ الْآخِرِيَّةِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ مَوْتِهِ إذَا لَمْ يَشْتَرِ آخَرَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى بَعْدَهُ عَبْدًا آخَرَ حُرِمَ هُوَ مِنْ أَنْ يَكُونَ آخِرًا فَيَتَوَقَّفُ اتِّصَافُهُ بِكَوْنِهِ آخِرًا عَلَى عَدَمِ الشِّرَاءِ بَعْدَهُ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالْمَوْتِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَشْتَرِ آخَرَ بَعْدَهُ حَتَّى مَاتَ؛ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ آخِرًا يَوْمَ اشْتَرَاهُ إلَّا أَنَّا كُنَّا لَا نَعْرِفُ ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَشْتَرِيَ آخَرَ بَعْدَهُ فَتَوَقَّفْنَا فِي تَسْمِيَتِهِ آخِرًا فَإِذَا لَمْ يَشْتَرِ آخَرَ حَتَّى مَاتَ زَالَ التَّوَقُّفُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ آخِرًا مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ عَبْدَيْنِ مَعًا؛ لَمْ يَعْتِقْ أَحَدُهُمْ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلٌ فَلَا يَكُونُ آخِرًا وَأَمَّا الْآخَرَانِ فَلِأَنَّ الْآخِرَ اسْمٌ لِفَرْدٍ لَاحِقٍ وَلَمْ يُوجَدْ مَعْنَى التَّفَرُّدِ فَلَا يَعْتِقْ أَحَدُهُمَا. وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ وُجُودُ الشَّرْطِ فَالْحَالِفُ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْكِرًا وُجُودَهُ فَإِنْ كَانَ مُقِرًّا يَظْهَرُ بِإِقْرَارِهِ كَائِنًا مَا كَانَ مِنْ الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مِمَّا لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ قِبَلِ الْمَحْلُوفِ بِعِتْقِهِ كَمَشِيئَةٍ وَمَحَبَّةٍ وَبُغْضَةٍ وَالْحَيْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَظْهَرُ بِقَوْلِهِ: وَإِذَا اخْتَلَفَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَمْرًا لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ قِبَلِهِ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ كَدُخُولِ الدَّارِ وَكَلَامِ زَيْدٍ وَقُدُومِ عَمْرٍو وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَا لَا يَظْهَرُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَبْدِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ قَوْلَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْعِتْقَ وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَوْ كَانَ الشَّرْطُ وِلَادَةَ الْأَمَةِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: إنْ وَلَدْت فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَقَالَتْ: وَلَدْت فَكَذَّبَهَا الْمَوْلَى فَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ لَا تَعْتِقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يَشْهَدَ بِالْوِلَادَةِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَعِنْدَهُمَا تَعْتِقُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ثِقَةٍ وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي فُصُولِ الْعِدَّةِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ بَيَانُ مَنْ يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ اسْمِ الْمَمْلُوكِ فِي الْإِعْتَاقِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَمَنْ لَا يَدْخُلُ. فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: يَدْخُلُ تَحْتَهُ عَبْدُ الرَّهْنِ، الْوَدِيعَةُ وَالْآبِقُ وَالْمَغْصُوبُ وَالْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى لِانْعِدَامِ الْخَلَلِ فِي الْمِلْكِ وَالْإِضَافَةِ وَلَوْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ الذُّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ لَمْ يُدَيَّنْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ كَلِمَةَ الْإِحَاطَةِ عَلَى الْمَمْلُوكِ فَإِذَا نَوَى بِهِ الْبَعْضَ؛ فَقَدْ نَوَى تَخْصِيصَ الْعُمُومِ وَإِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا

يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُدَبَّرُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَوَلَدَاهُمَا لِمَا قُلْنَا. أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَطَأَ الْمُدَبَّرَةَ وَأُمَّ الْوَلَدِ مَعَ أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ مَنْفِيٌّ شَرْعًا إلَّا بِأَحَدِ نَوْعَيْ الْمِلْكِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُكَاتَبُ إلَّا أَنْ يُعَيِّنَهُ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ يَدِهِ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَصَارَ حُرًّا يَدًا فَاخْتَلَّ الْمِلْكُ وَالْإِضَافَةُ، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَمْلُوكِ، وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَلَوْ وَطِئَهَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ، وَإِنْ عَنَى الْمُكَاتِبِينَ عَتَقُوا؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَحْتَمِلُ مَا عَنَى، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ فَيُصَدَّقُ، وَكَذَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْعَبْدُ الَّذِي أُعْتِقَ بَعْضُهُ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبَةِ، وَيَدْخُلُ عَبْدُهُ الْمَأْذُونُ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا عَبِيدُ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهَلْ يَدْخُلُونَ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَا يَدْخُلُونَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمْ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَدْخُلُونَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَعَبْدُ عَبْدِهِ مِلْكُهُ بِلَا خِلَافٍ فَيَعْتِقُ، وَلَهُمَا أَنَّ فِي الْإِضَافَةِ إلَيْهِ قُصُورًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: هَذَا عَبْدُ فُلَانٍ، وَهَذَا عَبْدُ عَبْدِهِ، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْإِضَافَةِ إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى فَقَدْ اُعْتُبِرَ الْمِلْكُ دُونَ الْإِضَافَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَعْتَبِرُ نَفْسَ الْمِلْكِ وَلَا خَلَلَ فِي نَفْسِهِ، وَهُمَا يَعْتَبِرَانِ مَعَهُ الْإِضَافَةَ وَفِي الْإِضَافَةِ خَلَلٌ، وَاعْتِبَارُهُمَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ اعْتَبَرَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا بِقَوْلِهِ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي، فَمَا لَمْ يُوجَدَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَعْتِقُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِرَقَبَتِهِ وَبِمَا فِي يَدِهِ لَمْ يَعْتِقْ عَبِيدُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ نَوَاهُمْ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ عَبْدَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا لِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ نَوَاهُمْ عَتَقُوا؛ لِأَنَّهُمْ مَمَالِيكُهُ إلَّا أَنَّهُمْ لَا يُضَافُونَ إلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَإِذَا نَوَى وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ عَتَقُوا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَعْتِقُونَ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِمْ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مُحَمَّدًا لَا يَنْظُرُ إلَّا إلَى الْمِلْكِ، وَهُمَا يَنْظُرَانِ إلَى الْمِلْكِ وَالْإِضَافَةِ جَمِيعًا، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَمْلُوكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَجْنَبِيٍّ، كَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْمَمْلُوكِ لَا يُسَمَّى مَمْلُوكًا حَقِيقَةً، وَإِنْ نَوَاهُ عَتَقَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ فَيُصَدَّقُ وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ الْحَمْلُ إنْ كَانَ أَمَةً فِي مِلْكِهِ يَدْخُلُ وَيَعْتِقُ بِعِتْقِهَا، وَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ الْحَمْلُ دُونَ الْأَمَةِ بِأَنْ كَانَ مُوصَى لَهُ بِالْحَمْلِ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مَمْلُوكًا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ فِي وُجُودِهِ خَطَرًا، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ اشْتَرَيْت مَمْلُوكَيْنِ فَهُمَا حُرَّانِ، فَاشْتَرَى جَارِيَةً حَامِلًا لَمْ يَعْتِقَا؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ شِرَاءُ مَمْلُوكَيْنِ، وَالْحَمْلُ لَا يُسَمَّى مَمْلُوكًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي غَيْرِك حُرٌّ، لَمْ يَعْتِقْ حَمْلُهَا، فَثَبَتَ أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَمْلُوكِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ، فَلَا يَعْتِقُ إلَّا إذَا كَانَتْ أَمَةً فِي مِلْكِهِ فَيَعْتِقُ بِعِتْقِهَا؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ أَجْزَائِهَا. وَأَمَّا التَّعْلِيقُ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ. فَهُوَ الْكِتَابَةُ وَالْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ: أَمَّا الْكِتَابَةُ فَلَهَا كِتَابٌ مُفْرَدٌ، وَأَمَّا الْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ. فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَلْفَاظِهِ، وَفِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ، وَفِي بَيَانِ مَا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ فِيهِ مِنْ الْبَدَلِ وَمَا لَا يَصِحُّ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَفَسَادِهَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ عَلَى أَنْ تُعْطِينِي أَلْفًا، أَوْ عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَ إلَيَّ أَلْفًا، أَوْ عَلَى أَنْ تَجِيئنِي بِأَلْفٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ لِي عَلَيْك أَلْفًا، أَوْ عَلَى أَلْفٍ تُؤَدِّيهَا إلَيَّ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: بِعْتُ نَفْسَكَ مِنْكَ عَلَى كَذَا، وَوَهَبْتُ لَكَ نَفْسَكَ عَلَى أَنْ تُعَوِّضَنِي كَذَا. فَهَذَا وَقَوْلُهُ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى كَذَا، أَوْ أُعْتِقَك عَلَى كَذَا سَوَاءٌ، إذَا قَبِلَ عَتَقَ لِمَا ذُكِرَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَيْعَ إزَالَةُ مِلْكِ الْبَائِعِ عَنْ الْمَبِيعِ، وَالْهِبَةُ إزَالَةُ مِلْكِ الْوَاهِبِ عَنْ الْمَوْهُوبِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي وَالْمَوْهُوبُ لَهُ مِمَّنْ يَصِحُّ لَهُ الْمِلْكُ فِي الْمَبِيعِ وَالْمَوْهُوبِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُمَا، وَالْعَبْدُ مِمَّنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ نَفْسَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ، فَنَفْيُ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ إزَالَةُ الْمِلْكِ لَا إلَى أَحَدٍ بِبَدَلٍ عَلَى الْعَبْدِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ يَعْتِقُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَعْتِقُ إلَّا بِالْقَبُولِ، فَإِذَا قَبِلَ عَتَقَ وَلَزِمَهُ الْمَالُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ الْعَبْدُ لِمَوْلَاهُ: أَعْتَقَنِي وَلَك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهُ، وَالْمَسْأَلَةُ ذُكِرَتْ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ. وَأَمَّا بَيَانُ مَاهِيَّتِهِ: فَالْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى تَعْلِيقٌ، وَهُوَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِشَرْطِ قَبُولِ الْعِوَضِ، فَيُرَاعَى فِيهِ مِنْ جَانِبِهِ أَحْكَامُ التَّعْلِيقِ، حَتَّى لَوْ ابْتَدَأَ الْمَوْلَى فَقَالَ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ قَبْلَ قَبُولِ الْعَبْدِ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ

عَنْهُ، وَلَا الْفَسْخَ، وَلَا النَّهْيَ عَنْ الْقَبُولِ، وَلَا يَبْطُلُ بِقِيَامِهِ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ قَبُولِ الْعَبْدِ، وَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْعَبْدِ حَتَّى لَوْ كَانَ غَائِبًا عَنْ الْمَجْلِسِ يَصِحُّ، وَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ وَإِضَافَتُهُ إلَى وَقْتٍ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ، وَإِنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ يَقُولَ إنْ دَخَلْت، أَوْ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ غَدًا، أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَلَا يَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ بِأَنْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَمِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ مُعَاوَضَةٌ وَهُوَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جَانِبِهِ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِالْعِوَضِ، وَهَذَا مَعْنَى مُعَاوَضَةِ الْمَالِ فَيُرَاعَى فِيهِ مِنْ جَانِبِهِ أَحْكَامُ مُعَاوَضَةِ الْمَالِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، حَتَّى لَوْ ابْتَدَأَ الْعَبْدُ فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ نَفْسِي مِنْكَ بِكَذَا، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ، وَيُبْطِلَ بِقِيَامِهِ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ قَبُولِ الْمَوْلَى وَبِقِيَامِ الْمَوْلَى أَيْضًا، وَلَا يَقِفُ عَلَى الْغَائِبِ عَنْ الْمَجْلِسِ، وَلَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الْوَقْتِ، بِأَنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ نَفْسِي مِنْكَ بِكَذَا إذَا جَاءَ غَدٌ، أَوْ قَالَ: عِنْدَ رَأْسِ شَهْرِ كَذَا، وَلَوْ قَالَ: إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَعْتِقْنِي عَلَى كَذَا جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا تَوْكِيلٌ مِنْهُ بِالْإِعْتَاقِ حَتَّى يَمْلِكَ الْعَبْدُ عَزْلَهُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَبَعْدَهُ، وَقَبْلَ أَنْ يَعْتِقَ، وَلَوْ لَمْ يَعْزِلْهُ حَتَّى أَعْتَقَهُ نَفَذَ إعْتَاقُهُ، وَيَجُوزُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِي فَصْلِ الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ، وَلَا يَصِحُّ الْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ إلَّا فِي الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِمَا سِوَى الْمِلْكِ وَسَبَبِهِ مِنْ الشُّرُوطِ لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الْمِلْكِ، وَكَذَا الْمُعَاوَضَةُ، وَيَعْتِقُ الْعَبْدُ بِنَفْسِ الْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جَانِبِهِ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِشَرْطِ قَبُولِ الْعِوَضِ، وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ، كَالتَّعْلِيقِ بِدُخُولِ الدَّارِ وَغَيْرِهِ وَمِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ مُعَاوَضَةٌ، وَزَوَالُ الْمِلْكِ عَنْ الْمُعَوِّضِ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ قَبُولِ الْعِوَضِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إنْ أَدَّيْتَ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ رَأْسًا، بَلْ هُوَ تَعْلِيقٌ مَحْضٌ، وَقَدْ عَلَّقَهُ بِشَرْطِ الْأَدَاءِ، فَلَا يَعْتِقُ قَبْلَهُ، وَالْعِتْقُ هَهُنَا تَعَلَّقَ بِالْقَبُولِ، فَإِذَا قَبِلَ عَتَقَ وَلَوْ قَالَ الْمَوْلَى: أَعْتَقْتُكَ أَمْسِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَقَالَ الْعَبْدُ: قَبِلْت، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى تَعْلِيقٌ بِشَرْطِ الْقَبُولِ، وَالْعَبْدُ يَدَّعِي وُجُودَ الشَّرْطِ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَوْلَى كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَضَى الْيَوْمُ وَالْعَبْدُ يَدَّعِي الدُّخُولَ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَوْلَى كَذَا هَهُنَا، وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْبَيْعِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي، بِأَنْ قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُك عَبْدِي أَمْسِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمْ تَقْبَلْ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: بَلْ قَبِلْت، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَكُونُ بَيْعًا إلَّا بَعْدَ قَبُولِ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا قَالَ: بِعْتُك فَقَدْ أَقَرَّ بِالْقَبُولِ، فَبِقَوْلِهِ لَمْ تَقْبَلْ، يُرِيدُ الرُّجُوعَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ، وَإِبْطَالَ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْبَلْ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ تَعْلِيقًا لَا يَقِفُ عَلَى وُجُودِ الْقَبُولِ مِنْ الْعَبْدِ، إنَّمَا ذَاكَ شَرْطُ وُقُوعِ الْعِتْقِ، فَكَانَ الِاخْتِلَافُ وَاقِعًا فِي ثُبُوتِ الْعِتْقِ وَعَدَمِهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَوْلَى، وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْعَبْدُ فِي مِقْدَارِ الْبَدَلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْمَالُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ الدَّيْنِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكَرِ، فَكَذَا إذَا وَقَعَ فِي الْقَدْرِ، وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَةً فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً، بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ بِالْأَدَاءِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مَبْلَغِ الْمَالِ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ هُنَاكَ وَقَعَ فِي شَرْطِ ثُبُوتِ الْعِتْقِ إذْ هُوَ تَعْلِيقٌ مَحْضٌ، فَالْعَبْدُ يَدَّعِي الْعِتْقَ عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ مَا أَمْكَنَ إذْ هُوَ عَمَلٌ بِالدَّلِيلَيْنِ، وَهَهُنَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ التَّنَافِي؛ لِأَنَّا نَجْعَلُ كَأَنَّ الْمَوْلَى عَلَّقَ عِتْقَهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرْطَيْنِ عَلَى حِيَالِهِ، فَأَيُّهُمَا وُجِدَ عَتَقَ، ثُمَّ إذَا قَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ وَصَارَ الْبَدَلُ الْمَذْكُورُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ إذَا كَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ فِي الذِّمَّةِ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ، وَيَسْعَى وَهُوَ حُرٌّ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، وَذَكَرَ عَلِيٌّ الرَّازِيّ أَصْلًا فَقَالَ: الْمُسْتَسْعَى عَلَى ضَرْبَيْنِ، كُلُّ مَنْ يَسْعَى فِي تَخْلِيصِ رَقَبَتِهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكُلُّ مَنْ يَسْعَى فِي بَدَلِ رَقَبَتِهِ الَّذِي لَزِمَهُ بِالْعِتْقِ، أَوْ فِي قِيمَةِ رَقَبَتِهِ لِأَجْلِ بَدَلِ شَرْطٍ عَلَيْهِ، أَوْ لِدَيْنٍ ثَبَتَ فِي رَقَبَتِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي أَحْكَامِهِ، مِثْلُ أَنْ يَعْتِقَ الرَّاهِنُ عَبْدَهُ الْمَرْهُونَ وَهُوَ مُعْسِرٌ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا أُعْتِقَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَكَذَلِكَ أَمَةٌ أَعْتَقَهَا سَيِّدُهَا عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَهُ فَقَبِلَتْ، ثُمَّ أَبَتْ، فَإِنَّهَا تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرُّ رَقَبَتِكَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ السِّعَايَةَ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ لَزِمَتْ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ قَبْلَ ثُبُوتِهَا، وَإِنَّمَا يَسْعَى لِيَتَوَسَّلَ بِالسِّعَايَةِ إلَى الْحُرِّيَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَبْرَأَ الْمَوْلَى

الْمُكَاتَبَ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ فَلَمْ يَقْبَلْ فَهُوَ حُرٌّ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْكِتَابَةَ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ إلَّا أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ لَكِنْ فِيمَا يَحْتَمِلَ الرَّدَّ، وَالْعِتْقُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ فَلَمْ يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ، وَالْمَالُ يَحْتَمِلُ الرَّدَّ فَيَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَيَعْتِقُ وَيَلْزَمُهُ الْمَالُ. وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ حُرَّةٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَتْ، ثُمَّ وَلَدَتْ، ثُمَّ مَاتَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْوَلَدِ أَنْ يَسْعَى فِي شَيْءٍ مِمَّا أُعْتِقَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِالْقَبُولِ، وَدَيْنُ الْحُرَّةِ لَا يَلْزَمُ وَلَدَهَا، وَسَوَاءٌ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى عِوَضٍ فَقَبِلَ، أَوْ نِصْفَ عَبْدِهِ عَلَى عِوَضٍ فَقَبِلَ، أَنَّهُ يَصِحُّ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا أَعْتَقَ نِصْفَهُ عَلَى عِوَضٍ فَقَبِلَ يُعْتَقُ نِصْفُهُ بِالْعِوَضِ وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ عَنْ النِّصْفِ الْآخَرِ، فَإِذَا أَدَّى بِالسِّعَايَةِ عَتَقَ بَاقِيهِ، وَهُوَ قَبْلَ الْأَدَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُرَدُّ فِي الرِّقِّ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَعْتِقُ كُلُّهُ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ فَعِتْقُ الْبَعْضِ يُوجِبُ عِتْقَ الْبَاقِي، فَيَجِبُ تَخْرِيجُهُ إلَى الْعَتَاقِ، فَيَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ، فَكَانَ عِتْقُ الْبَعْضِ عِتْقًا لِلْكُلِّ بِذَلِكَ الْعِوَضِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَنْتَ حُرٌّ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ، فَقَالَ الْعَبْدُ: قَدْ قَبِلْت عَتَقَ، وَكَانَ عَلَيْهِ الْمَالَانِ جَمِيعًا، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ، فَقَالَتْ: قَدْ قَبِلْت، طَلُقَتْ ثَلَاثًا بِالْمَالَيْنِ جَمِيعًا، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ: الْقَبُولُ عَلَى الْكَلَامِ الْأَخِيرِ، وَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِمِائَةِ دِينَارٍ، قَالَ الْكَرْخِيُّ: وَكَذَلِكَ قِيَاسُ قَوْلِهِ فِي الْعِتْقِ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ الْعِتْقَ بِعِوَضٍ، ثُمَّ أَوْجَبَهُ بِعِوَضٍ آخَرَ، فَقَدْ انْفَسَخَ الْإِيجَابُ الْأَوَّلُ فَتَعَلَّقَ الْقَبُولُ بِالثَّانِي كَمَا فِي الْبَيْعِ وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِعْتَاقَ وَالطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ تَعْلِيقٌ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ، فَلَمْ يَتَضَمَّنْ الْإِيجَابُ الثَّانِي انْفِسَاخَ الْأَوَّلِ، فَيَصِحُّ الْإِيجَابَانِ وَيَنْصَرِفُ الْقَبُولُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا، إذْ هُوَ يَصْلُحُ جَوَابًا لَهُمَا جَمِيعًا، فَيَلْزَمُ الْمَالَانِ جَمِيعًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْبَيْعِ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، فَيَتَضَمَّنُ الثَّانِي انْفِسَاخَ الْأَوَّلِ، وَلَوْ بَاعَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ وَهَبَ لَهُ نَفْسَهُ عَلَى عِوَضٍ، فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعِوَضَ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِسَبَبٍ لَا يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِهِ، فَجَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ كَالْمِيرَاثِ، وَلَهُ أَنْ يَعْتِقَهُ عَلَى مَالٍ مُؤَجَّلٍ وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ مُؤَجَّلًا وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ شَيْئًا يَدًا بِيَدٍ وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ جَمِيعَ الدُّيُونِ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَأَثْمَانِ الْبِيَاعَاتِ وَالْعُرُوضِ وَالْغُصُوبِ إلَّا بَدَلَ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ، إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ لِئَلَّا يَكُونَ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَلَوْ أَعْطَاهُ كَفِيلًا بِالْمَالِ الَّذِي أَعْتَقَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ صَارَ حُرًّا بِالْقَبُولِ وَالْكَفَالَةِ بِدَيْنٍ عَلَى حُرٍّ جَائِزَةٌ، كَالْكَفَالَةِ بِسَائِرِ الدُّيُونِ، وَوَلَاؤُهُ يَكُونُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ، وَالْمَالُ دَيْنٌ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ فِي جَانِبِهِ مُعَاوَضَةٌ، وَالْمَوْلَى أَيْضًا لَمْ يَرْضَ بِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ إلَّا بِبَدَلٍ وَقَدْ قَبِلَهُ الْعَبْدُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا بَيَانُ مَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مِنْ الْبَدَلِ وَمَا لَا تَصِحُّ، وَبَيَانُ حُكْمِ التَّسْمِيَةِ وَفَسَادِهَا: فَالْبَدَلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنَ مَالٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْفَعَةً وَهِيَ الْخِدْمَةُ، فَإِنْ كَانَ عَيْنَ مَالٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِعَيْنِهِ بِأَنْ كَانَ مُعَيَّنًا مُشَارًا إلَيْهِ، وَإِمَّا إنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِأَنْ كَانَ مُسَمًّى غَيْرَ مُشَارٍ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ بِعَيْنِهِ عَتَقَ إذَا قَبِلَ؛ لِأَنَّ عَدَمَ مِلْكِهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ تَسْمِيَتِهِ عِوَضًا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَعْصُومٌ مُتَقَوِّمٌ مَعْلُومٌ، ثُمَّ إنْ أَجَازَ الْمَالِكُ سَلَّمَ عَيْنَهُ إلَى الْمَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فَعَلَى الْعَبْدِ قِيمَةُ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَتَهُ قَدْ صَحَّتْ، ثُمَّ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ لِحَقِّ الْغَيْرِ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ إذْ الْإِعْتَاقُ عَلَى الْقِيمَةِ جَائِزٌ، كَمَا إذَا قَالَ: أَعْتَقْتُك عَلَى قِيمَةِ رَقَبَتِك، أَوْ عَلَى قِيمَةِ هَذَا الشَّيْءِ فَقَبِلَ يَعْتِقُ، وَكَذَا عَدَمُ الْمِلْكِ فِي بَابِ الْبَيْعِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيمِ أَيْضًا، حَتَّى لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِعَبْدٍ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِ صَحَّ الْعَقْدُ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ إنْ لَمْ يُجِزْ الْمَالِكُ يُفْسَخُ الْعَقْدُ، إذْ لَا سَبِيلَ إلَى إيقَاعِهِ عَلَى الْقِيمَةِ، إذْ الْبَيْعُ عَلَى الْقِيمَةِ بَيْعٌ فَاسِدٌ، وَهَهُنَا لَا يُفْسَخُ لِإِمْكَانِ الْإِيقَاعِ عَلَى الْقِيمَةِ، إذْ الْإِعْتَاقُ عَلَى الْقِيمَةِ إعْتَاقٌ صَحِيحٌ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى مَعْلُومَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ مَجْهُولَ الصِّفَةِ كَالثِّيَابِ الْهَرَوِيَّةِ، وَالْحَيَوَانِ مِنْ الْفَرَسِ وَالْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ فَعَلَيْهِ الْوَسَطُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا جَاءَ بِالْقِيمَةِ يُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الصِّفَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ فِيمَا وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ كَالْمَهْرِ، وَبَدَلُ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْجِنْسِ كَالثَّوْبِ وَالدَّابَّةِ وَالدَّارِ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ مُتَفَاحِشَةٌ فَفَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ

جَهَالَةٍ تَزِيدُ عَلَى جَهَالَةِ الْقِيمَةِ تُوجِبُ فَسَادَ التَّسْمِيَةِ كَالْجَهَالَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي بَابِ النِّكَاحِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْمَهْرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ إذَا فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَهَهُنَا تَجِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ هُنَاكَ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْبِضْعِ وَهُوَ الْعَدْلُ وَالْمَصِيرُ إلَى الْمُسَمَّى عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، فَإِذَا فَسَدَتْ صُيِّرَ إلَى الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ، وَالْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ هَهُنَا قِيمَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عَلَى مَالٍ مُعَاوَضَةٌ مِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ، وَمَبْنَى الْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْمُعَادَلَةِ، وَقِيمَةُ الشَّيْءِ هِيَ الَّتِي تُعَادِلُهُ إلَّا أَنَّ عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ يُعْدَلُ عَنْهَا إلَى الْمُسَمَّى، فَإِذَا فَسَدَتْ وَجَبَ الْعِوَضُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ قِيمَةُ نَفْسِ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ الْبَدَلُ مَنْفَعَةً وَهِيَ خِدْمَتُهُ بِأَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَنْ تَخْدُمَنِي سَنَةً، فَقَبِلَ فَهُوَ حُرٌّ حِينَ قَبِلَ ذَلِكَ، وَالْخِدْمَةُ عَلَيْهِ يُؤْخَذُ بِهَا؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْخِدْمَةِ قَدْ صَحَّتْ فَيَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى، كَمَا إذَا أَعْتَقَهُ عَلَى مَالِ عَيْنٍ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْخِدْمَةِ بَطَلَتْ الْخِدْمَةُ؛ لِأَنَّهُ قَبِلَ الْخِدْمَةَ لِلْمَوْلَى، وَقَدْ مَاتَ الْمَوْلَى لَكِنْ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَأْخُذُوا الْعَبْدَ بِقِيمَةِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَدَمَ بَعْضَ السَّنَةِ، فَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ الْخِدْمَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُؤْخَذُ الْعَبْدُ بِقِيمَةِ تَمَامِ الْخِدْمَةِ إنْ كَانَ لَمْ يَخْدُمْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَدَمَ بَعْضَ الْخِدْمَةِ يُؤْخَذُ بِقِيمَةِ مَا بَقِيَ مِنْ الْخِدْمَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَنْ تَخْدُمَنِي أَرْبَعَ سِنِينَ فَمَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْخِدْمَةِ، عَلَى قَوْلِهِمَا عَلَى الْعَبْدِ قِيمَةُ نَفْسِهِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ قِيمَةُ خِدْمَتِهِ أَرْبَعُ سِنِينَ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ خَدَمَهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى، فَعَلَى قَوْلِهِمَا عَلَى الْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ قِيمَةِ نَفْسِهِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ قِيمَةُ خِدْمَتِهِ ثَلَاثُ سِنِينَ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ وَتَرَكَ مَالًا يُقْضَى لِمَوْلَاهُ فِي مَالِهِ بِقِيمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ يُقْضَى بِقِيمَةِ الْخِدْمَةِ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ بَاعَ الْعَبْدَ مِنْ نَفْسِهِ بِجَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا، ثُمَّ اسْتَحَقَّتْ الْجَارِيَةُ، فَعَلَى قَوْلِهِمَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ بِقِيمَةِ نَفْسِهِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ تَسْتَحِقَّ وَلَكِنَّهُ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَرَدَّهَا فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا قَبَضَ الْعِوَضَ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ، فَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الْمَوْصُوفَيْنِ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ كَالثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ وَالْفَرَسِ وَالْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ فَعَلَى الْعَبْدِ مِثْلُهُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْوَسَطِ فِي الْفَرَسِ وَالْحَيَوَانِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى مَالٍ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا الْمَقْبُوضُ عِوَضٌ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا اُسْتُحِقَّ الْمَقْبُوضُ، فَقَدْ انْفَسَخَ فِيهِ الْقَبْضُ فَبَقِيَ مُوجِبُ الْعَقْدِ عَلَى حَالِهِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا فِي الْعَقْدِ وَهُوَ مَكِيلٌ، أَوْ مَوْزُونٌ فَكَذَلِكَ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ بِمِثْلِهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَ عَرَضًا، أَوْ حَيَوَانًا، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ بِقِيمَةِ نَفْسِهِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْمُسْتَحَقِّ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يُفْسَخْ بِاسْتِحْقَاقِ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، فَيَبْقَى مُوجِبًا لِتَسْلِيمِ الْعِوَضِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ كَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَلَهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْفَسَخَ فِي حَقِّ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى عَيْنٍ هِيَ مِلْكُ الْمُسْتَحَقِّ وَلَمْ يُجِزْ، وَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي حَقِّهِ لَمْ يَبْقَ مُوجِبًا عَلَى الْعَبْدِ تَسْلِيمُهُ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَانْفِسَاخُهُ فِي حَقِّ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ يَقْتَضِي انْفِسَاخَهُ فِي حَقِّ الْعِوَضِ الْآخَرِ، وَهُوَ نَفْسُ الْعَبْدِ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ إظْهَارُهُ فِي صُورَةِ الْعَبْدِ، فَيَجِبُ إظْهَارُهُ فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ قِيمَتُهُ، فَتَجِبُ عَلَيْهِ إذْ قِيمَتُهُ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَدِّ عَيْنِهِ، كَمَنْ بَاعَ عَبْدًا بِجَارِيَةٍ فَأَعْتَقَهَا وَمَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ رَدُّ قِيمَةِ الْعَبْدِ لَا رَدُّ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ كَذَا هَهُنَا، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي الْعَيْبِ إذَا كَانَ الْعَيْبُ فَاحِشًا؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ الْفَاحِشَ فِي هَذَا الْبَابِ يُوجِبُ الرَّدَّ بِلَا خِلَافٍ كَمَا فِي بَابِ النِّكَاحِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ غَيْرَ فَاحِشٍ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا. وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلَا يَمْلِكُ رَدَّهَا؛ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِمَالٍ لَيْسَ بِمَالٍ فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَابِ النِّكَاحِ لَا تَمْلِكُ رَدَّ الْمَهْرِ إلَّا فِي الْعَيْبِ الْفَاحِشِ، وَكَذَا الْمَوْلَى هَهُنَا. وَلَوْ قَالَ عَبْدُ رَجُلٍ لِرَجُلٍ اشْتَرِ لِي نَفْسِي مِنْ مَوْلَايَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَاهُ فَالْوَكِيلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُبَيَّنَ وَقْتَ الشِّرَاءِ أَنَّهُ يَشْتَرِي نَفْسَ الْعَبْدِ لِلْعَبْدِ. وَأَمَّا إنْ لَمْ يُبَيِّنْ، فَإِنْ بَيَّنَ الشِّرَاءُ وَعَتَقَ الْعَبْدُ بِقَبُولِ الْوَكِيلِ، وَيَجِبُ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا وُكِّلَ بِهِ فَنَفَذَ عَلَى الْمُوَكَّلِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ الْمَوْلَى يُطَالِبُ الْوَكِيلَ، ثُمَّ الْوَكِيلُ يُطَالِبُ الْعَبْدَ، فَقَدْ جُعِلَ هَذَا التَّصَرُّفَ فِي حُكْمِ مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَبْدِ إنَّمَا تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ

الْمُعَاوَضَةِ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ أَنَّهُ يُطَالِبُ الْعَبْدَ وَلَا يُطَالِبُ الْوَكِيلَ، وَاعْتَبَرَهُ مُعَاوَضَةَ الْمَالِ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لَا لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ فَالْبَائِعُ رَضِيَ بِالْبَيْعِ لَا بِالْإِعْتَاقِ، فَلَوْ قُلْنَا: إنَّهُ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِلْعَبْدِ وَيُعْتَقُ لَكَانَ فِيهِ إثْبَاتُ الْوِلَايَةِ عَلَى الْبَائِعِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَيَّنَ، لَكِنَّهُ لَوْ خَالَفَ فِي الثَّمَنِ بِأَنْ اشْتَرَى بِزِيَادَةٍ بِأَنْ يَكُونَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لِمَا قُلْنَا. هَذَا إذَا أَمَرَ الْعَبْدُ رَجُلًا، فَأَمَّا إذَا أَمَرَ رَجُلٌ الْعَبْدَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ نَفْسَهُ مِنْ مَوْلَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى، فَإِنْ بَيَّنَ وَقْتَ الشِّرَاءِ أَنَّهُ يَشْتَرِي لِلْآمِرِ فَيَكُونُ لِلْآمِرِ وَلَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى لِلْآمِرِ لَا لِنَفْسِهِ، فَيَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْآمِرِ وَيَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَهُ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسَلِّمًا إيَّاهُ حَيْثُ عَقَدَ عَلَى شَيْءٍ هُوَ فِي يَدِهِ وَهُوَ نَفْسُهُ، وَلَوْ وَجَدَ الْآخَرُ بِهِ عَيْبًا لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَلَكِنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الرَّدَّ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ وَحُقُوقُ هَذَا الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ وَقَالَ لِمَوْلَاهُ بِعْ نَفْسِي مِنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَ صَارَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَعَتَقَ؛ لِأَنَّ بَيْعَ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْهُ إعْتَاقٌ، وَكَذَا إذَا بَيَّنَ وَخَالَفَ أَمَرَهُ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَيَعْتِقُ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدٍ وَاحِدٍ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَبْلَ أَنْ يَقْبَلَ قَالَ لَهُ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ، فَإِنْ قَالَ: قَبِلْت بِالْمَالَيْنِ عَتَقَ وَيَلْزَمُهُ الْمَالَانِ جَمِيعًا بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ قَالَ: قَبِلْت مُبْهَمًا وَلَمْ يُبَيِّنْ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَكَذَلِكَ وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ، أَنَّهَا إنْ قَالَتْ: قَبِلْت بِالْمَالَيْنِ طَلُقَتْ بِالْمَالَيْنِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ أَبْهَمَتْ بِأَنْ قَالَتْ: طَلُقَتْ ثَلَاثًا بِالْمَالَيْنِ جَمِيعًا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَالْقَبُولُ عَلَى الْكَلَامِ الْأَخِيرِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقَبُولَ خَرَجَ عَقِبَ الْإِيجَابِ الْأَخِيرِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ بِعِوَضٍ، ثُمَّ أَوْجَبَ بِعِوَضٍ آخَرَ تَضَمَّنَ الثَّانِي انْفِسَاخَ الْأَوَّلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، فَيَتَعَلَّقُ الْقَبُولُ بِالثَّانِي كَمَا فِي الْبَيْعِ وَلِمُحَمَّدٍ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِعْتَاقِ وَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ وَبَيْنَ الْبَيْعِ وَهُوَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ وَالطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ تَعْلِيقٌ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ فَلَمْ يُوجِبْ الثَّانِي رَفْعَ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الرَّفْعَ وَالْفَسْخَ، فَيُوجِبُ الثَّانِي ارْتِفَاعَ الْأَوَّلِ، هَذَا إذَا قَبِلَ بِالْمَالَيْنِ، أَوْ قَبِلَ عَلَى الْإِبْهَامِ، فَأَمَّا إذَا قَبِلَ بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ، بِأَنْ قَالَ: قَبِلْت بِالدَّرَاهِمِ، أَوْ قَالَ: قَبِلْت بِالدَّنَانِيرِ، ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَقُولَ أَعْتَقْتُك بِالْمَالَيْنِ جَمِيعًا، فَلَا يُعْتَقُ بِقَبُولِ أَحَدِهِمَا مَعَ الشَّكِّ، وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي أَنَّهُ يَعْتِقُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَوْلَى أَتَى بِإِيجَابَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَكَانَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقْبَلَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ. وَلَوْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ مِائَةِ دِينَارٍ فَإِنْ قَبِلَ بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ عَيْنًا عَتَقَ بِأَنْ قَالَ: قَبِلْت بِالدَّرَاهِمِ، أَوْ قَالَ: قَبِلْت بِالدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ، وَإِنْ قَبِلَ بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ غَيْرَ عَيْنٍ عَتَقَ أَيْضًا لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَيَلْزَمُهُ أَحَدُ الْمَالَيْنِ، وَالْبَيَانُ إلَيْهِ، كَمَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ: عَلِيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، أَوْ مِائَةُ دِينَارٍ يَلْزَمُهُ أَحَدُهُمَا، وَالْبَيَانُ إلَيْهِ كَذَا، وَلَوْ قَالَ: قَبِلْت بِالْمَالَيْنِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ فِي قَبُولِ الْمَالَيْنِ قَبُولَ أَحَدِهِمَا فَوُجِدَ شَرْطُ الْعِتْقِ فَيَعْتِقُ وَيَلْزَمُهُ أَحَدُ الْمَالَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ عَلَى أَحَدِ الْمَالَيْنِ، فَلَا تَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ، وَالْبَيَانُ إلَى الْعَبْدِ يَخْتَارُ أَيَّهُمَا شَاءَ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: قَبِلْت وَلَمْ يُبَيِّنْ يَعْتِقُ وَيَلْزَمُهُ أَحَدُ الْمَالَيْنِ، وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَيْهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: قَبِلْتُ يَصْلُحُ جَوَابَ الْإِيجَابِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ قَبِلْتُ بِأَحَدِهِمَا وَلَمْ يُعَيِّنْ أَوْ قَبِلْتُ بِهِمَا، وَهُنَاكَ يَعْتِقُ وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَيْهِ كَذَا هَهُنَا، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَقَبِلَتْ بِأَحَدِهِمَا عَيْنًا، أَوْ غَيْرَ عَيْنٍ، أَوْ قَبِلْت بِالْمَالَيْنِ، أَوْ أَبْهَمَتْ لِمَا قُلْنَا فِي الْعِتْقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ عَلَى أَلْفَيْنِ، إلَّا أَنَّ هَهُنَا إذَا قَبِلَ بِالْمَالَيْنِ يَعْتِقُ بِأَلْفٍ وَلَا يُخَيَّرُ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُتَّحِدٌ وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْأَكْثَرِ وَالْأَقَلِّ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَارُ إلَّا الْأَقَلَّ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ فَكَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا، هَذَا كُلُّهُ إذَا أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى مُعَيَّنٍ. فَإِنْ أَضَافَهُ إلَى مَجْهُولٍ بِأَنْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَقْبَلَا جَمِيعًا، حَتَّى لَوْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَحَدُكُمَا كَمَا يَقَعُ عَلَى الْقَابِلِ يَقَعُ عَلَى غَيْرِ الْقَابِلِ، فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ عَنَى بِهِ غَيْرَ الْقَابِلِ. أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ: عَنَيْت بِهِ غَيْرَ الْقَابِلِ، فَلَوْ حَكَمْنَا بِعِتْقِ الْقَابِلِ لَكَانَ فِيهِ إثْبَاتُ الْعِتْقِ بِالشَّكِّ، وَإِنْ قَبِلَا جَمِيعًا، فَإِنْ قَبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا بِأَلْفٍ لَا بِخَمْسِمِائَةٍ، وَإِنْ قَبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا

بِأَلْفِ بِأَنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: قَبِلْت بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ قَالَ: قَبِلْت وَلَمْ يَقُلْ بِأَلْفٍ، أَوْ قَالَا: مَا قَبِلْنَا بِأَلْفٍ، أَوْ قَالَا: قَبِلْنَا وَلَمْ يَذْكُرَا الْأَلْفَ عَتَقَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ وَهُوَ قَبُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَلْفَ، وَيُقَالُ لِلْمَوْلَى اخْتَرْ الْعِتْقَ فِي أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَجْمَلَ الْعِتْقَ فَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ، فَأَيُّهُمَا اخْتَارَ عَتَقَ وَلَزِمَتْهُ الْأَلْفُ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ يَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ بِخَمْسِمِائَةٍ وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ وَقَدْ شَاعَ عِتْقُ رَقَبَةٍ فِيهِمَا فَيُقْسَمُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَا، ثُمَّ قَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ قَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَاللَّفْظُ الثَّانِي لَغْوٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا قَبِلَا الْعِتْقَ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ، فَقَدْ نَزَلَ الْعِتْقُ فِي أَحَدِهِمَا لِوُجُودِ شَرْطِ النُّزُولِ وَهُوَ قَبُولُهُمَا، فَالْإِيجَابُ الثَّانِي يَقَعُ جَمْعًا بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ، فَلَا يَصِحُّ، وَلَوْ لَمْ يَقْبَلَا، ثُمَّ قَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِغَيْرِ شَيْءٍ عَتَقَ أَحَدُهُمَا بِاللَّفْظِ الثَّانِي بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا لَمْ يَقْبَلَا لَمْ يَنْزِلْ الْعِتْقُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ، فَصَحَّ الْإِيجَابُ الثَّانِي وَهُوَ تَنْجِيزُ الْعِتْقِ عَلَى أَحَدِهِمَا غَيْرِ عَيْنٍ، فَيُقَالُ لِلْمَوْلَى: اصْرِفْ اللَّفْظَ الثَّانِيَ إلَى أَحَدِهِمَا، فَإِذَا صَرَفَهُ إلَى أَحَدِهِمَا عَتَقَ ذَلِكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ التَّنْجِيزَ حَصَلَ بِغَيْرِ بَدَلٍ. وَأَمَّا الْآخَرُ فَإِنْ قَبِلَ الْبَدَلَ فِي الْمَجْلِسِ يَعْتِقُ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ الْأَوَّلَ وَقَعَ صَحِيحًا لِحُصُولِهِ بَيْنَ عَبْدَيْنِ، وَتَعَلَّقَ الْعِتْقُ بِشَرْطِ الْقَبُولِ، وَقَدْ وُجِدَ فِيهِ ضَرْبُ إشْكَالٍ، وَهُوَ أَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْحُرِّيَّةِ لِأَحَدِهِمَا هُوَ قَبُولُهُمَا، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا إلَّا قَبُولُ أَحَدِهِمَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْتِقَ الْعَبْدُ الْآخَرُ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِيجَابَ أُضِيفَ إلَى أَحَدِهِمَا. أَلَا يُرَى أَنَّهُ قَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ وَقَدْ وُجِدَ الْقَبُولُ مِنْ أَحَدِهِمَا هَهُنَا، إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يُنْجِزْ عِتْقَ أَحَدِهِمَا يَتَوَقَّفُ عِتْقُ أَحَدِهِمَا عَلَى قَبُولِهِمَا جَمِيعًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْآخَرَ، فَإِذَا عَيَّنَهُ فِي التَّخْيِيرِ عُلِمَ أَنَّهُ مَا أَرَادَهُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْ الْمُعْتَقِ لَا يُتَصَوَّرُ فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْقَبُولِ، وَقَدْ قَبِلَ فَيَعْتِقُ، وَلَوْ قَبِلَا جَمِيعًا قَبْلَ الْبَيَانِ عَتَقَا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَنْزِلْ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِشَرْطِ الْقَبُولِ، فَلَا يَنْزِلُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَصِحُّ الْإِيجَابُ الثَّانِي، فَإِذَا قَبِلَا جَمِيعًا، فَقَدْ تَيَقَّنَا بِعِتْقِهِمَا؛ لِأَنَّ أَيَّهُمَا أُرِيدَ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ عَتَقَ بِالْقَبُولِ، وَأَيَّهُمَا أُرِيدَ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي عَتَقَ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ؛ لِأَنَّهُ إيجَابٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ، فَكَانَ عِتْقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَيَقَّنًا بِهِ لَكِنَّ عِتْقَ أَحَدِهِمَا بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ وَعِتْقَ الْآخَرِ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي فَيُعْتَقَانِ، وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِمَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا وَإِنْ عَتَقَ بِالْإِيجَابِ بِبَدَلٍ إلَّا أَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَالْقَضَاءُ بِإِيجَابِ الْمَالِ عَلَى الْمَجْهُولِ مُتَعَذَّرٌ كَرَجُلَيْنِ قَالَا لِرَجُلٍ: لَكَ عَلَى أَحَدِنَا أَلْفُ دِرْهَمٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمَا بِهَذَا الْإِقْرَارِ شَيْءٌ لِكَوْنِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ مَجْهُولًا كَذَا هَذَا، وَلَوْ لَمْ يَقْبَلَا جَمِيعًا وَلَكِنْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا لَا يَعْتِقُ إلَّا أَحَدُهُمَا لِوُجُودِ شَرْطِ عِتْقِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ قَبُولُ أَحَدِهِمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْفِقْهِ، ثُمَّ إنْ صَرَفَ الْمَوْلَى اللَّفْظَ الثَّانِيَ إلَى غَيْرِ الْقَابِلِ عَتَقَ غَيْرُ الْقَابِلِ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَعَتَقَ الْقَابِلُ بِأَلْفٍ، وَإِنْ صَرَفَ اللَّفْظَ الثَّانِيَ إلَى الْقَابِلِ عَتَقَ الْقَابِلُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَعَتَقَ غَيْرُ الْقَابِلِ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ بِأَلْفٍ إنْ قَبِلَ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْقَابِلَ مِنْهُمَا يَعْتِقُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّهُ إيجَابٌ بِبَدَلٍ فَيَعْتِقُ بِبَدَلٍ، وَغَيْرُ الْقَابِلِ يَعْتِقُ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي، وَإِنَّهُ إيجَابٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَيَعْتِقُ بِغَيْرِ بَدَلٍ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِغَيْرِ شَيْءٍ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَالْكَلَامُ الثَّانِي لَغْوٌ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا عَتَقَ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ تَنْجِيزِ الْعِتْقِ فِي أَحَدِهِمَا، فَالثَّانِي يَقَعُ جَمْعًا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فَيَبْطُلُ. وَلَوْ قَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبْلَ أَنْ يَقْبَلَا قَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَإِنْ قَبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعِتْقَ بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ بِأَنْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبِلَ الْآخَرُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، أَوْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا بِالْمَالَيْنِ وَلَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ، أَوْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا بِالْمَالَيْنِ وَقَبِلَ الْآخَرُ بِمَالٍ وَاحِدٍ لَا يُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَجْمَعَ الْمَالَيْنِ عَلَى أَحَدِهِمَا فَيَقُولَ: عَنَيْتُك بِالْمَالَيْنِ، أَوْ يَقُولَ: عَنَيْت غَيْرَك، فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ مَعَ الشَّكِّ، فَإِنْ قَبِلَا جَمِيعًا بِالْمَالَيْنِ، بِأَنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: قَبِلْت بِالْمَالَيْنِ، أَوْ قَالَا جَمِيعًا: قَدْ قَبِلْنَا يُخَيَّرُ الْمَوْلَى فَيُقَالُ لَهُ: إمَّا أَنْ تَصْرِفَ اللَّفْظَيْنِ إلَى أَحَدِهِمَا فَتَجْمَعَ الْمَالَيْنِ عَلَيْهِ فَيَعْتِقُ بِالْمَالَيْنِ وَيَبْقَى الْآخَرُ رَقِيقًا، وَإِمَّا أَنْ تَصْرِفَ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ إلَى أَحَدِهِمَا وَالْآخَرَ إلَى صَاحِبِهِ، فَيَعْتِقُ أَحَدُهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْآخَرُ بِمِائَةِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَيْنِ وَقَعَا صَحِيحَيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ، فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ أُضِيفَ إلَى أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ، وَكَذَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ الْأَوَّلَ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَبُولُ وَالْعِتْقُ مُعَلَّقٌ بِالْقَبُولِ، فَالْإِيجَابُ الثَّانِي حَصَلَ مُضَافًا إلَى أَحَدِ عَبْدَيْنِ فَيَصِحُّ، وَمَتَى صَحَّ الْإِيجَابُ الثَّانِي فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَنَى بِهِ مَنْ عَنَاهُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَنَى بِهِ الْعَبْدَ الْآخَرَ؛ لِذَلِكَ

خُيِّرَ الْمَوْلَى فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ بِنِصْفِ الْمَالَيْنِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي غَيْرَ مَنْ أَرَادَهُ بِالْأَوَّلِ، فَكَانَ الثَّابِتُ بِالْكَلَامَيْنِ عِتْقَيْنِ بِكُلِّ كَلَامٍ عِتْقٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِالثَّانِي عَيْنَ مَنْ أَرَادَهُ بِالْأَوَّلِ كَانَ الثَّابِتُ بِالْكَلَامَيْنِ عِتْقَ وَاحِدٍ، فَإِذَا عَتَقَ وَاحِدٌ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ، وَالْعِتْقُ الْآخَرُ يَثْبُتُ فِي حَالٍ وَلَا يَثْبُتُ فِي حَالٍ فَيُنَصَّفُ فَثَبَتَ عِتْقٌ وَنِصْفُ عِتْقٍ بِالْمَالَيْنِ وَلَيْسَ، أَحَدُهُمَا بِكَمَالِ الْعِتْقِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَنْقَسِمُ عِتْقٌ وَنِصْفُ عِتْقٍ بَيْنَهُمَا، فَيُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعِتْقِ بِنِصْفِ الْمَالَيْنِ وَيَسْعَى فِي رُبُعِ قِيمَتِهِ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدٍ لَهُ بِعَيْنِهِ أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَبْلَ أَنْ يَقْبَلَ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدٍ لَهُ آخَرَ وَبَيْنَهُ، فَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَالَا: قَبِلْنَا، يُخَيَّرُ الْمَوْلَى فَإِنْ شَاءَ صَرَفَ اللَّفْظَيْنِ إلَى الْمُعَيَّنِ وَعَتَقَ بِالْمَالَيْنِ جَمِيعًا، وَإِنْ شَاءَ صَرَفَ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ إلَى أَحَدِهِمَا وَالْآخَرَ إلَى الْآخَرِ، وَعَتَقَ الْمُعَيَّنُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَغَيْرُ الْمُعَيَّنِ بِمِائَةِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَيْنِ صَحِيحَانِ لِمَا قُلْنَا، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالثَّانِي الْمُعَيَّنَ أَيْضًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ، فَيُقَالُ لَهُ: بَيِّنِ، فَأَيُّهُمَا بَيَّنَ فَالْحُكْمُ لِلْبَيَانِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ عَتَقَ الْمُعَيَّنُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ الْإِيجَابَيْنِ جَمِيعًا، أَمَّا الْإِيجَابُ الْأَوَّلُ: فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ خَصَّهُ بِهِ فَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ. وَأَمَّا الْإِيجَابُ الثَّانِي فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: أَحَدُكُمَا يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِذَا قَبِلَ الْإِيجَابَيْنِ وُجِدَ شَرْطُ عِتْقِهِ فَيَعْتِقُ فَيَلْزَمُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَخَمْسُونَ دِينَارًا، أَمَّا الْأَلْفُ؛ فَلِأَنَّهُ لَا مُشَارَكَةَ لِلثَّانِي فِيهِمَا. وَأَمَّا نِصْفُ الْمِائَةِ الدِّينَارِ؛ فَلِأَنَّهُ فِي حَالٍ يَلْزَمُهُ مِائَةُ دِينَارٍ وَهِيَ مَا عَنَاهُ بِاللَّفْظَيْنِ، وَفِي حَالٍ لَا يَلْزَمُهُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَهِيَ مَا إذَا عَنَى بِاللَّفْظِ الثَّانِي غَيْرَهُ فَيَتَنَصَّفُ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ خَمْسُونَ دِينَارًا. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ نِصْفُهُ بِنِصْفِ الْمِائَةِ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَقُ فِي حَالٍ وَلَا يُعْتَقُ فِي حَالٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَنَاهُ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي يُعْتَقُ كُلُّهُ بِكُلِّ الْمِائَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْنِهِ لَا يَعْتِقُ شَيْءٌ مِنْهُ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَيَعْتِقُ فِي حَالٍ وَلَمْ يَعْتِقْ فِي حَالٍ فَتُعَبِّرُ الْأَحْوَالُ، وَيَعْتِقُ نِصْفُهُ بِنِصْفِ الْمِائَةِ وَهُوَ خَمْسُونَ، هَذَا إذَا عُرِفَ الْمُعَيَّنُ مِنْ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَا الْمُعَيَّنُ يَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ بِنِصْفِ الْمَالَيْنِ، وَهُوَ نِصْفُ الْأَلْفِ وَنِصْفُ الْمِائَةِ الدِّينَارِ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ذَلِكَ، وَالثَّابِتُ عِتْقٌ وَنِصْفُ عِتْقٍ فَيُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعِتْقِ وَيَسْعَى فِي رُبُعِ قِيمَتِهِ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْآخَرُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، فَإِنْ قَالَا جَمِيعًا: قَبِلْنَا، أَوْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: قَبِلْتُ بِالْمَالَيْنِ، أَوْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: قَبِلْتُ بِأَكْثَرِ الْمَالَيْنِ عَتَقَا جَمِيعًا، فَيَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ، أَمَّا عِتْقُهُمَا فَلِأَنَّ الْإِيجَابَيْنِ خَرَجَا عَلَى الصِّحَّةِ بِخُرُوجِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَ عَبْدَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي هَهُنَا غَيْرُ الْمُرَادِ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا قَبِلَا، فَقَدْ وُجِدَ شَرْطٌ بِزَوَالِ الْعِتْقِ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَانْقَطَعَ خِيَارُ الْمَوْلَى هَهُنَا فَيُعْتَقَانِ جَمِيعًا، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا عَتَقَ بِأَلْفٍ وَالْآخَرَ بِخَمْسِمِائَةٍ لَكِنَّا لَا نَدْرِي الَّذِي عَلَيْهِ الْأَلْفُ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ، إلَّا أَنَّا تَيَقَّنَّا بِوُجُوبِ خَمْسِمِائَةٍ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي شَكٌّ فَيَجِبُ الْمُتَيَقَّنُ وَلَا يَجِبُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ، كَاثْنَيْنِ قَالَا لِرَجُلٍ: لَك عَلَى أَحَدِنَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَلَى الْآخَرِ خَمْسُمِائَةٍ، لَا يُطَالِبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا بِخَمْسِمِائَةٍ لِمَا قُلْنَا فَكَذَا هَذَا، وَلَوْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا بِأَقَلِّ الْمَالَيْنِ وَالْآخَرُ بِأَكْثَرِ الْمَالَيْنِ عَتَقَ الَّذِي قَبِلَ الْعِتْقَ بِأَكْثَرِ الْمَالَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ عَنَاهُ الْمَوْلَى بِالْإِيجَابِ بِالْأَقَلِّ، أَوْ بِالْإِيجَابِ بِالْأَكْثَرِ فَتَيَقَّنَّا بِعِتْقِهِ، ثُمَّ فِي الْأَكْثَرِ قَدْرُ الْأَقَلِّ وَزِيَادَةٌ فَيَلْزَمُهُ خَمْسُمِائَةٍ كَأَنَّهُ قَالَ: قَبِلْتُ بِالْمَالَيْنِ فَيَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ وَيَصِيرُ بَعْدَ الْعِتْقِ كَأَنَّهُ قَالَ لَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ خَمْسُمِائَةٍ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْأَقَلُّ كَذَا هَهُنَا، وَلَوْ قَبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَقَلِّ الْمَالَيْنِ لَا يُعْتَقَانِ؛ لِأَنَّ حُجَّةَ الْمَوْلَى لَمْ تَنْقَطِعْ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ: لَمْ أَعْتِقْكَ بِهَذَا الْمَالِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَبِلَ أَحَدُهُمَا بِأَكْثَرِ الْمَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ دَاخِلٌ فِي الْأَكْثَرِ. وَلَوْ قَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ فَإِنْ قَبِلَا بِأَنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: قَبِلْت بِالْمَالَيْنِ، أَوْ قَالَا: قَبِلْنَا عَتَقَا لِوُجُودِ شَرْطِ عِتْقِهِمَا وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرَ بِأَلْفَيْنِ فَتَيَقَّنَّا بِوُجُوبِ الْأَلْفِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَرَجُلَيْنِ قَالَا لِرَجُلٍ: لَك عَلَى أَحَدِنَا أَلْفٌ وَعَلَى الْآخَرِ أَلْفَانِ يَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ لِكَوْنِ الْأَلْفِ تَيَقَّنَّا بِهَا كَذَا هَذَا، وَإِنْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا الْمَالَيْنِ جَمِيعًا بِأَنْ قَالَ: قَبِلْت بِالْمَالَيْنِ، أَوْ قَالَ: قَبِلْت، أَوْ قَبِلَ بِأَكْثَرِ الْمَالَيْنِ بِأَنْ قَالَ: قَبِلْت بِالْمَالَيْنِ، أَوْ قَالَ: قَبِلْت بِأَلْفَيْنِ يَعْتِقُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ وَهُوَ الْقَبُولُ

أَمَّا إذَا قَبِلَ بِالْمَالَيْنِ، أَوْ قَالَ: قَبِلْت، فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَكَذَا إذَا قَبِلَ بِأَكْثَرِ الْمَالَيْنِ لِوُجُودِ الْقَبُولِ الْمَشْرُوطِ بِيَقِينٍ فَيَعْتِقُ، وَقِيلَ هَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا، فَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْتِقَ وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ بِالْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعْتِقُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِذَا عَتَقَ لَا يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ وَأَحَدُهُمَا أَقَلُّ وَالْآخَرُ أَكْثَرُ وَالْجِنْسُ مُتَّحِدٌ فَيَتَعَيَّنُ بِالْأَقَلِّ لِلْوُجُوبِ، وَلَا يُخَيَّرُ الْعَبْدُ هَهُنَا؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ غَيْرُ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَارُ الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا الْأَلْفَ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَصْرِفَ الْعِتْقَ إلَى الْآخَرِ، كَمَا إذَا قَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِأَلْفَيْنِ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا. وَلَوْ قَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِأَلْفٍ أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَإِنْ قَبِلَا عَتَقَا لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ إذْ لَا يُدْرَى الَّذِي عَلَيْهِ الْأَلْفُ مِنْهُمَا وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْمِائَةُ الدِّينَارُ، كَاثْنَيْنِ قَالَا لِرَجُلٍ: لَكَ عَلَى أَحَدِنَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَلَى الْآخَرِ مِائَةُ دِينَارٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَحَدَهُمَا شَيْءٌ كَذَا هَذَا، وَكَذَا هَذَا فِي الطَّلَاقِ بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ بِأَلْفٍ وَالْأُخْرَى بِمِائَةِ دِينَارٍ فَقَبِلَتَا جَمِيعًا طَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَلْقَةً بَائِنَةً وَلَا يَلْزَمُهُمَا شَيْءٌ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا الْعِتْقَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ، أَوْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا الْعِتْقَ بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ وَالْآخَرُ بِالْمَالِ الْآخَرِ لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَقُولَ: لَمْ أَعْنِكَ بِهَذَا الْمَالِ الَّذِي قَبِلْت، وَلَوْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا بِالْمَالَيْنِ عَتَقَ وَيَلْزَمُهُ أَيُّ الْمَالَيْنِ اخْتَارَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُهُمَا وَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فَكَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا فَيُخَيَّرُ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَإِنْ قَبِلَ الْآخَرُ فِي الْمَجْلِسِ عَتَقَا وَسَقَطَ الْمَالُ عَنْ الْقَابِلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ، هَذَا إذَا كَانَ قَبِلَ الْبَيَانَ مِنْ الْأَوَّلِ، فَإِنْ قَبِلَ بَعْدَ الْبَيَانِ عَتَقَ الثَّانِي بِغَيْرِ شَيْءٍ وَعَتَقَ الْأَوَّلُ بِالْمَالَيْنِ؛ لِأَنَّ بَيَانَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ صَحِيحٌ وَفِي حَقِّ الْآخَرِ لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ قَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ حُرٌّ بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَإِنْ قَبِلَا جَمِيعًا عَتَقَا لِوُجُودِ شَرْطِ عِتْقِهِمَا وَهُوَ قَبُولُهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْبَدَلُ مَجْهُولٌ وَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمَجْهُولِ، كَرَجُلَيْنِ قَالَا لِرَجُلٍ: لَك عَلَى أَحَدِنَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآخَرِ، لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْءٌ لِجَهَالَةِ مَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ كَذَا هَهُنَا، وَإِنْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَلَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ يُقَالُ لِلْمَوْلَى: اصْرِفْ اللَّفْظَ الَّذِي هُوَ إعْتَاقٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ إلَى أَحَدِهِمَا، فَإِنْ صَرَفَهُ إلَى غَيْرِ الْقَابِلِ عَتَقَ غَيْرُ الْقَابِلِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَعَتَقَ الْقَابِلُ بِأَلْفٍ، وَإِنْ صَرَفَهُ إلَى الْقَابِلِ عَتَقَ الْقَابِلُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَيَعْتِقُ الْآخَرُ بِالْإِيجَابِ الَّذِي هُوَ يُبَدَّلُ إذَا قَبِلَ فِي الْمَجْلِسِ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَقْبَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا حَتَّى صُرِفَ الْإِيجَابُ الَّذِي هُوَ بِغَيْرِ بَدَلٍ إلَى أَحَدِهِمَا يَعْتِقُ هُوَ، وَيَعْتِقُ الْآخَرُ إنْ قَبِلَ الْبَدَلَ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْبَيَانِ عَتَقَ الْقَابِلُ كُلُّهُ وَعَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ وَعَتَقَ نِصْفُ الَّذِي لَمْ يَقْبَلْ وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، أَمَّا عِتْقُ الْقَابِلِ كُلِّهِ، فَلِأَنَّ عِتْقَهُ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ عَتَقَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي عَتَقَ فَكَانَ عِتْقُهُ مُتَيَقَّنًا بِهِ. وَأَمَّا لُزُومُ خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُعْتِقَ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ يُعْتَقُ بِأَلْفٍ، وَإِنْ أُعْتِقَ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي يُعْتَقُ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَيُنَصَّفُ الْأَلْفُ فَيَلْزَمُهُ خَمْسُمِائَةٍ. وَأَمَّا عِتْقُ النِّصْفِ مِنْ غَيْرِ الْقَابِلِ فَلِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلُ لَا يَعْتِقُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ الثَّانِي يَعْتِقُ فَيَعْتِقُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، فَيَتَنَصَّفُ عِتْقُهُ فَيَعْتِقُ نِصْفُهُ وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، هَذَا إذَا كَانَ الْإِعْتَاقُ تَنْجِيزًا، أَوْ تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ. فَأَمَّا إذَا كَانَ أَضَافَهُ إلَى وَقْتٍ، فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ أَضَافَهُ إلَى وَقْتٍ وَاحِدٍ وَإِمَّا إنْ أَضَافَهُ إلَى وَقْتَيْنِ، فَإِنْ أَضَافَهُ إلَى وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَإِمَّا إنْ أَضَافَهُ إلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ، وَإِمَّا إنْ أَضَافَهُ إلَى وَقْتٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ. وَفِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْمِلْكِ وَقْتَ الْإِضَافَةِ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْإِعْتَاقِ إلَى وَقْتِ إثْبَاتِ الْعِتْقِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا مَحَالَةَ وَلَا ثُبُوتَ لِلْعِتْقِ بِدُونِ الْمِلْكِ، وَلَا يُوجَدُ الْمِلْكُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَّا إذَا كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِضَافَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِضَافَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَبْقَى إلَى الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ فَيَثْبُتُ الْعِتْقُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا كَانَ الظَّاهِرُ بَقَاءَهُ عَلَى الْعَدَمِ، فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ فِي الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ لَا مَحَالَةَ فَيَكُونُ خِلَافَ تَصَرُّفِهِ، وَالْأَصْلُ اعْتِبَارُ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ. أَمَّا الْإِضَافَةُ إلَى وَقْتٍ مُطْلَقٍ. فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ غَدًا، أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا، فَيَعْتِقُ إذَا جَاءَ غَدٌ أَوْ رَأْسُ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْغَدَ، أَوْ رَأْسَ الشَّهْرِ ظَرْفًا لِلْعِتْقِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ الْعِتْقِ عِنْدَهُ لِيَكُونَ ظَرْفًا لَهُ، وَلَيْسَ هَذَا تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ لِانْعِدَامِ أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ وَهِيَ كَلِمَاتُ الشَّرْطِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَحْلِفُ فَقَالَ

هَذِهِ الْمَقَالَةَ لَا يَحْنَثُ، بِخِلَافِ مَا إذْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ إذَا جَاءَ غَدٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ لِوُجُودِ كَلِمَةِ التَّعْلِيقِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ، وَالشَّرْطُ مَا فِي وُجُودِهِ خَطَرٌ وَمَجِيءُ الْغَدِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، قِيلَ لَهُ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ الْغَدَ فِي مَجِيئِهِ خَطَرٌ لِاحْتِمَالِ قِيَامِ السَّاعَةِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77] فَيَصْلُحُ مَجِيءُ الْغَدِ شَرْطًا لَكِنْ هَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ أَشْرَاطِهَا مِنْ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَدَابَّةِ الْأَرْضِ وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَوَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ، وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ إنَّ مَجِيءَ الْغَدِ، وَإِنْ كَانَ مُتَيَقَّنَ الْوُجُودِ يُمْكِنُ كَوْنُهُ شَرْطًا لِوُقُوعِ الْعِتْقِ، وَلَيْسَ بِمُتَيَقَّنِ الْوُجُودِ بَلْ لَهُ خَطَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ لِاحْتِمَالِ مَوْتِ الْعَبْدِ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ، أَوْ مَوْتِ الْمَوْلَى، أَوْ مَوْتِهِمَا وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ شَرْطًا لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْجَزَاءِ، عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ اسْمٌ لِمَا جُعِلَ عِلْمًا لِنُزُولِ الْجَزَاءِ سَوَاءٌ كَانَ مَوْهُومَ الْوُجُودِ، أَوْ مُتَيَقَّنَ الْوُجُودِ. وَأَمَّا الْإِضَافَةُ إلَى وَقْتٍ مَوْصُوفٍ. فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ دُخُولِكَ الدَّارَ بِشَهْرٍ، أَوْ قَبْلَ قُدُومِ فُلَانٍ بِشَهْرٍ، أَوْ قَبْلَ مَوْتِ فُلَانٍ بِشَهْرٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ قَبْلَ وُجُودِ الْوَقْتِ الْمَوْصُوفِ، حَتَّى لَوْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْحَوَادِثِ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى الْوَقْتِ الْمَوْصُوفِ، فَلَا يَثْبُتُ قَبْلَهُ، وَيُشْتَرَطُ تَمَامُ الشَّهْرِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي مِلْكِهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِشُهُورٍ بَلْ بِسِنِينَ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْعِتْقِ إلَى وَقْتِ إيجَابِ الْعِتْقِ فِيهِ غَيْرُ إيجَابِ الْعِتْقِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَإِيجَابُ الْعِتْقِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي لَا يُتَصَوَّرُ فَلَا يُحْمَلُ كَلَامُ الْعَاقِلِ عَلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِتْقَ ثَبَتَ عِنْدَ وُجُودِ هَذِهِ الْحَوَادِثِ لِتَمَامِ الشَّهْرِ، وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِهِ، فَقَالَ زُفَرُ: يَثْبُتُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَثْبُتُ مُقْتَصِرًا عَلَى حَالِ وُجُودِ الْحَوَادِثِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ بَيْنَ الْقُدُومِ وَالدُّخُولِ وَبَيْنَ الْمَوْتِ، فَقَالَ فِي الْقُدُومِ وَالدُّخُولِ كَمَا قَالَا، وَفِي الْمَوْتِ كَمَا قَالَ زُفَرُ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَمْلُوكُ أَمَةً فَوَلَدَتْ فِي وَسَطِ الشَّهْرِ يَعْتِقُ الْوَلَدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَعْتِقُ. وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ أَوْقَعَ الْعِتْقَ فِي وَقْتٍ مَوْصُوفٍ بِكَوْنِهِ مُتَقَدِّمًا عَلَى هَذِهِ الْحَوَادِثِ بِشَهْرٍ، فَإِذَا وُجِدَتْ بَعْدَ شَهْرٍ مُتَّصِلَةً بِهِ عُلِمَ أَنَّ الشَّهْرَ مِنْ أَوَّلِهِ كَانَ مَوْصُوفًا بِالتَّقَدُّمِ عَلَيْهَا لَا مَحَالَةَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعِتْقَ كَانَ وَاقِعًا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ كَمَا إذَا قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ رَمَضَانَ بِشَهْرٍ، وَلَا فَرْقَ سِوَى أَنَّ هُنَاكَ يَحْكُمُ بِالْعِتْقِ مِنْ أَوَّلِ هِلَالِ شَعْبَانَ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَجِيءِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهَهُنَا لَا يَحْكُمُ بِالْعِتْقِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ رَمَضَانُ يَتَّصِلُ بِشَعْبَانَ لَا مَحَالَةَ، وَهَهُنَا وُجُودُ هَذِهِ الْحَوَادِثِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَّصِلَ بِهَذَا الشَّهْرِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَتَّصِلَ لِجَوَازِ أَنَّهَا لَا تُوجَدُ أَصْلًا. فَأَمَّا فِي ثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ ابْتِدَاءِ الشَّهْرِ، فَلَا يَخْتَلِفَانِ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ثُبُوتُ الْعِتْقِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ فِي الْمَوْتِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِهَذِهِ الْحَوَادِثِ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الْعِتْقَ فِي شَهْرٍ مُتَّصِفٍ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى هَذِهِ الْحَوَادِثِ، وَلَا يَتَّصِفُ بِالتَّقَدُّمِ عَلَيْهَا إلَّا بِاتِّصَالِهَا بِهِ، وَلَا تَتَّصِلُ بِهِ إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا، فَكَانَ ثُبُوتُ الْعِتْقِ عَلَى هَذَا التَّدْرِيجِ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِ هَذِهِ الْحَوَادِثِ، فَيُقْتَصَرُ عَلَى حَالِ وُجُودِهَا، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هَكَذَا فِي الدُّخُولِ وَالْقُدُومِ كَذَا فِي الْمَوْتِ بِخِلَافِ شَعْبَانَ؛ لِأَنَّ اتِّصَافَ شَعْبَانَ بِكَوْنِهِ مُتَقَدِّمًا عَلَى رَمَضَانَ لَا يَقِفُ عَلَى مَجِيءِ رَمَضَانَ وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ الدُّخُولِ وَالْقُدُومِ وَبَيْنَ الْمَوْتِ أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْقُدُومِ وَالدُّخُولِ بَعْدَ مَا مَضَى شَهْرٌ مِنْ وَقْتِ التَّكَلُّمِ يَبْقَى الشَّهْرُ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ الْعِتْقُ هُوَ مَوْهُومُ الْوُجُودِ، قَدْ يُوجَدُ وَقَدْ لَا يُوجَدُ؛ لِأَنَّ قُدُومَ فُلَانٍ مَوْهُومُ الْوُجُودِ قَدْ يُوجَدُ وَقَدْ لَا يُوجَدُ، فَإِنْ وُجِدَ يُوجَدُ هَذَا الشَّهْرُ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الشَّهْرَ لَا وُجُودَ لَهُ بِدُونِ الِاتِّصَافِ وَلَا اتِّصَافَ بِدُونِ الِاتِّصَالِ وَلَا اتِّصَالَ بِدُونِ الْقُدُومِ، إذْ الِاتِّصَالُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَيْنَ مَوْجُودَيْنِ لَا بَيْنَ مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ فَصَارَ الْعِتْقُ، وَإِنْ كَانَ مُضَافًا إلَى الشَّهْرِ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِ الْقُدُومِ فَكَانَ هَذَا تَعْلِيقًا ضَرُورَةً فَيُقْتَصَرُ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ عَلَى حَالِ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَا فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ، فَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ فَبَعْدَ مَا مَضَى شَهْرٌ مِنْ زَمَنِ الْكَلَامِ لَمْ يَبْقَ ذَاتُ الشَّهْرِ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ الْعِتْقُ مَوْهُومَ الْوُجُودِ، بَلْ هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، فَصَارَ هَذَا الشَّهْرُ مُتَحَقِّقَ الْوُجُودِ بِلَا شَكٍّ بِخِلَافِ الشَّهْرِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الدُّخُولِ وَالْقُدُومِ، غَيْرَ أَنَّهُ مَجْهُولُ الذَّاتِ، فَلَا يُحْكَمُ بِالْعِتْقِ قَبْلَ وُجُودِ الْمَوْتِ، وَإِذَا وُجِدَ، فَقَدْ وُجِدَ الْمُعَرِّفُ لِلشَّهْرِ، بِخِلَافِ الشَّهْرِ

الْمُتَقَدِّمِ عَلَى شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ مَعْلُومُ الذَّاتِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا وُجِدَ شَعْبَانُ عُلِمَ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى رَمَضَانَ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وَبِخِلَافِ الْقُدُومِ وَالدُّخُولِ، فَإِنَّ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ مِنْ وَقْتِ الْكَلَامِ بَقِيَ ذَاتُ الشَّهْرِ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ الْعِتْقُ مَوْهُومَ الْوُجُودِ، فَلَمْ يَكُنِ الْقُدُومُ مُعَرِّفًا لِلشَّهْرِ بَلْ كَانَ مُحَصِّلًا لِلشَّهْرِ الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بِحَيْثُ لَوْلَا وُجُودُهُ لَمَا وُجِدَ هَذَا الشَّهْرُ أَلْبَتَّةَ، فَكَانَ الْمَوْتُ مُظْهِرًا مُعَيِّنًا لِلشَّهْرِ فَيَظْهَرُ مِنْ الْأَصْلِ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي كَيْفِيَّةِ الظُّهُورِ: عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ ظُهُورٌ مَحْضٌ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعِتْقَ كَانَ وَاقِعًا مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ حَالَةِ الْمَوْتِ، وَهُوَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْوُقُوعُ، أَوْ لَا ثُمَّ يَسْرِي إلَى أَوَّلِ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ التَّصَرُّفِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْمُتَصَرِّفُ وَالْمُتَصَرِّفُ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى أَوَّلَ الشَّهْرِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْمَوْتِ، فَيَقَعُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ لَا فِي آخِرِهِ، فَكَانَ وَقْتُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَوَّلَ الشَّهْرِ، فَيَظْهَرُ أَنَّ الْعِتْقَ وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، كَمَا إذَا قَالَ: إنْ كَانَ فُلَانٌ فِي الدَّارِ فَعَبْدُهُ حُرٌّ، فَمَضَتْ مُدَّةٌ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ فِي الدَّارِ يَوْمَ التَّكَلُّمِ يَقَعُ الْعِتْقُ مِنْ وَقْتِ التَّكَلُّمِ لَا مِنْ وَقْتِ الظُّهُورِ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: لَوْ كَانَ مَكَانُ الْعَتَاقِ طَلَاقَ ثَلَاثٍ فَالْعِدَّةُ تُعْتَبَرُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، حَتَّى لَوْ حَاضَتْ فِي الشَّهْرِ حَيْضَتَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ فُلَانٌ كَانَتْ الْحَيْضَتَانِ مَحْسُوبَتَيْنِ مِنْ الْعِدَّةِ، وَلَوْ كَانَ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِ فُلَانٍ بِشَهْرَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ أَشْهُرٍ، ثُمَّ مَاتَ فُلَانٌ لِتَمَامِ الْمُدَّةِ، أَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ رَأَتْ ثَلَاثَةَ حِيَضٍ فِي الْمُدَّةِ، تَبَيَّنَ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ وَاقِعًا، وَأَنَّ الْعِدَّةَ قَدْ انْقَضَتْ. كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ كَانَ زَيْدٌ فِي الدَّارِ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَمَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ حِيَضٍ أَنَّهُ كَانَ فِي الدَّارِ يَوْمَ التَّكَلُّمِ بِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا قَدْ طَلُقَتْ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَنَّهَا مُنْقَضِيَةُ الْعِدَّةِ كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ كَانَ حَمْلُ فُلَانَةَ غُلَامًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى طَرِيقِ التَّبْيِينِ كَذَا هَذَا، وَاَلَّذِي يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا: إنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ: آخِرُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً، ثُمَّ أُخْرَى، ثُمَّ مَاتَتْ طَلُقَتْ الثَّانِيَةُ عَلَى وَجْهِ التَّبْيِينِ الْمَحْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْكَمُ بِطَلَاقِهَا مَا لَمْ يَمُتْ كَذَا هَهُنَا، وَقَالُوا لَوْ خَالَعَهَا فِي وَسَطِ الشَّهْرِ، ثُمَّ مَاتَ فُلَانٌ لِتَمَامِ الشَّهْرِ فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ وَيُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِرَدِّ بَدَلِ الْخُلْعِ سَوَاءٌ كَانَتْ عِنْدَ الْمَوْتِ مُعْتَدَّةٌ، أَوْ مُنْقَضِيَةُ الْعِدَّةِ، أَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا بِأَنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، وَهَؤُلَاءِ طَعَنُوا فِيمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ لِتَخْرِيجِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ مَاتَ فُلَانٌ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ الْخُلْعِ وَيُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِرَدٍّ بَدَلِ الْخُلْعِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُعْتَدَّةٍ وَقْتَ مَوْتِ فُلَانٍ بِأَنْ كَانَ بَعْدَ الْخُلْعِ قَبْلَ مَوْتِ فُلَانٍ أَسْقَطَتْ سِقْطًا أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا لَا يَبْطُلُ الْخُلْعُ وَلَا يُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِرَدِّ بَدَلِ الْخُلْعِ، وَقَالُوا: هَذَا التَّخْرِيجُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ هَذَا ظُهُورٌ مَحْضٌ فَتَبَيَّنَ عِنْدَ وُجُودِ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ أَنَّ هَذَا الشَّهْرَ مِنْ ابْتِدَاءِ وُجُودِهِ مَوْصُوفٌ بِالتَّقَدُّمِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثَ كَانَتْ وَاقِعَةً مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُعْتَدَّةً، أَوْ غَيْرَ مُعْتَدَّةٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ كَانَ فُلَانٌ فِي الدَّارِ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ، ثُمَّ خَالَعَهَا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْحَلِفِ فِي الدَّارِ أَنَّهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْخُلْعَ كَانَ بَاطِلًا عَلَى الْإِطْلَاقِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُعْتَدَّةً، أَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَا هَهُنَا، وَالْفِقْهُ أَنَّ وَقْتَ الْمَوْتِ إذَا لَمْ يَكُنْ وَقْتَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ قِيَامُ الْمِلْكِ وَالْعِدَّةِ، وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: إنَّ الْعِتْقَ، أَوْ الطَّلَاقَ يَقَعُ وَقْتَ الْمَوْتِ، ثُمَّ يَسْتَنِدُ إلَى أَوَّلِ الشَّهْرِ، إلَّا أَنَّهُ يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ وَاقِعًا مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَوَجْهُهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بِمُقَدِّمَةٍ وَهِيَ أَنَّ مَا كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِهِ قَائِمًا يُجْعَلُ مَوْجُودًا فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الدَّلِيلِ مَقَامَ الْمَدْلُولِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْخِطَابَ يَدُورُ مَعَ دَلِيلِ الْقُدْرَةِ وَسَبَبِهَا دُونَ حَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ، وَمَعَ دَلِيلِ الْعِلْمِ وَسَبَبِهِ دُونَ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ، حَتَّى لَا يُعْذَرُ الْجَاهِلُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِقِيَامِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَلَا بِالشَّرَائِعِ عِنْدَ إمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى مَعْرِفَتِهَا بِدَلِيلِهَا، ثُمَّ الدَّلِيلُ، وَإِنْ خَفِيَ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَيْهِ يُكْتَفَى بِهِ إذَا كَانَ مُمْكِنَ الْحُصُولِ فِي الْجُمْلَةِ، إذْ الدَّلَائِلُ تَتَفَاوَتُ فِي نَفْسِهَا فِي الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ، وَالْمُسْتَدِلُّونَ أَيْضًا يَتَفَاوَتُونَ فِي الْغَبَاوَةِ وَالذَّكَاءِ، فَالشَّرْعُ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ هَذَا التَّفَاوُتِ فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ لِأَصْلِ الْإِمْكَانِ فِي هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا مَا كَانَ الدَّلِيلُ فِي حَقِّهِ مُنْعَدِمًا فَهُوَ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: الشَّهْرُ الَّذِي يَمُوتُ فُلَانٌ فِي آخِرِهِ فَإِنْ اتَّصَفَ بِالتَّقَدُّمِ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ لَكِنْ كَانَ دَلِيلُ اتِّصَافِهِ مُنْعَدِمًا أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا الِاتِّصَافِ عِدَّةٌ، وَيَبْقَى مِلْكُ النِّكَاحِ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الشَّهْرِ فَيُعْلَمُ

كَوْنُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى مَوْتِهِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ اتِّصَافِ هَذَا الْجُزْءِ بِالتَّقَدُّمِ اتِّصَافُ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ الشَّهْرِ، وَلَا يَظْهَرُ أَنَّ دَلِيلَ الِاتِّصَافِ كَانَ مَوْجُودًا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ، إذْ الدَّلِيلُ هُوَ آخِرُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الشَّهْرِ، وَوُجُودُ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ الشَّهْرِ مُقَارِنًا لِأَوَّلِ الشَّهْرِ مُحَالٌ، فَلَمْ يَكُنْ دَلِيلُ اتِّصَافِ الشَّهْرِ بِكَوْنِهِ مُتَقَدِّمًا مَوْجُودًا فَلَمْ يُعْتَبَرْ هَذَا الِاتِّصَافُ، فَبَقِيَ مِلْكُ النِّكَاحِ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ فَيُحْكَمُ فِي هَذَا الْجُزْءِ بِكَوْنِهَا طَالِقًا، وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهَا طَالِقًا فِي هَذَا الْجُزْءِ ثُبُوتُ الِانْطِلَاقِ مِنْ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ طَالِقًا بِذَلِكَ الطَّلَاقِ الْمُضَافِ إلَى أَوَّلِ الشَّهْرِ الْمَوْصُوفِ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى الْمَوْتِ، فَلِأَجْلِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ حُكِمَ بِالطَّلَاقِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، لَكِنْ بَعْدَ مَا كَانَ النِّكَاحُ إلَى هَذَا الْوَقْتِ قَائِمًا لِعَدَمِ دَلِيلِ الِاتِّصَافِ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، ثُمَّ لَمَّا حُكِمَ بِكَوْنِهَا طَالِقًا لِلْحَالِ وَثَبَتَ الِانْطِلَاقُ فِيمَا مَضَى مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ضَرُورَةً، جُعِلَ كَأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ لِلْحَالِ، ثُمَّ بَعْدَ وُقُوعِهِ يَسْرِي إلَى أَوَّلِ الشَّهْرِ، هَكَذَا يُوجِبُ ضَرُورَةَ مَا بَيَّنَّا مِنْ الدَّلِيلِ، وَإِذَا جُعِلَ هَكَذَا يُخَرَّجُ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ أَمَّا الْعِدَّةُ فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاةِ فُلَانٍ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهَا مِمَّا يُحْتَاطُ فِي إيجَابِهَا فَوَجَبَتْ لِلْحَالِ، وَجُعِلَ كَأَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ لِلْحَالِ. وَأَمَّا الْخُلْعُ فَإِنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ بَاقِيَةً وَقْتَ الْمَوْتِ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ صَحَّ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ بَاقِيَةً كَانَ النِّكَاحُ بَاقِيًا مِنْ وَجْهٍ وَيُحْكَمُ بِبَقَائِهِ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لِضَرُورَةِ عَدَمِ الدَّلِيلِ، ثُمَّ يُحْكَمُ لِلْحَالِ بِكَوْنِهَا طَالِقًا بِذَلِكَ الطَّلَاقِ الْمُضَافِ وَسَرَى وَاسْتَنَدَ إلَى أَوَّلِ الشَّهْرِ عُلِمَ أَنَّهُ خَالَعَهَا وَهِيَ بَائِنَةٌ عَنْهُ فَلَمْ يَصِحَّ الْخُلْعُ وَيُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِرَدٍّ بَدَلِ الْخُلْعِ، وَإِذَا كَانَتْ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ وَقْتَ الْمَوْتِ فَالنِّكَاحُ الَّذِي كَانَ يَبْقَى إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ لِضَرُورَةِ عَدَمِ الدَّلِيلِ لَا يَبْقَى لِارْتِفَاعِهِ بِالْخُلْعِ، فَبَقِيَ النِّكَاحُ إلَى وَقْتِ الْخُلْعِ وَلَمْ يَظْهَرْ أَنَّهُ كَانَ مُرْتَفِعًا عِنْدَ الْخُلْعِ، فَحُكِمَ بِصِحَّةِ الْخُلْعِ وَلَا يُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِرَدِّ بَدَلِ الْخُلْعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إنْ كَانَ زَيْدٌ فِي الدَّارِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْوُقُوفِ عَلَى كَوْنِ زَيْدٍ فِي الدَّارِ مَوْجُودٌ حَالَةَ التَّكَلُّمِ فَانْعَقَدَ الطَّلَاقُ تَنْجِيزًا لَوْ كَانَ هُوَ فِي الدَّارِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالْمَوْجُودِ تَحَقَّقَ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: إنْ كَانَ حَمْلُ فُلَانَةَ غُلَامًا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ فِي الْبَطْنِ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى صِفَةِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فَإِنَّهُ مَا مِنْ سَاعَةٍ إلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ الْحَمْلُ، فَانْعَقَدَ الطَّلَاقُ تَنْجِيزًا، ثُمَّ عَلِمْنَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: آخِرُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً، ثُمَّ أُخْرَى، ثُمَّ مَاتَ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى الثَّانِيَةِ مِنْ طَرِيقِ التَّبْيِينِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمَّا تَزَوَّجَ الثَّانِيَةَ اتَّصَفَتْ بِكَوْنِهَا آخِرَ الْوُجُودِ حَدًّا لِآخَرَ وَهُوَ الْفَرْدُ اللَّاحِقُ وَهِيَ فَرْدٌ وَهِيَ لَاحِقَةٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: امْرَأَتِي الْأُولَى وَامْرَأَتِي الْأَخِيرَةُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ لِلْحَالِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ يَتَزَوَّجُ بِثَالِثَةٍ فَتُسْلَبُ صِفَةُ الْآخِرِيَّةِ عَنْ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِثَالِثَةٍ تَقَرَّرَتْ صِفَةُ الْآخِرِيَّةِ لِلثَّانِيَةِ مِنْ الْأَصْلِ، فَحُكِمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهَهُنَا دَلِيلُ اتِّصَافِ الشَّهْرِ بِالتَّقَدُّمِ مُنْعَدِمٌ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ وَمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ يُلْحَقُ بِالْعَدَمِ وَهُوَ هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْك فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ حَتَّى مَاتَ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى امْرَأَتِهِ مُقْتَصِرًا عَلَى الْحَالِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ عَلَّقَ الطَّلَاقَ صَرِيحًا بِعَدَمِ التَّزَوُّجِ، وَالْعَدَمُ يَسْتَوْعِبُ الْعُمُرَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً لَا يُوصَفُ بِعَدَمِ التَّزَوُّجِ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ قَدْ تَحَقَّقَ وَالْعَدَمُ يُقَابِلُ الْوُجُودَ، فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الْوُجُودِ فَيَتِمُّ ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ يَنْزِلُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ بِتَمَامِهِ فَوَقَعَ مُقْتَصِرًا عَلَى حَالِ وُجُودِ الشَّرْطِ. وَأَمَّا هَذَا فَلَيْسَ بِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِشَرْطٍ بَلْ هُوَ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى وَقْتٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ فَيَتَحَقَّقُ الطَّلَاقُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الصِّفَةِ بِدَلِيلِهِ عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ، أَوْ قَبْلَ مَوْتِك بِشَهْرٍ فَمَاتَ لِتَمَامِ الشَّهْرِ، أَوْ مَاتَتْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَقَعُ، فَهُمَا فَرَّقَا بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَقَالَا: الْعَتَاقُ يَقَعُ وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا هَذَا تَصَرُّفُ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالشَّرْطِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يَنْزِلُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَالزَّوْجُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ، وَلَا الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَوْتِهَا مَحَلٌّ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، بِخِلَافِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا فِي التَّدْبِيرِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ مَوْتِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ بِشَهْرٍ، أَوْ قَبْلَ قُدُومِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ بِشَهْرٍ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ قَدِمَ قَبْلَ مُضِيِّ شَهْرٍ لَا يَعْتِقُ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى شَهْرٍ مَوْصُوفٍ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى مَوْتَيْهِمَا، أَوْ قُدُومِهِمَا، وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَا يُتَصَوَّرُ

وُجُودُهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَمَّ الشَّهْرُ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا، أَوْ قُدُومِ أَحَدِهِمَا كَانَ مَوْصُوفًا بِالتَّقَدُّمِ عَلَى مَوْتِ أَحَدِهِمَا، أَوْ قُدُومِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ مَا أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى هَذَا الشَّهْرِ بَلْ إلَى شَهْرٍ مَوْصُوفٍ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى مَوْتَيْهِمَا، أَوْ قُدُومِهِمَا جَمِيعًا، وَهَذَا غَيْرُ ذَاكَ، وَإِنْ مَضَى شَهْرٌ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَ الْعَبْدُ، وَإِنْ لَمْ يَمُتْ الْآخَرُ بَعْدُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ قُدُومِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ بِشَهْرٍ، ثُمَّ قَدِمَ أَحَدُهُمَا لِتَمَامِ الشَّهْرِ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يَقْدُمُ الْآخَرُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا تَحَقَّقَ كَوْنُ الشَّهْرِ سَابِقًا عَلَى مَوْتِهِمَا، وَإِذَا قَدِمَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ كَوْنُ الْأَوَّلِ سَابِقًا عَلَى قُدُومِهِمَا، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ وُجُودِ قُدُومِهِمَا جَمِيعًا، فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ مَا لَمْ يَمُوتَا جَمِيعًا فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ، فَكَذَا فِي الْقُدُومِ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ الرَّازِيّ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ أُضِيفَ إلَى شَهْرٍ مَوْصُوفٍ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى مَوْتِهِمَا، أَوْ قُدُومُهُمَا مُتَّصِلٌ بِهِمَا لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى شَهْرٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى مَوْتِهِمَا أَوْ قُدُومُهُمَا وَمَنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ وُجُودُ مَوْتِهِمَا أَوْ قُدُومِهِمَا جَمِيعًا، وَعِنْدَ ثُبُوتِ التَّرَاخِي فِيمَا بَيْنَ الْمَوْتَيْنِ، أَوْ الْقَدُومَيْنِ، يَكُونُ الْعِتْقُ وَاقِعًا قَبْلَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا، أَوْ قُدُومِ أَحَدِهِمَا بِشَهْرٍ وَقَبْلَ مَوْتِ الْآخَرِ، أَوْ قُدُومِ الْآخَرِ بِشَهْرٍ، وَأَنَّهُ خِلَافُ مَا أَضَافَ، فَلَا يَقَعُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى بِشَهْرٍ حَيْثُ يَعْتِقُ كَمَا أَهَلَّ هِلَالُ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ وُجُودَ وَقْتٍ مُتَّصِفٍ بِالتَّقَدُّمِ عَلَيْهِمَا بِشَهْرٍ مُسْتَحِيلٌ، وَالْعَاقِلُ لَا يَقْصِدُ بِكَلَامِهِ الْمُسْتَحِيلَ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ إضَافَةَ الْعِتْقِ إلَى وَقْتٍ مَوْصُوفٍ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ بِشَهْرٍ وَعَلَى الْآخَرِ بِمُدَّةٍ غَيْرِ مُقَدَّرَةٍ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا اسْتِحَالَةَ فَيُرَاعَى عَيْنُ مَا أَضَافَ إلَيْهِ وُجُوبَ الِاسْتِحَالَةِ عَنْ هَذَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ عَادَةً يَلْحَقُ بِالْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً، وَقُدُومُ شَخْصٍ فِي جُزْءٍ لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ الزَّمَانِ بِحَيْثُ لَا يَتَقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً، وَكَذَا مَوْتُ شَخْصَيْنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَالْجَوَابُ فِي الْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى هَكَذَا، فَكَذَا فِي الْمُسْتَحِيلِ عَادَةً، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ قُدُومِ فُلَانٍ وَمَوْتِ فُلَانٍ بِشَهْرٍ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ قَدِمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرِ لَا يَعْتِقُ أَبَدًا لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا لِتَمَامِ الشَّهْرِ لَا يَعْتِقُ حَتَّى يَقْدُمَ الْآخَرُ، وَإِنْ قَدِمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ عَتَقَ وَلَا يُنْتَظَرُ مَوْتُ الْآخَرِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَدَلُّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَوْتَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَالْقُدُومُ مَوْهُومُ الْوُجُودِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ السَّاعَةَ إنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ فُلَانًا يَقْدُمُ إلَى شَهْرٍ، فَهَذَا وَقَوْلُهُ: قَبْلَ قُدُومِ فُلَانٍ بِشَهْرٍ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهَذَا عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى الْأَزَلِيُّ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ ظُهُورَ هَذَا الْقُدُومِ الْمَعْلُومِ لَنَا، وَقَدْ يَظْهَرُ لَنَا وَقَدْ لَا يَظْهَرُ، فَكَانَ شَرْطًا فَيُقْتَصَرُ الْعِتْقُ عَلَى حَالِ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَا فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ بِشُرُوطِهَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِشَهْرٍ فَكَاتَبَهُ فِي نِصْفِ الشَّهْرِ، ثُمَّ مَاتَ لِتَمَامِ الشَّهْرِ، فَإِنْ كَانَ اسْتَوْفَى بَدَلَ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ مَاتَ لِتَمَامِ الشَّهْرِ كَانَ الْعِتْقُ حَاصِلًا بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَسْتَوْفِ بَعْدُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ عَتَقَ بِالْإِعْتَاقِ السَّابِقِ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْكِتَابَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ عِنْدَهُ، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ إنَّهُ تَبْطُلُ الْكِتَابَةُ مِنْ الْأَصْلِ سَوَاءٌ كَانَ اسْتَوْفَى بَدَلَ الْكِتَابَةِ، أَوْ لَمْ يَسْتَوْفِ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِثُبُوتِ الْعِتْقِ مِنْ طَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، فَيَتَبَيَّنَ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَمْ تَصِحَّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَصْحِيحَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ الْعِتْقُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ فِيمَا تَقَدَّمَ فَلَا نُعِيدُهُ، وَعِنْدَهُمَا إنْ اسْتَوْفَى بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَالْأَمْرُ مَاضٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُمَا يَثْبُتُ مُقْتَصِرًا عَلَى حَالِ الْمَوْتِ وَهُوَ حُرٌّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِوُصُولِهِ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ عِنْدَ أَدَاءِ الْبَدَلِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَسْتَوْفِ بَعْدُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ عَتَقَ ثُلُثُهُ بِالتَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ مُدَبَّرٌ مُقَيَّدٌ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ عُلِّقَ بِمَوْتٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ قَدْ يُوجَدُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَقَدْ لَا يُوجَدُ، وَيَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَمِنْ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ دَبَّرَ عَبْدَهُ، ثُمَّ كَاتَبَهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ يَعْتِقُ ثُلُثُهُ مَجَّانًا بِالتَّدْبِيرِ، ثُمَّ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ ثُلُثَيْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَهَذَا عَلَى ذَاكَ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَسْعَى فِي هَذَا وَبَيْنَ أَنْ يَسْعَى فِي ذَاكَ، وَعِنْدَهُمَا يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ

مِنْهَا بِدُونِ التَّخْيِيرِ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابَةِ، يَعْتَبِرُ صِحَّةَ الْمَالِكِ وَمَرَضِهِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ. هَكَذَا ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُعْتَقًا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقِيلَ: هَذَا هُوَ الْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُدَبِّرَ عَبْدَهُ، وَيَعْتِقَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ بِأَنْ يَقُولَ: أَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أَوْ مَا شَاءَ مِنْ الْمُدَّةِ؛ لِيَعْتِقَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهُوَ فِيهِ صَحِيحٌ فَيَعْتِقُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَعِنْدَهُمَا كَيْفَ مَا كَانَ يُعْتَبَرُ عِتْقُهُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ عِنْدَهُمَا مُعْتَقًا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُسْتَعَانُ. وَأَمَّا الْإِضَافَةُ إلَى وَقْتَيْنِ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْمُضَافَ إلَى وَقْتَيْنِ يَنْزِلُ عِنْدَ أَوَّلِهِمَا، وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطَيْنِ يَنْزِلُ عِنْدَ آخِرِهِمَا، وَالْمُضَافُ إلَى أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ غَيْرُ عَيْنٍ؛ فَيَنْزِلُ عِنْدَ أَحَدِهِمَا وَالْمُعَلَّقُ بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ غَيْرُ عَيْنٍ يَنْزِلُ عِنْدَ أَوَّلِهِمَا، وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ فِعْلٍ وَوَقْتٍ يَعْتَبِرُ فِيهِ الْفِعْلَ، وَيَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْزِلُ عِنْدَ أَوَّلِهِمَا أَيُّهُمَا كَانَ،، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ الْيَوْمَ وَغَدًا، يُعْتَقُ فِي الْيَوْمِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا ظَرْفًا لِلْعِتْقِ، فَلَوْ تَوَقَّفَ وُقُوعُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا، لَكَانَ الظَّرْفُ وَاحِدًا لِوَقْتَيْنِ لَا كِلَاهُمَا، وَأَنَّهُ إيقَاعُ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ الْيَوْمَ غَدًا، أُعْتِقَ فِي الْيَوْمِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِعْتَاقَ إلَى الْيَوْمِ، ثُمَّ وَصَفَ الْيَوْمَ بِأَنَّهُ غَدٌ وَأَنَّهُ مُحَالٌ وَيَبْطُلُ وَصْفُهُ، وَبَقِيَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْيَوْمِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ غَدًا الْيَوِمَ، يُعْتَقُ فِي الْغَدِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى الْغَدِ، وَوَصَفَ الْغَدَ بِالْيَوْمِ وَهُوَ مُحَالٌ فَلَمْ يَصِحَّ وَصْفُهُ، وَبَقِيَتْ إضَافَتُهُ الْعِتْقَ إلَى الْغَدِ فَيُعْتَقُ فِي الْغَدِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَمَا لَمْ يُقْدِمَا جَمِيعًا، لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِشَرْطَيْنِ فَلَا يَنْزِلُ إلَّا عِنْدَ آخِرِهِمَا، إذْ لَوْ نَزَلَ عِنْدَ أَوَّلِهِمَا لَبَطَلَ التَّعْلِيقُ بِهِمَا وَلَكَانَ ذَلِكَ تَعْلِيقًا بِأَحَدِهِمَا، وَهُوَ عَلَّقَ بِهِمَا جَمِيعًا لَا بِأَحَدِهِمَا، وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا يُعْتَقُ فِي الْغَدِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ أَحَدَ الْوَقْتَيْنِ ظَرْفًا، فَلَوْ عَتَقَ فِي الْيَوْمِ، لَكَانَ الْوَقْتَانِ جَمِيعًا ظَرْفًا، وَهَذَا خِلَافُ تَصَرُّفِهِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ أَوْ غَدًا. فَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ، عَتَقَ، وَإِنْ جَاءَ الْغَدُ قَبْلَ قُدُومِ فُلَانٍ، لَا يُعْتَقُ مَا لَمْ يَقْدُمْ فِي جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَيَّهُمَا سَبَقَ مَجِيئُهُ؛ يُعْتَقُ عِنْدَ مَجِيئِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ ذَكَرَ شَرْطًا وَوَقْتًا فِي تَصَرُّفٍ وَاحِدٍ وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ لِمَا بَيْنَ التَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ وَبَيْنَ الْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ مِنْ التَّنَافِي، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَحَدِهِمَا وَتَرْجِيحِهِ عَلَى الْآخَرِ، فَأَبُو يُوسُفَ رَجَّحَ جَانِبَ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا وَالظَّرْفُ قَدْ يَصْلُحُ شَرْطًا، فَكَانَ الرُّجْحَانُ لِجَانِبِ الشَّرْطِ، فَاعْتَبَرَهُ تَعْلِيقًا بِأَحَدِ الشَّرْطَيْنِ فَيَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ أَوَّلِهِمَا أَيُّهُمَا كَانَ كَمَا إذَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ، وَنَحْنُ رَجَّحْنَا السَّابِقَ مِنْهُمَا فِي اعْتِبَارِ التَّعْلِيقِ وَالْإِضَافَةِ، فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ هُوَ السَّابِقُ، يَعْتَبِرُ التَّصَرُّفَ تَعْلِيقًا وَاعْتِبَارُهُ تَعْلِيقًا يَقْتَضِي نُزُولَ الْعِتْقِ عِنْدَ أَوَّلِ الشَّرْطَيْنِ، كَمَا إذَا عَلَّقَهُ بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ نَصًّا، وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ هُوَ السَّابِقُ، يَعْتَبِرُ إضَافَتَهُ وَاعْتِبَارُهَا يَقْتَضِي نُزُولَ الْعِتْقِ عِنْدَ آخِرِ الْوَقْتَيْنِ، كَمَا إذَا أَضَافَ إلَى آخِرِ الْوَقْتَيْنِ نَصًّا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرُّكْنُ عَارِيًّا عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ رَأْسًا كَيْفَمَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ وَضْعِيًّا كَانَ أَوْ عُرْفِيًّا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَالْكَلَامُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْعَتَاقِ وَبَيَانِ أَنْوَاعِهِ وَمَاهِيَّةِ كُلِّ نَوْعٍ وَشَرَائِطِ صِحَّتِهِ، عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي بَابِ الطَّلَاقِ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَلَا يَخْتَلِفَانِ إلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْعَدَدِ فِي الطَّلَاقِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ ذُو عَدَدٍ فَيُتَصَوَّرُ فِيهِ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْعَدَدِ، وَالْعِتْقُ لَا عَدَدَ لَهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْعَدَدِ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ لِعَبِيدِهِ: أَنْتُمْ أَحْرَارٌ إلَّا سَالِمًا؛ لِأَنَّ نَصَّ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ نَصِّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي، وَلَوْ اسْتَثْنَى عِتْقَ بَعْضِ الْعَبْدِ يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمَا؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءُ الْبَعْضِ مِنْ الْكُلِّ فَيَصِحُّ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ فَلَا يَصِحُّ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ: غُلَامَايَ حُرَّانِ سَالِمٌ وَبَرِيعٌ إلَّا بَرِيعًا، أَنَّ اسْتِثْنَاءَهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ جُمْلَةً ثُمَّ فَصَّلَهَا بِقَوْلِهِ: سَالِمٌ وَبَرِيعٌ، فَانْصَرَفَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظِ بِهَا فَكَانَ اسْتِثْنَاءُ الْبَعْضِ مِنْ الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ فَصَحَّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا إذَا قَالَ: سَالِمٌ حُرٌّ وَبَرِيعٌ إلَّا سَالِمًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ كَانَ هَذَا اسْتِثْنَاءً عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَكَانَ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ فَلَا يَصِحُّ، وَلَوْ قَالَ

فصل في صفة الإعتاق

أَنْتَ حُرٌّ، وَحُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الِاسْتِثْنَاءُ جَائِزٌ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ هَذَا كَلَامٌ وَاحِدٌ مَعْطُوفٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بِحَرْفِ الْعَطْفِ، فَلَا يَقَعُ بِهِ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ لِلَّهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إنَّ قَوْلَهُ: حُرٌّ وَحُرٌّ، لَغْوٌ؛ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ فَكَانَ فَاصِلًا بِمَنْزِلَةِ السُّكُوتِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ لِلَّهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لَيْسَ بِلَغْوٍ فَلَا يَكُونُ فَاصِلًا، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ لَهُ خَمْسَةٌ مِنْ الرَّقِيقِ، فَقَالَ: عَشْرَةٌ مِنْ مَمَالِيكِي إلَّا وَاحِدًا أَحْرَارٌ أَنَّهُ يُعْتِقُ الْخَمْسَةَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: عَشْرَةٌ مِنْ مَمَالِيكِي أَحْرَارٌ إلَّا وَاحِدًا، فَقَدْ اسْتَثْنَى الْوَاحِدَ مِنْ الْعَشَرَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: تِسْعَةٌ مِنْ مَمَالِيكِي أَحْرَارٌ، وَلَهُ خَمْسَةٌ، وَلَوْ قَالَ، ذَلِكَ عَتَقُوا جَمِيعًا كَذَا هَذَا، وَلَوْ قَالَ: مَمَالِيكِي الْعَشَرَةُ أَحْرَارٌ إلَّا وَاحِدًا، عَتَقَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةً؛ لِأَنَّ هَذَا رَجُلٌ ذَكَرَ مَمَالِيكَهُ وَغَلَطَ فِي عَدَدِهِمْ بِقَوْلِهِ: الْعَشَرَةُ فَيَلْغُو هَذَا الْقَوْلُ وَيَبْقَى قَوْلُهُ: مَمَالِيكِي أَحْرَارٌ إلَّا وَاحِدًا، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ، وَلَهُ خَمْسَةُ مَمَالِيكَ، يُعْتِقُ أَرْبَعَةً مِنْهُمْ كَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي صِفَةِ الْإِعْتَاقِ] : (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْإِعْتَاقِ فَهِيَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ هَلْ يَتَجَزَّأُ أَمْ لَا؟ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَتَجَزَّأُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَتَجَزَّأُ كَيْفَ مَا كَانَ الْمُعْتِقُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ مُعْسِرًا يَتَجَزَّأُ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا لَا يَتَجَزَّأُ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، قَالَ بَعْضُهُمْ فِيمَنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ: إنَّهُ يُعْتِقُ نِصْفَهُ وَيَبْقَى الْبَاقِي رَقِيقًا، يَجِبُ تَخْرِيجُهُ إلَى الْعَتَاقِ وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْتِقُ كُلَّهُ وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ إلَّا الضَّمَانُ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: عَتَقَ مَا عَتَقَ وَرَقَّ مَا رَقَّ هُمَا احْتَجَّا بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ وَالْأَحْكَامِ، أَمَّا النَّصُّ: فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ عَبْدٍ، عَتَقَ كُلُّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ شَرِيكٌ» وَهَذَا نَصٌّ عَلَى عَدَمِ التَّجَزِّي، وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ شَرِيكٌ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ الْعِتْقَ فِي الْعُرْفِ اسْمٌ لِقُوَّةٍ حُكْمِيَّةٍ دَافِعَةٍ يَدَ الِاسْتِيلَاءِ، وَالرِّقُّ اسْمٌ لِضَعْفٍ حُكْمِيٍّ يَصِيرُ بِهِ الْآدَمِيُّ مَحِلًّا لِلتَّمَلُّكِ فَيُعْتَبَرُ الْحُكْمِيُّ بِالْحَقِيقِيِّ، وَثُبُوتُ الْقُوَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالضَّعْفِ الْحَقِيقِيِّ فِي النِّصْفِ شَائِعًا مُسْتَحِيلٌ فَكَذَا الْحُكْمِيُّ؛ وَلِأَنَّ لِلْعِتْقِ آثَارًا مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالْإِرْثِ وَنَحْوِهَا، وَثُبُوتُ هَذِهِ الْآثَارِ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزِّي؛ وَلِهَذَا لَمْ يَتَجَزَّأْ فِي حَالِ الثُّبُوتِ حَتَّى لَا يَضْرِبَ الْإِمَامُ الرِّقَّ فِي أَنْصَافِ السَّبَايَا وَيَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِالْإِنْصَافِ، كَذَا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ. وَأَمَّا الْأَحْكَامُ: فَإِنَّ إعْتَاقَ النِّصْفِ قَدْ تَعَدَّى إلَى النِّصْفِ الْبَاقِي فِي الْأَحْكَامِ، حَتَّى امْتَنَعَ جَوَازُ التَّصَرُّفَاتِ النَّاقِلَةِ لِلْمِلْكِ فِيهِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَكَذَا يَجِبُ تَخْرِيجُهُ إلَى عِتْقِ الْكُلِّ بِالضَّمَانِ أَوْ بِالسِّعَايَةِ، حَتَّى يُجْبِرَهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ آثَارِ عَدَمِ التَّجَزِّي، وَكَذَا الِاسْتِيلَادُ لَا يَتَجَزَّأُ حَتَّى لَوْ اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ وَادَّعَاهُ، تَصِيرُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِالضَّمَانِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِيلَادَ يُوجِبُ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لَا حَقِيقَةَ الْحُرِّيَّةِ، فَالْحَقُّ إذَا لَمْ يَتَجَزَّأْ فَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى، وَكَذَا لَوْ عَتَقَ نِصْفَ أُمِّ وَلَدِهِ أَوْ أُمَّ وَلَدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ، عَتَقَ كُلَّهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْإِعْتَاقُ مُتَجَزِّئًا لَمْ يَكُنْ الْمَحِلُّ فِي حَقِّ الْعِتْقِ مُتَجَزِّئًا، وَإِضَافَةُ التَّصَرُّفِ إلَى بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ فِي حَقِّهِ يَكُونُ إضَافَةً إلَى الْكُلِّ، كَالطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ النُّصُوصُ وَالْمَعْقُولُ وَالْحُكْمُ، أَمَّا النَّصُّ: فَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ مِنْ مَمْلُوكٍ، كُلِّفَ عِتْقَ بَقِيَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْتِقُهُ فِيهِ، جَازَ مَا صَنَعَ» . وَرُوِيَ: كُلِّفَ عِتْقَ مَا بَقِيَ، وَرُوِيَ: وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ مَا بَقِيَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ نَصٌّ عَلَى التَّجَزِّي؛ لِأَنَّ تَكْلِيفَ عِتْقِ الْبَاقِي لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي كُلِّهِ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: جَازَ مَا صَنَعَ، إشَارَةٌ إلَى عِتْقِ الْبَعْضِ إذْ هُوَ الَّذِي صَنَعَهُ لَا غَيْرُ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، وَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِلَّا عَتَقَ مَا عَتَقَ» وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِ عِتْقِ الْبَاقِي بِالضَّمَانِ إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا، وَعَلَى عِتْقِ الْبَعْضِ إنْ كَانَ مُعْسِرًا، فَيَدُلُّ عَلَى التَّجَزِّي فِي حَالَةِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ

قَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ شِقْصٌ فِي مَمْلُوكٍ فَأَعْتَقَهُ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ مِنْ مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ فِي رَقَبَتِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَهُ كُلَّهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إنْ كَانَ تَصَرُّفًا فِي الْمِلْكِ وَالْمَالِيَّةِ بِالْإِزَالَةِ، فَالْمِلْكُ مُتَجَزِّئٌ وَكَذَا الْمَالِيَّةُ بِلَا شَكٍّ، حَتَّى تَجْرِيَ فِيهِ سِهَامُ الْوَرَثَةِ وَيَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْغَانِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا فِي الرِّقِّ فَالرِّقُّ مُتَجَزِّئٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَحِلَّهُ مُتَجَزِّئٌ وَهُوَ الْعَبْدُ وَإِذَا كَانَ مَحِلُّهُ مُتَجَزِّئًا، كَانَ هُوَ مُتَجَزِّئًا ضَرُورَةً. وَأَمَّا حُكْمُ الِاثْنَيْنِ إذَا أَعْتَقَا عَبْدًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، كَانَ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَالْوَلَاءُ مِنْ أَحْكَامِ الْعِتْقِ فَدَلَّ تَجَزُّؤُهُ عَلَى تَجَزُّؤِ الْعِتْقِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ: فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافَهُ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ فِي عَبْدٍ بَيْنَ صَبِيٍّ وَبَالِغٍ أَعْتَقَ الْبَالِغُ نَصِيبَهُ قَالَ: يَنْتَظِرُ بُلُوغَ الصَّبِيِّ، فَإِذَا بَلَغَ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى، وَلَئِنْ ثَبَتَ رَفْعُهُ فَتَأْوِيلُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: عَتَقَ كُلُّهُ أَيْ: اسْتَحَقَّ عِتْقَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ تَخْرِيجُ الْبَاقِي إلَى الْعِتْقِ لَا مَحَالَةَ فَيُعْتِقُ الْبَاقِي لَا مَحَالَةَ بِالِاسْتِسْعَاءِ أَوْ بِالضَّمَانِ، وَمَا كَانَ مُسْتَحَقُّ الْوُجُودِ يُسَمَّى بِاسْمِ الْكَوْنِ وَالْوُجُودِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وَالثَّانِي أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ عِتْقُ كُلِّهِ لِلْحَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ عِتْقُ كُلِّهِ عِنْدَ الِاسْتِسْعَاءِ وَالضَّمَانِ، فَنَحْمِلُهُ عَلَى هَذَا عَمَلًا بِالْأَحَادِيثِ كُلِّهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمَا: إنَّ الْعِتْقَ قُوَّةٌ حُكْمِيَّةٌ فَيُعْتَبَرُ بِالْقُوَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَثُبُوتُهَا فِي الْبَعْضِ شَائِعًا مُمْتَنِعٌ، فَكَذَا الْحُكْمِيَّةُ، فَنَقُولُ: لِمَ قُلْتُمْ: إنَّ اعْتِبَارَ الْحُكْمِ بِالْحَقِيقَةِ لَازِمٌ؟ أَلَيْسَ أَنَّ الْمِلْكَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَالْقُوَّةُ وَالْقُدْرَةُ سَوَاءٌ، ثُمَّ الْمِلْكُ يَثْبُتُ فِي النِّصْفِ شَائِعًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ يُعْرَفُ بِدَلِيلِ الشَّرْعِ وَهُوَ النَّصُّ وَالِاسْتِدْلَالُ لَا بِالْحَقَائِقِ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ الْآثَارِ فَلَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ الْعِتْقِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ الْعِتْقِ بِدُونِهَا كَمَا فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، بَلْ هِيَ مِنْ الثَّمَرَاتِ وَفَوَاتُ الثَّمَرَةِ لَا يُخِلُّ بِالذَّاتِ، ثُمَّ إنَّهَا مِنْ ثَمَرَاتِ حُرِّيَّةِ كُلِّ الشَّخْصِ لَا مِنْ ثَمَرَاتِ حُرِّيَّةِ الْبَعْضِ. فَإِنَّ الْوِلَايَاتِ وَالشَّهَادَاتِ شُرِعَتْ قَضَاءَ حَقِّ الْعَاجِزِينَ؛ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْقُدْرَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ كَمَالِ النِّعْمَةِ وَهُوَ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْهُ حَقُّ الْمَوْلَى لِيَصِلَ إلَى إقَامَةِ حُقُوقِ الْغَيْرِ، وَقَوْلُهُمَا: لَا يَتَجَزَّأُ ثُبُوتُهُ كَذَا زَوَالُهُ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ مَنَعَ وَقَالَ: إنَّ الْإِمَامَ إذَا ظَهَرَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الْكَفَرَةِ وَضَرَبَ الرِّقَّ عَلَى أَنْصَافِهِمْ وَمَنَّ عَلَى الْأَنْصَاف جَازَ، وَيَكُونُ حُكْمُهُمْ حُكْمَ مُعْتَقِ الْبَعْضِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ، ثُمَّ إنْ سَلَّمْنَا، فَالرِّقُّ مُتَجَزِّئٌ فِي نَفْسِهِ حَالَةَ الثُّبُوتِ، لَكِنَّهُ تَكَامَلَ لِتَكَامُلِ سَبَبِهِ وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ وُرُودُهُ عَلَى بَعْضِ الْمَحِلِّ دُونَ بَعْضٍ، وَفِي حَالَةِ الْبَقَاءِ وُجُودُ سَبَبِ زَوَالِهِ كَامِلًا وَقَاصِرًا فَيَثْبُتُ كَامِلًا وَقَاصِرًا عَلَى حَسْبِ السَّبَبِ. وَأَمَّا التَّخْرِيجُ إلَى الْإِعْتَاقِ وَامْتِنَاعُ جَوَازِ التَّصَرُّفَاتِ فَلَيْسَ لِعَدَمِ التَّجَزُّؤِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا الِاسْتِيلَادُ، فَمَمْنُوعٌ؛ أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ بَلْ هُوَ مُتَجَزِّئٌ، فَإِنَّ الْأَمَةَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ جَمِيعًا، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا، إلَّا أَنَّهُ إذَا ادَّعَى أَحَدَهُمَا، صَارَتْ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ التَّكَامُلِ وَهُوَ نِسْبَةُ كُلِّ أُمِّ الْوَلَدِ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الِاسْتِيلَادِ وَمَا مِنْ مُتَجَزِّئٍ إلَّا وَلَهُ حَالُ الْكَمَالِ إذَا وُجِدَ السَّبَبُ بِكَمَالٍ يَتَكَامَلُ، وَإِذَا وُجِدَ قَاصِرًا، لَا يَتَكَامَلُ بَلْ يَثْبُتُ بِقَدْرِهِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا وُجِدَ قَاصِرًا فَلَمْ يَتَكَامَلْ، وَكَذَا إعْتَاقُ أُمِّ الْوَلَدِ مُتَجَزِّئٌ وَالثَّابِتُ لَهُ عِتْقُ النِّصْفِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ الْعِتْقُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي لَا بِإِعْتَاقِهِ؛ بَلْ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي بَقَاءِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ، عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ، يُبْنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُ: عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، يُعْتَقُ نَصِيبُهُ لَا غَيْرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عِنْدَهُ مُتَجَرِّئٌ، وَإِعْتَاقُ الْبَعْضِ لَا يُوجِبُ إعْتَاقَ الْكُلِّ بَلْ يُعْتِقُ بِقَدْرِ مَا أَعْتَقَ وَيَبْقَى الْبَاقِي رَقِيقًا، وَلِلشَّرِيكِ السَّاكِتُ خَمْسُ خِيَارَاتٍ: إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَهُ، وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَهُ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَاهُ مُعْسِرًا كَانَ الْمُعْتَقُ أَوْ مُوسِرًا وَيَسْعَى وَهُوَ رَقِيقٌ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُعْتَقَ قِيمَةَ نَصِيبَهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَلَيْسَ لَهُ خِيَارُ التَّرْكِ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ مَعَ ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ فِي جُزْءٍ مِنْهُ، وَتَرْكُ الْمَالِ مَنْ غَيْرِ انْتِفَاعِ أَحَدٍ بِهِ سَبَبٌ لَهُ وَإِنَّهُ حَرَامٌ فَلَا بُدَّ مِنْ تَخْرِيجِهِ إلَى الْعِتْقِ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي وَصَفْنَا أَمَّا خِيَارُ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ؛ فَلِأَنَّ نَصِيبَهُ بَاقٍ

عَلَى مِلْكِهِ وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ لِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ كَمَا فِي حَالِ الِابْتِدَاءِ. وَأَمَّا خِيَارُ السِّعَايَةِ؛ فَلِأَنَّ نَصِيبَهُ صَارَ مُحْتَسَبًا عِنْدَ الْعَبْدِ لِحَقِّهِ لِثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي نِصْفِهِ فَيَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، كَمَا إذَا انْصَبَغَ ثَوْبُ إنْسَانٍ بِصَبْغِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ، فَاخْتَارَ صَاحِبُ الثَّوْبِ الثَّوْبَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الصَّبْغِ؛ لِصَيْرُورَةِ الصَّبْغِ مُحْتَسَبًا عِنْدَهُ لِقِيَامِهِ بِثَوْبٍ مَمْلُوكٍ لَهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّمْيِيزُ. كَذَا هَهُنَا؛ وَلِأَنَّ فِي السِّعَايَةِ سَلَامَةَ نَفْسِهِ وَرَقَبَتِهِ لَهُ وَإِنْ لَمْ تَصِرْ رَقَبَتُهُ مَمْلُوكَةً لَهُ، وَيَجُوزُ إيجَابُ الضَّمَانِ بِمُقَابَلَةِ سَلَامَةِ الرَّقَبَةِ مِنْ غَيْرِ تَمَلُّكٍ كَالْمُكَاتَبِ وَشِرَاءِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ مِنْ مَوْلَاهُ؛ وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْإِعْتَاقِ حَصَلَتْ فَكَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» ثُمَّ خِيَارُ السِّعَايَةِ مَذْهَبُنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَعْرِفُ السِّعَايَةَ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالْوَجْهُ لِقَوْلِهِ إنَّ ضَمَانَ السِّعَايَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ ضَمَانُ إتْلَافٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ، وَلَا إتْلَافَ مِنْ الْعَبْدِ بِوَجْهٍ إذْ لَا صُنْعَ لَهُ فِي الْإِعْتَاقِ رَأْسًا، وَلَا مِلْكَ يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ فِي نَفْسِهِ بِالضَّمَانِ؛ وَلِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ وَهِيَ كَوْنُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَلَهُ؛ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مُعْسِرٌ، وَالضَّمَانُ فِي هَذَا الْبَابِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْسِرِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَقِ إذَا كَانَ مُعْسِرًا مَعَ وُجُودِ الْإِعْتَاقِ مِنْهُ فَالْعَبْدُ أَوْلَى، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ يُقَوَّمُ نَصِيبُ شَرِيكِهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا ضَمِنَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ غَيْرُ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» فَدَلَّ أَنَّ الْقَوْلَ بِالسِّعَايَةِ لَازِمٌ فِي الْجُمْلَةِ عَرَفَهَا الشَّافِعِيُّ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهَا وَكَذَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ ضَمَانَ السِّعَايَةِ لَيْسَ ضَمَانَ إتْلَافٍ وَلَا ضَمَانَ تَمَلُّكٍ بَلْ هُوَ ضَمَانُ احْتِبَاسٍ وَضَمَانُ سَلَامَةِ النَّفْسِ وَالرَّقَبَةِ وَحُصُولِ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الضَّمَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَقَوْلُهُ: لَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ، قُلْنَا: وَقَدْ يَجِبُ كَالْمُكَاتَبِ وَالْمُسْتَسْعَى فِي حُكْمِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ، إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ السِّعَايَةَ إلَى الشَّرِيكِ السَّاكِتِ إذَا اخْتَارَ السِّعَايَةَ أَوْ إلَى الْمُعْتَقِ إذَا ضَمِنَهُ الشَّرِيكُ السَّاكِتُ؛ لِأَنَّهُ يَسْعَى لِتَخْلِيصِ رَقَبَتِهِ عَنْ الرِّقِّ كَالْمُكَاتَبِ، وَتَثْبُتُ فِيهِ جَمِيعُ أَحْكَامِ الْمُكَاتَبِ مِنْ الْإِرْثِ وَالشَّهَادَةِ وَالنِّكَاحِ، فَلَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يَشْهَدُ وَلَا يَتَزَوَّجُ إلَّا اثْنَتَيْنِ لَا يَفْتَرِقَانِ إلَّا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا عَجَزَ يُرَدُّ فِي الرِّقِّ وَالْمُسْتَسْعَى لَا يُرَدُّ فِي الرِّقِّ إذَا عَجَزَ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلسِّعَايَةِ مَوْجُودٌ قَبْلَ الْعَجْزِ وَبَعْدَهُ وَهُوَ ثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ فِي جُزْءٍ مِنْهُ؛ وَلِأَنَّ رَدَّهُ فِي الرِّقِّ هَهُنَا لَا يُفِيدُ؛ لِأَنَّا لَوْ رَدَدْنَاهُ إلَى الرِّقِّ، لَاحْتَجْنَا إلَى أَنْ نَجْبُرَهُ عَلَى السِّعَايَةِ عَلَيْهِ ثَانِيًا فَلَا يُفِيدُ الرِّقُّ، فَإِنْ قِيلَ: بَدَلُ الْكِتَابَةِ لَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ إلَّا بِرِضَاهُ وَالسِّعَايَةُ تَلْزَمُهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ فَأَنَّى يَسْتَوِيَانِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ يَجِبُ بِحَقِيقَةِ الْعَقْدِ إذْ الْمُكَاتَبَةُ مُعَاوَضَةٌ مِنْ وَجْهٍ، فَافْتَقَرَتْ إلَى التَّرَاضِي، وَالسِّعَايَةُ لَا تَجِبُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ حَقِيقَةً بَلْ بِكِتَابَةٍ حُكْمِيَّةٍ ثَابِتَةٍ بِمُقْتَضَى اخْتِيَارِ السِّعَايَةِ، فَلَا يَقِفُ وُجُوبُهَا عَلَى الرِّضَا؛ لِأَنَّ الرِّضَا إنَّمَا شُرِطَ فِي الْكِتَابَةِ الْمُبْتَدَأَةِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْضَى بِهَا الْعَبْدُ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَرْضَى بِهَا، وَيَخْتَارُ الْبَقَاءَ عَلَى الرِّقِّ فَوَقَفَتْ عَلَى الرِّضَا، وَهَهُنَا لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِبْقَائِهِ عَلَى الرِّقِّ شَرْعًا إذْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فَلَمْ يَشْرِطْ رِضَاهُ لِلُزُومِ السِّعَايَةِ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هَذَا الْخِيَارُ يَثْبُتُ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ سَوَاءٌ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا أَوْ مُوسِرًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَثْبُتُ إلَّا إذَا كَانَ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُمَا، كَانَ الْمُعْتَقُ مُتْلِفًا نَصِيبَ الشَّرِيكِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ يَمْنَعُ وُجُوبَ السِّعَايَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ حَالَ الْإِعْسَارِ أَيْضًا وَأَنْ لَا يَكُونَ الْوَاجِبُ إلَّا الضَّمَانَ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ قَوْلُ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْإِعْسَارِ وَالْيَسَارِ، إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا وُجُوبَهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِيهَا فِي حَالِ الْإِعْسَارِ، فَحَالُ الْيَسَارِ يَقِفُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَلَمَّا كَانَ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ، لَمْ يَكُنْ الْإِعْتَاقُ إتْلَافًا لِنَصِيبِ الشَّرِيكِ حَتَّى يُوجِبَ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ، لَكِنْ بَقِيَ نَصِيبُهُ مُحْتَسَبًا عِنْدَ الْعَبْدِ بِحَقِّهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ اسْتِخْلَاصُهُ مِنْهُ، وَهَذَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ حَالِ الْيَسَارَ وَبَيْنَ حَالِ الْإِعْسَارَ فَيَثْبُتُ خِيَارُ السِّعَايَةِ فِي الْحَالَيْنِ، وَإِذَا عَتَقَ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ بِالسِّعَايَةِ أَوْ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ وَالْإِعْتَاقُ حَصَلَ مِنْهُمَا. وَأَمَّا خِيَارُ التَّضْمِينِ حَالَ يَسَارِ

الْمُعْتِقِ فَأَمْرٌ ثَبَتَ شَرْعًا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَيْنَا؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إذَا كَانَ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ، كَانَ الْمُعْتِقُ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاقْتِصَارِ، وَمَنْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا حَدَثَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ عِنْدَ تَصَرُّفِهِ، لَا بِتَصَرُّفِهِ كَمَنْ أَحْرَقَ دَارَ نَفْسِهِ فَاحْتَرَقَتْ دَارُ جَارِهِ، أَوْ سَقَى أَرْضَ نَفْسِهِ فَنَزَّتْ أَرْضُ جَارِهِ، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي دَارِ نَفْسِهِ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ حَالَةَ الْيَسَارِ ثَبُتَ بِالنُّصُوصِ تَعَبُّدًا غَيْرُ مَعْقُولٍ فَتَبْقَى حَالَةُ الْإِعْسَارِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، أَوْ ثَبَتَ مَعْقُولًا بِمَعْنَى النَّظَرِ لِلشَّرِيكِ؛ كَيْ لَا يَتْلَفَ مَالُهُ بِمُقَابَلَةِ مَالٍ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ مِنْ غَيْرِ صُنْعٍ مِنْ الْمُعْتِقِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، فَصَلَحَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَتِهِ عِوَضٌ فَيَكُونُ ضَمَانَ صِلَةٍ وَتَبَرُّعٍ، كَنَفَقَةِ الْمَحَارِمِ، وَضَمَانُ الصِّلَةِ وَالتَّبَرُّعِ إنَّمَا يَجِبُ حَالَةَ الْيَسَارِ كَمَا فِي نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ أَوْ وَجَبَ نَظَرًا لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِإِعْتَاقِ نِصْفِهِ فَلَمْ يَتِمَّ غَرَضُهُ فِي إيصَالِ ثَمَرَاتِ الْعِتْقِ إلَى الْعَبْدِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ تَتْمِيمًا لِغَرَضِهِ فَيَخْتَصُّ وُجُوبُهُ بِحَالَةِ الْيَسَارِ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ سَلَكَ طَرِيقَةً أُخْرَى لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي ضَمَانِ الْعِتْقِ. فَقَالَ: هَذَا ضَمَانُ إفْسَادٍ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتِقَ بِإِعْتَاقِهِ نَصِيبَهُ أَفْسَدَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ حَيْثُ أَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي حَقِّهِ، حَتَّى لَا يَمْلِكَ فِيهِ سَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُزِيلَةِ لِلْمِلْكِ عَقِيبَ فِعْلِهِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ وَالسِّعَايَةَ وَالْحُكْمَ مَتَى ثَبَتَ عَقِيبَ وَصْفٍ مُؤَثِّرٍ يُضَافُ إلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْسِرِ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ؛ لِأَنَّهُ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُعْتِقِ يَصِيرُ نَصِيبُ شَرِيكِهِ مِلْكًا لَهُ، حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ نَصِيبَهُ مَجَّانًا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ، وَهَذَا تَفْسِيرُ ضَمَانِ التَّمَلُّكِ أَنْ يَكُونَ بِمُقَابَلَةِ الضَّمَانِ مِلْكَ الْعِوَضِ، وَهَذَا كَذَلِكَ؛ وَلِهَذَا كَانَ ضَمَانُ الْغَصْبِ ضَمَانَ تَمَلُّكٍ، وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْإِتْلَافِ كَضَمَانِ الْغَصْبِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ ضَمَانُ التَّمَلُّكِ، وَالْمَضْمُونُ وَهُوَ نَصِيبُ الشَّرِيكِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ؟ قِيلَ: يُحْتَمَلُ النَّقْلُ إلَى مِلْكِ الْمُعْتِقِ بِالضَّمَانِ إنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْهُ أَيْضًا فِي الْقِيَاسِ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ: إنْ بَاعَ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ نَصِيبَهُ مِنْ الْمُعْتَقِ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ عَلَى عِوَضٍ أَخَذَهُ مِنْهُ، وَهَذَا وَاخْتِيَارُهُ الضَّمَانَ سَوَاءٌ فِي الْقِيَاسِ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا أَفْحَشُهُمَا، وَالْبَيْعُ: هُوَ نَقْلُ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ، إلَّا أَنَّ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ الْمُعْتَقِ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ، لَكِنَّ هَذَا لَا يَنْفِي جَوَازَ النَّقْلِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَحْتَمِلُ النَّقْلَ إلَى إنْسَانٍ بِالضَّمَانِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُهُ بِجِهَةِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الْخَمْرَ تَنْتَقِلُ إلَى الْمُسْلِمِ بِالضَّمَانِ بِأَنْ أَتْلَفَ عَلَى ذِمِّيٍّ خَمْرَهُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِالْبَيْعِ، عَلَى أَنَّ قَبُولَ الْمَحَلِّ لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ فِيهِ بِشَرْطِ حَالِ انْعِقَادِ السَّبَبِ لَا حَالِ أَدَاءِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيُرَاعَى قَبُولُ الْمَحَلِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ عَبْدًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ ثُمَّ أَدَّى الضَّمَانَ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْهَالِكَ لَا يَقْبَلُ الْمِلْكَ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ قَابِلًا وَقْتَ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، يُعْتَبَرُ قَبُولُ الْمَحَلِّ فِيهِ، وَكَذَا هَهُنَا. ثُمَّ إذَا ضَمِنَ الَّذِي أَعْتَقَ، فَالْمُعْتَقُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ مَا بَقِيَ وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ انْتَقَلَ إلَيْهِ فَقَامَ مَقَامَهُ وَبِأَيِّ وَجْهٍ عَتَقَ مِنْ الْإِعْتَاقِ أَوْ السِّعَايَةِ فَوَلَاءُ الْعَبْدِ كُلُّهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ كُلُّهُ عَلَى مِلْكِهِ، هَذَا إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا. فَأَمَّا إنْ كَانَ مُعْسِرًا، فَلِلشَّرِيكِ أَرْبَعُ خِيَارَاتٍ: إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَيُعْتِقُ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَكَانَ إعْتَاقُ بَعْضِهِ إعْتَاقًا لِكُلِّهِ وَلَا خِيَارَ لِلشَّرِيكِ عِنْدَهُمَا، وَإِنَّمَا لَهُ الضَّمَانُ لَا غَيْرُ إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَهُ السِّعَايَةُ لَا غَيْرُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعْتِقَ صَارَ مُتْلِفًا نَصِيبَ الشَّرِيكِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ هُوَ الضَّمَانُ فِي حَالَةِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، إلَّا أَنَّ وُجُوبَ السِّعَايَةِ حَالَ الْإِعْسَارِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا، عَتَقَ كُلُّهُ وَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَضْمَنَهُ لَا غَيْرُ كَمَا قَالَا وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا يُعْتِقُ مَا أَعْتَقَ وَيَبْقَى الْبَاقِي مَحَلًّا لِجَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُزِيلَةِ لِلْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عِنْدَهُ لَا يَتَجَزَّأُ فِي حَالَةِ الْيَسَارِ، وَفِي حَالَةِ الْإِعْسَارِ يَتَجَزَّأُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لِأَبِي حَنِيفَةَ، فَيَقْتَصِرُ حُكْمُ تَصَرُّفِ الْمُعْتِقِ عَلَى نَصِيبِهِ فَيَبْقَى نَصِيبُهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْإِعْتَاقِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَمَّا كَانَ

مُتَجَزِّئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، كَانَ الْعِتْقُ مُتَجَزِّئًا ضَرُورَةً إذْ هُوَ حُكْمُ الْإِعْتَاقِ، وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ عَلَى وَفْقِ الْعِلَّةِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُمَا لَمْ يَكُنِ الْإِعْتَاقُ مُتَجَزِّئًا أَيْضًا؛ لِمَا قُلْنَا؛ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِهَذَا قَوْلٌ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ الْإِعْتَاقَ فِي النِّصْفِ وَيَتَأَخَّرُ الْعِتْقُ فِيهِ إلَى وَقْتِ الضَّمَانِ أَوْ السِّعَايَةِ، وَأَنَّهُ قَوْلٌ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ وَهُوَ تَفْسِيرُ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ، وَلَنَا أَنَّ الْعِتْقَ وَإِنْ ثَبَتَ فِي نَصِيبِ الْمُعْتِقِ عَلَى طَرِيقِ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ، لَكِنْ فِي الْإِعْتَاقِ حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحَقُّ الْعَبْدِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الرُّجْحَانِ. فَالْقَوْلُ بِالتَّمْلِيكِ إبْطَالُ الْحَقَّيْنِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَكَذَا فِيهِ إضْرَارٌ بِالْمُعْتِقِ بِإِهْدَارِ تَصَرُّفِهِ مِنْ حَيْثُ الثَّمَرَةُ لِلْحَالِ، وَإِضْرَارٌ بِالْعَبْدِ مِنْ حَيْثُ إلْحَاقُ الذُّلِّ بِهِ فِي اسْتِعْمَالِ النِّصْفِ الْحُرِّ وَالضَّرَرُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ فِي التَّمْلِيكِ إضْرَارٌ بِالْمُعْتَقِ، فَفِي الْمَنْعِ مِنْ التَّمْلِيكِ إضْرَارٌ بِالشَّرِيكِ السَّاكِتِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْعِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ، فَالْجَوَابُ: إنَّا لَا نَمْنَعُهُ مِنْ التَّمْلِيكِ أَصْلًا وَرَأْسًا فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ الْمُعْتَقَ وَيَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ وَيُكَاتِبَهُ، وَفِي التَّضْمِينِ تَمْلِيكُهُ مِنْ الْمُعْتِقِ بِالضَّمَانِ، وَفِي الِاسْتِسْعَاءِ وَالْمُكَاتَبَةِ إزَالَةُ الْمِلْكِ إلَى عِوَضٍ وَهُوَ السِّعَايَةُ وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ، فَكَانَ فِيمَا قُلْنَا رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى. فَإِنْ اخْتَارَ التَّدْبِيرَ فَدَبَّرَ نَصِيبَهُ صَارَ نَصِيبُهُ مُدَبَّرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ نَصِيبَهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ؛ فَيَحْتَمِلُ التَّخْرِيجَ إلَى الْعِتْقِ، وَالتَّدْبِيرُ تَخَرَّجَ إلَى الْعِتْقِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ لِيُعْتَقَ بَعْد الْمَوْتِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ لِلْحَالِ فَيُؤَدِّي فَيَعْتِقُ، لِأَنَّ تَدْبِيرَهُ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِلسِّعَايَةِ وَلَهُ أَنْ يَعْتِقَ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ قَابِلٌ لِلْإِعْتَاقِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ الْمُعْتَقَ؛ لِأَنَّ التَّضْمِينَ يَقْتَضِي تَمَلُّكَ الْمَضْمُونِ وَالْمُدَبَّرُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَهُ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لَلسِّعَايَةِ، وَاخْتِيَارُ السِّعَايَةِ يُسْقِطُ وَلَايَةَ التَّضْمِينِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ اخْتَارَ الْكِتَابَةَ، فَكَاتِبُ نَصِيبِهِ يَصِيرُ نَصِيبُهُ مُكَاتِبًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَانَتْ مُكَاتَبَتُهُ اخْتِيَارًا مِنْهُ لِلسِّعَايَةِ، حَتَّى لَا يَمْلِكَ تَضْمِينَ الْمُعْتِقِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ مِلْكَ الْمُكَاتَبِ وَهُوَ مُكَاتِبٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ أَيْضًا؛ فَتَعَذَّرَ التَّضْمِينُ وَيَمْلِكُ إعْتَاقَهُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ الْإِعْتَاقِ. ثُمَّ مُعْتَقُ الْبَعْضِ إذَا كُوتِبَ فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَاتَبَهُ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَإِمَّا إنْ كَاتَبَهُ عَلَى الْعُرُوضِ، وَإِمَّا إنْ كَاتَبَهُ عَلَى الْحَيَوَانِ. فَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَإِنْ كَانَتْ الْمُكَاتَبَةُ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِ جَازَتْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ اخْتِيَارُ السِّعَايَةِ، فَإِذَا كَاتَبَهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ اخْتَارَ السِّعَايَةَ وَتَرَاضَيَا عَلَيْهَا، وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ يَجُوزُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ وَلَهُ أَنْ يَرْضَى بِإِسْقَاطِ الْكُلِّ؛ فَهَذَا أَوْلَى، وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا، جَازَتْ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زِيَادَةً مُتَحَقِّقَةً لِدُخُولِهَا تَحْتَ تَقْوِيمِ أَحَدِ الْمُقَوَّمَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا، جَازَتْ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زِيَادَةً مُتَحَقِّقَةً لِدُخُولِهَا تَحْتَ تَقْوِيمِ أَحَدِ الْمُقَوَّمَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا، يَطْرَحُ عَنْهُ الْفَضْلَ؛ لِأَنَّ مُكَاتَبَتَهُ اخْتِيَارٌ لِلسِّعَايَةِ، وَالسِّعَايَةُ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ رِبًا، وَإِنْ كَانَتْ الْمُكَاتَبَةُ عَلَى الْعُرُوضِ، جَازَتْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ السِّعَايَةُ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ بِالْعُرُوضِ جَائِزٌ قَلَّتْ الْعُرُوض أَوْ كَثُرَتْ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْحَيَوَانِ جَازَتْ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ عِوَضًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ؛ وَلِهَذَا جَازَ ابْتِدَاءُ الْكِتَابَةِ عَلَى حَيَوَانٍ وَيَجِبُ الْوَسَطُ، كَذَا هَذَا. وَلَوْ صَالَحَ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ الْعَبْدَ أَوْ الْمُعْتِقَ عَلَى مَالٍ، فَهَذَا لَا يَخْلُو عَنْ الْأَقْسَامِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْمُكَاتَبَةِ. فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَلَى نِصْفِ قِيمَتِهِ لَا شَكَّ أَنَّهُ جَائِزٌ، وَكَذَا إذَا كَانَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ نِصْفَ الْقِيمَةِ، فَإِذَا رَضِيَ بِدُونِهِ فَقَدْ أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ فَيَجُوزُ، وَكَذَا إنْ كَانَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ؛ لِمَا قُلْنَا، فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ فَالْفَضْلُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ قَدْ وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ أَوْ عَلَى الْمُعْتَقِ، وَالْقِيمَةُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ تَكُونُ فَضْلَ مَالٍ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ؛ فَيَكُونُ رِبًا كَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، أَنَّ الصُّلْحَ يَكُونُ بَاطِلًا كَذَا هَذَا، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا مُطَّرِدٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرَ مَا لَا مِثْلَ لَهُ، أَوْ غَصَبَ مِنْهُ مَا لَا مِثْلَ لَهُ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ؛ فَالثَّابِتُ فِي ذِمَّتِهِ الْقِيمَةُ حَتَّى لَوْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا فَكَذَا ضَمَانُ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ إتْلَافٍ عِنْدَهُمَا. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَالصُّلْحُ عَنْ الْمُتْلَفِ أَوْ الْمَغْصُوبِ عَلَى

أَضْعَافِ قِيمَتِهِ جَائِزٌ وَهَهُنَا نَقُولُ: لَا يَجُوزُ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَالْفَرْقُ لَهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْإِتْلَافِ وَالْغَصْبِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُتْلِفِ، وَالْغَاصِبُ هُوَ الْمُتْلِفُ لَا قِيمَتُهُ، فَإِذَا صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْمُتْلَفِ وَالْمَغْصُوبِ، كَانَ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ الْمُتْلَفِ فَجَازَ، وَضَمَانُ الْعِتْقِ لَيْسَ بِضَمَانِ إتْلَافٍ وَلَا ضَمَانَ غَصْبٍ عِنْدَهُ؛ لِثُبُوتِ الْمُتْلَفِ وَالْمَغْصُوبِ فِي الذِّمَّةِ فَكَانَ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ هُوَ الْقِيمَةُ وَهِيَ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا، وَالثَّانِي: أَنَّ الْغَاصِبَ إنَّمَا يَمْلِكُ الْمَغْصُوبَ عِنْدَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ لَا قَبْلَهُ بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَضْمَنَهُ لِيَهْلِكَ عَلَى مِلْكِهِ فَيُثَابُ عَلَى ذَلِكَ وَيُخَاصَمُ الْغَاصِبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَكَانَ الْمَغْصُوبُ قَبْلَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَكَانَ هَذَا صُلْحًا عَنْ الْعَبْدِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالَيْنِ، فَكَأَنَّهُ مَلَكَهُ مِنْهُ بِهِ وَأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ لِلْمِلْكِ فَصَحَّ، وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مَقْصُودًا فَكَانَ الصُّلْحُ عَنْ قِيمَتِهِ فَلَا يَجُوزُ؛ لِمَا بَيَّنَّا، وَالثَّالِثُ: أَنَّ الضَّمَانَ فِي بَابِ الْغَصْبِ يَجِبُ وَقْتَ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ إلَى الْغَاصِبِ فِي الْمَغْصُوبِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَابِلٌ لِلتَّمْلِيكِ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَالضَّمَانُ فِي بَابِ الْعِتْقِ يَجِبُ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ وَالْعَبْدُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مَقْصُودًا، فَالصُّلْحُ لَا يَقَعُ عَنْ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا يَقَعُ عَنْ قِيمَتِهِ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ مِنْ قِيمَتِهِ وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى عَرَضٍ، جَازَ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيْعُ الْعَرَضِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَيْفَمَا كَانَ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ كَالْعَبْدِ وَالْفَرَسِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنْ صَالَحَ الْعَبْدَ، جَازَ وَعَلَيْهِ الْوَسَطُ وَإِنْ صَالَحَ الْمُعْتَقَ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ جَعَلَ الْحَيَوَانَ بَدَلًا عَنْ الْعِتْقِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَالْحَيَوَانُ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ كَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ، وَالْكِتَابَةِ، وَالنِّكَاحِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَلِأَنَّ الصُّلْحَ مَعَ الْعَبْدِ فِي مَعْنَى مُكَاتَبَتِهِ وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى عَبْدٍ مُطْلَقٍ أَوْ فَرَسٍ، يَصِحُّ وَيَجِبُ الْوَسَطُ كَذَا هَذَا، وَأَمَّا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فَإِنَّمَا جَعَلَ الْحَيَوَانَ بَدَلًا عَنْ الْقِيمَةِ وَأَنَّهَا مَالٌ وَالْحَيَوَانُ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَنْ الْمَالِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ. وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَقِ فِي الْعَبْدِ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا لَهُ أَبٌ أَوْ جَدٌّ أَوْ وَصِيٌّ، فَوَلِيُّهُ، أَوْ وَصِيُّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُعْتِقَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ أَوْ يُدَبِّرَ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إعْتَاقٌ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يَمْلِكَانِ الْإِعْتَاقَ فَلَا يَمْلِكُهُ مَنْ يَلِي عَلَيْهِمَا، وَإِنَّمَا مَلَكَ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ الِاسْتِسْعَاءَ وَالتَّضْمِينَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِسْعَاءَ مُكَاتَبَةٌ وَالْأَبُ وَالْوَصِيُّ يَمْلِكَانِ مُكَاتَبَةَ عَبْدِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَالتَّضْمِينُ فِيهِ نَقْلُ الْمِلْكِ إلَى الْمُعْتِقِ فَيُشْبِهُ الْبَيْعَ وَهُمَا يَمْلِكَانِ بَيْعَ مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الشَّرِيكُ مُكَاتَبًا أَوْ مَأْذُونًا عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الضَّمَانِ وَالسِّعَايَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ إلَّا أَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ الْإِعْتَاقَ؛ لِانْعِدَامِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ أَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلْمُكَاتَبِ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَصُّ بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَوْلَى. وَأَمَّا الْمَأْذُونُ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ مَا فِي يَدِهِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَكُونُ الْخِيَارُ لِلْعَبْدِ وَعَلَى أَصْلِهِمَا إنْ كَانَ يَمْلِكُ، لَكِنَّ الْعَبْدَ أَخَصُّ بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَوْلَى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَالْخِيَارُ لِلْمَوْلَى كَمَا فِي الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ وَمَا فِي يَدِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى فَكَانَ الْخِيَارُ لِلْمَوْلَى، فَإِنْ اخْتَارَ الشَّرِيكُ السِّعَايَةَ فَفِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ الْوَلَاءُ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ لِكَوْنِهِمَا حُرَّيْنِ، وَفِي الْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ الْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى؛ لِكَوْنِهِمَا رَقِيقِينَ وَالْوَلَاءُ لَا يَثْبُتُ إلَّا لِلْحُرِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَلِيٌّ وَلَا وَصِيٌّ. فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ حَاكِمٌ، نَصَّبَ الْحَاكِمُ مَنْ يَخْتَارُ لَهُمَا أَصْلَحَ الْأُمُورِ مِنْ التَّضْمِينِ وَالِاسْتِسْعَاءِ وَالْمُكَاتَبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَاكِمٌ، وَقَفَ الْأَمْرُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ وَيُفِيقَ الْمَجْنُونُ فَيَسْتَوْفِيَانِ حُقُوقَهُمَا مِنْ الْخِيَارَاتِ الْخَمْسِ. ثُمَّ إذَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فِي الضَّمَانِ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِمَا، فَالْيَسَارُ هُوَ أَنْ يَمْلِكَ الْمُعْتِقُ قَدْرَ قِيمَةِ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، وَالْإِعْسَارُ هُوَ أَنْ لَا يَمْلِكَ هَذَا الْقَدْرَ لَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُرْمَةُ الصَّدَقَةِ وَحِلُّهَا، حَتَّى لَوْ مَلَكَ هَذَا الْقَدْرَ كَانَ لِلشَّرِيكِ وِلَايَةُ تَضْمِينِهِ وَإِلَّا فَلَا إلَى هَذَا وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِيمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ شِقْصٌ فِي مَمْلُوكٍ فَأَعْتَقَهُ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ مِنْ مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، اسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي رَقَبَتِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» . اُعْتُبِرَ مُطْلَقُ الْمَالِ لَا النِّصَابِ، وَأَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ تَخْلِيصُ الْعَبْدِ وَبِهَذَا الْقَدْرِ يَحْصُلُ التَّخْلِيصُ، وَبِدُونِهِ لَا يَحْصُلُ

ثُمَّ يَسَارُ الْمُعْتِقُ وَإِعْسَارُهُ يُعْتَبَرُ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُعْسِرًا وَقْتَ الْإِعْتَاقِ لَا يَضْمَنُ وَإِنْ أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ الْوَقْتُ كَضَمَانِ الْإِتْلَافِ وَالْغَصْبِ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا حَالَ الْإِعْتَاقِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْفَقْرُ وَالْغِنَى عَارِضٌ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُعْتِقِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً، وَإِنْ كَانَ الْإِعْتَاقُ مُتَقَدِّمًا وَاخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُعْتِقُ: أَعْتَقْتُ عَامَ الْأَوَّلِ وَأَنَا مُعْسِرٌ ثُمَّ أَيْسَرْتُ، فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ الْوَقْتُ، وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ أَعْتَقْتُهُ عَامَ الْأَوَّلِ وَأَنْتَ مُوسِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعْتِقِ وَعَلَى الشَّرِيكِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ اعْتِبَارِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ شَاهِدٌ لِلْمُعْتِقِ فَيَحْكُمُ الْحَالُ، كَمَا إذَا اخْتَلَفَ صَاحِبُ الرَّحَى وَالطَّحَّانُ فِي انْقِطَاعِ الْمَاءِ وَجَرَيَانِهِ، أَنَّهُ يَحْكُمُ الْحَالُ، كَذَا هَهُنَا. وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي عَبْدَيْنِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا: أَحَدَكُمَا حُرٌّ وَهُوَ فَقِيرٌ، ثُمَّ اسْتَغْنَى ثُمَّ اخْتَارَ أَنْ يُوقِعَ الْعِتْقَ عَلَى أَحَدِهِمَا، ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْعِتْقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ وَقَدْ اسْتَغْنَى قَبْلَ مَوْتِهِ، ضَمِنَ رُبُعَ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا أَنْظُرُ إلَى حَالِهِ يَوْمَ أَوْقَعَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَاتَبَ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ ثُمَّ أَدَّى الْعَبْدُ فَيَعْتِقُ ثُمَّ إنَّمَا أَنْظُرُ إلَى حَالِ مَوْلَاهُ يَوْمَ عَتَقَ الْمُكَاتَبَ وَلَا أَنْظُرُ إلَى حَالِهِ يَوْمَ كَاتَبَ وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْعِتْقِ إلَى الْمَجْهُولِ تَعْلِيقٌ لِعِتْقِ عَبْدِهِ بِشَرْطِ الِاخْتِيَارِ كَأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِهِ نَصًّا فَيُعْتَبَرُ حَالُهُ يَوْمَ الِاخْتِيَارِ؛ لِأَنَّهُ يَوْمَ الْعِتْقِ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ: إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَدَخَلَ أَنَّهُ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ يَوْمَ دَخَلَ الدَّارَ لَا يَوْمَ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ يَوْمَ الدُّخُولِ هُوَ يَوْمُ الْعِتْقِ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَإِضَافَةُ الْعِتْقِ إلَى الْمَجْهُولِ تَنْجِيزٌ، وَإِنَّمَا الِاخْتِيَارُ تَعْيِينٌ لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ فَيُعْتَبَرُ صِفَةُ الْعِتْقِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ يَوْمَ التَّكَلُّمِ بِالْعِتْقِ وَكَذَا يُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْعَبْدِ فِي الضَّمَانِ وَالسِّعَايَةِ يَوْمَ الْإِعْتَاقِ حَتَّى لَوْ عُلِمَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ أَعْتَقَ ثُمَّ ازْدَادَتْ أَوْ انْتَقَصَتْ أَوْ كَاتَبَ أَمَةً فَوَلَدَتْ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ وَيُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ يَوْمَ أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَيَعْتَبِرُ قِيمَتَهُ يَوْمَئِذٍ كَمَا فِي الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا ذَلِكَ وَاخْتَلَفَا فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قَائِمًا وَقْتَ الْخُصُومَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَالِكًا اتَّفَقَا عَلَى حَالِ الْمُعْتِقِ أَوْ اخْتَلَفَا فِيهَا، وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْحَالَ إنْ كَانَتْ تَشْهَدُ لِأَحَدِهِمَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْحَالَ شَاهِدٌ صَادِقٌ أَصْلُهُ مَسْأَلَةُ الطَّاحُونَةِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَشْهَدُ لِأَحَدِهِمَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا وَقْتَ الْخُصُومَةِ وَاتَّفَقَا عَلَى الْعِتْقِ فِي الْحَالِ وَاخْتَلَفَا فِي قِيمَتِهِ بِأَنْ قَالَ الْمُعْتِقُ: قَدْ أَعْتَقْتُهُ الْيَوْمَ وَقِيمَتُهُ كَذَا، وَقَالَ شَرِيكُهُ: نَعَمْ أَعْتَقْتَهُ الْيَوْمَ إلَّا أَنَّ قِيمَتَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ يُرْجَعُ إلَى قِيمَتِهِ لِلْحَالِ وَلَا يُعْتَبَرُ التَّحَالُفُ وَالْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ الْحَالَ أَصْدَقُ، وَكَذَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي حَالِ الْعِتْقِ فَقَالَ الْمُعْتِقُ: أَعْتَقْتُهُ قَبْلَ هَذَا وَكَانَتْ قِيمَتُهُ كَذَا، وَقَالَ الْآخَرُ: أَعْتَقْتَهُ الْيَوْمَ وَقِيمَتُهُ أَكْثَرُ، أَوْ قَالَ الْمُعْتِقُ: أَعْتَقْتُهُ الْيَوْمَ وَقِيمَتُهُ كَذَا، وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ أَعْتَقْتَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَقِيمَتُهُ كَانَتْ أَكْثَرُ رَجَعَ إلَى قِيمَتِهِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْحَالَ إذَا شَهِدَتْ لِأَحَدِهِمَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ قِيمَتَهُ كَانَتْ كَذَلِكَ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ، إذْ الْأَصْلُ دَوَامُ الْحَالِ وَالتَّغَيُّرُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَأَشْبَهَ اخْتِلَافَ صَاحِبِ الطَّاحُونَةِ مَعَ الطَّحَّانِ فِي انْقِطَاعِ الْمَاءِ وَجَرَيَانِهِ أَنَّهُ يَحْكُمُ الْحَالُ فِيهِ، كَذَا هَذَا. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى زَمَانِ الْخُصُومَةِ لَكِنْ قَالَ الْمُعْتِقُ: قِيمَتُهُ كَانَتْ كَذَا شَهِدْت وَقَالَ الشَّرِيكُ: بَلْ كَانَتْ أَكْثَرَ، فَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ تَحْكِيمُ الْحَالِ الرُّجُوعِ إلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ فِي الْحَالِ لِأَنَّهَا تَزِيدُ وَتَنْقُصُ فِي الْمُدَّةِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُعْتِقُ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةَ ضَمَانٍ وَهُوَ يُنْكِرُ؛ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كَالْمُتْلِفِ وَالْغَاصِبِ، وَقَالُوا فِي الشُّفْعَةِ: إذَا احْتَرَقَ الْبِنَاءُ وَاخْتَلَفَ الشَّفِيعُ وَالْمُشْتَرِي فِي قِيمَتِهِ وَقِيمَةِ الْأَرْضِ: إنَّ الْمَرْجِعَ إلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ فِي الْحَالِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يُرِيدُ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْهِ الْأَرْضَ بِالشُّفْعَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا إلَّا بِقَوْلِهِ، فَأَمَّا الْمُعْتِقُ فَلَا يُرِيدُ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَى شَرِيكِهِ وَإِنَّمَا شَرِيكُهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةَ ضَمَانٍ، وَهُوَ يُنْكِرُ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْعَبْدُ هَالِكًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعْتِقِ؛ لِمَا قُلْنَا: إنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. فَإِنْ هَلَكَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ شَيْئًا هَلْ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ إذَا كَانَ مُوسِرًا؟ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْهُ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ وَإِحْدَى رِوَايَتَيْ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَّ الْمُعْتِقَ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ رِوَايَةً أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُعْتِقِ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ تَضْمِينَ الْمُعْتِقِ ثَبَتَ نَصًّا

بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّرِيكَ بِالْإِعْتَاقِ تَصَرَّفَ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ؛ لِبَقَاءِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ عَلَى مِلْكِهِ وَيَدِهِ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ، إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ التَّضْمِينِ ثَبَتَتْ شَرْعًا بِشَرِيطَةِ نَقْلِ مِلْكِ الْمَضْمُونِ إلَى الضَّمَانِ، فَإِذَا هَلَكَ لَمْ يَبْقَ الْمِلْكُ فَلَا يُتَصَوَّرُ نَقْلُهُ فَتَبْقَى وِلَايَةُ التَّضْمِينِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ أَنَّ وِلَايَةَ التَّضْمِينِ قَدْ ثَبَتَتْ بِالْإِعْتَاقِ فَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ، كَمَا إذَا مَاتَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِلْكُ الشَّرِيكِ بِهَلَاكِ الْعَبْدِ خَرَجَ عَنْ احْتِمَالِ النَّقْلِ. فَنَقُولُ: الضَّمَانُ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْإِعْتَاقِ فَيَسْتَنِدُ مِلْكُ الْمَضْمُونِ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا فِي بَابِ الْغَصْبِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْلِ فَأَمْكَنَ إيجَابُ الضَّمَانِ، وَإِذَا ضَمِنَ الْمُعْتَقَ يَرْجِعُ الْمُعْتِقُ بِمَا ضَمَّنَهُ فِي تَرِكَةِ الْعَبْدِ إنْ كَانَ لَهُ تَرِكَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ يَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ وَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِذَا ضَمَّنَهُ مَلَكَ الْمُعْتِقُ نَصِيبَهُ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ فِي تَرِكَةِ الْعَبْدِ كَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ لَوْ كَانَ حَيًّا وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي تَرِكَةِ الْعَبْدِ وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لِلشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَدْ مَاتَ مُفْلِسًا؛ هَذَا إذَا مَاتَ الْعَبْدُ. وَأَمَّا إذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فَإِنْ مَاتَ الْمُعْتِقُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِعْتَاقُ مِنْهُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ مَرَضِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ يُؤْخَذُ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ مِنْ تَرِكَتِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ مَرَضِهِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا حَتَّى لَا يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَسْتَوْفِي الشَّرِيكُ مِنْ مَالِهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ يَتَجَزَّأُ وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُمَا، كَانَ ضَمَانُ الْعِتْقِ ضَمَانَ إتْلَافٍ، وَضَمَانُ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ بِالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَلَمَّا كَانَ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ كَانَ الْمُعْتِقُ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاقْتِصَارِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ مُعْسِرًا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَلَوْ كَانَ إعْتَاقُهُ إتْلَافًا أَوْ إفْسَادًا لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ مَعْنًى لَوَجَبَ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا وُجُوبَ الضَّمَانِ بِالنَّصِّ، وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي حَالِ الْيَسَارِ الْمُطْلَقِ وَذَلِكَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهَا حَالُ خُلُوصِ أَمْوَالِهِ، وَفِي مَرَضِ الْمَوْتِ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْوَرَثَةِ حَتَّى لَا يَصِحَّ إقْرَارُهُ لِلْوَرَثَةِ أَصْلًا وَلَا يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ وَلَا تَصِحُّ كَفَالَتُهُ وَلَا إعْتَاقُهُ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ فَلَمْ يَكُنِ حَالُ الْمَرَضُ حَالَ يَسَارٍ مُطْلَقٍ وَلَا مِلْكٍ، فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ؛ وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْعِتْقِ ضَمَانُ صِلَةٍ وَتَبَرُّعٍ لِوُجُوبِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعٍ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتِقِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْسِرِ، وَالصِّلَاتُ إذَا لَمْ تَكُنْ مَقْبُوضَةً تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمَرِيضِ وَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ يَكُونُ هَذَا مِنْ مَالِ الْوَارِثِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الثُّلُثَ لِلْمَرِيضِ فِي حَالِ مَرَضِ مَوْتِهِ وَالثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً عَلَى أَعْمَالِكُمْ» وَهَكَذَا نَقُولُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ: إنَّهُ يَجِبُ صِلَةً، ثُمَّ قَدْ يَنْقَلِبُ مُعَاوَضَةً فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ فِي الْمَضْمُونِ فِي حَقِّ الْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِسْعَاءِ، كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ صِلَةً ثُمَّ يَنْقَلِبُ مُعَاوَضَةً وَكَذَا الْكَفَالَةُ تَنْعَقِدُ تَبَرُّعًا حَتَّى لَا تَصِحَّ إلَّا مِمَّنْ هُوَ أَهْلُ التَّبَرُّعِ، ثُمَّ تَنْقَلِبُ مُعَاوَضَةً وَإِنَّمَا انْقَلَبَتْ مُعَاوَضَةً؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي رَقَبَةِ الْغَيْرِ مُجَازَاةً لِصِلَتِهِ أَوْ تَحَمُّلًا عَنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ لِحُصُولِ النَّفْعِ لَهُ ثُمَّ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ بِالسِّعَايَةِ، كَمَا فِي الْكَفَالَةِ أَنَّ الْكَفِيلَ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِي التَّحَمُّلِ عَنْ الْمَكْفُولِ عَنْهُ، ثُمَّ إذَا صَحَّ تَحَمُّلُهُ وَمَلَكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِالْأَدَاءِ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ انْقَلَبَتْ مُعَاوَضَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ: مَا كَانَ لَك عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ عَلَيَّ، ثُمَّ كَانَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ فِي مَرَضِهِ فَأُخِذَ ذَلِكَ مِنْ الْمَرِيضِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لَا مِنْ الثُّلُثِ وَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَوْ وُجِدَ ابْتِدَاءُ الْكَفَالَةِ فِي الْمَرَضِ يَكُونُ الْمُؤَدَّى مُعْتَبَرًا مِنْ الثُّلُثِ؛ فَدَلَّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، وَإِنْ مَاتَ الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ ثَبَتَ الْخِيَارُ لِوَرَثَتِهِ فَإِنْ اجْتَمَعُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْإِعْتَاقِ أَوْ التَّضْمِينِ أَوْ الِاسْتِسْعَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَهُمْ ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُمْ يَخْلُفُونَ الْمَيِّتَ وَيَقُومُونَ مَقَامَهُ، وَكَانَ لِلْمُوَرِّثِ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ فَكَذَا لَهُمْ، وَإِنْ انْفَرَدُوا فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ الْإِعْتَاقَ

وَبَعْضُهُمْ التَّضْمِينَ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: إنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُعْتِقُوا أَوْ يُسْتَسْعَوْا أَوْ يُضَمِّنُوا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عِنْدَ الْحَسَنِ لَا يَتَجَزَّأُ، كَمَا لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ فَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّفْرِيعُ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ قَدْ بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِتَجْزِيءِ الْإِعْتَاقِ عِنْدَهُ، وَقَدْ انْتَقَلَ نَصِيبَهُ إلَى الْوَرَثَةِ بِمَوْتِهِ فَصَارُوا كَالشُّرَكَاءِ فِي الْأَصْلِ فِي الْعَبْدِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ، أَنَّ لِلْبَاقِينَ أَنْ يَخْتَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا يَشَاءُ، كَذَا هَذَا وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْوَرَثَةَ انْتَقَلَ إلَيْهِمْ مَا كَانَ لِلْمَيِّتِ، وَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الضَّمَانَ فِي الْبَعْضِ وَالسِّعَايَةَ فِي الْبَعْضِ، فَكَذَا لَهُمْ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ ثُمَّ مَاتَ، لَيْسَ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَنْفَرِدُوا بِأَنْ يَخْتَارَ بَعْضُهُمْ الْإِعْتَاقَ وَبَعْضُهُمْ التَّضْمِينَ وَبَعْضُهُمْ الِاسْتِسْعَاءَ، بَلْ لَيْسَ لَهُمْ إلَّا أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ إمَّا الْعِتْقُ، وَإِمَّا الضَّمَانُ كَذَا هَذَا، ثُمَّ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ لَوْ أَعْتَقَ بَعْضُهُمْ، كَانَ إعْتَاقُهُ بَاطِلًا مَا لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى فَأَعْتَقَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ الْمُكَاتَبَ، كَانَ إعْتَاقُهُ بَاطِلًا مَا لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَيْهِ كَذَا هَذَا، فَإِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى عِتْقِهِ يُعْتَقُ بِلَا خِلَافٍ وَالْوَلَاءُ يَكُونُ لِلْمَيِّتِ حَتَّى يَنْتَقِلَ إلَى الذُّكُورِ مِنْ وَرَثَتِهِ دُونَ الْإِنَاثِ وَهُوَ فَائِدَةُ كَوْنِهِ لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُعْتَقَ بَعْضُهُ فِي مَعْنَى الْمُكَاتَبِ، وَالْمُكَاتَبُ لَا يَنْتَقِلُ فِيهِ بِالْإِرْثِ فَكَانَ وَلَاؤُهُ لِلْمَيِّتِ كَذَا هَذَا. وَإِذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا يَوْمَ أَعْتَقَهُ فَاخْتَارَ الشَّرِيكُ تَضْمِينَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ وَيَخْتَارَ السِّعَايَةَ، ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا رَضِيَ الْمُعْتِقُ بِالضَّمَانِ أَوْ حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ، أَوْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُعْتِقُ وَلَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَقْبَلْ الْمُعْتِقُ مِنْهُ التَّضْمِينَ، أَوْ يَحْكُمْ بِهِ الْحَاكِمُ فَإِنْ قَبِلَ أَوْ حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ فِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ، وَجَعَلَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ التَّفْصِيلِ تَفْسِيرًا لِمَا ذَكَرَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجَصَّاصُ وَقَالَ: أَرَادَ بِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ إذَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي أَوْ رَضِيَ بِهِ الشَّرِيكُ، وَحَكَى عَنْ الْكَرْخِيِّ وَالْجَصَّاصِ أَنَّهُمَا جَعَلَا مَسْأَلَةَ الْغَاصِبِ وَغَاصِبِ الْغَاصِبِ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إذَا اخْتَارَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا، ثُمَّ بَدَا لَهُ وَاخْتَارَ تَضْمِينَ الْآخَرِ فَلَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ الْمُضَمَّنُ أَوْ يَقْضِي بِهِ الْقَاضِي، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ، وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ لَهُ خِيَارَ التَّضْمِينِ وَخِيَارَ السِّعَايَةِ، وَالْمُخَيَّرُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الْآخَرِ فَكَانَ اخْتِيَارُهُ لِلتَّضْمِينِ إبْرَاءً لِلْعَبْدِ عَنْ السِّعَايَةِ، وَلِهَذَا لَوْ اخْتَارَ السِّعَايَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الضَّمَانَ وَكَانَتْ نَفْسُ اخْتِيَارِ السِّعَايَةِ إبْرَاءً لَهُ عَنْ الضَّمَانِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا كَذَا إذَا اخْتَارَ الضَّمَانَ، وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ أَنَّ اخْتِيَارَ الشَّرِيكَيْنِ تَضْمِينَ الْمُعْتِقِ إيجَابُ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْمَضْمُونِ بِعِوَضٍ وَهُوَ الضَّمَانُ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالرِّضَا أَوْ بِالْقَضَاءِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ أَحَدُهُمَا لَا يَتِمُّ لَهُ الِاخْتِيَارُ، وَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ إلَى السِّعَايَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَارَ الشَّرِيكُ السِّعَايَةَ، أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ خِيَارُ التَّضْمِينِ بَعْدَ ذَلِكَ رَضِيَ بِذَلِكَ الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَرْضَ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ السِّعَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ لَيْسَ فِيهِ إيجَابُ الْمِلْكِ لِلْعَبْدِ بِعِوَضٍ حَتَّى يَقِفَ ذَلِكَ عَلَى رِضَاهُ فَلَا يَقِفُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ، لَمْ يُعْتَقْ مِنْهُ شَيْءٌ أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ فَيَقْتَصِرُ الْعِتْقُ عَلَى نَصِيبِ الْمُعْتِقِ، فَإِذَا صَادَفَ مِلْكَ غَيْرِهِ لَمْ يَنْفُذْ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَالْعِتْقُ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَجَزَّأُ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي نَصِيبِهِ، ثُمَّ يَسْرِي إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَإِذَا أَضَافَ الْإِعْتَاقَ إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ، لَمْ يَثْبُتْ الْعِتْقُ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ. وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَقُ جَارِيَةً حَامِلًا لَا يَضْمَنُ الْمُعْتِقُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ بِمَنْزِلَةِ طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهَا وَالْأَطْرَافُ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْصَافِ، وَالْأَوْصَافُ لَا تُفْرَدُ بِالضَّمَانِ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِيهَا مَقْصُودًا؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ فِي الْآدَمِيَّةِ نُقْصَانٌ فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ بِنُقْصَانِ الْمُتْلِفِ زِيَادَةَ ضَمَانٍ؟ وَكَذَلِكَ كُلُّ حَمْلٍ يُعْتَقُ أُمُّهُ إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مَالِكَهُمَا كَمَا فِي الرَّهْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْوَلَدِ فِي الْجَارِيَةِ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهَا لِرَجُلٍ وَبِحَمْلِهَا لِآخَرَ، فَأَعْتَقَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ الْأُمَّ يُعْتَقُ الْحَمْلُ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ انْفَرَدَ عَنْ الْأُمِّ فِي الْمِلْكِ فَجَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالضَّمَانِ. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَاخْتَارَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ الضَّمَانَ وَبَعْضُهُمْ السِّعَايَةَ

وَبَعْضُهُمْ الْعِتْقَ فَذَلِكَ لَهُمْ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا اخْتَارَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ نَصِيبِهِ أَوْجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْخِيَارَاتِ وَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِنَصِيبِ الْآخَرِ، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا اخْتَارَ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي عَبْدٍ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ أَعْتَقَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ، ثُمَّ أَعْتَقَ الْآخَرُ بَعْدَهُ، فَلِلثَّالِثِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ الْأَوَّلَ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ أَوْ دَبَّرَ أَوْ كَاتَبَ أَوْ اسْتَسْعَى؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارَاتُ لِلتَّخْرِيجِ إلَى الْإِعْتَاقِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ الثَّانِيَ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا؛ لِأَنَّ تَضْمِينَ الْأَوَّلِ ثَبَتَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ؛ لَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا صُنْعَ لِلْمُعْتَقِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ بِإِتْلَافِ نَصِيبِهِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ نَظَرًا لِلشَّرِيكِ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِتَضْمِينِ الْأَوَّلِ؛ وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْعِتْقِ ضَمَانُ مُعَاوَضَةٍ فِي الْأَصْلِ، فَإِذَا أَعْتَقَ الْأَوَّلُ فَقَدْ ثَبَتَ لِلشَّرِيكِ حَقُّ نَقْلِ الْمِلْكِ الْمَضْمُونِ إلَيْهِ بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ، وَتَعَلَّقَ بِذَلِكَ النَّقْلِ حَقُّ الْوَلَاءِ، وَالْوَلَاءُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ فَلَا يَمْلِكُ نَقْلَ حَقِّ التَّضْمِينِ إلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْأَوَّلِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَعْتِقَ وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمُضَمِّنِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ الثَّانِيَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ فَكَذَا مَنْ قَامَ مَقَامَهُ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَلَمَّا أَعْتَقَ الْأَوَّلُ، أُعْتِقَ جَمِيعُ الْعَبْدِ فَلَمْ يَصِحَّ إعْتَاقُ الثَّانِي وَلَيْسَ لِلثَّانِي وَالثَّالِثِ إلَّا التَّضْمِينُ إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا وَالسِّعَايَةُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا، وَعَلَى هَذَا مَنْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ فَأَعْتَقَ نِصْفَهُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: يُعْتِقُ نِصْفَهُ وَيَبْقَى الْبَاقِي رَقِيقًا، يَجِبُ تَخْرِيجُهُ إلَى الْعَتَاقِ فَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى، وَإِذَا أَدَّى السِّعَايَةَ أَوْ بَدَلَ الْكِتَابَةِ يُعْتِقُ كُلَّهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا: يُعْتَقُ كُلُّهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا مِنْ غَيْرِ سِعَايَةٍ، وَكَذَا إذَا أَعْتَقَ جُزْءًا مِنْ عَبْدِهِ أَوْ شِقْصًا مِنْهُ، يَمْضِي مِنْهُ مَا شَاءَ وَيَبْقَى الْبَاقِي رَقِيقًا يَخْرُجُ إلَى الْعَتَاقِ بِالْخِيَارَاتِ الَّتِي وَصَفْنَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عِنْدَهُ مُتَجَزِّئٌ، إلَّا أَنَّ هَهُنَا أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى مَجْهُولٍ فَيَرْجِعُ فِي الْبَيَانِ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَحَدُ عَبِيدِي حُرٌّ، وَقِيلَ: يَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي السَّهْمِ أَنْ يُعْتَقَ مِنْهُ سُدُسُهُ؛ لِأَنَّ السَّهْمَ عِبَارَةٌ عَنْ السُّدُسِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «رَجُلًا أَوْصَى فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ لِرَجُلٍ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُدُسَ مَالِهِ» جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ أَنَّ السَّهْمَ عِبَارَةٌ عَنْ السُّدُسِ فِي اللُّغَةِ، وَعِنْدَهُمَا يُعْتَقُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا صَارَ نَصِيبُهُ مُدَبَّرًا. ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُدَبِّرُ مُوسِرًا، فَلِلشَّرِيكِ خِيَارَاتٌ: إنْ شَاءَ أَعْتَقَ، وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ، وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَى حَالِهِ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلِشَرِيكِهِ خَمْسُ خِيَارَاتٍ: إنْ شَاءَ أَعْتَقَ، وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ، وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَى حَالِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ عِنْدَهُ مُتَجَزِّئٌ كَالْإِعْتَاقِ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارَاتُ أَمَّا خِيَارُ الْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَالسِّعَايَةِ؛ فَلِأَنَّ نَصِيبَهُ بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ فِي حَقِّ التَّخْرِيجِ إلَى الْعَتَاقِ. وَأَمَّا خِيَارُ التَّضْمِينِ؛ فَلِأَنَّهُ بِالتَّدْبِيرِ أَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ مُطْلَقًا بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَدْ أَتْلَفَهُ فِي حَقِّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَكَانَ لِلشَّرِيكِ وِلَايَةُ التَّضْمِينِ، وَأَمَّا خِيَارُ التَّرْكِ عَلَى حَالِهِ؛ فَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ لَمْ تَثْبُتْ فِي جُزْءٍ مِنْهُ فَجَازَ بَقَاؤُهُ عَلَى الرِّقِّ، وَإِنَّهُ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مَنْفَعَةَ الِاسْتِخْدَامِ فَلَا يُكَلَّفُ تَخْرِيجُهُ إلَى الْحُرِّيَّةِ مَا لَمْ يَمُتْ الْمُدَبِّرُ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُدَبِّرِ فَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا ضُمِّنَ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَهُ فَلَمَّا ضَمَّنَ شَرِيكَهُ، قَامَ مَقَامَهُ فِيمَا كَانَ لَهُ فَإِذَا أَدَّى عَتَقَ وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمُدَبِّرِ؛ لِأَنَّ كُلَّهُ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ؛ لِانْتِقَالِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ إلَيْهِ، وَإِنْ اخْتَارَ الِاسْتِسْعَاءَ أَوْ الْإِعْتَاقَ كَانَ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُعْسِرًا فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ التَّدْبِيرِ لَا يَجِبُ مَعَ الْإِعْسَارِ كَمَا لَا يَجِبُ ضَمَانُ الْإِعْتَاقِ فَبَقِيَ أَرْبَعُ خِيَارَاتٍ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ صَارَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ عَلَى أَصْلِهِمَا لَا يَتَجَزَّأُ كَالْإِعْتَاقِ الْمُعَجَّلِ، وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ إلَّا التَّضْمِينُ مُوسِرًا كَانَ الْمُدَبَّرُ أَوْ مُعْسِرًا عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ ضَمَانَ النَّقْلِ وَالتَّمْلِيكِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ كَالْبَيْعِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ رَهْطٍ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمْ وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الثَّانِي وَهُوَ مُوسِرٌ، فَلِلشَّرِيكِ الثَّالِثِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُدَبِّرَ ثُلُثَ قِيمَتِهِ وَيَرْجِعُ بِهِ الْمُدَبِّرُ عَلَى الْعَبْدِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتَقَ، وَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتَقَ ثُلُثَ

قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ نَصِيبِ الثَّالِثِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الْعَبْدُ كُلُّهُ مُدَبَّرٌ لِلَّذِي دَبَّرَهُ وَيُضَمِّنُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَمَّا كَانَ مُتَجَزِّئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَمَّا دَبَّرَهُ أَحَدُهُمْ فَقَدْ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ سِتُّ خِيَارَاتٍ، فَلَمَّا أَعْتَقَهُ الثَّانِي فَقَدْ اسْتَوْفَى مَا كَانَ لَهُ فَلَمْ تَبْقَ لَهُ وِلَايَةُ تَضْمِينِ الْمُدَبَّرِ وَلِلسَّاكِتِ أَنْ يُضَمِّنَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ التَّضْمِينِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتَقَ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُعْتَقِ ضَمَانُ مُعَاوَضَةٍ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ ضَمَانُ التَّمَلُّكِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِمُقَابَلَةِ الضَّمَانِ مِلْكُ الْمَضْمُونِ كَضَمَانِ الْغَاصِبِ، وَلَوْ ضَمِنَ الْمُعْتَقَ لَا يَمْلِكُ الْمُعْتِقُ الْمَضْمُونَ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ انْعَقَدَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُدَبَّرِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ، فَصَارَ ذَلِكَ النَّصِيبُ بِحَالٍ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ إلَى غَيْرِ الْمُدَبَّرِ فَتَعَذَّرَ تَضْمِينُ الْمُعْتِقِ؛ وَلِأَنَّ الْمُدَبَّرَ بِالتَّدْبِيرِ قَدْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْوَلَاءِ، وَالْوَلَاءُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى الْغَيْرِ. وَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِعْتَاقِ أَتْلَفَ نَصِيبَهُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ مَنْفَعَةَ الِاسْتِخْدَامِ، فَيَضْمَنُ لَهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ لَكِنْ مُدَبِّرًا؛ لِأَنَّ الْمُتْلَفَ مُدَبَّرٌ، وَيَرْجِعُ بِهِ الْمُدَبِّرُ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ السَّاكِتِ انْتَقَلَ إلَيْهِ فَقَامَ هُوَ مَقَامَهُ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِي الْعَبْدَ، فَكَذَا لِلْمُدَبِّرِ؛ وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ لَمْ تَثْبُتْ فِي جُزْءٍ مِنْهُ فَجَازَ إبْقَاؤُهُ عَلَى الرِّقِّ، وَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا ضَمَانَ مُعَاوَضَةٍ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مُدَبَّرٌ، وَالْمُدَبَّرُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ إلَى مِلْكِ الْغَيْرِ فَجُعِلَ ضَمَانُ جِنَايَةٍ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَإِنْ شَاءَ الْمُدَبَّرُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ الَّذِي دَبَّرَهُ؛ لِأَنَّ بِإِعْتَاقِ شَرِيكِهِ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ كَمَا فِي عِتْقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فَإِنْ اخْتَارَ الضَّمَانَ، كَانَ لِلْمُعْتِقِ أَنْ يَسْتَسْعِي الْعَبْدَ؛ لِأَنَّ الْمُدَبِّرَ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَهُ فَكَذَا لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ قِيمَةَ الثُّلُثِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ إنَّمَا مَلَكَ ذَلِكَ الثُّلُثَ عِنْدَ الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ التَّدْبِيرِ، وَالْمُسْتَنِدُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ فِي الْمَحَلِّ يَكُونُ ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يَظْهَرُ مِلْكُهُ فِي حَقِّ الْمُعْتِقِ فَلَا يَضْمَنُ الْمُعْتِقُ لَهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالتَّدْبِيرُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَجَزِّئًا صَارَ الْكُلُّ مُدَبَّرًا وَيَضْمَنُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِلشَّرِيكَيْنِ لِإِتْلَافِ نَصِيبِهِمَا عَلَيْهِمَا، سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا لَا تَجِبُ السِّعَايَةُ هُنَا بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ بِالْإِعْتَاقِ يَزُولُ مِلْكُهُ فَيَسْعَى وَهُوَ حُرٌّ وَهَهُنَا بِالتَّدْبِيرِ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ بَلْ يَصِيرُ الْعَبْدُ كُلُّهُ مُدَبَّرًا لَهُ، وَكَسْبُ الْمُدَبَّرِ لِلْمَوْلَى فَتَعَذَّرَ الِاسْتِسْعَاءُ. وَعَلَى هَذَا إذَا شَهِدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِالْإِعْتَاقِ بِأَنْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَأَنْكَرَ صَاحِبُهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَيَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَمْ يَجُزْ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَا يُعْتَقُ نَصِيبُ الشَّاهِدِ وَلَا يَضْمَنُ لِصَاحِبِهِ وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا مُوسِرَيْنِ كَانَا أَوْ مُعْسِرَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا: إنْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مُوسِرًا فَلَا سِعَايَةَ لِلشَّاهِدِ عَلَى الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَهُ السِّعَايَةُ عَلَيْهِ، أَمَّا عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَتِهِ؛ فَلِأَنَّ شَهَادَةَ الْفَرْدِ فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَلَوْ كَانَا اثْنَيْنِ لَكَانَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا يَجُرَّانِ الْمَغْنَمَ إلَى أَنْفُسِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ بِهِ حَقَّ التَّضْمِينِ لِأَنْفُسِهِمَا، وَلَا شَهَادَةَ لِجَارِ الْمَغْنَمِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنَّهُ بِشَهَادَتِهِ عَلَى صَاحِبِهِ صَارَ مُقِرًّا بِفَسَادِ نَصِيبِهِ بِإِقْرَارِهِ عَلَى صَاحِبِهِ بِإِعْتَاقِ نَصِيبِهِ، فَشَهَادَتُهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَإِقْرَارُهُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَجُزْ فَإِقْرَارُهُ بِفَسَادِ نَصِيبِ نَفْسِهِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُصَدَّقُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ خُصُوصًا فِيمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ، وَلَا يُعْتَقُ نَصِيبُ الشَّرِيكِ الشَّاهِدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِعِتْقِ نَصِيبِهِ بَلْ بِفَسَادِ نَصِيبِهِ وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِالْعِتْقِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، إلَّا أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْعِتْقِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ لَمْ يَنْفُذْ، فَيَنْفُذُ إقْرَارُهُ بِالْعِتْقِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ فِي حَقِّهِ وَلَا يَضْمَنُ الشَّاهِدُ لِشَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْتِقْ نَصِيبَ نَفْسِهِ. وَأَمَّا السِّعَايَةُ؛ فَلِأَنَّ فَسَادَ نَصِيبِهِ يُوجِبُ التَّخْرِيجَ إلَى الْعِتْقِ بِالسِّعَايَةِ، وَيَسْعَى الْعَبْدُ لَهُمَا فِي قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا فَيَسْعَى لِلشَّاهِدِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ وَيَسْعَى لِلْمُنْكِرِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُنْكَرُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ السِّعَايَةَ ثَبَتَتْ مَعَ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ عَلَى أَصْلِهِ أَمَّا حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ لِلشَّاهِدِ وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مُوسِرًا؛ فَلِأَنَّ فِي زَعْمِهِ أَنَّ شَرِيكَهُ قَدْ أَعْتَقَ وَأَنَّ لَهُ حَقَّ التَّضْمِينِ أَوْ الِاسْتِسْعَاءِ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّضْمِينُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ فَبَقِيَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ. وَأَمَّا الْمُنْكِرُ؛ فَلِأَنَّ فِي زَعْمِهِ أَنَّ نَصِيبَهُ عَلَى مِلْكِهِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ

عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِإِقْرَارِ شَرِيكِهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُسْتَسْعَى. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَإِنْ كَانَ الْمُنْكِرُ مُوسِرًا فَلَا سِعَايَةَ لِلشَّاهِدِ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ عَتَقَ بِإِعْتَاقِ شَرِيكِهِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا الضَّمَانَ؛ لِأَنَّ السِّعَايَةَ لَا تَثْبُتُ مَعَ الْيَسَارِ عَلَى أَصْلِهِمَا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلِلشَّاهِدِ أَنْ يُسْتَسْعَى. وَأَمَّا الْمُنْكِرُ فَيُسْتَسْعَى عَلَى كُلِّ حَالٍ بِالْإِجْمَاعِ مُعْسِرًا كَانَ أَوْ مُوسِرًا؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ عَلَى مِلْكِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ السِّعَايَةِ، فَإِنْ أَعْتَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ نَصِيبَهُ قَبْلَ الِاسْتِسْعَاءِ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمُنْكِرِ عَلَى مِلْكِهِ، وَكَذَلِكَ نَصِيبُ الشَّاهِدِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ، فَإِذَا أَعْتَقَا نَفَذَ عِتْقُهُمَا وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ مِنْهُمَا، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَسْعَيَا وَأَدَّى السِّعَايَةَ فَالْوَلَاءُ لَهُمَا. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَالْوَلَاءُ فِي نَصِيبِ الشَّاهِدِ مَوْقُوفٌ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الشَّاهِدِ أَنَّ جَمِيعَ الْوَلَاءِ لِشَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ عَلَى أَصْلِهِمَا، وَشَرِيكُهُ يَجْحَدُ ذَلِكَ فَيُسَلِّمُ لَهُ النِّصْفَ وَيُوقِفُ لَهُ النِّصْفَ. وَإِنْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ يَحْلِفُ أَوَّلًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَعْوَى الْعِتْقِ عَلَى صَاحِبِهِ يَدَّعِي وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى صَاحِبِهِ أَوْ السِّعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ، وَصَاحِبُهُ يُنْكِرُ؛ فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الِاسْتِخْلَافِ النُّكُولُ لِيَقْضِيَ بِهِ، وَالنُّكُولُ إمَّا بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ، وَالضَّمَانُ مِمَّا يَصِحُّ بَذْلُهُ وَالْإِقْرَارُ بِهِ، وَإِذَا تَحَالَفَا سَعَى الْعَبْدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ شَرِيكَهُ قَدْ أَعْتَقَ وَأَنَّ لَهُ الضَّمَانَ أَوْ السِّعَايَةَ، وَتَعَذَّرَ التَّضْمِينُ حَيْثُ لَمْ يُصَدِّقْهُ الْآخَرُ فَبَقِيَ الِاسْتِسْعَاءُ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ حَالِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا: فَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ، فَلَا سِعَايَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى شَرِيكِهِ، وَيَزْعُمُ أَنْ لَا سِعَايَةَ لَهُ مَعَ الْيَسَارِ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ مَا أَبْرَأَ الْعَبْدَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ يَسْعَى الْعَبْدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّ شَرِيكَهُ أَعْتَقَ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَلَا حَقَّ إلَّا السِّعَايَةُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا يَسْعَى الْعَبْدُ لِلْمُوسِرِ وَلَمْ يَسْعَ لِلْمُعْسِرِ؛ لِأَنَّ الْمُوسِرَ يَزْعُمُ أَنْ لَا ضَمَانَ عَلَى شَرِيكِهِ وَإِنَّمَا لَهُ السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ، وَالْمُعْسِرُ إنَّمَا يَزْعُمُ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الشَّرِيكِ وَأَنَّهُ قَدْ أَبْرَأَ الْعَبْدَ، ثُمَّ هُوَ عَبْدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَسْعَى وَهُوَ رَقِيقٌ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى فِي حُكْمِ الْمُكَاتَبِ عَلَى أَصْلِهِ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ حِينَ شَهِدَ الْمَوْلَيَانِ فَيَسْعَى وَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ حُرٌّ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ، وَمَنْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ فِي مِلْكِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ. عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا: إنْ كُنْتَ دَخَلْتَ هَذِهِ الدَّارَ أَمْسِ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَقَالَ الْآخَرُ: إنْ لَمْ تَكُنْ دَخَلَتْهَا أَمْسِ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَلَا يَدْرِي أَكَانَ دَخَلَ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ؟ عَتَقَ نِصْفُ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ مُوسِرَيْنِ أَوْ مُعْسِرَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ سَعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ فَلَا يَسْعَى لِأَحَدٍ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا سَعَى لِلْمُعْسِرِ فِي رُبُعِ قِيمَتِهِ وَلَا يَسْعَى لِلْمُوسِرِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ لَا يَسْعَى، وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ يَسْعَى لَهُمَا فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ؛ فَصَارَ كَشَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ عَتَقَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْعَبْدِ مَجَّانًا بِغَيْرِ سِعَايَةٍ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّ الْحَانِثَ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ، فَكَانَ مَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِسُقُوطِ نَفْسِ السِّعَايَةِ مَجْهُولًا فَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ قَدْ عَتَقَ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ حَانِثٌ بِيَقِينٍ إذْ الْعَبْدُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ الدَّارَ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، إذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الدُّخُولِ وَالْعَدَمِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِتَعْيِينِهِ لِلْحِنْثِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَالْمَقْضِيُّ لَهُ بِالْعِتْقِ يَتَعَيَّنُ فَيَقْسِمُ نِصْفَ الْعِتْقِ بَيْنَهُمَا فَإِذَا أَعْتَقَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِيَقِينٍ، تَعَذَّرَ إيجَابُ كُلِّ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ فَتَجِبُ نِصْفُ السِّعَايَةِ، ثُمَّ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ كَانَا مُوسِرَيْنِ أَوْ مُعْسِرَيْنِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ السِّعَايَةِ عِنْدَهُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَخْتَلِفُ فَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ سَعَى لَهُمَا، وَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ لَا يَسْعَى لَهُمَا، وَإِنْ كَانَا أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا يَسْعَى لِلْمُعْسِرِ وَلَا يَسْعَى لِلْمُوسِرِ، وَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ أَنَّ هَذَا كَشَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ هَهُنَا تَيَقَّنَّا بِحُرِّيَّةِ نِصْفِ الْعَبْدِ لِمَا بَيَّنَّا، وَفِي مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ لَمْ نَسْتَيْقِنْ بِالْحُرِّيَّةِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَتَانِ كَاذِبَتَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الَّذِي يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ بِغَيْرِ سِعَايَةٍ مَجْهُولٌ، فَنَعَمْ لَكِنَّ هَذَا

فصل في بيان حكم الإعتاق وبيان وقت ثبوت حكمه

لَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ إذَا كَانَ الْمَقْضِيُّ لَهُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ إذَا كَانَ مَعْلُومًا، يُمْكِنُ رَفْعُ الْجَهَالَةِ الَّتِي مِنْ جَانِبِ الْمَقْضِيِّ لَهُ بِالْقِسْمَةِ وَالتَّوْزِيعِ، وَإِذَا كَانَ مَجْهُولًا لَا يُمْكِنُ. فَإِنْ حَلَفَ رَجُلَانِ عَلَى عَبْدَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَحَدِهِمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِعَبْدِهِ: إنْ كَانَ زَيْدٌ قَدْ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَقَالَ الْآخَرُ لِعَبْدِهِ: إنْ لَمْ يَكُنْ زَيْدٌ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَمَضَى الْيَوْمُ وَلَا يَدْرِي أَدَخَلَ الدَّارَ أَمْ لَمْ يَدْخُلْ؟ لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ مِنْ الْعَبْدَيْنِ؛ لِأَنَّ هَهُنَا الْمَقْضِيَّ لَهُ وَعَلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ، وَلَا وَجْهَ لِلْقَضَاءِ عِنْدَ تَمَكُّنِ الْجَهَالَةِ فِي الطَّرَفَيْنِ، وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الْمَقْضِيُّ لَهُ بِالْعِتْقِ مُتَيَقَّنٌ مَعْلُومٌ وَالْقَضَاءُ فِي مِثْلِهِ جَائِزٌ، كَمَنْ أَعْتَقَ وَاحِدَةً مِنْ جَوَارِيهِ الْعَشْرِ ثُمَّ جَهِلَهَا، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي عَبْدَيْنِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا لِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ لَمْ يَدْخُلْ فُلَانٌ هَذِهِ الدَّارَ الْيَوْمَ وَقَالَ الْآخَرُ لِلْعَبْدِ الْآخَرِ: إنْ دَخَلَ فُلَانٌ هَذِهِ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَمَضَى الْيَوْمُ وَتَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَعْلَمَانِ دَخَلَ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ؟ فَإِنَّ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُهُ، وَيَسْعَى فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ نِصْفَيْنِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ نِصْفَ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ غَيْرُ عَيْنٍ قَدْ عَتَقَ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ فُلَانًا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ الدَّارَ الْيَوْمَ أَوْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ فَكَانَ نِصْفُ أَحَدِهِمَا حُرًّا بِيَقِينٍ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيُقْسَمُ نِصْفُ الْحُرِّيَّةِ بَيْنَهُمَا، فَيُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُهُ وَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ لِلتَّخْرِيجِ إلَى الْعِتْقِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ الْعَبْدَ وَاحِدٌ فَيُعْتَقُ مِنْهُ نِصْفُهُ وَيَسْعَى فِي النِّصْفِ الْبَاقِي، وَهَهُنَا عَبْدَانِ فَيُعْتَقُ نِصْفُ أَحَدِهِمَا غَيْرُ عَيْنٍ وَيُقْسَمُ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ فَيُعْتَقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّبُعُ، وَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْبَاقِي وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ. وَجْهُ قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ وَعَلَيْهِ مَجْهُولَانِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْقَضَاءِ بِالْحُرِّيَّةِ مَعَ جَهَالَتِهِمَا، فَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ الْمَقْضِيَّ لَهُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي عَبْدٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ زَعَمَ أَحَدُهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ أَعْتَقَهُ مُنْذُ سَنَةٍ وَأَنَّهُ هُوَ أَعْتَقَهُ الْيَوْمَ، وَقَالَ شَرِيكُهُ: لَمْ أُعْتِقْهُ وَقَدْ أَعْتَقْتَ أَنْتَ الْيَوْمَ، فَاضْمَنْ لِي نِصْفَ الْقِيمَةِ لِعِتْقِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي زَعَمَ أَنَّ صَاحِبَهُ أَعْتَقَهُ مُنْذُ سَنَةٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنَا أَعْتَقْتُهُ الْيَوْمَ لَيْسَ بِإِعْتَاقٍ بَلْ هُوَ إقْرَارٌ بِالْعِتْقِ وَأَنَّهُ حَصَلَ بَعْدَ إقْرَارِهِ عَلَى شَرِيكِهِ بِالْعِتْقِ فَلَمْ يَصِحَّ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنَا أَعْتَقْتُهُ أَمْسِ وَأَعْتَقَهُ صَاحِبِي مُنْذُ سَنَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِإِعْتَاقِ نَفْسِهِ لَكِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ أَمْسِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِشَرِيكِهِ؛ لِظُهُورِ الْإِعْتَاقِ مِنْهُ بِالْبَيِّنَةِ فَدَعْوَاهُ عَلَى شَرِيكِهِ الْعِتْقَ الْمُتَقَدِّمَ لَا يَمْنَعُ ظُهُورَ الْإِعْتَاقِ مِنْهُ بِالْبَيِّنَةِ وَيَمْنَعُ ظُهُورَهُ بِإِقْرَارِهِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِعْتَاقِ وَبَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِ حُكْمِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْإِعْتَاقِ وَبَيَانُ وَقْتِ ثُبُوتِ حُكْمِهِ فَلِلْإِعْتَاقِ أَحْكَامٌ بَعْضُهَا أَصْلِيٌّ وَبَعْضُهَا مِنْ التَّوَابِعِ. أَمَّا الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْإِعْتَاقِ: فَهُوَ ثُبُوتُ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ وَالْعِتْقُ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ الْقُوَّةِ، يُقَالُ: عَتَقَ الطَّائِرُ، إذَا قَوِيَ فَطَارَ عَنْ وَكْرِهِ، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ: اسْمٌ لِقُوَّةٍ حُكْمِيَّةٍ لِلذَّاتِ يَدْفَعُ بِهَا يَدَ الِاسْتِيلَاءِ وَالتَّمَلُّكِ عَنْ نَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مُقَابِلُهُ وَهُوَ الرِّقُّ عِبَارَةٌ عَنْ الضَّعْفِ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ: ثَوْبٌ رَقِيقٌ أَيْ: ضَعِيفٌ وَفِي مُتَعَارَفِ الشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ الضَّعْفُ الْحُكْمِيُّ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ الْآدَمِيُّ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ، وَعَلَى عِبَارَةِ التَّحْرِيرِ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلتَّحْرِيرِ: هُوَ ثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيرَ هُوَ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ وَهِيَ الْخُلُوصُ يُقَالُ: طِينٌ حُرٌّ أَيْ: خَالِصٌ وَأَرْضٌ حُرَّةٌ، إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا خَرَاجٌ، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ يُرَادُ بِهَا الْخُلُوصُ عَنْ الْمِلْكِ وَالرِّقِّ، وَهَذَا الْحُكْمُ يَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْإِعْتَاقِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ تَنْجِيزًا ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ لِلْحَالِ وَإِنْ كَانَ تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ أَوْ إضَافَةٍ إلَى وَقْتٍ يَثْبُتُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالْوَقْتِ، وَيَكُونُ الْمَحَلُّ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَالِكِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا فِي التَّعْلِيقِ بِشَرْطِ الْمَوْتِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ التَّدْبِيرُ عِنْدَنَا، وَكَذَا الِاسْتِيلَادُ، ثُمَّ هَذَا الْحُكْمَ قَدْ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ وَقَدْ يَثْبُتُ فِي بَعْضِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَخْلُو. إمَّا إنْ كَانَ فِي الصِّحَّةِ وَإِمَّا إنْ كَانَ فِي الْمَرَضِ. فَإِنْ كَانَ فِي الصِّحَّةِ عَتَقَ كُلُّهُ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ مَالٌ آخَرَ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنًا أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ أَوْ الْغَرِيمِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ حَالَةَ الصِّحَّةِ. فَالْإِعْتَاقُ صَادَفَ خَالِصَ مِلْكِهِ

لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ فَنَفَذَ. وَإِنْ كَانَ فِي الْمَرَضِ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ آخَرَ سِوَى الْعَبْدِ، وَالْعَبْدُ كُلُّهُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ يُعْتَقُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ خَالِصُ حَقِّهِ لَا حَقَّ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ فِي الثُّلُثَيْنِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً عَلَى أَعْمَالِكُمْ» وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ كُلُّهُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ الزِّيَادَةَ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّ الْوَرَثَةِ فَإِذَا أَجَازُوا فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ؛ فَيُعْتَقُ كُلُّهُ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا الزِّيَادَةَ يُعْتَقُ مِنْهُ بِقَدْرِ ثُلُثِ مَالِهِ وَيَسْعَى فِي الْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى الْعَبْدِ فَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ عَتَقَ كُلُّهُ؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا يُعْتَقُ ثُلُثُهُ وَيَسْعَى فِي الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ «رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، فَأَجَازَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُلُثَهُ وَاسْتَسْعَاهُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ» فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ الْإِعْتَاقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ حَيْثُ أَجَازَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ حَيْثُ اعْتَبَرَهُ مِنْ الثُّلُثِ، وَعَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: لَا سِعَايَةَ فِي الشَّرِيعَةِ حَيْثُ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا لَقِيمَتِهِ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَى الْعَبْدِ أَوْ لَهُ مَالٌ آخَرُ لَكِنَّ الدَّيْنَ مُسْتَغْرِقٌ لِمَالِهِ فَأَعْتَقَ يَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ لِلْغَرِيمِ رَدًّا لِلْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَتَجِبُ السِّعَايَةُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْأَعْرَجِ «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَسْعَى فِي الدَّيْنِ» ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ لِقِيمَةِ الْعَبْدِ بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَانِ يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْغَرِيمِ رَدًّا لِلْوَصِيَّةِ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ ثُمَّ نِصْفُهُ الثَّانِي عَتَقَ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ عَتَقَ جَمِيعُ نِصْفِهِ الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ تُجِزْ يُعْتَقُ ثُلُثُ النِّصْفِ الثَّانِي مَجَّانًا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَهُوَ سُدُسُ الْكُلِّ وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ النِّصْفِ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُعْتَقُ سُدُسُهُ مَجَّانًا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَيَسْعَى فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسِهِ: ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِلْغَرِيمِ وَسَهْمَانِ لِلْوَرَثَةِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدَانِ فَأَعْتَقَهُمَا وَهُوَ مَرِيضٌ، فَهُوَ عَلَى التَّفَاصِيلِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ سِوَاهُمَا وَهُمَا يَخْرُجَانِ مِنْ الثُّلُثِ، عَتَقَا جَمِيعًا بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجَا مِنْ الثُّلُثِ وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ الزِّيَادَةَ فَكَذَلِكَ؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا الزِّيَادَةَ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ ثُلُثِ مَالِهِ وَيَسْعَى فِي الْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُمَا فَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ عَتَقَا جَمِيعًا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُهُ مَجَّانًا وَيَسْعَى فِي الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ، فَيَجْعَلُ كُلَّ رَقَبَةٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ؛ لِحَاجَتِنَا إلَى الثُّلُثِ فَيَصِيرُ جُمْلَةُ الْمَالِ وَهُوَ الْعَبْدَانِ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ فَيَخْرُجُ مِنْهَا سِهَامُ الْعِتْقِ وَسِهَامُ السِّعَايَةِ لِلْعَبْدَيْنِ: سَهْمَانِ مِنْ سِتَّةٍ، وَلِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ؛ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ السِّعَايَةِ، يُجْعَلُ هُوَ مُسْتَوْفِيًا لِوَصِيَّتِهِ مُتْلِفًا لِمَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ، وَالتَّلَفُ يَدْخُلُ عَلَى الْوَرَثَةِ وَعَلَى الْعَبْدِ الْبَاقِي فَيُجْمَعُ نَصِيبُ الْوَرَثَةِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَنَصِيبُ الْعَبْدِ الْحَيِّ وَذَلِكَ سَهْمٌ فَيَكُونُ خَمْسَةً؛ فَيُعْتَقُ مِنْ الْعَبْدِ الْحَيِّ خُمُسُهُ، وَيَسْعَى فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْحَيِّ سَهْمٌ، وَالْمَيِّتُ قَدْ اسْتَوْفَى سَهْمًا فَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْوَصِيَّةِ سَهْمَانِ؛ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبِيدُ ثَلَاثَةً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُمْ، يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُهُ وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فَتَصِيرُ الْعَبِيدُ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ: سِتَّةُ أَسْهُمٍ لِلْوَرَثَةِ وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِلْعَبِيدِ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ السِّعَايَةِ صَارَ مُتْلِفًا لِمَا عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ مُسْتَوْفِيًا لِوَصِيَّتِهِ، فَيُجْمَعُ نَصِيبُ الْوَرَثَةِ وَذَلِكَ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَنَصِيبُ الْعَبْدَيْنِ سَهْمَانِ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ أَسْهُمٍ، فَيُجْعَلُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ فَيُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ رُبُعُهُ وَيَسْعَى فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ؛ فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَلِلْعَبْدَيْنِ سَهْمَانِ وَالْمَيِّتُ اسْتَوْفَى سَهْمًا؛ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. فَإِنْ مَاتَ اثْنَانِ يُجْمَعُ نَصِيبُ الْوَرَثَةِ سِتَّةٌ وَلِلْحَيِّ سَهْمٌ فَيَكُونُ سَبْعَةٌ فَيُعْتَقُ مِنْ الْحَيِّ سُبُعُهُ وَيَسْعَى فِي سِتَّةِ أَسْبَاعِ قِيمَتِهِ؛ فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ سِتَّةٌ وَلِلْحَيِّ سَهْمٌ وَالْمَيِّتَانِ اسْتَوْفَيَا سَهْمَيْنِ؛ فَحَصَلَتْ الْوَصِيَّةُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَالسِّعَايَةُ سِتَّةٌ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ، يَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ فِي قِيمَتِهِ لِلْغُرَمَاءِ رَدًّا لِلْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ وَلَا وَصِيَّةَ إلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ بِأَنْ كَانَ أَلْفًا وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ. يَسْعَى

كُلُّ وَاحِدٍ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ ثُمَّ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَصِيَّةٌ، فَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ عَتَقَ النِّصْفُ الْبَاقِي مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ، وَإِنْ لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُ نِصْفِ الْبَاقِي مَجَّانًا وَهُوَ السُّدُسُ وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ النِّصْفِ، فَفِي الْحَاصِلِ عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ سُدُسُهُ مَجَّانًا وَيَسْعَى فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسِهِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. الْمَرِيضُ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُ، فَأَمْرُ الْعَبْدِ فِي الْحَالِ فِي أَحْكَامِ الْحُرِّيَّةِ مِنْ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا مَوْقُوفٌ فَإِنْ بَرِئَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَارَ حُرًّا مِنْ حِينِ أَعْتَقَ، وَإِنْ مَاتَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ حُرٌّ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ. وَأَمَّا الَّذِي هُوَ مِنْ التَّوَابِعِ فَنَحْوُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالْإِرْثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَكِنْ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ الْأَحْكَامِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْإِعْتَاقِ بَلْ هِيَ مِنْ التَّوَابِعِ، وَالثَّمَرَاتُ تَثْبُتُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ دُونَ بَعْضٍ كَالْإِعْتَاقِ الْمُضَافِ إلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ: الْإِعْتَاقُ الْمُضَافُ إلَى الْمَجْهُولِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ جَهَالَةَ الْمُعْتِقِ إمَّا إنْ كَانَتْ أَصْلِيَّةً وَإِمَّا إنْ كَانَتْ طَارِئَةً، فَإِنْ كَانَتْ أَصْلِيَّةً وَهِيَ أَنْ تَكُونَ الصِّيغَةُ مِنْ الِابْتِدَاءِ مُضَافَةً إلَى أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ غَيْرُ عَيْنٍ فَيُجْهَلُ الْمُضَافُ إلَيْهِ؛ لِمُزَاحَمَةِ صَاحِبِهِ إيَّاهُ فِي الِاسْمِ، فَصَاحِبُهُ الْمُزَاحِمُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِلْإِعْتَاقِ أَوْ لَا يَكُونُ مُحْتَمِلًا لَهُ، وَالْمُحْتَمِلُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ فِيهِ أَوْ مِمَّنْ لَا يَنْفُذُ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْإِعْتَاقِ وَهُوَ مِمَّنْ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ فِيهِ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدَيْهِ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، أَوْ يَقُولَ: هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا، أَوْ يَقُولَ سَالِمٌ حُرٌّ أَوْ بَرِيعٌ، لَا يَنْوِي أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي. بَيَانِ كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّصَرُّفِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ الْكَيْفِيَّةُ، فَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ فِي الْأَصْلِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى، وَنَوْعٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى: إنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهُمَا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ فِي أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِخْدَامِ الْحُرِّ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَلَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمَا ويستكسبهما وَتَكُونُ الْغَلَّةُ وَالْكَسْبُ لِلْمَوْلَى، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا. وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِمَا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ، فَالْجِنَايَةُ لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ مِنْ الْمَوْلَى وَإِمَّا إنْ كَانَتْ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، وَلَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، فَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْ الْمَوْلَى فَإِنْ كَانَتْ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ بِأَنْ قَطَعَ يَدَ الْعَبْدَيْنِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ نُزُولِ الْعِتْقِ حَيْثُ جَعَلَهُمَا فِي حُكْمِ الْمَمْلُوكَيْنِ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ، وَسَوَاءٌ قَطَعَهُمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يُبْطِلُ الْخِيَارَ وَلَا يَكُونُ ثَابِتًا، بِخِلَافِ الْقَتْلِ؛ لِمَا نَذْكُرُ، وَإِنْ كَانَتْ جِنَايَةً عَلَى النَّفْسِ بِأَنْ قَتَلَهُمَا فَإِنْ قَتَلَهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ، فَالْأَوَّلُ عَبْدٌ وَالثَّانِي حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِ الْأَوَّلِ فَقَدْ تَعَيَّنَ الثَّانِي لِلْعِتْقِ فَإِذَا قَتَلَهُ فَقَدْ قَتَلَ حُرًّا، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَتَكُونُ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَصِيرُ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ وَلَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ وَالْقَاتِلُ لَا يَرِثُ، وَإِنْ قَتَلَهُمَا مَعًا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَلَى الْمَوْلَى أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْحُرُّ مِنْهُمَا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَشَاعَتْ حُرِّيَّةٌ وَاحِدَةٌ فِيهِمَا، وَهَذَا يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ بِنُزُولِ الْعِتْقِ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ كَانَتْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِأَنْ قَطَعَ إنْسَانٌ يَدَ الْعَبْدَيْنِ فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْعَبِيدِ، وَذَلِكَ نِصْفُ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَكِنْ يَكُونُ أَرْشُهُمَا لِلْمَوْلَى سَوَاءٌ قَطَعَهُمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يُبْطِلُ خِيَارَ الْمَوْلَى، وَهَذَا يُوجِبُ الْقَوْلَ بِعَدَمِ نُزُولِ الْعِتْقِ إذْ لَوْ نَزَلَ، لَكَانَ الْوَاجِبُ أَرْشَ يَدِ عَبْدٍ وَحُرٍّ وَهُوَ نِصْفُ قِيمَةِ عَبْدٍ وَنِصْفُ دِيَةِ حُرٍّ، وَإِنْ كَانَتْ فِي النَّفْسِ فَالْقَاتِلُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ وَاحِدًا وَإِمَّا إنْ كَانَ اثْنَيْنِ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَإِنْ قَتَلَهُمَا مَعًا فَعَلَى الْقَاتِلِ نِصْفُ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، نِصْفُ قِيمَةِ هَذَا وَنِصْفُ قِيمَةِ ذَاكَ وَيَكُونُ لِلْمَوْلَى، وَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ هَذَا وَنِصْفُ دِيَةِ ذَاكَ وَتَكُونُ لِوَرَثَتِهِمَا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ نَازِلٌ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ، لَكَانَ الْوَاجِبُ فِي قَتْلِهِمَا مَعًا قِيمَةَ عَبْدَيْنِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ بَلْ وَجَبَ دِيَةُ حُرٍّ وَقِيمَةُ عَبْدٍ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ وَقَدْ قَتَلَ حُرًّا وَعَبْدًا، وَالْوَاجِبُ بِقَتْلِ الْحُرِّ الدِّيَةُ وَبِقَتْلِ الْعَبْدِ الْقِيمَةُ، وَالدِّيَةُ لِلْوَرَثَةِ وَالْقِيمَةُ لِلْمَوْلَى وَإِنَّمَا انْقَسَمَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَجِبُ دِيَتُهُ فِي حَالٍ وَقِيمَتُهُ فِي حَالٍ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ حُرٌّ وَعَبْدٌ فَيَنْقَسِمُ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ كَمَا هُوَ أَصْلُ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ قَتَلَهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ يَجِبُ عَلَى

الْقَاتِلِ قِيمَةُ الْأَوَّلِ لِلْمَوْلَى وَدِيَةُ الثَّانِي لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْأَوَّلِ يُوجِبُ تَعَيُّنَ الثَّانِي لِلْعِتْقِ؛ فَيَتَعَيَّنُ الْأَوَّلُ لِلْمَوْلَى وَقَدْ قَتَلَ حُرًّا وَعَبْدًا خَطَأً، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ اثْنَيْنِ فَقَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلًا فَإِنْ وَقَعَ قَتْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعًا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ الْقِيمَةُ نِصْفُهَا لِلْوَرَثَةِ وَنِصْفُهَا لِلْمَوْلَى، وَإِيجَابُ الْقِيمَتَيْنِ يُوجِبُ قِيمَةً وَدِيَةً عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَتَلَ عَبْدًا خَطَأً وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْقِيمَةَ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِنُزُولِ الْعِتْقِ فَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ مَنْ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ إذْ لَا يُعْلَمُ مَنْ الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الدِّيَةِ مَعَ الشَّكِّ، وَالْقِيمَةُ مُتَيَقِّنَةٌ فَتَجِبُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْقَاتِلُ وَاحِدًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَنْ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ لَا جَهَالَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْجَهَالَةُ فِيمَنْ لَهُ. وَأَمَّا انْقِسَامُ الْقِيمَتَيْنِ؛ فَلِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِأَحَدِ الْبَدَلَيْنِ هُوَ الْمَوْلَى وَالْمُسْتَحِقُّ لِلْبَدَلِ الْآخَرِ هُوَ الْوَارِثُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ فِي حَالٍ وَلَا يَسْتَحِقُّ فِي حَالٍ فَوُجُوبُ الْقِيمَتَيْنِ حُجَّةُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَانْقِسَامُهُمَا حُجَّةُ الْقَوْلِ الْآخَرِ. وَإِنْ وَقَعَ قَتْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ فَعَلَى قَاتِلِ الْأَوَّلِ الْقِيمَةُ لِلْمَوْلَى وَعَلَى قَاتِلِ الثَّانِي الدِّيَةُ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا قَتَلَ عَبْدًا وَالْآخَرُ قَتَلَ حُرًّا؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْأَوَّلِ أَوْجَبَ تَعَيُّنَ الثَّانِي لِلْحُرِّيَّةِ وَالْأَوَّلِ لِلرِّقِّ. وَلَوْ كَانَ الْمَمْلُوكَانِ أَمَتَيْنِ فَوَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدًا أَوْ وَلَدَتْ إحْدَاهُمَا وَلَدًا فَاخْتَارَ الْمَوْلَى عِتْقَ إحْدَاهُمَا عَتَقَتْ هِيَ وَعَتَقَ وَلَدُهَا، سَوَاءٌ كَانَ لِلْأُخْرَى وَلَدًا أَوْ لَمْ يَكُنْ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ التَّخْيِيرِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ كَانَ نَازِلًا فِي غَيْرِ الْعَيْنِ مِنْهُمَا، وَالْبَيَانُ تَعْيِينٌ لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ؛ فَعَتَقَتْ الْمُعَيَّنَةُ وَعَتَقَ وَلَدُهَا تَبَعًا لَهَا. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ التَّعْلِيقِ؛ فَلِأَنَّ الْعِتْقَ إنْ لَمْ يَنْزِلْ، فَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبُ النُّزُولِ فِي إحْدَاهُمَا فَيَسْرِي إلَى وَلَدِهَا كَالِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ. وَلَوْ مَاتَتْ الْأَمَتَانِ مَعًا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ وَقَدْ وَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدًا خُيِّرَ الْمَوْلَى فَيَخْتَارُ عِتْقَ أَيِّ الْوَلَدَيْنِ شَاءَ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا مَاتَتَا مَعًا لَمْ تَتَعَيَّنْ إحْدَاهُمَا لِلْحُرِّيَّةِ فَحَدَثَ الْوَلَدَانِ عَلَى وَصْفِ الْأُمِّ؛ فَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى فِيهِمَا كَمَا كَانَ يُخَيَّرُ فِي الْأُمِّ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الْوَلَدَيْنِ قَبْلَ الْآخَرِ مَعَ بَقَاءِ الْأَمَتَيْنِ، لَا يُلْتَفَتُ إلَى ذَلِكَ وَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَوْتِهِ تَعْيِينٌ إذْ الْحُرِّيَّةُ إنَّمَا تَتَعَيَّنُ فِيهِ بِتَعَيُّنِهَا فِي أُمِّهِ وَحُكْمُ التَّعْيِينِ فِي الْأُمِّ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَهَا مُمْكِنٌ فَيُخَيِّرُ الْمَوْلَى فِيهِمَا فَأَيُّهُمَا اخْتَارَ عِتْقَهَا فَعَتَقَتْ، عَتَقَ وَلَدُهَا. وَلَوْ قَتَلَ الْأَمَتَيْنِ مَعًا رَجُلٌ، خُيِّرَ الْمَوْلَى فِي الْوَلَدَيْنِ؛ لِمَا قُلْنَا فِي الْمَوْتِ، وَأَيُّهُمَا اخْتَارَ عِتْقَهُ فَعَتَقَ، لَا يَرِثُ مِنْ أَرْشِ أُمِّهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَتَقَ بِاخْتِيَارِ الْعِتْقِ فِيهِ وَذَلِكَ يَتَأَخَّرُ عَنْ الْمَوْتِ فَلَا يَرِثُ شَيْئًا بَلْ يَكُونُ الْكُلُّ لِلْمَوْلَى، وَهَذَا نَصُّ مَذْهَبِ التَّعْلِيقِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَوْ كَانَ نَازِلًا فِي إحْدَاهُمَا لِحُدُوثِهِمَا عَلَى وَصْفِ الْأُمِّ، لَكَانَ الِاخْتِيَارُ تَعْيِينًا لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ فَكَانَ عِتْقُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى مَوْتِ الْأُمِّ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَرِثَ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ وُطِئَتْ الْأَمَتَانِ بِشُبْهَةٍ قَبْلَ اخْتِيَارِ الْمَوْلَى، يَجِبُ عُقْرُ أَمَتَيْنِ، وَيَكُون لِلْمَوْلَى كَالْأَرْشِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ التَّعْلِيقَ إذْ لَوْ كَانَ تَنْجِيزًا، لَكَانَ الْوَاجِبُ عُقْرَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ وَلَكَانَ نِصْفُ ذَلِكَ لِلْأَمَتَيْنِ وَالنِّصْفُ لِلْمَوْلَى، وَلَمَّا كَانَ كَسْبُهُمَا لَهُ وَالْأَرْشُ فَالْعُقْرُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ بِدُونِ مِلْكِ الْأَصْلِ، وَقَدْ يَمْلِكُ الْكَسْبَ بِدُونِ مِلْكِ الْأَصْلِ كَالْغَاصِبِ فَلَمَّا كَانَ الْكَسْبُ لَهُ فَالْأَرْشُ وَالْعُقْرُ أَوْلَى، وَلَوْ بَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا، أَمَّا عَلَى قَوْلِ التَّنْجِيزِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ إذَا نَزَلَ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ مِنْهُمَا صَارَ جَامِعًا بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ التَّعْلِيقِ فَلِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ قَدْ ثَبَتَ وَهُوَ انْعِقَادُ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ لِأَحَدِهِمَا فَيَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ، كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ فِي الْبَيْعِ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الثَّمَنِ. وَلَوْ أَنَّهُ بَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَسَلَّمَهُمَا إلَى الْمُشْتَرِي فَأَعْتَقَهُمَا الْمُشْتَرِي فَيُقَالُ لِلْبَائِعِ: اخْتَرْ الْعِتْقَ فِي أَحَدِهِمَا، وَأَيُّهُمَا اخْتَارَ عِتْقَهُ، عَتَقَ الْآخَرِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا قَبَضَهُمَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَقَدْ مَلَكَ أَحَدَهُمَا وَنَفَذَ إعْتَاقُهُ فِيهِ، فَإِذَا عَيَّنَ الْبَائِعُ أَحَدَهُمَا لِلْعِتْقِ، تَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْمِلْكِ الْفَاسِدِ، فَيَنْفُذُ فِيهِ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا بُدِئَ بِتَخْيِيرِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْهُ حَصَلَ فِي مَجْهُولٍ، فَمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ أَحَدُهُمَا لِلْحُرِّيَّةِ لَا يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْمِلْكِ الْفَاسِدِ، فَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ قَبْلَ الْبَيَانِ قَامَتْ الْوَرَثَةُ مَقَامَهُ، وَيُقَالُ لَهُمْ: بَيِّنُوا فَإِنْ بَيَّنُوا فِي أَحَدِهِمَا، عَتَقَ الْآخَرُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَا يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ يَنْقَسِمَ الْعِتْقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى كَمَا إذَا مَاتَ قَبْلَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الِانْقِسَامِ أَنْ لَا يَزُولَ الْمِلْكُ عَنْ أَحَدِهِمَا لِاسْتِحَالَةِ انْقِسَامِ الْحُرِّيَّةِ عَلَى الْحُرِّ، وَالْمِلْكُ قَدْ زَالَ عَنْ أَحَدِهِمَا؛ فَتَعَذَّرَ الِانْقِسَامُ وَبَقِيَ الْخِيَارُ فَقَامَ الْوَارِثُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فَإِنْ قِيلَ: الْخِيَارُ عِنْدَكُمْ لَا يُوَرَّثُ

فَكَيْفَ وَرَّثْتُمْ هَذَا الْخِيَارَ وَهَذَا مِنْكُمْ تَنَاقُضٌ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْخِيَارَ لَا يُوَرَّثُ عِنْدَنَا بَلْ يَثْبُتُ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً لَا بِطَرِيقِ الْإِرْثِ بَلْ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا قِيمَةَ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ فَكَانَ لَهُمْ التَّعْيِينُ كَمَا كَانَ لِلْبَائِعِ، وَهَذَا كَمَا قَالُوا فِيمَنْ بَاعَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ، عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ وَقَبَضَهُمَا الْمُشْتَرِي فَمَاتَا فِي يَدِهِ ثُمَّ مَاتَ الْبَائِعُ، أَنَّ لِوَرَثَةِ الْبَائِعِ الِاخْتِيَارَ ابْتِدَاءً لَا بِطَرِيقِ الْإِرْثِ كَذَا هَذَا، فَإِنْ لَمْ يُعْتِقْ الْمُشْتَرِي حَتَّى مَاتَ الْبَائِعُ، لَمْ يَنْقَسِمْ الْعِتْقُ فِيهِمَا حَتَّى يَفْسَخَ الْقَاضِي الْبَيْعَ، فَإِذَا فَسَخَهُ انْقَسَمَ وَعَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ فَوَاتِ شَرْطِ الِانْقِسَامِ وَهُوَ عَدَمُ زَوَالِ الْمِلْكِ فِي أَحَدِهِمَا، وَالْمِلْكُ قَدْ زَالَ عَنْ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ فَتَعَذَّرَ التَّقْسِيمُ وَالتَّوْزِيعُ، إلَّا أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ وَاجِبُ الْفَسْخِ حَقًّا لِلشَّرْعِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ، وَفَسْخُهُ بِفِعْلِ الْقَاضِي أَوْ بِتَرَاضِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَإِذَا فَسَخَ عَادَ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَشَاعَ الْعِتْقُ فِيهِمَا وَعَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ. وَلَوْ وَهَبَهُمَا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِمَا أَوْ تَزَوَّجَ عَلَيْهِمَا يُخَيَّرُ فَيَخْتَارُ الْعِتْقَ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ وَتَجُوزُ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْإِمْهَارُ فِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّةَ أَحَدِهِمَا أَوْ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ وَهُوَ انْعِقَادُ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ فِي أَحَدِهِمَا عَلَى اخْتِلَافِ الْكَيْفِيَّتَيْنِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَمَعَ فِي الْهِبَةِ أَوْ فِي الصَّدَقَةِ أَوْ فِي النِّكَاحِ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ يَصِحُّ فِي الْعَبْدِ، وَكَذَا إذَا جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ مُدَبَّرٍ وَقِنٍّ يَصِحّ فِي الْقِنِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي الْبَيْعِ إنَّمَا يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ جَعَلَ قَبُولَ الْبَيْعِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطًا لِصِحَّةِ قَبُولِهِ فِي الْآخَرِ وَأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لَا تُبْطِلُهَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فَإِنْ قِيلَ: إذَا قَبَضَهُمَا الْمَوْهُوبُ لَهُ أَوْ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ أَوْ الْمَرْأَةُ، فَقَدْ زَالَ الْمِلْكُ عَنْ أَحَدِهِمَا فَكَيْفَ يُخَيِّرُ الْمَوْلَى؟ فَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نَقُولُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ بَلْ زَوَالُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى وُجُودِ الِاخْتِيَارِ، فَإِذَا تَعَيَّنَ أَحَدُهُمَا لِلْعِتْقِ بِاخْتِيَارِهِ الْعِتْقَ يَزُولُ الْمِلْكُ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ الْعِتْقَ فِي أَحَدِهِمَا بَطَلَتْ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ فِيهِمَا وَبَطَلَ إمْهَارُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ فَقَدْ شَاعَ الْعِتْقُ فِيهِمَا لِوُجُودِ شَرْطِ الشِّيَاعِ؛ فَيُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مِنْ الْغَيْرِ. وَلَوْ أَسَرَهُمَا أَهْلُ الْحَرْبِ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَخْتَارَ عِتْقَ أَحَدِهِمَا، وَيَكُونُ الْآخَرُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَمْ يَمْلِكُوهُمَا بِالْأَسْرِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ أَوْ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ لِأَحَدِهِمَا ثَابِتٌ وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ التَّمَلُّكِ بِالْأَسْرِ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُونَ الْمُكَاتَبَ وَالْمُدَبَّرَ بِالْأَسْرِ كَمَا لَا يَمْلِكُونَ الْحُرَّ، وَإِذَا لَمْ يُمْلَكَا بِالْأَسْرِ بَقِيَا عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى وَلَهُ خِيَارُ الْعِتْقِ، فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا بَقِيَ الْآخَرُ عَبْدًا فَيَمْلِكُهُ أَهْلُ الْحَرْبِ فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ الْمَوْلَى حَتَّى مَاتَ بَطَلَ مِلْكُ أَهْلِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ الْمَوْلَى شَاعَتْ الْحُرِّيَّةُ وَعَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ فَتَعَذَّرَ التَّمَلُّكُ، وَلَوْ أَسَرَ أَهْلُ الْحَرْبِ أَحَدَهُمَا لَمْ يَمْلِكُوهُ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ أَوْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْحُرِّيَّة وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ التَّمَلُّكِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ إيَّاهُ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِلْمِلْكِ فَقَدْ بَاعَ مِلْكَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَصَحَّ. وَلَوْ اشْتَرَاهُمَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ تَاجِرٌ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَخْتَارَ عِتْقَ أَيِّهِمَا شَاءَ وَيَأْخُذَ الْآخَرَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ كَانَ ثَابِتًا لِلْمَوْلَى قَبْلَ الْبَيْعِ، فَإِذَا بَاعُوا فَقَدْ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي مَا كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ خِيَارِ الْعَمَلِ فَإِذَا اخْتَارَ عِتْقَ أَحَدِهِمَا صَحَّ مِلْكُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَالْمُشْتَرِي مِنْهُمْ فِي الْآخَرِ؛ فَيَأْخُذُهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَإِنْ اشْتَرَى التَّاجِرُ أَحَدَهُمَا فَاخْتَارَ الْمَوْلَى عِتْقَهُ، عَتَقَ وَبَطَلَ الشِّرَاءُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وِلَايَةَ الِاخْتِيَارِ قَائِمَةٌ لِلْمَوْلَى، فَإِنْ أَخَذَهُ الْمَوْلَى مِنْ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِالثَّمَنِ عَتَقَ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ أَخْذَهُ إيَّاهُ إعَادَةٌ لَهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ كَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ. وَلَوْ قَالَ فِي صِحَّتِهِ لِعَبْدَيْهِ: أَحَدُكُمَا حُرُّ ثُمَّ مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ فَاخْتَارَ عِتْقَ أَحَدِهِمَا يُعْتَقُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا أَلْفًا وَقِيمَةُ الْآخَرِ أَلْفَيْنِ فَبَيْنَ الْعِتْقِ فِي الَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفَانِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إضَافَةَ الْعِتْقِ إلَى الْمَجْهُولِ إيقَاعٌ وَتَنْجِيزٌ، إذْ لَوْ كَانَ تَعْلِيقًا وَاقْتَصَرَ الْعِتْقُ عَلَى حَالَةِ الْمَرَضِ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ، كَمَا لَوْ أَنْشَأَ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ. وَلِلْعَبْدَيْنِ حَقُّ مُخَاصَمَةِ الْمَوْلَى فَلَهُمَا أَنْ يَرْفَعَاهُ إلَى الْقَاضِي وَيَسْتَعْدِيَا عَلَيْهِ، وَإِذَا اسْتَعْدَيَا عَلَيْهِ أَعَدَاهُمَا الْقَاضِي وَأَمَرَهُ الْقَاضِي، بِالْبَيَانِ أَعْنِي اخْتِيَارَ أَحَدِهِمَا وَجَبَرَهُ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ لَوْ امْتَنَعَ. أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ التَّنْجِيزِ؛ فَلِأَنَّ الْعِتْقَ نَازِلٌ فِي أَحَدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ عَيْنٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْحُرُّ وَالْحُرِّيَّةُ حَقُّهُ وَلَهُ فِيهَا حَقٌّ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ التَّعْلِيقِ؛ فَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ إنْ لَمْ تَثْبُتْ فِي أَحَدِهِمَا فَقَدْ يَثْبُتُ حَقُّ

الْحُرِّيَّةِ أَعْنِي الْعَقْدَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ أَصْلًا وَهَذَا حَقُّهُ وَلَهُ فِيهِ حَقٌّ، وَالْبَيَانُ طَرِيقُ اسْتِيفَاءِ هَذَا الْحَقِّ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبِيلٍ مِنْ الْخُصُومَةِ وَالْمُطَالَبَةِ بِالْبَيَانِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْبَيَانُ إلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِجْمَالَ مِنْهُ فَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ، كَمَا فِي بَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْتَرَكِ فِي النُّصُوصِ وَكَمَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ أَوْ بَاعَ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ كَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ. كَذَا هَذَا. الْبَيَانُ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: نَصٌّ وَدَلَالَةٌ وَضَرُورَةٌ. أَمَّا النَّصُّ: فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ الْمَوْلَى لِأَحَدِهِمَا عَيْنًا: إيَّاكَ عَنَيْتُ أَوْ نَوَيْتُ أَوْ أَرَدْتُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرْت، أَوْ اخْتَرْتُ أَنْ تَكُونَ حُرًّا بِاللَّفْظِ الَّذِي قُلْتُ، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ بِذَلِكَ اللَّفْظِ الَّذِي قُلْتُ أَوْ بِذَلِكَ الْإِعْتَاقِ، أَوْ أَعْتَقْتُكَ بِالْعِتْقِ السَّابِقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ، فَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَعْتَقْتُكَ بِالْعِتْقِ السَّابِقِ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ عِتْقًا مُسْتَأْنَفًا، عَتَقَا جَمِيعًا، وَهَذَا بِالْإِعْتَاقِ الْمُسْتَأْنَفِ وَذَاكَ بِاللَّفْظِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّ إنْشَاءَ الْعِتْقِ فِي أَحَدِهِمَا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ اخْتِيَارُ الْعِتْقِ فِي الْآخَرِ دَلَالَةً؛ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ بِهِ الَّذِي لَزِمَنِي بِقَوْلِي: أَحَدُكُمَا حُرٌّ يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: أَعْتَقْتُكَ عَلَى اخْتِيَارِ الْعِتْقِ، أَيْ اخْتَرْتُ عِتْقَكَ. وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يُخْرِجَ الْمَوْلَى أَحَدَهُمَا عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ أَوْ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالصَّدَقَةِ أَوْ بِإِنْشَاءِ الْعِتْقِ، أَوْ يَرْهَنَ أَحَدَهُمَا أَوْ يُؤَاجِرَ أَوْ يُكَاتِبَ أَوْ يُدَبِّرَ أَوْ يَسْتَوْلِدَ إنْ كَانَتْ أَمَةً؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَنْ خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فَفَعَلَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى اخْتِيَارِهِ أَحَدَهُمَا، يُجْعَلُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُ دَلَالَةً وَيَقُومُ ذَلِكَ مَقَامَ النَّصِّ كَأَنَّهُ قَالَ: اخْتَرْتُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِبَرِيرَةَ: «إنْ وَطِئَكِ زَوْجُكِ، فَلَا خِيَارَ لَكِ» لِمَا أَنَّ تَمْكِينَهَا زَوْجَهَا مِنْ الْوَطْءِ دَلِيلُ اخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا لَا نَفْسَهَا؛ فَصَارَ هَذَا أَصْلًا فِي الْبَابِ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ كُلُّهَا فِي أَحَدِهِمَا دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْعِتْقِ فِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّ مِنْهَا مَا يُنَافِي اخْتِيَارَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فِي الْمُتَصَرَّفِ فِيهِ وَهِيَ التَّصَرُّفَاتُ الْمُزِيلَةُ لِلْمِلْكِ وَمِنْهَا مَا لَا يُنَافِي اخْتِيَارَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فِي الْمُتَصَرَّفِ فِيهِ، لَكِنَّ اخْتِيَارَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فِيهِ يُبْطِلُهُ: وَهُوَ الرَّهْنُ وَالْإِجَارَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالتَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ. وَالْعَاقِلُ يَقْصِدُ صِحَّةَ تَصَرُّفَاتِهِ وَسَلَامَتِهَا عَنْ الِانْتِقَاضِ وَالْبُطْلَانِ؛ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى كِلَا النَّوْعَيْنِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ فِي أَحَدِهِمَا دَلِيلًا عَلَى اخْتِيَارِهِ الْعِتْقَ الْمُبْهَمَ فِي الْآخَرِ، وَاخْتِيَارُهُ الْعِتْقَ الْمُبْهَمَ فِي أَحَدِهِمَا عَيْنًا شَرْطٌ لِنُزُولِ الْعِتْقِ فِيهِ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ. وَهَذَا التَّخْرِيجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ فِي الْعَيْنِ فِيهِمَا. فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِنُزُولِ الْعِتْقِ فِي أَحَدِهِمَا غَيْرُ عَيْنٍ فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَا صِحَّةِ لَهَا بِدُونِ الْمِلْكِ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهَا يَكُونُ اخْتِيَارًا لِلْمِلْكِ فِي الْمُتَصَرَّفِ فِيهِ فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ؛ فَيُعْتَقُ ضَرُورَةً مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الْمَوْلَى نَصًّا وَدَلَالَةً، كَمَا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ أَوْ قُتِلَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَيْعُ بَتًّا أَوْ فِيهِ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ التَّنْجِيزِ؛ فَلِأَنَّهُ لَا صِحَّةَ لِلْبَيْعِ إلَّا بِالْمِلْكِ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى بَيْعِ أَحَدِهِمَا اخْتِيَارًا إيَّاهُ لِلْمِلْكِ؛ فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ ضَرُورَةً. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ التَّعْلِيقِ، أَمَّا خِيَارُ الْمُشْتَرِي فَلَا يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ بِلَا خِلَافٍ فِينَا فِي اخْتِيَارِ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فِيهِ. وَأَمَّا اخْتِيَارُ الْبَائِعِ؛ فَلِأَنَّ اخْتِيَارَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ يُبْطِلُ شَرْطَ الْخِيَارِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ دَلَالَةً أَوْ ضَرُورَةً، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْبِضْ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَ الْمُشْتَرِي، عَتَقَ الْبَاقِي وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْبِضْ مَاذَا حُكْمُهُ؟ وَهَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْإِمْلَاءِ إذَا وَهَبَ أَحَدَهُمَا وَأَقْبَضَهُ أَوْ تَصَدَّقَ وَأَقْبَضَ، عَتَقَ الْآخَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَنَا، وَلَمْ يَذْكُرْ حَالَ عَدَمِ الْقَبْضِ، وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيَتَعَيَّنُ الْعِتْقُ فِي الْآخَرِ سَوَاءٌ قَبَضَ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَقْبِضْ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ وَقَالَ: قَدْ ظَهَرَ الْقَوْلُ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إذَا سَاوَمَ بِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ، وَقَعَ الْعِتْقُ فِي الْآخَرِ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِأَحَدِهِمَا أَوْ سَاوَمَ، عَتَقَ الْآخَرُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسَاوَمَةَ دُونَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَالسَّوْمُ لَمَّا كَانَ بَيَانًا فَالْبَيْعُ أَوْلَى، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ذِكْرَ الْقَبْضِ فِي الْأَصْلِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ بَلْ وَقَعَ ذِكْرُهُ اتِّفَاقًا أَوْ إشْعَارًا، أَنَّهُ مَعَ الْقَبْضِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمُزِيلَةِ لِلْمِلْكِ، وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَ أَحَدِهِمَا عَيْنًا بِشَرْطٍ بِأَنْ قَالَ لَهُ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ، عَتَقَ الْآخَرُ أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ التَّنْجِيزِ؛ فَلِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِمَا سِوَى الْمِلْكِ وَسَبَبِهِ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ؛ فَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى تَعْلِيقِ عِتْقِهِ اخْتِيَارًا لِلْمِلْكِ فِيهِ فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ ضَرُورَةً

كَمَا لَوْ نَجَزَ الْعِتْقُ فِي أَحَدِهِمَا. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ التَّعْلِيقِ؛ فَلِأَنَّ اخْتِيَارَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فِيهِ يُبْطِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَصَارَ كَمَا لَوْ دَبَّرَ أَحَدَهُمَا، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِأَحَدِهِمَا: إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، ثُمَّ دَخَلَ الَّذِي عَلَّقَ عِتْقَهُ بِدُخُولِ الدَّارِ حَتَّى عَتَقَ، الْآخَرُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى زَالَ عَنْ أَحَدِهِمَا لِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ ابْتِدَاءً أَوْ بَاعَهُ. وَلَوْ كَانَ الْمَمْلُوكَانِ أُخْتَيْنِ فَوَطِئَ الْمَوْلَى إحْدَاهُمَا فَإِنْ عَلِقَتْ مِنْهُ، عَتَقَتْ الْأُخْرَى بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِيلَادَ يَكُونُ مُعِينًا لِلْعِتْقِ فِي الْأُخْرَى، وَإِنْ لَمْ تَعْلَقْ لَا تُعْتَقُ الْأُخْرَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تُعْتَقُ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَّلَ إحْدَاهُمَا بِشَهْوَةٍ أَوْ لَمَسَ بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا عَنْ شَهْوَةٍ وَلَوْ اسْتَخْدَمَ إحْدَاهُمَا لَا تُعْتَقُ الْأُخْرَى فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ تَصَرُّفٌ لَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ إذْ قَدْ يَسْتَخْدِمُ الْحُرَّةَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْعَاقِلِ الْمُتَدَيِّنِ الْإِقْدَامُ عَلَى الْوَطْءِ الْحَلَالِ لَا الْحَرَامِ، وَحِلُّ الْوَطْءِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَحَدِ نَوْعَيْ الْمِلْكِ وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا مِلْكُ النِّكَاحِ؛ فَتَعَيَّنَ مِلْكُ الْيَمِينِ لِلْحِلِّ، وَإِذَا تَعَيَّنَتْ الْمَوْطُوءَةُ لِلْمِلْكِ تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِلْعِتْقِ؛ وَلِأَنَّ الْوَطْءَ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ بَيَانًا فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَقَعَ اخْتِيَارُهُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ؛ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ وَطِئَ حُرَّةً مِنْ غَيْرِ نِكَاحٍ فَيُجْعَلُ الْوَطْءُ بَيَانًا ضَرُورَةَ التَّحَرُّجِ عَنْ الْحَرَامِ حَالًا وَمَآلًا، حَتَّى لَوْ قَالَ: إحْدَاكُمَا مُدَبَّرَةٌ، ثُمَّ وَطِئَ إحْدَاهُمَا، لَا يَكُونُ بَيَانًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يُزِيلُ مِلْكَ الِاسْتِمْتَاعِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحَرُّزِ بِالْبَيَانِ؛ وَلِهَذَا جَعَلَ الْوَطْءَ بَيَانًا فِي الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ، فَوَطِئَ إحْدَاهُمَا طَلُقَتْ الْأُخْرَى، كَذَا هَهُنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَوْنَ الْوَطْءِ بَيَانًا لِلْعِتْقِ فِي غَيْرِ الْمَوْطُوءَةِ يَسْتَدْعِي نُزُولَ الْعِتْقِ؛ لِيَكُونَ الْعِتْقُ تَعْيِينًا لِلْمُعْتَقَةِ مِنْهُمَا، وَالْعِتْقُ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ غَيْرُ نَازِلٍ؛ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الدَّلَائِلِ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ: إنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ مِنْهُمَا بَلْ هُوَ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ الِاخْتِيَارِ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ جَعَلَ الْوَطْءَ دَلَالَةَ الِاخْتِيَارِ وَلَمْ يُجْعَلْ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي بَابِ النِّكَاحِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الزَّوْجِ شَرْعًا؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: إنَّ الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الْوَطْءُ وَالنَّفَقَةُ، وَإِذَا كَانَ الْوَطْءُ مُسْتَحَقًّا بِالنِّكَاحِ عِنْدَ اخْتِيَارِ الْإِمْسَاكِ فَإِذَا قَصَدَ وَطْءَ إحْدَاهُمَا صَارَ مُخْتَارًا لِإِمْسَاكِهَا فَيَلْزَمُهُ إيفَاءُ الْمُسْتَحَقِّ شَرْعًا ضَرُورَةَ اخْتِيَارِ الْإِمْسَاكِ فَيَصِيرُ مُخْتَارًا طَلَاقَ الْأُخْرَى، وَالْوَطْءُ فِي الْأَمَةِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِحَالٍ فَلَا يَكُونُ وَطْءُ إحْدَاهُمَا اخْتِيَارًا لِلْعِتْقِ فِي الْأُخْرَى لَوْ صَارَ مُخْتَارًا لِلْإِمْسَاكِ إنَّمَا يَصِيرُ؛ لِيَقَعَ وَطْؤُهُ حَلَالًا تَحَرُّجًا عَنْ الْحُرْمَةِ وَوَطْؤُهُ إيَّاهُمَا جَمِيعًا حَلَالٌ، وَبِاخْتِيَارِ إحْدَاهُمَا لَا يَظْهَرُ أَنَّ وَطْءَ الْمَوْطُوءَةِ كَانَ حَرَامًا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ ثَبَتَ حَالَ الِاخْتِيَارِ مَقْصُورًا عَلَيْهَا. وَأَمَّا الضَّرُورَةُ فَنَحْوُ أَنْ يَمُوتَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ فَيُعْتَقُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحِلًّا لِاخْتِيَارِ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ ضَرُورَةً مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْمَوْلَى لَا نَصًّا وَلَا دَلَالَةً، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ إذْ لَوْ كَانَ نَازِلًا، لَمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ عَدَمِ الْمَحِلِّ وَلَا ضَرُورَةَ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ كَانَ مَحِلًّا لِلْبَيَانِ إذْ الْبَيَانُ تَعْيِينٌ لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ بِالْإِيجَابِ السَّابِقِ وَقْتَ وُجُودِهِ وَكَانَ حَيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا أَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي يَتَعَيَّنُ فِي الْمَيِّتِ مِنْهُمَا وَلَا يَتَعَيَّنُ فِي الْحَيِّ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ وُجِدَ الْمُسْقِطُ لِلْخِيَارِ فِي الْمَيِّتِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَهُوَ حُدُوثُ الْعَيْبِ فِيهِ، إذْ الْمَوْتُ لَا يَخْلُو عَنْ مُقَدِّمَةِ مَرَضٍ عَادَةً، فَحُدُوثُ الْعَيْبِ فِيهِ يُبْطِلُ خِيَارَ الْمُشْتَرِي فِيهِ؛ فَيَتَعَيَّنُ بِالْبَيْعِ فَيَتَعَيَّنُ الْحَيُّ لِلرَّدِّ، وَهَهُنَا حُدُوثُ الْعَيْبِ فِي أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ تَعْيِينَهُ لِلْمِلْكِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَيَتَعَيَّنُ لِلْمَوْتِ فَيَتَعَيَّنْ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ ضَرُورَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: أَحَدُ هَذَيْنِ ابْنِي أَوْ أَحَدُ هَاتَيْنِ أُمُّ وَلَدَيْ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ الْآخَرُ لِلْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِيلَادِ، كَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَحَدُ هَاتَيْنِ أُمُّ وَلَدِي، أَوْ أَحَدُ هَذَيْنِ ابْنِي، لَيْسَ بِإِنْشَاءٍ بَلْ هُوَ إخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ سَابِقٍ وَالْإِخْبَارُ يَصِحُّ فِي الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ فَيَقِفُ عَلَى بَيَانِهِ، وَقَوْلُهُ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، أَوْ أَحَدُ هَذَيْنِ حُرٌّ إنْشَاءٌ لِلْحُرِّيَّةِ فِي أَحَدِهِمَا، وَالْإِنْشَاءُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْحَيِّ، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْحُرِّيَّةِ، وَكَذَا إذَا قُتِلَ أَحَدُهُمَا سَوَاءٌ قَتَلَهُ الْمَوْلَى أَوْ أَجْنَبِيٌّ؛ لِمَا قُلْنَا، غَيْرَ أَنَّ الْقَتْلَ إنْ كَانَ مِنْ الْمَوْلَى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ لِلْمَوْلَى، فَإِنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى عِتْقَ الْمَقْتُولِ لَا يَرْتَفِعُ الْعِتْقُ عَنْ الْحَيِّ وَلَكِنْ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ

تَكُونُ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى قَدْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ قِيمَتِهِ، فَإِنْ قُطِعَتْ يَدُ أَحَدِهِمَا لَا يُعْتَقُ الْآخَرُ سَوَاءٌ كَانَ الْقَطْعُ مِنْ الْمَوْلَى أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَقْطَعُ خِيَارَ الْمَوْلَى لِبَقَاءِ مَحَلِّ الْخِيَارِ بِخِلَافِ الْقَتْلِ فَإِنْ قَطَعَ أَجْنَبِيٌّ يَدَ أَحَدِهِمَا ثُمَّ بَيَّنَ الْمَوْلَى الْعِتْقَ فَإِنْ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَالْأَرْشُ لِلْمَوْلَى بِلَا شَكٍّ، وَإِنْ بَيَّنَهُ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ أَنَّ الْأَرْشَ لِلْمَوْلَى أَيْضًا وَلَا شَيْءَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْأَرْشِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ إنَّ الْأَرْشَ يَكُونُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِيمَا إذَا قَطَعَ الْمَوْلَى، ثُمَّ بَيَّنَ الْعِتْقَ أَنَّهُ إنْ بَيَّنَهُ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْأَحْرَارِ وَيَكُونُ لِلْعَبْدِ، وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ جَنَى عَلَى حُرٍّ، وَإِنْ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْلَى. وَلَمْ يَذْكُرْ الْقُدُورِيُّ هَذَا الْفَصْلَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ فَصْلَ الْأَجْنَبِيِّ، وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي قِيَاسُ مَذْهَبِ التَّنْجِيزِ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ يَكُونُ تَعْيِينًا لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا وَقْتَ وُرُودِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ؛ فَيُوجِبُ أَرْشَ الْأَحْرَارِ عَلَى الْمَوْلَى لِلْعَبْدِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ قِيَاسُ مَذْهَبِ التَّعْلِيقِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ ثَبَتَ وَقْتَ الِاخْتِيَارِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ فَلَا يَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ صَادَفَتْ يَدَ حُرٍّ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ بِالْإِيجَابِ فَانْصَرَفَ إلَيْهِ، فَإِنْ قَالَ: لِي عَبْدٌ آخَرُ عَنَيْتُهُ، لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ لَهُ عَبْدٌ آخَرُ انْصَرَفَ إيجَابُهُ إلَى هَذَا الْعَبْدِ ظَاهِرًا، فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْعُدُولِ عَنْ الظَّاهِرِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلَى أَنَّ لَهُ عَبْدًا آخَرَ، وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ. وَلَوْ قَالَ: أَحَدُ عَبِيدِي حُرٌّ، أَوْ أَحَدُ عَبْدَيَّ حُرٌّ وَلَيْسَ لَهُ إلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ عَتَقَ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ " أَحَدُ " لَا تَقْتَضِي آحَادًا، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ أَحَدٌ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَلَا مِثْلَ لَهُ وَلَا شَرِيكَ، وَلَا أَحَدَ غَيْرُهُ فِي الْأَزَلِ. وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ فَقَالَ: أَحَدُ عَبِيدِي حُرٌّ، أَحَدُ عَبِيدِي حُرٌّ، أَحَدُ عَبِيدِي حُرٌّ قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا عَتَقُوا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمْ عَتَقَ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ عَبِيدِهِ وَعَتَقَ الْآخَرُ بِاللَّفْظِ الثَّانِي لِهَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ بَقِيَ لَهُ عَبْدَانِ فَيُعْتَقُ أَحَدَهُمَا، وَعَتَقَ الثَّالِثُ بِاللَّفْظِ الثَّالِثِ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ إلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ، كَمَا لَوْ قَالَ ابْتِدَاءً: أَحَدُ عَبِيدِي حُرٌّ، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ قَالَ: أَحَدُكُمْ حُرٌّ، أَحَدُكُمْ حُرٌّ أَحَدُكُمْ حُرٌّ لَمْ يُعْتَقْ إلَّا وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمْ عَتَقَ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ بِاللَّفْظِ الثَّانِي جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدَيْنِ فَقَالَ: أَحَدُكُمْ حُرٌّ، لَمْ يَصِحَّ، ثُمَّ بِاللَّفْظِ الثَّالِثِ جَمَعَ بَيْنِ عَبْدٍ وَحُرَّيْنِ فَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْإِخْبَارِ وَهُوَ صَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ أَوْ مُدَبَّرٌ، يُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ فَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ بِهِ الْحُرِّيَّةَ، عَتَقَ، وَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ بِهِ التَّدْبِيرَ، صَارَ مُدَبَّرًا، وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ وَالْقَوْلُ فِي الصِّحَّةِ، عَتَقَ نِصْفُهُ بِالْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ وَنِصْفُهُ بِالتَّدْبِيرِ لِشُيُوعِ الْعِتْقَيْنِ فِيهِ، إلَّا أَنَّ نِصْفَهُ يُعْتَقُ مَجَّانًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَقُ بِالْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ، وَنِصْفُهُ يُعْتَقُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَقُ بِالتَّدْبِيرِ، وَالْعِتْقُ بِالتَّدْبِيرِ يَثْبُتُ مِنْ طَرِيقِ الْوَصِيَّةِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ سَوَاءٌ كَانَ التَّدْبِيرُ فِي الْمَرَضِ أَوْ فِي الصِّحَّةِ، إنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ كُلُّ النِّصْفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ عَتَقَ ثُلُثُ النِّصْفِ مَجَّانًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ، وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ النِّصْفِ وَهُوَ ثُلُثُ الْكُلِّ. وَلَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ فَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ أَوْ مُدَبَّرٌ يُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمَا وَالْقَوْلُ فِي الصِّحَّةِ عَتَقَ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلشُّيُوعِ إلَّا أَنَّ الرُّبْعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُعْتَقُ مَجَّانًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِحُصُولِهِ بِالْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ، وَالرُّبْعُ يُعْتَقُ مِنْ أُصُولِهِ بِالتَّدْبِيرِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتُمَا حُرَّانِ أَوْ مُدَبَّرَانِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، عَتَقَ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ وَنِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّدْبِيرِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْقَوْلُ فِي الصِّحَّةِ فَإِنْ كَانَ فِي الْمَرَضِ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ الثُّلُثِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ فَقَالَ: هَذَا حُرٌّ، أَوْ هَذَا، وَهَذَا عَتَقَ الثَّالِثُ وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ فِي الْأَوَّلَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: هَذَا حُرٌّ، وَهَذَا، أَوْ هَذَا، عَتَقَ الْأَوَّلُ وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ فِي الْآخَرَيْنِ. وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الطَّلَاقِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ كَلِمَةَ " أَوْ " فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ دَخَلَتْ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي؛ فَأَوْجَبَتْ حُرِّيَّةَ أَحَدِهِمَا غَيْرُ عَيْنٍ ثُمَّ الثَّالِثُ عُطِفَ عَلَى الْحُرِّ مِنْهُمَا أَيَّهُمَا كَانَ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، وَهَذَا. وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي أَوْجَبَ الْحُرِّيَّةَ لِلْأَوَّلِ عَيْنًا، ثُمَّ أَدْخَلَ كَلِمَةَ " أَوْ " فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَأَوْجَبَتْ حُرِّيَّةَ أَحَدِهِمَا غَيْرِ عَيْنٍ فَعَتَقَ الْأَوَّلُ، وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: إنْ كَلَّمْتُ هَذَا

أَوْ هَذَا وَهَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ، أَنَّهُ إنْ كَلَّمَ الْأَوَّلَ وَحْدَهُ حَنِثَ، وَإِنْ كَلَّمَ الثَّانِيَ أَوْ الثَّالِثَ وَحْدَهُ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُكَلِّمْهُمَا جَمِيعًا. وَلَوْ قَالَ: إنْ كَلَّمْتُ هَذَا وَهَذَا، أَوْ هَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ. فَإِنْ كَلَّمَ الثَّالِثَ وَحْدَهُ حَنِثَ، وَإِنْ كَلَّمَ الْأَوَّلَ أَوْ الثَّانِيَ وَحْدَهُ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُكَلِّمْهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ كَلَامَ الْأَوَّلِ وَحْدَهُ أَوْ كَلَامَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثَّالِثَ مَعْطُوفًا عَلَى الثَّانِي بِحَرْفِ الْعَطْفِ فَقَدْ أَدْخَلَ كَلِمَةَ " أَوْ " بَيْنَ الْأَوَّلِ وَحْدَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ جَمِيعًا. وَأَمَّا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فَقَدْ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ كَلَامَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي جَمِيعًا أَوْ كَلَامَ الثَّالِثِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ وَأَدْخَلَ كَلِمَةَ " أَوْ " بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي جَمِيعًا، وَالثَّالِثُ وَحْدَهُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ اخْتَلَطَ حُرٌّ بِعَبْدٍ كَرَجُلٍ لَهُ عَبْدٌ فَاخْتَلَطَ بِحُرٍّ، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ: أَنَا حُرٌّ، وَالْمَوْلَى يَقُولُ: أَحَدُكُمَا عَبْدِي، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُحَلِّفَهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ حُرٌّ فَإِنْ حَلِف لِأَحَدِهِمَا وَنَكَلَ لِلْآخَرِ، فَاَلَّذِي نَكَلَ لَهُ حُرٌّ دُونَ الْآخَرِ، وَإِنْ نَكَلَ لَهُمَا فَهُمَا حُرَّانِ وَإِنْ حَلِفَ لَهُمَا فَقَدْ اخْتَلَطَ الْأَمْرُ، فَالْقَاضِي يَقْضِي بِالِاخْتِلَاطِ وَيُعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَنِصْفَهُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ، وَكَذَا لَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُهُ وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا عَشْرَةٌ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ، وَهَذَا كَرَجُلٍ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ بِعَيْنِهِ ثُمَّ نَسِيَهُ فَإِنْ بَيَّنَ فَهُوَ عَلَى مَا بَيَّنَ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ وَقَالَ: لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا حُرٌّ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ وَلَكِنْ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ مَجَّانًا وَنِصْفُهُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ، كَذَلِكَ هَهُنَا. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى. فَهُوَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا قَالَ لِعَبْدَيْهِ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ لَا يَنْوِي أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ الْبَيَانِ وَالِاخْتِيَارِ، إذْ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَهَذَا الْخِيَارُ لَا يُوَرَّث حَتَّى يَقُومَ الْوَارِثُ فِيهِ مَقَامَهُ فَيَشِيعُ الْعِتْقُ فِيهِمَا، إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ مَجَّانًا وَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَفَصْلُ الشُّيُوعِ دَلِيلُ نُزُولِ الْعِتْقِ فِي أَحَدِهِمَا، إذْ الثَّابِتُ تَشْيِيعٌ وَالْمَوْتُ لَيْسَ بِإِعْتَاقٍ، عُلِمَ أَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ وَقَعَ تَنْجِيزًا لِلْعِتْقِ فِي أَحَدِهِمَا ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا الْخِيَارِ وَبَيْنَ خِيَارِ التَّعْيِينِ فِي بَابِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ هُنَاكَ يَقُومُ مَقَامَ الْمَوْتِ فِي الْبَيَانِ، وَهَهُنَا لَا. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ هُنَاكَ مَلَكَ الْمُشْتَرِي أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ مَجْهُولًا، إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحِلٌّ لِلْمِلْكِ، فَإِذَا مَاتَ فَالْوَارِثُ وَرِثَ مِنْهُ عَبْدًا مَجْهُولًا، فَمَتَى جَرَى الْإِرْثُ ثَبَتَ وِلَايَةُ التَّعْيِينِ، أَمَّا هَهُنَا فَأَحَدُهُمَا حُرٌّ أَوْ اسْتَحَقَّ الْحُرِّيَّةَ وَذَلِكَ يَمْنَعُ جَرَيَانَ الْإِرْثِ فِي أَحَدِهِمَا فَيَمْنَعُ وِلَايَةَ التَّعْيِينِ، هَذَا إذَا كَانَ الْمُزَاحِمُ لَهُ مُحْتَمِلًا لِلْعِتْقِ وَهُوَ مِمَّنْ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ فِيهِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ فِيهِ بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ فَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ لَا يُعْتَقُ عَبْدُهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَحَدُكُمَا يَحْتَمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ عَبْدَ الْغَيْرِ قَابِلٌ لِلْعِتْقِ فِي نَفْسِهِ وَمُحْتَمِلٌ لِنُفُوذِ الْإِعْتَاقِ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا يَنْصَرِفُ إلَى عَبْدِ نَفْسِهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُزَاحِمُ مِمَّنْ لَا يَحْتَمِلُ الْعِتْقَ أَصْلًا، كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَبَيْنَ بَهِيمَةٍ أَوْ حَائِطٍ أَوْ حَجَرٍ فَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، أَوْ قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ، أَوْ هَذَا وَهَذَا فَإِنَّ عَبْدَهُ يُعْتَقُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يُعْتَقُ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَكَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَبَيْنَ مَيِّتٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَعَلَى هَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَبَيْنَ حُرٍّ فَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ عَبْدُهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّ صِيغَتَهُ صِيغَةُ الْخَبَرِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِخْبَارِ وَهُوَ صَادِقٌ فِي إخْبَارِهِ مَعَ مَا فِي الْحَمْلِ عَلَيْهِ تَصْحِيحُ تَصَرُّفِهِ وَأَنَّهُ أَصْلٌ عِنْدَ الْإِمْكَانِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ، إلَّا إذَا نَوَى فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِنْشَاءِ بِقَرِينَةِ النِّيَّةِ، وَالْحُرُّ لَا يَحْتَمِلُ إنْشَاءَ الْحُرِّيَّةِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْعَبْدِ. وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَمُدَبَّرِهِ فَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ لَا يَصِيرُ عَبْدُهُ مُدَبَّرًا إلَّا بِالنِّيَّةِ وَيُحْمَلُ عَلَى الْإِخْبَارِ كَمَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ. وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدَيْهِ وَمُدَبَّرِهِ فَقَالَ: اثْنَانِ مِنْكُمْ مُدَبَّرَانِ صَارَ أَحَدُ عَبْدَيْهِ مُدَبَّرًا وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: اثْنَانِ مِنْكُمْ، يُصْرَفُ أَحَدُهُمَا إلَى الْمُدَبَّرِ وَيَكُونُ إخْبَارًا عَنْ تَدْبِيرِهِ، إذْ الصِّيغَةُ لِلْخَبَرِ فِي الْوَضْعِ وَهُوَ صَادِقٌ فِي هَذَا الْإِخْبَارِ، وَالْآخَرُ يُصْرَفُ إلَى أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ فَيَكُونُ إنْشَاءً لِلتَّدْبِيرِ فِي أَحَدِهِمَا إذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ كَذِبًا فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِنْشَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ لِلْمُدَبَّرِ: هَذَا مُدَبَّرٌ، وَأَحَدُ الْعَبْدَيْنِ مُدَبَّرٌ؛ فَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ كَمَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً لِعَبْدَيْهِ: أَحَدُكُمَا مُدَبَّرٌ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْبَيَانِ انْقَسَمَ تَدْبِيرُ رَقَبَةٍ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ نِصْفَيْنِ، فَيُعْتَقُ الْمُدَبَّرُ الْمَعْرُوفُ مِنْ الثُّلُثِ وَيُعْتَقُ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ مِنْ

الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَرَضِ أَوْ فِي الصِّحَّةِ. وَهَذَا كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدَيْنِ وَحُرٍّ فَقَالَ: اثْنَانِ مِنْكُمْ حُرَّانِ، أَنَّهُ يُصْرَفُ أَحَدُهُمَا إلَى الْإِخْبَارِ عَنْ حُرِّيَّةِ أَحَدِهِمْ وَالْآخَرُ إلَى إنْشَاءِ الْحُرِّيَّةِ فِي أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ لَا غَيْرُ، كَأَنَّهُ قَالَ لِلْحُرَّانِ: هَذَا حُرٌّ، وَأَحَدُ الْعَبْدَيْنِ حُرٌّ، فَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ لِشُيُوعِ الْعِتْقِ فِيهِمَا، كَذَا هَذَا. وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ دَخَلَ عَلَيْهِ اثْنَانِ فَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ خَرَجَ أَحَدُهُمَا وَدَخَلَ الْآخَرُ فَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ فَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَصْلِ يَقَعُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّقُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَالثَّانِي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ الْمَوْتِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا دَامَ الْمَوْلَى حَيًّا يُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ ثُمَّ إنْ بَدَأَ بِالْبَيَانِ لِلْإِيجَابِ الْأَوَّلِ فَإِنْ عَنَى بِهِ الْخَارِجَ عَتَقَ الْخَارِجُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ إيجَابَ الثَّانِي بَيْنَ الثَّابِتِ وَالدَّاخِلِ وَقَعَ صَحِيحًا؛ لِوُقُوعِهِ بَيْنَ عَبْدَيْنِ فَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ لِهَذَا الْإِيجَابِ، وَإِنْ عَنَى بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلَ الثَّابِتَ عَتَقَ الثَّابِتُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِيجَابَ الثَّانِيَ وَقَعَ لَغْوًا؛ لِحُصُولِهِ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: الْكَلَامُ الثَّانِي يَنْصَرِفُ إلَى الدَّاخِلِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِهِ إذَا جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ يَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى الْعَبْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ بَدَأَ بِالْبَيَانِ لِلْإِيجَابِ الثَّانِي فَإِنْ عَنَى بِهِ الدَّاخِلَ عَتَقَ الدَّاخِلُ عَتَقَ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي، وَبَقِيَ الْإِيجَابُ الْأَوَّلُ بَيْنَ الْخَارِجِ وَالثَّابِتِ عَلَى حَالِهِ كَمَا كَانَ، فَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ كَمَا كَانَ وَإِنْ عَنَى بِهِ الثَّابِتَ عَتَقَ الثَّابِتُ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي وَعَتَقَ الْخَارِجُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ؛ لِتَعْيِينِهِ لِلْعِتْقِ بِإِعْتَاقِ الثَّابِتِ. وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَهَهُنَا حَالَانِ: حَالُ مَا بَعْدَ مَوْتِ الْعَبْدَيْنِ وَحَالُ مَا بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى أَمَّا مَوْتُ الْعَبْدَيْنِ: فَإِنْ مَاتَ الْخَارِجُ عَتَقَ الثَّابِتُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِيجَابَ الثَّانِي وَقَعَ بَاطِلًا، وَإِنْ مَاتَ الثَّابِتُ عَتَقَ الْخَارِجُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ وَالدَّاخِلُ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ قَدْ أُعِيدَ عَلَيْهِ الْإِيجَابُ فَعِتْقُهُ يُوجِبُ تَعْيِينَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْعِتْقِ، وَإِنْ مَاتَ الدَّاخِلُ يُؤْمَرُ الْمَوْلَى بِالْبَيَانِ لِلْإِيجَابِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ عَنَى بِهِ الْخَارِجَ عَتَقَ الْخَارِجُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ وَبَقِيَ الْإِيجَابُ الثَّانِي بَيْنَ الدَّاخِلِ وَالثَّابِتِ، فَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ، وَإِنْ عَنَى بِهِ الثَّابِتَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِيجَابَ الثَّانِي وَقَعَ بَاطِلًا. وَأَمَّا مَوْتُ الْمَوْلَى قَبْلَ الْبَيَانِ فَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ مِنْهُ فِي الصِّحَّةِ يُعْتَقُ مِنْ الْخَارِجِ نِصْفُهُ، وَمِنْ الثَّابِتِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الدَّاخِلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: يُعْتَقُ مِنْ الدَّاخِلِ نِصْفُهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: رُبْعُهُ أَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْوِفَاقِ؛ فَلِأَنَّ الْمَوْلَى إنْ كَانَ عَنَى بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ الْخَارِجَ عَتَقَ كُلُّهُ وَلَمْ يُعْتَقْ بِهِ الثَّابِتُ، وَإِنْ كَانَ عَنَى بِهِ الثَّابِتَ عَتَقَ الثَّابِتُ كُلُّهُ وَلَمْ يُعْتَقْ بِهِ الْخَارِجُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُعْتَقُ فِي حَالٍ وَلَا يُعْتَقُ فِي حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ فَيُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الثَّابِتُ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي يُعْتَقُ نِصْفُهُ الْبَاقِي فِي حَالٍ وَلَا يُعْتَقُ فِي حَالٍ، فَيَتَنَصَّفُ ذَلِكَ النِّصْفُ فَيُعْتَقُ رُبْعُهُ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي وَقَدْ عَتَقَ نِصْفُهُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ؛ فَيُعْتَقُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْخِلَافِ، فَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَهُوَ أَنَّ الْإِيجَابَ الثَّانِيَ يَصِحُّ فِي حَالٍ وَلَا يَصِحُّ فِي حَالٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَوْلَى عَنَى بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ الْخَارِجَ يَصِحُّ الْإِيجَابُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ يَبْقَى رَقِيقًا فَيَقَعُ الْإِيجَابُ الثَّانِي جَمْعًا بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ فَيَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ عَنَى بِهِ الثَّابِتَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ جَمْعًا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فَيَلْغُو؛ فَيَصِحُّ الْإِيجَابُ الثَّانِي فِي حَالٍ وَلَمْ يَصِحَّ فِي حَالٍ فَلَا يُثْبِتُ إلَّا نِصْفَ حُرِّيَّةٍ فَيُقْسَمُ بَيْنَ الثَّابِتِ وَالدَّاخِلِ، فَيُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّبْعُ، وَلَهُمَا أَنَّ الْإِيجَابَ الثَّانِي إنَّمَا يَدُورُ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ إذَا نَزَلَ الْعِتْقُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ مِنْهُمَا وَلَمْ يَنْزِلْ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ فِيمَا تَقَدَّمَ فَكَانَ الْإِيجَابُ الثَّانِي صَحِيحًا فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، فَلَمَّا مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْبَيَانِ أَصَابَ الدَّاخِلَ مِنْ هَذَا الْإِيجَابِ نِصْفُ حُرِّيَّةٍ، ثُمَّ إنْ كَانَ عَنَى بِهِ الثَّابِتَ عَتَقَ بِهِ النِّصْفُ الْبَاقِيَ وَلَا يُعْتَقُ الدَّاخِلُ، وَإِنْ كَانَ عَنَى بِهِ الدَّاخِلَ عَتَقَ كُلُّهُ وَلَا يُعْتَقُ شَيْءٌ مِنْ النِّصْفِ الْبَاقِي مِنْ الثَّابِتِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ فِي حَالٍ وَلَا يَثْبُتُ فِي حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ فَيُعْتَقُ مِنْ الثَّابِتِ رُبْعُهُ وَمِنْ الدَّاخِلِ نِصْفُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ غَيْرُ سَدِيدٍ أَنَّ الْإِيجَابَ الثَّانِيَ لَوْ كَانَ تَرَدَّدَ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَعَدَمِ الصِّحَّةِ لَبَطَلَ أَصْلًا وَرَأْسًا؛ لِأَنَّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ، وَقَالَ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، يَبْطُلُ أَصْلًا وَرَأْسًا وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ الْإِيجَابَ الثَّانِيَ حَيْثُ قَالَ بِثُبُوتِ نِصْفِ حُرِّيَّةٍ بَيْنَ الثَّابِتِ وَالدَّاخِلِ، هَذَا

إذَا كَانَ الْقَوْلُ مِنْهُ فِي الصِّحَّةِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَرَضِ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ آخَرُ، يَخْرُجُونَ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ لَا يَخْرُجُونَ، لَكِنْ إنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى هَؤُلَاءِ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ، يُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ وَصِيَّتِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ نَفَاذُهَا مِنْ الثُّلُثِ؛ فَيُضْرَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمِقْدَارِ وَصِيَّتِهِ، فَوَصِيَّةُ الْخَارِجِ نِصْفُ الرَّقَبَةِ وَوَصِيَّةُ الثَّالِثِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الرَّقَبَةِ وَوَصِيَّةُ الدَّاخِلِ نِصْفُ الرَّقَبَةِ عَلَى أَصْلِهِمَا، فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ؛ لِحَاجَتِنَا إلَى ثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ، فَالْخَارِجُ يُضْرَبُ بِنِصْفِ الرَّقَبَةِ وَذَلِكَ سَهْمَانِ وَالثَّابِتُ يُضْرَبُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الرَّقَبَةِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَالدَّاخِلُ يُضْرَبُ بِنِصْفِ الرَّقَبَةِ وَذَلِكَ سَهْمَانِ، فَتُجْمَعُ وَصَايَاهُمْ فَتَصِيرُ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ، فَيُجْعَلُ ثُلُثُ الْمَالِ مَبْلَغَ الْوَصَايَا وَذَلِكَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ، فَيَكُونُ ثُلُثَا الْمَالِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا ضَرُورَةً فَيَكُونُ جَمِيعُ الْمَالِ أَحَدَ وَعِشْرِينَ، فَصَارَ كُلُّ عَبْدٍ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّ مَالَهُ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ وَقَدْ صَارَ مَالُهُ كُلُّهُ أَحَدَ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، فَيُخْرَجُ مِنْهُ سِهَامُ الْعِتْقِ وَسِهَامُ السِّعَايَةِ فَالْخَارِجُ يُعْتَقُ مِنْهُ سَهْمَانِ مِنْ سَبْعَةٍ وَيَسْعَى فِي خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، وَالثَّابِتُ يُعْتَقُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ سَبْعَةٍ وَيَسْعَى فِي أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ. وَالدَّاخِلُ يُعْتَقُ مِنْهُ سَهْمَانِ مِنْ سَبْعَةٍ وَيَسْعَى فِي خَمْسَةِ أَسْهُمٍ كَالْخَارِجِ، وَإِذَا صَارَ سِهَامُ الْوَصَايَا سَبْعَةً تَصِيرُ سِهَامُ الْوَرَثَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ضَرُورَةً، فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَهَذَا التَّخْرِيجُ عَلَى قَوْلِهِمَا. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَالْخَارِجُ يُضْرَبُ بِسَهْمَيْنِ وَالثَّابِتُ بِثَلَاثَةٍ وَالدَّاخِلُ بِسَهْمٍ فَذَلِكَ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، فَصَارَ ثُلُثُ الْمَالِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ فَيَكُونُ ثُلُثَاهُ مِثْلَيْهِ وَذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ، فَيَصِيرُ جَمِيعُ الْمَالِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَصَارَ كُلُّ عَبْدٍ سِتَّةَ أَسْهُمٍ يَخْرُجُ مِنْهَا سِهَامُ الْعِتْقِ وَسِهَامُ السِّعَايَةِ، فَيُعْتَقُ مِنْ الْخَارِجِ سَهْمَانِ وَيَسْعَى فِي أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، وَيُعْتَقُ مِنْ الثَّابِتِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَيَسْعَى فِي ثَلَاثَةٍ وَيُعْتَقُ مِنْ الدَّاخِلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَيَسْعَى فِي خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، فَصَارَ لِلْوَرَثَةِ اثْنَيْ عَشَرَ وَلِأَصْحَابِ الْوَصَايَا سِتَّةٌ، فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْجَهَالَةُ الطَّارِئَةُ بِأَنْ أَضَافَ صِيغَةَ الْإِعْتَاقِ إلَى أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ ثُمَّ نَسِيَهُ فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَيْضًا فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي. كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّصَرُّفِ وَالثَّانِي فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ قَبْلَ الْبَيَانِ لِأَنَّ الصِّيغَةَ أُضِيفَتْ إلَى مُعَيَّنٍ وَالْمُعَيَّنُ مَحَلٌّ لِنُزُولِ الْعِتْقِ فِيهِ فَكَانَ الْبَيَانُ فِي هَذَا النَّوْعِ إظْهَارًا وَتَعْيِينًا لِمَنْ نَزَلَ فِيهِ الْعِتْقُ. وَأَمَّا الثَّانِي فَالْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ ضَرْبَانِ أَيْضًا: ضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي. حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى، وَضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ: إذَا أَعْتَقَ إحْدَى جَارِيَتَيْهِ بِعَيْنِهَا ثُمَّ نَسِيَهَا أَوْ أَعْتَقَ إحْدَى جَوَارِيهِ الْعَشَرَةِ بِعَيْنِهَا ثُمَّ نَسِيَ الْمُعْتَقَةَ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهِنَّ وَاسْتِخْدَامهنَّ؛ لِأَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ حُرَّةٌ بِيَقِينٍ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْحُرَّةُ وَوَطْءُ الْحُرَّةِ مِنْ غَيْرِ نِكَاحٍ حَرَامٌ فَلَوْ قَرَّبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ رُبَّمَا يَقْرَبُ الْحُرَّةَ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ صِيَانَةً عَنْ الْحَرَامِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، فَمَنْ حَامَ حَوْل الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطَأَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِالتَّحَرِّي؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، فَلَوْ أَنَّهُ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَحُكْمُهُ نَذْكُرُهُ هُنَا، وَالْحِيلَةُ فِي أَنْ يُبَاحَ لَهُ وَطْؤُهُنَّ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ فَتَحِلُّ لَهُ الْحُرَّةُ مِنْهُنَّ بِالنِّكَاحِ وَالرَّقِيقَةُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَلَوْ خَاصَمَ الْعَبْدَانِ الْمَوْلَى إلَى الْقَاضِي وَطَلَبَا مِنْهُ الْبَيَانَ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالْبَيَانِ وَلَوْ امْتَنَعَ حَبَسَهُ لَيُبَيِّنَ، كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ بِيَقِينٍ وَالْحُرِّيَّةُ حَقُّهُ أَوْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، وَلِكُلِّ صَاحِبِ حَقٍّ أَنْ يَطْلُبَ حَقَّهُ، وَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِيفَاءِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ. وَلَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ هُوَ الْحُرُّ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ وَجَحَدَ الْمَوْلَى فَطَلَبَا يَمِينَهُ اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لِفَائِدَةِ النُّكُولِ وَالنُّكُولُ بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ، وَالْعِتْقُ يَحْتَمِلُ كُلَّ ذَلِكَ، ثُمَّ إنْ نَكَلَ لَهُمَا عَتَقَا؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ لَهُمَا الْحُرِّيَّةَ أَوْ أَقَرَّ بِهَا لَهُمَا، وَإِنْ حَلَفَ لَهُمَا يُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ بِيَقِينٍ وَحُرِّيَّتُهُ لَا تَرْتَفِعُ بِالْيَمِينِ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّد فِي الطَّلَاقِ يَكُونُ ذَلِكَ رِوَايَةً فِي الْعَتَاقِ وَهُوَ أَنَّهُمَا إذَا اسْتَحْلَفَا فَحَلَفَ الْمَوْلَى لِلْأَوَّلِ، يُعْتَقُ الَّذِي لَمْ يَحْلِفْ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَفَ لِلْأَوَّلِ: وَاَللَّهِ مَا أَعْتَقَهُ فَقَدْ أَقَرَّ بِرِقِّهِ فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْحُرِّيَّةِ، كَمَا إذَا قَالَ ابْتِدَاءً لِأَحَدِهِمَا عَيْنًا: هَذَا عَبْدٌ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لَهُ عَتَقَ هُوَ؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ لَهُ الْحُرِّيَّةَ أَوْ أَقَرَّ. وَإِنْ تَشَاحَّا فِي الْيَمِينِ حَلَفَ لَهُمَا جَمِيعًا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَعْتَقَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَإِنْ حَلَفَ

لَهُمَا فَإِنْ كَانَا أَمَتَيْنِ يُحْجَبُ مِنْهُمَا حَتَّى يُبَيِّنَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حُرِّيَّةَ إحْدَاهُمَا لَا تَرْتَفِعُ بِالْحَلِفِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ فِي الْجَهَالَةِ الطَّارِئَةِ إذَا لَمْ يَتَذَكَّرْ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِرْقَاقِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ بِيَقِينٍ بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ الْحُرِّيَّةِ غَيْرُ نَازِلَةٍ فِي الْمَحَلِّ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْبَيَانِ اسْتِرْقَاقُ الْحُرِّ. ثُمَّ الْبَيَانُ فِي هَذِهِ الْجَهَالَةِ نَوْعَانِ: نَصٌّ، وَدَلَالَةٌ أَوْ ضَرُورَةٌ أَمَّا نَصٌّ: فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ الْمَوْلَى لِأَحَدِهِمَا عَيْنًا: هَذَا الَّذِي كُنْتُ أَعْتَقْتُهُ وَنَسِيتُ. وَأَمَّا الدَّلَالَةُ أَوْ الضَّرُورَةُ: فَهِيَ أَنْ يَقُولَ أَوْ يَفْعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْبَيَانِ، نَحْوُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي أَحَدِهِمَا تَصَرُّفًا لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ إذَا كَانَتَا جَارِيَتَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَا صِحَّةَ لَهَا إلَّا فِي الْمِلْكِ فَكَانَ إقْدَامُهُ دَلِيلَ اخْتِيَارِهِ الْمِلْكَ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ، وَكَذَا إذَا كَانَا أَمَتَيْنِ فَوَطِئَ إحْدَاهُمَا، عَتَقَتْ الْأُخْرَى بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا حُرَّةٌ بِيَقِينٍ فَكَانَ وَطْءُ إحْدَاهُمَا تَعَيُّنًا لَهَا لِلرِّقِّ، وَالْأُخْرَى لِلْعِتْقِ، وَتَعْيِينُ الْأُخْرَى لِلْعِتْقِ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ الْمُزَاحِمِ، بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ فِي إحْدَاهُمَا فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَلَالَ الْوَطْءِ، وَإِنْ كُنَّ عَشْرًا فَوَطِئَ إحْدَاهُنَّ تَعَيَّنَتْ الْمَوْطُوءَةُ لِلرِّقِّ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاحِ، وَتَعَيَّنَتْ الْبَاقِيَاتُ؛ لِكَوْنِ الْمُعْتَقَةُ فِيهِنَّ دَلَالَةً أَوْ ضَرُورَةً فَيَتَعَيَّنُ الْبَيَانُ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً، وَكَذَا لَوْ وَطِئَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ إلَى التَّاسِعَةِ، فَتَتَعَيَّنُ الْبَاقِيَةُ وَهِيَ الْعَاشِرَةُ لِلْعِتْقِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ يُحْمَلُ عَلَى الْجَوَازِ وَلَا جَوَازَ لَهُ إلَّا فِي الْمِلْكِ فَكَانَ، الْإِقْدَامُ عَلَى وَطْئِهِنَّ تَعْيِينًا لَهُنَّ لِلرِّقِّ، وَالْبَاقِيَةُ لِلْعِتْقِ أَوْ تَتَعَيَّنُ الْبَاقِيَةُ ضَرُورَةً وَإِلَّا حَسُنَ أَنْ لَا يَطَأَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ هِيَ الْحُرَّةُ فَلَوْ أَنَّهُ وَطِئَ، فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ مَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ قَبْلَ الْبَيَانِ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا يَطَأَ الْبَاقِيَاتِ قَبْلَ الْبَيَانِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْمُعْتَقَةُ فِيهِنَّ، فَلَوْ أَنَّهُ وَطِئَهُنَّ قَبْلَ الْبَيَانِ جَازَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ الْعَدْلِ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ مَا أَمْكَنَ، وَأَمْكَنَ هَهُنَا بِأَنْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَذَكَّرَ أَنَّ الْمُعْتَقَةَ مِنْهُنَّ هِيَ الْمَيِّتَةُ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْجَهَالَةِ إظْهَارٌ وَتَعْيِينٌ لِمَنْ نَزَلَتْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ مِنْ الْأَصْلِ فَلَمْ تَكُنْ الْحَيَاةُ شَرْطًا لِمَحَلِّيَّةِ الْبَيَانِ، وَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى وَطْئِهِنَّ تَعْيِينًا لِلْمَيِّتَةِ لِلْعِتْقِ، وَالْبَاقِيَاتِ لِلرِّقِّ دَلَالَةً أَوْ تَتَعَيَّنُ الْبَاقِيَاتُ لِلرِّقِّ ضَرُورَةً، بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ إذَا مَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَنَّ الْمَيِّتَةَ لَا تَتَعَيَّنُ لِلْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ هُنَاكَ غَيْرُ نَازِلَةٍ فِي إحْدَاهُنَّ وَإِنَّمَا تَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَالْمَحِلُّ لَيْسَ بِقَابِلٍ لِلْحُرِّيَّةِ وَقْتَ الِاخْتِيَارِ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَلَوْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَمَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا لَا تَتَعَيَّنُ الْبَاقِيَةُ لِلْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَةَ لَمْ تَتَعَيَّنُ لِلرِّقِّ لِانْعِدَامِ دَلِيلٍ يُوجِبُ التَّعْيِينَ فَلَا تَتَعَيَّنُ الْأُخْرَى لِلْعِتْقِ ضَرُورَةً، فَوَقَفَ تَعْيِينُهَا لِلْعِتْقِ عَلَى الْبَيَانِ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً، إذْ الْمَيِّتَةُ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهَا مَحِلًّا لِلْبَيَانِ إذْ الْبَيَانُ فِي هَذَا النَّوْعِ إظْهَارٌ وَتَعْيِينٌ، بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ. وَلَوْ قَالَ الْمَوْلَى: هَذَا مَمْلُوكٌ، وَأَشَارَ إلَى أَحَدِهِمَا، يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ دَلَالَةً أَوْ ضَرُورَةً. وَلَوْ بَاعَهُمَا جَمِيعًا صَفْقَةً وَاحِدَةً كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ بَاعَ حُرًّا وَعَبْدًا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَا لَوْ كَانُوا عَشْرَةً فَبَاعَهُمْ صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ، وَلَوْ بَاعَهُمْ عَلَى الِانْفِرَادِ جَازَ الْبَيْعُ فِي التِّسْعَةِ وَيَتَعَيَّنُ الْعَاشِرُ لِلْعِتْقِ. كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ؛ لِأَنَّ بَيْعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اخْتِيَارُ إيَّاهُ لِلرِّقِّ وَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي لِلْعِتْقِ دَلَالَةً أَوْ يَتَعَيَّنُ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْمُزَاحِمِ، كَمَا لَوْ وَطِئَ عَشْرَةُ نَفَرٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَارِيَةٌ فَأَعْتَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ جَارِيَتَهُ وَلَا يُعْرَفُ الْمُعْتَقُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ وَأَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَمَكَّنَتْ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا الْمُعْتَقِ وَالْمُعْتِقِ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الطَّرَفَيْنِ، فَلَا يُزَالُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْجَوَارِي لِوَاحِدٍ فَأَعْتَقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ ثُمَّ نَسِيَهَا، أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ وَطْءِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ هُنَاكَ لَمْ تَقَعْ إلَّا فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَلَمْ يَقَعْ الشَّكُّ إلَّا فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، إذْ الْمُعْتِقُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُرِّيَّةِ إحْدَاهُنَّ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ تُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْحُرَّةُ فَيُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهِنَّ، وَلَوْ دَخَلَ الْكُلُّ فِي مِلْكِ أَحَدِهِمْ، صَارَ كَأَنَّ الْكُلَّ كُنَّ فِي مِلْكِهِ فَأَعْتَقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ ثُمَّ جَهِلَهَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ مَجَّانًا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَنِصْفُهُ بِالْقِيمَةِ، فَتَسْعَى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلْوَرَثَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجَهَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

فصل في بيان ما يظهر به حكم الإعتاق

[فَصْلٌ فِي بَيَان مَا يَظْهَرُ بِهِ حُكْمُ الْإِعْتَاقِ] فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ حُكْمُهُ فَالْمُظْهِرُ لَهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا. الْإِقْرَارُ، وَالثَّانِي الْبَيِّنَةُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ الْمَوْلَى بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ يَظْهَرُ بِهِ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ كَاذِبًا فَيُصَدَّقُ فِي إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَقْبَلُ عَلَى غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ شَهَادَةً عَلَى الْغَيْرِ، وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَلَوْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ غَيْرِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ، عَتَقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ مَقْبُولٌ وَلَا يُقْبَلُ عَلَى غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ شَهَادَةً عَلَى الْغَيْرِ وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، فَإِذَا اشْتَرَاهُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ تَقْيِيدِهِ فِي حَقِّهِ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ: فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا تُقْبَلُ عَلَى عِتْقِ الْمَمْلُوكِ إذَا ادَّعَى الْمَمْلُوكُ الْعِتْقَ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى سَوَاءٌ كَانَ الْمَمْلُوكُ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَدَّعِ وَأَنْكَرَ الْعِتْقَ، وَالْمَوْلَى أَيْضًا مُنْكِرٌ فَهَلْ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَاهُ؟ فَإِنْ كَانَ الْمَمْلُوكُ جَارِيَةً تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا لَا تُقْبَلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تُقْبَلُ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَنَّ عِتْقَ الْعَبْدِ حَقُّ الْعَبْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّهَادَةُ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعَاوِيهِمْ كَالْأَمْوَالِ وَسَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَعِنْدَهُمَا هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّهَادَةُ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَقْبُولَةٌ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى أَحَدٍ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى إعْتَاقِ الْإِنْسَانِ أَمَتَهُ وَتَطْلِيقِهِ امْرَأَتَهُ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى أَسْبَابِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ، إلَّا السَّرِقَةَ فَإِنَّهُ شُرِطَ فِيهَا الدَّعْوَى لِتَحْقِيقِ السَّبَبِ، إذْ لَا يَظْهَرُ كَوْنُ الْفِعْلِ سَرِقَةً شَرْعًا بِدُونِ الدَّعْوَى؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ فَنَتَكَلَّمُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً وَابْتِدَاءً، أَمَّا الْبِنَاءُ، فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي الْإِعْتَاقِ تَحْرِيمَ الِاسْتِرْقَاقِ وَحُرْمَةُ الِاسْتِرْقَاقِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا رَجُلًا بَاعَ حُرًّا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ» وَكَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَهْلِيَّةُ وُجُوبِ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَالزَّكَوَاتِ وَالْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ عَلَيْهِ، كَمَا فِي عِتْقِ الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الْمَرْأَةِ وَكَمَا فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ، وَكَذَا الْأَحْكَامُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ لِلْعَبْدِ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَاهُ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَى نَسَبِ صَبِيٍّ صَغِيرٍ مِنْ رَجُلٍ وَأَنْكَرَ الرَّجُلُ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَى الْمَوْلَى بِاسْتِيلَادِ جَارِيَتِهِ وَهُمَا مُنْكِرَانِ، وَكَذَا التَّنَاقُضُ فِي الْعِتْقِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى بِأَنْ قَالَ عَبْدٌ لِإِنْسَانٍ: اشْتَرِنِي فَإِنِّي عَبْدُ فُلَانٍ، فَاشْتَرَاهُ، ثُمَّ ادَّعَى الْعَبْدُ حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ، تُسْمَعُ دَعْوَاهُ. وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِيهِ شَرْطًا لَكَانَ التَّنَاقُضُ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الدَّعْوَى كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ، وَالْعِتْقُ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ اسْمٌ لِقُوَّةٍ حُكْمِيَّةٍ تَثْبُتُ لِلْعَبْدِ تَنْدَفِعُ بِهَا يَدُ الِاسْتِيلَادِ وَالتَّمَلُّكِ عَنْهُ، وَالْحُرِّيَّةُ حَقُّهُ إذْ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهَا مَقْصُودًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَضَرَّرُ بِانْتِفَائِهَا مَقْصُودًا بِالِاسْتِرْقَاقِ، وَكَذَا التَّحْرِيرُ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ، وَالْحُرِّيَّةُ فِي مُتَعَارَفِ الشَّرْعِ وَاللُّغَةُ تُنْبِئُ عَنْ خُلُوصِ نَفْسِ الْعَبْدِ لَهُ عَنْ الرِّقِّ وَالْمِلْكِ وَذَلِكَ حَقُّهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مَقْصُودًا وَحَقُّ الْإِنْسَانِ مَا يَنْتَفِعُ هُوَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ الْعَبْدِ فَالشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَاهُ، كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ الْقَائِمَةِ عَلَى سَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ إذَا كَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَانَ الْعَبْدُ مَشْهُودًا لَهُ، فَإِذَا أَنْكَرَ فَقَدْ كَذَّبَ شُهُودَهُ، وَالْمَشْهُودُ لَهُ إذَا كَذَّبَ شُهُودَهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ لَهُ. وَالثَّانِي أَنَّ إنْكَارَ الْمَشْهُودِ لَهُ حَقُّهُ مَعَ حَاجَتِهِ إلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ يُوجِبُ تُهْمَةً فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَتَبَادَرَ إلَى الدَّعْوَى وَلَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي الْإِعْتَاقِ تَحْرِيمُ الِاسْتِرْقَاقِ، فَنَقُولُ: الْإِعْتَاقُ لَا يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُنْبِئُ عَنْ إثْبَاتِ الْقُوَّةِ وَالْخُلُوصِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَذَلِكَ حَقُّهُ، ثُمَّ إذَا ثَبَتَ حَقُّهُ بِالْإِعْتَاقِ حُرِّمَ الِاسْتِرْقَاقُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الِاسْتِرْقَاقِ حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ لِلْعِبَادِ يَحْرُمُ إبْطَالُهَا وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ إبْطَالِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ فِي الْعِتْقِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْعَبْدِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ لَا تُقْبَلُ فَدَارَتْ الشَّهَادَةُ بَيْنَ الْقَبُولِ وَعَدَمِ الْقَبُولِ فَلَا تُقْبَلُ مَعَ الشَّكِّ؛ وَلِهَذَا لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْقَذْفِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْمَقْذُوفِ، وَإِنْ كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وَجْهٍ وَحَقَّ الْعَبْدِ مِنْ وَجْهٍ، كَذَا هَهُنَا. وَأَمَّا الْأَحْكَامُ، فَأَمَّا عِتْقُ الْأَمَةِ فَثَمَّةَ هَكَذَا نَقُولُ: إنَّ تِلْكَ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ عَلَى الْعِتْقِ

مِنْ حَيْثُ ذَاتُ الْعِتْقِ؛ لِمَا قُلْنَا فِي الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ مِنْ حَيْثُ إنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ لِتَحْرِيمِ الْفَرْجِ وَوَسِيلَةٌ إلَيْهِ، وَالشَّيْءُ مِنْ حَيْثُ التَّسَبُّبُ وَالتَّوَسُّلِ غَيْرٌ وَمِنْ حَيْثُ الذَّاتُ غَيْرٌ، كَمَا قُلْنَا فِي كُفْرِ الْمُحَارَبِ: إنَّهُ يُوجِبُ الْقَتْلَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ لِلْحِرَابِ لَا مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ بَلْ ذَاتُ الْكُفْرِ غَيْرُ مُوجِبٍ؛ لِأَنَّهُمَا غَيْرَان، كَذَا هَذَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ، فَإِنَّ الْعِتْقَ قَدْ لَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى تَحْرِيمِ الْفَرْجِ وَهُوَ عِتْقُ الْعَبْدِ، ثُمَّ مَتَى قُبِلَتْ عَلَى الْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبُ حُرْمَةِ الْفَرْجِ تُقْبَلُ مِنْ حَيْثُ ذَاتُ الْعِتْقِ. وَكَذَا فِي طَلَاقِ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَاهَا، وَلَيْسَ لِلْعِتْقِ فِي مَحِلِّ النِّزَاعِ سَبَبِيَّةُ تَحْرِيمِ الْفَرْجِ، فَلَوْ قُبِلَ لَقُبِلَ عَلَى ذَاتِ الْعِتْقِ وَلَا وَجْهَ إلَيْهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا فَإِنَّهُ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْعُذْرِ فِي فَصْلِ الْأَمَةِ وَالطَّلَاقُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْأُخْتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَقْبُولَةٌ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ لَا تَتَضَمَّنُ حُرْمَةَ الْفَرْجِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَى الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَالطَّلَاقِ الْمُضَافِ إلَى الْمِلْكِ يُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، وَلَا تَتَضَمَّنُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَمْنَعُ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ فَقَالُوا: لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ دَعْوَى؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَّمَ مَسْأَلَةَ الْمَجُوسِيَّةِ وَمَنَعَ مَسْأَلَةَ الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ وَطْءَ الْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ لِخُبْثِهَا كَمَا يُمْنَعُ مِنْ الْوَطْءِ حَالَةَ الْحَيْضِ؛ وَلِهَذَا لَوْ وَطِئَهَا لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ، وَبَعْدَ الْعِتْقِ لَوْ وَطِئَهَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ، فَالشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِهَا تَضَمَّنَتْ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ فَقُبِلَتْ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، فَأَمَّا الْأُخْتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَحَرَامُ الْوَطْءِ حَقِيقَةً، حَتَّى لَوْ وَطِئَهَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ مَعَ قِيَامِ مِلْكِ الْيَمِينِ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْبَابِ تَحْرِيمُ الْفَرْجِ لَا الْأُنُوثَةُ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّسَبِ قَطُّ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى، وَفِيمَا ذَكَرَ مِنْ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ مَا إذَا كَانَ صَغِيرًا فَلَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا لَمْ يُنَصِّبْ الْقَاضِي خَصْمًا عَنْ الصَّغِيرِ لِيَدَّعِيَ النَّسَبَ لَهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ شَرْعًا؛ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ الْعَاجِزِ عَنْ إحْيَاءِ حَقِّهِ بِنَفْسِهِ وَالْقَاضِي نُصِّبَ نَاظِرًا لِلْمُسْلِمِينَ وَكَانَ ذَلِكَ شَهَادَةً عَلَى خَصْمٍ. وَأَمَّا الِاسْتِيلَادُ فَهُوَ سَبَبٌ لِتَحْرِيمِ الْفَرْجِ وَالدَّعَاوَى فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ حَقِيقَةَ الْحُرِّيَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالْحُرْمَةُ لَازِمَةٌ لِلْحُرِّيَّةِ حَتَّى لَا يُبَاحَ لَهَا مَسُّ الْمَوْلَى وَغَسْلُهُ بِسَبَبِ الْحُرِّيَّةِ، فَكَانَ الِاسْتِيلَادُ فِي الْحَالِ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ فَكَانَ سَبَبًا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَالِ فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ التَّحْرِيمِ احْتِيَاطًا وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَالطَّلَاقِ الْمُضَافِ إلَى الْحُرِّيَّةِ ثَمَّةَ ثَبَتَ فِي الْجُمْلَةِ أَيْضًا عِنْدَ وُجُودِ زَوَالِ الْحِلِّ، فَيُعْتَبَرُ السَّبَبُ قَائِمًا مَقَامَ الْمُسَبَّبِ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا. وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ عَدَالَةَ الشَّاهِدِ دَلَالَةُ صِدْقِهِ فِي شَهَادَتِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ؛ فَيَثْبُتُ الْمَشْهُودُ بِهِ ظَاهِرًا وَالْقَاضِي مُكَلَّفٌ بِالْقَضَاءِ بِالظَّاهِرِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُشْتَرَطَ الدَّعْوَى لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ أَصْلًا وَلِهَذَا لَمْ تُشْرَطْ فِي عِتْقِ الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الْمَرْأَةِ وَأَسْبَابِ الْحُدُودِ، إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا اشْتِرَاطَهَا فِيمَا وَرَاءَ الْعِتْقِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ الْإِجْمَاعِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ خَبَرَ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ مُحْتَمِلٌ لِلْكَذِبِ فَلَا يُفِيدُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِالْمَشْهُودِ بِهِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَجُوزَ الْقَضَاءُ بِمَا لَا عِلْمَ لِلْقَاضِي بِهِ وَبِمَا لَيْسَ بِثَابِتٍ قَطْعًا؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَإِنَّهُ اسْمٌ لِلثَّابِتِ قَطْعًا وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] وَالْحَقُّ اسْمٌ لِلْكَائِنِ الثَّابِتِ، وَلَا ثُبُوتَ مَعَ احْتِمَالِ الْعَدَمِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ الْقَضَاءُ بِهِ أَصْلًا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَاءَ بِالْجَوَازِ؛ لِحَاجَةِ الْعِبَادِ إلَى دَفْعِ الْفَسَادِ وَهُوَ الْمُنَازَعَةُ الْقَائِمَةُ بَيْنَهُمَا بِالدَّعْوَى، وَالْمُنَازَعَةُ سَبَبُ الْفَسَادِ، أَوْ لِدَفْعِ فَسَادِ الزِّنَا كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا وَعِتْقِ الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الْمَرْأَةِ، أَوْ لِدَفْعِ فَسَادِ السُّكْرِ فِي حَدِّ الشَّارِبِ وَالسُّكْرِ فَأَلْحَقَ الْمُحْتَمَلَ بِالْمُتَيَقَّنِ أَوْ اكْتَفَى بِظَاهِرِ الصِّدْقِ مَعَ الِاحْتِمَالِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ، فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَلَى الْأَصْلِ وَعَلَى هَذَا شَاهِدَانِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ وَالْعَبْدَانِ يَدَّعِيَانِ الْعِتْقَ أَوْ يَدَّعِيَهُ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ شَهِدَا فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى وَصِحَّتِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ عِنْدَهُ، وَالْمُدَّعِي مَجْهُولٌ فَجَهَالَةُ الْمُدَّعِي مَنَعَتْهُ صِحَّةَ الدَّعْوَى فَامْتَنَعَ قَبُولُ الشَّهَادَةِ، وَعِنْدَهُمَا الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَجَهَالَةُ الْمُدَّعِي لَا تَكُونُ أَقَلَّ مِنْ عَدَمِ الدَّعْوَى فَلَا تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فَتُقْبَلُ وَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ، وَإِنْ شَهِدَا بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَى أَنَّهُ

كتاب التدبير

أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا فِي حَالِ صِحَّتِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَإِنْ شَهِدَا عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ مَرِيضٌ فَمَاتَ، أَوْ شَهِدَا بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي الْمَرَضِ لَا تُقْبَلُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تُقْبَلُ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمَا إذَا شَهِدَا عَلَى أَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ، تُقْبَلُ وَيُخَيَّرُ فَيَخْتَارُ طَلَاقَ إحْدَاهُمَا، وَجْهُ قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ، وَالْمُدَّعِي مَجْهُولٌ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ هَهُنَا مَعْلُومٌ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ، وَالْخَصْمُ فِي تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ هُوَ الْمُوصِي، فَكَانَ الْمَيِّتُ الْمَشْهُودُ لَهُ لِوُقُوعِ الشَّهَادَةِ لَهُ فَكَانَ الْمُدَّعِي مَعْلُومًا فَجَازَتْ الشَّهَادَةُ لَهُ، بِخِلَافِ حَالِ الصِّحَّةِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ هُنَاكَ وَقَعَتْ لِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ فَكَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ مَجْهُولًا فَلَمْ تُجْزِ الشَّهَادَةُ؛ وَلِأَنَّ الْمَوْلَى لَمَّا مَاتَ فَقَدْ شَاعَ الْعِتْقُ فِيهِمَا جَمِيعًا فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، مُتَعَيِّنًا فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِخِلَافِ حَالِ الْحَيَاةِ وَالصِّحَّةِ. وَكَذَلِكَ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَمَتَيْنِ بِأَنْ شَهِدَا بِأَنَّهُ أَعْتَقَ إحْدَى أَمَتَيْهِ، أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ اشْتِرَاطِ الدَّعْوَى بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِحُرْمَةِ الْفَرْجِ وَهِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْفَرْجِ بِالْعِتْقِ الْمُبْهَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَكَانَ الْجَوَابُ فِي الْعَبْدَيْنِ وَالْأَمَتَيْنِ هَهُنَا عِنْدَهُ عَلَى السَّوَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَا عَلَى أَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ، أَنَّهَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى سَبَبِ حُرْمَةِ الْفَرْجِ، وَالدَّعْوَى فِيهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ. وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فُلَانًا، لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَجْهُولٌ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ وَسَمَّاهُ وَنَسِينَاهُ، أَنَّ الشَّهَادَةَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ إذَا نَسِيَ مَا تَحَمَّلَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ سَالِمًا وَلَا يَعْرِفَانِ سَالِمًا، وَلَهُ عَبْدٌ اسْمُهُ سَالِمٌ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، وَلَوْ شَهِدَا بِهِ فِي الْبَيْعِ لَا تُقْبَلُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ أَصْلًا وَالْعِتْقُ يَحْتَمِلُ ضَرْبًا مِنْ الْجَهَالَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ وَيَجُوزُ إعْتَاقُ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ. وَلَوْ اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي الشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الْعِتْقَ، لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِعَقْدَيْنِ كُلُّ عَقْدٍ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي دَعْوَى الْعِتْقِ لَا تُقْبَلُ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ فِي دَعْوَى الْمَالِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَوِفَاقٌ وَاخْتِلَافٌ، نَذْكُرُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [كِتَابُ التَّدْبِيرِ] [فَصْلٌ فِي رُكْنِ التَّدْبِيرِ] (كِتَابُ التَّدْبِيرِ) : الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِيمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْعِتْقِ، وَهُوَ بَيَانُ رُكْنِ التَّدْبِيرِ، وَبَيَانُ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَبَيَانُ صِفَةِ التَّدْبِيرِ، وَبَيَانُ حُكْمِ التَّدْبِيرِ، وَوَقْتِ ثُبُوتِ حُكْمِهِ وَبَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ التَّدْبِيرُ. (فَصْلٌ) : أَمَّا الْأَوَّلُ، فَرُكْنُ التَّدْبِيرِ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُ عَلَى مَعْنَى التَّدْبِيرِ لُغَةً، وَهُوَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ عَنْ دُبُرٍ، ثُمَّ إثْبَاتُ الْعِتْقِ عَنْ دُبُرٍ نَوْعَانِ: مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ. أَمَّا الْمُطْلَقُ فَهُوَ أَنْ يُعَلِّقَ الرَّجُلُ عِتْقَ عَبْدِهِ بِمَوْتِهِ مُطْلَقًا، وَلَهُ أَلْفَاظٌ قَدْ تَكُونُ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ دَبَّرْتُك، وَقَدْ تَكُونُ بِلَفْظِ التَّحْرِيرِ وَالْإِعْتَاقِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ حَرَّرْتُكَ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ أَنْتَ مُعْتَقٌ أَوْ عَتِيقٌ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ أَعْتَقْتُك بَعْدَ مَوْتِي، وَكَذَا إذَا قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ عِنْدَ مَوْتِي أَوْ مَعَ مَوْتِي أَوْ فِي مَوْتِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ مَوْتِي؛ لِأَنَّ (عِنْدَ) كَلِمَةُ حَضْرَةٍ فَعِنْدَ الْمَوْتِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْمَوْتِ، فَيَكُونَ مَوْتُهُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ وَجَمْعٌ لِلْمُقَارَنَةِ، وَمُقَارَنَةُ الشَّيْءِ يَقْتَضِي وُجُودَهُمَا، وَ (فِي) لِلظَّرْفِ فَإِذَا دَخَلَ مَا لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا يَجْعَلُ شَرْطًا. كَمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ فِي دُخُولِكَ الدَّارَ وَقَدْ يَكُونُ بِلَفْظِ الْيَمِينِ بِأَنْ يَقُولَ: إنْ مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ يَقُولَ: إذَا مِتُّ أَوْ مَتَى مِتُّ أَوْ مَتَى مَا مِتُّ أَوْ إنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ أَوْ مَتَى حَدَثَ بِي؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالْمَوْتِ مُطْلَقًا، وَكَذَا إذَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَكَانَ الْمَوْتِ الْوَفَاةَ أَوْ الْهَلَاكَ، وَلَوْ قَالَ: إنْ مَاتَ فُلَانٌ فَأَنْتَ حُرٌّ لَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ تَعْلِيقُ عِتْقِ عَبْدِهِ بِمَوْتِهِ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا تَدْبِيرًا بَلْ كَانَ تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ مُطْلَقٍ، كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ مِنْ دُخُولِ الدَّارِ وَكَلَامِ زَيْدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ مِتُّ أَوْ قُتِلْتُ فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ. وَقَالَ زُفَرُ: هُوَ مُدَبَّرٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِالْمَوْتِ وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَلِأَبِي يُوسُفَ إنْ عَلَّقَ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَلَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا

كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ مِتّ أَوْ مَاتَ زَيْدٌ، وَلَوْ قَالَ: إنْ مِتّ وَفُلَانٌ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَمَوْتِ فُلَانٍ أَوْ قَالَ: بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ وَمَوْتِي لَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا إلَّا أَنْ يَمُوتَ فُلَانٌ قَبْلَهُ، فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ مُدَبَّرًا وَإِنَّمَا لَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَمُوتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا فَلَا يُعْتَقُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِشَرْطَيْنِ: بِمَوْتِهِ، وَمَوْتِ فُلَانٍ فَلَا يُعْتَقُ بِمَوْتِهِ وَحْدَهُ وَيَصِيرُ الْعَبْدُ مِيرَاثًا. فَبَعْدَ ذَلِكَ إنْ مَاتَ فُلَانٌ وَوُجِدَ الشَّرْطُ الْآخَرُ، فَإِنَّمَا وُجِدَ بَعْدَمَا انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَى الْوَرَثَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَمُوتَ فُلَانٌ فَيَصِيرُ مُدَبَّرًا وَيُعْتَقَ بِمَوْتِ الْمَوْلَى، فَكَانَ هَذَا كَالتَّدْبِيرِ الْمُقَيَّدِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا فَقَدْ صَارَ الْعَبْدُ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ لِمَا بَيَّنَّا. وَإِنْ مَاتَ فُلَانٌ أَوَّلًا فَقَدْ صَارَ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ صَارَ مُطْلَقًا وَصَارَ الْعَبْدُ بِحَالِهِ يُعْتَقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ فِي الْأَصْلِ، فَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ كَلَامِك فُلَانًا وَبَعْدَ مَوْتِي. فَكَلَّمَ فُلَانًا، كَانَ مُدَبَّرًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إذَا كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي. فَكَلَّمَهُ صَارَ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْكَلَامِ صَارَ التَّدْبِيرُ مُطْلَقًا فَكَذَا هَذَا، وَقَدْ يَكُونُ بِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يُوصِيَ لِعَبْدِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِعِتْقِهِ، أَوْ يُوصِيَهُ بِوَصِيَّةٍ يَسْتَحِقُّ مِنْ جُمْلَتِهَا رَقَبَتَهُ أَوْ بَعْضَهَا، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: أَوْصَيْتُك بِنَفْسِك أَوْ بِرَقَبَتِك أَوْ بِعِتْقِك، أَوْ كُلِّ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جُمْلَةِ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ يَزِيلُ مِلْكُهُ بِالْوَصِيَّةِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ مِمَّنْ يَحْتَمِلُ الْمِلْكَ يَزُولُ الْمِلْكُ إلَيْهِ، وَإِلَّا فَيَزُولُ لَا إلَى أَحَدٍ، وَالْحُرُّ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ نَفْسَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِنَفْسِهِ إزَالَةَ الْمِلْكِ لَا إلَى أَحَدٍ وَهَذَا مَعْنَى الْإِعْتَاقِ، فَهَذَا الطَّرِيقُ جَعَلَ بَيْعَ نَفْسِ الْعَبْدِ وَهِبَتَهَا لَهُ إعْتَاقًا كَذَا هَذَا، فَيَصِيرُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، وَكَذَا لَوْ قَالَ لَهُ: أَوْصَيْت لَك بِثُلُثِ مَالِي؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا لَهُ فَصَارَ مُوصًى لَهُ بِثُلُثِهَا، وَلِأَنَّ هَذَا إزَالَةُ الْمِلْكِ مِنْ الثُّلُثِ لَا إلَى أَحَدٍ فَيَكُونُ إعْتَاقًا، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي مَنْ أَوْصَى لِعَبْدِهِ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ أَنَّهُ يُعْتَقُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ لَمْ يُعْتَقْ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ السَّهْمَ عِبَارَةٌ عَنْ السُّدُسِ فَإِذَا أَوْصَى لَهُ بِسُدُسِ مَالِهِ فَقَدْ دَخَلَ سُدُسُ رَقَبَتِهِ فِي الْوَصِيَّةِ. فَأَمَّا اسْمُ الْجُزْءِ فَلَا يَتَضَمَّنُ الْوَصِيَّةَ بِالرَّقَبَةِ لَا مَحَالَةَ، فَكَانَ الْخِيَارُ فِيهِ إلَى الْوَرَثَةِ فَلَهُمْ التَّعْيِينُ فِيمَا شَاءَ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَهُوَ أَنْ يُعَلِّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِمَوْتِهِ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ أَوْ بِمَوْتِهِ وَشَرْطٌ آخَرُ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: إنْ مِتّ مِنْ مَرَضِي هَذَا أَوْ فِي سَفَرِي هَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ. أَوْ يَقُولُ: إنْ قُتِلْت فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ إنْ غَرِقْت فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ إنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ مِنْ مَرَضِي هَذَا أَوْ مِنْ سَفَرِي هَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونُ، وَكَذَا إذَا ذَكَرَ مَعَ مَوْتِهِ شَرْطًا آخَرَ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ فَهُوَ مُدَبَّرٌ مُقَيَّدٌ، وَحُكْمُهُ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعه إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إذَا مِتُّ وَدُفِنْتُ أَوْ غُسِّلْتُ أَوْ كُفِّنْتُ فَأَنْتَ حُرٌّ. فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ يُرِيدُ بِهِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّدْبِيرِ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُدَبِّرِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالْمَوْتِ وَبِمَعْنًى آخَرَ فَلَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا مُطْلَقًا، فَإِنْ مَاتَ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ اسْتَحْسَنْت أَنْ يُعْتَقَ مِنْ الثُّلُثِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُعْتَقُ كَمَا لَوْ قَالَ: إذَا مِتّ فَدَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ. فَمَاتَ الْمَوْلَى فَدَخَلَ الْعَبْدُ الدَّارَ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ كَذَا هَذَا، لَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ وَقَالَ: يُعْتَقُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالْمَوْتِ وَبِمَا هُوَ مِنْ عَلَائِقِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِمَوْتِ نِصْفِهِ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إذَا مِتُّ فَدَخَلْت الدَّارَ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الدَّارِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَوْتِ، فَلَمْ يَكُنْ تَعْلِيقًا بِمَوْتِ نِصْفِهِ، فَلَمْ يَكُنْ تَدْبِيرًا أَصْلًا، بَلْ كَانَ يَمِينًا مُطْلَقًا فَيَبْطُلُ بِالْمَوْتِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ. ثُمَّ التَّدْبِيرُ قَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا، وَقَدْ يَكُونُ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَمَّا الْمُطْلَقُ فَمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْمُعَلَّقُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَوْ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا أَوْ إذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتَ مُدَبَّرٌ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إثْبَاتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ، وَحَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَكَذَا فِي حَقِّ التَّدْبِيرِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: إذَا قَالَ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي إنْ شِئْت. فَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ إنْ شِئْت السَّاعَةَ فَشَاءَ الْعَبْدُ فِي سَاعَتِهِ تِلْكَ صَارَ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ بِشَرْطٍ وَهُوَ الْمَشِيئَةُ، وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَصِيرُ مُدَبَّرًا، كَمَا إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ مُدَبَّرٌ وَإِنْ عَنَى بِهِ مَشِيئَتَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مَشِيئَةٌ حَتَّى يَمُوتَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِشَرْطٍ يُوجَدُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِذَا وُجِدَ قَبْلَهُ لَا يُعْتَبَرُ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى فَشَاءَ عِنْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ حُرٌّ مِنْ ثُلُثِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنْ يُعْتِقَهُ الْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ هَهُنَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمَوْتِ وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِهِ وَبِأَمْرٍ آخَرَ بَعْدَهُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ، فَيَجِبُ أَنْ لَا يُعْتَقَ

مَا لَمْ يُعْتَقْ، وَكَذَا ذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ حَتَّى يُعْتِقَهُ الْوَرَثَةُ لِمَا قُلْنَا، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ وَعِيسَى بْنُ أَبَانَ وَأَبُو سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: إذَا مِتّ فَأَعْتِقْ عَبْدِي هَذَا إنْ شِئْت. أَوْ قَالَ إذَا مِتّ فَأَمْرُ عَبْدِي هَذَا بِيَدِك ثُمَّ مَاتَ فَشَاءَ الرَّجُلُ عِتْقَهُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَ الْمَجْلِسِ فَلَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا وَصِيَّةٌ بِالْإِعْتَاقِ، وَالْوَصَايَا لَا يَتَقَيَّدُ الْقَبُولُ فِيهَا بِالْمَجْلِسِ، وَكَذَا إنْ قَالَ: عَبْدِي هَذَا حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي إنْ شِئْت فَشَاءَ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَ الْمَجْلِسِ فَقَدْ وَجَبَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا يَتَقَيَّدُ قَبُولُهَا بِالْمَجْلِسِ وَلَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ حَتَّى يُعْتِقَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ الْوَصِيُّ أَوْ الْقَاضِي وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْحَاكِمِ وَالْجَصَّاصِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْن الْمَسْأَلَتَيْنِ سِوَى أَنَّ هُنَاكَ عَلَّقَ بِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ، وَهَهُنَا عَلَّقَ بِمَشِيئَةِ الْأَجْنَبِيِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ شِئْت بَعْدَ مَوْتِي فَمَاتَ الْمَوْلَى وَقَامَ الْعَبْدُ مِنْ مَجْلِسِهِ الَّذِي عَلِمَ فِيهِ بِمَوْتِ الْمَوْلَى أَوْ أَخَذَ فِي عَمَلٍ آخَرَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ شَيْئًا مِمَّا جَعَلَهُ إلَيْهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا وَصِيَّةٌ بِالْإِعْتَاقِ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، وَالْوَصِيَّةُ لَا يَقِفُ قَبُولُهَا عَلَى الْمَجْلِسِ. وَأَمَّا الْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ أَنْتَ مُدَبَّرٌ غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ صَارَ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إثْبَاتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فَيَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ كَإِثْبَاتِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ وَلِهَذَا احْتَمَلَ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَذَا الْإِضَافَةُ وَقَدْ رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِشَهْرٍ. فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ وَلَا يُعْتَقُ إلَّا أَنْ يُعْتَقَ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَنَى قَبْلَ الشَّهْرِ دَفَعَهُ بِالْجِنَايَةِ، وَلَوْ لَحِقَهُ دَيْنٌ بِيعَ فِيهِ، وَوَجْهُ الْقِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِمُضِيِّ شَهْرٍ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَكَمَا مَاتَ انْتَقَلَ الْمِلْكُ فِيهِ إلَى الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا مُضِيُّ الزَّمَانِ وَهُوَ الشَّهْرُ، فَلَا يُحْتَمَلُ ثُبُوتُ الْعِتْقِ بِهِ فَيَبْطُلَ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فَجَعَلُوهُ وَصِيَّةً بِالْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ يُحْمَلُ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ، وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا، وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ. فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ؛ لِأَنَّهُ مَا أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى الْمَوْتِ أَصْلًا، بَلْ أَضَافَهُ إلَى زَمَانٍ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ مِنْ وَقْتِ التَّكَلُّمِ، وَهَذَا أَيْضًا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ لِجَوَازِ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ مِنْ وَقْت الْكَلَامِ، فَلَا يَكُونُ مُدَبَّرًا لِلْحَالِ، وَإِذَا مَضَى شَهْرٌ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَهُوَ فِي مِلْكِهِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ مُدَبَّرٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَيْسَ بِمُدَبَّرٍ، وَعَلَّلَ الْقُدُورِيُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا مَضَى شَهْرٌ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدَبَّرًا، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْمُدَبَّرَ اسْمٌ لِمَنْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى، وَهَهُنَا مَا أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى الْمَوْتِ أَصْلًا بَلْ أَضَافَهُ إلَى أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَكَذَا حُكْمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَثْبُتُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ، أَوْ يَسْتَنِدُ إلَيْهِ وَالثَّابِتُ بِالتَّدْبِيرِ يَقْتَصِرُ عَلَى حَالَةِ الْمَوْتِ وَلَا يَسْتَنِدُ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ مِنْ التَّعْلِيلِ لِأَبِي حَنِيفَةَ غَيْرُ سَدِيدٍ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَقَدْ ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ عِنْدَهُمَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا مُطْلَقًا، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا مَضَى الشَّهْرُ ظَهَرَ أَنَّ عِتْقَهُ تَعَلَّقَ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مُضِيِّهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي فَصَارَ مُدَبَّرًا مُطْلَقًا وَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْهُمَا فَلَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ مَا عَلَّقَ عِتْقَهُ بِالْمَوْتِ، بَلْ بِشَهْرٍ وَمُتَّصِلٍ بِالْمَوْتِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ مَوْتِي بِسَاعَةٍ، وَلَوْ قَالَ يَوْمَ أَمُوتُ: فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ يَوْمَ أَمُوتُ. فَإِنْ نَوَى بِهِ النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ لَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، إذْ الْيَوْمُ اسْمٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ لُغَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ بِاللَّيْلِ لَا بِالنَّهَارِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا مُدَبَّرًا مُطْلَقًا، وَإِنْ عَنَى بِهِ الْوَقْتَ الْمُبْهَمَ فَهُوَ مُدَبَّرٌ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ الْمُطْلَقُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] وَمَنْ وَلَّى بِاللَّيْلِ لَحِقَهُ الْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ: إنْ مِتّ إلَى سَنَةٍ أَوْ إلَى عَشْرِ سِنِينَ فَأَنْتَ حُرٌّ. فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِمَوْتٍ بِصِفَةٍ تَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، فَإِنْ قَالَ: إنْ مِتّ إلَى مِائَةِ سَنَةٍ، وَمِثْلُهُ لَا يَعِيشُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي الْغَالِبِ فَهُوَ مُدَبَّرٌ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ بَعْدَ مَوْتِي فَهُوَ مُدَبَّرٌ السَّاعَةَ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّدْبِيرَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالتَّدْبِيرُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُتَصَوَّرُ فَيَلْغُو قَوْلُهُ: بَعْدَ مَوْتِي فَيَبْقَى قَوْلُهُ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَيْ أَنْتَ حُرٌّ فَيَصِيرَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَذَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ

فصل في شرائط ركن التدبير

الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَبُولَ فِي هَذَا عَلَى حَالَةِ الْحَيَاةِ، لَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِذَا قَبِلَ فِي الْمَجْلِسِ صَحَّ التَّدْبِيرُ وَصَارَ مُدَبَّرًا، وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ، وَإِذَا مَاتَ عَتَقَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا إيجَابُ الْعِتْقِ فِي الْحَالِ بِعِوَضٍ، إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ يَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا إذَا قَالَ لَهُ إنْ شِئْت فَأَنْتَ حُرٌّ رَأْسَ الشَّهْرِ تُعْتَبَرُ الْمَشِيئَةُ فِي الْمَجْلِسِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ رَأْسَ الشَّهْرِ كَذَا هَهُنَا، فَإِذَا قَبِلَ فِي الْمَجْلِسِ صَحَّ التَّدْبِيرُ وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى مُطْلَقًا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِلْمَوْلَى دَيْنٌ، وَإِذَا مَاتَ عَتَقَ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ وَهُوَ الْمَوْتُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ وَقْتُ الْقَبُولِ فَلَا يَلْزَمُهُ وَقْتُ الْعِتْقِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَضَافَ الْإِيجَابَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَكُونُ الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ، إذْ الْقَبُولُ بَعْدَ الْإِيجَابِ يَكُونُ، وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ بِدَلِيلِ اعْتِبَارِهِ مِنْ الثُّلُثِ، وَقَبُولُ الْوَصَايَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِذَا كَانَ الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُعْتَبَرُ قَبُولُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِذَا قَبِلَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهَلْ يُعْتَقُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِنَفْسِ الْقَبُولِ، أَوْ لَا يُعْتَقُ إلَّا بِإِعْتَاقِ الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ أَوَالْقَاضِي، لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِير، وَلَوْ قَالَ أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفٍ فَقَبِلَ فَهُوَ مُدَبَّرٌ وَالْمَالُ سَاقِطٌ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ بِشَرْطٍ وَهُوَ قَبُولُ الْمَالِ، فَإِذَا قَبِلَ صَارَ مُدَبَّرًا وَالْمُدَبَّرُ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَهُ دَيْنٌ لِمَوْلَاهُ فَسَقَطَ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي نَوَادِرِهِ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ عَلَى أَلْفٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لَهُ الْقَبُولُ السَّاعَةَ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ. فَإِنْ مَاتَ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ، فَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُ أَدَّى الْأَلْفَ وَعَتَقَ، وَهُوَ رِوَايَةُ عَمْرٍو عَنْ مُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ لَمْ يَقْبَلْ حَتَّى مَاتَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَدَّى الْأَلْفَ وَعَتَقَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ إعْتَاقِ الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ إذَا قَالَ: إذَا مِتّ فَأَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِذَا قَبِلَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يُعْتَقُ بِالْقَبُولِ حَتَّى تُعْتِقَهُ الْوَرَثَةُ أَوْ الْوَصِيُّ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ قَدْ تَأَخَّرَ وُقُوعُهُ عَنْ الْمَوْتِ، وَكُلُّ عِتْقٍ تَأَخَّرَ وُقُوعُهُ عَنْ الْمَوْتِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِيقَاعٍ مِنْ الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَصِيَّةً بِالْإِعْتَاقِ، فَلَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يُوجَدْ الْإِعْتَاقُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِيَوْمٍ أَوْ بِشَهْرٍ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ الْوَارِثُ أَوْ الْوَصِيُّ بَعْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ أَوْ الشَّهْرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَهُنَا ثُمَّ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ يَمْلِكُ الْوَارِثُ الْإِعْتَاقَ تَنْجِيزًا وَتَعْلِيقًا حَتَّى لَوْ قَالَ لَهُ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَدَخَلَ يُعْتَقُ كَمَا لَوْ نَجَّزَ الْعِتْقَ، وَالْوَصِيُّ يَمْلِكُ التَّنْجِيزَ لَا التَّعْلِيقَ حَتَّى لَوْ عَلَّقَ بِالدُّخُولِ فَدَخَلَ لَا يُعْتَقُ، وَلِأَنَّ الْوَارِثَ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمَيِّتِ وَيَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ وَالْوَصِيُّ يَتَصَرَّفُ بِالْأَمْرِ فَلَا يَتَعَدَّى تَصَرُّفُهُ مَوْضِعَ الْأَمْرِ كَالْوَكِيلِ، وَالْوَكِيلُ بِالْإِعْتَاقِ لَا يَمْلِكُ التَّعْلِيقَ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ عَنْ كَفَّارَةٍ لَزِمَتْهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْمَيِّتِ، وَالْوَلَاءُ عَنْ الْمَيِّتِ لَا عَنْ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بَعْدَ مَوْتِي. فَالْقَبُولُ فِي هَذَا فِي الْحَيَاةِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَبُولَ فِي الْحَالَتَيْنِ شَرْطًا لِثُبُوتِ الْعِتْقِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِذَا قَبِلَ صَارَ مُدَبَّرًا، وَلَا يَجِبُ الْمَالُ لِمَا قُلْنَا فَإِذَا مَاتَ عَتَقَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهَذَا حُجَّةُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي فَمَا فِي مِلْكِهِ صَارَ مُدَبَّرًا، وَمَا يَسْتَفِيدُهُ يُعْتَقُ مِنْ الثُّلُثِ بِغَيْرِ تَدْبِيرٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَا يَسْتَفِيدُهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ الْمَمْلُوكَ لِلْحَالِ مُرَادٌ مِنْ هَذَا الْإِيجَابِ، فَلَا يَكُونُ مَا يَسْتَفِيدُهُ مُرَادًا؛ لِأَنَّ الْحَالَ مَعَ الِاسْتِقْبَالِ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلِهَذَا لَمْ يَدْخُلْ الْمُسْتَفَادُ فِي هَذَا فِي الْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ، كَذَا فِي التَّدْبِيرِ وَلَهُمَا أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ وَمَعْنَى الْوَصِيَّةِ، أَمَّا مَعْنَى الْيَمِينِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ، فَالْيَمِينُ إنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ إلَّا فِي الْمِلْكِ الْقَائِمِ أَوْ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ أَوْ سَبَبِهِ فَالْوَصِيَّةُ تَتَعَلَّقُ بِمَا فِي مِلْكِ الْمُوصِي وَبِمَا يُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فِيهِ، فَإِنَّ مَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَمْلُوكُ لِلْحَالِ وَمَا يَسْتَفِيدُهُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، وَقَوْلُهُ: اللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ قُلْنَا: قَدْ يَشْتَمِلُ كَالْكِتَابَةِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ فَإِنَّهُمَا يَشْتَمِلَانِ عَلَى مَعْنَى الْيَمِينِ وَالْمُعَاوَضَةِ كَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِط رُكْنِ التَّدْبِير] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ، فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَعُمُّ نَوْعَيْ التَّدْبِيرِ أَعْنِي الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ وَبَعْضُهَا يَخُصُّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ الْمُطْلَقُ، أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ فَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ، فَلَا يَصِحُّ التَّدْبِيرُ إلَّا بَعْدَ صُدُورِ رُكْنِهِ مُطْلَقًا عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ

فصل في صفة التدبير

مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ، وَلَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ سَوَاءً كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ أَوْ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ أَوْ سَبَبِ الْمِلْكِ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدٍ لَا يَمْلِكُهُ: إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ مُدَبَّرٌ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ إثْبَاتَ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِثْبَاتَ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ. وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَوْجُودًا لِلْحَالِ فَالظَّاهِرُ دَوَامُهُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالْوَقْتِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فَالظَّاهِرُ عَدَمُهُ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالْوَقْتِ وَلَا عِنْدَ الْمَوْتِ، فَلَا يَحْصُلُ مَا هُوَ الْغَرَضُ مِنْ التَّدْبِيرِ أَيْضًا عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي بَيَانِ حُكْمِ التَّدْبِيرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى حَتَّى لَوْ عَلَّقَ بِمَوْتِ غَيْرِهِ بِأَنْ قَالَ: إنْ مَاتَ فُلَانٌ فَأَنْتَ حُرٌّ لَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا أَصْلًا. وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ أَحَدَهُمَا فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيقُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى، فَإِنْ كَانَ بِمَوْتٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ لَا يَكُونُ تَدْبِيرًا مُطْلَقًا بَلْ يَكُونُ مُقَيَّدًا، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيقُ بِمَوْتِهِ وَحْدَهُ، حَتَّى لَوْ عَلَّقَ بِمَوْتِهِ وَشَرْطٍ آخَرَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ تَدْبِيرًا مُطْلَقًا وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسَائِلَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ. [فَصْلٌ فِي صِفَة التَّدْبِيرِ] وَأَمَّا صِفَةُ التَّدْبِيرِ فَالتَّدْبِيرُ مُتَجَزِّئٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَتَجَزَّأُ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ إثْبَاتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ، فَيُعْتَبَرُ بِإِثْبَاتِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ، وَإِثْبَاتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ. كَذَا إثْبَاتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِ وَهُوَ إثْبَاتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ، فَكَانَ إعْتَاقًا. فَكَانَ الْخِلَافُ فِيهِ لَازِمًا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ عَبْدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا إنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ صَارَ نَصِيبُهُ خَاصَّةً مُدَبَّرًا وَنَصِيبُ شَرِيكِهِ عَلَى مِلْكِهِ؛ لِكَوْنِ التَّدْبِيرِ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ فَيَقْتَصِرُ عَلَى نَصِيبِهِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُدَبِّرُ مُوسِرًا فَلِلشَّرِيكِ سِتُّ خِيَارَاتٍ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَى حَالِهِ. أَمَّا خِيَارُ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالِاسْتِسْعَاءِ، فَلِأَنَّ نَصِيبَهُ بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ فِي حَقِّ التَّخْرِيجِ إلَى الْعَتَاقِ. وَأَمَّا خِيَارُ التَّضْمِينِ فَلِأَنَّهُ بِالتَّدْبِيرِ أَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ مُطْلَقًا بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَدْ أَتْلَفَهُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ التَّضْمِينِ. وَأَمَّا خِيَارُ التَّرْكِ عَلَى حَالِهِ فَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ لَمْ تَثْبُتْ فِي جُزْءٍ مِنْهُ فَجَازَ إبْقَاؤُهُ عَلَى الرِّقِّ، وَإِنَّهُ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مَنْفَعَةَ الْكَسْبِ وَالْخِدْمَةِ، فَلَا يُكَلَّفُ بِالتَّخْرِيجِ إلَى الْحُرِّيَّةِ مَا لَمْ يَمُتْ الْمُدَبِّرُ فَإِنْ اخْتَارَ الْإِعْتَاقَ فَأَعْتَقَ، فَلِلْمُدَبَّرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُعْتِقِ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ وَهُوَ مُدَبَّرٌ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ مُدَبَّرًا وَالْوَلَاءُ بَيْنهمَا؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْهُمَا لِأَنَّ نَصِيبَ الْمُدَبِّرِ لَا يَحْتَمِل الِانْتِقَالَ إلَى الْمُعْتَقِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَلِلْمُعْتِقِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا ضَمِنَ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْإِعْتَاقِ حَصَلَتْ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ الْمُدَبِّرُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى وَلَيْسَ لَهُ التَّرْكُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتِقُ الْبَعْضِ، فَيَجِبُ تَخْرِيجُهُ إلَى الْعَتَاقِ، هَذَا إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلِلْمُدَبَّرِ ثَلَاثَةُ خِيَارَاتٍ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ التَّدْبِيرَ فَدَبَّرَ نَصِيبَهُ حَتَّى صَارَ الْعَبْدُ مُدَبَّرًا بَيْنهمَا، وَسَاوَى شَرِيكَهُ فِي التَّصَرُّفِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَ نَصِيبُ الْمَيِّتِ بِالتَّدْبِيرِ وَيَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ، وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْبَاقِي إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُعْتِقَ الْبَعْضِ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَلَيْسَ لَهُ التَّرْكُ عَلَى حَالِهِ لِمَا قُلْنَا. فَإِنْ مَاتَ الشَّرِيكُ الْآخَرُ قَبْلَ أَخْذِ السِّعَايَةِ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْ الثُّلُثِ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا، وَبَطَلَتْ السِّعَايَةُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَالْمُدَبَّرُ إذَا أُعْتِقَ بِمَوْتِ مَوْلَاهُ وَقِيمَتُهُ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ، وَقِيلَ إنَّ هَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا فَلَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ بِمَوْتِ الْأَوَّلِ فَوَجَبَتْ السِّعَايَةُ عَلَيْهِ وَهُوَ حُرٌّ، فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ دُيُونٍ وَجَبَتْ عَلَى الْحُرِّ فَلَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَعْتِقُ نَصِيب الشَّرِيكِ مَا لَمْ يُؤَدِّ السِّعَايَةَ إذَا اخْتَارَ السِّعَايَةَ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ فَإِذَا مَاتَ الشَّرِيكُ فَهَذَا مُدَبَّرٌ مَاتَ مَوْلَاهُ وَقِيمَتُهُ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَيُعْتَقُ مِنْ غَيْرِ سِعَايَةٍ، وَإِنْ اخْتَارَ الْكِتَابَةَ وَكَاتَبَهُ صَحَّتْ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ عَلَى مِلْكِهِ فَإِنْ أَدَّى فَعَتَقَ مَضَى الْأَمْرُ، وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْأَدَاءِ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ وَبَطَلَتْ عَنْهُ السِّعَايَةُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ يُذْكَرُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ

تَعَالَى وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُدَبِّرِ فَضَمِنَهُ فَقَدْ صَارَ الْعَبْدُ كُلُّهُ لِلْمُدَبِّرِ لِانْتِقَالِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ إلَيْهِ بِالضَّمَانِ، وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمُدَبِّرِ؛ لِأَنَّ كُلَّهُ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ وَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْعَبْدِ فَيَسْتَسْعِيهِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَهُ فَلَمَّا ضَمِنَ الْمُدَبِّرُ قَامَ مَقَامَهُ فِيمَا كَانَ لَهُ. فَإِنْ مَاتَ الْمُدَبِّرُ عَتَقَ نِصْفُهُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ قَدْ صَارَ مُدَبَّرًا فَيُعْتَقُ بِمَوْتِهِ، لَكِنْ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا وَيَسْعَى فِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَامِلًا لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ النِّصْفَ كَانَ قِنًّا وَإِنْ شَاءُوا أَعْتَقُوا ذَلِكَ النِّصْفَ وَإِنْ شَاءُوا دَبَّرُوا وَإِنْ شَاءُوا كَاتَبُوا وَإِنْ شَاءُوا تَرَكُوهُ عَلَى حَالِهِ وَإِنْ اخْتَارَ الِاسْتِسْعَاءَ سَعَى الْعَبْدُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، فَإِذَا أَدَّى يُعْتَقُ ذَلِكَ النِّصْفُ، وَلَا يَضْمَنُ الشَّرِيكُ لِلْمُدَبِّرِ شَيْئًا لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ بِسَبَبٍ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ فَيَسْتَسْعِيهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ كَمُعْتَقِ الْبَعْضِ فَإِذَا أَدَّى يَعْتِقُ كُلُّهُ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ، فَإِنْ مَاتَ الْمُدَبِّرُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ السِّعَايَةَ بَطَلَتْ السِّعَايَةُ وَعَتَقَ ذَلِكَ النِّصْفُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ اخْتَارَ تَرْكَ نَصِيبِهِ عَلَى حَاله فَمَاتَ يَكُون نَصِيبُهُ مَوْرُوثًا عَنْهُ فَيَنْتَقِلُ الْخِيَارُ إلَى الْوَرَثَةِ فِي الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالِاسْتِسْعَاءِ وَالتَّرْكِ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ انْتَقَلَ إلَيْهِمْ وَقَدْ كَانَ لَهُ هَذِهِ الْخِيَارَاتُ، وَإِنْ مَاتَ الْمُدَبِّرُ عَتَقَ ذَلِكَ النِّصْفُ مِنْ الثُّلُثِ، وَلِغَيْرِ الْمُدَبِّرِ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ، وَلَيْسَ لَهُ خِيَارُ التَّرْكِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُعْتَقَ الْبَعْضِ فَيَجِبُ تَخْرِيجُهُ إلَى الْعِتْقِ لَا مَحَالَةَ، وَالْوَلَاءُ بَيْنهمَا؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ، هَذَا إذَا كَانَ الْمُدَبِّرُ مُوسِرًا فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلِلشَّرِيكِ الْخِيَارَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا إلَّا اخْتِيَارَ التَّضْمِينِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا إذَا دَبَّرَ نَصِيبَهُ فَقَدْ صَارَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا وَيَضْمَنُ الْمُدَبِّرُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا فَقَدْ فَرَّقَا بَيْنَ التَّدْبِيرِ وَبَيْنَ الْإِعْتَاقِ إنَّ فِي الْإِعْتَاقِ لَا يَضْمَنُ إذَا كَانَ مُعْسِرًا، وَإِنَّمَا يَسْعَى الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ إتْلَافٍ أَوْ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ أَوْ ضَمَانُ حَبْسِ الْمَالِ، وَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ، إلَّا أَنَّ السِّعَايَةَ فِي بَابِ الْإِعْتَاقِ ثَبَتَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ، وَلِأَنَّ بِالْإِعْتَاقِ قَدْ زَالَ الْعَبْدُ عَنْ مِلْكِ الْمُعْتِقِ وَصَارَ حُرًّا فَيَسْعَى وَهُوَ حُرٌّ وَهَهُنَا الْمِلْكُ قَائِمٌ بَعْدَ التَّدْبِيرِ وَكَسْبُ الْمُدَبَّرِ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهُ، فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالِاسْتِسْعَاءِ. هَذَا إذَا دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا أَوْ دَبَّرَاهُ عَلَى التَّعَاقُبِ،. فَإِنْ دَبَّرَاهُ مَعًا يَنْظُرْ إنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: قَدْ دَبَّرْتُك أَوْ أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ نَصِيبِي مِنْك مُدَبَّرٌ أَوْ قَالَ إذَا مِتّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي. وَخَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا صَارَ مُدَبَّرًا لَهُمَا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَادَفَ مِلْكَ نَفَسِهِ فَصَارَ الْعَبْدُ مُدَبَّرًا بَيْنَهُمَا فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْ الثُّلُثِ، وَالْآخَرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُعْتَقَ الْبَعْضِ، فَإِذَا مَاتَ الْبَاقِي مِنْهُمَا قَبْلَ أَخْذِ السِّعَايَةِ بَطَلَتْ السِّعَايَةُ وَعَتَقَ إنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ قَالَا جَمِيعًا: إذَا مُتْنَا فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِنَا وَخَرَجَ كَلَامُهُمَا مَعًا، لَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا لِأَنَّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَّقَ عِتْقَهُ بِمَوْتِهِ وَمَوْتِ صَاحِبِهِ، فَصَارَ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَالَ: إنْ مِتّ أَنَا وَفُلَانٌ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ إنْ مِتّ أَنَا وَفُلَانٌ إلَّا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فَيَصِيرُ نَصِيبُ الْبَاقِي مِنْهُمَا مُدَبَّرًا لِصَيْرُورَةِ عِتْقِهِ مُعَلَّقًا بِمَوْتِ الْمَوْلَى مُطْلَقًا، وَصَارَ نَصِيبُ الْمَيِّتِ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ، وَلَهُمْ الْخِيَارَاتُ إنْ شَاءُوا أَعْتَقُوا وَإِنْ شَاءُوا دَبَّرُوا وَإِنْ شَاءُوا كَاتَبُوا وَإِنْ شَاءُوا اسْتَسْعَوْا وَإِنْ شَاءُوا ضَمِنُوا الشَّرِيكَ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِذَا مَاتَ الْآخَرُ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْ الثُّلُثِ، هَذَا إذَا دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا، فَإِنْ دَبَّرَ أَحَدُهُمَا أَوْ أَعْتَقَهُ الْآخَرُ فَهَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ خَرَجَ الْكَلَامَانِ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَإِمَّا إنْ خَرَجَا مَعًا. فَإِنْ خَرَجَا عَلَى التَّعَاقُبِ فَإِمَّا إنْ عُلِمَ السَّابِقُ مِنْهُمَا، وَإِمَّا إنْ لَمْ يُعْلَمْ. فَإِنْ عُلِمَ فَإِنْ كَانَ الْإِعْتَاقُ سَابِقًا بِأَنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا أَوَّلًا ثُمَّ دَبَّرَهُ الْآخَرُ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَكَمَا أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ، وَتَدْبِيرُ الشَّرِيكِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ الْحُرَّ، وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمُعْتِقِ؛ لِأَنَّ كُلَّهُ عَتَقَ بِإِعْتَاقِهِ، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَعَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ، فَصَارَ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَسَكَتَ الْآخَرُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا، فَلَمْ يُعْتِقْ إلَّا نَصِيبَهُ لِتَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ عِنْدَهُ، فَلَمَّا دَبَّرَهُ الْآخَرُ فَقَدْ صَحَّ تَدْبِيرُهُ؛ لِأَنَّهُ دَبَّرَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَصَحَّ وَصَارَ مِيرَاثًا لِلْمُعْتِقِ عَنْ

الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ بِإِعْتَاقِ الشَّرِيكِ خِيَارَاتٌ مِنْهَا التَّضْمِينُ وَمِنْهَا التَّدْبِيرُ، فَإِذَا دَبَّرَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فَبَرِئَ الْمُعْتِقُ عَنْ الضَّمَانِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ التَّضْمِينِ بِشَرْطِ نَقْلِ نَصِيبِهِ إلَى الْمُعْتَقِ بِالضَّمَانِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ احْتِمَالِ النَّقْلِ بِالتَّدْبِيرِ فَسَقَطَ الضَّمَانُ، وَالْمُدَبِّرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ الَّذِي صَارَ مُدَبَّرًا وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَهُ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَتَقَ بَعْضُهُ فَوَجَبَ تَخْرِيجُهُ إلَى الْعِتْقِ بِالطُّرُقِ الَّتِي بَيَّنَّا، وَإِذَا مَاتَ الْمُدَبِّرُ عَتَقَ نَصِيبُهُ الَّذِي صَارَ مُدَبَّرًا مِنْ الثُّلُثِ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّهُ عَتَقَ بِإِعْتَاقِهِمَا، النِّصْفُ بِالْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ وَالنِّصْفُ بِالتَّدْبِيرِ، فَعَتَقَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِلْكِهِ. وَإِنْ كَانَ التَّدْبِيرُ سَابِقًا بِأَنْ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا أَوَّلًا ثُمَّ أَعْتَقَ الْآخَرُ، فَعَلَى قَوْلِهِمَا كَمَا دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا صَارَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا لَهُ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ كَالْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ وَيَضْمَنُ الْمُدَبِّرُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ قِنًّا، سَوَاءً كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا لِمَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَمْ يَصِرْ كُلَّهُ مُدَبَّرًا، بَلْ نَصِيبُهُ خَاصَّةً لِتَجَزُّؤِ التَّدْبِيرِ عِنْدَهُ فَصَحَّ إعْتَاقُ الشَّرِيكِ فَعَتَقَ نِصْفُهُ، وَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُعْتِقِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ مُدَبَّرًا إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ الَّذِي هُوَ مُدَبَّرٌ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَقُ الْبَعْضِ، وَإِنْ خَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا لَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِضَمَانٍ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ، فَإِذَا خَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفَسِهِ لَا مُتْلِفًا مِلْكَ غَيْرِهِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ وَالتَّدْبِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ، فَصَحَّ التَّدْبِيرُ فِي النِّصْفِ، وَالْإِعْتَاقُ فِي النِّصْفِ. فَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا يَنْفُذُ الْإِعْتَاقُ وَيَبْطُلُ التَّدْبِيرُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ وَالتَّدْبِيرَ لَا يَتَجَزَّآنِ، وَالْإِعْتَاقُ أَقْوَى فَيَدْفَعُ الْأَدْنَى وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا سَابِقًا لَكِنْ لَا نَعْلَمُ السَّابِقَ مِنْهُمَا مِنْ اللَّاحِقِ، ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْمُعْتِقَ يَضْمَنُ رُبْعَ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِلْمُدَبِّرِ وَيَسْتَسْعِي الْعَبْدَ لَهُ فِي الرُّبْعِ الْآخَرِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْجَوَابُ فِيهِ وَفِيمَا إذَا خَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا سَوَاءٌ وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ كُلَّ أَمْرَيْنِ حَادِثَيْنِ لَا يُعْلَمُ تَارِيخُهُمَا يُحْكَمُ بِوُقُوعِهِمَا مَعًا فِي أُصُولِ الشَّرْعِ كَالْغَرْقَى وَالْحَرْقَى وَالْهَدْمَى، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ: فِي النَّصِّ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ إذَا تَعَارَضَا وَجُهِلَ التَّارِيخُ أَنَّهُ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وَرَدَا مَعًا، وَيُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ عَلَى طَرِيقِ الْبَيَانِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ النَّصِّ الْعَامِّ مَا وَرَاءَ الْقَدْرِ الْمَخْصُوصِ، وَجْهُ قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُعْتِقِ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي سَبَبِ وُجُوبِهِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إنْ كَانَ لَاحِقًا كَانَ الْمُدَبَّرُ بِالتَّدْبِيرِ جَبْرِيًّا لِلْمُعْتِقِ مِنْ الضَّمَانِ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ كَانَ سَابِقًا يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى الْمُعْتِقِ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْوُجُوبِ، وَالْوُجُوبُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ لَهُ اعْتِبَارُ الْأَحْوَالِ وَهُوَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى التَّدْبِيرِ فَقَدْ أَبْرَأَ الْمُدَبِّرُ الْمُعْتِقَ عَنْ الضَّمَانِ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فَالْمُعْتِقُ ضَامِنٌ وَقَدْ سَقَطَ ضَمَانُ التَّدْبِيرِ بِالْإِعْتَاقِ بَعْدَهُ. فَإِذًا لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُدَبِّرِ فِي الْحَالَتَيْنِ جَمِيعًا وَالْمُعْتِقُ يَضْمَنُ فِي حَالٍ وَلَا يَضْمَنُ فِي حَالٍ، وَالْمَضْمُونُ هُوَ النِّصْفُ فَيَنْتَصِفُ فَيَعْتِقُ رُبْعَ الْقِيمَةِ وَيَسْعَى الْعَبْدُ لِلْمُدَبِّرِ فِي الرُّبْعِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ التَّضْمِينُ فِيهِ وَوَجَبَ تَخْرِيجُهُ إلَى الْعَتَاقِ، أُخْرِجَ بِالسِّعَايَةِ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا، وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. مُدَبَّرَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدُهُمَا فَهُوَ مُدَبَّرٌ بَيْنَهُمَا كَأُمِّهِ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْمُدَبَّرَةِ مُدَبَّرٌ لِمَا نَذَرَ فِي بَيَانِ حُكْمِ التَّدْبِيرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَإِلَيْهِ مَالَ الطَّحَاوِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَثْبُتُ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُمَا لَمَّا دَبَّرَاهُ فَقَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْوَلَاءِ لَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ وَلَدُ مُدَبَّرَتِهِمَا جَمِيعًا، وَفِي إثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْ الْمُدَّعِي إبْطَالُ هَذَا الْحَقِّ عَلَيْهِ، وَالْوَلَاءُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النَّسَبَ قَدْ ثَبَتَ فِي نَصِيبِ الْمُدَّعِي لِوُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ وَهُوَ الْوَطْءُ فِي الْمِلْكِ، وَإِذَا ثَبَتَ فِي نَصِيبِهِ يَثْبُتُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَتَجَزَّأُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: حَقُّ الْوَلَاءِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ. فَنَقُولُ نَحْنُ: يَثْبُتُ النَّسَبُ وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْوَلَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، فَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الشَّرِيكِ الْمُدَّعِي وَيَبْقَى نِصْفُ الْوَلَاءِ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ، وَصَارَ نِصْفُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَنِصْفُهَا مُدَبَّرَةً عَلَى حَالِهَا لِلشَّرِيكِ، فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِيلَادُ لَا يَتَجَزَّأُ وَهَذَا قَوْلٌ بِالتَّجْزِئَةِ فَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ أَنَّهُ مُتَجَزِّئٌ فِي نَفَسِهِ

عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَالْإِعْتَاقِ إلَّا أَنَّهُ يَتَكَامَلُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِوُجُودِ سَبَبِ التَّكَامُلِ. عَلَى أَنَّا نَقُولُ: الِاسْتِيلَادُ لَا يَتَجَزَّأُ فِيمَا يَحْتَمِلُ نَقْلَ الْمِلْكِ فِيهِ. فَأَمَّا مَا لَا يَحْتَمِلُ فَهُوَ مُتَجَزِّئٌ، وَهَهُنَا لَا يَحْتَمِلُ لِمَا نَذْكُرُ وَيَغْرَمُ الْمُدَّعِي نِصْفَ الْعُقْرِ لِشَرِيكِهِ وَنِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ مُدَبَّرًا، وَلَا يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمِّ أَمَّا وُجُوبُ نِصْفِ الْعُقْرِ فَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لِإِقْرَارِهِ بِوَطْءِ مُدَبَّرَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّهُ حَرَامٌ إلَّا أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ لِلشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْجَارِيَةِ مِلْكُهُ، فَيَجِبُ الْعُقْرُ، وَيَغْرَمُ نِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ بِالدَّعْوَةِ أَتْلَفَ عَلَى شَرِيكِهِ مِلْكَهُ الثَّابِتَ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي مَحَلٍّ هُوَ مِلْكُهُمَا، فَإِذَا ادَّعَاهُ فَقَدْ أَتْلَفَ عَلَى شَرِيكِهِ مِلْكَهُ الثَّابِتَ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِعًا بِهِ مَنْفَعَةَ الْكَسْبِ وَالْخِدْمَةِ، فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَى شَرِيكِهِ نِصْفَ الْمُدَبَّرِ وَلَا يَغْرَمُ نِصْفَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ قَدْ بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ وَلَمْ تَصِرْ الْجَارِيَةُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ اسْتِيلَادَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ يَعْتَمِدُ تَمَلُّكَ نَصِيبِهِ، وَنَصِيبُهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ لِكَوْنِهِ مُدَبَّرًا، بِخِلَافِ الْأَمَةِ الْقِنَّةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ، فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَغْرَمُ نِصْفَ عُقْرِ الْجَارِيَةِ لِشَرِيكِهِ، وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَا يَغْرَمُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ نَصِيبَ الشَّرِيكِ مُحْتَمَلُ النَّقْلِ، فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِتَمَلُّكِ نَصِيبِهِ بِبَدَلِ ضَرُورَةِ صِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ، وَالتَّمَلُّكُ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَلَدَ حَدَثَ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَهَهُنَا نَصِيبُ الشَّرِيكِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ فَيَقْتَصِرُ الِاسْتِيلَادُ عَلَى نَصِيبِ الْمُدَّعِي وَيَنْفَرِدُ الْوَلَدُ بِالضَّمَانِ لِانْفِرَادِهِ بِسَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، فَإِنْ مَاتَ الْمُدَّعِي أَوَّلًا عَتَقَ نَصِيبُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ فَلَا تَسْعَى فِي نَصِيبِهِ، وَلَا يَضْمَنُ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ شَيْئًا لِحُصُولِ الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ وَهُوَ الْمَوْتُ، وَيَسْعَى فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مُدَبَّرٌ، فَإِنْ مَاتَ الْآخَرُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ السِّعَايَةَ عَتَقَ كُلُّهَا إنْ خَرَجَتْ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَبَطَلَتْ السِّعَايَةُ عَنْهَا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا لَا تَبْطُلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْبِنَاءِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ مَاتَ الَّذِي لَمْ يَدَّعِ أَوَّلًا عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مُدَبَّرٌ لَهُ وَلَا يَسْعَى فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَرِقُّ أُمِّ الْوَلَدِ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ عِنْدَهُ، وَفِي قَوْلِهِمَا يَسْعَى لِأَنَّ رِقَّهُ مُتَقَوِّمٌ فَإِنْ لَمْ يَمُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا حَتَّى وَلَدَتْ وَلَدًا آخَرَ فَادَّعَاهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ الْعُقْرِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِوَطْءِ مُدَبَّرَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُمَا، وَأَيُّهُمَا مَاتَ يَعْتِقْ كُلُّ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُمُّ وَلَدٍ، وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أُعْتِقَ بَعْضُهَا عَتَقَ كُلُّهَا وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ وَادَّعَيَاهُ جَمِيعًا مَعًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا جَمِيعًا وَيَبْطُلُ التَّدْبِيرُ إلَى خَلَفٍ هُوَ خَيْرٌ، وَهُوَ الِاسْتِيلَادُ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الِاسْتِيلَادِ يَنْفُذُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ فَكَانَ خَيْرًا لَهَا مِنْ التَّدْبِيرِ، وَحُكْمُ الضَّمَانِ فِي الْقِنِّ مَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْجَارِيَةِ الْقِنَّةِ وَسَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الِاسْتِيلَادِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ دَبَّرَهُ عَبْدَهُ ثُمَّ كَاتَبَهُ جَازَتْ الْكِتَابَةُ لِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ أَدَّى الْكِتَابَةَ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى عَتَقَ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ، وَهُوَ أَدَاءُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ حَتَّى مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ أَيْضًا إنْ كَانَ يَخْرُجُ كُلُّهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى؛ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ بِسَبَبِ التَّدْبِيرِ وَهُوَ مَوْتُ الْمَوْلَى. وَخُرُوجُ الْمُدَبَّرِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْمُدَبَّرِ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ فِي الثُّلُثِ نَافِذَةٌ فَإِذَا خَرَجَ كُلُّهُ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ سِعَايَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ اسْتَسْعَى فِي جَمِيعِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْكِتَابَةَ سَعَى عَلَى النُّجُومِ وَإِنْ اخْتَارَ السِّعَايَةَ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ يَسْعَى حَالًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ جَمِيعِ الْكِتَابَةِ وَمِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ وَمِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ، وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَقَعُ فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي الْخِيَارِ، وَالثَّانِي فِي الْمِقْدَارِ، وَالْخِلَافُ فِي الْخِيَارِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَفِي الْمِقْدَارِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ أَمَّا فَصْلُ الْخِيَارِ فَالْخِلَافُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْعِتْقَ لَمَّا كَانَ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ لَمْ يَعْتِقْ بِمَوْتِ الْمَوْلَى إلَّا ثُلُثُ الْعَبْدِ، وَبَقِيَ الثُّلُثَانِ مِنْهُ رَقِيقًا، وَقَدْ تَوَجَّهَ إلَى الثُّلُثَيْنِ الْعِتْقُ مِنْ جِهَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا الْكِتَابَةُ بِأَدَاءِ بَدَلٍ مُؤَجَّلٍ، وَالثَّانِيَةُ التَّدْبِيرُ بِسِعَايَةِ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ مُعَجَّلًا. فَيُخَيَّرُ إنْ شَاءَ مَالَ إلَى هَذَا وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى ذَاكَ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الْعِتْقُ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُمَا فَإِذَا عَتَقَ

فصل في حكم التدبير

ثُلُثُهُ بِالْمَوْتِ فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ، وَبَطَلَ التَّأْجِيلُ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَصَارَ الْمَالَانِ جَمِيعًا حَالًا، وَعَلَيْهِ أَخْذُ الْمَالَيْنِ: إمَّا الْكِتَابَةَ، وَإِمَّا السِّعَايَةَ، وَأَحَدُهُمَا أَقَلُّ وَالْآخَرُ أَكْثَرُ، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَارُ الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ وَأَحَدُهُمَا أَكْثَرُ مِنْ الْآخَرِ أَوْ أَقَلُّ كَانَ الْأَقَلُّ مُتَيَقَّنًا بِهِ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا فَصْلُ الْمِقْدَارِ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ كُلَّهُ قُوبِلَ بِكُلِّ الرَّقَبَةِ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْعَقَدَ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ: كَاتَبْتُك عَلَى كَذَا، وَقَدْ عَتَقَ ثُلُثُ الرَّقَبَةِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا كَانَ بِمُقَابَلَتِهِ، وَهُوَ ثُلُثُ الْبَدَلِ فَيَبْقَى الثُّلُثَانِ، وَلِأَنَّ ثُلُثَ مَالِ الْمَوْلَى لَوْ كَانَ مِثْلَ كُلِّ قِيمَةِ الْعَبْدِ لَسَقَطَ عَنْهُ كُلُّ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَإِذَا كَانَ مِثْلَ ثُلُثِ قِيمَتِهِ يَجِبُ أَنْ يَسْقُطَ ثُلُثُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَيَبْقَى الثُّلُثَانِ، فَيَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ، وَمِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ لِمَا قُلْنَا، وَلَهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ اسْتَحَقَّ ثُلُثَ رَقَبَتِهِ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ قَبْلَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ لَهُ ذَلِكَ كَائِنًا مَا كَانَ فَإِذَا كَاتَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَالْبَدَلُ لَا يُقَابِلُ الْقَدْرَ الْمُسْتَحَقَّ وَهُوَ الثُّلُثُ، وَإِنَّمَا يُقَابِلُ الثُّلُثَيْنِ. فَإِذَا قَالَ كَاتَبْتُك عَلَى كَذَا فَقَدْ جَعَلَ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ مَا لَا يَصِحُّ الْمُقَابَلَةُ بِهِ وَهُوَ الثُّلُثُ، وَبِمُقَابَلَةِ مَا يَصِحُّ الْمُقَابَلَةُ بِهِ وَهُوَ الثُّلُثَانِ فَيَصْرِفُ كُلَّ الْبَدَلِ إلَى مَا يَصِحُّ الْمُقَابَلَةُ بِهِ وَهُوَ الثُّلُثَانِ، كَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْحُرَّةَ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، لَزِمَهَا كُلُّ الْأَلْفِ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ مَنْ يَحِلُّ نِكَاحُهَا وَبَيْنَ مَنْ لَا يَحِلُّ نِكَاحُهَا، فَتَزَوَّجَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَجَبَتْ الْأَلْفُ كُلُّهَا بِمُقَابَلَةِ نِكَاحِ مَنْ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَالثُّلُثُ وَإِنْ عَتَقَ عِنْدَ الْمَوْتِ لَكِنْ لَا بَدَلَ بِمُقَابَلَتِهِ، وَإِنَّمَا الْبَدَلُ كُلُّهُ بِمُقَابَلَةِ الثُّلُثَيْنِ فَلَمْ يَسْقُطْ مِنْ الْبَدَلِ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ الْعَبْدُ كُلُّهُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يُسَلَّمُ لَهُ جَمِيعُ رَقَبَتِهِ، فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِالْبَرَاءَةِ هَذَا إذَا دَبَّرَ عَبْدَهُ ثُمَّ كَاتَبَهُ. فَإِنْ كَاتَبَهُ ثُمَّ دَبَّرَهُ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: إنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَإِنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ، وَعِنْدَهُمَا يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَمِنْ ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى الْمِقْدَارِ هَهُنَا حَيْثُ قَالُوا: مِقْدَارُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ثُلُثَانِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ هُنَاكَ كَاتَبَهُ، وَالْعَبْدُ لَمْ يَكُنْ اسْتَحَقَّ شَيْئًا مِنْ رَقَبَتِهِ، فَكَانَ جَمِيعُ الْبَدَلِ بِمُقَابَلَةِ جَمِيعِ الرَّقَبَةِ وَقَدْ عَتَقَ عِنْدَ الْمَوْتِ بِسَبَبِ التَّدْبِيرِ ثُلُثُهُ فَيَسْقُطُ مَا كَانَ بِإِزَائِهِ مِنْ الْبَدَلِ، فَبَقِيَ الثُّلُثَانِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْخِيَارِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُخَيَّرُ بَيْنَ الثُّلُثَيْنِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ مُؤَجَّلًا، وَبَيْنَ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ مُعَجَّلًا، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْهُمَا بِنَاءً عَلَى تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ، وَعَدَمِ تَجَزُّئِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي حُكْم التَّدْبِيرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ التَّدْبِيرِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى حَيَاةِ الْمُدَبِّرِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِهِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى حَالِ حَيَاةِ الْمُدَبِّرِ فَهُوَ ثُبُوتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُدَبَّرِ إذَا كَانَ التَّدْبِيرُ مُطْلَقًا، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا حُكْمَ لَهُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُدَبِّرِ رَأْسًا، فَلَا يَثْبُتُ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ وَلَا حَقُّهَا، بَلْ حُكْمُهُ ثُبُوتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا يُبْنَى بَيْعُ الْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ جَائِزٌ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ بِالْإِجْمَاعِ. احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: «دَبَّرَ رَجُلٌ عَبْدَهُ، فَاحْتَاجَ فَبَاعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ» وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَوَازُ، وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ، وَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ مِنْ دُخُولِ الدَّارِ، وَكَلَامِ زَيْدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَالتَّدْبِيرِ الْمُقَيَّدِ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ كَمَا إذَا أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ ثُمَّ بَاعَهُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ» ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ» وَمُطْلَقُ النَّهْيِ يُحْمَلُ عَلَى التَّحْرِيمِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِثْلُ مَذْهَبِنَا، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِثْلَ شُرَيْحُ وَمَسْرُوقٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَسَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَوْلَا قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْأَجِلَّةِ؛ لَقُلْت بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ النَّظَرِ، وَلَنَا لِإِثْبَاتِ حَقِّ

الْحُرِّيَّةِ ضَرُورَةُ الْإِجْمَاعِ، وَدَلَالَةُ غَرَضِ الْمُدَبِّرِ، أَمَّا ضَرُورَةُ الْإِجْمَاعِ فَهِيَ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْحُرِّيَّةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ سَبَبٍ وَلَا سَبَبَ هَهُنَا سِوَى الْكَلَامِ السَّابِقِ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُجْعَلَ سَبَبًا لِلْحَالِ، وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ سَبَبًا بَعْدَ الشَّرْطِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِهِ. فَكَانَ الْكَلَامُ السَّابِقُ سَبَبًا فِي الْحَالِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَسْنَا نَعْنِي ثُبُوتَ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُدَبِّرِ إلَّا هَذَا، وَهَذَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إبْطَالُ السَّبَبِيَّةِ إذْ لَا تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ عِنْدَ الْمَوْتِ بَعْدَ الْبَيْعِ. وَأَمَّا دَلَالَةُ الْغَرَضِ فَهُوَ أَنَّ غَرَضَ الْمُدَبِّرِ مِنْ التَّدْبِيرِ أَنْ يُسَلِّمَ الْحُرِّيَّةَ لَلْمُدَبَّرِ عِنْدَ الْمَوْتِ إمَّا تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْإِعْتَاقِ؛ لِإِعْتَاقِ رَقَبَتِهِ مِنْ النَّارِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ، وَإِمَّا حَقًّا لِخِدْمَتِهِ الْقَدِيمَةِ مَعَ بَقَاءِ مَنَافِعِهِ عَلَى مِلْكِهِ فِي حَيَاتِهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا، وَلَا طَرِيقَ لِتَحْصِيلِ الْغَرَضَيْنِ إلَّا بِجَعْلِ التَّدْبِيرِ سَبَبًا فِي الْحَالِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، إذْ لَوْ ثَبَتَتْ الْحُرِّيَّةُ فِي الْحَالِ لَفَاتَ غَرَضُهُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ شَيْءٌ رَأْسًا لَفَاتَ غَرَضُهُ فِي الْعِتْقِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَبِيعَهُ لِشِدَّةِ غَضَبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. فَكَانَ انْعِقَادُهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ، وَتَأَخُّرُ الْحُرِّيَّةِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ طَرِيقُ إحْرَازِ الْغَرَضَيْنِ، فَثَبَتَ ذَلِكَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، فَيَتَقَيَّدُ الْكَلَامُ بِهِ إذْ الْكَلَامُ يَتَقَيَّدُ بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُنَاقِضٌ لِأَصْلِكُمْ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ، وَمِنْ أَصْلِكُمْ أَنَّ التَّعْلِيقَاتِ لَيْسَتْ أَسْبَابًا لِلْحَالِ وَإِنَّمَا تَصِيرُ أَسْبَابًا عِنْدَ وُجُودِ شُرُوطِهَا، وَعَلَى هَذَا بَنَيْتُمْ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالْمِلْكِ وَسَبَبِهِ، وَهَهُنَا جَعَلْتُمْ التَّدْبِيرَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ لِلْحَالِ، وَهَذَا مُنَاقَضَةٌ فِي الْأَصْلِ، وَالتَّنَاقُضُ فِي الْأَصْلِ دَلِيلُ فَسَادِ الْفَرْعِ. فَالْجَوَابُ: إنَّ هَذَا أَصْلُنَا فِيمَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَفِيمَا لَمْ يُرِدْ الْمُتَكَلِّمُ جَعْلَهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ، وَفِي التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ، وَأَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَا فِي التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ كَوْنَهُ سَبَبًا عِنْدَ الشَّرْطِ، وَهَهُنَا أَرَادَ كَوْنَهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ لِمَا قُلْنَا، فَتَعَيَّنَ سَبَبًا لِلْحَالِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ فِي الثَّانِي. وَأَمَّا حَدِيثُ عَطَاءٍ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ تَدْبِيرًا مُقَيَّدًا، وَقَوْلُهُ بَاعَ حِكَايَةُ فِعْلٍ فَلَا عُمُومَ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ بَاعَ أَيْ أَجَّرَ إذْ الْإِجَارَةُ تُسَمَّى بَيْعًا بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهَكَذَا رَوَى مُحَمَّدٌ بِإِسْنَادِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعَ خِدْمَةَ مُدَبَّرٍ وَلَمْ يَبِعْ رَقَبَتَهُ» وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ بَيْعُ الْحُرِّ مَشْرُوعًا عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعَ رَجُلًا بِدَيْنِهِ يُقَالُ لَهُ سُرَّقٌ» ثُمَّ صَارَ مَنْسُوخًا بِنَسْخِ بَيْعِ الْحُرِّ لِثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْمُدَبَّرِ إلْحَاقًا لِلْحَقِّ بِالْحَقِيقَةِ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ. وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ الْمُقَيَّدُ فَهُنَاكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْكَلَامُ سَبَبًا لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، وَفِي ذَلِكَ السَّفَرِ أَوْ لَا يَمُوتَ. فَكَانَ الشَّرْطُ مُحْتَمِلَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، فَلَمْ يَكُنْ التَّعْلِيقُ سَبَبًا لِلْحَالِ كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ، وَكَذَا لَمَّا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِأَمْرٍ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ دَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ غَرَضُهُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِإِعْتَاقِ هَذَا الْعَبْدِ، وَلَا قَضَاءَ حَقِّ الْخِدْمَةِ الْقَدِيمَةِ، إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ غَرَضُهُ لَعَلَّقَهُ بِشَرْطٍ كَائِنٍ لَا مَحَالَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ فِي التَّدْبِيرِ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ. فَنَعَمْ، لَكِنْ هَذِهِ وَصِيَّةٌ لَازِمَةٌ لِثُبُوتِهَا فِي ضِمْنِ أَمْرٍ لَازِمٍ وَهُوَ الْيَمِينُ، فَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُشْكَلُ بِالتَّدْبِيرِ الْمُقَيَّدِ. فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ اللَّازِمَةِ وَمَعَ هَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قِيلَ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ لِلْحَالِ مُتَرَدِّدٌ لِتَرَدُّدِ مَوْتِهِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، فَلَا يَصِيرُ الْعَبْدُ مُوصًى لَهُ قَبْلَ الْمَوْتِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وَإِذَا ثَبَتَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ فِي الْحَالِ فَكُلُّ تَصَرُّفٍ فِيهِ يُبْطِلُ هَذَا الْحَقَّ لَا يَجُوزُ، وَمَا لَا يُبْطِلُهُ يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا تَخْرِيجُ الْمَسَائِلِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ وَالْوِصَايَةُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ تَمْلِيكِ الرَّقَبَةِ فَيَبْطُلُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ وَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَالِارْتِهَانَ مِنْ بَابِ إيفَاءِ الدَّيْنِ وَاسْتِيفَائِهِ عِنْدَنَا. فَكَانَ مِنْ بَابِ تَمْلِيكِ الْعَيْنِ وَتَمَلُّكِهَا، وَيَجُوزُ إجَارَتُهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُبْطِلُ هَذَا الْحَقَّ؛ لِأَنَّهَا تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ بِالتَّمْلِيكِ لَا فِي الْعَيْنِ، وَالْمَنَافِعُ عَلَى مِلْكِ الْمُدَبِّرِ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ بَاعَ خِدْمَةَ الْمُدَبَّرِ وَلَمْ يَبِعْ رَقَبَتَهُ، وَبَيْعُ خِدْمَةِ الْمُدَبَّرِ بَيْعُ مَنْفَعَتِهِ، وَهُوَ مَعْنَى الْإِجَارَةِ، وَيَجُوزُ الِاسْتِخْدَامُ، وَكَذَا الْوَطْءُ وَالِاسْتِمْتَاعُ فِي الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهَا اسْتِيفَاءُ الْمَنَافِعِ، وَيَجُوزُ تَزْوِيجُهَا لِأَنَّ التَّزْوِيجَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَطَأُ مُدَبَّرَتَهُ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ آكَدُ مِنْ التَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَالتَّدْبِيرُ مِنْ الثُّلُثِ،

ثُمَّ الِاسْتِيلَادُ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْإِجَارَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَالْوَطْءِ وَالتَّزْوِيجِ فِي الْأَمَةِ، فَالتَّدْبِيرُ أَوْلَى، وَالْأُجْرَةُ وَالْمَهْرُ وَالْعُقْرُ وَالْكَسْبُ وَالْغَلَّةُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمَنَافِعِ، وَالْمَنَافِعُ مِلْكُهُ وَالْأَرْشُ لَهُ لِأَنَّهُ بَدَلُ جُزْءٍ فَاتَ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَيْعَ لِمَا بَيَّنَّا، وَيَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ وَيَسْعَى فِي دُيُونِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَجِنَايَتُهُ عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَلَا يَضْمَنُ الْمَوْلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ كَثُرَتْ الْجِنَايَاتُ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ إعْتَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ إيصَالُهُ إلَى حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ مُعَجَّلًا، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْعِهِ مِنْ وُصُولِهِ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ. فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ إيصَالِهِ إلَيْهِ، وَلِهَذَا جَازَ إعْتَاقُهُ أُمَّ الْوَلَدِ كَذَا الْمُدَبَّرُ، وَيَجُوزُ مُكَاتَبَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ تَعْجِيلَ الْحُرِّيَّةِ إلَيْهِ وَالْمَوْلَى يَمْلِكُ ذَلِكَ كَمَا يَمْلِكُ مُكَاتَبَةَ أُمِّ الْوَلَدِ، وَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا بِمَنْزِلَتِهَا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ بِمَنْزِلَتِهَا يَعْتِقُ بِعِتْقِهَا وَيَرِقُّ بِرِقِّهَا وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خُوصِمَ إلَيْهِ فِي أَوْلَادِ مُدَبَّرَةٍ، فَقَضَى أَنَّ مَا وَلَدَتْهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ عَبْدٌ وَمَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ مُدَبَّرٌ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ. فَيَكُونَ إجْمَاعًا، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَمَسْرُوقٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَا يُعْرَفُ فِي السَّلَفِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَالَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَلَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ؛ لِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَوَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَمَا وَلَدَتْهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ فَهُوَ مِنْ أَقْضِيَةِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي الْأُمِّ وَقْتَ الْوِلَادَةِ حَتَّى يَسْرِيَ إلَى الْوَلَدِ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُدَبَّرَةُ فِي وَلَدِهَا فَقَالَ الْمَوْلَى: وَلَدْتِيهِ قَبْلَ التَّدْبِيرِ. فَهُوَ رَقِيقٌ وَقَالَتْ هِيَ: وَلَدْتُهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ فَهُوَ مُدَبَّرٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُدَبَّرَةِ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَةَ تَدَّعِي سِرَايَةَ التَّدْبِيرِ إلَى الْوَلَدِ، وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ. فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ الْيَمِينِ وَيَحْلِفُ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ لَيْسَتْ فِعْلَهُ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُدَبَّرَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا إثْبَاتُ التَّدْبِيرِ وَلَوْ كَانَ مَكَانَ التَّدْبِيرِ عِتْقٌ فَقَالَ الْمَوْلَى لِلْمُعْتَقَةِ: وَلَدْتِيهِ قَبْلَ الْعِتْقِ وَهُوَ رَقِيقٌ، وَقَالَتْ: بَلْ وَلَدْتُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَهُوَ حُرٌّ يَحْكُمُ فِيهِ الْحَالُ إنْ كَانَ الْوَلَدُ فِي يَدِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمَوْلَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي يَدِهَا كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهَا وَإِذَا كَانَ فِي يَدِهِ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرَةِ لِأَنَّهَا فِي يَدِ الْمَوْلَى فَكَذَا وَلَدُهَا، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَوْ قَالَ لِأَمَةٍ لَا يَمْلِكُهَا: إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتِ مُدَبَّرَةٌ، وَإِنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ مُدَبَّرَةٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا ثُمَّ اشْتَرَاهُمَا جَمِيعًا فَالْأُمُّ مُدَبَّرَةٌ وَالْوَلَدُ رَقِيقٌ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ إنَّمَا صَارَتْ مُدَبَّرَةً بِالشَّرْطِ وَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ، وَإِنَّهُ مُنْفَصِلٌ فَلَا يَسْرِي إلَيْهِ تَدْبِيرُ الْأُمِّ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُدَبِّرِ فَمِنْهَا عِتْقُ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ كَانَ مُعَلَّقًا بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُدَبَّرُ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ؛ لِأَنَّ عِتْقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ. إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْمُقَيَّدِ الْمَوْتُ الْمَوْصُوفُ بِصِفَةٍ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَوْتُ حَقِيقَةً أَمْ حُكْمًا بِالرِّدَّةِ، بِأَنْ ارْتَدَّ الْمَوْلَى عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ مَعَ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ تَجْرِي مَجْرَى الْمَوْتِ فِي زَوَالِ الْأَمْلَاكِ. وَكَذَا الْمُسْتَأْمَنُ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا فِي دَار الْإِسْلَامِ فَدَبَّرَهُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَاسْتُرِقَّ الْحَرْبِيُّ عَتَقَ مُدَبَّرُهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ أَوْجَبَ زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْ أَمْوَالِهِ حُكْمًا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ، وَكَذَا وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ مَوْلَاهَا؛ لِأَنَّهُ تَبِعَهَا فِي حَقِّ الْحُرِّيَّةِ، فَكَذَا فِي حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ، وَمِنْهَا أَنَّ عِتْقَهُ يُحْسَبُ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَشُرَيْحٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عِتْقَهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَحَمَّادٍ وَجَعَلُوهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ» وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ، وَالْوَصِيَّةُ تُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا وَسَوَاءٌ كَانَ التَّدْبِيرُ فِي الْمَرَضِ، أَوْ فِي الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ فِي الْحَالَيْنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّدْبِيرُ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا لِعُمُومِ الْحَدِيثِ، إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ

فصل في بيان ما يظهر به التدبير

الْمُقَيَّدَ فِي حَقِّ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ فَيُعْمَلُ بِعُمُومِهِ فِي حَقِّ الِاعْتِبَارِ مِنْ الثُّلُثِ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ يُوجَدُ فِي النَّوْعَيْنِ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهُ مِنْ الثُّلُثِ، وَيُعْتَبَرُ ثُلُثُ الْمَالِ يَوْمَ مَوْتِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي الْوَصَايَا هَكَذَا يُعْتَبَرُ، وَإِذَا كَانَ اعْتِبَارُ عِتْقِهِ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ فَإِنْ كَانَ كُلُّهُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى بِأَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ يَعْتِقُ كُلُّهُ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ غَيْرُهُ عَتَقَ ثُلُثُهُ، وَيَسْعَى فِي الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ. هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ فِي قَضَاءِ دُيُونِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَمِنْهَا أَنَّ وَلَاءَ الْمُدَبَّرِ لِلْمُدَبِّرِ؛ لِأَنَّهُ الْمُعْتِقُ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَلَا يَنْتَقِلُ هَذَا الْوَلَاءُ عَنْ الْمُدَبَّرِ وَإِنْ عَتَقَ الْمُدَبَّرُ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ كَمُدَبَّرَةٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ، جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا. ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَعَتَقَ عَلَيْهِ وَغَرِمَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ مِنْ الْوَلَدِ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ عِنْدَنَا، وَأَنَّهُ يَثْبُتُ حَقُّ الْوَلَاءِ وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ فَضَمِنَ عَتَقَ بِالضَّمَانِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ الْوَلَاءُ عَنْ الشَّرِكَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ جَمِيعُهُ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا. [فَصْلٌ فِي بَيَان مَا يَظْهَرُ بِهِ التَّدْبِيرُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ التَّدْبِيرُ، فَالتَّدْبِيرُ يَظْهَرُ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ الْإِعْتَاقُ الْبَاتُّ وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَالْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ فَيُعْتَبَرُ الْحَقُّ بِالْحَقِيقَةِ وَهُوَ إثْبَاتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيُعْتَبَرُ بِالْإِثْبَاتِ بِالْحَالِ، وَذَا يَظْهَرُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ فَكَذَا هَذَا، إذْ عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: إذَا ادَّعَى الْمَمْلُوكُ التَّدْبِيرَ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ. قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِ وَأَنْكَرَ التَّدْبِيرَ مَعَ الْمَوْلَى لَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى التَّدْبِيرِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْعَبْدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ وَالْحِجَجُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ إلَّا أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَاهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى تَدْبِيرِ الْأَمَةِ عَلَى الِاخْتِلَافِ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَ الْأَمَةِ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ، فَلَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ قَائِمَةً عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ دَبَّرَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فِي الصِّحَّة فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مَجْهُولٌ، وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْمَرَضِ يُقْبَلُ عِنْدَهُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُقْبَلَ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا حُرٌّ وَهَذَا مُدَبَّرٌ بَعْدَ مَوْتِي فَقَدْ صَارَ مُدَبَّرًا. لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِجَهَالَةِ الْمُدَّعِي، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَالَ: هَذَا حُرٌّ بَعْد مَوْتِي لَا بَلْ هَذَا كَانَا جَمِيعًا مُدَبَّرَيْنِ وَيُعْتَقَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: هَذَا حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي. فَقَدْ صَارَ مُدَبَّرًا، فَلَمَّا قَالَ: لَا بَلْ هَذَا فَقَدْ رَجَعَ عَنْ الْأَوَّلِ وَتَدَارَكَ بِالثَّانِي، وَرُجُوعُهُ لَا يَصِحُّ وَتَدَارُكُهُ صَحِيحٌ، كَمَا إذَا قَالَ لِإِحْدَى امْرَأَتَيْهِ: هَذِهِ طَالِقٌ، لَا بَلْ هَذِهِ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَالَ: هَذَا حُرٌّ أَلْبَتَّةَ لَا بَلْ هَذَا مُدَبَّرٌ. جَازَتْ الشَّهَادَةُ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ الْأَوَّلَ ثُمَّ رَجَعَ وَتَدَارَكَ بِالثَّانِي فَالرُّجُوعُ لَا يَصِحُّ وَيَصِحُّ التَّدَارُكُ، فَصَارَ الْأَوَّلُ حُرًّا وَالثَّانِي مُدَبَّرًا، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ دَبَّرَهُ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ أَلْبَتَّةَ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَهِدَ بِغَيْرِ مَا شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ لَفْظًا وَمَعْنًى أَمَّا اللَّفْظُ فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ الْبَاتَّ إثْبَاتُ الْعِتْقِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى، وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ وَلَيْسَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا بِالتَّدْبِيرِ وَاخْتَلَفَا فِي شَرْطِهِ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَمَا فِي الْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَهُوَ الْمُوَفِّقُ. [كِتَابُ الِاسْتِيلَادِ] [تَفْسِير الِاسْتِيلَاد] (كِتَابُ الِاسْتِيلَادِ) : الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِيلَادِ لُغَةً وَعُرْفًا، وَفِي بَيَانِ شَرْطِهِ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ. أَمَّا تَفْسِيرُهُ لُغَةً فَالِاسْتِيلَادُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ طَلَبُ الْوَلَدِ، كَالِاسْتِيهَابِ وَالِاسْتِئْنَاسِ، أَنَّهُ طَلَبُ الْهِبَةِ وَالْأُنْسِ، وَفِي الْعُرْفِ هُوَ تَصْيِيرُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ يُقَالُ: فُلَانٌ اسْتَوْلَدَ جَارِيَتَهُ إنْ صَيَّرَهَا أُمَّ وَلَدِهِ، وَعَلَى هَذَا قُلْنَا: إنَّهُ يَسْتَوِي فِي صَيْرُورَةِ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ الْوَلَدُ الْحَيُّ وَالْمَيِّتُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ وَلَدٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْوِلَادَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ وَتَصِيرَ الْمَرْأَةُ بِهِ نُفَسَاءَ، وَكَذَا لَوْ أَسْقَطَتْ سِقْطًا قَدْ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أَوْ بَعْضُ خَلْقِهِ، وَأَقَرَّ بِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ الْحَيِّ الْكَامِلِ

فصل في سبب الاستيلاد

الْخَلْقِ فِي تَصْيِيرِ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْوِلَادَةِ تَتَعَلَّقُ بِمِثْلِ هَذَا السَّقْطِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اسْتَبَانَ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ، فَأَلْقَتْ مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً أَوْ نُطْفَةً فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى، فَإِنَّهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَسْتَبِنْ خَلْقُهُ لَا يُسَمَّى وَلَدًا، وَصَيْرُورَةُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ بِدُونِ الْوَلَدِ مُحَالٌ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دَمًا جَامِدًا أَوْ لَحْمًا فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِيلَادُ مَعَ الشَّكِّ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ، فِي قَوْلٍ قَالَ: يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ الْحَارُّ فَإِنْ ذَابَ فَهُوَ دَمٌ، وَإِنْ لَمْ يَذُبْ فَهُوَ وَلَدٌ، وَفِي قَوْلٍ قَالَ: يُرْجَعُ فِيهِ إلَى قَوْلِ النِّسَاءِ، وَالْقَوْلَانِ فَاسِدَانِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى فَقَالَ لِجَارِيَتِهِ: حَمْلُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ مِنِّي. صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحَمْلِ إقْرَارٌ بِالْوَلَدِ، إذْ الْحَمْلُ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَلَدِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ: حَمْلُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ مِنِّي أَوْ قَالَ: هِيَ حُبْلَى مِنِّي أَوْ قَالَ مَا فِي بَطْنِهَا مِنْ وَلَدٍ فَهُوَ مِنِّي ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَمْ تَكُنْ حَامِلًا وَإِنَّمَا كَانَ رِيحًا وَصَدَّقَتْهُ الْأَمَةُ، فَإِنَّهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحَمْلِهَا وَالْحَمْلُ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَلَدِ وَذَلِكَ يُثْبِتُ لَهَا حُرِّيَّةَ الِاسْتِيلَادِ. فَإِذَا رَجَعَ لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى تَصْدِيقِهَا؛ لِأَنَّ فِي الْحُرِّيَّةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ، وَلَوْ قَالَ: مَا فِي بَطْنِهَا مِنِّي وَلَمْ يَقُلْ مِنْ حَمْلٍ أَوْ وَلَدٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: كَانَ رِيحًا وَصَدَّقَتْهُ، لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا فِي بَطْنِهَا يَحْتَمِلُ الْوَلَدَ وَالرِّيحَ فَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى اللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ فَلَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيلَادُ. وَلَوْ قَالَ الْمَوْلَى: إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ حُبْلَى فَهُوَ مِنِّي فَأَسْقَطَتْ سِقْطًا قَدْ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أَوْ بَعْضُ خَلْقِهِ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِمَا بَيَّنَّا فَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدًا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلِأَنَّ الطَّرِيقَ إلَى ثُبُوتِ نَسَبِ الْحَمْلِ مِنْهُ هَذَا لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إنْ كَانَتْ حُبْلَى فَهُوَ مِنِّي أَيْ إنِّي وَطِئْتُهَا، فَإِنْ حَبِلَتْ مِنْ وَطْءٍ فَهُوَ مِنِّي. فَإِذَا أَتَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ بِوَلَدٍ لَأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ تَيَقَّنَّا أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا حِينَئِذٍ فَثَبَتَ النَّسَبُ وَالِاسْتِيلَادُ فَإِنْ أَنْكَرَ الْمَوْلَى الْوِلَادَةَ، فَشَهِدَتْ عَلَيْهَا امْرَأَةٌ، لَزِمَهُ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ إذَا كَانَ أَقَرَّ بِالْحَمْلِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ امْرَأَتِهِ عَلَى الْوِلَادَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فَإِنْ جَاءَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَلْزَمْهُ وَلَمْ تَصِرْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ وُجُودَ هَذَا الْحَمْلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِجَوَازِ أَنَّهَا حَمَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَالِاسْتِيلَادُ بِالشَّكِّ. [فَصْلٌ فِي سَبَب الِاسْتِيلَادِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا سَبَبُ الِاسْتِيلَادِ وَهُوَ صَيْرُورَةُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: سَبَبُهُ هُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عُلُوقُ الْوَلَدِ حُرًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِيلَادِ فِي الْحَالِ هُوَ ثُبُوتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ، وَثُبُوتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ لَمَّا وَلَدَتْ إبْرَاهِيمَ ابْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّسْبِيبِ أَيْ وَلَدُهَا سَبَبُ عِتْقِهَا. غَيْرَ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ التَّسْبِيبِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: هِيَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ عُلُوقُ الْوَلَدِ حُرًّا مُطْلَقًا. (وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ الْوَلَدَ حُرٌّ بِلَا شَكٍّ وَإِنَّهُ جُزْءُ الْأُمِّ، وَحُرِّيَّةُ الْجُزْءِ تَقْتَضِي حُرِّيَّةَ الْكُلِّ إذْ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ رَقِيقًا وَالْجُزْءُ حُرًّا، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُعْتَقَ الْأُمُّ لِلْحَالِ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا لَا تُعْتَقُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ انْفَصَلَ مِنْهَا، وَحُرِّيَّتُهُ عَلَى اعْتِبَارِ الِانْفِصَالِ لَا تُوجِبُ حُرِّيَّةَ الْأُمِّ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْجَنِينَ فَقُلْنَا بِثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ وَتَأَخُّرِ الْحَقِيقَةِ إلَى بَعْدِ الْمَوْتِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ، وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ الْمُعَلَّقَ أَوْجَبَ الْجُزْئِيَّةَ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْجَارِيَةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ لِاخْتِلَاطِ الْمَاءَيْنِ وَصَيْرُورَتِهِمَا شَيْئًا وَاحِدًا وَانْخِلَاقِ الْوَلَدِ مِنْهُ، فَكَانَ الْوَلَدُ جُزْءًا لَهُمَا، وَبَعْدَ الِانْفِصَالِ عَنْهَا إنْ لَمْ يَبْقَ جُزْءًا لَهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَقَدْ بَقِيَ حُكْمًا لِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَلِهَذَا تُنْسَبُ كُلُّ الْأُمِّ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ يُقَالُ: أُمُّ وَلَدِهِ. فَلَوْ بَقِيَتْ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ لَثَبَتَتْ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ لِلْحَالِ فَإِذَا بَقِيَتْ حُكْمًا ثَبَتَ الْحَقُّ عَلَى مَا عَلَيْهِ وَضْعُ مَأْخَذِ الْحُجَجِ فِي تَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ عَلَى قَدْرِ قُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: أَبَعْدَمَا اخْتَلَطَتْ لُحُومُكُمْ بِلُحُومِهِنَّ وَدِمَاؤُكُمْ بِدِمَائِهِنَّ تُرِيدُونَ بَيْعَهُنَّ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا السَّبَبِ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ: السَّبَبُ هُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ شَرْعًا، وَقَالَ زُفَرُ: هُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ ثَبَتَ شَرْعًا أَوْ حَقِيقَةً. وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ إذَا تَزَوَّجَ جَارِيَةً إنْسَانٌ فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ مَلَكهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِيلَادِ هُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ وَقَدْ ثَبَتَ فَتَحَقَّقَ السَّبَبُ، إلَّا أَنَّهُ تَوَقَّفَ الْحُكْمُ عَلَى وُجُودِ الْمِلْكِ فَتَعَذَّرَ إثْبَاتُ حُكْمِهِ

فصل في شرط الاستيلاد

وَهُوَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، كَمَا يَتَعَذَّرُ إثْبَاتُ الْحَقِيقَةِ فِي غَيْرِهِ فَتَأَخَّرَ الْحُكْمُ إلَى وَقْتِ الْمِلْكِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ لِأَنَّ السَّبَبَ عِنْدَهُ عُلُوقُ الْوَلَدِ حُرًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ رَقِيقٌ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ، وَإِذَا مَلَكَ وَلَدَهُ الَّذِي اسْتَوْلَدَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّهُ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَيَعْتِقُ. وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّهُ مَلَكَ وَلَدًا ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ شَرْعًا، وَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ غَيْرِ مَالِكِ الْجَارِيَةِ بِوَطْءٍ بِشُبْهَةٍ، ثُمَّ مَلَكَهَا فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ حِينَ مَلَكَهَا عِنْدَنَا لِوُجُودِ السَّبَبِ، وَعِنْدَهُ لَا؛ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ، وَلَوْ مَلَكَ الْوَلَدَ عَتَقَ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ زَنَى بِجَارِيَةٍ فَاسْتَوْلَدَهَا بِأَنْ قَالَ: زَنَيْتُ بِهَا أَوْ فَجَرْت بِهَا أَوْ قَالَ: هُوَ ابْنِي مِنْ زِنًا أَوْ فُجُورٍ. وَصَدَّقَتْهُ وَصَدَّقَهُ مَوْلَاهَا فَوَلَدَتْ ثُمَّ مَلَكَهَا لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ السَّبَبَ عِنْدَهُ ثُبُوتُ النَّسَبِ مُطْلَقًا، وَقَدْ ثَبَتَ النَّسَبُ حَقِيقَةً بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَمَلَّك الْوَلَدَ عَتَقَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَالسَّبَبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ هُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ شَرْعًا وَلَمْ يَثْبُتْ. [فَصْلٌ فِي شَرْط الِاسْتِيلَاد] وَأَمَّا شَرْطُهُ فَمَا هُوَ شَرْطُ ثُبُوتِ النَّسَبِ شَرْعًا، وَهُوَ الْفِرَاشُ وَلَا فِرَاشَ إلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، أَوْ شُبْهَةٍ، أَوْ تَأْوِيلِ الْمِلْكِ أَوْ مِلْكِ النِّكَاحِ، أَوْ شُبْهَتِهِ. وَلَا تَصِيرُ الْأَمَةُ فِرَاشًا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ بِنَفْسِ الْوَطْءِ بَلْ بِالْوَطْءِ مَعَ قَرِينَةِ الدَّعْوَى عِنْدَنَا، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الدَّعْوَى، فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ بِدُونِ الدَّعْوَةِ، وَيَسْتَوِي فِي الِاسْتِيلَادِ مِلْكُ الْقِنَّةِ وَالْمُدَبَّرَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ إلَّا أَنَّ الْمُدَبَّرَةَ إذَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ بَطَلَ التَّدْبِيرُ؛ لِأَنَّ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ أَنْفَعُ لَهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تَسْعَى لِغَرِيمٍ وَلَا لِوَارِثٍ، وَالْمُدَبَّرَةُ تَسْعَى وَيَسْتَوِي فِي ثَبَاتِ النَّسَبِ مِلْكُ كُلِّ الْجَارِيَةِ وَبَعْضِهَا، وَكَذَا فِي الِاسْتِيلَادِ حَتَّى لَوْ أَنَّ جَارِيَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ عُلِّقَتْ فِي مِلْكِهِمَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا، يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ بِالضَّمَانِ، وَهُوَ نِصْفُ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ، وَيَسْتَوِي فِي هَذَا الضَّمَانِ الْيَسَارُ وَالْإِعْسَارُ وَيَغْرَمُ نِصْفَ الْعُقْرِ لِشَرِيكِهِ، وَلَا يَضْمَنُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْئًا. أَمَّا ثُبُوتُ النَّسَبِ فَلِحُصُولِ الْوَطْءِ فِي مَحَلٍّ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الْمِلْكِ أَوْجَبَ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِقَدْرِهِ، وَالنَّسَبُ لَا يَتَجَزَّأُ وَإِذَا ثَبَتَ فِي بَعْضِهِ ثَبَتَ فِي كُلِّهِ ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجَزُّؤِ، وَلِأَنَّ النَّسَبَ ثَبَتَ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِحَقِيقَةِ الْمِلْكِ أَوْلَى. وَأَمَّا صَيْرُورَةُ الْجَارِيَةِ كُلِّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، فَالنِّصْفُ قَضِيَّةٌ لِلتَّسَبُّبِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْجَارِيَةِ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ إمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ فِيمَا يُمْكِنُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِ، فَإِذَا ثَبَتَ فِي الْبَعْضِ يَثْبُتُ فِي الْكُلِّ لِضَرُورَةِ عَدَمِ التَّجَزُّؤِ وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ التَّكَامُلِ، وَهُوَ النَّسَبُ عَلَى كَوْنِهِ مُتَجَزِّئًا فِي نَفَسِهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِيلَادِ هُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ، وَالنَّسَبُ لَا يَتَجَزَّأُ وَالْحُكْمُ عَلَى وَفْقِ الْعِلَّةِ فَثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ، وَفِي نَصِيبِهِ قَضِيَّةٌ لِلسَّبَبِ ثُمَّ يَتَكَامَلُ فِي الْبَاقِي بِسَبَبِ النَّسَبِ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ آخَرَ أَوْجَبَ التَّكَامُلَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ، ثُمَّ لَا سَبِيلَ إلَى التَّكَامُلِ بِدُونِ مِلْكِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَيَصِيرُ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ فِي ذَلِكَ النَّصِيبِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى تَمَلُّكِ مَالِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ، فَيَتَمَلَّكُهُ بِالْبَدَلِ وَهُوَ نِصْفُ قِيمَتِهَا، وَإِنَّمَا اسْتَوَى فِي هَذَا الضَّمَانِ حَالَةُ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مِلْكٍ كَضَمَانِ الْمَبِيعِ. وَأَمَّا وُجُوبُ نِصْفِ الْعُقْرِ فَلِوُجُودِ الْإِقْرَارِ مِنْهُ بِوَطْءِ مِلْكِ الْغَيْرِ، وَأَنَّهُ حَرَامٌ إلَّا أَنَّ الْحَدَّ لَمْ يَجِبْ لِمَكَانِ شُبْهَةٍ لِحُصُولِ الْوَطْءِ فِي مِلْكِهِ وَمِلْكِ شَرِيكِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُوبِ الْعُقْرِ وَلَا يَدْخُلُ الْعُقْرُ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ نِصْفِ الْقِيمَةِ ضَمَانُ الْجُزْءِ، وَضَمَانُ الْبِضْعِ ضَمَانُ الْجُزْءِ، وَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لَهَا حُكْمُ الْأَجْزَاءِ، وَضَمَانُ الْجُزْءِ لَا يَدْخُلُ فِي مِثْلِهِ. وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ نِصْفِ قِيمَةِ الْوَلَدِ فَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِالْعُلُوقِ السَّابِقِ فَصَارَ الْوَلَدُ جَارِيًا عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ فِي حَالِ الْعُلُوقِ لَا قِيمَةَ لَهُ فَلَا يُقَابَلُ بِالضَّمَانِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْصَافِ فَلَا يُفْرَدُ بِالضَّمَانِ، وَيَسْتَوِي فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ وَصَيْرُورَةِ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ مِلْكُ الذَّاتِ وَمِلْكُ الْيَدِ كَالْمُكَاتَبِ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً مِنْ إكْسَابِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَسْتَوِي فِي دَعْوَةِ النَّسَبِ حَالَةُ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا وَأَعْتَقَهُ الْآخَرُ وَخَرَجَ الْقَوْلُ مِنْهُمَا مَعًا، فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ وَدَعْوَةُ صَاحِبِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ اسْتَنَدَتْ إلَى حَالَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ، وَهِيَ

الْعُلُوقُ وَالْعِتْقُ وَقَعَ فِي الْحَالِ فَصَارَتْ الدَّعْوَةُ أَسْبَقَ مِنْ الْإِعْتَاقِ فَكَانَتْ أَوْلَى، وَإِنْ ادَّعَيَاهُ جَمِيعًا فَهُوَ ابْنُهُمَا، وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُمَا تَخْدِمُ لِهَذَا يَوْمًا، وَلِذَاكَ يَوْمًا، وَلَا يَضْمَنُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ لِصَاحِبِهِ شَيْئًا، وَيَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الْعُقْرِ فَيَكُونُ قِصَاصًا أَمَّا ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْهُمَا فَمَذْهَبُنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَثْبُتُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَتَعَيَّنُ بِقَوْلِ الْقَافَةِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الدَّعْوَى. وَأَمَّا صَيْرُورَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ فَلِثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِهَا مِنْهُ، فَصَارَ كَأَنَّهُ انْفَرَدَ بِالدَّعْوَةِ، وَإِنَّمَا لَا يَضْمَنُ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ شَيْئًا مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى شَرِيكِهِ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ نِصْفَ الْعُقْرِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِالْوَطْءِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَيَصِيرُ أَحَدُهُمَا قِصَاصًا لِلْآخَرِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ أَوْ خَمْسَةٍ فَادَّعُوهُ جَمِيعًا مَعًا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمْ، وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِهِمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَنَذْكُرُ الْحِجَجَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ الْأَنْصِبَاءُ مُخْتَلِفَةً بِأَنْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ السُّدُسُ، وَالْآخَرِ الرُّبُعُ، وَالْآخَرِ الثُّلُثُ، وَلِآخَرَ مَا بَقِيَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمْ وَيَصِيرُ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، لَا يَتَعَدَّى إلَى نَصِيبِ صَاحِبِهِ حَتَّى تَكُونَ الْخِدْمَةُ وَالْكَسْبُ وَالْغَلَّةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ مِنْهُ فِي نَصِيبِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ اسْتِيلَادُ غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ جَمِيعًا مَعًا، أَوْ كَانَتْ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فَادَّعَيَاهُ، أَوْ بَيْنَ حُرٍّ وَمُكَاتَبٍ، أَوْ بَيْنَ مُكَاتَبٍ وَعَبْدٍ، أَوْ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ، أَوْ بَيْنَ كِتَابِيٍّ وَمَجُوسِيٍّ، أَوْ بَيْنَ عَبْدٍ مُسْلِمٍ أَوْ مُكَاتَبٍ مُسْلِمٍ وَبَيْنَ حُرٍّ كَافِرٍ، أَوْ بَيْنَ ذِمِّيٍّ وَمُرْتَدٍّ، فَحُكْمُهُ يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى، هَذَا إذَا كَانَ الْعُلُوقُ فِي مِلْكِ الْمُدَّعِيَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ اشْتَرَيَاهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَهُوَ مِنْ مَسَائِلِ الدَّعْوَى نَذْكُرهُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا إذَا وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَلَدَيْنِ، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَدًا وَلَدَتْهُمَا فِي بَطْنٍ أَوْ بَطْنَيْنِ وَالدَّعْوَتَانِ خَرَجَتَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَكَذَا إذَا وَلَدَتْ جَارِيَةٌ لِإِنْسَانٍ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمْ وَهُمْ وُلِدُوا فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ وَادَّعَى الْمَوْلَى أَحَدَهُمْ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَحُكْمُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَكَذَا دَعْوَةُ الْأَبِ نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَةِ ابْنِهِ مَعَ فُرُوعِهَا، وَدَعْوَةُ اللَّقِيطِ مَعَ فُصُولِهَا تُذْكَرُ ثَمَّةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِصَاحِبِهِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ صَاحِبُهُ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَبْطُلُ حَقُّ الشَّاهِدِ فِي رَقَبَتِهَا مُوسِرًا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَوْ مُعْسِرًا، وَتَخْدِمُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يَوْمًا، وَيَرْفَعُ عَنْهَا يَوْمًا، فَإِنْ مَاتَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ سَعَتْ لِوَرَثَتِهِ، وَكَانَتْ فِي حَالِ السِّعَايَةِ كَالْمُكَاتَبَةِ، فَإِنْ أَدَّتْ عَتَقَتْ وَكَانَ نِصْفُ وَلَائِهَا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَالنِّصْفُ لِبَيْتِ الْمَالِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَسْعَى السَّاعَةَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَإِذَا أَدَّتْ فَهِيَ حُرَّةٌ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا. وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْمُقِرَّ قَدْ أَفْسَدَ عَلَى شَرِيكِهِ مِلْكَهُ بِإِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُصَدِّقْهُ الشَّرِيكُ انْقَلَبَ إقْرَارُهُ عَلَى نَفَسِهِ، فَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ قَدْ أَعْتَقَهُ وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ أَنَّهُ يَنْقَلِبُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ وَيُجْعَلُ مُعْتَقًا كَذَا هَهُنَا، وَإِذَا انْقَلَبَ إقْرَارُهُ عَلَى نَفَسِهِ صَارَ مُقِرًّا بِالِاسْتِيلَادِ فِي نَصِيبِهِ، وَمَتَى ثَبَتَ فِي نَصِيبِهِ ثَبَتَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَجَزَّأْ، فَقَدْ أَفْسَدَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ لَكِنْ لَا سَبِيلَ إلَى تَضْمِينِهِ؛ لِأَنَّ شَرِيكَهُ قَدْ كَذَّبَهُ فِي إقْرَارِهِ، فَكَانَ لِشَرِيكِهِ السِّعَايَةُ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْمُقِرُّ نَصِيبَهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ، وَإِذَا سَعَتْ فِي نَصِيبِهِ وَعَتَقَ نَصِيبُهُ يَعْتِقُ الْكُلُّ لِعَدَمِ تَجَزُّؤِ الْعِتْقِ عِنْدَهُ، وَلَهُمَا أَنَّ الْمُقِرَّ بِهَذَا الْإِقْرَارِ يَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى الْمُنْكِرِ بِسَبَبِ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَالْمِلْكَ وَيَجِبُ الضَّمَانُ فِيهِ عَلَى الشَّرِيكِ فِي حَالَةِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَدَعْوَى الضَّمَانِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَمَةِ عَنْ السِّعَايَةِ فَبَطَلَ حَقُّهُ فِي رَقَبَتِهَا وَبَقِيَ حَقُّ الْمُنْكِرِ فِي نَصِيبِهِ كَمَا كَانَ، وَلِأَنَّ الْمُقِرَّ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ صَادِقًا فِي الْإِقْرَارِ، وَإِمَّا إنْ كَانَ فِيهِ كَاذِبًا. فَإِنْ كَانَ صَادِقًا كَانَتْ الْجَارِيَةُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لِصَاحِبِهِ، فَيُسَلِّمُ لَهُ كَمَالَ الِاسْتِخْدَامِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا كَانَتْ قَبْلَ الْإِقْرَارِ، فَنِصْفُ الْخِدْمَةِ ثَابِتَةٌ لِلْمُنْكِرِ بِيَقِينٍ، وَاعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ أَنْ لَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا أَيْضًا. فَأَمَّا الْمُقِرُّ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ عَنْ الْخِدْمَةِ لِزَعْمِهِ أَنَّ كُلَّ الْخِدْمَةِ أَنَّ لِشَرِيكِهِ، إلَّا شَرِيكَهُ لَمَّا رَدَّ عَلَيْهِ بَطَلَتْ خِدْمَةُ الْيَوْمِ، وَبَيْعُ

هَذِهِ الْجَارِيَةِ مُتَعَذِّرٌ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ أَقَرَّ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ، وَحِينَمَا أَقَرَّ كَانَ لَهُ مِلْكٌ فِيهَا فِي الظَّاهِرِ فَيَنْفُذُ إقْرَارُهُ فِي حَقِّهِ، وَإِذَا مَاتَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَإِنَّهَا تَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الشَّاهِدِ أَنَّهَا عَتَقَتْ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ لِزَعْمِهِ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِ صَاحِبِهِ، وَالْأَمَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا عَلَى شَرِيكِهِ بِالْعِتْقِ كَانَ لَهُ عَلَيْهَا السِّعَايَةُ وَإِنْ كَذَّبَهُ صَاحِبُهُ فِي الْإِقْرَارِ، كَذَلِكَ هَهُنَا وَنِصْفُ الْوَلَاءِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَوَقَفَ النِّصْفَ الْآخَرَ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ أَنَّهُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ إقْرَارَهُ فَلَا يُعْرَفُ لِهَذَا النِّصْفِ مُسْتَحَقٌّ مَعْلُومٌ فَيَكُونَ لِبَيْتِ الْمَالِ فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هُوَ ابْنُ الشَّرِيكِ وَأَنْكَرَ الشَّرِيكُ فَالْجَوَابُ فِي الْأُمِّ كَذَلِكَ. وَأَمَّا الْوَلَدُ فَيَعْتِقُ وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ الْمُقِرَّ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ مِنْ جِهَةِ شَرِيكِهِ، وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إذَا شَهِدَ عَلَى الْآخَرِ بِالْعِتْقِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ يَسْعَى الْعَبْدُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا يَسْعَى لِلشَّاهِدِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ وَأَنَّهُ لَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي جَارِيَةٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ شَرِيكَهُ دَبَّرَهَا وَأَنْكَرَ الشَّرِيكُ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: الشَّاهِدُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَبَّرَ فَخَدَمَتْهُ يَوْمًا وَالْآخَرَ يَوْمًا، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَلَمْ يُدَبِّرْ فَخَدَمَتْهُ يَوْمًا وَالْآخَرَ يَوْمًا، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَاهَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا فَسَعَتْ لَهُ يَوْمًا وَخَدَمَتْ الْآخَرَ يَوْمًا، فَإِذَا أَدَّتْ فَعَتَقَتْ سَعَتْ لِلْآخَرِ، وَكَانَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا كَأُمِّ الْوَلَدِ ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ: تُوقَفُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، إلَّا فِي تَبْعِيضِ التَّدْبِيرِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَسْعَى السَّاعَةَ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الِاسْتِيلَادِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّرِيكَ لَمَّا لَمْ يُصَدِّقْهُ فِي إقْرَارِهِ انْقَلَبَ عَلَيْهِ إقْرَارُهُ وَثَبَتَ التَّدْبِيرُ فِي نَصِيبِهِ، وَإِنَّهُ يَتَعَدَّى إلَى نَصِيبِ الْمُنْكِرِ لِعَدَمِ تَجَزُّؤِ التَّدْبِيرِ عِنْدَهُ، فَقَدْ أَفْسَدَ نَصِيبَ الْمُنْكِرِ وَتَعَذَّرَ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ لِلْمُنْكِرِ لِتَكْذِيبِهِ إيَّاهُ فَتَسْعَى الْجَارِيَةُ لَهُ، كَمَا لَوْ أَنْشَأَ التَّدْبِيرَ فِي نَصِيبِهِ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّدْبِيرَ يَتَجَزَّأُ فَلَا يَصِيرُ نَصِيبُهُ بِإِقْرَارِهِ بِالتَّدْبِيرِ عَلَى صَاحِبِهِ مُدَبَّرًا كَمَا لَوْ دَبَّرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ، أَنَّهُ يَبْقَى نَصِيبُ الْآخَرِ عَلَى حَالِهِ وَلَهُ التَّدْبِيرُ وَالِاسْتِسْعَاءُ وَالتَّرْكُ عَلَى حَالِهِ، إلَّا أَنَّ هَهُنَا لَوْ اخْتَارَ السِّعَايَةَ فَإِنَّمَا يَسْتَسْعَاهَا يَوْمًا وَيَتْرُكُهَا يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ جَمِيعَ مَنَافِعِهَا فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ إلَّا عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ، فَإِذَا أَدَّتْ عَتَقَ نَصِيبُهُ وَيَسْعَى لِلْمُنْكِرِ فِي نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ فَسَدَ نَصِيبُهُ وَتَعَذَّرَ تَضْمِينُ الْمُقِرِّ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ وَأَبُو يُوسُفَ وَافَقَ أَبَا حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: إنَّ التَّدْبِيرَ يَتَجَزَّأُ فَهُوَ بِدَعْوَى التَّدْبِيرِ عَلَى شَرِيكِهِ، يَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَيْهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا فَكَانَ مُبَرِّئًا لِلْأَمَةِ عَنْ السِّعَايَةِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ وَلَا حَقُّ الِاسْتِخْدَامِ فَيَتَوَقَّفَ نَصِيبُهُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّدْبِيرِ عَلَى صَاحِبِهِ، أَوْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالِاسْتِيلَادِ، فَلَا سَبِيلَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَا عَلَى الْأَمَةِ مُوسِرَيْنِ كَانَا أَوْ مُعْسِرَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي حَقَّ الْحُرِّيَّةِ مِنْ جِهَتِهِ، وَالْإِبْرَاءَ لِلْأَمَةِ مِنْ السِّعَايَةِ وَيَدَّعِي الضَّمَانَ عَلَى شَرِيكِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، فَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَوَافَقَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْفَصْلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ هَهُنَا أَبْرَأَ الْأَمَةَ مِنْ السِّعَايَةِ وَادَّعَى الضَّمَانَ عَلَى شَرِيكِهِ. وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: هَذَا ابْنِي وَابْنُك أَوْ ابْنُك وَابْنِي فَقَالَ الْآخَرُ: صَدَقْت. فَهُوَ ابْنُ الْمُقِرِّ خَاصَّةً دُونَ الْمُصَدِّقِ. وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ فِي صَبِيٍّ لَا يَعْقِلُ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: هُوَ ابْنِي وَابْنُك، وَصَدَّقَهُ صَاحِبُهُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ هُوَ ابْنِي فَكَمَا قَالَ ذَلِكَ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ لِوُجُودِ الْإِقْرَارِ مِنْهُ بِالنَّسَبِ فِي مِلْكِهِ، فَلَا يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ مِنْ غَيْرِهِ. بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ قَالَ هَذَا ابْنُك، وَسَكَتَ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ صَاحِبُهُ حَتَّى قَالَ هُوَ ابْنِي مَعَك، فَهُوَ مَوْقُوفٌ. فَإِنْ قَالَ صَاحِبُهُ: هُوَ ابْنِي دُونَك فَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِالنَّسَبِ ابْتِدَاءً وَسَكَتَ فَقَدْ اسْتَقَرَّ إقْرَارُهُ وَوَقَفَ عَلَى التَّصْدِيقِ فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ ابْنِي يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ الْإِقْرَارِ فَلَا يَسْمَعُ فَإِذَا وَجَدَ التَّصْدِيقَ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ قَالَ: فَإِنْ قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: لَيْسَ بِابْنِي وَلَكِنَّهُ ابْنُك أَوْ قَالَ: لَيْسَ بِابْنِي وَلَا ابْنُك أَوْ قَالَ: لَيْسَ بِابْنِي، وَسَكَتَ فَلَيْسَ بِابْنٍ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، فِي قِيَاسِ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ إنْ صَدَّقَهُ فَهُوَ ابْنُ الْمُقِرِّ لَهُ وَإِنْ كَذَّبَهُ فَهُوَ ابْنُ الْمُقِرِّ. فَهَذَا فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ أَقَرَّ بِعَبْدٍ أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ وَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ وَادَّعَاهُ الْمَوْلَى أَنَّهُ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِهِمَا تَصِحُّ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فَقَدْ بَطَلَ إقْرَارُهُ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ

وَإِذَا بَطَلَ إقْرَارُهُ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَجَازَ أَنْ يَدَّعِيَهُ لِنَفْسِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالنَّسَبِ لِغَيْرِهِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ، فَتَكْذِيبُهُ يَنْفِي ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْهُ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ الشَّرِيكِ بَلْ بَقِيَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ فِي حَقِّهِ. فَإِذَا ادَّعَى وَلَدًا هُوَ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ فِي حَقِّهِ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَلَوْ قَالَ: هُوَ ابْنِي وَابْنُكَ فَهُوَ مِنْ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ هُوَ ابْنِي فَقَدْ صَدَّقَهُ، فَقَدْ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ فَإِقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَابْنُك لَمْ يَصِحَّ. قَالَ مُحَمَّدٌ: فَإِنْ كَانَ هَذَا الْغُلَامُ يَعْقِلُ فَالْمَرْجِعُ إلَى تَصْدِيقِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَاقِلًا كَانَ فِي يَدِ نَفَسِهِ، فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى النَّسَبِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِهِ. قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مِنْ أَمَةٍ وَلَدَتْهُ فِي مِلْكِهِمَا، فَالْجَوَابُ كَالْأَوَّلِ فِي النَّسَبِ إنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَثْبُتُ مِنْ الْمُقِرِّ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ لِشَرِيكِهِ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَثْبُتُ قَالَ: وَالْأَمَةُ أُمُّ وَلَدٍ لِمَنْ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ يَتْبَعُ النَّسَبَ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا إذَا اشْتَرَى رَجُلَانِ جَارِيَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فِي مِلْكِهِمَا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، وَادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَلَدَ ابْنُهُ وَادَّعَى الْآخَرُ أَنَّ الْجَارِيَةَ بِنْتُهُ وَخَرَجَتْ الدَّعْوَتَانِ مَعًا. فَالدَّعْوَةُ دَعْوَةُ مَنْ يَدَّعِي الْوَلَدَ، وَدَعْوَةُ مُدَّعِي الْأُمِّ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ مُدَّعِيَ الْوَلَدِ دَعْوَتُهُ دَعْوَةُ الِاسْتِيلَادِ، وَالِاسْتِيلَادُ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ، وَمُدَّعِيَ الْأُمِّ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ وَالتَّحْرِيرُ يَثْبُتُ فِي الْحَالِ وَلَا يَسْتَنِدُ، فَكَانَتْ دَعْوَةُ مُدَّعِي الْوَلَدِ سَابِقَةً، فَثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ وَيَصِيرُ نَصِيبُهُ مِنْ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَيَنْتَقِلُ نَصِيبُ شَرِيكِهِ مِنْهَا إلَيْهِ فَكَانَ دَعْوَى الشَّرِيكِ دَعْوَى فِيمَا لَا يَمْلِكُ فَلَا يُسْمَعْ، وَهَلْ يَضْمَنُ مُدَّعِي الْوَلَدِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ وَنِصْفِ عُقْرِهَا؟ قَالَ مُحَمَّدٌ: يَضْمَنُ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّ هَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ رِوَايَةُ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى مُدَّعِي الْوَلَدِ مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ وَلَا مِنْ الْعُقْرِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ أَيْضًا عَلَى مُدَّعِي الْأُمِّ، فَإِنْ أَكَذَبَ مُدَّعِي الْأُمِّ نَفَسَهُ فَلَهُ نِصْفُ قِيمَةِ الْأُمِّ، وَنِصْفُ عُقْرِهَا عَلَى مُدَّعِي الْوَلَدِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْيَسُ وَوَجْهُهُ أَنَّ مُدَّعِي الْأُمِّ أَقَرَّ أَنَّهَا حُرَّةُ الْأَصْلِ. فَكَانَ مُنْكِرًا ضَمَانَ الْقِيمَةِ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ التَّضْمِينِ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دَعْوَاهُ وَأَكْذَبَ نَفَسَهُ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الضَّمَانِ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ لَهُ شَرِيكُهُ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الْمُدَّعِي، فَقَدْ صَارَ نَصِيبُهُ مِنْ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ فَكَذَا نَصِيبُ شَرِيكِهِ لِعَدَمِ تَجَزُّؤِ الْجَارِيَةِ فِي حَقِّ الِاسْتِيلَادِ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ، فَصَارَ مُتْلِفًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ تَمَلُّكُ مَالِ الْغَيْرِ إلَّا بِعِوَضٍ فَيَضْمَنَ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمِّ، وَيَضْمَنَ لَهُ نِصْفَ عُقْرِ الْجَارِيَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَاقَاهَا، وَنِصْفُهَا مَمْلُوكٌ لِلشَّرِيكِ، فَمَا صَادَفَ مِلْكَ غَيْرِهِ يَجِبُ بِهِ الْعُقْرُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ أَنَّ مُدَّعِيَ الْأُمِّ أَقَرَّ أَنَّهَا حُرَّةُ الْأَصْلِ. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمَّا قَضَى بِكَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُدَّعِي فَقَدْ صَارَ مُكَذِّبًا شَرْعًا، فَبَطَلَ كَمَا لَوْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَى الدَّارَ بِأَلْفٍ وَادَّعَى الْبَائِعُ الْبَيْعَ بِأَلْفَيْنِ وَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ، وَقَضَى الْقَاضِي بِأَلْفَيْنِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِالْأَلْفَيْنِ مِنْ الْمُشْتَرِي وَإِنْ سَبَقَ مِنْ الْمُشْتَرِي الْإِقْرَارُ بِالشِّرَاءِ بِأَلْفٍ لِمَا أَنَّهُ كَذَّبَهُ شَرْعًا كَذَا هَذَا، وَالثَّانِي أَنَّ إقْرَارَهُ بِحُرِّيَّتِهَا وُجِدَ بَعْدَ مَا حَكَمَ بِزَوَالِهَا عَنْ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ زَائِلَةً عَنْهُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ فَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ، فَلَمْ يَصِرْ إقْرَارُهُ إبْرَاءَ إيَّاهُ عَنْ الضَّمَانِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الشَّفِيعِ. وَمِنْ مَسَائِلِ دَعْوَى الْوَلَدِ إذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لَيْسَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ صَدَّقَتْهُ أَمْ كَذَّبَتْهُ، وَسَوَاءٌ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ لِأَكْثَرَ أَوْ لِأَقَلَّ فَإِنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ عَلَى كُلِّ حَالٍ إذَا ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فَكَانَ وَلَدُهَا مَمْلُوكًا لَهُ، وَدَعْوَةُ الْمَوْلَى وَلَدَ أَمَتِهِ لَا تَقِفُ صِحَّتُهَا عَلَى التَّصْدِيقِ وَعِتْقِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ ثَبَتَ مِنْ الْمَوْلَى وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُكَاتَبَةِ مِنْ الْكِتَابَةِ عِتْقُهَا وَعِتْقُ أَوْلَادِهَا وَقَدْ حَصَلَ لَهَا هَذَا الْغَرَضُ فَلَا يَضْمَنُ لَهَا شَيْئًا، ثُمَّ إنْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ حَصَلَ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ كَاتَبَهَا فَلَا عُقْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ وَطِئَهَا قَبْلَ الْكِتَابَةِ، وَالْمُكَاتَبَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى كِتَابَتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ عَجَزَتْ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَوَجَّهَتْ إلَيْهَا مِنْ جِهَتَيْنِ وَلَهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غَرَضٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ بِالْكِتَابَةِ تَتَعَجَّلُ لَهَا الْحُرِّيَّةُ وَبِالِاسْتِيلَادِ تَسْقُطُ عَنْهَا السِّعَايَةُ، فَكَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا فَكَانَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ أَيَّهمَا شَاءَتْ. وَإِنْ ادَّعَى الْمَوْلَى وَلَدَ جَارِيَةِ الْمُكَاتِبِ لَهُ وَقَدْ عَلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكِ الْمُكَاتِبِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى تَصْدِيقِ الْمُكَاتِبِ، فَإِنْ كَذَّبَ الْمَوْلَى لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ

فصل في صفة الاستيلاد

الْوَلَدِ وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ وَوَلَدُهَا مَمْلُوكَيْنِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ كَانَ الْوَلَدُ ابْنَ الْمَوْلَى وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ وُلِدَ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا، وَكَذَا ذَكَرَ فِي الدَّعَاوَى إلَّا أَنَّهُ قَالَ: أَسْتَحْسِنُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْحَبَلُ فِي مِلْكِ الْمُكَاتِبِ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَعْتِقَ الْوَلَدُ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُكَاتِبُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَوْلَى يُصَدَّقُ بِغَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَكَاتِبِ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ بِغَيْرِ تَصْدِيقٍ، فَكَذَا مَعَ التَّصْدِيقِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَمْلِكُ التَّحْرِيرَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ التَّصْدِيقَ بِالْحُرِّيَّةِ أَيْضًا، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ حَقَّ الرَّجُلِ فِي مَالِ مُكَاتَبِهِ أَقْوَى مِنْ حَقِّهِ فِي مَالِ وَلَدِهِ، فَلَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ فِي جَارِيَةِ الِابْنِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقٍ فَهَهُنَا أَوْلَى، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ حَقَّ الْمُكَاتَبِ فِي كَسْبِهِ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ النَّزْعَ مِنْ يَدِهِ فَكَانَ الْمَوْلَى فِي حَقِّ مِلْكِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ، فَتَقِفُ صِحَّةُ دَعْوَتِهِ عَلَى تَصْدِيقِ الْمُكَاتَبِ فَإِنْ صَدَّقَهُ كَانَ الْوَلَدُ ابْنَ الْمَوْلَى وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ وُلِدَ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ وَلَدَ الْمَغْرُورِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْأُمِّ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الذَّاتِ فِي الْمُكَاتَبِ لِلْمَوْلَى وَمِلْكُ التَّصَرُّفَاتِ لِلْمُكَاتَبِ كَالْمَغْرُورِ، أَنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْأُمِّ ظَاهِرًا وَلِلْمُسْتَحِقِّ حَقِيقَةً، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ: إذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أَمَةً حَامِلًا فَادَّعَى مَوْلَاهَا وَلَدَهَا، أَوْ اشْتَرَى عَبْدًا صَغِيرًا فَادَّعَاهُ لَمْ يَجُزْ دَعْوَتُهُ إلَّا بِالتَّصْدِيقِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ إذَا صَدَّقَهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَعْتِقُ وَهَهُنَا إنْ صَدَّقَهُ الْمَكَاتِبُ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَلَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الدَّعْوَةَ دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ لِعَدَمِ الْعُلُوقِ فِي الْمِلْكِ فَكَانَتْ دَعْوَةَ تَحْرِيرٍ، وَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ تَحْرِيرَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ لَا تَصِحُّ؟ إلَّا أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ ثُبُوتُ الْعِتْقِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى وَلَدَ أَمَةٍ أَجْنَبِيٍّ فَصَدَّقَهُ مَوْلَاهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَلَا يَعْتِقُ فِي الْحَالِ؟ كَذَا هَهُنَا. [فَصْلٌ فِي صِفَة الِاسْتِيلَاد] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الِاسْتِيلَادِ فَالِاسْتِيلَادُ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كَالتَّدْبِيرِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ مُتَجَزِّئٌ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَتَكَامَلُ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ التَّكَامُلِ وَشَرْطِهِ، وَهُوَ إمْكَانُ التَّكَامُلِ، وَقِيلَ: إنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ أَيْضًا لَكِنْ فِيمَا يَحْتَمِلُ نَقْلَ الْمِلْكِ فِيهِ. وَأَمَّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ فَهُوَ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ. وَبَيَانُ هَذَا مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَمَةِ الْقِنَّةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَإِنْ ادَّعَيَاهُ جَمِيعًا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا جَمِيعًا ثُمَّ أُمُّ الْوَلَدِ الْخَالِصَةُ إذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى نِصْفَهَا عَتَقَ كُلُّهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ جَمِيعُهَا بِلَا خِلَافٍ، لَكِنْ عِنْدَهُمَا لِعَدَمِ تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ، وَعِنْدَهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي بَقَاءِ حُكْمِ الِاسْتِيلَادِ فِي الْبَاقِي لَا بِإِعْتَاقِهِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْعَتَاق. وَلَا ضَمَانَ عَلَى الشَّرِيكِ الْمُعْتِقِ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي مَوْضِعِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فِي هَذَا الْحُكْمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً صَارَ نَصِيبُ الْمُدَّعِي أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَنُصِيبُ الْآخَرِ بَقِيَ مُدَبَّرًا عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مُكَاتَبَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ صَارَ نَصِيبُ الْمُدَّعِي أُمَّ وَلَدٍ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ، وَتَبْقَى الْكِتَابَةُ، وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ الْكُلُّ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُدَّعِي، وَتُفْسَخُ الْكِتَابَةُ فِي النِّصْفِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ. [فَصْلٌ فِي حُكْم الِاسْتِيلَادِ] وَأَمَّا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا: كَحُكْمِ التَّدْبِيرِ أَحَدُهُمَا، يَتَعَلَّقُ بِحَالِ حَيَاةِ الْمُسْتَوْلِدِ، وَالثَّانِي، يَتَعَلَّقُ بِمَا بَعْدَ مَوْتِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا ذَكَرْنَا فِي التَّدْبِيرِ وَهُوَ ثُبُوتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ وَدَاوُد بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيُّ إمَامُ أَصْحَابِ الظَّاهِرِ لَا حُكْمَ لَهُ فِي الْحَالِ، وَعَلَى هَذَا تُبْتَنَى جُمْلَةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ؛ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ. وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا نَبِيعُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْد رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَلِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَلَا يَحِلُّ الْوَطْءُ إلَّا فِي الْمِلْكِ، وَكَذَا تَصِحُّ إجَارَتُهَا وَكِتَابَتُهَا، فَدَلَّ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَيَجُوزُ بَيْعُهَا كَبَيْعِ الْقِنَّةِ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أُمُّ الْوَلَدِ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَهِيَ حُرَّةٌ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ فِي أُمِّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ لِلْحَالِ، أَوْ الْحُرِّيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إلَّا أَنَّهُ تَأَخَّرَ ذَلِكَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ انْعِقَادِ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ، أَوْ الْحُرِّيَّةِ مِنْ وَجْهٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَدَمٌ

يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ. وَرُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَقَالَ: إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ إنَّ أَوَّلَ مَنْ أَمَرَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلُ مَنْ أَعْتَقَهُنَّ وَلَا يُجْعَلْنَ فِي الثُّلُثِ، وَلَا يَسْتَسْعِينَ فِي دَيْنٍ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَأَنْ لَا يُبَعْنَ فِي الدَّيْنِ وَلَا يُجْعَلْنَ فِي الثُّلُثِ» وَكَذَا جَمِيعُ التَّابِعِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ، فَكَانَ قَوْلُ بِشْرٍ وَأَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ بَاطِلًا، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: عَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَيْضًا لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَقَالَ: كَانَ رَأْيِي وَرَأْيِ عُمَرَ أَنْ لَا يُبَعْنَ، ثُمَّ رَأَيْتُ بَيْعَهُنَّ فَقَالَ لَهُ عُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ: رَأْيُك مَعَ الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ رَأْيِك وَحْدَك،. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُبَعْنَ فِي الدَّيْنِ، فَقَالَ عُبَيْدَةُ رَأْيُك وَرَأْيُ عُمَرَ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ رَأْيِك فِي الْفُرْقَةِ فَقَوْلُ عُبَيْدَةَ فِي الْجَمَاعَةِ إشَارَةٌ إلَى سَبْقِ الْإِجْمَاعِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ثُمَّ بَدَا لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيُحْمَلُ خِلَافُهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى اسْتِقْرَارَ الْإِجْمَاعِ مَا لَمْ يَنْقَرِضْ الْعَصْرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةً بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَكَانَ عَلِيٌّ وَجَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَرَيَانِ بَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ، لَكِنَّ التَّابِعِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالْإِجْمَاعُ الْمُتَأَخِّرُ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لِمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ تَعْتِقُ عِنْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا سَبَبَ سِوَى الِاسْتِيلَادِ السَّابِقِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ انْعَقَدَ سَبَبًا لِلْحَالِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ لِمَا بَيَّنَّا فِي التَّدْبِيرِ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَيْعِ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّهَا تُسَمَّى بَيْعًا فِي لُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّهَا بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِكَوْنِهَا مُبَادَلَةَ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حِينَمَا كَانَ بَيْعُ الْحُرِّ مَشْرُوعًا ثُمَّ انْتَسَخَ بِانْتِسَاخِهِ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْتَوْلِدِ. فَنَعَمْ، لَكِنْ هَذَا لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ حُرِّيَّةٍ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِلْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ التَّدْبِيرِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَوْلِدُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، مُرْتَدًّا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا، خَرَجَ إلَى دِيَارِنَا وَمَعَهُ أُمُّ وَلَدِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ تَتْبَعُ ثَبَاتَ النَّسَبِ، وَالْكُفْرُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ النَّسَبِ، وَلَمَّا دَخَلَ الْمُسْتَأْمَنُ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَقَدْ رَضِيَ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ تَصَرُّفٍ يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ الثَّابِتَةِ لَهَا بِالِاسْتِيلَادِ لَا يَجُوزُ، كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالرَّهْنِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ تُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الْعَيْنِ فَيُوجِبُ بُطْلَانَ هَذَا الْحَقِّ، وَمَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ هَذَا الْحَقِّ فَهُوَ جَائِزٌ؛ كَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَالِاسْتِسْعَاءِ وَالِاسْتِغْلَالِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَالْوَطْءِ؛ لِأَنَّهَا تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ لَا فِي الْعَيْنِ، وَالْمَنَافِعُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ وَالْأُجْرَةُ وَالْكَسْبُ وَالْغَلَّةُ وَالْعُقْرُ وَالْمَهْرُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَنَافِعُ عَلَى مِلْكِهِ، وَكَذَا مِلْكُ الْعَيْنِ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ وَهُوَ التَّدْبِيرُ لَمْ يُؤَثِّرْ إلَّا فِي ثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ حُرِّيَّةٍ، فَكَانَ مِلْكُ الْيَمِينِ قَائِمًا، وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ مِنْهُ تَصَرُّفٌ يُبْطِلُ هَذَا الْحَقَّ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لَا تُبْطِلُهُ، وَكَذَا الْأَرْشُ لَهُ بَدَلُ جُزْءٍ هُوَ مِلْكُهُ، وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَوِّجَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا حَمَلَتْ مِنْهُ فَيَكُونُ النِّكَاحُ فَاسِدًا، وَيَصِيرَ الزَّوْجُ بِالْوَطْءِ سَاقِيًا مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، فَكَانَ التَّزْوِيجُ تَعْرِيضًا لِلْفَسَادِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ ذَلِكَ بِالِاسْتِبْرَاءِ، لَكِنَّ هَذَا الِاسْتِبْرَاءَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ كَاسْتِبْرَاءِ الْبَائِعِ، وَلَوْ زَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مِنْ الْمَوْلَى وَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ زَوَّجَهَا وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ، وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ وَلَدُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَهُ فِرَاشٌ، وَالْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا فِرَاشَ لِلْمَوْلَى لِزَوَالِ فِرَاشِهِ بِالنِّكَاحِ، فَإِنْ ادَّعَاهُ الْمَوْلَى وَقَالَ: هَذَا ابْنِي لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ لِسَبْقِ ثُبُوتِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ الزَّوْجُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ لَكِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مِلْكِهِ وَقَدْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ كَمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: هَذَا ابْنِي، وَهُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ، وَنَسَبُ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ يَثْبُتُ مِنْ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ عِنْدَ عَدَمِ الْحُرِّيَّةِ، إلَّا إذَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ

الْحُرْمَةِ، أَوْ زَوَّجَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ التَّزْوِيجِ فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إلَّا بِالدَّعْوَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ عِنْدَ عَدَمِ الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ وَالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِرَاشًا بِثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِهَا، وَالْوَلَدُ الْمَوْلُودُ عَلَى الْفِرَاشِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» بِخِلَافِ الْأَمَةِ الْقِنَّةِ أَوْ الْمُدَبَّرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا، وَإِنْ حَصَّنَهَا الْمَوْلَى وَطَلَب وَلَدَهَا بِدُونِ الدَّعْوَةِ عِنْدَنَا، فَلَا تَصِيرُ فِرَاشًا بِدُونِ الدَّعْوَةِ، ثُمَّ إنَّمَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ بِدُونِ الدَّعْوَةِ دُونَ وَلَدِ الْقِنَّةِ وَالْمُدَبَّرَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَرَّزُ عَنْ الْإِعْلَاقِ، إذْ التَّحَرُّزُ لِخَوْفِ فَوَاتِ مَالِيَّتِهَا وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَالظَّاهِرُ أَنْ لَا يَعْزِلَ عَنْهَا بَلْ يُعَلِّقُهَا فَكَانَ الْوَلَدُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الدَّعْوَةِ، بِخِلَافِ الْقِنَّةِ وَالْمُدَبَّرَةُ، فَإِنَّ هُنَاكَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُعَلِّقُهَا بَلْ يَعْزِلُ عَنْهَا تَحَرُّزًا عَنْ إتْلَافِ الْمَالِيَّةِ، فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مِنْهُ إلَّا بِالدَّعْوَةِ، فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَّا بِالدَّعْوَةِ، فَهُوَ الْفَرْقُ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. فَإِنْ صَارَتْ أُمُّ الْوَلَدِ مُحَرَّمَةً عَلَى الْمَوْلَى عَلَى التَّأْبِيدِ بِأَنْ وَطِئَهَا ابْنُ الْمَوْلَى أَوْ أَبُوهُ أَوْ وَطِئَ الْمَوْلَى أُمَّهَا أَوْ بِنْتَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ؛ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الْوَلَدِ الَّذِي أَتَتْ بِهِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَا وَطِئَهَا بَعْدَ الْحُرْمَةِ فَكَانَتْ حُرْمَةُ الْوَطْءِ كَالنَّفْيِ دَلَالَةً، وَإِنْ ادَّعَى يَثْبُتْ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تُزِيلُ الْمِلْكَ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَصْلًا فَقَالَ: إذَا حُرِّمَتْ أُمُّ الْوَلَدِ بِمَا يَقْطَعُ نِكَاحَ الْحُرَّةِ وَيُزِيلُ فِرَاشَهَا مِثْلَ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ مَوْلَاهَا إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ؛ لِأَنَّ فِرَاشَ الزَّوْجَةِ أَقْوَى مِنْ فِرَاشِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَقْطَعُ فِرَاشَ الزَّوْجَةِ، فَلَأَنْ تَقْطَعَ فِرَاشَ أُمِّ الْوَلَدِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ إذَا زَوَّجَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِرَاشًا لِلزَّوْجِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَصِيرَ فِرَاشًا لِغَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا ادَّعَى يَعْتِقُ عَلَيْهِ، كَمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ وَهُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ: هَذَا ابْنِي، وَإِنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَقْطَعُ نِكَاحَ الْحُرَّةِ وَلَا يُزِيلُ فِرَاشَهَا مِثْلَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْإِحْرَامِ وَالصَّوْمِ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ عَارِضٌ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْفِرَاشِ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَنْفِيَ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ أَمَّا النَّفْيُ فَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْعَزْلَ عَنْهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا، فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْبَرَ عَمَّا يَمْلِكُ فَكَانَ مُصَدَّقًا. وَأَمَّا النَّفْيُ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ فَلِأَنَّ فِرَاشَ أُمِّ الْوَلَدِ أَضْعَفُ مِنْ فِرَاشِ الْحُرَّةِ وَهَذَا أَصْلٌ يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الْفُرُشَ ثَلَاثَةٌ: قَوِيٌّ وَضَعِيفٌ وَوَسَطٌ. فَالْقَوِيُّ: هُوَ فِرَاشُ النِّكَاحِ حَتَّى يَثْبُتَ النَّسَبُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ وَلَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ، وَالضَّعِيفُ فِرَاشُ الْأَمَةِ حَتَّى لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ، وَالْوَسَطُ فِرَاشُ أُمِّ الْوَلَدِ حَتَّى يَثْبُتَ النَّسَبُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ، وَيَنْتَفِي مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ بِالتَّزْوِيجِ فَيَحْتَمِلُ الِانْتِفَاءَ بِالنَّفْيِ بِخِلَافِ فِرَاشِ الزَّوْجِ، ثُمَّ إنَّمَا يَنْتَفِي بِالنَّفْيِ إذَا لَمْ يَقْضِ بِهِ الْقَاضِي أَوْ لَمْ تَتَطَاوَلْ الْمُدَّةُ، فَأَمَّا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ أَوْ تَطَاوَلَتْ الْمُدَّةُ فَلَا يَنْتَفِي؛ لِأَنَّهُ يَتَأَكَّدُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَحْتَمِلُ النَّفْيَ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَذَا تَطَاوُلُ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ النَّفْيِ إقْرَارٌ مِنْهُ دَلَالَةً، وَالنَّسَبُ الْمُقَرُّ بِهِ لَا يَنْتَفِي بِالنَّفْيِ وَلَمْ يُقَدِّرْ أَبُو حَنِيفَةَ لِتَطَاوُلِ الْمُدَّةِ تَقْدِيرًا، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ قَدَّرَاهُ بِمُدَّةِ النِّفَاسِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ وَوَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ مَوْلَاهَا بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ بِأَنْ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ فَوَلَدَتْ وَلَدًا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ التَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَقَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْأُمِّ فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأُمِّ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، هَذَا إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً فِي مِلْكِهِ فَإِنْ كَانَ اسْتَوْلَدَهَا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِنِكَاحٍ حَتَّى يَثْبُتَ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ، ثُمَّ مَلَكَهَا وَلَهَا وَلَدٌ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ بِأَنْ اسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ فَارَقَهَا فَزَوَّجَهَا الْمَوْلَى مِنْ آخَرَ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ ثُمَّ مَلَكَهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ وَوَلَدَهَا، صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَلَا يَصِيرُ وَلَدُهَا وَلَدَ أُمِّ وَلَدٍ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: إذَا مَلَكَ مَنْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ ثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِهَا مِنْهُ، فَهُوَ وَلَدُ أُمِّ وَلَدِهِ يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْأُمِّ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الِاسْتِيلَادَ وَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَكِنَّهُ لَمَّا مَلَكَهَا فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ بِالْعُلُوقِ السَّابِقِ، وَالْوَلَدُ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَحْدُثُ عَلَى وَصْفِ الْأُمِّ، فَإِذَا مَلَكَهُ يَثْبُتُ فِيهِ الْحُكْمُ الَّذِي يَثْبُتُ فِي الْأُمِّ، وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِيلَادَ فِي الْأُمِّ وَهُوَ أُمِّيَّةُ الْوَلَدِ شَرْعًا إنَّمَا تَثْبُتُ وَقْتَ مِلْكِ الْأُمِّ، وَالْوَلَدُ مُنْفَصِلٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالسِّرَايَةُ لَا تَثْبُتُ فِي الْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ، وَيَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِكَسْبِهَا لَا بِرَقَبَتِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ الْبَيْعَ لِمَا ذَكَرْنَا وَتَسْعَى

فِي دُيُونِهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَيْهَا لَا فِي رَقَبَتِهَا، وَأَرْشُ جِنَايَتِهَا عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهَا، وَمِنْ الْأَرْشِ وَلَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى إلَّا قَدْرُ قِيمَتِهَا وَإِنْ كَثُرَتْ الْجِنَايَاتُ كَالْمُدَبَّرِ، وَيَجُوزُ إعْتَاقُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِعْجَالِ مَقْصُودِهَا وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ، وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى نِصْفَهَا يَعْتِقُ كُلُّهَا، وَكَذَا إذَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ جَمِيعُهَا لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُعْتِقِ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا ضَمِنَ لِشَرِيكِهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَتْ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ، وَلَوْ مَاتَ عَنْ أُمِّ وَلَدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ عَتَقَ جَمِيعُهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي الْمَوْتِ، وَيَقَعُ الِاخْتِلَافُ فِي السِّعَايَةِ؛ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهَا السِّعَايَةُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْغَصْبُ وَالْقَبْضُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، إنَّهَا لَا تُضْمَنُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا تُضْمَنُ، وَلَا خِلَافَ فِي الْمُدَبَّرَةِ أَنَّهَا تُضْمَنُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ هَلْ هِيَ مُتَقَوَّمَةٌ مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا مَالٌ أَمْ غَيْرُ مُتَقَوَّمَةٍ؟ عِنْدَهُ غَيْرُ مُتَقَوَّمَةٍ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَعِنْدَهُمَا مُتَقَوَّمَةٌ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا مُتَقَوَّمَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا نَفْسٌ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُدَبَّرَ مُتَقَوِّمٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ، وَرُبَّمَا تُلَقَّبُ الْمَسْأَلَةُ بِأَنَّ رِقَّ أُمِّ الْوَلَدِ هَلْ لَهُ قِيمَةٌ أَمْ لَا؟ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْإِمْلَاءِ: أَنَّهَا تُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا يُضْمَنُ الصَّبِيُّ الْحُرُّ إذَا غُصِبَ يَعْنِي إذَا مَاتَ عَنْ سَبَبٍ حَادِثٍ بِأَنْ عَقَرَهُ سَبْعٌ أَوْ نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى وَلَا شَكَّ، وَلِهَذَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَإِجَارَتُهَا وَاسْتِخْدَامُهَا وَكِتَابَتُهَا، وَمِلْكُهُ فِيهَا مَعْصُومٌ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَهُ لَمْ يُوجِبْ زَوَالَ الْعِصْمَةِ، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْغَصْبِ وَالْإِعْتَاقِ وَالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَالْمُدَبَّرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ رِقَّهَا مُتَقَوِّمٌ: أَنَّ أُمَّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ تَخْرُجُ إلَى الْعَتَاقِ بِالسِّعَايَةِ، فَلَوْلَا أَنَّ مَالِيَّتَهَا مُتَقَوِّمَةٌ لَعَتَقَتْ مَجَّانًا، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى أَخْذُ السِّعَايَةِ بَدَلًا عَنْ مَالِيَّتِهَا، وَكَذَا يَجُوزُ لِلْمَوْلَى أَنْ يُكَاتِبَهَا، وَالِاعْتِيَاضُ إنَّمَا يَجُوزُ عَنْ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا تُضْمَنُ بِالْقَتْلِ بِالْإِجْمَاعِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَارِيَةَ لَمَّا وَلَدَتْ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْعِتْقِ فِي الْحَالِ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الِاسْتِمْتَاعَ وَالِاسْتِخْدَامَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا إجْمَاعَ فِي التَّقْوِيمِ، فَكَانَتْ حُرَّةً فِي حَقِّ التَّقْوِيمِ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَكَذَا سَبَبُ الْعِتْقِ لِلْحَالِ مَوْجُودٌ وَهُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الِاتِّحَادَ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ وَيَجْعَلهُمَا نَفْسًا وَاحِدَةً، فَقَضِيَّتُهُ ثُبُوتُ الْعِتْقِ لِلْحَالِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ سُقُوطِ التَّقَوُّمِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ السَّبَبُ وَهُوَ التَّدْبِيرُ أُضِيفَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ عَنْ دُبُرٍ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ سَبَبًا لِلْحَالِ لِضَرُورَةٍ ذَكَرْنَاهَا فِي بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَيَّدُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ فِي حُرْمَةِ الْبَيْعِ لَا فِي سُقُوطِ التَّقَوُّمِ، وَهَهُنَا الْأَمْرُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ يَقْتَضِي الْحُكْمَ لِلْحَالِ، وَالتَّأْخِيرُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَالٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْعَى لِغَرِيمٍ وَلَا لِوَارِثٍ، وَلَوْ كَانَتْ مُتَقَوِّمَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَالٌ لَثَبَتَ لِلْغَرِيمِ حَقٌّ فِيهَا وَلِلْوَارِثِ فِي ثُلُثِهَا، فَيَجِبُ أَنْ يَسْعَى فِي ذَلِكَ كَالْمُدَبَّرِ، وَالسِّعَايَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ اسْتِسْعَاءَ الْعَبْدِ يَكُونُ بِقِيمَتِهِ، وَلَا قِيمَةَ لِأُمِّ الْوَلَدِ فَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهَا قَائِمٌ بَعْد الِاسْتِيلَادِ، وَالْعِصْمَةُ قَائِمَةٌ. فَمُسَلَّمٌ، لَكِنَّ قِيَامَ الْمِلْكِ وَالْعِصْمَةِ لَا يَقْتَضِي التَّقَوُّمَ كَمِلْكِ الْقِصَاصِ وَمِلْكِ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْخَمْرِ وَجِلْدِ الْمَيْتَةِ، وَأَمَّا أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ فِي زَعْمِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ، فَإِذَا دَانُوا تَقْوِيمَهَا يُتْرَكُونَ وَذَلِكَ، وَلِذَلِكَ جُعِلَتْ خُمُورُهُمْ مُتَقَوِّمَةً كَذَا هَذَا، وَالثَّانِي: أَنَّ أُمَّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ تُجْعَلُ مُكَاتَبَةً لِلضَّرُورَةِ إذْ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِعِتْقِهَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الذِّمِّيِّ مِلْكٌ مُحْتَرَمٌ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ عَلَيْهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إبْقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ يَسْتَمْتِعُ بِهَا وَيَسْتَخْدِمُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِذْلَالِ بِالْمُسْلِمَةِ، وَلَا وَجْهَ إلَى دَفْعِ الْمَذَلَّةِ عَنْهَا بِالْبَيْعِ مِنْ الْمُسْلِمِ لِخُرُوجِهَا بِالِاسْتِيلَادِ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ، فَتُجْعَلَ مُكَاتَبَةً وَضَمَانُ الْكِتَابَةِ ضَمَانُ شَرْطٍ، وَلِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى كَوْنِ مَا يُقَابِلُهُ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ ثُمَّ إذَا سَعَتْ تَسْعَى وَهِيَ رَقِيقَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ تَسْعَى وَهِيَ حُرَّةٌ، وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الِاسْتِسْعَاءَ اسْتِذْلَالٌ بِهَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِي الْحُكْمِ بِعِتْقِهَا إبْطَالُ مِلْكِ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ، وَتَتَعَلَّقُ دُيُونُهُ بِذِمَّةِ الْمُفْلِسِ، وَمِلْكُهُ مَعْصُومٌ،

فصل في بيان ما يظهر به الاستيلاد

وَالِاسْتِذْلَالُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ وَالِاسْتِخْدَامِ لَا فِي نَفْسِ الْمِلْكِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَمَةَ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ فَكَاتَبَهَا الْمَوْلَى لَا تُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ؟ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ الْكِتَابَةِ، وَإِنَّمَا ضُمِنَتْ بِالْقَتْلِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ ضَمَانُ الدَّمِ وَالنَّفْسِ، وَإِنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَذَلِكَ ضَمَانُ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَحْفَظْهَا حَتَّى هَلَكَتْ بِسَبَبِ حَادِثٍ، فَقَدْ تَسَبَّبَ لِقَتْلِهَا، وَتَجُوزُ كِتَابَتُهَا كَمَا يَجُوزُ إعْتَاقُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْجِيلِ الْعِتْقِ إلَيْهَا، وَلَا تُشْكِلُ الْكِتَابَةُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ، وَرِقُّ أُمِّ الْوَلَدِ لَا قِيمَةَ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ عِوَضًا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْمُعَاوَضَةِ لَا تَقِفُ عَلَى كَوْنِ الْمُعَوَّضِ مَالًا أَصْلًا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُتَقَوِّمًا كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ عَتَقَتْ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، أَمَّا الْعِتْقُ فَلِأَنَّهَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَقَدْ مَاتَ مَوْلَاهَا. وَأَمَّا الْعِتْقُ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ قَدْ بَطَلَتْ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَوَجَّهَتْ إلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الِاسْتِيلَادُ، وَالْكِتَابَةُ فَإِذَا ثَبَتَ الْعِتْقُ بِأَحَدِهِمَا بَطَلَ حُكْمُ الْآخَرِ، وَكَذَا يَجُوزُ إعْتَاقُهَا عَلَى مَالٍ وَبَيْعُهَا نَفْسَهَا حَتَّى إذَا قَبِلَتْ عَتَقَتْ وَالْمَالُ دَيْنٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عَلَى مَالٍ مِنْ بَابِ تَعْجِيلِ الْحُرِّيَّةِ. وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمَا بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى فَمِنْهَا عِتْقُهَا؛ لِأَنَّ عِتْقَهَا كَانَ مُعَلَّقًا شَرْعًا بِمَوْتِ الْمَوْلَى لِمَا رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيُّمَا رَجُلٍ وَلَدَتْ أَمَتُهُ مِنْهُ فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ» . وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ حِينَ وَلَدَتْ أُمُّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حَقِيقَةُ الْعِتْقِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدَ الْمَوْتِ لَتَعَطَّلَ الْحَدِيثُ، وَلِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْعِتْقِ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ وَلَمْ يَعْمَلْ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ بَعْدَ الْمَوْتِ لَبَطَلَ السَّبَبُ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمَوْتُ الْحَقِيقِيُّ وَالْحُكْمِيُّ بِالرِّدَّةِ وَاللُّحُوقِ بِدَارِ الْحَرْبِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ التَّدْبِيرِ. وَكَذَا الْحَرْبِيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَاسْتُرِقَّ الْحَرْبِيُّ عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُدَبَّرِ، وَكَذَا يَعْتِقُ وَلَدُهَا الَّذِي لَيْسَ مِنْ مَوْلَاهَا إذْ سَرَتْ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ إلَيْهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ. وَمِنْهَا أَنَّهَا تَعْتِقُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَلَا تَسْعَى لِلْوَارِثِ وَلَا لِلْغَرِيمِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرَةِ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أُمُّ الْوَلَدِ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَهِيَ حُرَّةٌ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ» وَهَذَا نَصٌّ، وَرَوَيْنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مِنْ غَيْرِ الثُّلُثِ، وَلَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ وَلَا يُجْعَلْنَ فِي الثُّلُثِ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «وَلَا يُجْعَلْنَ فِي الثُّلُثِ وَلَا يُسْتَسْعَيْنَ فِي دَيْنٍ» ، وَفِي بَعْضِهَا «أَمَرَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مِنْ غَيْرِ الثُّلُثِ وَلَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ» وَلِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ حُرِّيَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ هُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ وَالنَّسَبُ لَا تُجَامِعُهُ السِّعَايَةُ، كَذَا حُرِّيَّةُ الِاسْتِيلَادِ وَمِنْهَا أَنَّ وَلَاءَهَا لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْهُ لِمَا بَيَّنَّا. [فَصْلٌ فِي بَيَان مَا يَظْهَرُ بِهِ الِاسْتِيلَادُ] وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ الِاسْتِيلَادُ. فَظُهُورُهُ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى، ثُمَّ إنْ أَقَرَّ بِهِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ لَا تُهْمَةَ فِيهِ فَيَصِحُّ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلِهَذَا لَوْ أَعْتَقَهَا فِي الصِّحَّةِ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ أَيْضًا وَتَعْتِقُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ إذَا مَاتَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْوَلَدِ مَعَهَا دَلِيلُ الِاسْتِيلَادِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ، وَلِأَنَّ التَّسَبُّبَ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، وَتَصَرُّفُ الْمَرِيضِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ حَاجَةٌ أَصْلِيَّةٌ نَافِذٌ كَشِرَاءِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ عَتَقَتْ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي إقْرَارِهِ فِي حَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَنْفِي التُّهْمَةَ وَهُوَ الْوَلَدُ وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى التَّسَبُّبِ فَيَصِيرَ قَوْلُهُ: هَذِهِ أُمُّ وَلَدِي كَقَوْلِهِ هَذِهِ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِي فَتَعْتِقُ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ الثُّلُثِ. [كِتَابُ الْمُكَاتَبِ] [بَيَانِ جَوَازِ الْمُكَاتَبَةِ] (كِتَابُ الْمُكَاتَبِ) : الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ جَوَازِ الْمُكَاتَبَةِ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِ الْمُكَاتَبَةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ

فصل في بيان ركن المكاتبة

الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُهُ الْمُكَاتَبُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ، وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُكَاتَبِ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْمُكَاتَبَةِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْمُكَاتَبَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا تَنْفَسِخُ بِهِ الْمُكَاتَبَةُ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ الْمُكَاتَبَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ إيجَابِ الدَّيْنِ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ، وَلَيْسَ يَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ النَّدْبُ. فَكَانَتْ الْكِتَابَةُ مَنْدُوبًا إلَيْهَا فَضْلًا عَنْ الْجَوَازِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] أَيْ رَغْبَةً فِي إقَامَةِ الْفَرَائِضِ، وَقِيلَ: وَفَاءً لِأَمَانَةِ الْكِتَابَةِ، وَقِيلَ: حِرْفَةً. وَرُوِيَ هَذَا «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا أَيْ حِرْفَةً» وَلَا تُرْسِلُوهُمْ كِلَابًا عَلَى النَّاسِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَيُّمَا عَبْدٍ كُوتِبَ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا كُلَّهَا إلَّا عَشْرَ أَوَاقٍ فَهُوَ رَقِيقٌ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» وَرُوِيَ «أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَاتَبَتْ بَرِيرَةَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا» وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّ الْكِتَابَةَ وَاجِبَةٌ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَإِنَّ تَعَلُّقَهُ بِظَاهِرِ الْأَمْرِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا يَتْرُكُونَ مَمَالِيكَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَعُلِمَ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْوُجُوبَ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ إنَّ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ. فَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ مَمْنُوعٌ، وَإِنَّمَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ الْقِنِّ لَا فِي الْمُكَاتَبِ وَالْمُسْتَسْعَى؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْقِنِّ مِلْكُ الْمَوْلَى، وَكَسْبَ الْمُكَاتَبِ وَالْمُسْتَسْعَى مِلْكُهُمَا لَا حَقَّ لِلْمَوْلَى فِيهِ؛ فَكَانَ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ، فَأَمْكَنَ إيجَابُ الدَّيْنِ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ. [فَصْلٌ فِي بَيَان رُكْن الْمُكَاتَبَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُ الْمُكَاتَبَةِ فَهُوَ الْإِيجَابُ مِنْ الْمَوْلَى وَالْقَبُولُ مِنْ الْمُكَاتَبِ أَمَّا الْإِيجَابُ: فَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ، نَحْوَ قَوْلِ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ: كَاتَبْتُك عَلَى كَذَا. سَوَاءٌ ذَكَرَ فِيهِ حَرْفَ التَّعْلِيقِ بِأَنْ يَقُولَ: عَلَى أَنَّك إنْ أَدَّيْت إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَتَحَقَّقُ الرُّكْنُ بِدُونِ حَرْفِ التَّعْلِيقِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: كَاتَبْتُك عَلَى كَذَا عَلَى أَنَّك إنْ أَدَّيْت إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ. بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ أَصْلٌ فِي الْكِتَابَةِ، وَمَعْنَى التَّعْلِيقِ فِيهَا ثَابِتٌ عِنْدَنَا، وَالْعِتْقُ عِنْدَهُ الْأَدَاءُ يَثْبُتُ مِنْ حَيْثُ الْمُعَاوَضَةُ لَا مِنْ حَيْثُ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ، وَعِنْدَهُ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فِيهَا أَصْلٌ أَيْضًا، وَالْعِتْقُ ثَبَتَ مِنْ حَيْثُ التَّعْلِيقُ فَلَا بُدَّ مِنْ حَرْفِ التَّعْلِيقِ، وَمَا قُلْنَاهُ أَوْلَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يَعْتِقُ، وَلَوْ كَانَ ثُبُوتُ الْعِتْقِ فِيهَا مِنْ طَرِيقِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ لَمَا عَتَقَ لِعَدَمِ الشَّرْطِ، وَهُوَ الْأَدَاءُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ عَلَى أَلْفٍ تُؤَدِّيهَا إلَيَّ نُجُومًا فِي كُلِّ شَهْرٍ كَذَا فَقَبِلَ أَوْ قَالَ: إذَا أَدَّيْت لِي أَلْفَ دِرْهَمٍ كُلَّ شَهْرٍ مِنْهَا كَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ. فَقَبِلَ أَوْ قَالَ: جَعَلْت عَلَيْك أَلْفَ دِرْهَمٍ تُؤَدِّيهَا إلَيَّ نُجُومًا كُلَّ نَجْمٍ كَذَا، فَإِذَا أَدَّيْت فَأَنْتَ حُرٌّ، وَإِنْ عَجَزْت فَأَنْتَ رَقِيقٌ وَقَبِلَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعُقُودِ إلَى الْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ وَأَمَّا الْقَبُولُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: قَبِلْت أَوْ رَضِيت، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِذَا وُجِدَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ ثُمَّ الْحَاجَةُ إلَى الرُّكْنِ فِيمَنْ يَثْبُت حُكْمُ الْعَقْدِ فِيهِ مَقْصُودًا لَا تَبَعًا؛ كَالْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ وَالْوَلَدِ الْمُشْتَرَى وَالْوَالِدَيْنِ عَلَى مَا نَذْكُرُ؛ لِأَنَّ الِاتِّبَاع كَمَا لَا يُفْرَدُ بِالشُّرُوطِ لَا يُفْرَدُ بِالْأَرْكَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ قَلْبِ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ جَعْلُ التَّبَعِ مَتْبُوعًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِط رُكْنِ الْمُكَاتَبَة وبعضها يرجع إلَى الْمَوْلَى] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُكَاتَبِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ ثُمَّ بَعْضُهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ، وَبَعْضُهَا شَرْطُ النَّفَاذِ، وَبَعْضُهَا شَرْطُ الصِّحَّةِ أَمَّا. الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى فَمِنْهَا الْعَقْلُ، وَأَنَّهُ شَرْطُ الِانْعِقَادِ، فَلَا تَنْعَقِدُ الْمُكَاتَبَةُ مِنْ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَالْمَجْنُونِ. وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَهِيَ شَرْطُ النَّفَاذِ حَتَّى لَا تَنْفُذُ الْكِتَابَةُ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا أَوْ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ مِنْ قِبَلِ الْمَوْلَى أَوْ الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ إذْ التِّجَارَةُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَالْمُكَاتَبَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَلَيْسَتْ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ وَلَا مِنْ ضَرُورَاتِهَا، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ، وَالشَّرِيكُ شَرِكَةَ الْعِنَانِ لِمَا قُلْنَا. وَلَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ بِإِذْنِ أَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ

لِأَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ يَمْلِكَانِ الْعَقْدَ بِأَنْفُسِهِمَا فَيَمْلِكَانِ الْإِذْنَ بِهِ لِلصَّبِيِّ إذَا كَانَ عَاقِلًا. وَمِنْهَا الْمِلْكُ وَالْوِلَايَةُ، وَهَذَا شَرْطُ نَفَاذٍ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَالتَّعْلِيقِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الْمِلْكِ وَالْوِلَايَةِ فَكَذَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ، فَلَا تَنْفُذُ الْمُكَاتَبَةُ مِنْ الْفُضُولِيِّ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَالْوِلَايَةِ، وَتَنْفُذُ مِنْ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْمُوَكِّلِ فَكَانَ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الْمُوَكِّلِ، وَكَذَا مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَنْفُذَ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ تَصَرُّفٌ يُفْضِي إلَى الْعِتْقِ، وَهُمَا لَا يَمْلِكَانِ الْإِعْتَاقَ لَا بِغَيْرِ بَدَلٍ وَلَا بِبَدَلٍ كَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ، وَبَيْعِ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْهُ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ مِنْ بَابِ اكْتِسَابِ الْمَالِ، وَلَهُمَا وِلَايَةُ اكْتِسَابِ الْمَالِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ وَبَيْعِ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ بَابِ الِاكْتِسَابِ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَعْتِقُ بِنَفْسِ الْقَبُولِ فَيَبْقَى الْمَالُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ، فَإِنْ أَقَرَّ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ بِقَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَة، فَإِنْ كَانَتْ الْكِتَابَةُ مَعْرُوفَةً ظَاهِرَةً بِمَحْضَرِ الشُّهُودِ يُصَدَّقْ وَيَعْتِقْ الْمَكَاتِبُ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي قَبْضِ الْكِتَابَةِ، فَكَانَ مُصَدَّقًا؛ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ ثُمَّ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ، وَلَا يَعْتِقُ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ ظَاهِرَةً كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إقْرَارًا بِالْعِتْقِ، وَإِقْرَارُ الْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ بِعِتْقِ عَبْدِ الْيَتِيمِ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا كَانَتْ الْكِتَابَةُ ظَاهِرَةً كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إقْرَارًا بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ وَلَوْ كَاتَبَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ ثُمَّ أَدْرَكَ الصَّبِيُّ فَلَمْ يَرْضَ بِالْكِتَابَةِ فَالْمُكَاتَبَةُ مَاضِيَةٌ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ وَلَا لِلْأَبِ أَنْ يَقْبِضَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَمْلِكُ الْقَبْضَ بِوِلَايَتِهِ لَا بِمُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْمُكَاتَبَةِ يَرْجِعُ إلَى مَنْ عُقِدَ لَهُ لَا إلَى الْعَاقِدِ، وَقَدْ زَالَتْ وِلَايَتُهُ بِالْبُلُوغِ، بِخِلَافِ الْوَصِيِّ إذَا بَاعَ شَيْئًا ثُمَّ أَدْرَكَ الْيَتِيمُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْبَيْعِ وَكُلَّ عَقْدٍ هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ، هَذَا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ صِغَارًا، فَإِنْ كَانُوا كِبَارًا لَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُكَاتِبَ وَلَا لِلْأَبِ؛ لِزَوَالِ وِلَايَتِهِمَا بِالْبُلُوغِ سَوَاءٌ كَانُوا حُضُورًا أَوْ غُيَّبًا؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِزَوَالِ الْوِلَايَةِ لَا يَخْتَلِفُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ الْكَبِيرَ إذَا كَانَ غَائِبًا أَنَّ لِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَ الْمَنْقُولَ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَنْقُولِ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ؛ لِأَنَّ حِفْظَ ثَمَنِهِ أَيْسَرُ مِنْ حِفْظِ عَيْنِهِ، وَلَهُمَا وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابَةِ حِفْظٌ فَلَا يَمْلِكَانِهَا، وَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ صِغَارًا وَكِبَارًا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي نَصِيبِ الْكِبَارِ. وَأَمَّا فِي نَصِيبِ الصِّغَارِ فَجَائِزٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي نَصِيبِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ فِي نَصِيبِ الْكِبَارِ لَمْ يَكُنْ فِي جَوَازِهِ فِي نَصِيبِ الصِّغَارِ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَفْسَخُوا الْعَقْدَ وَصَارَ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَنَّهُ يُمْنَعُ أَحَدُهُمَا عَنْ كِتَابَةِ نَصِيبِهِ إلَّا بِرِضَا شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَفْسَخَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ كَذَا هَذَا، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَكَاتَبَ الْوَصِيُّ عَبْدَهُ مِنْ تَرِكَتِهِ لَمْ يَجُزْ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِهَا، مِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ عَلَى إطْلَاقِهِ وَقَالَ: لَا تَجُوزُ مُكَاتَبَتُهُ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ أَمَّا إذَا كَانَ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ فَلِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِهَا، وَالْمُكَاتَبَةُ تَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَصَارَتْ حُقُوقُهُمْ مُنَجَّمَةً مُؤَجَّلَةً، وَحُقُوقُهُمْ مُعَجَّلَةٌ فَلَا يَمْلِكُ تَأْجِيلَهَا بِالْكِتَابَةِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحِيطٍ بِالتَّرِكَةِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الدَّيْنِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ مُطْلَقًا وَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الدَّيْنِ يَتَأَجَّلُ تَسْلِيمُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْغَرِيمُ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ اسْتِيفَاءَهُ مِنْ غَيْرِهَا فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ لِحَقِّ الْغَرِيمِ، فَإِذَا اسْتَوْفَى مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ فَقَدْ زَالَ حَقُّهُ فَزَالَ الْمَانِعُ بَيْنَ الْجَوَازِ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ غَيْرُ الْعَبْدِ أَوْ غَيْرُ الْقَدْرِ الَّذِي يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ مَالٌ آخَرُ يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ فَحَقُّ الْغُرَمَاءِ لَا يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِحَاجَتِهِمْ إلَى اسْتِيفَاءِ دِينِهِمْ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِدُونِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَعَلَّقَ قَلِيلُ الدَّيْنِ بِجُمْلَةِ التَّرِكَةِ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ الدَّيْنِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ أَنْ يُكَاتِبَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ هَلْ لِأَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَال الْيَتِيمِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ؟ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْوَصَايَا وَلِوَصِيِّ الْوَصِيِّ أَنْ يُكَاتِبَ

فصل في الشرائط التي ترجع إلى المكاتبة

لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَصِيِّ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَمْلُوكُ مَحْجُورًا أَوْ مَأْذُونًا بِالتِّجَارَةِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْهُ، فَتَنْفُذُ الْمُكَاتَبَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ أَوْ غَيْرُ مُحِيطٍ فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَرُدُّوا الْمُكَاتَبَةَ؛ لِأَنَّ لَهُمْ حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ رَقَبَتِهِ، وَهُوَ بِالْمُكَاتَبَةِ أَرَادَ إبْطَالَ حَقِّهِمْ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَنْقُضُوا كَمَا لَوْ بَاعَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ أَوْ غَيْرُ مُحِيطٍ أَنَّ الْبَيْعَ يَنْفُذُ لَكِنْ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَنْقُضُوا إلَّا إذَا كَانَ قَضَى الْمَوْلَى دَيْنَهُمْ مِنْ مَالٍ آخَرَ قَبْلَ أَنْ يَنْقُضُوا، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْقُضُوا، وَمَضَتْ الْمُكَاتَبَةُ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ جَائِزَةً لِوُقُوعِهَا فِي الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ لِلْغُرَمَاءِ النَّقْضُ لِقِيَامِ حَقِّهِمْ فَإِذَا قَضَى دَيْنَهُمْ فَقَدْ زَالَ حَقُّهُمْ فَبَقِيَتْ جَائِزَةً، وَلَا يَرْجِعُ الْمَوْلَى بِمَا قَضَى مِنْ الدَّيْنِ عَلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَصْلَحَ مُكَاتَبَتَهُ فَكَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَكَذَا لَوْ أَبَى الْمَوْلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الدَّيْنَ، وَأَدَّاهُ الْغُلَامُ عَاجِلًا مَضَتْ الْمُكَاتَبَةُ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَى الْمَوْلَى بِمَا أَدَّى لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى أَخَذَ الْبَدَلَ ثُمَّ عَلِمَ الْغُرَمَاءُ بِذَلِكَ فَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْمَوْلَى مَا أَخَذَ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ وَأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ الْمَوْلَى، وَالْعِتْقُ وَاقِعٌ إمَّا مِنْ طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ لِسَلَامَةِ الْعِوَضِ لِلْمَوْلَى، وَإِمَّا مِنْ طَرِيقِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ أَدَاءُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَالْعِتْقُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَإِنْ بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِمْ شَيْءٌ كَانَ لَهُمْ أَنْ يُضَمِّنُوا الْمَوْلَى قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ حَقَّهُمْ فِي قَدْرِ قِيمَةِ الْعَبْدِ حَيْثُ مَنَعَهُمْ عَنْ بَيْعِهِ بِوُقُوعِ الْعِتْقِ، وَلَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا الْعَبْدَ بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِمْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ ثَابِتًا فِي ذِمَّتِهِ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَتِهِ وَقَدْ بَطَلَتْ الرَّقَبَةُ بِالْحُرِّيَّةِ فَبَقِيَتْ الذِّمَّةُ، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ وَلَا يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ بِمَا أَخَذَ مِنْهُ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى حِينَ كَاتَبَهُ كَانَتْ رَقَبَتُهُ مَشْغُولَةً بِالدَّيْنِ فَكَانَتْ مُكَاتَبَتُهُ إيَّاهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الْغُرَمَاءَ أَحَقُّ مِنْهُ بِكَسْبِهِ دَلَالَةَ الرِّضَا بِمَا أَخَذَ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا أَوْ مُؤَاجَرًا فَكَاتَبَهُ، وَقَفَتْ الْمُكَاتَبَةُ عَلَى إجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنْ أَجَازَا جَازَ، وَإِنْ فَسَخَا هَلْ تَنْفَسِخُ بِفَسْخِهِمَا؟ فَهُوَ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَمْلُوكُ قِنًّا أَوْ غَيْرَهُ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ، جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ، إذْ التَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ لَا يُزِيلَانِ الْمِلْكَ وَهُمَا مِنْ بَابِ اسْتِعْجَالِ الْحُرِّيَّةِ فَإِنْ أَدَّيَا وَعَتَقَا فَقَدْ مَضَى الْأَمْرُ، وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْأَدَاءِ عَتَقَا؛ لِأَنَّهُمَا يَعْتِقَانِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ هَذَا إذَا كَانَا يَخْرُجَانِ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنْ كَانَا لَا يَخْرُجَانِ مِنْ الثُّلُثِ فَأُمُّ الْوَلَدِ تَعْتِقُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ وَلَا تَسْعَى. وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ شَاءَ سَعَى فِي جَمِيعِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ، إذَا كَانَ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، فَإِنْ اخْتَارَ الْكِتَابَةَ سَعَى عَلَى النُّجُومِ، وَإِنْ اخْتَارَ السِّعَايَةَ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ يَسْعَى حَالًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا خِيَارَ لَهُ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ جَمِيعِ الْكِتَابَةِ وَمِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ وَمِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الِاسْتِيلَادِ. وَمِنْهَا الرِّضَا وَهُوَ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ فَلَا تَصِحُّ الْمُكَاتَبَةُ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَالْهَزْلِ وَالْخَطَأِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَيُفْسِدُهَا الْكُرْهُ وَالْهَزْلُ وَالْخَطَأُ؛ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْمُكَاتَبِ فَلَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِ الْمُكَاتَبَةِ، فَتَصِحُّ مُكَاتَبَةُ الْمُكَاتَبِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا إسْلَامُهُ فَتَجُوزُ مُكَاتَبَةُ الذِّمِّيِّ عَبْدَهُ الْكَافِرَ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُكَاتِبُوا عَبِيدَهُمْ، فَكَذَا لِأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَالتَّعْلِيقِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُهُ الذِّمِّيُّ حَالَةَ الِانْفِرَادِ، وَكَذَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ، وَالذِّمِّيُّ إذَا ابْتَاعَ عَبْدًا مُسْلِمًا فَكَاتَبَهُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَهَذَا فَرْعُ أَصْلِنَا فِي شِرَاءِ الْكَافِرِ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ أَنَّهُ جَائِزٌ إلَّا أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ الِاسْتِذْلَالِ بِاسْتِخْدَامِ الْكَافِرِ إيَّاهُ، وَالصِّيَانَةُ تَحْصُلُ بِالْكِتَابَةِ لِزَوَالِ وِلَايَةِ الِاسْتِخْدَامِ بِزَوَالِ يَدِهِ عَنْهُ بِالْمُكَاتَبَةِ. وَأَمَّا مُكَاتَبَةُ الْمُرْتَدِّ فَمَوْقُوفَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ، وَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَتْ، وَعِنْدَهُمَا هِيَ نَافِذَةٌ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ السِّيَرِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمُكَاتَبَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُكَاتَبَةِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا مِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ خَطَرٌ الْعَدَمِ وَقْتَ الْمُكَاتَبَةِ، وَهُوَ شَرْطٌ الِانْعِقَادِ، حَتَّى لَوْ كَاتَبَ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ لَمْ يَنْعَقِدْ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعٍ فِيهِ غَرَرٌ وَالْمُكَاتَبَةُ فِيهَا مَعْنَى الْبَيْعِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، وَهُوَ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ حَتَّى لَوْ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ مَجْنُونًا أَوْ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ لَا تَنْعَقِدُ مُكَاتَبَتُهُ

فصل في الشرائط التي ترجع إلى بدل الكتابة

لِأَنَّ الْقَبُولَ أَحَدُ شَطْرَيْ الرُّكْنِ، وَأَهْلِيَّةُ الْقَبُولِ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْعَقْدِ وَهُوَ الْكَسْبُ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ. فَإِنْ كَاتَبَهُ فَأَدَّى الْبَدَلَ عَنْهُ رَجُلٌ فَقَبِلَهُ الْمَوْلَى لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ الْقَبُولِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَكَانَ أَدَاءُ الْأَجْنَبِيِّ أَدَاءٌ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَلَا يَعْتِقُ وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ بَدَلًا عَنْ الْعِتْقِ وَلَمْ يُسَلَّمْ الْعِتْقَ، وَلَوْ قَبِلَ عَنْهُ الرَّجُلُ الْكِتَابَةَ وَرَضِيَ الْمَوْلَى لَمْ يَجُزْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَبِلَ الْكِتَابَةَ مِنْ غَيْرِهِ، مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ الْكِتَابَةِ مِنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَهَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْعَبْدِ بَعْدَ الْبُلُوغِ؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْفُضُولِيِّ إنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ إذَا كَانَ لَهُ مُجِيزٌ وَقْتَ التَّصَرُّفِ، وَهَهُنَا لَا مُجِيزَ لَهُ وَقْتَ وُجُودِهِ إذْ الصَّغِيرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِجَازَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ كَبِيرًا غَائِبًا فَجَاءَ رَجُلٌ وَقَبِلَ الْكِتَابَةَ عَنْهُ وَرَضِيَ الْمَوْلَى، أَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِجَازَةِ وَقْتَ قَبُولِ الْفُضُولِيِّ عَنْهُ، فَكَانَ لَهُ مُجِيزًا وَقْتَ التَّصَرُّفِ فَتَوَقَّفَ. فَلَوْ أَدَّى الْقَابِلُ عَنْ الصَّغِيرِ إلَى الْمَوْلَى، ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَعْتِقُ اسْتِحْسَانًا، وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إذَا أَدَّيْت إلَيَّ كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ. وَقَالَ: وَهَذَا وَالْكَبِيرُ سَوَاءٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ عَلَى الصَّغِيرِ لَمْ تَنْعَقِدْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ فَيَبْقَى الْأَدَاءُ بِغَيْرِ مُكَاتَبَةٍ، فَلَا يَعْتِقُ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَمَعْنَى التَّعْلِيقِ، وَالْمَوْلَى إنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ إلْزَامَ الْعَبْدِ الْعِوَضَ يَمْلِكُ تَعْلِيقَ عِتْقِهِ بِالشَّرْطِ، فَيَصِحُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَيَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ كَبِيرًا غَائِبًا فَقَبِلَ الْكِتَابَةَ عَنْهُ فُضُولِيٌّ وَأَدَّاهَا إلَى الْمَوْلَى يَعْتِقُ اسْتِحْسَانًا، وَلَيْسَ لِلْقَابِلِ اسْتِرْدَادُ الْمُؤَدَّى، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ لِمَا قُلْنَا، هَذَا إذَا أَدَّى الْكُلَّ فَإِنْ أَدَّى الْبَعْضَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَدَّى لِيُسَلَّمَ الْعِتْقَ، وَالْعِتْقُ لَا يُسَلَّمُ بِأَدَاءِ بَعْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ إلَّا إذَا بَلَغَ الْعَبْدُ فَأَجَازَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْقَابِلُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِالْإِجَازَةِ اسْتَنَدَ جَوَابُ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ وُجُودِهِ وَالْأَدَاءُ حَصَلَ عَنْ عَقْدٍ جَائِزٍ فَلَا يَكُونُ لَهُ الِاسْتِرْدَادُ، فَلَوْ أَنَّ الْعَبْدَ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الْبَاقِي وَرُدَّ فِي الرِّقِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ أَيْضًا، وَإِنْ رُدَّ الْعَبْدُ فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِالرَّدِّ فِي الرِّقِّ بَلْ تَنْتَهِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَكَانَ حُكْمُ الْعَقْدِ قَائِمًا فِي الْقَدْرِ الْمُؤَدَّى فَلَا يَكُونُ لَهُ الِاسْتِرْدَادُ، بِخِلَافِ بَابِ الْبَيْعِ بِأَنَّ مَنْ بَاعَ شَيْئًا ثُمَّ تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِأَدَاءِ الثَّمَنِ ثُمَّ فُسِخَ الْبَيْعُ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَوْ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ أَنَّ لِلْمُتَبَرِّعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَا دَفَعَ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ كَانَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَقَدْ انْفَسَخَ ذَلِكَ الْعَقْدُ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَبَرَّعَ رَجُلٌ بِأَدَاءِ الْمَهْرِ عَنْ الزَّوْجِ ثُمَّ وَرَدَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنَّهُ يَسْتَرِدُّ مِنْهَا النِّصْفَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَسْخٌ مِنْ وَجْهٍ، وَلَوْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْهَا كُلَّ الْمَهْرِ، وَلَا يَكُونُ الْمَهْرُ لِلزَّوْجِ بَلْ يَكُونُ لِلْمُتَبَرِّعِ لِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ، هَذَا كُلُّهُ إذَا أَدَّى الْقَابِلُ فَلَوْ امْتَنَعَ الْقَابِلُ عَنْ الْأَدَاءِ لَا يُطَالَبُ بِالْأَدَاءِ إلَّا إذَا ضَمِنَ، فَحِينَئِذٍ يُؤْخَذُ بِهِ بِحُكْمِ الضَّمَانِ. فَأَمَّا بُلُوغُهُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ كَاتَبَهُ وَهُوَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ وَيَكُونُ كَالْكَبِيرِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ إذْنٌ فِي التِّجَارَةِ وَإِذْنُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِالتِّجَارَةِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْمَأْذُونِ. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي تَرْجِعُ إلَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ] وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَالًا، وَهُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ فَلَا تَنْعَقِدُ الْمُكَاتَبَةُ عَلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمَالٍ فِي حَقِّ أَحَدٍ، لَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَلَا فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِهِمَا لَا يَمْلِكُ وَإِنْ قَبَضَ؟ وَلَا تَنْعَقِدُ عَلَيْهِمَا الْمُكَاتَبَةُ حَتَّى لَا يَعْتِقَ، وَإِنْ أَدَّى لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْبَاطِلَ لَا حُكْمَ لَهُ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ إلَّا إذَا كَانَ قَالَ: عَلَيَّ أَنَّك إنْ أَدَّيْت إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَدَّى فَإِنَّهُ يَعْتِقُ بِالشَّرْطِ، وَإِذَا عَتَقَ بِالشَّرْطِ لَا يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُكَاتَبَةٍ إنَّمَا هُوَ إعْتَاقٌ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا، وَأَنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ فَلَا تَصِحُّ مُكَاتَبَةُ الْمُسْلِمِ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ أَوْ الذِّمِّيَّ عَلَى الْخَمْرِ أَوْ الْخِنْزِيرِ، وَلَا مُكَاتَبَةُ الذِّمِّيِّ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ وَإِنْ كَانَ مَالًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ فِي حَقِّهِمْ، فَانْعَقَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ عَلَى الْفَسَادِ، فَإِنْ أَدَّى يَعْتِقْ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ الْمُكَاتَبَةِ الْفَاسِدَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْمُكَاتَبَةِ. أَمَّا الذِّمِّيُّ فَتَجُوزُ مُكَاتَبَتُهُ عَبْدَهُ الْكَافِرَ عَلَى

خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَهُمْ كَالْخَلِّ وَالشَّاةِ عِنْدَنَا، فَإِنْ كَاتَبَ ذِمِّيٌّ عَبْدًا لَهُ كَافِرًا عَلَى خَمْرٍ فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، فَالْمُكَاتَبَةُ مَاضِيَةٌ وَعَلَى الْعَبْدِ قِيمَةُ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً لِكَوْنِ الْخَمْرِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ أَوْ التَّسَلُّمُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ فَتَجِبُ قِيمَتُهَا، وَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى الذِّمِّيُّ مِنْ ذِمِّيٍّ شَيْئًا بِخَمْرٍ ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِ الْخَمْرِ أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ، وَهَهُنَا لَا تَبْطُلُ الْمُكَاتَبَةُ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُكَاتَبَةِ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ نَظَرًا لِلْعَبِيدِ إيصَالًا لَهُمْ إلَى شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ، فَلَا يَنْفَسِخُ بِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الْمُسَمَّى أَوْ تَسَلُّمِهِ بَلْ يُصَارُ إلَى بَدَلِهِ. فَأَمَّا الْبَيْعُ فَعَقْدُ مُمَاكَسَةٍ وَمُضَايَقَةٍ لَا تَجْرِي فِيهِ مِنْ السُّهُولَةِ مَا يَجْرِي فِي الْمُكَاتَبَةِ فَيَنْفَسِخُ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِ عَيْنِ الْمُسَمَّى وَيَرْتَفِعُ، وَإِذَا ارْتَفَعَ لَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُ الْقِيمَةِ مَعَ ارْتِفَاعِ سَبَبِ الْوُجُوبِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ النَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَعْلُومَ الصِّفَةِ أَوْ لَا، وَهُوَ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْقَدْرِ أَوْ مَجْهُولَ النَّوْعِ لَمْ يَنْعَقِدْ. وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ النَّوْعِ وَالْقَدْرِ مَجْهُولَ الصِّفَةِ جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْجَهَالَةَ مَتَى فَحَشَتْ مَنَعَتْ جَوَازَ الْمُكَاتَبَةِ، وَإِلَّا فَلَا، وَجَهَالَةُ النَّوْعِ وَالْقَدْرِ جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ، وَجَهَالَةُ الصِّفَةِ غَيْرُ فَاحِشَةٍ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَجَازَ الْمُكَاتَبَةَ عَلَى الْوُصَفَاءِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَيَكُونُ إجْمَاعًا عَلَى الْجَوَازِ. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى الْجَوَازِ إجْمَاعٌ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْجَهَالَةِ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ، وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ فِي مَسَائِلَ: إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ دَارٍ لَمْ تَنْعَقِدْ حَتَّى لَا يَعْتِقَ، وَإِنْ أَدَّى؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ وَالدَّارَ وَالْحَيَوَانَ مَجْهُولُ النَّوْعِ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ كُلِّ جِنْسٍ وَأَشْخَاصِهِ اخْتِلَافًا مُتَفَاحِشًا، وَكَذَا الدُّورُ تَجْرِي مَجْرَى الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ لِتَفَاحُشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ فِي الْهَيْئَةِ وَالتَّقْطِيعِ وَفِي الْقِيمَةِ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ مِنْ الْبُلْدَانِ وَالْمَحَالِّ وَالسِّكَكِ، وَلِهَذَا مَنَعَتْ هَذِهِ الْجَهَالَةُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ وَالْإِعْتَاقَ عَلَى مَالٍ وَالنِّكَاحَ وَالْخُلْعَ وَالصُّلْحَ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لِكَثْرَةِ التَّفَاوُتِ فِي أَنْوَاعِهَا وَأَشْخَاصِهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ دَارٍ فَأَدَّى طَعَامًا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَعْتِقُ، وَإِنْ أَدَّى أَعْلَى الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالدُّورِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَهُ عَلَى قِيمَةٍ فَأَدَّى الْقِيمَةَ أَنَّهُ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ لَا يُلْحِقُهُمَا بِجِنْسَيْنِ فَكَانَتْ جَهَالَةُ الْقِيمَةِ مُفْسِدَةً لِلْعَقْدِ لَا مُبْطِلَةً لَهُ، وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ أَوْ عَبْدٍ أَوْ جَارِيَةٍ أَوْ فَرَسٍ جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ هَهُنَا جَهَالَةُ الْوَصْفِ، أَنَّهُ جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ أَوْ وَسَطٌ، وَأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَيَوَانَ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَنَحْوِهِ، فَتَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَيَقَعُ عَلَى الْوَسَطِ كَمَا فِي بَابِ الزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ وَالنِّكَاحِ، وَكَذَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى وَصَيْفٍ يَجُوزُ، وَيَقَعُ عَلَى الْوَسَطِ، وَلَوْ جَاءَ الْعَبْدُ بِقِيمَةِ الْوَسَطِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَنَحْوِهِمَا، وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى لُؤْلُؤَةٍ أَوْ يَاقُوتَةٍ لَمْ يَنْعَقِدْ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ مُتَفَاحِشَةٌ، وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَلَمْ يَصِفْ يَجُوزُ وَعَلَيْهِ الْوَسَطُ مِنْ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ إذَا كَانَ مَوْصُوفًا، وَيَثْبُتُ فِي مُبَادَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ بِمَالٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ، وَالْمُكَاتَبَةُ مُعَاوَضَةُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ بِمَالٍ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى فَتَجُوزُ الْمُكَاتَبَةُ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ الْوَسَطُ، وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى حُكْمِهِ أَوْ عَلَى حُكْمِ نَفْسَهُ لَمْ تَنْعَقِدْ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ هَهُنَا أَفْحَشُ مِنْ جَهَالَةِ النَّوْعِ وَالْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ هُنَاكَ مُسَمًّى، وَلَا تَسْمِيَةَ لِلْبَدَلِ هَهُنَا رَأْسًا فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ أَكْثَرَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ حَكَمَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا كَانَ يَلْزَمُهُ؟ أَوْ حَكَمَ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِفَلْسٍ هَلْ كَانَ يَعْتِقُ؟ فَلَمْ يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ أَصْلًا فَلَا يَعْتِقُ بِالْحُكْمِ، وَإِنْ كَاتَبَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ أَوْ إلَى الدِّيَاسِ أَوْ إلَى الْحَصَادِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْرَفُ مِنْ الْأَجَلِ جَازَ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ الْأَجَلِ تُبْطِلُ الْبَيْعَ فَتَبْطُلُ الْمُكَاتَبَةُ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَهَالَةَ لَمْ تَدْخُلْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ وَإِنَّمَا دَخَلَتْ فِي أَمْرٍ زَائِدٍ، ثُمَّ هِيَ غَيْرُ مُتَفَاحِشَةٍ فَلَا تُوجِبُ فَسَادَ الْمُكَاتَبَةِ كَجَهَالَةِ الْوَصْفِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، أَنَّهُ يَفْسُدُ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ لِذَاتِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَالْمُنَازَعَةُ قَلَّمَا تَجْرِي فِي هَذَا الْقَدْرِ فِي الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُسَامَحَةِ،

بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ فَيُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَلِهَذَا جَازَتْ الْكَفَالَةُ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَلَمْ يَجُزْ تَأْجِيلُ الثَّمَنِ إلَيْهَا فِي الْبَيْعِ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبَةِ إلَى مَجِيءِ الْمَطَرِ وَهُبُوبِ الرِّيحِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ وَقْتٌ مَعْلُومٌ فَفَحُشَتْ الْجَهَالَةُ. فَإِنْ كَاتَبَهُ إلَى الْعَطَاءِ فَأَخَّرَ الْعَطَاءَ فَإِنَّ الْأَجَلَ يَحِلُّ فِي مِثْلِ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَخْرُجُ فِيهِ الْعَطَاءُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ وَقْتَ الْعَطَاءِ لَا عَيْنَ الْعَطَاءِ، وَكَذَا فِي الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ، وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى قِيمَتِهِ فَالْمُكَاتَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَخْتَلِفُ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَكَانَ الْبَدَلُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ مَجْهُولٌ جَهَالَةً فَاحِشَةً، وَلِهَذَا مُنِعَتْ صِحَّةُ التَّسْمِيَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ حَتَّى عُدِّلَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ فَتُمْنَعُ صِحَّةُ الْمُكَاتَبَةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَجُوزُ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ وَلَا جَوَازَ لِلْمُكَاتَبَةِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ، فَلَمَّا لَمْ تَصِحَّ تَسْمِيَةُ الْقِيمَةِ هُنَاكَ فَلَأَنْ لَا تَصِحَّ هَهُنَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ جَهَالَةَ الْقِيمَةِ مُوجِبٌ لِلْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَكَانَ ذِكْرُهَا نَصًّا عَلَى الْفَسَادِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَهُ عَلَى عَبْدٍ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْعَبْدِ جَهَالَةُ الْوَصْفِ، أَيْ جَيِّدٌ أَوْ رَدِيءٌ أَوْ وَسَطٌ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَقَعُ عَلَى الْوَسَطِ وَالْوَسَطُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَعَلَ قِيمَةَ الْوَسَطِ أَرْبَعِينَ دِينَارًا. فَأَمَّا الْمُكَاتَبَةُ عَلَى الْقِيمَةِ فَلَيْسَتْ بِمُكَاتَبَةٍ عَلَى بَدَلٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ النَّاسِ عِنْدَ إطْلَاقِ الِاسْمِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفَيْنِ. غَيْرَ أَنَّهُ إذَا أَدَّى الْقِيمَةَ عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ لَهُ حُكْمٌ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَنَا كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ، وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الدُّخُولُ، حَتَّى يَثْبُتَ الْمِلْكُ فِي الْبَيْعِ، وَتَجِبَ الْعِدَّةُ وَالْعُقْرُ وَيَثْبُتَ النَّسَبُ فِي النِّكَاحِ، وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ الْفَاسِدَةُ، وَلَوْ قَالَ كَاتَبْتُك عَلَى دَرَاهِمَ فَالْمُكَاتَبَةُ بَاطِلَةٌ وَلَوْ أَدَّى ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً وَلَيْسَ لِلدَّرَاهِمِ وَسَطٌ مَعْلُومٌ حَتَّى يَقَعَ عَلَيْهِ الِاسْمُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَعْتَقْتُك عَلَى دَرَاهِمَ فَقَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ وَتَلْزَمُهُ قِيمَةُ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ هُنَاكَ وَقَعَ بِالْقَبُولِ، وَالْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةٌ فَلَزِمَهُ قِيمَةُ نَفْسِهِ، وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَنْ يَخْدُمَهُ شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْخِدْمَةَ مَجْهُولَةٌ؛ لِأَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ وَلَا يَدْرِي فِي أَيِّ شَيْءٍ يَسْتَخْدِمُهُ وَأَنَّهُ يَسْتَخْدِمُهُ فِي الْحَضَرِ أَوْ فِي السَّفَرِ، وَجَهَالَةُ الْبَدَلِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكِتَابَةِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْخِدْمَةَ الْمُطْلَقَةَ تَنْصَرِفُ إلَى الْخِدْمَةِ الْمَعْهُودَةِ فَتَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالْعَادَةِ، وَبِحَالِ الْمَوْلَى أَنَّهُ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَسْتَخْدِمُهُ وَبِحَالِ الْعَبْدِ أَنَّهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْلُحُ فَصَارَ كَمَا لَوْ عَيَّنَهَا نَصًّا، وَلِهَذَا جَازَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْمُكَاتَبَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَقْبَلُ لِلْجَهَالَةِ مِنْ الْإِجَارَةِ وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَنْ يَخْدُمَ رَجُلًا شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْقِيَاسِ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ قِيَاسَ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْقِيَاسَ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَيَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى مَوْضِعِ الِاسْتِحْسَانِ، إذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الِاسْتِحْسَانِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى كَقِيَاسِ الْجِمَاعِ نَاسِيًا عَلَى قِيَاسِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ نَاسِيًا، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ فِي الْعُقُودِ، وَأَنَّهَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِذِكْرِ الْمُدَّةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ رَجُلًا لِيَخْدُمَهُ أَوْ لِيَخْدُمَ غَيْرَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا قَدْ سَمَّى لَهُ طُولَهَا وَعُمْقَهَا وَمَكَانَهَا، أَوْ عَلَى أَنْ يَبْنِيَ لَهُ دَارًا آجُرَّهَا وَجِصَّهَا وَمَا يَبْنِي بِهَا؛ لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى بَدَلٍ مَعْلُومٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَيْهِ جَائِزَةٌ؟ فَالْكِتَابَةُ أَوْلَى، وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَنْ يَخْدُمَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَقْتَ فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ مَجْهُولٌ. وَمِنْهَا أَلَّا يَكُونَ الْبَدَلُ مِلْكَ الْمَوْلَى وَهُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ حَتَّى لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى عَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِ الْمَوْلَى لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُكَاتَبَةً بِغَيْرِ بَدَلٍ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يَجُوزُ، كَمَا إذَا بَاعَ دَارِهِ مِنْ إنْسَانٍ بِعَبْدٍ هُوَ لِصَاحِبِ الدَّارِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيْعًا بِغَيْرِ ثَمَنٍ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَا هَذَا. وَكَذَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ مِنْ الْكَسْبِ وَقْتَ الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالُ الْمَوْلَى فَيَكُونُ مُكَاتَبَةً عَلَى مَالِ الْمَوْلَى فَلَمْ يَجُزْ. وَأَمَّا كَوْنُ الْبَدَلِ دَيْنًا فَهَلْ هُوَ شَرْطُ جَوَازِ الْكِتَابَةِ بِأَنْ كَاتَبَهُ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ عَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ دَارٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَعْيَانِ مَالِ الْمَوْلَى وَلَا كَسْبِ الْعَبْدِ وَلَكِنَّهُ مِلْكُ أَجْنَبِيٍّ وَهُوَ مُعَيَّنٌ مُشَارٌ إلَيْهِ. ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لِرَجُلٍ لَمْ يَجُزْ، وَلَمْ يُذْكَرْ الْخِلَافُ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ إذَا كَاتَبَهُ عَلَى أَرْضٍ لِرَجُلٍ جَاوَزَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ الْخِلَافَ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: إنْ أَجَازَ صَاحِبُهُ جَازَ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ، وَإِطْلَاقُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ أَجَازَ أَوْ لَمْ يُجِزْ، وَإِطْلَاقُ رِوَايَةِ كِتَابِ الشُّرْبِ يَقْتَضِي الْجَوَازَ أَجَازَ أَوْ لَمْ يُجِزْ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ فَعِنْد الْإِجَازَةِ أَوْلَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ

تَفْسِيرًا لِلرِّوَايَتَيْنِ الْمُبْهَمَتَيْنِ، فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ عَلَى حَالِ عَدَمِ الْإِجَازَةِ وَرِوَايَةُ كِتَابِ الشُّرْبِ عَلَى حَالِ الْإِجَازَةِ، وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ أَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى مَالٍ لَا يَمْلِكُ؛ لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى عَبْدٍ هُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ فَلَا يَجُوزُ، وَبِهِ عَلَّلَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ: لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى مَا لَا يَمْلِكُ؛ لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ، وَشَرْحُ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ عَقْدٌ وُضِعَ لِإِكْسَابِ الْمَالِ، وَالْعَبْدُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إكْسَابِ هَذَا الْعَيْنِ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ مَالِكَ الْعَبْدِ قَدْ يَبِيعُهُ وَقَدْ لَا يَبِيعُهُ، فَلَا يَحْصُلُ مَا وُضِعَ لَهُ الْعَقْدُ، وَلِأَنَّا لَوْ قَضَيْنَا بِصِحَّةِ هَذِهِ الْمُكَاتَبَةِ لَفَسَدَتْ مِنْ حَيْثُ تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَاتَبَهُ عَلَى عَبْدٍ هُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ وَلَمْ يُجِزْ الْمَالِكُ فَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ فَكَانَ مُوجِبُهَا وُجُوبَ قِيمَةِ الْعَبْدِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى قِيمَةِ عَبْدٍ فَيَفْسُدُ مِنْ حَيْثُ يَصِحُّ، وَمَا كَانَ فِي تَصْحِيحِهِ إفْسَادُهُ فَيَقْضِي بِفَسَادِهِ مِنْ الْأَصْلِ أَوْ يُقَالُ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ فَإِمَّا أَنْ تَجِبَ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ أَوْ قِيمَةِ نَفْسِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ فَاسِدٌ، وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الشُّرْبِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ فِي مَعْنَى الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ، ثُمَّ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لِرَجُلٍ فَقَبِلَ الْعَبْدُ جَازَ، وَجْهُ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ التَّوَقُّفِ عَلَى الْإِجَازَةِ أَنَّ هَذَا عَقْدٌ لَهُ مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ كَالْمَبِيعِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا عَيَّنَهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ مِنْ عَرَضٍ أَوْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَتْ كَالْعَبْدِ، وَلَوْ قَالَ كَاتَبْتُك عَلَى أَلْفِ فُلَانٍ هَذِهِ جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَيَقَعُ الْعَقْدُ عَلَى مِثْلِهَا فِي الذِّمَّةِ لَا عَلَى عَيْنِهَا فَيَجُوزُ وَإِنْ أَدَّى غَيْرَهَا عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ وَقَعَتْ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَدَلُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا؛ لِأَنَّ دَلَائِلَ جَوَازِ الْمُكَاتَبَةِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُؤَجَّلًا أَوْ غَيْرَ مُؤَجَّلٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَجَّلًا، وَهُوَ عَلَى قَلْبِ الِاخْتِلَافِ فِي السَّلَمِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَجَّلًا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجُوزُ مُؤَجَّلًا وَغَيْرَ مُؤَجَّلٍ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْمُكَاتَبَةِ عَلَى بَدَلٍ مُؤَجَّلٍ. وَاخْتُلِفَ فِي الْجَوَازِ عَلَى بَدَلٍ غَيْرِ مُؤَجَّلٍ قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوز، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَجَّلًا مُنَجَّمًا بِنَجْمَيْنِ فَصَاعِدًا، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْبَدَلِ عِنْدَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ مُعْسِرٌ لَا مَالَ لَهُ وَالْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ طَرَأَ عَلَى الْعَقْدِ يَرْفَعُهُ. فَإِذَا قَارَنَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الِانْعِقَادِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ، وَكَذَا مَأْخَذُ الِاسْمِ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا، فَإِنَّ الْكِتَابَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْكِتَابِ، وَالْكِتَابُ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْأَجَلِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [الحجر: 4] أَيْ أَجَلٌ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ فَسُمِّيَ هَذَا عَقْدُ كِتَابَةٍ لِكَوْنِ الْبَدَلِ فِيهِ مُؤَجَّلًا وَيُذْكَرُ بِمَعْنَى الْكِتَابِ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الْمَكْتُوبُ سُمِّيَ الْعَقْدُ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْبَدَلَ يُكْتَبُ فِي الدِّيوَانِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْكِتَابَةِ لِلْمُؤَجَّلِ لَا لِلْحَالِ، فَكَانَ الْأَجَلُ فِيهِ شَرْطًا كَالْمُسَلَّمِ لَمَّا كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ التَّسْلِيمِ، كَانَ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ فِيهِ شَرْطًا؛ لِجَوَازِ السَّلَمِ، وَكَذَا الصَّرْفُ لَمَّا كَانَ يُنْبِئُ عَنْ نَقْلِ الْبَدَلِ مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ كَانَ الْقَبْضُ فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ شَرْطًا كَذَا هَذَا، وَلَنَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْحَالِ وَالْمُؤَجَّلِ، وَلِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ دَيْنٌ يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْجِيلُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ بِخِلَافِ بَدَلِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْبَدَلِ عِنْدَ الْعَقْدِ. فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْأَدَاءَ يَكُونُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَيَحْتَمِلُ حُدُوثَ الْقُدْرَةِ بَعْدَهُ، بِأَنَّهُ يَكْتُبُ مَالًا بِقَبُولِ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ فَيُؤَدِّي بَدَلَ الْكِتَابَةِ. وَأَمَّا مَأْخَذُ الِاسْمِ فَالْكِتَابَةُ تَحْتَمِلُ مَعَانِيَ يُقَالُ: كَتَبَ أَيْ أَوْجَبَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12] وَكَتَبَ أَيْ ثَبَّتَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة: 22] وَكَتَبَ أَيْ حَكَمَ وَقَضَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] وَشَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي لَا يُنْبِئُ عَنْ التَّأْجِيلِ ثُمَّ إذَا كَانَتْ الْمُكَاتَبَةُ حَالَّةً فَإِنْ أَدَّى الْبَدَلَ حِينَ طَالَبَهُ الْمَوْلَى بِهَا وَإِلَّا يُرَدُّ فِي الرِّقِّ سَوَاءٌ شُرِطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يُشْرَطْ بِأَنْ قَالَ لَهُ: إنْ لَمْ تُؤَدِّهَا إلَيَّ حَالَّةً فَأَنْتَ رَقِيقٌ أَوْ لَمْ يَقُلْ؛ لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى بَدَلٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةِ الْحُلُولِ فَلَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِدُونِ تِلْكَ الصِّفَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ مُنَجَّمَةً بِنُجُومٍ مَعْلُومَةٍ فَعَجَزَ عَنْ أَوَّلِ نَجْمٍ مِنْهَا يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَرُدُّ حَتَّى يَتَوَالَى عَلَيْهِ نَجْمَانِ. احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْمُكَاتَبُ إذَا تَوَالَى عَلَيْهِ نَجْمَانِ رُدَّ فِي الرِّقِّ فَقَدْ شَرَطَ حُلُولَ

فصل في الشرائط التي ترجع إلى نفس الركن

نَجْمَيْنِ لِلرَّدِّ فِي الرِّقِّ، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ حُلُولِ نَجْمَيْنِ لِجَوَازِ أَنْ يُقْرِضَهُ إنْسَانٌ، أَوْ يَحْصُلَ لَهُ مَالٌ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَيُؤَدِّيَ، فَإِذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ مَالُ نَجْمَيْنِ فَقَدْ تَحَقَّقَ عَجْزُهُ، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ فَعَجَزَ عَنْ نَجْمٍ وَاحِدٍ فَرَدَّهُ إلَى الرِّقِّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ الْمَوْلَى شَرَطَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ نَجْمٍ قَدْرًا مِنْ الْمَالِ وَأَنَّهُ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ مُفِيدٌ مِنْ شَرَائِطِ الْكِتَابَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى الرِّقِّ عِنْدَ فَوَاتِهِ، كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنْ نَجْمَيْنِ. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَغَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ احْتِجَاجٌ بِالسُّكُوتِ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّهُ إذَا تَوَالَى عَلَيْهِ نَجْمَانِ يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ إذَا كَسَرَ نَجْمًا وَاحِدًا مَاذَا حُكْمُهُ؟ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ، وَبِهِ نَقُولُ: إنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا كَسَرَ نَجْمًا يُنْدَبُ مَوْلَاهُ إلَى أَنْ لَا يَرُدَّهُ إلَى الرِّقِّ مَا لَمْ يَتَوَالَ عَلَيْهِ نَجْمَانِ رِفْقًا بِهِ، وَنَظَرًا؛ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ نَجْمَيْنِ عَلَى أَصْلِهِ أَوْ عَنْ نَجْمٍ عَلَى أَصْلِهِمَا، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ أَوْ غَائِبٌ مَرْجُوٌّ حُضُورُهُ بِأَنْ قَالَ: لِي مَالٌ عَلَى إنْسَانٍ أَوْ حَالٌّ يَجِيءُ فِي الْقَافِلَةِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَنْتَظِرُ فِيهِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ التَّأْخِيرِ مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَوْلَى وَفِيهِ رَجَاءُ وُصُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى حَقِّهِ فَيَفْعَلُ الْقَاضِي ذَلِكَ عِنْدَ رَجَاءِ الْوُصُولِ. وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبُ فِي قَدْرِ الْبَدَلِ أَوْ جِنْسِهِ، بِأَنْ قَالَ الْمَوْلَى: كَاتَبْتُك عَلَى أَلْفَيْنِ أَوْ عَلَى الدَّنَانِيرِ، وَقَالَ الْعَبْدُ: كَاتَبْتنِي عَلَى أَلْفٍ أَوْ عَلَى الدَّرَاهِمِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرُ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ أَدَّى عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ شَيْئًا أَوْ كَانَ لَمْ يُؤَدِّ وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ كَالْبَيْعِ؛ لِأَنَّ فِي الْمُكَاتَبَةِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ وَمَتَى وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ أَوْ جِنْسِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فِي الْبَيْعِ وَأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ مُطْلَقًا وَالْكِتَابَةُ بِخِلَافِهِ فَلَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي تَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ فَخُلُوُّهُ عَنْ شَرْطٍ فَاسِدٍ وَهُوَ الشَّرْطُ الْمُخَالِفُ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ الدَّاخِلِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ مِنْ الْبَدَلِ فَإِنْ لَمْ يُخَالِفْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ جَازَ الشَّرْطُ وَالْعَقْدُ، وَإِنْ خَالَفَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ لَكِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي صُلْبِهِ يَبْطُلْ الشَّرْطُ وَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ فِي جَانِبِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَكِّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطِهِ، وَالْإِعْتَاقُ مِمَّا لَا يُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ وَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ، وَجَانِبُ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى عَقَدَ عَقْدًا يَئُولُ إلَى زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ فَكَانَ كَالْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ مِمَّا يُفْسِدُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ فَيُجْعَلُ مِنْ الشُّرُوطِ الدَّاخِلَةِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ كَالْبَيْعِ فَيَعْمَلُ فِيهِ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ، وَفِيمَا لَا يَدْخُلُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ مِنْ الشُّرُوطِ يُجْعَلُ كَالْإِعْتَاقِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ عَمَلًا بِالْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ إذَا كَاتَبَ جَارِيَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَطَأَهَا مَا دَامَتْ مُكَاتَبَةً أَوْ عَلَى أَنْ يَطَأَهَا مَرَّةً فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُكَاتَبَةِ يُوجِبُ حُرْمَةَ الْوَطْءِ، وَأَنَّهُ دَخَلَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ لِدُخُولِهِ فِي الْبَدَلِ، حَيْثُ جَعَلَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَوَطِئَهَا فَفَسَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ. وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ الْمِصْرِ أَوْ عَلَى أَنْ لَا يُسَافِرَ فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي انْفِكَاكَ الْحَجْرِ وَانْفِتَاحَ طَرِيقِ الْإِطْلَاقِ لَهُ إلَى أَيِّ بَلَدٍ وَمَكَانٍ شَاءَ فَيَفْسُدُ الشَّرْطُ لَكِنْ لَا يَفْسُدُ عَقْدُ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَرْجِعُ إلَى صُلْبِ الْعَقْدِ، وَمِثْلُهُ مِنْ الشُّرُوطِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْفِقْهِ، فَلَوْ أَنَّهَا أَدَّتْ الْأَلْفَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى عَتَقَتْ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ: لَا تَعْتِقُ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْمَوْلَى جَعَلَ شَرْطَ الْعِتْقِ شَيْئَيْنِ الْأَلْفَ وَوَطْأَهَا، وَالْمُعَلَّقَ بِشَرْطَيْنِ لَا يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا، كَمَا إذَا كَاتَبَهَا عَلَى أَلْفٍ وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ فَأَدَّتْ الْأَلْفَ دُونَ الْخَمْرِ وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْمُكَاتَبَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِهِ فَأُلْحِقَ ذِكْرُهُ بِالْعَدَمِ، بِخِلَافِ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ يَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْجُمْلَةِ لِكَوْنِهِ مَالًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ فَلَمْ يُلْحَقْ بِالْعَدَمِ وَتَعَلُّقِ الْعِتْقِ بِأَدَائِهَا، ثُمَّ إذَا أَدَّتْ فَعَتَقَتْ يُنْظَرُ إلَى قِيمَتِهَا فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلَا شَيْءَ لِلْمَوْلَى عَلَيْهَا،

وَلَا لَهَا عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْقِيمَةِ لِكَوْنِهَا مَقْبُوضَةً بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَالْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ مَضْمُونٌ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ رَدِّ عَيْنِهِ فَيَرُدُّ الْقِيمَةَ لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْعَيْنِ، كَذَا هَهُنَا وَجَبَ عَلَيْهَا رَدُّ نَفْسِهَا وَقَدْ عَجَزَتْ لِنُفُوذِ الْعِتْقِ فِيهَا فَتُرَدُّ الْقِيمَةُ وَهِيَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقَدْ وَصَلَ بِتَمَامِهِ إلَى الْمَوْلَى، فَلَا يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهِ سَبِيلٌ كَمَا لَوْ بَاعَ رَجُلٌ مِنْ آخَرَ عَبْدَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَرَطْلٍ مِنْ خَمْرٍ، وَقَبَضَ الْبَائِعُ الْأَلْفَ وَسَلَّمَ الْعَبْدَ إلَى الْمُشْتَرِي وَهَلَكَ فِي يَدِهِ، لَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ لِوُصُولِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَيْهِ فَكَذَا هَهُنَا، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ رَجَعَ الْمَوْلَى عَلَيْهَا بِمَا زَادَ عَلَى الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِكَمَالِ قِيمَتِهَا، وَمَا أَدَّتْ إلَيْهِ كَمَالَ قِيمَتِهَا فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا بَاعَ عَبْدَهُ مِنْ ذِمِّيٍّ بِأَلْفٍ وَرَطْلٍ مِنْ خَمْرٍ وَقَبَضَ الْأَلْفَ وَسَلَّمَ الْعَبْدَ وَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَقِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا زَادَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمُكَاتَبَةِ أَقَلَّ مِنْ الْأَلْفِ وَأَدَّتْ الْأَلْفَ وَعَتَقَتْ هَلْ تَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى بِمَا أَخَذَ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى قِيمَتِهَا؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: لَيْسَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ، وَقَالَ زُفَرُ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمَوْلَى، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَوْلَى أَخَذَ مِنْهَا زِيَادَةً عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهَا فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ مَأْخُوذَةً بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَجِبُ رَدُّهَا كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ أَنَّهُ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ يَرْجِعْ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ يَرْجِعْ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِفَضْلِ الثَّمَنِ كَذَا هَهُنَا، وَلَنَا أَنَّهَا لَوْ رَجَعَتْ عَلَيْهِ لَأَدَّى إلَى إبْطَالِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِأَدَاءِ الْكِتَابَةِ فَلَوْ لَمْ يَسْلَمْ الْمُؤَدَّى لِلْمَوْلَى لَا يَسْلَمُ الْعِتْقُ لِلْمُكَاتَبَةِ، وَالْعِتْقُ سَالِمٌ لَهَا فَيَسْلَمُ الْمُؤَدَّى لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُكَاتَبَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ وَعَلَى التَّعْلِيقِ، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ الْمُعَاوَضَةِ يُوجِبُ لَهَا حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِمَا زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ، وَاعْتِبَارُ مَعْنَى التَّعْلِيقِ لَا يُوجِبُ لَهَا حَقَّ الرُّجُوعِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: إنْ أَدَّيْتِ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَأَدَّتْ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ عَتَقَتْ وَلَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ. وَكَذَا لَوْ كَاتَبَهَا وَهِيَ حَامِلٌ عَلَى أَلْفٍ أَنَّ مَا فِي بَطْنِهَا مِنْ وَلَدٍ فَهُوَ لَهُ وَلَيْسَ فِي الْمُكَاتَبَةِ، أَوْ كَاتَبَ أَمَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَلَدٍ تَلِدُهُ فَهُوَ لِلسَّيِّدِ فَالْمُكَاتَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ شَرْطًا مُخَالِفًا لِمُوجِبِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَلَدٍ تَلِدُهُ يَكُونُ مُكَاتَبًا تَبَعًا لَهَا فَكَانَ هَذَا شَرْطًا فَاسِدًا وَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ وَإِنْ أَدَّتْ الْأَلْفَ عَتَقَتْ لِمَا قُلْنَا، ثُمَّ إذَا عَتَقَتْ يُنْظَرُ إلَى قِيمَتِهَا وَإِلَى الْمُؤَدَّى عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَكَذَا لَوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَعَلَى أَنْ يَخْدُمَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ الْخِدْمَةِ فَأَدَّى الْأَلْفَ عَتَقَ لِمَا قُلْنَا، ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى قِيمَته وَإِلَى الْأَلْف عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ مُنَجَّمَةٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ عَجَزَ عَنْ نَجْمٍ مِنْهَا فَمُكَاتَبَتُهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ لَمْ تَجُزْ هَذِهِ الْمُكَاتَبَةُ لِتَمَكُّنِ الْعُذْرِ فِي الْبَدَلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ يَعْجِزُ أَوْ لَا يَعْجِزُ، وَيُمْكِنُ الْجَهَالَةُ فِيهِ جَهَالَةً فَاحِشَةً فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ وَلِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ، وَهَذَا كَذَلِكَ. وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ يُؤَدِّيهَا إلَى غَرِيمٍ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَكَذَا إذَا كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ يَضْمَنُهَا لِرَجُلٍ عَنْ سَيِّدِهِ فَالْمُكَاتَبَةُ وَالضَّمَانُ جَائِزَانِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ إذَا بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يُؤَدِّيهَا إلَى فُلَانٍ أَوْ عَلَى أَنْ يَضْمَنَهَا الْمُشْتَرِي عَنْ الْبَائِعِ لِفُلَانٍ، إنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَهُوَ الشَّرْطُ الْمُخَالِفُ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَالْكِتَابَةُ لَا تَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ إذَا لَمْ تَكُنْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ الْمِصْرِ أَوْ لَا يُسَافِرَ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ شَرْطَ الضَّمَانِ بَاطِلٌ وَهَهُنَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُكَاتَبِ عَنْ سَيِّدِهِ وَكَفَالَتَهُ عَنْهُ بِمَا عَلَيْهِ مُقَيَّدًا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِي الضَّمَانِ، وَضَمَانُ الْمُكَاتَبِ عَنْ الْأَجْنَبِيِّ إنَّمَا لَا يَصِحُّ لِكَوْنِهِ مُتَبَرِّعًا وَلَمْ يُوجَدْ. فَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مُنَجَّمَةً عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهِ مَعَ كُلِّ نَجْمٍ ثَوْبًا، وَسَمَّى نَوْعَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ مُكَاتَبَتَهُ عَلَى بَدَلٍ مَعْلُومٍ حَيْثُ سَمَّى نَوْعَ الثَّوْبِ، فَصَارَ الْأَلْفُ مَعَ الثَّوْبِ بَدَلًا كَامِلًا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْلُومٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ فِي الْعَقْدِ جَازَ؟ وَكَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ لَوْ ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ جَازَ بِأَنْ يَقُولَ: بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي مَعَهُ مِائَةَ دِينَارٍ وَتَصِيرَ الْأَلْفُ وَالْمِائَةُ دِينَارٍ ثَمَنًا لِمَا قُلْنَا كَذَا هَهُنَا، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي مَعَ كُلّ نَجْمٍ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَ مَعَ مُكَاتَبَتِك أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ صَارَ بَدَلًا فِي الْعَقْدِ. وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ قِيمَتُهُ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَدَّى وَعَتَقَ عَلَيْهِ، فَعَلَيْهِ أَلْفٌ أُخْرَى جَازَ وَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ،

فصل في بيان ما يملك المكاتب من التصرفات وما لا يملكه

إذَا أَدَّى الْأَلْفَ عَتَقَ وَعَلَيْهِ أَلْفٌ أُخْرَى بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الْأَلْفَيْنِ جَمِيعًا بَدَلَ الْكِتَابَةِ لَجَازَ وَلَوْ جَعَلَهُمَا جَمِيعًا بَعْدَ الْعِتْقِ لَجَازَ، كَذَا إذَا جَعَلَ الْبَعْضَ قَبْلَ الْعِتْقِ وَالْبَعْضَ بَعْدَهُ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ. وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ يَعْنِي عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُكَاتَبُ أَحَقَّ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ وَلَا يَدْخُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ رِبًا، كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ، إذَا بَاعَ عَبْدَهُ مَعَ مَالِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمَالُ الْعَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ يُقَابِلُ الْأَلْفَ فَيَبْقَى الْعَبْدُ زِيَادَةً فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فَيَكُونَ رِبًا وَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا هَهُنَا؛ لِأَنَّ الرِّبَا لَا يَجْرِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ. هَذَا مَعْنَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْأَصْلِ ثُمَّ مَالُ الْعَبْدِ مَا يَحْصُلُ بَعْدَ الْعَقْدَ بِتِجَارَتِهِ أَوْ بِقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنْسَبُ إلَى الْعَبْدِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا كَانَ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى فِي يَدِ الْعَبْدِ وَقْتَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنْسَبُ إلَى الْعَبْدِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْأَرْشُ وَالْعُقْرُ، وَإِنْ حَصَلَا بَعْدَ الْعَقْدِ يَكُنْ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إلَى الْعَبْدِ بِخِلَافِ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَكُونُ رِبًا؛ لِأَنَّ مُرَادَ مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجْرِي الرِّبَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ فِيمَا لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ مُطْلَقَةٍ، وَالْكِتَابَةُ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَلَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ مُطْلَقَةٍ، وَجَرَيَانُ الرِّبَا يَخْتَصُّ بِالْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ بِخِلَافِ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَاكَ مُعَاوَضَةٌ مُطْلَقَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمَوْلَى: كَانَ هَذَا قَبْلَ عَقْدِ الْمُكَاتَبَةِ، وَقَالَ الْمُكَاتَبُ: كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْعَقْدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ فِي يَدِهِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ: كَاتِبْنِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ أُعْطِيَهَا مِنْ مَالِ فُلَانٍ فَكَاتَبَهُ عَلَى ذَلِكَ جَازَتْ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ، وَالشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ لَا تُبْطِلُ الْكِتَابَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ دَاخِلَةً فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، فَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ أَوْ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ بِالْخِيَارِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ جَازَ؛ لِأَنَّ دَلَائِلَ جَوَازِ الْكِتَابَةِ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَدْعُو إلَى شَرْطِ الْخِيَارِ فِي الْمُكَاتَبَةِ كَمَا تَدْعُو إلَيْهِ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى التَّأَمُّلِ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ كَالْبَيْعِ فَإِنْ قِيلَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ اسْتِحْسَانٌ عِنْدَكُمْ فَلَا يَجُوزُ قِيَاسُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، فَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَنَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى مَوْضِعِ الِاسْتِحْسَانِ بِشَرْطِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِحْسَانِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، وَيَكُونَ مِثْلُ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَوْجُودًا فِي مَوْضِعِ الْقِيَاسِ، وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَا يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنْ أَبْطَلَ خِيَارَهُ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ جَازَ كَالْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يُبْطِلْ حَتَّى مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ يَتَمَكَّنْ الْفَسَادُ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ قَلَّتْ الْمُدَّةُ أَوْ كَثُرَتْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً مِنْ شَهْرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَمَا فِي الْبَيْعِ. [فَصْلٌ فِي بَيَان مَا يَمْلِكُ الْمُكَاتَبُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَمْلِكُ الْمُكَاتَبُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ بِقَلِيلِ الثَّمَنِ وَكَثِيرِهِ وَبِأَيِّ جِنْسٍ كَانَ وَبِالنَّقْدِ وَبِالنَّسِيئَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ إلَّا بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ وَبِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَبِالنَّقْدِ لَا بِالنَّسِيئَةِ؛ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ. وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ مِنْ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَكَاسِبِهِ وَمَنَافِعِهِ كَالْحُرِّ فَكَانَ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ مَوْلَاهُ وَشِرَاؤُهُ مِنْهُ كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَا اشْتَرَى مِنْ مَوْلَاهُ مُرَابَحَةً إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ، وَكَذَلِكَ الْمَوْلَى فِيمَا اشْتَرَى مِنْهُ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُرَابَحَةِ بَيْعُ أَمَانَةٍ فَيَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنْ الْخِيَانَةِ وَشُبْهَةِ الْخِيَانَةِ مَا أَمْكَنَ، وَكَسْبُ الْمُكَاتَبِ مَالَ الْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ فَيَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشُّبْهَةُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ مَوْلَاهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الْمُكَاتَبَةِ صَارَ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي الْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ وَكَذَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا، وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ وَسِيلَةٌ إلَى الِاكْتِسَابِ، وَالْمُكَاتَبُ مَأْذُونٌ فِي الِاكْتِسَابِ فَإِنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ بِيعَ فِيهِ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ الْمُكَاتَبُ؛ لِأَنَّ إذْنَهُ قَدْ صَحَّ فَصَحَّتْ اسْتِدَانَتُهُ فَيُبَاعُ فِيهِ كَمَا فِي عَبْدِ الْحُرِّ، وَلَهُ أَنْ يَحُطَّ شَيْئًا بَعْدَ الْبَيْعِ لِعَيْبٍ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ أَوْ يَزِيدَ فِي ثَمَنِ شَيْءٍ قَدْ اشْتَرَاهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْكِتَابَةِ صَارَ مَأْذُونًا بِالتِّجَارَةِ وَهَذَا مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحُطَّ بَعْدَ

الْبَيْعِ بِغَيْرِ عَيْبٍ وَلَوْ فَعَلَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّبَرُّعِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ مَا اشْتَرَى بِالْعَيْبِ إذَا لَمْ يَرْضَ بِهِ سَوَاءٌ اشْتَرَى مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ مِنْ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِكَسْبِهِ مِنْ مَوْلَاهُ فَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَهُ الشُّفْعَةُ فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُكَاتَبُ؛ لِأَنَّ أَمْلَاكَهُمَا مُتَمَيِّزَةٌ وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا مِنْ صَاحِبِهِ فَصَارَا كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاكْتِسَابِ. وَلَا تَجُوزُ هِبَةُ الْمُكَاتَبِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَلَا إعْتَاقُهُ، سَوَاءٌ عَجَزَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ عَتَقَ وَتَرَكَ وَفَاءً؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ تَبَرُّعٌ، وَكَسْبُ الْمُكَاتَبِ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَرُّعَ. وَحُكِيَ عَنْ ابْن أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ قَالَ: عِتْقُهُ وَهِبَتُهُ مَوْقُوفَانِ فَإِنْ عَتَقَ يَوْمًا مَضَى ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَجَعَ مَمْلُوكًا بَطَلَ ذَلِكَ وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ حَالَ الْمُكَاتَبِ مَوْقُوفٌ بَيْنَ أَنْ يَعْتِقَ وَبَيْنَ أَنْ يَعْجِزَ فَكَذَا حَالُ عِتْقِهِ وَهِبَتِهِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعَقْدَ عِنْدَنَا إنَّمَا يَتَوَقَّفُ إذَا كَانَ لَهُ مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهِ، وَهَهُنَا لَا مُجِيزَ لِعِتْقِهِ حَالَ وُقُوعِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ، فَإِذَا وَهَبَ هِبَةً أَوْ تَصَدَّقَ ثُمَّ عَتَقَ رُدَّتْ إلَيْهِ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ حَيْثُ كَانَتْ؛ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ لَا مُجِيزَ لَهُ حَالَ وُقُوعِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِعْتَاقُ بِغَيْرِ بَدَلٍ أَوْ بِبَدَلٍ، أَمَّا بِغَيْرِ بَدَلٍ فَلِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا بِبَدَلٍ فَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ بِبَدَلٍ لَيْسَ مِنْ بَابِ الِاكْتِسَابِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِيهِ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْقَبُولِ، وَيَبْقَى الْبَدَلُ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ، وَلَا يَمْلِكُ التَّعْلِيقَ كَمَا لَا يَمْلِكُ التَّنْجِيزَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ لَا يَصِحُّ، وَكَذَا إذَا قَالَ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيقٌ وَلَيْسَ بِمُكَاتَبَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ. وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدًا مِنْ أَكْسَابِهِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُفْضِي إلَى الْعِتْقِ فَلَا يَجُوزُ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ نَوْعُ اكْتِسَابِ الْمَالِ، وَالْمُكَاتَبُ يَمْلِكُ اكْتِسَابَ الْمَالِ، وَلِهَذَا مَلَكَ الْبَيْعَ وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِاكْتِسَابِ الْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكْتَسِبَ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ لَا يَكُونُ لَهُ بَلْ يَكُونُ لِلْعَبْدِ؟ وَإِنَّمَا الْمُكَاتَبُ لَهُ دَيْنٌ تَعَلَّقَ بِذِمَّةِ الْمُفْلِسِ فَكَانَ ذَلِكَ إعْتَاقًا بِغَيْرِ بَدَلٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَفِي الْمُكَاتَبَةِ الْمَكْسَبُ يَكُونُ لِلْمُكَاتَبِ فَلَمْ يَكُنْ إعْتَاقًا بِغَيْرِ بَدَلٍ فَافْتَرَقَا. وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ، الْإِعْتَاقَ وَلَوْ اشْتَرَى ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ مَوْلَاهُ لَا يَعْتِقُ عَلَى مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ هَذَا كَسْبُ الْمُكَاتَبِ، وَالْمَوْلَى لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ أَكْسَابِهِ صَرِيحًا لَا يَعْتِقُ فَبِالشِّرَاءِ أَوْلَى فَإِنْ أَدَّى الْأَعْلَى أَوَّلًا عَتَقَ وَثَبَتَ وَلَاؤُهُ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ مِنْهُ، فَإِذَا أَدَّى الْأَسْفَلُ بَعْدَ ذَلِكَ يَثْبُتُ وَلَاؤُهُ مِنْ الْأَعْلَى لِأَنَّهُ بِالْعِتْقِ صَارَ مِنْ أَهْلِ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ مِنْهُ وَإِنْ أَدَّى الْأَسْفَلُ أَوَّلًا يَعْتِقْ وَيَثْبُتْ وَلَاؤُهُ مِنْ الْمَوْلَى وَلَا يَثْبُتُ مِنْ الْأَعْلَى لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ، فَإِنْ عَتَقَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ الْوَلَاءُ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ مَتَى ثَبَتَ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ بِحَالٍ وَإِنْ أَدَّيَا جَمِيعًا مَعًا ثَبَتَ وَلَاؤُهُمَا مَعًا مِنْ الْمَوْلَى. وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُكَاتِبَ وَلَدَهُ وَلَا وَالِدَهُ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ إلَّا أُمَّ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَعْتِقُونَ بِعِتْقِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْبِقَ عِتْقُهُمْ عِتْقَهُ، وَلِأَنَّهُمْ قَدْ دَخَلُوا فِي كِتَابَةِ الْمُكَاتَبِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَاتَبُوا ثَانِيًا، بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ. وَلَا يَمْلِكُ التَّصَدُّقَ إلَّا بِشَيْءٍ يَسِيرٍ حَتَّى لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ فَقِيرًا دِرْهَمًا وَلَا أَنْ يَكْسُوهُ ثَوْبًا، وَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُهْدِيَ إلَّا بِشَيْءٍ قَلِيلٍ مِنْ الْمَأْكُولِ وَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ إلَى الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَمَلُ التُّجَّارِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ مُكَاتَبًا فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَكَذَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ» وَلِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إلَى أَدَاءِ مَالِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ يَجْذِبُ قُلُوبَ النَّاسِ فَيَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى الْإِهْدَاءِ إلَيْهِ فَيُمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ. وَيَمْلِكُ الْإِجَارَةَ وَالْإِعَارَةَ وَالْإِيدَاعَ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مِنْ التِّجَارَةِ وَلِهَذَا مَلَكَهَا الْمَأْذُونُ بِالتِّجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ مِنْ عَمَلِ التُّجَّارِ وَضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْرِضَ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ تَبَرُّعٌ بِابْتِدَائِهِ، وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يَجُوزُ أَيْ لَا يَطِيبُ لِلْمُسْتَقْرِضِ أَكْلُهُ، لَا أَنْ لَا يَمْلِكَهُ الْمُسْتَقْرِضُ، حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ وَيَكُونُ الْمُسْتَقْرِضُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَهَذَا كَمَا قُلْنَا فِي حَقِّ الْإِعْتَاقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَطِيبُ لَهُ أَكْلُهُ لَكِنَّهُ يَكُون مَضْمُونًا عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ نَفَذَ إعْتَاقُهُ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ كَذَا قَرْضُ الْمُكَاتَبِ. وَلَا تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ. وَلَا تَجُوزُ كَفَالَةُ الْمُكَاتَبِ بِالْمَالِ وَلَا بِالنَّفْسِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى، وَلَا بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ أَمَّا الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَلِأَنَّهَا الْتِزَامُ تَسْلِيمِ النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَالْكَفَالَةُ بِالْمَالِ الْتِزَامُ تَسْلِيمِ الْمَالِ مِنْ

غَيْرِ عِوَضٍ إنْ كَانَتْ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ بِإِذْنِهِ فَهِيَ، وَإِنْ كَانَتْ مُبَادَلَةً فِي الِانْتِهَاءِ فَهِيَ تَبَرُّعٌ فِي الِابْتِدَاءِ، وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، وَسَوَاءٌ أَذِنَ الْمَوْلَى فِيهَا أَوْ لَمْ يَأْذَنْ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ فَلَا يَصِحُّ إذْنُهُ بِالتَّبَرُّعِ. وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ بِالشِّرَاءِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِب ضَمَانًا عَلَيْهِ لِلْبَائِعِ وَهُوَ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا: مِلْكُ الْمَبِيعِ يَثْبُتُ لَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْهُ إلَى الْمُوَكَّلِ، فَصَارَ كَالْبَيْعِ مِنْهُ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ: إنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ لَهُ لَكِنْ الْوَكَالَةُ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ فَإِنْ أَدَّى فَعَتَقَ لَزِمَتْهُ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِهِ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقّ الْمَوْلَى، فَإِذَا عَتَقَ فَقَدْ زَالَ حَقُّ الْمَوْلَى فَيُطَالَبُ بِهِ كَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ إذَا كُفِلَ ثُمَّ عَتَقَ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ إذَا كُفِلَ ثُمَّ بَلَغَ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَوْلٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ. وَتَجُوزُ كَفَالَتُهُ عَنْ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا بِهَا، وَالْأَدَاءُ إلَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِ سَوَاءٌ. وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ الْحَوَالَةِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ، إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِإِنْسَانٍ وَعَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ دَيْنٌ لِآخَرَ فَأَحَالَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ مَالًا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى هَذَا أَوْ إلَى غَيْره، وَإِنْ كَانَ لِإِنْسَانٍ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ فَأَحَالَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَقَبِلَ الْحَوَالَةَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِلَّذِي أَحَالَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَلَهُ أَنْ يُشَارِكَ حُرًّا شَرِكَةَ عِنَانٍ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَهُ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْمُفَاوَضَةِ عَلَى الْكَفَالَةِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ وَشَرِكَةُ الْعِنَانِ غَيْرُ مَبْنِيَّةٍ عَلَى الْكَفَالَةِ بَلْ عَلَى الْوَكَالَةِ، وَالْمُكَاتَبُ مِنْ أَهْلِ الْوَكَالَةِ. وَلَوْ كَاتَبَ الرَّجُلُ عَبْدَيْنِ لَهُ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا إنْ كَاتَبَهُمَا عَلَى مَالٍ وَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ. وَإِمَّا إنْ كَاتَبَهُمَا عَلَى مَالٍ وَلَمْ يَجْعَلْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: إنْ أَدَّيَا عَتَقَا، وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا فِي الرِّقِّ، وَإِمَّا إنْ كَاتَبَهُمَا عَلَى مَالٍ وَلَمْ يَكْفُلْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ وَلَمْ يَقُلْ أَيْضًا إنْ أَدَّيَا عَتَقَا وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا فِي الرِّقِّ، أَمَّا إذَا كَاتَبَهُمَا عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ هَذِهِ الْكِتَابَةُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَجُوزُ إذَا قَبِلَا. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ هَذِهِ كِتَابَةٌ بِشَرْطِ الْكَفَالَةِ، وَكَفَالَةُ الْمُكَاتَبِ عَنْ غَيْرِ الْمَوْلَى لَا تَصِحُّ وَلِأَنَّهُ كَفَالَةٌ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَالْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ بَاطِلَةٌ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَفَالَةٍ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ، وَالْمَوْلَى يَمْلِكُ تَعْلِيقَ عِتْقِهِمَا بِأَدَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَوْ فَعَلَ هَكَذَا كَانَ جَائِزًا كَذَلِكَ هَذَا. وَأَمَّا إذَا كَاتَبَهُمَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهُمَا إنْ أَدَّيَا عَتَقَا وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا فِي الرِّقِّ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَاتَبٌ عَلَى حِدَةٍ فَأَيُّهُمَا أَدَّى حِصَّتَهُ يَعْتِقُ، وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَلْزَمُهُ كِتَابَةُ نَفْسِهِ خَاصَّةً فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ كِتَابَةُ غَيْرِهِ، مَا لَمْ يَشْتَرِطَا وَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ، وَلَنَا أَنَّ الْمَوْلَى عَلَّقَ عِتْقَهُمَا بِأَدَاءِ الْأَلْفِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَقَعُ الْعِتْقُ، كَمَا إذَا قَالَ لِعَبْدَيْنِ لَهُ إنْ دَخَلْتُمَا هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتُمَا حُرَّانِ، فَدَخَلَ أَحَدُهُمَا لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يَدْخُلَا جَمِيعًا، فَكَذَلِكَ هَهُنَا لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِأَدَاءِ الْأَلْفِ، وَإِذَا لَمْ يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِأَدَاءِ الْأَلْفِ صَارَ جَمِيعُ الْأَلْفِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَصَارَ كَمَا إذَا كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، وَنَظِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ مَا قَالُوا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ: إنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ: إنْ شِئْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ أَوْ قَالَ لِعَبْدَيْنِ لَهُ: إنْ شِئْتُمَا فَأَنْتُمَا حُرَّانِ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ أَيُّهُمَا شَاءَ يَعْتِقُ، وَانْصَرَفَ مَشِيئَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى عِتْقِ نَفْسِهِ، وَطَلَاقِ نَفْسِهَا، وَفِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ مَا لَمْ تُوجَدْ مَشِيئَتُهُمَا جَمِيعًا فِي طَلَاقَيْهِمَا جَمِيعًا أَوْ فِي عِتْقَيْهِمَا جَمِيعًا لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَذَلِكَ هَهُنَا. وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِث، وَهُوَ مَا إذَا كَاتَبَهُمَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ إنْ أَدَّيَا عَتَقَا وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا فِي الرِّقِّ فَأَيُّهُمَا أَدَّى حِصَّتَهُ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْ عِتْقَهُمَا بِأَدَائِهِمَا جَمِيعًا فَانْصَرَفَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَيْهِ خَاصَّةً، وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَاتَبًا عَلَى حِدَةٍ ثُمَّ إذَا كَاتَبَهُمَا كِتَابَةً وَاحِدَةً فَأَدَّى أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَى رَجُلَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَأَدَّى أَحَدُهُمَا شَيْئًا، أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يُجَاوِزْ النِّصْفَ فَإِذَا جَاوَزَ النِّصْفَ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِالزِّيَادَةِ، وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ لَوْ جَعَلْنَا أَدَاءً عَنْ نَفْسِهِ أَدَّى ذَلِكَ إلَى تَغْيِيرِ شَرْطِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ، وَمِنْ شَرْطِ

الْمَوْلَى عِتْقُهُمَا جَمِيعًا. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا فَكَانَ أَدَاؤُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ صَاحِبِهِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَغَيُّرِ شَرْطِ الْمَوْلَى، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ أَدَاءَهُ عَنْ نَفَسِهِ لَا يُؤَدِّي إلَى تَغَيُّرِ شَرْطِ الْمَوْلَى فَكَانَ أَدَاؤُهُ عَنْ نَفْسِهِ إلَى النِّصْفِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الْمُكَاتَبَيْنِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الْكِتَابَةِ وَيُؤْخَذُ مِنْ الْحَيِّ جَمِيعُ الْكِتَابَةِ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا سَقَطَتْ حِصَّتُهُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَيِّتَ مِنْ أَهْلِ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ الْكِتَابَةُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ يُؤَدَّى كِتَابَتُهُ؟ وَكَذَا لَوْ تَرَكَ وَلَدًا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْكِتَابَةُ؟ فَأَمَّا الْمُعْتَقُ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الْكِتَابَةُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ كَانَ وَاحِدًا فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَطَلَتْ عَنْهُ الْكِتَابَةُ، وَكَذَلِكَ هَهُنَا تَبْطُلُ حِصَّتُهُ وَالْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ بِحِصَّتِهِ الْمُكَاتَبَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمُعْتَقَ بِحَقِّ الْكَفَالَةِ، فَإِنْ أَخَذَ الْمُكَاتَبَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى دَيْنَ نَفْسِهِ وَإِنْ أَخَذَ الْمُعْتَقَ وَأَدَّى رَجَعَ عَلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ كَفِيلُهُ. وَلَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ، فَهُوَ عَاهِرٌ» وَلِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ رَقَبَةَ الْمُكَاتَبِ، وَالْمُكَاتَبُ يَمْلِكُ مَنَافِعَهُ وَمَكَاسِبَهُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالنِّكَاحِ وَلَا يُزَوِّجُ ابْنَهُ وَابْنَتَهُ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْإِنْكَاحِ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ إذْ هُوَ عَبْدٌ وَلَا يُزَوِّجُ عَبْدَهُ لِمَا قُلْنَا وَيُزَوِّجُ أَمَتَهُ وَمُكَاتَبَتَهُ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَهُمَا مِنْ بَابِ الِاكْتِسَابِ، وَعَقْدُ الْكِتَابَةِ عَقْدُ اكْتِسَابِ الْمَالِ، بِخِلَافِ تَزْوِيجِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ الْمَهْرُ بِرَقَبَتِهِ فَلَمْ يَكُنْ اكْتِسَابًا. وَيَجُوزُ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ وَاسْتِيفَاؤُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ، وَالْمُكَاتَبَةُ إذْنٌ بِالتِّجَارَةِ فَكَانَ هُوَ إذْنًا بِمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ. وَلَا تَجُوزُ وَصِيَّةُ الْمُكَاتَبِ فِي مَالِهِ وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً، أَمَّا إذَا لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا فَلَا تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ. وَأَمَّا إذَا تَرَكَ وَفَاءً فَلِأَنَّا وَإِنْ حَكَمْنَا بِعِتْقِهِ فَإِنَّمَا حَكَمْنَا بِهِ قُبَيْلَ الْمَوْتِ بِلَا فَصْلٍ، وَتِلْكَ السَّاعَةُ لَطِيفَةٌ لَا تَتَّسِعُ لِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ، وَلَوْ أَوْصَى ثُمَّ أَدَّى الْكِتَابَةَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَعَتَقَ فَإِنَّ وَصِيَّتَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فِي وَجْهٍ لَا تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي وَجْهٍ تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي وَجْهٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ. فَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إذَا أُعْتِقْت فَثُلُثُ مَا لِي وَصِيَّةٌ فَأَدَّى فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْوَصِيَّةَ إلَى حَالِ الْحُرِّيَّةِ، وَالْحُرُّ مِنْ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي لَا تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ أَنْ يُوصِيَ بِعَيْنِ مَالِهِ لِرَجُلٍ فَأَدَّى فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مَا أَضَافَ الْوَصِيَّةَ إلَى حَالِ الْحُرِّيَّةِ وَإِنَّمَا أَوْصَى بِعَيْنِ مَالِهِ فَيَتَعَلَّقُ بِمِلْكِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهُوَ مِلْكُ الْمُكَاتَبِ، وَمِلْكُ الْمُكَاتَبِ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَرُّعَ فَلَا يَجُوزُ إلَّا إذَا أَجَازَ تِلْكَ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَتَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مِمَّا يُجَوِّزُ الْإِجَازَةَ، بِدَلِيلِ أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِوَرَثَتِهِ: أَجَزْت لَكُمْ أَنْ تُعْطُوا ثُلُثَ مَالِي فُلَانًا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ وَصِيَّةً. وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهُوَ مَا إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ ثُمَّ أَدَّى وَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ إلَّا أَنْ يُحَدِّدَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهَا تَعَلَّقَتْ بِمِلْكِ الْمُكَاتَبِ، وَمِلْكُهُ لَا يَحْتَمِلُ الْمَعْرُوفَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تَجُوزُ وَهَذَا نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ أَنَّهُ إذَا قَالَ الْعَبْدُ أَوْ الْمُكَاتَبُ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ إذَا أُعْتِقْت فَهُوَ حُرٌّ. فَأَعْتَقَ ثُمَّ مَلَكَ مَمْلُوكًا يَعْتِقُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ: إذَا أَعْتَقْتُ لَا يَعْتِقُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا أَسْتَقْبِلُ فَهُوَ حُرٌّ فَعَتَقَ وَمَلَكَ مَمْلُوكًا لَا يَعْتِقُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَعْتِقُ، وَالْحُجَجُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْعَتَاقِ. وَيَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ قَبُولُ الصَّدَقَاتِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] قِيلَ فِي التَّفْسِير مَا أَدَّاهَا الْمُكَاتَبُونَ وَيَحِلُّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْ قَضَاءٍ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ، وَيَحِلُّ لَهُ تَنَاوُلُهُ بَعْدَ الْعَجْزِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى غَنِيًّا؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ حُكْمًا وَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا وَاحِدَةً حَقِيقَةً وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ بَرِيرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ يُتَصَدَّقُ عَلَيْهَا وَكَانَتْ تُهْدِي ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْهُ وَيَقُولُ: هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ» وَكَذَلِكَ الْفَقِيرُ إذَا مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا جَمَعَهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ، وَوَارِثُهُ غَنِيٌّ يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ أَوْصَى الْمُكَاتَبُ إلَى رَجُلٍ أَيْ جَعَلَهُ وَصِيًّا ثُمَّ مَاتَ فَإِنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَفَاءٍ بَطَلَ إيصَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِيصَاءِ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ مَا أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ جَازَ الْإِيصَاءُ وَتَكُونُ وَصِيَّتُهُ كَوَصِيَّةِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ إنَّمَا تَنْتَقِلُ إلَيْهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ كَانَ حُرًّا فَتَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إلَيْهِ فَصَارَ كَوَصِيِّ الْحُرِّ،

فصل في بيان ما يملك المولى من التصرف في المكاتب وما لا يملكه

وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ وَلَمْ يُؤَدِّ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَإِنَّ وَصِيَّهُ يَكُونُ وَصِيًّا عَلَى أَوْلَادِهِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي كِتَابَتِهِ دُونَ الْأَوْلَادِ الْأَحْرَارِ الَّذِينَ وُلِدُوا مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ، وَيَكُونُ أَضْعَفَ الْأَوْصِيَاءِ كَوَصِيِّ الْأُمِّ فَيَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَلَا يَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ، وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْقِسْمَةِ جُعِلَ كَوَصِيِّ الْأَبِ حَيْثُ أَجَازَ قِسْمَتَهُ فِي الْعَقَارَاتِ، وَالْقِسْمَةُ تَمْنَعُ الْبَيْعَ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَان مَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُكَاتَبِ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُكَاتَبِ، وَمَا لَا يَمْلِكُهُ فَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُكَاتَبَةِ نَذْكُرُهُ فِي فَصْلِ الْحُكْمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي صِفَة الْمُكَاتَبَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْمُكَاتَبَةِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى إذَا كَانَ صَحِيحًا حَتَّى لَا يَمْلِكَ فَسْخَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمُكَاتَبِ، إذَا لَمْ يَحِلَّ نَجْمٌ أَوْ نَجْمَانِ عَلَى الْخِلَافِ غَيْرُ لَازِمٍ فِي جَانِبِ الْمُكَاتَبِ حَتَّى يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ شُرِعَ نَظَرًا لِلْعَبِيدِ، وَتَمَامُ نَظَرِهِمْ أَنْ لَا يَلْزَمَ فِي حَقِّهِمْ، وَيَجُوزُ رَدُّ الْمُكَاتَبِ إلَى الرِّقِّ وَفَسْخُ الْكِتَابَةِ دُونَ قَضَاءِ الْقَاضِي عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَجُوزُ رَدُّهُ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ صَحَّ فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ: بَلَغْنَا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ قَدْ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُعْجِزَ نَفْسَهُ، وَمَنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْعَقْدِ إذَا فَسَخَ الْعَقْدَ يَصِحُّ فَسْخُهُ دُونَ الْقَاضِي كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَغَيْرِهِ، فَأَمَّا الْفَاسِدُ مِنْهُ فَغَيْرُ لَازِمٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ حَتَّى يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْفَسْخِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْآخَر؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ وَاجِبُ النَّقْضِ، وَالْفَسْخُ حَقٌّ لِلشَّرْعِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَغَيْرِهِ. وَالثَّانِي أَنَّهَا مُتَجَزِّئَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا غَيْرُ مُتَجَزِّئَةٍ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ يُفْضِي إلَى الْعِتْقِ وَالْعِتْقُ مُتَجَزِّئُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ كَذَا الْمُكَاتَبَةُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَاتَبَ رَجُلٌ نِصْفَ عَبْدِهِ أَنَّهُ جَازَتْ الْكِتَابَةُ فِي النِّصْفِ، وَصَارَ نِصْفُهُ مُكَاتَبًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مُتَجَزِّئَةٌ عِنْدَهُ فَصَحَّتْ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ لَا غَيْرُ، وَصَارَ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ مَأْذُونًا بِالتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَقْتَضِي وُجُوبَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ إلَّا بِالْإِذْنِ، وَالْإِذْنُ لَا يَتَجَزَّأُ فَصَارَ الْإِذْنُ فِي قَدْرِ الْكِتَابَةِ إذْنًا فِي الْكُلِّ فَصَارَ مَأْذُونًا فِي الْكُلِّ، وَنِصْفُهُ مُكَاتَبٌ. فَإِنْ أَدَّى عَتَقَ نِصْفُهُ وَصَارَ النِّصْفُ الْآخَرُ مُسْتَسْعًى فَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ، بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ فَإِنْ اكْتَسَبَ الْعَبْدُ مَالًا قَبْلَ الْأَدَاءِ فَنِصْفُهُ لَهُ وَنِصْفُهُ لِلْمَوْلَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ مُكَاتَبٌ وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ فِي قَوْلِهِمَا، وَالْكَسْبُ كُلُّهُ لِلْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ كُلُّهُ صَارَ مُكَاتَبًا وَمَا اكْتَسَبَ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَكُلُّهُ لِلْمُكَاتَبِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى فِيهِ شَيْءٌ، أَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ وَكَسْبُ الْمُكَاتَبِ لَهُ، وَإِذَا كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدِهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَسْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَاتَبَ نِصْفَهُ فَقَدْ أَذِنَ لَهُ بِالِاكْتِسَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ إلَّا بِالْكَسْبِ فَلَا يَمْلِكُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ فَسْخِ الْكِتَابَةِ، وَلَا يَفْسَخُ إلَّا بِرِضَاهُ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ إنَّهُ يَمْلِكُ حَجْرَهُ وَمَنْعَهُ مِنْ الِاكْتِسَابِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ مَأْذُونًا بِالْقَوْلِ فَيَصِيرُ مَحْجُوزًا عَلَيْهِ بِحَجْرِهِ، وَالْإِذْنُ هَهُنَا لَا يَثْبُتُ بِالْقَبُولِ بَلْ مُقْتَضَى الْكِتَابَةِ فَلَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ إلَّا بِفَسْخِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمِصْرِ فَلَهُ مَنْعُهُ بِالْقِيَاسِ وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ أَنْ لَا يَمْنَعَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ يَوْمًا أَوْ يَسْتَسْعِيَهُ يَوْمًا وَيُخَلِّيَ عَنْهُ يَوْمًا لِلْكَسْبِ لَهُ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ، وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهُ فِي شَيْءٍ حَتَّى يُؤَدِّيَ أَوْ يَعْجِزَ، كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ نِصْفَهُ رَقِيقٌ لَمْ تَزُلْ يَدُهُ عَنْهُ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْمِصْرِ لِأَجْلِ النِّصْفِ فَيَقُولُ لَهُ إنْ كَانَ نِصْفُك مُكَاتَبًا فَالنِّصْفُ الْآخَرُ غَيْرُ مُكَاتَبٍ فَلِيَ الْمَنْعُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ وَيَسْتَخْدِمَهُ يَوْمًا كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ صَارَ مَأْذُونًا بِالِاكْتِسَابِ وَذَلِكَ بِالْخُرُوجِ إلَى الْأَمْصَارِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ مَنْعُهُ وَأَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاكْتِسَابِ بِالِاسْتِخْدَامِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْرُجَ بِالنِّصْفِ دُونَ النِّصْفِ أَوْ يَسْتَخْدِمَ النِّصْفَ دُونَ النِّصْفِ. فَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَ النِّصْفَ الَّذِي هُوَ مُكَاتَبٌ تَبَعًا

لِلنِّصْفِ الَّذِي لَيْسَ بِمُكَاتَبٍ، أَوْ يَجْعَلَ النِّصْفَ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُكَاتَبٍ تَبَعًا لِلنِّصْفِ الَّذِي هُوَ مُكَاتَبٌ، وَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالرِّقَّ إذَا اجْتَمَعَا غَلَبَتْ الْحُرِّيَّةُ الرِّقَّ، وَفِي الْكِتَابَةِ شُعْبَةٌ مِنْ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِلْعِتْقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهِيَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِهِ. وَإِذَا كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدِهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الْبَاقِيَ فَإِنْ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِ الْعَبْدِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَهُ أَوْ دَبَّرَ نِصْفَهُ ثُمَّ بَاعَهُ إنَّهُ لَا يَجُوزُ كَذَا هَذَا، وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ وَيَخْرُجَ مِنْ الْمِصْرِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُسَلَّمَ إلَى الْمُشْتَرِي، وَلَوْ فَعَلَ هَكَذَا كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا كَذَلِكَ هَذَا. وَلَوْ بَاعَ نِصْفَ نَفْسِهِ مِنْ الْعَبْدِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ، بَلْ هُوَ إعْتَاقٌ بِمَالٍ بِدَلِيلِ أَنَّ الْوَلَاءَ يَثْبُتُ مِنْهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ نَفْسَ الْمُدَبَّرِ مِنْ الْمُدَبِّرِ يَجُوزُ وَلَوْ كَانَ بَيْعًا لَمَا جَازَ، وَإِذَا أَعْتَقَ نِصْفَهُ فَالْعَبْدُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَدَّى الْكِتَابَةَ وَعَتَقَ وَإِنْ شَاءَ عَجَزَ وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُوَجَّهُ إلَيْهَا وَجْهَا عِتْقٍ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ عِتْقٌ بِأَدَاءِ الْكِتَابَةِ، وَعِتْقٌ بِالسِّعَايَةِ، فَلَهُ أَنْ يَمِيلَ إلَى أَيْ الْوَجْهَيْنِ شَاءَ. عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَاتَبَ نِصْفَهُ أَوْ كُلَّهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَإِذَا أَذِنَ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ أَذِنَ لَهُ بِقَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، فَإِنْ كَاتَبَ نِصْفَهُ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ صَارَ نَصِيبُهُ مُكَاتَبًا لَكِنْ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَنْقُضَ الْكِتَابَةَ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ فِي الْحَالِ وَفِي ثَانِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ مُكَاتَبٌ وَفِي الثَّانِي يَصِيرُ مُسْتَسْعًى فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ. وَالْكِتَابَةُ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَلَا يَصِحُّ فَسْخُهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ الَّذِي كَاتَبَ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفَسِهِ فَلَا يَفْسَخُ تَصَرُّفَهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِرِضَا الْعَبْدِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الشَّرِيكُ حَتَّى أَدَّى عَتَقَ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ نَفَذَتْ فِي نَصِيبِهِ فَإِذَا وَجَدَ شَرْطَ الْعِتْقِ عَتَقَ، ثُمَّ الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الشَّرِيكِ فَيَقْبِضُ مِنْهُ نِصْفَ مَا أَخَذَ لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ كَانَ كَسْبَ عَبْدٍ بَيْنَهُمَا فَكَانَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَأْخُوذِ، ثُمَّ الَّذِي كَاتَبَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا قَبَضَ شَرِيكُهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى بَدَلٍ وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ إلَّا نِصْفَهُ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ الْبَدَلِ وَمَا يَكُونُ مِنْ الْكَسْبِ فِي يَدِ الْعَبْدِ لَهُ نِصْفُهُ بِالْكِتَابَةِ وَنِصْفُهُ لِشَرِيكِهِ الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ، هَذَا فِي الْكَسْبِ الَّذِي اكْتَسَبَهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ. وَأَمَّا مَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْأَدَاءِ يَصِيرُ مُسْتَسْعًى وَالْمُسْتَسْعَى أَحَقُّ بِمَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ مِنْ السَّيِّدِ. فَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَبْدُ وَالْمَوْلَى، فَقَالَ الْعَبْدُ: هَذَا كَسْبٌ اكْتَسَبْته بَعْدَ الْأَدَاءِ وَقَالَ الْمَوْلَى: بَلْ اكْتَسَبْته قَبْلَ الْأَدَاءِ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْكَسْبَ شَيْءٌ حَادِثٌ فَيُحَالُ حُدُوثُهُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ، وَصَارَ الْحُكْمُ بَعْدُ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَلِلشَّرِيكِ ثَلَاثَةُ اخْتِيَارَاتٍ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَخِيَارَانِ. هَذَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ فَإِذَا كَانَ بِإِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِقَبْضِ الْكِتَابَةِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ إلَّا فِي فَصْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا إنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ هَهُنَا لِوُجُودِ الرِّضَا، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ بَعْدَ مَا عَتَقَ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْعَتَاقِ حَيْثُ أَذِنَ لَهُ فِي الْكِتَابَةِ، وَإِنْ كَانَ أَذِنَ لَهُ بِقَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ اثْنَانِ قَدْ ذَكَرْنَاهُمَا، وَالثَّالِثُ أَنَّ مَا قَبَضَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَهُ هَذَا إذَا كَاتَبَ النِّصْفَ، فَأَمَّا إذَا كَاتَبَ الْكُلَّ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ إلَّا فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا أَخَذَ الشَّرِيكُ مِنْهُ نِصْفَ مَا قَبَضَ مِنْ الْكِتَابَةِ لَا يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْمُكَاتَبِ هَذَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بِإِذْنِهِ وَأَجَازَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ صَارَ مُكَاتَبًا بَيْنَهُمَا فَلَا يَعْتِقُ جَمِيعُهُ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَلْفِ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَإِذَا أَدَّى إلَيْهِمَا مَعًا عَتَقَ، وَإِنْ أَدَّى إلَى أَحَدِهِمَا أَوَّلًا لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ وَقَعَتْ بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ هَذَا إذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِقَبْضِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ بِقَبْضِ الْكِتَابَةِ فَإِنْ أَدَّى إلَيْهِمَا عَتَقَ كُلُّهُ، وَإِنْ أَدَّى جَمِيعَهُ إلَى الَّذِي كَاتَبَ عَتَقَ كُلُّهُ، وَالْأَلْفُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ أَدَّى كُلَّهُ إلَى الشَّرِيكِ لَا يَعْتِقُ حَتَّى يَصِلَ نِصْفُهُ إلَى شَرِيكِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَإِنَّ كِتَابَةَ النِّصْفِ وَكِتَابَةَ الْجَمِيعِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عِنْدَهُمَا لَا تَتَجَزَّأُ فَإِنْ لَمْ يُجِزْ صَاحِبُهُ حَتَّى أَدَّى عَتَقَ كُلُّهُ، وَيَأْخُذُ الشَّرِيكُ مِنْهُ نِصْفَ مَا قَبَضَ وَلَا يَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْعَبْدِ بِمَا قَبَضَ مِنْهُ شَرِيكُهُ وَنِصْفُ الْكَسْبِ الْفَاضِلِ لِلْمُكَاتَبِ، وَنِصْفُهُ لِلَّذِي لَمْ يُكَاتَبْ، وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلَّذِي كَاتَبَهُ وَيَضْمَنُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَيَسْعَى الْعَبْدُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا، وَإِنْ أَجَازَ شَرِيكُهُ صَارَ مُكَاتَبًا بَيْنَهُمَا فَإِنْ أَدَّى إلَيْهِمَا مَعًا

عَتَقَ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا، وَجَمِيعُ الْكَسْبِ لِلْمُكَاتَبِ، وَإِنْ أَدَّى إلَى أَحَدِهِمَا لَا يَعْتِقُ حَتَّى يَصِلَ نِصْفُهُ إلَى الْآخَرِ إلَّا إذَا أَذِنَ لِشَرِيكِهِ بِقَبْضِ الْكِتَابَةِ فَإِنْ أَدَّى كُلَّهُ إلَى الْمَأْمُورِ عَتَقَ، وَإِنْ أَدَّى كُلَّهُ إلَى الْآمِرِ لَا يَعْتِقُ حَتَّى يَصِلَ نِصْفُهُ إلَى الْمَأْمُورِ. وَلَوْ كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ عَلَى الِانْفِرَادِ، بِأَنْ كَاتَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ كَاتَبَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ، صَارَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَاتَبًا لَهُ فَإِذَا أَدَّى إلَيْهِمَا مَعًا عَتَقَ، وَإِنْ أَدَّى إلَى أَحَدِهِمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ وَلَا يُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِيمَا قَبَضَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَاتَبَ صَارَ رَاضِيًا بِكِتَابَتِهِ وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَقْضِيَ غَرِيمًا دُونَ غَرِيمٍ، وَنَصِيبُ الْآخَرِ مُكَاتَبٌ عَلَى حَالِهِ فَإِذَا أَدَّى نَصِيبَ الْآخَرِ عَتَقَ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ نَصِيبَ الْآخَرِ وَلَكِنَّهُ عَجَزَ صَارَ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَالْجَوَابُ فِيهِ مَعْرُوفٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَ كُلُّ وَاحِدٍ جَمِيعَ الْعَبْدِ صَارَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَاتَبًا لَهُ بِالْبَدَلِ الَّذِي سَمَّى، فَمَا لَمْ يُوجَدْ جَمِيعُ الْمُسَمَّى لَا يَعْتِقُ وَالْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا أَنْ لَوْ كَاتَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَكِتَابَةُ الْبَعْضِ وَكِتَابَةُ الْكُلِّ سَوَاءٌ فَإِنْ أَدَّى إلَيْهِمَا عَتَقَ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ أَدَّى إلَى أَحَدِهِمَا أَوَّلًا عَتَقَ كُلُّهُ مِنْ الْمُؤَدَّى إلَيْهِ وَثَبَتَ الْوَلَاءُ مِنْهُ وَيَضْمَنُ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَيَسْعَى الْعَبْدُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا، إلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ أَوْ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ أَوْ فِي كِتَابَةِ الْآخَرِ فِي الْأَقَلِّ مِنْهُمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: بَطَلَتْ كِتَابَةُ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْعَبْدُ أَوْ يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لَا غَيْرُ. وَلَوْ كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَكَاتَبَاهُ جَمِيعًا مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً، فَأَدَّى إلَى أَحَدِهِمَا حِصَّتَهُ لَمْ يَعْتِقْ حِصَّتَهُ مِنْهُ مَا لَمْ يُؤَدِّ جَمِيعَ الْكِتَابَةِ إلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا جَعَلَا شَرْطَ عِتْقِهِ أَدَاءَ جَمِيعِ الْمُكَاتَبَةِ فَلَا يَعْتِقُ إلَّا بِوُجُودِ الشَّرْطِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدٌ فَكَاتَبَاهُمَا جَمِيعًا مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ مُكَاتَبًا عَلَى حِدَةٍ حَتَّى لَوْ أَدَّى حِصَّتَهُ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ هَهُنَا لَوْ جَعَلَ كُلَّ نِصْفٍ مُكَاتَبًا عَلَى حِدَةٍ لَأَدَّى إلَى تَغْيِيرِ شَرْطِهِمَا؛ لِأَنَّ شَرْطَهُمَا أَنْ يَعْتِقَ بِأَدَاءِ الْكُلِّ فَلَا يَعْتِقُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْكِتَابَةِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَغْيِيرِ الشَّرْطِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ عِتْقَ أَحَدِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْآخَرِ فَكَانَ الشَّرْطُ فِيهِ لَغْوًا. مُكَاتَبٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ لِشَرِيكِهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْآخَرِ مُكَاتَبٌ عَلَى حَالِهِ لِكَوْنِ الْعِتْقِ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ فَإِنْ أَدَّى عَتَقَ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا لِوُجُودِ الْإِعْتَاقِ مِنْهُمَا، وَإِنْ عَجَزَ صَارَ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَالْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا عَتَقَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا وَالْوَلَاءُ لَهُ، إلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ عَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا يُنْظَرْ إلَى قَدْرِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَإِلَى بَاقِي الْكِتَابَةِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَقَلَّ ضَمِنَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ فِي الْأَقَلِّ فَإِنْ لَمْ يُعْتِقْهُ أَحَدُهُمَا وَلَكِنْ دَبَّرَهُ صَارَ نَصِيبُهُ مُدَبَّرًا وَيَكُونُ مُكَاتَبًا عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يُنَافِي الْكِتَابَةَ، فَإِنْ أَدَّى الْكُلَّ عَتَقَ وَالْوَلَاءُ يَثْبُتُ مِنْهُمَا، وَإِنْ عَجَزَ صَارَ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا صَارَ نَصِيبُهُ مُدَبَّرًا، وَلِشَرِيكِهِ خَمْسُ خِيَارَاتٍ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَأَرْبَعُ خِيَارَاتٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِهِمَا صَارَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَتَجَزَّأُ فَبَطَلَتْ الْكِتَابَةُ وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ الْقِيمَةِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ، وَمِنْ جَمِيعِ مَا بَقِيَ مِنْ الْكِتَابَةِ، وَلَوْ لَمْ يُدَبِّرْهُ. وَلَكِنْ كَاتَبَ جَارِيَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَصَارَ نَصِيبُهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ أَمَّا ثُبُوتُ النَّسَبِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى إذَا ادَّعَى وَلَدَ مُكَاتَبَتِهِ ثَبَتَ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَأْوِيلَ الْمِلْكِ، ثُمَّ الْمُكَاتَبَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ وَإِنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهَا حَقُّ الْحُرِّيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ، فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ أَيَّهمَا شَاءَتْ وَلَا تَصِيرُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ عِنْدَنَا يَتَجَزَّأُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِ، فَإِنْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ أَخَذَتْ مِنْهُ عُقْرَهَا وَاسْتَعَانَتْ بِهِ عَلَى أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَرُدَّتْ إلَى الرِّقِّ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُسْتَوْلِدِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمَانِعَ مِنْ نَقْلِ الْمِلْكِ فِيهَا قَدْ زَالَ وَيَضْمَنُ لِلشَّرِيكِ نِصْفَ قِيمَتِهَا مُكَاتَبَةً وَنِصْفَ عُقْرِهَا، وَلَا يَغْرَمُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْئًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا: صَارَتْ الْجَارِيَةُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ وَبَطَلَتْ الْكِتَابَةُ

فصل في حكم المكاتبة

فَيَغْرَمُ لِلشَّرِيكِ نِصْفَ الْقِيمَةِ وَنِصْفَ الْعُقْرِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الْعُقْرِ. وَمَنْ كِتَابَةِ شَرِيكِهِ عَبْدٌ كَافِرٌ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ، كَاتَبَ الذِّمِّيُّ نَصِيبَهُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ عَلَى خَمْرٍ جَازَتْ الْكِتَابَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا تَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَا شَرِكَةَ لِلْمُسْلِمِ فِيمَا أَخَذَ النَّصْرَانِيُّ مِنْهُ مِنْ الْخَمْرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ مُتَجَزِّئَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَالْعِتْقِ، فَلَمَّا كَاتَبَ الذِّمِّيُّ نَصِيبَهُ عَلَى خَمْرٍ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ وَقَعَتْ الْمُكَاتَبَةُ عَلَى نَصِيبِ نَفَسِهِ خَاصَّةً، وَالذِّمِّيُّ إذَا كَاتَبَ نَصِيبَهُ عَلَى خَمْرٍ جَازَ، كَمَا لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ بِخَمْرٍ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ لَهُمَا حَيْثُ كَانَتْ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَلَمَّا بَطَلَ نَصِيبُ الْمُسْلِمِ بَطَلَ نَصِيبُ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهَا كِتَابَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا بَطَلَ بَعْضُهَا بَطَلَ كُلُّهَا، وَلَا شَرِكَةَ لِلْمُسْلِمِ فِيمَا أَخَذَ النَّصْرَانِيُّ مِنْ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ قَبْضِ الْخَمْرِ. وَإِنْ كَاتَبَاهُ جَمِيعًا عَلَى خَمْرٍ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً لَمْ يَجُزْ فِي نَصِيبِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا فِي نَصِيبِ الْمُسْلِمِ فَلَا يُشْكِلُ. وَأَمَّا فِي نَصِيبِ الذِّمِّيِّ فَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ وَاحِدَةٌ فَإِذَا بَطَلَ بَعْضُهَا بَطَلَ الْكُلُّ وَلَوْ أَدَّى إلَيْهِمَا عَتَقَ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلْمُسْلِمِ، وَلِلذِّمِّيِّ نِصْفُ الْخَمْرِ وَإِنَّمَا عَتَقَ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فَاسِدَةٌ وَهَذَا حُكْمُ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُ إذَا أَدَّى يَعْتِقُ كَمَا إذَا كَاتَبَ الْمُسْلِمُ عَبْدَهُ عَلَى خَمْرٍ فَأَدَّى، إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْمُسْلِمِ وَلَا يَسْعَى فِي نَصِيبِ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ قَدْ سَلَّمَ لَهُ شَرْطَهُ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لَهُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي حُكْم الْمُكَاتَبَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْمُكَاتَبَةِ وَيَنْدَرِجُ فِيهَا بَيَانُ مَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُكَاتَبِ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْمُكَاتَبَةُ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: صَحِيحَةٌ، وَفَاسِدَةٌ، وَبَاطِلَةٌ. أَمَّا الصَّحِيحَةُ فَلَهَا أَحْكَامٌ بَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَزَوَالُ يَدِ الْمَوْلَى عَنْ الْمُكَاتَبِ وَصَيْرُورَةُ الْمُكَاتَبِ أَحَقَّ بِمَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ، وَصَيْرُورَةُ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْهَا، وَثُبُوتُ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِلْمَوْلَى بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَثُبُوتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْعَقْدِ لَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَا يَحْصُلُ بِدُونِهَا وَهَلْ تَزُولُ رَقَبَةُ الْمُكَاتَبِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى بِالْكِتَابَةِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ عَامَّتُهُمْ: لَا تَزُولُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَزُولُ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى وَلَا يَمْلِكُهَا الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي. عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ الْمَبِيعَ يَزُولُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ صِفَةٌ إضَافِيَّةٌ فَيَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ بِدُونِ الْمُضَافِ إلَيْهِ كَسَائِرِ الْأَوْصَافِ الْإِضَافِيَّةِ مِنْ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْأُخُوَّةِ وَالشَّرِكَةِ وَنَحْوِهَا، فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ مَمْلُوكٍ لَا مَالِك لَهُ. وَهَكَذَا نَقُولُ فِي بَابِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الْحَقِيقَةِ مِلْكُ الْبَائِعِ أَوْ مِلْكُ الْمُشْتَرِي إلَّا أَنَّا لَا نَعْلَمُ ذَلِكَ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّ الْعَقْدَ يُجَازُ أَوْ يُفْسَخُ فَيَتَوَقَّفُ فِي عِلْمِنَا بِجَهْلِنَا بِعَاقِبَةِ الْأَمْرِ وَعِنْدَ الْإِجَازَةِ أَوْ الْفَسْخِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا لِلْمُشْتَرِي أَوْ لِلْبَائِعِ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ حَتَّى يَظْهَرَ فِي حَقِّ الرِّوَايَةِ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ. وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ كِتَابَةً صَحِيحَةً صَارَ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَدَاءِ إلَّا بِالْكَسْبِ، وَالتِّجَارَةُ كَسْبٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْكَسْبِ وَلَا مِنْ السَّفَرِ وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُسَافِرَ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا وَالْكِتَابَةُ صَحِيحَةً لِمَا مَرَّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْكَسْبَ مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ لَهُ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ إجَارَتُهُ وَرَهْنُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَمَنَافِعُ الْمُكَاتَبِ لَهُ، وَالرَّهْنُ إثْبَاتُ مِلْكِ الْيَدِ لِلْمُرْتَهِنِ وَمِلْكِ الْيَدِ لِلْمُكَاتَبِ. وَلَا يَجُوزُ اسْتِخْدَامُهُ وَاسْتِغْلَالُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنَافِعُ لَهُ. وَيَجُوزُ إعْتَاقُهُ ابْتِدَاءً بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ يَعْتَمِدُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَأَنَّهُ قَائِمٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْلَى صَحِيحًا أَوْ مَرِيضًا غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ صَحِيحًا يَعْتِقْ مَجَّانًا، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا وَالْعَبْدُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَكَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ لَكِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ، وَإِنْ لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ حَالًا وَإِنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ مُؤَجَّلًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا خِيَارَ لَهُ، وَيَسْعَى فِي الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ سَبَقَتْ الْإِعْتَاقَ وَالْإِعْتَاقُ فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَةِ التَّدْبِيرِ وَلَوْ دَبَّرَهُ كَانَ حُكْمُهُ هَذَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ التَّدْبِيرِ كَذَا إذَا أَعْتَقَهُ فِي الْمَرَضِ، وَيَجُوزُ لَهُ إعْتَاقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ وَالْمَسْأَلَةُ تُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ. وَلَوْ أَعْتَقَ الْوَلَدَ الْمَوْلُودَ أَوْ الْمُشْتَرَى فِي

الْكِتَابَةِ جَازَ وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ إعْتَاقُهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ فِي إعْتَاقِهِ الْوَلَدَ إبْطَالَ حَقِّ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ كَسْبَ وَلَدِهِ الْمَوْلُودِ وَالْمُشْتَرَى، وَبِالْإِعْتَاقِ يَبْطُلُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ؛ لِأَنَّ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُمْ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إنَّمَا يَسْعَى فِي حُرِّيَّةِ نَفَسِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَقَدْ نَالَ هَذَا الْمَقْصُودَ، وَإِنَّمَا لَا يَسْقُطُ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ كُلَّهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْهُ بِعِتْقِ الْوَلَدِ. وَلَوْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ عَتَقَ كَانَتْ هِيَ أُمَّ وَلَدٍ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ مُكَاتَبَةً بِكِتَابَتِهِ فَلَا تَعْتِقُ بِعِتْقِ الْمُكَاتَبِ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ بِغَيْرِ رِضَاهُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْمُكَاتَبِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَهُوَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْمُكَاتَبُ جَازَ وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا لِلْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْجَوَازِ كَانَ لِحَقِّ الْمُكَاتَبِ فَإِذَا رَضِيَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبَ إذَا اجْتَمَعَا فِي الْبَيْعِ قَالَ: الْبَيْعُ لَا يَجُوزُ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ الْمَوْلَى بِرِضَاهُ فَقَدْ تَرَاضَيَا عَلَى الْفَسْخِ فَيَكُونُ إقَالَةً، وَالْكِتَابَةُ تَحْتَمِلُ الْإِقَالَةَ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ وَكَانَتْ مُكَاتَبَةً فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِرِضَاهَا، وَعَلَى هَذَا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْوَصِيَّةُ. وَلَوْ كَاتَبَ جَارِيَةً لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَالِاسْتِمْتَاعُ بِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ بِهَا، وَالْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ فِي مَنَافِعِهَا، وَلَوْ وَطِئَهَا غَرِمَ الْعُقْرَ لَهَا تَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَنْفَعَةٍ مَمْلُوكَةٍ لَهَا، وَلَوْ وَطِئَهَا فَعَلِقَتْ مِنْهُ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ إذَا ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ، وَتَأْوِيلِ الْمِلْكِ، فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِحَقِيقَتِهِ أَوْلَى، صَدَّقَتْهُ الْمُكَاتَبَةُ أَوْ كَذَّبَتْهُ لِمَا مَرَّ، ثُمَّ إنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّة أَشْهُرٍ فَلَا عُقْرَ عَلَيْهِ، وَالْمُكَاتَبَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى كَتَابَتِهَا فَأَدَّتْ وَعَتَقَتْ وَأَخَذَتْ الْعُقْرَ إذَا كَانَ الْعُلُوقُ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَسَقَطَ الْعُقْرُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الِاسْتِيلَادِ. وَلَوْ جَنَى الْمَوْلَى عَلَى الْمُكَاتَبِ غَرِمَ الْأَرْشَ لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى الْكِتَابَةِ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنْ كَسْبِهِ فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ الْمَوْلَى فَكَانَ فِي مَكَاسِبِهِ كَالْحُرِّ، وَكَذَا مَا اسْتَهْلَكَ الْمُكَاتَبُ مِنْ مَال الْمَوْلَى لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ امْرَأَتَهُ0 لَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَتْ الْمُكَاتَبَةُ زَوْجَهَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُكَاتَبِ حَقُّ الْمِلْكِ لَا حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، وَحَقُّ الْمِلْكِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءً النِّكَاحَ وَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ كَالْعِدَّةِ إنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ إنْشَاءِ النِّكَاحِ وَإِذَا طَرَأَتْ عَلَى النِّكَاحِ لَا تُبْطِلُهُ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْمَوْلَى إذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ مُكَاتَبِهِ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ بِمَوْتِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْبِنْتَ لَا تَمْلِكُ الْمَكَاتِبَ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، بَلْ يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ الْمِلْكِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ الْبَقَاءِ فَكَذَا هَذَا. وَلَوْ سَرَقَ مِنْهُ يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى السَّارِقِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِمَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ، فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ فِيهِ كَالْحُرِّ فَيَقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ. وَلَوْ جَنَى الْمُكَاتَبُ عَلَى إنْسَانٍ خَطَأً فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الدَّفْعُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ، فَصَارَ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ إذَا جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ بِالْجِنَايَةِ. وَالْحُكْمُ هُنَاكَ مَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هَهُنَا، فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا دَفَعَ ذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْجِنَايَةِ تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ لِكَوْنِ الرَّقَبَةِ مِلْكَ الْمَوْلَى، وَهِيَ لَا تَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَى جِنَايَاتٍ خَطَأً قَبْلَ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ الْأُولَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ كَثُرَتْ جِنَايَاتُهُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَعِنْدَ زُفَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ جِنَايَةٍ الْأَقَلُّ مِنْ أَرْشِهَا وَمِنْ قِيمَتِهِ، وَهَذَا فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّ جِنَايَاتِهِ تَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ أَوْ بِذِمَّتِهِ، فَعِنْدَنَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ، وَالرَّقَبَةُ لَا تَتَّسِعُ لِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعِنْدَهُ تَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ، وَالذِّمَّةُ مُتَّسِعَةٌ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا ذَكَرْنَا إنَّ رَقَبَتَهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى، فَإِنَّهَا مَقْدُورُ الدَّفْعِ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَعْجِزَ فَيَدْفَعَ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الدَّفْعُ بِالْمَنْعِ السَّابِقِ، وَهُوَ الْكِتَابَةُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ جَنَى جِنَايَاتٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ بِهَا، وَهُنَاكَ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ كَذَلِكَ هَهُنَا، هَذَا إذَا جَنَى ثَانِيًا قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ بِالْأُولَى. فَأَمَّا إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْأُولَى ثُمَّ جَنَى ثَانِيًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَةٌ أُخْرَى بِالْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَقَدْ انْتَقَلَتْ الْجِنَايَةُ مِنْ رَقَبَتِهِ إلَى ذِمَّتِهِ

فَحَصَلَتْ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ، وَالرَّقَبَةُ فَارِغَةٌ عَنْ جِنَايَتِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْجِنَايَةِ الْمُبْتَدَأَةِ. فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا حَفَرَ الْمُكَاتَبُ بِئْرًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ يَوْمَ حَفَرَ، ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا آخَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ سَوَاءٌ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْأُولَى أَوْ لَمْ يَحْكُمْ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ هُنَاكَ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ حَفْرُ الْبِئْرِ فَالضَّمَانُ الَّذِي يَلْزَمُهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَوُقُوعُ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ لَكِنْ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى حُكْمِهِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَتَلَهُمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ. فَأَمَّا هَهُنَا فَقَدْ تَعَدَّدَتْ الْجِنَايَةُ، وَالثَّانِيَةُ حَصَلَتْ بَعْدَ فَرَاغِ رَقَبَتِهِ عَنْ الْأُولَى وَانْتِقَالِهَا إلَى ذِمَّتِهِ فَيَتَعَدَّدُ السَّبَبُ فَيَتَعَدَّدُ الْحُكْمُ، وَلَوْ سَقَطَ حَائِطٌ مَائِلٌ أُشْهِدَ عَلَيْهِ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ النَّقْضَ فَيَصِحُّ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْحُرِّ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً، وَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ فِي دَارِ الْمُكَاتَبِ قَتِيلٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ فَيَنْتَقِصَ مِنْهَا عَشْرَةَ دَرَاهِمَ. فَإِنْ جَنَى جِنَايَاتٍ ثُمَّ عَجَزَ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى بِهَا دَفَعَهُ مَوْلَاهُ بِهَا أَوْ فَدَاهُ، وَإِنْ قَضَى عَلَيْهِ بِالسِّعَايَةِ ثُمَّ عَجَزَ فَهِيَ دَيْنٌ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ لَمْ تَصِرْ الْقِيمَةُ دَيْنًا فِي رَقَبَتِهِ فَهُوَ كَعَبْدٍ قِنٍّ جَنَى جِنَايَةً، أَنَّهُ يُخَاطِبُ مَوْلَاهُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَإِذَا قَضَى عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ صَارَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي رَقَبَتِهِ فَإِذَا عَجَزَ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ عَبْدٍ لَحِقَهُ الدَّيْنُ أَنَّهُ يُبَاعُ أَوْ يَقْضِي السَّيِّدُ دَيْنَهُ، هَذَا إذَا كَانَتْ جِنَايَتُهُ عَمْدًا بِأَنْ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا قُتِلَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حُرًّا لَقُتِلَ بِهِ فَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى، هَذَا إذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ عَلَى غَيْرِهِ. فَأَمَّا إذَا جَنَى غَيْرُهُ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ خَطَأً فَالْأَرْشُ لَهُ وَأَرْشُهُ أَرْشُ الْعَبْدِ. أَمَّا كَوْنُ الْأَرْشِ لَهُ فَلِأَنَّ أَجْزَاءَهُ مُلْحَقَةٌ بِالْمَنَافِعِ وَهُوَ أَحَقُّ بِمَنَافِعِهِ. وَأَمَّا كَوْنُ أَرْشِهِ أَرْشَ الْعَبْدِ فَلِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ بِالْحَدِيثِ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ جِنَايَةً عَلَى الْعَبْدِ فَكَانَ أَرْشُهَا أَرْشَ الْعَبِيدِ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فِي وَجْهٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي قَوْلِهِمْ، وَفِي وَجْهٍ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَفِي وَجْهٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ عَمْدًا وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتُلَ الْقَاتِلَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَقَدْ مَاتَ عَاجِزًا فَمَاتَ عَبْدًا وَالْعَبْدُ إذَا قُتِلَ عَمْدًا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى قَاتِلِهِ إنْ كَانَ عَبْدًا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا عِنْدَنَا كَذَلِكَ هَهُنَا. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يُقْتَلَ عَمْدًا وَيَتْرُكَ وَفَاءً وَيَتْرُكَ وَرَثَةً أَحْرَارًا سِوَى الْمَوْلَى فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِاشْتِبَاهِ وَلِيِّ الْقِصَاصِ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أَنَّهُ يَمُوتُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَمَنْ قَالَ: مَاتَ حُرًّا قَالَ: وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ لِلْوَرَثَةِ، وَمَنْ قَالَ: مَاتَ عَبْدًا قَالَ: الْوِلَايَةُ لِلْمَوْلَى. فَاشْتَبَهَ الْمَوْلَى فَلَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، فَإِنْ قِيلَ قِيَاسُ هَذِهِ النُّكْتَةِ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْمَوْلَى وَالْوَرَثَةُ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ لِارْتِفَاعِ الِاشْتِبَاهِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ كَالْعَبْدِ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ إذَا قُتِلَ، أَنَّ لَهُمَا أَنْ يَجْتَمِعَا فَيَقْتُلَا، وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ إذَا قُتِلَ فَاجْتَمَعَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى الْقِصَاصِ أَنَّ لَهُمَا أَنْ يَسْتَوْفِيَاهُ كَذَلِكَ هَهُنَا، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَانِعَ هُوَ اشْتِبَاهُ الْمَوْلَى وَهَذَا الِاشْتِبَاهُ لَا يَزُولُ بِالِاجْتِمَاعِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِأَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمَوْلَى أَوْ الْوَارِثُ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاشْتِبَاهِ لَا يَزُولُ بِاجْتِمَاعِهِمَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا اشْتِبَاهَ. فَإِنَّ الْوِلَايَةَ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ وَإِنَّمَا لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ فِيهَا حَقٌّ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فِي الِاسْتِيفَاءِ فَقَدْ رَضِيَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ، وَيَقُولُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ حَقِّي قَوِيٌّ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ قُتِلَ فَاجْتَمَعَ الْوَلِيَّانِ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ، وَبِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الرَّهْنِ فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْقِصَاصِ هُنَاكَ هُوَ الرَّاهِنُ إذْ الْمِلْكُ لَهُ إلَّا أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ فِيهِ حَقًّا فَإِذَا رَضِيَ بِالِاسْتِبْقَاءِ فَقَدْ رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ فَهُوَ أَنْ يُقْتَلَ عَمْدًا أَوْ يُتْرَكَ وَفَاءً وَلَا وَارِثَ لَهُ سِوَى الْمَوْلَى. فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ هَهُنَا لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَكُونُ لِلْمَوْلَى كَيْفَمَا كَانَ سَوَاءٌ مَاتَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجِبُ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنْ لَمْ يَشْتَبِهْ فَسَبَبُ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ قَدْ اشْتَبَهَ؛ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ حُرًّا فَالْوِلَايَةُ تَثْبُتُ بِالْإِرْثِ، وَإِنْ مَاتَ عَبْدًا فَالْوِلَايَةُ تَثْبُتُ بِالْمِلْكِ، وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَشْتَبِهْ؛ لِأَنَّ الْمُسَبِّبَ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمِلْكُ وَالْوَلَاءُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ، وَالثَّانِي: إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ اشْتَبَهَ لَكِنْ لَا اشْتِبَاهَ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الْوِلَايَةُ؛ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ فَتَثْبُتُ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ. فَإِنْ قُتِلَ ابْنُ الْمُكَاتِبِ أَوْ عَبْدُهُ عَمْدًا، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ وَهُوَ أَبُو الْمَقْتُولِ أَوْ مَوْلَى الْعَبْدِ لَوْ عَتَقَ كَانَ الْقِصَاصُ لَهُ، وَلَوْ

عَجَزَ كَانَ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى فَاشْتَبَهَ الْوَلِيُّ، وَبِهَذَا عَلَّلَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ: لِأَنِّي لَا أَدْرِي أَنَّهُ لِلْمَوْلَى أَوْ لِلْمُكَاتَبِ، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَا وَإِنْ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَقْتَصَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِأَحَدِهِمَا وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَإِنْ عَفَوَا فَعَفْوُهُمَا بَاطِلٌ، وَالْقِيمَةُ وَاجِبَةٌ لِلْمُكَاتَبِ أَمَّا بُطْلَانُ الْعَفْوِ. فَأَمَّا عَفْوُ الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ، فَلَا يَصِحُّ عَفْوُهُ وَإِمَّا عَفْوُ الْمُكَاتَبِ فَلِأَنَّ الْقِيمَةَ قَدْ وَجَبَتْ عَلَى الْقَاتِلِ فَكَانَ إبْرَاءُ الْمُكَاتَبِ تَبَرُّعًا مِنْهُ، وَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ. فَإِنْ قَتَلَ مَوْلَى مُكَاتَبَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ بِلَا شَكَّ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَيَصِيرُ شُبْهَةً سَوَاءٌ تَرَكَ وَفَاءً أَوْ لَمْ يَتْرُكْ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِمَا قُلْنَا غَيْرَ أَنَّهُ إنْ تَرَكَ وَفَاءً فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ يَقْضِي بِهَا كِتَابَتَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ ابْنَهُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ قَدْ سَقَطَ بِالشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الدِّيَةُ فَسَقَطَ عَنْهُ قَدْرُ مَالِهِ مِنْ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ دِيَتَيْنِ الْتَقَيَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فِي الذِّمَّةِ، وَلَيْسَ فِي إسْقَاطِهِ إبْطَالُ الْعَقْدِ، وَلَا اسْتَحَقَّ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ قِصَاصًا وَمَا بَقِيَ يَكُونُ لِوَارِثِهِ لَا لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَاتِلُهُ فَلَا يَرِثُهُ وَإِنَّمَا يَصِيرُ ذَلِكَ قِصَاصًا إذَا حَلَّ أَجَلُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ مُؤَجَّلَةً. وَلَوْ قَتَلَ عَبْدُ الْمُكَاتَبَةِ رَجُلًا خَطَأً يُقَالُ لِلْمُكَاتِبِ ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ بِالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِنْ تِجَارَتِهِ وَكَسْبِهِ فَكَانَ التَّدْبِيرُ إلَيْهِ. كَعَبْدِ الْمَأْذُونِ جَنَى جِنَايَةً خَطَأً أَنَّهُ يُخَيِّرُ الْمَأْذُونُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، فَالْمُكَاتِبُ أَوْلَى بِخِلَافِ نَفْسِ الْمُكَاتَبِ إذَا جَنَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْمُكَاتَبِ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْلَ بِخِلَافِ كَسْبِهِ، وَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلْ النَّقْلَ فَتَعَذَّرَ الدَّفْعُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ نَفْسَ الْعَبْدِ الْجَانِي مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ بِالْجِنَايَةِ، وَثَمَّةَ يَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ كَذَا هَهُنَا. وَيُؤْخَذُ الْمُكَاتَبُ بِأَسْبَابِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ وَنَحْوِهَا؛ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ وَالْقَذْفِ لَا الْقِنُّ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِهَا فَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى. وَلَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَتِهِ مِنْ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ عَبْدُهُ وَكَذَا لَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَتِهِ مِنْ ابْنِ مَوْلَاهُ، وَلَا مِنْ امْرَأَةِ مَوْلَاهُ، وَلَا مِنْ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ لَوْ سَرَقَ حَقَّ الْمَوْلَى لَا يُقْطَعُ فَكَذَا مُكَاتَبُهُ وَكَذَا لَوْ سَرَقَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُكَاتَبِ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَوْ سَرَقَ مِنْ الْمَوْلَى لَا يُقْطَعُ، فَكَذَا إذَا سَرَقَ مِنْ الْمُكَاتَبِ. وَلَوْ سَرَقَ مِنْهُ أَجْنَبِيٌّ يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ وَمَنَافِعِهِ فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ كَالْحُرِّ فَيَقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ. وَيَصِحُّ مِنْ الْمَوْلَى وَغَيْرِهِ نَسَبُ وَلَدِ أَمَتِهِ الْمُكَاتَبَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ صَدَّقَتْهُ الْمُكَاتَبَةُ أَوْ كَذَّبَتْهُ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ لِأَكْثَرَ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدَ جَارِيَةٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ رَقَبَةً فَكَانَ وَلَدُهَا مَمْلُوكًا لَهُ أَيْضًا، وَنَسَبُ وَلَدِ الْجَارِيَةِ الْمَمْلُوكَةِ يَثْبُتُ بِالدَّعْوَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى التَّصْدِيقِ، ثُمَّ الْأَمَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ، فَإِنْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ فَلَهَا الْعُقْرُ إنْ كَانَ الْعُلُوقُ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِمَنَافِعِهَا وَمَكَاسِبِهَا، وَالْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْهَا، وَالْعُقْرُ بَدَلُ مَنَافِعِ بُضْعِهَا فَيَكُونُ لَهَا، وَإِنْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ سَقَطَ الْعُقْرُ، هَذَا إذَا اسْتَوْلَدَ مُكَاتَبَتَهُ. فَإِنْ دَبَّرَ مُكَاتَبَتَهُ فَكَذَلِكَ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْكِتَابَةَ، وَإِنْ شَاءَ مَضَى عَلَيْهَا لِتَوَجُّهِ الْعِتْقِ إلَيْهِ مِنْ جِهَتَيْنِ، فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ فَإِنْ مَاتَ مَوْلَاهُ وَهُوَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَلَوْ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ وَلَيْسَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ عَلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكِ الْمُكَاتَبِ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِمَا قُلْنَا وَيَحْتَاجُ فِيهِ إلَى تَصْدِيقِ الْمُكَاتَبِ اسْتِحْسَانًا وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي كِتَابِ الِاسْتِيلَادِ. وَلَا يُحْبَسُ الْمُكَاتَبُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ قَاصِرٌ حَتَّى لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى هُوَ يَقُولُ بِأَنَّهُ دَيْنٌ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَلَنَا أَنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ ثُبُوتُ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِلْكَفِيلِ بِمِثْلِ مَا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ دَيْنٌ يُحْبَسُ بِهِ وَدَيْنٌ لَا يُحْبَسُ بِهِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا الْكَفَالَةَ بِهِ لَمْ يَكُنْ الثَّابِتُ بِهَا حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِمِثْلِ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ، فَلَا يَتَحَقَّقُ حُكْمُ الْكَفَالَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ. وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَهُوَ عِتْقُ الْمُكَاتَبِ وَلَا يَعْتِقُ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: يَعْتِقُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى وَيَبْقَى الْبَاقِي رَقِيقًا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا أَعْطَى مِقْدَارَ قِيمَتِهِ عَتَقَ ثُمَّ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْغَرِيمِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إذَا كَاتَبَ الْعَبْدُ مَوْلَاهُ فَهُوَ غَرِيمٌ مِنْ الْغُرَمَاءِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى

أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ يَعْتِقُ بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ، وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ شُرَيْحٍ مِثْلَ ذَلِكَ، وَجْهُ قَوْلِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ إنَّ الْمُكَاتَبَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَإِذَا أَدَّى الْعَبْدُ بَعْضَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ إلَى الْمَوْلَى فَقَدْ مَلَكَ الْمَوْلَى ذَلِكَ الْقَدْرَ، فَلَوْ لَمْ يَمْلِكْ مِنْ نَفَسِهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَاجْتَمَعَ لِلْمَوْلَى مِلْكُ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ مَالِيَّةٌ فَلَوْ عَتَقَ بِأَدَاءِ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْمَوْلَى، وَإِذَا أَدَّى قَدْرَ قِيمَتِهِ فَلَا ضَرَرَ عَلَى الْمَوْلَى، وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتِقْ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَوَجَبَ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ، وَلَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ إعْتَاقٌ عَلَى مَالٍ، وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ وَقَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ، وَالْمَالُ دَيْنٌ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ هَهُنَا، وَجْهُ قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَلِأَنَّ الْمَوْلَى عَلَّقَ عِتْقَهُ بِأَدَاءِ جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ جَمِيعَهُ، كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إذَا أَدَيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ جَمِيعَ الْأَلْفِ، كَذَا هَهُنَا ثُمَّ الْعِتْقُ كَمَا يَثْبُتُ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يَثْبُتُ بِأَدَاءِ الْعِوَضِ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ عِوَضَ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ كَأَنَّهُ هُوَ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ، وَقَضَاءُ الدُّيُونِ يَكُونُ بِأَعْوَاضِهَا لَا بِأَعْيَانِهَا، وَكَذَا يَثْبُتُ بِالْإِبْرَاءِ لِمَا نَذْكُرُ. ثُمَّ إذَا أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَعَتَقَ يَعْتِقُ وَلَدُهُ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ بِأَنْ وُلِدَ لِلْمُكَاتَبِ وَلَدٌ مِنْ أَمَةٍ اشْتَرَاهَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُكَاتَبًا تَبَعًا لِلْأَبِ، فَيَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْأَصْلِ إلَّا أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يُطَالِبَ الْأَبَ دُونَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ مَقْصُودًا بَلْ تَبَعًا، فَلَا يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ التَّبَعِ حَالَ قِيَامِ الْمَتْبُوعِ. وَكَمَا يَعْتِقُ الْمُكَاتَبُ بِالْأَدَاءِ مِنْ كَسْبِهِ يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ مِنْ كَسْبِ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْوَلَدِ كَسْبُهُ. فَإِذَا أَدَّى يَعْتِقُ هُوَ وَوَلَدُهُ، وَكَذَا وَلَدُهُ الْمُشْتَرِكُ فِي الْكِتَابَةِ، وَوَلَدُ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ، وَالْوَالِدُونَ وَإِنْ عَلَوْا، إذَا اشْتَرَاهُمْ الْمُكَاتَبُ يَدْخُلُونَ فِي الْكِتَابَةِ كَالْوَلَدِ الْمَوْلُودِ سَوَاءً، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ إلَّا فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ مِنْ غَيْرِ مَالٍ يُقَالُ لِلْوَلَدِ الْمُشْتَرَى وَلِلْوَالِدَيْنِ: إمَّا أَنْ تُؤَدُّوا الْكِتَابَةَ حَالًا، وَإِلَّا رَدَدْنَاكُمْ فِي الرِّقِّ، بِخِلَافِ الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ لِمَا نَذْكُرُ وَأَمَّا مَا سِوَى الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ؛ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْخَالِ وَنَحْوِهِمْ فَهَلْ يَدْخُلُونَ فِي الْكِتَابَةِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَدْخُلُونَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَدْخُلُونَ وَيَسْعَوْنَ عَلَى النُّجُومِ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ إذَا مَلَكَهُ الْحُرُّ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَلَكَهُ الْمُكَاتَبُ يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ وَيَقُومُ مَقَامَهُ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ الْمُكَاتَبَةَ عَقْدٌ يُفْضِي إلَى الْعِتْقِ فَيُعْتَبَرُ بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ، وَالْحُكْمُ فِي الْحَقِيقَةِ هَذَا. فَكَذَا فِي كَسْبِ الْكَسْبِ الْمُفْضِي إلَيْهِ، وَلِهَذَا اُعْتُبِرَ بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ فِي الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ كَذَا هَهُنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَثْبُتَ التَّكَاتُبُ رَأْسًا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُكَاتَبِ مِلْكٌ ضَرُورِيٌّ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ التَّبَرُّعِ وَالْعِتْقِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ حُرِّيَّةِ نَفَسِهِ، إلَّا أَنَّ حُرِّيَّةَ وَلَدِهِ وَأَبَوَيْهِ فِي مَعْنَى حُرِّيَّةِ نَفْسِهِ لِمَكَانِ الْحُرِّيَّةِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي سَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيهِمْ عَلَى الْأَصْلِ، وَبَدَلُ الْقِيَاسِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَدْخُلَ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُهُ، وَحَقُّ الْحُرِّيَّةِ لَا يَسْرِي لِلْإِكْسَابِ؛ كَكَسْبِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ، وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَّا الْوِلَادَ بِحُكْمِ الْحُرِّيَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ وَالْوَلَدُ الْمُنْفَصِلُ قَبْلَ الْعَقْدِ لَا يَدْخُلُ فِي الْكِتَابَةِ، وَيَكُونُ لِلْمَوْلَى. وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمَوْلَى: وُلِدَ قَبْلَ الْعَقْدِ وَقَالَتْ الْمُكَاتَبَةُ: بَعْدَ الْعَقْدِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْوَلَدُ فِي يَدِ الْمَوْلَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إنَّهُ انْفَصَلَ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْأَمَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَيَحْكُمُ فِيهِ الْحَالُ؛ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا أَوْ مَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فَادَّعَى الْمُسْتَأْجِرُ الْإِبَاقَ وَالْمُؤَاجِرُ يُنْكِرُ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي الْحَالِ آبِقًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَالِ آبِقًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤَاجِرِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الطَّاحُونَةِ إذَا اخْتَلَفَا فِي انْقِطَاعِ الْمَاءِ وَجَرَيَانِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ مُنْقَطِعًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ وَإِنْ كَانَ جَارِيًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤَاجِرِ، وَلَوْ تَصَادَقَا فِي الْإِبَاقِ وَالِانْقِطَاعِ وَاخْتَلَفَا فِي مُدَّةِ الْإِبَاقِ وَالِانْقِطَاعِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرُ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَدَاءُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْعَاقِدَيْنِ، أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِمَا حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمَوْلَى فَأَدَّى الْمُكَاتَبُ إلَى وَرَثَتِهِ عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى بِلَا خِلَافٍ. وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ وَفَاءٍ يُؤَدَّى بَدَلُ الْكِتَابَةِ إلَى الْمَوْلَى وَيُحْكَمُ بِعِتْقِهِ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَعْتِقُ وَيُسَلَّمُ الْبَدَلُ لِلْمَوْلَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُكَاتَبَةِ عِنْدَنَا، كَمَا لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى. وَعِنْدَهُ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ

الْمُكَاتَبِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ أَنَّهُ يَمُوتُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَمُوتُ حُرًّا فَيُؤَدَّى بَدَلُ كِتَابَتِهِ وَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ، وَبِهِ أَخَذَ أَصْحَابُنَا، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَمُوتُ عَبْدًا وَالْمَالُ كُلُّهُ لِلْمَوْلَى، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَوْ عَتَقَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَعْتِقَ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَعْتِقَ بَعْدَ مَوْتِهِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ مُعَلَّقٌ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ، وَالْأَدَاءُ لَمْ يُوجَدْ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْعِتْقِ قَدْ فَاتَ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ الرِّقُّ، وَقَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ، وَإِثْبَاتُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ مُحَالٌ، فَامْتَنَعَ الْقَوْلُ بِالْعِتْقِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ يَعْتِقُ مُسْتَنِدًا إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ، وَهُوَ قَابِلٌ لِلْعِتْقِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْحَالِ، ثُمَّ يَسْتَنِدُ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ بَاعَ مَالَ الْغَيْرِ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ عِنْدَكُمْ، فَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ، ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ مُسْتَنِدًا، فَيُرَاعَى قِيَامُ مَحَلِّ الْحُكْمِ لِلْحَالِ، وَالْمَحَلُّ هَهُنَا لَا يَحْتَمِلُ الْعِتْقَ لِلْحَالِ، فَلَا يَسْتَنِدُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: إنَّ شُرَيْحًا قَالَ فِي الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ بُدِئَ بِدَيْنِ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ بِالدَّيْنِ. فَقَالَ سَعِيدٌ: أَخْطَأَ شُرَيْحٌ، وَإِنْ كَانَ قَاضِيًا، فَإِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: إنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ بُدِئَ بِالدَّيْنِ، ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ، فَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي التَّرْتِيبِ وَالْمَيْلُ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى بَقَاءِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَرِوَايَةُ قَتَادَةَ تُشِيرُ إلَى إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مَا قُلْنَا، وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَلَّقٌ بِسَلَامَةِ الْبَدَلِ لِلْمَوْلَى إمَّا صُورَةً وَمَعْنًى بِالِاسْتِيفَاءِ، وَإِمَّا مَعْنًى لَا صُورَةً بِأَخْذِ الْعِوَضِ أَوْ الْإِبْرَاءِ لَا بِصُورَةِ الْأَدَاءِ مِنْ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ أَدَاءً أَصْلًا بِأَخْذِ الْمَوْلَى وَبِالْإِبْرَاءِ، وَقَدْ سَلِمَ الْبَدَلُ لِلْمَوْلَى إمَّا صُورَةً وَمَعْنًى بِالِاسْتِيفَاءِ وَإِمَّا مَعْنًى لَا صُورَةً بِالْإِبْرَاءِ أَمَّا طَرِيقُ الِاسْتِيفَاءِ فَلِأَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبِ، وَحُكْمُهُ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى مِلْكُ الْبَدَلِ وَسَلَامَتُهُ، وَفِي جَانِبِ الْمُكَاتَبِ سَلَامَةُ رَقَبَتِهِ بِالْحُرِّيَّةِ وَسَلَامَةُ أَوْلَادِهِ وَأَكْسَابِهِ حَالَ سَلَامَةِ الْبَدَلِ لِلْمَوْلَى، وَفِي الْحَالِ زَوَالُ يَدِ الْمَوْلَى عَنْهُ وَصَيْرُورَتُهُ أَحَقَّ بِمَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ الْمِلْكُ فِي الْمُبْدَلِ لِلْمَوْلَى فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ لِلْحَالِ، حَتَّى لَوْ تَبَرَّعَ عَنْهُ إنْسَانٌ بِالْأَدَاءِ وَقَبِلَ الْمَوْلَى صَحَّ، وَلَوْ أَبْرَأهُ جَازَ الْإِبْرَاءُ وَيَعْتِقُ. وَلَوْ أَحَالَ الْمُكَاتَب عَلَى غَرِيمٍ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ أَكْسَابِهِ وَقَبِلَ الْمَوْلَى صَحَّ وَعَتَقَ. وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى فِي الْبَدَلِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزُولَ الْمُبْدَلُ مِنْ مِلْكِهِ، وَهُوَ رَقَبَةُ الْمُكَاتَبِ، وَتَسْلَمُ لَهُ رَقَبَتُهُ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، إذْ الْمُعَاوَضَةُ فِي الْحَقِيقَةِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالرَّقَبَةِ كَمَا فِي سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، كَمَا فِي الْخُلْعِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ. إلَّا أَنَّ الزَّوَالَ لَوْ ثَبَتَ هَهُنَا لِلْحَالِ بَقِيَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ، وَيَتَكَامَلُ فِي الْأَدَاءِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَوْلَى فَيَمْتَنِعُ النَّاسُ عَنْ الْكِتَابَةِ، فَشُرِعَ هَذَا الْعَقْدُ عَلَى خِلَافِ مُوجَبِ الْمُعَاوَضَاتِ فِي ثُبُوتِ السَّلَامَةِ وَزَوَالِ الْمُبْدَلِ عَنْ الْمَوْلَى إلَّا بِسَلَامَةِ الْبَدَلِ لَهُ عَلَى الْكَمَالِ، نَظَرًا لِلْمَوَالِي وَتَرْغِيبًا لَهُمْ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَنَظَرًا لِلْعَبِيدِ لِيَتَوَصَّلُوا إلَى الْعِتْقِ، فَإِذَا جَاءَ آخِرُ حَيَاتِهِ وَعَجَزَ عَنْ الْكَسْبِ انْتَقَلَ الدَّيْنُ مِنْ ذِمَّتِهِ إلَى أَكْسَابِهِ كَمَا فِي الْحُرِّ، إلَّا أَنَّ الْكَسْبَ قَدْ لَا يَسْلَمُ لَهُ إمَّا بِالْهَلَاكِ، أَوْ بِأَخْذِ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى الْمَوْلَى فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ، وَهُوَ سَلَامَةُ الْبَدَلِ لِلْمَوْلَى فَيَسْلَمُ الْمُبْدَلُ لِلْمُكَاتَبِ، وَهُوَ رَقَبَتُهُ لَهُ. وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ آخِرَ حَيَاتِهِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ لَعَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ، وَانْتَقَلَ إلَى الْمَالِ خَلَفًا عَنْ الْمُطَالَبَةِ عَنْهُ، فَيُطَالِبُ بِهِ وَصِيُّهُ، أَوْ وَارِثُهُ، أَوْ وَصِيُّ الْقَاضِي، فَإِذَا أَدَّى النَّائِبُ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ عَنْ النَّائِبِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَيَبْرَأُ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَعْتِقُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرْطَ لَيْسَ هُوَ مِنْ صُورَةِ الْأَدَاءِ، بَلْ سَلَامَةُ الْبَدَلِ صُورَةً وَمَعْنًى بِالِاسْتِيفَاءِ أَوْ مَعْنًى بِالْإِبْرَاءِ وَقَدْ حَصَلَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بَعْدَ الْأَدَاءِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَيَبْقَى حَيًّا تَقْدِيرًا لِإِحْرَازِ شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ، كَمَا يَبْقَى الْمَوْلَى حَيًّا بَعْدَ الْمَوْتِ تَقْدِيرًا لِإِحْرَازِ شَرَفِ الْكِتَابَةِ، وَيَثْبُتُ الْعِتْقُ فِيهِ، وَهُوَ مُثْبَتٌ حَقِيقَةً وَيُقَدَّرُ حَيًّا عَلَى اخْتِلَافِ طَرِيقِ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ. وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَك وَفَاءً وَأَوْلَادًا أَحْرَارًا بِأَنْ وُلِدُوا مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ، يُؤَدَّى بَدَلُ كِتَابَتِهِ وَمَا فَضَلَ يَكُونُ مِيرَاثًا بَيْنَ أَوْلَادِهِ الْأَحْرَارِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَعْتِقُ فِي آخِرِ جُزْءٍ

مِنْ حَيَاتِهِ، ثُمَّ يَمُوتُ فَيَمُوتُ حُرًّا فَيَرِثُ مِنْهُ أَوْلَادُهُ الْأَحْرَارُ، وَكَذَلِكَ أَوْلَادُهُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا مُكَاتَبِينَ تَبَعًا لَهُ، فَإِذَا عَتَقَ هُوَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ يَعْتِقُونَ هُمْ أَيْضًا تَبَعًا لَهُ، فَإِذَا مَاتَ هُوَ فَقَدْ مَاتَ حُرًّا وَهُمْ أَحْرَارٌ فَيَرِثُونَهُ، وَكَذَا أَوْلَادُهُ الَّذِينَ اشْتَرَاهُمْ فِي الْكِتَابَةِ وَوَلَدَاهُ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا وَلَدُهُ الَّذِي كُوتِبَ مَعَهُ كِتَابَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ مَعَهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَيَرِثُهُ، وَأَمَّا وَلَدُهُ الَّذِي كَاتَبَهُ كِتَابَةً عَلَى حِدَةٍ لَا يَرِثُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِعِتْقِهِ فَيَمُوتُ حُرًّا وَوَلَدُهُ مُكَاتَبٌ، وَالْمُكَاتَبُ لَا يَرِثُ الْحُرَّ. وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَجْنَبِيٌّ، وَدِينُ الْمَوْلَى غَيْرُ الْكِتَابَةِ، وَلَهُ وَصَايَا مِنْ تَدْبِيرِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَتَرَك وَلَدًا حُرًّا، أَوْ وَلَدًا وُلِدَ لَهُ فِي الْكِتَابَةِ مِنْ أَمَتِهِ، يُبْدَأُ بِدَيْنِ الْأَجَانِبِ، ثُمَّ بِدَيْنِ الْمَوْلَى، ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ، وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ بَيْنَ سَائِرِ أَوْلَادِهِ، وَبَطَلَتْ وَصَايَاهُ. أَمَّا بُطْلَانُ وَصَايَاهُ فَلِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَخُصُّ التَّدْبِيرَ، وَالثَّانِي يَعُمُّ سَائِرَ الْوَصَايَا أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الْمُدَبَّرَ يَعْتِقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ إذَا أَدَّى عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ، وَذَلِكَ زَمَانٌ لَطِيفٌ لَا يَسَعُ الْوَصِيَّةَ، ثُمَّ انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَى الْوَارِثِ، وَالْمِلْكُ لِلْمُوصَى لَهُ يَثْبُتُ بِعَقْدِ الْوَصِيَّةِ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ، فَإِذَا لَمْ يَتَّسِعْ الْوَقْتُ لَهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْعَبْدِ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْوَصَايَا بَقِيَتْ الدُّيُونُ. وَأَمَّا تَرْتِيبُ الدُّيُونِ فَيُبْدَأُ بِدَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الدُّيُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّرِكَةِ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِالْأَقْوَى فَالْأَقْوَى، كَمَا فِي دَيْنِ الصِّحَّةِ مَعَ دَيْنِ الْمَرَضِ، وَدِينُ الْأَجْنَبِيِّ أَقْوَى مِنْ دَيْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالرِّقِّ دَيْنُ الْمَوْلَى، وَلَا يَبْطُلُ دَيْنُ الْأَجْنَبِيِّ بَلْ يُبَاعُ فِيهِ، فَيَبْدَأُ بِدَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي بَقِيَّةِ التَّرِكَةِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا وَفَاءٌ بِدَيْنِ الْمَوْلَى وَبِالْكِتَابَةِ بُدِئَ بِدَيْنِ الْمَوْلَى، ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْمَوْلَى أَقْوَى مِنْ دَيْنِ الْكِتَابَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ، وَلَا تَصِحُّ بِدَيْنِ الْكِتَابَةِ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ يَمْلِكُ إسْقَاطَ دَيْنِ الْمُكَاتَبَةِ عَنْ نَفَسِهِ قَصْدًا بِأَنْ يُعَجِّزَ نَفَسَهُ، وَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ دَيْنِ الْمَوْلَى قَصْدًا بَلْ يَسْقُطُ ضَرُورَةً بِسُقُوطِ الْكِتَابَةِ، فَكَانَ دَيْنُ الْمَوْلَى أَقْوَى فَيُقَدَّمُ عَلَى دَيْنِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ وَفَاءٌ بِالدُّيُونِ جَمِيعًا بُدِئَ بِدَيْنِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بُدِئَ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْمَوْلَى لَبَطَلَ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَضَى ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ عَاجِزًا، فَيَكُونُ قَدْ مَاتَ عَاجِزًا، فَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ، فَلَمْ يَصِحَّ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَجْزِ صَارَ قِنًّا، وَلَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ الْقِنِّ دَيْنٌ، وَلَيْسَ فِي الْبُدَاءَةِ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْكِتَابَةِ إبْطَالُ الْقَضَاءِ، فَيَكُونُ أَوْلَى، فَيُبْدَأُ بِالْكِتَابَةِ حَتَّى يَعْتِقَ، وَيَكُونُ دَيْنُ الْمَوْلَى فِي ذِمَّتِهِ، فَرُبَّمَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ إذَا ظَهَرَ لَهُ مَالٌ، وَمَا فَضَلَ عَنْ هَذِهِ الدُّيُونِ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِأَوْلَادِهِ الْأَحْرَارِ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ، وَلِأَوْلَادِهِ الْمَوْلُودِينَ فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُمْ عَتَقُوا بِعِتْقِهِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَيَرِثُونَ كَالْحُرِّ الْأَصْلِ. وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَجِنَايَةٌ وَمُكَاتَبَةٌ وَمَهْرٌ، وَأَوْلَادٌ أَحْرَارٌ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ، وَأَوْلَادٌ وُلِدُوا فِي الْكِتَابَةِ مِنْ أَمَتِهِ، وَأَوْلَادٌ اشْتَرَاهُمْ، يُبْدَأُ بِالدَّيْنِ، ثُمَّ بِالْجِنَايَةِ، ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ، ثُمَّ يَكُونُ الْبَاقِي مِيرَاثًا لِجَمِيعِهِمْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ أَقْوَى مِنْ الْكِتَابَةِ لِمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ وَفَاءً بِالْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِهِ وَفَاءٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ كَأَنَّ الْمُكَاتَبَ قِنٌّ، فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ. وَمَتَى قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ يَصِيرُ عَاجِزًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَاقِي وَفَاءٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ وَفَاءٌ بِالْكِتَابَةِ، وَكَانَ فِيهِ وَفَاءٌ بِالْخِيَارِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَبْدًا وَبَطَلَتْ الْجِنَايَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِصَاحِبِ الْجِنَايَةِ فِي مَالِ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا كَانَ حَقُّهُ فِي الرَّقَبَةِ، وَقَدْ فَاتَتْ الرَّقَبَةُ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْقَاضِي لَمْ يَقْضِ بِالْجِنَايَةِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَضَى عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الدُّيُونِ. وَأَمَّا الْمَهْرُ، فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَ نِكَاحًا صَحِيحًا بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الدُّيُونِ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ لِلْمَرْأَةِ شَيْءٌ مَا لَمْ يَقْضِ سَائِرَ الدُّيُونِ وَالْجِنَايَةِ وَالْكِتَابَةِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ يُصْرَفْ إلَى الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ إنَّمَا يُتْبَعُ بِالْمَهْرِ بَعْدَ الْعَتَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، فَإِذَا زَالَ حَقُّ الْمَوْلَى فَحِينَئِذٍ يُؤَاخَذُ بِهِ، فَإِنْ أُدِّيَتْ كِتَابَتُهُ وَحُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ وَحُرِّيَّةِ أَوْلَادِهِ صَارَ الْبَاقِي مِيرَاثًا لِأَوْلَادِهِ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ عَتَقُوا بِعِتْقِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الِابْنُ مُكَاتَبًا مَعَهُ؛ لِأَنَّهُمْ عَتَقُوا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَاتَبَ الِابْنَ مُكَاتَبَةً عَلَى حِدَةٍ لَا يَرِثُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِعِتْقِهِ وَلَا يَسْتَنِدُ عِتْقُهُ فِي حَقُّهُ، فَلَا يَرِثُ مِنْهُ. وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ مِنْ غَيْرِ وَفَاءٍ وَتَرَكَ وَلَدًا مَوْلُودًا فِي الْكِتَابَةِ، بِأَنْ وَلَدَتْ أَمَتُهُ الَّتِي اشْتَرَاهَا، بِأَنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ تَزَوَّجَ أَمَةَ إنْسَانٍ بِإِذْنِ

مَوْلَاهُ، فَوَلَدَتْ مِنْهُ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا الْمُكَاتَبُ وَوَلَدَهَا، أَوْ الْمُكَاتَبَةُ وَلَدَتْ مِنْ غَيْرِ مَوْلَاهَا، فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي الْكِتَابَةِ عَلَى نُجُومِ أَبِيهِ وَلَا يَبْطُلُ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ لَا عَنْ وَفَاءٍ فَقَدْ مَاتَ عَاجِزًا، فَقَامَ الْوَلَدُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ حَيٌّ. وَلَوْ كَانَ حَيًّا حَقِيقَةً لَكَانَ يَسْعَى عَلَى نُجُومِهِ، فَكَذَا وَلَدُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ قَادِرًا فَيُؤَدَّى بَدَلُ الْكِتَابَةِ لِلْحَالِ وَلَا يُؤَخَّرُ إلَى أَجَلِهِ، بَلْ يَبْطُلُ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّ مَوْتَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ يُبْطِلُ الْأَجَلَ فِي الْأَصْلِ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ، وَلَيْسَ هَهُنَا أَحَدٌ يَقُومُ مَقَامَهُ حَتَّى يُجْعَلَ كَأَنَّهُ حَيٌّ، وَإِذَا أَدَّى السِّعَايَةَ عَتَقَ أَبُوهُ وَهُوَ. وَأَمَّا وَلَدُهُ الْمُشْتَرَى فِي الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَا يَسْعَى عَلَى نُجُومِهِ، بَلْ يُقَالُ: لَهُ إمَّا أَنْ تُؤَدِّيَ السِّعَايَةَ حَالًا أَوْ تُرَدَّ إلَى الرِّقِّ، وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لِلْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ، بَلْ يَسْعَى عَلَى نُجُومِ أَبِيهِ وَلَا يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ، إلَّا إذَا أَخَلَّ بِنَجْمٍ أَوْ بِنَجْمَيْنِ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْوَلَدِ فِي الْكِتَابَةِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، وَتَبَعِيَّةُ الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ أَشَدُّ مِنْ تَبَعِيَّةِ الْمُشْتَرَى فِي الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ تَبَعِيَّتَهُ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ، وَالْجُزْئِيَّةُ فِي الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ حَصَلَتْ فِي الْعَقْدِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ نَفْسِهِ، وَالْحُكْمُ فِي الْمُكَاتَبِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَكَذَا فِيهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْوَلَدُ الْمُشْتَرَى؛ لِأَنَّ جُزْئِيَّةً مَا حَصَلَتْ فِي الْعَقْدِ فَانْحَطَّتْ دَرَجَتُهُ عَنْهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ تَرْتِيبًا لِلْأَحْكَامِ عَلَى مَرَاتِبِ الْحُجَجِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِ الْكَافِي الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَجَعَلَ مَا ذَكَرْنَا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَالْوَلَدُ الْمُشْتَرَى، وَالْوَلَدُ الْمَوْلُودُ سَوَاءٌ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّكَاتُبَ عَلَى الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ لِمَكَانِ التَّبَعِيَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْمُشْتَرَى، وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ هَذَا أَنَّ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ فِي الْمَوْلُودِ أَقْوَى مِنْهُ فِي الْمُشْتَرَى فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ، وَلَوْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَفَاءٍ وَتَرَكَ الدُّيُونَ الَّتِي ذَكَرْنَا فَالْخِيَارُ فِي ذَلِكَ إلَى الْوَلَدِ يَبْدَأُ بِأَيِّ ذَلِكَ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً صَارَ التَّدْبِيرُ إلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ يَقْضِي مِنْ كَسْبِهِ فَيَبْدَأُ بِأَيِّ ذَلِكَ شَاءَ، فَإِنْ أَخَلَّ بِنَجْمٍ، أَوْ بِنَجْمَيْنِ عَلَى الِاخْتِلَافِ يُرَدَّ فِي الرِّقِّ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُ أَوْلَادِهِ غَائِبًا وَبَعْضُهُمْ حَاضِرًا فَعَجَزَ الْحَاضِرُ لَا يُرَدُّ فِي الرِّقِّ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ؛ لِجَوَازِ أَنَّ الْغَائِبَ يَحْضُرُ فَيُؤَدِّي. وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً لَكِنَّهُ تَرَكَ أُمَّ وَلَدٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ بِيعَتْ فِي الْمُكَاتَبَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ اسْتَسْعَتْ فِيهَا عَلَى الْأَجَلِ الَّذِي كَانَ لِلْمُكَاتَبِ صَغِيرًا كَانَ وَلَدُهَا أَوْ كَبِيرًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا اشْتَرَى أُمَّ وَلَدٍ وَلَيْسَ مَعَهَا وَلَدٌ فَإِنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي مُكَاتَبَتِهِ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا الْمُوَالَاةُ عِنْدَهُمَا تَدْخُلُ فِي مُكَاتَبَتِهِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ تَكُونُ بِمَنْزِلَتِهِ لَمَّا دَخَلَتْ فِي الْكِتَابَةِ، وَإِذَا كَانَ مَعَهَا فَإِنَّهَا تَتْبَعُ وَلَدَهَا فِي الْكِتَابَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ وَلَدَتْهُ فِي الْكِتَابَةِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ الِابْنَ قَامَ مَقَامَهُ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ وُجُودِ الْوَلَدِ وَعَدَمِهِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهَا إنَّمَا تَسْعَى؛ لِأَنَّ عَتَاقَ الِاسْتِيلَادِ بِمَنْزِلَةِ عَتَاقِ النَّسَبِ، فَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَلَدِ، فَكَانَ حَالُهَا بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ وَقَبْلَهُ وَاحِدًا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا وِرَاثَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ فِي كِتَابَتِهِ لِكِتَابَةِ وَلَدِهَا تَبَعًا، فَإِذَا مَاتَ الْوَلَدُ بَطَلَتْ كِتَابَتُهَا؛ لِأَنَّ كِتَابَةَ الْوَلَدِ بَطَلَتْ بِمَوْتِهِ فَيَبْطُلُ مَا كَانَ تَبَعًا لَهُ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَلَوْ وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ وَلَدًا وَاشْتَرَتْ وَلَدًا، ثُمَّ مَاتَتْ سَعْيًا فِي الْكِتَابَةِ عَلَى النُّجُومِ وَاَلَّذِي يَلِي الْأَدَاءَ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَوْلُودَ فِي الْكِتَابَةِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُكَاتَبِ، وَالْوَلَدُ الْمُشْتَرَى لَا يَقُومُ مَقَامَهُ عَلَى الِاتِّفَاقِ، أَوْ عَلَى الِاخْتِلَافِ، إلَّا أَنَّهُ يَسْعَى تَبَعًا لِلْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ. أَلَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، فَإِنْ قُلْت: فَلَا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ شَيْءٌ مِنْ السِّعَايَةِ، قَالَ: لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَدَعْ غَيْرَهُ بِيعَ، إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ الْكِتَابَةَ عَاجِلًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ الَّذِي يَلِي الْأَدَاءَ هُوَ الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلَدَ الْمُشْتَرَى لَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُكَاتَبِ عَلَى الِاتِّفَاقِ، أَوْ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمُكَاتَبَةُ وَلَوْ كَاتَبَ حَيَّةً لَكَانَتْ تَمْلِكُ كَسْبَ وَلَدِهَا الْمُشْتَرَى، فَكَذَا الَّذِي يَقُومُ مَقَامَهَا، وَإِنْ سَعَى الْمُشْتَرَى فَأَدَّى الْكِتَابَةَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَخِيهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْكِتَابَةَ مِنْ كَسْبِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ كَسْبَ أُمِّ الْوَلَدِ الْمُشْتَرَى لِلْأُمِّ، فَإِذَا أَدَّى الْكِتَابَةَ مِنْ كَسْبِهِ فَقَدْ أَدَّى كِتَابَةَ الْأُمِّ، وَكَسْبُهُ لَهَا، فَلَا يَرْجِعُ، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْلُودَ قَائِمٌ مَقَامَهَا. وَلَوْ كَانَتْ الْأُمُّ بَاقِيَةً فَأَدَّى الْوَلَدُ الْمُشْتَرَى فَعَتَقَتْ الْأُمُّ لَمْ يُرْجَعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ كَذَا هَذَا، وَكَذَا الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ لَوْ سَعَى وَأَدَّى لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُشْتَرَى بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَقَالَ

بَعْضُهُمْ: هَذَا إذَا أَدَّى الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ مِنْ مَالٍ تَرَكَتْهُ الْأُمُّ، فَأَمَّا إذَا أَدَّى مِنْ كَسْبٍ اكْتَسَبَهُ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِنِصْفِهِ عَلَى الْمُشْتَرَى، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْأَصْلِ حُكْمَ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ حُكْمَ الْمُشْتَرَى: إنَّهُ إذَا أَدَّى لَا يَرْجِعُ، وَلَوْ اكْتَسَبَ هَذَا الِابْنُ الْمُشْتَرَى كَسْبًا كَانَ لِأَخِيهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَسْتَعِينَ بِهِ فِي كِتَابَتِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْلُودَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأُمِّ، وَهِيَ لَوْ كَانَتْ قَائِمَةً لَكَانَتْ تَمْلِكُ أَخْذَ كَسْبِ الْمُشْتَرَى، وَكَذَا مَنْ يَقُومُ مَقَامَهَا، وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي عَمَلٍ لِيَأْخُذَ كَسْبَهُ فَيَسْتَعِينَ بِهِ فِي مُكَاتَبَتِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يُؤَاجِرَ نَفَسَهُ، أَوْ أَمَرَ أَخَاهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ وَيَسْتَعِينَ بِأَجْرِهِ عَلَى أَدَاءِ الْكِتَابَةِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهَا، وَمَا اكْتَسَبَ الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ بَعْدَ مَوْتِ أُمِّهِ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي كِتَابَةِ الْأُمِّ وَقَائِمٌ مَقَامَهَا فَمَا اكْتَسَبَهُ يَكُونُ لَهُ وَمَا يَكْتَسِبُ أَخُوهُ حُسِبَ مِنْ التَّرِكَةِ، فَتُقْضَى مِنْهُ الْمُكَاتَبَةُ وَالْبَاقِي مِنْهُ مِيرَاثٌ بَيْنَهُمَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْلُودَ فِي الْكِتَابَةِ قَامَ مَقَامَهَا، فَكَانَ حُكْمُهَا كَحُكْمِهِ وَكَسْبُ الْمُكَاتَبَةِ لَهَا، كَذَا كَسْبُ وَلَدِهَا. وَأَمَّا الْوَلَدُ الْمُشْتَرَى فَلَمْ يَقُمْ مَقَامَهَا غَيْرَ أَنَّهُ كَسْبُهَا بِجَمِيعِ مَا اكْتَسَبَهُ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهَا مَاتَتْ عَنْ مَالٍ، وَلَوْ مَاتَتْ عَنْ مَالٍ تُؤَدَّى مِنْهُ كِتَابَتُهَا، وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ بَيْنَهُمَا كَذَا هَذَا، وَقِيلَ: هَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَالْوَلَدَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهَا وَلَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَسْبَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا لَقَامَ مَقَامَ الْمُكَاتَبَةِ وَيَسْعَى عَلَى النُّجُومِ عِنْدَهُمَا، فَكَذَا إذَا اجْتَمَعَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمُوَفِّقُ. وَأَمَّا الْفَاسِدَةُ وَهِيَ الَّتِي فَاتَهَا شَيْءٌ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَلَا يَثْبُتُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَا قَبْلَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الْفَاسِدَةَ لَا تُوجِبُ زَوَالَ شَيْءٍ مِمَّا كَانَ لِلْمَالِكِ عَنْهُ إلَى الْمُكَاتَبِ. فَكَانَ الْحَالُ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْحَالِ قَبْلَهُ. وَأَمَّا الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْأَدَاءِ، وَهُوَ الْعِتْقُ فَالْفَاسِدُ فِيهِ كَالصَّحِيحِ، حَتَّى لَوْ أَدَّى يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ الْعَقْدِ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ كَالصَّحِيحِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا. وَنَفْسُ الْمُكَاتَبِ فِي قَبْضَتِهِ، إلَّا أَنَّ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ إذَا أَدَّى يَلْزَمُهُ قِيمَةُ نَفَسِهِ، وَفِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ يَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى؛ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ، وَالْقِيمَةُ هِيَ الْمِثْلُ؛ لِأَنَّهَا مِقْدَارُ مَالِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا الْمَصِيرُ إلَى الْمُسَمَّى عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ تَحَرُّزًا عَنْ الْفَسَادِ لِجَهَالَةِ الْقِيمَةِ، فَإِذَا فَسَدَتْ فَلَا مَعْنَى لِلتَّحَرُّزِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ الْقِيمَةُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَكَذَا فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ لِلْمَوْلَى أَنْ يَفْسَخَ الْكِتَابَةَ بِغَيْرِ رِضَا الْعَبْدِ وَيَرُدَّهُ إلَى الرِّقِّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ فِي الصَّحِيحَةِ إلَّا بِرِضَا الْعَبْدِ، وَلِلْعَبْدِ أَنْ يَفْسَخَ فِي الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ جَمِيعًا بِغَيْرِ رِضَا الْمَوْلَى؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَاسِدَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا، وَالصَّحِيحَةَ لَازِمَةٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، ثُمَّ إذَا أَدَّى فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ يُنْظَرُ إلَى الْمُسَمَّى وَإِلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَدَاءُ فِي حَيَاةِ الْمَوْلَى أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى وَرَثَتِهِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ إلَى الْوَرَثَةِ، وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ الْعِتْقَ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ يَقَعُ مِنْ طَرِيقِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ فِي الْكِتَابَةِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَمَعْنَى الْيَمِينِ، فَإِذَا فَسَدَتْ بَطَلَ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَبَقِيَ مَعْنَى الْيَمِينِ، وَالْيَمِينُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْحَالِفِ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ الْفَاسِدَةَ لَا تُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الْمَوْلَى، وَإِذَا بَقِيَ مِلْكُهُ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهِ، فَلَا يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّهَا مَعَ كَوْنِهَا فَاسِدَةً فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، وَالْعِتْقُ فِيهَا يَثْبُتُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ لَا مِنْ طَرِيقِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا الْقِيمَةُ، وَلَوْ كَانَ الْعِتْقُ فِيهَا بِمَحْضِ الْيَمِينِ لَكَانَ لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الْيَمِينِ، وَكَذَا الْوَلَدُ الْمُنْفَصِلُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَلَدَ الْمُنْفَصِلَ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْيَمِينِ، فَثَبَتَ أَنَّ فَسَادَ الْكِتَابَةِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ عَنْهَا، فَثَبَتَ الْعِتْقُ فِيهَا مِنْ طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى لَا يَزُولُ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ، فَنَعَمْ لَكِنْ قَبْلَ قَبْضِ الْبَدَلِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ يَزُولُ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَدَاءِ. وَلَوْ كَاتَبَ أَمَتَهُ كِتَابَةً فَاسِدَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا، ثُمَّ أَدَّتْ عَتَقَتْ وَعَتَقَ وَلَدُهَا مَعَهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكِتَابَةَ الْفَاسِدَةَ تَعْمَلُ عَمَلَ الصَّحِيحِ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ، وَالْأَوْلَادُ يَدْخُلُونَ فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ كَذَا فِي الْفَاسِدَةِ، فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ لَمْ يَكُنْ عَمَلُ وَلَدِهَا أَنْ يَسْعَى؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأُمِّ، ثُمَّ الْأُمُّ لَا تُجْبَرُ عَلَى السِّعَايَةِ كَذَلِكَ الْوَلَدُ، لَكِنَّهُ إذَا سَعَى فِيمَا عَلَى أُمِّهِ يَعْتِقُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ، وَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا مَاتَ الْمَوْلَى فَأَدَّتْ الْمَالَ إلَى

فصل في بيان ما تنفسخ به الكتابة

وَرَثَتِهِ تَعْتِقُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَعْتِقَ. وَأَمَّا الْبَاطِلَةُ وَهِيَ الَّتِي فَاتَهَا شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ فَلَا يَثْبُتُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْبَاطِلَ لَا وُجُودَ لَهُ إلَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ كَالْبَيْعِ الْبَاطِلِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ إلَّا إذَا نَصَّ عَلَى التَّعْلِيقِ، بِأَنْ قَالَ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ، فَأَدَّى يَعْتِقُ لَكِنْ لَا بِالْمُكَاتَبَةِ، بَلْ بِالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كَمَا فِي التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا تَنْفَسِخُ بِهِ الْكِتَابَةُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا تَنْفَسِخُ بِهِ الْكِتَابَةُ: فَإِنَّهَا تَنْفَسِخُ بِالْإِقَالَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْفَسْخِ لِكَوْنِ الْمُعَاوَضَةِ فِيهَا أَصْلًا، فَتَجُوزُ إقَالَتُهَا كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ. وَكَذَا تَنْفَسِخُ بِفَسْخِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمَوْلَى، بِأَنْ يَقُولَ: فَسَخْتُ الْمُكَاتَبَةَ، أَوْ كَسَرْتُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ فَاسِدَةً أَوْ صَحِيحَةً، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فَإِنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ نَظَرًا لَهُ، فَيَمْلِكُ الْفَسْخَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمَوْلَى، وَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ فِي جَانِبِهِ. ، وَهَلْ تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ أَمَّا بِمَوْتِ الْمَوْلَى فَلَا تَنْفَسِخُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ كَسْبٌ فَيُؤَدَّى إلَى وَرَثَةِ الْمَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ كَسْبٌ فَيَكْتَسِبُ وَيُؤَدِّي فَيَعْتِقُ، فَكَانَ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ فَيَبْقَى، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْكَسْبِ يَزُولُ إلَى الرِّقِّ كَمَا لَوْ كَانَ الْمَوْلَى حَيًّا، وَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى فَأَدَّى الْمُكَاتَبُ مُكَاتَبَتَهُ، أَوْ بَقِيَّةً مِنْهَا إلَى وَرَثَتِهِ وَعَتَقَ، فَوَلَاؤُهُ يَكُونُ لِعَصَبَةِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُورَثُ مِنْ الْمُعْتِقِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ عَجَزَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى فَرُدَّ إلَى الرِّقِّ، ثُمَّ كَاتَبَهُ الْوَرَثَةُ كِتَابَةً أُخْرَى فَأَدَّى إلَيْهِمْ وَعَتَقَ، فَوَلَاؤُهُ لِلْوَرَثَةِ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ بِإِعْتَاقِهِمْ، فَكَانَ مَالُهُ مِيرَاثًا بَيْنَهُمْ، إذْ الْوَلَاءُ يُورَثُ بِهِ إنْ كَانَ لَا يُورَثُ نَفْسُهُ. وَأَمَّا بِمَوْتِ الْمُكَاتَبِ فَيُنْظَرُ إنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ لَا يَنْفَسِخُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَإِنْ مَاتَ لَا عَنْ وَفَاءٍ يَنْفَسِخْ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَاجِزًا فَلَا فَائِدَةَ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فَيَنْفَسِخُ ضَرُورَةً. وَلَا يَنْفَسِخُ بِرِدَّةِ الْمَوْلَى بِأَنْ كَاتَبَ مُسْلِمٌ عَبْدَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى حَقِيقَةً فَبِمَوْتِهِ حُكْمًا أَوْلَى أَنْ لَا يَنْفَسِخُ، وَلِهَذَا لَا تَبْطُلُ سَائِرُ عُقُودِهِ بِالرِّدَّةِ كَذَا الْمُكَاتَبَةُ، فَإِنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَهُوَ مُرْتَدٌّ، ثُمَّ أَسْلَمَ جَازَ إقْرَارُهُ فِي قَوْلِهِمْ. وَإِنْ قُتِلَ، أَوْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ غَيْرُ نَافِذَةٍ عِنْدَهُ، بَلْ هِيَ مَوْقُوفَةٌ. وَإِنْ عُلِمَ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ جَازَ قَبْضُهُ، وَكَذَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَدِّ أَخْذُ الدَّيْنِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ فِي كُلِّ مَا وَلِيَهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ رِدَّتَهُ بِمَنْزِلَةِ عَزْلِ الْوَكِيلِ فَيَمْلِكُ قَبْضَ الدُّيُونِ الَّتِي وَجَبَتْ بِعَقْدِهِ، كَالْوَكِيلِ الْمَعْزُولِ فِي بَابِ الْبَيْعِ أَنَّهُ يَمْلِكُ قَبْضَ الثَّمَنِ بَعْدَ الْعَزْلِ، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ لِكَوْنِهِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَحُقُوقُ هَذَا الْعَقْدِ وَهُوَ الْمُكَاتَبَةُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ، فَلَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَإِقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ نَافِذَةٌ عِنْدَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا حَتَّى لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَجَعَلَ الْقَاضِي مَالَهُ مِيرَاثًا بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَأَخَذُوا الْكَاتِبَةَ، ثُمَّ رَجَعَ مُسْلِمًا فَوَلَاءُ الْعَبْدِ لَهُ؛ لِأَنَّ رِدَّتَهُ مَعَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ، وَلَوْ دُفِعَ إلَى الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ كَذَلِكَ هَذَا، وَيَأْخُذُ مِنْ الْوَرَثَةِ مَا قَبَضُوهُ مِنْهُ إنْ وُجِدَ بِعَيْنِهِ، كَمَا فِي سَائِرِ أَمْلَاكِهِ الَّتِي وَجَدَهَا مَعَ الْوَرَثَةِ بِأَعْيَانِهَا؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا قَبَضَ بِتَسْلِيطِ الْمُورِثِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْوَلَاءِ] [وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ] (كِتَابُ الْوَلَاءِ) : الْوَلَاءُ نَوْعَانِ: وَلَاءُ عَتَاقَةٍ، وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ أَمَّا وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ: فَلَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِهِ شَرْعًا، عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَهَذَا نَصٌّ، وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ فَجَاءَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي اشْتَرَيْت هَذَا فَأَعْتَقْته فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُوَ أَخُوك وَمَوْلَاك، فَإِنْ شَكَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَشَرٌّ لَك، وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَك وَشَرٌّ لَهُ، وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ» . وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَهُ عَصَبَةً إذَا لَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا آخَرَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْمُعْتَقَ مَوْلَى الْمُعْتِقِ، بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُوَ أَخُوك وَمَوْلَاك، وَلَا يَكُونُ مَوْلَاهُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ لَهُ

وَنَظِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ اسْتِدْلَالُنَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ إرَادَةِ الْمَعْمُولِ مِنْ قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَمَا تَعْمَلُونَ فِي إثْبَاتِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ مِنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ مَعْمُولَهُمْ، وَلَا مَعْمُولَ بِدُونِ الْعَمَلِ فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَعْمُولِ مَخْلُوقَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ شَكَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقَ لَمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الشُّكْرُ، فَإِذَا شَكَرَهُ فَقَدْ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَشَرٌّ لَك؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْعِوَضِ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِي الثَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ عَلَى عِوَضٍ، فَكَانَ ثَوَابُهُ أَقَلَّ مِمَّنْ أَعْتَقَ وَلَمْ يَصِلْ إلَيْهِ عَلَى إعْتَاقِهِ عِوَضٌ دُنْيَوِيٌّ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَك؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ إذَا خَلَا عَنْ عِوَضٍ دُنْيَوِيٍّ يَتَكَامَلُ ثَوَابُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَشَرٌّ لَهُ؛ لِأَنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا، فَإِذَا لَمْ يَشْكُرْهُ فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ، فَكَانَ شَرًّا لَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ مُعْتِقَ بِنْتِ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَاتَ وَتَرَكَ بِنْتًا، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِصْفَ مَالِهِ لِابْنَتِهِ، وَالنِّصْفَ لِابْنَةِ حَمْزَةَ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودِ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ، فَاتِّفَاقُ هَؤُلَاءِ النُّجَبَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ بِدَلِيلِ سَمَاعِهِمْ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مَا إنَّ هَذَا حُكْمٌ لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ، فَالظَّاهِرُ قَوْلُ السَّمَاعِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْوَلَاءِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِعْتَاقَ إنْعَامٌ إذْ الْمُعْتِقُ أَنْعَمَ عَلَى الْمُعْتَقِ بِإِيصَالِهِ إلَى شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ مَوْلَى النِّعْمَةِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، وَكَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْعَامًا، فَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي زَيْدٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ، فَجُعِلَ كَسْبُهُ عِنْدَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ لِمَوْلَاهُ شُكْرًا لِإِنْعَامِهِ السَّابِقِ، وَلِهَذَا لَا يَرِثُ الْمُعْتَقُ مِنْ الْمُعْتِقِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُعْتَقَ فِي نُصْرَةِ الْمُعْتِقِ حَالَ حَيَاتِهِ، وَلِهَذَا كَانَ عَقْلُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْصُرَهُ بِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ وَبِكَفِّهِ عَنْ الظُّلْمِ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِذَا جَنَى فَقَدْ قَصَّرَ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ النُّصْرَةِ، وَهُوَ كَفُّهُ عَنْ الظُّلْمِ عَلَى غَيْرِهِ فَجُعِلَ عَلَيْهِ ضَمَانًا لِلتَّقْصِيرِ، فَإِذَا مَاتَ جُعِلَ وَلَاؤُهُ لِمُعْتَقِهِ جَزَاءً لِلنُّصْرَةِ السَّابِقَةِ، وَالثَّالِثُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ كَالْإِيلَادِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إحْيَاءٌ مَعْنًى، فَإِنَّ الْمُعْتِقَ سَبَبٌ لِحَيَاةِ الْمُعْتَقِ بِاكْتِسَابِ سَبَبِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا الْآدَمِيُّ عَنْ الْبَهَائِمِ، كَمَا أَنَّ الْأَبَ سَبَبُ حَيَاةِ الْوَلَدِ بِاكْتِسَابِ سَبَبِ وُجُودِهِ عَادَةً، وَهُوَ الْإِيلَادُ، ثُمَّ الْإِيلَادُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ النَّسَبِ، فَالْإِعْتَاقُ يَكُون سَبَبًا لِثُبُوتِ الْوَلَاءِ كَالْإِيلَادِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. فَبَعْدَ هَذَا يَقَعُ الْكَلَامُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ سَبَبِ ثُبُوتِهِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الثُّبُوتِ وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الثَّابِتِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَفِي بَيَانِ قَدْرِهِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ لَهُ أَمَّا. سَبَبُ ثُبُوتِهِ فَالْعِتْقُ سَوَاءٌ كَانَ الْعِتْقُ حَاصِلًا بِصُنْعِهِ، وَهُوَ الْإِعْتَاقُ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْإِعْتَاقِ شَرْعًا كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ بِأَنْ وَرِثَ قَرِيبَهُ وَسَوَاءً أَعْتَقَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ، أَوْ لِوَجْهِ الشَّيْطَانِ وَسَوَاءٌ أَعْتَقَهُ تَطَوُّعًا، أَوْ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ كَالْإِعْتَاقِ عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالْيَمِينِ وَالنَّذْرِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِعْتَاقُ بِغَيْرِ بَدَلٍ أَوْ بِبَدَلٍ، وَهُوَ الْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ وَسَوَاءٌ كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ، أَوْ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ وَسَوَاءٌ كَانَ صَرِيحًا أَوْ يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ أَوْ كِنَايَةً أَوْ يَجْرِي مَجْرَى الْكِنَايَةِ. وَكَذَا الْعِتْقُ الْحَاصِلُ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ وَيَسْتَوِي فِيهِ صَرِيحُ التَّدْبِيرِ وَالْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَهُ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَعَلَى هَذَا إذَا أَمَرَ الْمَوْلَى غَيْرَهُ بِالْإِعْتَاقِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ عَنْهُ وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَ فَالْوَلَاءُ لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ عَنْهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لِلْمَأْمُورِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِعْتَاقِ عَبْدِ الْغَيْرِ عَنْ نَفَسِهِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقَعُ بِدُونِ الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ لِلْآمِرِ، بَلْ

لِلْمَأْمُورِ، فَكَانَ الْعِتْقُ عَنْهُ وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ أَمْرٌ بِمَا لَا وُجُودَ لِلْفِعْلِ بِدُونِهِ كَالْأَمْرِ بِصُعُودِ السَّطْحِ يَكُونُ أَمْرًا بِنَصْبِ السُّلَّمِ وَالْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ يَكُونُ أَمْرًا بِالطَّهَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا وُجُودَ لِلْعِتْقِ عَنْ الْآمِرِ بِدُونِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ، فَكَانَ أَمْرُ الْمَالِكِ بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ عَنْهُ بِالْبَدَلِ الْمَذْكُورِ أَمْرًا بِتَمْلِيكِهِ مِنْهُ بِذَلِكَ الْبَدَلِ، ثُمَّ بِإِعْتَاقِهِ عَنْهُ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ كَأَنَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ فَقَالَ بِعْهُ مِنِّي وَأَعْتِقْهُ عَنِّي فَفَعَلَ وَلَوْ قَالَ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَدَلَ فَأَعْتَقَ فَالْوَلَاءُ لِلْمَأْمُورِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عَنْهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا وَالْأَوَّلُ، سَوَاءٌ وَجْهُ قَوْلِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلَهُمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَهُوَ أَنَّهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَمْكَنَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْآمِرِ بِالْبَدَلِ الْمَذْكُورِ بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ بِالْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ لَا يَقِفُ عَلَى الْقَبْضِ، بَلْ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَصَارَ الْمَأْمُورُ بَائِعًا عَبْدَهُ مِنْهُ بِالْبَدَلِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ مُعْتِقًا عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَتَوْكِيلِهِ وَأَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ بِالتَّمْلِيكِ الثَّابِتِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يَكُونُ هِبَةً وَالْمِلْكُ فِي بَابِ الْهِبَةِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْقَبْضِ، فَإِذَا أَعْتَقَ فَقَدْ أَعْتَقَ مِلْكَ نَفَسِهِ لَا مِلْكَ الْآمِرِ فَيَقَعُ عَنْ نَفَسِهِ، فَكَانَ الْوِلَايَةُ لَهُ فَهُوَ الْفَرْقُ. وَلَوْ قَالَ أَعْتِقْ عَبْدَك وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا آخَرَ فَأَعْتَقَ فَالْوَلَاءُ لِلْمَأْمُورِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ عَنْ نَفَسِهِ لَا عَنْ الْآمِرِ لِعَدَمِ الطَّلَبِ مِنْ الْآمِرِ بِالْإِعْتَاقِ عَنْهُ. وَلَوْ قَالَ أَعْتِقْ عَبْدَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ عَنِّي فَأَعْتَقَ تَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِ الْعَبْدِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ، فَإِنْ قَبِلَ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهِ يَعْتِقْ وَيَلْزَمْهُ الْمَالُ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَطْلُبْ إعْتَاقَ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا طَلَبَ إعْتَاقَ الْعَبْدِ لِلْعَبْدِ، وَهُوَ فُضُولِيٌّ فِيهِ، فَإِذَا عَتَقَ الْمَالِكُ تَوَقَّفَ إعْتَاقُهُ عَلَى إجَازَةِ الْعَبْدِ كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْ عَبْدَك هَذَا مِنْ فُلَانٍ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ فُلَانِ كَذَا هَذَا وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُعْتِقُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى لِوُجُودِ السَّبَبِ مِنْهُمَا وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ» الْحَدِيثَ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْ الْمَنْفِيِّ مُثْبَتٌ ظَاهِرًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُعْتِقُ وَالْمُعْتَقُ مُسْلِمَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ كَافِرًا لِوُجُودِ السَّبَبِ وَلِعُمُومِ الْحَدِيثِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا، أَوْ ذِمِّيٌّ مُسْلِمًا فَوَلَاءُ الْمُعْتَقِ مِنْهُمَا لِلْمُعْتِقِ لِمَا قُلْنَا إلَّا أَنَّهُ لَا يَرِثُهُ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْإِرْثِ، وَهُوَ اتِّحَادُ الْمِلَّةِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ بِشَيْءٍ» ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ ثَابِتًا لِإِنْسَانٍ وَلَا يَرِثُ بِهِ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْإِرْثِ بِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ مِنْهُمَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُعْتِقِ، ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتِقِ يَرِثُ بِهِ لِتَحْقِيقِ الشَّرْطِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ لِلذِّمِّيِّ الَّذِي هُوَ مُعْتِقُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ عَصَبَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ كَانَ لَهُ عَمٌّ مُسْلِمٌ، أَوْ ابْنُ عَمٍّ مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يَرِثُ الْوَلَاءَ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُرَدَّ إلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَلَوْ كَانَ عَبْدٌ مُسْلِمٌ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ فَأَعْتَقَاهُ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ فَنِصْفُ وَلَائِهِ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِأَقْرَبِ عَصَبَةِ الذِّمِّيِّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنْ كَانَ لَهُ عَصَبَةُ مُسْلِمٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُرَدَّ إلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَلَوْ أَعْتَقَ حَرْبِيٌّ عَبْدَهُ الْحَرْبِيَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ مَوْلَاهُ حَتَّى لَوْ خَرَجَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمَيْنِ لَا وَلَاءَ لَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِكَلَامِ الْإِعْتَاقِ، وَإِنَّمَا يَعْتِقُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالْعِتْقُ الثَّابِتُ بِالتَّخْلِيَةِ لَا يُوجِبُ الْوَلَاءَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَصِيرُ مَوْلَاهُ وَيَكُونُ لَهُ وَلَاؤُهُ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ بِالْقَوْلِ قَدْ صَحَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَبَّرَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ اسْتِيلَادَهُ جَائِزٌ وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَبْنَى الِاسْتِيلَادِ عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَلَوْ أَعْتَقَ مُسْلِمٌ عَبْدًا لَهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَوَلَاؤُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ حَرْبِيًّا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَصِيرُ مَوْلَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِالْقَوْلِ، وَإِنَّمَا يَعْتِقُ بِالتَّخْلِيَةِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَصِيرُ مَوْلَاهُ لِثُبُوتِ الْعِتْقِ بِالْقَوْلِ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فِيهِ مُضْطَرِبٌ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ الْعَبْدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَخَرَجَا مُسْلِمَيْنِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا وَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ عَلَى الْمُعْتَقِ وَلِلْمُعْتَقِ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَرِثُ الْمُعْتِقُ مِنْ الْمُعْتَقِ وَلَهُ وَلَاؤُهُ إذَا خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ، وَإِنْ سُبِيَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ كَانَ مَمْلُوكًا لِلَّذِي سَبَاهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا، أَوْ حُرًّا، فَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا

كَانَ مَحَلًّا لِلِاسْتِيلَادِ وَالتَّمَلُّكِ، وَكَذَا إنْ كَانَ حُرًّا؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ الْحُرَّ مَحَلٌّ لِلِاسْتِيلَادِ وَالتَّمَلُّكِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ، فَإِنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَسُبِيَ فَاشْتَرَاهُ عَبْدُهُ الْمُعْتَقُ فَأَعْتَقَهُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ مَوْلَى صَاحِبِهِ حَتَّى إنَّ أَيَّهُمَا مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ عَصَبَةً مِنْ النَّسَبِ وَرِثَهُ صَاحِبُهُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْإِرْثِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ الْإِعْتَاقُ وَشَرْطُهُ، وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ ذِمِّيًّا فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ، ثُمَّ هَرَبَ الذِّمِّيُّ الْمُعْتَقُ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَسُبِيَ وَأَسْلَمَ فَاشْتَرَاهُ الْعَبْدُ الَّذِي كَانَ أَعْتَقَهُ فَأَعْتَقَهُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْلَى صَاحِبِهِ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا أَعْتَقَتْ عَبْدًا لَهَا، ثُمَّ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ سُبِيَتْ فَاشْتَرَاهَا الَّذِي كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَعْتَقَتْهُ فَأَعْتَقَهَا كَانَ الرَّجُلُ مَوْلَى الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ مَوْلَاةَ الرَّجُلِ لِوُجُودِ الْإِعْتَاقِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ الْعِتْقُ كَمَا هُوَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ فَهُوَ سَبَبُ وُجُوبِ الْعَقْلِ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ جَنَى الْمُعْتَقُ كَانَ عَقْلُهُ عَلَى الْمُعْتِقِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَيْهِ حِفْظَهُ، فَإِذَا جَنَى فَقَدْ قَصَّرَ فِي الْحِفْظِ. وَأَمَّا شَرْطُ ثُبُوتِهِ. فَلِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا يَعُمُّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءَ وَلَدِ الْعَتَاقَةِ وَبَعْضُهَا يَخُصُّ وَلَاءَ وَلَدِ الْعَتَاقَةِ، فَأَمَّا الَّذِي يَعُمّهُمَا جَمِيعًا فَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْعَبْدِ الْمُعْتَقِ، أَوْ لِوَلَدِهِ عَصَبَةٌ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَرِثُهُ الْمُعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ يَرِثُهُ مِنْ طَرِيقِ التَّعْصِيبِ وَفِي الْعَصَبَاتِ يُعْتَبَرُ الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَصَبَةَ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ أَقْوَى، فَكَانَ أَوْلَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ، وَإِنْ كَانَ لُحْمَةً كَلُحْمَةِ النَّسَبِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ لَكِنَّهُ لَا يَكُونُ مِثْلَ حَقِيقَةِ النَّسَبِ، فَكَانَ اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ النَّسَبِ أَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ وَلَهُ أَصْحَابُ الْفَرَائِضِ، أَوْ ذَوُو الْأَرْحَامِ فَحُكْمُهُ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعَيْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ وَلَدَ الْعَتَاقَةِ فَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ مُعْتَقَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً فَلَا وَلَاءَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ مَا دَامَ مَمْلُوكًا سَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ حُرًّا أَوْ مَمْلُوكًا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، فَكَانَ مَمْلُوكًا لِمَوْلَى أُمِّهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْوَلَاءُ وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونُ الْأُمُّ حُرَّةً أَصْلِيَّةً، فَإِنْ كَانَتْ فَلَا وَلَاءَ لِأَحَدٍ عَلَى وَلَدِهَا، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مُعْتَقًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَلَا وَلَاءَ لِأَحَدٍ عَلَى أُمِّهِ فَلَا وَلَاءَ عَلَى وَلَدِهَا، فَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ مُعْتَقَةً وَالْأَبُ مُعْتَقًا فَالْوَلَدُ يَتْبَعُ الْأَبَ فِي الْوَلَاءِ وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِمَوْلَى الْأَبِ لَا لِمَوْلَى الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ وَالْأَصْلُ فِي النَّسَبِ هُوَ الْأَبُ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْأَبُ عَرَبِيًّا، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ عَرَبِيًّا وَالْأُمُّ مَوْلَاةً لِقَوْمٍ فَالْوَلَدُ تَابِعٌ لِلْأَبِ وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الرِّقِّ وَلَا رِقَّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَوْ كَانَ الْأَبُ نَبَطِيًّا، وَهُوَ حُرٌّ مُسْلِمٌ لَمْ يَعْتِقْ وَلَهُ وَلَاءُ مُوَالَاةٍ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَالْوَلَدُ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ تَبَعًا لِلْأَبِ كَمَا فِي الْعَرَبِيِّ. (وَجْهٌ) قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إنَّ النَّسَبَ يُشْبِهُ النَّسَبَ وَالنَّسَبُ إلَى الْآبَاءِ، وَإِنْ كَانَ أَضْعَفَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُمَّ لَوْ كَانَتْ مِنْ الْعَرَبِ وَالْأَبُ مِنْ الْمَوَالِي فَالْوَلَدُ يَكُون تَابِعًا لِقَوْمِ الْأَبِ وَلَهُمَا أَنَّ وَلَاءَ الْأُمِّ لِمَوَالِيهَا لِأَجْلِ النُّصْرَةِ فَيَثْبُتُ لِلْوَلَدِ هَذِهِ النُّصْرَةُ وَلَا نُصْرَةَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ مَنْ سِوَى الْعَرَبِ لَا يَتَنَاصَرُونَ بِالْقَبَائِلِ فَصَارَ كَمُعْتَقَةٍ تَزَوَّجْت عَبْدًا فَيَكُونُ وَلَاءُ أَوْلَادِهَا لِمَوَالِيهَا وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْأَبِ مَوْلًى عَرَبِيٌّ، فَإِنْ كَانَ لَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْعَرَبِيِّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مَوْلَى الْقَوْم مِنْهُمْ» وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْوَلَدُ مُعْتَقًا، فَإِنْ كَانَ لَا يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِمَوَالِي الْأَبِ وَلَا لِمَوَالِي الْأُمِّ، بَلْ يَكُونُ لِمَنْ أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَعْتَقَ صَارَ لَهُ وَلَاءُ نَفَسِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فِي الْوَلَاءِ، وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ يُذْكَرُ فِي بَيَانِ صِفَةِ الْوَلَاءِ. وَأَمَّا صِفَتُهُ فَلَهُ صِفَاتٌ مِنْهَا أَنَّ الْإِرْثَ بِهِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ ثُبُوتِهِ وَشَرْطِهِ مِنْ طَرِيقِ التَّعْصِيبِ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْمُعْتِقَ إنَّمَا يَرِثُ بِالْوَلَاءِ مَالَ الْمُعْتَقِ بِطَرِيقِ الْعُصُوبَةِ وَيَكُونُ الْمُعْتِقُ آخِرَ عَصَبَاتِ الْمُعْتَقِ مُقَدَّمًا عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَعَلَى أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا فَضَلَ مِنْ سِهَامِهِمْ حَتَّى إنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُعْتَقِ وَارِثٌ أَصْلًا، أَوْ كَانَ لَهُ ذُو الرَّحِمِ كَانَ الْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْحَابُ الْفَرَائِضِ فَإِنَّهُ يُعْطَى فَرَائِضَهُمْ أَوَّلًا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ يُعْطَى الْمُعْتِقَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُ وَلَا يُرَدُّ الْفَاضِلُ عَلَى أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ، وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يُحْتَمَلُ الرَّدُّ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ لَا يَرِثُ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ، وَهُوَ مُؤَخَّرٌ عَنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ فِي

اسْتِحْقَاقِ الْفَاضِلِ، وَعَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَيْضًا وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأحزاب: 6] فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذُو الرَّحِمِ أَوْلَى مِنْ الْعِتْقِ. (وَجْهٌ) قَوْلُ الْأَوَّلِينَ مَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ جَعَلَ وَلَاءَ مَوْلَى بِنْتِ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيْنَهَا وَبَيْنَ بِنْتِ مُعْتِقِهَا نِصْفَيْنِ فَقَدْ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنْتَ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَقَامَ الْعَصَبَاتِ حَيْثُ جَعَلَ النِّصْفَ الْآخَرَ لَهَا وَلَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّهِ عَلَى بِنْتِ الْمُعْتِقِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا لَأَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرَّدِّ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَارِيثِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَصَبَةٌ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتْ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ هَهُنَا هُوَ الْمَوْلَى. وَرُوِيَ «فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ، وَهُوَ الْمَوْلَى هَهُنَا» . وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَأْوِيلِهَا أَيْ ذَوُو الْأَرْحَامِ مِنْ الْعَصَبَةِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ أَيْ الْأَقْرَبُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنْ الْعَصَبَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ مِنْ الْأَبْعَدِ كَالِابْنِ مَعَ ابْنِ الِابْنِ وَالْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ مَعَ الْأَخِ لِأَبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ فَبَيَانُهُ فِي مَسَائِلَ إذَا مَاتَ الْمُعْتَقُ وَتَرَكَ أُمًّا وَمَوْلًى فَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى عِنْدَ الْأَوَّلِينَ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ، وَعِنْدَ الْآخَرِينَ الثُّلُثُ لِلْأُمِّ بِالْفَرْضِ وَالْبَاقِي رَدًّا عَلَيْهَا أَيْضًا، وَإِنْ تَرَكَ بِنْتًا وَمَوْلًى فَلِلْبِنْتِ فَرْضُهَا، وَهُوَ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى عِنْدَ الْأَوَّلِينَ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ، وَعِنْدَ الْآخَرِينَ النِّصْفُ لِلْبِنْتِ بِالْفَرْضِ وَالْبَاقِي رَدًّا عَلَيْهَا وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ وَأُمًّا وَتَرَكَ مَوْلَاهُ فَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَلِلْأُخْتِ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ فَقَدْ اسْتَغْرَقَتْ سِهَامُهُمْ الْمِيرَاثَ فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ لِلْمَوْلَى، وَإِنْ تَرَكَ امْرَأَةً وَمَوْلًى فَلِلْمَرْأَةِ فَرْضُهَا، وَهُوَ الرُّبْعُ وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى بِلَا خِلَافٍ. وَكَذَا إذَا كَانَ الْمُعْتَقُ أَمَةً فَتَرَكَتْ زَوْجَهَا وَمَوْلًى فَلِلزَّوْجِ فَرْضُهُ، وَهُوَ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى أَمَّا عَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ فَلِأَنَّ الْمَوْلَى عَصَبَةٌ، فَكَانَ الْبَاقِي لَهُ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ فَلِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الرَّدِّ إذْ لَا يُرَدُّ عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ. فَإِنْ تَرَكَ الْمُعْتَقُ عَمَّةً وَخَالَةً وَمَوْلَاهُ فَالْمَالُ لِلْمَوْلَى فِي قَوْلِ الْأَوَّلِينَ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْعَصَبَاتِ يُقَدَّمُ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَفِي قَوْلِ الْآخَرِينَ لِلْعَمَّةِ الثُّلُثَانِ وَلِلْخَالَةِ الثُّلُثُ لِتَقَدُّمِ ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَيْهِ وَقِسْ عَلَى هَذَا نَظَائِرَهُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اشْتَرَتْ الْمَرْأَةُ عَبْدًا فَأَعْتَقَتْهُ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ فَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَمَا بَقِيَ فَلِمَوْلَاتِهِ؛ لِأَنَّهَا عَصَبَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ الْأَوَّلِينَ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ فَالْبَاقِي يُرَدُّ عَلَيْهَا بِالْقَرَابَةِ، وَإِذَا اشْتَرَتْ أَبَاهَا فَعَتَقَ، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ وَلَيْسَ لَهُ عَصَبَةٌ فَلِابْنَتِهِ النِّصْفُ بِالنَّسَبِ وَمَا بَقِيَ فَلِابْنَتِهِ أَيْضًا بِحَقِّ الْوَلَاءِ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهَا عَصَبَةُ الْأَبِ فِي الْوَلَاءِ وَعَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ مَا بَقِيَ يُرَدُّ عَلَيْهَا بِالْقَرَابَةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ أَعْتَقَ عَبْدًا قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ وَلَمْ يَتْرُكْ عَصَبَةً فَإِنَّهَا تَرِثُهُ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَقُ مُعْتِقِهَا، فَكَانَ وَلَاؤُهُ لَهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ، أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ» الْحَدِيثَ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ ظَاهِرًا، فَإِنْ اشْتَرَتْ أُخْتَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَبَاهُمَا، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ وَلَمْ يَتْرُكْ عَصَبَةً وَتَرَكَ ابْنَتَيْهِ هَاتَيْنِ فَلِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ بِالنَّسَبِ وَمَا بَقِيَ فَلَهُمَا أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ وَلَكِنْ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ بِطَرِيقِ الْعُصُوبَةِ لِأَنَّهُمَا عَصَبَةٌ وَعِنْدَ الْآخَرِينَ بِطَرِيقِ الرَّدِّ، وَإِنْ اشْتَرَتْ إحْدَاهُمَا آبَاهُمَا، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ وَلَمْ يَتْرُك عَصَبَةً وَتَرَك ابْنَتَيْهِ هَاتَيْنِ فَلِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ بِالنَّسَبِ وَلِلَّتِي اشْتَرَتْ الْأَبَ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي خَاصَّةً بِالْوَلَاءِ فِي قَوْلِ الْأَوَّلِينَ لِأَنَّهَا عَصَبَةٌ وَفِي قَوْلِ الْآخَرِينَ الْبَاقِي يُرَدُّ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ فَإِنَّ اشْتَرَتَا آبَاهُمَا، ثُمَّ إنَّ إحْدَاهُمَا وَالْأَبُ اشْتَرَيَا أَخًا لَهُمَا مِنْ الْأَبِ، ثُمَّ مَاتَ الْأَب فَإِنَّ الْمَال بَيْن الِابْنَتَيْنِ وَبَيْنَ الِابْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ لِأَنَّهُ مَاتَ حُرًّا عَنْ ابْن حُرّ، وَعَنْ ابْنَتَيْنِ حُرَّتَيْنِ، فَكَانَ الْمِيرَاث لَهُمْ بِالْقَرَابَةِ فَلَا عِبْرَة لِلْوَلَاءِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ مَاتَ الِابْنُ بَعْد ذَلِكَ فَلِأُخْتَيْهِ الثُّلُثَانِ بِالنَّسَبِ وَالثُّلُث الْبَاقِي نِصْفُهُ لِلَّتِي اشْتَرَتْهُ مَعَ الْأَب خَاصَّة لِأَنَّ لَهَا نِصْف وَلَاء الْأَخ لِأَنَّهُ عَتَقَ بِشِرَائِهَا وَشِرَاء الْأَب، فَكَانَ وَلَاؤُهُ بَيْنهمَا وَمَا بَقِيَ فَبَيْنهمَا نِصْفَانِ لِأَنَّهُمَا مُشْتَرَكَتَانِ فِي وَلَاء الْأَب فَصَارَ حِصَّة الْأَب بَيْنهمَا نِصْفَيْنِ، وَهُوَ سُدُس جَمِيع الْمَال وَتَخْرُج الْمَسْأَلَة مِنْ اثْنَتَيْ عَشَرَ لِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ لِكُلِّ وَاحِدَة مِنْهُمَا أَرْبَعَة أَسْهُم وَنِصْف ثُلُث الْبَاقِي وَذَلِكَ سَهْمَانِ لِلَّتِي اشْتَرَتْهُ مَعَ الْأَب بِالْوَلَاءِ وَنِصْفُ الثُّلُث بَيْنهمَا نِصْفَانِ بِوَلَاءِ الْأَبِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ فَصَارَ لِلَّتِي اشْتَرَتْهُ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْأُخْرَى خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ عَلِيٍّ

وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذَا مَاتَ الِابْنُ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ فَلِأُخْتَيْهِ الثُّلُثَانِ بِالنَّسَبِ كَمَا قَالُوا وَالثُّلُثُ الْبَاقِي يُرَدُّ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ اشْتَرَتْ إحْدَاهُمَا الْأَبَ وَاشْتَرَتْ الْأُخْرَى وَالْأَبُ أَخًا لَهُمَا، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ فَالْمَالُ بَيْنَ الِابْنِ وَالِابْنَتَيْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ مَاتَ الْأَخُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ بِالنَّسَبِ وَنِصْفُ الثُّلُثِ الْبَاقِي لِلَّتِي اشْتَرَتْ الْأَخَ مَعَ الْأَبِ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِلَّتِي اشْتَرَتْ الْأَبَ خَاصَّةً فَيَصِيرُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَالثُّلُثُ الْبَاقِي يُرَدُّ عَلَيْهِمَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يُورَثُ مِنْ الْمُعْتَقِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَا يَكُونُ سَبِيلُهُ سَبِيلَ الْمِيرَاثِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ عَصَبَةُ الْمُعْتِقِ بِنَفْسِهَا وَهُمْ الذُّكُورُ مِنْ عَصَبَتِهِ لَا الْإِنَاثُ وَلَا الذُّكُورُ مِنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ» أَيْ لَا يُورَثُ مِنْ الْمُعْتَقِ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّهُ يُورَثُ مِنْ الْمُعْتِقِ وَلِأَنَّ الْوَلَاءَ لَمَّا كَانَ سَبَبُهُ النَّسَب، ثُمَّ النَّسَبُ لَا يُورَثُ نَفَسُهُ، وَإِنْ كَانَ يُورَثُ بِهِ فَكَذَا الْوَلَاءُ وَرَوَيْنَا عَنْ النُّجَبَاءِ السَّبْعَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ فَالظَّاهِرُ هُوَ السَّمَاعُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ ظَهَرَتْ الْفَتْوَى بَيْنَهُمْ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ فِيهَا مُخَالِفٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ أَيْ لِلْأَقْرَبِ، وَهُوَ أَقْرَبُ الْعَصَبَةِ إلَى الْمُعْتَقِ يُقَالُ فُلَانٌ أَكْبَرُ قَوْمِهِ إذَا كَانَ أَقْرَبَهُمْ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي يُنْسَبُونَ إلَيْهِ. وَإِنَّمَا شَرْطنَا الذُّكُورَةَ فِي هَذِهِ الْعُصُوبَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَصَبَةِ هُمْ الذُّكُورُ إذْ الْعَصَبَةُ عِبَارَةٌ عَنْ الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَبَرًا عَنْ بَنِي يَعْقُوبَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8] أَيْ جَمَاعَةٌ أَقْوِيَاءٌ أَشِدَّاءُ قَادِرُونَ عَلَى النَّفْعِ وَالدَّفْعِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَشُرَيْحٍ أَنَّ الْوَلَاءَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَالِ فَيُورَثُ مِنْ الْمُعْتِقِ كَمَا يُورَثُ سَائِرُ أَمْوَالِهِ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَرِثُ مِنْهُ الرِّجَالُ لَا النِّسَاءُ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ لِلنِّسَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ» الْخَبَرَ وَكَانَ شُرَيْحٌ يَقُولُ مَنْ أَحْرَزَ شَيْئًا فِي حَيَاتِهِ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا مَنْ أَحْرَزَ الْمَالَ أَحْرَزَ الْوَلَاءَ فَقَدْ أَنْزَلُوهُ مَنْزِلَةَ الْمَالِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَالِ وَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ مَنْ أَحْرَزَ الْمَالَ أَحْرَزَ الْوَلَاءَ أَيْ مَنْ أَحْرَزَ الْمَالَ مِنْ عَصَبَةِ الْمُعْتِقِ يَوْمَ مَوْتِ الْمُعْتَقِ أَحْرَزَ الْوَلَاءَ أَيْضًا بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُحْرِزُ الْمَالَ وَلَا تُحْرِزُ الْوَلَاءَ بِالْإِجْمَاعِ وَبِالْحَدِيثِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْعُ الْعَصَبَاتِ وَبِهِ نَقُولُ وَلِأَنَّ فِي الْحَمْلِ عَلَى مَا قُلْنَا عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فَهُوَ أَوْلَى، ثُمَّ بَيَانُ هَذَا فِي الْأَصْلِ فِي مَسَائِلَ فِي رَجُلٍ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ، ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتِقُ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ وَتَرَكَ ابْنًا، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَوَلَاؤُهُ لِابْنِ الْمُعْتِقِ لِصُلْبِهِ لَا لِابْنِ ابْنِهِ؛ لِأَنَّهُ الْأَكْبَرُ إذْ هُوَ أَقْرَبُ عَصَبَاتِ الْمُعْتِقِ بِنَفْسِهَا وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ كَوْنُ الْمُسْتَحِقِّ عَصَبَةً يَوْمَ مَوْتِ الْمُعْتِقِ لَا يَوْمَ مَوْتِ الْمُعْتَقِ وَيُعْتَبَرُ لَهُ الْكِبَرُ مِنْ حَيْثُ الْقُرْبُ لَا مِنْ حَيْثُ السِّنُّ أَلَا تَرَى أَنَّ الِابْنَ قَدْ يَكُونُ أَكْبَرَ سِنًّا مِنْ عَمِّهِ الَّذِي هُوَ ابْنُ الْمُعْتِقِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ إبْرَاهِيمَ وَشُرَيْحٌ فَالْمَالُ بَيْنَ ابْنِ الْمُعْتِقِ وَبَيْنَ ابْنِ ابْنِهِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْمِيرَاثِ عِنْدَهُمَا فَكَمَا مَاتَ الْمُعْتَقُ فَقَدْ وِرْثَاهُ جَمِيعًا فَانْتَقَلَ الْوَلَاءُ إلَيْهِمَا، ثُمَّ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى وَلَدِهِ كَمَا فِي مِيرَاثِ الْمَالِ، فَإِنْ مَاتَ الِابْنُ الْبَاقِي وَتَرَكَ ابْنًا، ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتِقُ فَالْوَلَاءُ بَيْنَ ابْنِ هَذَا الْمَيِّتِ وَبَيْنَ ابْنِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ نِصْفَيْنِ بِلَا خِلَافٍ أَمَّا عَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ فَلِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْعُصُوبَةِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْل إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَشُرَيْحٍ فَلِانْتِقَالِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى وَلَده وَلَوْ كَانَ الْأَوَّل حِينَ مَاتَ تَرَكَ ابْنَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ الْبَاقِي وَتَرَك ابْنًا وَاحِدًا، ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتَقُ فَالْوَلَاءُ بَيْنَ ابْنِ هَذَا وَابْنَيْ الْأَوَّلِ يَكُونُ ثَلَاثًا عِنْدَنَا لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الْعُصُوبَةِ، وَعِنْدَهُمَا الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ النِّصْفُ لِابْنِ هَذَا وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ ابْنَيْ الْأَوَّلِ نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ لِكُلِّ وَلَدٍ وَاحِدٍ حِصَّةَ أَبِيهِ، فَإِنْ مَاتَ الْمُعْتِقُ وَتَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ فَمَاتَ الْبَنُونَ وَتَرَكَ أَحَدُهُمْ ابْنًا وَاحِدًا وَتَرَكَ الْآخَرُ خَمْسَةَ بَنِينَ وَتَرَكَ الثَّالِثُ عَشْرَةَ بَنِينَ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ وَتَرَكَ مَالًا فَمَالُهُ بَيْنَ أَوْلَادِ الْبَنِينَ بِالسَّوِيَّةِ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْعُصُوبَةِ وَالْقُرْبِ مِنْ الْمُعْتَقِ وَعَلَى قَوْلِ إبْرَاهِيمَ وَشُرَيْحٍ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ثُلُثٌ لِابْنِ

الِابْنِ الْوَاحِدِ وَالثُّلُثُ الْآخَرُ بَيْنَ الْخَمْسَةِ بَنِي الِابْنِ وَالثُّلُثُ الْآخَرُ بَيْنَ الْعَشَرَةِ بَنِي الِابْنِ فَتَصِحُّ فَرِيضَتُهُمْ مِنْ ثَلَاثِينَ سَهْمًا لِابْنِ الِابْنِ الْوَاحِدِ عَشْرَةٌ وَعَشْرَةٌ بَيْنَ بَنِي الِابْنِ الْآخَرِ عَلَى خَمْسَةٍ وَعَشْرَةٌ بَيْنَ بَنِي الِابْنِ الْآخَرِ، وَهُوَ الثَّالِثُ عَلَى عَشْرَةٍ، وَلَوْ أَعْتَقَ رَجُلٌ هُوَ وَابْنُهُ عَبْدًا، ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ أَحَدُهُمَا شَرِيكُهُ فِي الْإِعْتَاقِ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَنِصْفُ الْوَلَاءِ لِابْنِهِ الَّذِي هُوَ شَرِيكُ أَبِيهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ شَرِيكُهُ فِي الْإِعْتَاقِ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حِصَّةُ أَبِيهِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ فَيَصِيرُ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِلِابْنِ الَّذِي كَانَ شَرِيكَ أَبِيهِ وَالرُّبْعُ لِلْآخَرِ، فَإِنْ مَاتَ شَرِيكُ أَبِيهِ قَبْلَ الْعَبْدِ وَتَرَكَ ابْنًا، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَلِابْنِ الِابْنِ نِصْفُ الْوَلَاءِ الَّذِي كَانَ لِأَبِيهِ خَاصَّةً وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِلِابْنِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ الْكُبْرُ مِنْ عَصَبَةِ الْأَبِ، فَكَانَ أَحَقَّ بِنَصِيبِهِ مِنْ الْوَلَاءِ فَيَصِيرُ نِصْفُ الْوَلَاءِ لِلْعَمِّ وَنِصْفُهُ لِابْنِ أَخِيهِ، فَإِنْ مَاتَ الْعَمُّ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَنِصْفُ الْوَلَاءِ لِابْنِ شَرِيكِ أَبِيهِ خَاصَّةً وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِي عَمِّهِ أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الثُّلُثُ فَيَصِيرُ لِابْنِ شَرِيكِ أَبِيهِ الثُّلُثَانِ وَيَصِيرُ لِابْنَيْ عَمِّهِ الثُّلُثُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، فَإِنْ مَاتَ الْمُعْتِقُ وَتَرَكَ ابْنًا وَأَبًا، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَالْوَلَاءُ لِلِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ، وَإِنْ سَفَلَ لَا لِلْأَبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ سُدُسَا الْوَلَاءِ لِلْأَبِ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَشَرِيكٍ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُمَا يُنْزِلَانِ الْوَلَاءَ مَنْزِلَةَ الْمِيرَاثِ وَالْحُكْمُ فِي الْمِيرَاثِ هَذَا، وَإِنَّمَا الْمُشْكِلُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ مَا يَتْرُكهُ الْمُعْتِقُ بَعْدَ مَوْتِهِ مَحَلَّ الْإِرْثِ، بَلْ يَجْعَلُهُ لِعَصَبَةِ الْمُعْتِقِ بِنَفْسِهَا وَالْأَبُ لَا عُصُوبَةَ لَهُ مَعَ الِابْنِ، بَلْ هُوَ صَاحِبُ فَرِيضَةٍ كَمَا فِي مِيرَاثِ الْمَالِ، فَكَانَ الِابْنُ هُوَ الْعَصَبَةُ، فَكَانَ الْوَلَاءُ لَهُ. فَإِنْ مَاتَ الْمُعْتِقُ وَتَرَكَ أَبًا وَثَلَاثَةَ إخْوَةً مُتَفَرِّقِينَ أَخًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخًا لِأَبٍ وَأَخًا لِأُمٍّ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَالْوَلَاءُ لِلْأَبِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ الْعَصَبَةُ، فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَالْوَلَاءُ لِلْأَخِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ إلَى الْمُعْتِقِ، فَإِنْ مَاتَ الْأَخُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَتَرَكَ ابْنًا فَإِنَّ الْوَلَاءَ يَرْجِعُ إلَى الْأَخِ لِأَبٍ؛ لِأَنَّهُ الْكُبْرُ، فَإِنْ مَاتَ الْأَخُ مِنْ الْأَبِ وَتَرَكَ ابْنًا فَإِنَّ الْوَلَاءَ يَرْجِعُ إلَى ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ، فَإِنْ مَاتَ ابْنُ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَتَرَكَ ابْنًا فَإِنَّ الْوَلَاءَ يَرْجِعُ إلَى ابْنِ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ، فَإِنْ مَاتَ ابْنُ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ وَتَرَكَ ابْنًا فَإِنَّ الْوَلَاءَ يَرْجِعُ إلَى ابْنِ ابْنِ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ وَلَا يَرِثُ الْأَخُ مِنْ الْأُمِّ وَلَا أَحَدَ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ شَيْئًا مِنْ الْوَلَاءِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ مَاتَ الْمُعْتِقُ وَتَرَكَ جَدَّهُ أَبَا أَبِيهِ وَأَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ أَوْ لِأَبِيهِ فَالْوَلَاءُ لِلْجَدِّ لَا لِلْأَخِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْوَلَاءُ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ نِصْفَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لِلْأَخِ مَعَ الْجَدِّ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يُوَرِّثَانِ الْأَخَ مَعَ الْجَدِّ بِالتَّعْصِيبِ، فَإِنْ مَاتَ الْمُعْتِقُ وَتَرَكَ ابْنًا وَبِنْتًا، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَالْوَلَاءُ لِلِابْنِ لَا لِلْبِنْتِ؛ لِأَنَّ الِابْنَ هُوَ الْعَصَبَةُ بِنَفْسِهِ لَا الْبِنْتُ وَلِقَوْلِ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ، أَوْ كَاتَبْنَ، أَوْ كَاتَبَ مَنْ كَاتَبْنَ» وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا الْمُسْتَثْنَى فَبَقِيَ اسْتِحْقَاقُهَا الْوَلَاءَ عَلَى أَصْلِ النَّفْيِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَرِثْنَ بِالْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ، أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ، أَوْ كَاتَبْنَ، أَوْ كَاتَبَ مَنْ كَاتَبْنَ أَوْ دَبَّرْنَ، أَوْ دَبَّرَ مَنْ دَبَّرْنَ وَأَوْلَادُهُمْ وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهِمْ، وَإِنْ سَفَلُوا إذَا كَانُوا مِنْ امْرَأَةٍ مُعْتَقَةٍ، أَوْ مَا جَرَّ مُعْتِقُهُنَّ مِنْ الْوَلَاءِ إلَيْهِنَّ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ امْرَأَةٌ أَعْتَقَتْ عَبْدًا لَهَا، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ وَلَا وَارِثَ لَهُ فَوَلَاؤُهُ لِلْمَرْأَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً فِي النِّسَاءِ «لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ» ، وَهَذَا مُعْتَقُهَا وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَمَنْ تَعُمُّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى فَلَوْ أَنَّ مُعْتِقَهَا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْأَسْفَلُ وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا فَوَلَاؤُهُ لِمَوْلَاهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ وَلَا يَرِثُ مَوْلَاهُ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مُعْتِقُ مَوْلَاهُ وَلَيْسَ بِمُعْتَقِهَا حَقِيقَةً، بَلْ مُعْتِقِ مُعْتِقِهَا، فَكَانَ إثْبَاتُ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ حَقِيقَةً أَوْلَى، فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ الْأَعْلَى وَلَمْ يَتْرُكْ عَصَبَةً، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْأَسْفَلُ فَوَلَاؤُهُ لِلْمَرْأَةِ الْمُعْتَقَةِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتِقُ مُعْتِقِهَا فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَوْ أَعْتَقَ» مَنْ أَعْتَقْنَ وَلَوْ تَرَكَ الْعَبْدُ الْأَعْلَى عَصَبَةً فَمَالُهُ لِعَصَبَتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ شَرْطَ الْإِرْثِ بِالْوَلَاءِ أَنْ لَا يَكُونُ لَلْمُعْتِقِ عَصَبَةٌ مِنْ النَّسَبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ الْمُعْتِقَ الثَّانِي أَعْتَقَ ثَالِثًا وَالثَّالِثَ أَعْتَقَ رَابِعًا فَمِيرَاثُهُمْ كُلُّهُمْ إذَا مَاتُوا لَهَا إذَا لَمْ يُخْلِفْ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ مَوْلًى أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْهَا وَلَا عَصَبَةً وَلَوْ كَاتَبَتْ

الْمَرْأَةُ عَبْدًا لَهَا فَأَدَّى فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُكَاتَبُ فَوَلَاؤُهُ لَهَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَوْ كَاتَبْنَ» وَكَذَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ الْمُكَاتَبُ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ مِنْ أَكْسَابِهِ فَأَدَّى الْأَسْفَلُ أَوَّلًا فَعَتَقَ، كَانَ وَلَاؤُهُ لَهَا؛ لِأَنَّ الْأَعْلَى لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ بَعْدُ، وَكَذَا إذَا أَدَّيَا جَمِيعًا مَعًا فَعَتَقَا فَوَلَاؤُهُمَا لَهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَوْ كَاتَبَ» مَنْ كَاتَبْنَ وَكَذَا إذَا دَبَّرَتْ امْرَأَةٌ عَبْدًا لَهَا فَمَاتَتْ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ، كَانَ وَلَاؤُهَا مِنْهَا حَتَّى يَكُونَ لِلذُّكُورِ مِنْ عَصَبَتِهَا وَكَذَا إذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ حَتَّى عَتَقَ الْمُدَبَّرُ بِمَوْتِهَا فَدَبَّرَ عَبْدًا لَهُ فَوَلَاؤُهُ يَكُونُ لِعَصَبَتِهَا، وَكَذَا وَلَاءُ أَوْلَادِهَا وَوَلَاءُ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ الَّذِينَ وُلِدُوا مِنْ امْرَأَةٍ مُعْتَقَةٍ يَكُونُ لَهَا؛ لِأَنَّ وَلَاءَهُمْ يَثْبُتُ لِآبَائِهِمْ، وَوَلَاءُ آبَائِهِمْ لَهَا، كَذَا وَلَاءُ أَوْلَادِهِمْ. امْرَأَةٌ زَوَّجَتْ عَبْدَهَا بِمَوْلَاةِ قَوْمٍ فَوَلَدَتْ وَلَدًا فَوَلَاءُ الْوَلَدِ يَكُونُ لِمَوْلَى أُمِّهِ وَلَا يَكُونُ لِلْمَرْأَةِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُشَكُّ فِيهِ؛ لِأَنَّ أَبَا الْوَلَدِ لَيْسَ بِمُعْتَقٍ بَلْ هُوَ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ وَلَا يُتَصَوَّرُ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ بِدُونِ الْعِتْقِ فَلَوْ أَعْتَقَتْ الْمَرْأَةُ عَبْدَهَا جَرَّ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ وَلَاءَ الْوَلَدِ إلَى مَوْلَاتِهِ حَتَّى لَوْ مَاتَ الْوَلَدُ وَلَا وَارِثَ لَهُ كَانَ مَالُهُ لِأَبِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ فَإِنْ كَانَ مَاتَ فَوَلَاؤُهُ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي أَعْتَقَتْ أَبَاهُ، هَذَا تَفْسِيرُ جَرّ مَوَالِيَ النِّسَاءِ الْوَلَاءَ إلَيْهِنَّ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. امْرَأَةٌ أَعْتَقَتْ عَبْدًا لَهَا ثُمَّ مَاتَتْ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَوَلَاءُ مُعْتَقَهَا لِوَلَدِهَا الذُّكُورِ إنْ كَانُوا مِنْ عَصَبَتِهَا، وَعَقْلُهُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ عَصَبَتِهَا فَوَلَاءُ مُعْتَقَهَا لِوَلَدِهَا الذُّكُورِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ غَيْرِ عَصَبَتِهَا، وَعَقْلُهُ عَلَى سَائِرِ عَصَبَتِهَا دُونَ وَلَدِهَا فَإِنْ انْقَرَضَ وَلَدُهَا وَخَلَّفُوا عَصَبَةً لَهُمْ لَيْسُوا مِنْ قَوْمِ الْمَرْأَةِ الْمُعْتِقَةِ وَلَهَا عَصَبَةٌ كَانَ لِعَصَبَتِهَا دُونَ عَصَبَةِ ابْنِهَا؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْكِبَرِ، وَأَنَّهُ لَا يُورَثُ، وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: يَرْجِعُ الْوَلَاءُ إلَى عَصَبَتِهَا إذَا انْقَطَعَ وَلَدُهَا الذُّكُورُ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عَصَبَةٌ مِنْ نَسَبٍ وَكَانَ لَهَا مَوَالٍ أَعْتَقُوهَا فَالْوَلَاءُ لِمَوَالِيهَا، وَكَانَ شُرَيْحٌ يَجْعَلُ الْوَلَاءَ بَعْدَ بَنِيهَا لِعَصَبَةِ الْبَنِينَ دُونَ عَصَبَتِهَا؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْوَلَاءَ مِيرَاثًا كَالْمَالِ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ امْرَأَةٌ أَعْتَقَتْ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ ابْنًا وَأَخًا لَهَا، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ، فَمَالُهُ لِابْنِهَا لَا لِأَخِيهَا بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ مَاتَ ابْنُهَا وَتَرَكَ أَخًا لَهُ وَأَبَاهُ فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِلْخَالِ دُونَ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْخَالَ أَخٌ الْمُعْتِقَةِ وَهُوَ عَصَبَتُهَا وَالْأَبُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُعْتِقَةِ، وَعَلَى قَوْلِ شُرَيْحٍ الْوَلَاءُ الَّذِي لِلْأَخِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْأَبِ لَا لِلْخَالِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ عَصَبَةُ الِابْنِ، وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ الِابْنُ وَتَرَكَ أَخًا لِأَبٍ أَوْ عَمًّا أَوْ جَدًّا مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ أَوْ تَرَكَ ابْنَ عَمٍّ أَوْ تَرَكَ مَوَالِيَ أَبِيهِ فَهَذَا كُلُّهُ سَوَاءٌ، وَالْوَلَاءُ يَرْجِعُ إلَى عَصَبَةِ الْأُمِّ، الْأَقْرَبُ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ إنْ كَانَ لَهَا بَنُو عَمٍّ يَرْجِعُ إلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَكَانَ لَهَا مَوَالٍ أَعْتَقُوهَا يَرْجِعُ الْوَلَاءُ إلَيْهِمْ، وَفِي قَوْلِ شُرَيْحٍ لَا يَرْجِعُ الْوَلَاءُ، وَيَمْضِي عَلَى جِهَتِهِ، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى إنَّ الْوَلَاءَ لِلذُّكُورِ مِنْ وَلَدِهَا، وَالْعَقْلُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا دُونَ سَائِرِ عَصَبَةِ الْمُعْتِقَةِ، وَقَالَا كَمَا يَرِثُونَهُ كَذَلِكَ يَعْقِلُونَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا أَنَّ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اخْتَصَمَا إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي وَلَاءِ مَوْلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ الزُّبَيْرُ: هِيَ أُمِّي فَأَنَا أَرِثُهَا وَلِيَ وَلَاؤُهَا، وَقَالَ عَلِيٌّ: هِيَ عَمَّتِي وَأَنَا عَصَبَتُهَا، وَأَنَا أَعْقِلُ عَنْهَا فَلِي وَلَاؤُهَا فَقَضَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْوَلَاءِ لِلزُّبَيْرِ، وَبِالْعَقْلِ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ بِالْعُصُوبَةِ، وَالِابْنُ فِي ذَلِكَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَخِ وَابْنِ الْعَمِّ وَأَمَّا الْعَقْلُ فَبِالتَّنَاصُرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الدِّيوَانِ يَتَعَاقَلُونَ بِالتَّنَاصُرِ وَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمْ وَلَا عُصُوبَةَ، وَالتَّنَاصُرُ لَهَا وَلِمَوْلَاهَا بِقَوْمِ أَبِيهَا لَا بِابْنِهَا؟ كَذَلِكَ كَانَ الْعَقْلُ عَلَيْهِمْ وَاعْتِبَارُ الْعَقْلِ بِالْمِيرَاثِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَيْسَ يَتْبَعُ الْمِيرَاثَ لَا مَحَالَةَ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَرِثُهُ وَلَدُهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وَأَخَوَاتُهُ وَلَوْ جَنَى جِنَايَةً لَهَا عَقْلٌ كَانَ عَقْلُهَا عَلَى عَصَبَتِهِ دُونَ وَلَدِهِ وَأَخَوَاتِهِ؟ وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَةً لَهُ ثُمَّ غَرِقَا جَمِيعًا وَلَا يَدْرِي أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا، لَمْ يَرِثْ الْمَوْلَى مِنْهَا وَكَانَ مِيرَاثُهُ لِعَصَبَةِ الْمَوْلَى إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْغَرْقَى وَالْهَدْمَى لَا يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّ كُلَّ أَمْرَيْنِ حَادِثَيْنِ لَا يُعْرَفُ تَارِيخُهُمَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وَقَعَا مَعًا وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ لَازِمٌ حَتَّى لَا يَقْدِرَ الْمُعْتِقُ عَلَى إبْطَالِهِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ سَائِبَةً، بِأَنْ أَعْتَقَهُ وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ سَائِبَةً لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ، كَانَ شَرْطُهُ بَاطِلًا وَوَلَاؤُهُ لَهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ: وَلَاؤُهُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَكَذَا لَا يَمْلِكُ نَقْلَهُ إلَى غَيْرِهِ حَتَّى لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ

وَهِبَتُهُ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ، وَالْوَصِيَّةُ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَمْلِكُ نَقْلَهُ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ أَسْمَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَعْتَقَتْ عَبْدًا فَوَهَبَتْ الْوَلَاءَ لِابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَلَنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «: الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ» . وَلِأَنَّ مَحَلَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالُ، وَالْوَلَاءُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالنَّسَبِ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَهَبَتْ لَهُ مَا اسْتَحَقَّتْ بِالْوَلَاءِ وَهُوَ الْمَالُ فَرَوَاهُ الرَّاوِي وَلَاءً لِكَوْنِهِ مُسْتَحَقًّا بِالْوَلَاءِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَكَذَا إذَا بَاعَ عَبْدًا وَشَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ لَهُ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لَلْمُشْتَرِي إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَصِحَّ، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لَهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمَّا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ شَرَطَ عَلَيْهَا أَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهَا لِمَوَالِيهَا فَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ» وَهَلْ يَحْتَمِلُ الْوَلَاءُ التَّحَوُّلَ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ؟ يُنْظَرُ فِيهِ إنْ ثَبَتَ بِإِيقَاعِ الْعِتْقِ فِيهِ لَا يَتَحَوَّلُ أَبَدًا؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» أَلَزِمَ الْوَلَاءُ الْمُعْتِقَ وَإِنْ ثَبَتَ بِحُصُولِ الْعِتْقِ لِغَيْرِهِ، تَبَعًا يَتَحَوَّلُ إذَا قَامَ دَلِيلُ التَّحَوُّلِ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عِنْدَ تَزَوُّجِ أَمَةٍ لِقَوْمٍ فَوَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا فَأَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَوَلَدَهَا أَوْ كَانَتْ حُبْلَى بِهِ حِينَ أَعْتَقَهَا أَوْ أَعْتَقَهَا فَوَلَدَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ لَأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، أَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ أَوْ مَوْتٍ فَوَلَدَتْ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ الْمَوْتِ أَوْ الطَّلَاقِ وَقَدْ أَعْتَقَ الْأَبَ رَجُلٌ آخَرُ كَانَ وَلَاءُ الْوَلَدِ لِلَّذِي أَعْتَقَهُ مَعَ أُمِّهِ، وَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى مَوْلَى أَبِيهِ وَإِنْ أُعْتِقَ أَبُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْتَقَهُمَا فَقَدْ ثَبَتَ وَلَاءُ الْوَلَدِ بِإِيقَاعِ الْعِتْقِ فِيهِ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّحَوُّلَ، وَكَذَا إذَا أَعْتَقَهَا وَهِيَ حُبْلَى لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا إذَا أَعْتَقَهَا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِكَوْنِهِ فِي الْبَطْنِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُولَدُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَيَثْبُتُ وَلَاؤُهُ بِالْإِعْتَاقِ فَلَا يَتَحَوَّلُ، وَلَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا يَتَحَوَّلُ وَلَاؤُهُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ؛ لِأَنَّا لَمْ نَعْلَمْ يَقِينًا أَنَّهُ كَانَ فِي الْبَطْنِ وَقْتَ إعْتَاقِ الْأُمِّ فَيُجْعَلَ كَأَنَّهَا حَبِلَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ فَيَكُونَ حُرًّا تَبَعًا لِلْأُمِّ، وَيَثْبُتَ لَهُ الْوَلَاءُ مِنْ مَوَالِي أُمِّهِ عَلَى جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ، وَوَلَاءُ الْوَلَدِ إذَا ثَبَتَ لِمَوَالِي الْأُمِّ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِيَّةِ يَتَحَوَّلُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ إذَا أُعْتِقَ الْأَبُ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَإِذَا كَانَتْ الْأُمُّ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ أَوْ مَوْتٍ فَإِنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ إلَى سَنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ كَانَ حَرَامًا فَيُجْعَلُ مُدَّةَ الْحَمْلِ سَنَتَيْنِ وَيُحْكَمُ بِكَوْنِ الْوَلَدِ فِي الْبَطْنِ يَوْمَ الْإِعْتَاقِ، فَإِذَا حَكَمْنَا بِوُجُودِهِ يَوْمَ الْإِعْتَاقِ يَثْبُتُ الْوَلَاءُ بِالْإِعْتَاقِ فَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى غَيْرِهِ وَإِذَا كَانَتْ الْمُعْتَقَةُ تَحْتَ مَمْلُوكٍ فَوَلَدَتْ عَتَقَ الْوَلَدُ بِعِتْقِهَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَإِنْ أُعْتِقَ أَبُوهُ جَرَّ وَلَاءَ الْوَلَدِ إلَى مَوْلَاهُ. هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَتْ الْحُرَّةُ تَحْتَ مَمْلُوكٍ فَوَلَدَتْ عَتَقَ الْوَلَدُ بِعِتْقِهَا، فَإِذَا أُعْتِقَ أَبُوهُ جَرَّ الْوَلَاءَ. وَعَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَبْصَرَ فِتْيَةً لَعْسَاءَ أَعْجَبَهُ ظُرْفُهُمْ، وَأُمُّهُمْ مَوْلَاةٌ لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَبُوهُمْ عَبْدٌ لِبَعْضِ (الْحُرْقَةِ) مِنْ جُهَيْنَةَ أَوْ لِبَعْضِ أَشْجَعَ فَاشْتَرَى الزُّبَيْرُ أَبَاهُمْ فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ قَالَ: انْتَسِبُوا إلَيَّ، وَقَالَ رَافِعٌ: بَلْ هُمْ مَوَالِيَّ فَاخْتَصَمَا إلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي وَلَاءِ الْوَلَدِ فَقَضَى بِوَلَائِهِمْ لِلزُّبَيْرِ. يَعْنِي أَنَّ الْأَبَ جَرَّ وَلَاءَ وَلَدِهِ إلَى مَوْلَاهُمْ وَهُوَ الزُّبَيْرُ حِينَ أَعْتَقَهُ الزُّبَيْرُ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَلَاءِ هُوَ الْأَبُ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، وَالْأَبُ هُوَ الْأَصْلُ فِي النَّسَبِ حَتَّى يُنْسَبُ الْوَلَدُ إلَى الْأَبِ وَلَا يُنْسَبُ إلَى الْأُمِّ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ النِّسْبَةِ إلَى الْأَبِ، وَكَذَا فِي اعْتِبَارِ الْوَلَاءِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ جَانِبُ الْأُمِّ عِنْدَ تَعَذُّرِ الِاعْتِبَارِ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ وَلَا تَعَذُّرَ هَهُنَا فَيُعْتَبَرَ جَانِبُهُ، وَلِأَنَّ الْإِرْثَ بِالْوَلَاءِ مِنْ طَرِيقِ الْعُصُوبَةِ، وَالتَّعْصِيبُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَقْوَى فَكَانَ أَوْلَى، وَلَوْ مَاتَ الْأَبُ عَبْدًا وَلَمْ يَعْتِقْ كَانَ وَلَاءُ وَلَدِهِ لِمَوَالِي الْأُمِّ أَبَدًا لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ جَانِبِ الْأَبِ. وَأَمَّا الْجَدُّ فَهَلْ يَجُرُّ وَلَاءَ الْحَافِدِ بِأَنْ كَانَ لِلْأَبِ الَّذِي هُوَ عَبْدٌ أَبٌ عَبْدٌ، وَهُوَ جَدُّ الصَّبِيِّ فَأُعْتِقَ الْجَدُّ، وَالْأَبُ عَبْدٌ عَلَى حَالِهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَجُرُّ وَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ الْجَدِّ، وَوَلَاءُ أَوْلَادِ ابْنِهِ الْعَبْدِ لِمَوَالِي الْأُمِّ لَا لِمَوَالِي الْجَدِّ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: يَجُرُّ، وَيَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ الْجَدِّ، وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْجَدَّ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ فِي الْوِلَايَةِ فَإِنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ عَبْدًا تَتَحَوَّلُ الْوِلَايَةُ إلَى الْجَدِّ، فَكَذَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي جَرِّ الْوَلَاءِ وَالْإِسْلَامِ، وَلَنَا أَنَّ الْأَبَ

فَاصِلٌ بَيْنَ الِابْنِ وَالْجَدِّ، فَلَا يَكُونُ الِابْنُ تَابِعًا لَهُ فِي الْوَلَاءِ وَالْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْجَدَّ لَوْ جَرَّ الْوَلَاءَ لَكَانَ لَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ لِمَوَالِي الْأُمِّ رَأْسًا، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ أَصْلَهُ يَكُونُ حُرًّا أَمَّا مِنْ الْجَدِّ أَيْ لِأَبِيهِ أَوْ مِنْ قِبَلِهِ مِنْ الْأَجْدَادِ إلَى آدَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا ثَبَتَ الْوَلَاءُ لِمَوَالِي الْأُمِّ فِي الْجُمْلَةِ ثَبَتَ أَنَّ الْجَدَّ لَا يَجُرُّ، وَكَذَا لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ الْجَدِّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَارَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ لَصَارَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ جَدِّ الْجَدِّ، وَلَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِ آدَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ اسْتِرْقَاقُ أَحَدٍ، وَالْمَعْلُومُ بِخِلَافِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِجَعْلِ الْوَلَدِ تَابِعًا لِلْجَدِّ فِي الْوَلَاءِ بَاطِلٌ. وَأَمَّا بَيَانُ قَدْرِهِ فَالْوَلَاءُ يَثْبُتُ بِقَدْرِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِهِ الْعِتْقُ، وَالْحُكْمُ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ السَّبَبِ، وَبَيَانُهُ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ أَوْ مُعْسِرٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ بِنَاءً عَلَى تَجَزُّؤِ الْعِتْقِ وَعَدَمِ تَجَزُّئِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْوَلَاءِ فَلَهُ أَحْكَامٌ: مِنْهَا الْمِيرَاثُ وَهُوَ أَنْ يَرِثَ الْمُعْتِقُ مَالَ الْمُعْتَقِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَيَرِثُ مَالَ أَوْلَادِهِ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ الْإِرْثِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا. وَمِنْهَا تَحَمُّلُ الْعَقْلِ لِلتَّقْصِيرِ فِي النُّصْرَةِ وَالْحِفْظِ، وَمِنْهَا وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْعَصَبَاتِ، ثُمَّ إذَا وَرِثَ الْمُعْتِقُ مَالَ الْمُعْتَقِ فَإِنْ كَانَ الْعِتْقُ مَعْلُومًا يُدْفَعْ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ تَوَقَّفَ الْوَلَاءُ؛ كَمَا إذَا اشْتَرَى رَجُلٌ عَبْدًا ثُمَّ إنَّ الْمُشْتَرِيَ أَقَرَّ أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ قَدْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ فَهُوَ حُرٌّ وَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ إذَا جَحَدَ الْبَائِعُ ذَلِكَ، فَإِنْ صَدَّقَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْوَلَاءُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الثَّمَنَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَكَذَا إنْ صَدَّقَهُ وَرَثَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. أَمَّا حُرِّيَّةُ الْعَبْدِ فَإِنَّ إعْتَاقَ الْبَائِعِ إنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ الْبَائِعِ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي لِتَكْذِيبِ الْبَائِعِ إيَّاهُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ فِي إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ مُصَدَّقٌ إنْ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى غَيْرِهِ، فَيَثْبُتُ إعْتَاقُ الْبَائِعِ حَقَّهُ، فَيَثْبُتُ حُرِّيَّةُ الْعَبْدِ فِي حَقِّهِ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْإِعْتَاقِ لَمْ يَنْفُذْ فِي حَقِّهِ لِتَكْذِيبِهِ إيَّاهُ، فَلَمْ يَثْبُتْ عِتْقُ الْعَبْدِ فِي حَقِّهِ. وَأَمَّا كَوْنُ الْوَلَاءِ مَوْقُوفًا فَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِإِعْتَاقِ الْعَبْدِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَنْفُذْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ الْعِتْقُ مَعْلُومًا، فَبَقِيَ وَلَاءُ الْعَبْدِ مَوْقُوفًا عَلَى تَصْدِيقِ الْبَائِعِ لَهُ وَوَرَثَتِهِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْبَائِعُ لَزِمَهُ الْوَلَاءُ؛ لِوُجُودِ الْإِعْتَاقِ مِنْهُ بِإِقْرَارِهِ، وَلَزِمَهُ رَدُّ الثَّمَنِ إلَى الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ حُرًّا، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْبَائِعُ فَصَدَّقَهُ وَرَثَةُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ وَرَثَتَهُ قَامُوا مَقَامَ الْمَيِّتِ فَصَارَ تَصْدِيقُهُمْ كَتَصْدِيقِ الْمَيِّتِ، هَذَا إذَا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِإِعْتَاقِ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِتَدْبِيرِهِ وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ فَمَاتَ الْبَائِعُ عَتَقَ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُشْتَرِي بِالتَّدْبِيرِ مِنْ الْبَائِعِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِإِعْتَاقِهِ الْعَبْدَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِذَا مَاتَ نَفَذَ إقْرَارُهُ فِي حَقِّهِ إنْ لَمْ يَنْفُذْ فِي حَقِّ الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا، فَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَوَلَاؤُهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا لِمَا قُلْنَا إلَّا إذَا صَدَّقَهُ وَرَثَةُ الْبَائِعِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَلْزَمُ الْوَلَاءُ الْبَائِعَ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ فِي هَذَا، وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْضًا، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ وَلَاءَ الْمَيِّتِ لَمْ يَثْبُتْ فَالْوَرَثَةُ بِالتَّصْدِيقِ يُرِيدُونَ إثْبَاتَ وَلَاءٍ لَمْ يَثْبُتْ فَلَا يَمْلِكُونَ ذَلِكَ كَمَا لَا يَمْلِكُونَ إثْبَاتَ النَّسَبِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ تَصْدِيقَهُمْ إقْرَارٌ مِنْهُمْ بِمَا يَمْلِكُونَ إنْشَاءَ سَبَبِهِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ إعْتَاقَ الْعَبْدِ لِلْحَالِ فَكَانَ إقْرَارًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِثُبُوتِ الْوَلَاءِ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُمْ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ بِثُبُوتِ الْوَلَاءِ، وَكَذَلِكَ أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ مِنْ صَاحِبِهِ، وَصَاحِبُهُ يُنْكِرُ، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ، وَوَلَاؤُهَا مَوْقُوفٌ أَمَّا الْعِتْقُ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدِ مِنْهُمَا أَقَرَّ عَلَى صَاحِبِهِ بِعِتْقِهَا عِنْدَ مَوْتِ صَاحِبِهِ، فَيَصِحُّ إقْرَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَيَكُونُ وَلَاؤُهَا مَوْقُوفًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفَى الْوَلَاءَ عَنْ نَفْسِهِ وَأَلْحَقَهُ بِصَاحِبِهِ فَانْتَفَى عَنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يَلْحَقْ بِصَاحِبِهِ فَبَقِيَ مَوْقُوفًا، وَكَذَلِكَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: إنَّك قَدْ أَعْتَقْت هَذَا الْعَبْدَ وَجَحَدَ الْآخَرُ فَالْعَبْدُ حُرٌّ وَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ، حَتَّى لَوْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا لَمْ يَرِثْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَيُوقَفُ فِي بَيْتِ الْمَالِ إلَى أَنْ يُصَدِّقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ لِمَا قُلْنَا، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ ثُمَّ كُلُّ وَلَاءٍ مَوْقُوفٌ فَمِيرَاثُهُ يُوقَفُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَجِنَايَةُ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَعْقِلُ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يُوقَفُ مِيرَاثُهُ بِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَهُ مَوْقُوفٌ لَا يُعْرَفُ لِمَنْ هُوَ فَكَانَ مِيرَاثُهُ مَوْقُوفًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ فَيُوقَفُ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَاللُّقْطَةِ. وَأَمَّا جِنَايَتُهُ فَإِنَّمَا لَا تُتَحَمَّلُ عَنْهُ بِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ لَهُ عَاقِلَةً غَيْرَ بَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ نَفْسُهُ، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ عَقْلِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَيَصِيرُ هُوَ عَاقِلَةَ نَفَسِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِجَهَالَةِ مَوْلَاهُ، بِخِلَافِ

الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ لِغَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا أَحَدُهُمَا وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَيُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ضَرُورَةً، وَهَذَا بِخِلَافِ اللَّقِيطِ إنَّهُ يَرِثُهُ بَيْتُ الْمَالِ وَيَعْقِلُ عَنْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَهُنَا وَلَاءَهُ كَانَ ثَابِتًا مِنْ إنْسَانٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ الْعَقْلُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَاءٌ ثَابِتٌ إلَّا أَنَّ مِيرَاثَهُ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ وَلَا يَثْبُتُ وَلَاءُ اللَّقِيطِ مِنْ أَحَدٍ فَكَانَ عَقْلُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، كَمَا أَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ الْوَلَاءُ. فَالْوَلَاءُ يَظْهَرُ بِالْبَيِّنَةِ مَرَّةً، وَبِالْإِقْرَارِ أُخْرَى. أَمَّا الْبَيِّنَةُ فَنَحْوُ أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ أَنَّهُ وَارِثُهُ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ فَيَشْهَدُ لَهُ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا الْحَيَّ أَعْتَقَ هَذَا الْحَيَّ أَوْ أَعْتَقَ الْمَيِّتَ، وَهُوَ يَمْلِكُهُ وَهُوَ وَارِثُهُ، وَلَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ جَازَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا شَهَادَةً مُفَسَّرَةً، لَا جَهَالَةَ فِيهَا. فَقُبِلَتْ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ الْمَيِّتَ مَوْلَاهُ، وَأَنَّهُ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ حَتَّى يُفَسَّرَ الْوَلَاءُ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ يَخْتَلِفُ، قَدْ يَكُونُ وَلَاءَ عَتَاقَةٍ، وَقَدْ يَكُونُ وَلَاءَ مُوَالَاةٍ، وَأَحْكَامُهَا تَخْتَلِفُ، فَمَا لَمْ يُفَسَّرْ كَانَ مَجْهُولًا فَلَا يُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّ الْمَيِّتَ مَوْلَاهُ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَيْضًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ نَوْعَانِ أَعْلَى وَأَسْفَل، وَاسْمُ الْمَوْلَى يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ إلَّا بِالْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ، وَلَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ وَلَاءَهُ بِالْعِتْقِ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً جُعِلَ مِيرَاثُهُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الدَّعْوَى وَالْحَجَّةُ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَوْ وَقَّتَا وَقْتًا فَالسَّابِقُ وَقْتًا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْعِتْقَ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ صَاحِبُهُ وَكَانَ الثَّانِي مُسْتَحِقًّا عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ كَانَ صَاحِبُ الْوَقْتِ الْآخَرِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَالْفَسْخَ، فَكَانَ عَقْدُ الثَّانِي نَقْضًا لِلْأَوَّلِ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ شُهُودُ صَاحِبِ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ عَقَلَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَأَشْبَهَ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ، وَإِنْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا سِوَاهُ فَقَضَى لَهُ الْقَاضِي بِمِيرَاثِهِ وَوَلَائِهِ، ثُمَّ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ، إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ الْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يُعْتِقَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ فَيَبْطُلُ قَضَاءُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِقَضِيَّةٍ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَا يُنَافِيهَا إلَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ كَانَ بَاطِلًا وَإِذَا لَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ الْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يُعْتِقَهُ ثُمَّ يَتَبَيَّنَ بُطْلَانُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ فَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ مِنْ الثَّانِي إلَّا إذَا قَامَتْ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ الْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يُعْتِقَهُ فَيُقْبَلُ، وَيَقْضِي لِلثَّانِي وَيَبْطُلُ قَضَاؤُهُ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ أَعْتَقَ مَا لَا يَمْلِكُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا وَصَحَّ الثَّانِي. وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَنَحْوُ أَنْ يُقِرَّ رَجُلٌ أَنَّهُ مَوْلًى لِفُلَانٍ، مَوْلَى عَتَاقَةٍ مِنْ فَوْقُ أَوْ تَحْتُ وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ، وَهُوَ مَوْلَاهُ يَرِثُهُ وَيَعْقِلُ عَنْهُ قَوْمُهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ سَبَبٌ يُتَوَارَثُ بِهِ فَيَصِحُّ الْإِقْرَارُ بِهِ كَالنَّسَبِ وَالنِّكَاحِ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ كِبَارٌ فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: أَبُونَا مَوْلَى الْعَتَاقَةِ لِفُلَانٍ آخَرَ، فَالْأَبُ مُصَدَّقٌ عَلَى نَفَسِهِ، وَأَوْلَادُهُ مُصَدَّقُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَبِ عَلَى الْأَوْلَادِ الْكِبَارِ، فَلَا يَنْفُذُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِمْ، وَيَصِحُّ إقْرَارُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّ لَهُمْ وِلَايَةً عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَادُ صِغَارًا كَانَ الْأَبُ مُصَدَّقًا؛ لِأَنَّهُ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ مَعَ إنْسَانٍ عَقْدَ الْوَلَاءِ تَبِعَهُ أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ؟ وَإِنْ كَذَّبَتْهُ الْأُمُّ وَنَفَتْ وَلَاءَهُ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهَا، وَيُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ حَيًّا كَانَتْ الْوِلَايَةُ لَهُ، وَالْوَلَاءُ يُشْبِهُ النَّسَبَ، وَالنَّسَبُ إلَى الْآبَاءِ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَتْ: هُمْ وَلَدِي مِنْ غَيْرِك لَمْ تُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي يَدِ الْأَبِ دُونَ الْأُمِّ، فَلَا تُصَدَّقُ الْأُمُّ أَنَّهُمْ لِغَيْرِهِ. فَإِنْ قَالَتْ وَلَدْته بَعْدَ عِتْقِي بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مَوْلَى الْمَوَالِي، وَقَالَ الزَّوْجُ: وَلَدْتِيهِ بَعْدَ عِتْقِك بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ ظَهَرَ فِي حَالٍ يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِمَوْلَى الْأَبِ، وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِي أَنَّهَا وَلَدَتْ فِي حَالٍ يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِمَوْلَى الْأُمِّ فَكَانَ الْحَالُ شَاهِدًا لِلزَّوْجِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَنَظِيرُ هَذَا الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ، إذَا اخْتَلَفَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: كَانَ النِّكَاحُ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَالْوَلَدُ مِنْ الزَّوْجِ، وَقَالَ الْآخَرُ: كَانَ النِّكَاحُ مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي يَدَّعِي أَنَّ النِّكَاحَ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ ظَهَرَ فِي حَالِ إثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْ الزَّوْجِ، وَهُوَ حَالُ قِيَامِ النِّكَاحِ وَيَصِحُّ الْإِقْرَارُ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ التَّوَارُثِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ، كَالنَّسَبِ وَالنِّكَاحِ، وَلَوْ قَالَ: أَعْتَقَنِي فُلَانٌ أَوْ فُلَانٌ وَادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَهَذَا الْإِقْرَارُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِمَجْهُولٍ، فَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَّهُ مَوْلَاهُ

فصل في ولاء الموالاة وثبوت حكمها

جَازَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ الْأَوَّلَ وَقَعَ بَاطِلًا لِجَهَالَةِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَالْوَلَاءُ لَا يَثْبُتُ مِنْ الْمَجْهُولِ كَالنَّسَبِ، فَبَطَلَ وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَبَعْدَ ذَلِكَ لَهُ أَنْ يُقِرَّ لِمَنْ شَاءَ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ وَثُبُوت حُكْمهَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ ثُبُوتِهِ شَرْعًا، وَفِي. بَيَانِ سَبَبِ الثُّبُوتِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الثُّبُوتِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ السَّبَبِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ثُبُوتِ هَذَا الْوَلَاءِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ ثَابِتٌ وَيَقَعُ بِهِ التَّوَارُثُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّهُ يُورَثُ بِهِ وَيُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا: إنَّ فِي عَقْدِ الْوَلَاءِ إبْطَالَ حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَاقِدِ وَارِثٌ كَانَ وَرَثَتُهُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ فَقَامُوا مَقَامَ الْوَرَثَةِ الْمُعَيَّنِينَ، وَكَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إبْطَالِ حَقِّهِمْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إبْطَالِ حَقِّ مَنْ قَامَ مَقَامَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَا: إذَا أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ لِإِنْسَانٍ، وَلَا وَارِثَ لَهُ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مُعَيَّنٌ كَانَ وَارِثُهُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ كَذَا هَذَا وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا بِالْكِتَابِ وَالسَّنَةِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] وَالْمُرَادُ مِنْ النَّصِيبِ الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَضَافَ النَّصِيبَ إلَيْهِمْ، فَيَدُلُّ عَلَى قِيَامِ حَقٍّ لَهُمْ مُقَدَّرٍ فِي التَّرِكَةِ وَهُوَ الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 33] لَكِنْ عِنْدَ عَدَمِ ذَوِي الْأَرْحَامِ عَرَفْنَاهُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ، وَوَالَاهُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ مَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ» أَيْ حَالَ حَيَاتِهِ وَحَالَ مَوْتِهِ، أَرَادَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَحْيَاهُ فِي الْعَقْلِ وَمَمَاتَهُ فِي الْمِيرَاثِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ إنَّمَا يَرِثُ بِوَلَاءِ الْإِيمَانِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ بَيْتُ مَالِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] وَلِلْمَوْلَى هَذَا الْوَلَاءُ وَوَلَاءُ الْمُعَاقَدَةِ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَوْلَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِلتَّسَاوِي فِي وَلَاءِ الْإِيمَانِ؟ وَالتَّرْجِيحُ لِوَلَاءِ الْعِتْقِ كَذَا هَذَا، إلَّا أَنَّ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ يَتَأَخَّرُ عَنْ سَائِرٍ الْأَقَارِبِ، وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ يَتَقَدَّمُ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ بِالرَّحِمِ فَوْقَ الْوَلَاءِ بِالْعَقْدِ. فَيُخَلَّفُ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّعْمَةِ بِالْإِعْتَاقِ الَّذِي هُوَ إحْيَاءُ وَإِيلَادُ مَعْنًى أُلْحِقَ بِالتَّعْصِيبِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إنَّ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَرَثَتُهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إبْطَالِ حَقِّهِمْ بِالْعَقْدِ. فَنَقُولُ: إنَّمَا يَصِيرُونَ وَرَثَتَهُ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْمُعَاقَدَةِ فَأَمَّا بَعْدَ الْمُعَاقَدَةِ فَلَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ بِالثُّلُثِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّتْ لِكَوْنِهَا وَصِيَّةً لِلْوَارِثِ. وَأَمَّا سَبَبُ ثُبُوتِهِ فَالْعَقْدُ وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدِ إنْسَانٍ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ: أَنْتَ مَوْلَايَ تَرِثُنِي إذَا مِتّ وَتَعْقِلُ عَنِّي إذَا جَنَيْت فَيَقُولَ: قَبِلْت سَوَاءٌ قَالَ ذَلِكَ لِلَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ أَوْ لِآخَرَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْإِرْثَ وَالْعَقْلَ فِي الْعَقْدِ، وَلَوْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَلَمْ يُوَالِهِ وَوَالَى غَيْرَهُ فَهُوَ مَوْلًى لِلَّذِي وَالَاهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ عَطَاءٍ هُوَ مَوْلًى لِلَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] جَعَلَ الْوَلَاءَ لِلْعَاقِدِ، وَكَذَا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَثْبَتُوا الْوَلَاءَ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ، وَكُلُّ النَّاسِ كَانُوا يُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَكَانَ لَا يَقُولُ أَحَدٌ لِمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ أَحَدٍ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ غَيْرَ الَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ نَفْسَ الْإِسْلَامِ عَلَى يَدِ رَجُلٍ لَيْسَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْوَلَاءِ لَهُ، بَلْ السَّبَبُ هُوَ الْعَقْدُ فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَثْبُتُ الْإِرْثُ وَالْعَقْلُ. وَأَمَّا شَرَائِطُ الْعَقْدِ فَمِنْهَا عَقْلُ الْعَاقِدِ، إذْ لَا صِحَّةَ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِدُونِ الْعَقْلِ، وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَهُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ فِي جَانِبِ الْإِيجَابِ، فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِيجَابُ مِنْ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَالَاهُ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ أَذِنَ أَبُوهُ الْكَافِرُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ وَعُقُودُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إنَّمَا يَقِفُ عَلَى إذْنِ وَلِيِّهِ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْأَبِ الْكَافِرِ عَلَى وَلَدِهِ الْمُسْلِمِ، فَكَانَ إذْنُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ سَائِرُ عُقُودِهِ بِإِذْنِهِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، كَذَا عَقْدُ الْمُوَالَاةِ. وَأَمَّا مِنْ جَانِبِ

الْقَبُولِ فَهُوَ شَرْطُ النَّفَاذِ حَتَّى لَوْ وَالَى بَالِغٌ صَبِيًّا فَقَبِلَ الصَّبِيُّ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ أَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ، فَإِنْ أَجَازَ جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا نَوْعُ عَقْدٍ فَكَانَ قَبُولُ الصَّبِيِّ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ قَبُولِهِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ، فَيَجُوزُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ وَوَصِيِّهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَلِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ أَنْ يَقْبَلَا عَنْهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَالَى رَجُلٌ عَبْدًا فَقَبِلَ الْعَبْدُ وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى، فَإِذَا أَجَازَ جَازَ، إلَّا أَنَّ فِي الْعَبْدِ إذَا أَجَازَ الْمَوْلَى فَالْوَلَاءُ مِنْ الْمَوْلَى، وَفِي الصَّبِيِّ إذَا أَجَازَ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ فَيَكُونُ الْوَلَاءُ مِنْ الصَّبِيِّ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا فَوَقَعَ قَبُولُهُ لِمَوْلَاهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا كَانَ الْمُشْتَرَى لِمَوْلَاهُ؟ فَأَمَّا الصَّبِيُّ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا كَانَ الْمُشْتَرَى لَهُ؟ وَلَوْ وَالَى رَجُلٌ مُكَاتَبًا جَازَ وَكَانَ مَوْلًى لِمَوْلَى الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْمُكَاتَبِ صَحِيحٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ فَجَازَ قَبُولُهُ؟ إلَّا أَنَّ الْوَلَاءَ يَكُونُ لِلْمَوْلَى؟ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَاتَبَ عَبْدًا فَأَدَّى وَعَتَقَ كَانَ الْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى؟ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ فَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ لَوْ كَاتَبَ عَبْدَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ فَأَدَّى فَعَتَقَ ثَبَتَ الْوَلَاءُ مِنْ الِابْنِ؟ . وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ، فَيَصِحُّ فَتَجُوزُ مُوَالَاةُ الذِّمِّيِّ الذِّمِّيَّ، وَالذِّمِّيِّ الْمُسْلِمَ، وَالْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ؛ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ، وَلَوْ أَوْصَى ذِمِّيٌّ لِذِمِّيٍّ أَوْ لِمُسْلِمٍ، أَوْ مُسْلِمٌ لِذِمِّيٍّ بِالْمَالِ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ، كَذَا الْمُوَالَاةُ، وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا وَالَى ذِمِّيًّا، ثُمَّ أَسْلَمَ الْأَسْفَلُ جَازَ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا الذُّكُورَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، فَتَجُوزُ مُوَالَاةُ الرَّجُلِ امْرَأَةً، وَالْمَرْأَةِ رَجُلًا، وَكَذَا دَارُ الْإِسْلَامِ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ فَوَالَى مُسْلِمًا فِي دَارِ الْإِسْلَام أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ عَقْدٌ مِنْ الْعُقُودِ فَلَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَبِدَارِ الْإِسْلَامِ وَبِدَارِ الْحَرْبِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْعَاقِدِ وَارِثٌ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَنْ أَقَارِبِهِ مِنْ يَرِثُهُ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ أَقْوَى مِنْ الْعَقْدِ وَلِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] وَإِنْ كَانَ لَهُ زَوْجٌ أَوْ زَوْجَةٌ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَتُعْطَى نَصِيبُهَا وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ الْعَرَبِ حَتَّى لَوْ وَالَى عَرَبِيٌّ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِهِ لَمْ يَكُنْ مَوْلَاهُ وَلَكِنْ يُنْسَبُ إلَى عَشِيرَتِهِ وَهُمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْمُوَالَاةِ لِلتَّنَاصُرِ، وَالْعَرَبُ يَتَنَاصَرُونَ بِالْقَبَائِلِ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ مُوَالَاةُ الْعَجَمِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قَبِيلَةٌ فَيَتَنَاصَرُونَ بِهَا، فَتَجُوزُ مُوَالَاتُهُمْ لِأَجْلِ التَّنَاصُرِ. وَأَمَّا الَّذِي هُوَ مِنْ الْعَرَبِ فَلَهُ قَبِيلَةٌ يَنْصُرُونَهُ، وَالنُّصْرَةُ بِالْقَبِيلَةِ أَقْوَى فَلَا يَصِيرُ مَوْلًى، وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَكَذَا وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ مَعَ أَنَّهُ أَقْوَى فَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ أَوْلَى، وَكَذَا لَوْ وَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِهَا لِمَا بَيَّنَّا. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ مَوَالِي الْعَرَبِ؛ لِأَنَّ مَوْلَاهُمْ مِنْهُمْ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» . وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مُعْتَقَ أَحَدٍ فَإِنْ كَانَ، لَا يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ الْمُوَالَاةِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ أَقْوَى مِنْ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ، وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ فَلَا يَجُوزُ رَفْعُ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ عَقَلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَقَلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ فَقَدْ صَارَ وَلَاؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَجُوزُ تَحْوِيلُهُ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَقَلَ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ سَوَاءٌ كَانَ عَاقَدَ غَيْرَهُ فَعَقَلَ عَنْهُ أَوْ عَقَلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ حَتَّى لَوْ مَاتَ فَإِنَّ مِيرَاثَهُ لِمَنْ عَاقَدَهُ أَوَّلًا فَعَقَلَ عَنْهُ أَوْ لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَاقَدَ غَيْرَهُ فَعَقَلَ عَنْهُ، فَقَدْ تَأَكَّدَ عَقْدُهُ وَلَزِمَ وَخَرَجَ عَنْ احْتِمَالِ النَّقْضِ وَالْفَسْخِ لِمَا يُذْكَرُ فَلَا يَصِحُّ مُعَاقَدَتُهُ غَيْرَهُ، وَكَذَا إذَا عَقَلَ عَنْ الَّذِي يُوَالِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَاقَدَ غَيْرَهُ وَلَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ جَازَ عَقْدُهُ مَعَ آخَرَ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْدِ بِدُونِ الْعَقْلِ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى الثَّانِي فَسْخًا لِلْأَوَّلِ. وَأَمَّا صِفَةُ الْعَقْدِ فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ حَتَّى لَوْ وَالَى رَجُلًا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَمْلِكُ بِهِ شَيْئًا فَلَمْ يَكُنْ لَازِمًا كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ، وَالْوَصِيَّةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ، فَكَذَا عَقْدُ الْمُوَالَاةِ، إلَّا إذَا عَقَلَ عَنْهُ لِأَنَّهُ إذَا عَقَلَ عَنْهُ فَقَدْ تَأَكَّدَ الْعَقْلُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَفِي التَّحَوُّلِ بِهِ إلَى غَيْرِهِ فَسْخُ قَضَائِهِ فَلَا يَمْلِكُ فَسْخَ الْقَضَاءِ، وَكَذَا لَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ صَرِيحًا قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ غَيْرِ لَازِمٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ لَازِمَةٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ يَجُوزُ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ يَجُوزُ لِلْآخَرِ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْقَابِلَةِ لِلْفَسْخِ. وَهَا هُنَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ وَهُوَ الْقَابِلُ، فَكَذَا الْآخَرُ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْآخَرِ أَيْ بِعِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْآخَرِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ مَقْصُورًا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ مَقْصُورًا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ،

إلَّا أَنْ يُوَالِيَ الْأَسْفَلُ آخَرَ فَيَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا دَلَالَةً، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ صَاحِبُهُ أَوْ انْتِقَاضًا ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مُوَالَاةَ غَيْرِهِ إلَّا بِانْفِسَاخِ الْأَوَّلِ، فَيَنْفَسِخُ الْأَوَّلُ دَلَالَةً وَضَرُورَةً، وَقَدْ يَثْبُتُ الشَّيْءُ دَلَالَةً أَوْ ضَرُورَةً، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ قَصْدًا كَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ ثُمَّ عَزَلَهُ، وَالْوَكِيلُ غَائِبٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَمْ يَصِحَّ عَزْلُهُ، وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدَ أَوْ أَعْتَقَهُ انْعَزَلَ الْوَكِيلُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَأَمَّا حُكْمُ الْعَقْدِ. فَالْعَقْلُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَالْإِرْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ أَنَّ الْمَوْلَى الْأَعْلَى يَعْقِلُ عَنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَيَرِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَرِثُ الْأَعْلَى مِنْ الْأَسْفَلِ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ، فِيمَا تَقَدَّمَ وَيَرِثُ الْأَسْفَلُ مِنْ الْأَعْلَى أَيْضًا إذَا شَرَطَا ذَلِكَ فِي الْمُعَاقَدَةِ، بِخِلَافِ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ أَنَّ هُنَاكَ يَرِثُ الْأَعْلَى مِنْ الْأَسْفَلِ وَلَا يَرِثُ الْأَسْفَلُ مِنْ الْأَعْلَى؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ هُنَاكَ وُجِدَ مِنْ الْأَعْلَى لَا مِنْ الْأَسْفَلِ وَهُوَ الْعِتْقُ. وَالسَّبَبُ هَهُنَا الْعَقْدُ وَقَدْ شُرِطَ فِيهِ التَّوَارُثُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ؛ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» وَكَمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْوَلَاءِ فِي الرِّجَالِ يَثْبُتُ فِي أَوْلَادِهِمْ الصِّغَارِ تَبَعًا لَهُمْ، حَتَّى لَوْ وَالَى إنْسَانًا وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ صَارُوا مَوَالِيَ لِلَّذِي وَالَاهُ الْأَبُ، وَكَذَا إذَا وَالَى إنْسَانًا ثُمَّ وُلِدَ لَهُ أَوْلَادٌ دَخَلُوا فِي وَلَاءِ الْأَبِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، وَلِأَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةٌ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَيَنْفُذُ عَقَدُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَصِيرُ أَوْلَادُهُ الْكِبَارُ مَوَالِيَ بِمُوَالَاةِ الْأَبِ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ بِالْبُلُوغِ، حَتَّى لَوْ وَالَى الْأَبُ إنْسَانًا وَلَهُ ابْنٌ كَبِيرٌ فَوَالَى رَجُلًا آخَرَ فَوَلَاؤُهُ لَهُ لَا لِمَوْلَى أَبِيهِ، وَلَوْ كَبِرَ بَعْضُ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ فَأَرَادَ التَّحَوُّلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى قَدْ عَقَلَ عَنْهُ أَوْ عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَنْ أَحَدِ إخْوَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَقَلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ أَمَّا جَوَازُ التَّحَوُّلِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَقْلِ، فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَبِيرًا وَقْتَ عَقْدِ الْأَبِ لَجَازَ لَهُ التَّحَوُّلُ، وَكَذَا إذَا كَبِرَ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ السِّرَايَةِ فِي الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ عَدَمُ التَّبَعِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ. وَأَمَّا عَدَمُ الْجَوَازِ عِنْدَ الْعَقْلِ فَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اتِّصَالِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ وَفِي التَّحَوُّلِ فَسْخُهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَيَلْزَمَ ضَرُورَةً، وَلَوْ عَاقَدَتْ امْرَأَةٌ عَقْدَ الْوَلَاءِ وَلَهَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ لَا يَصِيرُونَ مَوَالِيَ لِلَّذِي وَالَتْهُ أُمُّهُمْ وَلَا تُشْبِهُ الْأُمُّ فِي هَذَا الْبَابِ الْأَبَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ وِلَايَةٌ عَلَى أَوْلَادِهَا الصِّغَارِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَشْتَرِي لَهُمْ وَلَا تَبِيعُ عَلَيْهِمْ وَلِلْأَبِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؟ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: يَثْبُتُ حُكْمُ وَلَائِهَا فِي أَوْلَادِهَا الصِّغَارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ، وَلَوْ وَالَى رَجُلٌ رَجُلًا، ثُمَّ وُلِدَ مِنْ امْرَأَةٍ قَدْ وَالَتْ رَجُلًا فَوَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوْلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ وَلَاءَانِ؛ وَلَاءُ الْأَبِ وَوَلَاءُ الْأُمِّ فَتَرَجَّحَ جَانِبُ الْأَبِ؛ لِأَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةً عَلَيْهِمْ وَلَا وِلَايَةَ لِلْأُمِّ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى وَلَدِهِ عَقْدَ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَلَيْسَ لِلْأُمِّ ذَلِكَ؟ فَكَذَا عَقْدُ الْوَلَاءِ وَكَذَا لَوْ وَالَتْ وَهِيَ حُبْلَى وَلَا يُشْبِهُ هَذَا وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ؛ لِأَنَّ فِي وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ إذَا أَعْتَقَهَا وَهِيَ حُبْلَى يَثْبُتُ الْوَلَاءُ بِالْعِتْقِ، وَالْعِتْقُ يَثْبُتُ فِي الْوَلَدِ كَمَا يَثْبُتُ فِي الْأُمِّ، فَكَانَ لِلْوَلَدِ وَلَاءُ نَفَسِهِ لِكَوْنِهِ أَصْلًا فِي الْعِتْقِ. فَأَمَّا وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ فَبِالْعَقْدِ، وَعَقْدُهَا لَا يَجُوزُ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا فَلَمْ يَصِرْ الْوَلَدُ أَصْلًا فِي الْوَلَاءِ فَكَانَ تَبَعًا لِلْأَبِ فِي الْوَلَاءِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُمَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ فَوَالَتْ الْأُمُّ إنْسَانًا ثُمَّ وَالَى الْأَبُ آخَرَ فَوَلَاءُ الْأَوْلَادِ لِمَوَالِي الْأَبِ لِمَا قُلْنَا ذِمِّيَّةٌ أَسْلَمَتْ فَوَالَتْ رَجُلًا وَلَهَا وَلَدٌ صَغِيرٌ مِنْ ذِمِّيٍّ لَمْ يَكُنْ وَلَاءُ وَلَدِهَا لِمَوْلَاهَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَكُونُ وَلَاءُ وَلَدِهَا لِمَوْلَاهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَتَاقَةِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأُمَّ لَا وِلَايَةَ لَهَا عَلَى الْوَلَدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَعْقِدَ عَلَى وَلَدِهَا عَقْدَ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، فَكَذَلِكَ عَقْدُ الْوَلَاءِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الذِّمِّيَّ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى وَلَدِهِ الْمُسْلِمِ فَتَعَذَّرَ إثْبَاتُ الْوَلَاءِ مِنْ الْأَبِ، وَالْوَلَاءُ إذَا تَعَذَّرَ إثْبَاتُهُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ يَثْبُتُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، كَمَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَبْدًا وَكَمَا فِي وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ إذَا كَانَ الْأَبُ عَبْدًا، وَلَوْ قَدِمَ حَرْبِيٌّ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَأَسْلَمَ وَوَالَى رَجُلًا ثُمَّ سُبِيَ ابْنُهُ فَأُعْتِقَ لَمْ يَجُزْ وَلَاءُ الْأَبِ، وَإِنْ سُبِيَ أَبُوهُ فَأُعْتِقَ جَرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ إلَى مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الِابْنَ يَتْبَعُ الْأَبَ فِي الْوَلَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا فَأَمَّا الْأَبُ فَلَا يَتْبَعُ الِابْنَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ وَإِنَّمَا يُنْسَبُ الِابْنُ إلَى أَبِيهِ فَإِنْ كَانَ ابْنُ الِابْنِ أَسْلَمَ وَوَالَى رَجُلًا لَمْ يَجُرَّ الْجَدُّ وَلَاءَهُ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ لِأَنَّ الْجَدَّ لَا يَجُرُّ الْوَلَاءَ إلَّا أَنْ يَجُرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ فَيَجُرُّ بِجَرِّهِ وَلَاءَ ابْنِهِ وَلَاءَهُ، وَقَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ: وَجْهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ الْأَسْفَلُ مُوَالِيًا، وَالْأَوْسَطُ حَرْبِيًّا وَالْجَدُّ مُعْتِقًا فَلَا يَجُرُّ وَلَاءَ الْأَسْفَلِ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ الْأَوْسَطُ وَيُوَالِيَ، فَيَجُرُّ الْجَدُّ وَلَاءَهُ وَوَلَاءَ الْأَسْفَلِ بِجَرِّ وَلَائِهِ، وَلَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ أَوْ ذِمِّيٌّ عَلَى يَدَيْ

فصل في صفة حكم ولاء الموالاة

رَجُلٍ وَوَالَاهُ ثُمَّ أَسْلَمَ ابْنُهُ الْكَبِيرُ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ آخَرَ وَوَالَاهُ كَانَ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمَا مَوْلَى لِلَّذِي وَالَاهُ وَلَا يُجَرُّ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْعَتَاقِ أَنَّهُ إذَا أُعْتِقَ أَبُوهُ جَرَّ وَلَاءَ الْوَلَدِ إلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ هَهُنَا وَلَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ بِالْعَقْدِ، وَعَقْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِ، وَهُنَاكَ وَلَاءُ الْوَلَدِ ثَبَتَ بِالْعَقْدِ وَوَلَاءُ الْأَبِ ثَبَتَ بِالْعِتْقِ وَوَلَاءُ الْعِتْقِ أَقْوَى مِنْ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ فَيَسْتَتْبِعُ الْأَقْوَى الْأَضْعَفَ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ أَقْوَى مِنْ وَلَاءِ صَاحِبِهِ لِثُبُوتٍ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعَقْدِ، فَهُوَ الْفَرْقُ. [فَصْلٌ فِي صِفَةُ حُكْمِ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْحُكْمِ فَهُوَ أَنَّ الْوَلَاءَ الثَّابِتَ بِهَذَا الْعَقْدِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالنَّسَبِ وَوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَاءُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ» حَتَّى لَوْ بَاعَ رَجُلٌ وَلَاءَ مُوَالَاةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ بِعَبْدٍ وَقَبَضَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ كَانَ إعْتَاقُهُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ إذْ الْوَلَاءُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَمْ يَمْلِكْهُ فَلَمْ يَصِحَّ إعْتَاقُهُ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِمَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ بِحُرٍّ وَقَبَضَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ، وَلَوْ بَاعَ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ وَلَاءَهُ مِنْ آخَرَ، أَوْ وَهَبَهُ لَا يَكُونُ بَيْعًا أَيْضًا وَلَا هِبَةً لِمَا قُلْنَا لَكِنَّهُ يَكُونُ نَقْضًا لِوَلَاءِ الْأَوَّلِ وَمُوَالَاةً لِهَذَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُعْتَاضُ مِنْهُ فَبَطَل الْعِوَضُ وَبَقِيَ قَوْلُهُ: الْوَلَاءُ لَك فَيَكُونُ مُوَالَاةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي، كَمَا لَوْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ بِمَالٍ صَحَّ التَّسْلِيمُ لَكِنْ لَا يَجِبُ الْمَالُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ وَلَاء الموالاة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ بِمَا ظَهَرَ بِهِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَهُوَ الشَّهَادَةُ الْمُفَسِّرَةُ، أَوْ الْإِقْرَارُ سَوَاءٌ كَانَ الْإِقْرَارُ فِي الصِّحَّةِ أَوْ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي إقْرَارِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مَعْلُومٌ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ كَمَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مَعْلُومٌ، وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ فَأَخَذَ رَجُلٌ مَالَهُ وَادَّعَى أَنَّهُ وَارِثُهُ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ إذَا لَمْ يُخَاصِمْهُ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَدْرِي، أَلِبَيْتِ الْمَالِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ يَدَّعِي أَنَّهُ لَهُ وَلَا مَانِعَ عَنْهُ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ، فَإِنْ خَاصَمَهُ أَحَدٌ سَأَلَهُ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ، وَكَانَ مُدَّعِيًا فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ. [كِتَابُ الْإِجَارَةِ] [جَوَازِ الْإِجَارَة] (كِتَابُ الْإِجَارَةِ) : الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي سَبْعِ مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ جَوَازِ الْإِجَارَةِ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِ الْإِجَارَةِ، وَمَعْنَاهَا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْإِجَارَةِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِجَارَةِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ اخْتِلَافِ الْعَاقِدَيْنِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْتَهِي بِهِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: إنَّهَا لَا تَجُوزُ، وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنَافِعُ لِلْحَالِ مَعْدُومَةٌ، وَالْمَعْدُومُ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ فَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْبَيْعِ إلَى مَا يُؤْخَذُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَإِضَافَةِ الْبَيْعِ إلَى أَعْيَانٍ تُؤْخَذُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِذًا لَا سَبِيلَ إلَى تَجْوِيزِهَا لَا بِاعْتِبَارِ الْحَالِ، وَلَا بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ فَلَا جَوَازَ لَهَا رَأْسًا لَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ. أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرًا عَنْ أَبُ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ سَقَى لَهُمَا مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] أَيْ عَلَى أَنْ تَكُونَ أَجِيرًا لِي أَوْ عَلَى أَنْ تَجْعَلَ عِوَضِي مِنْ إنْكَاحِي ابْنَتِي إيَّاكَ رَعْيَ غَنَمِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ، يُقَالُ: آجَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْ عَوَّضَهُ، وَأَثَابَهُ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرًا عَنْ تَيْنِكَ الْمَرْأَتَيْنِ {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] وَمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ يَصِيرُ شَرِيعَةً لَنَا مُبْتَدَأَةً وَيَلْزَمُنَا عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَتُنَا لَا عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا لِمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] وَالْإِجَارَةُ ابْتِغَاءُ الْفَضْلِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] وَقَدْ قِيلَ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي حَجِّ الْمُكَارِي فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ: إنَّا قَوْمٌ نُكْرَى، وَنَزْعُمُ أَنْ لَيْسَ لَنَا حَجٌّ فَقَالَ: أَلَسْتُمْ تُحْرِمُونَ، وَتَقِفُونَ، وَتَرْمُونَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنْتُمْ حُجَّاجٌ، ثُمَّ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا سَأَلْتنِي فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنْتُمْ حُجَّاجٌ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 233]

فصل في ركن الإجارة ومعناها

نَفَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْجُنَاحَ عَمَّنْ يَسْتَرْضِعُ وَلَدَهُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِرْضَاعُ بِالْأُجْرَةِ، دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى {إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] قِيلَ أَيْ الْأَجْرَ الَّذِي قَبِلْتُمْ، وَقَوْلُهُ {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَهَذَا نَصٌّ وَهُوَ فِي الْمُطَلَّقَاتِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَسْتَامُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَنْكِحُ عَلَى خِطْبَتِهِ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبِيعُوا بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ، وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» وَهَذَا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعْلِيمُ شَرْطِ جَوَازِ الْإِجَارَةِ وَهُوَ إعْلَامُ الْأَجْرِ فَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُبَادَرَةِ إلَى إعْطَاءِ أَجْرِ الْأَجِيرِ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ، وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كُنْت خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ» ، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «اسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَدَفَعَا إلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ فَأَتَاهُمَا فَارْتَحَلَا، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَالدَّلِيلُ الدِّيلِيُّ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّاحِلِ» وَأَدْنَى مَا يُسْتَدَلُّ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَوَازُ. وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَهُوَ فِي حَائِطِهِ فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ: لِمَنْ هَذَا الْحَائِطُ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَأْجَرْته فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَسْتَأْجِرْهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ» خَصَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّهْيَ بِاسْتِئْجَارِهِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهُ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْإِجَارَةُ جَائِزَةً أَصْلًا لَعَمَّ النَّهْيُ إذْ النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ، وَكَذَا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ يُؤَاجِرُونَ وَيَسْتَأْجِرُونَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ فَكَانَ ذَلِكَ تَقْرِيرًا مِنْهُ وَالتَّقْرِيرُ أَحَدُ وُجُوهِ السُّنَّةِ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ الْأَصَمِّ حَيْثُ يَعْقِدُونَ عَقْدَ الْإِجَارَةِ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَلَا يُعْبَأُ بِخِلَافِهِ إذْ هُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقِيَاسَ مَتْرُوكٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا شَرَعَ الْعُقُودَ لِحَوَائِجِ الْعِبَادِ، وَحَاجَتُهُمْ إلَى الْإِجَارَةِ مَاسَّةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ لَهُ دَارٌ مَمْلُوكَةٌ يَسْكُنُهَا أَوْ أَرْضٌ مَمْلُوكَةٌ يَزْرَعُهَا أَوْ دَابَّةٌ مَمْلُوكَةٌ يَرْكَبُهَا وَقَدْ لَا يُمْكِنُهُ تَمَلُّكُهَا بِالشِّرَاءِ لِعَدَمِ الثَّمَنِ، وَلَا بِالْهِبَةِ وَالْإِعَارَةِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ كُلِّ وَاحِدٍ لَا تَسْمَحُ بِذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إلَى الْإِجَارَةِ فَجُوِّزَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ كَالسَّلَمِ وَنَحْوِهِ، تَحْقِيقُهُ أَنَّ الشَّرْعَ شَرَعَ لِكُلِّ حَاجَةٍ عَقْدًا يَخْتَصُّ بِهَا فَشَرَعَ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ بِعِوَضٍ عَقْدًا وَهُوَ الْبَيْعُ، وَشَرَعَ لِتَمْلِيكِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ عَقْدًا وَهُوَ الْهِبَةُ، وَشَرَعَ لِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ عَقْدًا وَهُوَ الْإِعَارَةُ، فَلَوْ لَمْ يُشَرِّعْ الْإِجَارَةَ مَعَ امْتِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا لَمْ يَجِدْ الْعَبْدُ لِدَفْعِ هَذِهِ الْحَاجَةِ سَبِيلًا وَهَذَا خِلَافُ مَوْضُوعِ الشَّرْعِ. [فَصْلٌ فِي رُكْنُ الْإِجَارَةِ وَمَعْنَاهَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُ الْإِجَارَةِ، وَمَعْنَاهَا أَمَّا رُكْنُهَا فَالْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَذَلِكَ بِلَفْظٍ دَالٍّ عَلَيْهَا وَهُوَ لَفْظُ الْإِجَارَةِ، وَالِاسْتِئْجَارِ، وَالِاكْتِرَاءِ، وَالْإِكْرَاءِ فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ. وَالْكَلَامُ فِي صِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَصِفَتِهِمَا فِي الْإِجَارَةِ كَالْكَلَامِ فِيهِمَا فِي الْبَيْعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. وَأَمَّا مَعْنَى الْإِجَارَةِ فَالْإِجَارَةُ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ لُغَةً وَلِهَذَا سَمَّاهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَيْعًا وَأَرَادُوا بِهِ بَيْعَ الْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا سُمِّيَ الْبَدَلُ فِي هَذَا الْعَقْدِ أُجْرَةً، وَسَمَّى اللَّهُ بَدَلَ الرَّضَاعِ أَجْرًا بِقَوْلِهِ {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَالْأُجْرَةُ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ لُغَةً وَلِهَذَا سُمِّيَ الْمَهْرُ فِي بَابِ النِّكَاحِ أَجْرًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 25] أَيْ مُهُورَهُنَّ لِأَنَّ الْمَهْرَ بَدَلُ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ، وَسَوَاءٌ أُضِيفَ إلَى الدُّورِ، وَالْمَنَازِلِ، وَالْبُيُوتِ وَالْحَوَانِيتِ، وَالْحَمَّامَاتِ، وَالْفَسَاطِيطِ، وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ، وَالدَّوَابِّ، وَالثِّيَابِ، وَالْحُلِيِّ وَالْأَوَانِي، وَالظُّرُوفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ إلَى الصُّنَّاعِ مِنْ الْقَصَّارِ، وَالْخَيَّاطِ، وَالصَّبَّاغِ وَالصَّائِغِ، وَالنَّجَّارِ وَالْبَنَّاءِ وَنَحْوِهِمْ، وَالْأَجِيرُ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ لِوَاحِدٍ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِأَجِيرِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ يَكُونُ مُشْتَرَكًا وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ لِعَامَّةِ النَّاسِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعَانِ إجَارَةٌ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَإِجَارَةٌ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَفَسَّرَ النَّوْعَيْنِ بِمَا ذَكَرْنَا وَجَعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي أَحَدِ النَّوْعَيْنِ الْمَنْفَعَةَ وَفِي الْآخَرِ الْعَمَلَ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهَا بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ

الْمَنْفَعَةَ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا، إلَّا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحِلِّ الْمَنْفَعَةِ فَيَخْتَلِفُ اسْتِيفَاؤُهَا بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ الْمَنَازِلِ بِالسُّكْنَى، وَالْأَرَاضِي بِالزِّرَاعَةِ، وَالثِّيَابِ وَالْحُلَلِ وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ، بِالْخَدْمَةِ وَالدَّوَابِّ بِالرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ، وَالْأَوَانِي وَالظُّرُوفِ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَالصُّنَّاعِ بِالْعَمَلِ مِنْ الْخِيَاطَةِ، وَالْقِصَارَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَقَدْ يُقَامُ فِيهِ تَسْلِيمُ النَّفْسِ مَقَامَ الِاسْتِيفَاءِ كَمَا فِي أَجِيرِ الْوَاحِد حَتَّى لَوْ سَلَّمَ نَفْسَهُ فِي الْمُدَّةِ وَلَمْ يَعْمَلْ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ، وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ فَنُخَرِّجُ عَلَيْهِ بَعْضَ الْمَسَائِلِ فَنَقُولُ: لَا تَجُوزُ إجَارَةُ الشَّجَرِ وَالْكَرْمِ لِلثَّمَرِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَ عَيْنٌ وَالْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ لَا بَيْعُ الْعَيْنِ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الشَّاةِ لِلَبَنِهَا أَوْ سَمْنِهَا أَوْ صُوفِهَا أَوْ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَعْيَانٌ فَلَا تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَكَذَا إجَارَةُ الشَّاةِ لِتُرْضِعَ جَدْيًا أَوْ صَبِيًّا لِمَا قُلْنَا، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ مَاءٍ فِي نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ قَنَاةٍ أَوْ عَيْنٍ لِأَنَّ الْمَاءَ عَيْنٌ فَإِنْ اسْتَأْجَرَ الْقَنَاةَ وَالْعَيْنَ، وَالْبِئْرَ مَعَ الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمَاءُ وَهُوَ عَيْنٌ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْآجَامِ الَّتِي فِيهَا الْمَاءُ لِلسَّمَكِ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْقَصَبِ وَالصَّيْدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَيْنٌ فَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا مَعَ الْمَاءِ فَهُوَ أَفْسَدُ وَأَخْبَثُ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَهَا بِدُونِ الْمَاءِ فَاسِدٌ فَكَانَ مَعَ الْمَاءِ أَفْسَدَ وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْمَرَاعِي؛ لِأَنَّ الْكَلَأَ عَيْنٌ فَلَا تُحْتَمَلُ الْإِجَارَةُ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ وَلَا تِبْرِهِمَا وَكَذَا تِبْرُ النُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَلَا اسْتِئْجَارُ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ إلَّا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ أَعْيَانِهَا، وَالدَّاخِلُ تَحْتَ الْإِجَارَةِ الْمَنْفَعَةُ لَا الْعَيْنُ حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لِيُعَبِّرَ بِهَا مِيزَانًا أَوْ حِنْطَةً لِيُعَبِّرَ بِهَا مِكْيَالًا أَوْ زَيْتًا لِيُعَبِّرَ بِهِ أَرْطَالًا أَوْ أَمْنَانًا أَوْ وَقْتًا مَعْلُومًا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ انْتِفَاعٍ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا فَأَشْبَهَ اسْتِئْجَارَ سَنَجَاتِ الْمِيزَانِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِفَقْدِ شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ كَوْنُ الْمَنْفَعَةِ مَقْصُودَةً وَالِانْتِفَاعُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ غَيْرُ مَقْصُودٍ عَادَةً، وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْفَحْلِ لِلضِّرَابِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ النَّسْلُ وَذَلِكَ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ وَهُوَ عَيْنٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ» أَيْ كِرَائِهِ لِأَنَّ الْعَسْبَ فِي اللُّغَةِ وَإِنْ كَانَ اسْمًا لِلضِّرَابِ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ لِمَا فِي النَّهْيِ عَنْهُ مِنْ قَطْعِ النَّسْلِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ كِرَاءَ عَسْبِ الْفَحْلِ إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْكِرَاءَ وَأَقَامَ الْعَسْبَ مَقَامَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ كَلْبًا مُعَلَّمًا لِيَصِيدَ بِهِ أَوْ بَازِيًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْعَيْنِ وَهُوَ الصَّيْدُ وَجِنْسُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ تُخَرَّجُ عَلَى الْأَصْلِ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ إنَّ اسْتِئْجَارَ الظِّئْرِ جَائِزٌ وَأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْعَيْنِ وَهِيَ اللَّبَنُ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ شَاةٍ لَمْ تَسْتَحِقَّ الْأُجْرَةَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ عَلَى خِدْمَةِ الصَّبِيِّ وَاللَّبَنُ يَدْخُلُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ فَكَانَ ذَلِكَ اسْتِئْجَارًا عَلَى الْمَنْفَعَةِ، أَيْضًا وَاسْتِيفَاؤُهَا بِالْقِيَامِ بِخِدْمَةِ الصَّبِيِّ مِنْ غَسْلِهِ وَغَسْلِ ثِيَابِهِ وَإِلْبَاسِهَا إيَّاهُ وَطَبْخِ طَعَامِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاللَّبَنُ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا كَالصَّبْغِ فِي اسْتِئْجَارِ الصَّبَّاغِ وَإِذَا أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ الشَّاةِ فَلَمْ تَأْتِ بِمَا دَخَلَ تَحْتَ الْعَقْدِ فَلَا تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ كَالصَّبَّاغِ إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ لَوْنًا آخَرَ غَيْرَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ، وَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَيْسَ هُوَ الْمَنْفَعَةَ كَذَا هَهُنَا، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَاكَ الْعَيْنُ وَهِيَ اللَّبَنُ مَقْصُودًا وَالْخِدْمَةُ تَتَبُّعٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَرْبِيَةُ الصَّبِيِّ وَلَا يَتَرَبَّى إلَّا بِاللَّبَنِ فَأُجْرِيَ اللَّبَنُ مَجْرَى الْمَنَافِعِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ اسْتِئْجَارُ الْأَقْطَعِ، وَالْأَشَلِّ لِلْخِيَاطَةِ بِنَفْسِهِ، وَالْقِصَارَةِ، وَالْكِتَابَةِ وَكُلِّ عَمَلٍ لَا يَقُومُ إلَّا بِالْيَدَيْنِ، وَاسْتِئْجَارُ الْأَخْرَسِ لِتَعْلِيمِ الشِّعْرِ وَالْأَدَبِ، وَالْأَعْمَى لِنَقْطِ الْمَصَاحِفِ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَحْدُثُ عَادَةً إلَّا عِنْدَ سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ، وَكَذَا اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ السَّبِخَةِ وَالنَّزَّةِ لِلزِّرَاعَةِ وَهِيَ لَا تَصْلُحُ لَهَا؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الزِّرَاعَةِ لَا يُتَصَوَّرُ حُدُوثُهَا مِنْهَا عَادَةً فَلَا تَقَعُ الْإِجَارَةُ بِبَيْعِ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ تَجُزْ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ اسْتِئْجَارُ الْمُصْحَفِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمُصْحَفِ النَّظَرُ فِيهِ وَالْقِرَاءَةُ مِنْهُ وَالنَّظَرُ فِي مُصْحَفِ الْغَيْرِ وَالْقِرَاءَةُ مِنْهُ مُبَاحٌ، وَالْإِجَارَةُ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمُبَاحُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالْأَعْيَانِ الْمُبَاحَةِ مِنْ الْحَطَبِ، وَالْحَشِيشِ، وَكَذَا اسْتِئْجَارُ كُتُبٍ لِيَقْرَأَ فِيهَا شِعْرًا أَوْ فِقْهًا؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الدَّفَاتِرِ النَّظَرُ فِيهَا وَالنَّظَرُ فِي دَفْتَرِ الْغَيْرِ مُبَاحٌ مِنْ غَيْرِ أَجْرٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ ظِلَّ حَائِطٍ خَارِجَ دَارِهِ لِيَقْعُدَ فِيهِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ شَيْئًا مِنْ الْكُتُبِ لِيَقْرَأَ فَقَرَأَ لَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا تُخَرَّجُ إجَارَةُ الْآجَامِ لِلسَّمَكِ وَالْقَصَبِ وَإِجَارَةُ الْمَرَاعِي

فصل في أنواع شرائط ركن الإجارة

لِلْكَلَأِ وَسَائِرُ الْأَعْيَانِ الْمُبَاحَةِ إنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ لِمَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي أَنْوَاع شَرَائِط رُكْنِ الْإِجَارَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ النَّفَاذِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ الصِّحَّةِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ اللُّزُومِ أَمَّا شَرْطُ الِانْعِقَادِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ. أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ فَالْعَقْلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ عَاقِلًا حَتَّى لَا تَنْعَقِدُ الْإِجَارَةُ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، كَمَا لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ مِنْهُمَا. وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ وَلَا مِنْ شَرَائِطِ النَّفَاذِ عِنْدَنَا، حَتَّى إنَّ الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ لَوْ أَجَرَ مَالَهُ أَوْ نَفْسَهُ فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا يَنْفُذُ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا يَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْمَأْذُونِ. وَلَوْ أَجَّرَ الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ نَفْسَهُ وَعَمِلَ وَسَلِمَ مِنْ الْعَمَلِ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَيَكُونُ الْأَجْرُ لَهُ، أَمَّا اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ فَلِأَنَّ عَدَمَ النَّفَاذِ كَانَ نَظَرًا لَهُ وَالنَّظَرُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ سَلِيمًا فِي النَّفَاذِ فَيَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ وَلَا يُهْدَرُ سَعْيُهُ فَيَتَضَرَّرَ بِهِ، وَكَانَ الْوَلِيُّ أَذِنَ لَهُ بِذَلِكَ دَلَالَةً بِمَنْزِلَةِ قَبُولِ الْهِبَةِ مِنْ الْغَيْرِ. وَأَمَّا كَوْنُ الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لَهُ فَلِأَنَّهَا بَدَلُ مَنَافِعَ وَهِيَ حَقُّهُ، وَكَذَا حُرِّيَّةُ الْعَاقِدِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ وَلَا لِنَفَاذِهِ عِنْدَنَا، فَيَنْفُذُ عَقْدُ الْمَمْلُوكِ إنْ كَانَ مَأْذُونًا وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ مَوْلَاهُ إنْ كَانَ مَحْجُورًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَقِفُ بَلْ يَبْطُلُ، وَإِذَا سَلِمَ مِنْ الْعَمَلِ فِي إجَارَةِ نَفْسِهِ أَوْ إجَارَةِ مَالِ الْمَوْلَى وَجَبَ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى لِمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّبِيِّ إلَّا أَنَّ الْأَجْرَ هُنَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِلْكُ الْمَوْلَى، وَالْأَجْرُ كَسْبُهُ، وَكَسْبُ الْمَمْلُوكِ لِلْمَالِكِ، وَلَوْ هَلَكَ الصَّبِيُّ أَوْ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمُدَّةِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا حَيْثُ اسْتَعْمَلَهُمَا مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى وَلَا يَجِبُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ أَوْ الصَّبِيُّ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ أَوْ الْقِيمَةُ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْأُجْرَةِ هَهُنَا لَا يُؤَدِّي إلَى الْجَمْعِ لِاخْتِلَافِ مَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ، وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُؤَاجِرَ وَيَسْتَأْجِرَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَكَاسِبِهِ كَالْحُرِّ. وَأَمَّا كَوْنُ الْعَاقِدِ طَائِعًا جَادًّا عَامِدًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ وَلَا لِنَفَاذِهِ عِنْدَنَا لَكِنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ، وَإِسْلَامُهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَصْلًا فَتَجُوزَ الْإِجَارَةُ وَالِاسْتِئْجَارُ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَالذِّمِّيِّ، وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَيَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ، وَالْكَافِرُ جَمِيعًا كَالْبِيَاعَاتِ، غَيْرَ أَنَّ الذِّمِّيَّ إنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا مِنْ مُسْلِمٍ فِي الْمِصْرِ فَأَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَهَا مُصَلًّى لِلْعَامَّةِ وَيَضْرِبَ فِيهَا بِالنَّاقُوسِ لَهُ ذَلِكَ، وَلِرَبِّ الدَّارِ وَعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْحِسْبَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْدَاثِ شَعَائِرَ لَهُمْ وَفِيهِ تَهَاوُنٌ بِالْمُسْلِمِينَ، وَاسْتِخْفَافٌ بِهِمْ كَمَا يُمْنَعُ مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ فِي دَارِ نَفْسِهِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَلِهَذَا يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ» أَيْ لَا يَجُوزُ إخْصَاءُ الْإِنْسَانِ وَلَا إحْدَاثُ الْكَنِيسَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَمْصَارِ، وَلَا يُمْنَعُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ جَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَعْنَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي دَارِ نَفْسِهِ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ بِالسَّوَادِ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لَكِنْ قِيلَ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا أَجَازَ ذَلِكَ فِي زَمَانِهِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ السَّوَادِ فِي زَمَانِهِ كَانُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ الْمَجُوسِ فَكَانَ لَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى الْإِهَانَةِ، وَالِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا الْيَوْمَ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ صَارَ السَّوَادُ كَالْمِصْرِ فَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْمِصْرِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يُشْرَطْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ فَأَمَّا إذَا شُرِطَ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ دَارًا مِنْ مُسْلِمٍ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيَتَّخِذَهَا مُصَلًّى لِلْعَامَّةِ لَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا، وَلَا بَأْسَ بِاسْتِئْجَارِ ظِئْرٍ كَافِرَةٍ، وَاَلَّتِي وَلَدَتْ مِنْ فُجُورٍ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْفُجُورَ لَا يُؤَثِّرَانِ فِي اللَّبَنِ؛ لِأَنَّ لَبَنَهُمَا لَا يَضُرُّ بِالصَّبِيِّ، وَيُكْرَهُ اسْتِئْجَارُ الْحَمْقَاءِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُرْضِعُ لَكُمْ الْحَمْقَاءُ فَإِنَّ اللَّبَنَ يُفْسِدُ» وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ غَيْرُ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ أَبْلَغُ مِنْ الرَّضَاعِ، نَهَى وَعَلَّلَ بِالْإِفْسَادِ؛ لِأَنَّ حُمْقَهَا لِمَرَضٍ بِهَا عَادَةً وَلَبَنُ الْمَرِيضَةِ يَضُرُّ بِالصَّبِيِّ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَتَعَوَّدَ الصَّبِيُّ بِعَادَةِ الْحَمْقَى؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يَتَعَوَّدُ بِعَادَةِ ظِئْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ، وَمَكَانِهِ فَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. وَأَمَّا شَرْطُ النَّفَاذِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا خُلُوُّ الْعَاقِدِ عَنْ الرِّدَّةِ إذَا كَانَ ذَكَرًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ، وَتَصَرُّفَاتُ الْمُرْتَدَّةِ نَافِذَةٌ

فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ السِّيَرِ. وَمِنْهَا الْمِلْكُ وَالْوِلَايَةُ فَلَا تَنْفُذُ إجَارَةُ الْفُضُولِيِّ لِعَدَمِ الْمِلْكِ، وَالْوِلَايَةِ لَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ كَالْبَيْعِ، وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. ثُمَّ الْإِجَازَةُ إنَّمَا تَلْحَقُ الْإِجَارَةَ الْمَوْقُوفَةَ بِشَرَائِطَ ذَكَرْنَاهَا فِي الْبُيُوعِ مِنْهَا قِيَامُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا أَجَرَ الْفُضُولِيُّ فَأَجَازَ الْمَالِكُ الْعَقْدَ أَنَّهُ لَوْ أَجَازَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ جَازَتْ وَكَانَتْ الْأُجْرَةُ لِلْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَا فَاتَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً بِأَمْرِهِ جَازَ فَإِذَا كَانَ مَحَلًّا لِإِنْشَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ كَانَ مَحَلًّا لِلْإِجَازَةِ، إذْ الْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ، وَإِنْ أَجَازَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لَمْ تَجُزْ إجَازَتُهُ وَكَانَتْ الْأُجْرَةُ لِلْعَاقِدِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا قَدْ انْعَدَمَتْ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا قَدْ خَرَجَتْ عَنْ احْتِمَالِ إنْشَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا فَلَا تَلْحَقُهَا الْإِجَازَةُ. وَقَدْ قَالُوا فِيمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَأَجَّرَهُ سَنَةً لِلْخِدْمَةِ وَفِي رَجُلٍ آخَرَ غَصَبَ غُلَامًا أَوْ دَارًا فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ رَجُلٌ أَنَّهُ لَهُ فَقَالَ الْمَالِكُ: قَدْ أَجَزْت مَا أَجَرْت إنَّ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ إنْ كَانَتْ قَدْ انْقَضَتْ فَلِلْغَاصِبِ الْأَجْرُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَدْ انْعَدَمَ، وَالْإِجَازَةُ لَا تَلْحَقُ الْمَعْدُومَ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ فَالْأَجْرُ الْمَاضِي وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْغُلَامِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَجْرُ مَا مَضَى لِلْغَاصِبِ، وَأَجْرُ مَا بَقِيَ لِلْمَالِكِ، فَأَبُو يُوسُفَ نَظَرَ إلَى الْمُدَّةِ فَقَالَ: إذَا بَقِيَ بَعْضُ الْمُدَّةِ لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ فَبَقِيَ مَحَلًّا لِلْإِجَازَةِ، وَمُحَمَّدٌ نَظَرَ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَقَالَ: كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَنْفَعَةِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ بِحِيَالِهِ كَأَنَّهُ عَقَدَ عَلَيْهِ عَقْدًا مُبْتَدَأً بِالْمَنَافِعِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَانْعَدَمَتْ فَانْعَدَمَ شَرْطُ لُحُوقِ الْإِجَازَةِ الْعَقْدَ فَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ، وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ غَصَبَ أَرْضًا فَأَجَّرَهَا لِلزِّرَاعَةِ فَأَجَازَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْإِجَارَةَ: إنَّ أُجْرَةَ مَا مَضَى لِلْغَاصِبِ، وَأُجْرَةَ مَا بَقِيَ لِلْمَالِكِ، وَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ قَالَ: فَإِنْ أَعْطَاهَا مُزَارَعَةً فَأَجَازَهَا صَاحِبُ الْأَرْضِ جَازَتْ وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ قَدْ سَنْبَلَ مَا لَمْ يَسْمُنْ، وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ مِنْ الزَّرْعِ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يُفْرَدُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَكَانَ إجَازَةُ الْعَقْدِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ. وَأَمَّا إذَا سَمُنَ الزَّرْعُ فَقَدْ انْقَضَى عَمَلُ الْمُزَارَعَةِ فَلَا يَلْحَقُ الْعَقْدُ الْإِجَازَةَ. وَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ مِنْ الْفُضُولِيِّ فَهُوَ كَشِرَائِهِ فَإِنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ كَانَ الْمُسْتَأْجَرُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَجَدَ نَفَاذًا عَلَى الْعَاقِدِ فَيَنْفُذُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى مَنْ اسْتَأْجَرَ لَهُ يُنْظَرُ إنْ وَقَعَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ جَمِيعًا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ، وَإِنْ وَقَعَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَتَوَقَّفُ بَلْ يَنْفُذُ عَلَى الْعَاقِدِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْبُيُوعِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالِاسْتِئْجَارِ أَنَّهُ يَقَعُ اسْتِئْجَارُهُ لِلْمُوَكِّلِ وَإِنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ وَالْفَرْقُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ إجَارَةُ الْوَكِيلِ أَنَّهَا نَافِذَةٌ لِوُجُودِ الْوِلَايَةِ بِإِنَابَةِ الْمَالِكِ إيَّاهُ مَنَابَ نَفْسِهِ فَيَنْفُذُ كَمَا لَوْ فَعَلَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ، وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْ ابْنِ الْمُوَكِّلِ وَأَبِيهِ؛ لِأَنَّ لِلْمُوَكِّلِ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ مِلْكَيْهِمَا، كَذَا لِلْوَكِيلِ، وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْ مُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَا فِي يَدِهِ فَكَذَا لِوَكِيلِهِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْهُ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مِلْكُهُ فَكَذَا الْوَكِيلُ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ ذَلِكَ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ مَا فِي يَدِهِ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ فَيَجُوزُ لِوَكِيلِهِ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْهُ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَكَسْبُهُ وَإِنْ كَانَ مِلْكَ الْمَوْلَى لَكِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ فَجُعِلَ الْمَالِكُ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْ أَبِيهِ وَابْنِهِ وَكُلِّ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ بِأَجْرِ مِثْلِهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَهُوَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ، وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ بِمِثْلِ أَجْرِ الدَّارِ وَبِأَقَلّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ بِالْأَقَلِّ، وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْبَيْعِ، وَلَوْ آجَرَ إجَارَةً فَاسِدَةً نَفَذَتْ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَتَنَاوَلُ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا، وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرُ الْمِثْلِ إذَا انْتَفَعَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنَافِعَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَلَوْ لَمْ يُؤَاجِرْ الْمُوَكِّلُ الدَّارَ لَكِنَّهُ وَهَبَهَا مِنْ رَجُلٍ أَوْ أَعَارَهَا إيَّاهُ فَسَكَنَهَا سِنِينَ ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا فَلَا أَجْرَ لَهُ عَلَى الْوَكِيلِ وَلَا عَلَى السَّاكِنِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا لَا تُضْمَنُ إلَّا بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ أَوْ الْفَاسِدِ وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا، وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالْقَاضِي وَأَمِينِهِ نَافِذَةٌ لِوُجُودِ الْإِنَابَةِ مِنْ الشَّرْع، فَلِلْأَبِ أَنْ يُؤَاجِرَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ فِي عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى الصَّغِيرِ كَوِلَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ شَفَقَتَهُ عَلَيْهِ كَشَفَقَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ

فَكَذَا؛ ابْنُهُ وَلِأَنَّ فِيهَا نَظَرًا لِلصَّغِيرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْأَصْلِ لَيْسَتْ بِمَالٍ خُصُوصًا مَنَافِعُ الْحُرِّ وَبِالْإِجَارَةِ تَصِيرُ مَالًا، وَجَعْلُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مَالًا مِنْ بَابِ النَّظَرِ، وَالثَّانِي: أَنَّ إيجَارَهُ فِي الصَّنَائِعِ مِنْ بَابِ التَّهْذِيبِ وَالتَّأْدِيبِ وَالرِّيَاضَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِلصَّبِيِّ فَيَمْلِكُهُ الْأَبُ، وَكَذَا وَصِيُّ الْأَبِ لِأَنَّهُ مَرْضِيُّ الْأَبِ، وَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَوَصِيُّهُ لِأَنَّهُ مَرْضِيُّهُ، وَالْقَاضِي لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا، وَأَمِينُهُ لِأَنَّهُ مَرْضِيُّهُ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ غَيْرِ الْأَبِ، وَوَصِيِّهِ، وَالْجَدِّ، وَوَصِيِّهِ مِنْ سَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ إذَا كَانَ لَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ مَنْ سِوَاهُمْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الصَّغِيرِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ فَفِي نَفْسِهِ أَوْلَى، إلَّا إذَا كَانَ فِي حِجْرِهِ فَتَجُوزُ إجَارَتُهُ إيَّاهُ فِي قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي حِجْرِهِ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ ضَرْبٌ مِنْ الْوِلَايَةِ لِأَنَّهُ يُرَبِّيهِ وَيُؤَدِّبُهُ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الصَّنَائِعِ نَوْعٌ مِنْ التَّأْدِيبِ فَيَمْلِكُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَأْدِيبٌ، فَإِنْ كَانَ فِي حِجْرِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَأَجَرَهُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ آخَرَ هُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ الَّذِي هُوَ فِي حِجْرِهِ بِأَنْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي حِجْرِ عَمِّهِ وَلَهُ أُمٌّ فَأَجَّرَتْهُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَجُوزُ إجَارَتُهَا إيَّاهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تَجُوزُ،. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ عَلَى الصَّبِيِّ أَصْلًا وَمَقْصُودًا، وَإِنَّمَا يَمْلِكُونَ الْإِجَارَةَ ضِمْنًا لِوِلَايَةِ التَّرْبِيَةِ وَأَنَّهَا تَثْبُتُ لِمَنْ كَانَ فِي حِجْرِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي حِجْرِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجَانِبِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ إنَّ ذَا الرَّحِمِ إنَّمَا يَلِي عَلَيْهِ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْوِلَايَةِ بِسَبَبِ الرَّحِمِ فَمَنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ فِي الرَّحِمِ كَانَ أَوْلَى كَالْأَبِ مَعَ الْجَدِّ، وَلِلَّذِي فِي حِجْرِهِ أَنْ يَقْبِضَ الْأُجْرَةَ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْأُجْرَةِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْعَاقِدُ فَكَانَ وِلَايَةُ الْقَبْضِ لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْفِقَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَالُهُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، وَكَذَا إذَا وُهِبَ لَهُ هِبَةٌ فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْفِقَهَا؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ مَنْفَعَةٌ مَحْضٌ لِلصَّغِيرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّغِيرَ يَمْلِكُ قَبْضَهَا بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا الْإِنْفَاقُ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ فَلَا يَمْلِكُهُ مَنْ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ، وَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فِي هَذَا كُلِّهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَمْضَى الْإِجَارَةَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ؛ لِأَنَّ فِي اسْتِيفَاءِ الْعَقْدِ إضْرَارًا بِهِ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ تَلْحَقُهُ الْأَنَفَةُ مِنْ خِدْمَةِ النَّاسِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ تَفَقَّهَ فَوَلِيَ الْقَضَاءَ أَكُنْت أَتْرُكُهُ يَخْدُمُ النَّاسَ وَقَدْ أَجَرَهُ أَبُوهُ هَذَا قَبِيحٌ؛ وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ فَإِذَا بَلَغَ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْأَبَ عَقَدَ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنَافِعِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ابْتِدَاءً فَكَانَ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَارَةِ كَمَا إذَا عَقَدَ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَكَذَا الْأَبُ وَالْجَدُّ وَوَصِيُّهُمَا وَالْقَاضِي وَوَصِيُّهُ فِي إجَارَةِ عَبْدِ الصَّغِيرِ وَعَقَارِهِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ بِالْبَيْعِ كَذَا بِالْإِجَارَةِ؛ وَلَوْ بَلَغَ قَبْلَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ فَلَا خِيَارَ لَهُ بِخِلَافِ إجَارَةِ النَّفْسِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَلَيْسَ لِلْأَبِ وَمَنْ يَمْلِكُ إجَارَةَ مَالِ الصَّبِيِّ وَنَفْسِهِ وَمَالِهِ أَنْ يُؤْجِرَهُ بِأَقَلَّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ قَدْرَ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ عَادَةً، وَلَوْ فَعَلَ لَا يَنْفُذُ؛ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ فِي حَقِّهِ وَهَذِهِ وِلَايَةُ نَظَرٍ فَلَا تَثْبُتُ مَعَ الضَّرَرِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ هُوَ فِي حِجْرِهِ أَنْ يُؤَاجِرَ عَبْدَهُ أَوْ دَارِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ فَلَا يَمْلِكُهُ إلَّا مَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ كَبَيْعِ الْمَالِ، وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَسْتَحْسِنُ أَنْ يُؤَاجِرُوا عَبْدَهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ إجَارَةَ نَفْسِهِ فَإِجَارَةُ مَالِهِ أَوْلَى، وَكَذَا أَسْتَحْسِنُ أَنْ يُنْفِقُوا عَلَيْهِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِ ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَحَدُ الْوَصِيَّيْنِ يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَ الْيَتِيمَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يُؤَاجِرُ عَبْدَهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُؤَاجِرُ عَبْدَهُ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَصِيَّيْنِ التَّصَرُّفَ فِيمَا يُخَافُ الضَّرَرُ بِتَأْخِيرِهِ، وَفِي تَرْكِ إجَارَةِ الصَّبِيِّ ضَرَرٌ مِنْهُ بِتَرْكِ تَأْدِيبِهِ، وَلَا ضَرَرَ فِي تَرْكِ إجَارَةِ الْعَبْدِ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْوَصِيِّ نَفْسَهُ مِنْهُ لِلصَّبِيِّ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ لَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ مَالِهِ مِنْ الصَّبِيِّ أَصْلًا فَلَا يَمْلِكُ إجَارَةَ نَفْسِهِ مِنْهُ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ حَيْثُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ بَيْعَ مَالِهِ مِنْهُ إذَا كَانَ فِيهِ نَظَرٌ لِلصَّغِيرِ، وَلَا نَظَرَ لِلصَّغِيرِ فِي إجَارَةِ نَفْسِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ فِيهَا جَعْلَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مَالًا فَلَمْ يَجُزْ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَعْمَلَ فِي مَالِ الصَّبِيِّ مُضَارَبَةً، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَالْمُضَارَبَةِ أَنَّ الْوَصِيَّ بِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ لَا يُوجِبُ حَقًّا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ حَقًّا فِي الرِّبْحِ وَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ، وَقَدْ لَا يَكُونُ فَلَا يَلْحَقُهُ تُهْمَةٌ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ حَقًّا فِي مَالِ الصَّبِيِّ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا. (وَأَمَّا) اسْتِئْجَارُ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ

يَجُوزَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا كَانَ بِأُجْرَةٍ لَا يُتَغَابَنُ فِي مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ بَيْعَ مَالِهِ مِنْ نَفْسه إذَا كَانَ فِيهِ نَظَرٌ لَهُ، وَفِي اسْتِئْجَارِهِ إيَّاهُ لِنَفْسِهِ نَظَرٌ لَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْلِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مَالًا وَيَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ لِلصَّغِيرِ أَوْ يَسْتَأْجِرَ الصَّغِيرَ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ مَالِ الْأَبِ مِنْ الصَّغِيرِ وَشِرَاءَ مَالِهِ لِنَفْسِهِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ النَّظَرِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ مَالَهُ مِنْهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ اشْتَرَى مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ يَجُوزُ، فَكَذَا الْإِجَارَةُ. وَمِنْهَا تَسْلِيمُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي إجَارَةِ الْمَنَازِلِ، وَنَحْوِهَا إذَا كَانَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّعْجِيلِ بِأَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ تَعْجِيلَ الْأُجْرَةِ فِي الْعَقْدِ وَلَمْ يُوجَدْ التَّعْجِيلُ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْإِجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ يَنْعَقِدُ عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ مُضَافًا إلَى حِينِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ عِنْدَ ذَلِكَ. وَعِنْدَهُ تُجْعَلُ مَنَافِعُ الْمُدَّةِ مَوْجُودَةً فِي الْحَالِ تَقْدِيرًا كَأَنَّهَا عَيْنٌ قَائِمَةٌ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ، وَهَذَا أَصْلٌ نَذْكُرُهُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِجَارَةِ وَكَيْفِيَّةِ انْعِقَادِهَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَعْنِي بِالتَّسْلِيمِ التَّخْلِيَةَ وَالتَّمْكِينَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِرَفْعِ الْمَوَانِعِ فِي إجَارَةِ الْمَنَازِلِ وَنَحْوِهَا وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَأَجِيرِ الْوَحْدِ، حَتَّى لَوْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَمْ يَمْلِكْ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَيْئًا فَلَا يَمْلِكُ هُوَ أَيْضًا شَيْئًا مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَلَوْ مَضَى بَعْدَ الْعَقْدِ مُدَّةٌ ثُمَّ سَلَّمَ فَلَا أَجْرَ لَهُ فِيمَا مَضَى لِعَدَمِ التَّسْلِيمِ فِيهِ، وَلَوْ أَجَرَ الْمَنْزِلَ فَارِغًا وَسَلَّمَ الْمِفْتَاحَ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَلَمْ يُفْتَحْ الْبَابُ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ لَزِمَهُ كُلُّ الْأَجْرِ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّمْكِينُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِرَفْعِ الْمَوَانِعِ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ فَحَدَثَتْ الْمَنَافِعُ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ فَهَلَكَتْ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَجْرُ، كَالْبَائِعِ إذَا سَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي بِالتَّخْلِيَةِ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ كَانَ الْهَلَاكُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ عَلَى مِلْكِهِ، كَذَا هَذَا، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ الْمِفْتَاحَ إلَيْهِ لَكِنَّهُ أَذِنَ لَهُ بِفَتْحِ الْبَابِ فَقَالَ: مُرَّ، وَافْتَحْ الْبَابَ فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى فَتْحِ الْبَابِ بِالْمُعَالَجَةِ لَزِمَهُ الْكِرَاءُ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ لَا يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَمْ يُوجَدْ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِيَسْكُنَهَا شَهْرًا أَوْ عَبْدًا يَسْتَخْدِمُهُ شَهْرًا أَوْ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إلَى الْكُوفَةِ فَسَكَنَ وَاسْتَخْدَمَ فِي بَعْضِ الْوَقْتِ وَرَكِبَ فِي بَعْضِ الْمَسَافَةِ ثُمَّ حَدَثَ بِهَا مَانِعٌ يَمْنَعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ مِنْ غَرَقٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ إبَاقٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ كَانَ زَرْعًا فَقَطَعَ شُرْبَهُ أَوْ رَحًى فَانْقَطَعَ مَاؤُهُ لَا تَلْزَمُهُ أُجْرَةُ تِلْكَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَلَا تَصِيرُ مَنَافِعُ الْمُدَّةِ مُسَلَّمَةً بِتَسْلِيمِ مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ، وَالْمَعْدُومُ لَا يَحْتَمِلُ التَّسْلِيمَ، وَإِنَّمَا يُسَلِّمُهَا عَلَى حَسَبِ وُجُودِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، فَإِذَا اعْتَرَضَ مَنْعٌ فَقَدْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَجِبُ الْبَدَلُ كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالْهَلَاكِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِيَارٌ لَا يَنْفُذُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ مَا دَامَ الْخِيَارُ قَائِمًا، لِحَاجَةِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ إلَى دَفْعِ الْعَيْنِ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَهَذَا لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَالْقِيَاسُ يَأْبَاهُ لِمَا مَرَّ لَكِنْ تَرَكْنَا اعْتِبَارَ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ، وَلِهَذَا جَازَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ كَذَا فِي الْإِجَارَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ. وَأَمَّا شَرْطُ الصِّحَّةِ فَلِصِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ شَرَائِطُ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَا يُقَابِلُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأُجْرَةُ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ أَعْنِي الرُّكْنَ. أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ فَرِضَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَالْإِجَارَةُ تِجَارَةٌ؛ لِأَنَّ التِّجَارَةَ تَبَادُلُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالْإِجَارَةُ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا يَمْلِكُهَا الْمَأْذُونُ، وَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِجَارَةَ تِجَارَةٌ فَدَخَلَتْ تَحْتَ النَّصِّ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ» فَلَا يَصِحُّ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَالْهَزْلِ وَالْخَطَأِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ تُنَافِي الرِّضَا فَتَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ؛ وَلِهَذَا مَنَعَتْ صِحَّةَ الْبَيْعِ. وَأَمَّا إسْلَامُ الْعَاقِدِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَالْكَافِرِ، وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ كَمَا يَصِحُّ الْبَيْعُ مِنْهُمْ، وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ، فَيَصِحُّ مِنْ الْمَمْلُوكِ الْمَأْذُونِ، وَيَنْفُذُ مِنْ الْمَحْجُورِ، وَيَنْعَقِدُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَضُرُوبٌ: مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومًا عِلْمًا يَمْنَعُ مِنْ الْمُنَازَعَةِ، فَإِنْ

كَانَ مَجْهُولًا يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ تِلْكَ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْمُفْضِيَةَ إلَى الْمُنَازَعَةِ تَمْنَعُ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعَقْدِ فَكَانَ الْعَقْدُ عَبَثًا لِخُلُوِّهِ عَنْ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ. وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ يُوجَدُ التَّسْلِيمُ وَالتَّسَلُّمُ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، ثُمَّ الْعِلْمُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ يَكُونُ بِبَيَانِ أَشْيَاءَ مِنْهَا: بَيَانُ مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ: أَجَرْتُك إحْدَى هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ أَوْ أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ، أَوْ قَالَ: اسْتَأْجَرْت أَحَدَ هَذَيْنِ الصَّانِعَيْنِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ مَحَلِّهِ جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَتَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا بَاعَ نَصِيبًا لَهُ مِنْ دَارٍ غَيْرِ مُسَمًّى وَلَا يَعْرِفُهُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِجَهَالَةِ النَّصِيبِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ إذَا عَلِمَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَرَفَهُ الْمُشْتَرِي وَقْتَ الْعَقْدِ أَوْ عَرَفَهُ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَائِعُ يَعْرِفُهُ، أَوْ لَا يَعْرِفُهُ بَعْدَ أَنْ صُدِّقَ الْمُشْتَرِي فِيمَا قَالَ: وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَيْعَ النَّصِيبِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ جَائِزٌ، وَالثَّانِي: أَنَّ إجَارَةَ الْمَشَاعِ غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجَرُ مَعْلُومًا مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَالْمَجْهُولُ أَوْلَى، وَعِنْدَهُمَا إجَارَةُ الْمَشَاعِ جَائِزَةٌ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ مُحَمَّدٌ بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ حَيْثُ جَوَّزَ إجَارَةَ النَّصِيبِ وَلَمْ يُجَوِّزْ بَيْعَ النَّصِيبِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ، وَالنَّصِيبُ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ مَعْلُومٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْبَدَلَ فِيهِ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَعِنْدَ الْعَقْدِ النَّصِيبُ مَجْهُولٌ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ مِنْ عَقَارٍ مِائَةَ ذِرَاعٍ أَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْ أَرْضٍ جَرِيبًا أَوْ جَرِيبَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الذِّرَاعِ عِنْدَهُ يَقَعُ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَحُلُّهُ الذِّرَاعُ مِنْ الْبُقْعَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَذَلِكَ لِلْحَالِ مَجْهُولٌ، وَكَذَا إجَارَةُ الْمَشَاعِ لَا تَجُوزُ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا فَالْمَجْهُولُ أَوْلَى، وَعِنْدَهُمَا الذِّرَاعُ كَالسَّهْمِ وَتَجُوزُ إجَارَةُ السَّهْمِ كَذَا إجَارَةُ الذِّرَاعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ إجَارَةُ الْمَشَاعِ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ مَحَلِّهِ، إذْ الشَّائِعُ اسْمٌ لِجُزْءٍ مِنْ الْجُمْلَةِ غَيْرُ عَيْنٍ مِنْ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَنَحْوِهِمَا وَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَأَشْبَهَ إجَارَةَ عَبْدٍ مِنْ عَبْدَيْنِ، وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ كَبَيْعِ الشَّائِعِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَتُخَرَّجُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ هُوَ أَوْلَى بِالتَّخْرِيجِ عَلَيْهِ وَنَذْكُرُ الدَّلَائِلَ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ طَرِيقًا مِنْ دَارٍ لِيَمُرَّ فِيهَا وَقْتًا مَعْلُومًا لَمْ يَجُزْ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْبُقْعَةَ الْمُسْتَأْجَرَةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ مِنْ بَقِيَّةِ الدَّارِ فَكَانَ إجَارَةَ الْمَشَاعِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ ظَهْرَ بَيْتٍ لِيَبِيتَ عَلَيْهِ شَهْرًا أَوْ لِيَضَعَ مَتَاعَهُ عَلَيْهِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ لِاخْتِلَافِ نُسَخِ الْأَصْلِ ذَكَرَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا اسْتَأْجَرَ عُلُوَّ مَنْزِلٍ لِيَبْنِيَ عَلَيْهَا لَا يَجُوزُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَيْهِ يَخْتَلِفُ فِي الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ، وَالثَّقِيلُ مِنْهُ يَضُرُّ بِالْعُلُوِّ، وَالضَّرَرُ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَا يَرْضَى بِهِ فَكَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْعَقْدِ دَلَالَةً وَلَا ضَابِطَ لَهُ فَصَارَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ عَلَيْهَا أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَتَأَثَّرُ لِثِقَلِ الْبِنَاءِ وَخِفَّتِهِ، وَيَجُوزُ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ الْمَذْكُورَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مَعْلُومٌ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ شِرْبًا مِنْ نَهْرٍ أَوْ مَسِيلِ مَاءٍ فِي أَرْضٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ قَدْرَ مَا يَشْغَلُ الْمَاءُ مِنْ النَّهْرِ وَالْأَرْضِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ نَهْرًا لِيَسُوقَ مِنْهُ الْمَاءَ إلَى أَرْضٍ لَهُ فَيَسْقِيهَا لَمْ يَجُزْ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا اسْتَأْجَرَ نَهْرًا يَابِسًا يُجْرِي فِيهِ الْمَاءَ إلَى أَرْضِهِ أَوْ رَحًى لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ اسْتَأْجَرَ مِيزَابًا لِيَسِيلَ فِيهِ مَاءُ الْمَطَرُ عَلَى سَطْحِ الْمُؤَاجِرِ أَلَمْ يَكُنْ هَذَا فَاسِدًا؟ ، وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ مَوْضِعًا مَعْلُومًا مِنْ أَرْضٍ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ يُسِيلُ فِيهِ مَاءَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ، فَصَارَ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَانِعَ جَهَالَةُ الْبُقْعَةِ وَقَدْ زَالَتْ الْجَهَالَةُ بِالتَّعْيِينِ، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مِقْدَارَ مَا يَسِيلُ مِنْ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ وَالْمَسِيلِ مُخْتَلِفٌ وَالْكَثِيرُ مِنْهُ مُضِرٌّ بِالنَّهْرِ وَالسَّطْحِ، وَالْمُضِرُّ مِنْهُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْعَقْدِ دَلَالَةً، وَغَيْرُ الْمُضِرِّ غَيْرُ مَضْبُوطٍ، فَصَارَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مِيزَابًا لِيُرَكَّبَهُ فِي دَارِهِ كُلَّ شَهْرٍ بِشَيْءٍ مُسَمًّى جَازَ؛ لِأَنَّ الْمِيزَابَ الْمُرَكَّبَ فِي دَارِهِ لَا تَخْتَلِفُ مَنْفَعَتُهُ بِكَثْرَةِ مَا يَسِيلُ فِيهِ وَقِلَّتِهِ،

فَكَانَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَعْلُومًا، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ بَالُوعَةً لِيَصُبَّ فِيهَا وَضُوءًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ مِقْدَارَ مَا يُصَبُّ فِيهَا مِنْ الْمَاءِ مَجْهُولٌ، وَالضَّرَرُ يَخْتَلِفُ فِيهِ بِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، فَكَانَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ أَيْضًا مَا إذَا اسْتَأْجَرَ حَائِطًا لِيَضَعَ عَلَيْهِ جُذُوعًا أَوْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ سُتْرَةً أَوْ يَضَعَ فِيهِ مِيزَابًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْجِذْعِ وَبِنَاءَ السُّتْرَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ، وَالثَّقِيلُ مِنْهُ يَضُرُّ بِالْحَائِطِ وَالضَّرَرُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْعَقْدِ دَلَالَةً وَلَيْسَ لِذَلِكَ الْمُضِرِّ حَدٌّ مَعْلُومٌ فَيَصِيرَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْ الْحَائِطِ مَوْضِعَ كُوَّةٍ لِيَدْخُلَ عَلَيْهِ الضَّوْءُ، أَوْ مَوْضِعًا مِنْ الْحَائِطِ لِيَتِدَ فِيهِ وَتَدًا لَمْ يَجُزْ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِغَيْرِ عَيْنِهَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا لِجَهَالَةِ مَحَلِّهِ؟ فَالْجَوَابُ: إنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِهَا؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِعَيْنِهَا فَرُبَّمَا تَمُوتُ الدَّابَّةُ فِي الطَّرِيقِ فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ الْمُطَالَبَةُ بِدَابَّةٍ أُخْرَى، فَيَبْقَى فِي الطَّرِيقِ بِغَيْرِ حَمُولَةٍ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْجَوَازِ وَإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لِحَالَةِ النَّاسِ، فَلَا تَكُونُ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ كَجَهَالَةِ الْمُدَّةِ وَقَدْرِ الْمَاءِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَمَّامِ، وَقَالَ هِشَامٌ: سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ الِاطِّلَاءِ بِالنُّورَةِ بِأَنْ قَالَ: أُطْلِيك بِدَانِقٍ وَلَا يَعْلَمُ بِمَا يَطْلِيه مِنْ غِلَظِهِ وَنَحَافَتِهِ، قَالَ: هُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْبَدَنِ مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ وَالتَّفَاوُتُ فِيهِ يَسِيرٌ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ وَلِأَنَّ النَّاسَ يَتَعَامَلُونَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ بِتَعَامُلِ النَّاسِ. وَمِنْهَا: بَيَانُ الْمُدَّةِ فِي إجَارَةِ الدُّورِ وَالْمَنَازِلِ، وَالْبُيُوتِ، وَالْحَوَانِيتِ، وَفِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِدُونِهِ، فَتَرْكُ بَيَانِهِ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَسَوَاءٌ قَصُرَتْ الْمُدَّةُ أَوْ طَالَتْ مِنْ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً، وَهُوَ أَظْهَرُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ. وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ سَنَةٍ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَالْقَوْلَانِ لَا مَعْنَى لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ إنْ كَانَ هُوَ الْجَهَالَةَ فَلَا جَهَالَةَ، وَإِنْ كَانَ عَدَمَ الْحَاجَةِ فَالْحَاجَةُ قَدْ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ عَيَّنَ الْيَوْمَ أَوْ الشَّهْرَ أَوْ السَّنَةَ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْ. وَيَتَعَيَّنُ الزَّمَانُ الَّذِي يَعْقُبُ الْعَقْدَ لِثُبُوتِ حُكْمِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ مَا لَمْ يُعَيَّنْ الْوَقْتُ الَّذِي يَلِي الْعَقْدَ نَصًّا. (وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ قَوْلَهُ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِوَقْتٍ مُنَكَّرٍ، وَجَهَالَةُ الْوَقْتِ تُوجِبُ جَهَالَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ مَا يُوجِبُ تَعْيِينَ بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ فَيَبْقَى مَجْهُولًا، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ، وَلَنَا إنَّ التَّعْيِينَ قَدْ يَكُونُ نَصًّا وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَةً، وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا دَلَالَةُ التَّعْيِينِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَعْقِدُ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لِلْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ عَقِيبَ الْعَقْدِ قَائِمَةٌ، وَالثَّانِي: إنَّ الْعَاقِدَ يَقْصِدُ بِعَقْدِهِ الصِّحَّةَ وَلَا صِحَّةَ لِهَذَا الْعَقْدِ إلَّا بِالصَّرْفِ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يَعْقُبُ الْعَقْدَ، فَيَتَعَيَّنُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: " لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا أَوْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا " أَنَّ لَهُ أَنْ يَصُومَ وَيَعْتَكِفَ أَيَّ شَهْرٍ أَحَبَّ وَلَا يَتَعَيَّنُ الشَّهْرُ الَّذِي يَلِي النَّذْرَ؛ لِأَنَّ تَعَيُّنَ الْوَقْتِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ النَّذْرِ فَوَجَبَ الْمَنْذُورُ بِهِ فِي شَهْرٍ مُنَكَّرٍ، فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ أَيَّ شَهْرٍ شَاءَ، وَلَوْ آجَرَ دَارِهِ شَهْرًا أَوْ شُهُورًا مَعْلُومَةً فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ فِي غُرَّةِ الشَّهْرِ يَقَعُ عَلَى الْأَهِلَّةِ، بِلَا خِلَافٍ حَتَّى لَوْ نَقَصَ الشَّهْرُ يَوْمًا كَانَ عَلَيْهِ كَمَالُ الْأُجْرَةِ لِأَنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لِلْهِلَالِ، وَإِنْ وَقَعَ بَعْدَ مَا مَضَى بَعْضُ الشَّهْرِ فَفِي إجَارَةِ الشَّهْرِ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا بِالْإِجْمَاعِ لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْأَهِلَّةِ فَتُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ. وَأَمَّا فِي إجَارَةِ الشَّهْرِ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ اعْتَبَرَ الشُّهُورَ كُلَّهَا بِالْأَيَّامِ، وَفِي رِوَايَةٍ اعْتَبَرَ تَكْمِيلَ هَذَا الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ مِنْ الشَّهْرِ الْأَخِيرِ وَالْبَاقِي بِالْأَهِلَّةِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ: إذَا اسْتَأْجَرَ سَنَةً أَوَّلُهَا هَذَا الْيَوْمُ وَهَذَا الْيَوْمُ لِأَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ الشَّهْرِ فَإِنَّهُ يَسْكُنُ بَقِيَّةَ هَذَا الشَّهْرِ، وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ، وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ الشَّهْرِ الْأَخِيرِ، وَهَذَا غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ الْكَاتِبِ، وَالصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ: وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا قَدْ سَكَنَ فَلَمْ يَبْقَ لِتَمَامِ الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ إلَّا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَإِنَّمَا يَسْكُنُ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا إذَا كَانَ سَكَنَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ،، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الشُّهُورِ لِلْأَهِلَّةِ إذْ الشَّهْرُ اسْمٌ لِلْهِلَالِ لُغَةً، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْأَهِلَّةِ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْأَيَّامُ وَيُمْكِنُ فِيمَا بَعْدَهُ فَيُعْمَلُ بِالْأَصْلِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَنْفَعَةِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَجَدَّدُ وَيَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَصِيرُ عِنْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ عَقَدَ الْإِجَارَةَ ابْتِدَاءً فَيُعْتَبَرُ بِالْأَهِلَّةِ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْأَيَّامُ عَلَى إحْدَى

الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِدَّةِ لَيْسَ بِعِدَّةٍ؛ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَاعْتُبِرَ فِيهَا زِيَادَةُ الْعَدَدِ احْتِيَاطًا، وَالْإِجَارَةُ حَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَدْخُلُهُ الِاحْتِيَاطُ، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ يَكْمُلُ بِالْأَيَّامِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا يَكْمُلُ بِالْأَيَّامِ مِنْ الشَّهْرُ الثَّانِي فَإِذَا كَمُلَ بِالْأَيَّامِ مِنْ الشَّهْرُ الثَّانِي يَصِير أَوَّلُ الشَّهْرِ الثَّانِي بِالْأَيَّامِ، فَيُكْمَلُ مِنْ الشَّهْرِ الثَّالِثِ وَهَكَذَا إلَى آخَرِ الشُّهُورِ، وَلَوْ قَالَ: أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ سَنَةً كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ مَعْلُومَةٌ وَالْأُجْرَةَ مَعْلُومَةٌ فَلَا يَجُوزُ - وَلَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا - الْفَسْخُ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ السَّنَةَ فَقَالَ: أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الشَّهْرُ الَّذِي يَعْقُبُ الْعَقْدَ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ بِأَنْ قَالَ: بِعْت مِنْك هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلَّ قَفِيزٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ الشُّهُورِ مَجْهُولَةٌ، فَأَمَّا الشَّهْرُ الْأَوَّلُ فَمَعْلُومٌ وَهُوَ الَّذِي يَعْقُبُ الْعَقْدَ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَيْضًا، وَفَرَّقَا بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَبَيْعِ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ شَهْرٍ لَا نِهَايَةَ لَهُ فَلَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا بِخِلَافِ الصُّبْرَةِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْجُمْلَةِ بِالْكَيْلِ، وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قَالُوا تَجُوزُ هَذِهِ الْإِجَارَةُ عَلَى قَوْلِهِمَا كُلُّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ كَمَا فِي بَيْعِ الصُّبْرَةِ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ وَفِي بَيْعِ الْمَذْرُوعِ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي الْمَذْرُوعِ فِي الْكُلِّ لَا فِي ذِرَاعٍ وَاحِدٍ وَلَا فِي الْبَاقِي، وَفِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ يَجُوزُ فِي وَاحِدٍ وَلَا يَجُوزُ فِي الْبَاقِي فِي الْحَالِ، إلَّا إذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي جُمْلَتَهُ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ قَفِيزٍ وَقَفِيزٍ فَأَمَّا بَيْعُ ذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ فَلَا يَجُوزُ لِتَفَاوُتٍ فِي أَجْزَاءِ الثَّوْبِ فَيُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذِهِ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَاعْتَبَرَهَا بِبَيْعِ كُلِّ ثَوْبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَثْوَابِ بِدِرْهَمٍ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الثِّيَابَ تَخْتَلِفُ فِي أَنْفُسِهَا اخْتِلَافًا فَاحِشًا، وَلَا يُمْكِنُ تَعْيِينُ وَاحِدٍ مِنْهَا لِاخْتِلَافِهَا، فَأَمَّا الشُّهُورُ فَإِنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ فَيَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ مِنْهَا لِلْإِجَارَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِذَا جَازَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ لَا غَيْرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتْرُكَ الْإِجَارَةَ عِنْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الثَّانِي وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدُهُمَا انْعَقَدَتْ الْإِجَارَةُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ إذَا مَضَى الشَّهْرُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدُهُمَا فَقَدْ تَرَاضَيَا عَلَى انْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي فَصَارَا كَأَنَّهُمَا جَدَّدَا الْعَقْدَ، وَكَذَا هَذَا عِنْدَ مُضِيِّ كُلِّ شَهْرٍ بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَرَ شَهْرًا، وَسَكَتَ وَلَمْ يَقُلْ كُلَّ شَهْرٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ شَيْءٌ يُبْنَى عَلَيْهِ الْعَقْدُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، ثُمَّ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي وَقْتِ الْفَسْخِ وَكَيْفِيَّتِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ يَقُولُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْفَوْرِ: فَسَخْتُ الْإِجَارَةَ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ لَا يَنْعَقِدُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، وَإِنْ سَكَتَا عَنْهُ انْعَقَدَتْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَفْسَخُ أَحَدُهُمَا الْإِجَارَةَ فِي الْحَالِ، فَإِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ عَمِلَ ذَلِكَ الْفَسْخُ السَّابِقُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَفْسَخُ أَحَدُهُمَا لَيْلَةَ الْهِلَالِ أَوْ يَوْمَهَا وَإِنْ سَكَتَا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ انْعَقَدَتْ الْإِجَارَةُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ، وَمَعْنَى الْفَسْخُ هَهُنَا هُوَ مَنْعُ انْعِقَادِ الْإِجَارَةِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ رَفْعُ الْعَقْدِ الْمَوْجُودِ مِنْ الْأَصْلِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَلْوًا وَبَكَرَةً لِيَسْقِيَ غَنَمَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُدَّةَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الزَّمَانِ الَّذِي يَسْقِي فِيهِ الْغَنَمَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَانَ قَدْرُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا وَإِنْ بَيَّنَ الْمُدَّةَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْتَأْجَرُ لَهُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْإِجَارَةِ أَعْنِي إجَارَةَ الْمَنَازِلِ وَنَحْوِهَا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُسَمِّ مَا يَعْمَلُ فِيهِ جَازَ، وَلَهُ أَنْ يَسْكُنَ فِيهِ نَفْسُهُ وَمَعَ غَيْرِهِ، وَلَهُ أَنْ يُسْكِنَ فِيهِ غَيْرَهُ بِالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ، وَلَهُ أَنْ يَضَعَ فِيهِ مَتَاعًا، وَغَيْرَهُ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ فِيهِ حَدَّادًا، وَلَا قَصَّارًا، وَلَا طَحَّانًا، وَلَا مَا يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ وَيُوهِنُهُ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ شُرِعَتْ لِلِانْتِفَاعِ، وَالدُّورُ وَالْمَنَازِلُ وَالْبُيُوتُ وَنَحْوُهَا مُعَدَّةٌ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا بِالسُّكْنَى، وَمَنَافِعُ الْعَقَارِ الْمُعَدَّةُ لِلسُّكْنَى مُتَقَارِبَةٌ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَتَفَاوَتُونَ فِي السُّكْنَى، فَكَانَتْ مَعْلُومَةً مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ، وَكَذَا الْمَنْفَعَةُ لَا تَتَفَاوَتُ بِكَثْرَةِ السُّكَّانِ وَقِلَّتِهِمْ إلَّا تَفَاوُتًا يَسِيرًا، وَأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ وَوَضْعُ الْمَتَاعِ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْبِطَ فِي الدَّارِ دَابَّتَهُ، وَبَعِيرَهُ، وَشَاتَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى، وَقِيلَ إنَّ هَذَا الْجَوَابَ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَالْجَوَابُ فِيهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَادَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ جَرَتْ الْعَادَةُ بِذَلِكَ فَلَهُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقْعِدَ فِيهِ مَنْ يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ وَيُوهِنُهُ مِنْ الْقَصَّارِ وَالْحَدَّادِ

وَالطَّحَّانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إتْلَافُ الْعَيْنِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ، إذْ الْإِجَارَةُ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ لَا بَيْعُ الْعَيْنِ؛ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُعْتَادِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَانُوتَ الَّذِي يَكُونُ فِي صَفِّ الْبَزَّازِينَ أَنَّهُ لَا يُؤَاجَرُ لِعَمَلِ الْحَدَّادِ وَالْقَصَّارِ وَالطَّحَّانِ؛ فَلَا يَنْصَرِفُ مُطْلَقُ الْعَقْدِ إلَيْهِ، إذْ الْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَادَةِ فَلَا يَدْخُلُ غَيْرُهُ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ أَوْ بِالرِّضَا، حَتَّى لَوْ آجَرَ حَانُوتًا فِي صَفِّ الْحَدَّادِينَ مِنْ حَدَّادٍ يَدْخُلُ عَمَلُ الْحِدَادَةِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ لِلْعَادَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْ غَيْرِهِ وَيُعِيرَ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْ غَيْرِهِ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ. وَأَمَّا فِي إجَارَةِ الْأَرْضِ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ بَيَانِ مَا تُسْتَأْجَرُ لَهُ مِنْ الزِّرَاعَةِ وَالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً، إلَّا إذَا جَعَلَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا بِمَا شَاءَ، وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِلزِّرَاعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا يَزْرَعُ فِيهَا أَوْ يَجْعَلُ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا مَا شَاءَ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَرْضِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالزِّرَاعَةِ، وَكَذَا الْمَزْرُوعُ يَخْتَلِفُ، مِنْهُ مَا يُفْسِدُ الْأَرْضَ، وَمِنْهُ مَا يُصْلِحُهَا، فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ بِخِلَافِ السُّكْنَى فَإِنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ وَأَمَّا فِي إجَارَةِ الدَّوَابِّ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ بَيَانِ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ: الْمُدَّةِ أَوْ الْمَكَانِ فَإِنْ لَمْ يُبَيَّنْ أَحَدُهُمَا فَسَدَتْ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْبَيَانِ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً يُشَيِّعُ عَلَيْهَا رَجُلًا أَوْ يَتَلَقَّاهُ إنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ، إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ مَوْضِعًا مَعْلُومًا لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْجَبَّانَةِ؛ لِأَنَّ الْجَبَّانَةَ تَخْتَلِفُ أَوَّلُهَا وَأَوْسَطُهَا وَآخِرُهَا؛ لِأَنَّهَا مَوْضِعٌ وَاسِعٌ تَتَبَاعَدُ أَطْرَافُهَا وَجَوَانِبُهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْكُوفَةِ أَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَإِنْ كَانَ أَطْرَافُهَا وَجَوَانِبُهَا مُتَبَاعِدَةً؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ هُنَاكَ مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ وَهُوَ مَنْزِلُهُ الَّذِي بِالْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اسْتَأْجَرَ إلَى بَلَدِهِ فَإِنَّمَا يَسْتَأْجِرُ إلَى بَيْتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بَيْنَ الْمُكَارِينَ بِطَرْحِ الْحُمُولَاتِ عَلَى أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْبَلَدِ؟ فَصَارَ مَنْزِلُهُ بِالْكُوفَةِ مَذْكُورًا دَلَالَةً وَالْمَذْكُورُ دَلَالَةً، كَالْمَذْكُورِ نَصًّا، وَلَا عَادَةَ فِي الْجَبَّانَةِ عَلَى مَوْضِعٍ بِعَيْنِهِ حَتَّى يُحْمَلَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي الْجَبَّانَةِ مَوْضِعٌ لَا يُرْكَبُ إلَّا إلَيْهِ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ كَمَا يَصِحُّ إلَى الْكُوفَةِ، وَلَوْ تَكَارَاهَا بِدِرْهَمٍ يَذْهَبُ عَلَيْهَا إلَى حَاجَةٍ لَهُ لَمْ يَجُزْ مَا لَمْ يُبَيِّنْ الْمَكَانَ؛ لِأَنَّ الْحَوَائِجَ تَخْتَلِفُ، مِنْهَا مَا يَنْقَضِي بِالرُّكُوبِ إلَى مَوْضِعٍ. وَمِنْهَا مَا لَا يَنْقَضِي إلَّا بِقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ فَكَانَتْ الْمَنَافِعُ مَجْهُولَةً فَتَفْسُدُ الْإِجَارَةُ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا تَكَارَى دَابَّةً مِنْ الْفُرَاتِ إلَى جُعْفِيٍّ وَجُعْفِيٌّ قَبِيلَتَانِ بِالْكُوفَةِ وَلَمْ يُسَمِّ إحْدَاهُمَا، أَوْ إلَى الْكُنَاسَةِ وَفِيهَا كُنَاسَتَانِ وَلَمْ يُسَمِّ إحْدَاهُمَا، أَوْ إلَى بَجِيلَةَ وَبِهَا بَجِيلَتَانِ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ وَلَمْ يُسَمِّ إحْدَاهُمَا، إنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ مَجْهُولٌ وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ بَيَانِ مَا يَسْتَأْجِرُ لَهُ فِي الْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ؛ لِأَنَّهُمَا مَنْفَعَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ وَبَعْدَ بَيَانِ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا وَمَنْ يَرْكَبُهَا؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْمَحْمُولِ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرُّكُوبِ فَتَرْكُ الْبَيَانِ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا اسْتَأْجَرَ بَعِيرَيْنِ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ فَحَمَلَ عَلَى أَحَدِهِمَا مَحْمَلًا فِيهِ رَجُلَانِ وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا مِنْ الْوِطَاءِ وَالدُّثُرِ وَقَدْ رَأَى الرَّجُلَيْنِ وَلَمْ يَرَ الْوِطَاءَ وَالدُّثُرَ، وَأَحَدُهُمَا زَامِلَةٌ يَحْمِلُ عَلَيْهَا كَذَا كَذَا مَحْتُومًا مِنْ السَّوِيقِ، وَالدَّقِيقِ وَمَا يُصْلِحُهُمَا مِنْ الزَّيْتِ وَالْخَلِّ وَالْمَعَالِيقِ وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ مَا يَكْتَفِي بِهِ مِنْ الْمَاءِ وَلَمْ يُبَيِّنْ، ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ فَاسِدٌ بِالْقِيَاسِ، وَلَكِنْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَسْتَحْسِنُ ذَلِكَ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ شَرَطَ عَمَلًا مَجْهُولًا؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْكِسْوَةِ وَالدِّثَارِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فَصَارَتْ الْمَنَافِعُ مَجْهُولَةً، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ إنَّ النَّاسَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَكَانَ ذَلِكَ إسْقَاطًا مِنْهُمْ اعْتِبَارَ هَذِهِ الْجَهَالَةِ فَلَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَإِنْ اشْتَرَطَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ مِنْ هَدَايَا مَكَّةَ مِنْ صَالِحِ مَا يَحْمِل النَّاسُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْهَدَايَا يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ وَهَذَا مِمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَإِنْ بَيَّنَ وَزْنَ الْمَعَالِيقِ وَوَصَفَ ذَلِكَ، وَالْهَدَايَا أَحَبُّ إلَيْنَا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا وَذَلِكَ يَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ الْخُصُومَةِ لِذَلِكَ قَالَ: أَحَبُّ إلَيْنَا، وَلِكُلِّ مَحَلٍّ قِرْبَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ وَإِدَاوَتَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالْعَادَةِ وَذِكْرُهُ أَفْضَلُ، وَكَذَا الْخَيْمَةُ وَالْقُبَّةُ وَذِكْرُهُ أَفْضَلُ لِمَا قُلْنَا، وَفِي اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ لِلْخِدْمَةِ، وَالثَّوْبِ لِلُّبْسِ، وَالْقِدْرِ لِلطَّبْخِ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْمُدَّةِ لِمَا قُلْنَا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُشْتَرَطَ بَيَانُ نَوْعِ الْخِدْمَةِ فِي اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ لِلْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ تَخْتَلِفُ فَكَانَتْ مَجْهُولَةً، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُشْتَرَطُ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ

يُسَافِرَ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا يَلْبَسُ وَمَا يَطْبُخُ فِي الْقِدْرِ؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللَّابِسِ، وَالْقِدْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَطْبُوخِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ لِيَصِيرَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا فَإِنْ اخْتَصَمَا حِينَ وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ أَنْ يَزْرَعَ أَوْ يَبْنِيَ أَوْ يَغْرِسَ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى الدَّابَّةِ أَوْ يَرْكَبَهَا أَوْ قَبْلَ أَنْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ أَوْ يَطْبُخَ فِي الْقِدْرِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَفْسَخُ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ فَاسِدًا، وَرَفْعُ الْفَسَادِ وَاجِبٌ حَقًّا لِلشَّرْعِ، فَإِنْ زَرَعَ الْأَرْضَ وَحَمَلَ عَلَى الدَّابَّةِ وَلَبِسَ الثَّوْبَ، وَطَبَخَ فِي الْقِدْرِ فَمَضَتْ الْمُدَّةُ فَلَهُ مَا سُمِّيَ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَاسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ يُوجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ لَا الْمُسَمَّى، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُفْسِدَ جَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَدْ تَعَيَّنَ بِالزِّرَاعَةِ، وَالْحَمْلِ وَاللُّبْسِ وَالطَّبْخِ فَزَالَتْ الْجَهَالَةُ، فَقَدْ اُسْتُوْفِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ فَيَجِبُ كَمَالُ الْمُسَمَّى كَمَا لَوْ كَانَ مُتَعَيَّنًا فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَوْ فَسَخَ الْقَاضِي الْإِجَارَةَ ثُمَّ زَرَعَ أَوْ حَمَلَ أَوْ لَبِسَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا نَقَضَ الْعَقْدَ فَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ فَصَارَ مُسْتَعْمِلًا مَالَ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَصَارَ غَاصِبًا، وَالْمَنَافِعُ عَلَى أَصْلِنَا لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ أَوْ الْفَاسِدِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَمِنْهَا: بَيَانُ الْعَمَلِ فِي اسْتِئْجَارِ الصُّنَّاعِ وَالْعُمَّالِ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْعَمَلِ فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْأَعْمَالِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيَفْسُدُ، الْعَقْدُ حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ عَامِلًا وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ الْعَمَلَ مِنْ الْقِصَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَالرَّعْيِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ، وَكَذَا بَيَانُ الْمَعْمُولِ فِيهِ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ، إمَّا بِالْإِشَارَةِ وَالتَّعْيِينِ، أَوْ بِبَيَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ فِي ثَوْبِ الْقِصَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَبَيَانِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ فِي إجَارَةِ الرَّاعِي مِنْ الْخَيْلِ أَوْ الْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمِ وَعَدَدِهَا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَعْمُولِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ حَفَّارًا لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَكَانِ الْحَفْرِ وَعُمْقِ الْبِئْرِ وَعَرْضِهَا؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْحَفْرِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عُمْقِ الْمَحْفُورِ وَعَرْضِهِ وَمَكَانِ الْحَفْرِ مِنْ الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ فَيُحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ لِيَصِيرَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ بَيَانُ الْمُدَّةِ؟ أَمَّا فِي اسْتِئْجَارِ الرَّاعِي الْمُشْتَرَكِ فَيُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِدُونِهِ. وَأَمَّا فِي اسْتِئْجَارِ الْقَصَّارِ الْمُشْتَرَكِ وَالْخَيَّاطِ الْمُشْتَرَكِ فَلَا يُشْتَرَطُ حَتَّى لَوْ دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ أَوْ قَصَّارٍ أَثْوَابًا مَعْلُومَةً لِيَخِيطَهَا أَوْ لِيُقَصِّرَهَا جَازَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِدُونِهِ. وَأَمَّا فِي الْأَجِيرِ الْخَاصِّ فَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ جِنْسِ الْمَعْمُولِ فِيهِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْمُدَّةِ فَقَطْ وَبَيَانُ الْمُدَّةِ فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ شَرْطُ جَوَازِهِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ لِلْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْخِدْمَةُ، فَمَا جَازَ فِيهِ جَازَ فِي الظِّئْرِ وَمَا لَمْ يَجُزْ فِيهِ لَمْ يَجُزْ فِيهَا، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ فِي الظِّئْرِ أَنْ تُسْتَأْجَرَ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا لِمَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِيَبِيعَ لَهُ وَيَشْتَرِيَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُدَّةَ لَمْ يَجُزْ لِجَهَالَةِ قَدْرِ مَنْفَعَةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَلَوْ بَيَّنَ الْمُدَّةَ بِأَنْ اسْتَأْجَرَهُ شَهْرًا لِيَبِيعَ لَهُ وَيَشْتَرِيَ جَازَ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْمَنْفَعَةِ صَارَ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ: «كُنَّا نَبِيعُ فِي أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ وَنُسَمِّي أَنْفُسَنَا السَّمَاسِرَةَ فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمَّانَا بِأَحْسَنِ الْأَسْمَاءِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إنَّ بَيْعَكُمْ هَذَا يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْكَذِبُ فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ» وَالسِّمْسَارُ هُوَ الَّذِي يَبِيعُ أَوْ يَشْتَرِي لِغَيْرِهِ بِالْأُجْرَةِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً، وَكَذَا إذَا قَالَ: بِعْ لِي هَذَا الثَّوْبَ وَلَكَ دِرْهَمٌ وَبَيَّنَ الْمُدَّةَ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فَبَاعَ وَاشْتَرَى فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، قَالَ الْفَضْلُ بْنُ غَانِمٍ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْقَاضِي رَجُلًا مُشَاهَرَةً عَلَى أَنْ يَضْرِبَ الْحُدُودَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُشَاهَرَةٍ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مُشَاهَرَةً كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ وَيَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ فِيهَا بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ عَمِلَ أَوْ لَمْ يَعْمَلْ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ الْوَقْتَ بَقِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْحُدُودِ الَّتِي سَمَّاهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ وَكَذَا مَحَلُّ الْإِقَامَةِ مَجْهُولٌ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ إذَا اسْتَأْجَرَ الْإِمَامُ رَجُلًا لِيَقْتُلَ الْمُرْتَدِّينَ وَالْأُسَارَى لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِقَطْعِ الْيَدِ جَازَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدِي، وَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ فِيهِمَا. هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: " أَصْحَابِنَا " أَبَا يُوسُفَ وَأَبَا حَنِيفَةَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ رَجُلًا لِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ، وَهُوَ الْقَتْلُ وَمَحَلُّهُ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْعُنُقُ إذْ لَا يُبَاحُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ فَيَجُوزُ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِقَطْعِ الْيَدِ وَذَبْحِ الشَّاةِ، وَلَهُمَا أَنَّ مَحَلَّهُ مِنْ الْعُنُقِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ

بِخِلَافِ الْقَطْعِ فَإِنَّ مَحَلَّهُ مِنْ الْيَدِ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْمَفْصِلُ، وَكَذَا مَحَلُّ الذَّبْحِ الْحُلْقُومُ وَالْوَدَجَانِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ، وَقَالَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ اُقْتُلْ هَذَا الذِّئْبَ أَوْ هَذَا الْأَسَدَ وَلَك دِرْهَمٌ وَهُمَا صَيْدٌ لَيْسَا لِلْمُسْتَأْجِرِ فَقَتَلَهُ: فَإِنَّ لَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا أُجَاوِزُ بِهِ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ الْأَسَدَ وَالذِّئْبَ إذَا لَمْ يَكُونَا فِي يَدِهِ فَيُحْتَاجَ فِي قَتْلِهِمَا إلَى الْمُعَالَجَةِ فَكَانَ الْعَمَلُ مَجْهُولًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَيَكُونُ الصَّيْدُ لِلْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ سَبَبٌ لِتَمَلُّكِهِ وَعَمَلُ الْأَجِيرِ يَقَعُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَتَلَهُ بِنَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ: اسْتَأْجَرْتُك لِتَخِيطَ هَذَا الثَّوْبَ الْيَوْمَ، أَوْ لِتُقَصِّرَ هَذَا الثَّوْبَ الْيَوْمَ، أَوْ لِتَخْبِزَ قَفِيزَ دَقِيقٍ الْيَوْمَ، أَوْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُك هَذَا الْيَوْمَ لِتَخِيطَ هَذَا الثَّوْبَ، أَوْ لِتُقَصِّرَ، أَوْ لِتَخْبِزَ قَدَّمَ الْيَوْمَ أَوْ أَخَّرَهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ جَائِزَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اسْتَأْجَرَ الدَّابَّةَ إلَى الْكُوفَةِ أَيَّامًا مُسَمَّاةً فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا جَائِزَةٌ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْعَمَلُ مَعْلُومٌ، فَأَمَّا ذِكْرُ الْمُدَّةِ فَهُوَ التَّعْجِيلُ فَلَمْ تَكُنْ الْمُدَّةُ مَعْقُودًا عَلَيْهَا، فَذِكْرُهَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ، وَإِذَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى الْعَمَلِ فَإِنْ فَرَغَ مِنْهُ قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ أَيْ الْيَوْمَ فَلَهُ كَمَالُ الْأَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ مِنْهُ فِي الْيَوْمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَهُ فِي الْغَدِ، كَمَا إذَا دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا لِيُقَطِّعَهُ وَيَخِيطَهُ قَمِيصًا عَلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ فِي يَوْمِهِ هَذَا، أَوْ اكْتَرَى مِنْ رَجُلٍ إبِلًا إلَى مَكَّةَ عَلَى أَنْ يُدْخِلَهُ إلَى عِشْرِينَ لَيْلَةٍ كُلُّ بَعِيرٍ بِعَشْرَةِ دَنَانِيرَ مَثَلًا وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا أَنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ، ثُمَّ إنْ وَفَى بِالشَّرْطِ أَخَذَ الْمُسَمَّى وَإِنْ لَمْ يَفِ بِهِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُزَادُ عَلَى مَا شَرَطَهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَمْرَيْنِ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ، أَعْنِي الْعَمَلَ وَالْمُدَّةَ أَمَّا الْعَمَلُ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا ذَكَرَ الْمُدَّةَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَوْمًا لِلْخِبَازَةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ قَدْرِ مَا يَخْبِزُ جَازَ وَكَانَ الْجَوَابُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةَ، وَالْمَنْفَعَةُ مُقَدَّرَةٌ بِالْوَقْتِ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْقُودًا عَلَيْهِ لِأَنَّ حُكْمَهُمَا مُخْتَلِفٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمُدَّةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْأَجْرِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَجِيرًا خَالِصًا، وَالْعَقْدُ عَلَى الْعَمَلِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْأَجْرِ بِالْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا، فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَحَدَهُمَا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَكَانَ مَجْهُولًا، وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " عَلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ فِي يَوْمِي هَذَا لَيْسَ جَعْلُ الْوَقْتِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ بَلْ هُوَ بَيَانُ صِفَةِ الْعَمَلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْمَلْ فِي الْيَوْمِ وَعَمِلَ فِي الْغَدِ يَسْتَحِقُّ أَجْرَ الْمِثْلِ، وَلَوْ قَالَ: أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ هَذِهِ الْأُخْرَى شَهْرًا بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ فِي حَانُوتَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ أَوْ مَسَافَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ بِأَنْ قَالَ: أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّابَّةَ إلَى وَاسِطَ بِكَذَا أَوْ إلَى مَكَّةَ بِكَذَا فَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ قِيَاسًا، وَعَلَى هَذَا إذَا خَيَّرَهُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، وَإِنْ ذَكَرَ أَرْبَعَةً لَمْ يَجُزْ وَعَلَى هَذَا أَنْوَاعُ الْخِيَاطَةِ وَالصِّبْغِ أَنَّهُ إنْ ذَكَرَ ثَلَاثَةً جَازَ عِنْدَنَا، وَلَا يَجُوزُ مَا زَادَ عَلَيْهَا كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ وَهُوَ مَجْهُولٌ فَلَا يَصِحُّ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ إذَا أُضِيفَ إلَى أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَنَا أَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ عَقْدَيْنِ مَعْلُومَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ مُتَقَوَّمَيْنِ بِبَدَلَيْنِ مَعْلُومَيْنِ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ رَدَدْت الْآبِقَ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا فَلَكَ كَذَا، وَإِنْ رَدَدْتَهُ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا فَلَكَ كَذَا، وَكَمَا لَوْ قَالَ: إنْ خِطْتَ هَذَا الثَّوْبَ فَبِدِرْهَمٍ، وَإِنْ خِطْتَ هَذَا الْآخَرَ فَبِدِرْهَمٍ، وَعَمَلُهُمَا سَوَاءٌ، وَكَمَا لَوْ قَالَ: إنْ سِرْت عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَبِدِرْهَمٍ، وَإِنْ سِرْت إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَبِدِرْهَمٍ، وَالْمَسَافَةُ سَوَاءٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إنَّ الْعَقْدَ أُضِيفَ إلَى أَحَدِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ غَيْرِ عَيْنٍ فَنَعَمْ لَكِنْ فُوِّضَ خِيَارُ التَّعْيِينِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ كَجَهَالَةِ قَفِيزٍ مِنْ الصُّبْرَةِ؛ وَلِهَذَا جَازَ الْبَيْعُ فَالْإِجَارَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَوْسَعُ مِنْ الْبَيْعِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَقْبَلُ مِنْ الْخَطَرِ مَا لَا يَقْبَلُهُ الْبَيْعُ؛ وَلِهَذَا جَوَّزُوا هَذِهِ الْإِجَارَةَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْخِيَارِ وَلَمْ يُجَوِّزُوا الْبَيْعَ إلَّا بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَكَذَلِكَ إذَا دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا فَقَالَ لَهُ: إنْ خِطْتَهُ فَارِسِيًّا فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خِطْتَهُ رُومِيًّا فَلَكَ دِرْهَمَانِ، أَوْ قَالَ لِصَبَّاغٍ: إنْ صَبَغْت هَذَا الثَّوْبَ بِعُصْفُرٍ فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ صَبَغْته بِزَعْفَرَانٍ فَلَكَ دِرْهَمَانِ فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ إيفَاءِ مَنْفَعَتَيْنِ مَعْلُومَتَيْنِ فَلَا جَهَالَةَ؛ وَلِأَنَّ الْأَجْرَ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا لَا يَجِبُ إلَّا بِالْعَمَلِ، وَحِينَ يَأْخُذُ فِي أَحَدِ الْعَمَلَيْنِ تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْأَجْرُ، وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، فَأَمَّا عِنْدَ زُفَرَ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ، وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَلَوْ

قَالَ: أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا عَلَى أَنَّك إنْ قَعَدْت فِيهَا حَدَّادًا فَأَجْرُهَا عَشْرَةٌ، وَإِنْ بِعْت فِيهَا الْخَزَّ فَخَمْسَةٌ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَخِيرِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ الْأَجْرَ لَا يَجِبُ بِالسُّكْنَى وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ، وَحَالَةُ التَّخْلِيَةِ لَا يَدْرِي مَا يَسْكُنُ فَكَانَ الْبَدَلُ عِنْدَهُ مَجْهُولًا بِخِلَافِ الرُّومِيِّ، وَالْفَارِسِيِّ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ هُنَاكَ يَجِبُ بِابْتِدَاءِ الْعَمَلِ، وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَبْتَدِئَ بِأَحَدِ الْعَمَلَيْنِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ الْبَدَلُ وَيَصِيرُ مَعْلُومًا عِنْدَ وُجُودِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ مَنْفَعَتَيْنِ مَعْلُومَتَيْنِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي خِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ، وَهَذَا لِأَنَّ السُّكْنَى وَعَمَلَ الْحِدَادَةِ مُخْتَلِفَانِ، وَالْعَقْدُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ عَلَى الِانْفِرَادِ فَكَذَا عَلَى الْجَمْعِ، وَقَوْلُهُمَا بِأَنَّ الْأَجْرَ هَهُنَا يَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ الْعَمَلَ يُوجَدُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ عِنْدَ التَّمْكِينِ مِنْ الِانْتِفَاعِ هُوَ الْغَالِبِ فَلَا يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، عَلَى أَنَّ بِالتَّخْلِيَةِ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ يَجِبُ أَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَجِبُ بِزِيَادَةِ الضَّرَرِ، وَلَمْ تُوجَدْ زِيَادَةُ الضَّرَرِ وَأَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ مَعْلُومٌ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْجَهَالَةِ، وَهَذَا جَوَابُ إمَامِ الْهُدَى الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ مَا كَانَ أَجْرُهُ يَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ وَلَا يُعْلَمُ الْوَاجِبُ بِهِ وَقْتَ التَّسْلِيمِ فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْعَقْدُ جَائِزٌ، وَأَيُّ التَّعْيِينِ اُسْتُوْفِيَ وَجَبَ أَجْرُ ذَلِكَ كَمَا سُمِّيَ وَإِنْ أَمْسَكَ الدَّارَ وَلَمْ يَسْكُنْ فِيهَا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَعَلَيْهِ أَقَلُّ الْمُسَمَّيَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِاسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةٍ زَائِدَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ إلَّا أَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْحِيرَةِ عَلَى أَنَّهُ إنْ حَمَلَ عَلَيْهَا شَعِيرًا فَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً فَبِدِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْحِيرَةِ بِدِرْهَمٍ وَإِلَى الْقَادِسِيَّةِ بِدِرْهَمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَهُ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مِنْ بَغْدَادَ إلَى الْقَصْرِ بِخَمْسَةٍ وَإِلَى الْكُوفَةِ بِعَشْرَةٍ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ إلَى الْقَصْرِ النِّصْفَ مِنْ الطَّرِيقِ إلَى الْكُوفَةِ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَهِيَ فَاسِدَةٌ عَلَى أَصْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَسَافَةَ إذَا كَانَتْ النِّصْفَ فَحَالَ مَا يَسِيرُ يَصِيرُ الْبَدَلُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّهُ إنْ سَارَ إلَى الْقَصْرِ أَوْ إلَى الْكُوفَةِ فَالْأُجْرَةُ إلَى الْقَصْرِ خَمْسَةٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمَسَافَةُ إلَى الْقَصْرِ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ (1) أَوْ أَكْثَرَ فَالْأُجْرَةُ حَالَ مَا يَسِيرُ مَجْهُولَةٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ سَارَ إلَى الْقَصْرِ فَالْأُجْرَةُ خَمْسَةٌ وَإِنْ سَارَ إلَى الْكُوفَةِ فَالْأُجْرَةُ إلَى الْقَصْرِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْمَسَافَةِ وَجَهَالَةُ الْأُجْرَةِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا تُفْسِدُ الْعَقْدَ عِنْدَهُمَا، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى مَنْفَعَتَيْنِ مَعْلُومَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ مَعْلُومٌ وَلَوْ أَعْطَى خَيَّاطًا ثَوْبًا فَقَالَ: إنْ خِطْته الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ خِطْته غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ وَالثَّانِي فَاسِدٌ، حَتَّى لَوْ خَاطَهُ الْيَوْمَ فَلَهُ دِرْهَمٌ وَإِنْ خَاطَهُ غَدًا فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ تَفْسِيرُهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ، وَقَالَ زُفَرُ: الشَّرْطَانِ بَاطِلَانِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، فَنَتَكَلَّمُ مَعَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمَا خَالَفَا أَصْحَابَنَا الثَّلَاثَةَ فِيهِ، وَالْوَجْهُ لَهُمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ، وَلَنَا أَنَّهُ سَمَّى فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ عَمَلًا مَعْلُومًا وَبَدَلًا مَعْلُومًا، وَفَسَادُ الشَّرْطِ الثَّانِي لَا يُؤَثِّرُ فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ كَمَنْ عَقَدَ إجَارَةً صَحِيحَةً وَإِجَارَةً فَاسِدَةً. وَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّانِي فَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ سُمِّيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَمَلًا مَعْلُومًا وَبَدَلًا مَعْلُومًا كَمَا فِي الْأَوَّلِ فَلَا مَعْنَى لِفَسَادِ الْعَقْدِ بِهِ، كَمَا لَا يَفْسُدُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بَدَلَانِ مُتَفَاوِتَانِ فِي الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ الْمَذْكُورَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ جُعِلَ مَشْرُوطًا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ لِلْيَوْمِ الثَّانِي بَدَلًا آخَرَ وَعَمِلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى فِي الْأَوَّلِ، فَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ الْمَذْكُورَ مِنْ الْبَدَلِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مَشْرُوطًا فِي الثَّانِي لَمَا اسْتَحَقَّ الْمُسَمَّى، وَإِذَا اجْتَمَعَ بَدَلَانِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَكَ دِرْهَمٍ أَوْ نِصْفُ دِرْهَمٍ فَكَانَ الْأَجْرُ مَجْهُولًا فَوَجَبَ فَسَادُ الْعَقْدِ، فَإِذَا خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْإِمْلَاءِ، وَهُوَ إحْدَى رِوَايَتَيْ ابْنِ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَإِحْدَى رِوَايَتَيْ ابْنِ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ لَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُزَادُ عَلَى نِصْفِ دِرْهَمٍ

وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ هِيَ الصَّحِيحَةُ، وَوَجْهُهَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ لَا يُزَادُ عَلَى الْمُسَمَّى، وَالْمُسَمَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي نِصْفُ دِرْهَمٍ لَا دِرْهَمٌ إنَّمَا الدِّرْهَمُ مُسَمًّى فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ عَقْدٌ آخَرُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْغَدِ تَسْمِيَتَانِ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ الْأُولَى عِنْدَ مَجِيءِ الْغَدِ قَائِمَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَيُعْمَلُ بِهِمَا فَتُعْتَبَرُ الْأُولَى لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ، وَالثَّانِيَةُ لِمَنْعِ النُّقْصَانِ، فَإِنْ خَاطَ نِصْفَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَنِصْفَهُ فِي الْغَدِ فَلَهُ نِصْفُ الْمُسَمَّى لِأَجْلِ خِيَاطَتِهِ فِي الْيَوْمِ وَأَجْرُ الْمِثْلِ لِأَجْلِ خِيَاطَتِهِ فِي الْغَدِ لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ وَلَا يُنْقَصُ عَنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ لَمْ يَرْضَ بِتَأْخِيرِهِ إلَى الْغَدِ بِأَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ، فَبِتَأْخِيرِهِ إلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَوْلَى، فَإِنْ قَالَ: إنْ خِطْتَهُ الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ خِطْتَهُ غَدًا فَلَا أَجْرَ لَك، ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي إمْلَائِهِ أَنَّهُ إنْ خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، فَلَهُ دِرْهَمٌ وَإِنْ خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَا يَنْفِي وُجُوبَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَنَفْيُ التَّسْمِيَةِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَا يَنْفِي أَصْلَ الْعَقْدِ فَكَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَقْدٌ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ، وَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ وَلَوْ قَالَ: إنْ خِطْته أَنْتَ فَأَجْرُكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ خَاطَهُ تِلْمِيذُكَ فَأَجْرُك نِصْفُ دِرْهَمٍ فَهَذَا وَالْخِيَاطَةُ الرُّومِيَّةُ، وَالْفَارِسِيَّةُ سَوَاءٌ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا شَهْرًا بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنَّهُ إنْ سَكَنَهَا يَوْمًا ثُمَّ خَرَجَ فَعَلَيْهِ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ وَهُوَ سُكْنَى شَهْرٍ أَوْ يَوْمٍ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْمَعْقُودِ بِدُونِهِ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْآبِقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْدَرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ مَنْفَعَتِهِ حَقِيقَةً لِكَوْنِهِ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ حَقِيقَةً؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْمَغْصُوبِ مِنْ غَيْرِ الْغَاصِبِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِمَا قُلْنَا. وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ إجَارَةُ الْمَشَاعِ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: إنَّهَا جَائِزَةٌ. وَجْهُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْإِجَارَةَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْبَيْعِ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ بَيْعُ الْعَيْنِ وَإِنَّهُ جَائِزٌ فِي الْمَشَاعِ، كَذَا هَذَا، فَلَوْ امْتَنَعَ إنَّمَا يَمْتَنِعُ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةٍ بِسَبَبِ الشِّيَاعِ، وَالْمَشَاعُ مَقْدُورُ الِانْتِفَاعِ بِالْمُهَايَأَةِ وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُهُ، وَكَذَا يَجُوزُ مِنْ الشَّرِيكِ أَوْ مِنْ الشُّرَكَاءِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَذَا مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الشُّيُوعَ الطَّارِئَ لَا يُفْسِدُ الْإِجَارَةَ فَكَذَا الْمُقَارِنُ؛ لِأَنَّ الطَّارِئَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ مُقَارِنٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ وَأَنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ يَحْدُثُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ مُبْتَدَأً. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْفَعَةَ الْمَشَاعِ غَيْرُ مَقْدُورَةِ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهَا بِتَسْلِيمِ الْمَشَاعِ وَالْمَشَاعُ غَيْرُ مَقْدُورٍ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِسَهْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَغَيْرُ الْمُعَيَّنِ لَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهُ بِنَفْسِهِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهُ بِتَسْلِيمِ الْبَاقِي، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهُ شَرْعًا. وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَةِ الْمَشَاعِ بِالتَّهَايُؤِ فَنَقُولُ لَا يُمْكِنُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِالنِّصْفِ فِي كُلِّ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ التَّهَايُؤَ بِالزَّمَنِ انْتِفَاعٌ بِالْكُلِّ فِي نِصْفِ الْمُدَّةِ وَهَذَا لَيْسَ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَالتَّهَايُؤُ بِالْمَكَانِ انْتِفَاعٌ بِرَفْعِ الْمُسْتَأْجَرِ فِي كُلِّ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ هَذَا النِّصْفِ لَهُ بِالْمِلْكِ وَنِصْفَهُ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ عَمَّا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ أَيْضًا فَإِذًا لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيه الْعَقْدُ أَصْلًا وَرَأْسًا فَلَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا وَلِأَنَّ تَجْوِيزَ هَذَا الْعَقْدِ بِالْمُهَايَأَةِ يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُهَايَأَةَ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْعَقْدِ، وَلَا عَقْدَ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ فَيَتَعَلَّقُ كُلُّ وَاحِدٍ بِصَاحِبِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَبِيعِ مَقْدُورَ الِانْتِفَاعِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْبَيْعِ فَإِنَّ بَيْعَ الْمُهْرِ وَالْجَحْشِ وَالْأَرْضِ السَّبْخَةِ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهَا وَلِهَذَا يَدْخُلُ الشِّرْبُ وَالطَّرِيقُ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ وَلَا يَدْخُلَانِ فِي الْبَيْعِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمُسْتَأْجِرِ مُنْتَفِعًا بِهِ بِنَفْسِهِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِجَارَةِ وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِدُونِ الشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَأَمَّا الْإِجَارَةُ مِنْ الشَّرِيكِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَاكَ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ بِدُونِ الْمُهَايَأَةِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ كُلِّ الدَّارِ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ لَكِنْ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بَعْضُهَا بِسَبَبِ الْمِلْكِ وَبَعْضُهَا بِسَبَبِ الْإِجَارَةِ وَكَذَا الشُّيُوعُ الطَّارِئُ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ تَفْسُدُ الْإِجَارَةُ كَالْمُقَارِنِ

وَفِي رِوَايَةٍ لَا تَفْسُدُ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْهُ، وَوَجْهُهَا أَنَّ عَدَمَ الشُّيُوعِ عِنْدَهُ شَرْطُ جَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُشْتَرَطُ لِابْتِدَاءِ الْعَقْدِ يُشْتَرَطُ لِبَقَائِهِ كَالْخُلُوِّ عَنْ الْعِدَّةِ فَإِنَّ الْعِدَّةَ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ وَلَا تَمْنَعُ الْبَقَاءَ كَذَا هَذَا وَسَوَاءٌ كَانَتْ الدَّارُ كُلُّهَا لِرَجُلٍ فَأَجَرَ نِصْفَهَا مِنْ رَجُلٍ أَوْ كَانَتْ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَجَرَ أَحَدُهُمَا نَصِيبُهُ مِنْ رَجُلٍ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي جَامِعِهِ نَصًّا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ذَكَرَ أَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ أَنَّ إجَارَةَ الْمَشَاعِ إنَّمَا لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا أَجَرَ الرَّجُلُ بَعْضَ مِلْكِهِ فَأَمَّا إذَا أَجَرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى تَقَعُ الْمُهَايَأَةُ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ، وَبَيْنَ الْمُؤَاجِرِ مُدَّةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمُؤَاجِرُ الْأَجْرَ مَعَ كَوْنِ الدَّارِ فِي يَدِهِ وَالْمُهَايَأَةُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ إنَّمَا تَقَعُ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَبَيْنَ غَيْرِ الْمُؤَاجِرِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الدَّارُ فِي يَدِ غَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ وَأُجْرَتُهَا عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَعَارَهَا ثُمَّ أَجَرَهَا وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَانِعِ يَعُمُّ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَأْجَرُ مُحْتَمِلًا لِلْقِسْمَةِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَإِنَّ الْمَانِعَ ثَمَّةَ خَصَّ الْمُحْتَمِلَ لِلْقِسْمَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْهِبَةِ وَلَوْ آجَرَ مَشَاعًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَقُسِّمَ وَسَلِمَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ كَمَا لَوْ بَاعَ الْجِذْعَ فِي السَّقْفِ ثُمَّ نَزَعَ وَسَلِمَ وَكَمَا لَوْ وَهَبَ مَشَاعًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ثُمَّ قُسِمَ وَسَلِمَ فَإِنْ اخْتَصَمَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَأَبْطَلَ الْحَاكِمُ الْإِجَارَةَ ثُمَّ قُسِمَ وَسَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْفَسَخَ مِنْ الْأَصْلِ بِإِبْطَالِ الْحَاكِمِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ إلَّا بِالِاسْتِئْنَافِ وَيَجُوزُ إجَارَةُ الِاثْنَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَدْخُلُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ شُيُوعٍ وَيَسْتَوْفِيهَا مِنْ غَيْرِ مُهَايَأَةٍ وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الْمُؤَاجِرَيْنِ حَتَّى انْقَضَتْ الْإِجَارَةُ فِي حِصَّتِهِ لَا تُنْقَضُ فِي حِصَّةِ الْحَيِّ وَإِنْ صَارَتْ مُشَاعَةً، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالشُّيُوعِ الطَّارِئِ لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَا يَجُوزُ رَهْنُ الِاثْنَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ وَهِبَةُ الِاثْنَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ لِعَدَمِ الشُّيُوعِ عِنْدَ الْقَبْضِ، وَكَذَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْوَاحِدِ مِنْ الِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَخْرُجُ مِنْ مِلْكِ الْآجِرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ شِيَاعٍ ثُمَّ ثَبَتَ الشِّيَاعُ لِضَرُورَةِ تَفَرُّقِ مِلْكَيْهِمَا فِي الْمَنْفَعَةِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ قِسْمَةَ الْمَنْفَعَةِ بِالتَّهَايُؤِ فَيَنْعَدِمُ الشُّيُوعُ وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الْمُسْتَأْجِرِينَ حَتَّى اُنْتُقِضَتْ الْإِجَارَةُ فِي حِصَّتِهِ بَقِيَتْ فِي حِصَّةِ الْحَيِّ كَمَا كَانَتْ، وَيَجُوزُ رَهْنُ الْوَاحِدِ مِنْ اثْنَيْنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ شُرِعَ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ فَجَمِيعُ الرَّهْنِ يَكُونُ وَثِيقَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُرْتَهِنِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَضَى الرَّاهِنُ دَيْنَ أَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ الرَّهْنِ. وَأَمَّا هِبَةُ الْوَاحِدِ مِنْ اثْنَيْنِ فَإِنَّمَا لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي بَابِ الْهِبَةِ يَقَعُ بِالْقَبْضِ وَالشُّيُوعُ ثَابِتٌ عِنْدَ الْقَبْضِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ الْقَبْضِ فَيَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الْمِلْكِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ لِلْآجِرِ أَوْ شَجَرٌ أَوْ قَصَبٌ أَوْ كَرْمٌ أَوْ مَا يَمْنَعُ مِنْ الزِّرَاعَةِ لَمْ تَجُزْ؛ لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِمَالِ الْمُؤَاجِرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُهُ فَلَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ شَرْعًا فَلَمْ تَجُزْ كَمَا لَوْ اشْتَرَى جِذْعًا فِي سَقْفٍ، وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فِيهَا رُطَبَةٌ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهَا إلَّا بِضَرَرٍ وَهُوَ قَلْعُ الرُّطَبَةِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ فَلَمْ تَكُنْ الْمَنْفَعَةُ مَقْدُورَةَ الِاسْتِيفَاءِ شَرْعًا فَلَمْ تَجُزْ كَمَا لَوْ اشْتَرَى جِذْعًا فِي سَقْفٍ فَإِنْ قَلَعَ رَبُّ الْأَرْضِ الرُّطَبَةَ فَقَالَ لِلْمُسْتَأْجِرِ: اقْبِضْ الْأَرْضَ فَقَبَضَهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ فَصَارَ كَشِرَاءِ الْجِذْعِ فِي السَّقْفِ إذَا نَزَعَهُ الْبَائِعُ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي فَإِنْ اخْتَصَمَا قَبْلَ ذَلِكَ فَأَبْطَلَ الْحَاكِمُ الْإِجَارَةَ ثُمَّ قَلَعَ الرُّطَبَةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ بَطَلَ بِإِبْطَالِ الْحَاكِمِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ فَإِنْ مَضَى مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ قَبْلَ أَنْ يَخْتَصِمَا ثُمَّ قَلَعَ الرُّطَبَةَ فَالْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبَضَهَا عَلَى تِلْكَ الْإِجَارَةِ وَطَرَحَ عَنْهُ مَا لَمْ يَقْبِضْ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبِضْ فَرْقًا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الدَّارِ إذَا سَلَّمَهَا الْمُؤَاجِرُ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَكُونُ لَهُ خِيَار التَّرْك، وَوَجْه الْفَرْقِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إجَارَةِ الْأَرْضِ الزِّرَاعَةُ، وَالزِّرَاعَةُ لَا تُمْكِنُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ بَلْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَتَخْتَلِفُ بِالتَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ فَالْمُدَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا يَقِفُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَيَكُونُ الْكُلُّ كَمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ فَإِذَا مَضَى بَعْضُهَا فَقَدْ تُغَيَّرُ عَلَيْهِ صِفَةُ الْعَقْدِ لِاخْتِلَافِ الْمَعْقُودِ فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ بِخِلَافِ إجَارَةِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا السُّكْنَى وَسُكْنَى كُلِّ يَوْمٍ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِيَوْمٍ آخَرَ فَلَا يَقِفُ بَعْضُ الْمُدَّةِ فِيهَا عَلَى بَعْضٍ فَلَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي الْمَقْصُودِ مِنْ الْبَاقِي فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ وَلَوْ اشْتَرَى أَطْرَافَ رُطَبَةٍ ثُمَّ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ لِتَبْقِيَةِ ذَلِكَ لَمْ تَجُزْ

الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الرُّطَبَةِ مِلْكُ الْمُؤَاجِرِ فَكَانَتْ الْأَرْضُ مَشْغُولَةً بِمِلْكِ الْمُؤَاجِرِ وَاسْتِئْجَارُ بُقْعَةٍ مَشْغُولَةٍ بِمَالِ الْمُؤَاجِرِ لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا مَشْغُولَةً بِمِلْكِهِ يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ فَيَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَاسْتِئْجَارِ أَرْضٍ فِيهَا زَرْعُ الْمُؤَاجِرِ وَلَوْ اشْتَرَى الرُّطَبَةَ بِأَصْلِهَا لِيَقْلَعَهَا ثُمَّ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ مُدَّةً مَعْلُومَةً لِتَبْقِيَتِهَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ هَهُنَا مَشْغُولَةٌ بِمَالِ الْمُسْتَأْجِرِ وَذَا لَا يَمْنَعُ الْإِجَارَةَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ مَا هُوَ فِي يَدِهِ وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى شَجَرَةً فِيهَا ثَمَرٌ بِثَمَرِهَا عَلَى أَنْ يَقْلَعَهَا ثُمَّ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ فَبَقَّاهَا فِيهَا جَازَ لِمَا قُلْنَا قَالَ مُحَمَّدٌ: وَإِنْ اسْتَعَارَ الْأَرْضَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ بِالْإِعَارَةِ أَبَاحَ الِانْتِفَاعَ بِمِلْكِهِ فَيَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا ذَكَرْنَا أَيْضًا مِنْ اسْتِئْجَارِ الْفَحْلِ لِلْإِنْزَاءِ وَاسْتِئْجَارِ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَالْبَازِي الْمُعَلَّمِ لِلِاصْطِيَادِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْهُ غَيْرُ مَقْدُورَةِ الِاسْتِيفَاءِ إذْ لَا يُمْكِنُ إجْبَارُ الْفَحْلِ عَلَى الضِّرَابِ وَالْإِنْزَالِ وَلَا إجْبَارُ الْكَلْبِ وَالْبَازِي عَلَى الصَّيْدِ فَلَمْ تَكُنْ الْمَنْفَعَةُ الَّتِي هِيَ مَعْقُودٌ عَلَيْهَا مَقْدُورَةَ الِاسْتِيفَاءِ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَمْ تَجُزْ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ اسْتِئْجَارُ الْإِنْسَانِ لِلْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ لَا يَتِمُّ بِوَاحِدٍ بَلْ بِالْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَلَا يَقْدِرُ الْأَجِيرُ عَلَى إيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَقْدِرُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فَصَارَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْمِلَ خَشَبَةً بِنَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهَا بِنَفْسِهِ وَلَوْ ضَرَبَ لِذَلِكَ مُدَّةً بِأَنْ اسْتَأْجَرَهُ شَهْرًا لِيَبِيعَ لَهُ وَيَشْتَرِيَ جَازَ لِمَا مَرَّ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالصَّنَائِعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إيفَاءِ الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَقْدِرُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ وَإِنْ شِئْتَ أَفْرَدْت لِجِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ شَرْطًا فَقُلْت وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ الْمُسْتَأْجَرُ لَهُ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْعَامِلِ بِنَفْسِهِ وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى غَيْرِهِ وَخُرِّجَتْ الْمَسَائِلُ عَلَيْهِ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الصِّنَاعَةِ فَافْهَمْ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْمَعَاصِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ غَيْرِ مَقْدُورَةِ الِاسْتِيفَاءِ شَرْعًا كَاسْتِئْجَارِ الْإِنْسَانِ لِلَّعِبِ وَاللَّهْوِ، وَكَاسْتِئْجَارِ الْمُغَنِّيَةِ، وَالنَّائِحَةِ لِلْغِنَاءِ، وَالنَّوْحِ بِخِلَافِ الِاسْتِئْجَارِ لِكِتَابَةِ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ أَنَّهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْهُ نَفْسُ الْغِنَاءِ، وَالنَّوْحِ لَا كِتَابَتُهُمَا وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَقْتُلَ لَهُ رَجُلًا أَوْ لِيَسْجُنَهُ أَوْ لِيَضْرِبَهُ ظُلْمًا وَكَذَا كُلُّ إجَارَةٍ وَقَعَتْ لِمَظْلَمَةٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ شَرْعًا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِحَقٍّ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِقَطْعِ عُضْوٍ جَازَ. لِأَنَّهُ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ مَعْلُومٌ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَضَعَ السِّكِّينَ عَلَيْهِ فَيَقْطَعَهُ وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِقِصَاصٍ فِي النَّفْسِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَتَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ يَقُولُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ هُوَ حَزُّ الرَّقَبَةِ وَالرَّقَبَةُ مَعْلُومَةٌ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ فَأَشْبَهَ الِاسْتِئْجَارَ لِذَبْحِ الشَّاةِ وَقَطْعِ الْيَدِ وَهُمَا يَقُولَانِ إنَّ الْقَتْلَ بِضَرْبِ الْعُنُقِ يَقَعُ عَلَى سَبِيلِ التَّجَافِي عَنْ الْمَضْرُوبِ فَرُبَّمَا يُصِيبُ الْعُنُقَ وَرُبَّمَا يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَإِنْ أَصَابَ كَانَ مَشْرُوعًا وَإِنْ عَدَلَ كَانَ مَحْظُورًا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُثْلَةً وَإِنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ بِخِلَافِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَشْقِيقِ الْحَطَبِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى سَبِيلِ التَّجَافِي فَكُلُّهُ مُبَاحٌ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْقَطْعُ وَالذَّبْحُ لِأَنَّ الْقَطْعَ يَقَعُ بِوَضْعِ السِّكِّينِ عَلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْيَدِ وَهُوَ الْمِفْصَلُ وَإِمْرَارِهِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الذَّبْحُ فَهُوَ الْفَرْقُ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ مِنْ مُسْلِمٍ بِيعَةً لِيُصَلِّيَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيِّ دَارًا مِنْ مُسْلِمٍ وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ جَمَاعَةٍ أَوْ يَتَّخِذَهَا مُصَلًّى لِلْعَامَّةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ مُسْلِمًا لِيَخْدُمَهُ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَأَكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ خِدْمَةَ الذِّمِّيِّ أَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ اسْتِذْلَالٌ فَكَأَنَّ إجَارَةَ الْمُسْلِمِ نَفْسَهُ مِنْهُ إذْلَالًا لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ خُصُوصًا بِخِدْمَةِ الْكَافِرِ. وَأَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَجُوزُ كَالْبَيْعِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْرَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلُ امْرَأَةً حُرَّةً يَسْتَخْدِمُهَا وَيَخْلُو بِهَا وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَمَّا الْخَلْوَةُ فَلِأَنَّ الْخَلْوَةَ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ مَعْصِيَةٌ. وَأَمَّا الِاسْتِخْدَامُ فَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا وَالْوُقُوعُ فِي الْمَعْصِيَةِ وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِنَقْلِ الْمَيْتَاتِ وَالْجِيَفِ وَالنَّجَاسَاتِ؛ لِأَنَّ فِيهِ رَفْعَ أَذِيَّتِهَا عَنْ النَّاسِ فَلَوْ لَمْ تَجُزْ لَتَضَرَّرَ بِهَا النَّاسُ وَقَالَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِأُجْرَةِ الْكَنَّاسِ

أَرَأَيْت لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيُخْرِجَ لَهُ حِمَارًا مَيِّتًا، أَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى نَقْلِ الْمَيِّتِ الْكَافِرِ إلَى الْمَقْبَرَةِ؛ لِأَنَّهُ جِيفَةٌ فَيَدْفَعُ أَذِيَّتَهَا عَنْ النَّاسِ كَسَائِرِ الْأَنْجَاسِ. وَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ عَلَى نَقْلِهِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ: اُبْتُلِينَا بِمَسْأَلَةِ مَيِّتٍ مَاتَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَاسْتَأْجَرُوا لَهُ مَنْ يَحْمِلُهُ إلَى مَوْضِعٍ فَيَدْفِنُهُ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَرَادَ بِذَلِكَ: إذَا اسْتَأْجَرُوا لَهُ مَنْ يَنْقُلُهُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا أَجْرَ لَهُ وَقُلْت أَنَا: إنْ كَانَ الْحَمَّالُ الَّذِي حَمَلَهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ جِيفَةٌ؛ فَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَهُ الْأَجْرُ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْأَجِيرَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ جِيفَةٌ فَقَدْ نَقَلَ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ نَقْلُهُ؛ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ فَقَدْ غَرُّوهُ بِالتَّسْمِيَةِ، وَالْغَرُورُ يُوجِبُ الضَّمَانَ وَلِأَبِي يُوسُفَ إنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَجُوزَ نَقْلُ الْجِيفَةِ وَإِنَّمَا رُخِّصَ فِي نَقْلِهَا لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ رَفْعِ أَذِيَّتِهَا، وَلَا ضَرُورَةَ فِي النَّقْلِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ كَنَقْلِ الْمَيْتَةِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ، وَمَنْ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا يَحْمِلُ لَهُ الْخَمْرَ فَلَهُ الْأَجْرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لَا أَجْرَ لَهُ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يَطِيبُ لَهُ الْأَجْرُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُكْرَهُ لَهُمَا أَنَّ هَذِهِ إجَارَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ؛ لِأَنَّ حَمْلَ الْخَمْرِ مَعْصِيَةٌ لِكَوْنِهِ إعَانَةً عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وَلِهَذَا لَعَنَ اللَّهُ تَعَالَى عَشْرَةً: مِنْهُمْ حَامِلُهَا وَالْمَحْمُولُ إلَيْهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إنَّ نَفْسَ الْحَمْلِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّ حَمْلَهَا لِلْإِرَاقَةِ وَالتَّخْلِيلِ مُبَاحٌ وَكَذَا لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْمَعْصِيَةِ وَهُوَ الشُّرْبُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ وَلَيْسَ الْحَمْلُ مِنْ ضَرُورَاتِ الشُّرْبِ فَكَانَتْ سَبَبًا مَحْضًا فَلَا حُكْمَ لَهُ كَعَصْرِ الْعِنَبِ وَقَطْفِهِ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَمْلِ بِنِيَّةِ الشُّرْبِ وَبِهِ نَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ، وَيُكْرَهُ أَكْلُ أُجْرَتِهِ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْإِمَاءِ لِلزِّنَا؛ لِأَنَّهَا إجَارَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَقِيلَ: فِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور: 33] . وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ» وَهُوَ أَجْرُ الزَّانِيَةِ عَلَى الزِّنَا وَتَجُوزُ الْإِجَارَةُ لِلْحِجَامَةِ وَأَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْحِجَامَةَ أَمْرٌ مُبَاحٌ وَمَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ السُّحْتِ عَسْبُ التَّيْسِ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ» ؛ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ لِدَنَاءَةِ الْفِعْلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَ ذَلِكَ أَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: إنَّ لِي حَجَّامًا وَنَاضِحًا فَأَعْلِفُ نَاضِحِي مِنْ كَسْبِهِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَعَمْ» . وَرُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ دِينَارًا» وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الرَّجُلِ أَبَاهُ لِيَخْدُمَهُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَعْظِيمِ أَبِيهِ وَفِي الِاسْتِخْدَامِ اسْتِخْفَافٌ بِهِ فَكَانَ حَرَامًا فَكَانَ هَذَا اسْتِئْجَارًا عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا اسْتَأْجَرَهُ ابْنُهُ مِنْ مَوْلَاهُ لِيَخْدُمَهُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَبِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَ الْأَبِ وَاجِبٌ وَإِنْ اخْتَلَفَ الدِّينُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] وَهَذَا فِي الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: - عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15] ، وَإِنْ شِئْت أَفْرَدْت لِجِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ شَرْطًا وَخَرَّجْتَهَا عَلَيْهِ فَقُلْت: وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مُبَاحَةَ الِاسْتِيفَاءِ فَإِنْ كَانَتْ مَحْظُورَةَ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ لَكِنَّ فِي هَذَا شُبْهَةَ التَّدَاخُلِ فِي الشُّرُوطِ وَالصِّنَاعَةُ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا عَلَى الْعَمَلِ فِي شَيْءٍ هُوَ فِيهِ شَرِيكُهُ نَحْوُ مَا إذَا كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ طَعَامٌ فَاسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى أَنْ يَحْمِلَ نَصِيبَهُ إلَى مَكَان مَعْلُومٍ وَالطَّعَامُ غَيْرُ مَقْسُومٍ فَحَمَلَ الطَّعَامَ كُلَّهُ أَوْ اسْتَأْجَرَ غُلَامَ صَاحِبِهِ أَوْ دَابَّةَ صَاحِبِهِ عَلَى ذَلِكَ؛ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ هَذِهِ الْإِجَارَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَإِذَا حَمَلَ لَا أَجْرَ لَهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: هَذِهِ الْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ وَلَهُ الْأَجْرُ إذَا حَمَلَ. وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْأَجْرَ تَابِعٌ نِصْفَ مَنْفَعَةِ الْحَمْلِ الشَّائِعَةِ مِنْ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ فَتَصِحُّ فِي الشَّائِعِ كَبَيْعِ الْعَيْنِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ - وَهُوَ الْحَمْلُ - وَإِنْ صَادَفَ مَحَلًّا مُشْتَرَكًا وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِالْعَمَلِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ فَيَسْتَحِقُّهَا بِالْعَمَلِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ أَجَرَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إيفَائِهِ لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الشَّائِعِ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْأَجْرُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ حَمْلُ نِصْفِ الطَّعَامِ تَبَايُعًا وَوُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ يَقِفُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ بَيْتًا لَهُ لِيَضَعَ فِيهِ طَعَامًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا أَوْ سَفِينَةً أَوْ جُوَالِقًا أَنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ ثَمَّةَ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْوَضْعِ

بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ السَّفِينَةَ وَالْبَيْتَ وَالْجُوَالِقَ وَلَمْ يَضَعْ وَجَبَ الْأَجْرُ وَهَهُنَا لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعَمَلِ وَهُوَ الْحَمْلُ وَالْمَشَاعُ غَيْرُ مَقْدُورِ الْحَمْلِ بِنَفْسِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي طَعَامٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا سَفِينَةٌ وَأَرَادَا أَنْ يُخْرِجَا الطَّعَامَ مِنْ بَلَدِهِمَا إلَى بَلَدٍ آخَرَ فَاسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ السَّفِينَةِ مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَطْحَنَا الطَّعَامَ فَاسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ الرَّحَى الَّذِي لِشَرِيكِهِ أَوْ اسْتَأْجَرَ أَنْصَافَ جُوَالِقِهِ لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ الطَّعَامَ إلَى مَكَّةَ فَهُوَ جَائِزٌ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ إجَارَةَ الْمَشَاعِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ الْأُجْرَةَ إلَّا بِالْعَمَلِ لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ فِيهِ عَلَى الْعَمَلِ فِي الْحَمْلِ مُشْتَرَكَةً وَمَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ الْأُجْرَةَ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ تَجُوزُ الْإِجَارَةُ فِيهِ لِوَضْعِ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي الْمُسْتَأْجَرِ وَفِقْهُ هَذَا الْأَصْلِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا لَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ فِيهِ إلَّا بِالْعَمَلِ فَلَا بُدَّ مِنْ إمْكَانِ إيفَاءِ الْعَمَلِ، وَلَا تَمْكِينَ مِنْ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ فَلَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ فَلَا يَكُونُ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ فَلَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ وَمَا لَا يَقِفُ وُجُوبُ الْأُجْرَةِ فِيهِ عَلَى الْعَمَلِ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِيفَاءِ بِدُونِهِ؛ فَتَجُوزُ الْإِجَارَةُ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَحْمِلَ لَهُ طَعَامًا بِعَيْنِهِ إلَى مَكَان مَخْصُوصٍ بِقَفِيزٍ مِنْهُ أَوْ اسْتَأْجَرَ غُلَامَهُ أَوْ دَابَّتَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَبَطَلَ مِنْ حَيْثُ صَحَّ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ يَصِيرُ شَرِيكًا بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْعَمَلِ وَهُوَ الْحَمْلُ فَكَانَ عَمَلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّا وَإِذَا حَمَلَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنَافِعَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ وَلَا يَتَجَاوَزُ بِهِ قَفِيزًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ لِمَا نَذْكُرُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْعَمَلُ الْمُسْتَأْجَرُ لَهُ فَرْضًا وَلَا وَاجِبًا عَلَى الْأَجِيرِ قَبْلَ الْإِجَارَةِ فَإِنْ كَانَ فَرْضًا أَوْ وَاجِبًا عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِجَارَةِ لَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ مَنْ أَتَى بِعَمَلٍ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ كَمَنْ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الثَّوَابَ عَلَى الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ أَفْضَالٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى الْعَبْدِ بِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ مُسْتَحَقَّةٌ وَلِحَقِّ الشُّكْرِ لِلنِّعَمِ السَّابِقَةِ. لِأَنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَمَنْ قَضَى حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ لَا يَسْتَحِقُّ قِبَلَهُ الْأَجْرَ كَمَنْ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ فِي الشَّاهِدِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى تَعْلِيمِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ وَلَا عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْإِجَارَةُ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ فَيَجُوزُ. وَلَنَا أَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِعَمَلٍ مَفْرُوضٍ فَلَا يَجُوزُ كَالِاسْتِئْجَارِ لِلصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ الِاسْتِيفَاءِ فِي حَقِّ الْأَجِيرِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمُتَعَلِّمِ فَأَشْبَهَ الِاسْتِئْجَارَ لِحَمْلِ خَشَبَةٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهَا بِنَفْسِهِ وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَقْرَأَ رَجُلًا فَأَعْطَاهُ قَوْسًا فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتُحِبُّ أَنْ يُقَوِّسَكَ اللَّهُ بِقَوْسٍ مِنْ نَارٍ قَالَ: لَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَرُدَّهُ» ، وَلَا عَلَى الْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ عِنْدَ عُمُومِ النَّفِيرِ وَفَرْضُ كِفَايَةٍ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالِ وَإِذَا شَهِدَ الْوَقْعَةَ فَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَثَلُ مَنْ يَغْزُو فِي أُمَّتِي وَيَأْخُذُ الْجُعْلَ عَلَيْهِ كَمَثَلِ أُمِّ مُوسَى تُرْضِعَ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا» ، وَلَا عَلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «آخِرُ مَا عَهِدَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُصَلِّيَ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ وَأَنْ أَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا وَلِأَنَّ» الِاسْتِئْجَارَ عَلَى الْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، وَالْإِمَامَةِ، وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ سَبَبٌ لِتَنْفِيرِ النَّاسِ عَنْ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ وَعَنْ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ؛ لِأَنَّ ثِقَلَ الْأَجْرِ يَمْنَعُهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الرَّبُّ - جَلَّ شَأْنُهُ - فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور: 40] فَيُؤَدِّي إلَى الرَّغْبَةِ عَنْ هَذِهِ الطَّاعَاتِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَقَالَ - تَعَالَى {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [يوسف: 104] أَيْ عَلَى مَا تُبَلِّغُ إلَيْهِمْ أَجْرًا وَهُوَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَلِّغُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» فَكَانَ كُلُّ مُعَلِّمٍ مُبَلِّغًا فَإِنْ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَى مَا يُبَلِّغُ بِنَفْسِهِ لِمَا قُلْنَا؛ فَكَذَا لِمَنْ يُبَلِّغُ بِأَمْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبْلِيغٌ مِنْهُ مَعْنًى وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى تَعْلِيمِ اللُّغَةِ وَالْأَدَبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَلَا وَاجِبٍ وَكَذَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَالرِّبَاطَاتِ وَالْقَنَاطِرِ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى غُسْلِ

الْمَيِّتِ ذَكَرَهُ فِي الْفَتَاوَى؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ وَيَجُوزُ عَلَى حَفْرِ الْقُبُورِ. وَأَمَّا عَلَى حَمْلِ الْجِنَازَةِ فَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى أَنَّهُ جَائِزٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ إنْ كَانَ يُوجَدُ غَيْرُهُمْ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ غَيْرُهُمْ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَيْهِمْ وَاجِبٌ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ ابْنَهُ وَهُوَ حُرٌّ بَالِغٌ لِيَخْدُمَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْأَبِ الْحُرِّ وَاجِبَةٌ عَلَى الِابْنِ الْحُرِّ فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ عَبْدًا وَالْأَبُ حُرًّا فَاسْتَأْجَرَ ابْنَهُ مِنْ مَوْلَاهُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَبْدًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ خِدْمَةُ الْأَبِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الِابْنُ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ خِدْمَةُ أَبِيهِ فَكَانَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ امْرَأَتَهُ لِتَخْدُمَهُ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْبَيْتِ عَلَيْهَا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَسَّمَ الْأَعْمَالَ بَيْنَ عَلِيٍّ، وَفَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَجَعَلَ مَا كَانَ دَاخِلَ الْبَيْتِ عَلَى فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَمَا كَانَ خَارِجَ الْبَيْتِ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» فَكَانَ هَذَا اسْتِئْجَارًا عَلَى عَمَلٍ وَاجِبٍ فَلَمْ يَجُزْ وَلِأَنَّهَا تَنْتَفِعُ بِخِدْمَةِ الْبَيْتِ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى عَمَلٍ يَنْتَفِعُ بِهِ الْأَجِيرُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الزَّوْجَةِ عَلَى رَضَاعِ وَلَدِهِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِئْجَارٌ عَلَى خِدْمَةِ الْوَلَدِ وَإِنَّمَا اللَّبَنُ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَكَانَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى أَمْرٍ عَلَيْهَا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ الزَّوْجَةَ مُسْتَحِقَّةٌ لِلنَّفَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَأُجْرَةُ الرَّضَاعِ تَجْرِي مَجْرَى النَّفَقَةِ فَلَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَتَيْنِ عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى لَوْ كَانَ لِلْوَلَدِ مَالٌ فَاسْتَأْجَرَهَا لِإِرْضَاعِ وَلَدِهَا مِنْهُ مِنْ مَالِ الْوَلَدِ جَازَ كَذَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الْوَلَدِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ اسْتِحْقَاقُ نَفَقَتَيْنِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ لِوَلَدِهِ مِنْ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ اللَّاتِي لَهُنَّ حَضَانَتُهُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِنَّ خِدْمَةُ الْبَيْتِ وَلَا نَفَقَةَ لَهُنَّ عَلَى أَبُ الْوَلَدِ وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الزَّوْجَةِ لِتُرْضِعَ وَلَدَهُ مِنْ غَيْرِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا خِدْمَةُ وَلَدِ غَيْرِهَا وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَلَى إرْضَاعِ وَلَدِهِ خَادِمَ أُمِّهِ فَخَادِمُهَا بِمَنْزِلَتِهَا فَمَا جَازَ فِيهَا جَازَ فِي خَادِمِهَا وَمَا لَمْ يَجُزْ فِيهَا لَمْ يَجُزْ فِي خَادِمِهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُسْتَحِقَّةُ لِمَنْفَعَةِ خَادِمِهَا فَصَارَ كَنَفَقَتِهَا وَكَذَا مُدَبَّرَتُهَا؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُ مَنَافِعَهَا فَإِنْ اسْتَأْجَرَ مُكَاتَبَتَهَا جَازَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَنَافِعَ الْمُكَاتَبَةِ فَكَانَتْ كَالْأَجْنَبِيَّةِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا لِيَخْدُمَهَا فِي الْبَيْتِ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْبَيْتِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الزَّوْجِ فَكَانَ هَذَا اسْتِئْجَارًا عَلَى أَمْرٍ غَيْرِ وَاجِبٍ عَلَى الْأَجِيرِ وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَتْهُ لِرَعْيِ غَنَمِهَا؛ لِأَنَّ رَعْيَ الْغَنَمِ لَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ شِئْت عَبَّرْت عَنْ هَذَا الشَّرْطِ فَقُلْت: وَمِنْهَا أَنْ لَا يَنْتَفِعَ الْأَجِيرُ بِعَمَلِهِ فَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الثَّوَابَ عَلَى الطَّاعَاتِ مِنْ طَرِيقِ الْإِفْضَالِ لَا الِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِيمَا يَعْمَلُهُ مِنْ الْقُرُبَاتِ، وَالطَّاعَاتِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46] وَمَنْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ عَلَى غَيْرِهِ وَعَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَيْضًا يُخَرَّجُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الطَّاعَاتِ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ وَاجِبَةً أَوْ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ مَوْعُودٌ لِلْمُطِيعِ عَلَى الطَّاعَةِ فَيَنْتَفِعُ الْأَجِيرُ بِعَمَلِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَطْحَنَ لَهُ قَفِيزًا مِنْ حِنْطَةٍ بِرُبُعٍ مِنْ دَقِيقِهَا أَوْ لِيَعْصِرَ لَهُ قَفِيزًا مِنْ سِمْسِمٍ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ دُهْنِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ يَنْتَفِعُ بِعَمَلِهِ مِنْ الطَّحْنِ وَالْعَصْرِ فَيَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ» وَلَوْ دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا لِيَنْسِجَهُ بِالنِّصْفِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْحَائِكَ يَنْتَفِعُ بِعَمَلِهِ وَهُوَ الْحِيَاكَةُ وَكَذَا هُوَ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ فَكَانَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ مَنْهِيًّا وَإِذَا حَاكَهُ فَلِلْحَائِكِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ لِاسْتِيفَائِهِ الْمَنْفَعَةَ بِأُجْرَةٍ فَاسِدَةٍ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا بِبَلْخٍ جَوَّزَ هَذِهِ الْإِجَارَةَ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، وَنَصْرُ بْنُ يَحْيَى. وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مَقْصُودَةً يُعْتَادُ اسْتِيفَاؤُهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَيَجْرِي بِهَا التَّعَامُلُ بَيْنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ شُرِعَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ وَلَا حَاجَةَ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لِلنَّاسِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَشْجَارِ لِتَجْفِيفِ الثِّيَابِ عَلَيْهَا وَالِاسْتِظْلَالِ بِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ مِنْ الشَّجَرِ وَلَوْ اشْتَرَى ثَمَرَةَ شَجَرَةٍ ثُمَّ اسْتَأْجَرَ الشَّجَرَةَ لِتَبْقِيَةِ ذَلِكَ فِيهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ مِنْ الشَّجَرِ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ تَبْقِيَةُ الثَّمَرِ عَلَيْهَا فَلَمْ تَكُنْ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً عَادَةً وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا ذَلِكَ الشَّجَرِ يَصِيرُ مُسْتَأْجَرًا بِاسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الشَّجَرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا اسْتَأْجَرَ ثِيَابًا لِيَبْسُطَهَا بِبَيْتٍ لِيُزَيِّنَ بِهَا وَلَا يَجْلِسُ عَلَيْهَا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ بَسْطَ الثِّيَابِ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ

لَيْسَ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً عَادَةً وَقَالَ عَمْرٌو عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَجْنُبَهَا يَتَزَيَّنُ بِهَا: فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَوْدَ الدَّابَّةِ لِلتَّزَيُّنِ لَيْسَ بِمَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِيُزَيَّنَ الْحَانُوتُ، وَلَا اسْتِئْجَارُ الْمِسْكِ، وَالْعُودِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَشْمُومَاتِ لِلشَّمِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُعْتَادُ اسْتِيفَاؤُهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضَ الْمُؤَاجِرِ إذَا كَانَ مَنْقُولًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَبْضِهِ فَلَا تَصِحُّ إجَارَتُهُ «لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ» وَالْإِجَارَةُ نَوْعُ بَيْعٍ فَتَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ لِاحْتِمَالِ هَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فَلَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعٍ فِيهِ غَرَرٌ» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْقُولًا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ أَنَّهَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلَا تَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَقِيلَ فِي الْإِجَارَةِ لَا تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَا يُقَابِلُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأُجْرَةُ وَالْأُجْرَةُ فِي الْإِجَارَاتِ مُعْتَبَرَةٌ بِالثَّمَنِ فِي الْبِيَاعَاتِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَمَا يَصْلُحُ ثَمَنًا فِي الْبِيَاعَاتِ يَصْلُحُ أُجْرَةً فِي الْإِجَارَاتِ وَمَا لَا فَلَا وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَعْلُومًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. وَالْأَصْلُ فِي شَرْطِ الْعِلْمِ بِالْأُجْرَةِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» وَالْعِلْمُ بِالْأُجْرَةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْإِشَارَةِ وَالتَّعْيِينِ أَوْ بِالْبَيَانِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْأَجْرَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ وَإِمَّا إنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَإِنْ كَانَ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالْإِشَارَةِ وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى ذِكْرِ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَوْ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَيَكُونُ تَعْيِينُهَا كِنَايَةً عَنْ ذِكْرِ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالنَّوْعِ، وَالْقَدْرِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ إذَا كَانَ مِمَّا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ؛ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ كَالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، وَالثَّبَاتُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَالنَّوْعِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ إلَّا أَنَّ فِي الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إلَّا نَقْدٌ وَاحِدٌ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى ذِكْرِ النَّوْعِ، وَالْوَزْنِ وَيُكْتَفَى بِذِكْرِ الْجِنْسِ وَيَقَعُ عَلَى نَقْدِ الْبَلَدِ، وَوَزْنِ الْبَلَدِ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ يَقَعُ عَلَى النَّقْدِ الْغَالِبِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقُودٌ غَالِبَةٌ لَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فَسَدَ الْعَقْدُ وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ وَيَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَهَلْ يُشْتَرَطُ الْأَجَلُ؟ فَفِي الْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ لَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَمَا تَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلًا بِطَرِيقِ السَّلَمِ تَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مُطْلَقًا لَا بِطَرِيقِ السَّلَمِ بَلْ بِطَرِيقِ الْقَرْضِ فَكَانَ لِثُبُوتِهَا أَجَلَانِ فَإِنْ ذَكَرَ الْأَجَلَ جَازَ وَثَبَتَ الْأَجَلُ كَالسَّلَمِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ جَازَ كَالْقَرْضِ. وَأَمَّا فِي الثِّيَابِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إلَّا مُؤَجَّلًا فَكَانَ لِثُبُوتِهَا أَجْلٌ وَاحِدٌ وَهُوَ السَّلَمُ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْأَجَلِ كَالسَّلَمِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ كَالْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِذِكْرِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا فِي الْبِيَاعَاتِ فَلَا يَصْلُحُ أُجْرَةً فِي الْإِجَارَاتِ وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ فِي الْأُجْرَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ حُكْمُ التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا كَانَ دَيْنًا وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ بِأَنْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا التَّعْجِيلُ فَحُكْمُ التَّصَرُّفِ فِيهَا نَذْكُرُهُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِجَارَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا كَانَ مِنْهَا عَيْنًا مُشَارًا إلَيْهَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الثَّمَنِ إذَا كَانَ عَيْنًا حَتَّى لَوْ كَانَ مَنْقُولًا لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَ عَقَارًا فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْبُيُوعِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ وَبِطَعَامِهِ أَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ وَبِعَلْفِهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ أَوْ الْعَلَفَ يَصِيرُ أُجْرَةً وَهُوَ مَجْهُولٌ فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ مَجْهُولَةً وَالْقِيَاسُ فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِجَهَالَةِ الْأُجْرَةِ وَهِيَ الطَّعَامُ وَالْكِسْوَةُ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ الْجَوَازَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ

الْوَالِدَةُ مَنْكُوحَةً أَوْ مُطَلَّقَةً وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] أَيْ: الرِّزْقُ وَالْكِسْوَةُ وَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلُودِ، وقَوْله تَعَالَى {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] نَفَى اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْجُنَاحَ عَنْ الِاسْتِرْضَاعِ مُطْلَقًا وَقَوْلُهُمَا: الْأُجْرَةُ مَجْهُولَةٌ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ لِعَيْنِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ وَجَهَالَةُ الْأُجْرَةِ فِي هَذَا الْبَابِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِالْمُسَامَحَةِ مَعَ الْأَظْآرِ، وَالتَّوْسِيعُ عَلَيْهِنَّ شَفَقَةٌ عَلَى الْأَوْلَادِ فَأَشْبَهَتْ جَهَالَةَ الْقَفِيزِ مِنْ الصُّبْرَةِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَشَرَطَ الْآجِرُ تَطْيِينَ الدَّارِ وَمَرَمَّتَهَا أَوْ تَعْلِيقَ بَابٍ عَلَيْهَا أَوْ إدْخَالَ جِذْعٍ فِي سَقْفِهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ يَصِيرُ أُجْرَةً وَهُوَ مَجْهُولٌ فَتَصِيرُ الْأُجْرَةُ مَجْهُولَةً وَكَذَا إذَا آجَرَ أَرْضًا وَشَرَطَ كَرْيَ نَهْرِهَا أَوْ حَفْرَ بِئْرِهَا أَوْ ضَرْبَ مُسَنَّاةٍ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ فَإِذَا شُرِطَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَقَدْ جَعَلَهُ أُجْرَةً وَهُوَ مَجْهُولٌ فَصَارَتْ الْأُجْرَةُ مَجْهُولَةً وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ الْأُجْرَةُ مَنْفَعَةً هِيَ مِنْ جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَإِجَارَةِ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى، وَالْخِدْمَةِ بِالْخِدْمَةِ، وَالرُّكُوبِ بِالرُّكُوبِ وَالزِّرَاعَةِ بِالزِّرَاعَةِ حَتَّى لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجُوزُ هَذِهِ الْإِجَارَةُ وَإِنْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ جَازَ كَإِجَارَةِ السُّكْنَى بِالْخِدْمَةِ وَالْخِدْمَةِ بِالرُّكُوبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْكَلَامُ فِيهِ فَرْعٌ فِي كَيْفِيَّةِ انْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ فَعِنْدَنَا يَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ تَكُنْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَنْفَعَتَيْنِ مُعَيَّنَةً بَلْ هِيَ مَعْدُومَةٌ وَقْتَ الْعَقْدِ فَيَتَأَخَّرُ قَبْضُ أَحَدِ الْمُسْتَأْجِرِينَ فَيَتَحَقَّقُ رِبَا النَّسَاءِ، وَالْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ عِنْدَنَا كَإِسْلَامِ الْهَرَوِيِّ فِي الْهَرَوِيِّ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِيمَا حُكِيَ أَنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ كَتَبَ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ كَتَبَ إلَيْهِ فِي الْجَوَابِ: إنَّك أَطَلْتَ الْفِكْرَةَ فَأَصَابَتْكَ الْحَيْرَةُ وَجَالَسْتَ الْجُبَّائِيَّ فَكَانَتْ مِنْك زَلَّةً أَمَا عَلِمْت أَنَّ بَيْعَ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى كَبَيْعِ الْهَرَوِيِّ بِالْهَرَوِيِّ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ الرِّبَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي جِنْسَيْنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: مَنَافِعُ الْمُدَّةِ تُجْعَلُ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْعَقْدِ كَأَنَّهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى النِّسْبَةِ وَلَوْ تَحَقَّقَ فَالْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ لَا يَحْرُمُ النَّسَاءُ عِنْدَهُ وَتَعْلِيلُ مَنْ عَلَّلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَتَيْنِ مَعْدُومَتَانِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَكَانَ بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ غَيْرَ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ اسْمٌ لِمَوْجُودٍ فِي الذِّمَّةِ أُخِّرَ بِالْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ بِتَغْيِيرِ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ فَأَمَّا مَا لَا وُجُودَ لَهُ وَتَأَخَّرَ وُجُودُهُ إلَى وَقْتٍ فَلَا يُسَمَّى دَيْنًا وَحَقِيقَةُ الْفِقْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ هِيَ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ شُرِعَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ وَلَا حَاجَةَ تَقَعُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَالْحَاجَةُ تَتَحَقَّقُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَيَجُوزُ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا يَخْدُمُهُ شَهْرًا بِخِدْمَةِ أَمَةٍ كَانَ فَاسِدًا لِاتِّحَادِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ ثُمَّ فِي إجَارَةِ الْخِدْمَةِ بِالْخِدْمَةِ إذَا خَدَمَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَخْدُمْ الْآخَرُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّ لَهُ أَجْرَ الْمِثْلِ، وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا قَابَلَ الْمَنْفَعَةَ بِجِنْسِهَا وَلَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الْمُقَابَلَةُ فَقَدْ جَعَلَ بِإِزَاءِ الْمَنْفَعَةِ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ فَكَانَ رَاضِيًا بِبَذْلِ الْمَنْفَعَةِ بِلَا بَدَلٍ، وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنَافِعَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَالْمَنَافِعُ تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ لِمَا نَذْكُرُ تَحْقِيقَهُ أَنَّهَا تُقَوَّمُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ بَدَلٌ رَأْسًا بِأَنْ اسْتَأْجَرَ شَيْئًا وَلَمْ يُسَمِّ عِوَضًا أَصْلًا فَإِذَا سَمَّى الْعِوَضَ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ أَوْلَى وَقَالُوا فِي عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ تَهَايَأَ الشَّرِيكَانِ فِيهِ فَخَدَمَ أَحَدَهُمَا يَوْمًا وَلَمْ يَخْدُمْ الْآخَرَ أَنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُبَادَلَةٍ بَلْ هُوَ إفْرَازٌ وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْعَبْدَيْنِ لِعَمَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْخِيَاطَةِ، وَالصِّيَاغَةِ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ قَدْ اخْتَلَفَ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي الْجَامِعِ إذَا كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَجَرَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ يَخِيطُ مَعَهُ شَهْرًا عَلَى أَنْ يَصُوغَ نَصِيبَهُ مَعَهُ فِي الشَّهْرِ الدَّاخِلِ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَمَلُ وَإِنَّمَا يَجُوزُ فِي الْعَمَلَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ إذَا كَانَا فِي عَبْدَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا مُهَايَأَةٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا فَعَلَا مَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِمَا مِنْ غَيْرِ إجَارَةٍ وَالْمُهَايَأَةُ مِنْ شَرْطِ جَوَازِهَا أَنْ تَقَعَ عَلَى الْمَنَافِعِ الْمُطْلَقَةِ فَأَمَّا أَنْ يُعَيِّنَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الْآخَرِ الْمَنْفَعَةَ فَلَا يَجُوزُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى رُكْنِ الْعَقْدِ فَخُلُوُّهُ عَنْ شَرْطٍ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَا يُلَائِمُهُ حَتَّى لَوْ أَجَرَهُ دَارِهِ عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا شَهْرًا ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا ثُمَّ يُسَلِّمَهَا

إلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا شَهْرًا أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ شَهْرًا ثُمَّ يُسَلِّمَهُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ، وَزِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ فِي الْعَقْدِ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فِي مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ. يَكُونُ رِبًا أَوْ فِيهَا شُبْهَةُ الرِّبَا وَكُلُّ ذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ أَيْضًا شَرْطُ تَطْيِينِ الدَّارِ وَإِصْلَاحِ مِيزَابِهَا وَمَا وَهَى مِنْهَا وَإِصْلَاحِ بِئْرِ الْمَاءِ وَالْبَالُوعَةِ وَالْمَخْرَجِ وَكَرْيِ الْأَنْهَارِ وَفِي إجَارَةِ الْأَرْضِ وَطَعَامِ الْعَبْدِ وَعَلْفِ الدَّابَّةِ فِي إجَارَةِ الْعَبْدِ، وَالدَّابَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَا يُلَائِمُهُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا مُدَّةً مَعْلُومَةً بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ عَلَى أَنْ لَا يَسْكُنَهَا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَلَا أُجْرَةَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إذَا لَمْ يَسْكُنْهَا وَإِنْ سَكَنَهَا فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا لَا يُنْقَصُ مِمَّا سُمِّيَ أَمَّا فَسَادُ الْعَقْدِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَسْكُنَ نَفَى مُوجَبَ الْعَقْدِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَلَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ فَكَانَ شَرْطًا فَاسِدًا. وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْأَجْرِ رَأْسًا إنْ لَمْ يَسْكُنْ وَوُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ إنْ سَكَنَ فَظَاهِرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ فِي الْإِجَارَاتِ الْفَاسِدَةِ إنَّمَا يَجِبُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا بِنَفْسِ التَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ كَمَا فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ هِيَ التَّمْكِينُ وَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الْفَسَادِ لِوُجُودِ الْمَنْعِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا فَأَشْبَهَ الْمَنْعَ الْحِسِّيَّ مِنْ الْعِبَادِ وَهُوَ الْغَصْبُ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ هُنَاكَ فَتَحَقَّقَ التَّسْلِيمُ فَلَئِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فِي الْمَنْفَعَةِ فَلَا يُسْقِطُ حَقَّ الْآجِرِ فِي الْأُجْرَةِ وَإِذَا سَكَنَ فَقَدْ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَأَنَّهُ يُوجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يُنْتَقَصُ مِنْ الْمُسَمَّى فَفِيهِ إشْكَالٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ إذَا كَانَ الْأَجْرُ مُسَمًّى وَقَدْ قَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إنَّهُ لَا يُنْقَصُ مِنْ الْمُسَمَّى، مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ الْمَسْأَلَةُ مُؤَوَّلَةٌ تَأْوِيلُهَا: إنَّهُ لَا يُنْقَصُ مِنْ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ أَجْرُ الْمِثْلِ وَالْمُسَمَّى وَاحِدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى الرِّوَايَةَ عَلَى الظَّاهِرِ فَقَالَ: إنَّ الْعَاقِدَيْنِ لَمْ يَجْعَلَا الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ الْمَنَافِعِ حَيْثُ شَرَطَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ لَا يَسْكُنَ، وَلَا بِمُقَابَلَةِ التَّسْلِيمِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ فَإِذَا سَكَنَ فَقَدْ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهَا بَدَلٌ فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ كَمَا إذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْعَقْدِ تَسْمِيَةً أَصْلًا إلَّا أَنَّهُ قَالَ: لَا يُنْقَصُ مِنْ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ رَضِيَ بِالْمُسَمَّى بِدُونِ الِانْتِفَاعِ فَعِنْدَ الِانْتِفَاعِ أَوْلَى وَلَوْ آجَرَهُ دَارِهِ أَوْ أَرْضَهُ أَوْ عَبْدَهُ أَوْ دَابَّتَهُ وَشَرَطَ تَسْلِيمَ الْمُسْتَأْجَرِ جَازَ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمُسْتَأْجَرِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِدُونِ الشَّرْطِ فَكَانَ هَذَا شَرْطًا مُقَرِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ لَا مُخَالِفًا لَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَجَّرَهُ عَلَى أَنْ يَمْلِكَ الْمُسْتَأْجِرُ مَنْفَعَةَ الْمُسْتَأْجَرِ وَلَوْ آجَرَ بِشَرْطِ تَعْجِيلِ الْأُجْرَةِ أَوْ شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُعْطِيَهُ بِالْأُجْرَةِ رَهْنًا أَوْ كَفِيلًا جَازَ إذَا كَانَ الرَّهْنُ مَعْلُومًا وَالْكَفِيلُ حَاضِرًا؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ يُلَائِمُ الْعَقْدَ وَإِنْ كَانَ لَا يَقْتَضِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْبُيُوعِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ. وَأَمَّا شَرْطُ اللُّزُومِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ هُوَ شَرْطُ انْعِقَادٍ لَازِمًا مِنْ الْأَصْلِ، وَنَوْعٌ هُوَ شَرْطُ بَقَائِهِ عَلَى اللُّزُومِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ غَيْرُ لَازِمٍ بَلْ هُوَ مُسْتَحِقُّ النَّقْضِ وَالْفَسْخِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ حَقًّا لِلشَّرْعِ، فَضْلًا عَنْ الْجَوَازِ. وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ بِالْمُسْتَأْجَرِ عَيْبٌ فِي وَقْتِ الْعَقْدِ أَوْ وَقْتِ الْقَبْضِ يُخِلُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ فَإِنْ كَانَ؛ لَمْ يَلْزَمْ الْعَقْدُ حَتَّى قَالُوا فِي الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ لِلْخِدْمَةِ إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ سَارِقٌ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّ السَّلَامَةَ مَشْرُوطَةٌ دَلَالَةً فَتَكُونُ كَالْمَشْرُوطِ نَصًّا كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَأْجَرُ مَرْئِيَّ الْمُسْتَأْجِرِ حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا لَمْ يَرَهَا ثُمَّ رَآهَا فَلَمْ يَرْضَ بِهَا أَنَّهُ يَرُدُّهَا؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ فَيَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ فَإِنْ رَضِيَ بِهَا بَطَلَ خِيَارُهُ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا: سَلَامَةُ الْمُسْتَأْجَرِ عَنْ حُدُوثِ عَيْبٍ بِهِ يُخِلُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ فَإِنْ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ يُخِلُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ لَمْ يَبْقَ الْعَقْدُ لَازِمًا حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا يَخْدُمُهُ أَوْ دَابَّةً يَرْكَبُهَا أَوْ دَارًا يَسْكُنُهَا فَمَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ عَرَجَتْ الدَّابَّةُ أَوْ انْهَدَمَ بَعْضُ بِنَاءِ الدَّارِ فَالْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ مَضَى عَلَى الْإِجَارَةِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ إذَا حَدَثَ بِالْمَبِيعِ عَيْبٌ بَعْدَ الْقَبْضِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ. لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنَافِعُ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَنَافِعِ مَعْقُودًا مُبْتَدَأً فَإِذَا حَدَثَ الْعَيْبُ

بِالْمُسْتَأْجَرِ كَانَ هَذَا عَيْبًا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهَذَا يُوجِبُ الْخِيَارَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ كَذَا فِي الْإِجَارَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَإِذَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الْمُدَّةِ فَعَلَيْهِ كَمَالُ الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَعَ الْعَيْبِ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْبَدَلِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ فَرَضِيَ بِهِ وَإِنْ زَالَ الْعَيْبُ قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَ بِأَنْ صَحَّ الْعَبْدُ، وَزَالَ الْعَرَجُ عَنْ الدَّابَّةِ، وَبَنَى الْمُؤَاجِرُ مَا سَقَطَ مِنْ الدَّارِ بَطَلَ خِيَارُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْخِيَارِ قَدْ زَالَ وَالْعَقْدُ قَائِمٌ فَيَزُولُ الْخِيَارُ هَذَا إذَا كَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يَضُرُّ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمُسْتَأْجَرِ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ بَقِيَ الْعَقْدُ لَازِمًا وَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ كَالْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ إذَا ذَهَبَتْ إحْدَى عَيْنَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالْخِدْمَةِ أَوْ سَقَطَ شَعْرُهُ أَوْ سَقَطَ مِنْ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ حَائِطٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي سُكْنَاهَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ لَا عَلَى الْعَيْنِ إذْ الْإِجَارَةُ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ لَا بَيْعُ الْعَيْنِ وَلَا نُقْصَانَ فِي الْمَنْفَعَةِ بَلْ فِي الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهَا فِي بَابِ الْإِجَارَةِ وَتَغَيُّرُ عَيْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يُوجِبُ الْخِيَارَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَيْبُ الْحَادِثُ مِمَّا يَضُرُّ بِالِانْتِفَاعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَضُرُّ بِالِانْتِفَاعِ فَالنُّقْصَانُ يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَأَوْجَبَ الْخِيَارَ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ ثُمَّ إنَّمَا يَلِي الْفَسْخَ إذَا كَانَ الْمُؤَاجِرُ حَاضِرًا فَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَحَدَثَ بِالْمُسْتَأْجَرِ مَا يُوجِبُ حَقَّ الْفَسْخِ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْسَخَ؛ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِحُضُورِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمَا وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا سَنَةً يَزْرَعُهَا شَيْئًا ذَكَرَهُ فَزَرَعَهَا فَأَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ مِنْ بَرْدٍ أَوْ غَيْرِهِ فَذَهَبَ بِهِ وَتَأَخَّرَ وَقْتُ زِرَاعَةِ ذَلِكَ النَّوْعِ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَزْرَعَ قَالَ: إنْ أَرَادَ أَنْ يَزْرَعَ شَيْئًا غَيْرَهُ مِمَّا ضَرَرُهُ عَلَى الْأَرْضِ أَقَلُّ مِنْ ضَرَرِهِ أَوْ مِثْلُ ضَرَرِهِ فَلَهُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَسَخْت عَلَيْهِ الْإِجَارَةَ وَأَلْزَمْتَهُ أَجْرَ مَا مَضَى؛ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ زِرَاعَةِ ذَلِكَ النَّوْعِ كَانَ اسْتِيفَاءُ الْإِجَارَةِ إضْرَارًا بِهِ قَالَ: وَإِذَا نَقَصَ الْمَاءُ عَنْ الرَّحَى حَتَّى صَارَ يَطْحَنُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ طِحْنِهِ فَذَلِكَ عَيْبٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ وَهُوَ نُقْصَانُ الِانْتِفَاعِ وَلَوْ انْهَدَمَتْ الدَّارُ كُلُّهَا أَوْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْ الرَّحَى أَوْ انْقَطَعَ الشُّرْبُ عَنْ الْأَرْضِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ إشَارَةُ الرِّوَايَاتِ فِيهِ ذُكِرَ فِي بَعْضِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي إجَارَةِ الْأَصْلِ إذَا سَقَطَتْ الدَّارُ كُلُّهَا فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ شَاهِدًا أَوْ غَائِبًا فَهَذَا دَلِيلُ الِانْفِسَاخِ حَيْثُ جُوِّزَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخُرُوجُ مِنْ الدَّارِ مَعَ غَيْبَةِ الْمُؤَاجِرِ وَلَوْ لَمْ تَنْفَسِخْ تَوَقَّفَ جَوَازُ الْفَسْخِ عَلَى حُضُورِهِ وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْ الدَّارِ قَدْ بَطَلَتْ بِالسُّقُوطِ إذْ الْمَطْلُوبُ مِنْهَا الِانْتِفَاعُ بِالسُّكْنَى وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَذُكِرَ فِي بَعْضِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ لَكِنْ يَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ إذَا صَالَحَ عَلَى سُكْنَى دَارٍ فَانْهَدَمَتْ لَمْ يَنْفَسِخْ الصُّلْحُ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا، وَقَبَضَهُ ثُمَّ انْهَدَمَ فَبَنَاهُ الْآجِرُ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ بَعْدَ مَا بَنَاهُ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: آخُذُهُ، وَأَبَى الْآجِرُ لَيْسَ لِلْآجِرِ ذَلِكَ وَهَذَا يُجْرَى مَجْرَى النَّصِّ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ لَمْ تَنْفَسِخْ وَوَجْهُهُ أَنَّ الدَّارَ بَعْدَ الِانْهِدَامِ بَقِيَتْ مُنْتَفَعًا بِهَا مَنْفَعَةَ السُّكْنَى فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَضْرِبَ فِيهَا خَيْمَةً فَلَمْ يَفُتْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ رَأْسًا فَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ عَلَى أَنَّهُ إنْ فَاتَ كُلُّهُ لَكِنْ فَاتَ عَلَى وَجْهٍ يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ وَهَذَا يَكْفِي لِبَقَاءِ الْعَقْدِ كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْعَقْدَ الْمُنْعَقِدَ بِيَقِينٍ يَبْقَى لِتَوَهُّمِ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِيَقِينٍ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ كَمَا أَنَّ غَيْرَ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يُثْبَتُ بِالشَّكِّ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ وَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْ الدَّارِ قَدْ بَطَلَتْ وَضَرْبُ الْخَيْمَةِ فِي الدَّارِ لَيْسَ بِمَنْفَعَةٍ مَطْلُوبَةٍ مِنْ الدَّارِ عَادَةً فَلَا يُعْتَبَرُ بَقَاؤُهُ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ وَقَالَ فِيمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْبَيْتِ إذَا بَنَاهُ الْمُؤَاجِرُ: إنَّهُ لَمَّا بَنَاهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَنْفَسِخْ حَقِيقَةً وَإِنْ حُكِمَ بِفَسْخِهِ ظَاهِرًا فَيُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ الْحُكْمُ بِانْفِسَاخِ عَقْدٍ فِي الظَّاهِرِ مَعَ التَّوَقُّفِ فِي الْحَقِيقَةِ اشْتَرَى شَاةً فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَدَبَغَ جِلْدَهَا أَنَّهُ يُحْكَمُ بِبَقَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِانْفِسَاخِهِ ظَاهِرًا بِمَوْتِ الشَّاةِ كَذَا هَهُنَا وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ وَقَبْلَ الْبِنَاءِ لَا يُعْلَمُ أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَنْفَسِخْ حَقِيقَةً فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي السَّفِينَةِ إذَا نُقِضَتْ وَصَارَتْ أَلْوَاحًا ثُمَّ بَنَاهَا الْمُؤَاجِرُ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ السَّفِينَةِ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْعَقْدَ فِي السَّفِينَةِ قَدْ انْفَسَخَ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الصِّنَاعَةُ وَهِيَ التَّرْكِيبُ

وَالْأَلْوَاحُ تَابِعَةٌ لِلصِّنَاعَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ غَصَبَ خَشَبَةً فَعَمِلَهَا سَفِينَةً مَلَكَهَا فَكَانَ تَرْكِيبُ الْأَلْوَاحِ بِمَنْزِلَةِ اتِّخَاذِ سَفِينَةٍ أُخْرَى فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَسْلِيمِهَا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِخِلَافِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ عَرْصَةَ الدَّارِ لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ لِلْبِنَاءِ بَلْ الْعَرْصَةُ فِيهَا أَصْلٌ فَإِذَا بَنَاهَا فَقَدْ بَنَى تِلْكَ الدَّارَ بِعَيْنِهَا فَيُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ رَحَى مَاءٍ سَنَةً فَانْقَطَعَ الْمَاءُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَمْسَكَ الرَّحَى حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَعَلَيْهِ أَجْرٌ لِلسِّتَّةِ أَشْهُرِ الْمَاضِيَةِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الرَّحَى قَدْ بَطَلَتْ فَانْفَسَخَ الْعَقْدُ قَالَ: فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ يُنْتَفَعُ بِهِ لِغَيْرِ الطَّحْنِ فَعَلَيْهِ مِنْ الْأَجْرِ بِحِصَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَهُ حِصَّةٌ فِي الْعَقْدِ فَإِذَا اسْتَوْفَى لَزِمَهُ حِصَّتُهُ فَإِنْ سَلَّمَ الْمُؤَاجِرُ الدَّارَ إلَّا بَيْتًا مِنْهَا ثُمَّ مَنَعَهُ رَبُّ الدَّارِ أَوْ غَيْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْبَيْتِ فَلَا أَجْرَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ دُونَ بَعْضٍ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ حِصَّةٌ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِ الدَّارِ بِغَيْرِ الْبَيْتِ وَأَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ إذَا حَدَثَ ذَلِكَ بَعْدَ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنَافِعُ وَتَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ يُوجِبُ الْخِيَارَ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا أَشْهُرًا مُسَمَّاةً فَلَمْ تُسَلَّمْ إلَيْهِ الدَّارُ حَتَّى مَضَى بَعْضُ الْمُدَّةِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَسَلَّمَ الدَّارَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ طَلَبَهَا مِنْ الْمُؤَاجِرِ فَمَنَعَهُ إيَّاهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَهَا فَذَلِكَ لَهُ وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِحُدُوثِ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ بَعْدَ حُصُولِهَا مُجْتَمِعَةً وَالصَّفْقَةُ هَهُنَا حِينَمَا وَقَعَتْ وَقَعَتْ مُتَفَرِّقَةً لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْمَنَافِعِ كَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَقْدًا مُبْتَدَأً فَكَانَ أَوَّلُ جُزْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ مَمْلُوكًا بِعَقْدٍ وَالثَّانِي مَمْلُوكًا بِعَقْدٍ آخَرَ وَمَا مُلِكَ بِعَقْدَيْنِ فَتَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ فِي أَحَدِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْآخَرِ فَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَارَيْنِ فَسَقَطَتْ إحْدَاهُمَا أَوْ مَنَعَهُ مَانِعٌ مِنْ إحْدَاهُمَا أَوْ حَدَثَ فِي إحْدَاهُمَا عَيْبٌ فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَيْهِمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَقَدْ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَالثَّانِي عَدَمُ حُدُوثِ عُذْرٍ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ بِالْمُسْتَأْجَرِ فَإِنْ حَدَثَ بِأَحَدِهِمَا أَوْ بِالْمُسْتَأْجِرِ عُذْرٌ لَا يَبْقَى الْعَقْدُ لَازِمًا وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْعَقْدِ لَازِمًا وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْإِجَارَةَ تُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْإِجَارَةَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْبَيْعِ فَيَكُونُ لَازِمًا كَالنَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ بَيْعُ الْأَعْيَانِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ بِاتِّفَاقِهِمَا فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِاتِّفَاقِهِمَا وَلَنَا أَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْفَسْخِ عِنْدَ الْعُذْرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ الْعَقْدُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعُذْرِ؛ لَلَزِمَ صَاحِبَ الْعُذْرِ ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ لِمَا يُذْكَرُ فِي تَفْصِيلِ الْأَعْذَارِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَسْخِ فَكَانَ الْفَسْخُ فِي الْحَقِيقَةِ امْتِنَاعًا مِنْ الْتِزَامِ الضَّرَرِ وَلَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إنَّ هَذَا بَيْعٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ نَعَمْ لَكِنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِهِ إلَّا بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ بِالْمَبِيعِ وَكَمَا لَوْ حَدَثَ عَيْبٌ بِالْمُسْتَأْجَرِ وَكَذَا عَنْ قَوْلِهِ: الْعَقْدُ انْعَقَدَ بِاتِّفَاقِهِمَا فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِاتِّفَاقِهِمَا إنَّ هَذَا هَكَذَا إذَا لَمْ يَعْجِزْ عَنْ الْمُضِيِّ عَلَى مُوجَبِ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ وَقَدْ عَجَزَ هَهُنَا فَلَا يُشْتَرَطُ التَّرَاضِي عَلَى الْفَسْخِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَحُدُوثِ الْعَيْبِ بِالْمُسْتَأْجَرِ ثُمَّ إنْكَارُ الْفَسْخِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعُذْرِ خُرُوجٌ عَنْ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ اشْتَكَى ضِرْسَهُ فَاسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَقْلَعَهُ فَسَكَنَ الْوَجَعُ يُجْبَرُ عَلَى الْقَلْعِ وَمَنْ وَقَعَتْ فِي يَدِهِ أَكِلَةٌ فَاسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَقْطَعَهَا فَسَكَنَ الْوَجَعُ ثُمَّ بَرِئَتْ يَدُهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقَطْعِ وَهَذَا قَبِيحٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِجَارَةَ تُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْأَعْذَارِ الْمُثْبِتَةِ لِلْفَسْخِ عَلَى التَّفْصِيلِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. : إنَّ الْعُذْرَ قَدْ يَكُونُ فِي جَانِبِ الْمُسْتَأْجِرِ وَقَدْ يَكُونُ فِي جَانِبِ الْمُؤَاجِرِ وَقَدْ يَكُونُ فِي جَانِبِ الْمُسْتَأْجَرِ أَمَّا الَّذِي فِي جَانِبِ الْمُسْتَأْجِرِ: فَنَحْوُ أَنْ يُفْلِسَ فَيَقُومَ مِنْ السُّوقِ أَوْ يُرِيدَ سَفَرًا أَوْ يَنْتَقِلَ مِنْ الْحِرْفَةِ إلَى الزِّرَاعَةِ أَوْ مِنْ الزِّرَاعَةِ إلَى التِّجَارَةِ أَوْ يَنْتَقِلَ مِنْ حِرْفَةٍ إلَى حِرْفَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُفْلِسَ لَا يَنْتَفِعُ بِالْحَانُوتِ فَكَانَ فِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ إضْرَارٌ بِهِ ضَرَرًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ الْعَقْدُ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى عَمَلِهِ. وَإِذَا عَزَمَ عَلَى السَّفَرِ فَفِي تَرْكِ السَّفَرِ مَعَ الْعَزْمِ عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِهِ وَفِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ مَعَ خُرُوجِهِ إلَى السَّفَرِ ضَرَرٌ بِهِ أَيْضًا لِمَا فِيهِ مِنْ لُزُومِ الْأُجْرَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَالِانْتِقَالُ مِنْ عَمَلٍ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْإِعْرَاضِ عَنْ الْأَوَّلِ وَرَغْبَتِهِ عَنْهُ فَإِنْ مَنَعْنَاهُ عَنْ الِانْتِقَالِ أَضْرَرْنَا بِهِ وَإِنْ أَبْقَيْنَا الْعَقْدَ بَعْدَ الِانْتِقَالِ لَأَلْزَمْنَاهُ الْأُجْرَةَ مِنْ غَيْرِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِ وَلَوْ أَرَادَ

أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ حَانُوتٍ إلَى حَانُوتٍ لِيَعْمَلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ بِعَيْنِهِ فِي الثَّانِي لَمَّا أَنَّ الثَّانِيَ أَرْخَصُ وَأَوْسَعُ عَلَيْهِ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ مِنْ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَإِنَّمَا بَطَلَتْ زِيَادَةُ الْمَنْفَعَةِ - وَقَدْ رَضِيَ بِالْقَدْرِ الْمَوْجُودِ مِنْهَا - فِي الْأَوَّلِ وَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِمَا لَا يَصِلُ إلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ أَوْ بَدَنِهِ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيُقَصِّرَ لَهُ ثِيَابًا أَوْ لِيُقَطِّعَهَا أَوْ يَخِيطَهَا أَوْ يَهْدِمَ دَارًا لَهُ أَوْ يَقْطَعَ شَجَرًا لَهُ أَوْ لِيَقْلَعَ ضِرْسَهُ أَوْ لِيَحْجُمَ أَوْ لِيَفْصِدَ أَوْ لِيَزْرَعَ أَرْضًا أَوْ يُحْدِثَ فِي مِلْكِهِ شَيْئًا مِنْ بِنَاءٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ حَفْرٍ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ؛ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِصَارَةَ وَالْقَطْعَ نُقْصَانٌ عَاجِلٌ فِي الْمَالِ بِالْغُسْلِ وَالْقَطْعِ وَفِيهِ ضَرَرٌ، وَهَدْمُ الدَّارِ وَقَطْعُ الشَّجَرِ إتْلَافُ الْمَالِ، وَالزِّرَاعَةُ إتْلَافُ الْبُذُورِ وَفِي الْبِنَاءِ إتْلَافُ الْآلَةِ، وَقَلْعُ الضِّرْسِ وَالْحِجَامَةُ وَالْفَصْدُ إتْلَافُ جُزْءٍ مِنْ الْبَدَنِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِ إلَّا أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لَهَا لِمَصْلَحَةٍ تَأَمَّلَهَا تَرْبُو عَلَى الْمَضَرَّةِ فَإِذَا بَدَا لَهُ؛ عُلِمَ أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ فَبَقِيَ الْفِعْلُ ضَرَرًا فِي نَفْسِهِ فَكَانَ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ الضَّرَرِ بِالْفَسْخِ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ إبِلًا إلَى مَكَّةَ ثُمَّ بَدَا لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ لَا يَخْرُجَ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى السَّفَرِ؛؛ لِأَنَّهُ لِمَا بَدَا لَهُ عَلِمَ أَنَّ السَّفَرَ ضَرَرٌ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى تَحَمُّلِ الضَّرَرِ وَكَذَا كُلُّ مَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيُسَافِرَ ثُمَّ قَعَدَ عَنْ السَّفَرِ فَلَهُ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا وَقَدْ قَالُوا: إنَّ الْجَمَّالَ إذَا قَالَ لِلْحَاكِمِ: إنَّ هَذَا لَا يُرِيدُ أَنْ يَتْرُكَ السَّفَرَ وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ قَالَ لَهُ الْحَاكِم: انْتَظِرْهُ فَإِنْ خَرَجَ ثُمَّ قَفَلَ الْجَمَّالُ مَعَهُ فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ؛ فَلَكَ الْأَجْرُ فَإِنْ قَالَ صَاحِبَ الدَّارِ لِلْحَاكِمِ: إنَّ هَذَا لَا يُرِيدُ سَفَرًا وَإِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ لِيَفْسَخَ الْإِجَارَةَ اسْتَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ يُرِيدُ السَّفَرَ الَّذِي عَزَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي سَبَبَ الْفَسْخِ وَهُوَ إرَادَةُ السَّفَرِ وَلَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا مَعَ يَمِينِهِ، وَقَالُوا: لَوْ خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ فَرَاسِخَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ صَاحِبُ الدَّارِ: إنَّمَا أَظْهَرَ الْخُرُوجَ لِفَسْخِ الْإِجَارَةِ وَقَدْ عَادَ اسْتَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَقَدْ خَرَجَ قَاصِدًا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي ذَكَرَ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ يَدَّعِي أَنَّ الْفَسْخَ وَقَعَ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَهُوَ عَزْمُ السَّفَرِ إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ وَلَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَزْمَ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ. وَأَمَّا الْجَمَّالُ إذَا بَدَا لَهُ مِنْ الْخُرُوجِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّ خُرُوجَ الْجَمَّالِ مَعَ الْجِمَالِ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَبْعَثَ غَيْرَهُ مَعَ الْجِمَالِ فَلَا يَكُونُ قُعُودُهُ عُذْرًا بِخِلَافِ خُرُوجِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ يَتَعَلَّقُ بِخُرُوجِهِ بِنَفْسِهِ فَكَانَ قُعُودُهُ عُذْرًا وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فَحَفَرَ بَعْضَهَا فَوَجَدَهَا صُلْبَةً أَوْ خَرَجَ حَجَرًا أَوْ وَجَدَهَا رَخْوَةً بِحَيْثُ يُخَافُ التَّلَفُ كَانَ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي امْرَأَةٍ وَلَدَتْ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ فَأَبَى الْجَمَّالُ أَنْ يُقِيمَ قَالَ: هَذَا عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ مِنْ غَيْرِ طَوَافٍ وَلَا سَبِيلَ إلَى إلْزَامِ الْجَمَّالِ لِلْإِقَامَةِ مُدَّةَ النِّفَاسِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ إذْ هِيَ مُدَّةُ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِقَامَةِ الْقَافِلَةِ قَدْرَهَا فَيُجْعَلُ عُذْرًا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ نِفَاسِهَا كَمُدَّةِ الْحَيْضِ أَوْ أَقَلَّ أُجْبِرَ الْجَمَّالُ عَلَى الْمُقَامِ مَعَهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ قَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِمَقَامِ الْحَاجِّ فِيهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ. وَأَمَّا الَّذِي هُوَ فِي جَانِبِ الْمُؤَاجِرِ فَنَحْوُ أَنْ يَلْحَقَهُ دَيْنٌ فَادِحٌ لَا يَجِدُ قَضَاءَهُ إلَّا مِنْ ثَمَنِ الْمُسْتَأْجَرِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْعَقَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا كَانَ الدَّيْنُ ثَبَتَ قَبْلَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ أَوْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَلَوْ ثَبَتَ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ بِالْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالدَّيْنُ الثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا تُفْسَخُ بِهِ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُقِرُّ بِالدَّيْنِ عَلَى نَفْسِهِ كَاذِبًا وَهَذَا الْعُذْرُ مِنْ جَانِبِ الْمُؤَاجِرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْمُؤَاجِرِ لَا يَنْفُذُ عِنْدَنَا مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ عَلَى مَا نَذْكُرهُ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ مَعَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ جُعِلَ الدَّيْنُ عُذْرًا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ إبْقَاءَ الْإِجَارَةِ مَعَ لُحُوقِ الدَّيْنِ الْفَادِحِ الْعَاجِلِ إضْرَارٌ بِالْمُؤَاجِرِ؛ لِأَنَّهُ يُحْبَسُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ الْجَبْرُ عَلَى تَحَمُّلِ ضَرَرٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَحْبِسُهُ الْقَاضِي وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ بِالْمُؤَاجَرِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْبِسَهُ الْقَاضِي فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُصَدِّقُهُ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ سِوَى الْمُؤَاجَرِ فَيَحْبِسُهُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ حَالُهُ، وَفِي الْحَبْسِ ضَرَرٌ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ غَيْرُ الْمُؤَاجَرِ لَكِنَّ حَقَّ الْمُسْتَأْجِرِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَنْفَعَةِ لَا بِالْعَيْنِ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ يَكُونُ مِنْ

بَدَلِ الْعَيْنِ وَهُوَ الثَّمَنُ، فَيُحْبَسُ حَتَّى يَبِيعَ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا فَأَجَرَهُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بِهِ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ وَيَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ عَلَى بَائِعِهِ - وَإِنْ رَضِيَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْعَيْبِ - وَيُجْعَلُ حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عُذْرًا لَهُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَائِهَا إلَّا بِضَرَرٍ وَهُوَ الْتِزَامُ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ، وَلَوْ أَرَادَ الْمُؤَاجِرُ السَّفَرَ أَوْ النُّقْلَةَ عَنْ الْبَلَدِ وَقَدْ أَجَرَ عَقَارًا لَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِعُذْرٍ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْعَقَارِ مَعَ غَيْبَتِهِ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ مَرِضَ الْمُؤَاجِرُ أَوْ أَصَابَ إبِلَهُ دَاءٌ؛ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ إذَا كَانَتْ بِعَيْنِهَا، أَمَّا إذَا أَصَابَ الْإِبِلَ دَاءٌ فَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الدَّابَّةِ مَعَ مَا بِهَا مِنْ الدَّاءِ إجْحَافٌ بِهَا وَفِيهِ ضَرَرٌ بِصَاحِبِهَا، وَالضَّرَرُ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فَيَثْبُتَ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ، وَكَذَا الْمُسْتَأْجِرُ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَنْقُصُ بِمَرَضِ الْإِبِلِ، فَصَارَ ذَلِكَ عَيْبًا فِيهَا. وَأَمَّا مَرَضُ الْجَمَّالِ فَظَاهِرُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ عُذْرًا؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْمَرَضِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ، وَخُرُوجُ الْجَمَّالِ بِنَفْسِهِ مَعَ الْجِمَالِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ، وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَرَضِ الْجَمَّالِ وَبَيْنَ قُعُودِهِ أَنَّ الْجَمَّالَ يَقُومُ عَلَى جِمَالِهِ بِنَفْسِهِ فَإِذَا مَرِضَ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ إلَّا بِضَرَرٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا بَدَا لَهُ مِنْ الْخُرُوجِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مَقَامَهُ، وَلَوْ أَجَرَ صَانِعٌ مِنْ الصُّنَّاعِ أَوْ عَامِلٌ مِنْ الْعُمَّالِ نَفْسَهُ لِعَمَلٍ أَوْ صِنَاعَةٍ ثُمَّ قَالَ: " بَدَا لِي أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْعَمَلَ وَأَنْتَقِلَ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ " قَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِهِ بِأَنْ كَانَ حَجَّامًا فَقَالَ: " قَدْ أَنِفْتُ مِنْ عَمَلِي وَأُرِيدُ تَرْكَهُ " لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَيُقَالُ: أَوْفِ الْعَمَلَ ثُمَّ انْتَقِلْ إلَى مَا شِئْتَ مِنْ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ لَزِمَهُ، وَلَا عَارَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْحِرْفَةِ، فَهُوَ بِقَوْلِهِ: " أُرِيدُ أَنْ أَتْرُكَهُ " يُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ فِي الْحَالِ، وَيَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِ، وَصَنْعَتِهِ بَلْ أَسْلَمَ نَفْسَهُ فِيهَا، وَذَلِكَ مِمَّا يُعَابُ بِهِ، أَوْ كَانَتْ امْرَأَةً أَجَرَتْ نَفْسَهَا ظِئْرًا وَهِيَ مِمَّنْ تُعَابُ بِذَلِكَ فَلِأَهْلِهَا أَنْ يُخْرِجُوهَا، وَكَذَلِكَ إنْ أَبَتْ هِيَ أَنْ تُرْضِعَهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الصَّنَائِعِ الدَّنِيئَةِ إذَا دَخَلَ فِيهَا يَلْحَقُهُ الْعَارُ، فَإِذَا أَرَادَ التَّرْكَ فَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إيفَاءِ الْمَنَافِعِ إلَّا بِضَرَرٍ، وَكَذَلِكَ الظِّئْرُ إذَا لَمْ تَكُنْ مِمَّنْ يُرْضِعُ مِثْلُهَا فَلِأَهْلِهَا الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهُمْ يُعَيَّرُونَ بِذَلِكَ، وَفِي الْمَثَلِ السَّائِرِ (تَجُوعُ الْحُرَّةُ وَلَا تَأْكُلُ بِثَدْيَيْهَا) . فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إيفَاءُ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ فَلَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَنْفَعَةِ إلَّا بِضَرَرٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ الْفَسْخِ، وَيَثْبُتُ لِلْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يُفْسَخُ بِالْعُذْرِ فَقَدْ لَزِمَهَا الْعَقْدُ، وَالْإِجَارَةُ تَنْفَسِخُ بِالْعُذْرِ وَإِنْ وَقَعَتْ لَازِمَةً. وَلَوْ انْهَدَمَ مَنْزِلُ الْمُؤَاجِرِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْزِلٌ آخَرُ سِوَى الْمَنْزِلِ الْمُؤَاجَرِ فَأَرَادَ أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ وَيَسْكُنَهَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْزِلًا آخَرَ أَوْ يَشْتَرِيَ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى فَسْخِ الْإِجَارَةِ، وَكَذَا إذَا أَرَادَ التَّحَوُّلَ مِنْ هَذَا الْمِصْرِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتْرُكَ الْمَنْزِلِ فِي الْإِجَارَةِ وَيَخْرُجَ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ اشْتَرَى الْمُسْتَأْجِرُ مَنْزِلًا فَأَرَادَ التَّحَوُّلَ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُؤَاجِرَ دَارَ نَفْسِهِ، فَشِرَاؤُهُ دَارًا أُخْرَى أَوْ وُجُودُ دَارٍ أُخْرَى لَا يُوجِبُ عُذْرًا فِي الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي هُوَ فِي جَانِبِ الْمُسْتَأْجَرِ فَمِنْهَا عِتْقُ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ فَإِنَّهُ عُذْرٌ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ، حَتَّى لَوْ أَجَرَ رَجُلٌ عَبْدَهُ سَنَةً فَلَمَّا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أَعْتَقَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ مَضَى عَلَى الْإِجَارَةِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ. أَمَّا الْعِتْقُ فَلَا شَكَّ فِي نَفَاذِهِ لِصُدُورِ الْإِعْتَاقِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ الْمَمْلُوكِ الْمَرْقُوقِ، وَالْعَارِضُ وَهُوَ حَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يُؤَثِّرُ إلَّا فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّسْلِيمِ، وَنَفَاذُ الْعِتْقِ لَا يَقِفُ عَلَى إمْكَانِ التَّسْلِيمِ، بِدَلِيلِ أَنَّ إعْتَاقَ الْآبِقِ نَافِذٌ. وَأَمَّا الْخِيَارُ فَلِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمَنَافِعِ يَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا، فَيَصِيرُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ كَأَنَّهُ عَقَدَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً فَكَانَ لَهُ خِيَارُ الْإِجَارَةِ وَالْفَسْخِ، فَإِنْ فَسَخَ بَطَلَ الْعَقْدُ فِيمَا بَقِيَ وَسَقَطَ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَجْرُ فِيمَا بَقِيَ وَكَانَ أَجْرُ مَا مَضَى لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ مَنْفَعَةٍ اُسْتُوْفِيَتْ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى بِعَقْدِهِ، وَإِنْ أَجَازَ وَمَضَى عَلَى الْإِجَارَةِ فَالْأُجْرَةُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ إلَى تَمَامِ السَّنَةِ تَكُونُ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ مَنْفَعَةٍ اُسْتُوْفِيَتْ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ فَكَانَتْ لَهُ، كَمَا لَوْ أَجَرَ نَفْسَهُ مِنْ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فِي الْمُدَّةِ فَلَا خِيَارَ لَهُ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا أَجَرَ نَفْسَهُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْإِجَارَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِاخْتِيَارِ الْإِجَارَةِ أَبْطَلَ حَقَّ الْفَسْخِ فَلَا يُحْتَمَلُ الْعَوْدُ، وَقَبْضُ الْأُجْرَةِ كُلِّهَا لِلْمَوْلَى، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقْبِضَ الْأُجْرَةَ إلَّا بِوَكَالَةٍ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ هُوَ الْمَوْلَى، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ، هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ الْمُسْتَأْجِرُ عَجَّلَ الْأُجْرَةَ، وَلَا شَرَطَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ

التَّعْجِيلَ، فَإِنْ كَانَ عَجَّلَ أَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ التَّعْجِيلَ فَأَعْتَقَ الْعَبْدَ وَاخْتَارَ الْمُضِيَّ عَلَى الْإِجَارَةِ؛ فَالْأُجْرَةُ كُلُّهَا لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالتَّعْجِيلِ أَوْ بِاشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفَسْخَ؛ يَرُدُّ النِّصْفَ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ بِمُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ وَلَمْ يَسْلَمْ لَهُ إلَّا مَنْفَعَةُ نِصْفِ الْمُدَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَوْلَى أَجَرَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ أَذِنَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ سَنَةً فَأَجَرَ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فِي نِصْفِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ عَقْدَهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى كَعَقْدِ الْمَوْلَى بِنَفْسِهِ، إلَّا إنْ قَبَضَ الْأُجْرَةَ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فِي الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ إجَارَةَ الْمَحْجُورِ وَقَعَتْ فَاسِدَةً، وَخِيَارُ الْإِمْضَاءِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَا يَثْبُتُ شَرْعًا، فَبَطَلَ الْعَقْدُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ، وَمِنْهَا: بُلُوغُ الصَّبِيِّ الْمُسْتَأْجَرِ آجَرَهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّ أَبِيهِ أَوْ جَدُّهُ أَوْ وَصِيُّ جَدِّهِ أَوْ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ فَبَلَغَ فِي الْمُدَّةِ فَهُوَ عُذْرٌ، إنْ شَاءَ أَمْضَى الْإِجَارَةَ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ؛ لِأَنَّ فِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ضَرَرًا بِالصَّبِيِّ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ فَيَعْجِزُ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ لَمْ يَلْتَزِمْهُ فَكَانَ عُذْرًا، وَلَوْ أَجَرَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فَبَلَغَ قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ لَا خِيَارَ لَهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ إجَارَةِ النَّفْسِ وَالْمَالِ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إنَّ إجَارَةَ مَالِهِ تَصَرُّفٌ نُظِرَ فِي حَقِّهِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِالْبُلُوغِ، فَأَمَّا إجَارَةُ النَّفْسِ فَهُوَ فِي وَضْعِهَا إضْرَارٌ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا الْوَلِيُّ أَوْ الْوَصِيُّ مِنْ حَيْثُ هِيَ تَأْدِيبٌ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ بِالْبُلُوغِ، فَأَمَّا غَلَاءُ أَجْرِ الْمِثْلِ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ تَنْفَسِخُ بِهِ الْإِجَارَةُ إلَّا فِي إجَارَةِ الْوَقْفِ، حَتَّى لَوْ آجَرَ دَارًا هِيَ مِلْكُهُ ثُمَّ غَلَا أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ، إلَّا فِي الْوَقْفِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ نَظَرًا لِلْوَقْفِ وَيُجَدَّدُ الْعَقْدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى أُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَفِيمَا مَضَى يَجِبُ الْمُسَمَّى بِقَدْرِهِ وَقِيلَ: هَذَا إذَا ازْدَادَ أَجْرُ مِثْلِ الدُّورِ، فَأَمَّا إذَا جَاءَ وَاحِدٌ وَزَادَ فِي الْأُجْرَةِ تَعَنُّتًا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ، إنَّمَا تُفْسَخُ هَذِهِ الْإِجَارَةُ إذَا أَمْكَنَ الْفَسْخُ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ فَلَا تُفْسَخُ بِأَنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ زَرْعٌ لَمْ يُسْتَحْصَدْ؛ لِأَنَّ فِي الْقَلْعِ ضَرَرًا بِالْمُسْتَأْجِرِ فَلَا تُفْسَخُ بَلْ تُتْرَكُ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ، فَإِلَى وَقْتِ الزِّيَادَةِ يَجِبُ الْمُسَمَّى بِقَدْرِهِ، وَبَعْدَ الزِّيَادَةِ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، هَذَا إذَا غَلَا أَجْرُ مِثْلِ الْوَقْفِ. فَأَمَّا إذَا رَخُصَ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا تُفْسَخُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ رَضِيَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ وَزِيَادَةٍ؛ وَلِأَنَّ الْفَسْخَ فِي الْوَقْفِ عِنْدَ الْغَلَاءِ لِمَعْنًى النَّظَرِ لِلْوَقْفِ، وَفِي هَذَا ضَرَرٌ فَلَا تُفْسَخُ. وَأَمَّا الْعُذْرُ فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ فَنَحْوُ أَنْ لَا يَأْخُذَ الصَّبِيُّ مِنْ لَبَنِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بَعْضُ مَا دَخَلَ تَحْتَ الْعَقْدِ أَوْ بَقِيَ مِنْ لَبَنِهَا؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يَتَضَرَّرُ بِهِ، أَوْ تَحْبَلَ الظِّئْرُ؛ لِأَنَّ لَبَنَ الْحَامِلِ يَضُرُّ بِالصَّبِيِّ، أَوْ تَكُونَ سَارِقَةً؛ لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ عَلَى مَتَاعِهِمْ، أَوْ تَكُونَ فَاجِرَةً بَيِّنَةَ الْفُجُورِ؛ لِأَنَّهَا تَتَشَاغَلُ بِالْفُجُورِ عَنْ حِفْظِ الصَّبِيِّ، أَوْ أَرَادُوا أَنْ يُسَافِرُوا بِصَبِيِّهِمْ وَأَبَتْ الظِّئْرُ أَنْ تَخْرُجَ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّ فِي إلْزَامِهِمْ تَرْكَ الْمُسَافَرَةِ إضْرَارًا بِهِمْ، وَفِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ السَّفَرِ إضْرَارًا أَيْضًا، أَوْ تَمْرَضَ الظِّئْرُ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يَتَضَرَّرُ بِلَبَنِ الْمَرِيضَةِ، وَالْمَرْأَةُ تَتَضَرَّرُ بِالْإِرْضَاعِ فِي الْمَرَضِ أَيْضًا فَيَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَإِنْ كَانُوا يُؤْذُونَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ أُمِرُوا أَنْ يَكُفُّوا عَنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُفُّوا كَانَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ؛ لِأَنَّ الْأَذِيَّةَ مَحْظُورَةٌ، فَعَلَيْهِمْ تَرْكُهَا، فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُوهَا كَانَ فِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ ضَرَرٌ غَيْرُ مُلْتَزَمٍ بِالْعَقْدِ فَكَانَ عُذْرًا وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ الرَّضَاعِ إنْ لَمْ تَكُنْ الْإِجَارَةُ بِرِضَاهُ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَشِينُهُ أَنْ تُرْضِعَ زَوْجَتُهُ فَلَهُ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهُ يُعَيَّرُ بِذَلِكَ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَشِينُهُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَهُ بِالنِّكَاحِ مَنَافِعُ بُضْعِهَا لَا مَنَافِعُ ثَدْيِهَا، فَكَانَتْ هِيَ بِالْإِجَارَةِ مُتَصَرِّفَةً فِي حَقِّهَا، وَقِيلَ: لَهُ الْفَسْخُ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهَا إنْ أَرْضَعَتْ الصَّبِيَّ فِي بَيْتِهِمْ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ، وَإِنْ أَرْضَعَتْ فِي بَيْتِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ إدْخَالِ الصَّبِيِّ إلَى بَيْتِهِ، ثُمَّ إذَا اعْتَرَضَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَعْذَارِ الَّتِي وَصَفْنَاهَا فَالْإِجَارَةُ تَنْفَسِخُ بِنَفْسِهَا أَوْ تَحْتَاجُ إلَى الْفَسْخِ، قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: تَنْفَسِخُ بِنَفْسِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَنْفَسِخُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى الْعُذْرِ إنْ كَانَ يُوجِبُ الْعَجْزَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْعَقْدِ شَرْعًا بِأَنْ كَانَ الْمُضِيُّ فِيهِ حَرَامًا فَالْإِجَارَةُ تُنْتَقَضُ بِنَفْسِهَا، كَمَا فِي الْإِجَارَةِ عَلَى قَلْعِ الضِّرْسِ إذَا اشْتَكَتْ ثُمَّ سَكَنَتْ، وَعَلَى قَطْعِ الْيَدِ الْمُتَأَكِّلَةِ إذَا بَرِئَتْ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْعُذْرُ بِحَيْثُ لَا يُوجِبُ الْعَجْزَ عَنْ ذَلِكَ لَكِنَّهُ يَتَضَمَّنُ نَوْعَ ضَرَرٍ لَمْ يُوجِبْهُ الْعَقْدُ لَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِالْفَسْخِ، وَهَلْ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى فَسْخِ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي؟ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ بَلْ لِلْعَاقِدِ فَسْخُهَا، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهَا لَا تُفْسَخُ إلَّا بِفَسْخِ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي، وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ هَذَا خِيَارٌ ثَبَتَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَأَشْبَهَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ

فصل في صفة الإجارة

وَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْإِجَارَةِ لَا تُمْلَكُ جُمْلَةً وَاحِدَةً بَلْ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَكَانَ اعْتِرَاضُ الْعُذْرِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ عَيْبٍ حَدَثَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْعَيْبُ الْحَادِثُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ يُوجِبُ لِلْعَاقِدِ حَقَّ الْفَسْخِ، وَلَا يَقِفُ ذَلِكَ عَلَى الْقَضَاءِ وَالرِّضَا، كَذَا هَذَا، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ فَصَّلَ فِيهِ تَفْصِيلًا فَقَالَ: إنْ كَانَ الْعُذْرُ ظَاهِرًا لَا حَاجَةَ إلَى الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا كَالدَّيْنِ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ لِيَظْهَرَ الْعُذْرُ فِيهِ وَيَزُولَ الِاشْتِبَاهُ، وَهَذَا حَسَنٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَبِيعَ الْمُسْتَأْجَرَ ثُمَّ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ. [فَصْلٌ فِي صِفَةُ الْإِجَارَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْإِجَارَةِ فَالْإِجَارَةُ عَقْدٌ لَازِمٌ إذَا وَقَعَتْ صَحِيحَةً عَرِيَّةً عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، فَلَا تُفْسَخُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَقَالَ شُرَيْحٌ: إنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ وَتُفْسَخُ بِلَا عُذْرٍ؛ لِأَنَّهَا إبَاحَةُ الْمَنْفَعَةِ فَأَشْبَهَتْ الْإِعَارَةَ، وَلَنَا أَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ فَأَشْبَهَتْ الْبَيْعَ وَقَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وَالْفَسْخُ لَيْسَ مِنْ الْإِيفَاءِ بِالْعَقْدِ وَقَالَ عُمَرُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ " جَعَلَ الْبَيْعَ نَوْعَيْنِ: نَوْعًا لَا خِيَارَ فِيهِ، وَنَوْعًا فِيهِ خِيَارٌ، وَالْإِجَارَةُ بَيْعٌ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ نَوْعَيْنِ، نَوْعًا لَيْسَ فِيهِ خِيَارُ الْفَسْخِ، وَنَوْعًا فِيهِ خِيَارُ الْفَسْخِ؛ وَلِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ عُقِدَتْ مُطْلَقَةً فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِيهَا بِالْفَسْخِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ تَحَمُّلِ ضَرَرٍ كَالْبَيْعِ. [فَصْلٌ فِي حُكْم الْإِجَارَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْإِجَارَةِ فَالْإِجَارَةُ لَا تَخْلُو: إمَّا إنْ كَانَتْ صَحِيحَةً وَإِمَّا إنْ كَانَتْ فَاسِدَةً وَإِمَّا إنْ كَانَتْ بَاطِلَةً. أَمَّا الصَّحِيحَةُ: فَلَهَا أَحْكَامٌ، بَعْضُهَا أَصْلِيٌّ وَبَعْضُهَا مِنْ التَّوَابِعِ أَمَّا الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لِلْآجِرِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ إذْ هِيَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْبَيْعُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ. وَأَمَّا وَقْتُ ثُبُوتِهِ فَالْعَقْدُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ عُقِدَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ تَعْجِيلِ الْأُجْرَةِ، وَإِمَّا أَنْ شُرِطَ فِيهِ تَعْجِيلُ الْأُجْرَةِ أَوْ تَأْجِيلُهَا. فَإِنْ عُقِدَ مُطْلَقًا؛ فَالْحُكْمُ يَثْبُتُ فِي الْعِوَضَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُؤَاجِرِ فِي الْأُجْرَةِ وَقْتَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حُكْمُ الْإِجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ هُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ ثُبُوتِ حُكْمِ الْعَقْدِ فَعِنْدَنَا: يَثْبُتُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ مَحَلِّهِ، وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ؛ لِأَنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَعِنْدَهُ تُجْعَلُ الْمُدَّةُ مَوْجُودَةً تَقْدِيرًا كَأَنَّهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهَا فِي الْحَالِ، وَعَلَى هَذَا يُبْنَى أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ تُمْلَكُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَقَدْ وُجِدَتْ مُطْلَقَةً، وَالْمُعَاوَضَةُ الْمُطْلَقَةُ تَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ عَقِيبَ الْعَقْدِ كَالْبَيْعِ، إلَّا أَنَّ الْمِلْكَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ تَثْبُتُ فِيهِ مَنَافِعُ الْمُدَّةِ الْمَعْلُومَةِ فِي الْحَالِ حَقِيقَةً، فَتُجْعَلُ مَوْجُودَةً حُكْمًا تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ، وَقَدْ يُجْعَلُ الْمَعْدُومُ حَقِيقَةً مَوْجُودًا تَقْدِيرًا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، وَلَنَا أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ الْمُطْلَقَةَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِيهَا فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لَا يَثْبُتُ فِي الْعِوَضِ الْآخَرِ، إذْ لَوْ ثَبَتَ لَا يَكُونُ مُعَاوَضَةً حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ؛ وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْعُقُودِ الْمُطْلَقَةِ مَطْلُوبُ الْعَاقِدَيْنِ، وَلَا مُسَاوَاةَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَالْمِلْكُ لَمْ يَثْبُتْ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ، وَهُوَ مَنَافِعُ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ حَقِيقَةً فَلَا تَثْبُتُ فِي الْأُجْرَةِ فِي الْحَالِ تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي أَيِّ وَقْتٍ تَثْبُتُ؟ فَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يَقُولُ: إنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مِثْلُ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ سَنَةً أَوْ عَشْرَ سِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، ثُمَّ رَجَعَ هُنَا فَقَالَ: تَجِبُ يَوْمًا فَيَوْمًا وَفِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَسَافَةِ مِثْلَ إنْ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا وَجَائِيًا كَانَ قَوْلُهُ الْأَوَّلَ: إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الْأَجْرِ حَتَّى يَعُودَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: يُسَلِّمُ حَالًا فَحَالًا، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يُسَلِّمُ أُجْرَةَ كُلِّ مَرْحَلَةٍ إذَا انْتَهَى إلَيْهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ أَنَّ مَنَافِعَ الْمُدَّةِ أَوْ الْمَسَافَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَعْقُودٌ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَمَا لَمْ يَسْتَوْفِهَا كُلَّهَا لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ بَدَلِهَا، كَمَنْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا يَخِيطُ ثَوْبًا فَخَاطَ بَعْضَهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ، وَكَذَا الْقَصَّارُ، وَالصَّبَّاغُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ الثَّانِي - وَهُوَ الْمَشْهُورُ - أَنَّهُ مِلْكُ الْبَدَلِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ، وَأَنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الزَّمَانِ فَيَمْلِكُهَا شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا، فَكَذَا مَا يُقَابِلُهَا، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْأُجْرَةِ

سَاعَةً فَسَاعَةً، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ فَاسْتُحْسِنَ، فَقَالَ: يَوْمًا فَيَوْمًا وَمَرْحَلَةً فَمَرْحَلَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ فِيهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا إلَى مَكَّةَ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ ثُلُثَ الطَّرِيقِ أَوْ نِصْفَهُ أَعْطَى مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ اسْتِحْسَانًا، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ السَّيْرَ إلَى ثُلُثِ الطَّرِيقِ أَوْ نِصْفِهِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ الْقَدْرُ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ بَدَلِهِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا أَبْرَأَ الْمُؤَاجِرُ الْمُسْتَأْجِرَ مِنْ الْأَجْرِ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرِ عَيْنًا كَانَ الْأَجْرُ أَوْ دَيْنًا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ دَيْنًا جَازَ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ خَارِجٌ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَمْ يَمْلِكْهَا الْمُؤَاجِرُ فِي الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ عَنْ شَرْطِ التَّعْجِيلِ، وَالْإِبْرَاءُ عَمَّا لَيْسَ بِمَمْلُوكِ الْمُبْرِئِ لَا يَصِحُّ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ، وَإِنَّمَا التَّأْجِيلُ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ فَيَصِحُّ الْإِبْرَاءِ عَنْهُ، وَهِبَةُ غَيْرِ الْمَمْلُوكِ لَا تَصِحُّ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْقَبُولِ، فَإِذَا قَبِلَ الْمُسْتَأْجِرُ فَقَدْ قَصَدَا صِحَّةَ تَصَرُّفِهِمَا، وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِالْمِلْكِ، فَيُثْبِتُ الْمِلْكُ مُقْتَضَى التَّصَرُّفِ تَصْحِيحًا لَهُ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: أَعْتَقْت، وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ، كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَسَبَبُ الْوُجُوبِ هَهُنَا مَوْجُودٌ وَهُوَ الْعَقْدُ الْمُنْعَقِدُ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَعْنِي بِالِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَهُوَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ كَانَ يَعْنِي شَيْئًا آخَرَ فَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِ الْأُجْرَةِ أَوْ وَهَبَ مِنْهُ جَازَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، أَمَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي الْكُلِّ فَكَذَا فِي الْبَعْضِ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ؛ فَلِأَنَّ ذَلِكَ حَطُّ بَعْضِ الْأُجْرَةِ فَيُلْحَقُ الْحَطُّ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَصِيرُ كَمَا لَوْ وُجِدَ فِي حَالِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ بَعْضِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَحَطُّ الْكُلِّ لَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى تَصْحِيحِهِ لِلْحَالِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ عَيْنًا مِنْ الْأَعْيَانِ فَوَهَبَهَا الْمُؤَاجِرُ لِلْمُسْتَأْجِرِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ نَقْضًا لِلْإِجَارَةِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ قَبِلَ الْمُسْتَأْجِرُ الْهِبَةَ بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ رَدَّهَا لَمْ تَبْطُلْ، أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ مَرَّ عَلَى الْأَصْلِ أَنَّ الْهِبَةَ لَمْ تَصِحَّ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهَا لَمْ تُوجَدْ رَأْسًا، بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي إذَا وُهِبَ الْمَبِيعَ مِنْ بَائِعِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَقَبِلَهُ الْبَائِعُ إنَّ ذَلِكَ يَكُونُ نَقْضًا لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ هُنَاكَ قَدْ صَحَّتْ لِصُدُورِهَا مِنْ الْمَالِكِ فَثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ فَانْفَسَخَ الْبَيْعُ. وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْأُجْرَةُ إذَا كَانَتْ عَيْنًا كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُهَا هُوَ فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ، وَالْمُشْتَرِي إذَا وُهِبَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ الْبَائِعِ فَقَبِلَهُ الْبَائِعُ؛ يَبْطُلُ الْبَيْعُ، كَذَا هَذَا، وَإِذَا رَدَّ الْمُسْتَأْجِرُ الْهِبَةَ لَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبُولِ، فَإِذَا رَدَّ بَطَلَتْ وَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ، وَعَلَى هَذَا إذَا صَارَفَ الْمُؤَاجِرُ الْمُسْتَأْجِرَ بِالْأُجْرَةِ فَأَخَذَ بِهَا دِينَارًا بِأَنْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ دَرَاهِمَ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ الْأَخِيرِ، وَكَانَ قَوْلُهُ الْأَوَّلَ: إنَّهُ جَائِزٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، فَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ عَلَى الْأَصْلِ فَقَالَ: الْأُجْرَةُ لَمْ تَجِبْ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَمَا وَجَبَ بِعَقْدِ الصَّرْفِ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ فَيَبْطُلَ الْعَقْدُ فِيهِ كَمَنْ بَاعَ دِينَارًا بِعَشَرَةٍ فَلَمْ يَتَقَابَضَا؛ وَلِأَنَّهُ يَشْتَرِي الدِّينَارَ بِدَرَاهِمَ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ يَجْعَلُهَا قِصَاصًا بِالْأُجْرَةِ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ، فَيَبْقَى ثَمَنُ الصَّرْفِ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِذَا افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الصَّرْفُ، وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: إذَا لَمْ يَجُزْ الصَّرْفُ إلَّا بِبَدَلٍ وَاجِبٍ - وَلَا وُجُوبَ إلَّا بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ - ثَبَتَ الشَّرْطُ مُقْتَضٍ إقْدَامَهُمَا عَلَى الصَّرْفِ، وَلَوْ شَرَطَا تَعْجِيلَ الْأُجْرَةِ ثُمَّ تَصَارَفَا جَازَ، كَذَا هَذَا، وَلَوْ اشْتَرَى الْمُؤَاجِرُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ عَيْنًا مِنْ الْأَعْيَانِ بِالْأُجْرَةِ جَازَ فِي قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْأَعْيَانِ وَالْهِبَةِ جَائِزَانِ، فَالرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ أَوْلَى. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَأَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِأَنَّ جَوَازَهَا لَا يَسْتَدْعِي قِيَامَ الدَّيْنِ لِلْحَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَفَلَ بِمَا يَذُوبُ لَهُ عَلَى فُلَانٍ جَازَتْ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِالدَّرَكِ جَائِزَةٌ، وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ بِدَيْنٍ لَمْ يَجِبْ جَائِزٌ، كَالرَّهْنِ بِالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَالرَّهْنَ شُرِعَا لِلتَّوَثُّقِ، وَالتَّوَثُّقُ مُلَائِمٌ لِلْأَجْرِ. هَذَا إذَا وَقَعَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ تَعْجِيلِ الْأُجْرَةِ، فَأَمَّا إذَا شُرِطَ فِي تَعْجِيلِهَا مُلِكَتْ بِالشَّرْطِ وَجَبَ تَعْجِيلُهَا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ عِنْدَنَا إلَّا بِأَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: شَرْطُ التَّعْجِيلِ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، وَالثَّانِي: التَّعْجِيلُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ: وَالثَّالِثُ: اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَمَّا مِلْكُهَا بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ فَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ لِتَحْقِيقِ

مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ وَتَحْقِيقِ الْمُسَاوَاةِ الَّتِي هِيَ مَطْلُوبُ الْعَاقِدَيْنِ، وَمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهِمَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا شُرِطَ التَّعْجِيلُ فَلَمْ تُوجَدْ الْمُعَاوَضَةُ الْمُطْلَقَةُ بَلْ الْمُقَيَّدَةُ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ شَرْطِهِمَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» . فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْعِوَضِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ فِي الْمُعَوَّضِ؛ وَلِهَذَا صَحَّ التَّعْجِيلُ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ وَإِنْ كَانَ إطْلَاقُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي الْحُلُولَ، كَذَا هَذَا وَلِلْمُؤَجِّرِ حَبْسُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأُجْرَةَ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي جَامِعِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ كَالْمَبِيعِ فِي بَابِ الْبَيْعِ، وَالْأُجْرَةُ فِي الْإِجَارَاتِ كَالثَّمَنِ فِي الْبِيَاعَاتِ، وَلِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ، فَكَذَا لِلْمُؤَاجِرِ حَبْسُ الْمَنَافِعِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْأُجْرَةَ الْمُعَجَّلَةَ، فَإِنْ قِيلَ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْحَبْسِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ إذَا وَقَعَتْ عَلَى مُدَّةٍ فَإِذَا حُبِسَ الْمُسْتَأْجَرُ مُدَّةً بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَلَا شَيْءَ فِيهَا مِنْ الْأُجْرَةِ، فَلَمْ يَكُنْ الْحَبْسُ مُفِيدًا، فَالْجَوَابُ: إنَّ الْحَبْسَ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْبَسُ وَيُطَالَبُ بِالْأُجْرَةِ، فَإِنْ عَجَّلَ وَإِلَّا فُسِخَ الْعَقْدُ فَكَانَ فِي الْحَبْسِ فَائِدَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يَلْزَمُ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَسَافَةِ بِأَنْ أَجَّرَ دَابَّةً مَسَافَةً مَعْلُومَةً؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ هَهُنَا لَا يَبْطُلُ بِالْحَبْسِ، وَكَذَا هَذَا، وَيَبْطُلُ بِبَيْعِ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَالسَّمَكِ الطَّرِيِّ وَنَحْوِهِ إذْ لِلْبَائِعِ حَبْسُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ، وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْبَيْعِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنْ وَقَعَ الشَّرْطُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَى أَنْ لَا يُسَلِّمَ الْمُسْتَأْجِرُ الْأَجْرَ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَهُوَ جَائِزٌ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَجِبُ إلَّا فِي آخِرِ الْمُدَّةِ، فَإِذَا شُرِطَ كَانَ هَذَا شَرْطًا مُقَرِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَكَانَ جَائِزًا. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ فَالْأُجْرَةُ وَإِنْ كَانَتْ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَقَدْ شُرِطَ تَأْجِيلُ الْأُجْرَةِ، وَالْأُجْرَةُ كَالثَّمَنِ فَتَحْتَمِلُ التَّأْجِيلَ كَالثَّمَنِ. وَأَمَّا إذَا عَجَّلَ الْأُجْرَةَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَلِأَنَّهُ لَمَّا عَجَّلَ الْأُجْرَةَ فَقَدْ غَيَّرَ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ وَلَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ ثَبَتَ حَقًّا لَهُ فَيَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِالتَّعْجِيلِ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ فَعَجَّلَهُ؛ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ فَالِاسْتِحْقَاقُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبُهُ، وَتَعْجِيلُ الْحُكْمِ قَبْلَ الْوُجُوبِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ، كَتَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ. وَأَمَّا إذَا اُسْتُوْفِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْمُعَوَّضَ فَيَمْلِكُ الْمُؤَاجِرُ الْعِوَضَ فِي مُقَابَلَتِهِ تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَتَسْوِيَةً بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُبْنَى الْإِجَارَةُ الْمُضَافَةُ إلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِأَنْ قَالَ: أَجَّرْتُك هَذِهِ الدَّارَ غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا، أَوْ قَالَ: أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ سَنَةً أَوَّلُهَا غُرَّةُ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهَا جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَجُوزُ، وَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَطَرِيقُ جَوَازِهَا عِنْدَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَنَافِعَ الْمُدَّةِ مَوْجُودَةً تَقْدِيرًا عَقِيبَ الْعَقْدِ تَصْحِيحًا لَهُ إذْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَحَلُّ حُكْمِ الْعَقْدِ مَوْجُودًا لِيُمْكِنَ إثْبَاتُ حُكْمِهِ فِيهِ، فَجُعِلَتْ الْمَنَافِعُ مَوْجُودَةً حُكْمًا كَأَنَّهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا، وَإِضَافَةُ الْبَيْعِ إلَى عَيْنٍ سَتُوجَدُ لَا تَصِحُّ كَمَا فِي بَيْعِ الْأَعْيَانِ حَقِيقَةً. وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَيْئًا فَشَيْئًا وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ فَكَانَ الْعَقْدُ مُضَافًا إلَى حِينِ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ، فَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْإِضَافَةِ يَكُونُ مُقَرِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ، إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا الْإِضَافَةَ فِي الْإِجَارَةِ دُونَ الْبَيْعِ لِلضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ حَالَ وُجُودِهَا لَا يُمْكِنُ إنْشَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْإِضَافَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ لِإِمْكَانِ إيقَاعِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا بَعْدَ وُجُودِهَا؛ لِكَوْنِهَا مُحْتَمِلَةً لِلْبَقَاءِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْإِضَافَةِ، وَطَرِيقُنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْمَعْدُومِ مَوْجُودًا تَقْدِيرٌ لِلْمُحَالِ، وَتَقْدِيرُ الْمُحَالِ مُحَالٌ وَلَا إحَالَةَ فِي الْإِضَافَةِ إلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ تَصِحُّ مُضَافَةً إلَى الْمُسْتَقْبَلِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا، فَكَانَ الصَّحِيحُ مَا قُلْنَا. وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي هِيَ مِنْ التَّوَابِعِ فَكَثِيرَةٌ، بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْآجِرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ مِمَّا عَلَيْهِمَا وَلَهُمَا، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَأْجَرِ فِيهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ شُرِطَ فِيهِ تَعْجِيلُ الْبَدَلِ أَوْ تَأْجِيلُهُ. وَأَمَّا إنْ كَانَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّعْجِيلِ وَالتَّأْجِيلِ، فَإِنْ شُرِطَ فِيهِ تَعْجِيلُ الْبَدَلِ فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ تَعْجِيلُهَا وَالِابْتِدَاءُ بِتَسْلِيمِهَا، سَوَاءٌ كَانَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ شَيْئًا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهِ كَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ وَعَبْدِ الْخِدْمَةِ، أَوْ كَانَ صَانِعًا أَوْ عَامِلًا يُنْتَفَعُ بِصَنْعَتِهِ أَوْ عَمَلِهِ كَالْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ وَالصَّيَّاغِ وَالْإِسْكَافِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا شَرَطَا تَعْجِيلَ الْبَدَلِ لَزِمَ اعْتِبَارُ شَرْطِهِمَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» . وَمَلَكَ

الْآجِرُ الْبَدَلَ حَتَّى تَجُوزَ لَهُ هِبَتُهُ، وَالتَّصَدُّقُ بِهِ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْهُ، وَالشِّرَاءُ، وَالرَّهْنُ، وَالْكَفَالَةُ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ يَمْلِكُ الْبَائِعُ فِي الثَّمَنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ، وَلِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُنْتَفَعِ بِأَعْيَانِهَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأُجْرَةَ، وَكَذَا لِلْأَجِيرِ الْوَاحِدِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ النَّفْسِ، وَلِلْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ إيفَاءِ الْعَمَلِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَةِ كَالثَّمَنِ فِي الْبِيَاعَاتِ، وَلِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُؤَجَّلًا، كَذَا هَهُنَا، وَإِنْ شُرِطَ فِيهِ تَأْجِيلُ الْأُجْرَةِ يُبْتَدَأُ بِتَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ وَإِيفَاءِ الْعَمَلِ وَإِنَّمَا يَجِبُ بِتَسْلِيمِ الْبَدَلِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشُّرُوطِ اعْتِبَارُهَا؛ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّعْجِيلِ وَالتَّأْجِيلِ يُبْتَدَأُ بِتَسْلِيمِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ فِي نَوْعَيْ الْإِجَارَةِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ تَسْلِيمُ الْمُسْتَأْجَرِ، وَعَلَى الْأَجِيرِ تَسْلِيمُ النَّفْسِ أَوْ إيفَاءُ الْعَمَلِ أَوَّلًا عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَجِبُ عِنْدَنَا بِالْعَقْدِ الْمُطْلَقِ، وَعِنْدَهُ تَجِبُ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ، غَيْرَ أَنَّ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِجَارَةُ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْمُنْتَفَعِ بِأَعْيَانِهَا إذَا سَلِمَ الْمُسْتَأْجَرُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ كُلِّهِ لِلْحَالِّ، بَلْ عَلَى حَسَبِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ، وَلِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْأُجْرَةِ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ يَوْمًا فَيَوْمًا فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْعَقَارِ وَنَحْوِهِ، وَمَرْحَلَةً مَرْحَلَةً فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَسَافَةِ، وَلَكِنْ يُخَيَّرُ الْمُكَارِي عَلَى الْحَمْلِ إلَى الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ، إذْ لَوْ لَمْ يُخَيَّرْ لَتَضَرَّرَ الْمُسْتَأْجِرُ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ شَيْءٍ مِنْ الْبَدَلِ إلَّا عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، أَوْ قَطْعِ الْمَسَافَةِ كُلِّهَا فِي الْإِجَارَةِ عَلَى قَطْعِ الْمَسَافَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا فِي النَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ اسْتِئْجَارُ الصُّنَّاعِ، وَالْعُمَّالِ فَلَا يَجِبُ تَسْلِيمُ شَيْءٍ مِنْ الْبَدَلِ إلَّا عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ قَطْعِ الْمَسَافَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ بِلَا خِلَافٍ، حَتَّى قَالُوا فِي الْحَمَّالِ مَا لَمْ يَحُطَّ الْمَتَاعَ مِنْ رَأْسِهِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ مِنْ تَمَامِ الْعَمَلِ، وَهَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْحَمَّالِ يَطْلُبُ الْأُجْرَةَ بَعْدَ مَا بَلَغَ الْمَنْزِلَ قَبْلَ أَنْ يَضَعَهُ: إنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ مِنْ تَمَامِ الْعَمَلِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الْعَمَلِ فِي هَذَا النَّوْعِ غَيْرُ مَقْصُودٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَانَ الْكُلُّ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يُقَابِلُهُ الْبَدَلُ بِلَا خِلَافٍ، بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ السُّكْنَى وَقَطْعِ الْمَسَافَةِ مَقْصُودٌ فَيُقَابَلُ بِالْأُجْرَةِ ثُمَّ فِي النَّوْعِ الْآخَرِ إذَا. أَرَادَ الْأَجِيرُ حَبْسَ الْعَيْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ هَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ ظَاهِرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ وَالْإِسْكَافِ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَثَرَ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ صَيْرُورَةُ الثَّوْبِ مَخِيطًا مَقْصُورًا. وَإِنَّمَا الْعَمَلُ يُحَصِّلُ ذَلِكَ الْأَثَرَ عَادَةً، وَالْبَدَلُ يُقَابِلُ ذَلِكَ الْأَثَرَ، فَكَانَ كَالْمَبِيعِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ، كَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَنَّهُ يُحْبَسُ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ إذَا لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا، وَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ تَسْقُطُ الْأُجْرَةُ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ؟ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ قَبْلَ الْحَبْسِ عِنْدَهُمَا، فَبَعْدَ الْحَبْسِ أَوْلَى. وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ ظَاهِرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْحَمَّالِ وَالْمَلَّاحِ وَالْمُكَارِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْعَيْنَ؛ لِأَنَّ مَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْعَيْنِ فَالْبَدَلُ إنَّمَا يُقَابِلُ نَفْسَ الْعَمَلِ، إلَّا أَنَّ الْعَمَلَ كُلَّهُ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، إذْ لَا يُنْتَفَعُ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَمَا فَرَغَ حَصَلَ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا يَمْلِكُ حَبْسَهُ عَنْهُ بَعْدَ طَلَبِهِ كَالْيَدِ الْمُودَعَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ حَبْسُ الْوَدِيعَةِ بِالدَّيْنِ، وَلَوْ حَبَسَهُ فَهَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا تَسْقُطُ الْأُجْرَةُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ كَمَا وَقَعَ فِي الْعَمَلِ حَصَلَ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِحُصُولِهِ فِي يَدِهِ، فَتَقَرَّرَتْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ فَلَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالْهَلَاكِ، وَيَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ حَبَسَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَصَارَ غَاصِبًا بِالْحَبْسِ، وَنَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى الْغَصْبِ فَقَالَ: فَإِنْ حَبَسَ الْحَمَّالُ الْمَتَاعَ فِي يَدِهِ فَهُوَ غَاصِبٌ. وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، فَإِذَا حَبَسَهَا بِدَيْنِهِ فَقَدْ صَارَ غَاصِبًا، كَمَا لَوْ حَبَسَ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ بِالدَّيْنِ. هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ؛ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْأَجِيرُ الْمُطَالَبَةَ بِالْأُجْرَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ إذَا كَانَ الْمَعْمُولُ فِيهِ فِي يَدِ الْأَجِيرِ. ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَقَدْرُ مَا أَوْقَعَهُ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِ يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجَرِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهُ؛ حَتَّى يَمْلِكَ الْمُطَالَبَةَ بِقَدْرِهِ مِنْ الْمُدَّةِ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَبْنِيَ لَهُ بِنَاءً فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِيمَا فِي يَدِهِ، بِأَنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَبْنِيَ لَهُ بِنَاءً فِي دَارِهِ، أَوْ يَعْمَلَ لَهُ سَابَاطًا أَوْ جَنَاحًا، أَوْ يَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا أَوْ قَنَاةً

أَوْ نَهْرًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِيمَا فِي يَدِهِ، فَعَمِلَ بَعْضَهُ، فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِقَدْرِهِ مِنْ الْأُجْرَةِ. لَكِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْبَاقِي، حَتَّى لَوْ انْهَدَمَ الْبِنَاءُ، أَوْ انْهَارَتْ الْبِئْرُ، أَوْ وَقَعَ فِيهَا الْمَاءُ وَالتُّرَابُ وَسَوَّاهَا مَعَ الْأَرْضِ، أَوْ سَقَطَ السَّابَاطُ فَلَهُ أَجْرُ مَا عَمِلَهُ بِحِصَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ فِي يَدِهِ فَكَمَا عَمِلَ شَيْئًا حَصَلَ فِي يَدِهِ قَبْلَ هَلَاكِهِ وَصَارَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ فَلَا يَسْقُطُ بَدَلُهُ بِالْهَلَاكِ. وَلَوْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَيَدِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ شَيْئًا مِنْ الْأُجْرَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ عَمَلِهِ، وَتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ، وَلَا فِي يَدِهِ، تَوَقَّفَ وُجُوبُ الْأُجْرَةِ فِيهِ عَلَى الْفَرَاغِ وَالتَّمَامِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: إذَا أَرَاهُ مَوْضِعًا مِنْ الصَّحْرَاءِ يَحْفِرُ فِيهِ بِئْرًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا هُوَ فِي مِلْكِهِ وَيَدِهِ، وَقَالَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ: وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ قَابِضًا إلَّا بِالتَّخْلِيَةِ وَإِنْ أَرَاهُ الْمَوْضِعَ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِالتَّعْيِينِ لَمْ يَصِرْ فِي يَدِهِ فَلَا يَصِيرُ عَمَلُ الْأَجِيرِ فِيهِ مُسَلَّمًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ وَيَدِهِ فَعَمِلَ الْأَجِيرُ بَعْضَهُ، وَالْمُسْتَأْجِرُ قَرِيبٌ مِنْ الْعَامِلِ، فَخَلَّى الْأَجِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: لَا أَقْبِضُهُ مِنْكَ حَتَّى يَفْرُغَ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَدْرَ مَا عَمِلَ لَمْ يَصِرْ مُسَلَّمًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِبَعْضِ عَمَلِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ التَّسْلِيمِ حَتَّى يُتِمَّهُ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ لَبَّانًا لِيَضْرِبَ لَهُ لَبِنًا فِي مِلْكِهِ أَوْ فِيمَا فِي يَدِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَجِفَّ اللَّبِنُ وَيَنْصِبَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: حَتَّى يَجِفَّ أَوْ يَنْصِبَهُ وَيَشْرُجَهُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا ضَرَبَهُ وَلَمْ يُقِمْهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَقْلِبْهُ عَنْ مَكَانِهِ فَهُوَ أَرْضٌ. فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ اللَّبِنِ، وَالْخِلَافُ بَيْنَهُمْ يَرْجِعُ إلَى أَنَّهُ: هَلْ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ بِالْإِقَامَةِ أَوْ لَا يَصِيرُ إلَّا بِالتَّشْرِيجِ؟ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ بِنَفْسِ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْإِقَامَةِ مِنْ تَمَامِ هَذَا الْعَمَلِ فَيَصِيرُ اللَّبِنُ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِهَا، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَصِيرُ قَابِضًا مَا لَمْ يَشْرُجْ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَمَلِ بِهِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ النَّصْبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَبْلَ التَّشْرِيجِ فِي قَوْلِهِمَا فَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ، وَلَوْ هَلَكَ بَعْدَهُ فَلَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ تَمَّ فَصَارَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ لِكَوْنِهِ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي يَدِهِ، فَهَلَاكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الْبَدَلَ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَمْنَ عَنْ الْفَسَادِ يَقَعُ بِالتَّشْرِيحِ؛ وَلِهَذَا جَرَتْ الْعَادَةُ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ اللَّبَّانَ هُوَ الَّذِي يَشْرُجُ لِيُؤَمِّنَ عَلَيْهِ الْفَسَادَ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْعَمَلِ كَإِخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ، وَلَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَهُ ضَرْبُ اللَّبِنِ، وَلَمَّا جَفَّ وَنَصَبَهُ فَقَدْ وُجِدَ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّبِنِ وَهُوَ فِي يَدِهِ أَوْ فِي مِلْكِهِ فَصَارَ قَابِضًا لَهُ، فَأَمَّا التَّشْرِيجُ فَعَمَلٌ زَائِدٌ لَمْ يُلْزَمْهُ الْعَامِلُ؛ بِمَنْزِلَةِ النَّقْلِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان، فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَيَدِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يُسَلِّمَهُ، وَهُوَ أَنْ يُخَلِّيَ الْأَجِيرُ بَيْنَ اللَّبِنِ وَبَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ، لَكِنَّ ذَلِكَ بَعْدَ مَا نَصَبَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا بَعْدَ مَا شَرَجَهُ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ خَبَّازًا لِيَخْبِزَ لَهُ قَفِيزًا مِنْ دَقِيقٍ بِدِرْهَمٍ، فَخَبَزَ، فَاحْتَرَقَ الْخُبْزُ فِي التَّنُّورِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ، أَوْ أَلْزَقَهُ فِي التَّنُّورِ ثُمَّ أَخَذَهُ لِيُخْرِجَهُ فَوَقَعَ مِنْ يَدِهِ فِي التَّنُّورِ فَاحْتَرَقَ، فَلَا أُجْرَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلَ الْخُبْزِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ مِنْ التَّنُّورِ، فَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ خُبْزٌ فَصَارَ كَهَلَاكِ اللَّبِنِ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّهُ، قَالَ: وَلَوْ أَخْرَجَهُ مِنْ التَّنُّورِ وَوَضَعَهُ وَهُوَ يَخْبِزُ فِي مَنْزِلِ الْمُسْتَأْجِرِ فَاحْتَرَقَ مِنْ غَيْرِ جِنَايَتِهِ فَلَهُ الْأَجْرُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. أَمَّا اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ فَلِأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ بِإِخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ، وَحَصَلَ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِكَوْنِهِ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ. وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَلِأَنَّ الْهَلَاكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ عِنْدَهُ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُضَمِّنُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ دَقِيقًا مِثْلَ الدَّقِيقِ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ، وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْخُبْزِ مَخْبُوزًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْأَجِيرِ قَبْضٌ مَضْمُونٌ عِنْدَهُمَا فَلَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ بِوَضْعِهِ فِي مَنْزِلِ مَالِكِهِ، وَإِنَّمَا يَبْرَأُ بِالتَّسْلِيمِ كَالْغَاصِبِ إذَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا، فَصَاحِبُ الدَّقِيقِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ دَقِيقًا وَأَسْقَطَ الْأَجْرَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ الْعَمَلَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ خُبْزًا فَصَارَ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا إلَيْهِ، فَوَجَبَ الْأَجْرُ عَلَيْهِ قَالَ: وَلَا أُضَمِّنُهُ الْقَصَبَ وَلَا الْمِلْحَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَارَ مُسْتَهْلَكًا قَبْلَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَحِينَ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ لَا قِيمَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْقَصَبَ صَارَ رَمَادًا وَالْمِلْحَ صَارَ مَاءً وَكَذَلِكَ الْخَيَّاطُ الَّذِي يَخِيطُ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ قَمِيصًا، فَإِنْ خَاطَ لَهُ بَعْضَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أُجْرَتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ لَا يُنْتَفَعُ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضِهِ فَلَا تَلْزَمُ الْأُجْرَةُ

إلَّا بِتَمَامِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ ثُمَّ هَلَكَ فَلَهُ الْأُجْرَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ حَصَلَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ لِحُصُولِهِ فِي مِلْكِهِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَالْعَيْنُ مَضْمُونَةٌ فَلَا يَبْرَأُ عَنْ ضَمَانِهَا إلَّا بِتَسْلِيمِهَا إلَى مَالِكِهَا، فَإِنْ هَلَكَ الثَّوْبُ فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ صَحِيحًا وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَخِيطًا وَلَهُ الْأَجْرُ؛ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا لِيَحْمِلَ لَهُ دَنًّا مِنْ السُّوقِ إلَى مَنْزِلِهِ فَحَمَلَهُ حَتَّى إذَا بَلَغَ بَابَ دَرْبِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ كَسَرَهُ إنْسَانٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَامِلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَهُ الْأَجْرُ، وَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَمَلَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ ظَاهِرٌ فِي الْعَيْنِ كَمَا وَقَعَ يَحْصُلُ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى خَيَّاطٍ يَخِيطُهُ بِدِرْهَمٍ، فَمَضَى، فَخَاطَهُ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَفَتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ رَبُّ الثَّوْبِ فَلَا أَجْرَ لِلْخَيَّاطِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ هَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَسَقَطَ بَدَلُهَا قَالَ: وَلَا أُجْبِرُ الْخَيَّاطَ عَلَى أَنْ يُعِيدَ الْعَمَلَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ فَقَدْ انْتَهَى الْعَقْدُ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ ثَانِيًا، وَإِنْ كَانَ الْخَيَّاطُ هُوَ الَّذِي فَتَقَ الثَّوْبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَتَقَهُ فَقَدْ فَسَخَ الْمَنَافِعَ الَّتِي عَمِلَهَا، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ رَأْسًا، وَإِذَا فَتَقَهُ الْأَجْنَبِيُّ فَقَدْ أَتْلَفَ الْمَنَافِعَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَقَالُوا فِي الْمَلَّاحِ إذَا حَمَلَ الطَّعَامَ إلَى مَوْضِعٍ فَرَدَّ السَّفِينَةَ إنْسَانٌ فَلَا أَجْرَ لِلْمَلَّاحِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ السَّفِينَةَ، فَإِنْ كَانَ الْمَلَّاحُ هُوَ الَّذِي رَدَّهَا لَزِمَهُ إعَادَةُ الْحَمْلِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي شُرِطَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي رَجَعَتْ إلَيْهِ السَّفِينَةُ لَا يَقْدِرُ رَبُّ الطَّعَامِ عَلَى قَبْضِهِ فَعَلَى الْمَلَّاحِ أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي مَوْضِعٍ يَقْدِرُ رَبُّ الطَّعَامِ عَلَى قَبْضِهِ، وَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا سَارَ فِي هَذَا الْمَسِير؛ لِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا لِلْمَلَّاحِ تَسْلِيمَهُ فِي مَكَان لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لَتَلِفَ الْمَالُ عَلَى صَاحِبِهِ. وَلَوْ كَلَّفْنَاهُ حَمْلَهُ بِالْأَجْرِ إلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُمْكِنُ الْقَبْضُ فِيهِ فَقَدْ رَاعَيْنَا الْحَقَّيْنِ. قَالُوا وَلَوْ اكْتَرَى بَغْلًا إلَى مَوْضِعٍ يَرْكَبُهُ فَلَمَّا سَارَ إلَى بَعْضِ الطَّرِيقِ جَمَحَ بِهِ فَرَدَّهُ إلَى مَوْضِعِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْكِرَاءُ بِقَدْرِ مَا سَارَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الْمَنَافِعِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الضَّمَانُ، وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَذْهَبُ إلَى الْبَصْرَةِ فَيَجِيءُ بِعِيَالِهِ فَذَهَبَ فَوَجَدَ فُلَانًا قَدْ مَاتَ فَجَاءَ بِمَنْ بَقِيَ قَالَ: لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَذْهَبُ بِكِتَابِهِ إلَى الْبَصْرَةِ إلَى فُلَانٍ وَيَجِيءُ بِجَوَابِهِ، فَذَهَبَ، فَوَجَدَ فُلَانًا قَدْ مَاتَ، فَرَدَّ الْكِتَابَ فَلَا أَجْرَ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُ الْأَجْرُ فِي الذَّهَابِ، أَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ حَمْلُ الْعِيَالِ، فَإِذَا حَمَلَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا حَمَلَ. وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْأَجْرَ مُقَابَلٌ بِقَطْعِ الْمَسَافَةِ لَا بِحَمْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ، وَقَطْعُ الْمَسَافَةِ فِي الذَّهَابِ وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَيَسْتَحِقُّ حِصَّتَهُ مِنْ الْأَجْرِ، وَفِي الْعَوْدِ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ، وَلَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حَمْلِ الْكِتَابِ إيصَالُهُ إلَى فُلَانٍ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ، عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ وَإِنْ كَانَ نَقْلَ الْكِتَابِ لَكِنَّهُ إذَا رَدَّهُ فَقَدْ نَقَصَ تِلْكَ الْمَنَافِعَ فَبَطَلَ الْأَجْرُ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ طَعَامًا إلَى الْبَصْرَةِ إلَى فُلَانٍ فَحَمَلَهُ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ فَرَدَّهُ أَنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ؛ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا. ، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ فِي إجَارَةِ الدَّارِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعَقَارِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا كَيْفَ شَاءَ بِالسُّكْنَى، وَوَضْعِ الْمَتَاعِ، وَأَنْ يَسْكُنَ بِنَفْسِهِ، وَبِغَيْرِهِ، وَأَنْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ بِالْإِجَارَةِ، وَالْإِعَارَةِ. إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا حَدَّادًا، وَلَا قَصَّارًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُوهِنُ الْبِنَاءَ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ أَجَّرَهَا الْمُسْتَأْجِرُ بِأَكْثَرَ مِنْ الْأُجْرَةِ الْأُولَى فَإِنْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْأُولَى طَابَتْ لَهُ الزِّيَادَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْأُولَى لَا تَطِيبُ لَهُ حَتَّى يَزِيدَ فِي الدَّارِ زِيَادَةً مِنْ بِنَاءٍ أَوْ حَفْرٍ أَوْ تَطْيِينٍ أَوْ تَجْصِيصٍ. فَإِنْ لَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْئًا فَلَا خَيْرَ فِي الْفَضْلِ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ، لَكِنْ تَجُوزُ الْإِجَارَةُ، أَمَّا جَوَازُ الْإِجَارَةِ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي عَقْدٍ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَهَهُنَا كَذَلِكَ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ. وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ إذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ جِنْسِ الْأُولَى فَلِأَنَّ الْفَضْلَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمُسْتَأْجَرُ فَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَانَ الْهَلَاكُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ، وَكَذَا لَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ زِيَادَةٌ كَانَ الرِّبْحُ فِي مُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ، فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رِبْحًا، وَلَوْ كَنَسَ الْبَيْتَ فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ، فَلَا تَطِيبُ بِهِ زِيَادَةُ الْأَجْرِ، وَكَذَا فِي إجَارَةِ الدَّابَّةِ إذَا زَادَ فِي الدَّابَّةِ جُوَالِقَ أَوْ لِجَامًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِمَا بَيَّنَّا، فَإِنْ عَلَفَهَا لَا يَطِيبُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا يَصِيرُ

شَيْءٌ مِنْهَا مُقَابَلًا بِالْعَلَفِ، فَلَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ، وَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ، وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا لِيَلْبَسَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْبِسَهُ غَيْرَهُ، وَإِنْ فَعَلَ، ضَمِنَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ، فَإِنْ أَعْطَاهُ غَيْرَهُ فَلَبِسَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ ضَمِنَهُ إنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِي إلْبَاسِهِ غَيْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ فَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِلُبْسِهِ، فَمَا يَكُونُ مُسْتَوْفًى بِلُبْسِ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ، وَاسْتِيفَاءُ غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يُوجِبُ الْيَدَ. أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا بِعَيْنِهِ ثُمَّ غَصَبَ مِنْهُ ثَوْبًا آخَرَ فَلَبِسَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْأَجْرُ، فَكَذَلِكَ إذَا أَلْبَسَ ذَلِكَ الثَّوْبَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ اللَّابِسِ كَتَعْيِينِ الْمَلْبُوسِ، فَإِنْ قِيلَ هُوَ قَدْ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَكْفِي لِوُجُوبِ الْأَجْرِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ وَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ وَلَمْ يَلْبَسْهُ، قُلْنَا تَمَكُّنُهُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ، فَإِذَا وَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ فَيَدُهُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةٌ؛ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ لَمْ يَضْمَنْ، فَأَمَّا إذَا أَلْبَسَهُ غَيْرَهُ فَيَدُهُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةٌ حُكْمًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ضَامِنٌ، وَإِنْ هَلَكَ مِنْ غَيْرِ اللُّبْسِ فَإِنَّ يَدَ اللَّابِسِ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةٌ حَتَّى يَكُونَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُضَمِّنَ غَيْرَ اللَّابِسِ، وَلَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقِ تَفْوِيتِ يَدِهِ حُكْمًا فَلِهَذَا لَا يُلْزِمُهُ الْأُجْرَةَ وَإِنْ سَلِمَ، وَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ لِيُلْبَسَ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ وَلَمْ يُسَمِّ مَنْ يَلْبَسُهُ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللُّبْسَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللَّابِسِ وَبِاخْتِلَافِ الْمَلْبُوسِ، وَكَمَا أَنَّ تَرْكَ التَّعْيِينِ فِي الْمَلْبُوسِ عِنْدَ الْعَقْدِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ فَكَذَلِكَ تَرْكُ تَعْيِينِ اللَّابِسِ، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ يُطَالِبُهُ بِإِلْبَاسِ أَرْفَقِ النَّاسِ فِي اللُّبْسِ، وَصِيَانَةِ الْمَلْبُوسِ، وَهُوَ يَأْبَى أَنْ يُلْبِسَ إلَّا أَحْسَنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَيَحْتَجُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ، وَلَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ، وَإِنْ اخْتَصَمَا فِيهِ قَبْلَ اللُّبْسِ فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ لَبِسَهُ هُوَ وَأَعْطَاهُ غَيْرَهُ فَلَبِسَهُ إلَى اللَّيْلِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ: عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَنْ يَرْكَبُهَا، أَوْ لِلْعَمَلِ وَلَمْ يُسَمِّ مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا، فَعَمِلَ عَلَيْهَا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ: عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، وَوُجُوبُ الْمُسَمَّى بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، وَلَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُفْسِدَ وَهُوَ الْجَهَالَةُ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ قَدْ زَالَ، وَبِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ الْمُفْسِدَةِ يَنْعَدِمُ الْفَسَادُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالْمُضَافِ، وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَا جَهَالَةَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَوُجُوبُ الْأَجْرِ عِنْدَ ذَلِكَ أَيْضًا فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الْمُسَمَّى وَجَعَلْنَا التَّعْيِينَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالتَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ ضَاعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ سَوَاءٌ لَبِسَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَلْبَسَ غَيْرَهُ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ عَيَّنَ هُنَاكَ لُبْسَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ فَيَصِيرُ مُخَالِفًا بِإِلْبَاسِ غَيْرِهِ، وَإِذَا اسْتَأْجَرَ قَمِيصًا لِيَلْبَسَهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَوَضَعَهُ فِي مَنْزِلِهِ حَتَّى جَاءَ اللَّيْلُ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ كَامِلًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ مَكَّنَهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الثَّوْبِ إلَيْهِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَلْبَسَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْتَهَى بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَالْإِذْنِ فِي اللُّبْسِ كَانَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا أَوْ ثَوْبًا لِيَلْبَسَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ غَيْرَهُ لِلرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ بَاعَ الْمُؤَاجِرُ الدَّارَ الْمُسْتَأْجَرَةَ بَعْدَ مَا أَجَّرَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّ الْبَيْعَ مَوْقُوفٌ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِهَا أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ، وَالتَّوْفِيقُ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: " لَا يَجُوزُ " أَيْ لَا يَنْفُذُ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ التَّوَقُّفَ. وَقَوْلُهُ: " بَاطِلٌ " أَيْ لَيْسَ لَهُ حُكْمٌ ظَاهِرٌ لِلْحَالِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ التَّوَقُّفِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ جَائِزٌ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، مَوْقُوفٌ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ، حَتَّى إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ الْبَيْعُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْأَخْذِ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْبَيْعِ، فَإِنْ أَجَازَ؛ جَازَ، وَإِنْ أَبَى؛ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ، وَمَتَى فُسِخَ لَا يَعُودُ جَائِزًا بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ. وَهَلْ يَمْلِكُ الْمُسْتَأْجِرُ فَسْخَ هَذَا الْبَيْعِ؟ ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ، حَتَّى لَوْ فَسَخَ لَا يَنْفَسِخُ حَتَّى إذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ، وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ، وَإِذَا نَقَضَهُ لَا يَعُودُ جَائِزًا،. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ نَقْضُ الْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةُ كَالْعَيْبِ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِهَا وَقْتَ الشِّرَاءِ وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ لَازِمَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا وَقْتَ الشِّرَاءِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ لِأَجْلِ الْعَيْبِ وَهُوَ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ شَاءَ أَمَضَاهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْبَيْعُ نَافِذٌ مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْبَيْعَ صَادَفَ

مَحِلَّهُ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ مِلْكُ الْمُؤَاجِرِ، وَإِنَّمَا حَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَمَحَلُّ الْبَيْعِ الْعَيْنُ، وَلَا حَقَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا وَلَنَا أَنَّ الْبَائِعَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ بِهِ، وَحَقُّ الْإِنْسَانِ يَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنْ الْإِبْطَالِ مَا أَمْكَنَ، وَأَمْكَنَ هَهُنَا بِالتَّوَقُّفِ فِي حَقِّهِ، فَقُلْنَا بِالْجَوَازِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَبِالتَّوَقُّفِ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ صِيَانَةً لِلْحَقَّيْنِ وَمُرَاعَاةً لِلْجَانِبَيْنِ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَجَّرَ دَارِهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا لِإِنْسَانٍ إنَّ إقْرَارَهُ يَنْفُذُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يَنْفُذُ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ، بَلْ يَتَوَقَّفُ إلَى أَنْ تَمْضِيَ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ، فَإِذَا مَضَتْ نَفَذَ الْإِقْرَارُ فِي حَقِّهِ أَيْضًا، فَيُقْضَى بِالدَّارِ لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَّرَ دَارِهِ مِنْ إنْسَانٍ ثُمَّ أَجَّرَ مِنْ غَيْرِهِ إنَّ الْإِجَارَةَ الثَّانِيَةَ تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ أَجَازَهَا جَازَتْ، وَإِنْ أَبْطَلَهَا بَطَلَتْ، وَهَهُنَا لَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُبْطِلَ الْبَيْعَ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَقَعُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ إذْ هُوَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَنَافِعُ مِلْكُ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ، فَتَجُوزُ بِإِجَازَتِهِ، وَتَبْطُلُ بِإِبْطَالِهِ، فَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْعَيْنِ، وَالْعَيْنُ مِلْكُ الْمُؤَاجِرِ لَكِنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا حَقٌّ فَإِذَا زَالَ حَقُّهُ بِتَقْدِيمِ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ إذَا أَجَازَ الْإِجَارَةَ الثَّانِيَةَ حَتَّى نَفَذَتْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ لَهُ لَا لِصَاحِبِ الدَّارِ، وَفِي الْبَيْعِ يَكُونُ الثَّمَنُ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ وَرَدَتْ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَأَنَّهَا مِلْكُ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا أَجَازَ كَانَ بَدَلُهَا لَهُ، فَأَمَّا الثَّمَنُ فَإِنَّهُ بَدَلُ الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ مِلْكُ الْمُؤَاجِرِ فَكَانَ بَدَلُهَا لَهُ، وَبِالْإِجَارَةِ لَا يَنْفَسِخُ عَقْدُ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَوَّلِ مَا لَمْ تَمْضِ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا مَضَتْ فَإِنْ كَانَتْ مُدَّتُهُمَا وَاحِدَةً تَنْقَضِي الْمُدَّتَانِ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الثَّانِيَةِ أَقَلَّ فَلِلْأَوَّلِ أَنْ يَسْكُنَ حَتَّى تَتِمَّ الْمُدَّةُ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَهَنَهَا الْمُؤَاجِرُ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ أَنَّ الْعَقْدَ جَائِزٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْتَهِنِ، مَوْقُوفٌ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِالْمُسْتَأْجَرِ، وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّتُهُ، وَعَلَى هَذَا بَيْعُ الْمَرْهُونِ مِنْ الرَّاهِنِ أَنَّهُ جَائِزٌ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، مَوْقُوفٌ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَالَهُ، فَإِذَا افْتَكَّهَا الرَّاهِنُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الدَّارِ إلَى الْمُشْتَرِي كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، إلَّا أَنَّ هَهُنَا إذَا أَجَازَ الْمُرْتَهِنُ الْبَيْعَ حَتَّى جَاءَ وَسَلَّمَ الدَّارَ إلَى الْمُشْتَرِي فَالثَّمَنُ يَكُونُ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ قَائِمًا مَقَامَ الدَّارِ؛ لِأَنَّ حَقَّ حَبْسِ الْعَيْنِ كَانَ ثَابِتًا لَهُ مَا دَامَتْ فِي يَدِهِ، وَبَدَلُ الْعَيْنِ قَائِمٌ مَقَامَ الْعَيْنِ فَثَبَتَ لَهُ حَقُّ حَبْسِهِ، وَفَرَّقَ الْقُدُورِيُّ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ فَقَالَ فِي الرَّهْنِ: لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُبْطِلَ الْبَيْعَ وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمَنْفَعَةِ لَا فِي الْعَيْنِ، فَكَانَ الْفَسْخُ مِنْهُ تَصَرُّفًا فِي مَحَلِّ حَقِّ الْغَيْرِ فَلَا يَمْلِكُهُ. وَأَمَّا حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فَتَعَلَّقَ بِغَيْرِ الْمَرْهُونِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مُسْتَوْفِيًا لِلدَّيْنِ فَكَانَ الْفَسْخُ مِنْهُ تَصَرُّفًا فِي مَحَلِّ حَقِّهِ فَيَمْلِكُ؟ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَلِلْأَجِيرِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ وَأُجَرَائِهِ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ أَنْ يَعْمَلَ بِيَدِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الْعَمَلِ، وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَعْمَلُ بِنَفْسِهِ وَقَدْ يَعْمَلُ بِغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ عَمَلَ أُجَرَائِهِ يَقَعُ لَهُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ عَمِلَ بِنَفْسِهِ، إلَّا إذَا شَرَطَ عَلَيْهِ عَمَلَهُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَالتَّعْيِينُ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّ الْعُمَّالَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْعَمَلِ فَيَتَعَيَّنُ فَلَا يَجُوزُ تَسْلِيمُهَا مِنْ شَخْصٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمُسْتَأْجِرِ، كَمَنْ اسْتَأْجَرَ جَمَلًا بِعَيْنِهِ لِلْحَمْلِ لَا يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ غَيْرِهِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَلَى الْحَمْلِ وَلَمْ يُعَيِّنْ جَمَلًا كَانَ لِلْمُكَارِي أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ أَيَّ جَمَلٍ شَاءَ، كَذَا هَهُنَا. وَتَطْيِينُ الدَّارِ، وَإِصْلَاحُ مِيزَابِهَا، وَمَا وَهَى مِنْ بِنَائِهَا عَلَى رَبِّ الدَّارِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ، لِأَنَّ الدَّارَ مِلْكُهُ وَإِصْلَاحُ الْمِلْكِ عَلَى الْمَالِكِ، لَكِنْ لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى إصْلَاحِ مِلْكِهِ، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَخْرُجَ إنْ لَمْ يَعْمَلْ الْمُؤَاجِرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالْمَالِكُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إزَالَةِ الْعَيْبِ عَنْ مِلْكِهِ، لَكِنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ لَا يَرْضَى بِالْعَيْبِ حَتَّى لَوْ كَانَ اسْتَأْجَرَ وَهِيَ كَذَلِكَ وَرَآهَا فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْمَبِيعِ الْمَعِيبِ، وَإِصْلَاحُ دَلْوِ الْمَاءِ وَالْبَالُوعَةِ وَالْمَخْرَجِ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ امْتَلَأَ مِنْ فِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ لِمَا قُلْنَا، وَقَالُوا فِي الْمُسْتَأْجِرِ إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَفِي الدَّارِ تُرَابٌ مِنْ كَنْسِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَهُ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ بِفِعْلِهِ فَصَارَ كَتُرَابٍ وَضَعَهُ فِيهَا، وَإِنْ امْتَلَأَ خَلَاهَا وَمَجْرَاهَا مِنْ فِعْلِهِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ نَقْلُهُ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ بِفِعْلِهِ فَيَلْزَمُهُ نَقْلُهُ، كَالْكُنَاسَةِ، وَالرَّمَادِ، إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَجَعَلُوا نَقْلَ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ إذْ الْعَادَةُ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ مَا كَانَ مُغَيَّبًا فِي الْأَرْضِ فَنَقْلُهُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ، فَحَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى الْعَادَةِ فَإِنْ أَصْلَحَ الْمُسْتَأْجِرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ

لَمْ يُحْتَسَبْ لَهُ بِمَا أَنْفَقَ؛ لِأَنَّهُ أَصْلَحَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ، فَكَانَ مُتَبَرِّعًا. وَقَبْضُ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى الْمُؤَاجِرِ، حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فِي حَوَائِجِهِ فِي الْمِصْرِ وَقْتًا مَعْلُومًا فَمَضَى الْوَقْتُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا إلَى صَاحِبِهَا بِأَنْ يَمْضِيَ بِهَا إلَيْهِ، وَعَلَى الَّذِي أَجَّرَهَا أَنْ يَقْبِضَ مِنْ مَنْزِلِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ وَإِنْ انْتَفَعَ بِالْمُسْتَأْجَرِ لَكِنَّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ إنَّمَا حَصَلَتْ لَهُ بِعِوَضٍ حَصَلَ لِلْمُؤْجِرِ فَبَقِيَتْ الْعَيْنُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ كَالْوَدِيعَةِ، وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ رَدُّهَا كَالْوَدِيعَةِ، حَتَّى لَوْ أَمْسَكَهَا أَيَّامًا فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا سَوَاءٌ طَلَبَ مِنْهُ الْمُؤَاجِرُ أَمْ لَمْ يَطْلُبْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الرَّدُّ إلَى بَيْتِهِ بَعْدَ الطَّلَبِ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي الْإِمْسَاكِ فَلَا يَضْمَنُ. كَالْمُودَعِ إذَا امْتَنَعَ عَنْ رَدِّ الْوَدِيعَةِ إلَى بَيْتِ الْمُودِعِ حَتَّى هَلَكَتْ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْتَعَارِ أَنَّ رَدَّهُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ لَهُ عَلَى الْخُلُوصِ فَكَانَ رَدُّهُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، فَكَذَا مُؤْنَةُ الرَّدِّ. فَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهَا مِنْ مَوْضِعٍ مُسَمًّى فِي الْمِصْرِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا فَإِنَّ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي قَبَضَهَا فِيهِ، لَا لِأَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بَلْ لِأَجْلِ الْمَسَافَةِ الَّتِي تَنَاوَلَهَا الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَنْتَهِي إلَّا بِرَدِّهِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإِنْ حَمَلَهَا إلَى مَنْزِلِهِ فَأَمْسَكَهَا حَتَّى عَطِبَتْ ضَمِنَ قِيمَتَهَا؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى فِي حَمْلِهَا إلَى غَيْرِ مَوْضِعِ الْعَقْدِ، فَإِنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: " ارْكَبْهَا مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إلَى مَوْضِعِ كَذَا وَارْجِعْ إلَى مَنْزِلِي " فَلَيْسَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ رَدُّهَا إلَى مَنْزِلِ الْمُؤَاجِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَادَ إلَى مَنْزِلِهِ فَقَدْ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ، فَبَقِيَتْ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، وَلَمْ يَتَبَرَّعْ الْمَالِكُ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا فَلَا يَلْزَمُ رَدُّهَا كَالْوَدِيعَةِ. وَلَيْسَ لِلظِّئْرِ أَنْ تَأْخُذَ صَبِيًّا آخَرَ فَتُرْضِعَهُ مَعَ الْأَوَّلِ، فَإِنْ أَخَذَتْ صَبِيًّا آخَرَ فَأَرْضَعَتْهُ مَعَ الْأَوَّلِ فَقَدْ أَسَاءَتْ وَأَثِمَتْ إنْ كَانَتْ قَدْ أَضَرَّتْ بِالصَّبِيِّ، وَلَهَا الْأَجْرُ عَلَى الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ، (أَمَّا) الْإِثْمُ فَلِأَنَّهُ قَدْ اُسْتُحِقَّ عَلَيْهَا كَمَالُ الرَّضَاعِ، وَلَمَّا أَرْضَعَتْ صَبِيَّيْنِ فَقَدْ أَضَرَّتْ بِأَحَدِهِمَا لِنُقْصَانِ اللَّبَنِ،. (وَأَمَّا) اسْتِحْقَاقُ الْأُجْرَةِ فَلِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْعَقْدِ الْإِرْضَاعُ مُطْلَقًا وَقَدْ وُجِدَ. وَلِلْمُسْتَرْضِعِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ ظِئْرًا آخَرَ لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . نَفَى الْجُنَاحَ عَنْ الْمُسْتَرْضِعِ مُطْلَقًا، فَإِنْ أَرْضَعَتْهُ الْأُخْرَى فَلَهَا الْأُجْرَةُ أَيْضًا، فَإِنْ اسْتَأْجَرَتْ الظِّئْرُ ظِئْرًا أُخْرَى فَأَرْضَعَتْهُ أَوْ دَفَعَتْ الصَّبِيَّ إلَى جَارِيَتِهَا فَأَرْضَعَتْهُ فَلَهَا الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا الْأَجْرُ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى عَمَلِهَا فَلَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِعَمَلِ غَيْرِهَا، كَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَعْمَلَ بِنَفْسِهِ فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَعَمِلَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْأُجْرَةَ، فَكَذَا هَذَا، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إرْضَاعَهَا قَدْ يَكُونُ بِنَفْسِهَا وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ تَارَةً يَعْمَلُ بِنَفْسِهِ، وَتَارَةً بِغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَمَّا عَمِلَتْ بِأَمْرِ الْأُولَى وَقَعَ عَمَلُهَا لِلْأُولَى فَصَارَ كَأَنَّهَا عَمِلَتْ بِنَفْسِهَا. هَذَا إذَا أُطْلِقَ، فَأَمَّا إذَا قُيِّدَ ذَلِكَ بِنَفْسِهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تَسْتَرْضِعَ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ أَوْجَبَ الْإِرْضَاعَ بِنَفْسِهَا، فَإِنْ اسْتَأْجَرَتْ أُخْرَى فَأَرْضَعَتْهُ لَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ كَمَا قُلْنَا فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَرْضِعِ أَنْ يَحْبِسَ الظِّئْرَ فِي مَنْزِلِهِ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عَلَيْهَا، وَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ الصَّبِيَّ إلَى مَنْزِلِهَا؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ عَلَى الظِّئْرِ طَعَامُ الصَّبِيِّ وَدَوَاؤُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ أَنَّ عَلَى الظِّئْرِ مَا يُعَالَجُ بِهِ الصِّبْيَانُ مِنْ الرَّيْحَانِ وَالدُّهْنِ فَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَادَةِ. وَقَدْ قَالُوا فِي تَوَابِعِ الْعُقُودِ الَّتِي لَا ذِكْرَ لَهَا فِي الْعُقُودِ: إنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى عَادَةِ كُلِّ بَلَدٍ، حَتَّى قَالُوا فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَضْرِبُ لَهُ لَبِنًا: إنَّ الزِّنْبِيلَ وَالْمِلْبَنَ عَلَى صَاحِبِ اللَّبِنِ، وَهَذَا عَلَى عَادَتِهِمْ. وَقَالُوا فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ عَلَى حَفْرِ قَبْرٍ: إنَّ حَثْيَ التُّرَابِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ يَتَعَامَلُونَ بِهِ، وَتَشْرِيجُ اللَّبِنِ عَلَى اللَّبَّانِ، وَإِخْرَاجُ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ عَلَى الْخَبَّازِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْعَمَلِ. وَقَالُوا فِي الْخَيَّاط: إنَّ السُّلُوكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ جَرَتْ بِذَلِكَ، وَقَالُوا فِي الدَّقِيقِ الَّذِي يُصْلِحُ بِهِ الْحَائِكُ الثَّوْبَ: إنَّهُ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ، فَإِنْ كَانَ أَهْلُ بَلَدٍ تَعَامَلُوا بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى مَا يَتَعَامَلُونَ، وَقَالُوا فِي الطَّبَّاخِ إذَا اسْتَأْجَرَ فِي عُرْسٍ: إنَّ إخْرَاجَ الْمَرَقِ عَلَيْهِ وَلَوْ طَبَخَ قِدْرًا خَاصَّةً فَفَرَغَ مِنْهَا فَلَهُ الْأَجْرُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ إخْرَاجِ الْمَرَقِ شَيْءٌ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَادَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَادَةِ، وَقَالُوا فِيمَنْ تَكَارَى دَابَّةً يَحْمِلُ عَلَيْهَا حِنْطَةً إلَى مَنْزِلِهِ فَلَمَّا انْتَهَى إلَيْهِ أَرَادَ صَاحِبُ الْحِنْطَةِ أَنْ يَحْمِلَ الْمُكَارِي ذَلِكَ فَيُدْخِلَهُ مَنْزِلَهُ وَأَبَى الْمُكَارِي، قَالُوا: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ وَيَتَعَامَلُونَ عَلَيْهِ

وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَصْعَدَ بِهَا إلَى السَّطْحِ وَالْغُرْفَةِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ اشْتَرَطَهُ، وَلَوْ كَانَ حَمَّالًا عَلَى ظَهْرِهِ فَعَلَيْهِ إدْخَالُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَصْعَدَ بِهِ إلَى عُلُوِّ الْبَيْتِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ، وَإِذَا تَكَارَى دَابَّةً فَالْإِكَافُ عَلَى صَاحِبِ الدَّابَّةِ، فَأَمَّا الْحِبَالُ وَالْجُوَالِقُ فَعَلَى مَا تَعَارَفَهُ أَهْلُ الصَّنْعَةِ، وَكَذَلِكَ اللِّجَامُ. وَأَمَّا السَّرْجُ فَعَلَى رَبِّ الدَّابَّةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ سُنَّةُ الْبَلَدِ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَيَكُونُ عَلَى سُنَّتِهِمْ، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ، وَلَوْ الْتَقَطَ رَجُلٌ لَقِيطًا فَاسْتَأْجَرَ لَهُ ظِئْرًا فَالْأُجْرَةُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي ذَلِكَ، أَمَّا لُزُومُ الْأُجْرَةِ إيَّاهُ فَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُتَطَوِّعًا فِيهِ فَلِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى اللَّقِيطِ فَلَا يَمْلِكُ إيجَابَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، وَرَضَاعُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْمُسْتَأْجَرِ وَالْمُسْتَأْجَرِ فِيهِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ صِفَةِ الْمُسْتَأْجَرِ وَالْمُسْتَأْجَرِ فِيهِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يُغَيِّرُ تِلْكَ الصِّفَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُسْتَأْجَرَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ كَالدَّارِ، وَالدَّابَّةِ، وَعَبْدِ الْخِدْمَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْإِجَارَةِ قَبْضٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا كَقَبْضِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ. وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْإِجَارَةُ صَحِيحَةً أَوْ فَاسِدَةً لِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا الْمُسْتَأْجَرُ فِيهِ كَثَوْبِ الْقِصَارَةِ، وَالصِّبَاغَةِ، وَالْخِيَاطَةِ، وَالْمَتَاعِ الْمَحْمُولِ فِي السَّفِينَةِ، أَوْ عَلَى الدَّابَّةِ، أَوْ عَلَى الْجِمَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَالْأَجِيرُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ مُشْتَرَكًا أَوْ خَاصًّا وَهُوَ الْمُسَمَّى أَجِيرُ الْوَحْدِ، فَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا فَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزُفَرَ، وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ إلَّا حَرَقٌ غَالِبٌ أَوْ غَرَقٌ غَالِبٌ أَوْ لُصُوصٌ مُكَابِرِينَ، وَلَوْ احْتَرَقَ بَيْتُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِسِرَاجٍ؛ يَضْمَنُ الْأَجِيرُ كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِحَرِيقٍ غَالِبٍ، وَهُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى اسْتِدْرَاكِهِ لَوْ عَلِمَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِهِ لَأَطْفَأَهُ فَلَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ الْعُذْرِ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، ثُمَّ إنْ هَلَكَ قَبْلَ الْعَمَلِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَعْمُولٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الْعَمَلِ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَعْمُولًا، وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ بِحِسَابِهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَعْمُولٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ» ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ رَدِّ عَيْنِهِ بِالْهَلَاكِ فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ قَائِمًا مَقَامَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُضَمِّنُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ احْتِيَاطًا لِأَمْوَالِ النَّاسِ، وَهُوَ الْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأُجَرَاءَ الَّذِينَ يُسَلَّمُ الْمَالُ إلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ شُهُودٍ تُخَافُ الْخِيَانَةُ مِنْهُمْ، فَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا يُضَمَّنُونَ؛ لَهَلَكَتْ أَمْوَالُ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْجِزُونَ عَنْ دَعْوَى الْهَلَاكِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْحَرْقِ الْغَالِبِ، وَالْغَرَقِ الْغَالِبِ، وَالسَّرَقِ الْغَالِبِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ إلَّا عَلَى الْمُتَعَدِّي لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193] ، وَلَمْ يُوجَدْ التَّعَدِّي مِنْ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْقَبْضِ، وَالْهَلَاكُ لَيْسَ مِنْ صُنْعِهِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُودِعِ، وَالْحَدِيثُ لَا يَتَنَاوَلُ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِعَارَةُ وَالْغَصْبُ، وَفِعْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي بَعْضِ الْأُجَرَاءِ، وَهُوَ الْمُتَّهَمُ بِالْخِيَانَةِ، وَبِهِ نَقُولُ ثُمَّ عِنْدَهُمَا إنَّمَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ إنَّمَا تَدْخُلُ فِي الضَّمَانِ عِنْدَهُمَا بِالْقَبْضِ كَالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ الْقَبْضُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ، حَتَّى لَوْ كَانَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ مَعَهُ رَاكِبًا فِي السَّفِينَةِ أَوْ رَاكِبًا عَلَى الدَّابَّةِ الَّتِي عَلَيْهَا الْحِمْلُ فَعَطِبَ الْحِمْلُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْأَجِيرِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَتَاعَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ، وَالْمُكَارِي رَاكِبَيْنِ عَلَى الدَّابَّةِ أَوْ سَائِقَيْنِ أَوْ قَائِدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَتَاعَ فِي أَيْدِيهِمَا، فَلَمْ يَنْفَرِدْ الْأَجِيرُ بِالْيَدِ، فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْيَدِ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ سُرِقَ الْمَتَاعُ مِنْ رَأْسِ الْحَمَّالِ، وَصَاحِبُ الْمَتَاعِ يَمْشِي مَعَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَتَاعَ لَمْ يَصِرْ فِي يَدِهِ، حَيْثُ لَمْ يُخْلِ صَاحِبُ الْمَتَاعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَتَاعِ، وَقَالُوا فِي الطَّعَامِ إذَا كَانَ فِي سَفِينَتَيْنِ وَصَاحِبُهُ فِي إحْدَاهُمَا، وَهُمَا مَقْرُونَتَانِ أَوْ غَيْرُ مَقْرُونَتَيْنِ إلَّا أَنَّ سَيْرَهُمَا جَمِيعًا وَحَبْسَهُمَا جَمِيعًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَلَّاحِ فِيمَا هَلَكَ مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ الْقِطَارُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ حُمُولَةٌ، وَرَبُّ الْحُمُولَةِ عَلَى بَعِيرٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْجَمَّالِ؛ لِأَنَّ الْمَتَاعَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحَافِظُ لَهُ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ زِقًّا مِنْ سَمْنٍ فَحَمَلَهُ صَاحِبُ الزِّقِّ وَالْحَمَّالُ جَمِيعًا لِيَضَعَاهُ عَلَى رَأْسِ الْحَمَّالِ فَانْخَرَقَ الزِّقُّ، وَذَهَبَ مَا فِيهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَضْمَنُ الْحَمَّالُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلَّمْ إلَى

الْحَمَّالِ بَلْ هُوَ فِي يَدِهِ قَالَ: وَإِنْ حَمَلَهُ إلَى بَيْتِ صَاحِبِهِ ثُمَّ أَنْزَلَهُ الْحَمَّالُ مِنْ رَأْسِهِ وَصَاحِبُ الزِّقِّ فَوَقَعَ مِنْ أَيْدِيهِمَا فَالْحَمَّالُ ضَامِنٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَحْمُولَ دَاخِلٌ فِي ضَمَانِ الْحِمَالَةِ بِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى صَاحِبِهِ، فَإِذَا أَخْطَئُوا جَمِيعًا فَيَدُ الْحَمَّالِ لَمْ تَزُلْ فَلَا يَزُولُ الضَّمَانُ، وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّيْءَ قَدْ وَصَلَ إلَى صَاحِبِهِ بِإِنْزَالِهِ فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا، كَمَا لَوْ حَمَلَاهُ ابْتِدَاءً إلَى رَأْسِ الْحَمَّالِ فَهَلَكَ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مُصْحَفًا يَعْمَلُ فِيهِ، وَدَفَعَ الْغِلَافَ مَعَهُ، أَوْ دَفَعَ سَيْفًا إلَى صَيْقَلٍ يَصْقُلُهُ بِأَجْرٍ، وَدَفَعَ الْجَفْنَ مَعَهُ فَضَاعَا، قَالَ مُحَمَّدٌ: يَضْمَنُ الْمُصْحَفَ، وَالْغِلَافَ، وَالسَّيْفَ وَالْجَفْنَ؛ لِأَنَّ الْمُصْحَفَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الْغِلَافِ، وَالسَّيْفَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الْجَفْنِ، فَصَارَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، قَالَ: فَإِنْ أَعْطَاهُ مُصْحَفًا يَعْمَلُ لَهُ غِلَافًا أَوْ سِكِّينًا يَعْمَلُ لَهُ نِصَالًا فَضَاعَ الْمُصْحَفُ أَوْ ضَاعَ السِّكِّينُ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِيهِمَا بَلْ فِي غَيْرِهِمَا، وَلَوْ اخْتَلَفَ الْأَجِيرُ، وَصَاحِبُ الثَّوْبِ فَقَالَ الْأَجِيرُ: رَدَدْت، وَأَنْكَرَ صَاحِبُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَجِيرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ عِنْدَهُ فِي الْقَبْضِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ، وَلَكِنْ لَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الْأَجْرِ، وَعِنْدَهُمَا: الْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ قَدْ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ عِنْدَهُمَا فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى الرَّدِّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ خَاصًّا فَمَا فِي يَدِهِ يَكُونُ أَمَانَةً فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ لَا يَضْمَنُ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ حَصَلَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ثَبَتَ اسْتِحْسَانًا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ فِي الْأَجِيرِ الْخَالِصِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ يُسَلِّمُ نَفْسَهُ، وَلَا يَتَسَلَّمُ الْمَالَ فَلَا يُمْكِنُهُ الْخِيَانَةُ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ مَا يُغَيِّرُهُ مِنْ صِفَةِ الْأَمَانَةِ إلَى الضَّمَانِ فَالْمُغَيِّرُ لَهُ أَشْيَاءُ مِنْهَا: تَرْكُ الْحِفْظِ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَمَّا قَبَضَ الْمُسْتَأْجَرَ فِيهِ فَقَدْ الْتَزَمَ حِفْظَهُ، وَتَرْكُ الْحِفْظِ الْمُلْتَزَمِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، كَالْمُودَعِ إذَا تَرَكَ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ حَتَّى ضَاعَتْ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا الْإِتْلَافُ وَالْإِفْسَادُ إذَا كَانَ الْأَجِيرُ مُتَعَدِّيًا فِيهِ بِأَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ أَوْ عَنُفَ فِي الدَّقِّ، سَوَاءٌ كَانَ مُشْتَرَكًا أَوْ خَاصًّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي الْإِفْسَادِ بِأَنْ أَفْسَدَ الثَّوْبَ خَطَأً بِعَمَلِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ فَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ خَاصًّا لَمْ يَضْمَنْ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا كَالْقَصَّارِ إذَا دَقَّ الثَّوْبَ فَتَخَرَّقَ، أَوْ أَلْقَاهُ فِي النُّورَةِ فَاحْتَرَقَ، أَوْ الْمَلَّاحِ غَرِقَتْ السَّفِينَةُ مِنْ عَمَلِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَضْمَنُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ إنَّ الْفَسَادَ حَصَلَ بِعَمَلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ كَالْأَجِيرِ الْخَاصِّ، وَالْمُعَيَّنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ بِعَمَلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ أَنَّهُ حَصَلَ بِالدَّقِّ، وَالدَّقُّ مَأْذُونٌ فِيهِ، وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ لَكِنْ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ الدَّقُّ الْمُصْلِحُ فَأَشْبَهَ الْحَجَّامَ وَالْبَزَّاغَ، وَلَئِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي وُسْعِهِ لَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُهُ إلَّا بِحَرَجٍ، وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ فَكَانَ مُلْحَقًا بِمَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ، وَلَنَا أَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ الدَّقُّ الْمُصْلِحُ لَا الْمُفْسِدُ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَرْضَى بِإِفْسَادِ مَالِهِ، وَلَا يَلْتَزِمُ الْأُجْرَةَ بِمُقَابَلَةِ ذَلِكَ فَيَتَقَيَّدُ الْأَمْرُ بِالْمُصْلِحِ دَلَالَةً، وَقَوْلُهُ: لَا يُمْكِنُهُ " التَّحَرُّزُ عَنْ الْفَسَادِ " مَمْنُوعٌ، بَلْ فِي وُسْعِهِ ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي النَّظَرِ فِي آلَةِ الدَّقِّ وَمَحَلِّهِ، وَإِرْسَالِ الْمِدَقَّةِ عَلَى الْمَحَلِّ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْتَمِلُهُ مَعَ الْحَذَاقَةِ فِي الْعَمَلِ، وَالْمَهَارَةِ فِي الصَّنْعَةِ، وَعِنْدَ مُرَاعَاةِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ لَا يَحْصُلُ الْفَسَادُ، فَلَمَّا حَصَلَ دَلَّ أَنَّهُ قَصَّرَ كَمَا نَقُولُ فِي الِاجْتِهَادِ فِي أُمُورِ الدِّينِ، إلَّا أَنَّ الْخَطَأَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَيْسَ بِعُذْرٍ حَتَّى يُؤَاخَذَ الْخَاطِئُ وَالنَّاسِي بِالضَّمَانِ، وَقَوْلُهُ: " لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ الْفَسَادِ إلَّا بِحَرَجٍ " مُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْحَرَجَ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِالْإِسْقَاطِ لَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْحَجَّامَ وَالْبَزَّاغَ؛ لِأَنَّ السَّلَامَةَ وَالسِّرَايَةَ هُنَاكَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قُوَّةِ الطَّبِيعَةِ، وَضَعْفِهَا، وَلَا يُوقَفُ عَلَى ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ السِّرَايَةِ، فَلَا يَتَقَيَّدُ الْعَقْدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ. وَأَمَّا الْأَجِيرُ الْخَاصُّ فَهُنَاكَ وَإِنْ وَقَعَ عَمَلُهُ إفْسَادًا حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ عَمَلَهُ يَلْتَحِقُ بِالْعَدَمِ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِعَمَلِهِ بَلْ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ إلَيْهِ فِي الْمُدَّةِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْحَمَّالُ إذَا زَلِقَتْ رَجُلُهُ فِي الطَّرِيقِ أَوْ عَثَرَ فَسَقَطَ وَفَسَدَ حِمْلُهُ، وَلَوْ زَحَمَهُ النَّاسُ حَتَّى فَسَدَ لَمْ يَضْمَنْ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ حِفْظُ نَفْسِهِ عَنْ ذَلِكَ فَكَانَ بِمَعْنَى الْحَرْقِ الْغَالِبِ، وَالْغَرَقِ الْغَالِبِ، وَلَوْ كَانَ الْحَمَّالُ هُوَ الَّذِي زَاحَمَ النَّاسَ

حَتَّى انْكَسَرَ يَضْمَنُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَكَذَلِكَ الرَّاعِي الْمُشْتَرَكِ إذَا سَاقَ الدَّوَابَّ عَلَى السُّرْعَةِ فَازْدَحَمْنَ عَلَى الْقَنْطَرَةِ أَوْ عَلَى الشَّطِّ فَدَفَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا فَسَقَطَ فِي الْمَاءِ فَعَطِبَ فَعَلَى هَذَا الْخِلَاف، وَلَوْ تَلِفَتْ دَابَّةٌ بِسَوْقِهِ أَوْ ضَرْبِهِ إيَّاهَا فَإِنْ سَاقَ سَوْقًا مُعْتَادًا أَوْ ضَرَبَ ضَرْبًا مُعْتَادًا فَعَطِبَتْ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَإِنْ سَاقَ أَوْ ضَرَبَ سَوْقًا، وَضَرْبًا بِخِلَافِ الْعَادَةِ يَضْمَنُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إتْلَافٌ عَلَى طَرِيقِ التَّعَدِّي، ثُمَّ إذَا تَخَرَّقَ الثَّوْبُ مِنْ عَمَلِ الْأَجِيرِ حَتَّى ضَمِنَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ؛ لِأَنَّهُ مَا أَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بَلْ الْمَضَرَّةَ؛ لِأَنَّ إيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ بِالْعَمَلِ الْمُصْلِحِ دُونَ الْمُفْسِدِ، وَفِي الْحَمَّالِ إذَا وَجَبَ ضَمَانُ الْمَتَاعِ الْمَحْمُولِ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَلَّمَهُ إلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فَسَدَ أَوْ هَلَكَ، وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ بَلْ يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ مَحْمُولًا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فَسَدَ أَوْ هَلَكَ، أَمَّا التَّخْيِيرُ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ جِهَتَا الضَّمَانِ: الْقَبْضُ وَالْإِتْلَافُ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ بِالْقَبْضِ يَوْمَ الْقَبْضِ، وَلَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ بِالْإِتْلَافِ يَوْمَ الْإِتْلَافِ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِيهِ إشْكَالٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الضَّمَانُ يَجِبُ بِالْإِتْلَافِ لَا بِالْقَبْضِ فَكَانَ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ سَبَبٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْإِتْلَافُ، فَيَجِبُ أَنْ تُعْتَبَرَ قِيمَةُ يَوْمِ الْإِتْلَافِ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وُجِدَ هَهُنَا سَبَبَانِ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ: أَحَدُهُمَا: الْإِتْلَافُ، وَالثَّانِي: الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ الْتَزَمَ الْوَفَاءَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِالْعَمَلِ الْمُصْلِحِ وَقَدْ خَالَفَ، وَالْخِلَافُ مِنْ أَسْبَابِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ شَاءَ بِالْإِتْلَافِ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ فِي الْقَدْرِ التَّالِفِ فَقَدْ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ الصَّفْقَةُ فِي الْمَنَافِعِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ: إنْ شَاءَ رَضِيَ بِتَفْرِيقِهَا، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّخْيِيرِ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجَرُ عَلَى حَمْلِهِ عَبِيدًا صِغَارًا أَوْ كِبَارًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكَارِي فِيمَا عَطِبَ مِنْ سَوْقِهِ، وَلَا قَوْدِهِ، وَلَا يَضْمَنُ بَنُو آدَمَ مِنْ وَجْهِ الْإِجَارَةِ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْمَتَاعَ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ بَنِي آدَمَ ضَمَانُ جِنَايَةٍ، وَضَمَانُ الْجِنَايَةِ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ، دَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ مَا يَضْمَنُهُ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ يَضْمَنُهُ بِالْعَقْدِ لَا بِالْإِفْسَادِ، وَالْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمَتَاعُ وَالْآدَمِيُّ، وَأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ فِيهِ بِالْخِلَافِ لَا بِالْإِتْلَافِ، وَذَكَرَ بِشْرٌ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْقَصَّارِ إذَا اسْتَعَانَ بِصَاحِبِ الثَّوْبِ لِيَدُقَّ مَعَهُ فَتَخَرَّقَ، وَلَا يُدْرَى مِنْ أَيِّ الدَّقِّ تَخَرَّقَ وَقَدْ كَانَ صَحِيحًا قَبْلَ أَنْ يَدُقَّاهُ، قَالَ: عَلَى الْقَصَّارِ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: إنَّ الضَّمَانَ كُلَّهُ عَلَى الْقَصَّارِ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ تَخَرَّقَ مِنْ دَقَّ صَاحِبِهِ أَوْ مِنْ دَقِّهِمَا، فَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الثَّوْبَ دَخَلَ فِي ضَمَانِ الْقَصَّارِ بِالْقَبْضِ بِيَقِينٍ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ ضَمَانِهِ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ التَّخَرُّقَ حَصَلَ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفَسَادَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ فِعْلِ الْقَصَّارِ، وَاحْتَمَلَ أَنَّهُ مِنْ فِعْلِ صَاحِبِ الثَّوْبِ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْقَصَّارِ فِي حَالٍ، وَلَا يَجِبُ فِي حَالٍ فَلَزِمَ اعْتِبَارُ الْأَحْوَالِ فِيهِ، فَيَجِبُ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَقَالُوا فِي تِلْمِيذِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ إذَا، وَطِئَ ثَوْبًا مِنْ الْقِصَارَةِ فَخَرَقَهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الثَّوْبِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَلَوْ، وَقَعَ مِنْ يَدِهِ سِرَاجٌ فَأَحْرَقَ ثَوْبًا مِنْ الْقِصَارَةِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُسْتَاذِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى التِّلْمِيذِ؛ لِأَنَّ الذَّهَابَ، وَالْمَجِيءَ بِالسِّرَاجِ عَمَلٌ مَأْذُونٌ فِيهِ فَيَنْتَقِلُ عَمَلُهُ إلَى الْأُسْتَاذِ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَلَوْ دَقَّ الْغُلَامُ فَانْقَلَبَ الكودين مِنْ غَيْرِ يَدِهِ فَخَرَقَ ثَوْبًا مِنْ الْقِصَارَةِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُسْتَاذِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْقِصَارَةِ فَكَانَ مُضَافًا إلَى الْأُسْتَاذِ، فَإِنْ كَانَ ثَوْبًا وَدِيعَةً عِنْدَ الْأُسْتَاذِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْغُلَامِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ إنَّمَا يُضَافُ إلَى الْأُسْتَاذِ فِيمَا يَمْلِكُ تَسْلِيطَهُ عَلَيْهِ وَاسْتِعْمَالَهُ فِيهِ، وَهُوَ إنَّمَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي ثِيَابِ الْقِصَارَةِ لَا فِي ثَوْبِ الْوَدِيعَةِ، فَبَقِيَ مُضَافًا إلَيْهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ مِنْ يَدِهِ سِرَاجٌ عَلَى ثَوْبِ الْوَدِيعَةِ فَأَحْرَقَهُ فَالضَّمَانُ عَلَى الْغُلَامِ لِمَا قُلْنَا، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا دَعَا قَوْمًا إلَى مَنْزِلِهِ فَمَشَوْا عَلَى بِسَاطِهِ فَتَخَرَّقَ لَمْ يَضْمَنُوا، وَكَذَلِكَ لَوْ جَلَسُوا عَلَى وِسَادَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْمَشْيِ عَلَى الْبِسَاطِ وَالْجُلُوسِ عَلَى الْوِسَادَةِ، فَالْمُتَوَلَّدُ مِنْهُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا، وَلَوْ وَطِئُوا آنِيَةً مِنْ الْأَوَانِي ضَمِنُوا؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُؤْذَنُ فِي وَطْئِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا وَطِئُوا ثَوْبًا لَا يُبْسَطُ مِثْلُهُ، وَلَوْ قَلَبُوا إنَاءً بِأَيْدِيهِمْ فَانْكَسَرَ لَمْ يَضْمَنُوا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَمَلٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مُقَلَّدًا سَيْفًا فَخَرَقَ السَّيْفُ الْوِسَادَةَ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْجُلُوسِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَوْ جَفَّفَ الْقَصَّارُ ثَوْبًا عَلَى حَبْلٍ فِي الطَّرِيقِ فَمَرَّتْ عَلَيْهِ حَمُولَةٌ فَخَرَقَتْهُ فَلَا ضَمَانَ

عَلَى الْقَصَّارِ، وَالضَّمَانُ عَلَى سَائِقِ الْحَمُولَةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ السَّائِقِ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ فِي الطَّرِيقِ مُقَيَّدٌ بِالسَّلَامَةِ، فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَلَوْ تَكَارَى رَجُلٌ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فَضَرَبَهَا فَعَطِبَتْ أَوْ كَبَحَهَا بِاللِّجَامِ فَعَطَبَهَا ذَلِكَ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ صَاحِبُ الدَّابَّةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: نَسْتَحْسِنُ أَنْ لَا نُضَمِّنَهُ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ فِي الضَّرْبِ الْمُعْتَادَ، وَالْكَبْحِ الْمُعْتَادَ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ ضَرْبَ الدَّابَّةِ وَكَبْحَهَا مُعْتَادٌ مُتَعَارَفٌ، وَالْمُعْتَادُ كَالْمَشْرُوطِ، وَلَوْ شُرِطَ ذَلِكَ لَا يَضْمَنُ، كَذَا هَذَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الضَّرْبِ وَالْكَبْحِ مَأْذُونٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يُوجِبُ الْإِذْنَ بِذَلِكَ لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ بِدُونِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ؛ لِأَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ مَعَ كَوْنِهِ مُخَيَّرًا فِيهِ فَأَشْبَهَ ضَرْبَهُ لِزَوْجَتِهِ، وَدَعْوَى الْعُرْفِ فِي غَيْرِ الدَّابَّةِ الْمَمْلُوكَةِ مَمْنُوعَةٌ، عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ مَأْذُونًا فِيهِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ إذَا كَانَ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَمِنْهَا الْخِلَافُ، وَهُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ إذَا وَقَعَ غَصْبًا؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْخِلَافَ قَدْ يَكُونُ فِي الْجِنْسِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْقَدْرِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الصِّفَةِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَكَانِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الزَّمَانِ. وَالْخِلَافُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ قَدْ يَكُونُ فِي اسْتِئْجَارِ الدَّوَابِّ، وَقَدْ يَكُونُ فِي اسْتِئْجَارِ الصُّنَّاعِ كَالْحَائِكِ، وَالصَّبَّاغِ، وَالْخَيَّاطِ خَلَا الْمَكَانِ. أَمَّا اسْتِئْجَارُ الدَّوَابِّ فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْخِلَافِ فِيهِ فِي الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ، وَالصِّفَةِ فِي اسْتِئْجَارِ الدَّوَابِّ ضَرَرُ الدَّابَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِيهِ فِي الْجِنْسِ يُنْظَرُ: إنْ كَانَ ضَرَرُ الدَّابَّةِ فِيهِ بِالْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ يُعْتَبَرُ الْخِلَافُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ، فَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ فِي الثَّانِي أَكْثَرَ يَضْمَنُ كُلَّ الْقِيمَةِ إذَا عَطِبَتْ الدَّابَّةُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ غَاصِبًا لِكُلِّهَا، وَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ فِي الثَّانِي مِثْلَ الضَّرَرِ فِي الْأَوَّلِ أَوْ أَقَلَّ لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالشَّيْءِ إذْنٌ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ دُونَهُ فَكَانَ مَأْذُونًا بِالِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ دَلَالَةً، فَلَا يَضْمَنُ وَإِنْ كَانَ ضَرَرُ الدَّابَّةِ فِيهِ لَا مِنْ حَيْثُ الْخِفَّةُ وَالثِّقَلُ بَلْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْخِلَافُ مِنْ حَيْثُ الْخِفَّةُ، وَالثِّقَلُ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الدَّابَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي الْقَدْرِ، وَالضَّرَرُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْخِفَّةُ وَالثِّقَلُ يُعْتَبَرُ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَيَجِبُ الضَّمَانُ بِقَدْرِهِ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ يَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، وَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ فِيهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى تُعْتَبَرُ تِلْكَ الْجِهَةُ فِي الضَّمَانِ لَا الْخِفَّةُ، وَالثِّقَلُ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي الصِّفَةِ، وَضَرَرُ الدَّابَّةِ يَنْشَأُ مِنْهَا يُعْتَبَرُ الْخِلَافُ فِيهَا، وَيُبْنَى الضَّمَانُ عَلَيْهَا. وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ: إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ شَعِيرٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ فَعَطِبَتْ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ أَثْقَلُ مِنْ الشَّعِيرِ وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ أَصْلًا، فَصَارَ غَاصِبًا كُلَّ الدَّابَّةِ مُتَعَدِّيًا عَلَيْهَا فَيَضْمَنُ كُلَّ قِيمَتِهَا، وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ لِصَيْرُورَتِهِ غَاصِبًا، وَلَا أُجْرَةَ عَلَى الْغَاصِبِ عَلَى أَصْلِنَا، وَلِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمْلَكُ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، وَذَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا مَكِيلًا آخَرَ ثِقَلُهُ كَثِقَلِ الْحِنْطَةِ وَضَرَرُهُ كَضَرَرِهَا فَعَطِبَتْ لَا يَضْمَنُ، وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَ فِيهَا نَوْعًا سَمَّاهُ فَزَرَعَ غَيْرَهُ وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الضَّرَرِ بِالْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا قَفِيزًا مِنْ حِنْطَةٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا قَفِيزًا مِنْ شَعِيرٍ. وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَ فِيهَا نَوْعًا آخَرَ ضَرَرُهُ أَقَلُّ مِنْ ضَرَرِ الْمُسَمَّى، وَهَذَا كُلُّهُ اسْتِحْسَانٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ قَدْ تَحَقَّقَ فَتَحَقَّقَ الْغَصْبُ، وَلَنَا أَنَّ الْخِلَافَ إلَى مِثْلِهِ أَوْ إلَى مَا هُوَ دُونَهُ فِي الضَّرَرِ لَا يَكُونُ خِلَافًا مَعْنًى؛ لِأَنَّ رِضَا الثَّانِيَ إذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي الضَّرَرِ كَانَ الرِّضَا بِالْأَوَّلِ رِضًا بِالثَّانِي، وَإِذَا كَانَ دُونَهُ فِي الضَّرَرِ فَإِذَا رَضِيَ بِالْأَوَّلِ كَانَ بِالثَّانِي أَرْضَى فَصَارَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةَ نَفْسِهِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا حِنْطَةَ غَيْرِهِ، وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْكَيْلِ، أَوْ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا تِسْعَةً أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا، كَذَا هَذَا. ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَحَدَ عَشَرَ فَإِنْ سَلِمَتْ فَعَلَيْهِ مَا سَمَّى مِنْ الْأُجْرَةِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَطِبَتْ ضَمِنَ جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ قِيمَةِ الدَّابَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ زُفَرُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَضْمَنُ قِيمَةَ كُلِّ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِالزِّيَادَةِ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ عِلَّةَ التَّلَفِ، وَلَنَا أَنَّ تَلَفَ الدَّابَّةِ حَصَلَ بِالثِّقَلِ، وَالثِّقَلُ بَعْضُهُ مَأْذُونٌ فِيهِ، وَبَعْضُهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَيُقَسَّمُ التَّلَفُ أَحَدَ عَشَرَ

جُزْءًا فَيَضْمَنُ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي حَائِطٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَثْلَاثًا مَالَ إلَى الطَّرِيقِ فَأُشْهِدَ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَسَقَطَ الْحَائِطُ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَعَلَى الَّذِي أُشْهِدَ عَلَيْهِ قَدْرُ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ ثِقَلِ الْحَائِطِ، وَثِقَلُ الْحَائِطِ أَثْلَاثٌ، كَذَا هَذَا، وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَهُوَ حَمْلُ عَشَرَةِ مَخَاتِيمَ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي الزِّيَادَةِ، وَأَنَّهَا اُسْتُوْفِيَتْ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَلَا أَجْرَ لَهَا، وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ سَفِينَةً لِيَطْرَحَ فِيهَا عَشَرَةَ أَكْرَارٍ فَطَرَحَ فِيهَا أَحَدَ عَشَرَ فَغَرِقَتْ السَّفِينَةُ أَنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى يَضْمَنُ قِيمَةَ كُلِّ السَّفِينَةِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ فَهِيَ عِلَّةُ التَّلَفِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَزِدْ لَمَا حَصَلَ التَّلَفُ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مَمْنُوعٌ بَلْ التَّلَفُ حَصَلَ بِالْكُلِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكُرَّ الزَّائِدَ لَوْ انْفَرَدَ لَمَا حَصَلَ بِهِ التَّلَفُ؟ فَثَبَتَ أَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِالْكُلِّ، وَالْبَعْضُ مَأْذُونٌ فِيهِ، وَالْبَعْضُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَمَا هَلَكَ بِمَا هُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَمَا هَلَكَ بِمَا هُوَ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَفِيهِ الضَّمَانُ، وَصَارَ كَمَسْأَلَةِ الْحَائِطِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مِائَةَ رِطْلٍ مِنْ قُطْنٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا مِثْلَ وَزْنِهِ حَدِيدًا أَوْ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِهِ فَعَطِبَتْ الدَّابَّةُ لَا يَضْمَنُ قِيمَتَهَا؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الدَّابَّةِ هَهُنَا لَيْسَ لِلثِّقَلِ بَلْ لِلِانْبِسَاطِ وَالِاجْتِمَاعِ؛ لِأَنَّ الْقُطْنَ يَنْبَسِطُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ وَالْحَدِيدَ يَجْتَمِعُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ أَنَكَى لِظَهْرِ الدَّابَّةِ، وَأَعْقَرَ لَهَا فَلَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ فَصَارَ غَاصِبًا فَيَضْمَنُ، وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِيُحَمِّلَهَا حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا حَطَبًا أَوْ خَشَبًا أَوْ آجُرًّا أَوْ حَدِيدًا أَوْ حِجَارَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ أَنَكَى لِظَهْرِ الدَّابَّةِ أَوْ أَعْقَرَ لَهُ حَتَّى عَطِبَتْ يَضْمَنُ كُلَّ الْقِيمَةِ، وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا فَحَمَلَ عَلَيْهَا، أَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا فَرَكِبَهَا حَتَّى عَطِبَتْ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ قَدْ اخْتَلَفَ، وَقَدْ يَكُونُ الضَّرَرُ فِي أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا فَأَرْكَبَهَا مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الثِّقَلِ أَوْ أَخَفُّ مِنْهُ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ هَهُنَا لَيْسَ مِنْ جِهَةِ الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ بَلْ مِنْ حَيْثُ الْحَزْقُ وَالْعِلْمُ، فَإِنَّ خَفِيفَ الْبَدَنِ إذَا لَمْ يُحْسِنْ الرُّكُوبَ يَضُرُّ بِالدَّابَّةِ، وَالثَّقِيلَ الَّذِي يُحْسِنُ الرُّكُوبَ لَا يَضُرُّ بِهَا، فَإِذَا عَطِبَتْ عُلِمَ أَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ مِنْ حَزْقِهِ بِالرُّكُوبِ فَضَمِنَ، وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا بِنَفْسِهِ فَأَرْكَبَ مَعَهُ غَيْرَهُ فَعَطِبَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ قِيمَتِهَا، وَلَا يُعْتَبَرُ الثِّقَلُ هَهُنَا؛ لِأَنَّ تَلَفَ الدَّابَّةِ لَيْسَ مِنْ ثِقَلِ الرَّاكِبِ بَلْ مِنْ قِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِالرُّكُوبِ، فَصَارَ تَلَفُهَا بِرُكُوبِهَا بِمَنْزِلَةِ تَلَفِهَا بِجِرَاحَتِهَا، وَرُكُوبُ أَحَدِهِمَا مَأْذُونٌ فِيهِ، وَرُكُوبُ الْآخَرِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا، وَصَارَ كَحَائِطٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَثْلَاثًا أُشْهِدَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَوَقَعَتْ مِنْهُ آجُرَّةٌ فَقَتَلَتْ رَجُلًا فَعَلَى الَّذِي أُشْهِدَ عَلَيْهِ نِصْفُ دِيَتِهِ، وَإِنْ كَانَ نَصِيبُهُ مِنْ الْحَائِطِ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ مَا حَصَلَ بِالثِّقَلِ بَلْ بِالْجُرْحِ، وَالْجِرَاحَةُ الْيَسِيرَةُ كَالْكَثِيرَةِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ كَمَنْ جَرَحَ إنْسَانًا جِرَاحَةً، وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَتَيْنِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، كَذَا هَهُنَا، وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَزِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ إرْكَابُ الْغَيْرِ، غَيْرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ اُسْتُوْفِيَتْ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَلَا يَجِبُ بِهَا الْأَجْرُ، هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ تَطِيقُ اثْنَيْنِ فَإِنْ كَانَتْ لَا تَطِيقُهُمَا فَعَلَيْهِ جَمِيعُ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا بِإِرْكَابِ غَيْرِهِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا بِإِكَافٍ فَنَزَعَهُ مِنْهُ وَأَسْرَجَهُ فَعَطِبَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ السَّرْجِ أَقَلُّ مِنْ ضَرَرِ الْإِكَافِ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ أَقَلَّ مِمَّا يَأْخُذُ الْإِكَافُ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا بِسَرْجٍ فَنَزَعَ مِنْهُ السَّرْجَ، وَأَوْكَفَهُ فَعَطِبَ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَضْمَنُ قَدْرَ مَا زَادَ الْإِكَافُ عَلَى السَّرْجِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الِاخْتِلَافَ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يَضْمَنُ كُلَّ الْقِيمَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِهِمَا يَضْمَنُ بِحِسَابِ الزِّيَادَةِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِكَافَ وَالسَّرْجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُرْكَبُ بِهِ عَادَةً، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ بِالثِّقَلِ، وَالْخِفَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِكَافَ أَثْقَلُ فَيَضْمَنُ بِقَدْرِ الثِّقَلِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِسَرْجٍ فَنَزَعَهُ وَأَسْرَجَهُ بِسَرْجٍ آخَرَ أَثْقَلُ مِنْ الْأَوَّلِ فَعَطِبَ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ، كَذَا هَذَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِكَافَ لَا يُخَالِفُ السَّرْجَ فِي الثِّقَلِ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذُ السَّرْجُ وَلِأَنَّ الدَّابَّةَ الَّتِي لَمْ تَأْلَفْ الْإِكَافَ يَضُرُّ بِهَا الْإِكَافُ، وَالْخِلَافُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلثِّقَلِ يَجِبُ بِهِ جَمِيعُ الضَّمَانِ كَمَا إذَا حَمَلَ مَكَانَ الْقُطْنِ الْحَدِيدَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَدَّلَ السَّرْجَ بِسَرْجٍ أَثْقَلَ مِنْهُ، وَالْإِكَافُ بِإِكَافٍ أَثْقَلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ هُنَاكَ مِنْ نَاحِيَةِ الثِّقَلِ فَيَضْمَنُ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ كَمَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُقَدَّرَاتِ مِنْ جِنْسِهَا عَلَى مَا مَرَّ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا عَارِيًّا فَأَسْرَجَهُ ثُمَّ رَكِبَ

فَعَطِبَ كَانَ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ السَّرْجَ أَثْقَلُ عَلَى الدَّابَّةِ، وَقِيلَ: هَذَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَرْكَبَهُ فِي الْمِصْرِ، وَهُوَ مِنْ غَرْضِ النَّاسِ مِمَّنْ يَرْكَبُ فِي الْمِصْرِ بِغَيْرِ سَرْجٍ، فَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَرْكَبَهُ خَارِجَ الْمِصْرِ أَوْ هُوَ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْحِمَارَ لَا يُرْكَبُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ بِغَيْرِ سَرْجٍ، وَلَا إكَافٍ، وَكَذَا ذُو الْهَيْئَةِ فَكَانَ الْإِسْرَاجُ مَأْذُونًا فِيهِ دَلَالَةً فَلَا يَضْمَنُ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا بِسَرْجٍ فَأَسْرَجَهُ بِغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ سَرْجًا يُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ إذَا كَانَ مِمَّا يُسْرَجُ بِهِ الْحُمُرُ لَا يَتَفَاوَتَانِ فِي الضَّرَرِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِأَحَدِهِمَا إذْنًا بِالْآخَرِ دَلَالَةً، وَإِذَا كَانَ لَا يُسْرَجُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ بِأَنْ كَانَ سَرْجًا كَبِيرًا كَسُرُوجِ الْبَرَاذِينِ كَانَ ضَرَرُهُ أَكْثَرَ، فَكَانَ إتْلَافًا لِلدَّابَّةِ فَيَضْمَنُ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ لِجَامٌ فَأَلْجَمَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مِثْلُهُ يُلْجَمُ بِمِثْلِ ذَلِكَ اللِّجَامِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَبْدَلَهُ؛ لِأَنَّ الْحِمَارَ لَا يَتْلَفُ بِأَصْلِ اللِّجَامِ فَإِذَا كَانَ الْحِمَارُ قَدْ يُلْجَمُ بِمِثْلِهِ أَوْ أَبْدَلَهُ بِمِثْلِهِ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِتْلَافُ، وَلَا الْخِلَافُ فَلَا يَضْمَنُ. وَأَمَّا الْخِلَافُ فِي الْمَكَانِ فَنَحْوُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ أَوْ لِلْحَمْلِ إلَى مَكَان مَعْلُومٍ فَجَاوَزَ ذَلِكَ الْمَكَانَ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ كَمَا جَاوَزَ الْمَكَانَ الْمَعْلُومَ دَخَلَ الْمُسْتَأْجَرُ فِي ضَمَانِهِ حَتَّى لَوْ عَطِبَ قَبْلَ الْعَوْدِ إلَى الْمَكَانِ الْمَأْذُونِ فِيهِ يَضْمَنُ كُلَّ الْقِيمَةِ. وَلَوْ عَادَ إلَى الْمَكَانِ الْمَأْذُونِ فِيهِ هَلْ يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ؟ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يَقُولُ: يَبْرَأُ كَالْمُودَعِ إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَعِيسَى بْنِ أَبَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا، ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ: لَا يَبْرَأُ حَتَّى يُسَلِّمَهَا إلَى صَاحِبِهَا سَلِيمَةً وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الشَّيْءَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْخِلَافِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ الْمَالِكِ، فَالْهَلَاكُ فِي يَدِهِ كَالْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمَالِكِ، فَأَشْبَهَ الْوَدِيعَةَ؛ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ بَعْدَ الْهَلَاكِ، وَضَمِنَهُ الْمُسْتَحِقُّ يَرْجِعُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ كَالْمُودِعِ سَوَاءٌ، بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ الْآخَرِ إنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ يَدُ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الشَّيْءَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ نَفْسِهِ لَا يَدَ الْمُؤَاجِرِ، وَكَذَا يَدُ الْمُسْتَعِيرِ لِمَا قُلْنَا، وَإِذَا كَانَتْ يَدُهُ يَدَ نَفْسِهِ فَإِذَا ضَمِنَ بِالتَّعَدِّي لَا يَبْرَأُ مِنْ ضَمَانِهِ إلَّا بِرَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَكُونُ الْإِعَادَةُ إلَى الْمَكَانِ الْمَأْذُونِ فِيهِ رَدًّا إلَى يَدِ نَائِبِ الْمَالِكِ فَلَا يَبْرَأُ مِنْ الضَّمَانِ، بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُ الْمَالِكِ لَا يَدُ نَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ الْوَدِيعَةِ فَكَانَ الْعَوْدُ إلَى الْوِفَاقِ رَدًّا إلَى يَدِ نَائِبِ الْمَالِكِ فَكَانَ رَدًّا إلَى الْمَالِكِ مَعْنًى فَهُوَ الْفَرْقُ. وَأَمَّا الرُّجُوعُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ بِالضَّمَانِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِكَوْنِ يَدِهِ يَدَ الْمُؤَاجِرِ، بَلْ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ كَالْمُشْتَرِي إذَا اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ مِنْ يَدِهِ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِسَبَبِ الْغَرُورِ، كَذَا هَذَا، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا إلَى مَكَان عَيَّنَهُ فَرَكِبَهَا إلَى مَكَان آخَرَ يَضْمَنُ إذَا هَلَكَتْ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَقْرَبَ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُخَالِفًا لِاخْتِلَافِ الطُّرُقِ إلَى الْأَمَاكِنِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ رَكِبَهَا إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي عَيَّنَهُ لَكِنْ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ يُنْظَرُ: إنْ كَانَ النَّاسُ يَسْلُكُونَ ذَلِكَ الطَّرِيقَ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا، وَإِنْ كَانُوا لَا يَسْلُكُونَهُ يَضْمَنُ إذَا هَلَكَتْ لِصَيْرُورَتِهِ مُخَالِفًا غَاصِبًا بِسُلُوكِهِ، وَإِنْ لَمْ تَهْلَكْ، وَبَلَغَ الْمَوْضِعَ الْمَعْلُومَ ثُمَّ رَجَعَ، وَسَلَّمَ الدَّابَّةَ إلَى صَاحِبِهَا فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا أَوْ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا إلَى مَكَان مَعْلُومٍ فَذَهَبَ بِهَا، وَلَمْ يَرْكَبْهَا، وَلَمْ يَحْمِلْ عَلَيْهَا شَيْئًا فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ الْمَنَافِعَ إلَيْهِ بِتَسْلِيمِ مَحَلِّهَا إلَى الْمَكَانِ الْمَعْلُومِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِيَسْكُنَهَا فَسَلَّمَ الْمِفْتَاحَ إلَيْهِ فَلَمْ يَسْكُنْ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ الْأُجْرَةُ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا، وَلَوْ أَمْسَكَ الدَّابَّةَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهَا، وَلَمْ يَذْهَبْ بِهَا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهَا إلَيْهِ فَإِنْ أَمْسَكَهَا عَلَى قَدْرِ مَا يُمْسِكُ النَّاسُ إلَى أَنْ يَرْتَحِلَ فَهَلَكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَبْسَ الدَّابَّةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مُسْتَثْنًى عَادَةً فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ دَلَالَةً، وَإِنْ حَبَسَ مِقْدَارَ مَا لَا يَحْبِسُ النَّاسُ مِثْلَهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَعَطِبَ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ فِي الْمَكَانِ بِالْإِمْسَاكِ الْخَارِجِ عَنْ الْعَادَةِ فَصَارَ غَاصِبًا فَيَضْمَنُ إذَا هَلَكَ، وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ لَمْ تَهْلَكْ فَأَمْسَكَهَا فِي بَيْتِهِ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْأَجْرَ بِمُقَابَلَةِ تَسْلِيمِ الدَّابَّةِ فِي جَمِيعِ الطَّرِيقِ وَلَمْ يُوجَدْ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ لِيَرْكَبَهَا فَحَبَسَهَا، وَلَمْ يَرْكَبْهَا حَتَّى رَدَّهَا يَوْمَ الْعَاشِرِ أَنَّ عَلَيْهِ الْأُجْرَةَ، وَيَسَعُ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَ الْكِرَاءَ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَرْكَبْهَا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَاتِ عَلَى الْوَقْتِ بِالتَّسْلِيمِ فِي الْوَقْتِ، وَقَدْ وُجِدَ فَتَجِبُ الْأُجْرَةُ كَمَا فِي إجَارَةِ الدَّارِ، وَنَحْوِهَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَسَافَةِ فَإِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ هُنَاكَ بِالتَّسْلِيمِ

فِي جَمِيعِ الطَّرِيقِ، وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ. وَأَمَّا الْخِلَافُ فِي الزَّمَانِ فَنَحْوُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا، أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً فَانْتَفَعَ بِهَا زِيَادَةً عَلَى الْمُدَّةِ فَعَطِبَتْ فِي يَدِهِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا بِالِانْتِفَاعِ بِهَا فِيمَا وَرَاءَ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ. وَأَمَّا اسْتِئْجَارُ الصُّنَّاعِ مِنْ الْحَائِكِ، وَالْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ، وَنَحْوِهِمْ. فَالْخِلَافُ إنْ كَانَ فِي الْجِنْسِ بِأَنْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى صَبَّاغٍ لِيَصْبُغَهُ لَوْنًا فَصَبَغَهُ لَوْنًا آخَرَ فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبٍ أَبْيَضَ، وَسَلَّمَ الثَّوْبَ لِلْأَجِيرِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ، وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ إنْ كَانَ الصِّبْغُ مِمَّا يَزِيدُ. أَمَّا خِيَارُ التَّضْمِينِ فَلِفَوَاتِ غَرَضِهِ؛ لِأَنَّ الْأَغْرَاضَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبٍ أَبْيَضَ لِتَفْوِيتِهِ عَلَيْهِ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً، فَصَارَ مُتْلِفًا الثَّوْبَ عَلَيْهِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ وَجَبَ حَقًّا لَهُ فَلَهُ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهُ، وَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ رَأْسًا حَيْثُ لَمْ يُوَفِّ الْعَمَلَ الْمَأْذُونَ فِيهِ أَصْلًا، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ، كَالْغَاصِبِ إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ الْمَغْصُوبَ، وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ إنْ كَانَ الصِّبْغُ مِمَّا يَزِيدُ كَالْحُمْرَةِ، وَالصُّفْرَةِ وَنَحْوِهِمَا؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ بِالثَّوْبِ فَلَا سَبِيلَ إلَى أَخْذِهِ مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ فَيَأْخُذُهُ، وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ رِعَايَةً لِلْحَقَّيْنِ وَنَظَرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَالْغَاصِبِ، وَإِنْ كَانَ الصِّبْغُ مِمَّا لَا يَزِيدُ كَالسَّوَادِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَاخْتَارَ أَخْذَ الثَّوْبِ لَا يُعْطِيهِ شَيْئًا بَلْ يُضَمِّنُهُ نُقْصَانَ الثَّوْبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ السَّوَادَ لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَهُ فَلَا يَزِيدُ بَلْ يَنْقُصُ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ قِيمَةٌ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الْأَلْوَانِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً فَزَرَعَهَا رَطْبَةً ضَمِنَ مَا نَقَصَهَا؛ لِأَنَّ الرَّطْبَةَ مَعَ الزَّرْعِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ إذْ الرَّطْبَةُ لَيْسَتْ لَهَا نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ، بِخِلَافِ الزَّرْعِ، وَكَذَا الرَّطْبَةُ تَضُرُّ بِالْأَرْضِ مَا لَا يَضُرُّهَا الزَّرْعُ، فَصَارَ بِالِاشْتِغَالِ بِزِرَاعَةِ الرَّطْبَةِ غَاصِبًا إيَّاهَا بَلْ مُتْلِفًا، وَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ أَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يَنْقُشَ فِي فِضَّةٍ اسْمَهُ، فَنَقْشَ اسْمَ غَيْرِهِ أَنَّهُ يَضْمَنُ الْخَاتَمَ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْغَرَضَ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْخَاتَمِ، وَهُوَ الْخَتْمُ بِهِ فَصَارَ كَالْمُتْلِفِ إيَّاهُ قَالَ: وَإِذَا أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُحَمِّرَ لَهُ بَيْتًا فَخَضَّرَهُ قَالَ مُحَمَّدٌ: أُعْطِيهِ مَا زَادَتْ الْخُضْرَةُ فِيهِ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ مَا اسْتَأْجَرَهُ عَلَيْهِ رَأْسًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ، وَلَكِنْ يَسْتَحِقُّ قِيمَةَ الصِّبْغِ الَّذِي زَادَ فِي الْبَيْتِ لِمَا مَرَّ، وَلَوْ دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا لِيَخِيطَهُ قَمِيصًا بِدِرْهَمٍ فَخَاطَهُ قَبَاءً فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقَبَاءَ، وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ؛ لِأَنَّ الْقَبَاءَ، وَالْقَمِيصَ مُخْتَلِفَانِ فِي الِانْتِفَاعِ فَصَارَ مُفَوِّتًا مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً فَصَارَ مُتْلِفًا الثَّوْبَ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَيُعْطِيَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لِمَا قُلْنَا. ، وَإِذَا كَانَ الْخِلَافُ فِي الصِّفَةِ نَحْوَ أَنْ دَفَعَ إلَى صَبَّاغٍ ثَوْبًا لِيَصْبُغَهُ بِصِبْغٍ مُسَمًّى فَصَبَغَهُ بِصَبْغٍ آخَرَ لَكِنَّهُ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ اللَّوْنِ فَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ أَبْيَضَ، وَيُسَلِّمَ إلَيْهِ الثَّوْبَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ، وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ. أَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ فَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ فِي الْجِنْسِ، وَإِنَّمَا، وَجَبَ الْأَجْرُ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي الصِّفَةِ لَا يُخْرِجُ الْعَمَلَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ، فَقَدْ أَتَى بِأَصْلِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِوَصْفِهِ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِوَصْفِهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ لَمْ يَجِبْ الْمُسَمَّى، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَتَى بِالْأَصْلِ، وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ أَجْرِ الْمِثْلِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ شَبَهًا لِيَضْرِبَ لَهُ طَشْتًا مَوْصُوفًا مَعْرُوفًا فَضَرَبَ لَهُ كُوزًا قَالَ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ شَبَهِهِ وَيَصِيرُ الْكُوزُ لِلْعَامِلِ، وَإِنْ شَاءَ أَخْذَهُ أَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الضَّرْبِ وَالصِّنَاعَةِ صِفَةً، فَقَدْ فَعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِأَصْلِهِ، وَخَالَفَ فِي، وَصْفِهِ فَيَثْبُتُ لِلْمُسْتَعْمِلِ الْخِيَارُ، وَعَلَى هَذَا إذَا دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا لِيَحُوكَ لَهُ ثَوْبًا صَفِيقًا فَحَاكَ لَهُ ثَوْبًا رَقِيقًا أَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُوكَ لَهُ ثَوْبًا رَقِيقًا فَحَاكَهُ صَفِيقًا إنَّ صَاحِبَ الْغَزْلِ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ غَزْلَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ، وَأَعْطَاهُ مِثْلَ أَجْرِ عَمَلِهِ لَا يُجَاوِزُ مَا سُمِّيَ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا دَفَعَ خُفَّهُ إلَى خَفَّافٍ لِيُنَعِّلَهُ فَأَنْعَلَهُ بِنَعْلٍ لَا يُنَعِّلُ بِمِثْلِهِ الْخَفَّافُ، فَصَاحِبُ الْخُفِّ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ خُفَّهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ فِي عَمَلِهِ، وَقِيمَةَ النَّعْلِ، لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ، وَإِنْ كَانَ يُنَعِّلُ بِمِثْلِهِ الْخَفَّافُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَيِّدًا. وَأَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ إذَا أَنَعْلَهُ بِمَا لَا يُنَعِّلُ بِمِثْلِهِ الْخَفَّافُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ رَأْسًا بَلْ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ ابْتِدَاءً فَصَارَ كَالْغَاصِبِ إذَا أَنْعَلَ الْخُفَّ

الْمَغْصُوبَ فَكَانَ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ كَالْغَاصِبِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْخُفَّ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّضْمِينِ تَثْبُتُ لِحَقِّ الْمَالِكِ فَإِذَا رَضِيَ بِالْأَخْذِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِذَا أَخَذَ أَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْعَمَلِ، وَقَدْ أَتَى بِأَصْلِ الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي الصِّفَةِ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَهُ وَيُعْطِيَهُ أَجْرَ الْمِثْلِ، وَلَا يُعْطِيَهُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمُقَابَلَةِ عَمَلٍ مَوْصُوفٍ وَلَمْ يَأْتِ بِالصِّفَةِ، وَيُعْطِيَهُ مَا زَادَ النَّعْلَ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ لِلْخَفَّافِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الصِّبْغِ فِي الثَّوْبِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الْخِيَارُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ إلَى صَاحِبِ الْخُفِّ، وَالثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبٌ مَتْبُوعٌ وَالنَّعْلُ، وَالصِّبْغُ تَبَعٌ فَكَانَ إثْبَاتُ الْخِيَارِ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ يَفْعَلُ بِمِثْلِهِ الْخَفَّافُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَيِّدًا؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ يَتَنَاوَلُ أَدْنَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَقَدْ وُجِدَ، وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ جَيِّدًا فَأَنْعَلَهُ بِغَيْرِ جَيِّدٍ فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْخُفِّ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْخُفَّ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ، وَقِيمَةَ مَا زَادَ فِيهِ، وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ؛ لِأَنَّ الرَّدِيءَ مِنْ جِنْسِ الْجَيِّدِ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ. وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي الْقَدْرِ نَحْوَ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ فِي رَجُلٍ دَفَعَ غَزْلًا إلَى حَائِكٍ يَنْسِجُهُ لَهُ سَبْعًا فِي أَرْبَعٍ فَخَالَفَ بِالزِّيَادَةِ أَوْ بِالنُّقْصَانِ، فَإِنْ خَالَفَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّ الرَّجُلَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ غَزْلِهِ، وَسَلَّمَ الثَّوْبَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ، وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى. أَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ غَرَضُهُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي قَدْرِ الذِّرَاعِ تُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الصِّفَةِ، وَهِيَ الصَّفَاقَةُ، فَيَفُوتُ غَرَضُهُ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ غَزْلِهِ لِتَعَدِّيهِ عَلَيْهِ بِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ الَّذِي سَمَّاهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي الصِّفَةِ، وَالْخِلَافُ فِي صِفَةِ الْعَمَلِ لَا يُخْرِجُ الْعَمَلَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ، كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا فَوَجَدَهُ مَعِيبًا حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَ الْعَيْبِ. وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي النُّقْصَانِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيُعْطِيَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ، وَذَكَرَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ عَلَيْهِ أَجْرَ الْمِثْلِ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَمَّا نَقَصَ فِي الْقَدْرِ فَقَدْ فَوَّتَ الْغَرَضَ الْمَطْلُوبَ مِنْ الثَّوْبِ فَصَارَ كَأَنَّهُ عَمِلَ بِحُكْمِ إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ لَيْسَ فِيهَا أَجْرٌ مُسَمًّى، وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى عَمَلٍ مُقَدَّرٍ، وَلَمْ يَأْتِ بِالْمُقَدَّرِ فَصَارَ كَمَا لَوْ عَقَدَ عَلَى نَقْلِ كُرٍّ مِنْ طَعَامٍ إلَى مَوْضِعِ كَذَا بِدِرْهَمٍ فَنَقَلَ بَعْضَهُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ، فَكَذَا هَهُنَا، وَإِنْ أَوْفَاهُ الْوَصْفَ، وَهُوَ الصَّفَاقَةُ وَالذِّرَاعُ، وَزَادَ فِيهِ فَقَدْ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ غَزْلِهِ، وَصَارَ الثَّوْبُ لِلصَّانِعِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ، وَأَعْطَاهُ الْمُسَمَّى، وَلَا يَزِيدُ لِلذِّرَاعِ الزَّائِدِ شَيْئًا، أَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ فَلِتَغَيُّرِ الصِّفَةِ إذْ الْإِنْسَانُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى الثَّوْبِ الْقَصِيرِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الطَّوِيلِ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، وَلِأَنَّهُ إذَا زَادَ فِي طُولِهِ فَقَدْ اسْتَكْثَرَ مِنْ الْغَزْلِ، فَإِنْ أَخَذَهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ فِيهَا حَيْثُ عَمِلَهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِ الثَّوْبِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ عَلَيْهَا، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا أَعْطَى صَبَّاغًا ثَوْبًا لِيَصْبُغَهُ بِعُصْفُرِ رُبُعِ الْهَاشِمِيِّ بِدِرْهَمٍ فَصَبَغَهُ بِقَفِيزِ عُصْفُرٍ، وَأَقَرَّ رَبُّ الثَّوْبِ بِذَلِكَ، فَإِنَّ رَبَّ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ، وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الْعُصْفُرُ فِيهِ مَعَ الْأَجْرِ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ مَشَايِخَنَا ذَكَرُوا تَفْصِيلًا فَقَالُوا: إنَّ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إنْ كَانَ صَبَغَهُ أَوَّلًا بِرُبُعِ الْهَاشِمِيِّ ثُمَّ صَبَغَهُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْقَفِيزِ فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى، وَمَا زَادَ لِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْقَفِيزِ فِي الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَفْرَدَهُ بِالصِّبْغِ الْمَأْذُونِ فِيهِ أَوَّلًا وَهُوَ رُبُعُ الْهَاشِمِيِّ فَقَدْ أَوْفَاهُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَصَارَ مُتَعَدِّيًا بِالصِّبْغِ الثَّانِي كَأَنَّهُ غَصَبَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالرُّبُعِ ثُمَّ صَبَغَهُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ: إنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ، وَأَعْطَاهُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ لَهُ الصِّبْغَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى، وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الصِّبْغُ الثَّانِي فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ قَائِمَةٌ لِلصَّبَّاغِ فِي الثَّوْبِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا بِرُبُعِ الْقَفِيزِ، وَوَجَبَ لَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الصِّبْغَ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضِ مِنْ وَجْهٍ لِحُصُولِهِ فِي ثَوْبِهِ لَكِنْ يُكْمِلُ الْقَبْضَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى يَدِهِ فَكَانَ مَقْبُوضًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَكَانَ لَهُ فَسْخُ الْقَبْضِ لِتَغَيُّرِ الصِّفَةِ الْمَقْصُودَةِ، وَلَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ، وَيَضْمَنَ الْأَجْرَ، وَإِنْ كَانَ صَبَغَهُ ابْتِدَاءً بِقَفِيزٍ فَلَهُ مَا زَادَ الصِّبْغُ وَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوفِ بِالْعَمَلِ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَلَمْ يَعْمَلْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ غَصَبَ ثَوْبًا، وَصَبَغَهُ بِعُصْفُرٍ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ خِلَافَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ، وَيَغْرَمَ الْأَجْرَ، وَمَا زَادَ الْعُصْفُرُ فِيهِ مُجْتَمِعًا كَانَ أَوْ مُتَفَرِّقًا؛ لِأَنَّ الصِّبْغَ لَا يَتَشَرَّبُ

فصل في حكم اختلاف العاقدين في عقد الإجارة

فِي الثَّوْبِ دُفْعَةً، وَاحِدَةً بَلْ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَسْتَوِي فِيهِ الِاجْتِمَاعُ، وَالِافْتِرَاقُ. وَأَمَّا الْإِجَارَةُ الْفَاسِدَةُ، وَهِيَ الَّتِي فَاتَهَا شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ فَحُكْمُهَا الْأَصْلِيُّ هُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُؤَاجِرِ فِي أَجْرِ الْمِثْلِ لَا فِي الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ الْمَمْلُوكَةِ مِلْكًا فَاسِدًا؛ لِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ لَمْ يَرْضَ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ إلَّا بِبَدَلٍ. وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْمُسَمَّى لِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَلِأَنَّ الْمُوجَبَ الْأَصْلِيَّ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ هُوَ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُعَادَلَةِ، وَالْقِيمَةُ هِيَ الْعَدْلُ إلَّا أَنَّهَا مَجْهُولَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ، فَيُعْدَلُ مِنْهَا إلَى الْمُسَمَّى عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ، فَإِذَا فَسَدَتْ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْمُوجَبِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ أَجْرُ الْمِثْلِ هَهُنَا؛ لِأَنَّهُ قِيمَةُ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى الْمُسَمَّى فِي عَقْدٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُزَادُ، وَيَجِبُ بَالِغًا مَا بَلَغَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ شَرْعًا بِأَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ بِتَقْوِيمِ الْعَاقِدَيْنِ، وَالْعَاقِدَانِ مَا قَوَّمَاهَا إلَّا بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى فَلَوْ وَجَبَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمُسَمَّى لَوَجَبَتْ بِلَا عَقْدٍ وَإِنَّهَا لَا تَتَقَوَّمُ بِلَا عَقْدٍ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ لِأَنَّ الضَّمَانَ هُنَاكَ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ، وَالْأَعْيَانُ مُتَقَوِّمَةٌ بِأَنْفُسِهَا فَوَجَبَ كُلُّ قِيمَتِهَا، وَفِي قَوْلِ زُفَرَ - وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - هِيَ مُتَقَوِّمَةٌ بِأَنْفُسِهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِجَمِيعِ قِيمَتِهَا كَالْأَعْيَانِ. هَذَا إذَا كَانَ فِي الْعَقْدِ تَسْمِيَةٌ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَسْمِيَةٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَسْمِيَةُ الْأَجْرِ لَا يُرْضَى بِاسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ كَانَ ذَلِكَ تَمْلِيكًا بِالْقِيمَةِ الَّتِي هِيَ الْمُوجَبُ الْأَصْلِيُّ دَلَالَةً، فَكَانَ تَقْوِيمًا لِلْمَنَافِعِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ إذْ هُوَ قِيمَةُ الْمَنَافِعِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَا يَثْبُتُ فِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي هِيَ مِنْ التَّوَابِعِ إلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَهُ فِيهِ، وَهِيَ كَوْنُهُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ لَا يَضْمَنُ الْمُسْتَأْجِرُ لِحُصُولِ الْهَلَاكِ فِي قَبْضٍ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ قِبَلِ الْمُؤَاجِرِ. وَأَمَّا الْإِجَارَةُ الْبَاطِلَةُ، وَهِيَ الَّتِي فَاتَهَا شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ فَلَا حُكْمَ لَهَا رَأْسًا؛ لِأَنَّ مَا لَا يَنْعَقِدُ فَوُجُودُهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْبَاطِلِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْبَيْعِ، وَنَحْوِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي حُكْمُ اخْتِلَافِ الْعَاقِدَيْنِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ اخْتِلَافِ الْعَاقِدَيْنِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْبَدَلِ أَوْ الْمُبْدَلِ، وَالْإِجَارَةُ وَقَعَتْ صَحِيحَةً يُنْظَرُ: إنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ تَحَالَفَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» وَالْإِجَارَةُ نَوْعُ بَيْعٍ فَيَتَنَاوَلُهَا الْحَدِيثُ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: " وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا " يَتَنَاوَلُ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ. وَهُوَ مَا إذَا بَاعَ عَيْنًا بِمَنْفَعَةٍ، وَاخْتَلَفَا فِيهَا، وَإِذَا ثَبَتَ التَّحَالُفُ فِي نَوْعٍ بِالْحَدِيثِ ثَبَتَ فِي الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا بِنَتِيجَةِ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّ التَّحَالُفَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ مُوَافِقٌ الْأُصُولَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ عَلَى الْمُنْكِرِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ مِنْ وَجْهٍ وَمُدَّعٍ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ يَدَّعِي عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ زِيَادَةَ الْأُجْرَةِ، وَالْمُسْتَأْجِرُ مُنْكِرٌ، وَالْمُسْتَأْجِرُ يَدَّعِي عَلَى الْمُؤَاجِرِ وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ بِمَا يَدَّعِي مِنْ الْأُجْرَةِ، وَالْمُؤَاجِرُ يُنْكِرُ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرًا مِنْ وَجْهٍ، وَالْيَمِينُ وَظِيفَةُ الْمُنْكِرِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ. وَلِهَذَا جَرَى التَّحَالُفُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَبَيْعُ الْعَيْنِ وَالتَّحَالُفُ هَهُنَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِ الْبَدَلِ يُبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وُجُوبَ الْأُجْرَةِ الزَّائِدَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي قَدْرِ الْمُبْدَلِ يُبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُؤَاجِرِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وُجُوبَ تَسْلِيمِ زِيَادَةِ الْمَنْفَعَةِ، وَإِذَا تَحَالَفَا تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ، وَأَيُّهُمَا نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ، لِأَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ، وَالْبَدَلَ وَالْمُبْدَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَمِلُ الْبَذْلَ وَالْإِقْرَارَ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ يُقْضَى بِبَيِّنَتِهِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا تُقَابِلُ الْحُجَّةَ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْبَدَلِ فَبَيِّنَةُ الْمُؤَاجِرِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمُبْدَلِ فَبَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ الْمَنْفَعَةِ، فَإِنْ ادَّعَى الْمُؤَاجِرُ فَضْلًا فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْأَجْرِ وَادَّعَى الْمُسْتَأْجِرُ فَضْلًا فِيمَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الْمَنْفَعَةِ بِأَنْ قَالَ: الْمُؤَاجِرُ أَجَرْتُك هَذِهِ الدَّابَّةَ إلَى الْقَصْرِ بِعَشَرَةٍ، وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: إلَى الْكُوفَةِ بِخَمْسَةٍ، أَوْ قَالَ الْمُؤَاجِرُ: أَجَّرْتُكَ شَهْرًا بِعَشَرَةٍ، وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: لِشَهْرَيْنِ بِخَمْسَةٍ فَالْأَمْرُ فِي التَّحَالُفِ وَالنُّكُولِ وَإِقَامَةِ أَحَدِهِمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، فَيَكُونُ إلَى الْكُوفَةِ بِعَشَرَةٍ، وَشَهْرَيْنِ بِعَشَرَةٍ؛ لِأَنَّ

بَيِّنَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تُثْبِتُ زِيَادَةً؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْمُؤَاجِرِ تُثْبِتُ زِيَادَةَ الْأَجْرِ، وَبَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ تُثْبِتُ زِيَادَةَ الْمَنْفَعَةِ فَتُقْبَلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي تُثْبِتُهَا. ، وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا بَعْدَ مَا اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ بَعْضَ الْمَنْفَعَةِ بِأَنْ سَكَنَ الدَّارَ الْمُسْتَأْجَرَةَ بَعْضَ الْمُدَّةِ أَوْ رَكِبَ الدَّابَّةَ الْمُسْتَأْجَرَةَ بَعْضَ الْمَسَافَةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ فِيمَا مَضَى مَعَ يَمِينِهِ، وَيَتَحَالَفَانِ وَتُفْسَخُ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمَنَافِعِ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَنْفَعَةِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ مُبْتَدَأً، فَكَانَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ وَالْمَسَافَةِ مُنْفَرِدًا فَيَتَحَالَفَانِ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ بَعْضُ الْمَبِيعِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ التَّحَالُفُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَرَدَ عَلَى جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ الْعَيْنُ الْقَائِمَةُ لِلْحَالِ، وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْمَبِيعِ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ مُبْتَدَأً إنَّمَا الْجُمْلَةُ مَعْقُودٌ عَلَيْهَا بِعَقْدٍ وَاحِدٍ فَإِذَا تَعَذَّرَ الْفَسْخُ فِي قَدْرِ الْهَالِكِ يَسْقُطُ فِي الْبَاقِي. ، وَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ الْإِجَارَةِ أَوْ بَعْدَ بُلُوغِ الْمَسَافَةِ الَّتِي اسْتَأْجَرَ إلَيْهَا لَا يَتَحَالَفَانِ فِيهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي مِقْدَارِ الْبَدَلِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُؤَاجِرِ لِأَنَّ التَّحَالُفَ يُثْبِتُ الْفَسْخَ، وَالْمَنَافِعُ الْمُنْعَدِمَةُ لَا تَحْتَمِلُ فَسْخَ الْعَقْدِ فَلَا يَثْبُتُ التَّحَالُفُ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْمَبِيعِ فِي بَابِ الْبَيْعِ شَرْطُ جَرَيَانِ التَّحَالُفِ فِي الْمَبِيعِ الْهَالِكِ، وَالْمَنَافِعُ هَهُنَا هَالِكَةٌ فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا التَّحَالُفُ. وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَبِيعِ الْهَالِكِ وَبَيْنَ الْمَنَافِعِ الْهَالِكَةِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ بِأَنْفُسِهَا عَلَى أَصْلِنَا، وَإِنَّمَا تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ فَإِذَا فُسِخَتْ الْإِجَارَةُ بِالتَّحَالُفِ تَبْقَى الْمَنَافِعُ مُسْتَوْفَاةً مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَلَا تَتَقَوَّمُ فَلَا يَثْبُتُ التَّحَالُفُ، بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ فَإِنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ بِأَنْفُسِهَا، فَإِذَا فُسِخَ الْبَيْعُ بِالتَّحَالُفِ يَبْقَى الْعَقْدُ مُتَقَوِّمًا بِنَفْسِهِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ عَلَيْهِ، وَالْخِلَافُ مَتَى وَقَعَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَحِقِّ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي جِنْسِ الْأَجْرِ بِأَنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: اسْتَأْجَرْتُ هَذِهِ الدَّابَّةَ إلَى مَوْضِعِ كَذَا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَقَالَ الْآخَرُ: بِدِينَارٍ، فَالْحُكْمُ فِي التَّحَالُفِ وَالنُّكُولِ وَإِقَامَةِ أَحَدِهِمَا الْبَيِّنَةَ مَا وَصَفْنَا. فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُؤَاجِرِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْأُجْرَةَ حَقًّا لَهُ، وَبَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ لَا تُثْبِتُ الْأُجْرَةَ حَقًّا لَهُ فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْمُؤَاجِرِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ. وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُؤَاجِرُ: أَجَّرْتُكَ هَذِهِ الدَّابَّةَ إلَى الْقَصْرِ بِدِينَارٍ، وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: إلَى الْكُوفَةِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَهِيَ إلَى الْكُوفَةِ بِدِينَارٍ، وَخَمْسَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ إلَى الْقَصْرِ، وَقَعَ فِي الْبَدَلِ فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْمُؤَاجِرِ أَوْلَى لِمَا قُلْنَا، وَتَثْبُتُ الْإِجَارَةُ إلَى الْقَصْرِ بِدِينَارٍ، ثُمَّ الْمُسْتَأْجِرُ يَدَّعِي مِنْ الْقَصْرِ إلَى الْكُوفَةِ بِخَمْسَةٍ؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ نِصْفُ الطَّرِيقِ، وَالْمُؤَاجِرُ يَجْحَدُ هَذِهِ الْإِجَارَةَ، فَالْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلْإِجَارَةِ أَوْلَى مِنْ النَّافِيَةِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ دَارًا سَنَةً فَاخْتَلَفَا فَأَقَامَ الْمُسْتَأْجِرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا بِدِرْهَمٍ، وَشَهْرًا بِتِسْعَةٍ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ رَبُّ الدَّارِ أَنَّهُ أَجَرَهَا بِعَشَرَةٍ قَالَ: فَإِنِّي آخُذُ بِبَيِّنَةِ رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي فَضْلَ أُجْرَةٍ فِي أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، وَقَدْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، فَأَمَّا الشَّهْرُ الثَّانِي عَشَرَ فَقَدْ أَقَرَّ الْمُسْتَأْجِرُ لِلْمُؤَاجِرِ فِيهِ بِفَضْلِ الْأُجْرَةِ فِيمَا ادَّعَى، فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ وَإِلَّا سَقَطَ الْفَضْلُ بِتَكْذِيبِهِ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الْخَيَّاطُ، وَرَبُّ الثَّوْبِ فَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ: أَمَرْتُكَ أَنْ تَقْطَعَهُ قَبَاءً، وَقَالَ الْخَيَّاطُ: أَمَرْتَنِي أَنْ أَقْطَعَهُ قَمِيصًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَنَا، وَالْخَيَّاطُ ضَامِنٌ قِيمَةَ الثَّوْبِ، وَإِنْ شَاءَ رَبُّ الثَّوْبِ أَخَذَ الثَّوْبَ، وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: الْقَوْلُ قَوْلُ الْخَيَّاطِ مَعَ يَمِينِهِ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ مِثْلَ قَوْلِهِمَا، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: يَتَحَالَفَانِ فَإِذَا حَلَفَا سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْ الْخَيَّاطِ، وَسَقَطَ الْأَجْرُ، وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ أَقَرَّ بِالْإِذْنِ بِالْقَطْعِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَدَّعِي زِيَادَةَ صِفَةٍ تُوجِبُ الضَّمَانَ، وَتُسْقِطُ الْأَجْرَ، وَالْخَيَّاطُ يُنْكِرُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَنَا أَنَّ الْإِذْنَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الثَّوْبِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الْإِذْنِ قَوْلَهُ، وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي أَصْلِ الْإِذْنِ بِالْقَطْعِ فَقَالَ صَاحِبُ الثَّوْبِ: لَمْ آذَنْ بِالْقَطْعِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَكَذَا إذَا قَالَ: لَمْ آذَنْ بِقَطْعِهِ قَمِيصًا، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ قَطْعُ الْقَبَاءِ لَا مُطْلَقُ الْقَطْعِ، وَلَا مَعْنَى لِأَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ التَّحَالُفَ وَضْعٌ لِلْفَسْخِ، وَلَا يُمْكِنُ الْفَسْخُ هَهُنَا فَلَا يَثْبُتُ التَّحَالُفُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَدَّعِي عَلَى الْخَيَّاطِ الْغَصْبَ، وَالْخَيَّاطَ يَدَّعِي الْأَجْرَ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَثْبُتُ فِيهِ التَّحَالُفُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَضْمِينُ الْخَيَّاطِ قِيمَةَ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ

الثَّوْبِ لَمَّا حَلَفَ عَلَى دَعْوَى الْخَيَّاطِ فَقَدْ صَارَ الْخَيَّاطُ بِقَطْعِهِ الثَّوْبَ لَا عَلَى الصِّفَةِ الْمَأْذُونِ فِيهَا مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَصَارَ مُتْلِفًا الثَّوْبَ عَلَيْهِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَبُّ الثَّوْبِ أَخَذَ الثَّوْبَ، وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ، أَمَّا اخْتِيَارُ أَخْذِ الثَّوْبِ فَلِأَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَعَ تَغَيُّرِ الصِّفَةِ فَكَانَ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ الرِّضَا بِهِ، وَإِعْطَاؤُهُ أَجْرَ الْمِثْلِ لَا الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، وَطَرِيقَةٌ أُخْرَى لِبَعْضِ مَشَايِخِنَا أَنَّ مَنْفَعَةَ الْقَبَاءِ وَالْقَمِيصِ مُتَقَارِبَةٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْقَبَاءِ انْتِفَاعَ الْقَمِيصِ بِأَنْ يَسُدَّ وَسَطَهُ وَأَزْرَارَهُ، وَإِنَّمَا يُفَوِّتُ بَعْضَ الْأَغْرَاضِ، فَقَدْ وُجِدَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعَ الْعَيْبِ فَيَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى قَالُوا: لَوْ قَطَعَهُ سَرَاوِيلَ لَمْ تَجِبْ لَهُ الْأُجْرَةُ لِاخْتِلَافِ مَنْفَعَةِ الْقَبَاءِ وَالسَّرَاوِيلِ، فَلَمْ يَأْتِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ رَأْسًا قَالَ الْقُدُورِيُّ: وَالرِّوَايَةُ بِخِلَافِ هَذَا فَإِنَّ هِشَامًا رَوَى أَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ شَبَهًا لِيَضْرِبَ لَهُ طَشْتًا مَوْصُوفًا فَضَرَبَهُ كُوزًا: إنَّ صَاحِبَهُ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَ شَبَهِهِ، وَالْكُوزُ لِلْعَامِلِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ مَا سُمِّيَ، فَفِي السَّرَاوِيلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَوَجْهُهُ مَا مَرَّ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الضَّرْبِ، وَالصِّنَاعَةُ صِفَةٌ لَهُ فَقَدْ وَافَقَ فِي أَصْلِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَخَالَفَ فِي الصِّفَةِ، فَيَثْبُتُ لِلْمُسْتَعْمِلِ الْخِيَارُ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ، وَبِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَنْزِعَ لَهُ ضِرْسًا مُتَآكِلًا فَنَزَعَ ضِرْسًا مُتَآكِلًا فَقَالَ الْآمِرُ: أَمَرْتُك بِغَيْرِ هَذَا بِهَذَا الْأَجْرِ، وَقَالَ الْمَأْمُورُ: أَمَرْتنِي بِاَلَّذِي نَزَعْتُ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ فِي ذَلِكَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ مَعَ يَمِينِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَمْرَ يُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِهِ خَاصَّةً، فَكَانَ الْقَوْلُ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ قَوْلَهُ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى صَبَّاغٍ ثَوْبًا لِيَصْبُغَهُ أَحْمَرَ فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ عَلَى مَا وَصَفَ لَهُ بِالْعُصْفُرِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْأَجْرِ، فَقَالَ الصَّبَّاغُ: عَمِلْته بِدِرْهَمٍ، وَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ: بِدَانَقَيْنِ، فَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ أُخِذَتْ بَيِّنَةُ الصَّبَّاغِ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَإِنِّي أَنْظُرُ إلَى مَا زَادَ الْعُصْفُرُ فِي قِيمَةِ الثَّوْبِ فَإِنْ كَانَ دِرْهَمًا أَوْ أَكْثَرَ أَعْطَيْته دِرْهَمًا بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ الصَّبَّاغُ مَا صَبَغْته بِدَانَقَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَا زَادَ فِي الثَّوْبِ مِنْ الْعُصْفُرِ أَقَلَّ مِنْ دَانَقَيْنِ أَعْطَيْته دَانَقَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ صَاحِبُ الثَّوْبِ مَا صَبَغْته إلَّا بِدَانَقَيْنِ، أَمَّا إذَا قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَلِأَنَّ بَيِّنَةَ الصَّبَّاغِ تُثْبِتُ زِيَادَةَ الْأُجْرَةِ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ تَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَلِأَنَّ مَا زَادَ الْعُصْفُرُ فِي قِيمَةِ الثَّوْبِ إذَا كَانَ دِرْهَمًا أَوْ أَكْثَرَ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلصَّبَّاغِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِسُقُوطِ الزِّيَادَةِ، وَإِذَا كَانَ مَا زَادَ الْعُصْفُرُ دَانَقَيْنِ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِرَبِّ الثَّوْبِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ دَانَقَيْنِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يَزِيدُ فِي الثَّوْبِ نِصْفَ دِرْهَمٍ قَالَ: أَعْطَيْت الصَّبَّاغَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ مَا صَبَغْته بِدَانَقَيْنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الدَّعْوَى إذَا سَقَطَتْ لِلتَّعَارُضِ بِحُكْمِ الصَّبْغِ فَوَجَبَ قِيمَةُ الصِّبْغِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَصَّارِ مَعَ رَبِّ الثَّوْبِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الثَّوْبِ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ لِلْقَصَّارِ، فَلَمْ يُوجَدْ مَا يَصْلُحُ حُكْمًا فَيُرْجَعَ إلَى قَوْلِ صَاحِبِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الْقَصَّارَ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةَ ضَمَانٍ، وَهُوَ يُنْكِرُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ صِبْغٍ لَهُ قِيمَةٌ فَإِنْ كَانَ الصِّبْغُ أَسْوَدَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ السَّوَادَ نُقْصَانٌ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ صِبْغٍ يُنْقِصُ الثَّوْبَ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالدَّعْوَى لِلتَّعَارُضِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الرُّجُوعِ إلَى قِيمَةِ الصِّبْغِ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ، فَيُرْجَعُ إلَى قَوْلِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الصَّبَّاغُ وَرَبُّ الثَّوْبِ فَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ: أَمَرْتُك بِالْعُصْفُرِ، وَقَالَ الصَّبَّاغُ: بِالزَّعْفَرَانِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ يُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِهِ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا إذَا أَمَرَ الْمُسْتَعْمِلُ الصَّانِعَ بِالزِّيَادَةِ مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ فِي الْأَصْلِ فِي رَجُلٍ دَفَعَ غَزْلًا إلَى حَائِكٍ يَنْسِجُهُ ثَوْبًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي الْغَزْلِ رِطْلًا مِنْ عِنْدِهِ مِثْلَ غَزْلِهِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ ثَمَنَ الْغَزْلِ وَأُجْرَةَ الثَّوْبِ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً، فَاخْتَلَفَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الثَّوْبِ، فَقَالَ الْحَائِكُ: قَدْ زِدْت، وَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ: لَمْ تَزِدْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْغَزْلِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عَمَلِهِ؛ لِأَنَّ الصَّانِعَ يَدَّعِي عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ الضَّمَانَ وَهُوَ يُنْكِرُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمِينٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ مِثْلُ الْغَزْلِ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةٌ يُقْضَى بِهَا فِي هَذَا الْبَابِ فَإِنْ أَقَامَ الصَّانِعُ بَيِّنَةً قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَلَوْ اتَّفَقَا أَنَّ غَزْلَ الْمُسْتَعْمَلِ كَانَ مَنًّا، وَقَالَ الصَّانِعُ: قَدْ زِدْت فِيهِ رِطْلًا فَوُزِنَ الثَّوْبُ فَوُجِدَ زَائِدًا عَلَى مَا دُفِعَ إلَيْهِ زِيَادَةً لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ مِثْلَهَا يَكُونُ مِنْ الدَّقِيقِ، وَادَّعَى رَبُّ الثَّوْبِ أَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ الدَّقِيقِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الصَّانِعِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الثَّوْبِ يَدَّعِي

خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ مُسْتَهْلَكًا قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ وَزْنُهُ، وَلَمْ يُقِرَّ الْمُسْتَعْمِلُ أَنَّ فِيهِ مَا قَالَ الصَّانِعُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الصَّانِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الضَّمَانَ، وَلَا ظَاهِرَ هَهُنَا يَشْهَدُ لَهُ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى صَائِغٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِضَّةً، وَقَالَ: زِدْ عَلَيْهَا دِرْهَمَيْنِ قَرْضًا عَلَيَّ فَصُغْهُ قَلْبًا، وَأَجْرُك دِرْهَمٌ فَصَاغَهُ وَجَاءَ بِهِ مَحْشُوًّا فَاخْتَلَفَا، فَقَالَ الصَّائِغُ: قَدْ زِدْت عَلَيْهِ دِرْهَمَيْنِ، وَقَالَ رَبُّ الْقَلْبِ: لَمْ تَزِدْ شَيْئًا قَالَ مُحَمَّدٌ: يَتَحَالَفَانِ ثُمَّ الصَّائِغُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَ الْقَلْبَ، وَأَخَذَ مِنْهُ أُجْرَةَ خَمْسَةِ دَوَانِيقَ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ إلَيْهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِضَّةً، وَأَخَذَ الْقَلْبَ، أَمَّا التَّحَالُفُ فَلِأَنَّ الصَّائِغَ يَدَّعِي عَلَى صَاحِبِ الْقَلْبِ الْقَرْضَ، وَهُوَ يُنْكِرُ فَيُسْتَحْلَفُ، وَصَاحِبُ الْقَلْبِ يَدَّعِي عَلَى الصَّائِغِ اسْتِحْقَاقَ الْقَلْبِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَهُوَ يُنْكِرُ، فَيُسْتَحْلَفُ، وَإِذَا بَطَلَ دَعْوَى الصَّائِغِ فِي الْقَلْبِ عُلِمَ أَنَّ الْوَزْنَ عَشَرَةٌ وَإِنَّمَا بَذَلَ صَاحِبُ الْقَلْبِ لِلصَّائِغِ دِرْهَمًا لِصِيَاغَتِهِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الزِّيَادَةُ تَلْزَمُهُ لِلْعَشَرَةِ خَمْسَةُ دَوَانِيقَ، وَإِنَّمَا كَانَ لِلصَّائِغِ أَنْ يَحْبِسَ الْقَلْبَ، وَيُعْطِيَ صَاحِبَ الْقَلْبِ مِثْلَ فِضَّتِهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ ثَابِتَةٌ، وَأَنَّهُ يَتَقَرَّرُ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضِ الْقَرْضِ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى صَاحِبِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ مِثْلُ حَقِّهِ، وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى نَدَّافٍ ثَوْبًا، وَقُطْنًا يَنْدِفُ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَ مِنْ عِنْدِهِ مَا رَأَى، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ أَتَاهُ وَقَدْ نَدَفَ عَلَى الثَّوْبِ عِشْرِينَ أَسْتَارًا مِنْ قُطْنٍ، فَاخْتَلَفَا، فَقَالَ صَاحِبُ الثَّوْبِ: دَفَعْت إلَيْك خَمْسَةَ عَشَرَ أَسْتَارًا مِنْ قُطْنٍ، وَأَمَرْتُك أَنْ تَزِيدَ عَلَيْهِ عَشَرَةً وَتَنْقُصَ إنْ رَأَيْت فَلَمْ تَزِدْ إلَّا خَمْسَةَ أَسَاتِيرَ، وَقَالَ النَّدَّافُ: دَفَعْت إلَيَّ عَشَرَةً وَأَمَرْتنِي أَنْ أَزِيدَ عَشَرَةً فَزِدْتهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ النَّدَّافِ، وَعَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ عَشَرَةَ أَسَاتِيرَ مِنْ قُطْنٍ كَمَا ادَّعَى؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ لَا يَدَّعِي عَلَى النَّدَّافِ مُخَالَفَةَ مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَدَّعِي أَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَسْتَارًا، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ النَّدَّافِ فِي مِقْدَارِهِ فَتَبْقَى الْعَشَرَةُ زِيَادَةً فَيَضْمَنُهَا صَاحِبُ الثَّوْبِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الثَّوْبِ قَالَ: دَفَعْت إلَيْك خَمْسَةَ عَشَرَ، وَأَمَرْتُك أَنْ تَزِيدَ عَلَيْهِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَقَالَ النَّدَّافُ: دَفَعْت إلَيَّ عَشَرَةً وَأَمَرْتنِي أَنْ أَزِيدَ عَلَيْهِ عَشَرَةً فَزِدْتُ عَلَيْهِ عَشَرَةً، فَصَاحِبُ الثَّوْبِ فِي هَذَا بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ صَدَّقَهُ وَدَفَعَ إلَيْهِ عَشَرَةَ أَسَاتِيرَ وَأَخَذَ ثَوْبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ ثَوْبِهِ، وَمِثْلَ عَشَرَةِ أَسَاتِيرَ قُطْنٍ، وَكَانَ الثَّوْبُ لِلنَّدَّافِ؛ لِأَنَّ النَّدَّافَ يَزْعُمُ أَنَّهُ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَصَاحِبَ الثَّوْبِ يَدَّعِي الْخِلَافَ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ النَّدَّافِ فِي مِقْدَارِ مَا قَبَضَ، وَقَالَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ أَعْطَى رَجُلًا ثَوْبًا لِيَقْطَعَهُ قَبَاءً مَحْشُوًّا، وَدَفَعَ إلَيْهِ الْبِطَانَةَ، وَالْقُطْنَ فَقَطَّعَهُ وَخَاطَهُ، وَحَشَاهُ، وَاتَّفَقَا عَلَى الْعَمَلِ، وَالْأُجْرَةِ: فَإِنَّ الثَّوْبَ ثَوْبُ رَبِّ الثَّوْبِ وَالْقُطْنَ قُطْنُهُ، غَيْرَ أَنَّ رَبَّ الثَّوْبِ إنْ قَالَ: إنَّ الْبِطَانَةَ لَيْسَتْ بِطَانَتِي، فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْخَيَّاطِ مَعَ يَمِينِهِ أَلْبَتَّةَ أَنَّ هَذَا بِطَانَتُهُ، وَيَلْزَمُ رَبَّ الثَّوْبِ، وَيَسَعُ رَبُّ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَ الْبِطَانَةَ فَيَلْبَسُهَا لِأَنَّ الْبِطَانَةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْخَيَّاطِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهَا ثُمَّ إنْ كَانَتْ بِطَانَةُ صَاحِبِ الثَّوْبِ؛ حَلَّ لَهُ لُبْسُهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَهَا فَقَدْ رَضِيَ الْخَيَّاطُ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ بَدَلَ بِطَانَتِهِ؛ فَحَلَّ لَهُ لُبْسُهَا، وَرَوَى بِشْرٌ وَابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ أَعْطَى حَمَّالًا مَتَاعًا لِيَحْمِلَهُ مِنْ مَوْضِعٍ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ، فَحَمَلَهُ ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ رَبُّ الْمَتَاعِ: لَيْسَ هَذَا مَتَاعِي، وَقَالَ الْحَمَّالُ: هُوَ مَتَاعُكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَمَّالِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْآمِرَ الْأَجْرُ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ، وَيَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّ الْمَتَاعَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْحَمَّالِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَا يَلْزَمُ صَاحِبَ الْمَتَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَرِفْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ فَقَدْ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ، قَالَ: وَالنَّوْعُ الْوَاحِدُ وَالنَّوْعَانِ فِي هَذَا سَوَاءٌ، إلَّا أَنَّهُ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ أَفْحَشُ وَأَقْبَحُ يُرِيدُ بِهَذَا لَوْ حَمَّلَهُ طَعَامًا أَوْ زَيْتًا، وَقَالَ: الْأَجِيرُ هَذَا طَعَامُكَ بِعَيْنِهِ، وَقَالَ رَبُّ الطَّعَامِ: كَانَ طَعَامِي أَجْوَدَ مِنْ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا يَفْحُشُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ رَبِّ الطَّعَامِ، وَيَبْطُلُ الْأَجْرُ، وَيَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْحَمَّالِ، وَيَأْخُذُ الْأَجْرَ إنْ كَانَ قَدْ حَمَلَهُ، فَأَمَّا إذَا كَانَا نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِأَنْ جَاءَ بِشَعِيرٍ وَقَالَ رَبُّ الطَّعَامِ: كَانَ طَعَامِي حِنْطَةً فَلَا أَجْرَ لِلْحَمَّالِ حَتَّى يُصَدِّقَهُ وَيَأْخُذَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: يَقْبُحُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ يَمْلِكُ صَاحِبُ الطَّعَامِ أَنْ يَأْخُذَ الشَّعِيرَ عِوَضًا عَنْ طَعَامِهِ؛ لِأَنَّ الْحَمَّالَ قَدْ بَذَلَ لَهُ ذَلِكَ فَإِذَا أَخَذَ الْعِوَضَ سَلِمَتْ لَهُ الْمَنْفَعَةُ فَأَمَّا فِي النَّوْعَيْنِ فَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَ النَّوْعَ الْآخَرَ إلَّا بِالتَّرَاضِي بِالْبَيْعِ، فَمَا لَمْ يُصَدِّقْهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْأَجْرَ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الصَّانِعُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي أَصْلِ الْأَجْرِ كَالنَّسَّاجِ وَالْقَصَّارِ، وَالْخَفَّافِ

فصل في بيان ما ينتهي به عقد الإجارة

وَالصَّبَّاغِ فَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ وَالْخُفِّ: عَمِلْتَهُ لِي بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَقَالَ الصَّانِعُ: لَا؛ بَلْ عَمِلْتُهُ بِأُجْرَةِ دِرْهَمٍ، أَوْ اخْتَلَفَ رَبُّ الدَّارِ مَعَ الْمُسْتَأْجِرِ فَقَالَ رَبُّ الدَّارِ: أَجَرْتُهَا مِنْك بِدِرْهَمٍ، وَقَالَ السَّاكِنُ بَلْ سَكَنْتهَا عَارِيَّةً، فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الثَّوْبِ، وَالْخُفِّ، وَسَاكِنِ الدَّارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَ الرَّجُلُ حُرًّا ثِقَةً فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ، وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ الرَّجُل انْتَصَبَ لِلْعَمَلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ انْتَصَبَ لِلْعَمَلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَشْتَرِطَا الْأَجْرَ لَكِنَّ الصَّانِعَ قَالَ: إنِّي إنَّمَا عَمِلْت بِالْأَجْرِ، وَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ: مَا شَرَطْت لَك شَيْئًا، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا اعْتِبَارُ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَإِنَّ انْتِصَابَهُ لِلْعَمَلِ، وَفَتْحَهُ الدُّكَّانَ لِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ إلَّا بِالْأُجْرَةِ، وَكَذَا إذَا كَانَ حَرِيفَهُ فَكَانَ الْعَقْدُ مَوْجُودًا دَلَالَةً، وَالثَّابِتُ دَلَالَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَنَافِعَ عَلَى أَصْلِنَا لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ، وَلَمْ يُوجَدْ، أَمَّا إذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَشْتَرِطَا الْأَجْرَ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَثْبُتُ مَعَ الِاخْتِلَافِ لِلتَّعَارُضِ فَلَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ، ثُمَّ إنْ كَانَ فِي الْمَصْنُوعِ عَيْنٌ قَائِمَةٌ لِلصَّانِعِ كَالصِّبْغِ الَّذِي يَزِيدُ، وَالنَّعْلِ يَغْرَمُ رَبُّ الثَّوْبِ وَالْخُفِّ لِلصَّانِعِ مَا زَادَ الصِّبْغُ وَالنَّعْلُ فِيهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ دِرْهَمًا، وَإِلَّا فَلَا وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَنْتَهِي بِهِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَنْتَهِي بِهِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ فَعَقْدُ الْإِجَارَةِ يَنْتَهِي بِأَشْيَاءَ مِنْهَا الْإِقَالَةُ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْإِقَالَةِ كَالْبَيْعِ. وَمِنْهَا مَوْتُ مَنْ وَقَعَ لَهُ الْإِجَارَةُ إلَّا لِعُذْرٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ كَبَيْعِ الْعَيْنِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِي كَيْفِيَّةِ انْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِجَارَةَ عِنْدَنَا تَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ شَيْئًا فَشَيْئًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنَافِعِ فِي يَدِ الْوَارِثِ لَمْ يَمْلِكْهَا الْمُورَثُ لِعَدَمِهَا، وَالْمِلْكُ صِفَةُ الْمَوْجُودِ لَا الْمَعْدُومِ فَلَا يَمْلِكُهَا الْوَارِثُ، إذْ الْوَارِثُ إنَّمَا يَمْلِكُ مَا كَانَ عَلَى مِلْكِ الْمُورَثِ، فَمَا لَمْ يَمْلِكْهُ يَسْتَحِيلُ وِرَاثَتُهُ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مِلْكٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مَلَكَهُ الْمُورَثُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، فَجَازَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْهُ إلَى الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُمْلَكُ إلَّا بِالْعَقْدِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا فِي يَدِ الْوَارِثِ لَمْ يُعْقَدْ عَلَيْهِ رَأْسًا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَعْدُومَةً حَالَ حَيَاةِ الْمُورَثِ، وَالْوَارِثُ لَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهَا فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا لِلْوَارِثِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَنَافِعُ الْمُدَّةِ تُجْعَلُ مَوْجُودَةً لِلْحَالِ كَأَنَّهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْعَيْنِ، وَالْبَيْعُ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، كَذَا الْإِجَارَةُ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا أَجَرَ رَجُلَانِ دَارًا مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْمُؤَاجِرَيْنِ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَبْطُلُ فِي نَصِيبِهِ عِنْدَنَا، وَتَبْقَى فِي نَصِيبِ الْحَيِّ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا شُيُوعٌ طَارِئٌ، وَإِنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلَانِ مِنْ رَجُلٍ دَارًا فَمَاتَ أَحَدُ الْمُسْتَأْجِرِينَ فَإِنْ رَضِيَ الْوَارِثُ بِالْبَقَاءِ عَلَى الْعَقْدِ، وَرَضِيَ الْعَاقِدُ أَيْضًا جَازَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ عَقْدٍ مُبْتَدَإٍ، وَلَوْ مَاتَ الْوَكِيلُ بِالْعَقْدِ لَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَقَعْ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ عَاقِدٌ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا لَوْ مَاتَ أَبُو الصَّبِيِّ فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ لَا تُنْقَضُ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ وَقَعَتْ لِلصَّبِيِّ وَالظِّئْرِ وَهُمَا قَائِمَانِ، وَلَوْ مَاتَ الظِّئْرُ اُنْتُقِضَتْ الْإِجَارَةُ وَكَذَا لَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْقُودٌ لَهُ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَعْقُودِ لَهُ، وَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْعَاقِدِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْعَقْدِ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ وَقَعَ لَهُ الْعَقْدُ يُوجِبُ تَغْيِيرَ مُوجَبِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مَنْ وَقَعَ لَهُ إنْ كَانَ هُوَ الْمُؤَاجِرَ فَالْعَقْدُ يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ الْمَنَافِعِ مِنْ مِلْكِهِ، وَلَوْ بَقَّيْنَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَاسْتُوْفِيَتْ الْمَنَافِعُ مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ، وَهَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْتَأْجِرُ فَالْعَقْدُ يَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ مِنْ مَالِهِ، وَلَوْ بَقَّيْنَا الْعَقْدَ بَعْدَ مَوْتِهِ لَاسْتُحِقَّتْ الْأُجْرَةُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، وَهَذَا خِلَافُ مُوجَبِ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ مَنْ لَمْ يَقَعْ الْعَقْدُ لَهُ كَالْوَكِيلِ، وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مِنْهُ لَا يَقَعُ مُقْتَضِيًا اسْتِحْقَاقَ الْمَنَافِعِ، وَلَا اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ مِنْ مِلْكِهِ، فَإِبْقَاءُ الْعَقْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يُوجِبُ تَغْيِيرَ مُوجَبِ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ الْوَلِيُّ فِي الْوَقْفِ إذَا عَقَدَ ثُمَّ مَاتَ لَا تُنْتَقَضُ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَقَعْ لَهُ فَمَوْتُهُ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَهُ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى مَكَّةَ فَمَاتَ الْمُؤَاجِرُ فِي بَعْضِ الْمَفَازَةِ فَلَهُ أَنْ يَرْكَبَهَا أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا إلَى مَكَّةَ أَوْ إلَى أَقْرَبِ الْأَمَاكِنِ مِنْ الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِ الْإِجَارَةِ هَهُنَا يُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ بِالْمُسْتَأْجِرِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ مَالِهِ، وَنَفْسِهِ إلَى التَّلَفِ، فَجُعِلَ

ذَلِكَ عُذْرًا فِي بَقَاءِ الْإِجَارَةِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ إنَّ الْإِجَارَةَ كَمَا تُفْسَخُ بِالْعُذْرِ تَبْقَى بِالْعُذْرِ. وَقَالُوا فِيمَنْ اكْتَرَى إبِلًا إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا، وَجَائِيًا فَمَاتَ الْجَمَّالُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَرْكَبَهَا إلَى مَكَّةَ أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، وَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِانْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ فِي الطَّرِيقِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِالْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ مَا يَحْمِلُهُ وَيَحْمِلُ قُمَاشَهُ، وَإِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِالْوَرَثَةِ إذَا كَانُوا غُيَّبًا؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَفُوتُ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، فَكَانَ فِي اسْتِيفَاءِ الْعَقْدِ نَظَرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَإِذَا، وَصَلَ إلَى مَكَّةَ رَفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ عِنْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْ جَمَّالٍ آخَرَ، ثُمَّ يَنْظُرُ الْحَاكِمُ فِي الْأَصْلَحِ فَإِنْ رَأَى بَيْعَ الْجِمَالِ وَحِفْظَ الثَّمَنِ لِلْوَرَثَةِ أَصْلَحَ فَعَلَ ذَلِكَ، وَإِنْ رَأَى إمْضَاءَ الْإِجَارَةِ إلَى الْكُوفَةِ أَصْلَحَ فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا مُحْتَاطًا، وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَحْوَطَ فَيَخْتَارُ ذَلِكَ، قَالُوا: وَالْأَفْضَلُ إذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ ثِقَةً أَنْ يُمْضِيَ الْقَاضِي الْإِجَارَةَ، وَالْأَفْضَلُ إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ أَنْ يَفْسَخَهَا فَإِنْ فَسَخَهَا وَقَدْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ عَجَّلَ الْأُجْرَةَ سَمِعَ الْقَاضِي بَيِّنَتَهُ عَلَيْهَا، وَقَضَاهُ مِنْ ثَمَنِهَا؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ إذَا انْفَسَخَتْ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ إمْسَاكُ الْعَيْنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ، وَقَامَ الْقَاضِي مَقَامَ الْغَائِبِ فَنُصِّبَ لَهُ خَصْمًا، وَسَمِعَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ. وَلَوْ مَاتَ أَحَدٌ مِمَّنْ وَقَعَ لَهُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَفِي الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ زَرْعٌ لَمْ يُسْتَحْصَدْ يُتْرَكُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ، وَيَكُونُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ عَلَى وَرَثَتِهِ مَا سُمِّيَ مِنْ الْأَجْرِ لِأَنَّ فِي الْحُكْمِ بِالِانْفِسَاخِ وَقَلْعِ الزَّرْعِ ضَرَرًا بِالْمُسْتَأْجِرِ، وَفِي الْإِبْقَاءِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ ضَرَرًا بِالْوَارِثِ، وَيُمْكِنُ تَوْفِيرُ الْحَقَّيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِإِبْقَاءِ الزَّرْعِ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ بِالْأَجْرِ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْفَسَخَ حَقِيقَةً بِالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا بَقَّيْنَاهُ حُكْمًا، فَأَشْبَهَ شُبْهَةَ الْعَقْدِ، وَاسْتِيفَاءُ الْمَنَافِعِ بِشُبْهَةِ الْعَقْدِ تُوجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ، كَمَا لَوْ اسْتَوْفَاهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ التَّسْمِيَةَ تَنَاوَلَتْ هَذِهِ الْمُدَّةَ فَإِذَا مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى التَّرْكِ بِعِوَضٍ كَانَ إيجَابُ الْعِوَضِ الْمُسَمَّى أَوْلَى لِوُقُوعِ التَّرَاضِي، بِخِلَافِ التَّرْكِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَتَعَذَّرَ إيجَابُ الْمُسَمَّى فَوَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ. وَمِنْهَا هَلَاكُ الْمُسْتَأْجَرِ، وَالْمُسْتَأْجَرِ فِيهِ لِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَعْدَ هَلَاكِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجَرُ عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا أَوْ حُلِيًّا أَوْ ظَرْفًا أَوْ دَابَّةً مُعَيَّنَةً فَهَلَكَ أَوْ هَلَكَ الثَّوْبُ الْمُسْتَأْجَرُ فِيهِ لِلْخِيَاطَةِ أَوْ لِلْقِصَارَةِ؛ بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى دَوَابَّ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا فَسَلَّمَ إلَيْهِ دَوَابَّ فَقَبَضَهَا فَمَاتَتْ لَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ، وَعَلَى الْمُؤَاجِرِ أَنْ يَأْتِيَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ مَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ إذَا لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً فَالْعَقْدُ يَقَعُ عَلَى مَنَافِعَ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا تُسَلَّمُ الْعَيْنُ لِيُقِيمَ مَنَافِعَهَا مَقَامَ مَا فِي ذِمَّتِهِ، فَإِذَا هَلَكَ بَقِيَ مَا فِي الذِّمَّةِ بِحَالِهِ فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَيِّنَ غَيْرَهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ إشَارَةِ الرِّوَايَاتِ فِي الدَّارِ إذَا انْهَدَمَ كُلُّهَا أَوْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْ الرَّحَى أَوْ الشُّرْبُ مِنْ الْأَرْضِ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ أَوْ يَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يُخَرَّجُ مَوْتُ الظِّئْرِ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَبْطُلُ بِهِ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَأْجَرَةٌ. وَمِنْهَا انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ إلَّا لِعُذْرٍ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ فَتَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، إلَّا إذَا كَانَ ثَمَّةَ عُذْرٌ بِأَنْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَفِي الْأَرْضِ زَرْعٌ لَمْ يُسْتَحْصَدْ فَإِنَّهُ يُتْرَكُ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ بِأَجْرِ الْمِثْلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَفِي الْأَرْضِ رَطْبَةٌ أَوْ غَرْسٌ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْقَلْعِ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِ الزَّرْعِ إلَى أَنْ يُدْرِكَ مُرَاعَاةَ الْحَقَّيْنِ، وَالنَّظَرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ لِقَطْعِهِ غَايَةً مَعْلُومَةً، فَأَمَّا الرَّطْبَةُ فَلَيْسَ لِقَطْعِهَا غَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَلَوْ لَمْ تُقْطَعْ لَتَعَطَّلَتْ الْأَرْضُ عَلَى صَاحِبِهَا فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، وَبِخِلَافِ الْغَاصِبِ إذَا زَرَعَ الْأَرْضَ الْمَغْصُوبَةَ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْقَلْعِ، وَلَا يُتْرَكُ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ بِأَجْرٍ؛ لِأَنَّ التَّرْكَ فِي الْإِجَارَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ نَظَرٌ لَهُ، وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ؛ لِأَنَّهُ زَرَعَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَأَمَّا الْغَاصِبُ فَظَالِمٌ مُتَعَدٍّ فِي الزَّرْعِ فَلَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ بِالتَّرْكِ مَعَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ زَرَعَ أَرَاضِيَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَكَانَ مُضَافًا إلَيْهِ. وَمِنْهَا عَجْزُ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ مَا اسْتَأْجَرَ شَيْئًا أَنَّهُ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْإِجَارَةِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ اُسْتُحِقَّتْ مِنْ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ، وَبِالْعَجْزِ يَبْطُلُ كَسْبُهُ فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِهَا مِنْ مَالِ الْمَوْلَى، فَإِنْ عَجَزَ بَعْدَ مَا اسْتَأْجَرَ فَالْإِجَارَةُ بَاقِيَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَبْطُلُ، وَالْكَلَامُ فِيهِ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ فِي كَيْفِيَّةِ مِلْكِ الْمَوْلَى كَسْبَ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ عَجْزِهِ أَنَّ عِنْدَ

أَبِي يُوسُفَ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ مَوْقُوفٌ مِلْكُهُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى عَجْزِهِ أَوْ عِتْقِهِ، فَإِنْ عَجَزَ مَلَكَهُ الْمَوْلَى مِنْ الْأَصْلِ، وَإِنْ عَتَقَ مَلَكَهُ الْمُكَاتَبُ مِنْ الْأَصْلِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ مِلْكُ الْمُكَاتَبِ، ثُمَّ إذَا عَجَزَ انْتَقَلَ إلَى الْمَوْلَى كَمَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ مِنْ الْمَيِّتِ إلَى وَرَثَتِهِ بِالْمَوْتِ،، وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَمَّا وَقَعَ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى فِي الْكَسْبِ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ صَارَ كَأَنَّ الْإِجَارَةَ وُجِدَتْ مِنْ الْمَوْلَى فَلَا تُنْتَقَضُ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ، وَلَمَّا كَانَ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الِانْتِقَالِ مِنْ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ عَجْزِهِ - عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ - صَارَ بِمَنْزِلَةِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ مِنْ الْمَيِّت إلَى وَارِثِهِ عِنْدَ عَجْزِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ انْتِقَاضَ الْإِجَارَةِ، كَذَا هَذَا، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُكَاتَبِ إذَا وُهِبَتْ لَهُ هِبَةٌ ثُمَّ عَجَزَ أَنَّ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَرْجِعُ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ.

كتاب الاستصناع

[كِتَابُ الِاسْتِصْنَاعِ] [فَصْلٌ فِي صُورَةُ الِاسْتِصْنَاعِ وَمَعْنَاهُ] يُحْتَاجُ لِمَعْرِفَةِ مَسَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ إلَى بَيَانِ صُورَةِ الِاسْتِصْنَاعِ وَمَعْنَاهُ، وَإِلَى بَيَانِ جَوَازِهِ، وَإِلَى بَيَانِ حُكْمِهِ، وَإِلَى بَيَانِ صِفَتِهِ. (فَصْلٌ) : أَمَّا صُورَةُ الِاسْتِصْنَاعِ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ إنْسَانٌ لِصَانِعٍ - مِنْ خَفَّافٍ أَوْ صَفَّارٍ أَوْ غَيْرِهِمَا -: اعْمَلْ لِي خُفًّا، أَوْ آنِيَةً مِنْ أَدِيمٍ أَوْ نُحَاسٍ، مِنْ عِنْدِك بِثَمَنِ كَذَا، وَيُبَيِّنُ نَوْعَ مَا يَعْمَلُ وَقَدْرَهُ وَصِفَتَهُ، فَيَقُولُ الصَّانِعُ: نَعَمْ. وَأَمَّا مَعْنَاهُ: فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُوَاعَدَةٌ وَلَيْسَ بِبَيْعٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ بَيْعٌ، لَكِنْ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ خِيَارٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ فِي جَوَازِهِ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي الْعِدَاتِ، وَكَذَا أَثْبَتَ فِيهِ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ، وَأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْبِيَاعَاتِ، وَكَذَا يَجْرِي فِيهِ التَّقَاضِي، وَإِنَّمَا يَتَقَاضَى فِيهِ الْوَاجِبُ - لَا الْمَوْعُودُ - ثُمَّ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْبَيْعِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَقْدٌ عَلَى مَبِيعٍ فِي الذِّمَّةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَقْدٌ عَلَى مَبِيعٍ فِي الذِّمَّةِ شُرِطَ فِيهِ الْعَمَلُ. وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الصَّانِعَ لَوْ أَحْضَرَ عَيْنًا، كَانَ عَمِلَهَا قَبْلَ الْعَقْدِ، وَرَضِيَ بِهِ الْمُسْتَصْنِعُ؛ لَجَازَ، وَلَوْ كَانَ شَرْطُ الْعَمَلِ مِنْ نَفْسِ الْعَقْدِ؛ لَمَا جَازَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَقَعُ عَلَى عَمَلٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ - لَا فِي الْمَاضِي - وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَخِيرُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِصْنَاعَ طَلَبُ الصُّنْعِ، فَمَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الْعَمَلُ لَا يَكُونُ اسْتِصْنَاعًا؛ فَكَانَ مَأْخَذُ الِاسْمِ دَلِيلًا عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى مَبِيعٍ فِي الذِّمَّةِ يُسَمَّى سَلَمًا، وَهَذَا الْعَقْدُ يُسَمَّى اسْتِصْنَاعًا، وَاخْتِلَافُ الْأَسَامِي دَلِيلُ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي فِي الْأَصْلِ وَأَمَّا إذَا أَتَى الصَّانِعُ بِعَيْنٍ صَنَعَهَا قَبْلَ الْعَقْدِ، وَرَضِيَ بِهِ الْمُسْتَصْنِعُ؛ فَإِنَّمَا جَازَ لَا بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، بَلْ بِعَقْدٍ آخَرَ، وَهُوَ التَّعَاطِي بِتَرَاضِيهِمَا. [فَصْلٌ فِي جَوَاز الِاسْتِصْنَاعِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا جَوَازُهُ، فَالْقِيَاسُ: أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، لَا عَلَى وَجْهِ السَّلَمِ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ، وَيَجُوزُ اسْتِحْسَانًا؛ لِإِجْمَاعِ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ

فصل في شرائط جواز الاستصناع

ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نُكْرٍ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا؛ فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ قَبِيحًا؛ فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ» وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِهَذَا تُرِكَ الْقِيَاسُ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ بِالْأَجْرِ، مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُدَّةِ، وَمِقْدَارِ الْمَاءِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ، وَفِي قَطْعِهِ الشَّارِبَ لِلسِّقَاءِ، مِنْ غَيْرِ بَيَانِ قَدْرِ الْمَشْرُوبِ، وَفِي شِرَاءِ الْبَقْلِ، وَهَذِهِ الْمُحَقَّرَاتُ كَذَا هَذَا؛ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى خُفٍّ، أَوْ نَعْلٍ مِنْ جِنْسٍ مَخْصُوصٍ، وَنَوْعٍ مَخْصُوصٍ، عَلَى قَدْرٍ مَخْصُوصٍ وَصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَلَّمَا يَتَّفِقُ وُجُودُهُ مَصْنُوعًا؛ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْتَصْنِعَ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ؛ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إنَّهُ مَعْدُومٌ؛ لِأَنَّهُ أُلْحِقَ بِالْمَوْجُودِ لِمِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ: فَلَمْ يَكُنْ بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى عَقْدَيْنِ جَائِزَيْنِ، - وَهُوَ السَّلَمُ وَالْإِجَارَةُ -؛ لِأَنَّ السَّلَمَ عَقْدٌ عَلَى مَبِيعٍ فِي الذِّمَّةِ، وَاسْتِئْجَارُ الصُّنَّاعِ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَمَلُ، وَمَا اشْتَمَلَ عَلَى مَعْنَى عَقْدَيْنِ جَائِزَيْنِ؛ كَانَ جَائِزًا. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ جَوَاز الِاسْتِصْنَاعِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِهِ (فَمِنْهَا) : بَيَانُ جِنْسِ الْمَصْنُوعِ، وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِدُونِهِ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ التَّعَامُلُ بَيْنَ النَّاسِ - مِنْ أَوَانِي الْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ، وَالنُّحَاسِ وَالزُّجَاجِ، وَالْخِفَافِ وَالنِّعَالِ، وَلُجُمِ الْحَدِيدِ لِلدَّوَابِّ، وَنُصُولِ السُّيُوفِ، وَالسَّكَاكِينِ وَالْقِسِيِّ، وَالنَّبْلِ وَالسِّلَاحِ كُلِّهِ، وَالطَّشْتِ وَالْقُمْقُمَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ - وَلَا يَجُوزُ فِي الثِّيَابِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهُ، وَإِنَّمَا جَوَازُهُ - اسْتِحْسَانًا - لِتَعَامُلِ النَّاسِ، وَلَا تَعَامُلَ فِي الثِّيَابِ. (وَمِنْهَا) : أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ أَجَلٌ، فَإِنْ ضَرَبَ لِلِاسْتِصْنَاعِ أَجَلًا؛ صَارَ سَلَمًا حَتَّى يُعْتَبَرَ فِيهِ شَرَائِطُ السَّلَمِ، وَهُوَ قَبْضُ الْبَدَلِ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا سَلَّمَ الصَّانِعُ الْمَصْنُوعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شُرِطَ عَلَيْهِ فِي السَّلَمِ (وَهَذَا) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَهُوَ اسْتِصْنَاعٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ - ضَرَبَ فِيهِ أَجَلًا أَوْ لَمْ يَضْرِبْ - وَلَوْ ضَرَبَ لِلِاسْتِصْنَاعِ فِيمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ الِاسْتِصْنَاعُ - كَالثِّيَابِ وَنَحْوِهَا - أَجَلًا؛ يَنْقَلِبُ سَلَمًا فِي قَوْلِهِمَا جَمِيعًا (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِضَرْبِ الْأَجَلِ فِي الِاسْتِصْنَاعِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ تَعْجِيلُ الْعَمَلِ لَا تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ؛ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ كَوْنِهِ اسْتِصْنَاعًا، أَوْ يُقَالُ: قَدْ يُقْصَدُ بِضَرْبِ الْأَجَلِ تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ، وَقَدْ يُقْصَدُ بِهِ تَعْجِيلُ الْعَمَلِ؛ فَلَا يَخْرُجُ الْعَقْدُ عَنْ مَوْضُوعِهِ، مَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، بِخِلَافِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِصْنَاعَ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِصْنَاعَ لَا يُقْصَدُ بِضَرْبِ الْأَجَلِ فِيهِ تَعْجِيلُ الْعَمَلِ؛ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ، وَذَلِكَ بِالسَّلَمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ إذَا ضَرَبَ فِيهِ أَجَلًا؛ فَقَدْ أَتَى بِمَعْنَى السَّلَمِ؛ إذْ هُوَ عَقْدٌ عَلَى مَبِيعٍ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلًا، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِمَعَانِيهَا لَا لِصُوَرِ الْأَلْفَاظِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ، وَكَذَا الْإِجَارَةُ، وَكَذَا النِّكَاحُ عَلَى أَصْلِنَا (وَلِهَذَا) صَارَ سَلَمًا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِصْنَاعَ - كَذَا هَذَا - وَلِأَنَّ التَّأْجِيلَ يَخْتَصُّ بِالدُّيُونِ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ وَتَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ إنَّمَا يَكُونُ فِي عَقْدٍ فِيهِ مُطَالَبَةٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا السَّلَمُ؛ إذْ لَا دَيْنَ فِي الِاسْتِصْنَاعِ أَلَا تَرَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِيَارَ الِامْتِنَاعِ مِنْ الْعَمَلِ قَبْلَ الْعَمَلِ بِالِاتِّفَاقِ؟ ثُمَّ إذَا صَارَ سَلَمًا؛ يُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ السَّلَمِ، فَإِنْ وُجِدَتْ صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا. [فَصْلٌ فِي حُكْمُ الِاسْتِصْنَاعِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الِاسْتِصْنَاعِ: فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُسْتَصْنِعِ فِي الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ فِي الذِّمَّةِ، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلصَّانِعِ فِي الثَّمَنِ مِلْكًا غَيْرَ لَازِمٍ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى [فَصْلٌ فِي صِفَةُ الِاسْتِصْنَاعِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الِاسْتِصْنَاعِ: فَهِيَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ قَبْلَ الْعَمَلِ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا، بِلَا خِلَافٍ، حَتَّى كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِيَارُ الِامْتِنَاعِ قَبْلَ الْعَمَلِ، كَالْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ: أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفَسْخَ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِمَا قُلْنَا. وَإِنَّمَا عَرَفْنَا جَوَازَهُ اسْتِحْسَانًا؛ لِتَعَامُلِ النَّاسِ، فَبَقِيَ اللُّزُومُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. (وَأَمَّا) بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ، فَكَذَلِكَ، حَتَّى كَانَ لِلصَّانِعِ أَنْ يَبِيعَهُ مِمَّنْ شَاءَ. كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَا وَقَعَ عَلَى عَيْنِ الْمَعْمُولِ، بَلْ عَلَى مِثْلِهِ فِي الذِّمَّةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى مِنْ مَكَان آخَرَ، وَسَلَّمَ إلَيْهِ؛ جَازَ، وَلَوْ بَاعَهُ الصَّانِعُ، وَأَرَادَ الْمُسْتَصْنِعُ أَنْ يُنْقِصَ الْبَيْعَ؛ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ؛ فَهُوَ كَالْبَائِعِ إذَا اسْتَهْلَكَ الْمَبِيعَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، كَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فَأَمَّا إذَا أَحْضَرَ الصَّانِعُ الْعَيْنَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ؛ فَقَدْ سَقَطَ خِيَارُ الصَّانِعِ، وَلِلْمُسْتَصْنِعِ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ

كتاب الشفعة

الصَّانِعَ بَائِعٌ مَا لَمْ يَرَهُ؛ فَلَا خِيَارَ لَهُ. وَأَمَّا الْمُسْتَصْنِعُ فَمُشْتَرِي مَا لَمْ يَرَهُ؛ فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا حَقِيقَةً، فَقَدْ أُلْحِقَ بِالْمَوْجُودِ، لِيُمْكِنَ الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ كَانَ ثَابِتًا لَهُمَا قَبْلَ الْإِحْضَارِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ لَازِمٍ، فَالصَّانِعُ بِالْإِحْضَارِ أَسْقَطَ خِيَارَ نَفْسِهِ؛ فَبَقِيَ خِيَارُ صَاحِبِهِ عَلَى حَالِهِ - كَالْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ شَرْطُ الْخِيَارِ لِلْعَاقِدَيْنِ إذَا أَسْقَطَ أَحَدُهُمَا خِيَارَهُ أَنَّهُ يَبْقَى خِيَارُ الْآخَرِ - كَذَا هَذَا (هَذَا) جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُمَا جَمِيعًا. (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الصَّانِعَ قَدْ أَفْسَدَ مَتَاعَهُ وَقَطَعَ جِلْدَهُ، وَجَاءَ بِالْعَمَلِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ، فَلَوْ كَانَ لِلْمُسْتَصْنِعِ الِامْتِنَاعُ مِنْ أَخْذِهِ؛ لَكَانَ فِيهِ إضْرَارٌ بِالصَّانِعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَطَعَ الْجِلْدَ وَلَمْ يَعْمَلْ، فَقَالَ الْمُسْتَصْنِعُ: لَا أُرِيدُ؛ لِأَنَّا لَا نَدْرِي أَنَّ الْعَمَلَ يَقَعُ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ أَوَّلًا، فَلَمْ يَكُنْ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ إضْرَارًا بِصَاحِبِهِ؛ فَثَبَتَ الْخِيَارُ (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ فِي تَخْيِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُ، وَأَنَّهُ وَاجِبٌ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلصَّانِعِ مَا شُرِعَ لَهُ الِاسْتِصْنَاعُ، وَهُوَ دَفْعُ حَاجَةِ الْمُسْتَصْنِعِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلصَّانِعِ؛ فَكُلُّ مَا فُرِّعَ عَنْهُ يَتْبَعُهُ مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَصْنِعِ؛ فَلَا تَنْدَفِعُ حَاجَةُ الْمُسْتَصْنِعِ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الصَّانِعَ يَتَضَرَّرُ بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلْمُسْتَصْنِعِ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّ ضَرَرَ الْمُسْتَصْنِعِ بِإِبْطَالِ الْخِيَارِ فَوْقَ ضَرَرِ الصَّانِعِ بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلْمُسْتَصْنِعِ؛ لِأَنَّ الْمَصْنُوعَ إذَا لَمْ يُلَائِمْهُ وَطُولِبَ بِثَمَنِهِ؛ لَا يُمْكِنُهُ بَيْعُ الْمَصْنُوعِ مِنْ غَيْرِهِ بِقِيمَةِ مِثْلِهِ، وَلَا يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ عَلَى الصَّانِعِ؛ لِكَثْرَةِ مُمَارَسَتِهِ وَانْتِصَابِهِ لِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْتَصْنِعَ إذَا غَرِمَ ثَمَنَهُ وَلَمْ تَنْدَفِعْ حَاجَتُهُ؛ لَمْ يَحْصُلْ مَا شُرِعَ لَهُ الِاسْتِصْنَاعُ - وَهُوَ انْدِفَاعُ حَاجَتِهِ - فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْمُوَفِّقُ فَإِنْ سَلَّمَ إلَى حَدَّادٍ حَدِيدًا لِيَعْمَلَ لَهُ إنَاءً مَعْلُومًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ، أَوْ جِلْدًا إلَى خَفَّافٍ لِيَعْمَلَ لَهُ خُفًّا مَعْلُومًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ؛ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَلَا خِيَارَ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِاسْتِصْنَاعٍ، بَلْ هُوَ اسْتِئْجَارٌ؛ فَكَانَ جَائِزًا فَإِنْ عَمِلَ كَمَا أُمِرَ؛ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ، وَإِنْ أَفْسَدَ؛ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ حَدِيدًا مِثْلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَفْسَدَهُ، فَكَأَنَّهُ أَخَذَ حَدِيدًا لَهُ وَاِتَّخَذَ مِنْهُ آنِيَةً مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ، وَالْإِنَاءُ لِلصَّانِعِ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ. [كِتَابُ الشُّفْعَةِ] [سَبَب ثُبُوت حَقّ الشُّفْعَة] (كِتَابُ الشُّفْعَةِ) : الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ سَبَبِ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَتَأَكَّدُ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَيَسْتَقِرُّ، وَفِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُمْلَكُ بِهِ الْمَشْفُوعُ فِيهِ، وَفِي بَيَانِ طَرِيقِ التَّمْلِيكِ، وَبَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ التَّمَلُّكِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُتَمَلَّكُ بِهِ، وَفِي بَيَانِ الْمُتَمَلِّكِ، وَفِي بَيَانِ الْمُتَمَلَّكِ مِنْهُ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ اخْتِلَافِ الشَّفِيعِ وَالْمُشْتَرِي، وَفِي بَيَانِ الْحِيلَةِ فِي إبْطَالِ الشُّفْعَةِ، وَفِي بَيَانِ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ أَمْ لَا. (أَمَّا) سَبَبُ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدِهِمَا: فِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ السَّبَبِ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَسَبَبُ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ الشَّرِكَةُ فِي مِلْكِ الْمَبِيعِ، وَالْخُلْطَةُ وَهِيَ الشَّرِكَةُ فِي حُقُوقِ الْمِلْكِ وَالْجِوَارُ، وَإِنْ شِئْت قُلْتَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ الشَّرِكَةُ وَالْجِوَارُ، ثُمَّ الشَّرِكَةُ نَوْعَانِ شَرِكَةٌ فِي مِلْكِ الْمَبِيعِ وَشَرِكَةٌ فِي حُقُوقِهِ كَالشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السَّبَبُ هُوَ الشَّرِكَةُ فِي مِلْكِ الْمَبِيع لَا غَيْرُ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ عِنْدَهُ بِالْخُلْطَةِ، وَلَا بِالْجِوَارِ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّمَا الشُّفْعَةُ فِي مَا لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» فَصَدْرُ الْحَدِيثِ إثْبَاتُ الشُّفْعَةِ فِي غَيْرِ الْمَقْسُومِ وَنَفْيُهَا فِي الْمَقْسُومِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ إنَّمَا لِإِثْبَاتِ الْمَذْكُورِ وَنَفْيِ مَا عَدَاهُ، وَآخِرُهُ نَفْيُ الشُّفْعَةِ عِنْدَ وُقُوعِ الْحُدُودِ وَصَرْفِ الطُّرُقِ، وَالْحُدُودُ بَيْنَ الْجَارَيْنِ وَاقِعَةٌ، وَالطُّرُقُ مَصْرُوفَةٌ فَكَانَتْ الشُّفْعَةُ مَنْفِيَّةً؛ وَلِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ تَمَلُّكُ مَالِ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَعِصْمَةُ مِلْكِهِ، وَكَوْنُ التَّمَلُّكِ إضْرَارًا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ حَقُّ الْأَخْذِ أَصْلًا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ثُبُوتَهُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ بِالنَّصِّ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي الْمَقْسُومِ عَلَى الْأَصْلِ، أَوْ ثَبَتَ مَعْلُولًا بِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ، وَهُوَ ضَرَرُ الْقِسْمَةِ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا لَازِمًا مَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ إلَّا

بِالشُّفْعَةِ. فَأَمَّا ضَرَرُ الْجِوَارِ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ، بَلْ هُوَ مُمْكِنُ الدَّفْعِ بِالرَّفْعِ إلَى السُّلْطَانِ، وَالْمُقَابَلَةِ بِنَفْسِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى دَفْعِهِ بِالشُّفْعَةِ (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَرْضٍ بِيعَتْ، وَلَيْسَ لَهَا شَرِيكٌ، وَلَهَا جَارٌ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهَا» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ» وَالصَّقَبُ الْمُلَاصِقُ أَيْ: أَحَقُّ بِمَا يَلِيهِ وَبِمَا يَقْرَبُ مِنْهُ وَرُوِيَ «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ وَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِدَفْعِ أَذَى الدَّخِيلِ، وَضَرَرِهِ وَذَلِكَ مُتَوَقَّعُ الْوُجُودِ عِنْدَ الْمُجَاوَرَةِ فَوُرُودُ الشَّرْعِ هُنَاكَ يَكُونُ وُرُودًا هُنَا دَلَالَةً، وَتَعْلِيلُ النَّصِّ بِضَرَرِ الْقِسْمَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَيْسَتْ بِضَرَرٍ بَلْ هِيَ تَكْمِيلُ مَنَافِعِ الْمِلْكِ، وَهِيَ ضَرَرٌ غَيْرُ وَاجِبِ الدَّفْعِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مَشْرُوعَةٌ وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ فِي الْعُرُوضِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْقِسْمَةِ. (وَأَمَّا) قَوْلُهُ: يُمْكِنُ دَفْعُ الضَّرَرِ بِالْمُقَابَلَةِ بِنَفْسِهِ، وَالْمُرَافَعَةِ إلَى السُّلْطَانِ فَنَقُولُ وَقَدْ لَا يَنْدَفِعُ بِذَلِكَ وَلَوْ انْدَفَعَ فَالْمُقَابَلَةُ، وَالْمُرَافَعَةُ فِي نَفْسِهَا ضَرَرٌ، وَضَرَرُ الْجَارِ السُّوءِ يَكْثُرُ وُجُودُهُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ فَيَبْقَى فِي ضَرَرٍ دَائِمٍ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ فِي صَدْرِهِ نَفْيُ الشُّفْعَةِ عَنْ الْمَقْسُومِ لِأَنَّ كَلِمَةَ إنَّمَا لَا تَقْتَضِي نَفْيَ غَيْرِ الْمَذْكُورِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَشَرًا مِثْلَهُ، وَآخِرُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَلَّقَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سُقُوطَ الشُّفْعَةِ بِشَرْطَيْنِ: وُقُوعِ الْحُدُودِ، وَصَرْفِ الطُّرُقِ، وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطَيْنِ لَا يُتْرَكُ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا، وَعِنْدَهُ يَسْقُطُ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ وَهُوَ وُقُوعُ الْحُدُودِ، وَإِنْ لَمْ تُصْرَفْ الطُّرُقُ ثُمَّ هُوَ مُؤَوَّلٌ وَتَأْوِيلُهُ فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ فَتَبَايَنَتْ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَتَبَاعَدَتْ فَلَا شُفْعَةَ أَوْ لَا شُفْعَةَ مَعَ وُجُودِ مَنْ لَمْ يَنْفَصِلْ حَدُّهُ، وَطَرِيقُهُ أَوْ فَلَا شُفْعَةَ بِالْقِسْمَةِ، كَمَا لَا شُفْعَةَ بِالرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فَكَانَ مَوْضِعَ الْإِشْكَالِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لِيَزُولَ الْإِشْكَالُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ كَيْفِيَّةِ السَّبَبِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدِهِمَا: يَعُمُّ حَالَ انْفِرَادِ الْأَسْبَابِ وَاجْتِمَاعِهَا، وَالثَّانِي: يَخُصُّ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ (أَمَّا) الَّذِي يَعُمُّ الْحَالَيْنِ جَمِيعًا فَهُوَ أَنَّ السَّبَبَ أَصْلُ الشَّرِكَةِ لَا قَدْرُهَا، وَأَصْلُ الْجِوَارِ لَا قَدْرُهُ حَتَّى لَوْ كَانَ لِلدَّارِ شَرِيكٌ وَاحِدٌ، أَوْ جَارٌ وَاحِدٌ أَخَذَ كُلَّ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ كَثُرَ شَرِكَتُهُ وَجِوَارُهُ، أَوْ قَلَّ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي قِسْمَةِ الشُّفْعَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ عِنْدَ اتِّحَادِ السَّبَبِ وَهُوَ الشَّرِكَةُ، أَوْ الْجِوَارُ أَنَّهَا تُقَسَّمُ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ لَا عَلَى قَدْرِ الشَّرِكَةِ وَعَنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى قَدْرِ الشَّرِكَةِ فِي مِلْكِ الْمَبِيعِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ، لِأَحَدِهِمْ نِصْفُهَا، وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا، وَلِآخَرِ سُدُسُهَا، فَبَاعَ صَاحِبُ النِّصْفِ نَصِيبَهُ كَانَتْ الشُّفْعَةُ بَيْنَ الْبَاقِينَ نِصْفَيْنِ عِنْدَنَا عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ، وَعِنْدَهُ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، وَثُلُثُهُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ عَلَى قَدْرِ الشَّرِكَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِتَكْمِيلِ مَنَافِعِ الْمِلْكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ كَالثَّمَرَةِ وَالْغَلَّةِ. (وَلَنَا) أَنَّ السَّبَبَ فِي مَوْضِعِ الشَّرِكَةِ أَصْلُ الشَّرِكَةِ وَقَدْ اسْتَوَيَا فِيهِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ أَصْلُ الشَّرِكَةِ دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ، وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ؛ فَلِأَنَّ الشَّفِيعَ إذَا كَانَ وَاحِدًا يَأْخُذُ كُلَّ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ، وَلَوْ كَانَ السَّبَبُ قَدْرَ الشَّرِكَةِ لَتَقَدَّرَ حَقُّ الْأَخْذِ بِقَدْرِهَا، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ؛ فَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِدَفْعِ أَذَى الدَّخِيلِ وَضَرَرِهِ، وَالضَّرَرُ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِأَخْذِ كُلِّ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ فَدَلَّ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الشَّرِكَةِ هُوَ أَصْلُ الشَّرِكَةِ وَقَدْ اسْتَوَيَا فِيهِ فَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا الْكُلَّ دُونَ صَاحِبِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْكُلَّ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ صَاحِبِهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِاسْتِحَالَةِ تَمَلُّكِ دَارٍ وَاحِدَةٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ مِنْ اثْنَيْنِ عَلَى الْكَمَالِ فَتُنَصَّفُ بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِكَمَالِ السَّبَبِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ فَإِنَّ مَنْ هَلَكَ عَنْ ابْنَيْنِ كَانَ مِيرَاثُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ بُنُوَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ كُلِّ الْمِيرَاثِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ لِتَضَايُقِ الْمَحَلِّ فَيُنَصَّفُ بَيْنَهُمَا فَكَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لِدَارٍ وَاحِدَةٍ شَفِيعَانِ جَارَانِ جِوَارُهُمَا عَلَى التَّفَاوُتِ بِأَنْ كَانَ جِوَارُ أَحَدِهِمَا بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ الدَّارِ، وَجِوَارُ الْآخَرِ لِسُدُسِهَا كَانَتْ الشُّفْعَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ أَصْلُ الْجِوَارِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا كَانَ لِلدَّارِ شَفِيعَانِ فَأَسْقَطَ أَحَدُهُمَا الشُّفْعَةَ أَنَّ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ الدَّارِ

بِالشُّفْعَةِ لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْكُلِّ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا الْقِسْمَةُ لِلتَّزَاحُمِ وَالتَّعَارُضِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَإِذَا أَسْقَطَ أَحَدُهُمَا زَالَ التَّزَاحُمُ، وَالتَّعَارُضُ فَظَهَرَ حَقُّ الْآخَرِ فِي الْكُلِّ، فَيَأْخُذَ الْكُلَّ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الشُّفَعَاءُ جَمَاعَةً فَأَسْقَطَ بَعْضُهُمْ حَقَّهُ فَلِلْبَاقِينَ أَنْ يَأْخُذُوا الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كَانَ لِلدَّارِ شَفِيعَانِ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ، فَلِلْحَاضِرِ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَى الْكَمَالِ وُجِدَ فِي حَقِّهِ وَقَدْ تَأَكَّدَ حَقُّهُ بِالطَّلَبِ وَلَمْ يُعْرَفْ تَأَكُّدُ حَقِّ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَطْلُبَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَطْلُبَ، أَوْ يُعْرِضَ فَلَمْ يَقَعْ التَّعَارُضُ، وَالتَّزَاحُمُ فَلَا يَمْنَعُ الْحَاضِرَ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ الثَّابِتِ الْمُتَأَكِّدِ بِحَقٍّ يَحْتَمِلُ التَّأَكُّدَ، وَالْعَدَمَ بَلْ يُقْضَى لَهُ بِالْكُلِّ عَمَلًا بِكَمَالِ السَّبَبِ مِنْ غَيْرِ تَعَارُضٍ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهَلَكَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَحَدُ صَاحِبَيْ الدِّينِ غَائِبٌ أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ إلَى الْحَاضِرِ إلَّا خَمْسُمِائَةٍ، لِأَنَّ هُنَاكَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي حَقَّ الْآخَرِ فِي التَّأَكُّدِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوِيَّةِ لِوُقُوعِ التَّعَارُضِ، وَالتَّزَاحُمِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِلدَّارِ شُفَعَاءُ بَعْضُهُمْ غَائِبٌ، وَبَعْضُهُمْ حَاضِرٌ يُقْضَى بِالدَّارِ بَيْنَ الْحُضُورِ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ نَصِيبَهُ لِبَعْضٍ، لَمْ يَصِحَّ جَعْلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَسَقَطَ حَقُّ الْجَاعِلِ، وَقُسِّمَتْ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِ مَنْ بَقِيَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمْرٍ ثَابِتٍ فِي الْمَحَلِّ فَبَطَلَ الْجَعْلُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَسَقَطَ حَقُّهُ لِكَوْنِ الْجَعْلِ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ وَبَقِي كُلُّ الدَّارِ بَيْنَ الْبَاقِينَ فَيُقَسِّمُونَهَا عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ حَاضِرًا فَقُضِيَ لَهُ بِكُلِّ الدَّارِ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ يُقْضَى لَهُ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِ الْحَاضِرِ، فَإِنْ جَاءَ ثَالِثٌ يُقْضَى لَهُ بِثُلُثِ مَا فِي يَدِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِوُقُوعِ التَّعَارُضِ، وَالتَّزَاحُم، لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي سَبَبِ ثُبُوتِ الْحَقِّ وَتَأَكُّدِهِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى السَّوِيَّةِ. وَلَوْ أَخَذَ الْحَاضِرُ الْكُلَّ، ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ فَقَالَ لَهُ الْحَاضِرُ: أَنَا أُسَلِّمُ لَك الْكُلَّ فَإِمَّا أَنْ تَأْخُذَ، أَوْ تَدَعَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَلِلَّذِي قَدِمَ أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى لِلْحَاضِرِ بِكُلِّ الدَّارِ تَضَمَّنَ قَضَاؤُهُ بُطْلَانَ حَقِّ الْغَائِبِ عَنْ النِّصْفِ، وَصَارَ الْغَائِبُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فِي ضِمْنِ الْقَضَاءِ لِلْحَاضِرِ بِالْكُلِّ فَبَعُدَ ذَلِكَ، وَإِنْ بَطَلَ الْقَضَاءُ لَكِنَّ الْحَقَّ بَعْدَمَا بَطَلَ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ، وَلَوْ قَضَى بِالدَّارِ لِلْحَاضِرِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ إلَّا نِصْفَ الدَّارِ سَوَاءٌ كَانَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءٍ، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَسَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا قَضَى الْقَاضِي لِلْحَاضِرِ بِكُلِّ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ فَقَدْ أَبْطَلَ حَقَّ الْغَائِبِ عَنْ النِّصْفِ وَصَارَ هُوَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ ضَرُورَةَ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَبَطَلَتْ شُفْعَتُهُ فِي هَذَا النِّصْفِ فَلَا يُحْتَمَلُ الْعَوْدُ سَوَاءٌ كَانَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءٍ، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا بَطَلَ حَقُّهُ فِي النِّصْفِ بِالْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ، وَبِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ، وَكَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الرَّدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ أَرَادَ الْغَائِبُ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ بِرَدِّ الْحَاضِرِ بِالْعَيْبِ وَيَدَعَ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ، يَنْظُرُ إنْ كَانَ الرَّدُّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بَيْعٌ مُطْلَقٌ فَكَانَ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ الشُّفْعَةِ فَيَأْخُذَ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ كَمَا يَأْخُذُ بِالْبَيْعِ الْمُبْتَدَإِ هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ وَأَطْلَقَ الْجَوَابَ وَلَمْ يُفَصِّلْ بَيْنَمَا إذَا كَانَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: مَا ذُكِرَ مِنْ الْجَوَابِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ قَبْلَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بَيْعٌ جَدِيدٌ، وَبَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ عَلَى أَصْلِهِ وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إطْلَاقُ الْجَوَابِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُف رَحِمَهُمَا اللَّهُ. (وَمِنْهُمْ) مَنْ قَالَ: يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ رِضَا الشَّفِيعِ هَهُنَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِكَوْنِهِ مَجْبُورًا فِي التَّمْلِيكِ فَكَانَ رِضَاهُ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَإِنْ كَانَ بِقَضَاءٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ مُطْلَقٌ، وَرَفْعُ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ يَخْتَصُّ بِالْبَيْعِ وَلَوْ اطَّلَعَ الْحَاضِرُ عَلَى عَيْبٍ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى لَهُ بِالشُّفْعَةِ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْكُلَّ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا لَمْ يَقْضِ بِالشُّفْعَةِ لِلْحَاضِرِ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الْغَائِبِ بَلْ بَقِيَ فِي كُلِّ الدَّارِ لِوُجُودِ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الْكُلِّ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِمُزَاحَمَةِ الْحَاضِرِ فِي الْكُلِّ وَبِالتَّسْلِيمِ زَالَتْ الْمُزَاحَمَةُ فَظَهَرَ حَقُّ الْغَائِبِ فِي كُلِّ الدَّارِ، وَلَوْ رَدَّ الْحَاضِرُ الدَّارَ بِالْعَيْبِ بَعْدَ مَا قُضِيَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ حَضَرَ شَفِيعَانِ أَخَذَا ثُلُثَيْ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ، وَالْحُكْمُ فِي الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثِ سَوَاءٌ يَسْقُطُ حَقُّ الْغَائِبِ بِقَدْرِ حِصَّةِ الْحَاضِرِ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا لَوْ كَانَ الشَّفِيعُ الْحَاضِرُ اشْتَرَى الدَّارَ مِنْ الْمُشْتَرِي ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ كُلَّ الدَّارِ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ كُلَّهَا بِالْبَيْعِ

الثَّانِي. (أَمَّا) الْأَخْذُ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ؛ فَلِأَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ فِي الشُّفْعَةِ قَدْ بَطَلَ بِالشِّرَاءِ مِنْ الْمُشْتَرِي لِكَوْنِ الشِّرَاءِ مِنْهُ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ فَزَالَتْ الْمُزَاحَمَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقِسْمَةِ فَبَقِيَ حَقُّ الْغَائِبِ فِي كُلِّ الدَّارِ فَيَأْخُذُ الْكُلَّ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ إنْ شَاءَ بِخِلَافِ الشَّفِيعِ إذَا اشْتَرَى الدَّارَ الْمَشْفُوعَةَ مِنْ صَاحِبِهَا أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ الْبُطْلَانَ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الشِّرَاءِ وَلَا حَقَّ لَهُ قَبْلَ الشِّرَاءِ لِيَبْطُلَ بِهِ. (وَأَمَّا) الْأَخْذُ بِالْبَيْعِ الثَّانِي؛ فَلِأَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ وُجِدَ وَلَا حَقَّ لِلْحَاضِرِ فِي الشُّفْعَةِ لِصَيْرُورَتِهِ مُعْرِضًا بِالشِّرَاءِ، فَيَظْهَرُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالْكُلِّ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ شَفِيعًا لِلدَّارِ فَاشْتَرَاهَا الشَّفِيعُ الْحَاضِرُ مِنْهُ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الدَّارِ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ كُلَّهَا بِالْبَيْعِ الثَّانِي. (أَمَّا) أَخْذُ النِّصْفِ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ؛ فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقٌّ قَبْلَ الشِّرَاءِ حَتَّى يَكُونَ بِشِرَائِهِ مُعْرِضًا عَنْهُ، فَإِذَا بَاعَهُ مِنْ الشَّفِيعِ الْحَاضِرِ لَمْ يَثْبُتْ لِلْغَائِبِ إلَّا مِقْدَارُ مَا كَانَ يَخُصُّهُ بِالْمُزَاحَمَةِ مَعَ الْأَوَّلِ وَهُوَ النِّصْفُ وَأَمَّا أَخْذُ الْكُلِّ بِالْعَقْدِ الثَّانِي؛ فَلِأَنَّ السَّبَبَ عِنْدَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ أَوْجَبَ الشُّفْعَةَ لِلْكُلِّ فِي الدَّارِ وَقَدْ بَطَلَ حَقُّ الشَّفِيعِ الْحَاضِرِ بِالشِّرَاءِ لِكَوْنِ الشِّرَاءِ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ فَبَقِيَ حَقُّ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَالْغَائِبِ فِي كُلِّ الدَّارِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا لِلتَّزَاحُمِ فَيَأْخُذُ الْغَائِبُ نِصْفَ الدَّارِ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْكُلَّ بِالْعَقْدِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ السَّبَبَ عِنْدَ الْعَقْدِ الثَّانِي أَوْجَبَ لِلشَّفِيعِ حَقَّ الشُّفْعَةِ ثُمَّ بَطَلَ حَقُّ الشَّفِيعِ الْحَاضِرِ عِنْدَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الشِّرَاءِ الثَّانِي بِعَقْدِهِ حَقٌّ لِإِعْرَاضِهِ فَكَانَ لِلْغَائِبِ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ الدَّارِ بِالْعَقْدِ الثَّانِي. وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ أَجْنَبِيًّا اشْتَرَاهَا بِأَلْفٍ فَبَاعَهَا مِنْ أَجْنَبِيٍّ بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ، فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَشَرْطِهِ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيْعَيْنِ فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ فَإِنْ أَخَذَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ سَلَّمَ الثَّمَنَ إلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ، وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ وَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ الثَّانِي وَيَسْتَرِدُّ الْمُشْتَرِي الثَّانِي الثَّمَنَ مِنْ الْأَوَّلِ، وَإِنْ أَخَذَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي تَمَّ الْبَيْعَانِ جَمِيعًا وَالْعُهْدَةُ عَلَى الثَّانِي غَيْرَ أَنَّهُ إنْ وَجَدَ الْمُشْتَرِيَ الثَّانِيَ، وَالدَّارُ فِي يَدِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي سَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ حَاضِرًا، أَوْ غَائِبًا، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ وَالثَّانِي هَكَذَا، ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ -. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حَضْرَةُ الْأَوَّلِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الَّذِي فِي يَدِهِ وَيَدْفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا وَيُقَالُ لَهُ: اتْبَعْ الْأَوَّلَ وَخُذْ مِنْهُ أَلْفًا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَيَدْفَعُ إلَيْهِ أَلْفًا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ حَقٌّ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الدَّارِ فَلَا يُشْتَرَطُ لِاسْتِيفَائِهِ حَضْرَةُ الْمُشْتَرِي. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَخْذَ مِنْ غَيْرِ حَضْرَةِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ، لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ عَلَى مَا نَذْكُرهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَيَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَقَوْلُهُ: حَقُّ الشُّفْعَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَيْنِ مَمْنُوعٌ بَلْ لَا حَقَّ فِي الْعَيْنِ وَإِنَّمَا الثَّابِتُ حَقُّ التَّمْلِيكِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلَا بُدَّ مِنْ حَضْرَتِهِ وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي بَاعَ نِصْفَ الدَّارِ وَلَمْ يَبِعْ جَمِيعَهَا، فَجَاءَ الشَّفِيعُ وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ أَخَذَ جَمِيعَ الدَّارِ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْجَمِيعِ، وَشَرْطَهُ مَوْجُودٌ عِنْدَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَإِذَا أَخَذَ الْكُلَّ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ عَلَى حَقِّ الشَّفِيعِ فِي قَدْرِ النِّصْفِ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الْبَيْعُ وُجِدَ فِي النِّصْفِ، وَبَطَلَتْ شُفْعَتُهُ فِي النِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْإِعْرَاضِ. وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَبِعْ الدَّارَ وَلَكِنَّهُ وَهَبَهَا مِنْ رَجُلٍ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى رَجُلٍ وَقَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ أَوْ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ وَالْمُشْتَرِي وَالْمَوْهُوبُ لَهُ حَاضِرَانِ، أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ لَا بِالْهِبَةِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْعَقْدِ مُعَاوَضَةً مِنْ شَرَائِطِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى مَا نَذْكُرهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا بُدَّ مِنْ حَضْرَةِ الْمُشْتَرِي حَتَّى لَوْ حَضَرَ الشَّفِيعُ وَوَجَدَ الْمَوْهُوبَ لَهُ فَلَا خُصُومَةَ مَعَهُ حَتَّى يَجِدَ الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذَهَا بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ، وَالثَّمَنُ لَلْمُشْتَرِي وَتَبْطُلُ الْهِبَةُ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ وَأَمَّا الْكَرْخِيُّ فَقَدْ جَعَلَهُ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ الدَّارُ وَهُوَ الْمَوْهُوب لَهُ

لَمْ يَكُنْ خَصْمًا عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ خَصْمًا كَمَا فِي الْبَيْعِ. وَلَوْ وَهَبَ الْمُشْتَرِي نِصْفَ الدَّارِ مَقْسُومًا وَسَلَّمَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ جَمِيعَ الدَّارِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، أَوْ يَدَعُ؛ لِأَنَّ فِي أَخْذِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِذَا أَخَذَ الْكُلَّ بَطَلَتْ الْهِبَةُ وَكَانَ الثَّمَنُ كُلُّهُ لَلْمُشْتَرِي لَا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا بِأَلْفٍ ثُمَّ بَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ فَعَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ الثَّانِي وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَأَخَذَهَا بِقَضَاءٍ، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ كَانَ بِأَلْفٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ أَخْذَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَهَا بِالْبَيْعِ الثَّانِي فَقَدْ مَلَكَهَا، وَحَقُّ التَّمْلِيكِ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ لَا يُتَصَوَّرُ فَسَقَطَ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ، وَالثَّابِتُ ضَرُورَةً يَسْتَوِي فِيهِ الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ، فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِأَلْفٍ ثُمَّ زَادَهُ فِي الثَّمَنِ أَلْفًا فَعَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْأَلْفَيْنِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَ زِيَادَةٌ فَأَخَذَهَا بِأَلْفَيْنِ فَإِذَا أَخَذَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَبْطَلَ الْقَاضِي الزِّيَادَةَ وَقَضَى لَهُ بِالْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ شَرْعًا فِي حَقِّ الشَّفِيعِ فَكَانَ الْقَضَاءُ بِالزِّيَادَةِ قَضَاءً بِمَا لَيْسَ بِثَابِتٍ فَيُبْطِلُهَا الْقَاضِي وَإِنْ أَخَذَهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ أَخْذَهُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءٍ مُبْتَدَإٍ فَسَقَطَ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي حِينَ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ نَاقَضَهُ الْبَيْعَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ فَأَخَذَ الشَّفِيعُ بِأَلْفَيْنِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ عَلِمَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ سَوَاءٌ كَانَ بِقَضَاءٍ، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ بَيْعَانِ لَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ بِهِمَا فَإِذَا أَخَذَ بِأَحَدِهِمَا انْتَقَضَ الْآخَرُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَإِذَا كَانَ لِلدَّارِ جَارَانِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ وَالْآخَرُ حَاضِرٌ فَخَاصَمَ الْحَاضِرُ إلَى قَاضٍ لَا يَرَى الشُّفْعَةَ بِالْجِوَارِ فَأَبْطَلَ شُفْعَتَهُ ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ فَخَاصَمَهُ إلَى قَاضٍ يَرَى الشُّفْعَةَ قَضَى لَهُ بِجَمِيعِ الدَّارِ، لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي الْأَوَّلِ صَادَفَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ فَنَفَذَ، وَبَطَلَتْ شُفْعَةُ الْحَاضِرِ فَبَقِيَ حَقُّ الْغَائِبِ فِي كُلِّ الدَّارِ لِوُجُودِ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الْكُلِّ فَيَأْخُذَ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي الْأَوَّلُ قَالَ: أَبْطَلْتُ كُلَّ الشُّفْعَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَيْعِ لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَةُ الْغَائِبِ كَذَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَخُصُّ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ فَهُوَ أَنَّ أَسْبَابَ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ إذَا اجْتَمَعَتْ يُرَاعَى فِيهَا التَّرْتِيبُ فَيُقَدَّمُ الْأَقْوَى، فَالْأَقْوَى فَيُقَدَّمُ الشَّرِيكُ عَلَى الْخَلِيطِ، وَالْخَلِيطُ عَلَى الْجَارِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنْ الْخَلِيطِ، وَالْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ» وَلِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ هُوَ دَفْعُ ضَرَرِ الدَّخِيلِ، وَأَذَاهُ، وَسَبَبُ وُصُولِ الضَّرَرِ وَالْأَذَى هُوَ الِاتِّصَالُ، وَالِاتِّصَالُ عَلَى هَذِهِ الْمَرَاتِبِ، فَالِاتِّصَالُ بِالشَّرِكَةِ فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ أَقْوَى مِنْ الِاتِّصَالِ بِالْخَلْطِ، وَالِاتِّصَالُ بِالْخَلْطِ أَقْوَى مِنْ الِاتِّصَالِ بِالْجِوَارِ، وَالتَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ التَّأْثِيرِ تَرْجِيحٌ صَحِيحٌ، فَإِنْ سَلَّمَ الشَّرِيكُ وَجَبَتْ لِلْخَلِيطِ وَإِنْ اجْتَمَعَ خَلِيطَانِ يُقَدَّمُ الْأَخَصُّ عَلَى الْأَعَمِّ، وَإِنْ سَلَّمَ الْخَلِيطُ وَجَبَتْ لِلْجَارِ لِمَا قُلْنَا وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ الشَّرِيكُ فَلَا شُفْعَةَ لِغَيْرِهِ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُف أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ الْبَيْعِ كَانَ لِلشَّرِيكِ لَا لِغَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ؟ فَإِذَا سَلَّمَ سَقَطَ الْحَقُّ أَصْلًا؟ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ سَبَبٌ صَالِحٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ إلَّا أَنَّهُ يُرَجَّحُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ لِقُوَّةٍ فِي التَّأْثِيرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَإِذَا سَلَّمَ الشَّرِيكُ الْتَحَقَتْ شَرِكَتُهُ بِالْعَدَمِ وَجُعِلَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فَيُرَاعَى التَّرْتِيبُ فِي الْبَاقِي، كَمَا لَوْ اجْتَمَعَتْ الْخُلْطَةُ وَالْجِوَارُ ابْتِدَاءً، وَبَيَانُ هَذَا فِي مَسَائِلَ: دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ طَرِيقُهَا مِنْ هَذِهِ السِّكَّةِ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، فَالشُّفْعَةُ لِشَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ شَرِكَتَهُ فِي عَيْنِ الدَّارِ، وَشَرِكَةَ أَهْلِ السِّكَّةِ فِي الْحُقُوقِ فَكَانَ الشَّرِيكُ فِي عَيْنِ الدَّارِ أَوْلَى بِالشُّفْعَةِ فَإِذَا سَلَّمَ فَالشُّفْعَةُ لِأَهْلِ السِّكَّةِ كُلِّهِمْ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُلَاصِقُ، وَغَيْرُ الْمُلَاصِقِ؛ لِأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ خُلَطَاءُ فِي الطَّرِيقِ فَإِنْ سَلَّمُوا فَالشُّفْعَةُ لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ. وَعَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا سَلَّمَ الشَّرِيكُ سَقَطَتْ الشُّفْعَةُ، أَصْلًا وَلَوْ انْشَعَبَتْ مِنْ هَذِهِ السِّكَّةِ سِكَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ نَافِذَةٍ، فَبِيعَتْ دَارٌ فِيهَا فَالشُّفْعَةُ لِأَهْلِ هَذِهِ السِّكَّةِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ خُلْطَةَ أَهْلِ هَذِهِ السِّكَّةِ السُّفْلَى أَخَصُّ مِنْ خُلْطَةِ أَهْلِ السِّكَّةِ الْعُلْيَا، وَلَوْ بِيعَتْ دَارٌ فِي السِّكَّةِ الْعُلْيَا اسْتَوَى فِي شُفْعَتِهَا أَهْلُ السِّكَّةِ الْعُلْيَا، وَأَهْلُ السِّكَّةِ السُّفْلَى؛ لِأَنَّ خُلْطَتَهُمْ فِي السِّكَّةِ الْعُلْيَا سَوَاءٌ، فَيَسْتَوُونَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَهْلُ الدَّرْبِ يَسْتَحِقُّونَ الشُّفْعَةَ بِالطَّرِيقِ إذَا كَانَ مِلْكَهُمْ أَوْ كَانَ فِنَاءً غَيْرَ مَمْلُوكٍ، أَمَّا إذَا كَانَ مِلْكًا لَهُمْ فَظَاهِرٌ

لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ وَهِيَ الشَّرِكَةُ فِي الطَّرِيقِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ فِنَاءً غَيْرَ مَمْلُوكٍ؛ فَلِأَنَّهُمْ أَخَصُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْمَمْلُوكِ، وَإِنْ كَانَتْ السِّكَّةُ نَافِذَةً فَبِيعَتْ دَارٌ فِيهَا فَلَا شُفْعَةَ إلَّا لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ الْعَامَّةَ إبَاحَةٌ مَعْنًى، لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا فَهُوَ فِي حُكْمِ غَيْرِ النَّافِذِ، وَالطَّرِيقُ النَّافِذُ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الشُّفْعَةَ مَا لَا يَمْلِكُ أَهْلُهُ سَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ شَرِكَتُهُ عَامَّةً فَيُشْبِهُ الْإِبَاحَةَ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ النَّهْرُ إذَا كَانَ صَغِيرًا يُسْقَى مِنْهُ أَرَاضِي مَعْدُودَةٌ أَوْ كُرُومٌ مَعْدُودَةٌ فَبِيعَ أَرْضٌ مِنْهَا أَوْ كَرْمٌ أَنَّ الشُّرَكَاءَ فِي النَّهْرِ كُلَّهُمْ شُفَعَاءُ، يَسْتَوِي الْمُلَاصِقُ وَغَيْرُ الْمُلَاصِقِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْخُلْطَةِ وَهِيَ الشَّرِكَةُ فِي الشُّرْبِ وَإِنْ كَانَ النَّهْرُ كَبِيرًا فَالشُّفْعَةُ لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ بِمَنْزِلَةِ الشَّوَارِعِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الصَّغِيرِ، وَالْكَبِيرِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا كَانَ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ فَهُوَ كَبِيرٌ، وَإِنْ كَانَ لَا تَجْرِي فَهُوَ صَغِيرٌ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَحُدَّ هَذَا بِحَدٍّ هُوَ عِنْدِي عَلَى مَا أَرَى حِينَ يَقَعُ ذَلِكَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ إنْ كَانَ يُسْقَى مِنْهُ مَرَاحَانِ، أَوْ ثَلَاثَةٌ، أَوْ بُسْتَانَانِ، أَوْ ثَلَاثَةٌ فَفِيهِ الشُّفْعَةُ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا. وَالْقَاضِي لَمْ يَذْكُرْ خِلَافَهُمْ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالَ بَعْضُهُمْ إنْ كَانَ شُرَكَاءُ النَّهْرِ بِحَيْثُ يُحْصَوْنَ فَهُوَ صَغِيرٌ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَهُوَ كَبِيرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانُوا مِائَةً فَمَا دُونَهُمْ فَهُوَ صَغِيرٌ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ فَهُوَ كَبِيرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي فَإِنْ رَآهُ صَغِيرًا قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِأَهْلِهِ، وَإِنْ رَآهُ كَبِيرًا قَضَى بِهَا لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ، وَلَوْ نَزَعَ مِنْ هَذَا النَّهْرِ نَهْرٌ آخَرُ فِيهِ أَرْضُونَ، أَوْ بَسَاتِينُ، وَكُرُومٌ فَبِيعَ أَرْضٌ، أَوْ بُسْتَانٌ شُرْبُهُ مِنْ هَذَا النَّهْرِ النَّازِعِ فَأَهْلُ هَذَا النَّهْرِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ أَهْلِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ مُخْتَصُّونَ بِشُرْبِ النَّهْرِ النَّازِعِ؟ فَكَانُوا أَوْلَى كَمَا فِي السِّكَّةِ الْمُنْشَعِبَةِ مِنْ سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، وَلَوْ بِيعَتْ أَرْضٌ عَلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ كَانَ أَهْلُهُ، وَأَهْلُ النَّهْرِ النَّازِعِ فِي الشُّفْعَةِ سَوَاءً لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الشُّرْبِ. قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَرَاحٍ وَاحِدٍ فِي وَسَطِ سَاقِيَةٍ جَارِيَةٍ شُرْبُ هَذَا الْقَرَاحِ مِنْهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَبِيعَ الْقَرَاحُ فَجَاءَ شَفِيعَانِ أَحَدُهُمَا يَلِي هَذِهِ النَّاحِيَةَ فِي الْقَرَاحِ، وَالْآخَرُ يَلِي الْجَانِبَ الْآخَرَ قَالَ هُمَا شَفِيعَانِ فِي الْقَرَاحِ وَلَيْسَتْ السَّاقِيَةُ بِحَائِلَةٍ؛ لِأَنَّ السَّاقِيَةَ مِنْ حُقُوقِ هَذَا الْقَرَاحِ فَلَا يُعْتَبَرُ فَاصِلًا كَالْحَائِطِ الْمُمْتَدِّ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ السَّاقِيَةُ بِجِوَارِ الْقَرَاحِ وَيَشْرَبُ مِنْهَا أَلْفُ جَرِيبٍ مِنْ هَذَا الْقَرَاحِ، فَأَصْحَابُ السَّاقِيَةِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ الْجَارِ؛ لِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي الشُّرْبِ، وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ لِمَا مَرَّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي دَارٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلِرَجُلٍ فِيهَا طَرِيقٌ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ أَنَّ الشَّرِيكَ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ صَاحِبِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ فِي عَيْنِ الْعَقَارِ أَحَقُّ مِنْ الْخَلِيطِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا حَائِطٌ بِأَرْضِهِ فِي الدَّارِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَبَاعَ الَّذِي لَهُ شَرِكَةٌ فِي الْحَائِطِ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ وَالْحَائِطِ، فَالشَّرِيكُ فِي الدَّارِ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ الدَّارِ، وَالشَّرِيكُ فِي الْحَائِطِ أَوْلَى بِالْحَائِطِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ فِي الْحَائِطِ لَيْسَ بِشَرِيكٍ فِي الدَّارِ بَلْ هُوَ جَارٌ لِبَقِيَّةِ الدَّارِ، وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ. وَكَذَلِكَ دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا بِئْرٌ فِي الدَّارِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَبَاعَ الَّذِي لَهُ شَرِكَةٌ فِي الْبِئْرِ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ وَالْبِئْرِ فَالشَّرِيكُ فِي الدَّارِ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ الدَّارِ، وَالشَّرِيكُ فِي الْبِئْرِ أَحَقُّ بِالْبِئْرِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرِيكَ فِي الْبِئْرِ جَارٌ لِبَقِيَّةِ الدَّارِ، وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ، وَكَذَلِكَ سُفْلٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا عُلُوٌّ عَلَيْهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَبَاعَ الَّذِي لَهُ نَصِيبٌ فِي السُّفْلِ وَالْعُلُوِّ نَصِيبَهُ فَلِشَرِيكِهِ فِي السُّفْلِ الشُّفْعَةُ فِي السُّفْلِ، وَلِشَرِيكِهِ فِي الْعُلُوِّ الشُّفْعَةُ فِي الْعُلُوِّ وَلَا شُفْعَةَ لِشَرِيكِهِ فِي السُّفْلِ فِي الْعُلُوِّ، وَلَا لِشَرِيكِهِ فِي الْعُلُوِّ فِي السُّفْلِ؛ لِأَنَّ شَرِيكَهُ فِي السُّفْلِ جَارُ الْعُلُوِّ، وَشَرِيكُهُ فِي حُقُوقِ الْعُلُوِّ - وَإِنْ كَانَ طَرِيقُ الْعُلُوِّ فِيهِ لَيْسَ بِشَرِيكٍ لَهُ فِي الْعُلُوِّ - وَالشَّرِيكُ فِي عَيْنِ الْبُقْعَةِ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْبُقْعَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ، وَالشَّرِيكُ فِي الْحُقُوقِ وَشَرِيكُهُ فِي الْعُلُوِّ جَارٌ لِلسُّفْلِ، أَوْ شَرِيكُهُ فِي الْحُقُوقِ إذَا كَانَ طَرِيقُ الْعُلُوِّ فِي تِلْكَ الدَّارِ وَلَا شَرِكَةَ لَهُ فِي عَيْنِ الْبُقْعَةِ فَكَانَ الشَّرِيكُ فِي عَيْنِ الْبُقْعَةِ أَوْلَى. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عُلُوٌّ عَلَى دَارٍ وَطَرِيقُهُ فِيهَا وَبَقِيَّةُ الدَّارِ لِآخَرَ فَبَاعَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ الْعُلُوَّ بِطَرِيقِهِ، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا شُفْعَةَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ فِي الْعُلُوِّ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ عَقَارًا وَالْعُلُوُّ

فصل في شرائط وجوب الشفعة

مَنْقُولٌ فَلَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ كَمَا لَا تَجِبُ فِي سَائِرِ الْمَنْقُولَات. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعُلُوَّ فِي مَعْنَى الْعَقَارِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْبِنَاءِ عَلَى السُّفْلِ حَقٌّ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ فَأَشْبَهَ الْعَقَارَ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْهَلَاكَ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَقَارِ فَيُعْطَى حُكْمُهُ وَلَوْ كَانَ طَرِيقُ هَذَا الْعُلُوِّ فِي دَارِ رَجُلٍ آخَرَ فَبِيعَ الْعُلُوُّ فَصَاحِبُ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا الطَّرِيقُ أَوْلَى بِشُفْعَةِ الْعُلُوِّ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ الَّتِي عَلَيْهَا الْعُلُوُّ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا الطَّرِيقُ شَرِيكٌ فِي الْحُقُوقِ وَصَاحِبُ الدَّارِ الَّتِي عَلَيْهَا الْعُلُوُّ جَارٌ، وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ فَإِنْ سَلَّمَ صَاحِبُ الطَّرِيقِ الشُّفْعَةَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعُلُوِّ جَارٌ مُلَاصِقٌ أَخَذَهُ صَاحِبُ الدَّارِ الَّتِي عَلَيْهَا الْعُلُوُّ بِالْجِوَارِ؛ لِأَنَّهُ جَارُهُ، وَإِنْ كَانَ لِلْعُلُوِّ جَارٌ مُلَاصِقٌ أَخَذَهُ بِالشُّفْعَةِ مَعَ صَاحِبِ السُّفْلِ لَأَنَّهُمَا جَارَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَارُ الْعُلُوِّ مُلَاصِقًا وَبَيْنَ الْعُلُوِّ وَبَيْنَ مَسْكَنِهِ طَائِفَةٌ مِنْ الدَّارِ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَارٍ وَلَوْ بَاعَ صَاحِبُ السُّفْلِ السُّفْلَ كَانَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ شَفِيعًا؛ لِأَنَّهُ جَارُهُ وَلَيْسَ شَرِيكَهُ وَهُوَ كَدَارَيْنِ مُتَجَاوِرَتَيْنِ لِأَحَدِهِمَا خَشَبٌ عَلَى حَائِطِ الْآخَرِ أَنَّ صَاحِبَ الْخَشَبِ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِالْجِوَارِ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِالْخَشَبِ شَيْئًا وَلَوْ بِيعَتْ الدَّارُ الَّتِي فِيهَا طَرِيقُ الْعُلُوِّ فَصَاحِبُ الْعُلُوِّ أَوْلَى بِشُفْعَةِ الدَّارِ مِنْ الْجَارِ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ فِي الْحُقُوقِ فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْجَارِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي بَيْتٍ عَلَيْهِ غُرْفَتَانِ إحْدَاهُمَا فَوْقَ الْأُخْرَى وَلِكُلِّ غُرْفَةٍ طَرِيقٌ فِي دَارٍ أُخْرَى وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا شَرِكَةٌ فِي الطَّرِيقِ فَبَاعَ صَاحِبُ الْبَيْتِ الْأَوْسَطِ بَيْتَهُ وَسَلَّمَ صَاحِبُ الطَّرِيقِ فَالشُّفْعَةُ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ وَلِصَاحِبِ السُّفْلِ جَمِيعًا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْجِوَارِ فَإِنْ بَاعَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ كَانَتْ الشُّفْعَةُ لِلْأَوْسَطِ دُونَ الْأَسْفَلِ؛ لِأَنَّ الْجِوَارَ لَهُ لَا لِلْأَسْفَلِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي دَارٍ فِيهَا مَسِيلُ مَاءٍ لِرَجُلٍ آخَرَ فَبِيعَتْ الدَّارُ كَانَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ بِالْجِوَارِ لَا بِالشَّرِكَةِ وَلَيْسَ الْمَسِيلُ كَالشُّرْبِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَسِيلِ مُخْتَصٌّ بِمَسِيلِ الْمَاءِ لَا شَرِكَةَ لِلْآخَرِ فِيهِ فَصَارَ كَحَائِطٍ لِصَاحِبِ إحْدَى الدَّارَيْنِ فِي الْأُخْرَى وَلَوْ أَنَّ حَائِطًا بَيْنَ دَارَيْ رَجُلَيْنِ وَالْحَائِطُ بَيْنَهُمَا فَصَاحِبُ الشِّرْكِ فِي الْحَائِطِ أَوْلَى بِالْحَائِطِ مِنْ الْجَارِ وَبَقِيَّةُ الدَّارِ يَأْخُذُهَا بِالْجِوَارِ مَعَ الْجَارِ بَيْنَهُمَا هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُف وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الشَّرِيكَ فِي الْحَائِطِ أَوْلَى بِجَمِيعِ الدَّارِ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الشَّرِيكَ فِي الْحَائِطِ شَرِيكٌ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ الْجَارِ الَّذِي لَا شَرِكَةَ لَهُ كَالشَّرِيكِ فِي الشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الشَّرِيكَ فِي الْحَائِطِ شَرِيكٌ لَكِنْ فِي بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ مَا تَحْتَ الْحَائِطِ لَا فِي بَقِيَّةِ الدَّارِ بَلْ هُوَ جَارٌ فِي بَقِيَّةِ الدَّارِ فَكَانَ أَوْلَى بِمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ وَبَقِيَّةُ الدَّارِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَارِ الْآخَرِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْجِوَارِ وَكَذَلِكَ الدَّارُ لِرَجُلٍ فِيهَا بَيْتٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَبَاعَ الرَّجُلُ الدَّارَ وَطَلَبَ الْجَارُ الشُّفْعَةَ وَطَلَبَهَا الشَّرِيكُ فِي الْبَيْتِ فَصَاحِبُ الشَّرِكَةِ فِي الْبَيْتِ أَوْلَى بِالْبَيْتِ وَبَقِيَّةُ الدَّارِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ قَالَ الْكَرْخِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي يُوسُف أَنَّ الشَّرِيكَ فِي الْحَائِطِ أَوْلَى بِبَقِيَّةِ الدَّارِ مِنْ الْجَارِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْقِيقِ الشَّرِكَةِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ قَالَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ مَسْأَلَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّرِيكَ فِي الْحَائِطِ أَوْلَى فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَائِطٍ بَيْنَ دَارَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ خَشَبَةٌ وَلَا يُعْلَم أَنَّ الْحَائِطَ بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْخَشَبَةِ فَبِيعَتْ إحْدَى الدَّارَيْنِ قَالَ فَإِنْ أَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً أَنَّ الْحَائِطَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ الْجَارِ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً لَمْ أَجْعَلْهُ شَرِيكًا وَقَوْلُهُ أَحَقُّ مِنْ الْجَارِ أَيْ: أَحَقُّ بِالْجَمِيعِ لَا بِالْحَائِطِ خَاصَّةً وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ هَذَا الْإِطْلَاقِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ اشْتَرَى حَائِطًا بِأَرْضِهِ ثُمَّ اشْتَرَى مَا بَقِيَ مِنْ الدَّارِ ثُمَّ طَلَبَ جَارُ الْحَائِطِ الشُّفْعَةَ فَلَهُ الشُّفْعَةُ فِي الْحَائِطِ وَلَا شُفْعَةَ لَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ جَارًا لِبَقِيَّةِ الدَّارِ وَقْتَ الْبَيْعِ إذْ الْحَائِطُ حَائِلٌ بَيْنَ مِلْكِهِ وَبَقِيَّةِ الدَّارِ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ لَهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي دَارٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لِرَجُلٍ فِيهَا طَرِيقٌ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ فَشَرِيكُهُ فِي الدَّارِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ فِي الدَّارِ وَلِصَاحِبِ الطَّرِيقِ الشُّفْعَةُ فِي الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِطِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَهَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ الشَّرِيكُ فِي الْحَائِطِ جَارٌ فِي بَقِيَّةِ الدَّارِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فَأَنْوَاعٌ:. (مِنْهَا) عَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ وَهُوَ الْبَيْعُ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ

فِيمَا لَيْسَ بِبَيْعٍ وَلَا بِمَعْنَى الْبَيْعِ حَتَّى لَا تَجِبَ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْآخِذَ بِالشُّفْعَةِ يَمْلِكُ عَلَى الْمَأْخُوذِ مِنْهُ بِمِثْلِ مَا مَلَكَ هُوَ فَإِذَا انْعَدَمَ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَلَوْ أَخَذَ الشَّفِيعُ فَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ بِالْقِيمَةِ وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْقِيمَةِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْحَدَّ عَلَى التَّبَرُّعِ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فَامْتَنَعَ الْأَخْذُ أَصْلًا. وَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَإِنْ تَقَابَضَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ عِنْدَ التَّقَابُضِ وَإِنْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَلَا شُفْعَةَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ تَجِبُ الشُّفْعَةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ عِنْدَنَا تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً وَعِنْدَهُ مُعَاوَضَةٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَدَلَائِلُ هَذَا الْأَصْلِ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ نَذْكُرُهَا هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ وَهَبَ عَقَارًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْعِوَضِ ثُمَّ إنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ عَوَّضَهُ مِنْ ذَلِكَ دَارًا فَلَا شُفْعَةَ فِي الدَّارَيْنِ لَا فِي دَارِ الْهِبَةِ وَلَا فِي دَارِ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّ إعْطَاءَ دَارِ الْعِوَضِ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ إلَّا أَنَّهَا اخْتَصَّتْ بِالْمَنْعِ مِنْ الرُّجُوعِ إلَّا أَنْ تَكُونَ عِوَضًا حَقِيقَةً بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَعَوَّضَهُ بِخَمْسَةٍ جَازَ وَلَوْ كَانَ عِوَضًا حَقِيقَةً لَمَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ رِبًا دَلَّ أَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ بِعِوَضٍ عَنْ الْأَوَّلِ حَقِيقَةً فَلَمْ يَكُنْ هَذَا مُعَاوَضَةً بَلْ كَانَ هِبَةً مُبْتَدَأَةً فَلَمْ تَجِبْ بِهِ الشُّفْعَةُ وَتَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الدَّارِ الَّتِي هِيَ بَدَلُ الصُّلْحِ سَوَاءٌ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى الدَّارِ عَنْ إقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ. (أَمَّا) فِي الصُّلْحِ عَنْ إقْرَارٍ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مَلَكَ الْمُدَّعَى فِي حَقِّ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكَانَتْ الدَّارُ الَّتِي هِيَ بَدَلُ الصُّلْحِ عِوَضًا عَنْ مِلْكٍ ثَابِتٍ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِي هَذَا الصُّلْحِ. (وَأَمَّا) فِي الصُّلْحِ عَنْ إنْكَارِ فُلَانٍ عِنْدَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ أَخَذَ الدَّارَ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ الثَّابِتِ فَكَانَ الصُّلْحُ مُعَاوَضَةً فِي حَقِّهِ وَكَانَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا حَقُّ الشُّفْعَةِ وَكَذَا فِي الصُّلْحِ عَنْ سُكُوتِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إنْ كَانَ مُحِقًّا فِي دَعْوَاهُ كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا كَانَ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ فِي زَعْمِهِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِي زَعْمِهِ وَكَذَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الدَّارِ الْمُصَالَحِ عَنْهَا عَنْ إقْرَارٍ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِي هَذَا الصُّلْحِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا. (وَأَمَّا) عَنْ إنْكَارٍ فَلَا تَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الدَّارَ الْمُدَّعَاةَ مِلْكُهُ وَإِنَّمَا بَذَلَ الْمَالَ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ الْبَاطِلَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِي حَقِّهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ لِلْحَالِ وَلَكِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُدَّعِي فِي إقَامَةِ الْحُجَّةِ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى صَاحِبِ الْيَدِ أَنَّ الدَّارَ كَانَتْ لَلْمُدَّعِي أَوْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَنَكَلَ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ مُعَاوَضَةً حَقِيقَةً وَإِنْ لَمْ تَقُمْ لَهُ الْحُجَّةُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ وَكَذَلِكَ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الدَّارِ الْمُصَالَحِ عَنْهَا عَنْ سُكُوتٍ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إنْ كَانَ مُحِقًّا فِي دَعْوَاهُ كَانَ الصُّلْحُ مُعَاوَضَةً فَتَجِبُ الشُّفْعَةُ وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا لَمْ يَكُنْ مُعَاوَضَةً فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ مَعَ الِاحْتِمَالِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ كَمَا لَا يَثْبُتُ بِدُونِ شَرْطِهِ لَا يَثْبُتُ مَعَ وُجُودِ الشَّكِّ فِي شَرْطِهِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَلَوْ كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ مَنَافِعَ فَلَا شُفْعَةَ فِي الدَّارِ الْمُصَالَحِ عَنْهَا سَوَاءٌ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ أَوْ إقْرَارٍ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ لَيْسَ بِعَيْنِ مَالٍ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا الصُّلْحُ مُعَاوَضَةَ عَيْنِ الْمَالِ بِعَيْنِ الْمَالِ وَهَذَا مِنْ شَرَائِطِ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ عَلَى مَا نَذْكُرهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الدَّارَ وَيُعْطِيَهُ دَارًا أُخْرَى فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ تَجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الدَّارَيْنِ الشُّفْعَةُ بِقِيمَةِ الدَّارِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ إذَا كَانَ عَنْ إنْكَارٍ كَانَ الصُّلْحُ عَلَى مُعَاوَضَةِ دَارٍ بِدَارٍ وَإِنْ كَانَ عَنْ إقْرَارٍ لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ وَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الدَّارَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِلْكُ الْمُدَّعِي وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا فَسَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ ثُمَّ رَدَّ الْمُشْتَرِي الدَّارَ بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ أَوْ شَرْطٍ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ بِسَبَبِ الرَّدِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُرَدُّ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْبَائِعِ بَلْ هُوَ فَسْخٌ مَحْضٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ وَرَفْعُ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَيَعُودُ إلَيْهِ قَدِيمُ مِلْكِهِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الْبَيْعِ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ وَكَذَا لَوْ رَدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخٌ مُطْلَقٌ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ. وَكَذَا الْإِقَالَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهَا بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ وَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الْقِسْمَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ

بِمُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ بَلْ فِيهَا مَعْنَى الْإِقْرَارِ وَالتَّمْيِيزِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُجْرَى فِيهَا الْجَبْرُ فَلَمْ تَكُنْ مُعَاوَضَةً مُطْلَقَةً فَلَا تَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ كَمَا إذَا صَالَحَ عَنْ دَمِ عَمْدٍ عَلَى دَارٍ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ. (وَمِنْهَا) مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَلَا تَجِبُ فِي مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ تَمَلُّكٌ بِمِثْلِ مَا تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَلَوْ وَجَبَتْ فِي مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ فَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ بِمَا تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ بِالْقِصَاصِ وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ بِقِيمَةِ الدَّارِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَتَمَلَّكْ بِهِ فَامْتَنَعَ التَّمَلُّكُ أَصْلًا وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا صَالَحَ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى دَارٍ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَمْ تُوجَدْ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَكَذَا لَوْ صَالَحَ مِنْ جِنَايَةٍ تُوجِبُ الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ عَلَى دَارٍ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ صَالَحَ مِنْ جِنَايَةٍ تُوجِبُ الْأَرْشَ دُونَ الْقِصَاصِ عَلَى دَارٍ تَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ بِالْأَرْشِ لِوُجُودِ مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَلَى دَارٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَمْ تُوجَدْ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ. (وَمِنْهَا) مُعَاوَضَةُ عَيْنِ الْمَالِ بِعَيْنِ الْمَالِ فَلَا تَجِبُ فِي مُعَاوَضَةِ عَيْنِ الْمَالِ بِمَا لَيْسَ بِعَيْنِ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّمَلُّكَ بِمَا تَمَلَّكَهُ بِهِ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالتَّمَلُّكُ بِعَيْنِ الْمَالِ لَيْسَ تَمَلُّكًا بِمَا تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَامْتَنَعَ أَصْلًا وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا جَعَلَ الدَّارَ مَهْرًا بِأَنْ تَزَوَّجَ عَلَى دَارٍ أَوْ جَعَلَهَا بَدَلَ الْخُلْعِ بِأَنْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى دَارٍ أَوْ جَعَلَهَا أُجْرَةً فِي الْإِجَارَاتِ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ بِدَارٍ؛ لِأَنَّ هَذَا مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِجَارَةِ ثَبَتَ فِي الْمَنْفَعَةِ وَكَذَا حُكْمُ النِّكَاحِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسَائِلِ النِّكَاحِ مِنْ الْخِلَافِ وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِقِيمَةِ الْبُضْعِ وَهِيَ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَفِي الْإِجَارَةِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ تَمَلُّكٌ بِمِثْلِ مَا تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَعِنْدَ التَّعَذُّرِ تُقَامُ قِيمَتُهُ مَقَامَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُهَا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لِتَعَذُّرِ الْأَخْذِ بِمِثْلِهِ إذْ لَا مِثْلَ لَهُ فَتَقُومُ قِيمَتُهُ مَقَامَهُ كَذَا هَهُنَا وَالْمَنَافِعُ تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ بِلَا خِلَافٍ فَتُقَامُ قِيمَةُ الْعِوَضِ مَقَامَهُ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْأَصْلِ لَا قِيمَةَ لَهَا عَلَى أُصُولِ أَصْحَابِنَا وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنْ لَا تَكُونَ مَضْمُونَةً؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يُضْمَنُ بِمِثْلِهِ فِي الْأَصْلِ وَالْعَرَضُ لَا يُمَاثِلُ الْعَيْنَ وَلِهَذَا قَالُوا إنَّهَا لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ إلَّا أَنَّهَا تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ وَلِحَاجَةِ النَّاسِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَلَى الْأَصْلِ فَلَا يَظْهَرُ تَقَوُّمُهَا فِي حَقِّ الشَّفِيعِ وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى دَارٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ أَلْفًا فَلَا شُفْعَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الدَّارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي حِصَّةِ الْأَلْفِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الدَّارَ بَعْضُهَا مَهْرٌ وَبَعْضُهَا مَبِيعٌ فَلَئِنْ تَعَذَّرَ إيجَابُ الشُّفْعَةِ فِي حِصَّةِ الْمَهْرِ أَمْكَنَ إيجَابُهَا فِي حِصَّةِ الْمَبِيعِ فَتَجِبُ فِي حِصَّتِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الشُّفْعَةِ فِي حِصَّةِ الْمَبِيعِ إلَّا بَعْدَ قِسْمَةِ الدَّارِ وَفِي قِسْمَتِهَا تَقْوِيمُ الْمَنَافِعِ وَلَا قِيمَةَ لَهَا إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلِأَنَّ الْمَهْرَ فِي الدَّارِ هُوَ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا دَفَعَتْ الْأَلْفَ لِتُسَلَّمَ لَهَا الدَّارُ فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الشُّفْعَةُ فِي الْأَصْلِ فَكَيْفَ تَجِبُ فِي التَّابِعِ؟ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ مُسَمًّى ثُمَّ بَاعَ دَارِهِ مِنْ الْمَرْأَةِ بِذَلِكَ الْمَهْرِ أَوْ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ مُسَمًّى ثُمَّ بَاعَ دَارِهِ مِنْ الْمَرْأَةِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ تَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا مَبِيعٌ مُبْتَدَأٌ فَتَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةُ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى دَارٍ أَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ مُسَمًّى ثُمَّ فَرَضَ لَهَا دَارِهِ مَهْرًا لَا تَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ بَلْ هُوَ تَقْدِيرُ الْمَهْرِ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ عَقَارًا وَمَا هُوَ بِمَعْنَاهُ فَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي السُّفُنِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ السَّفِينَةَ أَحَدُ الْمَسْكَنَيْنِ فَتَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ كَمَا تَجِبُ فِي الْمَسْكَنِ الْآخَرِ وَهُوَ الْعَقَارُ وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا شُفْعَةَ إلَّا فِي رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ» ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ فِي الْعَقَارِ مَا وَجَبَتْ لِكَوْنِهِ مَسْكَنًا وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِخَوْفِ أَذَى الدَّخِيلِ وَضَرَرِهِ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْعَقَارِ وَلَا تَجِبُ إلَّا فِي الْعَقَارِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ الْعُلُوُّ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ الْعَقَارُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَوْ لَا يَحْتَمِلُهَا كَالْحَمَّامِ وَالرَّحَا وَالْبِئْرِ وَالنَّهْرِ وَالْعَيْنِ وَالدُّورِ الصِّغَارِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ إلَّا فِي عَقَارٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ

أَنَّ الشُّفْعَةَ عِنْدَنَا وَجَبَتْ مَعْلُولَةً بِدَفْعِ ضَرَرِ الدَّخِيلِ وَأَذَاهُ عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ وَذَلِكَ يُوجَدُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ عَلَى السَّوَاءِ وَعِنْدَهُ وَجَبَتْ مَعْلُولَةً بِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ وَهُوَ ضَرَرُ الْقِسْمَةِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِمَنْعِ التَّعْدِيَةِ قَدْ أَبْطَلْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» وَإِذَا بِيعَ سُفْلُ عَقَارٍ دُونَ عُلُوِّهِ أَوْ عُلُوُّهُ دُونَ سُفْلِهِ أَوْ بِيعَا جَمِيعًا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ أَمَّا السُّفْلُ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَقَارٌ وَأَمَّا الْعُلُوُّ بِدُونِ السُّفْلِ فَتَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ إذَا كَانَ الْعُلُوُّ قَائِمًا اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْبِنَاءِ عَلَى السُّفْلِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ فَصَارَ بِمَعْنَى الْعَقَارِ فَتَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَلَوْ انْهَدَمَ الْعُلُوُّ ثُمَّ بِيعَ السُّفْلُ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا شُفْعَةَ لَهُ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْبِنَاءَ وَإِنْ بَطَلَ فَحَقُّ الْبِنَاءِ قَائِمٌ وَأَنَّهُ حَقٌّ مُتَعَلِّقٌ بِالْبُقْعَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ وَالتَّأْبِيدِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْبُقْعَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَجِبُ إمَّا بِالشَّرِكَةِ فِي الْمِلْكِ أَوْ الْحُقُوقِ أَوْ بِجِوَارِ الْمِلْكِ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَمَّا الشَّرِكَةُ فَظَاهِرُ الِانْتِفَاءِ وَكَذَا الْجِوَارُ؛ لِأَنَّ الْجِوَارَ كَانَ بِالْبِنَاءِ وَقَدْ زَالَ الْبِنَاءُ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ فِيمَنْ بَاعَ عُلُوًّا فَاحْتَرَقَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بَطَلَ الْبَيْعُ هَكَذَا ذَكَرَ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ قَالَ هَذَا قَوْلُهُ. (فَأَمَّا) عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَبْطُلَ؛ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ فِي حَقِّ الْبِنَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْعَرْصَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَ الْعَرْصَةَ مَعَ الْبِنَاءِ فَاحْتَرَقَ الْبِنَاءُ. (وَمِنْهَا) زَوَالُ مِلْكِ الْبَائِعِ عَنْ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُ الْمَبِيعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمِثْلِ مَا مَلَكَ بِهِ فَإِذَا لَمْ يَزُلْ مِلْكُ الْبَائِعِ اسْتَحَالَ تَمَلُّكُ الْمُشْتَرِي فَاسْتَحَالَ تَمَلُّكُ الشَّفِيعِ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الْمَبِيعِ بِشَرْطِ خِيَارِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ حَتَّى لَوْ أَسْقَطَ خِيَارَهُ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَبِيعَ زَالَ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ حِينِ وُجُودِ الْمَبِيعِ وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لَلْمُشْتَرِي تَجِبُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ لَا يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ يَقِفُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ لِأَجْلِ خِيَارِ الْبَائِعِ وَلَوْ شَرَطَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِلشَّفِيعِ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ لِلشَّفِيعِ شَرْطٌ لِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ فَإِنْ أَجَازَ الشَّفِيعُ الْبَيْعَ جَازَ الْبَيْعُ وَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَ ابْتِدَاءً وَإِنْ فَسَخَ الْبَيْعَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ لَمْ يَزُلْ وَالْحِيلَةُ لِلشَّفِيعِ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَفْسَخَ وَلَا يُجِيزَ حَتَّى يُجِيزَ الْبَائِعُ أَوْ يُجَوِّزَ هُوَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَتَكُونُ لَهُ الشُّفْعَةُ وَخِيَارُ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ زَوَالَ مِلْكِ الْبَائِعِ. (وَمِنْهَا) زَوَالُ حَقِّ الْبَائِعِ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا؛؛ لِأَنَّ لِلْبَائِعِ حَقَّ النَّقْضِ وَالرَّدِّ إلَى مِلْكِهِ رَدًّا لِلْفَسَادِ، وَفِي إيجَابِ الشُّفْعَةِ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ حَتَّى لَوْ سَقَطَ حَقُّ الْفَسْخِ بِأَسْبَابٍ مُسْقِطَةٍ لِلْفَسْخِ كَالزِّيَادَةِ وَزَوَالِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قِيَامُ الْفَسْخِ وَقَدْ زَالَ كَمَا لَوْ بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ ثُمَّ أَسْقَطَ الْخِيَارَ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْخِيَارُ فَكَذَا هَذَا وَلَوْ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا بَيْعًا صَحِيحًا فَجَاءَ الشَّفِيعُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ؛ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالْبَيْعِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ ثَابِتٌ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيْعَيْنِ لِوُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَشَرَائِطِهِ فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ. غَيْرَ أَنَّهُ إنْ أَخَذَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي أَخَذَ بِالثَّمَنِ وَإِنْ أَخَذَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ أَخَذَ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ يَوْمَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ بِمَا تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي، وَالْمُشْتَرِي الثَّانِي تَمَلَّكَ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ صَحِيحٌ، وَالْبَيْعُ الصَّحِيحُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْمُسَمَّى وَهُوَ الثَّمَنُ، وَالْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ تَمَلَّكَ الْمَبِيعَ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ لَا بِالثَّمَنِ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا مَضْمُونٌ بِالْقَبْضِ كَالْمَغْصُوبِ؛ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَنْ اشْتَرَى أَرْضًا شِرَاءً فَاسِدًا فَبَنَى عَلَيْهَا أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ فِي الْقَبْضِ قَدْ زَالَ بِالْبِنَاءِ وَبَطَلَ فَزَالَ الْمَانِعُ مِنْ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ لَمْ يَبْطُلْ بِالْبِنَاءِ فَكَانَ الْمَانِعُ قَائِمًا، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَرِيضِ إذَا بَاعَ الدَّارَ مِنْ وَارِثِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهَا وَشَفِيعُهَا أَجْنَبِيٌّ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ عَيْنًا مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ لِوَارِثِهِ فَاسِدٌ عِنْدَهُ إلَّا إذَا أَجَازَ الْوَرَثَةُ، وَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَلَا شُفْعَةَ لَهُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إلَّا إذَا أَجَازَ فَتَجِبُ الشُّفْعَةُ. وَلَوْ بَاعَهَا مِنْ أَجْنَبِيٍّ بِمِثْلِ قِيمَتِهَا وَالْوَارِثُ شَفِيعُهَا لَا شُفْعَةَ لِلْوَارِثِ عِنْدَهُ

أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ بَاعَهَا مِنْ الْوَارِثِ ابْتِدَاءً لِتَحَوُّلِ مِلْكِ الصَّفْقَةِ إلَيْهِ أَوْ لِتَقْدِيرِ صَفْقَةٍ أُخْرَى مَعَ الْوَارِثِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ جَائِزٌ، هَذَا إذَا بَاعَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ فَأَمَّا إذَا بَاعَ وَحَابَى بِأَنْ بَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ وَقِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ آلَافٍ؛ فَإِنْ بَاعَهَا مِنْ الْوَارِثِ وَشَفِيعُهَا أَجْنَبِيٌّ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ؛ لِأَنَّ بَيْعَهَا مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ فَاسِدٌ عِنْدَهُ فَبِالْمُحَابَاةِ أَوْلَى وَلَا شُفْعَةَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَعِنْدَهُمَا الْبَيْعُ جَائِزٌ وَلَكِنْ يَدْفَعُ قَدْرَ الْمُحَابَاةِ فَتَجِبُ الشُّفْعَةُ. وَلَوْ بَاعَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فَكَذَلِكَ لَا شُفْعَةَ لِلْوَارِثِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِتِلْكَ الصَّفْقَةِ بِالتَّحَوُّلِ إلَيْهِ أَوْ بِصَفْقَةٍ مُبْتَدَأَةٍ مُقَدَّرَةٍ بَيْنَهُمَا فَكَانَ بَيْعًا مِنْ الْوَارِثِ بِالْمُحَابَاةِ، وَسَوَاءٌ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ أَوْ لَمْ يُجِيزُوا؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ مَحَلُّهَا الْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ، وَالشِّرَاءُ وَقَعَ نَافِذًا مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ قَدْرُ الثُّلُثِ وَهِيَ نَافِذَةٌ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ فَلَغَتْ الْإِجَازَةُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي فَتَلْغُو فِي حَقِّ الشَّفِيعِ أَيْضًا. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيهِ؛ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الشُّفْعَةِ مِنْ الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ لَا شُفْعَةَ لَهُ، وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْوَصَايَا لَهُ الشُّفْعَةُ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ تُعْرَفُ ثَمَّةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَمِنْهَا) مِلْكُ الشَّفِيعِ وَقْتَ الشِّرَاءِ فِي الدَّارِ الَّتِي يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ جِوَارُ الْمِلْكِ، وَالسَّبَبُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَالِانْعِقَادُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْوُجُودِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ عِنْدَ الْبَيْعِ كَيْفَ يَنْعَقِدُ سَبَبًا؟ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ بِدَارٍ يَسْكُنُهَا بِالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ، وَلَا بِدَارٍ بَاعَهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ، وَلَا بِدَارٍ جَعَلَهَا مَسْجِدًا، وَلَا بِدَارٍ جَعَلَهَا وَقْفًا، وَقَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِهِ أَوْ لَمْ يَقْضِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ الْوَقْفَ؛ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا لَا إلَى أَحَدٍ. وَمِنْهَا ظُهُورُ مِلْكِهِ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ الْإِنْكَارِ بِحُجَّةٍ مُطْلَقَةٍ؛ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ شَرْطُ ظُهُورِ الْحَقِّ لَا شَرْطُ ثُبُوتِهِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا أَنْكَرَ الْمُشْتَرِي كَوْنَ الدَّارِ الَّتِي يَشْفَعُ بِهَا مَمْلُوكَةً لِلشَّفِيعِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَارُهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةِ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَرُوِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لِلشَّفِيعِ فِي هَذِهِ الدَّارِ لِوُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ، وَمَا ثَبَتَ يَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُزِيلُ وَلِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ رَأَى شَيْئًا فِي يَدِ إنْسَانٍ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ دَلَّ أَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَكَانَ الْمِلْكُ ثَابِتًا لِلشَّفِيعِ ظَاهِرًا. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ لَا يُوجِبُ بَقَاءَهُ وَإِنَّمَا الْبَقَاءُ بِحُكْمِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْغَيْرِ؛ كَحَيَاةِ الْمَفْقُودِ وَحُرِّيَّةِ الشُّهُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى إلْزَامِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَظْهَرُ الْمِلْكُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي. وَقَوْلُهُ: الْيَدُ دَلِيلُ الْمِلْكِ قُلْنَا: إنْ سَلِمَ ذَلِكَ فَالثَّابِتُ بِالْيَدِ مِلْكٌ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ لَا فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْغَيْرِ، وَالْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلَا يَكْفِي الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِظَاهِرِ الْيَدِ، وَذُكِرَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ دَارًا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ كَانَتْ فِي يَدِ أَبِيهِ مَاتَ وَهِيَ فِي يَدِهِ أَنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِالدَّارِ فَإِنْ جَاءَ يَطْلُبُ بِهَا شُفْعَةَ دَارٍ أُخْرَى إلَى جَنْبِهَا لَمْ يُقْضَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ لَمْ يَجْعَلْ الْقَضَاءَ بِالْيَدِ قَضَاءً بِالْمِلْكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَيْثُ لَمْ يُوجِبْ بِهِ الشُّفْعَةَ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا ذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي حَائِطٍ بَيْنَ دَارَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ خَشَبَةٌ وَلَا يُعْلَمُ أَنَّ الْحَائِطَ بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْخَشَبَةِ فَبِيعَتْ إحْدَى الدَّارَيْنِ أَنَّهُ إنْ أَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً أَنَّ الْحَائِطَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ الْجَارِ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً لَمْ أَجْعَلْهُ شَرِيكًا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْحَائِطِ بَيْنَهُمَا لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِظَاهِرِ الِاسْتِعْمَالِ بِالْخَشَبَةِ، وَالْمِلْكُ الثَّابِتُ بِمِثْلِ هَذَا الظَّاهِرِ لَا يَكْفِي لِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ، قَالَ: وَلَوْ أَقَرَّ الْبَائِعُ قَبْلَ الْبَيْعِ أَنَّ الْحَائِطَ بَيْنَهُمَا لَمْ أَجْعَلْ لَهُ بِهَذَا شُفْعَةً بِمَنْزِلَةِ دَارٍ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَرَّ أَنَّهَا لِآخَرَ فَبِيعَتْ إلَى جَنْبِهَا دَارٌ فَطَلَبَ الْمُقَرُّ لَهُ الشُّفْعَةَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الدَّارَ دَارُهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ وَأَنَّهُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ، فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ خَاصَّةً وَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْمُشْتَرِي. وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ فِي يَدِهِ دَارٌ عَرَفَ الْقَاضِي أَنَّهَا لَهُ، فَبِيعَتْ دَارٌ إلَى جَنْبِ دَارِهِ فَقَالَ - الشَّفِيعُ بَعْدَ بَيْعِ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا الشُّفْعَةُ -: دَارِي هَذِهِ لِفُلَانٍ وَقَدْ بِعْتُهَا مِنْهُ مُنْذُ سَنَةٍ، وَقَالَ: هَذَا فِي وَقْتٍ يَقْدِرُ عَلَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، أَوْ طَلَبِهَا لِنَفْسِهِ، قَالَ: لَا شُفْعَةَ لَهُ فِي الدَّارِ حَتَّى يُقِيمَ الْمُقَرُّ لَهُ بَيِّنَةً عَلَى الْمُشْتَرِي. (أَمَّا) الْمُقِرُّ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لَهُ

لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ وَقْتَ الْبَيْعِ فِي الدَّارِ بِإِقْرَارِهِ بِالْبَيْعِ قَبْلَهُ. (وَأَمَّا) الْمُقَرُّ لَهُ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ لَيْسَ بِثَابِتٍ بِحُجَّةٍ مُطْلَقَةٍ لِكَوْنِ الْإِقْرَارِ حُجَّةً قَاصِرَةً فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَذَكَرَ الْخَصَّافُ فِي إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا أَقَرَّ بِسَهْمٍ مِنْ الدَّارِ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ بَاعَ مِنْهُ بَقِيَّةَ الدَّارِ أَنَّ الْجَارَ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ شَرِيكَ الْبَائِعِ فِي ذَلِكَ السَّهْمِ، وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَطَّأَ الْخَصَّافَ فِي هَذَا وَقَالَ: تَجِبُ الشُّفْعَةُ لِلْجَارِ؛ لِأَنَّ شَرِكَةَ الْمُشْتَرِي لَمْ تَثْبُتْ إلَّا بِالْإِقْرَارِ مِنْ الْبَائِعِ، وَالْإِقْرَارُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْجَارِ فَكَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ، وَكَانَ يَسْتَدِلُّ بِمَسْأَلَةِ الْحَائِطِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا تَكُونَ الدَّارُ الْمَشْفُوعَةُ مِلْكًا لِلشَّفِيعِ وَقْتَ الْبَيْعِ، فَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ لِاسْتِحَالَةِ تَمَلُّكِ الْإِنْسَانِ مَالَ نَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا بَاعَ الْمَأْذُونُ دَارًا وَالْمَوْلَى شَفِيعُهَا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا شُفْعَةَ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا مِلْكُ الْمَوْلَى، وَالْعَبْدُ كَالْوَكِيلِ عَنْهُ بِالْبَيْعِ فَلَا تَثْبُتُ لَهُ الشُّفْعَةُ. وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَكَذَا إذَا بَاعَ الْمَوْلَى دَارًا وَالْمَأْذُونُ شَفِيعُهَا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَشِرَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ يَقَعُ تَمَلُّكًا لِلْمَوْلَى، وَتَمَلُّكُ الْمَوْلَى مُحَالٌ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ دَارًا وَالْمَوْلَى شَفِيعُهَا؛ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلِمَوْلَاهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالشِّرَاءِ لَمْ يَقَعْ لِلْمَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لَهُ وَكَذَا إذَا اشْتَرَى الْمَوْلَى دَارًا وَالْمَأْذُونُ شَفِيعُهَا فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ الشُّفْعَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ لِمَا قُلْنَا. (وَأَمَّا) الْمُكَاتَبُ إذَا بَاعَ أَوْ اشْتَرَى دَارًا وَالْمَوْلَى شَفِيعُهَا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَبِيعُ وَيَشْتَرِي مَعَ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ يَدًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِمَوْلَاهُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ فَكَانَ فِي حَقِّ مَا فِي يَدِهِ مُلْحَقًا بِسَائِرِ الْأَجَانِبِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) عَدَمُ الرِّضَا مِنْ الشَّفِيعِ بِالْبَيْعِ وَحُكْمِهِ، فَإِنْ رَضِيَ بِالْبَيْعِ أَوْ بِحُكْمِهِ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا رَضِيَ بِالشِّرَاءِ أَوْ بِحُكْمِهِ فَقَدْ رَضِيَ بِضَرَرِ جِوَارِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الدَّفْعَ بِالشُّفْعَةِ، ثُمَّ الرِّضَا قَدْ يَكُونُ صَرِيحًا وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَةً. (أَمَّا) الصَّرِيحُ فَلَا يُشْكِلُ. (وَأَمَّا) الدَّلَالَةُ فَنَحْوَ أَنْ يَبِيعَ الشَّفِيعُ الدَّارَ الْمَشْفُوعَ فِيهَا بِأَنْ وَكَّلَهُ صَاحِبُ الدَّارِ بِبَيْعِهَا فَبَاعَهَا فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الشَّفِيعِ دَلَالَةُ الرِّضَا بِالْعَقْدِ، وَثُبُوتُ حُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ إذَا بَاعَ دَارًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَرَبُّ الْمَالِ شَفِيعُهَا بِدَارٍ لَهُ أُخْرَى فَلَا شُفْعَةَ لِرَبِّ الدَّارِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الدَّارِ رِبْحٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. (أَمَّا) إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا رِبْحٌ؛ فَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ وَكِيلُهُ بِالْبَيْعِ وَالرِّضَا بِالتَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ رِضًا بِالْبَيْعِ وَحُكْمِهِ ضَرُورَةً وَأَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ. (أَمَّا) فِي حِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ فَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُودِ دَلَالَةِ الرِّضَا بِالْبَيْعِ فِي حِصَّتِهِ. (وَأَمَّا) فِي حِصَّةِ الْمُضَارِبِ؛ فَلِأَنَّهُ مَتَى امْتَنَعَ الْوُجُوبُ فِي حِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ - فَلَوْ ثَبَتَ فِي حِصَّةِ الْمُضَارِبِ - لَأَدَّى إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ شَرِيكًا لِلْمُضَارِبِ، وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ، وَلَوْ كَانَ الشَّفِيعُ وَكِيلًا بِشِرَاءِ الدَّارِ الْمَشْفُوعِ فِيهَا فَاشْتَرَى لِمُوَكِّلِهِ فَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لِغَيْرِهِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ، وَالشِّرَاءُ لِنَفْسِهِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى الدَّارَ الْمَشْفُوعَ فِيهَا ثُمَّ حَضَرَ شَفِيعٌ آخَرُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ بِالشُّفْعَةِ، فَالشِّرَاءُ لِغَيْرِهِ لَأَنْ لَا يَمْنَعَ الْوُجُوبَ أَوْلَى وَلَوْ بَاعَ رَبُّ الْمَالِ دَارًا لِنَفْسِهِ - وَالْمُضَارِبُ شَفِيعُهَا - بِدَارٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَفَاءٌ بِثَمَنِ الدَّارِ لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ إذْ ذَاكَ يَقَعُ لِرَبِّ الْمَالِ وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ دَلَالَةُ الرِّضَا بِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي وَأَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ وَفَاءٌ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ رِبْحٌ فَلَا شُفْعَةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ يَقَعُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ فَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ نَصِيبًا فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الرِّضَا بِسُقُوطِ حَقِّهِ. وَلَوْ اشْتَرَى أَجْنَبِيٌّ دَارًا إلَى جَنْبِ دَارِ الْمُضَارَبَةِ؛ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَفَاءٌ بِالثَّمَنِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ لِلْمُضَارَبَةِ وَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ الشُّفْعَةَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُ فَيَمْلِكُ تَسْلِيمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ وَفَاءٌ؛ فَإِنْ كَانَ فِي الدَّارِ رِبْحٌ فَالشُّفْعَةُ لِرَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الدَّارَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رِبْحٌ فَالشُّفْعَةُ لِرَبِّ

الْمَالِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الدَّارَ مِلْكُهُ خَاصَّةً وَالشُّفْعَةُ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا بَاعَ الدَّارَ عَلَى أَنْ يَضْمَنَ لَهُ الشَّفِيعُ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي فَضَمِنَ وَهُوَ حَاضِرٌ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي دَلَالَةُ الرِّضَا بِالشِّرَاءِ وَحُكْمِهِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ وَإِبْرَامَهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَكَانَ دَلِيلَ الرِّضَا وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى الْمُشْتَرِي الدَّارَ عَلَى أَنْ يَضْمَنَ الشَّفِيعُ الدَّرَكَ عَنْ الْبَائِعِ فَضَمِنَ وَهُوَ حَاضِرٌ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَ الدَّرَكَ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِالْعَقْدِ وَحُكْمِهِ، وَهُوَ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي فَلَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ، وَأَمَّا إسْلَامُ الشَّفِيعِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ فَتَجِبُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقُّ التَّمَلُّكِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ مِنْهُ، وَالْكَافِرُ وَالْمُسْلِمُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِذِمِّيٍّ عَلَى مُسْلِمٍ فَكَتَبَ إلَى سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَأَجَازَهُ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَيَكُونُ ذَلِكَ إجْمَاعًا. وَلَوْ اشْتَرَى ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ دَارًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَشَفِيعُهَا ذِمِّيٌّ أَوْ مُسْلِمٌ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا تَجِبُ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ عِنْدَهُ أَصْلًا حَتَّى لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ أَصْلًا، وَمِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَعِنْدَنَا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِّ وَالشَّاةِ لَنَا، ثُمَّ إذَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ - فَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ ذِمِّيًّا أَخَذَ الدَّارَ بِمِثْلِ الْخَمْرِ وَبِقِيمَةِ الْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْخَلِّ، وَالْخِنْزِيرُ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ بَلْ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ كَالشَّاةِ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أَخَذَهَا بِقِيمَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ تَمَلُّكٌ وَالْمُسْلِمُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ تَمَلُّكِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَتَى تَعَذَّرَ عَلَيْهِ التَّمَلُّكُ بِالْعَيْنِ تَمَلَّكَ بِالْقِيمَةِ؛ كَمَا لَوْ كَانَ الشِّرَاءُ بِالْعَرَضِ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا بِقِيمَةِ الْعَرَضِ كَذَا هَذَا. وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ وَالذُّكُورَةُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَدَالَةُ فَتَجِبُ الشُّفْعَةُ لِلْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ وَمُعْتَقِ الْبَعْضِ وَالنِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمِلْكِ، وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُمْ إلَّا أَنَّ الْخَصْمَ فِيمَا يَجِبُ لِلصَّبِيِّ أَوْ عَلَيْهِ وَلِيُّهُ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ مِنْ الْأَبِ وَوَصِيِّهِ، وَالْجَدِّ لِأَبٍ وَوَصِيِّهِ، وَالْقَاضِي وَوَصِيِّ الْقَاضِي، فَإِذَا بِيعَتْ دَارٌ وَالصَّبِيُّ شَفِيعُهَا كَانَ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُطَالِبَ بِالشُّفْعَةِ وَيَأْخُذَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَالْوَلِيُّ يَمْلِكُ ذَلِكَ كَمَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ فَإِنْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ صَحَّ التَّسْلِيمُ وَلَا شُفْعَةَ لِلصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَصِحُّ تَسْلِيمُهُ وَالصَّبِيُّ عَلَى شُفْعَتِهِ إذَا بَلَغَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا حَقٌّ ثَبَتَ لِلصَّبِيِّ نَظَرًا فَإِبْطَالُهُ لَا يَكُونُ نَظَرًا فِي حَقِّهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ كَالْعَفْوِ عَنْ قِصَاصٍ وَجَبَ لِلصَّبِيِّ عَلَى إنْسَانٍ وَالْإِبْرَاءِ عَنْ كَفَالَتِهِ بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ فَتَسْلِيمُهُ امْتِنَاعٌ مِنْ الشِّرَاءِ، وَلِلْوَلِيِّ وِلَايَةُ الِامْتِنَاعِ مِنْ الشِّرَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ: بِعْت هَذَا الشَّيْءَ لِفُلَانٍ الصَّبِيِّ لَا يَلْزَمُ الْوَلِيَّ الْقَبُولُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ، وَالْمَصْلَحَةُ قَدْ تَكُونُ فِي الشِّرَاءِ وَقَدْ تَكُونُ فِي تَرْكِهِ وَالْوَلِيُّ أَعْلَمُ بِذَلِكَ فَيُفَوَّضُ إلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا سَكَتَ الْوَلِيُّ أَوْ الْوَصِيُّ عَنْ الطَّلَبِ أَنَّهُ يَبْطُلُ حَقُّ الشُّفْعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَبْطُلُ. وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ اشْتَرَى دَارًا وَابْنُهُ الصَّغِيرُ شَفِيعُهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يُنَافِي الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمَلَّكَ بِعِوَضٍ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ وَكِيلًا بِالشِّرَاءِ لِغَيْرِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لِنَفْسِهِ فَلَأَنْ يَمْلِكَ الْأَخْذَ لِابْنِهِ أَوْلَى، وَإِذَا مَلَكَ الْأَخْذَ مَلَكَ التَّسْلِيمَ؛ لِأَنَّهُ امْتِنَاعٌ عَنْ الْأَخْذِ، وَلَوْ بَاعَ دَارًا لِنَفْسِهِ وَابْنُهُ شَفِيعُهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ تَمَلُّكٌ وَالْبَيْعُ تَمْلِيكٌ فَيُنَافِي التَّمَلُّكَ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ الْأَخْذَ لَمْ يَمْلِكْ التَّسْلِيمَ فَلَمْ يَصِحَّ تَسْلِيمُهُ وَتَوَقَّفَ إلَى حِينِ بُلُوغِ الصَّبِيِّ كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ. وَأَمَّا الْوَصِيُّ إذَا اشْتَرَى دَارًا لِنَفْسِهِ وَالصَّبِيُّ شَفِيعُهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لِلصَّغِيرِ وَلَوْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ؛ فَالصَّغِيرُ عَلَى شُفْعَتِهِ وَكَذَا إذَا بَاعَ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الدَّارَ بِالشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ فَبِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِلصَّغِيرِ يُرِيدُ تَمْلِيكَ مَا مَلَكَهُ مِنْ الصَّغِيرِ. وَالْوَصِيُّ لَا يَمْلِكُ تَمْلِيكَ مَالِ الصَّغِيرِ إلَّا إذَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ ظَاهِرٌ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُ عَنْ الطَّلَبِ تَسْلِيمًا لِلشُّفْعَةِ فَبَقِيَ حَقُّ الصَّغِيرِ

فصل في بيان ما يتأكد به حق الشفعة ويستقر

فِي الشُّفْعَةِ يَأْخُذُهُ إذَا بَلَغَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَتَأَكَّدُ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَيَسْتَقِرُّ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَتَأَكَّدُ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَيَسْتَقِرُّ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ - أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ وَيَسْتَقِرُّ بِالطَّلَبِ، وَالْكَلَامُ فِي الطَّلَبِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ وَقْتِ الطَّلَبِ وَفِي بَيَانِ شُرُوطِهِ وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ. (أَمَّا) وَقْتُهُ فَالطَّلَبُ نَوْعَانِ: طَلَبُ مُوَاثَبَةٍ وَطَلَبُ تَقْرِيرٍ. (أَمَّا) طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ فَوَقْتُهُ وَقْتُ عِلْمِ الشَّفِيعِ بِالْبَيْعِ حَتَّى لَوْ سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الطَّلَبَ قَبْلَ وَقْتِ الطَّلَبِ فَلَا يَضُرُّهُ ثُمَّ عِلْمُهُ بِالْبَيْعِ قَدْ يَحْصُلُ بِسَمَاعِهِ بِالْبَيْعِ بِنَفْسِهِ وَقَدْ يَحْصُلُ بِإِخْبَارِ غَيْرِهِ، لَكِنْ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَالْعَدَالَةُ؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُشْتَرَطُ أَحَدُ هَذَيْنِ إمَّا الْعَدَدُ فِي الْمُخْبِرِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَإِمَّا الْعَدَالَةُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَلَا الْعَدَالَةُ حَتَّى لَوْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ بِالشُّفْعَةِ عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا، حُرًّا أَوْ عَبْدًا مَأْذُونًا، بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، فَسَكَتَ وَلَمْ يَطْلُبْ عَلَى فَوْرِ الْخَبَرِ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ عِنْدَهُمَا إذَا ظَهَرَ كَوْنُ الْخَبَرِ صِدْقًا، وَهَذَا عَلَى اخْتِلَافِهِمْ عَنْ عَزْلِ الْوَكِيلِ وَعَنْ جِنَايَةِ الْعَبْدِ وَعَنْ عَجْزِ الْمَوْلَى عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، فَهُمَا يَقُولَانِ: الْعَدَدُ وَالْعَدَالَةُ سَاقِطَا الِاعْتِبَارِ شَرْعًا فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَلَا الْعَدَالَةُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ هَذَا إخْبَارٌ فِيهِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ يَبْطُلُ لَوْ لَمْ يَطْلُبْ بَعْدَ الْخَبَرِ فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ أَحَدُ شَرْطَيْ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ، وَلَوْ أَخْبَرَ الْمُشْتَرِي الشَّفِيعَ بِنَفْسِهِ فَقَالَ قَدْ اشْتَرَيْتُهُ فَلَمْ يَطْلُبْ شُفْعَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُشْتَرِي عَدْلًا كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ خَصْمٌ، وَعَدَالَةُ الْخَصْمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْخُصُومَاتِ. وَقَالُوا فِي الْمُخَيَّرَةِ إذَا بَلَغَهَا التَّخْيِيرُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُخْبِرِ الْعَدَدُ وَلَا الْعَدَالَةُ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ التَّخْيِيرِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ؛ لِخُلُوِّهِ عَنْ إلْزَامِ حُكْمٍ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ أَحَدُ شَرْطَيْ الشَّهَادَةِ، بِخِلَافِ الْإِخْبَارِ عَنْ الْبَيْعِ فِي بَابِ الشُّفْعَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَمَّا شَرْطُهُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى فَوْرِ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ عَلِمَ بِالْبَيْعِ وَسَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَطَلَ حَقُّ الشُّفْعَةِ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ وَخِيَارِ الْقَبُولِ مَا لَمْ يَقُمْ عَنْ الْمَجْلِسِ أَوْ يَتَشَاغَلْ عَنْ الطَّلَبِ بِعَمَلٍ آخَرَ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ وَلَهُ أَنْ يَطْلُبَ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ ثَبَتَ نَظَرًا لِلشَّفِيعِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ فَيُحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ هَلْ تَصْلُحُ بِمِثْلِ هَذَا الثَّمَنِ؟ وَأَنَّهُ هَلْ يَتَضَرَّرُ بِجِوَارِ هَذَا الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ؟ أَوْ لَا يَتَضَرَّرُ فَيَتْرُكَ؟ وَهَذَا لَا يَصِحُّ بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ؟ وَالْحَاجَةُ إلَى التَّأَمُّلِ شَرْطُ الْمَجْلِسِ فِي جَانِبِ الْمُخَيَّرَةِ وَالْقَبُولُ كَذَا هَهُنَا. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْأَصْلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَهَا» وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا الشُّفْعَةُ كَنَشْطِ عِقَالٍ إنْ قُيِّدَ مَكَانَهُ ثَبَتَ وَإِلَّا ذَهَبَ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «إنَّمَا الشُّفْعَةُ كَحَلِّ عِقَالٍ إنْ قُيِّدَ مَكَانَهُ ثَبَتَ وَإِلَّا فَاللَّوْمُ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ضَعِيفٌ مُتَزَلْزِلٌ لِثُبُوتِهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ؛ إذْ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ تَمَلُّكُ مَالٍ مَعْصُومٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ؛ لِخَوْفِ ضَرَرٍ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ فَلَا يَسْتَقِرُّ إلَّا بِالطَّلَبِ عَلَى الْمُوَاثَبَةِ. (وَأَمَّا) الْإِشْهَادُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الطَّلَبِ حَتَّى لَوْ طَلَبَ عَلَى الْمُوَاثَبَةِ وَلَمْ يُشْهِدْ صَحَّ طَلَبُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - جَلَّتْ عَظَمَتُهُ - وَإِنَّمَا الْإِشْهَادُ لِلْإِظْهَارِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يُصَدِّقُ الشَّفِيعَ فِي الطَّلَبِ أَوْ لَا يُصَدِّقُ فِي الْفَوْرِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، فَيَحْتَاجُ إلَى الْإِظْهَارِ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْقَاضِي عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ التَّصْدِيقِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ صِحَّةَ الطَّلَبِ. وَنَظِيرُهُ مَنْ أَخَذَ لُقَطَةً لِيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الْإِشْهَادِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِتَوْثِيقِ الْأَخْذِ لِلرَّدِّ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِنْكَارِ؛ إلَّا أَنَّهُ شَرَطَ الْبَرَاءَةَ عَنْ الضَّمَانِ حَتَّى لَوْ صَدَّقَهُ صَاحِبُهَا فِي ذَلِكَ ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُ الضَّمَانَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هَذَا وَإِذَا طَلَبَ عَلَى الْمُوَاثَبَةِ؛ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ شُهُودٌ أَشْهَدَهُمْ وَتَوَثَّقَ الطَّلَبُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يُشْهِدُهُ فَبَعَثَ فِي طَلَبِ شُهُودٍ لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ لِمَا قُلْنَا أَنَّ الْإِشْهَادَ لِإِظْهَارِ الطَّلَبِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، لَكِنْ يَصِحُّ الْإِشْهَادُ عَلَى الطَّلَبِ عَلَى رِوَايَةِ الْفَوْرِ

فَبَطَلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْفَوْرِ ضَرُورَةً. وَعَلَى رِوَايَةِ الْمَجْلِسِ إذَا قَالَ - وَهُوَ فِي الْمَجْلِسِ -: اُدْعُوا لِي شُهُودًا أُشْهِدُهُمْ فَجَاءَ الشُّهُودُ فَأَشْهَدَهُمْ صَحَّ وَتَوَثَّقَ الطَّلَبُ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ قَائِمٌ، وَلَوْ أَخْبَرَ بِبَيْعِ الدَّارِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ قَدْ ادَّعَيْتُ شُفْعَتَهَا، أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ قَدْ ادَّعَيْتُ شُفْعَتَهَا فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ عَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا يُذْكَرُ لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ تَبَرُّكًا بِهِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ عَنْ الطَّلَبِ. وَكَذَا إذَا سَلَّمَ أَوْ شَمَّتَ الْعَاطِسَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِعَمَلٍ يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَبْطُلْ بِهِ خِيَارُ الْمُخَيَّرَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ مَنْ ابْتَاعَهَا وَبِكَمْ بِيعَتْ؟ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرْضَى بِمُجَاوَرَةِ إنْسَانٍ دُونَ غَيْرِهِ وَقَدْ تَصْلُحُ لَهُ الدَّارُ بِثَمَنٍ دُونَ غَيْرِهِ فَكَانَ السُّؤَالُ عَنْ حَالِ الْجَارِ وَمِقْدَارِ الثَّمَنِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الطَّلَبِ لَا إعْرَاضًا عَنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الْمَجْلِسِ، فَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الْفَوْرِ تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِانْقِطَاعِ الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلَوْ أُخْبِرَ بِالْبَيْعِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَمَضَى فِيهَا فَالشَّفِيعُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْفَرْضِ أَوْ فِي الْوَاجِبِ أَوْ فِي السُّنَّةِ أَوْ فِي النَّفْلِ الْمُطْلَقِ فَإِنْ كَانَ فِي الْفَرْضِ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ قَطْعَهَا حَرَامٌ فَكَانَ مَعْذُورًا فِي تَرْكِ الطَّلَبِ، وَكَذَا إذَا كَانَ فِي الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ فِي السُّنَّةِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ السُّنَنَ الرَّاتِبَةَ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ سَوَاءٌ كَانَتْ السُّنَّةُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا كَالْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ حَتَّى لَوْ أَخْبَرَ بَعْدَمَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَوَصَلَ بِهِمَا الشَّفْعَ الثَّانِيَ لَمْ تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ وَاجِبَةٍ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا بَلَغَ الشَّفِيعَ الْبَيْعُ فَصَلَّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ، وَإِنْ صَلَّى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ سُنَّةٌ فَصَارَ كَالرَّكْعَتَيْنِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُخَيَّرَةِ إذَا كَانَتْ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ فَزَادَتْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ بَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَالْغَائِبُ إذَا عَلِمَ بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ مِثْلُ الْحَاضِرِ فِي الطَّلَبِ وَالْإِشْهَادِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الطَّلَبِ الَّذِي يَتَأَكَّدُ بِهِ الْحَقُّ وَعَلَى الْإِشْهَادِ الَّذِي يَتَوَثَّقُ بِهِ الطَّلَبُ. وَلَوْ وَكَّلَ الْغَائِبُ رَجُلًا لِيَأْخُذَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ فَذَلِكَ طَلَبٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ فِي التَّوْكِيلِ طَلَبًا وَزِيَادَةً، وَإِذَا طَلَبَ الْغَائِبُ عَلَى الْمُوَاثَبَةِ وَأَشْهَدَ فَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْأَجَلِ مِقْدَارُ الْمَسَافَةِ الَّتِي يَأْتِي إلَى حَيْثُ الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي أَوْ الدَّارُ لَا زِيَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَأْجِيلَ هَذَا الْقَدْرِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ لِلزِّيَادَةِ. (أَمَّا) طَلَبُ التَّقْرِيرِ فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى فَوْرِ الطَّلَبِ الْأَوَّلِ وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ، فَإِذَا طَلَبَ عَلَى الْمُوَاثَبَةِ وَأَشْهَدَ عَلَى فَوْرِهِ ذَلِكَ شَخْصًا إلَى حَيْثُ الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي أَوْ الدَّارُ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَبِيعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَلَبَ مِنْ الْبَائِعِ وَإِنْ شَاءَ طَلَبَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ طَلَبَ عِنْدَ الدَّارِ. (أَمَّا) الطَّلَبُ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي؛ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ الْبَائِعُ بِالْيَدِ وَالْمُشْتَرِي بِالْمِلْكِ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمًا فَصَحَّ الطَّلَبُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. (وَأَمَّا) الطَّلَبُ عِنْدَ الدَّارِ؛ فَلِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ بِهَا فَإِنْ سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَعِنْدَ الدَّارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّهُ فَرَّطَ فِي الطَّلَبِ. وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ شَاءَ طَلَبَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ عِنْدَ الدَّارِ، وَلَا يَطْلُبُ مِنْ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا لِزَوَالِ يَدِهِ وَلَا مِلْكَ لَهُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ، وَلَوْ لَمْ يَطْلُبْ مِنْ الْمُشْتَرِي وَلَا عِنْدَ الدَّارَ وَشَخَصَ إلَى الْبَائِعِ لِلطَّلَبِ مِنْهُ وَالْإِشْهَادِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْإِعْرَاضِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرِّضَا وَلَوْ تَعَاقَدَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الدَّارُ فَلَيْسَ عَلَى الشَّفِيعِ أَنْ يَأْتِيَهُمَا وَلَكِنَّهُ يَطْلُبُ عِنْدَ الدَّارِ وَيُشْهِدُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ إذَا كَانَ بِجَنْبِ الدَّارِ - وَالْعَاقِدَانِ غَائِبَانِ - تَعَيَّنَتْ الدَّارُ لِلطَّلَبِ عِنْدَهَا وَالْإِشْهَادِ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ عِنْدَهَا وَشَخَصَ إلَى الْعَاقِدَيْنِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِوُجُودِ الْإِعْرَاضِ عَنْ الطَّلَبِ، هَذَا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الطَّلَبِ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ الْبَائِعِ أَوْ عِنْدَ الدَّارِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ هُنَاكَ حَائِلٌ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ مَخُوفٌ أَوْ أَرْضٌ مَسْبَعَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَانِعِ - لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ بِتَرْكِ الْمُوَاثَبَةِ إلَى أَنْ يَزُولَ الْحَائِلُ. (وَأَمَّا) الْإِشْهَادُ عَلَى هَذَا الطَّلَبِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّتِهِ كَمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِتَوْثِيقِهِ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِنْكَارِ كَمَا فِي الطَّلَبِ الْأَوَّلِ، وَكَذَا تَسْمِيَةُ الْمَبِيعِ وَتَحْدِيدِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الطَّلَبِ وَالْإِشْهَادِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ، وَالْعَقَارُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالتَّحْدِيدِ فَلَا يَصِحُّ الطَّلَبُ وَالْإِشْهَادُ بِدُونِهِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الطَّلَبِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ

فصل في بيان ما يبطل به حق الشفعة بعد ثبوته

عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ؛ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الشَّفِيعَ يَقُولُ طَلَبْتُ الشُّفْعَةَ وَأَطْلُبُهَا وَأَنَا طَالِبُهَا، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ طَلَبْتُ الشُّفْعَةَ فَحَسْبُ، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يُرَاعَى فِيهِ أَلْفَاظُ الطَّلَبِ بَلْ لَوْ أَتَى بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الطَّلَبِ أَيَّ لَفْظٍ كَانَ يَكْفِي، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ ادَّعَيْتُ الشُّفْعَةَ أَوْ سَأَلْتُ الشُّفْعَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الطَّلَبِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الطَّلَبِ وَمَعْنَى الطَّلَبِ يَتَأَدَّى بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الطَّلَبِ أَوْ بِغَيْرِهِ. (وَأَمَّا) حُكْمُ الطَّلَبِ فَهُوَ اسْتِقْرَارُ الْحَقِّ فَالشَّفِيعُ إذَا أَتَى بِطَلَبَيْنِ صَحِيحَيْنِ اسْتَقَرَّ الْحَقُّ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْطُلُ بِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ أَبَدًا حَتَّى يُسْقِطَهَا بِلِسَانِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: إذَا تَرَكَ الْمُخَاصَمَةَ إلَى الْقَاضِي فِي زَمَانٍ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَلَمْ يُوَقِّتْ فِيهِ وَقْتًا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِمَا يَرَاهُ الْقَاضِي، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إذَا مَضَى شَهْرٌ بَعْدَ الطَّلَبِ وَلَمْ يَطْلُبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الشَّفِيعِ، وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْإِنْسَانِ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ الْإِضْرَارَ بِغَيْرِهِ، وَفِي إبْقَاءِ هَذَا الْحَقِّ بَعْدَ تَأْخِيرِ الْخُصُومَةِ أَبَدًا إضْرَارٌ بِالْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْنِي وَلَا يَغْرِسُ خَوْفًا مِنْ النَّقْضِ وَالْقَلْعِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْدِيرِ بِزَمَانٍ لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ بِهِ، فَقَدَّرْنَا بِالشَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى الْآجَالِ، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ وَلَمْ يَطْلُبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ فَرَّطَ فِي الطَّلَبِ فَتَبْطُلْ شُفْعَتُهُ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّ الْحَقَّ لِلشَّفِيعِ قَدْ ثَبَتَ بِالطَّلَبَيْنِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَقَّ مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِإِبْطَالٍ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْمُطَالَبَةِ مِنْهُ لَا يَكُونُ إبْطَالًا كَتَأْخِيرِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَقَوْلُهُ " يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي " مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ فَالظَّاهِرُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ خَوْفًا مِنْ النَّقْضِ وَالْقَلْعِ، فَلَئِنْ فَعَلَ فَهُوَ الَّذِي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ فَلَا يُضَافُ ذَلِكَ إلَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الشُّفْعَةِ بِغَيْبَةِ الشَّفِيعِ وَلَا يُقَالُ أَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِالْمُشْتَرِي بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: مَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ؛ وَالِاخْتِيَارِيُّ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ دَلَالَةً؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ الشَّفِيعُ: أَبْطَلْتُ الشُّفْعَةَ أَوْ أَسْقَطْتُهَا أَوْ أَبْرَأْتُكَ عَنْهَا أَوْ سَلَّمْتُهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ خَالِصُ حَقِّهِ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ سَوَاءٌ عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بَعْدَ أَنْ كَانَ بَعْدَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ هَذَا إسْقَاطُ الْحَقِّ صَرِيحًا وَصَرِيحُ الْإِسْقَاطِ يَسْتَوِي فِيهِ الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ كَالطَّلَاقِ وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الْحُقُوقِ، بِخِلَافِ الْإِسْقَاطِ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَإِنَّهُ لَا يُسْقِطُ حَقَّهُ ثَمَّةَ إلَّا الْعِلْمُ، وَالْفَرْقُ يُذْكَرُ بَعْدَ هَذَا. وَلَا يَصِحُّ تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ - قَبْلَ وُجُوبِهِ وَوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ - مُحَالٌ وَلَوْ أُخْبِرَ بِالْبَيْعِ بِقَدْرٍ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ جِنْسٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ فُلَانٍ فَسَلَّمَ فَظَهَرَ بِخِلَافِهِ هَلْ يَصِحُّ تَسْلِيمُهُ؟ فَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ لَا يَخْتَلِفُ غَرَضُ الشَّفِيعِ فِي التَّسْلِيمِ صَحَّ التَّسْلِيمُ وَبَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَإِنْ كَانَ يَخْتَلِفُ غَرَضُهُ لَمْ يَصِحَّ وَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ فِي التَّسْلِيمِ إذَا لَمْ يَخْتَلِفْ بَيْنَ مَا أُخْبِرَ بِهِ وَبَيْنَ مَا بِيعَ بِهِ وَقَعَ التَّسْلِيمُ مُحَصِّلًا لِغَرَضِهِ فَصَحَّ، وَإِذَا اخْتَلَفَ غَرَضُهُ فِي التَّسْلِيمِ لَمْ يَقَعْ التَّسْلِيمُ مُحَصِّلًا لِغَرَضِهِ فَلَمْ يَصِحَّ التَّسْلِيمُ وَبَيَانُ هَذَا فِي مَسَائِلَ: إذَا أُخْبِرَ أَنَّ الدَّارَ بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفَيْنِ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ كَانَ لِاسْتِكْثَارِهِ الثَّمَنَ فَإِذَا لَمْ تَصْلُحْ لَهُ بِأَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ فَبِأَكْثَرِهِمَا أَوْلَى، فَحَصَلَ غَرَضُهُ بِالتَّسْلِيمِ فَبَطَلَتْ شُفْعَتُهُ. وَلَوْ أُخْبِرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِخَمْسِمِائَةٍ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَ كَثْرَةِ الثَّمَنِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ قِلَّتِهِ فَلَمْ يَحْصُلْ غَرَضُهُ بِالتَّسْلِيمِ فَبَقِيَ عَلَى شُفْعَتِهِ. وَلَوْ أُخْبِرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَهُ الشُّفْعَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً، وَاعْتِبَارُ الْحَقَائِقِ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْغَرَضُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ جِنْسٌ وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْآخَرُ فَلَمْ يَقَعْ

التَّسْلِيمُ مُحَصِّلًا لِغَرَضِهِ فَيَبْقَى عَلَى شُفْعَتِهِ؛ كَمَا لَوْ أُخْبِرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِحِنْطَةٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِشَعِيرٍ قِيمَتُهُ مِثْلُ قِيمَةِ الْحِنْطَةِ. (وَلَنَا) أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي حَقِّ الثَّمَنِيَّةِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهَا أَثْمَانُ الْأَشْيَاءِ، وَقِيمَتُهَا تُقَوَّمُ الْأَشْيَاءُ بِهَا تَقْوِيمًا وَاحِدًا أَعْنِي أَنَّهَا تُقَوَّمُ بِهَذَا مَرَّةً وَبِذَاكَ أُخْرَى، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْقَدْرِ لَا غَيْرُ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ قَدْرِ قِيمَتِهِمَا فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، كَمَا إذَا أَخْبَرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَكْثَرَ أَوْ بِأَقَلَّ عَلَى مَا بَيَّنَّا، كَذَا هَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أُخْبِرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِحِنْطَةٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِشَعِيرٍ قِيمَتُهُ مِثْلُ قِيمَةِ الْحِنْطَةِ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكَثْرُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ اخْتَلَفَ؛ إذْ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْغَرَضِ فَلَمْ يَصِحَّ التَّسْلِيمُ. وَلَوْ أُخْبِرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِمَكِيلٍ أَوْ بِمَوْزُونٍ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَوْ عَدَدِيٍّ مُتَقَارِبٍ فَالشُّفْعَةُ قَائِمَةٌ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ إذَا كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُ بِمِثْلِهِ، وَأَنَّهُ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ الْجِنْسِ الَّذِي أُخْبِرَ بِهِ الشَّفِيعُ فَاخْتَلَفَ الْغَرَضُ. وَلَوْ أُخْبِرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِعَرَضٍ وَمَا لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ؛ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الْأَلْفِ أَوْ أَكْثَرَ صَحَّ تَسْلِيمُهُ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ لَمْ يَصِحَّ تَسْلِيمُهُ وَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ هَهُنَا يَأْخُذُ الدَّارَ بِقِيمَةِ الْعَرَضِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ وَقِيمَتُهُ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ، فَكَانَ الِاخْتِلَافُ رَاجِعًا إلَى الْقَدْرِ فَأَشْبَهَ الْأَلْفَ وَالْأَلْفَيْنِ وَالْأَلْفَ وَخَمْسَمِائَةٍ عَلَى مَا مَرَّ. وَلَوْ أُخْبِرَ بِشِرَاءِ نِصْفِ الدَّارِ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَى الْجَمِيعَ فَلَهُ الشُّفْعَةُ وَلَوْ أُخْبِرَ بِشِرَاءِ الْجَمِيعِ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَى النِّصْفَ فَالتَّسْلِيمُ جَائِزٌ وَلَا شُفْعَةَ لَهُ. هَذَا هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَقَدْ رُوِيَ الْجَوَابُ فِيهِمَا عَلَى الْقَلْبِ وَهُوَ أَنَّ التَّسْلِيمَ فِي النِّصْفِ يَكُونُ تَسْلِيمًا فِي الْكُلِّ، وَالتَّسْلِيمُ فِي الْكُلِّ لَا يَكُونُ تَسْلِيمًا فِي النِّصْفِ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ تَسْلِيمَ النِّصْفِ لِعَجْزِهِ عَنْ الثَّمَنِ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ الْقَلِيلِ كَانَ عَنْ الْكَثِيرِ أَعْجَزَ، فَأَمَّا الْعَجْزُ عَنْ الْكَثِيرِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْعَجْزِ عَنْ الْقَلِيلِ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ التَّسْلِيمَ فِي النِّصْفِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الضَّرَرِ وَهُوَ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْكُلِّ فَاخْتَلَفَ الْغَرَضُ فَلَمْ يَصِحَّ التَّسْلِيمُ فَبَقِيَ عَلَى شُفْعَتِهِ، وَإِذَا صَحَّ تَسْلِيمُ الْكُلِّ فَقَدْ سَلَّمَ الْبَعْضَ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْكُلِّ، فَصَارَ بِتَسْلِيمِ الْكُلِّ مُسَلِّمًا لِلنِّصْفِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عَيْبٌ فَكَانَ التَّسْلِيمُ بِدُونِ الْعَيْبِ تَسْلِيمًا مَعَ الْعَيْبِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى أُخْبِرَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ زَيْدٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَمْرٌو فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لِلْأَمْنِ عَنْ الضَّرَرِ، وَالْأَمْنُ عَنْ ضَرَرِ زَيْدٍ لَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمْنِ عَنْ ضَرَرِ عَمْرٍو؛ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْجِوَارِ وَلَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ زَيْدٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ عَمْرٍو؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ نَصِيبَ زَيْدٍ لَا نَصِيبَ عَمْرٍو فَبَقِيَ لَهُ الشُّفْعَةُ فِي نَصِيبِهِ. وَلَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الدَّارَ بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ إنَّ الْبَائِعَ حَطَّ عَنْ الْمُشْتَرِي خَمْسَمِائَةٍ وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي الْحَطَّ كَانَ لَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ بِخَمْسِمِائَةٍ فَصَارَ، كَمَا إذَا أُخْبِرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِخَمْسِمِائَةٍ وَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ الْحَطَّ لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ لَمْ يَصِحَّ إذَا لَمْ يَقْبَلْ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَنْقَصَ مِنْ أَلْفٍ فَلَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ. وَلَوْ بَاعَ الشَّفِيعُ دَارِهِ الَّتِي يَشْفَعُ بِهَا بَعْدَ شِرَاءِ الْمُشْتَرِي هَلْ تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ؟ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ الْبَيْعُ بَاتًّا وَإِمَّا إنْ كَانَ فِيهِ شَرْطُ الْخِيَارِ؛ فَإِنْ كَانَ بَاتًّا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ بَاعَ كُلَّ الدَّارِ وَإِمَّا إنْ بَاعَ جُزْءًا مِنْهَا، فَإِنْ بَاعَ كُلَّهَا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْحَقِّ هُوَ جِوَارُ الْمِلْكِ وَقَدْ زَالَ سَوَاءٌ عَلِمَ بِالشِّرَاءِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى صَرِيحِ الْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّ إبْطَالَ سَبَبِ الْحَقِّ إبْطَالُ الْحَقِّ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ، فَإِنْ رَجَعَتْ الدَّارُ إلَى مِلْكِهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَوْ بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ أَوْ بِخِيَارِ شَرْطٍ لِلْمُشْتَرِي فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ بَطَلَ فَلَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهَا الشَّفِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَهَا الْمُشْتَرِي بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِزَوَالِ سَبَبِ الْحَقِّ وَهُوَ جَوَازُ الْمِلْكِ، فَإِنْ نَقَضَ الْبَيْعَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَقَّ بَعْدَمَا بَطَلَ لَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ. وَإِنْ بَاعَ جُزْءًا مِنْ دَارِهِ فَإِنْ بَاعَ جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا فَلَهُ الشُّفْعَةُ بِمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ يَصْلُحُ لِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ ابْتِدَاءً فَأَوْلَى أَنْ يَصْلُحَ لِلْبَقَاءِ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسَهْلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَإِنْ بَاعَ جُزْءًا مُعَيَّنًا بَيْتًا أَوْ حُجْرَةً فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَلِي الدَّارَ الَّتِي فِيهَا الشُّفْعَةُ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ وَهُوَ جِوَارُ الْمِلْكِ قَائِمٌ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَلِي تِلْكَ الدَّارَ؛ فَإِنْ اسْتَغْرَقَ حُدُودَ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا الشُّفْعَةُ بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْجِوَارَ قَدْ زَالَ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْ حَدِّهَا شَيْءٌ مُلَاصِقٌ لِمَا بَقِيَ مِنْ الدَّارِ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ

هَذَا الْقَدْرَ يَصْلُحُ لِلِاسْتِحْقَاقِ ابْتِدَاءً فَلَأَنْ يَصْلُحَ لِبَقَاءِ الْمُسْتَحَقِّ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَهُوَ الشَّفِيعُ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ مَا لَمْ يُوجِبْ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ وَهُوَ جِوَارُ الْمِلْكِ قَائِمٌ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ، فَإِنْ طَلَبَ الشُّفْعَةَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ نَقْضًا لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الشُّفْعَةِ دَلِيلُ اسْتِبْقَاءِ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ وَذَلِكَ إسْقَاطٌ لِلْخِيَارِ وَنَقْضٌ لِلْبَيْعِ. وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ الدَّارَ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ بِلَا خِلَافٍ فَزَالَ سَبَبُ الْحَقِّ وَهُوَ جِوَارُ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ شَرِيكًا وَجَارًا فَبَاعَ نَصِيبَهُ الَّذِي يَشْفَعُ بِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ الشُّفْعَةَ بِالْجِوَارِ؛ لِأَنَّهُ إنْ بَطَلَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ - وَهُوَ الشَّرِكَةُ - فَقَدْ بَقِيَ الْآخَرُ - وَهُوَ الْجِوَارُ - وَلِهَذَا اُسْتُحِقَّ بِهِ ابْتِدَاءً، فَلَأَنْ يَبْقَى بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ أَوْلَى. وَلَوْ صَالَحَ الْمُشْتَرِي الشَّفِيعَ مِنْ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ وَلَمْ يَثْبُتْ الْعِوَضُ وَبَطَلَ حَقُّ الشُّفْعَةِ؛ أَمَّا بُطْلَانُ الصُّلْحِ فَلِانْعِدَامِ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ التَّمَلُّكِ وَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ وِلَايَةِ التَّمَلُّكِ وَأَنَّهَا مَعْنًى قَائِمٌ بِالشَّفِيعِ فَلَمْ يَصِحَّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ فَبَطَلَ الصُّلْحُ وَلَمْ يَجِبْ الْعِوَضُ وَأَمَّا بُطْلَانُ حَقِّ الشَّفِيعِ فِي الشُّفْعَةِ؛ فَلِأَنَّهُ أَسْقَطَهُ بِالصُّلْحِ، فَالصُّلْحُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَإِسْقَاطُ حَقِّ الشُّفْعَةِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ لَا تَقِفُ عَلَى الْعِوَضِ بَلْ هُوَ شَيْءٌ مِنْ الْأَمْوَالِ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا عَنْهُ فَالْتَحَقَ ذِكْرُ الْعِوَضِ بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ سَلَّمَ بِلَا عِوَضٍ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ الزَّوْجُ لِلْمُخَيَّرَةِ: اخْتَارِينِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَتْ: اخْتَرْتُكَ، لَمْ يَجِبْ الْعِوَضُ وَبَطَلَ خِيَارُهَا. وَكَذَلِكَ الْعِنِّينُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ - بَعْدَمَا أُخْبِرَتْ بِسَبَبِ الْعُنَّةِ -: اخْتَارِي تَرْكَ الْفَسْخِ بِالْعُنَّةِ بِأَلْفٍ، فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ، بَطَلَ خِيَارُهَا وَلَمْ يَجِبْ الْعِوَضُ. وَفِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إذَا أَسْقَطَهَا بِعِوَضٍ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يَجِبُ الْعِوَضُ وَتَبْطُلُ الْكَفَالَةُ كَمَا فِي الشُّفْعَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُ أَسْقَطَ الْكَفَالَةَ بِعِوَضٍ، فَالِاعْتِيَاضُ إنْ لَمْ يَصِحَّ فَالْإِسْقَاطُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ لَا تَقِفُ عَلَى الْعِوَضِ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالسُّقُوطِ إلَّا بِعِوَضٍ وَلَمْ يَثْبُتْ الْعِوَضُ فَلَا يَسْقُطُ. وَأَمَّا بُطْلَانُ الشُّفْعَةِ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ مِنْ الشَّفِيعِ مَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِالْعَقْدِ وَحُكْمِهِ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مِمَّا يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الرِّضَا فَيَبْطُلُ بِدَلَالَةِ الرِّضَا أَيْضًا؛ وَذَلِكَ نَحْوُ مَا إذَا عَلِمَ بِالشِّرَاءِ فَتَرَكَ الطَّلَبَ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أَوْ قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ أَوْ تَشَاغَلَ عَنْ الطَّلَبِ بِعَمَلٍ آخَرَ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الطَّلَبِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ دَلِيلُ الرِّضَا بِالْعَقْدِ وَحُكْمِهِ لِلدَّخِيلِ، وَكَذَا إذَا سَاوَمَ الشَّفِيعُ الدَّارَ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ سَأَلَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ إيَّاهَا أَوْ اسْتَأْجَرَهَا الشَّفِيعُ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ أَخَذَهَا مُزَارَعَةً أَوْ مُعَامَلَةً، وَذَلِكَ كُلُّهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ دَلِيلُ الرِّضَا، أَمَّا الْمُسَاوَمَةُ؛ فَلِأَنَّهَا طَلَبُ تَمْلِيكٍ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ وَأَنَّهُ دَلِيلُ الرِّضَا بِمِلْكِ الْمُتَمَلِّكِ، وَكَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ؛ لِأَنَّهَا تَمَلُّكٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَأَنَّهَا دَلِيلُ الرِّضَا بِمِلْكِ الْمُتَمَلِّكِ. وَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ وَالْأَخْذُ مُعَامَلَةً أَوْ مُزَارَعَةً؛ فَلِأَنَّهَا تَقْرِيرٌ لِمِلْكِ الْمُشْتَرِي فَكَانَتْ دَلِيلَ الرِّضَا بِمِلْكِهِ، فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ حَيْثُ شَرَطَ هَهُنَا عِلْمَ الشَّفِيعِ بِالشِّرَاءِ لِبُطْلَانِ حَقِّ الشُّفْعَةِ وَهُنَاكَ لَمْ يَشْتَرِطْ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ السُّقُوطَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ، وَالْإِسْقَاطُ تَصَرُّفٌ فِي نَفْسِ الْحَقِّ فَيُسْتَدْعَى ثُبُوتُ الْحَقِّ لَا غَيْرُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدُّيُونِ، وَالسُّقُوطُ هَهُنَا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ وَهِيَ دَلَالَةُ الرِّضَا لَا بِالتَّصَرُّفِ فِي مَحَلِّ الْحَقِّ بَلْ فِي مَحَلٍّ آخَرَ، وَالتَّصَرُّفُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ الرِّضَا إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ؛ إذْ الرِّضَا بِالشَّيْءِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ مُحَالٌ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ فِي النِّصْفِ بَطَلَتْ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَلَّمَ فِي النِّصْفِ بَطَلَ حَقُّهُ فِي النِّصْفِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ وَبَطَلَ حَقُّهُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَبَطَلَتْ شُفْعَتُهُ فِي الْكُلِّ. وَلَوْ طَلَبَ نِصْفَ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ تَسْلِيمًا مِنْهُ لِلشُّفْعَةِ فِي الْكُلِّ؟ اخْتَلَفَ فِيهِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ؛ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَكُونُ تَسْلِيمًا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَكُونُ تَسْلِيمًا فِي الْكُلِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ سَبَقَ مِنْهُ طَلَبُ الْكُلِّ بِالشُّفْعَةِ فَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْمُشْتَرِي فَقَالَ لَهُ حِينَئِذٍ أَعْطِنِي نِصْفَهَا عَلَى أَنْ أُسَلِّمَ لَكَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ تَسْلِيمًا. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ النِّصْفَ بِالشُّفْعَةِ فَقَدْ أَبْطَلَ حَقَّهُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الطَّلَبَ فِيهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَذَا دَلِيلُ الرِّضَا فَبَطَلَ حَقُّهُ فِيهِ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ فِي النِّصْفِ الْمَطْلُوبِ ضَرُورَةَ تَعَذُّرِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ سَبَقَ مِنْهُ الطَّلَبُ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ

فصل في بيان ما يملك به المشفوع فيه

فِي الْكُلِّ فَقَدْ تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي الْكُلِّ وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَعْطِنِي النِّصْفَ عَلَى أَنْ أُسَلِّمَ لَكَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ تَسْلِيمًا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَتَقَرَّرْ بَعْدُ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ لَهُ فِي كُلِّ الدَّارِ، وَالْحَقُّ إذَا ثَبَتَ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْإِسْقَاطِ وَلَمْ يُوجَدْ فَبَقِيَ كَمَا كَانَ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذَا أَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ الْإِسْقَاطُ فِي النِّصْفِ الَّذِي لَمْ يَطْلُبْهُ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا الضَّرُورِيُّ فَنَحْوُ أَنْ يَمُوتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الطَّلَبَيْنِ قَبْلَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَتَبْطُلُ شُفْعَتُهُ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَبْطُلُ وَلِوَارِثِهِ حَقُّ الْأَخْذِ، وَلَغَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ خِيَارَ الشُّفْعَةِ هَلْ يُوَرَّثُ؟ عِنْدَنَا لَا يُوَرَّثُ، وَعِنْدَهُ يُوَرَّثُ وَالْكَلَامُ فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. وَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ وَارِثِهِ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ حَقٌّ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَيْهِ فِي التَّمَلُّكِ فَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ كَحَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ؟ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يُمْلَكُ بِهِ الْمَشْفُوعُ فِيهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُمْلَكُ بِهِ الْمَشْفُوعُ فِيهِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: الْمَشْفُوعُ فِيهِ يُمْلَكُ بِالتَّمَلُّكِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَلَا مِلْكَ لِلشَّفِيعِ قَبْلَ الْأَخْذِ بَلْ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ وَالتَّمَلُّكِ قَبْلَ الْأَخْذِ لِلْمُشْتَرِي؛ لِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ فِيهِ وَهُوَ الشِّرَاءُ، فَلَهُ أَنْ يَبْنِيَ وَيَغْرِسَ وَيَهْدِمَ وَيَقْلَعَ وَيُؤَاجِرَ وَيَطِيبَ لَهُ الْأَجْرُ وَيَأْكُلَ مِنْ ثِمَارِ الْكَرْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذَا لَهُ أَنْ يَبِيعَ وَيَهَبَ وَيُوصِيَ، وَإِذَا فَعَلَ يَنْفُذُ إلَّا أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَ ذَلِكَ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ سَابِقٌ عَلَى تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فَيَمْتَنِعُ اللُّزُومُ، وَلَوْ جَعَلَ الْمُشْتَرِي الدَّارَ مَسْجِدًا أَوْ مَقْبَرَةً فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ وَيَنْقُضَ مَا صَنَعَ الْمُشْتَرِي، كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَنْفُذُ كَمَا لَوْ بَاعَ إلَّا أَنَّ الْبَيْعَ وَنَحْوَهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ وُجُودِهِ فَنَفَذَ وَلَمْ يَلْزَمْ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ كَالْإِعْتَاقِ فَكَانَ نَفَاذُهَا لُزُومَهَا، وَلَنَا أَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الشَّفِيعِ بِالْمَبِيعِ يَمْنَعُ مِنْ صَيْرُورَتِهِ مَسْجِدًا؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا يَكُونُ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَعَلُّقُ حَقِّ الْعَبْدِ بِهِ يَمْنَعُ خُلُوصَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَمْنَعُ صَيْرُورَتَهُ مَسْجِدًا، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ الْمُشْتَرَاةَ بِالشُّفْعَةِ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ جِوَارُ الْمِلْكِ أَوْ الشَّرِكَةُ فِي مِلْكِ الْمَبِيعِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اشْتَرَى دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ فَبِيعَتْ دَارٌ إلَى جَنْبِ هَذِهِ الدَّارِ فَطَالَبَ الْمُشْتَرِي بِالشُّفْعَةِ وَقُضِيَ لَهُ بِهَا ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ يُقْضَى لَهُ بِالدَّارِ الَّتِي بِجِوَارِهِ وَيَمْضِي الْقَضَاءُ فِي الثَّانِيَةِ لِلْمُشْتَرِي، أَمَّا لِلشَّفِيعِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا لِلْمُشْتَرِي؛ فَلِأَنَّ الْجِوَارَ كَانَ ثَابِتًا لَهُ وَقْتَ الْبَيْعِ وَالْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ إلَّا أَنَّهُ بَطَلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَخْذِ الشَّفِيعِ لِلدَّارِ بِالشُّفْعَةِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ جِوَارَ الْمِلْكِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا كَمَنْ اشْتَرَى دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ فَقُضِيَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ بَاعَ دَارِهِ الَّتِي بِهَا يَشْفَعُ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ بِالشُّفْعَةِ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا. وَلَوْ كَانَ الشَّفِيعُ جَارًا لِلدَّارَيْنِ فَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَيُقْضَى لَهُ بِكُلِّ الدَّارِ الْأُولَى وَبِالنِّصْفِ مِنْ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ جَارٌ خَاصٌّ لِلدَّارِ الْأُولَى فَيَخْتَصُّ بِشُفْعَتِهَا، وَهُوَ مَعَ الْمُشْتَرِي جَارَانِ لِلدَّارِ الثَّانِيَةِ فَيَشْتَرِكَانِ فِي شُفْعَتِهَا، وَشِرَاءُ الْمُشْتَرِي لَا يُبْطِلُ حَقَّهُ فِي الشُّفْعَةِ وَلِأَنَّهُ لَا يُنَافِيهِ بَلْ يُقَرِّرُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ اشْتَرَى نِصْفَ دَارٍ ثُمَّ اشْتَرَى رَجُلٌ آخَرُ نِصْفَهَا الْآخَرَ فَخَاصَمَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ فَيُقْضَى لَهُ بِالشُّفْعَةِ بِالشَّرِكَةِ، ثُمَّ خَاصَمَهُ الْجَارُ فِي الشُّفْعَتَيْنِ جَمِيعًا أَنَّ الْجَارَ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي لِأَنَّهُ جَارٌ لِلنِّصْفِ الْأَوَّلِ فَيَأْخُذُهُ بِالْجِوَارِ وَالْمُشْتَرِي شَرِيكٌ عِنْدَ بَيْعِ النِّصْفِ الثَّانِي لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ بِسَبَبِ الشِّرَاءِ، وَثُبُوتُ الْحَقِّ لِلشَّفِيعِ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ فَكَانَ شَرِيكًا عِنْدَ بَيْعِ النِّصْفِ الثَّانِي، وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى نِصْفَهَا ثُمَّ اشْتَرَى نِصْفَهَا الْآخَرَ رَجُلٌ آخَرُ فَلَمْ يُخَاصِمْهُ فِيهِ حَتَّى أَخَذَ الْجَارُ النِّصْفَ الْأَوَّلَ فَالْجَارُ أَحَقُّ بِالنِّصْفِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ - وَإِنْ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ لَكِنَّهُ قَدْ بَطَلَ بِأَخْذِ الْجَارِ بِالشُّفْعَةِ فَبَطَلَ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ. وَلَوْ وَرِثَ رَجُلٌ دَارًا فَبِيعَتْ دَارُ الْأَوَّلِ بِجَنْبِهَا فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ بِيعَتْ دَارٌ إلَى جَنْبِ الثَّانِيَةِ فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ الْمَوْرُوثَةُ وَطَلَبَ الْمُسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ يَأْخُذُ الدَّارَ الثَّانِيَةَ، وَالْوَارِثُ أَحَقُّ بِالثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ الدَّارَ الَّتِي يَشْفَعُ بِهَا الْوَارِثُ كَانَتْ مِلْكَ الْمُسْتَحِقِّ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَ الثَّانِيَةَ بِغَيْرِ حَقٍّ إذْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ جَارًا فَكَانَتْ الشُّفْعَةُ فِي الثَّانِيَةِ لِلْمُسْتَحِقِّ، وَالْوَارِثُ

فصل في بيان طريق التملك بالشفعة وبيان كيفيته

يَكُونُ أَحَقَّ بِالثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لِلْوَارِثِ عِنْدَ بَيْعِ الثَّالِثَةِ فَكَانَ السَّبَبُ - وَهُوَ جِوَارُ الْمِلْكِ - ثَابِتًا لَهُ عِنْدَهُ ثُمَّ بَطَلَ الِاسْتِحْقَاقُ، وَبُطْلَانُ الْمِلْكِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الشُّفْعَةِ. وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَ قِسْمَةَ الْمُشْتَرِي حَتَّى لَوْ اشْتَرَى نِصْفَ دَارٍ مِنْ رَجُلٍ مُشَاعًا وَقَاسَمَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَالْقِسْمَةُ مَاضِيَةٌ لَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَهَا لِيَأْخُذَ نِصْفَهَا مُشَاعًا سَوَاءٌ كَانَتْ قِسْمَتُهُ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ وَلِهَذَا لَمْ تَصِحَّ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ صِحَّةِ الْهِبَةِ، وَالْقَبْضُ عَلَى التَّمَامِ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الشِّيَاعِ. وَإِذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ فَالشَّفِيعُ لَا يَمْلِكُ نَقْضَ الْقَبْضِ بِأَنْ اشْتَرَى دَارًا وَقَبَضَهَا ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ وَأَرَادَ أَنْ يَنْقُضَ قَبْضَهُ لِيَأْخُذَهَا مِنْ الْبَائِعِ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ نَقْضَ الْقَبْضِ لَا يَمْلِكُ نَقْضَ مَا بِهِ تَمَامُ الْقَبْضِ وَهُوَ الْقِسْمَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ رَجُلٍ فَقَاسَمَ الْمُشْتَرِي الشَّرِيكَ الَّذِي لَمْ يَبِعْ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ هُنَاكَ لَيْسَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُكْمِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ؛ إذْ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ كَمَا أَوْجَبَ الْمِلْكَ أَوْجَبَ الْقِسْمَةَ فِي الْمُشَاعِ، وَالْبَيْعُ الْأَوَّلُ لَمْ يَقَعْ مَعَ هَذَا الْمُشْتَرِي الَّذِي قَاسَمَ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْقِسْمَةُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ بَلْ بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَالتَّصَرُّفُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ يَمْلِكُ الشَّفِيعُ نَقْضَهُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ الَّذِي أَصَابَ الْمُشْتَرِي بِالشُّفْعَةِ سَوَاءٌ وَقَعَ نَصِيبُ الْمُشْتَرِي مِنْ جَانِبِ الشَّفِيعِ أَوْ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ وَجَبَتْ لَهُ فِي النِّصْفِ الْمُشْتَرَى، وَالنِّصْفُ الَّذِي أَصَابَ الْمُشْتَرِي هُوَ الْمُشْتَرَى؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازٌ. وَلَوْ وَقَعَ نَصِيبُ الْبَائِعِ مِنْ جَانِبِ الشَّفِيعِ فَبَاعَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ قَبْلَ طَلَبِ الشَّفِيعِ الشُّفْعَةَ الْأُولَى ثُمَّ طَلَبَ الشَّفِيعُ فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِالشُّفْعَةِ الْأَخِيرَةِ - جَعَلَ نِصْفَ الْبَائِعِ بَيْنَ الشَّفِيعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي وَقَضَى بِالشُّفْعَةِ الْأُولَى - وَهِيَ نِصْفُ الْمُشْتَرِي - لِلشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ مَعَ الْمُشْتَرِي جَارَانِ لِنِصْفِ الْبَائِعِ، وَالشَّفِيعُ جَارٌ خَاصٌّ لِنِصْفِ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ بَدَأَ فَقَضَى لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ الْأُولَى قَضَى لَهُ بِالْأَخِيرَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَضَى لَهُ بِالشُّفْعَةِ الْأُولَى بَطَلَ حَقُّ جِوَارِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَرُدَّ الْمَشْفُوعَ فِيهِ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ وَلِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ لَمَّا كَانَ يَثْبُتُ بِالتَّمَلُّكِ بِبَدَلٍ كَانَ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ شِرَاءً فَيُرَاعَى فِيهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ طَرِيقِ التَّمَلُّكِ بِالشُّفْعَةِ وَبَيَانُ كَيْفِيَّتِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ طَرِيقِ التَّمَلُّكِ بِالشُّفْعَةِ وَبَيَانُ كَيْفِيَّتِهِ فَالتَّمَلُّكُ بِالشُّفْعَةِ يَكُونُ بِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ: إمَّا بِتَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي وَإِمَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي؛ أَمَّا التَّمَلُّكُ بِالتَّسْلِيمِ بِالْبَيْعِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِتَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي بِرِضَاهُ بِبَدَلٍ يُبْدِلُهُ الشَّفِيعُ وَهُوَ الثَّمَنُ يُفَسِّرُ الشِّرَاءَ، وَالشِّرَاءُ تَمَلُّكٌ وَأَمَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ التَّمَلُّكِ بِالْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ وَفِي بَيَانِ شَرْطِ جَوَازِ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمَبِيعُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِالشُّفْعَةِ يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ الَّذِي كَانَ بَيْنَ الْبَائِعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلِهِمْ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْبَيْعُ لَا يُنْتَقَضُ بَلْ تَتَحَوَّلُ الصَّفْقَةُ إلَى الشَّفِيعِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ الَّذِي جَرَى بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَيَنْعَقِدُ لِلشَّفِيعِ بَيْعٌ آخَرُ كَأَنَّهُ كَانَ مِنْ الْبَائِعِ إيجَابَانِ أَحَدُهُمَا مَعَ الْمُشْتَرِي وَالْآخَرُ مَعَ الشَّفِيعِ، فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِالشُّفْعَةِ فَقَدْ قَبِلَ الشَّفِيعُ الْإِيجَابَ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ وَانْتَقَضَ مَا أُضِيفَ إلَى الْمُشْتَرِي سَوَاءٌ قَبِلَ الْمُشْتَرِي الْإِيجَابَ الْمُضَافَ إلَيْهِ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ. (وَجْهُ) قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالتَّحَوُّلِ لَا بِالِانْتِقَاضِ أَنَّ الْبَيْعَ لَوْ انْتَقَضَ لَتَعَذَّرَ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فَإِذَا انْتَقَضَ لَمْ يَجِبْ فَتَعَذَّرَ الْأَخْذُ. (وَجْهُ) قَوْلِ مَنْ قَالَ أَنَّهُ يُنْتَقَضُ نَصُّ مُحَمَّدٍ، وَالْمَعْقُولُ وَالْأَحْكَامُ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ انْتَقَضَ الْبَيْعُ فِيمَا بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِالشُّفْعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَقَدْ عَجَزَ الْمُشْتَرِي عَنْ قَبْضِ الْمَبِيعِ؛ وَالْعَجْزُ عَنْ قَبْضِ الْمَبِيعِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ لِخُلُوِّهِ عَنْ الْفَائِدَةِ؛ كَمَا إذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمِلْكَ قَبْلَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِلْمُشْتَرِي لِوُجُودِ آثَارِ الْمِلْكِ فِي حَقِّهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ تَحَوَّلْ الْمِلْكُ إلَى الشَّفِيعِ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي. وَأَمَّا الْأَحْكَامُ

فَإِنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَرُدَّ الدَّارَ عَلَى مَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَإِذَا رَدَّ عَلَيْهِ لَا يَعُودُ شِرَاءُ الْمُشْتَرِي وَلَوْ تَحَوَّلَتْ الصَّفْقَةُ إلَى الشَّفِيعِ لَعَادَ شِرَاءُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ التَّحَوُّلَ كَانَ لِضَرُورَةِ مُرَاعَاةِ حَقِّ الشَّفِيعِ وَلَمَّا رَدَّ فَقَدْ زَالَتْ الضَّرُورَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ الشِّرَاءُ، وَلِأَنَّهَا لَوْ تَحَوَّلَتْ إلَيْهِ لَصَارَ الْمُشْتَرِي وَكِيلًا لِلشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ عَقْدَهُ يَقَعُ لَهُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا ثَبَتَ لِلشَّفِيعِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي رَآهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَرَضِيَ بِهَا؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَبْطُلُ بِرُؤْيَةِ الْوَكِيلِ وَرِضَاهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الشِّرَاءُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَهَا لِلْحَالِ يَأْخُذُ بِثَمَنٍ حَالٍّ، وَلَوْ تَحَوَّلَتْ الصَّفْقَةُ إلَيْهِ لَأَخَذَهَا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهَا عِنْدَ الْبَيْعِ ثُمَّ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى مَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ وَلَوْ تَحَوَّلَتْ تِلْكَ الصَّفْقَةُ إلَى الشَّفِيعِ لَمَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ كَمَا لَمْ يَثْبُتْ لِلْمُشْتَرِي، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ عَلَى أَنَّ شِرَاءَ الْمُشْتَرِي يُنْتَقَضُ وَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِشِرَاءٍ مُبْتَدَإٍ بَعْدَ إيجَابٍ مُبْتَدَإٍ مُضَافٍ إلَيْهِ. وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْبَيْعَ لَوْ انْتَقَضَ لَتَعَذَّرَ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ بِذَلِكَ الْعَقْدِ لِانْتِقَاضِهِ بَلْ بِعَقْدٍ مُبْتَدَإٍ مُقَرَّرٍ بَيْنَ الْبَائِعِ وَبَيْنَ الشَّفِيعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا تَقْرِيرَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَخَذَهُ مِنْهُ وَدَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُشْتَرِي، وَالْبَيْعُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ التَّمَلُّكَ وَقَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ ثُمَّ إذَا أَخَذَ الدَّارَ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ يَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَى الْبَائِعِ وَكَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ وَيَسْتَرِدُّ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ مِنْ الْبَائِعِ إنْ كَانَ قَدْ نَقَدَ، وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُشْتَرِي وَكَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعُهْدَةَ هِيَ حَقُّ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ، فَيَكُونُ عَلَى مَنْ قَبَضَ الثَّمَنُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا كَانَ نَقَدَ الثَّمَنَ وَلَمْ يَقْبِضْ الدَّارَ حَتَّى قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِمَحْضَرٍ مِنْهُمَا - أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الدَّارَ مِنْ الْبَائِعِ وَيَنْقُدُ الثَّمَنَ لِلْمُشْتَرِي وَالْعُهْدَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْقُدْ دَفَعَ الشَّفِيعُ الثَّمَنَ إلَى الْبَائِعِ وَالْعُهْدَةُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ نَقَدَ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ فَالْمِلْكُ لَا يَقَعُ عَلَى الْبَائِعِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ، وَلَا بُدَّ أَيْضًا لِبُطْلَانِ حَقِّ الْحَبْسِ بِنَقْدِ الثَّمَنِ بَلْ يَقَعُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَيَكُونُ الثَّمَنُ لَهُ وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ لَمْ يَنْقُدْ فَلِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الشَّفِيعُ مِنْ قَبْضِ الدَّارِ إلَّا بِدَفْعِ الثَّمَنِ إلَى الْبَائِعِ فَكَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَى الْبَائِعِ. وَأَمَّا شَرْطُ جَوَازِ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ فَحَضْرَةُ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَبِيعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي؛ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَضْرَةِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ؛ أَمَّا الْبَائِعُ فَبِالْيَدِ وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَبِالْمِلْكِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فَيُشْتَرَطُ حَضْرَتُهُمَا لِئَلَّا يَكُونَ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ. وَأَمَّا إنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَحَضْرَةُ الْبَائِعِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَيُكْتَفَى بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا لِزَوَالِ مِلْكِهِ وَيَدِهِ عَنْ الْمَبِيعِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَكَذَا حَضْرَةُ الشَّفِيعِ أَوْ وَكِيلِهِ شَرْطُ جَوَازِ الْقَضَاءِ لَهُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ كَمَا لَا يَجُوزُ فَالْقَضَاءُ لِلْغَائِبِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا، ثُمَّ الْقَاضِي إذَا قَضَى بِالشُّفْعَةِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلشَّفِيعِ وَلَا يَقِفُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لَهُ عَلَى التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلشَّفِيعِ يَثْبُتُ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ، وَالشِّرَاءُ الصَّحِيحُ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا وَقْتُ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ فَوَقْتُهُ وَقْتُ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُطَالَبَةِ بِهَا؛ فَإِذَا طَالَبَهُ بِهَا الشَّفِيعُ يَقْضِي الْقَاضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ سَوَاءٌ حَضَرَ الثَّمَنُ أَوْ لَا؛ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِسَ الدَّارَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ مِنْ الشَّفِيعِ وَكَذَا الْوَرَثَةُ؛ لِأَنَّ التَّمَلُّكَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ مِنْ الْمُشْتَرِي وَلِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ فَإِنْ أَبَى أَنْ يَنْقُدَ حَبَسَهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ ظَهَرَ ظُلْمُهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ إيفَاءِ حَقٍّ وَاجِبٍ عَلَيْهِ فَيَحْبِسُهُ وَلَا يَنْقُضُ الشُّفْعَةَ؛ كَالْمُشْتَرِي إذَا امْتَنَعَ مِنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ أَنَّهُ يُحْبَسُ وَلَا يُنْقَضُ الْبَيْعُ. وَإِنْ طَلَبَ أَجَلًا لِنَقْدِ الثَّمَنِ أَجَّلَهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ النَّقْدُ لِلْحَالِ فَيَحْتَاجُ إلَى مُدَّةٍ يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ النَّقْدِ فَيُمْهِلُهُ وَلَا يَحْبِسُهُ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الظُّلْمِ بِالْمَطْلِ وَلَمْ يَظْهَرْ مَطْلُهُ؛ فَإِنْ مَضَى الْأَجَلُ وَلَمْ يَنْقُدْ حَبَسَهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِالشُّفْعَةِ حَتَّى يُحْضِرَ الشَّفِيعُ الْمَالَ؛ فَإِنْ طَلَبَ أَجَلًا أَجَّلَهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَمْ يَقْضِ لَهُ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنْ قَضَى بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ أَبَى الشَّفِيعُ أَنْ يَنْقُدَ حَبَسَهُ، وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِاخْتِلَافٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِالشُّفْعَةِ قَبْلَ إحْضَارِ الثَّمَنِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ لَفْظَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " لَيْسَ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِالشُّفْعَةِ حَتَّى يُحْضِرَ الشَّفِيعُ الْمَالَ " لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بَلْ هُوَ إشَارَةٌ إلَى نَوْعِ احْتِيَاطٍ مَحَلٍّ

فصل في بيان شرط التملك في الشفعة

وَاخْتِيَارُ الْأَوَّلِ، لَا تُسْتَعْمَلُ لَفْظَةُ " لَا يَنْبَغِي " إلَّا فِي مِثْلِهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ قَضَى جَازَ وَنَفَذَ قَضَاؤُهُ، نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ بِمَذْهَبِ الْمُخَالِفِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ إنَّمَا يَنْفُذُ بِشَرِيطَةِ اعْتِقَادِ إصَابَتِهِ فِيهِ وَإِفْضَاءِ اجْتِهَادِهِ إلَيْهِ، وَقَدْ أَطْلَقَ الْقَضِيَّةَ فِي النَّفَاذِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الشَّرْطِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ، ثُمَّ إنْ ثَبَتَ الْخِلَافُ. (فَوَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِدَفْعِ ضَرَرِ الدَّخِيلِ عَنْ الشَّفِيعِ، وَالْقَضَاءُ قَبْلَ إحْضَارِ الثَّمَنِ يَتَضَمَّنُ الضَّرَرَ بِالْمُشْتَرِي لِاحْتِمَالِ إفْلَاسِ الشَّفِيعِ وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْإِنْسَانِ بِإِضْرَارِ غَيْرِهِ مُتَنَاقِضٌ فَلَا يُقْضَى قَبْلَ الْإِحْضَارِ وَلَكِنْ يُؤَجِّلُهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً إنْ طَلَبَ التَّأْجِيلَ تَمْكِينًا لَهُ مِنْ نَقْدِ الثَّمَنِ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الشَّفِيعَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا الْمَشْفُوعَ فِيهِ بِمُقْتَضَى الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ كَأَنْ اشْتَرَاهُ مِنْهُ، وَالتَّمَلُّكُ بِالشِّرَاءِ لَا يَقِفُ عَلَى إحْضَارِ الثَّمَنِ كَمَا فِي الشِّرَاءِ الْمُبْتَدَإِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ ضَرَبَ لَهُ الْقَاضِي أَجَلًا فَقَالَ لَهُ إنْ لَمْ تَأْتِ بِالثَّمَنِ إلَى وَقْتِ كَذَا فَلَا شُفْعَةَ لَكَ فَلَمْ يَأْتِ بِهِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَكَذَا إذَا قَالَ الشَّفِيعُ إنْ لَمْ أُعْطِكَ الثَّمَنَ إلَى وَقْتِ كَذَا فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ إسْقَاطِ حَقِّ الشُّفْعَةِ بِالشَّرْطِ وَالْإِسْقَاطَاتُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ شَرْطِ التَّمَلُّكِ فِي الشُّفْعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ شَرْطِ التَّمَلُّكِ فَالتَّمَلُّكُ بِالشُّفْعَةِ لَهُ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: رِضَا الْمُشْتَرِي أَوْ قَضَاءُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ تَمَلُّكَ مَالِ الْغَيْرِ مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ إلَّا بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَثْبُتُ التَّمَلُّكُ بِدُونِهِمَا، وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَتَضَمَّنَ التَّمَلُّكُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ فَإِنْ تَضَمَّنَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ؛ لِأَنَّ فِي التَّفْرِيقِ ضَرَرًا بِالْمُشْتَرِي وَهُوَ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ بِالضَّرَرِ مُتَنَاقِضٌ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا أَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ الْمُشْتَرَى بِالشُّفْعَةِ دُونَ بَعْضِهِ أَنَّهُ هَلْ يَمْلِكُ ذَلِكَ؟ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمُشْتَرَى لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ مُمْتَازًا عَنْ الْبَعْضِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ اشْتَرَى دَارًا وَاحِدَةً فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَهَا بِالشُّفْعَةِ دُونَ الْبَعْضِ أَوْ يَأْخُذَ الْجَانِبَ الَّذِي يَلِي الدَّارَ دُونَ الْبَاقِي لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَلَكِنْ يَأْخُذُ الْكُلَّ أَوْ يَدَعُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ لَتَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ فِي كُلِّ الدَّارِ ثَبَتَ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ فَكَانَ أَخْذُ الْبَعْضِ تَفْرِيقًا فَلَا يَمْلِكُهُ الشَّفِيعُ؛ وَسَوَاءٌ اشْتَرَى وَاحِدٌ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ وَاحِدٌ مِنْ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْبَائِعَيْنِ لَيْسَ لَهُ؛ لِمَا قُلْنَا، سَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَرُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْبَائِعَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمُشْتَرِي نَصِيبَ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْقَبْضِ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّمَلُّكَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى التَّفْرِيقِ؛ لِأَنَّ التَّمَلُّكَ يَقَعُ عَلَى الْبَائِعِ وَقَدْ خَرَجَ نَصِيبُهُ عَنْ مِلْكِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ ضَرَرُ التَّفْرِيقِ؛ وَهُوَ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ التَّمَلُّكَ بَعْدَ الْقَبْضِ يَقَعُ عَلَى الْمُشْتَرِي، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُهْدَةَ عَلَيْهِ وَفِيهِ تَفَرُّقُ مِلْكِهِ؟ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ لِلْمُشْتَرِي بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَبِمِلْكِ نَصِيبِ أَحَدِ الْبَائِعَيْنِ تَفْرِيقَ مِلْكِهِ فَيَلْزَمُهُ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ. وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلَانِ مِنْ رَجُلٍ دَارًا فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ هُنَا لَا يَتَضَمَّنُ التَّفْرِيقَ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ حَصَلَتْ مُتَفَرِّقَةً وَقْتَ وُجُودِهَا؛ إذْ الْمِلْكُ فِي نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ بِقَوْلِهِ فَلَمْ تَتَّحِدْ الصَّفْقَةُ فَلَا يَقَعُ الْأَخْذُ تَفْرِيقًا؛ لِحُصُولِ التَّفْرِيقِ قَبْلَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ أَوْ قَبْلَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا الْكُلَّ وَبَعْدَ الْقَبْضِ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ أَخْذَ الْبَعْضِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَتَضَمَّنُ تَفْرِيقَ الْيَدِ عَلَى الْبَائِعِ، وَالتَّمَلُّكُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَتَضَمَّنُ التَّفْرِيقَ؛ لِأَنَّ التَّمَلُّكَ يَقَعُ عَلَى الْبَائِعِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَ الْمُشْتَرِيَيْنِ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْبِضَ حِصَّتَهُ دُونَ صَاحِبِهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّفْقَةَ حَصَلَتْ مُتَفَرِّقَةً مِنْ الِابْتِدَاءِ فَلَا يَكُونُ أَخْذُ الْبَعْضِ تَفْرِيقًا لِحُصُولِ التَّفْرِيقِ قَبْلَ الْأَخْذِ وَقَوْلُهُ فِيهِ تَفْرِيقُ الْيَدِ - وَهُوَ الْقَبْضُ - مَمْنُوعٌ فَالشَّفِيعُ يَتَمَلَّكُ نَصِيبَ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ بِالشُّفْعَةِ وَلَكِنَّهُ لَا يُفَرِّقُ الْيَدَ حَتَّى لَوْ نَقَدَ الثَّمَنَ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ أَحَدَ النِّصْفَيْنِ مَا لَمْ يَنْقُدْ الْآخَرَ كَيْ لَا يَتَفَرَّقَ الْقَبْضُ، وَسَوَاءٌ سَمَّى لِكُلِّ نِصْفٍ ثَمَنًا عَلَى حِدَةٍ أَوْ سَمَّى لِلْجُمْلَةِ ثَمَنًا وَاحِدًا فَالْعِبْرَةُ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ وَتَعَدُّدِهَا لَا لِاتِّحَادِ الثَّمَنِ وَتَعَدُّدِهِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ التَّفْرِيقِ هُوَ الضَّرَرُ، وَالضَّرَرُ

فصل في بيان ما يتملك به الأخذ بالشفعة

يَنْشَأُ عَنْ اتِّحَادِ الصَّفْقَةِ لَا عَنْ اتِّحَادِ الثَّمَنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرِي عَاقِدًا لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا حَتَّى لَوْ وَكَّلَ رَجُلَانِ جَمِيعًا رَجُلًا وَاحِدًا بِالشِّرَاءِ فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ مِنْ رَجُلَيْنِ فَجَاءَ الشَّفِيعُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْبَائِعَيْنِ بِالشُّفْعَةِ. وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ وَاحِدٌ رَجُلَيْنِ فَاشْتَرَيَا مِنْ وَاحِدٍ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ مَا اشْتَرَاهُ أَحَدُ الْوَكِيلَيْنِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْوُكَلَاءُ عَشَرَةً اشْتَرَوْا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ اثْنَيْنِ أَوْ مِنْ ثَلَاثَةٍ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنَّمَا أَنْظُرُ فِي هَذَا إلَى الْمُشْتَرِي وَلَا أَنْظُرُ إلَى الْمُشْتَرَى لَهُ، وَهُوَ نَظَرٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ مِنْ حُقُوقِ الْبَيْعِ وَأَنَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى الْوَكِيلِ فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ لِاتِّحَادِ الْوَكِيلِ وَتَعَدُّدِهِ دُونَ الْمُوَكِّلِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرَى بَعْضُهُ مُمْتَازًا عَنْ الْبَعْضِ بِأَنْ اشْتَرَى دَارَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَإِنْ كَانَ شَفِيعًا لَهُمَا جَمِيعًا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَأْخُذُهُمَا جَمِيعًا أَوْ يَدَعُهُمَا، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَهُ أَنْ يَأْخُذَ إحْدَاهُمَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَن. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ أَخْذِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ هُوَ لُزُومُ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا لِانْفِصَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الدَّارَيْنِ عَنْ الْأُخْرَى. (وَلَنَا) أَنَّ الصَّفْقَةَ وَقَعَتْ مُجْتَمِعَةً لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَ الدَّارَيْنِ بِقَبُولٍ وَاحِدٍ فَلَا يَمْلِكُ الشَّفِيعُ تَفْرِيقَهَا كَمَا فِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ، وَقَوْلُهُ: " لَيْسَ فِيهِ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ " مُسَلَّمٌ لَكِنْ فِيهِ ضَرَرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ فِي الصَّفْقَةِ مُعْتَادٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فَلَوْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ أَخْذِ أَحَدِهِمَا لَأَخَذَ الْجَيِّدَ فَيَتَضَرَّرُ لَهُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الرَّدِيءَ لَا يُشْتَرَى وَحْدَهُ بِمِثْلِ مَا يُشْتَرَى مَعَ الْجَيِّدِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الدَّارَانِ مُتَلَاصِقَتَيْنِ أَوْ مُتَفَرِّقَتَيْنِ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ أَوْ مِصْرَيْنِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى فِي الْجَانِبَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ شَفِيعًا لِإِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى وَوَقَعَ الْبَيْعُ صَفْقَةً وَاحِدَةً فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ؟ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ إلَّا الَّتِي تُجَاوِرُهُ بِالْحِصَّةِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الدَّارَيْنِ الْمُتَلَاصِقَيْنِ إذَا كَانَ الشَّفِيعُ جَارًا لِإِحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الشُّفْعَةُ إلَّا فِيمَا يَلِيهِ، وَكَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَقْرِحَةِ الْمُتَلَاصِقَةِ؛ وَوَاحِدٌ مِنْهَا يَلِي أَرْضَ إنْسَانٍ وَلَيْسَ بَيْنَ الْأَقْرِحَةِ طَرِيقٌ وَلَا نَهْرٌ إنَّمَا هِيَ مُنْسَاةٌ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لَهُ إلَّا فِي الْقَرَاحِ الَّذِي يَلِيهِ خَاصَّةً وَكَذَلِكَ فِي الْقَرْيَةِ إذَا بِيعَتْ بِدُورِهَا وَأَرَاضِيهَا أَنَّ لِكُلِّ شَفِيعٍ أَنْ يَأْخُذَ الْقَرَاحَ الَّذِي يَلِيهِ خَاصَّةً، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِالشُّفْعَةِ قَالَ الْكَرْخِيُّ: رِوَايَةُ الْحَسَنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ كَانَ مِثْلَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فَجَعَلَهُ كَالدَّارِ الْوَاحِدَةِ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْحَقِّ - وَهُوَ الْجِوَارُ - وُجِدَ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ مَا يَلِيهِ فَلَا يَمْلِكُ إلَّا أَخْذَ أَحَدِهِمَا، وَالصَّفْقَةُ - وَإِنْ وَقَعَتْ مُجْتَمِعَةً وَلَكِنَّهَا أُضِيفَتْ إلَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ فِيهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَالْآخَرُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا ثَبَتَ فِيهِ الْحَقُّ؛ كَمَا إذَا اشْتَرَى عَقَارًا أَوْ مَنْقُولًا صَفْقَةً وَاحِدَةً أَنَّهُ يَأْخُذُ الْعَقَارَ خَاصَّةً، كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ - وَإِنْ وُجِدَ فِيمَا يَلِيهِ دُونَ الْبَاقِي لَكِنْ لَا سَبِيلَ إلَى أَخْذِهِ خَاصَّةً بِدُونِ الْبَاقِي لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَيَأْخُذُ مَا يَلِيهِ قَضِيَّةً لِلسَّبَبِ وَيَأْخُذُ الْبَاقِيَ ضَرُورَةَ التَّحَرُّزِ عَنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. [فَصْلٌ فِي بَيَان مَا يُتَمَلَّكُ بِهِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُتَمَلَّكُ بِهِ. فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ ثَمَنُ الْمُشْتَرَى لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ كَالْمَزْرُوعَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ كَالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْقِيقَ مَعْنَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ إذْ هُوَ تَمْلِيكٌ بِمِثْلِ مَا تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ يَأْخُذُ بِقِيمَتِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَأْخُذُ بِقِيمَةِ الْمُشْتَرَى. (وَجْهُ) قَوْلِهِمْ أَنَّ الْمَصِيرَ إلَى قِيمَةِ الْمَبِيعِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إيجَابِ الْمُسَمَّى مِنْ الثَّمَنِ هُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرِيعَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَهَهُنَا تَعَذَّرَ الْأَخْذُ بِالْمُسَمَّى فَصَارَ إلَى قِيمَةِ الدَّارِ وَالْعَقَارِ. وَلَنَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ يُمَلِّكُ بِمِثْلِ مَا تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ الَّذِي تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَانَ الْأَخْذُ بِهِ تَمَلُّكًا بِالْمِثْلِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَانَ الْأَخْذُ بِقِيمَتِهِ تَمَلُّكًا بِالْمِثْلِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ مِقْدَارُ مَالِيَّتِهِ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ؛ لِهَذَا سُمِّيَتْ قِيمَتُهُ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ فَكَانَ مِثْلَهُ مَعْنًى. وَأَمَّا قِيمَةُ الدَّارِ فَلَا تَكُونُ مِثْلَ الْعَبْدِ وَالثَّوْبِ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى فَالتَّمَلُّكُ بِهَا لَا يَكُونُ تَمَلُّكًا بِالْمِثْلِ فَلَا

فصل في بيان ما يتملك بالشفعة

يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ. وَلَوْ تَبَايَعَا دَارًا بِدَارٍ فَلِشَفِيعِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الدَّارَيْنِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِقِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ الدَّارَ لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَلَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ بِمِثْلِهَا فَيَأْخُذَ بِقِيمَتِهَا كَالْعَبْدِ وَالثَّوْبِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا لَوْ اشْتَرَى دَارًا بِعَرَضٍ وَلَمْ يَتَقَابَضَا حَتَّى هَلَكَ الْعَرَضُ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيمَا بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ الدَّارَ وَلَمْ يُسَلِّمْ الْعَرَضَ حَتَّى هَلَكَ؛ أَمَّا بُطْلَانُ الْبَيْعِ فِيمَا بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي؛ فَلِأَنَّ الْعَرَضَ مَبِيعٌ إذْ الْمَبِيعُ فِي الْأَصْلِ مَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْبَيْعِ، وَالْعَرَضُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْبَيْعِ فَكَانَ مَبِيعًا، وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ لِتَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ بَعْدَ الْهَلَاكِ فَلَمْ يَكُنْ فِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ فَيَبْطُلُ. وَأَمَّا بَقَاءُ الشُّفْعَةِ لِلشَّفِيعِ؛ فَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَرَضِ لَا عَيْنُهُ، وَالْقِيمَةُ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ فِي حَقِّهِ فَكَانَ بَقَاءُ الْعَرَضِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ وَهَلَاكُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ. ثُمَّ الشَّفِيعُ إنَّمَا يَأْخُذُ بِمَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ لَا بِمَا أَعْطَى بَدَلًا مِنْ الْوَاجِبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ يُمَلِّكُ بِمِثْلِ مَا تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي، وَالْمُشْتَرِي تَمَلَّكَ الْمَبِيعَ بِالْمُسَمَّى - وَهُوَ الْوَاجِبُ بِالْعَقْدِ - فَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِهِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى الدَّارَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ثُمَّ دَفَعَ مَكَانَهَا عَرَضًا فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لَا بِالْعَرَضِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ هِيَ الْوَاجِبَةُ بِالْعَقْدِ وَأَمَّا الْعَرَضُ فَإِنَّمَا أَخَذَهُ الْبَائِعُ بِعَقْدٍ آخَرَ وَهُوَ الِاسْتِبْدَالُ فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بِالْعَقْدِ فَصَارَ كَأَنَّ الْبَائِعَ اشْتَرَى بِالثَّمَنِ عَرَضًا ابْتِدَاءً ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ لَا بِالْعَرَضِ، كَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ زَادَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ فِي الثَّمَنِ فَالزِّيَادَةُ لَا تَلْزَمُ الشَّفِيعَ لِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَأْخُذُ بِمَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ، وَالزِّيَادَةُ مَا وَجَبَتْ بِالْعَقْدِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لِانْعِدَامِهَا وَقْتَ الْعَقْدِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهَا جُعِلَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِمَا فَلَا يَظْهَرُ الْوُجُودُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ فَلَمْ تَكُنْ الزِّيَادَةُ ثَمَنًا فِي حَقِّهِ بَلْ كَانَتْ هِبَةً مُبْتَدَأَةً فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الشُّفْعَةُ كَالْهِبَةِ الْمُبْتَدَأَةِ وَلَوْ حَطَّ الْبَائِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي أَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ الْبَعْضِ فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُ بِمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ حَطَّ بَعْضِ الثَّمَنِ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَيَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ كَأَنَّ الْعَقْدَ مَا وَرَدَ إلَّا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ فَإِنَّ الْتِحَاقَهَا لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لِمَا بَيَّنَّا وَلِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ الزِّيَادَةِ ثَمَنًا فِي حَقِّ الشَّفِيعِ ضَرَرًا بِهِ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي الْحَطِّ، وَلَوْ حَطَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ يَأْخُذُ الشَّفِيعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ لِأَنَّ حَطَّ كُلِّ الثَّمَنِ لَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ الْتَحَقَ لَبَطَلَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ فَلَمْ يَصِحَّ الْحَطُّ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ وَالْتَحَقَ فِي حَقِّهِ بِالْعَدَمِ فَيَأْخُذُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ حَطَّ كُلِّ الثَّمَنِ لَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَصَحَّ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ إبْرَاءً لَهُ عَنْ الثَّمَنِ. وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِثَمَنٍ حَالٍّ وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ مُضِيَّ الْأَجَلِ فَأَخَذَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا لِلْحَالِّ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَأْخُذُ بِمَا وَجَبَ بِالْبَيْعِ، وَالْأَجَلُ لَمْ يَجِبْ بِالْبَيْعِ وَإِنَّمَا وَجَبَ بِالشَّرْطِ وَالشَّرْطُ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ خِيَارُ الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ بِأَنْ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِالشَّرْطِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الشَّفِيعِ، وَكَذَا الْبَرَاءَةُ عَنْ الْعَيْبِ لَا تَثْبُتُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا بِالشَّرْطِ وَلَمْ يُوجَدْ مَعَ الشَّفِيعِ، كَذَا هَذَا. وَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْأَخْذِ فِي الْحَالِّ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ غَيْرُ مَجْبُورٍ عَلَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَلَوْ اخْتَارَ الشَّفِيعُ أَخْذَ الدَّارِ بِثَمَنٍ حَالٍّ كَانَ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَى أَجَلٍ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْ الْمُشْتَرِي تَمَلُّكٌ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ التَّمَلُّكِ الْمُبْتَدَإِ كَأَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ فَلَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَبَقِيَ الْأَوَّلُ عَلَى حَالِهِ فَكَانَ الثَّمَنُ عَلَى حَالِهِ إلَى أَجَلِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي شِرَاءِ الدَّارِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الشَّفِيعِ أَنْ يَطْلُبَ عِنْدَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ فَإِنْ سَكَتَ إلَى حِينِ مَحِلِّ الْأَجَلِ فَذَلِكَ تَسْلِيمٌ مِنْهُ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ إذَا طَلَبَ عِنْدَ حَلِّ الْأَجَلِ فَلَهُ الشُّفْعَةُ وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ عِنْدَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ وَقْتَ الطَّلَبِ هُوَ وَقْتُ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ لَا وَقْتَ حَلِّ الْأَجَلِ فَقَدْ أَخَّرَهُ عَنْ وَقْتِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَبَطَلَ الْحَقُّ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الطَّلَبَ لَا يُرَادُ لِعَيْنِهِ بَلْ لِتَأْكِيدِ الْحَقِّ وَاسْتِقْرَارِهِ، وَالتَّأْكِيدُ لَا يُرَادُ لِنَفْسِهِ بَلْ لِإِمْكَانِ الْأَخْذِ، وَلَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ فَلَهُ أَنْ لَا يَطْلُبَ قَبْلَ حِلِّهِ أَيْضًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يُتَمَلَّكُ بِالشُّفْعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُتَمَلَّكُ بِالشُّفْعَةِ فَاَلَّذِي يَتَمَلَّكُهُ الشَّفِيعُ بِالشُّفْعَةِ هُوَ الَّذِي مَلَكَهُ الْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ سَوَاءٌ مَلَكَهُ أَصْلًا أَوْ تَبَعًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا وَقْتَ التَّمَلُّكِ بِالشُّفْعَةِ، وَذَلِكَ نَحْوُ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالزَّرْعِ وَالثَّمَرِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ

وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُؤْخَذَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ وَالزَّرْعُ وَالثَّمَرُ بِالشُّفْعَةِ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَتَمَلَّكُ مَا يَثْبُتُ لَهُ فِيهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَأَنَّهُ يَثْبُتُ فِي الْعَقَارِ لَا فِي الْمَنْقُولِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَنْقُولَةٌ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا الْحَقُّ فَلَا تُتَمَلَّكُ بِالشُّفْعَةِ وَخَاصَّةً الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ؛ لِأَنَّهُمَا مَبِيعَانِ وَمَقْصُودَانِ لَا يَدْخُلَانِ فِي الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ فَلَمْ يَثْبُتْ الْحَقُّ فِيهِمَا لَا أَصْلًا وَلَا تَبَعًا، وَلَنَا أَنَّ الْحَقَّ إذَا ثَبَتَ فِي الْعَقَارِ يَثْبُتُ فِيمَا هُوَ تَبَعٌ لَهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَابِعَةٌ لِلْعَقَارِ حَالَةَ الِاتِّصَالِ أَمَّا الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ فَظَاهِرَانِ؛ لِأَنَّ قِيَامَهُمَا بِالْأَرْضِ وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الزَّرْعِ وَقِيَامَ الثَّمَرِ بِالشَّجَرِ وَقِيَامَ الشَّجَرِ بِالْأَرْضِ فَكَانَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ بِوَاسِطَةِ الشَّجَرِ فَيَثْبُتُ الْحَقُّ فِيهِمَا تَبَعًا فَيَمْلِكُهُمَا بِالشُّفْعَةِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ إلَّا أَنَّهُمَا لَا يَدْخُلَانِ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ مَعَ وُجُودِ التَّبَعِيَّةِ حَقِيقَةً بِالنَّصِّ وَهُوَ مَا سَنَرْوِي فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ» . فَمَا دَامَ الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ مُتَّصِلًا بِالْأَرْضِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ مَعَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَكَذَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ مَعَ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ بَقْلًا كَانَ الزَّرْعُ أَوْ مُسْتَحْصَدًا إذَا كَانَ مُتَّصِلًا، فَأَمَّا إذَا زَالَ الِاتِّصَالُ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَلَا سَبِيلَ لِلشَّفِيعِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَيْنُهُ قَائِمَةً سَوَاءٌ كَانَ الزَّوَالُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِصُنْعِ الْمُشْتَرِي أَوْ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إنَّمَا ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ مَعْلُولًا بِالتَّبَعِيَّةِ وَقَدْ زَالَتْ التَّبَعِيَّةُ بِزَوَالِ الِاتِّصَالِ فَيُرَدُّ الْحُكْمُ فِيهِ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَهَلْ يَسْقُطُ عَنْ الشَّفِيعِ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ؟ هَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ وَإِمَّا إنْ كَانَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ كَالْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ يُنْظَرُ؛ إنْ كَانَ زَوَالُ الِاتِّصَالِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ بِأَنْ احْتَرَقَ الْبِنَاءُ أَوْ غَرِقَ أَوْ جَفَّ شَجَرُ الْبُسْتَانِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ وَالشَّفِيعُ يَأْخُذُ الْأَرْضَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ انْهَدَمَتْ الدَّارُ سَوَاءٌ بَقِيَ عَيْنُ النَّقْضِ أَوْ هَلَكَ كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُخْتَصَرِهِ وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَرَقِ وَالْحَرْقِ، وَفَرَّقَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: إنْ احْتَرَقَ أَوْ غَرِقَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ انْهَدَمَ يَسْقُطُ عَنْ الشَّفِيعِ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا انْهَدَمَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أَوْ الْأَجْنَبِيِّ لَكِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ هُنَاكَ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ مُتَّصِلًا فَيُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا وَعَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ فَيَأْخُذُ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ وَهَهُنَا يُعْتَبَرُ مُنْفَصِلًا سَاقِطًا وَيَسْقُطُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ الثَّمَنِ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ تَبَعٌ وَالْأَتْبَاعُ لَا حِصَّةَ لَهَا مِنْ الثَّمَنِ إلَّا أَنْ تَصِيرَ مَقْصُودَةً بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْإِتْلَافُ وَالْقَبْضُ وَلَمْ يُوجَدْ؛ وَلِهَذَا لَوْ احْتَرَقَ أَوْ غَرِقَ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، كَذَا هَذَا وَإِنْ كَانَ زَوَالُ الِاتِّصَالِ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أَوْ أَجْنَبِيٍّ بِأَنْ انْهَدَمَ الْبِنَاءُ أَوْ قُطِعَ الشَّجَرُ تَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالْإِتْلَافِ فَصَارَ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ كَأَطْرَافِ الْعَبْدِ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا وَعَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُسْقِطُ حِصَّةَ الْبِنَاءِ فَصَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الْهَدْمُ وَالْهَدْمُ صَادَفَهُ وَهُوَ مَبْنِيٌّ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ مَبْنِيًّا بِخِلَافِ مَا إذَا انْهَدَمَ بِنَفْسِهِ عَلَى رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ انْهَدَمَ لَا بِصُنْعِ أَحَدٍ فَيُعْتَبَرُ حَالُهُ يَوْمَ الِانْهِدَامِ، وَلَوْ لَمْ يَهْدِمْ الْمُشْتَرِي الْبِنَاءَ لَكِنَّهُ بَاعَهُ بِغَيْرِ أَرْضٍ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ كَانَ أَحَقَّ بِالْبِنَاءِ وَالْأَرْضِ فَيَأْخُذُ وَيُنْتَقَضُ الْبَيْعُ فِي الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ الْبِنَاءَ. وَحَقُّ الشَّفِيعِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ لِوُجُودِ الِاتِّصَالِ فَكَانَ سَبِيلًا مِنْ إبْطَالِ الْبَيْعِ كَمَا لَوْ بَاعَ الْأَصْلَ - وَهُوَ الْأَرْضُ - ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ، وَيُنْتَقَضُ الْبَيْعُ كَمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ كَالثَّمَرِ وَالزَّرْعِ يُسْقِطُ عَنْ الشَّفِيعِ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ سَوَاءٌ كَانَ زَوَالُ الِاتِّصَالِ بِصُنْعِ الْعَبْدِ أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إذَا احْتَرَقَ الْبِنَاءُ أَوْ غَرِقَ أَوْ انْهَدَمَ عَلَى رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ مَبِيعٌ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا لِثُبُوتِ حُكْمِ الْبَيْعِ فِيهَا تَبَعًا لَا مَقْصُودًا بِالتَّسْمِيَةِ، وَالْأَتْبَاعُ مَا لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا إذَا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْفِعْلِ وَلَمْ يُوجَدْ، فَأَمَّا الثَّمَرُ وَالزَّرْعُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ مَقْصُودٌ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ؟ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَخُصَّهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَإِنْ هَلَكَ يَهْلِكْ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ سَوَاءٌ هَلَكَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالِاسْتِهْلَاكِ لِمَا قُلْنَا، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْحِصَّةَ بِالْعَقْدِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْعَقْدِ فَيُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ

الْأَرْضِ وَعَلَى قِيمَةِ الزَّرْعِ وَقْتَ الْعَقْدِ لَكِنَّهُ كَيْفَ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْعَقْدِ مَفْصُولًا مَجْذُوذًا أَمْ قَائِمًا؟ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الزَّرْعِ وَهُوَ بَقْلٌ مَفْصُولٌ وَمَجْذُوذٌ فَيَسْقُطُ عَنْهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ قَائِمًا فَتُقَوَّمُ الْأَرْضُ وَفِيهَا الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ وَتُقَوَّمُ وَلَيْسَ فِيهَا الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ فَيَسْقُطُ عَنْ الشَّفِيعِ مَا بَيْنَ ذَلِكَ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الزَّرْعَ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ وَهُوَ مُتَّصِلٌ وَيَثْبُتُ الْحَقُّ فِيهِ وَهُوَ مُنْفَصِلٌ، وَكَذَا الثَّمَرُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا عَلَى صِفَةِ الِاتِّصَالِ عَلَى أَنَّ فِي اعْتِبَارِ حَالَةِ الِانْفِصَالِ إضْرَارًا بِالشَّفِيعِ إذْ لَيْسَ لِلْمَفْصُولِ وَالثَّمَرِ الْمَجْذُوذِ كَثِيرُ قِيمَةٍ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الشَّفِيعُ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ إنَّمَا سَقَطَ بَعْدَ زَوَالِ الِاتِّصَالِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا مُنْفَصِلًا لَا مُتَّصِلًا. وَكَذَا لَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ مَبْذُورَةً وَلَمْ يَطْلُعْ الزَّرْعُ بَعْدُ ثُمَّ طَلَعَ فَقَصَلَهُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْبَذْرِ وَعَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ فَيَسْقُطُ قَدْرُ قِيمَةِ الْبَذْرِ عَنْ الثَّمَنِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُقَوَّمُ الْأَرْضُ مَبْذُورَةً وَغَيْرَ مَبْذُورَةٍ فَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا بَيْن ذَلِكَ إذَا آجَرَ الشَّفِيعُ الْأَرْضَ مَعَ الشَّجَرِ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ وَبَقِيَتْ الثَّمَرَةُ فِي يَدِ الْبَائِعِ هَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي؟ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّ الثَّمَرَةَ لَازِمَةٌ لِلْمُشْتَرِي وَلَا خِيَارَ لَهُ. وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ أَتْلَفَ الثَّمَرَةَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الشَّفِيعُ الْأَرْضَ بِالشُّفْعَةِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَتْلَفَ الثَّمَرَةَ فَقَدْ فَرَّقَ الصَّفْقَةَ عَلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ التَّمَامِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْخِيَارَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الشَّفِيعُ أَخَذَ الْأَرْضَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ هُنَاكَ حَصَلَ بِرِضَا الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ كَانَ ثَابِتًا فِي الْمَأْخُوذِ وَأَنَّهُ حَقٌّ لَازِمٌ فَكَانَ التَّفْرِيقُ هُنَاكَ لِضَرُورَةِ حَقٍّ ثَابِتٍ لَازِمٍ شَرْعًا فَكَانَ الْمُشْتَرِي رَاضِيًا بِهِ، وَالتَّفْرِيقُ الْمَرَضِيُّ بِهِ لَا يُوجِبُ الْخِيَارَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. هَذَا إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْعَقْدِ مُتَّصِلَةً بِالْعَقَارِ وَدَامَ الِاتِّصَالُ إلَى وَقْتِ التَّمَلُّكِ بِالشُّفْعَةِ أَوْ زَالَ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ. فَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْعَقْدِ وَوُجِدَتْ بَعْدَهُ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَإِنْ كَانَ الْحَادِثُ مِمَّا يَثْبُتُ حُكْمُ الْبَيْعِ فِيهِ تَبَعًا وَهُوَ الثَّمَرُ بِأَنْ وَقَعَ الْبَيْعُ وَلَا ثَمَرَ فِي الشَّجَرِ ثُمَّ أَثْمَرَ بَعْدَهُ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَمَا دَامَ مُتَّصِلًا يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ مَعَ الْأَرْضِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ حُكْمُ الْبَيْعِ فِيهِ تَبَعًا لِثُبُوتِهِ فِي الْأَرْضِ بِوَاسِطَةِ الشَّجَرِ فَكَانَ مَبِيعًا تَبَعًا فَيَثْبُتُ حَقُّ الشُّفْعَةِ تَبَعًا سَوَاءٌ حَدَثَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَوْ فِي يَدِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ مَوْجُودَةٌ فِي الْحَالَيْنِ فَإِنْ زَالَ الِاتِّصَالُ فَحَضَرَ الشَّفِيعُ؛ فَإِنْ كَانَ حَدَثَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ زَوَالُهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَهُوَ قَائِمٌ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ هَالِكٌ أَوْ كَانَ زَوَالُهُ بِفِعْلِ أَحَدٍ؛ أَمَّا إذَا كَانَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَهُوَ قَائِمٌ أَوْ هَالِكٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ تَبَعًا حَالَةَ الِاتِّصَالِ وَلَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ فِعْلٌ يَصِيرُ بِهِ مَقْصُودًا، وَالتَّبَعُ لَا يَصِيرُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ بِدُونِهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الزَّوَالُ بِصُنْعِ الْعَبْدِ بِأَنْ جَذَّهُ الْمُشْتَرِي وَهُوَ قَائِمٌ أَوْ هَالِكٌ؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَلَا الْقَبْضُ. وَإِنْ كَانَ حَدَثَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَإِنْ كَانَ الزَّوَالُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَهُوَ قَائِمٌ أَوْ هَالِكٌ فَكَذَلِكَ أَخَذَ الشَّفِيعُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِعْلٌ يَصِيرُ بِهِ مَقْصُودًا فَيُقَابِلُهُ الثَّمَنُ، وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ بِأَنْ اسْتَهْلَكَهُ يَسْقُطُ عَنْ الشَّفِيعِ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ لِصَيْرُورَتِهِ مَقْصُودًا بِالْإِتْلَافِ، وَإِنْ كَانَ الْحَادِثُ مِمَّا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ حُكْمُ الْبَيْعِ رَأْسًا لَا أَصْلًا وَلَا تَبَعًا بِأَنْ بَنَى الْمُشْتَرِي بِنَاءً أَوْ غَرَسَ أَوْ زَرَعَ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ يُقْضَى لَهُ بِشُفْعَةِ الْأَرْضِ وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى قَلْعِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَتَسْلِيمِ السَّاحَةِ إلَى الشَّفِيعِ إلَّا إذَا كَانَ فِي الْقَلْعِ نُقْصَانُ الْأَرْضِ فَلِلشَّفِيعِ الْخِيَارُ؛ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْضَ بِالثَّمَنِ، وَالْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا وَإِنْ شَاءَ أُجْبِرَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَلْعِ وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى قَلْعِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ الْأَرْضَ بِثَمَنِهَا وَالْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ بِقِيمَتِهِ قَائِمًا غَيْرَ مَقْلُوعٍ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ زَرَعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى قَلْعِهِ وَلَكِنَّهُ يَنْتَظِرُ إدْرَاكَ الزَّرْعِ ثُمَّ يُقْضَى لَهُ بِالشُّفْعَةِ فَيَأْخُذُ الْأَرْضَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ فِي الْجَبْرِ عَلَى النَّقْضِ ضَرَرًا بِالْمُشْتَرِي وَهُوَ إبْطَالُ تَصَرُّفِهِ فِي مِلْكِهِ وَفِيمَا قُلْنَا مُرَاعَاةُ الْجَانِبَيْنِ. (أَمَّا) جَانِبُ الْمُشْتَرِي فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ صِيَانَةَ حَقِّهِ عَنْ الْإِبْطَالِ. (وَأَمَّا) جَانِبُ الشَّفِيعِ؛ فَلِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْبِنَاءَ بِقِيمَتِهِ، وَأَخْذُ الشَّيْءِ بِقِيمَتِهِ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ

فصل في بيان من يتملك منه الشقص المشفوع فيه

الرِّوَايَةِ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْأَرْضِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ بِالْبِنَاءِ بَلْ بَقِيَ فَإِذَا قُضِيَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ فَقَدْ صَارَ ذَلِكَ الْحَقُّ مِلْكًا لَهُ فَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ مِلْكِهِ إلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُهُ التَّسْلِيمُ إلَّا بِالنَّقْضِ فَيُؤْمَرُ بِالنَّقْضِ وَلِهَذَا أُمِرَ الْغَاصِبُ وَالْمُشْتَرِي عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ بِالنَّقْضِ كَذَا هَذَا قَوْلُهُ: فِي النَّقْضِ ضَرَرٌ بِالْمُشْتَرِي؛ قُلْنَا إنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ بِهِ فَهُوَ الَّذِي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ بَنَى عَلَى مَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ، وَلَوْ أَخَذَ الشَّفِيعُ الْأَرْضَ بِالشُّفْعَةِ وَبَنَى عَلَيْهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ وَأُمِرَ الشَّفِيعُ بِنَقْضِ الْبِنَاءِ فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ - إنْ كَانَ أَخَذَ مِنْهُ - وَلَا عَلَى الْبَائِعِ أَيْضًا - إنْ كَانَ أَخَذَ مِنْهُ - فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ مِنْ الْمُشْتَرِي وَلَوْ كَانَ اشْتَرَاهُ لَرَجَعَ عَلَيْهِ كَذَا إذَا أَخَذَهُ بِالشُّفْعَةِ لَهُ الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ فِي الشِّرَاءِ لِوُجُودِ الْغُرُورِ مِنْ الْبَائِعِ وَضَمَانِ السَّلَامَةِ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ كُلَّ بَائِعٍ مُخَيِّرٌ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَبِيعُ مِلْكَ نَفْسِهِ وَشَارِطٌ سَلَامَةَ مَا يُبْنَى فِيهِ دَلَالَةً فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ يَدْفَعُ بِحُكْمِ الضَّمَانِ الْمَشْرُوطِ دَلَالَةً؛ إذْ ضَمَانُ الْغُرُورِ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا غُرُورَ مِنْ الْمُشْتَرِي فِي حَقِّ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَى التَّمَلُّكِ مِنْهُ، وَحَقُّ الرُّجُوعِ بِضَمَانِ الْغُرُورِ عَلَى الْمُخْتَارِ لَا عَلَى الْمَجْبُورِ؛ كَالْجَارِيَةِ الْمَأْسُورَةِ إذَا اشْتَرَاهَا رَجُلٌ فَأَخَذَهَا الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِالثَّمَنِ وَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِهِ وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالْعُقْرِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ، وَمِثْلُهُ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً بِالشِّرَاءِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِصَيْرُورَتِهِ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ وَلَا غُرُورَ مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْحَرْبِيِّ لِكَوْنِهِ مَجْبُورًا فِي التَّمَلُّكِ عَلَيْهِ بِمَا أَخَذَهُ مِنْ الْحَرْبِيِّ، كَذَا هَذَا. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَان مَنْ يُتَمَلَّكُ مِنْهُ الشِّقْصُ الْمَشْفُوعُ فِيهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يُتَمَلَّكُ مِنْهُ الشِّقْصُ الْمَشْفُوعُ فِيهِ فَالشَّفِيعُ يَتَمَلَّكُ مِنْ الَّذِي فِي يَدِهِ؛ إنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَخَذَهُ مِنْهُ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَخَذَهُ وَدَفَعَ الثَّمَنَ إلَيْهِ وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرِي عَاقِدًا لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ؛ بِأَنْ كَانَ وَكِيلًا بِالشِّرَاءِ وَقَبَضَ الدَّارَ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ. وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَأْخُذُهَا مِنْ يَدِ الْوَكِيلِ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوَكِيلَ لَمْ يَشْتَرِ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا اشْتَرَى لِمُوَكِّلِهِ فَلَمْ يَكُنْ هُوَ خَصْمًا بَلْ الْخَصْمُ الْمُوَكِّلُ فَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ سَلِّمْ الدَّارَ إلَى الْمُوَكِّلِ، فَإِذَا سَلَّمَ يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ مِنْهُ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الشُّفْعَةَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَأَنَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى الْوَكِيلِ، وَالْوَكِيلُ فِي الْحُقُوقِ أَصْلٌ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي لِنَفْسِهِ فَكَانَ خَصْمَ الشَّفِيعِ فَيَأْخُذُ الدَّارَ مِنْهُ بِالثَّمَنِ وَكَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ سَلَّمَ الدَّارَ إلَى الْمُوَكِّلِ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الدَّارَ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَيَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَيْهِ وَكَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، وَلَا خُصُومَةَ لِلشَّفِيعِ مَعَ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُوَكِّلِ زَالَتْ يَدُهُ عَنْ الدَّارِ فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ إذَا سَلَّمَ الدَّارَ إلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا خُصُومَةَ لِلشَّفِيعِ مَعَ الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا غَيْرَ أَنَّ الدَّارَ إذَا كَانَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا مَا لَمْ يَحْضُرْ الْمُشْتَرِي، وَإِذَا كَانَتْ فِي يَدِ الْوَكِيلِ يَكُونُ خَصْمًا وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ الْمُوَكِّلُ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالتَّوْكِيلِ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ وَالْبَائِعُ لَيْسَ بِقَائِمٍ مَقَامَ الْمُشْتَرِي لِانْعِدَامِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يُخَاصِمَهُ الشَّفِيعُ فِي الشُّفْعَةِ إنَّمَا اشْتَرَيْتُ لِفُلَانٍ، وَسَلَّمَ إلَيْهِ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا لِلشَّفِيعِ فَصَحَّ إقْرَارُهُ لِانْعِدَامِ التُّهْمَةِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْوَكَالَةُ مَعْلُومَةً. وَلَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَعْدَمَا خَاصَمَهُ الشَّفِيعُ لَمْ تَسْقُطْ الْخُصُومَةُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ لِصَيْرُورَتِهِ خَصْمًا لِلشَّفِيعِ فَلَا يُقْبَلُ فِي إبْطَالِ حَقِّهِ وَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ الشِّرَاءِ إنَّمَا اشْتَرَى لِفُلَانٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ لَوْ صَدَقَتْ لَمْ تَدْفَعْ الْخُصُومَةَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهَا إلَّا الشِّرَاءُ لِفُلَانٍ وَبِهَذَا لَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ وَتُقْبَلُ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّفِيعِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُقَرُّ لَهُ. [فَصْلٌ فِي بَيَان حُكْمِ اخْتِلَافِ الشَّفِيعِ وَالْمُشْتَرِي] وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ اخْتِلَافِ الشَّفِيعِ وَالْمُشْتَرِي فَاخْتِلَافُهُمَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَرْجِعَ إلَى الثَّمَنِ، وَإِمَّا أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْمَبِيعِ، وَإِمَّا أَنْ يَرْجِعَ إلَى صِفَةِ الْمَبِيعِ؛ أَمَّا. الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الثَّمَنِ فَلَا يَخْلُو. إمَّا أَنْ يَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي جِنْسِ الثَّمَنِ وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ فِي قَدْرِهِ وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ فِي صِفَتِهِ وَإِنْ وَقَعَ فِي الْجِنْسِ بِأَنْ قَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَقَالَ الشَّفِيعُ: لَا بَلْ

بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّمَلُّكَ بِهَذَا الْجِنْسِ وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَعْرَفُ بِجِنْسِ الثَّمَنِ مِنْ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ وُجِدَ مِنْهُ لَا مِنْ الشَّفِيعِ فَكَانَ أَعْرَفَ بِهِ مِنْ الشَّفِيعِ فَيَرْجِعُ فِي مَعْرِفَةِ الْجِنْسِ إلَيْهِ. وَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ بِأَنْ قَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ بِأَلْفَيْنِ وَقَالَ الشَّفِيعُ: بِأَلْفٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى الشَّفِيعِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي التَّمَلُّكَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ وَلَوْ صَدَّقَ الْبَائِعُ الشَّفِيعَ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ بِأَلْفٍ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ الْبَائِعُ مَا قَبَضَ الثَّمَنَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ وَالشَّفِيعُ يَأْخُذُ بِالْأَلْفِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَوْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي إذَا لَمْ يَكُنْ نَقَدَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إذَا لَمْ يَكُنْ قَبَضَ الثَّمَنَ فَالتَّمَلُّكُ يَقَعُ عَلَيْهِ بِتَمْلِيكِهِ فَيَرْجِعُ فِي مِقْدَارِ مَا مَلَكَ بِهِ إلَى قَوْلِهِ وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ لَوْ وَقَعَ بِأَلْفٍ كَمَا قَالَهُ الْبَائِعُ أَخَذَ الشَّفِيعُ بِهِ وَإِنْ وَقَعَ بِأَلْفَيْنِ كَمَا قَالَهُ الْمُشْتَرِي كَانَ قَوْلُ الْبَائِعِ بِعْتُ بِأَلْفٍ حَطَّ بَعْضِ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي، وَحَطُّ بَعْضِ الثَّمَنِ يَصِحُّ وَيَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ عَلَى مَا مَرَّ. وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَبَضَ الثَّمَنَ لَا يُلْتَفَتُ إلَى تَصْدِيقِهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ فِي الْمَبِيعِ أَصْلًا وَصَارَ أَجْنَبِيًّا فَالْتُحِقَ تَصْدِيقُهُ بِالْعَدَمِ، وَقِيلَ إنَّهُ يُرَاعَى التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي تَصْدِيقِ الْبَائِعِ فَإِنْ بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ بِالْبَيْعِ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ الدَّارَ بِأَلْفٍ وَقَبَضْتُ الثَّمَنَ فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُهَا بِأَلْفٍ، وَإِنْ بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بِأَنْ قَالَ: قَبَضْتُ الثَّمَنَ وَهُوَ الْأَلْفُ لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ بِالْبَيْعِ فَقَالَ بِعْتُ بِأَلْفٍ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ فَهُوَ بِقَوْلِهِ قَبَضْتُ الثَّمَنَ يُرِيدُ إسْقَاطَ حَقٍّ مُتَعَلِّقٍ بِقَوْلِهِ فَلَا يُصَدَّقُ، وَإِذَا بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ فَقَدْ صَارَ أَجْنَبِيًّا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَأَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ وَزَعَمَ أَنَّهُ أَلْفٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَالتَّمَلُّكُ يَقَعُ عَلَيْهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ مَعَ الْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعِ وَالدَّارُ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَوْ الْمُشْتَرِي لَكِنَّهُ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْبَائِعِ، وَالْبَائِعُ مَعَ الْمُشْتَرِي يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ، وَالشَّفِيعُ يَأْخُذُ الدَّارَ بِمَا قَالَ الْبَائِعُ إنْ شَاءَ، أَمَّا التَّحَالُفُ وَالتَّرَادُّ فِيمَا بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» . وَأَمَّا أَخْذُ الشَّفِيعِ بِقَوْلِ الْبَائِعِ " إنْ شَاءَ "؛ فَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ فَالتَّمَلُّكُ يَقَعُ عَلَيْهِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَجْنَبِيًّا عَلَى مَا بَيَّنَّا هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ لَا لِلشَّفِيعِ وَلَا لِلْمُشْتَرِي، فَإِنْ قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي تُظْهِرُ زِيَادَةً فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْتُ بِأَلْفَيْنِ وَقَالَ الْمُشْتَرِي بِأَلْفٍ، وَأَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي تُظْهِرُهَا إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ لَا مُعَارِضَ لَهَا فَتُقْبَلُ فِي قَدْرِ الزِّيَادَةِ لِخُلُوِّهَا عَنْ الْمُعَارِضِ وَلَا يُمْكِنُ إلَّا بِالْقَبُولِ فِي الْكُلِّ فَتُقْبَلُ فِي الْكُلِّ ضَرُورَةً، وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَيِّنَةَ الْمُظْهِرَةَ لِلزِّيَادَةِ مُثْبِتَةٌ وَالْأُخْرَى نَافِيَةٌ، وَالْمُثْبِتُ يَتَرَجَّحُ عَلَى النَّافِي. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طَرِيقَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا ذَكَرَهَا أَبُو يُوسُفَ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَلَمْ يَأْخُذْ بِهَا، وَالثَّانِيَةُ ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ وَأَخَذَ بِهَا أَمَّا الْأُولَى فَهِيَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ جُعِلَتْ حُجَّةً لِلْمُدَّعِي قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» وَالْمُدَّعِي هَهُنَا هُوَ الشَّفِيعُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَجْبُورٍ عَلَى الْخُصُومَةِ فِي الشُّفْعَةِ بَلْ إذَا تَرَكَهَا تَرَكَ وَالْمُشْتَرِي مَجْبُورٌ عَلَى التَّمَلُّكِ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لَوْ تَرَكَ الْخُصُومَةَ لَا يَتْرُكُ فَكَانَ الْمُدَّعِي مِنْهُمَا هُوَ الشَّفِيعُ فَكَانَتْ الْبَيِّنَةُ حُجَّتَهُ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَهِيَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مِنْ حُجَجِ الشَّرْعِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا مَا أَمْكَنَ وَهَهُنَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ بِأَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ وُجِدَ عَقْدَانِ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ لَا يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ وَإِنْ كَانَ يُوجِبُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ بِأَلْفٍ ثُمَّ بَاعَ بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ بِأَلْفٍ دَلَّ أَنَّ الْبَيْعَيْنِ قَائِمَانِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ وَأَنَّ الْفَسْخَ الْأَوَّلَ فِي حَقِّهِمَا فَأَمْكَنَ تَقْدِيرُ عَقْدَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَمَّا عَلَى الطَّرِيقِ الْأُولَى؛ فَلِأَنَّ الْبَائِعَ هُنَاكَ هُوَ

الْمُدَّعِي فَكَانَتْ الْبَيِّنَةُ حُجَّتَهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ وَالْمُشْتَرِي مَجْبُورٌ عَلَيْهَا، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ؛ فَلِأَنَّ تَقْدِيرَ عَقْدَيْنِ هُنَا مُتَعَذَّرٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْأَوَّلِ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ فَكَانَ الْعَقْدُ وَاحِدًا، وَالتَّرْجِيحُ بِجَانِبِ الْبَائِعِ لِانْفِرَادِ بَيِّنَتِهِ بِإِظْهَارِ فَضْلٍ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا بِعَرَضٍ وَلَمْ يَتَقَابَضَا حَتَّى هَلَكَ الْعَرَضُ وَانْتَقَضَ الْبَيْعُ فِيمَا بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي أَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ الدَّارَ وَلَمْ يُسَلِّمْ الْعَرَضَ حَتَّى هَلَكَ وَانْتَقَضَ الْبَيْعُ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَبَقِيَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ بِقِيمَةِ الْعَرَضِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ اخْتَلَفَ الشَّفِيعُ وَالْبَائِعُ فِي قِيمَةِ الْعَرَضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّمَلُّكَ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الثَّمَنِ وَهُوَ يُنْكِرُ، فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قِيَاسِ الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْبَائِعِ انْفَرَدَتْ بِإِثْبَاتِ زِيَادَةٍ وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَأَخَذَ بِهِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ عَقْدَيْنِ هَهُنَا غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى عَرَضٍ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ فَكَانَ الْعَقْدُ وَاحِدًا فَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ فَيُعْمَلُ بِالرَّاجِحِ مِنْهُمَا وَهُوَ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ لِانْفِرَادِهَا بِإِظْهَارِ الْفَضْلِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قِيَاسِ مَا عَلَّلَ لَهُ مُحَمَّدٌ. وَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ مَا عَلَّلَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي وَهَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ هَدَمَ الْمُشْتَرِي بِنَاءَ الدَّارِ حَتَّى سَقَطَ عَنْ الشَّفِيعِ قَدْرُ قِيمَتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْبِنَاءِ فَهَذَا لَا يَخْلُو. (إمَّا) أَنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَاتَّفَقَا عَلَى قِيمَةِ السَّاحَةِ وَإِمَّا أَنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالسَّاحَةِ جَمِيعًا؛ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْبِنَاءِ لَا غَيْرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي عَلَى الْمُشْتَرِي زِيَادَةً فِي السُّقُوطِ وَهُوَ يُنْكِرُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالسَّاحَةِ جَمِيعًا فَإِنَّ السَّاحَةَ تُقَوَّمُ السَّاعَةَ وَالْقَوْلُ فِي قِيمَةِ الْبِنَاءِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي. (أَمَّا) تَقَوُّمُ السَّاحَةِ السَّاعَةَ؛ فَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ قِيمَتِهَا لِلْحَالِ فَيُسْتَدَلُّ بِالْحَالِ عَلَى الْمَاضِي وَلَا يُمْكِنُ تَحْكِيمُ الْحَالِ فِي الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَنْ حَالِهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ؛ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ مُحَمَّدٌ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ زِيَادَةً وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي الْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِاخْتِلَافِ الطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا لَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ؛ فَطَرِيقُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشَّفِيعَ هُوَ الْمُدَّعِي وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةُ الْمُدَّعِي، وَهَذَا مَوْجُودٌ هَهُنَا وَطَرِيقُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِتَقْدِيرِ عَقْدَيْنِ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ مُنْعَدِمٌ هُنَا فَيُعْمَلُ بِإِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ وَهِيَ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي لِانْفِرَادِهَا بِإِظْهَارِ زِيَادَةٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الثَّمَنِ بِأَنْ قَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ بِثَمَنٍ مُعَجَّلٍ، وَقَالَ الشَّفِيعُ لَا بَلْ اشْتَرَيْتَهُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْحُلُولَ فِي الثَّمَنِ أَصْلٌ وَالْأَجَلُ عَارِضٌ فَالْمُشْتَرِي يَتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ؛ وَلِأَنَّ الْعَاقِدَ أَعْرَفُ بِصِفَةِ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِهِ وَلِأَنَّ الْأَجَلَ يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ فَالشَّفِيعُ يَدَّعِي عَلَيْهِ شَرْطَ التَّأْجِيلِ وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَبِيعِ فَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِيمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ أَنَّهُ وَقَعَ عَلَيْهِ بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ أَمْ بِصَفْقَتَيْنِ نَحْوُ مَا إذَا اشْتَرَى دَارًا فَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ الْعَرْصَةَ عَلَى حِدَةٍ بِأَلْفٍ وَالْبِنَاءَ بِأَلْفٍ، وَقَالَ الشَّفِيعُ لَا بَلْ اشْتَرَيْتَهُمَا جَمِيعًا بِأَلْفَيْنِ وَالدَّارُ لِي بِبُنْيَانِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ إفْرَادَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالصَّفْقَةِ حَالَةَ الِاتِّصَالِ لَيْسَ بِمُعْتَادٍ بَلْ الْعَادَةُ بَيْعُهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلشَّفِيعِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فِي الْعَرْصَةِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فِي الْبِنَاءِ تَبَعًا لَهُ حَالَةَ الِاتِّصَالِ، وَشَرْطُ الْوُجُوبِ هُوَ الشِّرَاءُ وَقَدْ أَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ إلَّا أَنَّهُ يَدَّعِي زِيَادَةَ أَمْرٍ وَهُوَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِتَصْدِيقِ الشَّفِيعِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ وَلَمْ تُوجَدْ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ وَلَمْ يُوَقِّتَا وَقْتًا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ بَيِّنَةَ الشَّفِيعِ أَكْثَرُ إثْبَاتًا؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ اسْتِحْقَاقٍ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْبِنَاءِ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ؛ وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَيِّنَتَيْنِ هَهُنَا مُمْكِنٌ بِأَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ بَاعَهُمَا بِصَفْقَتَيْنِ ثُمَّ بَاعَهُمَا

بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِأَيِّهِمَا شَاءَ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي أَكْثَرُ إثْبَاتًا؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ صَفْقَةٍ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ فَأَبُو يُوسُفَ نَظَرَ إلَى زِيَادَةِ الصَّفْقَةِ وَمُحَمَّدٌ نَظَرَ إلَى زِيَادَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ أَحْدَثَ الْبِنَاءَ فِي الدَّارِ وَقَالَ الشَّفِيعُ لَا بَلْ اشْتَرَيْتَهَا وَالْبِنَاءُ فِيهَا - أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُشْتَرِي الْإِقْرَارُ بِشِرَاءِ الْبِنَاءِ وَالشَّفِيعُ يَدَّعِي عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ الْبِنَاءِ وَهُوَ يُنْكِرُ. وَلَوْ اشْتَرَى دَارَيْنِ وَلَهُمَا شَفِيعٌ مُلَاصِقٌ فَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ وَأَنَا شَرِيكُكَ فِي الثَّانِيَةِ، وَقَالَ الشَّفِيعُ: لَا بَلْ اشْتَرَيْتَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَلِي الشُّفْعَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ ثَابِتٌ فِيهِمَا جَمِيعًا وَهُوَ الْجِوَارُ عَلَى سَبِيلِ الْمُلَاصَقَةِ وَقَدْ أَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ شِرَاؤُهُمَا إلَّا أَنَّهُ بِدَعْوَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ يَدَّعِي الْبُطْلَانَ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَشَرْطِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ بَيِّنَةً قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي: وُهِبَ لِي هَذَا الْبَيْتُ مَعَ طَرِيقِهِ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ ثُمَّ اشْتَرَيْتُ بَقِيَّتَهَا، وَقَالَ الشَّفِيعُ: لَا بَلْ اشْتَرَيْتَ الْكُلَّ فَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ فِيمَا أَقَرَّ أَنَّهُ اشْتَرَى وَلَا شُفْعَةَ لَهُ فِيمَا ادَّعَى مِنْ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الْجِوَارُ وَوُجِدَ شَرْطُهُ وَهُوَ الشِّرَاءُ بِإِقْرَارٍ، فَهُوَ بِدَعْوَى الْهِبَةِ يُرِيدُ بُطْلَانَ حَقِّ الشَّفِيعِ فَلَا يُصَدَّقُ، وَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ فِيمَا أَقَرَّ بِشِرَائِهِ وَلَا شُفْعَةَ لَهُ فِي الْمَوْهُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُشْتَرِي الْإِقْرَارُ بِشَرْطِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمَوْهُوبِ وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ الْهِبَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ الشَّفِيعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ الِاسْتِحْقَاقِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ اشْتَرَى دَارًا وَطَلَبَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ فَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ نِصْفًا ثُمَّ نِصْفًا فَلَكَ النِّصْفُ الْأَوَّلُ، وَقَالَ الشَّفِيعُ: لَا بَلْ اشْتَرَيْتَ الْكُلَّ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَلِيَ الْكُلُّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي الْكُلِّ كَانَ مَوْجُودًا وَقَدْ أَقَرَّ بِشَرْطِ الثُّبُوتِ؛ وَهُوَ الشِّرَاءُ، وَلَكِنَّهُ يَدَّعِي أَمْرًا زَائِدًا وَهُوَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ رُبُعًا ثُمَّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ فَلَكَ الرُّبُعُ فَقَالَ الشَّفِيعُ: لَا بَلْ اشْتَرَيْتَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ ثُمَّ رُبُعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ كَانَ مَوْجُودًا وَقَدْ أَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِشِرَاءِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ إلَّا أَنَّهُ يَدَّعِي أَمْرًا زَائِدًا وَهُوَ سَبْقُ الشِّرَاءِ فِي الرُّبُعِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَقَالَ الشَّفِيعُ: اشْتَرَيْتُ نِصْفًا ثُمَّ نِصْفًا فَأَنَا آخُذُ النِّصْفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الْكُلَّ أَوْ يَدَعُ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يُرِيدُ تَفْرِيقَ الصِّفَةِ وَفِيهِ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْبَيْعِ فَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْبَتَاتِ وَالْخِيَارِ أَوْ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ بِأَنْ اشْتَرَى دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَتَقَابَضَا فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَخْذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَقَالَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي الْبَيْعُ كَانَ بِخِيَارِ الْبَائِعِ وَلَوْ يُمْضِ فَلَا شُفْعَةَ لَكَ، وَأَنْكَرَ الشَّفِيعُ الْخِيَارَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَعَلَى الشَّفِيعِ الْبَيِّنَةُ أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ بَاتًّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الشَّفِيعِ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ الْبَتَاتَ أَصْلٌ فِي الْبَيْعِ وَالْخِيَارَ فِيهِ عَارِضٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي ثُبُوتَ حَقِّ الشُّفْعَةِ وَهُمَا يُنْكِرَانِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمَا كَانَ فِيهِ خِيَارٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَا يَجِبُ فِي بَيْعٍ فِيهِ خِيَارٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ؛ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ يَقُومُ بِالْعَاقِدَيْنِ فَكَانَا أَعْرَفَ بِصَفْقَتِهِ مِنْ الشَّفِيعِ، وَالرُّجُوعُ فِي كُلِّ بَابٍ إلَى مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِهِ، وَلِهَذَا لَوْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ كَانَ دَنَانِيرَ وَالشَّفِيعُ يَدَّعِي أَنَّهُ كَانَ دَرَاهِمَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمَا، كَذَا هَذَا وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ غَائِبًا وَالدَّارُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ فَقَالَ الْمُشْتَرِي كَانَ لِلْبَائِعِ فِيهِ خِيَارٌ وَكَذَّبَهُ الشَّفِيعُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ. وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَاقِدَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَادَّعَى الْبَائِعُ الْخِيَارَ وَقَالَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ فِيهِ خِيَارٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي وَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ الدَّارَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْبَائِعَ بِدَعْوَى الْخِيَارِ مُنْكِرٌ لِلْبَيْعِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، وَخِيَارُ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ

فصل في بيان الحيلة في إسقاط الشفعة

عَنْ مِلْكِهِ وَالْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعُ يَدَّعِيَانِ الزَّوَالَ عَنْ مِلْكِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْبَائِعِ، كَمَا لَوْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْخِيَارَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِاشْتِرَاطِهِمَا فَالْبَائِعُ بِدَعْوَى الْخِيَارِ يَدَّعِي الِاشْتِرَاطَ عَلَى الْمُشْتَرِي وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كَمَا لَوْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ وَادَّعَى الْبَائِعُ التَّعْجِيلَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ لِمَا أَنَّ التَّأْجِيلَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَرْطٍ يُوجَدُ مِنْ الْبَائِعِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلشَّرْطِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَذَا هَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِيهِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ زَوَالَ مِلْكِهِ وَلَمْ يَدَّعِ عَلَى الْمُشْتَرِي فِعْلًا فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. وَلَوْ أَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ الْمُشْتَرَاةَ بِالشُّفْعَةِ فَقَالَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا فَلَا شُفْعَةَ لَكَ، وَقَالَ الشَّفِيعُ كَانَ جَائِزًا وَلِيَ الشُّفْعَةُ فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ؛ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْعَاقِدَيْنِ وَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيعِ وَلَهُ الشُّفْعَةُ، فَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ بِاخْتِلَافِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِي الصِّحَّةَ، كَذَا هَذَا، وَالْجَامِعُ أَنَّ الصِّحَّةَ أَصْلٌ فِي الْعَقْدِ، وَالْفَسَادَ عَارِضٌ وَهُمَا يَعْتَبِرَانِ اخْتِلَافَهُمْ فِي هَذَا بِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْبَتَاتِ وَالْخِيَارِ لِلْبَائِعِ، وَالْجَامِعُ أَنَّ الشَّفِيعَ بِدَعْوَى الْبَتَاتِ وَالصِّحَّةِ يَدَّعِي عَلَيْهِمَا حَقَّ التَّمْلِيكِ وَهُمَا بِدَعْوَى الْخِيَارِ وَالْفَسَادِ يُنْكِرَانِ ذَلِكَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمَا، وَكَذَا هُمَا أَعْرَفُ بِصِفَةِ الْعَقْدِ الْوَاقِعِ مِنْهُمَا لِقِيَامِهِ بِهِمَا فَكَانَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُمَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَان الْحِيلَةِ فِي إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ الْحِيلَةِ فِي إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ فَقَدْ ذَكَرُوا لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ حِيَلًا بَعْضُهَا يَعُمُّ الشُّفَعَاءَ كُلَّهُمْ وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ كُلَّ الشُّفَعَاءِ فَنَحْوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الدَّارَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا بِأَنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفًا فَيَشْتَرِيهَا بِأَلْفَيْنِ وَيَنْقُدَ مِنْ الثَّمَنِ أَلْفًا إلَّا عَشَرَةً ثُمَّ يَبِيعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَائِعِ عَرَضًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةٍ فَتَحْصُلُ الدَّارُ لِلْمُشْتَرِي بِأَلْفٍ لَا يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ إلَّا بِأَلْفَيْنِ، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ لَيْسَتْ بِمُسْقِطَةٍ لِلشُّفْعَةِ شَرْعًا لَكِنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ عَادَةً أَلَا تَرَى أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِأَلْفَيْنِ وَيَلْتَزِمَ الضَّرَرَ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَخُصُّ بَعْضَ الشُّفَعَاءِ دُونَ بَعْضٍ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا أَنْ يَبِيعَ دَارًا إلَّا ذِرَاعًا مِنْهَا فِي طُولِ الْحَدِّ الَّذِي يَلِي دَارَ الشَّفِيعِ، فَالشَّفِيعُ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ؛ أَمَّا فِي قَدْرِ الذِّرَاع فَلِانْعِدَامِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْبَيْعُ وَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَلِانْعِدَامِ السَّبَبِ وَهُوَ الْجِوَارُ، وَمِنْهَا أَنْ يَهَبَ الْبَائِعُ الْحَائِطَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَارِ مَعَ أَصْلِهِ لِلْمُشْتَرِي مَقْسُومًا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ أَوْ يَهَبَ لَهُ مِنْ الْأَرْضِ قَدْرَ ذِرَاعٍ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي يَلِي دَارَ الشَّفِيعِ وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ ثُمَّ يَبِيعَ مِنْهُ الْبَقِيَّةَ بِالثَّمَنِ فَلَا شُفْعَةَ لِلْجَارِ لَا فِي الْمَوْهُوبِ وَلَا فِي الْمَبِيعِ. (أَمَّا) فِي الْمَوْهُوبِ فَلِانْعِدَامِ شَرْطِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ - وَهُوَ الْبَيْعُ - وَأَمَّا فِي الْمَبِيعِ فَلِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْجِوَارُ، وَمِنْهَا أَنْ يَبِيعَ الدَّارَ نِصْفَيْنِ فَيَبِيعَ الْحَائِطَ بِأَصْلِهِ أَوَّلًا بِثَمَنٍ كَثِيرٍ ثُمَّ يَبِيعَ بَقِيَّةَ الدَّارِ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ شَرْعًا فِيمَا وَرَاءَ الْحَائِطِ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ وَهُوَ الْجِوَارُ وَلَا يَأْخُذُ الْحَائِطَ عَادَةً لِكَثْرَةِ الثَّمَنِ. وَمِنْهَا أَنْ يَبِيعَ الدَّارَ وَالْأَرْضَ فِي صَفْقَتَيْنِ فَيَبِيعَ مِنْ الدَّارِ بِنَاهَا وَمِنْ الْأَرْضِ أَشْجَارَهَا أَوَّلًا بِثَمَنٍ قَلِيلٍ ثُمَّ يَبِيعُ الْأَرْضَ بِثَمَنٍ كَثِيرٍ فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِي الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ شَرْعًا لِانْفِرَادِهِمَا بِالصَّفْقَةِ، وَلَا يَأْخُذُ الْأَرْضَ بِذَلِكَ الثَّمَنِ عَادَةً لِيَضْمَنَ تَكْثِيرَ الثَّمَنِ وَمِنْهَا أَنْ يَبِيعَ الدَّارَ نِصْفَيْنِ فَيَبِيعُ عُشْرًا مِنْهَا بِثَمَنٍ كَثِيرٍ ثُمَّ يَبِيعَ الْبَقِيَّةَ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ فَلَا يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الْعُشْرَ بِثَمَنِهِ عَادَةً لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ، وَلَا شُفْعَةَ لَهُ فِي تِسْعَةِ أَعْشَارِهَا شَرْعًا لِأَنَّهُ حِينَ اشْتَرَى الْبَقِيَّةَ كَانَ شَرِيكَ الْبَائِعِ بِالْعُشْرِ، وَالشَّرِيكُ فِي الْبُقْعَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ وَالْخَلِيطِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْحِيلَةِ لَا يَصْلُحُ لِلشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ إذَا كَانَ شَرِيكًا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْبُقْعَةِ بِقَلِيلِ الثَّمَنِ أَيْضًا. وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ لِصَغِيرٍ فَلَا تُبَاعُ بَقِيَّةُ الدَّارِ بِقَلِيلِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إذْ هُوَ بَيْعُ مَالِ الصَّغِيرِ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ مِقْدَارُ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ عَادَةً. وَالْوَلِيُّ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فَالسَّبِيلُ فِيهِ أَنْ تُبَاعَ بَقِيَّةُ الدَّارِ بِثَمَنِ مِثْلِهِ. (وَمِنْهَا) مَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يُقِرَّ الْبَائِعُ بِسَهْمٍ مِنْ الدَّارِ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَبِيعَ بَقِيَّةَ الدَّارِ مِنْهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ، أَمَّا فِي الْقَدْرِ الْمُقَرِّ بِهِ فَلِانْعِدَامِ شَرْطِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الْبَيْعُ. وَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ؛ فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ شَرِيكَ الْبَائِعِ فِي ذَلِكَ السَّهْمِ، وَالشَّرِيكُ فِي الْبُقْعَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ وَالْخَلِيطِ، وَمِنْ

فصل في كراهة الحيلة لإسقاط الشفعة

مَشَايِخِنَا مَنْ كَانَ يُفْتِي بِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَيُخَطِّئُ الْخَصَّافَ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي السَّهْمِ الْمُقَرِّ بِهِ لَمْ تَثْبُتْ إلَّا بِإِقْرَارٍ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ الْحِيلَةِ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي كَرَاهَةِ الْحِيلَةِ لِلْإِسْقَاطِ وَعَدَمِهَا فَالْحِيلَةُ إمَّا إنْ كَانَتْ بَعْدَ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ وَإِمَّا إنْ كَانَتْ قَبْلَ الْوُجُوبِ؛ فَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ الْوُجُوبِ قِيلَ إنَّهَا مَكْرُوهَةٌ بِلَا خِلَافٍ وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ صَالَحْتُكَ عَلَى كَذَا كَذَا دِرْهَمًا عَلَى أَنْ تُسَلِّمَ لِي شُفْعَتَكَ فَيَقْبَلَ فَتَبْطُلُ شُفْعَتُهُ وَلَا يَسْتَحِقَّ بَدَلَ الصُّلْحِ، أَوْ يَقُولَ لَهُ اشْتَرِ الدَّارَ مِنِّي بِكَذَا فَيَقُولَ اشْتَرَيْتُ فَتَبْطُلَ شُفْعَتُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ الْوُجُوبِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تُكْرَهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُكْرَهُ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ شَرْعَ الْحِيلَةِ يُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الشُّفْعَةِ وَفِيهِ إبْطَالُ هَذَا الْحَقِّ أَصْلًا وَرَأْسًا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ الْحِيلَةَ قَبْلَ الْوُجُوبِ مَنْعٌ مِنْ الْوُجُوبِ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الِامْتِنَاعِ شَرْعًا وَهَذَا جَائِزٌ كَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَسَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْنَعُ حُدُوثَ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الِامْتِنَاعِ شَرْعًا وَهُوَ الشِّرَاءُ، وَكَذَا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَسَائِرُ التَّمْلِيكَاتِ. وَقَدْ خُرِّجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا إبْطَالٌ لِحَقِّ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ إبْطَالَ الشَّيْءِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ضَرَرٌ وَالْحَقُّ هَهُنَا لَمْ يَثْبُتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا تَكُونُ الْحِيلَةُ إبْطَالًا لَهُ بَلْ هُوَ مَنْعٌ مِنْ الثُّبُوتِ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الِامْتِنَاعِ شَرْعًا وَأَنَّهُ جَائِزٌ، فَمَا ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ الْحُكْمُ الْمَرْوِيُّ وَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - احْتِيَاطًا وَالْأَصْلُ فِي شَرْعِ الْحِيلَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قِصَّةِ سَيِّدِنَا أَيُّوبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [كِتَابُ الذَّبَائِحِ وَالصُّيُودِ] [الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ] (كِتَابُ الذَّبَائِحِ وَالصُّيُودِ) نَحْتَاجُ فِي هَذَا الْكِتَابِ إلَى بَيَانِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ، وَإِلَى بَيَانِ الْمَكْرُوهِ مِنْهَا، وَإِلَى بَيَانِ شَرَائِطِ حِلِّ الْأَكْلِ فِي الْمَأْكُولِ، وَإِلَى بَيَانِ مَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْحَيَوَانُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَعِيشُ فِي الْبَحْرِ، وَنَوْعٌ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ أَمَّا الَّذِي يَعِيشُ فِي الْبَحْرِ فَجَمِيعُ مَا فِي الْبَحْرِ مِنْ الْحَيَوَانِ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ إلَّا السَّمَكَ خَاصَّةً فَإِنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُهُ إلَّا مَا طَفَا مِنْهُ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُ مَا سِوَى السَّمَكِ مِنْ الضُّفْدَعِ، وَالسَّرَطَانِ، وَحَيَّةِ الْمَاءِ وَكَلْبِهِ وَخِنْزِيرِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لَكِنْ بِالذَّكَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا فِي إنْسَانِ الْمَاءِ وَخِنْزِيرِهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَحِلُّ جَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ وَأَخْذُهُ ذَكَاتَهُ، وَيَحِلُّ أَكْلُ السَّمَكِ الطَّافِي. أَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَهُمْ احْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] وَاسْمُ الصَّيْدِ يَقَعُ عَلَى مَا سِوَى السَّمَكِ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ حَلَالًا، وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ «سُئِلَ عَنْ الْبَحْرِ فَقَالَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَصَفَ مَيْتَةَ الْبَحْرِ بِالْحِلِّ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ السَّمَكِ وَغَيْرِهِ، وَلَنَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْبَرِّيِّ وَالْبَحْرِيِّ، وَقَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَالضُّفْدَعُ وَالسَّرَطَانُ وَالْحَيَّةُ وَنَحْوُهَا مِنْ الْخَبَائِثِ وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ ضُفْدَعٍ يُجْعَلُ شَحْمُهُ فِي الدَّوَاءِ فَنَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ قَتْلِ الضَّفَادِعِ» وَذَلِكَ نَهْيٌ عَنْ أَكْلِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خَبِيثَةٌ مِنْ الْخَبَائِثِ» وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الصَّيْدِ الْمَذْكُورِ هُوَ فِعْلُ الصَّيْدِ وَهُوَ الِاصْطِيَادُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الصَّيْدُ حَقِيقَةً لَا الْمِصْيَدُ؛ لِأَنَّهُ مَفْعُولُ فِعْلِ الصَّيْدِ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْفِعْلِ يَكُونُ مَجَازًا وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ؛ وَلِأَنَّ الصَّيْدَ اسْمٌ لِمَا يَتَوَحَّشُ وَيَمْتَنِعُ وَلَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ إلَّا بِحِيلَةٍ إمَّا لِطَيَرَانِهِ أَوْ لِعَدْوِهِ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ حَالَةَ الِاصْطِيَادِ لَا بَعْدَ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ لَحْمًا بَعْدَهُ وَلَمْ يَبْقَ صَيْدًا حَقِيقَةً لِانْعِدَامِ مَعْنَى الصَّيْدِ وَهُوَ التَّوَحُّشُ وَالِامْتِنَاعُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] وَالْمُرَادُ مِنْهُ الِاصْطِيَادُ مِنْ الْمُحْرِمِ لَا أَكْلُ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَصْطَدْهُ بِنَفْسِهِ وَلَا غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ

عَلَى إبَاحَةِ الْأَكْلِ بَلْ خَرَجَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الِاصْطِيَادِ فِي الْبَحْرِ وَبَيْنَ الِاصْطِيَادِ فِي الْبَرِّ لِلْمُحْرِمِ. وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ السَّمَكُ خَاصَّةً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: الْمَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ، وَالدَّمَانِ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ» فُسِّرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا السَّمَكُ وَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى السَّمَكِ وَتَخْصِيصِهِ بِمَا تَلَوْنَا مِنْ الْآيَةِ وَرَوَيْنَا مِنْ الْخَبَرِ. (وَأَمَّا) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الطَّافِي فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} [المائدة: 96] مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] أَيْ: أُحِلَّ لَكُمْ طَعَامُهُ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَا صِيدَ مِنْهُ وَمَا لَمْ يُصَدْ وَالطَّافِي لَمْ يُصَدْ فَيَتَنَاوَلُهُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي صِفَةِ الْبَحْرِ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَأَحَقُّ مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْمَيْتَةِ الطَّافِي؛ لِأَنَّهُ الْمَيِّتُ حَقِيقَةً وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ الْمَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ» فَسَّرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمَيْتَةَ بِالسَّمَكِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الطَّافِي وَغَيْرِهِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ أَكْلِ الطَّافِي» وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا تَبِيعُوا فِي أَسْوَاقِنَا الطَّافِيَ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: مَا دَسَرَهُ الْبَحْرُ فَكُلْهُ وَمَا وَجَدْتَهُ يَطْفُو عَلَى الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْهُ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] مَا قَذَفَهُ الْبَحْرُ إلَى الشَّطِّ فَمَاتَ كَذَا قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ وَذَلِكَ حَلَالٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَافٍ إنَّمَا الطَّافِي اسْمٌ لِمَا مَاتَ فِي الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ وَسَبَبٍ حَادِثٍ وَهَذَا مَاتَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ وَهُوَ قَذْفُ الْبَحْرِ فَلَا يَكُونُ طَافِيًا وَالْمُرَادُ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ غَيْرُ الطَّافِي لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ السَّمَكُ الطَّافِي الَّذِي لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ عِنْدَنَا هُوَ الَّذِي يَمُوتُ فِي الْمَاءِ حَتْفَ أَنْفِهِ بِغَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ مِنْهُ سَوَاءٌ عَلَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ أَوْ لَمْ يَعْلُ بَعْدَ أَنْ مَاتَ فِي الْمَاءِ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: هُوَ الَّذِي يَمُوتُ فِي الْمَاءِ بِسَبَبٍ حَادِثٍ وَيَعْلُو عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فَإِنْ لَمْ يَعْلُ يَحِلُّ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْحَدُّ الْأَوَّلُ وَتَسْمِيَتُهُ طَافِيًا لِعُلُوِّهِ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ عَادَةً. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي السَّمَكِ إذَا كَانَ بَعْضُهَا فِي الْمَاءِ وَبَعْضُهَا عَلَى الْأَرْضِ إنْ كَانَ رَأْسُهَا عَلَى الْأَرْضِ أُكِلَتْ وَإِنْ كَانَ رَأْسُهَا أَوْ أَكْثَرُهُ فِي الْمَاءِ لَمْ تُؤْكَلْ؛ لِأَنَّ رَأْسَهَا مَوْضِعُ نَفَسِهَا فَإِذَا كَانَ خَارِجًا مِنْ الْمَاءِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ وَإِذَا كَانَ فِي الْمَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَاتَ فِي الْمَاءِ بِغَيْرِ سَبَبٍ وَقَالُوا فِي سَمَكَةٍ ابْتَلَعَتْ سَمَكَةً أُخْرَى أَنَّهَا تُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهَا مَاتَتْ بِسَبَبٍ حَادِثٍ. وَلَوْ مَاتَ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَكَدَرِ الْمَاءِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَكَدَرَ الْمَاءِ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ ظَاهِرًا فَلَمْ يُوجَدْ الْمَوْتُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ يُوجِبُ الْمَوْتَ ظَاهِرًا أَوْ غَالِبًا فَلَا يُؤْكَلُ وَفِي رِوَايَةٍ يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَسْبَابُ الْمَوْتِ فِي الْجُمْلَةِ فَقَدْ وُجِدَ الْمَوْتُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ فَلَمْ يَكُنْ طَافِيًا فَيُؤْكَلُ وَيَسْتَوِي فِي حِلِّ الْأَكْلِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ السَّمَكِ مِنْ الْجِرِّيثِ وَالْمَارْمَاهِيِّ وَغَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ فِي إبَاحَةِ السَّمَكِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ سَمَكٍ وَسَمَكٍ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إبَاحَةُ الْجِرِّيثِ وَالسَّمَكِ الذَّكَرِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِمَا خِلَافُ ذَلِكَ فَيَكُونُ إجْمَاعًا. (وَأَمَّا) الَّذِي يَعِيشُ فِي الْبَرِّ فَأَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: مَا لَيْسَ لَهُ دَمٌ أَصْلًا، وَمَا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ، وَمَا لَهُ دَمٌ سَائِلٌ مِثْلُ الْجَرَادِ وَالزُّنْبُورِ وَالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالْعَضَّابَةِ وَالْخُنْفُسَاءِ وَالْبُغَاثَةِ وَالْعَقْرَبِ. وَنَحْوِهَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ إلَّا الْجَرَادَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْخَبَائِثِ لِاسْتِبْعَادِ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ إيَّاهَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] إلَّا أَنَّ الْجَرَادَ خُصَّ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ» فَبَقِيَ عَلَى ظَاهِرِ الْعُمُومِ. وَكَذَلِكَ مَا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ مِثْلُ الْحَيَّةِ وَالْوَزَغِ وَسَامِّ أَبْرَصَ وَجَمِيعِ الْحَشَرَاتِ وَهَوَامِّ الْأَرْضِ مِنْ الْفَأْرِ وَالْقُرَادِ وَالْقَنَافِذِ وَالضَّبِّ وَالْيَرْبُوعِ وَابْنِ عِرْسٍ وَنَحْوِهَا، وَلَا خِلَافَ فِي حُرْمَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إلَّا فِي الضَّبِّ فَإِنَّهُ حَلَالٌ عَنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «أَكَلْت عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحْمَ ضَبٍّ» وَعَنْ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُ نَفْسِي تَعَافُهُ فَلَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ» وَهَذَا نَصٌّ عَلَى عَدَمِ الْحُرْمَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِشَارَةٌ إلَى الْكَرَاهَةِ الطَّبِيعِيَّةِ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَالضَّبُّ مِنْ الْخَبَائِثِ وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

أُهْدِيَ إلَيْهِ لَحْمُ ضَبٍّ فَامْتَنَعَ أَنْ يَأْكُلَهُ فَجَاءَتْ سَائِلَةٌ فَأَرَادَتْ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنْ تُطْعِمَهَا إيَّاهُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتُطْعِمِينَ مَا لَا تَأْكُلِينَ؟» وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُهُ لِمَا أَنَّ نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ عَافَتْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا مَنَعَ مِنْ التَّصَدُّقِ بِهِ كَشَاةِ الْأَنْصَارِ إنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهَا أَمَرَ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا؛ وَلِأَنَّ الضَّبَّ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسُوخِ وَالْمُسُوخُ مُحَرَّمَةٌ كَالدُّبِّ وَالْقِرْدِ وَالْفِيلِ فِيمَا قِيلَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الضَّبِّ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّ أُمَّةً مُسِخَتْ فِي الْأَرْضِ وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْهَا» وَهَكَذَا رُوِيَ «عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا فِي بَعْضِ الْمَغَازِي فَأَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ فَنَزَلْنَا فِي أَرْضٍ كَثِيرَةِ الضَّبَابِ فَنَصَبْنَا الْقُدُورَ وَكَانَتْ الْقُدُورُ تَغْلِي إذْ جَاءَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قُلْنَا الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إنَّ أُمَّةً مُسِخَتْ فَأَخَافُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْهَا فَأَمَرَ بِإِلْقَاءِ الْقُدُورِ» ، وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَمَا رَوَيْنَا فَهُوَ خَاطِرٌ وَالْعَمَلُ بِالْخَاطِرِ أَوْلَى. وَمَا لَهُ دَمٌ سَائِلٌ نَوْعَانِ: مُسْتَأْنِسٌ وَمُسْتَوْحِشٌ أَمَّا الْمُسْتَأْنِسُ مِنْ الْبَهَائِمِ فَنَحْوُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِالْإِجْمَاعِ وَبِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] ، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر: 79] وَاسْمُ الْأَنْعَامِ يَقَعُ عَلَى هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا تَحِلُّ الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى -. وَحُكِيَ عَنْ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْحِمَارِ وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَمِيرَ الْإِنْسِيَّةَ. وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَالَ: إنَّهُ فَنِيَ مَالِي وَلَمْ يَبْقَ لِي إلَّا الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: كُلْ مِنْ سَمِينِ مَالِكَ فَإِنِّي إنَّمَا كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ جَلَّالِ الْقَرْيَةِ» . وَرُوِيَ " عَنْ جَوَالِّ الْقُرَى " بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَرُوِيَ «فَإِنَّمَا قَذِرْتُ لَكُمْ جَالَّةُ الْقَرْيَةِ» . (وَلَنَا) قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] ، وَسَنَذْكُرُ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَعَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ» . وَرُوِيَ «أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ يُفْتِي النَّاسَ فِي الْمُتْعَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ فَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ ذَلِكَ» وَرُوِيَ أَنَّهُ «قِيلَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَوْمَ خَيْبَرَ أُكِلَتْ الْحُمُرُ فَأَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُنَادِي: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَاكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ فَإِنَّهَا رِجْزٌ» وَرُوِيَ فَإِنَّهَا رِجْسٌ وَهَذِهِ أَخْبَارٌ مُسْتَفِيضَةٌ عَرَفَهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ وَقَبِلُوهَا وَعَمِلُوا بِهَا وَظَهَرَ الْعَمَلُ بِهَا. وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ اُخْتُصَّ مِنْهَا أَشْيَاءُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِيهَا فَيَخْتَصُّ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ مَعَ أَنَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ مَشْهُورَةٌ وَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُودِ وَعَلَى أَنَّ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ سِوَى الْمَذْكُورِ فِيهَا وَقْتَ نُزُولِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفِعْلِ هُوَ الْحَالُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ تَحْرِيمُ سِوَى الْمَذْكُورِ فِيهَا، ثُمَّ حَرَّمَ مَا حَرَّمَ بَعْدُ عَلَى أَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِ الْآيَةِ: لَا مُحَرَّمَ سِوَى الْمَذْكُورِ فِيهَا وَنَحْنُ لَا نُطْلِقُ اسْمَ الْمُحَرَّمِ عَلَى لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ إذْ الْمُحَرَّمُ الْمُطْلَقُ مَا تَثْبُتُ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، فَأَمَّا مَا كَانَتْ حُرْمَتُهُ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُسَمَّى مُحَرَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ نُسَمِّيهِ مَكْرُوهًا فَنَقُولُ بِوُجُوبِ الِامْتِنَاعِ عَنْ أَكْلِهَا عَمَلًا مَعَ التَّوَقُّفِ فِي اعْتِقَادِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلْ مِنْ سَمِينِ مَالِكَ» أَيْ: مِنْ أَثْمَانِهَا كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ أَكَلَ عَقَارَهُ أَيْ: ثَمَنَ عَقَارِهِ وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إطْلَاقًا لِلِانْتِفَاعِ بِظُهُورِهَا بِالْإِكْرَاءِ كَمَا يُحْمَلُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَانْفَسَخَ بِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ فَالْعَمَلُ بِالْخَاطِرِ أَوْلَى احْتِيَاطًا، فَإِنْ قِيلَ مَا رَوَيْتُمْ يَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ أَكْلِ الْحُمُرِ يَوْمَ خَيْبَرَ» ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ غَنِيمَةً مِنْ الْخُمُسِ أَوْ لِقِلَّةِ الظَّهْرِ أَوْ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ جَلَّالَةً فَوَقَعَ التَّعَارُضُ وَالْجَوَابُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ مَحْمَلًا. (أَمَّا) الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْجُنْدُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ الْخُمْسُ كَالطَّعَامِ وَالْعَلَفِ. (وَأَمَّا) الثَّانِي؛ فَلِأَنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ يَوْمَ خَيْبَرَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الظَّهْرِ. (وَأَمَّا) الثَّالِثُ؛ فَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَصَّ النَّهْيَ بِالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَصُّ بِالْحُمُرِ بَلْ يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا. (وَأَمَّا) لَحْمُ الْخَيْلِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُكْرَهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يُكْرَهُ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «أَكَلْنَا لَحْمَ فَرَسٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَأَذِنَ فِي الْخَيْلِ» وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «أَطْعَمَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لُحُومَ الْخَيْلِ وَنَهَانَا عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ» وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا قَدْ جَعَلْنَا فِي قُدُورِنَا لَحْمَ الْخَيْلِ وَلَحْمَ الْحِمَارِ فَنَهَانَا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ نَأْكُلَ لَحْمَ الْحِمَارِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَأْكُلَ لَحْمَ الْخَيْلِ» ، وَعَنْ سَيِّدَتِنَا أَسْمَاءَ بِنْتِ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَكَلْنَاهُ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ. (أَمَّا) الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ جَلَّ شَأْنُهُ {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] . (وَوَجْهُ) الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لَحْمِ الْخَيْلِ فَقَرَأَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وَقَالَ: وَلَمْ يَقُلْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِتَأْكُلُوهَا فَيُكْرَهُ أَكْلُهَا وَتَمَامُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَ الْأَنْعَامَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَمَنَافِعَهَا وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] . وَكَذَا ذَكَرَ فِيمَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ مُتَّصِلًا بِهَا مَنَافِعَ الْمَاءِ الْمُنْزَلِ مِنْ السَّمَاءِ، وَالْمَنَافِعَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، وَالْمَنَافِعَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْبَحْرِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ بَيَانَ شِفَاءٍ لَا بَيَانَ كِفَايَةٍ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِلرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ، ذَكَرَ مَنْفَعَةَ الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَنْفَعَةَ الْأَكْلِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ أُخْرَى سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ مَنْفَعَةٌ أُخْرَى سِوَى مَا ذَكَرْنَا لَمْ يُحْتَمَلْ أَنْ لَا نَذْكُرُهَا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَنَافِعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَالِاسْتِقْصَاءِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَلَحْمُ الْخَيْلِ لَيْسَ بِطَيِّبٍ بَلْ هُوَ خَبِيثٌ؛ لِأَنَّ الطِّبَاعَ السَّلِيمَةَ لَا تَسْتَطِيبُهُ بَلْ تَسْتَخْبِثُهُ حَتَّى لَا تَجِدَ أَحَدًا تُرِكَ بِطَبْعِهِ إلَّا وَيَسْتَخْبِثُهُ وَيُنَقِّي طَبْعَهُ عَنْ أَكْلِهِ وَإِنَّمَا يَرْغَبُونَ فِي رُكُوبِهِ أَلَا يَرْغَبُ طَبْعُهُ فِيمَا كَانَ مَجْبُولًا عَلَيْهِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا جَاءَ بِإِحْلَالِ مَا هُوَ مُسْتَطَابٌ فِي الطَّبْعِ لَا بِمَا هُوَ مُسْتَخْبَثٌ وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْ الْمُسْتَخْبَثَ فِي الطَّبْعِ غِذَاءَ الْيُسْرِ وَإِنَّمَا جَعَلَ مَا هُوَ مُسْتَطَابٌ بَلَغَ فِي الطِّيبِ غَايَتُهُ. (وَأَمَّا) السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ فَأَخَذُوا الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ فَذَبَحُوهَا فَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لُحُومَ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ، وَلُحُومَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ، وَكُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ، وَحَرَّمَ الْخِلْسَةَ وَالنُّهْبَةَ» وَعَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ» ، وَعَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «حُرِّمَ عَلَيْكُمْ الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ وَخَيْلُهَا» وَهَذَا نَصٌّ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ فَهِيَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَلِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ» صَلَحَتْ لِلْأَكْلِ لَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: الْخَيْلُ لِأَرْبَعَةٍ لِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَلِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلِ وِزْرٌ وَلِرَجُلٍ طَعَامٌ. (وَأَمَّا) دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَهِيَ أَنَّ الْبَغْلَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ وَلَدُ الْفَرَسِ فَلَوْ كَانَتْ أُمُّهُ حَلَالًا لَكَانَ هُوَ حَلَالًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْوَلَدِ حُكْمُ أُمِّهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْهَا وَهُوَ كَبَعْضِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ حِمَارَ وَحْشٍ لَوْ نُزِّيَ عَلَى حِمَارَةٍ أَهْلِيَّةٍ فَوَلَدَتْ لَمْ يُؤْكَلْ وَلَدُهَا؟ ، وَلَوْ نَزَا حِمَارٌ أَهْلِيٌّ عَلَى حِمَارَةٍ وَحْشِيَّةٍ وَوَلَدَتْ يُؤْكَلُ وَلَدُهَا؟ لِيُعْلَمَ أَنَّ حُكْمَ الْوَلَدِ حُكْمُ أُمِّهِ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ دُونَ الْفَحْلِ فَلَمَّا كَانَ لَحْمُ الْفَرَسِ حَرَامًا كَانَ لَحْمُ الْبَغْلِ كَذَلِكَ، وَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ جَابِرٍ وَمَا فِي رِوَايَةِ سَيِّدَتِنَا أَسْمَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يُحْتَمَل أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَالِ الَّتِي كَانَ يُؤْكَلُ فِيهَا الْحُمُرُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّمَا نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ يَوْمَ خَيْبَرَ وَكَانَتْ الْخَيْلُ تُؤْكَلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ حُرِّمَتْ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا عَلِمْنَا الْخَيْلَ أُكِلَتْ إلَّا فِي حِصَارٍ، وَعَنْ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ

فصل في بيان ما يكره من الحيوانات

كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُونَ لُحُومَ الْخَيْلِ فِي مَغَازِيهِمْ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَهَا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا عَمَلًا بِالدَّلِيلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ أَوْ يَتَرَجَّحُ الْحَاظِرُ عَلَى الْمُبِيحِ احْتِيَاطًا وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُجَجُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُ لَحْمِ الْخَيْلِ. (وَأَمَّا) عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يُكْرَهُ أَكْلُهُ وَلَمْ يُطْلَقْ التَّحْرِيمُ لِاخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِي الْبَابِ وَاخْتِلَافِ السَّلَفِ فَكُرِهَ أَكْلُ لَحْمِهِ احْتِيَاطًا لِبَابِ الْحُرْمَةِ. وَأَمَّا الْمُتَوَحِّشُ مِنْهَا نَحْوُ الظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَحُمُرِ الْوَحْشِ وَإِبِلِ الْوَحْشِ فَحَلَالٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] وَقَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57] وَلُحُومُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ فَكَانَ حَلَالًا وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ فَقَالَ: الْأَهْلِيَّةُ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ» فَدَلَّ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى اخْتِلَافِ حُكْمِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْوَحْشِيَّةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَهْلِيَّةِ الْحُرْمَةُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ فَكَانَ حُكْمُ الْوَحْشِيَّةِ الْحِلَّ ضَرُورَةً وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِهْرٍ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ بِالرَّوْحَاءِ وَمَعَ الرَّجُلِ حِمَارٌ وَحْشِيٌّ عَقَرَهُ فَقَالَ: هَذِهِ رَمْيَتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهِيَ لَكَ فَقَبِلَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَمَرَ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَسَمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ» ، وَالْحَدِيثُ وَإِنْ وَرَدَ فِي حِمَارِ الْوَحْشِ لَكِنَّ إحْلَالَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ إحْلَالٌ لِلظَّبْيِ وَالْبَقَرِ الْوَحْشِيِّ وَالْإِبِلِ الْوَحْشِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ مِنْ الْأَهْلِيِّ مَا هُوَ حَلَالٌ بَلْ هُوَ حَرَامٌ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ جِنْسِهَا مِنْ الْأَهْلِيِّ مَا هُوَ حَلَالٌ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْحِلِّ. وَأَمَّا الْمُسْتَأْنِسُ مِنْ السِّبَاعِ وَهُوَ الْكَلْبُ وَالسِّنَّوْرُ الْأَهْلِيُّ فَلَا يَحِلُّ وَكَذَلِكَ الْمُتَوَحِّشُ مِنْهَا الْمُسَمَّى بِسِبَاعِ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ وَهُوَ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ لِمَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ» ، وَعَنْ الزُّهْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ حَرَامٌ» فَذُو النَّابِ مِنْ سِبَاعِ الْوَحْشِ مِثْلُ الْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالضَّبُعِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالثَّعْلَبِ وَالسِّنَّوْرِ الْبَرِّيِّ وَالسِّنْجَابِ وَالْفَنَكِ وَالسَّمُّورِ وَالدَّلَقِ وَالدُّبِّ وَالْقِرْدِ وَالْفِيلِ وَنَحْوِهَا فَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ إلَّا الضَّبُعَ فَإِنَّهُ حَلَالٌ عِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ «قَالَ: فِي الضَّبُعِ كَبْشٌ، فَقُلْت لَهُ: أَهُوَ صَيْدٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقُلْت: يُؤْكَلُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقُلْت: أَسَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ؟ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: نَعَمْ» . (وَلَنَا) أَنَّ الضَّبُعَ سَبُعٌ ذُو نَابٍ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَمَا رُوِيَ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ فَالْعَمَلُ بِالْمَشْهُورِ أَوْلَى عَلَى أَنَّ مَا رَوَيْنَا مُحَرِّمٌ وَمَا رَوَاهُ مُحَلِّلٌ وَالْمُحَرِّمُ يَقْضِي عَلَى الْمُبِيحِ احْتِيَاطًا وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْأَرْنَبِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَهْدَى لَهُ أَعْرَابِيٌّ أَرْنَبَةً مَشْوِيَّةً فَقَالَ: لِأَصْحَابِهِ كُلُوا» ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَفْوَانَ أَوْ صَفْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَصَبْت أَرْنَبَتَيْنِ فَذَبَحْتُهُمَا بِمَرْوَةِ وَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَنِي بِأَكْلِهِمَا» . وَذُو الْمِخْلَبِ مِنْ الطَّيْرِ كَالْبَازِي وَالْبَاشَقِ وَالصَّقْرِ وَالشَّاهِينِ وَالْحِدَأَةِ وَالنَّعَّابِ وَالنَّسْرِ وَالْعُقَابِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَيَدْخُلُ تَحْتَ نَهْيِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ وَرُوِيَ أَنَّهُ «نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي خَطْفَةٍ وَنُهْبَةٍ وَمُجَثَّمَةٍ وَعَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ الطَّيْرِ وَالْمُجَثَّمَةِ» رُوِيَ بِكَسْرِ الثَّاءِ وَفَتْحِهَا مِنْ الْجُثُومِ وَهُوَ تَلَبُّدُ الطَّائِرِ الَّذِي مِنْ عَادَتِهِ الْجُثُومُ عَلَى غَيْرِهِ لِيَقْتُلَهُ وَهُوَ السِّبَاعُ مِنْ الطَّيْرِ فَيَكُونُ نَهْيًا عَلَى أَكْلِ كُلِّ طَيْرٍ هَذَا عَادَتُهُ وَبِالْفَتْحِ هُوَ الصَّيْدُ الَّذِي يَجْثُمُ عَلَيْهِ طَائِرٌ فَيَقْتُلُهُ فَيَكُونُ نَهْيًا عَنْ أَكْلِ كُلِّ طَيْرٍ قَتَلَهُ طَيْرٌ آخَرُ بِجُثُومِهِ عَلَيْهِ وَقِيلَ بِالْفَتْحِ هُوَ الَّذِي يُرْمَى حَتَّى يَجْثُمَ فَيَمُوتَ، وَمَا لَا مِخْلَبَ لَهُ مِنْ الطَّيْرِ فَالْمُسْتَأْنِسُ مِنْهُ كَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ وَالْمُتَوَحِّشُ كَالْحَمَامِ وَالْفَاخِتَةِ وَالْعَصَافِيرِ والقبج وَالْكُرْكِيِّ وَالْغُرَابِ الَّذِي يَأْكُلُ الْحَبَّ وَالزَّرْعَ وَالْعَقْعَقِ وَنَحْوِهَا حَلَالٌ بِالْإِجْمَاعِ. [فَصْلٌ فِي بَيَان مَا يُكْرَهُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ فَيُكْرَهُ أَكْلُ لُحُومِ الْإِبِلِ الْجَلَّالَةِ وَهِيَ الَّتِي الْأَغْلَبُ مِنْ أَكْلِهَا النَّجَاسَةُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْإِبِلِ الْجَلَّالَةِ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْغَالِبُ مِنْ أَكْلِهَا النَّجَاسَاتِ

فصل في بيان شرط حل الأكل في الحيوان المأكول

يَتَغَيَّرُ لَحْمُهَا وَيَنْتُنُ فَيُكْرَهُ أَكْلُهُ كَالطَّعَامِ الْمُنْتِنِ. وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْجَلَّالَةِ أَنْ تُشْرَبَ أَلْبَانُهَا» ؛ لِأَنَّ لَحْمَهَا إذَا تَغَيَّرَ يَتَغَيَّرُ لَبَنُهَا، وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ أَنْ يُحَجَّ عَلَيْهَا وَأَنْ يُعْتَمَرَ عَلَيْهَا وَأَنْ يُغْزَى وَأَنْ يُنْتَفَعَ بِهَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ» فَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا أَنَتَنَتْ فِي نَفْسِهَا فَيَمْتَنِعُ مِنْ اسْتِعْمَالِهَا حَتَّى لَا يَتَأَذَّى النَّاسُ بِنَتِنِهَا كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيَّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهَا مِنْ الْعَمَلِ وَغَيْرِهِ إلَّا أَنْ تُحْبَسَ أَيَّامًا وَتُعْلَفَ فَحِينَئِذٍ تَحِلُّ. وَمَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَجْوَدُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى ذَاتِهَا بَلْ لِعَارِضٍ جَاوَرَهَا فَكَانَ الِانْتِفَاعُ بِهَا حَلَالًا فِي ذَاتِهِ إلَّا أَنَّهُ يُمْنَعُ عَنْهُ لِغَيْرِهِ ثُمَّ لَيْسَ لِحَبْسِهَا تَقْدِيرٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يُوَقِّتُ فِي حَبْسِهَا وَقَالَ تُحْبَسُ حَتَّى تَطِيبَ وَهُوَ قَوْلُهُمَا أَيْضًا، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّهَا تُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّاقَةِ الْجَلَّالَةِ أَوْ الشَّاةِ وَالْبَقَرِ الْجَلَّالِ أَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ جَلَّالَةً إذَا تَفَتَّتَتْ وَتَغَيَّرَتْ وَوُجِدَ مِنْهَا رِيحٌ مُنْتِنَةٌ فَهِيَ الْجَلَّالَةُ حِينَئِذٍ لَا يُشْرَبُ لَبَنُهَا وَلَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا، وَبَيْعُهَا وَهِبَتُهَا جَائِزٌ، هَذَا إذَا كَانَتْ لَا تَخْلِطُ وَلَا تَأْكُلُ إلَّا الْعَذِرَةَ غَالِبًا فَإِنْ خَلَطَتْ فَلَيْسَتْ جَلَّالَةً فَلَا تُكْرَهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْتُنُ. وَلَا يُكْرَهُ أَكْلُ الدَّجَاجِ الْمَحَلِّيِّ وَإِنْ كَانَ يَتَنَاوَلُ النَّجَاسَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ أَكْلُ النَّجَاسَةِ بَلْ يَخْلِطُهَا بِغَيْرِهَا وَهُوَ الْحَبُّ فَيَأْكُلُ ذَا وَذَا، وَقِيلَ إنَّمَا لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتُنُ كَمَا يَنْتُنُ الْإِبِلُ وَالْحُكْمُ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّتَنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي جَدْيٍ ارْتَضَعَ بِلَبَنِ خِنْزِيرٍ حَتَّى كَبِرَ: إنَّهُ لَا يُكْرَهُ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّ لَحْمَهُ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَنْتُنُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي الْجَلَّالَةِ لِمَكَانِ التَّغَيُّرِ وَالنَّتْنِ لَا لِتَنَاوُلِ النَّجَاسَةِ وَلِهَذَا إذَا خَلَطَتْ لَا يُكْرَهُ وَإِنْ وُجِدَ تَنَاوُلُ النَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْتُنُ فَدَلَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلنَّتْنِ لَا لِتَنَاوُلِ النَّجَاسَةِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ تُحْبَسَ الدَّجَاجُ حَتَّى يَذْهَبَ مَا فِي بَطْنِهَا مِنْ النَّجَاسَةِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَحْبِسُ الدَّجَاجَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يَأْكُلُهُ» وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّنَزُّهِ وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ أَنَّهَا تُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ لِلْخَبَرِ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا فِي جَوْفِهَا مِنْ النَّجَاسَةِ يَزُولُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا. الْغُرَابُ الْأَسْوَدُ الْكَبِيرُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَكْلِ الْغُرَابِ فَقَالَ: مَنْ يَأْكُلُ بَعْدَ مَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَاسِقًا عَنَى بِذَلِكَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ يَقْتُلهُنَّ الْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» ؛ وَلِأَنَّ غَالِبَ أَكْلِهَا الْجِيَفُ فَيُكْرَهُ أَكْلُهَا كَالْجَلَّالَةِ، وَلَا بَأْسَ بِغُرَابِ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ الْحَبَّ وَالزَّرْعَ وَلَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ هَكَذَا رَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - عَنْ أَكْلِ الْغُرَابِ فَرَخَّصَ فِي غُرَابِ الزَّرْعِ وَكَرِهَ الْغُدَافَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ الْأَبْقَعِ فَكَرِهَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ غُرَابًا يَخْلِطُ فَيَأْكُلُ الْجِيَفَ وَيَأْكُلُ الْحَبَّ لَا يُكْرَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ قَالَ: وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْ الطَّيْرِ مَا لَا يَأْكُلُ إلَّا الْجِيَفَ. وَلَا بَأْسَ بِالْعَقْعَقِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذِي مِخْلَبٍ وَلَا مِنْ الطَّيْرِ الَّذِي لَا يَأْكُلُ إلَّا الْحَبَّ كَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَكْلِ الْعَقْعَقِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، فَقُلْت: إنَّهُ يَأْكُلُ الْجِيَفَ فَقَالَ: إنَّهُ يَخْلِطُ. فَحَصَلَ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَا يَخْلِطُ مِنْ الطُّيُورِ لَا يُكْرَهُ أَكْلُهُ كَالدَّجَاجِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ غَالِبَ أَكْلِهِ الْجِيَفُ. [فَصْلٌ فِي بَيَان شَرْطِ حِلِّ الْأَكْلِ فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ] وَأَمَّا بَيَانُ شَرْطِ حِلِّ الْأَكْلِ فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ فَشَرْطُ حِلِّ الْأَكْلِ فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ الْبَرِّيِّ هُوَ الذَّكَاةُ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ بِدُونِهَا؛ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] إلَى قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذَّكِيَّ مِنْ الْمُحَرَّمِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ. ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الذَّكَاةِ فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ:. فِي بَيَانِ رُكْنِ الذَّكَاةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الذَّكَاةِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْهَا. فَالذَّكَاةُ نَوْعَانِ: اخْتِيَارِيَّةٌ، وَضَرُورِيَّةٌ. أَمَّا الِاخْتِيَارِيَّةُ فَرُكْنُهَا الذَّبْحُ فِيمَا يُذْبَحُ مِنْ الشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَالنَّحْرُ فِيمَا يُنْحَرُ وَهُوَ الْإِبِلُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الذَّبْحِ، وَالنَّحْرُ لَا يَحِلُّ بِدُونِ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ لِمَكَانِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَأَنَّهُ لَا يَزُولُ إلَّا بِالذَّبْحِ وَالنَّحْرِ؛ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بِإِحْلَالِ الطَّيِّبَاتِ. قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَلَا يَطِيبُ إلَّا بِخُرُوجِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَذَلِكَ بِالذَّبْحِ وَالنَّحْرِ

وَلِهَذَا حُرِّمَتْ الْمَيْتَةُ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ وَهُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ فِيهَا قَائِمٌ وَلِذَا لَا يَطِيبُ مَعَ قِيَامِهِ وَلِهَذَا يَفْسُدُ فِي أَدْنَى مُدَّةِ مَا يَفْسُدُ فِي مِثْلِهَا الْمَذْبُوحُ، وَكَذَا الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ لِمَا قُلْنَا. وَالذَّبْحُ هُوَ فَرْيُ الْأَوْدَاجِ وَمَحَلُّهُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللِّحْيَةِ» أَيْ مَحَلُّ الذَّكَاةِ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ وَرُوِيَ الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ وَالنَّحْرُ فَرْيُ الْأَوْدَاجِ وَمَحَلُّهُ آخِرُ الْحَلْقِ، وَلَوْ نُحِرَ مَا يُذْبَحُ وَذُبِحَ مَا يُنْحَرُ يَحِلُّ لِوُجُودِ فَرْيِ الْأَوْدَاجِ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الْإِبِلِ النَّحْرُ وَفِي غَيْرِهَا الذَّبْحُ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْإِبِلِ النَّحْرَ وَفِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الذَّبْحَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ أَيْ: انْحَرْ الْجَزُورَ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] وَقَالَ تَعَالَى {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] وَالذِّبْحُ بِمَعْنَى الْمَذْبُوحِ كَالطَّحْنِ بِمَعْنَى الْمَطْحُونِ وَهُوَ الْكَبْشُ الَّذِي فُدِيَ بِهِ سَيِّدُنَا إسْمَاعِيلُ أَوْ سَيِّدُنَا إِسْحَاقُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - عَلَى اخْتِلَافِ أَصْلِ الْقِصَّةِ فِي ذَلِكَ وَكَذَا «النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَحَرَ الْإِبِلَ وَذَبَحَ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ» فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ السُّنَّةُ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَصْلِ وَقَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَنْحَرُونَ الْإِبِلَ قِيَامًا مَعْقُولَةَ الْيَدِ الْيُسْرَى فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّحْرَ فِي الْإِبِلِ هُوَ السُّنَّةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الذَّكَاةِ إنَّمَا هُوَ الْأَسْهَلُ عَلَى الْحَيَوَانِ وَمَا فِيهِ نَوْعُ رَاحَةٍ لَهُ فِيهِ فَهُوَ أَفْضَلُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» . وَالْأَسْهَلُ فِي الْإِبِلِ النَّحْرُ لِخُلُوِّ لَبَّتِهَا عَنْ اللَّحْمِ وَاجْتِمَاعِ اللَّحْمِ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ خَلْفِهَا، وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ جَمِيعُ حَلْقِهَا لَا يَخْتَلِفُ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ» ؟ أَيْ: وَنَحَرْنَا الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَوَّلِ فَكَانَ خَبَرُ الْأَوَّلِ خَبَرًا لِلثَّانِي كَقَوْلِنَا: جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو فَالْجَوَابُ أَنَّ الذَّبْحَ مُضْمَرٌ فِيهِ وَمَعْنَاهُ وَذَبَحْنَا الْبَقَرَةَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الشَّيْءِ إذَا عُطِفَ عَلَى غَيْرِهِ وَخَبَرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ فِي الْمَعْطُوفِ أَوْ لَا يُوجَدُ عَادَةً أَنْ يُضْمَرَ الْمُتَعَارَفُ الْمُعْتَادُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَقِيت زَوْجَك فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا أَيْ مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَمُعْتَقِلًا رُمْحًا، وَقَالَ آخَرُ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا أَيْ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَسَقَيْتُهَا مَاءً بَارِدًا؛ لِأَنَّ الرُّمْحَ لَا يَحْتَمِلُ التَّقَلُّدَ أَوْ لَا يُتَقَلَّدُ عَادَةً، وَالْمَاءُ لَا يُعْلَفُ بَلْ يُسْقَى كَذَا هَهُنَا الذَّبْحُ فِي الْبَقَرِ هُوَ الْمُعْتَادُ فَيُضْمَرُ فِيهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: نَحَرْنَا الْبَدَنَةَ وَذَبَحْنَا الْبَقَرَةَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاء - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -. وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا ذَبَحَ الْبَدَنَةَ لَا تَحِلُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَرَ فِي الْبَدَنَةِ بِالنَّحْرِ بِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] فَإِذَا ذَبَحَ فَقَدْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَلَا يَحِلُّ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَفَرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ» ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالنَّحْرِ فِي الْبَدَنَةِ لَيْسَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِإِنْهَارِ الدَّمِ وَإِفْرَاءِ الْأَوْدَاجِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ وَلَا بَأْسَ فِي الْحَلْقِ كُلِّهِ أَسْفَلِهِ أَوْ أَوْسَطِهِ أَوْ أَعْلَاهُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ» ، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إخْرَاجُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَتَطْيِيبُ اللَّحْمِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ فِي الْحَلْقِ كُلِّهِ. ثُمَّ الْأَوْدَاجُ أَرْبَعَةٌ: الْحُلْقُومُ، وَالْمَرِيءُ، وَالْعِرْقَانِ اللَّذَانِ بَيْنَهُمَا الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ، فَإِذَا فَرَى ذَلِكَ كُلَّهُ فَقَدْ أَتَى بِالذَّكَاةِ بِكَمَالِهَا وَسُنَنِهَا وَإِنْ فَرَى الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا قَطَعَ أَكْثَرَ الْأَوْدَاجِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا أَيُّ ثَلَاثَةٍ كَانَتْ وَتَرَكَ وَاحِدًا يَحِلُّ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَحِلُّ حَتَّى يُقْطَعَ الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَأَحَدُ الْعِرْقَيْنِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَحِلُّ حَتَّى يُقْطَعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ أَكْثَرُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا قُطِعَ الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ حُلَّ إذَا اُسْتُوْعِبَ قَطْعُهُمَا. (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الذَّبْحَ إزَالَةُ الْحَيَاةِ وَالْحَيَاةُ لَا تَبْقَى بَعْدَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ عَادَةً وَقَدْ تَبْقَى بَعْدَ قَطْعِ الْوَدَجَيْنِ إذْ هُمَا عِرْقَانِ كَسَائِرِ الْعُرُوقِ، وَالْحَيَاةُ تَبْقَى بَعْدَ قَطْعِ عِرْقَيْنِ مِنْ سَائِرِ الْعُرُوقِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الذَّبْحِ إزَالَةُ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِقَطْعِ الْوَدَجِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ الْأَكْثَرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالذَّبْحِ وَهُوَ خُرُوجُ الدَّمِ؛ لِأَنَّهُ يُخْرِجُ مَا يَخْرُجُ

بِقَطْعِ الْكُلِّ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعُرُوقِ يُقْصَدُ بِقَطْعِهِ غَيْرُ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الْحُلْقُومَ مَجْرَى النَّفَسِ، وَالْمَرِيءَ مَجْرَى الطَّعَامِ، وَالْوَدَجَيْنِ مَجْرَى الدَّمِ فَإِذَا قُطِعَ أَحَدُ الْوَدَجَيْنِ حَصَلَ بِقَطْعِهِ الْمَقْصُودُ مِنْهُمَا وَإِذَا تُرِكَ الْحُلْقُومُ لَمْ يَحْصُلْ بِقَطْعِ مَا سِوَاهُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّهُ قَطَعَ الْأَكْثَرَ مِنْ الْعُرُوقِ الْأَرْبَعَةِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فِيمَا بُنِيَ عَلَى التَّوْسِعَةِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ، وَالذَّكَاةُ بُنِيَتْ عَلَى التَّوْسِعَةِ حَيْثُ يُكْتَفَى فِيهَا بِالْبَعْضِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْكَيْفِيَّةِ فَيُقَامُ الْأَكْثَرُ فِيهَا مَقَامَ الْجَمِيعِ. وَلَوْ ضَرَبَ عُنُقَ جَزُورٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ بِسَيْفِهِ وَأَبَانَهَا وَسَمَّى فَإِنْ كَانَ ضَرَبَهَا مِنْ قِبَلِ الْحُلْقُومِ تُؤْكَلْ وَقَدْ أَسَاءَ. أَمَّا حِلُّ الْأَكْلِ؛ فَلِأَنَّهُ أَتَى بِفِعْلِ الذَّكَاةِ وَهُوَ قَطْعُ الْعُرُوقِ. وَأَمَّا الْإِسَاءَةُ؛ فَلِأَنَّهُ زَادَ فِي أَلَمِهَا زِيَادَةً لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الذَّكَاةِ فَيُكْرَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ ضَرَبَهَا مِنْ الْقَفَا فَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ الْقَطْعِ بِأَنْ ضَرَبَ عَلَى التَّأَنِّي وَالتَّوَقُّفِ لَا تُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهَا مَاتَتْ قَبْلَ الذَّكَاةِ فَكَانَتْ مَيْتَةً وَإِنْ قَطَعَ الْعُرُوقَ قَبْلَ مَوْتِهَا تُؤْكَلْ لِوُجُودِ فِعْلِ الذَّكَاةِ وَهِيَ حَيَّةٌ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ زَادَ فِي أَلَمِهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَإِنْ أَمْضَى فِعْلَهُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ تُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَوْتَهَا بِالذَّكَاةِ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا ذَبَحَ بِالْمَرْوَةِ أَوْ بِلِيطَةِ الْقَصَبِ أَوْ بِشِقَّةِ الْعَصَا أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْآلَاتِ الَّتِي تَقْطَعُ أَنَّهُ يَحِلُّ لِوُجُودِ مَعْنَى الذَّبْحِ وَهُوَ فَرْيُ الْأَوْدَاجِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْآلَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: آلَةٌ تَقْطَعُ، وَآلَةٌ تَفْسَخُ. وَاَلَّتِي تَقْطَعُ نَوْعَانِ: حَادَّةٌ، وَكَلِيلَةٌ. أَمَّا الْحَادَّةُ فَيَجُوزُ الذَّبْحُ بِهَا حَدِيدًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ حَدِيدٍ وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ الذَّبْحِ بِدُونِ الْحَدِيدِ مَا رُوِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَحَدَنَا أَصَابَ صَيْدًا وَلَيْسَ مَعَهُ سِكِّينٌ أَيُذَكِّي بِمَرْوَةِ أَوْ بِشِقَّةِ الْعَصَا؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْهِرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى» . وَرُوِيَ «أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَبَحَتْ شَاةً بِمَرْوَةِ فَسَأَلَ كَعْبٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَأَمَرَ بِأَكْلِهَا» ؛ وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ بِالْحَدِيدِ وَالْجَوَازُ لَيْسَ لِكَوْنِهِ مِنْ جِنْسِ الْحَدِيدِ بَلْ لِوُجُودِ مَعْنَى الْحَدِيدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالْحَدِيدِ الَّذِي لَا حَدَّ لَهُ فَإِذَا وُجِدَ مَعْنَى الْحَدِّ فِي الْمَرْوَةِ وَاللِّيطَةِ جَازَ الذَّبْحُ بِهِمَا وَأَمَّا الْكَلِيلَةُ فَإِنْ كَانَتْ تَقْطَعُ يَجُوزُ لِحُصُولِ مَعْنَى الذَّبْحِ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ إيلَامٍ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا، وَلِهَذَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَحْدِيدِ الشَّفْرَةِ وَإِرَاحَةِ الذَّبِيحَةِ. وَكَذَلِكَ إذَا جُرِحَ بِظُفْرٍ مَنْزُوعٍ أَوْ سِنٍّ مَنْزُوعٍ جَازَ الذَّبْحُ بِهِمَا وَيُكْرَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَنْهِرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت إلَّا مَا كَانَ مِنْ سِنٍّ أَوْ ظُفُرٍ فَإِنَّ الظُّفُرَ مُدَى الْحَبَشَةِ وَالسِّنَّ عَظْمٌ مِنْ الْإِنْسَانِ» اسْتَثْنَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الظُّفُرَ وَالسِّنَّ مِنْ الْإِبَاحَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْإِبَاحَةِ يَكُونُ حَظْرًا وَعُلِّلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِكَوْنِ الظُّفُرِ مُدَى الْحَبَشَةِ وَكَوْنِ السِّنِّ عَظْمَ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْإِنْكَارِ وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا قَطَعَ الْأَوْدَاجَ فَقَدْ وَجَدَ الذَّبْحَ بِهِمَا فَيَجُوزُ كَمَا لَوْ ذَبَحَ بِالْمَرْوَةِ وَلِيطَةِ الْقَصَبِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ السِّنُّ الْقَائِمُ وَالظُّفْرُ الْقَائِمُ؛ لِأَنَّ الْحَبَشَةَ إنَّمَا كَانَتْ تَفْعَلُ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ الْجَلَادَةِ وَذَاكَ بِالْقَائِمِ لَا بِالْمَنْزُوعِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إلَّا مَا كَانَ قَرْضًا بِسِنٍّ أَوْ حَزًّا بِظُفْرٍ وَالْقَرْضُ إنَّمَا يَكُونُ بِالسِّنِّ الْقَائِمِ. وَأَمَّا الْآلَةُ الَّتِي تَفْسَخُ فَالظُّفْرُ الْقَائِمُ وَالسِّنُّ الْقَائِمُ وَلَا يَجُوزُ الذَّبْحُ بِهِمَا بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ ذَبَحَهُمَا كَانَ مَيْتَةً لِلْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْنَا وَلِأَنَّ الظُّفْرَ وَالسِّنَّ إذَا لَمْ يَكُنْ مُنْفَصِلًا فَالذَّابِحُ يَعْتَمِدُ عَلَى الذَّبِيحِ فَيُخْنَقُ وَيَنْفَسِخُ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ حَتَّى قَالُوا: لَوْ أَخَذَ غَيْرُهُ يَدَهُ فَأَمَرَّ يَدَهُ كَمَا أَمَرَّ السِّكِّينَ وَهُوَ سَاكِتٌ يَجُوزُ وَيَحِلُّ أَكْلُهُ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْجَنِينُ إذَا خَرَجَ بَعْدَ ذَبْحِ أُمِّهِ إنْ خَرَجَ حَيًّا فَذَكِيٌّ يَحِلُّ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الذَّبْحِ لَا يُؤْكَلُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ خَرَجَ مَيِّتًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَامِلَ الْخَلْقِ لَا يُؤْكَلُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُضْغَةِ، وَإِنْ كَانَ كَامِلَ الْخَلْقِ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يُؤْكَلُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ذَكَاةُ الْجَنِينِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ» فَيَقْتَضِي أَنَّهُ يَتَذَكَّى بِذَكَاةِ أُمِّهِ وَلِأَنَّهُ تَبَعٌ لِأُمِّهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا. (أَمَّا) الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْحُكْمُ؛ فَلِأَنَّهُ يُبَاعُ بِبَيْعِ الْأُمِّ وَيُعْتَقُ بِعِتْقِهَا وَالْحُكْمُ فِي التَّبَعِ يَثْبُتُ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ وَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ عِلَّةٌ عَلَى حِدَةٍ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ التَّبَعُ أَصْلًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] وَالْجَنِينُ مَيْتَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا حَيَاةَ فِيهِ وَالْمَيْتَةُ مَا لَا حَيَاةَ فِيهِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ فَإِنْ قِيلَ الْمَيْتَةُ اسْمٌ لِزَائِلِ الْحَيَاةِ

فَيَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْحَيَاةِ وَهَذَا لَا يُعْلَمُ فِي الْجَنِينِ فَالْجَوَابُ أَنَّ تَقَدُّمَ الْحَيَاةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِإِطْلَاقِ اسْمِ الْمَيِّتِ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [البقرة: 28] عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا فَمَاتَ بِمَوْتِ الْأُمِّ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَيُحَرَّمُ احْتِيَاطًا؛ وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْحَيَاة فَيَكُونُ لَهُ أَصْلٌ فِي الذَّكَاةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْحَيَاةِ أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْدَ ذَبْحِ الْأُمِّ. وَلَوْ كَانَ تَبَعًا لِلْأُمِّ فِي الْحَيَاةِ لَمَا تُصُوِّرَ بَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْدَ زَوَالِ الْحَيَاةِ عَنْ الْأُمِّ وَإِذَا كَانَ أَصْلًا فِي الْحَيَاةِ يَكُونُ أَصْلًا فِي الذَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ تَفْوِيتُ الْحَيَاةِ وَلِأَنَّهُ إذَا تُصُوِّرَ بَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْدَ ذَبْحِ الْأُمِّ لَمْ يَكُنْ ذَبْحُ الْأُمِّ سَبَبًا لِخُرُوجِ الدَّمِ عَنْهُ إذْ لَوْ كَانَ لَمَا تُصُوِّرَ بَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْدَ ذَبْحِ الْأُمِّ إذْ الْحَيَوَانُ الدَّمَوِيُّ لَا يَعِيشُ بِدُونِ الدَّمِ عَادَةً فَبَقِيَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ فِيهِ وَلِهَذَا إذَا جُرِحَ يَسِيلُ مِنْهُ الدَّمُ، وَأَنَّهُ حُرِّمَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] وَقَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] وَلَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ لَحْمِهِ وَدَمِهِ فَيَحْرُمُ لَحْمُهُ أَيْضًا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ رُوِيَ بِنَصْبِ الذَّكَاةِ الثَّانِيَةِ مَعْنَاهُ كَذَكَاةِ أُمِّهِ إذْ التَّشْبِيهُ قَدْ يَكُونُ بِحَرْفِ التَّشْبِيهِ وَقَدْ يَكُونُ بِحَذْفِ حَرْفِ التَّشْبِيهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88] ، وَقَالَ عَزَّ شَأْنُهُ {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد: 20] أَيْ كَنَظَرِ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّ تَشْبِيهَ ذَكَاةِ الْجَنِينِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ يَقْتَضِي اسْتِوَاءَهُمَا فِي الِافْتِقَارِ إلَى الذَّكَاةِ. وَرِوَايَةُ الرَّفْعِ تَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران: 133] أَيْ: عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَوَاتِ فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَيْكُمْ وَيُحْتَمَلُ الْكِنَايَةُ كَمَا قَالُوا فَلَا تَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَرَدَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَأَنَّهُ دَلِيلُ عَدَمِ الثُّبُوتِ إذْ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَاشْتَهَرَ. وَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ الدَّجَاجَةِ الْمَيِّتَةِ بَيْضَةٌ تُؤْكَلُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ اشْتَدَّ قِشْرُهَا أَوْ لَمْ يَشْتَدَّ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ اشْتَدَّ قِشْرُهَا تُؤْكَلُ وَإِلَّا فَلَا. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَشْتَدَّ قِشْرُهَا فَهِيَ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ فَتَحْرُمُ بِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَإِذَا اشْتَدَّ قِشْرُهَا فَقَدْ صَارَ شَيْئًا آخَرَ وَهُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْ الدَّجَاجَةِ فَيَحِلُّ. (وَلَنَا) أَنَّهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ مُودَعٌ فِي الطَّيْرِ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ لَيْسَ مِنْ أَجْزَائِهِ فَتَحْرِيمُهَا لَا يَكُونُ تَحْرِيمًا لَهُ كَمَا إذَا اشْتَدَّ قِشْرُهَا. وَلَوْ مَاتَتْ شَاةٌ وَخَرَجَ مِنْ ضَرْعِهَا لَبَنٌ يُؤْكَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُؤْكَلُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - جَمِيعًا إلَّا أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُؤْكَلُ لِكَوْنِهِ مَيْتَةً وَعِنْدَهُمَا لَا يُؤْكَلُ لِنَجَاسَةِ الْوِعَاءِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدِهَا: أَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ خَالِصًا فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَشُوبَهُ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ وَالْحَرَامُ لَا يَسُوغُ لِلْمُسْلِمِ، وَالثَّالِثِ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ إذْ الْآيَةُ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الْمِنَّةِ، وَالْمِنَّةُ بِالْحَلَالِ لَا بِالْحَرَامِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِنْفَحَةُ إذَا كَانَتْ مَائِعَةً وَإِنْ كَانَتْ صُلْبَةً فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تُؤْكَلُ وَتُسْتَعْمَلُ فِي الْأَدْوِيَةِ كُلِّهَا وَعِنْدَهُمَا يُغْسَلُ ظَاهِرُهَا وَتُؤْكَلُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُؤْكَلُ أَصْلًا. (وَأَمَّا) الِاضْطِرَارِيَّةُ فَرُكْنُهَا الْعَقْرُ وَهُوَ الْجَرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ وَذَلِكَ فِي الصَّيْدِ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَى الصَّيْدِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا وَلَا بُدَّ مِنْ إخْرَاجِ الدَّمِ لِإِزَالَةِ الْمُحَرَّمِ وَتَطْيِيبِ اللَّحْمِ وَهُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَيُقَامُ سَبَبُ الذَّبْحِ مَقَامَهُ وَهُوَ الْجَرْحُ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ مِنْ إقَامَةِ السَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ عِنْدَ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ كَمَا يُقَامُ السَّفَرُ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ، وَالنِّكَاحُ مَقَامَ الْوَطْءِ، وَالنَّوْمُ مُضْطَجِعًا أَوْ مُتَوَرِّكًا مَقَامَ الْحَدَثِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَا نَدَّ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا؛ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الصَّيْدِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْنِسًا وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ بَعِيرًا نَدَّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَمَاهُ رَجُلٌ فَقَتَلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ لِهَذِهِ الْإِبِلِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْءٌ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا» وَسَوَاءٌ نَدَّ الْبَعِيرُ وَالْبَقَرُ فِي الصَّحْرَاءِ أَوْ فِي الْمِصْرِ فَذَكَاتُهُمَا الْعَقْرُ كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا فَلَا يُقْدَرُ عَلَيْهِمَا قَالَ مُحَمَّدٌ: وَالْبَعِيرُ الَّذِي نَدَّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَدَلَّ أَنَّ نَدَّ الْبَعِيرِ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْمِصْرِ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ. (وَأَمَّا) الشَّاةُ فَإِنْ نَدَّتْ فِي الصَّحْرَاءِ فَذَكَاتُهَا الْعَقْرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْدَرُ عَلَيْهَا وَإِنْ نَدَّتْ فِي الْمِصْرِ لَمْ يَجُزْ عَقْرُهَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَخْذُهَا إذْ هِيَ لَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا فَكَانَ الذَّبْحُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ الْعَقْرُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَقْرَ خَلَفٌ مِنْ الذَّبْحِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْخَلَفِ كَمَا فِي التُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ وَالْأَشْهُرِ

مَعَ الْأَقْرَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَا وَقَعَ مِنْهَا فِي قَلِيبٍ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى إخْرَاجِهِ وَلَا عَلَى مَذْبَحِهِ وَلَا مَنْحَرِهِ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ الصَّيْدِ لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَاهُ لِتَعَذُّرِ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ، وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى فِي الْبَعِيرِ إذَا صَالَ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ وَهُوَ يُرِيدُ الذَّكَاةَ حَلَّ أَكْلُهُ إذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ وَضَمِنَ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ فَجَعَلَ الصِّيَالَ مِنْهُ كَنَدِّهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْجَزُ عَنْ أَخْذِهِ فَيَعْجَزُ عَنْ نَحْرِهِ فَيُقَامُ الْجَرْحُ فِيهِ مَقَامَ النَّحْرِ كَمَا فِي الصَّيْدِ ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي الِاصْطِيَادِ بِالسَّهْمِ وَالرُّمْحِ وَالْحَجَرِ وَالْخَشَبِ وَنَحْوِهَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجْرَحْ لَا يَحِلُّ، وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذَا خَرَقَ فَكُلْ وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرَضٍ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ» . (وَأَمَّا) الِاصْطِيَادُ بِالْجَوَارِحِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ إمَّا بِنَابٍ كَالْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَنَحْوِهِمَا، وَإِمَّا بِالْمِخْلَبِ كَالْبَازِي وَالشَّاهِينِ وَنَحْوِهِمَا فَكَذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجْرَحْ لَا يَحِلُّ حَتَّى لَوْ خَنَقَ أَوْ صَدَمَ وَلَمْ يَجْرَحْ وَلَمْ يَكْسِرْ عُضْوًا مِنْهُ لَا يَحِلُّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَحِلُّ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْكَلْبَ يَأْخُذُ الصَّيْدَ عَلَى حَسْبِ مَا يَتَّفِقُ لَهُ فَقَدْ يَتَّفِقُ لَهُ الْأَخْذُ بِالْجَرْحِ وَقَدْ يَتَّفِقُ بِالْخَنْقِ وَالصَّدْمِ وَالْحَالُ حَالُ الضَّرُورَةِ فَيُوَسَّعُ الْأَمْرُ فِيهِ وَيُجْعَلُ الْخَنْقُ وَالصَّدْمُ كَالْجَرْحِ كَمَا وُسِّعَ فِي الذَّبْحِ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] وَهِيَ مِنْ الْجِرَاحَةَ فَيَقْتَضِي اعْتِبَارَ الْجَرْحِ وَلِأَنَّ الرُّكْنَ هُوَ إخْرَاجُ الدَّمِ وَذَلِكَ بِالذَّبْحِ فِي حَالِ الْقُدْرَةِ وَفِي حَالِ الْعَجْزِ أُقِيمَ الْجَرْحُ مَقَامَهُ؛ لِكَوْنِهِ سَبَبًا فِي خُرُوجِ الدَّمِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْخَنْقِ وَقَدْ رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَيْدِ الْمِعْرَاضِ إذَا خَرَقَ فَكُلْ، وَإِنْ أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلُ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «مَا أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ فَهُوَ وَقِيذٌ وَمَا أَصَبْت بِحَدِّهِ فَكُلْ» أَرَادَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ عَلَى الْجَرْحِ وَعَدَمِ الْجَرْحِ، وَسَمَّى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - غَيْرَ الْمَجْرُوحِ وَقِيذًا أَوْ أَنَّهُ حَرَامٌ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] وَلِأَنَّهَا مُنْخَنِقَةٌ وَأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة: 3] فَإِنْ لَمْ يَجْرَحْهُ وَلَمْ يَخْنُقْهُ وَلَكِنَّهُ كَسَرَ عُضْوًا مِنْهُ فَمَاتَ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَمْ يُحْكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ شَيْءٌ مُصَرِّحٌ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ وَأَطْلَقَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُجْرَحْ لَمْ يُؤْكَلْ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بِالْكَسْرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا جَرَحَ بِنَابٍ أَوْ مِخْلَبٍ أَوْ كَسَرَ عُضْوًا فَقَتَلَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ فَقَدْ جَعَلَ الْكَسْرَ جِرَاحَةَ بَاطِنِهِ فَيُلْحَقُ بِالْجِرَاحَةِ لِظَاهِرِهِ فِي حُكْمٍ بُنِيَ عَلَى الضَّرُورَةِ وَالْعُذْرِ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهِيَ الصَّحِيحَةُ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الذَّبْحُ وَإِنَّمَا أُقِيمَ الْجَرْحُ مَقَامَهُ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِخُرُوجِ الدَّمِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْكَسْرِ فَلَا يُقَامُ مَقَامَهُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقُمْ الْخَنْقُ مَقَامَهُ وَقَدْ قَالُوا: إذَا أَصَابَ السَّهْمُ ظِلْفَ الصَّيْدِ فَإِنْ وَصَلَ إلَى اللَّحْمِ فَأَدْمَاهُ حَلَّ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الْجَرْحِ. وَلَوْ ذَبَحَ شَاةً وَلَمْ يَسِلْ مِنْهَا دَمٌ قِيلَ: وَهَذَا قَدْ يَكُونُ فِي شَاةٍ اعْتَلَفَتْ الْعُنَّابَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ أَبُو الْقَاسِم الصَّفَّارُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا تُؤْكَلُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا فَرَى الْأَوْدَاجَ وَأَنْهَرَ الدَّمَ فَكُلْ» يُؤْكَلُ بِشَرْطِ إنْهَارِ الدَّمِ وَلَمْ يُوجَدْ؛ وَلِأَنَّ الذَّبْحَ لَمْ يُشْرَطْ لِعَيْنِهِ بَلْ لِإِخْرَاجِ الدَّمِ الْمُحَرَّمِ وَتَطْيِيبِ اللَّحْمِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَحِلُّ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ، وَالْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يُؤْكَلُ لِوُجُودِ الذَّبْحِ وَهُوَ فَرْيُ الْأَوْدَاجِ وَإِنَّهُ سَبَبٌ لِخُرُوجِ الدَّمِ عَادَةً لَكِنَّهُ امْتَنَعَ لِعَارِضٍ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ فَصَارَ كَالدَّمِ الَّذِي اُحْتُبِسَ فِي بَعْضِ الْعُرُوقِ عَنْ الْخُرُوجِ بَعْدَ الذَّبْحِ وَذَا لَا يَمْنَعُ الْحِلَّ كَذَا هَذَا. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَطَعَ مِنْ أَلْيَةِ الشَّاةِ قِطْعَةً أَوْ مِنْ فَخِذِهَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْمُبَانُ وَإِنْ ذُبِحَتْ الشَّاةُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الذَّكَاةِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْجُزْءِ الْمُبَانِ وَقْتَ الْإِبَانَةِ لِانْعِدَامِ ذَكَاةِ الشَّاةِ لِكَوْنِهَا حَيَّةً وَقْتَ الْإِبَانَةِ، وَحَالَ فَوَاتِ الْحَيَاةِ كَانَ الْجُزْءُ مُنْفَصِلًا وَحُكْمُ الذَّكَاةِ لَا يَظْهَرُ فِي الْجُزْءِ الْمُنْفَصِلِ وَرُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَقْطَعُونَ قِطْعَةً مِنْ أَلْيَةِ الشَّاةِ وَمِنْ سَنَامِ الْبَعِيرِ فَيَأْكُلُونَهَا فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ الْمُكَرَّمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ» وَالْجُزْءُ الْمَقْطُوعُ مُبَانٌ مِنْ حَيٍّ وَبَائِنٌ مِنْهُ فَيَكُونُ مَيِّتًا وَكَذَلِكَ إذَا قُطِعَ ذَلِكَ مِنْ صَيْدٍ لَمْ يُؤْكَلْ الْمَقْطُوعُ، وَإِنْ مَاتَ الصَّيْدُ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُؤْكَلُ إذَا مَاتَ الصَّيْدُ بِذَلِكَ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ قُطِعَ فَتَعَلَّقَ الْعُضْوُ بِجِلْدِهِ لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ التَّعَلُّقِ لَا يُعْتَبَرُ

فَكَانَ وُجُودُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِاللَّحْمِ يُؤْكَلُ الْكُلُّ؛ لِأَنَّ الْعُضْوَ الْمُتَعَلِّقَ بِاللَّحْمِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَيَوَانِ، وَذَكَاةُ الْحَيَوَانِ تَكُونُ لِمَا اتَّصَلَ بِهِ. وَلَوْ ضَرَبَ صَيْدًا بِسَيْفٍ فَقَطَعَهُ نِصْفَيْنِ يُؤْكَلُ النِّصْفَانِ عِنْدَنَا جَمِيعًا، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ قَطْعَ الْأَوْدَاجِ لِكَوْنِهَا مُتَّصِلَةً مِنْ الْقَلْبِ بِالدِّمَاغِ فَأَشْبَهَ الذَّبْحَ فَيُؤْكَلُ الْكُلُّ، وَإِنْ قَطَعَ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ فَمَاتَ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ لَا يُؤْكَلُ الْمُبَانُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُؤْكَلُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْجَرْحَ فِي الصَّيْدِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَهُوَ ذَكَاةٌ اضْطِرَارِيَّةٌ وَإِنَّهَا سَبَبُ الْحِلِّ كَالذَّبْحِ. (وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ» وَالْمَقْطُوعُ مُبَانٌ مِنْ الْحَيِّ فَيَكُونُ مَيِّتًا وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْجَرْحَ الَّذِي اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ ذَكَاةٌ فِي الصَّيْدِ فَنَعَمْ لَكِنَّ حَالَ فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَنْ الْمَحَلِّ وَعِنْدَ الْإِبَانَةِ الْمَحَلُّ كَانَ حَيًّا فَلَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ ذَكَاةً لَهُ وَعِنْدَمَا صَارَ ذَكَاةً كَانَ الْجُزْءُ مُنْفَصِلًا وَحُكْمُ الذَّكَاةِ لَا يَلْحَقُ الْجُزْءَ الْمُنْفَصِلَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ يُؤْكَلُ الْكُلُّ لِوُجُودِ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ فَكَانَ الْفِعْلُ حَالَ وُجُودِهِ ذَكَاةً حَقِيقَةً فَيَحِلُّ بِهِ الْكُلُّ وَإِنْ ضَرَبَ رَأْسَ صَيْدٍ فَأَبَانَهُ نِصْفَيْنِ طُولًا أَوْ عَرْضًا يُؤْكَلُ كُلُّهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا يُؤْكَلُ النِّصْفُ الْبَائِنُ وَيُؤْكَلُ مَا بَقِيَ مِنْ الصَّيْدِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَوْدَاجَ مُتَّصِلَةٌ بِالدِّمَاغِ فَتَصِيرُ مَقْطُوعَةً بِقَطْعِ الرَّأْسِ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى هَذَا ثُمَّ ظَنَّ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا فِيمَا يَلِي الْبَدَنَ مِنْ الرَّأْسِ وَإِنْ كَانَ الْمُبَانُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ فَكَذَلِكَ يُؤْكَلُ الْكُلُّ لِأَنَّهُ إذَا قَطَعَ الْعُرُوقَ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ذَبْحًا بَلْ كَانَ جَرْحًا وَأَنَّهُ لَا يُبِيحُ الْمُبَانَ لِمَا ذَكَرْنَا. (وَأَمَّا) شَرَائِطُ رُكْنِ الذَّكَاةِ فَأَنْوَاعُ بَعْضُهَا يَعُمُّ نَوْعَيْ الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَالِاضْطِرَارِيَّة وَبَعْضُهَا يَخُصُّ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ أَمَّا الَّذِي يَعُمُّهُمَا فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَالسَّكْرَانُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ لِمَا نَذْكُرُ أَنَّ الْقَصْدَ إلَى التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ شَرْطٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْقَصْدُ الصَّحِيحُ مِمَّنْ لَا يَعْقِلُ فَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ يَعْقِلُ الذَّبْحَ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَكَذَا السَّكْرَانُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا فَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ وَذَبِيحَةُ الْمُرْتَدِّ أَمَّا ذَبِيحَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} [المائدة: 3] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] أَيْ لِلنُّصُبِ وَهِيَ الْأَصْنَامُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا. وَأَمَّا ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» وَلِأَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الذَّبِيحَةِ مِنْ شَرَائِطِ الْحِلِّ عِنْدَنَا لِمَا نَذْكُرُ وَلَمْ يُوجَدْ. وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ؛ فَلِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ فَكَانَ كَالْوَثَنِيِّ الَّذِي لَا يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ وَلَوْ كَانَ الْمُرْتَدُّ غُلَامًا مُرَاهِقًا لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُؤْكَلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ رِدَّتَهُ صَحِيحَةٌ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا تَصِحُّ، وَتُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وَالْمُرَادُ مِنْهُ ذَبَائِحُهُمْ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ غَيْرَ الذَّبَائِحِ مِنْ أَطْعِمَةِ الْكَفَرَةِ مَأْكُولٌ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الطَّعَامِ يَقَعُ عَلَى الذَّبَائِحِ كَمَا يَقَعُ عَلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُتَطَعَّمُ وَالذَّبَائِحُ مِمَّا يُتَطَعَّمُ فَيَدْخُلُ تَحْتَ إطْلَاقِ اسْمِ الطَّعَامِ فَيَحِلُّ لَنَا أَكْلُهَا وَيَسْتَوِي فِيهِ أَهْلُ الْحَرْبِ مِنْهُمْ وَغَيْرُهُمْ لِعُمُومِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَكَذَا يَسْتَوِي فِيهِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ وَغَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ عَلَى دِينِ النَّصَارَى إلَّا أَنَّهُمْ نَصَارَى الْعَرَبِ فَيَتَنَاوَلُهُمْ عُمُومُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ. وَقَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُ نَصَارَى الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَرَأَ قَوْلَهُ عَزَّ شَأْنُهُ {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: تُؤْكَلُ وَقَرَأَ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ الَّتِي تَلَاهَا سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 78] أَيْ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَكَلِمَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ إلَّا أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ غَيْرَهُمْ مِنْ النَّصَارَى فِي بَعْضِ شَرَائِعِهِمْ وَذَا يُخْرِجُهُمْ عَنْ كَوْنِهِمْ نَصَارَى كَسَائِرِ النَّصَارَى. فَإِنْ انْتَقَلَ الْكِتَابِيُّ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْكَفَرَةِ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ انْتَقَلَ إلَى ذَلِكَ الدِّينِ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ فَالْكِتَابِيُّ أَوْلَى، وَلَوْ انْتَقَلَ غَيْرُ الْكِتَابِيِّ مِنْ الْكَفَرَةِ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى حَالِهِ وَدِينِهِ فِي وَقْتِ ذَبِيحَتِهِ دُونَ مَا سِوَاهُ وَهَذَا أَصْلُ أَصْحَابِنَا أَنَّ مَنْ انْتَقَلَ مِنْ مِلَّةِ يُقَرُّ عَلَيْهَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْمِلَّةِ مِنْ الْأَصْلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ

النِّكَاحِ. وَالْمَوْلُودُ بَيْنَ كِتَابِيٍّ وَغَيْرِ كِتَابِيٍّ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ أَيُّهُمَا كَانَ الْكِتَابِيُّ الْأَبُ أَوْ الْأُمُّ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ: يُعْتَبَرُ الْأَبُ فَإِنْ كَانَ كِتَابِيًّا تُؤْكَلُ وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ رَأْسًا. وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْوَلَدِ تَبَعًا لِلْكِتَابِيِّ مِنْهُمَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ خَيْرُهُمَا دِينًا بِالنِّسْبَةِ فَكَانَ بِاتِّبَاعِهِ إيَّاهُ أَوْلَى. وَأَمَّا الصَّابِئُونَ فَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا تُؤْكَلُ وَاخْتِلَافُ الْجَوَابِ لِاخْتِلَافِ تَفْسِيرِهِمْ فِي الصَّابِئِينَ أَنَّهُمْ مِمَّنْ هُمْ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ ثُمَّ إنَّمَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ الْكِتَابِيِّ إذَا لَمْ يُشْهَدْ ذَبْحُهُ وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ سُمِعَ وَشُهِدَ مِنْهُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ سَمَّى اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَجَرَّدَ التَّسْمِيَةَ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ كَمَا بِالْمُسْلِمِ، وَلَوْ سُمِعَ مِنْهُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُ عَنَى بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالُوا: تُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ تَسْمِيَةً هِيَ تَسْمِيَةُ الْمُسْلِمِينَ إلَّا إذَا نَصَّ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ فَلَا تَحِلُّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ يَقُولُونَ مَا يَقُولُونَ فَقَالَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ ذَبَائِحَهُمْ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُونَ فَأَمَّا إذَا سُمِعَ مِنْهُ أَنَّهُ سَمَّى الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَحْدَهُ أَوْ سَمَّى اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَسَمَّى الْمَسِيحَ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ كَذَا رَوَى سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} [المائدة: 3] وَهَذَا أُهِلّ لِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ فَلَا يُؤْكَلُ وَمَنْ أُكِلَتْ ذَبِيحَتُهُ مِمَّنْ ذَكَرْنَا أُكِلَ صَيْدُهُ الَّذِي صَادَهُ بِالسَّهْمِ أَوْ بِالْجَوَارِحِ وَمَنْ لَا فَلَا؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْمُذَكِّي شَرْطٌ فِي نَوْعَيْ الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَالِاضْطِرَارِيَّةِ جَمِيعًا. (وَمِنْهَا) التَّسْمِيَةُ حَالَةَ الذِّكْرِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ أَصْلًا، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّهَا شَرْطٌ حَالَةَ الذِّكْرِ وَالسَّهْوِ حَتَّى لَا يُحِلَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ نَاسِيًا عِنْدَهُ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -. أَمَّا الْكَلَام مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] أَمَرَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يَقُولَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيْهِ مُحَرَّمًا سِوَى الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَمَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا فَلَا يَكُونُ مُحَرَّمًا، وَلَا يُقَالُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْمُحَرَّمُ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سِوَى الْمَذْكُورِ فِيهَا ثُمَّ حُرِّمَ بَعْدَ ذَلِكَ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ؛ لِأَنَّهُ قِيلَ: إنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَلَوْ كَانَ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ مُحَرَّمًا لَكَانَ وَاجِدًا لَهُ فَيَجِبُ أَنْ يَسْتَثْنِيَهُ كَمَا اسْتَثْنَى الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مُطْلَقَ النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ سَمَّى كُلَّ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِسْقًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] وَلَا فِسْقَ إلَّا بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَلَا تُحْمَلُ إلَّا عَلَى الْمَيْتَةِ وَذَبَائِحِ أَهْلِ الشِّرْكِ بِقَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْعَامَّ لَا يُخَصُّ بِالسَّبَبِ عِنْدَنَا بَلْ يَعْمَلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لِمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مَعَ مَا أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى ذَلِكَ حَمْلٌ عَلَى التَّكْرَارِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَيْتَةِ وَذَبَائِحِ أَهْلِ الشِّرْكِ ثَبَتَتْ بِنُصُوصٍ أُخَرَ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] فَالْحَمْلُ عَلَى مَا قَالَهُ يَكُونُ حَمْلًا عَلَى مَا قُلْنَا وَيَكُونُ حَمْلًا عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ فَكَانَ أَوْلَى، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا لَمَا وَجَبَ. وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَيْدِ الْكَلْبِ فَقَالَ: مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ فَإِنَّ أَخْذَهُ ذَكَاتُهُ فَإِنْ وَجَدْتَ عِنْدَ كَلْبِكَ غَيْرَهُ فَحَسِبْتَ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مَعَهُ وَقَدْ قَتَلَهُ فَلَا تَأْكُلْ؛ لِأَنَّكَ إنَّمَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تَذْكُرْهُ عَلَى كَلْبِ غَيْرِك» نَهَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ الْأَكْلِ وَعَلَّلَ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ فَدَلَّ أَنَّهَا شَرْطٌ. (وَأَمَّا) الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَفِيهَا أَنَّهُ كَانَ يَجِدُ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ مُحَرَّمًا سِوَى الْمَذْكُورِ فِيهَا فَاحْتُمِلَ أَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وُجِدَ تَحْرِيمُ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَا تَلَوْنَا كَمَا كَانَ لَا يَجِدُ تَحْرِيمَ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ وَتَحْرِيمَ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ عِنْدَ نُزُولِهَا ثُمَّ وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مَتْلُوٍّ أَوْ غَيْرِ مَتْلُوٍّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. (وَأَمَّا) مَا يُرْوَى أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ كُلُّهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فَمَرْوِيٌّ عَلَى طَرِيقِ الْآحَادِ فَلَا يُقْبَلُ

فِي إبْطَال حُرْمَةٍ ثَبَتَتْ بِالْكِتَابِ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى الْمَيْتَةُ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا لَيْسَ بِمَيْتَةٍ بَلْ هُوَ مَيْتَةٌ عِنْدَنَا مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيْهِ مُحَرَّمًا سِوَى الْمَذْكُورِ وَنَحْنُ لَا نُطْلِقُ اسْمَ الْمُحَرَّمِ عَلَى مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ إذْ الْمُحَرَّمُ الْمُطْلَقُ مَا ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الدِّيَانَةِ وَإِنَّمَا نُسَمِّيهِ مَكْرُوهًا أَوْ مُحَرَّمًا فِي حَقِّ الِاعْتِقَادِ قَطْعًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ بَلْ عَلَى الْإِبْهَامِ أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَذَا النَّهْيِ فَهُوَ حَقٌّ لَكِنَّا نَمْتَنِعُ عَنْ أَكْلِهِ احْتِيَاطًا وَهُوَ تَفْسِيرُ الْحُرْمَةِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ. (وَأَمَّا) الْكَلَامُ مَعَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهُوَ احْتَجَّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ، وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَمَّا كَانَتْ وَاجِبَةً حَالَةَ الْعَمْدِ فَكَذَا حَالَةَ النِّسْيَانِ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ وَالْحَظْرَ كَالْخَطَأِ حَتَّى كَانَ النَّاسِي وَالْخَاطِئُ جَائِزَ الْمُؤَاخَذَةِ عَقْلًا وَلِهَذَا اسْتَوَى الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ فِي تَرْكِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَالطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الشَّرَائِطِ وَالْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا عِنْدَكُمْ كَذَا هَهُنَا. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا تَتَنَاوَلُ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] أَيْ: تَرْكُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ فِسْقٌ، وَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ سَهْوًا لَا يَكُونُ فِسْقًا وَكَذَا كُلُّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ سَهْوًا لَا يَلْحَقُهُ سِمَةُ الْفِسْقِ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ وَفِيهَا اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا لَا سَهْوًا، وَالثَّانِي: أَنَّ النَّاسِيَ لَمْ يَتْرُكْ التَّسْمِيَةَ بَلْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالذِّكْرُ قَدْ يَكُونُ بِاللِّسَانِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْقَلْبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28] وَالنَّاسِي ذَاكِرٌ بِقَلْبِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ ذَبَحَ وَنَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اسْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ فَلْيَأْكُلْ. وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: إنَّ الْمُسْلِمَ ذَكَرَ اللَّهَ فِي قَلْبِهِ، وَقَالَ: كَمَا لَا يَنْفَعُ الِاسْمُ فِي الشِّرْكِ لَا يَضُرُّ النِّسْيَانُ فِي الْإِسْلَامِ، وَعَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: فِي الْمُسْلِمِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا ذَبَحَ وَنَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ فَكُلْ وَإِذَا ذَبَحَ الْمَجُوسِيُّ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَطْعَمْهُ، وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سُئِلَ عَنْ هَذَا فَقَالَ: إنَّمَا هِيَ عِلَّةُ الْمَسْأَلَةِ فَثَبَتَ أَنَّ النَّاسِيَ ذَاكِرٌ فَكَانَتْ ذَبِيحَتُهُ مَذْكُورَ التَّسْمِيَةِ فَلَا تَتَنَاوَلُهَا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ النِّسْيَانَ لَا يَدْفَعُ التَّكْلِيفَ وَلَا يَدْفَعُ الْحَظْرَ حَتَّى لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَلَى مَا ضُرِبَ مِنْ الْأَمْثِلَةِ فَنَقُولُ: النِّسْيَانُ جُعِلَ عُذْرًا مَانِعًا مِنْ التَّكْلِيفِ وَالْمُؤَاخَذَةِ فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَلَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا فِيمَا لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُعَوِّدْ نَفْسَهُ فِعْلًا يُعْذَرُ فِي تَرْكِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِضِدِّهِ سَهْوًا؛ لِأَنَّ حِفْظَ النَّفْسِ عَنْ الْعَادَةِ الَّتِي هِيَ طَبِيعَةٌ خَامِسَةٌ خَطْبٌ صَعْبٌ وَأَمْرٌ أَمَرُّ فَيَكُونُ النِّسْيَانُ فِيهِ غَالِبَ الْوُجُودِ فَلَوْ لَمْ يُعْذَرْ لَلَحِقَهُ الْحَرَجُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا لَمْ يُعَوِّدْ نَفْسَهُ مِثَالُهُ أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مِنْ الصَّائِمِ سَهْوًا جُعِلَ عُذْرًا فِي الشَّرْعِ حَتَّى لَا يَفْسُدَ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ عَوَّدَ نَفْسَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يُعَوِّدْهَا ضِدَّهُ وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَلَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي الْمُصَلِّي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَوِّدْ نَفْسَهُ ذَلِكَ فِي كُلِّ زَمَانٍ بَلْ فِي وَقْتٍ مَعْهُودٍ وَهُوَ الْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ خُصُوصًا فِي حَالِ الصَّلَاةِ الَّتِي تُخَالِفُ أَوْقَاتَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَكَانَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِيهَا فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَلَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا. وَالْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الصَّلَاةِ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ عَادَةً فَكَانَ النِّسْيَانُ فِيهَا نَادِرًا فَلَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا وَكَذَلِكَ تَرْكُ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ سَهْوًا؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ يَكُونُ بِهَا وَتَرْكُهَا سَهْوًا عِنْدَ تَصْمِيمِ الْعَزْمِ عَلَى الشُّرُوعِ فِيهَا مِمَّا يَنْدُرُ فَلَمْ يُعْذَرْ، وَكَذَا تَرْكُ الطَّهَارَةِ عِنْدَ حُضُورِ وَقْتِ الصَّلَاةِ سَهْوًا؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ عَلَى اسْتِعْدَادِ الصَّلَاةِ عِنْدَ هُجُومِ وَقْتِهَا عَادَةً فَالشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ سَهْوًا يَكُونُ نَادِرًا فَلَا يُعْذَرُ وَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ، فَأَمَّا ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمْرٌ لَمْ يُعَوِّدْهُ الذَّابِحُ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ عَلَى مَجْرَى الْعَادَةِ يَكُونُ مِنْ الْقَصَّابِينَ وَمِنْ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ لَمْ يُعَوِّدُوا أَنْفُسَهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ مِنْهُمْ سَهْوًا لَا يَنْدُرُ وُجُودُهُ بَلْ يَغْلِبُ فَجُعِلَ عُذْرًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُوَفِّقُ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ حَالَةَ الذِّكْرِ مِنْ شَرَائِطِ الْحِلِّ عِنْدَنَا فَبَعْدَ ذَلِكَ يَقَعُ الْكَلَامُ فِي بَيَانِ رُكْنِ التَّسْمِيَةِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ وَقْتِ التَّسْمِيَةِ. أَمَّا رُكْنُهَا فَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَيِّ اسْمٍ كَانَ

لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ - وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ} [الأنعام: 118 - 119] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ اسْمٍ وَاسْمٍ، وَقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ؛ لِأَنَّهُ إذَا ذَكَرَ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَكُنْ الْمَأْكُولُ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا، وَسَوَاءٌ قَرَنَ بِالِاسْمِ الصِّفَةَ بِأَنْ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَجَلُّ اللَّهَ، أَعْظَمُ اللَّهَ الرَّحْمَنَ اللَّهَ الرَّحِيمَ وَنَحْوُ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَقْرِنْ بِأَنْ قَالَ: اللَّهَ أَوْ الرَّحْمَنَ أَوْ الرَّحِيمَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْمَشْرُوطُ بِالْآيَةِ عَزَّ شَأْنُهُ وَقَدْ وُجِدَ. وَكَذَا فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ اسْمٍ وَاسْمٍ وَكَذَا التَّهْلِيلُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّسْبِيحُ سَوَاءٌ كَانَ جَاهِلًا بِالتَّسْمِيَةِ الْمَعْهُودَةِ أَوْ عَالِمًا بِهَا لِمَا قُلْنَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَوْ الْحَمْدِ لِلَّهِ أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ فَهَهُنَا أَوْلَى. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَتَصِحُّ بِهَا عِنْدَهُ فَيَحْتَاجُ هُوَ إلَى الْفَرْقِ وَالْفَرْقُ لَهُ أَنَّ الشَّرْعَ مَا وَرَدَ هُنَاكَ إلَّا بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ وَهَهُنَا وَرَدَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَوَاءٌ كَانَتْ التَّسْمِيَةُ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ أَيِّ لِسَانٍ كَانَ وَهُوَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ يُحْسِنُهَا. كَذَا رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَوْ أَنَّ رَجُلًا سَمَّى عَلَى الذَّبِيحَةِ بِالرُّومِيَّةِ أَوْ بِالْفَارِسِيَّةِ وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لَا يُحْسِنُهَا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا عَنْ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي اعْتِبَارِهِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فَيَسْتَوِي فِي الذَّبْحِ التَّكْبِيرَةُ الْعَرَبِيَّةُ وَالْعَجَمِيَّةُ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى فَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَهُمَا يَحْتَاجَانِ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالتَّسْمِيَةِ حَيْثُ قَالَا فِي التَّسْمِيَةِ: إنَّهَا جَائِزَةٌ بِالْعَجَمِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لَا يُحْسِنُ. وَفِي التَّكْبِيرِ لَا يَجُوزُ بِالْعَجَمِيَّةِ إلَّا إذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ هَهُنَا ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ يُوجَدُ بِكُلِّ لِسَانٍ وَالشَّرْطُ هُنَاكَ لَفْظَةُ التَّكْبِيرِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَيَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ» نَفَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْقَبُولَ بِدُونِ لَفْظِ التَّكْبِيرِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ بِغَيْرِ لَفْظِ الْعَرَبِيَّةِ. وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ التَّسْمِيَةُ مِنْ الذَّابِحِ حَتَّى لَوْ سَمَّى غَيْرُهُ وَالذَّابِحُ سَاكِتٌ وَهُوَ ذَاكِرٌ غَيْرُ نَاسٍ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] أَيْ: لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ الذَّابِحِ فَكَانَتْ مَشْرُوطَةً فِيهِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يُرِيدَ بِهَا التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ بِهَا التَّسْمِيَةَ لِافْتِتَاحِ الْعَمَلِ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ وَلَا يَكُونُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ إلَّا وَأَنْ يُرَادَ بِهَا التَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبِيحَةِ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْحَمْدَ عَلَى سَبِيلِ الشُّكْرِ لَا يَحِلُّ، وَكَذَا لَوْ سَبَّحَ أَوْ هَلَّلَ أَوْ كَبَّرَ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ وَصْفَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالتَّنَزُّهِ عَنْ صِفَاتِ الْحُدُوثِ لَا غَيْرُ لَا يَحِلُّ لِمَا قُلْنَا. (وَمِنْهَا) تَجْرِيدُ اسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ اسْمِ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ اسْمَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَتَّى لَوْ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ وَاسْمِ الرَّسُولِ لَا يَحِلُّ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] وَقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَوْطِنَانِ لَا أُذْكَرُ فِيهِمَا: عِنْدَ الْعُطَاسِ، وَعِنْدَ الذَّبْحِ» ، وَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ؛ وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَذْكُرُونَ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غَيْرَهُ فَتَجِبُ مُخَالَفَتُهُمْ بِالتَّجْرِيدِ، وَلَوْ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ قَالَ: وَمُحَمَّدٍ بِالْجَرِّ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَكَ فِي اسْمِ اللَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ اسْمَ غَيْرِهِ، وَإِنْ قَالَ: مُحَمَّدٌ بِالرَّفْعِ يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْطِفْهُ بَلْ اسْتَأْنَفَ فَلَمْ يُوجَدْ الْإِشْرَاكُ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِوُجُودِ الْوَصْلِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فَيُتَصَوَّرُ بِصُورَةِ الْحَرَامِ فَيُكْرَهُ، وَإِنْ قَالَ: وَمُحَمَّدًا بِالنَّصْبِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ مَا عَطَفَ بَلْ اسْتَأْنَفَ إلَّا أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي الْإِعْرَابِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ انْتِصَابَهُ بِنَزْعِ الْحَرْفِ الْخَافِضِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَمُحَمَّدٍ فَيَتَحَقَّقُ الْإِشْرَاكِ فَلَا يَحِلُّ. هَذَا إذَا ذَكَرَ الْوَاوَ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ بِأَنْ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ كَيْفَمَا كَانَ لِعَدَمِ شِرْكِهِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَقْصِدَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمَهُ عَلَى الْخُلُوصِ وَلَا يَشُوبُهُ مَعْنَى الدُّعَاءِ حَتَّى لَوْ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَسْمِيَةً؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَالدُّعَاءُ لَا يُقْصَدُ بِهِ التَّعْظِيمُ الْمَحْضُ فَلَا يَكُونُ تَسْمِيَةً كَمَا لَا يَكُونُ تَكْبِيرًا، وَفِي قَوْلِهِ اللَّهُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ كَمَا فِي التَّكْبِيرِ. (أَمَّا) وَقْتُ التَّسْمِيَةِ فَوَقْتُهَا فِي الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَقْتُ الذَّبْحِ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ إلَّا بِزَمَانٍ قَلِيلٍ لَا يُمْكِنُ

التَّحَرُّزُ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] وَالذَّبْحُ مُضْمَرٌ فِيهِ مَعْنَاهُ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الذَّبَائِحِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الذَّبِيحَةِ إلَّا وَقْتَ الذَّبْحِ وَكَذَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ: إنَّ الذَّبْحَ مُضْمَرٌ فِيهِمَا أَيْ: فَكُلُوا مِمَّا ذُبِحَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُبِحَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فَكَانَ وَقْتُ التَّسْمِيَةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَقْتَ الذَّبْحِ. (وَأَمَّا) الذَّكَاةُ الِاضْطِرَارِيَّةُ فَوَقْتُهَا وَقْتُ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ لَا وَقْتُ الْإِصَابَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ سَأَلَهُ عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ وَالْكَلْبِ إذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ وَإِنْ أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ» وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ أَيْ: عَلَى الْمِعْرَاضِ وَالْكَلْبِ وَلَا تَقَعُ التَّسْمِيَةُ عَلَى السَّهْمِ وَالْكَلْبِ إلَّا عِنْدَ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ فَكَانَ وَقْتُ التَّسْمِيَةِ فِيهَا هُوَ وَقْتُ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ، وَالْمَعْنَى هَكَذَا يَقْتَضِي وَهُوَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ شَرْطٌ وَالشَّرَائِطُ يُعْتَبَرُ وُجُودُهَا حَالَ وُجُودِ الرُّكْنِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ وُجُودِهَا يَصِيرُ الرُّكْنُ عِلَّةً كَمَا فِي سَائِرِ الْأَرْكَانِ مَعَ شَرَائِطِهَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَالرُّكْنُ فِي الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ هُوَ الذَّبْحُ وَفِي الِاضْطِرَارِيَّةِ هُوَ الْجَرْحُ وَذَلِكَ مُضَافٌ إلَى الرَّامِي وَالْمُرْسِلِ وَإِنَّمَا السَّهْمُ وَالْكَلْبُ آلَةُ الْجَرْحِ وَالْفِعْلُ يُضَافُ إلَى مُسْتَعْمِلِ الْآلَةِ لَا إلَى الْآلَةِ لِذَلِكَ اُعْتُبِرَ وُجُودُ التَّسْمِيَةِ وَقْتَ الذَّبْحِ وَالْجَرْحِ وَهُوَ وَقْتُ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ وَلَا يُعْتَبَرُ وَقْتُ الْإِصَابَةِ فِي الذَّكَاةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ لَيْسَتْ مِنْ صُنْعِ الْعَبْدِ لَا مُبَاشَرَةً وَلَا سَبَبًا بَلْ مَحْضُ صُنْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَعْنِي بِهِ مَصْنُوعَهُ، هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْمُتَوَلِّدَاتِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ الْعَبْدِ، وَمَقْدُورُ الْعَبْدِ مَا يَقُومُ بِمَحَلِّ قُدْرَتِهِ وَهُوَ نَفْسُهُ وَذَلِكَ هُوَ الرَّمْيُ السَّابِقُ وَالْإِرْسَالُ السَّابِقُ فَتُعْتَبَرُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَهُمَا عَلَى أَنَّ الْإِصَابَةَ قَدْ تَكُونُ وَقَدْ لَا تَكُونُ فَلَا يُمْكِنُ إيقَاعُ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهَا. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَضْجَعَ شَاةً لِيَذْبَحَهَا وَسَمَّى ثُمَّ بَدَا لَهُ فَأَرْسَلَهَا وَأَضْجَعَ أُخْرَى فَذَبَحَهَا بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ وَلَا تُؤْكَلُ لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَلَوْ رَمَى صَيْدًا فَسَمَّى فَأَخْطَأَ وَأَصَابَ آخَرَ فَقَتَلَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ وَكَذَلِكَ إذَا أَرْسَلَ كَلْبًا عَلَى صَيْدٍ فَأَخْطَأَ فَأَخَذَ غَيْرَ الَّذِي أَرْسَلَهُ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ لِوُجُودِ التَّسْمِيَةِ عَلَى السَّهْمِ وَالْكَلْبِ عِنْدَ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ وَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَرَأَيْتَ الذَّابِحَ يَذْبَحُ الشَّاتَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فَيُسَمِّي عَلَى الْأُولَى وَيَدَعُ التَّسْمِيَةَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ عَمْدًا قَالَ: يَأْكُلُ الشَّاةَ الَّتِي سَمَّى عَلَيْهَا وَلَا يَأْكُلُ مَا سِوَى ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ أَضْجَعَ شَاةً لِيَذْبَحَهَا وَسَمَّى عَلَيْهَا ثُمَّ أَلْقَى السِّكِّينَ وَأَخَذَ سِكِّينًا آخَرَ فَذَبَحَ بِهِ يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ فِي الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ تَقَعُ عَلَى الْمَذْبُوحِ لَا عَلَى الْآلَةِ وَالْمَذْبُوحُ وَاحِدٌ فَلَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ الْآلَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا سَمَّى عَلَى سَهْمٍ ثُمَّ رَمَى بِغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ فِي الذَّكَاةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ تَقَعُ عَلَى السَّهْمِ لَا عَلَى الْمَرْمِيِّ إلَيْهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّهْمُ فَالتَّسْمِيَةُ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا تَكُونُ تَسْمِيَةً عَلَى الْآخَرِ. وَلَوْ أَضْجَعَ شَاةً لِيَذْبَحَهَا وَسَمَّى عَلَيْهَا فَكَلَّمَهُ إنْسَانٌ فَأَجَابَهُ أَوْ اسْتَسْقَى مَاءً فَشَرِبَ أَوْ أَخَذَ السِّكِّينَ فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا وَلَمْ يَكْثُرْ ذَلِكَ مِنْهُ ثُمَّ ذَبَحَ عَلَى تِلْكَ التَّسْمِيَةِ تُؤْكَلُ وَإِنْ تَحَدَّثَ وَأَطَالَ الْحَدِيثَ أَوْ أَخَذَ فِي عَمَلٍ آخَرَ أَوْ حَدَّ شَفْرَتَهُ أَوْ كَانَتْ الشَّاةُ قَائِمَةً فَصَرَعَهَا ثُمَّ ذَبَحَ لَا تُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ زَمَانَ مَا بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَالذَّبْحِ إذَا كَانَ يَسِيرًا لَا يُعْتَدُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ سَمَّى مَعَ الذَّبْحِ وَإِذَا كَانَ طَوِيلًا يَقَعُ فَاصِلًا بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَالذَّبْحِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ سَمَّى فِي يَوْمٍ وَذَبَحَ فِي يَوْمٍ آخَرَ فَلَمْ تُوجَدْ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الذَّبْحِ مُتَّصِلَةً بِهِ. وَلَوْ سَمَّى ثُمَّ انْقَلَبَتْ الشَّاةُ وَقَامَتْ مِنْ مَضْجَعِهَا ثُمَّ أَعَادَهَا إلَى مَضْجَعِهَا فَقَدْ انْقَطَعَتْ التَّسْمِيَةُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا رَمَى صَيْدًا وَلَمْ يُسَمِّ مُتَعَمِّدًا ثُمَّ سَمَّى بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا وَتَرَكَ التَّسْمِيَةَ مُتَعَمِّدًا فَلَمَّا مَضَى الْكَلْبُ فِي تَبَعِ الصَّيْدِ سَمَّى أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَمْ تُوجَدْ وَقْتَ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ وَكَذَا لَوْ مَضَى الْكَلْبُ إلَى الصَّيْدِ فَزَجَرَهُ وَسَمَّى وَانْزَجَرَ بِزَجْرِهِ إنَّهُ لَا يُؤْكَلُ أَيْضًا، وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا اتَّبَعَ الْكَلْبُ الصَّيْدَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرْسِلَهُ أَحَدٌ ثُمَّ زَجَرَهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ إنْ انْزَجَرَ بِزَجْرِهِ فَأَخَذَ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ يُؤْكَلُ وَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ لَا يُؤْكَلُ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ رَمَى أَوْ أَرْسَلَ وَهُوَ مُسْلِمٌ ثُمَّ ارْتَدَّ أَوْ كَانَ حَلَالًا فَأَحْرَمَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ وَأَخَذَ الصَّيْدَ يَحِلُّ وَلَوْ كَانَ مُرْتَدًّا ثُمَّ أَسْلَمَ وَسَمَّى لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ وَقْتُ الرَّمْيِ

وَالْإِرْسَالِ كَمَا بَيَّنَّا فَتُرَاعَى الْأَهْلِيَّةُ عِنْدَ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي شَرْطُ تَعْيِينِ الْمَحَلِّ بِالتَّسْمِيَةِ فِي الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَهُوَ بَيَانُ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الشَّرَائِطِ الَّتِي تَخُصُّ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ: يَرْجِعُ بَعْضُهَا إلَى الْمُذَكِّي، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ الذَّكَاةِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى آلَةِ الذَّكَاةِ. أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُذَكِّي فَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا وَهَذَا فِي الذَّكَاةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ دُونَ الِاخْتِيَارِيَّةِ حَتَّى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَتَلَ صَيْدَ الْبَرِّ وَسَمَّى لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ لِحَقِّ الْإِحْرَامِ؛ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] أَيْ: وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ، وَقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ وَالصَّيْدُ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مِنْ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ إلَى آخِرِهِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الصَّيْدَ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة: 1] وَإِنَّمَا يُسْتَثْنَى الشَّيْءُ مِنْ الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ فَجُعِلَ مَذْكُورًا بِطَرِيقِ الْإِضْمَارِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْإِبَاحَةِ تَحْرِيمٌ فَكَانَ اصْطِيَادُ الْمُحْرِمِ مُحَرَّمًا فَكَانَ صَيْدُهُ مَيْتَةً كَصَيْدِ الْمَجُوسِيِّ سَوَاءٌ اصْطَادَ بِنَفْسِهِ أَوْ اُصْطِيدَ لَهُ بِأَمْرِهِ؛ لِأَنَّ مَا صِيدَ لَهُ بِأَمْرِهِ فَهُوَ صَيْدُهُ مَعْنًى وَتَحِلُّ ذَبِيحَةُ الْمُسْتَأْنَسِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ خُصَّ بِالصَّيْدِ فَبَقِيَ غَيْرُهُ عَلَى عُمُومِ الْإِبَاحَةِ، وَيَحِلُّ لَهُ صَيْدُ الْبَحْرِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعْ إلَى مَحَلِّ الذَّكَاةِ فَمِنْهَا تَعْيِينُ الْمَحَلِّ بِالتَّسْمِيَةِ فِي الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الذَّكَاةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ وَهِيَ الرَّمْيُ وَالْإِرْسَالُ إلَى الصَّيْدِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى الذَّبِيحِ لِمَا تَلَوْنَا مِنْ الْآيَاتِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِتَعْيِينِ الذَّبِيحِ بِالتَّسْمِيَةِ وَلِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا كَانَ وَاجِبًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا، وَالتَّعْيِينُ فِي الصَّيْدِ لَيْسَ بِمَقْدُورٍ؛ لِأَنَّ الصَّائِدَ قَدْ يَرْمِي وَيُرْسِلُ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الصَّيْدِ وَقَدْ يَرْمِي وَيُرْسِلُ عَلَى حِسِّ الصَّيْدِ فَلَا يَكُونُ التَّعْيِينُ وَاجِبًا وَالْمُسْتَأْمَنُ مَقْدُورٌ فَيَكُونُ وَاجِبًا. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا ذَبَحَ شَاةً وَسَمَّى ثُمَّ ذَبَحَ شَاةً أُخْرَى يَظُنُّ أَنَّ التَّسْمِيَةَ الْأُولَى تُجْزِي عَنْهُمَا لَمْ تُؤْكَلْ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجَدِّدَ لِكُلِّ ذَبِيحَةٍ تَسْمِيَةً عَلَى حِدَةٍ، وَلَوْ رَمَى سَهْمًا فَقَتَلَ بِهِ مِنْ الصَّيْدِ اثْنَيْنِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا أَوْ بَازِيًا وَسَمَّى فَقَتَلَ مِنْ الصَّيْدِ اثْنَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَجِبُ عِنْدَ الْفِعْلِ وَهُوَ الذَّبْحُ فَإِذَا تَجَدَّدَ الْفِعْلُ تُجَدَّدُ التَّسْمِيَةُ، فَأَمَّا الرَّمْيُ وَالْإِرْسَالُ فَهُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْنِ فَتُجْزِي فِيهِ تَسْمِيَةٌ وَاحِدَةٌ. وَوِزَانُ الصَّيْدِ مِنْ الْمُسْتَأْنَسِ مَا لَوْ أَضْجَعَ شَاتَيْنِ وَأَمَرَّ السِّكِّينَ عَلَيْهِمَا مَعًا أَنَّهُ تُجْزِئُ فِي ذَلِكَ تَسْمِيَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا فِي الصَّيْدِ فَإِنْ قِيلَ هَلَّا جَعَلَ ظَنَّهُ أَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الشَّاةِ الْأُولَى تُجْزِئُ عَنْ الثَّانِيَةِ عُذْرًا كَنِسْيَانِ التَّسْمِيَةِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ النِّسْيَانِ بَلْ مِنْ الْجَهْلِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَالْجَهْلُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ لَيْسَ بِعُذْرٍ وَالنِّسْيَانُ عُذْرٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْأَكْلَ لَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ فَأَكَلَ بَطَلَ صَوْمُهُ وَلَوْ أَكَلَ نَاسِيًا لَا يَبْطُلُ. فَإِنْ نَظَرَ إلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّيْدِ فَرَمَى بِسَهْمٍ وَسَمَّى وَتَعَمَّدَهَا وَلَمْ يَتَعَمَّدْ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ فَأَصَابَ مِنْهَا صَيْدًا فَقَتَلَهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ وَكَذَلِكَ الْكَلْبُ وَالْبَازِي. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا نَظَرَ إلَى غَنَمِهِ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ أَخَذَ وَاحِدَةً فَأَضْجَعَهَا وَذَبَحَهَا وَتَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَامِدًا وَظَنَّ أَنَّ تِلْكَ التَّسْمِيَةَ تُجْزِيهِ لَا تُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ عِنْدَ الذَّبْحِ وَالشَّرْطُ هُوَ التَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَذَلِكَ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ نَفْسِهِ لَا عِنْدَ النَّظَرِ، وَتَعْيِينُ الذَّبِيحَةِ مَقْدُورٌ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ شَرْطًا وَتَعْيِينُ الصَّيْدِ بِالرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ مُتَعَذَّرٌ لِمَا بَيَّنَّا فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ شَرْطًا. وَلَوْ رَمَى صَيْدًا بِعَيْنِهِ أَوْ أَرْسَلَ الْكَلْبَ أَوْ الْبَازِيَ عَلَى صَيْدٍ بِعَيْنِهِ فَأَخْطَأَ فَأَصَابَ غَيْرَهُ يُؤْكَلُ، وَكَذَا لَوْ رَمَى ظَبْيًا فَأَصَابَ طَيْرًا أَوْ أَرْسَلَ عَلَى ظَبْيٍ فَأَخَذَ طَيْرًا؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ فِي الصَّيْدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ. (وَمِنْهَا) قِيَامُ أَصْلِ الْحَيَاةِ فِي الْمُسْتَأْمَنِ وَقْتَ الذَّبْحِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُكْتَفَى بِقِيَامِ أَصْلِ الْحَيَاةِ بَلْ تُعْتَبَرُ حَيَاةً مَقْدُورَةً كَالشَّاةِ الْمَرِيضَةِ وَالْوَقِيذَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَجَرِيحَةِ السَّبُعِ إذَا لَمْ يَبْقَ فِيهَا إلَّا حَيَاةٌ قَلِيلَةٌ عُرِفَ ذَلِكَ بِالصِّيَاحِ أَوْ بِتَحْرِيكِ الذَّنَبِ أَوْ طَرْفِ الْعَيْنِ أَوْ التَّنَفُّسِ وَأَمَّا خُرُوجُ الدَّمِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ إلَّا إذَا كَانَ يَخْرُجُ كَمَا يَخْرُجُ مِنْ الْحَيِّ الْمُطْلَقِ فَإِذَا ذَبَحَهَا وَفِيهَا قَلِيلُ حَيَاةٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا تُؤْكَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَعِيشُ مَعَ ذَلِكَ فَذَبَحَهَا لَا تُؤْكَلُ وَإِنْ كَانَ

يَعْلَمُ أَنَّهَا تَعِيشُ مَعَ ذَلِكَ فَذَبَحَهَا تُؤْكَلُ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: إنْ كَانَ لَهَا مِنْ الْحَيَاةِ مِقْدَارُ مَا تَعِيشُ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ فَذَبَحَهَا تُؤْكَلُ وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ كَانَ لَمْ يَبْقَ مِنْ حَيَاتِهَا إلَّا قَدْرُ حَيَاةِ الْمَذْبُوحِ بَعْدَ الذَّبْحِ أَوْ أَقَلُّ فَذَبَحَهَا لَا تُؤْكَلُ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ تُؤْكَلُ، وَذَكَر الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مُفَسَّرًا فَقَالَ: إنَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنْ لَمْ يَبْقَ مَعَهَا إلَّا الِاضْطِرَابَ لِلْمَوْتِ فَذَبَحَهَا فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ وَإِنْ كَانَتْ تَعِيشُ مُدَّةً كَالْيَوْمِ أَوْ كَنِصْفِهِ حَلَّتْ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا إنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا كَانَتْ مَيْتَةً مَعْنًى فَلَا تَلْحَقُهَا الذَّكَاةُ كَالْمَيْتَةِ حَقِيقَةً، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] إلَى قَوْله تَعَالَى {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُذَكَّى مِنْ الْجُمْلَةِ الْمُحَرَّمَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ وَهَذِهِ مُذَكَّاةٌ لِوُجُودِ فَرْيِ الْأَوْدَاجِ مَعَ قِيَامِ الْحَيَاةِ فَدَخَلَتْ تَحْتَ النَّصِّ. وَأَمَّا الصَّيْدُ إذَا جَرَحَهُ السَّهْمُ أَوْ الْكَلْبُ فَأَدْرَكَهُ صَاحِبُهُ حَيًّا فَإِنْ ذَكَّاهُ يُؤْكَلُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا كَيْفَ مَا كَانَ سَوَاءٌ كَانَتْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَخَرَجَ الْجُرْحُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَكَاةً فِي حَقِّهِ وَصَارَ ذَكَاتُهُ الذَّبْحَ فِي الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ ذَكَاةً مُطْلَقَةً فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَاتُهُ الذَّبْحُ وَقَدْ وُجِدَ لِوُجُودِ أَصْلِ الْحَيَاةِ فَصَارَ مُذَكًّى، وَعَلَى أَصْلِهِمَا لَا حَاجَةَ إلَى الذَّبْحِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُذَكًّى بِالْجُرْحِ فَالذَّبْحُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ إنْ كَانَ لَا يَنْفَعُ وَإِنْ لَمْ يُذَكِّهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَبْحِهِ فَتَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ ذَكَاتَهُ تَحَوَّلَتْ مِنْ الْجُرْحِ إلَى الذَّبْحِ فَإِذَا لَمْ يُذْبَحْ كَانَ مَيْتَةً وَإِنْ كَانَتْ حَيَاتُهُ غَيْرَ مُسْتَقِرَّةٍ يُؤْكَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنْ قَلَّتْ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ بِخِلَافِ الْمُسْتَأْنَسِ عِنْدَهُ، وَالْفَرْقُ لَهُ أَنَّ الرَّمْيَ وَالْإِرْسَالَ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْجُرْحُ كَانَ ذَكَاةً فِي الصَّيْدِ فَلَا تُعْتَبَرُ هَذِهِ الْحَيَاةُ بَعْدَ وُجُودِ الذَّكَاةِ وَلَمْ تَتَقَوَّمْ ذَكَاةٌ فِي الْمُسْتَأْنَسِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْحَيَاةِ لِتَحَقُّقِ الذَّكَاةِ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَكَذَلِكَ لَكِنْ عَلَى اخْتِلَافِ تَفْسِيرِهِمَا لِلْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ وَغَيْرِ الْمُسْتَقِرَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُسْتَأْمَنِ هَكَذَا ذَكَرَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الصَّيْدِ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي الْمُسْتَأْنَسِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: يَجِبُ الذَّبْحُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لَا يَحِلُّ بِدُونِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْحَيَاةُ مُسْتَقِرَّةً أَوْ غَيْرَ مُسْتَقِرَّةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْفَرْقِ لَهُ عَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى ذَبْحِهِ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ لِعَدَمِ آلَةِ الذَّكَاةِ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ وَمُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُؤْكَلُ اسْتِحْسَانًا أَشَارَ إلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالْحُرْمَةِ قِيَاسٌ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ جَعَلَ جَوَابَ الِاسْتِحْسَانِ مَذْهَبَنَا أَيْضًا وَتَرَكُوا الْقِيَاسَ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَيْدًا لِزَوَالِ مَعْنَى الصَّيْدِ وَهُوَ التَّوَحُّشُ وَالِامْتِنَاعُ فَيَزُولُ الْحُكْمُ الْمُخْتَصُّ بِالصَّيْدِ وَهُوَ اعْتِبَارُ الْجُرْحِ ذَكَاةً وَصَارَ كَالشَّاةِ إذَا مَرِضَتْ وَمَاتَتْ فِي وَقْتٍ لَا يَتَّسِعُ لِذَبْحِهَا أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الذَّبْحَ هُوَ الْأَصْلُ فِي الذَّكَاةِ وَإِنَّمَا يُقَامُ الْجُرْحُ مَقَامَهُ خَلَفًا عَنْهُ وَقَدْ وُجِدَ شَرْطٌ بِخِلَافِهِ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ الْأَصْلِ فَيُقَامُ الْخَلَفُ مَقَامَهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَخْلَافِ مَعَ أُصُولِهَا، وَقَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَوْ جَرَحَهُ السَّهْمُ أَوْ الْكَلْبُ فَأَدْرَكَهُ لَكِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ حَتَّى مَاتَ فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتٍ لَوْ أَخَذَهُ يُمْكِنُهُ ذَبْحُهُ فَلَمْ يَأْخُذْهُ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ فَخَرَجَ الْجُرْحُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَكَاةً، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ ذَبْحُهُ أَكَلَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَأْخُذْهُ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَبْحِهِ لَوْ أَخَذَهُ بَقِيَ ذَكَاتُهُ الْجُرْحُ السَّابِقُ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ جَوَابَ الِاسْتِحْسَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ سِوَى أَنَّ هُنَاكَ أَخَذَ وَهَهُنَا لَمْ يَأْخُذْ، وَمَا يَصْنَعُ بِالْأَخْذِ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَكَاتِهِ؟ وَجَوَابُ الْقِيَاسِ عَنْ هَذَا أَنَّ حَقِيقَةَ الْقُدْرَةِ وَالتَّمَكُّنِ لَا عِبْرَةَ بِهَا؛ لِأَنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ الذَّبْحِ فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ لِهِدَايَتِهِ فِي ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَمَكَّنُ إلَّا فِي زَمَانٍ طَوِيلٍ لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ فِيهِ فَلَا يُمْكِنُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى حَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ وَالتَّمَكُّنِ فَيُقَامُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ وَهُوَ ثُبُوتُ الْيَدِ مَقَامَهَا كَمَا فِي السَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ شَاةً نِصْفَيْنِ ثُمَّ إنَّ رَجُلًا فَرَى أَوْدَاجَهَا وَالرَّأْسُ يَتَحَرَّكُ أَوْ شَقَّ بَطْنَهَا فَأَخْرَجَ مَا فِي جَوْفِهَا وَفَرَى رَجُلٌ آخَرُ الْأَوْدَاجَ فَإِنَّ هَذَا لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ

الْأَوَّلَ قَاتِلٌ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ إنْ كَانَتْ الضَّرْبَةُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ لَمْ تُؤْكَلْ الشَّاةُ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ أُكِلَتْ؛ لِأَنَّ الْعُرُوقَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الذَّبْحِ مُتَّصِلَةٌ مِنْ الْقَلْبِ إلَى الدِّمَاغِ فَإِذَا كَانَتْ الضَّرْبَةُ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ فَقَدْ قَطَعَهَا فَحَلَّتْ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ فَلَمْ يَقْطَعْهَا فَلَمْ تَحِلَّ. وَأَمَّا خُرُوجُ الدَّمِ بَعْدَ الذَّبْحِ فِيمَا لَا يَحِلُّ إلَّا بِالذَّبْحِ فَهَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْحِلِّ؟ فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَا التَّحَرُّكُ بَعْدَ الذَّبْحِ هَلْ هُوَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْحِلِّ؟ فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ أَيْضًا عَنْ أَصْحَابِنَا وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ شَيْئَيْنِ: إمَّا التَّحَرُّكُ، وَإِمَّا خُرُوجُ الدَّمِ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَا يَحِلُّ كَأَنَّهُ جَعَلَ وُجُودَ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الذَّبْحِ عَلَامَةَ الْحَيَاةِ وَقْتَ الذَّبْحِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ تُعْلَمْ حَيَاتُهُ وَقْتَ الذَّبْحِ فَلَا يَحِلُّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ عُلِمَ حَيَّاتُهُ وَقْتَ الذَّبْحِ بِغَيْرِ التَّحَرُّكِ يَحِلُّ وَإِنْ لَمْ يَتَحَرَّكْ بَعْدَ الذَّبْحِ وَلَا خَرَجَ مِنْهُ الدَّمُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) مَا يَخُصُّ الذَّكَاةَ الِاضْطِرَارِيَّةَ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَإِنْ كَانَ لَا يُؤْكَلُ وَيَكُونُ مَيْتَةً سَوَاءٌ كَانَ الْمُذَكِّي مُحْرِمًا أَوْ حَلَالًا؛ لِأَنَّ التَّعَرُّضَ لِصَيْدِ الْحَرَمِ بِالْقَتْلِ وَالدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ مُحَرَّمٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي صِفَةِ الْحَرَمِ: «وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ» وَالْفِعْلُ فِي الْمُحَرَّمِ شَرْعًا لَا يَكُونُ ذَكَاةً وَسَوَاءٌ كَانَ مَوْلِدُهُ الْحَرَمَ أَوْ دَخَلَ مِنْ الْحِلِّ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُضَافُ إلَى الْحَرَمِ فِي الْحَالَيْنِ فَيَكُونُ صَيْدَ الْحَرَمِ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى آلَةِ الذَّكَاةِ. (فَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ مَا يُصْطَادُ بِهِ مِنْ الْجَوَارِحِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ ذِي النَّابِ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي الْمِخْلَبِ مِنْ الطَّيْرِ مُعَلَّمًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] أَيْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ أَيْ الِاصْطِيَادُ بِمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَمَّا يَحِلُّ لَهُمْ الِاصْطِيَادُ بِهِ مِنْ الْجَوَارِحِ أَيْضًا مَعَ مَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ الْقِصَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ أَتَاهُ نَاسٌ فَقَالُوا: مَاذَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أَمَرْتَ بِقَتْلِهَا؟ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {يَسْأَلُونَكَ} [المائدة: 4] الْآيَةَ. فَفِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ اعْتِبَارُ الشَّرْطَيْنِ وَهُمَا الْجُرْحُ وَالتَّعْلِيمُ حَيْثُ قَالَ عَزَّ شَأْنُهُ {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] ؛ لِأَنَّ الْجَوَارِحَ هِيَ الَّتِي تَجْرَحُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْجُرْحِ، وَقِيلَ: الْجَوَارِحُ الْكَوَاسِبُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] أَيْ كَسَبْتُمْ وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ حَمْلٌ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ؛ لِأَنَّهَا بِالْجِرَاحَةِ تَكْسِبُ وقَوْله تَعَالَى {مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] قُرِئَ بِالْخَفْضِ وَالنَّصْبِ، وَقِيلَ: بِالْخَفْضِ صَاحِبُ الْكَلْبِ يُقَالُ: كَلَّابٌ وَمُكَلِّبٌ، وَبِالنَّصْبِ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ، وَقِيلَ: الْمُكَلِّبَيْنِ بِالْخَفْضِ الْكِلَابُ الَّتِي يُكَالِبْنَ الصَّيْدَ أَيْ يَأْخُذْنَهُ عَنْ شِدَّةٍ فَالْكَلْبُ هُوَ الْآخِذُ عَنْ شِدَّةٍ، وَمِنْهُ الْكَلُّوبُ لِلْآلَةِ الَّتِي يُؤْخَذُ بِهَا الْحَدِيدُ، وَقَوْلُهُ: جَلَّتْ عَظَمَتُهُ {تُعَلِّمُونَهُنَّ} [المائدة: 4] أَيْ تُعَلِّمُونَهُنَّ لَيُمْسِكْنَ الصَّيْدَ لَكُمْ وَلَا يَأْكُلْنَ مِنْهُ وَهَذَا حَدُّ التَّعْلِيمِ فِي الْكَلْبِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَدَلَّتْ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْكَلْبِ مُعَلَّمًا شَرْطٌ لِإِبَاحَةِ أَكْلِ صَيْدِهِ فَلَا يُبَاحُ أَكْلُ صَيْدِ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الشَّرْطُ فِي الْكَلْبِ بِالنَّصِّ ثَبَتَ فِي كُلِّ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ كَالْفَهْدِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّعَلُّمَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْكَلْبِ إنَّمَا يُضَافُ إلَى الْمُرْسِلِ بِالتَّعْلِيمِ إذْ الْمُعَلَّمُ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ لِصَاحِبِهِ فَيَأْخُذُ لِصَاحِبِهِ وَيُمْسِكُ عَلَى صَاحِبِهِ فَكَانَ فِعْلُهُ مُضَافًا إلَى صَاحِبِهِ فَأَمَّا غَيْرُ الْمُعَلَّمِ فَإِنَّمَا يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ لَا لِصَاحِبِهِ فَكَانَ فِعْلُهُ مُضَافًا إلَيْهِ لَا إلَى الْمُرْسِلِ لِذَلِكَ شُرِطَ كَوْنُهُ مُعَلَّمًا ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ حَدِّ التَّعْلِيمِ فِي الْجَوَارِحِ مِنْ ذِي النَّابِ كَالْكَلْبِ وَنَحْوِهِ وَذِي الْمِخْلَبِ كَالْبَازِي وَنَحْوِهِ. أَمَّا تَعْلِيمُ الْكَلْبِ فَهُوَ أَنَّهُ إذَا أُرْسِلَ اتَّبَعَ الصَّيْدَ وَإِذَا أَخَذَهُ أَمْسَكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ شَيْئًا وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَعْلِيمُهُ أَنْ يَتْبَعَ الصَّيْدَ إذَا أُرْسِلَ وَيُجِيبَ إذَا دُعِيَ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى لَوْ أَخَذَ صَيْدًا فَأَكَلَ مِنْهُ لَا يُؤْكَلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُؤْكَلُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ كَوْنَهُ مُعَلَّمًا إنَّمَا شُرِطَ لِلِاصْطِيَادِ فَيُعْتَبَرُ حَالَةَ الِاصْطِيَادِ وَهِيَ حَالَةُ الِاتِّبَاعِ، فَأَمَّا الْإِمْسَاكُ عَلَى صَاحِبِهِ وَتَرْكُ الْأَكْلِ يَكُونُ بَعْدَ الْفَرَاغِ عَنْ الِاصْطِيَادِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْحَدِّ، وَلَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ حَدَّ تَعْلِيمِ الْكَلْبِ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ مَا قُلْنَا وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَلَى صَاحِبِهِ وَتَرْكُ الْأَكْلِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ التَّعْلِيمِ ثُمَّ أَبَاحَ أَكْلَ مَا أَمْسَكَ عَلَيْنَا فَكَانَ هَذَا إشَارَةً إلَى أَنَّ

التَّعْلِيمَ هُوَ أَنْ يُمْسِكَ عَلَيْنَا الصَّيْدَ وَلَا يَأْكُلَ مِنْهُ يُقَرِّرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَبَاحَ أَكْلَ صَيْدِ الْمُعَلَّمِ مِنْ الْجَوَارِحِ الْمُمْسِكِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ تَرْكُ الْأَكْلِ مِنْ حَدِّ التَّعْلِيمِ وَكَانَ مَا أَكَلَ مِنْهُ حَلَالًا لَاسْتَوَى فِيهِ الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ وَالْمُمْسِكُ عَلَى صَاحِبِهِ وَعَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ كَلْبٍ يَطْلُبُ الصَّيْدَ وَيُمْسِكُهُ لِنَفْسِهِ حَتَّى يَمُوتَ إنْ أَرْسَلْتَ عَلَيْهِ وَأَغْرَيْتَهُ إلَّا الْمُعَلَّمَ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا قَوْمٌ نَتَصَيَّدُ بِهَذِهِ الْكِلَابِ وَالْبُزَاةِ فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْهَا؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: يَحِلُّ لَكُمْ مَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ مِمَّا عَلَّمْتُمُوهُنَّ مِنْ كَلْبٍ أَوْ بَازٍ وَذَكَرْتُمْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ قُلْت: فَإِنْ قَتَلَ؟ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إذَا قَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ وَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْت إنْ خَالَطَ كِلَابَنَا كِلَابٌ أُخْرَى؟ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إنْ خَالَطَتْ كِلَابَكَ كِلَابٌ أُخْرَى فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّكَ إنَّمَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تَذْكُرْهُ عَلَى كَلْبِ غَيْرِكَ» ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ فَلَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ وَإِذَا أَكَلَ الصَّقْرُ فَكُلْ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَضْرِبَهُ وَالصَّقْرَ لَا، وَعَنْ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ فَلَا تَأْكُلْ وَاضْرِبْهُ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ أَخْذَ الصَّيْدِ وَقَتْلَهُ مُضَافٌ إلَى الْمُرْسِلِ وَإِنَّمَا الْكَلْبُ آلَةُ الْأَخْذِ وَالْقَتْلِ وَإِنَّمَا يَكُونُ مُضَافًا إلَيْهِ إذَا أَمْسَكَ لِصَاحِبِهِ لَا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ لِنَفْسِهِ يَكُونُ عَمَلُهُ مُضَافًا إلَيْهِ لَا إلَى غَيْرِهِ وَالْإِمْسَاكُ عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ يَتْرُكَ الْأَكْلَ مِنْهُ وَهُوَ حَدُّ التَّعْلِيمِ، وَالثَّانِي أَنَّ تَعْلِيمَ الْكَلْبِ وَنَحْوِهِ هُوَ تَبْدِيلُ طَبْعِهِ وَفِطَامِهِ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِإِمْسَاكِ الصَّيْدِ لِصَاحِبِهِ وَتَرْكِ الْأَكْلِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ وَنَحْوَهُ مِنْ السِّبَاعِ مِنْ طِبَاعِهِمْ أَنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا الصَّيْدَ فَإِنَّمَا يَأْخُذُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا يَصْبِرُونَ عَلَى أَنْ لَا يَتَنَاوَلُوا مِنْهُ فَإِذَا أَخَذَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ الصَّيْدَ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهُ دَلَّ أَنَّهُ تَرَكَ عَادَتَهُ حَيْثُ أَمْسَكَ لِصَاحِبِهِ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَإِذَا أَكَلَ مِنْهُ دَلَّ أَنَّهُ عَلَى عَادَتِهِ سَوَاءٌ اتَّبَعَ الصَّيْدَ إذَا أُغْرِيَ وَاسْتَجَابَ إذَا دُعِيَ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ أَلُوفٌ فِي الْأَصْلِ يُجِيبُ إذَا دُعِيَ وَيَتَّبِعُ إذَا أُغْرِيَ فَلَا يَصْلُحُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَعَلُّمِهِ فَثَبَتَ أَنَّ مَعْنَى التَّعْلِيمِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِمَا قُلْنَا وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَ الصَّيْدَ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَا يَأْكُلَ مِنْهُ. ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا تَوْقِيتَ فِي تَعْلِيمِهِ أَنَّهُ إذَا أَخَذَ صَيْدًا وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ هَلْ يَصِيرُ مُعَلَّمًا أَمْ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّكْرَارِ، وَكَانَ يَقُولُ: إذَا كَانَ مُعَلَّمًا فَكُلْ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَهَكَذَا رَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا حَدُّ تَعْلِيمِ الْكَلْبِ؟ قَالَ: أَنْ يَقُولَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ أَنَّهُ مُعَلَّمٌ، وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا يَأْكُلُ مَا يَصِيدُ أَوَّلًا وَلَا الثَّانِيَ وَلَوْ أَكَلَ الثَّالِثَ وَمَا بَعْدَهُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَدَّرَاهُ بِالثَّلَاثِ فَقَالَا: إذَا أَخَذَ صَيْدًا فَلَمْ يَأْكُلْ، ثُمَّ صَادَ ثَانِيًا فَلَمْ يَأْكُلْ، ثُمَّ صَادَ ثَالِثًا فَلَمْ يَأْكُلْ فَهَذَا مُعَلَّمٌ. فَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ إنَّمَا رَجَعَ فِي ذَلِكَ إلَى أَهْلِ الصِّنَاعَةِ وَلَمْ يُقَدِّرْ فِيهِ تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ حَالَ الْكَلْبِ فِي الْإِمْسَاكِ وَتَرْكِ الْأَكْلِ يَخْتَلِفُ فَقَدْ يُمْسِكُ لِلتَّعْلِيمِ وَقَدْ يُمْسِكُ لِلشِّبَعِ فَفَوَّضَ ذَلِكَ إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى جَعَلَ أَصْلَ التَّكْرَارِ دَلَالَةَ التَّعَلُّمِ؛ لِأَنَّ الشِّبَعَ لَا يَتَّفِقُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَدَلَّ تَكْرَارُ التَّرْكِ عَلَى التَّعْلِيمِ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَدَّرَا التَّكْرَارَ بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ لِمَا أَنَّ الثَّلَاثَ مَوْضُوعَةٌ لِإِبْدَاءِ الْأَعْذَارِ أَصْلُهُ قَضِيَّةُ سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ مَعَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ حَيْثُ قَالَ لَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76] وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ اتَّجَرَ فِي شَيْءٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَرْبَحْ فَلْيَنْتَقِلْ إلَى غَيْرِهِ ثُمَّ إذَا صَارَ مُعَلَّمًا فِي الظَّاهِرِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقَاوِيلِ وَصَادَ بِهِ صَاحِبُهُ ثُمَّ أَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَا صَادَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُؤْكَلُ شَيْءٌ مِنْهُ إنْ كَانَ بَاقِيًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُؤْكَلُ كُلُّهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا إنْ أَكَلَ الْكَلْبُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ التَّعَلُّمِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ التَّعَلُّمِ لِفَرْطِ الْجُوعِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلنِّسْيَانِ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّمَ قَدْ يَنْسَى فَلَا يَحْرُمُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الصَّيُودِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عَلَامَةَ التَّعَلُّمِ لَمَّا كَانَتْ تَرْكَ الْأَكْلِ فَإِذَا أَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا وَأَنَّ إمْسَاكَهُ لَمْ يَكُنْ لِصَيْرُورَتِهِ مُعَلَّمًا بَلْ

لِشِبَعِهِ فِي الْحَالِ إذْ غَيْرُ الْمُعَلَّمِ قَدْ يُمْسِكُهُ بِشِبَعِهِ لِلْحَالِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ فَاسْتَدْلَلْنَا بِأَكْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إمْسَاكَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَبْلَهُ كَانَ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَةِ التَّعْلِيمِ أَوْ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ فَلَا تَحِلُّ مَعَ الِاحْتِمَالِ احْتِيَاطًا. وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ حَمَلَ جَوَابَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا إذَا كَانَ زَمَانُ الْأَكْلِ قَرِيبًا مِنْ زَمَانِ التَّعْلِيمِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَكْلُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّعَلُّمِ وَأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الْأَكْلَ فِيمَا تَقَدَّمَ لِلشِّبَعِ لَا لِلتَّعْلِيمِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ الْقَصِيرَةَ لَا تَتَحَمَّلُ النِّسْيَانَ فِي مِثْلِهَا فَإِذَا طَالَتْ الْمُدَّةُ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يُؤْكَلُ مَا بَقِيَ مِنْ الصَّيُودِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ لِلنِّسْيَانِ لَا لِعَدَمِ التَّعَلُّمِ لِوُجُودِ مُدَّةٍ لَا يَنْدُرُ النِّسْيَانُ فِي مِثْلِهَا إلَّا أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ مُطْلَقٌ عَنْ هَذَا التَّفْصِيلِ وَإِطْلَاقُ الرِّوَايَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ النِّسْيَانَ لَا يَنْدُرُ عِنْدَ طُولِ الْمُدَّةِ، فَنَقُولُ: مَنْ تَعَلَّمَ حِرْفَةً بِتَمَامِهَا وَكَمَالِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنْسَاهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ طَالَتْ مُدَّةُ عَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ لَكِنْ رُبَّمَا يَدْخُلُهَا خَلَلٌ كَصَنْعَةِ الْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَالرَّمْيِ إذَا تَرَكَهَا صَاحِبُهَا مُدَّةً طَوِيلَةً فَلَمَّا أَكَلَ وَحِرْفَتُهُ تَرْكُ الْأَكْلِ دَلَّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَعَلَّمَ الْحِرْفَةَ مِنْ الْأَصْلِ وَأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَأْكُلْ قَبْلَ ذَلِكَ لَا لِلتَّعَلُّمِ بَلْ لِشِبَعِهِ فِي الْحَالِ فَلَا تَحِلُّ صُيُودُهُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَأَمَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَحِلُّ صَيْدُهُ إلَّا بِتَعْلِيمٍ مُسْتَأْنَفٍ بِلَا خِلَافٍ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِالْأَكْلِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا وَأَنَّ تَرْكَ الْأَكْلِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّعَلُّمِ بَلْ لِشِبَعِهِ لِلْحَالِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَتَعَلَّمْ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَسِيَ وَكَيْفَ مَا كَانَ لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إلَّا بِتَعْلِيمٍ مُبْتَدَأٍ وَتَعْلِيمِهِ فِي الثَّانِي بِمَا بِهِ تَعْلِيمُهُ فِي الْأَوَّلِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيهِ. وَلَوْ جَرَحَ الْكَلْبُ الصَّيْدَ وَوَلَغَ فِي دَمِهِ يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَمْسَكَ الصَّيْدَ عَلَى صَاحِبِهِ وَإِنَّمَا لَوْ وَلَغَ فِيمَا أَمْسَكَ عَلَى صَاحِبِهِ لَكَانَ لَا يَأْكُلُهُ صَاحِبُهُ وَذَلِكَ مِنْ غَايَةِ تَعَلُّمِهِ حَيْثُ تَنَاوَلَ الْخَبِيثَ وَأَمْسَكَ الطَّيِّبَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ فِي رَجُلٍ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ وَهُوَ مُعَلَّمٌ فَأَخَذَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ اتَّبَعَ آخَرَ فَقَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ قَالَ: لَا يُؤْكَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَكَلَ دَلَّ عَلَى عَدَمِ التَّعَلُّمِ أَوْ عَلَى النِّسْيَانِ فَلَا يَحِلُّ صَيْدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ أَخَذَ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ صَيْدًا فَأَخَذَهُ مِنْهُ صَاحِبُهُ وَأَخَذَ صَاحِبُ الْكَلْبِ مِنْ الصَّيْدِ قِطْعَةً فَأَلْقَاهَا إلَى الْكَلْبِ فَأَكَلَهَا الْكَلْبُ فَهُوَ عَلَى تَعَلُّمِهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْأَكْلِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ حَالَ أَخْذِهِ الصَّيْدَ فَأَكْلُهُ بِإِطْعَامِ صَاحِبِهِ بَعْدَ الْأَخْذِ لَا يَقْدَحُ فِي التَّعَلُّمِ مَعَ مَا أَنَّ مِنْ عَادَةِ الصَّائِدِ بِالْكَلْبِ أَنَّهُ إذَا أَخَذَ الْكَلْبُ الصَّيْدَ أَنْ يُطْعِمَهُ مِنْ لَحْمِهِ تَرْغِيبًا لَهُ عَلَى الصَّيْدِ فَلَا يَكُونُ أَكْلُهُ بِإِطْعَامِهِ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ التَّعَلُّمِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ صَاحِبُ الْكَلْبِ أَخَذَ الصَّيْدَ مِنْ الْكَلْبِ ثُمَّ وَثَبَ الْكَلْبُ عَلَى الصَّيْدِ فَأَخَذَ مِنْهُ قِطْعَةً فَأَكَلَهَا وَهُوَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ عَلَى تَعَلُّمِهِ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ بَعْدَ ثُبُوتِ يَدِ الْآدَمِيِّ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَكْلِ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَقْدَحُ فِي التَّعْلِيم، وَكَذَلِكَ قَالُوا: لَوْ سَرَقَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ بَعْدَ دَفْعِهِ إلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِلْجُوعِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَكْلَ لَمْ يَدْخُلْ فِي التَّعْلِيمِ. وَإِنْ أُرْسِلَ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ عَلَى صَيْدٍ فَتَبِعَهُ فَنَهَشَهُ فَقَطَعَ مِنْهُ قِطْعَةً فَأَكَلَهَا ثُمَّ أَخَذَ الصَّيْدَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ مِنْهُ فِي حَالِ الِاصْطِيَادِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ التَّعَلُّمِ فَإِنْ نَهَشَهُ فَأَلْقَى مِنْهُ بَضْعَةً وَالصَّيْدُ حَيٌّ ثُمَّ اتَّبَعَ الصَّيْدَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَخَذَهُ فَقَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّعْلِيمِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَطَعَ قِطْعَةً مِنْهُ لِيُثْخِنَهُ فَيُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى أَخْذِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْجُرْحِ وَإِنْ أَخَذَ صَاحِبُ الْكَلْبِ الصَّيْدَ مِنْ الْكَلْبِ بَعْدَ مَا قَطَعَهُ ثُمَّ رَجَعَ الْكَلْبُ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَرَّ بِتِلْكَ الْقِطْعَةِ فَأَكَلَهَا يُؤْكَلُ صَيْدُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَ مِنْ نَفْسِ الصَّيْدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَضُرُّ فَإِذَا أَكَلَ مِمَّا بَانَ مِنْهُ أَوْلَى، وَإِنْ اتَّبَعَ الصَّيْدَ فَنَهَشَهُ فَأَخَذَ مِنْهُ بِضْعَةً فَأَكَلَهَا وَهُوَ حَيٌّ فَانْفَلَتَ الصَّيْدُ مِنْهُ ثُمَّ أَخَذَ الْكَلْبُ صَيْدًا آخَرَ فِي فَوْرِهِ فَقَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ: أَكْرَهُ أَكْلَهُ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ فِي حَالَةِ الِاصْطِيَادِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّعْلِيمِ فَلَا يُؤْكَلُ مَا اصْطَادَهُ بَعْدَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا تَعْلِيمُ ذِي الْمِخْلَبِ كَالْبَازِي أَوْ نَحْوِهِ فَهُوَ أَنْ يُجِيبَ صَاحِبَهُ إذَا دَعَاهُ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِمْسَاكُ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى لَوْ أَخَذَ الصَّيْدَ فَأَكَلَ مِنْهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ صَيْدِهِ بِخِلَافِ الْكَلْبِ وَنَحْوِهِ، وَالْفَرْقُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ التَّعَلُّمَ بِتَرْكِ الْعَادَةِ وَالطَّبْعِ، وَالْبَازِي مِنْ عَادَتِهِ التَّوَحُّشُ مِنْ النَّاسِ وَالتَّنَفُّرُ مِنْهُمْ بِطَبْعِهِ فَإِلْفُهُ بِالنَّاسِ وَإِجَابَتُهُ صَاحِبَهُ إذَا دَعَاهُ يَكْفِي دَلِيلًا عَلَى تَعَلُّمِهِ بِخِلَافِ الْكَلْبِ فَإِنَّهُ أَلُوفٌ بِطَبْعِهِ يَأْلَفُ بِالنَّاسِ وَلَا يَتَوَحَّشُ مِنْهُمْ فَلَا يَكْفِي هَذَا الْقَدْرُ دَلِيلَ التَّعَلُّمِ فِي حَقِّهِ فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ أَمْرٍ وَهُوَ تَرْكُ

الْأَكْلِ، وَالثَّانِي أَنَّ الْبَازِيَ إنَّمَا يُعَلَّمُ بِالْأَكْلِ فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْرُجَ بِالْأَكْلِ عَنْ حَدِّ التَّعْلِيمِ بِخِلَافِ الْكَلْبِ وَالثَّالِثُ أَنَّ الْكَلْبَ يُمْكِنُ تَعْلِيمُهُ بِتَرْكِ الْأَكْلِ بِالضَّرْبِ؛ لِأَنَّ جُثَّتَهُ تَتَحَمَّلُ الضَّرْبَ وَالْبَازِي لَا؛ لِأَنَّ جُثَّتَهُ لَا تَتَحَمَّلُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: إذَا أَكَلَ الصَّقْرُ فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ. وَمِنْهَا الْإِرْسَالُ أَوْ الزَّجْرُ عِنْدَ عَدَمِهِ عَلَى وَجْهٍ يَنْزَجِرُ بِالزَّجْرِ فِيمَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَهُوَ الْكَلْبُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ حَتَّى لَوْ تَرَسَّلَ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَزْجُرْهُ صَاحِبُهُ فِيمَا يَنْزَجِرُ بِالزَّجْرِ لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ الَّذِي قَتَلَهُ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ فِي صَيْدِ الْجَوَارِحِ أَصْلٌ لِيَكُونَ الْقَتْلُ وَالْجُرْحُ مُضَافًا إلَى الْمُرْسِلِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ عَدَمِهِ يُقَامُ الزَّجْرُ مُقَامَ الِانْزِجَارِ فِيمَا يَحْتَمِلُ قِيَامَ ذَلِكَ مَقَامَهُ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ فَلَا تَثْبُتُ الْإِضَافَةُ فَلَا يَحِلُّ، وَلَوْ أَرْسَلَ مُسْلِمٌ كَلْبَهُ وَسَمَّى فَزَجَرَهُ مَجُوسِيٌّ فَانْزَجَرَ يُؤْكَلُ صَيْدُهُ. وَلَوْ أَرْسَلَ مَجُوسِيٌّ كَلْبَهُ فَزَجَرَهُ مُسْلِمٌ فَانْزَجَرَ لَا يُؤْكَلُ صَيْدُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْسَلَ مُسْلِمٌ كَلْبَهُ وَتَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا فَاتَّبَعَ الصَّيْدَ ثُمَّ زَجَرَهُ فَانْزَجَرَ لَا يُؤْكَلُ صَيْدُهُ وَلَوْ لَمْ يُرْسِلْهُ أَحَدٌ وَانْبَعَثَ بِنَفْسِهِ فَاتَّبَعَ الصَّيْدَ فَزَجَرَهُ مُسْلِمٌ وَسَمَّى فَانْزَجَرَ يُؤْكَلُ صَيْدُهُ وَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ لَا يُؤْكَلْ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ هُوَ الْأَصْلُ وَالزَّجْرُ كَالْخَلَفِ عَنْهُ وَالْخَلَفُ يُعْتَبَرُ حَالَ عَدَمِ الْأَصْلِ لَا حَالَ وُجُودِهِ. فَفِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ وُجِدَ الْأَصْلُ فَلَا يُعْتَبَرُ الْخَلَفُ إلَّا أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى الْمُرْسِلُ مِنْ أَهْلِ الْإِرْسَالِ فَيُؤْكَلُ صَيْدُهُ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لَا فَلَا يُؤْكَلُ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ لَمْ يُوجَدْ الْأَصْلُ فَيُعْتَبَرُ الْخَلَفُ فَيُؤْكَلُ صَيْدُهُ إنْ انْزَجَرَ وَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ الزَّجْرَ بِدُونِ الِانْزِجَارِ لَا يَصْلُحُ خَلَفًا عَنْ الْإِرْسَالِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ يُرْسَلُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إرْسَالٍ وَلَا زَجْرٍ وَلَوْ أَرْسَلَهُ مُسْلِمٌ وَسَمَّى وَزَجَرَهُ رَجُلٌ وَلَمْ يُسَمِّ عَلَى زَجْرِهِ فَأَخَذَ الصَّيْدَ وَقَتَلَهُ يُؤْكَلُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْإِرْسَالِ فَيُعْتَبَرُ وُجُودُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَهُ. وَأَصْلٌ آخَرُ لِتَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ الدَّلَالَةَ لَا تُعْتَبَرُ إذَا وُجِدَ الصَّرِيحُ وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ تُعْتَبَرُ فَفِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ وُجِدَ مِنْ الْكَلْبِ صَرِيحُ الطَّاعَةِ بِالْإِرْسَالِ حَيْثُ عَدَا بِإِرْسَالِهِ، وَانْزِجَارُهُ طَاعَةً لِلزَّاجِرِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي مُقَابَلَةِ الصَّرِيحِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ لَمْ يُوجَدْ الصَّرِيحُ فَاعْتُبِرَتْ الدَّلَالَةُ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ بَقِيَّةُ الْمَسَائِلِ. وَمِنْهَا بَقَاءُ الْإِرْسَالِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَخْذُ الْكَلْبِ أَوْ الْبَازِي الصَّيْدَ فِي حَالِ فَوْرِ الْإِرْسَالِ لَا فِي حَالِ انْقِطَاعِهِ حَتَّى لَوْ أَرْسَلَ الْكَلْبَ أَوْ الْبَازِيَ عَلَى صَيْدٍ وَسَمَّى فَأَخَذَ صَيْدًا وَقَتَلَهُ ثُمَّ أَخَذَ آخَرَ عَلَى فَوْرِهِ ذَلِكَ وَقَتَلَهُ ثُمَّ وَثُمَّ يُؤْكَلُ ذَلِكَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ لَمْ يَنْقَطِعْ فَكَانَ الثَّانِي كَالْأَوَّلِ مَعَ مَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّعْيِينَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فَكَانَ أَخْذُ الْكَلْبِ أَوْ الْبَازِي الصَّيْدَ فِي فَوْرِ الْإِرْسَالِ كَوُقُوعِ السَّهْمِ بِصَيْدَيْنِ، فَإِنْ أَخَذَ صَيْدًا وَجَثَمَ عَلَيْهِ طَوِيلًا ثُمَّ مَرَّ بِهِ آخَرُ فَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ لَمْ يُؤْكَلْ إلَّا بِإِرْسَالٍ مُسْتَقْبَلٍ أَوْ بِزَجْرِهِ وَتَسْمِيَةٍ عَلَى وَجْهٍ يَنْزَجِرُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الزَّجْرَ لَبُطْلَانِ الْفَوْرِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ أَوْ بَازَهُ عَلَى صَيْدٍ فَعَدَلَ عَنْ الصَّيْدِ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً وَتَشَاغَلَ بِغَيْرِ طَلَبٍ الصَّيْدِ وَفَتَرَ عَنْ سَنَنِهِ ذَلِكَ ثُمَّ تَبِعَ صَيْدًا آخَرَ فَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ لَا يُؤْكَلُ إلَّا بِإِرْسَالٍ مُسْتَأْنَفٍ أَوْ أَنْ يَزْجُرَهُ صَاحِبُهُ وَيُسَمِّيَ فَيَنْزَجِرَ فِيمَا يَحْتَمِلُ الزَّجْرَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَشَاغَلَ بِغَيْرِ طَلَبِ الصَّيْدِ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ الْإِرْسَالِ فَإِذَا صَادَ صَيْدًا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ تَرَسَّلَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَحِلُّ صَيْدُهُ إلَّا أَنْ يَزْجُرَهُ صَاحِبُهُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الزَّجْرَ لِمَا بَيَّنَّا. وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَرْسَلَ فَهْدًا وَالْفَهْدُ إذَا أُرْسِلَ كَمِنَ وَلَا يَتَّبِعُ حَتَّى يَسْتَمْكِنَ فَيَمْكُثُ سَاعَةً ثُمَّ يَأْخُذُ الصَّيْدَ فَيَقْتُلَهُ فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ، وَكَذَلِكَ الْكَلْبُ إذَا أُرْسِلَ فَصَنَعَ كَمَا يَصْنَعُ الْفَهْدُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ مَا صَادَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِرْسَالِ لَمْ يَنْقَطِعْ بِالْكُمُونِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكْمُنُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الصَّيْدِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الِاصْطِيَادِ وَوَسِيلَةً إلَيْهِ فَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ حُكْمُ الْإِرْسَالِ كَالْوُثُوبِ وَالْعَدْوِ، وَكَذَلِكَ الْبَازِي إذَا أُرْسِلَ فَسَقَطَ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ طَارَ فَأَخَذَ الصَّيْدَ فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْقُطُ عَلَى شَيْءٍ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الصَّيْدِ فَكَانَ سُقُوطُهُ بِمَنْزِلَةِ كُمُونِ الْفَهْدِ. وَكَذَلِكَ الرَّامِي إذَا رَمَى صَيْدًا بِسَهْمٍ فَمَا أَصَابَهُ فِي سَنَنِهِ ذَلِكَ وَوَجْهِهِ أُكِلَ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَضَى فِي سَنَنِهِ فَلَمْ يَنْقَطِعْ حُكْمُ الرَّمْيِ فَكَانَ ذَهَابُهُ بِقُوَّةِ الرَّامِي فَكَانَ قَتْلُهُ مُضَافًا إلَيْهِ فَيَحِلُّ، فَإِنْ أَصَابَ وَاحِدًا ثُمَّ نَفَذَ إلَى آخَرَ وَآخَرَ أُكِلَ الْكُلُّ لِمَا قُلْنَا مَعَ مَا أَنَّ تَعْيِينَ الصَّيْدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِنْ أَمَالَتْ الرِّيحُ السَّهْمَ إلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى يَمِينًا أَوْ شِمَالًا فَأَصَابَ صَيْدًا آخَرَ لَمْ يُؤْكَل؛ لِأَنَّ السَّهْمَ إذَا تَحَوَّلَ عَنْ سَنَنِهِ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ الرَّمْيِ فَصَارَتْ الْإِصَابَةُ بِغَيْرِ فِعْلِ الرَّامِي فَلَا يَحِلُّ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى جَبْلٍ سَيْفٌ فَأَلْقَتْهُ الرِّيحُ عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ أَنَّهُ

لَا يُؤْكَلُ كَذَا هَذَا فَإِنْ لَمْ تُرْدِهِ الرِّيحُ عَنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ أُكِلَ الصَّيْدُ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَضَى فِي وَجْهِهِ كَانَ مُضِيُّهُ بِقُوَّةِ الرَّامِي وَإِنَّمَا الرِّيحُ أَعَانَتْهُ وَمَعُونَةُ الرِّيحِ السَّهْمَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَإِنْ أَصَابَتْ الرِّيحُ السَّهْمَ وَهِيَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَدَفَعَتْهُ لَكِنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ وَجْهِهِ فَأَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ مَضَى فِي وَجْهِهِ وَمَعُونَةُ الرِّيحِ إذَا لَمْ تَعْدِلْ السَّهْمَ عَنْ وَجْهِهِ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَلَا يُعْتَبَرُ. أَصَابَ السَّهْمُ حَائِطًا أَوْ صَخْرَةً فَرَجَعَ فَأَصَابَ صَيْدًا فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الرَّامِي انْقَطَعَ وَصَارَتْ الْإِصَابَةُ فِي غَيْرِ جِهَةِ الرَّمْيِ فَإِنْ مَرَّ السَّهْمُ بَيْنَ الشَّجَرِ فَجَعَلَ يُصِيبُ الشَّجَرَ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ لَكِنَّ السَّهْمَ عَلَى سَنَنِهِ فَأَصَابَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ فَإِنْ رَدَّهُ شَيْءٌ مِنْ الشَّجَرِ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً لَا يُؤْكَلُ لِمَا بَيَّنَّا، فَإِنْ مَرَّ السَّهْمُ فَجَحَشَهُ حَائِطٌ وَهُوَ عَلَى سَنَنِهِ ذَلِكَ فَأَصَابَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ أُكِلَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الرَّامِي لَمْ يَنْقَطِعْ وَإِنَّمَا أَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ وَالْحَائِطَ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْحِلَّ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ حُكْمَ الْإِرْسَالِ لَا يَنْقَطِعُ بِالتَّغَيُّرِ عَنْ سَنَنِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا إلَّا إذَا رَجَعَ مِنْ وَرَائِهِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا رَمَى بِسَهْمٍ وَسَمَّى ثُمَّ رَمَى رَجُلٌ آخَرُ بِسَهْمٍ وَسَمَّى فَأَصَابَ السَّهْمُ الْأَوَّلُ السَّهْمَ الثَّانِيَ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَ الصَّيْدَ فَرَدَّهُ عَنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ فَأَصَابَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَدَّهُ السَّهْمُ الثَّانِي عَنْ سَنَنِهِ انْقَطَعَ حُكْمُ الرَّمْيِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحِلُّ، قَالَ الْقُدُورِيُّ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الرَّامِيَ الثَّانِيَ لَمْ يَقْصِدْ الِاصْطِيَادَ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ وَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ الِاصْطِيَادَ فَلَا يَحِلُّ فَأَمَّا إذَا كَانَ الثَّانِي رَمَى لِلِاصْطِيَادِ فَيَحِلُّ أَكْلُ الصَّيْدِ وَهُوَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ بِالرَّمْيِ وَتَعْيِينُ الْمَرْمِيِّ إلَيْهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ رَمَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَيْدًا بِسَهْمٍ فَأَصَابَا الصَّيْدَ جَمِيعًا وَوَقَعَتْ الرَّمْيَتَانِ بِالصَّيْدِ مَعًا فَمَاتَ فَإِنَّهُ لَهُمَا وَيُؤْكَلُ. (أَمَّا) حِلُّ الْأَكْلِ فَظَاهِرٌ. (وَأَمَّا) كَوْنُ الصَّيْدِ لَهُمَا فَلِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَتَسَاوَيَا فِيهِ فَيَتَسَاوَيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنْ أَصَابَهُ سَهْمُ الْأَوَّلِ فَوَقَذَهُ ثُمَّ أَصَابَهُ سَهْمُ الْآخَرِ فَقَتَلَهُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُؤْكَلُ وَالصَّيْدُ لِلْأَوَّلِ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يُؤْكَلُ وَهَذَا فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الرَّمْيِ حَالُ الرَّمْيِ أَوْ حَالُ الْإِصَابَةِ فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ الْمُعْتَبَرُ حَالُ الرَّمْيِ، وَعِنْدَ زُفَرَ حَالُ الْإِصَابَةِ. (وَوَجْهُ) الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ لَمَّا كَانَ حَالَ الرَّمْيِ عِنْدَنَا فَقَدْ وُجِدَ الرَّمْيُ مِنْهُمَا وَالصَّيْدُ مُمْتَنِعٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّهْمِ الثَّانِي حَظْرٌ إلَّا أَنَّ الْمِلْكَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ سَهْمَهُ أَخْرَجَهُ مِنْ حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ فَصَارَ السَّهْمُ الثَّانِي كَأَنَّهُ وَقَعَ بِصَيْدٍ مَمْلُوكٍ فَلَا يُسْتَحَقُّ بِهِ شَيْءٌ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الرَّمْيِ فِي حَقِّ الْحِلِّ وَالْإِصَابَةِ فِي حَقِّ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ وَالْمِلْكَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَحَلِّ وَلَمَّا كَانَ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْإِصَابَةِ عِنْدَهُ فَقَدْ أَصَابَهُ الثَّانِي وَالصَّيْدُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَصَارَ كَمَنْ رَمَى إلَى شَاةٍ فَقَتَلَهَا. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاعْتِبَارُ حَالُ الْإِصَابَةِ أَنَّ الْمِلْكَ يَقِفُ ثُبُوتُهُ عَلَى الْإِصَابَةِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُصِبْ لَا يَمْلِكُ فَدَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ وَقْتُ الْإِصَابَةِ، وَلَنَا أَنَّ حَالَ الرَّمْيِ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُهُ وَالتَّسْمِيَةُ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ فِعْلِهِ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الرَّمْيِ وَكَذَلِكَ إنْ رَمَى أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ قَبْلَ إصَابَةِ الْأَوَّلِ فَهُوَ كَرَمْيِهِمَا مَعًا فِي الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ رَمْيَ الثَّانِي وُجِدَ وَالصَّيْدُ مُمْتَنِعٌ فَصَارَ كَمَا لَوْ رَمَيَا مَعًا فَإِنْ أَصَابَهُ سَهْمُ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الِامْتِنَاعِ فَأَصَابَهُ الثَّانِي فَقَتَلَهُ فَهُوَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ إذَا لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ حَدِّ الِامْتِنَاعِ فَفِعْلُ الِاصْطِيَادِ وُجِدَ مِنْ الثَّانِي وَلِلْأَوَّلِ تَسَبُّبٌ فِي الصَّيْدِ فَصَارَ كَمَنْ أَثَارَ صَيْدًا وَأَخَذَهُ غَيْرُهُ أَنَّ الصَّيْدَ يَكُونُ لِلْآخِذِ لَا لِلْمُثِيرِ كَذَا هَذَا. وَإِنْ كَانَ سَهْمُ الْأَوَّلِ وَقَذَهُ وَأَخْرَجَهُ عَنْ الِامْتِنَاعِ ثُمَّ أَصَابَهُ سَهْمُ الثَّانِي فَهَذَا عَلَى وُجُوهٍ: إنْ مَاتَ مِنْ الْأَوَّلِ أَكَلَ وَعَلَى الثَّانِي ضَمَانُ مَا نَقَصَتْهُ جِرَاحَتُهُ؛ لِأَنَّ السَّهْمَ الْأَوَّلَ وَقَعَ بِهِ وَهُوَ صَيْدٌ فَإِذَا قَتَلَهُ حَلَّ وَقَدْ مَلَكَهُ الْأَوَّلُ بِالْإِصَابَةِ فَالْجِرَاحَةُ الثَّانِيَةُ نَقْصٌ فِي مِلْكِ الْأَوَّلِ فَيَضْمَنُهَا الثَّانِي، وَإِنْ مَاتَ مِنْ الْجِرَاحَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ يُؤْكَلْ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ رَمَى إلَيْهِ وَهُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَصَارَ كَالرَّمْيِ إلَى الشَّاةِ وَيَضْمَنُ الثَّانِي مَا نَقَصَتْهُ جِرَاحَتُهُ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِفِعْلِهِ ثُمَّ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مَجْرُوحًا بِجِرَاحَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أُتْلِفَ بِفِعْلِهِ إلَّا أَنَّهُ غَرِمَ نُقْصَانَ الْجُرْحِ الثَّانِي فَلَا يَضْمَنُهُ ثَانِيًا وَالْجُرْحُ الْأَوَّلُ نَقْصٌ حَصَلَ بِفِعْلِ الْمَالِكِ لِلصَّيْدِ فَلَا يَضْمَنُهُ الثَّانِي. وَإِنْ مَاتَ مِنْ الْجِرَاحَتَيْنِ لَمْ يُؤْكَلْ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الرَّمْيَيْنِ حَاظِرٌ وَالْآخَرَ مُبِيحٌ فَالْحُكْمُ لِلْحَاظِرِ احْتِيَاطًا وَالصَّيْدُ لِلْأَوَّلِ لِانْفِرَادِهِ بِسَبَبِ مِلْكِهِ وَهُوَ الْجِرَاحَةُ الْمُخْرِجَةُ لَهُ مِنْ الِامْتِنَاعِ وَعَلَى الثَّانِي لِلْأَوَّلِ نِصْفُ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا بِالْجِرَاحَتَيْنِ وَيَضْمَنُ نِصْفَ مَا نَقَصَتْهُ الْجِرَاحَةُ الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهَا فَسَقَطَ نِصْفُ

الضَّمَانِ وَثَبَتَ نِصْفُهُ وَالْجِرَاحَةُ الثَّانِيَةُ يَضْمَنُهَا الثَّانِي؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَى شَرِيكِهِ نَصِيبَهُ حِينَ أَخْرَجَهُ مِنْ الْإِبَاحَةِ إلَى الْحَظْرِ فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِأَيِّ الْجِرَاحَتَيْنِ مَاتَ فَهُوَ كَمَا لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجِرَاحَتَيْنِ سَبَبُ الْقَتْلِ فِي الظَّاهِرِ وَاَللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا عَلَى صَيْدٍ وَسَمَّى فَأَدْرَكَ الْكَلْبُ الصَّيْدَ فَضَرَبَهُ فَوَقَذَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ ثَانِيًا فَقَتَلَهُ أَكَلَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْسَلَ كَلْبَيْنِ عَلَى صَيْدٍ فَضَرَبَهُ أَحَدُهُمَا فَوَقَذَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ الْكَلْبُ الْآخَرُ فَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي تَعْلِيمِ الْكَلْبِ إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَلَّمَ بِتَرْكِ الْجُرْحِ بَعْدَ الْجُرْحِ الْأَوَّلِ فَلَا يُعْتَبَرُ فَكَأَنَّهُ قَتَلَهُ بِجُرْحٍ وَاحِدٍ. وَلَوْ أَرْسَلَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ فَضَرَبَهُ كَلْبُ أَحَدِهِمَا فَوَقَذَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ كَلْبُ الْآخَرِ فَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ جُرْحَ الْكَلْبِ بَعْدَ الْجُرْحِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَفُّظُ عَنْهُ فَلَا يُوجِبَ الْحَظْرَ فَيُؤْكَلُ وَيَكُونُ الصَّيْدُ لِصَاحِبِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ جِرَاحَةَ كَلْبِهِ أَخْرَجَتْهُ عَنْ حَدِّ الِامْتِنَاعِ فَصَارَ مِلْكًا لَهُ فَجِرَاحَةُ كَلْبِ الثَّانِي لَا تُزِيلُ مِلْكَهُ عَنْهُ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْإِرْسَالُ وَالرَّمْيُ عَلَى الصَّيْدِ وَإِلَيْهِ حَتَّى لَوْ أَرْسَلَ عَلَى غَيْرِ صَيْدٍ أَوْ رَمَى إلَى غَيْرِ صَيْدٍ فَأَصَابَ صَيْدًا لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ إلَى غَيْرِ الصَّيْدِ وَالرَّمْيِ إلَى غَيْرِهِ لَا يَكُونُ اصْطِيَادًا فَلَا يَكُونُ قَتْلُ الصَّيْدِ وَجَرْحُهُ مُضَافًا إلَى الْمُرْسَلِ وَالرَّامِي فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِبَاحَةُ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا سَمِعَ حِسًّا فَظَنَّهُ صَيْدًا فَأَرْسَلَ عَلَيْهِ كَلْبَهُ أَوْ بَازَهُ أَوْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ صَيْدًا أَوْ بَانَ لَهُ أَنَّ الْحِسَّ الَّذِي سَمِعَهُ لَمْ يَكُنْ حِسَّ صَيْدٍ وَإِنَّمَا كَانَ شَاةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ آدَمِيًّا أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ الَّذِي أَصَابَهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَرْسَلَ عَلَى مَا لَيْسَ بِصَيْدٍ وَرَمَى إلَى مَا لَيْسَ بِصَيْدٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحِلُّ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْفِقْهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ رَمَى إلَى آدَمِيٍّ أَوْ شَاةٍ أَوْ بَقَرَةٍ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ فَأَصَابَ صَيْدًا أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَ الْحِسُّ حِسَّ صَيْدٍ فَأَصَابَ صَيْدًا يُؤْكَلُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْحِسُّ حِسَّ صَيْدٍ مَأْكُولٍ أَوْ غَيْرِ مَأْكُولٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمُصَابُ صَيْدًا مَأْكُولًا وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: إنْ كَانَ ذَلِكَ الْحِسُّ حِسَّ صَيْدٍ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالسِّبَاعِ وَنَحْوِهَا لَا يُؤْكَلُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اللَّهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ حِسَّ ضَبُعٍ يُؤْكَلُ الصَّيْدُ وَإِنْ كَانَ حِسَّ خِنْزِيرٍ لَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ إنَّ السَّبُعَ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَالرَّمْيُ إلَيْهِ لَا يَثْبُتُ بِهِ حِلُّ الصَّيْدِ الْمَأْكُولِ كَمَا لَوْ كَانَ حِسَّ آدَمِيٍّ فَرَمَى إلَيْهِ فَأَصَابَ صَيْدًا وَلَنَا أَنَّ الْإِرْسَالَ إلَى الصَّيْدِ اصْطِيَادٌ مُبَاحٌ مَأْكُولًا كَانَ الصَّيْدُ أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ فَتَتَعَلَّقُ بِهِ إبَاحَةُ الصَّيْدِ الْمَأْكُولِ؛ لِأَنَّ حِلَّ الصَّيْدِ الْمَأْكُولِ يَتَعَلَّقُ بِالْإِرْسَالِ فَإِذَا كَانَ الْإِرْسَالُ حَلَالًا يَثْبُتُ حِلُّهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِحِلِّ الْإِرْسَالِ حِلُّ حُكْمِ الْمُرْسَلِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ ثَبَتَتْ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ فَلَا تَتَبَدَّلُ بِالْفِعْلِ وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِرْسَالِ هُوَ قَصْدُ الصَّيْدِ فَأَمَّا التَّعْيِينُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ قَصَدَ الصَّيْدَ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْحِسُّ حِسَّ آدَمِيٍّ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ عَلَى الْآدَمِيِّ لَيْسَ بِاصْطِيَادٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا إذْ لَا يَتَعَلَّقُ حِلُّ الصَّيْدِ بِمَا لَيْسَ بِاصْطِيَادٍ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ قَصْدُ الصَّيْدِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحِلُّ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَصْلِهِ بَيْنَ سَائِرِ السِّبَاعِ وَبَيْنَ الْخِنْزِيرِ أَنَّ الْخِنْزِيرَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ حَتَّى لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِوَجْهٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْإِرْسَالِ عَلَيْهِ وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ، فَأَمَّا سَائِرُ السِّبَاعِ فَجَائِزُ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي غَيْرِ جِهَةِ الْأَكْلِ فَكَانَ الْإِرْسَالُ إلَيْهَا مُعْتَبَرًا وَإِنْ سَمِعَ حِسًّا وَلَكِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ حِسُّ صَيْدٍ أَوْ غَيْرِهِ فَأَرْسَلَ فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يُؤْكَلْ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ اسْتَوَى الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ فَكَانَ الْحُكْمُ لِلْحَظْرِ احْتِيَاطًا. وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ فِيمَنْ رَمَى خِنْزِيرًا أَهْلِيًّا فَأَصَابَ صَيْدًا قَالَ: لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ الْأَهْلِيَّ لَيْسَ بِصَيْدٍ لِعَدَمِ التَّوَحُّشِ وَالِامْتِنَاعِ فَكَانَ الرَّمْيُ إلَيْهِ كَالرَّمْيِ إلَى الشَّاةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حِلُّ الصَّيْدِ وَإِنْ أَصَابَ صَيْدًا مَأْكُولًا. وَقَدْ قَالُوا فِيمَنْ سَمِعَ حِسًّا فَظَنَّهُ آدَمِيًّا فَرَمَاهُ فَأَصَابَ الْحِسَّ نَفْسَهُ فَإِذَا هُوَ صَيْدٌ أَكَلَ؛ لِأَنَّهُ رَمَى إلَى الْمَحْسُوسِ الْمُعَيَّنِ وَهُوَ الصَّيْدُ فَصَحَّ وَنَظِيرُهُ مَا إذَا قَالَ: لِامْرَأَتِهِ وَأَشَارَ إلَيْهَا هَذِهِ الْكَلْبَةُ طَالِقٌ أَنَّهَا تَطْلُقُ وَبَطَلَ الِاسْمُ وَقَالُوا: لَوْ رَمَى طَائِرًا فَأَصَابَ صَيْدًا وَذَهَبَ الْمَرْمِيُّ إلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَوَحْشِيٌّ أَوْ مُسْتَأْنَسٌ أُكِلَ الصَّيْدُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّيْرِ التَّوَحُّشُ فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ حَتَّى يُعْلَمَ الِاسْتِئْنَاسُ وَلَوْ عُلِمَ أَنَّ الْمَرْمِيَّ إلَيْهِ دَاجِنٌ تَأْوِي الْبُيُوتَ لَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ؛ لِأَنَّ الدَّاجِنَ يَأْوِيهِ الْبَيْتُ وَتَثْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهِ فَكَانَ الرَّمْيُ إلَيْهِ كَالرَّمْيِ إلَى الشَّاةِ وَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحِلُّ كَذَا هَذَا. وَقَالُوا لَوْ رَمَى بَعِيرًا فَأَصَابَ صَيْدًا

وَذَهَبَ الْبَعِيرُ فَلَمْ يَعْلَمْ أَنَادٌّ أَوْ غَيْرُ نَادٍّ لَمْ يُؤْكَلْ الصَّيْدُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ الْبَعِيرَ كَانَ نَادًّا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِبِلِ الِاسْتِئْنَاسُ فَيُتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ حَتَّى يَظْهَرَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ رَمَى سَمَكَةً أَوْ جَرَادَةً فَأَصَابَ صَيْدًا فَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ لَا ذَكَاةَ لَهُمَا وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ الْمَرْمِيَّ إلَيْهِ مِنْ جُمْلَةِ الصَّيْدِ وَإِنْ كَانَ لَا ذَكَاةَ لَهُ. وَقَالُوا لَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى ظَبْيٍ مُوثَقٍ فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يُؤْكَلْ؛ لِأَنَّ الْمُوثَقَ لَيْسَ بِصَيْدٍ لِعَدَمِ مَعْنَى الصَّيْدِ فِيهِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ فَأَشْبَهَ شَاةً وَلَوْ أَرْسَلَ بَازَهُ عَلَى ظَبْيٍ وَهُوَ لَا يَصِيدُ الظَّبْيَ فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يُؤْكَلْ؛ لِأَنَّ هَذَا إرْسَالٌ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الِاصْطِيَادُ فَصَارَ كَمَنْ أَرْسَلَ كَلْبًا عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ فَأَصَابَ صَيْدًا. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ ذُو النَّابِ الَّذِي يَصْطَادُ بِهِ مِنْ الْجَوَارِحِ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ فَإِنْ كَانَ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ وَهُوَ الْخِنْزِيرُ فَلَا يُؤْكَلُ صَيْدُهُ؛ لِأَنَّ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ مُحَرَّمُ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَالِاصْطِيَادُ بِهِ انْتِفَاعٌ بِهِ فَكَانَ حَرَامًا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحِلُّ. (وَأَمَّا) مَا سِوَاهُ مِنْ ذِي النَّابِ جَمِيعًا: كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ وَذِي نَابٍ عُلِّمَ فَتَعَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ فَصِيدَ بِهِ كَانَ صَيْدُهُ حَلَالًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] وَقَالُوا فِي الْأَسَدِ وَالذِّئْبِ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّيْدُ بِهِمَا لَا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى ذَاتِهِمَا بَلْ لِعَدَمِ احْتِمَالِ التَّعَلُّمِ؛ لِأَنَّ التَّعَلُّمَ بِتَرْكِ الْعَادَةِ وَذَلِكَ بِتَرْكِ الْأَكْلِ، وَقِيلَ: إنَّ مِنْ عَادَتِهِمَا أَنَّهُمَا إذَا أَخَذَا صَيْدًا لَا يَأْكُلَانِهِ فِي الْحَالِ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِتَرْكِ الْأَكْلِ فِيهِمَا عَلَى التَّعَلُّمِ حَتَّى لَوْ تُصُوِّرَ تَعْلِيمُهُمَا يَجُوزُ وَذَكَر هِشَامُ وَقَالَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ الذِّئْبِ إذَا عُلِّمَ فَصَادَ، فَقَالَ: هَذَا أَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَإِنْ كَانَ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ صَيْدِ ابْنِ عِرْسٍ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: إذَا عُلِّمَ فَتَعَلَّمَ فَكُلْ مِمَّا صَادَ فَصَادَ الْأَصْلُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا لَا يَكُونُ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ مِنْ الْجَوَارِحِ إذَا عُلِّمَ فَتَعَلَّمَ يُؤْكَلُ صَيْدُهُ وَاَللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يُعَلَّمَ أَنَّ تَلَفَ الصَّيْدِ بِإِرْسَالٍ أَوْ رَمْيٍ هُوَ سَبَبُ الْحِلِّ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ فَإِنْ شَارَكَهُمَا مَعْنًى أَوْ سَبَبٌ يَحْتَمِلُ حُصُولَ التَّلَفِ بِهِ وَالتَّلَفُ بِهِ مِمَّا لَا يُفِيدُ الْحِلُّ لَا يُؤْكَلُ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا اُحْتُمِلَ حُصُولُ التَّلَفِ بِمَا لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ فَقَدْ اُحْتُمِلَ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّهُ إنْ أَكَلَ عَسَى أَنَّهُ أَكَلَ الْحَرَامَ فَيَأْثَمُ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ الضَّرَرِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِوَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: مَا اُجْتُمِعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا وَقَدْ غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا رَمَى صَيْدًا وَهُوَ يَطِيرُ فَأَصَابَهُ فَسَقَطَ عَلَى جَبَلٍ ثُمَّ سَقَطَ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ فَمَاتَ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْمُتَرَدِّي؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ الرَّمْيِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِسُقُوطِهِ عَنْ الْجَبَلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَى جَبَلٍ فَأَصَابَهُ فَسَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى الْجَبَلِ ثُمَّ سَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ فَمَاتَ أَوْ كَانَ عَلَى سَطْحٍ فَأَصَابَهُ فَهَوَى فَأَصَابَ حَائِطَ السَّطْحِ ثُمَّ سَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ فَمَاتَ، أَوْ كَانَ عَلَى نَخْلَةٍ، أَوْ شَجَرَةٍ فَسَقَطَ مِنْهَا عَلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ، أَوْ نَدَّ مِنْ الشَّجَرَةِ ثُمَّ سَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ فَمَاتَ، أَوْ وَقَعَ عَلَى رُمْحٍ مَرْكُوزٍ فِي الْأَرْضِ وَفِيهِ سِنَانٌ فَوَقَعَ عَلَى السِّنَانِ ثُمَّ وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَمَاتَ، أَوْ نَشِبَ فِيهِ السِّنَانُ فَمَاتَ عَلَيْهِ، أَوْ أَصَابَ سَهْمُهُ صَيْدًا فَوَقَعَ فِي الْمَاءِ فَمَاتَ فِيهِ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِالرَّمْيِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الْمَوْجُودَةِ بَعْدَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْهُ فَلَعَلَّ الْمَاءَ قَتَلَهُ» بَيَّنَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْحُكْمَ وَعَلَّلَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ احْتِمَالِ مَوْتِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ وَهُوَ وُقُوعُهُ فِي الْمَاءِ، وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّلُ بَعْلَةٍ يَتَعَمَّمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ. وَلَوْ أَصَابَهُ السَّهْمُ فَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَمَاتَ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُؤْكَلَ لِجَوَازِ مَوْتِهِ بِسَبَبِ وُقُوعِهِ عَلَى الْأَرْضِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْ وُقُوعِ الْمَرْمِيِّ إلَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ فَلَوْ اُعْتُبِرَ هَذَا الِاحْتِمَالُ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ، وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى فِي الصَّيْدِ إذَا وَقَعَ عَلَى صَخْرَةٍ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ أَوْ انْقَطَعَ رَأْسُهُ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ قَالَ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ الشَّهِيدُ الْمَرْوَزِيِّ وَهَذَا خِلَافُ جَوَابِ الْأَصْلِ قَالَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعَنَى بِهِ أَنَّهُ خِلَافُ عُمُومِ جَوَابِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ لَوْ وَقَعَ عَلَى آجُرَّةٍ مَوْضُوعَةٍ فِي الْأَرْضِ أُكِلَ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ انْشَقَّ بَطْنُهُ أَوْ لَمْ يَنْشَقْ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُؤْكَلَ فِي الْحَالَيْنِ فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ مِنْ حَيْثُ إنْ

لَوْ انْشَقَّ بَطْنُهُ أَوْ انْقَطَعَ رَأْسُهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَوْتَهُ بِهَذَا السَّبَبِ لَا بِالرَّمْيِ فَكَانَ احْتِمَالُ مَوْتِهِ بِالرَّمْيِ احْتِمَالَ خِلَافِ الظَّاهِرِ فَلَا يُعْتَبَرُ، وَإِذَا لَمْ يَنْشَقَّ وَلَمْ يَنْقَطِعْ فَمَوْتُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ السَّبَبَيْنِ مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا عَلَى السَّوَاءِ إلَّا أَنَّ التَّحَرُّزَ غَيْرُ مُمَكِّنٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ مَوْتِهِ بِسَبَبِ الْعَارِضِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي الْمُنْتَقَى تَفْسِيرًا لِمَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُؤْكَلُ إذَا لَمْ يَنْشَقَّ بَطْنُهُ أَوْ لَمْ يَنْقَطِعْ رَأْسُهُ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَيُجْعَلُ الْمُقَيَّدُ بَيَانًا لِلْمُطْلَقِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا وَلَوْ وَقَعَ عَلَى حَرْفِ آجُرَّةٍ أَوْ حَرْفِ حَجَرٍ ثُمَّ وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَمَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كَانَتْ الْآجُرَّةُ مُنْطَرِحَةً عَلَى الْأَرْضِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا ثُمَّ مَاتَ أَكَلَ؛ لِأَنَّ الْآجُرَّةُ الْمُنْطَرِحَةَ كَالْأَرْضِ فَوُقُوعُهُ عَلَيْهَا كَوُقُوعِهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَوْ وَقَعَ عَلَى جَبَلٍ فَمَاتَ عَلَيْهِ أُكِلَ؛ لِأَنَّ اسْتِقْرَارَهُ عَلَى الْجَبَلِ كَاسْتِقْرَارِهِ عَلَى الْأَرْضِ. وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ رَمَى صَيْدًا عَلَى قِمَّةِ جَبَلٍ فَأَثْخَنَهُ حَتَّى صَارَ لَا يَتَحَرَّكُ وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَأْخُذَهُ فَرَمَاهُ فَقَتَلَهُ وَوَقَعَ لَمْ يَأْكُلْهُ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ صَيْدًا بِالرَّمْيِ الْأَوَّلِ لِخُرُوجِهِ عَنْ حَدِّ الِامْتِنَاعِ فَالرَّمْيُ الثَّانِي لَمْ يُصَادِفْ صَيْدًا فَلَمْ يَكُنْ ذَكَاةً لَهُ فَلَا يُؤْكَلُ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اجْتَمَعَ عَلَى الصَّيْدِ مُعَلَّمٌ وَغَيْرُ مُعَلَّمٍ أَوْ مُسَمًّى عَلَيْهِ وَغَيْرُ مُسَمًّى أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ لِاجْتِمَاعِ سَبَبَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَلَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا قَتَلَهُ. وَلَوْ أَرْسَلَ مُسْلِمٌ كَلْبَهُ فَاتَّبَعَ الْكَلْبَ كَلْبٌ آخَرُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ لَكِنَّهُ لَمْ يُرْسِلْهُ أَحَدٌ وَلَمْ يَزْجُرْهُ بَعْدَ انْبِعَاثِهِ أَوْ سَبُعٌ مِنْ السِّبَاعِ أَوْ ذُو مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّمَ فَيُصَادُ بِهِ فَرَدَّ الصَّيْدَ عَلَيْهِ وَنَهَشَهُ أَوْ فَعَلَ مَا يَكُونُ مَعُونَةً لِلْكَلْبِ الْمُرْسَلِ فَأَخَذَهُ الْكَلْبُ الْمُرْسَلُ وَقَتَلَهُ لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْكَلْبِ وَنَهْشَهُ مُشَارَكَةٌ فِي الصَّيْدِ فَأَشْبَهَ مُشَارَكَةَ الْمُعَلَّمِ غَيْرَ الْمُعَلَّمِ وَالْمُسَمَّى عَلَيْهِ غَيْرَ الْمُسَمَّى عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا رَدَّ عَلَيْهِ آدَمِيٌّ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ حِمَارٌ أَوْ فَرَسٌ أَوْ ضَبٌّ؛ لِأَنَّ فِعْلَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الِاصْطِيَادِ فَلَا يُزَاحِمُ الِاصْطِيَادَ فِي الْإِبَاحَةُ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَإِنْ تَبِعَ الْكَلْبَ الْأَوَّلَ كَلْبٌ غَيْرُ مُعَلَّمٍ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُهَيَّبْ الصَّيْدَ وَلَكِنَّهُ اشْتَدَّ عَلَيْهِ وَكَانَ الَّذِي أَخَذَ وَقَتَلَ الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ؛ لِأَنَّهُمَا مَا اشْتَرَكَا فِي الِاصْطِيَادِ لِعَدَمِ الْمُعَاوَنَةِ فَيَحِلُّ أَكْلُهُ وَاَللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَلْحَقَ الْمُرْسِلُ أَوْ الرَّامِي الصَّيْدَ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ قَبْلَ التَّوَارِي عَنْ عَيْنِهِ أَوْ قَبْلَ انْقِطَاعِ الطَّلَبِ مِنْهُ إذَا لَمْ يَدْرِك ذَبْحَهُ فَإِنْ تَوَارَى عَنْ عَيْنِهِ وَقَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ ثُمَّ وَجَدَهُ لَمْ يُؤْكَلْ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَوَارَ عَنْهُ أَوْ تَوَارَى لَكِنَّهُ لَمْ يَقْعُدْ عَنْ الطَّلَبِ حَتَّى وَجَدَهُ يُؤْكَلُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الصَّيْدَ مَاتَ مِنْ جِرَاحَةِ كَلْبِهِ أَوْ مِنْ سَهْمِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ بِالشَّكِّ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِالرَّوْحَاءِ عَلَى حِمَارٍ وَحْشٍ عَقِيرٍ فَتَبَادَرَ أَصْحَابُهُ إلَيْهِ فَقَالَ دَعُوهُ فَسَيَأْتِي صَاحِبُهُ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ فِهْرٍ فَقَالَ: هَذِهِ رَمِيَّتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا فِي طَلَبِهَا وَقَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَسَمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ» وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُوجِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فِي الصَّيْدِ فَإِنَّ الْعَادَةَ أَنَّ السَّهْمَ إذَا وَقَعَ بِالصَّيْدِ تَحَامَلَ فَغَابَ وَإِذَا أَصَابَ الْكَلْبَ الْخَوْفُ مِنْهُ غَابَ فَلَوْ اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى انْسِدَادِ بَابِ الصَّيْدِ وَوُقُوعِ الصَّيَّادِينَ فِي الْحَرَجِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْغَيْبَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ الصَّائِدِ تَفْرِيطٌ فِي الطَّلَبِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَالْحَرَجِ وَعِنْدَ قُعُودِهِ عَنْ الطَّلَبِ لَا ضَرُورَةَ فَيُعْمَلُ بِالْقِيَاسِ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَيْدًا فَقَالَ: لَهُ مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا؟ فَقَالَ: رَمْيَتُهُ بِالْأَمْسِ وَكُنْت فِي طَلَبِهِ حَتَّى هَجَمَ عَلَيَّ اللَّيْلُ فَقَطَعَنِي عَنْهُ ثُمَّ وَجَدْتُهُ الْيَوْمَ وَمِزْرَاقِي فِيهِ فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّهُ غَابَ عَنْكَ وَلَا أَدْرِي لَعَلَّ بَعْضَ الْهَوَامِّ أَعَانَكَ عَلَيْهِ لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ» بَيَّنَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْحُكْمَ وَعِلَّةَ الْحُكْمِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ احْتِمَالِ مَوْتِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ إذَا لَمْ يَقْعُدْ عَنْ الطَّلَبِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كُلْ مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْإِصْمَاءُ مَا عَايَنَهُ وَالْإِنْمَاءُ مَا تَوَارَى عَنْهُ، وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْإِصْمَاءُ مَا لَمْ يَتَوَارَ عَنْ بَصَرِكَ وَالْإِنْمَاءُ مَا تَوَارَى عَنْ بَصَرِك إلَّا أَنَّهُ أُقِيمَ الطَّلَبُ مَقَامَ الْبَصَرِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ عِنْدَ عَدَمِ الطَّلَبِ وَلِأَنَّهُ إذَا قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ طَلَبَهُ لَأَدْرَكَهُ حَيًّا فَيَخْرُجُ الْجُرْحُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَكَاةً فَلَا يَحِلُّ بِالشَّكِّ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ حَيًّا فَبَقِيَ الْجُرْحُ ذَكَاةً لَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا

مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الذَّكَاةِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْهَا (فَمِنْهَا) أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ بِالنَّهَارِ وَيُكْرَهُ بِاللَّيْلِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْأَضْحَى لَيْلًا وَعَنْ الْحَصَادِ لَيْلًا» وَهُوَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَمَعْنَى الْكَرَاهَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ اللَّيْلَ وَقْتُ أَمْنٍ وَسُكُونٍ وَرَاحَةٍ فَإِيصَالُ الْأَلَمِ فِي وَقْتِ الرَّاحَةِ يَكُونُ أَشَدَّ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فَيَقْطَعُ يَدَهُ وَلِهَذَا كُرِهَ الْحَصَادُ بِاللَّيْلِ، وَالثَّالِثُ أَنَّ الْعُرُوقَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الذَّبْحِ لَا تَتَبَيَّنُ فِي اللَّيْلِ فَرُبَّمَا لَا يَسْتَوْفِي قَطْعَهَا. (وَمِنْهَا) أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِي الذَّبْحِ حَالَةُ الِاخْتِيَارِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِآلَةٍ حَادَّةٍ مِنْ الْحَدِيدِ كَالسِّكِّينِ وَالسَّيْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيُكْرَهُ بِغَيْرِ الْحَدِيدِ وَبِالْكَلِيلِ مِنْ الْحَدِيدِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي ذَبْحِ الْحَيَوَانِ مَا كَانَ أَسْهَلَ عَلَى الْحَيَوَانِ وَأَقْرَبَ إلَى رَاحَتِهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «وَلْيَشُدَّ قَوَائِمَهُ وَلْيُلْقِهِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ وَلْيُوَجِّهْهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ وَلِيُسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِ» ، وَالذَّبْحُ بِمَا قُلْنَا أَسْهَلُ عَلَى الْحَيَوَانِ وَأَقْرَبُ إلَى رَاحَتْهُ. (وَمِنْهَا) التَّذْفِيفُ فِي قَطْعِ الْأَوْدَاجِ وَيُكْرَهُ الْإِبْطَاءُ فِيهِ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «وَلِيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» وَالْإِسْرَاعُ نَوْعُ رَاحَةٍ لَهُ. (وَمِنْهَا) الذَّبْحُ فِي الشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ وَالنَّحْرُ فِي الْإِبِلِ، وَيُكْرَهُ الْقَلْبُ مِنْ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْحُلْقُومِ وَيُكْرَهُ مِنْ قِبَلِ الْقَفَا لِمَا مَرَّ. (وَمِنْهَا) قَطْعُ الْأَوْدَاجِ كُلِّهَا وَيُكْرَهُ قَطْعُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَاءِ فَوَاتِ حَيَاتِهِ. (وَمِنْهَا) الِاكْتِفَاءُ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ وَلَا يُبْلَغُ بِهِ النُّخَاعَ وَهُوَ الْعِرْقُ الْأَبْيَضُ الَّذِي يَكُونُ فِي عَظْمِ الرَّقَبَةِ، وَلَا يُبَانُ الرَّأْسُ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ إيلَامٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهَا، وَفِي الْحَدِيثِ «أَلَا لَا تَنْخَعُوا الذَّبِيحَةَ» وَالنَّخْعُ الْقَتْلُ الشَّدِيدُ حَتَّى يَبْلُغَ النُّخَاعَ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَالذَّبِيحَةُ مُوَجَّهَةً إلَى الْقِبْلَةِ لِمَا رَوَيْنَا وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا إذَا ذَبَحُوا اسْتَقْبَلُوا الْقِبْلَةَ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا بِالذَّبِيحَةِ الْقِبْلَةَ، وَقَوْلُهُ: " كَانُوا " كِنَايَةً عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ بِذَبَائِحِهِمْ إلَى الْأَوْثَانِ فَتُسْتَحَبُّ مُخَالَفَتُهُمْ فِي ذَلِكَ بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ الَّتِي هِيَ جِهَةُ الرَّغْبَةِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الذَّبْحِ: اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ فُلَانٍ، وَإِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الذَّبْحِ أَوْ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِالذَّبْحِ هَكَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: اُدْعُ بِالتَّقَبُّلِ قَبْلَ الذَّبْحِ إنْ شِئْت أَوْ بَعْدَهُ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَوْطِنَانِ لَا أَذْكُرُ فِيهِمَا عِنْدَ الْعُطَاسِ وَعِنْدَ الذَّبْحِ» ، وَرَوَيْنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَا تَحْرُمُ الذَّبِيحَةُ؛ لِأَنَّهُ مَا ذَكَرَ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِشْرَاكِ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِتَرْكِهِ التَّجْرِيدَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدِهِمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرِ عَنْ أُمَّتِهِ» ؟ . فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ ذَكَرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ نَفْسَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ أُمَّتَهُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ضَحَّى أَحَدَهُمَا وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَنَوَى بِقَلْبِهِ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ وَضَحَّى الْآخَرَ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَنَوَى بِقَلْبِهِ أَنْ يَكُونَ عَنْ أُمَّتِهِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ، وَيُكْرَهُ لَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَبْرُدَ أَنْ يَنْخَعَهَا أَيْضًا وَهُوَ أَنْ يَنْحَرَهَا حَتَّى يَبْلُغَ النُّخَاعَ وَأَنْ يَسْلُخَهَا قَبْلَ أَنْ تَبْرُدَ؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ إيلَامٍ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا، فَإِنْ نَخَعَ أَوْ سَلَخَ قَبْلَ أَنْ تَبْرُدَ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا لِوُجُودِ الذَّبْحِ بِشَرَائِطِهِ، وَيُكْرَهُ جَرُّهَا بِرِجْلِهَا إلَى الْمَذْبَحِ؛ لِأَنَّهُ إلْحَاقُ زِيَادَةِ أَلَمٍ بِهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهَا فِي الذَّكَاةِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ شَاةً لَهُ لِيَذْبَحَهَا سَوْقًا عَنِيفًا فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ ثُمَّ قَالَ لَهُ سُقْهَا إلَى الْمَوْتِ سَوْقًا جَمِيلًا لَا أُمَّ لَكَ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُضْجِعَهَا وَيُحِدَّ الشَّفْرَةَ بَيْنَ يَدَيْهَا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا أَضْجَعَ شَاةً وَهُوَ يُحِدُّ الشَّفْرَةَ وَهِيَ تُلَاحِظُهُ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَوَدِدْت أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ أَلَا حَدَدْتَ الشَّفْرَةَ قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا» . وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا وَقَدْ أَضْجَعَ شَاةً وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صَفْحَةِ وَجْهِهَا وَهُوَ يُحِدُّ الشَّفْرَةَ فَضَرَبَهُ

فصل في بيان ما يحرم أكله من أجزاء الحيوان المأكول

بِالدِّرَّةِ فَهَرَبَ الرَّجُلُ وَشَرَدَتْ الشَّاةُ وَلِأَنَّ الْبَهِيمَةَ تَعْرِفُ الْآلَةَ الْجَارِحَةَ كَمَا تَعْرِفُ الْمَهَالِكَ فَتَتَحَرَّزُ عَنْهَا فَإِذَا أَحَدَّ الشَّفْرَةَ وَقَدْ أَضْجَعَهَا يَزْدَادُ أَلَمُهَا وَهَذَا كُلُّهُ لَا تَحْرُمُ بِهِ الذَّبِيحَةُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي الْمَنْهِيِّ بَلْ لِمَا يَلْحَقُ الْحَيَوَانَ مِنْ زِيَادَةِ أَلَمٍ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فَكَانَ النَّهْيُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ كَالذَّبْحِ بِسِكِّينٍ مَغْصُوبٍ وَالِاصْطِيَادِ بِقَوْسٍ مَغْصُوبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ فَاَلَّذِي يَحْرُمُ أَكْلُهُ مِنْهُ سَبْعَةٌ: الدَّمُ الْمَسْفُوحُ، وَالذَّكَرُ، وَالْأُنْثَيَانِ، وَالْقُبُلُ، وَالْغُدَّةُ، وَالْمَثَانَةُ، وَالْمَرَارَةُ لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ السَّبْعَةُ مِمَّا تَسْتَخْبِثُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ فَكَانَتْ مُحَرَّمَةً. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الشَّاةِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالْقُبُلَ وَالْغُدَّةَ وَالْمَرَارَةَ وَالْمَثَانَةَ وَالدَّمَ فَالْمُرَادُ مِنْهُ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ وَبَيْنَ الدَّمِ فِي الْكَرَاهَةِ، وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ مُحَرَّمٌ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: الدَّمُ حَرَامٌ وَأَكْرَهُ السِّتَّةَ أَطْلَقَ اسْمَ الْحَرَامِ عَلَى الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَسَمَّى مَا سِوَاهُ مَكْرُوهًا؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ الْمُطْلَقَ مَا ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَحُرْمَةُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ قَدْ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَهُوَ النَّصُّ الْمُفَسَّرُ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] إلَى قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] وَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا عَلَى حُرْمَتِهِ فَأَمَّا حُرْمَةُ مَا سِوَاهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ فَمَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ بَلْ بِالِاجْتِهَادِ أَوْ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الْمُحْتَمِلِ لِلتَّأْوِيلِ أَوْ الْحَدِيثِ لِذَلِكَ فَصَلَ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْمِ فَسَمَّى ذَلِكَ حَرَامًا وَذَا مَكْرُوهًا وَاَللَّهُ عَزَّ اسْمُهُ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الِاصْطِيَادِ] [مَا يُبَاحُ اصْطِيَادُهُ وَمَا لَا يُبَاحُ وَمَنْ يُبَاحُ لَهُ الِاصْطِيَادُ وَمَنْ لَا يُبَاحُ لَهُ] (كِتَابُ الِاصْطِيَادِ) قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَالصُّيُودِ مَا يُؤْكَلُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَمَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ مِنْهَا وَمَا يُكْرَهُ، وَالْآنَ نُبَيِّنُ فِي كِتَابِ الِاصْطِيَادِ مَا يُبَاحُ اصْطِيَادُهُ وَمَا لَا يُبَاحُ وَمَنْ يُبَاحُ لَهُ الِاصْطِيَادُ وَمَنْ لَا يُبَاحُ لَهُ فَقَطْ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَيُبَاحُ اصْطِيَادُ مَا فِي الْبَحْرِ وَالْبَرِّ مِمَّا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، غَيْرَ أَنَّ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ يَكُونُ اصْطِيَادُهُ لِلِانْتِفَاعِ بِلَحْمِهِ وَمَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ يَكُونُ اصْطِيَادُهُ لِلِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ وَشَعْرِهِ وَعَظْمِهِ أَوْ لِدَفْعِ أَذِيَّتِهِ إلَّا صَيْدَ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ اصْطِيَادُهُ إلَّا الْمُؤْذِيَ مِنْهُ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] وَقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي صَيْدِ الْحَرَمِ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ «وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ» ، وَخَصَّ مِنْهُ الْمُؤْذِيَاتِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» . وَأَمَّا الثَّانِي فَيُبَاحُ اصْطِيَادُ مَا فِي الْبَحْرِ لِلْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ وَلَا يُبَاحُ اصْطِيَادُ مَا فِي الْبَرِّ لِلْمُحْرِمِ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] إلَى قَوْله تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] وَالْفَصْلُ بَيْنَ صَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَاَللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ الْمُوَفِّقُ [كِتَابُ التَّضْحِيَةِ] [صِفَةُ التَّضْحِيَةِ] (كِتَابُ التَّضْحِيَةِ) يُحْتَاجُ لِمَعْرِفَةِ مَسَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ إلَى بَيَانِ صِفَةِ التَّضْحِيَةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَوْ لَا، وَإِلَى بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً وَإِلَى بَيَانِ وَقْتِ الْوُجُوبِ وَإِلَى بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ وَإِلَى بَيَانِ مَحَلِّ إقَامَةِ الْوَاجِبِ وَإِلَى بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ إقَامَةِ الْوَاجِبِ وَإِلَى بَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْعَلَ قَبْلَ التَّضْحِيَةِ وَعِنْدَهَا وَبَعْدَهَا وَمَا يُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ. أَمَّا صِفَةُ التَّضْحِيَةِ فَالتَّضْحِيَةُ نَوْعَانِ: وَاجِبٌ وَتَطَوُّعٌ؛ وَالْوَاجِبُ مِنْهَا أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا يَجِبُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَمِنْهَا مَا يَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ دُونَ الْغَنِيِّ وَمِنْهَا مَا يَجِبُ عَلَى الْغَنِيِّ دُونَ الْفَقِيرِ أَمَّا الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فَالْمَنْذُورُ بِهِ؛ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ شَاةً أَوْ بَدَنَةً أَوْ هَذِهِ الشَّاةَ أَوْ هَذِهِ الْبَدَنَةَ أَوْ قَالَ: جَعَلْت هَذِهِ الشَّاةَ ضَحِيَّةً أَوْ أُضْحِيَّةً وَهُوَ غَنِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ قُرْبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ مِنْ جِنْسِهَا إيجَابٌ وَهُوَ هَدْيُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْإِحْصَارِ وَفِدَاءُ إسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقِيلَ هَذِهِ الْقُرْبَةُ تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ كَسَائِرِ الْقُرَبِ الَّتِي لِلَّهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ مِنْ جِنْسِهَا إيجَابٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْوُجُوبُ بِسَبَبِ

النَّذْرِ يَسْتَوِي فِيهِ الْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ كَالنَّذْرِ بِالْحَجِّ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ جَمِيعًا. وَأَمَّا الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ دُونَ الْغَنِيِّ فَالْمُشْتَرِي لِلْأُضْحِيَّةِ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي فَقِيرًا بِأَنْ اشْتَرَى فَقِيرٌ شَاةً يَنْوِي أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا تَجِبُ وَهُوَ قَوْلُ الزَّعْفَرَانِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ شَيْءٌ بِالِاتِّفَاقِ (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الْإِيجَابَ مِنْ الْعَبْدِ يَسْتَدْعِي لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَالشِّرَاءُ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ فَلَا يَكُونُ إيجَابًا وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ إيجَابًا مِنْ الْغَنِيِّ. (وَلَنَا) أَنَّ الشِّرَاءَ لِلْأُضْحِيَّةِ مِمَّنْ لَا أُضْحِيَّةَ عَلَيْهِ يَجْرِي مَجْرَى الْإِيجَابِ وَهُوَ النَّذْرُ بِالتَّضْحِيَةِ عُرْفًا؛ لِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَى لِلْأُضْحِيَّةِ مَعَ فَقْرِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُضَحِّي فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: جَعَلْت هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً، بِخِلَافِ الْغَنِيِّ؛ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً فَلَا يَكُونُ شِرَاؤُهُ لِلْأُضْحِيَّةِ إيجَابًا بَلْ يَكُونُ قَصْدًا إلَى تَفْرِيغِ مَا فِي ذِمَّتِهِ وَلَوْ كَانَ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ شَاةٌ فَنَوَى أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا أَوْ اشْتَرَى شَاةً وَلَمْ يَنْوِ الْأُضْحِيَّةَ وَقْتَ الشِّرَاءِ ثُمَّ نَوَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تُقَارِنْ الشِّرَاءَ فَلَا تُعْتَبَرُ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْغَنِيِّ دُونَ الْفَقِيرِ فَمَا يَجِبُ مِنْ غَيْرِ نَذْرٍ وَلَا شِرَاءٍ لِلْأُضْحِيَّةِ بَلْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْحَيَاةِ وَإِحْيَاءً لِمِيرَاثِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ اسْمُهُ بِذَبْحِ الْكَبْشِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فِدَاءً عَنْ وَلَدِهِ وَمَطِيَّةً عَلَى الصِّرَاطِ وَمَغْفِرَةً لِلذُّنُوبِ وَتَكْفِيرًا لِلْخَطَايَا عَلَى مَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا لَا تَجِبُ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَحُجَّةُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ الْوِتْرُ وَالضُّحَى وَالْأَضْحَى» . وَرُوِيَ: «ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَهِيَ لَكُمْ سُنَّةٌ وَذَكَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْأُضْحِيَّةَ» . وَالسُّنَّةُ غَيْرُ الْوَاجِبِ فِي الْعُرْفِ، وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ وَسَيِّدَنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَدْ يَرُوحُ عَلَيَّ أَلْفُ شَاةٍ وَلَا أُضَحِّي بِوَاحِدَةٍ مَخَافَةَ أَنْ يَعْتَقِدَ جَارِي أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَكَانَ لَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ لِأَنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ فِي الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَالِ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ ثُمَّ لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ فَلَا تَجِبُ عَلَى الْمُقِيمِ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: صَلِّ صَلَاةَ الْعِيدِ وَانْحَرْ الْبُدْنَ بَعْدَهَا، وَقِيلَ: صَلِّ الصُّبْحَ بِجَمْعٍ وَانْحَرْ بِمِنًى وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ وَمَتَى وَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ لِأَنَّهُ قُدْوَةٌ لِلْأُمَّةِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] أَيْ ضَعْ يَدَيْكَ عَلَى نَحْرِكَ فِي الصَّلَاةِ، وَقِيل: اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ بِنَحْرِكَ فِي الصَّلَاةِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى لِأَنَّهُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ، وَالْحَمْلُ عَلَى الثَّانِي حَمْلٌ عَلَى التَّكْرَارِ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْيَدِ عَلَى النَّحْرِ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ عِنْدَكُمْ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَمَالُ الصَّلَاةِ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ لَا وُجُودَ لِلصَّلَاةِ شَرْعًا بِدُونِهِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ أَمْرًا بِهِ فَحَمْلُ قَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ " وَانْحَرْ " عَلَيْهِ يَكُونُ تَكْرَارًا وَالْحَمْلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ يَكُونُ حَمْلًا عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ فَكَانَ أَوْلَى. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «ضَحُّوا فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ، - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -» أَمَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالتَّضْحِيَةِ وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عَنْ الْقَرِينَةِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فِي حَقِّ الْعَمَلِ وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ» وَ " عَلَى " كَلِمَةُ إيجَابٍ، ثُمَّ نُسِخَتْ الْعَتِيرَةُ فَثَبَتَتْ الْأَضْحَاةُ وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِ الْأُضْحِيَّةَ، وَلَا وَعِيدَ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ أُضْحِيَّتَهُ وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِسْمِ اللَّهِ» أَمَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِذَبْحِ الْأُضْحِيَّةَ وَإِعَادَتِهَا إذَا ذُبِحَتْ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَلِأَنَّ إرَاقَةَ الدَّمِ قُرْبَةٌ وَالْوُجُوبُ هُوَ الْقُرْبَةُ فِي الْقُرُبَاتِ. (وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ إنَّ الْأُضْحِيَّةَ لَيْسَتْ بِمَكْتُوبَةٍ عَلَيْنَا وَلَكِنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَفَرْقُ مَا بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ كَفَرْقِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَوْلُهُ: " هِيَ لَكُمْ سُنَّةٌ " إنْ ثَبَتَ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ؛ إذْ السُّنَّةُ تُنْبِئُ عَنْ الطَّرِيقَةِ أَوْ السِّيرَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ. (وَأَمَّا) حَدِيثُ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ

فصل في شرائط وجوب في الأضحية

وَسَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ لِعَدَمِ غِنَاهُمَا لَمَّا كَانَ لَا يَفْضُلُ رِزْقُهُمَا الَّذِي كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ عَنْ كِفَايَتِهِمَا، وَالْغِنَى شَرْطُ الْوُجُوبِ فِي هَذَا النَّوْعِ وَقَوْلُ أَبِي مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ مَعَ مَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَخَافَ عَلَى جَارِهِ لَوْ ضَحَّى أَنْ يَعْتَقِدَ وُجُوبَ الْأُضْحِيَّةَ مَعَ قِيَامِ الدَّيْنِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْوُجُوبِ الْفَرْضَ إذْ هُوَ الْوَاجِبُ الْمُطْلَقُ فَخَافَ عَلَى جَارِهِ اعْتِقَادَ الْفَرْضِيَّةِ لَوْ ضَحَّى فَصَانَ اعْتِقَادَهُ بِتَرْكِ الْأُضْحِيَّةَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى مَا قُلْنَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمُسَافِرِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً لَا تُوجَدُ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي بَيَانِ الشَّرَائِطِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاةٍ - وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ - وَهُوَ مُوسِرٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاتَيْنِ عِنْدَنَا؛ شَاةٌ لِأَجْلِ النَّذْرِ وَشَاةٌ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً إلَّا إذَا عَنَى بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا التَّضْحِيَةُ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا التَّضْحِيَةُ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ حَقِيقَتُهَا لِلْإِخْبَارِ فَيَكُونُ إخْبَارًا عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّضْحِيَةُ بِأُخْرَى، وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ جُعِلَتْ إنْشَاءً كَصِيغَةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَكِنَّهَا تَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ فَيُصَدَّقُ فِي حُكْمٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ شَأْنُهُ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَيَّامِ النَّحْرِ يَلْزَمُهُ التَّضْحِيَةُ بِشَاتَيْنِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الصِّيغَةَ لَا تَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ عَنْ الْوَاجِبِ إذْ لَا وُجُوبَ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْوَاجِب - وَلَا وَاجِبَ - يَكُونُ كَذِبًا فَتَعَيَّنَ الْإِنْشَاءُ مُرَادًا بِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ مُعْسِرٌ ثُمَّ أَيْسَرَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ النَّذْرِ أُضْحِيَّةٌ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ فَيُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ الْإِنْشَاءُ فَوَجَبَ عَلَيْهِ أُضْحِيَّةٌ بِنَذْرِهِ وَأُخْرَى بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً لِوُجُودِ شَرْطِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْغِنَى. (وَأَمَّا) التَّطَوُّعُ فَأُضْحِيَّةُ الْمُسَافِرِ وَالْفَقِيرِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ النَّذْرُ بِالتَّضْحِيَةِ وَلَا الشِّرَاءُ لِلْأُضْحِيَّةِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ. [فَصْل فِي شَرَائِطِ وُجُوبِ فِي الْأُضْحِيَّةَ] َ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ؛ فَأَمَّا فِي النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَشَرَائِطُ أَهْلِيَّةِ النَّذْرِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ النَّذْرِ وَأَمَّا فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ فَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فَلَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَبِ، وَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْإِسْلَامِ فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ؛ حَتَّى لَوْ كَانَ كَافِرًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ أَسْلَمَ فِي آخِرِهِ تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ يَفْضُلُ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ فَيَكْفِي فِي وُجُوبِهَا بَقَاءُ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ كَالصَّلَاةِ. وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ فَلَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ أَوْ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِمِلْكِ الْمَالِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةٌ وَلَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ حُرًّا مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ إلَى آخِرِهِ بَلْ يُكْتَفَى بِالْحُرِّيَّةِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ حَتَّى لَوْ أُعْتِقَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَمَلَكَ نِصَابًا تَجِبُ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ لِمَا قُلْنَا فِي شَرْطِ الْإِسْلَامِ. وَمِنْهَا الْإِقَامَةُ فَلَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَأَدَّى بِكُلِّ مَالٍ وَلَا فِي كُلِّ زَمَانٍ بَلْ بِحَيَوَانٍ مَخْصُوصٍ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَالْمُسَافِرُ لَا يَظْفَرُ بِهِ فِي كُلِّ مَكَان فِي وَقْتِ الْأُضْحِيَّةَ فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ لَاحْتَاجَ إلَى حَمْلِهِ مَعَ نَفْسِهِ وَفِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى أَوْ احْتَاجَ إلَى تَرْكِ السَّفَرِ وَفِيهِ ضَرَرٌ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى امْتِنَاعِ الْوُجُوبِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ بَلْ جَمِيعُ الْعُمُرِ وَقْتُهَا فَكَانَ جَمِيعُ الْأَوْقَاتِ وَقْتًا لِأَدَائِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ لِلْحَالِ يُؤَدِّيهَا إذَا وَصَلَ إلَى الْمَالِ، وَكَذَا تَتَأَدَّى بِكُلِّ مَالٍ فَإِيجَابُهَا عَلَيْهِ لَا يُوقِعُهُ فِي الْحَرَجِ، وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ لِأَنَّهَا تَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا كَالزَّكَاةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ تَتَوَقَّفُ بِيَوْمِ الْفِطْرِ لَكِنَّهَا تَتَأَدَّى بِكُلِّ مَالٍ فَلَا يَكُونُ فِي الْوُجُوبِ عَلَيْهِ حَرَجٌ وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ: وَلَا تَجِبُ الْأُضْحِيَّةُ عَلَى الْحَاجِّ؛ وَأَرَادَ بِالْحَاجِّ الْمُسَافِرَ فَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ فَتَجِبُ عَلَيْهِمْ الْأُضْحِيَّةُ وَإِنْ حَجُّوا؛ لِمَا رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَخْلُفُ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ مِنْ أَهْلِهِ أَثْمَانَ الضَّحَايَا لِيُضَحُّوا عَنْهُ تَطَوُّعًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لِيُضَحُّوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ لَا عَنْهُ فَلَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ مَعَ الِاحْتِمَالِ. وَلَا تُشْتَرَطُ الْإِقَامَةُ فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُسَافِرًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ أَقَامَ فِي آخِرِهِ تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِي شَرْطِ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَلَوْ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ سَافَرَ فِي آخِرِهِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا هَذَا إذَا سَافَرَ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ أُضْحِيَّةً؛ فَإِنْ اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ ثُمَّ سَافَرَ ذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى أَنَّ لَهُ بَيْعَهَا وَلَا يُضَحِّي بِهَا، وَهَكَذَا

رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَبِيعُهَا، مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ فَقَالَ: إنْ كَانَ مُوسِرًا فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ بِهَذَا الشِّرَاءِ شَيْئًا عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ إسْقَاطَ الْوَاجِبِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِذَا سَافَرَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا وُجُوبَ عَلَيْهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي الْعِبَادَةِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا عَلَيْهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ وَلَا تَسْقُطَ عَنْهُ بِالسَّفَرِ؛ لِأَنَّ هَذَا إيجَابٌ مِنْ الْفَقِيرِ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ فَلَا يَسْقُطُ بِالسَّفَرِ؛ كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ وَالْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ، كَذَا هَهُنَا وَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا. وَمِنْهَا الْغِنَى لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلْيُضَحِّ» شَرَطَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - السَّعَةَ وَهِيَ الْغِنَى وَلِأَنَّا أَوْجَبْنَاهَا بِمُطْلَقِ الْمَالِ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَسْتَغْرِقَ الْوَاجِبُ جَمِيعَ مَالِهِ فَيُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْغِنَى وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرُونَ دِينَارًا أَوْ شَيْءٌ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ ذَلِكَ سِوَى مَسْكَنِهِ وَمَا يَتَأَثَّثُ بِهِ وَكِسْوَتِهِ وَخَادِمِهِ وَفَرَسِهِ وَسِلَاحِهِ وَمَا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ وَهُوَ نِصَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِحَيْثُ لَوْ صَرَفَ إلَيْهِ بَعْضَ نِصَابِهِ لَا يَنْقُصُ نِصَابُهُ لَا تَجِبُ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَلَأَنْ يَمْنَعَ وُجُوبَ الْأُضْحِيَّةَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ فَرْضٌ وَالْأُضْحِيَّةَ وَاجِبَةٌ وَالْفَرْضُ فَوْقَ الْوَاجِبِ. وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ غَائِبٌ لَا يَصِلُ إلَيْهِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ وَقْتَ غَيْبَةِ الْمَالِ حَتَّى تَحِلَّ لَهُ الصَّدَقَةُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعُمُرِ وَقْتُ الزَّكَاةِ وَهَذِهِ قُرْبَةٌ مُوَقَّتَةٌ فَيُعْتَبَرُ الْغِنَى فِي وَقْتِهَا وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ حَتَّى لَوْ كَانَ فَقِيرًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ أَيْسَرَ فِي آخِرِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَزَكَّاهَا بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ ثُمَّ حَضَرَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ وَمَالُهُ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ لَا رِوَايَةَ فِيهِ، وَذَكَرَ الزَّعْفَرَانِيُّ أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ لِأَنَّ النِّصَابَ وَإِنْ انْتَقَصَ لَكِنَّهُ انْتَقَصَ بِالصَّرْفِ إلَى جِهَةٍ هِيَ قُرْبَةٌ فَيُجْعَلُ قَائِمًا تَقْدِيرًا حَتَّى لَوْ صَرَفَ خَمْسَةً مِنْهَا إلَى النَّفَقَةِ لَا تَجِبُ لِانْعِدَامِ الصَّرْفِ إلَى جِهَةِ الْقُرْبَةِ فَكَانَ النِّصَابُ نَاقِصًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَلَا يَجِبُ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمُوسِرُ شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَضَاعَتْ حَتَّى انْتَقَصَ نِصَابُهُ وَصَارَ فَقِيرًا فَجَاءَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ شَاةً أُخْرَى لِأَنَّ النِّصَابَ نَاقِصٌ وَقْتَ الْوُجُوبِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْغِنَى، فَلَوْ أَنَّهُ وَجَدَهَا وَهُوَ مُعْسِرٌ - وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ - فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا لِأَنَّهُ مُعْسِرٌ وَقْتَ الْوُجُوبِ وَلَوْ ضَاعَتْ ثُمَّ اشْتَرَى أُخْرَى وَهُوَ مُوسِرٌ فَضَحَّى بِهَا ثُمَّ وَجَدَ الْأُولَى وَهُوَ مُعْسِرٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ لِمَا قُلْنَا. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الشُّرُوطِ يَسْتَوِي فِيهَا الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ لَا تَفْصِلُ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ فَلَيْسَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ هُمَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ حَتَّى تَجِبُ الْأُضْحِيَّةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إذَا كَانَا مُوسِرَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَتَّى لَوْ ضَحَّى الْأَبُ أَوْ الصَّبِيُّ مِنْ مَالِهِمَا لَا يُضْمَنُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُضْمَنُ، وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحَجِّ ذُكِرَتْ هُنَالِكَ، وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ قَالَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْأُضْحِيَّةَ أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي مَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ فِي الْأُضْحِيَّةَ هِيَ إرَاقَةُ الدَّمِ وَأَنَّهَا إتْلَافٌ وَلَا سَبِيلَ إلَى إتْلَافِ مَالِ الصَّغِيرِ، وَالتَّصَدُّقُ بِاللَّحْمِ تَطَوُّعٌ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي مَالِ الصَّغِيرِ، وَالصَّغِيرُ فِي الْعَادَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ جَمِيعَ اللَّحْمِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا سَبِيلَ لِلْوُجُوبِ رَأْسًا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَتَجِبُ الْأُضْحِيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِاللَّحْمِ لِمَا قُلْنَا لَكِنْ يَأْكُلُ مِنْهَا الصَّغِيرُ وَيَدَّخِرُ لَهُ قَدْرَ حَاجَتِهِ وَيَبْتَاعُ بِالْبَاقِي مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ كَابْتِيَاعِ الْبَالِغِ بِجِلْدِ الْأُضْحِيَّةَ مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ. وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ يُعْتَبَرُ حَالُهُ فِي الْجُنُونِ وَالْإِفَاقَةِ؛ فَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَإِنْ كَانَ مُفِيقًا يَجِبُ بِلَا خِلَافٍ، وَقِيلَ إنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ كَيْفَمَا كَانَ، مَنْ بَلَغَ مِنْ الصِّغَارِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ وَهُوَ مُوسِرٌ يَجِبُ عَلَيْهِ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ مِنْ الْحُرِّ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَا فِي أَوَّلِهِ، كَمَا لَا يُشْتَرَطُ إسْلَامُهُ وَحُرِّيَّتُهُ وَإِقَامَتُهُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لِمَا بَيَّنَّا. وَلَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ عَبْدِهِ وَلَا عَنْ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ وَفِي وُجُوبِهَا عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ رِوَايَتَانِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَأَطْلَقَ

فصل في وقت وجوب الأضحية

الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْوُجُوبِ أَنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ جُزْؤُهُ فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ نَفْسِهِ فَكَذَا عَنْ وَلَدِهِ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ، وَلِأَنَّ لَهُ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ وِلَايَةً كَامِلَةً فَيَجِبُ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ بِخِلَافِ الْكَبِيرِ فَإِنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْإِنْسَانِ شَيْءٌ عَلَى غَيْرِهِ خُصُوصًا فِي الْقُرُبَاتِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 286] وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ عَنْ عَبْدِهِ وَعَنْ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ، إلَّا أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ خُصَّتْ عَنْ النُّصُوصِ فَبَقِيَتْ الْأُضْحِيَّةَ عَلَى عُمُومِهَا وَلِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُنَاكَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وَقَدْ وُجِدَ فِي الْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَلَيْسَ السَّبَبُ الرَّأْسَ هَهُنَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ بِدُونِهِ وَكَذَا لَا يَجِبُ بِسَبَبِ الْعَبْدِ. وَأَمَّا الْوُجُوبُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ لِوَلَدِ وَلَدِهِ إذَا كَانَ أَبُوهُ مَيِّتًا فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهُ، قَالَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ كَمَا قَالُوا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَقَدْ مَرَّ وَجْهُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَأَمَّا الْمِصْرُ فَلَيْسَ بِشَرْطِ الْوُجُوبِ فَتَجِبُ عَلَى الْمُقِيمِينَ فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى وَالْبَوَادِي؛ لِأَنَّ دَلَائِلَ الْوُجُوبِ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي وَقْتُ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ] فَصْلٌ وَأَمَّا وَقْتُ الْوُجُوبِ فَأَيَّامُ النَّحْرِ فَلَا تَجِبُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَاتِ الْمُؤَقَّتَةَ لَا تَجِبُ قَبْلَ أَوْقَاتِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا، وَأَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ: يَوْمُ الْأَضْحَى - وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ - وَالْحَادِيَ عَشَرَ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ وَذَلِكَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ الثَّانِي عَشَرَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَيَّامُ النَّحْرِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ؛ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَالْحَادِيَ عَشَرَ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَوَّلُهَا أَفْضَلُهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ أَوْقَاتَ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالسَّمْعِ فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَقَدْ دَخَلَ وَقْتُ الْوُجُوبِ فَتَجِبُ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، ثُمَّ لِجَوَازِ الْأَدَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ شَرَائِطُ أُخَرُ نَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ وُجِدَتْ يَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا، كَمَا تَجِبُ الصَّلَاةُ بِدُخُولِ وَقْتِهَا ثُمَّ إنْ وُجِدَتْ شَرَائِطُ جَوَازِ أَدَائِهَا جَازَتْ وَإِلَّا فَلَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي أَنْوَاعِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ. (مِنْهَا) أَنَّهَا تَجِبُ فِي وَقْتِهَا وُجُوبًا مُوَسَّعًا؛ وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا تَجِبُ فِي جُمْلَةِ الْوَقْتِ غَيْرَ عَيْنٍ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا فَفِي أَيِّ وَقْتٍ ضَحَّى مَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ سَوَاءٌ كَانَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ كَالصَّلَاةِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا وَجَبَ فِي جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ غَيْرَ عَيْنٍ يَتَعَيَّنُ الْجُزْءُ الَّذِي أَدَّى فِيهِ الْوُجُوبَ أَوْ آخِرِ الْوَقْتِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْأَقَاوِيلِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ صَارَ أَهْلًا فِي آخِرِهِ بِأَنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا أَوْ فَقِيرًا أَوْ مُسَافِرًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ أُعْتِقَ أَوْ أَيْسَرَ أَوْ أَقَامَ فِي آخِرِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ أَهْلًا فِي أَوَّلِهِ ثُمَّ لَمْ يَبْقَ أَهْلًا فِي آخِرِهِ بِأَنْ ارْتَدَّ أَوْ أَعْسَرَ أَوْ سَافَرَ فِي آخِرِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَوْ ضَحَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَهُوَ فَقِيرٌ ثُمَّ أَيْسَرَ فِي آخِر الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْأُضْحِيَّةَ عِنْدَنَا، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَيْسَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ. وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَيْسَرَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ تَعَيَّنَ آخِرَ الْوَقْتِ لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا أَدَّاهُ وَهُوَ فَقِيرٌ كَانَ تَطَوُّعًا فَلَا يَنُوبُ عَنْ الْوَاجِبِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ الْكَرْخِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَنَّهَا نَفْلٌ مَانِعٌ مِنْ الْوُجُوبِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَاسِدٌ عُرِفَ فَسَادُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَلَوْ كَانَ مُوسِرًا فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ فَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ ثُمَّ صَارَ فَقِيرًا صَارَ قِيمَةُ شَاةٍ صَالِحَةٍ لِلْأُضْحِيَّةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ يَتَصَدَّقُ بِهَا مَتَى وَجَدَهَا؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ تَأَكَّدَ عَلَيْهِ بِآخِرِ الْوَقْتِ فَلَا يَسْقُطُ بِفَقْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ كَالْمُقِيمِ إذَا مَضَى عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى سَافَرَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَطْرُ الصَّلَاةِ؛ وَكَالْمَرْأَةِ إذَا مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ وَهِيَ طَاهِرَةٌ ثُمَّ حَاضَتْ لَا يَسْقُطُ عَنْهَا فَرْضُ الْوَقْتِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ إذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا، كَذَا هَهُنَا وَلَوْ مَاتَ الْمُوسِرُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يُضَحِّيَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْأُضْحِيَّةُ وَفِي الْحَقِيقَةِ لَمْ تَجِبْ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَوْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ؛ كَمَنْ مَاتَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ

يُصَلِّيَهَا أَنَّهُ مَاتَ وَلَا صَلَاةَ عَلَيْهِ، كَذَا هَهُنَا. وَعَلَى هَذَا تُخْرِجُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الرَّجُلَ الْمُوسِرَ إذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فِي آخِرِ أَيَّامِ النَّحْرِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَ عَنْهُ، وَهِيَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ إذَا كَانَ مُوسِرًا أَنْ يَذْبَحَ عَنْ نَفْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَ عَنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ وَقْتَ تَأَكُّدِ الْوُجُوبِ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ أَنَّهُ إذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ صَدَقَةُ فِطْرِهِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُنَاكَ تَعَلَّقَ بِأَوَّلِ الْيَوْمِ فَلَا يَجِبُ بَعْدَ مُضِيِّ جُزْءٍ مِنْهُ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ وَهُوَ مُوسِرٌ، ثُمَّ إنَّهَا مَاتَتْ أَوْ سُرِقَتْ أَوْ ضَلَّتْ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي جُمْلَةِ الْوَقْتِ وَالْمُشْتَرَى لَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْوُجُوبِ وَالْوَقْتُ بَاقٍ - وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ - فَيَجِبُ إلَّا إذَا كَانَ عَيَّنَهَا بِالنَّذْرِ بِأَنْ قَالَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ بِهَذِهِ الشَّاةِ - وَهُوَ مُوسِرٌ أَوْ مُعْسِرٌ - فَهَلَكَتْ أَوْ ضَاعَتْ أَنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ التَّضْحِيَةُ بِسَبَبِ النَّذْرِ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ بِهِ مُعَيَّنٌ لِإِقَامَةِ الْوَاجِبِ فَيَسْقُطُ الْوَاجِبُ بِهَلَاكِهِ؛ كَالزَّكَاةِ تَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ عِنْدَنَا غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ النَّاذِرُ مُوسِرًا تَلْزَمُهُ شَاةٌ أُخْرَى بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً لَا بِالنَّذْرِ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَاشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَهَلَكَتْ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ أَوْ ضَاعَتْ سَقَطَتْ عَنْهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشِّرَاءَ مِنْ الْفَقِيرِ لِلْأُضْحِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ فَإِذَا هَلَكَتْ فَقَدْ هَلَكَ مَحَلُّ إقَامَةِ الْوَاجِبِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً لِفَقْدِ شَرْطِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْيَسَارُ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمُوسِرُ شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَضَلَّتْ فَاشْتَرَى شَاةً أُخْرَى لِيُضَحِّيَ بِهَا ثُمَّ وَجَدَ الْأُولَى فِي الْوَقْتِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهِمَا؛ فَإِنْ ضَحَّى بِالْأُولَى أَجْزَأهُ وَلَا تَلْزَمُهُ التَّضْحِيَةُ بِالْأُخْرَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ؛ سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَةُ الْأُولَى أَكْثَرَ مِنْ الثَّانِيَةِ أَوْ أَقَلَّ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا سَاقَتْ هَدْيًا فَضَاعَ فَاشْتَرَتْ مَكَانَهُ آخَرَ ثُمَّ وَجَدَتْ الْأَوَّلَ فَنَحَرَتْهُمَا ثُمَّ قَالَتْ: " الْأَوَّلُ كَانَ يُجْزِئُ عَنِّي " فَثَبَتَ الْجَوَاز بِقَوْلِهَا وَالْفَضِيلَةُ بِفِعْلِهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّتِهِ لَيْسَ إلَّا التَّضْحِيَةُ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ ضَحَّى، وَإِنْ ضَحَّى بِالثَّانِيَةِ أَجْزَأَهُ وَسَقَطَتْ عَنْهُ الْأُضْحِيَّةُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِالْأُولَى؛ لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ بِهَا لَمْ تَجِبْ بِالشِّرَاءِ بَلْ كَانَتْ الْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةً فِي ذِمَّتِهِ بِمُطْلَقِ الشَّاةِ فَإِذَا ضَحَّى بِالثَّانِيَةِ فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ بِهَا، بِخِلَافِ الْمُتَنَفِّلِ بِالْأُضْحِيَّةِ إذَا ضَحَّى بِالثَّانِيَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّضْحِيَةُ بِالْأُولَى أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّضْحِيَةُ بِالْأُولَى أَيْضًا بِعَيْنِهَا فَلَا يَسْقُطُ بِالثَّانِيَةِ بِخِلَافِ الْمُوسِرِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّضْحِيَةُ بِالشَّاةِ الْمُشْتَرَاةِ بِعَيْنِهَا وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ - وَقَدْ أَدَّاهُ بِالثَّانِيَةِ - فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ التَّضْحِيَةُ بِالْأُولَى. وَسَوَاءٌ كَانَتْ الثَّانِيَةُ مِثْلَ الْأُولَى فِي الْقِيمَةِ أَوْ فَوْقَهَا أَوْ دُونَهَا لِمَا قُلْنَا، غَيْرَ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ دُونَهَا فِي الْقِيمَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِفَضْلِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَتْ لَهُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ سَالِمَةً مِنْ الْأُضْحِيَّةَ فَصَارَ كَاللَّبَنِ وَنَحْوِهِ وَلَوْ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ وَلَكِنَّهُ ضَحَّى بِالْأُولَى أَيْضًا - وَهُوَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ - أَجْزَأَهُ وَسَقَطَتْ عَنْهُ الصَّدَقَةُ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ إنَّمَا تَجِب خَلَفًا عَنْ فَوَاتِ شَيْءٍ مِنْ شَاةِ الْأُضْحِيَّةَ فَإِذَا أَدَّى الْأَصْلَ فِي وَقْتِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْخَلَفُ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ لَا تُجْزِيهِ التَّضْحِيَةُ إلَّا بِالْأُولَى؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْأُضْحِيَّةَ كَالْوَقْفِ وَلَوْ لَمْ يَذْبَحْ الثَّانِيَةَ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ ثُمَّ وَجَدَ الْأُولَى ذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي الْأَضَاحِيّ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِأَفْضَلِهِمَا وَلَا يَذْبَحَ وَذَكَرَ فِيهَا أَنَّهُ قَوْلُ زُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ إلَّا التَّضْحِيَةُ بِشَاةٍ، فَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ تَحَوَّلَ الْوَاجِبُ مِنْ الْإِرَاقَةِ إلَى التَّصَدُّقِ بِالْعَيْنِ. وَلَوْ اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ وَهُوَ مُعْسِرٌ أَوْ كَانَ مُوسِرًا فَانْتَقَصَ نِصَابُهُ بِشِرَاءِ الشَّاةِ ثُمَّ ضَلَّتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ؛ أَمَّا الْمُوسِرُ فَلِفَوَاتِ شَرْطِ الْوُجُوبِ وَقْتَ الْوُجُوبِ وَأَمَّا الْمُعْسِرُ فَلِهَلَاكِ مَحَلِّ إقَامَةِ الْوَاجِبِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَقُومَ غَيْرُهَا مَقَامَهَا حَتَّى لَوْ تَصَدَّقَ بِعَيْنِ الشَّاةِ أَوْ قِيمَتِهَا فِي الْوَقْتِ لَا يَجْزِيهِ عَنْ الْأُضْحِيَّةَ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ تَعَلَّقَ بِالْإِرَاقَةِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْوُجُوبَ إذَا تَعَلَّقَ بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ أَنَّهُ لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَدَاءُ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ، وَلَوْ أَدَّى مِنْ مَالِ آخَرَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ النِّصَابِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، بَلْ الْوَاجِبُ مُطْلَقُ الْمَالِ وَقَدْ أُدِّيَ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ أَدَاءَ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ لَكِنْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى وُجُوبِ

الزَّكَاةِ عَلَى التَّيْسِيرِ، وَالتَّيْسِيرُ فِي الْوُجُوبِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ الْعَيْنُ وَالصُّورَةُ، وَهَهُنَا الْوَاجِبُ فِي الْوَقْتِ إرَاقَةُ الدَّمِ، شَرْعًا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَيَقْتَصِرُ الْوُجُوبُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ، وَبِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ أَنَّهَا تَتَأَدَّى بِالْقِيمَةِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ مَعْلُولٌ بِمَعْنَى الْإِغْنَاءِ؛ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ» وَالْإِغْنَاءُ يَحْصُلُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنَّهُ تُجْزِئُ فِيهَا النِّيَابَةُ فَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُضَحِّيَ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ؛ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ فَتُجْزِئُ فِيهَا النِّيَابَةُ كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُبَاشَرَةِ الذَّبْحِ بِنَفْسِهِ خُصُوصًا النِّسَاءَ، فَلَوْ لَمْ تَجُزْ الِاسْتِنَابَةُ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَأْذُونُ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا، حَتَّى لَوْ أَمَرَ مُسْلِمٌ كِتَابِيًّا أَنْ يَذْبَحَ أُضْحِيَّتَهُ يَجْزِيهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابِيَّ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ قُرْبَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ لِنَفْسِهِ فَتُكْرَهُ إنَابَتُهُ فِي إقَامَةِ الْقُرْبَةِ لِغَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِذْنُ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً؛ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَجَاءَ يَوْمُ النَّحْرِ فَأَضْجَعَهَا وَشَدَّ قَوَائِمَهَا فَجَاءَ إنْسَانٌ وَذَبَحَهَا مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَأَنْ يَضْمَنَ الذَّابِحُ قِيمَتَهَا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجْزِيهِ عَنْ الْأُضْحِيَّةَ وَيَضْمَنُ الذَّابِحُ، أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ زُفَرَ فَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَا يَجْزِي عَنْ صَاحِبِهَا وَيَضْمَنُ الذَّابِحُ؛ كَمَا لَوْ غَصَبَ شَاةً وَذَبَحَهَا، وَهُوَ وَجْهُ الشَّافِعِيِّ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الذَّابِحِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهَا لِلذَّبْحِ وَعَيَّنَهَا لِذَلِكَ فَإِذَا ذَبَحَهَا غَيْرُهُ فَقَدْ حَصَلَ غَرَضُهُ وَأَسْقَطَ عَنْهُ مُؤْنَةَ الذَّبْحِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ رَضِيَ بِذَلِكَ فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ دَلَالَةً فَلَا يَضْمَنُ وَيُجْزِيهِ عَنْ الْأُضْحِيَّةَ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ بِذَلِكَ نَصًّا، وَبِهِ تَبَيَّنَ وَهِيَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُجْزِيهِ عَنْ الْأُضْحِيَّةَ وَيَضْمَنُ الذَّابِحُ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الذَّبْحِ مَأْذُونًا فِيهِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ؛ كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَى الْإِذْنِ؛ وَكَمَا لَوْ بَاعَهَا بِإِذْنِ صَاحِبِهَا وَلَوْ لَمْ يَرْضَ بِهِ وَأَرَادَ الضَّمَانَ يَقَعُ عَنْ الْمُضَحِّي، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُضَحِّيَ مَا وُكِّلَ بِشِرَائِهِ بِغَيْرِ أَمْرِ مُوَكِّلِهِ؛ ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْإِمْلَاءِ. فَإِنْ ضَحَّى جَازَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى ذَلِكَ فَوَجَدَ الْإِذْنَ مِنْهُ دَلَالَةً إلَّا أَنْ يَخْتَارَ أَنْ يَضْمَنَهُ فَلَا يَجْزِي عَنْهُ، وَعَلَى هَذَا إذَا غَلِطَ رَجُلَانِ فَذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّةَ صَاحِبِهِ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يُجْزِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّتَهُ عَنْهُ اسْتِحْسَانًا وَيَأْخُذُهَا مِنْ الذَّابِحِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ رَاضِيًا بِفِعْلِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ مَأْذُونًا فِيهِ دَلَالَةً فَيَقَعُ الذَّبْحُ عَنْهُ، وَنِيَّةُ صَاحِبِهِ تَقَعُ لَغْوًا حَتَّى لَوْ تَشَاحَّا وَأَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الضَّمَانَ تَقَعُ الْأُضْحِيَّةُ لَهُ وَجَازَتْ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي الشَّاةِ الْمَغْصُوبَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي نَوَادِرِهِ فِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَيَا أُضْحِيَتَيْنِ فَذَبَحَ كُلٌّ مِنْهُمَا أُضْحِيَّةَ صَاحِبِهِ غَلَطًا عَنْ نَفْسِهِ وَأَكَلَهَا قَالَ: يُجْزِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَوْلِنَا، وَيُحَلِّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِنْ تَشَاحَّا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ قِيمَةَ شَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ انْقَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ يَتَصَدَّقْ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ، أَمَّا جَوَازُ إحْلَالِهِمَا فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُطْعِمَهَا لِصَاحِبِهِ ابْتِدَاءً قَبْلَ الْأَكْلِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُحَلِّلَهُ بَعْدَ الْأَكْلِ، وَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ الْأُضْحِيَّةَ يَضْمَنُ وَيَتَصَدَّقُ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلٌ عَنْ اللَّحْمِ فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ. قَالَ: وَسَأَلْت أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ الْبَقَرَةِ إذَا ذَبَحَهَا سَبْعَةٌ فِي الْأُضْحِيَّةَ أَيَقْتَسِمُونَ لَحْمَهَا جُزَافًا أَوْ وَزْنًا؟ قَالَ: بَلْ وَزْنًا، قَالَ: قُلْت فَإِنْ اقْتَسَمُوهَا مُجَازَفَةً وَحَلَّلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؟ قَالَ: أَكْرَهُ ذَلِكَ، قَالَ: قُلْت فَمَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ فَرَجَحَ أَحَدُهُمَا فَحَلَّلَ صَاحِبُهُ الرُّجْحَانَ؟ قَالَ: هَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْسَمُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَهُوَ الدِّرْهَمُ الصَّحِيحُ، أَمَّا عَدَمُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ مُجَازَفَةً فَلِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَاللَّحْمُ مِنْ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ تَمْلِيكُهُ مُجَازَفَةً كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ وَأَمَّا عَدَمُ جَوَازِ التَّحْلِيلِ فَلِأَنَّ الرِّبَوِيَّ لَا يَحْتَمِلُ الْحِلَّ بِالتَّحْلِيلِ وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْهِبَةِ، وَهِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا تَصِحُّ بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَحَ الْوَزْنُ. (وَمِنْهَا) أَنَّهَا تُقْضَى إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْقَضَاءِ فِي الْجُمْلَةِ وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا تُقْضَى بِهِ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ وُجُوبَهَا فِي الْوَقْتِ إمَّا لِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ أَوْ لِحَقِّ شُكْرِ النِّعْمَةِ أَوْ لِتَكْفِيرِ الْخَطَايَا؛ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ إنَّمَا تَجِبُ لِهَذِهِ الْمَعَانِي وَهَذَا لَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ فَكَانَ الْأَصْلُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَعَلَى الدَّوَامِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، إلَّا

أَنَّ الْأَدَاءَ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ أُقِيمَ مَقَامَ الْأَدَاءِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَرَحْمَةً، كَمَا أُقِيمَ صَوْمُ شَهْرٍ فِي السَّنَةِ مَقَامَ جَمِيعِ السَّنَةِ، وَأُقِيمَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَقَامَ الصَّلَاةِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ فِي الْوَقْتِ بَقِيَ الْوُجُوبُ فِي غَيْرِهِ لِقِيَامِ الْمَعْنَى الَّذِي لَهُ وَجَبَتْ فِي الْوَقْتِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَنَقُولُ إنَّهَا لَا تُقْضَى بِالْإِرَاقَةِ؛ لِأَنَّ الْإِرَاقَةَ لَا تُعْقَلُ قُرْبَةً وَإِنَّمَا جُعِلَتْ قُرْبَةً بِالشَّرْعِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ فَاقْتَصَرَ كَوْنُهَا قُرْبَةً عَلَى الْوَقْتِ الْمَخْصُوصِ فَلَا تُقْضَى بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، ثُمَّ قَضَاؤُهَا قَدْ يَكُونُ بِالتَّصَدُّقِ بِعَيْنِ الشَّاةِ حَيَّةً وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّصَدُّقِ بِقِيمَةِ الشَّاةِ؛ فَإِنْ كَانَ أَوْجَبَ التَّضْحِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ بِشَاةٍ بِعَيْنِهَا فَلَمْ يُضَحِّهَا حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ يَتَصَدَّقْ بِعَيْنِهَا حَيَّةً؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَمْوَالِ التَّقَرُّبُ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا لَا بِالْإِتْلَافِ وَهُوَ الْإِرَاقَةُ إلَّا أَنَّهُ نُقِلَ إلَى الْإِرَاقَةِ مُقَيَّدًا فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ حَتَّى يَحِلَّ تَنَاوُلُ لَحْمِهِ لِلْمَالِكِ وَالْأَجْنَبِيِّ وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ؛ لِكَوْنِ النَّاسِ أَضْيَافَ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ عَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ التَّصَدُّقُ بِعَيْنِ الشَّاةِ سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا لِمَا قُلْنَا. وَكَذَلِكَ الْمُعْسِرُ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِيُضَحِّيَ بِهَا فَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لِلْأُضْحِيَّةِ مِنْ الْفَقِيرِ كَالنَّذْرِ بِالتَّضْحِيَةِ وَأَمَّا الْمُوسِرُ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ هَذَا الْجَوَابُ فِي الْمُعْسِرِ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ الْمُشْتَرَاةَ لِلْأُضْحِيَّةِ مِنْ الْمُعْسِرِ تَتَعَيَّنُ لِلْأُضْحِيَّةِ؛ فَأَمَّا مِنْ الْمُوسِرِ فَلَا تَتَعَيَّنُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّضْحِيَةُ بِشَاةٍ أُخْرَى فِي الْوَقْتِ مَعَ بَقَاءِ الْأُولَى وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْأُضْحِيَّةُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ مِنْ الْمُوسِرِ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ عَقِيبَ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَوْلُنَا. (وَوَجْهُهُ) أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ قَارَنَتْ الْفِعْلَ وَهُوَ الشِّرَاءُ فَأَوْجَبَتْ تَعْيِينَ الْمُشْتَرِي لِلْأُضْحِيَّةِ، إلَّا أَنَّ تَعْيِينَهُ لِلْأُضْحِيَّةِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّضْحِيَةِ بِغَيْرِهَا كَتَعْيِينِ النِّصَابِ لِأَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْأَدَاءِ بِغَيْرِهِ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُتَعَيَّنَ لَا يُزَاحِمُهُ غَيْرُهُ، فَإِذَا ضَحَّى بِغَيْرِهِ أَوْ أَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ لَمْ يَبْقَ الْأَوَّلُ مُتَعَيَّنًا، فَكَانَتْ الشَّاةُ مُتَعَيَّنَةٌ لِلتَّضْحِيَةِ مَا لَمْ يُضَحِّ بِغَيْرِهَا كَالزَّكَاةِ. وَإِنْ كَانَ لَمْ يُوجِبْ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا اشْتَرَى وَهُوَ مُوسِرٌ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ تَصَدَّقَ بِقِيمَةِ شَاةٍ تَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَّةَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُوجِبْ وَلَمْ يَشْتَرِ لَمْ يَتَعَيَّنْ شَيْءٌ لِلْأُضْحِيَّةِ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ إرَاقَةُ دَمِ شَاةٍ فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ - وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّقَرُّبِ بِالْإِرَاقَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لِمَا قُلْنَا - انْتَقَلَ الْوَاجِبُ مِنْ الْإِرَاقَةِ وَالْعَيْنِ أَيْضًا لِعَدَمِ التَّعْيِينِ إلَى الْقِيمَةِ وَهُوَ قِيمَةُ شَاةٍ يَجُوزُ ذَبْحُهَا فِي الْأُضْحِيَّةَ وَلَوْ صَارَ فَقِيرًا بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ التَّصَدُّقُ بِعَيْنِ الشَّاةِ أَوْ بِقِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا مَضَى الْوَقْتُ صَارَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ لِفَقْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِعَيْنِ الشَّاةِ فَلَمْ يَتَصَدَّقْ وَلَكِنْ ذَبَحَهَا يَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهَا وَيُجْزِيهِ ذَلِكَ إنْ لَمْ يُنْقِصْهَا الذَّبْحُ وَإِنْ نَقَصَهَا يَتَصَدَّقْ بِاللَّحْمِ وَقِيمَةِ النُّقْصَانِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَإِنْ أَكَلَ مِنْهَا شَيْئًا غَرِمَ قِيمَتَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا لِمَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا لَا يَأْكُلُ مِنْهَا إذَا ذَبَحَهَا بَعْدَ وَقْتِهَا أَوْ فِي وَقْتِهَا فَهُوَ سَوَاءٌ. وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ فَلَمْ يُضَحِّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِأَنْ يُتَصَدَّقَ عَنْهُ بِقِيمَةِ شَاةٍ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَضَى الْوَقْتُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِقِيمَةِ شَاةٍ فَيَحْتَاجُ إلَى تَخْلِيصِ نَفْسِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ، وَالْوَصِيَّةُ طَرِيقُ التَّخْلِيصِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُضَحَّى عَنْهُ وَلَمْ يُسَمِّ شَاةً وَلَا بَقَرَةً وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الثَّمَنَ أَيْضًا جَازَ وَيَقَعُ عَلَى الشَّاةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَ رَجُلًا أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهُ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا وَلَا ثَمَنًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَحْتَمِلُ مِنْ الْجَهَالَةِ شَيْئًا لَا تَحْتَمِلُهُ الْوَكَالَةُ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَجْهُولِ وَلِلْمَجْهُولِ تَصِحُّ وَلَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ. وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَاةً بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَيُضَحِّيَ عَنْهُ إنْ مَاتَ فَمَاتَ - وَثُلُثُهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ يُضَحِّي عَنْهُ بِمَا يَبْلُغُ الثُّلُثَ، عَلَى قِيَاسِ الْحَجِّ إذَا أَوْصَى بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِمِائَةٍ - وَثُلُثُهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَةٍ - فَإِنَّهُ يَحُجُّ بِمِائَةٍ بِخِلَافِ الْعِتْقِ إذَا أَوْصَى بِأَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ عَبْدٌ بِمِائَةٍ - وَثُلُثُهُ أَقَلُّ - إنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ، وَعِنْدَهُمَا يُعْتَقُ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِمَالٍ مُقَدَّرٍ فِيمَا هُوَ قُرْبَةٌ فَتُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ فِيمَا أَمْكَنَ كَمَا فِي الْحَجِّ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَصْرِفَ الْوَصِيَّةِ فِي الْعِتْقِ هُوَ الْعَبْدُ فَكَأَنَّهُ أَوْصَى بِعَبْدٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ مِائَةً فَإِذَا اشْتَرَى بِأَقَلَّ

فصل في محل إقامة الواجب في الأضحية

كَانَ هَذَا غَيْرَ مَا أَوْصَى بِهِ فَلَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ الْحَجِّ وَالْأُضْحِيَّةَ فَإِنَّ الْمَصْرِفَ ثَمَّةَ هُوَ اللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ، فَسَوَاءٌ كَانَ قِيمَةُ الشَّاةِ أَقَلَّ أَوْ مِثْلَ مَا أَوْصَى بِهِ يَكُون الْمَصْرِفُ وَاحِدًا وَالْمَقْصُودُ بِالْكُلِّ وَاحِدٌ وَهُوَ الْقُرْبَةُ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ فَيَجُوزُ. (وَمِنْهَا) أَنَّ وُجُوبَهَا نَسَخَ كُلَّ دَمٍ كَانَ قَبْلَهَا مِنْ الْعَقِيقَةِ وَالرَّجَبِيَّةِ وَالْعَتِيرَةِ، كَذَا حَكَى أَبُو بَكْرٍ الْكَيْسَانِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَدْ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ذَبَائِحُ يَذْبَحُونَهَا. (مِنْهَا) الْعَقِيقَةُ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ فَعَلَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فَنَسَخَهَا ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةَ فَمَنْ شَاءَ فَعَلَ وَمِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ. (وَمِنْهَا) شَاةٌ كَانُوا يَذْبَحُونَهَا فِي رَجَبٍ تُدْعَى الرَّجَبِيَّةُ كَانَ أَهْلُ الْبَيْتِ يَذْبَحُونَ الشَّاةَ فَيَأْكُلُونَ وَيَطْبُخُونَ وَيَطْعَمُونَ فَنَسَخَهَا ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةَ. (وَمِنْهَا) الْعَتِيرَةُ كَانَ الرَّجُلُ إذَا وَلَدَتْ لَهُ النَّاقَةُ أَوْ الشَّاةُ ذَبَحَ أَوَّلَ وَلَدٍ تَلِدُهُ فَأَكَلَ وَأَطْعَمَ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا كُلُّهُ كَانَ يُفْعَلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنَسَخَهُ ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةَ، وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْعَتِيرَةِ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْعَرَبِ إذَا نَذَرَ نَذْرًا أَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَا أَوْ بَلَغَ شَاةَ كَذَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَ مِنْ كُلِّ عَشْرٍ مِنْهَا كَذَا فِي رَجَبٍ. وَالْعَقِيقَةُ: الذَّبِيحَةُ الَّتِي تُذْبَحُ عَنْ الْمَوْلُودِ يَوْمَ أُسْبُوعِهِ وَإِنَّمَا عَرَفْنَا انْتِسَاخَ هَذِهِ الدِّمَاءِ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: نَسَخَ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلَّ صَوْمٍ كَانَ قَبْلَهُ وَنَسَخَتْ الْأُضْحِيَّةُ كُلَّ ذَبْحٍ كَانَ قَبْلَهَا وَنَسَخَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ كُلَّ غُسْلٍ كَانَ قَبْلَهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قَالَتْ ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ انْتِسَاخَ الْحُكْمِ مِمَّا لَا يُدْرَكُ بِالِاجْتِهَادِ. وَمِنْهُمْ مِنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ كَانَتْ قَبْلَهَا، وَكَذَا قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المجادلة: 13] إنَّ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى النَّجْوَى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُسِخَ بِقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المجادلة: 13] . وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْعَقِيقَةِ فَمَنْ شَاءَ فَعَلَ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى الْإِبَاحَةِ فَيَمْنَعُ كَوْنَهُ سُنَّةً وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَا يَعُقُّ عَنْ الْغُلَامِ وَلَا عَنْ الْجَارِيَةِ وَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّ الْعَقِيقَةَ كَانَتْ فَضْلًا وَمَتَى نُسِخَ الْفَضْلُ لَا يَبْقَى إلَّا الْكَرَاهَةُ بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ فَإِنَّهُمَا كَانَا مِنْ الْفَرَائِضِ لَا مِنْ الْفَضَائِلِ فَإِذَا نُسِخَتْ مِنْهُمَا الْفَرْضِيَّةُ يَجُوزُ التَّنَفُّلُ بِهِمَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " الْعَقِيقَةُ سُنَّةٌ عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ " وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقَّ عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَبْشًا كَبْشًا» وَإِنَّا نَقُولُ إنَّهَا كَانَتْ ثُمَّ نُسِخَتْ بِدَمِ الْأُضْحِيَّةَ بِحَدِيثِ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: نَسَخَتْ الْأُضْحِيَّةَ كُلَّ دَمٍ كَانَ قَبْلَهَا، وَالْعَقِيقَةُ كَانَتْ قَبْلَهَا كَالْعَتِيرَةِ وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْعُقُوقَ؛ مَنْ شَاءَ فَلْيَعُقَّ عَنْ الْغُلَامِ شَاتَيْنِ وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةً» وَهَذَا يَنْفِي كَوْنَ الْعَقِيقَةِ سُنَّةً؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَّقَ الْعَقَّ بِالْمَشِيئَةِ وَهَذَا أَمَارَةُ الْإِبَاحَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي مَحَلُّ إقَامَةِ الْوَاجِبِ فِي الْأُضْحِيَّةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَحَلُّ إقَامَةِ الْوَاجِبِ فَهَذَا الْفَصْلُ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ جِنْسِ الْمَحَلِّ الَّذِي يُقَامُ مِنْهُ الْوَاجِبُ وَنَوْعِهِ وَجِنْسِهِ وَسِنِّهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ؛ أَمَّا جِنْسُهُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ الْغَنَمِ أَوْ الْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ، وَيَدْخُلُ فِي كُلِّ جِنْسٍ نَوْعُهُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مِنْهُ وَالْخَصِيُّ وَالْفَحْلُ لِانْطِلَاقِ اسْمِ الْجِنْسِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمَعْزُ نَوْعٌ مِنْ الْغَنَمِ، وَالْجَامُوسُ نَوْعٌ مِنْ الْبَقَرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُضَمُّ ذَلِكَ إلَى الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ وَلَا يَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيّ شَيْءٌ مِنْ الْوَحْشِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا عُرِفَ بِالشَّرْعِ وَالشَّرْعُ لَمْ يَرِدْ بِالْإِيجَابِ إلَّا فِي الْمُسْتَأْنَسِ؛ فَإِنْ كَانَ مُتَوَلِّدًا مِنْ الْوَحْشِيِّ وَالْإِنْسِيِّ فَالْعِبْرَةُ بِالْأُمِّ فَإِنْ كَانَتْ أَهْلِيَّةً يَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا حَتَّى إنَّ الْبَقَرَةَ الْأَهْلِيَّةَ إذَا نَزَا عَلَيْهَا ثَوْرٌ وَحْشِيٌّ فَوَلَدَتْ وَلَدًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُضَحَّى بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْبَقَرَةُ وَحْشِيَّةً وَالثَّوْرُ أَهْلِيًّا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَلَدِ الْأُمُّ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَصِلُ عَنْ الْأُمِّ وَهُوَ حَيَوَانٌ مُتَقَوِّمٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ وَلَيْسَ يَنْفَصِلُ مِنْ الْأَبِ إلَّا مَاءٌ مَهِينٌ لَا حَظْرَ لَهُ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وَلِهَذَا يَتْبَعُ الْوَلَدُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، إلَّا أَنَّهُ يُضَافُ إلَى الْأَبِ فِي بَنِي آدَمَ تَشْرِيفًا لِلْوَلَدِ وَصِيَانَةً لَهُ عَنْ الضَّيَاعِ وَإِلَّا فَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى الْأُمِّ. وَقِيلَ إذَا نَزَا ظَبْيٌ عَلَى شَاةٍ أَهْلِيَّةٍ فَإِنْ وَلَدَتْ شَاةً تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِهَا وَإِنْ وَلَدَتْ ظَبْيًا لَا تَجُوزُ، وَقِيلَ إنْ وَلَدَتْ الرَّمَكَةُ مِنْ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ حِمَارًا لَا يُؤْكَلُ، وَإِنْ وَلَدَتْ فَرَسًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْفَرَسِ، وَإِنْ ضَحَّى بِظَبْيَةٍ وَحْشِيَّةٍ أُلِّفَتْ أَوْ بِبَقَرَةٍ وَحْشِيَّةٍ أُلِّفَتْ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا

وَحْشِيَّةٌ فِي الْأَصْلِ وَالْجَوْهَرِ فَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْأَصْلِ بِعَارِضٍ نَادِرٍ وَاَللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ الْمُوَفِّقُ. وَأَمَّا سِنُّهُ فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مِنْ الْأُضْحِيَّةَ إلَّا الثَّنِيَّ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ إلَّا الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ خَاصَّةً إذَا كَانَ عَظِيمًا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «ضَحُّوا بِالثَّنَايَا إلَّا أَنْ يَعِزَّ عَلَى أَحَدِكُمْ فَيَذْبَحَ الْجَذَعَ فِي الضَّأْنِ» وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «يُجْزِي الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ عَمَّا يُجْزِي فِيهِ الثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ» . وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى فَشَمَّ قُتَارًا فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: أُضْحِيَّةُ أَبِي بُرْدَةَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ، فَجَاءَ أَبُو بُرْدَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي عَنَاقٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تُجْزِي عَنْك وَلَا تُجْزِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» . وَرُوِيَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ عِيدٍ فَقَالَ: إنَّ أَوَّلَ نُسُكِكُمْ هَذِهِ الصَّلَاةُ ثُمَّ الذَّبْحُ، فَقَامَ إلَيْهِ خَالِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَوْمُنَا نَشْتَهِي فِيهِ اللَّحْمَ فَعَجَّلْنَا فَذَبَحْنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَبْدِلْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي مَاعِزٌ جَذَعٌ فَقَالَ: هِيَ لَكَ وَلَيْسَتْ لِأَحَدٍ بَعْدَكَ» وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بِغَنَمٍ جِذَاعٍ فَلَمْ تَنْفُقْ مَعَهُ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: نِعْمَتْ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ» وَرُوِيَ: الْجَذَعُ السَّمِينُ مِنْ الضَّأْنِ؛ فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ هَذَا الْحَدِيثَ انْتَهَبُوهَا أَيْ تَبَادَرُوا إلَى شِرَائِهَا وَتَخْصِيصُ هَذِهِ الْقُرْبَةِ بِسِنٍّ دُونَ سِنٍّ أَمْرٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ فَيُتَّبَعُ ذَلِكَ. (وَأَمَّا) مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا: الْجَذَعُ مِنْ الْغَنَمِ ابْنُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَالثَّنِيُّ مِنْهُ ابْنُ سَنَةٍ، وَالْجَذَعُ مِنْ الْبَقَرِ ابْنُ سَنَةٍ وَالثَّنِيُّ ابْنُ سَنَتَيْنِ، وَالْجَذَعُ مِنْ الْإِبِلِ ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ وَالثَّنِيُّ مِنْهَا ابْنُ خَمْسٍ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ فِي الثَّنِيِّ مِنْ الْإِبِلِ مَا تَمَّ لَهُ أَرْبَعُ سِنِينَ وَطَعَنَ فِي الْخَامِسَةِ وَذَكَرَ الزَّعْفَرَانِيُّ فِي الْأَضَاحِيّ: الْجَذَعُ ابْنُ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ أَوْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، وَالثَّنِيُّ مِنْ الشَّاةِ وَالْمَعْزِ مَا تَمَّ لَهُ حَوْلٌ وَطَعَنَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَمِنْ الْبَقَرِ مَا تَمَّ لَهُ حَوْلَانِ وَطَعَنَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، وَمِنْ الْإِبِلِ مَا تَمَّ لَهُ خَمْسُ سِنِينَ وَطَعَنَ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ، وَتَقْدِيرُ هَذِهِ الْأَسْنَانِ بِمَا قُلْنَا لِمَنْعِ النُّقْصَانِ لَا لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ؛ حَتَّى لَوْ ضَحَّى بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ سِنًّا لَا يَجُوزُ وَلَوْ ضَحَّى بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ سِنًّا يَجُوزُ وَيَكُونُ أَفْضَلَ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَّةَ حَمَلٌ وَلَا جَدْيٌ وَلَا عِجْلٌ وَلَا فَصِيلٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بِالْأَسْنَانِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَهَذِهِ لَا تُسَمَّى بِهَا. وَأَمَّا قَدْرُهُ فَلَا يَجُوزُ الشَّاةُ وَالْمَعْزُ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَتْ عَظِيمَةً سَمِينَةً تُسَاوِي شَاتَيْنِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُضَحَّى بِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ أَنْ لَا يَجُوزَ فِيهِمَا الِاشْتِرَاكُ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ فِي هَذَا الْبَابِ إرَاقَةُ الدَّمِ وَأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ التَّجْزِئَةَ؛ لِأَنَّهَا ذَبْحٌ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا عَرَفْنَا جَوَازَ ذَلِكَ بِالْخَبَرِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي الْغَنَمِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرُ عَمَّنْ لَا يَذْبَحُ مِنْ أُمَّتِهِ فَكَيْفَ ضَحَّى بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ عَنْ أُمَّتِهِ؟ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (فَالْجَوَابُ) أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الثَّوَابِ؛ وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ ثَوَابَ تَضْحِيَتِهِ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ لِأُمَّتِهِ لَا لِلْإِجْزَاءِ وَسُقُوطِ التَّعَبُّدِ عَنْهُمْ وَلَا يَجُوزُ بَعِيرٌ وَاحِدٌ وَلَا بَقَرَةٌ وَاحِدَةٌ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ وَيَجُوزُ ذَلِكَ عَنْ سَبْعَةٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُجْزِي ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ - وَإِنْ زَادُوا عَلَى سَبْعَةٍ - وَلَا يُجْزِي عَنْ أَهْلِ بَيْتَيْنِ - وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ سَبْعَةٍ - وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبَدَنَةُ تُجْزِي عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ تُجْزِي عَنْ سَبْعَةٍ» وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَهْلِ بَيْتٍ وَبَيْتَيْنِ» وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهَا عَنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقُرْبَةَ فِي الذَّبْحِ وَأَنَّهُ فِعْلُ وَاحِدٌ لَا يَتَجَزَّأُ؛ لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْخَبَرِ الْمُقْتَضِي لِلْجَوَازِ عَنْ سَبْعَةٍ مُطْلَقًا فَيُعْمَلُ بِالْقِيَاسِ فِيمَا وَرَاءَهُ؛ لِأَنَّ الْبَقَرَةَ بِمَنْزِلَةِ سَبْعِ شِيَاهٍ ثُمَّ جَازَتْ التَّضْحِيَةُ بِسَبْعِ شِيَاهٍ عَنْ سَبْعَةٍ سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ أَوْ بَيْتَيْنِ فَكَذَا الْبَقَرَةُ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْبَعِيرِ وَالْبَقَرَةِ فَقَالَ الْبَقَرَةُ لَا تَجُوزُ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ فَأَمَّا الْبَعِيرُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عَنْ عَشَرَةٍ، وَرَوَوْا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْبَدَنَةُ تُجْزِي عَنْ عَشَرَةٍ» وَنَوْعٌ مِنْ الْقِيَاسِ يُؤَيِّدُهُ؛ وَهُوَ أَنَّ الْإِبِلَ أَكْثَرُ قِيمَةً مِنْ الْبَقَرِ؛ وَلِهَذَا فُضِّلَتْ الْإِبِلُ عَلَى الْبَقَرِ

فصل في شرائط جواز إقامة الواجب في الأضحية

فِي بَابِ الزَّكَاةِ وَالدِّيَاتِ فَتَفْضُلُ فِي الْأُضْحِيَّةَ أَيْضًا. (وَلَنَا) أَنَّ الْأَخْبَارَ إذَا اخْتَلَفَتْ فِي الظَّاهِرِ يَجِبُ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ عَنْ سَبْعَةٍ ثَابِتٌ بِالِاتِّفَاقِ وَفِي الزِّيَادَةِ اخْتِلَافٌ فَكَانَ الْأَخْذُ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَخْذًا بِالْمُتَيَقَّنِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا مِنْ الْقِيَاسِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي هَذَا الْبَابِ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ، وَاسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِيمَا هُوَ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ لَيْسَ مِنْ الْفِقْهِ، وَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ عَنْ أَقَلَّ مِنْ سَبْعَةٍ بِأَنْ اشْتَرَكَ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ سِتَّةٌ فِي بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ السُّبْعُ فَالزِّيَادَةُ أَوْلَى، وَسَوَاءٌ اتَّفَقَتْ الْأَنْصِبَاءُ فِي الْقَدْرِ أَوْ اخْتَلَفَتْ؛ بِأَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمْ النِّصْفُ وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ وَلِآخَرَ السُّدُسُ بَعْدَ أَنْ لَا يَنْقُصَ عَنْ السُّبْعِ وَلَوْ اشْتَرَكَ سَبْعَةٌ فِي خَمْسِ بَقَرَاتٍ أَوْ فِي أَكْثَرَ فَذَبَحُوهَا أَجْزَأَهُمْ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي كُلِّ بَقَرَةٍ سُبُعَهَا، وَلَوْ ضَحَّوْا بِبَقَرَةٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَهُمْ فَالْأَكْثَرُ أَوْلَى وَلَوْ اشْتَرَكَ ثَمَانِيَةٌ فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ لَمْ يُجْزِهِمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ بَقَرَةٍ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْقَصُ مِنْ السُّبْعِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانُوا عَشَرَةً أَوْ أَكْثَرَ فَهُوَ عَلَى هَذَا. وَلَوْ اشْتَرَكَ ثَمَانِيَةٌ فِي ثَمَانِيَةٍ مِنْ الْبَقَرِ فَضَحَّوْا بِهَا لَمْ تُجْزِهِمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ بَقَرَةٍ تَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَقَرُ أَكْثَرَ لَمْ تُجْزِهِمْ، وَلَا رِوَايَةَ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ وَإِنَّمَا قِيلَ إنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ. وَلَوْ اشْتَرَكَ سَبْعَةٌ فِي سَبْعِ شِيَاهٍ بَيْنَهُمْ فَضَحَّوْا بِهَا - الْقِيَاسُ أَنْ لَا تُجْزِئَهُمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَاةٍ تَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُجْزِيهِمْ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى اثْنَانِ شَاتَيْنِ لِلتَّضْحِيَةِ فَضَحَّيَا بِهِمَا بِخِلَافِ عَبْدَيْنِ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَلَيْهِمَا كَفَّارَتَانِ فَأَعْتَقَاهُمَا عَنْ كَفَّارَتَيْهِمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَنْصِبَاءَ تَجْتَمِعُ فِي الشَّاتَيْنِ وَلَا تَجْتَمِعُ فِي الرَّقِيقِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ فِي الشَّاةِ وَلَا يُجْبَرُ فِي الرَّقِيقِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تُقْسَمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؟ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْأَوَّلِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ، وَالْمَذْكُورُ جَوَابُ الْقِيَاسِ وَأَمَّا صِفَتُهُ فَهِيَ أَنْ يَكُونَ سَلِيمًا عَنْ الْعُيُوبِ الْفَاحِشَةِ وَسَنَذْكُرُهَا فِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ جَوَازِ إقَامَةِ الْوَاجِبِ فِي الْأُضْحِيَّةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ إقَامَةِ الْوَاجِبِ؛ وَهِيَ التَّضْحِيَةُ فَهِيَ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَعُمُّ ذَبْحَ كُلِّ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ وَنَوْعٌ يَخُصُّ التَّضْحِيَةَ؛ أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ ذَبْحَ كُلِّ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ، وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ التَّضْحِيَةَ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ التَّضْحِيَةُ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ التَّضْحِيَةِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ التَّضْحِيَةِ. أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ التَّضْحِيَةُ فَمِنْهَا نِيَّةُ الْأُضْحِيَّةَ لَا تُجْزِي الْأُضْحِيَّةُ بِدُونِهَا؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ قَدْ يَكُونُ لِلَّحْمِ وَقَدْ يَكُونُ لِلْقُرْبَةِ وَالْفِعْلُ لَا يَقَعُ قُرْبَةً بِدُونِ النِّيَّةِ؛ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا عَمَلَ لِمَنْ لَا نِيَّةَ لَهُ» وَالْمُرَادُ مِنْهُ عَمَلٌ هُوَ قُرْبَةٌ؛ وَلِلْقُرْبَةِ جِهَاتٌ مِنْ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْإِحْصَارِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَكَفَّارَةِ الْحَلْقِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَلَا تَتَعَيَّنُ الْأُضْحِيَّةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وَيَكْفِيهِ أَنْ يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ مَا نَوَى بِقَلْبِهِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَالذِّكْرُ بِاللِّسَانِ دَلِيلٌ عَلَيْهَا. وَمِنْهَا أَنْ لَا يُشَارِكَ الْمُضَحِّيَ - فِيمَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ - مَنْ لَا يُرِيدُ الْقُرْبَةَ رَأْسًا، فَإِنْ شَارَكَ لَمْ يَجُزْ عَنْ الْأُضْحِيَّةَ، وَكَذَا هَذَا فِي سَائِرِ الْقُرَبِ سِوَى الْأُضْحِيَّةَ إذَا شَارَكَ الْمُتَقَرِّبَ مَنْ لَا يُرِيدُ الْقُرْبَةَ لَمْ يَجُزْ عَنْ الْقُرْبَةِ كَمَا فِي دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْإِحْصَارِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ اشْتَرَكَ سَبْعَةٌ فِي بَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ كُلُّهُمْ يُرِيدُونَ الْقُرْبَةَ؛ الْأُضْحِيَّةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ وُجُوهِ الْقُرَبِ إلَّا وَاحِدٌ مِنْهُمْ يُرِيدُ اللَّحْمَ - لَا يُجْزِي وَاحِدًا مِنْهُمْ مِنْ الْأُضْحِيَّةَ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا مِنْ وُجُوهِ الْقُرَبِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُجْزِي. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْفِعْلَ إنَّمَا يَصِيرُ قُرْبَةً مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِنِيَّتِهِ لَا بِنِيَّةِ صَاحِبِهِ، فَعَدَمُ النِّيَّةِ مِنْ أَحَدِهِمْ لَا يَقْدَحُ فِي قُرْبَةِ الْبَاقِينَ. (وَلَنَا) أَنَّ الْقُرْبَةَ فِي إرَاقَةِ الدَّمِ وَأَنَّهَا لَا تَتَجَزَّأُ؛ لِأَنَّهَا ذَبْحٌ وَاحِدٌ فَإِنْ لَمْ يَقَعْ قُرْبَةً مِنْ الْبَعْضِ لَا يَقَعُ قُرْبَةً مِنْ الْبَاقِينَ ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجَزُّؤِ وَلَوْ أَرَادُوا الْقُرْبَةَ؛ الْأُضْحِيَّةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْقُرَبِ أَجْزَأَهُمْ سَوَاءٌ كَانَتْ الْقُرْبَةُ وَاجِبَةً أَوْ تَطَوُّعًا أَوْ وَجَبَتْ عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، وَسَوَاءٌ اتَّفَقَتْ جِهَاتُ الْقُرْبَةِ أَوْ اخْتَلَفَتْ بِأَنْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ الْأُضْحِيَّةَ وَبَعْضُهُمْ جَزَاءَ الصَّيْدِ وَبَعْضُهُمْ هَدْيَ الْإِحْصَارِ وَبَعْضُهُمْ كَفَّارَةَ شَيْءٍ أَصَابَهُ فِي إحْرَامِهِ وَبَعْضُهُمْ هَدْيَ التَّطَوُّعِ وَبَعْضُهُمْ دَمَ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ

زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا اتَّفَقَتْ جِهَاتُ الْقُرْبَةِ بِأَنْ كَانَ الْكُلُّ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى الِاشْتِرَاكَ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ فِعْلٌ وَاحِدٌ لَا يَتَجَزَّأُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقَعَ بَعْضُهُ عَنْ جِهَةٍ وَبَعْضُهُ عَنْ جِهَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ لَا بَعْضَ لَهُ إلَّا عِنْدَ الِاتِّحَادِ، فَعِنْدَ الِاتِّحَادِ جُعِلَتْ الْجِهَاتُ كَجِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ لَا يُمْكِنُ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيهِ مَرْدُودًا إلَى الْقِيَاسِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْجِهَاتِ - وَإِنْ اخْتَلَفَتْ صُورَةً - فَهِيَ فِي الْمَعْنَى وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكُلِّ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ الْعَقِيقَةَ عَنْ وَلَدٍ وُلِدَ لَهُ مِنْ قَبْلُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جِهَةُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - بِالشُّكْرِ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنْ الْوَلَدِ، كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي نَوَادِرِ الضَّحَايَا وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ الْوَلِيمَةَ - وَهِيَ ضِيَافَةُ التَّزْوِيجِ - وَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُقَامُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - عَلَى نِعْمَةِ النِّكَاحِ وَقَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» فَإِذَا قَصَدَ بِهَا الشُّكْرَ أَوْ إقَامَةَ السُّنَّةِ فَقَدْ أَرَادَ بِهَا التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَرِهَ الِاشْتِرَاكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَةِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَحَبَّ إلَيَّ، وَهَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ ذِمِّيًّا كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ وَهُوَ يُرِيدُ اللَّحْمَ أَوْ أَرَادَ الْقُرْبَةَ فِي دِينِهِ - لَمْ يُجْزِهِمْ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا تَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْقُرْبَةُ فَكَانَتْ نِيَّتُهُ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ فَكَانَ مُرِيدًا لِلَّحْمِ، وَالْمُسْلِمُ لَوْ أَرَادَ اللَّحْمَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا فَالْكَافِرُ أَوْلَى إذَا كَانَ أَحَدُهُمْ عَبْدًا أَوْ مُدَبَّرًا وَيُرِيدُ الْأُضْحِيَّةَ؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْقُرْبَةِ فَكَانَ نَصِيبُهُ لَحْمًا فَيَمْتَنِعُ الْجَوَازُ أَصْلًا وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ مِمَّنْ يُضَحِّي عَنْ مَيِّتٍ جَازَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا اشْتَرَكَ سَبْعَةٌ فِي بَدَنَةٍ فَمَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ الذَّبْحِ فَرَضِيَ وَرَثَتُهُ أَنْ يُذْبَحَ عَنْ الْمَيِّتِ جَازَ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أَحَدُهُمْ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ الذَّبْحُ، وَذَبْحُ الْوَارِثِ لَا يَقَعُ عَنْهُ؛ إذْ الْأُضْحِيَّةُ عَنْ الْمَيِّتِ لَا تَجُوزُ فَصَارَ نَصِيبُهُ اللَّحْمَ، وَأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ جَوَازِ ذَبْحِ الْبَاقِينَ مِنْ الْأُضْحِيَّةَ كَمَا لَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمْ اللَّحْمَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَوْتَ لَا يَمْنَعُ التَّقَرُّبَ عَنْ الْمَيِّتِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتَصَدَّقَ عَنْهُ وَيُحَجُّ عَنْهُ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرُ عَمَّنْ لَا يَذْبَحُ مِنْ أُمَّتِهِ - وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ - فَدَلَّ أَنَّ الْمَيِّتَ يَجُوزُ أَنْ يُتَقَرَّبَ عَنْهُ فَإِذَا ذُبِحَ عَنْهُ صَارَ نَصِيبُهُ لِلْقُرْبَةِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ ذَبْحِ الْبَاقِينَ. وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ بَقَرَةً يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ هِشَامٌ: سَأَلْت أَبَا يُوسُفَ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: أَكْرَهُ ذَلِكَ وَيُجْزِيهِمْ أَنْ يَذْبَحُوهَا عَنْهُمْ، قَالَ: وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، قَالَ: قُلْت لِأَبِي يُوسُفَ وَمَنْ نِيَّتُهُ أَنْ يُشْرِكَ فِيهَا؟ قَالَ: لَا أَحْفَظُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهَا شَيْئًا وَلَكِنْ لَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا وَقَالَ فِي الْأَصْلِ: قَالَ أَرَأَيْت فِي رَجُلٍ اشْتَرَى بَقَرَةً يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ فَأَشْرَكَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يُشْرِكْهُمْ حَتَّى اشْتَرَاهَا فَأَتَاهُ إنْسَانٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَشْرَكَهُ حَتَّى اسْتَكْمَلَ؛ يَعْنِي أَنَّهُ صَارَ سَابِعَهُمْ هَلْ يُجْزِي عَنْهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ اُسْتُحْسِنَ وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا كَانَ أَحْسَنَ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْغَنِيِّ إذَا اشْتَرَى بَقَرَةً لِأُضْحِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَتَعَيَّنْ لِوُجُوبِ التَّضْحِيَةِ بِهَا وَإِنَّمَا يُقِيمُهَا عِنْدَ الذَّبْحِ مَقَامَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَوْ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَيَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ بِالْفِعْلِ فِيمَا يُقِيمُهُ فِيهِ فَيَجُوزُ اشْتِرَاكُهُمْ فِيهَا وَذَبْحُهُمْ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهَا لِيُضَحِّيَ بِهَا فَقَدْ وَعَدَ وَعْدًا فَيُكْرَهُ أَنْ يُخْلِفَ الْوَعْدَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فَقِيرًا فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُشْرِكَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِالشِّرَاءِ لِلْأُضْحِيَّةِ فَتَعَيَّنَتْ لِلْوُجُوبِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَدْ قَالُوا فِي مَسْأَلَةِ الْغَنِيِّ إذَا أَشْرَكَ بَعْدَمَا اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَفَعَ إلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ دِينَارًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً فَاشْتَرَى شَاةً فَبَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ وَاشْتَرَى بِأَحَدِهِمَا شَاةً وَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِشَاةٍ وَدِينَارٍ وَأَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَارَكَ اللَّهُ فِي صَفْقَةِ يَمِينِكَ وَأَمَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يُضَحَّى بِالشَّاةِ وَيُتَصَدَّقَ بِالدِّينَارِ» لِمَا أَنَّهُ قَصَدَ إخْرَاجَهُ لِلْأُضْحِيَّةِ كَذَا هَهُنَا. (وَمِنْهَا) أَنْ تَكُونَ نِيَّةُ الْأُضْحِيَّةَ مُقَارِنَةً لِلتَّضْحِيَةِ كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْقِرَانِ إلَّا لِضَرُورَةٍ كَمَا فِي بَابِ الصَّوْمِ؛ لِتَعَذُّرِ قِرَانِ النِّيَّةِ لِوَقْتِ الشُّرُوعِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ. (وَمِنْهَا) إذْنُ صَاحِبِ

الْأُضْحِيَّةَ بِالذَّبْحِ إمَّا نَصًّا أَوْ دَلَالَةً إذَا كَانَ الذَّابِحُ غَيْرَهُ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَقَعَ لِلْعَامِلِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ لِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَقَعُ لَهُ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا غَصَبَ شَاةَ إنْسَانٍ فَضَحَّى بِهَا عَنْ صَاحِبِهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ وَإِجَازَتِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَأَضْجَعَهَا وَشَدَّ قَوَائِمَهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فَجَاءَ إنْسَانٌ فَذَبَحَهَا جَازَ اسْتِحْسَانًا لِوُجُودِ الْإِذْنِ مِنْهُ دَلَالَةً لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ التَّضْحِيَةِ فَهُوَ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ كَمَا هُوَ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ إقَامَةِ الْوَاجِبِ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُضَحِّيَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ وَيَجُوزُ بَعْدَ طُلُوعِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، غَيْرَ أَنَّ لِلْجَوَازِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْمِصْرِ شَرْطًا زَائِدًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ، لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا مَضَى مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْعِيدِ جَازَتْ الْأُضْحِيَّةُ وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ الْإِمَامُ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ أُضْحِيَّتَهُ» وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «أَوَّلُ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا الصَّلَاةُ ثُمَّ الذَّبْحُ» وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هِيَ غُدْوَةٌ أَطْعَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا الذَّبْحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ» فَقَدْ رَتَّبَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الذَّبْحَ عَلَى الصَّلَاةِ وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْقُرَى صَلَاةُ الْعِيدِ فَلَا يَثْبُتُ التَّرْتِيبُ فِي حَقِّهِمْ. وَإِنْ أَخَّرَ الْإِمَامُ صَلَاةَ الْعِيدِ فَلَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَذْبَحَ أُضْحِيَّتَهُ حَتَّى يَتَنَصَّفَ النَّهَارُ، فَإِنْ اشْتَغَلَ الْإِمَامُ فَلَمْ يُصَلِّ الْعِيدَ أَوْ تَرَكَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا حَتَّى زَالَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ حَلَّ الذَّبْحُ بِغَيْرِ صَلَاةٍ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا زَالَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ فَاتَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا يَخْرُجُ الْإِمَامُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ، وَالتَّرْتِيبُ شَرْطٌ فِي الْأَدَاءِ لَا فِي الْقَضَاءِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي فِي الْمِصْرِ فِي مَوْضِعَيْنِ بِأَنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ خَلَّفَ مَنْ يُصَلِّي بِضَعَفَةِ النَّاسِ فِي الْجَامِعِ وَخَرَجَ هُوَ بِالْآخَرِينَ إلَى الْمُصَلَّى - وَهُوَ الْجَبَّانَةُ - ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا صَلَّى أَهْلُ أَحَدِ الْمَسْجِدَيْنِ أَيُّهُمَا كَانَ جَازَ ذَبْحُ الْأَضَاحِيّ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا صَلَّى أَهْلُ الْمَسْجِدِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ لَمَّا كَانَتْ شَرْطًا لِجَوَازِ الْأُضْحِيَّةَ فِي حَقِّ أَهْلِ الْمِصْرِ فَاعْتِبَارُ صَلَاةِ أَهْلِ أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ، وَاعْتِبَارُ صَلَاةِ أَهْلِ الْمَوْضِعِ الْآخَرِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ فَلَا يُحْكَمُ بِالْجَوَازِ بِالشَّكِّ بَلْ يُحْكَمُ بِعَدَمِ الْجَوَازِ احْتِيَاطًا. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الشَّرْطَ صَلَاةُ الْعِيدِ، وَالصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ تُجْزِي عَنْ صَلَاةِ الْعِيدِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَيْهَا جَازَ وَيَقَعُ الِاكْتِفَاءُ بِذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَجَازَ، وَكَذَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا تَرْتِيبُ الذَّبْحِ عَلَى الصَّلَاةِ مُطْلَقًا وَقَدْ وُجِدَتْ وَلَوْ سَبَقَ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي الْأَصْلِ، وَقِيلَ لَا رِوَايَةَ فِي هَذَا وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا كَصَلَاةِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ، فَعَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ فِيهِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ كَمَا إذَا صَلَّى أَهْلُ الْمَسْجِدِ. وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ؛ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا جَائِزًا قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ صَلَاةُ مَنْ فِي الْجَبَّانَةِ وَإِنَّمَا يُصَلِّي مَنْ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ لِعُذْرٍ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْأَصْلِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ فِيهِ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَوَجْهُهَا مَا ذَكَرْنَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِصَلَاةِ أَهْلِ الْجَبَّانَةِ حَتَّى يُصَلِّيَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ هِيَ الْأَصْلُ بِدَلِيلِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَإِنَّمَا يَخْرُجُ الْإِمَامُ إلَى الْجَبَّانَةِ لِضَرُورَةِ أَنَّ الْمَسْجِدَ لَا يَتَّسِعُ لَهُمْ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ الْأَصْلِ. وَلَوْ ذَبَحَ وَالْإِمَامُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ وَكَذَا إذَا ضَحَّى قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، وَلَوْ ذَبَحَ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قَبْلَ السَّلَامِ قَالُوا - عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اللَّهُ - يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْمُصَلِّي مِنْ الصَّلَاةِ بِصِفَةٍ فَرْضٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ. وَلَوْ ضَحَّى قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ الْخُطْبَةِ أَوْ قَبْلَ الْخُطْبَةِ جَازَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَتَّبَ الذَّبْحَ عَلَى الصَّلَاةِ لَا عَلَى الْخُطْبَةِ فِيمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ فَدَلَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلصَّلَاةِ لَا لِلْخُطْبَةِ. وَلَوْ صَلَّى الْإِمَامُ صَلَاةَ الْعِيدِ وَذَبَحَ رَجُلٌ أُضْحِيَّتَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُعِيدَ

الصَّلَاةَ مِنْ الْغَدِ وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُعِيدَ الْأُضْحِيَّةَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالْأُضْحِيَّةَ وَقَعَتَا قَبْلَ الْوَقْتِ فَلَمْ يَجُزْ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِمَامَ كَانَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَإِنْ عُلِمَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَ النَّاسُ يُعِيدُ بِهِمْ الصَّلَاةَ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ، وَهَلْ يَجُوزُ مَا ضَحَّى قَبْلَ الْإِعَادَةِ؟ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ ذَبَحَ بَعْدَ صَلَاةٍ يُجِيزُهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ فَسَادَ صَلَاةِ الْإِمَامِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي عِنْدَهُ فَكَانَتْ تِلْكَ صَلَاةً مُعْتَبَرَةً عِنْدَهُ، فَعَلَى هَذَا يُعِيدُ الْإِمَامُ وَحْدَهُ وَلَا يُعِيدُ الْقَوْمُ وَذَلِكَ اسْتِحْسَانًا وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُعِيدُ بِهِمْ الصَّلَاةَ وَلَا يَجُوزُ مَا ضَحَّى قَبْلَ إعَادَةِ الصَّلَاةِ. وَإِنْ تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ الْإِمَامِ ثُمَّ عُلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُعَادُ، وَقَدْ جَازَتْ الْأُضْحِيَّةُ عَنْ الْمُضَحِّي؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ قَدْ جَازَتْ فِي قَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فَتَرْكُ إعَادَتِهَا بَعْدَ تَفَرُّقِ النَّاسِ أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يُنَادِيَ النَّاسَ أَنْ يَجْتَمِعُوا ثَانِيًا، وَهُوَ أَيْسَرُ مِنْ أَنَّهُ تَبْطُلُ أَضَاحِيهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ تُعَادُ الْأُضْحِيَّةُ وَلَا تُعَادُ بِهِمْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ إعَادَةَ الْأُضْحِيَّةَ أَيْسَرُ مِنْ إعَادَةِ الصَّلَاةِ. وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ يُنَادِي بِهِمْ حَتَّى يَجْتَمِعُوا وَيُعِيدُ بِهِمْ الصَّلَاةَ، قَالَ الْبَلْخِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ لَا تُجْزِي ذَبِيحَةُ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ إعَادَةِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ الشَّمْسُ قَدْ زَالَتْ فَتُجْزِي ذَبِيحَةُ مَنْ ذَبَحَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَسَقَطَتْ عَنْهُمْ الصَّلَاةُ، وَلَوْ شَهِدَ نَاسٌ عِنْدَ الْإِمَامِ - بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ وَبَعْدَمَا زَالَتْ الشَّمْسُ - أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ هُوَ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ جَازَ لَهُمْ أَنْ يُضَحُّوا وَيَخْرُجُ الْإِمَامُ مِنْ الْغَدِ فَيُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ الْعِيدِ، وَإِنْ عُلِمَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ فَشُغِلَ الْإِمَامُ عَنْ الْخُرُوجِ أَوْ غَفَلَ فَلَمْ يَخْرُجْ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا يُصَلِّي بِهِمْ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُضَحِّيَ حِينَ يُصَلِّي الْإِمَامُ إلَى أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ، فَإِذَا زَالَتْ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ ضَحَّى النَّاسُ، وَإِنْ ضَحَّى أَحَدٌ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ. وَلَوْ صَلَّى الْإِمَامُ صَلَاةَ الْعِيدِ وَذَبَحَ رَجُلٌ أُضْحِيَّتَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ لِلْإِمَامِ أَنَّ يَوْمَ الْعِيدِ كَانَ بِالْأَمْسِ جَازَتْ الصَّلَاةُ وَجَازَ لِلرَّجُلِ أُضْحِيَّتُهُ. وَلَوْ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ فِي مِصْرٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا إمَامٌ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ يُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ الْعِيدِ فَالْقِيَاسُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ النَّحْرِ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَنْزِلَةِ الْقُرَى الَّتِي لَا يُصَلَّى فِيهَا، وَلَكِنْ يُسْتَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ نَحْرِهِمْ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ كَانَ حَاضِرًا كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَلُّوا إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ أَدَاؤُهَا الْعَارِضُ فَلَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الْأَصْلِ؛ كَمَا لَوْ كَانَ الْإِمَامُ حَاضِرًا فَلَمْ يُصَلِّ لِعَارِضِ أَسْبَابٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُنَاكَ لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ كَذَا هَهُنَا. وَلَوْ ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ جَازَتْ الْأُضْحِيَّةُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ حَصَلَ فِي وَقْتِهِ فَيُجْزِيهِ وَاَللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ. هَذَا إذَا كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ فِي الْمِصْرِ وَالشَّاةُ فِي الْمِصْرِ؛ فَإِنْ كَانَ هُوَ فِي الْمِصْرِ وَالشَّاةُ فِي الرُّسْتَاقِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ لَا يُصَلَّى فِيهِ وَقَدْ كَانَ أَمَرَ أَنْ يُضَحُّوا عَنْهُ فَضَحَّوْا بِهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ فَإِنَّهَا تُجْزِيهِ، وَعَلَى عَكْسِهِ لَوْ كَانَ هُوَ فِي الرُّسْتَاقِ وَالشَّاةُ فِي الْمِصْرِ وَقَدْ أَمَرَ مَنْ يُضَحِّي عَنْهُ فَضَحَّوْا بِهَا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ فَإِنَّهَا لَا تُجْزِيهِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي هَذَا مَكَانُ الشَّاةِ لَا مَكَانُ مَنْ عَلَيْهِ، هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - فِي النَّوَادِرِ وَقَالَ: إنَّمَا أَنْظُرُ إلَى مَحَلِّ الذَّبْحِ وَلَا أَنْظُرُ إلَى مَوْضِعِ الْمَذْبُوحِ عَنْهُ، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُعْتَبَرُ الْمَكَانُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الذَّبْحُ وَلَا يُعْتَبَرُ الْمَكَانُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْمَذْبُوحُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ هُوَ الْقُرْبَةُ فَيُعْتَبَرُ مَكَانُ فِعْلِهَا لَا مَكَانُ الْمَفْعُولِ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ فِي مِصْرٍ وَأَهْلُهُ فِي مِصْرٍ آخَرَ فَكَتَبَ إلَيْهِمْ أَنْ يُضَحُّوا عَنْهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ مَكَانَ الذَّبِيحَةِ فَقَالَ: يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ لَا يُضَحُّوا عَنْهُ حَتَّى يُصَلِّيَ الْإِمَامُ الَّذِي فِيهِ أَهْلُهُ، وَإِنْ ضَحَّوْا عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ لَمْ يُجْزِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: انْتَظَرْتُ الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا وَإِنْ شَكُّوا فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْمِصْرِ الْآخَرِ انْتَظَرْتُ بِهِ الزَّوَالَ فَعِنْدَهُ لَا يَذْبَحُونَ عَنْهُ حَتَّى يُصَلُّوا فِي الْمِصْرَيْنِ جَمِيعًا، وَإِنْ وَقَعَ لَهُمْ الشَّكُّ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْمِصْرِ الْآخَرِ لَمْ يَذْبَحُوا حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ فَإِذَا زَالَتْ ذَبَحُوا عَنْهُ. (وَجْهُ) قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ فِيمَا قُلْنَا اعْتِبَارَ الْحَالَيْنِ حَالَ الذَّبْحِ وَحَالَ الْمَذْبُوحِ عَنْهُ فَكَانَ أَوْلَى وَلِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْقُرْبَةَ فِي الذَّبْحِ، وَالْقُرُبَاتُ الْمُؤَقَّتَةُ يُعْتَبَرُ وَقْتُهَا فِي حَقِّ فَاعِلِهَا لَا فِي حَقِّ الْمَفْعُولِ عَنْهُ، وَيَجُوزُ الذَّبْحُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ نُهُرِهَا وَلَيَالِيهَا؛ وَهُمَا لَيْلَتَانِ: لَيْلَةُ الْيَوْمِ الثَّانِي وَهِيَ لَيْلَةُ الْحَادِيَ عَشَرَ، وَلَيْلَةُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَهِيَ لَيْلَةُ الثَّانِي

عَشَرَ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهَا لَيْلَةُ الْأَضْحَى وَهِيَ لَيْلَةُ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِقَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ، وَذِكْرُ الْأَيَّامِ يَكُونُ ذِكْرَ اللَّيَالِي لُغَةً، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] وَقَالَ عَزَّ شَأْنُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] وَالْقِصَّةُ قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا اللَّيْلَةُ الْعَاشِرَةُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَتْبَعَهَا النَّهَارُ الْمَاضِي وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَهَا فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، كَمَا لَوْ أَدْرَكَ النَّهَارَ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ فَإِذَا جُعِلَتْ تَابِعَةً لِلنَّهَارِ الْمَاضِي لَا تَتْبَعُ النَّهَارَ الْمُسْتَقْبَلَ فَلَا تَدْخُلُ فِي وَقْتِ التَّضْحِيَةِ وَتَدْخُلُ اللَّيْلَتَانِ بَعْدَهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُكْرَهُ الذَّبْحُ بِاللَّيْلِ لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتِ لِلتَّضْحِيَةِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ التَّضْحِيَةِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: سَلَامَةُ الْمَحَلِّ عَنْ الْعُيُوبِ الْفَاحِشَةِ؛ فَلَا تَجُوزُ الْعَمْيَاءُ وَلَا الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا وَهِيَ الَّتِي لَا تَقْدِرُ تَمْشِي بِرِجْلِهَا إلَى الْمَنْسَكِ، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي وَهِيَ الْمَهْزُولَةُ الَّتِي لَا نِقْيَ لَهَا وَهُوَ الْمُخُّ، وَمَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ وَالْأَلْيَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَاَلَّتِي لَا أُذُنَ لَهَا فِي الْخِلْقَةِ. وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَيَكُونُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لَا يُجْزِي وَيُجْزِي السَّكَّاءُ وَهِيَ صَغِيرَةُ الْأُذُنِ، وَلَا يَجُوزُ مَقْطُوعَةُ إحْدَى الْأُذُنَيْنِ بِكَمَالِهَا، وَاَلَّتِي لَهَا أُذُنٌ وَاحِدَةٌ خِلْقَةً. وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الشُّرُوطِ مَا رُوِيَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا تُجْزِي مِنْ الضَّحَايَا أَرْبَعٌ الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي» وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «اسْتَشْرِفُوا الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ» أَيْ تَأَمَّلُوا سَلَامَتَهُمَا عَنْ الْآفَاتِ. وَرُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى أَنْ يُضَحَّى بِعَضْبَاءِ الْأُذُنِ» ، وَلَوْ ذَهَبَ بَعْضُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ دُونَ بَعْضٍ مِنْ الْأُذُنِ وَالْأَلْيَةِ وَالذَّنَبِ وَالْعَيْنِ، ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الذَّاهِبُ كَثِيرًا يَمْنَعُ جَوَازُ التَّضْحِيَةِ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَا يُمْنَعُ؛ لِأَنَّ الْيَسِيرَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ إذْ الْحَيَوَانُ لَا يَخْلُو عَنْهُ عَادَةً، فَلَوْ اُعْتُبِرَ مَانِعًا لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ وَوَقَعُوا فِي الْحَرَجِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ، رَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْهُ فِي الْأَصْلِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَهَبَ الثُّلُثُ أَوْ أَقَلُّ جَازَ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَا يَجُوزُ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَهَبَ الثُّلُثُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ جَازَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذَكَرْت قَوْلِي لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: قَوْلِي مِثْلُ قَوْلِك، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْبَاقِي أَكْثَرَ مِنْ الذَّاهِبِ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ مِثْلَهُ لَا يَجُوزُ. وَرَوَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ إذَا ذَهَبَ الرُّبُعُ لَمْ يُجْزِهِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ فِي الْأَصْلِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ قَوْلَهُ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ فَمَا كَانَ مُضَافُهُ أَقَلَّ مِنْهُ يَكُونُ كَثِيرًا وَمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ يَكُونُ قَلِيلًا إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَالَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ إذَا كَانَا سَوَاءً احْتِيَاطًا لِاجْتِمَاعِ جِهَةِ الْجَوَازِ وَعَدَمِ الْجَوَازِ إلَّا أَنَّهُ يَعْتَبِرُ بَقَاءَ الْأَكْثَرِ لِلْجَوَازِ وَلَمْ يُوجَدْ. وَرُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْعَضْبَاءِ» قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: الْعَضْبَاءُ الَّتِي ذَهَبَ أَكْثَرُ أُذُنِهَا، فَقَدْ اعْتَبَرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْأَكْثَرَ، وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الرُّبُعِ كَثِيرًا فَلِأَنَّهُ يَلْحَقُ بِالْكَثِيرِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ كَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ وَالْحَلْقِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ فَفِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ أَوْلَى. وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ كَثِيرًا فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» جَعَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الثُّلُثَ كَثِيرًا مُطْلَقًا، وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ اعْتِبَارِهِ قَلِيلًا فَاعْتِبَارُهُ بِالْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ وَلَمْ يُجَوِّزْ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَدَلَّ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الثُّلُثِ لَا يَكُونُ كَثِيرًا وَأَمَّا الْهَتْمَاءُ وَهِيَ الَّتِي لَا أَسْنَانَ لَهَا فَإِنْ كَانَتْ تَرْعَى وَتَعْتَلِفُ جَازَتْ وَإِلَّا فَلَا، وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَمْنَعُهَا عَنْ الِاعْتِلَافِ تُجْزِيهِ وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُهَا عَنْ الِاعْتِلَافِ إلَّا أَنْ يَصُبَّ فِي جَوْفِهَا صَبًّا لَمْ تُجْزِهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي قَوْلٍ لَا تُجْزِي سَوَاءٌ اعْتَلَفَتْ أَوْ لَمْ تَعْتَلِفْ، وَفِي قَوْلٍ إنْ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَسْنَانِهَا لَا تُجْزِي كَمَا قَالَ فِي الْأُذُنِ وَالْأَلْيَةِ وَالذَّنَبِ، وَفِي قَوْلٍ إنْ بَقِيَ مِنْ أَسْنَانِهَا قَدْرُ مَا تَعْتَلِفُ تُجْزِي وَإِلَّا فَلَا. وَتَجُوزُ الثَّوْلَاءُ وَهِيَ الْمَجْنُونَةُ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ يَمْنَعُهَا عَنْ الرَّعْيِ وَالِاعْتِلَافِ فَلَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى

هَلَاكِهَا فَكَانَ عَيْبًا فَاحِشًا وَتَجُوزُ الْجَرْبَاءُ إذَا كَانَتْ سَمِينَةً فَإِنْ كَانَتْ مَهْزُولَةً لَا تَجُوزُ وَتُجْزِي الْجَمَّاءُ وَهِيَ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا خِلْقَةً، وَكَذَا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ تُجْزِي لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا «عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سُئِلَ عَنْ الْقَرْنِ فَقَالَ: لَا يَضُرُّك أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ» وَرُوِيَ أَنَّ «رَجُلًا مِنْ هَمَذَانَ جَاءَ إلَى سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْبَقَرَةُ عَنْ كَمْ؟ قَالَ: عَنْ سَبْعَةٍ ثُمَّ قَالَ: مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ؟ قَالَ: لَا ضَيْرَ ثُمَّ قَالَ: عَرْجَاءُ؟ فَقَالَ: إذَا بَلَغَتْ الْمَنْسَكَ، ثُمَّ قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ» . فَإِنْ بَلَغَ الْكَسْرُ الْمُشَاشَ لَا تَجْزِيهِ، وَالْمُشَاشُ: رُءُوسُ الْعِظَامِ مِثْلُ الرُّكْبَتَيْنِ وَالْمِرْفَقَيْنِ وَتُجْزِي الشَّرْقَاءُ وَهِيَ مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ طُولًا؛ وَمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُضَحَّى بِالشَّرْقَاءِ وَالْخَرْقَاءِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُدَابَرَةِ» فَالْخَرْقَاءُ هِيَ مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ وَالْمُقَابَلَةُ هِيَ الَّتِي يُقْطَعُ مِنْ مَقْدَمِ أُذُنِهَا شَيْءٌ وَلَا يُبَانُ بَلْ يُتْرَكُ مُعَلَّقًا وَالْمُدَابَرَةُ أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ بِمُؤَخَّرِ الْأُذُنِ مِنْ الشَّاةِ، فَالنَّهْيُ فِي الشَّرْقَاءِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُدَابَرَةِ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ، وَفِي الْخَرْقَاءِ عَلَى الْكَثِيرِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقَاوِيلِ فِي حَدِّ الْكَثِيرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا بَأْسَ بِمَا فِيهِ سِمَةٌ فِي أُذُنِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ عَيْبًا فِي الشَّاةِ، وَلِأَنَّهُ عَيْبٌ يَسِيرٌ أَوْ لِأَنَّ السِّمَةَ لَا يَخْلُو عَنْهَا الْحَيَوَانُ وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا. وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ أُضْحِيَّةً وَهِيَ سَمِينَةٌ فَعَجِفَتْ عِنْدَهُ حَتَّى صَارَتْ بِحَيْثُ لَوْ اشْتَرَاهَا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ تُجْزِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا أَجْزَأَتْهُ؛ لِأَنَّ الْمُوسِرَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ فِي ذِمَّتِهِ وَإِنَّمَا أَقَامَ مَا اشْتَرَى لَهَا مَقَامَ مَا فِي الذِّمَّةِ فَإِذَا نَقَصَتْ لَا تَصْلُحُ أَنْ تُقَامَ مَقَامَ مَا فِي الذِّمَّةِ فَبَقِيَ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِحَالِهِ. وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَلَا أُضْحِيَّةَ فِي ذِمَّتِهِ فَإِذَا اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ فَقَدْ تَعَيَّنَتْ الشَّاةُ الْمُشْتَرَاةُ لِلْقُرْبَةِ فَكَانَ نُقْصَانُهَا كَهَلَاكِهَا حَتَّى لَوْ كَانَ الْفَقِيرُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أُضْحِيَّةً لَا تَجُوزُ هَذِهِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِإِيجَابِهِ فَصَارَ كَالْغَنِيِّ الَّذِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِإِيجَابِ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ -. وَلَوْ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً وَهِيَ صَحِيحَةٌ ثُمَّ أَعْوَرَتْ عِنْدَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ أَوْ قُطِعَتْ أُذُنُهَا كُلُّهَا أَوْ أَلْيَتُهَا أَوْ ذَنَبُهَا أَوْ انْكَسَرَتْ رِجْلُهَا فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَمْشِيَ لَا تُجْزِي عَنْهُ، وَعَلَيْهِ مَكَانَهَا أُخْرَى لِمَا بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْفَقِيرِ. وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَتْ عِنْدَهُ أَوْ سُرِقَتْ، وَلَوْ قَدَّمَ أُضْحِيَّةً لِيَذْبَحَهَا فَاضْطَرَبَتْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَذْبَحُهَا فِيهِ فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهَا ثُمَّ ذَبَحَهَا عَلَى مَكَانِهَا أَجْزَأَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا انْقَلَبَتْ مِنْهُ الشَّفْرَةُ فَأَصَابَتْ عَيْنَهَا فَذَهَبَتْ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا عَيْبٌ دَخَلَهَا قَبْلَ تَعْيِينِ الْقُرْبَةِ فِيهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ قَبْلَ حَالِ الذَّبْحِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ لِأَنَّ الشَّاةَ تَضْطَرِبُ فَتَلْحَقُهَا الْعُيُوبُ مِنْ اضْطِرَابِهَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ عَالَجَ أُضْحِيَّةً لِيَذْبَحَهَا فَكُسِرَتْ أَوْ أَعْوَرَتْ فَذَبَحَهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ أَوْ مِنْ الْغَدِ فَإِنَّهَا تُجْزِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ النُّقْصَانَ لَمَّا لَمْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْحَالِ لَوْ ذَبَحَهَا فَكَذَا فِي الثَّانِي كَالنُّقْصَانِ الْيَسِيرِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ. وَالثَّانِي مِلْكُ الْمَحَلِّ؛ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُضَحَّى مِلْكَ مَنْ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا تَجُوزُ لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ قُرْبَةٌ وَلَا قُرْبَةَ فِي الذَّبْحِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اغْتَصَبَ شَاةَ إنْسَانٍ فَضَحَّى بِهَا عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا تُجْزِيهِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَلَا عَنْ صَاحِبِهَا لِعَدَمِ الْإِذْنِ ثُمَّ إنْ أَخَذَهَا صَاحِبُهَا مَذْبُوحَةً وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ فَكَذَلِكَ لَا تَجُوزُ عَنْ التَّضْحِيَةِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُضَحِّيَ بِأُخْرَى لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ ضَمَّنَهُ صَاحِبُهَا قِيمَتَهَا حَيَّةً فَإِنَّهَا تُجْزِي عَنْ الذَّابِحِ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ وَالِاسْتِنَادِ فَصَارَ ذَابِحًا شَاةً هِيَ مِلْكُهُ فَتُجْزِيهِ لَكِنَّهُ يَأْثَمُ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ فِعْلِهِ وَقَعَ مَحْظُورًا فَتَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا تُجْزِي عَنْ الذَّابِحِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تُمْلَكُ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ. وَكَذَلِكَ إذَا اغْتَصَبَ شَاةَ إنْسَانٍ كَانَ اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ فَضَحَّاهَا عَنْ نَفْسِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الشَّاةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِأَنْ اشْتَرَى شَاةً لِيُضَحِّيَ بِهَا فَضَحَّى بِهَا ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ إنْ أَخَذَهَا الْمُسْتَحِقُّ مَذْبُوحَةً لَا تُجْزِي عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاةٍ أُخْرَى مَا دَامَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، وَإِنْ مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ فَعَلَى الذَّابِحِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَةِ شَاةٍ وَسَطٍ وَلَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِقِيمَةِ تِلْكَ الشَّاةِ الْمُشْتَرَاةِ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ شِرَاءَهُ إيَّاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ وَالْعَدَمَ بِمَنْزِلَةٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ ثُمَّ بَاعَهَا حَيْثُ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِقِيمَتِهَا لِأَنَّ شِرَاءَهُ إيَّاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ قَدْ صَحَّ لِوُجُودِ الْمِلْكِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ

التَّصَدُّقُ بِقِيمَتِهَا وَإِنْ تَرَكَهَا عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا جَازَ الذَّبْحُ عِنْدَنَا كَمَا فِي الْغَصْبِ. وَلَوْ أَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلًا شَاةً يُضَحِّي بِهَا الْمُسْتَوْدَعُ عَنْ نَفْسِهِ يَوْمَ النَّحْرِ فَاخْتَارَ صَاحِبُهَا الْقِيمَةَ وَرَضِيَ بِهَا فَأَخَذَهَا فَإِنَّهَا لَا تُجْزِي الْمُسْتَوْدَعَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ، بِخِلَافِ الشَّاةِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمُسْتَحَقَّةِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ هَهُنَا هُوَ الذَّبْحُ وَالْمِلْكُ ثَبَتَ بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ - وَهُوَ الذَّبْحُ - فَكَانَ الذَّبْحُ مُصَادِفًا مِلْكَ غَيْرِهِ فَلَا يُجْزِيهِ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ فَإِنَّهُ كَانَ ضَامِنًا قَبْلَ الذَّبْحِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْغَصْبُ السَّابِقُ، فَعِنْدَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ أَوْ أَدَائِهِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ مِنْ وَقْتِ السَّبَبِ وَهُوَ الْغَصْبُ فَالذَّبْحُ صَادَفَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَجَازَ، وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ فِي الْوَدِيعَةِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي الْعَارِيَّةُ وَالْإِجَارَةِ بِأَنْ اسْتَعَارَ نَاقَةً أَوْ ثَوْرًا أَوْ بَعِيرًا أَوْ اسْتَأْجَرَهُ فَضَحَّى بِهِ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ عَنْ الْأُضْحِيَّةَ سَوَاءٌ أَخَذَهَا الْمَالِكُ أَوْ ضَمَّنَهُ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَإِنَّمَا يَضْمَنُهَا بِالذَّبْحِ فَصَارَ كَالْوَدِيعَةِ، وَلَوْ كَانَ مَرْهُونًا يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ كَمَا فِي الْغَصْبِ بَلْ أَوْلَى. وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ فَصَّلَ فِي الرَّهْنِ تَفْصِيلًا لَا بَأْسَ بِهِ فَقَالَ: إنْ كَانَ قَدْرُ الرَّهْنِ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ يَجُوزُ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ بَعْضُهُ مَضْمُونًا وَبَعْضُهُ أَمَانَةً، فَفِي قَدْرِ الْأَمَانَةِ إنَّمَا يَضْمَنُهُ بِالذَّبْحِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ وَلَوْ اشْتَرَى شَاةً بَيْعًا فَاسِدًا فَقَبَضَهَا فَضَحَّى بِهَا جَازَ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِالْقَبْضِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهَا حَيَّةً، إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا مَذْبُوحَةً لِأَنَّ الذَّبْحَ لَا يُبْطِلُ حَقَّهُ فِي الِاسْتِرْدَادِ؛ فَإِنْ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا حَيَّةً فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُضَحِّي وَإِنْ أَخَذَهَا مَذْبُوحَةً فَعَلَى الْمُضَحِّي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا مَذْبُوحَةً لِأَنَّهُ بِالرَّدِّ أَسْقَطَ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهَا بِمِقْدَارِ الْقِيمَةِ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وُهِبَ لَهُ شَاةٌ هِبَةً فَاسِدَةً فَضَحَّى بِهَا فَالْوَاهِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا حَيَّةً وَتَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ وَيَأْكُلُ مِنْهَا وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَدَّهَا وَاسْتَرَدَّ قِيمَةَ النُّقْصَانِ وَيَضْمَنُ الْمَوْهُوبُ لَهُ قِيمَتَهَا فَيَتَصَدَّقُ بِهَا إذَا كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةَ. وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ لَوْ وُهِبَ شَاةً مِنْ رَجُلٍ فِي مَرَضِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ فَضَحَّى بِهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَالْغُرَمَاءُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا اسْتَرَدُّوا عَيْنَهَا وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا وَإِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوهُ قِيمَتَهَا فَتَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ فَإِذَا رَدَّهَا فَقَدْ أَسْقَطَ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا قُلْنَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ. وَلَوْ اشْتَرَى شَاةً بِثَوْبٍ فَضَحَّى بِهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ وَجَدَ الْبَائِعُ بِالثَّوْبِ عَيْبًا فَرَدَّهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الشَّاةِ وَلَا يَتَصَدَّقُ الْمُضَحِّي وَيَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَدَّهَا نَاقِصَةً مَذْبُوحَةً، فَبَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ أَكْثَرَ يَتَصَدَّقُ بِالثَّوْبِ كَأَنَّهُ بَاعَهَا بِالثَّوْبِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الشَّاةِ أَكْثَرَ يَتَصَدَّقُ بِقِيمَةِ الشَّاةِ لِأَنَّ الشَّاةَ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ فَيَرُدُّ مَا أَسْقَطَ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ كَأَنَّهُ بَاعَهَا بِثَمَنِ ذَلِكَ الْقَعَد مِنْ قِيمَتِهَا فَيَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهَا، وَلَوْ وَجَدَ بِالشَّاةِ عَيْبًا فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَهَا وَرَدَّ الثَّمَنَ وَيَتَصَدَّقُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ إلَّا حِصَّةَ النُّقْصَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ حِصَّةَ النُّقْصَانِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ وَرَدَّ حِصَّةَ الْعَيْبِ وَلَا يَتَصَدَّقُ الْمُشْتَرِي بِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ النُّقْصَانَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْقُرْبَةِ وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي الْقُرْبَةِ مَا ذُبِحَ وَقَدْ ذُبِحَ نَاقِصًا إلَّا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ هَذَا الْعَيْبِ عَدْلًا لِلصَّيْدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ لِمَا نَذْكُرُ. وَلَوْ وُهِبَ لِرَجُلٍ شَاةٌ فَضَحَّى بِهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ أَجْزَأَتْهُ عَنْ الْأُضْحِيَّةَ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْهِبَةِ وَالْقَبْضِ فَصَارَ كَمَا لَوْ مَلَكَهَا بِالشِّرَاءِ، فَلَوْ أَنَّهُ ضَحَّى بِهَا ثُمَّ أَرَادَ الْوَاهِبُ أَنْ يَرْجِعَ لَهُ أَجْزَأَتْهُ عَنْ الْأُضْحِيَّةِ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْهِبَةِ وَالْقَبْضِ فَصَارَ كَمَا لَوْ مَلَكَهَا بِالشِّرَاءِ فَلَوْ أَنَّهُ ضَحَّى بِهَا ثُمَّ أَرَادَ الْوَاهِبُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَهُ فَإِذَا ذَبَحَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ عَنْ أُضْحِيَّتِهِ أَوْ أَوْجَبَهَا أُضْحِيَّةً لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهَا؛ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْعَبْدَ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْوَاهِبِ عَنْ الرُّجُوعِ، كَذَا هَهُنَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الذَّبْحَ نُقْصَانٌ وَالنُّقْصَانُ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُضَحِّي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الشَّاةَ لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ فَصَارَ فِي الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْهِبَةِ، وَلَوْ وَهَبَهَا أَوْ اسْتَهْلَكَهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. هَذَا وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ أَوْ فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِاللَّحْمِ فَإِذَا رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي الْهِبَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَهْلَكَهَا وَلِأَنَّهُ ذَبَحَ شَاةً لِغَيْرِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهَا فَصَارَ كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَفَعَ إلَيْهِ، وَالرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ بِقَضَاءٍ وَبِغَيْرِ قَضَاءٍ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْفَصْلِ يَفْتَرِقُ الْجَوَابُ بَيْنَ مَا يَجِبُ صَدَقَةً وَبَيْنَ مَا لَا يَجِبُ

فصل في بيان ما يستحب قبل التضحية وبعدها وما يكره

وَفِي الْفُصُولِ الْأُوَلِ يَسْتَوِي الْجَوَابُ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ وَهَبَ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ شَاةً لِإِنْسَانٍ وَقَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَضَحَّاهَا ثُمَّ مَاتَ الْوَاهِبُ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا فَالْوَرَثَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمَوْهُوبَ لَهُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا حَيَّةً وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا ثُلُثَيْهَا مَذْبُوحَةً فَإِنْ ضَمَّنُوهُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا حَيَّةً فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَغْصُوبَةً فَضُمِّنَ قِيمَتَهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرَ ذَلِكَ فَهَذِهِ أَوْلَى، وَإِنْ أَخَذُوا ثُلُثَيْهَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْقِيَاسُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهَا حَيَّةً لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ قَدْ ضَمِنَ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا حَيَّةً ثُمَّ سَقَطَ عَنْهُ ثُلُثُ قِيمَتِهَا حَيَّةً يَأْخُذُ الْوَرَثَةُ مِنْهُ ثُلُثَيْ الشَّاةِ مَذْبُوحَةً فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهَا بِذَلِكَ وَقَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ بِثُلُثَيْ الشَّاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا مَذْبُوحَةً لِأَنَّ الْوَرَثَةَ لَمَّا أَخَذُوا ثُلُثَيْهَا مَذْبُوحَةً فَقَدْ أَبْرَءُوا الْمَوْهُوبَ لَهُ مِنْ فَضْلِ مَا بَيْنَ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا حَيَّةً إلَى ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا مَذْبُوحَةً فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ إلَّا ثُلُثَا قِيمَتِهَا مَذْبُوحَةً. وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي نَوَادِرِ الضَّحَايَا عَنْ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَرَثَةَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا ضَمِنُوا ثُلُثَيْ قِيمَةِ الشَّاةِ وَسَلَّمُوا لَهُ لَحْمَهَا وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا ثُلُثَيْ لَحْمِهَا وَكَانُوا شُرَكَاءَهُ فِيهَا، فَإِنْ ضَمِنُوا ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ أَجْزَأَتْ عَنْهُ الْأُضْحِيَّةُ وَإِنْ شَارَكُوهُ فِيهَا وَأَخَذُوا ثُلُثَيْ لَحْمِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهَا مَذْبُوحَةً وَقَدْ أَجْزَأَتْ عَنْهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ ذَبَحَهَا وَهُوَ يَمْلِكُهَا وَاَللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ قَبْلَ التَّضْحِيَةِ وَبَعْدَهَا وَمَا يُكْرَهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْتَحَبُّ قَبْلَ التَّضْحِيَةِ وَعِنْدَهَا وَبَعْدَهَا وَمَا يُكْرَهُ أَمَّا الَّذِي هُوَ قَبْلَ التَّضْحِيَةِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْبِطَ الْأُضْحِيَّةَ قَبْلَ أَيَّامِ النَّحْرِ بِأَيَّامٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ لِلْقُرْبَةِ وَإِظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِيهَا فَيَكُونُ لَهُ فِيهِ أَجْرٌ وَثَوَابٌ وَأَنْ يُقَلِّدَهَا وَيُجَلِّلَهَا اعْتِبَارًا بِالْهَدَايَا، وَالْجَامِعُ أَنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِهَا قَالَ اللَّه تَعَالَى {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] وَأَنْ يَسُوقَهَا إلَى الْمَنْسَكِ سَوْقًا جَمِيلًا لَا عَنِيفًا وَأَنْ لَا يَجُرَّ بِرِجْلِهَا إلَى الْمَذْبَحِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ. وَلَوْ اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَيُكْرَهُ أَنْ يَحْلُبَهَا أَوْ يَجُزَّ صُوفَهَا فَيَنْتَفِعَ بِهِ لِأَنَّهُ عَيَّنَهَا لِلْقُرْبَةِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا قَبْلَ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ فِيهَا، كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِلَحْمِهَا إذَا ذَبَحَهَا قَبْلَ وَقْتِهَا وَلِأَنَّ الْحَلْبَ وَالْجَزَّ يُوجِبُ نَقْصًا فِيهَا وَهُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ إدْخَالِ النَّقْصِ فِي الْأُضْحِيَّةَ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ هَذَا فِي الشَّاةِ الْمَنْذُورِ بِهَا بِعَيْنِهَا مِنْ الْمُعْسِرِ أَوْ الْمُوسِرِ أَوْ الشَّاةِ الْمُشْتَرَاةِ لِلْأُضْحِيَّةِ مِنْ الْمُعْسِرِ فَأَمَّا الْمُشْتَرَاةُ مِنْ الْمُوسِرِ لِلْأُضْحِيَّةِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَحْلُبَهَا وَيَجُزَّ صُوفَهَا؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ تَعَيَّنَتْ الشَّاةُ لِوُجُوبِ التَّضْحِيَةِ بِهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا تَقُومُ التَّضْحِيَةُ بِغَيْرِهَا مَقَامَهَا وَإِذَا تَعَيَّنَتْ لِوُجُوبِ التَّضْحِيَةِ بِهَا بِتَعْيِينِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِي جُزْءٍ مِنْهَا، وَفِي الثَّانِي لَمْ تَتَعَيَّنْ لِلْوُجُوبِ بَلْ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ بِهَا مَا فِي ذِمَّتِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ غَيْرَهَا يَقُومُ مَقَامَهَا فَكَانَتْ جَائِزَةَ الذَّبْحِ لَا وَاجِبَةَ الذَّبْحِ، وَالْجَوَابُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُشْتَرَاةَ لِلْأُضْحِيَّةِ مُتَعَيَّنَةٌ لِلْقُرْبَةِ إلَى أَنْ يُقَامَ غَيْرُهَا مَقَامَهَا فَلَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَا دَامَتْ مُتَعَيَّنَةٌ وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ لَحْمُهَا إذَا ذَبَحَهَا قَبْلَ وَقْتِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ - وَهُوَ يَخَافُ عَلَيْهَا إنْ لَمْ يَحْلُبْهَا - نَضَحَ ضَرْعَهَا بِالْمَاءِ الْبَارِدِ حَتَّى يَتَقَلَّصَ اللَّبَنُ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْحَلْبِ وَلَا وَجْهَ لِإِبْقَائِهَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَيْهَا الْهَلَاكَ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ فَتَعَيَّنَ نَضْحُ الضَّرْعِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ لِيَنْقَطِعَ اللَّبَنُ فَيَنْدَفِعَ الضَّرَرُ فَإِنْ حَلَبَ تَصَدَّقَ بِاللَّبَنِ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ شَاةٍ مُتَعَيِّنَةٍ لِلْقُرْبَةِ مَا أُقِيمَتْ فِيهَا الْقُرْبَةُ فَكَانَ الْوَاجِبُ هُوَ التَّصَدُّقُ بِهِ، كَمَا لَوْ ذُبِحَتْ قَبْلَ الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ جَازَ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الصُّوفِ وَالشَّعْرِ وَالْوَبَرِ. وَيُكْرَهُ لَهُ بَيْعُهَا لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ بَاعَ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ - لِأَنَّهُ بَيْعُ مَالٍ مَمْلُوكٍ مُنْتَفَعٍ بِهِ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الشَّرَائِطِ فَيَجُوزُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَقْفِ ثُمَّ إذَا جَازَ بَيْعُهَا عَلَى أَصْلِهِمَا فَعَلَيْهِ مَكَانَهَا مِثْلُهَا أَوْ أَرْفَعُ مِنْهَا فَيُضَحِّي بِهَا فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ، وَإِنْ اشْتَرَى دُونَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِفَضْلِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ وَلَا يَنْظُرُ إلَى الثَّمَنِ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى الْقِيمَةِ حَتَّى لَوْ بَاعَ الْأُولَى بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا وَاشْتَرَى الثَّانِيَةَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا وَثَمَنُ الثَّانِيَةِ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَنِ الْأُولَى يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِفَضْلِ قِيمَةِ الْأُولَى، فَإِنْ وَلَدَتْ الْأُضْحِيَّةُ وَلَدًا يُذْبَحُ وَلَدُهَا مَعَ الْأُمِّ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ. وَقَالَ أَيْضًا: وَإِنْ بَاعَهُ يَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ تَعَيَّنَتْ لِلْأُضْحِيَّةِ، وَالْوَلَدُ يَحْدُثُ عَلَى وَصْفِ الْأُمِّ فِي الصِّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَسْرِي إلَى

الْوَلَدِ كَالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ هَذَا فِي الْأُضْحِيَّةَ الْمُوجَبَةِ بِالنَّذْرِ كَالْفَقِيرِ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ، فَأَمَّا الْمُوسِرُ إذَا اشْتَرَى شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَوَلَدَتْ لَا يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ الْوُجُوبُ فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ وَفِي الثَّانِي لَمْ يَتَعَيَّنْ لِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِغَيْرِهَا فَكَذَا وَلَدُهَا. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ: كَانَ أَصْحَابُنَا يَقُولُونَ يَجِبُ ذَبْحُ الْوَلَدُ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَسْرِ إلَيْهِ وَلَكِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَكَانَ كَجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا فَإِنْ ذَبَحَهُ تَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ وَإِنْ بَاعَهُ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ، وَلَا يَبِيعُهُ وَلَا يَأْكُلُهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَذْبَحَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ذَبَحَهُ أَيَّامَ النَّحْرِ وَأَكَلَ مِنْهُ كَالْأُمِّ وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ الْوَلَدَ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ تَصَدَّقَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ ذَبْحُهُ فَصَارَ كَالشَّاةِ الْمَنْذُورَةِ. وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى: إذَا وَضَعَتْ الْأُضْحِيَّةُ فَذَبَحَ الْوَلَدَ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ الْأُمِّ أَجْزَأَهُ، فَإِنْ تَصَدَّقَ بِهِ يَوْمَ الْأَضْحَى قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ، قَالَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّ الصِّغَارَ تَدْخُلُ فِي الْهَدَايَا وَيَجِبُ ذَبْحُهَا، وَلَوْ وَلَدَتْ الْأُضْحِيَّةُ تَعَلَّقَ بِوَلَدِهَا مِنْ الْحُكْمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ فَاتَ بِمُضِيِّ الْأَيَّامِ. وَيُكْرَهُ لَهُ رُكُوبُ الْأُضْحِيَّةَ وَاسْتِعْمَالُهَا وَالْحَمْلُ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَعَلَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَقَصَهَا ذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِنُقْصَانِهَا، وَلَوْ آجَرَهَا صَاحِبُهَا لِيُحْمَلَ عَلَيْهَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: يَنْبَغِي أَنْ يَغْرَمَ مَا نَقَصَهَا الْحَمْلُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى فِي رَجُلٍ أَهْدَى نَاقَةً ثُمَّ آجَرَهَا ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهَا فَإِنَّ صَاحِبَهَا يَغْرَمُ مَا نَقَصَهَا ذَلِكَ وَيَتَصَدَّقُ بِالْكِرَاءِ كَذَا هَهُنَا. (وَأَمَّا) الَّذِي هُوَ فِي حَالِ التَّضْحِيَةِ فَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ التَّضْحِيَةِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ التَّضْحِيَةُ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْأُضْحِيَّةَ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ التَّضْحِيَةِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى آلَةِ التَّضْحِيَةِ: أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ التَّضْحِيَةِ فَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ الذَّبْحُ فِي الشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَالنَّحْرُ فِي الْإِبِلِ وَيُكْرَهُ الْقَلْبُ مِنْ ذَلِكَ وَقَطْعُ الْعُرُوقِ الْأَرْبَعَةِ كُلِّهَا وَالتَّذْفِيفُ فِي ذَلِكَ وَأَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ مِنْ الْحُلْقُومِ لَا مِنْ الْقَفَا. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ التَّضْحِيَةُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَذْبَحَ بِنَفْسِهِ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ فَمُبَاشَرَتُهَا بِنَفْسِهِ أَفْضَلُ مِنْ تَوْلِيَتِهَا غَيْرَهُ كَسَائِرِ الْقُرُبَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فَنَحَرَ مِنْهَا نَيِّفًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثُمَّ أَعْطَى الْمُدْيَةَ سَيِّدَنَا عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَنَحَرَ الْبَاقِينَ» وَهَذَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ يُحْسِنُ الذَّبْحَ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُحْسِنْ فَتَوْلِيَتُهُ غَيْرَهُ فِيهِ أَوْلَى، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: نَحَرْتُ بَدَنَةً قَائِمَةً مَعْقُولَةً فَلَمْ أَشُقَّ عَلَيْهَا فَكِدْتُ أُهْلِكُ نَاسًا لِأَنَّهَا نَفَرَتْ فَاعْتَقَدْتُ أَنْ لَا أَنْحَرَهَا إلَّا بَارِكَةً مَعْقُولَةً وَأُوَلِّيَ مَنْ هُوَ أَقْدَرُ عَلَى ذَلِكَ مِنِّي. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ قَالَ أَنَسٌ: فَرَأَيْت النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا أَيْ عَلَى جَوَانِبِ عُنُقِهِمَا وَهُوَ يَذْبَحُهُمَا بِيَدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَذَبَحَ الْأَوَّلَ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَنْ آلِ مُحَمَّدٍ ثُمَّ ذَبَحَ الْآخَرَ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اللَّهُمَّ هَذَا عَمَّنْ شَهِدَ لَك بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لِي بِالْبَلَاغِ» وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ حَالَ الذَّبْحِ مُتَوَجِّهًا إلَى الْقِبْلَةِ لِمَا رَوَيْنَا وَإِذَا لَمْ يَذْبَحْ بِنَفْسِهِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ مُسْلِمًا فَإِنْ أَمَرَ كِتَابِيًّا يُكْرَهُ لِمَا قُلْنَا وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضُرَ الذَّبْحَ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لِسَيِّدَتِنَا فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ قُومِي فَاشْهَدِي ضَحِيَّتَكِ فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا مَغْفِرَةً لِكُلِّ ذَنْبٍ أَمَا إنَّهُ يُجَاءُ بِدَمِهَا وَلَحْمِهَا فَيُوضَعُ فِي مِيزَانِك وَسَبْعُونَ ضِعْفًا فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا لِآلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً فَإِنَّهُمْ أَصْلٌ لِمَا خُصُّوا بِهِ مِنْ الْخَيْرِ أَمْ لِآلِ مُحَمَّدٍ وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً فَقَالَ: هَذَا لِآلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً» . وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا فَاطِمَةُ قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتَكِ فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ عَمِلْتِيهِ وَقُولِي إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ» وَأَنْ يَدْعُوَ فَيَقُولَ: اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِمَا رَوَيْنَا، وَأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ أَوْ بَعْدَهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشَيْنِ فَقَالَ حِينَ وَجَّهَهُمَا: وَجَّهَتْ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ

السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا مُسْلِمًا اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ» . وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ الْمُعَتِّمِ الْكِنَانِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ سَيِّدِنَا عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ الْأَضْحَى إلَى عِيدٍ فَلَمَّا صَلَّى قَالَ يَا قَنْبَرٌ أَدْنِ مِنِّي أَحَدَ الْكَبْشَيْنِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ قَالَ: وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ عَلِيٍّ فَذَبَحَهُ ثُمَّ دَعَا بِالثَّانِي فَفَعَلَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجَرِّدَ التَّسْمِيَةَ عَنْ الدُّعَاءِ فَلَا يَخْلِطَ مَعَهَا دُعَاءً وَإِنَّمَا يَدْعُو قَبْلَ التَّسْمِيَةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَيُكْرَهُ حَالَةَ التَّسْمِيَةِ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْأُضْحِيَّةَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ أَسْمَنَهَا وَأَحْسَنَهَا وَأَعْظَمَهَا لِأَنَّهَا مَطِيَّةُ الْآخِرَةِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَظِّمُوا ضَحَايَاكُمْ فَإِنَّهَا عَلَى الصِّرَاطِ مَطَايَاكُمْ» وَمَهْمَا كَانَتْ الْمَطِيَّةُ أَعْظَمَ وَأَسْمَنَ كَانَتْ عَلَى الْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ أَقْدَرَ، وَأَفْضَلُ الشَّاءِ أَنْ يَكُونَ كَبْشًا أَمْلَحَ أَقْرَنَ مَوْجُوءًا؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ عَظِيمَيْنِ سَمِينَيْنِ» وَالْأَقْرَنُ: الْعَظِيمُ الْقَرْنِ، وَالْأَمْلَحُ: الْأَبْيَضُ. وَرُوِيَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «دَمُ الْعَفْرَاءِ يَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلَ دَمِ السَّوْدَاوَيْنِ وَإِنَّ أَحْسَنَ اللَّوْنِ عِنْدَ اللَّهِ الْبَيَاضُ، وَاَللَّهُ خَلَقَ الْجَنَّةَ بَيْضَاءَ» وَالْمَوْجُوءُ: قِيلَ هُوَ مَدْقُوقُ الْخُصْيَتَيْنِ، وَقِيلَ: هُوَ الْخَصِيُّ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ التَّضْحِيَةِ بِالْخَصِيِّ فَقَالَ: مَا زَادَ فِي لَحْمِهِ أَنْفَعُ مِمَّا ذَهَبَ مِنْ خُصْيَتَيْهِ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى وَقْتِ التَّضْحِيَةِ فَالْمُسْتَحَبُّ هُوَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ؛ أَوَّلُهَا أَفْضَلُهَا وَلِأَنَّهُ مُسَارَعَةٌ إلَى الْخَيْرِ وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ - جَلَّ شَأْنُهُ - الْمُسَارِعِينَ إلَى الْخَيْرَاتِ السَّابِقِينَ لَهَا بِقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61] وَقَالَ - عَزَّ شَأْنُهُ - {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] أَيْ إلَى سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ وَلِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ شَأْنُهُ - أَضَافَ عِبَادَهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِلُحُومِ الْقَرَابِينِ فَكَانَتْ التَّضْحِيَةُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مِنْ بَابِ سُرْعَةِ الْإِجَابَةِ إلَى ضِيَافَةِ اللَّهِ - جَلَّ شَأْنُهُ -، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ بِالنَّهَارِ وَيُكْرَهُ أَنْ تَكُونَ بِاللَّيْلِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَالصُّيُودِ، وَأَفْضَلُ وَقْتِ التَّضْحِيَةِ لِأَهْلِ السَّوَادِ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَتَكَامَلُ آثَارُ أَوَّلِ النَّهَارِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى آلَةِ التَّضْحِيَةِ فَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ آلَةُ الذَّبْحِ حَادَّةً مِنْ الْحَدِيدِ. (وَأَمَّا) الَّذِي هُوَ بَعْدَ الذَّبْحِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَرَبَّصَ بَعْدَ الذَّبْحِ قَدْرَ مَا يَبْرُدُ وَيَسْكُنُ مِنْ جَمِيعِ أَعْضَائِهِ وَتَزُولُ الْحَيَاةُ عَنْ جَمِيعِ جَسَدِهِ وَيُكْرَهُ أَنْ يَنْخَعَ وَيَسْلُخَ قَبْلَ أَنْ يَبْرُدَ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَلِصَاحِبِ الْأُضْحِيَّةَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] وَلِأَنَّهُ ضَيْفُ اللَّهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ كَغَيْرِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الدِّمَاءَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ:. نَوْعٌ يَجُوزُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَنَوْعٌ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَنَوْعٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ، الْأَوَّلُ دَمُ الْأُضْحِيَّةَ نَفْلًا كَانَ أَوْ وَاجِبًا مَنْذُورًا كَانَ أَوْ وَاجِبًا مُبْتَدَأً، وَالثَّانِي دَمُ الْإِحْصَارِ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ وَدَمُ الْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ كَحَلْقِ الرَّأْسِ وَلُبْسِ الْمَخِيطِ وَالْجِمَاعِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْجِنَايَاتِ، وَدَمُ النَّذْرِ بِالذَّبْحِ، وَالثَّالِثُ دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ، فَعِنْدَنَا يُؤْكَلُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُؤْكَلُ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْمَنَاسِكِ ثُمَّ كُلُّ دَمٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ؛ إذْ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ لَمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَكُلُّ دَمٍ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ إذْ لَوْ لَمْ يَجِبْ لَأَدَّى إلَى التَّسْيِيبِ. وَلَوْ هَلَكَ اللَّحْمُ بَعْدَ الذَّبْحِ لَا ضَمَان عَلَيْهِ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا أَمَّا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّهُ هَلَكَ عَنْ غَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ بَعْدَ الذَّبْحِ إنْ كَانَ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي يَغْرَمُ قِيمَتَهُ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مُتَعَيِّنًا لِلتَّصَدُّقِ بِهِ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ لَا يَغْرَمُ شَيْئًا وَلَوْ بَاعَهُ نَفَذَ بَيْعُهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا ضَحَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ وَيُطْعِمْ مِنْهُ غَيْرَهُ» . وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِغُلَامِهِ قَنْبَرٍ - حِينَ ضَحَّى بِالْكَبْشَيْنِ

كتاب النذر

يَا قَنْبَرٌ خُذْ لِي مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِضْعَةً وَتَصَدَّقْ بِهِمَا بِجُلِّ وَدِهِمَا وَبِرُءُوسِهِمَا وَبِأَكَارِعِهِمَا، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثُّلُثِ وَيَتَّخِذَ الثُّلُثَ ضِيَافَةً لِأَقَارِبِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَيَدَّخِرَ الثُّلُثَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] وَقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] وَقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَكُلُوا مِنْهَا وَادَّخِرُوا» فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ مَا قُلْنَا وَلِأَنَّهُ يَوْمُ ضِيَافَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِلُحُومِ الْقَرَابِينِ فَيُنْدَبُ إشْرَاكُ الْكُلِّ فِيهَا وَيُطْعِمُ الْفَقِيرَ وَالْغَنِيَّ جَمِيعًا لِكَوْنِ الْكُلِّ أَضْيَافَ اللَّهِ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَلَهُ أَنْ يَهَبَهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالْكُلِّ جَازَ وَلَوْ حَبَسَ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ فِي الْإِرَاقَةِ. (وَأَمَّا) التَّصَدُّقُ بِاللَّحْمِ فَتَطَوُّعٌ وَلَهُ أَنْ يَدَّخِرَ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «إنِّي كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ إمْسَاكِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَلَا فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ» وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِأَجْلِ الرَّأْفَةِ دُونَ حَضْرَةِ الْأَضْحَى» أَلَّا إنَّ إطْعَامَهَا وَالتَّصَدُّقَ أَفْضَلُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ ذَا عِيَالٍ وَغَيْرَ مُوَسَّعِ الْحَالِ فَإِنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَدَعَهُ لِعِيَالِهِ وَيُوسِعَ بِهِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ وَحَاجَةَ عِيَالِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَاجَةِ غَيْرِهِ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِغَيْرِك» . وَلَا يَحِلُّ بَيْعُ جِلْدِهَا وَشَحْمِهَا وَلَحْمِهَا وَأَطْرَافِهَا وَرَأْسِهَا وَصُوفِهَا وَشَعْرِهَا وَوَبَرِهَا وَلَبَنِهَا الَّذِي يَحْلُبُهُ مِنْهَا بَعْدَ ذَبْحِهَا بِشَيْءٍ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ، وَلَا أَنْ يُعْطِيَ أَجْرَ الْجَزَّارِ وَالذَّابِحِ مِنْهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ» وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا، وَلَا تُعْطِي أَجْرًا لِجَزَّارٍ مِنْهَا " وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ قَالَ: إذَا ضَحَّيْتُمْ فَلَا تَبِيعُوا لُحُومَ ضَحَايَاكُمْ وَلَا جُلُودَهَا وَكُلُوا مِنْهَا وَتَمَتَّعُوا وَلِأَنَّهَا مِنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - الَّتِي أَضَافَ بِهَا عِبَادَهُ وَلَيْسَ لِلضَّيْفِ أَنْ يَبِيعَ مِنْ طَعَامِ الضِّيَافَةِ شَيْئًا فَإِنْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَنْفُذُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلَ الذَّبْحِ وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ ذَهَبَتْ عَنْهُ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ وَلِأَنَّهُ اسْتَفَادَهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ وَهُوَ الْبَيْعُ فَلَا يَخْلُو عَنْ خُبْثٍ فَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ وَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِجِلْدِ أُضْحِيَّتِهِ فِي بَيْتِهِ بِأَنْ يَجْعَلَهُ سِقَاءً أَوْ فَرْوًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا اتَّخَذَتْ مِنْ جِلْدِ أُضْحِيَّتِهَا سِقَاءً وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِلَحْمِهَا فَكَذَا بِجِلْدِهَا، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِمَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ كَالْجِرَابِ وَالْمُنْخُلِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ الَّذِي يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ فَكَانَ الْمُبْدَلُ قَائِمًا مَعْنًى فَكَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِ الْجِلْدِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ فَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْجِلْدِ فَلَا يَكُونُ الْجِلْدُ قَائِمًا مَعْنًى وَاَللَّهُ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ. [كِتَابُ النَّذْرِ] [بَيَانِ رُكْنِ النَّذْرِ وَشَرَائِطُهُ] (كِتَابُ النَّذْرِ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ رُكْنِ النَّذْرِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ النَّذْرِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَرُكْنُ النَّذْرِ هُوَ الصِّيغَةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: " لِلَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ عَلَيَّ كَذَا، أَوْ عَلَيَّ كَذَا، أَوْ هَذَا هَدْيٌ، أَوْ صَدَقَةٌ، أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ، أَوْ مَا أَمْلِكُ صَدَقَةٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّاذِرِ، وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَنْذُورِ بِهِ، وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الرُّكْنِ. أَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالنَّاذِرِ فَشَرَائِطُ الْأَهْلِيَّةِ:. (مِنْهَا) الْعَقْلُ. (وَمِنْهَا) الْبُلُوغُ، فَلَا يَصِحُّ نَذْرُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، لِأَنَّ حُكْمَ النَّذْرِ وُجُوبُ الْمَنْذُورِ بِهِ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ، وَكَذَا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الشَّرَائِعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ مِنْ الشَّرَائِعِ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً؟ فَكَذَا بِالنَّذْرِ، إذْ الْوُجُوبُ عِنْدَ

وُجُودِ الصِّيغَةِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ بِإِيجَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - لَا بِإِيجَابِ الْعَبْدِ، إذْ لَيْسَ لِلْعَبْدِ وِلَايَةُ الْإِيجَاب، وَإِنَّمَا الصِّيغَةُ عَلَمٌ عَلَى إيجَابِ اللَّهِ - تَعَالَى -. (وَمِنْهَا) الْإِسْلَامُ فَلَا يَصِحُّ نَذْرُ الْكَافِرِ، حَتَّى لَوْ نَذَرَ ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَنْذُورِ بِهِ قُرْبَةً شَرْطُ صِحَّةِ النَّذْرِ، وَفِعْلُ الْكَافِرِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ قُرْبَةً. (وَأَمَّا) حُرِّيَّةُ النَّاذِرِ فَلَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ؛ فَيَصِحُّ نَذْرُ الْمَمْلُوكِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَنْذُورُ بِهِ مِنْ الْقُرَبِ الدِّينِيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِلْحَالِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ الْقُرَبِ الْمَالِيَّةِ كَالْإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ لِلْحَالِ وَلَوْ قَالَ: إنْ اشْتَرَيْتُ هَذِهِ الشَّاةَ فَهِيَ هَدْيٌ، أَوْ إنْ اشْتَرَيْتُ هَذَا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ، فَعَتَقَ لَمْ يَلْزَمْهُ حَتَّى يُضِيفَهُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ. (وَأَمَّا) الطَّوَاعِيَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا فِي الْيَمِينِ، وَكَذَا الْجِدُّ وَالْهَزْلُ وَاَللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَنْذُورِ بِهِ فَأَنْوَاعٌ:. (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ شَرْعًا، فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ شَرْعًا كَمَنْ قَالَ: لِلَّهِ - تَعَالَى - عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا أَكَلَ فِيهِ، وَكَالْمَرْأَةِ إذَا قَالَتْ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ أَيَّامَ حَيْضِي؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مَحِلَّ الصَّوْمِ، وَالْأَكْلَ مُنَافٍ لِلصَّوْمِ حَقِيقَةً وَالْحَيْضَ مُنَافٍ لَهُ شَرْعًا؛ إذْ الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ شَرْطُ وُجُودِ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ وَلَوْ قَالَتْ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا فَحَاضَتْ فِي غَدٍ، أَوْ قَالَتْ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنَّ أَصُومَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَقَدِمَ فِي يَوْمٍ حَاضَتْ فِيهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهَا قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الصَّوْمِ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ: لِلَّهِ - تَعَالَى - عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ، فَقَدِمَ فِي النَّهَارِ - أَنَّهُ إنْ قَدِمَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُفْطِرَاتِ يَلْزَمُهُ صَوْمُهُ، وَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَ مَا تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُفْطِرَاتِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمَ يَوْمٍ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ يُوجَدُ فِيهِ قُدُومُ فُلَانٍ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِهَذَا الْيَوْمِ قَبْلَ الْقُدُومِ وَلَا دَلِيلَ الْعِلْمِ، وَلَا وُجُوبَ لِهَذَا الصَّوْمِ بِدُونِ الْعِلْمِ؛ أَوْ دَلِيلِهِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ أَدَاؤُهُ عَلَى قَصْدِ الْمُؤَدِّي فِي تَحْصِيلِهِ لَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِهِ أَوْ دَلِيلِ الْعِلْمِ، فَلَمْ يَجِبْ الصَّوْمُ مَا لَمْ يُوجَدْ الْيَوْمُ الْمَوْصُوفُ، وَلَا وُجُودَ إلَّا بِالْقُدُومِ، فَصَارَ الْوُجُوبُ عَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ مُتَعَلِّقًا بِالْقُدُومِ، وَوُجُوبُ صَوْمِ يَوْمٍ لَمْ تَزُلْ فِيهِ الشَّمْسُ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ شَيْئًا مِنْ الْمُفْطِرَاتِ مُتَصَوَّرٌ، كَمَا لَوْ أَنْشَأَ النَّذْرَ فَوَجَبَ عَلَيْهِ لِلْحَالِ، وَلَا تَصَوُّرَ لَهُ بَعْد التَّنَاوُلِ وَبَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِأَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ فَقَدِمَ بَعْدَ مَا أَكَلَ، أَوْ بَعْدَ الزَّوَالِ - حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي بَابِ النَّذْرِ يَجِبُ الْفِعْلُ حَقًّا لِلَّهِ - تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - عِنْدَ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْوُجُوبِ مِنْ الْعَبْدِ فَصَارَ هَذَا وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودَةِ عَلَى السَّوَاءِ. (وَأَمَّا) فِي بَابِ الْيَمِينِ: فَالْفِعْلُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ، بَلْ الْوَاجِبُ هُوَ الِامْتِنَاعُ عَنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّه - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - وَإِنَّمَا وَجَبَ الْفِعْلُ لِضَرُورَةِ حُصُولِ الْبِرِّ، وَحُصُولُ الْبِرِّ أَيْضًا لِضَرُورَةِ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْهَتْكِ فَوُجُوبُهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْعِلْمُ، فَكَانَ وُجُوبُ تَحْصِيلِ الْبِرِّ وَالِامْتِنَاعِ ثَابِتًا قَبْلَ وُجُودِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْقُدُومُ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْبِرُّ مِنْ أَوَّلِ وُجُودِ هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي حَلَفَ أَنْ يَصُومَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، فَإِذَا لَمْ يَصُمْ: بِأَنْ أَكَلَ أَوْ امْتَنَعَ مِنْ النَّذْرِ حَتَّى زَالَتْ الشَّمْسُ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ لِفَوَاتِ الْبِرِّ وَاَللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ رَأْسًا كَالنَّذْرِ بِالْمَعَاصِي بِأَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - عَلَيَّ أَنْ أَشْرَبَ الْخَمْرَ أَوْ أَقْتُلَ فُلَانًا أَوْ أَضْرِبَهُ أَوْ أَشْتُمَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى» ، وَقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ - تَعَالَى - فَلَا يَعْصِهِ» ، وَلِأَنَّ حُكْمَ النَّذْرِ وُجُوبُ الْمَنْذُورِ بِهِ، وَوُجُوبُ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ مُحَالٌ وَكَذَا النَّذْرُ بِالْمُبَاحَاتِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِعَدَمِ وَصْفِ الْقُرْبَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِعْلًا وَتَرْكًا، وَكَذَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ طَلَاقُ امْرَأَتِي؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَلَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ، وَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِ؟ فِيهِ كَلَامٌ نَذْكُرهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً مَقْصُودَةً، فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ وَالْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَالْأَذَانِ وَبِنَاءِ الرِّبَاطَاتِ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ قُرَبًا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِقُرْبٍ مَقْصُودَةً وَيَصِحُّ النَّذْرُ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْإِحْرَامِ بِهِمَا وَالْعِتْقِ وَالْبَدَنَةِ وَالْهَدْيِ وَالِاعْتِكَافِ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا قُرَبٌ مَقْصُودَةٌ

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ - تَعَالَى - فَلْيُطِعْهُ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ وَفَاؤُهُ بِمَا سَمَّى» ؛ إلَّا أَنَّهُ خُصَّ مِنْهُ الْمُسَمَّى الَّذِي لَيْسَ بِقُرْبَةٍ أَصْلًا، وَاَلَّذِي لَيْسَ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ فِيمَا وَرَاءَهُ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ أَصَّلَ فِي هَذَا أَصْلًا فَقَالَ: مَا لَهُ أَصْلٌ فِي الْفُرُوضِ يَصِحُّ النَّذْرُ بِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا سِوَى الِاعْتِكَافِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا لَهُ أَصْلٌ فِي الْفُرُوضِ، وَالِاعْتِكَافُ لَهُ أَصْلٌ أَيْضًا فِي الْفُرُوضِ وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَمَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْفُرُوضِ لَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِهِ كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَة وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِهَا وَعُلِّلَ بِأَنَّ النَّذْرَ إيجَابُ الْعَبْدِ فَيُعْتَبَرُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ، أَوْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ يَصِحُّ نَذْرُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَيُفْطِرُ وَيَقْضِي وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ لَهُمَا لِأَنَّهُ نَذْرٌ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ؛ لِكَوْنِ الصَّوْمِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ؛ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَكُونُ مَعْصِيَةً، وَالنَّذْرُ بِالْمَعَاصِي لَا يَصِحُّ لِمَا بَيَّنَّا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَلَا يُضْمَنُ بِالْقَضَاءِ عِنْدَ الْإِفْسَادِ بِأَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا ثُمَّ أَفْطَرَ. (وَلَنَا) أَنَّهُ نَذْرٌ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ فَيَصِحُّ النَّذْرُ، كَمَا لَوْ نَذَرَ بِالصَّوْمِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ النَّصُّ وَالْمَعْقُولُ. (أَمَّا) النَّصُّ فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَبَرًا عَنْ اللَّهِ - تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ - «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» . (وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّهُ سَبَبُ التَّقْوَى وَالشُّكْرِ وَمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ الصَّائِمَ فِي زَمَانِ الصَّوْمِ يَتَّقِي الْحَلَالَ، فَالْحَرَامُ أَوْلَى، وَيَعْرِفُ قَدْرَ نِعَمِ اللَّهِ - تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ - عَلَيْهِ بِمَا تَجَشَّمَ مِنْ مَرَارَةِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ؛ فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الشُّكْرِ، وَعَلَى الْإِحْسَانِ إلَى الْفُقَرَاءِ؛ لَمَّا عَرَفَ قَدْرَ مُقَاسَاةِ الْمُبْتَلَى بِالْجُوعِ وَالْفَقْرِ وَهَذِهِ الْمَعَانِي مَوْجُودَةٌ فِي الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَإِنَّهَا مَعَانٍ مُسْتَحْسَنَةٌ عَقْلًا، وَالنَّهْيُ لَا يَرِدُ عَمَّا عُرِفَ حُسْنُهُ عَقْلًا لِمَا فِيهِ مِنْ التَّنَاقُضِ فَيُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ مُجَاوِرٍ لَهُ صِيَانَةً لِحُجَجِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَنْ التَّنَاقُضِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. (وَأَمَّا) فَصْلُ الشُّرُوعِ وَالْقَضَاءِ فَمَمْنُوعٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - إنَّمَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْطَارِ؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْإِتْمَامِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ لِضَرُورَةِ صِيَانَةِ الْمُؤَدَّى عَنْ الْإِبْطَالِ؛ لِأَنَّ إبْطَالَ الْعَمَلِ حَرَامٌ، وَهَهُنَا صَاحِبُ الْحَقِّ وَهُوَ اللَّهُ - تَعَالَى جَلَّتْ عَظَمَتُهُ - رَضِيَ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ، فَلَا يَحْرُمُ الْإِبْطَالُ فَلَا يَلْزَمُ الْإِتْمَامُ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ ضَرُورَةُ لُزُومِ الْإِتْمَامِ فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ لَا يَجِبُ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ أَوْ إلَى مَكَّةَ أَوْ إلَى بَكَّةَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَعَلَيْهِ ذَبْحُ شَاةٍ لِرُكُوبِهِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَكَانَ نَوْعَانِ: مَكَانٌ يَصِحُّ الدُّخُولُ فِيهِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ، وَهُوَ مَا سِوَى الْحَرَمِ: كَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ وَالْأَمَاكِنِ وَمَكَانٌ لَا يَصِحُّ الدُّخُولُ فِيهِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَهُوَ، الْحَرَمُ وَالْحَرَمُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَكَّةَ، وَمَكَّةُ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ عَلَى الْكَعْبَةِ، فَالنَّاذِرُ إمَّا أَنْ يُسَمَّى فِي النَّذْرِ الْكَعْبَةَ، أَوْ بَيْتَ اللَّهِ - تَعَالَى - أَوْ مَكَّةَ أَوْ بَكَّةَ أَوْ الْحَرَمَ أَوْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَالْأَفْعَالُ الَّتِي يُوجِبُهَا عَلَى نَفْسِهِ شِبْهَ أَلْفَاظِ الْمَشْيِ وَالْخُرُوجِ وَالسَّفَرِ وَالرُّكُوبِ وَالذَّهَابِ وَالْإِيَابِ فَإِنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَأَضَافَهُ إلَى مَكَان يَصِحُّ دُخُولُهُ فِيهِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لَا يَصِحُّ إيجَابُهُ، لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ التَّحَوُّلَ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان، وَذَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي نَذَرْتُ إنْ فَتَحَ لَك مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ مِائَتَيْ رَكْعَةٍ فِي مِائَةِ مَسْجِدٍ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: صَلِّي فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ» ، فَلَمْ يُصَحِّحْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَذْرَهَا بِالصَّلَاةِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ وَالنَّذْرُ بِخِلَافِ الْيَمِينِ، فَإِنَّ الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، بِأَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ لَأَذْهَبَنَّ إلَى مَوْضِعِ كَذَا، أَوْ لَأُسَافِرَنَّ، أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ الْأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا يَقِفُ انْعِقَادُهَا عَلَى كَوْنِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ قُرْبَةً، بَلْ يَنْعَقِدُ عَلَى الْقُرْبَةِ وَغَيْرِهَا، بِخِلَافِ النَّذْرِ. وَإِنْ أَضَافَ إيجَابَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي لَا يَصِحُّ الدُّخُولُ فِيهِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ يُنْظَرُ: فَإِنْ أَضَافَ إيجَابَ مَا سِوَى الْمَشْيِ إلَيْهِ لَا يَصِحُّ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ التَّحَوُّلَ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ أَضَافَ إيجَابَ الْمَشْيِ إلَيْهِ فَإِنْ ذَكَر سِوَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَمْكِنَةِ مِنْ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَمَكَّةَ وَبَكَّةَ

وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْحَرَمِ، بِأَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَشْيَ إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَمَسْجِدِ الْخَيْفِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِي الْحَرَمِ لَا يَصِحّ نَذْرُهُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ ذَكَر الْكَعْبَةَ وَبَيْتَ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَوْ مَكَّةَ أَوْ بَكَّةَ، يَصِحُّ نَذْرُهُ وَيَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا، وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَذَبَحَ لِرُكُوبِهِ شَاةً، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ النَّذْرِ أَنْ يَكُونَ الْمَنْذُورُ بِهِ قُرْبَةً مَقْصُودَةً، وَلَا قُرْبَةَ فِي نَفْسِ الْمَشْيِ، وَإِنَّمَا الْقُرْبَةُ فِي الْإِحْرَامِ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ بِسَائِرِ الْأَلْفَاظِ سِوَى لَفْظِ الْمَشْيِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ عِنْدَهُمْ كِنَايَةٌ عَنْ الْتِزَامِ الْإِحْرَامِ، يَسْتَعْمِلُونَهُ لِالْتِزَامِ الْإِحْرَامِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْقَلَ فِيهِ وَجْهُ الْكِنَايَةِ، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَضْرِبَ بِثَوْبِي حَطِيمَ الْكَعْبَةِ كِنَايَةً عَنْ الْتِزَامِ الصَّدَقَةِ بِاصْطِلَاحِهِمْ، وَالْإِحْرَامُ يَكُونُ بِالْحِجَّةِ أَوْ بِالْعُمْرَةِ فَيَلْزَمُهُ أَحَدُهُمَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ، فَإِنَّهَا مَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِالْتِزَامِ الْإِحْرَامِ بِهَا، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْبَابِ عُرْفُهُمْ وَعَادَتُهُمْ، وَلَا عُرْفَ هُنَاكَ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ مَاشِيًا؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَشْيَ، وَفِيهِ زِيَادَةُ قُرْبَةٍ، قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ حَجَّ مَاشِيًا فَلَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ قِيلَ: وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: وَاحِدَةٌ بِسَبْعِمِائَةٍ» ، فَجَازَ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ كَصِفَةِ التَّتَابُعِ فِي الصَّوْمِ، فَيَمْشِي حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَقَعُ الْفَرَاغُ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، إلَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَيَذْبَحَ لِرُكُوبِهِ شَاةً لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ أُخْتَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - غَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِكَ: مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ وَلْتُرِقْ دَمًا» . وَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ الْبَيْتَ مَاشِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِك فَلْتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ شَاةً وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ - تَعَالَى - حَافِيَةً حَاسِرَةً، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُقْبَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - غَنِيٌّ عَنْ عَنَاءِ أُخْتِكَ مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ شَاةً وَتُحْرِمْ إنْ شَاءَتْ بِحَجَّةٍ وَإِنْ شَاءَتْ بِعُمْرَةٍ» . وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ الْحَجَّ مَاشِيًا حَجَّ وَرَكِبَ وَذَبَحَ لِرُكُوبِهِ شَاةً رَوَاهُ فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا اسْتَوَى فِيهِ لَفْظُ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ اللَّهِ وَمَكَّةَ وَبَكَّةَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الْأُخَرِ، يُقَالُ: فُلَانٌ مَشَى إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَإِلَى الْكَعْبَةِ وَإِلَى مَكَّةَ، وَإِلَى بَكَّةَ وَلَا يُقَالُ مَشَى إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنْ ذَكَر الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَوْ الْحَرَمِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا إنَّ الْحَرَمَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْبَيْتِ وَعَلَى مَكَّةَ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَإِلَى مَكَّةَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ بِإِيجَابِ الْمَشْيِ الْمُضَافِ إلَى مَكَان مَا، لِمَا ذَكَر أَنَّ الْمَشْيَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ، إذْ هُوَ انْتِقَالٌ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان، فَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ قُرْبَةً، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ بِسَائِرِ الْأَلْفَاظِ إلَّا أَنَّا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْإِحْرَامَ فِي لَفْظِ الْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّه أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ أَوْ إلَى مَكَّةَ أَوْ إلَى بَكَّةَ لِلْعُرْفِ، حَيْثُ تَعَارَفُوا اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الْتِزَامِ الْإِحْرَامِ، وَلَمْ يَتَعَارَفُوا اسْتِعْمَالَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ مَشَى إلَى مَكَّةَ وَالْكَعْبَةِ وَبَيْتِ اللَّهِ وَلَا يُقَالُ مَشَى إلَى الْحَرَمِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ كَمَا يُقَالُ مَشَى إلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالْكِنَايَةُ يُتْبَعُ فِيهَا عَيْنُ اللَّفْظِ لَا الْمَعْنَى، بِخِلَافِ الْمَجَازِ فَإِنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ الْمَعْنَى اللَّازِمُ الْمَشْهُورُ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ ثَابِتَةٌ بِالِاصْطِلَاحِ كَالْأَسْمَاءِ الْمَوْضُوعَةِ، فَيُتَّبَعُ فِيهَا الْعُرْفُ، وَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ بِخِلَافِ الْمَجَازِ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَهُوَ يَنْوِي مَسْجِدًا مِنْ مَسَاجِدِ اللَّهِ سِوَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَسْجِدٍ بَيْتُ اللَّهِ - تَعَالَى - فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ، عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ إنْ كَانَتْ إرَادَةُ الْكَعْبَةِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ لَا غَيْرَ لَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ بَيْنِهِ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى - فَيَكْتَفِي فِيهِ بِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ إيَّاهُ فِي الْجُمْلَةِ. وَلَوْ قَالَ: أَنَا أُحْرِمُ أَوْ أَنَا مُحْرِمٌ أَوْ أُهْدِي أَوْ أَمْشِي إلَى الْبَيْتِ، فَإِنْ نَوَى بِهِ الْإِيجَابَ يَكُونُ إيجَابًا؛ لِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِيجَابُ، كَقَوْلِنَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ إنَّهُ يَكُونُ تَوْحِيدًا، وَكَقَوْلِ الشَّاهِدِ عِنْدَ الْقَاضِي: أَشْهَدُ أَنَّهُ يَكُونُ شَهَادَةً، فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَإِنْ نَوَى أَنْ يَعِدَ مِنْ نَفْسِهِ عِدَةً وَلَا يُوجِبَ شَيْئًا كَانَ عِدَةً وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الْعِدَةَ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعِدَاتِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ

فَهُوَ عَلَى الْوَعْدِ؛ لِأَنَّهُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَيْهِ، هَذَا إذَا لَمْ يُعَلِّقْهُ بِالشَّرْطِ، فَإِنْ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ بِأَنْ قَالَ إنْ فَعَلَتْ كَذَا فَأَنَا أُحْرِمُ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي بَيَّنَّا أَنَّهُ إنْ نَوَى الْإِيجَابَ يَكُونُ إيجَابًا، وَإِنْ نَوَى الْوَعْدَ يَكُونُ وَعْدًا لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى الْإِيجَابِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْعِدَاتِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالشُّرُوطِ، وَإِنَّ الْوَاجِبَاتِ تَتَعَلَّقُ بِهَا، فَالْمَعْرِفَةُ إلَى الْإِيجَابِ بِقَرِينَةِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ وَلَمْ تُوجَدْ الْقَرِينَةُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ بِالشَّرْطِ عَلَى الْوَعْدِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْإِيجَابَ، وَفِي الْمُعَلَّقِ يَقَعُ عَلَى الْإِيجَابِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْوَعْدَ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أَنْحَرَ وَلَدِي أَوْ أَذْبَحَ وَلَدِي يَصِحُّ نَذْرُهُ وَيَلْزَمُهُ الْهَدْيُ وَهُوَ نَحْرُ الْبَدَنَةِ أَوْ ذَبْحُ الشَّاةِ، وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْإِبِلُ ثُمَّ الْبَقَرُ ثُمَّ الشَّاةُ، وَإِنَّمَا يَنْحَرُ أَوْ يَذْبَحُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحَرَمِ أَوْ لَا، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ نَذْرُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ: أَنَّهُ نَذْرٌ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ، وَالنَّذْرُ بِالْمَعَاصِي غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ بِلَفْظِ الْقَتْلِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ: قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى» ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ النَّذْرُ بِمَا هُوَ طَاعَةٌ مَقْصُودَةٌ وَقُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَقَدْ نَذَرَ بِمَا هُوَ طَاعَةٌ مَقْصُودَةٌ وَقُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ؛ لِأَنَّهُ نَذْرٌ بِذَبْحِ الْوَلَدِ تَقْدِيرًا بِمَا هُوَ خَلَفٌ عَنْهُ وَهُوَ ذَبْحُ الشَّاةِ، فَيَصِحُّ النَّذْرُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ عَلَى وَجْهٍ يُظْهِرُ أَثَرَ الْوُجُوبِ فِي الشَّاةِ الَّتِي هِيَ خَلَفٌ عَنْهُ، كَالشَّيْخِ الْفَانِي إذَا نَذَرَ أَنْ يَصُومَ رَجَبَ أَنَّهُ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ، وَدَلِيلُ مَا قُلْنَا الْحَدِيثُ وَضَرْبٌ مِنْ الْمَعْقُولِ. (أَمَّا) الْحَدِيثُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ» أَرَادَ أَوَّلَ آبَائِهِ مِنْ الْعَرَبِ وَهُوَ سَيِّدُنَا إسْمَاعِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَآخِرَ آبَائِهِ حَقِيقَةً وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، سَمَّاهُمَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَبِيحَيْنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمَا مَا كَانَا ذَبِيحَيْنِ حَقِيقَةً فَكَانَا ذَبِيحَيْنِ تَقْدِيرًا بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ لِقِيَامِ الْخَلَفِ مَقَامَ الْأَصْلِ. (وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ إنَّمَا يَقْصِدُ بِنَذْرِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، إلَّا أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّقَرُّبِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ تَحْقِيقًا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُرَادًا مِنْ النَّذْرِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَبْحِهِ تَقْدِيرًا بِذَبْحِ الْخَلَفِ وَهُوَ ذَبْحُ الشَّاةِ فَكَانَ هَذَا نَذْرًا بِذَبْحِ الْوَلَدِ تَقْدِيرًا بِذَبْحِ مَا هُوَ خَلَفٌ عَنْهُ حَقِيقَةً، كَالشَّيْخِ الْفَانِي إذَا نَذَرَ بِالصَّوْمِ وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ بِلَفْظِ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ بِالنَّذْرِ وَقَعَ لِلْوَاجِبِ عَلَى سَيِّدِنَا إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْوَاجِبُ هُنَاكَ بِالْإِيجَابِ الْمُضَافِ إلَى ذَبْحِ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ -: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] عَلَى أَنَّ هَذَا حُكْمٌ ثَبَتَ اسْتِحْسَانًا بِالشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظِ الذَّبْحِ لَا بِلَفْظِ الْقَتْلِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْقَتْلِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي تَفْوِيتِ الْحَيَاةِ عَلَى سَبِيلِ الْقُرْبَةِ، وَالذَّبْحُ يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ بِقَتْلِ شَاةٍ لَا يَلْزَمُهُ، وَلَوْ نَذَرَ بِذَبْحِهَا لَزِمَهُ. وَلَوْ نَذَرَ بِنَحْرِ نَفْسِهِ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ، وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَلَوْ نَذَرَ بِنَحْرِ وَلَدِ وَلَدِهِ ذُكِرَ فِي شَرْحِ الْآثَارِ أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ. وَلَوْ نَذَرَ بِنَحْرِ وَالِدَيْهِ أَوْ جَدِّهِ أَوْ جَدَّتِهِ - يَصِحُّ نَذْرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ لَا يَصِحُّ. وَلَوْ نَذَرَ بِذَبْحِ عَبْدِهِ: عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِحُّ، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ لَا يَصِحُّ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْوَلَدِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَعْنَى فِي الْوَلَدِ، فَالْمَعْنَى فِي الْوَلَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ أَنَّهُ نَذْرٌ بِالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِذَبْحِ مَا هُوَ أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الْوَالِدَيْنِ وَلَا يُوجَدُ فِي الْعَبْدِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَعْنَى فِي الْوَلَدِ أَنَّ النَّذْرَ بِذَبْحِهِ تَقَرُّبٌ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِمَا هُوَ مِنْ مَكَاسِبِهِ، وَالْوَلَدُ فِي مَعْنَى الْمَمْلُوكِ لَهُ شَرْعًا، قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ» وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ، فَعَدَّى الْحُكْمَ إلَى الْمَمْلُوكِ حَقِيقَةً وَهُوَ الْعَبْدُ وَإِلَى النَّفْسِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ لِكَوْنِهِمَا فِي مَعْنَى الْمَمْلُوكِ لَهُ، وَلَمْ يُعَدِّ إلَى الْوَالِدَيْنِ لِانْعِدَامِ هَذَا الْمَعْنَى، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ نَذْرُ الْجَدِّ بِذَبْحِ الْحَافِدِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ. وَإِذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْهَدْيَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ: إنْ شَاءَ أَهْدَيْ شَاةً، وَإِنْ شَاءَ بَقَرَةً، وَإِنْ شَاءَ إبِلًا وَأَفْضَلُهَا أَعْظَمُهَا؛ لِأَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بَدَنَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ، وَالْإِبِلُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبَدَانَةِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ وَلَوْ أَوْجَبَ جَزُورًا فَعَلَيْهِ الْإِبِلُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجَزُورِ يَقَعُ عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَلَا يَجُوزُ فِيهِمَا إلَّا مَا يَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ وَهُوَ الثَّنِيُّ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَالْجَذَعُ مِنْ

الضَّأْنِ إذَا كَانَ ضَخْمًا، وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدْيِ الَّذِي أَوْجَبَ إلَّا فِي الْحَرَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْسَ الْبَيْتِ بَلْ الْبُقْعَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَهِيَ الْحَرَمُ؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يُرَاقُ فِي الْبَيْتِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] نَفْسُ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَهَهُنَا أَضَافَهُ إلَى الْبَيْتِ، لِذَلِكَ افْتَرَقَا؛ وَلِأَنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى مَكَانِ الْهَدَايَا، وَمَكَانُ الْهَدَايَا هُوَ الْحَرَمُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهَا إلَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى رُكُوبِهَا رَكِبَهَا، وَيَضْمَنُ مَا نَقَصَ رُكُوبُهُ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْمَنَاسِكِ. وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُهْدِيَ مَالًا بِعَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الذَّبْحَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ بِقِيمَتِهِ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُذْبَحُ ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ الْكُوفَةِ جَازَ كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ. وَلَوْ أَوْجَبَ بَدَنَةً فَذَبَحَهَا فِي الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ ذَبَحَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِاللَّحْمِ عَلَى الْفُقَرَاءِ جَازَ عَنْ نَذْرِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ وَلَوْ أَوْجَبَ جَزُورًا فَلَهُ أَنْ يَنْحَرَهُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَيَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهِ وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْحَجِّ. وَلَوْ قَالَ مَا أَمْلِكُ هَدْيٌ أَوْ قَالَ مَا أَمْلِكُ صَدَقَةٌ يُمْسِكُ بَعْضَ مَالِهِ وَيُمْضِي الْبَاقِيَ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْهَدْيَ وَالصَّدَقَةَ إلَى جَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ جِنْسٍ مِنْ جِنْسِ أَمْوَالِهِ، وَيَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ إلَّا أَنَّهُ يُمْسِكُ بَعْضَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِالْكُلِّ لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» فَكَانَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ مِقْدَارَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكْفِيهِ إلَى أَنْ يَكْتَسِبَ، فَإِذَا اكْتَسَبَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ انْتَفَعَ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ وَاجِبَ الْإِخْرَاجِ عَنْ مِلْكِهِ لِجِهَةِ الصَّدَقَةِ، فَكَانَ عَلَيْهِ عِوَضُهُ، كَمَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ مَالِي صَدَقَةٌ فَهَذَا عَلَى الْأَمْوَالِ الَّتِي فِيهَا الزَّكَاةُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَالسَّوَائِمِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدُورِ السُّكْنَى وَثِيَابِ الْبَدَنِ وَالْأَثَاثِ وَالْعُرُوضِ الَّتِي لَا يَقْصِدُ بِهَا التِّجَارَةَ وَالْعَوَامِلَ وَأَرْضَ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مِقْدَارِ النِّصَابِ وَمَا دُونَهُ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الزَّكَاةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْجِنْسُ لَا الْقَدْرُ؟ وَلِهَذَا قَالُوا: إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ جِنْسُ مَالٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، فَإِنْ قَضَى دِينَهُ بِهِ لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بِمِثْلِهِ لِمَا ذَكَرنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرنَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْأَمْوَالِ كَمَا فِي فَصْلِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ اسْمٌ لِمَا يُتَمَوَّلُ كَمَا أَنَّ الْمِلْكَ اسْمٌ لِمَا يُمْلَكُ، فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَمْوَالِ كَالْمِلْكِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النَّذْرَ يُعْتَبَرُ بِالْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ بِإِيجَابِ اللَّهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْ الْعَبْدِ مُبَاشَرَةُ السَّبَبِ الدَّالِ عَلَى إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ الْإِيجَابُ الْمُضَافُ إلَى الْمَالِ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي الْأَمْرِ وَهُوَ الزَّكَاةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] ، وَقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ -: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] وَنَحْوُ ذَلِكَ تَعَلَّقَ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ فَكَذَا فِي النَّذْرِ وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - إذَا حَلَفَ لَا يَمْلِكُ مَالًا، وَلَا نِيَّةَ، لَهُ وَلَيْسَ لَهُ مَالُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَالِ لَا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَلَا أَحْفَظُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا نَوَى بِهَذَا النَّذْرِ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُ - دَارُهُ تَدْخُلُ فِي نَذْرِهِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا دُونَ النِّصَابِ وَلَا أَحْفَظُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَا. وَإِذَا كَانَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ عُشْرِيَّةٌ أَوْ غَلَّةٌ عُشْرِيَّةٌ تَصَدَّقَ بِهَا فِي قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - وَهُوَ الْعُشْرُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَدْخُلُ الْأَرْضُ فِي النَّذْرِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَتَصَدَّقُ بِهَا لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - بِهَا فَتَدْخُلُ فِي النَّذْرِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ حَقَّ اللَّهِ - تَعَالَى - لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنْهَا فَلَا تَدْخُلُ. قَالَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إذَا جَعَلَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُطْعِمَ عَشْرَةَ مَسَاكِينَ وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِنْ أَطْعَمَ خَمْسَةً لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ يُعْتَبَرُ بِأَصْلِ الْإِيجَابِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِعَدَدٍ مِنْ الْمَسَاكِينِ لَا يَجُوزُ دَفْعُهُ إلَى بَعْضِهِمْ إلَّا عَلَى التَّفْرِيقِ فِي الْأَيَّامِ فَكَذَا النَّذْرُ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى وَاحِدٍ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِيهَا جَمِيعَ الْمَسَاكِينُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] ، كَذَلِكَ النَّذْرُ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُطْعِمَ هَذَا الْمِسْكِينَ هَذَا

الطَّعَامَ بِعَيْنِهِ فَأَعْطَى ذَلِكَ الطَّعَامَ غَيْرَهُ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِمَالٍ مُتَعَيَّنٍ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهَا الْمِسْكِينُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَيَّنَ الْمَالَ صَارَ هُوَ الْمَقْصُودَ فَلَا يُعْتَبَرُ تَعْيِينُ الْفَقِيرِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعْطِيَ الَّذِي عَيَّنَهُ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُطْعِمَ هَذَا الْمِسْكَيْنِ شَيْئًا سَمَّاهُ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْطِيَهُ الَّذِي سَمَّاهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُعَيِّنْ الْمَنْذُورَ صَارَ تَعْيِينُ الْفَقِيرِ مَقْصُودًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهُ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ إطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ وَهُوَ لَا يَنْوِي أَنْ يُطْعِمَ عَشْرَةَ مَسَاكِينَ، إنَّمَا نَوَى أَنْ يُطْعِمَ وَاحِدًا مَا يَكْفِي عَشْرَةً أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ اسْمٌ لِلْمِقْدَارِ، فَكَأَنَّهُ أَوْجَبَ مِقْدَارَ مَا يُطْعِمُ عَشْرَةً، فَيَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَ بَعْضَهُمْ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ، ثُمَّ قَالَ: إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، فَكَلَّمَ فُلَانًا وَقَدِمَ فُلَانٌ - أَجْزَأَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ إذَا سَمَّى يَوْمًا بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ وُجُوبَ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِشَرْطَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِيَالِهِ، فَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطَانِ مَعًا وَجَبَتْ بِالْإِيجَابَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ سَبَبَيْنِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ جَائِزٌ، فَإِنْ وُجِدَا عَلَى التَّعَاقُبِ وَجَبَ بِالْأَوَّلِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّانِي حُكْمٌ. نَظِيرُهُ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ دَخَلَ زَيْدٌ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ إنْ دَخَلَهَا عَمْرٌو فَأَنْتَ حُرٌّ فَإِنْ دَخَلَا مَعًا عَتَقَ الْعَبْدُ بِالْإِيجَابَيْنِ، وَإِنْ دَخَلَا عَلَى التَّعَاقُبِ عَتَقَ بِالْأَوَّلِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّانِي حُكْمٌ كَذَا هَذَا. وَلَوْ قَالَ: إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ فَكَلَّمَ فُلَانًا - وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ التَّصَدُّقَ بِهَا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِنْ أَعْطَى ذَلِكَ مِنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ أَوْ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ فَعَلَيْهِ لِنَذْرِهِ مِثْلُ مَا أَعْطَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْطَى تَعَيَّنَ لِلْإِخْرَاجِ بِجِهَةِ النَّذْرِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْإِخْرَاجِ بِجِهَةِ الزَّكَاةِ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ بِحَقٍّ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لَهُ فَيَضْمَنُ مِثْلَهُ، كَمَا لَوْ أَنْفَقَهُ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مِثَالَ الْوَاجِبِ تَعَيَّنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَنْ النَّذْرَيْنِ فَجَازَ عَنْهُمَا. وَلَوْ قَالَ: إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثُمَّ صَامَ يَوْمَ الْخَمِيسِ عَنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ، أَوْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ تَطَوُّعًا فَقَدِمَ فُلَانٌ يَوْمئِذٍ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ - فَعَلَيْهِ يَوْمٌ مَكَانَهُ لِقُدُومِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَنْ جِهَةِ النَّذْرِ، لِوُجُودِ شَرْطِ وُجُوبِهِ وَهُوَ قُدُومُ فُلَانٍ فِيهِ؛ فَإِذَا صَامَ عَنْ غَيْرِهِ فَقَدْ مَنَعَ وُقُوعَهُ عَنْ النَّذْرِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَدِمَ بَعْدَمَا أَكَلَ، فَيَلْزَمُهُ صَوْمُ يَوْمٍ آخِرَ مَكَانَهُ لِقُدُومِ فُلَانٍ، وَلَوْ كَانَ أَرَادَ بِهَذَا الْقَوْلِ الْيَمِينَ لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ؛ لِوُجُودِ شَرْطِ الْبِرِّ وَهُوَ صَوْمُ الْيَوْمِ الَّذِي حَلَفَ عَلَى صَوْمِهِ، وَجِهَاتُ الصَّوْمِ لَمْ تَتَنَاوَلْهَا الْيَمِينُ، وَلَوْ كَانَ قَدِمَ فُلَانٌ بَعْدَ الظُّهْرِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ بَعْدَ الظُّهْرِ لَمْ يَجِبْ الصَّوْمُ عَنْ النَّذْر، كَمَا لَوْ أَنْشَأَ النَّذْرَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ فَلَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ قَبْلَ الزَّوَالِ فِي يَوْمٍ قَدْ أَكَلَ فِيهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ؛ لِأَنَّ الْقُدُومَ حَصَلَ فِي زَمَانٍ يَصِحُّ ابْتِدَاءُ النَّذْرِ فِيهِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ الصَّوْمُ لِوُجُودِ الْمُنَافِي لَهُ وَهُوَ الْأَكْلُ، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النَّذْرِ كَمَا لَوْ أَوْجَبَ ثُمَّ أَكَلَ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الشَّهْرَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ، فَقَدِمَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَهُ فِي رَمَضَانَ - أَجْزَأَ عَنْ رَمَضَانَ، وَلَا يَلْزَمُهُ صَوْمٌ آخَرُ بِالنَّذْرِ؛ لِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ يَتَعَيَّنُ لِصَوْمِهِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَذَا النَّذْرِ حُكْمٌ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ لِتَحَقُّقِ الْبِرِّ وَهُوَ الصَّوْمُ، وَالْيَمِينُ انْعَقَدَتْ عَلَى الصَّوْمِ دُونَ غَيْره وَقَدْ صَامَ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ شُكْرًا لِلَّهِ تَطَوَّعَا لِقُدُومِهِ، وَنَوَى بِهِ الْيَمِينَ فَصَامَهُ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ، ثُمَّ قَدِمَ فُلَانٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ عِنْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ - فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَالْكَفَّارَةُ:. (أَمَّا) الْقَضَاءُ فَلِأَنَّهُ نَذْر أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِلْقُدُومِ وَذَلِكَ الْيَوْمُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ لِصَوْمِ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا صَامَ عَنْ جِهَةٍ يَتَعَيَّنُ الْوَقْتُ لَهَا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ. (وَأَمَّا) الْكَفَّارَةُ؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى مُطْلَقِ الصَّوْمِ، بَلْ عَلَى أَنْ يَصُومَ عَنْ الْقُدُومِ، فَإِذَا صَامَ عَنْ غَيْرِهِ لَمْ يُوجَدْ الْبِرُّ فَيَحْنَثُ، وَلَوْ كَانَ فِي رَمَضَانَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. (أَمَّا) عَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ فَلِأَنَّ زَمَانَ رَمَضَانَ يَتَعَيَّنُ لِصَوْمِ رَمَضَانَ، فَلَا يَصِحُّ إيجَابُ الصَّوْمِ فِيهِ لِغَيْرِهِ. (وَأَمَّا) وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِيهِ؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَصُمْ لِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُوجَدْ الْبِرُّ وَإِنْ صَامَهُ يَنْوِي الشُّكْرَ عَلَى قُدُومِ فُلَانٍ وَلَا يَنْوِي رَمَضَانَ بَرَّ فِي يَمِينِهِ وَأَجْزَأَهُ عَنْ رَمَضَانَ. (أَمَّا) الْجَوَازُ عَنْ رَمَضَانَ؛ فَلِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ، لِكَوْنِ الزَّمَانِ مُتَعَيِّنًا لَهُ فَوَقَعَ عَنْهُ. (وَأَمَّا) بِرُّهُ فِي يَمِينِهِ فَلِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى الصَّوْمِ بِجِهَةٍ، وَقَدْ قَصْد تِلْكَ الْجِهَةَ إلَّا أَنَّهُ وَقَعَ عَنْ غَيْرِهِ حُكْمًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ شَهْرًا فَإِنَّهُ يَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، حَتَّى يَسْتَكْمِلَ مِنْهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَإِنَّهُ تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، إذْ الْيَوْمُ الْوَاحِدُ لَا يُوجَدُ شَهْرًا، لِأَنَّهُ إذَا مَضَى لَا يَعُودُ ثَانِيًا، فَيُحْمَلُ عَلَى الْتِزَامِ صَوْمِ الْيَوْمِ الْمُسَمَّى

بِذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَوْ الْخَمِيسِ كُلَّمَا تَجَدَّدَ إلَى أَنْ يَسْتَكْمِلَ شَهْرًا ثَلَاثِينَ يَوْمًا، حَمْلًا لِلْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ يَوْمًا نُظِرَ إلَى ذَلِكَ الشَّهْرِ أَنَّهُ رَجَبٌ أَوْ شَعْبَانُ أَوْ غَيْرُهُ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رَجَبًا أَوْ شَعْبَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ، إذْ الشَّهْرُ لَا يُوجَدُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَدْ قَصَدَ تَصْحِيحَ نَذْرِهِ، فَيُحْمَلُ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ وَهُوَ حَمْلُ الْيَوْمِ عَلَى الْوَقْتِ. وَقَدْ يُذْكَرُ الْيَوْمُ وَيُرَادُ بِهِ مُطَلَّقُ الْوَقْتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] ، وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ: يَوْمًا لَنَا وَيَوْمًا عَلَيْنَا عَلَى إرَادَةِ مُطْلَقِ الْوَقْتِ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ غَدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي قَالَ فِيهِ هَذَا الْقَوْلَ؛ إنْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ أَنْ يَتَنَاوَلَ مَا يَنْقُضُ صَوْمَهُ، وَيَبْطُلُ قَوْلُهُ غَدًا؛ لِأَنَّهُ رَكَّبَ اسْمًا عَلَى اسْمٍ لَا بِحَرْفِ النَّسَقِ، فَبَطَلَ التَّرْكِيبُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ إيجَابَ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ غَدًا، وَهَذَا الْيَوْمُ لَا يُوجَدُ فِي غَدٍ، فَلَا يَكُونُ الْغَدُ ظَرْفًا لَهُ، بَطَلَ قَوْلُهُ غَدًا وَبَقِيَ قَوْلُهُ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ، فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَإِنْ كَانَ قَابِلًا لِلْإِيجَابِ صَحَّ، وَإِلَّا بَطَل بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ قَدْ يُعْتَدُّ بِهِ عَنْ مُطْلَقِ الْوَقْتِ. (وَأَمَّا) الْغَدُ فَلَا يَصْلُحُ عِبَارَةً عَنْ مُطْلَقِ الْوَقْتِ، وَلَا يُعَبَّر بِهِ إلَّا عَنْ عَيْنِ الْغَدِ وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا الْيَوْمَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ غَدًا وَقَوْلُهُ: الْيَوْمَ حَشْوٌ مِنْ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمَ الْغَدِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَلَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ الْيَوْمَ؛ لِأَنَّهُ رَكَّبَهُ عَلَى الْغَدِ لَا بِحَرْفِ النَّسَقِ فَبَطَلَ؛ لِأَنَّ صَوْمَ غَدِّ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ فِي الْيَوْمِ، فَلُغِيَ قَوْلُهُ: الْيَوْمَ، وَبَقِيَ قَوْلُهُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ أَمْسِ غَدًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ أَمْسِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُصَامَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ ثَانِيًا فَبَطَلَ الِالْتِزَامُ فِيهِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِقَوْلِهِ: غَدًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ صَوْمَ غَدٍ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْغَدَ ظَرْفًا لِلْأَمْسِ؛ وَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا لَهُ، فَلَغِيَتْ تَسْمِيَةُ الْغَدِ أَيْضًا، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا النَّوْعِ أَنَّ اللَّفْظَ الثَّانِيَ يَبْطُلُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا؛ لِمَا ذَكَرنَا؛ وَإِذَا بَطَلَ هَذَا يُنْظَرُ إلَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ فَإِنْ صَلَحَ صَحَّ النَّذْرُ بِهِ وَإِلَّا بَطَلَ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ كَذَا كَذَا يَوْمًا، وَلَا نِيَّةَ لَهُ - فَعَلَيْهِ صَوْمُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ عَدَدَيْنِ مُفْرَدَيْنِ مُجْمَلَيْنِ لَا بِحَرْفِ النَّسَقِ، فَانْصَرَفَ إلَى أَقَلِّ عَدَدَيْنِ مُفْرَدَيْنِ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا لَا بِحَرْفِ النَّسَقِ وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَالزِّيَادَةُ مَشْكُوكٌ فِيهَا، وَإِنْ نَوَى شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى يَوْمًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ حَمْلَ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى التَّكْرَارِ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ؛ يُقَالُ: صَوْمُ يَوْمٍ يَوْمٍ وَيُرَادُ بِهِ تَكْرَارُ يَوْمٍ، وَإِذَا جَازَ هَذَا فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَعَمِلَتْ نِيَّتُهُ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ كَذَا وَكَذَا يَوْمًا فَعَلَيْهِ صَوْمُ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ عَدَدَيْنِ مُفْرَدَيْنِ عَلَى الْإِكْمَالِ بِحَرْفِ النَّسَقِ، فَحُمِلَ عَلَى أَقَلِّ ذَلِكَ، وَأَقَلُّهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى، وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ، يُقَالُ: صَوْمُ يَوْمٍ يَوْمٍ وَيُرَادُ بِهِ تَكْرَارُ يَوْمٍ وَاحِدٍ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوِمًا؛ لِأَنَّ الْبِضْعَ عِنْدَ الْعَرَبِ عِبَارَةٌ عَنْ ثَلَاثَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إلَى تَمَامِ الْعَقْدِ وَهُوَ عَشْرَةٌ وَعِشْرُونَ وَثَلَاثُونَ وَأَرْبَعُونَ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ صُرِفَ إلَى أَقَلِّهِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ؛ إذْ الْأَقَلُّ مُتَيَقَّنٌ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ سِنِينَ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ مُسْتَحَقَّةُ هَذَا الِاسْمِ بِيَقِينٍ، وَلَوْ قَالَ: السِّنِينَ فَهُوَ عَلَى عَشْرِ سِنِينَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا عَلَى الْأَبَدِ. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ صَوْمُ الشُّهُورِ فَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، وَعِنْدَهُمَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا. وَلَوْ قَالَ صَوْمُ شُهُورٍ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا هَذَا فِي الْأَيَّامِ، وَأَيَّامًا مُنَكَّرًا وَمُعَرَّفًا، وَعِنْدَهُمَا الْمُعَرَّفُ يَقَعُ عَلَى الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ. وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ جُمَعِ هَذَا الشَّهْرِ فَعَلَيْهِ صَوْمُ كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ فِي ظَاهِرِ الْعَادَةِ عَيْنُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ أَيَّامِ الْجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ صَوْمُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ أَيَّامَ الْجُمُعَةِ سَبْعَةٌ فِي تَعَارُفِ النَّاسِ. وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ جُمُعَةٍ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى إنْ نَوَى عَيْنَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، أَوْ نَوَى أَيَّامَهَا؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِهِ يَحْتَمِلُ كِلَيْهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى أَيَّامِهَا؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ فِي أَغْلِبْ الْعَادَاتِ أَيَّامُهَا وَاَللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ. وَلَوْ نَذَرَ بِقُرْبَةٍ مَقْصُودَةٍ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ، فَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ: عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ وَكَذَا إذَا قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ -، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ، وَكُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ إذَا دَخَلْتُ الدَّارَ، فَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ: عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ، ثُمَّ

دَخَلَ الثَّانِي الدَّارَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْعَتَاقُ وَالطَّلَاقُ، ثُمَّ: قَالَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ طَلَاقُ امْرَأَتِي فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: الطَّلَاقُ عَلَيَّ وَاجِبٌ أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ. قَالَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَكَانَ أَصْحَابُنَا بِالْعِرَاقِ يَقُولُونَ فِيمَنْ قَالَ: الطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِعُرْفِ النَّاسِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ الطَّلَاقَ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ يَقُولُ: إنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِكُلِّ حَالٍ. وَحَكَى الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ بْنِ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْخِلَافِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ -: إذَا قَالَ الطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ أَوْ عَلَيَّ وَاجِبٌ - لَمْ يَقَعْ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَقَعُ فِي قَوْلِهِ لَازِمٌ وَلَا يَقَعُ فِي قَوْلِهِ وَاجِبٌ، وَحَكَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ قَالَ: أَلْزَمْتُ نَفْسِي طَلَاقَ امْرَأَتِي هَذِهِ أَوْ أَلْزَمْتُ نَفْسِي عِتْقَ عَبْدِي هَذَا قَالَ: إنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ فَهُوَ وَاقِعٌ، وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْهُ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَلْزَمْتُ نَفْسِي طَلَاقَ امْرَأَتِي هَذِهِ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ أَوْ عِتْقَ عَبْدِي هَذَا؛ فَدَخَلَ الدَّارَ - وَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ إنْ نَوَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّ الْوُقُوعَ لِلْعَادَةِ، وَالْعَادَةُ فِي اللُّزُومِ؛ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَهُ عَلَى إرَادَةِ الْإِيقَاعِ، وَلَا عَادَةَ فِي الْإِيجَابِ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ وَلِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الظَّاهِرَ الْإِلْزَامُ وَالْإِيجَابُ لِلنَّذْرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْتِزَامُ حُكْمِ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ فَيَقِفُ عَلَى النِّيَّةِ كَسَائِرِ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِيجَابَ وَالْإِلْزَامَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَبَطَلَ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا قَالَ رَجُلٌ: امْرَأَةُ زَيْدٍ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَرَقِيقُهُ أَحْرَارٌ، وَعَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - إنْ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ؛ فَقَالَ زَيْدٌ: نَعَمْ - كَانَ كَأَنَّهُ قَدْ حَلَفَ بِذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ نَعَمْ جَوَابٌ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، فَيَتَضَمَّنُ إضْمَارَ مَا خَرَجَ جَوَابًا لَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ -: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] ، تَقْدِيرُهُ: نَعَمْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، وَكَالشُّهُودِ إذَا قَرَءُوا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ كِتَابَ الْوَثِيقَةِ، فَقَالُوا: نَشْهَدُ عَلَيْك بِمَا فِيهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ إنَّ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ نَعَمْ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَالَ نَعَمْ وَلَكِنَّهُ قَالَ أَجَزْتُ ذَلِكَ، فَهَذَا لَمْ يَحْلِفْ عَلَى شَيْءٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَجَزْتُ لَيْسَ بِإِيجَابٍ وَالْتِزَامٍ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَإِنْ قَالَ: قَدْ أَجَزْتُ ذَلِكَ عَلَيَّ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ، أَوْ قَالَ: قَدْ أَلْزَمْتُ نَفْسِي ذَلِكَ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ، كَانَ لَازِمًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا قَالَهُ، فَلَزِمَهُ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: امْرَأَةُ زَيْدٍ طَالِقٌ، فَقَالَ زَيْدٌ: قَدْ أَجَزْت لَزِمَهُ الطَّلَاقُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: قَدْ رَضِيت مَا قَالَ أَوْ أَلْزَمْتُهُ نَفْسِي؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِيَمِينٍ، بَلْ هُوَ إيقَاعٌ، فَيَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ، فَأَمَّا الْيَمِينُ فَيَحْتَاجُ إلَى الِالْتِزَامِ، لِيَجُوزَ عَلَى الْحَالِفِ وَيَنْفُذَ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ الِالْتِزَامِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: إنْ بِعْتُ هَذَا الْمَمْلُوكَ مِنْ زَيْدٍ فَهُوَ حُرٌّ؛ فَقَالَ زَيْدٌ قَدْ أَجَزْتُ ذَلِكَ أَوْ رَضِيت ذَلِكَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ - لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِشَرْطٍ، فَوُجِدَ الشَّرْطُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَلَمْ يَحْنَثْ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِجَازَةِ حُكْمٌ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يُوَقِّتْ الْيَمِينَ، وَإِنَّمَا حَلَفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ قَالَ: إنْ اشْتَرَى زَيْدٌ هَذَا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ، فَقَالَ: نَعَمْ ثُمَّ اشْتَرَاهُ عَتَقَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَعْقِدْ الْيَمِينَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إلَى مُلْكِ الْمُشْتَرِي، فَصَارَ عَاقِدًا لِيَمِينٍ مَوْقُوفَةٍ، وَقَدْ أَجَازَهَا مَنْ وُقِفَتْ عَلَيْهِ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهَا. وَقَالَ ابْن سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ آخَرُ: عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ - فَإِنَّ هَذَا لَا يَلْزَمُ الثَّانِيَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَلَيَّ مِثْلُ هَذَا الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ، إيجَابُ الطَّلَاقِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِيجَابَ. وَلَوْ حَلَفَ رَجُلٌ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَقَالَ آخَر: عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ إنْ دَخَلْتُهَا - فَإِنْ دَخَلَهَا الثَّانِي، لَمْ يَلْزَمْهُ طَلَاقُ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الطَّلَاقَ إنْ دَخَلَ الدَّارَ وَالطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِيجَابَ وَالْإِلْزَامَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةِ، فَإِنْ أَرَادَ بِهَذَا الْإِيجَابِ الْيَمِينَ فَلَيْسَتْ بِطَلَاقٍ حَتَّى تَطْلُقَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ أَحَدُهُمَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ إذَا أُرِيد بِهِ الْيَمِينُ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: لَأُطَلِّقَنَّهَا وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَمُوتَ أَحَدُهُمَا كَذَا هَذَا. وَلَوْ قَالَ: عَبْدِي هَذَا حُرٌّ إنْ دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ، فَقَالَ آخَرُ: عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ إنْ دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ، فَدَخَلَ الثَّانِي - لَمْ يَعْتِقْ عَبْدُهُ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِدُخُولِ الدَّارِ عِتْقًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ يَعْتِقُهُ فَلَا يَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِعَبِيدِهِ الْمَوْجُودِينَ لَا مَحَالَةَ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِمْ لَا يَلْزَمُهُ عِتْقٌ فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ الْحَالِفُ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَسَمَةٌ إنْ دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ، فَقَالَ آخَرُ: عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ إنْ دَخَلْتُ - فَهَذَا لَازِمُ لِلْأَوَّلِ وَلَازِمٌ لِلثَّانِي؛ أَيُّهُمَا دَخَلَ لَزِمَهُ نَسَمَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَوْجَبَ

فصل في حكم النذر

عِتْقًا فِي ذِمَّتِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ بِالنَّذْرِ، وَإِذَا أَوْجَبَ آخَر مِثْلَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ مَا أَوْجَبَ الْعِتْقَ بَلْ عَلَّقَ، فَلَا يَكُونُ عَلَى الثَّانِي إيجَابٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلٍ. وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَا لِي هَدْيٌ وَقَالَ: آخَرُ وَعَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ - فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ جَمِيعَ مَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مَالِ الْأَوَّلِ أَوْ أَكْثَرَ؛ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ مِثْلَ قَدْرِهِ فَيَلْزَمُهُ مِثْلُ ذَلِكَ، إنْ كَانَ مَالُ الثَّانِي أَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَ مَالُ الثَّانِي أَقَلَّ يَلْزَمُهُ فِي ذِمَّتِهِ تَمَامُ مَالِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِيجَابِ يُضَافُ إلَى هَدْيِ جَمِيعِ مَالِهِ كَمَا أَوْجَبَ الْأَوَّلُ، فَإِذَا أَرَادَ الْقَدْرَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالَ رَجُلٌ: كُلُّ مَالٍ أَمْلِكُ إلَى سَنَةٍ فَهُوَ هَدْيٌ، فَقَالَ آخَرُ: عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ - لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ لَمْ يُضِفْ الْهَدْيَ إلَى الْمِلْكِ، فَلَا تَثْبُتُ الْإِضَافَةُ بِالْإِضْمَارِ. وَاَللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَنْذُورُ بِهِ إذَا كَانَ مَالًا مَمْلُوكَ النَّاذِرِ وَقْتَ النَّذْرِ، أَوْ كَانَ النَّذْرُ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ، أَوْ إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ، حَتَّى لَوْ نَذَرَ بِهَدْيِ مَا لَا يَمْلِكُهُ، أَوْ بِصَدَقَةِ مَا لَا يَمْلِكُهُ لِلْحَالِ - لَا يَصِحُّ، لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ» إلَّا إذَا أَضَافَ إلَى الْمِلْكِ، أَوْ إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ بِأَنْ قَالَ: كُلُّ مَالٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا أَسْتَقْبِلُ فَهُوَ هَدْيٌ، أَوْ قَالَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، أَوْ قَالَ: كُلَّمَا اشْتَرَيْته أَوْ أَرِثُهُ فَيَصِحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعَيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالصَّحِيحُ: قَوْلُنَا لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] . دَلَّتْ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ عَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ الْمُضَافِ؛ لِأَنَّ النَّاذِرَ بِنَذْرِهِ عَاهَدَ اللَّهَ تَعَالَى الْوَفَاءَ بِنَذْرِهِ، وَقَدْ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِمَا عَهِدَ، وَالْمُؤَاخَذَةُ عَلَى تَرْك الْوَفَاءِ بِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي النَّذْرِ الصَّحِيحِ. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ مَفْرُوضًا وَلَا وَاجِبًا، فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِشَيْءٍ مِنْ الْفَرَائِضِ سَوَاءٌ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ، أَوْ فَرْضَ كِفَايَةٍ كَالْجِهَادِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ سَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا كَالْوِتْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُمْرَةِ وَالْأُضْحِيَّةِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ كَتَجْهِيزِ الْمَوْتَى وَغُسْلِهِمْ وَرَدِّ السَّلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْوَاجِبِ لَا يُتَصَوَّرُ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ فَخُلُوُّهُ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنْ دَخَلَهُ أَبْطَلَهُ. [فَصْلٌ فِي حُكْمُ النَّذْرِ] (فَصْلٌ) : (وَأَمَّا) حُكْمُ النَّذْرِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِهِ، وَالثَّالِثُ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِهِ. - أَمَّا أَصْلُ الْحُكْمِ فَالنَّاذِرُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ نَذَرَ وَسَمَّى، أَوْ نَذَرَ وَلَمْ يُسَمِّ، فَإِنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَحُكْمُهُ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِمَا سَمَّى، بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ. (أَمَّا) الْكِتَابُ الْكَرِيمِ فَقَوْلُهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} [الإسراء: 34] ، وَقَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ -: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] ، وَالنَّذْرُ نَوْعُ عَهْدٍ مِنْ النَّاذِرُ مَعَ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِمَا عَهِدَ، وَقَوْلُهُ - جَلَّتْ عَظَمَتُهُ - {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] أَيْ الْعُهُودِ، وَقَوْلُهُ - عَزَّ شَأْنُهُ -: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75] إلَى قَوْله تَعَالَى: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} [التوبة: 77] أَلْزَمَ الْوَفَاءَ بِعَهْدِهِ حَيْثُ أَوْعَدَ عَلَى تَرْكِ الْوَفَاءِ. (وَأَمَّا) السُّنَّةُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ تَعَالَى فَلْيُطِعْهُ» ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى» ، وَعَلَى كَلِمَةُ إيجَابٍ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» ، وَالنَّاذِرُ شَرَطَ الْوَفَاءَ بِمَا نَذَرَ فَيَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ شَرْطِهِ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ. (وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِنَوْعٍ مِنْ الْقُرَبِ الْمَقْصُودَةِ الَّتِي لَهُ رُخْصَةُ تَرْكِهَا لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمُعَاقَبَةِ الْحَمِيدَةِ، وَهِيَ نَيْلُ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَالسَّعَادَةُ الْعُظْمَى فِي دَارِ الْكَرَامَةِ، وَطَبْعُهُ لَا يُطَاوِعُهُ عَلَى تَحْصِيلِهِ، بَلْ يَمْنَعُهُ عَنْهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَضَرَّةِ الْحَاضِرَةِ وَهِيَ الْمَشَقَّةُ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي التَّرْكِ فَيَحْتَاجُ إلَى اكْتِسَابِ سَبَبٍ يُخْرِجُهُ عَنْ رُخْصَةِ التَّرْكِ، وَيُلْحِقُهُ بِالْفَرَائِضِ الْمُوَظَّفَةِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالنَّذْرِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَحْمِلُهُ عَلَى التَّحْصِيلِ؛ خَوْفًا مِنْ مَضَرَّةِ التَّرْكِ فَيُحَصِّلُ مَقْصُودَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ النَّذْر الَّذِي فِيهِ تَسْمِيَةٌ هُوَ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِمَا سَمَّى، وَسَوَاءٌ كَانَ النَّذْرُ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ بِأَنْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ لِلَّهِ حَجٌّ أَوْ عُمْرَةٌ أَوْ صَوْمٌ أَوْ صَلَاةٌ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الطَّاعَاتِ، حَتَّى لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ الَّذِي جَعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يُجْزِ عَنْهُ كَفَّارَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ يُرِيدُ كَوْنَهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ، كَمَا إذَا قَالَ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، أَوْ إنْ قَدِمَ غَائِبِي - فَعَلَيَّ كَذَا، وَإِنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ بِأَنْ قَالَ: إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا، أَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ

كَذَا - يَخْرُجُ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ وَفَّى بِالنَّذْرِ، وَإِنْ شَاءَ كَفَّرَ وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُسَمُّونَ هَذَا يَمِينَ الْغَصْبِ. وَرَوَى عَامِرٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَد عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ يُجْزِئُ فِيهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ يُجْزِيهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - رَجَعَ إلَى الْكَفَّارَةِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ قَالَ: قَرَأْت عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كِتَابَ الْأَيْمَانِ، فَلَمَّا انْتَهَيْت إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ: قِفْ فَإِنَّ مِنْ رَأْيِي أَنْ أَرْجِعَ إلَى الْكَفَّارَةِ، قَالَ: فَخَرَجْت حَاجًّا فَلَمَّا رَجَعْتُ وَجَدْتُ أَبَا حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - قَدْ مَاتَ، فَأَخْبَرَنِي الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ عَنْ الْكَفَّارَةِ؛ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ عَلَيْهِ الْوَفَاءَ بِمَا سَمَّى، وَعَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ وَسَيِّدَتِنَا حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِقَوْلِهِ - جَلَّتْ عَظَمَتُهُ -: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وَقَوْلِهِ - جَلَّ شَأْنُهُ -: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] وَهَذَا يَمِينٌ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ - شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَهَذَا كَذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» ، وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ -؛ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - الِامْتِنَاعُ مِنْ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، أَوْ تَحْصِيلُهُ خَوْفًا مِنْ لُزُومِ الْحِنْثِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ هَهُنَا؛ لِأَنَّهُ إنْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ، فَقَدْ قَصَدَ الِامْتِنَاعَ مِنْ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ، وَإِنْ قَالَ: إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ، فَقَدْ قَصَدَ تَحْصِيلَ الشَّرْطِ، وَكُلُّ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ الْحِنْثِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْحِنْثِ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - جَلَّ شَأْنُهُ -: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 75] الْآيَةَ، وَغَيْرُهَا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ عَامًّا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ، وَالْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ هُوَ فِعْلُ مَا تَنَاوَلَهُ النَّذْرُ لَا الْكَفَّارَةُ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ التَّصَرُّفِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ الْمُتَصَرِّفُ تَنْجِيزًا كَانَ أَوْ تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ؛ وَالْمُتَصَرِّف أَوْقَعَهُ نَذْرًا عَلَيْهِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ إيجَابُ الطَّاعَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا إيجَابُ الْكَفَّارَةِ، وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ وَقَالَ: الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ يُؤَدِّي إلَى وُجُوبِ الْقَلِيلِ بِإِيجَابِ الْكَثِيرِ، وَوُجُوبِ الْكَثِيرِ بِإِيجَابِ الْقَلِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ، أَوْ إطْعَامُ أَلْفِ مِسْكِينٍ - لَزِمَهُ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، وَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صَوْمُ يَوْمٍ، أَوْ إطْعَامُ مِسْكَيْنِ - لَزِمَهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، أَوْ صَوْمُ ثَلَاثَةٍ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْيَمِينُ بِاَللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ -؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَثْبَتَ بِالْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ مَا نَفَاهُ بِيَمِينِ اللَّغْوِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى جَلَّتْ كِبْرِيَاؤُهُ -: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] ، وَالْمُرَادُ مِنْ النَّفْيِ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - كَذَا فِي الْإِثْبَاتِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّذْرِ الْمُبْهَمِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - مَمْنُوعٌ بِأَنَّ النَّذْرَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ صَرِيحٌ فِي الْإِيجَابِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - لَيْسَ بِصَحِيحٍ فِي الْإِيجَابِ، وَكَذَا الْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - تَجِبُ جَبْرًا لِهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ - عَزّ اسْمُهُ - الْحَاصِلِ بِالْحِنْثِ، وَلَيْسَ فِي الْحِنْثِ هَهُنَا هَتْكُ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا فِيهِ إيجَابُ الطَّاعَةِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى -، ثُمَّ الْوَفَاءُ بِالْمَنْذُورِ بِهِ نَفْسِهِ حَقِيقَةً، إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، فَأَمَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ فَإِنَّمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ تَقْدِيرًا بِخَلَفِهِ؛ لِأَنَّ الْخَلَفَ يَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ، كَأَنَّهُ هُوَ، كَالتُّرَابِ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَالْأَشْهُرُ حَالَ عَدَمِ الْإِقْرَاءِ، حَتَّى لَوْ نَذَرَ الشَّيْخُ الْفَانِي بِالصَّوْمِ، يَصِحُّ نَذْرُهُ، وَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْوَفَاءِ بِالصَّوْمِ حَقِيقَةً فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ تَقْدِيرًا بِخَلَفِهِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ صَامَ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ أَيْضًا النَّذْرُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ، أَنَّهُ يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيَجِبُ ذَبْحُ الشَّاةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَجَزَ عَنْ تَحْقِيقِ الْقُرْبَةِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ حَقِيقَةً لَمْ يَعْجِزْ عَنْ تَحْقِيقِهَا بِذَبْحِهِ تَقْدِيرًا بِذَبْحِ خَلَفَهُ وَهُوَ الشَّاةُ، كَمَا فِي الشَّيْخِ الْفَانِي إذَا نَذَرَ بِالصَّوْمِ. (وَأَمَّا) وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ فَوَاتِ الْمَنْذُورِ بِهِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا، بِأَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ أَفْطَرَ فَهَلْ هُوَ مِنْ حُكْمِ النَّذْرِ؟ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّ النَّاذِرَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ قَالَ ذَلِكَ وَنَوَى النَّذْرَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ الْيَمِينُ أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا، أَوْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَا النَّذْرُ وَلَا الْيَمِينُ، أَوْ نَوَى الْيَمِينَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ النَّذْرُ، أَوْ نَوَى الْيَمِينَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ

نَذْرًا، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَالْيَمِينَ جَمِيعًا فَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَا النَّذْرُ وَلَا الْيَمِينُ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ الْيَمِينُ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا - يَكُونُ نَذْرًا بِالْإِجْمَاعِ. وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ نَذْرًا يَكُونُ يَمِينًا وَلَا يَكُونُ نَذْرًا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ النَّذْرُ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَالْيَمِينَ جَمِيعًا - كَانَ نَذْرًا وَيَمِينًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ يَمِينًا وَلَا يَكُونُ نَذْرًا، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ نَذْرًا وَيَمِينًا، بَلْ إذَا بَقِيَ نَذْرًا لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَإِذَا صَارَ يَمِينًا لَمْ يَبْقَ نَذْرًا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ نَذْرًا وَيَمِينًا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الصِّيغَةَ لِلنَّذْرِ حَقِيقَةً وَتَحْتَمِلُ الْيَمِينَ مَجَازًا لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا بِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الْكَفِّ عَنْ فِعْلٍ، أَوْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، فَإِذَا بَقِيَتْ الْحَقِيقَةُ مُعْتَبَرَةً لَمْ يَثْبُتْ الْمَجَازُ، وَإِذَا انْقَلَبَ مَجَازًا لَمْ تَبْقَ الْحَقِيقَةُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْوَاحِدَ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّنَافِي، إذْ الْحَقِيقَةُ مِنْ الْأَسَامِي مَا تَقَرَّرَ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي وُضِعَ لَهُ، وَالْمَجَازُ مَا جَاوَزَ مَحَلَّ وَضْعِهِ وَانْتَقَلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ لِضَرْبِ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ مُتَقَرِّرًا فِي مَحَلِّهِ، وَمُنْتَقِلًا عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ. (وَلَهُمَا) أَنَّ النَّذْرَ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ وُضِعَ لِإِيجَابِ الْفِعْلِ مَقْصُودًا تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْيَمِينِ وُجُوبُ الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ الْيَمِينَ مَا وُضِعَتْ لِذَلِكَ، بَلْ لِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَوُجُوبُ الْفِعْلِ لِضَرُورَةِ تَحَقُّقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَا أَنَّهُ يَثْبُتُ مَقْصُودًا بِالْيَمِينِ، لِأَنَّهَا مَا وُضِعَتْ لِذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ وُجُوبُ الْفِعْلِ فِيهَا لِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ وَاجِبًا فِي نَفْسِهِ، وَلِهَذَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ فِي الْأَفْعَالِ كُلِّهَا، وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ مَحْظُورَةً أَوْ مُبَاحَةً. وَلَا يَنْعَقِدُ النَّذْرُ إلَّا فِيمَا لِلَّهِ - تَعَالَى - مِنْ جِنْسِهِ إيجَابٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاءُ النَّاذِرِ بِالنَّاذِرِ لِتَغَايُرِ الْوَاجِبَيْنِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجَبَتْ بِنَذْرِهِ، فَتَتَغَايَرُ الْوَاجِبَاتُ، وَلَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ، وَيَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْحَالِفِ بِالْحَالِفِ؛ لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ وَاجَبًا فِي نَفْسِهِ كَانَ فِي نَفْسِهِ نَفْلًا كَأَنْ اقْتَدَى الْمُتَنَفِّلُ بِالْمُتَنَفِّلِ فَصَحَّ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَنْذُورَ وَاجِبٌ فِي نَفْسِهِ، وَالْمَحْلُوفَ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا كَانَ وَاجِبًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَاجِبًا، فَكَانَ مَعْنَى الْيَمِينِ - وَهُوَ الْوُجُوبُ لِغَيْرِهِ - مَوْجُودًا فِي النَّذْرِ، فَكَانَ كُلُّ نَذْرٍ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ لِوُقُوعِ النِّسْبَةِ بِوُجُوبِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ عَنْ وُجُوبِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَإِذَا نَوَاهُ فَقَدْ اعْتَبَرَهُ فَصَارَ نَذْرًا وَيَمِينًا. وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ مَا جَاوَزَ مَحَلَّ الْحَقِيقَةِ إلَى غَيْرِهِ لِنَوْعِ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بَلْ هُوَ مِنْ جَعْلِ مَا لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ مَعَ وُجُودِهِ وَتَقَرُّرِهِ مُعْتَبَرًا بِالنِّسْبَةِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اشْتِمَالُ لَفْظٍ وَاحِدٍ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفِينَ كَالْكِتَابَةِ، وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ - أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى الْيَمِينِ، وَمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ عَلَى مَا ذَكَرنَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ وَالْمَكَاتِبِ. (وَأَمَّا) النَّذْرُ الَّذِي لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ فَحُكْمُهُ وُجُوبُ مَا نَوَى إنْ كَانَ النَّاذِرُ نَوَى شَيْئًا سَوَاءٌ كَانَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطٍ، أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ، بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ، فَإِنْ نَوَى صَوْمًا أَوْ صَلَاةً أَوْ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ فِي الْمُطْلَقِ لِلْحَالِ، وَفِي الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَا تُجْزِيهِ الْكَفَّارَةُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُطْلَقًا يَحْنَثُ لِلْحَالِ، وَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ يَحْنَثُ عِنْدَ الشَّرْطِ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ النَّذْرُ الْمُبْهَمُ الَّذِي لَا نِيَّةَ لِلنَّاذِرِ فِيهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ هَذَا النَّذْرَ مُبَاحًا أَوْ مَعْصِيَةً، بِأَنْ قَالَ: إنْ صُمْتُ أَوْ صَلَّيْتُ فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ - وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ، وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» . وَلَوْ نَوَى فِي النَّذْرِ الْمُبْهَمِ صِيَامًا وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا؛ فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْمُطْلَقِ لِلْحَالِ، وَفِي الْمُعَلَّقِ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ، وَإِنْ نَوَى طَعَامًا وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا؛ فَعَلَيْهِ طَعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَكَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ؛ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ النَّذْرَ الْمُبْهَمَ يَمِينٌ، وَأَنَّ كَفَّارَتَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بِالنَّصِّ، فَلَمَّا نَوَى بِهِ الصِّيَامَ انْصَرَفَ إلَى صِيَامِ الْكَفَّارَةِ، وَهُوَ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَانْصَرَفَ الْإِطْعَامُ إلَى طَعَامِ الْكَفَّارَةِ، وَهُوَ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَدَقَةٌ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ صَاعٍ، وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ فَعَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ؛ وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَلَاةٌ، فَعَلَيْهِ رَكْعَتَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْنَى مَا وَرَدَ

الْأَمْرُ بِهِ، وَالنَّذْرُ يُعْتَبَرُ بِالْأَمْرِ فَإِذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا يَنْصَرِفُ إلَى أَدْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الْأَمْرُ فِي الشَّرْعِ. (وَأَمَّا) وَقْتُ ثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ فَالنَّذْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ أَوْ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ، وَالْمَنْذُورُ لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ كَانَ قُرْبَةً بَدَنِيَّةً كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَأَمَّا إنْ كَانَ مَالِيَّةً كَالصَّدَقَةِ فَإِنْ كَانَ النَّذْرُ مُطْلَقًا عَنْ الشَّرْطِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، فَوَقْتُ ثُبُوتِ حُكْمِهِ وَهُوَ وُجُوبُ الْمَنْذُورِ بِهِ هُوَ وَقْتُ وُجُودِ النَّذْرِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ مُطْلَقًا عَنْ الشَّرْطِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وُجِدَ مُطْلَقًا، فَيَثْبُتُ الْوُجُوبُ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، أَوْ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ الْغَائِبُ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا، أَوْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، أَوْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَوَقْتُهُ وَقْتُ الشَّرْطِ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ لَا يَجِبُ بِالْإِجْمَاعِ. وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَكُونُ نَفْلًا؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عُدِمَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَهَذَا لِأَنَّ تَعْلِيقَ النَّذْرِ بِالشَّرْطِ هُوَ إثْبَاتُ النَّذْرِ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَتَعْلِيقِ الْحُرِّيَّةِ بِالشَّرْطِ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَلَا يَجِبُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، لِانْعِدَامِ السَّبَبِ قَبْلَهُ وَهُوَ النَّذْرُ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الشَّرْطُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَدَاءً قَبْلَ الْوُجُوبِ وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَيَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ شَرْطِهِ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي مَوْضِعِ كَذَا، أَوْ أَتَصَدَّقَ عَلَى فُقَرَاءِ بَلَدِ كَذَا - يَجُوزُ أَدَاؤُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْأَدَاءَ فِي مَكَان مَخْصُوصٍ، فَإِذَا أَدَّى فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا مَا عَلَيْهِ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ؛ وَلِأَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ يُعْتَبَرُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مُقَيَّدًا بِمَكَانٍ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ فِي غَيْرِهِ كَالنَّحْرِ فِي الْحَرَمِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَذَا مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمَقْصُودَ وَالْمُبْتَغَى مِنْ النَّذْرِ هُوَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ نَذْرِهِ إلَّا مَا هُوَ قُرْبَةٌ، وَلَيْسَ فِي عَيْنِ الْمَكَانِ وَإِنَّمَا هُوَ مَحَلُّ أَدَاءِ الْقُرْبَةِ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ بِنَفْسِهِ قُرْبَةً فَلَا يَدْخُلُ الْمَكَانُ تَحْتَ نَذْرِهِ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ فَكَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَإِنْ كَانَ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ بِأَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رَجَبًا، أَوْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ يَوْمَ كَذَا، أَوْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فِي يَوْمِ كَذَا - فَوَقْتُ الْوُجُوبِ فِي الصَّدَقَةِ هُوَ وَقْتُ وُجُودِ النَّذْرِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، حَتَّى يَجُوزَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْوَقْتِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَاخْتُلِفَ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَقْتُ الْوُجُوبِ فِيهِمَا وَقْتُ وُجُودِ النَّذْرِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَقْتُ مَجِيءِ الْوَقْتِ حَتَّى يَجُوزَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْوَقْتِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّذْرَ إيجَابُ مَا شُرِعَ فِي الْوَقْتِ نَفْلًا، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّذْرَ بِمَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ نَفْلًا وَفِي وَقْتٍ لَا يُتَصَوَّرُ، كَصَوْمِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهِ لَا يَصِحُّ؟ وَالنَّاذِرُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الصَّوْمَ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَ مَجِيئِهِ، بِخِلَافِ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْوَقْتِ؛ بَلْ بِالْمَالِ فَكَانَ ذِكْرُ الْوَقْتِ فِيهِ لَغْوًا، بِخِلَافِ الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ قَبْلَ الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ النَّذْرُ، فَكَانَ الْأَدَاءُ قَبْلَ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ أَدَاءً بَعْدَ الْوُجُوبِ فَيَجُوزُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحَقُّقِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ وَجْهَانِ: - أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَاجِبَةٌ عَلَى الدَّوَامِ بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ بِالنُّصُوصِ وَالْمَعْقُولِ. (أَمَّا) النُّصُوصُ فَقَوْلُهُ - عَزَّ شَأْنُهُ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] وقَوْله تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] وَنَحْوُ ذَلِكَ. (وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَيْسَتْ إلَّا خِدْمَةَ الْمَوْلَى؛ وَخِدْمَةُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ مُسْتَحَقَّةٌ، وَالتَّبَرُّعُ مِنْ الْعَبْدِ عَلَى الْمَوْلَى مُحَالٌ، وَالْعُبُودِيَّةُ دَائِمَةٌ فَكَانَ وُجُوبُ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِ دَائِمًا؛ وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ وَجَبَتْ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ، وَالنِّعْمَةُ دَائِمَةٌ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ شُكْرُهَا دَائِمًا حَسْبَ دَوَامِ النِّعْمَةِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ لِلْعَبْدِ تَرْكَهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَإِذَا نَذَرَ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ، وَتَرَكَ الرُّخْصَةَ، فَيَعُودُ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ كَالْمُسَافِرِ إذَا اخْتَارَ صَوْمَ رَمَضَانَ فَصَامَ، سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ هُوَ الصَّوْمُ، إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ تَرْكُهُ لِعُذْرِ السَّفَرِ، فَإِذَا صَامَ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ وَتَرَك الرُّخْصَةَ فَعَادَ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ، لِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ الشُّرُوعُ فِي نَفْلِ الْعِبَادَةِ اللُّزُومَ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَا ذَكَرنَا مِنْ الدَّلَائِلِ بِالشُّرُوعِ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا شَرَعَ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ وَتَرَك الرُّخْصَ، فَعَادَ حُكْمُ الْعَزِيمَةِ كَذَا فِي النَّذْر. وَالثَّانِي أَنَّهُ وُجِدَ سَبَب الْوُجُوب لِلْحَالِ وَهُوَ

النَّذْر، وَإِنَّمَا الْأَجَل تَرْفِيهٌ يُتَرَفَّهُ بِهِ فِي التَّأْخِيرِ، فَإِذَا عَجَّلَ فَقَدْ أَحْسَنَ فِي إسْقَاطِ الْأَجَلِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي الْإِقَامَةِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ لِصَوْمِ رَمَضَانَ، وَهَذَا لِأَنَّ الصِّيغَةَ صِيغَةُ إيجَابٍ، أَعْنِي قَوْلَهُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنَّ أَصُومَ وَالْأَصْلُ فِي كُلّ لَفْظٍ مَوْجُودٍ فِي زَمَانِ اعْتِبَارِهِ فِيهِ فِيمَا يَقْتَضِيه فِي وَضْعِ اللُّغَةِ، وَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ وَلَا تَغْيِيرُهُ إلَى غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ إلَّا بِدَلِيلِ قَاطِعٍ أَوْ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى إبْطَالِ هَذِهِ الصِّيغَةِ، وَلَا إلَى تَغْيِيرِهَا، وَلَا دَلِيلَ سِوَى ذِكْرِ الْوَقْتِ، وَأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ قَدْ يُذْكَرُ لِلْوُجُوبِ فِيهِ، كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ يُذْكَرُ لِصِحَّةِ الْأَدَاءِ كَمَا فِي الْحَجِّ وَالْأُضْحِيَّةِ، وَقَدْ يُذْكَرُ لِلتَّرْفِيهِ وَالتَّوْسِعَةِ كَمَا فِي وَقْتِ الْإِقَامَةِ لِلْمُسَافِرِ، وَالْحَوْلِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ، فَكَانَ ذِكْرُ الْوَقْتِ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمِلًا، فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ صِيغَةِ الْإِيجَابِ الْمَوْجُودِ لِلْحَالِ مَعَ الِاحْتِمَالِ، فَبَقِيَتْ الصِّيغَةُ مُوجِبَةً وَذِكْرُ الْوَقْتِ لِلتَّرْفِيهِ وَالتَّوْسِعَةِ؛ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ إلَى أَمْرٍ مُحْتَمَلٍ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِيجَابِ صَوْمِ رَجَبٍ عَيْنًا؛ بَلْ هُوَ إيجَابُ صَوْمٍ مُقَدَّرٍ بِالشَّهْرِ، أَيَّ شَهْرٍ كَانَ، فَكَانَ ذِكْرُ رَجَبٍ لِتَقْرِيرِ الْوَاجِبِ لَا لِلتَّعْيِينِ، فَأَيُّ شَهْرٍ اتَّصَلَ الْأَدَاءُ بِهِ تَعَيَّنَ ذَلِكَ الشَّهْرُ لِلْوُجُوبِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْأَدَاءُ إلَى رَجَبٍ تَعَيَّنَ رَجَبٌ، لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ فِيهِ، فَكَانَ تَعْيِينُ كُلِّ شَهْرٍ قَبْلَ رَجَبٍ بِاتِّصَالِ الْأَدَاءِ بِهِ، وَتَعْيِينُ رَجَبٍ بِمَجِيئِهِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْأَدَاءِ بِشَهْرٍ قَبْلَهُ كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهَا تَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ الْوُجُوبُ بِالشُّرُوعِ إنْ شَرَعَ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ تَعَيَّنَ آخِرُ الْوَقْتِ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْأَقَاوِيلِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَكَمَا فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ، وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمُطْلَقَةِ عَنْ الْوَقْتِ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالْكَفَّارَةِ وَغَيْرِهِمَا، أَنَّهَا تَجِبُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ فِي غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ الْوُجُوبُ إمَّا بِاتِّصَالِ الْأَدَاءِ بِهِ، وَإِمَّا بِآخِرِ الْعُمُرِ إذَا صَارَ إلَى حَالٍ لَوْ لَمْ يُؤَدَّ لَفَاتَ بِالْمَوْتِ. (وَأَمَّا) كَيْفِيَّةُ ثُبُوتِهِ فَالنَّذْرُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ أُضِيفُ إلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ، وَإِمَّا إنْ أُضِيفَ إلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ أُضِيفَ إلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ، فَحُكْمُهُ هُوَ حُكْمُ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْأُصُولِ فِي ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَهُ وُجُوبُ الْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ أَمْ عَلَى التَّرَاخِي، حَكَى الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَرَوَى ابْنُ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا، فَظَهَرَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي الْحَجِّ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى التَّرَاخِي. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - مِثْلُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، وَتَفْسِيرُ الْوَاجِبِ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنْ عُمُرِهِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَإِلَيْهِ خِيَارُ التَّعْيِينِ، فَفِي أَيِّ وَقْتٍ شَرَعَ فِيهِ تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْوَقْتُ لِلْوُجُوبِ، وَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ يَتَضَيَّقْ الْوُجُوبُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ إذَا بَقِيَ مِنْ آخِرِ عُمُرِهِ قَدْرُ مَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ فِيهِ بِغَالِبِ ظَنِّهِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ، فَكَذَلِكَ النَّذْرُ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُقْتَضِيَةَ لِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ مُطْلَقَةٌ عَنْ الْوَقْتِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهَا إلَّا بِدَلِيلٍ، وَكَذَا سَبَبُ الْوُجُوبِ وَهُوَ النَّذْرُ وُجِدَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ، وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ عَلَى وَفْقِ السَّبَبِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ شَهْرًا مِنْ عُمُرِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَيْهِ إلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْفَوْتُ لَوْ لَمْ يَصُمْ فَيَضِيقُ الْوَقْتُ حِينَئِذٍ. وَكَذَا حُكْمُ الِاعْتِكَافِ الْمُضَافِ إلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ، بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا، وَلَا نِيَّةَ لَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِالْكَلَامِ، بِأَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا شَهْرًا؛ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الشَّهْرُ الَّذِي يَلِي الْيَمِينَ، وَكَذَا الْإِجَارَةُ بِأَنْ أَجَّرَ دَارِهِ، أَوْ عَبْدَهُ شَهْرًا، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الشَّهْرُ الَّذِي يَلِي الْعَقْدَ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ النَّذْرَ إلَى شَهْرٍ مُنْكَرٍ، وَالصَّرْفُ إلَى الشَّهْرِ الَّذِي يَلِي النَّذْرَ يُعَيِّنُ الْمُنْكَرَ، وَلَا يَجُوزُ تَعْيِينُ الْمُنْكَرِ إلَّا بِدَلِيلٍ هُوَ الْأَصْلُ، وَقَدْ قَامَ دَلِيلُ التَّعْيِينِ فِي بَابِ الْيَمِينِ وَالْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْحَالِفِ مَنْعُ نَفْسِهِ عَنْ الْكَلَامِ، وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَنْ الْكَلَامِ مَعَ غَيْرِهِ؛ لِإِهَانَتِهِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ لِدَاعٍ يَدْعُوهُ إلَى ذَلِكَ الْحَالِ، وَالْإِجَارَةُ تَنْعَقِدُ لِلْحَاجَةِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمُسْتَأْجَرِ، وَالْحَاجَةُ قَائِمَةٌ عَقِيبَ الْعَقْدِ، فَيَتَعَيَّنُ الزَّمَانُ الْمُتَعَقِّبُ لِلْعِقْدِ لِثُبُوتِ حُكْمِ الْإِجَارَةِ، وَيَجُوزُ تَعْيِينُ الْمُبْهَمِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُعَيِّنِ. وَلَوْ نَوَى شَهْرًا مُعَيَّنًا صَحَّتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ فِي النَّذْرِ الْمُضَافِ إلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ إذَا عَيَّنَ شَهْرًا لِلصَّوْمِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ تَابَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ، بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ إنَّهُ إذَا عَيَّنَ شَهْرًا لِلِاعْتِكَافِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَعْتَكِفَ مُتَتَابِعًا فِي النَّهَارِ وَاللَّيَالِي جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ فِي النَّوْعَيْنِ حَصَلَ مُطْلَقًا عَنْ صِفَةِ التَّتَابُعِ، إلَّا أَنَّ فِي

كتاب الكفارات

ذَات الِاعْتِكَافِ مَا يُوجِبُ التَّتَابُعَ، وَهُوَ كَوْنُهُ لَبْثًا عَلَى الدَّوَامِ فَكَانَ مَبْنَاهُ عَلَى الِاتِّصَالِ، وَاللَّيَالِي وَالنُّهُرُ قَابِلَةٌ لِذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّتَابُعِ وَمَبْنَى الصَّوْمِ لَيْسَ عَلَى التَّتَابُعِ بَلْ عَلَى التَّفْرِيقِ لِمَا بَيْنَ كُلِّ يَوْمَيْنِ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ وَهُوَ اللَّيْلُ، فَبَقِيَ لَهُ الْخِيَارُ. وَإِنْ أُضِيف إلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ الْغَدِ وُجُوبًا مُضَيَّقًا، لَيْسَ لَهُ رُخْصَةُ التَّأْخِيرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. وَكَذَا إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ رَجَبٍ فَلَمْ يَصُمْ فِيمَا سَبَقَ مِنْ الشُّهُورِ عَلَى رَجَبٍ حَتَّى هَجَمَ رَجَبٌ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَصُمْ قَبْلَهُ حَتَّى جَاءَ رَجَبٌ تَعَيَّنَ رَجَبٌ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ فِيهِ عَلَى التَّضْيِيقِ، فَلَا يُبَاحُ لَهُ التَّأْخِيرُ، وَلَوْ صَامَ رَجَبًا وَأَفْطَرَ مِنْهُ يَوْمًا لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ، وَلَكِنَّهُ يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْم مِنْ شَهْرٍ آخَرَ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا، أَوْ قَالَ: أَصُومَ شَهْرًا وَنَوَى التَّتَابُعَ فَأَفْطَرَ يَوْمًا - أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمًا مَوْصُوفًا بِصِفَةِ التَّتَابُعِ، وَصَحَّ الْإِيجَابُ؛ لِأَنَّ صِفَةَ التَّتَابُعِ زِيَادَةُ قُرْبَةٍ لِمَا يَلْحَقُهُ بِمُرَاعَاتِهَا مِنْ زِيَادَةِ مَشَقَّةٍ، وَهِيَ صِفَةٌ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ، وَالْإِفْطَارِ، وَالْيَمِينِ عِنْدَنَا، فَيَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ، فَيَلْزَمُهُ كَمَا الْتَزَمَ، فَإِذَا تَرَكَ فَلَمْ يَأْتِ بِالْمُلْتَزَمِ؛ فَيَسْتَقْبِلُ كَمَا فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ. فَأَمَّا هَهُنَا فَمَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمًا مُتَتَابِعًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ التَّتَابُعُ لِضَرُورَةِ تَجَاوُرِ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ أَيَّامَ الشَّهْرِ مُتَجَاوِرَةٌ، فَكَانَتْ مُتَتَابِعَةً فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَضَاءُ مَا أَفْطَرَ، كَمَا لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَضَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ مُتَتَابِعًا لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا؛ وَلِأَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُ الِاسْتِقْبَالَ لَوَقَعَ أَكْثَرُ الصَّوْمِ فِي غَيْرِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ النَّذْرُ، وَلَوْ أَتَمَّ وَقَضَى يَوْمًا لَكَانَ مُؤَدِّيًا أَكْثَرَ الصَّوْمِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى، وَلَوْ أَفْطَرَ رَجَبًا كُلَّهُ قَضَى فِي شَهْرٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْوَاجِبَ عَنْ وَقْتِهِ فَصَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِهَذَا وَجَبَ قَضَاءُ رَمَضَانَ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَ النَّذْرِ بِإِيجَابِ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - فَيُعْتَبَرُ بِالْإِيجَابِ الْمُبْتَدَأِ وَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - عَلَى عِبَادِهِ ابْتِدَاءً لَا يَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا بِالْأَدَاءِ أَوْ بِالْقَضَاءِ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْكَفَّارَاتِ] [فَصَلِّ فِي أَنْوَاع الْكَفَّارَات وَبَيَانِ وُجُوبِ كُلِّ نَوْعٍ] (كِتَابُ الْكَفَّارَاتِ) الْكَلَامُ فِي الْكَفَّارَاتِ فِي مَوَاضِعَ: فِي. بَيَانِ أَنْوَاعِهَا، وَفِي بَيَانِ وُجُوبِ كُلِّ نَوْعٍ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ جَوَازِهِ، (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالْكَفَّارَاتُ الْمَعْهُودَةُ فِي الشَّرْعِ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ: كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَكَفَّارَةُ الْحَلْقِ، وَكَفَّارَةُ الْقَتْلِ، وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ، وَكَفَّارَةُ الْإِفْطَارِ، وَالْكُلُّ وَاجِبَةٌ إلَّا أَنَّ أَرْبَعَةً مِنْهَا عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَوَاحِدَةٌ مِنْهَا عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالسُّنَّةِ، (أَمَّا) الْأَرْبَعَةُ الَّتِي عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ فَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةُ الْحَلْقِ وَكَفَّارَةُ الْقَتْلِ وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] . وَالْكَفَّارَةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ، وَقَالَ - جَلَّ شَأْنُهُ - فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] ، أَيِّ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ، وَقَالَ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] إلَى قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 92] أَيْ فَعَلَيْهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَعَلَيْهِ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لِأَنَّ صِيغَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةَ الْخَبَرِ لَكِنْ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْخَبَرِ لَأَدَّى إلَى الْخُلْفِ فِي خَبَرِ مَنْ لَا يَحْتَمِلُ خَبَرُهُ الْخُلْفَ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِيجَابِ، وَالْأَمْرُ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ كَثِيرُ النَّظِيرِ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] أَيْ لِيُرْضِعْنَ، وَقَالَ عَزَّ شَأْنُهُ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] أَيْ لِيَتَرَبَّصْنَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] ،

فصل في بيان كيفية وجوب هذه الأنواع

أَيْ فَعَلَيْهِمْ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا (وَأَمَّا) كَفَّارَةُ الْإِفْطَارِ فَلَا ذِكْرَ لَهَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَإِنَّمَا عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالسَّنَةِ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَاذَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ وَاقَعْتُ امْرَأَتِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَعْتِقْ رَقَبَةً قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي مَا أَعْتِقُ فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقَالَ: لَا أَجِدُ مَا أُطْعِمُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعِرْقٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ فَقَالَ: خُذْهَا وَفَرِّقْهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَقَالَ: أَعَلَى أَهْلِ بَيْتٍ أَحْوَجَ مِنِّي، وَاَللَّهِ مَا بَيْن لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ أَحْوَجُ مِنِّي وَمِنْ عِيَالِي فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: كُلْهَا وَأَطْعِمْ عِيَالَك تُجْزِيك وَلَا تُجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: كُلْهَا وَأَطْعِمْ عِيَالَك تُجْزِيك وَلَا تُجْزِي أَحَدًا بَعْدَك» فَقَدْ أَمَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْإِعْتَاقِ ثُمَّ بِالصَّوْمِ ثُمَّ بِالْإِطْعَامِ، وَمُطَلَّقُ الْأَمْرِ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَاَللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَلِوُجُوبِهَا كَيْفِيَّتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنَّ بَعْضَهَا وَاجِبٌ عَلَى التَّعْيِينِ مُطْلَقًا، وَبَعْضَهَا عَلَى التَّخْيِيرِ مُطْلَقًا، وَبَعْضَهَا عَلَى التَّخْيِيرِ فِي حَالٍ وَالتَّعْيِينِ فِي حَالٍ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَكَفَّارَةُ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ التَّحْرِيرُ عَلَى التَّعْيِينِ، لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] إلَى قَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] وَالْوَاجِبُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَزِيَادَةُ الْإِطْعَامِ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الصِّيَامَ، لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] ، وَكَذَا الْوَاجِبُ فِي كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ. (وَأَمَّا) الثَّانِي فَكَفَّارَةُ الْحَلْقِ لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] . وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ بِاخْتِيَارِهِ فِعْلًا غَيْرَ عَيْنٍ، وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَى الْحَالِفِ يُعَيِّنُ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ بِاخْتِيَارِهِ فِعْلًا، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الْأَمْرِ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ أَنَّهُ يَكُونُ أَمْرًا بِوَاحِدٍ مِنْهَا غَيْرِ عَيْنٍ، وَلِلْمَأْمُورِ خِيَارُ التَّعْيِينِ وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ يَكُونُ أَمْرًا بِالْكُلِّ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلِفٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مَعْرُوفٍ يُذْكَرُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا، لِأَنَّ كَلِمَةَ " أَوْ " إذَا دَخَلَتْ بَيْنَ أَفْعَالٍ - يُرَادُ بِهَا وَاحِدٌ مِنْهَا لَا الْكُلُّ فِي الْإِخْبَارِ وَالْإِيجَابِ جَمِيعًا، يُقَالُ جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو وَيُرَادُ بِهِ مَجِيءُ أَحَدِهِمَا، وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِآخَرَ بِعْ هَذَا أَوْ هَذَا وَيَكُونُ تَوْكِيلًا بِبَيْعِ أَحَدِهِمَا، فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْكُلِّ يَكُونُ عُدُولًا عَنْ مُقْتَضَى اللُّغَةِ، وَلِدَلَائِلَ أُخَرَ عُرِفَتْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى التَّعْيِينِ لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] . وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ كُلَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى التَّرَاخِي هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ حَتَّى لَا يَأْثَمَ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ وَيَكُونُ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا. وَمَعْنَى الْوُجُوبِ عَلَى التَّرَاخِي هُوَ أَنْ يَجِبَ فِي جُزْءٍ مِنْ عُمُرِهِ غَيْرِ عَيْنٍ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ فِعْلًا، أَوْ فِي آخِرِ عُمُرِهِ؛ بِأَنْ أَخَّرَهُ إلَى وَقْتٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُؤَدِّ فِيهِ لَفَاتَ، فَإِذَا أَدَّى فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ لِتَضْيِيقِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْعُمُرِ، وَهَلْ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَ لَمْ يُوصِ لَا يُؤْخَذُ وَيَسْقُطُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا كَالزَّكَاةِ وَالنَّذْرِ، وَلَوْ تَبَرَّعَ عَنْهُ وَرَثَتُهُ جَازَ عَنْهُ فِي الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ، وَأَطْعَمُوا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتُهُمْ، وَفِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ أَطْعَمُوا سِتِّينَ مِسْكِينًا وَلَا يُجْبَرُونَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتِقُوا عَنْهُ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ بِالْإِعْتَاقِ عَنْ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ، وَلَا أَنْ يَصُومُوا عَنْهُ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ فَلَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ» ، وَإِنْ كَانَ أَوْصَى بِذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ فَيُطْعِمُ الْوَصِيُّ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْصَى فَقَدْ بَقِيَ مِلْكُهُ فِي ثُلُثِ مَالِهِ، وَفِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ إنْ بَلَغَ ثُلُثُ مَالِهِ قِيمَةَ الرَّقَبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ، وَلَا يَجِبُ الصَّوْمُ فِيهَا وَإِنْ أَوْصَى لِأَنَّ الصَّوْمَ نَفْسَهُ لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ،

فصل في شرائط وجوب كل نوع

وَلَا يَجُوزُ الْفِدَاءُ عَنْهُ بِالطَّعَامِ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ بَدَلٌ وَالْبَدَلُ لَا يَكُونُ لَهُ بَدَلٌ، وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ ثُمَّ مَاتَ فَغَدَّى الْوَصِيُّ عَشَرَةً ثُمَّ مَاتُوا يَسْتَأْنِفُ فَيُغَدِّي وَيُعَشِّي غَيْرَهُمْ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَفْرِيقِ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ عَلَى شَخْصَيْنِ لِمَا نَذْكُرُ، وَلَا يَضْمَنُ الْوَصِيُّ شَيْئًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ إذْ لَا صُنْعَ لَهُ فِي الْمَوْتِ، وَلَوْ قَالَ أَطْعِمُوا عَنِّي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ غَدَاءً وَعَشَاءً وَلَمْ يُسَمِّ كَفَّارَةً فَغَدَّوْا عَشَرَةً ثُمَّ مَاتُوا يُعَشُّوا عَشَرَةً غَيْرَهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْكَفَّارَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ كَفَّارَةً فَكَانَ سَبَبُهُ النَّذْرَ فَجَازَ التَّفْرِيقُ وَاَللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ وُجُوبِ كُلِّ نَوْعٍ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ كُلِّ نَوْعٍ فَكُلُّ مَا هُوَ شَرْطُ انْعِقَادِ سَبَبِ وُجُوبِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ مِنْ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَالْقَتْلِ فَهُوَ شَرْطُ وُجُوبِهَا؛ لِأَنَّ الشُّرُوطَ كُلَّهَا شُرُوطُ الْعِلَلِ عِنْدَنَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالظِّهَارِ وَالصَّوْمِ وَالْجِنَايَاتِ، وَمِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِهَا الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَهَذَا شَرْطٌ مَعْقُولٌ لِاسْتِحَالَةِ وُجُوبِ فِعْلٍ بِدُونِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ الْوَاجِبَ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَائِهِ عَيْنًا كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ، فَلَا يَجِبُ التَّحْرِيرُ فِيهَا إلَّا إذَا كَانَ وَاجِدًا لِلرَّقَبَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَضْلُ مَالٍ عَلَى كِفَايَتِهِ يُؤْخَذُ بِهِ رَقَبَةٌ صَالِحَةٌ لِلتَّكْفِيرِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّحْرِيرُ لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] شَرَطَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَدَمَ وِجْدَانِ الرَّقَبَةِ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْوُجُودُ شَرْطًا لِوُجُوبِ التَّحْرِيرِ وَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ وَجَدَ أَوْ لَمْ يَجِدْ لَمْ يَكُنْ لِشَرْطِ عَدَمِ وِجْدَانِ الرَّقَبَةِ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ مَعْنًى، فَدَلَّ أَنَّ عَدَمَ الْوُجُودِ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَإِذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ رَقَبَةٌ صَالِحَةٌ لِلتَّكْفِيرِ يَجِبُ عَلَيْهِ تَحْرِيرُهَا سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ حَقِيقَةً، فَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ عَيْنُ رَقَبَةٍ وَلَهُ فَضْلُ مَالٍ عَلَى كِفَايَتِهِ يَجِبُ رَقَبَةٌ صَالِحَةٌ لِلتَّكْفِيرِ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَاجِدًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلُ مَالٍ عَلَى قَدْرِ كِفَايَةِ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الرَّقَبَةِ وَلَا فِي مِلْكِهِ عَيْنُ الرَّقَبَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّحْرِيرُ لِأَنَّ قَدْرَ الْكَفَّارَةِ مُسْتَحِقُّ الصَّرْفِ إلَى حَاجَتِهِ الضَّرُورِيَّةِ، وَالْمُسْتَحِقُّ كَالْمَصْرُوفِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، كَالْمَاءِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ لِلشُّرْبِ فِي السَّفَرِ حَتَّى يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا حَقِيقَةً لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُسْتَحِقَّ الصَّرْفِ إلَى الْحَاجَةِ الضَّرُورِيَّةِ أُلْحِقَ بِالْعَدَمِ شَرْعًا، كَذَا هَذَا. وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ وَاحِدًا مِنْهَا كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ عَلَى الْإِبْهَامِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهِ فَضْلٌ عَلَى كِفَايَةِ مَا يَجِدُ بِهِ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَاجِدًا مَعْنًى، أَوْ يَكُونُ فِي مِلْكِهِ وَاحِدٌ مِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَيْنًا مِنْ عَبْدٍ صَالِحٍ لِلتَّكْفِيرِ، أَوْ كِسْوَةُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، أَوْ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَاجِدًا حَقِيقَةً، وَكَذَا لَا يَجِبُ الصِّيَامُ وَلَا الْإِطْعَامُ فِيمَا لِلطَّعَامِ فِيهِ مُدْخَلٌ إلَّا عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ إيجَابَ الْفِعْلِ عَلَى الْعَاجِزِ مُمْتَنِعٌ وَلِقَوْلِهِ - عَزَّ اسْمُهُ - فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] شَرَطَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَدَمَ اسْتِطَاعَةِ الصِّيَامِ لِوُجُوبِ الْإِطْعَامِ فَدَلَّ أَنَّ اسْتِطَاعَةَ الصَّوْمِ شَرْطٌ لِوُجُوبِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ فِي الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا إلَّا الصَّوْمُ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ، لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَلَوْ أَعْتَقَ عَنْهُ مَوْلَاهُ أَوْ أَطْعَمَ أَوْ كَسَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ وَإِنْ مَلَكَ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وَكَذَا الْمُسْتَسْعَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ. (وَمِنْهَا) : الْعَجْزُ عَنْ التَّحْرِيرِ عَيْنًا فِي الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ فِيهَا، لِقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] أَيْ مَنْ لَمْ يَجِدْ رَقَبَةً، شَرَطَ - سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى - عَدَمَ وُجُودِ الرَّقَبَةِ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ فَلَا يَجِبُ الصَّوْمُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّحْرِيرِ. (وَأَمَّا) فِي كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فَالْعَجْزُ عَنْ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ فِيهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] أَيْ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ وَاحِدًا مِنْهَا فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا يَجِبُ الصَّوْمُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، (وَأَمَّا) الْعَجْزُ عَنْ الصِّيَامِ فَشَرْطٌ لِوُجُوبِ الْإِطْعَامِ فِيمَا لِلْإِطْعَامِ فِيهِ مَدْخَلٌ لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] أَيْ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصِّيَامَ فَعَلَيْهِ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَلَا يَجِبُ الْإِطْعَام مَعَ اسْتِطَاعَةِ الصِّيَامِ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْعَجْزُ وَقْتَ الْوُجُوبِ أَمْ وَقْتَ الْأَدَاءِ، قَالَ: أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: وَقْتَ الْأَدَاءِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقْتَ الْوُجُوبِ، حَتَّى لَوْ كَانَ

مُوسِرًا وَقْتَ الْوُجُوبِ ثُمَّ أُعْسِرَ جَازَ لَهُ الصَّوْمُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْقَلْبِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَجُوزُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عُقُوبَةً فَيُعْتَبَرُ فِيهَا وَقْتُ الْوُجُوبِ كَالْحَدِّ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا زَنَى ثُمَّ أُعْتِقَ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْعَبِيدِ. (وَالدَّلِيلُ) عَلَى أَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهَا الْجِنَايَةُ مِنْ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْإِفْطَارِ وَالْحِنْثِ، وَتَعْلِيقُ الْوُجُوبِ بِالْجِنَايَةِ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ مُؤَثِّرٍ فَيُحَالُ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا قَالُوا هَذَا ضَمَانٌ يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حَالُ الْوُجُوبِ كَضَمَانِ الْإِعْتَاقِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَادَةٌ لَهَا بَدَلٌ وَمُبْدَلٌ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا وَقْتُ الْأَدَاءِ لَا وَقْتُ الْوُجُوبِ كَالصَّلَاةِ بِأَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي الصِّحَّةِ فَقَضَاهَا فِي الْمَرَضِ قَاعِدًا أَوْ بِالْإِيمَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ (وَالدَّلِيلُ) عَلَى أَنَّهَا عِبَادَةٌ وَأَنَّ لَهَا بَدَلًا أَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ عَنْ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ، وَالصَّوْمُ عِبَادَةٌ، وَبَدَلُ الْعِبَادَةِ عِبَادَةٌ، وَكَذَا يُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ وَإِنَّهَا لَا تُشْتَرَطُ إلَّا فِي الْعِبَادَاتِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَهَا بَدَلٌ وَمُبْدَلٌ فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَبَرُ فِيهَا وَقْتَ الْأَدَاءِ لَا وَقْتَ الْوُجُوبِ، لِأَنَّهُ إذَا أَيْسَرَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصِّيَامِ أَوْ قَبْلَ تَمَامِهِ فَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْمُبْدَلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَيَبْطُلُ الْبَدَلُ، وَيَنْتَقِلُ الْأَمْرُ إلَى الْمُبْدَلِ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا عِنْدَنَا، وَكَالصَّغِيرَةِ إذَا اعْتَدَّتْ بِشَهْرٍ ثُمَّ حَاضَتْ إنَّهُ يَبْطُلُ الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ وَيَنْتَقِلُ الْحُكْمُ إلَى الْحَيْضِ، وَإِذَا أُعْسِرَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ فَقَدْ عَجَزَ عَنْ الْمُبْدَلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ وَقَدَرَ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِالْبَدَلِ كَوَاجِدِ الْمَاءِ إذَا لَمْ يَتَوَضَّأْ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ ثُمَّ عَدِمَ الْمَاءَ وَوَجَدَ تُرَابًا نَظِيفًا أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَذَا هَهُنَا، بِخِلَافِ الْحُدُودِ لِأَنَّ الْحَدَّ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ بَلْ هُوَ عُقُوبَةٌ وَلِهَذَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ، وَكَذَا لَا بَدَلَ لَهُ لِأَنَّ حَدَّ الْعَبِيدِ لَيْسَ بَدَلًا عَنْ حَدِّ الْأَحْرَارِ بَلْ هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحَدُّ الْعَبِيدُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى حَدِّ الْأَحْرَارِ، وَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى الْبَدَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُبْدَلِ كَالتُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ إذَا وَجَبَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ، أَوْ مُسَافِرٌ ثُمَّ أَقَامَ إنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي قَضَائِهَا وَقْتُ الْوُجُوبِ، لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ صَلَاةِ الْمُقِيمِ، وَلَا صَلَاةَ الْمُقِيمِ بَدَلٌ عَنْ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ، بَلْ صَلَاةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ بِنَفْسِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُصَلِّي إحْدَاهُمَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأُخْرَى؟ وَبِخِلَافِ ضَمَانِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ، وَكَذَا السِّعَايَةُ لَيْسَتْ بِبَدَلٍ عَنْ الضَّمَانِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الشَّرِيكَ مُخَيَّرٌ عِنْدَهُمْ بَيْنَ التَّضْمِينِ وَالِاسْتِسْعَاءِ وَلَا يُخَيَّرُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي الشَّرِيعَةِ (وَأَمَّا) قَوْلُهُ إنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ الْجِنَايَةُ فَمَمْنُوعٌ، بَلْ سَبَبُ وُجُوبِهَا مَا هُوَ سَبَبُ وُجُوبِ التَّوْبَةِ، إذْ هِيَ أَحَدُ نَوْعَيْ التَّوْبَةِ، وَإِنَّمَا الْجِنَايَةُ شَرْطٌ كَمَا فِي التَّوْبَةِ، هَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ التَّحْرِيرُ، أَوْ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ بِأَنْ كَانَ مُوسِرًا ثُمَّ أُعْسِرَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ، وَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا ثُمَّ أَيْسَرَ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُجْزِئُهُ فِي الْأَوَّلِ وَيُجْزِئُهُ فِي الثَّانِي، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِوَقْتِ الْأَدَاءِ عِنْدَنَا لَا لِوَقْتِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ فِي الْأَوَّلِ يَعْتَبِرُ وَقْتَ الْأَدَاءِ فَوُجِدَ شَرْطُ جَوَازِ الصَّوْمِ وَوُجُوبِهِ وَهُوَ عَدَمُ الرَّقَبَةِ فَجَازَ بَلْ وَجَبَ، وَفِي الثَّانِي لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فَلَمْ يَجُزْ، وَعِنْدَهُ لَمَّا كَانَ الْمُعْتَبَرُ وَقْتَ الْوُجُوبِ فَيُرَاعَى وُجُودُ الشَّرْطِ لِلْجَوَازِ وَعَدَمِهِ وَقْتَ الْوُجُوبِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْأَوَّلِ وَوُجِدَ فِي الثَّانِي، وَلَوْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ أَيْسَرَ قَبْلَ تَمَامِهِ لَمْ يَجُزْ صَوْمُهُ، ذَكَرَ هَذَا فِي الْأَصْلِ، بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَلَا يُعْتَبَرُ الْبَدَلُ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَلَوْ أَفْطَرَ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقْضِي، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ، وَهُوَ مَنْ شَرَعَ فِي صَوْمٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يُتِمَّ الصَّوْمَ، وَلَوْ أَفْطَرَ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَمْضِي عَلَى صَوْمِهِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي بَابِ الْكَفَّارَاتِ لِوَقْتِ الْوُجُوبِ عِنْدَهُ، وَوَقْتُ الْوُجُوبِ كَانَ مُعْسِرًا، وَلَوْ أَيْسَرَ بَعْدَ الْإِتْمَامِ جَازَ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْمُبْدَلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَلَا يَبْطُلُ الْبَدَلَ، بِخِلَافِ الشَّيْخِ الْفَانِي إذَا فَدَى ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ إنَّهُ تَبْطُلُ الْفِدْيَةُ وَيَلْزَمُهُ الصَّوْمُ لِأَنَّ الشَّيْخَ الْفَانِيَ هُوَ الَّذِي لَا تُرْجَى لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى الصَّوْمِ، فَإِذَا قَدَرَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْخًا فَانِيًا، وَلِأَنَّ الْفِدْيَةَ لَيْسَتْ بِبَدَلٍ مُطْلَقٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمِثْلٍ لِلصَّوْمِ صُورَةً وَمَعْنًى فَكَانَتْ بَدَلًا ضَرُورِيًّا، وَقَدْ ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ فَبَطَلَتْ الْقُدْرَةُ،

فصل في شرط جواز كل نوع

فَأَمَّا الصَّوْمُ فَبَدَلٌ مُطَلَّقٌ فَلَا يَبْطُلُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ وَاَللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي شَرْطُ جَوَازِ كُلِّ نَوْعٍ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرْطُ جَوَازِ كُلِّ نَوْعٍ فَلِجَوَازِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ شَرَائِطُ، بَعْضُهَا يَعُمُّ الْأَنْوَاعَ كُلَّهَا، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، (أَمَّا) الَّذِي يَعُمُّ الْكُلَّ فَنِيَّةُ الْكَفَّارَةِ حَتَّى لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ، وَالْكَلَامُ فِي النِّيَّةِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدِهِمَا فِي بَيَانِ أَنَّ نِيَّةَ الْكَفَّارَةِ شَرْطُ جَوَازِهَا وَالثَّانِي فِي بَيَانِ شَرْطِ صِحَّةِ النِّيَّةِ، (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْفِعْلِ يَحْتَمِلُ التَّكْفِيرَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ، وَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ، وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى صَوْمُ الْكَفَّارَةِ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ لِأَنَّ الْوَقْتَ يَحْتَمِلُ صَوْمَ الْكَفَّارَةِ وَغَيْرَهُ فَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالنِّيَّةِ كَصَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَصَوْمِ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ، وَلَوْ أَعْتَقَ رَقَبَةً وَاحِدَةً عَنْ كَفَّارَتَيْنِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَنْهُمَا جَمِيعًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَنْ كُلِّ كَفَّارَةٍ مِنْهُمَا إعْتَاقُ رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ، وَهَلْ يَجُوزُ عَنْ إحْدَاهُمَا؟ فَالْكَفَّارَتَانِ الْوَاجِبَتَانِ لَا يَخْلُو. (أَمَّا) إنْ وَجَبَتَا بِسَبَبَيْنِ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَأَمَّا إنْ وَجَبَتَا بِسَبَبَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ؛ (فَإِنْ) وَجَبَتَا بِسَبَبَيْنِ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْقَتْلِ وَالظِّهَارِ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً وَاحِدَةً يَنْوِي عَنْهُمَا جَمِيعًا لَا يَجُوزُ عَنْ إحْدَاهُمَا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ، (وَإِنْ) وَجَبَتَا بِسَبَبَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَظِهَارَيْنِ أَوْ قَتْلَيْنِ يَجُوزُ عَنْ إحْدَاهُمَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ وَالتَّوْزِيعِ هَلْ تَقَعُ مُعْتَبَرَةً أَمْ تَقَعُ لَغْوًا، فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا مُعْتَبَرَةٌ فِي الْجِنْسَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَغْوٌ فِيهِمَا جَمِيعًا، (وَأَمَّا) فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ فَهِيَ لَغْوٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعِنْدَ زُفَرَ مُعْتَبَرَةٌ قِيَاسًا. (أَمَّا) الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَوَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْكَفَّارَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَنِيَّةُ التَّعْيِينِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَغْوٌ لِمَا ذَكَر. (وَلَنَا) أَنَّ التَّعْيِينَ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ، وَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ فَكَانَ نِيَّةُ التَّعْيِينِ مُحْتَاجًا إلَيْهَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، فَصَادَفَتْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَصَحَّتْ، وَمَتَى صَحَّتْ أَوْجَبَتْ انْقِسَامَ عَيْنِ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى كَفَّارَتَيْنِ فَيَقَعُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِتْقُ نِصْفِ رَقَبَةٍ فَلَا يَجُوزُ لَا عَنْ هَذِهِ وَلَا عَنْ تِلْكَ (وَأَمَّا) قَوْلُهُ الْكَفَّارَتَانِ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَنَعَمْ مِنْ حَيْثُ هُمَا كَفَّارَةٌ لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا سَبَبًا وَقَدْرًا وَصِفَةً، (أَمَّا) السَّبَبُ فَلَا شَكَّ فِيهِ، (وَأَمَّا) الْقَدْرُ فَإِنَّ الطَّعَامَ يَدْخُلُ فِي إحْدَاهُمَا وَهِيَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَلَا يَدْخُل فِي الْأُخْرَى وَهِيَ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ، (وَأَمَّا) الصِّفَةُ فَإِنَّ الرَّقَبَةَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مُطْلَقَةٌ عَنْ صِفَةِ الْإِيمَانِ وَفِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مُقَيَّدَةٌ بِهَا، وَإِذَا اخْتَلَفَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ كَانَ التَّعْيِينُ بِالنِّيَّةِ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَصَادَفَتْ النِّيَّةُ مَحَلَّهَا فَصَحَّتْ فَانْقَسَمَ عِتْقُ رَقَبَةٍ بَيْنَهُمَا فَلَمْ يَجُزْ عَنْ إحْدَاهُمَا؛ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الرَّقَبَةُ كَافِرَةً وَتَعَذَّرَ صَرْفُهَا إلَى الْكَفَّارَةِ لِلْقَتْلِ انْصَرَفَتْ بِالْكُلِّيَّةِ إلَى الظِّهَارِ وَجَازَتْ عَنْهُ، كَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ (وَنَظِيرُهُ) مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا أَوْ أُمِّهَا أَوْ أُخْتِهَا وَتَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ كَانَتَا فَارِغَتَيْنِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا مَنْكُوحَةً وَالْأُخْرَى فَارِغَةً يَجُوزُ نِكَاحُ الْفَارِغَةِ. (وَأَمَّا) الْكَلَامُ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فَوَجْهُ الْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَوْقَعَ عِتْقَ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ عَنْ كَفَّارَتَيْنِ عَلَى التَّوْزِيعِ وَالِانْقِسَامِ فَيَقَعُ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِتْقُ نِصْفِ رَقَبَةٍ فَلَا يَجُوزُ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إعْتَاقُ رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ وَلَمْ يُوجَدْ، وَبِهَذَا لَمْ يَجُزْ عَنْ إحْدَاهُمَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ. (وَلَنَا) أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ لَمْ تُصَادِفْ مَحَلَّهَا لِأَنَّ مَحَلَّهَا الْأَجْنَاسُ الْمُخْتَلِفَةُ إذْ لَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ إلَّا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، فَإِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ لَمْ تَقَعْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا فَلَغَتْ نِيَّةَ التَّعْيِينِ وَبَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ وَهِيَ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ فَتَقَعُ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، كَمَا فِي قَضَاءِ صَوْمِ رَمَضَانَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمَيْنِ فَصَامَ يَوْمًا يَنْوِي قَضَاءَ صَوْمِ يَوْمَيْنِ تَلْغُو نِيَّةُ التَّعْيِينِ وَبَقِيَتْ نِيَّةُ مَا عَلَيْهِ، كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ لِأَنَّ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ فَلَا تَلْغُو نِيَّةُ التَّعْيِينِ بَلْ تُعْتَبَرُ وَمَتَى اُعْتُبِرَتْ يَقَعْ عَنْ كُلِّ جِنْسٍ نِصْفُ رَقَبَةٍ فَلَا يَجُوزُ عَنْهُ. كَمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَصَوْمُ يَوْمٍ مِنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَنَوَى مِنْ اللَّيْلِ أَنْ يَصُومَ غَدًا عَنْهُمَا كَانَتْ نِيَّةُ التَّوْزِيعِ مُعْتَبَرَةً حَتَّى لَا يَصِيرَ صَائِمًا عَنْ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ الِانْقِسَامَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ حِنْطَةٍ عَنْ ظِهَارَيْنِ لَمْ يَجُزْ إلَّا عَنْ أَحَدِهِمَا فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُجْزِئُهُ عَنْهُمَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُجْزِئُهُ

عَنْهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا عَنْ يَمِينَيْنِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَّارَتَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ جَازَ فِيهِمَا بِالْإِجْمَاعِ. (وَأَمَّا) وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ أَصْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْكَفَّارَتَيْنِ إذَا كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا يُحْتَاجُ فِيهِمَا إلَى نِيَّةِ التَّعْيِينِ بَلْ تَلْغُو نِيَّةُ التَّعْيِينِ هَهُنَا وَيَبْقَى أَصْلُ النِّيَّةِ وَهُوَ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ يَدْفَعُ سِتِّينَ صَاعًا إلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ أَنَّ نِصْفَهُ عَنْ هَذَا وَنِصْفَهُ عَنْ ذَاكَ، وَلَوْ لَمْ يُعَيَّنْ لَمْ يَجُزْ إلَّا عَنْ أَحَدِهِمَا كَذَا هَذَا، إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ: إنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ إنَّمَا تَبْطُلُ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهَا، وَهَهُنَا فِي التَّعْيِينِ فَائِدَةٌ وَهِيَ جَوَازُ ذَلِكَ عَنْ الْكَفَّارَتَيْنِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا، وَيَقُولُ: إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا يَكُونُ عَنْ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْكَفَّارَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ، وَلِهَذَا قَالَ إذَا أَعْتَقَ رَقَبَةً وَاحِدَةً عَنْهُمَا لَا يَجُوزُ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْكَفَّارَتَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ مِنْ أَصْلِ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ مُعْتَبَرَةٌ، وَإِذَا صَحَّ التَّعْيِينُ وَالْمُؤَدَّى يَصْلُحُ عَنْهُمَا جَمِيعًا وَقَعَ الْمُؤَدَّى عَنْهُمَا فَجَازَ عَنْهُمَا جَمِيعًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) شَرْطُ جَوَازِ النِّيَّةِ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِفِعْلِ التَّكْفِيرِ، فَإِنْ لَمْ تُقَارِنْ الْفِعْلَ رَأْسًا، أَوْ لَمْ تُقَارِنْ فِعْلَ التَّكْفِيرِ بِأَنْ تَأَخَّرَتْ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ الْمُحْتَمَلِ وَإِيقَاعِهِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَلَنْ يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَتْ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ هِيَ الْإِرَادَةُ، وَالْإِرَادَةُ مُقَارِنَةٌ لِلْفِعْلِ كَالْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِأَنَّ بِهَا يَصِيرُ الْفِعْلُ اخْتِيَارِيًّا، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ يَنْوِي بِهِ الْعِتْقَ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ أَوْ ظِهَارِهِ أَوْ إفْطَارِهِ أَوْ قَتْلِهِ أَجُزْأَهُ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُجْزِيَهُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ عِنْدَنَا، فَإِذَا اشْتَرَاهُ نَاوِيًا عَنْ الْكَفَّارَةِ فَقَدْ قَارَنَتْ النِّيَّةُ الْإِعْتَاقَ فَجَازَ، وَعِنْدَهُمَا الْعِتْقُ يَثْبُتُ بِالْقَرَابَةِ وَالشِّرَاءُ شَرْطٌ فَلَمْ تَكُنْ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِفِعْلِ الْإِعْتَاقِ فَلَا يَجُوزُ (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الشِّرَاءَ لَيْسَ بِإِعْتَاقٍ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلَا شَكَّ فِي انْتِفَائِهَا لِأَنَّ وَاضِعَ اللُّغَةِ مَا وَضَعَ الشِّرَاءَ لِلْإِعْتَاقِ، (وَأَمَّا) الْمَجَازُ فَلِأَنَّ الْمَجَازَ يَسْتَدْعِي الْمُشَابَهَةَ فِي الْمَعْنَى اللَّازِمِ الْمَشْهُورِ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ وَلَا مُشَابَهَةَ هَهُنَا أَصْلًا، لِأَنَّ الشِّرَاءَ تَمَلُّكٌ وَالْإِعْتَاقَ إزَالَةُ الْمِلْكِ، وَبَيْنَهُمَا مُضَادَّةٌ. (وَلَنَا) مَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدًا إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» سَمَّاهُ مُعْتَقًا عَقِيبَ الشِّرَاءِ وَلَا فِعْلَ مِنْهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ، فَعُلِمَ أَنَّ الشِّرَاءَ وَقَعَ إعْتَاقًا مِنْهُ عَقَلْنَا وَجْهَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ نَعْقِلْ، فَإِذَا نَوَى عِنْدَ الشِّرَاءِ الْكَفَّارَةَ فَقَدْ اقْتَرَنَتْ النِّيَّةُ بِفِعْلِ الْإِعْتَاقِ فَجَازَ، وَقَوْلُهُمَا " الشِّرَاءُ لَيْسَ بِإِعْتَاقٍ حَقِيقَةً " مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ إعْتَاقٌ حَقِيقَةً لَكِنْ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ لَا وَضْعِيَّةٌ، وَالْحَقَائِقُ أَنْوَاعٌ: وَضْعِيَّةٌ وَشَرْعِيَّةٌ وَعُرْفِيَّةٌ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَكَذَلِكَ إذَا وَهَبَ لَهُ أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ فَقَبِلَهُ لِأَنَّهُ يُعْتَقُ بِالْقَبُولِ فَقَارَنَتْ النِّيَّةُ فِعْلَ الْإِعْتَاقِ، وَإِنْ وَرِثَهُ نَاوِيًا عَنْ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْعِتْقَ ثَبَتَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ رَأْسًا فَلَمْ يُوجَدْ قِرَانُ النِّيَّةِ الْفِعْلَ فَلَا يَجُوزُ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قَالَ لِعَبْدِ الْغَيْرِ: إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ نَاوِيًا عَنْ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَ الشِّرَاءِ يَثْبُتُ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ وَلَمْ تُقَارِنْهُ النِّيَّةُ، حَتَّى لَوْ قَالَ: إنْ اشْتَرَيْتُ فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي أَوْ ظِهَارِي أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يُجْزِيهِ لِقِرَانِ النِّيَّةِ كَلَامَ الْإِعْتَاقِ وَلَوْ قَالَ: إنْ اشْتَرَيْت فُلَانًا فَهُوَ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: مَا اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ عَنْ كَفَّارَةِ قَتْلِي، ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَهُوَ حُرٌّ عَنْ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ عَنْ كَفَّارَةِ قَتْلِي فَقَدْ أَرَادَ فَسْخَ الْأَوَّلِ، وَالْيَمِينُ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ تَطَوُّعًا، ثُمَّ قَالَ: إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي، ثُمَّ اشْتَرَاهُ كَانَ تَطَوُّعًا لِأَنَّهُ بِالْأَوَّلِ عَلَّقَ عِتْقَهُ تَطَوُّعًا بِالشِّرَاءِ، ثُمَّ أَرَادَ بِالثَّانِي فَسْخَ الْأَوَّلِ، وَالْيَمِينُ لَا يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ وَاَللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَأَمَّا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فَيَبْدَأُ بِالْإِطْعَامِ ثُمَّ بِالْكِسْوَةِ ثُمَّ بِالتَّحْرِيرِ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - بَدَأَ بِالْإِطْعَامِ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» فَنَقُولُ: لِجَوَازِ الْإِطْعَامِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْإِطْعَامِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مِقْدَارِ مَا يُطْعَمُ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ الطَّعَامُ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْإِطْعَامِ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ التَّمْلِيكُ وَهُوَ طَعَامُ الْإِبَاحَةِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِثْلِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَالْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَقَتَادَةَ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَقَالَ الْحَكَمُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ

لَا يَجُوزُ إلَّا التَّمْلِيكُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّمْلِيكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْإِطْعَامِ عِنْدَنَا بَلْ الشَّرْطُ هُوَ التَّمْكِينُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّمْلِيكُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَمْكِينٌ لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ تَمْلِيكٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّمْلِيكُ شَرْطُ الْجَوَازِ، لَا يَجُوزُ بِدُونِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ التَّكْفِيرَ مَفْرُوضٌ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ لِيَتَمَكَّنَ الْمُكَلَّفُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهِ لِئَلَّا يَكُونَ تَكْلِيفَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الْوُسْعُ، وَطَعَامُ الْإِبَاحَةِ لَيْسَ لَهُ قَدْرٌ مَعْلُومٌ وَكَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمِسْكَيْنِ مِنْ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالْجُوعِ وَالشِّبَعِ يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْمُقَدَّرُ، إذْ الْفَرْضُ هُوَ التَّقْدِيرُ، يُقَالُ: فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ أَيْ قَدَّرَ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أَيْ قَدَّرْتُمْ فَطَعَامُ الْإِبَاحَةِ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ، وَلِأَنَّ الْمُبَاحَ لَهُ يَأْكُلُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ فَيَهْلَكُ الْمَأْكُولُ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَا كَفَّارَةَ بِمَا يَهْلَكُ فِي مِلْكِ الْمُكَفِّرِ، وَبِهَذَا شَرَطَ التَّمْلِيكَ فِي الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ. (وَلَنَا) أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِلَفْظِ الْإِطْعَامِ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ -: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] ، وَالْإِطْعَامُ فِي مُتَعَارَفِ اللُّغَةِ اسْمٌ لِلتَّمْكِينِ مِنْ الْمَطْعَمِ لَا التَّمْلِيكِ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ -: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] ، وَالْمُرَادُ بِالْإِطْعَامِ الْإِبَاحَةُ لَا التَّمْلِيكُ، وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ» وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْإِطْعَامُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ وَهُوَ الْأَمْرُ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ، يُقَالُ: فُلَانٌ يُطْعِمُ الطَّعَامَ أَيْ يَدْعُو النَّاسَ إلَى طَعَامِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] ، وَإِنَّمَا يُطْعِمُونَ عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ دُونَ التَّمْلِيكِ، بَلْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ فِي ذَلِكَ التَّمْلِيكُ؛ فَدَلَّ أَنَّ الْإِطْعَامَ هُوَ التَّمْكِينُ مِنْ التَّطَعُّمِ إلَّا أَنَّهُ إذَا مَلَكَ جَازَ لِأَنَّ تَحْتَ التَّمْلِيكِ تَمْكِينًا لِأَنَّهُ إذَا مَلَّكَهُ فَقَدْ مَكَّنَّهُ مِنْ التَّطَعُّمِ وَالْأَكْلِ فَيَجُوزُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَمْكِينٌ، وَكَذَا إشَارَةُ النَّصِّ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَا لِأَنَّهُ قَالَ: " إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ " وَالْمَسْكَنَةُ هِيَ الْحَاجَةُ، وَاخْتِصَاصُ الْمِسْكِينِ لِلْحَاجَةِ إلَى أَكْلِ الطَّعَامِ دُونَ تَمَلُّكِهِ تَعُمُّ الْمِسْكِينَ وَغَيْرَهُ، فَكَانَ فِي إضَافَةِ الْإِطْعَامِ إلَى الْمَسَاكِينِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْإِطْعَامَ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَصِيرُ الْمِسْكِينُ بِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْ التَّطَعُّمِ لَا التَّمْلِيكِ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُشْرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ طَعَامُ الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ الشَّرْعَ هُنَاكَ لَمْ يَرِدْ بِلَفْظِ الْإِطْعَامِ وَإِنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظِ الْإِيتَاءِ وَالْأَدَاءِ. قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي الزَّكَاةِ: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، وَقَالَ - تَعَالَى - فِي الْعُشْرِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ، وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» الْحَدِيثَ، وَالْإِيتَاءُ وَالْأَدَاءُ يُشْعِرَانِ بِالتَّمْلِيكِ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْإِطْعَامِ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ إنْ كَانَ هُوَ التَّمْلِيكَ كَانَ النَّصُّ مَعْلُولًا بِدَفْعِ حَاجَةِ الْمِسْكِينِ، وَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ التَّمْكِينِ عَلَى طَرِيقِ الْإِبَاحَةِ، بَلْ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى دَفْعِ الْجُوعِ وَسَدِّ الْمَسْكَنَةِ مِنْ التَّمْلِيكِ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مَعْنَى الدَّفْعِ وَالسَّدِّ بِتَمْلِيكِ الْحِنْطَةِ إلَّا بَعْدَ طُولِ الْمُدَّةِ، وَإِلَّا بَعْدَ تَحَمُّلِ مُؤَنٍ، فَكَانَ الْإِطْعَامُ عَلَى طَرِيقِ الْإِبَاحَةِ أَقْرَبُ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّمْلِيكِ فَكَانَ أَحَقَّ بِالْجَوَازِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ جُعِلَتْ مُكَفِّرَةً لِلسَّيِّئَةِ بِمَا أَعْطَى نَفْسَهُ مِنْ الشَّهْوَةِ الَّتِي لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهَا، حَيْثُ لَمْ يَفِ بِالْعَهْدِ الَّذِي عَهِدَ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - فَخَرَجَ فِعْلُهُ مَخْرَجَ نَاقِضِ الْعَهْدِ وَمُخْلِفِ الْوَعْدِ؛ فَجُعِلَتْ كَفَّارَتُهُ بِمَا تَنْفِرُ عَنْهُ الطِّبَاعُ وَتَتَأَلَّمُ وَيَثْقُلُ عَلَيْهَا لِيَذُوقَ أَلَمَ إخْرَاجِ مَالِهِ الْمَحْبُوبِ عَنْ مِلْكِهِ فَيُكَفِّرُ مَا أَعْطَى نَفْسَهُ مِنْ الشَّهْوَةِ، لِأَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ أُذِنَ لَهُ فِيهَا، وَمَعْنَى تَأَلُّمِ الطَّبْعِ فِيمَا قُلْنَا أَكْثَرُ لِأَنَّ دُعَاءَ الْمَسَاكِينِ وَجَمْعَهُمْ عَلَى الطَّعَامِ وَخِدْمَتَهُمْ وَالْقِيَامَ بَيْنَ أَيْدِيهمْ أَشَدُّ عَلَى الطَّبْعِ مِنْ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ لِمَا جُبِلَ طَبْعُ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى النُّفْرَةِ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَمِنْ الِاخْتِلَاطِ مَعَهُمْ وَالتَّوَاضُعِ لَهُمْ فَكَانَ هَذَا أَقْرَبَ إلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى التَّكْفِيرِ فَكَانَ تَجْوِيزُ التَّمْلِيكِ تَكْفِيرًا تَجْوِيزٌ لِطَعَامِ الْإِبَاحَةِ تَكْفِيرًا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى (وَأَمَّا) قَوْلُهُ: " إنَّ الْكَفَّارَةَ مَفْرُوضَةٌ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةَ الْقَدْرِ " فَنَقُولُ: هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالْكَفَّارَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ - عَزَّ شَأْنُهُ - فَرَضَ هَذَا الْإِطْعَامَ وَعُرِفَ الْمَفْرُوضُ بِإِطْعَامِ الْأَهْلِ بِقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ -: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْأَهْلُ مَعْلُومًا، وَالْمَعْلُومُ مِنْ طَعَامِ الْأَهْلِ هُوَ طَعَامُ الْإِبَاحَةِ دُونَ التَّمْلِيكِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ طَعَامَ الْإِبَاحَةِ مَعْلُومُ الْقَدْرِ وَقَدْرُهُ الْكَفَّارَةُ بِطَعَامِ الْأَهْلِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَفْرُوضًا كَطَعَامِ الْأَهْلِ فَيُمْكِنُهُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْفَرْضِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّ الطَّعَامَ يَهْلَكُ عَلَى مِلْكِ الْمُكَفِّرِ فَلَا يَقَعُ عَنْ التَّكْفِيرِ " فَمَمْنُوعٌ بَلْ كَمَا صَارَ مَأْكُولًا فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ، إلَّا أَنَّهُ يَزُولُ لَا إلَى أَحَدٍ وَهَذَا يَكْفِي لِصَيْرُورَتِهِ كَفَّارَةً كَالْإِعْتَاقِ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مِقْدَارِ مَا يُطْعَمُ فَالْمِقْدَارُ فِي التَّمْلِيكِ هُوَ نِصْفُ صَاعٍ

مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ كَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ، وَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ بَلَغَنَا عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِيَرْفَأَ مَوْلَاهُ: إنِّي أَحْلِفُ عَلَى قَوْمٍ لَا أُعْطِيهِمْ ثُمَّ يَبْدُو لِي فَأُعْطِيهِمْ، فَإِذَا أَنَا فَعَلْت ذَلِكَ فَأُطَّ عَمْ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، وَبَلَغَنَا عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَمِنْ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ، وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَالتَّرْجِيحُ لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى عَزَّ اسْمُهُ -: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] ، وَالْمُدُّ لَيْسَ مِنْ الْأَوْسَطِ بَلْ أَوْسَطُ طَعَامِ الْأَهْلِ يَزِيدُ عَلَى الْمُدِّ فِي الْغَالِبِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ صَدَقَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِقُوتِ مِسْكِينٍ لِيَوْمٍ فَلَا تَنْقُصُ عَنْ نِصْفِ صَاعٍ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأَذَى، فَإِنْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِمْ مُدًّا مُدًّا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمْ اسْتَقْبَلَ الطَّعَامَ لِأَنَّ الْمِقْدَارَ أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ فِي التَّمْلِيكِ مُدًّا فَلَا يَجُوزُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ فِي التَّمْلِيكِ الدَّقِيقُ وَالسَّوِيقُ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ تَمَامُ الْكَيْلِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ كَالْحِنْطَةِ لِأَنَّهُ حِنْطَةٌ إلَّا أَنَّهُ فُرِّقَتْ أَجْزَاؤُهَا بِالطَّحْنِ. وَهَذَا التَّفْرِيقُ تَقْرِيبٌ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْهَا فَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ، وَيُعْتَبَرُ فِي تَمْلِيكِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ تَمَامُ الْكَيْلِ وَلَا يَقُومُ الْبَعْضُ مَقَامَ بَعْضٍ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ كَيْلِهِ حَتَّى لَوْ أَعْطَى نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ لَا عَنْ غَيْرِهِ فَأَمَّا الْأَرُزُّ وَالذُّرَةُ وَالْجَارُوسُ فَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فِي الْكَيْلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَوَازُهُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا عُيِّنَّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ. وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْقِيَمِ وَالْأَبْدَالِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ، وَعِنْدَنَا يَجُوزُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَمَرَ بِالْإِطْعَامِ بِقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] ، فَالْقَوْلُ بِجَوَازِ أَدَاءِ الْقِيمَةِ يَكُونُ تَغْيِيرًا لِحُكْمِ النَّصِّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ. (وَلَنَا) مَا ذَكَرْنَا أَنَّ إطْعَامَ الْمِسْكِينِ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَتَمَكَّنُ الْمِسْكِينُ بِهِ مِنْ التَّطَعُّمِ فِي مُتَعَارَفِ اللُّغَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا يَحْصُلُ بِتَمْلِيكِ الْقِيمَةِ فَكَانَ تَمْلِيكُ الْقِيمَةِ مِنْ الْفَقِيرِ إطْعَامًا لَهُ؛ فَيَتَنَاوَلُ النَّصُّ جَوَازَ التَّمْلِيكِ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَمْكِينٌ لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ تَمْلِيكٌ عَلَى مَا مَرَّ أَنَّ الْإِطْعَامَ إنْ كَانَ اسْمًا لِلتَّمْلِيكِ فَجَوَازُهُ مَعْلُولٌ بِدَفْعِ الْحَاجَةِ وَهُوَ الْمَسْأَلَةُ، عَرَفَنَا ذَلِكَ بِإِشَارَةِ النَّصِّ وَضَرْبٍ مِنْ الِاسْتِنْبَاطِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْقِيمَةُ فِي دَفْعِ الْحَاجَةِ مِثْلُ الطَّعَامِ فَوُرُودُ الشَّرْعِ بِجَوَازِ الطَّعَامِ يَكُونُ وُرُودًا بِجَوَازِ الْقِيمَةِ بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّ تَمْلِيكَ الثَّمَنِ أَقْرَبُ إلَى قَضَاءِ حَاجَةِ الْمِسْكِينِ مِنْ تَمْلِيكِ عَيْنِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ بِهِ يَتَوَصَّلُ إلَى مَا يَخْتَارُهُ مِنْ الْغِذَاءِ الَّذِي اعْتَادَ الِاغْتِذَاءَ بِهِ فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّكْفِيرَ بِالْإِطْعَامِ يَحْمِلُ مَكْرُوهَ الطَّبْعِ بِإِزَاءِ مَا نَالَ مِنْ الشَّهْوَةِ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى يَحْصُلُ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ جُعِلَتْ حَقًّا لِلْمِسْكِينِ، فَمَتَى أَخْرَجَ مَنْ عَلَيْهِ الطَّعَامُ إلَى الْمُسْتَحِقِّ بَدَلَهُ وَقَبِلَهُ الْمُسْتَحِقُّ عَنْ طَوْعٍ فَقَدْ اسْتَبْدَلَ حَقَّهُ بِهِ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِجَوَازِ هَذَا الِاسْتِبْدَالِ بِمَنْزِلَةِ التَّنَاوُلِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ. (وَأَمَّا) الْمِقْدَارُ فِي طَعَامِ الْإِبَاحَةِ فَأَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ غَدَاءً وَعَشَاءً، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَمَكْحُولٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهُ يُطْعِمُهُمْ أَكْلَةً وَاحِدَةً، وَقَالَ الْحَسَنُ وَجْبَةً وَاحِدَةً، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - عَرَّفَ هَذَا الْإِطْعَامَ بِإِطْعَامِ الْأَهْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] ، وَذَلِكَ أَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ غَدَاءً وَعَشَاءً كَذَا هَذَا، وَلِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ شَأْنُهُ - ذَكَرَ الْأَوْسَطَ. وَالْأَوْسَطُ مَا لَهُ حَاشِيَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ، وَأَقَلُّ عَدَدٍ لَهُ حَاشِيَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ ثَلَاثَةٌ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْوَاعًا ثَلَاثَةً: أَحَدُهَا الْوَسَطُ فِي صِفَاتِ الْمَأْكُولِ مِنْ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ. وَالثَّانِي الْوَسَطُ مِنْ حَيْثُ الْمِقْدَارُ مِنْ السَّرَفِ وَالْقَتْرِ. وَالثَّالِثُ الْوَسَطُ مِنْ حَيْثُ أَحْوَالُ الْأَكْلِ مِنْ مَرَّةٍ وَمَرَّتَيْنِ وَثَلَاثِ مَرَّاتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَلَا بِسَمْعِيٍّ تَعْيِينُ بَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْوَسَطِ مِنْ الْكُلِّ احْتِيَاطًا لِيَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ الْفَرْضِ بِيَقِينٍ وَهُوَ أَكْلَتَانِ فِي يَوْمٍ بَيْنَ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ، وَالسَّرَفِ وَالْقَتْرِ، وَلِأَنَّ

أَقَلَّ الْأَكْلِ فِي يَوْمٍ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْوَجْبَةِ، وَهُوَ فِي وَقْتِ الزَّوَالِ إلَى زَوَالِ يَوْمِ الثَّانِي مِنْهُ. وَالْأَكْثَرُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ غَدَاءً وَعَشَاءً وَفِي نِصْفِ الْيَوْمِ، وَالْوَسَطَ مَرَّتَانِ غَدَاءً وَعَشَاءً وَهُوَ الْأَكْلُ الْمُعْتَادُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ أَيْضًا، قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] ، فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ الْإِطْعَامِ عَلَى الْمُتَعَارَفِ، وَكَذَلِكَ إذَا غَدَّاهُمْ وَسَحَّرَهُمْ، أَوْ عَشَّاهُمْ وَسَحَّرَهُمْ، أَوْ غَدَّاهُمْ غَدَاءَيْنِ، أَوْ عَشَّاهُمْ عَشَاءَيْنِ، أَوْ سَحَّرَهُمْ سَحُورَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَكْلَتَانِ مَقْصُودَتَانِ، فَإِذَا غَدَّاهُمْ فِي يَوْمَيْنِ أَوْ عَشَّاهُمْ فِي يَوْمَيْنِ كَانَ كَأَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَعْنًى إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي عَدَدٍ وَاحِدٍ، حَتَّى لَوْ غَدَّى عَدَدًا وَعَشَّى عَدَدًا آخَرَ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ كُلِّ مِسْكِينٍ أَكْلَتَانِ. وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ مِثْلُهُ فِي التَّمْلِيكِ بِأَنْ فَرَّقَ حِصَّةَ مِسْكِينٍ عَلَى مِسْكِينَيْنِ فَكَذَا فِي التَّمْكِينِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الطَّعَامُ مَأْدُومًا أَوْ غَيْرَ مَأْدُومٍ، حَتَّى لَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ خُبْزًا بِلَا إدَامٍ أَجْزَأَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَأْدُومِ وَغَيْرِهِ وَقَدْ أَطْعَمَ، وَلِأَنَّ اللَّهَ - عَزَّ شَأْنُهُ - عَرَّفَ الْإِطْعَامَ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ بِإِطْعَامِ الْأَهْلِ. وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مَأْدُومًا وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَأْدُومٍ فَكَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَطْعَمَ خُبْزَ الشَّعِيرِ أَوْ سَوِيقًا أَوْ تَمْرًا أَجْزَأَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُؤْكَلُ وَحْدَهُ فِي طَعَامِ الْأَهْلِ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ: قَالَ إذَا أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا غَدَاءً وَعَشَاءً أَجْزَأَهُ مِنْ إطْعَامِ مَسَاكِينَ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ إلَّا رَغِيفًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْكِفَايَةُ وَالْكِفَايَةُ قَدْ تَحْصُلُ بِرَغِيفٍ وَاحِدٍ فَلَا يُعْتَبَرُ الْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ، فَإِنْ مَلَّكَهُ الْخُبْزَ بِأَنْ أَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ أَرْغِفَةٍ فَإِنْ كَانَ يَعْدِلُ ذَلِكَ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْدِلْ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ الْخُبْزَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فَكَانَ جَوَازُهُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَوْ غَدَّى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ فِي يَوْمٍ ثُمَّ أَعْطَاهُمْ مُدًّا مُدًّا أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ التَّمْلِيكِ وَالتَّمْكِينِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَائِزٌ حَالَ الِانْفِرَادِ كَذَا حَالَ الِاجْتِمَاعِ، وَلِأَنَّ الْغَدَاءَ مُقَدَّرٌ بِنِصْفِ كِفَايَةِ الْمِسْكِينِ وَالْمُدَّ مُقَدَّرٌ بِنِصْفِ كِفَايَتِهِ فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ كِفَايَةُ يَوْمٍ فَيَجُوزُ، فَإِنْ أَعْطَى غَيْرَهُمْ مُدًّا مُدًّا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ فَرَّقَ طَعَامَ الْعَشَرَةِ عَلَى عِشْرِينَ فَلَمْ يَحْصُلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِقْدَارُ كِفَايَتِهِ، وَلَوْ غَدَّاهُمْ وَأَعْطَى قِيمَةَ الْعَشَاءِ فُلُوسًا وَدَرَاهِمَ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْكَفَّارَةِ تَقُومُ مَقَامَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا تَقُومُ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ الطَّعَامُ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا، فَلَا يَجُوزُ إطْعَامُ الْغَنِيِّ عَنْ الْكَفَّارَةِ تَمْلِيكًا وَإِبَاحَةً لِأَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - أَمَرَ بِإِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ بِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ -: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ يَجُوزُ إطْعَامُهُ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ إعْطَاءُ الزَّكَاةِ إيَّاهُ فَالْكَفَّارَةُ أَوْلَى. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَسْتَوْفِي الطَّعَامَ، وَهَذَا فِي إطْعَامِ الْإِبَاحَةِ حَتَّى لَوْ غَدَّى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ وَعَشَّاهُمْ وَفِيهِمْ صَبِيٌّ أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ وَعَلَيْهِ إطْعَامُ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ لِقَوْلِهِ - جَلَّ جَلَالُهُ -: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعَمُ، حَتَّى لَوْ كَانَ مُرَاهِقًا جَازَ لِأَنَّ الْمُرَاهِقَ يَسْتَوْفِي الطَّعَامَ فَيَحْصُلُ الْإِطْعَامُ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعَمُ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَمْلُوكَهُ لِأَنَّ الصَّرْفَ إلَيْهِ صَرْفٌ إلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَجُزْ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ فَلَا يَجُوزُ إطْعَامُهُمْ تَمْلِيكًا وَإِبَاحَةً لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ صَرْفًا إلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَعْضِ لِلْبَعْضِ، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِحَقِّ التَّكْفِيرِ لِمَا اقْتَرَفَ مِنْ الذَّنْبِ بِمَا أَعْطَى نَفْسَهُ مُنَاهَا وَأَوْصَلَهَا إلَى هَوَاهَا بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْ الْآذِنِ وَهُوَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ - فَفَرَضَ عَلَيْهِمْ الْخُرُوجَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ بِمَا تَتَأَلَّمُ بِهِ النَّفْسُ وَيَنْفِرُ عَنْهُ الطَّبْعُ لِيُذِيقَ نَفْسَهُ الْمَرَارَةَ بِمُقَابَلَةِ إعْطَائِهَا مِنْ الشَّهْوَةِ. وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ بِإِطْعَامِ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَتَأَلَّمُ بِهِ بَلْ تَمِيلُ إلَيْهِ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - الطَّبَائِعَ بِحَيْثُ لَا تَحْتَمِلُ نُزُولَ الْبَلَاءِ وَالشِّدَّةِ بِهِمْ، وَبِحَيْثُ يَجْتَهِدُ كُلٌّ فِي دَفْعِ الْحَاجَةِ عَنْهُمْ مِثْلَ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَوْ أَطْعَمَ أَخَاهُ أَوْ أُخْتَهُ وَهُوَ فَقِيرٌ جَازَ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْأَخِ وَالْأُخْتِ فَدَخَلَ تَحْتَ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] ، وَلَوْ أَطْعَمَ وَلَدَهُ أَوْ غَنِيًّا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الزَّكَاةِ وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ هَاشِمِيًّا لِأَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - كَرِهَ لَهُمْ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ وَعَوَّضَهُمْ بِخُمْسِ الْخُمْسِ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ لَيْسَ

بِهَاشِمِيٍّ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ هَاشِمِيٌّ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ زَوْجًا أَوْ زَوْجَةً لَهُ لِأَنَّ مَا شُرِعَ لَهُ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ تَأَلُّمُ الطَّبْعِ وَنِفَارُهُ بِالْبَذْلِ وَالْإِخْرَاجِ لَا يُوجَدُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِمَا يُوجَدُ الْبَذْلُ بَيْنَهُمَا شَهْوَةً وَطَبِيعَةً وَيَكُونُ التَّنَاكُحُ لِمِثْلِهِ فِي الْعُرْفِ وَالشَّرْعِ عَلَى مَا رُوِيَ «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا وَجَمَالِهَا» ، وَعَلَى مَا وُضِعَ النِّكَاحُ لِلْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالْبَذْلِ وَدَفْعِ الشُّحِّ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخِرِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْتَفِعُ بِمَالِ صَاحِبِهِ فَتَتَمَكَّنُ الْتَهَمَهُ فِي الشَّهَادَةِ. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ حَرْبِيًّا وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - نَهَانَا عَنْ الْبِرِّ بِهِمْ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [الممتحنة: 9] وَلِأَنَّ فِي الدَّفْعِ إلَى الْحَرْبِيِّ إعَانَةً لَهُ عَلَى الْحِرَابِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وَيَجُوزُ إعْطَاءُ فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إلَّا الزَّكَاةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ إلَّا النُّذُورُ وَالتَّطَوُّعُ وَدَمُ الْمُتْعَةِ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذِهِ صَدَقَةٌ وَجَبَتْ بِإِيجَابِ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْكَافِرِ كَالزَّكَاةِ بِخِلَافِ النَّذْرِ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِإِيجَابِ الْعَبْدِ، وَالتَّطَوُّعُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَصْلًا، وَالتَّصَدُّقُ بِلَحْمِ الْمُتْعَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الْإِرَاقَةِ. (وَلَهُمَا) عُمُومُ قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ الْحَرْبِيَّ بِمَا تَلَوْنَا فَبَقِيَ الذِّمِّيُّ عَلَى عُمُومِ النَّصِّ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّ الزَّكَاةَ خُصَّتْ «بِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ» ، أَمَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِرَدِّ الزَّكَاةِ إلَى مَنْ أَمَرَ بِالْأَخْذِ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ فَكَذَا الْمَرْدُودُ عَلَيْهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ» . (وَوَجْهُ) الِاسْتِدْلَالِ مَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ لِدَفْعِ الْمَسْكَنَةِ وَالْمَسْكَنَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْكَفَرَةِ فَيَجُوزُ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِمْ كَمَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْمُسْلِمِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ مَا يُرَغِّبُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَفَّارَاتِ وَجَبَتْ بِمَا اخْتَارَ مِنْ إعْطَاءِ النَّفْسِ شَهْوَتَهَا فِيمَا لَا يَحِلُّ لَهُ فَتَكُونُ كَفَّارَتُهَا بِكَفِّ النَّفْسِ عَنْ شَهْوَتِهَا فِيمَا يَحِلُّ لَهُ وَبَذْلِ مَا كَانَ فِي طَبْعِهِ مَنْعُهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ بِالصَّرْفِ إلَى الْكَافِرِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ لِأَنَّهَا مَا وَجَبَتْ بِحَقِّ التَّكْفِيرِ بَلْ بِحَقِّ الشُّكْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَجِبُ بِلَا كَسْبٍ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ؟ وَحَقُّ الشُّكْرِ الْإِنْفَاقُ فِي طَاعَةِ الْمُنْعِمِ، وَالصَّرْفُ إلَى الْمُؤْمِنِ إنْفَاقٌ عَلَى مَنْ يَصْرِفُهُ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - فَيَخْرُجُ مَخْرَجَ الْمَعُونَةِ عَلَى الطَّاعَةِ فَيَحْصُلُ مَعْنَى الشُّكْرِ عَلَى الْكَمَالِ وَالْكَافِرُ لَا يَصْرِفُهُ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الشُّكْرِ عَلَى التَّمَامِ، فَأَمَّا الْكَفَّارَاتُ فَمَا عُرِفَ وُجُوبُهَا شُكْرًا بَلْ تَكْفِيرًا لِإِعْطَاءِ النَّفْسِ شَهْوَتَهَا بِإِخْرَاجِ مَا فِي شَهْوَتِهَا الْمَنْعُ وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الصَّرْفِ إلَى الْكَافِرِ مَوْجُودٌ عَلَى الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ لِذَلِكَ افْتَرَقَا. وَهَلْ يُشْتَرَطُ عَدَدُ الْمَسَاكِينِ صُورَةً فِي الْإِطْعَامِ تَمْلِيكًا وَإِبَاحَةً؟ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَ بِشَرْطٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: شَرْطٌ، حَتَّى لَوْ دَفَعَ طَعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَصْوُعٍ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ كُلُّ يَوْمٍ نِصْفُ صَاعٍ، أَوْ غَدَّى مِسْكِينًا وَاحِدًا أَوْ عَشَّاهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ أَجْزَأَ عِنْدَنَا. وَعِنْدَهُ لَا يُجْزِيهِ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ، وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - جَلَّ شَأْنُهُ -: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] نَصَّ عَلَى عَدَدِ الْعَشَرَةِ فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دُونَهُ كَسَائِرِ الْأَعْدَادِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ كَقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ -: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وَقَوْلِهِ - جَلَّ شَأْنُهُ -: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ طَعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ. (وَلَنَا) أَنَّ فِي النَّصِّ إطْعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، وَإِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ قَدْ يَكُونُ بِأَنْ يُطْعِمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، وَقَدْ يَكُونُ بِأَنْ يَكْفِيَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ سَوَاءٌ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أَوْ لَا، فَإِذَا أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا عَشَرَةَ أَيَّامٍ قَدْرَ مَا يَكْفِي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ فَقَدْ وُجِدَ إطْعَامَ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ فَخَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى إطْعَامِ مَسَاكِينَ إنْ كَانَ هُوَ بِأَنْ يُطْعِمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، لَكِنَّ إطْعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ قَدْ يَكُونُ صُورَةً وَمَعْنًى بِأَنْ يُطْعِمَ عَشَرَةً مِنْ الْمَسَاكِينِ عَدَدًا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَقَدْ يَكُونُ مَعْنًى لَا صُورَةً وَهُوَ أَنْ يُطْعِمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ لِدَفْعِ الْجَوْعَةِ وَسَدِّ الْمَسْكَنَةِ، وَلَهُ كُلَّ يَوْمٍ جَوْعَةٌ وَمَسْكَنَةٌ عَلَى حِدَةٍ لِأَنَّ الْجُوعَ يَتَجَدَّدُ، وَالْمَسْكَنَةُ تَحْدُثُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَدَفْعُ عَشْرِ جَوْعَاتٍ عَنْ مِسْكِينٍ

وَاحِدٍ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ فِي مَعْنَى دَفْعِ عَشْرِ جَوْعَاتٍ عَنْ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَكَانَ هَذَا إطْعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مَعْنًى فَيَجُوزُ. وَنَظِيرُ هَذَا مَا رُوِيَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ ثُمَّ لَوْ اسْتَنْجَى بِالْمَدَرِ أَوْ بِحَجَرٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ جَازَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَهُوَ التَّطْهِيرُ كَذَا هَذَا، وَلِأَنَّ مَا وَجَبَتْ لَهُ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ يَقْتَضِي سُقُوطَ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إذَاقَةِ النَّفْسِ مَرَارَةَ الدَّفْعِ وَإِزَالَةَ الْمِلْكِ لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لِتَكْفِيرِ مَا أَتْبَعَهَا هَوَاهَا وَأَوْصَلَهَا إلَى مُنَاهَا، كَمَا خَالَفَ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي فِعْلِهِ بِتَرْكِ الْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهَذَا الْمَعْنَى فِي بَذْلِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ تَمْلِيكًا وَإِبَاحَةً لَا فِي مُرَاعَاةِ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ صُورَةً بِخِلَافِ ذِكْرِ الْعَدَدِ فِي بَابِ الْحَدِّ وَالْعِدَّةِ، لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ هُنَاكَ ثَبَتَ نَصًّا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلَا يَحْتَمِلُ التَّعْدِيَةَ وَهَهُنَا مَعْقُولٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَبِخِلَافِ الشَّهَادَاتِ حَيْثُ لَا تَجُوزُ إقَامَةُ الْوَاحِدِ فِيهَا فِي يَوْمَيْنِ أَوْ فِي دَفْعَتَيْنِ مَقَامَ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَعْنَى الَّذِي يَحْصُلُ بِالْعَدَدِ لَا يَحْصُلُ بِالْوَاحِدِ وَهُوَ انْتِفَاءُ التُّهْمَةِ وَمَنْفَعَةُ التَّصْدِيقِ وَنَفَاذُ الْقَوْلِ عَلَى مَا نَذْكُرهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَهُنَا مَعْنَى التَّكْفِيرِ وَدَفْعُ الْحَاجَةِ وَسَدُّ الْمَسْكَنَةِ لَا يَخْتَلِفُ لِمَا بَيَّنَّا. (وَأَمَّا) إذَا دَفَعَ طَعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ دَفَعَاتٍ فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ. وَقَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا: لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ يَقْتَضِي الْجَوَازَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا إلَّا أَنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي حَقِّ يَوْمٍ وَاحِدٍ لِدَلِيلٍ كَمَا صَارَ مَخْصُوصًا فِي حَقِّ بَعْضِ الْمَسَاكِينِ مِنْ الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ وَنَحْوِهِمْ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِيمَا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ، وَلَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّعَامِ هُوَ طَعَامُ الْإِبَاحَةِ إذْ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ التَّغْدِيَةُ وَالتَّعْشِيَةُ لِدَفْعِ الْجُوعِ وَإِزَالَةِ الْمَسْكَنَةِ وَفِي الْحَاصِلِ دَفْعُ عَشْرِ جَوْعَاتٍ وَهَذَا فِي وَاحِدٍ فِي حَقِّ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْرِيقِ الدَّفْعِ عَلَى الْأَيَّامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ التَّفْرِيقِ الْمُجْتَمِعِ كَمَا فِي رَمْيِ الْجِمَارِ أَنَّهُ إذَا رَمَى بِالْحَصَى مُتَفَرِّقًا جَازَ، وَلَوْ رَمَى مُجْتَمِعًا دَفْعَةً وَاحِدَةً لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ وَاحِدَةٍ وَوُجِدَ فِي مَسْأَلَتِنَا فَجَازَ وَكَذَلِكَ لَوْ غَدَّى رَجُلًا وَاحِدًا عِشْرِينَ يَوْمًا أَوْ عَشَّى رَجُلًا وَاحِدًا فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا لَمَا ذَكَرْنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ عَدَدَ الْمَسَاكِينِ عِنْدَهُ شَرْطٌ وَلَمْ يُوجَدْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْكِسْوَةُ فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ قَدْرِهَا، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهَا، وَفِي بَيَانِ مَصْرِفِهَا (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَأَدْنَى الْكِسْوَةِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ قَمِيصٌ أَوْ رِدَاءٌ أَوْ كِسَاءٌ أَوْ مِلْحَفَةٌ أَوْ جُبَّةٌ أَوْ قَبَاءٌ أَوْ إزَارٌ كَبِيرٌ وَهُوَ الَّذِي يَسْتُرُ الْبَدَنَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْكِسْوَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ التَّقْدِيرَ فَكُلَّ مَا يُسَمَّى لَابِسُهُ مُكْتَسِيًا يُجْزِي وَمَا لَا فَلَا وَلَابِسُ مَا ذَكَرْنَا يُسَمَّى مُكْتَسِيًا فَيُجْزِي عَنْ الْكَفَّارَةِ وَلَا تُجْزِي الْقَلَنْسُوَةُ وَالْخُفَّانِ وَالنَّعْلَانِ لِأَنَّ لَابِسَهُمَا لَا يُسَمَّى مُكْتَسِيًا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَلَا هِيَ تُسَمَّى كِسْوَةً فِي الْعُرْفِ. وَأَمَّا السَّرَاوِيلُ وَالْعِمَامَةُ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيهَا، رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا أَعْطَى مِسْكِينًا قَبَاءً أَوْ كِسَاءً أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ عِمَامَةً سَابِغَةً يَجُوزُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا تُجْزِي السَّرَاوِيلُ وَالْعِمَامَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْإِمْلَاءِ. وَرَوَى هِشَامٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْهُ: أَنَّ السَّرَاوِيلَ تُجْزِيهِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فِي الْعِمَامَةِ، لِأَنَّ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ شَرَطَ فِي الْعِمَامَةِ أَنْ تَكُونَ سَابِغَةً، فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ عَدَمِ الْجَوَازِ فِيهَا عَلَى مَا إذَا لَمْ تَكُنْ سَابِغَةً وَهِيَ أَنْ لَا تَكْفِيَ تَقْمِيصَ وَاحِدٍ (وَأَمَّا) السَّرَاوِيلُ (فَوَجْهُ) رِوَايَةِ الْجَوَازِ تَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَيُجْزِي عَنْ الْكَفَّارَةِ كَالْقَمِيصِ (وَوَجْهُ) رِوَايَةِ عَدَمِ الْجَوَازِ وَهِيَ الَّتِي صَحَّحَهَا الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ لَابِسَ السَّرَاوِيلِ لَا يُسَمَّى مُكْتَسِيًا عُرْفًا وَعَادَةً بَلْ يُسَمَّى عُرْيَانًا فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْكِسْوَةِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ إذَا كَسَا امْرَأَةً فَإِنَّهُ يَزِيدُ فِيهِ الْخِمَارَ وَهَذَا اعْتِبَارُ جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الْكِسْوَةِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ رَأْسَهَا عَوْرَةٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهَا مَعَ انْكِشَافِهَا وَلَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ ثَوْبٍ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْكِسْوَةِ وَلَكِنَّهُ يُجْزِي مِنْ الطَّعَامِ عِنْدَنَا إذَا كَانَ يُسَاوِي نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ (أَمَّا) عَدَمُ جَوَازِهِ مِنْ الْكِسْوَةِ فَلِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْكِسْوَةُ وَنِصْفُ ثَوْبٍ لَا يُسَمَّى كِسْوَةً، لَا يَجُوزُ أَنْ تُعْتَبَرَ قِيمَتُهُ عَنْ كِسْوَةٍ رَدِيئَةٍ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ بَدَلًا عَنْ نَفْسِهِ. (وَأَمَّا) جَوَازُهُ عَنْ الطَّعَامِ إذَا بَلَغَ قِيمَتُهُ نِصْفَ صَاعٍ فَلِأَنَّ الْقِيمَةَ تَجُوزُ بَدَلًا عَنْ الْكِسْوَةِ عِنْدَنَا كَمَا تَجُوزُ بَدَلًا

عَنْ الطَّعَامِ وَالْوَجْهُ فِيهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الطَّعَامِ وَهَلْ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْبَدَلِيَّةِ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُشْتَرَطُ وَلَا تُجْزِي الْكِسْوَةُ عَنْ الطَّعَامِ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُشْتَرَطُ، وَنِيَّةُ التَّكْفِيرِ كَافِيَةٌ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ لَيْسَ إلَّا التَّكْفِيرُ فَيَسْتَدْعِي نِيَّةَ التَّكْفِيرِ وَقَدْ وُجِدَتْ فَيُجْزِيهِ، كَمَا لَوْ أَعْطَى الْمَسَاكِينَ دَرَاهِمَ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ وَهِيَ لَا تَبْلُغُ قِيمَةَ الْكِسْوَةِ وَتَبْلُغُ قِيمَةَ الطَّعَامِ جَازَتْ عَنْ الطَّعَامِ، وَلَوْ كَانَتْ لَا تَبْلُغُ قِيمَةَ الطَّعَامِ وَتَبْلُغُ قِيمَةَ الْكِسْوَةِ جَازَتْ عَنْ الْكِسْوَةِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْبَدَلِيَّةِ كَذَا هَذَا (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ الْمُؤَدَّى يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَكْمِيلُهُ بِضَمِّ الْبَاقِي إلَيْهِ فَلَا يَصِيرُ بَدَلًا إلَّا بِجَعْلِهِ بَدَلًا وَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ، بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ لِأَنَّهُ لَا جَوَازَ لَهَا عَنْ نَفْسِهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا فَكَانَتْ مُتَعَيِّنَةً لِلْبَدَلِيَّةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَسَا كُلَّ مِسْكِينٍ قَلَنْسُوَةً أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ نَعْلَيْنِ لَمْ يُجْزِهِ فِي الْكِسْوَةِ وَأَجْزَأَهُ فِي الطَّعَامِ إذَا كَانَ يُسَاوِيهِ فِي الْقِيمَةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا لَوْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا وَاحِدًا بَيْنَهُمْ كَثِيرَ الْقِيمَةِ، نَصِيبُ كُلِّ مِسْكِينٍ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ ثَوْبٍ لَمْ يُجْزِهِ فِي الْكِسْوَةِ وَأَجْزَأَهُ فِي الطَّعَامِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكِسْوَةَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فَلَا تَكُونُ بَدَلًا عَنْ نَفْسِهَا وَتَصْلُحُ بَدَلًا عَنْ غَيْرِهَا كَمَا لَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ رُبْعَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ وَذَلِكَ يُسَاوِي صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِي عَنْ الطَّعَامِ. وَإِنْ كَانَ مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ يُسَاوِي ثَوْبًا يُجْزِي عَنْ الْكِسْوَةِ لِأَنَّ الطَّعَامَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِيمَةً عَنْ الثَّوْبِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِيمَةً عَنْ الطَّعَامِ، لِأَنَّ الطَّعَامَ كُلَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ بِخِلَافِ الطَّعَامِ مَعَ الْكِسْوَةِ لِأَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ ذَاتًا وَمَقْصُودًا فَجَازَ أَنْ يَقُومَ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ وَكَذَا لَوْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ دَابَّةً أَوْ عَبْدًا وَقِيمَتُهُ تَبْلُغُ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ جَازَ فِي الْكِسْوَةِ وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ وَبَلَغَتْ قِيمَةَ الطَّعَامِ أَجْزَأَهُ عَنْهُ عِنْدَنَا لِأَنَّ دَفْعَ الْبَدَلِ فِي بَابِ الْكَفَّارَةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَأَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ وَمِسْكِينًا صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ وَمِسْكِينًا ثَوْبًا وَغَدَّى مِسْكِينًا وَعَشَّاهُ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ حَتَّى يُكْمِلَ عَشَرَةً مِنْ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ لِأَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - جَعَلَ الْكَفَّارَةَ أَحَدَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْإِطْعَامِ أَوْ الْكِسْوَةِ أَوْ التَّحْرِيرِ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] إلَى قَوْله تَعَالَى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] وَأَوْ تَتَنَاوَلُ أَحَدَهَا فَلَا تُجَوِّزُ الْجَمْعَ بَيْنَهَا لِأَنَّهُ يَكُونُ نَوْعًا رَابِعًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لَكِنَّهُ إذَا اخْتَارَ الطَّعَامَ جَازَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مِسْكِينًا حِنْطَةً وَمِسْكِينًا شَعِيرًا وَمِسْكِينًا تَمْرًا لِأَنَّ اسْمَ الطَّعَامِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَلَوْ أَعْطَى نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ جَيِّدٍ يُسَاوِي نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ لَمْ يُجْزِ إلَّا عَنْ نَفْسِهِ بِقَدْرِهِ لِأَنَّ التَّمْرَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْإِطْعَامِ كَالْبُرِّ فَلَا يُجْزِي أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ كَمَا لَا يَجُوزُ الثَّمَنُ عَنْ التَّمْرِ، وَيُجْزِي التَّمْرُ عَنْ الْكِسْوَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ الْمَقْصُودِ مِنْ الْآخَرِ فَجَازَ إخْرَاجُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ بِالْقِيمَةِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) صِفَةُ الْكِسْوَةِ فَهِيَ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ إلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّمْلِيكِ بِخِلَافِ الْإِطْعَامِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ لَدَفْعِ حَاجَةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَهَذِهِ الْحَاجَةُ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِتَمْلِيكٍ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّهُ إلَّا بِهِ، فَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَلِدَفْعِ حَاجَةِ الْجُوعِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالطَّعْمِ لِأَنَّ حَقَّهُ يَنْقَطِعُ بِهِ، وَيَجُوزُ أَدَاءُ الْقِيمَةِ عَنْ الْكِسْوَةِ كَمَا يَجُوزُ عَنْ الطَّعَامِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَوْ دَفَعَ كِسْوَةَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ جَازَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي الْإِطْعَامِ، وَلَوْ أَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ وَكَسَا خَمْسَةَ مَسَاكِينَ، فَإِنْ أَخْرَجَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - أَوْجَبَ أَحَدَ شَيْئَيْنِ، فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ أَخْرَجَهُ عَلَى وَجْهِ الْقِيمَةِ فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ أَرْخَصَ مِنْ الْكِسْوَةِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَتْ الْكِسْوَةُ أَرْخَصَ مِنْ الطَّعَامِ لَمْ يَجْزِهِ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ تَمْلِيكٌ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا عَنْ الطَّعَامِ ثُمَّ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْكِسْوَةِ مِثْلَ قِيمَةِ الطَّعَامِ فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّعَامَ، وَإِنْ كَانَتْ أَغْلَى فَقَدْ أَخْرَجَ قِيمَةَ الطَّعَامِ وَزِيَادَةً فَجَازَ، وَصَارَ كَمَا لَوْ أَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ طَعَامَ الْإِبَاحَةِ، وَأَدَّى قِيمَةَ طَعَامِ خَمْسَةِ مَسَاكِينَ طَعَامَ الْإِبَاحَةِ، وَأَدَاءُ قِيمَةِ طَعَامِ خَمْسَةِ مَسَاكِينَ أَوْ أَكْثَرَ جَائِزٌ عِنْدَنَا كَذَا هَذَا وَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْكِسْوَةِ أَرْخَصَ مِنْ قِيمَةِ الطَّعَامِ، لَا يَكُونُ الطَّعَامُ بَدَلًا عَنْهُ لِأَنَّ طَعَامَ الْإِبَاحَةِ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ فَلَا يَقُومُ مَقَامَ التَّمْلِيكِ، وَهُوَ الْكِسْوَةُ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَقُومُ مَقَامَ مَا هُوَ فَوْقَهُ، وَلَوْ أَعْطَى خَمْسَةَ مَسَاكِينَ وَكَسَا خَمْسَةً جَازَ، وَجَعَلَ أَغْلَاهُمَا ثَمَنًا بَدَلًا عَنْ أَرْخَصِهِمَا ثَمَنًا أَيُّهُمَا كَانَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ فَجَازَ أَنْ

يَكُونَ أَحَدُهُمَا بَدَلًا عَنْ الْآخَرِ (وَأَمَّا) مَصْرِفُ الْكِسْوَةِ فَمَصْرِفُهَا هُوَ مَصْرِفُ الطَّعَامِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. (وَأَمَّا) التَّحْرِيرُ فَلِجَوَازِهِ عَنْ التَّكْفِيرِ شَرَائِطُ تَخْتَصُّ بِهِ، (فَمِنْهَا) : مِلْكُ الرَّقَبَةِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ إنْسَانٌ عَبْدَهُ عَنْ كَفَّارَةِ الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ أَجَازَ ذَلِكَ الْغَيْرُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ وَقَعَ عَنْهُ فَلَا تُوقَفُ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدُك عَنْ كَفَّارَتِي، فَأَعْتَقَ لَمْ يَجُزْ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَعَتَقَ الْعَبْدُ، وَلَوْ قَالَ أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي، فَأَعْتَقَهُ أَجْزَأَهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ عَنْ الْآخَرِ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عَنْ الْمَأْمُورِ وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِي وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَدَلَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ. وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ، فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ: أَنَّ هُنَاكَ يُجْزِيهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْبَدَلَ، وَعَنْ الْإِعْتَاقِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا (وَوَجْهُهُ) أَنَّ التَّمْلِيكَ بِغَيْرِ بَدَلٍ هِبَةٌ، وَلَا جَوَازَ لَهَا بِدُونِ الْقَبْضِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْقَبْضُ فِي الْإِعْتَاقِ، وَوُجِدَ فِي الْإِطْعَامِ، وَالْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْفَقِيرِ يَقُومُ مَقَامَ قَبْضِ الْمُكَفِّرِ. (وَمِنْهَا) أَنْ تَكُونَ الرَّقَبَةُ كَامِلَةً لِلْمُعْتِقِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا مِلْكَ الْمُعْتِقِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: وَمِنْهَا حُصُولُ كَمَالِ الْعِتْقِ لِلرَّقَبَةِ بِالْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيرَ الْمُطْلَقَ مُضَافًا إلَى الرَّقَبَةِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ إعْتَاقَ عَبْدَيْنِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ يُوجِبُ تَفْرِيقَ الْعِتْقِ فِي شَخْصَيْنِ، فَلَا يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِتْقٌ كَامِلٌ لِانْعِدَامِ كَمَالِ الْمِلْكِ لَهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ صَرْفُ عِتْقٍ كَامِلٍ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا فَرَّقَهُ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَوْ أَعْطَى طَعَامَ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ إلَى مِسْكِينَيْنِ، بِخِلَافِ شَاتَيْنِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ذَكَّيَاهُمَا عَنْ نُسُكَيْهِمَا أَجْزَأَهُمَا؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي النُّسُكِ جَائِزَةٌ إذَا صَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْدَارَ شَاةٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَدَنَةٌ وَاحِدَةٌ لِسَبْعَةٍ فَكَانَ الشَّرْطُ فِي بَابِ النُّسُكِ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارَ شَاةٍ وَقَدْ وُجِدَ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَهُوَ مُوسِرٌ أَوْ مُعْسِرٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَنْ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِنُقْصَانِ الْمِلْكِ وَالْعِتْقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ مُوسِرًا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ تَجِبُ السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ إذَا كَانَ مُعْسِرًا فَيَكُونُ إعْتَاقًا بِعِوَضٍ، وَإِذَا كَانَ مُوسِرًا، لَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ. (وَمِنْهَا) أَنْ تَكُونَ الرَّقَبَةُ كَامِلَةَ الرِّقِّ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُطْلَقًا، وَالتَّحْرِيرُ تَخْلِيصٌ عَنْ الرِّقِّ فَيَقْتَضِي كَوْنَ الرَّقَبَةِ مَرْقُوقَةً مُطْلَقَةً، وَنُقْصَانُ الرِّقِّ فَوَاتُ جُزْءٍ مِنْهُ، فَلَا تَكُونُ الرَّقَبَةُ مَرْقُوقَةً مُطْلَقَةً فَلَا يَكُونُ تَحْرِيرُهَا مُطْلَقًا، فَلَا يَكُونُ آتِيًا بِالْوَاجِبِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ تَحْرِيرُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ عَنْ الْكَفَّارَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِنُقْصَانِ رِقِّهِمَا لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ مِنْ وَجْهٍ، أَوْ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ، حَتَّى امْتَنَعَ تَمْلِيكُهَا بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا. (وَأَمَّا) تَحْرِيرُ الْمُكَاتَبِ عَنْ الْكَفَّارَةِ فَجَائِزٌ اسْتِحْسَانًا، إذَا كَانَ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَوْ كَانَ أَدَّى شَيْئًا مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، لَا يَجُوزُ تَحْرِيرُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ يَجُوزُ، وَلَوْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ جَازَ بِلَا خِلَافٍ، سَوَاءٌ كَانَ أَدَّى شَيْئًا مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ أَوْ لَمْ يُؤَدِّ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إزَالَةُ الْمِلْكِ، وَمِلْكُ الْمَوْلَى مِنْ الْمُكَاتَبِ زَائِلٌ إذْ الْمِلْكُ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ مِنْ الِاسْتِخْدَامِ، وَالِاسْتِفْرَاشِ، وَالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَنَحْوِهَا، وَهَذِهِ الْقُدْرَةُ زَائِلَةٌ عَنْ الْمَوْلَى فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُكَاتَبُ، وَكَذَا لَوْ وُطِئَتْ الْمُكَاتَبَةُ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْعُقْرُ لَهَا لَا لِلْمَوْلَى وَإِذَا جَنَى عَلَى الْمُكَاتَبِ كَانَ الْأَرْشُ لَهُ لَا لِلْمَوْلَى فَدَلَّ أَنَّ مِلْكَهُ زَائِلٌ، فَلَا يَجُوزُ إعْتَاقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَلِهَذَا تُسَلَّمُ لَهُ الْأَوْلَادُ وَالْإِكْسَابُ، وَلَا يُسَلَّمُ ذَلِكَ بِالْإِعْتَاقِ الْمُبْتَدَأِ فَدَلَّ أَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ (وَلَنَا) لِبَيَانِ أَنَّ الْمِلْكَ مِلْكُ الْمَوْلَى النَّصُّ، وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ، وَالْمَعْقُولِ. (أَمَّا) النَّصُّ فَقَوْلُ النَّبِيِّ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» وَالْعَبْدُ الْمُضَافُ إلَى الْعِبَادِ اسْمٌ لِلْمَمْلُوكِ مِنْ بَنِي آدَمَ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: كُلُّ عَبْدٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ دَخَلَ فِيهِ الْمُكَاتَبُ، وَاَللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَعْلَمُ (وَأَمَّا) دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ لَوْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ أَوْ أَبْرَأهُ الْمَوْلَى عَنْ الْبَدَلِ يَعْتِقُ وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ. - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لَهُ فِيهِ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَالْعَارِضُ لَيْسَ إلَّا لَفْظُ الْكِتَابَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنَبِّئُ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُسْتَعْمَل فِي الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، وَفِي الْكِتَابَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يُنَبِّئُ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ فَيَبْقَى الْمِلْكُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْعَقْدِ. (وَأَمَّا) قَوْلُهُ: إنَّ الْمِلْكَ هُوَ الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، وَهِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ لَلْمَوْلَى فَمَمْنُوعٌ أَنَّ الْمِلْكَ هُوَ الْقُدْرَةُ، بَلْ هُوَ اخْتِصَاصُ الْمَالِكِ بِالْمَمْلُوكِ فَمِلْكُ الْعَيْنِ هُوَ اخْتِصَاصُ الْمَالِكِ بِالْعَيْنِ، وَكَوْنُهُ أَحَقَّ بِالْعَيْنِ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ قَدْ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي جَوَازِ التَّصَرُّفَاتِ، وَقَدْ لَا يَظْهَرُ مَعَ قِيَامِهِ فِي نَفْسِهِ لِقِيَامِ حَقِّ الْغَيْرِ فِي الْمَحِلِّ حَقًّا مُحْتَرَمًا كَالْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ، وَإِنَّمَا لَا يَدْخُلُ فِي إطْلَاقِ قَوْلِهِ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ لَا لِخَلَلٍ فِي الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ لَا خَلَلَ فِيهِ كَمَا بَيَّنَّا بَلْ لِخَلَلٍ فِي الْإِضَافَةِ؛ لِكَوْنِهِ حُرًّا يَدًا، فَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ مُطْلَقِ الْإِضَافَةِ حَتَّى لَوْ نَوَى يَدْخُلُ. وَسَلَامَةُ الْأَوْلَادِ، وَالْإِكْسَابُ مَمْنُوعَةٌ فِي الْفَرْعِ، وَالرِّوَايَةُ فِيمَا أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ، أَوْ أَبْرَأَهُ عَنْهَا، كَذَا قَالَ أُسْتَاذُ أُسْتَاذِي الشَّيْخُ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَزْدَوِيُّ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا سَلَامَةَ الْإِكْسَابِ، وَالْأَوْلَادِ، وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إنَّ السَّلَامَةَ تَثْبُتُ حُكْمًا لِثُبُوتِ الْعِتْقِ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ السَّابِقَةِ، بَلْ تَثْبُتُ حُكْمًا لِثُبُوتِ الْعِتْقِ بِالْإِعْتَاقِ الْمَوْجُودِ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ، وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ لَا يَسْقُطُ بِثُبُوتِ الْعِتْقِ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ بَلْ يَتَقَرَّرُ بِهِ (وَأَمَّا) إذَا كَانَ أَدَّى بَعْضَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَأَعْتَقَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ فَمَمْنُوعٌ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (وَأَمَّا) التَّخْرِيجُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَظَاهِرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَدَّى بَعْضَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَقَدْ حَصَلَ لِلْمَوْلَى عِوَضًا عَنْ بَعْضِ رَقَبَتِهِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْإِعْتَاقِ بِعِوَضٍ، وَذَا لَا يُجْزِئُ عَنْ التَّكْفِيرِ، كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ عَنْ كَفَّارَةٍ، ثُمَّ أَعْتَقَ النِّصْفَ الْآخَرَ عَنْهَا أَنَّهُ يُجْزِئُهُ (أَمَّا) عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ النِّصْفِ إعْتَاقُ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ فَلَمْ يَتَطَرَّقْ إلَى الرِّقِّ نُقْصَانٌ (وَأَمَّا) عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَالْعِتْقُ وَإِنْ كَانَ مُتَجَزِّئًا وَحَصَلَ بِإِعْتَاقِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ نُقْصَانٌ لَكِنْ النُّقْصَانُ حَصَلَ مَصْرُوفًا إلَى الْكَفَّارَةِ فِي رِقِّ النِّصْفِ الْآخَرِ لِاسْتِحْقَاقِهِ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ بِتَخْرِيجِهِ إلَى الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ مَا أَعْتَقَ النِّصْفَ الْأَوَّلَ كَانَ النِّصْفُ الْآخَرُ عَلَى مِلْكِهِ، فَأَمْكَنَ صَرْفُ النُّقْصَانِ إلَى الْكَفَّارَةِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ أَعْتَقَ النِّصْفَ وَبَعْضَ النِّصْفِ الْكَامِلِ وَهُوَ مَا اُنْتُقِصَ مِنْهُ، ثُمَّ أَعْتَقَ الْبَقِيَّةَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ وَهُوَ مُوسِرٌ، فَضَمَّنَهُ صَاحِبُهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَ النِّصْفَ الْآخَرَ إنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ إعْتَاقَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ أَوْجَبَ نُقْصَانًا فِي النِّصْفِ الْبَاقِي، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ صَرَفَ ذَلِكَ النُّقْصَانَ إلَى الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ فَبَطَلَ قَدْرُ النُّقْصَانِ، وَلَمْ يَقَعْ عَنْ الْكَفَّارَةِ، ثُمَّ بَعْدَ أَدَاءِ النِّصْفِ الْبَاقِي صَرَفَهُ إلَى الْكَفَّارَةِ، وَهُوَ نَاقِصٌ فَيَصِيرُ فِي الْحَقِيقَةِ مُعْتِقًا عَنْ الْكَفَّارَةِ عَبْدًا إلَّا قَدْرَ النُّقْصَانِ (وَأَمَّا) عَلَى أَصْلِهِمَا فَيَجُوزُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَكَانَ إعْتَاقُ الْبَعْضِ إعْتَاقَ الْكُلِّ دَفْعَةً وَاحِدَةً، فَلَا يَتَمَكَّنُ نُقْصَانُ الرِّقِّ فِي الرَّقَبَةِ فَيَجُوزُ، وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا حَلَالَ الدَّمِ جَازَ لِأَنَّ حِلَّ الدَّمِ لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الرِّقِّ فَكَانَ كَامِلَ الرِّقِّ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَأَشْبَهَ الْعَبْدَ الْمَدْيُونَ. (وَمِنْهَا) أَنْ تَكُونَ كَامِلَةَ الذَّاتِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ جِنْسٌ مِنْ أَجْنَاسِ مَنَافِعِ أَعْضَائِهَا فَائِتًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ الذَّاتُ هَالِكَةً مِنْ وَجْهٍ، فَلَا يَكُونُ الْمَوْجُودُ تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ فَلَا يَجُوزُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أُعْتِقَ عَبْدًا مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ أَوْ مَقْطُوعَ يَدٍ وَاحِدَةٍ وَرِجْلٍ وَاحِدَةٍ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، أَوْ يَابِسَ الشِّقِّ مَفْلُوجًا أَوْ مُقْعَدًا، أَوْ زَمِنًا أَوْ أَشَلَّ الْيَدَيْنِ، أَوْ مَقْطُوعَ الْإِبْهَامَيْنِ مِنْ الْيَدَيْنِ أَوْ مَقْطُوعَ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ كُلِّ يَدٍ سِوَى الْإِبْهَامَيْنِ، أَوْ أَعْمَى أَوْ مَفْقُودَ الْعَيْنَيْنِ، أَوْ مَعْتُوهًا مَغْلُوبًا، أَوْ أَخْرَسَ، أَنْ لَا يَجُوزَ عَنْ الْكَفَّارَةِ لِفَوَاتِ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْمَنْفَعَةِ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ بِقَطْعِ الْيَدَيْنِ وَشَلَلِهِمَا، وَقَطْعِ الْإِبْهَامَيْنِ لِأَنَّ قَطْعَ الْإِبْهَامَيْنِ يَذْهَبُ بِقُوَّةِ الْيَدِ فَكَانَ كَقَطْعِ الْيَدَيْنِ وَقَطْعِ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ كُلِّ يَدٍ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْبَطْشِ تَفُوتُ بِهِ، وَمَنْفَعَةَ الْمَشْي بِقَطْعِ الرِّجْلَيْنِ وَبِقَطْعِ يَدٍ وَرِجْلٍ مِنْ جَانِبٍ، وَالزَّمَانَةِ وَالْفَلِجِ وَمَنَعَهُ النَّظَرَ بِالْعَمَى وَفَقْءِ الْعَيْنَيْنِ، وَمَنْفَعَةَ الْكَلَامِ بِالْخَرَسِ وَمَنْفَعَةَ الْعَقْلِ بِالْجُنُونِ. وَيَجُوزُ إعْتَاقُ الْأَعْوَرِ، وَمَفْقُودِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ، وَالْأَعْشَى

وَمَقْطُوعِ يَدٍ وَاحِدَةٍ أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، وَمَقْطُوعِ يَدٍ وَرَجُلٍ مِنْ خِلَافٍ وَأَشَلَّ يَدٍ وَاحِدَةٍ وَمَقْطُوعِ الْأُصْبُعَيْنِ مِنْ كُلِّ يَدٍ سِوَى الْإِبْهَامَيْنِ، وَالْعَيْنَيْنِ، وَالْخَصِيِّ، وَالْمَجْبُوبِ وَالْخُنْثَى، وَالْأَمَةِ الرَّتْقَاءِ وَالْقَرْنَاءِ، وَمَا يَمْنَعُ مِنْ الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ قَائِمَةٌ، وَيَجُوزُ مَقْطُوعِ الْأُذُنَيْنِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ السَّمْعِ قَائِمَةٌ، وَإِنَّمَا الْأُذُنُ الشَّاخِصَةُ لِلزِّينَةِ، وَكَذَا مَقْطُوعِ الْأَنْفِ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَ هُوَ الْجَمَالُ، (وَأَمَّا) مَنْفَعَةُ الشَّمِّ فَقَائِمَةٌ، وَكَذَا ذَاهِبِ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَاللِّحْيَةِ وَالْحَاجِبَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّعْرَ لِلزِّينَةِ، وَكَذَا مَقْطُوعِ الشَّفَتَيْنِ إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْأَكْلِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ قَائِمَةٌ، وَإِنَّمَا عُدِمَتْ الزِّينَةُ، وَلَا يُجْزِئُ سَاقِطُ الْأَسْنَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَكْلِ فَفَاتَتْ مَنْفَعَةُ الْجِنْسِ. (وَأَمَّا) الْأَصَمُّ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِفَوَاتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ السَّمْعِ فَأَشْبَهَ الْأَعْمَى، وَيَجُوزُ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّ أَصْلَ الْمَنْفَعَةِ لَا يَفُوتُ بِالصَّمَمِ، وَإِنَّمَا يُنْتَقَصُ؛ لِأَنَّ مَا مِنْ أَصَمًّ إلَّا وَيَسْمَعُ إذَا بُولِغَ فِي الصِّيَاحِ إلَّا إذَا كَانَ أَخْرَسَ كَذَا قِيلَ، فَلَا يَفُوتُ بِالصَّمَمِ أَصْلُ الْمَنْفَعَةِ بَلْ يُنْتَقَصُ، وَنُقْصَانُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّكْفِيرِ، وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ فِي أُذُنِهِ وَقْرٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بِحَالٍ لَوْ جُهِرَ بِالصَّوْتِ فِي أُذُنِهِ لَا يَسْمَعُ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ أَعْتَقَ جَنِينًا لَمْ يَجْزِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ كَانَ وُلِدَ بَعْدَ يَوْمِ جِنَايَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، وَالْجَنِينُ لَا يُسَمَّى رَقَبَةً وَلِأَنَّهُ لَا يُبْصِرُ فَأَشْبَهَ الْأَعْمَى. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْإِعْتَاقُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنْ كَانَ بِعِوَضٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَارَةٌ عَمَّا يَكُونُ شَاقًّا عَلَى الْبَدَنِ، فَإِذَا قَابَلَهُ عِوَضٌ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ إنَّمَا تَجِبُ لِإِذَاقَةِ النَّفْسِ مَرَارَةَ زَوَالِ الْمِلْكِ بِمُقَابِلَةِ مَا اسْتَوْفَتْ مِنْ الشَّهَوَاتِ فِي غَيْرِ حِلِّهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ إذَا كَانَ بِعِوَضٍ؛ لِأَنَّ الزَّائِلَ إلَى عِوَضٍ قَائِمٌ مَعْنًى، فَلَا يَتَحَقَّقُ مَا وُضِعَتْ لَهُ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ عَنْ كَفَّارَتِهِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أَبْرَأهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ الْعِوَضِ، لَا يَجُوزُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ لَا عَنْ جِهَةِ التَّكْفِيرِ، وَمَضَى عَلَى وَجْهٍ، فَلَا يَنْقَلِبُ كَفَّارَةً بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ بِغَيْرِ نِيَّةِ الْكَفَّارَةِ، ثُمَّ نَوَى بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا - وَهُوَ مُعْسِرٌ - عَنْ كَفَّارَتِهِ لَا يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ فِي نَفْسِهِ بِالِاتِّفَاقِ، فَيَصِيرُ فِي مَعْنَى الْإِعْتَاقِ بِعِوَضٍ، وَلَوْ كَانَ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ دَيْنٌ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى عَنْ كَفَّارَتِهِ، فَاخْتَارَ الْغُرَمَاءُ اسْتِسْعَاءَ الْعَبْدِ، أَجْزَأَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ السِّعَايَةَ لَيْسَتْ بِعِوَضٍ عَنْ الرِّقِّ، وَإِنَّمَا هِيَ لِدَيْنٍ لَزِمَ الْعَبْدَ قَبْلَ الْحُرِّيَّةِ، فَيَسْعَى وَهُوَ حُرٌّ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازُ الْإِعْتَاقِ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا رَهْنًا فَسَعَى الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى، وَيَجُوزُ عَنْ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ السِّعَايَةَ لَيْسَتْ بَدَلَ الرِّقِّ؛ لِأَنَّهَا مَا وَجَبَتْ لِلتَّخْرِيجِ إلَى الْإِعْتَاقِ لِحُصُولِ الْعِتْقِ بِالْإِعْتَاقِ السَّابِقِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِدَيْنٍ لَزِمَهُ عَنْ الْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِنُقْصَانِ الْمِلْكِ وَالرِّقِّ أَيْضًا عَلَى مَا بَيَّنَّا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ إلَّا نِصْفُهُ عِنْدَهُ لِتَجْزِيَ الْعِتْقَ عِنْدَهُ؟ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا فَيَتَكَامَلُ، وَلَا يَتَكَامَلُ الْمِلْكُ، فَيَتَمَلَّكُ نَصِيبَ الشَّرِيكِ بِمُقْتَضَى الْإِعْتَاقِ، وَيَسَارُ الْمُعْتِقِ يَمْنَعُ اسْتِسْعَاءَ الْعَبْدِ عِنْدَهُمَا فَعَرِيَ الْإِعْتَاقُ عَنْ الْعِوَضِ فَجَازَ، وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ لَمْ يَجْزِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهُ يُعْتِقُ ثُلُثَهُ وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْهِ، فَيَصِيرُ بَعْضُهُ بِبَدَلٍ وَبَعْضُهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ، فَلَمْ يَجُزْ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الْحِنْثُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَلَا يَجُوزُ تَكْفِيرُ الْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ (وَأَمَّا) التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ فَجَائِزٌ عِنْدَهُ وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ (وَأَمَّا) الْمَوْتُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ حَتَّى يَجُوزَ التَّكْفِيرُ فِيهَا بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَفَّارَتَيْنِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمُوَفِّقُ وَيَسْتَوِي فِي التَّحْرِيرِ الرَّقَبَةُ الْكَبِيرَةُ وَالصَّغِيرَةُ، وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى لِإِطْلَاقِ اسْمِ الرَّقَبَةِ فِي النُّصُوصِ فَإِنْ قِيلَ: الصَّغِيرُ لَا مَنَافِعَ لِأَعْضَائِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ إعْتَاقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ كَالذِّمِّيِّ، وَكَذَا لَا يَجْزِي إطْعَامُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ فَكَذَا إعْتَاقُهُ، فَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ: أَنَّ أَعْضَاءَ الصَّغِيرِ سَلِيمَةٌ لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ، وَهِيَ بِغَرَضِ أَنْ تَصِيرَ قَوِيَّةً فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ، وَهَذَا لِأَنَّ سَلَامَةَ الْأَعْضَاءِ إذَا كَانَتْ ثَابِتَةً يَشُقُّ عَلَيْهِ إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَشُقُّ عَلَيْهِ إخْرَاجُ فَائِتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ، وَذَا جَائِزٌ فَهَذَا أَوْلَى (وَأَمَّا) إطْعَامُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ فَجَائِزٌ عَلَى طَرِيقِ التَّمْلِيكِ وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ أَكْلًا مُعْتَادًا وَيَسْتَوِي فِيهِ الرَّقَبَةُ الْمُؤْمِنَةُ،

وَالْكَافِرَةُ، وَكَذَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عِنْدَنَا. (وَأَمَّا) فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَلَا يَجُوزُ فِيهَا إلَّا الْمُؤْمِنَةَ بِالْإِجْمَاعِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَجُوزُ فِي الْكَفَّارَاتِ كُلِّهَا إلَّا الْمُؤْمِنَةَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدِ أَيْمَانِ الرَّقَبَةِ، وَالنَّصَّ الْوَارِدَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مُقَيَّدٌ بِقَيْدِ الْأَيْمَانِ فَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَنَحْنُ أَجْرَيْنَا الْمُطْلَقَ عَلَى إطْلَاقِهِ وَالْمُقَيَّدَ عَلَى تَقْيِيدِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: إنَّ الْمُطْلَقَ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ وَالْمُقَيَّدَ فِي مَعْنَى الْمُفَسَّرِ، وَالْمُجْمَلُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُفَسَّرِ، وَيَصِيرُ النَّصَّانِ فِي مَعْنًى؛ كَنَصِّ الْمُجْمَلِ وَالْمُفَسَّرِ، وَلِهَذَا حُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، حَتَّى شُرِطَتْ الْعَدَالَةُ لِوُجُوبِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالْإِسَامَةُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَشُرِطَ التَّتَابُعُ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ كَذَا هَهُنَا. (وَلَنَا) وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: طَرِيقُ مَشَايِخِنَا بِسَمَرْقَنْدَ، وَهُوَ أَنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، ضَرْبُ النُّصُوصِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ وَجَعْلُ النَّصَّيْنِ كَنَصٍّ وَاحِدٍ مَعَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ الْمُجْمَلِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنِ الْعَمَلِ بِظَاهِرِهِ. وَالثَّانِي طَرِيقُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَهُوَ: أَنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ نَسْخٌ لِلْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ وُرُودِ النَّصِّ الْمُقَيَّدِ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْمُطْلَقِ، بَلْ يُنْسَخُ حُكْمُهُ، وَلَيْسَ النَّسْخُ إلَّا بَيَانَ مُنْتَهَى مُدَّةِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْقِيَاسِ، وَلَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَقَوْلُهُ: الْمُطْلَقُ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ الْمُجْمَلَ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ، وَالْمُطْلَقُ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ، إذْ هُوَ اسْمٌ لِمَا يَتَعَرَّضُ لِلذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ، فَيُمْكِنُ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِهِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حُمِلَ إنَّمَا حُمِلَ لِضَرُورَةِ عَدَمِ الْإِمْكَانِ، وَذَلِكَ عِنْدَ اتِّحَادِ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا، فَيَخْرُجُ عَلَى الْبَيَانِ وَعَلَى النَّاسِخِ، وَعَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ مَشَايِخِنَا أَنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ بَيَانٌ أَوْ نَسْخٌ، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ لَا ضَرُورَةَ فَلَا يُحْمَلُ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ شَرْطَ الْأَيْمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ثَبَتَ نَصًّا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ مَوْصُوفَةٍ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ فِي بَابِ الْقَتْلِ مَا وَجَبَ بِطَرِيقِ التَّكْفِيرِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ كَاسْمِهَا سِتَارَةٌ لِلذُّنُوبِ وَالْمُؤَاخَذَاتِ فِي الْآخِرَةِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَضَعَ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْخَطَأِ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ أَشْرَفُ التَّحِيَّةِ {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وَقَالَ النَّبِيُّ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَإِنَّمَا وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الشُّكْرِ لِسَلَامَةِ نَفْسِهِ فِي الدُّنْيَا عَنْ الْقِصَاصِ، وَفِي الْآخِرَةِ عَنْ الْعِقَابِ؛ لِأَنَّ حِفْظَ النَّفْسِ عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْخَطَأِ، مَقْدُورٌ فِي الْجُمْلَةِ بِالْجَهْدِ وَالْجَدِّ وَالتَّكَلُّفِ، فَجَعَلَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ مَوْصُوفَةٍ بِكَوْنِهَا مُؤْمِنَةً شُكْرًا لِتِلْكَ النِّعْمَةِ، وَالتَّحْرِيرُ فِي الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ يَجِبُ بِطَرِيقِ التَّكْفِيرِ، إذَا لَمْ يُعْرَفْ ارْتِفَاعُ الْمُؤَاخَذَةِ الثَّابِتَةِ هَهُنَا، فَوَجَبَ التَّحْرِيرُ فِيهِمَا تَكْفِيرًا فَلَا يَسْتَقِيمُ الْقِيَاسُ، فَإِنْ قِيلَ: إذَا حَنِثَ فِي يَمِينِهِ خَطَأً كَانَ التَّحْرِيرُ شُكْرًا عَلَى مَا قُلْتُمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَاسَ عَلَى الْقَتْلِ فِي إيجَابِ تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْقِيَاسُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَحْرِيرَ الْمُؤْمِنِ جُعِلَ شُكْرًا لِنِعْمَةٍ خَاصَّةٍ، وَهِيَ سَلَامَةُ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا مَعَ ارْتِفَاعِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَفِي بَابِ الْيَمِينِ النِّعْمَةُ هِيَ ارْتِفَاعُ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ فَحَسْبُ إذْ لَيْسَ ثَمَّةَ مُوجِبٌ دُنْيَوِيٌّ يُسْقِطُ عَنْهُ، فَكَانَتْ النِّعْمَةُ فِي بَابِ الْقَتْلِ فَوْقَ النِّعْمَةِ فِي بَابِ الْيَمِينِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ يَجِبُ عَلَى قَدْرِ النِّعْمَةِ؛ كَالْجَزَاءِ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ وَلَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ الشُّكْرِ إلَّا مَنْ عَلِمَ مِقْدَارَ النِّعْمَةِ، وَهُوَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَلَا تُمْكِنُ الْمُقَايَسَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَالْقَتْلِ، فَأَمَّا التَّحْرِيرُ، فَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَرْطُ جَوَازِهِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِهِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْإِفْطَارِ، وَالْقَتْلِ وَمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ التَّحْرِيرِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِهِ فِي تِلْكَ الْكَفَّارَاتِ، إلَّا أَيْمَانَ الرَّقَبَةِ خَاصَّةً، فَإِنَّهُ شَرْطُ الْجَوَازِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا كَمَالُ الْعِتْقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَاصَّةً، حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ ثُمَّ وَطِئَ ثُمَّ أَعْتَقَ مَا بَقِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ عِتْقَ الرَّقَبَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - فَلَمْ يُوجَدْ تَحْرِيرٌ كَامِلٌ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ. (وَأَمَّا) الصَّوْمُ فَقَدْرُ الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لِقَوْلِهِ: - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] وَكَذَا

فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ؛ لِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَفِي الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ، وَالْإِفْطَارِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ لِوُرُودِ النَّصِّ بِهِ (وَأَمَّا) شَرْطُ جَوَازِ هَذِهِ الصِّيَامَات فَلِجَوَازِ صِيَامِ الْكَفَّارَةِ شَرَائِطُ مَخْصُوصَةٌ مِنْهَا: النِّيَّةُ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى لَا يَجُوزَ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ صَوْمٌ غَيْرُ عَيْنٍ، فَيَسْتَدْعِي وُجُوبَ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ. (وَمِنْهَا) التَّتَابُعُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَالْقَتْلِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ التَّتَابُعَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثَةِ قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فِي كَفَّارَتَيْ الْقَتْلِ وَالْإِفْطَارِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] «وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْأَعْرَابِيِّ: صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» بِخِلَافِ صَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَمَرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّتَابُعِ بِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . (وَأَمَّا) صَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّتَابُعُ أَيْضًا عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُشْتَرَطُ بَلْ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ، وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّتَابُعِ. (وَلَنَا) قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، وَقِرَاءَتُهُ كَانَتْ مَشْهُورَةً فِي الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ لِقَبُولِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إيَّاهَا تَفْسِيرًا لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، إنْ لَمْ يَقْبَلُوهَا فِي كَوْنِهَا قُرْآنًا، فَكَانَتْ مَشْهُورَةً فِي حَقِّ حُكْمِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إيَّاهَا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعَمَلِ، فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ الْكَرِيمِ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَيَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَكَذَا عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَفْطَرَ فِي خِلَالِ الصَّوْمِ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الصَّوْمَ، سَوَاءٌ أَفْطَرَ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَوْ لِعُذْرِ مَرَضٍ، أَوْ سَفَرٍ؛ لِفَوْتِ شَرْطِ التَّتَابُعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَفْطَرَ يَوْمَ الْفِطْرِ أَوْ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الصِّيَامَ سَوَاءٌ أَفْطَرَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَوْ لَمْ يُفْطِرْ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لَا يَصْلُحُ لِإِسْقَاطِ مَا فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّتِهِ كَامِلٌ وَالصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ نَاقِصٌ لِمُجَاوَرَةِ الْمَعْصِيَةِ إيَّاهُ، وَالنَّاقِصُ لَا يَنُوبُ عَنْ الْكَامِلِ وَلَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ فَصَامَتْ عَنْ كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ، أَوْ عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، فَحَاضَتْ فِي خِلَالِ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهَا الِاسْتِقْبَالُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِدُ صَوْمَ شَهْرَيْنِ لَا تَحِيضُ فِيهِمَا فَكَانَتْ مَعْذُورَةً، وَعَلَيْهَا أَنْ تُصَلِّيَ أَيَّامَ الْقَضَاءِ بَعْدَ الْحَيْضِ بِمَا قَبْلَهُ حَتَّى لَوْ لَمْ تُصَلِّي وَأَفْطَرَتْ يَوْمًا بَعْدَ الْحَيْضِ اسْتَقْبَلَتْ؛ لِأَنَّهَا تَرَكَتْ التَّتَابُعَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلَوْ نَفِسَتْ تَسْتَقْبِلُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّهَا تَجِدُ شَهْرَيْنِ لَا نِفَاسَ فِيهِمَا، وَلَوْ كَانَتْ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَحَاضَتْ فِي خِلَالِ ذَلِكَ تَسْتَقْبِلُ؛ لِأَنَّهَا تَجِدُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا حَيْضَ فِيهَا فَلَا ضَرُورَةَ إلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ الشَّرْطِ وَلَوْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ الَّتِي لَمْ يُظَاهِرْ مِنْهَا بِالنَّهَارِ نَاسِيًا، أَوْ بِاللَّيْلِ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا، أَوْ أَكَلَ بِالنَّهَارِ نَاسِيًا، لَا يَسْتَقْبِلُ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَمْ يَفْسُدْ فَلَمْ يَفُتْ شَرْطُ التَّتَابُعِ (وَمِنْهَا) عَدَمُ الْمَسِيسِ فِي الشَّهْرَيْنِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، سَوَاءٌ فَسَدَ الصَّوْمُ أَوْ لَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الشَّرْطُ عَدَمُ فَسَادِ الصَّوْمِ حَتَّى لَوْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا بِاللَّيْلِ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا، أَوْ بِالنَّهَارِ نَاسِيًا، اسْتَقْبَلَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: يَمْضِي عَلَى صَوْمِهِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا الْجِمَاعَ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ فَلَا يَجِبُ الِاسْتِقْبَالُ، كَمَا لَوْ جَامَعَ امْرَأَةً أُخْرَى، ثُمَّ ظَاهَرَ مِنْهَا وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَا مَسِيسَ فِيهِمَا، بِقَوْلِهِ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] ، فَإِذَا جَامَعَ فِي خِلَالِهِمَا، فَلَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَوْ جَامَعَهَا بِالنَّهَارِ عَامِدًا اسْتَقْبَلَ بِالِاتِّفَاقِ (أَمَّا) عِنْدَهُمَا فَلِوُجُودِ الْمَسِيسِ، (وَأَمَّا) عِنْدَهُ فَلِانْقِطَاعِ التَّتَابُعِ لِوُجُودِ فَسَادِ الصَّوْمِ (وَأَمَّا) وُجُوبُ كَفَّارَةِ الْحَلْقِ، فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَرَّقَ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. (وَأَمَّا) الْإِطْعَامُ فِي كَفَّارَتَيْ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ فَالْكَلَامُ فِي جَوَازِهِ صِفَةً وَقَدْرًا وَمَحَلًّا كَالْكَلَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَعَدَمُ الْمَسِيسِ فِي خِلَالِ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ جَامَعَ فِي خِلَالِ الْإِطْعَامِ لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] مِنْ غَيْرِ شَرْطِ تَرْكِ الْمَسِيسِ، إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ الْوَطْءِ قَبْلَهُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الصَّوْمِ أَوْ الِاعْتِكَافِ، فَتَنْتَقِلُ الْكَفَّارَةُ إلَيْهِمَا، فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْوَطْءَ كَانَ حَرَامًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الظِّهَارِ.

كتاب الأشربة

وَالْكَلَامُ فِي الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ، كَالْكَلَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، إلَّا فِي عَدَدِ مَنْ يُطْعَمُ وَهُمْ سِتَّةُ مَسَاكِينَ؛ لِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَمَّا فِي الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ وَالْمَحَلِّ، فَلَا يَخْتَلِفَانِ حَتَّى يَجُوزَ فِيهِ التَّمْلِيكُ وَالتَّمْكِينُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ فِيهَا إلَّا التَّمْلِيكُ، كَذَا حَكَى الشَّيْخُ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْخِلَافَ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ جَوَازَ التَّمْكِينِ فِي طَعَامِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ؛ لِوُرُودِ النَّصِّ بِلَفْظِ الْإِطْعَامِ، إذْ هُوَ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ اسْمٌ لِتَقْدِيمِ الطَّعَامِ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ، وَالنَّصُّ وَرَدَ هَهُنَا بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ، وَإِنَّهَا تَقْتَضِي التَّمْلِيكَ، لَكِنَّهُ مُعَلَّلٌ بِدَفْعِ الْحَاجَةِ، وَالتَّصَدُّقُ تَمْلِيكٌ فَأَشْبَهَ الزَّكَاةَ وَالْعُشْرَ، (وَلَهُمَا) أَنَّ النَّصَّ وَإِنْ وَرَدَ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ، وَإِنَّهَا تَقْتَضِي التَّمْلِيكَ، لَكِنَّهُ مُعَلَّلٌ بِدَفْعِ الْحَاجَةِ، وَذَا يَحْصُلُ بِالتَّمْكِينِ فَوْقَ مَا يَحْصُلُ بِالتَّمْلِيكِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلِهَذَا جَازَ دَفْعُ الْقِيمَةِ وَإِنْ فُسِّرَتْ الصَّدَقَةُ بِثَلَاثِ أَصْوُعٍ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَلَمْ يَجِدْ مَا يُعْتِقُ، وَلَا مَا يَكْسُو، وَلَا مَا يُطْعِمُ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ فَأَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ عَنْ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُطْعِمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ وَالْبَدَلَ لَا يَكُونُ لَهُ بَدَلٌ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ الْبَدَلِ تَأَخَّرَ وُجُوبُ الْأَصْلِ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ إلَى وَقْتِ الْقُدْرَةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ أَوْ الظِّهَارِ أَوْ الْإِفْطَارِ وَلَمْ يَجِدْ مَا يُعْتِقُ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ وَلَا يَجِدُ مَا يُطْعِمُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ، يَتَأَخَّرُ الْوُجُوبُ إلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْإِعْتَاقِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَعَلَى الْإِعْتَاقِ أَوْ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْفِعْلِ عَلَى الْعَاجِزِ مُحَالٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ] [بَيَانِ أَسْمَاءِ الْأَشْرِبَةِ الْمَعْرُوفَةِ الْمُسْكِرَةِ وَفِي بَيَانِ مَعَانِيهَا] (كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ فِي. بَيَانِ أَسْمَاءِ الْأَشْرِبَةِ الْمَعْرُوفَةِ الْمُسْكِرَةِ، وَفِي بَيَانِ مَعَانِيهَا، وَفِي بَيَانِ أَحْكَامِهَا، وَفِي بَيَانِ حَدِّ السُّكْرِ. (أَمَّا) أَسْمَاؤُهَا: فَالْخَمْرُ، وَالسَّكَرُ، وَالْفَضِيخُ، وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ، وَالطِّلَاءُ، وَالْبَاذِقُ، وَالْمُنَصَّفُ، وَالْمُثَلَّثُ وَالْجُمْهُورِيُّ، وَقَدْ يُسَمَّى أَبُو سُقْيَا وَالْخَلِيطَانِ وَالْمِزْرُ وَالْجِعَةُ وَالْبِتْعَ. (أَمَّا) بَيَانُ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ أَمَّا الْخَمْرُ فَهُوَ اسْمٌ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ مَاءُ الْعِنَبِ إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ فَقَدْ صَارَ خَمْرًا وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْخَمْرِ قَذَفَ بِالزَّبَدِ أَوْ لَمْ يَقْذِفْ بِهِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الرُّكْنَ فِيهَا مَعْنَى الْإِسْكَارِ وَذَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْقَذْفِ بِالزَّبَدِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَعْنَى الْإِسْكَارِ لَا يَتَكَامَلُ إلَّا بِالْقَذْفِ بِالزَّبَدِ فَلَا يَصِيرُ خَمْرًا بِدُونِهِ (وَأَمَّا) السَّكَرُ فَهُوَ اسْمٌ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الرُّطَبِ إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ أَوْ لَمْ يَقْذِفْ عَلَى الِاخْتِلَافِ. وَأَمَّا الْفَضِيخُ فَهُوَ اسْمٌ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْبُسْرِ الْمَنْضُوخِ وَهُوَ الْمَدْقُوقُ إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ أَوْ لَا عَلَى الِاخْتِلَاف. (وَأَمَّا) نَقِيعُ الزَّبِيبِ فَهُوَ اسْمٌ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ الْمَنْقُوعِ فِي الْمَاءِ حَتَّى خَرَجَتْ حَلَاوَتُهُ إلَيْهِ وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ أَوْ لَا عَلَى الْخِلَافِ. (وَأَمَّا) الطِّلَاءُ فَهُوَ اسْمٌ لِلْمَطْبُوخِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا ذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ وَصَارَ مُسْكِرًا وَيَدْخُلُ تَحْتَ الْبَاذَقِ وَالْمُنَصَّفِ لِأَنَّ الْبَاذَقَ هُوَ الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ وَالْمُنَصَّفُ هُوَ الْمَطْبُوخُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا ذَهَبَ نِصْفُهُ وَبَقِيَ النِّصْفُ، وَقِيلَ الطِّلَاءُ هُوَ الْمُثَلَّثُ وَهُوَ الْمَطْبُوخُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ مُعَتَّقًا وَصَارَ مُسْكِرًا. (وَأَمَّا) الْجُمْهُورِيُّ فَهُوَ الْمُثَلَّثُ يُصَبُّ الْمَاءُ بَعْدَ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ قَدْرَ الذَّاهِبِ وَهُوَ الثُّلُثَانِ ثُمَّ يُطْبَخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَيَصِيرُ مُسْكِرًا (وَأَمَّا) الْخَلِيطَانِ فَهُمَا التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ أَوْ الْبُسْرُ وَالرُّطَبُ إذَا خُلِطَا وَنُبِذَا حَتَّى غَلَيَا وَاشْتَدَّا (وَأَمَّا) الْمِزْرُ فَهُوَ اسْمٌ لِنَبِيذِ الذُّرَةِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا (وَأَمَّا) الْجِعَّةُ فَهُوَ اسْمٌ لِنَبِيذِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا (وَأَمَّا) الْبِتْعُ فَهُوَ اسْمٌ لِنَبِيذِ الْعَسَلِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا هَذَا بَيَانُ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاء. [بَيَانُ أَحْكَامِ الْأَشْرِبَةِ] (وَأَمَّا) بَيَانُ أَحْكَامِ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ: - أَمَّا الْخَمْرُ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ؛ (مِنْهَا) أَنَّهُ يَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةُ الْعَيْنِ فَيَسْتَوِي فِي الْحُرْمَةِ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا (وَالدَّلِيلُ) عَلَى أَنَّهَا مُحَرَّمَةُ الْعَيْنِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] ، وَصَفَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخَمْرَ بِكَوْنِهَا رِجْسًا

حد شرب الخمر وحد السكر

وَغَيْرُ الْمُحَرَّمِ لَا يُوصَفُ بِهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً فِي نَفْسِهَا، وَقَوْلُهُ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ} [المائدة: 91] الْآيَةُ فَدَلَّ عَلَى حُرْمَةِ السُّكْرِ فَحُرِّمَتْ عَيْنُهَا وَالسُّكْرُ مِنْهَا وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ شُرْبَهَا عِنْدَ ضَرُورَةِ الْعَطَشِ أَوْ لِإِكْرَاهٍ قَدْرَ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ قَلِيلِهَا ثَبَتَتْ بِالشَّرْعِ الْمَحْضِ فَاحْتُمِلَ السُّقُوطُ بِالضَّرُورَةِ كَحُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِلْمُدَاوَاةِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَنَا فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَسْقِيَ الصَّغِيرَ الْخَمْرَ فَإِذَا سَقَاهُ فَالْإِثْمُ عَلَيْهِ دُونَ الصَّغِيرِ لِأَنَّ خِطَابَ التَّحْرِيمِ يَتَنَاوَلُهُ. (وَمِنْهَا) أَنَّهُ يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا لِأَنَّ حُرْمَتَهَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَهُوَ نَصُّ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ فَكَانَ مُنْكَرُ الْحُرْمَةِ مُنْكَرًا لِلْكِتَابِ. (وَمِنْهَا) أَنَّهُ يُحَدُّ شَارِبُهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ شَرِبَ خَمْرًا مَمْزُوجًا بِالْمَاءِ إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْخَمْرِ يَجِبُ الْحَدُّ، وَإِنْ غَلَبَ الْمَاءُ عَلَيْهَا حَتَّى زَالَ طَعْمُهَا وَرِيحُهَا لَا يَجِبْ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ إذَا كَانَتْ لِلْخَمْرِ فَقَدْ بَقِيَ اسْمُ الْخَمْرِ وَمَعْنَاهَا وَإِذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْمَاءِ فَقَدْ زَالَ الِاسْمُ وَالْمَعْنَى إلَّا أَنَّهُ يَحْرُمُ شُرْبُ الْمَاءِ الْمَمْزُوجِ بِالْخَمْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ حَقِيقَةً وَكَذَا يَحْرُمُ شُرْبُ الْخَمْرِ الْمَطْبُوخِ لِأَنَّ الطَّبْخَ لَا يُحِلُّ حَرَامًا وَلَوْ شَرِبَهَا يَجِبُ الْحَدُّ لِبَقَاءِ الِاسْمِ وَالْمَعْنَى بَعْدَ الطَّبْخِ وَلَوْ شَرِبَ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ إلَّا إذَا سَكِرَ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَمَعْنَى الْخَمْرِيَّةِ فِيهِ نَاقِصٌ لِكَوْنِهِ مَخْلُوطًا بِغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الْمُنَصَّفَ وَإِذَا سَكِرَ مِنْهُ يَجِبُ حَدُّ السُّكْرِ كَمَا فِي الْمُنَصَّفِ وَيَحْرُمُ شُرْبُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ وَمَنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ قَاءَ خَمْرًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ شَرِبَهَا مُكْرَهًا فَلَا يَجِبُ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَلَا حَدَّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِنْ سَكِرُوا مِنْ الْخَمْرِ لِأَنَّهَا حَلَالٌ عِنْدَهُمْ، وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ إذَا سَكِرُوا لِأَنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا. [حَدّ شُرْبِ الْخَمْرِ وَحَّدَ السُّكْرِ] (وَمِنْهَا) أَنَّ حَدَّ شُرْبِ الْخَمْرِ وَحَّدَ السُّكْرِ مُقَدَّرٌ بِثَمَانِينَ جَلْدَةً فِي الْأَحْرَارِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقِيَاسِهِمْ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ حَتَّى قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى وَحَدُّ الْمُفْتَرِينَ ثَمَانُونَ وَبِأَرْبَعِينَ فِي الْعَبِيدِ لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ لِلْحَدِّ كَحَدِّ الْقَذْفِ وَالزِّنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ وَعَلَا {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . (وَمِنْهَا) أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ تَمْلِيكُهَا وَتَمَلُّكُهَا بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ بِالْخَمْرِ وَإِنَّهَا مُحَرَّمَةُ الِانْتِفَاعِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَنْزَلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ فَمَنْ كَتَبَ هَذِهِ الْآيَةَ وَعِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْهَا فَلَا يَشْرَبْهَا وَلَا يَبِعْهَا فَسَكَبُوهَا فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ» إلَّا أَنَّهَا تُوَرَّثُ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَوْرُوثِ ثَبَتَ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْعَبْدِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ، وَالْخَمْرُ إنْ لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً فَهِيَ مَالٌ عِنْدَنَا فَكَانَتْ قَابِلَةً لِلْمِلْكِ فِي الْجُمْلَةِ. (وَمِنْهَا) أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهَا إذَا كَانَتْ لِمُسْلِمٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُتَقَوِّمَةً فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَتْ مَالًا فِي حَقِّهِ وَإِتْلَافُ مَالٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَإِنْ كَانَتْ لِذِمِّيٍّ يَضْمَنْ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْغَصْبِ. (وَمِنْهَا) أَنَّهَا نَجِسَةٌ غَلِيظَةٌ حَتَّى لَوْ أَصَابَ ثَوْبًا أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَمَّاهَا رِجْسًا فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] وَلَوْ بَلَّ بِهَا الْحِنْطَةَ فَغُسِلَتْ وَجُفِّفَتْ وَطُحِنَتْ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا طَعْمُ الْخَمْرِ وَرَائِحَتُهَا يَحِلَّ أَكْلُهُ وَإِنْ وُجِدَ لَا يَحِلَّ لِأَنَّ قِيَامَ الطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ دَلِيلُ بَقَاءِ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ، وَزَوَالَهَا دَلِيلُ زَوَالِهَا وَلَوْ سُقِيَتْ بَهِيمَةٌ مِنْهَا ثُمَّ ذُبِحَتْ فَإِنْ ذُبِحَتْ سَاعَةَ مَا سُقِيَتْ بِهِ تَحِلَّ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لِأَنَّهَا فِي أَمْعَائِهَا بَعْدُ فَتَطْهُرُ بِالْغَسْلِ وَإِنْ مَضَى عَلَيْهَا يَوْمٌ أَوْ أَكْثَرُ تَحِلَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا تَفَرَّقَتْ فِي الْعُرُوقِ وَالْأَعْصَابِ. (وَمِنْهَا) إذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا يَحِلُّ شُرْبُ الْخَلِّ بِلَا خِلَافِ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ» وَإِنَّمَا يُعْرَفُ التَّخَلُّلُ بِالتَّغَيُّرِ مِنْ الْمَرَارَةِ إلَى الْحُمُوضَةِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهَا مَرَارَةٌ أَصْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَتَّى لَوْ بَقِيَ فِيهَا بَعْضُ الْمَرَارَةِ لَا يَحِلُّ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَصِيرُ خَلًّا بِظُهُورِ قَلِيلِ الْحُمُوضَةِ فِيهَا لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْعَصِيرَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ لَا يَصِيرُ خَمْرًا إلَّا بَعْدَ تَكَامُلِ مَعْنَى الْخَمْرِيَّةِ فِيهِ فَكَذَا الْخَمْرُ لَا يَصِيرُ خَلًّا إلَّا بَعْدَ تَكَامُلِ مَعْنَى الْخَلِيَّةِ فِيهِ وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ خَمْرًا بِظُهُورِ دَلِيلِ الْخَمْرِيَّةِ وَيَصِيرُ خَلًّا بِظُهُورِ دَلِيلِ الْخَلِيَّةِ فِيهِ هَذَا إذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا، فَأَمَّا إذَا خَلَّلَهَا

صَاحِبُهَا بِعِلَاجٍ مِنْ خَلٍّ أَوْ مِلْحٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، فَالتَّخْلِيلُ جَائِزٌ وَالْخَلُّ حَلَالٌ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ التَّخْلِيلُ وَلَا يَحِلُّ الْخَلُّ وَإِنْ خَلَّلَهَا بِالنَّقْلِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَحِلُّ عِنْدَنَا، وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلَانِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ «كَانَتْ عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خُمُورٌ لِأَيْتَامٍ فَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: مَا نَصْنَعُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَرِقْهَا فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفَلَا أُخَلِّلُهَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا» نَصَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى النَّهْيِ عَنْ التَّخْلِيلِ وَحَقِيقَةُ النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ وَلِأَنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِالتَّخْلِيلِ احْتِمَالَ الْوُقُوعِ فِي الْفَسَادِ وَيَتَنَجَّسُ الظَّاهِرُ مِنْهُ ضَرُورَةً، وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» كَالْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَ فَيَحِلُّ فَحَقَّقَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - التَّخْلِيلَ وَأَثْبَتَ حِلَّ الْخَلِّ شَرْعًا وَلِأَنَّ التَّخْلِيلَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْحِلِّ فَيَكُونُ مُبَاحًا اسْتِدْلَالًا بِمَا إذَا أَمْسَكَهَا حَتَّى تَخَلَّلَتْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْحِلِّ أَنَّ بِهَذَا الصُّنْعِ صَارَ الْمَائِعُ حَامِضًا بِحَيْثُ لَا يَبِينُ فِي الذَّوْقِ أَثَرُ الْمَرَارَةِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْحُمُوضَةِ الْمَرَارَةَ مَعَ بَقَائِهَا فِي ذَاتِهَا، وَإِمَّا إنْ كَانَ لِتَغَيُّرِ الْخَمْرِ مِنْ الْمَرَارَةِ إلَى الْحُمُوضَةِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا حُمُوضَةَ فِي الْمِلْحِ لِتَغَلُّبِ الْمَرَارَةِ وَكَذَا بِإِلْقَاءِ حُلْوٍ قَلِيلٍ يَصِيرُ حَامِضًا فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ لَا تَتَخَلَّلُ بِنَفْسِهَا عَادَةً، وَالْقَلِيلُ لَا يَغْلِبُ الْكَثِيرَ فَتَعَيَّنَ أَنَّ ظُهُورَ الْحُمُوضَةِ بِإِجْرَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَادَةَ عَلَى أَنَّ مُجَاوَزَةَ الْخَلِّ يُغَيِّرُهَا مِنْ الْمَرَارَةِ إلَى الْحُمُوضَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الزَّمَانِ فَثَبَتَ أَنَّ التَّخْلِيلَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْحِلِّ فَيَكُونُ مُبَاحًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ اكْتِسَابَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَكُونُ اكْتِسَابَ الْمَالِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ. (وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا قَالَ: أَفَلَا أُخَلِّلُهَا؟ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَعَمْ» فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ عَلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ التَّخْلِيلِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ دَفْعُ عَادَةِ الْعَامَّةِ، لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا حَدِيثِي الْعَهْدِ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَكَانَتْ بُيُوتُهُمْ لَا تَخْلُو عَنْ خَمْرٍ وَفِي الْبَيْتِ غِلْمَانٌ وَجَوَارٍ وَصِبْيَانٌ، وَكَانُوا أَلِفُوا شُرْبَ الْخَمْرِ وَصَارَ عَادَةً لَهُمْ وَطَبِيعَةً، وَالنُّزُوعُ عَنْ الْعَادَةِ أَمْرٌ صَعْبٌ فَقَيِّمُ الْبَيْتِ إنْ كَانَ يَنْزَجِرُ عَنْ ذَلِكَ دِيَانَةً فَقَلَّ مَا يَسْلَمُ الْأَتْبَاعُ عَنْهَا لَوْ أَمَرَ بِالتَّخْلِيلِ إذْ لَا يَتَخَلَّلُ مِنْ سَاعَتِهَا بَلْ بَعْدَ وَقْتٍ مُعْتَبَرٍ فَيُؤَدِّي إلَى فَسَادِ الْعَامَّةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي زَمَانِنَا لِيُقَرَّرَ التَّحْرِيمُ وَيَأْلَفَ الطَّبْعُ تَحْرِيمَهَا؛ حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ عَنْ الدَّلِيلِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنْ لَيْسَ فِيمَا قُلْنَاهُ احْتِمَالُ الْوُقُوعِ فِي الْفَسَادِ. وَقَوْلُهُ: تَنْجِيسُ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ نَعَمْ لَكِنْ لِحَاجَةٍ وَإِنَّهُ لَجَائِزٌ كَدَبْغِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، ثُمَّ لَا فَرْقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ مَا إذَا أَلْقَى فِيهَا شَيْئًا قَلِيلًا مِنْ الْمِلْحِ أَوْ السَّمَكِ أَوْ الْخَلِّ أَوْ كَثِيرًا حَتَّى تَحِلَّ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْخَلُّ كَثِيرًا لَا يَحِلُّ، (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُلْقَى مِنْ الْخَلِّ إذَا كَانَ قَلِيلًا فَهَذَا تَخْلِيلٌ لِظُهُورِ الْحُمُوضَةِ فِيهَا بِطَرِيقِ التَّغْيِيرِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ كَثِيرًا فَهَذَا لَيْسَ بِتَخْلِيلٍ بَلْ هُوَ تَغْلِيبٌ لِغَلَبَةِ الْحُمُوضَةِ الْمَرَارَةَ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَلْقَى فِيهَا كَثِيرًا مِنْ الْحَلَاوَاتِ حَتَّى صَارَ حُلْوًا، أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بَلْ يَتَنَجَّسُ الْكُلُّ فَكَذَا هَذَا. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَخْلِيلٌ؛ أَمَّا إذَا كَانَ قَلِيلًا فَظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ كَثِيرًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ظُهُورَ الْحُمُوضَةِ عِنْدَ إلْقَاءِ الْمِلْحِ وَالسَّمَكِ لَا يَكُونُ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ لِانْعِدَامِ الْحُمُوضَةِ فِيهِمَا فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ التَّغْيِيرِ، وَفِي الْكَثِيرِ يَكُونُ أَسْرَعَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) السَّكَرُ وَالْفَضِيخُ وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ فَيَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: - «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ وَأَشَارَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى النَّخْلَةِ وَالْكَرْمَةِ» وَاَلَّتِي هَهُنَا هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِاسْمِ الْخَمْرِ فَكَانَ حَرَامًا وَسُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ التَّدَاوِي بِالسَّكَرِ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ السَّكَرُ هِيَ الْخَمْرُ لَيْسَ لَهَا كُنْيَةٌ وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ نَقِيعِ الزَّبِيبِ قَالَ الْخَمْرُ أَحْيَتْهَا أَشَارَ إلَى عِلَّةِ الْحُرْمَةِ وَهِيَ أَنَّ إيقَاعَ الزَّبِيبِ فِي الْمَاءِ إحْيَاءٌ لِلْخَمْرِ لِأَنَّ الزَّبِيبَ إذَا نُقِعَ فِي الْمَاءِ يَعُودُ عِنَبًا فَكَانَ نَقِيعُهُ كَعَصِيرِ الْعِنَبِ، وَلِأَنَّ هَذَا لَا يُتَّخَذُ إلَّا لِلسُّكْرِ فَيَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ تَذْكِيرِ النِّعْمَةِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى

شُكْرِهَا فَيَدُلُّ عَلَى حِلِّهَا فَالْجَوَابُ قِيلَ إنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهَا، وَالثَّانِي إنْ لَمْ تَكُنْ مَنْسُوخَةً فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّغْيِيرِ أَيْ إنَّكُمْ تَجْعَلُونَ مَا أَعْطَاكُمْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ الَّتِي هِيَ حَلَالٌ بَعْضَهَا حَرَامًا وَهُوَ الشَّرَابُ وَالْبَعْضَ حَلَالًا وَهُوَ الدِّبْسُ وَالزَّبِيبُ وَالْخَلُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ نَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا} [يونس: 59] . وَعَلَى هَذَا كَانَتْ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْكُمْ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ عَلَى الْحَرَامِ لَا عَلَى الْحَلَالِ، وَلَا يُكَفَّرُ مُسْتَحِلُّهَا وَلَكِنْ يُضَلَّلُ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ لِثُبُوتِهَا بِدَلِيلٍ غَيْرِ مَقْطُوعٍ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَا يُحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهَا لِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَجِبُ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْ الْخَمْرِ وَلَمْ يُوجَدْ بِالسُّكْرِ لِأَنَّ حُرْمَةَ السُّكْرِ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ لِثُبُوتِهَا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَهُوَ نَصُّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَحْصُلُ بِالسُّكْرِ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ فَكَانَتْ حُرْمَةُ السُّكْرِ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ ثَابِتَةً بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيز كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ وَلِهَذَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْن الْحُرْمَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا أَرَادَ بِهِ أَصْلَ الْحُرْمَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقِفُ عَلَى السُّكْرِ فِي كُلِّ شَرَابٍ دَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْحُرْمَةُ الْكَامِلَةُ الَّتِي لَا شُبْهَةَ فِيهَا كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ وَكَذَا جَمَعَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيْنَهُمَا فِي الْحَدِّ فَقَالَ فِيمَا أَسْكَرَ مِنْ النَّبِيذِ ثَمَانُونَ وَفِي الْخَمْرِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا ثَمَانُونَ وَيَجُوزُ بَيْعُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ أَصْلًا (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا إنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ هُوَ الْمَالُ وَإِنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَكُونُ مَالًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا كَبَيْعِ الْخَمْرِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا لِأَنَّ الْأَشْرِبَةَ مَرْغُوبٌ فِيهَا، وَالْمَالُ اسْمٌ لِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ إلَّا أَنَّ الْخَمْرَ مَعَ كَوْنِهَا مَرْغُوبًا فِيهَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا وَالنَّصُّ وَرَدَ بِاسْمِ الْخَمْرِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَتْلَفَهَا إنْسَانٌ يَضْمَنُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ. (وَمِنْهَا) حُكْمُ نَجَاسَتِهَا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا لَوْ أَصَابَتْ الثَّوْبَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ تَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا كَالْخَمْرِ فَكَانَتْ نَجَاسَتُهَا غَلِيظَةً كَنَجَاسَةِ الْخَمْرِ وَرُوِيَ أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ أَصْلًا لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْخَمْرِ إنَّمَا ثَبَتَتْ بِالشَّرْعِ بِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] فَيَخْتَصُّ بِاسْمِ الْخَمْرِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ اعْتَبَرَ فِيهَا الْكَثِيرَ الْفَاحِشَ كَمَا فِي النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةَ الِانْتِفَاعِ لَكِنَّ حُرْمَتَهَا دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ حَتَّى لَا يُكَفَّرَ مُسْتَحِلُّهَا وَلَا يُحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهَا فَأَوْجَبَ ذَلِكَ خِفَّةً فِي نَجَاسَتِهَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ النِّيءِ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَنَبِيذِ التَّمْرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ. (وَأَمَّا) حُكْمُ الْمَطْبُوخِ مِنْهَا أَمَّا عَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَهُوَ الْبَاذَقُ أَوْ ذَهَبَ نِصْفُهُ وَبَقِيَ النِّصْفُ وَهُوَ الْمُنَصَّفُ فَيَحْرُمُ شُرْبُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُبَاحٌ وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَيَصِحُّ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّهُ إذَا ذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ بِالطَّبْخِ فَالْحَرَامُ فِيهِ بَانَ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الثُّلُثِ حَرَامٌ مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنِّي أُتِيت بِشَرَابٍ مِنْ الشَّامِ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ يَبْقَى حَلَالُهُ وَيَذْهَبُ حَرَامُهُ وَرِيحُ جُنُونِهِ فَمُرْ مَنْ قِبَلَك فَلْيَتَوَسَّعُوا مِنْ أَشْرِبَتِهِمْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الثُّلُثِ حَرَامٌ وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ فَالْقُوَّةُ الْمُسْكِرَةُ فِيهِ قَائِمَةٌ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ خِلَافُهُ فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ. وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ مَا لَمْ يَسْكَرْ وَإِذَا سَكِرَ حُدَّ وَلَا يُكَفَّرُ مُسْتَحِلُّهُ لِمَا مَرَّ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا هَذَا إذَا طُبِخَ عَصِيرُ الْعِنَبِ، فَأَمَّا إذَا طُبِخَ الْعِنَبُ كَمَا هُوَ فَقَدْ حَكَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْعَصِيرِ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ

وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الزَّبِيبِ حَتَّى لَوْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ يَحِلُّ بِمَنْزِلَةِ الزَّبِيبِ. (وَأَمَّا) الْمَطْبُوخُ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ أَدْنَى طَبْخَةٍ، وَالْمُنَصَّفُ مِنْهُمَا فَيَحِلُّ شُرْبُهُ وَلَا يَحْرُمُ إلَّا السُّكْرُ مِنْهُ وَهُوَ طَاهِرٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ لَكِنْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ إلَّا بِالسُّكْرِ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لَا أُحَرِّمُهُ وَلَكِنْ لَا أَشْرَبُ مِنْهُ، وَالْحُجَجُ تُذْكَرُ فِي الْمُثَلَّثِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَحْتَاجَانِ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَطْبُوخِ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَالْمُنَصَّفِ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ، (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ لَهُمَا أَنَّ طَبْخَ الْعَصِيرِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ وَهُوَ أَنْ يَذْهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الطَّبْخِ بَقِيَتْ فِيهِ قُوَّةُ الْإِسْكَارِ بِنَفْسِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ يَغْلِي وَيَشْتَدُّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْلَطَ بِغَيْرِهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الطَّبْخِ لَمْ يُعْمَلْ فِيهِ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الطَّبْخِ فَبَقِيَ عَلَى حَالِهِ بِخِلَافِ نَبِيذِ التَّمْرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ قُوَّةُ الْإِسْكَارِ بِنَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ عَلَى حَالِهِ وَلَا يُخْلَطُ بِهِ الْمَاءُ لَمْ يَحْتَمِلْ الْغَلَيَانَ أَصْلًا، كَعَصِيرِ الْعِنَبِ إذَا طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَالْمَاءُ يَغْلِي، وَيُسْكِرُ إذَا خُلِطَ فِيهِ الْمَاءُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا بِنَفْسِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ جَازَ أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُ بِالطَّبْخِ بِخِلَافِ الْعَصِيرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا رَوَيْنَا عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ يَذْهَبُ حَرَامُهُ وَرِيحُ جُنُونِهِ، يَعْنِي إذَا كَانَ يَغْلِي بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَقَدْ بَقِيَ سُلْطَانُهُ وَإِذَا صَارَ بِحَيْثُ لَا يَغْلِي بِنَفْسِهِ بِأَنْ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ فَقَدْ ذَهَبَ سُلْطَانُهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. هَذَا إذَا نُقِعَ الزَّبِيبُ الْمَدْقُوقُ فِي الْمَاءِ ثُمَّ طُبِخَ نَقِيعُهُ أَدْنَى طَبْخَةٍ، فَأَمَّا إذَا نُقِعَ الزَّبِيبُ كَمَا هُوَ وَصُفِّيَ مَاؤُهُ ثُمَّ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَذْهَبَ بِالطَّبْخِ ثُلُثَاهُ وَيَبْقَى ثُلُثُهُ، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ إنْقَاعَ الزَّبِيبِ إحْيَاءٌ لِلْعِنَبِ، فَلَا يَحِلُّ بِهِ عَصِيرُهُ إلَّا بِمَا يَحِلُّ بِهِ عَصِيرُ الْعِنَبِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ أَدْنَى طَبْخَةٍ لِأَنَّهُ زَبِيبٌ انْتَفَخَ بِالْمَاءِ فَلَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْمُثَلَّثُ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ مَا دَامَ حُلْوًا لَا يُسْكِرُ يَحِلُّ شُرْبُهُ. (وَأَمَّا) الْمُعَتَّقُ الْمُسْكِرُ فَيَحِلُّ شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي وَاسْتِمْرَاءِ الطَّعَامِ وَالتَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَرَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ لِلَّهْوِ وَالطَّرَبِ كَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَمَالِي وَقَالَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَشْرَبَ الْمُسْكِرَ فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ حَرَامٌ وَقُعُودُهُ لِذَلِكَ وَالْمَشْيُ إلَيْهِ حَرَامٌ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «كُلُّ مُسْكِرٍ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ» إنَّمَا سُمِّيَ خَمْرًا لِكَوْنِهِ مُخَامِرًا لِلْعَقْلِ، وَمَعْنَى الْمُخَامَرَةِ يُوجَدُ فِي سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - احْتَجَّا بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآثَارِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. (أَمَّا) الْحَدِيثُ فَمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْآثَارِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أُتِيَ بِنَبِيذٍ فَشَمَّهُ فَقَطَّبَ وَجْهَهُ لِشِدَّتِهِ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ وَشَرِبَ مِنْهُ» (وَأَمَّا) الْآثَارُ فَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ الشَّدِيدَ، وَيَقُولُ: " إنَّا لَنَنْحَرُ الْجَزُورَ وَإِنَّ الْعِتْقَ مِنْهَا لِآلِ عُمَرَ وَلَا يَقْطَعُهُ إلَّا النَّبِيذُ الشَّدِيدُ. (وَمِنْهَا) مَا رَوَيْنَا عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنِّي أُتِيتُ بِشَرَابٍ مِنْ الشَّامِ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ يَبْقَى حَلَالُهُ وَيَذْهَبُ حَرَامُهُ وَرِيحُ جُنُونِهِ، فَمُرْ مَنْ قِبَلَكَ فَلْيَتَوَسَّعُوا مِنْ أَشْرِبَتِهِمْ، نَصَّ عَلَى الْحِلِّ وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ زَوَالُ الشِّدَّةِ الْمُسْكِرَةِ بِقَوْلِهِ " وَيَذْهَبُ رِيحُ جُنُونِهِ "، وَنَدَبَ إلَى الشُّرْبِ بِقَوْلِهِ " فَلْيَتَوَسَّعُوا مِنْ أَشْرِبَتِهِمْ (وَمِنْهَا) مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَضَافَ قَوْمًا فَسَقَاهُمْ فَسَكِرَ بَعْضُهُمْ فَحَدَّهُ فَقَالَ الرَّجُلُ: " تَسْقِينِي ثُمَّ تَحِدُّنِي "، فَقَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " إنَّمَا أَحِدُّكَ لِلسُّكْرِ وَرُوِيَ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنْ النَّبِيذِ: اشْرَبْ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، فَإِذَا خِفْت السُّكْرَ فَدَعْ، وَإِذَا ثَبَتَ الْإِحْلَالُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكِبَارِ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَالْقَوْلُ بِالتَّحْرِيمِ يَرْجِعُ إلَى تَفْسِيقِهِمْ، وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ وَلِهَذَا عَدَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إحْلَالَ الْمُثَلَّثِ مِنْ شَرَائِطِ مَذْهَبِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَقَالَ فِي

بَيَانِهَا: " أَنْ يُفَضِّلَ الشَّيْخَيْنِ، وَيُحِبَّ الْخَتَنَيْنِ، وَأَنْ يَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَنْ لَا يَحْرُمَ نَبِيذَ الْخَمْرِ " لِمَا أَنَّ فِي الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِهِ تَفْسِيقَ كِبَارِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَالْكَفُّ عَنْ تَفْسِيقِهِمْ، وَالْإِمْسَاكُ عَنْ الطَّعْنِ فِيهِمْ مِنْ شَرَائِطِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. (وَأَمَّا) مَا وَرَدَ مِنْ الْأَخْبَارِ فَفِيهَا طَعْنٌ، ثُمَّ بِهَا تَأْوِيلٌ، ثُمَّ قَوْلٌ بِمُوجَبِهَا (أَمَّا) الطَّعْنُ فَإِنَّ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ رَدَّهَا، وَقَالَ: " لَا تَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ " - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ مِنْ نَقَلَةِ الْأَحَادِيثِ، فَطَعْنُهُ يُوجِبُ جَرْحًا فِي الْحَدِيثَيْنِ (وَأَمَّا) التَّأْوِيلُ فَهُوَ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الشُّرْبِ لِلتَّلَهِّي تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ (وَأَمَّا) الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ فَهُوَ أَنَّ الْمُسْكِرَ عِنْدَنَا حَرَامٌ، وَهُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ؛ لِأَنَّ الْمُسْكِرَ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِسْكَارُ، وَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِالْقَدَحِ الْأَخِيرِ، وَهُوَ حَرَامٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَهَذَا قَوْلٌ بِمُوجَبِ الْأَحَادِيثِ إنْ ثَبَتَتْ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى. (وَأَمَّا) قَوْلُهُمْ: إنَّ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ خَمْرٌ لِوُجُودِ مَعْنَى الْخَمْرِ فِيهَا، وَهُوَ صِفَةُ مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ قُلْنَا: اسْمُ الْخَمْرِ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا حَقِيقَةٌ، وَلِسَائِرِ الْأَشْرِبَةِ مَجَازٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِسْكَارِ وَالْمُخَامَرَةِ فِيهِ كَامِلٌ، وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ نَاقِصٌ فَكَانَ حَقِيقَةً لَهُ مَجَازًا لِغَيْرِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً لِغَيْرِهِ لَكَانَ الْأَمْرُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا مُشْتَرَكًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا عَامًّا وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الِاشْتِرَاكِ اخْتِلَافُ الْمَعْنَى، فَالِاسْمُ الْمُشْتَرَكُ مَا يَقَعُ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الْحُدُودِ وَالْحَقَائِقِ، كَاسْمِ الْعَيْنِ وَنَحْوِهَا، وَهَهُنَا مَا اخْتَلَفَ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْعُمُومِ: أَنْ تَكُونَ أَفْرَادُ الْعُمُومِ مُتَسَاوِيَةً فِي قَبُولِ الْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ لَا مُتَفَاوِتَةً، وَلَمْ يُوجَدْ التَّسَاوِي هَهُنَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ تَعَيَّنَ أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ اسْمِ الْخَمْرِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْجُمْهُورِيُّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُثَلَّثِ؛ لِأَنَّهُ مُثَلَّثٌ يَرِقُّ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ يُطْبَخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ لِئَلَّا يَفْسُدَ. (وَأَمَّا) الْخَلِيطَانِ فَحُكْمُهُمَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مَا هُوَ حُكْمُهُمَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ مِنْ النِّيءِ عَنْهُمَا وَالْمَطْبُوخِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ شُرْبِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ جَمِيعًا وَالزَّهْوِ وَالرُّطَبِ جَمِيعًا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النِّيءِ وَالسُّكْرِ مِنْهُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ نَبِيذِ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ جَمِيعًا وَلَوْ طُبِخَ أَحَدُهُمَا، ثُمَّ صُبَّ قَدَحٌ مِنْ النِّيءِ فِيهِ أَفْسَدَهُ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ خِلَافِ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فَيَغْلِبُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ وَلَوْ خُلِطَ الْعَصِيرُ بِالْمَاءِ فَإِنْ تُرِكَ حَتَّى اشْتَدَّ، لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَإِنْ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ فَفِيهِ نَظَرٌ: إنْ كَانَ الْمَاءُ هُوَ الَّذِي يَذْهَبُ أَوَّلًا بِالطَّبْخِ يُطْبَخُ حَتَّى يَذْهَبَ قَدْرُ الْمَاءِ، ثُمَّ يُطْبَخُ الْعَصِيرُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ فَيَحِلُّ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ وَالْعَصِيرُ يَذْهَبَانِ مَعًا بِالطَّبْخِ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَا الْجُمْلَةِ فَلَا يَحِلُّ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْمِزْرُ وَالْجِعَةُ وَالْبِتْعُ وَمَا يُتَّخَذُ مِنْ السُّكَّرِ وَالتِّينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَحِلُّ شُرْبُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، مَطْبُوخًا كَانَ أَوْ نِيئًا، وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ وَإِنْ سَكِرَ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ حَرَامٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ، وَهُوَ أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ كَالْمُثَلَّثِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ يَبْقَى بَعْدَمَا يَبْلُغُ عَشْرَةَ أَيَّامٍ وَلَا يَفْسُدُ فَإِنِّي أَكْرَهُهُ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ ذَلِكَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ أَنَّ بَقَاءَهُ وَعَدَمَ فَسَادِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ دَلِيلُ شِدَّتِهِ، وَشِدَّتَهُ دَلِيلُ حُرْمَتِهِ، (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْحُرْمَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْخَمْرِيَّةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشِدَّةٍ، وَالشِّدَّةُ لَا تُوجَدُ فِي هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى انْعِدَامِ الْخَمْرِيَّةِ أَيْضًا مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ» ذَكَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْخَمْرَ فَاللَّامُ الْجِنْسِ فَاقْتَضَى اقْتِصَارَ الْخَمْرِيَّةِ عَلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْ الشَّجَرَتَيْنِ وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَإِنْ سَكِرَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ سُكْرٌ حَصَلَ بِتَنَاوُلِ شَيْءٍ مُبَاحٍ، وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَالسُّكْرِ الْحَاصِلِ مِنْ تَنَاوُلِ الْبَنْجِ وَالْخُبْزِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ بِخِلَافِ مَا إذَا سَكِرَ بِشُرْبِ الْمُثَلَّثِ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ هُنَاكَ حَصَلَ بِتَنَاوُلِ الْمَحْظُورِ وَهُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ. (وَأَمَّا) ظُرُوفُ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ فَيُبَاحُ الشُّرْبُ مِنْهَا إذَا غُسِلَتْ إلَّا الْخَزَفَ الْجَدِيدَ الَّذِي يُتَشَرَّبُ فِيهَا عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي عُرِفَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ الشُّرْبِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ، أَلَا فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ ظَرْفٍ» فَإِنَّ الظُّرُوفَ لَا تُحِلُّ شَيْئًا وَلَا تُحَرِّمُهُ (وَأَمَّا) بَيَانُ حَدِّ السُّكْرِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حَدِّهِ، قَالَ

كتاب الاستحسان

أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السَّكْرَانُ الَّذِي يُحَدُّ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، وَلَا يَعْقِلُ الْأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ وَالرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - السَّكْرَانُ هُوَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى كَلَامِهِ الْهَذَيَانُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] فَيُسْتَقْرَأُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قِرَاءَتِهَا فَهُوَ سَكْرَانٌ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا صَنَعَ طَعَامًا فَدَعَا سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ وَسَيِّدَنَا عُمَرَ وَسَيِّدَنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدَنَا عَلِيًّا وَسَيِّدَنَا سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَأَكَلُوا وَسَقَاهُمْ خَمْرًا وَكَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَحَضَرَتْهُمْ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فَأَمَّهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَقَرَأَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] عَلَى طَرْحِ {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 2] فَنَزَلَ قَوْلُهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] . وَهَذَا الِامْتِحَانُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مِنْ السُّكَارَى مَنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ أَصْلًا، وَمَنْ تَعَلَّمَ فَقَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ قِرَاءَتُهَا فِي حَالَةِ الصَّحْوِ خُصُوصًا مَنْ لَا اعْتِنَاءَ لَهُ بِأَمْرِ الْقُرْآنِ فَكَيْفَ فِي حَالَةِ السُّكْرِ؟ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا شَرِبَ حَتَّى ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي مَشْيِهِ وَأَطْرَافِهِ وَحَرَكَاتِهِ، فَهُوَ سَكْرَانُ، وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا ثَبَاتَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ، مِنْهُمْ مَنْ يَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْهُ بِأَدْنَى شَيْءٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَظْهَرُ فِيهِ وَإِنْ بَلَغَ بِهِ السُّكْرُ غَايَتَهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: شَهَادَةُ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَإِنَّ السَّكْرَانَ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ اسْمٌ لِمَنْ هَذَى وَإِلَيْهِ أَشَارَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِهِ: إذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ يُسَلِّمُ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، فَيَقُولُ: أَصْلُ السُّكْرِ يُعْرَفُ بِذَلِكَ لَكِنَّهُ اُعْتُبِرَ فِي بَابِ الْحُدُودِ مَا هُوَ الْغَايَةُ فِي الْبَابِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَلَا يُعْرَفُ بُلُوغُ السُّكْرِ غَايَتَهُ إلَّا بِمَا ذُكِرَ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الِاسْتِحْسَانِ] وَقَدْ يُسَمَّى كِتَابَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَقَدْ يُسَمَّى كِتَابَ الْكَرَاهَةِ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ مَعْنَى اسْمِ الْكِتَابِ وَفِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ الْمَجْمُوعَةِ فِيهِ (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالِاسْتِحْسَانُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ كَوْنُ الشَّيْءِ عَلَى صِفَةِ الْحَسَنِ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ فِعْلُ الْمُسْتَحْسَنِ وَهُوَ رُؤْيَةُ الشَّيْءِ حَسَنًا يُقَالُ اسْتَحْسَنْت كَذَا أَيْ رَأَيْته حَسَنًا فَاحْتَمَلَ تَخْصِيصُ هَذَا الْكِتَابِ بِالتَّسْمِيَةِ بِالِاسْتِحْسَانِ لِاخْتِصَاصِ عَامَّةِ مَا أُورِدَ فِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ بِحَسَنٍ لَيْسَ فِي غَيْرِهَا وَلِكَوْنِهَا عَلَى وَجْهٍ يَسْتَحْسِنُهَا الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ (وَأَمَّا) التَّسْمِيَةُ بِالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَتَسْمِيَةٌ طَابَقَتْ مَعْنَاهَا وَوَافَقَتْ مُقْتَضَاهَا لِاخْتِصَاصِهِ بِبَيَانِ جُمْلَةٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ وَكَذَا التَّسْمِيَةُ بِالْكَرَاهَةِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ بَيَانُ الْمُحَرَّمَاتِ وَكُلُّ مُحَرَّمٍ مَكْرُوهٌ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ ضِدُّ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] وَالشَّرْعُ لَا يُحِبُّ الْحَرَامَ وَلَا يَرْضَى بِهِ إلَّا أَنَّ مَا تَثْبُتُ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَعَادَةُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُسَمِّيه حَرَامًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَمَا تَثْبُتُ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ غَيْرِ مَقْطُوعٍ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَأَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَغَيْرِ ذَلِكَ يُسَمِّيه مَكْرُوهًا وَرُبَّمَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ حَرَامٌ مَكْرُوهٌ إشْعَارًا مِنْهُ أَنَّ حُرْمَتَهُ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ لَا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ. (وَأَمَّا) بَيَانُ أَنْوَاعِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُحَلَّلَاتِ الْمَجْمُوعَةِ فِيهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ الْمُحَرَّمَاتُ الْمَجْمُوعَةُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ نَوْعٌ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا وَنَوْعٌ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ (أَمَّا) الَّذِي ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا فَبَعْضُهَا مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعِهِ فِي الْكُتُبِ فَلَا نُعِيدُهُ وَنَذْكُرُ مَا لَا ذِكْرَ لَهُ فِي الْكُتُبِ وَنَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْكِتَابَ وَهُوَ حُرْمَةُ النَّظَرِ وَالْمَسِّ وَالْكَلَامُ فِيهَا فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا فِي بَيَانِ مَا يَحِلُّ مِنْ ذَلِكَ وَيَحْرُمُ لِلرَّجُلِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةِ مِنْ الرَّجُلِ وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ لِلرَّجُلِ مِنْ الرَّجُلِ وَالثَّالِثُ فِي بَيَانِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ لِلْمَرْأَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ النِّسَاءِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ النِّسَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ مِنْهُنَّ الْمَنْكُوحَاتُ وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ الْمَمْلُوكَاتُ وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ ذَوَاتُ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ

وَهُوَ الرَّحِمُ الْمَحْرَمُ لِلنِّكَاحِ كَالْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ ذَوَاتُ الرَّحِمِ بِلَا مَحْرَمٍ وَهُنَّ الْمَحَارِمُ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ مَمْلُوكَاتُ الْأَغْيَارِ وَنَوْعُ مِنْهُنَّ مَنْ لَا رَحِمَ لَهُنَّ أَصْلًا وَلَا مَحْرَمَ وَهُنَّ الْأَجْنَبِيَّاتُ الْحَرَائِرُ وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ ذَوَاتُ الرَّحِمِ بِلَا مَحْرَمٍ وَهُوَ الرَّحِمُ الَّذِي لَا يُحَرِّمُ النِّكَاحَ كَبِنْتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ (أَمَّا) النَّوْعُ الْأَوَّلُ وَهُنَّ الْمَنْكُوحَاتُ فَيَحِلُّ لِلزَّوْجِ النَّظَرُ إلَى زَوْجَتِهِ وَمَسُّهَا مِنْ رَأْسِهَا إلَى قَدَمِهَا لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] وَأَنَّهُ فَوْقَ النَّظَرِ وَالْمَسِّ فَكَانَ إحْلَالًا لَهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْأُولَى إلَّا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] فَصَارَتْ حَالَةُ الْحَيْضِ مَخْصُوصَةً عَنْ عُمُومِ النَّصِّ الَّذِي تَلَوْنَا. وَهَلْ يَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا يَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجْتَنِبُ شِعَارَ الدَّمِ وَلَهُ مَا سِوَى ذَلِكَ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِمَا بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ قَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا فَوْقَ السُّرَّةِ فَيَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا فَوْقَ سُرَّتِهَا وَلَا يُبَاحُ بِمَا تَحْتَهَا إلَى الرُّكْبَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ مِنْهُ مَعَ الْإِزَارِ فَيَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا تَحْتَ سُرَّتِهَا سِوَى الْفَرْجِ لَكِنْ مَعَ الْمِئْزَرِ لَا مَكْشُوفًا وَيُمْكِنُ الْعَمَلُ بِعُمُومِ قَوْلِهِمَا بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَمَا تَحْتَهَا سِوَى الْفَرْجِ مَعَ الْمِئْزَرِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ فَوْقَ الْإِزَارِ فَيَكُونُ عَمَلًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] جَعَلَ الْحَيْضَ أَذًى فَتَخْتَصُّ الْحُرْمَةُ بِمَوْضِعِ الْأَذَى وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَتَنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سُئِلَتْ عَمَّا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ فَقَالَتْ يَتَّقِي شِعَارَ الدَّمِ وَلَهُ مَا سِوَى ذَلِكَ (وَوَجْهُ) قَوْلِهِمَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَنَا مَا تَحْتَ السُّرَّةِ وَلَهُ مَا فَوْقَهَا» وَرُوِيَ «أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كُنَّ إذَا حِضْنَ أَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَّزِرْنَ ثُمَّ يُضَاجِعُهُنَّ» وَلِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا بِمَا يَقْرُبُ مِنْ الْفَرْجِ سَبَبُ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» وَالْمُسْتَمْتِعُ بِالْفَخِذِ يَحُومُ حَوْلَ الْحِمَى وَيَرْتَعُ حَوْلَهُ فَيُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ دَلَّ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِ سَبَبُ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ. وَسَبَبُ الْحَرَامِ حَرَامٌ أَصْلُهُ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ (وَأَمَّا) الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَحُجَّةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا حَوْلَ الْفَرْجِ لَا يَخْلُو عَنْ الْأَذَى عَادَةً فَكَانَ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِ اسْتِعْمَالَ الْأَذَى وَقَوْلُ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَهُ مَا سِوَى ذَلِكَ أَيْ مَعَ الْإِزَارِ فَحُمِلَ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ يَحِلُّ لَهَا النَّظَرُ إلَى زَوْجِهَا وَاللَّمْسِ مِنْ فَرْقِهِ إلَى قَدَمِهِ لِأَنَّهُ حَلَّ لَهَا مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ التَّمْكِينُ مِنْ الْوَطْءِ فَهَذَا أَوْلَى وَيَحِلُّ النَّظَرُ إلَى عَيْنِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ الْمَنْكُوحَةِ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِ حَلَالٌ فَالنَّظَرُ إلَيْهِ أَوْلَى إلَّا أَنَّ الْأَدَبَ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا نَظَرْت إلَى مَا مِنْهُ وَلَا نَظَرَ إلَى مَا مِنِّي وَلَا يَحِلُّ إتْيَانُ الزَّوْجَةِ فِي دُبُرهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ نَهَى عَنْ قُرْبَانِ الْحَائِضِ وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ كَوْنُ الْمَحِيضِ أَذًى وَالْأَذَى فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ أَفْحَشُ وَأَذَمُّ فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا أَوْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ فِيمَا يَقُولُ فَهُوَ كَافِرٌ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» «نَهَى عَنْ إتْيَانِ النِّسَاءِ فِي مَحَاشِّهِنَّ» أَيْ أَدْبَارِهِنَّ. وَعَلَى ذَلِكَ جَاءَتْ الْآثَارُ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهَا سُمِّيَتْ اللُّوطِيَّةَ الصُّغْرَى وَلِأَنَّ حِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ فِي الدُّنْيَا لَا يَثْبُتُ لِحَقِّ قَضَاءِ الشَّهَوَاتِ خَاصَّةً لِأَنَّ لِقَضَاءِ الشَّهَوَاتِ خَاصَّةً دَارًا أُخْرَى وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِحَقِّ قَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَهِيَ حَاجَةُ بَقَاءِ النَّسْلِ إلَى انْقِضَاءِ الدُّنْيَا إلَّا أَنَّهُ رُكِّبَتْ الشَّهَوَاتُ فِي الْبَشَرِ لِلْبَعْثِ عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَحَاجَةُ النَّسْلِ لَا تَحْتَمِلُ الْوُقُوعَ فِي الْأَدْبَارِ فَلَوْ ثَبَتَ الْحِلُّ لَثَبَتَ لِحَقِّ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ خَاصَّةً وَالدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لَهُ. (وَأَمَّا) النَّوْعُ الثَّانِي وَهُنَّ الْمَمْلُوكَاتُ فَحُكْمُهُنَّ حُكْمُ الْمَنْكُوحَاتِ فَيَحِلُّ لِلْمَوْلَى النَّظَرُ إلَى سَائِرِ بَدَنِ جَارِيَتِهِ وَمَسُّهَا مِنْ رَأْسِهَا إلَى قَدَمِهَا لِأَنَّهُ حِلٌّ لَهُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] الْآيَةَ إلَّا أَنَّ حَالَةَ الْحَيْضِ صَارَتْ

مَخْصُوصَةً فَلَا يَقْرَبُهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَلَا يَأْتِي فِي دُبُرِهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ وَفِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَكَذَا إذَا مَلَكهَا بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ» وَلِأَنَّ فِيهِ خَوْفَ اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِيَنَّ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» وَكَذَا فِيهِ وَهُمْ ظُهُورُ الْحَبَلِ بِهَا فَيَدَّعِيه وَيَسْتَحِقُّهَا فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ يَسْتَمْتِعُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ. (وَأَمَّا) الدَّوَاعِي مِنْ الْقُبْلَةِ وَالْمُعَانَقَةِ وَالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ عَنْ شَهْوَةٍ فَلَا يَحِلُّ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ إلَّا فِي الْمَسْبِيَّةِ وَقَالَ مَكْحُولٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحِلُّ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْأَصْلِ مُطْلِقٌ التَّصَرُّفَ وَلِهَذَا لَمْ تَحْرُمْ الدَّوَاعِي فِي الْمَسْبِيَّةِ وَلَا عَلَى الصَّائِمِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْرُمَ الْقُرْبَانُ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ عَرَفْنَاهَا بِالنَّصِّ فَتَقْتَصِرُ الْحُرْمَةُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ عَلَى أَنَّ النَّصَّ إنْ كَانَ مَعْلُولًا بِخَوْفِ اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ فَهَذَا مَعْنَى لَا يَحْتَمِلُ التَّعْدِيَةَ إلَى الدَّوَاعِي فَلَا يَتَعَدَّى إلَيْهَا. (وَجْهُ) قَوْلِ الْعَامَّةِ أَنَّ حُرْمَةَ الْقُرْبَانِ إنَّمَا تَثْبُتُ خَوْفًا عَنْ تَوَهُّمِ الْعُلُوقِ وَظُهُورِ الْحَبَلِ وَعِنْدَ الدَّعْوَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ يَظْهَرُ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ صَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الدَّوَاعِي مِنْ الْمُسْتَبْرَأَةِ وَنَحْوِهَا فَيَتَعَدَّى إلَيْهَا وَلَا يَتَعَدَّى فِي الْمَسْبِيَّةِ فَيَقْتَصِرُ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَلِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِالدَّوَاعِي وَسِيلَةٌ إلَى الْقُرْبَانِ وَالْوَسِيلَةُ إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ أَصْلُهُ الْخَلْوَةُ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْخَلْوَةَ فِي التَّوَسُّلِ إلَى الْحَرَامِ دُونَ الْمَسِّ فَكَانَ تَحْرِيمُهَا تَحْرِيمًا لِلْمَسِّ بِطَرِيقِ الْأُولَى كَمَا فِي تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ مِنْ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَمَنْ اعْتَمَدَ عَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ مَنَعَ فَضْلَ الْمَسْبِيَّةِ وَزَعَمَ أَنْ لَا نَصَّ فِيهَا عَنْ أَصْحَابِنَا وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ فَإِنَّ حِلَّ الدَّوَاعِي مِنْ الْمَسْبِيَّةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَا يَسْتَقِيمُ الْمَنْعُ فَكَانَ الصَّحِيحُ هُوَ الْعِلَّةَ الْأُولَى وَحُرْمَةُ الدَّوَاعِي فِي بَابِ الظِّهَارِ وَالْإِحْرَامُ ثَبَتَ لِمَعْنًى آخَرَ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَالظِّهَارِ. (وَأَمَّا) النَّوْعُ الثَّالِثُ وَهُوَ ذَاتُ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَيَحِلُّ لِلرَّجُلِ النَّظَرُ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ إلَى رَأْسِهَا وَشَعْرِهَا وَأُذُنَيْهَا وَصَدْرِهَا وَعَضُدِهَا وَثَدْيِهَا وَسَاقِهَا وَقَدَمِهَا لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور: 31] الْآيَةَ نَهَاهُنَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ إبْدَاءِ الزِّينَةِ مُطْلَقًا وَاسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ إبْدَاءَهَا لِلْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْهُمْ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْحَظْرِ إبَاحَةٌ فِي الظَّاهِرِ وَالزِّينَةُ نَوْعَانِ ظَاهِرَةٌ وَهُوَ الْكُحْلُ فِي الْعَيْنِ وَالْخَاتَمُ فِي الْأُصْبُعِ وَالْفَتْخَةُ لِلرَّجُلِ وَبَاطِنَةٌ وَهُوَ الْعِصَابَةُ لِلرَّأْسِ وَالْعِقَاصُ لِلشَّعْرِ وَالْقُرْطُ لِلْأُذُنِ وَالْحَمَائِلُ لِلصَّدْرِ وَالدُّمْلُوجُ لِلْعَضُدِ وَالْخَلْخَالُ لِلسَّاقِ وَالْمُرَادُ مِنْ الزِّينَةِ مَوَاضِعُهَا لَا نَفْسُهَا لِأَنَّ إبْدَاءَ نَفْسِ الزِّينَةِ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ. وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الزِّينَةَ مُطْلَقَةً فَيَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا فَيَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهَا بِظَاهِرِ النَّصِّ وَلِأَنَّ الْمُخَالَطَةَ بَيْنَ الْمَحَارِمِ لِلزِّيَارَةِ وَغَيْرِهَا ثَابِتَةٌ عَادَةً فَلَا يُمْكِنُ صِيَانَةُ مَوَاضِعِ الزِّينَةِ عَنْ الْكَشْفِ إلَّا بِحَرَجٍ وَأَنَّهُ مَدْفُوعٌ شَرْعًا وَكُلُّ مَا جَازَ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ جَازَ مَسُّهُ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ يَحْتَاجُ إلَى إرْكَابِهَا وَإِنْزَالِهَا فِي الْمُسَافَرَةِ مَعَهَا وَتَتَعَذَّرُ صِيَانَةُ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَنْ الِانْكِشَافِ فَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْمَحْرَمِ الصِّيَانَةُ عَنْ مَسَّ الْمَكْشُوفِ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ النَّظَرِ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَمَسِّهَا مِنْ الْأَجْنَبِيَّاتِ إنَّمَا ثَبَتَ خَوْفًا عَنْ حُصُولِ الشَّهْوَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى الْجِمَاعِ وَالنَّظَرُ إلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَمَسُّهَا فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ لَا يُورِثُ الشَّهْوَةَ لِأَنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ لِلشَّهْوَةِ عَادَةً بَلْ لِلشَّفَقَةِ وَلِهَذَا جَرَتْ الْعَادَةُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ بِتَقْبِيلِ أُمَّهَاتِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ الْغَزْوِ قَبَّلَ رَأْسَ السَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -» وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ النَّظَرُ وَالْمَسُّ عَنْ شَهْوَةٍ وَلَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَشْتَهِي فَأَمَّا إذَا كَانَ يَشْتَهِي أَوْ كَانَ غَالِبُ ظَنِّهِ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَوْ نَظَرَ أَوْ مَسَّ اشْتَهَى لَمْ يَجُزْ لَهُ النَّظَرُ وَالْمَسُّ لِأَنَّهُ يَكُونُ سَبَبًا لِلْوُقُوعِ فِي الْحَرَام فَيَكُونُ حَرَامًا وَلَا بَأْسَ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا إذَا أَمِنَ الشَّهْوَةَ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ ثَلَاثًا فَمَا فَوْقَهَا إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا» وَلِأَنَّ الَّذِي يَحْتَاجُ الْمَحْرَمُ إلَيْهِ فِي السَّفَرِ مَسَّهَا فِي الْحَمْلِ وَالْإِنْزَالِ وَيَحِلُّ لَهُ مَسُّهَا فَتَحِلُّ الْمُسَافَرَةُ مَعَهَا وَكَذَا لَا بَأْسَ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا إذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّ الْمَسُّ فَالْخَلْوَةُ أَوْلَى فَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَفْعَلْ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

أَنَّهُ قَالَ «لَا يَخْلُوَنَّ الرَّجُلُ بِمُغَيَّبَةٍ وَإِنَّ قِيلَ حَمُوهَا أَلَا حَمُوهَا الْمَوْتُ» وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْخَوْفِ أَوْ يَكُونُ نَهْيَ نَدْبٍ وَتَنْزِيهٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى بَطْنِهَا وَظَهْرِهَا وَإِلَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ مِنْهَا وَمَسُّهَا لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] الْآيَةَ إلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَخَّصَ النَّظَرَ لِلْمَحَارِمِ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور: 31] الْآيَةَ فَبَقِيَ غَضُّ الْبَصَرِ عَمَّا وَرَاءَهَا مَأْمُورًا بِهِ. وَإِذَا لَمْ يَحِلَّ النَّظَرُ فَالْمَسُّ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْوَى وَلِأَنَّ رُخْصَةَ النَّظَرِ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ لِلْحَاجَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَلَا حَاجَةَ إلَى النَّظَرِ إلَى مَا وَرَاءَهَا فَكَانَ النَّظَرُ إلَيْهَا بِحَقِّ الشَّهْوَةِ وَأَنَّهُ حَرَامٌ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَ الظِّهَارَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَالظِّهَارُ لَيْسَ إلَّا تَشْبِيهُ الْمَنْكُوحَةِ بِظَهْرِ الْأُمِّ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ظَهْرُ الْأُمِّ حَرَامُ النَّظَرِ وَالْمَسِّ لَمْ يَكُنْ الظِّهَارُ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا فَيُؤَدِّي إلَى الْخُلْفِ فِي خَبَرِ مِنْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْخُلْفُ هَذَا إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ مَكْشُوفَةً فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مَسْتُورَةً بِالثِّيَابِ وَاحْتَاجَ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ إلَى إرْكَابِهَا وَإِنْزَالِهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ بَطْنَهَا أَوْ ظَهْرَهَا أَوْ فَخِذَهَا مِنْ وَرَاءِ الثَّوْبِ إذَا كَانَ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَسَّ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ لَا يُورِثُ الشَّهْوَةَ عَادَةً خُصُوصًا مِنْ وَرَاءِ الثَّوْبِ حَتَّى لَوْ خَافَ الشَّهْوَةَ فِي الْمَسِّ لَا يَمَسُّهُ وَلِيَجْتَنِبْ مَا اسْتَطَاعَ وَكُلُّ مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ مِنْ النَّظَرِ وَالْمَسُّ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ ذَلِكَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا وَكُلُّ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ يَحْرُمُ عَلَيْهَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) النَّوْعُ الرَّابِعُ وَهُوَ ذَوَاتُ الْمَحْرَمِ بِلَا رَحِمٍ فَحُكْمُهُنَّ حُكْمُ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» وَرُوِيَ أَنَّ أَفْلَحَ بْنَ أَبِي الْقُعَيْسِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَأْذَنَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لِيَلِجْ عَلَيْك فَإِنَّهُ عَمُّك أَرْضَعَتْك امْرَأَةُ أَخِيهِ» . (وَأَمَّا) النَّوْعُ الْخَامِسُ وَهُوَ مَمْلُوكَاتُ الْأَغْيَارِ فَحُكْمُهُنَّ أَيْضًا فِي حِلِّ النَّظَرِ وَالْمَسِّ وَحَرَّمَتْهُمَا حُكْمُ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَيَحِلُّ النَّظَرُ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ مِنْهُنَّ وَمَسُّهَا وَلَا يَحِلُّ مَا سِوَى ذَلِكَ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَّ نَاصِيَةَ أَمَةٍ وَدَعَا لَهَا بِالْبَرَكَةِ» وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَأَى أَمَةً مُتَقَنِّعَةً فَعَلَاهَا بِالدُّرَّةِ وَقَالَ أَلْقِي عَنْك الْخِمَارَ يَا دَفَارُ أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ فَدَلَّ عَلَى حِلِّ النَّظَرِ إلَى رَأْسِهَا وَشَعْرِهَا وَأُذُنِهَا وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ مَرَّ بِجَارِيَةٍ تُعْرَضُ عَلَى الْبَيْعِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِهَا وَقَالَ اشْتَرُوا وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُتَوَهَّمْ مِنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَمَسَّهَا وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَى النَّظَرِ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَمَسِّهَا عِنْدَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِمَعْرِفَةِ بَشَرَتِهَا مِنْ اللِّينِ وَالْخُشُونَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ قِيمَتِهَا بِاخْتِلَافِ أَطْرَافِهَا فَأُلْحِقَتْ بِذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْ النَّاسِ وَلِهَذَا يَحِلُّ بِهِنَّ الْمُسَافَرَةُ بِلَا مَحْرَمٍ وَلَا حَاجَةَ إلَى الْمَسِّ وَالنَّظَرِ إلَى غَيْرِهَا لِأَنَّهَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالنَّظَرِ إلَى الْأَطْرَافِ وَمَسِّهَا وَهَذَا إذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الشَّهْوَةَ فَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَشْتَهِيَ لَوْ نَظَرَ أَوْ مَسَّ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا وَإِنْ اشْتَهَى إذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ النَّظَرِ لِمَا قُلْنَا فَيَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ فَصَارَ النَّظَرُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ النَّظَرِ مِنْ الْحَاكِمِ وَالشَّاهِدِ وَالْمُتَزَوِّجِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَنْ شَهْوَةٍ فَكَذَا هَذَا وَكَذَا لَا بَأْسَ لَهُ أَنْ يَمَسَّ. وَإِنْ اشْتَهَى إذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلشَّابِّ مَسُّ شَيْءٍ مِنْ الْأَمَةِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحْتَاجُ إلَى الْعِلْمِ بِبَشَرَتِهَا وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِاللَّمْسِ فَرُخِّصَ لِلضَّرُورَةِ وَكَذَا يَحِلُّ لِلْأَمَةِ النَّظَرُ وَالْمَسُّ مِنْ الرِّجْلِ الْأَجْنَبِيِّ مَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ إلَّا أَنْ تَخَافَ الشَّهْوَةَ فَتَجْتَنِبُ كَالرَّجُلِ وَكُلُّ جَوَابِ عَرَفْته فِي الْقِنَّةِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي الْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِقِيَامِ الرِّقِّ فِيهِمَا. (وَأَمَّا) النَّوْعُ السَّادِسُ وَهُوَ الْأَجْنَبِيَّاتُ الْحَرَائِرُ فَلَا يَحِلُّ النَّظَرُ لِلْأَجْنَبِيِّ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ الْحُرَّةِ إلَى سَائِرِ بَدَنِهَا إلَّا الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] إلَّا أَنَّ النَّظَرَ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَهِيَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ رُخِّصَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] وَالْمُرَادُ مِنْ الزِّينَةِ مَوَاضِعُهَا وَمَوَاضِعُ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ فَالْكُحْلُ زِينَةُ الْوَجْهِ وَالْخَاتَمُ زِينَةُ الْكَفِّ وَلِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ وَلَا يُمْكِنُهَا

ذَلِكَ عَادَةً إلَّا بِكَشْفِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ فَيَحِلُّ لَهَا الْكَشْفُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى الْقَدَمَيْنِ أَيْضًا. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] الْقَلْبُ وَالْفَتْخَةُ وَهِيَ خَاتَمُ أُصْبُعِ الرَّجُلِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النَّظَرِ إلَى الْقَدَمَيْنِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنْ إبْدَاءِ الزِّينَةِ وَاسْتَثْنَى مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَالْقَدَمَانِ ظَاهِرَتَانِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَظْهَرَانِ عِنْدَ الْمَشْيِ؟ فَكَانَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْ الْحَظْرِ فَيُبَاحُ إبْدَاؤُهُمَا (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ {إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] أَنَّهُ الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَرُوِيَ عَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ الْكَفُّ وَالْوَجْهُ فَيَبْقَى مَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى عَلَى ظَاهِرِ النَّهْيِ وَلِأَنَّ إبَاحَةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَكَفَّيْهَا لِلْحَاجَةِ إلَى كَشْفِهَا فِي الْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ وَلَا حَاجَةَ إلَى كَشْفِ الْقَدَمَيْنِ فَلَا يُبَاحُ النَّظَرُ إلَيْهِمَا ثُمَّ إنَّمَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ فَأَمَّا عَنْ شَهْوَةٍ فَلَا يَحِلُّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ» وَلَيْسَ زِنَا الْعَيْنَيْنِ إلَّا النَّظَرَ عَنْ شَهْوَةٍ وَلِأَنَّ النَّظَرَ عَنْ شَهْوَةٍ سَبَبُ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ فَيَكُونُ حَرَامًا إلَّا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ بِأَنْ دُعِيَ إلَى شَهَادَةٍ أَوْ كَانَ حَاكِمًا فَأَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا لِيُجِيزَ إقْرَارَهَا عَلَيْهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا. وَإِنْ كَانَ لَوْ نَظَرَ إلَيْهَا لَاشْتَهَى أَوْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحُرُمَاتِ قَدْ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ خَصَّ النَّظَرَ إلَى عَيْنِ الْفَرْجِ لِمَنْ قَصَدَ إقَامَةَ حِسْبَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ فِي الْحُرْمَةِ فَوْقَ النَّظَرِ إلَى الْوَجْهِ وَمَعَ ذَلِكَ سَقَطَتْ حُرْمَتُهُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ فَهَذَا أَوْلَى وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا وَإِنْ كَانَ عَنْ شَهْوَةٍ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ تَقْدِيمِ النَّظَرِ أَدَلُّ عَلَى الْأُلْفَةِ وَالْمُوَافَقَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى تَحْصِيلِ الْمَقَاصِدِ عَلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً اذْهَبْ فَانْظُرْ إلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» دَعَاهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى النَّظَرِ مُطْلَقًا وَعَلَّلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى الْأُلْفَةِ وَالْمُوَافَقَةِ. (وَأَمَّا) الْمَرْأَةُ فَلَا يَحِلُّ لَهَا النَّظَرُ مِنْ الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ وَلَا بَأْسَ أَنْ تَنْظُرَ إلَى مَا سِوَى ذَلِكَ إذَا كَانَتْ تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا وَالْأَفْضَلُ لِلشَّابِّ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْ وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَكَذَا الشَّابَّةُ لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ حُدُوثِ الشَّهْوَةِ وَالْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ يُؤَيِّدُهُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] أَنَّهُ الرِّدَاءُ وَالثِّيَابُ فَكَانَ غَضُّ الْبَصَرِ وَتَرْكُ النَّظَرِ أَزْكَى وَأَطْهَرَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30] وَرُوِيَ «أَنَّ أَعْمَيَيْنِ دَخَلَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَأُخْرَى فَقَالَ لَهُمَا قُومَا فَقَالَتَا إنَّهُمَا أَعْمَيَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ لَهُمَا أَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا» إلَّا إذَا لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الشَّهْوَةِ بِأَنْ كَانَا شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ لِعَدَمِ احْتِمَالِ حُدُوثِ الشَّهْوَةِ فِيهِمَا. وَالْعَبْدُ فِيمَا يَنْظُرُ إلَى مَوْلَاتِهِ كَالْحُرِّ الَّذِي لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا سَوَاءٌ وَكَذَا الْفَحْلُ وَالْخَصِيُّ وَالْعِنِّينُ وَالْمُخَنَّثُ إذَا بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ سَوَاءُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] وَإِطْلَاقُ قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] وَلِأَنَّ الرِّقَّ وَالْخِصَاءَ لَا يُعْدِمَانِ الشَّهْوَةَ وَكَذَا الْعُنَّةُ وَالْخُنُوثَةُ (أَمَّا) الرِّقُّ فَظَاهِرٌ (وَأَمَّا) الْخِصَاءُ فَإِنَّ الْخَصِيَّ رَجُلٌ إلَّا أَنَّهُ مُثِّلَ بِهِ إلَى هَذَا أَشَارَتْ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَتْ إنَّهُ رَجُلٌ مُثِّلَ بِهِ أَفَتُحِلُّ لَهُ الْمُثْلَةُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى غَيْرِهِ. (وَأَمَّا) الْعُنَّةُ وَالْخُنُوثَةُ فَالْعِنِّينُ وَالْمُخَنَّثُ رَجُلَانِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ الْمَمْلُوكَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِلْمَرْأَةِ مُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] إلَى قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْحَظْرِ إبَاحَةٌ فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] يَنْصَرِفُ إلَى الْإِمَاءِ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَبِيدِ صَارَ مَعْلُومًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: 31] إذْ الْعَبْدُ مِنْ جُمْلَةِ التَّابِعِينَ مِنْ الرِّجَالِ فَكَانَ قَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] مَصْرُوفًا إلَى الْإِمَاءِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى التَّكْرَارِ فَإِنْ قِيلَ حُكْمُ الْإِمَاءِ صَارَ مَعْلُومًا بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {أَوِ التَّابِعِينَ} [النور: 31] فَالصَّرْفُ إلَيْهِنَّ يُؤَدِّي إلَى التَّكْرَارِ أَيْضًا فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسَاءِ الْحَرَائِرِ فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَعْرِيفِ حُكْمِ الْإِمَاءِ فَأَبَانَ بِقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] أَنَّ حُكْمَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فِيهِ سَوَاءٌ

وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ «كَانَ يَدْخُلُ عَلَى نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُخَنَّثٌ فَكَانُوا يَعُدُّونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ يَنْعَتُ امْرَأَةً فَقَالَ لَا أَرَى هَذَا يَعْلَمُ مَا هَهُنَا لَا يَدْخُلْ عَلَيْكُنَّ فَحَجَبُوهُ» وَكَذَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَعِنْدَهَا مُخَنَّثٌ فَأَقْبَلَ عَلَى أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ إنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ غَدًا الطَّائِفَ دَلَلْتُك عَلَى بِنْتِ غِيلَانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا أَرَى يَعْرِفُ هَذَا مَا هَهُنَا لَا يَدْخُلْنَ عَلَيْكُمْ» هَذَا إذَا بَلَغَ الْأَجْنَبِيُّ مَبْلَغَ الرِّجَالِ فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَمْ يَظْهَرْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَعْرِفُ الْعَوْرَةَ مِنْ غَيْرِ الْعَوْرَةِ فَلَا بَأْسَ لَهُنَّ مِنْ إبْدَاءِ الزِّينَةِ لَهُمْ لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] مُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] إلَّا لِمَنْ ذُكِرَ وَالطِّفْلُ فِي اللُّغَةِ الصَّبِيُّ مَا بَيْنَ أَنْ يُولَدَ إلَى أَنْ يَحْتَلِمَ وَأَمَّا الَّذِي يَعْرِفُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا وَقَرُبَ مِنْ الْحُلُمِ فَلَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُبْدِي زِينَتَهَا لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الصَّبِيِّ أُمِرَ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] إلَّا إذَا لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الشَّهْوَةِ بِأَنْ كَانَا شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ لِعَدَمِ احْتِمَالِ حُدُوثِ الشَّهْوَةِ فِيهِمَا وَرُوِيَ «أَنَّ أَعْمَيَيْنِ دَخَلَا عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ وَأُخْرَى فَقَالَ لَهُمَا قُومَا فَقَالَتَا إنَّهُمَا أَعْمَيَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ أَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا» هَذَا حُكْمُ النَّظَرِ إلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَأَمَّا حُكْمُ مَسِّ هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ فَلَا يَحِلُّ مَسُّهُمَا لِأَنَّ حِلَّ النَّظَرِ لِلضَّرُورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْمَسِّ مَعَ مَا أَنَّ الْمَسَّ فِي بَعْثِ الشَّهْوَةِ وَتَحْرِيكِهَا فَوْقَ النَّظَرِ وَإِبَاحَةُ أَدْنَى الْفِعْلَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ أَعْلَاهُمَا هَذَا إذَا كَانَ شَابَّيْنِ فَإِنْ كَانَا شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِالْمُصَافَحَةِ لِخُرُوجِ الْمُصَافَحَةِ مِنْهُمَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مُورِثَةً لِلشَّهْوَةِ لِانْعِدَامِ الشَّهْوَةِ وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَافِحُ الْعَجَائِزَ» ثُمَّ إنَّمَا يَحْرُمُ النَّظَرُ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ إلَى سَائِرِ أَعْضَائِهَا سِوَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ أَوْ الْقَدَمَيْنِ أَيْضًا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ إذَا كَانَتْ مَكْشُوفَةً فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مَسْتُورَةً بِالثَّوْبِ فَإِنْ كَانَ ثَوْبُهَا صَفِيقًا لَا يَلْتَزِقُ بِبَدَنِهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَأَمَّلَهَا وَيَتَأَمَّلَ جَسَدَهَا لِأَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ الثَّوْبُ دُونَ الْبَدَنِ وَإِنْ كَانَ ثَوْبُهَا رَقِيقًا يَصِفُ مَا تَحْتَهُ وَيَشِفُّ أَوْ كَانَ صَفِيقًا لَكِنَّهُ يَلْتَزِقُ بِبَدَنِهَا حَتَّى يَسْتَبِينَ لَهُ جَسَدُهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَبَانَ جَسَدَهَا كَانَتْ كَاسِيَةً صُورَةً عَارِيَّةً حَقِيقَة وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ اللَّهُ الْكَاسِيَاتِ الْعَارِيَّاتِ» وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ دَخَلْت عَلَيَّ أُخْتِي السَّيِّدَةُ أَسْمَاءُ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ شَامِيَّةٌ رِقَاقٌ وَهِيَ الْيَوْمَ عِنْدَكُمْ صِفَاقٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَذِهِ ثِيَابٌ تَمُجُّهَا سُورَةُ النُّورِ فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَارَتْنِي أُخْتِي فَقُلْت لَهَا مَا قُلْت فَقَالَ يَا عَائِشَةُ إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَاضَتْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَى مِنْهَا إلَّا وَجْهُهَا وَكَفَّاهَا» فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْحُرَّةَ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ مِنْهَا إلَّا إلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) النَّوْعُ السَّابِعُ وَهُوَ ذَوَاتُ الرَّحِمِ بِلَا مَحْرَمٍ فَحُكْمُهُنَّ حُكْمُ الْأَجْنَبِيَّاتِ الْحَرَائِرِ لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِغَضِّ الْبَصَرِ وَالنَّهْيِ عَنْ إبْدَاءِ زِينَتِهِنَّ إلَّا لِلْمَذْكُورِينَ فِي مَحَلِّ الِاسْتِثْنَاءِ وَذُو الرَّحِمِ بِلَا مَحْرَمٍ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْمُسْتَثْنَى فَبَقِيَتْ مَنْهِيَّةً عَنْ إبْدَاءِ الزِّينَةِ لَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الثَّانِي وَهُوَ مَا يَحِلُّ مِنْ ذَلِكَ وَيَحْرُمُ لِلرَّجُلِ مِنْ الرَّجُلِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ إلَى سَائِرِ جَسَدِهِ إلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ إلَى مَوْضِعِ الْخِتَانِ لِيَخْتِنَهُ وَيُدَاوِيَهُ بَعْدَ الْخَتْنِ وَكَذَا إذَا كَانَ بِمَوْضِعِ الْعَوْرَةِ مِنْ الرَّجُلِ قُرْحٌ أَوْ جُرْحٌ أَوْ وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى مُدَاوَاةِ الرَّجُلِ وَلَا يَنْظُرُ إلَى الرُّكْبَةِ وَلَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَى السُّرَّةِ فَالرُّكْبَةُ عَوْرَةٌ وَالسُّرَّةُ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا تَحْتَ السُّرَّةِ عَوْرَةٌ» وَالرُّكْبَةُ مَا تَحْتَهَا فَكَانَتْ عَوْرَةً إلَّا أَنَّ مَا تَحْتَ الرُّكْبَةِ صَارَ مَخْصُوصًا فَبَقِيَتْ الرُّكْبَةُ تَحْتَ الْعُمُومِ وَلِأَنَّ الرُّكْبَةَ عُضْوٌ مُرَكَّبٌ مِنْ عَظْمِ السَّاقِ وَالْفَخِذِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ تَمْيِيزُهُ وَالْفَخِذُ مِنْ الْعَوْرَةِ وَالسَّاقُ لَيْسَ مِنْ الْعَوْرَةِ فَعِنْدَ الِاشْتِبَاهِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالِاحْتِيَاطِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا بِخِلَافِ السُّرَّةِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَوْضِعِ

مَعْلُومٍ لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ إذَا اتَّزَرَ أَبْدَى سُرَّتَهُ وَلَوْ كَانَتْ عَوْرَةً لَمَا اُحْتُمِلَ مِنْهُ كَشْفُهَا هَذَا حُكْمُ النَّظَرِ. (وَأَمَّا) حُكْمُ الْمَسِّ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُصَافَحَةَ حَلَالٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «تَصَافَحُوا تَحَابُّوا» وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا لَقِيَ الْمُؤْمِنُ أَخَاهُ فَصَافَحَهُ تَنَاثَرَتْ ذُنُوبُهُ» وَلِأَنَّ النَّاسَ يَتَصَافَحُونَ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ فِي الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ فَكَانَتْ سُنَّةً مُتَوَارَثَةً وَاخْتُلِفَ فِي الْقُبْلَةِ وَالْمُعَانَقَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُقَبِّلَ فَمَ الرَّجُلِ أَوْ يَدَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ يُعَانِقَهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ (وَوَجْهُهُ) مَا رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَا قَدِمَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ الْحَبَشَةِ عَانَقَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ» وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِ النَّبِيِّ الْحِلُّ وَكَذَا رَوَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا إذَا رَجَعُوا مِنْ أَسْفَارِهِمْ كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُعَانِقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقِيلَ «أَيُقَبِّلُ بَعْضُنَا بَعْضًا فَقَالَ لَا فَقِيلَ أَيُعَانِقُ بَعْضُنَا بَعْضًا فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا فَقِيلَ أَيُصَافِحُ بَعْضُنَا بَعْضًا فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَعَمْ» وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُعَانَقَةَ إنَّمَا تُكْرَهُ إذَا كَانَتْ شَبِيهَةً بِمَا وُضِعَتْ لِلشَّهْوَةِ فِي حَالَةِ التَّجَرُّدِ فَأَمَّا إذَا قُصِدَ بِهَا الْمَبَرَّةُ وَالْإِكْرَامُ فَلَا تُكْرَهُ وَكَذَا التَّقْبِيلُ الْمَوْضُوعُ لِقَضَاءِ الْوَطَرِ وَالشَّهْوَةِ هُوَ الْمُحَرَّمُ فَإِذَا زَالَ عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ أُبِيحَ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (وَأَمَّا) الثَّالِثُ وَهُوَ بَيَانُ مَا يَحِلُّ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَحْرُمُ لِلْمَرْأَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ فَكُلُّ مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ الرَّجُلِ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَكُلُّ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، لَا يَحِلُّ لَهَا، فَتَنْظُرُ الْمَرْأَةُ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى سَائِرِ جَسَدِهَا إلَّا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ خَوْفُ الشَّهْوَةِ وَالْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ كَمَا لَيْسَ ذَلِكَ فِي نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ حَتَّى لَوْ خَافَتْ ذَلِكَ تَجْتَنِبُ عَنْ النَّظَرِ كَمَا فِي الرَّجُلِ وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا إلَى الرُّكْبَةِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِأَنْ كَانَتْ قَابِلَةً فَلَا بَأْسَ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ إلَى الْفَرْجِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ. وَكَذَا لَا بَأْسَ أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ لِمَعْرِفَةِ الْبَكَارَةِ فِي امْرَأَةِ الْعِنِّينِ وَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ عَلَى شَرْطِ الْبَكَارَةِ إذَا اخْتَصَمَا وَكَذَا إذَا كَانَ بِهَا جُرْحٌ أَوْ قُرْحٌ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحِلُّ لِلرِّجَالِ النَّظَرُ إلَيْهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ تُدَاوِيَهَا إذَا عَلِمَتْ الْمُدَاوَاةَ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ تَتَعَلَّمْ ثُمَّ تُدَاوِيهَا فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ امْرَأَةٌ تَعْلَمُ الْمُدَاوَاةَ وَلَا امْرَأَةٌ تَتَعَلَّمُ وَخِيفَ عَلَيْهَا الْهَلَاكُ أَوْ بَلَاءٌ أَوْ وَجَعٌ لَا تَحْتَمِلُهُ يُدَاوِيهَا الرَّجُلُ لَكِنْ لَا يَكْشِفُ مِنْهَا إلَّا مَوْضِعَ الْجُرْحِ وَيَغُضُّ بَصَرَهُ مَا اسْتَطَاعَ لِأَنَّ الْحُرُمَاتِ الشَّرْعِيَّةَ جَازَ أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُهَا شَرْعًا لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ كَحُرْمَةِ الْمَيِّتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ وَالْإِكْرَاهِ لَكِنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ لِأَنَّ عِلَّةَ ثُبُوتِهَا الضَّرُورَةُ وَالْحُكْمُ لَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الْعِلَّةِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ النَّظَرِ وَالْمَسِّ. (وَأَمَّا) حُكْمُ الدُّخُولِ فِي بَيْتِ الْغَيْرِ فَالدَّاخِلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ أَجْنَبِيًّا أَوْ مِنْ مَحَارِمِهِ فَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَلَا يَحِلُّ لَهُ الدُّخُولُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] قِيلَ تَسْتَأْنِسُوا أَيْ تَسْتَأْذِنُوا وَقِيلَ تُسْتَعْلَمُوا وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ لِأَنَّ الِاسْتِئْذَانَ طَلَبُ الْإِذْنِ وَالِاسْتِعْلَامَ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْإِذْنُ إعْلَامٌ وَسَوَاءً كَانَ السَّكَنُ فِي الْبَيْتِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور: 28] . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ لَيْسَ لِلسُّكَّانِ أَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً بَلْ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَمْوَالِهِمْ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يَتَّخِذُ الْبَيْتَ سِتْرًا لِنَفْسِهِ يَتَّخِذُهُ سِتْرًا لِأَمْوَالِهِ وَكَمَا يَكْرَهُ اطِّلَاعَ الْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ يَكْرَهُ اطِّلَاعَهُ عَلَى أَمْوَالِهِ وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ «مَنْ دَخَلَ بَيْتًا بِغَيْرِ إذْنٍ قَالَ لَهُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ عَصَيْتَ وَآذَيْتَ فَيَسْمَعُ صَوْتَهُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ إلَّا الثَّقَلَيْنِ فَيَصْعَدُ صَوْتُهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَتَقُولُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ أُفٍّ لِفُلَانٍ عَصَى رَبَّهُ وَأَذَى» وَإِذَا اسْتَأْذَنَ فَأُذُنَ لَهُ حَلَّ لَهُ الدُّخُولُ يَدْخُلُ ثُمَّ يُسَلِّمُ وَلَا يُقَدِّمُ التَّسْلِيمَ عَلَى الدُّخُولِ كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] وَلِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِذَا دَخَلَ يَحْتَاجُ إلَى التَّسْلِيمِ ثَانِيًا وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بِالدُّخُولِ وَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ فَلْيَرْجِعْ وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَقْعُدَ عَلَى الْبَابِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور: 28] وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ «الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ مَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِنَّ فَلْيَرْجِعْ أَمَّا الْأَوَّلُ فَيَسْمَعُ الْحَيُّ وَأَمَّا الثَّانِي فَيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَمَّا

الثَّالِثُ فَإِنْ شَاءُوا أَذِنُوا وَإِنْ شَاءُوا رَدُّوا» فَإِذَا اسْتَأْذَنَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ وَلَا يَقْعُدَ عَلَى الْبَابِ لِيَنْتَظِرَ لِأَنَّ لِلنَّاسِ حَاجَاتٍ وَأَشْغَالًا فِي الْمَنَازِلِ فَلَوْ قَعَدَ عَلَى الْبَابِ وَانْتَظَرَ لَضَاقَ ذَرْعُهُمْ وَشَغَلَ قُلُوبَهُمْ وَلَعَلَّ لَا تَلْتَئِمُ حَاجَاتُهُمْ فَكَانَ الرُّجُوعُ خَيْرًا لَهُ مِنْ الْقُعُودِ وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28] هَذَا إذَا كَانَ الدُّخُولُ لِلزِّيَارَةِ وَنَحْوِهَا فَأَمَّا إذَا كَانَ الدُّخُولُ لِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِأَنْ سَمِعَ فِي دَارٍ صَوْتَ الْمَزَامِيرِ وَالْمَعَازِفِ فَلْيَدْخُلْ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ لِأَنَّ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ فَلَوْ شُرِطَ الْإِذْنُ لَتَعَذَّرَ التَّغْيِيرُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ مِنْ مَحَارِمِهِ فَلَا يَدْخُلُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لِعُمُومِ النَّصِّ الَّذِي تَلَوْنَا وَلَوْ دَخَلَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَرُبَّمَا كَانَتْ مَكْشُوفَةَ الْعَوْرَةِ فَيَقَعُ بَصَرُهُ عَلَيْهَا فَيَكْرَهَانِ ذَلِكَ وَهَكَذَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَالَ أَنَا أَخْدُمُ أُمِّي وَأُفْرِشُهَا أَلَا أَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعَمْ فَسَأَلَهُ ثَلَاثًا فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَسُرُّك أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ فَقَالَ لَا قَالَ اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا» وَكَذَا رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي؟ فَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنْ لَمْ تَسْتَأْذِنْ رَأَيْتَ مَا يَسُوءُكَ إلَّا أَنَّ الْأَمْرَ فِي الِاسْتِئْذَانِ عَلَى الْمَحَارِمِ أَيْسَرُ وَأَسْهَلُ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مُطْلَقُ النَّظَرِ إلَى مَوْضِعِ الزِّينَةِ مِنْهَا شَرْعًا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ. (وَأَمَّا) حُكْمُ الْمَمَالِيكِ وَالصِّبْيَانِ أَمَّا الْمَمْلُوكُ فَيَدْخُلُ فِي بَيْتِ سَيِّدِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ؛ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَعِنْدَ الظُّهْرِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} [النور: 58] إلَى قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58] وَلِأَنَّ هَذِهِ أَوْقَاتُ التَّجَرُّدِ وَظُهُورِ الْعَوْرَةِ فِي الْعَادَةِ (أَمَّا) قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَوَقْتُ الْخُرُوجِ مِنْ ثِيَابِ النَّوْمِ وَوَقْتُ الظَّهِيرَةِ وَقْتُ وَضْعِ الثِّيَابِ لِلْقَيْلُولَةِ وَأَمَّا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَوَقْتُ وَضْعِ ثِيَابِ النَّهَارِ لِلنَّوْمِ وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْعَوْرَاتِ بَعْدَهَا تَكُونُ مَسْتُورَةً عَادَةً. وَالْعَبْدُ وَالْأَمَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَسَوَاءً كَانَ الْمَمْلُوكُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ يَعْرِفُ الْعَوْرَةَ مِنْ غَيْرِ الْعَوْرَةِ لِأَنَّ هَذِهِ أَوْقَاتِ غُرَّةٍ وَسَاعَاتِ غَفْلَةٍ فَرُبَّمَا يَكُونُ عَلَى حَالَةٍ يَكْرَهُ أَنْ يَرَاهُ أَحَدٌ عَلَيْهَا وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّمْيِيزِ وَيَكُونُ الْخِطَابُ فِي الصِّغَارِ لِلسَّادَاتِ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ كَمَا فِي الْآبَاءِ مَعَ الْأَبْنَاءِ الصِّغَارِ (وَأَمَّا) الصِّبْيَانُ فَإِنْ كَانَ الصَّغِيرُ مِمَّنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا فَيَدْخُلُ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّمْيِيزِ بِأَنْ قَرُبَ مِنْ الْبُلُوغِ يَمْنَعُهُ الْأَبُ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ تَأْدِيبًا وَتَعْلِيمًا لِأُمُورِ الدِّينِ كَالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغَ سَبْعًا وَضَرَبَهُ عَلَيْهَا إذَا بَلَغَ عَشْرًا وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ الْبَيْتُ مَسْكُونًا بِأَنْ كَانَ لَهُ سَاكِنٌ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَالْخَانَاتِ وَالرِّبَاطَاتِ الَّتِي تَكُونُ لِلْمَارَّةِ وَالْخَرِبَاتِ الَّتِي تُقْضَى فِيهَا حَاجَةُ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لِقَوْلِهِ سُبْحَانِهِ وَتَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29] أَيْ مَنْفَعَةٌ لَكُمْ وَهِيَ مَنْفَعَةُ دَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فِي الْخَانَاتِ وَالرِّبَاطَاتِ وَمَنْفَعَةُ قَضَاءِ الْحَاجَةِ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ فِي الْخَرِبَاتِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَرُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ «لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الِاسْتِئْذَانِ قَالَ سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِالْبُيُوتِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ لَيْسَ فِيهَا سَاكِنٌ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ قَوْلَهُ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29] » وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الدُّخُولِ. (وَأَمَّا) حُكْمُ مَا بَعْدَ الدُّخُولِ وَهُوَ الْخَلْوَةُ فَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ أَوْ ذَاتُ رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا لِأَنَّ فِيهِ خَوْفَ الْفِتْنَةِ وَالْوُقُوعَ فِي الْحَرَامِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّ ثَالِثُهُمَا الشَّيْطَانَ» وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَلَا بَأْسَ بِالْخَلْوَةِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَفْعَلَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ مَا خَلَوْت بِامْرَأَةٍ قَطُّ مَخَافَةَ أَنْ أَدْخُلَ فِي نَهْيِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَيُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصِلَ شَعْرَ غَيْرِهَا مِنْ بَنِي آدَمَ بِشَعْرِهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ» وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُكَرَّمٌ وَالِانْتِفَاعُ بِالْجُزْءِ الْمُنْفَصِلِ مِنْهُ إهَانَةٌ لَهُ وَلِهَذَا كُرِهَ بَيْعُهُ وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ مِنْ شَعْرِ الْبَهِيمَةِ وَصُوفِهَا لِأَنَّهُ

انْتِفَاعٌ بِطَرِيقِ التَّزَيُّنِ بِمَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَلِهَذَا احْتَمَلَ الِاسْتِعْمَالُ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ فَكَذَا فِي التَّزَيُّنِ. وَلَا بَأْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْزِلَ عَنْ أَمَتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهَا (وَأَمَّا) الْمَنْكُوحَةُ فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً يُكْرَهُ لَهُ الْعَزْلُ مِنْ غَيْرِ إذْنِهَا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ لَهَا فِي الْوَلَدِ حَقًّا وَفِي الْعَزْلِ فَوَّتَ الْوَلَدَ وَلَا يَجُوزُ تَفْوِيتُ حَقِّ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ فَإِذَا رَضِيَتْ جَازَ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِذْنِ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ الْإِذْنَ بِذَلِكَ إلَى الْمَوْلَى أَمْ إلَيْهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْإِذْنُ فِيهَا إلَى مَوْلَاهَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إلَيْهَا (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ لَهَا حَقًّا فِي قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَالْعَزْلُ يُوجِبُ نُقْصَانًا فِيهِ وَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي الْحُرَّةِ لِمَكَانِ خَوْفِ فَوْتِ الْوَلَدِ الَّذِي لَهَا فِيهِ حَقٌّ وَالْحَقُّ هَهُنَا فِي الْوَلَدِ لِلْمَوْلَى لَا لِلْأَمَةِ وَقَوْلُهُمَا فِيهِ نُقْصَانُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ فَنَعَمْ لَكِنَّ حَقَّهَا فِي أَصْلِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لَا فِي وَصْفِ الْكَمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ الرِّجَالِ مَنْ لَا مَاءَ لَهُ وَهُوَ يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ وَلَا يَكُونُ لَهَا حَقُّ الْخُصُومَةِ دَلَّ أَنَّ حَقَّهَا فِي أَصْلِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لَا فِي وَصْفِ الْكَمَالِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ أَسْأَلُك بِحَقِّ أَنْبِيَائِك وَرُسُلِك وَبِحَقِّ فُلَانٍ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ وَكَذَا يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ أَسْأَلُك بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِوُرُودِ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَا رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِك وَبِاسْمِك الْأَعْظَمِ وَجَدِّك الْأَعْلَى وَكَلِمَاتِك التَّامَّةِ» (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا اللَّفْظِ يُوهِمُ التَّشْبِيهَ لِأَنَّ الْعَرْشَ خَلْقٌ مِنْ خَلَائِقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَلَّ وَعَلَا فَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ عِزَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَعْقُودًا بِهِ وَظَاهِرُ الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ فِي حَدِّ الْآحَادِ إذَا كَانَ مُوهِمًا لِلتَّشْبِيهِ فَالْكَفُّ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ أَسْلَمُ. وَيُكْرَهُ حَمْلُ الْخِرْقَةِ لِمَسْحِ الْعِرْقِ وَالِامْتِخَاطِ تَرَفُّعًا بِهَا وَتَكَبُّرًا لِأَنَّ التَّكَبُّرَ مِنْ الْمَخْلُوقِ مَذْمُومٌ وَكَذَا هُوَ تَشْبِيهٌ بِزِيِّ الْعَجَمِ وَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إيَّاكُمْ وَزِيَّ الْعَجَمِ فَأَمَّا الْحَاجَةُ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْمَلْ لَاحْتَاجَ إلَى الْأَخْذِ بِالْكَمِّ وَالذَّيْلِ وَفِيهِ إفْسَادُ ثَوْبِهِ. وَلَا بَأْسَ بِرَبْطِ الْخَيْطِ فِي الْأُصْبُعِ أَوْ الْخَاتَمِ لِلْحَاجَةِ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِعَانَةً عَلَى قَضَاءِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِ بِالتَّذْكِيرِ وَدَفْعِ النِّسْيَانِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ بِذَلِكَ. وَيُكْرَهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِالْفَرْجِ فِي الْخَلَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا أَتَيْتُمْ الْغَائِطَ فَعَظِّمُوا قِبْلَةَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَلَا تَسْتَقْبِلُوهَا وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» وَهَذَا بِالْمَدِينَةِ. (وَأَمَّا) الِاسْتِدْبَارُ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ يُكْرَهُ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُكْرَهُ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ «رَأَى النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مُسْتَقْبِلَ الشَّامَ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ» وَلِأَنَّ فَرْجَهُ لَا يُوَازِي الْقِبْلَةَ حَالَةَ الِاسْتِدْبَارِ وَإِنَّمَا يُوَازِي الْأَرْضَ بِخِلَافِ حَالَةِ الِاسْتِقْبَالِ هَذَا إذَا كَانَ فِي الْفَضَاءِ فَإِنْ كَانَ فِي الْبُيُوتِ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ لَا بَأْسَ بِالِاسْتِقْبَالِ فِي الْبُيُوتِ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إنَّمَا ذَلِكَ فِي الْفَضَاءِ (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْفَضَاءِ وَالْبُيُوتِ وَالْعَمَلُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَلِأَنَّ الْفَارِقَ بَيْنَ الْفَضَاءِ وَبَيْنَ الْبُيُوتِ إنْ كَانَ وُجُودُ الْحَائِلِ مِنْ الْجِدَارِ وَنَحْوِهِ فَقَدْ وُجِدَ الْحَائِلُ فِي الْفَضَاءِ وَهُوَ الْجِبَالُ وَغَيْرُهَا وَلَمْ يَمْنَعْ الْكَرَاهَةَ فَكَذَا هَذَا. وَيُكْرَهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَةُ الْمَسْجِدِ إلَى مُتَوَضَّأٍ أَوْ مَخْرَجٍ أَوْ حَمَّامٍ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ تَعْظِيمِ الْمَسْجِدِ وَأَمَّا مَسْجِدُ الْبَيْتِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي عَيَّنَهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ لِلصَّلَاةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْجِدٍ حَقِيقَةً فَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ. وَتُكْرَهُ التَّصَاوِيرُ فِي الْبُيُوتِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ سَيِّدِنَا جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ أَوْ صُورَةٌ» وَلِأَنَّ إمْسَاكَهَا تَشَبُّهٌ بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ إلَّا إذَا كَانَتْ عَلَى الْبُسُطِ أَوْ الْوَسَائِدِ الصِّغَارِ الَّتِي تُلْقَى عَلَى الْأَرْضِ لِيُجْلَسَ عَلَيْهَا فَلَا تُكْرَهُ لِأَنَّ دَوْسَهَا بِالْأَرْجُلِ إهَانَةٌ لَهَا فَإِمْسَاكُهَا فِي مَوْضِعِ الْإِهَانَةِ لَا يَكُونُ تَشَبُّهًا بِعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ إلَّا أَنْ يَسْجُدَ عَلَيْهَا فَيُكْرَهُ لِحُصُولِ مَعْنَى التَّشَبُّهِ وَيُكْرَهُ عَلَى السُّتُورِ وَعَلَى الْأُزُرِ الْمَضْرُوبَةِ عَلَى الْحَائِطِ وَعَلَى الْوَسَائِدِ الْكِبَارِ وَعَلَى السَّقْفِ لَمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهَا

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا رَأْسٌ فَلَا بَأْسَ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ صُورَةً بَلْ تَكُونُ نَقْشًا فَإِنْ قَطَعَ رَأْسَهُ بِأَنْ خَاطَ عَلَى عُنُقِهِ خَيْطًا فَذَاكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهَا صُورَةً بَلْ ازْدَادَتْ حِلْيَةً كَالطَّوْقِ لِذَوَاتِ الْأَطْوَاقِ مِنْ الطُّيُورِ ثُمَّ الْمَكْرُوهُ صُورَةُ ذِي الرُّوحِ فَأَمَّا صُورَةُ مَا لَا رُوحَ لَهُ مِنْ الْأَشْجَارِ وَالْقَنَادِيلِ وَنَحْوِهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَيُكْرَهُ التَّعْشِيرُ وَالنَّقْطُ فِي الْمُصْحَفِ لِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جَرِّدُوا مَصَاحِفَكُمْ وَذَلِكَ فِي تَرْكِ التَّعْشِيرِ وَالنَّقْطِ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى الْخَلَلِ فِي تَحَفُّظِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ يَتَّكِلُ عَلَيْهِ فَلَا يَجْتَهِدُ فِي التَّحَفُّظَ بَلْ يَتَكَاسَلُ لَكِنْ قِيلَ هَذَا فِي بِلَادِهِمْ فَأَمَّا فِي بِلَادِ الْعَجَمِ فَلَا يُكْرَهُ لِأَنَّ الْعَجَمَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ بِدُونِهِ وَلِهَذَا جَرَى التَّعَارُفُ بِهِ فِي عَامَّةِ الْبِلَادِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ مَسْنُونًا لَا مَكْرُوهًا. وَلَا بَأْسَ بِنَقْشِ الْمَسْجِدِ بِالْجِصِّ وَالسَّاجِ وَمَاءِ الذَّهَبِ لِأَنَّ تَزْيِينَ الْمَسْجِدِ مِنْ بَابِ تَعْظِيمِهِ لَكِنْ مَعَ هَذَا تَرْكُهُ أَفْضَلُ لِأَنَّ صَرْفَ الْمَالِ إلَى الْفُقَرَاءِ أَوْلَى وَإِلَيْهِ أَشَارَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حِينَ رَأَى مَالًا يُنْقَلُ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ الْمَسَاكِينُ أَحْوَجُ مِنْ الْأَسَاطِينِ وَكَانَ لِمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَرِيدُ النَّخْلِ وَهَذَا إذَا نَقَشَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَأَمَّا مِنْ مَالِ الْمَسْجِدِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ وَلَوْ فَعَلَ الْقَيِّمُ مِنْ مَالِ الْمَسْجِدِ قِيلَ إنَّهُ يَضْمَنُ. وَلَا يَعُقُّ عَنْ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعَقِيقَةَ سُنَّةٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقَّ عَنْ سَيِّدِنَا الْحَسَنِ وَسَيِّدِنَا الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَبْشًا كَبْشًا» . (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «نَسَخَتْ الْأُضْحِيَّةُ كُلَّ دَمٍ كَانَ قَبْلَهَا وَنَسَخَ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلَّ صَوْم كَانَ قَبْلَهُ وَنَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ كَانَتْ قَبْلَهَا» وَالْعَقِيقَةُ كَانَتْ قَبْلَ الْأُضْحِيَّةِ فَصَارَتْ مَنْسُوخَةً بِهَا كَالْعَتِيرَةِ وَالْعَقِيقَةِ مَا كَانَتْ قَبْلَهَا فَرْضًا بَلْ كَانَتْ فَضْلًا وَلَيْسَ بَعْدَ نَسْخِ الْفَضْلِ إلَّا الْكَرَاهَةُ بِخِلَافِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ وَبَعْضِ الصَّدَقَاتِ الْمَنْسُوخَةِ حَيْثُ لَا يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ بِهَا بَعْدَ النَّسْخِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فَرْضًا وَانْتِسَاخِ الْفَرْضِيَّةِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ قُرْبَةً فِي نَفْسِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْعَلَ الرَّايَةَ فِي عُنُقِ عَبْدِهِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَيِّدَهُ أَمَّا الرَّايَةُ وَهِيَ الْغُلُّ فَلِأَنَّهُ شَيْءٌ أَحْدَثَتْهُ الْجَبَابِرَةُ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» فَأَمَّا التَّقْيِيدُ فَلَيْسَ بِمُحْدَثِ بَلْ كَانَ يَسْتَعْمِلُهُ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَيَّدَ عَبْدًا لَهُ يُعَلِّمُهُ تَأْوِيلَ الْقُرْآنِ وَبِهِ جَرَتْ الْعَادَةُ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ ضَرْبَ الرَّايَةِ عَلَى الْعَبْدِ لِإِبْقَاءِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ مَعَ الْأَمْنِ عَنْ الْإِبَاقِ إلَّا أَنْ لَا يَحْصُلُ بِالرَّايَةِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ إذَا رَآهُ يَمْشِي مَعَ الرَّايَةِ يَظُنُّهُ آبِقًا فَيَصْرِفُهُ عَنْ وَجْهِهِ وَيَرُدُّهُ إلَى مَوْلَاهُ فَلَا يُمْكِنهُ الِانْتِفَاعَ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ ضَرْبُ الرَّايَةِ عَلَيْهِ مُفِيدًا. وَلَا بَأْسَ بِالْحُقْنَةِ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ التَّدَاوِي وَأَنَّهُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ دَاءً إلَّا وَقَدْ خَلْقَ لَهُ دَوَاءً إلَّا السَّامَ وَالْهَرَمَ» . وَيُكْرَهُ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ وَالْأَرْبَعَةِ عَشْرٍ وَهِيَ لَعِبٌ تَسْتَعْمِلُهُ الْيَهُودُ لِأَنَّهُ قِمَارٌ أَوْ لَعِبٌ وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ (أَمَّا) الْقِمَارُ فَلِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة: 90] وَهُوَ الْقِمَارُ كَذَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا الْمَيْسِرُ الْقِمَارُ كُلُّهُ حَتَّى الْجَوْزُ الَّذِي يَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ الشِّطْرَنْجُ مَيْسِرُ الْأَعَاجِمِ وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا أَلْهَاكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ مَيْسِرٌ» (وَأَمَّا) اللَّعِبُ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّ لَعِبٍ حَرَامٌ إلَّا مُلَاعَبَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَقَوْسَهُ وَفَرَسَهُ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا أَنَا مِنْ دَدٍ وَلَا دَدٌ مِنِّي» وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ رَخَّصَ فِي اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَقَالَ لِأَنَّ فِيهِ تَشْحِيذَ الْخَاطِر وَتَذْكِيَةَ الْفَهْمِ وَالْعِلْمَ بِتَدَابِيرِ الْحَرْبِ وَمَكَايِدِهِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ فَأَشْبَهَ الرِّمَايَة وَالْفُرُوسِيَّة وَبِهَذَا لَا يَخْرُج عَنْ كَوْنِهِ قِمَارًا وَلَعِبًا وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَكَرِهَ أَبُو يُوسُفَ التَّسْلِيم عَلَى اللَّاعِبِينَ بِالشِّطْرَنْجِ تَحْقِيرًا لَهُمْ لِزَجْرِهِمْ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكْرَهْهُ أَبُو حَنِيفَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْغَلهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ فَكَانَ التَّسْلِيمُ بَعْض مَا يَمْنَعهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يُكْرَهُ. وَلَا بَأْسَ بِعِيَادَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَادَ يَهُودِيًّا فَقَالَ لَهُ قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَنَظَرَ إلَى أَبِيهِ

فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ أَجِبْ مُحَمَّدًا فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَ بِي نَسَمَةً مِنْ النَّارِ» وَلِأَنَّ عِيَادَةَ الْجَارِ قَضَاءُ حَقِّ الْجِوَارِ وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ مَعَ مَا فِي الْعِيَادَةِ مِنْ الدَّعْوَةِ إلَى الْإِيمَانِ رَجَاءَ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ يَكُونُ مَكْرُوهًا؟ . وَيُكْرَهُ الِابْتِدَاءِ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ لِأَنَّ السَّلَامَ اسْمٌ لِكُلِّ بِرٍّ وَخَيْرٍ وَلَا يَجُوزُ مِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ لِلْكَافِرِ إلَّا أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ لَا بَأْسَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ مُجَازَاةً لَهُ وَلَكِنْ لَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ وَعَلَيْك لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ الْيَهُودَ إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدُهُمْ فَإِنَّمَا يَقُولُ السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقُولُوا وَعَلَيْك» . وَلَا بَأْسَ بِدُخُولِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمَسَاجِدَ عِنْدَنَا وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالشَّافِعِيُّ لَا يَحِلُّ لَهُمْ دُخُولُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ احْتَجَّ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] وَتَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عَنْ النَّجَسِ وَاجِبٌ يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عَنْ بَعْضِ الطَّاهِرَاتِ كَالنُّخَامَةِ وَنَحْوِهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْمَسْجِدَ لَيَنْزَوِي مِنْ النُّخَامَةِ كَمَا تَنْزَوِي الْجِلْدَةُ مِنْ النَّارِ» فَعَنْ النَّجَاسَةِ أَوْلَى وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] خَصَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِالنَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِهِ فَيَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ حُرْمَةِ الدُّخُولِ بِهِ لِيَكُونَ التَّخْصِيصُ مُفِيدًا. (وَلَنَا) أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ وُفُودِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَذَا وَفْدُ ثَقِيفٍ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ «وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ» جَعَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمَسْجِدَ مَأْمَنًا وَدَعَاهُمْ إلَى دُخُولِهِ وَمَا كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِيَدْعُوَ إلَى الْحَرَامِ (وَأَمَّا) الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ نَجَسُ الِاعْتِقَادِ وَالْأَفْعَالِ لَا نَجَسُ الْأَعْيَانِ إذْ لَا نَجَاسَةَ عَلَى أَعْيَانِهِمْ حَقِيقَةً وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] نَهْيٌ عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ لَا عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة: 28] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَوْفَ الْعَيْلَةِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِمَنْعِهِمْ عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ لَا عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُمْ إذَا دَخَلُوا مَكَّةَ وَلَمْ يَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لَا يَتَحَقَّقُ خَوْفُ الْعَيْلَةِ وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ سَيِّدَنَا عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُنَادِي أَلَا لَا يَحُجُّنَّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ» فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا نَهْيٌ عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ إلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَر الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لِمَا أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ إتْيَانِ مَكَّةَ الْبَيْتُ وَالْبَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَمُسْلَمٌ بَاعَ خَمْرًا وَأَخَذَ ثَمَنَهَا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُكْرَهُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ نَصْرَانِيًّا فَلَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ بَيْعَ الْخَمْرِ مِنْ الْمُسْلِمِ بَاطِلٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَلَا يَمْلِكُ ثَمَنَهَا فَبَقِيَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَصِحُّ قَضَاءُ الدَّيْنُ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ نَصْرَانِيًّا فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ لِكَوْنِهَا مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِ فَمَلَكَ ثَمَنَهَا فَصَحَّ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. رَجُلٌ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ أَوْ طَعَامٍ وَهُنَاكَ لَعِبٌ أَوْ غِنَاءٌ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ هَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا أَنَّ هُنَاكَ ذَاكَ وَإِمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا فَإِنْ كَانَ مِنْ غَالِبِ رَأْيِهِ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّغْيِيرُ يُجِيبُ لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَى مَسْنُونَةٌ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى وَلِيمَةٍ فَلْيَأْتِهَا» وَتَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ مَفْرُوضٌ فَكَانَ فِي الْإِجَابَةِ إقَامَةُ الْفَرْضِ وَمُرَاعَاةُ السُّنَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي غَالِبِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّغْيِيرُ لَا بَأْسَ بِالْإِجَابَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ مَسْنُونَةٌ وَلَا تُتْرَكُ السُّنَّةُ لِمَعْصِيَةٍ تُوجَدُ مِنْ الْغَيْرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ تَشْيِيعُ الْجِنَازَةِ وَشُهُودُ الْمَأْتَمِ وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مَعْصِيَةٌ مِنْ النِّيَاحَةِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ كَذَا هَهُنَا. وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ الْمَدْعُوُّ إمَامًا يُقْتَدَى بِهِ بِحَيْثُ يُحْتَرَمُ وَيُحْتَشَمُ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَتَرْكُ الْإِجَابَةِ وَالْقُعُودِ عَنْهَا أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا حَتَّى ذَهَبَ فَوَجَدَ هُنَاكَ لَعِبًا أَوْ غِنَاءً فَإِنْ أَمْكَنَهُ التَّغْيِيرُ غَيَّرَ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَقَالَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْعُدَ وَيَأْكُلَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اُبْتُلِيت بِهَذَا مَرَّةً لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَلَا يُتْرَكُ لَأَجْلِ مَعْصِيَةٍ تُوجَدُ مِنْ الْغَيْرِ هَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَتَّى دَخَلَ فَإِنْ عَلِمَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ يَرْجِعْ وَلَا يَدْخُلُ وَقِيلَ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ إمَامًا يُقْتَدَى بِهِ فَإِنْ كَانَ لَا يَمْكُثُ بَلْ يَخْرُجُ لِأَنَّ فِي الْمُكْثِ اسْتِخْفَافًا بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ وَتَجْرِئَةً لِأَهْلِ الْفِسْقِ عَلَى الْفِسْقِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَصَبْرُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَحْمُولٌ عَلَى وَقْتٍ لَمْ يَصِرْ فِيهِ مُقْتَدًى بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَوْ صَارَ لَمَا صَبَرَ وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْغِنَاءِ

مَعْصِيَةٌ وَكَذَا الِاسْتِمَاعُ إلَيْهِ وَكَذَا ضَرْبُ الْقَصَبِ وَالِاسْتِمَاعُ إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمَّاهُ ابْتِلَاءً. وَيُكْرَهُ الِاحْتِكَارُ وَالْكَلَامُ فِي الِاحْتِكَارِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدِهِمَا فِي تَفْسِيرِ الِاحْتِكَارِ وَمَا يَصِيرُ بِهِ الشَّخْصُ مُحْتَكِرًا وَالثَّانِي فِي بَيَانِ حُكْمِ الِاحْتِكَارِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ طَعَامًا فِي مِصْرٍ وَيَمْتَنِعَ عَنْ بَيْعِهِ وَذَلِكَ يَضُرُّ بِالنَّاسِ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهُ مِنْ مَكَان قَرِيبٍ يَحْمِلُ طَعَامَهُ إلَى الْمِصْرِ وَذَلِكَ الْمِصْرُ صَغِيرٌ وَهَذَا يَضُرُّ بِهِ يَكُونُ مُحْتَكِرًا وَإِنْ كَانَ مِصْرًا كَبِيرًا لَا يَضُرُّ بِهِ لَا يَكُونُ مُحْتَكِرًا وَلَوْ جَلَبَ إلَى مِصْرٍ طَعَامًا مِنْ مَكَان بَعِيدٍ وَحَبَسَهُ لَا يَكُونُ احْتِكَارًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَكُونُ احْتِكَارًا لِأَنَّ كَرَاهَةَ الِاحْتِكَارِ بِالشِّرَاءِ فِي الْمِصْرِ وَالِامْتِنَاعَ عَنْ الْبَيْعِ لِمَكَانِ الْإِضْرَارِ بِالْعَامَّةِ وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ» وَهَذَا جَالِبٌ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الِاحْتِكَارِ بِحَبْسِ الْمُشْتَرَى فِي الْمِصْرِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَامَّةِ بِهِ فَيَصِيرُ ظَالِمًا بِمَنْعِ حَقِّهِمْ عَلَى مَا نَذْكُرُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الْمُشْتَرِي خَارِجَ الْمِصْرِ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ لِأَنَّهُ مَتَى اشْتَرَاهُ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ أَهْلِ الْمِصْرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الظُّلْمُ وَلَكِنْ مَعَ هَذَا الْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ وَيَبِيعَ لِأَنَّ فِي الْحَبْسِ ضَرَرًا بِالْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ ضَيَاعِهِ بِأَنْ زَرَعَ أَرْضَهُ فَأَمْسَكَ طَعَامَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِاحْتِكَارٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ أَهْلِ الْمِصْرِ لَكِنْ الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَفْعَلَ وَيَبِيعَ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ الِاحْتِكَارُ يَجْرِي فِي كُلِّ مَا يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قُوتًا كَانَ أَوْ لَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجْرِي الِاحْتِكَارُ إلَّا فِي قُوتِ النَّاسِ وَعَلَفِ الدَّوَابِّ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتِّبْنِ وَالْقَتِّ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الضَّرَرَ فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ إنَّمَا يَلْحَقُ الْعَامَّةَ بِحَبْسِ الْقُوتِ وَالْعَلَفِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الِاحْتِكَارُ إلَّا بِهِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الْكَرَاهَةَ لِمَكَانِ الْإِضْرَارِ بِالْعَامَّةِ وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالْقُوتِ وَالْعَلَفِ (وَأَمَّا) حُكْمُ الِاحْتِكَارِ فَنَقُولُ يَتَعَلَّقُ بِالِاحْتِكَارِ أَحْكَامٌ (مِنْهَا) الْحُرْمَةُ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ وَالْجَالِبُ مَرْزُوقٌ» وَلَا يَلْحَقُ اللَّعْنُ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْمُحَرَّمِ وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ» وَمِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يُلْحَقُ إلَّا بِارْتِكَابِ الْحَرَامِ وَلِأَنَّ الِاحْتِكَارَ مِنْ بَابِ الظُّلْمِ لِأَنَّ مَا بِيعَ فِي الْمِصْرِ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ فَإِذَا امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي عَنْ بَيْعِهِ عِنْدَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهِ فَقَدْ مَنَعَهُمْ حَقَّهُمْ وَمَنْعُ الْحَقِّ عَنْ الْمُسْتَحِقِّ ظُلْمٌ وَأَنَّهُ حَرَامٌ وَقَلِيلُ مُدَّةِ الْحَبْسِ وَكَثِيرُهَا سَوَاءٌ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ لِتَحَقُّقِ الظُّلْمِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يُؤْمَرَ الْمُحْتَكِرُ بِالْبَيْعِ إزَالَةً لِلظُّلْمِ لَكِنْ إنَّمَا يُؤْمَرُ بِبَيْعِ مَا فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ أَهْلِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَأَصَرَّ عَلَى الِاحْتِكَارِ وَرُفِعَ إلَى الْإِمَامِ مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَعِظُهُ وَيُهَدِّدُهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَرُفِعَ إلَيْهِ مَرَّةً ثَالِثَةً يَحْبِسْهُ وَيُعَزِّرْهُ زَجْرًا لَهُ عَنْ سُوءِ صُنْعِهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ لِأَنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْبَيْعِ فِي مَعْنَى الْحَجْرِ وَكَذَا لَا يُسَعِّرُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ» وَرُوِيَ «أَنَّ السِّعْرَ عَلَا فِي الْمَدِينَةِ وَطَلَبُوا التَّسْعِيرَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُسَعِّرْ وَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ» . (وَمِنْهَا) أَنَّهُ إذَا خَافَ الْإِمَامُ الْهَلَاكَ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ أَخَذَ الطَّعَامَ مِنْ الْمُحْتَكِرِينَ وَفَرَّقَهُ عَلَيْهِمْ فَإِذَا وَجَدُوا رَدُّوا عَلَيْهِمْ مِثْلَهُ لِأَنَّهُمْ اُضْطُرُّوا إلَيْهِ وَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى مَالِ الْغَيْرِ فِي مَخْمَصَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ بِالضَّمَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] . وَكَذَا يُكْرَهُ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ إذَا كَانَ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْمِصْرِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَلِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِالْعَامَّةِ فَيُكْرَهُ كَمَا يُكْرَهُ الِاحْتِكَارُ. وَيُكْرَهُ خَرْقُ الزِّقِّ الَّذِي فِيهِ خَمْرٌ لِمُسْلِمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَوْ خُرِقَ يَضْمَنُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُكْرَهُ وَلَا يَضْمَنُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كَسْرُ آلَاتِ الْمَلَاهِي مِنْ الْبَرْبَطِ وَالْعُودِ وَالزَّمَّارَةِ وَنَحْوِهَا وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ رَجُلٌ ابْتَلَعَ دُرَّةَ رَجُلٍ فَمَاتَ الْمُبْتَلِعُ فَإِنْ تَرَكَ مَالًا كَانَتْ قِيمَةُ الدُّرَّةِ فِي تَرِكَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ مَالًا لَا يَشُقُّ بَطْنَهُ لِأَنَّ الشَّقَّ حَرَامٌ وَحُرْمَةُ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَالِ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الدُّرَّةِ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهَا وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْقِيمَةِ فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مَالٌ فِي الدُّنْيَا قَضَى مِنْهُ وَإِلَّا فَهُوَ

مَأْخُوذٌ بِهِ فِي الْآخِرَةِ. حَامِلٌ مَاتَتْ فَاضْطَرَبَ فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ فِي أَكْبَرِ الرَّأْيِ أَنَّهُ حَيٌّ يُشَقُّ بَطْنُهَا لِأَنَّا اُبْتُلِينَا بِبَلِيَّتَيْنِ فَنَخْتَارُ أَهْوَنَهُمَا وَشَقُّ بَطْنِ الْأُمِّ الْمَيِّتَةِ أَهْوَنُ مِنْ إهْلَاكِ الْوَلَدِ الْحَيِّ. رَجُلٌ لَهُ وَرَثَةٌ صِغَارٌ فَأَرَادَ أَنْ يُوصِيَ نَظَرَ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ تَقَعُ الْكِفَايَةُ لَهُمْ بِمَا سِوَى ثُلُثِ الْوَصِيَّةِ مِنْ الْمَتْرُوكِ فَالْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ أَفْضَلُ لِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ الْجَانِبَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْكِفَايَةُ لَهُمْ إلَّا بِكُلِّ الْمَتْرُوكِ فَالْمَتْرُوكُ لَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ بِكَمْ يُوصِي الرَّجُلُ مِنْ مَالِهِ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالثُّلُثِ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ لَأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» . رَجُلٌ رَأَى رَجُلًا قَتَلَ أَبَاهُ وَادَّعَى الْقَاتِلُ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِقِصَاصٍ أَوْ رِدَّةٍ وَلَمْ يَعْلَمْ الِابْنُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَسِعَ الِابْنُ أَنْ يَقْتُلَهُ لِأَنَّهُ عَايَنَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْقِصَاصِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعَمْدُ قَوَدٌ إلَّا أَنْ يُعْفَى أَوْ يُفَادَى» وَالْقَاتِلُ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا فَلَا يُسْمَعُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ فِي السِّرِّ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ قَتَلَهُ بِقِصَاصٍ أَوْ بِرِدَّةٍ كَانَ الِابْنُ فِي سَعَةٍ مِنْ قَتْلِهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ إقْرَارٌ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ فِي الْأَصْلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَوْ لَمْ يُعَايِنْ الْقَتْلَ وَلَا أَقَرَّ بِهِ عِنْدَهُ وَلَكِنْ شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ عَلَى مُعَايَنَةِ الْقَتْلِ أَوْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ لَمْ يَسَعْهُ قَتْلُهُ حَتَّى يَقْضِيَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا فَرْقًا بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِمَا فِيهَا مِنْ تُهْمَةِ جَرِّ النَّفْعِ فَلَا تَنْدَفِعُ التُّهْمَةُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي (فَأَمَّا) الْإِقْرَارُ فَحُجَّةٌ بِنَفْسِهِ إذْ الْإِنْسَانُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَكَذَلِكَ يَحِلُّ لِمَنْ عَايَنَ الْقَتْلَ أَوْ سَمِعَ إقْرَارَهُ بِهِ أَنْ يُعِينَ الْوَلِيَّ عَلَى قَتْلِهِ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لِصَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ ظَاهِرًا وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَ الِابْنِ اثْنَانِ بِمَا يَدَّعِيه الْقَاتِلُ مِمَّا يَحِلُّ دَمُهُ مِنْ الْقَتْلِ وَالرِّدَّةِ فَإِنْ كَانَا مِمَّنْ يَقْضِي الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا لَوْ شَهِدَا عِنْدَهُ لَا يَنْبَغِي لِلِابْنِ أَنْ يُعَجِّلَ بِالْقَتْلِ لِجَوَازِ أَنْ يَتَّصِلَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِمَا فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالِامْتِنَاعُ عَنْ الْمُبَاحِ أَوْلَى مِنْ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ. وَإِنْ كَانَا مِمَّنْ لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا لَوْ شَهِدَا عِنْدَهُ كَالْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ وَالنِّسَاءُ وَحْدُهُنَّ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ قَتْلِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَتَّصِلُ بِهَا الْقَضَاءُ كَانَ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنْ مَعَ هَذَا إنْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ لِاحْتِمَالِ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا حَقِيقَةً عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ فِي الْقَذْفِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي الْقَتْلِ لِجَوَازِ أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ شَاهِدٌ آخَرُ وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي لَتَوَقَّفَ أَيْضًا فَكَانَ الِانْتِظَارُ أَفْضَلَ وَلَوْ لَمْ يَنْتَظِرْ وَاسْتَعْجَلَ فِي قَتْلِهِ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْهُ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ وَأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ بِدُونِ الشَّطْرِ الْآخَرِ. وَلَوْ عَايَنَ الْوَارِثُ رَجُلًا أَخَذَ مَالًا مِنْ أَبِيهِ أَوْ أَقَرَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَخَذَ مَالًا مِنْ أَبِيهِ وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ وَدِيعَةً لَهُ عِنْدَ أَبِيهِ أَوْ كَانَ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ اقْتَضَاهُ مِنْهُ وَسِعَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمَّا عَايَنَ أَخْذَ الْمَالِ مِنْهُ فَقَدْ عَايَنَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْأَخْذُ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي الْأَصْلِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ ضَمَانِ الْمَأْخُوذِ وَهُوَ رَدُّ عَيْنِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا وَرَدُّ بَدَلِهِ إنْ كَانَ هَالِكًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ» وَدَعْوَى الْإِيدَاعِ وَالدَّيْنِ أَمْرٌ عَارِضٌ فَلَا يُسْمَعُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْ الدَّفْعِ يُقَاتِلُهُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ» وَكَذَا إذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ وَكَذَلِكَ يَسَعُ لِمَنْ عَايَنَ ذَلِكَ أَوْ سَمِعَ إقْرَارَهُ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى الْأَخْذِ مِنْهُ لِكَوْنِهِ إعَانَةً عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ ظَاهِرًا وَلَوْ لَمْ يُعَايِن ذَلِكَ وَلَا أَقَرَّ بِهِ عِنْدَهُ وَلَكِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ عِنْدَهُ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ الَّذِي فِي يَدِ فُلَانٍ مِلْكُ وَرَثَتِهِ عَنْ أَبِيك لَا يَسَعُهُ أَخْذُهُ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ الْقَاضِي بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي فَصْلِ الْقَتْلِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) . الَّذِي ثَبَتَ حُرْمَتُهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنْهَا لُبْسُ الْحَرِيرِ الْمُصْمَتُ مِنْ الدِّيبَاجِ وَالْقَزِّ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ وَبِإِحْدَى يَدَيْهِ حَرِيرٌ وَبِالْأُخْرَى ذَهَبٌ فَقَالَ هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا» وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى سَيِّدَنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حُلَّةً فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتَنِي حُلَّةً

وَقَدْ قُلْت فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ إنَّمَا يَلْبَسُهُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنِّي لَمْ أُكْسِكْهَا لِتَلْبِسَهَا وَفِي رِوَايَةٍ إنَّمَا أَعْطَيْتُك لِتَكْسُوَ بَعْضَ نِسَائِك» فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ؟» قِيلَ نَعَمْ ثُمَّ نُسِخَ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «لَبِسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُبَّةً حَرِيرًا أَهْدَاهَا لَهُ أُكَيْدِرُ دُومَةَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنْهِيَ عَنْهُ» كَذَا قَالَ أَنَسٌ وَهَذَا فِي غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ. (وَأَمَّا) فِي حَالِ الْحَرْبِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُكْرَهُ لُبْسُ الْحَرِيرِ فِي حَالِ الْحَرْبِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ فِي حَالِ الْحَرْبِ ضَرُورَةٌ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى دَفْعِ ضَرَرِ السِّلَاحِ عَنْهُ وَالْحَرِيرُ أَدْفَعُ لَهُ وَأَهْيَبُ لِلْعَدُوِّ وَأَيْضًا فَرُخِّصَ لِلضَّرُورَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إطْلَاقُ التَّحْرِيمِ الَّذِي رَوَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا. وَمَا ذَكَرَاهُ مِنْ الضَّرُورَةِ يَنْدَفِعُ بِلُبْسِ مَا لُحْمَتُهُ حَرِيرٌ وَسَدَاهُ غَيْرُ حَرِيرٍ لِأَنَّ دَفْعَ ضَرَرِ السِّلَاحِ وَتَهَيُّبَ الْعَدُوِّ يَحْصُلُ بِهِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى لُبْسِ الْحَرِيرِ الْخَالِصِ فَلَا تَسْقُطُ الْحُرْمَةُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ فِي الْحُرْمَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ ذَكَرًا لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَدَارَ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى الذُّكُورَةِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي» إلَّا أَنَّ اللَّابِسَ إذَا كَانَ صَغِيرًا فَالْإِثْمُ عَلَى مَنْ أَلْبَسَهُ لَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ كَمَا إذَا سُقِيَ خَمْرًا فَشَرِبَهَا كَانَ الْإِثْمُ عَلَى السَّاقِي لَا عَلَيْهِ كَذَا هَهُنَا هَذَا إذَا كَانَ كُلُّهُ حَرِيرًا وَهُوَ الْمُصْمَتُ فَإِنْ كَانَتْ لُحْمَتُهُ حَرِيرًا وَسَدَاهُ غَيْرُ حَرِيرٍ لَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ فِي حَالِ الْحَرْبِ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ضَرُورَةِ دَفْعِ مَضَرَّةِ السِّلَاحِ وَتَهَيُّبِ الْعَدُوِّ فَأَمَّا فِي غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ فَمَكْرُوهٌ لِانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ وَإِنْ كَانَ سَدَاهُ حَرِيرًا وَلُحْمَتُهُ غَيْرُ حَرِيرٍ لَا يُكْرَهُ فِي حَالِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا وَهَهُنَا نُكْتَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الثَّوْبَ يَصِيرُ ثَوْبًا لِلَّحْمَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ. وَالنَّسْجُ تَرْكِيبُ اللُّحْمَةِ بِالسَّدَى فَكَانَتْ اللُّحْمَةُ كَالْوَصْفِ الْأَخِيرِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ وَهَذِهِ النُّكْتَةُ تَقْتَضِي إبَاحَةَ لُبْسِ الثِّيَابِ الْعَتَّابِيِّ وَالنُّكْتَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ نُكْتَةُ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ أَنَّ السَّدَى إذَا كَانَ حَرِيرًا وَاللُّحْمَةُ غَيْرُ حَرِيرٍ يَصِيرُ السَّدَى مَسْتُورًا بِاللُّحْمَةِ فَأَشْبَهَ الْحَشْوَ وَهَذِهِ النُّكْتَةُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُبَاحَ لُبْسُ الْعَتَّابِيِّ لِأَنَّ سَدَاهُ ظَاهِرٌ غَيْرُ مَسْتُورٍ وَالصَّحِيحُ هُوَ النُّكْتَةُ الْأُولَى لِأَنَّ رِوَايَةَ الْإِبَاحَةِ فِي لُبْسِ مُطْلَقِ ثَوْبٍ سَدَاهُ حَرِيرٌ وَلُحْمَتُهُ غَيْرُ حَرِيرٍ مَنْصُوصَةٌ فَتَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهَا فَلَا تُنَاسِبُهَا إلَّا النُّكْتَةُ الْأُولَى وَلَوْ جَعَلَ حَشْوَ الْقَبَاءِ حَرِيرًا أَوْ قَزًّا لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ مَسْتُورٌ بِالظِّهَارَةِ فَلَمْ يَحْصُلْ مَعْنَى التَّزَيُّنِ وَالتَّنَعُّمِ أَلَا يَرَى أَنَّ لَابِسَ هَذَا الثَّوْبِ لَا يُسَمَّى لَابِسَ الْحَرِيرِ وَالْقَزِّ وَلَوْ جَعَلَ الْحَرِيرَ بِطَانَةً يُكْرَهُ لِأَنَّهُ لَابِسُ الْحَرِيرِ حَقِيقَةً وَكَذَا مَعْنَى التَّنَعُّمِ حَاصِلٌ لِلتَّزَيُّنِ بِالْحَرِيرِ وَلُطْفِهِ. هَذَا إذَا كَانَ الْحَرِيرُ كَثِيرًا فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا كَأَعْلَامِ الثِّيَابِ وَالْعَمَائِمِ قَدْرَ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ فَمَا دُونَهَا لَا يُكْرَهُ وَكَذَا الْعَلَمُ الْمَنْسُوجُ بِالذَّهَبِ لِأَنَّهُ تَابِعٌ وَالْعِبْرَةُ لِلْمَتْبُوعِ أَلَا تَرَى أَنَّ لَابِسَهُ لَا يُسَمَّى لَابِسَ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَكَذَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَعَمُّمِ الْعَمَائِمِ وَلُبْسِ الثِّيَابِ الْمُعَلَّمَةِ بِهَذَا الْقَدْرِ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَكَذَا الثَّوْبُ وَالْقَلَنْسُوَةُ الَّذِي جُعِلَ عَلَى أَطْرَافِهَا حَرِيرٌ لَا يُكْرَهُ إذَا كَانَ قَدْرَ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ فَمَا دُونَهَا لِمَا قُلْنَا. وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَبِسَ فَرْوَةً وَعَلَى أَطْرَافِهَا حَرِيرٌ» وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَسَعُ ذَلِكَ فِي الْقَلَنْسُوَةِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ وَإِنَّمَا رَخَّصَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا كَانَ فِي عَرْضِ الثَّوْبِ وَذَكَرَ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُكْرَهُ تِكَّةُ الدِّيبَاجِ وَالْإِبْرَيْسَمِ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالُ الْحَرِيرِ مَقْصُودًا لَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ فَيُكْرَهُ وَإِنْ قَلَّ بِخِلَافِ الْعَلَمِ وَنَحْوِهِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ لُبْسِ الْحَرِيرِ. (فَأَمَّا) حُكْمُ التَّوَسُّدِ بِهِ وَالْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهِ فَغَيْرُ مَكْرُوهٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَكْرُوهٌ (لَهُمَا) إطْلَاقُ التَّحْرِيمِ الَّذِي رَوَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ اللُّبْسِ وَغَيْرِهِ وَلِأَنَّ مَعْنَى التَّزَيُّنِ وَالتَّنَعُّمِ كَمَا يَحْصُلُ بِاللُّبْسِ يَحْصُلُ بِالتَّوَسُّدِ وَالْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى بِسَاطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مُرْفَقَةٌ مِنْ حَرِيرٍ وَرُوِيَ أَنَّ أَنَسًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَضَرَ وَلِيمَةً فَجَلَسَ عَلَى وِسَادَةِ حَرِيرٍ عَلَيْهَا طُيُورٌ فَدَلَّ فِعْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى رُخْصَةِ الْجُلُوسِ عَلَى الْحَرِيرِ وَعَلَى الْوِسَادَةِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي عَلَيْهَا صُورَةٌ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ التَّحْرِيمِ فِي الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ اللُّبْسِ فَيَكُونُ فِعْلُ الصَّحَابِيِّ مُبَيِّنًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا مُخَالِفًا لَهُ وَالْقِيَاسُ بِاللُّبْسِ غَيْرُ

سَدِيدٍ لِأَنَّ التَّزَيُّنَ بِهَذِهِ الْجِهَاتِ دُونَ التَّزَيُّنِ بِاللُّبْسِ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ فِيهِ إهَانَةُ الْمُسْتَعْمِلِ بِخِلَافِ اللُّبْسِ فَيَبْطُلُ الِاسْتِدْلَال بِهِ. (وَأَمَّا) الْمَرْأَةُ فَيَحِلُّ لَهَا لُبْسُ الْحَرِيرِ الْمُصْمَتِ وَالدِّيبَاجُ وَالْقَزُّ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَحَلَّ هَذَا لِلْإِنَاثِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حَلَّ لَإِنَاثِهَا» . (وَمِنْهَا) الذَّهَبُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَمَعَ بَيْنَ الذَّهَبِ وَبَيْنَ الْحَرِيرِ فِي التَّحْرِيمِ عَلَى الذُّكُورِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي» فَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ التَّزَيُّنُ بِالذَّهَبِ كَالتَّخَتُّمِ وَنَحْوِهِ وَلَا يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حِلٌّ لِإِنَاثِهَا» وَرُوِيَ عَنْ «النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ اتَّخَذْت خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَدَخَلْت عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مَالَك اتَّخَذْت حُلِيَّ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَهَا؟ فَرَمَيْت ذَلِكَ وَاِتَّخَذْت خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَدَخَلْت عَلَيْهِ فَقَالَ مَالَك اتَّخَذَتْ حُلِيَّ أَهْلِ النَّارِ؟ فَاِتَّخَذْت خَاتَمًا مِنْ نُحَاسٍ فَدَخَلْت عَلَيْهِ فَقَالَ إنِّي أَجِدُ مِنْك رِيحَ الْأَصْنَامِ فَقُلْت كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اتَّخِذْهُ مِنْ الْوَرِقِ وَلَا تَزِدْ عَلَى الْمِثْقَالِ» . وَالْأَصْلُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الذَّهَبِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى التَّزَيُّنِ مَكْرُوهٌ فِي حَقِّ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ لِمَا قُلْنَا وَاسْتِعْمَالُهُ فِيمَا تَرْجِعُ مَنْفَعَتُهُ إلَى الْبَدَنِ مَكْرُوهٌ فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا حَتَّى يُكْرَهَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْأَدْهَانُ وَالتَّطَيُّبُ مِنْ مَجَامِرِ الذَّهَبِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ الَّذِي يَشْرَبُ مِنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الذَّهَبَ أَشَدُّ حُرْمَةً مِنْ الْفِضَّةِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ رَخَّصَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - التَّخَتُّمَ بِالْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ وَلَا رُخْصَةَ فِي الذَّهَبِ أَصْلًا فَكَانَ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْفِضَّةِ وَارِدًا فِي الذَّهَبِ دَلَالَةً مِنْ طَرِيقِ الْأُولَى كَتَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ مَعَ تَحْرِيمِ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَكَذَلِكَ الِاكْتِحَالُ بِمُكْحُلَةِ الذَّهَبِ أَوْ بِمِيلٍ مِنْ ذَهَبٍ مَكْرُوهٌ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ عَائِدَةٌ إلَى الْبَدَنِ فَأَشْبَهَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ. (وَأَمَّا) الْإِنَاءُ الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ فَلَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ذَكَرَهُ فِي الْمُوَطَّإِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُكْرَهُ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الذَّهَبِ حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَقَدْ حَصَلَ بِاسْتِعْمَالِ الْإِنَاءِ فَيُكْرَهُ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الذَّهَبِ الَّذِي عَلَيْهِ هُوَ تَابِعٌ لَهُ وَالْعِبْرَةُ لِلْمَتْبُوعِ دُونَ التَّابِعِ كَالثَّوْبِ الْمُعَلَّمِ وَالْجُبَّةِ الْمَكْفُوفَةِ بِالْحَرِيرِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْجُلُوسُ عَلَى السَّرِيرِ الْمُضَبَّبِ وَالْكُرْسِيِّ وَالسَّرْجِ وَاللِّجَامِ وَالرِّكَابِ وَالثُّفْرِ الْمُضَبَّبَةِ وَكَذَا الْمُصْحَفُ الْمُضَبَّبُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَكَذَا حَلْقَةُ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ مِنْ الذَّهَبِ وَلُبْسُ ثَوْبٍ فِيهِ كِتَابَةٌ بِذَهَبٍ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ. (وَأَمَّا) السَّيْفُ الْمُضَبَّبُ وَالسِّكِّينُ فَلَا بَأْسَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَلِكَ الْمِنْطَقَةُ الْمُضَبَّبَةُ لِوُرُودِ الْآثَارِ بِالرُّخْصَةِ بِذَلِكَ فِي السِّلَاحِ وَلَا بَأْسَ بِشَدِّ الْفَصِّ بِمِسْمَارِ الذَّهَبِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْفَصِّ وَالْعِبْرَةُ لِلْأَصْلِ دُونَ التَّبَعِ كَالْعَلَمِ لِلثَّوْبِ وَنَحْوِهِ. (وَأَمَّا) شَدُّ السِّنِّ الْمُتَحَرِّكِ بِالذَّهَبِ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُكْرَهُ وَلَوْ شَدَّهَا بِالْفِضَّةِ لَا يُكْرَهُ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا لَوْ جُدِعَ أَنْفُهُ فَاِتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ لَا يُكْرَهُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْأَنْفَ يَنْتُنُ بِالْفِضَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ اتِّخَاذِهِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَانَ فِيهِ ضَرُورَةٌ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ حُرْمَتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ عَرْفَجَةَ أُصِيبَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ فَاِتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ فَأَنْتَنَ فَأَمَرَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ» وَبِهَذَا الْحَدِيثِ يَحْتَجُّ مُحَمَّدٌ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ لِجَوَازِ تَضْبِيبِ السِّنِّ بِالذَّهَبِ وَلِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَشُدَّهُ بِالْفِضَّةِ فَكَذَا بِالذَّهَبِ لِأَنَّهُمَا فِي حُرْمَةِ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى السَّوَاءِ وَلِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلسِّنِّ وَالتَّبَعُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَصْلِ وَهَذَا يُوَافِقُ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَحُجَّةُ مَا ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْجَامِعِ إطْلَاقُ التَّحْرِيمِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلَا يُرَخَّصُ مُبَاشَرَةُ الْمُحَرَّمُ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِالْأَدْنَى وَهُوَ الْفِضَّةُ فَبَقِيَ الذَّهَبُ عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْفِضَّةِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِتَفَاوُتٍ بَيْنَ الْحُرْمَتَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ. وَلَوْ سَقَطَ سِنُّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَأْخُذَ سِنَّ مَيِّتٍ فَيَشُدُّهَا مَكَانَ الْأُولَى بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا يُكْرَهُ أَنْ يُعِيدَ تِلْكَ السِّنَّ السَّاقِطَةَ مَكَانَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَكِنْ يَأْخُذُ سِنَّ شَاةٍ ذَكِيَّةٍ فَيَشُدُّهَا مَكَانَهَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا بَأْسَ بِسِنِّهِ وَيُكْرَهُ سِنُّ غَيْرِهِ قَالَ وَلَا يُشْبِهُ سِنُّهُ سِنَّ مَيِّتٍ اُسْتُحْسِنَ ذَلِكَ وَبَيْنَهُمَا عِنْدِي فَصْلٌ وَلَكِنْ لَمْ يَحْضُرْنِي (وَوَجْهُ) الْفَصْلِ لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّ سِنَّ نَفْسِهِ جُزْءٌ مُنْفَصِلٌ لِلْحَالِ عَنْهُ لَكِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَصِيرَ مُتَّصِلًا فِي الثَّانِي بِأَنْ يَلْتَئِمَ فَيَشْتَدُّ

كتاب البيوع

بِنَفْسِهِ فَيَعُودُ إلَى حَالَتِهِ الْأُولَى وَإِعَادَةُ جُزْءٍ مُنْفَصِلٍ إلَى مَكَانِهِ لِيَلْتَئِمَ جَائِزٌ كَمَا إذَا قُطِعَ شَيْءٌ مِنْ عُضْوِهِ فَأَعَادَهُ إلَى مَكَانِهِ فَأَمَّا سِنُّ غَيْرِهِ فَلَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي أَنَّ اسْتِعْمَالَ جُزْءٍ مُنْفَصِلٍ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ إهَانَةٌ بِذَلِكَ الْغَيْرِ وَالْآدَمِيُّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُكَرَّمٌ وَلَا إهَانَةَ فِي اسْتِعْمَالِ جُزْءِ نَفْسِهِ فِي الْإِعَادَةِ إلَى مَكَانِهِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ السِّنَّ مِنْ الْآدَمِيِّ جُزْءٌ مِنْهُ فَإِذَا انْفَصَلَ اسْتَحَقَّ الدَّفْنَ كُلَّهُ وَالْإِعَادَةُ صَرْفٌ لَهُ عَنْ جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا تَجُوزُ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ سِنِّهِ وَسِنِّ غَيْرِهِ. (وَمِنْهَا) الْفِضَّةُ لِأَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ بِتَحْرِيمِ الذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ يَكُونُ وَارِدًا بِتَحْرِيمِ الْفِضَّةِ دَلَالَةً فَيُكْرَهُ لِلرِّجَالِ اسْتِعْمَالُهَا فِي جَمِيعِ مَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ الذَّهَبِ فِيهِ إلَّا التَّخَتُّمَ بِهِ إذَا ضُرِبَ عَلَى صِيغَةِ مَا يَلْبِسُهُ الرِّجَالُ وَلَا يَزِيدُ عَلَى الْمِثْقَالِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَذَا الْمِنْطَقَةُ وَحِلْيَةُ السَّيْفِ وَالسِّكِّينِ مِنْ الْفِضَّةِ لِمَا مَرَّ وَمَا لَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ الذَّهَبِ فِيهِ لَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ الْفِضَّةِ مِنْ طَرِيقِ الْأُولَى لِأَنَّهَا أَخَفُّ حُرْمَةً مِنْ الذَّهَبِ وَقَدْ ذَكَرْنَا جَمِيعَ ذَلِكَ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فَلَا نُعِيدُهُ. (وَأَمَّا) التَّخَتُّمُ بِمَا سِوَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالصِّفْرِ فَمَكْرُوهٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ زِيُّ أَهْلِ النَّارِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ. (وَأَمَّا) الْأَوَانِي الْمُمَوَّهَةُ بِمَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّذِي لَا يَخْلُصُ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا لَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِالسَّرْجِ وَالرِّكَابِ وَالسِّلَاحِ وَالسَّرِيرِ وَالسَّقْفِ الْمُمَوَّهِ لِأَنَّ التَّمْوِيهَ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يَخْلُصُ؟ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ الْبُيُوعِ] [بَيَانِ رُكْنِ الْبَيْعِ] (كِتَابُ الْبُيُوعِ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ رُكْنِ الْبَيْعِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ أَقْسَامِ الْبَيْعِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُكْرَهُ مِنْ الْبِيَاعَاتِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْبَيْعِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْبَيْعِ. (وَأَمَّا) رُكْنُ الْبَيْعِ: فَهُوَ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ (أَمَّا) الْقَوْلُ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ وَالْكَلَامُ فِي الْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي صِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَالثَّانِي فِي صِفَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ قَدْ يَكُونُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَقَدْ يَكُونُ بِصِيغَةِ الْحَالِ (أَمَّا) بِصِيغَةِ الْمَاضِي فَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ: بِعْتُ وَيَقُولَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، فَيَتِمَّ الرُّكْنُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ وَإِنْ كَانَتْ لِلْمَاضِي وَضْعًا، لَكِنَّهَا جُعِلَتْ إيجَابًا لِلْحَالِ فِي عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، وَالْعُرْفُ قَاضٍ عَلَى الْوَضْعِ وَكَذَا إذَا قَالَ الْبَائِعُ: خُذْ هَذَا الشَّيْءَ بِكَذَا أَوْ أَعْطَيْتُكَهُ بِكَذَا أَوْهَوْ لَكَ بِكَذَا أَوْ بَذَلْتَكَهُ بِكَذَا وَقَالَ الْمُشْتَرِي: قَبِلْتُ أَوْ أَخَذْتُ أَوْ رَضِيتُ أَوْ هَوَيْتُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَتِمُّ الرُّكْنُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ يُؤَدِّي مَعْنَى الْبَيْعِ وَهُوَ الْمُبَادَلَةُ، وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعْنَى لَا لِلصُّورَةِ. (وَأَمَّا) صِيغَةُ الْحَالِ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: أَبِيعُ مِنْكَ هَذَا الشَّيْءَ بِكَذَا وَنَوَى الْإِيجَابَ فَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، أَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي أَشْتَرِي مِنْكَ هَذَا الشَّيْءَ بِكَذَا وَنَوَى الْإِيجَابَ وَقَالَ الْبَائِعُ: أَبِيعُهُ مِنْكَ بِكَذَا، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: أَشْتَرِيهِ وَنَوَيَا الْإِيجَابَ؛ يَتِمُّ الرُّكْنُ وَيَنْعَقِدُ وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا النِّيَّةَ هَهُنَا وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ أَفْعَلُ لِلْحَالِ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا لِلِاسْتِقْبَالِ إمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ. وَلَا يَنْعَقِدُ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ بِالِاتِّفَاقِ بِأَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: أَتَبِيعُ مِنِّي هَذَا الشَّيْءَ بِكَذَا أَوْ أَبِعْتَهُ مِنِّي بِكَذَا فَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُ، لَا يَنْعَقِدُ مَا لَمْ يَقُلْ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، وَكَذَا إذَا قَالَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: اشْتَرِ مِنِّي هَذَا الشَّيْءَ بِكَذَا فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ، لَا يَنْعَقِدُ مَا لَمْ يَقُلْ الْبَائِعُ: بِعْتُ. وَهَلْ يَنْعَقِدُ بِصِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ وَهِيَ صِيغَةُ الْأَمْرِ بِأَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: بِعْ عَبْدَكَ هَذَا مِنِّي بِكَذَا فَيَقُولَ الْبَائِعُ بِعْتُ قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَلَا يَنْعَقِدُ مَا لَمْ يَقُلْ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ وَكَذَا إذَا قَالَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: اشْتَرِ مِنِّي هَذَا الشَّيْءَ بِكَذَا، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ، لَا يَنْعَقِدُ مَا لَمْ يَقُلْ الْبَائِعُ: بِعْتُ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْعَقِدُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تَصْلُحُ شَطْرَ الْعَقْدِ فِي الْجُمْلَةِ، أَلَا تَرَى أَنْ مَنْ قَالَ لِآخَرَ: تَزَوَّجْ ابْنَتِي، فَقَالَ الْمُخَاطَبُ: تَزَوَّجْتُ، أَوْ قَالَ زَوِّجْ ابْنَتَكَ مِنِّي، فَقَالَ: زَوَّجْتُ، يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ؟ فَإِذَا

فصل في شرائط ركن البيع

صَلُحَتْ هَذِهِ الصِّيغَةُ شَطْرًا فِي النِّكَاحِ صَلُحَتْ شَطْرًا فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَلَنَا أَنَّ قَوْلَهُ: بِعْ أَوْ اشْتَرِ طَلَبُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَطَلَبُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لَا يَكُونُ إيجَابًا وَقَبُولًا، فَلَمْ يُوجَدْ إلَّا أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ فَلَا يَتِمُّ الرُّكْنُ، وَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ لِكَوْنِ الِاسْتِفْهَامِ سُؤَالَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لَا إيجَابًا وَقَبُولًا، كَذَا هَذَا وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي النِّكَاحِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا فِي النِّكَاحِ بِنَصٍّ خَاصٍّ وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ أَنَّ «بِلَالًا خَطَبَ إلَى قَوْمٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنِي أَنْ أَخْطُبَ إلَيْكُمْ لَمْ أَخْطُبْ فَقَالُوا لَهُ: أَمَلَكْتَ» وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ بِلَالًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَبِلْتُ فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ هُنَاكَ بِالنَّصِّ، وَلَا نَصَّ فِي الْبَيْعِ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ مُسَاوَمَةٌ حَقِيقَةً فَلَا تَكُونُ إيجَابًا وَقَبُولًا حَقِيقَةً، بَلْ هِيَ طَلَبُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَلَا بُدَّ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مِنْ لَفْظٍ؛ آخَرَ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا. وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ عَلَى الْمُسَاوَمَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ لَا تُوجَدُ فِي النِّكَاحِ عَادَةً، فَحُمِلَتْ عَلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عَلَى أَنَّ الضَّرُورَةَ تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْقَائِلِ زَوِّجْ ابْنَتَكَ مِنِّي شَطْرَ الْعَقْدِ، فَلَوْ لَمْ تُجْعَلْ شَطْرَ الْعَقْدِ، لَتَضَرَّرَ بِهِ الْوَلِيُّ لِجَوَازِ أَنْ يُزَوِّجَ وَلَا يَقْبَلُ الْمُخَاطَبُ فَيَلْحَقَهُ الشَّيْنُ فَجُعِلَتْ شَطْرًا لِضَرُورَةِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْأَوْلِيَاءِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي بَابِ الْبَيْعِ مُنْعَدِمٌ فَبَقِيَتْ سُؤَالًا فَلَا يَتِمُّ بِهِ الرُّكْنُ مَا لَمْ يُوجَدْ الشَّطْرُ الْآخَرُ. (وَأَمَّا) صِفَةُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَهُوَ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَكُونُ لَازِمًا قَبْلَ وُجُودِ الْآخَرِ، فَأَحَدُ الشَّطْرَيْنِ بَعْدَ وُجُودِهِ لَا يَلْزَمُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّطْرِ الْآخَرِ حَتَّى إذَا وُجِدَ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، فَلِلْآخَرِ خِيَارُ الْقَبُولِ، وَلَهُ خِيَارُ الرُّجُوعِ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا عَنْ بَيْعِهِمَا» ، وَالْخِيَارُ الثَّابِتُ لَهُمَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ عَنْ بَيْعِهِمَا هُوَ خِيَارُ الْقَبُولِ، وَخِيَارُ الرُّجُوعِ؛ وَلِأَنَّ أَحَدَ الشَّطْرَيْنِ لَوْ لَزِمَ قَبْلَ وُجُودِ الْآخَرِ لَكَانَ صَاحِبُهُ مَجْبُورًا عَلَى ذَلِكَ الشَّطْرِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. (وَأَمَّا) الْمُبَادَلَةُ بِالْفِعْلِ فَهِيَ التَّعَاطِي وَيُسَمَّى هَذَا الْبَيْعُ بَيْعَ الْمُرَاوَضَةِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِالتَّعَاطِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ كَلَامُ إيجَابٍ وَقَبُولٍ، فَأَمَّا التَّعَاطِي فَلَمْ يُعْرَفْ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ بَيْعًا، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ التَّعَاطِيَ يَجُوزُ فِي الْأَشْيَاءِ الْخَسِيسَةِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ، وَرِوَايَةُ الْجَوَازِ فِي الْأَصْلِ مُطْلَقٌ عَنْ هَذَا التَّفْصِيلِ وَهِيَ الصَّحِيحَةُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ اسْمٌ لِلْمُبَادَلَةِ، وَهِيَ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ، وَحَقِيقَةُ الْمُبَادَلَةِ بِالتَّعَاطِي وَهُوَ الْأَخْذُ وَالْإِعْطَاءُ، وَإِنَّمَا قَوْلُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ دَلِيلٌ عَلَيْهِمَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وَالتِّجَارَةُ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ الشَّيْءِ لِلْغَيْرِ بِبَدَلٍ وَهُوَ تَفْسِيرُ التَّعَاطِي وَقَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] ، أَطْلَقَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - اسْمَ التِّجَارَةِ عَلَى تَبَادُلٍ لَيْسَ فِيهِ قَوْلُ الْبَيْعِ وَقَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إنَّ اللَّهَ {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] سَمَّى - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مُبَادَلَةَ الْجَنَّةِ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - تَعَالَى - اشْتِرَاءً وَبَيْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة: 111] ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَفْظُ الْبَيْعِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُبَادَلَةِ بِالتَّعَاطِي وَهُوَ الْأَخْذُ وَالْإِعْطَاءُ، فَهَذَا يُوجَدُ فِي الْأَشْيَاءِ الْخَسِيسَةِ وَالنَّفِيسَةِ جَمِيعًا، فَكَانَ التَّعَاطِي فِي كُلِّ ذَلِكَ بَيْعًا، فَكَانَ جَائِزًا. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ رُكْنِ الْبَيْع] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَتِهَا إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْبِيَاعَاتِ؛ لِأَنَّ مِنْهَا مَا يَعُمُّ الْبِيَاعَاتِ كُلَّهَا، (وَمِنْهَا) مَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، فَنَقُولُ: الْبَيْعُ فِي الْقِسْمَةِ الْأُولَى يَنْقَسِمُ: قِسْمَيْنِ قِسْمٌ يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ، وَقِسْمٌ يَرْجِعُ إلَى الْحُكْمِ. (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلَيْنِ. وَالْآخَرُ يَرْجِعُ إلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ الثَّمَنُ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ: الْبَيْعُ فِي حَقِّ الْبَدَلَيْنِ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: بَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ وَهُوَ بَيْعُ السِّلَعِ بِالسِّلَعِ، وَيُسَمَّى بَيْعَ الْمُقَايَضَةِ، وَبَيْعُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ بَيْعُ السِّلَعِ بِالْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ وَهِيَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَبَيْعُهَا بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ وَبِالْمَكِيلِ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ وَالْمَوْزُونِ الْمَوْصُوفِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ الْمَوْصُوفِ، وَبَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ وَهُوَ السَّلَمُ، وَبَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَنِ الْمُطْلَقِ بِالثَّمَنِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ الصَّرْفُ. (فَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ وَهُوَ الثَّمَنُ فَيَنْقَسِمُ فِي حَقِّ الْبَدَلِ، وَهُوَ الثَّمَنُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ: بَيْعُ الْمُسَاوَمَةِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَبِيعِ بِأَيِّ ثَمَنٍ اُتُّفِقَ

، وَبَيْعُ الْمُرَابَحَةِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَبِيعِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَزِيَادَةِ رِبْحٍ، وَبَيْعُ التَّوْلِيَةِ وَهُوَ الْمُبَادَلَةُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَبَيْعُ الِاشْتِرَاكِ وَهُوَ التَّوْلِيَةُ، لَكِنْ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ بِبَعْضِ الثَّمَنِ، وَبَيْعُ الْوَضِيعَةِ وَهُوَ الْمُبَادَلَةُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ نُقْصَانِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْحُكْمِ فَنَذْكُرُهُ فِي بَابِ حُكْمِ الْبَيْعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. وَإِذَا عَرَفْتَ أَقْسَامَ الْبِيَاعَاتِ، فَنَذْكُرُ شَرَائِطَهَا وَهِيَ أَنْوَاعٌ بَعْضُهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ، وَبَعْضُهَا شَرْطُ النَّفَاذِ وَهُوَ مَا لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِدُونِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْعَقِدُ التَّصَرُّفُ بِدُونِهِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ الصِّحَّةِ وَهُوَ مَا لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْعَقِدُ وَيَنْفُذُ بِدُونِهِ، وَبَعْضُهَا شَرْطُ اللُّزُومِ، وَهُوَ مَا لَا يَلْزَمُ الْبَيْعُ بِدُونِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْعَقِدُ وَيَنْفُذُ بِدُونِهِ (أَمَّا) شَرَائِطُ الِانْعِقَادِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، فَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْمُتَصَرِّفِ شَرْطُ انْعِقَادِ التَّصَرُّفِ وَالْأَهْلِيَّةُ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْعَقْلِ فَلَا يَثْبُتُ الِانْعِقَادُ بِدُونِهِ، فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ عِنْدَنَا، حَتَّى لَوْ بَاعَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ مَالَ نَفْسِهِ؛ يَنْعَقِدُ عِنْدَنَا مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ، وَعَلَى إجَازَةِ نَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ فَلَا تَنْعَقِدُ تَصَرُّفَاتُ الصَّبِيِّ عِنْدَهُ أَصْلَا وَكَذَا لَيْسَ بِشَرْطِ النَّفَاذِ فِي الْجُمْلَةِ، حَتَّى لَوْ تَوَكَّلَ عَنْ غَيْرِهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ، وَعِنْدَهُ لَا يَنْفُذُ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْمَأْذُونِ، وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ وَلَا لِنَفَاذِهِ حَتَّى يَنْفُذَ بَيْعُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالْإِجْمَاعِ، وَيَنْعَقِدُ بَيْعُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ إذَا بَاعَ مَالَ مَوْلَاهُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ عِنْدَنَا، وَكَذَا الْمِلْكُ أَوْ الْوِلَايَةُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ عِنْدَنَا، بَلْ هُوَ شَرْطُ النَّفَاذِ حَتَّى يَتَوَقَّفَ بَيْعُ الْفُضُولِيِّ، وَعِنْدَهُ شَرْطٌ حَتَّى لَا يَتَوَقَّفَ أَصْلًا، وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا. وَكَذَا إسْلَامُ الْبَائِعِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ وَلَا لِنَفَاذِهِ وَلَا لِصِحَّتِهِ بِالْإِجْمَاعِ، فَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَافِرِ وَشِرَاؤُهُ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إسْلَامُ الْمُشْتَرِي شَرْطُ جَوَازِ شِرَاءِ الرَّقِيقِ الْمُسْلِمِ وَالْمُصْحَفِ، حَتَّى لَا يَجُوزَ ذَلِكَ مِنْ الْكَافِرِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ فِي تَمَلُّكِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَ إذْلَالًا بِالْمُسْلِمِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ عِنْدَكُمْ، وَلَنَا عُمُومَاتُ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَبَيْنَ بَيْعِهِ مِنْ الْكَافِرِ فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ، إلَّا حَيْثُ مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ؛ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْكَافِرِ بِالشِّرَاءِ لَيْسَ إلَّا الْمِلْكُ فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَافِرَ يَرِثُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ مِنْ أَبِيهِ؟ ، وَكَذَا إذَا كَانَ لَهُ عَبْدٌ كَافِرٌ فَأَسْلَمَ بَقِيَ مِلْكُهُ فِيهِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِلْكٌ مُبْتَدَأٌ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عَرَضٌ لَا بَقَاءَ لَهُ فَدَلَّ أَنَّ الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْمُسْلِمِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ إذْلَالٌ بِالْمُسْلِمِ، قُلْنَا: الْمِلْكُ عِنْدَنَا لَا يَظْهَرُ فِيمَا فِيهِ إذْلَالٌ بِالْمُسْلِمِ، فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الِاسْتِخْدَامِ وَالْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْجَارِيَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِيمَا لَا ذُلَّ فِيهِ مِنْ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالْبَيْعِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْبَيْعِ لَيْسَ لِدَفْعِ الذُّلِّ، إذْ لَا ذُلَّ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَكِنْ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ فِعْلٍ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ لِعَدَاوَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ. وَإِذَا جَازَ شِرَاءُ الذِّمِّيِّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ، فَيَجُوزُ إعْتَاقُهُ وَتَدْبِيرُهُ وَاسْتِيلَادُهُ وَكِتَابَتُهُ؛ لِأَنَّ جَوَازَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمِلْكِ، وَقَدْ وُجِدَ إلَّا أَنَّهُ إذَا دَبَّرَهُ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إبْقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِزَالَةِ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ؛ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَتَعَيَّنَتْ الْإِزَالَةُ بِالسِّعَايَةِ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا؛ فَإِنَّهَا تَسْعَى فِي قِيمَتِهَا لِمَا قُلْنَا، وَيُوجَعُ الذِّمِّيُّ ضَرْبًا لِوَطْئِهِ الْمُسْلِمَةَ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ، فَيَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ، وَإِذَا كَاتَبَهُ لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ يَدَهُ عَنْهُ، حَتَّى لَوْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ، وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا مَلَكَ شِقْصًا فَالْحُكْمُ فِي الْبَعْضِ كَالْحُكْمِ فِي الْكُلِّ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ الْكَافِرِ شِرَاءً فَاسِدًا؛ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الرَّدِّ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْفَسَادِ وَاجِبٌ حَقًّا لِلشَّرْعِ، ثُمَّ يُجْبَرُ الْكَافِرُ عَلَى بَيْعِهِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. النُّطْقُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَلَا لِنَفَاذِهِمَا وَصِحَّتِهِمَا، فَيَجُوزُ بَيْعُ الْأَخْرَسِ وَشِرَاؤُهُ إذَا كَانَتْ الْإِشَارَةُ مَفْهُومَةً فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْإِشَارَةُ مَفْهُومَةً فِي ذَلِكَ، قَامَتْ الْإِشَارَةُ مَقَامَ عِبَارَتِهِ، هَذَا إذَا كَانَ الْخَرَسُ أَصْلِيًّا بِأَنْ وُلِدَ أَخْرَسَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ عَارِضًا بِأَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْخَرَسُ فَلَا، إلَّا إذَا دَامَ بِهِ حَتَّى وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ كَلَامِهِ وَصَارَتْ الْإِشَارَةُ مَفْهُومَةً فَيُلْحَقُ بِالْأَخْرَسِ الْأَصْلِيِّ. وَالثَّانِي الْعَدَدُ فِي الْعَاقِدِ فَلَا يَصْلُحُ الْوَاحِدُ عَاقِدًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ إلَّا الْأَبَ فِيمَا يَبِيعُ مَالَ نَفْسِهِ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ بِمِثْلِ

فصل في الشرط الذي يرجع إلى نفس العقد

قِيمَتِهِ أَوْ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ عَادَةً، أَوْ يَشْتَرِي مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ ذَلِكَ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْحُقُوقَ فِي بَابِ الْبَيْعِ تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ وَلِلْبَيْعِ حُقُوقٌ مُتَضَادَّةٌ مِثْلُ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ وَالْمُطَالَبَةِ، فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ مُسَلِّمًا وَمُتَسَلِّمًا طَالِبًا وَمُطَالَبًا، وَهَذَا مُحَالٌ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ وَكِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِحَالَةِ. وَيَصْلُحُ رَسُولًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ لَا تَلْزَمُهُ الْحُقُوقُ، فَلَا يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِحَالَةِ، وَكَدَا الْقَاضِي يَتَوَلَّى الْعَقْدَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ وَبِخِلَافِ الْوَكِيلِ فِي بَابِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ فَكَانَ سَفِيرًا مَحْضًا بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] فَيَمْلِكُهُ الْأَبُ، وَكَذَا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَبِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ عَادَةً قَدْ يَكُونُ قُرْبَانًا عَلَى وَجْهِ الْأَحْسَنِ بِحُكْمِ الْحَالِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَبَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا فِي تِلْكَ الْحَالِ؛ لِكَمَالِ شَفَقَتِهِ فَكَانَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ بِذَلِكَ قُرْبَانًا عَلَى وَجْهِ الْأَحْسَنِ، وَقَوْلُهُ يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِحَالَةِ قُلْنَا: مَمْنُوعٌ، فَإِنَّهُ يُجْعَلُ كَأَنَّ الصَّبِيَّ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى بِنَفْسِهِ، وَهُوَ بَالِغٌ، فَتَعَدَّدَ الْعَاقِدُ حُكْمًا، فَلَا يُؤَدِّي إلَى الِاسْتِحَالَةِ. (وَأَمَّا) الْوَصِيُّ إذَا بَاعَ مَالَ نَفْسِهِ مِنْ الصَّغِيرِ أَوْ اشْتَرَى مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَفْعٌ ظَاهِرٌ؛ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَفْعٌ ظَاهِرٌ؛ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهُ أَصْلًا مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ جَمِيعًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِحَالَةِ إلَّا أَنَّ الْأَبَ لِكَمَالِ شَفَقَتِهِ جَعَلَ شَخْصَهُ الْمُتَّحِدَ حَقِيقَةً مُتَعَدِّدًا ذَاتًا وَرَأْيًا وَعِبَارَةً، وَالْوَصِيُّ لَا يُسَاوِيهِ فِي الشَّفَقَةِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ إذَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ ظَاهِرٌ لِلْيَتِيمِ قُرْبَانُ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَحْسَنِ فَيَمْلِكُهُ بِالنَّصِّ. قَوْلُهُ لَا يُمْكِنُ إلْحَاقُ الْوَصِيِّ بِالْأَبِ لِقُصُورِ شَفَقَتِهِ، قُلْنَا: الْوَصِيُّ لَهُ شَبَهَانِ: شَبَهٌ بِالْأَبِ، وَشَبَهٌ بِالْوَكِيلِ، أَمَّا شَبَهُهُ بِالْوَكِيلِ فَلِكَوْنِهِ أَجْنَبِيًّا، وَشَبَهُهُ بِالْأَبِ لِكَوْنِهِ مَرْضِيَّ الْأَبِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَا رَضِيَ بِهِ إلَّا لِوُفُورِ شَفَقَتِهِ عَلَى الصَّغِيرِ فَأَثْبَتْنَا لَهُ الْوِلَايَةَ عِنْدَ ظُهُورِ النَّفْعِ عَمَلًا بِشَبَهِ الْأَبِ وَقَطَعْنَا وِلَايَتَهُ عِنْدَ عَدَمِهِ عَمَلًا بِشَبَهِ الْوَكِيلِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. [فَصْلٌ فِي الشَّرْط الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ مُوَافِقًا لِلْإِيجَابِ، بِأَنْ يَقْبَلَ الْمُشْتَرِي مَا أَوْجَبَهُ الْبَائِعُ وَبِمَا أَوْجَبَهُ، فَإِنْ خَالَفَهُ بِأَنْ قَبِلَ غَيْرَ مَا أَوْجَبَهُ أَوْ بَعْضَ مَا أَوْجَبَهُ أَوْ بِغَيْرِ مَا أَوْجَبَهُ أَوْ بِبَعْضِ مَا أَوْجَبَهُ؛ لَا يَنْعَقِدُ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ مُبْتَدَإٍ مُوَافِقٍ بَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي الْعَبْدِ فَقَبِلَ فِي الْجَارِيَةِ، لَا يَنْعَقِدُ، وَكَذَا إذَا أَوْجَبَ فِي الْعَبْدَيْنِ فَقَبِلَ فِي أَحَدِهِمَا بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ الْمُشْتَرِي: قَبِلْتُ فِي هَذَا الْعَبْدِ وَأَشَارَ إلَى وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ فِي أَحَدِهِمَا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ، وَالصَّفْقَةُ إذَا وَقَعَتْ مُجْتَمِعَةً مِنْ الْبَائِعِ لَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي تَفْرِيقَهَا قَبْلَ التَّمَامِ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ ضَمَّ الرَّدِيءِ إلَى الْجَيِّدِ تَرْوِيجًا لِلرَّدِيءِ بِوَاسِطَةِ الْجَيِّدِ فَلَوْ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي وِلَايَةُ التَّفْرِيقِ لَقَبِلَ فِي الْجَيِّدِ دُونَ الرَّدِيءِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْبَائِعُ، وَالضَّرَرُ مَنْفِيٌّ؛ وَلِأَنَّ غَرَضَ التَّرْوِيجِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْقَبُولِ فِيهِمَا جَمِيعًا فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِالْقَبُولِ فِي أَحَدِهِمَا؛ وَلِأَنَّ الْقَبُولَ فِي أَحَدِهِمَا يَكُونُ إعْرَاضًا عَنْ الْجَوَابِ بِمَنْزِلَةِ الْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ، وَكَذَا لَوْ أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي كُلِّ الْعَبْدِ، فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي فِي نِصْفِهِ، لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَتَضَرَّرُ بِالتَّفْرِيقِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ عَيْبُ الشَّرِكَةِ، ثُمَّ إذَا قَبِلَ الْمُشْتَرِي بَعْضَ مَا أَوْجَبَهُ الْبَائِعُ؛ كَانَ هَذَا شِرَاءً مُبْتَدَأً مِنْ الْبَائِعِ، فَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ الْإِيجَابُ مِنْ الْبَائِعِ فِي الْمَجْلِسِ فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ لِلْبَعْضِ الَّذِي قَبِلَهُ الْمُشْتَرِي حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ الثَّمَنِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا بَيَانُهُ إذَا قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَيْنِ الْكُرَّيْنِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي فِي أَحَدِهِمَا وَأَوْجَبَ الْبَائِعُ؛ جَازَ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَنْقَسِمُ عَلَى الْمَبِيعِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ، فَكَانَ بَيْعُ الْكُرَّيْنِ بِعِشْرِينَ بَيْعَ كُلِّ كُرٍّ بِعَشَرَةٍ لِتَمَاثُلِ قُفْزَانِ الْكُرَّيْنِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي فِي أَحَدِهِمَا، وَبَيَّنَ ثَمَنَهُ فَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُ يَجُوزُ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُبَيِّنْ ثَمَنَهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ ابْتَدَأَ الْبَائِعُ الْإِيجَابَ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكُرَّيْنِ وَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَمَاثِلَةِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الثَّمَنَ فِي الْمِثْلِيَّاتِ يَنْقَسِمُ عَلَى الْمَبِيعِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَكَانَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مَعْلُومًا، وَفِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ لَا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَى الْمَبِيعِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ لِانْعِدَامِ تَمَاثُلِ الْأَجْزَاءِ وَإِذَا لَمْ

فصل في الشرط الذي يرجع إلى مكان العقد

يَنْقَسِمْ بَقِيَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الثَّمَنِ مَجْهُولَةً، وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ، هَذَا إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الْبَائِعُ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَمَّا إذَا بَيَّنَ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ هَذَا بِأَلْفٍ، وَهَذَا بِخَمْسِمِائَةٍ، فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ؛ جَازَ الْبَيْعُ لِانْعِدَامِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي، بَلْ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي فَرَّقَ الصَّفْقَةَ حَيْثُ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا عَلَى حِدَةٍ وَعُلِمَ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ لَهُ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ فَهُوَ ضَرَرٌ مَرْضِيٌّ بِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَدْفُوعٍ، وَكَذَا إذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي شَيْءٍ بِأَلْفٍ فَقَبِلَ فِيهِ بِخَمْسِمِائَةٍ لَا يَنْعَقِدُ، وَكَذَا لَوْ أَوْجَبَ بِجِنْسِ ثَمَنٍ فَقَبِلَ بِجِنْسٍ آخَرَ، إلَّا إذَا رَضِيَ الْبَائِعُ بِهِ فِي الْمَجْلِسِ وَعَلَى هَذَا إذَا خَاطَبَ الْبَائِعُ رَجُلَيْنِ فَقَالَ: بِعْتُكُمَا هَذَا الْعَبْدَ، أَوْ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ، فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِيجَابَ فِي الْعَبْدَيْنِ أَوْ عَبْدٍ وَاحِدٍ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَلَا يَصْلُحُ جَوَابُ أَحَدِهِمَا جَوَابًا لِلْإِيجَابِ، وَكَذَا لَوْ خَاطَبَ الْمُشْتَرِي رَجُلَيْنِ فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ مِنْكُمَا هَذَا الْعَبْدَ بِكَذَا، فَأَوْجَبَ فِي أَحَدِهِمَا لَمْ يَنْعَقِدْ لِمَا قُلْنَا. [فَصْلٌ فِي الشَّرْط الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ] (فَصْلٌ) : فِي الشَّرْطِ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ فَوَاحِدٌ وَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ. بِأَنْ كَانَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لَا يَنْعَقِدْ حَتَّى لَوْ أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ فَقَامَ الْآخَرُ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْقَبُولِ أَوْ اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ آخَرَ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ ثُمَّ قَبِلَ لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ عَنْ الْآخَرِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا انْعَدَمَ فِي الثَّانِي مِنْ زَمَانِ وُجُودِهِ فَوُجِدَ الثَّانِي، وَالْأَوَّلُ مُنْعَدِمٌ فَلَا يَنْتَظِمُ الرُّكْنُ إلَّا أَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى انْسِدَادِ بَابِ الْبَيْعِ فَتَوَقَّفَ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ حُكْمًا وَجُعِلَ الْمَجْلِسُ جَامِعًا لِلشَّطْرَيْنِ مَعَ تَفَرُّقِهِمَا لِلضَّرُورَةِ، وَحَقُّ الضَّرُورَةِ يَصِيرُ مَقْضِيًّا عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، فَإِذَا اخْتَلَفَ لَا يَتَوَقَّفُ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْفَوْرُ مَعَ ذَلِكَ شَرْطٌ لَا يَنْعَقِدُ الرُّكْنُ بِدُونِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ عَنْ الْآخَرِ، وَالتَّأْخِيرُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَأَنَّهَا تَنْدَفِعُ بِالْفَوْرِ. (وَلَنَا) أَنَّ فِي تَرْكِ اعْتِبَارِ الْفَوْرِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ الْقَابِلَ يَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ، وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَوْرِ لَا يُمْكِنُهُ التَّأَمُّلُ، وَعَلَى هَذَا إذَا تَبَايَعَا وَهُمَا يَمْشِيَانِ أَوْ يَسِيرَانِ عَلَى دَابَّتَيْنِ أَوْ دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَحْمِلٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ خَرَجَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ مِنْهُمَا مُتَّصِلَيْنِ انْعَقَدَ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ وَسُكُوتٌ وَإِنْ قَلَّ لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ تَبَدَّلَ بِالْمَشْيِ وَالسَّيْرِ وَإِنْ قَلَّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ وَهُوَ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، أَوْ يَسِيرُ عَلَى دَابَّةٍ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا مِرَارًا يَلْزَمُهُ لِكُلِّ قِرَاءَةٍ سَجْدَةٌ؟ ، وَكَذَا لَوْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ أَوْ تَسِيرُ عَلَى دَابَّةٍ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا فَمَشَتْ أَوْ سَارَتْ؛ يَبْطُلُ خِيَارُهَا لِتَبَدُّلِ الْمَجْلِسِ وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا مُتَّصِلًا بِتَخْيِيرِ الزَّوْجِ صَحَّ اخْتِيَارُهَا؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ لَمْ يَتَبَدَّلْ فَكَذَا هَهُنَا، وَلَوْ تَبَايَعَا وَهُمَا وَاقِفَانِ انْعَقَدَ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ وَلَوْ أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا وَهُمَا وَاقِفَانِ فَسَارَ الْآخَرُ قَبْلَ الْقَبُولِ أَوْ سَارَا جَمِيعًا ثُمَّ قَبِلَ لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَارَا وَسَارَا فَقَدْ تَبَدَّلَ الْمَجْلِسُ قَبْلَ الْقَبُولِ، فَلَمْ يَجْتَمِعْ الشَّطْرَانِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ وَقَفَا فَخَيَّرَ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ سَارَ الزَّوْجُ وَهِيَ وَاقِفَةٌ فَالْخِيَارُ فِي يَدِهَا، وَلَوْ سَارَتْ هِيَ وَالزَّوْجُ وَاقِفٌ؛ بَطَلَ خِيَارُهَا، فَالْعِبْرَةُ لِمَجْلِسِهَا لَا لِمَجْلِسِ الزَّوْجِ. وَفِي بَابِ الْبَيْعِ يُعْتَبَرُ مَجْلِسُهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ لَازِمٌ، أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ، فَلَا يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ وَأَحَدُ الشَّطْرَيْنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ لَا يَلْزَمُ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ، فَاحْتُمِلَ الْبُطْلَانُ بِالْإِعْرَاضِ، وَلَوْ تَبَايَعَا وَهُمَا فِي سَفِينَةٍ؛ يَنْعَقِدُ سَوَاءٌ كَانَتْ وَاقِفَةً أَوْ جَارِيَةً، خَرَجَ الشَّطْرَانِ مُتَّصِلَيْنِ أَوْ مُنْفَصِلَيْنِ، بِخِلَافِ الْمَشْيِ عَلَى الْأَرْضِ وَالسَّيْرِ عَلَى الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ جَرَيَانَ السَّفِينَةِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ لَا بِإِجْرَائِهِ أَلَا تَرَى: أَنَّ رَاكِبَ السَّفِينَةِ لَا يَمْلِكُ، وَقْفَهَا، فَلَمْ يَكُنْ جَرَيَانُهَا مُضَافًا إلَيْهِ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ الْمَجْلِسُ فَأَشْبَهَ الْبَيْتَ، بِخِلَافِ الْمَشْيِ، وَالسَّيْرِ، أَمَّا الْمَشْيُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ، وَكَذَا سَيْرُ الدَّابَّةِ مُضَافٌ إلَيْهِ أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَوْ سَيَّرَهَا سَارَتْ، وَلَوْ، وَقَفَهَا، وَقَفَتْ فَاخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ بِسَيْرِهَا، وَلِهَذَا لَوْ كَرَّرَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي السَّفِينَةِ، وَهِيَ جَارِيَةٌ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا سَجْدَةٌ، وَاحِدَةٌ كَمَا لَوْ كَرَّرَهَا فِي بَيْتٍ، وَاحِدٍ. وَكَذَا لَوْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ فِي السَّفِينَةِ، وَهِيَ جَارِيَةٌ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ، وَالْآخَرُ غَائِبٌ فَبَلَغَهُ فَقَبِلَ لَا يَنْعَقِدُ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ عَبْدِي هَذَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ بِكَذَا فَبَلَغَهُ فَقَبِلَ، وَلَوْ قَبِلَ عَنْهُ قَابِلٌ يَنْعَقِدُ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ أَحَدَ الشَّطْرَيْنِ مِنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْآخَرِ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّطْرِ الْآخَرِ مِنْ الْعَاقِدِ الْآخَرِ فِيمَا، وَرَاءَ الْمَجْلِسِ بِالْإِجْمَاعِ، إلَّا إذَا

فصل في الشرط الذي يرجع إلى المعقود عليه

كَانَ عَنْهُ قَابِلٌ، أَوْ كَانَ بِالرِّسَالَةِ أَوْ بِالْكِتَابَةِ أَمَّا الرِّسَالَةُ فَهِيَ أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا إلَى رَجُلٍ، وَيَقُولَ لِلرَّسُولِ: إنِّي بِعْتُ عَبْدِي هَذَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ بِكَذَا، فَاذْهَبْ إلَيْهِ، وَقُلْ لَهُ: إنَّ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إلَيْكَ، وَقَالَ لِي: قُلْ لَهُ: إنِّي قَدْ بِعْتُ عَبْدِي هَذَا مِنْ فُلَانٍ بِكَذَا فَذَهَبَ الرَّسُولُ، وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ فَقَالَ الْمُشْتَرِي فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: قَبِلْتُ انْعَقَدَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ سَفِيرٌ، وَمُعَبِّرٌ عَنْ كَلَامِ الْمُرْسِلِ نَاقِلٌ كَلَامَهُ إلَى الْمُرْسَلِ إلَيْهِ فَكَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ فَأَوْجَبَ الْبَيْعَ، وَقَبِلَ الْآخَرُ فِي الْمَجْلِسِ. وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَهِيَ أَنْ يَكْتُبَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بِعْتُ عَبْدِي فُلَانًا مِنْكَ بِكَذَا فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ فَقَالَ فِي مَجْلِسِهِ: اشْتَرَيْتُ؛ لِأَنَّ خِطَابَ الْغَائِبِ كِتَابُهُ فَكَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ، وَخَاطَبَ بِالْإِيجَابِ، وَقَبِلَ الْآخَرُ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَوْ كَتَبَ شَطْرَ الْعَقْدِ ثُمَّ رَجَعَ صَحَّ رُجُوعُهُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْخِطَابِ، وَلَوْ خَاطَبَ ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ صَحَّ رُجُوعُهُ فَهَهُنَا أَوْلَى، وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا ثُمَّ رَجَعَ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالرِّسَالَةِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْمُشَافَهَةِ، وَذَا مُحْتَمِلٌ لِلرُّجُوعِ فَهَهُنَا أَوْلَى، وَسَوَاءٌ عَلِمَ الرَّسُولُ رُجُوعَ الْمُرْسِلِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَ إنْسَانًا ثُمَّ عَزَلَهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ لَا يَصِحُّ عَزْلُهُ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ يَحْكِي كَلَامَ الْمُرْسِلِ، وَيَنْقُلُهُ إلَى الْمُرْسَلِ إلَيْهِ فَكَانَ سَفِيرًا، وَمُعَبِّرًا مَحْضًا فَلَمْ يُشْتَرَطْ عِلْمُ الرَّسُولِ بِذَلِكَ. فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ عَنْ تَفْوِيضِ الْمُوَكِّلِ إلَيْهِ فَشُرِطَ عِلْمُهُ بِالْعَزْلِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ التَّعْزِيرِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، وَكَذَا هَذَا فِي الْإِجَارَةِ، وَالْكِتَابَةِ أَنَّ اتِّحَادَ الْمَجْلِسِ شَرْطٌ لِلِانْعِقَادِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ أَحَدُ الشَّطْرَيْنِ مِنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ عَلَى وُجُودِ الشَّطْرِ الْآخَرِ إذَا كَانَ غَائِبًا؛ لِأَنَّ كُلَّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ إلَّا إذَا كَانَ عَنْ الْغَائِبِ قَابِلٌ أَوْ بِالرِّسَالَةِ أَوْ بِالْكِتَابَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ. وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَهَلْ يَتَوَقَّفُ بِأَنْ يَقُولَ رَجُلٌ لِلشُّهُودِ: اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ بِكَذَا، وَبَلَغَهَا فَأَجَازَتْ أَوْ قَالَتْ امْرَأَةٌ: اشْهَدُوا أَنِّي زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ بِكَذَا فَبَلَغَهُ فَأَجَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ لَا يَتَوَقَّفُ أَيْضًا إلَّا إذَا كَانَ عَنْ الْغَائِبِ قَابِلٌ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَتَوَقَّفُ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ عَنْهُ أَحَدٌ، وَكَذَا الْفُضُولِيُّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِأَنْ قَالَ: زَوَّجْتُ فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ وَهُمَا غَائِبَانِ فَبَلَغَهُمَا فَأَجَازَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ كِتَابِ النِّكَاحِ. ، وَالْفُضُولِيُّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ إذَا بَلَغَهُمَا فَأَجَازَا لَمْ يَجُزْ بِالْإِجْمَاعِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَأَمَّا الشَّطْرُ فِي بَابِ الْخُلْعِ فَمِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ يَتَوَقَّفُ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَوْ قَالَ: خَالَعْتُ امْرَأَتِي الْغَائِبَةَ عَلَى كَذَا فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَقَبِلَتْ جَازَ. وَأَمَّا مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ بِالْإِجْمَاعِ، حَتَّى لَوْ قَالَتْ: اخْتَلَعْتُ مِنْ زَوْجِي فُلَانٍ الْغَائِبِ عَلَى كَذَا، فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ لَمْ يَجُزْ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْخُلْعَ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ يَمِينٌ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِقَبُولِ الْمَالِ فَكَانَ يَمِينًا، وَلِهَذَا لَا يُمْلَكُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَتَصِحُّ فِيهِ الْإِضَافَةُ إلَى الْوَقْتِ، وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ بِأَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ: خَالَعْتكِ غَدًا، وَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَقَدْ خَالَعْتكِ عَلَى كَذَا، وَإِذَا كَانَ يَمِينًا فَغَيْبَةُ الْمَرْأَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْيَمِينِ كَمَا فِي التَّعْلِيقِ بِدُخُولِ الدَّارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ مِنْ جَانِبِهَا، وَلَا تَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى، وَقْتٍ، وَتَمْلِكُ الرُّجُوعَ قَبْلَ إجَازَةِ الزَّوْجِ، وَإِذَا كَانَ مُعَاوَضَةً فَالشَّطْرُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ لَا يَتَوَقَّفُ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَغَيْرِهِ. وَكَذَا الشَّطْرُ فِي إعْتَاقِ الْعَبِيدِ عَلَى مَالٍ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى يَتَوَقَّفُ إذَا كَانَ الْعَبْدُ غَائِبًا، وَمِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ لَا يَتَوَقَّفُ إذَا كَانَ الْمَوْلَى غَائِبًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ جَانِبِهِ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ، وَمِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ مُعَاوَضَةٌ وَالْأَصْلُ أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا يَتَوَقَّفُ الشَّطْرُ عَلَى مَا، وَرَاءِ الْمَجْلِسِ؛ يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ، وَإِضَافَتُهُ إلَى الْوَقْتِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْكِتَابَةِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَتَوَقَّفُ الشَّطْرُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ، وَإِضَافَتُهُ إلَى الْوَقْتِ كَمَا فِي الْخُلْعِ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ، وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الشَّرْط الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَأَنْوَاعٌ (مِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَمَالَهُ خَطَرُ الْعَدَمِ كَبَيْعِ نِتَاجِ النِّتَاجِ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ وَلَدَ وَلَدِ هَذِهِ النَّاقَةِ وَكَذَا بَيْعُ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّهُ إنْ بَاعَ الْوَلَدَ فَهُوَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَإِنْ بَاعَ الْحَمْلَ فَلَهُ خَطَرُ الْمَعْدُومِ، وَكَذَا بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ لَهُ خَطَرٌ لِاحْتِمَالِ انْتِفَاخِ الضَّرْعِ. ، وَكَذَا بَيْعُ الثَّمَرِ، وَالزَّرْعِ قَبْلَ ظُهُورِهِ؛ لِأَنَّهُمَا مَعْدُومٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الطُّلُوعِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِمَا إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ التَّرْكُ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ

إلَّا إذَا صَارَ بِحَالٍ يُنْتَفَعُ بِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ أَصْلًا لَا يَنْعَقِدُ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا» ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا لَمْ تَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهَا فَلَا تَكُونُ مَالًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَهَذَا خِلَافُ الرِّوَايَةِ فَإِنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي بَابِ الْعُشْرِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الثِّمَارَ فِي أَوَّلِ مَا تَطْلُعُ، وَتَرَكَهَا بِأَمْرِ الْبَائِعِ حَتَّى أَدْرَكَتْ فَالْعُشْرُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا حِينَ مَا طَلَعَتْ لَمَا وَجَبَ عُشْرُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ بَاعَ نَخْلًا مُؤَبَّرَةً فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ» جَعْلُ الثَّمَرَةِ لِلْمُشْتَرِي بِالشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا بَدَا صَلَاحُهَا أَوْ لَا، دَلَّ أَنَّهَا مَحَلُّ الْبَيْعِ كَيْفَ مَا كَانَ، وَالْمَعْنَى فِيهِ، وَهُوَ أَنَّهُ بَاعَ ثَمَرَةً مَوْجُودَةً، وَهِيَ بِعَرَضٍ أَنْ تَصِيرَ مُنْتَفَعًا بِهَا فِي الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهَا فِي الْحَالِ فَيَجُوزُ بَيْعُهَا كَبَيْعِ جَرْوِ الْكَلْبِ عَلَى أَصْلِنَا، وَبَيْعِ الْمَهْرِ، وَالْجَحْشِ، وَالْأَرْضِ السَّبْخَةِ، وَالنَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى بَيْعِ الثِّمَارِ مُدْرَكَةٌ قَبْلَ إدْرَاكِهَا بِأَنْ بَاعَهَا ثَمَرًا، وَهِيَ بُسْرٌ أَوْ بَاعَهَا عِنَبًا، وَهِيَ حِصْرِمٌ دَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ: «أَرَأَيْتَ إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ صَاحِبِهِ؟» وَلَفْظَةُ الْمَنْعِ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ مَا، وَقَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ مَوْجُودًا؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مَنْعُ الْوُجُودِ، وَمَا يُوجَدُ مِنْ الزَّرْعِ بَعْضُهُ بَعْدَ بَعْضٍ كَالْبِطِّيخِ، وَالْبَاذِنْجَانِ فَيَجُوزُ بَيْعُ مَا ظَهَرَ مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَمْ يَظْهَرْ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا ظَهَرَ فِيهِ الْخَارِجُ الْأَوَّلُ يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ الْكُلُّ دَفْعَةً، وَاحِدَةً بَلْ عَلَى التَّعَاقُبِ بَعْضُهَا بَعْدَ بَعْضٍ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْكُلِّ عِنْدَ ظُهُورِ الْبَعْضِ لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ. (وَلَنَا) أَنَّ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَعْدُومٌ فَلَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ، وَدَعْوَى الضَّرُورَةِ، وَالْحَرَجِ مَمْنُوعَةٌ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَصْلَ بِمَا فِيهِ مِنْ الثَّمَرِ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبَلِ، وَحَبَلِ الْحَبَلِ، وَرُوِيَ حَبَلُ الْحَبَلَةِ» ، وَهِيَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا زِيَادَةُ الْهَاءِ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْمُبَالَغَةِ، وَرُوِيَ حَبَلُ الْحَبَلَةِ بِحِفْظِ الْهَاءِ مِنْ الْكَلِمَةِ الْأَخِيرَةِ وَالْحَبَلَةُ هِيَ الْحُبْلَى فَكَانَ نَهْيًا عَنْ بَيْعِ، وَلَدِ الْحُبْلَى. وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، وَبَيْعِ عَسْبِ الْفَحْلِ» ؛ لِأَنَّ عَسْبَ الْفَحْلِ ضِرَابُهُ، وَهُوَ عِنْدَ الْعَقْدِ مَعْدُومٌ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ» ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى نَفْسِ الْعَسْبِ، وَهُوَ الضِّرَابُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِالْإِعَارَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ ذَلِكَ، وَأَضْمَرَهُ فِيهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ فِي الْحِنْطَةِ، وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ، وَالدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ، وَالْعَصِيرِ فِي الْعِنَبِ، وَالسَّمْنِ فِي اللَّبَنِ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ، وَسَائِرِ الْحُبُوبِ فِي سَنَابِلِهَا؛ لِأَنَّ بَيْعَ الدَّقِيقِ فِي الْحِنْطَةِ، وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ؛ لِأَنَّهُ لَا دَقِيقَ فِي الْحِنْطَةِ، وَلَا زَيْتَ فِي الزَّيْتُونِ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ اسْمٌ لِلْمُرَكَّبِ وَالدَّقِيقَ اسْمٌ لِلْمُتَفَرِّقِ، فَلَا دَقِيقَ فِي حَالِ كَوْنِهِ حِنْطَةً، وَلَا زَيْتَ حَالَ كَوْنِهِ زَيْتُونًا، فَكَانَ هَذَا بَيْعَ الْمَعْدُومِ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِخِلَافِ بَيْعِ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا؛ لِأَنَّ مَا فِي السُّنْبُلِ حِنْطَةٌ، إذْ هِيَ اسْمٌ لِلْمُرَكَّبِ. وَهِيَ فِي سُنْبُلِهَا عَلَى تَرْكِيبِهَا فَكَانَ بَيْعَ الْمَوْجُودِ حَتَّى لَوْ بَاعَ تِبْنَ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا دُونَ الْحِنْطَةِ لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ تِبْنًا إلَّا بِالْعِلَاجِ، وَهُوَ الدَّقُّ، فَلَمْ يَكُنْ تِبْنًا قَبْلَهُ فَكَانَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ، فَلَا يَنْعَقِدُ، وَبِخِلَافِ بَيْعِ الْجِذْعِ فِي السَّقْفِ، وَالْآجُرِّ فِي الْحَائِطِ، وَذِرَاعٍ مِنْ كِرْبَاسٍ أَوْ دِيبَاجٍ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ حَتَّى لَوْ نُزِعَ، وَقُطِعَ، وَسُلِّمَ إلَى الْمُشْتَرِي يُجْبَرُ عَلَى الْأَخْذِ، وَهَهُنَا لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا حَتَّى لَوْ طَحَنَ أَوْ عَصَرَ، وَسَلَّمَ لَا يُجْبِرْ الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ النَّفَاذِ هُنَاكَ لَيْسَ لِخَلَلٍ فِي الرُّكْنِ، وَلَا فِي الْعَاقِدِ، وَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَلْ لِمَضَرَّةٍ تَلْحَقُ الْعَاقِدَ بِالنَّزْعِ، وَالْقَطْعِ فَإِذَا نَزَعَ، وَقَطَعَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَنَفَذَ أَمَّا هَهُنَا فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْدُومٌ حَالَةَ الْعَقْدِ. وَلَا يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ بِدُونِهِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا فَلَا يَحْتَمِلُ النَّفَاذَ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَكَذَا بَيْعُ الْبَزْرِ فِي الْبِطِّيخِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ، وَبَيْعُ النَّوَى فِي التَّمْرِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ اللَّحْمِ فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَصِيرُ لَحْمًا بِالذَّبْحِ، وَالسَّلْخِ فَكَانَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فَلَا يَنْعَقِدُ، وَكَذَا بَيْعُ الشَّحْمِ الَّذِي فِيهَا، وَأَلْيَتِهَا وَأَكَارِعِهَا، وَرَأْسِهَا لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا بَيْعُ الْبُحَيْرِ فِي السِّمْسِمِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ بُحَيْرًا بَعْدَ الْعَصْرِ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا الْيَاقُوتَ بِكَذَا فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ أَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا الْفَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَاقُوت بِكَذَا فَإِذَا هُوَ زُجَاج

أَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ الْهَرَوِيَّ بِكَذَا فَإِذَا هُوَ مَرْوِيٌّ، أَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنَّهُ مَرْوِيٌّ فَإِذَا هُوَ هَرَوِيٌّ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَعْدُومٌ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْإِشَارَةَ مَعَ التَّسْمِيَةِ إذَا اجْتَمَعَتَا فِي بَابِ الْبَيْعِ فِيمَا يَصْلُحُ مَحَلَّ الْبَيْعِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمُشَارُ إلَيْهِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْمُسَمَّى، فَالْعِبْرَةُ لِلتَّسْمِيَةِ، وَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ لَكِنْ يُخَالِفُهُ فِي الصِّفَةِ فَإِنْ تَفَاحَشَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا، فَالْعِبْرَةُ لِلتَّسْمِيَةِ أَيْضًا عِنْدَنَا، وَيُلْحَقَانِ بِمُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ، وَإِنْ قَلَّ التَّفَاوُتُ فَالْعِبْرَةُ لِلْمُشَارِ إلَيْهِ، وَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِهِ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: الْيَاقُوتُ مَعَ الزُّجَاجِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَكَذَا الْهَرَوِيُّ مَعَ الْمَرْوِيِّ نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ؛ فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ فِيهِ بِالْمُسَمَّى وَهُوَ مَعْدُومٌ فَيَبْطُلُ وَلَا يَنْعَقِدُ. قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ فَإِذَا هُوَ جَارِيَةٌ لَا يَنْعَقِدُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُسَمَّى هَهُنَا مِنْ جِنْسِ الْمُشَارِ إلَيْهِ أَعْنِي الْعَبْدَ وَالْجَارِيَةَ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي صِفَةِ الذُّكُورَةِ، وَالْأُنُوثَةِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الْعَقْدِ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ كَمَا إذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الشَّاةَ عَلَى أَنَّهَا نَعْجَةٌ، فَإِذَا هِيَ كَبْشٌ. (وَلَنَا) أَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي الْمَعْنَى؛ لِاخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ الْمَطْلُوبَةِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا فَالْتُحِقَا بِمُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ حَقِيقَةً بِخِلَافِ النَّعْجَةِ مَعَ الْكَبْشِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا جِنْسًا ذَاتًا وَمَعْنًى أَمَّا ذَاتًا فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الشَّاةِ يَتَنَاوَلُهُمَا. وَأَمَّا مَعْنًى؛ فَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْفَعَةُ الْأَكْلِ فَتَجَانَسَا ذَاتًا وَمَنْفَعَةً فَتَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ مَحَلٌّ لِلْبَيْعِ، فَجَازَ بَيْعُهُ، وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ فَاتَتْهُ صِفَةٌ مَرْغُوبَةٌ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ خَلَلًا فِي الرِّضَا فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ وَكَذَا لَوْ بَاعَ دَارًا عَلَى أَنَّ بِنَاءَهَا آجُرٌّ، فَإِذَا هُوَ لَبِنٌ لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَفَاوَتَانِ فِي الْمَنْفَعَةِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَكَانَا كَالْجِنْسَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ مَصْبُوغٌ بِعُصْفُرٍ، فَإِذَا هُوَ مَصْبُوغٌ بِزَعْفَرَانٍ لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ الْعُصْفُرَ مَعَ الزَّعْفَرَانِ يَخْتَلِفَانِ فِي اللَّوْنِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا، وَكَذَا لَوْ بَاعَ حِنْطَةً فِي جَوْلَقٍ فَإِذَا هُوَ دَقِيقٌ أَوْ شَرَطَ الدَّقِيقَ فَإِذَا هُوَ خُبْزٌ لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ مَعَ الدَّقِيقِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ وَكَذَا الدَّقِيقُ مَعَ الْخُبْزِ أَلَا تَرَى: أَنَّ مَنْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ حِنْطَةً وَطَحَنَهَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمِلْكِ دَلَّ أَنَّهَا تَصِيرُ بِالطَّحْنِ شَيْئًا آخَرَ فَكَانَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فَلَا يَنْعَقِدُ. وَإِنْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الشَّاةَ عَلَى أَنَّهَا مَيْتَةٌ فَإِذَا هِيَ ذَكِيَّةٌ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلْبَيْعِ فَلَغَتْ التَّسْمِيَةُ، وَبَقِيَتْ الْإِشَارَةُ إلَى الذَّكِيَّةِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ الْقَزَّ فَإِذَا هُوَ مُلْحَمٌ يَنْظُرُ إنْ كَانَ سَدَاهُ مِنْ الْقَزِّ، وَلُحْمَتُهُ مِنْ غَيْرِهِ لَا يَنْعَقِدُ، وَإِنْ كَانَ لُحْمَتُهُ مِنْ الْقَزِّ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الثَّوْبِ هُوَ اللُّحْمَةُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِهَا فَإِذَا كَانَتْ لُحْمَتُهُ مِنْ غَيْرِ الْقَزِّ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ لِلتَّسْمِيَةِ، وَالْمُسَمَّى مَعْدُومٌ فَلَمْ يَنْعَقِدْ الْبَيْعُ وَإِذَا كَانَتْ مِنْ الْقَزِّ فَالْجِنْسُ لَمْ يَخْتَلِفْ فَتُعْتَبَرُ الْإِشَارَةُ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ مَوْجُودٌ فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ كَوْنَ السَّدَى مِنْهُ أَمْرٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ، وَقَدْ فَاتَ فَوَجَبَ الْخِيَارُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ الْخَزَّ بِكَذَا، فَإِذَا هُوَ مُلْحَمٌ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ إلَّا أَنَّ لُحْمَتَهُ إذَا كَانَتْ خَزًّا وَسَدَاهُ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْخَزَّ هَكَذَا يُنْسَجُ بِخِلَافِ الْقَزِّ. وَلَوْ بَاعَ جُبَّةً عَلَى أَنَّ بِطَانَتَهَا وَظِهَارَتَهَا كَذَا، وَحَشْوَهَا كَذَا فَإِنْ كَانَتْ الظِّهَارَةُ مِنْ غَيْرِ مَا شَرَطَ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ، وَإِنْ كَانَتْ الْبِطَانَةُ وَالْحَشْوُ مِمَّا شَرَطَ، وَإِنْ كَانَتْ الظِّهَارَةُ مِمَّا شَرَطَ جَازَ الْبَيْعُ وَإِنْ كَانَتْ الْبِطَانَةُ، وَالْحَشْوُ مِنْ غَيْرِ مَا شَرَطَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الظِّهَارَةُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُنْسَبُ الثَّوْبُ إلَيْهَا، وَيَخْتَلِفُ الِاسْمُ بِاخْتِلَافِهَا؟ وَإِنَّمَا الْبِطَانَةُ تَجْرِي مَجْرَى التَّابِعِ لَهَا وَكَذَا الْحَشْوُ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الظِّهَارَةَ، وَمَا سِوَاهَا جَارِيًا مَجْرَى الْوَصْفِ لَهَا فَفَوَاتُهُ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ، وَلَكِنَّهُ يُوجِبُ الْخِيَارَ لِأَنَّهُ فَاتَ شَيْءٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى أَنَّ فِيهَا بِنَاءً فَإِذَا لَا بِنَاءَ فِيهَا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فُرِّقَ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى أَنَّ بِنَاءَهَا آجُرٌّ، فَإِذَا هُوَ لَبِنٌ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْآجُرَّ مَعَ اللَّبِنِ يَتَفَاوَتَانِ فِي الْمَنْفَعَةِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَالْتَحَقَا بِمُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَالًا لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، فَلَا يَنْعَقِدَ بَيْعُ الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَكَذَا بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ مِنْ وَجْهٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ: «لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَهِيَ حُرَّةٌ مِنْ الثُّلُثِ» نَفَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَوَازَ بَيْعِهَا مُطْلَقًا وَسَمَّاهَا حُرَّةً فَلَا تَكُونُ مَالًا عَلَى الْإِطْلَاقِ خُصُوصًا عَلَى أَصْلِ

أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ يُوجِبُ سُقُوطَ الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُ حَتَّى لَا تُضْمَنَ بِالْغَصْبِ، وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْإِعْتَاقِ، وَإِنَّمَا تُضْمَنُ بِالْقَتْلِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ ضَمَانُ الدَّمِ لَا ضَمَانُ الْمَالِ وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا بَيْعُ الْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ - عِنْدَنَا - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ -: " بَيْعُ الْمُدَبَّرِ جَائِزٌ " وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَجَازَ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ وَعَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا دَبَّرَتْ مَمْلُوكَةً لَهَا فَغَضِبَتْ عَلَيْهَا فَبَاعَتْهَا؛ وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالْمَوْتِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عَدَمٌ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَلَمْ يَكُنْ الْعِتْقُ ثَابِتًا أَصْلًا قَبْلَ الْمَوْتِ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَمَا إذَا عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِدُخُولِ الدَّارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ثُمَّ بَاعَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الدَّارَ، وَكَمَا فِي الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ. (وَلَنَا) مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ» وَمُطْلَقُ النَّهْيِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْرِيمِ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ» . وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ؛ وَلِأَنَّهُ حُرٌّ مِنْ وَجْهٍ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حُرٌّ مِنْ وَجْهٍ: الِاسْتِدْلَال بِضَرُورَةِ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَعْتِقُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْحُرِّيَّةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ سَبَبٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا الْكَلَامُ السَّابِقُ، وَلَيْسَ هُوَ بِتَحْرِيرٍ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيرَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ، وَأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمَيِّتِ فَكَانَ تَحْرِيرًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَثْبُتَ بِهِ الْحُرِّيَّةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِلْحَالِ إلَّا أَنَّهَا تَأَخَّرَتْ مِنْ وَجْهٍ إلَى آخَرَ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا إجْمَاعَ عَلَى التَّأْخِيرِ مِنْ وَجْهٍ فَبَقِيَتْ الْحُرِّيَّةُ مِنْ وَجْهٍ ثَابِتَةً لِلْحَالِ فَلَا يَكُونُ مَالًا مُطْلَقًا، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ وَسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حِكَايَةُ فِعْلٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ - أَجَازَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَيْعَ مُدٍّ مُقَيَّدًا أَوْ بَاعَ مُدَبَّرًا مُقَيَّدًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تُسَمَّى بَيْعًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ مَشْرُوعًا ثُمَّ نُسِخَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ. (وَأَمَّا) الْمُدَبَّرُ الْمُقَيَّدُ فَهُنَاكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْكَلَامُ السَّابِقُ إيجَابًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّهُ عُلِّقَ عِتْقُهُ بِمَوْتٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَمُوتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ أَوْ لَا، فَكَانَ الْخَطَرُ قَائِمًا فَكَانَ تَعْلِيقًا، فَلَمْ يَكُنْ إيجَابًا مَا دَامَ الْخَطَرُ قَائِمًا وَمَتَى اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ تَحْرِيرًا مِنْ وَجْهٍ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ لَكِنْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَلَا بَيْعُ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ حُرٌّ يَدًا فَلَا تَثْبُتُ يَدُ تَصَرُّفِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ وَلَا بَيْعُ مُعْتَقِ الْبَعْضِ مُوسِرًا كَانَ الْمُعْتِقُ أَوْ مُعْسِرًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا هُوَ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ. (وَأَمَّا) عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا فَلِشَرِيكِهِ السَّاكِتِ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمُعْتِقَ إنْ كَانَ مُعْسِرًا فَالْإِعْتَاقُ مُنْجَزٌ فَبَقِيَ نَصِيبُ شَرِيكِهِ عَلَى مِلْكِهِ، فَيَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ، وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ فِي هَؤُلَاءِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي الْأَوْلَادِ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَحْدُثُ عَلَى وَصْفِ الْأُمِّ، وَلِهَذَا كَانَ وَلَدُ الْحُرَّةِ حُرًّا، وَوَلَدُ الْأَمَةِ رَقِيقًا وَكَمَا لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ، وَوَلَدِهِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ وَلَدِهِ الْمُشْتَرَى فِي الْكِتَابَةِ، وَوَالِدَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ تَكَاتَبُوا بِالشِّرَاءِ. (وَأَمَّا) مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ إذَا اشْتَرَاهُمْ يَجُوزُ بَيْعُهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَكَاتَبُوا بِالشِّرَاءِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمْ تَكَاتَبُوا وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ. وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَكَذَلِكَ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ، وَالْمُشْرِكِ؛ لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ، وَكَذَا مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا - عِنْدَنَا - خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَهِيَ مَسْأَلَةُ. (كِتَابِ الذَّبَائِحِ) وَكَذَا ذَبِيحَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ، وَكَذَا مَا ذُبِحَ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ مُحْرِمًا كَانَ الذَّابِحُ، أَوْ حَلَالًا، وَمَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ مِنْ الصَّيْدِ سَوَاءٌ كَانَ صَيْدَ الْحَرَمِ أَوْ الْحِلِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَيْتَةٌ. وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ صَيْدِ الْحَرَمِ مُحْرِمًا كَانَ الْبَائِعُ أَوْ حَلَالًا؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا، فَلَمْ يَكُنْ مَالًا، وَلَا بَيْعُ صَيْدِ الْمُحْرِمِ سَوَاءٌ كَانَ صَيْدَ الْحَرَمِ أَوْ الْحِلِّ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي حَقِّهِ، فَلَا يَكُونُ مَالًا فِي حَقِّهِ، وَلَوْ وَكَّلَ مُحْرِمٌ حَلَالًا بِبَيْعِ صَيْدٍ فَبَاعَهُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: بَاطِلٌ، وَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مُسْلِمٍ وَكَّلَ ذِمِّيًّا بِبَيْعِ خَمْرٍ فَبَاعَهَا. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْبَائِعَ هُوَ الْمُوَكِّلُ مَعْنًى؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَيْعِ يَقَعُ لَهُ، وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمْلِيكِ الصَّيْدِ، وَتَمَلُّكِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْبَائِعَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْوَكِيلُ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ كَلَامُهُ الْقَائِمُ بِهِ حَقِيقَةً

وَلِهَذَا تَرْجِعُ حُقُوقُ الْعَقْدِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّ الْمُوَكِّلَ يَقُومُ مَقَامَهُ شَرْعًا فِي نَفْسِ الْحُكْمِ مَعَ اقْتِصَارِ نَفْسِ التَّصَرُّفِ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ حَقِيقَةً، وَالْمُحْرِمُ مِنْ أَهْلِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فِي الصَّيْدِ حُكْمًا لَا يَتَمَلَّكُهُ حَقِيقَةً أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَرِثُهُ؟ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَكُونُ عَمَّا لِلْعَبْدِ فِيهِ صُنْعٌ، وَلَا صُنْعَ لَهُ فِيمَا يُثْبِتُ حُكْمًا فَلَا يَحْتَمِلُ الْمَنْعَ وَلَوْ بَاعَ حَلَالٌ حَلَالًا صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ يُفْسَخُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ كَمَا يَمْنَعُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ وَالْقَبْضَ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا عُرِفَ فَيُلْحَقُ بِهِ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا وَلَوْ وَكَّلَ حَلَالٌ حَلَالًا بِبَيْعِ صَيْدٍ فَبَاعَهُ ثُمَّ أَحْرَمَ الْمُوَكِّلُ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَازَ الْبَيْعُ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا: يَبْطُلُ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ الْقَائِمَ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ التَّوْكِيلِ عِنْدَهُ، فَالطَّارِئُ لَا يُبْطِلُهُ، وَعِنْدَهُمَا الْقَائِمُ يَمْنَعُ، فَالطَّارِئُ يُبْطِلُهُ حَلَالَانِ تَبَايَعَا صَيْدًا فِي الْحِلِّ، وَهُمَا فِي الْحَرَمِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: لَا يَجُوزُ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ كَوْنَ الْحَرَمِ مَأْمَنًا يَمْنَعُ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُتَعَرِّضُ فِي الْحَرَمِ أَوْ الْحِلِّ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمُتَعَرِّضُ فِي الْحَرَمِ أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْحَلَالِ الَّذِي فِي الْحَرَمِ أَنْ يَرْمِيَ إلَى الصَّيْدِ الَّذِي فِي الْحِلِّ، كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْمِيَ إلَيْهِ إذَا كَانَ فِي الْحَرَمِ؟ . (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ كَوْنَهُ فِي الْحَرَمِ يَمْنَعُ مِنْ التَّعَرُّضِ لِصَيْدِ الْحِلِّ لَكِنْ حِسًّا لَا شَرْعًا بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَلَالَ فِي الْحَرَمِ إذَا أَمَرَ حَلَالًا آخَرَ بِذَبْحِ صَيْدٍ فِي الْحِلِّ جَازَ وَلَوْ ذَبَحَ حِلٌّ أَكَلَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَ بِالذَّبْحِ فِي مَعْنَى التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ فَوْقَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَلَمَّا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، فَلَأَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ هَذَا أَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ التَّعَرُّضِ إنَّمَا كَانَ احْتِرَامًا لِلْحَرَمِ فَكُلُّ مَا فِيهِ تَرْكُ احْتِرَامِهِ يَجِبُ صِيَانَةُ الْحَرَمِ عَنْهُ وَذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْإِيذَاءِ فِي الْحَرَمِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْبَيْعِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَلَا بَيْعُ لَحْمِ السَّبُعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا فَلَمْ يَكُنْ مَالًا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعَهُ إذَا ذُبِحَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ طَاهِرًا بِالذَّبْحِ. وَأَمَّا جِلْدُ السَّبُعِ، وَالْحِمَارِ، وَالْبَغْلِ فَإِنْ كَانَ مَدْبُوغًا أَوْ مَذْبُوحًا يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا فَكَانَ مَالًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْبُوغًا وَلَا مَذْبُوحًا لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُدْبَغْ وَلَمْ يُذْبَحْ بَقِيَتْ رُطُوبَاتُ الْمَيْتَةِ فِيهِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَيْتَةِ. وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ كَيْفَ مَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَقِيلَ: إنَّ جِلْدَهُ لَا يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَ، وَأَمَّا عَظْمُ الْمَيْتَةِ وَعَصَبُهَا، وَشَعْرُهَا، وَصُوفُهَا، وَوَبَرُهَا، وَرِيشُهَا، وَخُفُّهَا وَظِلْفُهَا، وَحَافِرُهَا فَيَجُوزُ بَيْعُهَا، وَالِانْتِفَاعُ بِهَا - عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ طَاهِرَةٌ - عِنْدَنَا - وَعِنْدَهُ نَجِسَةٌ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وَهَذِهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ فَتَكُونُ حَرَامًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» (وَلَنَا) قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل: 80] قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا} [النحل: 80] الْآيَةَ أَخْبَرَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَنَا وَمَنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الذَّكِيَّةِ وَالْمَيْتَةِ فَيَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ الْإِبَاحَةِ؛ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَيْتَةِ لَيْسَتْ لِمَوْتِهَا فَإِنَّ الْمَوْتَ مَوْجُودٌ فِي السَّمَكِ، وَالْجَرَادِ، وَهُمَا حَلَالَان قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أُحِلَّ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ» بَلْ لِمَا فِيهَا مِنْ الرُّطُوبَاتِ السَّيَّالَةِ، وَالدِّمَاءِ النَّجِسَةِ؛ لِانْجِمَادِهَا بِالْمَوْتِ، وَلِهَذَا يَطْهُرُ الْجِلْدُ بِالدِّبَاغِ حَتَّى يَجُوزُ بَيْعُهُ لِزَوَالِ الرُّطُوبَةِ عَنْهُ وَلَا رُطُوبَةَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَلَا تَكُونُ حَرَامًا، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْإِهَابَ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ لُغَةً، وَالْمُرَادُ مِنْ الْعَصَبِ حَالَ الرُّطُوبَةِ يُحْمَلُ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ. وَأَمَّا عَظْمُ الْخِنْزِيرِ، وَعَصَبُهُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ وَأَمَّا شَعْرُهُ فَقَدْ رُوِيَ: أَنَّهُ طَاهِرٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَجِسٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ فِي اسْتِعْمَالِهِ لِلْخَرَّازِينَ لِلضَّرُورَةِ وَأَمَّا عَظْمُ الْآدَمِيِّ وَشَعْرُهُ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا لِنَجَاسَتِهِ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ لَكِنْ احْتِرَامًا لَهُ وَالِابْتِذَالُ بِالْبَيْعِ يُشْعِرُ بِالْإِهَانَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ، وَالْمُسْتَوْصِلَةَ» وَأَمَّا عَظْمُ الْكَلْبِ، وَشَعْرُهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ عَظْمِ الْفِيلِ، وَالِانْتِفَاعِ بِهِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَظْمُ الْفِيلِ نَجِسٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهِ ذَكَرَهُ فِي الْعُيُونِ. وَيَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ مُعَلَّمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُعَلَّمٍ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا بَيْعُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ سِوَى الْخِنْزِيرِ كَالْكَلْبِ، وَالْفَهْدِ، وَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ، وَالذِّئْبِ، وَالْهِرِّ، وَنَحْوِهَا فَجَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ

- رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ ثُمَّ عِنْدَنَا: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُعَلَّمِ، وَغَيْرِ الْمُعَلَّمِ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ فَيَجُوزَ بَيْعُهُ كَيْفَ مَا كَانَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ الْمُكْرَمِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «وَمِنْ السُّحْتِ مَهْرُ الْبَغِيِّ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ» وَلَوْ جَازَ بَيْعُهُ لَمَا كَانَ ثَمَنُهُ سُحْتًا، وَلِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْخِنْزِيرِ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِجِهَةِ الْحِرَاسَةِ، وَالِاصْطِيَادِ لِلْحَاجَةِ، وَالضَّرُورَةِ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ كَمَا فِي شَعْرِ الْخِنْزِيرِ. (وَلَنَا) : أَنَّ الْكَلْبَ مَالٌ، فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالصَّقْرِ، وَالْبَازِي، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَالٌ أَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَكَانَ مَالًا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ بِجِهَةِ الْحِرَاسَةِ، وَالِاصْطِيَادِ مُطْلَقٌ شَرْعًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إذَا صَادَفَ مَحَلًّا مُنْتَفَعًا بِهِ حَقِيقَةً مُبَاحَ الِانْتِفَاعُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِهِ؛ لِأَنَّ شَرْعَهُ يَقَعُ سَبَبًا، وَوَسِيلَةً لِلِاخْتِصَاصِ الْقَاطِعِ لِلْمُنَازَعَةِ إذْ الْحَاجَةُ إلَى قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ فِيمَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا فِيمَا يَجُوزُ. (وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَلِفُوا اقْتِنَاءَ الْكِلَابِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهَا، وَنَهَى عَنْ بَيْعِهَا مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ قَوْلُهُ: أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ، قُلْنَا: هَذَا مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ اصْطِيَادًا، وَحِرَاسَةً. وَنَجِسُ الْعَيْنِ لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا إلَّا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ كَالْخِنْزِيرِ. وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْخِنْزِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ أَمَّا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا فَلِأَنَّهُ مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا لَهُمْ كَالْخَلِّ، وَكَالشَّاةِ لَنَا فَكَانَ مَالًا فِي حَقِّهِمْ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ. وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلَى عُشَّارِهِ بِالشَّامِ أَنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا، وَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْخَمْرِ مِنْهُمْ لَمَا أَمَرَهُمْ بِتَوْلِيَتِهِمْ الْبَيْعَ، وَعَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا: حُرْمَةُ الْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ ثَابِتَةٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَالْكَافِرِ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي حَقِّهِمْ لَكِنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ عَنْ بَيْعِهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ حُرْمَتَهَا، ويتمولونها. وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ، وَمَا يَدِينُونَ، وَلَوْ بَاعَ ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا، أَوْ خِنْزِيرًا ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ يُفْسَخُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ حَرُمَ الْبَيْعُ، وَالشِّرَاءُ، فَيَحْرُمُ الْقَبْضُ، وَالتَّسْلِيمُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْإِنْشَاءَ أَوْ إنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ فَيُلْحَقُ بِهِ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا، وَأَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا هُوَ النَّهْيُ عَنْ قَبْضَتِهِ يُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] وَإِذَا حَرُمَ الْقَبْضُ، وَالتَّسْلِيمُ لَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ، فَيُبْطِلَهُ الْقَاضِي كَمَنْ بَاعَ عَبْدًا فَأَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَوْ كَانَ إسْلَامُهُمَا أَوْ إسْلَامُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْقَبْضِ مَضَى الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ ثَبَتَ عَلَى الْكَمَالِ بِالْعَقْدِ، وَالْقَبْضِ فِي حَالَةِ الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ دَوَامُ الْمِلْكِ. وَالْإِسْلَامُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ تَخَمَّرَ عَصِيرُهُ لَا يُؤْمَرُ بِإِبْطَالِ مِلْكِهِ فِيهَا، وَلَوْ أَقْرَضَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيًّا خَمْرًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَإِنْ أَسْلَمَ الْمُقْرِضُ سَقَطَتْ الْخَمْرُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ قِيمَةِ الْخَمْرِ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ أَمَّا سُقُوطُ قِيمَةِ الْخَمْرِ، فَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ قَبْضِ الْمِثْلِ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ أَسْلَمَ الْمُسْتَقْرِضُ. رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ تَسْقُطُ الْخَمْرُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْخَمْرِ أَيْضًا كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الْمُقْرِضُ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَعَافِيَةُ بْنُ زِيَادٍ الْقَاضِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْخَمْرِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ امْتِنَاعَ التَّسْلِيمِ مِنْ الْمُسْتَقْرِضِ إنَّمَا جَاءَ لِمَعْنًى مِنْ قِبَلِهِ، وَهُوَ إسْلَامُهُ فَكَأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ عَلَيْهِ خَمْرَهُ، وَالْمُسْلِمُ إذَا اسْتَهْلَكَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَسْلِيمِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْهُ، وَلَا إلَى الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ مِلْكَ الْمُسْتَقْرِضِ، وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ مِنْهُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْقِرْدُ. فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِوَايَتَانِ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ عَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ شَرْعًا فَلَا يَكُونَ مَالًا كَالْخِنْزِيرِ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْجَوَازِ: أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهِ بِذَاتِهِ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَى لِلِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ عَادَةً بَلْ لِلَّهْوِ بِهِ، وَهُوَ حَرَامٌ فَكَانَ هَذَا بَيْعَ الْحَرَامِ لِلْحَرَامِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْفِيلِ

بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَكَانَ مَالًا. وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْحَيَّةِ، وَالْعَقْرَبِ، وَجَمِيعِ هَوَامِّ الْأَرْضِ كَالْوَزَغَةِ، وَالضَّبِّ، وَالسُّلَحْفَاةِ، وَالْقُنْفُذِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ الِانْتِفَاعُ بِهَا شَرْعًا؛ لِكَوْنِهَا مِنْ الْخَبَائِثِ فَلَمْ تَكُنْ أَمْوَالًا فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا، وَذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَيَّةِ الَّتِي يُنْتَفَعُ بِهَا لِلْأَدْوِيَةِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ شَرْعًا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِلتَّدَاوِي كَالْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَمْ يُجْعَلْ شِفَاؤُكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى شَرْعِ الْبَيْعِ. وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ شَيْءٍ مِمَّا يَكُونُ فِي الْبَحْرِ كَالضِّفْدَعِ، وَالسَّرَطَانِ إلَّا السَّمَكَ، وَمَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ، أَوْ عَظْمِهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ، وَلَا بِهِ، وَلَا بِعَظْمِهِ لَا يَكُونُ مَالًا فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «سُئِلَ عَنْ الضِّفْدَعِ يُجْعَلُ فِي دَوَاءٍ فَنَهَى عَنْهُ، وَقَالَ: خَبِيثَةٌ مِنْ الْخَبَائِثِ» ، وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَذُكِرَ فِي الْفَتَاوَى: أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ. وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ النَّحْلِ إلَّا إذَا كَانَ فِي كُوَّارَتِهِ عَسَلٌ فَبَاعَ الْكُوَّارَةَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْعَسَلِ، وَالنَّحْلِ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُنْفَرِدًا مِنْ غَيْرِ كُوَّارَتِهِ إذَا كَانَ مَجْمُوعًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ النَّحْلَ حَيَوَانٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ. (وَلَنَا) : أَنَّهُ لَيْسَ بِمُنْتَفَعٍ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ مَالًا بِنَفْسِهِ بَلْ بِمَا يَحْدُثُ مِنْهُ، وَهُوَ مَعْدُومٌ حَتَّى لَوْ بَاعَهُ مَعَ الْكُوَّارَةِ، وَفِيهَا عَسَلٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلْعَسَلِ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّيْءُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ بِنَفْسِهِ مُفْرَدًا، وَيَكُونَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ مَعَ غَيْرِهِ كَالشُّرْبِ، وَأَنْكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا فَقَالَ: إنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا إذَا كَانَ مِنْ حُقُوقِهِ كَمَا فِي الشُّرْبِ مَعَ الْأَرْضِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ حُقُوقِهِ، وَعَلَى هَذَا بَيْعُ دُودِ الْقَزِّ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا إذَا كَانَ مَعَهُ قَزٌّ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُفْرَدًا، وَالْحُجَجُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي النَّحْلِ، وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ بَذْرِ الدُّودِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الدُّودِ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. (وَوَجْهُ) الْكَلَامِ فِيهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي بَيْعِ النَّحْلِ، وَالدُّودِ. وَيَجُوزُ بَيْعُ السِّرْقِينِ، وَالْبَعْرِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَكَانَ مَالًا، وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْعَذِرَةِ الْخَالِصَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِحَالٍ، فَلَا تَكُونُ مَالًا إلَّا إذَا كَانَ مَخْلُوطًا بِالتُّرَابِ، وَالتُّرَابُ غَالِبٌ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " كُلُّ شَيْءٍ أَفْسَدَهُ الْحَرَامُ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِ الْحَلَالُ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِ " وَنُبَيِّنُ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْحَرَامَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَلَا هِبَتُهُ كَالْفَأْرَةِ إذَا وَقَعَتْ فِي الْعَجِينِ، وَالسَّمْنِ الْمَائِعِ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزَّيْتِ إذَا وَقَعَ فِيهِ وَدَكُ الْمَيْتَةِ: " إنَّهُ إنْ كَانَ الزَّيْتُ غَالِبًا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَإِنْ كَانَ الْوَدَكُ غَالِبًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ " لِأَنَّ الْحَلَالَ إذَا كَانَ هُوَ الْغَالِبَ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ اسْتِصْحَابًا، وَدَبْغًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي. (كِتَابِ الطَّهَارَاتِ) فَكَانَ مَالًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَإِذَا كَانَ الْحَرَامُ هُوَ الْغَالِبَ لَمْ يَجُزْ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِوَجْهٍ فَلَمْ يَكُنْ مَالًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ. وَيَجُوزُ بَيْعُ آلَاتِ الْمَلَاهِي مِنْ الْبَرْبَطِ، وَالطَّبْلِ، وَالْمِزْمَارِ، وَالدُّفِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ: لَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ لِأَنَّهَا آلَاتٌ مُعَدَّةٌ لِلتَّلَهِّي بِهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْفِسْقِ، وَالْفَسَادِ فَلَا تَكُونُ أَمْوَالًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا شَرْعًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى بِأَنْ تُجْعَلَ ظُرُوفًا لِأَشْيَاءَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ فَلَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا أَمْوَالًا، وَقَوْلُهُمَا: إنَّهَا آلَاتُ التَّلَهِّي، وَالْفِسْقِ بِهَا قُلْنَا نَعَمْ لَكِنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ مَالِيَّتِهَا كَالْمُغَنِّيَاتِ، وَالْقِيَانِ، وَبَدَنِ الْفَاسِقِ، وَحَيَاتِهِ، وَمَالِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهَا كَمَا تَصْلُحُ لِلتَّلَهِّي تَصْلُحُ لِغَيْرِهِ عَلَى مَالِيَّتِهَا بِجِهَةِ إطْلَاقِ الِانْتِفَاعِ بِهَا لَا بِجِهَةِ الْحُرْمَةِ، وَلَوْ كَسَرَهَا إنْسَانٌ ضَمِنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ بَيْعُ النَّرْدِ، وَالشِّطْرَنْجِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْتَفَعٌ بِهِ شَرْعًا مِنْ، وَجْهٍ آخَرَ بِأَنْ يُجْعَلَ صَنَجَاتِ الْمِيزَانِ فَكَانَ مَالًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ وَيَجُوزُ بَيْعُ مَا سِوَى الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ كَالسُّكَّرِ، وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ، وَالْمُنَصَّفِ، وَنَحْوِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَرُمَ شُرْبُهَا لَمْ تَكُنْ مَالًا فَلَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالْخَمْرِ، وَلِأَنَّ مَا حَرُمَ شُرْبُهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا، وَبَاعُوهَا، وَإِنَّ اللَّهَ إذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ بَيْعَهُ، وَأَكْلَ ثَمَنِهِ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ مَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مُتَيَقَّنٍ مَقْطُوعٍ بِهِ لِكَوْنِهَا مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ

وَالْمَالِيَّةُ قَبْلَ حُدُوثِ الشِّدَّةِ كَانَتْ ثَابِتَةً بِيَقِينٍ فَلَا تَبْطُلُ بِحُرْمَةٍ ثَابِتَةٍ بِالِاجْتِهَادِ فَبَقِيَتْ أَمْوَالًا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْحَدِيثِ مُحَرَّمٌ، ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا بِخِلَافِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَبَطَلَتْ مَالِيَّتُهَا، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمَلَاقِيحِ، وَالْمَضَامِينِ الَّذِي، وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ مَا فِي صُلْبِ الذَّكَرِ، وَالْمَلْقُوحَ مَا فِي رَحِمِ الْأُنْثَى، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَخْرُجُ بَيْعُ عَسْبِ الْفَحْلِ؛ لِأَنَّ الْعَسْبَ هُوَ الضِّرَابُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَقَدْ يُخَرَّجُ عَلَى هَذَا بَيْعُ الْحَمْلِ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَيْسَ بِمَالٍ. وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ لَبَنِ الْمَرْأَةِ فِي قَدَحٍ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ بَيْعُهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا مَشْرُوبٌ طَاهِرٌ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَلَبَنِ الْبَهَائِمِ، وَالْمَاءِ. (وَلَنَا) أَنَّ اللَّبَنَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَنْهُمْ فَمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ، وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي، وَلَدِ الْمَغْرُورِ بِالْقِيمَةِ، وَبِالْعَقْرِ بِمُقَابَلَةِ الْوَطْءِ، وَمَا حَكَمَا بِوُجُوبِ قِيمَةِ اللَّبَنِ بِالِاسْتِهْلَاكِ، وَلَوْ كَانَ مَالًا لَحَكَمَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ يَسْتَحِقُّ بَدَلَ إتْلَافِ مَالِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَكَانَ إيجَابُ الضَّمَانِ بِمُقَابَلَتِهِ أَوْلَى مِنْ إيجَابِ الضَّمَانِ بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ فَكَانَتْ حَاجَةُ الْمُسْتَحِقِّ إلَى ضَمَانِ الْمَالِ أَوْلَى، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا. (وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَهُوَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ لِضَرُورَةِ تَغْذِيَةِ الطِّفْلِ، وَمَا كَانَ حَرَامٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا إلَّا لِضَرُورَةٍ لَا يَكُونُ مَالًا كَالْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّاسَ لَا يَعُدُّونَهُ مَالًا، وَلَا يُبَاعُ فِي سُوقٍ مَا مِنْ الْأَسْوَاقِ دَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْآدَمِيِّ، وَالْآدَمِيُّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُحْتَرَمٌ مُكَرَّمٌ، وَلَيْسَ مِنْ الْكَرَامَةِ، وَالِاحْتِرَامِ ابْتِذَالُهُ بِالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ لَبَنِ الْحُرَّةِ، وَبَيْنَ لَبَنِ الْأَمَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ آدَمِيٍّ هُوَ مَالٌ فَكَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَسَائِرِ أَجْزَائِهِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْآدَمِيَّ لَمْ يُجْعَلْ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ إلَّا بِحُلُولِ الرِّقِّ فِيهِ، وَالرِّقُّ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي الْحَيِّ، وَاللَّبَنُ لَا حَيَاةَ فِيهِ فَلَا يُحِلُّهُ الرِّقُّ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ سُفْلٌ، وَعُلْوٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ انْهَدَمَا فَبَاعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ عُلْوَهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ لَيْسَ بِمَالٍ. وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ مَا هُوَ مَالٌ، وَبَيْنَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ فِي الْبَيْعِ بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ، وَعَبْدٍ أَوْ بَيْنَ عَصِيرٍ، وَخَمْرٍ أَوْ بَيْنَ ذَكِيَّةٍ، وَمَيْتَةٍ، وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الثَّمَنِ لَمْ يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ أَصْلًا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ بَيَّنَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِي الْعَصِيرِ، وَالْعَبْدِ، وَالذَّكِيَّةِ، وَيَبْطُلُ فِي الْحُرِّ، وَالْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ قِنٍّ، وَمُدَبَّرٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ، وَمُكَاتَبٍ أَوْ بَيْنَ عَبْدِهِ، وَعَبْدِ غَيْرِهِ، وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً؛ جَازَ الْبَيْعُ فِي عَبْدِهِ بِلَا خِلَافٍ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفَسَادَ بِقَدْرِ الْمُفْسِدِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ، وَالْمُفْسِدُ خَصَّ أَحَدَهُمَا، فَلَا يَتَعَمَّمُ الْحُكْمُ مَعَ خُصُوصِ الْعِلَّةِ، فَلَوْ جَاءَ الْفَسَادُ إنَّمَا يَجِيءُ مِنْ قِبَلِ جَهَالَةِ الثَّمَنِ، فَإِذَا بَيَّنَ حِصَّةَ كُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الثَّمَنِ؛ فَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ الْقِنِّ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْمُدَبَّرِ أَوْ الْمُكَاتَبِ أَوْ أُمِّ الْوَلَدِ، وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً، كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ فَسَدَتْ فِي أَحَدِهِمَا فَلَا تَصِحُّ فِي الْآخَرِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ أَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لَمْ يَتَكَرَّرْ، وَالْبَائِعُ، وَاحِدٌ، وَالْمُشْتَرِي وَاحِدٌ، وَتَفْرِيقُ الثَّمَنِ وَهُوَ التَّسْمِيَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَمْنَعُ اتِّحَادَ الصَّفْقَةِ، دَلَّ أَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ فَسَدَتْ فِي أَحَدِهِمَا بِيَقِينٍ لِخُرُوجِ الْحُرِّ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ بِيَقِينٍ، فَلَا يَصِحُّ فِي الْآخَرِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ صَحِيحَةً وَفَاسِدَةً، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ إذَا لَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا فَكَذَا إذَا سَمَّى؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ وَتَفْرِيقَ الثَّمَنِ لَا يُوجِبُ تَعَدُّدَ الصَّفْقَةِ لِاتِّحَادِ الْبَيْعِ وَالْعَاقِدَيْنِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعَبِدِ وَالْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الصَّفْقَةَ مَا فَسَدَتْ فِي أَحَدِهِمَا بِيَقِينٍ بَلْ بِالِاجْتِهَادِ الَّذِي يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ وَالْخَطَأَ فَاعْتُبِرَ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي تَصْحِيحِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمُدَبَّرِ؛ لِيَظْهَرَ فِي حَقِّ الْقِنِّ إنْ لَمْ يُمْكِنْ إظْهَارُهُ فِي حَقِّهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الصَّفْقَةِ قَدْ جُعِلَ قَبُولُ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا شَرْطَ الْقَبُولِ فِي الْآخَرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَبِلَ الْعَقْدَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَصِحُّ، وَالْحُرُّ لَا يُحْتَمَلُ قَبُولُ الْعَقْدِ فِيهِ، فَلَا يَصِحُّ الْقَبُولُ فِي الْآخَرِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِقَبُولِ الْعَقْدِ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَصَحَّ قَبُولُ الْعَقْدِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ إظْهَارُهُ فِيهِ بِنَوْعِ اجْتِهَادٍ فَيَجِبُ إظْهَارُهُ فِي الْقِنِّ؛ وَلِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ الْعَقْدِ فِي

أَحَدِهِمَا تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ التَّمَامِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِيهِمَا، فَالْقَبُولُ فِي أَحَدِهِمَا يَكُونُ تَفْرِيقًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ، لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ مَحَلٌّ لِقَبُولِ الْبَيْعِ فِيهِ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا لَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْفُذْ لِلْحَالِ مَعَ احْتِمَالِ النَّفَاذِ فِي الْجُمْلَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِحَقِّ الْمُدَبَّرِ. وَهَذَا يَمْنَعُ مَحَلِّيَّةَ الْقَبُولِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي صَاحِبِهِ فَيُجْعَلُ مَحَلًّا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّ الْحُكْمَ هَهُنَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ أَنْ يُسَمِّيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا أَوْ لَا يُسَمِّيَ، وَهُنَاكَ لَا يَخْتَلِفُ دَلَّ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا جَمَعَ بَيْنَ شَاةٍ ذَكِيَّةٍ، وَبَيْنَ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا ثُمَّ إذَا جَازَ الْبَيْعُ فِي أَحَدِهِمَا عِنْدَهُمَا فَهَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ فِيهِ إنْ عَلِمَ بِالْحَرَامِ؟ يَثْبُتْ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالتَّفْرِيقِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا. لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ فَلَا يَنْعَقِدُ فِيمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ كَمَنْ بَاعَ الْكَلَأَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، وَالْمَاءَ الَّذِي فِي نَهْرِهِ أَوْ فِي بِئْرِهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَأَ وَإِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ مُبَاحٌ، وَكَذَلِكَ الْمَاءُ مَا لَمْ يُوجَدْ الْإِحْرَازُ قَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ» ، وَالشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ هِيَ الْإِبَاحَةُ، وَسَوَاءٌ خَرَجَ الْكَلَأُ بِمَاءِ السَّمَاءِ مِنْ غَيْرِ مُؤْنَةٍ أَوْ سَاقَ الْمَاءَ إلَى أَرْضٍ وَلَحِقَهُ مُؤْنَةٌ؛ لِأَنَّ سَوْقَ الْمَاءِ إلَيْهِ لَيْسَ بِإِحْرَازٍ فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْمِلْكِ فِيهِ فَبَقِيَ مُبَاحًا كَمَا كَانَ، وَكَذَا بَيْعُ الْكَمْأَةِ، وَبَيْعُ صَيْدٍ لَمْ يُوجَدْ فِي أَرْضِهِ لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْمِلْكِ فِيهِ، وَكَذَا بَيْعُ الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالصُّيُودِ الَّتِي فِي الْبَرَارِي، وَالطَّيْرِ الَّذِي لَمْ يُصَدْ فِي الْهَوَاءِ، وَالسَّمَكِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ فِي الْمَاءِ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ بَيْعُ رِبَاعِ مَكَّةَ، وَإِجَارَتُهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِعُمُومَاتِ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَرْضِ الْحَرَمِ، وَغَيْرِهَا، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَرَاضِي كُلِّهَا أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ تَمَلُّكُ بَعْضِهَا شَرْعًا لِعَارِضِ الْوَقْفِ كَالْمَسَاجِدِ، وَنَحْوِهَا، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْحَرَمِ فَبَقِيَ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يُحْتَشُّ حَشِيشُهَا» أَخْبَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ، وَهِيَ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ، وَالْحَرَامُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَكَّةُ حَرَامٌ، وَبَيْعُ رِبَاعِهَا حَرَامٌ» ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَضَعَ لِلْحَرَمِ حُرْمَةً، وَفَضِيلَةً، وَلِذَلِكَ جَعَلَهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مَأْمَنًا قَالَ اللَّهُ - تَبَارَك وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ - {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] . فَابْتِذَالُهُ بِالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَالتَّمْلِيكِ، وَالتَّمَلُّكِ امْتِهَانٌ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَرَاضِي، وَقِيلَ: إنَّ بُقْعَةَ مَكَّةَ وَقْفٌ حَرَمُ سَيِّدِنَا إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَا حُجَّةَ فِي الْعُمُومَاتِ؛ لِأَنَّهُ خُصَّ مِنْهَا الْحَرَمُ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَيَجُوزُ بَيْعُ بِنَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ الْحَرَمَ لِلْبُقْعَةِ لَا لِلْبِنَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كُرِهَ إجَارَةُ بُيُوتِ مَكَّةَ فِي الْمَوْسِمِ مِنْ الْحَاجِّ، وَالْمُعْتَمِرِ، فَأَمَّا مِنْ الْمُقِيمِ وَالْمُجَاوِرِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَيَجُوزُ بَيْعُ أَرَاضِي الْخَرَاجِ، وَالْقَطِيعَةِ، وَالْمُزَارَعَةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْإِكَارَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْخَرَاجِ أَرْضُ سَوَادِ الْعِرَاقِ الَّتِي فَتَحَهَا سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَرَاضِيهِمْ فَكَانَتْ مُبْقَاةً عَلَى مِلْكِهِمْ فَجَازَ لَهُمْ بَيْعُهَا وَأَرْضُ الْقَطِيعَةِ هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي قَطَعَهَا الْإِمَامُ لِقَوْمٍ، وَخَصَّهُمْ بِهَا فَمَلَكُوهَا بِجُعْلِ الْإِمَامِ لَهُمْ فَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَأَرْضُ الْمُزَارَعَةِ أَنْ يَدْفَعَ الْإِنْسَانُ أَرْضَهُ إلَى مَنْ يَزْرَعُهَا، وَيَقُومُ بِهَا، وَبِهَذَا لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً، وَأَرْضُ الْإِجَارَةِ هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي يَأْخُذُهَا الْإِنْسَانُ مِنْ صَاحِبِهَا لِيَعْمُرَهَا، وَيَزْرَعَهَا، وَأَرْضُ الْإِكَارَةِ الَّتِي فِي أَيْدِي الْأَكَرَةِ فَيَجُوزُ بَيْعُ هَذِهِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِأَصْحَابِهَا. وَأَمَّا أَرْضُ الْمَوَاتِ الَّتِي أَحْيَاهَا رَجُلٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهَا لَا تُمْلَكُ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّهَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْإِحْيَاءِ، وَالْمَسْأَلَةُ تُذْكَرُ فِي كِتَابِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ دُورِ بَغْدَادَ، وَحَوَانِيتِ السُّوقِ الَّتِي لِلسُّلْطَانِ عَلَيْهَا غَلَّةٌ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْمَنْصُورَ أَذِنَ لِلنَّاسِ فِي بِنَائِهَا، وَلَمْ يَجْعَلْ الْبُقْعَةَ مِلْكًا لَهُمْ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) وَهُوَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ عِنْدَ

الْبَيْعِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَنْعَقِدْ، وَإِنْ مَلَكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ إلَّا السَّلَمَ خَاصَّةً، وَهَذَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ «، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» ، وَلَوْ بَاعَ الْمَغْصُوبَ فَضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهُ نَفَذَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ قَدْ تَقَدَّمَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَهَهُنَا تَأَخَّرَ سَبَبُ الْمِلْكِ فَيَكُونُ بَائِعًا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ فَدَخَلَ تَحْتَ النَّهْيِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ مِلْكًا؛ لِأَنَّ قِصَّةَ الْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ «حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ كَانَ يَبِيعُ النَّاسَ أَشْيَاءَ لَا يَمْلِكُهَا، وَيَأْخُذُ الثَّمَنَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَدْخُلُ السُّوقَ فَيَشْتَرِي، وَيُسَلِّمَ إلَيْهِمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» ، وَلِأَنَّ بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ عَنْ نَفْسِهِ تَمْلِيكُ مَا لَا يَمْلِكُهُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَأَنَّهُ مُحَالٌ. وَهُوَ الشَّرْطُ فِيمَا يَبِيعُهُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ عَنْ نَفْسِهِ فَأَمَّا مَا يَبِيعُهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ غَيْرِهِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْبَائِعُ وَكِيلًا وَكَفِيلًا فَيَكُونُ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنْ كَانَ فُضُولِيًّا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِلِانْعِقَادِ عِنْدَنَا بَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ النَّفَاذ فَإِنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ عِنْدَنَا مُنْعَقِدٌ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِنْ أَجَازَ نَفَذَ، وَإِنْ رَدَّ بَطَلَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِهِ، وَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ بَاطِلٌ عِنْدَهُ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ عِنْدَهُ لَا يَنْعَقِدْ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ كَبَيْعِ الْآبِقِ فِي جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ حَتَّى لَوْ ظَهَرَ يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ إلَّا إذَا تَرَاضَيَا فَيَكُونُ بَيْعًا مُبْتَدَأً بِالتَّعَاطِي فَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا وَامْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ التَّسْلِيمِ لَا يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَلَوْ سَلَّمَ وَامْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْقَبْضِ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبْضِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْآبِقِ حَتَّى لَوْ ظَهَرَ وَسُلِّمَ يَجُوزُ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْبَيْعِ إلَّا إذَا كَانَ الْقَاضِي فَسَخَهُ بِأَنْ رَفَعَهُ الْمُشْتَرِي إلَى الْقَاضِي فَطَالَبَهُ بِالتَّسْلِيمِ وَعَجَزَ عَنْ التَّسْلِيمِ فَفَسَخَ الْقَاضِي الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ. وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْإِبَاقَ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ يَنْفُذُ، وَلَوْ، وَهَبَهُ مِنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ يَجُوزُ وَكَانَ مِلْكًا لَهُ فَقَدْ بَاعَ مَالًا مَمْلُوكًا لَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْفُذْ لِلْحَالِ لِلْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ فَإِنْ سَلَّمَ زَالَ الْمَانِعُ فَيَنْفُذُ، وَصَارَ كَبَيْعِ الْمَغْصُوبِ الَّذِي فِي يَدِ الْغَاصِبِ إذَا بَاعَهُ الْمَالِكُ لِغَيْرِهِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى التَّسْلِيمِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ لِذَا الْعَاقِدِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا لِفَائِدَةٍ، وَلَا يُفِيدُ إذَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ، وَالْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ ثَابِتٌ حَالَةَ الْعَقْدِ، وَفِي حُصُولِ الْقُدْرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ شَكٌّ، وَاحْتِمَالٌ قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مُنْعَقِدًا بِيَقِينٍ لَا يَنْعَقِدُ لِفَائِدَةٍ تَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِيَقِينٍ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ، وَالِاحْتِمَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَبَقَ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ كَانَتْ ثَابِتَةً لِذَا الْعَقْدِ فَانْعَقَدَ ثُمَّ زَالَتْ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ عَوْدَهَا فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي زَوَالِ الْمُنْعَقِدِ بِيَقِينٍ. وَالثَّابِتُ بِالْيَقِينِ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ فَهُوَ الْفَرْقُ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْمَغْصُوبِ مِنْ غَيْرِ الْغَاصِبِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى التَّسْلِيمِ حَتَّى لَوْ سَلَّمَ يَنْفُذُ، وَلِأَنَّ هُنَاكَ الْمَالِكَ قَادِرٌ عَلَى التَّسْلِيمِ بِقُدْرَةِ السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّهُ يَنْفُذُ لِلْحَالِ لِقِيَامِ يَدِ الْغَاصِبِ صُورَةً فَإِذَا سَلَّمَ زَالَ الْمَانِعُ فَيَنْفُذُ بِخِلَافِ الْآبِقِ؛ لِأَنَّهُ مَعْجُوزُ التَّسْلِيمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إذْ لَا تَصِلُ إلَيْهِ يَدُ أَحَدٍ لِمَا أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ فَكَانَ الْعَجْزُ مُتَقَرِّرًا وَالْقُدْرَةُ مُحْتَمَلَةٌ مَوْهُومَةٌ فَلَا يَنْعَقِدُ مَعَ الِاحْتِمَالِ فَأَشْبَهَ بَيْعُ الْآبِقِ بَيْعَ الطَّيْرِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ فِي الْهَوَاءِ، وَبَيْعَ السَّمَكِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ فِي الْمَاءِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَذَا هَذَا، وَلَوْ جَاءَ إنْسَانٌ إلَى مَوْلَى الْعَبْدِ فَقَالَ: إنَّ عَبْدَكَ عِنْدَ فُلَانٍ فَبِعْهُ مِنِّي، وَأَنَا أَقْبِضُهُ مِنْهُ فَصَدَّقَهُ، وَبَاعَهُ مِنْهُ لَا يَنْفُذُ لِمَا فِيهِ مِنْ عُذْرِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقَبْضِ لَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ حَتَّى لَوْ قَبَضَهُ يَنْفُذُ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْقَبْضِ هَهُنَا ثَابِتَةٌ فِي زَعْمِ الْمُشْتَرِي إلَّا أَنَّ احْتِمَالَ الْمَنْعِ قَائِمٌ فَانْعَقَدَ مَوْقُوفًا عَلَى قَبْضِهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ تَحَقَّقَ مَا زَعَمَهُ فَيَنْفُذُ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ مُتَحَقِّقٌ فَيَمْنَعُ الِانْعِقَادَ. وَلَوْ أَخَذَهُ رَجُلٌ فَجَاءَ إلَى مَوْلَاهُ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ جَازَ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ، وَهَذَا الْبَيْعُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الْآبِقِ، وَهَذَا لَيْسَ بِآبِقٍ فِي حَقِّهِ ثُمَّ إذَا اشْتَرَى مِنْهُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ أَحْضَرَ الْعَبْدَ مَعَ نَفْسِهِ، وَإِمَّا إنْ لَمْ يُحْضِرْهُ فَإِنْ أَحْضَرَهُ صَارَ قَابِضًا لَهُ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ، وَإِنْ لَمْ يُحْضِرْهُ مَعَ نَفْسِهِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ أَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ قَبْضُ أَمَانَةٍ، وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ

لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الضَّمَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّجْدِيدِ بِالْوُصُولِ إلَيْهِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْوُصُولِ يَهْلِكُ عَلَى الْبَائِعِ، وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ صَارَ قَابِضًا لَهُ بِنَفْسِ الْوُصُولِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ بِالْبَرَاجِمِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَبْضِ هُوَ التَّمْكِينُ، وَالتَّخَلِّي، وَارْتِفَاعُ الْمَوَانِعِ عُرْفًا وَعَادَةً حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ لَا لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ صَارَ قَابِضًا لَهُ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهِ يَهْلِكُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ قَبْضُ ضَمَانٍ، وَقَبْضُ الشِّرَاءِ أَيْضًا قَبْضُ الضَّمَانِ فَتَجَانَسَ الْقَبْضَانِ فَتَنَاوَبَا، وَلَوْ كَانَ أَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُشْهِدْ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ عَقِيبَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ هَذَا قَبْضُ ضَمَانٍ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ قَابِضًا إلَّا بَعْدَ الْوُصُولِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا قَبْضُ أَمَانَةٍ عِنْدَهُمَا، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْإِبَاقِ وَاللُّقَطَةِ. وَعَلَى هَذَا بَيْعُ الطَّائِرِ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ، وَطَارَ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْعَقِدُ، وَعَلَى هَذَا بَيْعُ السَّمَكَةِ الَّتِي أَخَذَهَا ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي حَظِيرَةٍ سَوَاءٌ اسْتَطَاعَ الْخُرُوجَ عَنْهَا أَوْ لَا بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَخْذُهَا بِدُونِ الِاصْطِيَادِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَخْذُهَا مِنْ غَيْرِ اصْطِيَادٍ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ كَذَا الْبَيْعُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ لَا يَجْتَمِعُ فِي الضَّرْعِ دَفْعَةً وَاحِدَةً بَلْ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيَخْتَلِطَ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا فَكَانَ الْمَبِيعُ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْبَيْعِ فَلَا يَنْعَقِدُ، وَكَذَا بَيْعُ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ يَنْمُو سَاعَةً فَسَاعَةً فَيَخْتَلِطُ الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْعَقْدِ بِالْحَادِثِ بَعْدَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا فَصَارَ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ بِالْجَزِّ وَالنَّتْفِ وَاسْتِخْرَاجِ أَصْلِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ» . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَ بَيْعَهُ، وَالصُّلْحَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ جَزُّهُ قَبْلَ الذَّبْحِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَبَيْعِ الْقَصِيلِ فِي الْأَرْضِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَصِيلِ، وَالصُّوفِ لِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الصُّوفَ لَا يُمْكِنُ جَزُّهُ مِنْ أَصْلِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ الشَّاةَ بِخِلَافِ الْقَصِيلِ. وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ إمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ مَالٍ حُكْمِيٍّ فِي الذِّمَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ فِعْلِ تَمْلِيكِ الْمَالِ وَتَسْلِيمِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ، وَلَوْ شَرَطَ التَّسْلِيمَ عَلَى الْمَدْيُونِ لَا يَصِحُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ التَّسْلِيمَ عَلَى غَيْرِ الْبَائِعِ فَيَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى التَّسْلِيمِ هَهُنَا، وَنَظِيرُ بَيْعِ الْمَغْصُوبِ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْغَاصِبِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِهِ إذَا كَانَ الْغَاصِبُ مُنْكِرًا، وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمَالِكِ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ. ، وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُجَمَّدِ؟ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ الْمُجَمَّدَةَ أَوَّلًا إلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَمَّا إذَا بَاعَ ثُمَّ سَلَّمَ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إلَى أَنْ يُسَلِّمَ بَعْضَهُ يَذُوبُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِ جَمِيعِهِ إلَى الْمُشْتَرِي، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ، وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا بَاعَهُ، وَسَلَّمَهُ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ يَجُوزُ، وَإِنْ سَلَّمَهُ بَعْدَ أَيَّامٍ لَا يَجُوزُ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْيَوْمِ لَا يَنْقُصُ نُقْصَانًا لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى النَّفَاذِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا الْمِلْكُ أَوْ الْوِلَايَةُ أَمَّا الْمِلْكُ. فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ فَلَا يَنْفُذُ بَيْعُ الْفُضُولِيِّ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ، وَالْوِلَايَةِ لَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ أَيْضًا حَتَّى لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِهِ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ الَّتِي لَهَا مُجِيزٌ حَالَةَ الْعَقْدِ مُنْعَقِدَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إجَازَةِ الْمُجِيزِ مِنْ الْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَنَحْوِهَا فَإِنْ أَجَازَ يَنْفُذْ، وَإِلَّا فَيَبْطُلُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَصَرُّفَاتُهُ بَاطِلَةٌ. (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ صِحَّةَ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْمِلْكِ أَوْ بِالْوِلَايَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ أَحَدُهُمَا فَلَا تَصِحَّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ هُوَ اعْتِبَارُهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ الَّذِي، وُضِعَ لَهُ شَرْعًا لَا يُعْقَلُ لِلصِّحَّةِ مَعْنًى سِوَى هَذَا. (فَأَمَّا) الْكَلَامُ الَّذِي لَا حُكْمَ لَهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا شَرْعًا، وَالْحُكْمُ الَّذِي وُضِعَ لَهُ الْبَيْعُ شَرْعًا وَهُوَ الْمِلْكُ لَا يَثْبُتُ حَالَ وُجُودِهِ لِعَدَمِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الْمِلْكُ أَوْ الْوِلَايَةُ فَلَمْ يَصِحَّ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ شِرَاؤُهُ فَكَذَا بَيْعُهُ. (وَلَنَا) عُمُومَاتُ الْبَيْعِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ - تَبَارَكَ، وَتَعَالَى - {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ، وَقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]

وَقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] شَرَعَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَالتِّجَارَةَ وَابْتِغَاءَ الْفَضْلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا وُجِدَ مِنْ الْمَالِكِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَبَيْنَ مَا إذَا وُجِدَ مِنْ الْوَكِيلِ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ بَيْنَ مَا إذَا، وُجِدَتْ الْإِجَارَةُ مِنْ الْمَالِكِ فِي الِانْتِهَاءِ وَبَيْنَ وُجُودِ الرِّضَا فِي التِّجَارَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِهَا إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنَّهُ دَفَعَ دِينَارًا إلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ، ثُمَّ بَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، وَجَاءَ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَارَكَ اللَّهُ فِي صَفْقَةِ يَمِينِكَ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَكِيمٌ مَأْمُورًا بِبَيْعِ الشَّاةِ فَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ تَصَرُّفُهُ لَمَا بَاعَ، وَلَمَا دَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْخَيْرِ، وَالْبَرَكَةِ عَلَى مَا فَعَلَ، وَلَأَنْكَرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْبَاطِلَ يُنْكَرُ، وَلِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَجْهِ الْأَحْسَنِ مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَحْسَنِ هَهُنَا، وَقَدْ قَصَدَ الْبِرَّ بِهِ وَالْإِحْسَانَ إلَيْهِ بِالْإِعَانَةِ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لِلْمَالِكِ فِي زَعْمِهِ لِعِلْمِهِ بِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ لَكِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لِمَوَانِعَ، وَقَدْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ زَوَالُ الْمَانِعِ فَأَقْدَمَ عَلَيْهِ نَظَرًا لِصَدِيقِهِ، وَإِحْسَانًا إلَيْهِ لِبَيَانِ الْمَحْمَدَةِ وَالثَّنَاءِ لِتُحْمَلَ مُؤْنَةُ مُبَاشَرَةِ التَّصَرُّفِ الَّذِي هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ وَالثَّوَابُ مِنْ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِالْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ، وَقَالَ - تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ - {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] إلَّا أَنَّ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ ضَرَرًا فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ لِلنَّاسِ رَغَائِبَ فِي الْأَعْيَانِ، وَقَدْ يُقْدِمُ الرَّجُلُ عَلَى شَيْءٍ ظَهَرَتْ لَهُ الْحَاجَةُ عَنْهُ بِإِزَالَتِهِ عَنْ مِلْكِهِ لِحُصُولِ غَرَضِهِ بِدُونِ ذَلِكَ وَنَحْو ذَلِكَ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ظَنَّهُ مُبَاشِرَ التَّصَرُّفِ إجَازَةً وَحَصَلَ لَهُ النَّفْعُ مِنْ جِهَتِهِ، فَيَنَالُ الثَّوَابَ وَالثَّنَاءَ وَإِلَّا فَلَا يُجِيزُهُ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِقَصْدِ الْإِحْسَانِ وَإِيصَالِ النَّفْعِ إلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِإِهْدَارِ هَذَا التَّصَرُّفِ، وَإِلْحَاقُ كَلَامِهِ، وَقَصْدُهُ بِكَلَامِ الْمَجَانِينِ، وَقَصْدِهِمْ مَعَ نَدْبِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - إلَى ذَلِكَ، وَحَثِّهِ عَلَيْهِ لِمَا تَلَوْنَا مِنْ الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ صِحَّةُ التَّصَرُّفِ عِبَارَةٌ عَنْ اعْتِبَارِهِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ قُلْنَا نَعَمْ، وَعِنْدَنَا هَذَا التَّصَرُّفُ مُفِيدٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِيمَا يَتَضَرَّرُ الْمَالِكُ بِزَوَالِهِ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ إمَّا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ بِوَجْهٍ لَكِنْ لَا يَظْهَرُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ التَّوَقُّفِ عِنْدَنَا أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي الْجَوَابِ فِي الْحَالِ أَنَّهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْحُكْمِ أَمْ لَا، وَلَا يَقْطَعُ الْقَوْلَ بِهِ لِلْحَالِ، وَلَكِنْ يَقْطَعُ الْقَوْلَ بِصِحَّتِهِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ، وَهَذَا جَائِزٌ، وَلَهُ نَظَائِرُ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوْ الْمُشْتَرِي عَلَى مَا عُرِفَ. (وَأَمَّا) شِرَاءُ الْفُضُولِيِّ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِهِ. ثُمَّ الْإِجَازَةُ إنَّمَا تَلْحَقُ تَصَرُّفَ الْفُضُولِيِّ عِنْدَنَا بِشَرَائِطَ. (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ لَهُ مُجِيزٌ عِنْدَ وُجُودِهِ فَمَا لَا مُجِيزَ لَهُ عِنْدَ وُجُودِهِ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ؛ لِأَنَّ مَا لَهُ مُجِيزٌ مُتَصَوَّرٌ مِنْهُ الْإِذْنُ لِلْحَالِ، وَبَعْدَ وُجُودِ التَّصَرُّفِ فَكَانَ الِانْعِقَادُ عِنْدَ الْإِذْنِ الْقَائِمِ مُفِيدًا فَيَنْعَقِدُ، وَمَا لَا مُجِيزَ لَهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِذْنُ بِهِ لِلْحَالِ، وَالْإِذْنُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَدْ يَحْدُثُ، وَقَدْ لَا يَحْدُثُ فَإِنْ حَدَثَ كَانَ الِانْعِقَادُ مُفِيدًا، وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا فَلَا يَنْعَقِدْ مَعَ الشَّكِّ فِي حُصُولِ الْفَائِدَةِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ، وَإِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ لِلْمُنْعَقِدِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا طَلَّقَ الْفُضُولِيُّ امْرَأَةَ الْبَالِغِ، أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ أَوْ وَهَبَ مَالَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ الْبَالِغَ يَمْلِكُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِنَفْسِهِ فَكَانَ لَهَا مُجِيزًا حَالَ وُجُودِهَا فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى الصَّبِيِّ لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لَا تَنْعَقِدُ؟ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا مُجِيزٌ حَالَ وُجُودِهَا فَلَمْ تَنْعَقِدْ. وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ إذَا بَاعَ مَالَ نَفْسِهِ أَوْ اشْتَرَى أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً أَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ أَوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ أَوْ فَعَلَ بِنَفْسِهِ مَا لَوْ فَعَلَ عَلَيْهِ، وَلِيُّهُ لَجَازَ عَلَيْهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ، وَلِيِّهِ مَا دَامَ صَغِيرًا أَوْ عَلَى إجَازَتِهِ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ إنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ وَلِيِّهِ فِي حَالِ صِغَرِهِ حَتَّى لَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ قَبْلَ إجَازَةِ الْوَلِيِّ فَأَجَازَ بِنَفْسِهِ جَازَ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى نَفْسِ الْبُلُوغِ مِنْ غَيْرِ إجَازَةٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَهَا مُجِيزٌ حَالَ، وُجُودِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَهَا، وَلِيُّهُ جَازَتْ فَاحْتُمِلَ التَّوَقُّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ بِنَفْسِهِ أَيْضًا بَعْدَ الْبُلُوغِ كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ، وَلِيِّهِ فِي حَالِ صِغَرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ فَقَدْ مَلَكَ الْإِنْشَاءَ فَأَوْلَى أَنْ يَمْلِكَ الْإِجَازَةَ، وَلِأَنَّ، وَلَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَوْقَ، وَلَايَةِ، وَلِيِّهِ عَلَيْهِ فِي حَالِ صِغَرِهِ فَلَمَّا

جَازَ بِإِجَازَةِ وَلِيِّهِ فَلَأَنْ يَجُوزَ بِإِجَازَةِ نَفْسِهِ أَوْلَى، وَلَا يَجُوزُ بِمُجَرَّدِ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ لَهَا حُكْمُ الْإِنْشَاءِ مِنْ وَجْهٍ، وَأَنَّهُ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَالْبُلُوغُ لَيْسَ صُنْعَهُ، فَلَا يَعْقِلُ إجَازَةً، وَكَذَا إذَا وَكَّلَ الصَّبِيُّ، وَكِيلًا بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَفَعَلَ الْوَكِيلُ قَبْلَ بُلُوغِ الصَّبِيِّ أَوْ بَعْدَهُ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَتِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ إلَّا التَّوْكِيلَ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ بَلْ يَنْفُذُ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ وَجَدَ نَفَاذًا عَلَى الْوَكِيلِ فَلَا يَتَوَقَّفُ إلَّا إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْوَكِيلُ فَأَجَازَ التَّوْكِيلَ، ثُمَّ اشْتَرَى الْوَكِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَكُونَ الشِّرَاءُ لِلصَّبِيِّ لَا لِلْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ إجَازَةَ الْوَكَالَةِ مِنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ التَّوْكِيلِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ ابْتِدَاءً لَكَانَ الشِّرَاءُ لَهُ لَا لِلْوَكِيلِ كَذَا هَذَا، وَبِمِثْلِهِ إذَا طَلَّقَ الصَّبِيُّ امْرَأَتَهُ أَوْ خَالَعَهَا أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ أَوْ عَلَى مَالٍ أَوْ وَهَبَ مَالَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ أَوْ زَوَّجَ عَبْدَهُ امْرَأَةً أَوْ بَاعَ مَالَهُ بِمُحَابَاةٍ أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ قَدْرَ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ عَادَةً أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مِمَّا فَعَلَهُ، وَلِيُّهُ فِي حَالِ صِغَرِهِ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ لَا يَنْعَقِدُ حَتَّى لَوْ أَجَازَ وَلِيُّهُ أَوْ الصَّبِيُّ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَيْسَ لَهَا مُجِيزٌ حَالَ وُجُودِهَا، فَلَا تَحْتَمِلُ التَّوَقُّفَ عَلَى الْإِجَازَةِ، إلَّا إذَا أَجَازَهُ الصَّبِيُّ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِلَفْظٍ يَصْلُحُ لِلْإِنْشَاءِ بِأَنْ يَقُولَ بَعْدَ الْبُلُوغِ: أَوْقَعْتُ ذَلِكَ الطَّلَاقَ، أَوْ ذَلِكَ الْعَتَاقَ فَيَجُوزَ، وَيَكُونَ ذَلِكَ إنْشَاءَ الْإِجَازَةِ وَلَوْ وَكَّلَ الصَّبِيُّ وَكِيلًا بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، فَفَعَلَ الْوَكِيلُ يُنْظَرُ، إنْ فَعَلَ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَا يَتَوَقَّفْ، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ فَعَلَ الصَّبِيُّ بِنَفْسِهِ لَا يَتَوَقَّفُ، فَكَذَا إذَا فَعَلَهُ الْوَكِيلُ، وَإِنْ فَعَلَ بَعْدَ الْبُلُوغِ يَتَوَقَّفْ عَلَى إجَازَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْفُضُولِيِّ عَلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فَأَجَازَ التَّوْكِيلَ بَعْدَ الْبُلُوغِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ الْوَكِيلُ شَيْئًا ثُمَّ فَعَلَ جَازَ؛ لِأَنَّ إجَازَةَ التَّوْكِيلِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ إنْشَائِهِ، وَكَذَا وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ لَا تَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهَا تَصَرُّفٌ لَا مُجِيزَ لَهُ حَالَ وُجُودِهِ. أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ الْوَلِيُّ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ؟ فَلَا يَتَوَقَّفُ، وَسَوَاءٌ أَطْلَقَ الْوَصِيَّةَ أَوْ أَضَافَهَا إلَى حَالِ الْبُلُوغِ؛ لِمَا قُلْنَا حَتَّى لَوْ أَوْصَى ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْبُلُوغِ، أَوْ بَعْدَهُ لَا تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ إلَّا إذَا بَلَغَ، وَأَجَازَ تِلْكَ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَتَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْوَصِيَّةِ، وَلَوْ أَنْشَأَ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْبُلُوغِ صَحَّ كَذَا هَذَا. وَعَلَى هَذَا تَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ أَنَّ مَا لَهُ مُجِيزٌ حَالَ وُجُودِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى، وَمَا لَا مُجِيزَ لَهُ حَالَةَ وُجُودِهِ يَبْطُلُ، وَلَا يَتَوَقَّفُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفِقْهِ إلَّا أَنَّ بَيْنَ الْمُكَاتَبِ، وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، وَالصَّبِيِّ فَرْقًا مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ أَوْ الْمَأْذُونَ إذَا فَعَلَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ بِأَنْ زَوَّجَ نَفْسَهُ امْرَأَةً ثُمَّ عَتَقَ يَنْفُذُ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ، وَفِي الصَّبِيِّ لَا يَنْفُذُ بِنَفْسِ الْبُلُوغِ مَا لَمْ تُوجَدْ الْإِجَارَةُ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْعَبْدَ بَعْدَ الْإِذْنِ يَتَصَرَّفُ بِمَالِكِيَّةِ نَفْسِهِ عَلَى مَا عَرَفَ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ لِلْحَالِ، إلَّا أَنَّهُ تَوَقَّفَ لِحَقِّ الْمَوْلَى، فَإِذَا عَتَقَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَنَفَذَ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ فَإِنَّ فِي أَهْلِيَّتِهِ قُصُورًا لِقُصُورِ عَقْلِهِ فَانْعَقَدَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ، وَالْبُلُوغُ لَيْسَ بِإِجَازَةٍ عَلَى مَا مَرَّ. (وَأَمَّا) حُكْمُ شِرَاءِ الْفُضُولِيِّ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْفُضُولِيَّ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ، وَإِمَّا إنْ أَضَافَهُ إلَى الَّذِي اشْتَرَى لَهُ فَإِنْ أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ كَانَ الْمُشْتَرَى لَهُ سَوَاءٌ وُجِدَتْ الْإِجَازَةُ مِنْ الَّذِي اشْتَرَى لَهُ أَوْ لَمْ تُوجَدْ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ إذَا وَجَدَ نَفَاذًا عَلَى الْعَاقِدِ نَفَذَ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ مِنْ قَائِلٍ - {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 286] . وَقَالَ - عَزَّ مِنْ قَائِلٍ - {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] ، وَشِرَاءُ الْفُضُولِيِّ كَسْبَهُ حَقِيقَةٌ، فَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ إلَّا إذَا جَعَلَهُ لِغَيْرِهِ أَوْ لَمْ يَجِدْ نَفَاذًا عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فَيَتَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الَّذِي اشْتَرَى لَهُ بِأَنْ كَانَ الْفُضُولِيُّ صَبِيًّا مَحْجُورًا أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا فَاشْتَرَى لِغَيْرِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَمْ يَجِدْ نَفَاذًا عَلَيْهِ فَيَتَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الَّذِي اشْتَرَى لَهُ ضَرُورَةً فَإِنْ أَجَازَ نَفَذَ، وَكَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ لَا عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ لُزُومِ الْعُهْدَةِ، وَإِنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الَّذِي اشْتَرَى لَهُ بِأَنْ قَالَ الْفُضُولِيُّ لِلْبَائِعِ: بِعْ عَبْدَكَ هَذَا مِنْ فُلَانٍ بِكَذَا، فَقَالَ: بِعْتُ، وَقَبِلَ الْفُضُولِيُّ الْبَيْعَ فِيهِ لِأَجْلِ فُلَانٍ أَوْ قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ فُلَانٍ بِكَذَا، وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ مِنْهُ لِأَجْلِ فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُشْتَرِي لَهُ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَصْلِ إلَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ لِغَيْرِهِ بِحَقِّ الْوَكَالَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَهُنَا جَعَلَهُ لِغَيْرِهِ فَيَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ. وَلَوْ قَالَ الْفُضُولِيُّ لِلْبَائِعِ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ هَذَا الْعَبْدَ بِكَذَا لِأَجْلِ فُلَانٍ، فَقَالَ: بِعْتُ أَوْ قَالَ الْبَائِعُ لِلْفُضُولِيِّ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الْعَبْدَ بِكَذَا لِفُلَانٍ فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ لَا يَتَوَقَّفُ، وَيَنْفُذُ الشِّرَاءُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى فُلَانٍ

فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَإِنَّمَا وُجِدَتْ فِي أَحَدِهِمَا، وَأَحَدُهُمَا شَطْرُ الْعَقْدِ فَلَا يَتَوَقَّفُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ (،) ، وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ لِضَرُورَةِ الْإِضَافَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا يَقَعُ شِرَاؤُهُ لِلْمُوَكِّلِ، وَإِنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ لَا إلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ فَقَدْ أَنَابَهُ مَنَابَ نَفْسِهِ فَكَانَ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ كَتَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ اشْتَرَى بِنَفْسِهِ كَانَ الْمُشْتَرَى لَهُ كَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ - تَعَالَى أَعْلَمُ -، وَلَوْ اشْتَرَى الْفُضُولِيُّ شَيْئًا لِغَيْرِهِ، وَلَمْ يُضِفْ الْمُشْتَرَى إلَى غَيْرِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ الشِّرَاءُ لَهُ فَظَنَّ الْمُشْتَرِي، وَالْمُشْتَرَى لَهُ أَنَّ الْمُشْتَرَى يَكُونُ لِلْمُشْتَرَى لَهُ فَسَلَّمَ إلَيْهِ بَعْدَ الْقَبْضِ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ، وَقَبِلَ الْمُشْتَرَى لَهُ صَحَّ ذَلِكَ. وَيُجْعَلُ ذَلِكَ تَوْلِيَةً كَأَنَّهُ وَلَّاهُ مِنْهُ بِمَا اشْتَرَى، وَلَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الشِّرَاءَ نَفَذَ عَلَيْهِ وَالْمُشْتَرَى لَهُ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ مِنْهُ قَدْ صَحَّتْ، فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ كَمَنْ اشْتَرَى مَنْقُولًا، فَطَلَبَ جَارُهُ الشُّفْعَةَ، فَظَنَّ الْمُشْتَرِي أَنَّ لَهُ شَفَعَةً فَسَلَّمَ إلَيْهِ، ثُمَّ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَنْقُضَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَلَّمَ إلَيْهِ صَارَ ذَلِكَ بَيْعًا بَيْنَهُمَا، وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُشْتَرَى لَهُ: كُنْتُ أَمَرْتُكَ بِالشِّرَاءِ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُهُ لَك بِغَيْرِ أَمَرَكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرَى لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي لَمَّا قَالَ: اشْتَرَيْتُهُ لَكَ كَانَ ذَلِكَ إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَمْرِهِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِأَمْرِهِ عَادَةً فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ثُمَّ إنْ أَخَذَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَحِلَّ لَهُ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ صَادِقًا فِي كَلَامِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - وَإِنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ طَابَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِرِضَاهُ فَصَارَ ذَلِكَ بَيْعًا مِنْهُمَا بِتَرَاضِيهِمَا (وَمِنْهَا) قِيَامُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي حَتَّى لَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْإِجَازَةِ مِنْ الْمَالِكِ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ. (وَمِنْهَا) قِيَامُ الْمَالِكِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَالِكُ قَبْلَ إجَازَتِهِ لَا يَجُوزُ بِإِجَازَةِ وَرَثَتِهِ. (وَمِنْهَا) قِيَامُ الْمَبِيعِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ إجَازَةِ الْمَالِكِ لَا يَجُوزُ بِإِجَازَةِ الْمَالِكِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمَالِكِ يَمْلِكْ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْبَائِعَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ لِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ التَّسْلِيمُ مِنْ الْبَائِعِ وَالْقَبْضُ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ مَالِ الْغَيْرِ وَقَبْضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَأَيُّهُمَا اخْتَارَ تَضْمِينَهُ بَرِئَ الْآخَرُ، وَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ مَلَكَ الْمَضْمُونَ فَلَا يَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ مِنْ غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ، وَهُوَ تَمْلِيكُ شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ مِنْ اثْنَيْنِ عَلَى الْكَمَالِ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ، وَبَطَلَ الْبَيْعُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا ضُمِّنَ كَمَا فِي الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْبَائِعِ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ قَبْضُ الْبَائِعِ قَبْضَ ضَمَانٍ بِأَنْ كَانَ مَغْصُوبًا فِي يَدِهِ نَفَذَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَهُ فَقَدْ مَلَكَ الْمَغْصُوبَ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَيَنْفُذُ، وَإِنْ كَانَ قَبْضُهُ قَبْضَ أَمَانَةٍ بِأَنْ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَهُ فَبَاعَهُ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْ الْبَيْعِ، وَهُوَ التَّسْلِيمُ فَيَمْلِكُ الْمَضْمُونَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ فَيَكُونُ بَائِعًا مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا يَنْفُذُ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَقَالَ: يَجُوزُ الْبَيْعُ بِتَضْمِينِ الْبَائِعِ وَقِيلَ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا سَلَّمَهُ الْبَائِعُ، أَوَّلًا، ثُمَّ بَاعَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَلَّمَهُ أَوَّلًا فَقَدْ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالتَّسْلِيمِ فَتَقَدَّمَ سَبَبُ الضَّمَانِ الْبَيْعَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مَالَ نَفْسِهِ فَيَنْفُذُ، ثُمَّ إنْ كَانَ قِيَامُ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا شَرْطًا لِلُحُوقِ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَلْحَقُ الْقِيَامَ، وَقِيَامُ الْعَقْدِ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَلِأَنَّ الْإِجَازَةَ لَهَا حُكْمُ الْإِنْشَاءِ مِنْ وَجْهٍ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِنْشَاءُ بِدُونِ الْعَاقِدَيْنِ وَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِذَلِكَ كَانَ قِيَامُهَا شَرْطًا لِلُحُوقِ الْإِجَازَةِ فَإِنْ وُجِدَ صَحَّتْ الْإِجَازَةُ، وَصَارَ الْبَائِعُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ إذْ الْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ، وَيَكُونُ الثَّمَنُ لِلْمَالِكِ إنْ كَانَ قَائِمًا؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ، وَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ يَهْلِكْ أَمَانَةً كَمَا إذَا كَانَ وَكِيلًا فِي الِابْتِدَاءِ، وَهَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ، وَلَوْ فَسَخَهُ الْبَائِعُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ انْفَسَخَ وَاسْتَرَدَّ الْمَبِيعَ إنْ كَانَ قَدْ سُلِّمَ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ إنْ كَانَ قَدْ نَقَدَهُ، وَكَذَا إذَا فَسَخَهُ الْمُشْتَرِي يَنْفَسِخُ، وَكَذَا إذَا فَسَخَهُ الْفُضُولِيُّ فَمُحَمَّدٌ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ فَإِنَّ الْفُضُولِيَّ مِنْ جَانِبِ الرَّجُلِ فِي بَابِ النِّكَاحِ إذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ عِنْدَهُ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ الْبَيْعَ الْمَوْقُوفَ لَوْ اتَّصَلَتْ بِهِ الْإِجَازَةُ فَالْحُقُوقُ تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ فَهُوَ بِالْفَسْخِ يَدْفَعُ الْعُهْدَةَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَهُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ

النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ فِي بَابِ النِّكَاحِ لَا تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ، بَلْ هُوَ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ، فَإِذَا فَرَغَ عَنْ السِّفَارَةِ وَالْعِبَارَةِ الْتَحَقَ بِالْأَجَانِبِ، وَأَمَّا قِيَامُ الثَّمَنِ فِي يَدِ الْبَائِعِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِجَازَةِ أَمْ لَا فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا كَالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ، وَالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ، وَالْمَوْزُونِ الْمَوْصُوفِ، وَالْمَكِيلِ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ، وَإِمَّا إنْ كَانَ عَيْنًا كَالْعُرُوضِ فَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَقِيَامُهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلُحُوقِ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَ قِيَامُهُ بِقِيَامِ الذِّمَّةِ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا فَقِيَامُهُ شَرْطٌ لِلُحُوقِ الْإِجَازَةِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ قِيَامَ الْأَرْبَعَةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِجَازَةِ إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا وَإِذَا كَانَ عَيْنًا فَقِيَامُ الْخَمْسِ شَرْطٌ فَإِنْ وُجِدَتْ الْإِجَازَةُ عِنْدَ قِيَامِ الْخَمْسِ جَازَ، وَيَكُونُ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ لَا لِلْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ إذَا كَانَ عَيْنًا كَانَ الْبَائِعُ مُشْتَرِيًا مِنْ وَجْهٍ، وَالشِّرَاءُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ بَلْ يَنْفُذُ عَلَى الْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ نَفَاذًا عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ أَهْلًا، وَهُوَ أَهْلٌ، وَالْمَالِكُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ مَالِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ، وَبِمِثْلِهِ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ لِنَفْسِهِ، وَنَفَذَ الثَّمَنُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ فَيَتَوَقَّفُ النَّقْدُ عَلَى الْإِجَازَةِ فَإِذَا جَازَهُ مَالِكُهُ بَعْدَ النَّقْدِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ، أَوْ بِقِيمَتِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ دَيْنًا كَانَ الْعَاقِدُ بَائِعًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَا يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ أَصْلًا فَتَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِذَا أَجَازَ كَانَ مُجِيزًا لِلْعَقْدِ فَكَانَ بَدَلُهُ لَهُ، وَلَوْ هَلَكَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْفُضُولِيِّ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ، وَيُرَدُّ الْمَبِيعُ إلَى صَاحِبِهِ، وَيَضْمَنُ لِلْمُشْتَرِي مِثْلَهُ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ وَقِيمَتَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَلَوْ تَصَرَّفَ الْفُضُولِيُّ فِي الْعَيْنِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ يُنْظَرُ إنْ تَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَتَصَرُّفُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ يَقِفُ عَلَى الْقَبْضِ، وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ بَعْدَ مَا قَبَضَ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ أَوْ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ مَضْمُونٌ بِهِ، وَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ بِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ، لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ سَوَاءٌ كَانَ قَبَضَ الْمَبِيعَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ؛ لِعَدَمِ إذْنِ مَالِكِهِ - وَاَللَّهُ تَعَالَى - أَعْلَمُ (وَأَمَّا) الْوِلَايَةُ. فَالْوِلَايَةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَثْبُتُ بِتَوْلِيَةِ الْمَالِكِ، وَنَوْعٌ يَثْبُتُ شَرْعًا لَا بِتَوْلِيَةِ الْمَالِكِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ وِلَايَةُ الْوَكِيلِ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَحَلُّ مَمْلُوكًا لَهُ لِوُجُودِ الْوِلَايَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ الْمُوَكِّلِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ وِلَايَةُ الْأَبِ، وَالْجَدِّ أَبُ الْأَبِ، وَالْوَصِيِّ، وَالْقَاضِي، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَيْضًا وِلَايَةُ النِّكَاحِ، وَوِلَايَةُ غَيْرِهِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ أَمَّا وِلَايَةُ النِّكَاحِ فَمَوْضِعُ بَيَانِهَا كِتَابُ النِّكَاحِ. وَأَمَّا وِلَايَةُ غَيْرِهِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ سَبَبِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِهَا، وَفِي بَيَانِ تَرْتِيبِ الْوِلَايَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَسَبَبُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْوِلَايَةِ فِي التَّحْقِيقِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا الْأُبُوَّةُ، وَالثَّانِي الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَبٌ لَكِنْ بِوَاسِطَةٍ، وَوَصِيُّ الْأَبِ وَالْجَدِّ اسْتَفَادَ الْوِلَايَةَ مِنْهُمَا، فَكَانَ ذَلِكَ وِلَايَةَ الْأُبُوَّةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَوَصِيُّ الْقَاضِي يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ الْقَاضِي فَكَانَ ذَلِكَ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ مَعْنًى، أَمَّا الْأُبُوَّةُ فَلِأَنَّهَا دَاعِيَةٌ إلَى كَمَالِ النَّظَرِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ لِوُفُورِ شَفَقَةِ الْأَبِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ لِكَمَالِ رَأْيِهِ وَعَقْلِهِ، وَالصَّغِيرُ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَثُبُوتُ وِلَايَةِ النَّظَرِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْ النَّظَرِ أَمْرٌ مَعْقُولٌ مَشْرُوعٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ، وَمِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ، وَمِنْ بَابِ إعَانَةِ الضَّعِيفِ، وَإِغَاثَةِ اللَّهْفَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ عَقْلًا، وَشَرْعًا، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ شُكْرِ النِّعْمَةِ، وَهِيَ نِعْمَةُ الْقُدْرَةِ إذْ شُكْرُ كُلِّ نِعْمَةٍ عَلَى حَسَبِ النِّعْمَةِ فَشُكْرُ نِعْمَةِ الْقُدْرَةِ مَعُونَةُ الْعَاجِزِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا، وَشَرْعًا فَضْلًا عَنْ الْجَوَازِ، وَوَصِيُّ الْأَبِ قَائِمٌ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَهُ وَاخْتَارَهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَا اخْتَارَهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النَّاسِ إلَّا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ شَفَقَتَهُ عَلَى وَرَثَتِهِ مِثْلَ شَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ارْتَضَاهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النَّاسِ فَكَانَ الْوَصِيُّ خَلَفًا عَنْ الْأَبِ، وَخَلَفُ الشَّيْءِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ، وَالْجَدُّ لَهُ كَمَالُ الرَّأْيِ، وَوُفُورُ الشَّفَقَةِ إلَّا أَنَّ شَفَقَتَهُ دُونَ شَفَقَةِ الْأَبِ فَلَا جُرْمَ تَأَخَّرَتْ وِلَايَتُهُ عَنْ وِلَايَةِ الْأَبِ وَوِلَايَةِ وَصِيِّهِ، وَوَصِيِّ وَصِيِّهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ تِلْكَ وِلَايَةُ الْأَبِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَوَصِيُّ الْجَدِّ قَائِمٌ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ، وَكَذَا وَصِيُّ وَصِيِّهِ، وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَلِأَنَّ الْقَاضِيَ لِاخْتِصَاصِهِ بِكَمَالِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْوَرَعِ وَالتَّقْوَى وَالْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ أَشْفَقُ النَّاسِ عَلَى الْيَتَامَى فَصَلُحَ وَلِيًّا، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا، وَلِيَّ لَهُ» إلَّا أَنَّ شَفَقَتَهُ دُونَ شَفَقَةِ الْأَبِ وَالْجَدِّ؛ لِأَنَّ شَفَقَتَهُمَا تَنْشَأُ عَنْ الْقَرَابَةِ، وَشَفَقَتُهُ لَا، وَكَذَا وَصِيُّهُ

فصل في شرائط النفاذ ومنها الولاية

فَتَأَخَّرَتْ وِلَايَتُهُ عَنْ وِلَايَتِهِمَا. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ النَّفَاذِ وَمِنْهَا الْوِلَايَةُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُهَا فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَلِيِّ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوَلَّى فِيهِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْوَلِيِّ فَأَشْيَاءُ. (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ حُرًّا فَلَا تَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْعَبْدِ لِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] ، وَلِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَكَيْفَ تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى غَيْرِهِ؟ . (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا. فَلَا وِلَايَةَ لِلْمَجْنُونِ لِمَا قُلْنَا. (وَمِنْهَا) إسْلَامُ الْوَلِيِّ إذَا كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ مُسْلِمًا، فَإِنْ كَانَ كَافِرًا لَا تَثْبُتْ لَهُ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ لِقَوْلِهِ -: عَزَّ وَجَلَّ - {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] ، وَلِأَنَّ تَنْفِيذَ الْوِلَايَةِ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ يُشْعِرُ بِالذُّلِّ بِهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ. فَالصِّغَرُ فَلَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ حَاجَةِ نَفْسِهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْحُرِّ تَثْبُتُ مَعَ قِيَامِ الْمُنَافِي لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ حَالَةَ الْقُدْرَةِ فَلَا تَثْبُتُ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَلَّى فِيهِ فَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ بِالْمُوَلَّى عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا» ، وَالْإِضْرَارُ بِالصَّغِيرِ لَيْسَ مِنْ الْمَرْحَمَةِ فِي شَيْءٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَهَبَ مَالَ الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ ضَرَرًا مَحْضًا، وَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَهَبَ بِعِوَضٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَهُ ذَلِكَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْهِبَةَ بِعِوَضٍ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فَمَلَكَهَا كَمَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ. (وَلَهُمَا) أَنَّهَا هِبَةٌ ابْتِدَاءً بِدَلِيلِ أَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا يَقِفُ عَلَى الْقَبْضِ، وَذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْهِبَةِ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُعَاوَضَةً فِي الِانْتِهَاءِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ فَلَمْ تَنْعَقِدْ هِبَتُهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَصِيرَ مُعَاوَضَةً، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، وَهُوَ يَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ، وَلَا أَنْ يُوصِيَ بِهِ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وَالْوَصِيَّةَ إزَالَةُ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ مَالِيٍّ، فَكَانَ ضَرَرًا فَلَا يَمْلِكُهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ سَوَاءٌ كَانَ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، أَمَّا بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ فَلِأَنَّهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ، وَكَذَا بِعِوَضٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ الْعِوَضُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ مُعَلَّقٌ بِنَفْسِ الْقَبُولِ، وَإِذَا أَعْتَقَ بِنَفْسِ الْقَبُولِ يَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ، وَقَدْ يَحْصُلُ، وَقَدْ لَا يَحْصُلُ فَكَانَ الْإِعْتَاقُ ضَرَرًا مَحْضًا لِلْحَالِ، وَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْرِضَ مَالَهُ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ إزَالَةُ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ لِلْحَالِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْقَرْضُ تَبَرُّعٌ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ سَائِرَ التَّبَرُّعَاتِ، كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُقْرِضُ مَالَ الْيَتِيمِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْإِقْرَاضَ مِنْ الْقَاضِي مِنْ بَابِ حِفْظِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ تَوَى الدَّيْنِ بِالْإِفْلَاسِ أَوْ بِالْإِنْكَارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَخْتَارُ أَمْلَى النَّاسِ، وَأَوْثَقَهُمْ، وَلَهُ وِلَايَةُ التَّفَحُّصِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فَيَخْتَارُ مَنْ لَا يَتَحَقَّقُ إفْلَاسُهُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا، وَكَذَا الْقَاضِي يَقْضِي بِعِلْمِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّوَى بِالْإِنْكَارِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْقَاضِي هَذِهِ الْوِلَايَةُ فَبَقِيَ الْإِقْرَاضُ مِنْهُ إزَالَةَ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَابِلَهُ عِوَضٌ لِلْحَالِ فَكَانَ ضَرَرًا فَلَا يَمْلِكُهُ، وَلَهُ أَنْ يَدِينَ مَالَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَصُورَةُ الِاسْتِدَانَةِ أَنْ يَطْلُبَ إنْسَانٌ مِنْ غَيْرِ الْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَهُ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ الصَّغِيرِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ حَتَّى يَجْعَلَ أَصْلَ الشَّيْءِ مِلْكَهُ، وَثَمَنَ الْمَبِيعِ دَيْنًا عَلَيْهِ لِيَرُدَّهُ، فَإِنْ بَاعَهُ مِنْهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى قِيمَتِهِ فَهُوَ عَيْنُهُ، وَإِنَّمَا مَلَكَ الْإِدَانَةَ، وَلَمْ يَمْلِكْ الْقَرْضَ؛ لِأَنَّ الْإِدَانَةَ بَيْعُ مَالِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ الْمَهْرُ بِرَقَبَتِهِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ قَدْرَ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ عَادَةً، وَلَوْ بَاعَ لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ فِي حَقِّهِ، وَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ أَوْ مَالَهُ بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ قَدْرَ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ عَادَةً، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَالِهِ شَيْئًا بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ قَدْرَ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ عَادَةً لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ اشْتَرَى يَنْفُذُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ الْمُشْتَرَى لَهُ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ وَجَدَ نَفَاذًا عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ وَالْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَفْعٌ مَحْضٌ فَيَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خَيْرُ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاسَ» ، وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى الْحَثِّ عَلَى النَّفْعِ، وَالْحَثُّ عَلَى النَّفْعِ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ النَّفْعَ عَبَثٌ، وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ وَيَشْتَرِيَ لَهُ شَيْئًا بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ، وَبِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ مِقْدَارَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ عَادَةً، وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَبِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ قَدْرَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ عَادَةً، وَكَذَا لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِهِ أَوْ بِأَجْرِ مِثْلِهِ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْهُ قَدْرَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ

فِيهِ عَادَةً، وَكَذَا لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لَهُ شَيْئًا بِأَقَلَّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ أَوْ بِأَجْرِ الْمِثْلِ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْهُ قَدْرَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ عَادَةً، وَلَوْ آجَرَ نَفْسَهُ أَوْ مَالَهُ ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ فِي الْمُدَّةِ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي إجَارَةِ النَّفْسِ إنْ شَاءَ مَضَى عَلَيْهَا، وَإِنْ شَاءَ أَبْطَلَهَا، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي إجَارَةِ الْمَالِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ إجَارَةَ مَالِ الصَّغِيرِ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ فَيَقُومُ الْأَبُ فِيهِ مَقَامَهُ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْإِبْطَالِ بِالْبُلُوغِ، فَأَمَّا إجَارَةُ نَفْسِهِ فَتُصْرَفُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْأَضْرَارِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْلِكَهُ الْأَبُ إلَّا أَنَّهُ مَلَكَهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا نَوْعُ رِيَاضَةٍ، وَتَهْذِيبٌ لِلصَّغِيرِ، وَتَأْدِيبٌ لَهُ، وَالْأَبُ يَلِي تَأْدِيبَ الصَّغِيرِ فَوَلِيَهَا عَلَى أَنَّهَا تَأْدِيبٌ فَإِذَا بَلَغَ فَقَدْ انْقَطَعَتْ وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ، وَهُوَ الْفَرْقُ، وَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِمَالِهِ وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَالَهُ مُضَارَبَةً، وَلَهُ أَنْ يُبْضِعَ، وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ، فَكُلُّ مَنْ مَلَكَ التِّجَارَةَ يَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِهَا، وَلِهَذَا مَلَكَهَا الْمَأْذُونُ، وَلَهُ أَنْ يُعِيرَ مَالَهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزُ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْإِعَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ ضَرَرًا. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ، وَضَرُورَاتِهَا فَتُمْلَكُ بِمِلْكِ التِّجَارَةِ، وَلِهَذَا مَلَكَهَا الْمَأْذُونُ، وَلَهُ أَنْ يُودِعَ مَالَهُ؛ لِأَنَّ الْإِيدَاعَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ، وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِالتِّجَارَةِ عِنْدَنَا إذَا كَانَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ دُونَ التِّجَارَةِ فَإِذًا مَلَكَ التِّجَارَةَ بِنَفْسِهِ فَلَأَنْ يَمْلِكَ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ أَوْلَى، وَلَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ، وَلَهُ أَنْ يَرْهَنَ مَالَهُ بِدَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ التَّاجِرَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ، وَهُوَ يَمْلِكُ قَضَاءَ دَيْنِهِ مِنْ مَالِهِ فَيَمْلِكُ الرَّهْنَ بِدَيْنِهِ أَيْضًا، وَلَهُ أَنْ يَرْهَنَ مَالَهُ بِدَيْنِ نَفْسِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْمَرْهُونِ تَحْتَ يَدِ الْمُرْتَهَنِ إلَّا أَنَّهُ إذَا هَلَكَ يَضْمَنُ مِقْدَارَ مَا صَارَ مُؤَدِّيًا مِنْ ذَلِكَ دَيْنَ نَفْسِهِ، وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَالَهُ مُضَارَبَةً عِنْدَ نَفْسِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَوْ لَمْ يُشْهِدْ يَحِلُّ لَهُ الرِّبْحُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُصَدِّقُهُ، وَكَذَلِكَ إذَا شَارَكَ وَرَأْسُ مَالِهِ أَقَلُّ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ، فَإِنْ أَشْهَدَ فَالرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ يَحِلَّ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُصَدِّقُهُ، وَيُجْعَلُ الرِّبْحُ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ مَالِهِمَا، وَمَا عَرَفْتَ مِنْ الْجَوَابِ فِي الْأَبِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي وَصِيِّهِ حَالَ عَدَمِهِ، وَفِي الْجَدِّ وَوَصِيِّهِ حَالَ عَدَمِهِ إلَّا أَنَّ بَيْنَ الْأَبِ وَوَصِيِّهِ، وَبَيْنَ الْجَدِّ وَوَصِيِّهِ فَرْقًا مِنْ وُجُوهٍ مَخْصُوصَةٍ. (مِنْهَا) : أَنَّ الْأَبَ أَوْ الْجَدَّ إذَا اشْتَرَى مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ أَوْ بَاعَ مَالَ نَفْسِهِ مِنْ الصَّغِيرِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ بِأَقَلَّ جَازَ، وَلَوْ فَعَلَ الْوَصِيُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَصْلًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ إنْ كَانَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا. (وَمِنْهَا) أَنَّ لَهُمَا وِلَايَةَ الِاقْتِصَاصِ لِأَجْلِ الصَّغِيرِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، وَلِلْوَصِيِّ وِلَايَةُ الِاقْتِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الِاقْتِصَاصِ فِي النَّفْسِ. (وَمِنْهَا) أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الصُّلْحِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ حَطٍّ بِلَا خِلَافٍ، وَلَيْسَ لَهُمَا وِلَايَةُ الْعَفْوِ، وَفِي جَوَازِ الصُّلْحِ مِنْ الْوَصِيِّ رِوَايَتَانِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْوَجْهَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ. ثُمَّ، وَلِيُّ الْيَتِيمِ هَلْ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ؟ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا كَانَ غَنِيًّا لَا يَأْكُلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] فَأَمَّا إذَا كَانَ فَقِيرًا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ أَوْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ إلَّا قَرْضًا؟ اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ لَكِنْ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ، وَهُوَ قَوْلُ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَأْكُلُ قَرْضًا فَإِذَا أَيْسَرَ قَضَى، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - احْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْأَيْتَامِ عِنْدَ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِمْ. وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي أَيْدِي الْأَوْلِيَاءِ بِطَرِيقِ الْأَمَانَةِ لَكَانَ لَا حَاجَةَ إلَى الْإِشْهَادِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَلِيِّ إذَا قَالَ: دَفَعْتُ الْمَالَ إلَى الْيَتِيمِ عِنْدَ إنْكَارِهِ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الْإِشْهَادِ عِنْدَ الْأَخْذِ قَرْضًا لِيَأْكُلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ الْقَوْلَ قَوْلُ صَاحِبِ الدَّيْنِ لَا قَوْلُ مَنْ يَقْضِي الدَّيْنَ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَسَّرَ قَوْلَهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] قَالَ: قَرْضًا احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] أَطْلَقَ اللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الْوَسَطُ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ. وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَيْسَ لِي مَالٌ، وَلِي يَتِيمٌ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمِكَ

فصل في ترتيب الولاية

غَيْرَ مُسْرِفٍ وَلَا مُتَأَثِّلٍ مَالَكَ بِمَالِهِ» وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ الِاسْتِعْفَافُ مِنْ مَالِهِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَهُ: أُوصِيَ إلَيَّ يَتِيمٌ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَا تَشْتَرِ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْتَقْرِضْ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي تَرْتِيبُ الْوِلَايَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا تَرْتِيبُ الْوِلَايَةِ فَأَوْلَى الْأَوْلِيَاءِ الْأَبُ ثُمَّ وَصِيُّهُ ثُمَّ وَصِيُّ وَصِيِّهِ ثُمَّ الْجَدُّ ثُمَّ وَصِيُّهُ ثُمَّ وَصِيُّ وَصِيِّهِ ثُمَّ الْقَاضِي ثُمَّ مَنْ نَصَّبَهُ الْقَاضِي وَهُوَ وَصِيُّ الْقَاضِي وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الصِّغَارِ بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ لَهُمْ لِعَجْزِهِمْ عَنْ التَّصَرُّفِ بِأَنْفُسِهِمْ، وَالنَّظَرُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الشَّفَقَةِ وَشَفَقَةُ الْأَبِ فَوْقَ شَفَقَةِ الْكُلِّ، وَشَفَقَةُ وَصِيِّهِ فَوْقَ شَفَقَةِ الْجَدِّ؛ لِأَنَّهُ مَرْضِيُّ الْأَبِ وَمُخْتَارُهُ فَكَانَ خَلَفَ الْأَبِ فِي الشَّفَقَةِ وَخَلَفُ الشَّيْءِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ، وَشَفَقَةُ الْجَدِّ فَوْقَ شَفَقَةِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ شَفَقَتَهُ تَنْشَأُ عَنْ الْقَرَابَةِ وَالْقَاضِي أَجْنَبِيٌّ وَلَا شَكَّ أَنَّ شَفَقَةَ الْقَرِيبِ عَلَى قَرِيبِهِ فَوْقَ شَفَقَةِ الْأَجْنَبِيِّ، وَكَذَا شَفَقَةُ وَصِيِّهِ؛ لِأَنَّهُ مَرْضِيُّ الْجَدِّ وَخَلَفُهُ فَكَانَ شَفَقَتُهُ مِثْلَ شَفَقَتِهِ، وَإِذَا كَانَ مَا جُعِلَ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ كَانَتْ الْوِلَايَةُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ الْعِلَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَيْسَ لِمَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ مِنْ الْأُمِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَغَيْرِهِمْ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ عَلَى الصَّغِيرِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْأَخَ وَالْعَمَّ قَاصِرَا الشَّفَقَةِ وَفِي التَّصَرُّفَاتِ تَجْرِي جِنَايَاتٌ لَا يَهْتَمُّ لَهَا إلَّا ذُو الشَّفَقَةِ الْوَافِرَةِ، وَالْأُمُّ وَإِنْ كَانَتْ لَهَا وُفُورُ الشَّفَقَةِ لَكِنْ لَيْسَ لَهَا كَمَالُ الرَّأْيِ لِقُصُورِ عَقْلِ النِّسَاءِ عَادَةً فَلَا تَثْبُتُ لَهُنَّ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَلَا لِوَصِيِّهِنَّ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ خَلَفُ الْمُوصِي قَائِمٌ مَقَامَهُ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ إلَّا قَدْرُ مَا كَانَ لِلْمُوصِي وَهُوَ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَالْحِفْظُ لَكِنْ عِنْدَ عَدَمِ هَؤُلَاءِ. وَلِوَصِيِّ الْأُمِّ وَالْأَخِ أَنْ يَبِيعَ الْمَنْقُولَ وَالْعَقَارَ لِقَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ، وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ لِلصَّغِيرِ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ وَاحِدٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا حَيًّا حَاضِرًا فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ أَصْلًا فِي مِيرَاثِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ لَوْ كَانَ حَيًّا لَا يَمْلِكُهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَكَذَا الْوَصِيُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ لَا غَيْرُ إلَّا أَنَّهُ يَبِيعُ الْمَنْقُولَ لِمَا أَنَّ بَيْعَ الْمَنْقُولِ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ؛ لِأَنَّ حِفْظَ الثَّمَنِ أَيْسَرُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعَقَارَ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ الْحِفْظِ لِكَوْنِهِ مَحْفُوظًا بِنَفْسِهِ وَكَذَا لَا يَبِيعُ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ؛ لِأَنَّهَا مَحْفُوظَةٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا عَلَى سَبِيلِ التِّجَارَةِ وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلصَّغِيرِ مِنْ طَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ وَمَا اسْتَفَادَ الصَّغِيرُ مِنْ الْمَالِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى سِوَى الْإِرْثِ بِأَنْ وُهِبَ لَهُ شَيْءٌ أَوْ أُوصِيَ لَهُ بِهِ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ أَصْلًا عَقَارًا كَانَ أَوْ مَنْقُولًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى عَلَيْهِ وِلَايَةٌ فَكَذَا الْوَصِيُّ. (وَأَمَّا) وَصِيُّ الْمُكَاتَبِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ الْمَنْقُولَ وَالْعَقَارَ لِقَضَاءِ دَيْنِ الْمُكَاتَبِ وَلِقَضَاءِ دَيْنِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ كَانَ يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ فَكَذَا وَصِيُّهُ، وَمَا فَضَلَ مِنْ كَسْبِهِ يَكُونُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ. (أَمَّا) الْأَحْرَارُ مِنْهُمْ: فَلَا شَكَّ، وَكَذَا الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ فِي الْكِتَابَةِ وَمَنْ كُوتِبَ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ بِعِتْقِ أَبِيهِ، وَإِذَا صَارَ الْفَاضِلُ مِنْ كَسْبِهِ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ فَهَلْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِمْ؟ ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا الْحِفْظَ، وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ وَصِيِّ الْأُمِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ، وَفِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ: أَلْحَقَهُ بِوَصِيِّ الْأَبِ فَإِنَّهُ أَجَازَ قِسْمَتَهُ فِي الْعَقَارَاتِ، وَالْقِسْمَةُ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فَمَنْ جَازَتْ قِسْمَتُهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ فَكَانَ فِيهِ رِوَايَتَانِ وَهَذَا إذَا مَاتَ قَبْلَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَأَمَّا إذَا أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ كَانَ وَصِيُّهُ كَوَصِيِّ الْحُرِّ بِلَا خِلَافٍ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَبِيعِ حَقٌّ لِغَيْرِ الْبَائِعِ فَإِنْ كَانَ لَا يَنْعَقِدُ كَالْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْكُتُبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَعْضِهَا أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ مَوْقُوفٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مَمْلُوكٍ لَهُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْزَمُهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْتَكَّ الرَّهْنَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَيُسَلِّمَهُ إلَى الْمَدِينِ وَكَذَا احْتِمَالُ الْإِجَازَةِ مِنْ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ ثَابِتٌ فِي الْبَابَيْنِ جَمِيعًا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْفُذْ لِلْحَالِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمَا فَتَوَقَّفَ وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: فَاسِدٌ عَلَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ ظَاهِرٌ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْمَوْقُوفِ عِنْدَنَا فَإِذَا تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَتِهِمَا فَإِنْ أَجَازَا جَازَ وَنَفَذَ، وَهَلْ يَمْلِكَانِ الْمُطَالَبَةَ بِالْفَسْخِ؟ ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِهِ وَقَالَ: أَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ: فَلَا يَمْلِكُ. وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ: فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَمْلِكُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ حَقَّ الْمُسْتَأْجِرِ فِي

فصل في شرائط الصحة في البيوع

الْمَنْفَعَةِ لَا فِي الْعَيْنِ، إذْ الْإِجَارَةُ عَقْدٌ عَلَى الْمَنْفَعَةِ لَا عَلَى الْعَيْنِ وَالْبَيْعُ عَقْدٌ عَلَى الْعَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ الْبَيْعُ تَصَرُّفًا فِي مَحَلِّ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، وَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي الدَّيْنَ مِنْ بَدَلِ الْعَيْنِ بِالْبَيْعِ عِنْدَ عَدَمِ الِافْتِكَاكِ مِنْ الرَّهْنِ وَلِهَذَا لَوْ أَجَازَ الْبَيْعَ كَانَ الثَّمَنُ رَهْنًا عِنْدَهُ فَكَانَ الْبَيْعُ تَصَرُّفًا فِي مَحَلِّ حَقِّهِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ. وَهَلْ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْفَسْخِ؟ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَرْهُونٌ أَوْ مُؤَجَّرٌ يَثْبُتْ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ لِلْحَالِ وَقَدْ فَاتَ فَيَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ، وَإِنْ عَلِمَ فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ فِي الْجُمْلَةِ. وَلَوْ بَاعَ عَبْدَهُ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ نَفَذَ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ فِي نَفْسِ الْقَاتِلِ وَإِنَّمَا لَهُ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَأَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالْبَيْعِ فَيَجُوزُ الْبَيْعُ، وَلَا يَصِيرُ الْمَوْلَى بِالْبَيْعِ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ سَوَاءً عَلِمَ بِالْجِنَايَةِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَلِيِّ فِي الْقِصَاصِ وَالْبَيْعِ لَا يُبْطِلُ الْقِصَاصَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَ أُمَّهُ فَاسْتَوْلَدَهَا لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا لَوْ بَاعَ عَبْدَهُ الَّذِي هُوَ حَلَالُ الدَّمِ بِالرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُوجِبُ إبَاحَةَ الدَّمِ لَا غَيْر وَالْبَيْعُ لَا يُبْطِلُهَا، وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ عَبْدَهُ الَّذِي وَجَبَ قَطْعُ يَدِهِ بِالسَّرِقَةِ أَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ مِنْ الْحُدُودِ كَحَدِّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِهَذِهِ الْجِنَايَاتِ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ، وَالْحَدُّ وَالْبَيْعُ لَا يُبْطِلُهَا. وَلَوْ بَاعَ عَبْدَهُ الَّذِي وَجَبَ دَفْعُهُ بِالْجِنَايَةِ يَجُوزُ عَلِمَ الْمَوْلَى بِالْجِنَايَةِ أَوْ لَا وَلَا سَبِيلَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي نَفْسِ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا يُخَاطِبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْفِدَاءَ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ يَلْزَمْهُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الْبَيْعِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ اخْتِيَارٌ لِلْفِدَاءِ إذْ لَوْ لَمْ يَخْتَرْ لَمَا بَاعَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي الدَّفْعِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِهِ وَعَلَى تَقْدِيرِ الِاخْتِيَارِ كَانَ الْبَيْعُ إبْطَالًا لِحَقِّهِمْ إلَى بَدَلٍ وَهُوَ الْفِدَاءُ فَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْبَيْعِ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ قَتْلٌ أَوْ قَطْعٌ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ أَوْ حَدٍّ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ هَذِهِ الْحُقُوقِ فَلَمْ يَكُنْ الْإِقْدَامُ عَلَى الْبَيْعِ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ فَلَا تَسْقُطُ هَذِهِ الْحُقُوقُ بَلْ بَقِيَتْ عَلَى حَالِهَا، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ يَلْزَمْهُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ كَانَ الْبَيْعُ اسْتِهْلَاكًا لِلْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتْلَفَ عَلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إلَّا قَدْرَ الْأَرْشِ إلَّا إذَا كَانَ أَقَلُّهُمَا عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَيَنْقُصُ مِنْهَا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ قَتْلِ الْعَبْدِ خَطَأً إذَا بَلَغَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ يَنْقُصُ مِنْهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَ أُمَّهُ فَاسْتَوْلَدَهَا جَازَ وَلَا سَبِيلَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ عَلِمَ بِالْجِنَايَةِ كَانَ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُ لِلْفِدَاءِ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ، وَمَا زَادَ عَلَى هَذَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ جِنَايَاتِ الْعَبِيدِ فِي آخَرِ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ الصِّحَّةِ فِي الْبُيُوع] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الصِّحَّةِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَعُمُّ الْبِيَاعَاتِ كُلَّهَا، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ أَمَّا الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ. (فَمِنْهَا) : مَا ذَكَرْنَا مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ وَالنَّفَاذِ. لِأَنَّ مَا لَا يَنْعَقِدُ وَلَا يَنْفُذُ الْبَيْعُ بِدُونِهِ لَا يَصِحُّ بِدُونِهِ ضَرُورَةً، إذْ الصِّحَّةُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الِانْعِقَادِ وَالنَّفَاذِ، فَكُلُّ مَا كَانَ شَرْطَ الِانْعِقَادِ وَالنَّفَاذِ كَانَ شَرْطَ الصِّحَّةِ ضَرُورَةً، وَلَيْسَ كُلُّ مَا يَكُونُ شَرْطَ الصِّحَّةِ يَكُونُ شَرْطَ النَّفَاذِ وَالِانْعِقَادِ عِنْدَنَا فَإِنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يَنْعَقِدُ وَيَنْفُذُ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ عِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا وَثَمَنُهُ مَعْلُومًا عِلْمًا يَمْنَعُ مِنْ الْمُنَازَعَةِ. فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَسَدَ الْبَيْعُ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا جَهَالَةً لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لَا يَفْسُدْ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ إذَا كَانَتْ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ كَانَتْ مَانِعَةً مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْبَيْعِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ لَا تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَبَيَانُهُ فِي مَسَائِلَ: إذَا قَالَ: بِعْتُكَ شَاةً مِنْ هَذَا الْقَطِيعِ أَوْ ثَوْبًا مِنْ هَذَا الْعِدْلِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ مِنْ الْقَطِيعِ وَالثَّوْبَ مِنْ الْعِدْلِ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ لِتَفَاحُشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ شَاةٍ وَشَاةٍ، وَثَوْبٍ وَثَوْبٍ، فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ، فَإِنْ عَيَّنَ الْبَائِعُ شَاةً أَوْ ثَوْبًا وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ وَرَضِيَ بِهِ جَازَ وَيَكُونُ ذَلِكَ ابْتِدَاءَ بَيْعٍ بِالْمُرَاضَاةِ؛ وَلِأَنَّ الْبِيَاعَاتِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى اسْتِيفَاءِ النُّفُوسِ إلَى انْقِضَاءِ آجَالِهَا وَالتَّنَازُعُ يُفْضِي إلَى التَّفَانِي فَيَتَنَاقَضُ؛ وَلِأَنَّ الرِّضَا شَرْطُ الْبَيْعِ وَالرِّضَا لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْمَعْلُومِ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِلْمَ بِالْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ عِلْمًا مَانِعًا مِنْ الْمُنَازَعَةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْبَيْعِ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ بِهِمَا. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَبَيَانُهُ فِي مَسَائِلَ، وَكَذَا إذَا قَالَ: بِعْتُكَ أَحَدَ هَذِهِ الْأَثْوَابِ الْأَرْبَعَةِ

بِكَذَا وَذَكَرَ خِيَارَ التَّعْيِينِ أَوْ سَكَتَ عَنْهُ أَوْ قَالَ: بِعْتُكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ أَوْ أَحَدَ هَذِهِ الْأَثْوَابِ الثَّلَاثَةِ بِكَذَا وَسَكَتَ عَنْ الْخِيَارِ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَجْهُولٌ، وَلَوْ ذَكَرَ الْخِيَارَ بِأَنْ قَالَ: عَلَى أَنَّكَ بِالْخِيَارِ تَأْخُذُ أَيَّهَا شِئْتَ بِثَمَنِ كَذَا وَتَرُدُّ الْبَاقِيَ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ الْبَيْعُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَفْسُدُ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَبِيعَ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ أَحَدَهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ، كَمَا لَوْ بَاعَ أَحَدَ الْأَثْوَابِ الْأَرْبَعَةِ وَذَكَرَ الْخِيَارَ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ الِاسْتِدْلَال بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا مِسَاسُ الْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخِيَارَيْنِ طَرِيقٌ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ، وَوُرُودُ الشَّرْعِ هُنَاكَ يَكُونُ وُرُودًا هَهُنَا، وَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِالتَّحَرِّي فِي ثَلَاثَةٍ لِاقْتِصَارِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ وَالرَّدِيءِ فَيَبْقَى الْحُكْمُ فِي الزِّيَادَةِ مَرْدُودًا إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ؛ وَلِأَنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوا هَذَا الْبَيْعَ لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْخُلَ السُّوقَ فَيَشْتَرِيَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ خُصُوصًا الْأَكَابِرَ وَالنِّسَاءَ فَيَحْتَاجَ إلَى أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ وَلَا تَنْدَفِعُ حَاجَتُهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ لِمَا عَسَى لَا يُوَافِقُ الْآمِرَ فَيَحْتَاجَ إلَى أَنْ يَشْتَرِيَ أَحَدَ اثْنَيْنِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فَيَحْمِلَهُمَا جَمِيعًا إلَى الْآمِرِ فَيَخْتَارَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالثَّمَنِ الْمَذْكُورِ وَيَرُدَّ الْبَاقِيَ، فَجَوَّزْنَا ذَلِكَ لِتَعَامُلِ النَّاسِ وَلَا تَعَامُلَ فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَقَوْلُهُ: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ قُلْنَا: هَذَا مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ إذَا شَرَطَ الْخِيَارَ بِأَنْ قَالَ: عَلَى أَنْ تَأْخُذَ أَيَّهُمَا شِئْتَ فَقَدْ انْعَقَدَ الْبَيْعُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ لَا لِلْحَالِ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ مَعْلُومٌ مَعَ أَنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى اخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي يَأْخُذُ أَيَّهُمَا شَاءَ فَلَا تَقَعُ الْمُنَازَعَةُ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْمُدَّةِ فِي هَذَا الْخِيَارِ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ لِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْكُتُبِ فَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِي أَيَّهُمَا شَاءَ وَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ: عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِأَلْفٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِيَارَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ هَذَا الْبَيْعُ إلَّا بِذِكْرِ مُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَهُمَا: الثَّلَاثُ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَهُوَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْمُدَّةِ. (وَجْهُ) قَوْلِ الْأَوَّلِينَ: أَنَّ الْمَبِيعَ لَوْ كَانَ ثَوْبًا وَاحِدًا مُعَيَّنًا وَشُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ كَانَ بَيَانُ الْمُدَّةِ شَرْطَ الصِّحَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَذَا إذَا كَانَ وَاحِدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَرْكَ التَّوْقِيتِ تَجْهِيلٌ لِمُدَّةِ الْخِيَارِ وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُمَا جَمِيعًا، وَالثَّابِتُ بِخِيَارِ التَّعْيِينِ رَدُّ أَحَدِهِمَا وَهَذَا حُكْمُ خِيَارِ الشَّرْطِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ. (وَجْهُ) قَوْلِ الْآخَرِينَ: إنَّ تَوْقِيتَ الْخِيَارِ فِي الْمُعَيَّنِ إنَّمَا كَانَ شَرْطًا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ فِيهِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ بِوَاسِطَةِ التَّأَمُّلِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّوْقِيتِ لِيَصِحَّ اسْتِثْنَاءُ ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ عَنْ ثُبُوتِ حُكْمِ الْبَيْعِ فِيهِ، وَخِيَارُ التَّعْيِينِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بَلْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي أَحَدِهِمَا غَيْرَ عَيْنٍ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ تَعَيُّنُ الْمَبِيعِ لَا غَيْرُ، فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ بَيَانُ الْمُدَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا يُورَثُ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، وَخِيَارُ التَّعْيِينِ يُورَثُ بِالْإِجْمَاعِ، إلَّا أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُمَا جَمِيعًا لَا حُكْمًا لِخِيَارِ الشَّرْطِ الْمَعْهُودِ لِيَشْتَرِطَ لَهُ بَيَانَ الْمُدَّةِ بَلْ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْمُضَافَ إلَى أَحَدِهِمَا غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ مَحَلًّا لِلْفَسْخِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ خِيَارٍ مَعْهُودٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ أَوْ دَابَّتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَوْ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَمْ يُعَيَّنْ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ مِنْ الَّذِي لَا خِيَارَ فِيهِ وَلَا بَيْنَ حِصَّةٍ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الثَّمَنِ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ فِيهِمَا جَمِيعًا لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ. (أَمَّا) جَهَالَةُ الْمَبِيعِ: فَلِأَنَّ الْعَقْدَ فِي أَحَدِهِمَا بَاتٌّ وَفِي الْآخَرِ خِيَارٌ وَلَمْ يُعَيَّنْ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا، وَأَمَّا جَهَالَةُ الثَّمَنِ: فَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا بِالْحَزَرِ وَالظَّنِّ فَكَانَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا وَالْمَبِيعُ مَجْهُولًا وَجَهَالَةُ أَحَدِهِمَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَجَهَالَتُهُمَا أَوْلَى. وَكَذَا إذَا عَيَّنَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ لَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ، وَكَذَا إذَا بَيَّنَ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَكِنْ لَمْ يُعَيِّنْ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ مِنْ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَجْهُولٌ وَلَوْ عَيَّنَ وَبَيَّنَ جَازَ الْبَيْعُ فِيهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ مَعْلُومَانِ وَيَكُونُ الْبَيْعُ فِي أَحَدِهِمَا بَاتًّا مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ وَفِي الْآخَرِ فِيهِ خِيَارٌ؛ لِأَنَّهُ هَكَذَا فَعَلَ فَإِذَا أَجَازَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ الْبَيْعَ فِيمَا لَهُ فِيهِ الْخِيَارُ أَوْ مَاتَ أَوْ مَضَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ حَتَّى تَمَّ الْبَيْعُ وَلَزِمَ

الْمُشْتَرِيَ ثَمَنُهُمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا مَا لَمْ يَنْقُدْ ثَمَنَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ لَمَّا سَقَطَ وَلَزِمَ الْعَقْدُ صَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُمَا جَمِيعًا شِرَاءً بَاتًّا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا، فَكَذَا هَذَا وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَاحِدًا أَوْ دَابَّةً وَاحِدَةً بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَوْ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ فِي نِصْفِهِ وَنِصْفُهُ بَاتٌّ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مَعْلُومٌ وَثَمَنُهُ مَعْلُومٌ أَيْضًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ بَاعَ عَدَدًا مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ كَالْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ بِدِرْهَمٍ وَالْجُمْلَةُ أَكْثَرُ مِمَّا سَمَّى فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ، فَإِنْ عَزَلَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الْجُمْلَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيْعٌ مُبْتَدَأٌ بِطَرِيقِ التَّعَاطِي وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: وَإِنَّمَا وَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى هَذَا الْمَعْزُولِ حِينَ تَرَاضَيَا وَهَذَا نَصٌّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ بِالْمُرَاوَضَةِ، وَلَوْ قَالَ بِعْتُ هَذَا الْعَبْدَ بِقِيمَتِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ ثَمَنَهُ قِيمَتَهُ وَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَكَانَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا، وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى مِنْ هَذَا اللَّحْمِ ثَلَاثَةَ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمَوْضِعَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ. وَكَذَلِكَ إذَا بَيَّنَ الْمَوْضِعَ بِأَنْ قَالَ زِنْ لِي مِنْ هَذَا الْجَنْبِ رَطْلًا بِكَذَا أَوْ مِنْ هَذَا الْفَخِذِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي السَّلَمِ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا يَجُوزُ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَجُوزُ وَكَذَا إذَا بَاعَ بِحُكْمِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِحُكْمِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِمَاذَا يَحْكُمُ فُلَانٌ فَكَانَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا وَكَذَا إذَا قَالَ بِعْتُكَ هَذَا بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ أَوْ بِقَفِيزَيْ شَعِيرٍ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ. وَقِيلَ: هُوَ الْبَيْعَانِ فِي بَيْعٍ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعَيْنِ فِي بَيْعٍ» وَكَذَا إذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ أَوْ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ إلَى سَنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ، وَقِيلَ: هُوَ الشَّرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ» وَلَوْ بَاعَ شَيْئًا بِرِبْحِ ده يازده وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي رَأْسَ مَالِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ حَتَّى يَعْلَمَ فَيَخْتَارَ أَوْ يَدَعَ هَكَذَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْلَمْ رَأْسُ مَالِهِ كَانَ ثَمَنُهُ مَجْهُولًا وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَإِذَا عَلِمَ وَرَضِيَ بِهِ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ هُوَ الْجَهَالَةُ عِنْدَ الْعَقْدِ وَقَدْ زَالَتْ فِي الْمَجْلِسِ وَلَهُ حُكْمُ حَالَةِ الْعَقْدِ فَصَارَ كَأَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَتَّى إذَا افْتَرَقَا تَقَرَّرَ الْفَسَادُ. وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْعِلْمِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَقَدْ تَقَرَّرَ الْفَسَادُ بِالْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ بِالْهَلَاكِ خَرَجَ الْبَيْعُ عَنْ احْتِمَالِ الْإِجَازَةِ وَالرِّضَا؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَلْحَقُ الْقَائِمَ دُونَ الْهَالِكِ فَتَقَرَّرَ الْفَسَادُ فَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ، وَرَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ قَالَ: صَحَّ وَهَذِهِ أَمَارَةُ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ فَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ قَبْلَ أَنْ يَرْضَى الْمُشْتَرِي وَقَدْ قَبَضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ انْتَقَضَ الْبَيْعُ وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ عَبْدًا فَقَبَضَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ أَوْ مَاتَ قَبْلَ الْعِلْمِ جَازَ الْعِتْقُ وَالْبَيْعُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِوُجُودِ الْهَلَاكِ حَقِيقَةً بِالْمَوْتِ وَبِالْإِعْتَاقِ فِي الْمَبِيعِ فَخَرَجَ الْبَيْعُ عَنْ احْتِمَالِ الْإِجَازَةِ فَتَأَكَّدَ الْفَسَادُ فَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ مَا عَلِمَ بِرَأْسِ الْمَالِ فَعَلَيْهِ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ، وَلَوْ عَتَقَ بِالْقَرَابَةِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالثَّمَنِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي الْقَرَابَةِ فَلَمْ يُوجَدْ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ فَكَانَ الْعِتْقُ بِهَا بِمَنْزِلَةِ هَلَاكِ الْعَبْدِ قَبْلَ الْعِلْمِ وَهُنَاكَ تَجِبُ الْقِيمَةُ كَذَا هَهُنَا وَكَذَا إذَا بَاعَ الشَّيْءَ بِرَقْمِهِ أَوْ رَأْسِ مَالِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي رَقْمَهُ وَرَأْسَ مَالِهِ فَهُوَ كَمَا إذَا بَاعَ شَيْئًا بِرِبْحِ ده يازده وَلَمْ يَعْلَمْ مَا اشْتَرَى بِهِ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ صَحَّ وَإِنْ كَانَ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ مَجْهُولًا لَكِنْ هَذِهِ جَهَالَةٌ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ الصُّبْرَةَ الْوَاحِدَةَ مُتَمَاثِلَةُ الْقُفْزَانِ بِخِلَافِ الشَّاةِ مِنْ الْقَطِيعِ وَثَوْبٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ بَيْنَ شَاةٍ وَشَاةٍ تَفَاوُتًا فَاحِشًا وَكَذَا بَيْنَ ثَوْبٍ وَثَوْبٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ بَاعَ شَيْئًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَفِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ انْصَرَفَ إلَى النَّقْدِ الْغَالِبِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ خُصُوصًا إذَا كَانَ فِيهِ صِحَّةُ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ غَالِبَةٌ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ إذْ الْبَعْضُ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّ جُمْلَةَ الثَّمَنِ إذَا كَانَتْ مَجْهُولَةً عِنْدَ الْعَقْدِ فِي بَيْعٍ مُضَافٍ إلَى جُمْلَةٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إلَّا فِي الْقَدْرِ الَّذِي جَهَالَتُهُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ مِنْ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ الذَّرْعِيَّاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ وَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ سَمَّى جُمْلَةَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالْعَدَدِ وَالذَّرْعِ فِي الْبَيْعِ وَإِمَّا إنْ لَمْ يُسَمِّ، أَمَّا الْمَكِيلَاتُ: فَإِنْ لَمْ يُسَمِّ جُمْلَتَهَا بِأَنْ قَالَ بِعْتُ مِنْكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلَّ قَفِيزٍ مِنْهَا

بِدِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ إلَّا فِي قَفِيزٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَجُوزُ فِي الْبَاقِي إلَّا إذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي جُمْلَةَ الْقُفْزَانِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بِأَنْ كَالَهَا فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ كُلَّ قَفِيزٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى افْتَرَقَا عَنْ الْمَجْلِسِ تَقَرَّرَ الْفَسَادُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ الْبَيْعُ فِي كُلِّ الصُّبْرَةِ كُلَّ قَفِيزٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ سَوَاءً عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ: كُلُّ قَفِيزٍ مِنْهَا بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ كُلُّ ثَلَاثَةِ أَقْفِزَةٍ مِنْهَا بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْوَزْنُ الَّذِي لَا ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ كَالزَّيْتِ وَتِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ إذَا لَمْ يُسَمِّ جُمْلَتَهَا. (وَأَمَّا) الذَّرْعِيَّاتُ: فَإِنْ لَمْ يُسَمِّ جُمْلَةَ الذُّرْعَانِ بِأَنْ قَالَ بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ هَذِهِ الْخَشَبَةَ كُلَّ ذِرَاعٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي الْكُلِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا إذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي جُمْلَةَ الذُّرْعَانِ فِي الْمَجْلِسِ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى إذَا تَفَرَّقَا تَقَرَّرَ الْفَسَادُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ وَيَلْزَمُهُ كُلُّ ذِرَاعٍ مِنْهُ بِدِرْهَمٍ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ: كُلُّ ذِرَاعَيْنِ بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ كُلُّ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَفَاوِتَةُ كَالْأَغْنَامِ وَالْعَبِيدِ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ كُلَّ شَاةٍ مِنْهَا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَمْ يُسَمِّ جُمْلَةَ الشِّيَاهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْوَزْنِيُّ الَّذِي فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ كَالْمَصُوغِ مِنْ الْأَوَانِي وَالْقُلْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ أَنَّ جُمْلَةَ الْبَيْعِ مَعْلُومَةٌ وَجُمْلَةَ الثَّمَنِ مُمْكِنُ الْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالْعَدَدِ وَالذَّرْعِ فَكَانَتْ هَذِهِ جَهَالَةٌ مُمْكِنَةَ الرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ كَمَا إذَا بَاعَ بِوَزْنِ هَذَا الْحَجَرِ ذَهَبًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ جُمْلَةَ الثَّمَنِ مَجْهُولَةٌ حَالَةَ الْعَقْدِ جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَتُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ كَمَا إذَا بَاعَ الشَّيْءَ بِرَقْمِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ جَهَالَةَ الثَّمَنِ حَالَةَ الْعَقْدِ مَجْهُولَةٌ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ كُلَّ قَفِيزٍ مِنْ الصُّبْرَةِ بِدِرْهَمٍ وَجُمْلَةُ الْقُفْزَانِ لَيْسَتْ بِمَعْلُومَةٍ حَالَةَ الْعَقْدِ فَلَا تَكُونُ جُمْلَةُ الثَّمَنِ مَعْلُومَةً ضَرُورَةً، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ وَالْمَذْرُوعِ. وَقَوْلُهُمَا يُمْكِنُ رَفْعُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ مُسَلَّمٌ لَكِنَّهَا ثَابِتَةٌ لِلْحَالِ إلَى أَنْ تَرْتَفِعَ، وَعِنْدَنَا إذَا ارْتَفَعَتْ فِي الْمَجْلِسِ يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ إلَى الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ وَإِنْ طَالَ فَلَهُ حُكْمُ سَاعَةِ الْعَقْدِ، وَالْبَيْعُ بِوَزْنِ هَذَا الْحَجَرِ ذَهَبًا مَمْنُوعٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ الْمِثْلِيَّاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ وَجْهٍ حَيْثُ جَوَّزَ الْبَيْعَ فِي وَاحِدٍ فِي بَابِ الْأَمْثَالِ وَلَمْ يُجِزْ فِي غَيْرِهَا أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الصِّحَّةِ جَهَالَةُ الثَّمَنِ لِكَوْنِهَا مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَجَهَالَةُ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ غَيْرُ مَانِعَةٍ مَعَ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ أَلَا تَرَى لَوْ اشْتَرَى قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ ابْتِدَاءً جَازَ؟ فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِعُمُومِ كَلِمَةِ. (كُلَّ) صُرِفَتْ إلَى الْخُصُوصِ؛ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي صِيغَةِ الْعَامِّ إذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِعُمُومِهَا أَنَّهَا تُصْرَفُ إلَى الْخُصُوصِ عِنْدَ إمْكَانِ الصَّرْفِ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَفَاوِتَةِ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ شَاةٍ مِنْ قَطِيعٍ وَذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ ذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ وَشَاةٍ مِنْ قَطِيعٍ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً فَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِعُمُومِ كَلِمَةِ (كُلَّ) فَفَسَدَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ، وَلَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ كُلَّ شَاتَيْنِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي الْكُلِّ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي عَدَدَ الْجُمْلَةِ فِي الْمَجْلِسِ وَاخْتَارَ الْبَيْعَ فُرِّقَ بَيْنَ الْمَعْدُودِ الْمُتَفَاوِتِ وَبَيْنَ الْمَذْرُوعِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ الْمُتَقَارِبِ أَنَّ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ هُنَاكَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَإِذَا عَلِمَ فِي الْمَجْلِسِ وَاخْتَارَ الْبَيْعَ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ، وَهَهُنَا لَا يَجُوزُ فِي الِاثْنَيْنِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ عَلِمَ وَاخْتَارَ الْبَيْعَ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْمَانِعَ هُنَاكَ جَهَالَةُ الثَّمَنِ وَهِيَ مُحْتَمِلَةُ الِارْتِفَاعِ وَالزَّوَالِ ثَمَّةَ بِالْعِلْمِ فِي الْمَجْلِسِ فَكَانَ الْمَانِعُ يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ، وَالْجَهَالَةُ هَهُنَا لَا تَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ أَصْلًا؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ لَا يُدْرَى كَمْ هُوَ، وَلَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ جُمْلَةَ الصُّبْرَةِ وَلَكِنَّهُ سَمَّى جُمْلَةَ الثَّمَنِ، لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي الْأَصْلِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ جَهَالَةُ الثَّمَنِ وَلَمْ تُوجَدْ حَيْثُ سَمَّاهَا وَصَارَتْ تَسْمِيَةُ جُمْلَةِ الثَّمَنِ بِمَنْزِلَةِ تَسْمِيَةِ جُمْلَةِ الْمَبِيعِ، وَلَوْ سَمَّى جُمْلَةَ الْمَبِيعِ لَجَازَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ كَذَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا لَمْ يُسَمِّ جُمْلَةَ الْمَبِيعِ مِنْ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَذْرُوعَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ، فَأَمَّا إذَا أَسْمَاهَا بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ، أَوْ قَالَ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقُفْزَانِ ثَمَنًا عَلَى حِدَةٍ أَوْ سَمَّى لِلْكُلِّ ثَمَنًا وَاحِدًا هُمَا سَوَاءٌ، فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ الْمَبِيعِ مَعْلُومَةٌ وَجُمْلَةَ الثَّمَنِ

مَعْلُومَةٌ ثُمَّ إنْ وَجَدَهَا كَمَا سَمَّى فَالْأَمْرُ مَاضٍ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ وَجَدَهَا أَزْيَدَ مِنْ مِائَةِ قَفِيزٍ فَالزِّيَادَةُ لَا تُسَلَّمُ لِلْمُشْتَرِي بَلْ تُرَدُّ إلَى الْبَائِعِ وَلَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي إلَّا قَدْرُ مَا سَمَّى وَهُوَ مِائَةُ قَفِيزٍ وَلَا خِيَارَ لَهُ وَإِنْ وَجَدَهَا أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ قَفِيزٍ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ وَطَرَحَ حِصَّةَ النُّقْصَانِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيمَا لَا ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ لَا تَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ بَلْ هِيَ أَصْلٌ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُقَابِلَهُ الثَّمَنُ، وَلَا ثَمَنَ لِلزِّيَادَةِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ فَكَانَ مِلْكَ الْبَائِعِ فَيُرَدُّ إلَيْهِ، وَالنُّقْصَانُ فِيهِ نُقْصَانُ الْأَصْلِ لَا نُقْصَانُ الصِّفَةِ فَإِذَا وَجَدَهَا أَنْقَصَ مِمَّا سَمَّى؛ نَقَصَ مِنْ الثَّمَنِ حِصَّةَ النُّقْصَانِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى مِائَةِ قَفِيزٍ وَلَمْ تُسَلَّمْ لَهُ فَأَوْجَبَ خَلَلًا فِي الرِّضَا فَيَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ التَّرْكِ وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْمَوْزُونَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِي تَنْقِيصِهَا ضَرَرٌ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا لَا تَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ بَلْ هِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا وَكَذَلِكَ الْمَعْدُودَاتُ الْمُتَقَارِبَةُ. (وَأَمَّا) الْمَذْرُوعَاتِ مِنْ الثَّوْبِ وَالْأَرْضِ وَالْخَشَبِ وَغَيْرِهَا فَإِنْ سَمَّى لِجُمْلَةِ الذُّرْعَانِ ثَمَنًا وَاحِدًا وَلَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ ذِرَاعٍ مِنْهَا عَلَى حِدَةٍ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ وَثَمَنَهُ مَعْلُومَانِ ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ مِثْلَ مَا سَمَّى لَزِمَهُ الثَّوْبُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ وَجَدَهُ أَحَدَ عَشَرَ ذِرَاعًا فَالزِّيَادَةُ سَالِمَةٌ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ وَجَدَهُ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ لَا يَطْرَحُ لِأَجْلِ النُّقْصَانِ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ وَهُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَرْقٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِي تَنْقِيصِهَا ضَرَرٌ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ زِيَادَةَ الذَّرْعِ فِي الذَّرْعِيَّاتِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الصِّفَةِ كَصِفَةِ الْجَوْدَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهَا وَالثَّمَنُ يُقَابِلُ الْأَصْلَ لَا الصِّفَةَ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى الصِّفَةِ أَنَّ وُجُودَهَا يُوجِبُ جَوْدَةً فِي الْبَاقِي وَفَوَاتَهَا يَسْلُبُ صِفَةَ الْجَوْدَةِ وَيُوجِبُ الرَّدَاءَةَ فَتُلْحَقُ الزِّيَادَةُ بِالْجَوْدَةِ وَالنُّقْصَانُ بِالرَّدَاءَةِ حُكْمًا وَالْجَوْدَةُ وَالرَّدَاءَةُ صِفَةٌ، وَالصِّفَةُ تُرَدُّ عَلَى الْأَصْلِ دُونَ الصِّفَةِ، إلَّا أَنَّ الصِّفَةَ تُمْلَكُ تَبَعًا لِلْمَوْصُوفِ لِكَوْنِهَا تَابِعَةً قَائِمَةً بِهِ فَإِذَا زَادَ صَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ رَدِيئًا فَإِذَا هُوَ جَيِّدٌ، كَمَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكَاتِبٍ أَوْ لَيْسَ بِخَيَّاطٍ فَوَجَدَهُ كَاتِبًا أَوْ خَيَّاطًا أَوْ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ أَعْوَرُ فَوَجَدَهُ سَلِيمَ الْعَيْنَيْنِ أَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا ثَيِّبٌ فَوَجَدَهَا بِكْرًا؛ تُسَلَّمُ لَهُ وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ كَذَا هَذَا وَإِذَا نَقَصَ صَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ جَيِّدٌ فَوَجَدَهُ رَدِيئًا أَوْ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ كَاتِبٌ أَوْ خَبَّازٌ أَوْ صَحِيحُ الْعَيْنَيْنِ فَوَجَدَهُ غَيْرَ كَاتِبٍ وَلَا خَبَّازٍ وَلَا صَحِيحَ الْعَيْنَيْنِ أَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ فَوَجَدَهَا ثَيِّبًا؛ لَا يَطْرَحُ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ لَكِنْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ كَذَا هَذَا بِخِلَافِ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ الَّتِي لَا ضَرَرَ فِيهَا إذَا نَقَصَتْ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا غَيْرُ مُلْحَقَةٍ بِالْأَوْصَافِ؛ لِأَنَّهَا أَصْلٌ بِنَفْسِهَا حَقِيقَةً. وَالْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ إلَّا أَنَّهَا أُلْحِقَتْ بِالصِّفَةِ فِي الْمَذْرُوعَاتِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ وُجُودَهَا يُوجِبُ الْجَوْدَةَ وَالْكَمَالَ لِلْبَاقِي وَفَوَاتَهَا يُوجِبُ النُّقْصَانَ وَالرَّدَاءَةَ لَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى هَهُنَا مُنْعَدِمٌ فَبَقِيَتْ أَصْلًا بِنَفْسِهَا حَقِيقَةً وَإِنْ سَمَّى لِكُلِّ ذِرَاعٍ مِنْهَا ثَمَنًا عَلَى حِدَةٍ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنَّهُ عَشْرَةُ أَذْرُعٍ كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِمَا قُلْنَا، ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ مِثْلَ مَا سَمَّى فَالْأَمْرُ مَاضٍ وَلَزِمَهُ الثَّوْبُ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ وَإِنْ وَجَدَهُ أَحَدَ عَشَرَ ذِرَاعًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ أَخَذَ كُلَّهُ بِأَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَإِنْ وَجَدَهُ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ طَرَحَ حِصَّةَ النُّقْصَانِ دِرْهَمًا وَأَخَذَهُ بِتِسْعَةِ دَرَاهِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ وَهَذَا يُشْكِلُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ زِيَادَةَ الذَّرْعِ فِي الْمَذْرُوعَاتِ تَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ لَهَا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يُقَابِلُ الْأَصْلَ دُونَ الْوَصْفِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ سَالِمَةً لِلْمُشْتَرِي وَلَا خِيَارَ لَهُ وَلَا يَطْرَحُ لِأَجْلِ النُّقْصَانِ شَيْئًا كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يُقَابِلُ الْأَصْلَ دُونَ الصِّفَةِ بِمَنْزِلَةِ زِيَادَةِ الْجَوْدَةِ وَنُقْصَانِ الرَّدَاءَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَحَلُّ هَذَا الْإِشْكَالِ أَنَّ الذَّرْعَ فِي الْمَذْرُوعَاتِ إنَّمَا يَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إذَا لَمْ يُفْرِدْ كُلَّ ذِرَاعٍ بِثَمَنٍ عَلَى حِدَةٍ. (فَأَمَّا) إذَا أَفْرَدَ بِهِ فَلَا يَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ مُطْلَقًا بَلْ يَكُونُ أَصْلًا مِنْ وَجْهٍ وَصِفَةً مِنْ وَجْهٍ: فَمِنْ حَيْثُ إنَّ التَّبْعِيضَ فِيهَا يُوجِبُ تَعْيِيبَ الْبَاقِي؛ كَانَتْ الزِّيَادَةُ صِفَةً بِمَنْزِلَةِ صِفَةِ الْجَوْدَةِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَمَّى لِكُلِّ ذِرَاعٍ ثَمَنًا عَلَى حِدَةٍ؛ كَانَ كُلُّ ذِرَاعٍ مَعْقُودًا عَلَيْهِ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ أَصْلًا مِنْ وَجْهٍ صِفَةً مِنْ وَجْهٍ: فَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا صِفَةٌ كَانَتْ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يُقَابِلُ الْأَصْلَ

لَا الصِّفَةَ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا عَلَى مَا بَيَّنَّا وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا أَصْلٌ لَا يُسَلَّمُ لَهُ إلَّا بِزِيَادَةِ ثَمَنٍ اعْتِبَارًا لِلْجِهَتَيْنِ جَمِيعًا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي أَخْذِ الزِّيَادَةِ وَتَرْكِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ الْأَخْذُ، لَا مَحَالَةَ يَلْزَمُهُ زِيَادَةُ ثَمَنٍ؛ لَمْ يَكُنْ لُزُومُهَا ظَاهِرًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَاخْتَلَّ رِضَاهُ فَوَجَبَ الْخِيَارُ وَفِي النُّقْصَانِ إنْ شَاءَ طَرَحَ قَدْرَ النُّقْصَانِ وَأَخَذَ الْبَاقِيَ اعْتِبَارًا لِجِهَةِ الْأَصَالَةِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ وَأَوْجَبَ خَلَلًا فِي الرِّضَا وَذَا يُوجِبُ الْخِيَارَ هَذَا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ ذِرَاعًا تَامًّا فَأَمَّا إذَا كَانَتْ دُونَ ذِرَاعٍ لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ وَذُكِرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ اخْتِلَافُ أَقَاوِيلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ فِي كَيْفِيَّةِ الْخِيَارِ فِيهِ: فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَرَّقَا بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَعَلَ زِيَادَةَ نِصْفِ ذِرَاعٍ بِمَنْزِلَةِ زِيَادَةِ ذِرَاعٍ كَامِلٍ فَقَالَ: إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِأَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَجَعَلَ نُقْصَانَ نِصْفِ ذِرَاعٍ كَلَا نُقْصَانَ لَكِنْ جَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ فَقَالَ: إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَلَا يَطْرَحُ مِنْ الثَّمَنِ شَيْئًا لِأَجْلِ النُّقْصَانِ وَمُحَمَّدٌ جَعَلَ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ فَجَعَلَ زِيَادَةَ نِصْفِ ذِرَاعٍ كَلَا زِيَادَةَ فَقَالَ: يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَلَا خِيَارَ لَهُ، وَجَعَلَ نُقْصَانَ نِصْفِ ذِرَاعٍ كَنُقْصَانِ ذِرَاعٍ كَامِلٍ وَقَالَ: إنْ شَاءَ أَخَذَ بِتِسْعَةِ دَرَاهِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ. (وَأَمَّا) أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَسَوَّى بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَقَالَ فِي زِيَادَةِ نِصْفِ ذِرَاعٍ: يُزَادُ عَلَى الثَّمَنِ نِصْفُ دِرْهَمٍ وَلَهُ الْخِيَارُ: إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَقَالَ فِي نُقْصَانِ نِصْفِ ذِرَاعٍ: يَنْقُصُ مِنْ الثَّمَنِ نِصْفَ دِرْهَمٍ وَلَهُ الْخِيَارُ: إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِتِسْعَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ اعْتِبَارُ الْجُزْءِ بِالْكُلِّ إلَّا أَنَّهُمَا كَأَنَّهُمَا اسْتَحْسَنَا لِتَعَامُلِ النَّاسِ؛ فَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ زِيَادَةَ نِصْفِ ذِرَاعٍ بِمَنْزِلَةِ ذِرَاعٍ تَامٍّ وَنُقْصَانَ نِصْفِ ذِرَاعٍ كَلَا نُقْصَانَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي الْعَادَاتِ فِي بِيَاعَاتِهِمْ وَأَشْرِيَتِهِمْ لَا يَعُدُّونَ نُقْصَانَ نِصْفِ ذِرَاعٍ نُقْصَانًا بَلْ يَحْسِبُونَهُ ذِرَاعًا تَامًّا، فَبَنَى الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى تَعَامُلِ النَّاسِ وَجَعَلَ مُحَمَّدٌ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ لِمَا أَنَّ الْبَاعَةَ يُسَامِحُونَ فِي زِيَادَةِ نِصْفٍ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسَمَّى فِي الْبَيْعِ عَادَةً وَلَا يَعُدُّونَهُ زِيَادَةً؛ فَكَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ عَادَةً كَأَنَّهُ لَمْ يَزِدْ وَكَذَا يُسَامِحُونَ فَيَعُدُّونَ نُقْصَانَ نِصْفِ ذِرَاعٍ فِي الْعَادَاتِ نُقْصَانَ ذِرَاعٍ كَامِلٍ؛ فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِتَعَامُلِ النَّاسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ جَوَابِهِمَا لِاخْتِلَافِ عَادَاتِ النَّاسِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ الْمَذْرُوعَاتِ مِنْ الْأَرْضِ وَالْخَشَبِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ إنْ لَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ ذِرَاعٍ ثَمَنًا بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذِهِ الْأَرْضَ عَلَى أَنَّهَا أَلْفُ ذِرَاعٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ إنْ وَجَدَهَا مِثْلَ مَا سَمَّى فَالْأَمْرُ مَاضٍ وَيَلْزَمْهُ الْأَرْضُ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ وَإِنْ وَجَدَهَا أَزْيَدَ فَالزِّيَادَةُ سَالِمَةٌ لَهُ وَلَا خِيَارَ وَإِنْ وَجَدَهَا أَنْقَصَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ زِيَادَةَ الذَّرْعِ فِي الذَّرْعِيَّاتِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الصِّفَاتِ وَالثَّمَنُ يُقَابِلُ الْأَصْلَ دُونَ الصِّفَةِ وَإِنْ سَمَّى لِكُلِّ ذِرَاعٍ ثَمَنًا عَلَى حِدَةٍ بِأَنْ قَالَ: كُلُّ ذِرَاعٍ بِكَذَا؛ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ إنْ وَجَدَهَا مِثْلَ مَا سَمَّى فَالْأَمْرُ مَاضٍ، وَإِنْ وَجَدَهَا أَزْيَدَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ أَخَذَ الزِّيَادَةَ بِثَمَنِهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ زِيَادَةُ ثَمَنٍ لَمْ يَلْتَزِمْهُ لِذَا الْعَقْدِ وَإِنْ وَجَدَهُ أَنْقَصَ تَسْقُطْ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ وَلَهُ الْخِيَارُ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الثَّوْبِ وَعَلَى هَذَا الْخَشَبُ وَغَيْرُهُ مِنْ الذَّرْعِيَّاتِ وَعَلَى هَذَا الْمَوْزُونَاتُ الَّتِي فِي تَبْعِيضِهَا ضَرَرٌ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذِهِ السَّبِيكَةَ مِنْ الذَّهَبِ عَلَى أَنَّهَا مِثْقَالَانِ بِكَذَا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ثُمَّ إنْ وُجِدَ عَلَى مَا سَمَّى فَالْأَمْرُ مَاضٍ وَإِنْ وَجَدَهُ أَزْيَدَ أَوْ أَنْقَصَ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الذَّرْعِيَّاتِ وَعَلَى هَذَا إذَا بَاعَ مَصُوغًا مِنْ نُحَاسٍ أَوْ صُفْرٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِيهِ كَذَا مَنًّا بِكَذَا دِرْهَمًا فَوَجَدَهُ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ فِي مِثْلِهِ يَكُونُ مُلْحَقًا بِالصِّفَةِ بِمَنْزِلَةِ الذَّرْعِ فِي الذَّرْعِيَّاتِ؛ لِأَنَّ تَبْعِيضَهُ يُوجِبُ تَعْيِيبَ الْبَاقِي وَهَذَا حَدُّ الصِّفَةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَوْ بَاعَ مَصُوغًا مِنْ الْفِضَّةِ عَلَى أَنَّ وَزْنَهُ مِائَةٌ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَلَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ عَشَرَةٍ ثَمَنًا عَلَى حِدَةٍ بِأَنْ قَالَ: بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَلَمْ يَقُلْ: كُلُّ وَزْنِ عَشَرَةٍ بِدِينَارٍ وَتَقَابَضَا وَافْتَرَقَا؛ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ عَلَى مَا سَمَّى؛ فَالْأَمْرُ مَاضٍ وَلَا خِيَارَ وَإِنْ وَجَدَهُ أَزْيَدَ بِأَنْ كَانَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مَثَلًا فَالْكُلُّ لِلْمُشْتَرِي بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَلَا يُزَادُ فِي الثَّمَنِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ وَالصِّفَاتُ الْمَحْضَةُ لَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ، وَإِنْ وَجَدَهُ تِسْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَإِنْ سَمَّى لِكُلِّ عَشَرَةٍ ثَمَنًا عَلَى حِدَةٍ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ عَلَى أَنَّ وَزْنَهُ مِائَةٌ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، كُلُّ

وَزْنِ عَشَرَةٍ بِدِينَارٍ وَتَقَابَضَا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ عَلَى مَا سَمَّى فَالْأَمْرُ مَاضٍ وَلَا خِيَارَ، وَإِنْ وَجَدَ وَزْنَهُ أَزْيَدَ بِأَنْ كَانَ مِائَةً وَخَمْسِينَ؛ نُظِرَ فِي ذَلِكَ إنْ عَلِمَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ فَلَهُ الْخِيَارُ: إنْ شَاءَ زَادَ فِي الثَّمَنِ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ وَأَخَذَ كُلَّهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ لَهَا حُكْمُ سَاعَةِ الْعَقْدِ، وَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي ثُلُثِ الْمَصُوغِ لِانْعِدَامِ التَّقَابُضِ فِيهِ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي: إنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْكُلَّ وَاسْتَرَدَّ الدَّنَانِيرَ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْأَعْيَانِ عَيْبٌ وَإِنْ وَجَدَ وَزْنَهُ خَمْسِينَ وَعَلِمَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ: إنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ وَاسْتَرَدَّ مِنْ الثَّمَنِ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ مَصُوغًا مِنْ ذَهَبٍ بِدَرَاهِمَ فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ وَلَوْ بَاعَ مَصُوغًا مِنْ الْفِضَّةِ بِجِنْسِهَا أَوْ بَاعَ مَصُوغًا مِنْ الذَّهَبِ بِجِنْسِهِ مِثْلَ وَزْنِهِ عَلَى أَنَّ وَزْنَهُ مِائَةٌ بِمِائَةٍ ثُمَّ وَجَدَهُ أَزْيَدَ مِمَّا سَمَّى فَإِنْ عَلِمَ بِالزِّيَادَةِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ؛ فَلَهُ الْخِيَارُ: إنْ شَاءَ زَادَ فِي الثَّمَنِ قَدْرَ وَزْنِ الزِّيَادَةِ وَأَخَذَ الْكُلَّ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ لَهُ حُكْمُ حَالَةِ الْعَقْدِ، وَإِنْ عَلِمَ بِهَا بَعْدَ التَّفَرُّقِ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ التَّقَابُضَ شَرْطُ بَقَاءِ الصَّرْفِ عَلَى الصِّحَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي قَدْرِ الزِّيَادَةِ وَإِنْ وَجَدَ أَقَلَّ مِمَّا سَمَّى فَلَهُ الْخِيَارُ: إنْ شَاءَ رَضِيَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَاسْتَرَدَّ فَضْلَ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْكُلَّ وَاسْتَرَدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ سَوَاءٌ سَمَّى الْجُمْلَةَ أَوْ سَمَّى لِكُلِّ وَزْنِ دِرْهَمًا دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْوَزْنِ وَالْجِنْسِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ سَمَّى ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ حَقِيقَةً إلَّا الْجُمْلَةَ. (وَأَمَّا) الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَفَاوِتَةُ كَالْغَنَمِ وَالْعَبِيدِ وَنَحْوِهَا بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ شَاةٍ بِكَذَا فَإِنْ وَجَدَهُ عَلَى مَا سَمَّى؛ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَإِنْ وَجَدَهُ أَزْيَدَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ ذَكَرَ لِلْكُلِّ ثَمَنًا وَاحِدًا بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الْقَطِيعَ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ شَاةٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ ذَكَرَ لِكُلِّ شَاةٍ فِيهَا ثَمَنًا عَلَى حِدَةٍ بِأَنْ قَالَ: كُلُّ شَاةٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَاةٍ أَصْلٌ فِي كَوْنِهَا مَعْقُودًا عَلَيْهَا وَالزِّيَادَةُ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهَا ثَمَنٌ؛ فَلَمْ تَكُنْ مَبِيعَةً وَهِيَ مَجْهُولَةٌ فَكَانَ الْبَاقِي مَجْهُولًا ضَرُورَةَ جَهَالَةِ الزِّيَادَةِ فَيَصِيرُ بَائِعًا مِائَةَ شَاةٍ مِنْ مِائَةِ شَاةٍ وَوَاحِدَةٍ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا، وَجَهَالَةُ الْمَبِيعِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ سَمَّى لَهُ ثَمَنًا أَوْ لَمْ يُسَمِّ. وَإِنْ وَجَدَهُ أَقَلَّ مِمَّا سَمَّى: فَإِنْ كَانَ لَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا ثَمَنًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى طَرْحِ ثَمَنِ شَاةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَهُوَ مَجْهُولُ التَّفَاوُتِ فَاحِشٌ بَيْنَ شَاةٍ وَشَاةٍ فَصَارَ ثَمَنُ الْبَاقِي مَجْهُولًا ضَرُورَةَ جَهَالَةِ حِصَّةِ الشَّاةِ النَّاقِصَةِ، وَإِنْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا ثَمَنًا عَلَى حِدَةٍ؛ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِحِصَّةِ الْبَاقِي مِنْهَا؛ لِأَنَّ حِصَّتَهُ الزَّائِدَةَ مَعْلُومَةٌ وَحِصَّةُ الْبَاقِي مَعْلُومَةٌ فَالْفَسَادُ مِنْ أَيْنَ؟ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هَذَا مَذْهَبُهُمَا، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي الْكُلِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَهُ أَنَّ الصَّفْقَةَ إذَا أُضِيفَتْ إلَى مَا يَحْتَمِلُ الْعَقْدَ وَإِلَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ؛ فَالْفَسَادُ يَشِيعُ فِي الْكُلِّ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ هَذَا بِلَا خِلَافٍ وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يُذْكَرْ الْخِلَافُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُضَافَ إلَى مَوْجُودٍ يَجُوزُ أَنْ يَفْسُدَ لِمَعْنًى يُوجِبُ الْفَسَادَ ثُمَّ يَتَعَدَّى الْفَسَادُ إلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْمَعْدُومُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَقْدَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَلَا يُوصَفُ الْعَقْدُ الْمُضَافُ إلَيْهِ بِالْفَسَادِ لِيَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، بَلْ لَمْ تَصِحَّ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ فَيَبْقَى مُضَافًا إلَى الْمَوْجُودِ فَيَصِحَّ لَكِنْ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِمَا سَمَّى مِنْ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ وَلَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ عَلَى أَنَّهَا مِائَةٌ، كُلُّ شَاتَيْنِ مِنْهَا بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ. وَإِنْ وَجَدَهُ عَلَى مَا سَمَّى؛ لِأَنَّ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الشَّاتَيْنِ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ حِصَّةَ كُلِّ شَاةٍ مِنْهَا مِنْ الثَّمَنِ إلَّا بَعْدَ ضَمِّ شَاةٍ أُخْرَى إلَيْهَا وَلَا يَعْلَمُ أَيَّةَ شَاةٍ يَضُمُّ إلَيْهَا لِيَعْلَمَ حِصَّتَهَا؛ لِأَنَّهُ إنْ ضَمَّ إلَيْهَا أَرْدَأَ مِنْهَا كَانَتْ حِصَّتُهَا أَكْثَرَ وَإِنْ ضَمَّ إلَيْهَا أَجْوَدَ مِنْهَا كَانَتْ حِصَّتُهَا أَقَلَّ لِذَلِكَ فَسَدَ الْبَيْعُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ بَاعَ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ أَوْ مِنْ هَذَا الْحَمَّامِ أَوْ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: جَائِزٌ وَلَوْ بَاعَ عَشَرَةَ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ؛ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَرْجِعُ إلَى مَعْرِفَةِ مَعْنَى الذِّرَاعِ فَقَالَا: إنَّهُ اسْمٌ فِي الْعُرْفِ لِلسَّهْمِ الشَّائِعِ وَلَوْ بَاعَ عَشَرَةَ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ جَازَ فَكَذَا هَذَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: الذِّرَاعُ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِمَا يُذْرَعُ بِهِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمَذْرُوعُ ذِرَاعًا مَجَازًا إطْلَاقًا لِاسْمِ الْفِعْلِ عَلَى الْمَفْعُولِ. فَكَانَ

بَيْعُ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ دَارٍ مَعْنَاهُ: بَيْعُ قَدْرِ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِمَّا يَحِلُّهُ الذِّرَاعُ الْحَقِيقِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَّا مَحَلًّا مُعَيَّنًا فَكَانَ الْمَبِيعُ قَدْرَ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ، مُعَيَّنٌ مِنْ الدَّارِ وَهُوَ الَّذِي يَحِلُّهُ الذِّرَاعُ الْحَقِيقِيُّ وَذَلِكَ مَجْهُولٌ فِي نَفْسِهِ قَبْلَ الْحُلُولِ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ بِخِلَافِ السَّهْمِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلشَّائِعِ وَهُوَ جُزْءٌ مَعْلُومٌ مِنْ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالْعُشْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَبَيْعُ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ مِنْ الدَّارِ هُوَ بَيْعُ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ مِنْهَا وَهُوَ عُشْرُهَا، فَقَدْ بَاعَ جُزْءًا مَعْلُومًا مِنْهَا فَيَجُوزُ بِخِلَافِ الذِّرَاعِ فَإِنَّ قَدْرَ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالْحُلُولِ عَلَى مَا مَرَّ فَقَبْلَهُ يَكُونُ مَجْهُولًا فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا فَلَمْ يَصِحَّ فَوَضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لِأَبِي حَنِيفَةَ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّج ضَرْبَةُ الْغَائِصِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْغَائِصُ لِلتَّاجِرِ: أَغُوصُ لَك غَوْصَةً فَمَا أَخْرَجْته فَهُوَ لَك بِكَذَا وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَجْهُولٌ وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ ضَرْبَةِ الْغَائِصِ» وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ أَجْنَاسُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَبَيْعُ رَقَبَةِ الطَّرِيقِ وَهِبَتُهُ مُنْفَرِدًا جَائِزٌ وَبَيْعُ مَسِيلِ الْمَاءِ وَهِبَتُهُ مُنْفَرِدًا فَاسِدٌ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الطَّرِيقَ مَعْلُومُ الطُّولِ وَالْعَرْضِ؛ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا فَجَازَ بَيْعُهُ بِخِلَافِ الْمَسِيلِ فَإِنَّهُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَشْغَلُ الْمَاءَ مِنْ النَّهْرِ غَيْرُ مَعْلُومٍ؛ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا فَلَمْ يَجُزْ. (وَأَمَّا) الْعِلْمُ بِأَوْصَافِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالذَّاتِ وَالْجَهْلُ بِهَا هَلْ هُوَ مَانِعٌ مِنْ الصِّحَّةِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَ بِشَرْطِ الصِّحَّةِ، وَالْجَهْلُ بِهَا لَيْسَ بِمَانِعٍ مِنْ الصِّحَّةِ لَكِنَّهُ شَرْطُ اللُّزُومِ فَيَصِحُّ بَيْعُ مَا لَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَوْنُ الْمَبِيعِ مَعْلُومَ الذَّاتِ وَالصِّفَةِ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُ مَا لَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ جَهَالَةَ الذَّاتِ إنَّمَا مَنَعَتْ صِحَّةَ الْعَقْدِ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ تَخْتَلِفُ رَغَبَاتُ النَّاسِ فِيهَا لِاخْتِلَافِ مَالِيَّتِهَا فَالْبَائِعُ إذَا سَلَّمَ عَيْنًا فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَطْلُبَ الْمُشْتَرِي عَيْنًا أُخْرَى أَجْوَدَ مِنْهَا بِاسْمِ الْأُولَى فَيَتَنَازَعَانِ وَجَهَالَةُ الْوَصْفِ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ عَنْ الْمَجْلِسِ إذَا أَحْضَرَهُ الْبَائِعُ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي: هَذَا لَيْسَ عَيْنَ الْمَبِيعِ بَلْ مِثْلَهُ مِنْ جِنْسِهِ فَيَقَعَانِ فِي الْمُنَازَعَةِ بِسَبَبِ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ وَلِأَنَّ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ يُوجِبُ تَمَكُّنَ الْغَرَرِ فِي الْبَيْعِ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعٍ فِيهِ غَرَرٌ» وَبَيَانُ تَمَكُّنِ الْغَرَرِ أَنَّ الْغَرَرَ هُوَ الْخَطَرُ وَفِي هَذَا الْبَيْعِ خَطَرٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: فِي أَصْلِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي: فِي وَصْفِهِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْوُجُودِ إذَا كَانَ غَائِبًا هُوَ الْخَبَرُ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَيَتَرَدَّدُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَالثَّالِثُ فِي وُجُودِ التَّسْلِيمِ وَقْتَ وُجُوبِهِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ وَقْتُ نَقْدِ الثَّمَنِ وَقَدْ يَتَّفِقُ النَّقْدُ وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ، وَالْغَرَرُ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ يَكْفِي لِفَسَادِ الْعَقْدِ فَكَيْفَ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ؟ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» وَعِنْدَ كَلِمَةُ حَضْرَةٍ وَالْغَيْبَةُ تُنَافِيهَا، وَالْخِلَافُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ خِلَافٌ وَاحِدٌ. (وَلَنَا) عُمُومَاتُ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَنَصٍّ خَاصٍّ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ» وَلَا خِيَارَ شَرْعًا إلَّا فِي بَيْعٍ مَشْرُوعٍ وَلِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلٍّ هُوَ خَالِصُ مِلْكِهِ فَيَصِحُّ كَشِرَاءِ الْمَرْئِيِّ؛ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُودَ التَّصَرُّفِ حَقِيقَةً بِوُجُودِ رُكْنِهِ، وَوُجُودُهُ شَرْعًا لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَحُلُولِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَقَوْلُهُ: جَهَالَةُ الْوَصْفِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ فِي خَبَرِهِ حَيْثُ اشْتَرَاهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُكَذِّبُهُ وَدَعْوَى الْغَرَرِ مَمْنُوعَةٌ فَإِنَّ الْغَرَرَ هُوَ الْخَطَرُ الَّذِي اسْتَوَى فِيهِ طَرَفُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ بِمَنْزِلَةِ الشَّكِّ، وَهَهُنَا تَرَجَّحَ جَانِبُ الْوُجُودِ عَلَى جَانِبِ الْعَدَمِ بِالْخَبَرِ الرَّاجِحِ صِدْقُهُ عَلَى كَذِبِهِ؛ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ غَرَرٌ عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْغَرَرَ اسْمٌ لِمُطْلَقِ الْخَطَرِ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إنَّ كُلَّ غَرَرٍ يُفْسِدُ الْعَقْدَ؟ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْغَرَرُ هُوَ الْخَطَرُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْغَرَرِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى الْغَرَرِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ بِالتَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ أَوْ بِالْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ عَنْ نَفْسِهِ لَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ مَالِكِهِ أَوْ بَيْعُ شَيْءٍ مُبَاحٍ عَلَى أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ فَيَمْلِكَهُ فَيُسَلِّمَهُ وَهَذَا يُوَافِقُ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «بَيْعُ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ غَرَرٌ» . وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ: إذَا بَاعَ شَيْئًا لَمْ يَرَهُ الْبَائِعُ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا جَازَ عِنْدَنَا فَهَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ؟ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ نَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ

تَعَالَى. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ شِرَاءُ الْأَعْمَى وَبَيْعُهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا وُلِدَ أَعْمَى لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ بَصِيرًا فَرَأَى الشَّيْءَ ثُمَّ عَمِيَ فَاشْتَرَاهُ جَازَ وَمَا قَالَهُ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ قَالَ لِحِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ «إذَا بَايَعَتْ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ وَلِيَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» وَكَانَ حَبَّانُ ضَرِيرًا. (وَأَمَّا) الْإِجْمَاعُ فَإِنَّ الْعُمْيَانَ فِي كُلِّ زَمَانٍ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُمْنَعُوا مِنْ بِيَاعَاتِهِمْ وَأَشْرِيَتِهِمْ بَلْ بَايَعُوا فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ وَإِذَا جَازَ شِرَاؤُهُ وَبَيْعُهُ فَلَهُ الْخِيَارُ فِيمَا اشْتَرَى وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيمَا بَاعَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ كَالْبَصِيرِ ثُمَّ بِمَاذَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ؟ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا مُغَيَّبًا فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَالْبَصَلِ وَالْفُجْلِ وَنَحْوِهَا أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ وَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ إذَا قَلَعَهُ، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ أَصْلًا. وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ بِالْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فَنَقُولُ: الْعِلْمُ بِالْمَبِيعِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّعَيُّنَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهَا إلَّا إذَا كَانَ دَيْنًا كَالْمُسْلَمِ فِيهِ فَيَحْصُلُ الْعِلْمُ بِهِ بِالتَّسْمِيَةِ، وَالْعِلْمُ بِالثَّمَنِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ، وَالْإِشَارَةُ إلَيْهِ عِنْدَنَا مَجَازٌ عَنْ تَسْمِيَةِ جِنْسِ الْمُشَارِ إلَيْهِ وَنَوْعِهِ وَصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى غَيْرَ أَنَّ الْمَبِيعَ إنْ كَانَ أَصْلًا لَا بُدَّ مِنْ الْإِشَارَةِ إلَيْهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لِيَصِيرَ مَعْلُومًا، وَإِنْ كَانَ تَبَعًا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالْإِشَارَةِ إلَى الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ كَمَا لَا يُفْرَدُ بِعِلَّةٍ عَلَى حِدَةٍ، لَا يُفْرَدُ بِشَرْطٍ عَلَى حِدَةٍ إذْ لَوْ أُفْرِدَ؛ لَانْقَلَبَ أَصْلًا وَهَذَا قَلْبُ الْحَقِيقَةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ: إذَا بَاعَ جَارِيَةً حَامِلًا مِنْ غَيْرِ مَوْلَاهَا أَوْ بَهِيمَةً حَامِلًا؛ دَخَلَ الْحَمْلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلْأُمِّ كَسَائِرِ أَطْرَافِهَا، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ وَلَا أَشَارَ إلَيْهِ، وَلَوْ بَاعَ عَقَارًا دَخَلَ مَا فِيهَا مِنْ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ وَلَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ إلَّا بِقَرِينَةٍ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي بَيْعِ الْعَقَارِ أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ أَرْضًا أَوْ كَرْمًا أَوْ دَارًا أَوْ مَنْزِلًا أَوْ بَيْتًا، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو: إمَّا إنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي بَيْعِهِ الْحُقُوقَ وَلَا الْمَرَافِقَ وَلَا ذَكَرَ كُلَّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مِنْهَا، وَإِمَّا إنْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ أَرْضًا وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ الْقَرَائِنِ؛ دَخَلَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَشْجَارِ وَلَمْ يَدْخُلْ الزَّرْعُ وَالثِّمَارُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ثِمَارُ سَائِرِ الْأَشْجَارِ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ ثَمَرُ النَّخْلِ إذَا أُبِّرَ فَأَمَّا إذَا لَمْ يُؤَبَّرْ؛ يَدْخُلْ. وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ» قَيَّدَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِلْكَ الْبَائِعِ فِي الثَّمَرَةِ بِوَصْفِ التَّأْبِيرِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ؛ لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْيِيدِ فَائِدَةٌ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا نَخْلٌ فَالثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ» جَعَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الثَّمَرَةَ لِلْبَائِعِ مُطْلَقًا عَنْ وَصْفٍ وَشَرْطٍ فَدَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ بِالتَّأْبِيرِ وَعَدَمِهِ وَلِأَنَّ النَّخْلَ اسْمٌ لِذَاتِ الشَّجَرَةِ فَلَا يَدْخُلُ مَا عَدَاهُ إلَّا بِقَرِينَةٍ زَائِدَةٍ وَلِهَذَا لَمْ يَدْخُلْ ثِمَارُ سَائِرِ الْأَشْجَارِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيمَا رُوِيَ؛ لِأَنَّ تَقْيِيدَ الْحُكْمِ بِوَصْفٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِ الْمَوْصُوفِ بِخِلَافِهِ، بَلْ يَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ مَسْكُوتًا مَوْقُوفًا عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ وَقَدْ قَامَ، وَهُوَ مَا رَوَيْنَا وَلَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ عِنْدَنَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرْبِ النُّصُوصِ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ كَرْمًا يَدْخُلُ فِي بَيْعِهِ مَا فِيهِ مِنْ الزِّرَاعَةِ وَالْعَرَائِشِ وَالْحَوَائِطِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ قَرِينَةٍ، وَلَا تَدْخُلُ الْفَوَاكِهُ وَالْبُقُولُ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا رُكِّبَ فِي الْأَرْضِ يَدْخُلُ وَمَا لَمْ يُرَكَّبْ فِيهَا أَوْ رُكِّبَ لَا لِلْبَقَاءِ بَلْ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ لَا يَدْخُلُ، وَكَذَا يَدْخُلُ الطَّرِيقُ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ وَالطَّرِيقُ إلَى سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ قَرِينَةٍ. وَإِنْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ الْقَرَائِنِ فَإِنْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ أَوْ الْمَرَافِقَ دَخَلَ فِيهَا الشُّرْبُ وَمَسِيلُ الْمَاءِ وَالطَّرِيقُ الْخَاصُّ الَّذِي يَكُونُ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ وَهُوَ حَقُّ الْمُرُورِ فِي مِلْكِهِ وَلَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ؛ لِأَنَّهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا فَلَا يَتَنَاوَلُهَا اسْمُ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ بِخِلَافِ الشُّرْبِ وَالْمَسِيلِ وَالتَّطَرُّقِ فَإِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ حَقِّ الشُّرْبِ وَالسَّقْيِ وَالتَّسْيِيلِ وَالْمُرُورِ؛ فَيَتَنَاوَلُهَا الِاسْمُ، وَإِنْ ذَكَرَ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ بِأَنْ قَالَ: بِعْتهَا مِنْك بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا وَمِنْهَا فَهَلْ يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ؟ يُنْظَرُ: إنْ قَالَ فِي آخِرِهِ: مِنْ حُقُوقِهَا؛ فَلَا يَدْخُلَانِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ حُقُوقِهَا خَرَجَ تَفْسِيرًا لِأَوَّلِ الْكَلَامِ فَكَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْبَيْعِ بِحُقُوقِهَا، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ فِي آخِرِهِ مِنْ حُقُوقِهَا؛ دَخَلَ فِيهِ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ وَكُلُّ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِيهِ وَمِنْهُ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ عَنْهَا كَالثِّمَارِ الْمَجْذُوذَةِ وَالزَّرْعِ الْمَحْصُودِ وَالْحَطَبِ

وَاللَّبَنِ وَالْقَصَبِ الْمَوْضُوعِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ، فَرْقٌ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ أَنَّ الشُّرْبَ وَالْمَسِيلَ وَالطَّرِيقَ الْخَاصَّ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ يَدْخُلُ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ وَفِي الْبَيْعِ لَا يَدْخُلُ بِدُونِهِ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي الْبَابَيْنِ جَمِيعًا إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فِي الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِلِانْتِفَاعِ بِالْمُسْتَأْجَرِ وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِدُونِ الْحُقُوقِ فَصَارَتْ الْحُقُوقُ مَذْكُورَةً بِذِكْرِ الْمُسْتَأْجِرِ دَلَالَةً بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يُعْقَدُ لِلْمِلْكِ، وَالِانْتِفَاعُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَكَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ: فَإِنَّ مَنْ رَهَنَ عِنْدَ رَجُلٍ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ وَأَشْجَارٌ عَلَيْهَا ثِمَارٌ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ كُلُّ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهَا مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْحُقُوقِ وَالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ تَمْيِيزَ الرَّهْنِ مِنْ غَيْرِهِ شَرْطُ صِحَّةِ الرَّهْنِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ فَمَتَى أَقْدَمَا عَلَى عَقْدِ الرَّهْنِ فَقَدْ قَصَدَا صِحَّتَهُ وَلَا صِحَّةَ لَهُ إلَّا بِدُخُولِ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِالْمَرْهُونِ فَدَخَلَ فِيهِ تَصْحِيحًا لِلتَّصَرُّفِ؛ إذْ لَا صِحَّةَ بِدُونِهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ تَمْيِيزَ الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ، فَلَا ضَرُورَةَ فِي الدُّخُولِ بِغَيْرِ التَّسْمِيَةِ فَلَا يَدْخُلُ بِدُونِهَا هَذَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ أَرْضًا أَوْ كَرْمًا. فَإِنْ كَانَ دَارًا يَدْخُلُ فِي بَيْعِهَا جَمِيعُ مَا كَانَ مِنْهَا مِنْ بَيْتٍ وَمَنْزِلٍ وَعُلُوٍّ وَسُفْلٍ وَجَمِيعِ مَا تَجْمَعُهُ الْحُدُودُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ قَرِينَةٍ، وَتَدْخُلُ أَغَالِيقُ الدَّارِ وَمَفَاتِيحُ أَغَالِيقِهَا، أَمَّا الْأَغَالِيقُ فَلِأَنَّهَا رُكِّبَتْ لِلْبَقَاءِ لَا لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ فَتَدْخُلُ كَالْمِيزَابِ وَأَمَّا الْمَفَاتِيحُ فَلِأَنَّ مِفْتَاحَ الْغَلَقِ مِنْ الْغَلَقِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى الْغَلَقَ دَخَلَ الْمِفْتَاحُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ فَيَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِدُخُولِ الْغَلَقِ وَيَدْخُلُ طَرِيقُهَا إلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ وَطَرِيقُهَا إلَى سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، كَمَا يَدْخُلُ فِي الْأَرْضِ وَالْكَرْمِ وَيَدْخُلُ الْكَنِيفُ وَالشَّارِعُ وَالْجَنَاحُ؟ كُلُّ ذَلِكَ يَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ وَهَلْ تَدْخُلُ الظُّلَّةُ؟ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَفْتَحُهَا إلَى الدَّارِ؛ لَا تَدْخُلُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ مَفْتَحُهَا إلَى الدَّارِ؛ لَا تَدْخُلُ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَدْخُلُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الظُّلَّةَ إذَا كَانَتْ مَفْتَحُهَا إلَى الدَّارِ كَانَتْ مِنْ أَجْزَاءِ الدَّارِ فَتَدْخُلُ بِبَيْعِ الدَّارِ كَالْجَنَاحِ وَالْكَنِيفِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ظُلَّةَ الدَّارِ خَارِجَةٌ عَنْ حُدُودِهَا فَإِنَّهَا اسْمٌ لِمَا يُظِلُّ عِنْدَ بَابِ الدَّارِ خَارِجًا مِنْهَا فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ بَيْعِ الدَّارِ كَالطَّرِيقِ الْخَارِجِ وَبِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَ ظُلَّتَهَا لَا يَحْنَثُ وَأَمَّا مَا كَانَ لَهَا مِنْ بُسْتَانٍ فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ دَاخِلَ حَدِّ الدَّارِ يَدْخُلُ وَإِنْ كَانَ يَلِي الدَّارَ لَا يَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَتْ الدَّارُ صَغِيرَةً يَدْخُلُ وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَا يَدْخُلُ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِلدَّارِ وَإِذَا كَانَتْ كَبِيرَةً لَا يُمْكِنُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْكُمُ الثَّمَنُ فَإِنْ صَلَحَ لَهُمَا يَدْخُلُ وَإِلَّا فَلَا يَدْخُلُ وَأَمَّا مَسِيلُ الْمَاءِ وَالطَّرِيقُ الْخَاصُّ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ وَحَقُّ إلْقَاءِ الثَّلْجِ فَإِنْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ يَدْخُلُ، وَكَذَا إنْ ذَكَرَ كُلَّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا وَمِنْهَا سَوَاءٌ ذَكَرَ فِي آخِرِهِ مِنْ حُقُوقِهَا أَوْ لَمْ يَذْكُرْ وَتَدْخُلُ الظُّلَّةُ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ إذَا كَانَ مَفْتَحُهَا إلَى الدَّارِ. وَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ بَيْتًا فَيَدْخُلُ فِي بَيْعِهِ حَوَائِطُهُ وَسَقْفُهُ وَبَابُهُ وَالطَّرِيقُ إلَى الطَّرِيقِ الْعَامَّةِ وَالطَّرِيقُ إلَى سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ قَرِينَةٍ وَأَمَّا الطَّرِيقُ الْخَاصُّ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ فَلَا يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ أَحَدِ الْقَرَائِنِ الثَّلَاثِ وَلَا يَدْخُلُ بَيْتُ الْعُلْوِ إنْ كَانَ عَلَى عُلْوِهِ بَيْتٌ وَإِنْ ذَكَرَ الْقَرَائِنَ؛ لِأَنَّ الْعُلُوَّ بَيْتٌ مِثْلُهُ فَكَانَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى عُلْوِهِ بَيْتٌ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلْوِهِ وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ فِي دَارِهِ فَبَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ طَرِيقُهُ فِي الدَّارِ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ ثُمَّ إنْ كَانَ الْبَيْتُ يَلِي الطَّرِيقَ الْأَعْظَمَ يَفْتَحُ لَهُ بَابًا إلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ لَا يَلِي الطَّرِيقَ الْأَعْظَمَ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الطَّرِيقَ إلَيْهِ أَوْ يَسْتَعِيرَ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْقِسْمَةِ إذَا أَصَابَ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّارِ بَيْتٌ أَوْ مَنْزِلٌ أَوْ نَاحِيَةٌ مِنْهَا بِغَيْرِ طَرِيقٍ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَهُ فَتْحُ الْبَابِ إلَى الطَّرِيقِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَطَرَّقَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ سَوَاءٌ ذَكَرُوا فِي الْقِسْمَةِ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ أَوْ لَا وَكَذَا إذَا كَانَ مَسِيلُ مَائِهِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ انْقَطَعَ ذَلِكَ الْحَقُّ إنْ أَمْكَنَهُ تَسْيِيلٌ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ؛ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَيِّلَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ تَسْيِيلُ الْمَاءِ وَلَا فَتْحُ الْبَابِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ وَيُمْكِنُهُ ذَلِكَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ ذَكَرُوا فِي الْقِسْمَةِ الْحُقُوقَ أَوْ الْمَرَافِقَ فَالطَّرِيقُ وَالْمَسِيلُ يَدْخُلَانِ فِي الْقِسْمَةِ وَلَا تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ فَلَا يَدْخُلَانِ وَتَبْطُلُ الْقِسْمَةُ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْقِسْمَةَ لِتَتْمِيمِ الْمَنْفَعَةِ وَتَكْمِيلِهَا

فَإِذَا أَدَّتْ إلَى تَفْوِيتِهَا بَطَلَتْ، وَالْبَيْعُ لِلْمِلْكِ لَا لِلِانْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَيَجُوزُ بَيْعُ بَيْتِ الْعُلُوِّ دُونَ السُّفْلِ إذَا كَانَ عَلَى الْعُلُوِّ بِنَاءٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بِنَاءٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْهَوَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ثُمَّ إذَا بَاعَ الْعُلُوَّ وَعَلَيْهِ بِنَاءٌ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ فَطَرِيقُهُ فِي الدَّارِ لَا يَدْخُلُ الطَّرِيقُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَيَجُوزُ بَيْعُ السُّفْلِ سَوَاءٌ كَانَ مَبْنِيًّا أَوْ غَيْرَ مَبْنِيٍّ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ السَّاحَةِ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بِنَاءٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مَنْزِلًا يَدْخُلُ فِي بَيْعِهِ بَيْتُ السُّفْلِ وَلَا يَدْخُلُ بَيْتُ الْعُلُوِّ وَلَا الطَّرِيقُ الْخَاصُّ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ أَوْ الْمَرَافِقِ أَوْ بِذِكْرِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ أَعَمُّ مِنْ الْبَيْتِ وَأَخَصُّ مِنْ الدَّارِ فَكَانَ بَيْنَ الدَّارِ وَالْبَيْتِ فَيُعْطَى لَهُ حُكْمٌ بَيْنَ حُكْمَيْنِ فَلَمْ يَدْخُلْ الْعُلُوُّ فِي بَيْعِ الْمَنْزِلِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ اعْتِبَارًا لِلْخُصُوصِ وَيَدْخُلُ فِيهِ بِقَرِينَةٍ اعْتِبَارًا لِلْعُمُومِ عَمَلًا بِالْجِهَتَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ إذَا لَمْ تَدْخُلْ الثَّمَرَةُ بِنَفْسِ الْبَيْعِ؛ يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى قَطْعِهَا مِنْ الشَّجَرَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهَا عَلَى الشَّجَرَةِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ وَكَذَا الزَّرْعُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُجْبَرُ وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ الثَّمَرَةَ عَلَى الشَّجَرَةِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ وَيَتْرُكَ الزَّرْعَ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْقَطْعِ وَالْقَلْعِ لِوُجُوبِ التَّسْلِيمِ، وَوَقْتُ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ هُوَ وَقْتُ الْإِدْرَاكِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ وَلَا يُقْلَعُ إلَّا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ عَادَةً فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ قَبْلَهُ كَمَا إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَالزَّرْعُ لَمْ يُسْتَحْصَدْ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَلْعِ بَلْ يُتْرَكُ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ. (وَلَنَا) أَنَّ الْبَيْعَ يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ عَقِيبَهُ بِلَا فَصْلٍ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ تَمْلِيكٌ بِتَمْلِيكٍ وَتَسْلِيمٌ بِتَسْلِيمٍ فَالْقَوْلُ بِتَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ يُغَيِّرُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَقَوْلُهُ: الْعَادَةُ أَنَّ الثَّمَرَةَ تُتْرَكُ عَلَى الشَّجَرَةِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ، قُلْنَا: الْعَادَةُ هَذَا قَبْلَ الْبَيْعِ أَمَّا بَعْدَهُ فَمَمْنُوعٌ بَلْ تُقْطَعُ بَعْدَهُ وَلَا تُتْرَكُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْبَائِعِ فَلَا بُدَّ مِنْ إزَالَةِ الشَّغْلِ وَذَلِكَ بِقَطْعِ الثَّمَرَةِ هَكَذَا نَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ الْإِجَارَةِ: إنَّهُ يَجِبُ تَسْلِيمُ الْأَرْضِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ وَإِنَّمَا تُتْرَكُ بِإِجَارَةٍ جَدِيدَةٍ بِأُجْرَةٍ أُخْرَى وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تُرِكَ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَمَا وَجَبَتْ أُجْرَةٌ أُخْرَى وَسَوَاءٌ أُبِّرَ أَوْ لَمْ يُؤَبَّرْ بِأَنْ كَانَ الْمَبِيعُ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ ظَهَرَتْ الثَّمَرَةُ مِنْ الشَّجَرَةِ وَبَانَتْ مِنْهَا؛ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهَا عَلَى شَجَرَةِ الْمُشْتَرِي إلَّا بِرِضَاهُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ تَرَكَهَا عَلَى الشَّجَرَةِ إلَى أَنْ أَدْرَكَتْ فَإِنْ كَانَ التَّرْكُ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي طَابَ لَهُ الْفَضْلُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُشْتَرِي يُنْظَرُ إنْ كَانَ قَدْ تَنَاهَى عِظَمُهَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَزْدَادُ بَعْدَ ذَلِكَ بَلْ تَنْتَقِصُ وَإِنْ كَانَ صِغَارًا لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهَا لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ أَصْلٍ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْبَائِعُ الشَّجَرَةَ لِيَتْرُكَ الثَّمَرَ عَلَيْهَا إلَى وَقْتِ الْجُذَاذِ؛ لَمْ تَجُزْ هَذِهِ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْإِجَارَةِ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهَا لِكَوْنِهَا بَيْعَ الْمَعْدُومِ لِتَعَامُلِ النَّاسِ وَالنَّاسُ مَا تَعَامَلُوا هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْإِجَارَةِ كَمَا لَمْ يَتَعَامَلُوا اسْتِئْجَارَ الْأَشْجَارِ لِتَجْفِيفِ الثِّيَابِ وَتَجْفِيفِ اللَّحْمِ، لَكِنْ لَوْ فَعَلَ يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ إذَا انْقَضَتْ مُدَّتُهَا وَالزَّرْعُ بَقْلٌ لَمْ يُسْتَحْصَدْ بَعْدُ أَنْ يُتْرَكَ فِيهِ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ بِالْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ التَّرْكَ بِالْأُجْرَةِ هُنَاكَ مِمَّا جَرَى بِهِ التَّعَامُلُ فَكَانَ جَائِزًا هَذَا إذَا لَمْ يُسَمِّ الثَّمَرَةَ فِي بَيْعِ الشَّجَرِ. فَأَمَّا إذَا سَمَّى دَخَلَ الثَّمَرُ مَعَ الشَّجَرِ فِي الْبَيْعِ وَصَارَ لِلثَّمَرَةِ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ وَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهَا يَوْمَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَمَّاهَا فَقَدْ صَارَتْ مَبِيعًا مَقْصُودًا لِوُرُودِ فِعْلِ الْبَيْعِ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ التَّمْرُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْبَائِعِ تَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي كَمَا لَوْ هَلَكَ الشَّجَرُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ أَخَذَ الشَّجَرَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ وَلَوْ جَذَّهُ الْبَائِعُ وَالْمَجْذُوذُ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ يُنْظَرُ إنْ جَذَّهُ فِي حِينِهِ وَلَمْ يُنْقِصْهُ الْجُذَاذُ فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَيَقْبِضُهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. وَلَوْ قَبَضَهُمَا بَعْدَ جُذَاذِ الْبَائِعِ ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا؛ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُمَا وَهُمَا مُتَفَرِّقَانِ وَقْتَ الْقَبْضِ فَصَارَا كَأَنَّهُمَا كَانَا مُتَفَرِّقَيْنِ وَقْتَ الْعَقْدِ بِخِلَافِ مَا إذَا جَذَّهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا؛ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً بَلْ يَرُدَّهُمَا جَمِيعًا أَوْ يُمْسِكَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُجْتَمِعَيْنِ عِنْدَ الْبَيْعِ وَعِنْدَ الْقَبْضِ جَمِيعًا، فَإِفْرَادُ أَحَدِهِمَا بِالرَّدِّ يَكُونُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا مُجْتَمِعَةً وَهَذَا لَا يَجُوزُ هَذَا إذَا لَمْ يُنْقِصْهُ الْجُذَاذُ بِأَنْ جَذَّهُ الْبَائِعُ فِي حِينِهِ وَأَوَانِهِ فَأَمَّا إذَا أَنْقَصَهُ بِأَنْ جَذَّهُ فِي غَيْرِ حِينِهِ تَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَقَصَهُ الْجُذَاذُ فَقَدْ أَتْلَفَ بَعْضَ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَتَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ وَإِذَا قَبَضَهُمَا الْمُشْتَرِي بَعْدَ جُذَاذِ الْبَائِعِ ثُمَّ

وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُمَا وَهُمَا مُتَفَرِّقَانِ فَصَارَا كَأَنَّهُمَا كَانَا مُتَفَرِّقَيْنِ عِنْدَ الْعَقْدِ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اشْتَرَى شَجَرَةً: أَنَّهُ هَلْ يَدْخُلُ فِي شِرَائِهَا أَصْلُهَا وَعُرُوقُهَا وَأَرْضُهَا؟ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. (إمَّا) إنْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ أَرْضِهَا لِلْقَلْعِ (وَإِمَّا) إنْ اشْتَرَاهَا بِقَرَارِهَا مِنْ الْأَرْضِ لِلتَّرْكِ لَا لِلْقَلْعِ (وَإِمَّا) إنْ اشْتَرَاهَا وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ أَرْضِهَا لِلْقَلْعِ دَخَلَ فِيهَا أَصْلُهَا وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَلْعِ وَلَهُ أَنْ يَقْلَعَهَا بِأَصْلِهَا لَكِنْ قَلْعًا مُعْتَادًا مُتَعَارَفًا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ الْأَرْضَ إلَى مَا يَتَنَاهَى إلَيْهِ الْعُرُوقُ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ بِالْعُرْفِ كَالْمَشْرُوطِ بِالشَّرْطِ إلَّا إذَا شَرَطَ الْبَائِعُ الْقَطْعَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ أَصْلُهَا، أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَكِنْ فِي الْقَطْعِ مِنْ أَصْلِهَا ضَرَرٌ بِالْبَائِعِ بِأَنْ كَانَ بِقُرْبِ حَائِطِهِ أَوْ عَلَى حَافَّةِ نَهْرِهِ فَيَخَافُ الْخَلَلَ عَلَى الْحَائِطِ أَوْ الشَّقَّ فِي النَّهْرِ فَقَطْعُهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ دُونَ أَصْلِهَا؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فَإِنْ قَلَعَ أَوْ قَطَعَ ثُمَّ نَبَتَ مِنْ أَصْلِهَا أَوْ عُرُوقِهَا شَجَرَةٌ أُخْرَى فَهِيَ لِلْبَائِعِ لَا لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ الْقَدْرَ الْمَقْطُوعَ فَيَكُونُ الْبَاقِي لِلْبَائِعِ إلَّا إذَا قَطَعَ مِنْ أَعْلَى الشَّجَرَةِ فَالنَّابِتُ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِقَرَارِهَا مِنْ الْأَرْضِ لِلتَّرْكِ لَا لِلْقَلْعِ؛ فَيَدْخُلُ فِيهَا أَرْضُهَا وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَلْعِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الشَّجَرَةَ مَعَ مَوْضِعِهَا فَلَمْ يَكُنْ مِلْكُ الْبَائِعِ مَشْغُولًا بِهِ فَلَا يَمْلِكُ إجْبَارَهُ عَلَى الْقَلْعِ وَلَهُ أَنْ يَغْرِسَ مَكَانَهَا أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ يَغْرِسُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ. (وَأَمَّا) إذَا اشْتَرَاهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَلْعِ وَلَا التَّرْكِ. لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ اخْتِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَقَالَ: عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا تَدْخُلُ الْأَرْضُ فِي الْبَيْعِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ تَدْخُلُ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُسَمَّى فِي الْبَيْعِ هُوَ الشَّجَرَةُ وَهِيَ اسْمٌ لِلْقَائِمِ عَلَى أَرْضِهَا بِعُرُوقِهَا فَأَمَّا بَعْدَ الْقَلْعِ فَهِيَ خَشَبٌ لَا شَجَرٌ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَدْخُلَ الْأَرْضُ فِيهِ؛ وَلِهَذَا دَخَلَتْ فِي الْإِقْرَارِ بِالْإِجْمَاعِ بِأَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِشَجَرٍ فِي أَرْضِهِ حَتَّى كَانَتْ الشَّجَرَةُ مَعَ أَرْضِهَا لِلْمُقَرِّ لَهُ كَذَا هَذَا وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ وَالشَّجَرَةَ تَابِعَةٌ لَهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ تَبَعًا لِلْأَرْضِ؟ فَلَوْ دَخَلَتْ فِي بَيْعِ الشَّجَرَةِ لَاسْتَتْبَعَ التَّبَعُ الْأَصْلَ وَهَذَا قَلْبُ الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا دَخَلَتْ فِي الْإِقْرَارِ بِالشَّجَرَةِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ كَائِنٍ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنٍ سَابِقٍ عَلَى الْإِقْرَارِ وَهُوَ قِيَامُهَا فِي الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ قَرَارُهَا وَذَلِكَ دَلِيلُ كَوْنِ الْأَرْضِ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِسَبَبٍ سَابِقٍ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِكَوْنِ الشَّجَرَةِ لَهُ إقْرَارًا بِكَوْنِ الْأَرْضِ لَهُ أَيْضًا، وَمِثْلُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ لَمْ تُوجَدْ فِي الْبَيْعِ فَلَا يَدْخُلُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ اشْتَرَى صَدَفَةً فَوَجَدَ فِيهَا لُؤْلُؤَةً فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهَا تَتَوَلَّدُ مِنْ الصَّدَفَةِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْضَةِ تَتَوَلَّدُ مِنْ الدَّجَاجَةِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ أَجْزَائِهَا فَتَدْخُلُ فِي بَيْعِهَا كَمَا تَدْخُلُ الْبَيْضَةُ فِي بَيْعِ الدَّجَاجَةِ وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى سَمَكَةً فَوَجَدَ فِيهَا لُؤْلُؤَةً؛ لِأَنَّ السَّمَكَ يَأْكُلُ الصَّدَفَةَ فَصَارَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى سَمَكَةً فَوَجَدَ فِيهَا سَمَكَةً أُخْرَى؛ أَنَّ الثَّانِيَةَ تَكُونُ لَهُ، وَلَوْ اشْتَرَى دَجَاجَةً فَوَجَدَ فِيهَا لُؤْلُؤَةً فَهِيَ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ اللُّؤْلُؤَ لَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الدَّجَاجِ وَلَا هُوَ مِنْ عَلَفِهَا فَلَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِهَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُوجَدُ فِي حَوْصَلَةِ الطَّيْرِ إنْ كَانَ مِمَّا يَأْكُلُهُ الطَّيْرُ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَلَفِ لَهُ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَأْكُلُهُ الطَّيْرُ فَهُوَ لِلْبَائِعِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا بَاعَ رَقِيقًا وَلَهُ مَالٌ أَنَّ مَالَهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ وَيَكُونُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَا فِي يَدِهِ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَالْمَوْلَى مَا بَاعَ مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتِ الْبَيْعِ هُوَ الْعَبْدُ فَلَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَدْخُلَ ثِيَابُ بَدَنِهِ كَمَا لَا يَدْخُلُ اللِّجَامُ وَالسَّرْجُ وَالْعِذَارُ فِي بَيْعِ الدَّابَّةِ؛ لِمَا قُلْنَا لَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فِي ثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ وَهِيَ الَّتِي يَلْبَسُهَا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِتَعَامُلِ النَّاسِ وَتَعَارُفِهِمْ وَأَمَّا الثِّيَابُ النَّفِيسَةُ الَّتِي لَا يَلْبَسُهَا إلَّا وَقْتَ الْعَرْضِ لِلْبَيْعِ فَلَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ لِانْعِدَامِ التَّعَارُفِ فِي ذَلِكَ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَهَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ فِي كُلِّ بَلَدٍ فَبُنِيَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ فَمَالُهُ لِمَوْلَاهُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَ مُدَبَّرَهُ أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ مَرْقُوقٌ مَمْلُوكٌ فَلَا يَكُونُ لَهُ مَالٌ وَلَوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ وَقْتَ الْكِتَابَةِ يَكُونُ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ الْقِنِّ وَمَا اكْتَسَبَ بَعْدَ الْكِتَابَةِ يَكُونُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ الْمُكَاتَبِ وَلِأَنَّهُ حُرٌّ يَدًا فَكَانَ كَسْبُهُ لَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ الْبَائِعَ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرٍ يَلْزَمُهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ وَلَا يَلْزَمُ بِالْتِزَامِ الْعَاقِدِ إلَّا ضَرَرُ تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا مَا وَرَاءَهُ فَلَا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا بَاعَ جِذْعًا لَهُ فِي سَقْفٍ أَوْ آجُرًّا لَهُ فِي حَائِطٍ أَوْ ذِرَاعًا فِي دِيبَاجٍ أَوْ كِرْبَاسٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِالنَّزْعِ وَالْقَطْعِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْبَائِعِ وَالضَّرَرُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ فَكَانَ هَذَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بَيْعَ مَا لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ شَرْعًا فَيَكُونُ فَاسِدًا فَإِنْ نَزَعَهُ الْبَائِعُ أَوْ قَطَعَهُ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ؛ جَازَ الْبَيْعُ حَتَّى يُجْبَرَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْأَخْذِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ ضَرَرُ الْبَائِعِ بِالتَّسْلِيمِ فَإِذَا سَلَّمَ بِاخْتِيَارِهِ وَرِضَاهُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَجَازَ الْبَيْعُ وَلَزِمَ، وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ بَيْعِ الْأَلْيَةِ فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ وَالزَّيْتِ فِي الزَّيْتُونِ وَالدَّقِيقِ فِي الْحِنْطَةِ وَالْبَزْرِ فِي الْبِطِّيخِ. وَنَحْوِهَا أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا حَتَّى لَوْ سَلِمَ؛ لَمْ يَجُزْ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْفَرْقِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَالْأَصْلُ الْمَحْفُوظُ أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرٍ يَرْجِعُ إلَى قَطْعِ اتِّصَالٍ ثَابِتٍ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ وَمَا لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرٍ يَرْجِعُ إلَى قَطْعِ اتِّصَالٍ عَارِضٍ فَبَيْعٌ فَاسِدٌ إلَّا أَنْ يُقْطَعَ بِاخْتِيَارِهِ وَيُسْلَمَ فَيَجُوزُ وَالْقِيَاسُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْزَمُهُ بِالْجَزِّ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا عَدَمَ الْجَوَازِ لِلنَّصِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ الْجَزَّ مِنْ أَصْلِهِ لَا يَخْلُو عَنْ الْإِضْرَارِ بِالْحَيَوَانِ وَمَوْضِعُ الْجَزِّ فِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَتَجْرِي فِيهِ الْمُنَازَعَةُ فَلَا يَجُوزُ وَلَوْ بَاعَ حِلْيَةَ سَيْفٍ فَإِنْ كَانَ يَتَخَلَّصُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِضَرَرٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إلَّا إذَا فَصَلَ وَسَلَّمَ، وَعَلَى هَذَا: بِنَاءٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَالْأَرْضُ لِغَيْرِهِمَا فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ الْبِنَاءِ لِغَيْرِ شَرِيكِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرٍ وَهُوَ نَقْضُ الْبِنَاءِ، وَكَذَا زَرْعٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَوْ ثِمَارٌ بَيْنَهُمَا فِي أَرْضٍ لَهُمَا حَقُّ التَّرْكِ فِيهَا إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقَلْعِ لِلْحَالِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِ، وَلَوْ بَاعَ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ جَازَ لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ وَكَذَا إذَا كَانَ الزَّرْعُ كُلُّهُ لِرَجُلٍ وَلَمْ يُدْرَكْ فَبَاعَ الزَّرْعَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِقَطْعِ الْكُلِّ وَفِيهِ ضَرَرٌ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ جَازَ لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ، دَارٌ أَوْ أَرْضٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مَشَاعٌ غَيْرُ مَقْسُومٍ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا بَيْتًا مِنْهَا بِعَيْنِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَاعَ قِطْعَةً مِنْ الْأَرْضِ بِعَيْنِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَجُزْ لَا فِي نَصِيبِهِ وَلَا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ. أَمَّا فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَلِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِصَاحِبِهِ بِإِحْدَاثِ زِيَادَةِ شَرِكَةٍ وَلَوْ بَاعَ جَمِيعَ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّارِ وَالْأَرْضِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ زِيَادَةَ شَرِكَةٍ، وَإِنَّمَا قَامَ الْمُشْتَرِي مَقَامَ الْبَائِعِ، وَلَوْ بَاعَ اللُّؤْلُؤَةَ فِي الصَّدَفَةِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهَا إلَّا بِشَقِّ الصَّدَفَةِ وَإِنَّهُ ضَرَرٌ فِيمَا وَرَاءَ الْمَعْقُودِ فَصَارَ كَبَيْعِ الْجِذْعِ فِي السَّقْفِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِشَقِّ الصَّدَفَةِ؛ لِأَنَّ الصَّدَفَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالشَّقِّ وَلَوْ بَاعَ قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ هَذِهِ النَّقْرَةِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِالْفَصْلِ وَالتَّمْيِيزِ وَكَذَا لَوْ بَاعَ الْقَوَائِمَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْجَارِ أَوْ بَاعَ الثِّمَارَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْجَارِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ أَوْ مُطْلَقًا جَازَ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لَوْ بَاعَ بِنَاءَ الدَّارِ دُونَ الْعَرْصَةِ أَوْ الْأَشْجَارَ الْقَائِمَةَ عَلَى الْأَرْضِ دُونَ الْأَرْضِ أَوْ الزَّرْعَ أَوْ الْبُقُولَ الْقَائِمَةَ قَبْلَ الْجَذِّ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الْخُلُوُّ عَنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ. مِنْهَا: شَرْطٌ فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ نَحْوَ مَا إذَا اشْتَرَى نَاقَةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ لَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَلَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ عِظَمَ الْبَطْنِ وَالتَّحَرُّكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِعَارِضِ دَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ فَكَانَ فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَغَرَرٍ» وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَاسِدٌ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ الْبَيْعَ بِهَذَا الشَّرْطِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا حَامِلًا بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ كَوْنِ الْعَبْدِ كَاتِبًا أَوْ خَيَّاطًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَذَا جَائِزٌ فَكَذَا هَذَا وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ إلَّا رِوَايَةً فِيهِ عَنْ أَصْحَابِنَا وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ قِيَاسًا عَلَى الْبَهَائِمِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْبُيُوعِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ بَاعَ وَتَبَرَّأَ مِنْ حَمْلِهَا؛ جَازَ الْبَيْعُ وَلَيْسَ هَذَا كَالشَّرْطِ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلَيْسَ هَذَا كَالشَّرْطِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ فِيهِ مُفْسِدٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْحَبَلَ فِي الْجَوَارِي عَيْبٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى

جَارِيَةً فَوَجَدَهَا حَامِلًا لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا فَكَانَ ذِكْرُ الْحَبَلِ فِي الْجَوَارِي إبْرَاءً عَنْ هَذَا الْعَيْبِ بِخِلَافِ الْبَهَائِمِ؛ لِأَنَّ الْحَبَلَ فِيهَا زِيَادَةٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى بَهِيمَةً فَوَجَدَهَا حَامِلًا لَيْسَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ فَكَانَ ذِكْرُ الْحَبَلِ فِيهَا شَرْطًا، فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ؛ فَيُفْسِدُ الْبَيْعَ وَبَعْضُهُمْ فَصَّلَ فِيهِ تَفْصِيلًا فَقَالَ: إنْ اشْتَرَاهَا لِيَتَّخِذَهَا ظِئْرًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطُ زِيَادَةٍ فِي وُجُودِهَا خَطَرٌ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ أَيْضًا فَأَشْبَهَ اشْتِرَاطَ الْحَبَلِ فِي بَيْعِ النَّاقَةِ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِالشِّرَاءِ ذَلِكَ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ يَكُونُ إبْرَاءً عَنْ هَذَا الْعَيْبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَلَوْ اشْتَرَى نَاقَةً وَهِيَ حَامِلٌ عَلَى أَنَّهَا تَضَعُ حَمْلهَا إلَى شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ فِي وُجُودِ هَذَا الشَّرْطِ غَرَرًا، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى بَقَرَةً عَلَى أَنَّهَا تَحْلُبُ كَذَا كَذَا رَطْلًا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اشْتَرَى بَقَرَةً عَلَى أَنَّهَا حَلُوبَةٌ لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ قِيَاسُ رِوَايَتِهِ فِي شَرْطِ الْحَبَلِ. (وَوَجْهُهُ) أَنَّ شَرْطَ كَوْنِهَا حَلُوبَةً شَرْطُ زِيَادَةِ صِفَةٍ فَأَشْبَهَ شَرْطَ الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ فِي الْجَوَارِي، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (وَوَجْهُهُ) أَنَّ هَذَا شَرْطُ زِيَادَةٍ فَيَجْرِي فِي وُجُودِهَا غَرَرٌ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَهُوَ اللَّبَنُ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا فِي الْبَيْعِ، وَكَوْنُهَا حَلُوبَةً إنْ كَانَ صِفَةً لَهَا لَكِنَّهَا لَا تُوصَفُ بِهِ إلَّا بِوُجُودِ اللَّبَنِ وَفِي وُجُودِهِ غَرَرٌ وَجَهَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ، وَلَوْ اشْتَرَى بَقَرَةً عَلَى أَنَّهَا لَبُونٌ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ وَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الْحَلُوبَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ اشْتَرَى قُمْرِيَّةً عَلَى أَنَّهَا تُصَوِّتُ أَوْ طَيْرًا عَلَى أَنَّهُ يَجِيءُ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ أَوْ كَبْشًا عَلَى أَنَّهُ نَطَّاحٌ أَوْ دِيكًا عَلَى أَنَّهُ مُقَاتِلٌ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ غَرَرٌ وَالْوُقُوفُ عَلَيْهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْجَبْرَ عَلَيْهِ فَصَارَ كَشَرْطِ الْحَبَلِ وَلِأَنَّ هَذِهِ صِفَاتٌ يُتَلَهَّى بِهَا عَادَةً وَالتَّلَهِّي مَحْظُورٌ فَكَانَ هَذَا شَرْطًا مَحْظُورًا فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا بَاعَ قُمْرِيَّةً عَلَى أَنَّهَا تُصَوِّتُ فَإِذَا صَوَّتَتْ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا صَوَّتَتْ عُلِمَ أَنَّهَا مُصَوِّتَةٌ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ غَرَرُ الْعَدَمِ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالُوا فِي الْمُحْرِمِ إذَا قَتَلَ قُمْرِيَّةً مُصَوِّتَةً: إنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا مُصَوِّتَةً. وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا مُغَنِّيَةٌ عَلَى سَبِيلِ الرَّغْبَةِ فِيهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ التَّغْنِيَةَ صِفَةٌ مَحْظُورَةٌ لِكَوْنِهَا لَهْوًا فَشَرْطُهَا فِي الْبَيْعِ يُوجِبُ فَسَادَهُ، وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا مُغَنِّيَةٌ عَلَى وَجْهِ إظْهَارِ الْعَيْبِ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ عَنْ هَذَا الْعَيْبِ فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهَا بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ عَنْ عَيْبٍ آخَرَ فَإِنْ وَجَدَهَا لَا تُغَنِّي لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْغِنَاءَ فِي الْجَوَارِي عَيْبٌ فَصَارَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ مَعِيبٌ فَوَجَدَهُ سَلِيمًا. وَلَوْ اشْتَرَى كَلْبًا أَوْ فَهْدًا عَلَى أَنَّهُ مُعَلَّمٌ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ الْبَيْعُ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمَصِيدَ فَيُمْسِكُهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ مَحْظُورٍ؛ لِأَنَّ تَعْلِيمَ الْكَلْبِ وَالِاصْطِيَادَ بِهِ مُبَاحٌ فَأَشْبَهَ شَرْطَ الْكِتَابَةِ فِي الْعَبْدِ وَالطَّبْخِ فِي الْجَارِيَةِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ غَرَرٌ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ إلَّا بِالِاصْطِيَادِ وَالْجَبْرُ عَلَيْهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَلَوْ اشْتَرَى بِرْذَوْنًا عَلَى أَنَّهُ هِمْلَاجٌ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ بِالتَّسْيِيرِ فَلَمْ يَكُنْ فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ وَلَا خَطَرٌ أَيْضًا، وَإِنْ شِئْت أَفْرَدْت لِجِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ شَرْطًا عَلَى حِدَةٍ وَخَرَّجْتهَا إلَيْهِ فَقُلْت: وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَشْرُوطُ مَحْظُورًا فَافْهَمْ. (وَمِنْهَا) شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لِلْمَبِيعِ إنْ كَانَ مِنْ بَنِي آدَمَ كَالرَّقِيقِ وَلَيْسَ بِمُلَائِمٍ لِلْعَقْدِ وَلَا مِمَّا جَرَى بِهِ التَّعَامُلُ بَيْنَ النَّاسِ نَحْوَ مَا إذَا بَاعَ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْبَائِعُ شَهْرًا ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إلَيْهِ أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا سَنَةً أَوْ دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا شَهْرًا أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ أُسْبُوعًا أَوْ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ الْمُشْتَرِي قَرْضًا أَوْ عَلَى أَنْ يَهَبَ لَهُ هِبَةً أَوْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ مِنْهُ أَوْ يَبِيعَ مِنْهُ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ أَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ قَمِيصًا أَوْ حِنْطَةً عَلَى أَنْ يَطْحَنَهَا أَوْ ثَمَرَةً عَلَى أَنْ يَجُذَّهَا أَوْ رَبْطَةً قَائِمَةً عَلَى الْأَرْضِ عَلَى أَنْ يَجُذَّهَا أَوْ شَيْئًا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ عَلَى أَنْ يَحْمِلَهُ الْبَائِعُ إلَى مَنْزِلِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَالْبَيْعُ فِي هَذَا كُلِّهِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ فِي الْبَيْعِ تَكُونُ رِبًا لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الرِّبَا. وَالْبَيْعُ الَّذِي فِيهِ الرِّبَا فَاسِدٌ أَوْ فِيهِ شُبْهَةُ الرِّبَا، وَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْبَيْعِ كَحَقِيقَةِ الرِّبَا عَلَى مَا نُقَرِّرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا لَوْ بَاعَ جَارِيَةً عَلَى أَنْ يُدَبِّرَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ عَلَى أَنْ يَسْتَوْلِدَهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمَبِيعِ وَإِنَّهُ مُفْسِدٌ، وَكَذَا لَوْ بَاعَهَا بِشَرْطِ أَنْ يُعْتِقَهَا

الْمُشْتَرِي فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ جَائِزٌ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (وَوَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ شَرْطَ الِاعْتِقَادِ مِمَّا يُلَائِمُ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إنْهَاءُ الْمِلْكِ وَإِنْهَاءُ الْمِلْكِ تَقْرِيرٌ لَهُ فَكَانَ مُلَائِمًا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ إنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ أَنَّ الْبَيْعَ ثَبَّتَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِالْإِعْتَاقِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَ حَتَّى يَقَعَ الْعِتْقُ عَنْ الْآمِرِ وَلَا عِتْقَ إلَّا بِالْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ إلَّا بِالتَّمْلِيكِ فَلَوْ كَانَ الْإِعْتَاقُ إزَالَةَ الْمِلْكِ لَمَا تُصُوِّرَ وُجُودُ الْإِعْتَاقِ مُقْتَضَاهُ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ وَالشَّيْءُ لَا يَقْتَضِي ضِدَّهُ، وَإِذَا كَانَ إنْهَاءَ الْمِلْكِ؛ كَانَ تَقْرِيرًا لَهُ فَكَانَ مُلَائِمًا لِلْعَقْدِ فَلَا يُوجِبُ فَسَادَهُ وَلِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعُمُّ الْكُلَّ وَالثَّانِي يَخُصُّ أَبَا حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ شَرْطٌ لَا يُلَائِمُهُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي الْمِلْكَ، وَالْمِلْكَ يَقْتَضِي إطْلَاقَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَمْلُوكِ تَحْصِيلًا وَتَرْكًا. وَشَرْطُ الْإِعْتَاقِ يَقْتَضِي الِاسْتِحْقَاقَ وَاللُّزُومَ لَا مَحَالَةَ فَلَا يُلَائِمُهُ بَلْ يُضَادُّهُ وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُلَائِمُ الْعَقْدَ مِنْ وَجْهٍ وَلَا يُلَائِمُهُ مِنْ وَجْهٍ وَهَذَا يُوجِبُ الْفَسَادَ عَلَى مَا نَذْكُرُ تَقْرِيرَهُ ثُمَّ إذَا بَاعَ بِهَذَا الشَّرْطِ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي؛ انْقَلَبَ الْعَقْدُ جَائِزًا بِالْإِعْتَاقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا حَتَّى يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّمَنُ سَوَاءٌ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ أَوْ قَبْلَهُ هَكَذَا رَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا حَتَّى تَلْزَمَهُ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَهَكَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى. (وَوَجْهُهُ) ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ فَاسِدًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ وَبِالْإِعْتَاقِ لَا يَنْعَدِمُ الْفَسَادُ بَلْ يَتَقَرَّرُ؛ لِأَنَّهُ إنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ وَإِنَّهُ تَقْرِيرٌ فَيُوجِبُ تَقَرُّرَ الْفَسَادِ لِلْفَاسِدِ، وَالْفَاسِدُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقِيمَةِ لَا بِالثَّمَنِ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْإِعْتَاقِ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ أَوْ وَهَبَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ كَذَا هَهُنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا ذَكَرْنَا أَنَّ شَرْطَ الْإِعْتَاقِ يُلَائِمُ الْعَقْدَ مِنْ وَجْهٍ وَلَا يُلَائِمُهُ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ إنْهَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِزَالَةٌ مِنْ وَجْهٍ: فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنْهَاءٌ كَانَ يُلَائِمُهُ؛ لِأَنَّهُ تَقْرِيرٌ لَكِنْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إزَالَةٌ لَا يُلَائِمُهُ؛ لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ مُوجَبِ الْعَقْدِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ فَعَمِلْنَا بِشَبَهِ الْإِزَالَةِ، فَقُلْنَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ فِي الِابْتِدَاءِ وَعَمِلْنَا بِشَبَهِ الْإِنْهَاءِ فَقُلْنَا بِجَوَازِهِ فِي الِانْتِهَاءِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يُعْمَلُ بِهِمَا عَلَى الْقَلْبِ مِمَّا قُلْتُمْ؟ قِيلَ: لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ جَائِزًا انْقَلَبَ فَاسِدًا فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَوَجَدْنَا فَاسِدًا انْقَلَبَ جَائِزًا كَمَا فِي بَيْعِ الرَّقْمِ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ أَوْ وَهَبَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إنْهَاءَ الْمِلْكِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ التَّدْبِيرِ أَوْ الِاسْتِيلَادِ فَدَبَّرَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ اسْتَوْلَدَهَا أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَالِاسْتِيلَادَ لَا يُوجِبَانِ إنْهَاءَ الْمِلْكِ بِيَقِينٍ لِاحْتِمَالِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَبِجَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ فِي الْجُمْلَةِ فَكَانَ ذَلِكَ شَرْطًا لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ أَصْلًا؛ فَأَوْجَبَ لُزُومَ الْفَسَادِ وَكَذَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ وَأَنْ لَا يَهَبَهُ وَأَنْ لَا يُخْرِجَهُ عَنْ مِلْكِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَبْدُ وَالْجَارِيَةُ بِالصِّيَانَةِ عَنْ تَدَاوُلِ الْأَيْدِي فَيَكُونُ مُفْسِدًا لِلْبَيْعِ. (وَأَمَّا) فِيمَا سِوَى الرَّقِيقِ إذَا بَاعَ ثَوْبًا عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ لَا يَهَبَهُ أَوْ دَابَّةً عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَهَا أَوْ يَهَبَهَا أَوْ طَعَامًا عَلَى أَنْ يَأْكُلَهُ وَلَا يَبِيعَهُ: ذَكَرَ فِي الْمُزَارَعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ شَرَطَ أَحَدُ الْمُزَارِعِينَ فِي الْمُزَارَعَةِ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ وَلَا يَهَبَهُ فَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْبَيْعَ بِهَذَا الشَّرْطِ فَاسِدٌ. (وَوَجْهُهُ) أَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَا يُلَائِمُهُ وَلَا جَرَى بِهِ التَّعَارُفُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَكُونُ مُفْسِدًا كَمَا فِي سَائِرِ الشَّرَائِطِ الْمُفْسِدَةِ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَ فِي الْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ فَلَا يُوجِبُ الْفَسَادَ وَهَذَا لِأَنَّ فَسَادَ الْبَيْعِ فِي مِثْل هَذِهِ الشُّرُوطِ لِتَضَمُّنِهَا الرِّبَا وَذَلِكَ بِزِيَادَةِ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ فِي الْعَقْدِ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِي هَذَا الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ إلَّا أَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَلَوْ بَاعَ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَحْرِقَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ دَارًا عَلَى أَنْ يُخَرِّبَهَا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْمَضَرَّةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَوْ بَاعَ جَارِيَةً عَلَى أَنْ لَا يَطَأَهَا الْمُشْتَرِي: ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اخْتِلَافًا وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فَقَالَ: الْبَيْعُ فَاسِدٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَلَوْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ

يَطَأَهَا جَازَ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذَا شَرْطٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ الْبَيْعِ كَمَا لَوْ بَاعَ مَا سِوَى الرَّقِيقِ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَ أَوْ لَا يَهَبَ إلَّا أَنَّهُ نَوَى مَضَرَّةً لِلْمُشْتَرِي فَكَانَ بَاطِلًا وَالْبَيْعُ صَحِيحًا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ هَذَا شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ أَمْرٌ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَهَذَا الشَّرْطُ يَنْفِيهِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يَطَأَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ يُقَرِّرُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْوَطْءِ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ شَرْطَ الْوَطْءِ مِمَّا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ أَيْضًا بَلْ يَنْفِيه؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي الْحِلَّ لَا الِاسْتِحْقَاقَ وَقَضِيَّةُ الشَّرْطِ الِاسْتِحْقَاقُ وَاللُّزُومُ وَهُمَا مِمَّا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ بَلْ يَنْفِيهِ. (وَأَمَّا) الشَّرْطُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ فَلَا يُوجِبُ فَسَادَهُ كَمَا إذَا اشْتَرَى بِشَرْطِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْمَبِيعَ أَوْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الثَّمَنَ أَوْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يَبْخَسَ الْمَبِيعَ أَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ أَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنْ تَخْدِمَهُ أَوْ دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ أَوْ حِنْطَةً فِي سُنْبُلِهَا وَشَرَطَ الْحَصَادَ عَلَى الْبَائِعِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَكَانَ ذِكْرُهَا فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ تَقْرِيرًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فَلَا تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ. وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِشَرْطِ أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَنْزِلِهِ فَهَذَا لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعُ بِمَنْزِلِهِمَا فِي الْمِصْرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا فِي الْمِصْرِ وَالْآخَرُ خَارِجَ الْمِصْرِ فَإِنْ كَانَ كِلَاهُمَا فِي الْمِصْرِ فَالْبَيْعُ بِهَذَا الشَّرْطِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا إلَّا إذَا كَانَ فِي تَصْحِيحِ هَذَا الشَّرْطِ تَحْقِيقُ الرِّبَا، كَمَا إذَا تَبَايَعَا حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ وَشَرَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ الْإِيفَاءَ فِي مَنْزِلِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْبَيْعُ بِهَذَا الشَّرْطِ فَاسِدٌ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُشْتَرِي فَأَشْبَهَ مَا إذَا اشْتَرَى بِشَرْطِ الْحَمْلِ إلَى مَنْزِلِهِ أَوْ بِشَرْطِ الْإِيفَاءِ فِي مَنْزِلِهِ وَأَحَدُهُمَا فِي الْمِصْرِ وَالْآخَرُ خَارِجَ الْمِصْرِ. (وَلَهُمَا) أَنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوا الْبَيْعَ بِهَذَا الشَّرْطِ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي فِي الْمِصْرِ فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِتَعَامُلِ النَّاسِ وَلَا تَعَامُلَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُونَا فِي الْمِصْرِ وَلَا فِي شَرْطِ الْحَمْلِ إلَى الْمَنْزِلِ فَعَمِلْنَا بِالْقِيَاسِ فِيهِ وَكَذَلِكَ الشَّرْطُ الَّذِي لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ لَكِنَّهُ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مُقَرِّرٌ لِحُكْمِ الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُؤَكِّدًا إيَّاهُ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَيُلْحَقُ بِالشَّرْطِ الَّذِي هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ وَذَلِكَ نَحْوَ مَا إذَا بَاعَ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ رَهْنًا أَوْ كَفِيلًا وَالرَّهْنُ مَعْلُومٌ وَالْكَفِيلُ حَاضِرٌ فَقَبِلَ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ إعْطَاءِ الرَّهْنِ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا فَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ مُفْسِدٌ فِي الْأَصْلِ وَشَرْطُ الرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ مِمَّا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ فَكَانَ مُفْسِدًا إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَوْ كَانَ مُخَالِفًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ صُورَةً فَهُوَ مُوَافِقٌ لَهُ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ بِالثَّمَنِ شُرِعَ تَوْثِيقًا لِلثَّمَنِ وَكَذَا الْكَفَالَةُ فَإِنَّ حَقَّ الْبَائِعِ يَتَأَكَّدُ بِالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَرِّرًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ مَعْنًى فَأَشْبَهَ اشْتِرَاطَ صِفَةِ الْجَوْدَةِ لِلثَّمَنِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ فَكَذَا هَذَا وَلَوْ قَبِلَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ ثُمَّ امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ لَا يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ الرَّهْنَ إذَا شُرِطَ فِي الْبَيْعِ فَقَدْ صَارَ حَقًّا مِنْ حُقُوقِهِ وَالْجَبْرُ عَلَى التَّسْلِيمِ مِنْ حُقُوقِ الْبَيْعِ فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ. (وَلَنَا) أَنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فِي الْأَصْلِ وَاشْتِرَاطُهُ فِي الْبَيْعِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ تَبَرُّعًا وَالْجَبْرُ عَلَى التَّبَرُّعِ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ: إمَّا أَنْ تَدْفَعَ الرَّهْنَ أَوْ قِيمَتَهُ أَوْ تُؤَدِّيَ الثَّمَنَ أَوْ يَفْسَخَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ إلَّا بِوَثِيقَةِ الرَّهْنِ أَوْ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ تَقُومُ مَقَامَهُ وَلِأَنَّ الدَّيْنَ يُسْتَوْفَى مِنْ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ وَهِيَ قِيمَتُهُ وَإِذَا أَدَّى الثَّمَنَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَلَا مَعْنَى لِلْفَسْخِ وَلَوْ امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ؛ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَالْغَرَضِ وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَجْهُولًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ جَوَازَ هَذَا الشَّرْطِ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ لِكَوْنِهِ مُلَائِمًا لِلْعَقْدِ مُقَرِّرًا لِمُقْتَضَاهُ مَعْنًى لِحُصُولِ التَّوَثُّقِ وَالتَّأَكُّدِ لِلثَّمَنِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ وَأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَجْهُولِ. وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى تَعْيِينِ رَهْنٍ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ جَهَالَةُ الرَّهْنِ وَقَدْ زَالَ فَكَأَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا مُعَيَّنًا مِنْ الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ لَهُ حُكْمُ حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ افْتَرَقَا عَنْ الْمَجْلِسِ؛ تَقَرَّرَ الْفَسَادُ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى تَعْيِينِ الرَّهْنِ وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ نَقَدَ الثَّمَنَ؛ جَازَ

الْبَيْعُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الرَّهْنِ هُوَ الْوُصُولُ إلَى الثَّمَنِ وَقَدْ حَصَلَ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْوَثِيقَةِ. وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ إعْطَاءِ الْكَفِيلِ أَنَّ الْكَفِيلَ إنْ كَانَ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ وَقَبِلَ؛ جَازَ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ وَكَذَا إذَا كَانَ حَاضِرًا وَلَمْ يَقْبَلْ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ ثَبَتَ لِمَعْنَى التَّوْثِيقِ وَتَوْكِيدِ الثَّمَنِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْرِيرِ مُوجَبِ الْعَقْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَإِذَا كَانَ الْكَفِيلُ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا وَلَمْ يَقْبَلْ؛ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ فَلَمْ يَحْصُلْ مَعْنَى التَّوْثِيقِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْكَفِيلُ مَجْهُولًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ كَفَالَةَ الْمَجْهُولِ لَا تَصِحُّ وَلَوْ كَانَ الْكَفِيلُ مُعَيَّنًا وَهُوَ غَائِبٌ ثُمَّ حَضَرَ وَقَبِلَ الْكَفَالَةَ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ جَازَتْ الْكَفَالَةُ بِالْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِذَا حَضَرَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ تَأَكَّدَ الْفَسَادُ. وَلَوْ شَرَطَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يُحِيلَهُ بِالثَّمَنِ عَلَى غَرِيمٍ مِنْ غُرَمَائِهِ أَوْ عَلَى أَنْ يَضْمَنَ الثَّمَنَ لِغَرِيمٍ مِنْ غُرَمَاءِ الْبَائِعِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحَوَالَةِ وَالضَّمَانِ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ الَّذِي لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ مُفْسِدٌ فِي الْأَصْلِ إلَّا إذَا كَانَ فِيهِ تَقْرِيرُ مُوجَبِ الْعَقْدِ وَتَأْكِيدُهُ، وَالْحَوَالَةُ إبْرَازٌ عَنْ الثَّمَنِ وَإِسْقَاطٌ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ مُلَائِمًا لِلْعَقْدِ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مِمَّا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ أَيْضًا لَكِنْ لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ كَمَا إذَا اشْتَرَى نَعْلًا عَلَى أَنْ يَحْدُوَهُ الْبَائِعُ أَوْ جِرَابًا عَلَى أَنْ يَخْرِزَهُ لَهُ خُفًّا أَوْ يَنْعَلَ خُفَّهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ وَإِنَّهُ مُفْسِدٌ كَمَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِشَرْطِ أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ لَهُ قَمِيصًا وَنَحْوَ ذَلِكَ. (وَلَنَا) أَنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوا هَذَا الشَّرْطَ فِي الْبَيْعِ كَمَا تَعَامَلُوا الِاسْتِصْنَاعَ فَسَقَطَ الْقِيَاسُ بِتَعَامُلِ النَّاسِ كَمَا سَقَطَ فِي الِاسْتِصْنَاعِ، وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ أَوْ طَبَّاخَةٌ أَوْ خَبَّازَةٌ، أَوْ غُلَامًا عَلَى أَنَّهُ كَاتِبٌ أَوْ خَيَّاطٌ، أَوْ بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهَا صِحَاحٌ أَوْ عَلَى أَنَّهَا جِيَادُ نَقْدِ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهَا مُؤَجَّلَةٌ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ صِفَةٌ لِلْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ صِفَةٌ مَحْضَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ انْقِلَابُهَا أَصْلًا وَلَا يَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ بِحَالٍ، وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ وَإِنَّهَا صِفَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا لَا عَلَى وَجْهِ التَّلَهِّي، وَالْمَشْرُوطُ إذَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ؛ كَانَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ، وَاشْتِرَاطُ شَرْطٍ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ كَمَا إذَا اشْتَرَى بِشَرْطِ التَّسْلِيمِ وَتَمَلُّكِ الْمَبِيعِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى نَاقَةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ أَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُنَاكَ عَيْنٌ وَهُوَ الْحَمْلُ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا. وَكَوْنُ النَّاقَةِ حَامِلًا وَإِنْ كَانَ صِفَةً لَهَا لَكِنْ لَا تَحَقُّقَ لَهُ إلَّا بِالْحَمْلِ وَهُوَ عَيْنٌ فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ، وَمَعَ ذَلِكَ مَجْهُولٌ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ فَسَادَ الْبَيْعِ وَيَخْرُجُ عَلَى هَذَا أَيْضًا مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَسَائِلَ إذَا اشْتَرَى نَاقَةً عَلَى أَنَّهَا تَحْلُبُ كَذَا وَكَذَا رَطْلًا أَوْ عَلَى أَنَّهَا حَلُوبَةٌ أَوْ عَلَى أَنَّهَا لَبُونٌ أَنَّ الْبَيْعَ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَيْنٌ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا مُغَنِّيَةٌ عَلَى سَبِيلِ الرَّغْبَةِ فِيهَا؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْغِنَاءِ جِهَةُ التَّلَهِّي فَاشْتِرَاطُهَا فِي الْبَيْعِ يُوجِبُ الْفَسَادَ وَكَذَا إذَا اشْتَرَى قُمْرِيَّةً عَلَى أَنَّهَا تُصَوِّتُ أَوْ طوطيا عَلَى أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ أَوْ حَمَامَةً عَلَى أَنَّهَا تَجِيءُ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ أَوْ كَبْشًا عَلَى أَنَّهُ نَطَّاحٌ أَوْ دِيكًا عَلَى أَنَّهُ مُقَاتِلٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجِهَاتِ كُلَّهَا جِهَاتُ التَّلَهِّي، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى كَلْبًا عَلَى أَنَّهُ مُعَلَّمٌ أَوْ اشْتَرَى دَابَّةً عَلَى أَنَّهَا هِمْلَاجٌ؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لَا حَظْرَ فِيهَا بِوَجْهٍ وَاَللَّه عَزَّ شَأْنُهُ الْمُوَفِّقُ. وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْعَيْبِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ عَمَّ الْعُيُوبَ كُلَّهَا بِأَنْ قَالَ: بِعْت عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ أَوْ خَصَّ بِأَنْ سَمَّى جِنْسًا مِنْ الْعُيُوبِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى: إنْ خَصَّ صَحَّ وَإِنْ عَمَّ لَا يَصِحُّ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ عِنْدَهُ هَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ؟ لَهُ فِيهِ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ يَبْطُلُ الْعَقْدُ أَيْضًا، وَفِي قَوْلٍ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ، وَلَوْ شَرَطَ: عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ الْعَيْبِ الَّذِي يَحْدُثُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْبَيْعَ بِهَذَا الشَّرْطِ فَاسِدٌ. (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ إبْرَاءٌ عَنْ الْمَجْهُولِ فَلَا يَصِحُّ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إبْرَاءٌ عَنْ الْمَجْهُولِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ إبْرَاءٌ عَنْ الْمَجْهُولِ غَيْرُ صَحِيحٍ أَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَهَذَا آيَةُ التَّمْلِيكِ؛ إذْ الْإِسْقَاطُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَتَمْلِيكُ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْإِبْرَاءَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ لَكِنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّمْلِيكِ لِعَيْنِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تُمْنَعُ فِي مَوْضِعٍ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؟ كَمَا

إذَا بَاعَ قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ هَذِهِ النُّقْرَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْجَهَالَةِ هَهُنَا لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: كُلُّ عَيْبٍ يَتَنَاوَلُ الْعُيُوبَ كُلَّهَا فَإِذَا سَمَّى جِنْسًا مِنْ الْعُيُوبِ لَا جَهَالَةَ لَهُ أَصْلًا مَعَ مَا أَنَّ التَّمْلِيكَ فِي الْإِبْرَاءِ؛ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَتَبَعًا لِلْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْ الْإِسْقَاطِ لَا عَنْ التَّمْلِيكِ فَيُعْتَبَرُ التَّصَرُّفُ إسْقَاطًا لَا تَمْلِيكًا، وَالْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِسْقَاطَاتِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي مَوَارِيثَ قَدْ دُرِسَتْ فَقَالَ لَهُمَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: اسْتِهِمَا وَأَوْجِبَا الْحَقَّ وَلْيَحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ» وَعَلَى هَذَا إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ اسْتِحْلَالِ مُعَامَلَاتِهِمْ فِي آخَرِ أَعْمَارِهِمْ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ. وَأَمَّا بَيْعُ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ بَعْدَ ظُهُورِهِ وَبَيْعُ الزَّرْعِ فِي الْأَرْضِ بِشَرْطِ التَّرْكِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو: إمَّا إنْ كَانَ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مُنْتَفَعًا بِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَإِمَّا إنْ كَانَ قَدْ بَدَا صَلَاحُهُ بِأَنْ صَارَ مُنْتَفَعًا بِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ أَوْ مُطْلَقًا، أَوْ بِشَرْطِ التَّرْكِ حَتَّى يَبْلُغَ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ فَبَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ جَازَ وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَقْطَعَ لِلْحَالِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَوْ بَاعَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطٍ جَازَ أَيْضًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَالْمُتَعَارَفُ هُوَ التَّرْكُ فَكَانَ هَذَا بَيْعًا بِشَرْطِ التَّرْكِ دَلَالَةً فَصَارَ كَمَا لَوْ شَرَطَ التَّرْكَ نَصًّا. (وَلَنَا) أَنَّ التَّرْكَ لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ نَصًّا؛ إذْ الْعَقْدُ مُطْلَقٌ عَنْ الشَّرْطِ أَصْلًا فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِشَرْطِ التَّرْكِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ خُصُوصًا إذَا كَانَ فِي التَّقْيِيدِ فَسَادُ الْعَقْدِ، وَإِنْ اشْتَرَى بِشَرْطِ التَّرْكِ؛ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ وَلَا جَرَى بِهِ التَّعَامُلُ بَيْنَ النَّاسِ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّرْكِ إلَّا بِإِعَارَةِ الشَّجَرَةِ وَالْأَرْضِ وَهُمَا مِلْكُ الْبَائِعِ فَصَارَ بِشَرْطِ التَّرْكِ شَارِطًا الْإِعَارَةَ فَكَانَ شَرْطُهُ صَفْقَةً فِي صَفْقَةٍ وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ هَذَا إذَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ وَكَذَا إذَا بَدَا صَلَاحُهُ فَبَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ أَوْ مُطْلَقًا. فَأَمَّا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ التَّرْكِ فَإِنْ لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ بِلَا خِلَافٍ؛ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا إذَا تَنَاهَى عِظَمُهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا لِتَعَارُفِ النَّاسِ وَتَعَامُلِهِمْ ذَلِكَ، وَلَهُمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ شَرْطَ التَّرْكِ شَرْطٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُشْتَرِي وَالْعَقْدُ لَا يَقْتَضِيهِ وَلَيْسَ بِمُلَائِمٍ لِلْعَقْدِ أَيْضًا وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ يَكُونُ مُفْسِدًا كَمَا إذَا اشْتَرَى حِنْطَةً عَلَى أَنْ يَتْرُكَهَا فِي دَارِ الْبَائِعِ شَهْرًا قَوْلُهُ: النَّاسُ تَعَامَلُوا ذَلِكَ قُلْنَا: دَعْوَى تَعَامُلِ النَّاسِ شَرْطَ التَّرْكِ فِي الْمَبِيعِ مَمْنُوعَةٌ، وَإِنَّمَا التَّعَامُلُ بِالْمُسَامَحَةِ بِالتَّرْكِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَلَوْ اشْتَرَى مُطْلِقًا عَنْ شَرْطٍ فَتَرَكَ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَنَاهَى عِظَمُهُ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا النُّضْجُ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ سَوَاءٌ تُرِكَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّهُ لَا يَزْدَادُ بَعْدَ التَّنَاهِي وَإِنَّمَا يَتَغَيَّرُ إلَى حَالِ النُّضْجِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ التَّرْكُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ؛ جَازَ وَطَابَ لَهُ الْفَضْلُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ تَصَدَّقَ بِمَا زَادَ فِي إذْنِهِ عَلَى مَا كَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ حَصَلَتْ بِجِهَةٍ مَحْظُورَةٍ فَأَوْجَبَتْ خُبْثًا فِيهَا فَكَانَ سَبِيلُهَا التَّصَدُّقُ، فَإِنْ اسْتَأْجَرَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَائِعِ الشَّجَرَ لِلتَّرْكِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّ التَّرْكَ حَصَلَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ وَلَكِنْ لَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ جَوَازَهَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِتَعَامُلِ النَّاسِ فَمَا لَمْ يَتَعَامَلُوا فِيهِ لَا تَصِحُّ فِيهِ الْإِجَارَةُ؛ وَلِهَذَا لَمْ تَصِحَّ إجَارَةُ الْأَشْجَارِ لِتَجْفِيفِ الثِّيَابِ وَإِجَارَةُ الْأَوْتَادِ لِتَعْلِيقِ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهَا وَإِجَارَةُ الْكُتُبِ لِلْقِرَاءَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ حَتَّى لَمْ تَجِبْ الْأُجْرَةُ؛ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَلَوْ أَخْرَجَتْ الشَّجَرَةُ فِي مُدَّةِ التَّرْكِ ثَمَرَةً أُخْرَى فَهِيَ لِلْبَائِعِ سَوَاءٌ كَانَ التَّرْكُ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِ الْبَائِعِ فَيَكُونُ لَهُ وَلَوْ حَلَّلَهَا لَهُ الْبَائِعُ جَازَ وَإِنْ اخْتَلَطَ الْحَادِثُ بَعْدَ الْعَقْدِ بِالْمَوْجُودَةِ عِنْدَهُ حَتَّى لَا يُعْرَفَ يُنْظَرُ إنْ كَانَ قَبْلَ التَّخْلِيَةِ بَطَلَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ صَارَ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ بِالِاخْتِلَاطِ لِلْجَهَالَةِ وَتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ فَأَشْبَهَ الْعَجْزَ عَنْ التَّسْلِيمِ بِالْهَلَاكِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ لَمْ يَبْطُلْ؛ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ قَبْضٌ، وَحُكْمُ الْبَيْعِ يَتِمُّ وَيَتَنَاهَى بِالْقَبْضِ وَالثَّمَرَةُ تَكُونُ بَيْنَهُمَا لِاخْتِلَاطِ مِلْكِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ اخْتِلَاطًا لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا فَكَانَ الْكُلُّ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي الْمِقْدَارِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ يَدٍ لِوُجُودِ التَّخْلِيَةِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَوْ اشْتَرَى ثَمَرَةً بَدَا صَلَاحُ

بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ بِأَنْ أَدْرَكَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ بِشَرْطِ التَّرْكِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عَلَى أَصْلِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَدْرَكَ الْكُلَّ فَاشْتَرَاهَا بِشَرْطِ التَّرْكِ؛ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَهُمَا فَبِإِدْرَاكِ الْبَعْضِ أَوْلَى. (وَأَمَّا) عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ اخْتِيَارُ الْعَادَةِ فَإِنْ كَانَ صَلَاحُ الْبَاقِي مُتَقَارِبًا جَازَ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الثِّمَارِ أَنْ لَا يُدْرِكَ الْكُلُّ دُفْعَةً وَاحِدَةً بَلْ يَتَقَدَّمُ إدْرَاكُ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ وَيَلْحَقُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا بَعْدَ إدْرَاكِ الْكُلِّ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَصَحَّ الشِّرَاءُ عِنْدَهُ بِشَرْطِ التَّرْكِ كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَ يَتَأَخَّرُ إدْرَاكُ الْبَعْضِ عَنْ الْبَعْضِ تَأْخِيرًا فَاحِشًا كَالْعِنَبِ وَنَحْوِهِ يَجُوزُ الْبَيْعُ فِيمَا أَدْرَكَ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا لَمْ يُدْرِكْ؛ لِأَنَّ عِنْدَ التَّأَخُّرِ الْفَاحِشِ يَلْتَحِقَانِ بِجِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. (وَمِنْهَا) : شَرْطُ الْأَجَلِ فِي الْمَبِيعِ الْعَيْنِ وَالثَّمَنِ الْعَيْنِ وَهُوَ أَنْ يُضْرَبَ لِتَسْلِيمِهَا أَجَلٌ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ التَّأْجِيلِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ تَمْلِيكٌ بِتَمْلِيكٍ وَتَسْلِيمٌ بِتَسْلِيمٍ وَالتَّأْجِيلُ يَنْفِي وُجُوبَ التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ فَكَانَ مُغَيِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ إلَّا أَنَّهُ شَرْطُ نَظَرٍ لِصَاحِبِ الْأَجَلِ لِضَرُورَةِ الْعَدَمِ تَرْفِيهًا لَهُ وَتَمْكِينًا مِنْ اكْتِسَابِ الثَّمَنِ فِي الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْأَعْيَانِ فَبَقِيَ التَّأْجِيلُ فِيهَا تَغْيِيرًا مَحْضًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ، وَيَجُوزُ فِي الْمَبِيعِ الدَّيْنُ وَهُوَ السَّلَمُ بَلْ لَا يَجُوزُ بِدُونِهِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَكَذَا يَجُوزُ فِي الثَّمَنِ الدَّيْنُ وَهُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ يُلَائِمُ الدُّيُونَ وَلَا يُلَائِمُ الْأَعْيَانَ؛ لِمَسَاسِ حَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ فِي الدُّيُونِ لَا فِي الْأَعْيَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. (وَمِنْهَا) : شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَبَّدٍ فِي الْبَيْعِ. (وَمِنْهَا) : شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَقَّتٍ بِوَقْتٍ مَجْهُولٍ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً كَهُبُوبِ الرِّيحِ وَمَجِيءِ الْمَطَرِ وَقُدُومِ فُلَانٍ وَمَوْتِ فُلَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ مُتَقَارِبَةً كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَقُدُومِ الْحَاجِّ وَنَحْوِهَا. (وَمِنْهَا) : شَرْطُ خِيَارٍ غَيْرِ مُؤَقَّتٍ أَصْلًا وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ لِلْحَالِ فَكَانَ شَرْطًا مُغَيِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَإِنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْقِيَاسُ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَهُ اسْتِحْسَانًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذٍ كَانَ يَغْبِنُ فِي التِّجَارَاتِ فَشَكَا أَهْلُهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ إذَا بَايَعْت فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ وَلِيَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» فَبَقِيَ مَا وَرَاءَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. (وَمِنْهَا) شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَقَّتٍ بِالزَّائِدِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هَذَا الشَّرْطُ لَيْسَ بِمُفْسِدٍ وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - شَرَطَ الْخِيَارَ شَهْرَيْنِ وَلِأَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِي خِيَارِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَعْلُولٌ بِالْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ بِالتَّأَمُّلِ لِدَفْعِ الْغَبْنِ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْبَصَارَةِ بِالسِّلَعِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ لَهُ الْخِيَارُ أَبْصَرَ مِنْهُ فَفُوِّضَ الْخِيَارُ إلَيْهِ لِلتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَى الثَّلَاثِ كَالْحَاجَةِ إلَى التَّأْجِيلِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ فِي الْأَصْلِ مِمَّا يَأْبَاهُ الْقِيَاسُ، وَالنَّصُّ أَمَّا الْقِيَاسُ فَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَرْطٌ مُغَيِّرٌ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي الْأَصْلِ. وَأَمَّا النَّصُّ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» وَهَذَا بَيْعُ الْغَرَرِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلُّقُ انْعِقَادِ الْعَقْدِ عَلَى غَرَرِ سُقُوطِ الْخِيَارِ إلَّا أَنَّهُ وَرَدَ نَصٌّ خَاصٌّ بِجَوَازِهِ فَيَتْبَعُ مَوْرِدَ النَّصِّ، وَإِنَّهُ وَرَدَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَارَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا عَنْ النَّصِّ الْعَامِّ وَتُرِكَ الْقِيَاسُ فِيهِ فَيُعْمَلُ بِعُمُومِ النَّصِّ وَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ فِيمَا وَرَاءِ هَذَا وَالْعَمَلُ بِقَوْلِ سَيِّدِ الْبَشَرِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَقَوْلُهُمَا: النَّصُّ مَعْلُولٌ بِالْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ قُلْنَا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ فَالثَّلَاثُ مُدَّةٌ صَالِحَةٌ لِدَفْعِ الْغَبْنِ لِكَوْنِهَا صَالِحَةً لِلتَّأَمُّلِ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَا نِهَايَةَ لَهُ. (وَأَمَّا) شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَقَّتٍ بِالثَّلَاثِ فَمَا دُونَهَا فَلَيْسَ بِمُفْسِدٍ اسْتِحْسَانًا لِحَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ وَلِمَسَاسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لِدَفْعِ الْغَبْنِ وَالتَّدَارُكِ عِنْدَ اعْتِرَاضِ النَّدَمِ وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ لِلْعَاقِدِ أَوْ لِغَيْرِهِ بِأَنْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِثَالِثٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ لِلْعَاقِدِ. مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ فَبَقِيَ اشْتِرَاطُهُ لِغَيْرِهِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. (وَلَنَا) أَنَّ النَّصَّ مَعْلُولٌ بِالْحَاجَةِ إلَى التَّأَمُّلِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ صَلَحَ؛ أَجَازَهُ وَإِلَّا فَسَخَ، وَإِذَا جَازَ هَذَا الشَّرْطُ ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمَشْرُوطِ لَهُ وَلِلْعَاقِدِ أَيْضًا وَلِمَا نَذْكُرُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةُ الْإِجَازَةِ وَالْفَسْخِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَاقِدُ مَالِكًا أَوْ وَصِيًّا أَوْ وَلِيًّا أَوْ وَكِيلًا فَيَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِصَاحِبِهِ الَّذِي عَاقَدَهُ. (أَمَّا) الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ فَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ مِنْهُمَا مِنْ بَابِ النَّظَرِ لِلصَّغِيرِ فَيَمْلِكَانِهِ. (وَأَمَّا)

الْوَكِيلُ؛ فَلِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ وَقَدْ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ مُطْلَقًا فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ، أَوْ الشَّرِيكُ شَرِكَةَ عِنَانٍ، أَوْ مُفَاوَضَةٍ يَمْلِكُ شَرْطَ الْخِيَارِ؛ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ هَذَا الْبَيْعُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي الِاسْتِحْسَانِ جَائِزٌ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ: أَنَّ هَذَا بَيْعٌ عُلِّقَتْ إقَالَتُهُ بِشَرْطِ عَدَمِ نَقْدِ الثَّمَنِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَتَعْلِيقُ الْإِقَالَةِ بِالشَّرْطِ فَاسِدٌ، فَكَانَ هَذَا بَيْعًا دَخَلَهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ؛ فَيَكُونُ فَاسِدًا كَسَائِرِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي دَخَلَتْهَا شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ؛ لِوُجُودِ التَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ الْمُسْتَدْعِيَةِ لِلْجَوَازِ، أَمَّا التَّعْلِيقُ فَإِنَّهُ عَلَّقَ إقَالَةَ هَذَا الْبَيْعِ وَفَسْخَهُ بِشَرْطِ عَدَمِ النَّقْدِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَفِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ عَلَّقَ انْعِقَادَهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِشَرْطِ سُقُوطِ الْخِيَارِ. وَأَمَّا الْحَاجَةُ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ فِي الْمَبِيعِ أَنَّهُ هَلْ يُوَافِقُهُ أَمْ لَا؟ فَالْبَائِعُ يَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ أَنَّهُ هَلْ يَصِلُ الثَّمَنُ إلَيْهِ فِي الثَّلَاثِ أَمْ لَا؟ وَكَذَا الْمُشْتَرِي يَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ أَنَّهُ هَلْ يَقْدِرُ عَلَى النَّقْدِ فِي الثَّلَاثِ أَمْ لَا؟ فَكَانَ هَذَا بَيْعًا مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى جَوَازِهِ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، فَوُرُودُ الشَّرْعِ بِالْجَوَازِ هُنَاكَ يَكُونُ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً. وَلَوْ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، كَمَا لَا يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَكْثَرَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ هَهُنَا: لَا يَجُوزُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فَأَبُو حَنِيفَةَ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ، وَلَمْ يَجُزْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ وَأَجَازَ فِيهِمَا، وَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ لَهُ: أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى الْجَوَازَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا إلَّا أَنَّ الْجَوَازَ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ عَرَفْنَاهُ بِأَثَرِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَبَقِيَ هَذَا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ. وَيَتَّصِلُ بِالشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ مَا إذَا بَاعَ حَيَوَانًا وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهِ مِنْ الْحَمْلِ: إنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْحَمْلِ بِانْفِرَادِهِ لَا يَجُوزُ؛ فَكَانَ اسْتِثْنَاؤُهُ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ أُدْخِلَ فِي الْبَيْعِ فَوَجَبَ فَسَادُ الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالرَّهْنِ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ، وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْحَمْلِ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ لَا يُبْطِلُهَا، وَكَذَلِكَ فِي الْإِعْتَاقِ؛ لِمَا أَنَّ اسْتِثْنَاءَ مَا فِي الْبَطْنِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ، وَالْبَيْعُ وَأَخَوَاتُهُ تُبْطِلُهَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ؛ فَكَانَ الشَّرْطُ فَاسِدًا، وَالْعَقْدُ فَاسِدًا فَأَمَّا النِّكَاحُ وَنَحْوُهُ فَلَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فَجَازَ الْعَقْدُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ؛ فَيَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ الْأُمُّ وَالْوَلَدُ جَمِيعًا، وَكَذَا فِي الْعِتْقِ، وَكَذَا إذَا بَاعَ حَيَوَانًا وَاسْتَثْنَى شَيْئًا مِنْ أَطْرَافِهِ؛ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ. وَلَوْ بَاعَ صُبْرَةً وَاسْتَثْنَى قَفِيزًا مِنْهَا؛ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَكَذَا إذَا بَاعَ صُبْرَةً وَاسْتَثْنَى جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا: ثُلُثَهَا، أَوْ رُبُعَهَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَلَوْ بَاعَ قَطِيعًا مِنْ الْغَنَمِ وَاسْتَثْنَى شَاةً مِنْهَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا؛ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَلَوْ اسْتَثْنَى شَاةً مِنْهَا بِعَيْنِهَا؛ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ مَنْ بَاعَ جُمْلَةً وَاسْتَثْنَى مِنْهَا شَيْئًا فَإِنْ اسْتَثْنَى مَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ؛ فَالْبَيْعُ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ جَائِزٌ، وَإِنْ اسْتَثْنَى مَا لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ؛ فَالْبَيْعُ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَاسِدٌ. وَلَوْ بَاعَ الثَّمَرَةَ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ وَاسْتَثْنَى مِنْهَا صَاعًا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى مَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ فَأَشْبَهَ مَا إذَا بَاعَ جُزْءًا مُشَاعًا مِنْهُ مِنْ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الثَّمَرُ مَجْذُوذًا فَبَاعَ الْكُلَّ وَاسْتَثْنَى صَاعًا يَجُوزُ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الْمَجْذُوذِ وَغَيْرِ الْمَجْذُوذِ؟ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَإِلِيهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي الْمُوَطَّإِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ ثَمَرَةً وَيَسْتَثْنِيَ مِنْهَا بَعْضَهَا إذَا اسْتَثْنَى شَيْئًا فِي جُمْلَتِهِ رُبُعًا، أَوْ خُمُسًا، أَوْ سُدُسًا قُيِّدَ الْجَوَازُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مُشَاعًا فِي الْجُمْلَةِ، فَلَوْ ثَبَتَ الْجَوَازُ فِي الْمُعَيَّنِ لَمْ يَكُنْ لِتَقْيِيدِهِ بِهَذَا الشَّرْطِ مَعْنًى، وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ، وَكَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُخْتَصَرِهِ ثُمَّ فَسَادُ الْعَقْدِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الشُّرُوطِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: الْبَيْعُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ جَائِزٌ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِمَا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ فَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ كُلِّ بَيْعٍ وَشَرْطٍ إلَّا مَا خُصَّ عَنْ عُمُومِ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ بَعْضُهَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ زَائِدَةٌ تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدَيْنِ، أَوْ إلَى غَيْرِهِمَا، وَزِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ تَكُونُ رِبًا وَالرِّبَا حَرَامٌ، وَالْبَيْعُ الَّذِي فِيهِ رِبًا فَاسِدٌ وَبَعْضُهَا فِيهِ غَرَرٌ «، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

عَنْ بَيْعٍ فِيهِ غَرَرٌ» وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَاسِدٌ، وَبَعْضُهَا شَرْطُ التَّلَهِّي وَأَنَّهُ مَحْظُورٌ، وَبَعْضُهَا يُغَيِّرُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ مَعْنَى الْفَسَادِ، إذْ الْفَسَادُ هُوَ التَّغْيِيرُ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. ثُمَّ قِرَانُ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ بِالْعَقْدِ وَإِلْحَاقُهُ بِهِ سَوَاءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى لَوْ بَاعَ بَيْعًا صَحِيحًا، ثُمَّ أَلْحَقَ بِهِ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ يَلْتَحِقُ بِهِ وَيُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَلْتَحِقُ بِهِ، وَلَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَلْحَقَ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ شَرْطًا صَحِيحًا كَالْخِيَارِ الصَّحِيحِ فِي الْبَيْعِ الْبَاتِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَلْتَحِقُ بِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: إنَّ إلْحَاقَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ بِالْعَقْدِ يُغَيِّرُ الْعَقْدَ مِنْ الصِّحَّةِ إلَى الْفَسَادِ فَلَا يَصِحُّ؛ فَبَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ كَلَامٌ لَا بَقَاءَ لَهُ، وَالِالْتِحَاقُ بِالْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الْإِلْحَاقُ أَصْلًا، إلَّا أَنَّ إلْحَاقَ الشَّرْطِ الصَّحِيحِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ثَبَتَ شَرْعًا لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ حَتَّى صَحَّ قِرَانُهُ بِالْعَقْدِ؛ فَيَصِحُّ إلْحَاقُهُ بِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إلْحَاقِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ لِيُفْسِدَ الْعَقْدَ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ قِرَانُهُ بِالْعَقْدِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ اعْتِبَارَ التَّصَرُّفِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ الْمُتَصَرِّفُ وَاجِبٌ إذَا كَانَ هُوَ أَهْلًا وَالْمَحَلُّ قَابِلًا، وَقَدْ أَوْقَعَهُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ، إذْ الْإِلْحَاقُ لِفَسَادِ الْعَقْدِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ كَمَا أَوْقَعَهُ فَاسِدًا فِي الْأَصْلِ، وَقَوْلُهُمَا الْإِلْحَاقُ تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ؛ قُلْنَا: إنْ كَانَ تَغْيِيرًا فَلَهُمَا وِلَايَةُ التَّغْيِيرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُمَا وِلَايَةَ التَّغْيِيرِ بِالزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ، وَالْمُثَمَّنِ، وَالْحَطِّ عَنْ الثَّمَنِ وَبِإِلْحَاقِ الشَّرْطِ الصَّحِيحِ وَإِنْ كَانَ تَغْيِيرًا؛ وَلِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الْفَسْخَ فَالتَّغْيِيرُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ تَبْدِيلُ الْوَصْفِ، وَالْفَسْخَ رَفْعُ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الرِّضَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] عَقِيبَ قَوْلِهِ - عَزَّ اسْمُهُ - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ» فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُكْرَهِ إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا؛ لِعَدَمِ الرِّضَا، فَأَمَّا إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ طَائِعًا فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ؛ وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْهَازِلِ؛ لِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامِ الْبَيْعِ لَا عَلَى إدَارَةِ حَقِيقَتِهِ فَلَمْ يُوجَدْ الرِّضَا بِالْبَيْعِ، فَلَا يَصِحُّ بِخِلَافِ طَلَاقِ الْهَازِلِ أَنَّهُ وَاقِعٌ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَ بِالْإِكْرَاهِ لَيْسَ إلَّا الرِّضَا، وَالرِّضَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ عَلَى أَنَّ الْهَزْلَ فِي بَابِ الطَّلَاقِ مُلْحَقٌ بِالْجِدِّ شَرْعًا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: الطَّلَاقُ، وَالنِّكَاحُ وَالْعَتَاقُ» أَلْحَقَ الْهَازِلَ بِالْجَادِّ فِيهِ. وَمِثْلُ هَذَا لَمْ يَرِدْ فِي الْبَيْعِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ بَيْعُ الْمُنَابَذَةِ، وَالْمُلَامَسَةِ، وَالْحَصَاةِ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ: كَانَ الرَّجُلَانِ يَتَسَاوَمَانِ السِّلْعَةَ فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمَا إلْزَامَ الْبَيْعِ نَبَذَ السِّلْعَةَ إلَى الْمُشْتَرِي؛ فَيَلْزَمُ الْبَيْعُ رَضِيَ الْمُشْتَرِي أَمْ سَخِطَ، أَوْ لَمَسَهَا الْمُشْتَرِي، أَوْ وَضَعَ عَلَيْهَا حَصَاةً فَجَاءَ الْإِسْلَامُ فَشَرَطَ الرِّضَا وَأَبْطَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ بَيْعُ التَّلْجِئَةِ وَهِيَ مَا لَجَأَ الْإِنْسَانُ إلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ اخْتِيَارِ الْإِيثَارِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّ التَّلْجِئَةَ فِي الْأَصْلِ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي الثَّمَنِ فَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي إنْشَاءِ الْبَيْعِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي الْإِقْرَارِ بِهِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي إنْشَاءِ الْبَيْعِ بِأَنْ تَوَاضَعُوا فِي السِّرِّ لِأَمْرٍ أَلْجَأَهُمْ إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَظْهَرَ الْبَيْعُ، وَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً وَإِنَّمَا هُوَ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ نَحْوَ أَنْ يَخَافَ رَجُلٌ السُّلْطَانَ فَيَقُولُ الرَّجُلُ: إنِّي أُظْهِرُ أَنِّي بِعْت مِنْك دَارِي وَلَيْسَ بِبَيْعٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هُوَ تَلْجِئَةٌ فَتَبَايَعَا؛ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُمَا تَكَلَّمَا بِصِيغَةِ الْبَيْعِ لَا عَلَى قَصْدِ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْهَزْلِ، وَالْهَزْلُ يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ يُعْدِمُ الرِّضَا بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا بَيْعًا مُنْعَقِدًا فِي الْحُكْمِ. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَا شَرَطَاهُ فِي السِّرِّ لَمْ يَذْكُرَاهُ فِي الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا عَقَدَا عَقْدًا صَحِيحًا بِشَرَائِطِهِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الشَّرْطِ، كَمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِطَا شَرْطًا فَاسِدًا عِنْدَ الْبَيْعِ، ثُمَّ بَاعَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِ هَذَا الْبَيْعِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، فَلَوْ اعْتَبَرْنَا وُجُودَ الشَّرْطِ عِنْدَ الْبَيْعِ لَا تَنْدَفِعُ الضَّرُورَةُ، وَلَوْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ أَجَازَاهُ جَازَ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ السَّابِقَ وَهُوَ: الْمُوَاضَعَةُ مَنَعَتْ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا، وَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى عَبْدًا فَقَبَضَهُ وَأَعْتَقَهُ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ، بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ إذَا بَاعَ وَسَلَّمَ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُكْرَهِ انْعَقَدَ سَبَبًا لِلْحُكْمِ؛ لِوُجُودِ الرِّضَا بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ عَقْلًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ صِيَانَةِ نَفْسِهِ عَنْ الْهَلَاكِ فَانْعَقَدَ السَّبَبُ إلَّا أَنَّهُ فَسَدَ؛ لِانْعِدَامِ

الرِّضَا طَبْعًا فَتَأَخَّرَ الْمِلْكُ فِيهِ إلَى وَقْتِ الْقَبْضِ، أَمَّا هَهُنَا فَلَمْ يُوجَدْ الرِّضَا بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ فِي الْجَانِبَيْنِ أَصْلًا؛ فَلَمْ يَنْعَقِدْ السَّبَبُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَتَوَقَّفَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ بِشَرْطِ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، هَذَا إذَا كَانَتْ التَّلْجِئَةُ فِي إنْشَاءِ الْبَيْعِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ فِي الْإِقْرَارِ بِهِ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُقِرَّا بِبَيْعٍ لَمْ يَكُنْ فَأَقَرَّا بِذَلِكَ ثُمَّ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ حَتَّى لَا يَجُوزُ بِإِجَازَتِهِمَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ، وَصِحَّةُ الْإِخْبَارِ بِثُبُوتِ الْمُخْبَرِ بِهِ حَالَ وُجُودِ الْإِخْبَارِ، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا كَانَ الْإِخْبَارُ صِدْقًا وَإِلَّا فَيَكُونُ كَذِبًا، وَالْمُخْبَرُ بِهِ هَهُنَا وَهُوَ الْبَيْعُ لَيْسَ بِثَابِتٍ فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ؛ لِأَنَّهَا تَلْحَقُ الْمَوْجُودَ لَا الْمَعْدُومَ، هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَتْ التَّلْجِئَةُ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ إنْشَاءً كَانَ، أَوْ إقْرَارًا. فَأَمَّا إذَا كَانَتْ فِي الثَّمَنِ فَهَذَا أَيْضًا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا إنْ كَانَتْ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، وَإِمَّا إنْ كَانَتْ فِي جِنْسِهِ فَإِنْ كَانَتْ فِي قَدْرِهِ بِأَنْ تَوَاضَعَا فِي السِّرِّ وَالْبَاطِنِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَلْفًا وَيَتَبَايَعَانِ فِي الظَّاهِرِ بِأَلْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَقُولَا عِنْدَ الْمُوَاضَعَةِ أَلْفٌ مِنْهُمَا رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ فَالثَّمَنُ مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ اسْمٌ لِلْمَذْكُورِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْمَذْكُورُ عِنْدَ الْعَقْدِ أَلْفَانِ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا أَنَّ أَحَدَهُمَا رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ صَحَّتْ تَسْمِيَةُ الْأَلْفَيْنِ، وَإِنْ قَالَا عِنْدَ الْمُوَاضَعَةِ أَلْفٌ مِنْهُمَا رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ فَالثَّمَنُ ثَمَنُ السِّرِّ، وَالزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الثَّمَنَ ثَمَنُ الْعَلَانِيَةِ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الثَّمَنَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْعَقْدِ، وَالْأَلْفَانِ مَذْكُورَانِ فِي الْعَقْدِ وَمَا ذَكَرَا فِي الْمُوَاضَعَةِ لَمْ يَذْكُرَاهُ فِي الْعَقْدِ فَلَا يُعْتَبَرُ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ مَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ فِي السِّرِّ هُوَ مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ فِي الْعَلَانِيَةِ إلَّا أَنَّهُمَا زَادَا عَلَيْهِ أَلْفًا أُخْرَى، وَالْمُوَاضَعَةُ السَّابِقَةُ أَبْطَلَتْ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّهُمَا فِي هُزْلَانِهَا حَيْثُ لَمْ يَقْصِدَاهَا فَلَمْ يَصِحَّ ذِكْرُ الزِّيَادَةِ فِي الْبَيْعِ؛ فَيَبْقَى الْبَيْعُ بِمَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَلْفُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي جِنْسِهِ بِأَنْ اتَّفَقَا فِي السِّرِّ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَكِنَّهُمَا يُظْهِرَا أَنَّ الْبَيْعَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَإِنْ لَمْ يَقُولَا فِي الْمُوَاضَعَةِ: إنَّ ثَمَنَ الْعَلَانِيَةِ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ فَالثَّمَنُ مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ قَالَا ذَلِكَ فَالْقِيَاسُ: أَنْ يَبْطُلَ الْعَقْدُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَصِحُّ بِمِائَةِ دِينَارٍ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ: أَنَّ ثَمَنَ السِّرِّ لَمْ يَذْكُرَاهُ فِي الْعَقْدِ، وَثَمَنَ الْعَلَانِيَةِ لَمْ يَقْصِدَاهُ فَقَدْ هَزِلَا بِهِ فَسَقَطَ، وَبَقِيَ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ فَلَا يَصِحُّ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا بَيْعًا بَاطِلًا، بَلْ بَيْعًا صَحِيحًا فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ إلَّا بِثَمَنِ الْعَلَانِيَةِ فَكَأَنَّهُمَا انْصَرَفَا عَمَّا شَرَطَاهُ فِي الْبَاطِنِ؛ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالظَّاهِرِ كَمَا لَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَبِيعَاهُ بَيْعَ تَلْجِئَةٍ فَتَوَاهَبَا بِخِلَافِ الْأَلْفِ، وَالْأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ الْمَذْكُورَ الْمَشْرُوطَ فِي السِّرِّ مَذْكُورٌ فِي الْعَقْدِ، وَزِيَادَةٌ فَتَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِهِ هَذَا إذَا تَوَاضَعَا فِي السِّرِّ، وَلَمْ يَتَعَاقَدَا فِي السِّرِّ فَأَمَّا إذَا تَعَاقَدَا فِي السِّرِّ بِثَمَنٍ ثُمَّ تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يُظْهِرَا الْعَقْدَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ بِجِنْسٍ آخَرَ، فَإِنْ لَمْ يَقُولَا: إنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ رِيَاءٌ، وَسُمْعَةٌ فَالْعَقْدُ الثَّانِي يَرْفَعُ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ، وَالثَّمَنُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالْإِقَالَةَ فَشُرُوعُهُمَا فِي الْعَقْدِ الثَّانِي إبْطَالٌ لِلْأَوَّلِ فَبَطَلَ الْأَوَّلُ، وَانْعَقَدَ الثَّانِي بِمَا سُمِّي عِنْدَهُ، وَإِنْ قَالَا: رِيَاءٌ، وَسُمْعَةٌ فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ فَالْعَقْدُ هُوَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا الرِّيَاءَ، وَالسُّمْعَةَ فَقَدْ أَبْطَلَا الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ الثَّانِي فَلَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ الثَّانِي فَبَقِيَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ فَالْعَقْدُ هُوَ الْعَقْدُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَكَانَ الْعَقْدُ هُوَ الْعَقْدُ الثَّانِي، لَكِنْ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا أَبْطَلَاهَا حَيْثُ هَزِلَا بِهَا هَذَا إذَا تَوَاضَعَا، وَاتَّفَقَا فِي التَّلْجِئَةِ فِي الْبَيْعِ فَتَبَايَعَا وَهُمَا مُتَّفِقَانِ عَلَى مَا تَوَاضَعَا، فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فَادَّعَى أَحَدُهُمَا التَّلْجِئَةَ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ، وَزَعَمَ أَنَّ الْبَيْعَ بَيْعُ رَغْبَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُنْكِرِ التَّلْجِئَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ مِنْ التَّلْجِئَةِ إذَا طَلَبَ الثَّمَنَ، وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى التَّلْجِئَةِ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الشَّرْطَ بِالْبَيِّنَةِ فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ كَمَا لَوْ أَثْبَتَ الْخِيَارَ بِالْبَيِّنَةِ، ثُمَّ هَذَا التَّفْرِيعُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْمُوَاضَعَةَ السَّابِقَةَ، فَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ فَلَا يَجِيءُ هَذَا التَّفْرِيعُ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْعَقْدَ الظَّاهِرَ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى هَذِهِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهَا - وَإِنْ صَحَّتْ - لَا تُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ الظَّاهِرِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَيْهِ فَقَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي جَوَازَ الْبَيْعِ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي التَّلْجِئَةَ، وَالْعَقْدُ فَاسِدٌ، وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى التَّلْجِئَةِ ثُمَّ قَالَا عِنْدَ الْبَيْعِ: كُلُّ شَرْطٍ كَانَ بَيْنَنَا فَهُوَ بَاطِلٌ تَبْطُلُ التَّلْجِئَةُ، وَيَجُوزُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ زَائِدٌ فَاحْتَمَلَ السُّقُوطَ بِالْإِسْقَاطِ، وَمَتَى سَقَطَ صَارَ الْعَقْدُ جَائِزًا، إلَّا إذَا اتَّفَقَا عِنْدَ الْمُوَاضَعَةِ، وَقَالَا: إنَّ مَا نَقُولُهُ عِنْدَ الْبَيْعِ أَنَّ

كُلَّ شَرْطٍ بَيْنَنَا فَهُوَ بَاطِلٌ فَذَلِكَ الْقَوْلُ مِنَّا بَاطِلٌ، فَإِذَا قَالَا ذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ مَا يُبْطِلَانِهِ مِنْ الشَّرْطِ عَنْدَ الْعَقْدِ بَاطِلٌ إلَّا إذَا حَكَيَا فِي الْعَلَانِيَةِ مَا قَالَا فِي السِّرِّ فَقَالَا: إنَّا شَرَطْنَا كَذَا، وَكَذَا، وَقَدْ أَبْطَلْنَا ذَلِكَ ثُمَّ تَبَايَعَا فَيَجُوزُ الْبَيْعُ، ثُمَّ كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ التَّلْجِئَةِ لَا يَجُوزُ الْإِقْرَارُ بِالتَّلْجِئَةِ بِأَنْ يَقُولَ لِآخَرَ: إنِّي أُقِرُّ لَكَ فِي الْعَلَانِيَةِ بِمَالِي، أَوْ بِدَارِي، وَتَوَاضَعَا عَلَى فَسَادِ الْإِقْرَارِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ حَتَّى لَا يَمْلِكَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَخُصُّ بَعْضَ الْبِيَاعَاتِ دُونَ بَعْضٍ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا: (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا فِي بَيْعٍ فِيهِ أَجَلٌ فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا يَفْسُدُ الْبَيْعُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً: كَهُبُوبِ الرِّيحِ، وَمَطَرِ السَّمَاءِ، وَقُدُومِ فُلَانٍ، وَمَوْتِهِ، وَالْمَيْسَرَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ مُتَقَارِبَةً: كَالْحَصَادِ، وَالدِّيَاسِ، وَالنَّيْرُوزِ، وَالْمِهْرَجَانِ، وَقُدُومِ الْحَاجِّ، وَخُرُوجِهِمْ، وَالْجُذَاذِ، وَالْجِزَارِ، وَالْقِطَافِ، وَالْمِيلَادِ، وَصَوْمِ النَّصَارَى، وَفِطْرِهِمْ قَبْلَ دُخُولِهِمْ فِي صَوْمِهِمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ غَرَرُ الْوُجُودِ، وَالْعَدَمِ، وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِمَّا يَتَقَدَّمُ، وَيَتَأَخَّرُ فَيُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ، وَلَوْ بَاعَ الْعَيْنَ بِثَمَنِ دَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ جَهَالَةً مُتَقَارِبَةً، ثُمَّ أَبْطَلَ الْمُشْتَرِي الْأَجَلَ قَبْلَ مَحَلِّهِ، وَقَبْلَ أَنْ يُفْسَخَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا لِأَجْلِ الْفَسَادِ جَازَ الْعَقْدُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ لَمْ يَبْطُلْ حَتَّى حَلَّ الْأَجَلُ، وَأَخَذَ النَّاسُ فِي الْحَصَادِ، ثُمَّ أَبْطَلَ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً فَأَبْطَلَ الْمُشْتَرِي الْأَجَلَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، وَنَقَدَ الثَّمَنَ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ افْتَرَقَا قَبْلَ الْإِبْطَالِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَعَلَى هَذَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَلَمْ يُوَقِّتْ لِلْخِيَارِ وَقْتًا مَعْلُومًا بِأَنْ قَالَ: أَبَدًا، أَوْ أَيَّامًا، أَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْوَقْتَ حَتَّى فَسَدَ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْخِيَارِ أَبْطَلَ خِيَارَهُ قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَبْلَ أَنْ يَفْسُدَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِنْ أَبْطَلَ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَزُفَرَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ، وَإِنْ وَقَّتَ وَقْتًا مَعْلُومًا بِأَنْ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، أَوْ شَهْرٌ فَأَبْطَلَ الْخِيَارَ قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَبْلَ أَنْ يُفْسَخَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا لِأَجْلِ الْفَسَادِ جَازَ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ، وَعِنْدَهُمَا هَذَا الْخِيَارُ جَائِزٌ، وَلَوْ مَضَتْ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ، ثُمَّ أَبْطَلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ عَقَدَا عَقْدَ السَّلَمِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ حَتَّى فَسَدَ السَّلَمُ، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْخِيَارِ أَبْطَلَ خِيَارَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ جَازَ السَّلَمُ عِنْدَنَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ قَائِمًا فِي يَدِهِ، وَلَوْ افْتَرَقَا قَبْلَ الْإِبْطَالِ، ثُمَّ أَبْطَلَ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِرَقْمِهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي رَقْمَهُ حَتَّى فَسَدَ الْبَيْعُ، ثُمَّ عَلِمَ رَقْمَهُ. فَإِنْ عَلِمَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَاخْتَارَ الْبَيْعَ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ زُفَرَ: أَنَّ الْبَيْعَ إذَا انْعَقَدَ عَلَى الْفَسَادِ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ، وَالْأَصْلُ عِنْدَنَا: أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى الْفَسَادِ، فَإِنْ كَانَ قَوِيًّا بِأَنْ دَخَلَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْبَدَلُ، أَوْ الْمُبْدَلُ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ كَمَا قَالَ زُفَرُ: إذَا بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرَطْلٍ مِنْ خَمْرٍ فَحَطَّ الْخَمْرَ عَنْ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَمْ يَدْخُلْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ بَلْ فِي شَرْطٍ جَائِزٍ يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ خِيَارٍ لَمْ يُوَقَّتْ أَوْ وُقِّتَ إلَى وَقْتٍ مَجْهُولٍ كَالْحَصَادِ، وَالدِّيَاسِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْوَقْتَ، وَكَمَا فِي بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي الْعِبَارَةِ عَنْ هَذَا الْعَقْدِ. قَالَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ: إنَّهُ انْعَقَدَ فَاسِدًا لَكِنْ فَسَادًا غَيْرَ مُتَقَرِّرٍ، فَإِنْ أَبْطَلَ الشَّرْطَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ بِأَنْ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الْحَصَادِ، أَوْ الْيَوْمُ الرَّابِعُ يَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ، وَإِنْ لَمْ يُبْطِلْ حَتَّى دَخَلَ تَقَرَّرَ الْفَسَادُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَقَالَ مَشَايِخُ خُرَاسَانَ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا: بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ الْعَقْدُ مَوْقُوفٌ إنْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ قَبْلَ وَقْتِ الْحَصَادِ، وَالْيَوْمِ الرَّابِعِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ جَائِزًا مِنْ الْأَصْلِ، وَإِنْ لَمْ يُسْقِطْ حَتَّى دَخَلَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ، أَوْ أَوَانُ الْحَصَادِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ فَاسِدًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، وَذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَالْبَيْعُ مَوْقُوفٌ. فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ مُضِيِّ الثَّلَاثِ أَنَا أُبْطِلُ خِيَارِي وَاسْتَوْجَبَ الْمَبِيعَ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ شَيْئًا كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَتَمَّ الْبَيْعُ، وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يُبْطِلَ الْبَيْعَ، وَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ قَدْ أَبْطَلْت الْبَيْعَ قَبْلَ أَنْ يُبْطِلَ الْمُشْتَرِي خِيَارَهُ بَطَلَ الْبَيْعُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَوْجِبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَنْ يُبْطِلَ خِيَارَهُ فَقَدْ نَصَّ عَلَى التَّوَقُّفِ، وَفَسَّرَهُ حَيْثُ جَعَلَ لِلْبَائِعِ حَقَّ الْفَسْخِ قَبْلَ إجَازَةِ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا أَمَارَةُ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ: أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ

وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ حَقُّ الْفَسْخَ، (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ هَذَا بَيْعٌ انْعَقَدَ بِوَصْفِ الْفَسَادِ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْقَلِبَ جَائِزًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَنْقَلِبْ إلَى الْجَوَازِ إذَا دَخَلَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ، أَوْ وَقْتُ الْحَصَادِ، وَالدِّيَاسِ. (وَلَنَا) طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ مَوْقُوفٌ لِلْحَالِ لَا يُوصَفُ بِالْفَسَادِ، وَلَا بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا حَقِيقَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ، فَإِذَا سَقَطَ قَبْلَ دُخُولِ أَوَانِ الْحَصَادِ، وَالْيَوْمِ الرَّابِعِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُفْسِدٍ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا شَرَطَ الْأَجَلَ، وَالْخِيَارَ إلَّا إلَى هَذَا الْوَقْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا مُفِيدًا لِلْمِلْكِ بِنَفْسِهِ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ كَمَا لَوْ أَسْقَطَ الْأَجَلَ الصَّحِيحَ، وَالْخِيَارَ الصَّحِيحَ، وَهُوَ خِيَارُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ مُضِيِّ يَوْمٍ، وَإِنْ لَمْ يُسْقِطْ حَتَّى مَضَتْ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ، وَدَخَلَ الْحَصَادُ تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّرْطَ كَانَ إلَى هَذَا الْوَقْتِ، وَأَنَّهُ شَرْطٌ مُفْسِدٌ، وَالثَّانِي أَنَّ الْعَقْدَ فِي نَفْسِهِ مَشْرُوعٌ، لَا يَحْتَمِلُ الْفَسَادَ عَلَى مَا عُرِفَ، وَكَذَا أَصْلُ الْأَجَلِ، وَالْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ، وَأَنَّهُ يُوصَفُ الْعَقْدُ بِالْفَسَادِ لِلْحَالِ لَا لِعَيْنِهِ بَلْ لِمَعْنًى مُجَاوِرٍ لَهُ زَائِدٍ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَصْلِ الْأَجَلِ، وَالْخِيَارِ، وَهُوَ الْجَهَالَةُ، وَزِيَادَةُ الْخِيَارِ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَشْرُوعَةِ فَإِنْ سَقَطَ قَبْلَ دُخُولِ، وَقْتِ الْحَصَادِ أَوْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَقَدْ أَسْقَطَ الْمُفْسِدَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ فَزَالَ الْفَسَادُ؛ فَبَقِيَ الْعَقْدُ مَشْرُوعًا كَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ، وَصْفِ الْفَسَادِ، وَإِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ فَقَدْ تَقَرَّرَ الْمُفْسِدُ، فَتَقَرَّرَ الْفَسَادُ، وَالْفَسَادُ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ لَا يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ وَقَوْلُهُ: الْعَقْدُ مَا وَقَعَ فَاسِدًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ قُلْنَا عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ: مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ، وَعَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي: مُسَلَّمٌ لَكِنْ لَا لِعَيْنِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الشَّرْطُ الْمُجَاوِرُ الْمُفْسِدُ، وَقَدْ أَسْقَطَ الْمُفْسِدَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ فَزَالَ الْفَسَادُ الثَّابِتُ؛ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ فَبَقِيَ مَشْرُوعًا، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ -. وَلَوْ بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ، ثُمَّ أَخَّرَ إلَى الْآجَالِ الْمُتَقَارِبَةِ جَازَ التَّأْخِيرُ، وَلَوْ أَخَّرَ إلَى الْآجَالِ الْمُتَفَاحِشَةِ لَمْ يَجُزْ، وَالدَّيْنُ عَلَى حَالِهِ حَالٌّ فَرَّقَ بَيْنَ التَّأْجِيلِ، وَالتَّأْخِيرِ، وَلَمْ يُجَوِّزْ التَّأْجِيلَ إلَى هَذِهِ الْآجَالِ أَصْلًا، وَجَوَّزَ التَّأْخِيرَ إلَى الْمُتَقَارِبِ مِنْهَا، وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الْعَقْدِ جَعْلُ الْأَجَلِ شَرْطًا فِي الْعَقْدِ، وَجَهَالَةُ الْأَجَلِ الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَارِبَةً تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، فَأَمَّا التَّأْخِيرُ إلَى الْآجَالِ الْمَجْهُولَةِ مُتَقَارِبَةً فَلَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يُؤَخِّرُونَ الدُّيُونَ إلَى هَذِهِ الْآجَالِ عَادَةً، وَمَبْنَى التَّأْخِيرِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُسَامِحُونَ، وَلَا يُنَازِعُونَ، وَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ مِنْهُمْ بِالتَّأْخِيرِ إلَى آجَالٍ تَفْحُشُ جَهَالَتُهَا بِخِلَافِ التَّأْجِيلِ؛ لِأَنَّ مَا جُعِلَ شَرْطًا فِي الْبَيْعِ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُضَايَقَةِ، فَالْجَهَالَةُ فِيهَا وَإِنْ قَلَّتْ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَى الْآجَالِ الْمُتَقَارِبَةِ، وَجَازَتْ الْكَفَالَةُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْكَفَالَةِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، فَإِنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ لَا يُضَيِّقُ الْأَمْرَ عَلَى الْكَفِيلِ عَادَةً؛ لِأَنَّ لَهُ سَبِيلَ الْوُصُولِ إلَى الدَّيْنِ مِنْ جِهَةِ الْأَصِيلِ فَالتَّأْجِيلُ إلَيْهَا لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الْجَهَالَةَ فِي بَابِ الْبَيْعِ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَكَانَتْ مُفْسِدَةً لِلْبَيْعِ. وَلَوْ اشْتَرَى عَيْنًا بِثَمَنِ دَيْنٍ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ الثَّمَنَ فِي مِصْرٍ آخَرَ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مِمَّا حَمْلَ لَهُ، وَلَا مُؤْنَةَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَهُ حَمْلٌ، وَمُؤْنَةٌ، وَعَلَى كُلِّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ ضَرَبَ لَهُ الْأَجَلَ أَوْ لَمْ يَضْرِبْ فَإِنْ لَمْ يَضْرِبْ لَهُ الْأَجَلَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ لَهُ حَمْلٌ، وَمُؤْنَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَضْرِبْ لَهُ الْأَجَلَ كَانَ شَرْطُ التَّسْلِيمِ فِي مَوْضِعٍ عَلَى سَبِيلِ التَّأْجِيلِ، وَأَنَّهُ أَجَلٌ مَجْهُولٌ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الثَّمَنَ إذَا كَانَ لَا حَمْلَ لَهُ، وَلَا مُؤْنَةَ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّأْجِيلِ فِي مَكَان آخَرَ لَيْسَ بِتَأْجِيلٍ حَقِيقَةً، بَلْ هُوَ تَخْصِيصُ التَّسْلِيمِ بِمَكَانٍ آخَرَ فَيَجُوزُ الْبَيْعُ، وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ طَالَبَهُ، وَإِنْ ضَرَبَ لَهُ أَجَلًا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ الثَّمَنَ بَعْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ فِي مِصْرٍ آخَرَ فَإِنْ كَانَ الْأَجَلُ مِقْدَارَ مَا لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى الْمَوْضِعِ الْمَشْرُوطِ فِي قَدْرِ تِلْكَ الْمُدَّةِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ فِيهِ إلَى الْمَوْضِعِ الْمَشْرُوطِ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَضْرِبْ، وَإِنْ كَانَ ضَرَبَ أَجَلًا يُمْكِنُ الْوُصُولُ فِيهِ إلَى الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَالتَّأْجِيلُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا ضَرَبَ لَهُ أَجَلًا يُمْكِنُ الْوُصُولُ فِيهِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ عُلِمَ أَنَّ شَرْطَ التَّسْلِيمِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ التَّأْجِيلِ، بَلْ عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِالتَّسْلِيمِ فِيهِ. فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ وَطَالَبَهُ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الثَّمَنُ مِمَّا لَيْسَ لَهُ حَمْلٌ، وَلَا مُؤْنَةٌ يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى تَسْلِيمِهِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ طَالَبَهُ الْبَائِعُ بَعْدَ حِلِّ الْأَجَلِ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ لَهُ حَمْلٌ، وَمُؤْنَةٌ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إلَّا فِي الْمَوْضِعِ الْمَشْرُوطِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي

غَيْرِ الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ، وَأَبَى الْبَائِعُ ذَلِكَ إلَّا فِي الْمَوْضِعِ الْمَشْرُوطِ فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ، وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا فَشَرَطَ تَسْلِيمَهُ فِي مِصْرٍ آخَرَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ سَوَاءٌ شَرَطَ الْأَجَلَ، أَوْ لَمْ يَشْرُطْ؛ لِأَنَّ فِيهِ غَرَرًا، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الْقَبْضُ فِي بَيْعِ الْمُشْتَرِي الْمَنْقُولَ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ» ، وَالنَّهْيُ يُوجِبُ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ؛ وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ فِيهِ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا هَلَكَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ فَيَنْفَسِخُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعٍ فِيهِ غَرَرٌ» ، وَسَوَاءٌ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِ بَائِعِهِ، أَوْ مِنْ بَائِعِهِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ مُطْلَقٌ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ بَائِعِهِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ مِنْ بَائِعِهِ، وَكَذَا مَعْنَى الْغَرَرِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا فَلَا يَصِحُّ الثَّانِي، وَالْأَوَّلُ عَلَى حَالِهِ. وَلَا يَجُوزُ إشْرَاكُهُ، وَتَوْلِيَتُهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بَيْعٌ، وَلَوْ قَبَضَ نِصْفَ الْمَبِيعِ دُونَ النِّصْفِ فَأَشْرَكَ رَجُلًا لَمْ يَجُزْ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ، وَجَازَ فِيمَا قَبَضَ؛ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ نَوْعُ بَيْعٍ، وَالْمَبِيعُ مَنْقُولٌ فَلَمْ يَكُنْ غَيْرُ الْمَقْبُوضِ مَحَلًّا لَهُ شَرْعًا فَلَمْ يَصِحَّ فِي غَيْرِ الْمَقْبُوضِ، وَصَحَّ فِي قَدْرِ الْمَقْبُوضِ، وَلَهُ الْخِيَارُ؛ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ، وَمِلْكُ الْمَنْفَعَةِ تَابِعٌ لِمِلْكِ الْعَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ؛ وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ النَّهْيِ يَتَنَاوَلُ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّهَا نَوْعُ بَيْعٍ، وَهُوَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ. وَيَجُوزُ إعْتَاقُهُ بِعِوَضٍ، وَغَيْرِ عِوَضٍ، وَكَذَا تَدْبِيرُهُ، وَاسْتِيلَادُهُ بِأَنْ كَانَتْ أَمَةً فَأَقَرَّ أَنَّهَا كَانَتْ وَلَدَتْ لَهُ؛ لِأَنَّ جَوَازَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَعْتَمِدُ قِيَامَ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَقَدْ وُجِدَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ صِحَّتَهُ تَفْتَقِرُ إلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَالْيَدِ جَمِيعًا؛ لِافْتِقَارِهِ إلَى التَّسْلِيمِ، وَكَذَا الْإِجَارَةُ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ، وَالتَّدْبِيرِ، وَلِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْقَبْضُ، وَبِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَصِيرُ قَابِضًا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلِأَنَّ الْفَسَادَ لِتَمَكُّنِ الْغَرَرِ، وَهُوَ غَرَرُ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ لِمَا نَذْكُرُهُ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ فَلَمْ يُوجَدْ فَلَزِمَ الْجَوَازُ بِدَلِيلِهِ، وَهَلْ تَجُوزُ كِتَابَتُهُ؟ لَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ أَصْحَابِنَا فَاحْتُمِلَ أَنْ يُقَالَ: لَا يَجُوزُ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَالْإِقَالَةَ، وَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ فَرْقًا بَيْنَهَا، وَبَيْنَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهَا أَوْسَعُ إضْرَارًا مِنْ الْبَيْعِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا كَاتَبَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُبْطِلَهُ فَإِنْ لَمْ يُبْطِلْهُ حَتَّى نَقَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ جَازَتْ الْكِتَابَةُ ذَكَرَهَا فِي الْعُيُونِ، وَلَوْ وَهَبَهُ مِنْ الْبَائِعِ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ لَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ وَالْبَيْعُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَصِحُّ بِدُونِ الْقَبُولِ فَإِنْ قَبِلَهُ الْبَائِعُ لَمْ تَجُزْ الْهِبَةُ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَالْبَيْعِ، وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، وَيَكُونُ إقَالَةً لِلْبَيْعِ فَرَّقَ بَيْنَ الْهِبَةِ مِنْ الْبَائِعِ، وَبَيْنَ الْبَيْعِ مِنْهُ حَيْثُ جَعَلَ الْهِبَةَ مِنْهُ إقَالَةً دُونَ الْبَيْعِ مِنْهُ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ: أَنَّ بَيْنَ الْهِبَةِ، وَالْإِقَالَةِ مُقَارَبَةً فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسْتَعْمَلُ فِي إلْحَاقِ مَا سَلَفَ بِالْعَدَمِ يُقَالُ: وَهَبْتُ مِنْك جَرِيمَتَك كَمَا يُقَالُ: أَقَلْتُ عَثْرَتَك، أَوْ جَعَلْت ذَلِكَ كَالْعَدَمِ فِي حَقِّ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ؟ فَأَمْكَنَ جَعْلُ الْهِبَةِ مَجَازًا عَنْ الْإِقَالَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا مُقَارَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِقَالَةِ؛ فَتَعَذَّرَ جَعْلُهُ مَجَازًا عَنْهَا فَوَقَعَ لَغْوًا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَلَوْ وَهَبَ لِغَيْرِ الْبَائِعِ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى غَيْرِ الْبَائِعِ، وَأَمَرَ بِالْقَبْضِ مِنْ الْبَائِعِ، أَوْ رَهَنَهُ عِنْدَ آخَرَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْبِضَ مِنْ الْبَائِعِ فَقَبَضَهُ بِأَمْرِهِ، وَأَقْرَضَهُ، وَأَمَرَهُ بِالْقَبْضِ لَمْ تَجُزْ هَذِهِ الْعُقُودُ كُلُّهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ جَازَتْ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ: إنَّ صِحَّةَ هَذِهِ الْعُقُودِ بِالْقَبْضِ، فَإِذَا أَمَرَهُ بِالْقَبْضِ فَقَدْ أَنَابَهُ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي الْقَبْضِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ لَهُ، فَإِذَا قَبَضَ بِأَمْرِهِ يَصِيرُ قَابِضًا عَنْهُ أَوَّلًا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ، ثُمَّ لِنَفْسِهِ فَيَصِحُّ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ جَوَازَ هَذِهِ الْعُقُودِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَالْيَدِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ بِهِ يَقَعُ الْأَمْنُ عَنْ غَرَرِ الِانْفِسَاخِ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَغَرَرُ الِانْفِسَاخِ هَهُنَا ثَابِتٌ فَلَمْ يَكُنْ الْمِلْكُ مُطْلَقًا فَلَمْ يَجُزْ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ لِرَجُلٍ قَبْلَ الْقَبْضِ، ثُمَّ مَاتَ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْقَبْضِ صَارَ ذَلِكَ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ، كَذَا الْوَصِيَّةُ، وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: بِعْهُ لِي لَمْ يَكُنْ نَقْضًا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ بَاعَهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَلَوْ قَالَ: بِعْهُ لِنَفْسِك كَانَ نَقْضًا بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ قَالَ: بِعْهُ مُطْلَقًا كَانَ نَقْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَكُونُ نَقْضًا. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ إطْلَاقَ الْأَمْرِ بِالْبَيْعِ يَنْصَرِفُ إلَى الْبَيْعِ لِلْآمِرِ

لَا لِلْمَأْمُورِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ لَا لِلْمَأْمُورِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: بِعْهُ لِي، وَلَوْ نَصَّ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ نَقْضًا لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ فَكَذَا هَذَا، وَلَهُمَا أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالْبَيْعِ يُحْمَلُ عَلَى بَيْعٍ صَحِيحٍ صَحَّ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْبَيْعِ لِلْآمِرِ لَمَا صَحَّ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَمْرًا بِبَيْعِ مَنْ لَا يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَصِحُّ؛ فَيُحْمَلُ عَلَى الْبَيْعِ لِنَفْسِهِ كَأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: بِعْهُ لِنَفْسِك، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْبَيْعُ لِنَفْسِهِ إلَّا بَعْدَ انْفِسَاخِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَيَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ بِالْبَيْعِ لِنَفْسِهِ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَيَنْفَسِخُ مُقْتَضَى الْأَمْرِ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ أَعْتِقْهُ فَأَعْتَقَهُ الْبَائِعُ فَإِعْتَاقُهُ جَائِزٌ عَنْ نَفْسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إعْتَاقُهُ بَاطِلٌ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالْإِعْتَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْإِعْتَاقِ عَنْ الْآمِرِ لَا عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْآمِرِ، وَالْإِعْتَاقُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ، وَالْبَائِعُ لَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْ الْمُشْتَرِي فِي الْقَبْضِ عَنْهُ، فَلَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْإِعْتَاقِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِعْتَاقِ يُحْمَلُ عَلَى، وَجْهٍ يَصِحُّ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْإِعْتَاقِ عَنْ الْآمِرِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِمَا ذَكَرْتُمْ فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِعْتَاقِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِذَا أَعْتَقَ يَقَعُ عَنْهُ. (وَأَمَّا) بَيْعُ الْمُشْتَرِي الْعَقَارَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَجَائِزٌ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَزُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ قِيَاسًا، وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ النَّهْيِ الَّذِي رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْقَبْضِ عِنْدَ الْعَقْدِ شَرْطُ صِحَّةِ الْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا قُدْرَةَ إلَّا بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ، وَفِيهِ غَرَرٌ، وَلَهُمَا عُمُومَاتُ الْبِيَاعَاتِ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَنَا، أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى الْمَنْقُولِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي رُكْنِ الْبَيْعِ إذَا صَدَرَ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ هُوَ الصِّحَّةُ، وَالِامْتِنَاعُ لِعَارِضِ الْغَرَرِ، وَهُوَ غَرَرُ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَلَا يُتَوَهَّمُ هَلَاكُ الْعَقَارِ فَلَا يَتَقَرَّرُ الْغَرَرُ فَبَقِيَ بَيْعُهُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشْتَرِي الْمَنْقُولَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأُجْرَةِ الْمَنْقُولَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا كَانَتْ عَيْنًا، وَبَدَلِ الصُّلْحِ الْمَنْقُولِ إذَا كَانَ عَيْنًا، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ يَنْفَسِخُ فِيهِ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ كَالْمَبِيعِ، وَالْأُجْرَةِ، وَبَدَلِ الصُّلْحِ إذَا كَانَ مَنْقُولًا مُعَيَّنًا، وَكُلُّ عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِيهِ بِهَلَاكِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ كَالْمَهْرِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ، وَبَدَلِ الْعِتْقِ، وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَفِقْهُ هَذَا الْأَصْلِ مَا ذَكَرْنَا: أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الصِّحَّةُ فِي التَّصَرُّفِ الصَّادِرِ مِنْ الْأَهْلِ الْمُضَافِ إلَى الْمَحَلِّ، وَالْفَسَادُ بِعَارِضٍ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ، وَلَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَكَانَ الْقَوْلُ بِجَوَازِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ، وَأَنَّهُ وَاجِبٌ. وَكَذَلِكَ الْمِيرَاثُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْغَرَرِ لَا يَتَقَرَّرُ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ الْوَارِثَ خَلَفَ الْمَيِّتَ فِي مِلْكِ الْمَوْرُوثِ، وَخَلَفُ الشَّيْءِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ فَكَأَنَّ الْمُوَرِّثَ قَائِمٌ، وَلَوْ كَانَ قَائِمًا لَجَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ كَذَا الْوَارِثُ، وَكَذَلِكَ الْمُوصَى بِهِ بِأَنْ أَوْصَى إلَى إنْسَانٍ بِشَيْءٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي فَلِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْمِيرَاثِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَذَا فِي الْمُوصَى بِهِ. وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَقْسُومِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْقِسْمَةُ مِمَّا يُجْبَرُ عَلَيْهِ الشُّرَكَاءُ إذَا طَلَبَهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ جَازَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ سَوَاءٌ كَانَ مَنْقُولًا، أَوْ غَيْرَ مَنْقُولٍ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي مِثْلِهِ إفْرَازٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ الشُّرَكَاءُ عِنْدَ طَلَبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَالْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالرَّقِيقِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ إنْ كَانَ مَنْقُولًا، وَإِنْ كَانَ عَقَارًا فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِيهَا مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فَتُشْبِهُ الْبَيْعَ، وَاَللَّهُ عَزَّ اسْمُهُ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيْعُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَنَقُولُ، - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: الدُّيُونُ أَنْوَاعٌ. (مِنْهَا) مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَمِنْهَا مَا يَجُوزُ أَمَّا الَّذِي لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَنَحْوُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ لِعُمُومِ النَّهْيِ؛ وَلِأَنَّ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطٌ، وَبِالْبَيْعِ يَفُوتُ الْقَبْضُ حَقِيقَةً، وَكَذَا الْمُسَلَّمُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ لَمْ يُقْبَضْ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ: أَنْ يَجُوزَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ: أَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ ارْتَفَعَ بِالْإِقَالَةِ؛ لِأَنَّهَا فَسْخٌ، وَفَسْخُ الْعَقْدِ رَفْعُهُ مِنْ الْأَصْلِ، وَجَعْلُهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصْلِ عَادَ رَأْسُ الْمَالِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ فَكَانَ مَحَلًّا لِلِاسْتِبْدَالِ كَمَا كَانَ قَبْلَ السَّلَمِ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ

الْإِقَالَةِ فِي مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ: عُمُومُ النَّهْيِ الَّذِي رَوَيْنَا إلَّا مِنْ حَيْثُ خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَفِي الْبَابِ نَصٌّ خَاصٌّ، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ لِرَبِّ السَّلَمِ «لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَكَ، أَوْ رَأْسَ مَالِك» ، وَفِي رِوَايَةٍ «خُذْ سَلَمَك، أَوْ رَأْسَ مَالِك» نَهَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَبَّ السَّلَمِ عَنْ الْأَخْذِ عَامًّا، وَاسْتَثْنَى أَخْذَ السَّلَمِ، أَوْ رَأْسَ الْمَالِ فَبَقِيَ أَخْذُ مَا وَرَاءَهُمَا عَلَى أَصْلِ النَّهْيِ، وَكَذَا إذَا انْفَسَخَ السَّلَمُ بَعْدَ صِحَّتِهِ لِمَعْنًى عَارِضٍ نَحْوَ ذِمِّيٍّ أَسْلَمَ إلَى ذِمِّيٍّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي خَمْرٍ، ثُمَّ أَسْلَمَا، أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ قَبْضِ الْخَمْرِ حَتَّى بَطَلَ السَّلَمُ، وَوَجَبَ عَلَى الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ رَدُّ رَأْسِ الْمَالِ لَا يَجُوزُ لِرَبِّ السَّلَمِ الِاسْتِبْدَالُ اسْتِحْسَانًا لِمَا رَوَيْنَا، وَلَوْ كَانَ السَّلَمُ فَاسِدًا مِنْ الْأَصْلِ وَوَجَبَ عَلَى الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ رَدُّ رَأْسِ الْمَالِ لِفَسَادِ السَّلَمِ يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ إذَا كَانَ فَاسِدًا فِي الْأَصْلِ لَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ السَّلَمِ فَكَانَ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الدُّيُونِ مِنْ الْقَرْضِ، وَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَضَمَانِ الْغَصْبِ، وَالِاسْتِهْلَاكِ. (وَأَمَّا) بَدَلُ الصَّرْفِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ حَالُ بَقَاءِ الْعَقْدِ، وَيَجُوزُ فِي الِانْتِهَاءِ، وَهُوَ مَا بَعْدَ الْإِقَالَةِ، بِخِلَافِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي الْحَالَيْنِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ: أَنَّ الْقِيَاسَ جَوَازُ الِاسْتِبْدَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ فِي النَّاسِ جَمِيعًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ، وَفَسْخُ الْعَقْدِ رَفْعُهُ مِنْ الْأَصْلِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ لَجَازَ الِاسْتِبْدَالُ فَكَذَا إذَا رُفِعَ، وَأُلْحِقَ بِالْعَدَمِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الِاسْتِبْدَالُ فِيهِمَا جَمِيعًا إلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ فِي بَابِ السَّلَمِ ثَبَتَتْ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ مَا رَوَيْنَا، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي السَّلَمِ فَبَقِيَ جَوَازُ الِاسْتِبْدَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ فِي الصَّرْفِ عَلَى الْأَصْلِ، وَكَذَا الثِّيَابُ الْمَوْصُوفَةُ فِي الذِّمَّةِ الْمُؤَجَّلَةِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ لِلنَّهْيِ سَوَاءٌ كَانَ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ بِعَقْدِ السَّلَمِ، أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ كَمَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلَةٌ بِطَرِيقِ السَّلَمِ تَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلَةً لَا بِطَرِيقِ السَّلَمِ بِأَنْ بَاعَ عَبْدًا بِثَوْبِ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلَا يَكُونُ جَوَازُهُ بِطَرِيقِ السَّلَمِ بِدَلِيلٍ أَنَّ قَبْضَ الْعَبْدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَقَبْضَ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ شَرْطُ جَوَازِ السَّلَمِ، وَكَذَا إذَا أَجَّرَ دَارِهِ بِثَوْبٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلٍ جَازَتْ الْإِجَارَةُ، وَلَا يَكُونُ سَلَمًا، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ مِنْ دَعْوَاهُ عَلَى ثَوْبٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلٍ جَازَ الصُّلْحُ، وَلَا يَكُونُ هَذَا سَلَمًا، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ بِالْمُسَلَّمِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثُبُوتُهُ بِعَقْدِ السَّلَمِ فَهَذِهِ جُمْلَةُ الدُّيُونِ الَّتِي لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَمَا سِوَاهَا مِنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَالْقَرْضِ، وَقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ، وَالْمُسْتَهْلَكِ، وَنَحْوِهَا فَيَجُوزُ بَيْعُهَا مِمَّنْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ثَمَنُ الْمَبِيعِ إذَا كَانَ عَيْنًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا لَا يَجُوزُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ وَالْمُثَمَّنَ عِنْدَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ يَقَعَانِ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا فَكَانَ بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَكَذَا النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ عَامٌّ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْمَبِيعِ، وَالثَّمَنِ وَأَمَّا عَلَى أَصْلِنَا فَالْمَبِيعُ، وَالثَّمَنُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَبَايِنَةِ فِي الْأَصْلِ يَقَعَانِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَوْضِعِهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ ثَمَنِ الْمَبِيعِ مِمَّنْ عَلَيْهِ صَارَ مَخْصُوصًا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. (وَأَمَّا) بَيْعُ هَذِهِ الدُّيُونِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ، وَالشِّرَاءُ بِهَا مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ فَيُنْظَرُ: إنْ أَضَافَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ إلَى الدَّيْنِ لَمْ يَجُزْ بِأَنْ يَقُولَ لِغَيْرِهِ: بِعْت مِنْك الدَّيْنَ الَّذِي فِي ذِمَّةِ فُلَانٍ بِكَذَا، أَوْ يَقُولَ: اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا الشَّيْءَ بِالدَّيْنِ الَّذِي فِي ذِمَّةِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّةِ فُلَانٍ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ فِي حَقِّهِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْعَقْدِ عَلَى مَا مَرَّ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ بِالدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّتِهِ مُسَلَّمٌ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُضِفْ الْعَقْدَ إلَى الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ جَازَ، وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِثَمَنِ دَيْنٍ، وَلَمْ يُضِفْ الْعَقْدَ إلَى الدَّيْنِ حَتَّى جَازَ، ثُمَّ أَحَالَ الْبَائِعُ عَلَى غَرِيمِهِ بِدَيْنِهِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ جَازَتْ الْحَوَالَةُ سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ الَّذِي أُحِيلَ بِهِ دَيْنًا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ لَا يَجُوزُ كَالسَّلَمِ وَنَحْوِهِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِدَيْنٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا تَوْكِيلٌ بِقَبْضِ الدَّيْنِ فَإِنَّ الْمُحَالَ لَهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ لِلْمُحِيلِ بِقَبْضِ دَيْنِهِ مِنْ الْمُحْتَالِ لَهُ. وَالتَّوْكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ جَائِزٌ أَيُّ دَيْنٍ كَانَ، وَيَكُونُ قَبْضُ وَكِيلِهِ كَقَبْضِ مُوَكِّلِهِ، وَلَوْ بَاعَ هَذَا الدَّيْنَ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ جَازَ بِأَنْ اشْتَرَى مِنْهُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ بِدَيْنِهِ الَّذِي لَهُ فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مَا هُوَ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ فِي

يَدِهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَكَذَا إذَا صَالَحَ مَعَهُ مِنْ دَيْنِهِ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ جَازَ الصُّلْحُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ مَنْطُوقًا بِهِ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْمُبَادَلَةِ، وَهِيَ الْمُبَادَلَةُ الْقَوْلِيَّةُ فَإِنْ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ بِأَنْ قَالَ: بِعْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ، وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الثَّمَنِ فَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْت لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَيْعَ فِي اللُّغَةِ: مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ، وَفِي الشَّرْعِ: مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْبَدَلُ مَنْطُوقًا بِهِ، وَلَا بِيعَ بِدُونِ الْبَدَلِ إذْ هُوَ مُبَادَلَةٌ كَانَ بَدَلُهُ قِيمَتَهُ فَكَانَ هَذَا بَيْعُ الْعَبْدِ بِقِيمَتِهِ، وَأَنَّهُ فَاسِدٌ، وَهَكَذَا السَّبِيلُ فِي الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ أَنَّهَا تَكُونُ بَيْعًا بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ، هَذَا إذَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الثَّمَنِ فَأَمَّا إذَا مَا نَفَاهُ صَرِيحًا بِأَنْ قَالَ: بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ بِغَيْرِ ثَمَنٍ، أَوْ بِلَا ثَمَنٍ فَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْت اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا وَالسُّكُوتُ عَنْ الثَّمَنِ سَوَاءٌ، وَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْبَيْعُ بَاطِلٌ. (وَجْهُ) قَوْلِ الْأَوَّلِينَ: أَنَّ قَوْلَهُ بِلَا ثَمَنٍ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُبَادَلَةٍ فَكَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرًا لِلْبَدَلِ، فَإِذَا قَالَ بِغَيْرِ ثَمَنٍ فَقَدْ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ فَبَطَلَ قَوْلُهُ بِلَا ثَمَنٍ، وَبَقِيَ قَوْلُهُ بِعْت مَسْكُوتًا عَنْ ذِكْرِ الثَّمَنِ فَكَأَنَّهُ بَاعَ وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الثَّمَنِ. (وَجْهُ) قَوْلِ الْآخَرِينَ: أَنَّ عِنْدَ السُّكُوتِ عَنْ ذِكْرِ الثَّمَنِ يَصِيرُ الْبَدَلُ مَذْكُورًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، فَإِذَا نَصَّ عَلَى نَفْيِ الثَّمَنِ بَطَلَتْ الدَّلَالَةُ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا بَيْعًا أَصْلًا، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الْخُلُوُّ عَنْ الرِّبَا، وَإِنْ شِئْت قُلْت: وَمِنْهَا الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا حَتَّى لَوْ انْتَفَتْ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ رِبًا، وَالْبَيْعُ الَّذِي فِيهِ رِبًا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الرِّبَا حَرَامٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ قَالَ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ: - {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] . وَالْكَلَامُ فِي مَسَائِلِ الرِّبَا فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا فِي بَيَانِ الرِّبَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ أَنَّهُ مَا هُوَ؟ ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ عِلَّتِهِ أَنَّهَا مَا هِيَ؟ ، وَالثَّالِثُ: فِي بَيَانِ شَرْطِ جَرَيَانِ الرِّبَا (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالرِّبَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ نَوْعَانِ: رِبَا الْفَضْلِ، وَرِبَا النَّسَاءِ. (أَمَّا) رِبَا الْفَضْلِ فَهُوَ: زِيَادَةُ عَيْنِ مَالٍ شُرِطَتْ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ عَلَى الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ الْكَيْلُ، أَوْ الْوَزْنُ فِي الْجِنْسِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ: زِيَادَةٌ مُطْلَقَةٌ فِي الْمَطْعُومِ خَاصَّةً عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ خَاصَّةً. (وَأَمَّا) رِبَا النَّسَاءِ فَهُوَ فَضْلُ الْحُلُولِ عَلَى الْأَجَلِ، وَفَضْلُ الْعَيْنِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الْمَكِيلَيْنِ، أَوْ الْمَوْزُونَيْنِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، أَوْ فِي غَيْرِ الْمَكِيلَيْنِ، أَوْ الْمَوْزُونَيْنِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ فَضْلُ الْحُلُولِ عَلَى الْأَجَلِ فِي الْمَطْعُومَاتِ، وَالْأَثْمَانِ خَاصَّةً، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الثَّانِي، وَهُوَ بَيَانُ الْعِلَّةِ فَنَقُولُ: الْأَصْلُ الْمَعْلُولُ فِي هَذَا الْبَابِ بِإِجْمَاعِ الْقَائِسِينَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا، وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا» أَيْ: بِيعُوا الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ. وَرُوِيَ مِثْلٌ بِمِثْلٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ جَائِزٌ فَهَذَا النَّصُّ مَعْلُولٌ بِاتِّفَاقِ الْقَائِسِينَ غَيْرَ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: عِلَّةُ رِبَا الْفَضْلِ فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ، وَفِي الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ الْوَزْنُ مَعَ الْجِنْسِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْعِلَّةُ إلَّا بِاجْتِمَاعِ الْوَصْفَيْنِ، وَهُمَا الْقَدْرُ، وَالْجِنْسُ، وَعِلَّةُ رِبَا النَّسَاءِ هِيَ أَحَدُ، وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ إمَّا الْكَيْلُ، أَوْ الْوَزْنُ الْمُتَّفِقُ، أَوْ الْجِنْسُ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عِلَّةُ رِبَا الْفَضْلِ فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ الطُّعْمُ، وَفِي الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ الثَّمَنِيَّةَ فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ هُمَا غَيْرُ مَعْلُولَيْنِ، وَعِلَّةُ رِبَا النَّسَاءِ مَا هُوَ عِلَّةُ رِبَا الْفَضْلِ، وَهِيَ الطُّعْمُ فِي الْمَطْعُومَاتِ، وَالثَّمَنِيَّةُ فِي الْأَثْمَانِ دُونَ الْجِنْسِ إذْ الْأَصْلُ عِنْدَهُ حُرْمَةُ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ. (وَأَمَّا) التَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ مَعَ الْيَدِ مُخَلَّصٌ مِنْ الْحُرْمَةِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ لِإِثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» هَذَا الْأَصْلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ حُرْمَةُ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ، وَإِنَّمَا الْجَوَازُ بِعَارِضِ التَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مُطْلَقًا، وَاسْتَثْنَى حَالَةَ الْمُسَاوَاةِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِالْمَطْعُومِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى جَعْلِ الطَّعْمِ عِلَّةً؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْحُكْمَ عَقِيبَ اسْمٍ مُشْتَقٍّ مِنْ مَعْنًى، وَالْأَصْلُ: أَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ عَقِيبَ اسْمٍ مُشْتَقٍّ مِنْ مَعْنًى

يَصِيرُ مَوْضِعُ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الْمَذْكُورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى - جَلَّ، وَعَلَا - {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، وَقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَالطَّعَامُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الطُّعْمِ فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الطُّعْمِ عِلَّةً، وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ اسْمٌ لِوَصْفٍ مُؤَثِّرٍ فِي الْحُكْمِ، وَوَصْفُ الطُّعْمِ مُؤَثِّرٌ فِي حُرْمَةِ بَيْعِ الْمَطْعُومِ، وَالْحُكْمُ مَتَى ثَبَتَ عَقِيبَ وَصْفٍ مُؤَثِّرٍ يُحَالُّ إلَيْهِ كَمَا فِي الزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبَيَانُ تَأْثِيرِ الطُّعْمِ أَنَّهُ وَصْفٌ يُنْبِئُ عَنْ الْعِزَّةِ، وَالشَّرَفِ؛ لِكَوْنِهِ مُتَعَلِّقَ الْبَقَاءِ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِعِزَّتِهِ وَشَرَفِهِ، فَيَجِبُ إظْهَارُ عِزَّتِهِ وَشَرَفِهِ، وَذَلِكَ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ، وَتَعْلِيقِ جَوَازِهِ بِشَرْطَيْ التَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ، وَالْيَدِ؛ لِأَنَّ فِي تَعَلُّقِهِ بِشَرْطَيْنِ تَضْيِيقَ طَرِيقِ إصَابَتِهِ، وَمَا ضَاقَ طَرِيقُ إصَابَتِهِ يَعِزُّ وُجُودُهُ فَيَعِزُّ إمْسَاكُهُ، وَلَا يَهُونُ فِي عَيْنِ صَاحِبِهِ فَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ هُوَ الْحَظْرُ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي الْأَبْضَاعِ الْحُرْمَةَ، وَالْحَظْرَ، وَالْجَوَازَ بِشَرْطَيْ الشَّهَادَةِ، وَالْوَلِيِّ إظْهَارًا لِشَرَفِهَا لِكَوْنِهَا مَنْشَأَ الْبَشَرِ الَّذِينَ هُمْ الْمَقْصُودُونَ فِي الْعَالَمِ، وَبِهِمْ قِوَامُهَا، وَالْأَبْضَاعُ وَسِيلَةٌ إلَى وُجُودِ الْجِنْسِ، وَالْقُوتُ وَسِيلَةٌ إلَى بَقَاءِ الْجِنْسِ فَكَانَ الْأَصْلُ فِيهَا الْحَظْرَ، وَالْجَوَازَ بِشَرْطَيْنِ لِيَعِزَّ وُجُودُهُ، وَلَا تَتَيَسَّرُ إصَابَتُهُ فَلَا يَهُونُ إمْسَاكُهُ فَكَذَا هَذَا، وَكَذَا الْأَصْلُ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِجِنْسِهِمَا هُوَ الْحُرْمَةُ؛ لِكَوْنِهِمَا أَثْمَانَ الْأَشْيَاءِ فِيهَا وَعَلَيْهَا، فَكَانَ قِوَامَ الْأَمْوَالِ، وَالْحَيَاةِ بِهَا فَيَجِبُ إظْهَارُ شَرَفِهَا فِي الشَّرْعِ بِمَا قُلْنَا. (وَلَنَا) فِي إثْبَاتِ الْأَصْلِ إشَارَاتُ النُّصُوصِ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَالسُّنَّةِ، وَالِاسْتِدْلَالِ. (أَمَّا) الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} [الشعراء: 181] {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [الشعراء: 182] {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء: 183] وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85] جَعَلَ حُرْمَةَ الرِّبَا بِالْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الطُّعْمِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْكَيْلُ، وَالْوَزْنُ، وَقَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2] {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3] أَلْحَقَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِالتَّطْفِيفِ فِي الْكَيْلِ، وَالْوَزْنِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَطْعُومِ وَغَيْرِهِ. (وَأَمَّا) السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ «عَامِلَ خَيْبَرَ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمْرًا جَنِيبًا فَقَالَ: أَوَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَعْطَيْتُ صَاعَيْنِ، وَأَخَذْتُ صَاعًا فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَرْبَيْت هَلَّا بِعْتَ تَمْرَكَ بِسِلْعَةٍ، ثُمَّ ابْتَعْتَ بِسِلْعَتِك تَمْرًا» ؟ وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ وَأَرَادَ بِهِ الْمَوْزُونَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِمُجَاوِرَةٍ بَيْنَهُمَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَطْعُومِ، وَغَيْرِ الْمَطْعُومِ، وَكَذَا رَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَنْظَلِيُّ بِإِسْنَادِهِمَا الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ الَّذِي رَوَاهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ: «وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ، أَوْ يُوزَنُ» . (وَأَمَّا) الِاسْتِدْلَال فَهُوَ: أَنَّ الْفَضْلَ عَلَى الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ مِنْ الْكَيْلِ، وَالْوَزْنِ فِي الْجِنْسِ إنَّمَا كَانَ رِبًا فِي الْمَطْعُومَاتِ، وَالْأَثْمَانِ مِنْ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا لِكَوْنِهِ فَضْلَ مَالٍ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي الْجَصِّ، وَالْحَدِيدِ، وَنَحْوِهِمَا فَوُرُودُ الشَّرْعِ ثَمَّةَ يَكُونُ وُرُودًا هُنَا دَلَالَةً، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ لُغَةً، وَشَرْعًا مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَهَذَا يَقْتَضِي التَّسَاوِي فِي الْبَدَلَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْلُو كُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْبَدَلِ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ عَنْ الْبَدَلِ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْمُبَادَلَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْأَبُ، وَالْوَصِيُّ بَيْعَ مَالِ الْيَتِيمِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْمَرِيضِ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ، وَالْقَفِيزُ مِنْ الْحِنْطَةِ مِثْلُ الْقَفِيزِ مِنْ الْحِنْطَةِ صُورَةً، وَمَعْنًى، وَكَذَلِكَ الدِّينَارُ مَعَ الدِّينَارِ. (أَمَّا) الصُّورَةُ فَلِأَنَّهُمَا مُتَمَاثِلَانِ فِي الْقَدْرِ، وَأَمَّا مَعْنًى فَإِنَّ الْمُجَانَسَةَ فِي الْأَمْوَالِ عِبَارَةٌ عَنْ تَقَارُبِ الْمَالِيَّةِ فَكَانَ الْقَفِيزُ مِثْلًا لِلْقَفِيزِ، وَالدِّينَارُ مِثْلًا لِلدِّينَارِ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرَ قَفِيزًا مِنْ حِنْطَةٍ يَلْزَمُهُ قَفِيزٌ مِثْلُهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ، وَإِذَا كَانَ الْقَفِيزُ مِنْ الْحِنْطَةِ مِثْلًا لِلْقَفِيزِ مِنْ الْحِنْطَةِ كَانَ الْقَفِيزُ الزَّائِدُ فَضْلَ مَالٍ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَكَانَ رِبًا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخُصُّ الْمَطْعُومَاتِ، وَالْأَثْمَانَ بَلْ يُوجَدُ فِي كُلِّ مَكِيلٍ بِجِنْسِهِ، وَمَوْزُونٍ بِمِثْلِهِ فَالشَّرْعُ الْوَارِدُ هُنَاكَ يَكُونُ، وَارِدًا هَهُنَا دَلَالَةً. (وَأَمَّا) قَوْلُهُ: الْأَصْلُ حُرْمَةُ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ فَمَمْنُوعٌ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا اقْتَصَرَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ لِيُجْعَلَ الْحَظْرَ فِيهِ أَصْلًا، بَلْ قَرَنَ بِهِ الِاسْتِثْنَاءَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَلَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْحُرْمَةِ فِيهِ أَصْلًا، وَقَوْلُهُ: جَعْلُ الطُّعْمِ عِلَّةً دَعْوَى مَمْنُوعَةٌ أَيْضًا، وَالِاسْمُ

الْمُشْتَقُّ مِنْ مَعْنًى إنَّمَا يُجْعَلُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الْمَذْكُورِ عَقِيبَهُ عِنْدَنَا إذَا كَانَ لَهُ أَثَرٌ كَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَنَحْوِهِمَا فَلِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّ لِلطُّعْمِ أَثَرًا؟ وَكَوْنُهُ مُتَعَلِّقَ الْبَقَاءِ لَا يَكُونُ أَثَرُهُ فِي الْإِطْلَاقِ أَوْلَى مِنْ الْحَظْرِ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ هُوَ التَّوْسِيعُ دُونَ التَّضْيِيقِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُبْنَى مَسَائِلُ الرِّبَا نَقْدًا، وَنَسِيئَةً، وَفُرُوعُ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ أَمَّا رِبَا النَّقْدِ فَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيهِ تَظْهَرُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيْعِ مَكِيلٍ بِجِنْسِهِ غَيْرَ مَطْعُومٍ، أَوْ مَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ غَيْرَ مَطْعُومٍ، وَلَا ثَمَنٍ كَبَيْعِ قَفِيزِ جَصٍّ بِقَفِيزَيْ جَصٍّ، وَبَيْعِ مَنِّ حَدِيدٍ بِمَنَوَيْ حَدِيدٍ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ رِبًا لِوُجُودِ عِلَّةِ الرِّبَا، وَهُوَ الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ، أَوْ الْوَزْنُ مَعَ الْجِنْسِ، وَعِنْدَهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الطَّعْمُ، أَوْ الثَّمَنِيَّةَ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ بَيْعُ كُلِّ مُقَدَّرٍ بِجِنْسِهِ مِنْ الْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ غَيْرَ الْمَطْعُومَاتِ، وَالْأَثْمَانِ: كَالنُّورَةِ، وَالزِّرْنِيخِ، وَالصُّفْرِ، وَالنُّحَاسِ، وَنَحْوِهَا. (وَأَمَّا) بَيْعُ الْمَكِيلِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا، وَبَيْعُ الْمَوْزُونِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا كَبَيْعِ قَفِيزِ أُرْزٍ بِقَفِيزَيْ أُرْزٍ، وَبَيْعِ مَنِّ سُكَّرٍ بِمَنَوَيْ سُكَّرٍ فَلَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، أَمَّا عِنْدَنَا فَلِوُجُودِ الْقَدْرِ، وَالْجِنْسِ، وَعِنْدَهُ لِوُجُودِ الطَّعْمِ، وَالْجِنْسِ، وَكَذَا كُلُّ مَوْزُونٍ هُوَ مَأْكُولٌ، أَوْ مَشْرُوبٌ كَالدُّهْنِ، وَالزَّيْتِ، وَالْخَلِّ، وَنَحْوِهَا. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَكِيلِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا مَطْعُومًا كَانَ، أَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ كَبَيْعِ قَفِيزِ حِنْطَةٍ بِقَفِيزَيْ شَعِيرٍ، وَبَيْعِ قَفِيزِ جَصٍّ بِقَفِيزَيْ نُورَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الْفَضْلُ مَجْمُوعُ الْوَصْفَيْنِ، وَقَدْ انْعَدَمَ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ الْجِنْسُ، وَكَذَا بَيْعُ الْمَوْزُونِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا جَائِزٌ ثَمَنَيْنِ كَانَا، أَوْ مُثَمَّنَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ كَبَيْعِ دِينَارٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَبَيْعِ مَنِّ حَدِيدٍ بِمَنَوَيْ نُحَاسٍ، أَوْ رَصَاصٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَذْرُوعَاتِ، وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ، وَاحِدًا بِاثْنَيْنِ يَدًا بِيَدٍ كَبَيْعِ ثَوْبٍ بِثَوْبَيْنِ، وَعَبْدٍ بِعَبْدَيْنِ، وَشَاةٍ بِشَاتَيْنِ، وَنَصْلٍ بِنَصْلَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ، أَمَّا عِنْدَنَا فَلِانْعِدَامِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ، وَهُوَ الْكَيْلُ، وَالْوَزْنُ، وَعِنْدَهُ لِانْعِدَامِ الطُّعْمِ، وَالثَّمَنِيَّةِ. (وَأَمَّا) بَيْعُ الْأَوَانِي الصُّفْرِيَّةِ وَاحِدًا بِاثْنَيْنِ كَبَيْعِ قُمْقُمَةٍ بِقُمْقُمَتَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُبَاعُ عَدَدًا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعَدَّ فِي الْعَدَدِيَّاتِ لَيْسَ مِنْ أَوْصَافِ عِلَّةِ الرِّبَا فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُبَاعُ، وَزْنًا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَالِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ مِنْ غَيْرِ الْمَطْعُومَاتِ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ كَبَيْعِ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: إنَّ الْفُلُوسَ أَثْمَانٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا كَالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ عِبَارَةٌ عَمَّا تُقَدَّرُ بِهِ مَالِيَّةُ الْأَعْيَانِ، وَمَالِيَّةُ الْأَعْيَانِ كَمَا تُقَدَّرُ بِالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ تُقَدَّرُ بِالْفُلُوسِ فَكَانَتْ أَثْمَانًا؛ وَلِهَذَا كَانَتْ أَثْمَانًا عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا، وَعِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا حَالَةَ الْمُسَاوَاةِ، وَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا فَالثَّمَنُ لَا يَتَعَيَّنُ، وَإِنْ عُيِّنَ كَالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ فَالْتَحَقَ التَّعَيُّنُ فِيهِمَا بِالْعَدَمِ فَكَانَ بَيْعُ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا، وَذَا لَا يَجُوزُ؛ وَلِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ أَثْمَانًا فَالْوَاحِدُ يُقَابِلُ الْوَاحِدَ فَبَقِيَ الْآخَرُ فَضْلَ مَالٍ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ الرِّبَا. (وَلَهُمَا) أَنَّ عِلَّةَ رِبَا الْفَضْلِ هِيَ الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ، وَهُوَ الْكَيْلُ، أَوْ الْوَزْنُ الْمُتَّفِقُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَالْمُجَانَسَةِ إنْ وُجِدَتْ هَهُنَا فَلَمْ يُوجَدْ الْقَدْرُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، وَقَوْلُهُ: الْفُلُوسُ أَثْمَانٌ قُلْنَا: ثَمَنِيَّتُهَا قَدْ بَطَلَتْ فِي حَقِّهِمَا قَبْلَ الْبَيْعِ، فَالْبَيْعُ صَادَفَهَا، وَهِيَ سِلَعٌ عَدَدِيَّةٌ فَيَجُوزُ بَيْعُ الْوَاحِدِ بِالِاثْنَيْنِ كَسَائِرِ السِّلَعِ الْعَدَدِيَّةِ كَالْقَمَاقِمِ الْعَدَدِيَّةِ، وَغَيْرِهَا إلَّا أَنَّهَا بَقِيَتْ أَثْمَانًا عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا، وَبِجِنْسِهَا حَالَةَ الْمُسَاوَاةِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهَا عَنْ، وَصْفِ الثَّمَنِيَّةِ كَانَ لِضَرُورَةِ صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَجَوَازِهِ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا الصِّحَّةَ، وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِمَا قُلْنَا، وَلَا ضَرُورَةَ ثَمَّةَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ فِي الْحَالَيْنِ بَقِيَتْ عَلَى صِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ، أَوْ خَرَجَتْ عَنْهَا. وَالثَّانِي فِي بَيْعِ مَطْعُومٍ بِجِنْسِهِ لَيْسَ بِمَكِيلٍ، وَلَا مَوْزُونٍ كَبَيْعِ حَفْنَةِ حِنْطَةٍ بِحَفْنَتَيْنِ مِنْهَا، أَوْ بِطِّيخَةٍ بِبِطِّيخَتَيْنِ، أَوْ تُفَّاحَةٍ بِتُفَّاحَتَيْنِ، أَوْ بَيْضَةٍ بِبَيْضَتَيْنِ، أَوْ جَوْزَةٍ بِجَوْزَتَيْنِ يَجُوزُ عِنْدَنَا؛ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ وَبَقِيَ الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ، أَوْ الْوَزْنِ، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ؛ لِوُجُودِ الطَّعْمِ، وَالْجِنْسِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ حَفْنَةً بِحَفْنَةٍ، أَوْ تُفَّاحَةً بِتُفَّاحَةٍ، أَوْ بَيْضَةً بِبَيْضَةٍ يَجُوزُ عِنْدَنَا؛ لِمَا قُلْنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ؛ لِوُجُودِ الطَّعْمِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ هُوَ الْعَزِيمَةُ عِنْدَهُ، وَالتَّسَاوِي فِي الْكَيْلِ، أَوْ الْوَزْنِ مُخَلِّصٌ عَنْ الْحُرْمَةِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْمُخَلِّصُ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ. (وَأَمَّا) رِبَا النَّسَاءِ، وَفُرُوعُهُ، وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ فَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ: أَسْلِمْ

مَا يُكَالُ فِيمَا يُوزَنُ، وَأَسْلِمْ مَا يُوزَنُ فِيمَا يُكَالُ، وَلَا تُسْلِمْ مَا يُكَالُ فِيمَا يُكَالُ، وَلَا مَا يُوزَنُ فِيمَا يُوزَنُ، وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ مِمَّا يُكَالُ، أَوْ يُوزَنُ فَلَا بَأْسَ بِهِ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ يَدًا بِيَدٍ وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً، وَلَا بُدَّ مِنْ شَرْحِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَتَفْصِيلِ مَا يَحْتَاجُ مِنْهَا إلَى التَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَجْرَى الْقَضِيَّةَ فِيهَا عَامَّةً، وَمِنْهَا مَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ، وَمِنْهَا مَا لَا يَحْتَمِلُ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ ذَلِكَ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: لَا يَجُوزُ إسْلَامُ الْمَكِيلَاتِ فِي الْمَكِيلَاتِ عَلَى الْعُمُومِ، سَوَاءٌ كَانَا مَطْعُومَيْنِ كَالْحِنْطَةِ فِي الْحِنْطَةِ، أَوْ فِي الشَّعِيرِ، أَوْ غَيْرَ مَطْعُومَيْنِ كَالْجَصِّ فِي الْجَصِّ، أَوْ فِي النُّورَةِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ حَالًّا لَا سَلَمًا، لَكِنْ دَيْنًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ مَطْعُومَيْنِ كَانَا، أَوْ غَيْرَ مَطْعُومَيْنِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ أَحَدَ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ جَمَعَهُمَا، وَهُوَ الْكَيْلُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَا مَطْعُومَيْنِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مَطْعُومَيْنِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ عِنْدَهُ الطَّعْمُ. (وَأَمَّا) إسْلَامُ الْمَوْزُونَاتِ فِي الْمَوْزُونَاتِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ إنْ كَانَا جَمِيعًا مِمَّا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْعَقْدِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا سَوَاءٌ كَانَا مَطْعُومَيْنِ كَالسُّكَّرِ فِي الزَّعْفَرَانِ، أَوْ غَيْرَ مَطْعُومَيْنِ كَالْحَدِيدِ فِي النُّحَاسِ لِوُجُودِ أَحَدِ، وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِرِبَا النَّسَاءِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْمَطْعُومِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْمَطْعُومِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَا مِمَّا لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْعَقْدِ كَالدَّرَاهِمِ فِي الدَّنَانِيرِ، وَالدَّنَانِيرِ فِي الدَّرَاهِمِ، أَوْ الدَّرَاهِمِ فِي الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ فِي الدَّنَانِيرِ، أَوْ لَا يَتَعَيَّنُ الْمُسَلَّمُ فِيهِ كَالْحَدِيدِ فِي الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُسَلَّمَ فِيهِ مَبِيعٌ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السَّلَمُ بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ؛ لِأَنَّهُ رَخَّصَ فِي بَعْضِ مَا دَخَلَ تَحْتَ النَّهْيِ. وَالدَّاخِلُ تَحْتَ النَّهْيِ هُوَ الْبَيْعُ دَلَّ أَنَّ السَّلَمَ نَوْعُ بَيْعٍ لِيَسْتَقِيمَ إثْبَاتُ الرُّخْصَةِ فِيهِ فَكَانَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ مَبِيعًا، وَالْمَبِيعُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ لَا يَحْتَمِلَانِ التَّعْيِينَ شَرْعًا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَلَمْ يَكُونَا مُتَعَيِّنَيْنِ فَلَا يَصْلُحَانِ مُسَلَّمًا فِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ، وَالْمُسَلَّمُ فِيهِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الدَّرَاهِمَ، أَوْ الدَّنَانِيرَ فِي الزَّعْفَرَانِ، أَوْ فِي الْقُطْنِ، أَوْ الْحَدِيدِ، وَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ؛ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ، وَهِيَ الْقَدْرُ الْمُتَّفِقُ، أَوْ الْجِنْسُ. أَمَّا الْمُجَانَسَةُ فَظَاهِرَةُ الِانْتِفَاءِ. وَأَمَّا الْقَدْرُ الْمُتَّفِقُ؛ فَلِأَنَّ وَزْنَ الثَّمَنِ يُخَالِفُ وَزْنَ الْمُثَمَّنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ تُوزَنُ بِالْمَثَاقِيلِ؟ ، وَالْقُطْنَ، وَالْحَدِيدَ يُوزَنَانِ بِالْقَبَّانِ فَلَمْ يَتَّفِقْ الْقَدْرُ فَلَمْ تُوجَدْ الْعِلَّةُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا هَذَا إذَا أَسْلَمَ الدَّرَاهِمَ، أَوْ الدَّنَانِيرَ فِي سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ، فَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ نَقْرَةَ فِضَّةٍ، أَوْ تِبْرَ ذَهَبٍ، أَوْ الْمَصُوغَ فِيهَا فَهَلْ يَجُوزُ؟ ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ، وَزُفَرَ؟ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يَجُوزُ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ: أَنَّهُ وُجِدَ عِلَّةً رِبَا النَّسَاءِ وَهِيَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ، وَهُوَ الْوَزْنُ فِي الْمَالَيْنِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ الْقَدْرِ الْمُتَّفِقِ لَا مُطْلَقَ الْقَدْرِ، وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ النَّقْرَةَ، أَوْ التِّبْرَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ، وَأَصْلِ الْأَثْمَانِ، وَوَزْنُ الثَّمَنِ يُخَالِفُ وَزْنَ الْمُثَمَّنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَلَمْ يَتَّفِقْ الْقَدْرُ فَلَمْ تُوجَدْ الْعِلَّةُ؛ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا كَمَا إذَا أَسْلَمَ فِيهَا الدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ، وَلَوْ أَسْلَمَ فِيهَا الْفُلُوسَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْفَلْسَ عَدَدِيٌّ، وَالْعَدَدُ فِي الْعَدَدِيَّاتِ لَيْسَ مِنْ، أَوْصَافِ الْعِلَّةِ، وَلَوْ أَسْلَمَ فِيهَا الْأَوَانِيَ الصُّفْرِيَّةَ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ تُبَاعُ وَزْنًا لَمْ يَجُزْ؛ لِوُجُودِ الْوَزْنِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ، وَإِنْ كَانَتْ تُبَاعُ عَدَدِيَّةً جَازَ؛ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ. وَأَمَّا إسْلَامُ الْمَكِيلَاتِ فِي الْمَوْزُونَاتِ فَهُوَ أَيْضًا عَلَى التَّفْصِيلِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْزُونُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ يَجُوزُ سَوَاءٌ كَانَا مَطْعُومَيْنِ كَالْحِنْطَةِ فِي الزَّيْتِ، أَوْ الزَّعْفَرَانِ، أَوْ غَيْرَ مَطْعُومَيْنِ كَالْجَصِّ فِي الْحَدِيدِ عِنْدَنَا؛ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ فِي الْمَطْعُومَيْنِ؛ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَهُوَ الدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ لَا يَجُوزُ؛ لِمَا مَرَّ أَنَّ شَرْطَ جَوَازِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ مَبِيعًا، وَالدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ أَثْمَانٌ أَبَدًا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ، ثُمَّ إذَا لَمْ يَجُزْ هَذَا الْعَقْدُ سَلَمًا هَلْ يَجُوزُ بَيْعًا يُنْظَرُ إنْ كَانَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ يَجُوزُ وَيَكُونُ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ سَلَمًا بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَيُجْعَلُ بَيْعًا بِهِ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ السَّلَمِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ يُخَالِفُ مُطْلَقَ الْبَيْعِ فِي الْأَحْكَامِ، وَالشَّرَائِطِ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ سَلَمًا بَطَلَ رَأْسًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ نَوْعُ بَيْعٍ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَمَّاهُ بَيْعًا حِينَ «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» ، وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، إلَّا أَنَّهُ أَخْتَصَّ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ فَإِذَا تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ بَيْعًا هُوَ سَلَمٌ يُصَحَّحُ بَيْعًا بِثَمَنٍ

مُؤَجَّلٍ تَصْحِيحًا لِلتَّصَرُّفِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ. وَأَمَّا إسْلَامُ الْمَوْزُونَاتِ فِي الْمَكِيلَاتِ فَجَائِزٌ عَلَى الْعُمُومِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْزُونُ الَّذِي جَعَلَهُ رَأْسَ الْمَالِ عَرَضًا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، أَوْ ثَمَنًا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَهُوَ الدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْهَا أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُتَّفِقُ، أَوْ الْجِنْسُ فَلَمْ تُوجَدْ الْعِلَّةُ، وَلَوْ أَسْلَمَ جِنْسًا فِي جِنْسِهِ، وَغَيْرِ جِنْسِهِ كَمَا إذَا أَسْلَمَ مَكِيلًا فِي مَكِيلٍ، وَمَوْزُونٍ لَمْ يَجُزْ السَّلَمُ فِي جَمِيعِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجُوزُ فِي حِصَّةِ خِلَافِ الْجِنْسِ، وَهُوَ الْمَوْزُونُ، وَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ، وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. (وَأَمَّا) إسْلَامُ غَيْرِ الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ فِي جِنْسِهِ مِنْ الذَّرْعِيَّاتِ، وَالْعَدَدِيَّاتِ كَالْهَرَوِيِّ فِي الْهَرَوِيِّ، وَالْمَرْوِيِّ فِي الْمَرْوِيِّ، وَالْحَيَوَانِ فِي الْحَيَوَانِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ وَلَقَبُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يُحَرِّمُ. فَلَا يَجُوزُ إسْلَامُ الْجَوْزِ فِي الْجَوْزِ، وَالْبَيْضِ فِي الْبِيضِ، وَالتُّفَّاحِ فِي التُّفَّاحِ، وَالْحَفْنَةِ فِي الْحَفْنَةِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِوُجُودِ الْجِنْسِ عِنْدَنَا، وَلِوُجُودِ الطَّعْمِ عِنْدَهُ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إسْلَامُ الْهَرَوِيِّ فِي الْمَرْوِيِّ؛ لِانْعِدَامِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ؛ لِانْعِدَامِ الطَّعْمِ، وَالثَّمَنِيَّةِ. وَيَجُوزُ إسْلَامُ الْجَوْزِ فِي الْبَيْضِ، وَالتُّفَّاحِ فِي السَّفَرْجَلِ، وَالْحَيَوَانِ فِي الثَّوْبِ عِنْدَنَا؛ لِمَا قُلْنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ فِي الْمَطْعُومِ؛ لِوُجُودِ الطَّعْمِ. وَلَوْ أَسْلَمَ الْفُلُوسَ فِي الْفُلُوسِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا؛ لِوُجُودِ الْجِنْسِ، وَعِنْدَهُ؛ لِوُجُودِ الثَّمَنِيَّةِ. وَكَذَا إذَا أَسْلَمَ الْأَوَانِيَ الصُّفْرِيَّةَ فِي جِنْسِهَا، وَهِيَ تُبَاعُ عَدَدًا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا؛ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ، وَعِنْدَهُ لِوُجُودِ الثَّمَنِيَّةِ، وَالْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةِ الْجِنْسِ بِانْفِرَادِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَلَامِ فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا، وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ حُرْمَةَ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ، وَحُرْمَةَ بَيْعِ الْأَثْمَانِ بِجِنْسِهَا هِيَ الْأَصْلُ، وَالتَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ مَعَ الْيَدِ مُخَلِّصٌ عَنْ الْحُرْمَةِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ، أَوْ رِبَا النَّسَاءِ عِنْدَهُ، وَهُوَ فَضْلُ الْحُلُولِ عَلَى الْأَجَلِ فِي الْمَطْعُومَاتِ، وَالثَّمَنِيَّةِ فِي الْأَثْمَانِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا لَهُ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْأَصْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالْكَلَامُ لِأَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ. وَهُوَ أَنَّ السَّلَمَ فِي الْمَطْعُومَاتِ، وَالْأَثْمَانِ إنَّمَا كَانَ رِبًا؛ لِكَوْنِهِ فَضْلًا خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُبَادَلَةٍ عَلَى طَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ، وَالْمُسَاوَاةِ فِي الْبَدَلَيْنِ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَا نَقْدَيْنِ يَجُوزُ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ النَّقْدِ، وَالنَّسِيئَةِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ خَيْرٌ مِنْ الدَّيْنِ، وَالْمُعَجَّلَ أَكْثَرُ قِيمَةً مِنْ الْمُؤَجَّلِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ فَضْلٍ مَشْرُوطٍ فِي الْبَيْعِ رِبًا سَوَاءٌ كَانَ الْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْأَوْصَافُ إلَّا مَالًا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَفَضْلُ التَّعْيِينِ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِأَنْ يَبِيعَ عَيْنًا بِعَيْنٍ، وَحَالًّا غَيْرَ مُؤَجَّلٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ الْمَطْعُومِ وَالْأَثْمَانِ، فَوُرُودُ الشَّرْعِ ثَمَّةَ يَكُونُ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً، وَابْتِدَاءُ الدَّلِيلِ لَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ» . وَرُوِيَ «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» حَقَّقَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَطْعُومِ، وَالْأَثْمَانِ، وَغَيْرِهَا فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِتَحْقِيقِ الرِّبَا فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْعُمُومِ إلَّا مَا خُصَّ، أَوْ قُيِّدَ بِدَلِيلٍ، وَالرِّبَا حَرَامٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. وَإِذَا كَانَ الْجِنْسُ أَحَدَ، وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ، وَعِلَّةِ رِبَا النَّسِيئَةِ عِنْدَنَا، وَشَرْطُ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ عِنْدَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْجِنْسِ مِنْ كُلِّ مَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: الْحِنْطَةُ كُلُّهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَأَوْصَافِهَا، وَبُلْدَانِهَا أَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ الشَّعِيرُ، وَكَذَلِكَ دَقِيقُهُمَا، وَكَذَا سَوِيقُهُمَا، وَكَذَلِكَ التَّمْرُ، وَكَذَلِكَ الْمِلْحُ، وَكَذَلِكَ الْعِنَبُ، وَكَذَلِكَ الزَّبِيبُ، وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ مَكِيلٍ مِنْ ذَلِكَ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا فِي الْكَيْلِ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي النَّوْعِ، وَالصِّفَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا مُتَسَاوِيًا فِي الْكَيْلِ مُتَفَاضِلًا فِي النَّوْعِ وَالصِّفَةِ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ السَّقِيَّةُ بِالسَّقِيَّةِ وَالنَّحْسِيَّةُ بِالنَّحْسِيَّةِ، وَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَالْجَيِّدَةُ بِالْجَيِّدَةِ، وَالرَّدِيئَةُ بِالرَّدِيئَةِ وَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَالْجَدِيدَةُ بِالْجَدِيدَةِ، وَالْعَتِيقَةُ بِالْعَتِيقَةِ وَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَالْمَقْلُوَّةُ بِالْمَقْلُوَّةِ. وَكَذَلِكَ الشَّعِيرُ عَلَى هَذَا، وَكَذَلِكَ دَقِيقُ الْحِنْطَةِ، وَدَقِيقُ الشَّعِيرِ فَيَجُوزُ بَيْعُ دَقِيقِ الْحِنْطَةِ بِدَقِيقِ الْحِنْطَةِ، وَسَوِيقِ الْحِنْطَةِ بِسَوِيقِ الْحِنْطَةِ، وَكَذَا دَقِيقُ الشَّعِيرِ، وَسَوِيقُهُ، وَكَذَا التَّمْرُ بِالتَّمْرِ الْبَرْنِيُّ بِالْمَعْقِلِيِّ، وَالْجَيِّدُ بِالرَّدِيءِ، وَالْجَدِيدُ بِالْجَدِيدِ، وَالْعَتِيقِ بِالْعَتِيقِ، وَأَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَكَذَلِكَ الْعِنَبُ بِالْعِنَبِ، وَالزَّبِيبُ الْيَابِسُ بِالزَّبِيبِ الْيَابِسِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ حِنْطَةٍ مَقْلِيَّةٍ بِحِنْطَةٍ غَيْرِ مَقْلِيَّةٍ، وَالْمَطْبُوخَةِ بِغَيْرِ مَطْبُوخَةٍ. وَبَيْعُ

الْحِنْطَةِ بِدَقِيقِ الْحِنْطَةِ، وَبِسَوِيقِ الْحِنْطَةِ، وَبَيْعُ تَمْرٍ مَطْبُوخٍ بِتَمْرٍ غَيْرِ مَطْبُوخٍ مُتَفَاضِلًا فِي الْكَيْلِ، أَوْ مُتَسَاوِيًا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْلِيَّةَ يَنْضَمُّ بَعْضُ أَجْزَائِهَا إلَى بَعْضٍ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ؛ فَيَتَحَقَّقُ الْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرُ فِي الْكَيْلِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا، وَكَذَا الْمَطْبُوخَةُ بِغَيْرِ الْمَطْبُوخَةِ؛ لِأَنَّ الْمَطْبُوخَ يَنْتَفِخُ بِالطَّبْخِ فَكَانَ غَيْرُ الْمَطْبُوخَةِ أَكْثَرَ قَدْرًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَيَتَحَقَّقُ الْفَضْلُ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِدَقِيقِ الْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْحِنْطَةِ دَقِيقًا إلَّا أَنَّهُ مُجْتَمِعٌ؛ لِوُجُودِ الْمَانِعِ مِنْ التَّفَرُّقِ، وَهُوَ التَّرْكِيبُ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ الدَّقِيقِ الْمُتَفَرِّقِ عُرِفَ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ إلَّا أَنَّ الْحِنْطَةَ إذَا طُحِنَتْ ازْدَادَ دَقِيقُهَا عَلَى الْمُتَفَرِّقِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطَّحْنَ لَا أَثَّرَ لَهُ فِي زِيَادَةِ الْقَدْرِ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ أَزْيَدَ فِي الْحِنْطَةِ؛ فَيَتَحَقَّقُ الْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرُ بِالتَّجْرِبَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا. وَأَمَّا بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ بِالْمَبْلُولَةِ، أَوْ النَّدِيَّةِ بِالنَّدِيَّةِ، أَوْ الرَّطْبَةِ بِالرَّطْبَةِ، أَوْ الْمَبْلُولَةِ، أَوْ الْيَابِسَةِ بِالْيَابِسَةِ، وَبَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ، وَالرُّطَبِ بِالرُّطَبِ، أَوْ بِالتَّمْرِ، وَالْمُنْقَعِ بِالْمُنْقَعِ، وَالْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ الْيَابِسِ، وَالْيَابِسِ بِالْمُنْقَعِ، وَالْمُنْقَعِ بِالْمُنْقَعِ مُتَسَاوِيًا فِي الْكَيْلِ فَهَلْ يَجُوزُ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كُلُّهُ جَائِزٌ إلَّا بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كُلُّهُ فَاسِدٌ إلَّا بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ، وَالْعِنَبِ بِالْعِنَبِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كُلُّهُ بَاطِلٌ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكُفُرَّى بِالتَّمْرِ، وَالرُّطَبِ بِالْبُسْرِ مُتَسَاوِيًا، وَمُتَفَاضِلًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِعَدَمِ الْجِنْسِ، وَالْكَيْلِ إذْ هُوَ اسْمٌ لِوِعَاءِ الطَّلْعِ فَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْتَبِرُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْحَالِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى النُّقْصَانِ فِي الْمَآلِ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْتَبِرُهَا حَالًا وَمَآلًا، وَاعْتِبَارُ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ اعْتِبَارِ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا فِي الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَإِنَّهُ يُفْسِدُهُ بِالنَّصِّ، وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا ذَكَرْنَا فِي مَسْأَلَةِ عِلَّةِ الرِّبَا أَنَّ حُرْمَةَ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ هِيَ الْأَصْلُ، وَالتَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ مَعَ الْيَدِ مُخَلِّصٌ إلَّا أَنَّهُ يَعْتَبِرُ التَّسَاوِيَ هَهُنَا فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ فِي أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ، وَهِيَ حَالَةُ الْجَفَافِ، وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي، وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّهُ يَنْقُصُ إذَا جَفَّ» بَيَّنَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْحُكْمَ، وَعِلَّتَهُ، وَهِيَ النُّقْصَانُ عِنْدَ الْجَفَافِ فَمُحَمَّدٌ عَدَّى هَذَا الْحُكْمَ إلَى حَيْثُ تَعَدَّتْ الْعِلَّةُ، وَأَبُو يُوسُفَ قَصَرَهُ عَلَى مَحِلِّ النَّصِّ؛ لِكَوْنِهِ حُكْمًا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْكِتَابُ الْكَرِيمُ، وَالسُّنَّةُ الْمَشْهُورَةُ أَمَّا الْكِتَابُ: فَعُمُومَاتُ الْبَيْعِ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ، وَقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فَظَاهِرُ النُّصُوصِ يَقْتَضِي جَوَازَ كُلِّ بَيْعٍ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَقَدْ خُصَّ الْبَيْعُ مُتَفَاضِلًا عَلَى الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ؛ فَبَقِيَ الْبَيْعُ مُتَسَاوِيًا عَلَى ظَاهِرِ الْعُمُومِ وَأَمَّا السُّنَّةُ الْمَشْهُورَةُ فَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَيْثُ «جَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْعَ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» عَامًّا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وَتَقْيِيدٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْمَ الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ جِنْسِ الْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِمَا وَأَوْصَافِهِمَا، وَكَذَلِكَ اسْمُ التَّمْرِ يَقَعُ عَلَى الرُّطَبِ، وَالْبُسْرِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِتَمْرِ النَّخْلِ لُغَةً فَيَدْخُلُ فِيهِ الرُّطَبُ، وَالْيَابِسُ، وَالْمُذَنَّبُ وَالْبُسْرُ، وَالْمُنْقَعُ. وَرُوِيَ أَنَّ «عَامِلَ خَيْبَرَ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمْرًا جَنِيبًا فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ وَكَانَ أَهْدَى إلَيْهِ رُطَبًا» فَقَدْ أَطْلَقَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اسْمَ التَّمْرِ عَلَى الرُّطَبِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ «نَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ حَتَّى يَزْهُوَ أَيْ: يَحْمَرَّ، أَوْ يَصْفَرَّ، وَرُوِيَ حَتَّى يَحْمَارَّ، أَوْ يَصْفَارَّ» ، وَالِاحْمِرَارُ، وَالِاصْفِرَارُ مِنْ، أَوْصَافِ الْبُسْرِ فَقَدْ أَطْلَقَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اسْمَ التَّمْرِ عَلَى الْبُسْرِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمَدَارُهُ عَلَى زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ النَّقَلَةِ فَلَا يُقْبَلُ فِي مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلْهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُنَاظَرَةِ فِي مُعَارَضَةِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ صَيَارِفَةِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ فِي حَدِّ الْآحَادِ عَلَى الْقِيَاسِ بَعْدَ أَنْ كَانَ رَاوِيهِ عَدْلًا ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ، أَوْ بِأَدِلَّةٍ فَيَحْمِلُهُ عَلَى بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ نَسِيئَةً، أَوْ تَمْرًا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ كُلٍّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا فِي الْوَزْنِ سَوَاءٌ اتَّفَقَا فِي النَّوْعِ، وَالصِّفَةِ بِأَنْ كَانَا مَضْرُوبَيْنِ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ، أَوْ مَصُوغَيْنِ، أَوْ تِبْرَيْنِ جَيِّدَيْنِ، أَوْ رَدِيئَيْنِ، أَوْ اخْتَلَفَا لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ «مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْفَضْلُ

رِبًا» . وَأَمَّا مُتَسَاوِيًا فِي الْوَزْنِ مُتَفَاضِلًا فِي النَّوْعِ، وَالصِّفَةِ كَالْمَصُوغِ بِالتِّبْرِ، وَالْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ فَيَجُوزُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ، وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْجَيِّدِ، وَالرَّدِيءِ فِي الْقِيمَةِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ مِثْلًا بِمِثْلٍ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْوَزْنِ، وَكَذَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «وَزْنًا بِوَزْنٍ» ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «جَيِّدُهَا، وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْجَوْدَةَ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا لَا قِيمَةَ لَهَا شَرْعًا فَلَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ. وَاللُّحُومُ مُعْتَبَرَةٌ بِأُصُولِهَا فَإِنْ تَجَانَسَ الْأَصْلَانِ تَجَانَسَ اللَّحْمَانِ فَتُرَاعَى فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا مُتَسَاوِيًا، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْأَصْلَانِ اخْتَلَفَ اللَّحْمَانِ فَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَسَاوِيًا، وَمُتَفَاضِلًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ، وَلَا يَجُوزُ نَسِيئَةً لِوُجُودِ أَحَدِ، وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ، وَهُوَ الْوَزْنُ، إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: لُحُومُ الْإِبِلِ كُلِّهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا مِنْ لُحُومِ الْعِرَابِ، وَالْبَخَاتِيِّ، وَالْهَجِينِ، وَذِي السَّنَامَيْنِ، وَذِي سَنَامٍ وَاحِدٍ جِنْسٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ كُلَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فَكَذَا لُحُومُهَا، وَكَذَا لُحُومُ الْبَقَرِ، وَالْجَوَامِيسِ، كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلُحُومُ الْغَنَمِ مِنْ الضَّأْنِ، وَالنَّعْجَةِ، وَالْمَعْزِ، وَالتَّيْسِ جِنْسٌ وَاحِدٌ اعْتِبَارًا بِالْأُصُولِ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اللُّحُومُ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ اتَّحَدَتْ أُصُولُهَا، أَوْ اخْتَلَفَتْ حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُ لَحْمِ الْإِبِلِ بِالْبَقَرِ، وَالْبَقَرِ بِالْغَنَمِ مُتَفَاضِلًا. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ اللَّحْمَيْنِ اسْتَوَيَا اسْمًا، وَمَنْفَعَةً، وَهِيَ التَّغَذِّي، وَالتَّقَوِّي فَاتَّحَدَ الْجِنْسُ فَلَزِمَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ. (وَلَنَا) أَنَّ أُصُولَ هَذِهِ اللُّحُومِ مُخْتَلِفَةُ الْجِنْسِ فَكَذَا اللُّحُومُ؛ لِأَنَّهَا فُرُوعُ تِلْكَ الْأُصُولِ، وَاخْتِلَافُ الْأَصْلِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْفَرْعِ قَوْلُهُ الِاسْمُ شَامِلٌ، وَالْمَقْصُودُ مُتَّحِدٌ قُلْنَا: الْمُعْتَبَرُ فِي اتِّحَادِ الْجِنْسِ اتِّحَادُ الْمَقْصُودِ الْخَاصِّ لَا الْعَامِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَطْعُومَاتِ كُلَّهَا فِي مَعْنَى الطَّعْمِ مُتَّحِدَةٌ، ثُمَّ لَا يُجْعَلُ كُلُّهَا جِنْسًا وَاحِدًا كَالْحِنْطَةِ مَعَ الشَّعِيرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا مَعَ اتِّحَادِهِمَا فِي مَعْنَى الطَّعْمِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَعْنًى عَامًّا لَمْ يُوجِبْ اتِّحَادَ الْجِنْسِ كَذَا هَذَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الطَّيْرِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا، وَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوزَنُ عَادَةً، وَعَلَى هَذَا الْبَابِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ حُكْمُهَا حُكْمُ أُصُولِهَا عِنْدَ الِاتِّحَادِ وَالِاخْتِلَافِ؛ لِأَنَّهَا مُتَفَرِّعَةٌ مِنْ الْأُصُولِ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً بِأُصُولِهَا، وَكَذَا خَلُّ الدَّقَلِ مَعَ خَلِّ الْعِنَبِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِمَا، وَاللَّحْمُ مَعَ الشَّحْمِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ لِاخْتِلَافِ الِاسْمِ، وَالْمَنَافِعِ، وَكَذَا مَعَ الْأَلْيَةِ، وَالْأَلْيَةُ مَعَ الشَّحْمِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَشَحْمُ الْبَطْنِ مَعَ شَحْمِ الظَّهْرِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَكَذَا مَعَ الْأَلْيَةِ بِمَنْزِلَةِ اللَّحْمِ مَعَ شَحْمِ الْبَطْنِ، وَالْأَلْيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَحْمٌ سَمِينٌ، وَصُوفُ الشَّاةِ مَعَ شَعْرِ الْمَعْزِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ؛ لِاخْتِلَافِ الِاسْمِ، وَالْمَنْفَعَةِ، وَكَذَا غَزْلُ الصُّوفِ مَعَ غَزْلِ الشَّعْرِ، وَالْقُطْنِ مَعَ الْكَتَّانِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَكَذَا غَزْلُ الْقُطْنِ مَعَ غَزْلِ الْكَتَّانِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ غَزْلِ الْقُطْنِ بِالْقُطْنِ مُتَسَاوِيًا؛ لِأَنَّ الْقُطْنَ يَنْقُصُ بِالْغَزْلِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ كَبَيْعِ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ. (وَأَمَّا) الْحَيَوَانُ مَعَ اللَّحْمِ فَإِنْ اخْتَلَفَ الْأَصْلَانِ فَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ كَالشَّاةِ الْحَيَّةِ مَعَ لَحْمِ الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ فَيَجُوزُ بَيْعُ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ مُجَازَفَةً نَقْدًا، وَنَسِيئَةً؛ لِانْعِدَامِ الْوَزْنِ، وَالْجِنْسِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا أَصْلًا، وَإِنْ اتَّفَقَا كَالشَّاةِ الْحَيَّةِ مَعَ لَحْمِ الشَّاةِ، مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ اعْتَبَرَهُمَا جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَبَنَوْا عَلَيْهِ جَوَازَ بَيْعِ لَحْمِ الشَّاةِ بِالشَّاةِ الْحَيَّةِ مُجَازَفَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَعَلَّلُوا لَهُمَا بِأَنَّهُ بَاعَ الْجِنْسَ بِخِلَافِ الْجِنْسِ. (وَمِنْهُمْ) مَنْ اعْتَبَرَهُمَا جِنْسًا وَاحِدًا، وَبَنَوْا مَذْهَبَهُمَا عَلَى أَنَّ الشَّاةَ لَيْسَتْ بِمَوْزُونَةٍ، وَجَرَيَانُ رِبَا الْفَضْلِ يَعْتَمِدُ اجْتِمَاعَ الْوَصْفَيْنِ: الْجِنْسِ مَعَ الْقَدْرِ فَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُجَازَفَةً، وَمُفَاضَلَةً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى، وَجْهِ الِاعْتِبَارِ عَلَى أَنْ يَكُونَ وَزْنُ اللَّحْمِ الْخَالِصِ أَكْثَرَ مِنْ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَيَكُونُ اللَّحْمُ بِإِزَاءِ اللَّحْمِ، وَالزِّيَادَةُ بِإِزَاءِ خِلَافِ الْجِنْسِ مِنْ الْأَطْرَافِ، وَالسَّقَطِ مِنْ الرَّأْسِ، وَالْأَكَارِعِ، وَالْجِلْدِ، وَالشَّحْمِ فَإِنْ كَانَ اللَّحْمُ الْخَالِصُ مِثْلَ قَدْرِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ لَا يُدْرَى لَا يَجُوزُ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا بَاعَ الشَّاةَ الْحَيَّةَ بِشَحْمِ الشَّاةِ، أَوْ بِأَلْيَتِهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اللُّحُومُ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ كَيْفَ مَا كَانَ سَوَاءٌ اتَّفَقَ الْأَصْلَانِ، أَوْ اخْتَلَفَا بَاعَ مُجَازَفَةً، أَوْ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّاةِ بِلَحْمِ الشَّاةِ نَسِيئَةً لِوُجُودِ الْجِنْسِ الْمُحَرِّمِ لِلنَّسَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ الْخَالِصَ مِنْ جِنْسِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ

وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ دُهْنِ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الدُّهْنُ الْخَالِصُ أَكْثَرَ مِنْ الدُّهْنِ الَّذِي فِي السِّمْسِمِ حَتَّى يَكُونَ الدُّهْنُ بِإِزَاءِ الدُّهْنِ وَالزَّائِدُ بِإِزَاءِ الزَّائِدِ خِلَافِ جِنْسِهِ وَهُوَ الْكُسْبُ، وَكَذَلِكَ دُهْنُ الْجَوْزِ بِلُبِّ الْجَوْزِ. (وَأَمَّا) دُهْنُ الْجَوْزِ بِالْجَوْزِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ مُجَازَفَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ بَيْعَ النِّصَالِ بِالْحَدِيدِ غَيْرِ الْمَصْنُوعِ جَائِزٌ مُجَازَفَةً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ، أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهُوَ بَنَى مَذْهَبَهُ عَلَى أَصْلٍ لَهُ ذَكَرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَهُوَ أَنَّ حُرْمَةَ بَيْعِ مَأْكُولٍ بِجِنْسِهِ هُوَ الْعَزِيمَةُ، وَالْجَوَازُ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ رُخْصَةٌ، وَلَا يُعْرَفُ التَّسَاوِي بَيْنَ اللَّحْمِ الْخَالِصِ وَبَيْنَ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِي عِلَّةِ الرِّبَا. (وَأَمَّا) الْكَلَامُ مَعَ أَصْحَابِنَا (فَوَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ فِي تَجْوِيزِ الْمُجَازَفَةِ هَهُنَا احْتِمَالُ الرِّبَا؛ فَوَجَبَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ مَا أَمْكَنَ، وَأَمْكَنَ بِمُرَاعَاةِ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ فَلَزِمَ مُرَاعَاتُهُ قِيَاسًا عَلَى بَيْعِ الدُّهْنِ بِالسِّمْسِمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فِيهِ الرِّبَا أَنَّ اللَّحْمَ مَوْزُونٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّحْمُ الْمَنْزُوعُ أَقَلَّ مِنْ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ وَزْنًا، فَيَكُونَ شَيْءٌ مِنْ اللَّحْمِ مَعَ السَّقَطِ زِيَادَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ فِي الْوَزْنِ فَيَكُونَ السَّقَطُ زِيَادَةً فَوَجَبَ مُرَاعَاةُ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ تَحَرُّزًا عَنْ الرِّبَا عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الدُّهْنِ بِالسِّمْسِمِ، وَالزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ كَذَا هَذَا، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ هَذَا بَيْعُ الْمَوْزُونِ بِمَا لَيْسَ بِمَوْزُونٍ يَدًا بِيَدٍ فَيَجُوزُ مُجَازَفَةً وَمُفَاضَلَةً، اسْتِدْلَالًا بِبَيْعِ الْحَدِيدِ الْغَيْرِ الْمَصْنُوعِ بِالنِّصَالِ مُجَازَفَةً، يَدًا بِيَدٍ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّ اللَّحْمَ الْمَنْزُوعَ وَإِنْ كَانَ مَوْزُونًا - فَاللَّحْمُ الَّذِي فِي الشَّاةِ لَيْسَ بِمَوْزُونٍ؛ لِأَنَّ الْمَوْزُونَ مَا لَهُ طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ ثِقْلِهِ، وَلَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ ثِقْلِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَزْنُ بِالْقَبَّانِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِدْلَال بِالتَّجْرِبَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فَاحِشٍ، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ طَرِيقًا لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ. (أَمَّا) الْوَزْنُ بِالْقَبَّانِ فَلِأَنَّ الشَّاةَ لَا تُوزَنُ بِالْقَبَّانِ عُرْفًا وَلَا عَادَةً، وَلَوْ صَلَحَ الْوَزْنُ طَرِيقًا لِوَزْنٍ؛ لِأَنَّ إمْكَانَ الْوَزْنِ ثَابِتٌ، وَالْحَاجَةَ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ اللَّحْمِ الَّذِي فِيهَا مَاسَّةٌ حَتَّى يَتَعَرَّفَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ بِالْجَسِّ وَالْمَسِّ بِالْيَدِ، وَالرَّفْعِ مِنْ الْأَرْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْحَيَّ يَثْقُلُ بِنَفْسِهِ مَرَّةً وَيَخِفُّ أُخْرَى فَيَخْتَلِفُ وَزْنُهُ، فَدَلَّ أَنَّ الْوَزْنَ لَا يَصْلُحُ طَرِيقَ الْمَعْرِفَةِ. (وَأَمَّا) التَّجْرِبَةُ فَإِنَّ ذَلِكَ بِالذَّبْحِ، وَوَزْنُ الْمَذْبُوحِ لِيُعْرَفَ اللَّحْمُ الَّذِي كَانَ فِيهَا عِنْدَ الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ - لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَالسِّمَنَ وَالْهُزَالَ سَاعَةً فَسَاعَةً، فَلَا يُعْرَفُ بِهِ مِقْدَارُ ثِقْلِهِ حَالَةَ الْعَقْدِ بِالتَّجْرِبَةِ. (وَأَمَّا) الْحَزْرُ وَالظَّنُّ فَإِنَّهُ لَا حَزْرَ لِمَنْ لَا بَصَارَةَ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ، بَلْ يُخْطِئُ لَا مَحَالَةَ، وَمَنْ لَهُ بَصَارَةٌ يَغْلَطُ أَيْضًا ظَاهِرًا وَغَالِبًا، وَيَظْهَرُ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ مَوْزُونًا، فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِرِبَا الْفَضْلِ، بِخِلَافِ بَيْعِ دُهْنِ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيْعُ الْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ الدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ بِالتَّجْرِبَةِ، بِأَنْ يُوزَنَ قَدْرٌ مِنْ السِّمْسِمِ فَيُسْتَخْرَجَ دُهْنُهُ فَيَظْهَرَ وَزْنُ دُهْنِهِ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، أَوْ يَعْصِرَ الْجُمْلَةَ فَيَظْهَرَ قَدْرُ الدُّهْنِ الَّذِي كَانَ فِيهَا حَالَةَ الْعَقْدِ، أَوْ يُعْرَفَ بِالْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ أَنَّهُ كَمْ يَخْرُجُ مِنْ الدُّهْنِ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فَاحِشٍ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ؟ فَكَانَ ذَلِكَ بَيْعَ الْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ مُجَازَفَةً، فَلَمْ يَجُزْ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ بَاعَ شَاةً مَذْبُوحَةً غَيْرَ مَسْلُوخَةٍ بِلَحْمِ شَاةٍ - لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي فِي الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ مَوْزُونٌ، فَقَدْ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِجِنْسِهِ وَبِخِلَافِ جِنْسِهِ، فَيُرَاعَى فِيهِ طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ، بِخِلَافِ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ الْحَيَّةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَوْزُونٍ لِمَا قُلْنَا، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الرِّبَا، فَجَازَتْ الْمُجَازَفَةُ فِيهِ وَلَوْ بَاعَ شَاةً حَيَّةً بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ مُجَازَفَةً جَازَ بِالْإِجْمَاعِ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِمَا لَيْسَ بِمَوْزُونٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، كَمَا لَوْ بَاعَ شَاةً حَيَّةً بِلَحْمِ الشَّاةِ وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ اللَّحْمَ يُقَابِلُ اللَّحْمَ، وَزِيَادَةُ اللَّحْمِ فِي إحْدَاهُمَا مَعَ سَقَطِهَا يَكُونُ بِمُقَابَلَةِ سَقَطِ الْأُخْرَى، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ حَيَّتَيْنِ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ وَلَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ مَذْبُوحَتَيْنِ غَيْرِ مَسْلُوخَتَيْنِ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ يَجُوزُ وَيَكُونُ اللَّحْمُ بِمُقَابَلَةِ اللَّحْمِ، وَزِيَادَةُ اللَّحْمِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مَعَ السَّقَطِ يَكُونُ بِمُقَابَلَةِ سَقَطِ

الْأُخْرَى وَلَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ مَذْبُوحَتَيْنِ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ يَجُوزُ، وَيُقَابَلُ اللَّحْمُ بِاللَّحْمِ، وَمُقَابَلَةُ اللَّحْمِ مِنْ الْمَسْلُوخَتَيْنِ بِمُقَابَلَةِ سَقَطِ الْأُخْرَى وَلَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ مَذْبُوحَتَيْنِ غَيْرَ مَسْلُوخَتَيْنِ بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ مَسْلُوخَةٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ اللَّحْمِ مِنْ غَيْرِ الْمَسْلُوخَتَيْنِ مَعَ السَّقَطِ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَيَكُونُ رِبًا وَلَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ مَسْلُوخَتَيْنِ بِشَاةٍ مَسْلُوخَةٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمَا مَالَانِ جَمَعَهُمَا الْوَزْنُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُفَاضَلَةً وَمُجَازَفَةً، حَتَّى لَوْ كَانَا مُسْتَوِيَيْنِ فِي الْوَزْنِ يَجُوزُ يَدًا بِيَدٍ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ، وَدُهْنِ الْكَتَّانِ بِالْكَتَّانِ، وَالْعَصِيرِ بِالْعِنَبِ، وَالسَّمْنِ بِلَبَنٍ فِيهِ سَمْنٌ، وَالصُّوفِ بِشَاةٍ عَلَى ظَهْرِهَا صُوفٌ، وَاللَّبَنِ بِحَيَوَانٍ فِي ضَرْعِهِ لَبَنٌ مِنْ جِنْسِهِ، وَالتَّمْرِ بِأَرْضٍ وَنَخْلٍ عَلَيْهِ تَمْرٌ، وَالْحِنْطَةِ بِأَرْضٍ فِيهَا زَرْعٌ قَدْ أُدْرِكَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا حَتَّى يَكُونَ الْمُفْرَدُ أَكْثَرَ مِنْ الْمَجْمُوعِ لِيَكُونَ الْمِثْلُ بِالْمِثْلِ، وَالزِّيَادَةُ بِمُقَابَلَةِ خِلَافِ الْجِنْسِ وَسَنَذْكُرُ أَجْنَاسَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا إذَا قُوبِلَ بَدَلٌ مِنْ جِنْسٍ بِبَدَلٍ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ بِبَدَلَيْنِ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ. فَأَمَّا إذَا قُوبِلَ أَبْدَالٌ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِأَبْدَالٍ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَتُقْسَمُ الْأَبْدَالِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِالْأَبْدَالِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ قِسْمَةَ تَوْزِيعٍ وَإِشَاعَةٍ مِنْ حَيْثُ التَّقْوِيمِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا فَيَجُوزُ أَيْضًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَيُصْرَفُ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ فَيُقَسَّمُ قِسْمَةَ تَصْحِيحٍ لَا قِسْمَةَ إشَاعَةٍ وَتَوْزِيعٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ، وَيُقْسَمُ قِسْمَةَ تَوْزِيعٍ وَإِشَاعَةٍ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ كَمَا فِي غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ: إذَا بَاعَ كُرَّ حِنْطَةٍ وَكُرَّ شَعِيرٍ بِكُرَّيْ حِنْطَةٍ وَكُرَّيْ شَعِيرٍ جَازَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَتُصْرَفُ الْحِنْطَةُ إلَى الشَّعِيرِ، وَالشَّعِيرُ إلَى الْحِنْطَةِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا بِدِرْهَمَيْنِ وَدِينَارَيْنِ يُصْرَفُ الدِّرْهَمُ إلَى الدِّينَارَيْنِ، وَالدِّينَارُ إلَى الدِّرْهَمَيْنِ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذَا بَيْعُ رِبًا فَلَا يَجُوزُ كَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَالدِّينَارِ بِالدِّينَارَيْنِ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهُ قَابَلَ الْجُمْلَةَ بِالْجُمْلَةِ مُطْلَقًا، وَمُطْلَقُ مُقَابِلَةِ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ يَقْتَضِي انْقِسَامَ كُلِّ بَدَلٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِجَمِيعِ الْأَبْدَالِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ عَلَى سَبِيلِ الشُّيُوعِ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ إذَا كَانَتْ الْأَبْدَالُ مُخْتَلِفَةَ الْقِيَمِ، اسْتِدْلَالًا بِسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ فِي غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا، فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ عَبْدًا وَجَارِيَةً بِفَرَسٍ وَثَوْبٍ وَقِيمَتُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ يُقَسَّمُ الْعَبْدُ عَلَى قِيمَةِ الْفَرَسِ وَالثَّوْبِ، وَكَذَا الْجَارِيَةُ، حَتَّى لَوْ وُجِدَ بِوَاحِدٍ مِنْ الْجُمْلَةِ عَيْبًا يَرُدُّهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْبَدَلَيْنِ، وَكَذَا لَوْ اُسْتُحِقَّ وَاحَدٌّ مِنْهُمَا يَرُدُّهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْبَدَلَيْنِ عَلَى الْبَائِعِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ دَارًا فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الْبَدَلَيْنِ، فَكَانَ التَّقْسِيمُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا هُوَ الْمُوجَبُ الْأَصْلِيُّ فِي الْبِيَاعَاتِ كُلِّهَا، وَالِانْقِسَامُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا يُحَقِّقُ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا كُرَّ حِنْطَةٍ وَكُرَّيْ شَعِيرٍ بِكُرَّيْ شَعِيرٍ وَبِكُرِّ حِنْطَةٍ، فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا، عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الرِّبَا فَفِيهِ احْتِمَالُ الرِّبَا، وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ كَبَيْعِ الصُّبْرَةِ بِالصُّبْرَةِ مُجَازَفَةً. (وَلَنَا) عُمُومَاتُ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، فَمَنْ ادَّعَى التَّخْصِيصَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَلِأَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَطْلَقَا مُقَابَلَةَ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ، وَالْمُطْلَقُ يَتَعَرَّضُ لِلذَّاتِ لَا لِلصِّفَاتِ وَالْجِهَاتِ فَلَا يَكُونُ مُقَابَلَةَ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ عَيْنًا، وَلَا مُقَابَلَةُ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ عَيْنًا، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِفَضْلِ مَالٍ فِي مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ عَيْنًا، وَلَمْ يُوجَدْ، أَوْ نَقُولُ: مُطْلَقُ الْمُقَابِلَةِ تَحْتَمِلُ مُقَابِلَةَ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ عَلَى سَبِيلِ الشُّيُوعِ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ كَمَا قُلْتُمْ، وَتُحْتَمَلُ مُقَابِلَةَ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُقَابَلَةُ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ، إلَّا أَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الثَّانِي لَصَحَّ، فَالْحَمْلُ عَلَى مَا فِيهِ الصِّحَّةُ أَوْلَى وَقَوْلُهُ: مُوجَبُ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى أَبْدَالٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ انْقِسَامُ كُلِّ بَدَلٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى جَمِيعِ الْأَبْدَالِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ عَلَى الشُّيُوعِ مِنْ حَيْثُ التَّقْوِيمِ قُلْنَا: مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مُوجَبُ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ فِي مَوْضِعٍ فِي مَسَائِلِ الْبِيَاعَاتِ فِي غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا مَا ثَبَتَ الِانْقِسَامُ مُوجَبًا لَهُ، بَلْ بِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي الْأَبْدَالِ لَأَنَّهُمَا لَمَّا أَطْلَقَا الْبَيْعَ وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَبْدَالٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مُقَابِلَةِ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فِي التَّعْيِينِ فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِالْإِشَاعَةِ وَالتَّقْسِيمِ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ حُكْمًا لِلْمُعَاوَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ، وَعِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بِالْإِشَاعَةِ، وَالرُّجُوعِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَثْبُتُ الِانْقِسَامُ عِنْدَ الْقِيمَةِ قَبْلَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ عَلَى

فصل في شرائط جريان الربا في البيع

مَا عُرِفَ. وَقَوْلُهُ: فِيهِ احْتِمَالُ الرِّبَا، قُلْنَا: احْتِمَالُ الرِّبَا هَهُنَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ عَيْنًا، كَمَا فِي بَيْعِ الصُّبْرَةِ بِالصُّبْرَةِ لَا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ يَلْزَمُ رِعَايَةُ الْمُمَاثَلَةِ الْمَشْرُوطَةِ، وَلَمْ تُوجَدْ هَهُنَا فَلَا تُوجِبُ الْفَسَادَ وَعَلَى هَذَا إذَا بَاعَ دِينَارًا وَدِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمَيْنِ وَدِينَارَيْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَيَكُونُ الدِّينَارُ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَالدِّرْهَمَانِ بِالدِّينَارَيْنِ وَكَذَا إذَا بَاعَ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارًا بِدِينَارَيْنِ وَدِرْهَمٍ يَجُوزُ عِنْدَنَا بِأَنْ يُجْعَلَ الدِّرْهَمَانِ بِالدِّينَارَيْنِ، وَالدِّينَارُ بِالدِّرْهَمِ وَكَذَا إذَا بَاعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَتَكُونُ الْخَمْسَةُ بِمُقَابَلَةِ الْخَمْسَةِ، وَالْخَمْسَةُ الْأُخْرَى بِمُقَابَلَةِ الدِّينَارِ وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ جَازَ عِنْدَنَا، وَكَانَتْ الْعَشَرَةُ بِمِثْلِهَا، وَدِينَارٌ بِدِرْهَمٍ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ إنَّهُ إذَا بَاعَ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يَجُوزُ وَلَا بَأْسَ بِهِ، وَتَكُونُ الْمِائَةُ بِمُقَابَلَةِ الْمِائَةِ، وَالتُّسْعُمِائَةِ بِمُقَابَلَةِ الدِّينَارِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا بَاعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّرَاهِمِ، وَفِي أَحَدِهِمَا فَضْلٌ مِنْ حَيْثُ الْوَزْنُ، وَفِي الْجَانِبِ الَّذِي لَا فَضْلَ فِيهِ فُلُوسٌ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْحُكْمِ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ، فَقِيلَ: كَيْفَ تَجِدُهُ فِي قَلْبِكَ؟ قَالَ: أَجِدُهُ مِثْلَ الْجَبَلِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى مَا يُقَابِلُ الزِّيَادَةَ مِنْ حَيْثُ الْوَزْنُ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ، إنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ الزِّيَادَةِ، أَوْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْهَا مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ عَادَةً جَازَ الْبَيْعُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ شَيْئًا قَلِيلَ الْقِيمَةِ كَفَلْسٍ وَجَوْزَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَا قِيمَةَ لَهُ أَصْلًا كَكَفٍّ مِنْ تُرَابٍ وَنَحْوِهِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ جَرَيَانِ الرِّبَا فِي الْبَيْعِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ جَرَيَانِ الرِّبَا (فَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْبَدَلَانِ مَعْصُومَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ مَعْصُومٍ لَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ مَا إذَا دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرًا فَبَاعَ حَرْبِيًّا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمُسْلِمُ الْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ الْحَرْبِيُّ الَّذِي أَسْلَمَ هُنَاكَ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَبَايَعَ أَحَدًا مِنْ الْحَرْبِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا كَمَا هِيَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ، فَاشْتِرَاطُهُ فِي الْبَيْعِ يُوجِبُ فَسَادَهُ كَمَا إذَا بَايَعَ الْمُسْلِمُ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. (وَلَهُمَا) أَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ، إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَأْمَنَ مُنِعَ مِنْ تَمَلُّكِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ، فَإِذَا بَدَّلَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَرِضَاهُ فَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى، فَكَانَ الْأَخْذُ اسْتِيلَاءً عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، وَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ مُفِيدٌ لِلْمِلْكِ كَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ هَهُنَا لَيْسَ بِتَمَلُّكٍ بَلْ هُوَ تَحْصِيلُ شَرْطِ التَّمَلُّكِ وَهُوَ الرِّضَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْحَرْبِيِّ لَا يَزُولُ بِدُونِهِ، وَمَا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ لَا يَقَعُ الْأَخْذُ تَمَلُّكًا، لَكِنَّهُ إذَا زَالَ فَالْمِلْكُ لِلْمُسْلِمِ يَثْبُتُ بِالْأَخْذِ وَالِاسْتِيلَاءِ لَا بِالْعَقْدِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا؛ لِأَنَّ الرِّبَا اسْمٌ لِفَضْلٍ يُسْتَفَادُ بِالْعَقْدِ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ إذَا بَاعَ حَرْبِيًّا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْعِصْمَةَ بِدُخُولِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ. وَالْمَالُ الْمَعْصُومُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلِاسْتِيلَاءِ، فَتَعَيَّنَ التَّمَلُّكُ فِيهِ بِالْعَقْدِ. وَشَرْطُ الرِّبَا فِي الْعَقْدِ مُفْسِدٌ، وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَبَاعَ حَرْبِيًّا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ مَا جَازَ مِنْ بُيُوعِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ مِنْ بُيُوعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَمَا يَبْطُلُ أَوْ يَفْسُدُ مِنْ بُيُوعِ الْمُسْلِمِينَ يَبْطُلُ أَوْ يَفْسُدُ مِنْ بُيُوعِهِمْ إلَّا الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ، عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْبَدَلَانِ مُتَقَوِّمَيْنِ شَرْعًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَا مَضْمُونَيْنِ حَقًّا لِلْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ مَضْمُونٍ حَقًّا لِلْعَبْدِ لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ مَا إذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ، فَبَايَعَ رَجُلًا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ وَإِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً فَالتَّقَوُّمُ لَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَهُ، حَتَّى لَا يَضْمَنَ نَفْسَهُ بِالْقِصَاصِ وَلَا بِالدِّيَةِ عِنْدَهُ، وَكَذَا مَالُهُ لَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ، وَعِنْدَهُمَا نَفْسُهُ وَمَالُهُ مَعْصُومَانِ مُتَقَوِّمَانِ. وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي كِتَابِ السِّيَرِ وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمَانِ دَارَ الْحَرْبِ فَتَبَايَعَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ

لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْصُومٌ مُتَقَوِّمٌ، فَكَانَ التَّمَلُّكُ بِالْعَقْدِ فَيَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ. وَلَوْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ الَّذِي بَايَعَ الْمُسْلِمَ وَدَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ، أَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَمَا كَانَ مِنْ رِبًا مَقْبُوضٍ أَوْ بَيْعٍ فَاسِدٍ مَقْبُوضٍ فَهُوَ جَائِزٌ مَاضٍ، وَمَا كَانَ غَيْرَ مَقْبُوضٍ يَبْطُلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] ، أَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا، وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا نَهْيٌ عَنْ قَبْضِهِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اُتْرُكُوا قَبْضَهُ فَيَقْتَضِي حُرْمَةَ الْقَبْضِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمِي» ، وَالْوَضْعُ عِبَارَةٌ عَنْ الْحَطِّ وَالْإِسْقَاطِ، وَذَلِكَ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ، وَلِأَنَّ بِالْإِسْلَامِ حُرِّمَ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ فَكَذَا الْقَبْضُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ تَقْرِيرُ الْعَقْدِ وَتَأْكِيدُهُ فَيُشْبِهُ الْعَقْدَ فَيَلْحَقُ بِهِ، إذْ هُوَ عَقْدٌ مِنْ وَجْهٍ فَيُلْحَقُ بِالثَّابِتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا، وَمَتَى حُرِّمَ الْقَبْضُ لَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ الْبَدْلَانِ مِلْكًا لِأَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَجْرِي الرِّبَا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا بَاعَ مَوْلَاهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَمَا فِي يَدِهِ لِمَوْلَاهُ، فَكَانَ الْبَدَلَانِ مِلْكَ الْمَوْلَى، فَلَا يَكُونُ هَذَا بَيْعًا، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، إذْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْبِيَاعَاتِ وَكَذَلِكَ الْمُتَعَاوَضَانِ إذَا تَبَايَعَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ مُبَادَلَةَ مَالِهِ، فَلَا يَكُونُ بَيْعًا وَلَا مُبَادَلَةً حَقِيقَةً وَكَذَلِكَ الشَّرِيكَانِ شَرِكَةَ الْعِنَانِ إذَا تَبَايَعَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ جَازَ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ تَبَايَعَا مِنْ غَيْرِ مَالِ الشَّرِكَةِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمَا فِي غَيْرِ مَالِ الشَّرِكَةِ أَجْنَبِيَّانِ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ دَيْنٌ فَبَاعَهُ مَوْلَاهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ. (أَمَّا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ عِنْدَهُ، فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ لَكِنْ مِلْكًا مَحْجُورًا عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ، فَكَانَ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ وَكَذَلِكَ الْمَوْلَى إذَا عَاقَدَ مُكَاتَبَهُ عَقْدَ الرِّبَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي حَقِّ الِاكْتِسَابِ مُلْحَقٌ بِالْأَحْرَارِ لِانْقِطَاعِ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى عَنْهَا، فَأَشْبَهَ الْأَجَانِبَ. (وَأَمَّا) إسْلَامُ الْمُتَبَايِعِينَ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَرَيَانِ الرِّبَا، فَيَجْرِي الرِّبَا بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ إنْ لَمْ يَكُونُوا مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 161] . وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَتَبَ إلَى مَجُوسِ هَجَرَ: إمَّا أَنْ تَذَرُوا الرِّبَا، أَوْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ، وَهَذَا فِي نِهَايَةِ الْوَعِيدِ فَيَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الْحُرْمَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الْخُلُوُّ عَنْ احْتِمَالِ الرِّبَا، فَلَا تَجُوزُ الْمُجَازَفَةُ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الرِّبَا كَمَا هِيَ مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ فَاحْتِمَالُ الرِّبَا مُفْسِدٌ لَهُ أَيْضًا، لِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا وَقَدْ غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا جَازَتْ فِيهِ الْمُفَاضَلَةُ جَازَ فِيهِ الْمُجَازَفَةُ، وَمَا لَا فَلَا؛ لِأَنَّ التَّمَاثُلَ وَالْخُلُوَّ عَنْ الرِّبَا فِيمَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا لَمَّا كَانَ شَرْطَ الصِّحَّةِ فَلَا يُعْلَمُ تَحْقِيقُ الْمُمَاثَلَةِ بِالْمُجَازَفَةِ، فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي وُجُودِ شَرْطِ الصِّحَّةِ، فَلَا تَثْبُتُ الصِّحَّةُ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ إذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي وُجُودِ شَرْطِهِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ، كَمَا أَنَّ الثَّابِتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ فِي مَسَائِلَ: إذَا تَبَايَعَا حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ مُجَازَفَةً فَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا كَيْلَهُمَا، أَوْ عَلِمَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، أَوْ عَلِمَا كَيْلَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ عُلِمَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْكَيْلِ، فَإِنْ عُلِمَ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ وَإِنْ طَالَ فَلَهُ حُكْمُ حَالَةِ الْعَقْدِ فَكَأَنَّهُ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِنْ عُلِمَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَمْ يَجُزْ وَقَالَ زُفَرُ: يَجُوزُ، عُلِمَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْكَيْلِ عِنْدَ الْعَقْدِ لِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ الْمَشْرُوطَةِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ ثَابِتَةً عِنْدَهُ. (وَلَنَا) أَنَّ عِلْمَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِالْمُسَاوَاةِ عِنْدَ الْعَقْدِ شَرْطُ الصِّحَّةِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ عِنْدَ الْعَقْدِ شَرْطُ الصِّحَّةِ - أَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَ رِعَايَةَ الْمُمَاثَلَةِ عِنْدَ الْبَيْعِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» ، أَيْ: بِيعُوا الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، أَمَرَ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْبَيْعِ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ الْمُمَاثَلَةُ مَعْلُومَةً لَهُمَا عِنْدَ الْبَيْعِ لِتُمَكِّنَهُمَا مِنْ رِعَايَةِ هَذَا الشَّرْطِ وَكَذَا لَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ حِنْطَةٌ فَاقْتَسَمَاهَا مُجَازَفَةً لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهَا مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، فَيُشْبِهُ الْبَيْعَ، وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِيهَا مُجَازَفَةً فَكَذَا الْقِسْمَةُ. وَلَوْ تَبَايَعَا حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ،

وَزْنًا بِوَزْنٍ مُتَسَاوِيًا فِي الْوَزْنِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ مَكِيلَةٌ، وَالتَّسَاوِي فِي الْكَيْلِ شَرْطُ جَوَازِ الْبَيْعِ فِي الْمَكِيلَاتِ، وَلَا تُعْلَمُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْكَيْلِ، فَكَانَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ مُجَازَفَةً وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْوَزْنِ فِيهَا تَصِيرُ وَزْنِيَّةً، وَيَعْتَبِرُ التَّسَاوِي فِيهَا بِالْوَزْنِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ كَيْلِيَّةٌ وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ الْمُزَابَنَةُ وَالْمُحَاقَلَةُ أَنَّهُمَا لَا يَجُوزَانِ؛ لِأَنَّ الْمُزَابَنَةَ بَيْعُ التَّمْرِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِمِثْلِ كَيْلِهِ مِنْ التَّمْرِ خَرْصًا لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَكْثَرُ، وَالزَّبِيبِ بِالْعِنَبِ لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَكْثَرُ وَالْمُحَاقَلَةُ بَيْعُ الْحَبِّ فِي السُّنْبُلِ بِمِثْلِ كَيْلِهِ مِنْ الْحِنْطَةِ خَرْصًا لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَكْثَرُ. فَكَانَ هَذَا بَيْعَ مَالِ الرِّبَا مُجَازَفَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْكَيْلِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ» ، وَفَسَّرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُزَابَنَةَ وَالْمُحَاقَلَةَ فِي الْمُوَطَّإِ بِمَا قُلْنَا، وَهُوَ كَانَ إمَامًا فِي اللُّغَةِ كَمَا كَانَ إمَامًا فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَالَ: كَذَلِكَ الْجَوَابُ إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، فَأَمَّا مَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِالتَّمْرِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ» ، فَقَدْ رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جُمْلَةِ مَا حَرَّمَ مِنْ الْمُزَابَنَةِ مَا دُونَ خَمْسَةٍ، وَالْمُرَخَّصُ مِنْ جُمْلَةِ مَا حُرِّمَ يَكُونُ مُبَاحًا وَتَفْسِيرُ الْعَرِيَّةِ - عِنْدَنَا - مَا ذَكَرَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي الْمُوَطَّإِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ نَخِيلٌ فَيُعْطِيَ رَجُلًا مِنْهَا ثَمَرَةَ نَخْلَةٍ أَوْ نَخْلَتَيْنِ يَلْقُطُهُمَا لِعِيَالِهِ، ثُمَّ يَثْقُلَ عَلَيْهِ دُخُولُهُ حَائِطَهُ، فَيَسْأَلَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ لَهُ عَنْهَا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بِمَكِيلَتِهَا تَمْرًا عِنْدَ إصْرَامِ النَّخْلِ - وَذَلِكَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَا بَيْعَ هُنَاكَ، بَلْ التَّمْرُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ، فَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ لَهُ ثَمَرُ النَّخْلِ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ بِمَكِيلَتِهَا مِنْ التَّمْرِ، إلَّا أَنَّهُ سَمَّاهُ الرَّاوِي بَيْعًا لِتَصَوُّرِهِ بِصُوَرِ الْبَيْعِ، لَا أَنْ يَكُونَ بَيْعًا حَقِيقَةً، بَلْ هُوَ عَطِيَّةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُعْرَى لَهُ لِانْعِدَامِ الْقَبْضِ؟ فَكَيْفَ يُجْعَلُ بَيْعًا؟ وَلِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ بَيْعًا لَكَانَ بَيْعَ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ إلَى أَجَلٍ - وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ، دَلَّ أَنَّ الْعَرِيَّةَ الْمُرَخَّصَ فِيهَا لَيْسَتْ بِبَيْعٍ حَقِيقَةً، بَلْ هِيَ عَطِيَّةٌ، وَلِأَنَّ الْعَرِيَّةَ هِيَ الْعَطِيَّةُ لُغَةً، قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَيْسَتْ بِسَنْهَاءَ وَلَا رَجَبِيَّةٍ ... وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ. وَلَوْ اشْتَرَى بِكُرٍّ مِنْ تَمْرٍ نَخْلًا عَلَيْهَا ثَمَرٌ، وَسَمَّى التَّمْرَ أَوْ ذَكَرَ كُلَّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ مِنْهُ حَتَّى دَخَلَ فِي الْبَيْعِ يُرَاعَى فِي جَوَازِهِ طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَيْلُ التَّمْرِ أَكْثَرَ مِنْ كَيْلِ الثَّمَرِ؛ لِيَكُونَ الثَّمَرُ بِمِثْلِهِ وَالزِّيَادَةُ بِإِزَاءِ النَّخْلِ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ التَّمْرَ يَكُونُ بِمِثْلِ كَيْلِهِ، وَزِيَادَةُ التَّمْرِ مَعَ النَّخْلِ تَكُونُ زِيَادَةً لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ، فَيَكُونُ رِبًا. وَكَذَا إذَا كَانَ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّ النَّخْلَ يَكُونُ فَضْلًا لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَكَذَا إذَا كَانَ لَا يُدْرَى عِنْدَنَا، خِلَافًا لِزُفَرَ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - ثُمَّ إنَّمَا يَجُوزُ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ إذَا كَانَ التَّمْرُ نَقْدًا، فَإِنْ كَانَ نَسِيئَةً لَمْ يَجُزْ لِتَحَقُّقِ رِبَا النَّسَاءِ هَذَا إذَا كَانَ ثَمَرُ النَّخْلِ بُسْرًا أَوْ رُطَبًا أَوْ تَمْرًا يَابِسًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَإِنْ كَانَ كُفُرَّى جَازَ الْبَيْعُ كَيْفَ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْكُفُرَّى بِالتَّمْرِ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ كَيْفَ مَا كَانَ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ التَّمْرُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ، ثُمَّ أَثْمَرَ النَّخْلُ قَبْلَ الْقَبْضِ كُرًّا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ الْكُرِّ - لَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ التَّمْرُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ، ثُمَّ أَثْمَرَ النَّخْلُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَبَاعَهُ مَعَ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ، وَكَيْلُ التَّمْرِ مِثْلُ كَيْلِ ثَمَرِ النَّخْلِ، أَوْ أَقَلُّ - حَيْثُ يَفْسُدُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَيْنِ أَدْخَلَا الرِّبَا فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُمَا قَابَلَا الثَّمَنَ بِكُلِّ الْمَبِيعِ فَانْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا، وَبَعْضُ الْمَبِيعِ مَالُ الرِّبَا، فَدَخَلَ الرِّبَا فِي الْعَقْدِ بِاشْتِرَاطِهِمَا، وَاشْتِرَاطُ الرِّبَا فِي الْعَقْدِ مُفْسِدٌ لَهُ، وَهَهُنَا الْبَيْعُ كَانَ صَحِيحًا فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ خِلَافُ جِنْسِ الْمَبِيعِ، إذْ الْمَبِيعُ هُوَ النَّخْلُ وَحْدَهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا زَادَ فَقَدْ صَارَ مَبِيعًا فِي حَالِ الْبَقَاءِ لَا بِصُنْعِهِمَا، فَبَقِيَ الْبَيْعُ صَحِيحًا، وَالزِّيَادَةُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي، وَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ النَّخْلِ وَقِيمَةِ الزِّيَادَةِ، لَكِنْ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ النَّخْلِ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَقِيمَةُ الزِّيَادَةِ وَقْتَ الْقَبْضِ، فَيَطِيبُ لَهُ مِنْ التَّمْرِ قَدْرُ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ فَضَلَ لَهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ بِبَدَلٍ، وَلَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ. وَلَوْ قَضَى الثَّمَنَ مِنْ التَّمْرِ الْحَادِثِ يُنْظَرُ، إنْ قَضَاهُ مِنْهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَقَضَاؤُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مِنْهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ أَكَلَهُ الْبَائِعُ تَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ الثَّمَنَ، ثُمَّ قَضَى مِنْهُ جَازَ

الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ - وَإِنَّهُ جَائِزٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا زَادَ عَلَى حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ - وَالْقِيمَةُ فِيهِمَا - مُجَازَفَةٌ وَلَوْ تَبَايَعَا حِنْطَةً بِشَعِيرٍ، أَوْ ذَهَبًا بِفِضَّةٍ مُجَازَفَةً جَازَ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي بَيْعِ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ، وَلِهَذَا جَازَتْ الْمُفَاضَلَةُ فِيهِ، فَالْمُجَازَفَةُ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ الْقِيمَةُ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ بَيْعُ الْمَوْزُونِ بِجِنْسِهِ وَغَيْرِ جِنْسِهِ، كَمَا إذَا اشْتَرَى فِضَّةً مَعَ غَيْرِهَا بِفِضَّةٍ مُفْرَدَةٍ، بِأَنْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلًّى بِفِضَّةٍ مُفْرَدَةٍ، أَوْ مِنْطَقَةً مُفَضَّضَةً، أَوْ لِجَامًا أَوْ سَرْجًا أَوْ سِكِّينًا مُفَضَّضًا، أَوْ جَارِيَةً فِي عُنُقِهَا طَوْقٌ مِنْ فِضَّةٍ، أَوْ اشْتَرَى ذَهَبَا وَغَيْرَهُ بِذَهَبٍ مُفْرَدٍ، كَمَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا مَنْسُوجًا بِالذَّهَبِ بِذَهَبٍ مُفْرَدٍ، أَوْ جَارِيَةً مَعَ حِلْيَتِهَا - وَحُلِيُّهَا ذَهَبٌ - بِذَهَبٍ مُفْرَدٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُجَازَفَةً عِنْدَنَا، بَلْ يُرَاعَى فِيهِ طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَزْنُ الْفِضَّةِ الْمُفْرَدَةِ، أَوْ الذَّهَبِ الْمُفْرَدِ أَكْثَرَ مِنْ الْمَجْمُوعِ مَعَ غَيْرِهِ؛ لِيَكُونَ قَدْرُ وَزْنِ الْمُفْرَدِ بِمِثْلِهِ مِنْ الْمَجْمُوعِ، وَالزِّيَادَةُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، فَإِنْ كَانَ وَزْنُ الْمُفْرَدِ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِ الْمَجْمُوعِ لَمْ يَجُزْ - لِأَنَّ زِيَادَةَ وَزْنِ الْمَجْمُوعِ مَعَ خِلَافِ الْجِنْسِ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، فَيَكُونُ رِبًا وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي الْوَزْنِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ الْفِضَّةُ بِمِثْلِهَا، وَالذَّهَبُ بِمِثْلِهِ، فَالْفَضْلُ يَكُونُ رِبًا وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَا يُعْلَمُ وَزْنُهُ أَنَّهُ أَكْثَرُ أَوْ مِثْلُهُ أَوْ أَقَلُّ، أَوْ اخْتَلَفَ أَهْلُ النَّظَرِ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الثَّمَنُ أَكْثَرُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِثْلُهُ - لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: إنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ جَوَازُهُ، وَالْفَسَادُ بِعَارِضِ الرِّبَا، وَفِي وُجُودِهِ شَكٌّ، فَلَا يَثْبُتُ الْفَسَادُ بِالشَّكِّ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْفَسَادِ فِي هَذَا الْعَقْدِ أَكْثَرُ مِنْ جِهَةِ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ وَزْنَ الْمُفْرَدِ لَوْ كَانَ أَقَلَّ يُفْسِدُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مِثْلَهُ، وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ يَجُوزُ، فَجَازَ مِنْ وَجْهٍ وَفَسَدَ مِنْ وَجْهَيْنِ، فَكَانَتْ الْغَلَبَةُ لِجِهَةِ الْفَسَادِ، وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ، ثُمَّ إذَا كَانَ وَزْنُ الْمُفْرَدِ أَكْثَرَ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ، فَيَجْتَمِعُ فِي هَذَا الْعَقْدِ صَرْفٌ - وَهُوَ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، أَوْ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ -، وَبَيْعٌ مُطْلَقٌ - وَهُوَ بَيْعُ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ بِخِلَافِ جِنْسِهَا - فَيُرَاعَى فِي الصَّرْفِ شَرَائِطُهُ وَسَنَذْكُرُ شَرَائِطُ الصَّرْفِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا فَاتَ شَيْءٌ مِنْ الشَّرَائِطِ حَتَّى فَسَدَ الصَّرْفُ هَلْ يَتَعَدَّى الْفَسَادُ إلَى الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا إذَا اشْتَرَى فِضَّةً مَعَ غَيْرِهَا بِفِضَّةٍ مُفْرَدَةٍ، أَوْ ذَهَبًا مَعَ غَيْرِهِ بِذَهَبٍ مُفْرَدٍ، فَأَمَّا إذَا اشْتَرَى ذَهَبًا مَعَ غَيْرِهِ بِفِضَّةٍ مُفْرَدَةٍ، أَوْ فِضَّةً مَعَ غَيْرِهَا بِذَهَبٍ مُفْرَدٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَا رِبَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُقَسَّمُ الْمُفْرَدُ عَلَى قِيمَةِ الْمَجْمُوعِ وَقِيمَةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ، فَمَا كَانَ بِمُقَابَلَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ يَكُونُ صَرْفًا؛ فَيُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ الصَّرْفِ، وَمَا كَانَ بِمُقَابَلَةِ غَيْرِهِ يَكُونُ بَيْعًا مُطْلَقًا، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي بَيَانِ شَرَائِطِ الصَّرْفِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ بَيْعُ تُرَابِ مَعْدِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، أَمَّا تُرَابُ مَعْدِنِ الْفِضَّةِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بَاعَهُ بِفِضَّةٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاعَهُ بِغَيْرِهَا، فَإِنْ بَاعَهُ بِفِضَّةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ عَلَى مَا فِي التُّرَابِ مِنْ الْفِضَّةِ لَا عَلَى التُّرَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَالْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْفِضَّتَيْنِ لَيْسَتْ بِمَعْلُومَةٍ، فَكَانَ هَذَا الْبَيْعُ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ - مُجَازَفَةً - فَلَا يَجُوزُ. وَإِنْ بَاعَهُ بِذَهَبٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الرِّبَا لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَيُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ الصَّرْفِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يَخْلُصْ مِنْهُ شَيْءٌ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، فَصَارَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَخْصًا عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حُرٌّ، أَوْ اشْتَرَى شَاةً مَسْلُوخَةً عَلَى أَنَّهَا مَذْبُوحَةٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مَيِّتَةٌ، فَإِنْ خَلَصَ مِنْهُ شَيْءٌ فَالْأَمْرُ مَاضٍ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا فِي سَقَطٍ، أَوْ سَمَكَةً فِي جُبٍّ، وَلَوْ بَاعَهُ بِعِوَضٍ جَازَ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ خَلَصَ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ لَمْ يَخْلُصْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ بَاعَهُ بِتُرَابِ مَعْدِنٍ مِثْلِهِ مِنْ الْفِضَّةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ، وَلَا يُعْلَمُ تَسَاوِيهِمَا فِي الْوَزْنِ، فَكَانَ بَيْعَ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً، وَلَوْ بَاعَهُ بِتُرَابِ مَعْدِنِ الذَّهَبِ جَازَ؛ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَيُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ الصَّرْفِ، ثُمَّ إنْ لَمْ يَخْلُصْ مِنْهُ شَيْءٌ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ. وَكَذَا إنْ خَلَصَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَخْلُصْ مِنْ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ الْمَالَ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِنْ خَلَصَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالْأَمْرُ مَاضٍ، وَلَهُمَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرٍ مَا لَمْ يَرَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ تُرَابُ مَعْدِنِ الْفِضَّةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاقْتَسَمَاهُ - لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهَا مَعْنَى الْبَيْعِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْمُجَازَفَةَ كَالْبَيْعِ وَلَوْ بَاعَ مِنْهُ قَفِيزًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِذَهَبٍ أَوْ بِعَرَضٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَا فِي التُّرَابِ مِنْ الْفِضَّةِ، وَإِنَّهُ

مَجْهُولُ الْقَدْرِ؛ لِأَنَّهُ مُتَفَاوِتٌ: مِنْهُ قَفِيزٌ يَخْلُصُ مِنْهُ خَمْسَةٌ، وَمِنْهُ قَفِيزٌ يَخْلُصُ مِنْهُ عَشَرَةٌ، فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْقَفِيزِ مِنْ صُبْرَةٍ؛ لِأَنَّ قُفْزَانَ الصُّبْرَةِ الْوَاحِدَةِ مُتَمَاثِلَةٌ فَلَمْ يَكُنْ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ. وَلَوْ بَاعَ نِصْفَ جُمْلَةِ التُّرَابِ، أَوْ ثُلُثَهَا، أَوْ رُبُعَهَا شَائِعًا بِذَهَبٍ أَوْ عَرَضٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا إلَّا إذَا لَمْ يَخْلُصْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ فَاسِدًا لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ خَلَصَ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَكُونُ مَا خَلَصَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهَا، وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ وَلَوْ اسْتَقْرَضَ تُرَابَ الْمَعْدِنِ جَازَ، وَعَلَى الْمُسْتَقْرِضِ مِثْلُ مَا خَلَصَ مِنْهُ وَقَبَضَ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ وَقَعَ عَلَى مَا يَخْلُصُ مِنْهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ فِي قَدْرِ مَا قَبَضَ وَخَلُصَ وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِنِصْفِ هَذَا التُّرَابِ أَوْ بِثُلُثِهِ أَوْ بِرُبُعِهِ - يَجُوزُ إنْ خَلَصَ مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا يَجُوزُ لَوْ بِيعَ مِنْهُ شَيْءٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ فَاسِدًا لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ خَلَصَ مِنْهُ شَيْءٌ فَيَكُونُ أَجْرُهُ مِمَّا خَلَصَ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِتُرَابِ الْمَعْدِنِ بِعَيْنِهِ جَازَتْ الْإِجَارَةُ إنْ خَلَصَ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ بِمَالِ، وَالْأَجِيرِ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ آجَرَ نَفْسَهُ بِمَا لَمْ يَرَهُ، فَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ وَرَجَعَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِأَجْرِ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِقَفِيزٍ مِنْ تُرَابٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَا فِي التُّرَابِ مِنْ الْفِضَّةِ، وَإِنَّهُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا وَلَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ لَمْ يَخْلُصْ لَا يَجُوزُ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ وَعَلَى هَذَا حُكْمُ تُرَابِ مَعْدِنِ الذَّهَبِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) تُرَابُ الصَّاغَةِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فِضَّةٌ خَالِصَةٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ تُرَابِ مَعْدِنِ الْفِضَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ذَهَبٌ خَالِصٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ تُرَابِ مَعْدِنِ الذَّهَبِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ أَوْ مِثْلَهُ - فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِذَهَبٍ وَفِضَّةٍ جَازَ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى ذَهَبًا وَفِضَّةً بِذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فَيَجُوزُ، وَيُصْرَفُ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ، وَيُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ الصَّرْفِ وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِعَرَضٍ جَازَ؛ لِانْعِدَامِ احْتِمَالِ الرِّبَا، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا خَلَصَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَإِنْ لَمْ يَخْلُصْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ فَاسِدًا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ الَّتِي الْغِشُّ فِيهَا هُوَ الْغَالِبُ بِفِضَّةٍ خَالِصَةٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ الْمَضْرُوبَةَ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ: إمَّا أَنْ تَكُونَ الْفِضَّةُ فِيهَا هِيَ الْغَالِبَةُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْغِشُّ فِيهَا هُوَ الْغَالِبُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفِضَّةُ وَالْغِشُّ فِيهَا عَلَى السَّوَاءِ: فَإِنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ فِيهَا هِيَ الْغَالِبَةُ بِأَنْ كَانَ ثُلُثَاهَا فِضَّةً وَثُلُثُهَا صُفْرًا، أَوْ كَانَتْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا فِضَّةً وَرُبُعُهَا صُفْرًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ - فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ، لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَكَذَا بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ لَا يَجُوزُ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْغَالِبِ وَإِلْحَاقُ الْمَغْلُوبِ بِالْعَدَمِ هُوَ الْأَصْلُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلِأَنَّ الدَّرَاهِمَ الْجِيَادَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ غِشٍّ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ لَا تَنْطَبِعُ بِدُونِهِ عَلَى مَا قِيلَ، فَكَانَ قَلِيلُ الْغِشِّ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ لِلْغَلَبَةِ وَإِنْ كَانَ الْغِشُّ فِيهَا هُوَ الْغَالِبُ فَإِنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ لَا تَخْلُصُ بِالذَّوْبِ وَالسَّبْكِ بَلْ تَحْتَرِقُ وَيَبْقَى النُّحَاسُ - فَحُكْمُهَا حُكْمُ النُّحَاسِ الْخَالِصِ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ فِيهَا إذَا كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً كَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ، فَيُعْتَبَرُ كُلُّهُ نُحَاسًا لَا يُبَاعُ بِالنُّحَاسِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ. وَإِنْ كَانَتْ تَخْلُصُ مِنْ النُّحَاسِ وَلَا تَحْتَرِقُ، وَيَبْقَى النُّحَاسُ عَلَى حَالِهِ أَيْضًا - فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حَالِهِ، وَلَا يُجْعَلُ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ، كَأَنَّهُمَا مُنْفَصِلَانِ، مُمْتَازَانِ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ تَخْلِيصُ أَحَدِهِمَا مِنْ صَاحِبِهِ عَلَى وَجْهٍ يَبْقَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الذَّوْبِ وَالسَّبْكِ - لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُسْتَهْلَكًا - فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِفِضَّةٍ خَالِصَةٍ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْفِضَّةُ الْخَالِصَةُ أَكْثَرَ مِنْ الْفِضَّةِ الْمَخْلُوطَةِ، يُصْرَفُ إلَى الْفِضَّةِ الْمَخْلُوطَةِ مِثْلُهَا مِنْ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ، وَالزِّيَادَةُ إلَى الْغِشِّ، كَمَا لَوْ بَاعَ فِضَّةً وَصُفْرًا مُمْتَازَيْنِ بِفِضَّةٍ خَالِصَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ الْخَالِصَةُ أَقَلَّ مِنْ الْمَخْلُوطَةِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْفِضَّةِ الْمَخْلُوطَةِ مَعَ الصُّفْرِ يَكُونُ فَضْلًا خَالِيًا مِنْ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، فَيَكُونُ رِبًا، وَكَذَا إذَا كَانَتْ مِثْلَهَا، لِأَنَّ الصُّفْرَ يَكُونُ فَضْلًا لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ، وَكَذَا إذَا كَانَ لَا يُدْرَى قَدْرُ الْفِضَّتَيْنِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ، أَوْ هُمَا سَوَاءٌ - لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْحُجَجَ فِيمَا قَبْلُ وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ إذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ ثُلُثَاهَا صُفْرًا وَثُلُثهَا فِضَّةٌ، وَلَا يُقْدَرُ أَنْ يُخَلَّصَ الْفِضَّةُ مِنْ الصُّفْرِ، وَلَا يُدْرَى إذَا خُلِّصَتْ أَيَبْقَى الصُّفْرُ أَمْ يَحْتَرِقُ، أَنَّهُ يُرَاعَى فِي بَيْعِ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ بِفِضَّةٍ خَالِصَةٍ طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ، ثُمَّ إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ الْخَالِصَةُ أَكْثَرَ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ - يَكُونُ هَذَا صَرْفًا وَبَيْعًا

مُطْلَقًا، فَيُرَاعَى فِي الصَّرْفِ شَرَائِطُهُ، وَإِذَا فَسَدَ بِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْهُ يَفْسُدُ الْبَيْعُ فِي الصُّفْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَمَيُّزُهُ إلَّا بِضَرَرٍ، وَبَيْعُ مَا لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ عَنْ غَيْرِهِ إلَّا بِضَرَرٍ فَاسِدٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَوْ بِيعَتْ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ بِذَهَبٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الرِّبَا، وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ يَمْنَعُ تَحْقِيقَ الرِّبَا، لَكِنْ يُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ الصَّرْفِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ، وَإِذَا فَاتَ شَرْطٌ مِنْهُ حَتَّى فَسَدَ يَفْسُدُ الْبَيْعُ فِي الصُّفْرِ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ بِيعَتْ بِجِنْسِهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ جَازَ مُتَسَاوِيًا وَمُتَفَاضِلًا، نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ. وَيُصْرَفُ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ، كَمَا لَوْ بَاعَ فِضَّةً مُنْفَصِلَةً وَصُفْرًا مُنْفَصِلًا بِفِضَّةٍ وَصُفْرٍ مُنْفَصِلَيْنِ، وَقَالُوا فِي السَّتُّوقَةِ إذَا بِيعَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا: إنَّهُ يَجُوزُ، وَيُصْرَفُ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ، وَمَشَايِخُنَا لَمْ يُفْتُوا فِي ذَلِكَ إلَّا بِالتَّحْرِيمِ احْتِرَازًا عَنْ فَتْحِ بَابِ الرِّبَا، وَقَالُوا فِي الدَّرَاهِمِ الْقَطْرُ يُفْنِيهِ يَجُوزُ بَيْعُ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ أَوْ خَمْسَةٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ فِضَّةٍ؛ لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ يَكُونُ بِمِثْلِ وَزْنِهَا مِنْ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ، وَزِيَادَةُ الْفِضَّةِ تَكُونُ بِمُقَابَلَةِ الصُّفْرِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ سِتَّةٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ فِضَّةٍ؛ لِأَنَّ الصُّفْرَ الَّذِي فِيهَا يَبْقَى فَضْلًا خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَيَكُونُ رِبًا، وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُفْتِي بِجَوَازِ هَذَا. وَإِنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ وَالْغِشُّ فِيهَا سَوَاءً فَلَمْ يَقْطَعْ مُحَمَّدٌ الْجَوَابَ فِيهِ فِي الْجَامِعِ، لَكِنَّهُ بَنَاهُ عَلَى قَوْلِ الصَّيَارِفَةِ، وَحَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ الْفِضَّةَ وَالصُّفْرَ إذَا خُلِطَا لَا تَتَمَيَّزُ الْفِضَّةُ مِنْ الصُّفْرِ حَتَّى يَحْتَرِقَ الصُّفْرُ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَمَيَّزَانِ إلَّا بِذَهَابِ أَحَدِهِمَا، وَالصُّفْرُ أَسْرَعُهُمَا ذَهَابًا، فَقَالَ فِي هَذِهِ الدَّرَاهِمِ: إنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ هِيَ الْغَالِبَةُ، أَيْ: عَلَى مَا يَقُولُهُ الصَّيَارِفَةُ أَنَّ الصُّفْرَ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الِاحْتِرَاقُ عِنْدَ الْإِذَابَةِ وَالسَّبْكِ - فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ، وَلَا بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ كَبَيْعِ الزُّيُوفِ بِالْجِيَادِ؛ لِأَنَّ الصُّفْرَ إذَا كَانَ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الِاحْتِرَاقُ كَانَ مَغْلُوبًا مُسْتَهْلَكًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَبَقِيَا عَلَى السَّوَاءِ - يُعْتَبَرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِيَالِهِ كَأَنَّهُمَا مُنْفَصِلَانِ، وَيُرَاعَى فِي بَيْعِهِمَا بِالْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ كَمَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَسَاوِيًا وَمُتَفَاضِلًا، وَيُصْرَفُ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ كَمَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَهَلْ يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ عَدَدًا؟ . (أَمَّا) النَّوْعُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا كَانَتْ فِضَّتُهُ غَالِبَةً عَلَى غِشِّهِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ إلَّا وَزْنًا؛ لِأَنَّ الْغِشَّ إذَا كَانَ مَغْلُوبًا فِيهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عَدَدًا؛ لِأَنَّهَا وَزْنِيَّةٌ فَلَمْ يُعْتَبَرْ الْعَدَدُ فِيهَا، فَكَانَ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُجَازَفَةً فَلَمْ يَجُزْ فَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا مُبَادَلَةٌ حَقِيقَةً، أَوْ فِيهَا شُبْهَةُ الْمُبَادَلَةِ فَيَجِبُ صِيَانَتُهَا عَنْ الرِّبَا وَعَنْ شُبْهَةِ الرِّبَا، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ اسْتِقْرَاضُ الْكَيْلِيِّ وَزْنًا لِمَا أَنَّ الْوَزْنَ فِي الْكَيْلِيِّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَكَانَ إقْرَاضُهُ مُبَادَلَةَ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ مُجَازَفَةً، أَوْ شُبْهَةَ الْمُبَادَلَةِ فَلَمْ يَجُزْ، كَذَا هَذَا وَكَذَلِكَ النَّوْعُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ نِصْفُهُ فِضَّةً وَنِصْفُهُ صُفْرًا؛ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ عَلَى اعْتِبَارِ بَقَائِهَا وَذَهَابِ الصُّفْرِ فِي الْمَآلِ - عَلَى مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الصَّنْعَةِ - كَانَ مُلْحَقًا بِالدَّرَاهِمِ الزُّيُوفِ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ عَدَدًا. وَإِنْ كَانَ لَا يَغْلِبُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَيَبْقَيَانِ بَعْدَ السَّبْكِ عَلَى حَالِهِمَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلًا بِنَفْسِهِ، فَيُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِيَالِهِ، فَكَانَ اسْتِقْرَاضُ الْفِضَّةِ وَالصُّفْرِ جُمْلَةً عَدَدًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الصُّفْرَانِ كَانَ يُوجِبُ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّ الْفَلْسَ عَدَدِيٌّ، فَاعْتِبَارُ الْفِضَّةِ يَمْنَعُ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ وَزْنِيَّةٌ، فَالْحُكْمُ بِالْفَسَادِ عِنْدَ تَعَارُضِ جِهَتَيْ الْجَوَازِ، وَالْفَسَادُ أَحْوَطُ وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مَا كَانَ الْغِشُّ فِيهِ غَالِبًا وَالْفِضَّةُ مَغْلُوبَةً فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ النَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهِ وَزْنًا لَا عَدَدًا لَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ عَدَدًا؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ فِي الْمَوْزُونِ بَاطِلٌ فَكَانَ اسْتِقْرَاضُهُ مُبَادَلَةَ الْمَوْزُونِ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً، أَوْ شُبْهَةَ الْمُبَادَلَةِ - وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَإِنْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهِ عَدَدًا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ عَدَدًا؛ لِأَنَّهُمْ إذَا تَعَامَلُوا بِهِ عَدَدًا فَقَدْ أَلْحَقُوهُ بِالْفُلُوسِ، وَجَعَلُوا الْفِضَّةَ الَّتِي فِيهِ تَبَعًا لِلصُّفْرِ، وَإِنَّهُ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّهَا قَلِيلَةٌ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْفُلُوسِ فِي الْجُمْلَةِ قَلِيلُ فِضَّةٍ فَثَبَتَتْ التَّبَعِيَّةُ بِدَلَالَةِ التَّعَامُلِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ لَمْ تُوجَدْ فِيمَا إذَا تَعَامَلُوا بِهَا وَزْنًا لَا عَدَدًا، فَبَقِيَتْ وَزْنِيَّةً، فَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ عَدَدًا، وَإِنْ تَعَامَلَ النَّاسُ بِهَا عَدَدًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْفِضَّةِ تَبَعًا لِلْغِشِّ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْهُ أَوْ مِثْلُهُ، وَالْكَثِيرُ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْقَلِيلِ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّيْءِ لَا يَكُونُ تَبَعًا أَيْضًا، فَبَقِيَتْ عَلَى الصِّفَةِ الْأَصْلِيَّةِ الثَّابِتَةِ لَهَا شَرْعًا، وَهِيَ كَوْنُهَا وَزْنِيَّةً، فَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهَا مُجَازَفَةً، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُجَازَفَةً وَكَذَا الشِّرَاءُ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ عَدَدًا حُكْمُهُ حُكْمُ الِاسْتِقْرَاضِ سَوَاءٌ،

فَلَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ إلَّا وَزْنًا؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْجِيَادِ، وَأَنَّهَا وَزْنِيَّةٌ - فَلَمْ يَجُزْ الشِّرَاءُ بِهَا إلَّا وَزْنًا إذَا لَمْ يَكُنْ مُشَارًا إلَيْهَا. وَكَذَلِكَ بِالنَّوْعِ الثَّالِثِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الِاسْتِقْرَاضِ وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ فَالْأَمْرُ فِيهِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ أَنَّ النَّاسَ إنْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِهَا وَزْنًا لَا عَدَدًا لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْتَاعَ بِهَا عَدَدًا؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ صِفَةٌ أَصْلِيَّةٌ لِلدَّرَاهِمِ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ عَدَدِيَّةً بِتَعَامُلِ النَّاسِ، فَإِنْ جَرَى التَّعَامُلُ بِهَا وَزْنًا لَا عَدَدًا فَقَدْ تَقَرَّرَتْ الصِّفَةُ الْأَصْلِيَّةُ وَبَقِيَتْ وَزْنِيَّةً، فَإِذَا اشْتَرَى بِهَا عَدَدًا عَلَى غَيْرِ وَزْنٍ - وَالْعَدَدُ هَدْرٌ وَلَمْ تُوجَدْ الْإِشَارَةُ - فَقَدْ بَقِيَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى مَا وَزْنُ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْعَدَدِ الْمُسَمَّى فَيُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِهَا عَدَدًا عَلَى غَيْرِ وَزْنٍ وَلَكِنْ أَشَارَ إلَيْهَا فِيمَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْإِشَارَةِ حَيْثُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ وَزْنِهَا. وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا بَعْدَ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا لَكِنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِالْوَزْنِ إذَا كَانَ قَائِمًا، فَلَا يُمْنَعُ جَوَازُ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِهَا عَدَدًا جَازَ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ عَدَدِيَّةً بِتَعَامُلِ النَّاسِ، وَصَارَتْ كَالْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ، هَذَا إذَا اشْتَرَى بِالْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ عَدَدًا عَلَى وَزْنٍ وَلَمْ يُعَيِّنْهَا فَأَمَّا إذَا عَيَّنَهَا وَاشْتَرَى بِهَا عَرَضًا بِأَنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ هَذَا الْعَرَضَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، وَأَشَارَ إلَيْهَا - فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ الشِّرَاءِ بِهَا، وَلَا تَتَعَيَّنُ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهَا الْمُشْتَرِي لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَيُعْطَى مَكَانَهَا مِثْلَهَا مِنْ جِنْسِهَا وَنَوْعِهَا وَقَدْرِهَا وَصِفَتِهَا. (أَمَّا) النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ، وَأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا، وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهَلَاكِهَا فَكَذَا هَذِهِ. (وَأَمَّا) النَّوْعُ الثَّانِي فَلِأَنَّ الصِّفَةَ فِيهَا إنْ كَانَتْ هِيَ الْغَالِبَةُ عَلَى مَا يَقُولُهُ السَّبَّاكُونَ - فَهِيَ فِي حُكْمِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِيَالِهِ، فَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْفِضَّةِ لَا يُوجِبُ الْبُطْلَانَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ، وَاعْتِبَارَ الصُّفْرِ يُوجِبُ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ فَلَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ. (وَأَمَّا) النَّوْعُ الثَّالِثُ فَلِأَنَّ النَّاسَ إنْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهَا وَزْنًا فَهِيَ وَسَائِرُ الدَّرَاهِمِ سَوَاءٌ، فَلَا تَتَعَيَّنُ بِالْإِشَارَةِ، وَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِمِثْلِهَا فِي الذِّمَّةِ لَا بِعَيْنِهَا، فَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهَلَاكِهَا وَإِنْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهَا عَدَدًا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ، وَإِنَّهَا إذَا قُوبِلَتْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا فِي الْمُعَاوَضَاتِ لَا تَتَعَيَّنُ وَلَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا بَلْ بِمِثْلِهَا عَدَدًا، وَلَا يَبْطُلُ بِهَلَاكِهَا، كَذَا هَذَا وَلَوْ كَسَدَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَصَارَتْ لَا تَرُوجُ بَيْنَ النَّاسِ - فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْفُلُوسِ الْكَاسِدَةِ وَالسَّتُّوقِ وَالرَّصَاصِ حَتَّى تَتَعَيَّنَ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا، وَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا حَتَّى يَبْطُلَ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ سِلْعَةً، لَكِنْ قَالُوا: هَذَا إذَا كَانَ الْعَاقِدَانِ عَالِمَيْنِ بِحَالِ هَذِهِ، وَيَعْلَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الْآخَرَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ. فَأَمَّا إذَا كَانَا لَا يَعْلَمَانِ، أَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَعْلَمْ الْآخَرُ، أَوْ يَعْلَمَانِ لَكِنْ لَا يَعْلَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ يَعْلَمُ - فَإِنَّ الْعَقْدَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ وَلَا بِجِنْسِهَا، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّرَاهِمِ الرَّائِجَةِ الَّتِي عَلَيْهَا تَعَامُلُ النَّاسِ فِي تِلْكَ الْبَلَدِ هَذَا إذَا صَارَتْ بِحَيْثُ لَا تَرُوجُ أَصْلًا، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ يَقْبَلُهَا الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ، فَيَجُوزُ الشِّرَاءُ بِهَا، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا، بَلْ يَتَعَلَّقُ بِجِنْسِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ الزُّيُوفِ إنْ كَانَ الْبَائِعُ يَعْلَمُ بِحَالِهَا خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِجِنْسِ الزُّيُوفِ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ لَا يَعْلَمُ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِجِنْسِ الْمُشَارِ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَيِّدِ مِنْ نَقْدِ تِلْكَ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ إلَّا بِهِ إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ بِحَالِهَا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. ثُمَّ إنَّمَا لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهَلَاكِ الدَّرَاهِمِ فِي الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا إذَا كَانَ عَلِمَ عَدَدَهَا أَوْ وَزْنَهَا قَبْلَ الْهَلَاكِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَلِمَ ذَلِكَ يُمْكِنُ إعْطَاءُ مِثْلِهَا بَعْدَ هَلَاكِهَا، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَمْ يَعْلَمْ لَا عَدَدَهَا وَلَا وَزْنَهَا حَتَّى هَلَكَتْ - يَبْطُلُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ صَارَ مَجْهُولًا، إذْ الْمُشْتَرِي لَا يُمْكِنُهُ إعْطَاءُ مِثْلِ الدَّرَاهِمِ الْمُشَارِ إلَيْهَا. (وَمِنْهَا) الْخُلُوُّ مِنْ شُبْهَةِ الرِّبَا لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا، وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِوَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا بَاعَ رَجُلٌ شَيْئًا نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً، وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَنْقُدْ ثَمَنَهُ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِبَائِعِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْ مُشْتَرِيهِ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا بَيْعٌ اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ جَوَازِهِ، وَخَلَا عَنْ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ إيَّاهُ، فَلَا مَعْنَى لِلْحُكْمِ بِفَسَادِهِ، كَمَا إذَا اشْتَرَاهُ بَعْدَ نَقْدِ الثَّمَنِ وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَالَتْ: إنِّي ابْتَعْتُ

خَادِمًا مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِثَمَانِمِائَةٍ، ثُمَّ بِعْتُهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةٍ فَقَالَتْ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: بِئْسَ مَا شَرَيْتِ وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ، أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ لَمْ يَتُبْ. (وَوَجْهُ) الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أَلْحَقَتْ بِزَيْدٍ وَعِيدًا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ بِالرَّأْيِ، وَهُوَ بُطْلَانُ الطَّاعَةِ بِمَا سِوَى الرِّدَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قَالَتْهُ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَلْتَحِقُ الْوَعِيدُ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ، فَدَلَّ عَلَى فَسَادِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ مَعْصِيَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سَمَّتْ ذَلِكَ بَيْعَ سُوءٍ وَشِرَاءَ سُوءٍ، وَالْفَاسِدُ هُوَ الَّذِي يُوصَفُ بِذَلِكَ لَا الصَّحِيحُ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا الْبَيْعِ شُبْهَةَ الرِّبَا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ الثَّانِي يَصِيرُ قِصَاصًا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَبَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ زِيَادَةٌ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الرِّبَا، إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ ثَبَتَتْ بِمَجْمُوعِ الْعَقْدَيْنِ فَكَانَ الثَّابِتُ بِأَحَدِهِمَا شُبْهَةَ الرِّبَا، وَالشُّبْهَةُ فِي هَذَا الْبَابِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ لَا تَتَحَقَّقُ بَعْدَ الثَّمَنِ فَلَا تَتَمَكَّنُ الشُّبْهَةُ بِالْعَقْدِ، وَلَوْ نَقَدَا الثَّمَنَ كُلَّهُ إلَّا شَيْئًا قَلِيلًا فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَلَوْ اشْتَرَى مَا بَاعَ بِمِثْلِ مَا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ لِانْعِدَامِ الشُّبْهَةِ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ، وَلِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَاهُ بِالْأَثَرِ، وَالْأَثَرُ جَاءَ فِي الشِّرَاءِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. هَذَا إذَا اشْتَرَاهُ بِجِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِخِلَافِ الْجِنْسِ جَازَ؛ لِأَنَّ الرِّبَا لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ إلَّا فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ خَاصَّةً اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً فَالْتَحَقَا بِسَائِرِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمَا فِي الثَّمَنِيَّةِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا بِمَجْمُوعِ الْعَقْدَيْنِ، فَكَانَ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي شُبْهَةُ الرِّبَا، وَهِيَ الرِّبَا مِنْ وَجْهٍ وَلَوْ تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَبَاعَهُ مِنْ بَائِعِهِ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهُ - جَازَ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الثَّمَنِ يَكُونُ بِمُقَابَلَةِ نُقْصَانِ الْعَيْبِ، فَيَلْتَحِقُ النُّقْصَانُ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ بَاعَهُ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَاهُ، فَلَا تَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ الرِّبَا وَلَوْ خَرَجَ الْمَبِيعُ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَاشْتَرَاهُ الْبَائِعُ مِنْ الْمَالِكِ الثَّانِي بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ - جَازَ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْعَيْنِ فَيَمْنَعُ تَحَقُّقَ الرِّبَا. وَلَوْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فَاشْتَرَاهُ الْبَائِعُ مِنْ وَارِثِهِ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ - لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ لَمْ يَخْتَلِفْ، وَإِنَّمَا قَامَ الْوَارِثُ مَقَامَ الْمُشْتَرِي، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَيَرِدُ عَلَيْهِ وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا الْوَارِثُ، أَوْ كَانَ دَارًا فَبَنَى عَلَيْهَا، ثُمَّ وَرَدَ الِاسْتِحْقَاقُ فَأَخَذَ مِنْهُ قِيمَةَ الْوَلَدِ، وَنَقَضَ عَلَيْهِ الْبِنَاءَ - كَانَ لِلْوَارِثِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى بَائِعِ الْمُوَرَّثِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ كَمَا كَانَ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي لَوْ كَانَ حَيًّا؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُشْتَرِي، فَكَانَ الشِّرَاءُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ مِنْ الْمُشْتَرِي فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا مَاتَ الْبَائِعُ فَاشْتَرَى وَارِثُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ - أَنَّهُ يَجُوزُ إذَا كَانَ الْوَارِثُ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِلْبَائِعِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِيمَا وَرِثَهُ، وَوَارِثُ الْمُشْتَرِي وَرِثَ عَيْنَ الْمَبِيعِ فَقَامَ مَقَامَهُ فِي عَيْنِهِ، فَكَانَ الشِّرَاءُ مِنْهُ كَالشِّرَاءِ مِنْ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَجُزْ، وَوَارِثُ الْبَائِعِ وُرِّثَ الثَّمَنُ وَالثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، وَمَا عُيِّنَ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي لَا يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَيْنَ مَا وَرِثَهُ عَنْ الْبَائِعِ، فَلَمْ يَكُنْ وَارِثُ الْبَائِعِ مُقَامَةَ فِيمَا وَرِثَهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْ وَارِثِ الْبَائِعِ، كَمَا لَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْ وَارِثِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ خَلَفَ الْمُوَرِّثَ، فَالْمُشْتَرِي قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ فَعَادَ الْمَبِيعُ إلَى مِلْكِهِ فَاشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ - فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ عَادَ إلَيْهِ بِمِلْكٍ جَدِيدٍ، وَإِمَّا إنْ عَادَ إلَيْهِ عَلَى حُكْمِ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ فَإِنْ عَادَ إلَيْهِ بِمِلْكٍ جَدِيدٍ كَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْإِقَالَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ تَجْدِيدِ الْمِلْكِ - جَازَ الشِّرَاءُ مِنْهُ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْعَيْنِ. وَإِنْ عَادَ إلَيْهِ عَلَى حُكْمِ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ كَالرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَالرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَبِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَالرَّدِّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَبِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَبَعْدَ الْقَبْضِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي - لَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْهُ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يَكُونُ فَسْخًا، وَالْفَسْخُ يَكُونُ رَفْعًا مِنْ الْأَصْلِ وَإِعَادَةً إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ كَأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ أَصْلًا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ الشِّرَاءُ، فَكَذَا هَذَا. وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِهِ الْبَائِعُ لَكِنْ اشْتَرَاهُ بَعْضُ مِنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ كَالْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ

لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ الْبَائِعِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْنَبِيٌّ عَنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ لِانْفِصَالِ مِلْكِهِ عَنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ فَيَقَعُ عَقْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ لَا لِصَاحِبِهِ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ، ثُمَّ شِرَاءُ الْأَجْنَبِيِّ لِنَفْسِهِ جَائِزٌ فَكَذَا شِرَاؤُهُ لِصَاحِبِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَبِيعُ بِمَالِ صَاحِبِهِ عَادَةً حَتَّى لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ فَكَانَ مَعْنَى مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتًا لِصَاحِبِهِ فَكَانَ عَقْدُهُ وَاقِعًا لِصَاحِبِهِ مِنْ وَجْهٍ فَيُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ احْتِيَاطًا فِي بَابِ الرِّبَا وَلَوْ بَاعَ الْمَوْلَى ثُمَّ اشْتَرَاهُ مُدَبَّرُهُ أَوْ مُكَاتَبُهُ أَوْ بَعْضُ مَمَالِيكِهِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ الْمَوْلَى لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ عَنْ الْمَوْلَى. وَكَذَا لَوْ بَاعَ الْمُدَبَّرُ أَوْ الْمُكَاتَبُ أَوْ بَعْضُ مَمَالِيكِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْمَوْلَى لَا يَجُوزُ لِأَنَّ عَقْدَ هَؤُلَاءِ يَقَعُ لِلْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ، وَلَوْ كَانَ وَكِيلًا فَبَاعَ وَاشْتَرَى بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ بَاعَ وَاشْتَرَى الْمُوَكِّلُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْمَانِعَ تَمَكُّنُ شُبْهَةِ الرِّبَا وَأَنْ لَا يُفْصَلَ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكَّلِ وَلِذَا سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمْ تَسْتَفْسِرْ السَّائِلَةَ أَنَّهَا مَالِكَةٌ أَوْ وَكِيلَةٌ وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ لَاسْتَفْسَرَتْ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ الْوَكِيلُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْمُوَكِّلُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ وَكِيلُهُ لَمْ يَجُزْ فَإِذَا اشْتَرَاهُ بِنَفْسِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ الْوَكِيلُ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بَعْضُ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَكِيلِ لَهُ أَوْ بَعْضُ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُوَكِّلِ لَهُ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ عَلَى مَا مَرَّ. وَلَوْ بَاعَ، ثُمَّ وَكَّلَ بِنَفْسِهِ إنْسَانًا بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ فَاشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ فَهُوَ جَائِزٌ لِلْوَكِيلِ، وَالثَّمَنَانِ يَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا، وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَلَا تَطِيبُ لِلْبَائِعِ وَيَكُونُ مِلْكًا لَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: التَّوْكِيلُ فَاسِدٌ وَيَكُونُ الْوَكِيلُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: التَّوْكِيلُ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّهُ إذَا اشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِلْبَائِعِ شِرَاءً فَاسِدًا وَيَمْلِكُهُ الْبَائِعُ مِلْكًا فَاسِدًا وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ لَهُمْ فَأَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى الْعَاقِدِ وَيَعْتَبِرُ أَهْلِيَّتَهُ وَلَا يَعْتَبِرُ أَهْلِيَّةَ مَنْ يَقَعُ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: إنَّ الْمُسْلِمَ إذَا وَكَّلَ ذِمِّيًّا بِشِرَاءِ الْخَمْرِ أَوْ بَيْعِهَا أَنَّهُ يَجُوزُ، وَكَذَا الْمُحْرِمُ إذَا وَكَّلَ حَلَالًا بِبَيْعِ صَيْدٍ لَهُ أَوْ بِشِرَاءِ صَيْدٍ جَازَ التَّوْكِيلُ عِنْدَهُ، وَتُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الْوَكِيلِ. وَأَصْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ أَهْلِيَّةَ الْعَقْدِ لِلْعَقْدِ وَالْمَعْقُودِ لَهُ جَمِيعًا حَتَّى لَمْ يَجُزْ التَّوْكِيلُ عِنْدَهُمَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا خَالَفَ أَبَا يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَرَكَ أَصْلَهُ حَيْثُ قَالَ بِصِحَّةِ التَّوْكِيلِ وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى الْمُوَكِّلِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا وَكَّلَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيًّا بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مِنْ ذِمِّيٍّ عَبْدَهُ بِخَمْرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ الْعَبْدِ فَفَعَلَ الْوَكِيلُ صَحَّ الشِّرَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَكُونُ الْعَبْدُ لِلْمُوَكِّلِ وَعَلَى الْوَكِيلِ لِلْبَائِعِ الْخَمْرُ، وَهُوَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْخَمْرِ عَلَى مُوَكِّلِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ التَّوْكِيلُ فَاسِدٌ وَيَكُونُ الْوَكِيلُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ التَّوْكِيلُ صَحِيحٌ وَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِلْمُوَكِّلِ شِرَاءً فَاسِدًا وَلَوْ بَاعَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَالَّةٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مُؤَجَّلَةٍ فَالشِّرَاءُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْحَالَّةَ خَيْرٌ مِنْ الْمُؤَجَّلَةِ وَكَذَا لَوْ بَاعَ بِأَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ إلَى أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ الْأَجَلِ فَهُوَ فَاسِدٌ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفٍ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ وَعَبْدًا آخَرَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ فَإِنَّ الثَّمَنَ يُقَسَّمُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ قِيمَتَيْهِمَا ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ الْعَبْدِ الَّذِي بَاعَهُ مِثْلَ ثَمَنِهِ أَوْ أَكْثَرَ جَازَ الشِّرَاءُ فِيهِمَا جَمِيعًا، أَمَّا فِي الَّذِي لَمْ يَبِعْهُ فَظَاهِرٌ وَكَذَا فِي الَّذِي بَاعَهُ، لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا بَاعَ بِمِثْلِ مَا بَاعَ أَوْ بِأَكْثَرَ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ وَإِنَّهُ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ يَفْسُدُ الْبَيْعُ فِيهِ وَلَا يَفْسُدُ فِي الْآخَرِ، لِأَنَّ الْفَسَادَ لِكَوْنِهِ شِرَاءَ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ وَذَلِكَ وُجِدَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا ظَاهِرٌ، وَكَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَفْسُدَ فِيهِمَا، لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الصَّفْقَةَ مَتَى اشْتَمَلَتْ عَلَى إبْدَالٍ وَفَسَدَتْ فِي بَعْضِهَا أَنْ يَتَعَدَّى الْفَسَادُ إلَى الْكُلِّ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَبَاعَهُمَا جَمِيعًا صَفْقَةً وَاحِدَةً. وَإِنَّمَا لَمْ يَفْسُدْ فِيهِمَا، لِأَنَّ الْفَسَادَ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً فَقَدْ جَعَلَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا شَرْطًا لِقَبُولِ الْعَقْدِ فِي الْآخَرِ، وَالْحُرُّ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِقَبُولِ الْعَقْدِ فِيهِ بِيَقِينٍ فَلَا يَصِحُّ الْقَبُولُ فِيهِ فَلَا يَصِحُّ فِي الْآخَرِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ أَصْلًا وَالْفَسَادُ هَهُنَا بِاعْتِبَارِ شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ وَذَلِكَ وُجِدَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَيَفْسُدُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ اقْتِصَارُ الْفَسَادِ عَلَى قَدْرِ الْمُفْسِدِ، وَلِهَذَا لَوْ جَمَعَ بَيْن عَبْدَيْنِ وَبَاعَ أَحَدَهُمَا إلَى الْحَصَادِ أَوْ الدِّيَاسِ أَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ فِيمَا

فصل في شرائط الركن وهي نوعان نوع يرجع إلى نفس العقد ونوع يرجع إلى البدل

فِي بَيْعِهِ أَجَلٌ وَلَا يَفْسُدُ فِي الْآخَرِ، وَكَذَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي الْقِنِّ وَيَفْسُدُ فِي الْمُدَبَّرِ لِوُجُودِ الْمُفْسِدِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ كَذَا هَذَا. (وَمِنْهَا) قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ. وَهُوَ السَّلَمُ، وَالْكَلَامُ فِي السَّلَمِ فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ. أَحَدُهَا: فِي بَيَانِ رُكْنِهِ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَالثَّالِثُ: فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ وَمَا لَا يَجُوزُ. أَمَّا رُكْنُ السَّلَمِ فَهُوَ لَفْظُ السَّلَمِ وَالسَّلَفِ وَالْبَيْعِ بِأَنْ يَقُولَ رَبُّ السَّلَمِ: أَسْلَمْتُ إلَيْكَ فِي كَذَا أَوْ أَسْلَفْتُ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ وَالسَّلَفَ مُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يُقَالُ: سَلَّفْتُ وَأَسْلَفْتُ وَأَسْلَمْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَإِذَا قَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ: قَبِلْتُ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ، وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ: بِعْتُ مِنْكَ كَذَا وَذَكَرَ شَرَائِطَ السَّلَمِ، فَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ: قَبِلْتُ، وَهَذَا قَوْلُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ السَّلَمَ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ أَصْلًا، لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِجَوَازِهِ بِلَفْظِ السَّلَمِ بِقَوْلِهِ: وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ. (وَلَنَا) أَنَّ السَّلَمَ بَيْعٌ فَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بَيْعٌ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» نَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ عَامًّا، وَرُخِّصَ السَّلَمُ بِالرُّخْصَةِ فِيهِ فَدَلَّ أَنَّ السَّلَمَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ لِيَسْتَقِيمَ تَخْصِيصُهُ عَنْ عُمُومِ النَّهْيِ بِالتَّرَخُّصِ فِيهِ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ الرُّكْنِ وَهِيَ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَهِيَ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ. (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ فَوَاحِدٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بَاتًّا عَارِيًّا عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ لِلْعَاقِدَيْنِ أَوْ لِأَحَدِهِمَا، لِأَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ لِلْحَالِ، وَشَرْطُ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَهُ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، خُصُوصًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ، وَالسِّلْمُ لَيْسَ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْعَيْنِ فِيمَا شُرِعَ لَهُ الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الْغَبْنِ، وَالسَّلَمُ مَبْنَاهُ عَلَى الْغَبْنِ وَوَكْسِ الثَّمَنِ، لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ فَوُرُودُ النَّصِّ هُنَاكَ لَا يَكُونُ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهِ لِلْقِيَاسِ، وَلِأَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَلَا صِحَّةَ لِلْقَبْضِ إلَّا فِي الْمِلْكِ. وَخِيَارُ الشَّرْطِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فَيَمْنَعُ الْمُسْتَحِقُّ صِحَّةَ الْقَبْضِ بِخِلَافِ الْمُسْتَحَقِّ أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ السَّلَمَ حَتَّى لَوْ اسْتَحَقَّ رَأْسَ الْمَالِ وَقَدْ افْتَرَقَا عَنْ الْقَبْضِ وَأَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ فَالسَّلَمُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَجَازَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، وَكَذَا الْقَبْضُ إذْ الْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ وَبِخِلَافِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ، وَلَوْ أَبْطَلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بِأَبْدَانِهِمَا. وَرَأْسُ الْمَالِ قَائِمٌ فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ جَائِزًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا أَوْ مُسْتَهْلَكًا لَا يَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ يَصِيرُ دَيْنًا عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، وَالسَّلَمُ لَا يَنْعَقِدُ بِرَأْسِ مَالِ دَيْنٍ فَلَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ أَيْضًا. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ فَأَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ خَاصَّةً، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ خَاصَّةً، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ. فَأَنْوَاعٌ. (مِنْهَا) بَيَانُ جِنْسِهِ كَقَوْلِنَا: دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ أَوْ حِنْطَةٌ أَوْ تَمْرٌ. (وَمِنْهَا) بَيَانُ نَوْعِهِ إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ كَقَوْلِنَا: دَرَاهِمُ فَتْحِيَّةٌ أَوْ دَنَانِيرُ نَيْسَابُورِيَّةٌ أَوْ حِنْطَةٌ سَقِيَّةٌ أَوْ تَمْرٌ بَرْنِيُّ. (وَمِنْهَا) بَيَانُ صِفَتِهِ كَقَوْلِنَا: جَيِّدٌ أَوْ وَسَطٌ أَوْ رَدِيءٌ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَإِنَّهَا مَانِعَةٌ صِحَّةَ الْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ فِيمَا تَقَدَّمَ. (وَمِنْهَا) بَيَانُ قَدْرِهِ. إذَا كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ مِنْ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، وَلَا يُكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَالتَّعْيِينُ بِالْإِشَارَةِ كَافٍ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَلَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ مِنْ الذَّرْعِ يات وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ. لَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ قَدْرِهِ وَيُكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا إعْلَامُ قَدْرِ الثَّمَنِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَالْإِشَارَةُ كَافِيَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ: أَسْلَمْتُ إلَيْكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ أَوْ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ وَلَا يُعْرَفُ وَزْنُهَا أَوْ هَذِهِ الصُّبْرَةَ وَلَمْ يُعْرَفْ كَيْلُهَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ، وَلَوْ قَالَ

أَسْلَمْتُ إلَيْك هَذَا الثَّوْبَ وَلَمْ يُعْرَفْ ذَرْعُهُ أَوْ هَذَا الْقَطِيعَ مِنْ الْغَنَمِ وَلَمْ يُعْرَفْ عَدَدُهُ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ رَأْسِ الْمَالِ وَأَنَّهُ حَصَلَ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إعْلَامِ قَدْرِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ إعْلَامُ قَدْرِ الثَّمَنِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَلَا فِي السَّلَمِ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ تُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ قَدْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَأَنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ فَيَلْزَمُ إعْلَامُ قَدْرِهِ صِيَانَةً لِلْعَقْدِ عَنْ الْفَسَادِ مَا أَمْكَنَ كَمَا إذَا أَسْلَمَ فِي الْمَكِيلِ بِمِكْيَالِ نَفْسِهِ بِعَيْنِهِ، وَدَلَالَةً أَنَّهَا تُؤَدِّي إلَى مَا قُلْنَا: إنَّ الدَّرَاهِمَ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَادَةُ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ زَيْفٍ، وَقَدْ يَرِدُ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى بَعْضِهَا فَإِذَا رَدَّ الزَّائِفَ وَلَمْ يَسْتَبْدِلْ فِي مَجْلِس الرَّدِّ وَلَمْ يَتَجَوَّزْ الْمُسْتَحَقُّ يَنْفَسِخُ السَّلَمُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ بِقَدْرِ الْمَرْدُودِ وَالْمُسْتَحَقِّ وَيَبْقَى فِي الْبَاقِي، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَيَصِيرُ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَجْهُولَ الْقَدْرِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ السَّلَمُ فِي الْمَكِيلَاتِ بِقَفِيزٍ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ هَلَاكَ الْقَفِيزِ، فَيَصِيرُ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَجْهُولَ الْقَدْرِ فَلَمْ يَصِحَّ، كَذَا هَذَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ فَإِنَّ الزَّيْفَ وَالِاسْتِحْقَاقَ هُنَاكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، وَبِخِلَافِ الثِّيَابِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ فِيهَا مُلْحَقٌ بِالصِّفَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَسْلَمْتُ إلَيْكَ هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ فَوَجَدَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ أَحَدَ عَشَرَ سُلِّمَتْ الزِّيَادَةُ لَهُ فَثَبَتَ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا تَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ، وَإِعْلَامُ صِفَةِ رَأْسِ الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ السَّلَمِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا مُشَارًا إلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ جِنْسًا وَاحِدًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ فَأَسْلَمَهُ فِي جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ أَوْ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْهَرَوِيِّ وَالْمَرْوِيِّ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالسَّلَمُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ. وَلَوْ كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ كَالثَّوْبِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَفَاوِتِ فَأَسْلَمَهُ فِي شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ ثَمَنِ رَأْسِ الْمَالِ، فَالثَّمَنُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَأَسْلَمَهُمَا فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ كَوْنَ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ. (وَوَجْهُ) الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ إعْلَامَ الْقَدْرِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا عِنْدَهُ فَإِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ وَاحِدًا وَقُوبِلَ بِشَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَانَ انْقِسَامُهُ عَلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ لَا مِنْ حَيْثُ الْأَجْزَاءُ، وَحِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَيَبْقَى قَدْرُ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مَجْهُولًا، وَجَهَالَةُ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ مُفْسِدَةٌ لِلسَّلَمِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا إعْلَامُ قَدْرِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَجَهَالَتُهُ لَا تَكُونُ ضَارَّةً. وَلَوْ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي ثَوْبَيْنِ جِنْسُهُمَا وَاحِدٌ وَنَوْعُهُمَا وَاحِدٌ وَصِفَتُهُمَا وَاحِدَةٌ وَطُولُهُمَا وَاحِدٌ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَشَرَةِ فَالسَّلَمُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ. (أَمَّا عِنْدَهُمَا) فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ إعْلَامَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ تُعْرَفُ مِنْ غَيْرِ حَزْرٍ وَظَنٍّ فَكَانَ قَدْرُ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا وَصَارَ كَمَا إذَا أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي قَفِيزَيْ حِنْطَةٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ قَفِيزٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَلَوْ قَبَضَ الثَّوْبَيْنِ بَعْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسَةِ دَرَاهِمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَهُ ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُمَا جَمِيعًا مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ بَيْنَ حِصَّةِ كُلِّ ثَوْبٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ مُرَابَحَةً بِلَا خِلَافٍ، وَنَذْكُرُ دَلَائِلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلِ الْمُرَابَحَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ؛ (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا فِي مَجْلِسِ السَّلَمِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ، وَالِافْتِرَاقُ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ يَكُونُ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِمَا رُوِيَ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» أَيْ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ، وَلِأَنَّ مَأْخَذَ هَذَا الْعَقْدِ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَإِنَّهُ يُسَمَّى سَلَمًا وَسَلَفًا لُغَةً وَشَرْعًا، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَسْلَمْتُ وَأَسْلَفْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ» وَرُوِيَ «مَنْ سَلَّفَ فَلْيُسَلِّفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ» وَالسَّلَمُ يُنْبِئُ عَنْ التَّسْلِيمِ، وَالسَّلَفُ يُنْبِئُ عَنْ التَّقَدُّمِ فَيَقْتَضِي لُزُومَ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ وَيُقَدَّمُ قَبْضُهُ عَلَى قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: شَرْطُ الشَّيْءِ يَسْبِقُهُ أَوْ يُقَارِنُهُ، وَالْقَبْضُ يَعْقُبُ الْعَقْدَ فَكَيْفَ يَكُونُ شَرْطًا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ لَا شَرْطُ الصِّحَّةِ فَإِنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا بِدُونِ قَبْضٍ، ثُمَّ يَفْسُدُ بِالِافْتِرَاقِ لَا عَنْ قَبْضٍ وَبَقَاءُ الْعَقْدِ صَحِيحًا يَعْقُبُ

الْعَقْدَ وَلَا يَتَقَدَّمُهُ فَيَصْلُحُ الْقَبْضُ شَرْطًا لَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ إذَا كَانَ عَيْنًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَهَذَا افْتِرَاقٌ عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَإِنَّهُ جَائِزٌ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ يَكُونُ دَيْنًا عَادَةً وَلَا تُجْعَلُ الْعَيْنُ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ إلَّا نَادِرًا، وَالنَّادِرُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْغَائِبِ فَيَلْحَقُ بِالدَّيْنِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرْعِ فِي إلْحَاقِ الْمُفْرَدِ بِالْجُمْلَةِ، وَلِأَنَّ مَأْخَذَ الْعَقْدِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَسَوَاءٌ قَبَضَ فِي أَوَّلِ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي آخِرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ لَهَا حُكْمُ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَقْبِضْ حَتَّى قَامَا يَمْشِيَانِ فَقَبَضَ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا بِأَبْدَانِهِمَا. جَازَ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بِأَبْدَانِهِمَا لَهُ حُكْمُ الْمَجْلِسِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْإِبْرَاءُ عَنْ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِدُونِ قَبُولِ رَبِّ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ شَرْطُ صِحَّةِ السَّلَمِ فَلَوْ جَازَ الْإِبْرَاءُ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ وَفِيهِ إسْقَاطُ هَذَا الشَّرْطِ أَصْلًا لَكَانَ الْإِبْرَاءُ فَسْخًا مَعْنًى، وَأَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الْعَقْدِ فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ وَبَقِيَ عَقْدُ السَّلَمِ عَلَى حَالِهِ، وَإِذَا قَبِلَ جَازَ الْإِبْرَاءُ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِتَرَاضِيهِمَا وَإِنَّهُ جَائِزٌ. وَإِذَا جَازَ الْإِبْرَاءُ وَإِنَّهُ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ ضَرُورَةً بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ أَنَّهُ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِبْرَاءِ عَنْهُ إسْقَاطُ شَرْطٍ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ وَبِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ عَنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ الْمُشْتَرِي، إلَّا أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، لِأَنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ فَلَا يَلْزَمُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمِنَّةِ، وَلَا يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ. وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ، وَإِسْقَاطُ الْأَعْيَانِ لَا يُعْقَلُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الِاسْتِبْدَالُ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا فَبِالِاسْتِبْدَالِ يَفُوتُ قَبْضُهُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يُقْبَضُ بَدَلُهُ وَبَدَلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِبْدَالُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ أُعْطِيَ رَبُّ السَّلَمِ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ أَجْوَدَ أَوْ أَرْدَأَ، وَرَضِيَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْأَرْدَإِ: جَازَ، لِأَنَّهُ قَبَضَ جِنْسَ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْوَصْفُ، فَإِنْ كَانَ أَجْوَدَ فَقَدْ قَضَى حَقَّهُ وَأَحْسَنَ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ أَرْدَأَ فَقَدْ قَضَى حَقَّهُ أَيْضًا، لَكِنْ عَلَى وَجْهِ النُّقْصَانِ فَلَا يَكُونُ أَخْذُ الْأَجْوَدِ، وَالْأَرْدَإِ اسْتِبْدَالًا، إلَّا أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ الْأَرْدَإِ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَوَاتَ حَقِّهِ عَنْ صِفَةِ الْجَوْدَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ، وَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْأَخْذِ إذَا أَعْطَاهُ أَجْوَدَ مِنْ حَقِّهِ؟ قَالَ عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَقَالَ زُفَرُ لَا: يُجْبَرُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: إنَّ رَبَّ السَّلَمِ فِي إعْطَاءِ الزِّيَادَةِ عَلَى حَقِّهِ مُتَبَرِّعٌ، وَالْمُتَبَرِّعُ عَلَيْهِ لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ التَّبَرُّعِ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ الْمِنَّةِ فَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِهِ. (وَلَنَا) أَنَّ إعْطَاءَ الْأَجْوَدِ مَكَانَ الْجَيِّدِ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ لَا يُعَدُّ فَضْلًا وَزِيَادَةً فِي الْعَادَاتِ، بَلْ يُعَدُّ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ فِي الْقَضَاءِ وَلَوَاحِقِ الْإِيفَاءِ فَإِذَا أَعْطَاهُ الْأَجْوَدَ فَقَدْ قَضَى حَقَّ صَاحِبِ الْحَقِّ وَأَجْمَلَ فِي الْقَضَاءِ فَيُجْبَرُ عَلَى الْأَخْذِ. (وَأَمَّا) الِاسْتِبْدَالُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ بِجِنْسٍ آخَرَ فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا لَكِنْ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ آخَرَ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ مَنْقُولٌ، وَبَيْعُ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أَعْطَى أَجْوَدَ أَوْ أَرْدَأَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ رَأْسِ الْمَالِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. (وَأَمَّا) اسْتِبْدَالُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ بِجِنْسٍ آخَرَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ أَوْ بَعْدَ انْفِسَاخِ السَّلَمِ الْعَارِضِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَيَجُوزُ اسْتِبْدَالُ بَدَلِ الصَّرْفِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ، وَالْفَرْقُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَتَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ عَلَى رَجُلٍ حَاضِرٍ، وَالْكَفَالَةُ بِهِ لِوُجُودِ رُكْنِ هَذِهِ الْعُقُودِ مَعَ شَرَائِطِهِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ فَلَوْ امْتَنَعَ الْجَوَازُ فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ لِمَكَانِ الْخَلَلِ فِي شَرْطِ عَقْدِ السَّلَمِ وَهُوَ الْقَبْضُ، وَهَذِهِ الْعُقُودُ لَا تُخِلُّ بِهَذَا الشَّرْطِ، بَلْ تُحَقِّقُهُ لِكَوْنِهَا وَسَائِلَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ فَكَانَتْ مُؤَكِّدَةً لَهُ هَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ شُرِعَتْ لِتَوْثِيقِ حَقٍّ يَحْتَمِلُ التَّأَخُّرَ عَنْ الْمَجْلِسِ فَلَا يَحْصُلُ مَا شُرِعَ لَهُ الْعَقْدُ فَلَا يَصِحُّ. وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ، لِأَنَّ مَعْنَى التَّوْثِيقِ يَحْصُلُ فِي الْحَقَّيْنِ جَمِيعًا فَجَازَ الْعَقْدُ فِيهِمَا جَمِيعًا، ثُمَّ إذَا جَازَتْ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ، فَإِنْ قَبَضَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ الْكَفِيلِ أَوْ مِنْ رَبِّ السَّلَمِ فَقَدْ تَمَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَا فِي الْمَجْلِسِ، سَوَاءٌ بَقِيَ الْحَوِيلُ وَالْكَفِيلُ أَوْ افْتَرَقَا بَعْدَ أَنْ كَانَ الْعَاقِدَانِ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنْ افْتَرَقَا الْعَاقِدَانِ بِأَنْفُسِهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ

بَطَلَ السَّلَمُ وَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ، وَإِنْ بَقِيَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ وَالْكَفِيلُ فِي الْمَجْلِسِ، فَالْعِبْرَةُ لِبَقَاءِ الْعَاقِدَيْنِ وَافْتِرَاقِهِمَا لَا لِبَقَاءِ الْحَوِيلِ وَالْكَفِيلِ وَافْتِرَاقِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَقِيَامُ الْعَقْدِ بِالْعَاقِدَيْنِ، فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ مَجْلِسَهُمَا، وَعَلَى هَذَا الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ أَنَّهُمَا جَائِزَانِ لِمَا قُلْنَا، لَكِنَّ التَّقَابُضَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَبْلَ تَفَرُّقِ الْعَاقِدَيْنِ بِأَبْدَانِهِمَا شَرْطٌ، وَافْتِرَاقُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَالْكَفِيلِ لَا يَضُرُّ لِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ افْتَرَقَ الْعَاقِدَانِ بِأَبْدَانِهِمَا قَبْلَ التَّقَابُضِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بَطَلَ الصَّرْفُ وَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ كَمَا فِي السَّلَمِ. (وَأَمَّا) الرَّهْنُ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي الْمَجْلِسِ، وَقِيمَتُهُ مِثْلُ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ أَكْثَرُ فَقَدْ تَمَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ مُسْتَوْفِيًا لِرَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ مَضْمُونٌ، وَقَدْ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ بِالْهَلَاكِ وَعَلَى الرَّاهِنِ مِثْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ فِي الْمَالِيَّةِ فَيَتَقَاصَّانِ فَحَصَلَ الِافْتِرَاقُ عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فَتَمَّ عَقْدُ السَّلَمِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ تَمَّ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ وَيَبْطُلُ فِي الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِقَدْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَهْلِكْ الرَّهْنُ حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ السَّلَمُ لِحُصُولِ الِافْتِرَاقِ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ، وَعَلَيْهِ رَدُّ الرَّهْنِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَكَذَا هَذَا الْحُكْمُ فِي بَدَلِ الصَّرْفِ إذَا أَخَذَ بِهِ رَهْنًا أَنَّهُ إنْ هَلَكَ الرَّهْنُ قَبْلَ افْتِرَاقِ الْعَاقِدَيْنِ بِأَبْدَانِهِمَا تَمَّ عَقْدُ الصَّرْفِ؛ لِأَنَّهُ بِالْهَلَاكِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا، وَإِنْ لَمْ يَهْلِكْ حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ الصَّرْفُ لِفَوَاتِ شَرْطِ الصِّحَّةِ وَهُوَ الْقَبْضُ كَمَا فِي السَّلَمِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ فَأَسْلَمَهُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ وَلَمْ يُوجَدْ حَقِيقَةً فَيَكُونُ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ. فَإِنْ نَقَدَهُ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ إنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْمَانِعَ هَهُنَا لَيْسَ إلَّا انْعِدَامَ الْقَبْضِ حَقِيقَةً، وَقَدْ زَالَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ نَقَدَهُ فِي الْمَجْلِسِ لَكِنْ هُنَاكَ مَانِعٌ آخَرُ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ عَلَى مَا مَرَّ، وَهَذَا الْمَانِعُ مُنْعَدِمٌ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ ذِمَّةَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فِي يَدِهِ فَكَانَ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ الْقَبْضِ وَإِذَا وُجِدَ جَازَ، وَلَوْ أَسْلَمَ دَيْنًا وَعَيْنًا وَافْتَرَقَا جَازَ فِي حِصَّةِ الْعَيْنِ وَبَطَلَ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْفَسَادَ بِقَدْرِ الْمُفْسِدِ. وَالْمُفْسِدُ عَدَمُ الْقَبْضِ وَإِنَّهُ يَخُصُّ الدَّيْنَ فَيَفْسُدُ السَّلَمُ بِقَدْرِهِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ وَلَمْ يَقْبِضْهُمَا حَتَّى هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي الْهَالِكِ وَيَبْقَى فِي الْآخَرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَبَضَ رَأْسَ الْمَالِ ثُمَّ انْتَقَصَ الْقَبْضَ فِيهِ بِمَعْنًى أَوْجَبَ انْتِقَاصَهُ أَنَّهُ يَبْطُلُ السَّلَمُ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ جُمْلَةَ رَأْسِ الْمَالِ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ عَيْنًا وَهُوَ مَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ دَيْنًا وَهُوَ مَا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالْعَيْنُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تُوجَدَ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا، وَالدَّيْنُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُوجَدَ مُسْتَحَقًّا أَوْ زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً أَوْ سُتُّوقًا أَوْ رَصَاصًا، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ، وُجِدَ كُلُّهُ كَذَلِكَ أَوْ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ أَحَدُ الْمُتَصَارِفَيْنِ إذَا وُجِدَ بَدَلُ الصَّرْفِ كَذَلِكَ فَهُوَ عَلَى التَّفَاصِيلِ الَّتِي ذَكَرْنَا، فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا فَوَجَدَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا. فَإِنْ لَمْ يُجِزْ الْمُسْتَحِقُّ وَلَمْ يَرْضَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْعَيْبِ يَبْطُلُ السَّلَمُ، سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ أَوْ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ انْتَقَضَ الْقَبْضَ فِيهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ، وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ فَيَحْصُلُ الِافْتِرَاقُ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ فَيَبْطُلُ السَّلَمُ. وَإِنْ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ وَرَضِيَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْعَيْبِ جَازَ السَّلَمُ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ قَبْضَهُ وَقَعَ صَحِيحًا فَحَصَلَ الِافْتِرَاقُ عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ أَوَّلًا، وَلَا سَبِيلَ لِلْمُسْتَحِقِّ عَلَى الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَجَازَ فَقَدْ صَارَ الْمَقْبُوضُ مِلْكًا لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى النَّاقِدِ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَبِقِيمَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالَهُ بِالتَّسْلِيمِ، وَكَذَا فِي الصَّرْفِ، غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ إذَا كَانَ الْبَدَلُ الْمُسْتَحَقُّ أَوْ الْمَعِيبُ عَيْنًا كَالتِّبْرِ، وَالْمَصُوغِ مِنْ الْفِضَّةِ وَلَمْ يُجِزْ الْمُسْتَحِقُّ، وَلَا رَضِيَ الْقَابِضُ بِالْمَعِيبِ حَتَّى بَطَلَ الصَّرْفُ يُرْجَعُ عَلَى قَابِضِ الدِّينَارِ بِعَيْنِ الدِّينَارِ إنْ كَانَ قَائِمًا وَبِمِثْلِهِ إنْ كَانَ هَالِكًا، وَلَا خِيَارَ لِقَابِضِ الدِّينَارِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ وَأَخَذَهُ الْمُسْتَحِقُّ. وَلَوْ كَانَ قَابِضُ الدِّينَارِ تَصَرَّفَ فِيهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ مِلْكِهِ لَا يُفْسَخُ عَلَيْهِ تَصَرُّفُهُ، وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ كَمَا فِي الْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ. هَذَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا فَأَمَّا إذَا كَانَ دَيْنًا، فَإِنْ وَجَدَهُ مُسْتَحَقًّا وَأَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ فَالسَّلَمُ مَاضٍ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْقَبْضَ كَانَ صَحِيحًا، وَلَا

سَبِيلَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْمَقْبُوضِ وَيَرْجِعُ عَلَى النَّاقِدِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِالتَّسْلِيمِ وَهُوَ مِثْلِيٌّ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَاسْتُبْدِلَ فِي الْمَجْلِسِ فَالسَّلَمُ مَاضٍ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ إذَا كَانَ دَيْنًا كَانَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّةِ رَبِّ السَّلَمِ مِثْلَ الْمُسْتَحَقِّ لَا عَيْنَهُ، فَقَبْضُ الْمُسْتَحَقِّ إنْ لَمْ يَصِحَّ أَوْ انْتَقَضَ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَعَدَمِ الْإِجَازَةِ، يَقُومُ قَبْضُ مِثْلِهِ مَقَامَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ وَيُلْحَقُ ذَلِكَ الَّذِي كَانَ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ وَأَخَّرَ الْقَبْضَ فِيهِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَيْنًا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُنَاكَ قَبْضُ الْعَيْنِ. وَقَدْ انْتَقَضَ الْقَبْضُ فِيهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَتَعَذَّرَ إقَامَةُ قَبْضِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فَجُعِلَ الِافْتِرَاقُ لَا عَنْ قَبْضٍ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ يَبْطُلُ السَّلَمُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ. هَذَا إذَا وَجَدَهُ مُسْتَحَقًّا، فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً، فَإِنْ تَجَوَّزَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ فَالسَّلَمُ مَاضٍ عَلَى الصِّحَّةِ، سَوَاءٌ وَجَدَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهَا دَرَاهِمُ لَكِنَّهَا مَعِيبَةٌ بِالزِّيَافَةِ وَفَوَاتِ صِفَةِ الْجَوْدَةِ، فَإِذَا تَجَوَّزَ بِهِ فَقَدْ أَبْرَأَهُ عَنْ الْعَيْبِ وَرَضِيَ بِقَبْضِ حَقِّهِ مَعَ النُّقْصَانِ، بِخِلَافِ السَّتُّوقِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ تَجَوَّزَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَجَوَّزْ بِهِ وَرَدَّهُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَاسْتَبْدَلَهُ فِي الْمَجْلِسِ، فَالْعَقْدُ مَاضٍ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ أَخَّرَ الْقَبْضَ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بَطَلَ السَّلَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، سَوَاءٌ اسْتَبْدَلَ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ أَوْ لَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ لَمْ يَسْتَبْدِلْ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ اسْتَبْدَلَ لَا يَبْطُلُ السَّلَمُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ قَبْضَ الزُّيُوفِ وَقَعَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ جِنْسَ الْحَقِّ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهَا جَازَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ لَمَا جَازَ كَالسَّتُّوقِ، إلَّا أَنَّهُ فَاتَتْهُ صِفَةُ الْجَوْدَةِ بِالزِّيَافَةِ فَكَانَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَصْلًا لَا وَصْفًا فَكَانَتْ الزِّيَافَةُ فِيهَا عَيْبًا، وَالْمَعِيبُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَعِيبًا وَبِالرَّدِّ يُنْتَقَضُ الْقَبْضُ لَكِنْ مَقْصُورًا عَلَى حَالَةِ الرَّدِّ وَلَا يَسْتَنِدُ الِانْتِقَاضُ إلَى وَقْتِ الْقَبْضِ فَيَبْقَى الْقَبْضُ صَحِيحًا، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ قَبْضُ بَدَلِهِ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِعَقْدِ السَّلَمِ الْقَبْضُ مَرَّةً وَاحِدَةً، إلَّا أَنَّهُ شُرِطَ؛ لِأَنَّ لِلرَّدِّ شِبْهًا بِالْعَقْدِ حَيْثُ لَا يَجِبُ الْقَبْضُ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ، إلَّا بِالرَّدِّ كَمَا لَا يَجِبُ الْقَبْضُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، إلَّا بِالْعَقْدِ فَأُلْحِقَ مَجْلِسُ الرَّدِّ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ حَقِّ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لَكِنْ أَصْلًا لَا وَصْفًا، وَلِهَذَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ بِفَوَاتِ حَقِّهِ عَنْ الْوَصْفِ فَكَانَ حَقُّهُ فِي الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ جَمِيعًا فَصَارَ بِقَبْضِ الزُّيُوفِ قَابِضًا حَقَّهُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ لَا مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ، إلَّا أَنَّهُ إذَا رَضِيَ بِهِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ عَنْ الْوَصْفِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ قَبْضُ الْأَصْلِ دُونَ الْوَصْفِ لِإِبْرَائِهِ إيَّاهُ عَنْ الْوَصْفِ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَقَدْ قَبَضَ حَقَّهُ فَيَبْطُلُ الْمُسْتَحَقُّ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ حَقَّهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ جَمِيعًا فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ. هَذَا إذَا وَجَدَهُ زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً، فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ سُتُّوقًا أَوْ رَصَاصًا، فَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بَطَلَ السَّلَمُ؛ لِأَنَّ السَّتُّوقَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ، أَلَا يُرَى أَنَّهَا لَا تَرُوجُ فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ فَلَمْ تَكُنْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَصْلًا وَوَصْفًا فَكَانَ الِافْتِرَاقُ عَنْ الْمَجْلِسِ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فَيَبْطُلُ السَّلَمُ، وَسَوَاءٌ تَجَوَّزَ بِهِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ كَانَ التَّجَوُّزُ بِهِ اسْتِبْدَالًا بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ الزُّيُوفِ فَإِنَّهَا مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِنْ وَجَدَهُ فِي الْمَجْلِسِ فَاسْتَبْدَلَ فَالسَّلَمُ مَاضٍ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ. وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَقَدْ بَقِيَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّةِ رَبِّ السَّلَمِ دَرَاهِمَ هِيَ حَقُّ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، فَإِذَا قَبَضَهَا فَقَدْ قَبَضَ حَقَّهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَالْتَحَقَ قَبْضُ السَّتُّوقِ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ أَصْلًا وَأَخَّرَ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، وَكَذَا فِي الصَّرْفِ غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ إذَا ظَهَرَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ حَتَّى بَطَلَ الصَّرْفُ فَقَابِضُ الدِّينَارِ يَسْتَرِدُّ دَرَاهِمَهُ السَّتُّوقَةَ وَقَابِضُ الدَّرَاهِمِ يَسْتَرِدُّ مِنْ قَابِضِ الدِّينَارِ عَيْنَ دِينَارِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا وَمِثْلَهُ إنْ كَانَ هَالِكًا، وَلَا خِيَارَ لِقَابِضِ الدِّينَارِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ قَبْضَهُ لَمْ يَصِحَّ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ لَا عَنْ قَبْضٍ فَيَبْطُلُ السَّلَمُ وَبَقِيَ الدِّينَارُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ فَأَشْبَهَ يَدَ الْغَصْبِ وَاسْتِحْقَاقَ الْمَبِيعِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ، وَهُنَاكَ يَسْتَرِدُّ عَيْنَهُ إنْ كَانَ قَائِمًا كَذَا هَهُنَا وَطَعَنَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَابِضُ الدِّينَارِ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ رَدَّ عَيْنَ الدِّينَارِ. وَإِنْ شَاءَ

رَدَّ مِثْلَهُ وَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ رَدُّ عَيْنِ الدِّينَارِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا فِي الْعَقْدِ، فَلَا يَكُونُ مُتَعَيِّنًا فِي الْفَسْخِ، وَالِاعْتِبَارُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ ظَهَرَ بُطْلَانُ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُجِزْ الْمُسْتَحِقُّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ بَاطِلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ وَهُنَاكَ الْعَقْدُ وَقَعَ صَحِيحًا وَإِنَّمَا بَطَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِعَارِضٍ طَرَأَ عَلَيْهِ بَعْدَ الصِّحَّةِ فَلَا يَظْهَرُ بُطْلَانُهُ مِنْ الْأَصْلِ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا أَخَذُوا بِقَوْلِ عِيسَى وَنَصَرُوهُ وَحَمَلُوا جَوَابَ الْكِتَابِ عَلَى مَا إذَا اخْتَارَ قَابِضُ الدِّينَارِ رَدَّ عَيْنِ الدِّينَارِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا وُجِدَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا أَوْ زُيُوفًا أَوْ سُتُّوقًا، فَأَمَّا إذَا وُجِدَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ فَفِي الِاسْتِحْقَاقِ إذَا لَمْ يُجِزْ الْمُسْتَحِقُّ يُنْقَصُ الْعَقْدُ بِقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ، سَوَاءٌ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ انْتَقَصَ فِيهِ بِقَدْرِهِ، وَكَذَا فِي السَّتُّوقِ، وَالرَّصَاصِ فَبَطَلَ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا بِالْإِجْمَاعِ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا هَذَا فِي الصَّرْفِ غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ قَابِضَ السَّتُّوقَةِ يَصِيرُ شَرِيكًا لِقَابِضِ الدِّينَارِ فِي الدِّينَارِ الَّذِي دَفَعَهُ بَدَلًا عَنْ الدَّرَاهِمِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَعَلَى قَوْلِ عِيسَى: قَابِضُ الدِّينَارِ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا فِي الزُّيُوفِ، وَالنَّبَهْرَجَةِ فَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يُنْقَصَ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ إذَا لَمْ يَتَجَوَّزْ، وَرَدَّهُ - اسْتَبْدَلَ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ أَوْ لَا - وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ قَبْضَ الْمَرْدُودِ لَمْ يَصِحَّ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فِي قَدْرِ الْمَرْدُودِ فَيَبْطُلُ السَّلَمُ بِقَدْرِهِ، إلَّا أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ فِي الْقَلِيلِ، وَقَالَ: إنْ كَانَ قَلِيلًا فَرَدَّهُ وَاسْتَبْدَلَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَالْعَقْدُ مَاضٍ فِي الْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِقَدْرِ الْمَرْدُودِ؛ لِأَنَّ الزِّيَافَةَ فِي الْقَلِيلِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَخْلُو عَنْ ذَلِكَ فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ، بِخِلَافِ الْكَثِيرِ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مَعَ اتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّ الثُّلُثَ قَلِيلٌ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ يَكُونُ كَثِيرًا، وَفِي رِوَايَةٍ النِّصْفِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ الزَّائِدُ عَلَى النِّصْفِ، وَكَذَا هَذَا فِي الصَّرْفِ غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ إذَا كَثُرَتْ الزُّيُوفُ فَرَدَّ حَتَّى بَطَلَ الْعَقْدُ فِي قَدْرِ الْمَرْدُودِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِيرُ شَرِيكًا لِقَابِضِ الدِّينَارِ فَيَسْتَرِدُّ مِنْهُ عَيْنَهُ. وَعَلَى قَوْلِ عِيسَى: قَابِضُ الدِّينَارِ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَوْ كَانَ تَصَرَّفَ فِيهِ أَوْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ لَا يُفْسَخُ عَلَيْهِ تَصَرُّفُهُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عَلَى مَا مَرَّ، وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ فِي السَّلَمِ وَالصَّرْفِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي عَقْدٍ تَتَعَلَّقُ صِحَّتُهُ بِالْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ مِمَّا سِوَى الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ كَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ دَنَانِيرُ فَصَالَحَ مِنْهَا عَلَى دَرَاهِمَ، أَوْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ مَكِيلٌ، أَوْ مَوْزُونٌ مَوْصُوفٌ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَّا يَثْبُتُ مِثْلُهُ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا فَصَالَحَ مِنْهَا عَلَى دَرَاهِمَ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْعُقُودِ مِمَّا يَكُونُ قَبْضُ الدَّرَاهِمِ فِيهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، فَقَبَضَ الدَّرَاهِمَ، ثُمَّ وَجَدَهَا مُسْتَحَقَّةً، أَوْ زُيُوفًا، أَوْ نَبَهْرَجَةً، أَوْ سَتُّوقَةً، أَوْ رَصَاصًا كُلَّهَا، أَوْ بَعْضَهَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، أَوْ بَعْدَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ مُقَاصَّةُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ بِدَيْنٍ آخَرَ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِأَنْ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُ رَأْسِ الْمَالِ أَنَّهُ هَلْ يَصِيرُ رَأْسُ الْمَالِ قِصَاصًا بِذَلِكَ الدَّيْنِ أَمْ لَا؟ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ وَجَبَ دَيْنٌ آخَرُ بِالْعَقْدِ. وَإِمَّا إنْ وَجَبَ بِعَقْدٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى عَقْدِ السَّلَمِ، وَإِمَّا إنْ وَجَبَ بِعَقْدٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْهُ، فَإِنْ وَجَبَ بِعَقْدٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى السَّلَمِ بِأَنْ كَانَ رَبُّ السَّلَمِ بَاعَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَمْ يَقْبِضْ الْعَشَرَةَ حَتَّى أَسْلَمَ إلَيْهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ، فَإِنْ جَعَلَا الدَّيْنَيْنِ قِصَاصًا، أَوْ تَرَاضَيَا بِالْمُقَاصَّةِ يَصِيرُ قِصَاصًا، وَإِنْ أَبَى أَحَدُهُمَا لَا يَصِيرُ قِصَاصًا وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِيرَ قِصَاصًا كَيْفَ مَا كَانَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ شَرْطٌ، وَالْحَاصِلُ بِالْمُقَاصَّةِ لَيْسَ بِقَبْضٍ حَقِيقَةً فَكَانَ الِافْتِرَاقُ حَاصِلًا لَا عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فَبَطَلَ السَّلَمُ. (وَلَنَا) أَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلْقَبْضِ حَقِيقَةً لَوْلَا الْمُقَاصَّةُ، فَإِذَا تَقَاصَّا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ مُوجِبًا قَبْضًا بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ، وَقَدْ وُجِدَ. وَنَظِيرُهُ مَا قُلْنَا فِي الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ أَنَّهَا جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا وَتَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ بِالزِّيَادَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى الْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَعَلَى الزِّيَادَةِ جَمِيعًا كَذَا هَذَا، وَإِنْ وَجَبَ بِعَقْدٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْ السَّلَمِ لَا يَصِيرُ قِصَاصًا وَإِنْ جَعَلَاهُ قِصَاصًا، إلَّا رِوَايَةً عَنْ أَبِي يُوسُفَ شَاذَّةً؛ لِأَنَّ بِالْمُقَاصَّةِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ مُوجِبًا قَبْضًا بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ تَسْتَدْعِي قِيَامَ دَيْنَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ عَقْدِ السَّلَمِ، إلَّا دَيْنٌ وَاحِدٌ فَانْعَقَدَ مُوجِبًا حَقِيقَةَ الْقَبْضِ وَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِالْمُقَاصَّةِ. هَذَا إذَا وَجَبَ الدَّيْنُ بِالْعَقْدِ، فَأَمَّا إذَا وَجَبَ بِالْقَبْضِ كَالْغَصْبِ

فصل في الشرط الذي يرجع إلى المسلم

وَالْقَرْضِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ قِصَاصًا، سَوَاءٌ جَعَلَاهُ قِصَاصًا، أَوْ لَا بَعْدَ أَنْ كَانَ وُجُوبُ الدَّيْنِ الْآخَرِ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ إنْ انْعَقَدَ مُوجِبًا قَبْضًا حَقِيقَةً فَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا لَكِنَّ قَبْضَ الْغَصْبِ وَالْقَرْضِ قَبْضٌ حَقِيقَةً فَيُجْعَلُ عَنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ، وَقَبْضُ الْغَصْبِ مَحْظُورٌ وَقَبْضُ الْقَرْضِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَكَانَ إيقَاعُهُ عَنْ الْوَاجِبِ أَوْلَى، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ الْقَبْضُ حَقِيقَةً، وَالْقَبْضُ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ يُمْكِنُ فِي أَحَدِ الْفَصْلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. هَذَا إذَا تَسَاوَى الدَّيْنَانِ، فَأَمَّا إذَا تَفَاضَلَا بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ، وَالْآخَرُ أَدْوَنَ فَرَضِيَ أَحَدُهُمَا بِالْقِصَاصِ وَأَبَى الْآخَرُ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ أَبَى صَاحِبُ الْأَفْضَلِ لَا يَصِيرُ قِصَاصًا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْجَوْدَةِ مَعْصُومٌ مُحْتَرَمٌ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَإِنْ أَبَى صَاحِبُ الْأَدْوَنِ يَصِيرُ قِصَاصًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ بِهِ صَاحِبُ الْأَفْضَلِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ عَنْ الْفَضْلِ كَأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ فَأَعْطَاهُ أَجْوَدَ مِمَّا عَلَيْهِ وَهُنَاكَ يُجْبَرُ عَلَى الْأَخْذِ كَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ الْمُقَاصَّةُ فِي ثَمَنِ الصَّرْفِ تَخْرُجُ عَلَى هَذِهِ التَّفَاصِيلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، فَافْهَمْ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ، وَهُوَ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ حَالَ بَقَاءِ الْعَقْدِ، فَأَمَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِهِ بِطَرِيقِ الْإِقَالَةِ، أَوْ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَقَبْضُهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ، بِخِلَافِ الْقَبْضِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَقَبْضِ بَدَلِ الصَّرْفِ فِي مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ أَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِقَالَةِ كَقَبْضِهِمَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْقَبْضَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ فِي الْبَابَيْنِ مَا هُوَ شَرْطٌ لِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ لِلتَّعْيِينِ، وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْبَدَلُ مُعَيَّنًا بِالْقَبْضِ صِيَانَةً عَنْ الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ فِي مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهُ فَيَعُودُ إلَيْهِ عَيْنُهُ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْوَاجِبُ نَفْسَ الْقَبْضِ فَلَا يُرَاعَى لَهُ الْمَجْلِسُ، بِخِلَافِ الصَّرْفِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لَا يَحْصُلُ، إلَّا بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ اسْتِبْدَالَهُ جَائِزٌ فَلَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ لِيَتَعَيَّنَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الشَّرْط الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُسْلَمِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا. (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ كَقَوْلِنَا: حِنْطَةٌ أَوْ شَعِيرٌ أَوْ تَمْرٌ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ النَّوْعِ. كَقَوْلِنَا: حِنْطَةٌ سَقِيَّةٌ أَوْ نَحِسِيَّةٌ، تَمْرٌ بَرْنِيُّ أَوْ فَارِسِيٌّ هَذَا إذَا كَانَ مِمَّا يَخْتَلِفُ نَوْعُهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ فَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ النَّوْعِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الصِّفَةِ. كَقَوْلِنَا: جَيِّدٌ أَوْ وَسَطٌ أَوْ رَدِيءٌ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ أَوْ الْعَدِّ أَوْ الذَّرْعِ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ النَّوْعِ، وَالْجِنْسِ، وَالصِّفَةِ، وَالْقَدْرِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَأَنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ، وَقَالَ النَّبِيُّ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» . (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِكَيْلٍ، أَوْ وَزْنٍ، أَوْ ذَرْعٍ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ فَقْدُهُ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ، فَإِنْ كَانَ لَا يُؤْمَنُ فَالسَّلَمُ فَاسِدٌ بِأَنْ أَعْلَمَ قَدْرَهُ بِمِكْيَالٍ لَا يُعْرَفُ عِيَارُهُ بِأَنْ قَالَ: بِهَذَا الْإِنَاءِ وَلَا يُعْلَمُ كَمْ يَسَعُ فِيهِ، أَوْ بِحَجَرٍ لَا يُعْرَفُ عِيَارُهُ بِأَنْ قَالَ: بِهَذَا الْحَجَرِ وَلَا يُعْلَمُ كَمْ وَزْنُهُ، أَوْ بِخَشَبَةٍ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهَا بِأَنْ قَالَ: بِهَذِهِ الْخَشَبَةِ وَلَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهَا، أَوْ بِذِرَاعِ يَدِهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ مِلْءَ هَذَا الْإِنَاءِ بِدِرْهَمٍ، أَوْ مِنْ هَذَا الزَّيْتِ وَزْنَ هَذَا الْحَجَرِ بِدِرْهَمٍ: يَجُوزُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ أَيْضًا كَمَا لَا يَجُوزُ فِي السَّلَمِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: لَا يَجُوزُ، ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ: يَجُوزُ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مُكَايَلَةٌ، وَالْعِلْمُ بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ فِي بَيْعِ الْمُكَايَلَةِ شَرْطُ الصِّحَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ فَيَفْسُدُ كَمَا لَوْ بَاعَ قُفْزَانًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ وَلِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْفَرْقُ بَيْنَ السَّلَمِ وَبَيْنَ بَيْعِ الْعَيْنِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ التَّسْلِيمَ فِي بَابِ السَّلَمِ لَا يَجِبُ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ الْإِنَاءَ قَبْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ إنْ لَمْ يَكُنْ غَالِبًا فَلَيْسَ بِنَادِرٍ أَيْضًا وَإِذَا هَلَكَ يَصِيرُ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَجْهُولَ الْقَدْرِ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ التَّسْلِيمَ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَهَلَاكُ الْقَفِيزِ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ نَادِرٌ، وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فَلَا يَصِيرُ الْمَبِيعُ مَجْهُولَ الْقَدْرِ، وَالثَّانِي - أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْعَقْدِ وَصِحَّتِهِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَائِتَةٌ فِي بَابِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ، وَفِي ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ شَكٌّ، قَدْ تَثْبُتُ وَقَدْ لَا تَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ إنْ بَقِيَ الْمِكْيَالُ وَالْحَجَرُ وَالْخَشَبَةُ تَثْبُتُ. وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَا يَقْدِرُ فَوَقَعَ

الشَّكُّ فِي ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ فَلَا تَثْبُتُ بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي غَيْرِ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ إذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِهِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ ثَابِتَةٌ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَفِي فَوَاتِهَا بِالْهَلَاكِ شَكٌّ فَلَا تَفُوتُ بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي الثَّابِتِ بِيَقِينٍ إذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي زَوَالِهِ أَنَّهُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْعِلْمَ بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ فِي بَيْعِ الْمُكَايَلَةِ شَرْطُ الصِّحَّةِ فَنَقُولُ: الْعِلْمُ بِذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ لِعَيْنِهِ بَلْ لِصِيَانَةِ الْعَقْدِ عَنْ الْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْجَهَالَةِ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِقَدْرِ الْمَبِيعِ بِالْكَيْلِ لِلْحَالِ، بِخِلَافِ بَيْعِ قُفْزَانٍ مِنْ الصُّبْرَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا طَرِيقَ لِلْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ فَالْمُشْتَرِي يُطَالِبُهُ بِزِيَادَةٍ، وَالْبَائِعُ لَا يُعْطِيهِ فَيَتَنَازَعَانِ فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ. وَقِيلَ: إنَّمَا يَجُوزُ هَذَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ الْإِنَاءُ مِنْ خَزَفٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مِثْلَ الزِّنْبِيلِ، وَالْجُوَالِقِ، وَالْغِرَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَكِيلًا فَعُلِمَ قَدْرُهُ بِالْوَزْنِ الْمَعْلُومِ أَوْ كَانَ مَوْزُونًا فَعُلِمَ قَدْرُهُ بِالْكَيْلِ الْمَعْلُومِ: جَازَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ كَوْنُهُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِمِعْيَارٍ يُؤْمَنُ فَقْدُهُ، وَقَدْ وُجِدَ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَكِيلَ بِالْمَكِيلِ وَزْنًا بِوَزْنٍ مُتَسَاوِيًا فِي الْوَزْنِ، أَوْ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِالْمَوْزُونِ كَيْلًا بِكَيْلٍ مُتَسَاوِيًا فِي الْكَيْلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يَتَسَاوَيَا فِي الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ السَّلَمِ كَوْنُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ، وَالْعِلْمُ بِالْقَدْرِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْكَيْلِ يَحْصُلُ بِالْوَزْنِ. فَأَمَّا شَرْطُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ فِيهَا بِاعْتِبَارِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ ثَبَتَ نَصًّا فَكَانَ بَيْعُهَا بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ مُجَازَفَةً فَلَا يَجُوزُ، أَمَّا فِي بَابِ السَّلَمِ فَاعْتِبَارُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَقَدْ حَصَلَ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُضْبَطَ قَدْرُهُ وَصِفَتُهُ بِالْوَصْفِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ إلَّا تَفَاوُتٌ يَسِيرٌ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ وَيَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ ضَبْطُ قَدْرِهِ وَصِفَتِهِ بِالْوَصْفِ يَبْقَى مَجْهُولَ الْقَدْرِ أَوْ الْوَصْفِ جَهَالَةً فَاحِشَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ وَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، أَمَّا الْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ؛ فَلِأَنَّهَا مُمْكِنَةُ الضَّبْطِ قَدْرًا وَصِفَةً عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ إلَّا تَفَاوُتٌ يَسِيرٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَكَذَلِكَ الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَقَارِبَةُ مِنْ الْجَوْزِ وَالْبَيْضِ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهَا يَسِيرَةٌ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَصَغِيرُ الْجَوْزِ وَالْبَيْضِ وَكَبِيرُهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي التَّنَازُعُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ التَّفَاوُتِ بَيْنَ النَّاسِ عَادَةً فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا عَدَدًا وَكَذَلِكَ كَيْلًا، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: إنَّ الْجَوْزَ وَالْبَيْضَ مِمَّا يَخْتَلِفُ وَيَتَفَاوَتُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبْرِ حَتَّى يُشْتَرَى الْكَبِيرُ مِنْهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا يُشْتَرَى الصَّغِيرُ فَأَشْبَهَ الْبِطِّيخَ، وَالرُّمَّانَ. (وَلَنَا) أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ صَغِيرِ الْجَوْزِ وَكَبِيرِهِ يَسِيرٌ أَعْرَضَ النَّاسُ عَنْ اعْتِبَارِهِ فَكَانَ سَاقِطَ الْعِبْرَةِ وَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ، بِخِلَافِ الرُّمَّانِ وَالْبِطِّيخِ فَإِنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ آحَادِهِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ وَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ. (وَأَمَّا) السَّلَمُ فِي الْفُلُوسِ عَدَدًا فَجَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفُلُوسَ أَثْمَانٌ عِنْدَهُ فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَعِنْدَهُمَا ثَمَنِيَّتُهَا لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ بَلْ تَحْتَمِلُ الزَّوَالَ؛ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ بِالِاصْطِلَاحِ فَتَزُولُ بِالِاصْطِلَاحِ، وَإِقْدَامُ الْعَاقِدَيْنِ عَلَى عَقْدِ السَّلَمِ فِيهَا مَعَ عِلْمِهِمَا أَنَّهُ لَا صِحَّةَ لِلسَّلَمِ فِي الْأَثْمَانِ اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا عَلَى إخْرَاجِهَا عَنْ صِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ فَتَبْطُلُ ثَمَنِيَّتُهَا فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ سَابِقًا عَلَى الْعَقْدِ وَتَصِيرُ سِلَعًا عَدَدِيَّةً فَيَصِحُّ السَّلَمُ فِيهَا كَمَا فِي سَائِرِ السِّلَعِ الْعَدَدِيَّةِ كَالنِّصَالِ وَنَحْوِهَا. (وَأَمَّا) الذَّرْعِيَّاتُ كَالثِّيَابِ، وَالْبُسُطِ، وَالْحَصِيرِ، وَالْبَوَارِي وَنَحْوِهَا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ السَّلَمُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ لِتَفَاوُتٍ فَاحِشٍ بَيْنَ ثَوْبٍ وَثَوْبٍ، وَلِهَذَا لَمْ تُضْمَنْ بِالْمِثْلِ فِي ضَمَانِ الْعَدَدِيَّاتِ بَلْ بِالْقِيمَةِ فَأَشْبَهَ السَّلَمَ فِي اللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي آيَةِ الدَّيْنِ: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} [البقرة: 282] ، وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ لَا يُقَالُ: فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الذَّرْعِيَّاتِ، وَالْعَدَدِيَّاتِ، وَلِأَنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوا السَّلَمَ فِي الثِّيَابِ لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى الْجَوَازِ فَيُتْرَكُ الْقِيَاسُ بِمُقَابِلَتِهِ، وَلِأَنَّهُ إذَا بَيَّنَ جِنْسَهُ وَصِفَتَهُ وَنَوْعَهُ

وَرِفْعَتَهُ وَطُولَهُ وَعَرْضَهُ يَتَقَارَبُ التَّفَاوُتُ فَيَلْحَقُ بِالْمِثْلِ فِي بَابِ السَّلَمِ شَرْعًا لِحَاجَةِ النَّاسِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِلْحَاقِ بِالْمِثْلِ فِي بَابِ الِاسْتِهْلَاكِ مَعَ مَا أَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَمَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ التَّفَاوُتِ الْيَسِيرِ مَا لَا يُحْتَمَلُ مِثْلُهُ فِي الْإِتْلَافَاتِ فَإِنَّ الْأَبَ إذَا بَاعَ مَالَ وَلَدِهِ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ جَازَ وَلَا يَضْمَنُ، وَلَوْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ مَالِهِ يَضْمَنُ فَلَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِبْدَالُ. هَذَا إذَا أَسْلَمَ فِي ثَوْبِ الْكِرْبَاسِ أَوْ الْكَتَّانِ، فَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ فِي ثَوْبِ الْحَرِيرِ فَهَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ بَيَانُ الْوَزْنِ بَعْدَ بَيَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالرِّفْعَةِ وَالطُّولِ وَالْعَرْضِ؟ إنْ كَانَ مِمَّا تَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ بِاخْتِلَافِ وَزْنِهِ مِنْ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ بَعْدَ التَّسَاوِي فِي الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالرِّفْعَةِ وَالطُّولِ وَالْعَرْضِ يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ بَعْدَ بَيَانِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَبْقَى جَهَالَتُهُ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْوَزْنِ فِيهِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَالْجَوَاهِرِ، وَاللَّآلِئِ، وَالْجَوْزِ، وَالْجُلُودِ، وَالْأُدُمِ، وَالرُّءُوسِ، وَالْأَكَارِعِ، وَالْبِطِّيخِ، وَالْقِثَّاءِ، وَالرُّمَّانِ، وَالسَّفَرْجَلِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا بِالْوَصْفِ إذْ يَبْقَى بَعْدَ بَيَانِ جِنْسِهَا وَنَوْعِهَا وَصِفَتِهَا وَقَدْرِهَا جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ لِتَفَاوُتٍ فَاحِشٍ بَيْنَ جَوْهَرٍ وَجَوْهَرٍ، وَلُؤْلُؤٍ وَلُؤْلُؤٍ، وَحَيَوَانٍ وَحَيَوَانٍ، وَكَذَا بَيْنَ جِلْدٍ وَجِلْدٍ، وَرَأْسٍ وَرَأْسٍ فِي الصِّغَرِ، وَالْكِبْرِ، وَالسِّمَنِ، وَالْهُزَالِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ هُنَا جَهَالَةُ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَقَدْ زَالَتْ بِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَالنَّوْعِ، وَالصِّفَةِ، وَالسِّنِّ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ مَعْلُومُ الْجِنْسَ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ فَكَانَ مَضْبُوطَ الْوَصْفِ، وَالتَّفَاوُتُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ، وَلِهَذَا وَجَبَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي النِّكَاحِ فَأَشْبَهَ الثِّيَابَ. (وَلَنَا) أَنَّ بَعْدَ بَيَانِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَبْقَى بَيْنَ فَرَسٍ وَفَرَسٍ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ فِي الْمَالِيَّةِ فَتَبْقَى جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَإِنَّهَا مَانِعَةٌ صِحَّةَ الْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ فِيمَا قَبْلُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ السَّلَفِ فِي الْحَيَوَانِ» ، وَالسَّلَفُ وَالسَّلَمُ وَاحِدٌ فِي اللُّغَةِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالنِّكَاحِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ جَهَالَةً لَا يَتَحَمَّلُهَا الْبَيْعُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْبَدَلِ وَبِبَدَلٍ مَجْهُولٍ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ، إلَّا بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ فَلَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِدْلَال وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي التِّبْنِ أَحْمَالًا أَوْ أَوْقَارًا؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْحِمْل وَالْحِمْلِ، وَالْوِقْرِ وَالْوِقْرِ مِمَّا يَفْحُشُ، إلَّا إذَا أَسْلَمَ فِيهِ بِقَبَّانٍ مَعْلُومٍ مِنْ قَبَابِينَ التُّجَّارِ فَلَا يَخْتَلِفُ فَيَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَطَبِ حُزَمًا وَلَا أَوْقَارًا لِلتَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ بَيْنَ حُزْمَةٍ وَحُزْمَةٍ، وَوِقْرٍ وَوِقْرٍ، وَكَذَا فِي الْقَصَبِ، وَالْحَشِيشِ، وَالْعِيدَانِ، إلَّا إذَا وَصَفَهُ بِوَصْفٍ يُعْرَفُ وَيَتَقَارَبُ التَّفَاوُتُ فَيَجُوزُ، وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي اللَّبِنِ، وَالْآجُرِّ إذَا سَمَّى مَلْبَنًا مَعْلُومًا لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَفَاوَتُ إلَّا يَسِيرًا. وَكَذَا فِي الطَّوَابِيقِ إذَا وَصَفَهَا بِوَصْفٍ يُعْرَفُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ لِلْجَهَالَةِ، فَإِذَا صَارَ مَعْلُومًا بِالْوَصْفِ جَازَ، وَكَذَا فِي طَشْتٍ أَوْ قُمْقُمَةٍ أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ إنْ كَانَ يُعْرَفُ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ حَقِيقَةً، وَالدَّيْنُ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحْصُلُ تَمَامُ مَعْرِفَتِهِ بِالْوَصْفِ بِأَنْ لَمْ تَبْقَ فِيهِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ اسْتَصْنَعَ رَجُلٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَجَلٍ جَازَ اسْتِحْسَانًا. وَالْكَلَامُ فِي الِاسْتِصْنَاعِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ جَوَازِهِ أَنَّهُ جَائِزٌ أَمْ لَا؟ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الِاسْتِصْنَاعِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ كَالسَّلَمِ بَلْ هُوَ أَبْعَدُ جَوَازًا مِنْ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ تَحْتَمِلُهُ الذِّمَّةُ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ حَقِيقَةً، وَالْمُسْتَصْنَعُ عَيْنٌ تُوجَدُ فِي الثَّانِي، وَالْأَعْيَانُ لَا تَحْتَمِلُهَا الذِّمَّةُ فَكَانَ جَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ أَبْعَدَ عَنْ الْقِيَاسِ عَنْ السَّلَمِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ جَازَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوهُ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى الْجَوَازِ فَيُتْرَكُ الْقِيَاسُ، ثُمَّ هُوَ بَيْعٌ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عِدَّةٌ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي جَوَازِهِ، وَذِكْرُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ لَا يَلِيقُ بِالْعِدَّاتِ، وَكَذَا ثَبَتَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِلْمُسْتَصْنِعِ وَإِنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ الْبُيُوعِ، وَكَذَا مِنْ شَرْطِ جَوَازِهِ أَنْ يَكُونَ فِيمَا لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ، وَالْعِدَّاتُ لَا يَتَقَيَّدُ جَوَازُهَا بِهَذِهِ الشَّرَائِطِ فَدَلَّ أَنَّ جَوَازَهُ جَوَازُ الْبِيَاعَاتِ لَا جَوَازُ الْعِدَّاتِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) شَرَائِطُ جَوَازِهِ. (فَمِنْهَا) بَيَانُ جِنْسِ الْمُسْتَصْنَعِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَالْعِلْمُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِأَشْيَاءَ. (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَا لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ كَالْقَلَنْسُوَةِ

وَالْخُفِّ وَالْآنِيَةِ وَنَحْوِهَا فَلَا يَجُوزُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ لَهُمْ فِيهِ كَمَا إذَا أَمَرَ حَائِكًا أَنْ يَحِيكَ لَهُ ثَوْبًا بِغَزْلِ نَفْسِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ تَجْرِ عَادَاتُ النَّاسِ بِالتَّعَامُلِ فِيهِ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ ثَبَتَ بِتَعَامُلِ النَّاسِ فَيَخْتَصُّ بِمَا لَهُمْ فِيهِ تَعَامُلٌ، وَيَبْقَى الْأَمْرُ فِيهَا وَرَاءَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَى الْقِيَاسِ. (وَأَمَّا) كَيْفِيَّةُ جَوَازِهِ فَهِيَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبْلَ رُؤْيَةِ الْمُسْتَصْنِعِ وَالرِّضَا بِهِ حَتَّى كَانَ لِلصَّانِعِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الصُّنْعِ وَأَنْ يَبِيعَ الْمَصْنُوعَ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ، وَلِلْمُسْتَصْنِعِ أَنْ يَرْجِعَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَجُوزَ أَصْلًا، إلَّا أَنَّ جَوَازَهُ ثَبَتَ اسْتِحْسَانًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ، وَحَاجَتُهُمْ قَبْلَ الصُّنْعِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْمُسْتَصْنِعِ وَالرِّضَا بِهِ أَقْرَبُ إلَى الْجَوَازِ دُونِ اللُّزُومِ فَيَبْقَى اللُّزُومُ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. (وَأَمَّا) حُكْمُ الِاسْتِصْنَاعِ فَحُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُسْتَصْنِعِ - إذَا أَتَى الصَّانِعُ بِالْمُسْتَصْنَعِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ - ثُبُوتُ مِلْكٍ غَيْرِ لَازِمٍ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ إذَا رَآهُ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَفِي حَقِّ الصَّانِعِ ثُبُوتُ مِلْكٍ لَازِمٍ إذَا رَآهُ الْمُسْتَصْنِعُ وَرَضِيَ بِهِ، وَلَا خِيَارَ لَهُ، وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَثْبُتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَازِمٌ فِي حَقِّهِمَا حَتَّى لَا خِيَارَ لِأَحَدِهِمَا لَا لِلصَّانِعِ وَلَا لِلْمُسْتَصْنِعِ أَيْضًا (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلْمُسْتَصْنِعِ إضْرَارًا بِالصَّانِعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَفْسَدَ مَتَاعَهُ وَفَرَى جِلْدَهُ وَأَتَى بِالْمُسْتَصْنَعِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فَلَوْ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ لَتَضَرَّرَ بِهِ الصَّانِعُ فَيَلْزَمُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ فِي اللُّزُومِ إضْرَارًا بِهِمَا جَمِيعًا، أَمَّا إضْرَارُ الصَّانِعِ فَلِمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَأَمَّا ضَرَرُ الْمُسْتَصْنِعِ فَلِأَنَّ الصَّانِعَ مَتَى لَمْ يَصْنَعْهُ، وَاتَّفَقَ لَهُ مُشْتَرٍ يَبِيعُهُ فَلَا تَنْدَفِعُ حَاجَةُ الْمُسْتَصْنِعِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ الْخِيَارُ لَهُمَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمَا. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ إثْبَاتُ الْخِيَارِ لِلْمُسْتَصْنِعِ لَا لِلصَّانِعِ أَنَّ الْمُسْتَصْنِعَ مُشْتَرٍ شَيْئًا لَمْ يَرَهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُسْتَصْنِعُ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا حَقِيقَةً لَكِنَّهُ جُعِلَ مَوْجُودًا شَرْعًا حَتَّى جَازَ الْعَقْدُ اسْتِحْسَانًا وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ، وَالصَّانِعُ بَائِعٌ شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَلِأَنَّ إلْزَامَ حُكْمِ الْعَقْدِ فِي جَانِبِ الْمُسْتَصْنِعِ إضْرَارٌ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ لَا يُلَائِمَهُ الْمَصْنُوعُ وَلَا يَرْضَى بِهِ فَلَوْ لَزِمَهُ، وَهُوَ مُطَالَبٌ بِثَمَنِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا يُشْتَرَى مِنْهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، وَلَيْسَ فِي الْإِلْزَامِ فِي جَانِبِ الصَّانِعِ ضَرَرٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُسْتَصْنِعُ يَبِيعُهُ مِنْ غَيْرِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَذَلِكَ مُيَسَّرٌ عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ مُمَارَسَتِهِ، هَذَا إذَا اسْتَصْنَعَ شَيْئًا وَلَمْ يَضْرِبْ لَهُ أَجَلًا، فَأَمَّا إذَا ضَرَبَ لَهُ أَجَلًا فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ سَلَمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِشَرَائِطِ السَّلَمِ، وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا فِي السَّلَمِ وَعِنْدَهُمَا هُوَ عَلَى حَالِهِ اسْتِصْنَاعٌ وَذِكْرُهُ الْأَجَلَ لِلتَّعْجِيلِ، وَلَوْ ضَرَبَ الْأَجَلَ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ يَنْقَلِبُ سَلَمًا بِالْإِجْمَاعِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ هَذَا اسْتِصْنَاعٌ حَقِيقَةً فَلَوْ صَارَ سَلَمًا إنَّمَا يَصِيرُ بِذِكْرِهِ الْمُدَّةَ وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلِاسْتِعْجَالِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ اسْتِصْنَاعًا مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَجَلَ فِي الْبَيْعِ مِنْ الْخَصَائِصِ اللَّازِمَةِ لِلسَّلَمِ فَذِكْرُهُ يَكُونُ ذِكْرًا لِلسَّلَمِ مَعْنًى، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ صَرِيحًا كَالْكَفَالَةِ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ أَنَّهَا حَوَالَةٌ مَعْنًى، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ، وَقَوْلُهُ: ذِكْرُ الْوَقْتِ قَدْ يَكُونُ لِلِاسْتِعْجَالِ، قُلْنَا: لَوْ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِعْجَالِ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا؛ لِأَنَّ التَّعْجِيلَ غَيْرُ لَازِمٍ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَةِ التَّأْجِيلِ لَكَانَ مُفِيدًا؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى. وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي اللَّحْمِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ إذَا بَيَّنَ جِنْسَهُ وَنَوْعَهُ وَصِفَتَهُ وَقَدْرَهُ وَسِنَّهُ وَمَوْضِعَهُ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ، وَقَدْ زَالَتْ بِبَيَانِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ فِي ضَمَانَ الْعُدْوَانِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَهَالَةَ تَبْقَى بَعْدَ بَيَانِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. (أَحَدُهُمَا) - مِنْ جِهَةِ الْهُزَالِ وَالسِّمَنِ. (وَالثَّانِي -) مِنْ جِهَةِ قِلَّةِ الْعَظْمِ وَكَثْرَتِهِ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَقِيَاسُ الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ فِي مَنْزُوعِ الْعَظْمِ يَجُوزُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْكَرْخِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقِيَاسُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَيْفَ مَا كَانَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ إنْ زَالَتْ الْجَهَالَةُ مِنْ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ بَقِيَتْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ جَهَالَةُ السِّمَنِ وَالْهُزَالِ فَكَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَجْهُولًا فَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ، إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ مِثْلًا فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ التَّفَاوُتِ فِيهِ شَرْعًا تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الزَّجْرِ مِنْ وَجْهٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ لِلنَّاسِ رَغَائِبَ فِي الْأَعْيَانِ مَا لَيْسَ فِي قِيمَتِهَا، وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْأَلْيَةِ

وَالشَّحْمِ وَزْنًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَخْتَلِفُ بِالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ إلَّا يَسِيرًا بِخِلَافِ اللَّحْمِ، فَإِنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ غَيْرِ السَّمِينِ وَالسَّمِينِ، وَالْمَهْزُولِ وَغَيْرِ الْمَهْزُولِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ. (وَأَمَّا) السَّلَمُ فِي السَّمَكِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْأَصْلِ فِي ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الصِّغَارِ مِنْهُ كَيْلًا وَوَزْنًا، مَالِحًا كَانَ أَوَطَرِيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي حَيِّزِهِ؛ لِأَنَّ الصِّغَارَ مِنْهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ اخْتِلَافُ السِّمَنِ وَالْهُزَالِ وَلَا اخْتِلَافُ الْعَظْمِ بِخِلَافِ اللَّحْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي الْكِبَارِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يَجُوزُ طَرِيًّا كَانَ أَوْ مَالِحًا كَالسَّلَمِ فِي اللَّحْمِ لِاخْتِلَافِهَا بِالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ كَاللَّحْمِ، وَفِي رِوَايَةٍ يَجُوزُ كَيْفَ مَا كَانَ وَزْنًا؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ سَمِينِهِ وَمَهْزُولِهِ لَا يُعَدُّ تَفَاوُتًا عَادَةً لِقِلَّتِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ اللَّحْمِ عِنْدَهُمَا، وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ بَيَانَ الْمَوْضِعِ مِنْ اللَّحْمِ شَرْطُ الْجَوَازِ عِنْدَهُمَا، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي السَّمَكِ فَأَشْبَهَ السَّلَمَ فِي الْمَسَالِيخِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) السَّلَمُ فِي الْخُبْزِ عَدَدًا فَلَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ لِتَفَاوُتٍ فَاحِشٍ بَيْنَ خُبْزٍ وَخُبْزٍ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ. (وَأَمَّا) وَزْنًا فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ السَّلَمَ فِي الْخُبْزِ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِهِمْ لِتَفَاوُتٍ فَاحِشٍ بَيْنَ خُبْزٍ وَخُبْزٍ فِي الْخَبْزِ وَالْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ فَتَبْقَى جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ وَلِأَنَّ جَوَازَ السَّلَمِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِتَعَامُلِ النَّاسِ، وَلَا تَعَامُلَ فِي الْخُبْزِ، وَذَكَرَ فِي نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ الْأَجَلِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ، أَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِمَا لَكِنَّهُ انْقَطَعَ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ كَالثِّمَارِ وَالْفَوَاكِهِ وَاللَّبَنِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الشَّرْطُ وُجُودُهُ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ لَا غَيْرَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: إنَّ اعْتِبَارَ هَذَا الشَّرْطِ - وَهُوَ الْوُجُودُ - لَيْسَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ فَيُعْتَبَرُ وَقْتُ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَذَلِكَ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَالْوُجُودُ فِيهِ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَنَظِيرُ هَذَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ مَا قُلْنَا فِي اسْتِطَاعَةِ الْفِعْلِ أَنَّهَا مَعَ الْفِعْلِ لَا تَتَقَدَّمُهُ؛ لِأَنَّ وُجُودَهَا لِلْفِعْلِ فَيَجِبُ وُجُودُهَا عِنْدَ الْفِعْلِ لَا سَابِقًا عَلَيْهِ كَذَا هَذَا. (وَلَنَا) أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ ثَابِتَةٌ لِلْحَالِ، وَفِي وُجُودِهَا عِنْدَ الْمَحَلِّ شَكٌّ لِاحْتِمَالِ الْهَلَاكِ، فَإِنْ بَقِيَ حَيًّا إلَى وَقْتِ الْمَحِلِّ ثَبَتَتْ الْقُدْرَةُ، وَإِنْ هَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا تَثْبُتُ، وَالْقُدْرَةُ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِهَا فَلَا تَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ، وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَدَامَ وُجُودُهُ إلَى مَحَلِّ الْأَجَلِ فَحَلَّ الْأَجَلُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى انْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ لَا يَنْفَسِخُ السَّلَمُ بَلْ هُوَ عَلَى حَالِهِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ وَقَعَ صَحِيحًا لِثُبُوتِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ لِكَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَدَامَ وُجُودُهُ إلَى مَحَلِّ الْأَجَلِ، إلَّا أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ لِعَارِضِ الِانْقِطَاعِ مَعَ عَرَضِيَّةِ حُدُوثِ الْقُدْرَةِ ظَاهِرًا بِالْوُجُودِ فَكَانَ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ، وَالْعَقْدُ إذَا انْعَقَدَ صَحِيحًا يَبْقَى لِفَائِدَةٍ مُحْتَمَلَةِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ عَلَى السَّوَاءِ كَبَيْعِ الْآبِقِ إذَا أَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَأَنْ يَبْقَى لِفَائِدَةِ عَوْدِ الْقُدْرَةِ فِي الثَّانِي ظَاهِرًا أَوْلَى، لَكِنْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِرَبِّ السَّلَمِ، إنْ شَاءَ فَسَخ الْعَقْدَ وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ وُجُودَهُ؛ لِأَنَّ الِانْقِطَاعَ قَبْلَ الْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ تَغَيُّرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْخِيَارَ. وَلَوْ أَسْلَمَ فِي حِنْطَةٍ حَدِيثَةٍ قَبْلَ حُدُوثِهَا لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ فِي الْمُنْقَطِعِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَسْلَمَ فِي حِنْطَةِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ مِمَّا لَا يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُ طَعَامِهِ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ كَمَا إذَا أَسْلَمَ فِي حِنْطَةِ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ أَوْ فَرْغَانَةَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا اسْمٌ لِوِلَايَةٍ فَلَا يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُ طَعَامِهَا، وَكَذَا إذَا أَسْلَمَ فِي طَعَامِ بَلْدَةٍ كَبِيرَةٍ كَسَمَرْقَنْدَ وَبُخَارَى أَوْ كَاشَانَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَدُ طَعَامُ هَذِهِ الْبِلَادِ إلَّا عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ، وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ إلَّا فِي طَعَامِ وِلَايَةٍ؛ لِأَنَّ وَهْمَ الِانْقِطَاعِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ ثَابِتٌ. وَالسَّلَمُ عَقْدٌ جُوِّزَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِكَوْنِهِ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنْ غَرَرِ الِانْقِطَاعِ مَا أَمْكَنَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَوْضِعَ الْمُضَافَ إلَيْهِ الطَّعَامُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَنْفَدُ طَعَامُهُ غَالِبًا: يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ وِلَايَةً أَوْ بَلْدَةً كَبِيرَةً؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مُلْحَقٌ بِالْمُتَيَقَّنِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَنْقَطِعَ طَعَامُهُ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ كَأَرْضٍ بِعَيْنِهَا أَوْ قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا اُحْتُمِلَ الِانْقِطَاعُ لَا عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ، وَفِي ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ شَكٌّ لِاحْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ فَلَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ مَعَ الشَّكِّ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ شُعْبَةَ «لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُسْلِمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أُسْلِمُ إلَيْكَ فِي تَمْرِ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَمَّا فِي تَمْرِ نَخْلَةٍ

بِعَيْنِهَا فَلَا» وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا أَسْلَمَ فِي حِنْطَةِ هَرَاةَ لَا يَجُوزُ وَأَرَادَ قَرْيَةً مِنْ قُرَى الْفُرَاتِ الْمُسَمَّاةِ بِهَرَاةَ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ انْقِطَاعَ طَعَامِهِ، ثُمَّ لَوْ أَسْلَمَ فِي ثَوْبِ هَرَاةَ وَذَكَرَ شَرَائِطَ السَّلَمِ يَجُوزُ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الثَّوْبِ إلَى هَرَاةَ ذِكْرُ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ السَّلَمِ لَا جَوَازَ لَهُ بِدُونِهِ، وَهُوَ بَيَانُ النَّوْعِ لَا تَخْصِيصُ الثَّوْبِ بِالْمَكَانِ الْمَذْكُورِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ لَوْ أَتَى بِثَوْبٍ نُسِجَ فِي غَيْرِ هَرَاةَ لَكِنْ عَلَى صِفَةِ ثَوْبِ هَرَاةَ يُجْبَرُ رَبُّ السَّلَمِ عَلَى الْقَبُولِ، فَإِذَا ذَكَرَ النَّوْعَ وَذَكَرَ الشَّرَائِطَ الْأُخَرَ كَانَ هَذَا عَقْدًا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَهُ فَيَجُوزُ، فَأَمَّا إضَافَةُ الطَّعَامِ إلَى هَرَاةَ فَلَيْسَ يُفِيدُ شَرْطًا - لَا جَوَازَ لِلسَّلَمِ بِدُونِهِ -، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْإِضَافَةَ أَصْلًا جَازَ السَّلَمُ فَبَقِيَتْ الْإِضَافَةُ لِتَخْصِيصِ الطَّعَامِ بِمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ يَحْتَمِلُ انْقِطَاعَ طَعَامِهِ فَلَمْ يَجُزْ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ بَيْعٌ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ، سَمَّى السَّلَمَ بَيْعًا فَكَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَبِيعًا، وَالْمَبِيعُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا تَتَعَيَّنُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَلَمْ تَكُنْ مَبِيعَةً فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا، وَهَلْ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي التِّبْرِ وَالنُّقْرَةِ وَالْمَصُوغِ؟ فَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الصَّرْفِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ، وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ حَيْثُ لَمْ يُجَوِّزْ الْمُضَارَبَةَ بِهَا فَتَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَتْ مَبِيعَةً فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَخْرُجُ السَّلَمُ فِي الْفُلُوسِ عَدَدًا أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْفُلُوسَ مِمَّا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَهُمَا حَتَّى جُوِّزَ بَيْعُ فَلْسٍ بِفَلْسٍ بِأَعْيَانِهِمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّهَا أَثْمَانٌ عِنْدَهُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ وَاحِدٍ مِنْهَا بِاثْنَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا، وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْقَمَاقِمِ وَالْأَوَانِي الصُّفْرِيَّةِ الَّتِي تُبَاعُ عَدَدًا، لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَتْ مَبِيعَةً، وَإِنْ كَانَتْ تُبَاعُ وَزْنًا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا مَا لَمْ يُعْرَفْ وَزْنُهَا؛ لِأَنَّهَا مَجْهُولَةُ الْقَدْرِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا عِنْدَنَا حَتَّى لَا يَجُوزَ السَّلَمُ فِي الْحَالِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَسَلَمُ الْحَالِ جَائِزٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْأَجَلَ شُرِعَ نَظَرًا لَلْمُسْلَمِ إلَيْهِ تَمْكِينًا لَهُ مِنْ الِاكْتِسَابِ فَلَا يَكُونُ لَازِمًا كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» أَوْجَبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مُرَاعَاةَ الْأَجَلِ فِي السَّلَمِ كَمَا أَوْجَبَ مُرَاعَاةَ الْقَدْرِ فِيهِ فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ شَرْطًا فِيهِ كَالْقَدْرِ؛ وَلِأَنَّ السَّلَمَ حَالًا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ عَاجِزًا عَنْ تَسْلِيمِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَرَبُّ السَّلَمِ يُطَالِبُ بِالتَّسْلِيمِ فَيَتَنَازَعَانِ عَلَى وَجْهٍ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْفَسْخِ، وَفِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِرَبِّ السَّلَمِ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ رَأْسَ الْمَالِ إلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَصَرَفَهُ فِي حَاجَتِهِ فَلَا يَصِلُ إلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ وَلَا إلَى رَأْسِ الْمَالِ فَشُرِطَ الْأَجَلُ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُطَالَبَةَ إلَّا بَعْدَ حَلِّ الْأَجَلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ ظَاهِرًا فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْفَسْخِ وَالْإِضْرَارِ بِرَبِّ السَّلَمِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا رُخْصَةً لِكَوْنِهِ بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا رُخْصَةً وَأَنَّ السَّلَمَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. وَالرُّخْصَةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا يُغَيِّرُ عَنْ الْأَمْرِ الْأَصْلِيِّ بِعَارِضِ عُذْرٍ إلَى تَخْفِيفٍ وَيُسْرٍ كَرُخْصَةِ تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ بِالْإِكْرَاهِ وَالْمَخْمَصَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَالتَّرَخُّصُ فِي السَّلَمِ هُوَ تَغْيِيرُ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ حُرْمَةُ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ إلَى الْحَلِّ بِعَارِضٍ عُذْرًا لِعَدَمِ ضَرُورَةِ الْإِفْلَاسِ، فَحَالَةُ الْوُجُودِ وَالْقُدْرَةِ لَا يَلْحَقُهَا اسْمُ قُدْرَةِ الرُّخْصَةِ فَيَبْقَى الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى الْعَزِيمَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَكَانَتْ حُرْمَةُ السَّلَمِ الْحَالِ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ مُسْتَفَادَةً مِنْ النَّصِّ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ السَّلَمُ مِنْ الْقَادِرِ عَلَى تَسْلِيمِ الْمُسْلَمِ فِيهِ لِلْحَالِ، إلَّا أَنَّهُ صَارَ مَخْصُوصًا عَنْ النَّهْيِ الْعَامِّ فَأُلْحِقَ بِالْعَاجِزِ عَنْ التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَإِلْحَاقِ النَّادِرِ بِالْعَدَمِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ. فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَالسَّلَمُ فَاسِدٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً أَوْ مُتَقَارِبَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُفْضِيَ إلَى الْمُنَازَعَةِ

وَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ لِجَهَالَةِ الْقَدْرِ، وَغَيْرِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا. (وَأَمَّا) مِقْدَارُ الْأَجَلِ فَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْأَصْلِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ تَقْدِيرَ الْأَجَلِ إلَى الْعَاقِدَيْنِ حَتَّى لَوْ قَدَّرَا نِصْفَ يَوْمٍ جَازَ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: أَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ قِيَاسًا عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، وَهَذَا الْقِيَاسُ غَيْرُ سَدِيدٌ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْخِيَارِ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ، وَالثَّلَاثُ أَكْثَرُ الْمُدَّةِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَسْتَقِيمُ الْقِيَاسُ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَ بِالشَّهْرِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ إنَّمَا شُرِطَ فِي السَّلَمِ تَرْفِيهًا وَتَيْسِيرًا عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الِاكْتِسَابِ فِي الْمُدَّةِ، وَالشَّهْرُ مُدَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ يُمَكَّنُ فِيهَا مِنْ الِاكْتِسَابِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى التَّرْفِيهِ، فَأَمَّا مَا دُونَهُ فَفِي حَدِّ الْقِلَّةِ فَكَانَ لَهُ حُكْمُ الْحُلُولِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَلَوْ مَاتَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ قَبْلَ الْأَجَلِ حَلَّ الدَّيْنُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ سِوَاهُ إذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ مَوْتَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ يُبْطِلُ الْأَجَلَ وَمَوْتَ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ لَا يُبْطِلُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الْمَدْيُونِ لَا حَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ فَتُعْتَبَرُ حَيَاتُهُ وَمَوْتُهُ فِي الْأَجَلِ وَبُطْلَانِهِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) بَيَانُ مَكَانِ إيفَائِهِ إذَا كَانَ لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ بَيَانُ مَكَانِ الْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَاتِ إذَا كَانَ لَهَا حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا جُعِلَ الْمَكِيلُ الْمَوْصُوفُ أَوْ الْمَوْزُونُ الْمَوْصُوفُ ثَمَنًا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَكَانِ التَّسْلِيمِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، كَذَا أَطْلَقَهُ الْكَرْخِيُّ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا أَوْ غَيْرَ مُؤَجَّلٍ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ فَرَّقُوا فَقَالُوا إذَا كَانَ حَالًا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلتَّسْلِيمِ بِالْإِجْمَاعِ، وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ رَاجِعٌ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ، هَلْ يَتَعَيَّنُ لِلْإِيفَاءِ؟ عِنْدَهُ لَا يَتَعَيَّنُ، وَعِنْدَهُمَا يَتَعَيَّنُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ عِنْدَهُ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا تَعْيِينُ مَكَان آخَرَ بَقِيَ مَكَانُ الْإِيفَاءِ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ، وَلَمَّا تَعَيَّنَ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ عِنْدَهُمَا صَارَ مَكَانُ الْإِيفَاءِ مَعْلُومًا فَيَصِحُّ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْإِيفَاءِ هُوَ الْعَقْدُ، وَالْعَقْدُ وُجِدَ فِي هَذَا الْمَكَانِ فَيَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِوُجُوبِ الْإِيفَاءِ فِيهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ شَيْئًا لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِوُجُوبِ الْإِيفَاءِ فِيهِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) أَنَّ الْعَقْدَ وُجِدَ مُطْلَقًا عَنْ تَعْيِينِ مَكَان فَلَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى إطْلَاقِ الْعَقْدِ عَنْ تَعْيِينِ مَكَان الْحَقِيقَةُ وَالْحُكْمُ. (أَمَّا) الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ ذِكْرُ الْمَكَانِ فِي الْعَقْدِ نَصًّا فَالْقَوْلُ بِتَعْيِينِ مَكَانِ الْعَقْدِ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْعَاقِدَيْنِ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ. (وَأَمَّا) الْحُكْمُ فَإِنَّ الْعَاقِدَيْنِ لَوْ عَيَّنَا مَكَانًا آخَرَ جَازَ، وَلَوْ كَانَ تَعْيِينُ مَكَانِ الْعَقْدِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ شَرْعًا لَكَانَ تَعْيِينُ مَكَان آخَرَ تَغْيِيرًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ حُكْمُ الشَّرْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ بَقِيَ مَكَانُ الْإِيفَاءِ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَهَا حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ لِمَا يَلْزَمُ فِي حَمْلِهَا مِنْ مَكَان إلَى مَكَان آخَرَ مِنْ الْمُؤْنَةِ فَيَتَنَازَعَانِ. (وَأَمَّا) قَوْلُهُمَا: سَبَبُ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ هُوَ الْعَقْدُ فِي هَذَا الْمَكَانِ قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْعَقْدَ قَائِمٌ بِالْعَاقِدَيْنِ لَا بِالْمَكَانِ فَلَمْ يُوجَدْ الْعَقْدُ فِي هَذَا الْمَكَانِ، وَإِنَّمَا هَذَا مَكَانُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا عِنْدَ حَلِّ الْأَجَلِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ مَكَانُ الْعَاقِدَيْنِ لَيْسَ بِمُتَّحِدٍ بَلْ مُخْتَلِفٍ فَيَتَنَازَعَانِ. (وَأَمَّا) الْمُسْلَمُ فِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ هُنَاكَ أَيْضًا، وَهُوَ رِوَايَةُ كِتَاب الْإِجَارَاتِ وَيُوَفِّيهِ فِي أَيِّ مَكَان شَاءَ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ هَهُنَا لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ لِاخْتِلَافِ الْقِيمَةِ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ، وَمَا لَا حِمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ لَا تَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ فَلَمْ تَكُنْ جَهَالَةُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَرِوَايَةُ الْبُيُوعِ مِنْ الْأَصَلِ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ أَوَّلَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَالَ: هِيَ مَعْنَى قَوْلِهِ: يُوَفِّيهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ إذَا لَمْ يَتَنَازَعَا فَإِذَا تَنَازَعَا يَأْخُذُهُ بِالتَّسْلِيمِ حَيْثُ مَا لَقِيَهُ، وَلَوْ شَرَطَ رَبُّ السَّلَمِ التَّسْلِيمَ فِي بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ فَحَيْثُ سَلَّمَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ لِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يَتَخَيَّرَ مَكَانًا؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ هُوَ التَّسْلِيمُ فِي مَكَان مِنْهُ مُطْلَقًا، وَقَدْ وُجِدَ، وَإِنْ سَلَّمَ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ فَلِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يَأْبَى لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» ، فَإِنْ أَعْطَاهُ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَبَضَ الْمُسْلَمَ فِيهِ فَقَدْ تَعَيَّنَ مِلْكُهُ فِي الْمَقْبُوضِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَ الْأَجْرَ عَلَى

فصل في الشرط الذي يرجع إلى البدلين جميعا

نَقْلِ مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَمْ يَجُزْ فَيَرُدُّ الْأَجْرَ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ حَتَّى يُسْلِمَ فِي الْمَكَان الْمَشْرُوطِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي التَّسْلِيمِ فِيهِ وَلَمْ يَرْضَ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ إلَّا بِعِوَضٍ وَلَمْ يُسْلِمْ لَهُ فَبَقِيَ حَقُّهُ فِي التَّسْلِيمِ فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ الشَّفِيعُ مِنْ الشُّفْعَةِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ عَلَى مَالٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ وَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ وَعَلَيْهِ رَدُّ بَدَلِ الصُّلْحِ، وَإِذَا رَدَّهُ لَا يَعُودُ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّفِيعِ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ قَبْلَ التَّمْلِيكِ بِالشُّفْعَةِ، وَإِنَّمَا لَهُ حَقُّ أَنْ يَتَمَلَّكَ، وَهَذَا لَيْسَ بِحَقٍّ ثَابِتٍ فِي الْمَحَلِّ فَلَا يَحْتَمِلُ الِاعْتِيَاضَ وَبَطَلَ حَقُّهُ مِنْ الشُّفْعَةِ بِإِعْرَاضِهِ عَنْ الطَّلَبِ بِإِسْقَاطِهِ صَرِيحًا، وَلِرَبِّ السَّلَمِ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي التَّسْلِيمِ فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ الْتَحَقَ الِاعْتِيَاضُ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَ الْحَقُّ عَلَى مَا كَانَ، وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَسْقَطْتُ حَقِّي فِي الشُّفْعَةِ يَسْقُطُ، وَلَوْ قَالَ: أَسْقَطْتُ حَقِّي فِي التَّسْلِيمِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لَا يَسْقُطُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الشَّرْط الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلَيْنِ جَمِيعًا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلَيْنِ جَمِيعًا فَهُوَ أَنْ لَا يَجْمَعَهُمَا أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ، وَذَلِكَ إمَّا الْكَيْلُ، وَإِمَّا الْوَزْنُ، وَإِمَّا الْجِنْسُ؛ لِأَنَّ أَحَدَ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ هُوَ عِلَّةُ رِبَا النَّسَاءِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ أَحَدُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فِي الْبَدَلَيْنِ يَتَحَقَّقُ رِبَا النَّسَاءِ، وَالْعَقْدُ الَّذِي فِيهِ رِبًا فَاسِدٌ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ إسْلَامُ الْمَكِيلِ فِي الْمَكِيلِ، أَوْ الْمَوْزُونِ فِي الْمَوْزُونِ، وَالْمَكِيلِ فِي الْمَوْزُونِ، وَالْمَوْزُونِ فِي الْمَكِيلِ، وَغَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِجِنْسِهِمَا مِنْ الثِّيَابِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا جُمْلَةَ ذَلِكَ وَتَفْصِيلَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي مَسَائِلِ رِبَا النَّسَاءِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَجُوزُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ وَمَا لَا يَجُوزُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجُوزُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ وَمَا لَا يَجُوزُ. فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: لَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِأَنْ يَأْخُذَ رَبُّ السَّلَمِ مَكَانَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَهُوَ مَبِيعٌ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَيَجُوزُ الْإِبْرَاءُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَى رَبِّ السَّلَمِ فَكَانَ هُوَ بِالْإِبْرَاءِ مُتَصَرِّفًا فِي خَالِصِ حَقِّهِ بِالْإِسْقَاطِ فَلَهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الْقَبْضِ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ بِنَفْسِهِ بِالْإِبْرَاءِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَتَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ لِوُجُودِ رُكْنِ الْحَوَالَةِ مَعَ شَرَائِطِهِ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِهِ. لِمَا قُلْنَا، إلَّا أَنَّ فِي الْحَوَالَةِ يَبْرَأُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ وَفِي الْكَفَالَةِ لَا يَبْرَأُ، وَرَبُّ السَّلَمِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَالَبَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ طَالَبَ الْكَفِيلَ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مُبَرِّئَةً وَالْكَفَالَةَ لَيْسَتْ بِمُبَرِّئَةٍ إلَّا إذَا كَانَتْ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا حَوَالَةٌ مَعْنًى عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَا يَجُوزُ لِرَبِّ السَّلَمِ الِاسْتِبْدَالُ مَعَ الْكَفِيلِ كَمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَفِيلٌ بِمَا عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لَا بِدَيْنٍ آخَرَ؛ إذْ الدَّيْنُ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا تَعَدَّدَتْ الْمُطَالَبَةُ بِالْكَفَالَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا يَجِيءُ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ، وَيَجُوزُ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَسْتَبْدِلَ مَعَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ عِنْدَ الرُّجُوعِ فَيَأْخُذُ بَدَلَ مَا أَدَّى إلَى رَبِّ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ إذَا كَانَتْ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ كَانَتْ إقْرَاضًا وَاسْتِقْرَاضًا، كَأَنَّ الْكَفِيلَ أَقْرَضَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ وَاسْتِبْدَالُ الْقَرْضِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ، وَيَجُوزُ الرَّهْنُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ حَقِيقَةً، وَالرَّهْنُ بِالدَّيْنِ أَيِّ دَيْنٍ كَانَ جَائِزٌ. وَالْإِقَالَةُ جَائِزَةٌ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ كَمَا تَجُوزُ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَ اللَّهُ عَثَرَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إنَّمَا شُرِعَتْ نَظَرًا لِلْعَاقِدَيْنِ دَفْعًا لِحَاجَةِ النَّدَمِ، وَاعْتِرَاضُ النَّدَمِ فِي السَّلَمِ هَهُنَا أَكْثَرُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ بِأَوْكَسِ الْأَثْمَانِ فَكَانَ أَدْعَى إلَى شَرْعِ الْإِقَالَةِ فِيهِ، ثُمَّ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ تَقَايَلَا السَّلَمَ فِي كُلِّ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَإِمَّا إنْ تَقَايَلَا فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنْ تَقَايَلَا فِي كُلِّ الْمُسْلَمِ فِيهِ جَازَتْ الْإِقَالَةُ لِمَا قُلْنَا، سَوَاءٌ كَانَتْ الْإِقَالَةُ بَعْدَ حَلِّ الْأَجَلِ أَوْ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ نَصَّ الْإِقَالَةِ مُطْلَقٌ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ. وَكَذَا جَوَازُ اعْتِرَاضِ النَّدَمِ قَائِمٌ فِي الْحَالَيْنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ أَوْ هَالِكًا، أَمَّا إذَا كَانَ قَائِمًا فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَكَذَا إذَا كَانَ هَالِكًا؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ ثَمَنٌ وَالْمَبِيعُ هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ، وَقِيَامُ الثَّمَنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقَالَةِ إنَّمَا الشَّرْطُ قِيَامُ الْمَبِيعِ، وَقَدْ وُجِدَ، ثُمَّ إذَا جَازَتْ الْإِقَالَةُ، فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَهُوَ قَائِمٌ فَعَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَدُّ عَيْنِهِ إلَى رَبِّ السَّلَمِ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ فَعَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهِ. وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهِ هَالِكًا

الصرف وتفسيره

كَانَ أَوْ قَائِمًا؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَنْ عَقْدٍ صَحِيحٍ، وَكَذَلِكَ إذَا قَبَضَ رَبُّ السَّلَمِ الْمُسْلَمَ فِيهِ ثُمَّ تَقَايَلَا وَالْمَقْبُوضُ قَائِمٌ فِي يَدِهِ جَازَتْ الْإِقَالَةُ، وَعَلَى رَبِّ السَّلَمِ رَدُّ عَيْنِ مَا قَبَضَ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ فِي يَدِهِ بَعْدَ السَّلَمِ كَأَنَّهُ عَيْنُ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ عَقْدُ السَّلَمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يَبِيعَ الْمَقْبُوضَ مُرَابَحَةً عَلَى رَأْسِ الْمَالِ؟ وَإِنْ تَقَايَلَا السَّلَمَ فِي بَعْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ حَلِّ الْأَجَلِ جَازَتْ الْإِقَالَةُ فِيهِ بِقَدْرِهِ إذَا كَانَ الْبَاقِي جُزْءًا مَعْلُومًا مِنْ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْزَاءِ الْمَعْلُومَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِقَالَةَ شُرِعَتْ نَظَرًا وَفِي إقَالَةِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ هَهُنَا نَظَرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ بَيْعٌ بِأَبْخَسِ الْأَثْمَانِ لِهَذَا سَمَّاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَسَنًا جَمِيلًا فَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ذَلِكَ الْمَعْرُوفُ الْحَسَنُ الْجَمِيلُ، وَالسَّلَمُ فِي الْبَاقِي إلَى أَجَلِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي الْكُلِّ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ وُجِدَتْ فِي الْبَعْضِ لَا فِي الْكُلِّ فَلَا تُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ حَلِّ الْأَجَلِ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْإِقَالَةِ تَعْجِيلُ الْبَاقِي مِنْ الْمُسْلَمِ جَازَتْ الْإِقَالَةُ أَيْضًا وَالسَّلَمُ فِي الْبَاقِي إلَى أَجَلِهِ وَإِنْ اُشْتُرِطَ فِيهَا تَعْجِيلُ الْبَاقِي لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ، وَالْإِقَالَةُ صَحِيحَةٌ. (أَمَّا) فَسَادُ الشَّرْطِ؛ فَلِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْأَجَلِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ. (وَأَمَّا) صِحَّةُ الْإِقَالَةِ فَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تُبْطِلُهَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فَبَطَلَ الشَّرْطُ وَصَحَّتْ الْإِقَالَةُ وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُمَا فَسْخٌ. (وَأَمَّا) عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَتَبْطُلُ الْإِقَالَةُ وَالسَّلَمُ عَلَى حَالِهِ إلَى أَجَلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُ بَيْعٌ جَدِيدٌ وَالْبَيْعُ تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [الصَّرْف وتفسيره] (وَمِنْهَا) قَبْضُ الْبَدَلَيْنِ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ عَقْدُ الصَّرْفِ وَالْكَلَامُ فِي الصَّرْفِ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي تَفْسِيرِ الصَّرْفِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ شَرَائِطِهِ (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالصَّرْفُ فِي مُتَعَارَفِ الشَّرْعِ " اسْمٌ لِبَيْعِ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَهُوَ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَأَحَدِ الْجِنْسَيْنِ بِالْآخَرِ " فَاحْتُمِلَ تَسْمِيَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْبَيْعِ صَرْفًا لِمَعْنَى الرَّدِّ وَالنَّقْلِ، يُقَالُ: صَرَفْتُهُ عَنْ كَذَا إلَى كَذَا، سُمِّيَ صَرْفًا لِاخْتِصَاصِهِ بِرَدِّ الْبَدَلِ وَنَقْلِهِ مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ التَّسْمِيَةُ لِمَعْنَى الْفَضْلِ، إذْ الصَّرْفُ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْفَضْلِ، كَمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ فَعَلَ كَذَا لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» فَالصَّرْفُ الْفَضْلُ وَهُوَ النَّافِلَةُ وَالْعَدْلُ الْفَرْضُ، سُمِّيَ هَذَا الْعَقْدُ صَرْفًا لِطَلَبِ التَّاجِرِ الْفَضْلَ مِنْهُ عَادَةً لِمَا يُرْغَبُ فِي عَيْنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِط الصَّرْف] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ (فَمِنْهَا) قَبْضُ الْبَدَلَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ «وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ» . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا شَيْئًا غَائِبًا بِنَاجِزٍ» . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَلَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ أَحَدَهُمَا غَائِبٌ وَالْآخَرَ نَاجِزٌ، وَإِنْ اسْتَنْظَرَك حَتَّى يَلِجَ بَيْتَهُ فَلَا تُنْظِرْهُ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرَّمَاءَ أَيْ: الرِّبَا، فَدَلَّتْ هَذِهِ النُّصُوصُ عَلَى اشْتِرَاطِ قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، وَتَفْسِيرُ الِافْتِرَاقِ هُوَ أَنْ يَفْتَرِقَ الْعَاقِدَانِ بِأَبْدَانِهِمَا عَنْ مَجْلِسِهِمَا فَيَأْخُذَ هَذَا فِي جِهَةٍ وَهَذَا فِي جِهَةٍ أَوْ يَذْهَبَ أَحَدُهُمَا وَيَبْقَى الْآخَرُ حَتَّى لَوْ كَانَا فِي مَجْلِسِهِمَا لَمْ يَبْرَحَا عَنْهُ لَمْ يَكُونَا مُفْتَرِقَيْنِ وَإِنْ طَالَ مَجْلِسُهُمَا؛ لِانْعِدَامِ الِافْتِرَاقِ بِأَبْدَانِهِمَا وَكَذَا إذَا نَامَا فِي الْمَجْلِسِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمَا؛ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا إذَا قَامَا عَنْ مَجْلِسِهِمَا فَذَهَبَا مَعًا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَطَرِيقٍ وَاحِدَةٍ وَمَشَيَا مِيلًا أَوْ أَكْثَرَ وَلَمْ يُفَارِقْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَلَيْسَا بِمُفْتَرِقَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِتَفَرُّقِ الْأَبَدَانِ وَلَمْ يُوجَدْ فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ إذَا قَامَتْ عَنْ مَجْلِسِهَا أَوْ اشْتَغَلَتْ بِعَمَلٍ آخَرَ يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُخَيَّرَةِ يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ عَمَّا فُوِّضَ إلَيْهَا وَالْقِيَامُ عَنْ الْمَجْلِسِ أَوْ الِاشْتِغَالُ بِعَمَلٍ آخِرُ دَلِيلِ الْإِعْرَاضِ، وَهَهُنَا لَا عِبْرَةَ بِالْإِعْرَاضِ إنَّمَا الْعِبْرَةُ لِلِافْتِرَاقِ بِالْأَبْدَانِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَلْحَقَ هَذَا بِخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ، حَتَّى لَوْ نَامَ طَوِيلًا أَوْ وُجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ يَبْطُلُ الصَّرْفُ كَالْخِيَارِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ لَهُ عَلَى إنْسَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ خَمْسُونَ دِينَارًا فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا فَقَالَ

بِعْتُكَ الدَّنَانِيرَ الَّتِي لِي عَلَيْكَ بِالدَّرَاهِمِ الَّتِي لَك عَلَيَّ، وَقَالَ: قَبِلْتُ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ بَلْ بِالْمُرْسِلِ وَهُمَا مُفْتَرِقَانِ بِأَبْدَانِهِمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ نَادَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ أَوْ نَادَاهُ مِنْ بَعِيدٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُمَا مُفْتَرِقَانِ بِأَبْدَانِهِمَا عِنْدَ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ إذَا أَرْسَلَ رَسُولًا إلَى إنْسَانٍ فَقَالَ: بِعْتُ عَبْدِي الَّذِي فِي مَكَانِ كَذَا مِنْكَ بِكَذَا فَقَبِلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ التَّقَابُضَ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَلَا يَكُونُ الِافْتِرَاقُ مُفْسِدًا لَهُ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ افْتِرَاقُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَا مَالِكَيْنِ أَوْ نَائِبَيْنِ عَنْهُمَا كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدَيْنِ فَيُعْتَبَرُ افْتِرَاقُهُمَا، ثُمَّ إنَّمَا يُعْتَبَرُ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ فِي مَوْضِعٍ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ اعْتِبَارُهُ يُعْتَبَرُ الْمَجْلِسُ دُونَ التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ بِأَنْ قَالَ الْأَبُ: اشْهَدُوا أَنِّي اشْتَرَيْتُ هَذَا الدِّينَارَ مِنْ ابْنِي الصَّغِيرِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ قَامَ قَبْلَ أَنْ يَزِنَ الْعَشَرَةَ فَهُوَ بَاطِلٌ، كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْأَبَ هُوَ الْعَاقِدُ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ فَيُعْتَبَرُ الْمَجْلِسُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتُعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ بَيْعُ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ وَبِخِلَافِ الْجِنْسِ كَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ سَوَاءٌ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي حُكْمِ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ صَرْفٌ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَابُضُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي جَوَازِ التَّفَاضُلِ وَعَدَمِهِ فَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَيَجُوزُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ وَلَكِنْ يَجِبُ التَّقَابُضُ اتَّحَدَ الْجِنْسُ أَوْ اخْتَلَفَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ. وَلَوْ تَصَارَفَا ذَهَبًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةً بِفِضَّةٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَتَقَابَضَا وَتَفَرَّقَا ثُمَّ زَادَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شَيْئًا أَوْ حَطَّ عَنْهُ شَيْئًا وَقَبِلَ الْآخَرُ فَسَدَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْحَطُّ بَاطِلَانِ، وَالْعَقْدُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ وَالْحَطُّ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَاخْتِلَافُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ الْمُتَأَخِّرَ عَنْ الْعَقْدِ فِي الذِّكْرِ إذَا أُلْحِقَ بِهِ، هَلْ يَلْتَحِقُ بِهِ أَمْ لَا؟ فَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ أَنَّهُ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَيُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَالزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ يَلْتَحِقَانِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا كَأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى الْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَالزِّيَادَةِ جَمِيعًا فَيَتَحَقَّقُ التَّفَاضُلُ، وَالْجِنْسُ مُتَّحِدٌ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا، فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ مُلْتَحِقٍ بِالْعَقْدِ فَيَتَأَخَّرُ عَنْهُ فَيَلْتَحِقُ بِهِ وَيُوجِبُ فَسَادَهُ. وَمِنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ الْمُتَأَخِّرَ عَنْ الْعَقْدِ لَا يَلْتَحِقُ بِالْعَقْدِ فَطَرَدَ أَبُو يُوسُفَ هَذَا الْأَصْلَ، وَقَالَ: تَبْطُلُ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ جَمِيعًا وَيَبْقَى الْبَيْعُ الْأَوَّلُ صَحِيحًا وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ، وَقَالَ: الزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ وَالْحَطُّ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَوْ صَحَّتْ لَالْتَحَقَتْ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيُوجِبُ فَسَادَهُ فَبَطَلَتْ الزِّيَادَةُ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْحَطِّ أَنْ يَلْتَحِقَ بِالْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَطَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ صَحَّ وَلَا يَلْتَحِقُ؟ إذْ لَوْ الْتَحَقَ لَكَانَ الْبَيْعُ وَاقِعًا بِلَا ثَمَنٍ فَيُجْعَلُ حَطًّا لِلْحَالِ بِمَنْزِلَةِ هِبَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ. وَلَوْ تَبَايَعَا الْجِنْسَ بِخِلَافِ الْجِنْسِ بِأَنْ تَصَارَفَا دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ثُمَّ زَادَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ دِرْهَمًا وَقَبِلَ الْآخَرُ أَوْ حَطَّ عَنْهُ دِرْهَمًا مِنْ الدِّينَارِ جَازَتْ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ وَالِالْتِحَاقِ تَحَقُّقُ الرِّبَا، وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الرِّبَا إلَّا أَنَّ فِي الزِّيَادَةِ يُشْتَرَطُ قَبْضُهَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ حَتَّى لَوْ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي حِصَّةِ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَمَّا الْتَحَقَتْ بِأَصْلِ الْعَقْدِ صَارَ كَأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى الزِّيَادَةِ وَالْأَصْلِ جَمِيعًا إلَّا أَنَّهُ جَازَ التَّفَاضُلُ؛ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَإِذَا لَمْ يَقْبِضْ الزِّيَادَةَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بَطَلَ الْعَقْدُ بِقَدْرِهَا. (وَأَمَّا) الْحَطُّ فَجَائِزٌ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ وَإِنْ كَانَ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيُؤَدِّي إلَى التَّفَاضُلِ، لَكِنَّ التَّفَاضُلَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ جَائِزٌ وَلَا زِيَادَةَ هَهُنَا حَتَّى يُشْتَرَطَ قَبْضُهَا فَصَحَّ الْحَطُّ وَوَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَحْطُوطِ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ لَمَّا الْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَقَعْ عَلَى قَدْرِ الْمَحْطُوطِ مِنْ الِابْتِدَاءِ فَيَجِبُ رَدُّهُ، وَلَوْ حَطَّ مُشْتَرِي الدِّينَارِ قِيرَاطًا مِنْهُ فَبَائِعُ الدِّينَارِ يَكُونُ شَرِيكًا لَهُ فِي الدِّينَارِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى مَا سِوَى الْقِيرَاطِ، وَلَوْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلًّى بِفِضَّةٍ وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ زَادَهُ دِينَارًا فِي الثَّمَنِ دَفَعَهُ إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهُ أَوْ بَعْدَ مَا فَارَقَهُ يَجُوزُ، كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَتُصْرَفُ الزِّيَادَةُ إلَى النَّصْلِ وَالْجِفْنِ وَالْحَمَائِلِ؛ لِأَنَّهَا تَلْحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَصَارَ كَأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جَمِيعًا. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا كَذَا هَذَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ فَإِنَّهُ يُقَسَّمُ عَلَى جَمِيعِ الثَّمَنِ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَسَائِلِ الْمُرَابَحَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ أَوْ عَيْنًا بِعَيْنٍ وَهُوَ التِّبْرُ وَالْمَصُوغُ أَوْ دَيْنًا بِعَيْنٍ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ بِالتِّبْرِ وَالْمَصُوغِ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ

وَسَوَاءٌ كَانَ مُفْرَدًا أَوْ مَجْمُوعًا مَعَ غَيْرِهِ كَمَا إذَا بَاعَ ذَهَبًا وَثَوْبًا بِفِضَّةٍ مُفْرَدَةٍ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ تَنْقَسِمُ عَلَى الذَّهَبِ وَالثَّوْبِ فَمَا قَابَلَ الذَّهَبَ يَكُونُ صَرْفًا فَيُشْتَرَطُ فِيهِمَا الْقَبْضُ وَمَا يُقَابِلُ الثَّوْبَ يَكُونُ بَيْعًا مُطْلَقًا فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ، وَكَذَا إذَا بَاعَ ذَهَبًا وَثَوْبًا بِذَهَبٍ وَالذَّهَبُ أَكْثَرُ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ أَنَّهُ فِي حِصَّةِ الذَّهَبِ يَكُونُ صَرْفًا وَفِي حِصَّةِ الثَّوْبِ يَكُونُ بَيْعًا مُطْلَقًا، وَكَذَا إذَا بَاعَ سَيْفًا مُحَلًّى بِالْفِضَّةِ مُفْرَدَةً، أَوْ مِنْطَقَةً مُفَضَّضَةً، أَوْ لِجَامًا، أَوْ سَرْجًا، أَوْ سِكِّينًا مُفَضَّضَةً، أَوْ جَارِيَةً عَلَى عُنُقِهَا طَوْقُ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ مُفْرَدَةٍ وَالْفِضَّةُ الْمُفْرَدَةُ أَكْثَرُ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ كَانَ بِحِصَّةِ الْفِضَّةِ صَرْفًا. وَيُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ الصَّرْفِ وَبِحِصَّةِ الزِّيَادَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهَا بَيْعًا مُطْلَقًا فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ مَا يُشْتَرَطُ لِلصَّرْفِ، فَإِنْ وُجِدَ التَّقَابُضُ وَهُوَ الْقَبْضُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ تَمَّ الصَّرْفُ وَالْبَيْعُ جَمِيعًا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَوْ وُجِدَ الْقَبْضُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ بَطَلَ الصَّرْفُ لِوُجُودِ الِافْتِرَاقِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ، وَهَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ الْمَجْمُوعَةُ مَعَ غَيْرِهَا يُمْكِنُ فَصْلُهَا وَتَخْلِيصُهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ كَالْجَارِيَةِ مَعَ الطَّوْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، وَفَسَادُ الصَّرْفِ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ تَخْلِيصُهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ جَازَ؛ لِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ مُنْفَصِلَانِ، وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ابْتِدَاءً فَلَأَنْ يَبْقَى جَائِزًا انْتِهَاءً أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ. وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ فَصْلُهَا وَتَخْلِيصُهَا إلَّا بِضَرَرٍ بَطَلَ الْبَيْعُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً كَبَيْعِ الْجِذْعِ فِي السَّقْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَكَذَا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ، فَإِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي قَدْرِ الصَّرْفِ يَبْطُلُ فِي الْبَيْعِ أَيْضًا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ هَذَا إذَا انْعَقَدَ الْعَقْدُ عَلَى الصِّحَّةِ ثُمَّ فَسَدَ فِي قَدْرِ الصَّرْفِ بِطَرَيَانِ الْمُفْسِدِ عَلَيْهِ وَهُوَ الِافْتِرَاقُ مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ. فَأَمَّا إذَا انْعَقَدَ عَلَى الْفَسَادِ مِنْ الِابْتِدَاءِ بِأَنْ شَرَطَا الْخِيَارَ أَوْ أَدْخَلَا الْأَجَلَ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ الصَّرْفُ بِالْإِجْمَاعِ وَهَلْ يَصِحُّ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: لَا يَصِحُّ سَوَاءٌ كَانَ يَتَخَلَّصُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ أَوْ لَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِضَرَرٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، إنْ كَانَ يَتَخَلَّصُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَصِحُّ. وَإِنْ كَانَ لَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِضَرَرٍ لَا يَصِحُّ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ نَسِيئَةً ثُمَّ نَقَدَ بَعْضَ الْعَشَرَةِ دُونَ الْبَعْضِ فِي الْمَجْلِسِ فَسَدَ الصَّرْفُ فِي الْكُلِّ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ بِقَدْرِ مَا قَبَضَ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ بَيْنَهُمْ وَهُوَ أَنَّ الصَّفْقَةَ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ يَتَعَدَّى الْفَسَادُ إلَى الْكُلِّ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَعَدَّى فَهُمَا سَوِيًّا بَيْنَ الْفَسَادِ الطَّارِئِ وَالْمُقَارِنِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْفَسَادَ إذَا كَانَ مُقَارِنًا يَصِيرُ قَبُولُ الْعَقْدِ فِي الْفَاسِدِ شَرْطَ قَبُولِ الْعَقْدِ فِي الْآخَرِ، وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ، فَيُؤَثِّرُ فِي الْكُلِّ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الطَّارِئِ فَاقْتَصَرَ الْفَسَادُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ الْمُفْسِدِ، ثُمَّ إذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ الْمُفْرَدَةُ فِيهِ أَكْثَرَ وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ شَرْطُ الْخِيَارِ وَلَا الْأَجَلِ حَتَّى جَازَ الْعَقْدُ، ثُمَّ نَقَدَ قَدْرَ الْفِضَّةِ الْمَجْمُوعَةِ مِنْ الْمُفْرَدَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَتَفَرَّقَا عَنْ قَبْضٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِأَنْ بَاعَ سَيْفًا مُحَلَّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ فَنَقَدَهُ الْمُشْتَرِي خَمْسِينَ فَالْقَدْرُ الْمَنْقُودُ مِنْ الْفِضَّةِ الْمُفْرَدَةِ يَقَعُ عَنْ الصَّرْفِ حَتَّى لَا يَبْطُلَ بِالِافْتِرَاقِ، أَوْ عَنْ الْبَيْعِ حَتَّى يَبْطُلَ الصَّرْفُ بِالِافْتِرَاقِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ، إمَّا إنْ ذَكَرَ أَنَّ الْمَنْقُودَ مِنْ ثَمَنِ الْحِلْيَةِ، وَإِمَّا إنْ ذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ ثَمَنِ الْجِفْنِ وَالنَّصْلِ، وَإِمَّا إنْ ذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ ثَمَنِهِمَا جَمِيعًا وَإِمَّا إنْ ذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ ثَمَنِ السَّيْفِ، وَإِمَّا إنْ سَكَتَ وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ ثَمَنِ الْحِلْيَةِ يَقَعُ عَنْهَا وَيَجُوزُ الصَّرْفُ وَالْبَيْعُ جَمِيعًا. وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَكَذَا إذَا ذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ ثَمَنِهِمَا فَإِنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْحِلْيَةِ أَيْضًا وَجَازَ الْبَيْعُ وَالصَّرْفُ؛ لِأَنَّ قَبْضَ التَّصَرُّفِ مُسْتَحَقٌّ حَقًّا لِلشَّرْعِ وَقَبْضَ الْبَيْعِ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ فَيُصْرَفُ إلَى جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَيُمْكِنُ إيقَاعُ الْمَنْقُودِ كُلِّهِ عَنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَإِنْ أَضَافَهُ إلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ شَيْئَيْنِ عَلَى إرَادَةِ أَحَدِهِمَا جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمَالِحُ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا يَقَعُ عَنْ الصَّرْفِ؛ لِأَنَّ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ مَا أَمْكَنَ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ قَبْضَ حِصَّةِ الْحِلْيَةِ مُسْتَحَقٌّ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُصْرَفُ إلَى جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَكَذَا إذَا ذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ ثَمَنِ السَّيْفِ يَقَعُ عَنْ الْحِلْيَةِ؛ لِأَنَّ الْحِلْيَةَ تَدْخُلُ فِي اسْمِ السَّيْفِ. وَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ ثَمَنِ الْجِفْنِ وَالنَّصْلِ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ تَخْلِيصُ الْفِضَّةِ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَقَعُ عَنْ ثَمَنِ الْمَذْكُورِ، وَيَبْطُلُ الصَّرْفُ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ جَوَازَ الْبَيْعِ وَصُرِفَ بِفَسَادِ الصَّرْفِ وَإِذَا أَمْكَنَ

تَخْلِيصُهَا مِنْ غَيْرٍ ضَرَرٍ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْبَيْعِ مَعَ فَسَادِ الصَّرْفِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ السَّيْفِ بِانْفِرَادِهِ؟ فَيَجُوزُ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ الصَّرْفُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَخْلِيصُهَا إلَّا بِضَرَرٍ فَالْمَنْقُودُ يَقَعُ عَنْ ثَمَنِ الصَّرْفِ وَيَجُوزُ الْبَيْعُ وَالصَّرْفُ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ جَوَازَ الْبَيْعِ وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِجَوَازِ الصَّرْفِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ السَّيْفِ بِدُونِ الْحِلْيَةِ لَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَخْلِيصُهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَإِنْ أَمْكَنَ تَخْلِيصُهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَيَجُوزَانِ جَمِيعًا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ، وَكَذَلِكَ فِي السَّيْفِ الْمُحَلَّى إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْحِلْيَةِ فَإِنْ كَانَتْ حِلْيَةُ السَّيْفِ ذَهَبًا اشْتَرَاهُ مَعَ حِلْيَتِهِ بِفِضَّةٍ مُفْرَدَةٍ فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الْجِنْسِ سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا؛ لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ الْقَبْضِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لَا يَخْتَلِفَانِ وَقَدْ ذَكَرْنَا جُمْلَةَ ذَلِكَ وَتَفْصِيلَهُ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْإِبْرَاءُ عَنْ بَدَلِ الصَّرْفِ وَهِبَتِهِ مِمَّنْ عَلَيْهِ، وَالتَّصَدُّقُ بِهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ قَبُولِهِ وَإِنْ قَبِلَ انْتَقَضَ الصَّرْفُ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ لَمْ يَصِحَّ وَيَبْقَى الصَّرْفُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْبَدَلِ مُسْتَحَقٌّ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الدَّيْنِ إسْقَاطُهُ، وَالدَّيْنُ بَعْدَمَا سَقَطَ لَا يُتَصَوَّرُ قَبْضُهُ فَكَانَ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْبَدَلِ جَعْلُ الْبَدَلِ بِحَالٍ لَا يُتَصَوَّرُ قَبْضُهُ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا كَصَرِيحِ الْفَسْخِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ بَقِيَ عَقْدُ الصَّرْفِ عَلَى حَالِهِ فَيَتِمُّ بِالتَّقَابُضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ بِأَبْدَانِهِمَا، وَلَوْ أَبَى الْمُبْرِئُ أَوْ الْوَاهِبُ أَوْ الْمُتَصَدِّقُ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَبْرَأَ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ تَصَدَّقَ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ الْقَبْضِ يُرِيدُ فَسْخَ الْعَقْدِ، وَأَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الِاسْتِبْدَالُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالصَّرْفُ عَلَى حَالِهِ يُقْبَضُ الْبَدَلُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَيَتِمُّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْبَدَلِ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَبِالِاسْتِبْدَالِ يَفُوتُ قَبْضُهُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ يُقْبَضُ بَدَلُهُ وَبَدَلُهُ غَيْرُهُ، وَقَالَ زُفَرُ: إنَّ الِاسْتِبْدَالَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَقَعُ بِعَيْنِ مَا فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ بِلَا خِلَافٍ فَكَانَ مُشْتَرِيًا بِمِثْلِ مَا فِي الذِّمَّةِ فَيَجِبُ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي دَرَاهِمُ مِثْلُ مَا فِي ذِمَّتِهِ فِي النَّوْعِ وَالصِّفَةِ فَلَا يَفُوتُ قَبْضُ الْبَدَلِ بِالِاسْتِبْدَالِ بَلْ يَصِيرُ قَابِضًا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ فَيَصِحُّ الِاسْتِبْدَالُ. (وَالْجَوَابُ) عَنْهُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ وَلَكِنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ وَقَبْضُهَا وَاجِبٌ، وَبِالْمُقَاصَّةِ يَفُوتُ الْقَبْضُ حَقِيقَةً، فَلَمْ تَصِحَّ الْمُقَاصَّةُ فَبَقِيَ الشِّرَاءُ بِهَا إسْقَاطًا لِلْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَلَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ وَبَقِيَ الصَّرْفُ صَحِيحًا مَوْقُوفًا بَقَاؤُهُ عَلَى الصِّحَّةِ عَلَى الْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، وَإِنْ أَعْطَاهُ صَاحِبُهُ دَرَاهِمَ أَجْوَدَ أَوْ أَرْدَأَ مِنْ حَقِّهِ فَرَضِيَ بِهِ، وَالْمَقْبُوضُ مِمَّا يَجْرِي مَجْرَى الدَّرَاهِمِ الْوَاجِبَةِ بِالْعَقْدِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ بَيْنَ النَّاسِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ جِنْسِهِ أَصْلًا وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُ فِي الْوَصْفُ فَإِذَا رَضِيَ بِهِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فَكَانَ اسْتِيفَاءً لَا اسْتِبْدَالًا. وَتَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ إذَا كَانَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ حَاضِرًا وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ بِهِ وَالصَّرْفُ عَلَى حَالِهِ فَإِنْ قَبَضَ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ أَوْ مِنْ الْكَفِيلِ أَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فِي الْمَجْلِسِ فَالصَّرْفُ مَاضٍ عَلَى الصِّحَّةِ، وَإِنْ افْتَرَقَ الْمُتَصَارِفَانِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهَلَكَ الرَّهْنُ بَطَلَ الصَّرْفُ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تَجُوزُ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي السَّلَمِ. وَالْعِبْرَةُ لِبَقَاءِ الْعَاقِدَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ وَافْتِرَاقِهِمَا عَنْهُ لَا لِبَقَاءِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَالْكَفِيلِ وَافْتِرَاقِهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَبْضَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدَيْنِ فَيُعْتَبَرُ مَجْلِسُهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ رَجُلًا أَنْ يَنْقُدَ عَنْهُ يُعْتَبَرُ مَجْلِسُ الْمُوَكِّلَيْنِ بَقَاءً وَافْتِرَاقًا لَا مَجْلِسُ الْوَكِيلِ لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ الْمُقَاصَّةُ فِي ثَمَنِ الصَّرْفِ إذَا وَجَبَ الدَّيْنُ بِعَقْدٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْ عَقْدِ الصَّرْفِ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ قِصَاصًا بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَإِنْ تَرَاضَيَا بِذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَا جُمْلَةَ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ وَتَفْصِيلَهُ فِي السَّلَمِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَبَضَ بَدَلَ الصَّرْفِ ثُمَّ انْتَقَضَ بَدَلَ الصَّرْفِ ثُمَّ انْتَقَضَ الْقَبْضَ فِيهِ بِمَعْنًى أَوْجَبَ انْتِقَاضَهُ أَنَّهُ يَبْطُلُ الصَّرْفُ وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا فِي السَّلَمِ. ثُمَّ قَبْضُ الصَّرْفِ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا هُوَ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ فَقَبْضُهُمَا فِي مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ شَرْطُ بَقَاءِ الْإِقَالَةِ عَلَى الصِّحَّةِ أَيْضًا حَتَّى لَوْ تَقَايَلَا الصَّرْفَ وَتَقَابَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ مَضَتْ الْإِقَالَةُ عَلَى الصِّحَّةِ وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عَلَى أَصْلِهِ بَيْعٌ جَدِيدٌ فَكَانَتْ مُصَارَفَةً مُبْتَدَأَةً فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ وَعَلَى أَصْلِهِمَا إنْ كَانَتْ فَسْخًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَهِيَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ. وَاسْتِحْقَاقُ الْقَبْضِ حَقٌّ لِلشَّرْعِ، هَهُنَا ثَالِثٌ فَيُعْتَبَرُ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَابُضُ بِخِلَافِ السَّلَمِ

فَإِنَّ قَبْضَ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقَالَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ وَجَدَ بِبَدَلِ الصَّرْفِ عَيْبًا وَهُوَ عَيْنٌ كَمَا إذَا اشْتَرَى قُلْبَ فِضَّةٍ بِذَهَبٍ فَرَدَّهُ ثُمَّ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ إنْ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَالرَّدُّ صَحِيحٌ عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَارِقَهُ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ يَكُونُ فَسْخًا فِي حَقِّ الْكُلِّ وَرَفْعًا لِلْعَقْدِ عَنْ الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَإِعَادَةُ الْمَالِكِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ كَأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقَبْضِ، وَالرَّدُّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ يَكُونُ فَسْخًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ ثَالِثٍ، وَحَقُّ الشَّرْعِ وَهُوَ الْقَبْضُ يُعْتَبَرُ ثَالِثًا فَيُجْعَلُ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ. وَأَمَّا التَّقَابُضُ فِي بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِالْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ بِأَنْ بَاعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ أَوْ بِقَفِيزَيْ شَعِيرٍ وَعَيَّنَا الْبَدَلَيْنِ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِمَا، فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: شَرْطٌ حَتَّى لَوْ افْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ، عِنْدَنَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ، وَعِنْدَهُ لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يَتَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ، احْتَجَّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ» ، وَبِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ» ؛ وَلِأَنَّ الِافْتِرَاقَ مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ فِي بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ لَا يَخْلُو عَنْ الرِّبَا لِجَوَازِ أَنْ يَقْبِضَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا؛ لِأَنَّ لِلْمَقْبُوضِ فَضْلًا عَلَى غَيْرِ الْمَقْبُوضِ فَأَشْبَهَ فَضْلَ الْحُلُولِ عَلَى الْأَجَلِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِوُجُوبِ التَّقَابُضِ وَلِهَذَا صَارَ شَرْطًا فِي الصَّرْفِ كَذَا هَذَا. (وَلَنَا) عُمُومَاتُ الْبَيْعِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وَقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَغَيْرِ ذَلِكَ نَهَى عَنْ الْأَكْلِ بِدُونِ التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ، وَاسْتَثْنَى التِّجَارَةَ عَنْ تَرَاضٍ فَيَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الْأَكْلِ فِي التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَبْضِ، وَذَلِكَ دَلِيلُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّقَابُضِ؛ لِأَنَّ أَكْلَ مَالِ الْغَيْرِ لَيْسَ بِمُبَاحٍ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَظَاهِرُ قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «يَدًا بِيَدٍ» غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ لَيْسَ بِمُرَادٍ بِالْإِجْمَاعِ فَلَإِنْ حَمْلَهَا عَلَى الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهَا آلَةُ الْقَبْضِ فَنَحْنُ نَحْمِلُهَا عَلَى التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّهَا آلَةُ التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْيَدِ سَبَبُ التَّعْيِينِ. وَعِنْدَنَا التَّعْيِينُ شَرْطٌ فَسَقَطَ احْتِجَاجُهُ بِالْحَدِيثِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى مَا قُلْنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الصَّرْفِ: إنَّ الشَّرْطَ هُنَاكَ هُوَ التَّعْيِينُ لَا نَفْسُ الْقَبْضِ إلَّا أَنَّهُ قَامَ الدَّلِيلُ عِنْدَنَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَإِنَّمَا تَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ فَشَرَطْنَا التَّقَابُضَ لِلتَّعْيِينِ لَا لِلْقَبْضِ، وَهَهُنَا التَّعْيِينُ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ فَلَا يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ: الْمَقْبُوضُ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِ الْمَقْبُوضِ، فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا قُلْنَا: هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ قُلْنَا بِوُجُوبِ تَسْلِيمِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ. فَإِنْ شُرِطَ الْخِيَارُ فِيهِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا فَسَدَ الصَّرْفُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي هَذَا الْعَقْدِ شَرْطُ بَقَائِهِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَخِيَارُ الْعَقْدِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ، وَلَوْ أَبْطَلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ثُمَّ افْتَرَقَا عَنْ تَقَابُضٍ يَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَلَوْ لَمْ يَبْطُلْ حَتَّى افْتَرَقَا تَقَدَّرَ الْفَسَادُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا جِنْسَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِدَلَائِلِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنْ الْأَجَلِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا. فَإِنْ شَرَطَاهُ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا فَسَدَ الصَّرْفُ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْبَدَلَيْنِ مُسْتَحَقٌّ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، وَالْأَجَلُ يُعْدِمُ الْقَبْضَ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ، فَإِنْ أَبْطَلَ صَاحِبُ الْأَجَلِ أَجَلَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَنَقَدَ مَا عَلَيْهِ ثُمَّ افْتَرَقَا عَنْ تَقَابُضٍ يَنْقَلِبُ جَائِزًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَهَاتَانِ الشَّرِيطَتَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَرْعِيَّتَانِ لِشَرِيطَةِ الْقَبْضِ إلَّا أَنَّ إحْدَاهُمَا تُؤَثِّرُ فِي نَفْسِ الْقَبْضِ وَالْأُخْرَى فِي صِحَّتِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَيَثْبُتَانِ فِي هَذَا الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَمْنَعَانِ حُكْمَ الْعَقْدِ فَلَا يَمْنَعَانِ صِحَّةَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَثْبُتُ فِي الْعَيْنِ وَهُوَ التِّبْرُ وَالنُّقْرَةُ وَالْمَصُوغُ. وَلَا يَثْبُتُ فِي الدَّيْنِ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ الْمَضْرُوبَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الرَّدِّ إذْ الْعَقْدُ لَا يَنْفَسِخُ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ مَا وَرَدَ عَلَى عَيْنِ الْمَرْدُودِ، وَقِيَامُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي وِلَايَةَ الْمُطَالَبَةِ بِمِثْلِهِ، فَإِذَا قَبَضَ يَرُدُّهُ فَيُطَالِبُهُ بِآخَرَ هَكَذَا إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى، وَكَذَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ لِمَا قُلْنَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ثَمَنُ الصَّرْفِ عَيْنًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالرَّدِّ فَلَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِعَيْنٍ أُخْرَى فَكَانَ الرَّدُّ مُفِيدًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَيَثْبُتُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا

المرابحة وتفسيرها وشرائطها

لِأَنَّ السَّلَامَةَ عَنْ الْعَيْبِ مَطْلُوبَةٌ عَادَةً فَفَوَاتُهَا يُوجِبُ الْخِيَارَ كَمَا فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ إلَّا أَنَّ بَدَلَ الصَّرْفِ إذَا كَانَ عَيْنًا فَرَدُّهُ بِالْعَيْبِ يَفْسَخُ الْعَقْدَ، سَوَاءٌ رَدَّهُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا نَقَدَ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا بِأَنْ وَجَدَ الدَّرَاهِمَ الْمَقْبُوضَةَ زُيُوفًا أَوْ كَاسِدَةً أَوْ وَجَدَهَا رَائِجَةً فِي بَعْضِ التِّجَارَاتِ دُونَ الْبَعْضِ، وَذَلِكَ عَيْبٌ عِنْدَ التُّجَّارِ فَرَدُّهَا فِي الْمَجْلِسِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالرَّدِّ حَتَّى لَوْ اسْتَبْدَلَ مَكَانَهُ مَضَى الصَّرْفُ. وَإِنْ رَدَّهَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بَطَلَ الصَّرْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ لِحُصُولِ الِافْتِرَاقِ لَا عَنْ قَبْضٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَبْطُلُ إذَا اسْتَبْدَلَ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي السَّلَمِ، وَخِيَارُ الْمُسْتَحِقِّ لَا يُبْطِلُ الصَّرْفَ أَيْضًا؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِجَازَةِ، وَاحْتِمَالُ الْإِجَازَةِ قَائِمٌ فَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ الْمُنْعَقِدُ ظَاهِرًا بِالشَّكِّ، ثُمَّ إذَا اسْتَحَقَّ أَحَدَ بَدَلَيْ الصَّرْفِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ، فَإِنْ كَانَ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ وَالْبَدَلُ قَائِمٌ، أَوْ ضَمِنَ النَّاقِدُ وَهُوَ هَالِكٌ جَازَ الصَّرْفُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَائِمًا كَانَ بِمَحَلِّ الْإِجَازَةِ، وَالْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ، وَإِذَا كَانَ هَالِكًا ضَمِنَ النَّاقِدُ الْمَضْمُونَ بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ سَلَّمَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَإِنْ اسْتَرَدَّهُ وَهُوَ قَائِمٌ أَوْ ضَمِنَ الْقَابِضُ قِيمَتَهُ وَهُوَ هَالِكٌ بَطَلَ الصَّرْفُ؛ لِأَنَّهُ نَقَضَ قَبْضَهُ أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ لَهُ الْقَبْضَ فَجَازَ الصَّرْفُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مَعْلُومًا فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالْإِشْرَاكِ وَالْوَضِيعَةِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ عُمُومَاتُ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنِ بَيْعٍ وَبَيْعٍ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] وَالْمُرَابَحَةُ ابْتِغَاءٌ لِلْفَضْلِ مِنْ الْبَيْعِ نَصًّا وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ اشْتَرَى سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعِيرَيْنِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِيَ أَحَدُهُمَا؟ فَقَالَ سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هُوَ لَك بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَّا بِغَيْرِ ثَمَنٍ فَلَا» فَدَلَّ طَلَبُ التَّوْلِيَةِ عَلَى جَوَازِهَا. وَرُوِيَ «أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اشْتَرَى بِلَالًا فَأَعْتَقَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الشَّرِكَةُ يَا أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَعْتَقْتُهُ» لَوْ لَمْ تَكُنْ الشَّرِكَةُ مَشْرُوعَةً لَمْ يَكُنْ لِيَطْلُبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَذَا النَّاسُ تَوَارَثُوا هَذِهِ الْبِيَاعَاتِ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَذَلِكَ إجْمَاعٌ عَلَى جَوَازِهَا. [الْمُرَابَحَة وتفسيرها وَشَرَائِطهَا] ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الْمُرَابَحَةِ فِي مَوَاضِعَ، فِي تَفْسِيرِ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِهِ، وَفِي بَيَانِ رَأْسِ الْمَالِ أَنَّهُ مَا هُوَ، وَفِي بَيَانِ مَا يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ وَمَا لَا يَلْحَقُ بِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَجِبُ بَيَانُهُ عِنْدَ الْمُرَابَحَةِ مِمَّا تُرِكَ بَيَانُهُ يَكُونُ خِيَانَةً، وَمَا لَا يَجِبُ بَيَانُهُ وَتُرِكَ بَيَانُهُ لَا يَكُونُ خِيَانَةً، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْخِيَانَةِ إذَا ظَهَرَتْ أَمَّا تَفْسِيرُهُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّهُ بَيْعٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ. وَأَمَّا شَرَائِطُهُ (فَمِنْهَا) مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مَعْلُومًا لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ، وَالْعِلْمُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ شَرْطُ صِحَّةِ الْبِيَاعَاتِ كُلِّهَا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إلَى أَنْ يَعْلَمَ فِي الْمَجْلِسِ فَيَخْتَارَ إنْ شَاءَ فَيَجُوزَ أَوْ يَتْرُكَ فَيَبْطُلَ أَمَّا الْفَسَادُ لِلْحَالِ فَلِجَهَالَةِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ لِلْحَالِ مَجْهُولٌ. وَأَمَّا الْخِيَارُ فَلِلْخَلَلِ فِي الرِّضَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرْضَى بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِثَمَنٍ يَسِيرٍ وَلَا يَرْضَى بِشِرَائِهِ بِثَمَنٍ كَثِيرٍ فَلَا يَتَكَامَلُ الرِّضَا إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ، فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ اخْتَلَّ رِضَاهُ، وَاخْتِلَالُ الرِّضَا يُوجِبُ الْخِيَارَ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى افْتَرَقَا عَنْ الْمَجْلِسِ بَطَلَ الْعَقْدُ لِتَقَرُّرِ الْفَسَادِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ عِبَارَاتِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْبَيْعِ كَبَيْعِ الشَّيْءِ بِرَقْمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ فَاسِدٌ وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ وَالِاخْتِيَارِ إذَا عُلِمَ، وَكَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ، وَالْإِشْرَاكُ، وَالْوَضِيعَةُ فِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ، وَالْمُرَابَحَةُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ بَيْعٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مَعْلُومًا وَالْإِشْرَاكُ تَوْلِيَةٌ لَكِنَّهُ تَوْلِيَةُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِبَعْضِ الثَّمَنِ وَالْعِلْمُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ شَرْطُ صِحَّةِ الْبَيْعِ، وَالْوَضِيعَةُ بَيْعٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ نُقْصَانِ شَيْءٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مَعْلُومًا لِيُعْلَمَ قَدْرُ النُّقْصَانِ مِنْهُ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا اشْتَرَى رَجُلَانِ جُمْلَةً مِمَّا لَهُ مِثْلٌ فَاقْتَسَمَاهَا ثُمَّ أَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَ حِصَّتَهُ مُرَابَحَةً أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَخْلُو عَنْ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ حَقِيقَةً لَكِنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي قِسْمَةِ الْمُتَمَاثِلَاتِ سَاقِطٌ شَرْعًا بَلْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فِيهَا تَمْيِيزًا لِلنَّصِيبِ وَإِفْرَازًا مَحْضًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا يَصِلُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ عَيْنُ مَا كَانَ لَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَكَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ لَهُ نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَذَا بَعْدَهَا، وَإِنْ اشْتَرَيَا

جُمْلَةً مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ فَاقْتَسَمَاهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَبِيعَ حِصَّتَهُ مُرَابَحَةً؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي قِسْمَةِ هَذَا النَّوْعِ مُعْتَبَرَةٌ إذْ الْأَصْلُ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ فَكَانَ مَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقِسْمَةِ نِصْفَهُ مِلْكُهُ وَنِصْفَهُ بَدَلُ مِلْكِهِ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِهِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً كَمَا إذَا اشْتَرَى عَرَضًا بِعَرَضٍ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً، اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي ثَوْبَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَنَوْعٍ وَاحِدٍ وَصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَطُولٍ وَاحِدٍ حَتَّى جَازَ السَّلَمُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَحَلَّ الْأَجَلُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُمَا جَمِيعًا مُرَابَحَةً عَلَى الْعَشَرَةِ بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ بَاعَ أَحَدُهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسَةٍ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ وَلَوْ كَانَ بَيْنَ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّوْبَيْنِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ جَازَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسَةٍ بِالْإِجْمَاعِ لَهُمَا أَنَّ الْمَقْبُوضَ هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ، وَالْمِلْكُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ يَثْبُتُ بِعَقْدِ السَّلَمِ، وَعَقْدُ السَّلَمِ أَوْجَبَ انْقِسَامَ الثَّمَنِ وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ عَلَى الثَّوْبَيْنِ الْمَقْبُوضَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ فَكَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْلُومَةً فَتَجُوزُ الْمُرَابَحَةُ عَلَيْهِمَا كَمَا إذَا أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرَّيْ حِنْطَةٍ فَحَلَّ السَّلَمُ وَقَبَضَهُمَا ثُمَّ بَاعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ لَيْسَ عَيْنَ الْمُسْلَمِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ حَقِيقَةً، وَقَبْضُ الدَّيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَمْ يَكُنْ الْمَقْبُوضُ مَمْلُوكًا بِعَقْدِ السَّلَمِ بَلْ بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْقَبْضُ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْعَقْدِ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُمَا جَمِيعًا ابْتِدَاءً وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ وَيَجُوزُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مَعْلُومًا لِأَنَّهُ بَعْضُ الثَّمَنِ وَالْعِلْمُ بِالثَّمَنِ شَرْطُ صِحَّةِ الْبِيَاعَاتِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ. وَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ الْمُرَابَحَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَكَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ الذَّرْعِيَّاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَتَوْلِيَةً مُطْلَقًا، سَوَاءٌ بَاعَهُ مِنْ بَائِعِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ جَعَلَ الرِّبْحَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمُرَابَحَةِ أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مَعْلُومًا وَالرِّبْحُ مَعْلُومًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ الْعُرُوضِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً وَلَا تَوْلِيَةً مِمَّنْ لَيْسَ ذَلِكَ الْعَرَضُ فِي مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَكَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مِثْلَ جِنْسِهِ فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْعَرَضِ، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ عَلَى قِيمَتِهِ، وَعَيْنُهُ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ وَقِيمَتُهُ مَجْهُولَةٌ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ لِاخْتِلَافِ أَهْلِ التَّقْوِيمِ فِيهَا، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ تَوْلِيَةً مِمَّنْ الْعَرَضُ فِي مِلْكِهِ وَيَدِهِ. وَأَمَّا بَيْعُهُ مُرَابَحَةً مِمَّنْ الْعَرَضُ فِي مِلْكِهِ وَيَدِهِ فَيُنْظَرُ إنْ جَعَلَ الرِّبْحَ شَيْئًا مُفْرَدًا عَنْ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا كَالدَّرَاهِمِ وَثَوْبٍ مُعَيَّنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ جَازَ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ مَعْلُومٌ وَالرِّبْحَ مَعْلُومٌ، وَإِنْ جَعَلَ الرِّبْحَ جُزْءًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُكَ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ بِرِبْحِ ده يازده لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الرِّبْحَ جُزْءًا مِنْ الْعَرَضِ وَالْعَرَضُ لَيْسَ مُتَمَاثِلَ الْأَجْزَاءِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّقَوُّمِ، وَالْقِيمَةُ مَجْهُولَةٌ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهَا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ. وَأَمَّا بَيْعُهُ مُوَاضَعَةً مِمَّنْ الْعَرَضُ فِي يَدِهِ وَمِلْكِهِ، فَالْجَوَابُ فِيهَا عَلَى الْعَكْسِ مِنْ الْمُرَابَحَةِ وَهُوَ أَنَّهُ إنْ جَعَلَ الْوَضِيعَةَ شَيْئًا مُنْفَرِدًا عَنْ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا كَالدَّرَاهِمِ وَنَحْوِهِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى وَضْعِ ذَلِكَ الْقَدْرِ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَإِنْ جَعَلَهَا مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ بِأَنْ بَاعَهُ بِوَضْعِ ده يازده جَازَ الْبَيْعُ بِعَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَوْضُوعَ جُزْءٌ شَائِعٌ مِنْ رَأْسِ مَالٍ مَعْلُومٍ. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ الثَّمَنُ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مُقَابَلًا بِجِنْسِهِ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا، فَإِنْ كَانَ بِأَنْ اشْتَرَى الْمَكِيلَ أَوْ الْمَوْزُونَ بِجِنْسِهِ مِثْلًا بِمِثْلٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَزِيَادَةٍ، وَالزِّيَادَةُ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا تَكُونُ رِبًا لَا رِبْحًا وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُوَاضَعَةً لِمَا قُلْنَا، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ تَوْلِيَةً؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ تَحَقُّقُ الرِّبَا وَلَمْ يُوجَدْ فِي التَّوْلِيَةِ؛ وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَكَذَا الْإِشْرَاكُ؛ لِأَنَّهُ تَوْلِيَةٌ لَكِنْ بِبَعْضِ الثَّمَنِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَلَا بَأْسَ بِالْمُرَابَحَةِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَبَاعَهُ بِرِبْحِ دِرْهَمٍ أَوْ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَزِيَادَةٍ، وَلَوْ بَاعَ دِينَارًا بِأَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا أَوْ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَثَوْبٍ كَانَ جَائِزًا كَذَا هَذَا، وَلَوْ بَاعَ الدِّينَارَ بِرِبْحِ ذَهَبٍ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا الدِّينَارَ الَّذِي اشْتَرَيْتُهُ بِرِبْحِ قِيرَاطَيْنِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ جَازَ (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ

فصل في بيان رأس المال

الْأَوَّلِ وَزِيَادَةٍ كَأَنَّهُ بَاعَ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَقِيرَاطَيْنِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ وَطَرِيقُ جَوَازِهِ أَنْ يَكُونَ الْقِيرَاطَانِ بِمِثْلِهِمَا مِنْ الدِّينَارِ وَالْعَشَرَةِ بِبَقِيَّةِ الدِّينَارِ كَذَا هَذَا وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ فِي تَجْوِيزِ هَذَا تَغْيِيرُ الْمُرَابَحَةِ؛ لِأَنَّ الْمُتَصَارِفَيْنِ جَعَلَا الْعَشَرَةَ رَأْسَ الْمَالِ وَالدَّرَاهِمَ رِبْحًا فَلَوْ جَوَّزْنَا عَلَى مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ لَصَارَ الْقِيرَاطُ رَأْسَ مَالٍ وَبَعْضُ الْعَشَرَةِ رِبْحًا وَفِيهِ تَغْيِيرُ الْمُقَابَلَةِ وَإِخْرَاجُهَا عَنْ كَوْنِهَا مُرَابَحَةً فَلَا يَصِحُّ وَلَوْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى بِفِضَّةٍ وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً بِرِبْحِ دِرْهَمٍ أَوْ بِرِبْحِ دِينَارٍ أَوْ بِرِبْحِ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَزِيَادَةِ رِبْحٍ، وَالرِّبْحُ يَنْقَسِمُ عَلَى كُلِّ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ رِبْحَ كُلِّ الثَّمَنِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَنْقَسِمَ عَلَى كُلِّهِ لِيَكُونَ مُرَابَحَةً عَلَى كُلِّ الثَّمَنِ، وَمَتَى انْقَسَمَ عَلَى الْكُلِّ كَانَ لِلْحِلْيَةِ حِصَّةٌ مِنْ الرِّبْحِ لَا مَحَالَةَ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ صَحِيحًا فَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ الْمِلْكَ فِي الْجُمْلَةِ لَكِنْ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ أَوْ بِمِثْلِهِ لَا بِالثَّمَنِ لِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ رَأْسِ الْمَالِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ رَأْسِ الْمَالِ فَرَأْسُ الْمَالِ مَا لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ بِالْعَقْدِ لَا مَا نَقَدَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَالثَّمَنُ الْأَوَّلُ هُوَ مَا وَجَبَ بِالْبَيْعِ فَأَمَّا مَا نَقَدَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَذَلِكَ وَجَبَ بِعَقْدٍ آخَرَ، وَهُوَ الِاسْتِبْدَالُ فَيَأْخُذُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي الْوَاجِبَ بِالْعَقْدِ لَا الْمَنْقُودَ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ، وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَنَقَدَ مَكَانَهَا دِينَارًا أَوْ ثَوْبًا فَرَأْسُ الْمَالِ هُوَ الْعَشَرَةُ لَا الدِّينَارُ وَالثَّوْبُ؛ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ هِيَ الَّتِي وَجَبَتْ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا الدِّينَارُ أَوْ الثَّوْبُ بَدَلُ الثَّمَنِ الْوَاجِبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ جِيَادٍ وَنَقَدَ مَكَانهَا الزُّيُوفَ وَتَجَوَّزَ بِهَا الْبَائِعُ الْأَوَّلُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي نَقْدُ الْجِيَادِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ هِيَ خِلَافُ نَقْدِ الْبَلَدِ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً فَإِنْ ذَكَرَ الرِّبْحَ مُطْلَقًا بِأَنْ قَالَ: أَبِيعُكَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَرِبْحِ دِرْهَمٍ كَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَشَرَةٌ مِنْ جِنْسِ مَا نَقَدَ، وَالرِّبْحُ مِنْ دَرَاهِمِ نَقْدِ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ. وَالثَّمَنُ الْأَوَّلُ هُوَ الْوَاجِبُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ وَهُوَ عَشَرَةٌ، وَهِيَ خِلَافُ نَقْدِ الْبَلَدِ فَيَجِبُ بِالْعَقْدِ الثَّانِي مِثْلُهَا، وَالرِّبْحُ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الرِّبْحَ وَمَا أَضَافَهُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ نَقْدُ الْبَلَدِ، وَإِنْ أَضَافَ الرِّبْحَ إلَى الْعَشَرَةِ بِأَنْ قَالَ: أَبِيعُكَ بِرِبْحِ الْعَشَرَةِ أَوْ بِرِبْحِ ده يازده فَالْعَشَرَةُ وَالرِّبْحُ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَمَّا إذَا قَالَ: بِرِبْحِ الْعَشَرَةِ فَلِأَنَّهُ أَضَافَ الرِّبْحَ إلَى تِلْكَ الْعَشَرَةِ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهَا. وَأَمَّا إذَا قَالَ: بِرِبْحِ ده يازده فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الرِّبْحَ جُزْءًا مِنْ الْعَشَرَةِ فَكَانَ مِنْ جِنْسِهَا ضَرُورَةً وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا زَادَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ الْأَوَّلَ فِي الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَقَبِلَ أَنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً عَلَى الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جَمِيعًا فَكَانَ الْأَصْلُ مَعَ الزِّيَادَةِ رَأْسِ الْمَالِ لِوُجُوبِهِمَا بِالْعَقْدِ تَقْدِيرًا فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَيْهِمَا. وَكَذَا لَوْ حَطَّ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ عَنْ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّانِي بَعْدَ الْحَطِّ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ أَيْضًا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَكَانَ الْبَاقِي بَعْدَ الْحَطِّ رَأْسَ الْمَالِ وَهُوَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَيْهِ وَلَوْ حَطَّ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ عَنْ الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَا بَاعَهُ الْمُشْتَرِي حَطَّ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ ذَلِكَ الْقَدْرَ عَنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي مَعَ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَطَّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَصِيرُ رَأْسُ الْمَالِ. وَهُوَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مَا وَرَاءَ قَدْرِ الْمَحْطُوطِ فَيَحُطُّ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ عَنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي ذَلِكَ الْقَدْرَ وَيَحُطُّ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ قَدْرَ الرِّبْحِ يَنْقَسِمُ عَلَى جَمِيعِ الثَّمَنِ، فَإِذَا حَطَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ لَا بُدَّ مِنْ حَطِّ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ مُسَاوَمَةً ثُمَّ حَطَّ عَنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ أَنَّهُ لَا يَحُطُّ ذَلِكَ عَنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ أَصْلٌ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ فِي بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ قِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ بَاعَهُمَا مُسَاوَمَةً انْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا عَلَى الْقِيمَةِ نِصْفَيْنِ؟ وَلَوْ بَاعَهُمَا مُرَابَحَةً أَوْ تَوْلِيَةً انْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَثْلَاثًا لَا عَلَى قَدْرِ الْقِيمَةِ دَلَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَصْلٌ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ فِي بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ فَالْحَطُّ عَنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ يُوجِبُ الْحَطَّ عَنْ الثَّمَنِ الثَّانِي وَلَا يُوجِبُ فِي الْمُسَاوَمَةِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّمَنِ تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَكَذَا الْحَطُّ عَنْهُ وَيَصِيرُ كَأَنَّ الْعَقْدَ فِي الِابْتِدَاءِ وَقَعَ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ

فصل بيان ما يلحق برأس المال وما لا يلحق به في المرابحة

(فَأَمَّا) عَلَى أَصْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ فَالزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَصِحُّ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ وَحَطًّا عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ هِبَةً مُبْتَدَأَةً، وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى. [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ وَمَا لَا يُلْحَقُ بِهِ فِي الْمُرَابَحَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ وَمَا لَا يَلْحَقُ بِهِ. فَنَقُولُ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يَلْحَقَ بِرَأْسِ الْمَالِ أُجْرَةُ الْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ وَالْغَسَّالِ وَالْفَتَّالِ وَالْخَيَّاطِ وَالسِّمْسَارِ وَسَائِقِ الْغَنَمِ، وَالْكِرَاءُ، وَنَفَقَةُ الرَّقِيقِ مِنْ طَعَامِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ وَمَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَعَلَفُ الدَّوَابِّ، وَيُبَاعُ مُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً عَلَى الْكُلِّ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيمَا بَيْنَ التُّجَّارِ أَنَّهُمْ يُلْحِقُونَ هَذِهِ الْمُؤَنَ بِرَأْسِ الْمَالِ وَيَعُدُّونَهَا مِنْهُ، وَعُرْفُ الْمُسْلِمِينَ وَعَادَتُهُمْ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ قَالَ النَّبِيُّ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» إلَّا أَنَّهُ لَا يَقُولُ عِنْدَ الْبَيْعِ: اشْتَرَيْتُهُ بِكَذَا وَلَكِنْ يَقُولُ: قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ كَذِبٌ وَالثَّانِيَ صِدْقٌ. وَأَمَّا أُجْرَةُ الرَّاعِي وَالطَّبِيبِ وَالْحَجَّامِ وَالْخَتَّانِ وَالْبَيْطَارِ، وَجُعْلِ الْآبِقِ، وَالْفِدَاءِ عَنْ الْجِنَايَةِ، وَمَا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الرَّقِيقِ مِنْ تَعْلِيمِ صِنَاعَةٍ أَوْ قُرْآنٍ أَوْ شِعْرٍ فَلَا يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَيُبَاعُ مُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَا غَيْرَ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ مَا جَرَتْ مِنْ التُّجَّارِ بِإِلْحَاقِ هَذِهِ الْمُؤَنِ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ» . وَكَذَا الْمُضَارِبُ مَا أَنْفَقَ عَلَى الرَّقِيقِ مِنْ طَعَامِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ وَمَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ وَمَا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ فِي سَفَرِهِ لَا يَلْحَقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا عَادَةَ فِيهِ، وَالتَّعْوِيلُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى الْعَادَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ بَيَانُهُ فِي الْمُرَابَحَةِ وَمَا لَا يَجِبُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجِبُ بَيَانُهُ فِي الْمُرَابَحَةِ وَمَا لَا يَجِبُ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ بَيْعَ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ بَيْعُ أَمَانَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ ائْتَمَنَ الْبَائِعَ فِي إخْبَارِهِ عَنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا اسْتِحْلَافٍ فَتَجِبُ صِيَانَتُهَا عَنْ الْخِيَانَةِ وَعَنْ سَبَبِ الْخِيَانَةِ وَالتُّهْمَةِ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] ، وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَيْسَ مِنَّا مِنْ غَشَّنَا» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِوَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ» وَالِاحْتِرَازُ عَنْ الْخِيَانَةِ وَعَنْ شُبْهَةِ الْخِيَانَةِ وَالتُّهْمَةِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِبَيَانِ مَا يَجِبُ بَيَانُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا يَجِبُ بَيَانُهُ وَمَا لَا يَجِبُ فَنَقُولُ: وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. : إذَا حَدَثَ بِالسِّلْعَةِ عَيْبٌ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَوْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً يُنْظَرُ إنْ حَدَثَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً بِجَمِيعِ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ وَإِنْ حَدَثَ بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ بِالْإِجْمَاعِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْبَيْعَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ حُدُوثِ الْعَيْبِ لَا يَخْلُو مِنْ شُبْهَةِ الْخِيَانَةِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ عَلِمَ أَنَّ الْعَيْبَ حَدَثَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لَكَانَ لَا يَرْبَحُهُ فِيهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ بَعْدَ حُدُوثِ الْعَيْبِ فِي يَدِهِ فَقَدْ احْتَبَسَ عِنْدَهُ جُزْءًا مِنْهُ فَلَا يَمْلِكُ بَيْعَ الْبَاقِي مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ كَمَا لَوْ احْتَبَسَ بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ. (وَلَنَا) أَنَّ الْفَائِتَ جُزْءٌ لَا يُقَابِلُهُ ثَمَنٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ فَاتَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَسْقُطُ بِحِصَّتِهِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَكَانَ بَيَانُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَا يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ قَائِمٌ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَائِعًا مَا بَقِيَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ بِخِلَافِ مَا إذَا فَاتَ بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَ صَارَ مَقْصُودًا بِالْفِعْلِ وَصَارَ مُقَابِلُهُ الثَّمَنَ فَقَدْ حَبَسَ الْمُشْتَرِي جُزْءًا يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ فَلَا يَمْلِكُ بَيْعَ الْبَاقِي مُرَابَحَةً إلَّا بِبَيَانٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ حَدَثَ مِنْ الْمَبِيعِ زِيَادَةٌ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَالصُّوفِ وَاللَّبَنِ وَالْعُقْرِ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنْ الْمَبِيعِ مَبِيعَةٌ عِنْدَنَا حَتَّى تَمْنَعَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ لِلْحَالِ فَهَذَا حَبَسَ بَعْضَ الْمَبِيعِ وَبَاعَ الْبَاقِيَ فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ. وَكَذَا لَوْ هَلَكَ بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ وَوَجَبَ الْأَرْشُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَبِيعًا مَقْصُودًا يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ ثُمَّ الْمَبِيعُ بَيْعًا غَيْرَ مَقْصُودٍ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فَالْمَبِيعُ مَقْصُودًا أَوْلَى، وَلَوْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ هَلَكَ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ بَاعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ

بَيَانٍ عَلَى مَا مَرَّ فَالْوَلَدُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالطَّرَفِ، وَلَوْ اسْتَغَلَّ الْوَلَدَ وَالْأَرْضَ جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْمَبِيعِ لَا تَكُونُ مَبِيعَةً بِالْإِجْمَاعِ وَلِهَذَا لَا يُمْنَعُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ فَلَمْ يَكُنْ بِبَيْعِ الدَّارِ أَوْ الْأَرْضِ حَابِسًا جُزْءًا مِنْ الْمَبِيعِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى جَارِيَةً ثَيِّبًا فَوَطِئَهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فَإِنَّ الْوَطْءَ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ حَقِيقَةً، وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ بِجُزْءٍ لَهَا حَقِيقَةً فَاسْتِيفَاؤُهَا لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الذَّاتِ إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالْجُزْءِ عِنْدَ عَدَمِ الْمِلْكِ إظْهَارًا لِخَطَرِ الْأَبْضَاعِ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ فِي الْمِلْكِ فَبَقِيَتْ مَبِيعَةً حَقِيقَةً، وَوَطْءُ الثَّيِّبِ إنَّمَا مَنَعَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عِنْدَنَا لَا لِأَنَّهُ إتْلَافُ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ بِكْرًا فَافْتَضَّهَا الْمُشْتَرِي لَمْ يَبِعْهَا مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ؛ لِأَنَّ الِافْتِضَاضَ إزَالَةُ الْعُذْرَةِ وَهِيَ عُضْوٌ مِنْهَا فَكَانَ إتْلَافًا لِجُزْئِهَا فَأَشْبَهَ إتْلَافَ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ، وَلَوْ أَتْلَفَ مِنْهَا جُزْءًا آخَرَ لَكَانَ لَا يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ كَذَا هَذَا. وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا نَسِيئَةً لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ؛ لِأَنَّ لِلْأَجَلِ شُبْهَةَ الْمَبِيعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَبِيعًا حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ مَرْغُوبٌ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَنَ قَدْ يُزَادُ لِمَكَانِ الْأَجَلِ فَكَانَ لَهُ شُبْهَةٌ أَنْ يُقَابِلَهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَيَصِيرَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ ثُمَّ بَاعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى ثَمَنِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِي هَذَا الْبَابِ فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِالْبَيَانِ. وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ إنْسَانٍ شَيْئًا بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ وَلَوْ أَخَذَ شَيْئًا صُلْحًا مِنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَى إنْسَانٍ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى الْحَطِّ وَالْإِغْمَاضِ وَالتَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ لِيَعْلَمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ سَامَحَ أَمْ لَا فَيَقَعُ التَّحَرُّزُ عَنْ التُّهْمَةِ وَمَبْنَى الشِّرَاءِ عَلَى الْمُضَايَقَةِ وَالْمُمَاكَسَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَيَانِ، وَفَرْقٌ آخَرُ أَنَّ فِي الشِّرَاءِ لَا تُتَصَوَّرُ الْخِيَانَةُ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَقَعُ بِذَلِكَ الدَّيْنِ بِعَيْنِهِ بَلْ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمُشْتَرِي مِثْلُ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى ثُمَّ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَبْطُلْ الشِّرَاءُ، وَلَوْ وَقَعَ الشِّرَاءُ بِذَلِكَ الدَّيْنِ بِعَيْنِهِ لَبَطَلَ الشِّرَاءُ وَإِذَا لَمْ يَقَعْ الشِّرَاءُ بِذَلِكَ الدَّيْنِ بِعَيْنِهِ لَا تَتَقَدَّرُ الْخِيَانَةُ كَمَا إذَا اشْتَرَى مِنْهُ ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ الصُّلْحِ فَإِنَّهُ يَقَعُ بِمَا فِي الذِّمَّةِ عَلَى الْبَدَلِ الْمَذْكُورِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ تَصَادَقَا بَعْدَ عَقْدِ الصُّلْحِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَبْطُلُ الصُّلْحُ، فَاحْتَمَلَ تُهْمَةَ الْمُسَامَحَةِ وَالتَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ فَوَجَبَ التَّحَرُّزُ عَنْ ذَلِكَ بِالْبَيَانِ. وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَرَقَمَهُ اثْنَيْ عَشَرَ فَبَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الرَّقْمِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ جَازَ إذَا كَانَ الرَّقْمُ مَعْلُومًا وَالرِّبْحُ مَعْلُومًا وَلَا يَكُونُ خِيَانَةً؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ لَكِنْ لَا يَقُولُ: اشْتَرَيْته بِكَذَا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا فِيهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ عَادَةَ التُّجَّارِ وَعِنْدَهُ أَنَّ الرَّقْمَ هُوَ الثَّمَنُ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَرِثَ مَالًا فَرَقَمَهُ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى رَقْمِهِ يَجُوزُ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا ثُمَّ بَاعَهُ بِرِبْحٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً فَإِنَّهُ يَطْرَحُ كُلَّ رِبْحٍ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى مَا يَبْقَى مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ الطَّرْحِ فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ بِأَنْ اسْتَغْرَقَ الرِّبْحُ الثَّمَنَ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ (وَأَمَّا) عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَخِيرِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْعُقُودِ الْمُتَقَدِّمَةِ رَبِحَ فِيهَا أَوْ خَسِرَ، وَبَيَانُ ذَلِكَ إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ فَبَاعَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسَةٍ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا عَلَى عَشَرَةٍ، وَلَوْ بَاعَهُ بِعِشْرِينَ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً أَصْلًا، وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةٍ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْعُقُودَ الْمُتَقَدِّمَةَ لَا عِبْرَةَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا ذَهَبَتْ وَتَلَاشَتْ بِنَفْسِهَا وَحُكْمِهَا، فَأَمَّا الْعَقْدُ الْأَخِيرُ، فَحُكْمُهُ قَائِمٌ وَهُوَ الْمِلْكُ فَكَانَ هَذَا الْمُعْتَبَرُ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَخِيرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّ الشِّرَاءَ الْأَخِيرَ كَمَا أَوْجَبَ مِلْكَ الثَّوْبِ فَقَدْ أَكَّدَ الرِّبْحَ وَهُوَ خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْفَسْخِ فَإِذَا اشْتَرَى فَقَدْ خَرَجَ عَنْ احْتِمَالِ الْبُطْلَانِ فَتَأَكَّدَ وَلِلتَّأَكُّدِ شُبْهَةُ الْإِثْبَاتِ فَكَانَ مُشْتَرِيًا لِلثَّوْبِ وَخَمْسَةُ الرِّبْحِ بِعَشَرَةٍ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ فِيهِ شُبْهَةُ أَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ ثُمَّ بَاعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى ثَمَنِ الْكُلِّ، وَذَا لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي هَذَا الْبَابِ لَهَا حُكْمُ الْحَقِيقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ نَسِيئَةً ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى عَشَرَةٍ نَقْدًا لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ احْتِرَازًا عَنْ الشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ لِلْأَجَلِ شُبْهَةَ أَنْ يُقَابِلَهُ الثَّمَنُ عَلَى مَا مَرَّ فَوَجَبَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِالْبَيَانِ كَذَا هَذَا فَإِذَا بَاعَهُ

فصل في حكم الخيانة في المرابحة

بِعَشْرَيْنِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ صَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى ثَوْبًا وَعَشَرَةً بِعَشَرَةٍ فَيَكُونُ الْعَشَرَةُ بِالْعَشَرَةِ وَيَبْقَى الثَّوْبُ خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الرِّبَا فَلَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ اشْتَرَى مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ كَالْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ مُكَاتَبِهِ أَوْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ بِالْإِجْمَاعِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّهُ لَا خَلَلَ فِي الشِّرَاءِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُمْتَازٌ عَنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ فَصَحَّ الشِّرَاءُ الْأَوَّلُ فَلَا يَجِبُ الْبَيَانُ كَمَا إذَا اشْتَرَى مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ تُهْمَةَ الْمُسَامَحَةِ فِي الشِّرَاءِ الْأَوَّلِ قَائِمَةٌ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي الْعَادَاتِ لَا يُمَاكِسُونَ فِي الشِّرَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ فَكَانَتْ التُّهْمَةُ، وَهِيَ الشِّرَاءُ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ قَائِمَةً فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ كَمَا فِي الْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ؛ وَلِأَنَّ لِلشِّرَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ شُبْهَةَ عَدَمِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَبِيعُ بِمَالِ صَاحِبِهِ عَادَةً وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ؛ لِكَوْنِهَا شَهَادَةً لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ قَائِمًا مَعْنًى فَكَانَ لِهَذَا الشِّرَاءِ شُبْهَةُ عَدَمِ الصِّحَّةِ، وَالشُّبْهَةُ فِي هَذَا الْبَابِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فَتُؤَثِّرُ فِي الْمُرَابَحَةِ كَمَا فِي الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ. وَلَوْ اشْتَرَى سِلْعَةً مِنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ اشْتَرَى مِنْهُ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ وَذَلِكَ أَلْفٌ، وَلَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ إلَّا بِبَيَانٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ فَبَاعَهُ مِنْ الْمُكَاتَبِ الْمَدْيُونِ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ أَنَّهُ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَكْثَرِ الثَّمَنَيْنِ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أَوْ الْمَأْذُونُ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ فَبَاعَهُ مِنْ الْمَوْلَى بِأَلْفٍ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ مُضَارِبِهِ أَوْ اشْتَرَى مُضَارَبَةً مِنْهُ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ، وَحِصَّةُ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ إنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِبْحٌ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ، بَيَانُ ذَلِكَ إذَا دَفَعَ أَلْفًا مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفٍ فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ جَوَازَ بَيْعِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الْمُضَارِبِ، وَالْمُضَارِبِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ لَيْسَ بِمَقْطُوعٍ بِهِ، بَلْ هُوَ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّ عِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَالِ نَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَالشِّرَاءُ مِنْ الْإِنْسَانِ بِمَالِهِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ بِالِاجْتِهَادِ مَعَ احْتِمَالِ الْخَطَأِ فَكَانَ شُبْهَةُ عَدَمِ الْجَوَازِ قَائِمَةً فَتَلْتَحِقُ بِالْحَقِيقَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْمُرَابَحَةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ؛ وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ بَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ لَكِنْ سَاهَلَهُ الْمُضَارِبُ؛ لِأَنَّهُ مَا اشْتَرَاهُ بِمَالِ نَفْسِهِ، بَلْ بِمَالِ رَبِّ الْمَالِ فَتَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ فِي هَذَا الْبَيْعِ فَلَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً بِأَوْفَرِ الثَّمَنَيْنِ إلَّا بِبَيَانٍ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ فَإِنَّ لِرَبِّ الْمَالِ بَيْعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَمِائَةٍ إنْ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّ الْمِائَتَيْنِ رِبْحٌ وَهِيَ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّ حِصَّةَ رَبِّ الْمَالِ فِيهَا شُبْهَةٌ وَتُهْمَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَيُطْرَحُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، وَأَمَّا حِصَّةُ الْمُضَارِبِ فَلَا شُبْهَةَ فِيهَا وَلَا تُهْمَةَ إذْ لَا حَقَّ فِيهَا لِرَبِّ الْمَالِ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَمِائَةٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ عَبْدًا بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِمِائَةٍ بَاعَهُ الْمُضَارِبُ مُرَابَحَةً عَلَى مِائَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِمِائَةٍ بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ مُرَابَحَةً عَلَى مِائَةٍ وَهِيَ أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي الْأَقَلِّ وَفِي الْأَكْثَرِ تُهْمَةٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَلَوْ اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ بِخَمْسِمِائَةٍ فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ بَاعَهُ الْمُضَارِبُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّ الْخَمْسَمِائَةِ أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ، وَالْخَمْسُونَ قَدْرُ حِصَّةِ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ فَتُضَمُّ إلَى الْخَمْسِمِائَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْخِيَانَةِ فِي الْمُرَابَحَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْخِيَانَةِ إذَا ظَهَرَتْ. فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إذَا ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ فِي الْمُرَابَحَةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ ظَهَرَتْ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ وَإِمَّا أَنْ ظَهَرَتْ فِي قَدْرِهِ فَإِنْ ظَهَرَتْ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ بِأَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِنَسِيئَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِنَسِيئَةٍ أَوْ بَاعَهُ تَوْلِيَةً وَلَمْ يُبَيِّنْ ثُمَّ عَلِمَ الْمُشْتَرِي فَلَهُ الْخِيَارُ بِالْإِجْمَاعِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ عَقْدٌ بُنِيَ عَلَى الْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ اعْتَمَدَ الْبَائِعَ وَائْتَمَنَهُ فِي الْخَبَرِ عَنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَكَانَتْ الْأَمَانَةُ مَطْلُوبَةً فِي هَذَا الْعَقْدِ فَكَانَتْ صِيَانَتُهُ عَنْ الْخِيَانَةِ مَشْرُوطَةً دَلَالَةً فَفَوَاتُهَا يُوجِبُ الْخِيَارَ كَفَوَاتِ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ وَكَذَا لَوْ صَالَحَ مِنْ دَيْنِ

فصل في حكم الإشراك في المرابحة

أَلْفٍ لَهُ عَلَى إنْسَانٍ عَلَى عَبْدٍ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الْأَلْفِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ كَانَ بَدَلَ الصُّلْحِ فَلَهُ الْخِيَارُ لِمَا قُلْنَا. وَإِنْ ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فِي الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ بِأَنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ بِعَشَرَةٍ وَبِعْتُكَ بِرِبْحِ دَهٍ يازده أَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ بِعَشَرَةٍ وَوَلَّيْتُكَ بِمَا تَوَلَّيْتُ، ثُمَّ تَبَيَّنَّ أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهُ بِتِسْعَةٍ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حُكْمِهِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي الْمُرَابَحَةِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَفِي التَّوْلِيَةِ لَا خِيَارَ لَهُ لَكِنْ يُحَطُّ قَدْرُ الْخِيَانَةِ وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ بِالثَّمَنِ الْبَاقِي، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا خِيَارَ لَهُ وَلَكِنْ يُحَطُّ قَدْرُ الْخِيَانَةِ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَذَلِكَ دِرْهَمٌ فِي التَّوْلِيَةِ، وَدِرْهَمٌ فِي الْمُرَابَحَةِ، وَحِصَّةٌ مِنْ الرِّبْحِ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ دِرْهَمٍ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَهُ الْخِيَارُ فِيهِمَا جَمِيعًا إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَرْضَ بِلُزُومِ الْعَقْدِ إلَّا بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى مِنْ الثَّمَنِ فَلَا يَلْزَمُ بِدُونِهِ وَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ لِفَوَاتِ السَّلَامَةِ عَنْ الْخِيَانَةِ كَمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِفَوَاتِ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ إذَا وُجِدَ الْمَبِيعُ مَعِيبًا (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ أَصْلٌ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ فَإِذَا ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ تَبَيَّنَ أَنَّ تَسْمِيَةَ قَدْرِ الْخِيَانَةِ لَمْ تَصِحَّ فَلَغَتْ تَسْمِيَتُهُ وَبَقِيَ الْعَقْدُ لَازِمًا بِالثَّمَنِ الْبَاقِي، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَهُوَ أَنَّ الْخِيَانَةَ فِي الْمُرَابَحَةِ لَا تُوجِبُ خُرُوجَ الْعَقْدِ عَنْ كَوْنِهِ مُرَابَحَةً؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَزِيَادَةُ رِبْحٍ، وَهَذَا قَائِمٌ بَعْدَ الْخِيَانَةِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الثَّمَنِ رَأْسُ مَالٍ وَبَعْضَهُ رِبْحٌ فَلَمْ يَخْرُجْ الْعَقْدُ عَنْ كَوْنِهِ مُرَابَحَةً، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ تَغْيِيرًا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ. وَهَذَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي الرِّضَا فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ كَمَا إذَا ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ بِأَنْ ظَهَرَ أَنَّ الثَّمَنَ كَانَ نَسِيئَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا بِخِلَافِ التَّوْلِيَةِ؛ لِأَنَّ الْخِيَانَةَ فِيهَا تُخْرِجُ الْعَقْدَ عَنْ كَوْنِهِ تَوْلِيَةً؛ لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَقَدْ ظَهَرَ النُّقْصَانُ فِي الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَلَوْ أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ لَأَخْرَجْنَاهُ عَنْ كَوْنِهِ تَوْلِيَةً وَجَعَلْنَاهُ مُرَابَحَةً، وَهَذَا إنْشَاءُ عَقْدٍ آخَرَ لَمْ يَتَرَاضَيَا عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَحَطَطْنَا قَدْرَ الْخِيَانَةِ وَأَلْزَمْنَا الْعَقْدَ بِالثَّمَنِ الْبَاقِي وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، هَذَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ عِنْدَ ظُهُورِ الْخِيَانَةِ بِمَحَلِّ الْفَسْخِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَنْ هَلَكَ أَوْ حَدَثَ بِهِ مَا يَمْنَعُ الْفَسْخَ بَطَلَ خِيَارُهُ وَلَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِمَحَلِّ الْفَسْخِ لَمْ يَكُنْ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ فَائِدَةٌ فَيَسْقُطُ كَمَا فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي حُكْم الْإِشْرَاكُ فِي الْمُرَابَحَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْإِشْرَاكُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ التَّوْلِيَةِ لَا أَنَّهُ تَوْلِيَةٌ حَقِيقَةً لَكِنَّهُ تَوْلِيَةُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِبَعْضِ الثَّمَنِ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّوْلِيَةِ مِنْ الشَّرَائِطِ وَالْأَحْكَامِ. وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِالْإِشْرَاكِ بَيَانُ الْقَدْرِ الَّذِي تَثْبُتُ فِيهِ الشَّرِكَةُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْمُشْتَرَى لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ لِوَاحِدٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِاثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ كَانَ لِوَاحِدٍ فَأَشْرَكَ فِيهِ غَيْرَهُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُشْرِكَهُ فِي قَدْرٍ مَعْلُومٍ كَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ أَطْلَقَ الشَّرِكَةَ فَإِنْ أَشْرَكَهُ فِي قَدْرٍ مَعْلُومٍ فَلَهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّصَرُّفِ فِيهِ يَثْبُتُ فِي قَدْرِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ هُوَ الْأَصْلُ فَإِنْ أَطْلَقَ الشَّرِكَةَ بِأَنْ قَالَ أَشْرَكْتُكَ فِي هَذَا الْكُرِّ فَلَهُ نِصْفُ الْكُرِّ كَمَا لَوْ قَالَ: أَشْرَكْتُكَ فِي نِصْفِ الْكُرِّ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ الْمُطْلَقَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فَتَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ الرَّجُلِ مِثْلَ نَصِيبِهِ. وَلَوْ أَشْرَكَ رَجُلًا فِي نِصْفِهِ فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى هَلَكَ نِصْفُهُ فَالرَّجُلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ مَا بَقِيَ وَهُوَ رُبُعُ الْكُرِّ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ نِصْفٌ شَائِعٌ مِنْ ذَلِكَ فَمَا هَلَكَ هَلَكَ عَلَى الشَّرِكَةِ وَمَا بَقِيَ بَقِيَ عَلَى الشَّرِكَةِ وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ قَدْ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ رَجُلٌ نِصْفَ الْكُرِّ ثُمَّ هَلَكَ نِصْفُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْهَلَاكِ اسْتِحْقَاقٌ بِأَنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْكُرِّ فَهَهُنَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الشَّرِكَةِ وَالْبَيْعِ فَيَكُونُ النِّصْفُ الْبَاقِي لِلْمُشْتَرِي خَاصَّةً فِي الْبَيْعِ وَفِي الشَّرِكَةِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ أُضِيفَ إلَى نِصْفٍ شَائِعٍ وَتَعَذَّرَ تَنْفِيذُهُ فِي النِّصْفِ الْمُسْتَحَقِّ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَأَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ فِي نِصْفِ الْمَمْلُوكِ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهُ فِيهِ وَكَذَلِكَ فِي الشَّرِكَةِ إلَّا أَنَّ تَنْفِيذَهُ فِي النِّصْفِ الْمَمْلُوكِ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ النِّصْفِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ لِلرَّجُلِ وَنِصْفُهُ لَهُ، وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَشْرِكْنِي فِي هَذَا الْعَبْدِ فَقَالَ: قَدْ أَشْرَكْتُكَ ثُمَّ قَالَ لَهُ رَجُلٌ آخَرُ: مِثْلَ ذَلِكَ فَأَشْرَكَهُ فِيهِ إنْ كَانَ الثَّانِي عَلِمَ بِمُشَارَكَةِ الْأَوَّلِ فَلَهُ الرُّبُعُ وَلِلْمُشْتَرِي الرُّبُعُ وَالنِّصْفُ لِلْأَوَّلِ. وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ بِمُشَارَكَتِهِ فَالنِّصْفُ لَهُ وَالنِّصْفُ لِلْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ الثَّانِي بِمُشَارَكَةِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَطْلُبْ الشَّرِكَةَ مِنْهُ إلَّا فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً

وَالشَّرِكَةُ فِي نَصِيبِهِ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ النَّصِيبَيْنِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّبُعُ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالشَّرِكَةِ فَقَوْلُهُ: أَشْرِكْنِي طَلَبُ الشَّرِكَةِ فِي الْكُلِّ، وَالْإِشْرَاكُ فِي الْكُلِّ أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ لَهُ وَالْأَوَّلُ قَدْ اسْتَحَقَّ النِّصْفَ بِالْمُشَارَكَةِ فَيَسْتَحِقُّ الثَّانِي النِّصْفَ الْبَاقِيَ تَحْقِيقًا لِلشَّرِكَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْمُسَاوَاةِ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: اشْتَرِ جَارِيَةَ فُلَانٍ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَقَالَ الْمَأْمُورُ: نَعَمْ ثُمَّ لَقِيَهُ غَيْرُهُ فَقَالَ لَهُ: مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُ فَقَالَ الْمَأْمُورُ: نَعَمْ، ثُمَّ اشْتَرَى الْجَارِيَةَ فَالْجَارِيَةُ بَيْنَ الْآمِرَيْنِ وَلَا شَيْءَ مِنْهَا لِلْمَأْمُورِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ نِصْفِ الْجَارِيَةِ وَبِقَبُولِ الْوَكَالَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ وَكِيلًا لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إخْرَاجُ نَفْسِهِ عَنْ الْوَكَالَةِ مِنْ غَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ فَبَقِيَ وَكِيلًا لَهُ بِشِرَاءِ النِّصْفِ. فَإِذَا قَبِلَ الْوَكَالَةَ مِنْ الثَّانِي صَارَ وَكِيلًا فِي شِرَاءِ النِّصْفِ الْآخَرِ فَإِذَا اشْتَرَى الْجَارِيَةَ فَقَدْ اشْتَرَاهَا لِمُوَكِّلَيْهِ فَكَانَتْ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ لَقِيَهُ ثَالِثٌ فَقَالَ لَهُ: مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلَانِ فَقَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ لِلْأَوَّلَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِلثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ وَكِيلًا لِلْأَوَّلَيْنِ إذْ لَا يَمْلِكُ إخْرَاجَ نَفْسِهِ عَنْ وَكَالَتِهِمَا حَالَ غَيْبَتِهِمَا فَلَمْ يَصِحَّ قَبُولُهُ الْوَكَالَةَ مِنْ الثَّالِثِ شَرِيكَانِ شَرِكَةَ عِنَانٍ فِي الرَّقِيقِ أَمَرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدَ فُلَانٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَأْمُورِ ثُمَّ أَمَرَهُ آخَرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَاشْتَرَاهُ، فَالنِّصْفُ لِلْأَجْنَبِيِّ وَالنِّصْفُ لِلشَّرِيكَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ يَمْلِكُ شِرَاءَ الرَّقِيقِ بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ فَكَانَ الْأَمْرُ سَفَهًا فَلَمْ يَصِحَّ وَصَحَّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ فَاسْتَحَقَّ النِّصْفَ، وَاسْتِحْقَاقُ النِّصْفِ تَقْتَضِيهِ الشَّرِكَةُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. هَذَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرَى لِوَاحِدٍ فَأَشْرَكَهُ فَإِنْ كَانَ لِاثْنَيْنِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ أَشْرَكَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا، وَإِمَّا أَنْ أَشْرَكَاهُ جَمِيعًا، فَإِنْ أَشْرَكَهُ أَحَدُهُمَا، فَإِمَّا أَنْ أَشْرَكَهُ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً بِأَنْ قَالَ: أَشْرَكْتُكَ فِي نَصِيبِي، وَإِمَّا أَنْ أَشْرَكَهُ فِي نِصْفِهِ بِأَنْ قَالَ: أَشْرَكْتُكَ فِي نِصْفِي، وَإِمَّا أَنْ أَشْرَكَهُ مُطْلَقًا بِأَنْ قَالَ: أَشْرَكْتُكَ فِي هَذَا الْعَبْدِ، وَإِمَّا أَنْ أَشْرَكَهُ فِي نَصِيبِهِ وَنَصِيبِ صَاحِبِهِ، وَإِمَّا أَنْ أَشْرَكَهُ فِي نِصْفِهِ بِأَنْ قَالَ: أَشْرَكْتُكَ فِي نِصْفِ هَذَا الْعَبْدِ فَإِنْ أَشْرَكَهُ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً فَلَهُ النِّصْفُ مِنْ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ الْمُطْلَقَةَ فِي نَصِيبِهِ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ فِيهِ مِثْلَ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ، وَكَذَا لَوْ أَشْرَكَهُ فِي نِصْفِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ الْمُطْلَقَةَ فِي نِصْفِهِ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِيهِ، وَإِنْ أَشْرَكَهُ مُطْلَقًا فَإِنْ أَجَازَ شَرِيكُهُ فَلَهُ النِّصْفُ كَامِلًا، وَالنِّصْفُ لَهُمَا وَإِنْ لَمْ يُجِزْ فَالرُّبُعُ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ الْمُطْلَقَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فَتَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ وَحْدَهُ مِثْلَ نَصِيبِهِمَا جَمِيعًا إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يُجِزْ تَعَذَّرَ تَنْفِيذُ الْإِشْرَاكِ فِي نَصِيبِهِ فَيَنْفُذُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ لَهُ الرُّبُعُ. وَإِذَا أَجَازَ أَمْكَنَ إجْرَاءُ الشَّرِكَةِ عَلَى إطْلَاقِهَا وَهِيَ بِإِطْلَاقِهَا تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يَكُونَ لَهُ النِّصْفُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّبُعُ وَإِنْ أَشْرَكَهُ فِي نَصِيبِهِ وَنَصِيبِ صَاحِبِهِ فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إنْ أَجَازَ صَاحِبُهُ فَلَهُ النِّصْفُ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَهُمَا وَإِنْ لَمْ يُجِزْ فَلَهُ الرُّبُعُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ إنْ أَجَازَ كَانَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُجِيزَ كَانَ لَهُ ثُلُثُ مَا فِي يَدِ الَّذِي أَشْرَكَهُ وَهُوَ سُدُسُ الْكُلِّ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ إشْرَاكَ أَحَدِهِمَا وَإِجَازَةَ الْآخِرِ بِمَنْزِلَةِ إشْرَاكِهِمَا مَعًا؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَسْتَنِدُ إلَى حَالِ الْعَقْدِ فَكَأَنَّهُمَا أَشْرَكَاهُ مَعًا؛ وَلِأَنَّ الْإِجَازَةَ اللَّاحِقَةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ فَصَارَ كَأَنَّ الْعَاقِدَ أَشْرَكَ بِوَكَالَةِ صَاحِبِهِ (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِشْرَاكَ وَالْإِجَازَةَ تَثْبُتُ عَلَى التَّعَاقُبِ لِوُجُودِ الْإِشْرَاكِ وَالْإِجَازَةِ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ عَلَى وَفْقِ الْعِلَّةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَشْرَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ، قَوْلُهُ الْإِجَازَةُ: تَسْتَنِدُ إلَى حَالَةِ الْعَقْدِ قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنَّ الثَّابِتَ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ يَثْبُتُ لِلْحَالِ ثُمَّ يَسْتَنِدُ فَكَانَ حُكْمُ الْإِجَازَةِ مُتَأَخِّرًا عَنْ حُكْمِ الْإِشْرَاكِ ثُبُوتًا، وَإِنْ أَشْرَكَهُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ فَأَجَازَ شَرِيكُهُ فَلَهُ نِصْفُ مَا فِي يَدِ هَذَا وَنِصْفُ مَا فِي يَدِ الْآخَرِ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْ فَلَهُ نِصْفُ مَا فِي يَد الَّذِي أَشْرَكَهُ لِمَا قُلْنَا هَذَا إذَا أَشْرَكَهُ أَحَدُهُمَا، فَأَمَّا إذَا أَشْرَكَاهُ جَمِيعًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ أَشْرَكَاهُ مَعًا. وَإِمَّا أَنْ أَشْرَكَاهُ عَلَى التَّعَاقُبِ، فَإِنْ أَشْرَكَاهُ مَعًا فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهُ النِّصْفُ كَامِلًا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّبُعُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَإِنْ أَشْرَكَاهُ عَلَى التَّعَاقُبِ مُطْلَقًا وَلَمْ يُبَيِّنَا قَدْرَ الشَّرِكَةِ أَوْ أَشْرَكَاهُ فِي نَصِيبِهِمَا بِأَنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَشْرَكْتُكَ فِي نَصِيبِي وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي كَمْ أَشْرَكَهُ كَانَ لَهُ النِّصْفُ وَلِلْأَوَّلَيْنِ النِّصْفُ (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا أَشْرَكَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقَدْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ نَصِيبِهِ فَكَانَ النِّصْفُ لَهُ وَالنِّصْفُ لَهُمَا جَمِيعًا كَمَا لَوْ أَشْرَكَاهُ عَلَى التَّعَاقُبِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ حَالَةِ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ أَنَّ الْإِشْرَاكَ الْمُطْلَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إيَّاهُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِي

فصل في المواضعة

أَنْصِبَاءِ الْكُلِّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلَ نَصِيبِ الْآخَرِ فِي أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا بِخِلَافِ الْإِشْرَاكِ عَلَى التَّعَاقُبِ؛ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ مِنْ أَحَدِهِمَا مُطْلَقًا فِي زَمَانٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ مِثْلَ نَصِيبِهِ، وَكَذَلِكَ الْإِشْرَاكُ الْآخَرُ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي فَيَجْتَمِعُ لَهُ رُبُعَانِ وَهُوَ النِّصْفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّبُعُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الْمُوَاضَعَةُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْمُوَاضَعَةُ فَهِيَ بَيْعٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ نُقْصَانِ شَيْءٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ، وَيُعْتَبَرُ لَهَا مِنْ الشَّرَائِطِ وَالْأَحْكَامِ مَا يُعْتَبَرُ لِلْمُرَابَحَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ، وَالْأَصْلُ فِي مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ فِي الْمُوَاضَعَةِ أَنْ يُضَمَّ قَدْرُ الْوَضِيعَةِ إلَى رَأْسِ الْمَالِ ثُمَّ يُطْرَحُ مِنْهُ فَمَا بَقِيَ بَعْدَ الطَّرْحِ فَهُوَ الثَّمَنُ مِثَالُهُ إذَا قَالَ: اشْتَرَيْتُ هَذَا بِعَشَرَةٍ وَبِعْتُكَ بِوَضِيعَةِ دَهٍ يازده فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ الثَّمَنَ أَنَّهُ كَمْ هُوَ فَسَبِيلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ دِرْهَمٍ مِنْ الْعَشَرَةِ الَّتِي هِيَ رَأْسُ الْمَالِ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا فَيَكُونُ الْكُلُّ أَحَدَ عَشَرَ، اطْرَحْ مِنْهُمَا دِرْهَمًا يَكُونُ الثَّمَنُ تِسْعَةَ دَرَاهِمَ وَجُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ تَجْرِي مَسَائِلُ الْمُوَاضَعَةِ وَاَللَّهُ الْمُوفَقُ لِلصَّوَابِ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِط لُزُومِ الْبَيْعِ بَعْدَ انْعِقَادِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ لُزُومِ الْبَيْعِ بَعْدَ انْعِقَادِهِ وَنَفَاذِهِ وَصِحَّتِهِ فَوَاحِدٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنْ خِيَارَاتٍ أَرْبَعَةٍ خِيَارِ التَّعْيِينِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَلَا يَلْزَمُ مَعَ أَحَدِ هَذِهِ الْخِيَارَاتِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - افْتِرَاقُ الْعَاقِدَيْنِ مَعَ الْخُلُوِّ عَنْ الْخِيَارَيْنِ وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ وَخِيَارُ الْعَيْبِ شَرْطٌ أَيْضًا وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ لَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ ثَابِتٌ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ؛ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَبِيعُ شَيْئًا وَيَشْتَرِي ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَنْدَمُ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّدَارُكِ بِالْفَسْخِ فَكَانَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ بَابِ النَّظَرِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ. (وَلَنَا) ظَاهِرُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] أَبَاحَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْأَكْلَ بِالتِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ التَّفَرُّقِ عَنْ مَكَانِ الْعَقْدِ، وَعِنْدَهُ إذَا فَسَخَ أَحَدُهُمَا الْعَقْدَ فِي الْمَجْلِسِ لَا يُبَاحُ الْأَكْلُ فَكَانَ ظَاهِرُ النَّصِّ حُجَّةً عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ صَدَرَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطٍ، وَالْعَقْدُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ فِي الْحَالِ فَالْفَسْخُ مِنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ يَكُونُ تَصَرُّفًا فِي الْعَقْدِ الثَّابِتِ بِتَرَاضِيهِمَا أَوْ فِي حُكْمِهِ بِالرَّفْعِ وَالْإِبْطَالِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا لَمْ يَنْفَرِدْ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ وَالْإِقَالَةِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ كَذَا هَذَا. (وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَإِنْ ثَبَتَ مَعَ كَوْنِهِ فِي حَدِّ الْآحَادِ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ الْكِتَابِ، فَالْخِيَارُ الْمَذْكُورُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى خِيَارِ الرُّجُوعِ وَالْقَبُولِ مَا دَامَا فِي التَّبَايُعِ، وَهُوَ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: بِعْتُ مِنْكَ كَذَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَقُلْ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ لَا يَقْبَلَ أَيْضًا، وَإِذَا قَالَ: الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ مِنْكَ بِكَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَقُلْ الْبَائِعُ: بِعْتُ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ لَا يَقْبَلَ أَيْضًا، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّأْوِيلِ لِلْخَبَرِ نَقَلَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا عَنْ بَيْعِهِمَا» حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يُكْرَهُ مِنْ الْبِيَاعَاتِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنْ الْبِيَاعَاتِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا. فَأَمَّا الْبِيَاعَاتُ الْمَكْرُوهَةُ (فَمِنْهَا) التَّفْرِيقُ بَيْنَ الرَّقِيقِ فِي الْبَيْعِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُولَهُ وَالِدَةٌ عَنْ وَلَدِهَا» وَالتَّفَرُّقُ بَيْنَهُمَا تَوْلِيهٌ فَكَانَ مَنْهِيًّا. وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَأَى امْرَأَةً وَالِهَةً فِي السَّبْيِ فَسَأَلَ عَنْ شَأْنِهَا فَقِيلَ: قَدْ بِيعَ وَلَدُهَا فَأَمَرَ بِالرَّدِّ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْوَعِيدِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهِمْ السَّبْيُ وَالتَّفْرِيقُ حَتَّى يَبْلُغَ الْغُلَامُ وَتَحِيضَ الْجَارِيَةُ وَنَهَى عَنْ التَّفْرِيقِ فِي حَالِ الصِّغَرِ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَهَبَ مِنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غُلَامَيْنِ صَغِيرَيْنِ فَبَاعَ أَحَدَهُمَا فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُمَا فَقَالَ: بِعْتُ أَحَدَهُمَا فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: بِعْهُمَا أَوْ رُدَّ» ، وَالْأَمْرُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْبَيْعِ أَوْ رَدِّ الْبَيْعِ فِيهِمَا دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّفْرِيق؛ وَلِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ نَوْعُ إضْرَارٍ بِهِمَا؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ يَنْتَفِعُ بِشُفْعَةِ الْكَبِيرِ وَيَسْكُنُ إلَيْهِ وَالْكَبِيرُ يَسْتَأْنِسُ بِالصَّغِيرِ، وَذَا يَفُوتُ

كراهة التفريق في البيع

بِالتَّفْرِيقِ فَيَلْحَقُهُمَا الْوَحْشَةُ فَكَانَ التَّفْرِيقُ إضْرَارًا بِهِمَا بِإِلْحَاقِ الْوَحْشَةِ، وَكَذَا بَيْنَ الصَّغِيرَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا يَأْتَلِفَانِ وَيَسْكُنُ قَلْبُ أَحَدِهِمَا بِصَاحِبِهِ فَكَانَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا إيحَاشًا بِهِمَا فَكُرِهَ وَلِأَنَّ الصِّبَا مِنْ أَسْبَابِ الرَّحْمَةِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَفِي التَّفْرِيقِ تَرْكُ الرَّحْمَةِ فَكَانَ مَكْرُوهًا. [كَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ فِي الْبَيْع] ثُمَّ الْكَلَامُ فِي كَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْكَرَاهَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ أَنَّهُ جَائِزٌ أَمْ لَا. (أَمَّا) شَرَائِطُ الْكَرَاهَةِ (فَمِنْهَا) صِغَرُ أَحَدِهِمَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَغِيرًا أَوْ يَكُونَا صَغِيرَيْنِ فَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ لَا يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهِمْ السَّبْيُ وَالتَّفْرِيقُ حَتَّى يَبْلُغَ الْغُلَامُ وَتَحِيضَ الْجَارِيَةُ» مَدَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - النَّهْيَ عَنْ التَّفْرِيقِ إلَى غَايَةِ الْبُلُوغِ فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْكَرَاهَةِ بِحَالَةِ الصِّغَرِ وَزَوَالِهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ وَلِأَنَّ الْكَرَاهَةَ مَعْلُولَةٌ بِالْإِضْرَارِ بِزَوَالِ الِاسْتِئْنَاسِ وَالشَّفَقَةِ وَتَرْكِ الرَّحِمِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِحَالَةِ الصِّغَرِ. ، (وَمِنْهَا) الرَّحِمُ وَهُوَ الْقَرَابَةُ فَإِنْ كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ لَمْ يُكْرَهْ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا. ، (وَمِنْهَا) الْمَحْرَمِيَّةُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَا ذَوِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ مُحَرِّمَةٌ لِلنِّكَاحِ فَلَا يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ ابْنَيْ الْعَمِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ الْمُحَرِّمَةَ لِلنِّكَاحِ مُحَرِّمَةٌ الْقَطْعَ مُفْتَرِضَةٌ الْوَصْلَ فَكَانَتْ مَنْشَأَ الشَّفَقَةِ وَالْأُنْسِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْقَرَابَاتِ وَكَذَا الْمَحْرَمِيَّةُ بِدُونِ الرَّحِمِ لَا تُحَرِّمُ التَّفْرِيقَ كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الشَّفَقَةِ وَالْأُنْسِ لِعَدَمِ دَلِيلِهِمَا وَهُوَ الْقَرَابَةُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَالِكُهُمَا وَاحِدًا بِأَيِّ سَبَبٍ مَلَكَهُمَا بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي مِلْكِهِ وَالْآخَرُ فِي مِلْكِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدَانِ صَغِيرَانِ أَحَدُ الْمَمْلُوكَيْنِ فِي مِلْكِ أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ فِي مِلْكِ الْآخَرِ لَا بَأْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي التَّفْرِيقِ أَنْ يَكُونَا فِي مِلْكِ وَاحِدٍ وَإِنْ لَمْ يَجْمَعْهُمَا مِلْكُ مَالِكٍ وَاحِدٍ لَا يَقَعُ الْبَيْعُ تَفْرِيقًا؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مُتَفَرِّقَيْنِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَكَذَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا فِي مِلْكِهِ وَالْآخَرُ فِي مِلْكِ مُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْكَسْبِ مُلْحَقٌ بِالْأَحْرَارِ فَاخْتَلَفَ الْمَالِكُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي مِلْكِهِ وَالْآخَرُ فِي مِلْكِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ فَلَا بَأْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ الَّذِي عِنْدَهُ. فَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ فَلَمْ يُوجَدْ بِالِاجْتِمَاعِ فِي مِلْكِ مَالِكٍ وَاحِدٍ، وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُهُ لَكِنَّهُ مِلْكٌ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَكَانَ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ فَلَمْ يُوجَدْ الِاجْتِمَاعُ مَعْنًى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُكْرَهُ لِلْمَوْلَى أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا لِوُجُودِ الِاجْتِمَاعِ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي مِلْكِهِ وَالْآخَرُ فِي مِلْكِ مُضَارِبِهِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارِبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكَ الْمُضَارِبِ لَكِنْ لَهُ حَقٌّ قَوِيٌّ فِيهِ حَتَّى جَازَ بَيْعُ الْمُضَارِبِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَبَيْعُ رَأْسِ الْمَالِ مِنْ الْمُضَارِبِ اسْتِحْسَانًا فَكَانَ رَأْسِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَمْ يُوجَدْ الِاجْتِمَاعُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا بَاعَ جَارِيَةً كَبِيرَةً عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ مَلَكَ وَلَدَهَا الصَّغِيرَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ أَنَّهُ يُكْرَهُ إيجَابُ الْبَيْعِ فِي الْجَارِيَةِ بِالْإِجَازَةِ أَوْ بِالتَّرْكِ حَتَّى تَمْضِيَ الْمُدَّةُ بَلْ يُفْسَخُ الْبَيْعُ حَتَّى لَا يَحْصُلَ التَّفْرِيقُ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ السِّلْعَةِ عَنْ مِلْكِهِ فَكَانَتْ الْجَارِيَةُ عَلَى مِلْكِهِ فَإِذَا مَلَكَ وَلَدَهَا الصَّغِيرَ فَقَدْ اجْتَمَعَا فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ تَفْرِيقًا فَيُكْرَهُ وَلَوْ بَاعَ الْجَارِيَةَ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ مَلَكَ الْبَائِعُ وَلَدَهَا الصَّغِيرَ فِي الْمُدَّةِ فَلَا بَأْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ أَوْ يَفْسَخَ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ خُرُوجَ السِّلْعَةِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي دُخُولِهَا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْمَمْلُوكَانِ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَلَمْ تَكُنْ الْإِجَازَةُ تَفْرِيقًا وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَلَهَا ابْنٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَا تُكْرَهُ الْإِجَازَةُ بِلَا إشْكَالٍ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ لَا تَكُونُ تَفْرِيقًا بَلْ تَكُونُ جَمْعًا (وَأَمَّا) الْفَسْخُ فَكَذَلِكَ لَا يُكْرَهُ أَيْضًا (أَمَّا) عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اللَّهُ فَلَا يُشْكِلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ لَمْ تَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ دُخُولَ السِّلْعَةِ فِي مِلْكِهِ عَلَى أَصْلِهِ فَلَمْ يَقَعْ الْفَسْخُ تَفْرِيقًا لِانْعِدَامِ الِاجْتِمَاعِ فِي مِلْكِهِ. (وَأَمَّا) عِنْدَهُمَا فَالْجَارِيَةُ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ لَكِنَّ الْفَسْخَ حَقُّهُ فَالْإِجْبَارُ

عَلَى الْإِجَازَةِ إبْطَالٌ لِحَقِّهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَمْلِكَهُمَا عَلَى الْكَمَالِ فَإِنْ مَلَكَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شِقْصًا مِنْهُ لَمْ يُكْرَهْ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ هَهُنَا لَا يَقَعُ تَفْرِيقًا مُطْلَقًا لِحُصُولِ التَّفْرِيقِ قَبْلَهُ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ عَنْ التَّفْرِيقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلًّا لِلْبَيْعِ عِنْدَ الْبَيْعِ فَإِنْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ بِالتَّدْبِيرِ أَوْ الِاسْتِيلَادِ فَلَا بَأْسَ مِنْ بَيْعِ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَفْرِيقٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ بَيْعُهُمَا جَمِيعًا فَلَوْ مُنِعَ عَنْ بَيْعِ الْآخَرِ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْمَالِكُ، وَكَرَاهَةُ التَّفْرِيقِ شَرْعًا لِدَفْعِ ضَرَرٍ زَائِدٍ فَلَا يَجُوزُ دَفْعُهُ بِإِلْحَاقِ ضَرَرٍ فَوْقَهُ بِالْمَالِكِ. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِأَحَدِهِمَا حَقٌّ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِأَنْ لَحِقَ أَحَدَهُمَا دَيْنٌ بِأَنْ اسْتَهْلَكَ مَالَ إنْسَانٍ أَوْ جَنَى جِنَايَةً عَلَى بَنِي آدَمَ أَوْ اشْتَرَاهُمَا رَجُلٌ فَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا لَمْ يُكْرَهْ التَّفْرِيقُ بَلْ يُبَاعُ بِالدَّيْنِ وَيُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ وَيُرَدُّ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّفْرِيقِ دَفْعَ ضَرَرٍ زَائِدٍ بِضَرَرٍ أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ إبْطَالُ الْحَقِّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا جَنَى أَحَدُهُمَا يُسْتَحَبُّ لِلْمَالِكِ أَنْ يَفْدِيَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْحَقَّيْنِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَأَنَّهُ حَسَنٌ عَقْلًا وَشَرْعًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَاهُمَا رَجُلٌ فَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا يَرُدُّهُمَا جَمِيعًا أَوْ يُمْسِكُهُمَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ رَدَّهُ خَاصَّةً تَفْرِيقٌ، وَأَنَّهُ إضْرَارٌ فَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَى مِصْرَاعَيْ بَابٍ أَوْ زَوْجَيْ خُفٍّ أَوْ نَعْلٍ ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً لِكَوْنِهِ إضْرَارًا بِالْبَائِعِ خَاصَّةً كَذَا هَذَا. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَالِكُهُمَا مُسْلِمًا فَإِنْ كَانَ كَافِرًا لَا يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالِكُ حُرًّا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ مَأْذُونًا عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَمْلُوكَانِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ كَافِرًا؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِكَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ مِنْ النُّصُوصِ وَالْمَعْقُولِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ وَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ وَمَعَهُ عَبْدَانِ صَغِيرَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا صَغِيرٌ وَالْآخَرُ كَبِيرٌ وَهُمَا ذَوَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَوْ اشْتَرَاهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي دَخَلَ مَعَهُ بِأَمَانٍ فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، وَلَوْ اشْتَرَاهُمَا مِنْ مُسْلِمٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ حَرْبِيٍّ دَخَلَ بِأَمَانٍ مِنْ وِلَايَةٍ أُخْرَى لَا مِنْ وِلَايَتِهِ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَ أَحَدَهُمَا (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الضَّرُورَةَ دَفَعْت الْكَرَاهَةَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْتَرِ لَأَدْخَلَهُمَا دَارَ الْحَرْبِ فَيَصِيرُ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَنْعَدِمُ فِي هَذَا الْفَصْلِ؛ لِأَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِمَا وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ إلْحَاقِهِمَا بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَرْضَيَا بِالتَّفْرِيقِ فَإِنْ رَضِيَا لَا يُكْرَهُ بِأَنْ كَانَ الصَّبِيُّ مُرَاهِقًا وَرَضِيَ بِالْبَيْعِ وَرَضِيَتْ أُمُّهُ فَبِيعَ بِرِضَاهُمَا؛ لِأَنَّ كَرَاهَةَ التَّفْرِيقِ لِمَكَانِ الضَّرَرِ فَإِذَا رَضِيَا بِهِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فَلَا يُكْرَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الصَّغِيرِ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ قَرِيبٌ وَاحِدٌ هُوَ ذُو رَحِمٍ مُحَرِّمٍ مِنْهُ. فَأَمَّا إذَا كَانَ مَعَهُ عَدَدٌ مِنْ الْأَقَارِبِ كُلُّ وَاحِدٍ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الصَّغِيرِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَا أَبَوَيْنِ أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَإِنْ كَانَا أَبَوَيْنِ يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَا مِمَّنْ سِوَاهُمَا مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، فَإِمَّا أَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ مِنْ الصَّغِيرِ وَالْآخَرُ أَبْعَدَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ كَانَا فِي الْقُرْبِ مِنْهُ عَلَى السَّوَاءِ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ لَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ الْأَبْعَدِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ شَفَقَةَ الْأَقْرَبِ تُغْنِي عَنْ شَفَقَةِ الْأَبْعَدِ فَلَمْ يَكُنْ التَّفْرِيقُ إضْرَارًا بِالصَّغِيرِ سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ قَرَابَةُ الْكَبِيرَيْنِ كَالْأَبِ مَعَ الْجَدِّ وَالْأُمِّ مَعَ الْجَدَّةِ أَوْ الْخَالَةِ أَوْ الْخَالِ أَوْ اخْتَلَفَتْ كَالْأُمِّ مَعَ الْعَمَّةِ أَوْ الْعَمِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا كَيْفَ مَا كَانَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ شَفَقَةٌ عَلَى الصَّغِيرِ وَتَزُولُ بِالتَّفْرِيقِ. وَإِنْ كَانَ الْكَبِيرَانِ فِي الْقُرْبِ مِنْ الصَّغِيرِ شَرْعًا سَوَاءً يُنْظَرُ إنْ اتَّفَقَتْ جِهَةُ قَرَابَتِهِمَا كَالْعَمَّتَيْنِ وَالْخَالَتَيْنِ وَالْأَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ، فَالْقِيَاسُ أَنْ يُكْرَهَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الصَّغِيرَيْنِ وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُكْرَهُ إذَا بَقِيَ مَعَ الصَّغِيرِ قَرِيبٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَفَقَةٌ عَلَى حِدَةٍ عَلَى الصَّغِيرِ فَلَا تَقُومُ شَفَقَةُ أَحَدِهِمَا مَقَامَ الْآخَرِ، وَكَذَا قَدْ يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ شَفَقَةٍ لَيْسَتْ فِي الْآخَرِ فَكَانَ التَّفْرِيقُ إضْرَارًا بِتَفْوِيتِ شَفَقَتِهِ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلِ أَوْ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرِ فَيُكْرَهُ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ كَرَاهَةَ التَّفْرِيقِ لِلْإِضْرَارِ بِالصَّغِيرِ بِتَفْوِيتِ النَّظَرِ وَعِنْدَ اتِّحَادِ جِهَةِ الْقَرَابَةِ وَالتَّسَاوِي فِي الْقُرْبِ مِنْ الصَّغِيرِ كَانَ مَعْنَى

فصل في ما يحصل به التفريق في البيع

النَّظَرِ حَاصِلًا بِبَقَاءِ أَحَدِهِمَا بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَتْ الْجِهَةُ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ جِهَةِ الْقَرَابَةِ تَخْتَلِفُ الشَّفَقَةُ فَيَحْصُلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَا يَحْصُلُ بِالْآخَرِ فَكَانَ التَّفْرِيقُ إضْرَارًا، وَكَذَلِكَ لَوْ مَلَكَ سِتَّةَ إخْوَةٍ أَوْ سِتَّةَ أَخَوَاتٍ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ كِبَارٌ وَثَلَاثَةٌ صِغَارٌ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ كُلِّ صَغِيرٍ مَعَ كُلِّ كَبِيرٍ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كَانَ مَعَ الصَّغِيرِ أَبَوَانِ حُكْمًا بِأَنْ ادَّعَيَاهُ حَتَّى ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا ثُمَّ اجْتَمَعُوا فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُكْرَهَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا لِاتِّحَادِ جِهَةِ الْقَرَابَةِ، وَهِيَ قَرَابَةُ الْأُبُوَّةِ كَالْعَمَّيْنِ وَالْخَالَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ أَحَدُهُمَا حَقِيقَةً فَكَانَ الثَّابِتُ قَرَابَةَ أَحَدِهِمَا حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا حَكَمْنَا بِثَبَاتِ نَسَبِهِ مِنْهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّعْوَةِ، وَلَكِنَّ الْأَبَ فِي الْحَقِيقَةِ أَحَدُهُمَا. فَلَوْ بَاعَ أَحَدَهُمَا لَاحْتُمِلَ أَنَّهُ بَاعَ الْأَبَ فَيَتَحَقَّقُ التَّفْرِيقُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِلصَّغِيرِ أَبٌ وَأُمٌّ حَيْثُ يُكْرَهُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ قَرَابَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَحَقِّقَةٌ فَكَانَ الْبَيْعُ تَفْرِيقًا بَيْنَ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ بِيَقِينٍ فَيُكْرَهُ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ جِهَةُ قَرَابَةِ الْكَبِيرَيْنِ كَالْعَمَّةِ مَعَ الْخَالَةِ وَالْعَمِّ مَعَ الْخَالِ وَالْأَخِ لِأَبٍ مَعَ الْأَخِ لِأُمٍّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ؛ لِأَنَّ مَنْ يُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأَبِ إلَى الصَّغِيرِ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ، وَاَلَّذِي يُدْلِي إلَيْهِ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ يَقُومُ مَقَامَ الْأُمِّ فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَ الصَّغِيرِ أَبًا وَأُمًّا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ كَذَا هَذَا. امْرَأَةٌ سُبِيَتْ وَفِي حِجْرِهَا بِنْتٌ صَغِيرَةٌ وَقَعَتَا فِي سَهْمِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَالْمَرْأَةُ تَزْعُمُ أَنَّهَا ابْنَتُهَا يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهَا بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهَا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ فِي كَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ وَرَدَتْ فِي حَقِّ السَّبَايَا وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُ الصَّغِيرِ وَلَدَ الْمَسْبِيَّةِ إلَّا بِقَوْلِهَا: فَيَدُلُّ عَلَى قَبُولِ قَوْلِهَا فِي حَقِّ كَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الدِّيَانَةِ، وَقَوْلُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الدِّيَانَاتِ مَقْبُولٌ خُصُوصًا فِيمَا يُسْلَكُ فِيهِ طَرِيقُ الِاحْتِيَاطِ وَلَوْ كَبِرَتْ الصَّغِيرَةُ فِي يَدِ السَّابِي وَقَدْ كَانَ وَطِئَ الْكَبِيرَةَ وَلَمْ يَعْلَمْ مِنْ الْمَرْأَةِ الْمَسْبِيَّةِ إرْضَاعَ الصَّغِيرَةِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْرَبَ الْبِنْتَ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهَا مِنْهَا لِدَعْوَتِهَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا بِنْتُهَا مِنْ النَّسَبِ أَوْ الرَّضَاعِ فَلَا يَقْرَبُهَا احْتِيَاطًا وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ مِنْ قُرْبَانِهَا فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الصَّغِيرَةُ فِي حِجْرِهَا وَقْتَ السَّبْيِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهَا عِنْدَ السَّبْيِ فَلَا دَلِيلَ عَلَى كَوْنِهَا وَلَدًا لَهَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا أَصْلًا. وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ مِنْ السَّبَايَا صَغِيرًا أَوْ صَغِيرَةً أَنَّهُ وَلَدُهُ قُبِلَ قَوْلُهُ: وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي مِلْكٍ خَاصٍّ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الرَّجُلِ صَحِيحَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ كَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ وَقْتَ السَّبْيِ فِي يَدِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ دَعْوَةِ الْمَرْأَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ الْوَلَدَ مَعَهَا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَهُوَ زَوْجُهَا وَصَدَّقَهَا تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا الزَّوْجِيَّةُ بِتَصَادُقِهِمَا وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُمَا، وَيُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ وَلَدُهُمَا بِإِقْرَارِهِمَا وَلَوْ ادَّعَى وَاحِدٌ مِنْ الْغَانِمِينَ وَلَدًا صَغِيرًا مِنْ السَّبْيِ أَنَّهُ وَلَدُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ الْبَيْعِ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَيَكُونُ وَلَدُهُ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَعَهُ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ كَانَ مُسْلِمًا وَلَا يَسْتَرِقُّ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الدَّاعِي وَلَكِنَّهُ يَسْتَرِقُّ؛ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ وَإِنْ صَحَّتْ فِي حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ وَاسْتَنَدَتْ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ لَكِنَّهَا لَمْ تَصِحَّ وَلَمْ تَسْتَنِدْ فِي حَقِّ الِاسْتِرْقَاقِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْغَانِمِينَ فَلَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ وَيَجُوزُ أَنْ يُصَدَّقَ الْإِنْسَانُ فِي إقْرَارِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ إذَا تَضَمَّنَ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ كَمَنْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ إنْسَانٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ صَحَّ الشِّرَاءُ وَعَتَقَ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَاهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَعْتِقَ عَلَيْهِ وَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ بَائِعِهِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى بَائِعِهِ وَلِهَذَا نَظَائِرُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ فِي الْبَيْع] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ فَهُوَ التَّمْلِيكُ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ تَنْقَطِعُ بِهِ مَنْفَعَةُ الْأُنْسِ وَالشَّفَقَةِ، وَكَذَا الْقِسْمَةُ فِي الْمِيرَاثِ وَالْغَنَائِمِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَخْلُو عَنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ خُصُوصًا فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَيَحْصُلُ بِهَا التَّفْرِيقُ فَيُكْرَهُ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْتِقَ أَحَدُهُمَا أَوْ يُكَاتِبَهُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، بَلْ هُوَ إزَالَةُ الْمِلْكِ أَوْ إنْهَاؤُهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّفْرِيقُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُعْتِقَ يُمْكِنُهُ الِاسْتِئْنَاسُ بِصَاحِبِهِ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ الْإِعْتَاقُ تَفْرِيقًا وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ حُرٌّ يَدًا فَلَا تَنْقَطِعُ بِهَا مَنْفَعَةُ الْأُنْسِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ تَفْرِيقًا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَلَئِنْ كَانَ تَفْرِيقًا فَيَقَعُ الْإِعْتَاقُ فَوْقَ ضَرَرِ التَّفْرِيقِ فَلَا

فصل في صفة البيع الذي يحصل به التفريق

يَكُونُ ضَرَرًا مَعْنًى وَلَوْ بَاعَ أَحَدَهُمَا نَسَمَةً لِلْعِتْقِ يُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يُكْرَهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالَةِ الْمُشْتَرِي إنْجَازُ مَا وَعَدَ فَيَخْرُجُ التَّفْرِيقُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ضَرَرًا؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُهُ نَفْعٌ أَعْظَمُ مِنْهُ وَهُوَ الْعِتْقُ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ فِي الْبَيْعِ وَلَوْ كَانَ مَشْرُوطًا لَأَوْجَبَ فَسَادَ الْبَيْعِ فَبَقِيَ قَصْدُ الْإِعْتَاقِ وَتَنْفِيذُ هَذَا الْقَصْدِ لَيْسَ بِلَازِمٍ فَبَقِيَ الْبَيْعُ تَفْرِيقًا فَيُكْرَهُ حَتَّى لَوْ كَانَ قَالَ الْمُشْتَرِي: إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ اشْتَرَاهُ، قَالُوا: لَا يُكْرَهُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ بَعْدَ الشِّرَاءِ لَا مَحَالَةَ فَيَخْرُجُ الْبَيْعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ضَرَرًا. [فَصْلٌ فِي صِفَة الْبَيْعِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْبَيْعِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ أَنَّهُ جَائِزٌ أَمْ لَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: الْبَيْعُ جَائِزٌ مُفِيدٌ لِلْحُكْمِ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَالْبَائِعُ بِالتَّفْرِيقِ آثِمٌ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَفِي سَائِرِ ذَوِي الْأَرْحَامِ جَائِزٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْبَيْعُ بَاطِلٌ فِي الْكُلِّ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ لِلنَّهْيِ عَنْ التَّفْرِيقِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى النَّهْيِ، وَالْبَيْعُ تَفْرِيقٌ فَكَانَ مَنْهِيًّا، وَالنَّهْيُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا عَلَى أَصْلِهِ فَأَبُو يُوسُفَ إنَّمَا خَصَّ الْبَيْعَ فِي الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودَيْنِ بِالْفَسَادِ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِتَغْلِيظِ الْوَعِيدِ بِالتَّفْرِيقِ فِيهِمْ وَهُوَ مَا رَوَيْنَا، وَلَهُمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وَنَحْوَهُ مِنْ نُصُوصِ الْبَيْعِ يَقْتَضِيَ شَرْعِيَّةَ الْبَيْعِ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ فَمَنْ ادَّعَى التَّخْصِيصَ أَوْ التَّقْيِيدَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ غَيْرِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْإِضْرَارُ فَلَا يَخْرُجُ الْبَيْعُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا كَالنَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى غَيْرِ الْبَيْعِ إمَّا حَمْلًا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ، وَإِمَّا لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَرِدُ عَمَّا عُرِفَ حُسْنُهُ عَقْلًا عَلَى مَا عُرِفَ. (وَمِنْهَا) الْبَيْعُ وَقْتَ النِّدَاءِ وَهُوَ أَذَانُ الْجُمُعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] أَمَرَ بِتَرْكِ الْبَيْعِ عِنْدَ النِّدَاءِ نَهْيًا عَنْ الْبَيْعِ لَكِنْ لِغَيْرِهِ وَهُوَ تَرْكُ السَّعْيِ فَكَانَ الْبَيْعُ فِي ذَاتِهِ مَشْرُوعًا جَائِزًا لَكِنَّهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ اتَّصَلَ بِهِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَهُوَ تَرْكُ السَّعْيِ. (وَمِنْهَا) بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ طَعَامٌ وَعَلَفٌ لَا يَبِيعُهُمَا إلَّا لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ بِثَمَنٍ غَالٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» وَلَوْ بَاعَ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْإِضْرَارُ بِأَهْلِ الْمِصْرِ فَلَا يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَهَذَا إذَا كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ بِأَنْ كَانَ أَهْلُهُ فِي قَحْطٍ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ، فَإِنْ كَانُوا فِي خِصْبٍ وَسَعَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ. (وَمِنْهَا) بَيْعُ مُتَلَقِّي السِّلَعِ وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ يَسْمَعَ وَاحِدٌ خَبَرَ قُدُومِ قَافِلَةٍ بِمِيرَةٍ عَظِيمَةٍ فَيَتَلَقَّاهُمْ الرَّجُلُ وَيَشْتَرِي جَمِيعَ مَا مَعَهُمْ مِنْ الْمِيرَةِ وَيَدْخُلُ الْمِصْرَ فَيَبِيعُ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ الثَّمَنِ، وَهَذَا الشِّرَاءُ مَكْرُوهٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَتَلَقَّوْا السِّلَعَ حَتَّى تُبْسَطَ الْأَسْوَاقُ» ، وَهَذَا إذَا كَانَ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ بِأَنْ كَانَ أَهْلُهُ فِي جَدْبٍ وَقَحْطٍ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّهُمْ لَا بَأْسَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَفْسِيرُهُ هُوَ أَنْ يَتَلَقَّاهُمْ فَيَشْتَرِيَ مِنْهُمْ بِأَرْخَصَ مِنْ سِعْرِ الْبَلَدِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ سِعْرَ الْبَلَدِ وَهَذَا أَيْضًا مَكْرُوهٌ سَوَاءٌ تَضَرَّرَ بِهِ أَهْلُ الْبَلَدِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُمْ، وَالشِّرَاءُ جَائِزٌ فِي الصُّورَتَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَشْرُوعٌ فِي ذَاتِهِ وَالنَّهْيُ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ الْإِضْرَارُ بِالْعَامَّةِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ وَتَغْرِيرُ أَصْحَابِ السِّلَعِ عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي. (وَمِنْهَا) بَيْعُ الْمُسْتَامِ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَهُوَ أَنْ يُسَاوِمَ الرَّجُلَانِ فَطَلَبَ الْبَائِعُ بِسِلْعَتِهِ ثَمَنًا وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ الثَّمَنِ فَجَاءَ مُشْتَرٍ آخَرُ وَدَخَلَ عَلَى سَوْمِ الْأَوَّلِ فَاشْتَرَاهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ بِذَلِكَ الثَّمَنِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَسْتَامُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» . وَرُوِيَ «لَا يَسُومُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ» وَالنَّهْيُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْإِيذَاءُ فَكَانَ نَفْسُ الْبَيْعِ مَشْرُوعًا فَيَجُوزُ شِرَاؤُهُ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ، وَهَذَا إذَا جَنَحَ الْبَائِعُ لِلْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الَّذِي طَلَبَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْنَحْ لَهُ فَلَا بَأْسَ لِلثَّانِي أَنْ يَشْتَرِيَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ اسْتِيَامًا عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ، وَلِانْعِدَامِ مَعْنَى الْإِيذَاءِ أَيْضًا، بَلْ هُوَ بَيْعُ مَنْ يَزِيدُ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَاعَ قَدَحًا وَحِلْسًا لَهُ بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ» وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَبِيعَ بَيْعًا مَكْرُوهًا، وَكَذَا فِي النِّكَاحِ إذَا خَطَبَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَرَكَنَ قَلْبُهَا

فصل في حكم البيع

إلَيْهِ يُكْرَهُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَخْطِبَهَا لِمَا رَوَيْنَا وَإِنْ لَمْ يَرْكُنْ فَلَا بَأْسَ بِهِ. (وَمِنْهَا) بَيْعُ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ وَفِي عَسَاكِرِهِمْ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ مِنْهُمْ مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ، وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ السِّلَاحُ مِنْهُمْ كَالْحَدِيدِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُعَدًّا لِلْقِتَالِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْإِعَانَةِ، وَنَظِيرُهُ بَيْعُ الْخَشَبِ الَّذِي يَصْلُحُ لِاِتِّخَاذِ الْمِزْمَارِ فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَإِنْ كُرِهَ بَيْعُ الْمَزَامِيرِ. (وَأَمَّا) مَا يُكْرَهُ مِمَّا يَتَّصِلُ بِالْبُيُوعِ. (فَمِنْهَا) الِاحْتِكَارُ وَقَدْ ذَكَرْنَا جُمْلَةَ الْكَلَامِ فِيهِ فِي بَابِ الْكَرَاهِيَةِ وَإِلْحَاقُهُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ أَوْلَى. (وَمِنْهَا) النَّجْشُ وَهُوَ أَنْ يَمْدَحَ السِّلْعَةَ وَيَطْلُبَهَا بِثَمَنٍ ثُمَّ لَا يَشْتَرِيهِ بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ لِيُسْمِعَ غَيْرَهُ فَيَزِيدَ فِي ثَمَنِهِ وَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ النَّجْشِ» ؛ وَلِأَنَّهُ احْتِيَالٌ لِلْإِضْرَارِ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي يَطْلُبُ السِّلْعَةَ مِنْ صَاحِبِهَا بِمِثْلِ ثَمَنِهَا، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَطْلُبُهَا بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهَا فَنَجَشَ رَجُلٌ سِلْعَةً حَتَّى تَبْلُغَ إلَى ثَمَنِهَا فَهَذَا لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَإِنْ كَانَ النَّاجِشُ لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي حُكْم الْبَيْعِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْبَيْعِ فَلَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ عَلَى تَسْمِيَةِ الْبِيَاعَاتِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: الْبَيْعُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا، وَالصَّحِيحُ لَا يَخْلُو إمَّا. أَنْ يَكُونَ فِيهِ خِيَارٌ أَوْ لَا خِيَارَ فِيهِ أَمَّا الْبَيْعُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا خِيَارَ فِيهِ فَلَهُ أَحْكَامٌ لَكِنَّ بَعْضَهَا أَصْلٌ، وَبَعْضَهَا مِنْ التَّوَابِعِ. (أَمَّا) الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ، فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ، وَلِلْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ لِلْحَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ لِمَعْرِفَةِ حُكْمِ الْبَيْعِ، وَالْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِمَا فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي. تَفْسِيرِ الْمَبِيعِ، وَالثَّمَنِ وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِمَا (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَنَقُولُ: - وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى - الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَبَايِنَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَالْمَبِيعُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِمَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالثَّمَنُ فِي الْأَصْلِ مَا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَإِنْ اُحْتُمِلَ تَغَيُّرُ هَذَا الْأَصْلِ بِعَارِضٍ بِأَنْ يَكُونَ مَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ مَبِيعًا كَالْمُسْلَمِ فِيهِ، وَمَا يَحْتَمِلُهُ ثَمَنًا كَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ إذَا كَانَ عَيْنًا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - (وَأَمَّا) عَلَى أَصْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي الْأَحْكَامِ بِحَرْفِ الْبَاءِ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا أَثْمَانٌ لَا تَتَعَيَّنُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ عُيِّنَتْ حَتَّى لَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْك هَذَا الثَّوْبَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، أَوْ بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُمْسِكَ الْمُشَارَ إلَيْهِ، وَيَرُدَّ مِثْلَهُ وَلَكِنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي حَقِّ ضَمَانِ الْجِنْسِ، وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ، وَالْقَدْرِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِ الْمُشَارِ إلَيْهِ جِنْسًا، وَنَوْعًا، وَقَدْرًا، وَصِفَةً، وَلَوْ هَلَكَ الْمُشَارُ إلَيْهِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ، وَعَلَى أَصْلِهِمَا يَتَعَيَّنُ حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي الدَّرَاهِمَ الْمُشَارَ إلَيْهَا كَمَا فِي سَائِرِ الْأَعْيَانِ الْمُشَارِ إلَيْهَا، وَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ هَلَكَ سَائِرُ الْأَعْيَانِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: إنَّ الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا} [البقرة: 41] سَمَّى - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْمُشْتَرَى وَهُوَ الْمَبِيعُ ثَمَنًا دَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ مَبِيعٌ، وَالْمَبِيعَ ثَمَنٌ، وَلِهَذَا جَازَ أَنْ يُذْكَرَ الشِّرَاءَ بِمَعْنَى الْبَيْعِ يُقَالُ: شَرَيْتُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى بِعْتُهُ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ} [يوسف: 20] أَيْ، وَبَاعُوهُ، وَلِأَنَّ ثَمَنَ الشَّيْءِ قِيمَتُهُ، وَقِيمَةُ الشَّيْءِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَلِهَذَا سُمِّيَ قِيمَةً لِقِيَامِهِ مَقَامَ غَيْرِهِ، وَالثَّمَنُ وَالْمُثَمَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُومُ مَقَامَ صَاحِبِهِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا وَمَبِيعًا دَلَّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ فِي اللُّغَةِ، وَالْمَبِيعُ يَحْتَمِلُ التَّعَيُّنَ بِالتَّعْيِينِ فَكَذَا الثَّمَنُ إذْ هُوَ مَبِيعٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا. (وَلَنَا) أَنَّ الثَّمَنَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا فِي الذِّمَّةِ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ الْفَرَّاءِ وَهُوَ إمَامٌ فِي اللُّغَةِ، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُسَمَّى ثَمَنًا وَالْآخَرَ مَبِيعًا فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، وَاخْتِلَافُ الْأَسَامِي دَلِيلُ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا مَكَانَ صَاحِبِهِ تَوَسُّعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقَابِلُ صَاحِبَهُ فَيُطْلَقُ اسْمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ كَمَا يُسَمَّى جَزَاءُ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةً، وَجَزَاءُ الِاعْتِدَاءِ اعْتِدَاءً. (فَأَمَّا) الْحَقِيقَةُ فَمَا ذَكَرْنَا، وَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ اسْمًا لِمَا فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلتَّعْيِينِ بِالْإِشَارَةِ فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْيِينُ حَقِيقَةً فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ فَجُعِلَ كِنَايَةً عَنْ بَيَانِ الْجِنْسِ الْمُشَارِ إلَيْهِ وَنَوْعِهِ وَصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الْعَاقِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَلِأَنَّ التَّعْيِينَ غَيْرُ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِوَضٍ يُطْلَبُ مِنْ الْمُعَيَّنِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ

مِثْلِهِ فَلَمْ يَكُنْ التَّعْيِينُ فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ مُفِيدًا فَيَلْغُو فِي حَقِّهِ، وَيُعْتَبَرُ فِي بَيَانِ حَقِّ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ فِي حَقِّهِ مُفِيدٌ ثُمَّ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ عِنْدَنَا أَثْمَانٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ فِي مُقَابَلَتِهَا، وَسَوَاءٌ دَخَلَهُ حَرْفُ الْبَاءِ فِيهِمَا أَوْ فِيمَا يُقَابِلُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بِحَالٍ فَكَانَتْ أَثْمَانًا عَلَى كُلِّ حَالٍ. (وَأَمَّا) مَا سِوَاهُمَا مِنْ الْأَمْوَالِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ وَالذَّرْعِيَّاتِ فَهُوَ مَبِيعٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بَلْ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا إلَّا عَيْنًا إلَّا الثِّيَابَ الْمَوْصُوفَةَ الْمُؤَجَّلَةَ سَلَمًا فَإِنَّهَا تَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مَبِيعَةً بِطَرِيقِ السَّلَمِ اسْتِحْسَانًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى السَّلَمِ فِيهَا، وَكَذَا الْمَوْصُوفُ الْمُؤَجَّلُ فِيهَا لَا بِطَرِيقِ السَّلَمِ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ كَالْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ. فَإِنْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَهُوَ مَبِيعٌ، وَإِنْ كَانَ فِي مُقَابَلَتِهِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ الْأَعْيَانِ الَّتِي ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمَكِيلُ أَوْ الْمَوْزُونُ مُعَيَّنًا فَهُوَ مَبِيعٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا يُحَكَّمُ فِيهِ حَرْفُ الْبَاءِ فَمَا دَخَلَهُ فَهُوَ ثَمَنٌ، وَالْآخَرُ مَبِيعٌ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُعَيَّنًا، وَالْآخَرُ مَوْصُوفًا أَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْصُوفًا فَإِنَّهُ يُحَكَّمُ فِيهِ حَرْفُ الْبَاءِ فَمَا صَحِبَهُ فَهُوَ الثَّمَنُ، وَالْآخَرُ الْمَبِيعُ (وَأَمَّا) الْفُلُوسُ الرَّائِجَةُ فَإِنْ قُوبِلَتْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا فَهِيَ أَثْمَانٌ وَكَذَا إنْ قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا مُتَسَاوِيَةً فِي الْعَدَدِ، وَإِنْ قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلَةً فِي الْعَدَدِ فَهِيَ مَبِيعَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ أَثْمَانٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ الْأَحْكَامِ. (فَمِنْهَا) : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي الْعَقَارِ اخْتِلَافٌ. وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْأَثْمَانِ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا الصَّرْفَ، وَالسَّلَمَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ مُسْتَقِيمٌ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ وَالْمَبِيعَ عِنْدَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ» فَيَتَنَاوَلُ الْعَيْنَ وَالدَّيْنَ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ، وَنَأْخُذُ مَكَانَ الدَّرَاهِمِ الدَّنَانِيرَ، وَمَكَانَ الدَّنَانِيرِ الدَّرَاهِمَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لَا بَأْسَ إذَا كَانَ بِسِعْرِ يَوْمِهِمَا، وَافْتَرَقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا شَيْءٌ» ، وَهَذَا نَصٌّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ مِنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَلِأَنَّ قَبْضَ الدَّيْنِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ نَفْسِ الدَّيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَالٍ حُكْمِيٍّ فِي الذِّمَّةِ أَوْ عِبَارَةٌ عَنْ الْفِعْلِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ قَبْضُهُ حَقِيقَةً فَكَانَ قَبْضُهُ بِقَبْضِ بَدَلِهِ، وَهُوَ قَبْضُ الْعَيْنِ فَتَصِيرُ الْعَيْنُ الْمَقْبُوضَةُ مَضْمُونَةً عَلَى الْقَابِضِ، وَفِي ذِمَّةِ الْمَقْبُوضِ مِنْهُ مِثْلُهَا فِي الْمَالِيَّةِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا هَذَا هُوَ طَرِيقُ قَبْضِ الدُّيُونِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ مِنْ جِنْسِ مَا عَلَيْهِ أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ الْمَالِيَّةُ، وَالْأَمْوَالُ كُلُّهَا فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْحَدِيثِ الْعَيْنُ لَا الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ شَيْئًا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ، وَنَفْسُ الدَّيْنِ لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ بِخِلَافِ السَّلَمِ، وَالصَّرْفِ. (أَمَّا) الصَّرْفُ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ بَدَلَيْ الصَّرْفِ مَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ، وَثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَبِيعٍ إذْ هُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِجَعْلِهِ مَبِيعًا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا مِنْ وَجْهٍ، وَثَمَنًا مِنْ وَجْهٍ فَمِنْ حَيْثُ هُوَ ثَمَنٌ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَسَائِرِ الْأَثْمَانِ، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ مَبِيعٌ لَا يَجُوزُ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا (وَأَمَّا) الْمُسْلَمُ فِيهِ؛ فَلِأَنَّهُ مَبِيعٌ بِالنَّصِّ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِالْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ، وَرَأْسُ الْمَالِ أُلْحِقَ بِالْمَبِيعِ الْعَيْنِ فِي حَقِّ حُرْمَةِ الِاسْتِبْدَالِ شَرْعًا فَمَنْ ادَّعَى الْإِلْحَاقَ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. وَكَذَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْقَرْضِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْقَرْضِ، وَسَائِرِ الدُّيُونِ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ الْإِقْرَاضَ إعَارَةٌ لَا مُبَادَلَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْأَجَلُ فِيهِ كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ؟ ، وَلَوْ كَانَ مُبَادَلَةً لَلَزِمَ فِيهِ الْأَجَلُ، وَكَذَا لَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ وَالْمُكَاتَبُ، وَالْمَأْذُونُ، وَهَؤُلَاءِ يَمْلِكُونَ الْمُبَادَلَةَ وَلِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ مُبَادَلَةً لَمَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ فِيهِ الرِّبَا، وَهُوَ فَضْلُ الْعَيْنِ عَلَى الدَّيْنِ دَلَّ أَنَّهُ إعَارَةٌ، وَالْوَاجِبُ فِي الْعَارِيَّةِ رَدُّ الْعَيْنِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِالِاسْتِبْدَالِ (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِقْرَاضَ فِي الْحَقِيقَةِ مُبَادَلَةُ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ فَإِنَّ

الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ مِثْلُ مَا اسْتَقْرَضَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا عَيْنُهُ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلِاسْتِبْدَالِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَلِهَذَا اُخْتُصَّ جَوَازُهُ بِمَا لَهُ مِثْلٌ مِنْ الْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ دَلَّ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ تَسْلِيمُ مِثْلِ مَا اسْتَقْرَضَ لَا تَسْلِيمُ عَيْنِهِ إلَّا أَنَّهُ أُقِيمَ تَسْلِيمُ الْمِثْلِ فِيهِ مَقَامَ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ كَأَنَّهُ انْتَفَعَ بِالْعَيْنِ مُدَّةً ثُمَّ رَدَّهَا إلَيْهِ فَأَشْبَهَ دَيْنَ الِاسْتِهْلَاكِ وَغَيْرَهُ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْبَائِعِ إلَّا السَّلَمَ خَاصَّةً لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» . وَيَجُوزُ الشِّرَاءُ بِثَمَنٍ لَيْسَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا بِثَمَنٍ لَيْسَ عِنْدَهُ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ» ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ: اشْتَرَيْتُ مِنْك هَذِهِ الْحِنْطَةَ بِدِرْهَمٍ أَوْ دِينَارٍ إلَى شَهْرٍ أَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ مِنْك دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا إلَى شَهْرٍ بِهَذِهِ الْحِنْطَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَكَانَ مَا يُقَابِلُهَا مَبِيعًا فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا بِثَمَنٍ لَيْسَ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ. وَلَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْك قَفِيزَ حِنْطَةٍ بِهَذَا الدِّرْهَمِ أَوْ بِهَذَا الدِّينَارِ وَوَصَفَ الْحِنْطَةَ لَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ شَرَائِطَ السَّلَمِ، أَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْك هَذَا الدِّرْهَمَ أَوْ هَذَا الدِّينَارَ بِقَفِيزٍ مِنْ حِنْطَةٍ، وَوَصَفَهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ شَرَائِطَ السَّلَمِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانٌ بِأَيِّ شَيْءٍ قُوبِلَتْ فَكَانَ مَا فِي مُقَابَلَتِهَا مَبِيعًا فَيَكُونُ بَائِعًا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ إلَّا السَّلَمَ خَاصَّةً، وَلَمْ يَذْكُرْ شَرَائِطَ السَّلَمِ فَلَوْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَيْعِ شَرَائِطَ السَّلَمِ جَازَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ لَفْظُ السَّلَمِ وَعِنْد زُفَرَ لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يُذْكَرْ لَفْظُ السَّلَمِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السَّلَمَ نَوْعُ بَيْعٍ إلَّا أَنَّهُ بَيْعٌ اُخْتُصَّ بِشَرَائِطَ فَإِذَا أُتِيَ بِهَا فَقَدْ أُتِيَ بِالسَّلَمِ، وَإِنْ لَمْ يُتَلَفَّظْ بِهِ. وَلَوْ تَصَارَفَا دِينَارًا بِدِينَارٍ أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارًا بِعَشَرَةٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا، وَلَيْسَ عِنْدَهُمَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَاسْتَقْرَضَا فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ تَقَابَضَا، وَافْتَرَقَا جَازَ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَكَانَ كُلُّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرِيًا بِثَمَنٍ لَيْسَ عِنْدَهُ لَا بَائِعًا، وَأَنَّهُ جَائِزٌ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّقَابُضِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ وَلَوْ تَبَايَعَا تِبْرًا بِتِبْرٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا وَلَيْسَ عِنْدَهُمَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَقْرَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَتَقَابَضَا ثُمَّ افْتَرَقَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: ذَكَرَ فِي الصَّرْفِ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ، وَذَكَرَ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ حَيْثُ قَالَ: لَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُوَفَّقَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنْ تُحْمَلَ رِوَايَةُ كِتَابِ الصَّرْفِ عَلَى مَوْضِعٍ يَرُوجُ التِّبْرُ فِيهِ رَوَاجَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ، وَرِوَايَةُ كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ عَلَى مَوْضِعٍ لَا يَرُوجُ رَوَاجَهَا. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ: بِعْتُ مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِكَذَا كُرٍّ حِنْطَةً وَوَصَفَهَا أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحِنْطَةَ الْمَوْصُوفَةَ ثَمَنًا حَيْثُ أَدْخَلَ فِيهَا حَرْفَ الْبَاءِ فَيَكُونُ الْآخَرُ مَبِيعًا، فَكَانَ هَذَا بَيْعُ الْعَبْدِ بِحِنْطَةٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ فَيَجُوزُ وَلَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ مِنْك كَذَا كُرٍّ حِنْطَةً، وَوَصَفَهَا بِهَذَا الْعَبْدِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِطَرِيقِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعَبْدَ ثَمَنًا بِدَلَالَةِ حَرْفِ الْبَاءِ، فَكَانَتْ الْحِنْطَةُ مَبِيعَةً، فَكَانَ بَائِعًا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِشَرَائِطِ السَّلَمِ مِنْ الْأَجَلِ وَبَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ، وَقَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ السَّلَمِ عَلَى مَا مَرَّ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذِهِ الْحِنْطَةَ عَلَى أَنَّهَا قَفِيزٌ بِقَفِيزٍ حِنْطَةً، وَوَصَفَهَا أَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْك هَذِهِ الْحِنْطَةَ عَلَى أَنَّهَا قَفِيزٌ بِقَفِيزَيْ شَعِيرٍ، وَوَصَفَهُمَا أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعَيْنَ مِنْهُمَا مَبِيعًا وَالدَّيْنَ الْمَوْصُوفَ فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا بِإِدْخَالِ حَرْفِ الْبَاءِ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ لَكِنَّ قَبْضَ الدَّيْنِ مِنْهُمَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ يُشْرَطُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الِافْتِرَاقُ فِيهِ عَنْ عَيْنٍ بِعَيْنٍ، وَذَلِكَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَلَوْ قَبَضَ الدَّيْنَ مِنْهُمَا ثُمَّ افْتَرَقَا عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ قَبْضِ الْعَيْنِ جَازَ؛ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِعَيْنٍ وَلَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ مِنْك قَفِيزَ حِنْطَةٍ وَوَصَفَهَا بِهَذَا الْقَفِيزِ مِنْ الْحِنْطَةِ أَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ مِنْك قَفِيزَيْ شَعِيرٍ، وَوَصَفَهُمَا بِهَذِهِ الْحِنْطَةِ عَلَى أَنَّهَا قَفِيزٌ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أَحْضَرَ الْمَوْصُوفَ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَوْصُوفَ مِنْهُمَا مَبِيعًا، وَالْآخَرَ ثَمَنًا بِقَرِينَةِ حَرْفِ الْبَاءِ فَيَكُونُ بَائِعًا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ وَبَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ لَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقِ السَّلَمِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى تَجْوِيزِهِ سَلَمًا؛ لِأَنَّ إسْلَامَ الْمَكِيلِ فِي الْمَكِيلِ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ تَبَايَعَا مَكِيلًا مَوْصُوفًا بِمَكِيلٍ مَوْصُوفٍ أَوْ مَوْزُونًا مَوْصُوفًا بِمَوْزُونٍ مَوْصُوفٍ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْك قَفِيزَ حِنْطَةٍ، وَوَصَفَهَا بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ، وَوَصَفَهَا أَوْ بِقَفِيزَيْ شَعِيرٍ، وَوَصَفَهُمَا أَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْك مِنْ سُكَّرٍ، وَوَصَفَهُ بِمِنْ سُكَّرٍ، وَوَصْفَهُ، وَلَيْسَ

عِنْدَهُمَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَقْرَضَا، وَتَقَابَضَا ثُمَّ افْتَرَقَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الَّذِي صَحِبَهُ مِنْهُمَا حَرْفُ الْبَاءِ يَكُونُ ثَمَنًا، وَالْآخَرُ مَبِيعًا فَيَكُونُ بَائِعًا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ فَلَا يَجُوزُ إلَّا سَلَمًا، وَالسَّلَمُ فِي مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إسْلَامُ الْمَكِيلِ فِي الْمَكِيلِ، وَإِسْلَامُ الْمَوْزُونِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ فِي الْمَوْزُونِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الشِّرَاءُ بِالدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ قَبَضَهُ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ فُلُوسًا أَوْ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ، فَإِنْ كَانَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَاشْتَرَى بِهِ شَيْئًا بِعَيْنِهِ جَازَ الشِّرَاءُ، وَقَبْضُ الْمُشْتَرَى لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ افْتِرَاقًا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ فِيمَا لَا يَتَضَمَّنُ رِبَا النَّسَاءِ، وَلَا يَتَضَمَّنُ هَهُنَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الدَّيْنُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اشْتَرَى بِدَيْنِهِ، وَهُوَ دَرَاهِمُ شَيْئًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِأَنْ اشْتَرَى بِهَا دِينَارًا أَوْ فُلُوسًا أَوْ هُوَ فُلُوسٌ فَاشْتَرَى بِهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ فُلُوسًا جَازَ الشِّرَاءُ لَكِنْ يُشْتَرَطُ قَبْضُ الْمُشْتَرَى فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى لَا يَحْصُلَ الِافْتِرَاقُ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَى لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَلَوْ كَانَ دَيْنُهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ فُلُوسًا فَاشْتَرَى بِهَا مَكِيلًا مَوْصُوفًا أَوْ مَوْزُونًا مَوْصُوفًا أَوْ ثِيَابًا مَوْصُوفَةً مُؤَجَّلَةً لَمْ يَجُزْ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكَذَا الْفُلُوسُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِخِلَافِ جِنْسِهَا فَلَمْ تَكُنْ مَبِيعَةً فَكَانَ الْآخَرُ مَبِيعًا بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ إلَّا بِطَرِيقِ السَّلَمِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى تَجْوِيزِهِ بِطَرِيقِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ دَيْنٌ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا فَكَانَ مُشْتَرِيًا بِثَمَنٍ لَيْسَ عِنْدَهُ وَأَنَّهُ جَائِزٌ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ التَّسْلِيمِ كَيْ لَا يَكُونَ الِافْتِرَاقُ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا فَبَاعَهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ بِدَنَانِيرَ أَوْ بِفُلُوسٍ أَوْ اشْتَرَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِدَيْنِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَكَذَا الْفُلُوسُ عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا فَكَانَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مُشْتَرِيًا بِثَمَنٍ لَيْسَ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَلَوْ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ الَّذِي هُوَ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ يُنْظَرُ: إنْ جَعَلَ الدَّيْنَ مِنْهُمَا مَبِيعًا، وَالْآخَرَ ثَمَنًا بِأَنْ أَدْخَلَ فِيهِ حَرْفَ الْبَاءِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا بِثَمَنٍ لَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطٌ فَلَا يَكُونُ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَإِنْ جَعَلَ الدَّيْنَ مِنْهُمَا ثَمَنًا بِأَنْ أَدْخَلَ حَرْفَ الْبَاءِ فِيهِ وَالْآخَرَ مَبِيعًا لَمْ يَجُزْ الشِّرَاءُ، وَإِنْ أَحْضَرَ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ بَائِعٌ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَبَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِطَرِيقِ السَّلَمِ، وَإِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَهْلَكُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ، فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِاسْتِهْلَاكِهِ مِثْلُهُ. فَإِذَا اشْتَرَى بِهِ شَيْئًا مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ فَاشْتَرَى بِهِ شَيْئًا بِعَيْنِهِ جَازَ، وَقَبْضُ الْمُشْتَرِي لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِاسْتِهْلَاكِهِ الْقِيمَةَ، وَالْقِيمَةُ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَصَارَ مُشْتَرِيًا بِدَيْنِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ شَيْئًا بِعَيْنِهِ فَيَجُوزُ، وَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ الْمُشْتَرَى؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ الِافْتِرَاقُ عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَلَا بَأْسَ بِهِ فِيمَا لَا يَتَضَمَّنُ رِبَا النَّسَاءِ، وَلَوْ اشْتَرَى بِهِ شَيْئًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ مِنْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ يُنْظَرُ: إنْ جَعَلَ مَا عَلَيْهِ مَبِيعًا، وَهَذَا ثَمَنًا بِأَنْ أَدْخَلَ عَلَيْهِ حَرْفَ الْبَاءِ؛ يَجُوزُ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِثَمَنٍ لَيْسَ عِنْدَهُ فَيَجُوزُ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنْ جَعَلَ مَا عَلَيْهِ ثَمَنًا بِأَنْ صَحِبَهُ حَرْفُ الْبَاءِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أَحْضَرَ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ؛ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِطَرِيقِ السَّلَمِ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِهِ دَيْنٌ، وَلَوْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ الْمُسْتَهْلَكِ عَلَى الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ، وَقَضَى بِهِ الْحَاكِمُ جَازَ، وَلَا يَكُونُ الْقَبْضُ شَرْطًا؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ شِرَاءً بِالدَّيْنِ، بَلْ هُوَ نَفْسُ حَقِّهِ وَلَوْ صَالَحَ عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْمُسْتَهْلَكِ؛ جَازَ الصُّلْحُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ، وَالْفَضْلُ عَلَى الْقِيمَةِ بَاطِلٌ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْغَصْبِ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. وَلَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِفُلُوسٍ بِأَعْيَانِهَا بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْك هَذَا الثَّوْبَ أَوْ هَذِهِ الْحِنْطَةَ بِهَذِهِ الْفُلُوسِ جَازَ وَلَا يَتَعَيَّنُ، وَإِنْ عُيِّنَتْ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا حَتَّى كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُمْسِكَهَا، وَيَرُدَّ مِثْلَهَا، وَلَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي الْوَضْعِ ثَمَنًا فَقَدْ صَارَتْ ثَمَنًا بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ، وَمِنْ شَأْنِ الثَّمَنِ أَنْ لَا يَتَعَيَّنَ بِالتَّعْيِينِ وَكَذَا إذَا تَبَايَعَا دِرْهَمًا بِعَيْنِهِ أَوْ دِينَارًا بِعَيْنِهِ بِفُلُوسٍ بِأَعْيَانِهَا فَإِنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ أَيْضًا كَمَا لَا تَتَعَيَّنُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لِمَا قُلْنَا، إلَّا أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ هَهُنَا شَرْطُ

بَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ حَتَّى لَوْ افْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ أَصْلًا يَبْطُلُ الْعَقْدُ لِحُصُولِ الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ الْقَبْضُ إلَّا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَافْتَرَقَا مَضَى الْعَقْدُ عَلَى الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ صَارَ عَيْنًا بِالْقَبْضِ فَكَانَ افْتِرَاقًا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ رِبَا النَّسَاءِ، وَلَمْ يَتَضَمَّنْ هَهُنَا لِانْعِدَامِ الْقَدْرِ الْمُتَّفَقِ وَالْجِنْسِ، وَكَذَا إذَا تَبَايَعَا فَلْسًا بِعَيْنِهِ بِفَلْسٍ بِعَيْنِهِ فَالْفَلْسَانِ لَا يَتَعَيَّنَانِ، وَإِنْ عُيِّنَا إلَّا أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطٌ حَتَّى يَبْطُلَ بِتَرْكِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. وَلَوْ قَبَضَ أَحَدَ الْبَدَلَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ فَافْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ الْآخَرِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مِنْ خَصَائِصِ الصَّرْفِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَرْفٍ فَيُكْتَفَى فِيهِ بِالْقَبْضِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ شُرُوحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَبْطُلُ لَا لِكَوْنِهِ صَرْفًا بَلْ لِتَمَكُّنِ رِبَا النَّسَاءِ فِيهِ لِوُجُودِ أَحْدِ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ وَهُوَ الْجِنْسُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَلَوْ تَبَايَعَا فُلُوسًا بِدَرَاهِمَ عَلَى أَنَّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ وَتَقَابَضَا، وَافْتَرَقَا بَطَلَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ التَّقَابُضِ فَيَحْصُلُ الِافْتِرَاقُ لَا عَنْ قَبْضٍ أَصْلًا فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِأَحَدِهِمَا، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَعْمَلُ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا عِنْدَهُ، وَيَنْعَدِمُ الْقَبْضُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَعْمَلُ إلَّا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ فَيَنْعَدِمُ الْقَبْضُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَهَذَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ وَالْأَصْلُ الْمَحْفُوظُ أَنَّ الْعَقْدَ فِي حَقِّ الْقَبْضِ عَلَى مَرَاتِبَ مِنْهَا مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَابُضُ، وَهُوَ الْقَبْضُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ الصَّرْفُ، وَمِنْهَا مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ أَصْلًا كَبَيْعِ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ مِمَّا سِوَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَبَيْعِ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ مِمَّا لَا يَتَضَمَّنُ رِبَا النَّسَاءِ كَبَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالدَّرَاهِمِ وَنَحْوِهَا، وَمِنْهَا مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ كَبَيْعِ الدَّرَاهِمِ بِالْفُلُوسِ، وَبَيْعِ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ مِمَّا لَا يَتَضَمَّنُ رِبَا النَّسَاءِ كَبَيْعِ الْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مِنْهُمَا ثَمَنًا وَبَيْعِ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ، وَهُوَ السَّلَمُ. وَلَوْ تَبَايَعَا فَلْسًا بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَيَتَعَيَّنُ كُلُّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى لَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَكَذَا إذَا رُدَّ بِالْعَيْبِ أَوْ اُسْتُحِقَّ، وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَدْفَعَ مِثْلَهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَتَعَيَّنُ، وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ مَعَ دَلَائِلِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَلَوْ تَبَايَعَا فَلْسًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا أَوْ عَيَّنَ أَحَدَهُمَا، وَلَمْ يُعَيِّنْ الْآخَرَ لَا يَجُوزُ، فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُمْ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ: جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْفَلْسَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعُرُوضِ أَوْ مِنْ الْأَثْمَانِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْعُرُوضِ فَالتَّعْيِينُ فِي الْعُرُوضِ شَرْطُ الْجَوَازِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَثْمَانِ فَالْمُسَاوَاةُ فِيهَا شَرْطُ الْجَوَازِ، وَلَمْ يُوجَدْ؛ وَلِأَنَّ تَجْوِيزَ هَذَا الْبَيْعِ يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ؛ لِأَنَّ مُشْتَرِيَ الْفَلْسَيْنِ يَقْبِضُهُمَا، وَيَنْقُدُ أَحَدَهُمَا، وَيَبْقَى الْآخَرُ عَنْ غَيْرِ ضَمَانٍ فَيَكُونُ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ وَلَوْ تَبَايَعَا فَلْسًا بِفَلْسَيْنِ، وَشَرَطَا الْخِيَارَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ عَلَى قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الْفُلُوسَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْعُرُوضِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا فَلَمْ يَكُنْ الْخِيَارُ مَانِعًا، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِفُلُوسٍ كَاسِدَةٍ فِي مَوْضِعٍ لَا تُنْفَقُ، فَإِنْ كَانَتْ بِأَعْيَانِهَا جَازَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَرَضٌ، وَالتَّعْيِينُ شَرْطُ الْجَوَازِ فِي بَيْعِ الْعُرُوضِ. وَمِنْهَا أَنَّ لِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ إذَا كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إلَى الْبَائِعِ حَتَّى يَقْبِضَ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ حَاضِرًا لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ مَطْلُوبَةُ الْمُتَعَاوِضَيْنِ عَادَةً، وَحَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ قَدْ تَعَيَّنَ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعَقْدِ، وَحَقُّ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ إلَّا بِالْقَبْضِ فَيُسَلَّمُ الثَّمَنُ أَوَّلًا لِيَتَعَيَّنَّ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ غَائِبًا عَنْ حَضْرَتِهِمَا فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ التَّسْلِيمِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَبِيعُ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ لِتَتَحَقَّقَ الْمُسَاوَاةُ، وَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ غَائِبًا لَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بِالتَّقْدِيمِ، بَلْ يَتَقَدَّمُ حَقُّ الْبَائِعِ، وَيَتَأَخَّرُ حَقُّ الْمُشْتَرِي، حَيْثُ يَكُونُ الثَّمَنُ بِالْقَبْضِ عَيْنًا مُشَارًا إلَيْهِ، وَالْمَبِيعُ لَا؛ وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الْمَبِيعَ قَدْ هَلَكَ، وَسَقَطَ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي فَلَا يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَّا بَعْدَ إحْضَارِ الْمَبِيعِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَبِيعُ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِحَيْثُ تَلْحَقُهُ الْمُؤْنَةُ بِالْإِحْضَارِ، فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الرَّهْنِ فَإِنَّ الرَّاهِنَ إذَا

امْتَنَعَ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِإِحْضَارِ الرَّهْنِ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ الرَّهْنُ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ بِحَيْثُ لَا يَلْحَقُ الْمُرْتَهِنَ مُؤْنَةٌ فِي الْإِحْضَارِ يُؤْمَرُ بِإِحْضَارِهِ أَوَّلًا كَمَا فِي الْبَيْعِ لِجَوَازِ أَنَّ الرَّهْنَ قَدْ هَلَكَ، وَسَقَطَ الدَّيْنُ عَنْ الرَّاهِنِ بِقَدْرِهِ. وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ الْمُؤْنَةُ فِي الْإِحْضَارِ لَا يُؤْمَرُ الْمُرْتَهِنُ بِالْإِحْضَارِ أَوَّلًا، بَلْ يُؤْمَرُ الرَّاهِنُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَوَّلًا إنْ كَانَ مُقِرًّا أَنَّ الرَّهْنَ قَائِمٌ لَيْسَ بِهَالِكٍ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ هَالِكٌ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: هُوَ قَائِمٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ يُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَمَبْنَى الْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ، وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ إلَّا بِالْإِحْضَارِ عَلَى مَا مَرَّ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ عَقْدٌ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ بَلْ هُوَ عَقْدُ أَمَانَةٍ بِمَنْزِلَةِ عَقْدِ الْوَدِيعَةِ كَأَنَّ الْمَرْهُونَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ إلَّا أَنَّهُ إذَا هَلَكَ يَسْقُطُ الدَّيْنُ عَنْ الرَّاهِنِ لَا لِكَوْنِهِ مَضْمُونًا بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ عَلَى مَا عُرِفَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُعَاوَضَةً لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ عِوَضًا عَنْ الرَّهْنِ فَلَا يَلْزَمُ تَحْقِيقُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا بِإِحْضَارِ الرَّهْنِ إذَا كَانَ بِحَيْثُ تَلْحَقُهُ الْمُؤْنَةُ بِالْإِحْضَارِ. وَلَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِعَيْنٍ سَلَّمَا مَعًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ مَطْلُوبَةٌ لِلْمُتَعَاوِضَيْنِ عَادَةً، وَتَحْقِيقُ الْمُسَاوَاةِ هَهُنَا فِي التَّسْلِيمِ مَعًا، وَلِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ مُسْتَحَقٌّ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِتَقْدِيمِ التَّسْلِيمِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ فَيُسَلِّمَانِ مَعًا، وَكَذَا لَوْ تَبَايَعَا دَيْنًا بِدَيْنٍ سَلَّمَا تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ الَّتِي هِيَ مُقْتَضَى الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ وَلِاسْتِوَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ التَّسْلِيمِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَصِيرُ عَيْنًا إلَّا بِالْقَبْضِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ إلَّا بِتَسْلِيمِهِ أَوَّلًا عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَبَعًا، وَهُوَ الزَّوَائِدُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنْ الْمَبِيعِ، فَإِنْ كَانَ أَصْلًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ هَلَكَ كُلُّهُ وَإِمَّا أَنْ هَلَكَ بَعْضُهُ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِمَّا أَنْ هَلَكَ بَعْدَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَإِمَّا أَنْ هَلَكَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ أَوْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ هَلَكَ كُلُّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ انْفَسَخَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ أَوْجَبَ مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَإِذَا طَالَبَهُ بِالثَّمَنِ فَهُوَ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ التَّسْلِيمِ فَتَمْتَنِعُ الْمُطَالَبَةُ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْبَيْعِ فَائِدَةٌ فَيَنْفَسِخَ، وَإِذَا انْفَسَخَ الْبَيْعُ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ ارْتِفَاعُهُ مِنْ الْأَصْلِ، كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَكَذَا إذَا هَلَكَ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ بِأَنْ كَانَ حَيَوَانًا فَقَتَلَ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ عَلَى نَفْسِهِ هَدَرٌ فَكَأَنَّهُ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَكَذَا إذَا هَلَكَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَبْطُلُ، وَعَلَى الْبَائِعِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ أَوْ الْمِثْلِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مَمْلُوكًا لِلْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلَا فَرْقَ سِوَى أَنَّ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي يَدِهِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ كَالْمُرْتَهِنِ إذَا أَتْلَفَ الْمَرْهُونَ فِي يَدِهِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمَبِيعَ فِي يَدِ الْبَائِعِ مَضْمُونٌ بِأَحَدِ الضَّمَانَيْنِ، وَهُوَ الثَّمَنُ أَلَا تَرَى: لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِضَمَانٍ آخَرَ إذْ الْمَحَلُّ الْوَاحِدُ لَا يَقْبَلُ الضَّمَانَيْنِ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّ الْمَضْمُونَ بِالرَّهْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مَعْنَى الْمَرْهُونِ لَا عَيْنُهُ، بَلْ عَيْنُهُ أَمَانَةٌ حَتَّى كَانَ كَفَنُهُ وَنَفَقَتُهُ عَلَى الرَّاهِنِ، وَالْمَضْمُونُ بِالْإِتْلَافِ عَيْنُهُ فَإِيجَابُ ضَمَانِ الْقِيمَةِ لَا يُؤَدِّي إلَى كَوْنِ الْمَحَلِّ الْوَاحِدِ مَضْمُونًا بِضَمَانَيْنِ، لِاخْتِلَافِ مَحَلِّ الضَّمَانِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَيْعُ بَاتًّا أَوْ بِشَرْطِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي يَدِ الْبَائِعِ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ فِي الْحَالَيْنِ فَيُمْنَعُ كَوْنُهُ مَضْمُونًا بِضَمَانٍ آخَرَ، وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِتْلَافِ صَارَ قَابِضًا كُلَّ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إتْلَافُهُ إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى الْقَبْضِ فَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَيْعُ بَاتًّا أَوْ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ زَوَالَ الْبَيْعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِلَا خِلَافٍ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ فَلَا يَمْنَعُ تَقَرُّرَ الثَّمَنِ. وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مِثْلِهِ إنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ السِّلْعَةِ عَنْ مِلْكِهِ بِلَا خِلَافٍ، فَكَانَ الْمَبِيعُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَمِلْكُهُ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ، وَكَذَا الْمَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ، وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلَا يَدَ لَهُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ فَيَعُودُ الْمَبِيعُ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَيَتْبَعُ الْجَانِيَ فَيُضَمِّنُهُ

مِثْلَهُ إنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَقِيمَتَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ فَاتَّبَعَ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ، وَاتَّبَعَهُ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ قَدْ تَعَيَّنَ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَيْنًا فَصَارَ قِيمَةً، وَتَعَيُّنُ الْمَبِيعِ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ يُوجِبُ الْخِيَارَ ثُمَّ إنْ اخْتَارَ الْفَسْخَ، وَفَسَخَ، وَاتَّبَعَ الْبَائِعُ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ، وَضَمَّنَهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الضَّمَانُ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ، وَفِيهِ فَضْلٌ عَلَى الثَّمَنِ لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ لِأَنَّ الْفَضْلَ رِبْحُ مَا لَمْ يُمْلَكْ لِزَوَالِ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ. وَرِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ لَا يَطِيبُ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ شُبْهَةِ الرِّبَا فَرِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الضَّمَانُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الثَّمَنِ، طَابَ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّ الرِّبَا لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْبَيْعَ، وَاتَّبَعَ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ، وَضَمَّنَهُ فَإِنْ كَانَ الضَّمَانُ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّهُ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ فِي حَقِّهِ لَا رِبْحُ مَا لَمْ يُمْلَكْ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مِلْكُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ طَابَ الْفَضْلُ لَهُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى عَبْدًا فَقَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، وَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْبَيْعِ لِمَا قُلْنَا؛ إلَّا أَنَّ هَهُنَا إذَا اخْتَارَ الْفَسْخَ، وَفَسَخَ الْبَيْعَ اتَّبَعَ الْبَائِعُ عَاقِلَةَ الْقَاتِلِ فَأَخَذَ قِيمَتَهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَإِنْ اخْتَارَ الْمَبِيعَ اتَّبَعَ الْعَاقِلَةَ بِقِيمَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - إنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَقْتَصَّ الْقَاتِلَ بِعَبْدِهِ، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ وَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ الْقَاتِلَ بِعَبْدِهِ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ، وَيَعُودُ الْمَبِيعُ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقْتَصَّ وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ مَالِ الْقَاتِلِ الْقِيمَةَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْتَصَّ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ بِحَالٍ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَالْبَائِعُ يَأْخُذُ الْقِيمَةَ مِنْ الْقَاتِلِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ، وَاتَّبَعَ الْقَاتِلَ بِالْقِيمَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَقْتَ الْقَتْلِ، بَلْ كَانَ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَنْعَقِدْ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ لِلْبَائِعِ، وَمِلْكُ الْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا، بَلْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْعَوْدِ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ بِالْفَسْخِ فَلَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الِاقْتِصَاصِ لِأَحَدِهِمَا (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ وِلَايَةِ الِاقْتِصَاصِ لِلْبَائِعِ لِمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقَتْلَ صَادَفَ مَحَلًّا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِلْبَائِعِ عِنْدَ الْقَتْلِ فَأَمَّا الْمِلْكُ فَثَابِتٌ لِلْمُشْتَرِي، وَقْتَ الْقَتْلِ، وَقَدْ لَزِمَ وَتَقَرَّرَ بِاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي فَتَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ لَهُمَا عَلَى اعْتِبَارِ اخْتِيَارِ الْفَسْخِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ اخْتِيَارِ الْبَيْعِ، أَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ اخْتِيَارِ الْبَيْعِ فَلِمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ وَأَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ اخْتِيَارِ الْفَسْخِ؛ فَلِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ رَفْعُهُ مِنْ الْأَصْلِ، وَجَعْلُهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَثَبَتَتْ وِلَايَةُ الِاقْتِصَاصِ، هَذَا إذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ كُلُّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ. فَأَمَّا إذَا هَلَكَ كُلُّهُ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِنْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أَوْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، وَالْهَلَاكُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَقَرَّرَ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ، فَتَقَرَّرَ الثَّمَنُ، وَكَذَلِكَ إنْ هَلَكَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ لِمَا قُلْنَا، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِضَمَانِهِ، وَيَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفَضْلَ رِبْحُ مَا قَدْ ضُمِنَ، وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ، لَكِنَّ الثَّمَنَ مَنْقُودٌ أَوْ مُؤَجَّلٌ فَاسْتِهْلَاكُهُ وَاسْتِهْلَاكُ الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ صَارَ مُسْتَرِدًّا لِلْبَيْعِ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَحَصَلَ الِاسْتِهْلَاكُ فِي ضَمَانِهِ فَيُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ، وَسُقُوطَ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ اُسْتُهْلِكَ وَهُوَ فِي يَدِهِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ هَذَا إذَا هَلَكَ كُلُّ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ. فَأَمَّا إذَا هَلَكَ بَعْضُهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ يُنْظَرُ إنْ كَانَ النُّقْصَانُ نُقْصَانَ قَدْرٍ بِأَنْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ مَعْدُودًا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِقَدْرِ الْهَالِكِ، وَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ قَدْرٍ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ فَيُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَهَلَاكُ كُلِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ فِي الْكُلِّ، وَسُقُوطَ كُلِّ الثَّمَنِ، فَهَلَاكُ بَعْضِهِ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ، وَسُقُوطَ الثَّمَنِ بِقَدْرِهِ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي الْبَاقِي إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ قَدْ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ نُقْصَانَ وَصْفٍ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ كَالشَّجَرِ، وَالْبِنَاءِ فِي الْأَرْضِ، وَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ، وَالْجَوْدَةِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ

أَصْلًا، وَلَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا حِصَّةَ لَهَا مِنْ الثَّمَنِ إلَّا إذَا وَرَدَ عَلَيْهَا الْقَبْضُ أَوْ الْجِنَايَةُ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مَقْصُودَةً بِالْقَبْضِ وَالْجِنَايَةِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَعَيُّبِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ بِأَنْ جَرَحَ نَفْسَهُ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ هَدَرٌ، فَصَارَ كَمَا لَوْ هَلَكَ بَعْضُهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَهَلَاكُ بَعْضِهِ نُقْصَانُ الْوَصْفِ، وَالْأَوْصَافُ لَا تُقَابَلُ بِالثَّمَنِ فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَغَيُّرِ الْمَبِيعِ. وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى حَيَوَانَيْنِ سِوَى بَنِي آدَمَ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ تَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى حَيَوَانَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ حَتْفَ أَنْفِهِ وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ كَانَتْ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَبِرَ الْوَلَدُ ثُمَّ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ فِي الْبَاقِي، وَبَطَلَتْ الْجِنَايَةُ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ إعَادَةٌ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ فَبَطَلَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقَاتِلَ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ لَصَارَ آخِذًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فِي الِانْتِهَاءِ فَيُخَيَّرُ فِي الِابْتِدَاءِ قَصْرًا لِلْمَسَافَةِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْحَيَّ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ الْقَاتِلَ مِنْهُمَا بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فِي الْمَقْتُولِ. وَانْفِسَاخُ الْبَيْعِ ارْتِفَاعُهُ مِنْ الْأَصْلِ وَعَوْدُهُ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ عَبْدَ الْمُشْتَرِي قَتَلَ عَبْدَ الْبَائِعِ فَيُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ بِالْفِدَاءِ، وَأَيُّهُمَا فَعَلَ قَامَ مَقَامَ الْمَقْتُولِ فَيَحْيَا الْمَقْتُولُ مَعْنًى فَيَأْخُذُهُ بِبَقِيَّةِ الثَّمَنِ، فَصَارَ فِي أَخْذِ الْبَاقِي مِنْهُمَا بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فِي الْحَالِ آخِذًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فِي الْمَآلِ فَخَيَّرْنَاهُ فِي الِابْتِدَاءِ لِلْأَخْذِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَالْفَسْخِ، هَذَا وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِقَدْرِهِ، وَيَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ الْهَالِكِ مِنْ الثَّمَنِ، وَهُوَ قَدْرُ النُّقْصَانِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ، سَوَاءٌ كَانَ النُّقْصَانُ نُقْصَانَ قِيمَةٍ أَوْ نُقْصَانَ وَصْفٍ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَ وُرُودِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ أَصْلًا بِالْفِعْلِ فَتُقَابَلُ بِالثَّمَنِ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي الْبَاقِي إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الْأَخْذَ فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى مَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا مَاتَ عَلَى الْبَائِعِ، وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ إنَّمَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ، وَلَمْ يُوجَدْ. فَإِنْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي فَمَاتَ مِنْ جِنَايَةِ الْبَائِعِ أَوْ غَيْرِهَا سَقَطَتْ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ جِنَايَةِ الْبَائِعِ، وَلَزِمَهُ مَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ أَمَّا إذَا مَاتَ مِنْ الْجِنَايَةِ فَلِأَنَّ قَبْضَ الْبَاقِي وُجِدَ مِنْ الْمُشْتَرِي فَتَقَرَّرَ قَبْضُهُ فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ ثَمَنُهُ، وَكَذَا إذَا مَاتَ مِنْ جِنَايَةِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَبَضَ الْبَاقِيَ حَقِيقَةً، وَقَبْضُ الْمَبِيعِ يُوجِبُ تَقَرُّرَ الثَّمَنِ فِي الْأَصْلِ إلَّا إذَا وُجِدَ مِنْ الْبَائِعِ مَا يُنْقِصُهُ فَيَصِيرُ مُسْتَرِدًّا، وَالسِّرَايَةُ لَيْسَتْ فِعْلَهُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا هِيَ صُنْعُ اللَّهِ - تَعَالَى - يَعْنِي مَصْنُوعَةً فَبَقِيَ الْمَقْبُوضُ عَلَى حُكْمِ قَبْضِ الْمُشْتَرِي فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ ثَمَنُهُ، وَلِأَنَّ قَبْضَ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْعَقْدِ فِيهِ؛ لِأَنَّ لِلْقَبْضِ شِبْهًا بِالْعَقْدِ، وَإِنْشَاءُ الشِّرَاءِ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ مِنْهُ بَعْدَ جِنَايَتِهِ، وَقَبَضَهُ ثُمَّ سَرَتْ إلَى النَّفْسِ، وَمَاتَ، فَكَذَلِكَ الْقَبْضُ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَإِذَا هَلَكَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي؛ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِلْكُلِّ بِإِتْلَافِ الْبَعْضِ أَوْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إتْلَافِ الْبَعْضِ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْكُلِّ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْقَبْضِ أَوْ صَارَ قَابِضًا قَدْرَ الْمُتْلَفِ بِالْإِتْلَافِ، وَالْبَاقِي بِالتَّعْيِيبِ، فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ كُلُّ الثَّمَنِ وَلَوْ مَاتَ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَعْدَ جِنَايَةِ الْمُشْتَرِي يُنْظَرُ إنْ مَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ مَاتَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ مِنْ جِنَايَتِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ فِعْلَهُ السَّابِقَ وَقَعَ إتْلَافًا لِلْكُلِّ فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ كُلُّ الثَّمَنِ سَوَاءٌ مَنَعَهُ الْبَائِعُ بَعْدَ جِنَايَةِ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَمْنَعْهُ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْبَائِعِ بَعْدَ وُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْ الْمُشْتَرِي هَدَرٌ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ الْجِنَايَةِ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ لَمْ يَمْنَعْهُ مَاتَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي أَيْضًا، وَعَلَيْهِ كُلُّ الثَّمَنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِالْجِنَايَةِ صَارَ قَابِضًا لِكُلِّ الْمَبِيعِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَنْقُضُ قَبْضَهُ فَبَقِيَ حُكْمُ ذَلِكَ الْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ مَنَعَهُ لَزِمَ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ مَا اسْتَهْلَكَ، وَسَقَطَ عَنْهُ ثَمَنُ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمَّا مَنَعَ فَقَدْ نَقَضَ قَبْضَ الْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ الْقَائِمِ، فَصَارَ مُسْتَرِدًّا إيَّاهُ. فَإِذَا هَلَكَ فَقَدْ هَلَكَ فِي ضَمَانِهِ فَيَهْلِكُ عَلَيْهِ، وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ الْبَائِعُ ثُمَّ جَنَى عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي سَقَطَ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ جِنَايَةِ

الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا، وَلَزِمَهُ ثَمَنُ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِلْبَاقِي بِجِنَايَتِهِ فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ ثَمَنُهُ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ دَلِيلُ الرِّضَا بِتَعْيِيبِ الْبَائِعِ، فَإِنْ ابْتَدَأَ الْمُشْتَرِي بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ جَنَى الْبَائِعُ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ فَإِنْ بَرِئَ الْعَبْدُ مِنْ الْجِنَايَتَيْنِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَسَقَطَتْ عَنْهُ حِصَّةُ جِنَايَةِ الْبَائِعِ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ قَابِضًا بِالْجِنَايَةِ، لَكِنَّ الْجِنَايَةَ فِيهِ قَبْضٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ، وَالثَّمَنُ غَيْرُ مَنْقُودٍ، فَلَمَّا جَنَى عَلَيْهِ الْبَائِعُ فَقَدْ اسْتَرَدَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ، فَحَصَلَتْ جِنَايَتُهُ تَعْيِيبًا لِلْمَبِيعِ، وَحُدُوثُ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُوجِبُ الْخِيَارَ فَإِنْ شَاءَ فَسَخَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ، وَسَقَطَتْ عَنْهُ جِنَايَةُ الْبَائِعِ مِنْ الثَّمَنِ، وَهُوَ الرُّبُعُ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ هَلَكَ بِجِنَايَةِ الْمُشْتَرِي فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَرُبُعٌ مِنْهُ قَائِمٌ يَأْخُذُهُ بِثَمَنِهِ أَيْضًا، وَالرُّبُعُ هَلَكَ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ ثَمَنُهُ. وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَعْدَ الْجِنَايَتَيْنِ بِأَنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ قَطَعَ الْبَائِعُ رِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ مَاتَ فِي يَدِ الْبَائِعِ مِنْ الْجِنَايَتَيْنِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي خَمْسَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ، وَسَقَطَ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا قَطَعَ يَدَهُ فَقَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ نِصْفُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا بِالْقَطْعِ، وَلَمَّا قَطَعَ الْبَائِعُ رِجْلَهُ فَقَدْ اسْتَرَدَّ نِصْفَ الْقَائِمِ مِنْ الْعَبْدِ، وَهُوَ الرُّبُعُ، فَبَقِيَ هُنَاكَ رُبُعٌ قَائِمٌ مِنْ الْعَبْدِ، فَإِذَا سَرَتْ الْجِنَايَةُ؛ فَقَدْ هَلَكَ ذَلِكَ الرُّبُعُ مِنْ سِرَايَةِ الْجِنَايَتَيْنِ، فَيَنْقَسِمُ ذَلِكَ الرُّبُعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَانْكَسَرَ الْحِسَابُ بِالْأَرْبَاعِ، فَيُجْعَلُ كُلُّ سَهْمٍ أَرْبَعَةً، فَيَصِيرُ ثَمَانِيَةً، فَلِذَلِكَ جَعَلْنَا الْحِسَابَ مِنْ ثَمَانِيَةٍ فَهَلَكَ بِجِنَايَةِ الْمُشْتَرِي النِّصْفُ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَبِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ سَهْمٌ فَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِمْ ثُمُنُهُ فَذَلِكَ خَمْسَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ، وَهَلَكَ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ سَهْمَانِ وَبِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ سَهْمٌ فَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ يَسْقُطُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ هَذَا الْقَدْرِ يَسْقُطُ عَنْهُ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ هَذَا إذَا جَنَى الْمُشْتَرِي أَوَّلًا ثُمَّ جَنَى الْبَائِعُ فَبَرَأَتْ الْجِرَاحَةُ أَوْ سَرَتْ. (فَأَمَّا) إذَا جَنَى الْبَائِعُ أَوَّلًا ثُمَّ الْمُشْتَرِي فَإِنْ بَرِئَ الْعَبْدُ فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي هَهُنَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الْجِنَايَةِ بَعْدَ جِنَايَةِ الْبَائِعِ دَلِيلُ الرِّضَا بِتَعْيِينِهِ، فَبَطَلَ خِيَارُهُ، وَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِمَا بَقِيَ، وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ مِنْ الْجِنَايَتَيْنِ فَالْجَوَابُ هَهُنَا عَلَى الْقَلْبِ مِنْ الْجَوَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُوَ أَنَّ عَلَى الْمُشْتَرِي ثَلَاثَةَ أَثْمَانٍ، وَسَقَطَ عَنْهُ خَمْسَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ، فَحُكْمُ جِنَايَةِ الْمُشْتَرِي هَهُنَا كَحُكْمِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ هُنَاكَ لِمَا ذَكَرْنَا فَافْهَمْ. وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ مَقْبُوضًا، وَالْعَبْدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَجَنَى عَلَيْهِ الْبَائِعُ يَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي جَنَى عَلَيْهِ أَوَّلًا ثُمَّ جَنَى الْبَائِعُ يَلْزَمُ الْبَائِعُ مِنْ الْقِيمَةِ مَا يَلْزَمُ الْأَجْنَبِيَّ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ قَابِضًا بِالْجِنَايَةِ، وَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ نَقْضَ الْقَبْضِ، وَالِاسْتِرْدَادَ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَقْبُوضٌ فَصَارَتْ جِنَايَتُهُ وَجِنَايَةُ الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ، وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ جَنَى أَوَّلًا، ثُمَّ جَنَى الْمُشْتَرِي فَمَا هَلَكَ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ سَقَطَ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَمَا هَلَكَ بِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ مَا هَلَكَ بِجِنَايَتِهِ بَعْدَ جِنَايَةِ الْمُشْتَرِي تَجِبُ قِيمَتُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَكَذَا مَا هَلَكَ بِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، لَا شَكَّ فِيهِ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ، وَاتَّبَعَ الْبَائِعُ الْجَانِيَ بِضَمَانِ مَا جَنَى، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ، وَاتَّبَعَ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ، وَأَيُّهُمَا اخْتَارَ، فَالْحُكْمُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي إتْلَافِ الْأَجْنَبِيِّ كُلَّ الْمَبِيعِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ هَذَا إذَا هَلَكَ بَعْضُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ. فَأَمَّا إذَا هَلَكَ بَعْضُ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِنْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أَوْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي؛ فَالْهَلَاكُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ خَرَجَ عَنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي، فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَكَذَا إذَا هَلَكَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَالْهَلَاكُ عَلَى الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا، وَيَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ لَا شَكَّ فِيهِ، وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِلْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ بِأَنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَهُ بِإِذْنِهِ أَوْ كَانَ الثَّمَنُ مَنْقُودًا أَوْ مُؤَجَّلًا فَهَذَا، وَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ سَوَاءٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ. وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ بِأَنْ كَانَ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَالثَّمَنُ حَالٌ غَيْرُ مَنْقُودٍ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُتْلَفِ، وَيَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَرِدًّا لِذَلِكَ الْقَدْرِ بِالْإِتْلَافِ فَتَلِفَ ذَلِكَ الْقَدْرُ فِي ضَمَانِهِ فَيَسْقُطُ قَدْرُهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَا يَكُونُ مُسْتَرِدًّا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إتْلَافُ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْبَاقِي فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا إذَا هَلَكَ الْبَاقِي مِنْ سِرَايَةِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ فَيَصِيرُ مُسْتَرِدًّا وَيَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي جَمِيعُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ تَلَفَ الْبَاقِي حَصَلَ مُضَافًا إلَى فِعْلِهِ فَصَارَ مُسْتَرِدًّا لِلْكُلِّ فَتَلِفَ الْكُلُّ فِي ضَمَانِهِ فَيَسْقُطُ كُلُّ الثَّمَنِ. وَلَوْ اخْتَلَفَ

الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي هَلَاكِ الْمَبِيعِ فَقَالَ الْبَائِعُ: هَلَكَ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلِيَ عَلَيْك الثَّمَنُ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَا ثَمَنَ لَك عَلَيَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْقَبْضَ وَالثَّمَنَ، وَهُوَ يُنْكِرُ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَالظَّاهِرُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَالْبَائِعُ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا، وَهُوَ الزَّوَالُ، وَالِانْتِقَالُ فَكَانَ الْمُشْتَرِي مُتَمَسِّكًا بِالْأَصْلِ الظَّاهِرِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَلَوْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ يُقْضَى بِبَيِّنَةِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَمْرًا بِخِلَافِ الظَّاهِرِ، وَمَا شُرِعَتْ الْبَيِّنَاتُ إلَّا لِهَذَا؛ وَلِأَنَّهَا أَكْثَرُ إظْهَارًا؛ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ الْقَبْضَ وَالثَّمَنَ، فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ. وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي الِاسْتِهْلَاكِ فَادَّعَى الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ، وَادَّعَى الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْبَيِّنَتَيْنِ تَارِيخٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُمَا تَارِيخٌ، وَتَارِيخُ إحْدَاهُمَا أَسْبَقُ فَالْأَسْبَقُ أَوْلَى بِالْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ جَمِيعًا، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ قَبْضُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ ظَاهِرًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ ظَاهِرًا فَادَّعَيَا الِاسْتِهْلَاكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَدَّعِي أَمْرًا بَاطِنًا لِيُزِيلَ بِهِ ظَاهِرًا، وَهُوَ الِاسْتِهْلَاكُ مِنْ الْبَائِعِ، وَالْمَبِيعُ فِي يَدِهِ، وَكَذَا الْمُشْتَرِي لَوْ تَرَكَ الدَّعْوَى يُتْرَكُ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا، وَالْبَائِعُ لَوْ تَرَكَ الدَّعْوَى لَا يُتْرَكُ بَلْ يُجْبَرُ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ عِبَارَةُ مَشَايِخِنَا فِي تَحْدِيدِ الْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَإِذَا قَامَتْ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِلْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ بِأَنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ، وَالثَّمَنُ حَالٌ غَيْرُ مَنْقُودٍ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ صَارَ مُسْتَرِدًّا، وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِلْحَبْسِ بِأَنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَكِنَّ الثَّمَنَ مَنْقُودٌ أَوْ مُؤَجَّلٌ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُضَمِّنَ الْبَائِعَ قِيمَةَ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لَمْ يَكُنْ بِالِاسْتِهْلَاكِ مُسْتَرِدًّا، وَلَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، فَلَا يَحْصُلُ الِاسْتِهْلَاكُ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ فَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ، كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَلَوْ اشْتَرَى بِفُلُوسٍ نَافِقَةً، ثُمَّ كَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ انْفَسَخَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ الْمَبِيعِ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَقِيمَتِهِ أَوْ مِثْلِهِ إنْ كَانَ هَالِكًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الْفُلُوسِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفُلُوسَ فِي الذِّمَّةِ، وَمَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَحْتَمِلُ الْهَلَاكَ، فَلَا يَكُونُ الْكَسَادُ هَلَاكًا بَلْ يَكُونُ عَيْبًا، فَيُوجِبُ الْخِيَارَ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الْفُلُوسِ، كَمَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ رُطَبًا فَانْقَطَعَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفُلُوسَ بِالْكَسَادِ خَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا ثَمَنًا؛ لِأَنَّ ثَمَنِيَّتَهَا ثَبَتَتْ بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ، فَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ التَّعَامُلَ بِهَا عَدَدًا؛ فَقَدْ زَالَ عَنْهَا صِفَةُ الثَّمَنِيَّةِ، وَلَا بَيْعَ بِلَا ثَمَنٍ، فَيَنْفَسِخُ ضَرُورَةً، وَلَوْ لَمْ تَكْسُدْ، وَلَكِنَّهَا رَخُصَتْ قِيمَتُهَا أَوْ غَلَتْ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَنْقُدَ مِثْلَهَا عَدَدًا، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى الْقِيمَةِ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الرُّخْصَ أَوْ الْغَلَاءَ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الثَّمَنِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ قَدْ تَرْخُصُ، وَقَدْ تَغْلُو وَهِيَ عَلَى حَالِهَا أَثْمَانٌ؟ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، فَاعْتَبَرَ أَبُو يُوسُفَ وَقْتَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ وُجُوبِ الثَّمَنِ، وَاعْتَبَرَ مُحَمَّدٌ وَقْتَ الْكَسَادِ، وَهُوَ آخِرُ يَوْمٍ تَرَكَ النَّاسُ التَّعَامُلَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ. وَلَوْ اسْتَقْرَضَ فُلُوسًا نَافِقَةً، وَقَبَضَهَا فَكَسَدَتْ فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِ مَا قَبَضَ مِنْ الْفُلُوسِ عَدَدًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِقَبْضِ الْقَرْضِ رَدُّ مِثْلِ الْمَقْبُوضِ وَبِالْكَسَادِ عَجْزٌ عَنْ رَدِّ الْمِثْلِ لِخُرُوجِهَا عَنْ رَدِّ الثَّمَنِيَّةِ، وَصَيْرُورَتِهَا سِلْعَةً فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا، كَمَا لَوْ اسْتَقْرَضَ شَيْئًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَقَبَضَهُ ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ أَثَرَ الْكَسَادِ فِي بُطْلَانِ الثَّمَنِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الرَّدِّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَقْرَضَهَا بَعْدَ الْكَسَادِ جَازَ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي وَقْتِ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ لَمْ تَكْسُدْ، وَلَكِنَّهَا رَخُصَتْ أَوْ غَلَتْ فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِ مَا قَبَضَ بِلَا خِلَافٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ صِفَةَ الثَّمَنِيَّةِ بَاقِيَةٌ. وَلَوْ اشْتَرَى بِدِرْهَمٍ فُلُوسًا، وَتَقَابَضَا وَافْتَرَقَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الْفُلُوسُ مِنْ يَدِهِ، وَأَخَذَهَا الْمُسْتَحِقُّ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ انْتَقَضَ الْقَبْضُ، وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ عَنْ قَبْضِ الدَّرَاهِمِ دُونَ الْفُلُوسِ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ، وَعَلَى

بَائِعِ الْفُلُوسِ أَنْ يَنْقُدَ مِثْلَهَا، وَكَذَلِكَ إنْ اُسْتُحِقَّ بَعْضُهَا، وَأَخَذَ قَدْرَ الْمُسْتَحَقِّ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِمَا قُلْنَا، وَعَلَى بَائِعِ الْفُلُوسِ أَنْ يَنْقُدَ مِثْلَ الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ، وَكَذَلِكَ إذَا، وَجَدَ الْمُشْتَرِي الْفُلُوسَ مِنْ الْفُلُوسِ الْكَاسِدَةِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ قَبْضَ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِيمَا لَا يَتَضَمَّنُ يَكْفِي لِبَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَقَدْ وُجِدَ قَبْضُ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ الدَّرَاهِمُ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ الْفُلُوسَ، وَلَمْ يَنْقُدْ الدَّرَاهِمَ، وَافْتَرَقَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الْفُلُوسُ فَالْمُسْتَحِقُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَجَازَ نَقْدَ الْبَائِعِ، فَيَجُوزُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ اسْتَنَدَتْ إلَى حَالَةِ الْعَقْدِ فَجَازَ النَّقْدُ وَالْعَقْدُ، وَيَرْجِعُ الْمُسْتَحِقُّ عَلَى بَائِعِ الْفُلُوسِ بِمِثْلِهَا، وَيَنْقُدُ الْمُشْتَرِي الدَّرَاهِمَ لِبَائِعِ الْفُلُوسِ. وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُجِزْ، وَأَخَذَ الْفُلُوسَ، وَبَطَلَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُجِزْ، وَأَخَذَ الْفُلُوسَ فَقَدْ انْتَقَضَ الْقَبْضُ، وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ افْتِرَاقَهُمَا حَصَلَ لَا عَنْ قَبْضٍ أَصْلًا فَبَطَلَ الْعَقْدُ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْفُلُوسِ فَحُكْمُ الْبَعْضِ كَحُكْمِ الْكُلِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَلَوْ وَجَدَ الْفُلُوسَ كَاسِدَةً لَا تَرُوجُ بَطَلَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُمَا تَفَرَّقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ، وَإِنْ وَجَدَهَا تَرُوجُ فِي بَعْضِ التِّجَارَةِ، وَلَا تَرُوجُ فِي الْبَعْضِ أَوْ يَأْخُذُهَا الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ إنْ تَجَوَّزَ بِهَا الْمُشْتَرِي جَازَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَصْلًا، وَإِنْ لَمْ يَتَجَوَّزْ بِهَا فَالْقِيَاسُ أَنْ يَبْطُلَ الْعَقْدُ فِي الْمَرْدُودِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ إنْ لَمْ يَسْتَبْدِلْ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ يَبْطُلُ، وَإِنْ اسْتَبْدَلَ لَا يَبْطُلُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ كَانَ قَلِيلًا فَاسْتَبْدَلَ لَا يَبْطُلُ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يَبْطُلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي السَّلَمِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ صِفَة الْحُكْمِ فَلَهُ صِفَتَانِ: إحْدَاهُمَا اللُّزُومُ حَتَّى لَا يَنْفَرِدَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بِالْفَسْخِ، سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ أَوْ قَبْلَهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالثَّانِيَةُ: الْحُلُولُ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِتَمْلِيكٍ، وَهُوَ إيجَابُ الْمِلْكِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِلْحَالِ فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَيَمْنَعُ وُقُوعَهُ تَمْلِيكًا لِلْحَالِ، وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِيهِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْقَبْضِ فَيَصِيرُ تَمْلِيكًا عِنْدَهُ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْأَحْكَامُ الَّتِي هِيَ مِنْ التَّوَابِعِ لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ لِلْبَيْعِ. (فَمِنْهَا) وُجُوبُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَالثَّمَنِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي مَوَاضِعَ. أَحَدُهَا فِي بَيَانِ وُجُوبِ تَسْلِيمِ الْبَدَلَيْنِ، وَمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ تَسْلِيمِهِمَا، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ، وَقْتِ وُجُوبِ تَسْلِيمِهِمَا، وَالثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ التَّسْلِيمِ، وَالْقَبْضِ، وَالرَّابِعُ: فِي بَيَانِ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لِلْمَبِيعِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ، وَمَا لَا يَصِيرُ (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَتَسْلِيمُ الْبَدَلَيْنِ، وَاجِبٌ عَلَى الْعَاقِدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ أَوْجَبَ الْمِلْكَ فِي الْبَدَلَيْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمِلْكَ مَا ثَبَتَ لِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ، وَسِيلَةً إلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكِ، وَلَا يَتَهَيَّأُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ فَكَانَ إيجَابُ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ شَرْعًا إيجَابًا لِتَسْلِيمِهِمَا ضَرُورَةً، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُبَادَلَةٍ، وَهُوَ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ، وَحَقِيقَةُ الْمُبَادَلَةِ فِي التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهَا أَخْذُ بَدَلٍ وَإِعْطَاءُ بَدَلٍ وَإِنَّمَا قَوْلُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ جُعِلَ دَلِيلًا عَلَيْهِمَا، وَلِهَذَا كَانَ التَّعَاطِي بَيْعًا عِنْدَنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ أُجْرَةُ الْكَيَّالِ، وَالْوَزَّانِ، وَالْعَدَّادِ، وَالذِّرَاعِ فِي بَيْعِ الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ، وَالْمَعْدُودِ، وَالْمَذْرُوعِ مُكَايَلَةً، وَمُوَازَنَةً، وَمُعَادَدَةً، وَمُذَارَعَةً أَنَّهَا عَلَى الْبَائِعِ أَمَّا أُجْرَةُ الْكَيَّالِ، وَالْوَزَّانِ فَلِأَنَّهَا مِنْ مُؤْنَاتِ الْكَيْلِ، وَالْوَزْنِ، وَالْكَيْلُ وَالْوَزْنُ فِيمَا يُبَاعُ مُكَايَلَةً وَمُوَازَنَةً مِنْ تَمَامِ التَّسْلِيمِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَالتَّسْلِيمُ عَلَى الْبَائِعِ فَكَانَتْ مُؤْنَةُ التَّسْلِيمِ عَلَيْهِ، وَالْعَدَدُ فِي الْمَعْدُودِ الَّذِي بِيعَ عَدَدًا بِمَنْزِلَةِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فِي الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَكَانَ مِنْ تَمَامِ التَّسْلِيمِ فَكَانَتْ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ مِنْ بَابِ تَأْكِيدِ التَّسْلِيمِ فَكَانَ مِنْ تَوَابِعِهِ كَالذَّرْعِ فِيمَا بِيعَ مُذَارَعَةً، فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ، وَهُوَ الْبَائِعُ، وَكَذَا أُجْرَةُ وَزَّانِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا (وَأَمَّا) أُجْرَةُ نَاقِدِ الثَّمَنِ فَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيهِ رِوَايَتَانِ: رَوَى إبْرَاهِيمُ بْنُ رُسْتُمَ عَنْهُ أَنَّهَا عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْجَيِّدِ، وَالنَّقْدُ لِتَمْيِيزِ حَقِّهِ، فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ أَنَّ الْبَائِعَ إنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضْ الدَّرَاهِمَ فَعَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ تَسْلِيمَ ثَمَنٍ جَيِّدٍ، فَكَانَتْ مُؤْنَةُ تَسْلِيمِهِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ قَبَضَهَا فَعَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ حَقَّهُ ظَاهِرًا فَإِنَّمَا يَطْلُبُ بِالنَّقْدِ إذَا أَدَّى فَكَانَ النَّاقِدُ عَامِلًا لَهُ، فَكَانَتْ أُجْرَةُ عَمَلِهِ عَلَيْهِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ وَقْتِ الْوُجُوبِ فَالْوُجُوبُ عَلَى التَّوَسُّعِ ثَبَتَ عَقِيبَ

الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ. وَأَمَّا عَلَى التَّضْيِيقِ فَإِنْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِعَيْنٍ، وَجَبَ تَسْلِيمُهُمَا مَعًا إذَا طَالَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِالتَّسْلِيمِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ مَطْلُوبَةُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَادَةً، وَتَحْقِيقُ التَّسَاوِي هَهُنَا فِي التَّسْلِيمِ مَعًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ إنْ تَبَايَعَا دَيْنًا بِدَيْنٍ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ يُرَاعَى فِيهِ التَّرْتِيبُ عِنْدَنَا فَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي تَسْلِيمُ الثَّمَنِ أَوَّلًا إذَا طَالَبَهُ الْبَائِعُ ثُمَّ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إذَا طَالَبَهُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ تَحْقِيقَ التَّسَاوِي فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ. (وَأَمَّا) تَفْسِيرُ التَّسْلِيمِ، وَالْقَبْضِ فَالتَّسْلِيمُ، وَالْقَبْضُ عِنْدَنَا هُوَ التَّخْلِيَةُ، وَالتَّخَلِّي وَهُوَ أَنْ يُخَلِّيَ الْبَائِعُ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي بِرَفْعِ الْحَائِلِ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَيُجْعَلُ الْبَائِعُ مُسَلِّمًا لِلْمَبِيعِ، وَالْمُشْتَرِي قَابِضًا لَهُ، وَكَذَا تَسْلِيمُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي إلَى الْبَائِعِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْقَبْضُ فِي الدَّارِ وَالْعَقَارِ وَالشَّجَرِ بِالتَّخْلِيَةِ. وَأَمَّا فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَتَنَاوُلُهُمَا بِالْبَرَاجِمِ، وَفِي الثِّيَابِ بِالنَّقْلِ، وَكَذَا فِي الطَّعَامِ إذَا اشْتَرَاهُ مُجَازَفَةً فَإِذَا اشْتَرَاهُ مُكَايَلَةً فَبِالْكَيْلِ، وَفِي الْعَبْدِ وَالْبَهِيمَةِ بِالسَّيْرِ مِنْ مَكَانِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقَبْضِ هُوَ الْأَخْذُ بِالْبَرَاجِمِ؛ لِأَنَّهُ الْقَبْضُ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْأَخْذَ بِالْبَرَاجِمِ أُقِيمَ النَّقْلُ مَقَامَهُ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ أُقِيمَ التَّخْلِيَةُ مَقَامَهُ. (وَلَنَا) أَنَّ التَّسْلِيمَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِهِ سَالِمًا خَالِصًا يُقَالُ: سَلَّمَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ أَيْ خَلَّصَ لَهُ، وَقَالَ - اللَّهُ تَعَالَى - {وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر: 29] أَيْ سَالِمًا خَالِصًا لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ فَتَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي هُوَ جَعْلُ الْمَبِيعِ سَالِمًا لِلْمُشْتَرِي أَيْ: خَالِصًا لَهُ بِحَيْثُ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ فَكَانَتْ التَّخْلِيَةُ تَسْلِيمًا مِنْ الْبَائِعِ، وَالتَّخَلِّي قَبْضًا مِنْ الْمُشْتَرِي، وَكَذَا هَذَا فِي تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَاجِبٌ، وَمَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ سَبِيلُ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي فِي وُسْعِهِ هُوَ التَّخْلِيَةُ وَرَفْعُ الْمَوَانِعِ، فَأَمَّا الْإِقْبَاضُ فَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِالْبَرَاجِمِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ لِلْقَابِضِ، فَلَوْ تَعَلَّقَ وُجُوبُ التَّسْلِيمِ بِهِ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالْوَاجِبِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. ثُمَّ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ أَصْلَ الْقَبْضِ يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا هَلْ هِيَ قَبْضٌ تَامٌّ فِيهَا أَمْ لَا؟ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ الْمَذْرُوعَاتِ، وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ فَالتَّخْلِيَةُ فِيهَا قَبْضٌ تَامٌّ بِلَا خِلَافٍ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَى مَذْرُوعًا مُذَارَعَةً أَوْ مَعْدُودًا مُعَادَدَةً، وَوُجِدَتْ التَّخْلِيَةُ يَخْرُجُ عَنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَيَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ، وَالِانْتِفَاعُ بِهِ قَبْلَ الذَّرْعِ وَالْعَدِّ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ فَإِنْ بَاعَهُ مُجَازَفَةً فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ الْقَدْرِ فِي بَيْعِ الْمُجَازَفَةِ، وَإِنْ بَاعَ مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَخَلَّى فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمَبِيعَ يَخْرُجُ عَنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَيَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي حَتَّى لَوْ هَلَكَ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ قَبْلَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ يُمْلَكُ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَكَذَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي بَيْعُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ قَبْلَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَكَذَا لَوْ اكْتَالَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ اتَّزَنَهُ مِنْ بَائِعِهِ، ثُمَّ بَاعَهُ مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَحِلَّ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ أَنْ يَبِيعَهُ أَوْ يَمْتَنِعَ بِهِ حَتَّى يَكِيلَهُ أَوْ يَزِنَهُ، وَلَا يُكْتَفَى بِاكْتِيَالِ الْبَائِعِ أَوْ اتِّزَانِهِ مِنْ بَائِعِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ هَذَا الْمُشْتَرِي لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُجْرَى فِيهِ صَاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي» . وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُكَالَ» . لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ قَبْلَ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ لِانْعِدَامِ الْقَبْضِ بِانْعِدَامِ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ أَوْ شَرْعًا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى مَعَ حُصُولِ الْقَبْضِ بِتَمَامِهِ بِالتَّخْلِيَةِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّهَا تَثْبُتُ شَرْعًا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحُرْمَةُ لِمَكَانِ انْعِدَامِ الْقَبْضِ عَلَى التَّمَامِ بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ بِدُونِ قَبْضِهِ أَصْلًا لَا يَجُوزُ بِدُونِ قَبْضِهِ بِتَمَامِهِ (وَجْهُ) قَوْلِ الْأَوَّلِينَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَى يَصِيرُ سَالِمًا خَالِصًا لِلْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهٍ يَتَهَيَّأُ لَهُ تَقْلِيبُهُ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ عَلَى حَسَبِ مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَلِهَذَا كَانَتْ التَّخْلِيَةُ تَسْلِيمًا وَقَبْضًا فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ وَفِيمَا لَهُ مِثْلٌ إذَا بِيعَ مُجَازَفَةً، وَلِهَذَا يَدْخُلُ الْمَبِيعُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِالتَّخْلِيَةِ نَفْسِهَا بِلَا خِلَافٍ دَلَّ أَنَّ التَّخْلِيَةَ قَبْضٌ إلَّا أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ مَعَ وُجُودِ الْقَبْضِ بِتَمَامِهِ ثَبَتَ تَعَبُّدَا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَجْهُ) قَوْلِ الْآخَرِينَ تَعْلِيلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ الْكَيْلِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ قَبْلَ أَنْ

يَقْبِضَهُ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَصْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَمَامَ الْقَبْضِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْكَيْلَ، وَالْوَزْنَ فِي الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ الَّذِي بِيعَ مُكَايَلَةً، وَمُوَازَنَةً مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ أَنَّ الْقَدْرَ فِي الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كِيلَ فَازْدَادَ لَا تَطِيبُ لَهُ الزِّيَادَةُ بَلْ تُرَدُّ، أَوْ يُفْرَضُ لَهَا ثَمَنٌ؟ ، وَلَوْ نَقَصَ يُطْرَحُ بِحِصَّتِهِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَا يُعْرَفُ الْقَدْرُ فِيهِمَا إلَّا بِالْكَيْلِ، وَالْوَزْنِ لِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ، وَالنُّقْصَانِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ قَبْضُ قَدْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا بِالْكَيْلِ، وَالْوَزْنِ فَكَانَ الْكَيْلُ، وَالْوَزْنُ فِيهِ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِتَمَامِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ قَبْلَ قَبْضِهِ أَصْلًا وَرَأْسًا بِخِلَافِ الْمَذْرُوعَاتِ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ فِيهَا لَيْسَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ بَلْ هُوَ جَارٍ مَجْرَى الْوَصْفِ، وَالْأَوْصَافُ لَا تَكُونُ مَعْقُودًا عَلَيْهَا، وَلِهَذَا سَلِمَتْ الزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي بِلَا ثَمَنٍ، وَفِي النُّقْصَانِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَكَانَتْ التَّخْلِيَةُ فِيهَا قَبْضًا تَامًّا فَيُكْتَفَى بِهَا فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ قَبْلَ الذَّرْعِ بِخِلَافِ الْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ بِالتَّخْلِيَةِ نَفْسِهَا لِوُجُودِ الْقَبْضِ بِأَصْلِهِ، وَالْخُرُوجُ عَنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ الْقَبْضِ لَا بِوَصْفِ الْكَمَالِ، فَأَمَّا جَوَازُ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَيَسْتَدْعِي قَبْضًا كَامِلًا لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَالْقَبْضُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْقَبْضُ الْكَامِلُ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْمَعْدُودَاتُ الْمُتَقَارِبَةُ إذَا بِيعَتْ عَدَدًا لَا جُزَافًا فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُهَا إلَّا بَعْدَ الْعَدِّ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَذْرُوعَاتِ، فَيَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْلَ الْعَدِّ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْعَدَدِيَّ لَيْسَ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا كَالذَّرْعِ، وَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ الْمُسَاوَاةُ فِيهَا شَرْطًا لِجَوَازِ الْعَقْدِ كَمَا لَا تُشْتَرَطُ فِي الْمَذْرُوعَاتِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَذْرُوعِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْقَدْرَ فِي الْمَعْدُودِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ كَالْقَدْرِ فِي الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَوْ عَدَّهُ فَوَجَدَهُ زَائِدًا لَا تَطِيبُ الزِّيَادَةُ لَهُ بِلَا ثَمَنٍ بَلْ يَرُدُّهَا أَوْ يَأْخُذُهَا بِثَمَنِهَا؟ . وَلَوْ وَجَدَهُ نَاقِصًا يَرْجِعُ بِقَدْرِ النُّقْصَانِ كَمَا فِي الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ دَلَّ أَنَّ الْقَدْرَ فِيهِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ، وَاحْتِمَالُ الزِّيَادَةِ، وَالنُّقْصَانِ فِي عَدَدِ الْمَبِيعِ ثَابِتٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَامْتِيَازِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ إلَّا بِالْعَدِّ فَأَشْبَهَ الْمَكِيلَ، وَالْمَوْزُونَ، وَلِهَذَا كَانَ الْعَدُّ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ فِي ضَمَانِ الْعَدِّ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِيهِ الرِّبَا؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ وَاحِدٍ، وَوَاحِدٍ فِي الْعَدِّ ثَبَتَتْ بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ، وَإِهْدَارِهِمْ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فِي الصِّغَرِ، وَالْكِبَرِ لَكِنْ مَا ثَبَتَ بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ جَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِاصْطِلَاحِهِمْ، وَلَمَّا تَبَايَعَا وَاحِدًا بِاثْنَيْنِ فَقَدْ أَهْدَرَا اصْطِلَاحَ الْإِهْدَارِ وَاعْتَبَرَا الْكِبَرَ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا الْبَيْعَ الصَّحِيحَ، وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْكِبَرِ، وَسُقُوطِ الْعَدِّ فَكَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِمُقَابَلَةِ الْكَبِيرِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا أَمَّا هَهُنَا فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَدِّ إذَا بِيعَ عَدَدًا، وَإِذَا اُعْتُبِرَ الْعَدُّ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا فِي الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ بِخِلَافِ الْمَذْرُوعِ فَإِنَّ الْقَدْرَ فِيهِ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَكَانَتْ التَّخْلِيَةُ فِيهِ قَبْضًا تَامًّا فَكَانَ تَصَرُّفًا فِي الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَالَهُ الْبَائِعُ، أَوْ وَزَنَهُ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْكَيْلِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِكَيْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي، وَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ، وَصَاعُ الْمُشْتَرِي» مَحْمُولٌ عَلَى مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ مَا إذَا اشْتَرَى مَكِيلًا مُكَايَلَةً فَاكْتَالَهُ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ مُكَايَلَةً لَمْ يَجُزْ لِهَذَا الْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ فِيهِ حَتَّى يَكِيلَهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ حَاضِرًا عِنْدَ اكْتِيَالِ بَائِعِهِ فَلَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ فِي حِنْطَةٍ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ قَدْرَ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ رَجُلٍ مُكَايَلَةً، وَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ بِاقْتِضَائِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ مَا لَمْ يَكِلْهُ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ، وَمَرَّةً لِنَفْسِهِ بِالنَّصِّ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ السَّلَمِ قَرْضٌ بِأَنْ اسْتَقْرَضَ الْمُسْتَقْرِضُ كُرًّا مِنْ إنْسَانٍ، وَأَمَرَ الْمُقْرِضَ بِقَبْضِ الْكُرِّ فَإِنَّهُ يُكْتَفَى فِيهِ بِكَيْلٍ، وَاحِدٍ لِلْمُشْتَرِي، وَالْمُسْتَقْرِضِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْكَيْلَ، وَالْوَزْنَ فِيمَا عُقِدَ بِشَرْطِ الْكَيْلِ، وَالْوَزْنِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ شَرْطُ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالسَّلَمُ عَقْدٌ بِشَرْطِ الْكَيْلِ، وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ اشْتَرَى بِشَرْطِ الْكَيْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكِيلَ رَبُّ السَّلَمِ أَوَّلًا لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِيَصِيرَ قَابِضًا لَهُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ مِنْ الْبَائِعِ ثُمَّ يَكِيلُ لِنَفْسِهِ لِيَصِيرَ قَابِضًا لِنَفْسِهِ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَأَمَّا قَبْضُ بَدَلِ الْقَرْضِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِ؛ لِأَنَّ

الْقَبْضَ بِالْكَيْلِ فِي بَابِ الْبَيْعِ لِانْدِفَاعِ جَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِتَمَيُّزِ حَقِّ الْمُشْتَرِي عَنْ حَقِّ الْبَائِعِ، وَالْقَرْضُ يَقْبَلُ نَوْعَ جَهَالَةٍ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْقَبْضُ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَاضَ إعَارَةٌ عِنْدَنَا فَالْمَقْبُولُ مِنْ بَدَلِ الْقَرْضِ كَأَنَّهُ عَيْنُ حَقِّهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَعَارَ عَيْنًا ثُمَّ اسْتَرَدَّهَا فَيَصِحُّ قَبْضُهُ بِدُونِ الْكَيْلِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ كَيْلٌ، وَاحِدٌ لِلْمُشْتَرِي لَا غَيْرَ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لِلْمَبِيعِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ، وَمَا لَا يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا. فَنَقُولُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْمَبِيعُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَأَتْلَفَهُ الْمُشْتَرِي صَارَ قَابِضًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا بِالتَّخْلِيَةِ فَبِالْإِتْلَافِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ تَمْكِينٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ، وَالْإِتْلَافُ تَصَرُّفٌ فِيهِ حَقِيقَةً، وَالتَّمْكِينُ مِنْ التَّصَرُّفِ دُونَ حَقِيقَةِ التَّصَرُّفِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ، أَوْ شَجَّ رَأْسَهُ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ نَقَصَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّمْكِينِ فَوْقَ التَّخْلِيَةِ ثُمَّ بِالتَّخْلِيَةِ صَارَ قَابِضًا فَبِهَا أَوْلَى، وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ الْبَائِعُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي يَصِيرُ قَابِضًا؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إتْلَافٌ حُكْمًا فَيَلْحَقُ بِالْإِتْلَافِ حَقِيقَةً، وَكَذَا لَوْ دَبَّرَهُ، أَوْ اسْتَوْلَدَ الْجَارِيَةَ أَيْ: أَقَرَّ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ، أَوْ الِاسْتِيلَادَ تَنْقِيصٌ حُكْمًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالتَّنْقِيصِ حَقِيقَةً، وَلَوْ زَوَّجَ الْمَبِيعَ بِأَنْ كَانَ جَارِيَةً، أَوْ عَبْدًا، فَالْقِيَاسُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا يَصِيرُ قَابِضًا. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ: أَنَّ التَّزَوُّجَ تَعْيِيبٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ عَيْبٌ يُرَدُّ بِهَا؟ وَإِذَا كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ عَيْبًا كَانَ التَّزَوُّجُ تَعْيِيبًا، وَالتَّعْيِيبُ قَبْضٌ (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّهُ تَعْيِيبٌ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الْمَحَلِّ، وَلَا نُقْصَانَ الْمِلْكِ فِيهِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ فَالْقِيَاسُ: أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَيْبٌ حَتَّى يُرَدَّ بِهِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا يَصِيرُ قَابِضًا؛ لِأَنَّهُ تَعْيِيبٌ حُكْمِيٌّ، وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ النُّقْصَانَ فَلَا يَكُونُ قَبْضًا، وَلَوْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ فِي يَدِ الْبَائِعِ صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ، وَأَنَّهُ حَصَلَ مِنْ الزَّوْجِ بِتَسْلِيطِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إثْبَاتُ الْيَدِ مُضَافًا إلَى الْمُشْتَرِي فَكَانَ قَابِضًا مِنْ الْمُشْتَرِي. وَلَوْ أَعَارَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ لِلْبَائِعِ، أَوْ أَوْدَعَهُ، أَوْ آجَرَهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَبْضًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَمْ تَصِحَّ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ يَدَ الْحَبْسِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ثَابِتَةٌ لِلْبَائِعِ فَلَا يُتَصَوَّرُ إثْبَاتُ يَدِ النِّيَابَةِ لَهُ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَلَمْ تَصِحَّ، وَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ. وَلَوْ أَعَارَهُ، أَوْ أَوْدَعَهُ أَجْنَبِيًّا صَارَ قَابِضًا؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ، وَالْإِيدَاعَ إيَّاهُ صَحِيحٌ فَقَدْ أَثْبَتَ يَدَ النِّيَابَةِ لِغَيْرِهِ فَصَارَ قَابِضًا. وَلَوْ أَرْسَلَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمَبِيعَ إلَى حَاجَةٍ صَارَ قَابِضًا؛ لِأَنَّ إرْسَالَهُ فِي الْحَاجَةِ اسْتِعْمَالٌ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَارَ رَاضِيًا بِهِ، وَاسْتِعْمَالُهُ إيَّاهُ إثْبَاتُ يَدِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى الْقَبْضِ. وَلَوْ جَنَى أَجْنَبِيٌّ عَلَى الْمَبِيعِ فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي اتِّبَاعَ الْجَانِي بِالضَّمَانِ كَانَ اخْتِيَارُهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ حَتَّى لَوْ تَوَى الضَّمَانُ عَلَى الْجَانِي بِأَنْ مَاتَ مُفْلِسًا كَانَ التَّوَى عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَالتَّوَى عَلَى الْبَائِعِ، وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي وَكَذَا لَوْ اسْتَبْدَلَ الْمُشْتَرِي الضَّمَانَ لِيَأْخُذَ مَكَانَهُ مِنْ الْجَانِي شَيْئًا آخَرَ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ فِي الْعُقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعَيْنِ الْمُسْتَهْلَكَةِ، وَالتَّصَرُّفُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ لَا مِنْ الْبَائِعِ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ. وَكَذَا الْمَبِيعُ إذَا كَانَ مَصُوغًا مِنْ فِضَّةٍ اشْتَرَاهَا بِدِينَارٍ فَاسْتَهْلَكَ الْمَصُوغَ أَجْنَبِيٌّ قَبْلَ الْقَبْضِ فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَتَّبِعَ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ، وَنَقَدَ الدِّينَارَ الْبَائِعُ فَافْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ ضَمَانِ الْمُسْتَهْلَكِ لَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ تَضْمِينَ الْمُسْتَهْلِكِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَبْطُلُ الصَّرْفُ لِعَدَمِ الْقَبْضِ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الضَّمَانَ حُكْمُ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَيْنِ قَائِمَةٌ مَقَامَهَا، وَلِهَذَا بَقِيَ الْعَقْدُ عَلَى الْقِيمَةِ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ ثُمَّ الْعَيْنُ لَوْ كَانَتْ قَائِمَةً فَهَلَكَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ الْهَلَاكُ عَلَى الْبَائِعِ، وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي فَكَذَا الْقِيمَةُ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ جِنَايَةَ الْأَجْنَبِيِّ حَصَلَتْ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي، وَأَمْرِهِ دَلَالَةً فَيَصِيرُ قَابِضًا كَمَا لَوْ فَعَلَ بِنَفْسِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ اخْتِيَارَ الْمُشْتَرِي اتِّبَاعَ الْجَانِي بِالضَّمَانِ تَمْلِيكٌ مِنْ الْمَضْمُونِ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمَلَّكُ بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ سَبَبِ الضَّمَانِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي فَيَصِيرُ

قَابِضًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْأَجْنَبِيِّ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ. وَلَوْ أَمَرَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَبِيعِ عَمَلًا فَإِنْ كَانَ عَمَلًا لَا يُنْقِصُهُ كَالْقِصَارَةِ، وَالْغَسْلِ بِأَجْرٍ، أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ لَا يَصِيرُ قَابِضًا؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الَّذِي لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الْمَحَلِّ مِمَّا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ بِالْيَدِ الثَّابِتَةِ كَمَا إذَا نَقَلَهُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ اسْتِيفَاءً لِمِلْكِ الْيَدِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا، وَتَجِبُ الْأُجْرَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي إنْ كَانَ بِأَجْرٍ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ قَدْ صَحَّتْ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ عَلَى الْبَائِعِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَجَازَ أَنْ تُقَابِلَهُ الْأُجْرَةُ، وَإِنْ كَانَ عَمَلًا يُنْقِصُهُ يَصِيرُ قَابِضًا؛ لِأَنَّ تَنْقِيصَهُ إتْلَافُ جُزْءٍ مِنْهُ، وَقَدْ حَصَلَ بِأَمْرِهِ فَكَانَ مُضَافًا إلَيْهِ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَسْلَمَ - فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ أَمَرَ رَبُّ السَّلَمِ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ أَنْ يَكِيلَهُ فِي غَرَائِرِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ، أَوْ دَفَعَ إلَيْهِ غَرَائِرَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَهُ فِيهَا فَفَعَلَ أَنَّهُ إنْ كَانَ رَبُّ السَّلَمِ حَاضِرًا يَصِيرُ قَابِضًا بِالتَّخْلِيَةِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَا يَصِيرُ قَابِضًا؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ الَّتِي يَكِيلُهَا الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِلْكُهُ لَا مِلْكُ رَبِّ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعَيْنِ فَلَمْ يَصِحَّ أَمْرُ الْمُشْتَرِي إيَّاهُ بِكَيْلِهَا فَلَمْ يَصِرْ، وَكِيلًا لَهُ فَلَا تَصِيرُ يَدُهُ يَدَ رَبِّ السَّلَمِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْغَرَائِرُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ، أَوْ لِرَبِّ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ يَدَ رَبِّ السَّلَمِ عَنْ الْغَرَائِرِ قَدْ زَالَتْ فَإِذَا كَالَ فِيهَا الْحِنْطَةُ لَمْ تَصِرْ فِي يَدِ رَبِّ السَّلَمِ فَلَا يَصِيرُ قَابِضًا. وَكَذَا لَوْ اسْتَقْرَضَ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا، وَدَفَعَ إلَيْهِ غَرَائِرَهُ لِيَكِيلَهُ فِيهَا فَفَعَلَ، وَهُوَ غَائِبٌ لَا يَصِيرُ قَابِضًا؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ لَا يُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَانَ الْكُرُّ عَلَى مِلْكِ الْمُقْرِضِ فَلَمْ يَصِحَّ أَمْرُ الْمُسْتَقْرِضِ إيَّاهُ بِكَيْلِهِ فَلَا يَصِيرُ، وَكِيلًا لَهُ فَلَا تَصِيرُ يَدُهُ يَدَ الْمُسْتَقْرِضِ كَمَا فِي السَّلَمِ، وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ إنْسَانٍ كُرًّا بِعَيْنِهِ، وَدَفَعَ غَرَائِرَهُ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَكِيلَ فِيهَا فَفَعَلَ صَارَ قَابِضًا سَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرِي حَاضِرًا، أَوْ غَائِبًا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مُعَيَّنٌ، وَقَدْ مَلَكَهُ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَصَحَّ أَمْرُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ تَنَاوَلَ عَيْنًا هُوَ مِلْكُهُ فَصَحَّ أَمْرُهُ، وَصَارَ الْبَائِعُ، وَكِيلًا لَهُ، وَصَارَتْ يَدُهُ يَدَ الْمُشْتَرِي. وَكَذَلِكَ الطَّحْنُ إذَا طَحَنَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِأَمْرِ رَبِّ السَّلَمِ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا، وَلَوْ طَحَنَهُ الْبَائِعُ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي صَارَ قَابِضًا؛ لِأَنَّ الطَّحْنَ بِمَنْزِلَةِ الْكَيْلِ فِي الْغَرَائِرِ وَلَوْ اسْتَعَارَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَائِعِ غَرَائِرَهُ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَكِيلَهُ فِيهَا فَفَعَلَ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي حَاضِرًا يَصِيرُ قَابِضًا بِالتَّخَلِّي بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَا يَصِيرُ قَابِضًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ مَا لَمْ يُسَلِّمْ الْغَرَائِرَ إلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْغَرَائِرُ بِغَيْرِ عَيْنِهَا، أَوْ بِعَيْنِهَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ كَانَتْ بِعَيْنِهَا صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا بِنَفْسِ الْكَيْلِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا بِأَنْ قَالَ أَعِرْنِي غِرَارَةً، وَكِلْ فِيهَا لَا يَصِيرُ قَابِضًا. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الْغَرَائِرَ عَارِيَّةٌ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَلَمْ يَقْبِضْهَا، وَالْعَارِيَّةُ لَا حُكْمَ لَهَا بِدُونِ الْقَبْضِ فَبَقِيَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَبَقِيَ مَا فِيهَا فِي يَدِ الْبَائِعِ أَيْضًا فَلَا يَصِيرُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي قَابِضًا إلَّا بِتَسْلِيمِ الْغَرَائِرِ إلَيْهِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ الْفَرْقُ بَيْنَ حَالَةِ التَّعْيِينِ، وَعَدَمِ التَّعْيِينِ، وَهُوَ أَنَّ الْغَرَائِرَ إذَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً مُشَارًا إلَيْهَا فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُ التَّعْيِينِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ اسْتِعَارَةً يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ مِنْ حَيْثُ إقَامَتِهَا مَقَامَ يَدِهِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُتَعَيَّنَةٌ فَلَا، وَجْهَ لِلْإِعَارَةِ بِوَجْهٍ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَظْهَرُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ اشْتَرَى كُرًّا بِعَيْنِهِ، وَلَهُ عَلَى الْبَائِعِ كُرُّ دَيْنٍ فَأَعْطَاهُ جَوْلَقًا، وَقَالَ لَهُ: كِلْهُمَا فِيهِ فَفَعَلَ صَارَ قَابِضًا لَهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ الْمَبِيعُ أَوَّلًا، أَوْ الدَّيْنُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ أَوَّلًا يَصِيرُ قَابِضًا لَهُمَا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ أَوَّلًا لَمْ يَصِرْ قَابِضًا لِلدَّيْنِ، وَكَانَ قَابِضًا لِلْعَيْنِ، وَكَانَا شَرِيكَيْنِ فِيهِ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ نَفْسَ الْكَيْلِ فِي الدَّيْنِ لَيْسَ بِقَبْضٍ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِذَا بَدَأَ بِكَيْلِهِ لَمْ يَصِرْ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لَهُ فَإِذَا كَالَهُ بَعْدَهُ فَقَدْ خَلَطَ مِلْكَ الْمُشْتَرِي بِمِلْكِ نَفْسِهِ فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْمَخْلُوطِ، وَنَفْسُ الْكَيْلِ فِي الْعَيْنِ قَبْضٌ فَإِذَا بَدَأَ بِكَيْلِهِ صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لَهُ ثُمَّ إذَا كَالَ الدَّيْنَ بَعْدَهُ فَقَدْ اسْتَهْلَكَ الْعَيْنَ بِالْخَلْطِ فَقَامَ ذَلِكَ الدَّيْنُ مَقَامَ الْعَيْنِ فَصَارَ قَابِضًا لَهُ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْبَائِعَ خَلَطَ مِلْكَ الْمُشْتَرِي بِمِلْكِ نَفْسِهِ فِي الْحَالِ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ مُضَافًا إلَى الْمُشْتَرِي، وَالْخَلْطُ مِنْ أَسْبَابِ التَّمَلُّكِ فِي الْجُمْلَةِ فَيَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الدَّيْنَ بِالْخَلْطِ، وَقَدْ جَعَلَهُ فِي غَرَائِرِهِ بِأَمْرِهِ فَصَارَ قَابِضًا لَهُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ بَاعَ قُطْنًا فِي فِرَاشٍ، أَوْ حِنْطَةً فِي سُنْبُلٍ، وَسَلَّمَ كَذَلِكَ فَإِنْ أَمْكَنَ الْمُشْتَرِيَ قَبْضُ الْقُطْنِ، أَوْ الْحِنْطَةِ مِنْ غَيْرِ فَتْقِ الْفِرَاشِ، أَوْ دَقُّ السُّنْبُلِ صَارَ قَابِضًا لَهُ لِحُصُولِ مَعْنَى الْقَبْضِ، وَهُوَ التَّخَلِّي، وَالتَّمَكُّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا بِالْفَتْقِ، وَالدَّقِّ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْفَتْقَ، أَوْ الدَّقَّ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِهِ فَلَمْ يَحْصُلْ التَّمَكُّنُ، وَالتَّخَلِّي فَلَا يَصِيرُ قَابِضًا، وَلَوْ بَاعَ الثَّمَرَةَ عَلَى الشَّجَرَةِ، وَسَلَّمَ كَذَلِكَ صَارَ قَابِضًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْجِذَاذُ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِي مِلْكِ

الْبَائِعِ فَحَصَلَ التَّخَلِّي بِتَسْلِيمِ الشَّجَرِ فَكَانَ قَبْضًا بِخِلَافِ بَيْعِ الْقُطْنِ فِي الْفِرَاشِ، وَالْحِنْطَةِ فِي السُّنْبُلِ، وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ أُجْرَةَ الْجِذَاذِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَأُجْرَةَ الْفَتْقِ، وَالدَّقِّ عَلَى الْبَائِعِ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي لَا يُمْكِنُهُ الْقَبْضُ إلَّا بِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِلثَّمَنِ بِتَسْلِيمِ الشَّجَرِ فَكَانَ الْجَاذُّ عَامِلًا لِلْمُشْتَرِي فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَحْصُلْ الْقَبْضُ بِتَسْلِيمِ الْفِرَاشِ، وَالسُّنْبُلِ فَكَانَ الْفَتْقُ، وَالدَّقُّ عَلَى الْبَائِعِ مِمَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّسْلِيمُ فَكَانَتْ أُجْرَتُهُ عَلَيْهِ هَذَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَقْتَ الْبَيْعِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَهَلْ يَصِيرُ قَابِضًا لِلْبَيْعِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ أَمْ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْمَوْجُودَ وَقْتَ الْعَقْدِ إنْ كَانَ مِثْلَ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ يَنُوبُ مَنَابَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُ فَإِنْ كَانَ أَقْوَى مِنْ الْمُسْتَحَقِّ نَابَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ لَا يَنُوبُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِثْلَهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ التَّنَاوُبِ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَاثِلَيْنِ غَيْرَانِ يَنُوبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَابَ صَاحِبِهِ، وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ، وَإِنْ كَانَ أَقْوَى مِنْهُ يُوجَدُ فِيهِ الْمُسْتَحَقُّ، وَزِيَادَةٌ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ لَا يُوجَدُ فِيهِ إلَّا بَعْضُ الْمُسْتَحَقِّ فَلَا يَنُوبُ عَنْ كُلِّهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهَا أَنَّ يَدَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الشِّرَاءِ إمَّا أَنْ كَانَتْ يَدَ ضَمَانٍ، وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ يَدَ أَمَانَةٍ فَإِنْ كَانَتْ يَدَ ضَمَانٍ فَإِمَّا أَنْ كَانَتْ يَدَ ضَمَانٍ بِنَفْسِهِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ يَدَ ضَمَانٍ بِغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَتْ يَدَ ضَمَانٍ بِنَفْسِهِ كَيَدِ الْغَاصِبِ يَصِيرُ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لِلْمَبِيعِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَبِيعُ حَاضِرًا، أَوْ غَائِبًا؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ، وَالْمَبِيعُ بَعْدَ الْقَبْضِ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ فَتَجَانَسَ الْقَبْضَانُ فَنَابَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ التَّجَانُسَ يَقْتَضِي التَّشَابُهَ، وَالْمُتَشَابِهَانِ يَنُوبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَابَ صَاحِبِهِ، وَيَسُدُّ مَسَدَهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَبِيعُ حَاضِرًا، أَوْ غَائِبًا؛ لِأَنَّ يَدَ الْغَاصِبِ فِي الْحَالَيْنِ يَدُ ضَمَانٍ. وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ يَدَ ضَمَانٍ لِغَيْرِهِ كَيَدِ الرَّهْنِ بِأَنْ بَاعَ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ حَاضِرًا، أَوْ يَذْهَبَ إلَى حَيْثُ الرَّهْنِ، وَيَتَمَكَّنُ مِنْ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ بِنَفْسِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ الدَّيْنُ، وَالْمَبِيعُ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَتَجَانَسْ الْقَبْضَانُ فَلَمْ يَتَشَابَهَا فَلَا يَنُوبُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَكَانَ قَبْضُهُ قَبْضَ أَمَانَةٍ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ لِمَعْنًى آخَرَ لَا لِكَوْنِهِ مَضْمُونًا عَلَى مَا عُرِفَ، وَإِذَا كَانَ أَمَانَةً فَقَبْضُ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الضَّمَانِ كَقَبْضِ الْعَارِيَّةِ، الْوَدِيعَةِ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمُشْتَرِي يَدَ أَمَانَةٍ كَيَدِ الْوَدِيعَةِ، وَالْعَارِيَّةِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا إلَّا أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِهِ، أَوْ يَذْهَبُ إلَى حَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَبْضِهِ بِالتَّخَلِّي؛ لِأَنَّ يَدَ الْأَمَانَةِ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ يَدِ الضَّمَانِ فَلَا يَتَنَاوَبَانِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ، وَالْمُشْتَرِي فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ فَقَالَ الْبَائِعُ: قَبَضْتَهُ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: لَمْ أَقْبِضْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ وُجُودَ الْقَبْضِ، وَتَقَرُّرَ الثَّمَنِ، وَهُوَ يُنْكِرُ، وَلِأَنَّ عَدَمَ الْقَبْضِ أَصْلٌ وَالْوُجُودُ عَارِضٌ فَكَانَ الْمُشْتَرِي مُتَمَسِّكًا بِالْأَصْلِ، وَالْبَائِعُ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُشْتَرِي فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَكَذَا إذَا قَبَضَ بَعْضَهُ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَقْبُوضِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: قَطَعْتَ يَدَهُ فَصِرْتَ قَابِضًا، وَقَالَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: أَنْتَ قَطَعْتَ يَدَهُ، وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ فِيهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَيُجْعَلُ كَأَنَّ يَدَهُ ذَهَبَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لِتَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ، وَانْعِدَامِ دَلِيلِ التَّرْجِيحِ لِأَحَدِهِمَا فَلَا يَكُونُ قَوْلُ أَحَدِهِمَا بِالْقَبُولِ عَلَى صَاحِبِهِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْآخَرِ فَلَا يُقْبَلُ، وَيُجْعَلُ كَأَنَّهَا ذَهَبَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِتَغَيُّرِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ فَإِنْ اخْتَارَ الْأَخْذَ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَيَأْخُذُ كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِهِ أَمَّا تَحْلِيفُ الْبَائِعِ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي عَلَيْهِ سُقُوطَ بَعْضِ الثَّمَنِ، وَهُوَ يُنْكِرُ فَيَحْلِفُ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَكَانَ تَحْلِيفُهُ مُفِيدًا (وَأَمَّا) تَحْلِيفُ الْمُشْتَرِي فَمُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ بَعْدَ الْحَلِفِ بِكُلِّ الثَّمَنِ، وَهَذَا فِيمَا إذَا اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْلِفُ الْبَائِعُ بَلْ يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي، وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ تَحْلِيفَ الْبَائِعِ لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا حَيْثُ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا يُكَالُ، أَوْ يُوزَنُ فَذَهَبَ بَعْضُهُ فَاخْتَلَفَا فَقَالَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: أَنْتَ أَكَلْت، وَقَالَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: مِثْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ ذَهَبَ بَعْضُهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لِمَا قُلْنَا، وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ إنْ اخْتَارَ

الْأَخْذَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِمَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ فِي الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ فَكَانَ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَالْأَطْرَافُ مِنْ الْحَيَوَانِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَوْصَافِ فَلَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ إلَّا إذَا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْقَبْضِ أَوْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَهُنَا أَيْضًا أَنَّهُ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَيَأْخُذُ، وَلَا إشْكَالَ هَهُنَا فِي تَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ التَّحْلِيفَ مُفِيدٌ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ كُلَّ الثَّمَنِ، وَهُوَ يُنْكِرُ فَيَنْدَفِعُ عَنْهُ لُزُومُ كُلِّ الثَّمَنِ بِالْحَلِفِ فَكَانَ مُفِيدًا. (وَأَمَّا) تَحْلِيفُ الْبَائِعِ فَفِيهِ إشْكَالٌ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي عَلَيْهِ سُقُوطَ بَعْضِ الثَّمَنِ، وَذَا حَاصِلٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَحْلِيفِهِ فَلَمْ يَكُنْ تَحْلِيفُهُ مُفِيدًا فِي حَقِّهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْلِفَ، وَإِنْ اخْتَارَ الرَّدَّ عَلَى الْبَائِعِ حَلَفَ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ دُونَ الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى أَمْرٍ جَائِزِ الْوُجُودِ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُوجِبُ دُخُولَ السِّلْعَةِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَتُقَرِّرُ الثَّمَنَ عَلَيْهِ، وَبَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي نَافِيَةٌ فَالْمُثْبِتَةُ أَوْلَى، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) ثُبُوتُ حَقِّ الْحَبْسِ لِلْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلٍ: يُسَلَّمَانِ مَعًا، وَفِي قَوْلٍ: يُسَلَّمُ الْمَبِيعُ أَوَّلًا ثُمَّ يُسَلَّمُ الثَّمَنُ أَمَّا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ فَبِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّ الثَّمَنَ، وَالْمَبِيعَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ عِنْدَهُ، وَيَتَعَيَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّعْيِينِ فَكَانَ كُلُّ ثَمَنٍ مَبِيعًا، وَكُلُّ مَبِيعٍ ثَمَنًا (وَأَمَّا) قَوْلُهُ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ فِي تَقْدِيمِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ صِيَانَةَ الْعَقْدِ عَنْ الِانْفِسَاخِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي تَقْدِيمِ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، وَإِنْ قَبَضَ الثَّمَنَ فَكَانَ تَقْدِيمُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أَوْلَى صِيَانَةً لِلْعَقْدِ عَنْ الِانْفِسَاخِ مَا أَمْكَنَ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الدَّيْنُ مَقْضِيٌّ» ، وَصَفَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الدَّيْنَ بِكَوْنِهِ مَقْضِيًّا عَامًّا أَوْ مُطْلَقًا فَلَوْ تَأَخَّرَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الدَّيْنُ مَقْضِيًّا، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ لَا يُؤَخَّرْنَ: الْجِنَازَةُ إذَا حَضَرَتْ، وَالْأَيِّمُ إذَا وَجَدَتْ لَهَا كُفْئًا، وَالدَّيْنُ إذَا وَجَدْتَ مَا يَقْضِيهِ» ، وَتَقْدِيمُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ تَأْخِيرُ الدَّيْنِ، وَأَنَّهُ مَنْفِيٌّ بِظَاهِرِ النَّصِّ، وَلِأَنَّ الْمُعَاوَضَاتِ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُسَاوَاةِ عَادَةً، وَحَقِيقَةً، وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ إلَّا بِتَقْدِيمِ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مُتَعَيِّنٌ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَالثَّمَنَ لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ عَلَى أَصْلِنَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِهِ أَوَّلًا تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ، وَقَوْلُهُ فِيمَا قُلْتَهُ صِيَانَةٌ لِلْعَقْدِ عَنْ الِانْفِسَاخِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قُلْنَا هَلَاكُهُ قَبْلَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ نَادِرٌ، وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فَيَلْزَمُ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْمُسَاوَاةِ. ثُمَّ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي مَوْضِعَيْنِ:. أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ شَرْطِ ثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ أَمَّا شَرْطُ ثُبُوتِهِ فَشَيْئَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ عَيْنًا، وَالْآخَرُ دَيْنًا فَإِنْ كَانَا عَيْنَيْنِ، أَوْ دَيْنَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحَبْسِ بَلْ يُسَلَّمَانِ مَعًا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ حَالًّا فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحَبْسِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْحَبْسِ تَثْبُتُ حَقًّا لِلْبَائِعِ لِطَلَبِهِ الْمُسَاوَاةَ عَادَةً لِمَا بَيَّنَّا، وَلَمَّا بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَبَطَلَتْ الْوِلَايَةُ وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا فِي الْعَقْدِ فَلَمْ يَقْبِضْ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ حَتَّى حَلَّ الْأَجَلُ فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ بِالتَّأْجِيلِ، وَالسَّاقِطُ مُتَلَاشٍ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَرَأَ الْأَجَلُ عَلَى الْعَقْدِ بِأَنْ أُخِّرَ الثَّمَنُ بَعْدَ الْعَقْدِ فَلَمْ يَقْبِضْ الْبَائِعُ حَتَّى حَلَّ الْأَجَلُ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ، وَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ حَبْسَهُ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَلَمْ يَقْبِضْ الْمُشْتَرِي حَتَّى حَلَّ الْأَجَلُ هَلْ لَهُ أَجَلٌ آخَرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؟ يُنْظَرُ إنْ ذَكَرَا أَجَلًا مُطْلَقًا بِأَنْ ذَكَرَا سَنَةً مُطْلَقَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ فَلَهُ أَجَلٌ آخَرُ هُوَ سَنَةٌ أُخْرَى مِنْ حِينِ يَقْبِضُ الْمَبِيعَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ الثَّمَنُ حَالٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَجَلٌ آخَرُ، وَإِنْ ذَكَرَا أَجَلًا بِعَيْنِهِ بِأَنْ بَاعَهُ إلَى رَمَضَانَ فَلَمْ يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي حَتَّى مَضَى رَمَضَانُ صَارَ الثَّمَنُ حَالًا بِالْإِجْمَاعِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ السَّنَةَ الْمُطْلَقَةَ تَنْصَرِفُ إلَى سَنَةٍ تَعْقُبُ الْعَقْدَ بِلَا فَصْلٍ فَإِذَا مَضَتْ انْتَهَى الْأَجَلُ كَمَا لَوْ عُيِّنَ الْأَجَلُ نَصًّا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الثَّمَنِ شُرِعَ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي لِيَنْتَفِعَ بِالْمَبِيعِ فِي الْحَالِ مَعَ تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ، وَلَنْ يَحْصُلَ هَذَا الْغَرَضُ لَهُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ الْأَجَلِ مِنْ، وَقْتِ قَبْضِ الْمَبِيعِ فَكَانَ هَذَا تَأْجِيلًا مِنْ هَذَا الْوَقْتِ دَلَالَةً بِخِلَافِ مَا إذَا عَيَّنَ الْأَجَلَ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى تَعَيُّنِهِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إذْ لَا دَلَالَةَ مَعَ النَّصِّ بِخِلَافِهَا، وَلَوْ كَانَ فِي الْبَيْعِ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُمَا، أَوْ لِأَحَدِهِمَا، وَالْأَجَلُ مُطْلَقٌ فَابْتِدَاءُ الْأَجَلِ مِنْ حِينِ وُجُوبِ الْعَقْدِ

وَهُوَ وَقْتُ سُقُوطِ الْخِيَارِ لَا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ تَأْجِيلَ الثَّمَنِ هُوَ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهِ، وَوَقْتُ وُجُوبِهِ هُوَ وَقْتُ وُجُوبِ الْعَقْدِ وَانْبِرَامِهِ لَا قَبْلَهُ إذْ لَا وُجُوبَ لِلثَّمَنِ قَبْلَهُ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْحَبْسِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَمَا لَا يَبْطُلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إذَا أَخَّرَ الثَّمَنَ بَعْدَ الْعَقْدِ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ حَقَّ نَفْسِهِ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ فَلَا يَتَأَخَّرُ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ، وَكَذَا الْمُشْتَرِي إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ كُلَّهُ أَوْ أَبْرَأَهُ الْبَائِعُ عَنْ كُلِّهِ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، وَاسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ وَلَا ثَمَنَ مُحَالٌ، وَلَوْ نَقَدَ الثَّمَنَ كُلَّهُ إلَّا دِرْهَمًا كَانَ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ جَمِيعِهِ لِاسْتِيفَاءِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَبْسِ بِالثَّمَنِ لَا يَتَجَزَّأُ فَكَانَ كُلُّ الْمَبِيعِ مَحْبُوسًا بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ شَيْئَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَسَمَّى لِكُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا فَنَقَدَ الْمُشْتَرِي حِصَّةَ أَحَدِهِمَا كَانَ لِلْبَائِعِ حَبْسُهُمَا حَتَّى يَقْبِضَ حَقَّ الْآخَرِ لِمَا قُلْنَا، وَلِأَنَّ قَبْضَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ فِي حَقِّ الْقَبْضِ، وَالْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ فِي حَقِّ الْقَبُولِ بِأَنْ يَقْبَلَ الْإِيجَابَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَلَا يَمْلِكُ التَّفْرِيقَ فِي حَقِّ الْقَبْضِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ لِلْقَبْضِ شِبْهًا بِالْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا فَلَهُ حَبْسُ الْكُلِّ لِاسْتِيفَاءِ الْبَاقِي لِمَا ذَكَرْنَا. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ مِنْ اثْنَيْنِ فَنَقَدَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ كَانَ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَقْبِضَ مَا عَلَى الْآخَرِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي (النَّوَادِرِ) أَنَّهُ إذَا نَقَدَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ الثَّمَنِ يَأْخُذُ نِصْفَ الْمَبِيعِ (وَوَجْهُهُ) أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الثَّمَنِ فَإِذَا أَدَّى النِّصْفَ فَقَدْ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَلَا مَعْنَى لِتَوَقُّفِ حَقِّهِ فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ عَلَى أَدَاءِ صَاحِبِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَوَقَّفَ، وَصَاحِبُهُ مُخْتَارٌ فِي الْأَدَاءِ قَدْ يُؤَدِّي، وَقَدْ لَا يُؤَدِّي فَيَفُوتُ حَقُّهُ أَصْلًا، وَرَأْسًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلِهَذَا جُعِلَ التَّخْلِيَةُ، وَالتَّخَلِّي تَسْلِيمًا، وَقَبْضًا فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَبِيعَ فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ لِحَبْسِ الثَّمَنِ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ بَعْضِهِ اسْتِحْقَاقَ كُلِّهِ، وَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ فَلَا تَحْتَمِلُ التَّفْرِيقَ فِي الْبَعْضِ كَمَا لَا تَحْتَمِلُهُ فِي الْقَبُولِ فَإِنْ غَابَ أَحَدُهُمَا لَمْ يُجْبَرْ الْآخَرُ عَلَى تَسْلِيمِ كُلِّ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الثَّمَنِ لَا كُلُّهُ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِتَسْلِيمِ كُلِّهِ فَإِنْ اخْتَارَ الْحَاضِرُ ذَلِكَ، وَنَقَدَ كُلَّ الثَّمَنِ، وَقَبَضَ الْمَبِيعَ هَلْ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا نَقَدَ أَمْ لَا؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا نَقَدَ، وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ عَنْ الشَّرِيكِ الْغَائِبِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا نَقَدَ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ مُتَبَرِّعٌ فِي حِصَّتِهِ (وَجْهُ) قَوْلِهِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ قَضَى دَيْنَ صَاحِبِهِ بِأَمْرِهِ دَلَالَةً فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا كَمَا لَوْ قَضَاهُ بِأَمْرِهِ نَصًّا، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا غَابَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ صَاحِبَهُ اسْتَحَقَّ قَبْضَ نَصِيبِهِ مِنْ الْمَبِيعِ بِتَسْلِيمِ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ كُلِّ الثَّمَنِ كَانَ إذْنًا لَهُ بِتَسْلِيمِ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَكَانَ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ دَلَالَةً فَلَمْ يَكُنْ مُتَطَوِّعًا، وَصَارَ هَذَا كَمَنْ أَعَارَ مَالَهُ إنْسَانًا لِيَرْهَنَهُ بِدَيْنِهِ فَرَهَنَ ثُمَّ افْتَكَّهُ الْغَيْرُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا، وَيَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ عَلَّقَ مَالَ الْغَيْرِ بِدَيْنِهِ، وَلَا يَزُولُ الْعُلُوقُ إلَّا بِانْفِكَاكِهِ فَكَانَ إذْنًا لَهُ بِالْفِكَاكِ دَلَالَةً كَذَا هَذَا، وَلَهُ حَقُّ حَبْسِ الْعَبْدِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَا نَقَدَ عَنْهُ كَمَا لَوْ نَقَدَ بِأَمْرِهِ نَصًّا. وَلَوْ أَدَّى جَمِيعَ الثَّمَنِ، وَقَبَضَ الْعَبْدَ ثُمَّ هَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْحَبْسِ يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْهُ بِأَمْرِهِ دَلَالَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَالرَّهْنُ بِالثَّمَنِ، وَالْكَفَالَةُ بِهِ لَا يُبْطِلَانِ حَقَّ الْحَبْسِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُسْقِطَانِ الثَّمَنَ عَنْ ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، وَلَا حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِهِ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَعْيِينِهِ بِالْقَبْضِ قَائِمَةً فَيَبْقَى حَقُّ الْحَبْسِ لِاسْتِيفَائِهِ. (وَأَمَّا) الْحَوَالَةُ بِالثَّمَنِ فَهَلْ تُبْطِلُ حَقَّ الْحَبْسِ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُبْطِلُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْحَوَالَةُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِأَنْ أَحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى إنْسَانٍ، وَقَبِلَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ، أَوْ مِنْ الْبَائِعِ بِأَنْ أَحَالَ الْبَائِعُ غَرِيمًا لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَتْ الْحَوَالَةُ مِنْ الْمُشْتَرِي لَا تَبْطُلُ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْبَائِعِ فَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً لَا تَبْطُلُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِمَا عَلَيْهِ تَبْطُلُ فَأَبُو يُوسُفَ أَرَادَ بَقَاءَ الْحَبْسِ عَلَى بَقَاءِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، وَذِمَّتُهُ بَرِئْت مِنْ دَيْنِ الْمُحِيلِ بِالْحَوَالَةِ فَيَبْطُلُ حَقُّ الْحَبْسِ، وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ بَقَاءَ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ؛ لِبَقَاءِ حَقِّ الْحَبْسِ، وَحَقُّ الْمُطَالَبَةِ لَمْ يَبْطُلْ بِحَوَالَةِ

الْمُشْتَرِي أَلَا تَرَى: أَنَّ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ؟ فَلَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الْحَبْسِ، وَبَطَلَتْ حَوَالَةُ الْبَائِعِ إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِمَا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَبَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ. وَالصَّحِيحُ اعْتِبَارُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ فِي الشَّرْعِ يَدُورُ مَعَ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ لَا مَعَ قِيَامِ الثَّمَنِ فِي ذَاتِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الثَّمَنَ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحَبْسِ، وَالثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي قَائِمٌ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ دَلَّ أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ يَتْبَعُ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ لَا قِيَامُ الثَّمَنِ فِي ذَاتِهِ، وَحَقَّ الْمُطَالَبَةِ فِي حَوَالَةِ الْمُشْتَرِي وَحَوَالَةُ الْبَائِعِ إذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً فَكَانَ حَقُّ الْحَبْسِ ثَابِتًا، وَفِي حَوَالَةِ الْبَائِعِ إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً يَنْقَطِعُ فَلَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْحَبْسِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَحَالَ الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ بِدَيْنِهِ عَلَى رَجُلٍ أَوْ أَحَالَ الْمُرْتَهِنُ غَرِيمًا لَهُ بِدَيْنِهِ عَلَى الرَّاهِنِ حَوَالَةً مُطْلَقَةً أَوْ مُقَيَّدَةً أَنَّهُ يَبْطُلُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِي حَقِّ حَبْسِ الرَّهْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: لَا يَبْطُلُ فِي حَوَالَةِ الرَّاهِنِ، وَكَذَا فِي حَوَالَةِ الْمُرْتَهِنِ إذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً، وَإِنْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً تَبْطُلُ. وَلَوْ أَعَارَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي أَوْ أَوْدَعَهُ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ اسْتِرْدَادَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ عَقْدَ الْإِعَارَةِ، وَالْإِيدَاعِ لَيْسَ بِعَقْدٍ لَازِمٍ، فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ كَالْمُرْتَهِنِ إذَا أَعَارَ الرَّهْنَ مِنْ الرَّاهِنِ أَوْ أَوْدَعَهُ إيَّاهُ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِعَارَةَ، وَالْإِيدَاعَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ لَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْ الْبَائِعِ فِي الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْمِلْكِ فَكَانَ أَصْلًا فِي الْيَدِ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْعَارِيَّةُ أَوْ الْوَدِيعَةُ فِي يَدِهِ وَقَعَتْ بِجِهَةِ الْأَصَالَةِ، وَهِيَ يَدُ الْمِلْكِ، وَيَدُ الْمِلْكِ يَدٌ لَازِمَةٌ، فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهَا بِالِاسْتِرْدَادِ، وَبِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ فِي الْيَدِ الثَّابِتَةِ بِعَقْدِ الرَّهْنِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ فَيُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْإِنَابَةِ، وَيَدُ النِّيَابَةِ لَا تَكُونُ لَازِمَةً فَمَلَكَ الِاسْتِرْدَادَ. وَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الِاسْتِرْدَادَ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ حَقَّهُ بِالْإِذْنِ بِالْقَبْضِ، وَلَوْ قَبَضَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَبْطُلْ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي تَصَرَّفَ فِيهِ نُظِرَ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْإِمْهَارِ فَسَخَهُ، وَاسْتَرَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ، وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْإِعْتَاقِ، وَالتَّدْبِيرِ، وَالِاسْتِيلَادِ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِرْدَادَ، وَالْإِعَارَةَ إلَى الْحَبْسِ إمَّا أَنْ كَانَ مَعَ نَقْضِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مَعَ قِيَامِهَا لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهَا إذَا بَقِيَتْ كَانَتْ الْإِعَادَةُ إلَى الْحَبْسِ حَبْسَ الْجُزْءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَبَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ أَصْلًا. وَلَوْ نَقَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ فَوَجَدَهُ الْبَائِعُ زُيُوفًا أَوْ سُتُّوقًا أَوْ مُسْتَحَقًّا أَوْ وَجَدَ بَعْضَهُ كَذَلِكَ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ الْمَبِيعَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَمْ يَقْبِضْ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضْهُ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى حَقَّهُ، وَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي يُنْظَرُ إنْ كَانَ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي تَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ تَصَرُّفَهُ، وَيَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ إلَّا إذَا كَانَ تَصَرُّفًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلَا يُفْسَخُ، وَيُطَالَبُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ فَلَوْ نَقَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَ التَّصَرُّفَ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا يُفْسَخُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَقَدَ الثَّمَنَ فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْحَبْسِ فَبَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ، وَالِاسْتِرْدَادِ، وَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ يُنْظَرُ إنْ وَجَدَهُ زُيُوفًا فَرَدَّهَا لَا يَمْلِكُ اسْتِرْدَادَ الْمَبِيعِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ: أَنَّ الْبَائِعَ مَا رَضِيَ بِزَوَالِ حَقِّ الْحَبْسِ إلَّا بِوُصُولِ حَقِّهِ إلَيْهِ، وَحَقُّهُ فِي الثَّمَنِ السَّلِيمِ لَا فِي الْمَعِيبِ فَإِذَا وَجَدَهُ مَعِيبًا فَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ حَقُّهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَالرَّاهِنِ إذَا قَضَى دَيْنَ الْمُرْتَهِنِ، وَقَبَضَ الرَّهْنَ ثُمَّ إنَّ الْمُرْتَهِنَ وَجَدَ الْمَقْبُوضَ زُيُوفًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ، وَيَسْتَرِدَّ الرَّهْنَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. (وَلَنَا) : أَنَّ الْبَائِعَ يُسَلِّمُ الْمَبِيعَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ جِنْسِ حَقِّهِ فَلَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ بَعْدَ مَا اسْتَوْفَى حَقَّهُ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّ الزُّيُوفَ جِنْسُ حَقِّهِ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا الْفَائِتُ صِفَةُ الْجَوْدَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِي الصَّرْفِ، وَالسَّلَمِ جَازَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ لَمَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ اسْتِبْدَالًا بِبَدَلِ الصَّرْفِ، وَالسَّلَمِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا كَانَ الْمَقْبُوضُ جِنْسَ حَقِّهِ فَتَسَلُّمُ الْمَبِيعِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ جِنْسِ الْحَقِّ يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الِارْتِهَانَ اسْتِيفَاءٌ لِحَقِّهِ مِنْ الرَّهْنِ، وَالِافْتِكَاكَ إيفَاءٌ مِنْ مَالٍ آخَرَ فَإِذَا وُجِدَ زُيُوفًا تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ

فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الرَّهْنِ، وَالْبَيْعِ أَنَّهُ لَوْ أَعَارَ الْمَبِيعَ الْمُشْتَرِي بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ اسْتِرْدَادَهُ، وَلَوْ أَعَارَ الْمَرْهُونَ الرَّاهِنُ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْحَبْسِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ فَإِنْ وَجَدَهُ سُتُّوقًا أَوْ رَصَاصًا أَوْ مُسْتَحَقًّا، وَأَخَذَ مِنْهُ لَهُ أَنْ يَرُدَّ بِخِلَافِ الزُّيُوفِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا أَذِنَ لِلْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ عَلَى أَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ أَصْلًا، وَرَأْسًا؛ لِأَنَّ السَّتُّوقَ، وَالرَّصَاصَ لَيْسَا مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهَا فِي الصَّرْفِ، وَالسَّلَمِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ عَلَى تَقْدِيرِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ آذِنًا لَهُ بِالْقَبْضِ، وَلَا رَاضِيًا بِهِ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ. وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي تَصَرَّفَ فِيهِ فَلَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ، وَالرَّهْنِ، وَالْإِجَارَةِ، وَنَحْوِهَا أَوْ لَا يَكُونُ كَالْإِعْتَاقِ، وَنَحْوِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ، وَتَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ أَنَّهُ يُفْسَخُ، وَيُسْتَرَدُّ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ فَكَانَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ إبْطَالًا لِحَقِّهِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلرَّدِّ، وَهَهُنَا وُجِدَ الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ، فَكَانَ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي حَاصِلًا عَنْ تَسْلِيطِ الْبَائِعِ فَنَفَذَ، وَبَطَلَ حَقُّهُ فِي الِاسْتِرْدَادِ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَبْطُلُ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الْفَسْخِ إلَّا أَنَّ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا أَجَّرَ الْمَبِيعَ تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ، وَهَهُنَا لَا تُفْسَخُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُفْسَخُ بِالْعُذْرِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الْعُذْرُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الْفَسْخِ حَقًّا لِلشَّرْعِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ، فَجُعِلَ اسْتِحْقَاقُ الْفَسْخِ بِسَبَبِ الْفَسَادِ عُذْرًا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ، وَلَا فَسَادَ هَهُنَا فَلَا عُذْرَ فِي الْفَسْخِ فَلَا يُفْسَخُ. وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْبَيْعِ كِتَابَةٌ فَأَدَّى الْمُكَاتَبُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَعَتَقَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَوْلَى الْمَقْبُوضَ زُيُوفًا أَوْ مُسْتَحَقًّا فَالْعِتْقُ مَاضٍ فَإِنْ وَجَدَهُ سُتُّوقًا أَوْ رَصَاصًا لَا يَعْتِقُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فَصَارَ بِقَبْضِهَا قَابِضًا أَصْلَ حَقِّهِ، وَكَذَا قَبْضُ الدَّرَاهِمِ الْمُسْتَحَقَّةِ، وَقَعَ صَحِيحًا ظَاهِرًا، وَاحْتِمَالُ الْإِجَازَةِ بَعْدَ ظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ ثَابِتٌ أَيْضًا، وَالْعِتْقُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ظَاهِرًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَدَهَا سُتُّوقًا أَوْ رَصَاصًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَصْلًا، وَرَأْسًا فَلَمْ يُوجَدْ أَوْ أَبْدَلَ الْكِتَابَةَ فَلَا يَعْتِقُ، يُحَقِّقُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا إذَا حَلَفَ لَا يُفَارِقُ غَرِيمَةَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فَقَبَضَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَقْبُوضَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ زُيُوفًا أَوْ مُسْتَحَقًّا فَرَدَّ الزُّيُوفَ أَوْ أَخَذَ الْمَالِكُ الْمُسْتَحَقَّةَ بَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَإِنْ وَجَدَهُ سُتُّوقًا أَوْ رَصَاصًا حَنِثَ فِي يَمِينِهِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ ثُمَّ أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ أَوْ بَعْدَ مَا نَقَدَ مِنْهُ شَيْئًا، وَعَلَيْهِ دُيُونٌ لِأُنَاسٍ شَتَّى هَلْ يَكُونُ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَكُونُ لَهُ بَلْ الْغُرَمَاءُ كُلُّهُمْ أُسْوَةٌ فِيهِ فَيُبَاعُ، وَيُقَسَّمُ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْبَائِعُ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهُ حَتَّى أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَإِنْ كَانَ حَالًّا فَالْبَائِعُ أَحَقُّ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي فَوَجَدَ الْبَائِعُ مَتَاعَهُ عِنْدَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ يُوجِبُ حَقَّ الْفَسْخِ لِلْمُشْتَرِي بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ مَنْ بَاعَ عَبْدًا فَأَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ غُصِبَ أَوْ كَانَتْ دَابَّةً فَضَلَّتْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ، وَالْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ يُوجِبُ الْفَسْخَ لِلْبَائِعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَمَبْنَى الْمُعَاوَضَاتِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ. (وَلَنَا) : مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ بَاعَ بَيْعًا فَوَجَدَهُ، وَقَدْ أَفْلَسَ الرَّجُلُ فَهُوَ مَالُهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ» ، وَهَذَا نَصٌّ، وَهُوَ عَيْنُ مَذْهَبِنَا، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حَالَ كَوْنِ الْمُشْتَرِي حَيًّا مَلِيًّا فَلَا يَكُونُ أَحَقَّ بِثَمَنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِفْلَاسِهِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْمَبِيعِ قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَاعْتِبَارُ الثَّمَنِ بِالْمَبِيعِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا مُفَارَقَةً فِي الْأَحْكَامِ أَلَا تَرَى: أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ، وَمِلْكَ الثَّمَنِ لَيْسَ شَرْطًا؟ فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِدَرَاهِمَ لَا يَمْلِكُهَا جَازَ، وَلَوْ بَاعَ شَيْئًا لَا يَمْلِكُهُ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالتَّصَرُّفُ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ فَكَانَ اعْتِبَارُ الثَّمَنِ بِالْمَبِيعِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَاسِدًا، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا قَبَضَ الْمَبِيعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ، وَعِنْدَنَا: الْبَائِعُ أَحَقُّ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِفْلَاسَ، وَإِنْ كَانَ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَلِيءَ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الِاسْتِرْدَادِ بِنَقْدِ الثَّمَنِ، وَالْمُفْلِسُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ ذِكْرُ الْإِفْلَاسِ مُقَيَّدًا فَحَمَلْنَاهُ عَلَى مَا قُلْنَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمُوَفِّقُ. (وَمِنْهَا) وُجُوبُ

الِاسْتِبْرَاءِ فِي شِرَاءِ الْجَارِيَةِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ نَوْعَانِ. نَوْعٌ هُوَ مَنْدُوبٌ، وَنَوْعٌ هُوَ وَاجِبٌ (أَمَّا) الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ فَهُوَ: اسْتِبْرَاءُ الْبَائِعِ إذَا وَطِئَ جَارِيَةً، وَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا أَوْ يُخْرِجَهَا عَنْ مِلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ وَاجِبٌ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ شَغْلُ الرَّحِمِ بِمَاءِ الْبَائِعِ فَيَلْزَمُهُ التَّعَرُّفُ عَنْ ذَلِكَ بِالِاسْتِبْرَاءِ كَمَا فِي جَانِبِ الْمُشْتَرِي. (وَلَنَا) أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْبَائِعِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْمُشْتَرِي غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ لِصِيَانَةِ مَائِهِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ بِمَاءِ الْبَائِعِ، وَالْخَلْطُ يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا بِفِعْلِ الْبَائِعِ فَتَجِبُ الصِّيَانَةُ عَلَيْهِ بِالِاسْتِبْرَاءِ لَا عَلَى الْبَائِعِ إلَّا أَنَّهُ يُنْدَبُ إلَيْهِ لِتَوَهُّمِ اشْتِغَالِ رَحِمِهَا بِمَائِهِ، فَيَكُونُ الْبَيْعُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ مُبَاشَرَةً شَرْطَ الِاخْتِلَاطِ فَكَانَ الِاسْتِبْرَاءُ مُسْتَحَبًّا، وَكَذَا إذَا وَطِئَ أَمَتَهُ، أَوْ مُدَبَّرَتَهُ، أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ غَيْرِهِ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَفْعَلَ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا لِمَا قُلْنَا، وَإِذَا زَوَّجَهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ أَوْ بَعْدَهُ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ، وَلَسْتُ أُوجِبُهُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إذَا رَأَى امْرَأَةً تَزْنِي ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَهُ أَنْ يَطَأَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، وَيَعْلَمَ فَرَاغَ رَحِمِهَا، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الِاسْتِبْرَاءُ الْوَاجِبُ فَهُوَ اسْتِبْرَاءُ الْمُشْتَرِي، وَكُلُّ مَنْ حَدَثَ لَهُ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْجَارِيَةِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ وُجُوبِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ، وَفِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ «أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ» ، وَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي السَّبْيِ يَكُونُ وَارِدًا فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ دَلَالَةً، وَلِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ طَلَبُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ بِهِ يَقَعُ الصِّيَانَةُ عَنْ الْخَلْطِ، وَالْخَلْطُ حَرَامٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِيَنَّ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» وَالصِّيَانَةُ عَنْ الْحَرَامِ تَكُونُ وَاجِبَةً، وَلَا تَقَعُ الصِّيَانَةُ إلَّا بِالِاسْتِبْرَاءِ فَيَكُونُ وَاجِبًا ضَرُورَةً فَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَلَا أَنْ يَلْمِسَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ يَنْظُرَ إلَى فَرْجِهَا عَنْ شَهْوَةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَاعٍ إلَى الْوَطْءِ، وَالْوَطْءُ إذَا حَرُمَ حَرُمَ بِدَوَاعِيهِ كَمَا فِي بَابِ الظِّهَارِ، وَغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْحَائِضِ حَيْثُ لَمْ تُحَرَّمْ الدَّوَاعِي مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَاكَ لَيْسَ هُوَ الْوَطْءُ بَلْ اسْتِعْمَالُ الْأَذَى، وَالْوَطْءُ حَرَامٌ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْأَذَى، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الدَّوَاعِي فَلَا يَجُوزُ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) سَبَبُ وُجُوبِهِ فَهُوَ حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا يَعْنِي بِهِ مِلْكَ الرَّقَبَةِ، وَالْيَدِ بِأَيِّ سَبَبٍ حَدَثَ الْمِلْكُ مِنْ الشِّرَاءِ، وَالسَّبْيِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْهِبَةِ، وَالْإِرْثِ، وَنَحْوِهَا فَلَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ، وَهُوَ حُدُوثُ الْحِلِّ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي لِوُجُودِ سَبَبِهِ سَوَاءٌ كَانَ بَائِعُهُ مِمَّنْ يَطَأُ أَوْ مِمَّنْ لَا يَطَأُ كَالْمَرْأَةِ، وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْجَارِيَةُ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا قُلْنَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ إذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا لَمْ تُوطَأْ لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ طَلَبُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَفَرَاغِهَا عَمَّا يَشْغَلُهَا، وَرَحِمُ الْبِكْرِ بَرِيئَةٌ فَارِغَةٌ عَنْ الشَّغْلِ فَلَا مَعْنَى لِطَلَبِ الْبَرَاءَةِ، وَالْفَرَاغِ. (وَالْجَوَابُ) : أَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ الشَّغْلِ، وَالْفَرَاغِ مُتَعَذَّرٌ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا، وَقَدْ وُجِدَ وَلَا يَجِبُ عَلَى مَنْ حُرِّمَ عَلَيْهِ فَرْجُ أَمَتِهِ بِعَارِضِ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَالرِّدَّةِ، وَالْكِتَابَةِ، وَالتَّزْوِيجِ إذَا زَالَتْ هَذِهِ الْعَوَارِضُ بِأَنْ طَهُرَتْ، وَأَسْلَمَتْ، وَعَجَزَتْ فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا؛ لِأَنَّ حِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ لَمْ يَحْدُثْ بَلْ كَانَ ثَابِتًا لَكِنْ مُنِعَ مِنْهُ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ زَالَ بِزَوَالِ الْعَوَارِضِ، وَكَذَا لَمْ يَحْدُثْ مِلْكُ الْيَمِينِ فَلَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ، وَلَا يَجِبُ بِشِرَاءِ جَارِيَةٍ لَا يَحِلُّ فَرْجُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِأَنْ وَطِئَهَا أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا لَا بِشَهْوَةٍ أَوْ كَانَ هُوَ وَطِئَ أُمَّهَا، أَوْ ابْنَتَهَا، أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا عَنْ شَهْوَةٍ، أَوْ كَانَتْ مُرْتَدَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْفُرُوجِ الَّتِي لَا تَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الِاسْتِبْرَاءِ التَّمَكُّنُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بَعْدَ حُصُولِ انْعِدَامِ مَانِعٍ مُعَيَّنٍ مِنْهُ، وَهُوَ اخْتِلَاطُ الْمَاءَيْنِ. وَالِاسْتِبْرَاءُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يُفِيدُ التَّمَكُّنُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ لِوُجُودِ مَانِعٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَحْتَمِلُ الْحِلَّ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ، وَالْمُكَاتَبِ، وَالْمُدَبَّرِ؛ لِانْعِدَامِ

حُدُوثِ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ لَهُمْ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَتَسَرَّى الْعَبْدُ، وَلَا يُسَرِّيهِ مَوْلَاهُ، وَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ، وَلَا الْمُكَاتَبُ شَيْئًا إلَّا الطَّلَاقَ» . وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً مِنْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ يَنْظُرُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَصْلًا أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا إذَا كَانَتْ حَاضَتْ عِنْدَ الْعَبْدِ، وَيَجْتَزِئ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمَأْذُونِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ مِلْكَ الْمَوْلَى فَقَدْ حَاضَتْ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَجْتَزِئُ بِهَا عَنْ الِاسْتِبْرَاءِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ رَقَبَتَهُ، وَكَسْبَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُهُ. وَلَوْ تَبَايَعَا بَيْعًا صَحِيحًا ثُمَّ تَقَايَلَا فَإِنْ كَانَتْ الْإِقَالَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْبَائِعِ، وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا يَجِبُ، وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ حَقِيقَةً، وَإِنْكَارُ الْحَقَائِقِ مُكَابَرَةٌ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِقَالَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسْخٌ، وَالْفَسْخُ رَفْعٌ مِنْ الْأَصْلِ، وَإِعَادَةٌ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ كَأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ فَلَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ مَعَ مَا أَنَّ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ مُتَأَكَّدٍ، وَالتَّأْكِيدُ إثْبَاتٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَتَكَامَلْ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي فَلَمْ يَحْدُثْ مِلْكُ الْيَمِينِ لِلْبَائِعِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَمْ يَتَكَامَلْ السَّبَبُ، وَإِنْ كَانَتْ الْإِقَالَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ يَجِبُ (أَمَّا) عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فَكَانَتْ اسْتِحْدَاثًا لِلْمِلْكِ مُطْلَقًا (وَأَمَّا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنْ كَانَتْ فَسْخًا لَكِنْ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ فَأَمَّا فِي حَقِّ ثَالِثٍ فَبَيْعٌ جَدِيدٌ، وَالِاسْتِبْرَاءُ يَجِبُ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَاعْتُبِرَ حَقُّ الشَّرْعِ ثَالِثًا فِي حَقِّ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ احْتِيَاطًا. وَلَوْ رَدَّ الْجَارِيَةَ بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارِ رُؤْيَةٍ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ، وَخِيَارَ الْعَيْبِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي (وَأَمَّا) الرَّدُّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ فَيُنْظَرُ فِيهِ إنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَلَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ لَا يَمْنَعُ زَوَالَ السِّلْعَةِ عَنْ مِلْكِهِ فَلَمْ يُوجَدْ حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَوَاءٌ كَانَ الرَّدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ دُخُولَ السِّلْعَةِ فِي مِلْكِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِذَا لَمْ تَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ فَلِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ، وَبَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْوُجُوبِ. (وَأَمَّا) عِنْدَهُمَا فَإِنْ كَانَ الرَّدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ؛ لِأَنَّهَا زَالَتْ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَدَخَلَتْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَإِذَا رُدَّتْ عَلَيْهِ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسْخٌ مَحْضٌ، وَرَفْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ قِيَاسًا، وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي. وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ فَاسِدًا فَفُسِخَ، وَرُدَّتْ الْجَارِيَةُ إلَى الْبَائِعِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهَا عَلَى مِلْكِهِ فَلَمْ يَحْدُثْ لَهُ الْحِلُّ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ السَّبَبِ. أَسَرَ الْعَدُوُّ الْجَارِيَةَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْمَالِكِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَى الْمَالِكِ؛ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ، وَهُوَ حُدُوثُ الْحِلِّ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ، وَجَبَ لِوُجُودِ السَّبَبِ، وَلَوْ أَبَقَتْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَأَخَذَهَا الْكُفَّارُ ثُمَّ عَادَتْ إلَى صَاحِبِهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهَا فَلَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا لِوُجُودِ السَّبَبِ. وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً مَعَ غَيْرِهِ فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِمَا؛ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ، وَهُوَ حُدُوثُ الْحِلِّ إذْ لَا تَحِلُّ لِأَحَدِهِمَا. اشْتَرَى جَارِيَةً، وَلَهَا زَوْجٌ فَقَبَضَهَا، وَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ، وَهُوَ حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ وَقْتَ الشِّرَاءِ لِقِيَامِ فِرَاشِ الزَّوْجِ، وَبَعْدَ زَوَالِ الْفِرَاشِ لَمْ يَحْدُثْ سَبَبُ حُدُوثِ الْحِلِّ، وَهُوَ مِلْكُ الْيَمِينِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَمِنْ هَذَا اسْتَخْرَجُوا لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ حِيلَةً، وَهِيَ أَنْ يُزَوِّجَ الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا، وَلَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الشَّرَائِطِ ثُمَّ يَبِيعُهَا، وَيُسَلِّمُهَا إلَى

الْمُشْتَرِي ثُمَّ يُطَلِّقُهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَتَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ وَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، وَحِيلَةٌ أُخْرَى لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ: أَنْ يُزَوِّجَهَا الْبَائِعُ مِنْ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الشِّرَاءِ، وَالْمُشْتَرِي مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ ثُمَّ يَشْتَرِيهَا فَيَفْسُدُ النِّكَاحُ وَيَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ، وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ عَنْهُ جَمِيعَ الْمَهْرِ وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَى الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ نِصْفُ الْمَهْرِ لِلْبَائِعِ فَيَحْتَاجُ إلَى إبْرَائِهِ عَنْهُ. وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ فِي عِدَّةٍ مِنْ زَوْجِهَا عِدَّةِ طَلَاقٍ أَوْ عِدَّةِ وَفَاةٍ فَاشْتَرَاهَا وَقَبَضَهَا ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْعِدَّةِ بِمَنْزِلَةِ قِيَامِ النِّكَاحِ، وَلَوْ كَانَتْ مَنْكُوحَةً فَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَمْ يَجِبْ الِاسْتِبْرَاءُ كَذَا هَذَا، وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ فَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يُعْتَدَّ بِذَلِكَ وَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ الْقَبْضِ بِحَيْضَةٍ أُخْرَى فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِذَلِكَ كَمَا يُعْتَدُّ بِالْحَيْضَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ عَدَمُ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ فِي النِّكَاحِ حَتَّى إنَّ مَنْ تَزَوَّجَ جَارِيَةً فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يُوجَدْ وَهُوَ حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ وَلَسْتُ أُوجِبُهَا عَلَيْهِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ: لَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ اسْتَبْرَأَ بِهَا الزَّوْجُ اسْتِحْسَانًا (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لَهُ وَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ مَوْجُودٌ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ، وَهُوَ التَّعَرُّفُ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَوَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ فِي الْمِلْكَيْنِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ جَوَازَ نِكَاحِهَا دَلِيلُ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا شَرْعًا فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعَرُّفِ بِالِاسْتِبْرَاءِ، وَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ نَوْعُ احْتِيَاطٍ وَهُوَ حَسَنٌ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى حَاضَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ حَيْضَةً أَنَّهُ لَا يَجْتَزِئُ بِهَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَتَّى لَوْ قَبَضَهَا لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَا حَدَثَ لَهُ مِلْكُ الْيَمِينِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِانْعِدَامِ الْيَدِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ، وَالتَّأَكُّدُ إثْبَاتٌ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ لَهُ حُكْمُ الْعَدَمِ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَجِبْ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ يَجْتَزِئُ بِهَا وَلَا اسْتِبْرَاءَ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ تَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى فَرَاغِ رَحِمِهَا فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ فَيُكْتَفَى بِهَا. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْجَارِيَةُ فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ اسْتِبْرَاءَهَا بِحَيْضَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ أُخْتُ الْعِدَّةِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ «أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ» وَالْفَعْلَةُ لِلْمَرَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ الشَّرْعِيُّ يَمْنَعُ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ مَا شُرِعَ لَهُ الِاسْتِبْرَاءُ، وَهُوَ حُصُولُ الْعِلْمِ بِطَهَارَةِ الرَّحِمِ يَحْصُلُ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ الْعَدَدُ فِي بَابِ الْعِدَّةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذَلِكَ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ لِصِغَرٍ أَوْ لِكِبَرٍ وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ لِعِلَّةٍ وَهِيَ الْمُمْتَدُّ طُهْرُهَا. (وَإِمَّا) أَنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ لِحَبَلٍ فَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ لِصِغَرٍ أَوْ لِكِبَرٍ فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِشَهْرٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْأَشْهُرَ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْأَقْرَاءِ فِي حَقِّ الْآيِسَةِ، وَالصَّغِيرَةِ فِي الْعِدَّةِ فَكَذَا فِي بَابِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ لِعِلَّةٍ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ -: " لَا يَطَؤُهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا غَيْرُ حَامِلٍ " وَلَمْ يُوَقِّتْ فِي ذَلِكَ وَقْتًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: " يَسْتَبْرِئُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ " وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ قَالَ: يَسْتَبْرِئُهَا بِشَهْرَيْنِ، وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ عِدَّةِ الْإِمَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: يَسْتَبْرِئُهَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ مُدَّةِ عِدَّةِ الْحَرَائِرِ، وَقَالَ زُفَرُ: يَسْتَبْرِئُهَا بِسَنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْجُودَ فِي الْبَطْنِ لَا يَبْقَى أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، فَإِذَا مَضَتْ سَنَتَانِ، وَلَمْ يَظْهَرْ بِهَا حَمْلٌ عَلِمَ أَنَّهَا غَيْرُ حَامِلٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْسِيرَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَطَؤُهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا غَيْرُ حَامِلٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: لِأَنَّهَا مُدَّةٌ يَعْلَمُ فِيهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَامِلٍ؛ لِأَنَّ الْحَبَلَ يَظْهَرُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ لَوْ كَانَ لِظُهُورِ آثَارِهِ مِنْ انْتِفَاخِ الْبَطْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَدُلُّ عَدَمُ الظُّهُورِ عَلَى بَرَاءَةِ رَحِمِهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ لِحَبَلٍ بِهَا فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ بَعْدَ الْقَبْضِ

لِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى فَرَاغِ رَحِمِهَا فَوْقَ الْحَيْضَةِ، فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا فِيمَا سِوَى الْجِمَاعِ مَا دَامَتْ فِي نِفَاسِهَا كَمَا فِي الْحَائِضِ فَإِنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ قَبَضَهَا لَا يَطَؤُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، وَلَا يَجْتَزِئُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا يَجْتَزِئُ بِالْحَيْضَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَجْتَزِئُ بِهِ كَمَا يَجْتَزِئُ بِالْحَيْضَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ لِلْبَيْعِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى التَّوَابِعِ لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ كَمَا يَثْبُتُ فِي الْمَبِيعِ يَثْبُتُ فِي زَوَائِدِ الْمَبِيعِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الزَّوَائِدِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ زَوَائِدَ الْمَبِيعِ مَبِيعَةٌ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً أَوْ مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ، أَوْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ إلَّا الْهِبَةَ، وَالصَّدَقَةَ وَالْكَسْبَ وَعِنْدَهُ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ أَصْلًا وَإِنَّمَا تُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ لَا بِالْبَيْعِ السَّابِقِ (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي إثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْمَبِيعَ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ الْبَيْعُ، وَلَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى الزَّوَائِدِ لِكَوْنِهَا مُنْعَدِمَةً عِنْدَ الْبَيْعِ، فَلَا يَكُونُ مَبِيعَةً، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الْكَسْبُ مَبِيعًا وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ مَا يُقَابِلُهُ ثَمَنٌ إذْ الْبَيْعُ مُقَابَلَةُ الْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ. وَالزِّيَادَةُ لَا يُقَابِلُهَا ثَمَنٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ الثَّمَنِ مُقَابَلٌ بِالْأَصْلِ، فَلَمْ تَكُنْ مَبِيعَةً كَالْكَسْبِ، وَلِهَذَا لَمْ تَجُزْ الزِّيَادَةُ عِنْدَهُ فِي الْمَبِيعِ، وَالثَّمَنِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمَبِيعَ مَا يَثْبُتُ فِيهِ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْبَيْعِ وَالْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْبَيْعِ يَثْبُتُ فِي الزَّوَائِدِ بِالْبَيْعِ السَّابِقِ فَكَانَتْ مَبِيعَةً وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْبَيْعِ هُوَ الْمِلْكُ، وَالزَّوَائِدُ مَمْلُوكَةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ بِالْبَيْعِ السَّابِقِ أَنَّ الْبَيْعَ السَّابِقَ أَوْجَبَ الْمِلْكَ فِي الْأَصْلِ وَمَتَى ثَبَتَ الْمِلْكُ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَ فِي التَّبَعِ فَكَانَ مِلْكُ الزِّيَادَةِ بِوَاسِطَةِ مِلْكِ الْأَصْلِ مُضَافًا إلَى الْبَيْعِ السَّابِقِ، فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ مَبِيعَةً وَلَكِنْ تَبَعًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فِيهَا تَبَعًا. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (مِنْهَا) أَنَّ لِلْبَائِعِ حَقَّ حَبْسِ الزَّوَائِدِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ كَمَا لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْأَصْلِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الزَّوَائِدَ. (وَمِنْهَا) أَنَّ الْبَائِعَ إذَا أَتْلَفَ الزِّيَادَةَ سَقَطَتْ حِصَّتُهَا مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْ الْمَبِيعِ، وَعِنْدَهُ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ وَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا كَمَا لَوْ أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ عَلَى مَا مَرَّ، وَكَذَا إذَا أَتْلَفَ الْأَرْشَ أَوْ الْعُقْرَ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْجُزْءِ الْفَائِتِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْجُزْءِ وَلَوْ هَلَكَتْ الزِّيَادَةُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَتْ مَبِيعَةً عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهَا مَبِيعَةٌ تَبَعًا بِمَنْزِلَةِ أَطْرَافِ الْأُمِّ لَا مَقْصُودًا وَالْأَطْرَافُ كَالْأَوْصَافِ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا أَنْ تَصِيرَ مَقْصُودَةً بِالْفِعْلِ مِنْ الْقَبْضِ أَوْ الْجِنَايَةِ وَلَمْ يُوجَدْ وَلَا خِيَارُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَمْ تَتَفَرَّقْ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَا أُضِيفَ إلَيْهَا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَقْدِ فِيهَا تَبَعًا فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ إلَّا فِي وَلَدِ الْجَارِيَةِ إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لَا لِهَلَاكِ الزِّيَادَةِ بَلْ لِحُدُوثِ نُقْصَانٍ فِي الْأُمِّ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ وَكَذَا لَا خِيَارَ بِحُدُوثِ زِيَادَةِ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا فِي وَلَدِ الْجَارِيَةِ لِأَجْلِ نُقْصَانِ الْأُمِّ بِالْوِلَادَةِ لَا لِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ. (وَمِنْهَا) أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا قَبَضَ الزَّوَائِدَ يَصِيرُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ بِالْقَبْضِ عِنْدَنَا، فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَصْلِ يَوْمَ الْعَقْدِ، وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ حَتَّى لَوْ اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ بِالْأَصْلِ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ لَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا حِصَّةَ لِلزِّيَادَةِ مِنْ الثَّمَنِ بِحَالٍ، وَعِنْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ بِالْأَصْلِ يُرَدُّ بِكُلِّ الثَّمَنِ وَلَا يَكُونُ بِإِزَاءِ الزِّيَادَةِ شَيْءٌ، وَكَذَا إذَا وَجَدَ بِالزِّيَادَةِ عَيْبًا يَرُدُّهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ، وَعِنْدَهُ لَا يَرُدُّهَا بِالْعَيْبِ أَصْلًا وَكَذَا الْمُشْتَرِي إذَا أَتْلَفَ الزِّيَادَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَصِيرُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لَهُ بِالْإِتْلَافِ، وَبِالْقَبْضِ يَصِيرُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَعِنْدَهُ: لَا حِصَّةَ لَهَا مِنْ الثَّمَنِ بِحَالٍ، وَلَوْ هَلَكَ الْأَصْلُ وَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ يَبْقَى الْعَقْدُ فِي قَدْرِ الزِّيَادَةِ عِنْدَنَا، وَيَصِيرُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ فَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَى الْأَصْلِ يَوْمَ الْعَقْدِ وَعَلَى الزِّيَادَةِ يَوْمَ الْهَلَاكِ فَيَبْطُلُ مِلْكُ الثَّمَنِ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْأَصْلِ وَيَبْقَى بِحِصَّةِ الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ حَيْثُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَيَسْقُطُ كُلُّ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا فَائِدَةَ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ إذْ لَوْ بَقِيَ لَطَلَبَ الْبَائِعُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ فَيَطْلُبُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ وَلَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ فَيَنْفَسِخُ ضَرُورَةً؛ لِانْعِدَامِ فَائِدَةِ الْبَقَاءِ، وَإِذَا بَقِيَتْ الزِّيَادَةُ كَانَ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فِي الزِّيَادَةِ فَائِدَةٌ لِإِمْكَانِ تَسْلِيمِهَا فَبَقِيَ الْعَقْدُ فِيهَا وَصَارَ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ فَيَنْقَسِمُ عَلَى الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَعِنْدَهُ إذَا هَلَكَ الْأَصْلُ انْفَسَخَ الْعَقْدُ أَصْلًا وَرَأْسًا. (وَمِنْهَا)

أَنَّهُ إذَا أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ وَضَمِنَهَا بِلَا خِلَافٍ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ عِنْدَنَا إنْ شَاءَ اخْتَارَ الْفَسْخَ، وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْجَانِي بِضَمَانِ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْمَبِيعَ، وَاتَّبَعَ الْجَانِي بِالضَّمَانِ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ الْأَصْلَ، وَعِنْدَهُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي. (وَمِنْهَا) إذَا اشْتَرَى نَخْلًا بِكُرٍّ مِنْ تَمْرٍ فَلَمْ يَقْبِضْ النَّخْلَ حَتَّى أَثْمَرَ النَّخْلُ كُرَّا فَقَبَضَ النَّخْلَ مَعَ الْكُرِّ الْحَادِثِ لَا يَطِيبُ الْكُرُّ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ التَّمْرَ الْحَادِثَ عِنْدَنَا زِيَادَةٌ مُتَوَلَّدَةٌ مِنْ الْمَبِيعِ فَكَانَ مَبِيعًا، وَلَهُ عِنْدَ الْقَبْضِ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ كَمَا لِغَيْرِهِ مِنْ الزَّوَائِدِ، وَالثَّمَرُ مِنْ جِنْسِهِ زِيَادَةَ عَلَيْهِ فَلَوْ قُسِمَ عَلَى النَّخْلِ وَالْكُرِّ الْحَادِثِ يَصِيرُ رِبًا فَيَفْسُدُ الْبَيْعَ فِي الْكُرِّ الْحَادِثِ، وَلَا يَفْسُدُ فِي النَّخْلِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ نَخْلًا وَكُرًّا مِنْ تَمْرٍ بِكُرٍّ مِنْ تَمْرٍ أَنَّ الْعَقْدَ يَفْسُدُ فِي التَّمْرِ، وَالنَّخْلِ جَمِيعًا لِأَنَّ هُنَاكَ الرِّبَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ بِاشْتِرَاطِهِمَا، وَصُنْعِهِمَا؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ مَالُ الرِّبَا، وَهُوَ التَّمْرُ، وَالتَّمْرُ مَقْسُومٌ عَلَيْهِمَا، فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا، وَإِدْخَالُ الرِّبَا فِي الْعَقْدِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ كُلَّهُ وَهَهُنَا الْبَيْعُ كَانَ صَحِيحًا فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ خِلَافُ جِنْسِ الْمَبِيعِ، وَهُوَ النَّخْلُ وَحْدَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا زَادَ بَعْدَ الْعَقْدِ صَارَ مَبِيعًا فِي حَالِ الْبَقَاءِ لَا بِصُنْعِهِمَا، فَيَفْسُدُ فِي الْكُرِّ الْحَادِثِ، وَيَقْتَصِرُ الْفَسَادُ عَلَيْهِ. (وَمِنْهَا) إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَقُتِلَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَاخْتَارَ الْبَيْعَ وَابْتَاعَ الْجَانِي فَأَخَذَ قِيمَتَهُ أَلْفَيْنِ يَتَصَدَّقُ بِالْأَلْفِ الزَّائِدِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ رَبِحَ مَا لَمْ يَضْمَنْ، وَعِنْدَهُ: لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) إذَا غَصَبَ كُرَّ حِنْطَةٍ فَابْتَلَّتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَانْتَفَخَتْ حَتَّى صَارَتْ كُرًّا وَنِصْفَ كُرٍّ ضَمِنَ لِلْمَالِكِ كُرًّا مِثْلَهُ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ ذَلِكَ الْكُرَّ، وَنِصْفَ الْكُرِّ عِنْدَنَا لَكِنْ يَتَصَدَّقُ بِنِصْفِ الْكُرِّ الزَّائِدِ، وَطَابَ لَهُ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَنَا يَثْبُتُ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ بِالضَّمَانِ وَالزِّيَادَةُ بِالِانْتِفَاخِ حَصَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَتُعْتَبَرُ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْفَصْلِ يُرَدُّ الْكُلُّ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ عِنْدَهُ لَا تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ. (وَمِنْهَا) أَنَّ الزَّوَائِدَ الْحَادِثَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ مَبِيعَةٌ أَيْضًا عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْأَصْلِ عَيْبًا، فَالزِّيَادَةُ تَمْنَعُ الرَّدَّ وَالْفَسْخَ بِالْعَيْبِ، وَبِسَائِرِ أَسْبَابِ الْفَسْخِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ فِي بَيَانِ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ فِي أَيِّ حَالٍ حَدَثَتْ، وَلَا تَمْنَعُ رَدَّ الْأَصْلِ بِالْعَيْبِ بِكُلِّ الثَّمَنِ. وَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا أَشْجَارٌ مُثْمِرَةٌ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا ثَمَرٌ وَسَمَّاهُ حَتَّى دَخَلَ فِي الْبَيْعِ فَالثَّمَرُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ بِلَا خِلَافٍ حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَرْضِ خَمْسَمِائَةٍ وَقِيمَةُ الشَّجَرِ خَمْسُمِائَةٍ، وَقِيمَةُ الثَّمَرِ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الثَّمَنَ يُقْسَمُ عَلَى الْكُلِّ أَثْلَاثًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ مَقْصُودٌ لِوُرُودِ فِعْلِ الْعَقْدِ عَلَى الْكُلِّ فَإِنْ كَانَ لِلثَّمَرِ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْبَائِعِ بِأَنْ أَكَلَهُ يَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي ثُلُثُ الثَّمَنِ، وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْضَ، وَالشَّجَرَ بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَ لَمَّا كَانَ مَبِيعًا مَقْصُودًا بِهَلَاكِهِ تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ التَّمَامِ، فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الثَّمَرُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَحَدَثَ بَعْدَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَأَكَلَهُ الْبَائِعُ فَقَدْ صَارَ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَنَا لِصَيْرُورَتِهِ مَبِيعًا مَقْصُورًا بِالْإِتْلَافِ عَلَى مَا بَيَّنَّا لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي كَيْفِيَّةِ أَخْذِ الْحِصَّةِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يَأْخُذُ الْحِصَّةَ مِنْ الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ جَمِيعًا فَيَقْسِمُ الثَّمَنَ عَلَى الشَّجَرِ، وَالْأَرْضِ، وَالثَّمَرِ أَثْلَاثًا فَيَسْقُطُ ثُلُثُ الثَّمَنِ بِإِتْلَافِ الْبَائِعِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَأْخُذُ الْحِصَّةَ مِنْ الشَّجَرِ خَاصَّةً فَيَقْسِمُ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ، وَالشَّجَرِ ثُمَّ مَا أَصَابَ الشَّجَرَ يُقَسَّمُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْعَقْدِ، وَعَلَى قِيمَةِ الثَّمَرِ يَوْمَ الْإِتْلَافِ فَيَسْقُطُ بَيَانُهُ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْأَرْضِ أَلْفًا وَقِيمَةُ الْأَشْجَارِ أَلْفًا، وَقِيمَةُ الثَّمَرِ كَذَلِكَ فَأَكَلَ الْبَائِعُ الثَّمَرَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي ثُلُثُ الثَّمَنِ عِنْدَهُمَا وَيَأْخُذُ الْأَرْضَ، وَالْأَشْجَارَ بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ وَلَا خِيَارَ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْضَ، وَالشَّجَرَ بِثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي رُبْعُ الثَّمَنِ، فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى الْأَشْجَارِ، وَالْأَرْضِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ مَا أَصَابَ الشَّجَرَ يُقَسَّمُ عَلَيْهِ وَعَلَى الثَّمَرِ نِصْفَيْنِ، فَكَانَ حِصَّةُ الثَّمَرِ رُبْعَ الثَّمَنِ فَيَسْقُطُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْضَ، وَالشَّجَرَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الثَّمَرَ تَابِعٌ لِلشَّجَرِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهَا، فَيَأْخُذُ الْحِصَّةَ مِنْهَا كَمَا لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً مَعَ وَلَدِهَا، فَوَلَدَتْ مَعَ وَلَدِهَا وَلَدًا آخَرَ فَالْوَلَدُ الثَّانِي يَكُونُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ، وَلَهُمَا أَنَّ الشَّجَرَ تَابِعٌ لِلْأَرْضِ فِي الْبَيْعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ وَلَوْ هَلَكَتْ بَعْدَ مَا دَخَلَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ

لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ دَلَّ أَنَّهَا تَابِعَةٌ، وَمَا كَانَ تَابِعًا لِغَيْرِهِ فِي حُكْمٍ لَا يَسْتَتْبِعُ غَيْرَهُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَكَانَ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا مَا لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً، فَوَلَدَتْ وَلَدًا قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ وَلَدَ وَلَدُهَا وَلَدًا لَا يَكُونُ لِلْوَلَدِ الثَّانِي حِصَّةٌ مِنْ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي نَفْسِهِ تَابِعٌ فَلَا يَسْتَتْبِعُ غَيْرَهُ كَذَا هَهُنَا وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَيَتَّصِلُ بِمَا ذَكَرْنَا الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ وَالْحَطُّ عَنْ الثَّمَنِ وَالْكَلَامُ فِيهِمَا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهُمَا فِي أَصْلِ الْجَوَازِ أَنَّهُمَا جَائِزَانِ أَمْ لَا، وَالثَّانِي فِي شَرَائِطِ الْجَوَازِ، وَالثَّالِثُ فِي كَيْفِيَّةِ الْجَوَازِ (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ جَائِزَةٌ مَبِيعًا وَثَمَنًا كَأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى الْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَالزِّيَادَةِ جَمِيعًا مِنْ الِابْتِدَاءِ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ مَبِيعًا وَثَمَنًا وَلَكِنْ تَكُونُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً فَإِنْ قَبَضَهَا صَارَتْ مِلْكًا لَهُ وَإِلَّا تَبْطُلُ وَأَظْهَرُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثْلُ قَوْلِنَا إنْ كَانَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَقَوْلُهُ مِثْلُ قَوْلِ زُفَرَ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا اشْتَرَى رَجُلٌ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي زِدْتُكَ خَمْسَمِائَةٍ أُخْرَى ثَمَنًا وَقَبِلَ الْبَائِعُ، أَوْ قَالَ الْبَائِعُ: زِدْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ الْآخَرَ، أَوْ قَالَ هَذَا الثَّوْبَ مَبِيعًا وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي جَازَتْ الزِّيَادَةُ كَانَ الثَّمَنُ فِي الْأَصْلِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، وَالْمَبِيعُ فِي الْأَصْلِ عَبْدَانِ، أَوْ عَبْدٌ، وَثَوْبٌ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ. وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ زَادَ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ مِائَةَ دِرْهَمٍ جَازَتْ الزِّيَادَةُ كَانَ الثَّمَنُ فِي الْأَصْلِ أَلْفًا وَمِائَةً تَنْقَسِمُ الزِّيَادَةُ عَلَى قِيمَتِهِمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِعَبْدٍ ثَمَنٌ مُسَمًّى أَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنٌ مُسَمًّى وَزَادَ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ مِائَةً مُطْلَقًا انْقَسَمَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ فِي الْقِيمَتَيْنِ مِنْ الْوَارِثَيْنِ بَعْدَ مَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ لِأَنَّ الْوَارِثَ خَلَفَ الْمُوَرِّثَ فِي مِلْكِهِ الْقَائِمِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَلَا تَرَى: أَنَّهُ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ كَانَ الْوَارِثُ حَيًّا قَائِمًا فَزَادَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ مِنْ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِتَوْلِيَةٍ مُسْتَفَادَةٍ مِنْ قِبَلِ الْمُوَكِّلِ. وَأَمَّا الزِّيَادَةُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ فَلَا شَكَّ أَنَّ عِنْدَهُمَا: لَا تَجُوزُ وَأَمَّا عِنْدَنَا: فَإِنْ زَادَ بِأَمْرِ الْعَاقِدِ جَازَ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ فِي الزِّيَادَةِ، وَإِنْ زَادَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَقَفَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى إجَازَتِهِ إنْ أَجَازَ جَازَتْ، وَإِنْ رَدَّ بَطَلَتْ إلَّا أَنْ يَضْمَنَ الزَّائِدُ الزِّيَادَةَ فَيَجُوزُ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْعَاقِدِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لِلْأَجْنَبِيِّ بِمُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ شَيْءٌ. وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ خَمْسَمِائَةٍ سِوَى الْأَلْفِ عَلَى رَجُلٍ ضَمِنَهُ وَقَبِلَ فَالْعَبْدُ لِلْمُشْتَرِي، وَالْخَمْسُمِائَةِ عَلَى الثَّالِثِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا بِالْخَمْسِمِائَةِ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا قَالَ الرَّجُلُ بِعْ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَكَ مِنْ الثَّمَنِ خَمْسَمِائَةٍ أَنَّ الْبَيْعَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ صَحِيحٌ، وَالْخَمْسُمِائَةِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَكَ خَمْسَمِائَةٍ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ الثَّمَنِ كَانَ بَاطِلًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ فِي الْمَهْرِ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ. وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي الْمَنْكُوحَةِ بِالْمَهْرِ الْأَوَّلِ فَلَا تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ فَلَا تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ جَائِزٌ قِيَاسًا وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بَيْنَ الزِّيَادَةِ فِي الرَّهْنِ وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ فِي الدَّيْنِ نَذْكُرُهُ فِي (كِتَابِ الرَّهْنِ) . وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ حَطُّ بَعْضِ الثَّمَنِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَيَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَالثَّمَنِ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الِابْتِدَاءِ حَتَّى إنَّ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ دَارًا فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ بِمَا بَقِيَ بَعْدَ الْحَطِّ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ إلَّا أَنَّ قِيَامَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ أَوْ كَوْنَهُ قَابِلًا لِاسْتِئْنَافِ الْعَقْدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَطِّ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَفِي الزِّيَادَةِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الثَّمَنَ وَالْمَبِيعَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ الْمُتَقَابِلَةِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ مَبِيعٌ بِلَا ثَمَنٍ، وَلَا ثَمَنٌ بِلَا مَبِيعٍ، فَالْقَوْلُ بِجَوَازِ الْمَبِيعِ، وَالثَّمَنِ مَبِيعًا وَثَمَنًا قَوْلٌ بِوُجُودِ الْمَبِيعِ وَلَا ثَمَنَ وَالثَّمَنِ وَلَا مَبِيعَ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ اسْمٌ لِمَالٍ يُقَابِلُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي وَهُوَ الثَّمَنُ وَالثَّمَنُ اسْمٌ لِمَالٍ يُقَابِلُ مِلْكَ الْبَائِعِ وَهُوَ الْمَبِيعُ. فَالزِّيَادَةُ مِنْ الْبَائِعِ لَوْ صَحَّتْ مَبِيعًا لَا تُقَابِلُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي بَلْ تُقَابِلُ مِلْكَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ مَلَكَ جَمِيعَ الثَّمَنِ، وَلَوْ صَحَّتْ مِنْ الْمُشْتَرِي ثَمَنًا لَا تُقَابِلُ مِلْكَ الْبَائِعِ بَلْ تُقَابِلُ مِلْكَ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ جَمِيعَ الْمَبِيعِ فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ مَبِيعًا وَثَمَنًا؛ لِانْعِدَامِ حَقِيقَةِ الْمَبِيعِ، وَالثَّمَنِ فَيُجْعَلُ مِنْهُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً، وَلِأَنَّ كُلَّ الْمَبِيعِ لَمَّا صَارَ مُقَابَلًا بِكُلِّ الثَّمَنِ، وَكُلُّ الثَّمَنِ مُقَابَلٌ بِكُلِّ الْمَبِيعِ فَالزِّيَادَةُ لَوْ صَحَّتْ مَبِيعًا، وَثَمَنًا لَخَلَتْ عَمَّا يُقَابِلُهُ، فَكَانَتْ فَضْلَ مَالٍ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ الرِّبَا. (وَلَنَا)

فِي الزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ قَوْله تَعَالَى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24] أَيْ مِنْ بَعْدِ تِلْكَ الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّ النَّكِرَةَ إذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً يُرَادُ بِالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِإِيتَاءِ الْمُهُورِ الْمُسَمَّاةِ فِي النِّكَاحِ وَأَزَالَ الْجُنَاحَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ مَا يَتَرَاضَاهُ الزَّوْجَانِ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ هُوَ الزِّيَادَةُ فِي الْمَهْرِ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ لِلْوَازِنِ: «زِنْ وَأَرْجِحْ فَإِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ هَكَذَا نَزِنُ» وَهَذَا زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ، وَقَدْ نُدِبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَيْهَا بِالْقَوْلِ، وَالْفِعْلِ وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ الْجَوَازُ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي لُزُومَ الْوَفَاءِ بِكُلِّ شَرْطٍ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُسْلِمٍ عِنْدَ شَرْطِهِ. وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ إذَا صَحَّتْ الزِّيَادَةُ مَبِيعًا، وَثَمَنًا فَأَمَّا إذَا كَانَتْ هِبَةً مُبْتَدَأَةً فَلَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَيْنِ أَوْقَعَا الزِّيَادَةَ مَبِيعًا وَثَمَنًا كَمَا لَوْ تَبَايَعَا ابْتِدَاءً، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ يَقَعُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ إذَا كَانَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ، وَالْمَحَلُّ قَابِلًا، وَلَهُ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ وُجِدَ وَقَوْلُهُمَا أَنَّ الثَّمَنَ اسْمٌ لِمَالٍ يُقَابِلُ مِلْكَ الْبَائِعِ، وَالْمَبِيعَ اسْمٌ لِمَالٍ يُقَابِلُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي قُلْنَا: هَذَا مَمْنُوعٌ بَلْ الثَّمَنُ اسْمٌ لِمَا أَزَالَ الْمُشْتَرِي مِلْكَهُ، وَيَدَهُ عَنْهُ بِمُقَابَلَةِ مَالٍ أَزَالَ الْبَائِعُ مِلْكَهُ وَيَدَهُ عَنْهُ، فَيَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَالَ الَّذِي كَانَ مِلْكَ صَاحِبِهِ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ شَرْعًا عَلَى مَا عُرِفَ ثُمَّ نَقُولُ: مَا ذَكَرَاهُ حَدُّ الْمَبِيعِ، وَالثَّمَنِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، وَالزِّيَادَةِ فِي الْمَبِيعِ، وَالثَّمَنُ مَبِيعٌ، وَثَمَنٌ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ، وَالتَّسْمِيَةُ رِبْحٌ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ حَقِيقَةُ مَا يُمْلَكُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ مَالٌ حَقِيقَةً بَلْ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ، وَالتَّسْمِيَةُ وَالزِّيَادَةُ هَهُنَا كَذَلِكَ فَكَانَتْ رِبْحًا حَقِيقَةً فَكَانَ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ لَا تَكُونَ مُقَابَلَةً بِمِلْكِ الْبَائِعِ إلَّا تَسْمِيَةً، وَشَرْطُ الشَّيْءِ كَيْفَ يَمْنَعُ صِحَّتَهُ عَلَى أَنَّهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ، وَالزِّيَادَةِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي الْبَيْعِ هُوَ قِيمَةُ الْمَبِيعِ. وَهُوَ مَالِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةٌ بِطَرِيقِ الْمُعَادَلَةِ عُرْفًا، وَحَقِيقَةً، وَالْمُقَابَلَةُ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْمَالِيَّةِ؛ وَلِهَذَا لَوْ فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ تَجِبُ الْقِيمَةُ عِنْدَنَا، وَالثَّمَنُ تَقْدِيرٌ لِمَالِيَّةِ الْمَبِيعِ بِاتِّفَاقِ الْعَاقِدَيْنِ، وَإِذَا زَادَ فِي الْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ عُلِمَ أَيُّهُمَا أَخْطَأَ فِي التَّقْدِيرِ، وَغَلِطَ فِيهِ، وَمَا هُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ قَدْ ثَبَتَ بِالْبَيْعِ، فَإِذَا بَيَّنَّا التَّقْدِيرَ كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِلْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ إلَّا أَنَّهُ ابْتِدَاءُ إيجَابٍ فَكَانَ عِوَضًا عَنْ مِلْكِ الْعَيْنِ لَا عَنْ مِلْكِ نَفْسِهِ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْمَهْرِ أَغْلَبُ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فِيهِ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى مَا عَرَفْتَ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى حَالِهِ يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ مَعَ تَغْيِيرِ الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ بِأَنْ يُجْعَلَ الْأَلْفُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ بِمُقَابَلَةِ نِصْفِ الْعَبْدِ لِيَخْلُوَ النِّصْفُ عَنْ الثَّمَنِ، فَتَجْعَلُ الْأَلْفُ الزِّيَادَةُ بِمُقَابَلَةِ النِّصْفِ الْخَالِي. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ تَغْيِيرًا، وَلَكِنَّهُمَا قَصَدَا تَصْحِيحَ التَّصَرُّفِ وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِالتَّغْيِيرِ، وَلَهُمَا وِلَايَةُ التَّغْيِيرِ أَلَا تَرَى: أَنَّ لَهُمَا وِلَايَةَ الْفَسْخِ وَأَنَّهُ فَوْقَ التَّغْيِيرِ لِأَنَّ الْفَسْخَ رَفَعَ الْأَصْلَ، وَالْوَصْفَ، وَالتَّغْيِيرَ تَبْدِيلُ الْوَصْفِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِ الْعَقْدِ فَلَمَّا ثَبَتَ لَهُمَا وِلَايَةُ الْفَسْخِ فَوِلَايَةُ التَّغْيِيرِ أَوْلَى، وَلَهُمَا حَاجَةٌ إلَى التَّغْيِيرِ لِدَفْعِ الْغَبْنِ، أَوْ لِمَقْصُودٍ آخَرَ فَمَتَى اتَّفَقَا عَلَى الزِّيَادَةِ، وَقَصَدَا الصِّحَّةَ وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِهَذَا الشَّرْطِ يُثْبِتُ هَذَا الشَّرْطُ مُقْتَضَى تَصَرُّفِهِمَا تَصْحِيحًا لَهُ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ. وَأَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَمِنْهَا الْقَبُولُ مِنْ الْآخَرِ حَتَّى لَوْ زَادَ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ لَمْ تَصِحَّ الزِّيَادَةُ. (وَمِنْهَا) الْمَجْلِسُ حَتَّى لَوْ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبُولِ بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْمَبِيعِ، وَالثَّمَنِ إيجَابُ الْبَيْعِ فِيهِمَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا فِي أَصْلِ الثَّمَنِ، وَالْمَبِيعِ وَأَمَّا الْحَطُّ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْمَجْلِسُ، وَلَا الْقَبُولُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الثَّمَنِ بِالْإِسْقَاطِ وَالْإِبْرَاءِ عَنْ بَعْضِهِ فَيَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ إلَّا أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الثَّمَنِ كُلِّهِ وَأَمَّا كَوْنُ الزِّيَادَةِ وَالْمَزِيدِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ ثَمَنًا وَمَبِيعًا؟ وَكَذَا كَوْنُ الْحَطِّ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا هَلْ هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ حَطًّا؟ ، وَهَلْ يُؤَثِّرَانِ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ؟ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيُؤَثِّرَانِ فِيهِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ شَرْطٌ فَيُبْطِلَانِ وَلَا يُؤَثِّرَانِ فِي الْعَقْدِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ شَرْطٌ فِي الزِّيَادَةِ لَا فِي الْحَطِّ عَلَى مَا نَذْكُرُ وَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ الْمَبِيعِ، وَالثَّمَنِ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ فَتَصِحُّ الزِّيَادَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ، وَالثَّمَنِ أَوْ بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ الْحَطُّ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ جَوَازِ الزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ. وَأَمَّا قِيَامُ الْمَبِيعِ وَقْتَ الزِّيَادَةِ فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ؟ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ

شَرْطٌ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ: أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَوْ اسْتَهْلَكَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ اسْتَوْلَدَهَا أَوْ كَانَ عَصِيرًا فَتَخَمَّرَ أَوْ أَخْرَجَهُ الْمُشْتَرِي عَنْ مِلْكِهِ جَازَتْ الزِّيَادَةُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا تَجُوزُ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الزِّيَادَةَ تَصَرُّفٌ فِي الْعَقْدِ بِالتَّغْيِيرِ، وَالْعَقْدُ مُنْعَدِمٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الْقِيَامِ لِقِيَامِ أَثَرِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلَمْ يَبْقَ بِهَلَاكِ الْعَيْنِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا فَلَمْ يَبْقَ الْعَقْدُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ بِالزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَثْبُتُ عِنْدَنَا بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ، وَالْمُسْتَنِدُ يَثْبُتُ لِلْحَالِ ثُمَّ يَسْتَنِدُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَجْعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمَبِيعِ بِمُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ لِلْحَالِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ فَلَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِنَادَ؛ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهَا حِصَّةٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بَعْدَ الْهَلَاكِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ لَا تَسْتَدْعِي الْمُقَابَلَةَ؛ لِأَنَّهَا رِبْحٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مَبِيعًا وَثَمَنًا صُورَةً وَتَسْمِيَةً. وَمِنْ شَأْنِ الرِّبْحِ أَنْ لَا يُقَابِلَهُ شَيْءٌ فَلَا يَكُونُ قِيَامُ الْمَبِيعِ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا، وَقَوْلُهُ: الْعَقْدُ مُنْعَدِمٌ عِنْدَ الزِّيَادَةِ قُلْنَا: الزِّيَادَةُ عِنْدَنَا تُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ عِنْدَ وُجُودِهِ يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ تَغْيِيرًا، عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قِيَامَ الْمَبِيعِ شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ يَحْتَمِلُ الِانْتِفَاضَ فِي الْجُمْلَةِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ كَانَ بِهِ قَبْلَ الْهَلَاكِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالنُّقْصَانِ، وَالرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ فَسْخٌ لِلْبَيْعِ فِي قَدْرِ الْفَائِتِ بِالْعَيْبِ بَعْدَ هَلَاكِهِ وَهَلَاكِ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، دَلَّ أَنَّ الْعَقْدَ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ هَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ إذَا كَانَ فِي بَقَائِهِ فَائِدَةٌ، وَهَهُنَا فِي بَقَائِهِ فَائِدَةٌ، فَيَبْقَى فِي حَقِّهِ كَمَا فِي حَقِّ الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ فِي مَهْرِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ مَوْتِهَا إنَّهَا جَائِزَةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا تَجُوزُ، وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِجَارِيَةٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ زَادَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ جَازَتْ الزِّيَادَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ عِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: فَلِأَنَّهُمَا تَبَايَعَا عَيْنًا بِعَيْنٍ، وَالْعَقْدُ عِنْدَهُ إذَا وَقَعَ عَلَى عَيْنٍ بِعَيْنٍ فَهَلَاكُ أَحَدِ الْعَيْنَيْنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الزِّيَادَةِ وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا لَكِنْ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَأَخَذَ أَرْشَهَا ثُمَّ زَادَ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ شَيْئًا جَازَتْ الزِّيَادَةُ. (أَمَّا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ، فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى (وَأَمَّا) عِنْدَهُمَا: فَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَائِمٌ فَكَانَ الْعَقْدُ قَائِمًا فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلتَّغْيِيرِ بِالزِّيَادَةِ، وَلَوْ رَهَنَ الْمَبِيعَ أَوْ آجَرَهُ ثُمَّ زَادَ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ جَازَتْ الزِّيَادَةُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَقَبَضَهَا فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ وَزَادَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ جَارِيَةً أُخْرَى فَالزِّيَادَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَبِيعِ تَثْبُتُ بِمُقَابَلَةِ الثَّمَنِ وَالثَّمَنُ قَائِمٌ، وَلَوْ زَادَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الثَّمَنِ تَثْبُتُ مُقَابَلَةً بِالْمَبِيعِ وَأَنَّهُ هَالِكٌ، وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا " إنَّ قِيَامَ الْمَبِيعِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الزِّيَادَةِ " فَهَلَاكُهُ يَكُونُ مَانِعًا، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: فَالزِّيَادَةُ فِي الْحَالَيْنِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْمَبِيعِ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ فَلَا يَكُونُ هَلَاكُهُ مَانِعًا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) قِيَامُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ: فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَطِّ بِالْإِجْمَاعِ (أَمَّا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ، فَالْحَطُّ أَوْلَى (وَأَمَّا) عِنْدَهُمَا: فَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْحَطِّ أَنْ يَلْتَحِقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لَا مَحَالَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ الْحَطُّ عَنْ جَمِيعِ الثَّمَنِ فَلَا يَلْتَحِقُ، إذْ لَوْ الْتَحَقَ لَعَرِيَ الْعَقْدُ عَنْ الثَّمَنِ فَلَمْ يَلْتَحِقْ وَاعْتُبِرَ حَطًّا لِلْحَالِ وَلِأَنَّ الْحَطَّ لَيْسَ تَصَرُّفَ مُقَابَلَةٍ لِيُشْتَرَطَ لَهُ قِيَامُ الْمَحِلِّ الْقَابِلِ بَلْ هُوَ تَصَرُّفٌ فِي الثَّمَنِ بِإِسْقَاطِ شَطْرِهِ، فَلَا يُرَاعَى لَهُ قِيَامُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا، ثُمَّ الزِّيَادَةُ مَعَ الْحَطِّ يَخْتَلِفَانِ فِي حُكْمٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الزِّيَادَةَ تَنْقَسِمُ عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْمَبِيعِ، وَالْحَطُّ لَا يَنْقَسِمُ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ مِنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَزَادَهُ الْمُشْتَرِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تَنْقَسِمُ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا سَوَاءٌ اشْتَرَى وَلَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا أَوْ سَمَّى. وَإِنْ حَطَّ الْبَائِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي مِائَةَ دِرْهَمٍ كَانَ الْحَطُّ نِصْفَيْنِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يُقَابِلُ الْمَبِيعَ فَإِذَا زَادَ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعَيْنِ مُطْلَقًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ تُقَابِلَهُمَا الزِّيَادَةُ كَأَصْلِ الثَّمَنِ، وَالْمُقَابَلَةُ فِي غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا تَقْتَضِي الِانْفِسَاخَ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ حُكْمًا لِلْمُعَاوَضَةِ وَالْمُزَاحَمَةِ كَمُقَابَلَةِ أَصْلِ الثَّمَنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ الْحَطِّ فَإِنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَبِيعِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَبِيعِ خَاصَّةً بِإِسْقَاطِ بَعْضِهِ، فَإِذَا حَطَّ مِنْ ثَمَنِهِمَا مُطْلَقًا فَقَدْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْحَطِّ فَكَانَ الْحَطُّ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَ

ثَمَنُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى زِيَادَةِ قَدْرِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ غَيْرُ مُقَابَلٍ بِالثَّمَنِ حَتَّى تُعْتَبَرَ قِيمَةُ الْقَدْرِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) كَيْفِيَّةُ الْجَوَازِ: فَالزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ عِنْدَنَا تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، كَأَنَّ الْعَقْدَ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَرُدَّ عَلَى الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جَمِيعًا إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ الِالْتِحَاقُ فَسَادَ أَصْلِ الْعَقْدِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَكَذَلِكَ الْحَطُّ، فَأَمَّا إذَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فَهَلْ يَلْتَحِقُ بِهِ وَيُفْسِدُهُ أَمْ لَا يَلْتَحِقُ بِهِ وَكَذَلِكَ الْحَطُّ؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ يَلْتَحِقَانِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَيُفْسِدَانِهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُبْطِلَانِهِ وَلَا يَلْتَحِقَانِ بِأَصْلٍ، وَأَصْلُ الْعَقْدِ صَحِيحٌ عَلَى حَالِهِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ وَالْعَقْدُ عَلَى حَالِهِ، وَالْحَطُّ جَائِزٌ هِبَةً مُبْتَدَأَةً وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ الْمُتَأَخِّرَ عَنْ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ إذَا أُلْحِقَ بِهِ هَلْ يَلْتَحِقُ بِهِ وَيُؤَثِّرُ فِي فَسَادِهِ أَمْ لَا؟ وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ أُلْحِقَ بِهِ، فَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: لَا تَصِحُّ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ صَحَّ لَالْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ. وَلَوْ الْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لَأَوْجَبَ فَسَادَ أَصْلِ الْعَقْدِ لِتَحَقُّقِ الرِّبَا فَلَمْ يَصِحَّ فَبَقِيَ أَصْلُ الْعَقْدِ صَحِيحًا كَمَا كَانَ، وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: لَا تَصِحُّ الزِّيَادَةُ لِمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ فَبَقِيَ عَلَى حَالِهِ وَيَصِحُّ الْحَطُّ؛ لِأَنَّ الِالْتِحَاقَ مِنْ لَوَازِمِ الزِّيَادَةِ، فَأَمَّا مَا لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الزِّيَادَةِ فَلَا يَصِحُّ الْحَطُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ صَحِيحَانِ زِيَادَةً وَحَطًّا؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَيْنِ أَوْقَعَاهُمَا زِيَادَةً وَحَطًّا وَلَهُمَا وِلَايَةُ ذَلِكَ فَيَقَعَانِ زِيَادَةً وَحَطًّا، وَمِنْ شَأْنِ الزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ الِالْتِحَاقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَلْتَحِقَانِ بِهِ، فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ هَهُنَا إبْطَالًا لِلْعَقْدِ السَّابِقِ وَلَهُمَا وِلَايَةُ الْإِبْطَالِ بِالْفَسْخِ وَكَذَا بِالزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْبَيْعُ الَّذِي فِيهِ خِيَارٌ فَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ حُكْمِهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ. أَنْوَاعِ الْخِيَارَاتِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْخِيَارَاتُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَثْبُتُ شَرْطًا، وَنَوْعٌ يَثْبُتُ شَرْعًا لَا شَرْطًا، وَالشَّرْطُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَثْبُتَ نَصًّا، وَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ دَلَالَةً. (أَمَّا) الْخِيَارُ الثَّابِتُ بِالشَّرْطِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا يُسَمَّى خِيَارُ التَّعْيِينِ، وَالثَّانِي خِيَارُ الشَّرْطِ. (أَمَّا) خِيَارُ التَّعْيِينِ: فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ التَّعْيِينِ، قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى. بَيَانِ حُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ، وَإِلَى بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ، وَإِلَى بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَلْزَمُ (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَحُكْمُهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فِي أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ غَيْرَ عَيْنٍ وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَيْهِ، عُرِفَ ذَلِكَ بِنَصِّ كَلَامِهِمَا حَيْثُ قَالَ الْبَائِعُ: بِعْت مِنْك أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ أَوْ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ أَوْ الدَّابَّتَيْنِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُتَفَاوِتَةِ عَلَى أَنْ تَأْخُذَ أَيَّهُمَا شِئْت وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا يُوجِبُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فِي أَحَدِهِمَا وَثُبُوتَ خِيَارِ التَّعْيِينِ لَهُ، وَالْآخَرُ يَكُونُ مِلْكُ الْبَائِعِ أَمَانَةً فِي يَدِهِ إذَا قَبَضَهُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ وَلَا عَلَى وَجْهِ الثُّبُوتِ فَكَانَ أَمَانَةً، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ أَحَدُهُمَا، وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْهَالِكُ هُوَ الْمَبِيعُ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهَلَاكِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ فَلَا يَبْطُلُ، وَالْبَيْعُ قَدْ صَحَّ بِيَقِينٍ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي بُطْلَانِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ، وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِثَمَنِهِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ قَدْ تَغَيَّرَ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالتَّعْيِينِ فَيُوجِبُ الْخِيَارَ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ اشْتَرَى أَحَدَ الْأَثْوَابِ الثَّلَاثَةِ فَهَلَكَ وَاحِدٌ مِنْهَا وَبَقِيَ اثْنَانِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِمَا قُلْنَا، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ إذَا لَمْ يُعَيِّنْ الْمَبِيعَ كَانَ الْمَبِيعُ أَحَدَ الْبَاقِينَ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا كَمَا لَوْ اشْتَرَى أَحَدَهُمَا مِنْ الِابْتِدَاءِ، وَلَوْ هَلَكَ الْكُلُّ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ قَدْ هَلَكَ بِيَقِينٍ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) صِفَةُ هَذَا الْحُكْمِ: فَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِهَذَا الْبَيْعِ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ يَمْنَعُ لُزُومَ الْعَقْدِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَيَمْنَعُ لُزُومَ الْمِلْكِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ، وَهَذَا لِأَنَّ جَوَازَ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْبَيْعِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِتَعَامُلِ النَّاسِ لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَا تَنْعَدِمُ حَاجَتُهُمْ إلَّا بَعْدَ اللُّزُومِ؛ لِأَنَّهُ عَسَى لَا يُوَافِقُهُ كِلَاهُمَا جَمِيعًا فَيَحْتَاجَ إلَى رَدِّهِمَا. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: مَا يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ وَالِاخْتِيَارِيُّ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا صَرِيحُ الِاخْتِيَارِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ، وَالثَّانِي: الِاخْتِيَارُ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ (أَمَّا) الصَّرِيحُ: فَهُوَ أَنْ يَقُولَ

اخْتَرْت هَذَا الثَّوْبَ أَوْ شِئْته أَوْ رَضِيت بِهِ أَوْ اخْتَرْته وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا فَقَدْ عَيَّنَ مِلْكَهُ فِيهِ فَيَسْقُطُ خِيَارُ التَّعْيِينِ وَلَزِمَ الْبَيْعُ. (وَأَمَّا) الِاخْتِيَارُ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ: فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ فِعْلٌ فِي أَحَدِهِمَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْمِلْكِ فِيهِ، وَهُوَ كُلُّ تَصَرُّفٍ هُوَ دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْمِلْكِ فِي الشِّرَاءِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ فِي أَحَدِهِمَا فَتَصَرُّفُهُ مَوْقُوفٌ إنْ تَعَيَّنَ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ لِلْبَيْعِ لَمْ يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَإِنْ تَعَيَّنَ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ لِلْأَمَانَةِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَنْفُذُ. (وَأَمَّا) الضَّرُورِيُّ: فَنَحْوَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَيَبْطُلَ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الْهَالِكَ مِنْهُمَا تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وَلَزِمَهُ ثَمَنُهُ وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَبِيعٌ وَالْآخَرُ أَمَانَةٌ، وَالْأَمَانَةُ مِنْهُمَا مُسْتَحَقُّ الرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ وَقَدْ خَرَجَ الْهَالِكُ عَنْ احْتِمَالِ الرَّدِّ فِيهِ فَتَعَيَّنَ الْبَاقِي لِلرَّدِّ فَتَعَيَّنَ الْهَالِكُ لِلْبَيْعِ ضَرُورَةً، وَلَوْ هَلَكَا جَمِيعًا قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ هَلَكَا عَلَى التَّعَاقُبِ وَإِمَّا أَنْ هَلَكَا مَعًا، فَإِنْ هَلَكَا عَلَى التَّعَاقُبِ فَالْأَوَّلُ يَهْلِكُ مَبِيعًا، وَالْآخَرُ أَمَانَةً لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ هَلَكَا مَعًا لَزِمَهُ ثَمَنُ نِصْفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالتَّعْيِينِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَشَاعَ الْبَيْعُ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَلَوْ هَلَكَا عَلَى التَّعَاقُبِ لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي تَرْتِيبِ الْهَلَاكِ فَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُمَا مُتَسَاوِيًا فَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ؛ لِأَنَّ أَيَّهُمَا هَلَكَ أَوَّلًا فَثَمَنُ الْآخَرِ مِثْلُهُ فَلَا يُفِيدُ الِاخْتِلَافُ، وَإِنْ كَانَ مُتَفَاوِتًا بِأَنْ كَانَ ثَمَنُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ فَادَّعَى الْبَائِعُ هَلَاكَ أَكْثَرِهِمَا ثَمَنًا وَادَّعَى الْمُشْتَرِي هَلَاكَ أَقَلِّهِمَا ثَمَنًا كَانَ أَبُو يُوسُفَ أَوَّلًا يَقُولُ: يَتَحَالَفَانِ وَأَيُّهُمَا نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ حَلَفَا جَمِيعًا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا هَلَكَا مَعًا وَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ نِصْفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَصْلِ الدَّيْنِ وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ مَتَى وَقَعَ بَيْنَ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَبَيْنَ الْمَدْيُونِ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ أَوْ فِي جِنْسِهِ أَوْ نَوْعِهِ أَوْ صِفَتِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَدْيُونِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةً وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَسَقَطَتْ الْيَمِينُ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ زِيَادَةً، وَلَوْ تَعَيَّبَ أَحَدُهُمَا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَتَعَيَّنُ الْمَعِيبُ لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لَمْ يُوجَدْ لَا نَصًّا وَلَا دَلَالَةً، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى التَّعْيِينِ أَيْضًا لِإِمْكَانِ الرَّدِّ وَالْمُشْتَرِي عَلَى خِيَارِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَعِيبَ مِنْهُمَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْآخَرَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمَا كَمَا لَوْ لَمْ يَتَعَيَّبْ أَصْلًا، فَإِنْ أَخَذَ الْمَعِيبَ مِنْهُمَا أَخَذَهُ بِجَمِيعِ ثَمَنِهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الْمَبِيعُ مِنْ الْأَصْلِ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَعَيَّبَا جَمِيعًا فَالْمُشْتَرِي عَلَى خِيَارِهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ تَعَيَّنَ الْمَعِيبُ لِلْبَيْعِ وَلَزِمَهُ ثَمَنُهُ وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْأَمَانَةِ كَمَا إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ تَعَيُّبَ الْمَبِيعِ هَلَاكُ بَعْضِهِ فَلِهَذَا مُنِعَ الرَّدُّ وَلَزِمَ الْبَيْعُ فِي الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ، فَكَذَا فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ يَمْنَعُ الرَّدَّ وَتَعَيَّنَ الْمَبِيعُ، وَلَوْ تَعَيَّبَا جَمِيعًا فَإِنْ كَانَ عَلَى التَّعَاقُبِ تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ لِلْبَيْعِ وَلَزِمَهُ ثَمَنُهُ وَيُرَدُّ الْآخَرُ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يَغْرَمُ بِحُدُوثِ الْعَيْبِ شَيْئًا لِمَا قُلْنَا إنَّهُ أَمَانَةٌ، وَإِنْ تَعَيَّبَا مَعًا لَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالتَّعْيِينِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِثَمَنِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ أَحَدُهُمَا لِلْبَيْعِ بَقِيَ الْمُشْتَرِي عَلَى خِيَارِهِ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ لَزِمَ فِي أَحَدِهِمَا بِتَعْيِينِهِمَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَبَطَلَ خِيَارُ الشَّرْطِ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْمَشَايِخِ: إنَّ هَذَا الْبَيْعَ فِيهِ خِيَارَانِ خِيَارُ التَّعْيِينِ وَخِيَارُ الشَّرْطِ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ رُتْبَةٍ مَعْلُومَةٍ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَمَلَكَ رَدَّهُمَا جَمِيعًا كَمَا لَوْ لَمْ يَتَعَيَّبْ أَحَدُهُمَا أَصْلًا لَكِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ؛ لِأَنَّ رَدَّهُمَا جَمِيعًا قَبْلَ التَّعْيِيبِ ثَبَتَ حُكْمًا لِخِيَارِ الشَّرْطِ وَقَدْ بَطَلَ خِيَارُ الشَّرْطِ بَعْدَ تَعَيُّنِهِمَا مَعًا فَلَمْ يَمْلِكْ رَدَّهُمَا وَبَقِيَ خِيَارُ التَّعْيِينِ فَيَمْلِكُ رَدَّ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ ازْدَادَ عَيْبُ أَحَدِهِمَا أَوْ حَدَثَ مَعَهُ غَيْرُهُ لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَدَمَ التَّعْيِينِ لِلْمُزَاحَمَةِ وَقَدْ بَطَلَتْ بِزِيَادَةِ عَيْبِ أَحَدِهِمَا أَوْ حُدُوثِ عَيْبٍ آخَرَ مَعَهُ، وَلَا يَبْطُلُ هَذَا الْخِيَارُ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي بَلْ يُورَثُ بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْمُوَرِّثِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فِي أَحَدِهِمَا غَيْرَ عَيْنٍ وَقَدْ قَامَ الْوَارِثُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ الْمِلْكِ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهُمَا شَاءَ دُونَ الْآخَرِ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا جَمِيعًا، وَقَدْ كَانَ لِلْمُوَرِّثِ ذَلِكَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ أُولَئِكَ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ خِيَارَيْنِ فِي هَذَا الْبَيْعِ، وَقَدْ بَطَلَ أَحَدُهُمَا " وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ " بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُورَثُ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا فَبَطَلَ الْحُكْمُ الْمُخْتَصُّ بِهِ " وَهُوَ وِلَايَةُ رَدِّهِمَا جَمِيعًا " هَذَا إذَا اشْتَرَى أَحَدَهُمَا شِرَاءً صَحِيحًا.

خيار الشرط

فَأَمَّا) إذَا اشْتَرَى أَحَدَهُمَا شِرَاءً فَاسِدًا بِأَنْ قَالَ الْبَائِعُ: بِعْت مِنْك أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِكَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِيَارَ أَصْلًا فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ وَاحِدًا مِنْهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنْ قَبَضَهُمَا مَلَكَ أَحَدَهُمَا مِلْكًا فَاسِدًا، وَأَيُّهُمَا هَلَكَ لَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِالْقِيمَةِ، وَلَوْ هَلَكَا فَإِنْ كَانَ عَلَى التَّعَاقُبِ لَزِمَتْهُ قِيمَةُ الْهَالِكِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وَأَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقِيمَةِ، وَإِنْ هَلَكَا مَعًا لَزِمَهُ نِصْفُ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِتَعْيِينِهِ لِلْبَيْعِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَشَاعَ الْبَيْعُ فِيهِمَا، وَلَوْ تَعَيَّبَ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا جَمِيعًا، أَمَّا غَيْرُ الْمَعِيبِ؛ فَلِأَنَّهُ أَمَانَةٌ. وَأَمَّا الْمَعِيبُ؛ فَلِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا وَاجِبُ الرَّدِّ فَيَرُدَّهُمَا وَيَرُدَّ مَعَهُمَا نِصْفَ نُقْصَانِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَيِّبَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَبِيعُ فَيَجِبُ نُقْصَانُ الْعَيْبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَمَانَةُ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى التَّعْيِينِ فَيَتَنَصَّفَ الْوَاجِبُ وَلَوْ تَعَيَّبَ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَكَذَا الْجَوَابُ فِي نُقْصَانِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَمَانَةٌ وَالْآخَرَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ وَلَوْ تَعَيَّبَا مَعًا، فَكَذَلِكَ يَرُدُّهُمَا مَعَ نِصْفِ نُقْصَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فِي التَّعْيِينِ لِلْبَيْعِ، وَلَوْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِي أَحَدِهِمَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ وَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي الْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُتَصَرَّفَ فِيهِ تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وَلَوْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ فِي أَحَدِهِمَا فَتَصَرُّفُهُ مَوْقُوفٌ إنْ رُدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِ وَتَصَرَّفَ فِيهِ الْمُشْتَرِي نَفَذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ وَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ وَبَطَلَ تَصَرُّفُ الْبَائِعِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَالْأَصْلُ أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ الثَّمَنُ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. هَذَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، أَمَّا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَلَا يَزُولُ أَحَدُهُمَا عَنْ مِلْكِهِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ، وَلَهُ أَنْ يُلْزِمَ الْمُشْتَرِيَ أَيَّ ثَوْبٍ شَاءَ قَبْضَهُ لِلْخِيَارِ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ التَّرْكِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَاتَ فِي جَانِبِهِ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُلْزِمَهُمَا الْمُشْتَرِيَ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ أَحَدُهُمَا، وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَيَهْلِكُ أَمَانَةً لِمَا ذَكَرْنَا فِي خِيَارِ الْمُشْتَرِي، وَخِيَارُ الْبَائِعِ عَلَى حَالِهِ إنْ شَاءَ أَلْزَمَ الْمُشْتَرِيَ الْبَاقِيَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَهُ الْهَالِكَ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ أَمَانَةً، وَإِنْ هَلَكَا جَمِيعًا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِيَقِينٍ، وَإِنْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ كَانَ الْهَالِكُ أَمَانَةً أَيْضًا كَمَا لَوْ هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَأَلْزَمَهُ الْبَاقِيَ مِنْهُمَا إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ السِّلْعَةِ عَنْ مِلْكِهِ فَيَهْلِكُ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَهُ الْخِيَارُ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ هَلَكَا جَمِيعًا فَإِنْ كَانَ هَلَاكُهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ فَالْأَوَّلُ يَهْلِكُ أَمَانَةً وَعَلَيْهِ قِيمَةُ آخَرِهِمَا هَلَاكًا؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ، وَأَنَّهُ مَبِيعٌ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَفِيهِ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ. وَإِنْ هَلَكَا مَعًا لَزِمَهُ نِصْفُ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالتَّعْيِينِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، وَلَوْ تَعَيَّبَ أَحَدُهُمَا أَوْ تَعَيَّبَا مَعًا قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ فَخِيَارُ الْبَائِعِ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعِيبَ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْعَيْبِ لِانْعِدَامِ الْمُعَيَّنِ فَكَانَ الْبَائِعُ عَلَى خِيَارِهِ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ الْمُشْتَرِيَ أَيَّهُمَا شَاءَ كَمَا قَبْلَ التَّعَيُّبِ، ثُمَّ إذَا لَزِمَهُ أَحَدُهُمَا يُنْظَرُ إنْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ الْمُتَعَيَّبِ مِنْهُمَا لَزِمَهُ مَا لَزِمَهُ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِي تَرْكِهِ لِانْعِدَامِ التَّعْيِينِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مَا لَزِمَهُ هُوَ الْمُتَعَيَّبُ فَإِنْ تَعَيَّبَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ قَدْ تَغَيَّرَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَتَغَيُّرُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ تَعَيَّبَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ التَّعَيُّبَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ، وَإِنْ شَاءَ الْبَائِعُ فَسَخَ الْبَيْعَ وَاسْتَرَدَّهُمَا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ غَيْرُ لَازِمٍ فَلَهُ وِلَايَةُ الْفَسْخِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ تَعَيُّبُهُمَا فِي يَدِ الْبَائِعِ فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُمَا تَعَيَّبَا لَا فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي. وَإِنْ كَانَ تَعَيُّبُهُمَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمُشْتَرِي نِصْفَ نُقْصَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَضْمُونٌ عِنْدَهُ بِالْقِيمَةِ وَالْآخَرُ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ وَلَا يَعْلَمُ أَحَدَهُمَا مِنْ الْآخَرِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِمَبِيعٍ بِيَقِينٍ وَالْآخَرُ مَبِيعٌ لَكِنْ لِبَائِعِهِ فِيهِ خِيَارٌ، وَخِيَارُ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ، وَلَوْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ فِي أَحَدِهِمَا جَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ وَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْبَيْعِ، وَلَهُ خِيَارُ الْإِلْزَامُ فِيهِ وَالْفَسْخُ وَلَوْ تَصَرَّفَ فِيهِمَا جَمِيعًا جَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهِمَا وَيَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِيهِمَا دَلِيلُ إقْرَارِ الْمِلْكِ فِيهِمَا فَيَضْمَنُ فَسْخَ الْبَيْعِ كَمَا فِي الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [خِيَارُ الشَّرْطِ] (وَأَمَّا) خِيَارُ الشَّرْطِ: فَالْكَلَامُ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ

وَشِرَائِهِ قَدْ مَرَّ فِي مَوْضِعِهِ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى بَيَانِ صِفَةِ هَذَا الْبَيْعِ وَإِلَى بَيَانِ حُكْمِهِ وَإِلَى بَيَانِ مَا يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وَإِلَى بَيَانِ مَا يَنْفَسِخُ بِهِ الْبَيْعُ. (أَمَّا) صِفَتُهُ: فَهِيَ أَنَّهُ بَيْعٌ غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ لُزُومَ الصَّفْقَةِ قَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ؛ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ هُوَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَازَةِ وَهَذَا يَمْنَعُ اللُّزُومَ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، ثُمَّ الْخِيَارُ كَمَا يَمْنَعُ لُزُومَ الصَّفْقَةِ فَعَدَمُ الْقَبْضِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِنَفْسِ الْبَيْعِ مِلْكٌ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ وَإِنَّمَا التَّأَكُّدُ بِالْقَبْضِ،. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ شَيْئًا وَاحِدًا أَوْ أَشْيَاءَ أَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ سَوَاءً كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي وَسَوَاءً كَانَ الْبَيْعُ مَقْبُوضًا أَوْ غَيْرَ مَقْبُوضٍ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فِي اللُّزُومِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ تَفْرِيقُ أَصْلِ الصَّفْقَةِ " وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ " إلَّا بِرِضَا الْعَاقِدَيْنِ بِأَنْ يَقْبَلَ الْبَيْعَ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ دُونَ الْبَعْضِ بَعْدَ إضَافَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ إلَى الْجُمْلَةِ وَيُوجَبُ الْبَيْعُ بَعْدَ إضَافَةِ الْقَبُولِ إلَى جُمْلَتِهِ لَا يَجُوزُ فِي وَصْفِهَا وَهُوَ أَنْ يَلْزَمَ الْبَيْعُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ إلَّا بِرِضَاهُمَا. وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَالْخِيَارُ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ فِي الْبَاقِي إلَّا بِرِضَا الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ انْفَسَخَ فِي قَدْرِ الْهَالِكِ فَالْإِجَازَةُ فِي الْبَاقِي تَكُونُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ فِي الْبَاقِي فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ فِي الْبَاقِي وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ فَهَلَكَ بَعْضُهُ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ فِي الْبَاقِي بِلَا خِلَافٍ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِجَازَةَ هَهُنَا بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ التَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ فَكَانَ لِلْإِجَازَةِ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ، وَالْهَالِكُ مِنْهُمَا خَرَجَ عَنْ احْتِمَالِ الْإِنْشَاءِ، وَالْإِنْشَاءُ فِي الْبَاقِي تَمْلِيكٌ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَلَمْ يَحْتَمِلْ الْإِنْشَاءَ وَفِيمَا لَهُ مِثْلٌ مَعْلُومَةٌ فَاحْتَمَلَ الْإِنْشَاءَ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذِهِ الْإِجَازَةَ تُظْهِرُ أَنَّ الْعَقْدَ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ انْعَقَدَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَلَمْ يَكُنْ الْهَلَاكُ مَانِعًا مِنْ الْإِجَازَةِ، وَقَوْلُهُ " الْإِجَازَةُ هَهُنَا إنْشَاءٌ " قُلْنَا مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِدُونِ الْإِجَازَةِ مِنْ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَبِمَوْتِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، وَلَوْ كَانَتْ الْإِجَازَةُ إنْشَاءً لَتَوَقَّفَ حُكْمُ الْعَقْدِ عَلَى وُجُودِهَا وَهَذَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ إذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ ثُمَّ أَجَازَهُ الْمَالِكُ لَمْ يَجُزْ، وَهَهُنَا جَازَ فَهَلَاكُ الْمَبِيعِ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ يَمْنَعُ مِنْ الْإِجَازَةِ وَهَهُنَا لَا يَمْنَعُ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ بِيعَ الْفُضُولِيِّ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَالْمُسْتَنَدُ ظَاهِرٌ مِنْ وَجْهٍ مُقْتَصِرٌ مِنْ وَجْهٍ، فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ إظْهَارًا مِنْ وَجْهٍ إنْشَاءً مِنْ وَجْهٍ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا إظْهَارٌ كَانَ لَا يَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى قِيَامِ الْمَحِلِّ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا إنْشَاءٌ يَقِفُ عَلَيْهِ (فَأَمَّا) فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ: فَالْحُكْمُ يَثْبُتُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ لِإِظْهَارِ أَنَّ الْعَقْدَ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ انْعَقَدَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَالْمَحِلُّ كَانَ قَابِلًا وَقْتَ الْعَقْدِ، فَهَلَاكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْإِجَازَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَيَا شَيْئًا عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَاخْتَارَ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْبَيْعُ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْآخَرُ الْفَسْخَ احْتِرَازًا عَنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي اللُّزُومِ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) حُكْمُ هَذَا الْبَيْعِ: فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا حُكْمَ لَهُ لِلْحَالِ، وَالْخِيَارُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي الْحُكْمِ لِلْحَالِ لِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ بَلْ هُوَ لِلْحَالِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ حُكْمُهُ لِلْحَالِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ يَتَّصِلُ بِهِ الْفَسْخُ أَوْ الْإِجَازَةُ فَيُتَوَقَّفُ فِي الْجَوَابِ لِلْحَالِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ التَّوَقُّفِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلٍ مِثْلَ قَوْلِنَا وَفِي قَوْلٍ " هُوَ مُنْعَقِدٌ مُفِيدٌ لِلتَّمَلُّكِ لَكِنَّ مِلْكًا مُسَلَّطًا عَلَى فَسْخِهِ بِالْخِيَارِ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَا يُفَارِقُ الْبَيْعَ الْبَاتَّ إلَّا فِي الْخِيَارِ، وَالْخِيَارُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ بِالْإِجْمَاعِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ عَلَى أَصْلِكُمْ. (وَلَنَا) أَنَّ جَوَازَ هَذَا الْبَيْعِ مَعَ أَنَّهُ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ وَلَا انْدِفَاعَ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ إلَّا بِامْتِنَاعِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى قَرِيبَ الْمُشْتَرِي فَلَوْ مَلَكَهُ لِلْحَالِ لَعَتَقَ عَلَيْهِ لِلْحَالِ فَلَا تَنْدَفِعُ حَاجَتُهُ. ثُمَّ الْخِيَارُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي جَمِيعًا وَإِمَّا إنْ كَانَ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ وَإِمَّا إنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ وَإِمَّا إنْ كَانَ لِغَيْرِهِمَا بِأَنْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا الْخِيَارَ لِثَالِثٍ فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا فَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فِي الْبَدَلَيْنِ جَمِيعًا فَلَا يَزُولُ الْمَبِيعُ عَنْ

مِلْكِ الْبَائِعِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَكَذَا لَا يَزُولُ الثَّمَنُ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ حُكْمٍ مَوْجُودٍ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا، وَهُوَ الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ فَلَا يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فِي حَقِّهِ حَتَّى لَا يَزُولَ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ، وَيَخْرُجُ الثَّمَنُ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَاتٌّ فِي حَقِّهِ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ؟ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَدْخُلُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ: يَدْخُلُ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ لَا يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فِي حَقِّهِ حَتَّى لَا يَزُولَ الثَّمَنُ عَنْ مِلْكِهِ. وَلَا يَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ إذَا كَانَ عَيْنًا، وَلَا يَسْتَحِقَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي إذَا كَانَ دَيْنًا، وَيَخْرُجَ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ حَتَّى لَا يَجُوزَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَاتٌّ فِي حَقِّهِ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؟ لَا يَدْخُلُ، وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلُ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُسْتَدْعِي هُوَ الْأَصْلُ، وَالِامْتِنَاعُ بِعَارِضٍ، وَالْمَانِعُ هَهُنَا هُوَ الْخِيَارُ وَأَنَّهُ وُجِدَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لَا غَيْرُ، فَيَعْمَلُ فِي الْمَنْعِ فِيهِ لَا فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ أَلَا تَرَى كَيْفَ خَرَجَ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، وَالثَّمَنُ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ؟ ، فَدَلَّ أَنَّ الْبَيْعَ بَاتٌّ فِي حَقِّ مَنْ لَا خِيَارَ لَهُ، فَيَعْمَلُ فِي بَتَاتِ هَذَا الْحُكْمِ الَّذِي وُضِعَ لَهُ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الْخِيَارَ إذَا كَانَ لِلْبَائِعِ، فَالْمَبِيعُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ، وَإِذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي، فَالثَّمَنُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ، وَهَذَا يَمْنَعُ دُخُولَ الثَّمَنِ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ فِي الْأَوَّلِ وَدُخُولَ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فِي الثَّانِي؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي عَقْدِ الْمُبَادَلَةِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَالثَّانِي: إنَّ فِي هَذَا تَرْكَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ فِي حُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَرْضَيَانِ بِالتَّفَاوُتِ، وَقَوْلُهُمَا: الْبَيْعُ بَاتٌّ فِي حَقِّ مَنْ لَا خِيَارَ لَهُ قُلْنَا هَذَا يُوجِبُ الْبَتَاتَ فِي حَقِّ الزَّوَالِ لَا فِي حَقِّ الثُّبُوتِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لَهُ أَثَرٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ الزَّوَالِ، وَامْتِنَاعُ الزَّوَالِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ يَمْنَعُ الثُّبُوتَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ إنْ كَانَ لَا يَمْنَعُ الزَّوَالَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوَجْهَيْنِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَيْهِ مَسَائِلُ: (مِنْهَا) إذَا اشْتَرَى ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ عِنْدَهُ، وَلَا عِتْقَ بِدُونِ الْمِلْكِ، وَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ، وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ، فَإِنْ فَسَخَ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ عَادَ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، وَإِنْ أَجَازَهُ عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ الْخِيَارُ، وَلَزِمَ الْعَقْدُ، فَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ، وَعِنْدَهُمَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ، وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ، وَيَبْطُلُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِ الْغَيْرِ إنْ اشْتَرَيْتُكَ، فَأَنْتَ حُرٌّ، فَاشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَتَقَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ (أَمَّا) عِنْدَهُمَا، فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ، فَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ، فَعَتَقَ (وَأَمَّا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَلِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَوْ نُجِزَ عِتْقُهُ بَعْدَ شِرَائِهِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ عَتَقَ، وَسَقَطَ خِيَارُهُ؛ لِكَوْنِ الْإِعْتَاقِ إجَازَةً، وَاخْتِيَارًا لِلْمِلْكِ عَلَى مَا نَذْكُرُ كَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ، وَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ، وَعَادَتْ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ، وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَزِمَهُ الثَّمَنُ، وَعِنْدَهُمَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ، فَبَطَلَ خِيَارُهُ، وَلَزِمَهُ الثَّمَنُ. (وَمِنْهَا) إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا فَسَدَ؛ لِدُخُولِهَا فِي مِلْكِهِ، وَمِلْكُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ رَقَبَةَ صَاحِبِهِ أَوْ شِقْصًا مِنْهَا يَرْفَعُ النِّكَاحَ، فَإِنْ وَطِئَهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا كَانَ إجَازَةً بِالْإِجْمَاعِ (أَمَّا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَلِأَجْلِ النُّقْصَانِ بِإِزَالَةِ الْبَكَارَةِ، وَهِيَ الْعُذْرَةُ لَا لِأَجْلِ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ، فَكَانَ حِلُّ الْوَطْءِ قَائِمًا، فَلَا حَاجَةَ إلَى مِلْكِ الْيَمِينِ (وَأَمَّا) عِنْدَهُمَا، فَلِأَجْلِ النُّقْصَانِ وَالْوَطْءِ جَمِيعًا، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْخِيَارِ لِضَرُورَةِ حِلِّ الْوَطْءِ، وَلَا ضَرُورَةَ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ، فَكَانَ حِلُّ الْوَطْءِ ثَابِتًا، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى مِلْكِ الْيَمِينِ بِحِلِّ الْوَطْءِ، فَلَمْ يَبْطُلْ الْخِيَارُ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِضَرُورَةِ حِلِّ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْجَارِيَةُ زَوْجَةً لَهُ وَوَطِئَهَا أَنَّهُ يَكُونُ إجَازَةً سَوَاءٌ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا؛ لِأَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ هُنَاكَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِانْعِدَامِ النِّكَاحِ، فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى الْوَطْءِ اخْتِيَارًا لِلْمِلْكِ، فَيَبْطُلُ الْخِيَارُ. (وَمِنْهَا) إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَبَضَهَا فَحَاضَتْ عِنْدَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ حَيْضَةً

كَامِلَةً أَوْ بَعْضَ حَيْضَةٍ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَاخْتَارَ الْبَيْعَ لَا تُجْزِئ تِلْكَ الْحَيْضَةُ فِي الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ أُخْرَى لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ عِنْدَهُ، وَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَعِنْدَهُمَا يَحْتَسِبُ بِهَا لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ، فَكَانَتْ الْحَيْضَةُ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ، فَكَانَتْ مَحْسُوبَةً مِنْهُ، وَلَوْ اخْتَارَ فَسْخَ الْبَيْعِ، وَرَدَّ الْجَارِيَةَ، فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَ الرَّدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجِبُ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ يَجِبُ قِيَاسًا، وَاسْتِحْسَانًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي مَسَائِلِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، فَفَسَخَ الْعَقْدَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ، وَإِنْ أَجَازَهُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ الْإِجَازَةِ وَالْقَبْضِ بِحَيْضَةٍ أُخْرَى بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بَعْدَ الْإِجَازَةِ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ مِلْكًا مُطْلَقًا. (وَمِنْهَا) إذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِعَيْنِهِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَقَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ، ثُمَّ أَوْدَعَهُ الْبَائِعُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَهَلَكَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ أَوْ بَعْدَهَا يَهْلِكُ عَلَى الْبَائِعِ، وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَلَمَّا دَخَلَ رَدُّهُ عَلَى الْبَائِعِ، فَقَدْ ارْتَفَعَ قَبْضُهُ، فَهَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَعِنْدَهُمَا يَهْلِكُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ أَعْنِي الْمُشْتَرِيَ، فَقَدْ أَوْدَعَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَيَدُ الْمُودَعِ يَدُهُ، فَهَلَاكُهُ فِي يَدِهِ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، فَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي، ثُمَّ إنَّ الْمُشْتَرِي أَوْدَعَهُ الْبَائِعَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَهَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ جَوَازِ الْبَيْعِ أَوْ بَعْدَهُ بَطَلَ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ. ، وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ بَاتًّا، فَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَالثَّمَنُ مَنْقُودٌ أَوْ مُؤَجَّلٌ، وَلَهُ خِيَارُ رُؤْيَةٍ أَوْ عَيْبٍ، فَأَوْدَعَهُ الْبَائِعَ، فَهَلَكَ عِنْدَ الْبَائِعِ يَهْلِكُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، فَكَانَ مُودِعًا مِلْكَ نَفْسِهِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) إذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَبَضَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْمُشْتَرِي بَطَلَ الْعَقْدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَالْمُسْلِمُ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمَلُّكِ الْخَمْرِ بِالْبَيْعِ، وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ، وَلَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ مِنْ إخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ، وَلَوْ أَسْلَمَ الْبَائِعُ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَاتٌّ فِي جَانِبِهِ، وَالْإِسْلَامُ فِي الْبَيْعِ الْبَاتِّ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَهُ إذَا كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَالْمُشْتَرِي عَلَى خِيَارِهِ، فَإِنْ أَجَازَ الْبَيْعَ؛ جَازَ، وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ، وَإِنْ فَسَخَهُ انْفَسَخَ، وَصَارَ الْخَمْرُ لِلْبَائِعِ حُكْمًا، وَالْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْخَمْرَ حُكْمًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَمَلَّكُهَا بِالْمِيرَاثِ؟ ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، فَأَسْلَمَ الْبَائِعُ بَطَلَ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ السِّلْعَةِ عَنْ مِلْكِهِ، وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ إخْرَاجَ الْخَمْرِ عَنْ مِلْكِهِ بِالْعَقْدِ، فَبَطَلَ الْعَقْدُ، وَلَوْ أَسْلَمَ الْمُشْتَرِي لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَاتٌّ فِي جَانِبِهِ. وَالْبَائِعُ عَلَى خِيَارِهِ، فَإِنْ فَسَخَ الْبَيْعَ عَادَتْ الْخَمْرُ إلَيْهِ، وَإِنْ أَجَازَهُ صَارَ الْخَمْرُ لِلْمُشْتَرِي حُكْمًا، وَالْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا حُكْمًا، كَمَا فِي الْإِرْثِ، وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ بَاتًّا، فَأَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مَتَى وَرَدَ وَالْحَرَامُ مَقْبُوضٌ يُلَاقِيهِ بِالْعَفْوِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ مِلْكٌ مُبْتَدَأٌ؛ لِثُبُوتِهَا بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ عَلَى الْكَمَالِ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ دَوَامُ الْمِلْكِ، وَالْإِسْلَامُ لَا يُنَافِيه، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا تَخَمَّرَ عَصِيرُهُ، فَلَا يُؤْمَرُ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ فِيهَا هَذَا كُلُّهُ إذَا أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ كَيْفَمَا كَانَ سَوَاءٌ كَانَ الْبَيْعُ بَاتًّا أَوْ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مَتَى وَرَدَ وَالْحَرَامُ غَيْرُ مَقْبُوضٍ يُمْنَعُ مِنْ قَبْضِهِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ لِمَا فِي الْقَبْضِ مِنْ مَعْنَى إنْشَاءِ الْعَقْدِ مِنْ وَجْهٍ، فَيُلْحَقُ بِهِ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ تَظْهَرُ فَوَائِدُ هَذَا الْأَصْلِ فِي فُرُوعٍ أُخَرَ يَطُولُ ذِكْرُهَا. ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لَا يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا حَقُّ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ بِالْإِجْمَاعِ (أَمَّا) عَلَى أَصْلِهِمَا، فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي (وَأَمَّا) عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْمَبِيعُ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَكِنَّهُ قَدْ زَالَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِالْإِجْمَاعِ، وَحَقُّ الشُّفْعَةِ يَعْتَمِدُ زَوَالَ مِلْكِ الْبَائِعِ لَا ثُبُوتَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ تَبَايَعَا عَبْدًا بِجَارِيَةٍ، وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، فَأَعْتَقَ الْبَائِعُ الْعَبْدَ نَفَذَ إعْتَاقُهُ، وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ الْعَبْدِ عَنْ مِلْكِهِ، فَقَدْ أَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَنَفَذَ، وَإِنْ أَعْتَقَ الْجَارِيَةَ نَفَذَ أَيْضًا، وَلَزِمَ الْبَيْعُ (أَمَّا) عَلَى أَصْلِهِمَا، فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهَا، فَأَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ (وَأَمَّا) عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهَا بِالْعَقْدِ لَكِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْإِعْتَاقِ دَلِيلُ عَقْدِ الْمِلْكِ إذْ لَا وُجُودَ لِلْعِتْقِ إلَّا بِالْمِلْكِ، وَلَا

مِلْكَ إلَّا بِسُقُوطِ الْخِيَارِ، فَتَضَمَّنَ إقْدَامُهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ إسْقَاطَ الْخِيَارِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُمَا مَعًا؛ نَفَذَ إعْتَاقُهُمَا جَمِيعًا، وَبَطَلَ الْبَيْعُ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ، وَعِنْدَهُمَا نَفَذَ إعْتَاقُهُمَا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ أَمَّا نُفُوذُ إعْتَاقِهِمَا (أَمَّا) الْعَبْدُ، فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِلَا خِلَافٍ (وَأَمَّا) الْجَارِيَةُ، فَكَذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِمَا؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، فَقَدْ دَخَلَتْ بِمُقْتَضَى الْإِقْدَامِ عَلَى إعْتَاقِهِمَا عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَإِعْتَاقُهُمَا صَادَفَ مَحَلًّا مَمْلُوكًا لِلْمُعْتِقِ، فَنَفَذَ. (وَأَمَّا) لُزُومُ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَلِأَنَّ الْعَبْدَ بَدَلُ الْجَارِيَةِ، وَقَدْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بِالْإِعْتَاقِ، وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ، وَإِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ، وَجَبَ رَدُّ الْجَارِيَةِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ رَدِّهَا بِسَبَبِ الْعِتْقِ، فَيَغْرَمُ قِيمَتَهَا، وَلَوْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ أَوْ الْجَارِيَةَ لَمْ يَنْفُذْ إعْتَاقُهُ (أَمَّا) الْعَبْدُ؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ (وَأَمَّا) الْجَارِيَةُ؛ فَلِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ، وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أَمَّا خِيَارُ الْبَائِعِ، فَمَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُهُ، وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ نَوْعَانِ فِي الْأَصْلِ: أَحَدُهُمَا: اخْتِيَارِيٌّ، وَالْآخَرُ ضَرُورِيٌّ أَمَّا الِاخْتِيَارِيُّ، فَالْإِجَازَةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ لُزُومُ الْبَيْعِ، وَالِامْتِنَاعُ بِعَارِضِ الْخِيَارِ، وَقَدْ بَطَلَ بِالْإِجَازَةِ، فَيَلْزَمُ الْبَيْعُ، وَالْإِجَازَةُ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ، وَمَا هُوَ فِي مَعْنَى الصَّرِيحِ، وَدَلَالَةٌ (أَمَّا) الْأَوَّلُ، فَنَحْوَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ: أَجَزْتُ الْبَيْعَ أَوْ أَوْجَبْتُهُ أَوْ أَسْقَطْتُ الْخِيَارَ أَوْ أَبْطَلْتُهُ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى سَوَاءٌ عَلِمَ الْمُشْتَرِي الْإِجَازَةَ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ (وَأَمَّا) الْإِجَازَةُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَهِيَ: أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ تَصَرُّفٌ فِي الثَّمَنِ يَدُلُّ عَلَى الْإِجَازَةِ وَإِيجَابِ الْبَيْعِ، فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ دَلَالَةً، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِبَرِيرَةَ حِينَ عَتَقَتْ مَلَكْتِ بُضْعَكِ، فَاخْتَارِي، وَإِنْ وَطِئَك زَوْجُكِ، فَلَا خِيَارَ لَكِ» ، فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَمْكِينَهَا مِنْ الْوَطْءِ دَلِيلَ بُطْلَانِ الْخِيَارِ، فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ، كَمَا يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا، فَتَصَرَّفَ الْبَائِعُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ بِأَنْ بَاعَهُ أَوْ سَاوَمَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ أَوْ آجَرَهُ أَوْ رَهَنَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ. (أَمَّا) عَلَى أَصْلِهِمَا، فَلِأَنَّ الثَّمَنَ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ، فَكَانَ التَّصَرُّفُ فِيهِ دَلِيلَ تَقَرُّرِ مِلْكِهِ، وَأَنَّهُ دَلِيلُ إجَازَةِ الْبَيْعِ (وَأَمَّا) عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَالْإِقْدَامُ عَلَى التَّصَرُّفِ يَكُونُ دَلِيلَ اخْتِيَارِ الْمِلْكِ فِيهِ، وَذَا دَلِيلُ الْإِجَازَةِ. وَكَذَا لَوْ كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا، فَأَبْرَأَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ أَوْ اشْتَرَى بِهِ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ وَهَبَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَهُوَ إجَازَةٌ لِلْبَيْعِ لِمَا قُلْنَا، وَيَصِحُّ شِرَاؤُهُ وَهِبَتُهُ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ وَالشِّرَاءَ بِهِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ، وَكَذَا لَوْ سَاوَمَهُ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ الَّذِي فِي ذِمَّتِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَمَلُّكَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّمَلُّكَ إلَّا بِثُبُوتِ مِلْكِهِ فِي الثَّمَنِ أَوْ تَقَرُّرِهِ فِيهِ، وَلَوْ اشْتَرَى بِالثَّمَنِ شَيْئًا مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَصِحَّ الشِّرَاءُ، وَكَانَ إجَازَةً (أَمَّا) عَدَمُ صِحَّةِ الشِّرَاءِ؛ فَلِأَنَّهُ شِرَاءٌ بِالدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ. (وَأَمَّا) كَوْنُهُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ؛ فَلِأَنَّ الشِّرَاءَ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ لَكِنَّهُ قَصَدَ التَّمَلُّكَ، وَذَا دَلِيلُ الْإِجَازَةِ، كَمَا إذَا سَاوَمَهُ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِهِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى قَصْدِهِ التَّمَلُّكَ فَوْقَ الْمُسَاوَمَةِ، فَلَمَّا كَانَتْ الْمُسَاوَمَةُ إجَازَةً، فَالشِّرَاءُ أَوْلَى بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ قَبَضَ الثَّمَنَ الَّذِي هُوَ دَيْنٌ، فَاشْتَرَى بِهِ شَيْئًا أَنَّهُ لَا يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْمَقْبُوضِ لَيْسَ بِمُسْتَحَقِّ الرَّدِّ عِنْدَ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ عِنْدَنَا فِي الْفَسْخِ، كَمَا لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْعَقْدِ، فَلَمْ يَكُنْ الْمَقْبُوضُ فِيهِ مُسْتَحَقَّ الرَّدِّ، فَلَا يَكُونُ التَّصَرُّفُ فِيهِ دَلِيلَ الْإِجَازَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الشِّرَاءَ إلَى عَيْنِ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ، فَكَانَ دَلِيلَ الْقَصْدِ إلَى الْمِلْكِ أَوْ تَقَرُّرِ الْمِلْكِ فِيهِ عَلَى مَا قُلْنَا، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، فَأَبْرَأَهُ الْبَائِعُ مِنْ الثَّمَنِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ وُجُوبَ الثَّمَنِ، وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ لَا يُتَصَوَّرُ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا أَجَازَ الْبَيْعَ نَفَذَ الْإِبْرَاءُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْبَيْعِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الثَّمَنَ كَانَ وَاجِبًا، فَكَانَ إبْرَاؤُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ، فَيَنْفُذُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الضَّرُورِيُّ، فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ (أَحَدُهُمَا) مُضِيُّ مُدَّةِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ مُؤَقَّتٌ بِهِ، وَالْمُؤَقَّتُ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ لَكِنْ هَلْ تَدْخُلُ الْغَايَةُ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ بِأَنْ شَرَطَ الْخِيَارَ إلَى اللَّيْلِ أَوْ إلَى الْغَدِ هَلْ يَدْخُلُ اللَّيْلُ أَوْ الْغَدُ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: تَدْخُلُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا تَدْخُلُ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا إنَّ الْغَايَةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ مَا ضُرِبَتْ لَهُ الْغَايَةُ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى عَزَّ

شَأْنُهُ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] حَتَّى لَا يَجِبَ الصَّوْمُ فِي اللَّيْلِ، وَكَمَا فِي التَّأْجِيلِ إلَى غَايَةٍ، أَنَّ الْغَايَةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْأَجَلِ كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إنَّ الْغَايَاتِ مُنْقَسِمَةٌ: غَايَةُ إخْرَاجٍ، وَغَايَةُ إثْبَاتٍ، فَغَايَةُ الْإِخْرَاجِ تَدْخُلُ تَحْتَ مَا ضُرِبَتْ لَهُ الْغَايَةُ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] وَالْغَايَةُ هَهُنَا فِي مَعْنَى غَايَةِ الْإِخْرَاجِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْوَقْتَ أَصْلًا لَاقْتَضَى ثُبُوتَ الْخِيَارِ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا حَتَّى لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي مَعْنَى شَرْطِ خِيَارٍ مُؤَبَّدٍ بِخِلَافِ التَّأْجِيلِ إلَى غَايَةٍ، فَإِنَّهُ لَوْلَا ذِكْرُ الْغَايَةِ لَمْ يَثْبُتْ الْأَجَلُ أَصْلًا، فَكَانَتْ الْغَايَةُ غَايَةَ إثْبَاتٍ، فَلَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ مَا ضُرِبَتْ لَهُ الْغَايَةُ. وَالثَّانِي مَوْتُ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ بِمَوْتِهِ، بَلْ يَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ، وَلَقَبُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ هَلْ يُوَرَّثُ أَمْ لَا؟ عِنْدَنَا يُوَرَّثُ، وَعِنْدَهُ لَا يُوَرَّثُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ خِيَارَ الْقَبُولِ لَا يُوَرَّثُ، وَكَذَا خِيَارُ الْإِجَازَةِ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ لَا يُوَرَّثُ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا الْأَجَلُ لَا يُوَرَّثُ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ، وَخِيَارَ التَّعْيِينِ يُوَرَّثُ. (وَأَمَّا) خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، فَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْأَصْلِ، وَذَكَرَ فِي الْحِيَلِ أَنَّهُ لَا يُوَرَّثُ، وَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُوَرَّثُ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِظَوَاهِرِ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ حَيْثُ أَثْبَتَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْإِرْثَ فِي الْمَتْرُوكِ مُطْلَقًا، وَالْخِيَارُ مَتْرُوكٌ، فَيَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ تَرَكَ مَالًا أَوْ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ» وَالْخِيَارُ حَقٌّ تَرَكَهُ، فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ بِالْبَيْعِ، فَيَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ كَالْمِلْكِ الثَّابِتِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ، كَمَا يَثْبُتُ فِي الْأَمْلَاكِ يَثْبُتُ فِي الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ بِالْبَيْعِ؛ وَلِهَذَا يَثْبُتُ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ، وَخِيَارِ التَّعْيِينِ كَذَا هَذَا، وَلَنَا أَنَّ الْخِيَارَ لَوْ ثَبَتَ لِلْوَارِثِ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ ابْتِدَاءً أَوْ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْوَارِثِ ابْتِدَاءً، وَإِثْبَاتُ الْخِيَارِ لَهُ مِنْ غَيْرِ وُجُودِ شَرْطِ الْخِيَارِ مِنْهُ خِلَافُ الْحَقِيقَةِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَعْتَمِدُ الْبَاقِي بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، وَخِيَارُهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ يُخَيِّرُهُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلَا يُوَرَّثُ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ وَالتَّعْيِينِ؛ لِأَنَّ الْمَوْرُوثَ هُنَاكَ مُحْتَمِلٌ لِلْإِرْثِ، وَهُوَ الْعَيْنُ الْمَمْلُوكَةُ (وَأَمَّا) الْآيَةُ، وَالْحَدِيثُ، فَنَقُولُ: بِمُوجِبِهِمَا لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إنَّ الْخِيَارَ مَتْرُوكٌ؟ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ عَيْنٌ تَبْقَى، وَالْخِيَارُ عَرَضٌ لَا يَبْقَى، فَلَمْ يَكُنْ مَتْرُوكًا، فَلَا يُوَرَّثُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَالثَّالِثُ) إجَازَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنْ تَبَايَعَا عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ، فَأَجَازَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ الْخِيَارُ، وَلَزِمَ الْبَيْعُ عِنْدَهُ حَتَّى لَا يَمْلِكَ صَاحِبُهُ الْفَسْخَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْطُلُ، وَخِيَارُ الْآخَرِ عَلَى حَالِهِ، وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ. ، وَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فِي مُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ لِلْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ لِنَفْسِهِ فِي بَيْعِ مَالِ الصَّبِيِّ هَلْ يَبْطُلُ الْخِيَارُ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَبْطُلُ، وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تُنْقَلُ الْإِجَازَةُ إلَى الصَّبِيِّ، فَلَا يَمْلِكُ الْوَلِيُّ الْإِجَازَةَ لَكِنَّهُ يَمْلِكُ الْفَسْخَ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْوَلِيَّ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الصَّغِيرِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْهُ شَرْعًا لِعَجْزِهِ عَنْ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ زَالَ الْعَجْزُ بِالْبُلُوغِ، فَتَنْتَقِلُ الْإِجَازَةُ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ يَمْلِكُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ دَفْعِ الْحَقِّ، فَيَمْلِكُهُ كَالْفُضُولِيِّ فِي الْبَيْعِ إنَّهُ يَمْلِكُ الْفَسْخَ قَبْلَ إجَازَةِ الْمَالِكِ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ الْإِجَازَةَ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ لِلْوَلِيِّ، وَهُوَ وِلَايَةُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةُ، وَقَدْ بَطَلَ بِالْبُلُوغِ، فَلَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ إلَى الصَّبِيِّ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ. وَلَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ فِي مُدَّةِ خِيَارِ شَرْطِهِ لِنَفْسِهِ فِي الْبَيْعِ بَطَلَ الْخِيَارُ، وَلَزِمَ الْبَيْعُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَجَزَ، وَرُدَّ إلَى الرِّقِّ لَمْ يَبْقَ لَهُ وِلَايَةُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ، فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ ضَرُورَةً كَمَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا حَجَرَ عَلَيْهِ الْمَوْلَى فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ بَطَلَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُحَمَّدٍ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ اشْتَرَى الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ شَيْئًا بِدَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ، وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ؛ جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِمَا، وَالصَّبِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ (أَمَّا) الْجَوَازُ عَلَيْهِمَا؛ فَلِأَنَّ، وِلَايَتَهُمَا قَدْ انْقَطَعَتْ بِالْبُلُوغِ، فَلَا يَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ بِالْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ، فَيَبْطُلُ خِيَارُهُمَا، وَجَازَ الْعَقْدُ فِي حَقِّهِمَا (وَأَمَّا) خِيَارُ الصَّبِيِّ؛ فَلِأَنَّ الْجَوَازَ وَاللُّزُومَ لَمْ يَثْبُتَا فِي حَقِّهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمَا، فَكَانَ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةُ. (وَأَمَّا) خِيَارُ الْمُشْتَرِي، فَيَسْقُطُ بِمَا يُسْقِطُ خِيَارَ الْبَائِعِ، وَبِغَيْرِهِ أَيْضًا، فَيَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَبِمَوْتِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ عِنْدَنَا، وَإِجَازَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْإِجَازَةُ صَرِيحٌ، وَمَا هُوَ فِي مَعْنَى

الصَّرِيحِ، وَدَلَالَةٌ، وَهُوَ أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ كَالْبَيْعِ، وَالْمُسَاوَمَةِ، وَالْإِعْتَاقِ، وَالتَّدْبِيرِ، وَالْكِتَابَةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْهِبَةِ، وَالرَّهْنِ سُلِّمَ أَوْ لَمْ يُسَلَّمْ لِأَنَّ جَوَازَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ، فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهَا يَكُونُ دَلِيلَ قَصْدِ التَّمَلُّكِ أَوْ تَقَرُّرَ الْمِلْكِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ، وَذَا دَلِيلُ الْإِجَازَةِ، وَكَذَا الْوَطْءُ مِنْهُ وَالتَّقْبِيلُ بِشَهْوَةٍ، وَالْمُبَاشَرَةُ لِشَهْوَةٍ، وَالنَّظَرُ إلَى فَرْجِهَا لِشَهْوَةٍ يَكُونُ إجَازَةً مِنْهُ، لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَا يَحِلُّ إلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَأَمَّا الْمَسُّ عَنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ، وَالنَّظَرُ إلَى فَرْجِهَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَلَا يَكُونُ إجَازَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ فِي الْجُمْلَةِ بِدُونِ الْمِلْكِ لِلطَّبِيبِ، وَالْقَابِلَةِ، وَأَمَّا الِاسْتِخْدَامُ، فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ إجَازَةً بِمَنْزِلَةِ الْمَسِّ عَنْ شَهْوَةٍ، وَالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ عَنْ شَهْوَةٍ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَكُونُ إجَازَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ؛ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلتَّجْرِبَةِ، وَالِامْتِحَانِ لِيَنْظُرَ أَنَّهُ يُوَافِقُهُ أَمْ لَا عَلَى أَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ بِأَنْ يَسْأَلَهُ ثَوْبَهُ عِنْدَ إرَادَةِ الرَّدِّ، فَيَرُدَّهُ أَوْ يَسْتَسْرِجَهُ دَابَّتَهُ؛ لِيَرْكَبَهَا، فَيَرُدَّهُ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَلَوْ قَبَّلَتْ الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرِي بِشَهْوَةٍ أَوْ بَاشَرَتْهُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِتَمْكِينٍ بِأَنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْهَا، وَتَرَكَهَا حَتَّى فَعَلَتْ يَسْقُطُ خِيَارُهُ، وَكَذَا هَذَا فِي حَقِّ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ إذَا قَبَّلَتْهُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ، وَكَذَا فِي خِيَارِ الْعَيْبِ إذَا، وَجَدَ بِهَا عَيْبًا ثُمَّ قَبَّلَتْهُ، وَكَذَا فِي الطَّلَاقِ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ كَانَ رَجْعَةً، وَإِنْ اخْتَلَسَتْ اخْتِلَاسًا مِنْ غَيْرِ تَمْكِينِ الْمُشْتَرِي وَالزَّوْجِ، وَهُوَ كَارِهٌ لِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ رَجْعَةً، وَلَا إجَازَةً لِلْبَيْعِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ فِعْلُهَا إجَازَةً لِلْبَيْعِ كَيْفَمَا كَانَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا لَوْ بَاضَعَتْهُ، وَهُوَ نَائِمٌ بِأَنْ أَدْخَلَتْ فَرْجَهُ فَرْجَهَا أَنَّهُ يَسْقُطُ الْخِيَارُ، وَيَكُونُ رَجْعَةً. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْخِيَارَ حَقُّ شَرْطٍ لَهُ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُبْطِلُهُ نَصًّا، وَلَا دَلَالَةً، وَهُوَ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَلَا يَبْطُلُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الِاحْتِيَاطَ يُوجِبُ سُقُوطَ الْخِيَارِ إذْ لَوْ لَمْ يَسْقُطْ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يُفْسَخَ الْبَيْعُ لِتَبْيِينِ أَنَّ الْمَسَّ عَنْ شَهْوَةٍ، وَالتَّمْكِينُ مِنْ الْمَسِّ عَنْ شَهْوَةٍ حَصَلَ فِي غَيْرِ مِلْكٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ، فَكَانَ سُقُوطُ الْخِيَارِ، وَثُبُوتُ الرَّجْعَةِ بِطَرِيقِ الصِّيَانَةِ عَنْ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ، وَأَنَّهُ وَاجِبٌ؛ وَلِأَنَّ الْمَسَّ عَنْ شَهْوَةٍ يُفْضِي إلَى الْوَطْءِ، وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إلَى الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ خُصُوصًا فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ، فَأُقِيمَ ذَلِكَ مَقَامَ الْوَطْءِ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ وَلِهَذَا يَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِالْمَسِّ عَنْ شَهْوَةٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِكَوْنِهِ سَبَبًا مُفْضِيًا إلَى الْوَطْءِ، فَأُقِيمَ مَقَامَهُ كَذَا هَذَا. وَلَوْ قَبَّلَ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ، ثُمَّ قَالَ: قَبَّلْتُهَا لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ كَانَ ثَابِتًا لَهُ، فَهُوَ بِقَوْلِهِ كَانَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ يُنْكِرُ سُقُوطُهُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فِي الْجَارِيَةِ إذَا قَبَّلْت الْمُشْتَرِي بِشَهْوَةٍ إنَّهُ إنَّمَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ، وَيَلْزَمُهُ الْعَقْدُ إذَا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي إنَّهَا، فَعَلَتْ بِشَهْوَةٍ (فَأَمَّا) إذَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِشَهْوَةٍ، فَلَا يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي بِسُقُوطِ حَقِّهِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إقْرَارِهِ، وَلَوْ حَدَثَ فِي الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مَا يَمْنَعُ الرَّدَّ عَلَى الْبَائِعِ بَطَلَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْخِيَارِ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْفَسْخِ وَالرَّدِّ، فَإِذَا خَرَجَ عَنْ احْتِمَالِ الرَّدِّ لَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْخِيَارِ فَائِدَةٌ، فَلَا يَبْقَى، وَذَلِكَ نَحْوَ مَا إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ انْتَقَصَ بِأَنْ تَعَيَّبَ بِعَيْبٍ لَا يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ، فَاحِشًا أَوْ يَسِيرًا، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِفِعْلِ الْبَائِعِ أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أَوْ بِفِعْلٍ أَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ الرَّدَّ. (أَمَّا) الْهَلَاكُ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا النُّقْصَانُ لِفَوَاتِ شَرْطِ الرَّدِّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبَضَ، كَمَا قَبَضَ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْتَقَصَ شَيْءٌ مِنْهُ، فَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْقَدْرِ الْفَائِتِ، فَتَقَرَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ فَوَاتَهُ حَصَلَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، فَلَوْ رَدَّ الْبَاقِي كَانَ ذَلِكَ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ التَّمَامِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِذَا امْتَنَعَ الرَّدُّ بَطَلَ الْخِيَارُ لِمَا قُلْنَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ مَا إذَا انْتَقَصَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِي فِيهِمَا عَلَى خِيَارِهِ عِنْدَهُ إنْ شَاءَ رَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ، وَأَخَذَ الْأَرْشَ مِنْ الْبَائِعِ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ الِاخْتِلَافَ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ كَالْمَرَضِ، فَالْمُشْتَرِي عَلَى خِيَارِهِ إنْ شَاءَ فَسَخَ، وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَارِضٍ عَلَى أَصْلٍ إذَا ارْتَفَعَ يَلْحَقُ بِالْعَدَمِ، وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ إلَّا أَنْ يَرْتَفِعَ الْعَيْبُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ، وَالْعَيْبُ قَائِمٌ بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ، وَلَزِمَ الْبَيْعُ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا ازْدَادَ

الْمَبِيعُ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْأَصْلِ، كَمَا إذَا كَانَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَوْ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ، أَوْ كَانَ أَرْضًا، فَبَنَى عَلَيْهَا أَوْ غَرَسَ فِيهَا أَنَّهُ يَبْطُلُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مَانِعَةٌ مِنْ الرَّدِّ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَانَتْ مُسْقِطَةً لِلْخِيَارِ وَلَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ كَالْحُسْنِ، وَالْجَمَالِ، وَالسِّمَنِ، وَالْبُرْءِ مِنْ الْمَرَضِ، وَانْجِلَاءِ الْبَيَاضِ مِنْ الْعَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَبْطُلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ تَمْنَعُ الرَّدَّ عِنْدَهُمَا، كَمَا فِي الْعَيْبِ فِي الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ، وَعِنْدَهُ لَا تَمْنَعُ، وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ وَاللَّبَنِ وَنَحْوِهَا، أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْأَصْلِ لَكِنَّهَا بَدَلُ الْجُزْءِ الْفَائِتِ كَالْأَرْشِ، أَوْ بَدَلُ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْجُزْءِ كَالْعُقْرِ يَبْطُلُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ الرَّدِّ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْأَصْلِ، وَلَا هِيَ بَدَلُ الْجُزْءِ الْفَائِتِ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْجُزْءِ كَالصَّدَقَةِ وَالْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ، فَلَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ. فَإِنْ اخْتَارَ الْبَيْعَ، فَالزَّوَائِدُ لَهُ مَعَ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَسْبٌ مَلَكَهُ، فَكَانَتْ مِلْكَهُ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفَسْخَ رَدَّ الْأَصْلَ مَعَ الزَّوَائِدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الزَّوَائِدُ تَكُونُ لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ كَانَ مَوْقُوفًا، فَإِذَا فُسِخَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الزِّيَادَةَ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، فَيَرُدُّهَا إلَيْهِ مَعَ الْأَصْلِ، وَعِنْدَهُمَا الْمَبِيعُ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، فَكَانَتْ الزَّوَائِدُ حَاصِلَةً عَلَى مِلْكِهِ، وَالْفَسْخُ يَظْهَرُ فِي الْأَصْلِ لَا فِي الزِّيَادَةِ، فَبَقِيَتْ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي. وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَابَّةً، فَرَكِبَهَا، فَإِنْ رَكِبَهَا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ كَانَ إجَازَةً، وَإِنْ رَكِبَهَا لِيَسْقِيَهَا أَوْ يَشْتَرِيَ لَهَا عَلَفًا أَوْ لِيَرُدَّهَا عَلَى بَائِعِهَا، فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ إجَازَةً؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ قَوْدًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَكُونُ إجَازَةً، وَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ خُصُوصًا إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ صَعْبَةً لَا تَنْقَادُ بِالْقَوْدِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ الرَّدِّ، فَلَا يُجْعَلُ إجَازَةً، وَلَوْ رَكِبَهَا؛ لِيَنْظُرَ إلَى سَيْرِهَا لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ لِلِاخْتِيَارِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ أَنَّهُ إذَا رَكِبَهَا بَعْدَمَا عَلِمَ بِالْعَيْبِ أَنَّهُ يَبْطُلُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ لَهُ مِنْهُ بُدًّا، وَلَا حَاجَةَ إلَى الرُّكُوبِ هُنَاكَ لِمَعْرِفَةِ سَيْرِهَا، فَكَانَ دَلِيلَ الرِّضَا بِالْعَيْبِ. وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا، فَلَبِسَهُ؛ لِيَنْظُرَ إلَى قِصَرِهِ مِنْ طُولِهِ وَعَرْضِهِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِلتَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ أَنَّهُ يُوَافِقُهُ أَمْ لَا، فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ بُدٌّ، وَلَوْ رَكِبَ الدَّابَّةَ؛ لِيَعْرِفَ سَيْرَهَا ثُمَّ رَكِبَهَا مَرَّةً أُخْرَى يُنْظَرُ إنْ رَكِبَهَا لِمَعْرِفَةِ سَيْرٍ آخَرَ غَيْرِ الْأَوَّلِ بِأَنْ رَكِبَهَا مَرَّةً؛ لِيَعْرِفَ أَنَّهَا هِمْلَاجٌ، ثُمَّ رَكِبَهَا ثَانِيًا لِيَعْرِفَ سُرْعَةَ عَدْوِهَا، فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ السَّيْرَيْنِ مَقْصُودَةٌ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَيْهَا فِي بَعْضِ الدَّوَابِّ، وَإِنْ رَكِبَهَا لِمَعْرِفَةِ السَّيْرِ الْأَوَّلِ قَالُوا: يَسْقُطُ خِيَارُهُ، وَكَذَا فِي اسْتِخْدَامِ الرَّقِيقِ إذَا اسْتَخْدَمَهُ فِي نَوْعٍ، ثُمَّ اسْتَخْدَمَهُ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ قَالُوا: يَسْقُطُ خِيَارُهُ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: لَا يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الِاخْتِبَارَ لَا يَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ لِجَوَازِ أَنَّ الْأَوَّلَ، وَقَعَ اتِّفَاقًا، فَيُحْتَاجُ إلَى التَّكْرَارِ لِمَعْرِفَةِ الْعَادَةِ، وَفِي الثَّوْبِ إذَا لَبِسَهُ مَرَّةً لِمَعْرِفَةِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ، ثُمَّ لَبِسَهُ ثَانِيًا يَسْقُطُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَكْرَارِ اللُّبْسِ فِي الثَّوْبِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِاللُّبْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَلَوْ حَمَلَ عَلَى الدَّابَّةِ عَلَفًا، فَهُوَ إجَازَةٌ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ حَمْلُ الْعَلَفِ عَلَى غَيْرِهَا، وَلَوْ قَصَّ حَوَافِرَهَا أَوْ أَخَذَ مِنْ عُرْفِهَا شَيْئًا، فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ إذْ هُوَ مِنْ بَابِ إصْلَاحِ الدَّابَّةِ، فَيَمْلِكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ، وَيَكُونُ مَأْذُونًا فِيهِ دَلَالَةً، كَمَا إذَا عَلَفَهَا أَوْ سَقَاهَا، وَلَوْ وَدَجَهَا أَوْ بَزَغَهَا، فَهُوَ إجَازَةٌ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهَا بِالتَّنْقِيصِ، فَإِنْ كَانَ شَاةً، فَحَلَبَهَا أَوْ شَرِبَ لَبَنَهَا، فَهُوَ إجَازَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْمِلْكِ أَوْ الْإِذْنِ مِنْ الْمَالِكِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى قَصْدِ التَّمَلُّكِ أَوْ التَّقْرِيرِ، فَيَكُونُ إجَازَةً. ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا، فَسَكَنَهَا الْمُشْتَرِي، أَوْ أَسْكَنَهَا غَيْرَهُ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرٍ أَجْرٍ، أَوْ رَمَّ شَيْئًا مِنْهَا، أَوْ جَصَّصَهَا، أَوْ طَيَّنَهَا، أَوْ أَحْدَثَ فِيهَا شَيْئًا، أَوْ هَدَمَ فِيهَا شَيْئًا، فَذَلِكَ كُلُّهُ إجَازَةٌ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْمِلْكِ أَوْ تَقْرِيرِهِ، فَكَانَ إجَازَةً دَلَالَةً، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ فِي سُكْنَى الْمُشْتَرِي رِوَايَتَانِ، وَوَفَّقَ بَيْنَهُمَا، فَحَمَلَ إحْدَاهُمَا عَلَى ابْتِدَاءِ السُّكْنَى، وَالْأُخْرَى عَلَى الدَّوَامِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ فِيهَا سَاكِنٌ بِأَجْرٍ، فَبَاعَهَا الْبَائِعُ بِرِضَا الْمُسْتَأْجِرِ، وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، فَتَرَكَهُ الْمُشْتَرِي فِيهَا أَوْ اسْتَأْوَى الْغَلَّةَ، فَهُوَ إجَازَةٌ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ، فَكَانَ أَخْذُهَا دَلَالَةً قَصْدَ تَمَلُّكِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ تَقْرِيرَ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ، وَذَلِكَ قَصَدَ تَمَلُّكَ الدَّارِ أَوْ تَقَرَّرَ مِلْكِهِ فِيهَا، فَكَانَ إجَازَةً. ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ أَرْضًا فِيهَا حَرْثٌ، فَسَقَاهُ أَوْ حَصَدَهُ أَوْ قَصَلَ مِنْهُ شَيْئًا، فَهُوَ إجَازَةٌ؛ لِأَنَّ السَّقْيَ تَصَرُّفٌ فِي الْحَرْثِ بِالتَّزْكِيَةِ، فَكَانَ فِي دَلِيلِ اخْتِيَارِ الْبَيْعِ وَإِيجَابِهِ

وَكَذَلِكَ الْقَصْلُ تَصَرُّفٌ فِيهِ بِالتَّنْقِيصِ، فَكَانَ دَلِيلَ قَصْدِ التَّمَلُّكِ أَوْ التَّقَرُّرِ، وَلَوْ شَرِبَ مِنْ نَهْرِ تِلْكَ الْأَرْضِ أَوْ سَقَى مِنْهُ دَوَابَّهُ لَا يَكُونُ إجَازَةً؛ لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ لَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ. ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ رَحًى، فَطَحَنَ فِيهَا، فَإِنْ هُوَ طَحَنَ؛ لِيَعْرِفَ مِقْدَارَ طَحْنِهَا، فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ مَا شُرِعَ لَهُ الْخِيَارُ، وَلَوْ دَامَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ إجَازَةً؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الزِّيَادَةِ لِلِاخْتِيَارِ، فَكَانَ دَلِيلَ الرِّضَا بِوُجُوبِ الْبَيْعِ. (وَأَمَّا) خِيَارُ الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي جَمِيعًا، فَيَسْقُطُ بِمَا يَسْقُطُ بِهِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ، فَأَيَّهُمَا أَجَازَ صَرِيحًا أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ أَوْ فَعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِجَازَةِ بَطَلَ خِيَارُهُ، وَلَزِمَ الْبَيْعُ مِنْ جَانِبِهِ، وَالْآخَرُ عَلَى خِيَارِهِ إنْ شَاءَ أَجَازَ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ، وَأَيَّهُمَا فَسَخَ صَرِيحًا أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ أَوْ، فَعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسْخِ انْفَسَخَ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ مِنْ صَاحِبِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ تَصَرُّفٌ فِي الْعَقْدِ بِالْإِبْطَالِ، وَالْعَقْدُ بَعْدَ مَا بَطَلَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ؛ لِأَنَّ الْبَاطِلَ مُتَلَاشٍ (وَأَمَّا) الْإِجَازَةُ، فَهِيَ تَصَرُّفٌ فِي الْعَقْدِ بِالتَّغْيِيرِ، وَهُوَ الْإِلْزَامُ لَا بِالْإِعْدَامِ، فَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ احْتِمَالِ الْفَسْخِ، وَالْإِجَازَةِ، وَلَوْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا، وَفَسَخَ الْآخَرُ انْفَسَخَ الْعَقْدُ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى التَّعَاقُبِ أَوْ عَلَى الْقِرَانِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ أَقْوَى مِنْ الْإِجَازَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْحَقُ الْإِجَازَةَ، فَإِنَّ الْمُجَازَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، فَأَمَّا الْإِجَازَةُ، فَلَا تَلْحَقُ الْفَسْخَ، فَإِنَّ الْمَفْسُوخَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ، فَكَانَ الْفَسْخُ أَقْوَى مِنْ الْإِجَازَةِ، فَكَانَ أَوْلَى. وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْفَسْخِ، وَالْإِجَازَةِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: فَسَخْنَا الْبَيْعَ، وَقَالَ الْآخَرُ: لَا بَلْ أَجَزْنَا الْبَيْعَ جَمِيعًا، فَاخْتِلَافُهُمَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمُدَّةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْفَسْخَ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ، وَأَحَدَهُمَا لَا يَنْفَرِدُ بِالْإِجَازَةِ، وَلَوْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مَنْ يَدَّعِي الْإِجَازَةَ؛ لِأَنَّهُ الْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَضَتْ الْمُدَّةُ بَعْدَ الْفَسْخِ، وَقَالَ الْآخَرُ: بَعْدَ الْإِجَازَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْإِجَازَةَ؛ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ الْجَوَازِ، وَهُوَ مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَتَرَجَّحَ جَانِبُهُ بِشَهَادَةِ الْحَالِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَوْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَمْرًا بِخِلَافِ الظَّاهِرِ، وَالْبَيِّنَاتُ شُرِعَتْ لَهُ. وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِأَحَدِهِمَا، وَاخْتَلَفَا فِي الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ سَوَاءٌ ادَّعَى الْفَسْخَ أَوْ الْإِجَازَةَ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي، وَلَوْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْإِجَازَةَ أَيَّهُمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ الْجَوَازِ، وَهِيَ مَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَلَوْ أُرِّخَتْ الْبَيِّنَاتُ فِي هَذَا كُلِّهِ، فَأَسْبَقُهُمَا تَارِيخًا أَوْلَى سَوَاءٌ قَامَتْ عَلَى الْفَسْخِ أَوْ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ، وَإِنْ كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ لِغَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ بِأَنْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا الْخِيَارَ لِأَجْنَبِيٍّ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَلِلشَّارِطِ، وَالْمَشْرُوطِ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ. وَأَيُّهُمَا أَجَازَ جَازَ، وَأَيُّهُمَا، فَسَخَ انْفَسَخَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ شَارِطًا لِنَفْسِهِ مُقْتَضَى الشَّرْطِ لِغَيْرِهِ، وَصَارَ الْمَشْرُوطُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ لِلشَّارِطِ فِي الْفَسْخِ، وَالْإِجَازَةِ، فَإِنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا، وَفَسَخَ الْآخَرُ، فَإِنْ كَانَا عَلَى التَّعَاقُبِ، فَأَوَّلُهُمَا أَوْلَى، فَسْخًا كَانَ أَوْ إجَازَةً؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالشَّرْطِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، فَأَيُّهُمَا سَبَقَ، وُجُودُهُ بَطَلَ الْآخَرُ، وَإِنْ كَانَا مَعًا ذُكِرَ فِي الْبُيُوعِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ عَنْ، وِلَايَةِ الْمِلْكِ أَوْلَى نَقْضًا كَانَ أَوْ إجَازَةً، وَذَكَرَ فِي الْمَأْذُونِ أَنَّ النَّقْضَ أَوْلَى مِنْ أَيِّهِمَا كَانَ (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْبُيُوعِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ صَدَرَ عَنْ وِلَايَةِ الْمِلْكِ، فَلَا يُعَارِضُهُ الصَّادِرُ عَنْ وِلَايَةِ النِّيَابَةِ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْمَأْذُونِ أَنَّ النَّقْضَ أَوْلَى مِنْ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ الْمُجَازَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، أَمَّا الْمَفْسُوخُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ، فَكَانَ الرُّجْحَانُ فِي الْمَأْذُونِ لِلنَّقْضِ مِنْ أَيِّهِمَا كَانَ، وَقِيلَ مَا رُوِيَ فِي الْبُيُوعِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ يُقَدِّمُ وِلَايَةَ الْمِلْكِ عَلَى وِلَايَةِ النِّيَابَةِ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْمَأْذُونِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى تَقْدِيمَ وِلَايَةِ الْمِلْكِ، وَأَصْلُهُ مَا ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ مِنْ إنْسَانٍ وَبَاعَ الْمَالِكُ مِنْ غَيْرِهِ، وَخَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعَ أَنَّ بَيْعَ الْمُوَكِّلِ أَوْلَى عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُجْعَلُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَيُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَنْفَسِخُ بِهِ، فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ مَا يَنْفَسِخُ بِهِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ شَرَائِطِهِ، فَنَقُولُ: وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ مَا يَنْفَسِخُ بِهِ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ، وَالِاخْتِيَارِيُّ نَوْعَانِ: أَيْضًا صَرِيحٌ، وَمَا هُوَ فِي مَعْنَى الصَّرِيحِ، وَدَلَالَةٌ (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَنَحْوَ أَنْ يَقُولَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، فَسَخْتُ الْبَيْعَ أَوْ نَقَضْتُهُ أَوْ أَبْطَلْتُهُ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى، فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ سَوَاءٌ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ

لِلْمُشْتَرِي أَوْ لَهُمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا، وَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ التَّرَاضِي، وَلَا قَضَاءُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ حَصَلَ بِتَسْلِيطِ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ. (وَأَمَّا) الْفَسْخُ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ، فَهُوَ أَنْ يَتَصَرَّفَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ إنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، وَفِي الثَّمَنِ إنْ كَانَ عَيْنًا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ إذَا كَانَ لِلْبَائِعِ، فَتَصَرُّفُهُ فِي الْمَبِيعِ تَصَرُّفُ الْمُلَّاكِ دَلِيلُ اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي، فَتَصَرُّفُهُ فِي الثَّمَنِ إذَا كَانَ عَيْنًا تَصَرُّفُ الْمُلَّاكِ دَلِيلُ اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالْفَسْخِ، فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ يَكُونُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ دَلَالَةً، وَالْحَاصِلُ إنْ وُجِدَ مِنْ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ مَا لَوْ وُجِدَ مِنْهُ فِي الثَّمَنِ؛ لَكَانَ إجَازَةً لِلْبَيْعِ يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْفَسْخِ لَا يَقِفُ عَلَى عِلْمِ صَاحِبِهِ بِلَا خِلَافٍ بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الِانْفِسَاخَ هَهُنَا لَا يَثْبُتُ بِالْفَسْخِ مَقْصُودًا، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ ضِمْنًا لِغَيْرِهِ، فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ مَا يُشْتَرَطُ لِلْفَسْخِ مَقْصُودًا كَبَيْعِ الشِّرْبِ، وَالطَّرِيقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَقْصُودًا، وَيَجُوزُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الضَّرُورِيُّ، فَنَحْوَ أَنْ يَهْلِكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ سَوَاءٌ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَاتًّا لَبَطَلَ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْهُ، وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ، فَكَذَلِكَ يَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَلَكِنْ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ، وَالْمِثْلُ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ إمَّا بُطْلَانُ الْبَيْعِ، فَلِأَنَّ الْمَبِيعَ صَارَ بِحَالٍ لَا يَحْتَمِلُ إنْشَاءَ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ، فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ ضَرُورَةً. وَأَمَّا لُزُومُ الْقِيمَةِ، فَقَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إنَّهُ يَهْلِكُ أَمَانَةً (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْخِيَارَ مَنَعَ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، فَكَانَ الْمَبِيعُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْبَائِعِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَيَهْلِكُ هَلَاكَ الْأَمَانَاتِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْبَيْعَ، وَإِنْ لَمْ يَنْعَقِدْ فِي حَقِّ الْحُكْمِ لَكِنَّ الْمَبِيعَ فِي قَبْضِ الْمُشْتَرِي عَلَى حُكْمِ الْبَيْعِ، فَلَا يَكُونُ دُونَ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ بَلْ هُوَ فَوْقَهُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ الْعَقْدُ لَا بِنَفْسِهِ، وَلَا بِحُكْمِهِ، وَهَهُنَا إنْ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْعَقْدِ، فَقَدْ وُجِدَ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ أَوْ بِالْمِثْلِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَلَكِنْ يَبْطُلُ الْخِيَارُ، وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ، وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ إمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا، فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ، فَإِذَا قَبَضَهُ، فَقَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، فَإِذَا هَلَكَ يَهْلِكُ مَضْمُونًا بِالثَّمَنِ، كَمَا كَانَ فِي الْبَيْعِ الْبَاتِّ. (وَإِمَّا) عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَالْمُشْتَرِي، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهُ، فَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ مَا يَمْنَعُ الرَّدَّ، وَهُوَ التَّعَيُّبُ بِعَيْبٍ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ فِي يَدِهِ لَا يَخْلُو عَنْ تَقَدُّمِ عَيْبٍ عَادَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ سَبَبِ مَوْتِهِ فِي الْهَلَاكِ عَادَةً، وَأَنَّهُ يَكُونُ عَيْبًا، وَتَعَيُّبُ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ الرَّدَّ، وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا هَلَكَ يَهْلِكُ بِالثَّمَنِ. وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْمَبِيعَ أَجْنَبِيٌّ، وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، وَالْبَائِعُ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّهُ يَهْلِكُ إلَى خَلَفٍ، وَهُوَ الضَّمَانُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ لِلضَّمَانِ، وَهُوَ إتْلَافُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ، وَالْهَالِكُ إلَى خَلَفٍ قَائِمٌ مَعْنًى، فَكَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا، فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْإِجَازَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَوْ فِي يَدِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، فَإِنْ شَاءَ، فَسَخَ الْبَيْعَ، وَاتَّبَعَ الْجَانِي بِالضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ بِالِاسْتِهْلَاكِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَالضَّمَانُ بَدَلُ الْمَضْمُونِ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ، فَكَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا مَعْنًى، فَكَانَ الْخِيَارُ عَلَى حَالِهِ إنْ شَاءَ، فَسَخَ الْبَيْعَ، وَاتَّبَعَ الْمُشْتَرِي بِالضَّمَانِ، وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ، وَاتَّبَعَهُ بِالثَّمَنِ. وَلَوْ تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَإِنْ كَانَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّ مَا انْتَقَصَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ، فَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ حَيْثُ لَا يَسْقُطُ بِحِصَّتِهِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، فَلَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الضَّمَانِ بِإِبْقَاءِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ، وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ، فَإِنْ أَجَازَهُ، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَغَيُّرِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ بَطَلَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ مَا انْتَقَصَ بِفِعْلِهِ، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْقُطَ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ قَدْرِ النُّقْصَانِ مِنْ الثَّمَنِ، فَالْإِجَازَةُ تَتَضَمَّنُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ التَّمَامِ، وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ لَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ، وَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّ قَدْرَ النُّقْصَانِ هَلَكَ إلَى خَلَفٍ، وَهُوَ الضَّمَانُ، فَكَانَ قَائِمًا مَعْنًى، وَلَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْهَالِكِ. فَكَانَ الْبَائِعُ عَلَى خِيَارِهِ إنْ شَاءَ؛ فَسَخَ الْبَيْعَ، وَاتَّبَعَ الْجَانِيَ بِالْأَرْشِ، وَإِنْ شَاءَ؛ أَجَازَ، وَاتَّبَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَالْمُشْتَرِي يَتَّبِعُ الْجَانِي بِالْأَرْشِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَعَيَّبَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَالْبَائِعُ

عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، فَكَانَ قَدْرُ النُّقْصَانِ مَضْمُونًا عَلَى الْمُشْتَرِي، فَكَانَ هَلَاكًا إلَى خَلَفٍ، فَكَانَ الْبَيْعُ عَلَى حَالِهِ، وَالْبَائِعُ عَلَى خِيَارِهِ إنْ شَاءَ؛ فَسَخَ الْبَيْعَ، وَاتَّبَعَ الْمُشْتَرِيَ بِالضَّمَانِ، وَإِنْ شَاءَ؛ أَجَازَهُ، وَاتَّبَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ إذَا تَعَيَّبَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أَوْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ. فَالْبَائِعُ عَلَى خِيَارِهِ، فَإِنْ شَاءَ؛ أَجَازَ الْبَيْعَ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ، فَإِنْ أَجَازَ؛ أَخَذَ مِنْ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ سَوَاءٌ كَانَ التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ جَازَ فِي الْكُلِّ، وَلَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الرَّدِّ بِحُدُوثِ التَّغَيُّرِ فِي الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ فِي يَدِهِ فِي ضَمَانِهِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي، فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ، فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَّبِعَ الْجَانِي بِالْأَرْشِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَبْدَ بِإِجَازَةِ الْبَائِعِ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ فَسَخَ يُنْظَرُ إنْ كَانَ التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْبَائِعَ يَأْخُذُ الْبَاقِي، وَيَأْخُذُ أَرْشَ الْجِنَايَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ، وَبِالْفَسْخِ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ رَدِّ قَدْرِ الْفَائِتِ، فَيَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهِ. وَكَذَا إذَا تَعَيَّبَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَ التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ، فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ؛ اتَّبَعَ الْأَجْنَبِيَّ بِالْأَرْشِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ شَاءَ؛ اتَّبَعَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ اخْتَارَ اتِّبَاعَ الْأَجْنَبِيِّ؛ فَالْأَجْنَبِيُّ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ، وَإِنْ اخْتَارَ اتِّبَاعَ الْمُشْتَرِي، فَالْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ مِنْ الْأَرْشِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَامَ مَقَامَ الْبَائِعِ فِي حَقِّ مِلْكِ بَدَلِ الْفَائِتِ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ فِي حَقِّ مِلْكِ نَفْسِ الْفَائِتِ كَغَاصِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا قُتِلَ الْمُدَبَّرُ فِي يَدِهِ، وَضَمِنَهُ لِلْمَالِكِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْقَاتِلِ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَ الْمُدَبَّرِ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) شَرَائِطُ جَوَازِ الْفَسْخِ، فَمِنْهَا قِيَامُ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ إذَا بَطَلَ، فَقَدْ لَزِمَ الْبَيْعُ، فَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَمِنْهَا عِلْمُ صَاحِبِهِ بِالْفَسْخِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ حَتَّى لَوْ فُسِخَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَانَ فَسْخُهُ مَوْقُوفًا عِنْدَهُمَا إنْ عَلِمَ صَاحِبُهُ بِفَسْخِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ نَفَذَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ لَزِمَ الْعَقْدُ، وَكَذَا لَوْ أَجَازَ الْفَاسِخُ الْعَقْدَ؛ نَفَذَ فَسْخُهُ قَبْلَ عِلْمِ صَاحِبِهِ وَجَازَتْ إجَازَتُهُ، وَلَزِمَ الْعُقَدُ وَبَطَلَ فَسْخُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ: عِلْمُ صَاحِبِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ فُسِخَ يَصِحُّ فَسْخُهُ عَلِمَ صَاحِبُهُ بِالْفَسْخِ أَوْ لَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ، فَصَلَ بَيْنَ خِيَارِ الْبَائِعِ، وَخِيَارِ الْمُشْتَرِي، فَلَمْ يَشْتَرِطْ الْعِلْمَ فِي خِيَارِ الْبَائِعِ، وَشَرَطَ فِي خِيَارِ الْمُشْتَرِي. (وَأَمَّا) خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي خِيَارِ الْعَيْبِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْفَسْخِ فِيهِ شَرْطٌ سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ أَوْ قَبْلَهُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَزْلَ الْمُوَكِّلِ وَكِيلَهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، وَإِنْ، فَسَخَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الشَّرِكَةَ أَوْ نَهَى رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ عَنْ التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ لَا يَصِحُّ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ بِغَيْرِ عِلْمِ صَاحِبِهِ، فَيَمْلِكُ الْفَسْخَ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَصَلَ بِتَسْلِيطِ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ وَرِضَاهُ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّوَقُّفِ عَلَى عِلْمِهِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفَسْخَ لَوْ نَفَذَ بِغَيْرِ عِلْمِ صَاحِبِهِ لَتَضَرَّرَ بِهِ صَاحِبُهُ، فَلَا يَنْفُذُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ كَالْمُوَكِّلِ إذَا عَزَلَ، وَكِيلَهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، وَبَيَانُ الضَّرَرِ أَنَّ صَاحِبَهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْفَسْخِ، فَتَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مِلْكَهُ، فَلَوْ جَازَ الْفَسْخُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ؛ لَتَبَيَّنَ أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ عَزْلُ الْوَكِيلِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَذَا هَذَا بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ، وَكَذَا لَا ضَرَرَ فِي بَيْعِ الْوَكِيلِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْفَسْخِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْإِجَازَةَ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْلَ تَمَامِهَا، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ. (وَأَمَّا) الْخِيَارُ الثَّابِتُ بِالشَّرْطِ دَلَالَةً، فَهُوَ خِيَارُ الْعَيْبِ، وَالْكَلَامُ فِي. بَيْعِ الْمَعِيبِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ حُكْمِهِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ، وَفِي بَيَانِ تَفْسِيرِ الْعَيْبِ الَّذِي يُوجِبُ الْخِيَارَ، وَتَفْصِيلِ الْمُفَسَّرِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ، وَفِي طَرِيقِ إثْبَاتِ الْعَيْبِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الرَّدِّ، وَالْفَسْخِ بِالْعَيْبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَلْزَمُهُ الْخُصُومَةُ فِي الْعَيْبِ، وَمَنْ لَا تَلْزَمُهُ، وَفِي بَيَانِ مَا يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ، وَفِي بَيَانِ مَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، وَمَا لَا يَمْنَعُ، وَفِي بَيَانِ طَرِيقِ الرُّجُوعِ. (أَمَّا) حُكْمُهُ، فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ مُطْلَقٌ عَنْ الشَّرْطِ، وَالثَّابِتُ بِدَلَالَةِ

النَّصِّ شَرْطُ السَّلَامَةِ لَا شَرْطُ السَّبَبِ، وَلَا شَرْطُ الْحُكْمِ، وَأَثَرُهُ فِي مَنْعِ اللُّزُومِ لَا فِي مَنْعِ أَصْلِ الْحُكْمِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ هُنَاكَ دَخَلَ عَلَى السَّبَبِ، فَيَمْنَعُ انْعِقَادَهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ. (وَأَمَّا) صِفَتُهُ، فَهِيَ أَنَّهُ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ السَّلَامَةَ شَرْطٌ فِي الْعَقْدِ دَلَالَةً، فَمَا لَمْ يُسَلَّمْ الْمَبِيعُ لَا يَلْزَمُ الْبَيْعُ، فَلَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ السَّلَامَةَ مَشْرُوطَةٌ فِي الْعَقْدِ دَلَالَةً أَنَّ السَّلَامَةَ فِي الْبَيْعِ مَطْلُوبَةُ الْمُشْتَرِي عَادَةً إلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَبِيعِ، وَلَا يَتَكَامَلُ انْتِفَاعُهُ إلَّا بِقَيْدِ السَّلَامَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ جَمِيعَ الثَّمَنِ إلَّا لِيُسَلَّمَ لَهُ جَمِيعُ الْمَبِيعِ، فَكَانَتْ السَّلَامَةُ مَشْرُوطَةً فِي الْعَقْدِ دَلَالَةً، فَكَانَتْ كَالْمَشْرُوطَةِ نَصًّا، فَإِذَا، فَاتَتْ الْمُسَاوَاةُ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، كَمَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ أَوْ عَلَى أَنَّهَا طَبَّاخَةٌ، فَلَمْ يَجِدْهَا كَذَلِكَ، وَكَذَا السَّلَامَةُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَالْمُعَاوَضَاتُ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُسَاوَاةِ عَادَةً وَحَقِيقَةً، وَتَحْقِيقُ الْمُسَاوَاةِ فِي مُقَابَلَةِ الْبَدَلِ بِالْمُبْدَلِ، وَالسَّلَامَةِ بِالسَّلَامَةِ، فَكَانَ إطْلَاقُ الْعَقْدِ مُقْتَضِيًا لِلسَّلَامَةِ، فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ الْمَبِيعُ لِلْمُشْتَرِي يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ قَدْرِ الْفَائِتِ بِالْعَيْبِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِهِ، فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ، وَلِأَنَّ السَّلَامَةَ لَمَّا كَانَتْ مَرْغُوبَةَ الْمُشْتَرِي، وَلَمْ يَحْصُلْ، فَقَدْ اخْتَلَّ رِضَاهُ، وَهَذَا يُوجِبُ الْخِيَارَ؛ لِأَنَّ الرِّضَا شَرْطُ صِحَّةِ الْبَيْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، فَانْعِدَامُ الرِّضَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ، وَاخْتِلَالُهُ يُوجِبُ الْخِيَارَ فِيهِ إثْبَاتًا لِلْحُكْمِ عَلَى قَدْرِ الدَّلِيلِ، وَالْأَصْلُ فِي شَرْعِيَّةِ هَذَا الْخِيَارِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً، فَوَجَدَهَا مُصَرَّاةً، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَفِي رِوَايَةٍ، فَهُوَ بِأَحَدِ النَّظَرَيْنِ إلَى ثَلَاثَةٍ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ، وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ» ، وَالنَّظَرَانِ الْمَذْكُورَانِ هُمَا نَظَرُ الْإِمْسَاكِ وَالرَّدِّ، وَذِكْرُ الثَّلَاثِ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ لِلتَّوْقِيتِ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْخِيَارِ لَيْسَ بِمُوَقَّتٍ بَلْ هُوَ بِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَى الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَى إنْ كَانَ بِهِ عَيْبٌ يَقِفُ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عَادَةً، فَيَرْضَى بِهِ، فَيُمْسِكُهُ أَوْ لَا يَرْضَى بِهِ، فَيَرُدُّهُ، وَالصَّاعُ مِنْ التَّمْرِ كَأَنَّهُ قِيمَةُ اللَّبَنِ الَّذِي حَلَبَهُ الْمُشْتَرِي عَلِمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِطَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) تَفْسِيرُ الْعَيْبِ الَّذِي يُوجِبُ الْخِيَارَ، وَتَفْصِيلُ الْمُفَسَّرِ، فَكُلُّ مَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الثَّمَنِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ نُقْصَانًا فَاحِشًا أَوْ يَسِيرًا، فَهُوَ عَيْبٌ يُوجِبُ الْخِيَارَ، وَمَا لَا فَلَا نَحْوَ الْعَمَى وَالْعَوَرِ وَالْحَوَلِ وَالْقَبَلِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْحَوْلِ مَصْدَرُ الْأَقْبَلِ، وَهُوَ الَّذِي كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى طَرَفِ أَنْفِهِ، وَالسَّبَلِ، وَهُوَ زِيَادَةٌ فِي الْأَجْفَانِ، وَالْعَشَا مَصْدَرُ الْأَعْشَى، وَهُوَ الَّذِي لَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ، وَالْخَوَصِ مَصْدَرُ الْأَخْوَصِ، وَهُوَ غَائِرُ الْعَيْنِ، وَالْحَوَصِ مَصْدَرُ الْأَحْوَصِ، وَهُوَ الضَّيِّقُ مُؤَخَّرِ الْعَيْنِ، وَالْغَرَبِ وَهُوَ وَرَمٌ فِي الْآمَاقِ، وَهِيَ أَطْرَافُ الْعَيْنِ الَّتِي تَلِي الْأَنْفَ، وَقِيلَ هُوَ دُرُورُ الدَّمْعِ دَائِمًا، وَالظَّفَرَةُ، وَهِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ ناخنه، وَالشَّتَرِ، وَهُوَ انْقِلَابُ جَفْنِ الْعَيْنِ وَالْبَرَصِ وَالْقَرَعِ، وَالسَّلْعِ وَالشَّلَلِ وَالزَّمَانَةِ، وَالْفَدَعِ، وَهُوَ اعْوِجَاجٌ فِي الرُّسْغِ مِنْ الْيَدِ أَوْ الرِّجْلِ وَالْفَجَجِ مَصْدَرُ الْأَفْجَجُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَدَانَى عَقِبَاهُ، وَيَنْكَشِفُ سَاقَاهُ فِي الْمَشْيِ، وَالصَّكَكِ مَصْدَرُ الْأَصَكِّ، وَهُوَ الَّذِي تَصْطَكُّ رُكْبَتَاهُ. وَالْحَنَفُ مَصْدَرُ الْأَحْنَفِ، وَهُوَ الَّذِي أَقْبَلَتْ إحْدَى إبْهَامِ رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، وَالْبَزَا مَصْدَرُ الْأَبْزَى، وَهُوَ خُرُوجُ الصَّدْرِ، وَالْعُسْرِ مَصْدَرُ الْأَعْسَرِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ بِشِمَالِهِ، وَالْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ وَالنَّاقِصَةِ وَالسِّنِّ الشَّاغِيَةِ وَالسَّوْدَاءِ وَالنَّاقِصَةِ وَالظُّفْرِ الْأَسْوَدِ، وَالْبَخَرِ، وَهُوَ نَتْنُ الْفَمِ فِي الْجَوَارِي لَا فِي الْعَبِيدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ عَنْ دَاءٍ، وَالزَّفَرِ، وَهُوَ نَتْنُ الْإِبِطِ فِي الْجَارِيَةِ لَا فِي الْغُلَامِ إلَّا أَنْ يَفْحُشَ، فَيَكُونُ عَيْبًا فِيهِمَا جَمِيعًا، وَالْأَدَرِ مَصْدَرُ الْأُدْرَةِ، وَهُوَ الَّذِي بِهِ أُدْرَةٌ يُقَالُ لَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ: فَتْحُ، وَالرَّتَقِ وَهُوَ انْسِدَادُ فَرْجِ الْجَارِيَةِ وَالْفَتْقِ وَهُوَ انْفِتَاحُ فَرْجِهَا وَالْقَرَنِ، وَهُوَ فِي النِّسَاءِ كَالْأُدْرَةِ فِي الرِّجَالِ وَالشَّمَطِ، وَالشَّيْبِ فِي الْجَوَارِي وَالْعَبِيدِ وَالسَّلُول وَالْقُرُوحِ وَالشِّجَاجِ وَالْأَمْرَاضِ كُلِّهَا وَالْحَبَلِ فِي الْجَوَارِي لَا فِي الْبَهَائِمِ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الْبَهِيمَةِ، وَحَذْفِ الْحُرُوفِ فِي الْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ أَوْ فِي بَعْضِهِ، وَالزِّنَا فِي الْجَارِيَةِ لَا فِي الْغُلَامِ؛ لِأَنَّهُ يُفْسِدُ الْفِرَاشَ، وَقَدْ يُقْصَدُ الْفِرَاشُ فِي الْإِمَاءِ بِخِلَافِ الْغُلَامِ إلَّا إذَا فَحُشَ. وَصَارَ اتِّبَاعُ النِّسَاءِ عَادَةً لَهُ، فَيَكُونُ عَيْبًا فِيهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَعْطِيلَ مَنَافِعِهِ عَلَى الْمَوْلَى، وَكَذَا إذَا ظَهَرَ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَهُوَ عَيْبٌ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: بِبَلْخٍ: الزِّنَا يَكُونُ عَيْبًا فِي الْغُلَامِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ، فَلَا يُسْتَخْدَمُ

وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ الْكَبِيرَ لَا يُشْتَرَى لِلِاسْتِخْدَامِ فِي الْبَيْتِ بَلْ لِلْأَعْمَالِ الْخَارِجَةِ، وَكَوْنُ الْمُشْتَرَى وَلَدَ الزِّنَا فِي الْجَارِيَةِ لَا فِي الْعَبِيدِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَدْ يُقْصَدُ الْفِرَاشُ مِنْ الْجَوَارِي، فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ يُعَيَّرُ وَلَدُهُ بِأُمِّهِ بِخِلَافِ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَى لِلْخِدْمَةِ عَادَةً، وَالْكُفْرُ فِي الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ عَيْبٌ؛ لِأَنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَنْفِرُ عَنْ صُحْبَةِ الْكَافِرِ. (وَأَمَّا) الْإِسْلَامُ، فَلَيْسَ بِعَيْبٍ بِأَنْ اشْتَرَى نَصْرَانِيٌّ عَبْدًا، فَوَجَدَهُ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ زِيَادَةٌ، وَالنِّكَاحُ فِي الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ مَمْلُوكَةٌ لِلزَّوْجِ، وَالْعَبْدُ يُبَاعُ فِي الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِي ثَمَنِهِمَا، وَالْعِدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لَا مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ؛ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الْبَائِنِ، وَالثَّلَاثِ، وَاحْتِبَاسُ الْحَيْضَةِ فِي الْجَارِيَةِ الْبَالِغَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً شَهْرَانِ فَصَاعِدًا، وَالِاسْتِحَاضَةُ؛ لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْحَيْضِ فِي أَوَانِهِ لَا يَكُونُ إلَّا لِدَاءٍ عَادَةً، وَكَذَا اسْتِمْرَارُ الدَّمِ فِي أَيَّامِ الطُّهْرِ، وَالْإِحْرَامُ فِي الْجَارِيَةِ لَيْسَ بِعَيْبٍ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ إزَالَتَهُ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا، وَالْحُرْمَةُ بِالرَّضَاعِ أَوْ الصِّهْرِيَّةِ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْجَوَارِيَ لَا يُشْتَرَيْنَ لِلِاسْتِمْتَاعِ عَادَةً بَلْ لِلِاسْتِخْدَامِ فِي الْبَيْتِ، وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ لَا تَقْدَحُ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ النِّكَاحِ حَيْثُ يَكُونُ عَيْبًا، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ إلَّا حُرْمَةُ الِاسْتِمْتَاعِ؛ لِأَنَّهُ يَخِلُّ بِالِاسْتِخْدَامِ. وَالثِّيَابَةُ فِي الْجَارِيَةِ لَيْسَ بِعَيْبٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ اشْتَرَاهَا عَلَى شَرْطِ الْبَكَارَةِ، فَيَرُدَّهَا بَعْدَ الشَّرْطِ، وَالدَّيْنُ وَالْجِنَايَةُ؛ لِأَنَّهُ يُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ، وَيُبَاعُ بِالدَّيْنِ، وَالْجَهْلُ بِالطَّبْخِ وَالْخَبْزِ فِي الْجَارِيَةِ لَيْسَ بِعَيْبٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الثَّمَنِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ بَلْ هُوَ حِرْفَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهَا، فَانْعِدَامُهُ لَا يَكُونُ عَيْبًا إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ، فَيَرُدَّهَا لِفَوَاتِ الشَّرْطِ لَا لِلْعَيْبِ، وَلَوْ كَانَتْ تُحْسِنُ الطَّبْخَ وَالْخَبْزَ فِي يَدِ الْبَائِعِ، ثُمَّ نَسِيَتْ فِي يَدِهِ، فَاشْتَرَاهَا فَوَجَدَهَا لَا تُحْسِنُ ذَلِكَ رَدَّهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ تُحْسِنُ ذَلِكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَهِيَ صِفَةٌ مَرْغُوبَةٌ تُشْتَرَى لَهَا الْجَارِيَةُ عَادَةً. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَاهَا رَغْبَةً فِيهَا، فَصَارَتْ مَشْرُوطَةً دَلَالَةً، فَيَرُدُّهَا لِانْعِدَامِ الْمَشْرُوطِ، كَمَا لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ نَصًّا، وَانْعِدَامُ الْخِتَانِ فِي الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ إذَا كَانَا مَوْلُودَيْنِ كَبِيرَيْنِ، فَإِنْ كَانَا مَوْلُودَيْنِ صَغِيرَيْنِ، فَلَيْسَ بِعَيْبٍ؛ لِأَنَّ الْخِتَانَ فِي حَالَةِ الْكِبَرِ فِيهِ زِيَادَةُ أَلَمٍ، وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ فِي الْجَارِيَةِ فِي عُرْفِ بِلَادِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَخْتِنُونَ الْجَوَارِيَ، فَأَمَّا فِي عُرْفِ دِيَارِنَا، فَالْجَارِيَةُ لَا تُخْتَنُ، فَعَدَمُ الْخِتَانِ فِيهَا لَا يَكُونُ عَيْبًا أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ الْغُلَامُ كَبِيرًا حَرْبِيًّا لَا يَكُونُ عَيْبًا؛ لِأَنَّهُ فِيهِ ضَرُورَةٌ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الرَّقِيقِ يُؤْتَى بِهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَأَهْلُ الْحَرْبِ لَا خِتَانَ لَهُمْ، فَلَوْ جُعِلَ ذَلِكَ عَيْبًا يُرَدُّ بِهِ لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ، وَلِأَنَّ الْخِتَانَ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَعَادَتِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ اشْتَرَاهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ دَلَالَةَ الرِّضَا بِالْعَيْبِ، وَالْإِبَاقُ وَالسَّرِقَةُ وَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ وَالْجُنُونُ؛ لِأَنَّ كُلَّ، وَاحِدٍ مِنْهَا يُوجِبُ النُّقْصَانَ فِي الثَّمَنِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ نُقْصَانًا، فَاحِشًا، فَكَانَ عَيْبًا إلَّا أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ اتِّحَادُ الْحَالَةِ؟ . وَهَلْ يُشْتَرَطُ ثُبُوتُهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِالْحُجَّةِ لِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ؟ فَسَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْحَنَفُ مَصْدَرُ الْأَحْنَفِ مِنْ الْخَيَلِ، وَهُوَ الَّذِي إحْدَى عَيْنَيْهِ زَرْقَاءُ، وَالْأُخْرَى كَحْلَاءُ، وَالصَّدَفِ مَصْدَرُ الْأَصْدَفِ، وَهُوَ الدَّابَّةُ الَّتِي يَتَدَانَى فَخْذَاهَا، وَيَتَبَاعَدُ حَافِرَاهَا، وَيَلْتَوِي رُسْغَاهَا، وَالْعَزْلُ مَصْدَرُ الْأَعْزَلِ، وَهُوَ مِنْ الدَّوَابِّ الَّذِي يَقَعُ ذَنَبُهُ مِنْ جَانِبٍ عَادَةً لَا خِلْقَةً، وَالْمَشَشُ، وَهُوَ ارْتِفَاعُ الْعَظْمِ لِآفَةٍ أَصَابَتْهُ، وَالْجَرَدُ مَصْدَرُ الْأَجْرَدِ، وَهُوَ مِنْ الْإِبِلِ الَّذِي أَصَابَهُ انْقِطَاعُ عَصَبٍ مِنْ يَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ، فَهُوَ يُنْقِصُهَا إذَا سَارَ، وَالْحَرَّانُ، وَالْحَرُونُ مَصْدَرُ الْحَرُونِ، وَهُوَ الَّذِي يَقِفُ، وَلَا يَنْقَادُ لِلسَّائِقِ، وَلَا لِلْقَائِدِ، وَالْجِمَاحُ وَالْجُمُوحُ مَصْدَرُ الْجَمُوحِ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَدَّ الْفَرَسُ، فَيَغْلِبُ رَاكِبَهُ، وَخَلْعُ الرَّسَنِ ظَاهِرٌ، وَبَلُّ الْمِخْلَاةِ كَذَلِكَ، وَالْهَشْمُ فِي الْأَوَانِي، وَالصَّدْعُ فِي الْحَوَائِطِ وَالْجُذُوعِ، وَنَحْوِهَا مِنْ الْعُيُوبِ، فَأَنْوَاعُ الْعُيُوبِ فِيهَا كَثِيرَةٌ لَا وَجْهَ لِذِكْرِهَا هَهُنَا كُلِّهَا، وَالتَّعْوِيلُ فِي الْبَابِ عَلَى عُرْفِ التُّجَّارِ، فَمَا نَقَصَ الثَّمَنَ فِي عُرْفِهِمْ، فَهُوَ عَيْبٌ يُوجِبُ الْخِيَارَ، وَمَا لَا فَلَا، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. ، وَأَمَّا شَرَائِطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ (فَمِنْهَا) ثُبُوتُ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ حَتَّى لَوْ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ لِفَوَاتِ صِفَةِ السَّلَامَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْعَقْدِ دَلَالَةً، وَقَدْ حُصِّلَتْ السِّلْعَةُ سَلِيمَةً فِي يَدِ الْمُشْتَرِي (وَمِنْهَا) ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَا قَبَضَ الْمَبِيعَ، وَلَا يُكْتَفَى بِالثُّبُوتِ عِنْدَ الْبَائِعِ لِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ فِي جَمِيعِ الْعُيُوبِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِيمَا سِوَى الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ الْإِبَاقِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْبَوْلِ فِي

الْفِرَاشِ، وَالْجُنُونِ، فَكَذَلِكَ، فَأَمَّا فِي الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ، فَثُبُوتُهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَيْسَ بِشَرْطٍ بَلْ الثُّبُوتُ عِنْدَ الْبَائِعِ كَافٍ، وَبَعْضُهُمْ فَصَّلَ فِي الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ، فَقَالَ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْجُنُونِ، وَيُشْتَرَطُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْعُيُوبِ الثَّلَاثَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مَنْ فَصَّلَ هَذِهِ الْعُيُوبَ الْأَرْبَعَةَ مِنْ سَائِرِهَا فِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ أَنَّ هَذِهِ الْعُيُوبَ عُيُوبٌ لَازِمَةٌ لَا زَوَالَ لَهَا إذَا ثَبَتَتْ فِي شَخْصٍ إلَى أَنْ يَمُوتَ، فَثُبُوتُهَا عِنْدَ الْبَائِعِ يَدُلُّ عَلَى بَقَائِهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَكَانَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ عِنْدَهُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُيُوبِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ (وَجْهُ) قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْجُنُونِ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْجُنُونَ لِفَسَادٍ فِي مَحَلِّ الْعَقْدِ، وَهُوَ الدِّمَاغُ، وَهَذَا مِمَّا لَا زَوَالَ لَهُ عَادَةً إذَا ثَبَتَ، وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ: إنَّ الْجُنُونَ عَيْبٌ لَازِمٌ بِخِلَافِ الْإِبَاقِ، وَالْبَوْلِ فِي الْفِرَاشِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ بَلْ تَحْتَمِلُ الزَّوَالَ لِزَوَالِ أَسْبَابِهَا. (وَجْهُ) قَوْلِ الْعَامَّةِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ نَصًّا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الرَّدِّ فِي هَذِهِ الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهَا عِنْدَهُ، فَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الثَّابِتَ عِنْدَ الْبَائِعِ مُحْتَمِلُ الزَّوَالِ قَابِلُ الِارْتِفَاعِ، فَأَمَّا مَا سِوَى الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ لَا شَكَّ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْعُيُوبُ الْأَرْبَعَةُ؛ لِأَنَّ حُدُوثَهَا فِي الذَّاتِ لِلْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُدُوثِ، وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلزَّوَالِ، فَكَانَتْ هِيَ مُحْتَمِلَةً لِلزَّوَالِ لِاحْتِمَالِ زَوَالِ أَسْبَابِهَا، فَإِنْ بَقِيَتْ يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ، وَإِنْ ارْتَفَعَتْ لَا يَثْبُتُ، فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ بِالِاحْتِمَالِ، فَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي؛ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا قَائِمَةٌ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ الْجُنُونُ إذَا ثَبَتَ لَا يَزُولُ عَادَةً مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْمَجْنُونَ قَدْ يُفِيقُ، وَيَزُولُ جُنُونُهُ بِحَيْثُ لَا يَعُودُ إلَيْهِ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَا يُعْلَمُ بَقَاؤُهُ، كَمَا فِي الْأَنْوَاعِ الْأُخَرِ إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجُنُونِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ هُنَاكَ يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الْحَالَةِ لِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي حَالَةِ الصِّغَرِ أَوْ فِي حَالِ الْكِبَرِ حَتَّى لَوْ أَبَقَ أَوْ سَرَقَ أَوْ بَالَ فِي الْفِرَاشِ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَهُوَ صَغِيرٌ عَاقِلٌ، ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبُلُوغِ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ، وَفِي الْجُنُونِ اتِّحَادُ الْحَالَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْحَالِ فِي الْعُيُوبِ الثَّلَاثِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْبَوْلِ عَلَى الْفِرَاشِ فِي حَالِ الصِّغَرِ هُوَ ضَعْفٌ فِي الْمَثَانَةِ، وَفِي الْكِبَرِ هُوَ دَاءٌ فِي الْبَاطِنِ، وَالسَّبَبُ فِي الْإِبَاقِ، وَالسَّرِقَةِ فِي الصِّغَرِ هُوَ الْجَهْلُ، وَقِلَّةُ التَّمْيِيزِ، وَفِي الْكِبَرِ الشَّرَارَةُ وَخُبْثُ الطَّبِيعَةِ، وَاخْتِلَافُ السَّبَبِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ، فَكَانَ الْمَوْجُودُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبُلُوغِ غَيْرَ الْمَوْجُودِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَكَانَ عَيْبًا حَادِثًا، وَأَنَّهُ يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ فِي الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ، وَهُوَ فَسَادٌ فِي مَحَلِّ الْعَقْلِ، وَهُوَ الدِّمَاغُ، فَكَانَ الْمَوْجُودُ فِي حَالَةِ الْكِبَرِ عَيْنَ الْمَوْجُودِ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ، وَهَذَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْكِتَابِ الْجُنُونُ عَيْبٌ لَازِمٌ أَبَدًا لَا مَا قَالَهُ أُولَئِكَ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ (وَمِنْهَا) عَقْلُ الصَّبِيِّ فِي الْإِبَاقِ، وَالسَّرِقَةُ وَالْبَوْلُ عَلَى الْفِرَاشِ حَتَّى لَوْ أَبَقَ أَوْ سَرَقَ أَوْ بَالَ عَلَى الْفِرَاشِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَهُوَ صَغِيرٌ لَا يَعْقِلُ، ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ كَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ، وَهَذَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَهُوَ صَغِيرٌ لَا يَعْقِلُ، ثُمَّ وُجِدَ ذَلِكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَا عَقَلَ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَيْسَ بِعَيْبٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْعَيْبِ فِي يَدِهِ (وَمِنْهَا) اتِّحَادُ الْحَالِ فِي الْعُيُوبِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ اخْتَلَفَ لَمْ يَثْبُتْ حَقُّ الرَّدِّ بِأَنْ أَبَقَ أَوْ سَرَقَ أَوْ بَالَ عَلَى الْفِرَاشِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَهُوَ صَغِيرٌ عَاقِلٌ، ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْحَالِ دَلِيلُ اخْتِلَافِ سَبَبِ الْعَيْبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَاخْتِلَافُ سَبَبِ الْعَيْبِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَيْبِ، فَكَانَ الْمَوْجُودُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَيْبًا حَادِثًا عِنْدَ الرَّدِّ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) جَهْلُ الْمُشْتَرِي بِوُجُودِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهِ عِنْدَ أَحَدِهِمَا، فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الشِّرَاءِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ رِضًا بِهِ دَلَالَةً، وَكَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ عِنْدَ الْعَقْدِ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَبْضِ، فَكَانَ الْعِلْمُ عِنْدَ الْقَبْضِ كَالْعِلْمِ عِنْدَ الْعَقْدِ (وَمِنْهَا) عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْعَيْبِ فِي الْبَيْعِ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ شَرَطَ، فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْعَيْبِ فِي الْبَيْعِ عِنْدَنَا صَحِيحٌ، فَإِذَا أَبْرَأَهُ، فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ، فَصَحَّ الْإِسْقَاطُ، فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً. ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي جَوَازِهِ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعَيْبِ أَمَّا الْكَلَامُ فِي جَوَازِهِ، فَقَدْ مَرَّ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى بَيَانِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْعَيْبِ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْبَرَاءَةُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ عَامَّةً بِأَنْ قَالَ: بِعْت عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ

الْعُيُوبِ أَوْ قَالَ: مِنْ كُلِّ عَيْبٍ. وَأَمَّا أَنْ كَانَتْ خَاصَّةً بِأَنْ قَالَ: مِنْ عَيْبِ كَذَا، وَسَمَّاهُ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ قَيَّدَ الْبَرَاءَةَ بِعَيْبٍ قَائِمٍ حَالَةَ الْعَقْدِ، وَإِمَّا أَنْ أَطْلَقَهَا إطْلَاقًا. وَإِمَّا أَنْ أَضَافَهَا إلَى عَيْبٍ يَحْدُثُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنْ قَيَّدَهَا بِعَيْبٍ قَائِمٍ حَالَةَ الْعَقْدِ لَا يَتَنَاوَلُ الْعَيْبَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ كَانَتْ الْبَرَاءَةُ عَامَّةً بِأَنْ قَالَ أَبْرَأْتُك مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهِ أَوْ خَاصَّةً بِأَنْ قَالَ أَبْرَأْتُك مِمَّا بِهِ مِنْ عَيْبِ كَذَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُقَيَّدَ بِوَصْفٍ لَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْمَوْصُوفِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَإِنْ أَطْلَقَهَا إطْلَاقًا دَخَلَ فِيهِ الْقَائِمُ، وَالْحَادِثُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْحَادِثُ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْعَيْبِ يَقْتَضِي، وُجُودَ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْمَعْدُومِ لَا يُتَصَوَّرُ، وَالْحَادِثُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْبَيْعِ، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِبْرَاءِ، فَلَوْ دَخَلَ إنَّمَا يَدْخُلُ بِالْإِضَافَةِ إلَى حَالَةِ الْحُدُوثِ، وَالْإِبْرَاءُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ حَتَّى يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ، وَلِهَذَا لَمْ يَدْخُلْ الْحَادِثُ عِنْدَ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ نَصًّا، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَوْلَى (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لَفْظَ الْإِبْرَاءِ يَتَنَاوَلُ الْحَادِثَ نَصًّا، وَدَلَالَةً (أَمَّا) النَّصُّ، فَإِنَّهُ عَمَّ الْبَرَاءَةَ عَنْ الْعُيُوبِ كُلِّهَا أَوْ خَصَّهَا بِجِنْسٍ مِنْ الْعُيُوبِ عَلَى الْإِطْلَاقِ نَصًّا، فَتَخْصِيصُهُ أَوْ تَقْيِيدُهُ بِالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ (وَأَمَّا) الدَّلَالَةُ، فَهِيَ أَنَّ غَرَضَ الْبَائِعِ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ هُوَ انْسِدَادُ طَرِيقِ الرَّدِّ، وَلَا يَنْسَدُّ إلَّا بِدُخُولِ الْحَادِثِ، فَكَانَ دَاخِلًا فِيهِ دَلَالَةً. (وَأَمَّا) قَوْلُ مُحَمَّدٍ إنَّ هَذَا إبْرَاءٌ عَمَّا لَيْسَ بِثَابِتٍ، فَعِبَارَةُ الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْحَرْفِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ: هَذَا مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ إبْرَاءٌ عَنْ الثَّابِتِ لَكِنْ تَقْدِيرًا، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَيْبَ الْحَادِثَ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ بِهِ، كَمَا يَثْبُتُ بِالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَبْضَ حُكْمُ الْعَقْدِ، فَكَانَ هَذَا إبْرَاءً عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ تَقْدِيرًا، وَالثَّانِي: أَنَّ سَبَبَ حَقِّ الرَّدِّ مَوْجُودٌ، وَهُوَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ سَلِيمًا عَنْ الْعَيْبِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ لِيُسَلَّمَ لَهُ الثَّمَنُ، فَكَانَ، وُجُودُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ، وَالْبَيْعُ سَبَبٌ لِوُجُودِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، فَكَانَ ثُبُوتُ حَقِّ الرَّدِّ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ حُكْمَ الْبَيْعِ السَّابِقِ، وَالْبَيْعُ سَبَبٌ، فَكَانَ هَذَا إبْرَاءً عَنْ حَقِّ الرَّدِّ بَعْدَ، وُجُودِ سَبَبِهِ، وَسَبَبُ الشَّيْءِ إذَا، وُجِدَ يُجْعَلُ هُوَ ثُبُوتًا تَقْدِيرًا لِاسْتِحَالَةِ خُلُوِّ الْحُكْمِ عَنْ السَّبَبِ، فَكَانَ إبْرَاءً عَنْ الثَّابِتِ تَقْدِيرًا. وَلِهَذَا صَحَّ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْجِرَاحَةِ؛ لِكَوْنِ الْجُرْحِ سَبَبَ السِّرَايَةِ، فَكَانَ إبْرَاءً عَمَّا يَحْدُثُ مِنْ الْجُرْحِ تَقْدِيرًا، وَكَذَا الْإِبْرَاءُ عَنْ الْأُجْرَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ لَا تُمَلَّكُ عِنْدَنَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا إبْرَاءٌ عَنْ حَقٍّ لَيْسَ بِثَابِتٍ لَكِنْ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَهُوَ الْبَيْعُ، وَأَنَّهُ صَحِيحٌ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الْجُرْحِ وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الْأُجْرَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ عَنْ كُلِّ حَقٍّ لَهُ أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَادِثَ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَ مَعْدُومٌ لِلْحَالِ بِنَفْسِهِ وَبِسَبَبِهِ، فَلَوْ انْصَرَفَ إلَيْهِ الْإِبْرَاءُ؛ لَكَانَ ذَلِكَ إبْرَاءً عَمَّا لَيْسَ بِثَابِتٍ أَصْلًا لَا حَقِيقَةً، وَلَا تَقْدِيرًا لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْحَقِّ، فَلَمْ يَنْصَرِفْ إلَيْهِ، وَقَوْلُهُ لَوْ تَنَاوَلَ الْحَادِثَ؛ لَكَانَ هَذَا تَعْلِيقَ الْبَرَاءَةِ بِشَرْطٍ أَوْ الْإِضَافَةَ إلَى وَقْتٍ مَمْنُوعٍ بَلْ هَذَا إبْرَاءٌ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ، وَقْتَ الْإِبْرَاءِ تَقْدِيرًا لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْوَجْهَيْنِ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا تَعْلِيقًا، وَلَا إضَافَةً، فَيَصِحُّ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ، وَإِنْ أَضَافَهَا إلَى عَيْبٍ حَادِثٍ بِأَنْ قَالَ: عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الْبَيْعِ، فَالْبَيْعُ بِهَذَا الشَّرْطِ فَاسِدٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ؛ لِأَنَّهُ. وَإِنْ كَانَ إسْقَاطًا، فَفِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ؛ وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ الِارْتِدَادَ بِالرَّدِّ، وَلَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ نَصَّا، كَمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، فَكَانَ هَذَا بَيْعًا أَدْخَلَ فِيهِ شَرْطًا فَاسِدًا، فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي عَيْبٍ، فَقَالَ الْبَائِعُ: هُوَ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ، فَدَخَلَ تَحْتَ الْبَرَاءَةِ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: بَلْ هُوَ حَادِثٌ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْبَرَاءَةِ، فَإِنْ كَانَتْ الْبَرَاءَةُ مُطْلَقَةً، فَهَذَا لَا يَتَفَرَّعُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ الْحَادِثَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْبَرَاءَةِ الْمُطْلَقَةِ عِنْدَهُ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ، وَقَالَ زُفَرُ، وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ الْمُبْرِئُ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ تُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ فِيمَا أَبْرَأَ، قَوْلُهُ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَرَاءَةَ عَامَّةٌ، وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي حَقَّ الرَّدِّ بِعُمُومِ الْبَرَاءَةِ عَنْ حَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالْبَائِعُ يُنْكِرُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَمَا لَوْ أَبْرَأْهُ عَنْ الدَّعَاوَى كُلِّهَا، ثُمَّ ادَّعَى شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِهِ، وَهُوَ يُنْكِرُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ دُونَ الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَلَوْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِعَيْبٍ يَكُونُ

عِنْدَ الْعَقْدِ، فَاخْتَلَفَ الْبَائِعُ، وَالْمُشْتَرِي عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ الْمُقَيَّدَةَ بِحَالِ الْعَقْدِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الْمَوْجُودَ حَالَةَ الْعَقْدِ، وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي الْعَيْبَ لِأَقْرَبِ الْوَقْتَيْنِ، وَالْبَائِعُ يَدَّعِيهِ لِأَبْعَدِهِمَا، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُشْتَرِي، وَهَذَا؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعَيْبِ أَصْلٌ، وَالْوُجُودُ عَارِضٌ، فَكَانَ إحَالَةُ الْمَوْجُودِ إلَى أَقْرَبِ الْوَقْتَيْنِ أَقْرَبُ إلَى الْأَصْلِ، وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي ذَلِكَ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا، وَقَبَضَهُ فَسَاوَمَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرِهِ، فَإِنَّهُ لَا عَيْبَ بِهِ، ثُمَّ لَمْ يَتَّفِقْ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَيْبَ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ، فَقَالَ لَهُ الْبَائِعُ: إنَّك أَقْرَرْتَ أَنَّهُ لَا عَيْبَ بِهِ، فَقَدْ أَكْذَبْت شُهُودَكَ لَا يَبْطُلُ بِهَذَا الْكَلَامِ حَقُّهُ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فِي الْمُتَعَارَفِ لَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ لِتَرْوِيجِ السِّلْعَةِ، وَلِأَنَّ ظَاهِرَهُ كَذِبٌ؛ لِأَنَّهُ نَفَى عَنْهُ الْعُيُوبَ كُلَّهَا، وَالْآدَمِيُّ لَا يَخْلُو عَنْ عَيْبٍ، فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ، وَلَوْ عَيَّنَ نَوْعًا مِنْ الْعُيُوبِ بِأَنْ قَالَ: اشْتَرِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِهِ عَيْبُ كَذَا، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا، وَأَرَادَ الرَّدَّ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نَوْعًا آخَرَ سِوَى النَّوْعِ الَّذِي عَيَّنَهُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا إقْرَارَ مِنْهُ بِهَذَا النَّوْعِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّوْعِ الَّذِي عَيَّنَ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مِمَّا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقُ فِي الْمُتَعَارَفِ لَا تَرْوِيجُ السِّلْعَةِ، فَصَارَ مُنَاقِضًا؛ وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ يَخْلُو عَنْ عَيْبٍ مُعِينٍ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ بِكَذِبِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِكَذِبِهِ حَقِيقَةً، فَالْتَحَقَ كَلَامُهُ بِالْعَدَمِ. وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ عَيْبٍ، وَاحِدٍ شَجَّةٍ أَوْ جُرْحٍ، فَوَجَدَ شَجَّتَيْنِ أَوْ جُرْحَيْنِ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ يَبْرَأُ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي يَرُدُّ أَيَّهمَا شَاءَ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ إنَّمَا تَظْهَرُ عِنْدَ امْتِنَاعِ الرَّدِّ بِاعْتِرَاضِ أَسْبَابِ الِامْتِنَاعِ مِنْ هَلَاكِ الْمَبِيعِ أَوْ حُدُوثِ عَيْبٍ آخَرَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْ الرَّدِّ، وَأَرَادَ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، فَأَمَّا عِنْدَ إمْكَانِ الرَّدِّ، فَلَا تَظْهَرُ فَائِدَةٌ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِبْرَاءَ يُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي، وَالِاحْتِمَالُ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ حَيْثُ أَطْلَقَ الْبَرَاءَةَ إلَى شَجَّةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرِ عَيْنٍ، وَإِذَا كَانَ الْإِجْمَالُ مِنْهُ كَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِبْرَاءَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُشْتَرِي لَكِنَّ مَنْفَعَةَ الْإِبْرَاءِ عَائِدَةٌ إلَى الْبَائِعِ، فَصَارَ كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ، فَوَّضَ التَّعْيِينَ إلَيْهِ، فَكَانَ الْخِيَارُ لَهُ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ كُلِّ دَاءٍ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْبَاطِنِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُسَمَّى مَرَضًا لَا دَاءً. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْكُلَّ دَاءٌ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ كُلِّ غَائِلَةٍ، فَهِيَ عَلَى السَّرِقَةِ، وَالْإِبَاقِ وَالْفُجُورِ وَكُلِّ مَا كَانَ مِنْ فِعْلِ الْإِنْسَانِ مِمَّا يَعُدُّهُ التُّجَّارُ عَيْبًا كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْغَائِلَةَ هِيَ الْجِنَايَةُ، وَهِيَ الَّتِي تُكْتَبُ فِي عُهْدَةِ الْمَمَالِيكِ لَا دَاءَ، وَلَا غَائِلَةَ عَلَى مَا «كُتِبَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَمَا اشْتَرَى عَبْدًا أَوْ أَمَةً، وَهَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً لَا دَاءَ بِهِ، وَلَا غَائِلَةَ بَيْعَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ» ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) طَرِيقُ إثْبَاتِ الْعَيْبِ، فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْعُيُوبِ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ إثْبَاتِ الْعَيْبِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَيْبِ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْعَيْبُ لَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا شَاهِدًا يَقِفُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ كَالْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ وَالنَّاقِصَةِ وَالسِّنِّ الشَّاغِيَةِ وَالسَّاقِطَةِ وَبَيَاضِ الْعَيْنِ وَالْعَوَرِ وَالْقُرُوحِ وَالشِّجَاجِ وَنَحْوِهَا (وَإِمَّا) أَنْ يَكُونَ بَاطِنًا خَفِيًّا لَا يَقِفُ عَلَيْهِ إلَّا الْخَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ، وَهُمْ الْأَطِبَّاءُ، وَالْبَيَاطِرَةُ. (وَإِمَّا) أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَقِفُ عَلَيْهِ إلَّا النِّسَاءُ بِأَنْ كَانَ عَلَى فَرْجِ الْجَارِيَةِ أَوْ مَوَاضِعِ الْعَوْرَةِ مِنْهَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَقِفُ عَلَيْهِ النِّسَاءُ بِأَنْ كَانَ دَاخِلَ الْفَرْجِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَقِفُ عَلَيْهِ إلَّا الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَاةُ كَارْتِفَاعِ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِالتَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ كَالْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةِ وَالْبَوْلِ عَلَى الْفِرَاشِ وَالْجُنُونِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُرِيدَ إثْبَاتَ كَوْنِ الْعَيْبِ فِي يَدِهِ لِلْحَالِ، وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ إثْبَاتَ كَوْنِهِ فِي يَدِ الْبَائِعِ عِنْدَ الْبَيْعِ، وَالْقَبْضِ فَإِنْ أَرَادَ إثْبَاتَ كَوْنِهِ لِلْحَالِ، فَإِنْ كَانَ يُوقَفُ عَلَيْهِ بِالْحِسِّ وَالْعِيَانِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِنَظَرِ الْقَاضِي أَوْ أَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْعَيَّانَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ إلَّا الْأَطِبَّاءُ وَالْبَيَاطِرَةُ، فَيَثْبُتُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ، وَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَهْلِ الذِّكْرِ فَيُسْأَلُونَ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ؟ . ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَوْلِ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ

الشَّهَادَةِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ، وَذَكَرَ شَيْخِي الْإِمَامُ الزَّاهِدُ عَلَاءُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَثْبُتُ بِقَوْلِ مُسْلِمٍ عَدْلٍ مِنْهُمْ، وَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ أَبُو الْمَعِينِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ مِنْ تَصَانِيفِهِ (وَجْهُ) هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَا يَتَّصِلُ بِهَا الْقَضَاءُ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ بِهَا الْخُصُومَةُ، فَقَطْ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَدُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ ثَبَتَ تَعَبُّدًا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ فِي خَبَرِ الْمُسْلِمِ لَا يَقِفُ عَلَى عَدَدٍ بَلْ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَدَالَةِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ، وَرَدَ بِهِ تَعَبُّدًا، فَيُرَاعَى فِيهِ مَوْرِدُ التَّعَبُّدِ، وَهُوَ شَهَادَةٌ يَتَّصِلُ بِهَا الْقَضَاءُ، وَهَذِهِ شَهَادَةٌ لَا يَتَّصِلُ بِهَا الْقَضَاءُ، فَبَقِيَتْ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ النُّصُوصُ الْمُقْتَضِيَةُ لِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِي عُمُومِ الشَّهَادَةِ، وَالْمَعْقُولُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَّصِلُ بِهَا الْقَضَاءُ لَكِنَّهَا مِنْ ضَرُورَاتِ الْقَضَاءِ لَا وُجُودَ لِلْقَضَاءِ بِدُونِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَا لَمْ يَثْبُتْ الْعَيْبُ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَالْقَاضِي لَا يَقْضِي بِالرَّدِّ، فَكَانَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْقَضَاءِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَدُ، كَمَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى إثْبَاتِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا النِّسَاءُ، فَالْقَاضِي يُرِيهُنَّ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ، وَالنِّسَاءُ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ أَهْلُ الذِّكْرِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ مِنْهُنَّ بَلْ يُكْتَفَى بِقَوْلِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ عَدْلٍ، وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ حُجَّةٌ فِي الشَّرْعِ كَشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ فِي النَّسَبِ. لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ الْعَدَالَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا يُرَجِّحُ جَانِبَ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ فِي الْخَبَرِ، وَلَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى مَوْضِعِ الْعَيْبِ مُبَاحٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَا تُهْمَةَ فِيهِنَّ، وَرُخْصَةُ النَّظَرِ ثَابِتَةٌ لَهُنَّ حَالَةَ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ، فَيُلْحَقُ هَذَا بِمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا النِّسَاءُ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَاةُ، فَلَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهَا؛ لِكَوْنِهَا مُتَّهَمَةً، وَإِنْ كَانَ فِي دَاخِلِ فَرْجِهَا، فَلَا طَرِيقَ لِلْوُقُوفِ عَلَيْهِ أَصْلًا، فَكَانَ الطَّرِيقُ فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ هُوَ اسْتِحْلَافُ الْبَائِعِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بِهِ لِلْحَالِ هَذَا الْعَيْبُ. (وَأَمَّا) الْإِبَاقُ وَالسَّرِقَةُ وَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ، وَالْجُنُونُ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِالْخَبَرِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِيهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِيهِ، كَمَا فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ، فَإِنْ لَمْ يُقِمْ لِلْمُشْتَرِي حُجَّةً عَلَى إثْبَاتِ الْعَيْبِ لِلْحَالِ فِي هَذِهِ الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ هَلْ يُسْتَحْلَفُ الْبَائِعُ؟ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَسَكَتَ عَنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: يُسْتَحْلَفُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مُخَالِفُهُمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَسْأَلَةُ عَلَى الِاخْتِلَافِ ذُكِرَتْ فِي النَّوَادِرِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُسْتَحْلَفُ، وَعِنْدَهُمَا يُسْتَحْلَفُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي حَقَّ الرَّدِّ، وَلَا يُمْكِنُهُ الرَّدُّ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْعَيْبِ عِنْدَ نَفْسِهِ، وَطَرِيقُ الْإِثْبَاتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ نُكُولُ الْبَائِعِ، فَإِذَا لَمْ تَقُمْ لَهُ بَيِّنَةٌ يُسْتَحْلَفُ لِيَنْكُلَ الْبَائِعُ، فَيَثْبُتُ الْعَيْبُ عِنْدَ نَفْسِهِ، وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ عَلَى إثْبَاتِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ يَكُونُ عَقِيبَ الدَّعْوَى عَلَى الْبَائِعِ، وَلَا دَعْوَى لَهُ عَلَى الْبَائِعِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَيْبِ عِنْدَ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ، فَلَمْ تَثْبُتْ دَعْوَاهُ عَلَى الْبَائِعِ، فَلَا يُسْتَحْلَفُ، وَقَوْلُهُمَا لَهُ طَرِيقُ الْإِثْبَاتِ، وَهُوَ النُّكُولَ قُلْنَا النُّكُولُ بَعْدَ الِاسْتِحْلَافِ وَانْعِدَامُ الدَّعْوَى يَمْنَعُ الِاسْتِحْلَافَ؛ لِأَنَّ اسْتِحْلَافَ الْبَائِعِ فِي هَذِهِ الْعُيُوبِ عَلَى الْعِلْمِ لَا عَلَى الْبَتَاتِ وَبِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ أَبَقَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَلَا سَرَقَ وَلَا بَالَ عَلَى الْفِرَاشِ وَلَا جُنَّ، وَلَا يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَيَّ غَيْرِ فِعْلِهِ. وَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِ فِعْلِهِ يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا لَيْسَ بِفِعْلِهِ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ أَصْلُهُ خَبَرُ الْمَثْنَوِيِّ، فَإِنْ حَلَفَ لَمْ يَثْبُتْ الْعَيْبُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ نَكَلَ يَثْبُتُ عِنْدَهُ، فَيُحْتَاجُ إلَى الْإِثْبَاتِ عِنْدَهُ. وَإِذَا أَرَادَ إثْبَاتَ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ، فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ الْعَيْبُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْحُدُوثَ أَصْلًا كَالْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ، وَنَحْوِهَا أَوْ لَا يَحْتَمِلُ حُدُوثَ مِثْلِهِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ كَالسِّنِّ الشَّاغِيَةِ، وَنَحْوِهَا ثَبَتَ كَوْنُهُ عِنْدَ الْبَائِعِ بِثُبُوتِ كَوْنِهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ الْحُدُوثَ أَوَّلًا يَحْتَمِلُ حُدُوثَ مِثْلِهِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِكَوْنِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُحْتَمَلُ حُدُوثُ مِثْلِهِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَا يُكْتَفَى بِثُبُوتِ كَوْنِهِ عِنْدَ

الْمُشْتَرِي بَلْ يَحْتَاجُ الْمُشْتَرِي إلَى إثْبَاتِ كَوْنِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا اُحْتُمِلَ حُدُوثُ مِثْلَهُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ اُحْتُمِلَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَحَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ بِالِاحْتِمَالِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ بِالْبَيِّنَةِ، وَهِيَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ طَبِيبَتَيْنِ كَانَا أَوْ غَيْرَ طَبِيبَتَيْنِ. وَإِنَّمَا شُرِطَ الْعَدَدُ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ يُقْضَى بِهَا عَلَى الْخَصْمِ، فَكَانَ الْعَدَدُ فِيهَا شَرْطًا كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ الَّتِي يُقْضَى بِهَا عَلَى الْخُصُومِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا النِّسَاءُ يُرَدُّ بِثُبُوتِهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى الْإِثْبَاتِ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِالثُّبُوتِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ قَوْلَ النِّسَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ حُجَّةٌ ضَرُورَةً، وَالضَّرُورَةُ فِي الْقَبُولِ فِي حَقِّ ثُبُوتِهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَتَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ لِاحْتِمَالِ الْحُدُوثِ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُمَا فِي حَقِّ تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ، وَإِذَا كَانَ الثُّبُوتُ عِنْدَ الْبَائِعِ فِيمَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ شَرْطًا لِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ. فَيَقُولُ الْقَاضِي: هَلْ كَانَ هَذَا الْعَيْبُ عِنْدَكَ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، رُدَّ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الرِّضَا أَوْ الْإِبْرَاءَ، وَإِنْ قَالَ: لَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَقَّ الرَّدِّ وَهُوَ يُنْكِرُ، فَإِنْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ الدَّفْعَ أَوْ الْإِبْرَاءَ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَتَنْدَفِعُ دَعْوَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَطَلَبَ يَمِينَ الْمُشْتَرِي حَلَّفَهُ الْقَاضِي بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا رَضِيَ بِهَذَا الْعَيْبِ وَإِلَّا أَبْرَأَهُ عَنْهُ وَلَا عَرَضَهُ عَلَى الْبَيْعِ مُنْذُ رَآهُ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الدَّفْعَ بِالرِّضَا وَالْإِبْرَاءَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِفَسْخِ الْعَقْدِ وَلَا يَسْتَحْلِفُ الْمُشْتَرِيَ عَلَى الرِّضَا وَالْإِبْرَاءِ وَالْعَرْضِ عَلَى الْبَيْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: لَا يَفْسَخُ مَا لَمْ يَسْتَحْلِفْهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا رَضِيَ بِهَذَا الْعَيْبِ وَلَا أَبْرَأَهُ عَنْهُ وَلَا عَرَضَهُ عَلَى الْبَيْعِ بَعْدَ مَا عَلِمَ بِهِ مِنْ الْعَيْبِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِالْفَسْخِ قَبْلَ الِاسْتِحْلَافِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالدَّفْعِ بِدَعْوَى الرِّضَا وَالْإِبْرَاءِ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْفَسْخِ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ فَيُفْسَخُ قَضَاؤُهُ، فَكَانَ الِاسْتِحْلَافُ قَبْلَ الْفَسْخِ فِيهِ صِيَانَةٌ لِلْقَضَاءِ عَنْ النَّقْضِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْبَائِعَ إذَا لَمْ يَطْلُبْ يَمِينَ الْمُشْتَرِي فَتَحْلِيفُ الْقَاضِي مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الْخَصْمِ إنْشَاءُ الْخُصُومَةِ، وَالْقَاضِي نُصِّبَ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ لَا لِإِنْشَائِهَا، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ فِي هَذَا صِيَانَةَ قَضَاءِ الْقَاضِي عَنْ الْفَسْخِ فَنَقُولُ: الصِّيَانَةُ حَاصِلَةٌ بِدُونِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَعْلَمْ بِوُجُودِ الرِّضَا مِنْ الْمُشْتَرِي، إذْ لَوْ عَلِمَ لَادَّعَى الدَّفْعَ بِدَعْوَى، وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ دَعْوَى الدَّفْعِ عِنْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ دَلَّ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ الرِّضَا مِنْ الْمُشْتَرِي فَلَا يَدَّعِي الدَّفْعَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يُقِمْ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً عَلَى إثْبَاتِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَطَلَبَ الْمُشْتَرِي يَمِينَهُ فَفِيمَا سِوَى الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْبَتَاتِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَقَدْ بِعْتُهُ وَسَلَّمْتُهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ، وَإِنَّمَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ فِي الِاسْتِحْلَافِ؛ لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْبَيْعِ يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الْمُشْتَرِي فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِجَوَازِ أَنْ يَحْدُثَ الْعَيْبُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا احْتِيَاطَ فِي هَذَا لِأَنَّهُ لَوْ اُسْتُحْلِفَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَمِنْ الْجَائِزِ حُدُوثُ الْعَيْبِ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَيَكُونُ الْبَائِعُ صَادِقًا فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ وُجُودُ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ جَمِيعًا فَلَا يَحْنَثُ بِوُجُودِهِ فِي أَحَدِهِمَا فَيَبْطُلُ حَقُّ الْمُشْتَرِي فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي هَذَا الِاسْتِحْلَافِ عَلَى حَاصِلِ الدَّعْوَى بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا لَهُ حَقُّ الرَّدِّ بِهَذَا الْعَيْبِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُسْتَحْلَفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَقَدْ سَلَّمْتُهُ وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ الَّذِي يَدَّعِي وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالْحَادِثُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ. وَإِنَّمَا لَمْ يُسْتَحْلَفْ عَلَى الْبَتَاتِ؛ لِأَنَّهُ اُسْتُحْلِفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ " وَهُوَ الْبَيْعُ وَالتَّسْلِيمُ " بِصِفَةِ السَّلَامَةِ ثُمَّ إذَا حَلَفَ فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ وَإِنْ نَكَلَ يُرَدُّ عَلَيْهِ وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ إلَّا إذَا ادَّعَى الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي الرِّضَا بِالْعَيْبِ أَوْ الْإِبْرَاءَ عَنْهُ أَوْ الْعَرْضَ عَلَى الْبَيْعِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ فَيَبْرَأُ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَطَلَبَ تَحْلِيفَ الْمُشْتَرِي يَحْلِفُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ يُفْسَخُ الْعَقْدُ، وَلَا يُحَلِّفْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. (وَأَمَّا) فِي الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ: فَفِي الثَّلَاثَةِ مِنْهَا وَهِيَ الْإِبَاقُ وَالسَّرِقَةُ وَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ يُسْتَحْلَفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا أَبِقَ عِنْدَكَ مُنْذُ بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ، وَفِي الْجُنُونِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا جُنَّ عِنْدَك قَطُّ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْعُيُوبُ فِي كَيْفِيَّةِ

الِاسْتِحْلَافِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ اتِّحَادَ الْحَالَةِ فِي الْعُيُوبِ الثَّلَاثَةِ شَرْطُ ثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْجُنُونِ بَلْ هُوَ عَيْبٌ لَازِمٌ أَبَدًا. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الرَّدِّ وَالْفَسْخِ بِالْعَيْبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ: فَالْمَبِيعُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَوْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي " رَدَدْتُ " وَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا إلَى التَّرَاضِي بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِالتَّرَاضِي عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْفَسِخُ بِقَوْلِهِ " رَدَدْتُ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى الْقَضَاءِ وَلَا إلَى رِضَا الْبَائِعِ " وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّدَّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضَاءٍ، وَكَذَلِكَ الرَّدُّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ مُتَّصِلًا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا نَوْعُ فَسْخٍ فَلَا تَفْتَقِرُ صِحَّتُهُ إلَى الْقَضَاءِ وَلَا إلَى الرِّضَا كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ بِالْإِجْمَاعِ وَبِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ عَلَى أَصْلِكُمْ، وَلِهَذَا لَمْ يُفْتَقَرْ إلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَكَذَا بَعْدَهُ. (وَلَنَا) أَنَّ الصَّفْقَةَ تَمَّتْ بِالْقَبْضِ، وَأَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الصَّفْقَةِ بَعْدَ تَمَامِهَا كَالْإِقَالَةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْفَسْخَ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ، ثُمَّ الْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَلَا يَنْفَسِخُ بِأَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ وَمِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَيْسَتْ بِتَامَّةٍ بَلْ تَمَامُهَا بِالْقَبْضِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَرِدَّ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ الْخِيَارِ فَكَانَ الرَّدُّ فِي مَعْنَى الدَّفْعِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْقَبُولِ، وَبِخِلَافِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ مَنْعُ تَمَامِ الصَّفْقَةِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ خَلَلًا فِي الرِّضَا، فَكَانَ الرَّدُّ كَالدَّفْعِ أَمَّا هَهُنَا إذْ الصَّفْقَةُ قَدْ تَمَّتْ بِالْقَبْضِ فَلَا تَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ بِنَفْسِ الرَّدِّ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةِ الْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. بَيَانُ مَنْ تَلْزَمُهُ الْخُصُومَةُ فِي الْعَيْبِ. فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْخُصُومَةُ فِي الْبَيْعِ تَلْزَمُ الْبَائِعَ سَوَاءً كَانَ حُكْمُ الْعَقْدِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ أَنْ تَلْزَمَهُ الْخُصُومَةُ إلَّا الْقَاضِيَ أَوْ أَمِينَهُ كَالْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ وَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ فِي الْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ فِي هَذَا الْبَابِ رَاجِعَةٌ إلَى الْعَاقِدِ إذَا كَانَ أَهْلًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَحْجُورًا أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا فَالْخُصُومَةُ لَا تَلْزَمُهُ وَإِنَّمَا تَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَأَمَّا الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ: فَالْخُصُومَةُ لَا تَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِلْقَاضِي إنَّمَا ثَبَتَتْ شَرْعًا نَظَرًا لِمَنْ وَقَعَ لَهُ الْعَقْدُ، فَلَوْ لَزِمَهُ الْعُهْدَةُ لَامْتَنَعَ عَنْ النَّظَرِ خَوْفًا مِنْ لُزُومِ الْعُهْدَةِ، فَكَانَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْبَابِ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ فِيهِ وَالْوَكِيلِ فِي بَابِ النِّكَاحِ، وَمَا يَلْزَمُ الْوَكِيلَ مِنْ الْعُهْدَةِ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْمُوَكِّلِ. وَالْمُكَاتَبُ وَالْمَأْذُونُ لَا يَرْجِعَانِ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ لِلْمُوَكِّلِ نِيَابَةً عَنْهُ، وَتَصَرُّفُ النَّائِبِ كَتَصَرُّفِ الْمَنُوبِ عَنْهُ وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ وَالْمَأْذُونُ: فَإِنَّمَا يَتَصَرَّفَانِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لِأَنْفُسِهِمَا لَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْمَوْلَى لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْإِذْنَ فَكُّ الْحَجْرِ وَإِزَالَةُ الْمَانِعِ، فَإِذَا زَالَ الْحَجْرُ بِالْإِذْنِ فَالْعَبْدُ يَتَصَرَّفُ بِمَالِكِيَّةِ نَفْسِهِ فَكَانَ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ لَا لِمَوْلَاهُ، وَاَلَّذِي يَقَعُ لِلْمَوْلَى هُوَ حُكْمُ التَّصَرُّفِ لَا غَيْرُ، وَإِذَا كَانَ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ كَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، وَلَوْ رُدَّ الْمَبِيعُ عَلَى الْوَكِيلِ هَلْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى مُوَكِّلِهِ؟ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:. (إمَّا) أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عَلَى الْعَيْبِ، وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِالْعَيْبِ، فَإِنْ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عَلَى الْعَيْبِ يَرُدُّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ، وَهُوَ نَائِبٌ عَنْهُ فَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ، وَإِنْ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ مُضَافٌ إلَى الْمُوَكِّلِ لِكَوْنِهِ مُضْطَرًّا مُلْجَأً إلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ فِي الْخُصُومَةِ وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا الِاضْطِرَارُ مِنْ نَاحِيَةِ الْمُوَكِّلِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِيهِ فَكَانَ مُضَافًا إلَيْهِ، وَإِنْ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِالْعَيْبِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ عَيْبًا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ يَرُدُّ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ بِثُبُوتِهِ عِنْدَ الْبَيْعِ بِيَقِينٍ. وَأَمَّا إنْ كَانَ عَيْبًا يَحْدُثُ مِثْلُهُ لَا يَرُدُّ عَلَى الْمُوَكِّلِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، فَإِنْ كَانَ رَدَّ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ لَا يَرُدُّ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ يَلْزَمُهُ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ فَكَانَ حُجَّةً فِي حَقِّهِ خَاصَّةً لَا فِي حَقِّ مُوَكِّلِهِ. وَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ لَزِمَ الْوَكِيلَ خَاصَّةً سَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ يَحْدُثُ مِثْلُهُ أَوْ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَإِنْ كَانَ فَسْخًا فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ فَهُوَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا فَلَا يَمْلِكُ الرَّدَّ عَلَى الْمُوَكِّلِ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ، فَأَمَّا الْمُضَارِبُ وَالشَّرِيكُ فَبِقَبُولِهِمَا يَلْزَمُ رَبَّ الْمَالِ وَالشَّرِيكَ الْآخَرَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ شَرِكَتِهِمَا تَلْزَمُهُمَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَيَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وَمَا لَا يَسْقُطُ وَلَا يَلْزَمُ. فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الرَّدُّ يَمْتَنِعُ بِأَسْبَابٍ (مِنْهَا) :

الرِّضَا بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ لِفَوَاتِ السَّلَامَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْعَقْدِ دَلَالَةً وَلَمَّا رَضِيَ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ دَلَّ أَنَّهُ مَا شَرَطَ السَّلَامَةَ؛ وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، فَإِذَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ فَلَمْ يَنْظُرْ لِنَفْسِهِ وَرَضِيَ بِالضَّرَرِ ثُمَّ الرِّضَا نَوْعَانِ: صَرِيحٌ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَى الصَّرِيحِ، وَدَلَالَةٌ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَنَحْوُ قَوْلِهِ " رَضِيت بِالْعَيْبِ أَوْ أَجَزْت هَذَا الْبَيْعَ أَوْ أَوْجَبْته " وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ مِنْ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ تَصَرُّفٌ فِي الْمَبِيعِ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالْعَيْبِ نَحْوُ مَا إذَا كَانَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَوْ قَطَعَهُ أَوْ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ أَوْ أَرْضًا فَبَنَى عَلَيْهَا أَوْ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَوْ لَحْمًا فَشَوَاهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِالْعَيْبِ أَوْ لَيْسَ بِعَالِمٍ أَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ كَاتَبَهُ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ اسْتَوْلَدَهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ دَلِيلُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ، وَيَكُونُ الْعِلْمُ بِالْعَيْبِ وَكُلُّ ذَلِكَ يُبْطِلُ حَقَّ الرَّدِّ. وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ سَوَاءً كَانَ الرَّدُّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِالتَّرَاضِي بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ قَبِلَهُ الْبَائِعُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الرَّدِّ خُرُوجُ السِّلْعَةِ عَنْ مِلْكِهِ فَإِذَا عَادَتْ إلَيْهِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ وَلِهَذَا إذَا رُدَّ عَلَيْهِ بِقَضَاءٍ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ، وَكَذَا إذَا رُدَّ عَلَيْهِ بِخِيَارِ شَرْطٍ أَوْ بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ عَلَى أَصْلِكُمْ. (وَلَنَا) أَنَّ الْقَبُولَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ، بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، فَصَارَ كَمَا لَوْ عَادَ إلَيْهِ بِشِرَاءٍ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ لَمْ يَمْلِكْ الرَّدَّ عَلَى بَائِعِهِ كَذَا هَذَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقَبُولَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ مَوْجُودٌ فَكَانَ شُبْهَةُ الشِّرَاءِ قَائِمَةً فَكَانَ الرَّدُّ عِنْدَ التَّرَاضِي بَيْعًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ أُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ الْفَسْخِ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ فَبَقِيَ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ الْمُبْتَدَإِ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ، وَحَقُّ الشُّفْعَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ مَعْنَى الْبَيْعِ أَصْلًا؛ لِانْعِدَامِ التَّرَاضِي فَكَانَ فَسْخًا وَالْفَسْخُ رَفْعُ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ وَجَعْلُهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ، وَبِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَمَامَ لَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّ حُدُوثَ الْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَوُجُودِهِ قَبْلَ الْبَيْعِ؟ ، فَكَانَ الرَّدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي مَعْنَى الِامْتِنَاعِ عَنْ الْقَبُولِ، كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ رَدَّ إيجَابَ الْبَائِعِ وَلَمْ يَقْبَلْهُ. وَلِهَذَا لَمْ يَفْتَقِرْ الرَّدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَى الْقَاضِي، وَبِخِلَافِ مَا إذَا رُدَّ عَلَيْهِ بِخِيَارِ شَرْطٍ أَوْ رُؤْيَةٍ أَنَّهُ يَرُدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ لَمْ يُوجَدْ فِي هَذَا الرَّدِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى بَائِعِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ فَكَانَ فَسْخًا وَرَفْعًا لِلْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَكَذَا لَوْ وَطِئَ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَاةَ أَوْ لَمَسَهَا لِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ مَعَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ بِكْرًا فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ ثَيِّبًا فَوَطِئَهَا بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ قَبَّلَتْ الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرِيَ لِشَهْوَةٍ فَقَدْ مَرَّ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِيهِ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ، وَلَوْ اسْتَخْدَمَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَا عَلِمَ بِالْعَيْبِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْقُطَ خِيَارُهُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَسْقُطُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ. وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى دَابَّةً فَرَكِبَهَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ فَإِنْ رَكِبَهَا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ يَسْقُطُ خِيَارُهُ، وَإِنْ رَكِبَهَا لِيَسْقِيَهَا أَوْ لِيَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ أَوْ لِيَشْتَرِيَ لَهَا عَلَفًا فَفِيهِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ كَمَا فِي الِاسْتِخْدَامِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَلَوْ رَكِبَهَا لِيَنْظُرَ إلَى سَيْرِهَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ يَكُونُ رِضًا يُسْقِطُ خِيَارَهُ، وَفِي شَرْطِ الْخِيَارِ لَا يُسْقِطُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قَدْ تَقَدَّمَ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَلَبِسَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ لِيَنْظُرَ إلَى طُولِهِ وَعَرْضِهِ بَطَلَ خِيَارُهُ وَفِي خِيَارِ الشَّرْطِ لَا يَبْطُلُ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي شَرْطِ الْخِيَارِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرَى دَارًا فَسَكَنَهَا بَعْدَ مَا عَلِمَ بِالْعَيْبِ أَوْ رَمَّ مِنْهَا شَيْئًا أَوْ هَدَمَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِ شُرُوحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ فِي السُّكْنَى رِوَايَتَانِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ يُوجَدُ مِنْ الْمُشْتَرِي فِي الْمُشْتَرَى بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالْعَيْبِ يُسْقِطُ الْخِيَارَ وَيُلْزِمُ الْبَيْعَ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) إسْقَاطُ الْخِيَارِ صَرِيحًا أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الصَّرِيحِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي: أَسْقَطْت الْخِيَارَ أَوْ أَبْطَلْته أَوْ أَلْزَمْتُ الْبَيْعَ أَوْ أَوْجَبْتُهُ وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ حَقُّهُ، وَالْإِنْسَانُ بِسَبِيلٍ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّهِ اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا. (وَمِنْهَا) إبْرَاءُ الْمُشْتَرِي عَنْ الْعَيْبِ؛

لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ، وَلَهُ وِلَايَةُ الْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ حَقُّهُ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ، أَلَا تَرَى كَيْفَ احْتَمَلَ السُّقُوطَ بِالْإِسْقَاطِ صَرِيحًا؟ فَإِذَا أَسْقَطَهُ يَسْقُطُ. (وَمِنْهَا) هَلَاكُ الْمَبِيعِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الرَّدِّ. (وَمِنْهَا) نُقْصَانُهُ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ نُقْصَانَ الْمَبِيعِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِفِعْلِ الْبَائِعِ أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ فَهَذَا وَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ عَيْبٌ سَوَاءٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ فِي بَيْعِ الْبَاتِّ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ، ثُمَّ إنْ كَانَ النُّقْصَانُ نُقْصَانَ قَدْرٍ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَإِنْ كَانَ نُقْصَانَ وَصْفٍ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِمَا ذَكَرْنَا هُنَالِكَ، وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِيهِ، وَفِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ عَيْبٌ سَوَاءٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَطُرِحَ عَنْهُ قَدْرُ النُّقْصَانِ الَّذِي حَصَلَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ كَمَا إذَا لَمْ يَجِدْ بِهِ عَيْبًا، وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا خِيَارَ لَهُ وَيَصِيرُ قَابِضًا بِالْجِنَايَةِ وَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ إنْ لَمْ يَجِدْ بِهِ عَيْبًا كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ وَجَدَ عَيْبًا كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ، وَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ: أَنَا آخُذُهُ مَعَ النُّقْصَانِ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِسَهُ وَيَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالنُّقْصَانِ بَلْ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ وَيَسْقُطُ جَمِيعُ الثَّمَنِ، وَسَنَذْكُرُ الْأَصْلَ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي بَيَانِ مَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَمَا لَا يَمْنَعُ، هَذَا إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْبَائِعِ مَنْعُ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ بَعْدَ مَا صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا بِالْجِنَايَةِ، فَأَمَّا إذَا وُجِدَ مِنْهُ مَنْعٌ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ، وَيَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي جَمِيعُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ بِالْمَنْعِ صَارَ مُسْتَرِدًّا لِلْمَبِيعِ نَاقِضًا ذَلِكَ الْقَبْضَ فَانْتَقَضَ وَجُعِلَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ، فَكَانَ حَقُّ الرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ إلَّا قَدْرَ مَا نَقَصَ بِفِعْلِهِ. وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَاتَّبَعَ الْجَانِيَ بِالْأَرْشِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَيَسْقُطُ عَنْهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَاتَّبَعَ الْبَائِعُ الْجَانِيَ بِالْأَرْشِ كَمَا إذَا لَمْ يَجِدْ الْمُشْتَرِي بِهَا عَيْبًا، هَذَا إذَا حَدَثَ النُّقْصَانُ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا، فَأَمَّا إذَا حَدَثَ بَعْدَ الْقَبْضِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَإِنْ حَدَثَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أَوْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَرُدَّ مَعَهُ أَرْشَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ حَقَّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ثَبَتَ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي فَلَوْ امْتَنَعَ إنَّمَا يَمْتَنِعُ نَظَرًا لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بِاسْتِحْقَاقِ النَّظَرِ أَوْلَى مِنْ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدَلِّسْ الْعَيْبَ وَالْبَائِعُ قَدْ دَلَّسَ (وَلَنَا) أَنَّ شَرْطَ الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ عِنْدَ الرَّدِّ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا عِنْدَ الْقَبْضِ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ مَعِيبًا بِعَيْبٍ وَاحِدٍ وَيَعُودُ عَلَى مِلْكِهِ مَعِيبًا بِعَيْبَيْنِ فَانْعَدَمَ شَرْطُ الرَّدِّ فَلَا يُرَدُّ. وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بِهَا فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا لَمْ يَرُدَّهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تُرَدُّ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ ثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ مَعَ شَرْطِهِ وَمَا بَعْدَ السَّبَبِ وَشَرْطِهِ إلَّا الْحُكْمُ (أَمَّا) السَّبَبُ فَهُوَ الْعَيْبُ وَقَدْ وُجِدَ (وَأَمَّا) الشَّرْطُ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ وَقْتَ الرَّدِّ كَمَا كَانَ وَقْتَ الْقَبْضِ وَقَدْ وُجِدَ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الْعَيْنِ إذْ هُوَ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فَأَشْبَهَ الِاسْتِخْدَامَ، بِخِلَافِ وَطْءِ الْبِكْرِ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَةَ عُضْوٌ مِنْهَا وَقَدْ أَزَالَهَا بِالْوَطْءِ، وَلَنَا أَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لَهَا حُكْمُ الْأَجْزَاءِ وَالْأَعْيَانِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْعَيْنِ، وَغَيْرُ الْعَيْنِ لَا يُضْمَنُ بِالْعَيْنِ هُوَ الْأَصْلُ، وَإِذْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ عِنْدَنَا أَصْلًا فَكَانَ اسْتِيفَاؤُهَا فِي حُكْمِ إتْلَافِ الْأَجْزَاءِ وَالْأَعْيَانِ فَانْعَدَمَ شَرْطُ الرَّدِّ فَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ كَمَا إذَا قَطَعَ طَرَفًا مِنْهَا، وَكَمَا فِي وَطْءِ الْبِكْرِ بِخِلَافِ الِاسْتِخْدَامِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَةٍ مَحْضَةٍ مَا لَهَا حُكْمُ الْجُزْءِ وَالْعَيْنِ وَلِأَنَّهُ لَوْ رَدَّ الْجَارِيَةَ وَفَسَخَ الْعَقْدَ رُفِعَ مِنْ الْأَصْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ صَادَفَ مِلْكَ الْبَائِعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ وَأَنَّهُ حَرَامٌ، فَكَانَ الْمَنْعُ مِنْ الرَّدِّ طَرِيقَ الصِّيَانَةِ عَنْ الْحَرَامِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا إذَا اشْتَرَطَ رَجُلَانِ شَيْئًا ثُمَّ اطَّلَعَا عَلَى عَيْبٍ بِهِ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ أَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ دُونَ صَاحِبِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ لَوْ اشْتَرَيَا شَيْئًا عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ اشْتَرَيَا شَيْئًا لَمْ يَرَيَاهُ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ رَدَّ الْمُشْتَرَى كَمَا اشْتَرَى فَيَصِحُّ، كَمَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي نِصْفِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَرَدَّ النِّصْفَ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهُ اشْتَرَى النِّصْفَ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اشْتَرَيَا الْعَبْدَ جُمْلَةً

وَاحِدَةً كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرِيًا نِصْفَهُ، وَقَدْ رَدَّ النِّصْفَ فَقَدْ رَدَّ مَا اشْتَرَى كَمَا اشْتَرَى، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الرَّدِّ. وَثُبُوتُ حَقِّ الرَّدِّ عِنْدَ انْعِدَامِ شَرْطِهِ مُمْتَنِعٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الرَّدِّ أَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ مَقْبُوضًا، وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ غَيْرَ مَعِيبٍ بِعَيْبٍ زَائِدٍ، فَلَوْ رَدَّهُ لَرَدَّهُ وَهُوَ مَعِيبٌ بِعَيْبٍ زَائِدٍ وَهُوَ عَيْبُ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْأَعْيَانِ عَيْبٌ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْعَيْنِ لَا يُشْتَرَى بِالثَّمَنِ الَّذِي يُشْتَرَى بِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُشْتَرَكًا فَلَمْ يُوجَدْ رَدُّ مَا اشْتَرَى كَمَا اشْتَرَى فَلَا يَصِحُّ الرَّدُّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْبَائِعِ، وَلِهَذَا لَوْ أَوْجَبَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ فِي عَبْدٍ لِاثْنَيْنِ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ إلَّا عَنْ الْجُمْلَةِ فَإِذَا قَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَقَدْ فَرَّقَ الصَّفْقَةَ عَلَى الْبَائِعِ فَلَمْ يَصِحَّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أَوْ بِفِعْلِ الْبَائِعِ بِأَنْ قَطَعَ يَدَهُ وَوَجَبَ الْأَرْشُ أَوْ كَانَتْ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا وَوَجَبَ الْعُقْرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّ بِالْعَيْبِ لِمَا قُلْنَا وَلِمَعْنًى آخَرَ يَخْتَصُّ بِهِ وَهُوَ أَنَّ النُّقْصَانَ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ أَوْ بِفِعْلِ الْبَائِعِ يُؤْخَذُ الْأَرْشُ وَالْعُقْرُ لِلْمُشْتَرِي وَأَنَّهُ زِيَادَةٌ وَلِهَذَا يُمْنَعُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ اشْتَرَى مَأْكُولًا فِي جَوْفِهِ كَالْبِطِّيخِ وَالْجَوْزِ وَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَالرُّمَّانِ وَالْبَيْضِ وَنَحْوِهَا فَكَسَرَهُ فَوَجَدَهُ فَاسِدًا فَهَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ وَجَدَهُ كُلَّهُ فَاسِدًا، وَإِمَّا أَنْ وَجَدَ الْبَعْضَ فَاسِدًا وَالْبَعْضَ صَحِيحًا، فَإِنْ وَجَدَهُ كُلَّهُ فَاسِدًا فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَصْلًا فَالْمُشْتَرِي يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَبَيْعُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يَنْعَقِدُ كَمَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حُرٌّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ مِنْهُ فَقَدْ سَلَّطَهُ عَلَى الْكَسْرِ فَكَانَ الْكَسْرُ حَاصِلًا بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ فَلَا يَمْنَعُ الرَّدَّ، وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ شَرْطَ الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ وَقْتَ الرَّدِّ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَقْتَ الْقَبْضِ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّبَ بِعَيْبٍ زَائِدٍ بِالْكَسْرِ فَلَوْ رُدَّ عَلَيْهِ لَرُدَّ مَعِيبًا بِعَيْبَيْنِ فَانْعَدَمَ شَرْطُ الرَّدِّ وَأَمَّا قَوْلُهُ " الْبَائِعُ سَلَّطَهُ عَلَى الْكَسْرِ " فَنَعَمْ، لَكِنْ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَكَّنَهُ مِنْ الْكَسْرِ بِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ فَيَكُونُ هُوَ بِالْكَسْرِ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا فِي مِلْكِ الْبَائِعِ بِأَمْرِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ دَلَالَةَ الرِّضَا بِالْكَسْرِ، وَإِنْ وَجَدَ بَعْضَهُ فَاسِدًا دُونَ الْبَعْضِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْفَاسِدُ كَثِيرًا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ فِي الْقَدْرِ الْفَاسِدِ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِذَا بَطَلَ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ يَفْسُدُ فِي الْبَاقِي كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَكَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ وَلَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ قَلِيلَ الْفَسَادِ فِيهِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ إذْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي الْعَادَاتِ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ فَسَادٍ فَكَانَ فِيهِ ضَرُورَةً فَيَلْتَحِقُ ذَلِكَ الْقَدْرُ بِالْعَدَمِ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ فَصَّلَ تَفْصِيلًا آخَرَ فَقَالَ: إذَا وَجَدَ كُلَّهُ فَاسِدًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ. وَإِنْ كَانَ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ كَالرُّمَّانِ وَنَحْوِهِ فَالْبَيْعُ لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ كَانَ الْقِشْرُ مَالًا، وَلَكِنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ نَاقِصًا وَقَبِلَ قِشْرَهُ وَرَدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّبَ بِعَيْبٍ زَائِدٍ، وَرَدَّ عَلَى الْمُشْتَرِي حِصَّةَ الْمَعِيبِ جَبْرًا لِحَقِّهِ، وَإِنْ وَجَدَ بَعْضَهُ فَاسِدًا فَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ رَجَعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ دُونَ الْقِشْرِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ إلَّا إذَا كَانَ الْفَاسِدُ مِنْهُ قَلِيلًا قَدْرَ مَا لَا يَخْلُو مِثْلُهُ عَنْ مِثْلِهِ فَلَا يَرُدُّ وَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنْ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الزِّيَادَةِ أَنَّهَا لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ حَدَثَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِمَّا أَنْ حَدَثَتْ بَعْدَهُ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الزِّيَادَتَيْنِ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً أَوْ مُنْفَصِلَةً، وَالْمُتَّصِلَةُ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ كَالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالْكِبَرِ وَالسِّمَنِ وَالسَّمْعِ وَانْجِلَاءِ بَيَاضِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ وَالسَّمْنِ أَوْ الْعَسَلِ الْمَلْتُوتِ بِالسَّوِيقِ وَالْبِنَاءِ فِي الْأَرْضِ وَنَحْوِهَا، وَكَذَلِكَ الْمُنْفَصِلَةُ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَنَحْوِهَا، أَوْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْأَصْلِ كَالْكَسْبِ وَالصَّدَقَةِ وَالْغَلَّةِ، وَالْبَيْعُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا. (أَمَّا) الزِّيَادَةُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَحُكْمُهَا نَذْكُرُهُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَأَمَّا) فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ: فَإِنْ حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً مُتَوَلَّدَةً مِنْ الْأَصْلِ

فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ حَقِيقَةً لِقِيَامِهَا بِالْأَصْلِ فَكَانَتْ مَبِيعَةً تَبَعًا، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا كَانَ تَابِعًا فِي الْعَقْدِ يَكُونُ تَابِعًا فِي الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ رَفَعَ الْعَقْدَ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ بِالْفَسْخِ فِيهِ مَقْصُودًا، وَيَنْفَسِخُ فِي الزِّيَادَةِ تَبَعًا لِلِانْفِسَاخِ فِي الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْأَصْلِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ بَلْ هِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْبَيْعِ فِيهَا أَصْلًا وَرَأْسًا؟ فَلَوْ رَدَّ الْمَبِيعَ لَكَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَرُدَّهُ وَحْدَهُ بِدُونِ الزِّيَادَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ مَعَ الزِّيَادَةِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَذَّرٌ لِتَعَذُّرِ الْفَصْلِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ فِي الْعَقْدِ فَلَا تَكُونُ تَابِعَةً فِي الْفَسْخِ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ قَابِضًا لِلْمَبِيعِ بِإِحْدَاثِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فَصَارَ كَأَنَّهَا حَدَثَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَحُدُوثُهَا بَعْدَ الْقَبْضِ يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ فَإِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي رَدَّهُمَا جَمِيعًا، وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ عِنْدَنَا أَنَّهَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ، وَسَنَذْكُرُ الْفَرْقَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ لَمْ يَجِدْ بِالْأَصْلِ عَيْبًا وَلَكِنْ وَجَدَ بِالزِّيَادَةِ عَيْبًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ مَبِيعَةٌ تَبَعًا، وَالْمَبِيعُ تَبَعًا لَا يُحْتَمَلُ فَسْخُ الْعَقْدِ فِيهِ مَقْصُودًا إلَّا إذَا كَانَ حُدُوثُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ مِمَّا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الْمَبِيعِ كَوَلَدِ الْجَارِيَةِ فَلَهُ خِيَارُ الرَّدِّ لَكِنْ لَا لِلزِّيَادَةِ بَلْ لِلنُّقْصَانِ. وَلَوْ قَبَضَ الْأَصْلَ وَالزِّيَادَةَ جَمِيعًا ثُمَّ وَجَدَ بِالْأَصْلِ عَيْبًا لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ بَعْدَمَا قَسَّمَ الثَّمَنَ عَلَى قَدْرِ الْأَصْلِ وَقْتَ الْبَيْعِ وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ وَقْتَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا تَأْخُذُ قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ بِالْقَبْضِ، كَذَلِكَ يُعْتَبَرُ قَبْضُهَا وَقْتَ الْقَبْضِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ بِالْأَصْلِ عَيْبًا وَلَكِنَّهُ وَجَدَ بِالزِّيَادَةِ عَيْبًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا خَاصَّةً بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ بِالْقَبْضِ فَيَرُدُّهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً مِنْ الْأَصْلِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ لِانْعِدَامِ ثُبُوتِ حُكْمِ الْبَيْعِ فِيهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مَمْلُوكَةٌ بِسَبَبٍ عَلَى حِدَةٍ أَوْ بِمِلْكِ الْأَصْلِ فَبِالرَّدِّ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ وَتَبْقَى الزِّيَادَةُ مَمْلُوكَةً بِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ فِيهِ مَقْصُودًا أَوْ بِمِلْكِ الْأَصْلِ لَا بِالْبَيْعِ فَكَانَتْ رِبْحًا لَا رِبًا لِاخْتِصَاصِ الرِّبَا بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ فَضْلُ مَالٍ قُصِدَ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْبَيْعِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، وَلَمْ يُوجَدْ ثُمَّ إذَا رَدَّ الْأَصْلَ فَالزِّيَادَةُ تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ ثَمَنٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَكِنَّهَا لَا تَطِيبُ لَهُ؛ لِأَنَّهَا حَدَثَتْ عَلَى مِلْكِهِ إلَّا أَنَّهَا رِبْحٌ مَا لَمْ يَضْمَنْ فَلَا تَطِيبُ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الزِّيَادَةُ تَكُونُ لِلْبَائِعِ لَكِنَّهَا لَا تَطِيبُ لَهُ وَهَذَا إذَا اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فَإِنْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ وَاخْتَارَ الْبَيْعَ فَالزِّيَادَةُ لَا تَطِيبُ لَهُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهَا رِبْحٌ مَا لَمْ يَضْمَنْ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَأَنَّهُ تَفْسِيرُ الرِّبَا وَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ مَعَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ ثُمَّ وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا: فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ هَالِكَةً لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ خَاصَّةً بِجَمِيعِ الثَّمَنِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً فَكَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَرُدُّ مَعَهُ الزِّيَادَةَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ حَدَثَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَرُدُّهَا مَعَ الْأَصْلِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَا تَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ فَلَا تَتْبَعُهُ فِي حُكْمِ الْفَسْخِ وَلَوْ وَجَدَ بِالزِّيَادَةِ عَيْبًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا؛ لِأَنَّهُ لَا حِصَّةَ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ مِنْ الثَّمَنِ فَلَا تَحْتَمِلُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ رُدَّتْ لَرُدَّتْ بِغَيْرِ شَيْءٍ هَذَا إذَا حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَأَمَّا إذَا حَدَثَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ إنْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِرَدِّهَا مَعَ الْأَصْلِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ حَقِيقَةً وَقْتَ الْفَسْخِ، فَبِالرَّدِّ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ مَقْصُودًا وَيَنْفَسِخُ فِي الزِّيَادَةِ تَبَعًا. وَإِنْ أَبَى أَنْ يَرُدَّهُ وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ نُقْصَانَ الْعَيْبِ مِنْ الْبَائِعِ وَأَبَى الْبَائِعُ إلَّا الرَّدَّ مَعَ الْعَيْبِ وَدَفَعَ جَمِيعَ الثَّمَنِ اُخْتُلِفَ فِيهِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَبُو يُوسُفَ: لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ نُقْصَانَ الْعَيْبِ مِنْ الْبَائِعِ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ وَيَطْلُبَ الرَّدَّ وَيَقُولَ: لَا أُعْطِيك نُقْصَانَ الْعَيْبِ وَلَكِنْ رُدَّ عَلَيَّ الْمَبِيعَ مَعِيبًا لِأَدْفَعَ إلَيْك جَمِيعَ الثَّمَنِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ عَلَى الْبَائِعِ إذَا أَبَى ذَلِكَ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَقُولَ لَهُ: رُدَّ عَلَيَّ الْمَبِيعَ حَتَّى أَرُدَّ إلَيْك الثَّمَنَ كُلَّهُ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنْ الْأَصْلِ بَعْدَ الْقَبْضِ هَلْ تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ إذَا لَمْ يَرْضَ صَاحِبُ الزِّيَادَةِ - وَهُوَ الْمُشْتَرِي - بِرَدِّ الزِّيَادَةِ وَيُرِيدُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ؟ عِنْدَهُمَا يَمْنَعُ، وَعِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ. وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي النِّكَاحِ إذَا ازْدَادَ الْمَهْرُ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ بَعْدَ الْقَبْضِ ثُمَّ وَرَدَ الطَّلَاقُ قَبْلَ

الدُّخُولِ أَنَّهَا هَلْ تَمْنَعُ التَّنْصِيفَ؟ عِنْدَهُمَا تَمْنَعُ، وَعَلَيْهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ يَوْمَ قَبَضَتْ، وَعِنْدَهُ لَا تَمْنَعُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي النِّكَاحِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْأَصْلِ تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْإِجْمَاعِ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ رَدَّ الْأَصْلَ فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ وَحْدَهُ وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ مَعَ الزِّيَادَةِ، وَالرَّدُّ وَحْدَهُ لَا يُمْكِنُ وَالزِّيَادَةُ لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ فِي الْعَقْدِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَهَا تَابِعَةً فِي الْفَسْخِ إلَّا إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ جَدِيدٍ وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَمْنَعُ، وَيَرُدُّ الْأَصْلَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ وَكَذَلِكَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ تَمْنَعُ الْفَسْخَ عِنْدَنَا مِنْ الْإِقَالَةِ، وَالرَّدُّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنَّ الزِّيَادَةَ عِنْدَنَا مَبِيعَةٌ تَبَعًا لِثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِيهِ تَبَعًا، وَبِالرَّدِّ بِدُونِ الزِّيَادَةِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ مَقْصُودًا وَتَبْقَى الزِّيَادَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مَبِيعًا مَقْصُودًا بِلَا ثَمَنٍ لِيَسْتَحِقَّ بِالْبَيْعِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ الرِّبَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ. بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُرَدُّ بِدُونِ الْأَصْلِ أَيْضًا احْتِرَازًا عَنْ الرِّبَا بَلْ تُرَدُّ مَعَ الْأَصْلِ، وَرَدُّهَا مَعَ الْأَصْلِ لَا يَتَضَمَّنُ الرِّبَا ثُمَّ إنَّمَا لَا يُرَدُّ الْأَصْلُ مَعَ الزِّيَادَةِ هَهُنَا وَرُدَّ هُنَاكَ، أَمَّا امْتِنَاعُ رَدِّ الْأَصْلِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ فَلِمَا قُلْنَا إنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا (وَأَمَّا) رَدُّهُ مَعَ الزِّيَادَةِ فَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ التَّابِعُ بَعْدَ الرَّدِّ رِبْحَ مَا لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي الزِّيَادَةِ، وَيَعُودُ إلَى الْبَائِعِ وَلَمْ يَصِلْ إلَى الْمُشْتَرِي بِمُقَابَلَةِ شَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ فِي الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ لَا حِصَّةَ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ فَكَانَ الْوَلَدُ لِلْبَائِعِ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَأَمَّا الْوَلَدُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَقَدْ حَصَلَ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ فَلَوْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِيهِ لَا يَكُونُ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ بَلْ رِبْحَ مَا ضُمِنَ وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْأَصْلِ لَا يَمْتَنِعُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ الْأَصْلُ عَلَى الْبَائِعِ وَالزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي طَيِّبَةٌ لَهُ؛ لِمَا مَرَّ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ أَصْلًا لِانْعِدَامِ ثُبُوتِ حُكْمِ الْبَيْعِ فِيهَا بَلْ مُلِكَتْ بِسَبَبٍ عَلَى حِدَةٍ فَأَمْكَنَ إثْبَاتُ حُكْمِ الْفَسْخِ فِيهِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ فَيُرَدُّ الْأَصْلُ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِيهِ وَتَبْقَى الزِّيَادَةُ مَمْلُوكَةً لِلْمُشْتَرِي بِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ فِيهَا شَرْعًا، فَتَطِيبُ لَهُ. هَذَا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ قَائِمَةً فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَأَمَّا إذَا كَانَتْ هَالِكَةً فَهَلَاكُهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ: فَإِنْ كَانَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْأَصْلَ بِالْعَيْبِ وَتُجْعَلُ الزِّيَادَةُ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ وَرَدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ وَيَرُدَّ نُقْصَانَ الْعَيْبِ، سَوَاءٌ كَانَ حُدُوثُ ذَلِكَ أَوْجَبَ نُقْصَانًا فِي الْأَصْلِ أَوْ لَمْ يُوجِبْ نُقْصَانًا فِيهِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الزِّيَادَةِ بِمَنْزِلَةِ إتْلَافِ جُزْءٍ مُتَّصِلٍ بِالْأَصْلِ لِكَوْنِهَا مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ، وَذَا يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فَيَقُومُ الضَّمَانُ مَقَامَ الْعَيْنِ فَكَأَنَّ عَيْنَهُ قَائِمَةٌ فَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُفْسَخُ بِهِ الْعَقْدُ فَالْكَلَامُ هَهُنَا يَقَعُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ مَا يَنْفَسِخُ بِهِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ الْفَسْخِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَوْعَانِ: اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ، فَالِاخْتِيَارِيُّ نَحْوُ قَوْلِهِ فَسَخْتُهُ أَوْ نَقَضْتُهُ أَوْ رَدَدْته وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ، وَالضَّرُورِيُّ هَلَاكُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ. (وَأَمَّا) شَرَائِطُ جَوَازِ الْفَسْخِ فَمِنْهَا سُقُوطُ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَلْزَمُ بِسُقُوطِ الْخِيَارِ فَيَخْرُجُ عَنْ احْتِمَالِ الْفَسْخِ وَمِنْهَا عِلْمُ صَاحِبِهِ بِالْفَسْخِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ أَوْ قَبْلَهُ بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ لَهُ الْقَضَاءُ أَوْ الرِّضَا؟ إنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ قَضَاءُ الْقَاضِي وَلَا رِضَا الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ يُشْتَرَطُ لَهُ الْقَضَاءُ أَوْ الرِّضَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَتَضَمَّنَ الْفَسْخُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ التَّمَامِ فَإِنْ تَضَمَّنَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ التَّمَامِ إضْرَارٌ بِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَالضَّرَرُ وَاجِبُ الدَّفْعِ مَا أَمْكَنَ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ الْمَرْضِيَّ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَضَرِّرِ وَلَا يَجِبُ دَفْعُهُ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ مَعِيبًا فَأَرَادَ رَدَّ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا وَاحِدًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا؛ كَالْعَبْدِ وَالثَّوْبِ وَالدَّارِ وَالْكَرْمِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ الْمُتَقَارِبِ فِي وِعَاءٍ وَاحِدٍ أَوْ صُبْرَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةً كَالْعَبْدَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ وَالدَّابَّتَيْنِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ فِي وِعَاءَيْنِ أَوْ صُبْرَتَيْنِ وَكُلِّ شَيْئَيْنِ يُنْتَفَعُ بِأَحَدِهِمَا فِيمَا وُضِعَ لَهُ بِدُونِ الْآخَرِ (وَإِمَّا) أَنْ يَكُونَ شَيْئَيْنِ حَقِيقَةً وَشَيْئًا وَاحِدًا تَقْدِيرًا كَالْخُفَّيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ وَالْمُكَعَّبَيْنِ

وَمِصْرَاعَيْ الْبَابِ وَكُلُّ شَيْءٍ لَا يُنْتَفَعُ بِأَحَدِهِمَا فِيمَا وُضِعَ لَهُ بِدُونِ الْآخَرِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ كُلَّ الْمَبِيعِ وَإِمَّا أَنْ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ قَبَضَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ. وَالْحَادِثُ فِي الْمَبِيعِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْبًا أَوْ اسْتِحْقَاقًا: أَمَّا الْعَيْبُ فَإِنْ وَجَدَهُ بِبَعْضِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِشَيْءٍ مِنْهُ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِالْكُلِّ وَلَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْكُلَّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَبِيعُ شَيْئًا وَاحِدًا أَوْ أَشْيَاءَ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَمَامَ لَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَتَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْلَ تَمَامِهَا بَاطِلٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ قَبْلَ الْقَبْضِ أَنَّ الْمَوْجُودَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَصْلُ الْعَقْدِ وَالْمِلْكِ لَا صِفَةَ التَّأْكِيدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ الِانْفِسَاخُ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّهُ عَدَمُ التَّأْكِيدِ وَإِذَا قَبَضَ وَقَعَ الْأَمْرُ عَنْ الِانْفِسَاخِ بِالْهَلَاكِ فَكَانَ حُصُولُ التَّأْكِيدِ بِالْقَبْضِ، وَالتَّأْكِيدُ إثْبَاتٌ مِنْ وَجْهٍ أَوْ لَهُ شُبْهَةُ الْإِثْبَاتِ، وَكَذَا مِلْكُ التَّصَرُّفِ يَقِفُ عَلَى الْقَبْضِ فَيَدُلُّ عَلَى نُقْصَانِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَنُقْصَانُ الْمِلْكِ دَلِيلُ نُقْصَانِ الْعَقْدِ وَكَذَا الْمُشْتَرَى إذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِنَفْسِ الرَّدِّ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا إلَى التَّرَاضِي. وَلَوْ كَانَتْ الصَّفْقَةُ تَامَّةً قَبْلَ الْقَبْضِ لَمَا احْتَمَلَ الِانْفِسَاخَ بِنَفْسِ الرَّدِّ كَمَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَيَثْبُتُ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ الصَّفْقَةَ لَيْسَتْ بِتَامَّةٍ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ تَمَامِهَا أَنَّ التَّفْرِيقَ إضْرَارٌ بِالْبَائِعِ، وَالضَّرَرُ وَاجِبُ الدَّفْعِ مَا أَمْكَنَ، وَبَيَانُ الضَّرَرِ أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا وَاحِدًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَشْيَاءَ حَقِيقَةً شَيْئًا وَاحِدًا تَقْدِيرًا، وَالتَّفْرِيقُ تَضَمَّنَ الشَّرِكَةَ وَالشَّرِكَةُ فِي الْأَعْيَانِ عَيْبٌ فَكَانَ التَّفْرِيقُ عَيْبًا وَأَنَّهُ عَيْبٌ زَائِدٌ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْبَائِعِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْبَائِعُ. وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ أَشْيَاءَ فَالتَّفْرِيقُ يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا آخَرَ وَهُوَ لُزُومُ الْبَيْعِ فِي الْجَيِّدِ بِثَمَنِ الرَّدِيءِ؛ لِأَنَّ ضَمَّ الرَّدِيءِ إلَى الْجَيِّدِ وَالْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي الصَّفْقَةِ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ تَرْوِيجًا لِلرَّدِيءِ بِوَاسِطَةِ الْجَيِّدِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَرَى الْمُشْتَرِي الْعَيْبَ بِالرَّدِيءِ فَيَرُدَّهُ فَيَلْزَمَ الْبَيْعُ فِي الْجَيِّدِ بِثَمَنِ الرَّدِيءِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْبَائِعُ فَدَلَّ أَنَّ فِي التَّفْرِيقِ ضَرَرًا فَيَجِبُ دَفْعُهُ مَا أَمْكَنَ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ التَّفْرِيقُ فِي الْقَبُولِ بِأَنْ أَضَافَ الْإِيجَابَ إلَى جُمْلَةٍ فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْبَائِعِ بِلُزُومِ حُكْمِ الْبَيْعِ فِي الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ إضَافَةِ الْإِيجَابِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ إلَّا فِي الْجُمْلَةِ فَلَا يَصِحُّ الْقَبُولُ إلَّا فِي الْجُمْلَةِ لِئَلَّا يَزُولَ مِلْكُهُ مِنْ غَيْرِ إزَالَتِهِ فَيَتَضَرَّرَ بِهِ، عَلَى أَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِالْقَبْضِ كَانَ الْقَبْضُ فِي مَعْنَى الْقَبُولِ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ رَدُّ الْبَعْضِ وَقَبْضُ الْبَعْضِ تَفْرِيقًا فِي الْقَبُولِ وَمِنْ وَجْهٍ فَلَا يَمْلِكُ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ بِرَدِّ الْمَعِيبِ عَلَيْهِ فَيَأْخُذَهُ وَيَدْفَعَ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ فَيَجُوزَ وَيَأْخُذَ الْمُشْتَرِي الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ كَانَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ نَظَرًا لَهُ فَإِذَا رَضِيَ بِهِ فَلَمْ يَنْظُرْ لِنَفْسِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ بَعْضَ الْمَبِيعِ دُونَ الْبَعْضِ فَوَجَدَ بِبَعْضِهِ عَيْبًا فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ رَدَّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَبِيعُ شَيْئًا وَاحِدًا أَوْ أَشْيَاءَ، وَسَوَاءٌ وَجَدَ الْعَيْبَ بِغَيْرِ الْمَقْبُوضِ أَوْ بِالْمَقْبُوضِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِقَبْضِ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَكَانَ رَدُّ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ الْعَيْبَ بِغَيْرِ الْمَقْبُوضِ فَكَذَلِكَ فَأَمَّا إذَا وَجَدَ بِالْمَقْبُوضِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ، فَهُوَ نَظَرَ إلَى الْمَعِيبِ مِنْهُمَا أَيِّهِمَا كَانَ وَاعْتَبَرَ الْآخَرَ بِهِ فَإِنْ كَانَ الْمَعِيبُ غَيْرَ الْمَقْبُوضِ اُعْتُبِرَ الْآخَرُ غَيْرَ مَقْبُوضٍ فَكَأَنَّهُمَا لَمْ يَقْبِضَا جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ الْمَعِيبُ مَقْبُوضًا اُعْتُبِرَ الْآخَرُ مَقْبُوضًا فَكَأَنَّهُ قَبَضَهُمَا جَمِيعًا لَكِنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ فِي حَدِّ التَّعَارُضِ إذْ لَيْسَ اعْتِبَارُ غَيْرِ الْمَعِيبِ بِالْمَعِيبِ فِي الْقَبْضِ وَعَدَمِهِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ الْمَعِيبِ بِغَيْرِ الْمَعِيبِ فِي الْقَبْضِ بَلْ هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَبْضِ، وَالْعَمَلُ بِالْأَصْلِ عِنْدَ التَّعَارُضِ أَوْلَى هَذَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا مِنْ الْمَبِيعِ أَوْ قَبَضَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ. فَإِنْ كَانَ قَبَضَ الْكُلَّ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ شَيْئًا وَاحِدًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِالْكُلِّ بِكُلِّ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْكُلَّ وَاسْتَرَدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ قَدْرَ الْمَعِيبِ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ إلْزَامَ عَيْبِ الشَّرِكَةِ وَأَنَّهَا عَيْبٌ حَادِثُ مَانِعٌ مِنْ الرَّدِّ وَإِنْ كَانَ أَشْيَاءَ حَقِيقَةً؛ شَيْئًا وَاحِدًا تَقْدِيرًا - فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ إفْرَادَ أَحَدِهِمَا بِالرَّدِّ إضْرَارٌ بِالْبَائِعِ إذْ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِأَحَدِهِمَا فِيمَا وُضِعَ لَهُ بِدُونِ الْآخَرِ فَكَانَا فِيمَا وُضِعَا لَهُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَكَانَ الْمَبِيعُ شَيْئًا

وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَبِالرَّدِّ تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَالشَّرِكَةُ فِي الْأَعْيَانِ عَيْبٌ وَإِذَا كَانَ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِأَحَدِهِمَا بِدُونِ صَاحِبِهِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ كَانَ التَّفْرِيقُ فَيَعُودُ الْمَبِيعُ إلَى الْبَائِعِ بِعَيْبٍ زَائِدٍ حَادِثٍ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ أَشْيَاءَ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْكُلَّ إلَّا عِنْدَ التَّرَاضِي وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يَرُدُّهُمَا أَوْ يُمْسِكُهُمَا. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فِي الرَّدِّ إضْرَارًا بِالْبَائِعِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ضَمَّ الرَّدِيءِ إلَى الْجَيِّدِ فِي الْبَيْعِ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ لِيُرَوِّجَ الرَّدِيءَ بِوَاسِطَةِ الْجَيِّدِ، وَقَدْ يَكُونُ الْعَيْبُ بِالرَّدِيءِ فَيَرُدُّهُ عَلَى الْبَائِعِ وَيَلْزَمُهُ الْبَيْعُ فِي الْجَيِّدِ بِثَمَنِ الرَّدِيءِ، وَهَذَا إضْرَارٌ بِالْبَائِعِ وَلِهَذَا امْتَنَعَ الرَّدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَذَا هَذَا. (وَلَنَا) أَنَّ مَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ وُجِدَ فِي أَحَدِهِمَا فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ أَحَدَهُمَا؛ وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ إنَّمَا يَثْبُتُ لِفَوَاتِ السَّلَامَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْعَقْدِ دَلَالَةً؛ وَالثَّابِتَةِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالسَّلَامَةُ فَاتَتْ فِي أَحَدِهِمَا فَكَانَ لَهُ رَدُّهُ خَاصَّةً فَلَوْ امْتَنَعَ الرَّدُّ إنَّمَا يَمْتَنِعُ لِتَضَمُّنِهِ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ، وَتَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ بَاطِلٌ قَبْلَ التَّمَامِ لَا بَعْدَهُ وَالصَّفْقَةُ قَدْ تَمَّتْ بِقَبْضِهِمَا فَزَالَ الْمَانِعُ. (وَأَمَّا) قَوْلُهُمَا: يَتَضَرَّرُ الْبَائِعُ بِرَدِّ الرَّدِيءِ خَاصَّةً، فَنَعَمْ لَكِنَّ هَذَا ضَرَرٌ مَرْضِيٌّ بِهِ مِنْ جِهَتِهِ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى بَيْعِ الْمَعِيبِ وَتَدْلِيسِ الْعَيْبِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِالْعَيْبِ - دَلَالَةُ الرِّضَا بِالرَّدِّ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَمَامَ لِلْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَكُونُ قَبْلَ الْقَبْضِ دَلَالَةَ الرِّضَا بِالرَّدِّ فَكَانَ الرَّدُّ ضَرَرًا غَيْرَ مَرْضِيٍّ بِهِ فَيَجِبُ دَفْعُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ رَدَّ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ سَوَاءٌ قَبَضَ الْكُلَّ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا أَوْ قَبَضَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ شَيْئًا وَاحِدًا أَوْ أَشْيَاءَ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرُدُّهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ. وَلَوْ تَمَّتْ الصَّفْقَةُ لَمَا اُحْتُمِلَ الرَّدُّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي دَلَّ أَنَّ هَذَا الْخِيَارَ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ، وَلَا يَجُوزُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي: أَنَا أُمْسِكُ الْمَعِيبَ وَآخُذُ النُّقْصَانَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أُمْسِكُ الْمَعِيبَ - دَلَالَةُ الرِّضَا بِالْمَعِيبِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ أَشْيَاءَ فَوَجَدَ بِالْكُلِّ عَيْبًا فَأَرَادَ رَدَّ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ أَنَّ الْمَرْدُودَ إنْ كَانَ مِمَّا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ بِهِ وَحْدَهُ لَكَانَ لَهُ رَدُّهُ وَحْدَهُ كَالْعَبْدَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ - فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَمْسَكَ الْبَعْضَ فَقَدْ رَضِيَ بِعَيْنِهِ فَبَطَل حَقُّ الرَّدِّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ صِفَةَ السَّلَامَةِ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوطَةً وَلَا مُسْتَحَقَّةً بِالْعَقْدِ فِيهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ كَانَ صَحِيحًا فِي الْأَصْلِ وَوَجَدَ بِالْآخَرِ عَيْبًا فَيَرُدُّهُ وَإِنْ كَانَ الْمَرْدُودُ مِمَّا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ بِهِ وَحْدَهُ لَكَانَ لَا يَرُدُّهُ كَالْخُفَّيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ وَنَحْوِهِمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا تَعْيِيبٌ. وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا قَبْلَ الْقَبْضِ فَقَبَضَ الْمَعِيبَ - وَهُوَ عَالِمٌ بِالْعَيْبِ - لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّ وَسَقَطَ خِيَارُهُ وَلَزِمَهُ الْعَبْدَانِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمَعِيبِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ دَلِيلُ الرِّضَا وَلِلْقَبْضِ شَبَهٌ بِالْعَقْدِ فَكَانَ الرِّضَا بِهِ عِنْدَ الْقَبْضِ كَالرِّضَا بِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلَوْ رَضِيَ بِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ يَسْقُطُ خِيَارُهُ فَلَزِمَاهُ جَمِيعًا، كَذَا هَذَا وَلَوْ قَبَضَ الصَّحِيحَ مِنْهُمَا، وَلَوْ كَانَا مَعِيبَيْنِ فَقَبَضَ أَحَدَهُمَا لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالصَّفْقَةُ لَا تَتِمُّ بِقَبْضِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَتِمُّ بِقَبْضِ الْكُلِّ فَلَوْ لَزِمَهُ الْعَقْدُ فِي الْمَقْبُوضِ دُونَ الْآخَرِ لَتَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ التَّمَامِ، وَتَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ بَاطِلٌ وَلَا يُمْكِنُ إسْقَاطُ حَقِّهِ عَنْ غَيْرِ الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ فَبَقِيَ لَهُ الْخِيَارُ عَلَى مَا كَانَ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الِاسْتِحْقَاقُ فَإِنْ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَمْ يَجُزْ الْمُسْتَحَقُّ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَمْ يَكُنْ مِلْكَ الْبَائِعِ، وَلَمْ تُوجَدْ الْإِجَازَةُ مِنْ الْمَالِكِ فَبَطَلَ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي إنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ سَوَاءٌ كَانَ اسْتِحْقَاقُ مَا اسْتَحَقَّهُ يُوجِبُ الْعَيْبَ فِي الْبَاقِي أَوْ لَا يُوجِبُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَرْضَ الْمُسْتَحِقُّ فَقَدَ تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ التَّمَامِ فَصَارَ كَعَيْبٍ ظَهَرَ بِالسِّلْعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْخِيَارَ فَكَذَا هَذَا وَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ قَبْضِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ سَوَاءٌ وَرَدَ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى الْمَقْبُوضِ وَعَلَى غَيْرِ الْمَقْبُوضِ. فَإِنْ كَانَ قَبَضَ الْكُلَّ ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ يَنْظُرُ إنْ كَانَ اسْتِحْقَاقُ مَا اسْتَحَقَّ يُوجِبُ الْعَيْبَ فِي الْبَاقِي بِأَنْ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ شَيْئًا وَاحِدًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا

كَالدَّارِ وَالْكَرْمِ وَالْأَرْضِ وَالْعَبْدِ وَنَحْوِهَا - فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي الْبَاقِي إنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْأَعْيَانِ عَيْبٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ شَيْئَيْنِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ شَيْئًا وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَاسْتَحَقَّ أَحَدَهُمَا فَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي وَإِنْ كَانَ اسْتِحْقَاقُ مَا اسْتَحَقَّ لَا يُوجِبُ الْعَيْبَ فِي الْبَاقِي بِأَنْ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ شَيْئَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى كَالْعَبْدَيْنِ فَاسْتَحَقَّ أَحَدَهُمَا أَوْ كَانَ صُبْرَةَ حِنْطَةٍ أَوْ جُمْلَةَ وَزْنِيٍّ فَاسْتَحَقَّ بَعْضَهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارُ الرَّدِّ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَمَا لَا يَمْنَعُ. فَالْكَلَامُ فِي حَقِّ الرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ هَذَا الْحَقُّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَمَا لَا يَبْطُلُ (أَمَّا) الشَّرَائِطُ (فَمِنْهَا) امْتِنَاعُ الرَّدِّ وَتَعَذُّرُهُ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ إمْكَانِ الرَّدِّ حَتَّى لَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا ثُمَّ أَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يُمْسِكَ الْمَبِيعَ مَعَ إمْكَانِ رَدِّهِ عَلَى الْبَائِعِ وَيَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ كَالْخُلْفِ عَنْ الرَّدِّ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْخُلْفِ وَلِأَنَّ إمْسَاكَ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ مَعَ عِلْمِهِ دَلَالَةُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ، وَالرِّضَا بِالْعَيْبِ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ كَمَا يَمْنَعُ الرَّدَّ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُ الرَّدِّ لَا مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِهِ لَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حَابِسًا الْمَبِيعَ بِفِعْلِهِ مُمْسِكًا عَنْ الرَّدِّ، وَهَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْحَقِّ أَصْلًا وَرَأْسًا وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ أَوْ انْتَقَصَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ فِي الْهَلَاكِ لِضَرُورَةِ فَوَاتِ الْمَحَلِّ، وَفِي النُّقْصَانِ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَى الْبَائِعِ وَهُوَ دَفْعُ ضَرَرٍ زَائِدٍ يَلْحَقُهُ بِالرَّدِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقُولَ: أَنَا أَقْبَلُهُ مَعَ النُّقْصَانِ فَأَدْفَعُ إلَيْك جَمِيعَ الثَّمَنِ؟ وَإِذَا كَانَ امْتِنَاعُ الرَّدِّ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ وَهُوَ لُزُومُ الضَّرَرِ إيَّاهُ بِالرَّدِّ فَإِذَا دَفَعَ الضَّرَرَ عَنْهُ بِامْتِنَاعِ الرَّدِّ لَا بُدَّ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي بِالرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ، وَسَوَاءٌ كَانَ النُّقْصَانُ يَرْجِعُ إلَى الذَّاتِ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ أَوْ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ كَمَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ جَارِيَةً ثَيِّبًا فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ امْتَنَعَ لَا مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي بَلْ مِنْ قِبَلِ الْبَائِعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُقَبِّلَهَا مَوْطُوءَةً؟ . وَلَوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ عِنْدَ الْبَائِعِ فَوَطِئَهَا زَوْجُهَا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا قَدْ وَطِئَهَا فِي يَدِ الْبَائِعِ لَمْ يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَطْءَ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ، وَإِمْكَانُ الرَّدِّ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَطَأْهَا عِنْدَ الْبَائِعِ فَوَطِئَهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الْبِكْرِ يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ نُقْصَانَ الْعَيْنِ بِإِزَالَةِ الْعُذْرَةِ، وَالِامْتِنَاعُ هَهُنَا لَيْسَ لِمَعْنًى مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي بَلْ مِنْ قِبَلِ الْبَائِعِ فَلَا يُمْنَعُ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَمْنَعُ الرَّدَّ أَمْ لَا؟ وَقِيلَ لَا يَمْنَعُ فَلَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ مَعَ إمْكَانِ الرَّدِّ وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا حَقِيقَةً هَالِكًا تَقْدِيرًا بِأَنْ أُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ الْهَلَاكِ كَمَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ وَخَاطَهُ، أَوْ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا، أَوْ دَقِيقًا فَخَبَزَهُ، أَوْ لَحْمًا فَشَوَاهُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مِنْ قِبَلِ الْبَائِعِ وَلَوْ حَدَثَ فِي الْمَبِيعِ أَوْ بِسَبَبِهِ زِيَادَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ الرَّدِّ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ هَهُنَا لَا مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي بَلْ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَوْ رَدَّ الْأَصْلَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ لَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ مَبِيعًا مَقْصُودًا بِلَا ثَمَنٍ، وَهَذَا تَفْسِيرُ الرِّبَا فِي مُتَعَارَفِ الشَّرْعِ. وَحُرْمَةُ الرِّبَا تَثْبُتُ حَقًّا لِلشَّرْعِ وَلِهَذَا لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى الرَّدِّ لَا يُقْضَى بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ حَقًّا لِلشَّرْعِ لَا تَسْقُطُ بِرِضَا الْعَبْدِ وَإِذَا كَانَ امْتِنَاعُ الرَّدِّ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الشَّرْعِ لَا إلَى الْمُشْتَرِي بَقِيَ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي وَصْفِ السَّلَامَةِ وَاجِبَ الرِّعَايَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ جَبْرًا لِحَقِّهِ وَلَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ الْمَانِعَةُ سَمْنًا أَوْ عَسَلًا لَتَّهُ بِسَوِيقٍ أَوْ عُصْفُرًا أَوْ زَعْفَرَانًا صَبَغَ بِهِ الثَّوْبَ أَوْ بِنَاءً عَلَى الْأَرْضِ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ التَّعَذُّرَ لَيْسَ مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي وَلَا مِنْ قِبَلِ الْبَائِعِ بَلْ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقُولَ أَنَا آخُذُهُ كَذَلِكَ؟ وَتَعَذُّرُ الرَّدِّ لِحَقِّ الشَّرْعِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ وَهَبَهُ ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ لَمْ يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ هَهُنَا مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ صَارَ مُمْسِكًا عَنْ الرَّدِّ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَامَ مَقَامَهُ فَصَارَ مُبْطِلًا لِلرَّدِّ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَهُ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ صَيْرُورَةَ الْعَبْدِ حُرًّا يَدًا فَصَارَ بِالْكِتَابَةِ مُمْسِكًا عَنْ الرَّدِّ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا؛ لِأَنَّ

الْإِعْتَاقَ عَلَى مَالٍ فِي حَقِّ الْمُعْتِقِ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْعِوَضَ بِمُقَابَلَتِهِ، وَالْبَيْعُ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ، كَذَا هَذَا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وَلَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَرْجِعَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَرْجِعُ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الرَّدَّ امْتَنَعَ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ أَوْ الْكِتَابَةَ (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ تَعَذُّرَ الرَّدِّ هَهُنَا لَيْسَ مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَيْسَ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ بَلْ الْمِلْكُ يَنْتَهِي بِالْإِعْتَاقِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْآدَمِيِّ عَدَمُ الْمِلْكِ وَالْمَالِيَّةِ إذْ الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا؛ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَوْلَادُ آدَمَ وَحَوَّاءَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ الْحُرَّيْنِ يَكُونُ حُرًّا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ ضَرَبَ الْمِلْكَ وَالْمَالِيَّةَ عَلَيْهِ بِعَارِضِ الْكُفْرِ مُؤَقَّتًا إلَى غَايَةِ الْإِعْتَاقِ، وَالْمُؤَقَّتُ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ فَيَنْتَهِي الْمِلْكُ وَالْمَالِيَّةُ عِنْدَ الْإِعْتَاقِ فَصَارَ كَمَا لَوْ انْتَهَى بِالْمَوْتِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ لَيْسَ بِحَبْسٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ الْعِوَضَ فَقَدْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي مَقَامَ نَفْسِهِ فَكَأَنَّهُ اسْتَبَقَاهُ عَلَى مِلْكِهِ فَصَارَ حَابِسًا إيَّاهُ بِفِعْلِهِ مُمْسِكًا عَنْ الرَّدِّ فَلَمْ يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ. وَكَذَلِكَ لَوْ دَبَّرَهُ أَوْ اسْتَوْلَدَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي بَلْ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ وَلَوْ قَتَلَهُ الْمُشْتَرِي لَمْ يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ فَتَنْتَهِي حَيَاتُهُ عِنْدَ الْقَتْلِ كَمَا تَنْتَهِي عِنْدَ الْمَوْتِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَهُنَاكَ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ كَذَا هَهُنَا (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فَوَاتَ الْحَيَاةِ إنْ لَمْ يَكُنْ أَثَرُ فِعْلِ الْقَاتِلِ حَقِيقَةً فَهُوَ أَثَرُ فِعْلِهِ عَادَةً فَجُعِلَ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ كَأَنَّهُ تَفْوِيتُ الْحَيَاةِ حَقِيقَةً وَإِزَالَتُهَا وَإِنْ كَانَ انْتِهَاءً حَقِيقَةً كَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالْبَيْعِ فِي حَقِّ الْمُعْتِقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَصَارَ حَابِسًا لِلْعَبْدِ بِصُنْعِهِ مُمْسِكًا. وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ طَعَامًا فَأَكَلَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ حَتَّى تَخَرَّقَ لَمْ يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَرْجِعُ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ أَكْلَ الطَّعَامِ وَلُبْسَ الثَّوْبِ اسْتِعْمَالُ الشَّيْءِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ وَأَنَّهُ انْتِفَاعٌ لَا إتْلَافٌ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ فَإِنَّهُ إزَالَةُ الْحَيَاةِ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ فَكَانَ حَبْسًا وَإِمْسَاكًا (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِأَكْلِ الطَّعَامِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ أَخْرَجَهُمَا عَنْ مِلْكِهِ حَقِيقَةً إذْ الْمِلْكُ فِيهِمَا ثَبَتَ مُطْلَقًا لَا مُؤَقَّتًا بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَأَشْبَهَ الْقَتْلَ وَلَوْ اُسْتُهْلِكَ الطَّعَامُ أَوْ الثَّوْبُ بِسَبَبٍ آخَرَ وَرَاءَ الْأَكْلِ وَاللُّبْسِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا لَمْ يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ اسْتِهْلَاكَهُمَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَجْهِ إبْطَالٌ مَحْضٌ فَيُشْبِهُ الْقَتْلَ وَلَوْ أَكَلَ بَعْضَ الطَّعَامِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْبَاقِي وَلَا أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ كُلَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ، وَقَدْ امْتَنَعَ رَدُّ بَعْضِهِ بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي فَيَبْطُلُ حَقُّهُ أَصْلًا فِي الرَّدِّ وَالرُّجُوعِ، كَمَا لَوْ بَاعَ بَعْضَ الطَّعَامِ دُونَ بَعْضٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: يَرُدُّ الْبَاقِي وَيَرْجِعُ بِأَرْشِ الْكُلِّ الْمَأْكُولِ وَالْبَاقِي إلَّا إذَا رَضِيَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: يَرُدُّ الْبَاقِي وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِيمَا أَكَلَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَبْعِيضِ الطَّعَامِ ضَرَرٌ فَيُمْكِنُ رَدُّ الْبَعْضِ فِيهِ دُونَ الْبَعْضِ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ ذَلِكَ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ بَاعَ بَعْضَ الطَّعَامِ دُونَ الْبَعْضِ لَمْ يَرُدَّ الْبَاقِي وَلَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَرُدُّ الْبَاقِي وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ إلَّا إذَا رَضِيَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ وَالرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ لِأَجْلِ الْبَيْعِ وَأَنَّهُ وُجِدَ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَيَمْتَنِعُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الِامْتِنَاعُ بِقَدْرِ الْمَانِعِ. (وَلَنَا) مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّعَامَ كُلَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ كَالْعَبْدِ فَالِامْتِنَاعُ فِي الْبَعْضِ لِمَعْنًى مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ فِي الْكُلِّ. وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا فَبَنَاهَا مَسْجِدًا ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ لَمْ يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَنَاهَا مَسْجِدًا فَقَدْ أَخْرَجَهَا عَنْ مِلْكِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهَا. وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَكَفَّنَ بِهِ مَيِّتًا ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي وَارِثَ الْمَيِّتِ وَقَدْ اشْتَرَى مِنْ التَّرِكَةِ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْكَفَنِ لَمْ يَثْبُتْ لِلْمُشْتَرِي وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْكَفَنَ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْمَيِّتِ وَقَدْ امْتَنَعَ رَدُّهُ بِالْعَيْبِ لَا مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا فَتَبَرَّعَ بِالْكَفَنِ لَمْ يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمُشْتَرَى وَقَعَ لَهُ فَإِذَا كَفَّنَ بِهِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِالتَّكْفِينِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا)

خيار الرؤية

عَدَمُ وُصُولِ عِوَضِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي مَعَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَإِنْ وَصَلَ إلَيْهِ عِوَضُهُ بِأَنْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ فِي يَدِهِ خَطَأً لَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ وَإِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَى الْبَائِعِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ حَقِيقَةُ الْعَيْبِ وَإِنَّمَا وَصَلَ إلَيْهِ قِيمَةُ الْمَعِيبِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمِقْدَارِ الْعَيْبِ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إلَيْهِ قِيمَتُهُ قَامَتْ الْقِيمَةُ مَقَامَ الْعَيْنِ فَكَأَنَّهَا قَائِمَةٌ فِي يَدِهِ لَمَّا وَصَلَ إلَيْهِ عِوَضُهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهُ وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ، كَذَا هَذَا. وَمِنْهَا عَدَمُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ صَرِيحًا وَدَلَالَةً وَهِيَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ تَصَرُّفًا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالْعَيْبِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّ الرَّدِّ وَالرُّجُوعِ جَمِيعًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي هِيَ دَلِيلُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْعَيْبِ حَتَّى تَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا يَمْنَعُ الرَّدَّ ثُمَّ عَلِمَ فَإِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ مَا لَا يُخْرِجُ السِّلْعَةَ عَنْ مِلْكِهِ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ إلَّا الْكِتَابَةَ لِانْعِدَامِ دَلَالَةِ الرِّضَا، وَفِي الْكِتَابَةِ يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ عَلَى مَا مَرَّ وَإِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ مِمَّا يُخْرِجُ السِّلْعَةَ عَنْ مِلْكِهِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ لَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ إلَّا الْإِعْتَاقُ لَا عَلَى مَالٍ اسْتِحْسَانًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَمَا لَا يَبْطُلُ:. فَحَقُّ الرُّجُوعِ يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الْإِبْطَالِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ نَحْوَ قَوْلِهِ: أَبْطَلْته أَوْ أَسْقَطْته أَوْ أَبْرَأْتُك عَنْهُ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّجُوعِ حَقُّهُ كَخِيَارِ الرَّدِّ لِثُبُوتِهِ بِالشَّرْطِ وَهِيَ السَّلَامَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي الْعَقْدِ دَلَالَةً، بِخِلَافِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَالْإِنْسَانُ بِسَبِيلٍ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّهِ اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا وَيَسْقُطُ أَيْضًا بِالرِّضَا بِالْعَيْبِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ، وَدَلَالَةٌ فَالصَّرِيحُ هُوَ أَنْ يَقُولَ: رَضِيت بِالْعَيْبِ الَّذِي بِهِ أَوْ اخْتَرْت أَوْ أَجَزْت الْبَيْعَ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَالدَّلَالَةُ هِيَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ تَصَرُّفًا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالْعَيْبِ، كَمَا إذَا انْتَقَصَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَامْتَنَعَ الرَّدُّ بِسَبَبِ النُّقْصَانِ وَوَجَبَ الْأَرْشُ ثُمَّ تَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِأَنْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَ وَسَلَّمَ أَوْ أَعْتَقَ أَوْ دَبَّرَ أَوْ اسْتَوْلَدَ مَعَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْمُخْرِجَ عَنْ الْمِلْكِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ دَلَالَةُ الْإِمْسَاكِ عَنْ الرَّدِّ، وَذَا دَلِيلُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ فَيَبْطُلُ حَقُّ الرُّجُوعِ وَلَوْ امْتَنَعَ الرَّدُّ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَغَيْرِهِ، أَوْ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ الْأَصْلِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْهُ كَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ، وَالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالصَّبْغِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِالْأَرْشِ بَلْ يَبْقَى الْأَرْشُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَقَعْ دَلَالَةً عَلَى الْإِمْسَاكِ عَنْ الرَّدِّ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْبَائِعِ خِيَارُ الِاسْتِرْدَادِ بِأَنْ يَقُولَ أَنَا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ مَعَ الْعَيْبِ وَأَرُدُّ إلَيْك جَمِيعَ الثَّمَنِ؟ وَإِذَا كَانَ الرَّدُّ مُمْتَنِعًا قَبْلَ التَّصَرُّفِ لَمْ يَكُنْ هُوَ بِالتَّصَرُّفِ مُمْسِكًا عَنْ الرَّدِّ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا فَبَقِيَ الْأَرْشُ وَاجِبًا كَمَا كَانَ. بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ الرَّدُّ مُمْتَنِعًا حَتْمًا، أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقْبَلَهُ نَاقِصًا مَعَ الْعَيْبِ؟ فَكَانَ الْمُشْتَرِي بِتَصَرُّفِهِ مُفَوِّتًا عَلَى نَفْسِهِ حَقَّ الرَّدِّ فَكَانَ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ بِفِعْلِهِ مُمْسِكًا إيَّاهُ عَنْ الرَّدِّ وَأَنَّهُ دَلِيلُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ فَيَبْطُلُ حَقُّ الرُّجُوعِ فَصَارَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ وُجُوبَ الْأَرْشِ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا عَلَى سَبِيلِ الْحَتْمِ وَالْإِلْزَامِ بَلْ كَانَ خِيَارُ الِاسْتِرْدَادِ لِلْبَائِعِ مَعَ الْعَيْبِ فَتَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ تَصَرُّفًا مُخْرِجًا عَنْ الْمِلْكِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْأَرْشِ، وَإِنْ كَانَ وُجُوبُهُ ثَابِتًا حَتْمًا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ خِيَارُ الِاسْتِرْدَادِ فَتَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي لَا يُبْطِلُ الْأَرْشَ (وَجْهُ) الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَأَمَّا بَيَانُ طَرِيقِ مَعْرِفَةِ نُقْصَانِ الْعَيْبِ فَطَرِيقُهُ أَنْ تُقَوَّمَ السِّلْعَةُ وَلَيْسَ بِهَا ذَلِكَ الْعَيْبُ وَتُقَوَّمَ وَبِهَا ذَلِكَ؛ فَيُنْظَرُ إلَى نُقْصَانِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ؛ فَيُرْجَعُ عَلَى بَائِعِهِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَهُ الْعَيْبُ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ ثَمَنِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ قَدْرَ عُشْرِ الْقِيمَةِ يُرْجَعُ عَلَى بَائِعِهِ بِعُشْرِ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ قَدْرَ خُمْسِهَا يُرْجَعُ بِخُمْسِ الثَّمَنِ مِثَالُهُ: إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ فَاطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بِهِ يُنْقِصُهُ عُشْرَ قِيمَتِهِ - وَهُوَ دِرْهَمٌ - يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ بِعُشْرِ الثَّمَنِ وَهُوَ دِرْهَمٌ وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ بِعَشَرَةٍ فَاطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بِهِ يُنْقِصُهُ عُشْرَ الْقِيمَةِ - وَذَلِكَ دِرْهَمَانِ - فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِعُشْرِ الثَّمَنِ وَذَلِكَ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةً وَقَدْ اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ، وَالْعَيْبُ يُنْقِصُهُ عُشْرَ الْقِيمَةِ - وَذَلِكَ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ - يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ بِعُشْرِ الثَّمَنِ وَذَلِكَ دِرْهَمَانِ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فَافْهَمْ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. [خِيَار الرُّؤْيَة] (وَأَمَّا) الْخِيَارُ

الثَّابِتُ شَرْعًا لَا شَرْطًا. فَهُوَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ شَرْعِيَّةِ الْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وَمَا لَا يَسْقُطُ وَلَا يَلْزَمُ. (وَأَمَّا) الْكَلَامُ فِي شَرْعِيَّتِهِ فَقَدْ مَرَّ فِي مَوْضِعِهِ. (وَأَمَّا) صِفَتُهُ فَهِيَ أَنَّ شِرَاءَ مَا لَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ» وَلِأَنَّ جَهَالَةَ الْوَصْفِ تُؤَثِّرُ فِي الرِّضَا فَتُوجِبُ خَلَلًا فِيهِ، وَاخْتِلَافُ الرِّضَا فِي الْبَيْعِ يُوجِبُ الْخِيَارَ، وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ اعْتِرَاضَ النَّدَمِ لِمَا عَسَى لَا يَصْلُحُ لَهُ إذَا رَآهُ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّدَارُكِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِإِمْكَانِ التَّدَارُكِ عِنْدَ النَّدَمِ نَظَرًا لَهُ، كَمَا ثَبَتَ خِيَارُ الرَّجْعَةِ شَرْعًا نَظَرًا لِلزَّوْجِ تَمْكِينًا لَهُ مِنْ التَّدَارُكِ عِنْدَ النَّدَمِ، كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] (وَأَمَّا) بَيْعُ مَا لَمْ يَرَهُ الْبَائِعُ فَهَلْ يَلْزَمُ؟ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا لَا يَلْزَمُ وَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ يَلْزَمُ وَلَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا يَثْبُتُ لَهُ فِي شِرَاءِ مَا لَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي - وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي - مَوْجُودٌ فِي بَيْعِ مَا لَمْ يَرَهُ الْبَائِعُ، فَوُرُودُ الشَّرْعِ بِالْخِيَارِ ثَمَّةَ يَكُونُ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً (وَجْهُ) قَوْلِهِ الْآخَرِ مَا رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بَاعَ أَرْضًا لَهُ مِنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَمْ يَكُونَا رَأَيَاهَا، فَقِيلَ لِسَيِّدِنَا عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: غُبِنْت، فَقَالَ: لِي الْخِيَارُ لِأَنِّي بِعْت مَا لَمْ أَرَهُ، وَقِيلَ لِطَلْحَةَ مِثْلُ ذَلِكَ فَقَالَ: لِي الْخِيَارُ لِأَنِّي اشْتَرَيْت مَا لَمْ أَرَهُ، فَحَكَّمَا فِي ذَلِكَ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ فَقَضَى بِالْخِيَارِ لِطَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَالِاعْتِبَارُ بِجَانِبِ الْمُشْتَرِي لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مُشْتَرِيَ مَا لَمْ يَرَهُ مُشْتَرٍ عَلَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِمَّا ظَنَّهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مُشْتَرٍ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ جَيِّدٌ فَإِذَا هُوَ رَدِيءٌ، وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ جَيِّدٌ فَإِذَا هُوَ رَدِيءٌ فَلَهُ الْخِيَارُ، وَبَائِعُ شَيْءٍ لَمْ يَرَهُ يَبِيعُ عَلَى أَنَّهُ أَدْوَنُ مِمَّا ظَنَّهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ بَائِعِ شَيْءٍ عَلَى أَنَّهُ رَدِيءٌ فَإِذَا هُوَ جَيِّدٌ، وَمَنْ بَاعَ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ رَدِيءٌ فَإِذَا هُوَ جَيِّدٌ لَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ فَلِهَذَا افْتَرَقَا. (وَأَمَّا) حُكْمُهُ فَحُكْمُ الْمَبِيعِ الَّذِي لَا خِيَارَ فِيهِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْحَلِّ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ لِلْحَالِّ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطٍ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَ إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ الْخِيَارُ شَرْعًا لَا شَرْطًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ ثَبَتَ بِنَصِّ كَلَامِ الْعَاقِدَيْنِ فَأَثَّرَ فِي الرُّكْنِ بِالْمَنْعِ مِنْ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ عَلَى مَا مَرَّ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) شَرَائِطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ. (فَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لَا يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ حَتَّى إنَّهُمَا لَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِعَيْنٍ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ تَبَايَعَا دَيْنًا بِدَيْنٍ لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَوْ اشْتَرَى عَيْنًا بِدَيْنٍ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْعَقْدِ لَا يَتَعَيَّنُ لِلْفَسْخِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ، وَقِيَامُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِمِثْلِهِ، فَإِذَا قَبَضَ يَرُدُّهُ هَكَذَا إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ الرَّدُّ مُفِيدًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَيْنًا لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ بِرَدِّهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ، فَيَتَعَيَّنُ فِي الْفَسْخِ أَيْضًا، فَكَانَ الرَّدُّ مُفِيدًا، وَلِأَنَّ الْفَسْخَ إنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْمَمْلُوكِ بِالْعَقْدِ وَمَا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لَا يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْفَسْخُ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِي الْإِجَارَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَعْوَى الْمَالِ وَالْقِسْمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ تَنْفَسِخُ بِرَدِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَيَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَلَا يَثْبُتُ فِي الْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَا تَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ بِرَدِّ هَذِهِ الْأَمْوَالِ فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِيهِ بِرَدِّهِ يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَمَا لَا فَلَا، وَالْفِقْهُ مَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) عَدَمُ الرُّؤْيَةِ فَإِنْ اشْتَرَاهُ وَهُوَ يَرَاهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ لُزُومُ الْعَقْدِ وَانْبِرَامُهُ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ وُجِدَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطٍ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ثُبُوتَ الْخِيَارِ شَرْعًا بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ بِالْخِيَارِ فِيمَا لَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ» ، فَبَقِيَ الْخِيَارُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ مَبْقِيًّا عَلَى الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَرَهُ وَقْتَ الشِّرَاءِ، وَلَكِنْ كَانَ قَدْ رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ نُظِرَ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ وَقْتَ الشِّرَاءِ عَلَى حَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ - فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْأَصْلِ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي شِرَاءِ مَا لَمْ يَرَهُ

وَهَذَا قَدْ اشْتَرَى شَيْئًا قَدْ رَآهُ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَغَيَّرَ عَنْ حَالِهِ فَلَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَغَيَّرَ عَنْ حَالِهِ فَقَدْ صَارَ شَيْئًا آخَرَ فَكَانَ مُشْتَرِيًا شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ. وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي التَّغَيُّرِ وَعَدَمِهِ فَقَالَ الْبَائِعُ: لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: قَدْ تَغَيَّرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّغَيُّرِ وَالتَّغَيُّرُ عَارِضٌ فَكَانَ الْبَائِعُ مُتَمَسِّكًا بِالْأَصْلِ وَالْمُشْتَرِي مُدَّعِيًا أَمْرًا عَارِضًا، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْبَائِعِ لَكِنْ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ أَمْرٌ يَجْرِي فِيهِ الْبَدَلُ وَالْإِقْرَارُ فَيَجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِدَعْوَى التَّغَيُّرِ يَدَّعِي حَقَّ الرَّدِّ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: رَأَيْته وَقْتَ الشِّرَاءِ وَقَالَ الْمُشْتَرِي: لَمْ أَرَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ أَصْلٌ وَالرُّؤْيَةَ عَارِضٌ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُشْتَرِي فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ وَلِأَنَّ الْبَائِعَ بِدَعْوَى الرُّؤْيَةِ يَدَّعِي عَلَيْهِ إلْزَامَ الْعَقْدِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. وَلَوْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ فَاخْتَلَفَا فَقَالَ الْبَائِعُ: لَيْسَ هَذَا الَّذِي بِعْتُك، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: هُوَ ذَاكَ بِعَيْنِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَنَّهُ بِعَيْنِهِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي خِيَارِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ بِقَوْلِهِ: هَذَا مَالُك، لَا يَدَّعِي ثُبُوتَ حَقِّ الرَّدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ ثَابِتٌ لَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا، وَلَكِنَّهُ يَدَّعِي أَنَّ هَذَا الَّذِي قَبَضَهُ مِنْهُ، فَكَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعًا إلَى الْمَقْبُوضِ، وَالِاخْتِلَافُ مَتَى وَقَعَ فِي تَعْيِينِ نَفْسِ الْمَقْبُوضِ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الْقَابِضِ، وَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ كَقَبْضِ الْغَصْبِ فَفِي الْقَبْضِ الْحَقُّ أَوْلَى، بِخِلَافِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَنْفَرِدُ بِالرَّدِّ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرَّدَّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي؟ فَكَانَ هُوَ بِقَوْلِهِ: هَذَا مَالُك بِعَيْنِهِ، مُدَّعِيًا حَقَّ الرَّدِّ فِي هَذَا الْمُعَيَّنِ، وَالْبَائِعُ يُنْكَرُ ثُبُوتَ حَقِّ الرَّدِّ فِيهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. هَذَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي بَصِيرًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ أَعْمَى فَشَرْطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ عَدَمُ الْحَبْسِ فِيمَا يُحْبَسُ وَالذَّوْقُ فِيمَا يُذَاقُ وَالشَّمُّ فِيمَا يُشَمُّ وَالْوَصْفُ فِيمَا يُوصَفُ وَقْتَ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الرُّؤْيَةِ فِي حَقِّ الْبَصِيرِ، فَكَانَ انْعِدَامُهَا شَرْطًا لِثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ، فَإِنْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْهُ وَقْتَ الشِّرَاءِ فَاشْتَرَاهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَكَذَا إذَا وُجِدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ قَبَضَ فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ وُجُودَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَبْضِ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ وُجُودِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ كَالرُّؤْيَةِ فِي حَقِّ الْبَصِيرِ بِأَنْ رَآهُ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ قَبَضَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَلَالَةُ الرِّضَا بِلُزُومِ الْعَقْدِ عَلَى مَا نَذْكُرهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا رَأَى الْمُشْتَرِي كُلَّ الْمَبِيعِ وَقْتَ الشِّرَاءِ. (فَأَمَّا) إذَا رَأَى بَعْضَهُ دُونَ الْبَعْضِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا وَاحِدًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَشْيَاءَ فَإِنْ كَانَ شَيْئًا وَاحِدًا فَرَأَى بَعْضَهُ لَا يَخْلُو (إمَّا) إنْ كَانَ مَا رَآهُ مِنْهُ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ وَمَا لَمْ يَرَهُ مِنْهُ تَبَعًا (وَإِمَّا) إنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ مَا لَمْ يَرَهُ تَبَعًا لِمَا رَآهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ رُؤْيَةُ مَا رَآهُ تُفِيدُ لَهُ الْعِلْمَ بِحَالِ مَا لَمْ يَرَهُ أَوْ لَا تُفِيدُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ فَكَانَ رُؤْيَةُ الْأَصْلِ رُؤْيَةَ التَّبَعِ، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ رُؤْيَةُ مَا رَأَى تُفِيدُ لَهُ الْعِلْمَ بِحَالِ مَا لَمْ يَرَهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْعِلْمُ بِحَالِ الْبَاقِي فَكَأَنَّهُ رَأَى الْكُلَّ، وَإِنْ كَانَ لَا يُفِيدُ لَهُ الْعِلْمَ بِحَالِ الْبَاقِي فَلَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَمْ يَحْصُلْ بِرُؤْيَةِ مَا رَأَى فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ شَيْئًا مِنْهُ أَصْلًا. فَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُخَرَّجُ الْمَسَائِلُ: إذَا اشْتَرَى عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً فَرَأَى وَجْهَهُ دُونَ سَائِرِ أَعْضَائِهِ لَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَةُ الْوَجْهِ لَا تُفِيدُ لَهُ الْعِلْمَ بِمَا وَرَاءَهُ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ أَصْلٌ فِي الرُّؤْيَةِ فِي بَنِي آدَمَ، وَسَائِرُ الْأَعْضَاءِ تَبَعٌ لَهُ فِيهَا وَلَوْ رَأَى سَائِرَ أَعْضَائِهِ دُونَ الْوَجْهِ فَلَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ التَّبَعِ لَا تَكُونُ رُؤْيَةَ الْأَصْلِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ شَيْئًا مِنْهُ. وَلَوْ اشْتَرَى فَرَسًا أَوْ بَغْلًا أَوْ حِمَارًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَرَأَى وَجْهَهُ لَا غَيْرُ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَسْقُطُ خِيَارُهُ وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّقِيقِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ مَا لَمْ يَرَ وَجْهَهُ وَمُؤَخَّرَهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ وَالْكَفَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُضْوٌ مَقْصُودٌ فِي الرُّؤْيَةِ فِي هَذَا الْجِنْسِ فَمَا لَمْ يَرَهُمَا فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ. وَإِنْ اشْتَرَى شَاةً فَإِنْ كَانَتْ نَعْجَةً حَلُوبًا اشْتَرَاهَا لِلْقُنْيَةِ أَوْ اشْتَرَى بَقَرَةً حَلُوبًا أَوْ نَاقَةً حَلُوبًا اشْتَرَاهَا لِلْقُنْيَةِ لَا بُدَّ مِنْ النَّظَرِ إلَى ضَرْعِهَا، وَإِنْ اشْتَرَى شَاةً لِلَّحْمِ لَا بُدَّ مِنْ الْجَسِّ حَتَّى لَوْ رَآهَا مِنْ بَعِيدٍ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ مَقْصُودٌ مِنْ شَاةِ اللَّحْمِ وَالضَّرْعَ مَقْصُودٌ مِنْ الْحَلُوبِ، وَالرُّؤْيَةُ مِنْ بَعِيدٍ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِهَذَيْنِ الْمَقْصُودَيْنِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ (وَأَمَّا) الْبُسُطُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَخْتَلِفُ وَجْهُهُ وَظَهْرُهُ فَرَأَى وَجْهَهُ دُونَ ظَهْرِهِ كَالْمَغَافِرِ وَنَحْوِهَا لَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ رَأَى الظَّهْرَ دُونَ الْوَجْهِ فَلَهُ الْخِيَارُ، كَذَا

رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَاحِدًا فَرَأَى ظَاهِرَهُ مَطْوِيًّا وَلَمْ يَنْشُرْهُ فَإِنْ كَانَ سَاذَجًا لَيْسَ بِمُنَقَّشٍ وَلَا بِذِي عَلَمٍ فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ ظَاهِرِهِ مَطْوِيًّا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْبَاقِي، وَإِنْ كَانَ مُنَقَّشًا فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ مَا لَمْ يَنْشُرْهُ وَيَرَى نَقْشَهُ؛ لِأَنَّ النَّقْشَ فِي الثَّوْبِ الْمُنَقَّشِ مَقْصُودٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنَقَّشًا وَلَكِنَّهُ ذُو عَلَمٍ فَرَأَى عَلَمَهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَرَ كُلَّهُ، وَلَوْ رَأَى كُلَّهُ إلَّا عَلَمَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الْعَلَمَ فِي الثَّوْبِ الْمُعْلَمِ مَقْصُودٌ كَالنَّقْشِ فِي الْمُنَقَّشِ. وَلَوْ - اشْتَرَى دَارًا فَرَأَى خَارِجَهَا أَوْ بُسْتَانًا فَرَأَى خَارِجَهُ وَرُءُوسَ الْأَشْجَارِ فَلَا خِيَارَ لَهُ، كَذَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَكَذَا الْبُسْتَانُ فَكَانَ رُؤْيَةُ الْبَعْضِ رُؤْيَةَ الْكُلِّ، إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا قَالُوا إنَّ هَذَا مُؤَوَّلٌ وَتَأْوِيلُهُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي دَاخِلِ الدَّارِ بُيُوتٌ وَأَبْنِيَةٌ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِرُؤْيَةِ الْخَارِجِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ دَاخِلَهَا أَبْنِيَةٌ فَلَهُ الْخِيَارُ مَا لَمْ يَرَ دَاخِلَهَا؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الدَّارِ وَالْخَارِجُ كَالتَّابِعِ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ الْمُعَلَّمِ إذَا رَأَى كُلَّهُ إلَّا عَلَمَهُ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَجَابَ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي زَمَنِهِ، فَإِنَّ دُورَهُمْ فِي زَمَنِهِ كَانَتْ لَا تَخْتَلِفُ فِي الْبِنَاءِ، وَكَانَتْ عَلَى تَقْطِيعٍ وَاحِدٍ وَهَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَخْتَلِفُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَالْعِلْمُ بِهِ يَحْصُلُ بِرُؤْيَةِ الْخَارِجِ. وَأَمَّا الْآنَ فَلَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ دَاخِلِ الدَّارِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِاخْتِلَافِ الْأَبْنِيَةِ فِي دَاخِلِ الدُّورِ فِي زَمَانِنَا اخْتِلَافًا فَاحِشًا فَرُؤْيَةُ الْخَارِجِ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالدَّاخِلِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرَى شَيْئًا وَاحِدًا فَرَأَى بَعْضَهُ. فَأَمَّا إنْ كَانَ أَشْيَاءَ فَرَأَى وَقْتَ الشِّرَاءِ بَعْضَهَا دُونَ الْبَعْضِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ مِنْ الْمَكِيلَاتِ أَوْ الْمَوْزُونَاتِ فَرَأَى بَعْضَهَا وَقْتَ الشِّرَاءِ، فَإِنْ كَانَ فِي وِعَاءٍ وَاحِدٍ فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ فِيهَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْبَاقِي فَكَانَ رُؤْيَةُ الْبَعْضِ كَرُؤْيَةِ الْكُلِّ إلَّا إذَا وَجَدَ الْبَاقِي، بِخِلَافِ مَا رَأَى فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ لَكِنْ خِيَارُ الْعَيْبِ لَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ. وَإِنْ كَانَ فِي وِعَاءَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَعَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ؛ قَالَ مَشَايِخُ بَلْخٍ: لَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْوِعَاءَيْنِ جَعَلَهُمَا كَجِنْسَيْنِ، وَقَالَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ: لَا خِيَارَ لَهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْبَاقِي سَوَاءٌ كَانَ فِي وِعَاءٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي وِعَاءَيْنِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْكُلُّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَعَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسَيْنِ أَوْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ عَلَى صِفَتَيْنِ فَلَهُ الْخِيَارُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ مِنْ جِنْسٍ وَعَلَى وَصْفٍ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِجِنْسٍ آخَرَ وَعَلَى وَصْفٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ كَالْعَبِيدِ وَالدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ بِأَنْ اشْتَرَى جَمَاعَةَ عَبِيدٍ أَوْ جَوَارٍ أَوْ إبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ قَطِيعَ غَنَمٍ أَوْ جِرَابٍ هَرَوِيٌّ فَرَأَى بَعْضَهَا أَوْ كُلَّهَا إلَّا وَاحِدًا فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْكُلَّ أَوْ يُمْسِكَ الْكُلَّ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِمَا وَرَاءَهُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ شَيْئًا مِنْهُ بِخِلَافِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ مِنْهُ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْبَاقِي. وَلَوْ اشْتَرَى جَمَاعَةَ ثِيَابٍ فِي جِرَابٍ وَرَأَى أَطْرَافَ الْكُلِّ أَوْ طَيَّ الْكُلِّ لَا خِيَارَ لَهُ إلَّا إذَا كَانَتْ مُعْلَمَةً أَوْ مُنَقَّشَةً؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مُعْلَمَةً وَلَا مُنَقَّشَةً وَلَمْ يَكُنْ الْبَعْضُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَقْصُودًا وَالْبَعْضُ تَبَعًا، وَرُؤْيَةُ الْبَعْضِ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِحَالِ الْبَاقِي فَكَانَ رُؤْيَةُ الْبَعْضِ رُؤْيَةَ الْكُلِّ. كَمَا إذَا اشْتَرَى الْبِطِّيخَ فِي السريجة وَالرُّمَّانَ فِي الْقُفَّةِ فَرَأَى الْبَعْضَ فَلَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الْبَعْضَ مِنْهَا لَيْسَ تَبَعًا لِلْبَعْضِ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ فَرُؤْيَةُ الْبَعْضِ مِنْهَا لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْبَاقِي لِكَوْنِهَا مُتَفَاوِتَةً تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ فَرَأَى الْبَعْضَ مِنْهَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ لَهُ الْخِيَارُ وَأَلْحَقَهُ بِالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ لِاخْتِلَافِهَا فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ كَالْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ صَغِيرِ الْبَيْضِ وَالْجَوْزِ وَكَبِيرِهِمَا مُتَقَارِبٌ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ عُرْفًا وَعَادَةً وَشَرْعًا، وَلِهَذَا أُلْحِقَ بِالْعَدَمِ فِي السَّلَمِ حَتَّى جَازَ السَّلَمُ فِيهَا عَدَدًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، خِلَافًا لِزُفَرَ فَكَانَ رُؤْيَةُ بَعْضِهِ مُعَرِّفًا حَالَ الْبَاقِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ السَّلَمِ وَهُوَ أَنَّ الْبَيْضَ وَالْجَوْزَ مِمَّا يَتَفَاوَتُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ حَقِيقَةً وَالْأَصْلُ فِي الْحَقَائِقِ اعْتِبَارُهَا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَهْدَرَ هَذَا التَّفَاوُتَ وَأَلْحَقَهُ بِالْعَدَمِ فِي السَّلَمِ لِحَاجَةِ النَّاسِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِهْدَارِ فِي إسْقَاطِ الْخِيَارِ فَبَقِيَ التَّفَاوُتُ فِيهِ مُعْتَبَرًا فَرُؤْيَةُ الْبَعْضِ لَا تُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِحَالِ الْبَاقِي، فَبَقِيَ الْخِيَارُ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَلَوْ اشْتَرَى دُهْنًا فِي قَارُورَةٍ فَرَأَى خَارِجَ الْقَارُورَةِ فَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ: رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ أَنَّهُ

لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ مِنْ الْخَارِجِ تُقَيِّدُ الْعِلْمَ بِالدَّاخِلِ، فَكَأَنَّهُ رَآهُ وَهُوَ خَارِجٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَا فِي دَاخِلِ الْقَارُورَةِ لَا يَحْصُلُ بِالرُّؤْيَةِ مِنْ خَارِجِ الْقَارُورَةِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الدَّاخِلِ يَتَلَوَّنُ بِلَوْنِ الْقَارُورَةِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ، وَقَالُوا فِي الْمُشْتَرِي إذَا رَأَى الْمَبِيعَ فِي الْمِرْآةِ: إنَّ لَهُ الْخِيَارَ، وَكَذَا فِي الْمَاءِ. وَقَالُوا: لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ عَيْنَهُ، وَإِنَّمَا رَأَى مِثَالَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ رَأَى عَيْنَ الْمَبِيعِ لَا إنْ غَيْرَ الْمَبِيعِ فِي الْمِرْآةِ وَالْمَاءِ بَلْ يَرَاهُ حَيْثُ هُوَ لَكِنْ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ بِخَلْقِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِيهِ الرُّؤْيَةُ، وَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ لَيْسَتْ مِنْ شَرْطِ الرُّؤْيَةِ فَإِنَّا نَرَى اللَّهَ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - بِلَا مُقَابَلَةٍ، وَلَكِنْ قَدْ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِهَيْئَتِهِ لِتَفَاوُتِ الْمِرْآةِ فَيَعْلَمُ بِأَصْلِهِ لَا بِهَيْئَتِهِ فَلِذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ لَا لِمَا قَالُوا، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ عَلَى أَنَّ فِي الْعُرْفِ لَا يَشْتَرِي الْإِنْسَانُ شَيْئًا لَمْ يَرَهُ لِيَرَاهُ فِي الْمِرْآةِ أَوْ فِي الْمَاءِ لِيَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، فَلَا تَكُونُ رُؤْيَتُهُ فِي الْمِرْآةِ، وَإِنْ رَأَى عَيْنَهُ مُسْقِطَةً لِلْخِيَارِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِيمَنْ رَأَى فَرْجَ أُمِّ امْرَأَتِهِ فِي الْمَاءِ، أَوْ فِي الْمِرْآةِ فَنَظَرَ إلَيْهِ بِشَهْوَةٍ لَا تَثْبُتُ لَهُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، وَكَذَا لَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا لِلْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ اشْتَرَى سَمَكًا فِي دَائِرَةٍ يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ اصْطِيَادٍ وَحِيلَةٍ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ فَرَآهُ فِي الْمَاءِ ثُمَّ أَخَذَهُ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ رَأَى عَيْنَ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ مَا رَآهُ كَمَا هُوَ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُرَى فِي الْمَاءِ كَمَا هُوَ بَلْ يُرَى أَكْثَرَ مِمَّا هُوَ، فَلَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الرُّؤْيَةِ، وَهُوَ مَعْرِفَتُهُ كَمَا هُوَ فَلَهُ الْخِيَارُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ وَقْتِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ. فَوَقْتُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ هُوَ وَقْتُ الرُّؤْيَةِ لَا قَبْلَهَا، حَتَّى لَوْ أَجَازَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ، وَرَضِيَ بِهِ صَرِيحًا بِأَنْ قَالَ: أَجَزْتُ أَوْ رَضِيتُ أَوْ مَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى، ثُمَّ رَآهُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ أَثْبَتَ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي بَعْدَ الرُّؤْيَةِ، فَلَوْ ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ الْإِجَازَةِ قَبْلَ الرُّؤْيَة وَأَجَازَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْخِيَارُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ، وَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ مَجْهُولُ الْوَصْفِ، وَالرِّضَا بِالشَّيْءِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ وَالْعِلْمُ بِوُجُودِ سَبَبِهِ مُحَالٌ، فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ (وَأَمَّا) الْفَسْخُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ، فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا خِيَارَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ، وَلِهَذَا لَمْ تَجُزْ الْإِجَازَةُ فَلَا يَجُوزُ الْفَسْخُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، فَكَانَ مَحَلَّ الْفَسْخِ كَالْعَقْدِ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ الْعَيْبِ وَعَقْدِ الْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ لَا خِيَارَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْفَسْخِ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمًا لِلْخِيَارِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمًا لِعَدَمِ لُزُومِ الْعَقْدِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ يَثْبُتُ مُطْلَقًا فِي جَمِيعِ الْعُمُرِ إلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يُبْطِلُهُ، فَيَبْطُلُ حِينَئِذٍ، وَإِلَّا فَيَبْقَى عَلَى حَالِهِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ بِإِمْكَانِ الْفَسْخِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ هَذَا الْخِيَارِ هُوَ اخْتِلَالُ الرِّضَا، وَالْحُكْمُ يَبْقَى مَا بَقِيَ سَبَبُهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ يَثْبُتُ مُوَقَّتًا إلَى غَايَةِ إمْكَانِ الْفَسْخِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ حَتَّى لَوْ رَآهُ وَأَمْكَنَهُ الْفَسْخُ وَلَمْ يَفْسَخْ يَسْقُطُ خِيَارُهُ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ الْأَسْبَابُ الْمُسْقِطَةُ لِلْخِيَارِ عَلَى مَا نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -؛ لِأَنَّ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُسْقِطَةِ لِلْخِيَارِ الرِّضَا وَالْإِجَازَةَ، وَالِامْتِنَاعُ مِنْ الْفَسْخِ بَعْدَ الْإِمْكَانِ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ وَالرِّضَا، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وَمَا لَا يَسْقُطُ وَلَا يَلْزَمُ. فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - مَا يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: اخْتِيَارِيٌّ، وَضَرُورِيٌّ، وَالِاخْتِيَارِيُّ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ دَلَالَةً (أَمَّا) الصَّرِيحُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ: أَجَزْتُ الْبَيْعَ أَوْ رَضِيتُ أَوْ اخْتَرْتُ، أَوْ مَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى سَوَاءٌ عَلِمَ الْبَائِعُ بِالْإِجَازَةِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ هُوَ اللُّزُومُ، وَالِامْتِنَاعُ لِخَلَلٍ فِي الرِّضَا فَإِذَا أَجَازَ وَرَضِيَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيَلْزَمُ. (وَأَمَّا) الدَّلَالَةُ فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ مِنْ الْمُشْتَرِي تَصَرُّفٌ فِي الْمَبِيعِ بَعْد الرُّؤْيَةِ يَدُلُّ عَلَى الْإِجَازَةِ وَالرِّضَا نَحْوُ مَا إذَا قَبَضَهُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ دَلِيلُ الرِّضَا بِلُزُومِ الْبَيْعِ لِأَنَّ لِلْقَبْضِ شَبَهًا بِالْعَقْدِ فَكَانَ الْقَبْضُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ كَالْعَقْدِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ، وَذَاكَ دَلِيلُ الرِّضَا كَذَا هَذَا، وَسَوَاءٌ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ بِالْقَبْضِ بِأَنْ قَبَضَهُ الْوَكِيلُ، وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ، وَكَانَتْ رُؤْيَتُهُ كَرُؤْيَةِ الْمُوَكِّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ مَعَ رُؤْيَتِهِ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْقَبْضِ يَمْلِكُ إسْقَاطَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ بِالْقَبْضِ لَا يَمْلِكُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ يَمْلِكُ، وَكَانَتْ رُؤْيَتُهُ رَوِيَّةَ الْمُوَكِّلِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ بِالشِّرَاءِ

لَا يَمْلِكُ، وَلَا تَكُونُ رُؤْيَتُهُ رُؤْيَةَ الْمُرْسَلِ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُرْسَلِ إذَا لَمْ يَرَهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَكِيلَ مُتَصَرِّفٌ بِحُكْمِ الْأَمْرِ، وَالْمُتَصَرِّفُ بِحُكْمِ الْأَمْرِ لَا يَتَعَدَّى إلَى مَوْرِدِ الْأَمْرِ، وَهُوَ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ لَا بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ خِيَارِ الْعَيْبِ وَلَا خِيَارِ الشَّرْطِ، وَكَذَا الرَّسُولُ لَا يَمْلِكُ فَكَذَا الْوَكِيلُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ لَكِنْ بِقَبْضٍ تَامٍّ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالشَّيْءِ وَكِيلٌ بِإِتْمَامِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَلِهَذَا كَانَ الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ وَكِيلًا بِالْقَبْضِ، وَتَمَامُ الْقَبْضِ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ التَّفْرِيقَ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُوضٍ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ لَا بِإِبْطَالِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ عِنْدَهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ الْخِيَارِ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ؟ وَإِنَّمَا يَبْطُلُ فِي ضِمْنِ الْقَبْضِ بِأَنَّ قَبْضَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ حَتَّى لَوْ قَبَضَهُ مَسْتُورًا ثُمَّ أَرَادَ بُطْلَانَ الْخِيَارِ لَا يَمْلِكُهُ، وَالشَّيْءُ قَدْ يَثْبُتُ ضِمْنًا لِغَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَعَزْلِ الْوَكِيلِ وَغَيْرِهِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّفْرِيقَ بَعْدَ الْقَبْضِ؟ ، وَكَذَا الرَّدُّ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ لَمْ يَكُنْ رَفْعًا لِلْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ، بِخِلَافِ الرَّدِّ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَبِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لِلِاخْتِبَارِ، وَالْقَبْضُ وَسِيلَةٌ إلَى الِاخْتِبَارِ فَلَمْ يَصْلُحْ الْقَبْضُ دَلِيلَ الرِّضَا، وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِخَلَلٍ فِي الرِّضَا، وَالْقَبْضُ مَعَ الرُّؤْيَةِ دَلِيلُ الرِّضَا عَلَى الْكَمَالِ، فَأَوْجَبَ بُطْلَانَ الْخِيَارِ، وَبِخِلَافِ الرَّسُولِ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ فِي الْقَبْضِ عَنْ الْمُرْسَلِ، فَكَانَ قَبْضُهُ قَبْضَ الْمُرْسَلِ، فَكَانَ إتْمَامُ الْقَبْضِ إلَى الْمُرْسَلِ. (وَأَمَّا) الْوَكِيلُ فَأَصْلٌ فِي نَفْسِ الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا الْوَاقِعُ لِلْمُوَكِّلِ حُكْمُ فِعْلِهِ، فَكَانَ الْإِتْمَامُ إلَى الْوَكِيلِ، وَكَذَا إذَا تَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ بِأَنْ كَانَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ أَوْ صَبَغَهُ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ أَوْ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ أَوْ عَسَلٍ أَوْ أَرْضًا فَبَنَى عَلَيْهَا أَوْ غَرَسَ أَوْ زَرَعَ أَوْ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا عَنْ شَهْوَةٍ أَوْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ دَلَالَةُ الْإِجَازَةِ وَالرِّضَا بِلُزُومِ الْبَيْعِ وَالْمِلْكِ بِهِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَفَسَخَ الْبَيْعَ لَتَبَيَّنَ أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ، وَأَنَّهُ حَرَامٌ فَجُعِلَ ذَلِكَ إجَازَةً مِنْهُ صِيَانَةً لَهُ عَنْ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ، وَكَذَا إذَا عَرَضَهُ عَلَى الْبَيْعِ بَاعَ أَوْ لَمْ يَبِعْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَرَضَهُ عَلَى الْبَيْعِ فَقَدْ قَصَدَ إثْبَاتَ الْمِلْكِ اللَّازِمِ لِلْمُشْتَرِي وَمِنْ ضَرُورَتِهِ لُزُومُ الْمِلْكِ لَهُ لِيُمْكِنَهُ إثْبَاتُهُ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ عَرَضَ بَعْضَهُ عَلَى الْبَيْعِ سَقَطَ خِيَارُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَسْقُطُ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْخِيَارِ وَلُزُومَ الْبَيْعِ بِالْعَرْضِ لِكَوْنِ الْعَرْضِ دَلَالَةَ الْإِجَازَةِ وَالرِّضَا، وَدَلَالَةَ الْإِجَازَةِ دُونَ صَرِيحِ الْإِجَازَةِ. ثُمَّ لَوْ صَرَّحَ بِالْإِجَازَةِ فِي الْبَعْضِ لَمْ يَجُزْ، وَلَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ التَّمَامِ فَلَأَنْ لَا يَسْقُطَ بِدَلَالَةِ الْإِجَازَةِ أَوْلَى، وَكَذَا لَوْ وَهَبَهُ سَلَّمَ أَوْ لَمْ يُسَلِّمْ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْهِبَةِ لَا يَعُودُ إلَيْهِ إلَّا بِقَرِينَةِ الْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا فَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا دَلَالَةَ قَصْدِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ اللَّازِمِ فَيَقْتَضِي لُزُومَ الْمِلْكِ لِلْوَاهِبِ، وَكَذَا إذَا رَهَنَهُ وَسَلَّمَ أَوْ آجَرَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدٌ لَازِمٌ فِي نَفْسِهِ، وَالثَّابِتُ بِهِمَا حَقٌّ لَازِمٌ لِلْغَيْرِ، وَكَذَا إذَا كَاتَبَهُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ فِي جَانِبِ الْمُكَاتِبِ، وَالثَّابِتُ بِهَا حَقٌّ لَازِمٌ فِي حَقِّهِ، وَكَذَا إذَا بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَ، وَكَذَا إذَا أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ اسْتَوْلَدَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ تَصَرُّفَاتٌ لَازِمَةٌ، وَالثَّابِتُ بِهَا مِلْكٌ لَازِمٌ أَوْ حَقٌّ لَازِمٌ، فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهَا يَكُونُ إجَازَةً وَالْتِزَامًا لِلْعَقْدِ دَلَالَةً. وَلَوْ بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ يَسْقُطُ، وَهِيَ الصَّحِيحَةُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَا يَكُونُ أَدْنَى مِنْ الْعَرْضِ عَلَى الْبَيْعِ بَلْ فَوْقَهُ ثُمَّ الْعَرْضُ عَلَى الْبَيْعِ يُسْقِطُ الْخِيَارَ، فَهَذَا أَوْلَى، وَكَذَا لَوْ أَخْرَجَ بَعْضَهُ عَنْ مِلْكِهِ يَسْقُطُ خِيَارُهُ عَنْ الْبَاقِي، وَلَزِمَ الْبَيْعُ فِيهِ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْبَاقِي تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ التَّمَامِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ تَمَامَ الرِّضَا، وَكَذَا إذَا اُنْتُقِصَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ (وَأَمَّا) الضَّرُورِيُّ فَهُوَ كُلُّ مَا يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ، وَيُلْزِمُ الْبَيْعَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ نَحْوُ مَوْتِ الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَكَذَا إجَازَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِيمَا اشْتَرَيَاهُ، وَلَمْ يَرَيَاهُ دُونَ صَاحِبِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ. وَكَذَا إذَا هَلَكَ بَعْضُهُ أَوْ اُنْتُقِصَ بِأَنْ تَعَيَّبَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أَوْ بِفِعْلِ الْبَائِعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَوْ زَادَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً أَوْ مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً

أَوْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَالِاتِّفَاقُ، وَالِاخْتِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَالْعَيْبِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا يُبْطِلُ خِيَارَ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ يُبْطِلُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ إلَّا أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ، وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ لَا يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ لَا قَبْلَ الرُّؤْيَةِ وَلَا بَعْدَهَا أَمَّا قَبْلَهَا فَلِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ أَوَانَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ هُوَ أَوَانُ الرُّؤْيَةِ فَقَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَا خِيَارَ، وَإِسْقَاطُ الشَّيْءِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ وَثُبُوتِ سَبَبِهِ مُحَالٌ. وَأَمَّا بَعْدَ الرُّؤْيَةِ فَلِأَنَّ الْخِيَارَ مَا ثَبَتَ بِاشْتِرَاطِ الْعَاقِدَيْنِ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ مُطْلَقٌ عَنْ الشَّرْطِ نَصًّا وَدَلَالَةً، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ شَرْعًا لِحُكْمِهِ فِيهِ فَكَانَ ثَابِتًا حَقًّا لِلَّهِ - تَعَالَى -. (وَأَمَّا) خِيَارُ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ فَثَبَتَ بِاشْتِرَاطِ الْعَاقِدَيْنِ أَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ (وَأَمَّا) خِيَارُ الْعَيْبِ فَلِأَنَّ السَّلَامَةَ مَشْرُوطَةٌ فِي الْعَقْدِ دَلَالَةً، وَالثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ كَالثَّابِتِ بِصَرِيحِ النَّصِّ فَكَانَ ثَابِتًا حَقًّا لِلْعَبْدِ، وَمَا ثَبَتَ حَقًّا لِلْعَبْدِ يُحْتَمَلُ السُّقُوطُ بِإِسْقَاطِهِ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا، فَأَمَّا مَا ثَبَتَ حَقًّا - لِلَّهِ تَعَالَى - فَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ إسْقَاطًا مَقْصُودًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مَقْصُودًا، لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ بِأَنْ يَتَصَرَّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ سُقُوطَ حَقِّ الشَّرْعِ، فَيَسْقُطُ حَقُّ الشَّرْعِ فِي ضِمْنِ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَمَا إذَا أَجَازَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ، وَرَضِيَ بِهِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً بِمُبَاشَرَةِ تَصَرُّفٍ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا وَالْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ ثَبَتَ حَقًّا لِلشَّرْعِ، لَكِنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَهُ نَظَرًا لِلْعَبْدِ حَتَّى إذَا رَآهُ وَصَلَحَ لَهُ أَجَازَهُ. وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ لَهُ رَدَّهُ إذْ الْخِيَارُ هُوَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ، فَكَانَ الْمُشْتَرِي بِالْإِجَازَةِ وَالرِّضَا مُتَصَرِّفًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا، ثُمَّ مِنْ ضَرُورَةِ الْإِجَازَةِ لُزُومُ الْعَقْدِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ لُزُومِ الْعَقْدِ سُقُوطُ الْخِيَارِ، فَكَانَ سُقُوطُ الْخِيَارِ مِنْ طَرِيقِ الضَّرُورَةِ لَا بِالْإِسْقَاطِ مَقْصُودًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الشَّيْءُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا عَزَلَهُ الْمُوَكِّلُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ، وَلَوْ بَاعَ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ كَذَا هُنَا. وَلَوْ بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ أَوْ عَرَضَهُ عَلَى الْبَيْعِ أَوْ وَهَبَهُ وَلَمْ يُسَلِّمْ أَوْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي دَارًا فَبِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ دَلَالَةُ الرِّضَا، وَهَذَا الْخِيَارُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَا يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الرِّضَا فَبِدَلَالَةِ الرِّضَا أَوْلَى أَنْ لَا يَسْقُطَ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ بِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ بِأَنْ أَعْتَقَ أَوْ دَبَّرَ أَوْ بَاعَ أَوْ آجَرَ أَوْ رَهَنَ، وَسَلَّمَ أَمَّا الْإِعْتَاقُ وَالتَّدْبِيرُ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَعَ صَحِيحًا لِمُصَادَفَتِهِ مَحَلًّا مَمْلُوكًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَصَرُّفٌ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَالْفَسْخَ فَتَعَذَّرَ فَسْخُ الْبَيْعِ لِتَعَذُّرِ فَسْخِهِمَا. (وَأَمَّا) الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالرَّهْنُ فَلِأَنَّهَا تَصَرُّفَاتٌ لَازِمَةٌ أَوْجَبَ بِهَا مِلْكًا لَازِمًا أَوْ حَقًّا لَازِمًا لِلْغَيْرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ فَتَعَذَّرَ الْفَسْخُ، وَتَعَذُّرُ فَسْخِ الْعَقْدِ يُوجِبُ لُزُومَهُ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ إذَا تَعَذَّرَ لَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً وَلَوْ بَاعَ أَوْ رَهَنَ أَوْ آجَرَ ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ افْتَكَّ الرَّهْنَ أَوْ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ لَا يَعُودُ الْخِيَارُ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ بَعْدَ مَا سَقَطَ لَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَاتَبَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ أَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ الرُّؤْيَةِ يَلْزَمُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عُقُودٌ لَازِمَةٌ أَوْجَبَتْ حُقُوقًا لَازِمَةً (أَمَّا) الْكِتَابَةُ فَلِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ فِي حَقِّ الْمُكَاتِبِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْفَسْخَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمُكَاتَبِ، وَكَذَا الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ. (وَأَمَّا) الْهِبَةُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِهَا مِلْكٌ لَا يُحْتَمَلُ الْعَوْدُ إلَيْهِ إلَّا بِقَضَاءٍ أَوْ رِضًا، فَكَانَ فِي مَعْنَى اللُّزُومِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ الْفَسْخُ بِسَبَبِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، وَتَعَذُّرُ الْفَسْخِ يُوجِبُ اللُّزُومَ وَيُسْقِطُ الْخِيَارَ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْفَائِدَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ لَازِمٍ فِي حَقِّهِ، وَكَذَا الْهِبَةُ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ، وَالْعَرْضُ عَلَى الْبَيْعِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ سُقُوطِ الْخِيَارِ وَلُزُومِ الْبَيْعِ بِرِضَا الْمُشْتَرِي إذَا رَأَى كُلَّ الْمَبِيعِ فَرَضِيَ بِهِ. فَأَمَّا إذَا رَأَى بَعْضَهُ دُونَ بَعْضٍ فَهَلْ يَسْقُطُ خِيَارُهُ؟ فَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِيهِ عَلَى النَّحْو الَّذِي ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا رَأَى بَعْضَ الْمَبِيعِ دُونَ بَعْضٍ وَقْتَ الشِّرَاءِ، فَكُلُّ مَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْخِيَارِ هُنَاكَ يَسْقُطُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ هَهُنَا، وَمَا لَا فَلَا، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفَانِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَعَلَى ذَلِكَ يَخْرُجُ مَا إذَا اشْتَرَى مُغَيَّبًا فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَالْبَصَلِ وَالثُّومِ وَالسَّلْقِ وَالْفُجْلِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ فَقَلَعَ بَعْضَهُ وَرَضِيَ بِالْمَقْلُوعِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ عِنْدَ

أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى إنَّهُ إذَا قَلَعَ الْبَاقِي كَانَ عَلَى خِيَارِهِ إنْ شَاءَ رَدَّ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ الْكُلَّ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: إذَا قَلَعَ شَيْئًا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْبَاقِي فِي عِظَمِهِ، وَرَضِيَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ لَازِمٌ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ إذَا قَلَعَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْبَاقِي كَانَ رُؤْيَةُ بَعْضِهِ كَرُؤْيَةِ كُلِّهِ فَكَأَنَّهُ قَلَعَ الْكُلَّ، وَرَضِيَ بِهِ كَمَا إذَا اشْتَرَى صُبْرَةً فَرَأَى ظَاهِرَهَا، يَسْقُطُ خِيَارُهُ كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ الْمُغَيَّبَاتِ مِمَّا تَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا فَرُؤْيَةُ الْبَعْضِ مِنْهَا لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِحَالِ الْبَقِيَّةِ فَأَشْبَهَ الثِّيَابَ وَسَائِرَ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ، وَلَوْ قَطَعَ الْمُشْتَرِي الْكُلَّ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ سَقَطَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ نَقَّصَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بِالْقَلْعِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَنْمُو فِي الْأَرْضِ وَيَزِيدُ، وَلَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ وَبَعْدَ الْقَلْعِ لَا يَنْمُو، وَيَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، وَانْتِقَاصُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ صُنْعِهِ يُسْقِطُ الْخِيَارَ، وَيُلْزِمُ الْبَيْعَ فَبِصُنْعِهِ أَوْلَى، وَكَذَا إذَا قَلَعَ بَعْضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ نَقَّصَ بَعْضَ الْمَبِيعِ، وَانْتِقَاصُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِنَفْسِهِ يَمْنَعُ رَدَّ الْبَاقِي فَبِصُنْعِهِ أَوْلَى، وَإِنْ قَلَعَ كُلَّهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ بَعْضَهُ أَوْ قَلَعَ الْبَاقِي بِنَفْسِهِ لَمْ يَذْكُرْ الْكَرْخِيُّ هَذَا الْفَصْلَ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ الْجَوَابُ فِيهِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي إذَا انْتَقَصَ الْمَبِيعُ بِفِعْلِ الْبَائِعِ، أَنَّهُ يَسْقُطُ خِيَارُ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا يَسْقُطُ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا قَلَعَ الْبَعْضَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أَوْ قَلَعَ الْبَائِعُ بَعْضَهُ أَنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كَانَ الْمُغَيَّبُ مِمَّا يُبَاعُ بِالْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ بَعْدَ الْقَلْعِ فَقَلَعَ قَدْرَ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ، وَرَضِيَ بِهِ يَلْزَمُ الْبَيْعُ، وَيَسْقُطُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِبَعْضِ الْمَكِيلِ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ رِضًا بِالْكُلِّ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ بَعْضِهِ تُعَرِّفُ حَالَ الْبَاقِي إلَّا إذَا كَانَ الْمَقْلُوعُ قَلِيلًا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ فَلَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ قَلْعَهُ وَالتَّرْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْلَعْ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُبَاعُ عَدَدًا كَالسَّلْقِ، وَالْفُجْلِ، وَنَحْوِهَا فَقَلَعَ بَعْضًا مِنْهُ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ مِنْهُ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِحَالِ الْبَاقِي لِلتَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِرُؤْيَةِ الْبَعْضِ، فَيَبْقَى عَلَى خِيَارِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي الْقَلْعِ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: إنِّي أَخَافُ إنْ قَلَعْتُهُ لَا يَصْلُحُ لِي وَلَا أَقْدِرُ عَلَى الرَّدِّ، وَقَالَ الْبَائِعُ: إنِّي أَخَافُ إنْ قَلَعْتُهُ لَا تَرْضَى بِهِ فَمَنْ تَطَوَّعَ مِنْهُمَا بِالْقَلْعِ جَازَ، وَإِنْ تَشَاحَّا عَلَى ذَلِكَ فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا إذَا تَشَاحَّا فَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِجْبَارِ لِمَا فِي الْإِجْبَارِ مِنْ الْإِضْرَارِ فَتَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ فَيُفْسَخُ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ الْبَصِيرِ. فَأَمَّا الْأَعْمَى إذَا اشْتَرَى شَيْئًا، وَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فَإِنَّ خِيَارَهُ يَسْقُطُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُسْقِطَةِ لَكِنْ بَعْدَ مَا وُجِدَ مِنْهُ مَا يَقُومُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ، وَهُوَ الْجَسُّ فِيمَا يُجَسُّ، وَالذَّوْقُ فِيمَا يُذَاقُ، وَالشَّمُّ فِيمَا يُشَمُّ، وَالْوَصْفُ فِيمَا يُوصَفُ كَالدَّارِ وَالْعَقَارِ وَالثِّمَارِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْجَارِ، وَنَحْوِهَا إذَا كَانَ الْمَوْصُوفُ عَلَى مَا وُصِفَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الرُّؤْيَةِ فِي حَقِّ الْبَصِيرِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ: يُوَكِّلُ بَصِيرًا بِالرُّؤْيَةِ، وَتَكُونُ رُؤْيَةُ الْوَكِيلِ قَائِمَةً مَقَامَ رُؤْيَتِهِ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَقُومُ مِنْ الْمَبِيعِ فِي مَوْضِعٍ لَوْ كَانَ بَصِيرًا لَرَآهُ ثُمَّ يُوصَفُ لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا أَقْصَى مَا يُمْكِنُ، وَلَوْ وَصَفَ لَهُ فَرَضِيَ بِهِ ثُمَّ أَبْصَرَ لَا يَعُودُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ فِي حَقِّهِ كَالْخَلْفِ عَنْ الرُّؤْيَةِ لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَصْلِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلْفِ لَا يُبْطِلُ حُكْمَ الْخَلْف كَمَنْ صَلَّى بِطَهَارَةِ التَّيَمُّمِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَوْ اشْتَرَى الْبَصِيرُ شَيْئًا لَمْ يَرَهُ حَتَّى ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ ثُمَّ عَمِيَ فَهَذَا وَالْأَعْمَى عِنْدَ الشِّرَاءِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَهُوَ أَعْمَى، فَكَانَتْ رُؤْيَتُهُ رُؤْيَةَ الْعُمْيَانِ، وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ. فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي. بَيَانِ مَا يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْفَسْخِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ نَوْعَانِ: اخْتِيَارِيُّ، وَضَرُورِيٌّ، فَالِاخْتِيَارِيُّ هُوَ أَنْ يَقُولَ فَسَخْتُ الْعَقْدَ، أَوْ نَقَضْتُهُ أَوْ رَدَدْتُهُ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى، وَالضَّرُورِيُّ أَنْ يَهْلِكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ. (وَأَمَّا) شَرَائِطُ صِحَّتِهِ فَمِنْهَا قِيَامُ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ إذَا سَقَطَ لَزِمَ الْعَقْدُ، وَالْعَقْدُ اللَّازِمُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَتَضَمَّنُ الْفَسْخُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ تَضَمَّنَ بِأَنْ رَدَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ دُونَ الْبَعْضِ لَمْ يَصِحَّ، وَكَذَا إذَا رَدَّ الْبَعْضَ، وَأَجَازَ الْبَيْعَ فِي الْبَعْضِ لَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ فَكَانَ هَذَا تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ

عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ تَمَامِهَا، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ، وَمِنْهَا عِلْمُ الْبَائِعِ بِالْفَسْخِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا دَلَائِلَ الْمَسْأَلَةِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ. وَأَمَّا قَضَاءُ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ فَيَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدِهِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْبَيْعُ الْفَاسِدُ فَهُوَ كُلُّ بَيْعٍ فَاتَهُ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا شَرَائِطَ الصِّحَّةِ فِي مَوَاضِعِهَا. (وَأَمَّا) حُكْمُهُ فَالْكَلَامُ فِي حُكْمِهِ يَقَعُ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا فِي. بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَالثَّالِثُ فِي بَيَانِ شَرَائِطِهِ، أَمَّا أَصْلُ الْحُكْمِ فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا حُكْمَ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَالْبَيْعُ عِنْدَهُ قِسْمَانِ: جَائِزٌ، وَبَاطِلٌ لَا ثَالِثَ لَهُمَا، وَالْفَاسِدُ وَالْبَاطِلُ سَوَاءٌ، وَعِنْدَنَا الْفَاسِدُ قِسْمٌ آخَرَ وَرَاءَ الْجَائِزِ وَالْبَاطِلِ، وَهَذَا عَلَى مِثَالِ مَا يَقُولُ فِي أَقْسَامِ الْمَشْرُوعَاتِ أَنَّ الْفَرْضَ وَالْوَاجِبَ سَوَاءٌ، وَعِنْدَنَا هُمَا قِسْمَانِ حَقِيقَةً عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَلَا يُفِيدُ الْمِلْك قِيَاسًا عَلَى بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَلَا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَالَ لِعَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى مَكَّةَ انْهَهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ بَيْعٍ مَا لَمْ يَقْبِضُوا، وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنُوا وَعَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ، وَعَنْ بَيْعٍ، وَسَلَفٍ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَكُونُ حَرَامًا، وَالْحَرَامُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ نِعْمَةٌ، وَالْحَرَامُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ النِّعْمَةِ، وَلِهَذَا بَطَلَ بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَكَذَا هَذَا. (وَلَنَا) أَنَّ هَذَا بَيْعٌ مَشْرُوعٌ فَيُفِيدُ الْمِلْك فِي الْجُمْلَةِ اسْتِدْلَالًا بِسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْمَشْرُوعَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بَيْعٌ أَنَّ الْبَيْعَ فِي اللُّغَةِ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ مَالًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَالٍ قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] سَمَّى مُبَادَلَةَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى اشْتِرَاءً وَتِجَارَةً فَقَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] ، وَالتِّجَارَةُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ قَالَ اللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] سَمَّى - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مُبَادَلَةَ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ بِالْجَنَّةِ اشْتِرَاءً وَبَيْعًا حَيْثُ قَالَ - تَعَالَى - فِي آخَرِ الْآيَةِ {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة: 111] ، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ هُوَ مُبَادَلَةُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَقَدْ وُجِدَ فَكَانَ بَيْعًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ النُّصُوصُ الْعَامَّةُ الْمُطْلَقَةُ فِي بَابِ الْبَيْعِ مِنْ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ - {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ، وَقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ مِنْ النُّصُوصِ فِي هَذَا الْبَابِ عَامًّا مُطْلَقًا، فَمَنْ ادَّعَى التَّخْصِيصَ وَالتَّقْيِيدَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. (وَلَنَا) الِاسْتِدْلَال بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ الْخَالِي عَنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ مَشْرُوعٌ وَمُفِيدٌ لِلْمِلْكِ، وَقِرَانُ هَذِهِ الشُّرُوطِ بِالْبَيْعِ ذِكْرًا لَمْ يَصِحَّ، فَالْتُحِقَ ذِكْرُهَا بِالْعَدَمِ، إذْ الْمَوْجُودُ الْمُلْحَقُ بِالْعَدَمِ شَرْعًا، وَالْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ سَوَاءٌ، وَإِذَا أُلْحِقَ بِالْعَدَمِ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ خَالِيًا عَنْ الْمُفْسِدِ وَالْبَيْعُ الْخَالِي عَنْ الْمُفْسِدِ مَشْرُوعٌ وَمُفِيدٌ لِلْمِلْكِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ قَوِيٌّ. (وَأَمَّا) النَّهْيُ فَالْجَوَابُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِهِ أَنَّ هَذَا نَهْيٌ عَنْ غَيْرِ الْبَيْعِ لَا عَنْ عَيْنِهِ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا أَنَّ شَرْعِيَّةَ أَصْلِ الْبَيْعِ وَجِنْسِهِ ثَبْتٌ مَعْقُولُ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الِاخْتِصَاصِ وَانْدِفَاعِ الْمُنَازَعَةِ، وَأَنَّهُ سَبَبُ بَقَاءِ الْعَالَمِ إلَى حِينِ إذْ لَا قِوَامَ لِلْبَشَرِ إلَّا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْنَى وَاللِّبَاسِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى اسْتِبْقَاءِ النَّفْسِ بِذَلِكَ إلَّا بِالِاخْتِصَاصِ بِهِ وَانْدِفَاعِ الْمُنَازَعَةِ، وَذَلِكَ سَبَبُ الِاخْتِصَاصِ وَانْدِفَاعِ الْمُنَازَعَةِ، وَهُوَ الْبَيْعُ، وَلَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ عَمَّا عُرْفَ حُسْنُهُ أَوْ حَسُنَ أَصْلُهُ بِالْعَقْلِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ النَّهْيُ عَنْ الْإِيمَان بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَشُكْرِ النِّعَمِ، وَأَصْلِ الْعِبَادَاتِ لِثُبُوتِ حُسْنِهَا بِالْعَقْلِ فَيُحْمَلُ النَّهْيُ الْمُضَافُ إلَى الْبَيْعِ عَلَى غَيْرِهِ ضَرُورَةً. وَالثَّانِي إنْ سُلِّمَ جَوَازُ وُرُودِ النَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْغَيْرِ هَهُنَا أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَمَلٌ بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَالثَّانِي أَنَّ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْبَيْعِ نَسْخَ الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَفِي الْحَمْلِ عَلَى غَيْرِهِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِحَقِيقَةِ الْكَلَامِ وَالْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْمَجَازِ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى التَّنَاسُخِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْمَجَازِ مِنْ بَابِ نَسْخِ

الْكَلَامِ، وَنَسْخُ الْمَشْرُوعِيَّةِ نَسْخُ الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَالْكَلَامُ وَسِيلَةٌ وَنَسْخُ الْوَسِيلَةِ أَوْلَى مِنْ نَسْخِ الْمَقْصُودِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) صِفَةُ هَذَا الْحُكْمِ فَنَقُولُ لَهُ صِفَاتٌ مِنْهَا أَنَّهُ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ بَلْ هُوَ مُسْتَحِقُّ الْفَسْخِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ أَنَّ الثَّابِتَ بِهَذَا الْبَيْعِ مُسْتَحِقُّ الْفَسْخِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَمْلِكُ الْفَسْخَ، وَفِي بَيَانِ مَا يَكُونُ فَسْخًا، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ صِحَّةِ الْفَسْخِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْفَسْخِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الثَّابِتَ بِهَذَا الْبَيْعِ أَوْجَبَ الْفَسْخَ فَهُوَ أَنَّ الْبَيْعَ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا فِي ذَاتِهِ فَالْفَسَادُ مُقْتَرِنٌ بِهِ ذِكْرًا وَدَفْعُ الْفَسَادِ وَاجِبٌ وَلَا يُمْكِنُ إلَّا بِفَسْخِ الْعَقْدِ فَيُسْتَحَقُّ فَسْخُهُ لَكِنْ لِغَيْرِهِ لَا لِعَيْنِهِ حَتَّى لَوْ أَمْكَنَ دَفْعُ الْفَسَادِ بِدُونِ فَسْخِ الْبَيْعِ لَا يُفْسَخُ كَمَا إذَا كَانَ الْفَسَادُ لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ فَأَسْقَطَاهُ يَسْقُطُ وَيَبْقَى الْبَيْعُ مَشْرُوعًا كَمَا كَانَ؛ وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ الرِّبَا وَشَرْطَ الْخِيَارِ مَجْهُولٌ وَإِدْخَالُ الْآجَالِ الْمَجْهُولَةِ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ، وَالزَّجْرُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ وَاسْتِحْقَاقُ الْفَسْخِ يَصْلُحُ زَاجِرًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَفْسَخُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَنْ يَمْلِكُ الْفَسْخَ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْفَسَادُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى الْبَدَلِ بِأَنْ بَاعَ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَإِمَّا أَنْ لَمْ يَكُنْ رَاجِعًا إلَيْهِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ مَنْفَعَةٍ زَائِدَةٍ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ، وَالْحَالُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِمَّا أَنْ كَانَ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ يَمْلِكُ الْفَسْخَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ كَيْفَ مَا كَانَ الْفَسَادُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَانَ الْفَسْخُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْقَبُولِ وَالْإِيجَابِ فَيَمْلِكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ شَرْطِ الْعَاقِدَيْنِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ كَانَ الْفَسَادُ رَاجِعًا إلَى الْبَدَلِ فَالْجَوَابُ فِيهِ وَفِيمَا قَبْلَ الْقَبْضِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ الرَّاجِعَ إلَى الْبَدَلِ فَسَادٌ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِخِلَافِ هَذَا الْمُفْسِدِ؟ لِمَا أَنَّهُ لَا قِوَامَ لِلْعَقْدِ إلَّا بِالْبَدَلَيْنِ فَكَانَ الْفَسَادُ قَوِيًّا فَيُؤَثِّرُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ بِسَلْبِ اللُّزُومِ عَنْهُ فَيَظْهَرُ عَدَمُ اللُّزُومِ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ رَاجِعًا إلَى الْبَدَلِ فَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ وِلَايَةَ الْفَسْخِ لِصَاحِبِ الشَّرْطِ لَا لِصَاحِبِهِ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ الَّذِي لَا يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ لَا يَكُونُ قَوِيًّا لِكَوْنِهِ مُحْتَمِلًا لِلْحَذْفِ وَالْإِسْقَاطِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْطِ لَا غَيْرُ وَيُؤَثِّرُ فِي سَلْبِ اللُّزُومِ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ الِاخْتِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفَسْخَ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَقُّ الْفَسْخِ لِمَنْ شُرِطَ لَهُ الْمَنْفَعَةُ لَا غَيْرُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ لَهُ شَرْطُ الْمَنْفَعَةِ قَادِرٌ عَلَى تَصْحِيحِ الْعَقْدِ بِحَذْفِ الْمُفْسِدِ وَإِسْقَاطِهِ، فَلَوْ فَسَخَهُ الْآخَرُ لَأَبْطَلَ حَقَّهُ عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَقْدَ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ لَازِمٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ بَلْ هُوَ مُسْتَحِقُّ الْفَسْخِ فِي نَفْسِهِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ، وَقَوْلُهُ: الْمُفْسِدُ مُمْكِنُ الْحَذْفِ فَنَعَمْ لَكِنَّهُ إلَى أَنْ يُحْذَفْ فَهُوَ قَائِمٌ وَقِيَامُهُ يَمْنَعُ لُزُومَ الْعَقْدِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفَسْخَ مِنْ صَاحِبِهِ لَيْسَ بِإِبْطَالٍ لِحَقِّ صَاحِبِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ إبْطَالَ الْحَقِّ قَبْلَ ثُبُوتِهِ مُحَالٌ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَكُونُ فَسْخًا لِهَذَا الْعَقْدِ فَفَسْخُهُ بِطَرِيقَيْنِ: قَوْلٍ وَفِعْلٍ، فَالْقَوْلُ هُوَ أَنْ يَقُولَ مَنْ يَمْلِكُ الْفَسْخَ: فَسَخْتُ أَوْ نَقَضْتُ أَوْ رَدَدْتُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَيَنْفَسِخُ بِنَفْسِ الْفَسْخِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا إلَى رِضَا الْبَائِعِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ إنَّمَا اسْتَحَقَّ الْفَسْخَ حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِمَا فِي الْفَسْخِ مِنْ رَفْعِ الْفَسَادِ. وَرَفْعُ الْفَسَادِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ الْكُلِّ فَكَانَ فَسْخًا فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً فَلَا تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْقَضَاءِ وَلَا عَلَى الرِّضَا وَالْفِعْلُ هُوَ أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ عَلَى بَائِعِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ مَا رَدَّهُ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ إعَارَةٍ أَوْ إيدَاعٍ بِأَنْ بَاعَهُ مِنْهُ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ أَوْ أَعَارَهُ مِنْهُ أَوْ أَوْدَعَهُ إيَّاهُ يَبْرَأُ الْمُشْتَرِي عَنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الرَّدَّ عَلَى الْبَائِعِ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ مَا رَدَّهُ يَقَعُ عَنْ جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ أَنَّهُ يَكُونُ فَسْخًا الْوَدِيعَةُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ الرَّدُّ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ وَكِيلِ الْبَائِعِ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَيْعِ يَقَعُ لِمُوَكِّلِهِ وَهُوَ الْبَائِعُ فَكَأَنَّهُ بَاعَهُ لِلْبَائِعِ، وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ عَبْدِ بَائِعِهِ وَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَانَ فَسْخًا لِلْبَيْعِ وَلَا يَبْرَأُ عَنْ الْمُشْتَرِي ضَمَانُهُ حَتَّى يَصِلَ إلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَحُكْمُ تَصَرُّفِهِ وَقَعَ لِلْمَوْلَى فَكَانَ بَيْعًا مِنْ الْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ وَيَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَحُكْمُ تَصَرُّفِهِ

لَا يَقَعُ لِلْمَوْلَى فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَيْعًا مِنْ الْمَوْلَى فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ. وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ عَبْدٍ مَأْذُونٍ لِإِنْسَانٍ شَيْئًا مِنْهُ شِرَاءً فَاسِدًا وَقَبَضَهُ، ثُمَّ إنَّهُ بَاعَهُ مِنْ مَوْلَاهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَانَ فَسْخًا لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا مِنْ الْمَوْلَى كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ مَوْلَاهُ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَكُنْ فَسْخًا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا مِنْهُ مِنْ مَوْلَاهُ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ أَجْنَبِيٍّ وَبَاعَهُ مِنْ مَوْلَاهُ، وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ مُضَارِبِ الْبَائِعِ لَمْ يَكُنْ فَسْخًا لِلْبَيْعِ، وَتَقَرَّرَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ مِنْ وَكِيلِ بَائِعِهِ بِالشِّرَاءِ أَنَّهُ يَكُونُ فَسْخًا. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ يَتَصَرَّفُ لِمُوَكِّلِهِ لَا لِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ تَصَرُّفِهِ يَقَعُ لِمُوَكِّلِهِ لَا لَهُ؟ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْبَيْعِ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَذَلِكَ فَسْخٌ فَأَمَّا الْمُضَارِبُ فَمُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّبْحَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا؟ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ وَكِيلًا لِغَيْرِهِ بِالشِّرَاءِ فَاشْتَرَى الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا لِمُوَكِّلِهِ لَمْ يَكُنْ فَسْخًا لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشِّرَاءِ يَقَعُ لِمُوَكِّلِهِ لَا لَهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ لِلْمُشْتَرِي وَتَقَرَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي ضَمَانُ الْقِيمَةِ، وَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ إنْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا فَضْلٌ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) شَرْطُ صِحَّةِ الْفَسْخِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفَسْخُ بِمَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاخْتِلَافَ فِيهِ وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ هَذَا شَرْطٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَجَعَلَهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْفَسْخِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وَيَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ وَمَا لَا يَبْطُلُ وَلَا يَلْزَمُ وَلَا يَتَقَرَّرُ. فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْفَسْخُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الْإِبْطَالِ وَالْإِسْقَاطِ بِأَنْ يَقُولَ: أَبْطَلْتُ أَوْ أَسْقَطْتُ أَوْ أَوْجَبْتُ الْبَيْعَ أَوْ أَلْزَمْتُهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْفَسْخِ عَنْهُ ثَبَتَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى دَفْعًا لِلْفَسَادِ وَمَا ثَبَتَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى إسْقَاطِهِ مَقْصُودًا كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لَكِنْ قَدْ يَسْقُطُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ بِأَنْ يَتَصَرَّفَ الْعَبْدُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا فَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ سُقُوطَ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ أَوْ يَفُوتَ مَحَلُّ الْفَسْخِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا بَاعَ الْمُشْتَرِي أَوْ وَهَبَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي الْقِيمَةُ أَوْ الْمِثْلُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ وَلَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ عَلَى بَعْضِهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ عَنْ تَسْلِيطٍ مِنْهُ، وَيَطِيبُ لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ بِخِلَافٍ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَطِيبُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَأَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ بَاعَهُ أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ لَكِنْ لَا يَطِيبُ لِلْمُشْتَرِي كَمَا لَا يَطِيبُ لِلْآخِذِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ عَدَمَ الطِّيبِ فِي الْمَأْخُوذِ مِنْ الْحَرْبِيِّ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِكَوْنِهِ مَأْخُوذًا عَلَى وَجْهِ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ وَالْمَأْخُوذُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَاجِبُ الرَّدِّ عَلَى صَاحِبِهِ رَدًّا لِلْخِيَانَةِ، وَبِالْبَيْعِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ اسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ عَلَى مَالِكِهِ لِحُصُولِهِ لَا بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَتِهِ فَبَقِيَ وَاجِبَ الرَّدِّ كَمَا كَانَ وَهَذَا يَمْنَعُ الطِّيبِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ الطِّيبِ لِلْمُشْتَرِي هَهُنَا لِقِرَانِ الْفَسَادِ بِهِ ذِكْرًا لَا حَقِيقَةً، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ الثَّانِي وَخَرَجَ الْمَبِيعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقَّ الرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ لِحُصُولِ الْبَيْعِ مِنْ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيطِهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ بَاعَهُ فَرُدَّ عَلَيْهِ بِخِيَارِ شَرْطٍ أَوْ رُؤْيَةٍ أَوْ عَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ وَعَادَ عَلَى حُكْمِ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ عَادَ حَقُّ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ فَسْخٌ مَحْضٌ فَكَانَ دَفْعًا لِلْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ وَجَعْلًا لَهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا أَوْ عَادَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ مُبْتَدَإٍ لَا يَعُودُ الْفَسْخُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ اخْتَلَفَ لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ فَكَانَ اخْتِلَافُ الْمِلْكَيْنِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْعَقْدَيْنِ. وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ دَبَّرَهُ بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ لِمَا قُلْنَا وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ وَالتَّدْبِيرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَصَرُّفٌ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ صِحَّتِهِ فَيُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ، وَالْفَسْخَ ضَرُورَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَوْلَدَهَا؛ لِمَا قُلْنَا وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ قَدْ صَحَّ لِحُصُولِهِ فِي مِلْكِهِ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي قِيمَةُ الْجَارِيَةِ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ بِالِاسْتِيلَادِ فَصَارَ كَمَا لَوْ هَلَكَتْ فِي يَدِهِ، وَهَلْ يَغْرَمُ الْعُقْرَ؟ ذَكَرَ فِي الْبُيُوعِ أَنَّهُ لَا يَغْرَمُ، وَفِي الشُّرْبِ رِوَايَتَانِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْعُقْرَ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ بِالِاسْتِيلَادِ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ، وَلَوْ وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي وَلَمْ يُعَلِّقْهَا لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْفَسْخِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْجَارِيَةَ مَعَ عُقْرِهَا بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ، فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْجَارِيَةِ الْمَوْهُوبَةِ إذَا وَطِئَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ وَأَعْلَقَهَا ثُمَّ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ وَأَخَذَ الْجَارِيَةَ أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ لَا

يَضْمَنُ الْعُقْرَ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْهِبَةِ مِلْكٌ مُحَلِّلٌ لِلْوَطْءِ، وَبِالرُّجُوعِ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ لَمْ يَكُنْ فَكَانَ مُسْتَمْتِعًا بِمِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا عُقْرَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِهِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ حِلِّ الْوَطْءِ فَكَانَ الْوَطْءُ حَرَامًا إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ فَوَجَبَ الْعَقْدُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَهُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ قَدْ صَحَّتْ لِوُجُودِهَا فِي الْمِلْكِ وَلَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ إلَى نَقْضِهَا لِحُصُولِهَا مِنْ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ فَلَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ النَّقْضِ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي قِيمَةُ الْعَبْدِ فَإِنْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَعَتَقَ تَقَرَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي ضَمَانُ الْقِيمَةِ، وَإِنْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَحَقَّ الرَّدِّ قَبْلَ الْكِتَابَةِ لِعَدَمِ لُزُومِ الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ الرَّدُّ لِعَارِضِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ عَجَزَ وَرَدَّ فِي الرِّقِّ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ فَقَدْ زَالَ الْعَارِضُ وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَعَادَ مُسْتَحِقَّ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْتَرِي كَمَا كَانَ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَا قَضَى عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ لَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ بِالْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ تَقَرَّرَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فِي الْعَبْدِ وَلَزِمَ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ فَيَعُودُ إلَيْهِ لَازِمًا وَالْمِلْكُ اللَّازِمُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ لَوْ رَهَنَهُ الْمُشْتَرِي بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ وَوِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ افْتَكَّهُ الْمُشْتَرِي فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْكِتَابَةِ، وَلَوْ أَجَّرَهُ صَحَّتْ الْإِجَارَةُ لِمَا قُلْنَا، وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ وَإِنْ كَانَتْ عَقْدًا لَازِمًا إلَّا أَنَّهَا تُفْسَخُ بِالْعُذْرِ وَلَا عُذْرَ أَقْوَى مِنْ رَفْعِ الْفَسَادِ فَتَنْفَسِخُ بِهِ وَسُلِّمَتْ الْأُجْرَةُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ وَالْعَقْدُ وُجِدَ مِنْ الْمُشْتَرِي فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ لَهُ، وَهَلْ تَطِيبُ لَهُ؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَ قَدْ أَدَّى ضَمَانَ الْقِيمَةِ ثُمَّ آجَرَ طَابَتْ الْأُجْرَةُ لَهُ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بَدَلُ الْمَضْمُونِ، قَائِمٌ مَقَامَهُ، فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ رِبْحَ مَا قَدْ ضَمِنَ، وَإِنْ آجَرَ ثُمَّ أَدَّى الضَّمَانَ لَا تَطِيبُ لَهُ لِأَنَّهَا رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُوصِي حَيًّا بَعْدُ فَلِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَصَرُّفٌ غَيْرُ لَازِمٍ حَالَ حَيَاةِ الْمُوصِي بَلْ مُحْتَمَلٌ. وَإِنْ مَاتَ بَطَلَ حَقُّهُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُوصَى لَهُ مِلْكٌ جَدِيدٌ بِخِلَافِ الثَّابِتِ لِلْوَارِثِ بِأَنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْفَسْخِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ وَرَثَتِهِ، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْبَائِعُ فَلِوَرَثَتِهِ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْوَارِثِ عَيْنُ مَا كَانَ لِلْمُوَرِّثِ وَإِنَّمَا هُوَ خَلْفُهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ وَلِهَذَا يَرُدُّ الْوَارِثُ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ، وَمِلْكُ الْمُوَرِّثِ مَضْمُونُ الرَّدِّ مُسْتَحَقُّ الْفَسْخِ بِخِلَافِ الْمُوصَى لَهُ فَإِنَّ الثَّابِتَ مِلْكٌ جَدِيدٌ حَصَلَ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ وَلِهَذَا لَمْ يُرَدَّ بِالْعَيْبِ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقَّ الْفَسْخِ. ازْدَادَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ حَقِيقَةً وَالْأَصْلُ مَضْمُونُ الرَّدِّ فَكَذَلِكَ التَّبَعُ كَمَا فِي الْغَصْبِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْأَصْلِ كَمَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ سَوِيقًا فَلَتَّهُ الْمُشْتَرِي بِعَسَلٍ أَوْ سَمْنٍ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فُسِخَ إمَّا أَنْ يُفْسَخَ عَلَى الْأَصْلِ وَحْدَهُ وَإِمَّا أَنْ يُفْسَخَ عَلَى الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جَمِيعًا، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِتَعَذُّرِ الْفَصْلِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الْبَيْعِ لَا أَصْلًا وَلَا تَبَعًا فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً فَإِنْ كَانَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالثَّمَرَةِ لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْأَصْلَ مَعَ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ لِكَوْنِهَا مُتَوَلِّدَةً مِنْهُ. وَالْأَصْلُ مَضْمُونُ الرَّدِّ فَكَذَا الزِّيَادَةُ كَمَا فِي بَابِ الْغَصْبِ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ أَرْشًا أَوْ عُقْرًا؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ بَدَلُ جُزْءٍ فَائِتٍ مِنْ الْأَصْلِ حَقِيقَةً كَالْمُتَوَلِّدِ مِنْ الْأَصْلِ، وَالْعُقْرَ بَدَلُ حَالِهِ حُكْمُ الْجُزْءِ وَالْعَيْنِ فَكَأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْعَيْنِ ثُمَّ فِي فَصْلِ الْوَلَدِ إذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ وَبِالْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ؛ يَنْجَبِرُ النُّقْصَانُ بِالْوَلَدِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ كَمَا فِي الْغَصْبِ، وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ لَمْ تَنْقُصْهَا الْوِلَادَةُ اسْتَرَدَّهَا الْبَائِعُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْبَائِعِ وَإِنْ نَقَصَتْهَا وَلَيْسَ بِالْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ رَدَّهَا مَعَ ضَمَانِ النُّقْصَانِ كَمَا فِي الْغَصْبِ، وَإِنْ هَلَكَ الْوَلَدُ قَبْلَ الرَّدِّ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالزِّيَادَةِ كَمَا فِي الْغَصْبِ وَعَلَيْهِ ضَمَانُ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ كَمَا فِي الْغَصْبِ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي الزِّيَادَةَ؛ ضَمِنَ كَمَا فِي الْغَصْبِ، وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ وَالزِّيَادَةُ قَائِمَةٌ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الزِّيَادَةَ وَيَضْمَنَ قِيمَةَ الْمَبِيعِ وَقْتَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مَضْمُونَيْ الرَّدِّ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِرْدَادُ الْمَبِيعِ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ وَصَارَ مَضْمُونَ الْقِيمَةِ فَبَقِيَ الْوَلَدُ عَلَى حَالِهِ مَضْمُونَ

الرَّدِّ كَمَا كَانَ، وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْأَصْلِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْكَسْبِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْأَصْلَ مَعَ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَضْمُونُ الرَّدِّ وَبِالرَّدِّ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصْلِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الزِّيَادَةَ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِهِ إلَّا أَنَّهَا لَا تَطِيبُ لَهُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَحْدُثْ فِي ضَمَانِهِ بَلْ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَكَانَتْ فِي مَعْنَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ. وَلَوْ هَلَكَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي؛ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا مَضْمُونٌ بِالْقَبْضِ وَالْقَبْضُ لَمْ يَرِدْ عَلَى الزِّيَادَةِ لَا أَصْلًا وَلَا تَبَعًا، أَمَّا أَصْلًا فَلِانْعِدَامِهَا عِنْدَ الْقَبْضِ وَأَمَّا تَبَعًا فَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ حَقِيقَةً بَلْ هِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا مُلِكَتْ بِسَبَبٍ عَلَى حِدَةٍ لَا بِسَبَبِ الْأَصْلِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهَا الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْغَصْبِ أَنَّهُ إذَا اسْتَهْلَكَ الْغَاصِبُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ هَلْ يَضْمَنُ؟ عِنْدَهُ لَا يَضْمَنُ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ، وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ قَائِمَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي تَقَرَّرَ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَةِ الْمَبِيعِ وَالزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي تَقَرَّرَ ضَمَانُ الْقِيمَةِ بِخِلَافِ الْمُتَوَلَّدِ كَمَا فِي الْغَصْبِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الزِّيَادَتَيْنِ يُذْكَرُ فِي الْغَصْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا إذَا زَادَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا. (فَأَمَّا) إذَا انْتَقَصَ فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِرْدَادَ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَ أَرْشِ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا يُضْمَنُ بِالْقَبْضِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْقَبْضُ وَرَدَ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ فَصَارَ مَضْمُونًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ بِالْقَبْضِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُضْمَنُ بِالْعَقْدِ كَمَا فِي قَبْضِ الْمَغْصُوبِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ هَذَا وَالنُّقْصَانَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَقَصَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ؛ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَبِصُنْعِهِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ بِفِعْلٍ أَجْنَبِيٍّ فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَالْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْجَانِي وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْجَانِيَ وَهُوَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي كَمَا فِي الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ قِيمَةَ النُّقْصَانِ مِنْ الْمُشْتَرِي فَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ فِيهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكٍ مُتَقَرِّرٍ لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ وَالْأَجْنَبِيُّ لَمْ يَمْلِكْ فَلَا يَرْجِعُ. وَلَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ حَالَةَ الْقَبْضِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْقَاتِلِ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ بِقِيمَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، فَرَّقَ هَهُنَا بَيْنَ الْبَيْعِ وَبَيْنَ الْغَصْبِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَتَلَ الْمَغْصُوبَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ قَاتِلٌ فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهُ حَالَةَ الْغَصْبِ، وَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ عَاقِلَةَ الْقَاتِلِ قِيمَتَهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَلَى الْغَاصِبِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ جَنَى عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَبِيعَ بِالْقَبْضِ، وَتَقَرَّرَ مِلْكُهُ فِيهِ بِالْجِنَايَةِ لَا عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ تَضْمِينَهُ بِخِلَافِ الْغَصْبِ فَإِنَّ الْغَاصِبَ لَا يَمْلِكُ الْمَغْصُوبَ إلَّا بِتَضْمِينِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إيَّاهُ فَقَبْلَهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ فَكَانَ الْقَتْلُ جِنَايَةً عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ، وَالْقَبْضُ جِنَايَةٌ عَلَى مِلْكِهِ أَيْضًا فَكَانَ لَهُ خِيَارُ التَّضْمِينِ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْبَائِعِ لَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَرِدًّا بِفِعْلِهِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ حَبْسٌ عَلَى الْبَائِعِ؛ يُهْلَكُ عَلَى الْبَائِعِ. وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ حَبْسٌ ثُمَّ هَلَكَ يَنْظُرُ إنْ هَلَكَ مِنْ سِرَايَةِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَرِدًّا بِفِعْلِهِ، وَإِنْ هَلَكَ لَا مِنْ سِرَايَةِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي ضَمَانُهُ لَكِنْ يُطْرَحُ مِنْهُ حِصَّةُ النُّقْصَانِ بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَرَدَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ بِجِنَايَتِهِ، وَلَوْ قَتْلَهُ الْبَائِعُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ اسْتَرَدَّهُ بِالْقَتْلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَفَرَ الْبَائِعُ بِئْرًا فَوَقَعَ فِيهِ وَمَاتَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْقَتْلِ فَيَصِيرُ مُسْتَرَدًّا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ الْمُشْتَرِي وَخَاطَهُ قَمِيصًا أَوْ بَطَّنَهُ وَحَشَاهُ بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ وَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَحْدَثَ فِي الْمَبِيعِ صُنْعًا لَوْ أَحْدَثَهُ الْغَاصِبُ فِي الْمَغْصُوبِ لَا يَقْطَعُ حَقَّ الْمَالِكِ؛ يَبْطُلُ حَقُّ الْفَسْخِ وَيَتَقَرَّرُ حَقُّهُ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ أَوْ الْمِثْلِ، كَمَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ قُطْنًا فَغَزَلَهُ، أَوْ غَزْلًا فَنَسَجَهُ، أَوْ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا، أَوْ سِمْسِمًا أَوْ عِنَبًا فَعَصَرَهُ، أَوْ سَاحَةً فَبَنَى عَلَيْهَا، أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا أَوْ طَبَخَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَقَبْضِ الْغَصْبِ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونُ الرَّدِّ حَالَ قِيَامِهِ، وَمَضْمُونُ الْقِيمَةِ أَوْ الْمِثْلِ حَالَ هَلَاكِهِ؟ ، فَكُلُّ مَا يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْمَالِكِ هُنَاكَ يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ هَهُنَا. ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ الْمُشْتَرِي بِصَبْعٍ يَزِيدُ مِنْ الْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ وَنَحْوِهِمَا ذَكَرَ

الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْبَائِعِ عَنْهُ إلَى الْقِيمَةِ وُورِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَقَبْضِ الْغَصْبِ، ثُمَّ الْجَوَابُ فِي الْغَصْبِ هَكَذَا أَنَّ الْمَالِكَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَى الْغَاصِبَ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فَكَذَا هَذَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ أَرْضًا فَبَنَى عَلَيْهَا؛ بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَى الْمُشْتَرِي ضَمَانُ قِيمَتِهَا وَقْتَ الْقَبْضِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْطُلُ وَيُنْقَضُ الْبِنَاءُ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا الْقَبْضَ مُعْتَبَرٌ بِقَبْضِ الْغَصْبِ ثُمَّ هُنَاكَ يَنْقُضُ الْبِنَاءُ فَكَذَا هَهُنَا؛ وَلِأَنَّ الْبِنَاءَ يُنْقَضُ بِحَقِّ الشَّفِيعِ بِالْإِجْمَاعِ، وَحَقُّ الْبَائِعِ فَوْقَ حَقِّ الشَّفِيعِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّفِيعَ لَا يَأْخُذُ إلَّا بِقَضَاءٍ وَالْبَائِعُ يَأْخُذُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا فَلَمَّا نُقِضَ لِحَقِّ الشَّفِيعِ فَلِحَقِّ الْبَائِعِ أَوْلَى (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ؛ لَكَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مَعَ الْبِنَاءِ أَوْ بِدُونِ الْبِنَاءِ لَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ مِنْ الْمُشْتَرِي تَصَرُّفٌ حَصَلَ بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ النَّقْضَ، كَتَصَرُّفِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْغَصْبِ وَالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيطُ عَلَى الْبِنَاءِ، وَكَذَا لَا يَمْنَعَانِ نَقْضَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ. (وَمِنْهَا) أَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِلْكٌ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ أَوْ بِالْمِثْلِ لَا بِالْمُسَمَّى بِخِلَافِ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ هِيَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ فِي الْبِيَاعَاتِ؛ لِأَنَّهَا مِثْلُ الْمَبِيعِ فِي الْمَالِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ يُعْدَلُ عَنْهَا إلَى الْمُسَمَّى إذَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ خُصُوصًا إذَا كَانَ الْفَسَادُ مِنْ قِبَلِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ إذَا لَمْ تَصِحَّ لَمْ يَثْبُتْ الْمُسَمَّى فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَ وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الثَّمَنِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ بَيْعًا بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةٌ بِالْمَالِ فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ الْبَدَلَ صَرِيحًا صَارَتْ الْقِيمَةُ أَوْ الْمِثْلُ مَذْكُورًا دَلَالَةً فَكَانَ بَيْعًا بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ أَوْ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْأَمْثَالِ. (وَمِنْهَا) أَنَّ هَذَا الْمِلْكَ يُفِيدُ الْمُشْتَرِيَ انْطِلَاقَ تَصَرُّفٍ لَيْسَ فِيهِ انْتِفَاعٌ بِعَيْنِ الْمَمْلُوكِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ انْتِفَاعٌ بِعَيْنِ الْمَبِيعِ. (وَأَمَّا) التَّصَرُّفُ الَّذِي فِيهِ انْتِفَاعٌ بِعَيْنِ الْمَمْلُوكِ كَأَكْلِ الطَّعَامِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَسُكْنَى الدَّارِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْجَارِيَةِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِهَذَا الْبَيْعِ مِلْكٌ خَبِيثٌ وَالْمِلْكُ الْخَبِيثُ لَا يُفِيدُ إطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبُ الرَّفْعِ وَفِي الِانْتِفَاعِ بِهِ تَقَرَّرَ لَهُ وَفِيهِ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ، وَلِهَذَا لَمْ يُفْدِ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ تَحَرُّزًا عَنْ تَقْرِيرِ الْفَسَادِ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى مَا نَذْكُرهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى دَارًا لَا يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا حَقُّ الشُّفْعَةِ، وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ لَمْ يَنْقَطِعْ، وَالشُّفْعَةُ إنَّمَا تَجِبُ بِانْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ لَا بِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِبَيْعِ دَارِهِ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٌ مُنْكِرٌ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ؟ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي لِانْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ بِإِقْرَارِهِ وَهَهُنَا حَقُّ الْبَائِعِ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ فَلَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ حَتَّى لَوْ وُجِدَ مَا يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّهِ تَجِبُ الشُّفْعَةُ. بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ الدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا؛ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا الشِّرَاءَ صَحِيحٌ فَيُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْبَائِعِ فَيَثْبُتُ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَطِئَ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَاةَ شِرَاءً فَاسِدًا فَإِنْ لَمْ يُعَلِّقْهَا؛ فَلَا عُقْرَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْفَسْخِ وَإِنْ فَسَخَ الْعَقْدَ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ وَإِنْ أَعْلَقَهَا وَضَمِنَ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ فَفِي وُجُوبِ الْعُقْرِ رِوَايَتَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. (وَأَمَّا) شَرَائِطُهُ فَاثْنَانِ: أَحَدُهُمَا الْقَبْضُ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبُ الْفَسْخِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ وَفِي وُجُوبِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ تَقَرَّرَ الْفَسَادُ؛ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُهُ إلَى الْمُشْتَرِي، وَفِي التَّسْلِيمِ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ وَإِيجَابُ رَفْعِ الْفَسَادِ عَلَى وَجْهٍ فِيهِ رَفْعُ الْفَسَادِ مُتَنَاقِضٌ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ فَإِنْ قَبَضَ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَصْلًا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِأَنْ نَهَاهُ عَنْ الْقَبْضِ أَوْ قَبَضَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ، فَإِنْ لَمْ يَنْهَهُ وَلَا أَذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ صَرِيحًا فَقَبَضَهُ بِحَضْرَةِ الْبَائِعِ ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ إذَا قَبَضَهُ بِحَضْرَتِهِ وَلَمْ يَنْهَهُ كَانَ ذَلِكَ إذْنًا مِنْهُ بِالْقَبْضِ دَلَالَةً مَعَ مَا أَنَّ الْعَقْدَ الثَّابِتَ دَلَالَةُ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ تَسْلِيطٌ لَهُ عَلَى الْقَبْضِ فَكَأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ، وَالْإِذْنُ بِالْقَبْضِ قَدْ يَكُونُ صَرِيحًا وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَةً كَمَا فِي بَابِ الْهِبَةِ إذَا قَبَضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِحَضْرَةِ الْوَاهِبِ فَلَمْ يَنْهَهُ صَحَّ قَبْضُهُ كَذَا هَهُنَا

وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ الْإِذْنَ بِالْقَبْضِ لَمْ يُوجَدْ نَصًّا وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِي الْقَبْضِ تَقْرِيرَ الْفَسَادِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ إذْنًا بِمَا فِيهِ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ لَا يَقَعُ تَسْلِيطًا عَلِيَ الْقَبْضِ لِوُجُودِ الْمَانِعِ مِنْ الْقَبْضِ عَلَى مَا بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا مَانِعَ مِنْ الْقَبْضِ إنْ أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ مَا دَامَ الْمَجْلِسُ قَائِمًا وَإِنَّمَا شُرِطَ الْمَجْلِسُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الرُّكْنِ فَيُشْتَرَطُ لَهُ الْمَجْلِسُ كَمَا يُشْتَرَطُ لِلْقَبُولِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْبَيْعُ الْبَاطِلُ فَهُوَ كُلُّ بَيْعٍ فَاتَهُ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ مِنْ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا جُمْلَةَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ وَلَا حُكْمَ لِهَذَا الْبَيْعِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْمَوْجُودِ وَلَا وُجُودَ لِهَذَا الْبَيْعِ إلَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الشَّرْعِيَّ لَا وُجُودَ لَهُ بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ شَرْعًا كَمَا لَا وُجُودَ لِلتَّصَرُّفِ الْحَقِيقِيِّ إلَّا مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ حَقِيقَةً، وَذَلِكَ نَحْوُ بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْعَذِرَةِ وَالْبَوْلِ وَبَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ وَكُلِّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَكَذَا بَيْعُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ، وَكَذَا بَيْعُ الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَكَذَا بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُسْتَسْعَى لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ حُرَّةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ فَلَمْ يَكُنْ مَالًا مُطْلَقًا وَالْمُكَاتَبُ حُرٌّ يَدًا فَلَمْ يَكُنْ مَالًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْمُسْتَسْعَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ وَعِنْدَهُمَا حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ. وَكَذَا بَيْعُ الْخِنْزِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَكَذَا بَيْعُ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ تَقَوُّمَهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ أَهَانَهَا عَلَيْهِمْ فَيَبْطُلُ وَلَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْعَقَدَ إمَّا أَنْ يَنْعَقِدَ بِالْمُسَمَّى وَإِمَّا أَنْ يَنْعَقِدَ بِالْقِيمَةِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَمْ تَصِحَّ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ إذْ التَّقْوِيمُ يَنْبَنِي عَنْ الْعِزَّةِ، وَالشَّرْعُ أَهَانَ الْمُسَمَّى عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ بِقِيمَتِهِ؟ وَلَا قِيمَةَ لَهُ؟ ، وَإِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ يَبْطُلُ ضَرُورَةً، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ فَصَّلَ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ تَفْصِيلًا فَقَالَ: إنْ كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا بِأَنْ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ. وَإِنْ كَانَ عَيْنًا بِأَنْ بَاعَهَا بِثَوْبٍ وَنَحْوِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي حَقِّ الثَّوْبِ وَيَنْعَقِدُ بِقِيمَةِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْعَاقِدَيْنِ لَيْسَ هُوَ تَمَلُّكُ الْخَمْرِ وَتَمْلِيكُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلتَّمَلُّكِ، وَالتَّمْلِيكُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ مَقْصُودٌ بَلْ تَمْلِيكُ الثَّوْبِ وَتَمَلُّكُهُ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ يَصْلُحُ مَقْصُودًا بِالتَّمَلُّكِ وَالتَّمْلِيكِ، فَالتَّسْمِيَةُ إنْ لَمْ تَظْهَرْ فِي حَقِّ الْخَمْرِ تَظْهَرُ فِي حَقِّ الثَّوْبِ وَلَا مُقَابِلَ لَهُ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْمُشْتَرِي بَاعَ الثَّوْبَ وَلَمْ يَذْكُرْ الثَّمَنَ فَيَنْعَقِدُ بِقِيمَتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ وَمَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ بَلْ يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى الْمَقْصُودِ فَتَصِيرُ الْخَمْرُ مَقْصُودَةً بِالتَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ فَيَبْطُلُ أَصْلًا. (وَأَمَّا) بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَلَا يَبْطُلُ بَلْ يَفْسُدُ وَيَنْعَقِدُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَكَذَا الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَالْخَمْرُ مَالٌ فِي حَقِّنَا إلَّا أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهَا شَرْعًا، فَإِذَا جَعَلَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ ثَمَنًا فَقَدْ ذَكَرَ مَا هُوَ مَالٌ، وَكَوْنُ الثَّمَنِ مَالًا فِي الْجُمْلَةِ أَوْ مَرْغُوبًا فِيهِ عِنْدَ النَّاسِ بِحَيْثُ لَا يُؤْخَذُ مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ يَكْفِي لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ أَوْ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ إلَّا أَنَّ كَوْنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مُتَقَوِّمًا شَرْطُ الِانْعِقَادِ، وَقَدْ وُجِدَ، وَكَذَا بَيْعُ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُسْتَسْعَى؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ فِي الْجُمْلَةِ مَرْغُوبٌ فِيهَا فَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ، وَكَذَا بَيْعُ الْعَبْدِ بِمَا يَرْعَى إبِلَهُ مِنْ أَرْضِهِ مِنْ الْكَلَأِ أَوْ بِمَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ بِئْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ ثَمَنًا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ إلَّا أَنَّهُ مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، وَكَذَا هُوَ مَجْهُولٌ أَيْضًا فَانْعَقَدَ بِوَصْفِ الْفَسَادِ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي بَيْعِ الْعَبْدِ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ. قَالَ عَامَّتُهُمْ: يَبْطُلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَفْسُدُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى ثَمَنًا لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا، وَكَوْنُ الثَّمَنِ مَالًا فِي الْجُمْلَةِ شَرْطُ الِانْعِقَادِ، وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا قَالَ: بِعْتُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَبْطُلُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْكَرْخِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَفْسُدُ وَلَا يَبْطُلُ كَمَا إذَا بَاعَ وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الثَّمَنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ إذَا بَاعَ مَالًا بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ حَتَّى بَطَلَ الْبَيْعُ فَقَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَالَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ هَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ أَوْ يَكُونُ أَمَانَةً؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُونُ أَمَانَةً؛ لِأَنَّهُ مَالٌ قَبَضَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فِي عَقْدٍ وُجِدَ صُورَةً لَا مَعْنًى فَالْتَحَقَ الْعَقْدُ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَ إذْنُهُ بِالْقَبْضِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى حُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ لَا يَكُونُ دُونَ الْمَقْبُوضِ بِعَلَيَّ سَوْمِ الشِّرَاءِ وَذَلِكَ مَضْمُونٌ فَهَذَا أَوْلَى. (وَأَمَّا) الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ فَهُوَ بَيْعُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِبَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَلَا حُكْمَ لَهُ يُعْرَفُ لِلْحَالِ لِاحْتِمَالِ

فصل في بيان ما يرفع حكم البيع

الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ مِنْ الْمَالِكِ فَيَتَوَقَّفُ فِي الْجَوَابِ فِي الْحَالِ لَا أَنْ يَكُونَ التَّوَقُّفُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ مَا يَبْطُلُ مِنْهَا وَمَا يُتَوَقَّفُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْبَيْعِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْبَيْعِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: حُكْمُ الْبَيْعِ نَوْعَانِ، نَوْعٌ يَرْتَفِعُ بِالْفَسْخِ وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ بِرَفْعِهِ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ وَهُوَ حُكْمُ كُلِّ بَيْعٍ غَيْرِ لَازِمٍ كَالْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ أَحَدُ الْخِيَارَاتِ الْأَرْبَعِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ. وَنَوْعٌ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِإِقَالَةٍ وَهُوَ حُكْمُ كُلِّ بَيْعٍ لَازِمٍ وَهُوَ الْبَيْعُ الصَّحِيحُ الْخَالَيْ عَنْ الْخِيَارِ. وَالْكَلَامُ فِي الْإِقَالَةِ فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ رُكْنِ الْإِقَالَةِ، وَفِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الْإِقَالَةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْإِقَالَةِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِقَالَةِ (أَمَّا) رُكْنُهَا فَهُوَ الْإِيجَابُ مِنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ وَالْقَبُولُ مِنْ الْآخَرِ، فَإِذَا وُجِدَ الْإِيجَابُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْقَبُولُ مِنْ الْآخَرِ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي صِيغَةِ اللَّفْظِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ الرُّكْنُ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا: أَقَلْتُ، وَالْآخَرُ: قَبِلْتُ أَوْ رَضِيتُ أَوْ هَوِيتُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهَلْ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْمَاضِي وَبِالْآخَرِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ؟ بِأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَقِلْنِي، فَيَقُولُ: أَقَلْتُكَ، أَوْ قَالَ لَهُ: جِئْتُكَ لِتُقِيلَنِي، فَقَالَ: أَقَلْتُ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَنْعَقِدُ كَمَا فِي النِّكَاحِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي كَمَا فِي الْبَيْعِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ رُكْنَ الْإِقَالَةِ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ كَرُكْنِ الْبَيْعِ، ثُمَّ رُكْنُ الْبَيْعِ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَاضِي، فَكَذَا رُكْنُ الْإِقَالَةِ وَلَهُمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِقَالَةِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ وَهُوَ أَنَّ لَفْظَةَ الِاسْتِقْبَالِ لِلْمُسَاوَمَةِ حَقِيقَةً وَالْمُسَاوَمَةُ فِي الْبَيْعِ مُعْتَادَةٌ، فَكَانَتْ اللَّفْظَةُ مَحْمُولَةً عَلَى حَقِيقَتِهَا فَلَمْ تَقَعْ إيجَابًا بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ اللَّفْظِ بِعَلَيَّ حَقِيقَتِهَا؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ فِيهَا لَيْسَتْ بِمُعْتَادَةٍ فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِيجَابِ وَلِهَذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى الْإِيجَابِ فِي النِّكَاحِ كَذَا هَذَا. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَاهِيَّةِ الْإِقَالَةِ وَعَمَلِهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَاهِيَّتِهَا، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: الْإِقَالَةُ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا فَسْخٌ قَبْلَ الْقَبْضِ بَيْعٌ بَعْدَهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّهَا بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ أَنْ تُجْعَلَ بَيْعًا فَتُجْعَلَ فَسْخًا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنَّهَا فَسْخٌ إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ أَنْ تُجْعَلَ فَسْخًا فَتُجْعَلَ بَيْعًا لِلضَّرُورَةِ وَقَالَ زُفَرُ: إنَّهَا فَسْخٌ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ إنَّ الْإِقَالَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الرَّفْعِ يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ أَقِلْنِي عَثَرَاتِي أَيْ ارْفَعْهَا، وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَعَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إلَّا فِي حَدٍّ» ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَعْنَى التَّصَرُّفِ شَرْعًا مَا يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ لُغَةً، وَرَفْعُ الْعَقْدِ فَسْخُهُ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِقَالَةَ اخْتَلَفَا اسْمًا فَيَخْتَلِفَانِ حُكْمًا، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فَإِذَا كَانَتْ رَفْعًا لَا تَكُونُ بَيْعًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إثْبَاتٌ وَالرَّفْعُ نَفْيٌ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ فَكَانَتْ الْإِقَالَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَسْخًا مَحْضًا فَتَظْهَرُ فِي حَقِّ كَافَّةِ النَّاسِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْفَسْخُ، كَمَا قَالَ زُفَرُ: إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تُجْعَلَ فَسْخًا فَتُجْعَلُ بَيْعًا ضَرُورَةً (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَهُوَ أَخْذُ بَدَلٍ وَإِعْطَاءُ بَدَلٍ وَقَدْ وُجِدَ فَكَانَتْ الْإِقَالَةُ بَيْعًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ فِيهَا، وَالْعِبْرَةُ لَلْمَعْنَى لَا لِلصُّورَةِ، وَلِهَذَا أُعْطِيَ حُكْمَ الْبَيْعِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَكَذَا اُعْتُبِرَ بَيْعًا فِي حَقِّ الثَّالِثِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَقْرِيرِ مَعْنَى الْفَسْخِ مَا ذَكَرْنَاهُ لَزُفَرَ أَنَّهُ رَفْعٌ لُغَةً وَشَرْعًا، وَرَفْعُ الشَّيْءِ فَسْخُهُ. وَأَمَّا تَقْرِيرُ مَعْنَى الْبَيْعِ فِيهِ فَمَا ذَكَرْنَا لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ بِبَدَلٍ وَهَذَا مَعْنَى الْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إظْهَارُ مَعْنَى الْبَيْعِ فِي الْفَسْخِ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ لِلتَّنَافِي فَأَظْهَرْنَاهُ فِي حَقِّ الثَّالِثِ فَجُعِلَ فَسْخًا فِي حَقِّهِمَا بَيْعًا فِي حَقٍّ ثَالِثٍ وَهَذَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُجْعَلَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ طَاعَةً مِنْ وَجْهٍ وَمَعْصِيَةً مِنْ وَجْهٍ؟ فَمِنْ شَخْصَيْنِ أَوْلَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ، وَلَا صِحَّةَ لِلْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ. ، وَثَمَرَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا تَقَايَلَا وَلَمْ يُسَمِّيَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ أَوْ سَمَّيَا زِيَادَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ أَنْقَصَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، أَوْ سَمَّيَا جِنْسًا آخَرَ سِوَى الْجِنْسِ الْأَوَّلِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ أَوْ أَجَّلَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ فَالْإِقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَتَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْأَجَلِ وَالْجِنْسِ الْآخَرِ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ الْإِقَالَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهَا، وَالْمَبِيعُ مَنْقُولٌ أَوْ غَيْرُ مَنْقُولٍ

لِأَنَّهَا فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ، وَالْفَسْخُ رَفْعُ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ رَفَعَ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ فَيَكُونُ فَسْخُهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ فَسَخَ ذَلِكَ الْعَقْدَ، وَحُكْمُ الْفَسْخِ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَيْنَ مَا بَعْدَهُ وَبَيْنَ الْمَنْقُولِ وَغَيْرِ الْمَنْقُولِ، وَتَبْطُلُ تَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْجِنْسُ الْآخَرُ وَالْأَجَلُ، وَتَبْقَى الْإِقَالَةُ صَحِيحَةً؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِقَالَةِ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تُبْطِلُهَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الرِّبَا فِيهِ. وَالْإِقَالَةُ رَفْعُ الْبَيْعِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَمَكُّنُ الرِّبَا فِيهِ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَالْإِقَالَةُ عَلَى مَا سَمَّيَا؛ لِأَنَّهَا بَيْعٌ جَدِيدٌ كَأَنَّهُ بَاعَهُ فِيهِ ابْتِدَاءً، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْمَبِيعُ عَقَارًا فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُهُ بَيْعًا؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا فَالْإِقَالَةُ فَسْخٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا بَيْعًا لِأَنَّ بَيْعَ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَكُلُّ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا تَجُوزُ إقَالَتُهُ فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا تَجُوزُ الْإِقَالَةُ عِنْدَهُ فِي الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَالْإِقَالَةُ تَكُونُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَتَبْطُلُ تَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَالْجِنْسُ الْآخَرُ وَالنُّقْصَانُ وَالْأَجَلُ يَكُونُ فَسْخًا كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَيْعًا لَكِنَّ بَيْعَ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ مَنْقُولًا كَانَ أَوْ عَقَارًا. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ تَقَايَلَا مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ أَصْلًا، أَوْ سَمَّيَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ أَوْ نَقَصَا عَنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَالْإِقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَتَبْطُلُ تَسْمِيَةُ النُّقْصَانِ وَتَكُونُ فَسْخًا أَيْضًا كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّهَا فَسْخٌ فِي الْأَصْلِ وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِهَا فَسْخًا فَتُجْعَلُ فَسْخًا وَإِنْ تَقَايَلَا عَنْ الزِّيَادَةِ أَوْ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ سِوَى جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ فَالْإِقَالَةُ عَلَى مَا سَمَّيَا وَيَكُونُ بَيْعًا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا فَسْخًا هَهُنَا؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْفَسْخِ أَنْ يَكُونَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهَا فَسْخًا تُجْعَلُ بَيْعًا بِمَا سَمَّيَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَقَايَلَا عَلَى أَنْقَصَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِقَالَةَ تَكُونُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُ، وَتُجْعَلُ فَسْخًا وَلَا تُجْعَلُ بَيْعًا عِنْدَهُ لِأَنَّ هَذَا سُكُوتٌ عَنْ نَقْصِ الثَّمَنِ وَذَلِكَ نَقْصُ الثَّمَنِ، وَالسُّكُوتُ عَنْ النَّقْصِ لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ السُّكُوتِ عَنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَهُنَاكَ يُجْعَلُ فَسْخًا لَا بَيْعًا فَهَهُنَا أَوْلَى وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَم. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ الْمُشْتَرَى دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ فَقُضِيَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُ الْمُشْتَرِي أَنْ يُسَلِّمَ الشُّفْعَةَ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِجِنْسٍ آخَرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ بَاطِلَةٌ وَكَذَا تَسْمِيَةُ الْجِنْسِ الْآخَرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ فَقَدْ انْتَقَلَتْ الصَّفْقَةُ إلَيْهِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَالتَّسْلِيمُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ بِجِنْسٍ آخَرَ يَكُونُ إقَالَةً عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ فَتَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ وَيَصِحُّ التَّسْلِيمُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُمَا، وَإِنَّمَا اتَّفَقَ جَوَابُهُمَا هَهُنَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى جَوَازَ بَيْعِ الْمَبِيعِ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَبْقَى فَسْخًا عَلَى الْأَصْلِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الزِّيَادَةُ صَحِيحَةٌ وَكَذَا تَسْمِيَةُ جِنْسٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُ بَيْعٌ وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِهَا بَيْعًا فَتَبْقَى بَيْعًا عَلَى الْأَصْلِ. وَلَوْ تَقَايَلَا الْبَيْعَ فِي الْمَنْقُولِ ثُمَّ إنَّ الْبَائِعَ بَاعَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي ثَانِيًا قَبْلَ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْ يَدِهِ يَجُوزُ الْبَيْعُ وَهَذَا يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ زُفَرَ فَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ مُطْلَقٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَالْمُشْتَرِي أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَعَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَسْخٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ جَعْلِهِ فَسْخًا، وَلَا مَانِعَ هَهُنَا مِنْ جَعْلِهِ فَسْخًا بَلْ وُجِدَ الْمَانِعُ مِنْ جَعْلِهِ بَيْعًا؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ فَكَانَتْ الْإِقَالَةُ فَسْخًا عِنْدَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا بَيْعَ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَجَازَ، وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَلَا يَطَّرِدُ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ بَيْعٌ مُطْلَقٌ. وَبَيْعُ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فَكَانَ هَذَا الْفِعْلُ حُجَّةً عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَثْبُتَ عَنْهُ الْخِلَافُ فِيهِ، وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي لَا يَجُوزُ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَطَّرِدُ أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا إلَّا لِمَانِعٍ وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِهَا بَيْعًا هَهُنَا لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهَا بَيْعًا لَا تَفْسُدُ الْإِقَالَةُ؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ فَتُجْعَلُ بَيْعًا فَكَانَ هَذَا بَيْعُ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَمْ يَجُزْ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ فَسْخًا لَكِنْ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا فَهِيَ بَيْعٌ وَالْمُشْتَرِي غَيْرُهُمَا فَكَانَ بَيْعًا فِي بَيْعِهِ فَيَكُونُ بَيْعَ

الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ، وَزُفَرَ فَلَا يَطَّرِدُ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ زُفَرَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْأَصْلُ فِيهَا الْفَسْخُ إلَّا لِمَانِعٍ، وَلَمْ يُوجَدْ الْمَانِعُ فَبَقِيَ فَسْخًا فِي حَقِّ الْكُلِّ. وَلَمْ يَكُنْ هَذَا بَيْعُ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ غَيْرَ مَنْقُولٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا جَازَ بَيْعُهُ، مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي أَيْضًا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَكَذَا عَلَى قِيَاسِ أَصْلِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ عَلَى أَصْلِهِ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ، وَهَهُنَا، يُمْكِنُ لِمَا قُلْنَا، وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْعٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ فَكَانَ هَذَا بَيْعُ الْمَبِيعِ الْعَقَارَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَهُمَا، وَعَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَسْخٌ إلَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ، وَلَا تَعَذُّرَ هَهُنَا؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَبَقِيَتْ فَسْخًا فَلَمْ يَكُنْ هَذَا بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بَلْ بَيْعُ الْمَفْسُوخِ فِيهِ الْبَيْعُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَهُ مَنْقُولًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَنْقُولٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ هُوَ فَسْخٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَمْ يَكُنْ بَيْعُهُ بَيْعَ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَجُوزُ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اشْتَرَى دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ أَوْ اشْتَرَاهَا، وَلَمْ يَكُنْ بِجَنْبِهَا دَارٌ ثُمَّ بُنِيَتْ بِجَنْبِهَا دَارٌ، ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِهَا بَيْعًا، وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْعٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ، وَالشَّفِيعُ غَيْرُهُمَا فَيَكُونُ بَيْعًا فِي حَقِّهِ فَيَسْتَحِقُّ. وَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا يَثْبُتُ حَقُّ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهَا فَسْخٌ مُطْلَقٌ، وَعَلَى أَصْلِ زُفَرَ، وَعَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَسْخٌ مَا أَمْكَنَ، وَهَهُنَا مُمْكِنٌ، وَالشُّفْعَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْبَيْعِ لَا بِالْفَسْخِ كَالرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَلَوْ تَقَايَلَا ثُمَّ وُهِبَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ، مِنْ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الِاسْتِرْدَادِ، وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي جَازَتْ الْهِبَةُ، وَمَلَكَهُ الْمُشْتَرِي، وَلَا تَنْفَسِخُ الْإِقَالَةُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي الْبَيْعِ لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ، وَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِأَنْ، وَهَبَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ الْبَائِعِ وَقَبِلَهُ الْبَائِعُ، وَهَذَا يُشْكَلُ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ أَجْرَى الْإِقَالَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ مَجْرَى الْبَيْعِ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا جَازَتْ الْهِبَةُ، وَلَكَانَتْ فَسْخًا لِلْإِقَالَةِ كَمَا كَانَتْ فَسْخًا لِلْبَيْعِ ثُمَّ الْفَرْقُ عَلَى أَصْلِ مَنْ يَجْعَلُهَا فَسْخًا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْهِبَةِ مَجَازًا عَنْ الْإِقَالَةِ، فَلَا تَنْفَسِخُ الْإِقَالَةُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَأَمْكَنَ جَعْلُ الْهِبَةِ مَجَازًا عَنْ إقَالَةِ الْبَيْعِ. ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا بِيعَ مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً فَتَقَايَلَا الْبَيْعَ فَاسْتَرَدَّهُ الْبَائِعُ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ صَحَّ قَبْضُهُ، وَهَذَا لَا يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَوْ كَانَتْ بَيْعًا لَمَا صَحَّ قَبْضُهُ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ كَمَا فِي الْبَيْعِ. وَلَوْ تَقَايَلَا قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ أَوْ بَعْدَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْبَائِعُ بِهِ عَيْبًا كَانَ عِنْدَ بَائِعِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ يَطَّرِدُ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ بَيْعٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْعٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ، فَكَانَ بَيْعًا فِي حَقِّهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا أَوْ وَرِثَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَعَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ، وَزُفَرَ يُشْكِلُ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ عَلَى أَصْلِهِمَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْنَعَ الرَّدَّ. ، وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا وَقَبَضَهُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، ثُمَّ تَقَايَلَا وَعَادَ الْمَبِيعُ إلَى الْمُشْتَرِي، ثُمَّ إنَّ بَائِعَهُ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ النَّقْدِ يَجُوزُ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ بَيْعٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْعٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ وَالْبَائِعُ الْأَوَّلُ هَهُنَا ثَالِثٌ فَكَانَتْ الْإِقَالَةُ بَيْعًا فِي حَقِّهِ كَانَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا، ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ بَائِعِهِ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَذَا هَذَا. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ، وَزُفَرَ فَلَا يَطَّرِدُ؛ لِأَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ الْإِقَالَةَ فَسْخًا فَكَانَتْ إعَادَةً إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ فَيَنْبَغِيَ أَنْ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا شَرَائِطُ صِحَّةِ الْإِقَالَةِ (فَمِنْهَا) رِضَا الْمُتَقَايِلَيْنِ أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مُطْلَقٌ، وَالرِّضَا شَرْطُ صِحَّةِ الْبِيَاعَاتِ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَلِأَنَّهَا فَسْخُ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى الصِّحَّةِ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا أَيْضًا (وَمِنْهَا) الْمَجْلِسُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ مَوْجُودٌ فِيهَا فَيُشْتَرَطُ لَهَا الْمَجْلِسُ كَمَا يُشْتَرَطُ لِلْبَيْعِ (وَمِنْهَا) تَقَابُضُ بَدَلَيْ الصَّرْفِ فِي إقَالَةِ الصَّرْفِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْبَدَلَيْنِ إنَّمَا، وَجَبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ، وَالْإِقَالَةُ عَلَى أَصْلِهِ، وَإِنْ كَانَتْ فَسْخًا فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ، فَهِيَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ فَكَانَ حَقُّ الشَّرْعِ فِي حُكْمِ ثَالِثٍ فَيُجْعَلُ بَيْعًا فِي حَقِّهِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ بِمَحَلِّ الْفَسْخِ بِسَائِرِ أَسْبَابِ

الْفَسْخِ كَالرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزُفَرَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ ازْدَادَ زِيَادَةً تَمْنَعُ الْفَسْخَ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا تَصِحُّ الْإِقَالَةُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُمَا فَسْخٌ لِلْعَقْدِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ فَإِذَا خَرَجَ عَنْ احْتِمَالِ الْفَسْخِ خَرَجَ عَنْ احْتِمَالِ الْإِقَالَةِ ضَرُورَةً (وَأَمَّا) عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهَا بَعْدَ الْقَبْضِ بَيْعٌ مُطْلَقٌ، وَهُوَ بَعْدَ الزِّيَادَةِ مُحْتَمِلٌ لِلْبَيْعِ، فَبَقِيَ مُحْتَمِلًا لِلْإِقَالَةِ. (وَأَمَّا) عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ كَانَتْ فَسْخًا لَكِنْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَلَا إمْكَانَ هَهُنَا؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهَا فَسْخًا لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ جَعَلْنَاهَا بَيْعًا لَصَحَّتْ فَجُعِلَ بَيْعًا لِضَرُورَةِ الصِّحَّةِ، فَلِهَذَا اتَّفَقَ جَوَابُ مُحَمَّدٍ مَعَ جَوَابِ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذَا الْفَصْلِ (وَمِنْهَا) قِيَامُ الْمَبِيعِ وَقْتَ الْإِقَالَةِ فَإِنْ كَانَ هَالِكًا، وَقْتَ الْإِقَالَةِ لَمْ تَصِحَّ، فَأَمَّا قِيَامُ الثَّمَنِ وَقْتَ الْإِقَالَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ إقَالَةَ الْبَيْعِ رَفْعُهُ، فَكَانَ قِيَامُهَا بِالْبَيْعِ، وَقِيَامُ الْبَيْعِ بِالْمَبِيعِ لَا بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَيْهِ، لَا عَلَى الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ يَرِدُ عَلَى الْمُعَيَّنِ، وَالْمُعَيَّنُ هُوَ الْمَبِيعُ لَا الثَّمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ، وَإِنْ عَيَّنَ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا فِي الذِّمَّةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ دَلَّ أَنَّ قِيَامَ الْبَيْعِ بِالْمَبِيعِ لَا بِالثَّمَنِ فَإِذَا هَلَكَ لَمْ يَبْقَ مَحَلُّ حُكْمِ الْبَيْعِ، فَلَا يَبْقَى حُكْمُهُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِقَالَةُ الَّتِي هِيَ رَفْعُ حُكْمِ الْبَيْعِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِذَا هَلَكَ الثَّمَنُ فَمَحَلُّ حُكْمِ الْبَيْعِ قَائِمٌ فَتَصِحُّ الْإِقَالَةُ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَيَّنَا أَوْ لَمْ يُعَيِّنَا وَالْفُلُوسِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ الْمَوْصُوفَةِ فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ تَقَايَلَا أَنَّهُمَا إنْ تَقَايَلَا، وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي صَحَّتْ الْإِقَالَةُ، سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ قَائِمًا فِي يَدِهِ أَوْ هَالِكًا لِقِيَامِ حُكْمِ الْبَيْعِ بِقِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَقَايَلَا بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ لَمْ تَصِحَّ، وَكَذَا إنْ كَانَتْ قَائِمَةً وَقْتَ الْإِقَالَةِ ثُمَّ هَلَكَتْ قَبْلَ الرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ سَوَاءً كَانَ الثَّمَنُ قَائِمًا أَوْ هَالِكًا؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فِيهَا مَعْنَى الْبَيْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَ الْإِقَالَةِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَدُّ مَا فِي يَدِهِ عَلَى صَاحِبِهِ فَكَانَ هَلَاكُ الْبَيْعِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَهَلَاكِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْل الْقَبْضِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ كَذَا هَذَا سَوَاءٌ بَقِيَ الثَّمَنُ أَوْ هَلَكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ، فَقِيَامُهُ وَهَلَاكُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَكَذَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ عَبْدَيْنِ، وَتَقَابَضَا ثُمَّ هَلَكَا ثُمَّ تَقَايَلَا أَنَّهُ لَا تَصِحَّ الْإِقَالَةُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إذَا هَلَكَ لَمْ يَبْقَ مَحَلُّ الْفَسْخِ بِالْإِقَالَةِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا هَالِكًا وَقْتَ الْإِقَالَةِ وَالْآخَرُ قَائِمًا وَصَحَّتْ الْإِقَالَةُ، ثُمَّ هَلَكَ الْقَائِمُ قَبْلَ الرَّدِّ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَلَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِعَيْنٍ، وَتَقَابَضَا، ثُمَّ هَلَكَتْ إحْدَاهُمَا فِي يَدِ مُشْتَرِيهَا، ثُمَّ تَقَايَلَا صَحَّتْ الْإِقَالَةُ، وَعَلَى مُشْتَرِي الْهَالِكِ قِيمَةَ الْهَالِكِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ وَمِثْلُهُ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلُ فَيُسَلِّمُهُ إلَى صَاحِبِهِ وَيَسْتَرِدُّ مِنْهُ الْعَيْنَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ عَلَى حِدَةِ لِقِيَامِ الْعَقْدِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ خَرَجَ الْهَالِكُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قِيَامُ الْعَقْدِ بِهِ فَيَقُومُ بِالْآخَرِ، وَإِذَا بَقِيَ الْمَبِيعُ بَقِيَ مَحَلُّ الْفَسْخِ، فَيَصِحُّ أَوْ نَقُولُ: الْمَبِيعُ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ ثَمَنٌ إذْ الْمَبِيعُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ، فَإِذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْهَالِكُ لِلثَّمَنِ، وَالْقَائِمُ لِلْمَبِيعِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ، وَفِي الْقَلْبِ إفْسَادُهُ، فَكَانَ التَّصْحِيحُ أَوْلَى فَبَقِيَ الْبَيْعُ بِبَقَاءِ الْمَبِيعِ، فَاحْتَمَلَ الْإِقَالَةَ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَقَايَلَا، وَالْعَيْنَانِ قَائِمَتَانِ ثُمَّ هَلَكَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْإِقَالَةِ قَبْلَ الرَّدِّ لَا تَبْطُلُ الْإِقَالَةُ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْإِقَالَةِ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ فَهَلَاكُهَا بَعْدَ الْإِقَالَةِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَهَا عَلَى الصِّحَّةِ مِنْ طَرِيقِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ، وَهَذَا بِخِلَافِ بِيعَ الْعَرْضِ بِالْعَرْضِ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِأَحَدِ الْعَرْضَيْنِ ابْتِدَاءً، وَإِذَا انْعَقَدَ بِهِمَا ثُمَّ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِأَحَدِ الْبَدَلَيْنِ، وَيَبْطُلُ بِهَلَاكِ أَحَدِ الْعَرْضَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَرْضَيْنِ مَبِيعٌ، وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ (فَأَمَّا) الْإِقَالَةُ فَرَفْعُ الْبَيْعِ فَتَسْتَدْعِي بَقَاءَ حُكْمِ الْبَيْعِ، وَقَدْ بَقِيَ بِبَقَاءِ أَحَدِهِمَا. وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ إقَالَةُ السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ أَنَّهَا جَائِزَةٌ سَوَاءٌ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا، وَسَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ أَوْ هَالِكًا؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا حَقِيقَةً فَلَهُ حُكْمُ الْعَيْنِ حَتَّى لَا يَجُوزَ اسْتِبْدَالُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَانَ كَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ فَوُجِدَ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِقَالَةِ، وَإِذَا صَحَّتْ، فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنَ مَالٍ قَائِمَةٍ رَدَّهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَتْ هَالِكَةً فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ رَدَّ مِثْلَهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ رَدَّ قِيمَتَهُ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا رَدَّ مِثْلَهُ قَائِمًا كَانَ أَوْ هَالِكًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ

فَهَلَاكُهُ وَقِيَامُهُ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْإِقَالَةُ بَعْدَ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ فِي يَدِ رَبِّ السَّلَمِ أَنَّهُ تَصِحُّ الْإِقَالَةُ ثَمَّةَ؛ لِأَنَّهَا صَحَّتْ حَالَ كَوْنِهِ دَيْنًا حَقِيقَةً فَحَالُ صَيْرُورَتِهِ عَيْنًا بِالْقَبْضِ أَوْلَى، وَإِذَا صَحَّتْ فَعَلَى رَبِّ السَّلَمِ رَدُّ عَيْنِ الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِعَقْدِ السَّلَمِ كَأَنَّهُ عَيْنُ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَالْمُرَابَحَةُ بَيْعُ مَا اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ رِبْحٍ. وَإِذَا كَانَ الْمَقْبُوضُ عَيْنَ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ فِي التَّقْدِيرِ وَالْحُكْمِ، وَجَبَ رَدُّ عَيْنِهِ فِي الْإِقَالَةِ. وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِنُقْرَةٍ أَوْ بِمَصُوغٍ، وَتَقَابَضَا ثُمَّ هَلَكَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ تَقَايَلَا وَالْفِضَّةُ قَائِمَةٌ فِي يَدِ الْبَائِعِ صَحَّتْ الْإِقَالَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ لِتَعَيُّنِهِ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ فَيَبْقَى الْبَيْعُ بِبَقَاءِ أَحَدِهِمَا، وَعَلَى الْبَائِعِ رَدُّ عَيْنِ الْفِضَّةِ، وَيَسْتَرِدُّ مِنْ الْمُشْتَرِي قِيمَةَ الْعَبْدِ لَكِنْ ذَهَبًا لَا فِضَةً؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ وَرُدَّتْ لَا عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ فَلَوْ اسْتَرَدَّ قِيمَتَهُ فِضَّةً، وَالْقِيمَةُ تَخْتَلِفُ فَتَزْدَادُ أَوْ تَنْقُصُ فَيُؤَدِّي إلَى الرِّبَا،. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا وَقْتَ الْإِقَالَةِ ثُمَّ هَلَكَ قَبْلَ الرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ فَعَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَرُدَّ الْفِضَّةَ، وَيَسْتَرِدَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ إنْ شَاءَ ذَهَبًا، وَإِنْ شَاءَ فِضَّةً؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ هَهُنَا وَرَدَتْ عَلَى عَيْنِ الْعَبْدِ ثُمَّ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي بَدَلًا لِلْعَبْدِ، وَلَا رَبَا بِينَ الْعَبْدِ وَقِيمَتِهِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

كتاب الكفالة

[كِتَابُ الْكَفَالَةِ] [رُكْن الْكَفَالَةِ] الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ رُكْنِ الْكَفَالَةِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْكَفَالَةِ وَفِي بَيَانِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْكَفِيلُ عَنْ الْكَفَالَةِ وَفِي بَيَانِ الرُّجُوعِ بَعْدَ الْخُرُوجِ أَنَّهُ هَلْ يَرْجِعُ أَمْ لَا (أَمَّا) الرُّكْنُ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الْإِيجَابُ مِنْ الْكَفِيلِ وَالْقَبُولُ مِنْ الطَّالِبِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُف الْآخَرُ وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ الرُّكْنُ هُوَ الْإِيجَابُ فَحَسْبُ (فَأَمَّا) الْقَبُولُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أُتِيَ بِجِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ فَقِيلَ نَعَمْ دِرْهَمَانِ أَوْ دِينَارَانِ فَامْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَقَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ أَوْ أَبُو قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَصَلَّى عَلَيْهَا» وَلَمْ يُنْقَلْ قَبُولُ الطَّالِبِ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمٌّ لُغَةً وَالْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ شَرْعًا لَا تَمْلِيكٌ. أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ الْجَهَالَةُ وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَمَعْنَى الضَّمِّ وَالِالْتِزَامِ يَتِمُّ بِإِيجَابِ الْكَفِيلِ فَأَشْبَهَ النَّذْرَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ لِوَرَثَتِهِ اضْمَنُوا عَنِّي مَا عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ لِغُرَمَائِي وَهُمْ غُيَّبٌ فَضَمِنُوا ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ وَيَلْزَمُهُمْ وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ وَلَهُمَا أَنَّ الْكَفَالَةَ لَيْسَتْ بِالْتِزَامٍ مَحْضٍ بَلْ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ لِمَا نَذْكُرُ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَالْبَيْعِ وَالْجَوَابُ عَنْ مَسْأَلَةِ الْمَرِيضِ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِذَا عَرَفْت أَنَّ رُكْنَ الْكَفَالَةِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَالْإِيجَابُ مِنْ الْكَفِيلِ أَنْ يَقُولَ أَنَا كَفِيلٌ أَوْ ضَمِينٌ أَوْ زَعِيمٌ أَوْ غَرِيمٌ أَوْ قَبِيلٌ أَوْ حَمِيلٌ أَوْ لَك عَلَيَّ أَوْ لَك قِبَلِي أَوْ لَك عِنْدِي. (أَمَّا) لَفْظُ الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ فَصَرِيحَانِ وَكَذَلِكَ الزَّعَامَةُ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ وَالْغَرَامَةُ بِمَعْنَى الضَّمَانِ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» أَيْ الْكَفِيلُ ضَامِنٌ وَكَذَلِكَ الْقُبَالَةُ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ أَيْضًا يُقَالُ قَبِلْت بِهِ أَقْبَلُ قُبَالَةً وَتَقَبَّلْت بِهِ أَيْ كَفَلَتْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا} [الإسراء: 92] أَيْ كَفِيلًا يَكْفُلُونِي بِمَا يَقُولُ وَالْحَمِيلُ بِمَعْنَى

الْمَحْمُولِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْقَتِيلِ بِمَعْنَى الْمَقْتُولِ وَأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ تَحَمُّلِ الضَّمَانِ وَقَوْلُهُ عَلَى كَلِمَةِ إيجَابٍ وَكَذَا قَوْلُهُ إلَيَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ» وَقَوْلُهُ «قِبَلِي يُنْبِئُ عَنْ الْقُبَالَةِ» وَهِيَ الْكَفَالَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَقَوْلُهُ عِنْدِي وَإِنْ كَانَتْ مُطْلِقَةً لِلْوَدِيعَةِ لَكِنَّهُ بِقَرِينَةِ الدَّيْنِ يَكُونُ كَفَالَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ عِنْدِي يَحْتَمِلُ الْيَدَ وَيَحْتَمِلُ الذِّمَّةَ لِأَنَّهَا كَلِمَةُ قُرْبٍ وَحَضْرَةٍ وَذَلِكَ يُوجَدُ فِيهِمَا جَمِيعًا فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى الْيَدِ لِأَنَّهُ أَدْنَى وَعِنْدَ قَرِينَةِ الدَّيْنِ يُحْمَلُ عَلَى الذِّمَّةِ أَيْ فِي ذِمَّتِي لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَحْتَمِلُهُ إلَّا الذِّمَّةُ. (وَأَمَّا) الْقَبُولُ مِنْ الطَّالِبِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَبِلَتْ أَوْ رَضِيَتْ أَوْ هَوَيْت أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. ثُمَّ رُكْنُ الْكَفَالَةِ. فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو عَنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا بِوَصْفٍ أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْجَوَازِ وَهِيَ مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصِيلِ حَالًّا كَانَتْ الْكَفَالَةُ حَالَّةً وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ مُؤَجَّلًا كَانَتْ الْكَفَالَةُ مُؤَجَّلَةً لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ فَتَتَقَيَّدُ بِصِفَةِ الْمَضْمُونِ. (وَأَمَّا) الْمُقَيَّدُ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِوَصْفِ التَّأْجِيلِ أَوْ بِوَصْفِ الْحُلُولِ فَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ مُؤَجَّلَةً فَإِنْ كَانَ التَّأْجِيلُ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ بِأَنْ كَفَلَ إلَى شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ جَازَ ثُمَّ إنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصِيلِ مُؤَجَّلًا إلَى أَجَلٍ مِثْلِهِ يَتَأَجَّلُ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ أَيْضًا وَإِنْ سَمَّى الْكَفِيلُ أَجَلًا أَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَنْقَصَ جَازَ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّ الطَّالِبِ فَلَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ حَالًّا جَازَ التَّأْجِيلُ إلَى الْأَجَلِ الْمَذْكُورِ وَيَكُونُ ذَلِكَ تَأْجِيلًا فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَكُونُ تَأْجِيلًا فِي حَقِّ الْكَفِيلِ خَاصَّةً (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الطَّالِبَ خَصَّ الْكَفِيلَ بِالتَّأْجِيلِ فَيَخُصُّ بِهِ كَمَا إذَا كَفَلَ حَالًّا أَوْ مُطْلَقًا ثُمَّ أَخَّرَ عَنْهُ بَعْدَ الْكَفَالَةِ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّأْجِيلَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ يَجْعَلُ الْأَجَلَ صِفَةً لِلدَّيْنِ وَالدَّيْنُ وَاحِدٌ وَهُوَ عَلَى الْأَصِيلِ فَيَصِيرُ مُؤَجَّلًا عَلَيْهِ ضَرُورَةً بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ الْمُتَأَخِّرَ عَنْ الْعَقْدِ يُؤَخِّرُ الْمُطَالَبَةَ وَقَدْ خُصَّ بِهِ الْكَفِيلُ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْأَصِيلِ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصِيلِ مُؤَجَّلًا إلَى سَنَةٍ فَكَفَلَ بِهِ مُؤَجِّلًا إلَى سَنَةٍ أَوْ مُطْلِقًا ثُمَّ مَاتَ الْأَصِيلُ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ يَحِلُّ الدَّيْنُ فِي مَالِهِ وَهُوَ عَلَى الْكَفِيلِ إلَى أَجَلِهِ وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْكَفِيلُ دُونَ الْأَصِيلِ يَحِلُّ الدَّيْنُ فِي مَالِ الْكَفِيلِ وَهُوَ عَلَى الْأَصِيلِ إلَى أَجَلِهِ لِأَنَّ الْمُبْطِلَ لِلْأَجَلِ وُجِدَ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ التَّأْجِيلُ إلَى وَقْتٍ مَجْهُولٍ فَإِنْ كَانَ يُشْبِهُ آجَالَ النَّاسِ كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَالنَّيْرُوزِ وَنَحْوِهِ فَكَفَلَ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَازَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا عَقْدٌ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ فَلَا يَصِحُّ كَالْبَيْعِ (وَلَنَا) أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِجَهَالَةٍ فَاحِشَةٍ فَتَحْمِلُهَا الْكَفَالَةُ وَهَذَا لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْعَقْدِ لِعَيْنِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَجَهَالَةُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فِي بَابِ الْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ يُسَامَحُ فِي أَخْذِ الْعَقْدِ مَا لَا يُسَامَحُ فِي غَيْرِهِ لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْ جِهَة الْأَصِيلِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ جَوَازُهَا بِالْعُرْفِ وَالْكَفَالَةُ إلَى هَذِهِ الْآجَالِ مُتَعَارَفَةٌ. وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ حَالَّةً فَأَخَّرَ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَازَ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ لَا يُشْبِهُ آجَالَ النَّاسِ كَمَجِيءِ الْمَطَرِ وَهُبُوبِ الرِّيحِ فَالْأَجَلُ بَاطِلٌ وَالْكَفَالَةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ فَلَا تَتَحَمَّلُهَا الْكَفَالَةُ فَلَمْ يَصِحَّ التَّأْجِيلُ فَبَطَلَ وَبَقِيَتْ الْكَفَالَةُ صَحِيحَةً وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَأَجَّلَهُ الطَّالِبُ إلَى هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَازَ وَإِنْ كَانَ ثَمَنُ مَبِيعٍ وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ فَسَادَ الْبَيْعِ لِأَنَّ تَأْجِيلَ الدَّيْنِ ابْتِدَاءً بِمَنْزِلَةِ التَّأْخِيرِ فِي الْكَفَالَةِ وَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ فَكَذَا هَذَا، هَذَا إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ مُؤَجَّلَةً فَأَمَّا إذَا كَانَتْ حَالَّةً فَإِنْ شَرَطَ الطَّالِبُ الْحُلُولَ عَلَى الْكَفِيلِ جَازَ سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصِيلِ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّ الْمَكْفُولِ لَهُ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالتَّعْجِيلِ وَالتَّأْجِيلِ. وَلَوْ كَفَلَ حَالًّا ثُمَّ أَجَّلَهُ الطَّالِبُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَأَخَّرُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ إذَا قُبِلَ التَّأْخِيرُ دُونَ الْأَصْلِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ التَّأْجِيلُ فِي الْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصْلِ حَالًّا فَأَخَّرَهُ الطَّالِبُ إلَى مُدَّةٍ وَقَبِلَهُ الْمَطْلُوبُ جَازَ التَّأْخِيرُ وَيَكُونُ تَأْخِيرًا فِي حَقِّ الْكَفِيلِ هَذَا إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِوَصْفٍ. فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُعَلَّقَةً بِشَرْطٍ فَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ شَرْطًا سَبَبًا لِظُهُورِ

الْحَقِّ أَوْ لِوُجُوبِهِ أَوْ وَسِيلَةً إلَى الْأَدَاءِ فِي الْجُمْلَةِ جَازَ بِأَنْ قَالَ إنْ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ فَأَنَا كَفِيلٌ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَبِيعِ سَبَبٌ لِظُهُورِ الْحَقِّ وَكَذَا إذَا قَالَ إذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنَا كَفِيلٌ لِأَنَّ قُدُومَهُ وَسِيلَةٌ إلَى الْأَدَاءِ فِي الْجُمْلَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَكْفُولًا عَنْهُ أَوْ يَكُونَ مُضَارَبَةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِظُهُورِ الْحَقِّ وَلَا لِوُجُوبِهِ وَلَا وَسِيلَةَ إلَى الْأَدَاءِ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَجُوزُ بِأَنْ قَالَ إذَا جَاءَ الْمَطَرُ أَوْ هَبَّتْ الرِّيحُ أَوْ إنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ فَأَنَا كَفِيلٌ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ لِمَا ذَكَرْنَا وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَجُوزَ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ إلَّا شَرْطًا أُلْحِقَ بِهِ تَعَلُّقٌ بِالظُّهُورِ أَوْ التَّوَسُّلِ إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ فَيَكُونُ مُلَائِمًا لِلْعَقْدِ فَيَجُوزُ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ جَوَازُهَا بِالْعُرْفِ وَالْعُرْفُ فِي مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ دُونَ غَيْرِهِ. وَلَوْ قَالَ إنْ قَتَلَك فُلَانٌ أَوْ إنْ شَجَّك فُلَانٌ أَوْ إنْ غَصَبَك فُلَانٌ أَوْ إنْ بَايَعْت فُلَانًا فَأَنَا ضَامِنٌ لِذَلِكَ جَازَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَلَوْ قَالَ إنْ غَصَبَك فُلَانٌ ضَيْعَتَك فَأَنَا ضَامِنٌ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَجَازَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ غَصْبَ الْعَقَارِ لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَقَّقُ وَلَوْ قَالَ مَنْ قَتَلَك مِنْ النَّاسِ أَوْ مَنْ غَصَبَك مِنْ النَّاسِ أَوْ مَنْ شَجَّك مِنْ النَّاسِ أَوْ مَنْ بَايَعَكَ مِنْ النَّاسِ لَمْ يَجُزْ لَا مِنْ قِبَلِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ بَلْ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ. وَلَوْ قَالَ ضَمِنَتْ لَك مَا عَلَى فَلَانَ إنْ نَوَى جَازَ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ لِأَنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَى التَّوَسُّلِ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَكَذَا لَوْ قَالَ إنْ خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ وَلَمْ يُعْطِك فَأَنَا ضَامِنٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ تَسْلِيمَ الْمَكْفُولِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ جَازَ لِأَنَّ هَذَا تَأْجِيلُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَيَصِحُّ كَالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ وَكَذَا سَائِرُ أَنْوَاعِ الْكَفَالَاتِ فِي التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ وَالتَّأْجِيلِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الْوَقْتِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي مَعْنَى الْكَفَالَةِ عَلَى السَّوَاءِ. وَلَوْ قَالَ كَفَلَتْ لَك مَالَك عَلَى فُلَانٍ حَالًّا عَلَى أَنَّك مَتَى طَلَبْته فَلِيَ أَجَلُ شَهْرٍ جَازَ وَإِذَا طَلَبْته مِنْهُ فَلَهُ أَجَلُ شَهْرٍ ثُمَّ إذَا مَضَى الشَّهْرُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَتَى شَاءَ وَلَوْ شَرَطَ ذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ حَالًّا لَمْ يَجُزْ وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ مَتَى شَاءَ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَوْجُودَ هَهُنَا كَفَالَتَانِ إحْدَاهُمَا حَالَّةٌ مُطْلَقَةٌ وَالثَّانِيَةُ مُؤَجَّلَةٌ إلَى شَهْرٍ، مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطِ الطَّلَبِ فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ ثَبَتَ التَّأْجِيلُ إلَى شَهْرٍ فَإِذَا مَضَى الشَّهْرُ انْتَهَى حُكْمُ التَّأْجِيلِ فَيَأْخُذُهُ بِالْكَفَالَةِ الْحَالَّةِ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ يَأْخُذُهُ مَتَى شَاءَ بِالطَّلَبِ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ التَّأْجِيلُ بِالشَّرْطِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيقُ التَّأْجِيلِ بِالشَّرْطِ لَا تَعْلِيقُ الْعَقْدِ الْمُؤَجَّلِ بِالشَّرْطِ وَالتَّأْجِيلُ نَفْسُهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَبَطَلَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا كَفَلَ إلَى قُدُومِ زَيْدٍ جَازَ. وَلَوْ كَفَلَ مُطْلَقًا ثُمَّ أَخَّرَ إلَى قُدُومِ زَيْدٍ لَمْ يَجُزْ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ الْمَطْلُوبِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَلْفُ فَمَضَى الْوَقْتُ وَلَمْ يُوَافِ بِهِ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ لِأَنَّ هُنَا كَفَالَتَانِ بِالنَّفْسِ وَبِالْمَالِ إلَّا أَنَّهُ كَفَلَ بِالنَّفْسِ مُطْلَقًا وَعَلَّقَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ فَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ. (أَمَّا) الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَلَا شَكَّ فِيهَا وَكَذَا الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ مُحَقِّقٌ لِمَا شُرِعَ لَهُ وَهُوَ الْوُصُولُ إلَى الْحَقِّ مِنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْأَصِيلِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ لَزِمَهُ الْمَالُ وَإِذَا أَدَّاهُ لَا يَبْرَأُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ لِجَوَازِ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ مَالًا آخَرَ فَيَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ وَكَذَا إذَا قَالَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَلْفٌ وَلَمْ يُسَمِّ لِأَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى مَا عَلَيْهِ وَالْأَلْفُ عَلَيْهِ وَكَذَا لَوْ كَفَلَ لِامْرَأَةٍ بِصَدَاقِهَا إنْ لَمْ يُوَافِ الزَّوْجُ وَصَدَاقُهَا وَصِيفٌ فَالْوَصْفُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْوَصِيفِ كَفَالَةٌ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ الزَّوْجُ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ فَيَلْزَمُ الْكَفِيلَ وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَقَالَ إنْ لَمْ أُوَافِك بِهِ غَدًا فَعَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ الْأَلْفُ الَّتِي عَلَيْهِ أَوْ الْأَلْفُ الَّتِي ادَّعَيْت وَالْمَطْلُوبُ يُنْكَرُ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَلْزَمُهُ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذَا إيجَابُ الْمَالِ مُعَلَّقًا بِالْخَطَرِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى الْوَاجِبِ، وَوُجُوبُ الْمَالِ ابْتِدَاءً لَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَطَرِ فَأَمَّا الْكَفَالَةُ بِمَالٍ ثَابِتٍ فَتَتَعَلَّقُ بِالْخَطَرِ وَلَمْ يُوجَدْ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا إنَّ مُطْلَقَ الْأَلْفِ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَلْفِ الْمَعْهُودَةِ وَهِيَ الْأَلْفُ الْمَضْمُونَةُ مَعَ مَا أَنَّ فِي الصَّرْفِ إلَى ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ فَسَادَ الْعَقْدِ وَفِي الصَّرْفِ إلَى مَا عَلَيْهِ صِحَّتُهُ فَالصَّرْفُ إلَى مَا فِيهِ صِحَّةُ الْعَقْدِ أَوْلَى وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنْ يُوَافِيَ بِهِ إذَا ادَّعَى بِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ الَّتِي عَلَيْهِ

فصل في شرائط الكفالة

جَازَ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِالنَّفْسِ مُطْلَقًا وَعَلَّقَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ عِنْدَ طَلَبِ الْمُوَافَاةِ وَهَذَا شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِذَا طَلَبَ مِنْهُ الْمَكْفُولُ لَهُ تَسْلِيمَ النَّفْسِ فَإِنْ سَلَّمَ مَكَانَهُ بَرِئَ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا الْتَزَمَ وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ فَعَلَيْهِ الْمَالُ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ عِنْدَ الطَّلَبِ. وَلَوْ قَالَ ائْتِنِي بِهِ عَشِيَّةً أَوْ غَدْوَةً وَقَالَ الْكَفِيلُ أَنَا آتِيك بِهِ بَعْدَ غَدٍ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي طَلَبَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَعَلَيْهِ الْمَالُ لِوُجُودِ شَرْطِ اللُّزُومِ وَإِنْ أَخَّرَ الْمُطَالَبَةَ إلَى مَا بَعْدِ غَدٍ كَمَا قَالَهُ الْكَفِيلُ فَأَتَى بِهِ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ لِأَنَّهُ بِالتَّأْخِيرِ أَبْطَلَ الطَّلَبَ الْأَوَّلَ فَلَمْ يَبْقَ التَّسْلِيمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ مِنْ الِابْتِدَاءِ التَّسْلِيمَ بَعْدَ غَدٍ وَقَدْ وُجِدَ وَبَرِئَ مِنْ الْمَالِ. وَلَوْ كَفَلَ بِالْمَالِ وَقَالَ إنْ وَافَيْتُك بِهِ غَدًا فَأَنَا بَرِيءٌ فَوَافَاهُ مِنْ الْغَدِ يَبْرَأُ مِنْ الْمَالِ فِي رِوَايَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَبْرَأُ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ أَنَّ قَوْلَهُ إنْ وَافَيْتُك بِهِ غَدًا فَأَنَا بَرِيءٌ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْمَالِ بِشَرْطِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ وَالْبَرَاءَةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَالتَّمْلِيكَاتُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَعْلِيقِ الْبَرَاءَةِ بِشَرْطِ الْمُوَافَاةِ بَلْ هُوَ جَعْلُ الْمُوَافَاةِ غَايَةً لِلْكَفَالَةِ بِالْمَالِ وَالشَّرْطُ قَدْ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْغَايَةِ لِمُنَاسِبَةٍ بَيْنَهُمَا وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ. وَلَوْ شَرَطَ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي جَازَ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُفِيدٌ وَيَكُونُ التَّسْلِيمُ فِي الْمِصْرِ أَوْ فِي مَكَان يَقْدِرُ عَلَى إحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي تَسْلِيمًا إلَى الْقَاضِي لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ فِي مِصْرٍ مُعَيَّنٍ يَصِحُّ التَّقْيِيدُ بِالْمِصْرِ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّعْيِينُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْأَمِيرِ لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ حَتَّى لَوْ دَفْعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ عُزِلَ الْأَمِيرُ وَوُلِّيَ غَيْرُهُ فَدَفْعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الثَّانِي جَازَ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مُفِيدٍ. وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ فَعَلَيْهِ مَا يَدَّعِيه الطَّالِبُ فَإِنْ ادَّعَى الطَّالِبُ أَلْفًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ لَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِنَفْسِ الدَّعْوَى شَيْءٌ فَقَدْ أَضَافَ الِالْتِزَامُ إلَى مَا لَيْسَ بِسَبَبِ اللُّزُومِ وَكَذَا إذَا أَقَرَّ بِهَا الْمَطْلُوب لِأَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَصْدُقُ عَلَى الْكَفِيلِ. وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا أَوْ أَقَرَّ بِهَا الْكَفِيلُ فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ سَبَبٌ لِظُهُورِ الْحَقِّ وَكَذَا إقْرَارُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ فَيُؤَاخِذُ بِهِ. وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى شَهْرٍ فَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ فَمَاتَ الْكَفِيلُ قَبْلَ الشَّهْرِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ثُمَّ مَضَى الشَّهْرُ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ وَرَثَةُ الْكَفِيلِ الْمَكْفُولَ بِهِ إلَى الطَّالِبِ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ وَيَضْرِبُ الطَّالِبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ أَمَّا لُزُومُ الْمَالِ فَلِأَنَّ الْحُكْمَ بَعْدَ الشَّرْطِ يَثْبُتُ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ وَهُوَ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ صَحِيحٌ وَلِهَذَا لَوْ كَفَلَ وَهُوَ صَحِيحٌ ثُمَّ مَرِضَ تُعْتَبَرُ الْكَفَالَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لَا مِنْ الثُّلُثِ. (وَأَمَّا) الضَّرْبُ مَعَ الْغُرَمَاءِ فَلِاسْتِوَاءِ الدِّينَيْنِ وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ ثُمَّ مَاتَ الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ فَقَدْ عَجَزَ الْكَفِيلُ عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهِ فَوُجِدَ شَرْطُ لُزُومِ الْمَالِ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ هَذَا إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ مُعَلَّقَةً بِالشَّرْطِ. فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُضَافَةً إلَى وَقْتٍ بِأَنْ ضَمِنَ مَا ادَّانَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ أَوْ مَا قَضَى لَهُ عَلَيْهِ أَوْ مَا دَايَنَ فُلَانًا أَوْ مَا أَقْرَضَهُ أَوْ مَا اسْتَهْلَكَ مِنْ مَالِهِ أَوْ مَا غَصَبَهُ أَوْ ثَمَنَ مَا بَايَعَهُ صَحَّتْ هَذِهِ الْكَفَالَةُ لِأَنَّهَا أُضِيفَتْ إلَى سَبَبِ الضَّمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الضَّمَانُ ثَابِتًا فِي الْحَالِ وَالْكَفَالَةُ إنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ فَلَيْسَتْ بِتَمْلِيكٍ مَحْضٍ فَجَازَ أَنْ يَحْتَمِلَ الْإِضَافَةَ. وَلَوْ قَالَ كُلَّمَا بَايَعْتَ فُلَانًا فَثَمَنُهُ عَلَيَّ أَوْ مَا بَايَعْتَ أَوْ الَّذِي بَايَعْتَ يُؤَاخَذُ الْكَفِيلُ بِجَمِيعِ مَا بَايَعَهُ. وَلَوْ قَالَ إنْ بَايَعْتَ أَوْ إذَا بَايَعْتَ أَوْ مَتَى بَايَعْتَ يُؤَاخَذُ بِثَمَنِ أَوَّلِ الْمُبَايَعَةِ وَلَا يُؤَاخَذُ بِثَمَنِ مَا بَايَعَهُ بَعْدَهَا لِأَنَّ كَلِمَةَ (كُلَّ) لِعُمُومِ الْأَفْعَالِ وَكَذَا كَلِمَةُ (مَا) وَاَلَّذِي لِلْعُمُومِ وَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى الْمُبَايَعَةِ فَيَقْتَضِي تَكْرَارَ الْمُبَايَعَةِ وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ فِي قَوْلِهِ إنْ بَايَعْتَ وَنَظَائِرِهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ الْكَفَالَةِ] رُكْنِ الْكَفَالَةِ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْكَفَالَةِ. فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْكَفِيلِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْأَصِيلِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَكْفُولِ بِهِ ثُمَّ مِنْهَا مَا هُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطُ النَّفَاذِ. (أَمَّا) . الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْكَفِيلِ. فَأَنْوَاعٌ (مِنْهَا) الْعَقْلُ وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَإِنَّهُمَا مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ لِهَذَا التَّصَرُّفِ فَلَا تَنْعَقِدُ كَفَالَةُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَا تَنْعَقِدُ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ إلَّا أَنَّ الْأَبَ أَوْ الْوَصِيَّ لَوْ اسْتَدَانَ دَيْنًا فِي نَفَقَةِ الْيَتِيمِ وَأَمَرَ الْيَتِيمَ أَنْ يَضْمَنَ الْمَالَ عَنْهُ جَازَ. وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَكْفُلَ عَنْهُ النَّفْسَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ ضَمَانَ الدَّيْنِ قَدْ لَزِمَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَالشَّرْطُ

لَا يَزِيدُهُ إلَّا تَأْكِيدًا فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فَأَمَّا ضَمَانُ النَّفْسِ وَهُوَ تَسْلِيمُ نَفْسِ الْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ (وَمِنْهَا) الْحُرِّيَّةُ وَهِيَ شَرْطُ نَفَاذِ هَذَا التَّصَرُّفِ فَلَا تَجُوزُ كَفَالَةُ الْعَبْدِ مَحْجُورًا كَانَ أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُهُ بِدُونِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَلَكِنَّهَا تَنْعَقِدُ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ النَّفَاذِ مَا كَانَ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ بَلْ لِحَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ مِنْهُ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَا تَحْتَمِلُ النَّفَاذَ بِالْبُلُوغِ. وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى بِالْكَفَالَةِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ إذْنَهُ بِالتَّبَرُّعِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ جَازَتْ كَفَالَتُهُ وَتُبَاعُ رَقَبَتُهُ فِي الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى وَلَا تَجُوزُ كَفَالَةُ الْمُكَاتَبِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ عَلَى لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَسَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى أَوْ لَمْ يَأْذَنْ لِأَنَّ إذْن الْمَوْلَى لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّهِ وَصَحَّ فِي حَقِّ الْقِنِّ وَلَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ حَتَّى يُطَالَبَ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ وَلَوْ كَفَلَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْمَأْذُونُ عَنْ الْمَوْلَى جَازَ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ التَّبَرُّعَ عَلَيْهِ وَأَمَّا صِحَّةُ بَدَنِ الْكَفِيلِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ فَتَصِحُّ كَفَالَةُ الْمَرِيضِ لَكِنْ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْأَصِيلِ. فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِهِ إمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِنَائِبِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالدَّيْنِ عَنْ مَيِّتٍ مُفْلِسٍ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَصِحُّ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَوْتَ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ مَالٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَفْتَقِرُ بَقَاؤُهُ إلَى الْقُدْرَةِ وَلِهَذَا بَقِيَ إذَا مَاتَ مَلِيًّا حَتَّى تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ وَكَذَا بَقِيَتْ الْكَفَالَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُفْلِسًا وَإِذَا مَاتَ عَنْ كَفِيلٍ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْهُ بِالدَّيْنِ فَكَذَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عَنْهُ وَالتَّبَرُّعُ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّيْنَ عِبَارَةٌ عَنْ الْفِعْلِ وَالْمَيِّتُ عَاجِزٌ عَنْ الْفِعْلِ فَكَانَتْ هَذِهِ كَفَالَةٌ بِدَيْنٍ سَاقِطٍ فَلَا تَصِحُّ كَمَا كَفَلَ عَلَى إنْسَانٍ بِدَيْنٍ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَإِذَا مَاتَ مَلِيًّا فَهُوَ قَادِرٌ بِنَائِبِهِ وَكَذَا إذَا مَاتَ عَنْ كَفِيلٍ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ. (وَأَمَّا) الْإِبْرَاءُ وَالتَّبَرُّعُ فَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ إبْرَاءٌ عَنْ الْمُؤَاخَذَةِ بِسَبَبِ الْمُمَاطَلَةِ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ وَالتَّبَرُّعِ بِتَخْلِيصِ الْمَيِّتِ عَنْ الْمُؤَاخَذَةِ بِسَبَبِ التَّقْصِيرِ بِوَاسِطَةِ إرْضَاءِ الْخَصْمِ بِهِبَةِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إبْرَاءً عَنْ الدَّيْنِ وَتَبَرُّعًا بِقَضَائِهِ حَقِيقَةً فَلَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِأَنْ كَفَلَ مَا عَلَى فُلَانٍ فَأَمَّا إذَا قَالَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاس أَوْ بِعَيْنٍ أَوْ بِنَفْسٍ أَوْ بِفِعْلٍ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ جَوَازُهَا بِالْعُرْفِ وَالْكَفَالَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ فَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْأَصِيلِ وَعَقْلُهُ وَبُلُوغُهُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْكَفَالَةِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَضْمُونِ مَا عَلَى الْأَصْلِ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَفِيلِ وَقَدْ وُجِدَ أَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَيُطَالِبُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ فَأَشْبَهَ الْكَفَالَةَ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِمَا وَالْوَلِيُّ مُطَالِبٌ بِهِ فِي الْحَالِ وَيُطَالَبَانِ أَيْضًا فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ فَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ عَنْ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا وَعَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إلَّا أَنَّ الْكَفِيلَ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِمْ بِمَا أَدَّى وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِإِذْنِهِمْ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ حَضْرَتُهُ فَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ عَنْ غَائِبٍ أَوْ مَحْبُوسٍ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْكَفَالَةِ فِي الْغَالِبِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَكَانَتْ الْكَفَالَةُ فِيهِمَا أَجْوَزَ مَا يَكُونُ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَكْفُولِ لَهُ. فَأَنْوَاعٌ (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا حَتَّى أَنَّهُ إذَا كَفَلَ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ إذَا كَانَ مَجْهُولًا لَا يَحْصُلُ مَا شُرِعَ لَهُ الْكَفَالَةُ وَهُوَ التَّوَثُّقُ (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَأَنَّهُ شَرَطَ الِانْعِقَادَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إذَا لَمْ يَقْبَلْ عَنْهُ حَاضِرٌ فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى أَنَّ مَنْ كَفَلَ لِغَائِبٍ عَنْ الْمَجْلِسِ فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ لَا تَجُوزُ عِنْدَهُمَا إذَا لَمْ يَقْبَلْ عَنْهُ حَاضِرٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ وَظَاهِرُ إطْلَاقِ مُحَمَّدٍ فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا جَائِزَةٌ عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَجْلِسَ عِنْدَهُ لَيْسَ شَرْطًا أَصْلًا لَا شَرْطَ النَّفَاذِ وَلَا شَرْطَ الِانْعِقَادِ لِأَنَّ مُحَمَّدًا رُبَّمَا يُطْلِقُ الْجَوَازَ عَلَى النَّافِذِ فَأَمَّا الْمَوْقُوفُ فَنُسَمِّيه بَاطِلًا إلَّا أَنْ يُجِيزَ وَهَذَا الْإِطْلَاقُ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْجَائِزَ هُوَ النَّافِذُ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ جَازَ السَّهْمُ إذَا نَفَذَ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ مَا ذَكَرْنَا فِي صَدْرِ الْكِتَابِ أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْعَقْدِ لُغَةً وَشَرْعًا وَهُوَ الضَّمُّ وَالِالْتِزَامُ يَتِمُّ بِإِيجَابِ الْكَفِيلِ فَكَانَ إيجَابُهُ كُلَّ الْعَقْدِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الْمَرِيضِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ أَيْضًا وَالتَّمْلِيكُ لَا يَقُومُ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَكَانَ الْإِيجَابُ وَحْدَهُ شَطْرَ الْعَقَدِ فَلَا يَقِفُ عَلَى غَائِبٍ

عَنْ الْمَجْلِسِ كَالْبَيْعِ مَعَ مَا أَنَّا نَعْمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ جَمِيعًا فَنَقُولُ لِشِبْهِ الِالْتِزَامِ يَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ وَالتَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الْوَقْتِ وَلِشِبْهِ التَّمْلِيكِ لَا يَقِفُ عَلَى غَائِبٍ عَنْ الْمَجْلِسِ اعْتِبَارًا لِلشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. (وَأَمَّا) مَسْأَلَةُ الْمَرِيضِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ جَوَازَ الضَّمَانِ هُنَاكَ بِطَرِيقِ الْإِيصَاءِ بِالْقَضَاءِ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ اضْمَنُوا عَنِّي إيصَاءً مِنْهُ إلَيْهِمْ بِالْقَضَاءِ عَنْهُ حَتَّى لَوْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا لَا يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ شَيْءٌ فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ وَبَعْضُهُمْ أَجَازُوهُ عَلَى سَبِيلِ الْكَفَالَةِ وَوَجْهُهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَبِّرِ عَنْ غُرَمَائِهِ وَشَرْحُ هَذِهِ الْإِشَارَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِمَالِهِ وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ حَتَّى لَا يَنْفُذَ مِنْهُ التَّصَرُّفُ الْمُبْطِلُ لِحَقِّ الْغَرِيمِ. وَلَوْ قَالَ أَجْنَبِيٌّ لِلْوَرَثَةِ اضْمَنُوا لِغُرَمَاءِ فُلَانٍ عَنْهُ فَقَالُوا ضَمِنَّا يُكْتَفَى بِهِ فَكَذَا الْمَرِيضُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ (وَمِنْهَا) وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى مَذْهَبِهِمَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَلَا يَصِحُّ قَبُولُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ وَلِيِّهِمَا عَنْهُمَا لِأَنَّ الْقَبُولَ يُعْتَبَرُ مِمَّنْ وَقَعَ لَهُ الْإِيجَابُ وَمَنْ وَقَعَ لَهُ الْإِيجَابُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ وَمَنْ قَبِلَ لَمْ يَقَعْ الْإِيجَابُ لَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ قَبُولُهُ. (وَأَمَّا) حُرِّيَّةُ الْمَكْفُولِ لَهُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ. (وَأَمَّا) . الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَكْفُولِ بِهِ. فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَضْمُونًا عَلَى الْأَصِيلِ سَوَاءٌ كَانَ دَيْنًا أَوْ عَيْنًا أَوْ نَفْسًا أَوْ فِعْلًا لَيْسَ بِدَيْنٍ وَلَا عَيْنٍ وَلَا نَفْسٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْكَفَالَةِ بِالْعَيْنِ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِنَفْسِهَا وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ عَيْنٌ وَدَيْنٌ وَنَفْسٌ وَفِعْلٌ لَيْسَ بِدَيْنٍ وَلَا عَيْنٍ وَلَا نَفْسٍ أَمَّا الْعَيْنُ فَنَوْعَانِ عَيْنٌ هِيَ أَمَانَةٌ وَعَيْنٌ هِيَ مَضْمُونَةٌ أَمَّا الْعَيْنُ الَّتِي هِيَ أَمَانَةٌ فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ أَمَانَةً غَيْرَ وَاجِبَةِ التَّسْلِيمِ كَالْوَدَائِعِ وَمَالِ الشَّرِكَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ أَوْ كَانَتْ أَمَانَةً وَاجِبَةَ التَّسْلِيمِ كَالْعَارِيَّةِ وَالْمُسْتَأْجَرِ فِي يَدِ الْأَجِيرِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى عَيْنِهَا وَعَيْنُهَا لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ. وَلَوْ كَفَلَ بِتَسْلِيمِ الْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجَرِ عَنْ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ جَازَ لِأَنَّهُمَا مَضْمُونَا التَّسْلِيمِ عَلَيْهِمَا فَالْكَفَالَةُ أُضِيفَتْ إلَى مَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ فِعْلُ التَّسْلِيمِ فَصَحَّتْ (وَأَمَّا) الْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ فَنَوْعَانِ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَقْبُوضِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَمَضْمُونٌ بِغَيْرِهِ كَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالرَّهْنِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ كَفَالَةٌ بِمَضْمُونٍ بِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ رَدُّ عَيْنِهِ حَالَ قِيَامِهِ وَرَدُّ مِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ حَالَ هَلَاكِهِ فَيَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَى الْكَفِيلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا وَلَا تَصِحُّ بِالنَّوْعِ الثَّانِي لِأَنَّ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ لَا بِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَكِنْ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي وَكَذَا الرَّهْنُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِنَفْسِهِ بَلْ بِالدَّيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا هَلَكَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ وَلَكِنْ يَسْقُطُ الدَّيْنُ عَنْ الرَّاهِنِ بِقَدْرِهِ. (وَأَمَّا) الْفِعْلُ فَهُوَ فِعْلُ التَّسْلِيمِ فِي الْجُمْلَةِ فَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَالرَّهْنِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ عَلَى الْبَائِعِ وَالرَّهْنَ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي الْجُمْلَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَكَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَضْمُونًا عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ فِعْلُ التَّسْلِيمِ فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِهِ لَكِنَّهُ إذَا هَلَكَ لَا شَيْءَ عَلَى الْكَفِيلِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَضْمُونًا عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا يَبْقَى عَلَى الْكَفِيلِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلْحَمْلِ فَكَفَلَ رَجُلٌ بِالْحَمْلِ فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ بِعَيْنِهَا لَمْ تَجُزْ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا جَازَتْ لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْوَاجِبَ عَلَى الْآجِرِ فِعْلُ تَسْلِيمِ الدَّابَّةِ دُونَ الْحَمْلِ، فَلَمْ تَكُنْ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ كَفَالَةً بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ فَلَمْ تَجُزْ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُ الْحَمْلِ دُونَ تَسْلِيمِ الدَّابَّةِ فَكَانَتْ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ كَفَالَةً بِفِعْلٍ هُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ فَجَازَتْ وَعَلَى هَذَا إذَا كَفَلَ بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ جَازَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ كَفَالَةٌ بِالْفِعْلِ وَهُوَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ وَفِعْلُ التَّسْلِيمِ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ فَقَدْ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ فَجَازَ وَكَذَا إذَا كَفَلَ بِرَأْسِهِ أَوْ بِوَجْهِهِ أَوْ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِرُوحِهِ أَوْ بِنِصْفِهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى جُزْءٍ جَامِعٍ كَالرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَالرَّقَبَةِ وَنَحْوِهَا جَازَتْ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةِ الْبَدَنِ فَكَانَ ذِكْرُهَا ذِكْرًا لِلْبَدَنِ كَمَا فِي بَابِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَكَذَا إذَا أَضَافَ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ كَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَنَحْوِهِمَا جَازَتْ لِأَنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وُجُوبُ تَسْلِيمِ النَّفْسِ بِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ وَالنَّفْسُ فِي حَقِّ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ لَا

تَتَجَزَّأُ وَذِكْرُ بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ شَرْعًا ذِكْرٌ لِكُلِّهِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَإِذَا أَضَافَهَا إلَى الْيَدِ أَوْ الرِّجْلِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْأَجْزَاءِ الْمُعَيَّنَةِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ لَا يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَهِيَ فِي حُكْمِ الْكَفَالَةِ مُتَجَزِّئَةٌ فَلَا يَكُونُ ذِكْرُهَا ذِكْرًا لِجَمِيعِ الْبَدَنِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَلَوْ قَالَ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ هُوَ عَلَيَّ جَازَ لِأَنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي الْتِزَامِ تَسْلِيمِ النَّفْسِ وَكَذَا إذَا قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لِوَجْهِهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ جُزْءٌ جَامِعٌ. وَلَوْ قَالَ أَنَا ضَامِنٌ لِمَعْرِفَتِهِ لَا تَصِحُّ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَى الْأَصِيلِ وَلَوْ قَالَ لِلطَّالِبِ أَنَا ضَامِنٌ لَك لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ غَيْرُ مَعْلُومٍ أَصْلًا ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنِ وَالْفِعْلِ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْرِيعَاتِ عَلَيْهَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهَا غَيْرُ صَحِيحَةٍ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْكَفَالَةَ أُضِيفَتْ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهَا فَلَا تَصِحُّ وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الدَّيْنِ فَكَانَ مَحِلَّهَا الدَّيْنُ فَلَمْ تُوجَدْ، وَالتَّصَرُّفُ الْمُضَافُ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ بَاطِلٌ وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِهِ شَرْطُ جَوَازِ الْكَفَالَةِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْإِعْتَاقِ لَا تَتَحَقَّقُ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالْعَيْنِ عَنْ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَلَمْ يُغَيِّرْ وَالْحَكِيمُ إذَا حَكَى عَنْ مُنْكَرٍ غَيَّرَهُ وَلِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إلَى زَمَنِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَكَانَ الْإِنْكَارُ خُرُوجًا عَنْ الْإِجْمَاعِ فَكَانَ بَاطِلًا وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْكَفَالَةَ أُضِيفَتْ إلَى مَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ مَقْدُورِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَفِيلِ فَتَصِحُّ أَصْلُهُ الْكَفَالَةُ بِالدَّيْنِ وَقَوْلُهُ الْكَفَالَةُ الْتِزَامُ الدَّيْنِ مَمْنُوعٌ بَلْ هِيَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا وَقَدْ يَكُونُ عَيْنًا وَالْعَيْنُ مَقْدُورَةُ التَّسْلِيمِ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ كَالدَّيْنِ عَبْدٌ مُقَرٌّ بِالرِّقِّ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَخَذَ مِنْهُ الْمَوْلَى كَفِيلًا بِنَفْسِهِ فَأَبَقَ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ وَكَذَا لَوْ كَفَلَ بَعْدَ إبَاقِهِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى إنْسَانٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَزَعَمَ أَنَّهُ حُرٌّ وَكَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِهِ حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ عَبْدُهُ فَمَاتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا شَيْءَ عَلَى الْأَصِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعَى فِي يَدِ ثَالِثٍ فَقَالَ أَنَا ضَامِنٌ لَك قِيمَةَ هَذَا إنْ اسْتَحْقَقْتَهُ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ عَبْدُهُ فَمَاتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ كُلَّ قِيمَتِهِ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونِ صَبِيٍّ فِي يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ وَادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَضَمِنَ لَهُ إنْسَانٌ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ وَقَدْ مَاتَ الصَّبِيُّ فَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَفِيلٌ بِمَضْمُونٍ وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ ادَّعَى عَلَى إنْسَانٍ أَنَّهُ غَصَبَهُ عَبْدًا فَقَبْلَ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ قَالَ رَجُلٌ أَنَا ضَامِنٌ بِالْعَبْدِ الَّذِي يَدَّعِي فَهُوَ ضَامِنٌ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْعَبْدِ فَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ إحْضَارُهُ مَجْلِسَ الْقَاضِي فَإِنْ هَلَكَ وَاسْتَحَقَّهُ بِبَيِّنَةٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ بِعَيْنٍ مَضْمُونًا بِنَفْسِهِ وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ غَضَبُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَاسْتَهْلَكَهَا أَوْ عَبْدًا وَمَاتَ فِي يَدِهِ فَقَالَ رَجُلٌ خَلِّهِ فَأَنَا ضَامِنُ الْمَالِ أَوْ لَقِيمَةِ الْعَبْدِ فَهُوَ ضَامِنٌ يَأْخُذُهُ بِهِ مِنْ سَاعَتِهِ وَلَا يَقِفُ عَلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ أَنَا ضَامِنٌ لَقِيمَةِ الْعَبْدِ أَقَرَّ بِكَوْنِ الْقِيمَةِ وَاجِبَةً عَلَى الْأَصِيلِ فَقَدْ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا يَقِفُ عَلَى الْبَيِّنَةِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا عُرِفَ وُجُوبُ الْقِيمَةِ بِإِقْرَارِهِ بَلْ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَتَوَقَّفَ عَلَيْهَا، وَالنَّوْعُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى الْكَفِيلِ لِيَكُونَ الْعَقْدُ مُفِيدًا فَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَفِيلِ فَلَا تُفِيدُ الْكَفَالَةُ فَائِدَتَهَا وَهَهُنَا شَرْطٌ ثَالِثٌ لَكِنَّهُ يَخُصُّ الدَّيْنَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ لَازِمٍ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ إسْقَاطَ الدَّيْنِ عَنْ نَفْسِهِ بِالتَّعْجِيزِ لَا بِالْكَسْبِ بِمَضْمُونٍ وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا وَبِحَدِّ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ إذَا بَذَلَهَا الْمَطْلُوبُ فَأَعْطَاهُ بِهَا كَفِيلًا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ كَفَالَةٌ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ مَقْدُورِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَفِيلِ فَتَصِحُّ كَالْكَفَالَةِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ إعْطَاءِ الْكَفِيلِ عِنْدَ الطَّلَبِ هَلْ يَجْبُرُهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجْبُرُهُ وَقَالَ، أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجْبُرُهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ نَفْسَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَالْحَدُّ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ عَلَيْهِ عِنْدَ الطَّلَبِ كَنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ ثُمَّ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَيُجْبَرُ عَلَيْهَا عِنْدَ الطَّلَبِ فَكَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكَفَالَةَ شُرِعَتْ

وَثِيقَةً وَالْحُدُودُ مَبْنَاهَا عَلَى الدَّرْءِ فَلَا يُنَاسِبُهَا التَّوْثِيقُ بِالْجَبْرِ عَلَى الْكَفَالَةِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْحَبْسُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ قَبْلَ تَزْكِيَةِ الشُّهُودِ وَالْحَبْسُ تَوْثِيقٌ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ لَا لِلتَّوْثِيقِ لِأَنَّ شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَاحِدٍ لَا تَخْلُو عَنْ إيرَاثِ تُهْمَةٍ فَكَانَ الْحَبْسُ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ دُونَ التَّوْثِيقِ وَيَجُوزُ الْجَبْرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ فِي التَّعْزِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَالُ لِدَرْئِهِ لِكَوْنِهِ حَقَّ الْعَبْدِ. (وَأَمَّا) الدَّيْنُ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَفِيلِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَفِيلِ لِيَكُونَ الْعَقْدُ مُفِيدًا فَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَفِيلِ فَلَا تُفِيدُ الْكَفَالَةُ فَائِدَتَهَا وَهَهُنَا شَرْطٌ ثَالِثٌ لَكِنَّهُ يَخُصُّ الدَّيْنَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ لَازِمٍ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ إسْقَاطَ الدَّيْنِ عَنْ نَفْسِهِ بِالتَّعْجِيزِ لَا بِالْكَسْبِ فَلَوْ أَجَزْنَا الْكَفَالَةَ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لَكَانَ لَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ يَمْلِكَ الْكَفِيلُ إسْقَاطَهُ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا يَمْلِكُ الْأَصِيلُ (وَإِمَّا) أَنْ لَا يَمْلِكَ فَإِنْ مَلَكَ لَا تُفِيدُ الْكَفَالَةُ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْتِزَامَ مَا عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّصَرُّفُ كَفَالَةً وَلِأَنَّا لَوْ أَجَزْنَا هَذِهِ الْكَفَالَةَ لَكَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْكَفِيلِ أَلْزَمَ مِنْهُ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا مَاتَ عَاجِزًا بَطَلَ عَنْهُ الدَّيْنُ. وَلَوْ مَاتَ الْكَفِيلُ عَاجِزًا مُفْلِسًا لَمْ يَبْطُلْ عَنْهُ الدَّيْنُ فَكَانَ الْحَقُّ عَلَى الْكَفِيلِ أَلْزَمَ مِنْهُ عَلَى الْأَصِيلِ وَهَذَا خِلَافُ مَا تُوجِبُهُ الْأُصُولُ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ جَوَازُهَا بِالْعُرْفِ فَلَا تَجُوزُ فِيمَا لَا عُرْفَ فِيهِ وَلَا عُرْفَ فِي الْكَفَالَةِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَكَذَا لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ بِسَائِرِ الدُّيُونِ سِوَى دَيْنِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الدُّيُونِ إنَّمَا وَجَبَ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ بِمَشِيئَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا لُزُومُ الْكِتَابَةِ عَلَيْهِ لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ دَيْنٌ آخَرُ فَكَانَ دَيْنُ الْكِتَابَةِ أَصْلًا لِوُجُوبِ دَيْنٍ آخَرَ عَلَيْهِ فَلَمَّا لَمْ تَجُزْ الْكَفَالَةُ بِالْأَصْلِ فَلَأَنْ لَا تَجُوزَ بِالْفَرْعِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِبَدَلِ السِّعَايَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُسْتَسْعَى بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ حُرٍّ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَكَوْنُ الْمَكْفُولِ بِهِ مَعْلُومَ الذَّاتِ فِي أَنْوَاعِ الْكَفَالَاتِ أَوْ مَعْلُومَ الْقَدْرِ فِي الدَّيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ كَفَلَ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ غَيْرَ عَيْنٍ بِأَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ أَوْ بِمَا عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفٌ جَازَ وَعَلَيْهِ أَحَدُهُمَا أَيَّهُمَا شَاءَ لِأَنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ مَقْدُورَةُ الدَّفْعِ بِالْبَيَانِ فَلَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْكَفَالَةِ وَكَذَا إذَا كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ أَوْ بِمَا عَلَيْهِ أَوْ بِنَفْسِ رَجُلٍ آخَرَ أَوْ بِمَا عَلَيْهِ جَازَ وَيَبْرَأُ بِدَفْعِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الطَّالِبِ. وَلَوْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِمَا لِفُلَانٍ عَلَيْهِ أَوْ بِمَا يُدْرِكُهُ فِي هَذَا الْبَيْعِ جَازَ لِأَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] أَجَازَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ الْكَفَالَةَ بِحِمْلِ الْبَعِيرِ مَعَ أَنَّ الْحِمْلَ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَلَوْ ضَمِنَ رَجُلٌ بِالْعُهْدَةِ فَضَمَانُهُ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا صَحِيحٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ ضَمَانَ الْعُهْدَةِ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ ضَمَانُ الدَّرْكِ وَهُوَ ضَمَانُ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ وَذَلِكَ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْعُهْدَةَ تَحْتَمِلُ الدَّرْكَ وَتَحْتَمِلُ الصَّحِيفَةَ وَهُوَ الصَّكُّ وَأَحَدُهُمَا وَهُوَ الصَّكُّ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ فَدَارَتْ الْكَفَالَةُ بِالْعُهْدَةِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ بِمَضْمُونٍ وَغَيْرِ مَضْمُونٍ فَلَا تَصِحُّ مَعَ الشَّكِّ فَلَمْ يَكُنْ عَدَمُ الصِّحَّةِ عِنْدَهُ لِجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ بِهِ بَلْ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي وُجُودِ شَرْطِ الْجَوَازِ وَهُوَ كَوْنُهُ مَضْمُونًا عَلَى الْأَصِيلِ وَضَمَانُ الدَّرْكِ هُوَ ضَمَانُ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ وَإِذَا اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ يُخَاصِمُ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ أَوَّلًا فَإِذَا قَضَى عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْكَفِيلِ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْكَفِيلَ أَوَّلًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ الْكَفِيلُ يَكُونُ خَصْمًا هَذَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَا سِوَى الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَظَهَر أَنَّهُ حُرٌّ بِالْبَيِّنَةِ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُخَاصِمَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالْإِجْمَاعِ. وَلَوْ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِمَا سِوَى الِاسْتِحْقَاقِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَوْ بِخِيَارِ الشَّرْطِ أَوْ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ الْكَفِيلُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الدَّرْكِ. وَلَوْ أَخَذَ الْمُشْتَرِي رَهْنًا بِالدَّرْكِ لَا يَصِحُّ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالدَّرْكِ وَالْفَرْقُ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَلَوْ بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الدَّارِ بِنَاءً ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ وَنُقِضَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ وَبِقِيمَةِ بِنَائِهِ مَبْنِيًّا إذَا سَلَّمَ النَّقْضَ إلَى الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ لَا يَرْجِعْ عَلَيْهِ إلَّا بِالثَّمَنِ خَاصَّةً فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ وَبِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالتَّالِفِ وَلَوْ سَلَّمَ النَّقْضَ

فصل في بيان حكم الكفالة

إلَى الْبَائِعِ وَقَضَى عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالثَّمَنِ وَيَأْخُذُ الْبَائِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَأْخُذُ أَيَّهمَا شَاءَ بِهِمَا جَمِيعًا إنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا مِنْ الْبَائِعِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا مِنْ الْكَفِيلِ بِالدَّرْكِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْبَائِعِ إنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ جَعَلَ الطَّحَاوِيُّ قِيمَةَ الْبِنَاءِ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الدَّرَكِ ضَمَانُ الْمُشْتَرِي فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ فَلَا تَكُونُ قِيمَةُ الْبِنَاءِ دَاخِلَةً تَحْتَ الْكَفَالَةِ بِالدَّرْكِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ وَأَخَذَ مِنْهُ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ وَقِيمَةَ الْوَلَدِ وَالْعُقْرِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَأْخُذُ الثَّمَنَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ وَلَا يُؤَاخَذُ الْكَفِيلُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ قِيمَةَ الْوَلَدِ مِنْ الْبَائِعِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْكَفَالَةِ بِالدَّرْكِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَفَلَ بِمَا لَهُ عَلَى فُلَانٍ فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ ضَمِنَهَا الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَإِنْ لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ مَعَ يَمِينِهِ فِي مِقْدَارِ مَا يُقِرُّ بِهِ أَمَّا الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْمُقِرِّ بِهِ لِأَنَّهُ مَالٌ لَزِمَ بِالْتِزَامِهِ فَيُصَدَّقُ فِي الْقَدْرِ الْمُلْتَزَمِ كَمَا إذَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالٍ مَجْهُولٍ وَأَمَّا الْيَمِينُ فَلِأَنَّهُ مُنْكِرٌ الزِّيَادَةَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ فِي الشَّرْعِ وَلَوْ أَقَرَّ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى كَفِيلِهِ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ حُجَّةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مُدَّعٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَلَا يَظْهَرُ صِدْقُ الْمُدَّعِي إلَّا بِحُجَّةٍ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ حُكْمِ الْكَفَالَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْكَفَالَةِ. فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لِلْكَفَالَةِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا ثُبُوتُ وِلَايَةِ مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا وَيَطَّرِدُ هَذَا الْحُكْمُ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الْكَفَالَاتِ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي احْتِمَالِ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى السَّوَاءِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ مَحَلُّ الْحُكْمِ مِنْ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ وَالْفِعْلِ فَيُطَالِبُ الْكَفِيلُ بِالدَّيْنِ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ عَلَى الْأَصِيلِ لَا عَلَيْهِ فَالدَّيْنُ عَلَى وَاحِدٍ وَالْمُطَالَبُ بِهِ اثْنَانِ غَيْرَ أَنَّ الْكَفِيلَ إنْ كَانَ وَاحِدًا يُطَالَبُ بِكُلِّ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ بِهِ كَفِيلَانِ وَالدَّيْنُ أَلْفٌ يُطَالَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ إذَا لَمْ يَكْفُلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْكَفَالَةِ وَالْمَكْفُولِ بِهِ يَحْتَمِلُ الِانْقِسَامَ فَيَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا فِي حَقِّ الْمُطَالَبَةِ كَمَا فِي الشِّرَاءِ وَيُطَالِبُ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ بِإِحْضَارِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ غَائِبًا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ إلَى مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ إحْضَارُهُ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَحْضُر فِي الْمُدَّةِ وَلَمْ يَظْهَرْ عَجْزُهُ لِلْقَاضِي حَبْسُهُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ عَجْزُهُ لَهُ فَإِذَا عَلِمَ الْقَاضِي ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ أَوْ غَيْرِهَا أَطْلَقَهُ وَأَنْظَرَهُ إلَى حَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى إحْضَارِهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُفْلِسِ لَكِنْ لَا يَحُولُ بَيْنَ الطَّالِبِ وَالْكَفِيلِ بَلْ يُلَازِمُهُ مِنْ الطَّالِبِ وَلَا يَحُولُ الطَّالِبُ أَيْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَشْغَالِهِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْكَسْبِ وَغَيْرِهِ وَيُطَالِبُ الْكَفِيلَ بِالْعَيْنِ بِتَسْلِيمِ عَيْنِهَا إنْ كَانَتْ قَائِمَةً وَمِثْلِهَا أَوْ قِيمَتِهَا إنْ كَانَتْ هَالِكَةً وَيُطَالِبُ الْكَفِيلَ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَبِالْفِعْلِ بِهِمَا وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ وُجُوبُ أَصْلِ الدَّيْنِ عَلَى الْكَفِيلِ وَالْمُطَالَبَةُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ فَيُطَالِبُ الْكَفِيلُ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْأَصِيلِ كَمَا يُطَالَبُ الْأَصِيلُ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْكَفِيلِ فَيَتَعَدَّدُ الدَّيْنُ حَسْبَ تَعَدُّدِ الْمُطَالَبَةِ وَبِهِ أَخَذَ شَيْخُهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ وَالنَّفْسِ وَالْفِعْلِ لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْكَفَالَةِ بِغَيْرِ الدَّيْنِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْكَفَالَاتِ أَنْوَاعٌ لِكُلِّ نَوْعٍ حُكْمٌ عَلَى حِدَةٍ فَانْعِدَامُ حُكْمِ نَوْعٍ مِنْهَا لَا يَدُلُّ عَلَى انْعِدَامِ حُكْمِ نَوْعٍ آخَرَ فَأَمَّا بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ فَلَيْسَ حُكْمَ الْكَفَالَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَالطَّالِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَالَبَ الْأَصِيلَ وَإِنْ شَاءَ طَالَبَ الْكَفِيلَ إلَّا إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ لِأَنَّهَا حَوَالَةٌ مَعْنًى أَوْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْحَوَالَةِ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إنَّ الْكَفَالَةَ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تُنْبِئُ عَنْ الضَّمِّ وَهُوَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ أَوْ فِي حَقِّ أَصْلِ الدَّيْنِ وَالْبَرَاءَةُ تُنَافِي الضَّمَّ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَوْ كَانَتْ مُبَرِّئَةً لَكَانَتْ حَوَالَةً وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ لِأَنَّ تَغَايُرَ الْأَسَامِي دَلِيلُ تَغَايُرِ الْمَعَانِي فِي الْأَصْلِ وَأَيَّهمَا اخْتَارَ مُطَالَبَتَهُ لَا يَبْرَأُ الْآخَرُ بَلْ يَمْلِكُ مُطَالَبَتَهُ فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ أَنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يَضْمَنْ أَيَّهمَا شَاءَ فَإِذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا لَا يَمْلِكُ اخْتِيَارَ تَضْمِينِ الْآخَرِ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمَلَّكُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ فَإِذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا فَقَدْ هَلَكَ الْمَضْمُونُ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ وَهَذَا الْمَعْنَى هُنَا مَعْدُومٌ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الطَّالِبِ مُطَالَبَةَ أَحَدِهِمَا بِالْمَضْمُونِ

فصل في بيان ما يخرج به الكفيل عن الكفالة

لَا يَتَضَمَّنُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ فَهُوَ الْفَرْقُ. وَكَذَا فَرَّقُوا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ حَتَّى يَثْبُتَ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ اخْتِيَارَ تَضْمِينِ الْمُعْتِقِ وَاسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ فَاخْتِيَارُ أَحَدِهِمَا يُبْطِلُ اخْتِيَارَ الْآخَرِ لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ الضَّمَانَ صَارَ نَصِيبُهُ مَنْقُولًا إلَى الْمُعْتَقِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمَلَّكُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ فَلَوْ اخْتَارَ الِاسْتِسْعَاءَ يَسْعَى وَهُوَ رَقِيقٌ وَإِنَّمَا يُعْتَقُ كُلُّهُ بِأَدَاءِ السِّعَايَةِ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ وَلَا تَنَافٍ هَهُنَا لِأَنَّ الطَّالِبَ لَا يَمْلِكُ الْمَضْمُونَ بِاخْتِيَارِ الْمُطَالَبَةِ فَيَمْلِكُ مُطَالَبَةَ الْآخَرِ. وَالثَّانِي ثُبُوتُ وِلَايَةِ مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ الْأَصِيلَ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ فِي الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا ثُمَّ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَطَالَبَ الْكَفِيلُ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ إلَى الطَّالِبِ إذَا طَالَبَهُ وَإِنْ كَانَتْ بِالْعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ يُطَالَبُ بِتَسْلِيمِ عَيْنِهَا إذَا كَانَتْ قَائِمَةً وَتَسْلِيمِ مِثْلِهَا أَوْ قِيمَتِهَا إذَا كَانَتْ هَالِكَةً إذَا طُولِبَ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ بِفِعْلِ التَّسْلِيمِ وَالْحَمْلِ يُطَالَبُ بِهِمَا وَإِنْ كَانَتْ بِدَيْنٍ يُطَالِبُهُ بِالْخَلَاصِ إذَا طُولِبَ فَكَمَا طُولِبَ الْكَفِيلُ طَالَبَ هُوَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ بِالْخَلَاصِ وَإِنْ حَبَسَ فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ تَخْلِيصُهُ مِنْهَا وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ حَقُّ مُلَازَمَةِ الْأَصِيلِ إذَا لُوزِمَ وَلَا حَقُّ الْحَبْسِ إذَا حُبِسَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ هُوَ وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمُطَالَبَةِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِحُكْمِ الْقَرْضِ وَالتَّمْلِيكِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ وَكُلُّ ذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْأَدَاءِ وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ مُطَالَبَةِ الْمُوَكِّلِ بِالثَّمَنِ بَعْدَ الشِّرَاءِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ هُوَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِأَنَّ هُنَاكَ الثَّمَنَ يُقَابِلُ الْمَبِيعَ، وَالْمِلْكُ فِي الْمَبِيعِ كَمَا. وَقَعَ وَقَعَ لِلْمُوَكِّلِ فَكَانَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ وَهُنَا الْمُطَالَبَةُ بِسَبَبِ الْقَرْضِ أَوْ التَّمْلِيكِ وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا وَإِذَا أَدَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْأَمْرِ فِي حَقِّ الْمَطْلُوبِ اسْتِقْرَاضٌ وَهُوَ طَلَبُ الْقَرْضِ مِنْ الْكَفِيلِ وَالْكَفِيلُ بِأَدَاءِ الْمَالِ مُقْرِضٌ مِنْ الْمَطْلُوبِ وَنَائِبٌ عَنْهُ فِي الْأَدَاءِ إلَى الطَّالِبِ وَفِي حَقِّ الطَّالِبِ تَمْلِيكُ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ مِنْ الْكَفِيلِ بِمَا أُخِذَ مِنْهُ مِنْ الْمَالِ وَالْمُقْرِضُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِمَا أَقْرَضَهُ وَالْمُشْتَرِي يَمْلِكُ الشِّرَاءَ بِالْبَيْعِ لَا غَيْرَ هَذَا. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْكَفِيلُ عَنْ الْكَفَالَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْكَفِيلُ عَنْ الْكَفَالَةِ. فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أَمَّا. الْكَفِيلُ بِالْمَالِ. فَإِنَّمَا يَخْرُجُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَدَاءُ الْمَالِ إلَى الطَّالِبِ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَدَاءِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَدَاءُ مِنْ الْكَفِيلِ أَوْ مِنْ الْأَصِيلِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْأَدَاءِ فَإِذَا وُجِدَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَيَنْتَهِي حُكْمُ الْعَقْدِ وَكَذَا إذَا وَهَبَ الطَّالِبُ الْمَالَ مِنْ الْكَفِيلِ أَوْ مِنْ الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْهِبَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأَدَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَا إذَا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ أَوْ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكٌ كَالْهِبَةِ فَكَانَ هُوَ وَأَدَاءُ الْمَالِ سَوَاءً كَالْهِبَةِ. وَالثَّانِي الْإِبْرَاءُ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ فَإِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ أَوْ الْأَصِيلَ خَرَجَ عَنْ الْكَفَالَةِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا أَبْرَأَ الْكَفِيلَ لَا يَبْرَأُ الْأَصِيلُ وَإِذَا أَبْرَأَ الْأَصِيلَ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَى الْأَصِيلِ لَا عَلَى الْكَفِيلِ إنَّمَا عَلَيْهِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ فَكَانَ إبْرَاءُ الْأَصِيلِ إسْقَاطَ الدَّيْنِ عَنْ ذِمَّتِهِ فَإِذَا سَقَطَ الدَّيِّنُ عَنْ ذِمَّتِهِ يَسْقُطُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ ضَرُورَةً لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالدَّيْنِ وَلَا دَيْنَ مُحَالٌ فَأُمًّا إبْرَاءُ الْكَفِيلِ فَإِبْرَاؤُهُ عَنْ الْمُطَالَبَةِ لَا عَنْ الدِّينِ إذْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ إسْقَاطِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ عَنْ الْكَفِيلِ سُقُوطِ أَصْلِ الدَّيْنِ عَنْ الْأَصِيلِ لَكِنْ يَخْرُجُ الْكَفِيلُ عَنْ الْكَفَالَةِ لِأَنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ عَنْ الْكَفِيلِ فَإِذَا سَقَطَ تَنْتَهِي إلَّا أَنَّ إبْرَاءَ الْأَصِيلِ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَكَذَا الْهِبَةُ مِنْهُ أَوْ التَّصَدُّقُ عَلَيْهِ وَإِبْرَاءُ الْكَفِيلِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَالْهِبَةِ مِنْهُ وَالتَّصَدُّقِ عَلَيْهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذَا ارْتَدَّتْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ بِرَدِّ الْأَصِيلِ عَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّتِهِ وَهَلْ تَعُودُ الْمُطَالَبَةُ بِالدَّيْنِ إلَى الْكَفِيلِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ وَلَوْ أَبْرَأَ الْأَصِيلُ أَوْ وَهَبَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَرَدَّ وَرَثَتُهُ يَرْتَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَرْتَدُّ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَبْرَأَهُ حَالَ حَيَاتِهِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الرَّدِّ وَهُنَاكَ لَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْوَرَثَةِ فَكَذَا هَذَا وَلَهُمَا أَنَّ إبْرَاءَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ إبْرَاءٌ لِوَرَثَتِهِ لِأَنَّهُمْ يُطَالَبُونَ بِدَيْنِهِ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِبْرَاءُ الْوَرَثَةِ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِمْ بِخِلَافِ حَالِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُطَالَبُونَ بِدَيْنِهِ بِوَجْهٍ فَاقْتَصَرَ حُكْمُ الْإِبْرَاءِ عَلَيْهِ فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْوَرَثَةِ وَكَذَا لَوْ قَالَ الطَّالِبُ لِلْكَفِيلِ بَرِئْتُ إلَيَّ مِنْ الْمَالِ لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ غَايَةً لِبَرَاءَتِهِ وَالْبَرَاءَةُ الَّتِي هِيَ غَايَتُهَا

نَفْسُهُ هِيَ بَرَاءَةُ الْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ وَبَرِئَا جَمِيعًا لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ يُوجِبُ بَرَاءَتَهُمَا جَمِيعًا فَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ قَالَ بَرِئْتُ مِنْ الْمَالِ وَلَمْ يَقُلْ إلَيَّ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهَذَا. وَقَوْلُهُ بَرِئْتُ إلَيَّ سَوَاءٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ دُونَ الْأَصِيلِ وَهَذَا. وَقَوْلُهُ أَبْرَأْتُكَ سَوَاءٌ عِنْدَهُ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَرَاءَةَ عَنْ الْمَالِ قَدْ تَكُونُ بِالْأَدَاءِ وَقَدْ تَكُونُ بِالْإِبْرَاءِ فَلَا تُحْمَلُ عَلَى الْأَدَاءِ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ إلَيَّ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى الْأَدَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا فَتُحْمَلُ عَلَى الْإِبْرَاءِ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ حُكْمُ الْإِبْرَاءِ فِي الْأَصْلِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ الْمُضَافَةَ إلَى الْمَالِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْأَدَاءِ عُرْفًا وَعَادَةً فَتُحْمَلُ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْكَفَالَةِ بِشَرْطٍ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ. وَلَوْ أَحَالَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ بِمَالِ الْكَفَالَةِ عَلَى رَجُلٍ وَقَبِلَهُ الطَّالِبُ فَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ يَخْرُجُ عَنْ الْكَفَالَةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَكَذَا إذَا أَحَالَهُ الْمَطْلُوبُ بِمَالِ الْكَفَالَةِ عَلَى رَجُلٍ وَقَبِلَهُ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مُبَرِّئَةٌ عَنْ الدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةِ جَمِيعًا عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ مُبَرِّئَةٌ عَنْ الْمُطَالَبَةِ وَإِبْرَاءُ الْكَفِيلِ وَالْأَصِيلِ مُخْرِجٌ عَنْ الْكَفَالَةِ لِمَا ذَكَرْنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَخْرُجُ الْكَفِيلُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالْحَوَالَةِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِمُبَرِّئَةٍ أَصْلًا لِمَا يَأْتِي فِي كِتَابِ الْحَوَالَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ يَخْرُجُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالصُّلْحِ كَمَا يَخْرُجُ بِالْحَوَالَةِ بِأَنْ يُصَالِحَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ عَلَى بَعْضِ الْمُدَّعَى لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى جِنْسِ الْمُدَّعَى إسْقَاطُ بَعْضِ الْحَقِّ فَكَانَ فِيهِ مَعْنَى الْإِبْرَاءِ وَعَلَى خِلَافِ الْجِنْسِ مُعَاوَضَةٌ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْإِبْرَاءِ وَكُلُّ ذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْ الْكَفَالَةِ غَيْرَ أَنَّ فِي حَالَيْنِ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ وَالْأَصِيلُ جَمِيعًا وَفِي حَالٍ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ دُونَ الْأَصِيلِ. (أَمَّا) الْحَالَتَانِ اللَّتَانِ بَرِئَ فِيهِمَا الْكَفِيلُ وَالْأَصِيلُ جَمِيعًا إحْدَاهُمَا أَنْ يَقُولَ الْكَفِيلُ لِلطَّالِبِ صَالَحْتُكَ مِنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنِّي وَالْمَكْفُولُ مِنْهُ بَرِئَانِ مِنْ الْخَمْسمِائَةِ الْبَاقِيَةِ وَيَكُونُ الطَّالِبُ فِي الْخَمْسمِائَةِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الصُّلْحُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا مِنْ الْكَفِيلِ ثُمَّ الْكَفِيلُ يَرْفَعُ بِهَا عَلَى الْأَصِيلِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا مِنْ الْأَصِيلِ وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَقُولَ صَالِحَتُكَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْبَرَاءَةِ أَصْلًا لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا أَنَّ الْإِبْرَاءَ الْمُضَافَ إلَى الْمَالِ الْمُجَرَّدِ عَنْ شَرْطِ الْبَرَاءَةِ الْمُضَافَةِ إلَى الْكَفِيلِ إبْرَاءٌ عَنْ الدَّيْنِ وَالدَّيْنُ وَاحِدٌ فَإِذَا سَقَطَ عَنْ الْأَصِيلِ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ عَنْ الْكَفِيلِ. (وَأَمَّا) الْحَوَالَةُ الَّتِي يَبْرَأُ الْكَفِيلُ فِيهَا دُونَ الْأَصِيلِ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْكَفِيلُ لِلطَّالِبِ صَالَحْتُك عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ الْخَمْسمِائَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ مِنْ قَبْلُ وَالطَّالِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ جَمِيعَ دَيْنِهِ مِنْ الْأَصِيلِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْكَفِيلِ خَمْسِمِائَةٍ وَمِنْ الْأَصِيلِ خَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَا أَدَّى إنْ كَانَ الصُّلْحُ بِأَمْرِهِ. (وَأَمَّا) الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ إحْدَاهَا تَسْلِيمُ النَّفْسِ إلَى الطَّالِبِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ فِي مَوْضِعٍ يَقْدِرُ عَلَى إحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ مُحَصِّلٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ الْعَقْدِ وَهُوَ إمْكَانُ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ بِالْمُرَافَعَةِ إلَى الْقَاضِي فَإِذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ يَنْتَهِي حُكْمُهُ فَيَخْرُجُ عَنْ الْكَفَالَةِ. وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي صَحْرَاءَ أَوْ بَرِيَّةٍ لَا يَخْرُجُ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ وَلَوْ سَلَّمَ فِي السُّوقِ أَوْ فِي الْمِصْرِ يَخْرُجُ سَوَاءٌ أَطْلَقَ الْكَفَالَةَ أَوْ قَيَّدَهَا بِالتَّسْلِيمِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي أَمَّا إذَا أَطْلَقَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِمَكَانٍ يَقْدِرُ عَلَى إحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ وَكَذَا إذَا قَيَّدَ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِي هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ تَسْلِيمٌ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي بِوَاسِطَةٍ. وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي مِصْرٍ مُعَيَّنٍ فَسَلَّمَهُ فِي مِصْرٍ آخَرَ يَخْرُجُ عَنْ الْكَفَالَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَخْرُجُ عَنْهَا إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ فِي الْمِصْرِ الْمَشْرُوطِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمِصْرِ مُفِيدٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلطَّالِبِ بَيِّنَةٌ يَقْدِرُ عَلَى إقَامَتِهَا فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ فَكَانَ التَّعْيِينُ مُفِيدًا فَيَتَقَيَّدُ بِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَسْلِيمِ النَّفْسِ هُوَ الْوُصُولُ إلَى الْحَقِّ بِالْمُرَافَعَةِ إلَى الْقَاضِي وَهَذَا الْغَرَضُ مُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ كُلِّ قَاضٍ فَلَا يَصِحُّ التَّعْيِينُ وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي السَّوَادِ وَلَا قَاضِي فِيهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْكَفَالَةِ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكَانِ لَا يَصْلُحُ وَسِيلَةً إلَى الْمَقْصُودِ فَكَانَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْأَمِيرِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي يَخْرُجُ عَنْ الْكَفَالَةِ وَكَذَا إذَا عُزِلَ الْأَمِيرُ وَوُلِّيَ غَيْرُهُ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الثَّانِي لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَ كُلِّ مَنْ وُلِّيَ ذَلِكَ مُحَصِّلٌ لِلْمَقْصُودِ فَلَمْ يَكُنْ التَّقْيِيدُ مُفِيدًا فَلَا يَتَقَيَّدُ وَلَوْ كَفَلَ جَمَاعَةً بِنَفْسِ

فصل في رجوع الكفيل بعد الخروج عن الكفالة

رَجُلٍ كَفَالَةً وَاحِدَةً فَأَحْضَرَهُ أَحَدُهُمْ بَرِئُوا جَمِيعًا وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ مُتَفَرِّقَةً لَمْ يَبْرَأْ الْبَاقُونَ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْكَفَالَةِ الْوَاحِدَةِ فِعْلٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِحْضَارُ. وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِوَاحِدٍ وَالدَّاخِلَ تَحْتَ الْكَفَالَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ أَفْعَالٌ مُتَفَرِّقَةٌ فَلَا يَحْصُلُ بِإِحْضَارِ وَاحِدٍ الْإِبْرَاءُ بِهِ فَيَبْرَأُ هُوَ دُونَ الْبَاقِينَ وَلَيْسَ هَذَا كَمَا إذَا كَفَلَ جَمَاعَةً بِمَالِ وَاحِدٍ كَفَالَةً وَاحِدَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً فَأَدَّى أَحَدُهُمْ بَرِئَ الْبَاقُونَ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَسْقُطُ عَنْ الْأَصِيلِ بِأَدَاءِ الْمَالِ فَلَا يَبْقَى عَلَى الْكَفِيلِ لِمَا مَرَّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ كَذَا فَلَقِيَ الرَّجُلُ الطَّالِبَ فَخَاصَمَهُ الطَّالِبُ وَلَازَمَهُ فَالْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ وَإِنْ لَازَمَهُ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْكَفِيلِ الْمُوَافَاةُ بِهِ. وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِلطَّالِبِ قَدْ دَفَعْتُ نَفْسِي إلَيْكَ عَنْ كَفَالَةٍ فَلَأَنْ يَبْرَأَ الْكَفِيلُ مِنْ الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ بِأَمْرِهِ أَوْ لَا لِأَنَّهُ أَقَامَ نَفْسَهُ مَقَامَ الْكَفِيلِ فِي التَّسْلِيمِ عَنْهُ فَيَصِحُّ التَّسْلِيمُ كَمَنْ تَبَرَّعَ بِقَضَاءِ دَيْنِ غَيْرِهِ أَنَّ هُنَاكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ وَهُنَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَالْفَرْقُ أَنَّ انْعِدَامَ الْجَبْرِ عَلَى الْقَبُولِ فِي بَابِ الْمَالِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ لُحُوقِ الْمِنَّةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَبَرِّعِ لِأَنَّ نَفْسَهُ رُبَّمَا لَا تُطَاوِعُهُ بِتَحَمُّلِ الْمِنَّةِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى هُنَا مَعْدُومٌ لِأَنَّ تَسْلِيمَ نَفْسِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَلَا مِنَّةَ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِأَنَّ نَفْسَهُ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ فِي الْحَالَيْنِ وَالثَّانِي الْإِبْرَاءُ إذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ خَرَجَ عَنْ الْكَفَالَةِ لِأَنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ. وَقَدْ أَسْقَطَ الْمُطَالَبَةَ عَنْهُ بِالْإِبْرَاءِ فَيَنْتَهِي الْحَقُّ ضَرُورَةً وَلَا يَكُونُ هَذَا الْإِبْرَاءُ لِلْأَصِيلِ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ الْمُطَالَبَةَ عَنْهُ دُونَ الْأَصِيلِ. وَلَوْ أَبْرَأَ الْأَصِيلَ بَرِئَا جَمِيعًا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَقَدْ بَطَلَ الضَّمَانُ بِالْإِبْرَاءِ فَيَنْتَهِي حُكْمُ الْكَفَالَةِ وَالثَّالِثُ مَوْتُ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَقَدْ سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُ فَيَسْقُطُ عَنْ الْكَفِيلِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) . الْكَفِيلُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا وَالْأَفْعَالِ الْمَضْمُونَةِ تَخْرُجُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا تَسْلِيمُ الْعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا إنْ كَانَتْ قَائِمَةً وَتَسْلِيمُ مِثْلِهَا أَوْ قِيمَتِهَا إنْ كَانَتْ هَالِكَةً وَيَحْصُلُ الْفِعْلُ الْمَضْمُونُ وَهُوَ التَّسْلِيمُ وَالْحَمْلُ وَالثَّانِي الْإِبْرَاءُ فَلَا يَخْرُجُ بِمَوْتِ الْغَاصِبِ وَالْبَائِعِ وَالْمُكَارِي لِأَنَّ نَفْسَ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مَكْفُولٍ بِهَا حَتَّى يَسْقُطَ بِمَوْتِهِمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي رُجُوعُ الْكَفِيلِ بَعْد الْخُرُوج عَنْ الْكِفَالَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُجُوعُ الْكَفِيلِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الرُّجُوعِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي. شَرَائِطِ وِلَايَةِ الرُّجُوعِ. وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يَرْجِعُ بِهِ. (أَمَّا) الشَّرْطُ فَأَنْوَاعٌ (مِنْهَا) أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِقْرَاضِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ وَلَوْ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَرْجِعُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ تَبَرُّعٌ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْغَيْرِ فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ بِإِذْنٍ صَحِيحٍ وَهُوَ إذْنُ مَنْ يَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالدَّيْنِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ كَفَلَ عَنْ الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ بِإِذْنِهِ فَأَدَّى لَا يَرْجِعُ لِأَنَّ إذْنَهُ بِالْكَفَالَةِ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَكْفُولِ عَنْهُ اسْتِقْرَاضٌ وَاسْتِقْرَاضُ الصَّبِيِّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ. (وَأَمَّا) الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ فَإِذْنُهُ بِالْكَفَالَةِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى يَرْجِعَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ لَكِنْ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ (وَمِنْهَا) إضَافَةُ الضَّمَانِ إلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ اضْمَنْ عَنِّي وَلَوْ قَالَ اضْمَنْ كَذَا وَلَمْ يُضِفْ إلَى نَفْسِهِ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُضِفْ إلَيْهِ فَالْكَفَالَةُ لَمْ تَقَعْ إقْرَاضًا إيَّاهُ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ (وَمِنْهَا) أَدَاءُ الْمَالِ إلَى الطَّالِبِ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَدَاءِ إلَيْهِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ قَبْلَ الْأَدَاءِ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِقْرَاضِ وَالتَّمْلِيكِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِأَدَاءِ الْمَالِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ قَبْلَهُ (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ لِلْأَصِيلِ عَلَى الْكَفِيلِ دَيْنٌ مِثْلُهُ فَأَمَّا إذَا كَانَ فَلَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ إذَا أَدَّى الدَّيْنَ الْتَقَى الدَّيْنَانِ قِصَاصًا إذْ لَوْ ثَبَتَ لِلْكَفِيلِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ لَثَبَتَ لِلْأَصِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ أَيْضًا فَلَا يُفِيدُ فَيَسْقُطَانِ جَمِيعًا. وَلَوْ وَهَبَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْمَالَ لِلْكَفِيلِ يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْهِبَةَ فِي مَعْنَى الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ لَمَّا وَهَبَ مِنْهُ فَقَدْ مَلَكَ مَا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ كَمَا إذَا مَلَكُهُ بِالْأَدَاءِ وَإِذَا وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْ الْأَصِيلِ بَرِئَ الْكَفِيلُ لِأَنَّ هَذَا وَأَدَاءَ الْمَالِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ لَمَّا وَهَبَهُ مِنْهُ فَقَدْ مَلَكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ كَمَا إذَا أَدَّى وَمَتَى بَرِئَ الْأَصِيلُ بَرِئَ الْكَفِيلُ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ. وَلَوْ مَاتَ الطَّالِبُ فَوَرِثَهُ الْكَفِيلُ

يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَوْ وَرِثَهُ الْأَصِيلُ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ لِأَنَّ الْإِرْثَ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَيَمْلِكُهُ الْأَصِيلُ وَمَتَى مَلَكَهُ بَرِئَ فَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ كَمَا إذَا أَدَّى وَلَوْ أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ وَهُوَ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ إسْقَاطُ الْمُطَالَبَةِ لَا غَيْرُ وَلِهَذَا لَا تُوجِبُ بَرَاءَةُ الْكَفِيلِ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْنَى تَمْلِيكِ الدَّيْنِ أَصْلًا فَلَا يَرْجِعُ وَلَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلُ الْمَكْفُولَ عَنْهُ مِمَّا ضَمِنَهُ بِأَمْرِهِ قَبْلَ أَدَائِهِ أَوْ وَهَبَهُ مِنْهُ جَازَ حَتَّى لَوْ أَدَّاهُ الْكَفِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَقِّ لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ الْعَقْدُ بِإِذْنِهِ مَوْجُودٌ وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الْحَقِّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْوُجُوبِ جَائِزٌ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الْأُجْرَةِ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّ الْكَفِيلُ مَا كَفَلَ بِهِ حَتَّى عَجَّلَ الْأَصِيلُ لِمَا كَفَلَ عَنْهُ وَدَفَعَ إلَى الْكَفِيلِ يُنْظَرُ إنْ دَفْعَهُ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ يَجُوزُ لِأَنَّ وِلَايَةَ الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ إنْ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً لَهُ فِي الْحَالِ لَكِنَّهَا ثَبَتَتْ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَأَشْبَهَ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ إذَا عَجَّلَهُ الْمَطْلُوبُ قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ وَيَكُونُ قَضَاءً كَذَا هَذَا وَبَرِئَ الْأَصِيلُ مِنْ دَيْنِ الْكَفِيلِ وَلَكِنْ لَا يَبْرَأُ عَنْ دَيْنِ الْمَكْفُولِ لَهُ وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ أَيَّهمَا شَاءَ فَإِنْ أَخَذَ مِنْ الْأَصِيلِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْكَفِيلِ بِمَا أَدَّى لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً وَإِنْ كَانَ الْكَفِيلُ تَصَرَّفَ فِي ذَلِكَ الْمُعَجَّلِ وَرَبِحَ هَلْ يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الدَّيْنُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ يَطِيبُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَحَصَلَ التَّمْلِيكُ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا فَيَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا مِمَّا يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّهُ يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ. وَلَمْ يُذْكَرْ الْخِلَافُ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ يَتَصَدَّقُ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ يَرُدَّ الرِّبْحَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ هَذَا إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ فَأَمَّا إذَا دَفَعَهُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ لِيُؤَدِّيَ الدَّيْنَ مِمَّا دَفَعَهُ إلَيْهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ فَتَصَرَّفَ فِيهِ الْوَكِيلُ وَرَبِحَ لَا يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَطِيبُ وَهُوَ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُودَعِ وَالْغَاصِبِ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ وَرَبِحَ فِيهِمَا أَنَّهُ لَا يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَطِيبُ وَالْمَسْأَلَةُ تَأَتَّى فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ قَالَ الطَّالِبُ لِلْكَفِيلِ بَرِئْتُ إلَيَّ مِنْ الْمَالِ يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ لِمَا نَذْكُرُ وَفِي قَوْلِهِ بَرِئْتُ مِنْ الْمَالِ اخْتِلَافٌ نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ كَفَلَ رَجُلَانِ لِرَجُلٍ عَنْ رَجُلٍ بِأَمْرِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَتَّى يَثْبُتَ لِلطَّالِبِ وَلَايَةُ مُطَالَبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ فَأَدَّى أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ مَالِ الْكَفَالَةِ فَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَفَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِمَا عَلَيْهِ وَقْتَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ كَفَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِمَا عَلَيْهِ دُونَ الْآخَرِ أَوْ لَمْ يَكْفُلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ أَصْلًا فَإِنْ لَمْ يَكْفُلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ أَصْلًا لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَدَّى لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْ نَفْسِهِ لَا عَنْ صَاحِبِهِ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكْفُلْ عَنْهُ وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّهُ كَفِيلٌ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَإِنْ كَفَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِمَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَكْفُلْ عَنْهُ صَاحِبُهُ بِمَا عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ فِيمَا أَدَّى أَنَّهُ مِنْ كَفَالَةِ صَاحِبِهِ إلَيْهِ أَوْ مِنْ كَفَالَةِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْمَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ جِهَةِ كَفَالَةِ نَفْسِهِ عَنْ الْأَصِيلِ وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الْكَفَالَةِ عَنْ صَاحِبِهِ وَلَيْسَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَكَانَ لَهُ وَلَايَةُ الْأَدَاءِ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ فَإِذَا قَالَ أَدَّيْتُهُ عَنْ كَفَالَةِ صَاحِبِي يُصَدَّقُ وَيُرْجَعُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ سَوَاءٌ أَدَّى الْمَالَ إلَى الطَّالِبِ ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ أَوْ قَالَ ابْتِدَاءً إنِّي أُؤَدِّي عَنْ كَفَالَةِ صَاحِبِي وَكَذَا إذَا قَالَ أَدَّيْتُهُ عَنْ كَفَالَةِ الْأَصِيلِ فَقُبِلَ مِنْهُ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ سَوَاءٌ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَدَاءِ الْمَالِ إلَى الطَّالِبِ أَوْ عِنْدَهُ ابْتِدَاءً وَإِنْ كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِمَا عَلَيْهِ فَمَا أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ عَنْ نَفْسِهِ إلَى خَمْسِمِائَةٍ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ أَنَّهُ أَدَّى عَنْ شَرِيكِهِ لَا عَنْ نَفْسِهِ بَلْ يَكُونُ عَنْ نَفْسِهِ إلَى هَذَا الْقَدْرِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ. وَكَذَا إذَا قَالَ ابْتِدَاءً إنِّي أُؤَدِّي عَنْ شَرِيكَيْ لَا عَنْ نَفْسِي لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَيَكُونُ عَنْ نَفْسِهِ إلَى هَذَا الْقَدْرِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ مَا لَمْ يَزِدْ الْمُؤَدَّى عَلَى خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّ الْمُؤَدِّي إلَى خَمْسِمِائَةٍ لَهُ مُعَارِضٌ وَالزِّيَادَةُ لَا مُعَارِضَ لَهَا فَإِذَا زَادَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ يَرْجِعُ بِالزِّيَادَةِ إنْ شَاءَ عَلَى شَرِيكِهِ وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْأَصِيلِ وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى

فصل في بيان ما يرجع به الكفيل

رَجُلَانِ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَمَا أَدَّى أَحَدُهُمَا يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ حَتَّى يَزِيدَ عَلَى النِّصْفِ لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَلِكَ الْمُتَفَاوِضَانِ إذَا افْتَرَقَا وَعَلَيْهِمَا دَيْنٌ فَلِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يُطَالِبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَأَيُّهُمَا أَدَّى شَيْئًا لَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ حَتَّى يَزِيدَ الْمُؤَدَّى عَلَى النِّصْفِ لِمَا ذَكَرْنَا هَذَا إذَا كَفَلَا كَفَالَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَكْفُلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِجَمِيعِ الْمَالِ فَأَمَّا إذَا كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَالَةً مُتَفَرِّقَةً بِجَمِيعِ الْمَالِ عَنْ الْمَطْلُوبِ ثُمَّ كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِمَا عَلَيْهِ فَمَا أَدَّى أَحَدُهُمَا شَيْئًا يَرْجِعُ بِكُلِّ الْمُؤَدَّى عَلَى الْأَصِيلِ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ يَرْجِعُ بِنِصْفِهِ عَلَى شَرِيكِهِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ الْكَفَالَةُ عَنْ نَفْسِهِ وَالْكَفَالَةُ عَنْ صَاحِبِهِ عَلَى السَّوَاءِ فَيَقَعُ الْمُؤَدَّى نِصْفُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَنِصْفُهُ عَنْ صَاحِبِهِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْكَفَالَتَيْنِ بِالْمُؤَدَّى وَإِذَا وَقَعَ نِصْفُ الْمُؤَدَّى عَنْ صَاحِبِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ لِيُسَاوِيَهُ فِي الْأَدَاءِ كَمَا سَاوَاهُ فِي الْكَفَالَةِ بِالْمُؤَدَّى بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصِيلٌ فِي نِصْفِ الْمَالِ بِالْكَفَالَةِ عَنْ نَفْسِهِ كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ فَيَكُونُ مُؤَدِّيًا عَنْ نَفْسِهِ إلَى النِّصْفِ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ لِمَا مَرَّ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَرْجِعُ بِهِ الْكَفِيلُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَرْجِعُ بِهِ الْكَفِيلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إنَّ الْكَفِيلَ يَرْجِعُ بِمَا كَفَلَ لَا بِمَا أَدَّاهُ حَتَّى لَوْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِدَرَاهِمَ صِحَاحٍ جِيَادٍ فَأَعْطَاهُ مُكَسَّرَةً أَوْ زُيُوفًا وَتَجُوزُ بِهِ الْمُطَالَبَةُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالصِّحَاحِ الْجِيَادِ لِأَنَّهُ بِالْأَدَاءِ مَلَكَ مَا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فَيَرْجِعُ بِالْمُؤَدَّى وَهُوَ الصِّحَاحُ الْجِيَادُ وَلَيْسَ هَذَا كَالْمَأْمُورِ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمُؤَدَّى لَا بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ بِالْأَدَاءِ مَا مَلَكَ الدَّيْن بَلْ أَقْرَضَ الْمُؤَدِّي مِنْ الْآمِرِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا أَقْرَضَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَى بِالدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ أَوْ شَيْئًا مِنْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا كَفَلَ لَا بِمَا أَدَّى لِمَا ذَكَرْنَا بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ مِنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالْخَمْسِمِائَةِ لَا بِالْأَلْفِ لِأَنَّهُ بِأَدَاءِ الْخَمْسمِائَةِ مَا مَلَكَ مَا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَهُوَ الْأَلْفُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيقَاعُ الصُّلْحِ تَمْلِيكًا هَهُنَا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَيَقَعُ إسْقَاطًا لِبَعْضِ الْحَقِّ وَالسَّاقِطُ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ بِهِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ كَفَلَ بِخَمْسَةِ دَنَانِيرَ فَصَالَحَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَلَمْ يَقُلْ أَصَالِحُكَ عَلَى أَنْ تُبَرِّئَنِي فَالصُّلْحُ وَاقِعٌ عَنْ الْأَصِيلِ وَالْكَفِيلِ جَمِيعًا وَبَرِئَا جَمِيعًا وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ وَلَوْ قَالَ أُصَالِحُكَ عَلَى ثَلَاثَةٍ عَلَى أَنْ تُبَرِّئَنِي فَهَذَا بَرَاءَةٌ عَنْ الْكَفِيلِ خَاصَّةً وَيَرْجِعُ الطَّالِبُ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِدِينَارَيْنِ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إيقَاعُ الصُّلْحِ عَلَى ثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ تَصَرُّفٌ فِي نَفْسِ الْحَقِّ بِإِسْقَاطِ بَعْضِهِ فَكَانَ الصُّلْحُ وَاقِعًا عَنْهُمَا جَمِيعًا فَيَبْرَآنِ جَمِيعًا وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ لِأَنَّهُ مَلَكَ هَذَا الْقَدْرَ بِالْأَدَاءِ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ. (وَأَمَّا) فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فَإِضَافَةُ الصُّلْحِ إلَى ثَلَاثَةٍ مَقْرُونًا بِشَرْطِ الْإِبْرَاءِ الْمُضَافِ إلَى الْكَفِيلِ إبْرَاءً لِلْكَفِيلِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ بِدِينَارَيْنِ وَإِبْرَاءُ الْكَفِيلِ لَا يُوجِبُ إبْرَاءَ الْأَصِيلِ فَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ وَيَبْقَى الدِّينَارَانِ عَلَى الْأَصِيلِ فَيَأْخُذُهُ الطَّالِبُ مِنْهُمَا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. [كِتَابُ الْحَوَالَةِ] [بَيَانِ رُكْنِ الْحَوَالَةِ] (كِتَابُ الْحَوَالَةِ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ رُكْنِ الْحَوَالَةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْحَوَالَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْمُحَالُ عَلَيْهِ عَنْ الْحَوَالَةِ، وَفِي بَيَانِ الرُّجُوعِ بَعْدَ الْخُرُوجِ: أَنَّهُ هَلْ يَرْجِعُ أَمْ لَا؟ . (أَمَّا) رُكْنُ الْحَوَالَةِ. فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، الْإِيجَابُ مِنْ الْمُحِيلِ، وَالْقَبُولُ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَالْمُحَالِ جَمِيعًا، فَالْإِيجَابُ: أَنْ يَقُولَ الْمُحِيلُ لِلطَّالِبِ: أَحَلْتُك عَلَى فُلَانٍ هَكَذَا، وَالْقَبُولُ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَالْمُحَالِ أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: قَبِلْتُ أَوْ رَضِيتُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْقَبُولِ وَالرِّضَا، وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ فَيَتِمُّ بِإِيجَابِ الْمُحِيلِ وَقَبُولِ الْمُحْتَالِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُحِيلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مُسْتَوْفٍ حَقَّ نَفْسِهِ بِيَدِ الطَّالِبِ؛ فَلَا يَقِفُ عَلَى قَبُولِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، كَمَا إذَا وَكَّلَهُ بِالْقَبْضِ، وَلَيْسَ هُوَ كَالْمُحَالِ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَصَرُّفٌ عَلَيْهِ بِنَقْلِ حَقِّهِ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ مَعَ اخْتِلَافِ الذِّمَمِ؛ فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ. (وَلَنَا) أَنَّ الْحَوَالَةَ تَصَرُّفٌ عَلَى الْمُحَالِ

شرائط الحوالة

عَلَيْهِ، بِنَقْلِ الْحَقِّ إلَى ذِمَّتِهِ، فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِقَبُولِهِ وَرِضَاهُ، بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَصَرُّفًا عَلَيْهِ بِنَقْلِ الْوَاجِبِ إلَيْهِ ابْتِدَاءً؛ بَلْ هُوَ تَصَرُّفٌ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ؛ فَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ وَرِضَاهُ؛ وَلِأَنَّ النَّاسَ فِي اقْتِضَاءِ الدُّيُونِ وَالْمُطَالَبَةِ بِهَا عَلَى التَّفَاوُتِ: بَعْضُهُمْ أَسْهَلُ مُطَالَبَةً وَاقْتِضَاءً، وَبَعْضُهُمْ أَصْعَبُ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِهِ لِيَكُونَ لُزُومُ ضَرَرِ الصُّعُوبَةِ مُضَافًا إلَى الْتِزَامِهِ. [شَرَائِط الْحَوَالَةِ] وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُحِيلِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ بِهِ. (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُحِيلِ فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، فَلَا تَصِحُّ حَوَالَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ مِنْ شَرَائِطِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ كُلِّهَا، (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ بَالِغًا، وَهُوَ شَرْطُ النَّفَاذِ دُونَ الِانْعِقَادِ، فَتَنْعَقِدُ حَوَالَةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ؛ مَوْقُوفًا نَفَاذُهُ عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إبْرَاءٌ بِحَالِهَا، وَفِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ بِمَا لَهَا، خُصُوصًا إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً؛ فَتَنْعَقِدُ مِنْ الصَّبِيِّ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْمُحِيلِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ، حَتَّى تَصِحَّ حَوَالَةُ الْعَبْدِ مَأْذُونًا كَانَ فِي التِّجَارَةِ أَوْ مَحْجُورًا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَبَرُّعٍ بِالْتِزَامِ شَيْءٍ كَالْكَفَالَةِ؛ فَيَمْلِكُهَا الْعَبْدُ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ؛ رَجَعَ عَلَيْهِ الْمُحَالُ عَلَيْهِ لِلْحَالِّ إذَا أَدَّى، وَلَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ، وَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا؛ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَكَذَا الصِّحَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ قِبَلِ الْمُحِيلِ لَيْسَتْ بِتَبَرُّعٍ؛ فَتَصِحُّ مِنْ الْمَرِيضِ. (وَمِنْهَا) : رِضَا الْمُحِيلِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْحَوَالَةِ لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إبْرَاءٌ، فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ، فَتَفْسُدُ بِالْإِكْرَاهِ كَسَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) الْعَقْلُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا؛ وَلِأَنَّ قَبُولَهُ رُكْنٌ، وَغَيْرُ الْعَاقِلِ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ. (وَمِنْهَا) الْبُلُوغُ وَأَنَّهُ شَرْطُ النَّفَاذِ، لَا شَرْطَ الِانْعِقَادِ، فَيَنْعَقِدُ احْتِيَالُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ إنْ كَانَ الثَّانِي أَمْلَأَ مِنْ الْأَوَّلِ، وَكَذَا الْوَصِيُّ إذَا احْتَالَ بِمَالِ الْيَتِيمِ؛ لَا تَصِحُّ إلَّا بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ قُرْبَانِ مَالِهِ، إلَّا عَلَى وَجْهِ الْأَحْسَنِ؛ لِلْآيَةِ الشَّرِيفَةِ فِيهِ {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] . (وَمِنْهَا) : الرِّضَا عَلَى لَوْ احْتَالَ مُكْرَهًا؛ لَا تَصِحُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. (وَمِنْهَا) : مَجْلِسُ الْحَوَالَةِ وَهُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ شَرْطُ النَّفَاذِ، حَتَّى أَنَّ الْمُحْتَالَ لَوْ كَانَ غَائِبًا عَنْ الْمَجْلِسِ، فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ؛ لَا يَنْفُذُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَنْفُذُ، وَالصَّحِيحُ: قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّ قَبُولَهُ مِنْ أَحَدِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ؛ فَكَانَ كَلَامُهُمَا بِدُونِ شَرْطِ الْعَقْدِ؛ فَلَا يَقِفُ عَلَى غَائِبٍ عَنْ الْمَجْلِسِ - كَمَا فِي الْبَيْعِ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ. فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا: (مِنْهَا) : الْعَقْلُ، فَلَا يَصِحُّ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ قَبُولَ الْحَوَالَةِ أَصْلًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا (وَمِنْهَا) الْبُلُوغُ، وَأَنَّهُ شَرْطُ الِانْعِقَادِ أَيْضًا؛ فَلَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ قَبُولُ الْحَوَالَةِ أَصْلًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا، سَوَاءٌ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْحَوَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُحِيلِ، أَوْ بِأَمْرِهِ. (أَمَّا) إذَا كَانَتْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَلَى الْمُحِيلِ، فَكَانَ تَبَرُّعًا بِابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ بِأَمْرِهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِابْتِدَائِهِ، فَلَا يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ، مَحْجُورًا كَانَ أَوْ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ، كَالْكَفَالَةِ، وَإِنْ قَبِلَ عَنْهُ وَلِيُّهُ لَا يَصِحُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ. (وَمِنْهَا) الرِّضَا، حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ عَلَى قَبُولِ الْحَوَالَةِ لَا يَصِحُّ. (وَمِنْهَا) الْمَجْلِسُ، وَأَنَّهُ شَرْطُ الِانْعِقَادِ عِنْدَهُمَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي جَانِبِ الْمُحِيلِ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ بِهِ. فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ دَيْنًا؛ فَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ؛ لِأَنَّهَا نَقْلُ مَا فِي الذِّمَّةِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَازِمًا؛ فَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِدَيْنٍ غَيْرِ لَازِمٍ، - كَبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ تَسْمِيَةً لَا حَقِيقَةً؛ إذْ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ، وَالْأَصْلُ: أَنَّ كُلَّ دَيْنٍ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ، لَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِهِ. (وَأَمَّا) وُجُوبُ الدَّيْنِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِلْمُحِيلِ قَبْلَ الْحَوَالَةِ؛ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ، حَتَّى تَصِحَّ الْحَوَالَةُ، سَوَاءٌ كَانَ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْحَوَالَةُ مُطْلَقَةً أَوْ مُقَيَّدَةً، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ الْحَوَالَةَ نَوْعَانِ: مُطْلَقَةٌ، وَمُقَيَّدَةٌ، فَالْمُطْلَقَةُ: أَنْ يُحِيلَ بِالدَّيْنِ عَلَى فُلَانٍ، وَلَا يُقَيِّدُهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ، وَالْمُقَيَّدَةُ: أَنْ يُقَيِّدَهُ بِذَلِكَ، وَالْحَوَالَةُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ جَائِزَةٌ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. إلَّا أَنَّ الْحَوَالَةَ الْمُطْلَقَةَ؛ تُخَالِفُ الْحَوَالَةَ الْمُقَيَّدَةَ فِي أَحْكَامٍ، (مِنْهَا) : أَنَّهُ إذَا أَطْلَقَ الْحَوَالَةَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنَّ الْمُحَالَ يَطْلُبُ الْمُحَالَ عَلَيْهِ بِدَيْنِ الْحَوَالَةِ لَا غَيْرُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ فَإِنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ يُطَالَبُ بِدَيْنَيْنِ: دَيْنِ الْحَوَالَةِ، وَدَيْنِ الْمُحِيلِ، فَيُطَالِبُهُ

فصل في بيان حكم الحوالة

الْمُحَالُ بِدَيْنِ الْحَوَالَةِ، وَيُطَالِبُهُ الْمُحِيلُ بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ لِلْمُحِيلِ بِدَيْنِهِ بِسَبَبِ الْحَوَالَةِ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ لَمْ تَتَقَيَّدْ بِالدَّيْنِ الَّذِي لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا وُجِدَتْ مُطْلَقَةً عَنْ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ، فَيَتَعَلَّقُ دَيْنُ الْحَوَالَةِ بِنَعْتِهِ، وَدَيْنُ الْمُحِيلِ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ، وَإِذَا قَيَّدَهَا بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ؛ يَنْقَطِعُ حَقُّ مُطَالَبَةِ الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ الْحَوَالَةَ بِهَذَا الدَّيْنِ، فَيَتَقَيَّدُ بِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الدَّيْنُ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَهْنًا عَلَى الْحَقِيقَةِ. (وَمِنْهَا) : أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَتْ بَرَاءَةُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ؛ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي قُيِّدَتْ بِهِ الْحَوَالَةُ، بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ ثَمَنَ مَبِيعٍ فَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ؛ تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ وَلَوْ سَقَطَ عَنْهُ الدَّيْنُ لِمَعْنًى عَارِضٍ، بِأَنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ، حَتَّى سَقَطَ الثَّمَنُ عَنْهُ؛ لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ عَنْهُ لَكِنْ إذَا أَدَّى الدَّيْنَ بَعْدَ سُقُوطِ الثَّمَنِ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى عَلَى الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ. وَلَوْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ؛ لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَيَّدَ الْحَوَالَةَ بِهِ فَقَدْ تَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِهِ، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَا دَيْنَ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا حَوَالَةَ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ بِالدَّيْنِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا دَيْنَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حَوَالَةَ ضَرُورَةً، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِهِ يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْحَوَالَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ؛ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الدَّيْنُ؛ فَيَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ؛ فَلَا يَظْهَرُ أَنَّ الْحَوَالَةَ كَانَتْ بَاطِلَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ قَيَّدَ الْحَوَالَةَ بِأَلْفٍ وَدِيعَةً عِنْدَ رَجُلٍ، فَهَلَكَتْ الْأَلْفُ عِنْدَ الْمُودَعِ؛ بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ. وَلَوْ كَانَتْ الْأَلْفُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ مَضْمُونَةً؛ لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ بِالْهَلَاكِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُهَا. (وَمِنْهَا) : أَنَّهُ إذَا مَاتَ الْمُحِيلُ فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ، قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الدَّيْنَ إلَى الْمُحَالِ، وَعَلَى الْمُحِيلِ دُيُونٌ سِوَى دَيْنِ الْمُحَالِ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ سِوَى هَذَا الدَّيْنِ؛ لَا يَكُونُ الْمُحَالُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ: يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ كَالرَّهْنِ. (وَلَنَا) الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَوَالَةِ وَالرَّهْنِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ اُخْتُصَّ بِغُرْمِ الرَّهْنِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ يَسْقُطُ دَيْنُهُ خَاصَّةً؟ وَلَمَّا اُخْتُصَّ بِغُرْمِهِ اُخْتُصَّ بِغُنْمِهِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ، فَأَمَّا الْمُحَالُ فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِغُرْمِ ذَلِكَ الْمَالِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَوِيَ لَا يَسْقُطُ دَيْنُهُ عَلَى الْمُحِيلِ، وَالتَّوَى عَلَى الْمُحِيلِ دُونَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَخْتَصَّ بِغُرْمِهِ لَمْ يَخْتَصَّ بِغُنْمِهِ أَيْضًا، بَلْ يَكُونُ هُوَ وَغُرَمَاءُ الْمُحِيلِ أُسْوَةً فِي ذَلِكَ، وَإِذَا أَرَادَ الْمُحِيلُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي قُيِّدَتْ بِهِ الْحَوَالَةُ اُسْتُحِقَّ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ؛ فَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ. وَلَوْ كَانَتْ الْحَوَالَةُ مُطْلَقَةً، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا؛ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ جَمِيعُ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ، وَيُقْسَمُ بَيْنَ غُرَمَاءِ الْمُحِيلِ، وَلَا يَدْخُلُ الْمُحَالُ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ، فَذَلِكَ مِلْكُ الْمُحِيلِ وَلَا يُشَارِكُهُمْ الْمُحَالُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَبَتَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَلَا يَعُودُ إلَى الْمُحِيلِ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَأْخُذُ مِنْ غُرَمَاءِ الْمُحِيلِ كَفِيلًا؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ الرُّجُوعُ إلَيْهِمْ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ. (أَمَّا) الْمُحَالُ، إذَا تَوِيَ مَا عَلَى الْآخَرِ، وَأَمَّا الْمُحَالُ عَلَيْهِ إذَا أَدَّى الدَّيْنَ؛ فَالْقَاضِي نُصِّبَ نَاظِرًا لِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، فَيُحْتَاطُ فِي ذَلِكَ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْحَوَالَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْحَوَالَةِ. فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْحَوَالَةُ لَهَا أَحْكَامٌ (مِنْهَا) : بَرَاءَةُ الْمُحِيلِ، وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: الْحَوَالَةُ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ، وَالْحَقُّ فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ، عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَهَا، كَالْكَفَالَةِ سَوَاءً. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْحَوَالَةَ شُرِعَتْ وَثِيقَةً لِلدَّيْنِ، كَالْكَفَالَةِ، وَلَيْسَ مِنْ الْوَثِيقَةِ بَرَاءَةُ الْأَوَّلِ، بَلْ الْوَثِيقَةُ فِي مُطَالَبَةِ الثَّانِي، مَعَ بَقَاءِ الدَّيْنِ عَلَى حَالِهِ فِي ذِمَّةِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ، كَمَا فِي الْكَفَالَةِ سَوَاءً. (وَلَنَا) أَنَّ الْحَوَالَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّحْوِيلِ وَهُوَ النَّقْلُ، فَكَانَ مَعْنَى الِانْتِقَالِ لَازِمًا فِيهَا، وَالشَّيْءُ إذَا انْتَقَلَ إلَى مَوْضِعٍ لَا يَبْقَى فِي الْمَحِلِّ الْأَوَّلِ ضَرُورَةٌ، وَمَعْنَى الْوَثِيقَةِ يَحْصُلُ بِسُهُولَةِ الْوُصُولِ مِنْ حَيْثُ الْمَلَاءَةُ وَالْإِنْصَافُ. وَلَوْ كَفَلَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ؛ جَازَ وَتَكُونُ حَوَالَةً؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الْحَوَالَةِ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ فِي كَيْفِيَّةِ النَّقْلِ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى ثُبُوتِ أَصْلِهِ مُوجِبًا لِلْحَوَالَةِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهَا نَقْلُ الْمُطَالَبَةِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهَا نَقْلُ الْمُطَالَبَةِ فَحَسْبُ، فَأَمَّا أَصْلُ الدَّيْنِ فَبَاقٍ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ. (وَجْهُ) قَوْلِ الْأَوَّلِينَ: دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ (أَمَّا) دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ؛ فَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ، أَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْهُ؛ صَحَّتْ الْبَرَاءَةُ وَالْهِبَةُ، وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُحِيلَ مِنْ الدَّيْنِ أَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْهُ؛ لَا يَصِحُّ. وَلَوْلَا أَنَّ الدَّيْنَ انْتَقَلَ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَفَرَغَتْ ذِمَّةُ الْمُحِيلِ عَنْ الدَّيْنِ؛ لَمَا صَحَّ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الدَّيْنِ، وَهِبَةُ الدَّيْنِ وَلَا دَيْنَ مُحَالٌ، وَلَصَحَّ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ دَيْنٍ ثَابِتٍ، وَهِبَتُهُ مِنْهُ صَحِيحٌ - وَإِنْ تَأَخَّرَتْ الْمُطَالَبَةُ - كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ. (وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ؛ فَلِأَنَّ الْحَوَالَةَ تُوجِبُ النَّقْلَ؛ لِأَنَّهَا

فصل في بيان ما يخرج به المحال عليه من الحوالة

مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّحْوِيلِ، وَهُوَ النَّقْلُ؛ فَيَقْتَضِي نَقْلَ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ، وَقَدْ أُضِيفَ إلَى الدَّيْنِ لَا إلَى الْمُطَالَبَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: أَحَلْتُ بِالدَّيْنِ، أَوْ أَحَلْتُ فُلَانًا بِدَيْنِهِ؛ فَيُوجِبُ انْتِقَالَ الدَّيْنِ إلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا انْتَقَلَ أَصْلُ الدَّيْنِ إلَيْهِ؛ تَنْتَقِلُ الْمُطَالَبَةُ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ. (وَجْهُ) قَوْلِ الْآخَرِينَ: دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ (أَمَّا) دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ: فَإِنَّ الْمُحِيلَ إذَا قَضَى دَيْنَ الطَّالِبِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ؛ لَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا، وَيُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَكَانَ مُتَطَوِّعًا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى الْقَبُولِ، كَمَا إذَا تَطَوَّعَ أَجْنَبِيٌّ بِقَضَاءِ دَيْنِ إنْسَانٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُحَالُ: لَوْ أَبْرَأَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ عَنْ دَيْنِ الْحَوَالَةِ؛ لَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ. وَلَوْ وَهَبَهُ مِنْهُ؛ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ، كَمَا إذَا أَبْرَأَ الطَّالِبَ الْكَفِيلُ، أَوْ وَهَبَ مِنْهُ. وَلَوْ انْتَقَلَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ؛ لَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْإِبْرَاءِ وَالْهِبَةِ، وَلَا ارْتَدَّا جَمِيعًا بِالرَّدِّ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَ الْأَصِيلَ، أَوْ وَهَبَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْمُحَالُ لَوْ أَبْرَأَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ عَنْ دَيْنِ الْحَوَالَةِ؛ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ، وَإِنْ كَانَتْ الْحَوَالَةُ بِأَمْرِهِ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ. وَلَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْهُ؛ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ دَيْنٌ، كَمَا فِي الْكَفَالَةِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ يَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا كَالْكَفَالَةِ سَوَاءً، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ، ثُمَّ إنَّ الدَّيْنَ فِي بَابِ الْكَفَالَةِ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ، فَكَذَا فِي الْحَوَالَةِ. (وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ الْحَوَالَةَ شُرِعَتْ وَثِيقَةً لِلدَّيْنِ - بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ - وَلَيْسَ مِنْ الْوَثِيقَةِ إبْرَاءُ الْأَوَّلِ، بَلْ الْوَثِيقَةُ فِي نَقْلِ الْمُطَالَبَةِ مَعَ قِيَامِ أَصْلِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ. (وَمِنْهَا) : ثُبُوتُ وِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ لِلْمُحَالِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ، أَوْ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ أَوْجَبَتْ النَّقْلَ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ، إمَّا نَقْلُ الدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةِ جَمِيعًا، وَإِمَّا نَقْلُ الْمُطَالَبَةِ لَا غَيْرُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ لِلْمُحَالِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ. (وَمِنْهَا) : ثُبُوتُ حَقِّ الْمُلَازَمَةِ لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ عَلَى الْمُحِيلِ إذَا لَازَمَهُ الْمُحَالُ فَكُلَّمَا لَازَمَهُ الْمُحَالُ؛ فَلَهُ أَنْ يُلَازِمَ الْمُحِيلَ لِيَتَخَلَّصَ عَنْ مُلَازَمَةِ الْمُحَالِ، وَإِذَا حَبَسَهُ: لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ إذَا كَانَتْ الْحَوَالَةُ بِأَمْرِ الْمُحِيلِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ لِلْمُحِيلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ؛ فَعَلَيْهِ تَخْلِيصُهُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ الْحَوَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، أَوْ كَانَتْ بِأَمْرِهِ، وَلَكِنْ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ، وَالْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةٌ؛ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ أَنْ يُلَازِمَ الْمُحِيلَ إذَا لُوزِمَ، وَلَا أَنْ يَحْبِسَهُ إذَا حُبِسَ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إذَا كَانَتْ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُحِيلِ؛ كَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُتَبَرِّعًا، وَإِنْ كَانَ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ، وَقَيَّدَ الْحَوَالَةَ بِهِ فَلَوْ لَازَمَهُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ؛ لَكَانَ لِلْمُحِيلِ أَنْ يُلَازِمَهُ أَيْضًا؛ فَلَا يُفِيدُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مِنْ الْحَوَالَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مِنْ الْحَوَالَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْحَوَالَةِ بِانْتِهَاءِ حُكْمِ الْحَوَالَةِ، وَحُكْمُ الْحَوَالَةِ يَنْتَهِي بِأَشْيَاءَ (مِنْهَا) : فَسْخُ الْحَوَالَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ، فَكَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلْفَسْخِ، وَمَتَى فُسِخَ تَعُودُ الْمُطَالَبَةُ إلَى الْمُحِيلِ. (وَمِنْهَا) التَّوَى عِنْدَ عُلَمَائِنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حُكْمُ الْحَوَالَةِ لَا يَنْتَهِي بِالتَّوَى، وَلَا تَعُودُ الْمُطَالَبَةُ إلَى الْمُحِيلِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» ، وَلَمْ يُفَصِّلْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ وَلِأَنَّ الْحَوَالَةَ مُبَرِّئَةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَقَدْ عُقِدَتْ مُطْلَقَةً عَنْ شَرِيطَةِ السَّلَامَةِ، فَتُفِيدُ الْبَرَاءَةَ مُطْلَقًا. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحَالِ عَلَيْهِ: إذَا مَاتَ مُفْلِسًا عَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَقَالَ: لَا تَوًى عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ،. وَعَنْ شُرَيْحٍ مِثْلُ ذَلِكَ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ؛ فَكَانَ إجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ ثَابِتًا فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ قَبْلَ الْحَوَالَةِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْقَضَاءِ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الدَّيْنُ مَقْضِيٌّ» إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ الْإِبْرَاءُ بِالْقَضَاءِ فِي السُّقُوطِ، وَالْحَوَالَةُ لَيْسَتْ بِقَضَاءٍ، وَلَا إبْرَاءٍ، فَبَقِيَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْحَوَالَةِ، إلَّا أَنَّ بِالْحَوَالَةِ انْتَقَلَتْ الْمُطَالَبَةُ إلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، لَكِنْ إلَى غَايَةِ التَّوَى؛ لِأَنَّ حَيَاةَ الدَّيْنِ بِالْمُطَالَبَةِ، فَإِذَا تَوِيَ؛ لَمْ تَبْقَ وَسِيلَةٌ إلَى الْإِحْيَاءِ، فَعَادَتْ إلَى مَحِلِّهَا الْأَصْلِيِّ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَّقَ الْحُكْمَ بِشَرِيطَةِ الْمَلَاءَةِ، وَقَدْ ذَهَبَتْ بِالْإِفْلَاسِ، ثُمَّ التَّوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِشَيْئَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: أَحَدُهُمَا أَنْ يَمُوتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَجْحَدَ الْحَوَالَةَ وَيَحْلِفَ، وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُحَالِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بِهِمَا وَبِثَالِثٍ، وَهُوَ أَنْ يُفْلِسَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ حَالَ حَيَاتِهِ، وَيَقْضِيَ الْقَاضِي بِإِفْلَاسِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالْإِفْلَاسِ حَالَ

فصل في الرجوع في الحوالة

حَيَاتِهِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ: لَا يَقْضِي بِهِ. (وَمِنْهَا) : أَدَاءُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ الْمَالَ إلَى الْمُحَالِ، فَإِذَا أَدَّى الْمَالَ خَرَجَ عَنْ الْحَوَالَةِ؛ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي بَقَائِهَا بَعْدَ انْتِهَاءِ حُكْمِهَا. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَهَبَ الْمُحَالُ الْمَالَ لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ وَيَقْبَلَهُ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ، وَيَقْبَلَهُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ فِي مَعْنَى الْإِبْرَاءِ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَمُوتَ الْمُحَالُ؛ فَيَرِثُهُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يُبَرِّئَهُ مِنْ الْمَالِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الرُّجُوعِ فِي الْحَوَّالَةِ] وَأَمَّا بَيَانُ الرُّجُوعِ، فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الرُّجُوعِ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّجُوعِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَرْجِعُ بِهِ أَمَّا شَرَائِطُهُ فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) : أَنْ تَكُونَ الْحَوَالَةُ بِأَمْرِ الْمُحِيلِ، فَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لَا يَرْجِعُ، بِأَنْ قَالَ رَجُلٌ لِلطَّالِبِ: إنَّ لَك عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا مِنْ الدَّيْنِ، فَاحْتَلْ بِهَا عَلَيَّ، فَرَضِيَ بِذَلِكَ الطَّالِبُ؛ جَازَتْ الْحَوَالَةُ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَدَّى لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إذَا كَانَتْ بِأَمْرِ الْمُحِيلِ صَارَ الْمُحَالُ مُمَلَّكًا الدَّيْنَ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ مِنْ الْمَالِ؛ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْمُحِيلِ، وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يُوجَدُ مَعْنَى التَّمْلِيكِ؛ فَلَا تَثْبُتُ وَلَايَةُ الرُّجُوعِ. (وَمِنْهَا) : أَدَاءُ مَالِ الْحَوَالَةِ، أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَدَاءِ - كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ - إذَا قَبِلَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا وَرِثَهُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَإِذَا وَرِثَهُ فَقَدْ مَلَكَهُ؛ فَكَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ. وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُحَالُ الْمُحَالَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطُ حَقِّهِ؛ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ جَانِبُ التَّمْلِيكِ إلَّا عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِالرَّدِّ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ بَقِيَ إسْقَاطًا مَحْضًا، فَلَمْ يَمْلِكْ الْمُحَالُ عَلَيْهِ شَيْئًا؛ فَلَا يَرْجِعُ. (وَمِنْهَا) : أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ، فَإِنْ كَانَ: لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَيْنِ الْتَقَيَا قِصَاصًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَلَى الْمُحِيلِ لَرَجَعَ الْمُحِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَلَا يُفِيدُ فَيَتَقَاصَّا الدَّيْنَيْنِ؛ فَبَطَلَ حَقُّ الرُّجُوعِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَرْجِعُ بِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ يَرْجِعُ بِالْمُحَالِ بِهِ لَا بِالْمُؤَدَّى، حَتَّى لَوْ كَانَ الدَّيْنُ الْمُحَالُ بِهِ دَرَاهِمَ، فَنَقَدَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ دَنَانِيرَ عَنْ الدَّرَاهِمِ، أَوْ كَانَ الدَّيْنُ دَنَانِيرَ، فَنَقَدَهُ دَرَاهِمَ عَنْ الدَّنَانِيرِ فَتَصَارَفَا؛ جَازَ، وَيُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ الصَّرْفِ، حَتَّى لَوْ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ، أَوْ شَرَطَا فِيهِ الْأَجَلَ، وَالْخِيَارُ يُبْطِلُ الصَّرْفَ، وَيَعُودُ الدَّيْنُ إلَى حَالِهِ، وَإِذَا صَحَّتْ الْمُصَارَفَةُ؛ فَالْمُحَالُ عَلَيْهِ يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ بِمَالِ الْحَوَالَةِ، لَا بِالْمُؤَدَّى؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَأَنَّهُ يَمْلِكُ دَيْنَ الْحَوَالَةِ لَا الْمُؤَدَّى - بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ - لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ، وَكَذَا إذَا بَاعَهُ بِالدَّرَاهِمِ، أَوْ الدَّنَانِيرِ عَرَضًا؛ يَرْجِعُ بِمَالِ الْحَوَالَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا إذَا أَعْطَاهُ زُيُوفًا مَكَانَ الْجِيَادِ وَتَجَوَّزَ بِهَا الْمُحَالُ؛ رَجَعَ عَلَى الْمُحِيلِ بِالْجِيَادِ؛ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ صَالَحَ الْمُحَالُ الْمُحَالَ عَلَيْهِ، فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى جِنْسِ حَقِّهِ وَأَبْرَأَهُ عَنْ الْبَاقِي؛ يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ بِالْقَدْرِ الْمُؤَدَّى؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الدَّيْنِ؛ فَيَرْجِعُ بِهِ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ، بِأَنْ صَالَحَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ عَلَى دَنَانِيرَ، أَوْ عَلَى مَالٍ آخَرَ؛ يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ بِكُلِّ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى خِلَافِ جِنْسِ الْحَقِّ مُعَاوَضَةً، وَالْمُؤَدَّى يَصْلُحُ عِوَضًا عَلَى كُلِّ الدَّيْنِ. وَلَوْ قَبَضَ الْمُحَالُ مَالَ الْحَوَالَةِ ثُمَّ اخْتَلَفَا؛ فَقَالَ الْمُحِيلُ: لَمْ يَكُنْ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا أَنْتَ وَكِيلِي فِي الْقَبْضِ، وَالْمَقْبُوضُ لِي، وَقَالَ الْمُحَالُ: لَا بَلْ أَحَلْتنِي بِأَلْفٍ كَانَتْ لِي عَلَيْك: فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمُحَالَ يَدَّعِي عَلَيْهِ دَيْنًا وَهُوَ يُنْكِرُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ مَعَ يَمِينِهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْوَكَالَةِ] [بَيَان مَعْنَى التوكيل] (كِتَابُ الْوَكَالَةِ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ مَعْنَى التَّوْكِيلِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَفِي بَيَانِ، رُكْنِ التَّوْكِيلِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي حُكْمِ التَّوْكِيلِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ:. فَالتَّوْكِيلُ:. إثْبَاتُ الْوَكَالَةِ وَالْوَكَالَةُ فِي اللُّغَةِ تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا: الْحِفْظُ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] أَيْ الْحَافِظُ، وَقَالَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} [المزمل: 9] قَالَ الْفَرَّاءُ أَيْ حَفِيظًا، وَتُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا: الِاعْتِمَادُ وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12] ، وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ - خَبَرًا عَنْ سَيِّدِنَا هُودٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 56] أَيْ اعْتَمَدْتُ عَلَى اللَّهِ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إلَيْهِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ يُسْتَعْمَلُ فِي هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ أَيْضًا عَلَى تَقْرِيرِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ، وَالْحِفْظِ إلَى الْوَكِيلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ مَنْ قَالَ لِآخَرَ " وَكَّلْتُكَ فِي كَذَا " أَنَّهُ يَكُونُ وَكِيلًا فِي الْحِفْظِ؛

فصل في بيان ركن التوكيل

لِأَنَّهُ أَدَّى مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ رُكْنِ التَّوْكِيلِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ رُكْنِ التَّوْكِيلِ. فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَالْإِيجَابُ مِنْ الْمُوَكِّلِ أَنْ يَقُولَ: " وَكَّلْتُكَ بِكَذَا " أَوْ " افْعَلْ كَذَا " أَوْ " أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا " وَنَحْوُهُ. وَالْقَبُولُ مِنْ الْوَكِيلِ أَنْ يَقُولَ: " قَبِلْتُ " وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَا يَتِمُّ الْعَقْدُ؛ وَلِهَذَا لَوْ وَكَّلَ إنْسَانًا بِقَبْضِ دَيْنِهِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ الْوَكِيلُ فَقَبَضَهُ لَمْ يَبْرَأْ الْغَرِيمُ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ قَبْلَ وُجُودِ الْآخَرِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ. ثُمَّ رُكْنُ التَّوْكِيلِ قَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا؛ وَقَدْ يَكُونُ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: " إنْ قَدِمَ زَيْدٌ؛ فَأَنْتَ وَكِيلِي فِي بَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ " وَقَدْ يَكُونُ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ بِأَنْ يَقُولَ: " وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ غَدًا "، وَيَصِيرُ وَكِيلًا فِي الْغَدِ فَمَا بَعْدَهُ، وَلَا يَكُونُ وَكِيلًا قَبْلَ الْغَدِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إطْلَاقُ التَّصَرُّفِ، وَالْإِطْلَاقَاتُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ كَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ وَإِذْنِ الْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ، وَالتَّمْلِيكَاتُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدُّيُونِ، وَالتَّقْيِيدَاتُ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ، وَالْحَجْرِ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، وَالرَّجْعَةُ، وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِط الْوَكَالَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ: فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكَّلِ بِهِ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ فِعْلَ مَا وَكَّلَ بِهِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَفْوِيضُ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ إلَى غَيْرِهِ، فَمَا لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ، كَيْفَ يَحْتَمِلُ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِ؟ فَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ مِنْ الْمَجْنُونِ، وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ مِنْ شَرَائِطِ الْأَهْلِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ بِأَنْفُسِهِمَا؟ وَكَذَا مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ، كَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَنَحْوِهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ، وَيَصِحُّ بِالتَّصَرُّفَاتِ النَّافِذَةِ: كَقَبُولِ الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهِ، فَيَمْلِكُ تَفْوِيضَهُ إلَى غَيْرِهِ بِالتَّوْكِيلِ. وَأَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الدَّائِرَةُ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ: كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ؛ فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ يَصِحُّ مِنْهُ التَّوْكِيلُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ، وَعَلَى إذْنِ وَلِيِّهِ بِالتِّجَارَةِ أَيْضًا، كَمَا إذَا فَعَلَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ فِي انْعِقَادِهِ فَائِدَةً، لِوُجُودِ الْمُجِيزِ لِلْحَالِ، وَهُوَ الْوَلِيُّ. وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ، وَيَصِحُّ مِنْ الْمَأْذُونِ، وَالْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ بِأَنْفُسِهِمَا، فَيَمْلِكَانِ بِالتَّفْوِيضِ إلَى غَيْرِهِمَا بِخِلَافِ الْمَحْجُورِ وَأَمَّا التَّوْكِيلُ مِنْ الْمُرْتَدِّ: فَمَوْقُوفٌ: إنْ أَسْلَمَ يَنْفُذُ، وَإِنْ قُتِلَ، أَوْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، يَبْطُلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ هُوَ نَافِذٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ لِوُقُوفِ أَمْلَاكِهِ، وَعِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ لِثُبُوتِ أَمْلَاكِهِ وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ مِنْ الْمُرْتَدَّةِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِهَا نَافِذَةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، فَلَا تَصِحُّ وَكَالَةُ الْمَجْنُونِ، وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، لِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا الْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، فَلَيْسَا بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ، فَتَصِحُّ وَكَالَةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، وَالْعَبْدِ، مَأْذُونَيْنِ كَانَا أَوْ مَحْجُورَيْنِ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَالَةُ الصَّبِيِّ غَيْرُ صَحِيحَةٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَلَا تَصِحُّ وَكَالَةُ الْمَجْنُونِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا خَطَبَ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: إنَّ أَوْلِيَائِي غُيَّبٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَكْرَهُنِي ثُمَّ قَالَ لِعَمْرِو ابْنِ أُمِّ سَلَمَةَ: قُمْ فَزَوِّجْ أُمَّكَ مِنِّي فَزَوَّجَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ صَبِيًّا» وَالِاعْتِبَارُ بِالْمَجْنُونِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ انْعَدَمَ هُنَاكَ وَوُجِدَ هُنَا؛ فَتَصِحُّ وَكَالَتُهُ كَالْبَالِغِ إلَّا أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ مِنْ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ إذَا كَانَ بَالِغًا، وَإِذَا كَانَ صَبِيًّا تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ، لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَذَا رِدَّةُ الْوَكِيلِ: لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ؛ فَتَجُوزُ وَكَالَةُ الْمُرْتَدِّ، بِأَنْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ مُرْتَدًّا؛ لِأَنَّ وُقُوفَ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ؛ لِوُقُوفِ مِلْكِهِ وَالْوَكِيلُ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ الْمُوَكِّلِ، وَإِنَّهُ نَافِذُ التَّصَرُّفَاتِ. وَكَذَا لَوْ كَانَ مُسْلِمًا وَقْتَ التَّوْكِيلِ، ثُمَّ ارْتَدَّ، فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ لِمَا قُلْنَا إلَّا أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَتَبْطُلُ وَكَالَتُهُ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ. (وَأَمَّا) عِلْمُ الْوَكِيلِ: فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ؟ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّوْكِيلِ فِي الْجُمْلَةِ شَرْطٌ، إمَّا عِلْمُ الْوَكِيلِ، وَإِمَّا عِلْمُ مَنْ يُعَامِلُهُ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ، فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ مِنْ رَجُلٍ قَبْلَ عِلْمِهِ، وَعَلِمَ الرَّجُلُ بِالتَّوْكِيلِ، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ حَتَّى

يُجِيزَهُ الْمُوَكِّلُ، أَوْ الْوَكِيلُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْآمِرِ لَا يَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، أَوْ الْقُدْرَةِ عَلَى اكْتِسَابِ سَبَبِ الْعِلْمِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، كَمَا فِي أَوَامِرِ الشَّرْعِ. (وَأَمَّا) عِلْمُ الْوَكِيلِ عَلَى التَّعْيِينِ بِالتَّوْكِيلِ: فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ؟ ذُكِرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ شَرْطٌ. وَذُكِرَ فِي الْوَكَالَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ الْمُوَكِّلُ لِرَجُلٍ: اذْهَبْ بِعَبْدِي هَذَا إلَى فُلَانٍ، فَيَبِيعُهُ فُلَانٌ مِنْكَ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ بِالْعَبْدِ إلَيْهِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ صَاحِبَ الْعَبْدِ أَمَرَهُ بِبَيْعِهِ مِنْهُ، فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ صَحَّ شِرَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْهُ بِذَلِكَ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، وَجَعَلَ عِلْمَ الْمُشْتَرِي بِالتَّوْكِيلِ كَعِلْمِ الْبَائِعِ الْوَكِيلَ. وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ، وَذَكَرَ فِي الْمَأْذُونِ الْكَبِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ الْمَوْلَى لِقَوْمٍ: بَايِعُوا عَبْدِي؛ فَإِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، فَبَايَعُوهُ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْعَبْدُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لَهُمْ بِالْمُبَايَعَةِ. وَلَيْسَ التَّوْكِيلُ كَالْوِصَايَةِ، فَإِنَّ مَنْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ غَائِبٍ، أَيْ جَعَلَهُ وَصِيًّا بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي، ثُمَّ إنَّ الْوَصِيَّ بَاعَ شَيْئًا مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْوِصَايَةِ وَالْمَوْتِ؛ فَإِنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا، وَيَكُونُ ذَلِكَ قَبُولًا مِنْهُ لِلْوِصَايَةِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ إخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنْهَا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَصِيَّ خَلَفٌ عَنْ الْمُوصِي، قَائِمٌ مَقَامَهُ، كَالْوَارِثِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ. وَلَوْ بَاعَ الْوَارِثُ تَرِكَةَ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَوْتَهُ جَازَ بَيْعُهُ فَكَذَا الْوَصِيُّ، بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ الْمُوَكِّلِ، وَحُكْمُ الْأَمْرِ لَا يَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ، أَوْ سَبَبِهِ عَلَى مَا مَرَّ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّوْكِيلِ شَرْطٌ، فَإِنْ كَانَ التَّوْكِيلُ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ، أَوْ كَتَبَ الْمُوَكِّلُ بِذَلِكَ كِتَابًا إلَيْهِ، فَبَلَغَهُ وَعَلِمَ مَا فِيهِ، أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ، أَوْ أَخْبَرَهُ بِالتَّوْكِيلِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ، صَارَ وَكِيلًا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ، فَإِنْ صَدَّقَهُ صَارَ وَكِيلًا أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْعَدْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَكُونُ وَكِيلًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ يَكُونُ وَكِيلًا كَمَا فِي الْعَزْلِ عَلَى مَا نَذْكُرهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكَّلِ بِهِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى بَيَانِ مَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِ، وَمَا لَا يَجُوزُ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ التَّوْكِيلَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِحُقُوقِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَهِيَ الْحُدُودُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَالتَّوْكِيلُ بِحُقُوقِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا بِالْإِثْبَاتِ، وَالثَّانِي بِالِاسْتِيفَاءِ، أَمَّا التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ فَإِنْ كَانَ حَدًّا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْخُصُومَةِ كَحَدِّ الزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَلَا يَتَقَدَّرُ التَّوْكِيلُ فِيهِ بِالْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ عِنْدَ الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ، أَوْ الْإِقْرَارِ مِنْ غَيْرِ خُصُومَةٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْخُصُومَةِ كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، فَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ، وَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ فِيهِمَا إلَّا مِنْ الْمُوَكِّلِ، وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِإِثْبَاتِ الْقِصَاصِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ بِالِاسْتِيفَاءِ فَكَذَا بِالْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ الْإِثْبَاتَ وَسِيلَةٌ إلَى الِاسْتِيفَاءِ، وَلَهُمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَالِاسْتِيفَاءِ، وَهُوَ أَنَّ امْتِنَاعَ التَّوْكِيلِ فِي الِاسْتِيفَاءِ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ، وَهِيَ مُنْعَدِمَةٌ فِي التَّوْكِيلِ بِالْإِثْبَاتِ. (وَأَمَّا) التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ حَدِّ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ حَاضِرًا وَقْتَ الِاسْتِيفَاءِ جَازَ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ إلَى الْإِمَامِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَتَوَلَّى الِاسْتِيفَاءَ بِنَفْسِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ لِاحْتِمَالِ الْعَفْوِ وَالصُّلْحِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُمَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَالصُّلْحَ فَيَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالتَّصْدِيقَ، وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ حَدِّ الْقَذْفِ كَيْفَمَا كَانَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا حَقُّهُ، فَكَانَ بِسَبِيلٍ مِنْ اسْتِيفَائِهِ بِنَفْسِهِ، وَبِنَائِبِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ. (وَلَنَا) الْفَرْقُ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَصَدَّقَ الرَّامِيَ فِيمَا رَمَاهُ، أَوْ يَتْرُكُ الْخُصُومَةَ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَالشُّبْهَةُ لَا تَمْنَعُ مِنْ اسْتِيفَاءِ سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالتَّعْزِيرِ إثْبَاتًا وَاسْتِيفَاءً بِالِاتِّفَاقِ. وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّلُ غَائِبًا، أَوْ حَاضِرًا؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ، وَلِهَذَا ثَبَتَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْحُقُوقِ بِخِلَافِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ. (وَأَمَّا) التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ وَهُوَ الْمَوْلَى حَاضِرًا جَازَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ، فَيَحْتَاجُ إلَى التَّوْكِيلِ. وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْعَفْوِ قَائِمٌ لِجَوَازِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا

لَعَفَا، فَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مَعَ قِيَامِ الشُّبْهَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْعَدِمٌ حَالَةَ الْحَضْرَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، وَالْكَلَامُ فِي الطَّرَفَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي حَدِّ الْقَذْفِ. (وَأَمَّا) التَّوْكِيلُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: حُقُوقُ الْعِبَادِ عَلَى نَوْعَيْنِ، نَوْعٌ لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ مَعَ الشُّبْهَةِ، كَالْقِصَاصِ، وَقَدْ مَرَّ حُكْمُ التَّوْكِيلِ بِإِثْبَاتِهِ وَاسْتِيفَائِهِ، وَنَوْعٌ يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ وَأَخْذُهُ مَعَ الشُّبْهَةِ، كَالدُّيُونِ وَالْإِعْتَاقِ، وَسَائِرِ الْحُقُوقِ سِوَى الْقِصَاصِ، فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ فِي إثْبَاتِ الدَّيْنِ، وَالْعَيْنِ، وَسَائِرِ الْحُقُوقِ، بِرِضَا الْخَصْمِ، حَتَّى يَلْزَمَ الْخَصْمَ جَوَابُ التَّوْكِيلِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ لَا يَحْضُرُ الْخُصُومَةَ، وَكَانَ يَقُولُ: إنَّ لَهَا لَحْمًا يَحْضُرُهَا الشَّيَاطِينُ، فَجَعَلَ الْخُصُومَةَ إلَى عَقِيلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمَّا كَبِرَ وَرَقَّ حَوَّلَهَا إلَيَّ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ: مَا قُضِيَ لِوَكِيلِي فَلِيَ وَمَا قُضِيَ عَلَى وَكِيلِي فَعَلَيَّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ لَا يَرْضَى أَحَدٌ بِتَوْكِيلِهِ، فَكَانَ تَوْكِيلُهُ بِرِضَا الْخَصْمِ، فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ بِرِضَا الْخَصْمِ، وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِهِ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ عُذْرِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ لَا فَصْلَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ لَكِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا اسْتَحْسَنُوا فِي الْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ مُخَدَّرَةً غَيْرَ بَرِيزَةٍ، فَجَوَّزُوا تَوْكِيلَهَا، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ فِي مَوْضِعِهِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَجُوزُ إلَّا تَوْكِيلُ الْبِكْرِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا يُذْكَرُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمْ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ صَادَفَ حَقَّ الْمُوَكِّلِ، فَلَا يَقِفُ عَلَى رِضَا الْخَصْمِ، كَالتَّوْكِيلِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّعْوَى حَقُّ الْمُدَّعِي، وَالْإِنْكَارُ حَقُّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَقَدْ صَادَفَ التَّوْكِيلُ مِنْ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقَّ نَفْسِهِ، فَلَا يَقِفُ عَلَى رِضَا خَصْمِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ خَاصَمَهُ بِنَفْسِهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الدَّعْوَى الصَّادِقَةُ، وَالْإِنْكَارُ الصَّادِقُ، وَدَعْوَى الْمُدَّعِي خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ، وَالْكَذِبَ، وَالسَّهْوَ وَالْغَلَطَ، وَكَذَا إنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَا يَزْدَادُ الِاحْتِمَالُ فِي خَبَرِهِ بِمُعَارَضَةِ خَبَرِ الْمُدَّعِي، فَلَمْ يَكُنْ كُلُّ ذَلِكَ حَقًّا، فَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يَلْزَمَ بِهِ جَوَابٌ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَ الْجَوَابَ لِضَرُورَةِ فَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَقَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى الْفَسَادِ، وَإِحْيَاءِ الْحُقُوقِ الْمَيِّتَةِ، وَحَقُّ الضَّرُورَةِ يَصِيرُ مَقْضِيًّا بِجَوَابِ الْمُوَكِّلِ، فَلَا تَلْزَمُ الْخُصُومَةُ عَنْ جَوَابِ الْوَكِيلِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، مَعَ مَا أَنَّ النَّاسَ فِي الْخُصُومَاتِ عَلَى التَّفَاوُتِ بَعْضُهُمْ أَشَدُّ خُصُومَةً مِنْ الْآخَرِ، فَرُبَّمَا يَكُونُ الْوَكِيلُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ، فَيَعْجِزُ مَنْ يُخَاصِمُهُ عَنْ إحْيَاءِ حَقِّهِ، فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، فَيُشْرَطُ رِضَا الْخَصْمِ، لِيَكُونَ لُزُومُ الضَّرَرِ مُضَافًا إلَى الْتِزَامِهِ وَإِذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا، أَوْ مُسَافِرًا، فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الدَّعْوَى، وَعَنْ الْجَوَابِ بِنَفْسِهِ، فَلَوْ لَمْ يَمْلِكْ النَّقْلَ إلَى غَيْرِهِ بِالتَّوْكِيلِ لَضَاعَتْ الْحُقُوقُ، وَهَلَكَتْ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُخَدَّرَةً مَسْتُورَةً؛ لِأَنَّهَا تَسْتَحْيِي عَنْ الْحُضُورِ لِمَحَافِلِ الرِّجَالِ، وَعَنْ الْجَوَابِ بَعْدَ الْخُصُومَةِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا؛ فَيَضِيعُ حَقُّهَا. (وَأَمَّا) فِي مَسْأَلَتِنَا فَلَا ضَرُورَةَ، وَلَوْ وَكَّلَ بِالْخُصُومَةِ، وَاسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ وَتَزْكِيَةَ الشُّهُودِ فِي عَقْدِ التَّوْكِيلِ بِكَلَامٍ مُنْفَصِلٍ جَازَ، وَيَصِيرُ وَكِيلًا بِالْإِنْكَارِ، سَوَاءٌ كَانَ التَّوْكِيلُ مِنْ الطَّالِبِ أَوْ مِنْ الْمَطْلُوبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا وَكَّلَ الطَّالِبُ، وَاسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ، يَجُوزُ، وَإِنْ وَكَّلَ الْمَطْلُوبُ لَا يَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ؛ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْإِقْرَارِ فِي عَقْدِ التَّوْكِيلِ إنَّمَا جَازَ لِحَاجَةِ الْمُوَكِّلِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَى مُوَكِّلِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَلَوْ أَطْلَقَ التَّوْكِيلَ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْمُوَكِّلُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ التَّوْكِيلِ مِنْ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ، هَذَا إذَا وَكَّلَ بِالْخُصُومَةِ، وَاسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ فِي الْعَقْدِ فَأَمَّا إذَا وَكَّلَ مُطْلَقًا، ثُمَّ اسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ فِي كَلَامٍ مُنْفَصِلٍ، يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ. (وَأَمَّا) التَّوْكِيلُ بِالْإِقْرَارِ: فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، أَنَّهُ يَجُوزُ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ مِنْ الْمُضَارِبِ، وَالشَّرِيكِ شَرِكَةَ الْعِنَانِ، وَالْمُفَاوَضَةِ، وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، وَالْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ الْخُصُومَةَ بِأَنْفُسِهِمْ، فَيَمْلِكُونَ تَفْوِيضَهَا إلَى غَيْرِهِمْ بِالتَّوْكِيلِ. وَيَجُوزُ مِنْ الذِّمِّيِّ كَمَا يَجُوزُ مِنْ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ مَصُونَةٌ مَرْعِيَّةٌ عَنْ الضَّيَاعِ كَحُقُوقِنَا وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ

إلَى التَّفْوِيضِ إلَى غَيْرِهِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، إلَّا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَبَدَلِ الصَّرْفِ، إنَّمَا يَجُوزُ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّمَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ، وَإِذَا قَبَضَ الدَّيْنَ مِنْ الْغَرِيمِ بَرِئَ الْغَرِيمُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ الصَّحِيحَ يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ، وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْقَضَاءَ بِنَفْسِهِ وَقَدْ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ الْقَضَاءُ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّفْوِيضِ إلَى غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّلُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا مَأْذُونًا أَوْ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الْقَضَاءَ بِأَنْفُسِهِمَا فَيَمْلِكَانِ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِمَا أَيْضًا، وَيَجُوزُ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ وَبِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَبِالْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حُقُوقٌ يَتَوَلَّاهَا الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ، فَيَمْلِكُ تَوْلِيَتَهَا غَيْرَهُ. وَيَجُوزُ بِالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْكِتَابَةِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحِ عَلَى إنْكَارٍ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ تَفْوِيضَهَا إلَى غَيْرِهِ: وَتَجُوزُ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْإِعَارَةُ وَالْإِيدَاعُ وَالرَّهْنُ وَالِاسْتِعَارَةُ وَالِاسْتِيهَابُ وَالِارْتِهَانُ، لِمَا قُلْنَا وَيَجُوزُ بِالشَّرِكَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ لِمَا قُلْنَا. وَيَجُوزُ بِالْإِقْرَاضِ وَالِاسْتِقْرَاضِ، إلَّا أَنَّ فِي التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِقْرَاضِ لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ مَا اسْتَقْرَضَهُ الْوَكِيلُ، إلَّا إذَا بَلَغَ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ بِأَنْ يَقُولَ: أَرْسَلَنِي فُلَانٌ إلَيْكَ لِيَسْتَقْرِضَ كَذَا وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالصُّلْحِ وَبِالْإِبْرَاءِ وَيَجُوزُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ لِمَا قُلْنَا وَيَجُوزُ بِالسَّلَمِ وَالصَّرْفِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُمَا بِنَفْسِهِ، فَيَمْلِكُ تَفْوِيضَهُمَا إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ قَبْضَ الْبَدَلِ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَالْعِبْرَةُ لِبَقَاءِ الْعَاقِدَيْنِ وَافْتِرَاقِهِمَا؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ رَاجِعَةٌ إلَيْهِمَا لِمَا نَذْكُرُ فَإِذَا تَقَابَضَ الْوَكِيلَانِ فِي الْمَجْلِسِ فَقَدْ وُجِدَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ عَلَى الصِّحَّةِ بِخِلَافِ الرَّسُولَيْنِ إذَا تَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ افْتَرَقَا أَنَّهُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَا تَرْجِعُ إلَى الرَّسُولِ، فَلَا يَقَعُ قَبْضُهُمَا عَنْ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، فَإِذَا افْتَرَقَا، فَقَدْ حَصَلَ الِافْتِرَاقُ لَا عَنْ قَبْضٍ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِخِلَافِ الْوَكِيلَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ وَلَا تُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ، بَلْ هُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا، فَبَقَاؤُهُ وَافْتِرَاقُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُمَا مِمَّا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ مُبَاشَرَتَهُمَا بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ لِجَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ شَرْطًا، وَهُوَ الْخُلُوُّ عَنْ الْجَهَالَةِ الْكَثِيرَةِ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْوَكَالَةِ دُونَ النَّوْعِ الْآخَرِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالشِّرَاءِ نَوْعَانِ: عَامٌّ وَخَاصٌّ فَالْعَامُّ: أَنْ يَقُولَ لَهُ: اشْتَرِ لِي مَا شِئْتَ، أَوْ مَا رَأَيْتَ، أَوْ أَيَّ ثَوْبٍ شِئْتَ، أَوْ أَيَّ دَارٍ شِئْتَ، أَوْ مَا تَيَسَّرَ لَكَ مِنْ الثِّيَابِ، وَمِنْ الدَّوَابِّ، وَيَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالثَّمَنِ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الرَّأْيَ إلَيْهِ فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ كَالْبِضَاعَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ. وَالْخَاصُّ: أَنْ يَقُولَ: اشْتَرِ لِي ثَوْبًا أَوْ حَيَوَانًا أَوْ دَابَّةً أَوْ جَوْهَرًا أَوْ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً أَوْ فَرَسًا أَوْ بَغْلًا، أَوْ حِمَارًا أَوْ شَاةً وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْجَهَالَةَ إنْ كَانَتْ كَثِيرَةً تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ، وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً لَا تَمْنَعُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ يُمْنَعَ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَمِقْدَارِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لَا يَصِحَّانِ مَعَ الْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ، فَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِهِمَا أَيْضًا. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَفَعَ دِينَارًا إلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ أُضْحِيَّةً» وَلَوْ كَانَتْ الْجَهَالَةُ الْقَلِيلَةُ مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ لَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الصِّفَةِ لَا تَرْتَفِعُ بِذِكْرِ الْأُضْحِيَّةَ، وَبِقَدْرِ الثَّمَنِ؛ وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْقَلِيلَةَ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى التَّوْكِيلِ عَلَى الْفُسْحَةِ وَالْمُسَامَحَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ عِنْدَ قِلَّةِ الْجَهَالَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُضَايَقَةِ، وَالْمُمَاكَسَةِ لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةَ الْمَالِ بِالْمَالِ فَالْجَهَالَةُ فِيهِ وَإِنْ قَلَّتْ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَتُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ فَهُوَ الْفَرْقُ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجَهَالَةَ الْقَلِيلَةَ غَيْرُ مَانِعَةٍ فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ قَلَّتْ الْجَهَالَةُ، صَحَّ التَّوْكِيلُ بِالشِّرَاءِ وَإِلَّا فَلَا، فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ اسْمُ مَا وَقَعَ التَّوْكِيلُ بِشِرَائِهِ مِمَّا يَقَعُ عَلَى أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِ، إلَّا بَعْدَ بَيَانِ النَّوْعِ وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: اشْتَرِ لِي ثَوْبًا لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ يَقَعُ عَلَى أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ ثَوْبِ الْإِبْرَيْسَمِ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَغَيْرِهِمْ، فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ كَثِيرَةً، فَمَنَعَتْ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ، فَلَا يَصِحُّ. وَإِنْ سَمَّى الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ بَعْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ مُتَفَاحِشَةٌ فَلَا تَقِلُّ، إلَّا بِذِكْرِ النَّوْعِ: بِأَنْ يَقُولَ: اشْتَرِ لِي ثَوْبًا هَرَوِيًّا فَإِنْ سَكَتَ عَنْهُ كَثُرَتْ الْجَهَالَةُ، فَلَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ، وَكَذَا إذَا قَالَ: اشْتَرِ لِي حَيَوَانًا، أَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي دَابَّةً، أَوْ أَرْضًا أَوْ مَمْلُوكًا أَوْ جَوْهَرًا أَوْ حُبُوبًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا اسْمُ جِنْسٍ، يَدْخُلُ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ النَّوْعِ بِأَنْ يَقُولَ: ثَوْبًا هَرَوِيًّا فَإِذَا سَكَتَ عَنْهُ كَثُرَتْ الْجَهَالَةُ فَلَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ، وَكَذَا إذَا قَالَ:

فصل في بيان حكم التوكيل

اشْتَرِ لِي دَارًا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الدَّارِ وَالدَّارِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَإِنْ عَيَّنَ الدَّارَ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ الثَّمَنَ جَازَ أَيْضًا وَيَقَعُ عَلَى دُورِ الْمِصْرِ الَّذِي وَقَّعَ فِيهِ الْوَكِيلُ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَقِلُّ بَعْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بَعْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ حَتَّى يُعَيِّنَ مِصْرًا مِنْ الْأَمْصَارِ وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي دَارًا فِي مَوْضِعِ كَذَا، أَوْ حَبَّةَ لُؤْلُؤٍ أَوْ فَصَّ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ وَلَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ مُتَفَاحِشٌ وَالصِّفَةَ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِحَالِ الْمُوَكِّلِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ اسْمُ مَا وَقَعَ التَّوْكِيلُ بِشِرَائِهِ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ يُكْتَفَى فِيهِ بِذِكْرِ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا الصِّفَةُ بِأَنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي عَبْدًا تُرْكِيًّا، أَوْ مِقْدَارُ الثَّمَنِ بِأَنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَقِلُّ بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا، وَبِحَالِ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِذِكْرِ الثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا وَإِذَا ذَكَرَ الصِّفَةَ يَصِيرُ الثَّمَنُ مَعْلُومًا بِحَالِ الْآمِرِ، فِيمَا يَشْتَرِيهِ أَمْثَالُهُ عَادَةً حَتَّى إنَّهُ لَوْ خَرَجَ الْمُشْتَرِي عَنْ عَادَةِ أَمْثَالِهِ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ. كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي خَادِمًا مِنْ جِنْسِ كَذَا أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى مَا يَتَعَامَلُهُ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ كَثِيرًا، لَا يَتَعَامَلُ النَّاسُ بِهِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ، وَكَذَا الْبَدَوِيُّ إذَا قَالَ: اشْتَرِ لِي خَادِمًا حَبَشِيًّا فَهُوَ عَلَى مَا يَعْتَادُهُ أَهْلُ الْبَادِيَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ اعْتِبَارُ حَالِ الْمُوَكِّلِ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَحَدَهُمَا أَصْلًا فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فَحُشَتْ بِتَرْكِ ذَكَرِهِمَا جَمِيعًا، فَمَنَعَتْ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي حِمَارًا أَوْ بَغْلًا أَوْ فَرَسًا أَوْ بَعِيرًا وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ صِفَةً وَلَا ثَمَنًا قَالُوا إنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ النَّوْعَ صَارَ مَعْلُومًا بِذِكْرِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ وَالْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ، وَالصِّفَةُ تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِحَالِ الْمُوَكِّلِ وَكَذَا الثَّمَنُ فَيُنْظَرُ إنْ اشْتَرَى حِمَارًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ بِأَقَلَّ، أَوْ بِأَكْثَرَ، قَدْرَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ، إذَا كَانَ الْحِمَارُ مِمَّا يَشْتَرِي مِثْلَهُ الْمُوَكِّلُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَشْتَرِي مِثْلَهُ الْمُوَكِّلُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَيَلْزَمُ الْوَكِيلَ وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ نَحْوُ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مُكَارِيًا فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ حِمَارًا مِصْرِيًّا يَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ يَشْتَرِي الْحِمَارَ لِلْعَمَلِ وَالْحَمْلِ لَا لِلرُّكُوبِ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي شَاةٌ، أَوْ بَقَرَةٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ صِفَةً وَلَا ثَمَنًا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ وَالْبَقَرَةَ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةَ الصِّفَةِ بِحَالِ الْمُوَكِّلِ وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي حِنْطَةً لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ مَا لَمْ يَذْكُرْ أَحَدَ شَيْئَيْنِ: إمَّا: قَدْرُ الثَّمَنِ، وَإِمَّا قَدْرُ الْمُثَمَّنِ وَهُوَ الْمَكِيلُ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَقِلُّ إلَّا بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ الْمُقَدَّرَاتِ مِنْ الْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ لِيَشْتَرِيَ لَهُ طَيْلَسَانًا لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ وَالنَّوْعِ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَقِلُّ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ أَحَدِهِمَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ التَّوْكِيلِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ التَّوْكِيلِ. فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - حُكْمُ التَّوْكِيلِ صَيْرُورَةُ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَكِيلًا؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إثْبَاتُ الْوَكَالَةِ وَلِلْوَكَالَةِ أَحْكَامٌ (مِنْهَا) : ثُبُوتُ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ التَّوْكِيلُ فَيُحْتَاجُ إلَى بَيَانِ مَا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِمُوجَبِ التَّوْكِيلِ بَعْدَ صِحَّتِهِ، وَمَا لَا يَمْلِكُهُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَى مُوَكِّلِهِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ، وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: لَا يَمْلِكُ، وَالْأَبُ وَالْوَصِيُّ وَأَمِينُ الْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَى الصَّغِيرِ بِالْإِجْمَاعِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ وَكِيلٌ بِالْمُنَازَعَةِ، وَالْإِقْرَارُ مُسَالَمَةٌ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ. (وَلَنَا) : أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ وَكِيلٌ بِالْجَوَابِ الَّذِي هُوَ حَقٌّ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ إنْكَارًا، وَقَدْ يَكُونُ إقْرَارًا، فَإِذَا أَقَرَّ عَلَى مُوَكِّلِهِ دَلَّ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْإِقْرَارُ فَيَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ كَمَا إذَا أَقَرَّ عَلَى مُوَكِّلِهِ وَصَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ، يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي لَا فِي غَيْرِهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَصِحُّ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ التَّوْكِيلَ تَفْوِيضُ مَا يَمْلِكُهُ الْمُوَكِّلُ إلَى غَيْرِهِ، وَإِقْرَارُ الْمُوَكِّلِ لَا تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَكَذَا إقْرَارُ الْوَكِيلِ وَلَهُمَا أَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَيْهِ لَكِنْ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ أَوْ بِجَوَابِ الْخُصُومَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَوَابَ لَا يَلْزَمُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي؟ وَكَذَا الْخُصُومَةُ لَا تَنْدَفِعُ بِالْيَمِينِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي؛ فَتَتَقَيَّدُ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي يَخْرُجُ عَنْ الْوَكَالَةِ وَيَنْعَزِلُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ وَكِيلًا لَبَقِيَ وَكِيلًا بِالْإِقْرَارِ عَيْنًا؛ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ لِلتَّنَاقُضِ، وَالْإِقْرَارُ عَيْنًا غَيْرُ مُوَكَّلٍ بِهِ، وَالْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ فِي مَالٍ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ يَمْلِكُ قَبْضَهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَمْلِكُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ

الْمَطْلُوبَ مِنْ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ الِاهْتِدَاءُ وَمِنْ الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ الْأَمَانَةُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يَهْتَدِي إلَى شَيْءٍ يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ تَوْكِيلًا بِالْقَبْضِ. (وَلَنَا) : أَنَّهُ لَمَّا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِي مَالٍ فَقَدْ ائْتَمَنَهُ عَلَى قَبْضِهِ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ فِيهِ لَا تَنْتَهِي إلَّا بِالْقَبْضِ، فَكَانَ التَّوْكِيلُ بِهَا تَوْكِيلًا بِالْقَبْضِ، وَالْوَكِيلُ بِتَقَاضِي الدَّيْنِ يَمْلِكُ الْقَبْضَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّقَاضِي لَا يَنْقَطِعُ إلَّا بِالْقَبْضِ، فَكَانَ التَّوْكِيلُ بِهِ تَوْكِيلًا بِالْقَبْضِ؛ وَلِأَنَّ التَّقَاضِيَ وَالِاقْتِضَاءَ وَالِاسْتِيفَاءَ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالُوا إنَّهُ لَا يَمْلِكُ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي زَمَانِنَا لَا يَرْضَوْنَ بِقَبْضِ الْمُتَقَاضِي كَالْوُكَلَاءِ عَلَى أَبْوَابِ الْقُضَاةِ لِتُهْمَةِ الْخِيَانَةِ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ، وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ فِي إثْبَاتِ الدَّيْنِ إذَا أَنْكَرَ الْغَرِيمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا فَيَمْلِكُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ وَكَذَا لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ اسْتَوْفَى مِنْهُ، أَوْ أَبْرَأَهُ عَنْهُ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا تُقْبَلُ وَلَا يَمْلِكُ وَأَجْمَعُوا فِي الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ إذَا أَنْكَرَ مَنْ فِي يَدِهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ حَتَّى لَا يَمْلِكَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الَّذِي وَكَّلَهُ بِالْقَبْضِ لَا تُسْمَعُ مِنْهُ بَيِّنَتُهُ فِي إثْبَاتِ الشِّرَاءِ، وَلَكِنَّهَا تُسْمَعُ لِدَفْعِ خُصُومَةِ الْوَكِيلِ فِي الْحَالِ إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ، وَقَالُوا فِي الْوَكِيلِ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ وَبِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَبِالْقِسْمَةِ إنَّهُ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ تَوْكِيلٌ بِاسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ، فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْخُصُومَةِ كَالتَّوْكِيلِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ تَوْكِيلٌ بِالْمُبَادَلَةِ، وَالْحُقُوقُ فِي مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّ اسْتِيفَاءَ عَيْنِ الدَّيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ إمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ الْفِعْلِ وَهُوَ فِعْلُ تَسْلِيمِ الْمَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ مَالٍ حُكْمِيٍّ فِي الذِّمَّةِ. وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاؤُهُ، وَلَكِنَّ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ عِبَارَةٌ عَنْ نَوْعِ مُبَادَلَةٍ، وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَأْخُوذِ الْعَيْنِ بِمَا فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ وَتَمْلِيكُهُ بِهَذَا الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ الْمَالِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَالْخُصُومَةَ فِي حُقُوقِ مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ فَيَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَوْكِيلٌ بِاسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ لَا بِالْمُبَادَلَةِ؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ فِيهَا إلَّا بِأَمْرٍ جَدِيدٍ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ الْخُصُومَةَ لَا تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ الْمُوَكَّلِ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ قَامَتْ لَا عَلَى خَصْمٍ، وَلَكِنَّهَا تُسْمَعُ فِي دَفْعِ قَبْضِ الْوَكِيلِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ مَسْمُوعَةً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ كَمَنْ وَكَّلَ إنْسَانًا بِنَقْلِ زَوْجَتِهِ إلَى حَيْثُ هُوَ فَطَالَبَهَا الْوَكِيلُ بِالِانْتِقَالِ، فَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، تُسْمَعُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ فِي انْدِفَاعِ حَقِّ الْوَكِيلِ فِي النَّقْلِ وَلَا تُسْمَعُ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ. كَذَا هَذَا وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِأَخْذِ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ وَكِيلٌ بِالْمُبَادَلَةِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ وَكَذَا الرَّدُّ بِالْعَيْبِ، وَالْقِسْمَةُ فِيهَا مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، فَكَانَتْ الْخُصُومَةُ فِيهَا مِنْ حُقُوقِهَا فَيَمْلِكُهَا الْوَكِيلُ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، وَالْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ إذَا أَرَادَ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: (إمَّا) أَنْ كَانَتْ الْوَكَالَةُ عَامَّةً بِأَنْ قَالَ لَهُ وَقْتَ التَّوْكِيلِ بِالْقَبْضِ: اصْنَعْ مَا شِئْتَ أَوْ مَا صَنَعْتَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيَّ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ: (وَإِمَّا) أَنْ كَانَتْ خَاصَّةً بِأَنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ عِنْدَ التَّوْكِيلِ بِالْقَبْضِ؛ فَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِالْقَبْضِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَخْرُجُ مَخْرَجَ الْعُمُومِ، إجْرَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ، وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ بِتَفْوِيضِ الْمُوَكِّلِ فَيَمْلِكُ قَدْرَ مَا فَوَّضَ إلَيْهِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَبَضَ الْوَكِيلُ الثَّانِي لَمْ يَبْرَأْ الْغَرِيمُ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ تَوْكِيلَهُ بِالْقَبْضِ إذَا لَمْ يَصِحَّ فَقَبْضُهُ وَقَبْضُ الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ فَإِنْ وَصَلَ إلَى يَدِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ بَرِئَ الْغَرِيمُ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى يَدِ مَنْ هُوَ نَائِبُ الْمُوَكِّلِ فِي الْقَبْضِ. وَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ ضَمِنَ الْقَابِضُ لِلْغَرِيمِ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ بِجِهَةِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، وَالْقَبْضُ بِجِهَةِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ قَبْضٌ بِجِهَةِ الْمُبَادَلَةِ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْمَقْبُوضُ بِجِهَةِ الْمُبَادَلَةِ مَضْمُونٌ عَلَى الْقَابِضِ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ بِتَوْكِيلِهِ بِالْقَبْضِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ إذْ كُلُّ غَارٍّ ضَامِنٌ لِلْمَغْرُورِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ. وَلَا يَبْرَأُ الْغَرِيمُ مِنْ الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا إنَّ تَوْكِيلَهُ بِالْقَبْضِ لَمْ يَصِحَّ فَكَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ الْغَرِيمَ بِدَيْنِهِ وَإِذَا أَخَذَ مِنْهُ رَجَعَ الْغَرِيمُ عَلَى الْوَكِيلِ الثَّانِي لِمَا قُلْنَا، وَيَرْجِعُ الْوَكِيلُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِحُكْمِ الْغُرُورِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لِلْمُوَكِّلِ عَلَى إنْسَانٍ مُعَيَّنٍ أَوْ فِي بَلَدٍ

مُعَيَّنٍ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ بِحُكْمِ الْآمِرِ لَا يَمْلِكُ التَّعَدِّيَ عَنْ مَوْضِعِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ عِوَضًا عَنْ الدَّيْنِ؛ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ عَيْنًا مَكَانَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُعَاوَضَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ تَحْتَ التَّوْكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَبْضَ الدَّيْنِ حَقِيقَةً لَا يُتَصَوَّرُ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّوْكِيلُ بِقَبْضِهِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ جُعِلَ تَوْكِيلًا بِالْمُعَاوَضَةِ ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ التَّصَرُّفِ وَدَفْعِ الْحَاجَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِالتَّوْكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ. وَحَقُّ الضَّرُورَةِ يَصِيرُ مَقْضِيًّا بِثُبُوتِهَا ضِمْنًا لِلْعَقْدِ فَبَقِيَتْ الْمُعَاوَضَةُ الْمَقْصُودَةُ خَارِجَةً عَنْ الْعَقْدِ أَصْلًا فَلَا يَمْلِكُهَا الْوَكِيلُ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَجَاءَ إنْسَانٌ إلَى الْغَرِيمِ وَقَالَ: إنَّ الطَّالِبَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْبِضَهُ مِنْكَ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْغَرِيمُ وَأَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ فِي الدَّيْنِ وَفِي الْعَيْنِ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَالْفَرْقُ: أَنَّ التَّصْدِيقَ فِي الدَّيْنِ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَانَ مَجْبُورًا عَلَى التَّسْلِيمِ، وَفِي الْعَيْنِ إقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِتَصْدِيقِ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الدَّفْعِ فَإِنْ دَفَعَهُ إلَيْهِ ثُمَّ جَاءَ الطَّالِبُ فَإِنْ صَدَّقَهُ مَضَى الْأَمْرُ، وَإِنْ كَذَّبَهُ وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ وَكَّلَهُ بِذَلِكَ فَهَذَا عَلَى وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: إمَّا أَنْ صَدَّقَهُ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ كَذَّبَهُ وَمَعَ ذَلِكَ دَفَعَ إلَيْهِ. وَأَمَّا إنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ وَدَفَعَ إلَيْهِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ فِي الْوَكَالَةِ وَلَمْ يُضَمِّنْهُ فَجَاءَ الطَّالِبُ، يُقَالُ لَهُ: ادْفَعْ الدَّيْنَ إلَى الطَّالِبِ، وَلَا حَقَّ لَكَ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُ فِي الْوَكَالَةِ فَقَدْ أَقَرَّ بِوَكَالَتِهِ، وَإِقْرَارُهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إنَّ الْوَكِيلَ كَانَ مُحِقًّا فِي الْقَبْضِ، وَإِنَّ الطَّالِبَ ظَالِمٌ فِيمَا يَقْبِضُ مِنِّي، وَإِنْ ظَلَمَ عَلَى مُبْطِلٍ فَلَا أَظْلِمُ عَلَى مُحِقٍّ، وَإِنْ صَدَّقَهُ وَضَمَّنَهُ مَا دَفَعَ إلَيْهِ ثُمَّ حَضَرَ الطَّالِبُ فَأَخَذَ مِنْهُ يَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْقَابِضِ؛ لِأَنَّ الْغَرِيمَ وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّ الْقَابِضَ مُحِقٌّ فِي الْقَبْضِ بِتَصْدِيقِهِ إيَّاهُ فِي الْوَكَالَةِ فَعِنْدَهُ أَنَّ الطَّالِبَ مُبْطِلٌ فِيهِ ظَالِمٌ فِيمَا يَقْبِضُ مِنْهُ؛ فَإِذَا ضَمِنَهُ فَقَدْ أَضَافَ الضَّمَانَ إلَى مَا يَقْبِضُهُ الطَّالِبُ عَنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِضَافَةُ الضَّمَانِ إلَى الْمَقْبُوضِ الْمَضْمُونِ صَحِيحٌ كَمَا إذَا قَالَ مَا غَصَبَكَ فُلَانٌ فَعَلَيَّ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي الْوَكَالَةِ وَمَعَ ذَلِكَ دَفَعَ إلَيْهِ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْوَكِيلَ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي الْقَبْضِ وَإِنَّمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ عَلَى رَجَاءِ أَنْ يُجَوِّزَهُ الطَّالِبُ وَكَذَا إذَا لَمْ يُصَدِّقْ وَلَمْ يُكَذِّبْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِكَوْنِهِ مُحِقًّا فِي الْقَبْضِ فَيَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ، الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ إذَا قَبَضَهُ فَوَجَدَهُ مَعِيبًا فَمَا كَانَ لِلْمُوَكِّلِ رَدُّهُ فَلَهُ رَدُّهُ وَأَخْذُ بَدَلِهِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فَهُوَ يَمْلِكُ قَبْضَ حَقِّهِ أَصْلًا وَوَصْفًا فَكَذَا الْوَكِيلُ وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلًا بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ وَغَابَ الطَّالِبُ فَادَّعَى الْغَرِيمُ أَنَّهُ قَدْ أَوْفَاهُ الطَّالِبَ لَا يَحْتَاجُ الْوَكِيلُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَلَا إلَى إحْضَارِ الطَّالِبِ لِيُحَلِّفَهُ، لَكِنْ يُقَالُ لِلْغَرِيمِ: ادْفَعْ الدَّيْنَ إلَى الْوَكِيلِ، ثُمَّ اتْبَعْ الطَّالِبَ وَحَلِّفْهُ إنْ أَرَدْتَ يَمِينَهُ فَإِنْ حَلَفَ وَإِلَّا رَجَعْتَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِالدَّيْنِ، وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُحْكَمُ بِسُقُوطِهِ بِدَعْوَى الْإِيفَاءِ مَعَ الِاحْتِمَالِ، بَلْ يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إلَى الْوَكِيلِ، وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ إذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّ الشَّفِيعَ قَدْ سَلَّمَ لِلشُّفْعَةِ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ الدَّارِ إلَى الْوَكِيلِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اتْبَعْ الشَّفِيعَ وَحَلِّفْهُ إنْ أَرَدْتَ يَمِينَهُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُقِرٌّ بِثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا يَكُونُ فَلَا يُبْطَلُ الْحَقَّ الثَّابِتَ بِدَعْوَى التَّسْلِيمِ مَعَ الِاحْتِمَالِ فَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ الْمُشْتَرَى إلَى الْوَكِيلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ إذَا ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لِلْوَكِيلِ حَقُّ الرَّدِّ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ فَيَحْلِفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا رَضِيَ بِهَذَا الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ بِقَوْلِهِ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ، لَمْ يُقِرَّ بِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، إذْ لَيْسَ كُلُّ عَيْبٍ مُوجِبًا لِلرَّدِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِعَيْبِهِ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ مَعَ وُجُودِ الْعَيْبِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى حُضُورِ الْمُوَكِّلِ وَيَمِينِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْغَرِيمُ أَنْ يُحَلِّفَ الْوَكِيلَ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مَا يَعْلَمُ أَنَّ الطَّالِبَ قَدْ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ زُفَرُ: يُحَلِّفُهُ عَلَى عِلْمِهِ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ خَرَجَ عَنْ الْوَكَالَةِ وَلَمْ يَبْرَأْ الْغَرِيمُ وَكَانَ الطَّالِبُ عَلَى حُجَّتِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَوْ أَقَرَّ بِهِ الْوَكِيلُ لَلَزِمَهُ، وَسَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الْقَبْضِ، فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ لِجَوَازِ أَنَّهُ يَنْكُلُ عَنْ الْيَمِينِ، فَيَسْقُطُ حَقُّهُ. (وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَالْغَرِيمُ مَا ادَّعَى عَلَى الْوَكِيلِ شَيْئًا وَإِنَّمَا ادَّعَى عَلَى الْمُوَكِّلِ، فَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، وَالْيَمِينُ مِمَّا لَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ، فَلَا يَثْبُتُ لِلْغَرِيمِ وِلَايَةُ اسْتِحْلَافِ الْوَكِيلِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الطَّالِبُ، فَادَّعَى الْغَرِيمُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ اسْتَوْفَاهُ حَالَ حَيَاتِهِ، وَأَنْكَرَ الْوَارِثُ: أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْوَارِثَ عَلَى عِلْمِهِ

بِاَللَّهِ - تَعَالَى - مَا يَعْلَمُ أَنَّ الطَّالِبَ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْوَارِثَ مُدَّعًى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغَرِيمَ يَدَّعِي عَلَيْهِ بُطْلَانَ حَقِّهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ، فَلَمْ يَكُنِ اسْتِحْلَافُهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْمُوَرِّثِ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ. وَكُلُّ مَنْ يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلٍ بَاشَرَهُ غَيْرُهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْعِلْمِ لَا الْبَتِّ؛ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ. فَإِنْ أَقَامَ الْغَرِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِيفَاءِ سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا لَا تُسْمَعُ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ هَلْ يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ فِيهِ؟ عِنْدَهُ يَكُونُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ لِمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا أَقَامَ الْغَرِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَعْطَى الطَّالِبَ بِالدَّرَاهِمِ الدَّنَانِيرَ أَوْ بَاعَهُ بِهَا عَرَضًا فَبَيِّنَتُهُ مَسْمُوعَةٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ؛ لِأَنَّ إيفَاءَ الدَّيْنِ بِطَرِيقَيْ الْمُبَادَلَةِ وَالْمُقَاصَّةِ، وَيَسْتَوِي فِيهِمَا الْجِنْسُ وَخِلَافُ الْجِنْسِ فَكَانَ الْخِلَافُ فِي الْكُلِّ ثَابِتًا. (وَأَمَّا) : الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ فَالتَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا، فَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا يُرَاعَى فِيهِ الْقَيْدُ بِالْإِجْمَاعِ، حَتَّى إنَّهُ إذَا خَالَفَ قَيْدَهُ لَا يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ خِلَافُهُ إلَى خَيْرٍ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ مُسْتَفَادَةٍ مِنْ قِبَلِ الْمُوَكِّلِ، فَيَلِي مِنْ التَّصَرُّفِ قَدْرَ مَا وَلَّاهُ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ إلَى خَيْرٍ فَإِنَّمَا نَفَذَ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ خِلَافًا صُورَةً فَهُوَ وِفَاقٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ آمِرٌ بِهِ دَلَالَةً فَكَانَ مُتَصَرِّفًا بِتَوْلِيَةِ الْمُوَكِّلِ، فَنَفَذَ بَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا قَالَ: بِعْ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ الْأَلْفِ لَا يَنْفُذُ، وَكَذَا إذَا بَاعَهُ بِغَيْرِ الدَّرَاهِمِ، لَا يَنْفُذُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ إلَى شَرٍّ؛ لِأَنَّ أَغْرَاضَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْخِلَافِ إلَى شَرٍّ وَإِنْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ نَفَذَ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ إلَى خَيْرٍ، فَلَمْ يَكُنْ خِلَافًا أَصْلًا، وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَالَّةً فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ نَسِيئَةً لَمْ يَنْفُذْ بَلْ يَتَوَقَّفُ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَهُ بِأَلْفِ - دِرْهَمٍ نَسِيئَةً، فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ حَالَّةً نَفَذَ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِلْآمِرِ، فَبَاعَهُ وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْخِيَارَ، لَمْ يَجُزْ، بَلْ يَتَوَقَّفُ. وَلَوْ بَاعَ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِلْآمِرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُجِيزَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الْإِجَازَةَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْيِيدِ فَائِدَةٌ، هَذَا إذَا كَانَ التَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ مُقَيَّدًا. فَأَمَّا: إذَا كَانَ مُطْلَقًا فَيُرَاعَى فِيهِ الْإِطْلَاقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَيَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ إلَّا بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ مُطْلَقَ الْبَيْعِ يَنْصَرِفُ إلَى الْبَيْعِ الْمُتَعَارَفِ، وَالْبَيْعُ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ، فَلَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ كَالتَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي اللَّفْظِ الْمُطْلَقَ أَنْ يَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَالْعُرْفُ مُتَعَارِضٌ فَإِنَّ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لِغَرَضِ التَّوَصُّلِ بِثَمَنِهِ إلَى شِرَاءِ مَا هُوَ أَرْبَحُ مِنْهُ مُتَعَارَفٌ أَيْضًا فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ مَعَ التَّعَارُضِ مَعَ مَا أَنَّ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ إنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَارَفًا فِعْلًا فَهُوَ مُتَعَارَفٌ ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَمَّى بَيْعًا أَوْ هُوَ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ لُغَةً وَقَدْ وُجِدَ، وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْفِعْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمَ الْآدَمِيِّ أَوْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَكْلُهُ مُتَعَارَفًا لِكَوْنِهِ مُتَعَارَفًا إطْلَاقًا وَتَسْمِيَةً كَذَا هَذَا. : (وَأَمَّا) التَّوْكِيلُ بِالشِّرَاءِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ " أَحَدُهُمَا " أَنَّ جَوَازَهُ ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، لِكَوْنِهِ أَمْرًا بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِ غَيْرِهِ، وَذِكْرُ الثَّمَنِ فِيهِ تَبَعٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ بِدُونِ ذِكْرِ الثَّمَنِ، إلَّا أَنَّهُ جُوِّزَ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ إذْ كُلُّ أَحَدٍ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجَ إلَى مَنْ يُوَكِّلُ بِهِ غَيْرَهُ، وَالْحَاجَةُ إلَى التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ بِثَمَنٍ جَرَى التَّعَارُفُ بِشِرَاءِ مِثْلِهِ بِمِثْلِهِ فَيَنْصَرِفُ الْأَمْرُ بِمُطْلَقِ الشِّرَاءِ إلَيْهِ أَلْبَتَّةَ. الثَّانِي الْمُشْتَرِي مُتَّهَمٌ بِهَذَا الِاحْتِمَالِ: أَنَّهُ يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ فِيهِ الْغَبْنُ أَظْهَرَ الشِّرَاءَ لِلْمُوَكِّلِ، وَمِثْلُ هَذِهِ التُّهْمَةِ فِي الْبَيْعِ مُنْعَدِمَةٌ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِغَيْرِ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَيَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ إلَّا بِالنَّقْدِ. وَالْحُجَجُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْبَيْعِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ وَلَوْ بَاعَ الْوَكِيلُ بَعْضَ مَا وُكِّلَ بِبَيْعِهِ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ، كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِأَنْ كَانَ وَكِيلًا بِبَيْعِ عَبْدَيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا؛ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِأَنْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدٍ فَبَاعَ نِصْفَهُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَةِ

الْمُوَكِّلِ أَوْ بِبَيْعِ النِّصْفِ الْبَاقِي. وَلَوْ كَانَ وَكِيلًا بِالشِّرَاءِ فَاشْتَرَى نِصْفَهُ لَمْ يَلْزَمْ الْآمِرَ إجْمَاعًا. إلَّا أَنَّهُ يَشْتَرِي الْبَاقِي وَيُجِيزُهُ الْمُوَكِّلُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا الْجَمْعُ بَيْنَ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ بِجَامِعٍ، وَهُوَ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ وَوُجُوبُ دَفْعِ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِالشَّرِكَةِ فِي الْأَعْيَانِ؛ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى مَا مَرَّ. أَلَا يُرَى أَنَّ عِنْدَهُ لَوْ بَاعَ الْكُلَّ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الثَّمَنِ يَجُوزُ فَلَأَنْ يَجُوزَ بَيْعُ الْبَعْضِ بِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ نَفَّعَ مُوَكِّلَهُ حَيْثُ أَمْسَكَ الْبَعْضَ عَلَى مِلْكِهِ وَبِهَذَا فَارَقَ الشِّرَاءَ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ إذَا اشْتَرَى النِّصْفَ بِثَمَنِ الْكُلِّ لَا يَجُوزُ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ يَمْلِكُ إبْرَاءَ الْمُشْتَرِي عَنْ الثَّمَنِ؛ وَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْهُ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ عِوَضًا، وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى شَيْءٍ وَيَحْتَالَ بِهِ عَلَى إنْسَانٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْإِبْرَاءِ، وَأَخَوَاتِهِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْمُوَكِّلِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ فَلَا يَنْفُذُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ فَعَلَهَا أَجْنَبِيٌّ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِالْإِبْرَاءِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ حَقُّهُ، فَكَانَ الْإِبْرَاءُ عَنْ الثَّمَنِ إبْرَاءً عَنْ قَبْضِهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَلَوْ أُسْقِطَ حَقُّ الْقَبْضِ لَسَقَطَ الدَّيْنُ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ لَبَقِيَ دَيْنًا لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ أَصْلًا، وَهَذَا مِمَّا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ؛ وَلِأَنَّ دَيْنًا لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ، وَالِاسْتِيفَاءَ بِوَجْهٍ لَا يُفِيدُ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً وَيَضْمَنُ الثَّمَنَ لِلْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَصَرَّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، لَكِنَّهُ تَعَدَّى إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ بِالْإِتْلَافِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَكَذَا إذَا أَخَذَ بِالثَّمَنِ عِوَضًا عَنْ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ مِنْهُ الْقَبْضَ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ فَيَصِحُّ، وَمَتَى مَلَكَ ذَلِكَ فَيَمْلِكُ رَقَبَةَ الدَّيْنِ ضَرُورَةً بِمَا أَخَذَهُ مِنْ الْعِوَضِ؛ وَيَضْمَنُ لِمَا ذَكَرْنَا؛ وَكَذَا إذَا صَالَحَهُ عَلَى شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ مُبَادَلَةٌ؛ وَكَذَا إذَا أَحَالَهُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى إنْسَانٍ وَقَبِلَ الْوَكِيلُ الْحَوَالَةَ؛ لِأَنَّهُ بِقَبُولِ الْحَوَالَةِ تَصَرَّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِالْإِبْرَاءِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مُبَرِّئَةٌ وَذَلِكَ يُوجِبُ سُقُوطَ الدَّيْنِ عَنْ الْمُحِيلِ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا وَيَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ تَأْخِيرُ الدَّيْنِ مِنْ الْوَكِيلِ، تَأْخِيرُ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ وَالْقَبْضِ وَأَنَّهُ صَادَفَ حَقَّ نَفْسِهِ فَيَصِحُّ لَكِنَّهُ تَعَدَّى إلَى الْمُوَكِّلِ بِثُبُوتِ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِلْكِهِ فَيَضْمَنُ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْوَكَالَةِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ مُسْتَفَادَةٍ مِنْ قِبَلِ الْمُوَكِّلِ فَيَمْلِكُ قَدْرَ مَا أَفَادَهُ، وَلَا يَثْبُتُ الْعُمُومُ إلَّا بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، فَإِنْ وَكَّلَ غَيْرَهُ بِالْبَيْعِ فَبَاعَ الثَّانِي بِحَضْرَةِ الْأَوَّلِ جَازَ، وَإِنْ بَاعَ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْأَوَّلُ أَوْ الْمُوَكِّلُ، وَكَذَا إذَا بَاعَهُ فُضُولِيٌّ فَبَلَغَ الْوَكِيلَ أَوْ الْمُوَكِّلَ، فَأَجَازَ يَجُوزُ هَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَكِيلِ الثَّانِي سَوَاءٌ كَانَ بِحَضْرَةِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ عِبَارَةَ الْوَكِيلِ لَيْسَتْ مَقْصُودَ الْمُوَكِّلِ، بَلْ الْمَقْصُودُ رَأْيُهُ. فَإِذَا بَاعَ الثَّانِي بِحَضْرَتِهِ فَقَدْ حَصَلَ التَّصَرُّفُ بِرَأْيِهِ فَنَفَذَ وَإِذَا بَاعَهُ لَا بِحَضْرَتِهِ أَوْ بَاعَ فُضُولِيٌّ، فَقَدْ خَلَا التَّصَرُّفُ عَنْ رَأْيِهِ فَلَا يَنْفُذُ وَلَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْوَكِيلِ أَوْ الْمُوَكِّلِ لِصُدُورِ التَّصَرُّفِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ أَنْ يَبِيعَ مِنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ مُسَلِّمًا وَمُتَسَلِّمًا، مُطَالِبًا وَمُطَالَبًا وَهَذَا مُحَالٌ، وَكَذَا لَا يَبِيعُ مِنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ أَمَرَهُ الْمُوَكِّلُ بِذَلِكَ لِمَا قُلْنَا؛ وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ الْكِبَارِ وَزَوْجَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ عَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْبَيْعَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ صَاحِبِهِ ثُمَّ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ مِنْ نَفْسِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَيْعَ مِنْ هَؤُلَاءِ بَيْعٌ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِاتِّصَالِ مَنْفَعَةِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ، ثُمَّ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ مِنْ نَفْسِهِ، فَلَا يَمْلِكُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ مِنْ عَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مِنْ عَبْدِهِ بَيْعٌ مِنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. كَذَا هَذَا يُحَقِّقُهُ أَنَّ اتِّصَالَ مَنَافِعِ الْأَمْلَاكِ بَيْنَهُمَا تُورِثُ التُّهْمَةَ، لِهَذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ عَمَّمَ التَّوْكِيلَ فَقَالَ: اصْنَعْ مَا شِئْتَ، أَوْ بِعْ مِنْ هَؤُلَاءِ، أَوْ أَجَازَ مَا صَنَعَهُ الْوَكِيلُ، جَازَ بَيْعُهُ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ مِنْ عَبْدِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحَالُ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا يَمْلِكُ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ، وَالْفَاسِدَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ إذْ هُوَ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ

بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ، وَقَدْ وُجِدَ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ مُطْلَقًا، أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النِّكَاحَ الْحِلُّ، وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْبَيْعِ الْمِلْكُ، وَأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ. وَأَمَّا: الْوَكِيلُ: بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَهَلْ يَمْلِكُ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَمْلِكُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَمْلِكُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ بَيْعٌ لَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ، وَالصَّحِيحُ يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ، فَكَانَا مُخْتَلِفَيْنِ، فَلَا يَكُونُ التَّوْكِيلُ بِأَحَدِهِمَا تَوْكِيلًا بِالْآخَرِ. فَإِذَا بَاعَ بَيْعًا صَحِيحًا صَارَ مُخَالِفًا (وَلَهُمَا) أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِخِلَافٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ خَيْرٌ، وَكُلُّ مُوَكَّلٍ بِشَيْءٍ مُوَكَّلٌ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ دَلَالَةً، وَالثَّابِتُ دَلَالَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا، فَكَانَ آتِيًا بِمَا وُكِّلَ بِهِ فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا. (وَأَمَّا) الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ فَالتَّوْكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مُطْلَقًا أَوْ كَانَ مُقَيَّدًا، فَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا يُرَاعَى فِيهِ الْقَيْدُ إجْمَاعًا لِمَا ذَكَرْنَا، سَوَاءٌ كَانَ الْقَيْدُ رَاجِعًا إلَى الْمُشْتَرَى أَوْ إلَى الثَّمَنِ، حَتَّى إنَّهُ إذَا خَالَفَ يَلْزَمُ الشِّرَاءَ إلَّا إذَا كَانَ خِلَافًا إلَى خَيْرٍ فَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ، مِثَالُ الْأَوَّلِ: إذَا قَالَ: اشْتَرِ لِي جَارِيَةً؛ أَطَؤُهَا، أَوْ أَسْتَخْدِمُهَا أَوْ أَتَّخِذُهَا أُمَّ وَلَدٍ، فَاشْتَرَى جَارِيَةً مَجُوسِيَّةً أَوْ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ مُرْتَدَّةً أَوْ ذَاتَ زَوْجٍ، لَا يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَيَنْفُذُ عَلَى الْوَكِيلِ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: اشْتَرِ لِي جَارِيَةً تَخْدِمُنِي، فَاشْتَرَى جَارِيَةً مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ أَوْ عَمْيَاءَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مُقَيَّدٍ اعْتِبَارُ الْقَيْدِ فِيهِ إلَّا قَيْدًا لَا يُفِيدُ اعْتِبَارُهُ، وَاعْتِبَارُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْقَيْدِ مُفِيدٌ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: اشْتَرِ لِي جَارِيَةً تُرْكِيَّةً، فَاشْتَرَى جَارِيَةً حَبَشِيَّةً، لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ وَيَلْزَمُ الْوَكِيلَ لِمَا ذَكَرْنَا. وَمِثَالُ الثَّانِي إذَا قَالَ: لَهُ اشْتَرِ لِي جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَاشْتَرَى جَارِيَةً بِأَكْثَرَ مِنْ الْأَلْفِ، تَلْزَمُ الْوَكِيلَ دُونَ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ الْمُوَكِّلِ، فَيَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَاشْتَرَى جَارِيَةً بِمَا سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، لَا تَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ، فَيَكُونُ مُخَالِفًا وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَاشْتَرَاهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، قِيمَتُهَا مِائَةُ دِينَارٍ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً، فَكَانَ التَّقْيِيدُ بِأَحَدِهِمَا مُفِيدًا. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ، كَأَنَّهُ اعْتَبَرَهُمَا جِنْسًا وَاحِدًا فِي الْوَكَالَةِ كَمَا اُعْتُبِرَا جِنْسًا وَاحِدًا فِي الشُّفْعَةِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّفِيعَ إذَا أَخْبَرَ أَنَّ الدَّارَ بِيعَتْ بِدَنَانِيرَ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِدَرَاهِمَ وَقِيمَتُهَا مِثْلُ الدَّنَانِيرِ، صَحَّ التَّسْلِيمُ. كَذَا هَهُنَا فَإِنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ كَانَ مِثْلُهَا يُشْتَرَى بِأَلْفٍ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ مِقْدَارَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ. وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ مِقْدَارَ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَزِمَ الْوَكِيلَ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْوَكِيلِ مَعْرُوفٌ. وَإِنْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَمِثْلُهَا يُشْتَرَى بِأَلْفٍ، لَزِمَ الْمُوَكِّلَ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ إلَى خَيْرٍ لَا يَكُونُ خِلَافًا مَعْنًى. وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً بِأَلْفٍ نَسِيئَةً، فَاشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفٍ حَالَّةً، لَزِمَ الْوَكِيلَ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ قَيْدَ الْمُوَكِّلِ. وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِأَلْفٍ حَالَّةً فَاشْتَرَى بِأَلْفٍ نَسِيئَةً، لَزِمَ الْمُوَكِّلَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ خَالَفَ صُورَةً فَقَدْ وَافَقَ مَعْنًى وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعْنَى، لَا لِلصُّورَةِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ وَيَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِلْمُوَكِّلِ فَاشْتَرَى بِغَيْرِ خِيَارٍ، لَزِمَ الْوَكِيلَ. وَالْأَصْلُ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ إذَا خَالَفَ يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَالْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إذَا خَالَفَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ مُتَّهَمٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ فَأَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ عَلَيْهِ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ كَانَ صَبِيًّا مَحْجُورًا أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا لَا يَنْفُذُ عَلَيْهِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ الشِّرَاءَ لِأَنْفُسِهِمَا، فَلَا يُمْكِنُ التَّنْفِيذُ عَلَيْهِمَا فَتَوَقَّفَ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْوَكِيلُ مُرْتَدًّا، أَوْ كَانَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، فَاشْتَرَى نِصْفَهُ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّنْفِيذِ عَلَيْهِ، فَاحْتُمِلَ التَّوَقُّفُ؛ وَمَعْنَى التُّهْمَةِ لَا يَتَعَذَّرُ مِنْ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ فَاحْتُمِلَ التَّوَقُّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ فَاشْتَرَاهُ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِ الْمُوَكِّلِ تُوُقِّفَ عَلَى الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهُ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ، فَقَدْ بَاعَ الْعَيْنَ، وَالْبَيْعُ يَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ هَذَا إذَا كَانَ التَّوْكِيلُ بِالشِّرَاءِ مُقَيَّدًا. فَأَمَّا إذَا كَانَ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ الْإِطْلَاقُ مَا أَمْكَنَ، إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلُ التَّقْيِيدِ مِنْ عُرْفٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَيَتَقَيَّدُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ جَارِيَةٍ وَسَمَّى نَوْعَهَا وَثَمَنَهَا حَتَّى صَحَّتْ الْوَكَالَةُ فَاشْتَرَى جَارِيَةً مَقْطُوعَةَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ، أَوْ عَوْرَاءَ، لَزِمَ الْمُوَكِّلَ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ أَوْ عَمْيَاءَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُ الْوَكِيلَ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجَارِيَةَ تُشْتَرَى لِلِاسْتِخْدَامِ عُرْفًا وَعَادَةً

وَغَرَضُ الِاسْتِخْدَامِ لَا يَحْصُلُ عِنْدَ فَوَاتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ، فَيَتَقَيَّدُ بِالسَّلَامَةِ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: لَا يَجُوزُ تَحْرِيرُهَا عَنْ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ كَانَ نَصُّ التَّحْرِيرِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ السَّلَامَةِ لِثُبُوتِهَا دَلَالَةً كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ بِإِطْلَاقِهَا يَقَعُ عَلَى هَذِهِ الْجَارِيَةِ كَمَا يَقَعُ عَلَى سَلِيمَةِ الْأَطْرَافِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَقَدْ وُجِدَ. (وَأَمَّا) فِي بَابِ الْكَفَّارَةِ فَلِأَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِتَحْرِيرِ رَقَبَةٍ، وَالرَّقَبَةُ اسْمٌ لِذَاتٍ مُرَكَّبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ، فَإِذَا فَاتَ مَا يَقُومُ بِهِ جِنْسٌ مِنْ مَنَافِعِ الذَّاتِ، انْتَقَضَ الذَّاتُ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ اسْمِ الرَّقَبَةِ فَأَمَّا اسْمُ الْجَارِيَةِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الذَّاتِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ، فَلَا يَقْدَحُ نُقْصَانُهَا فِي اسْمِ الْجَارِيَةِ، بِخِلَافِ اسْمِ الرَّقَبَةِ حَتَّى إنَّ التَّوْكِيلَ لَوْ كَانَ بِشِرَاءِ رَقَبَةٍ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْكَفَّارَةِ كَذَا قَالُوا. وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً وَكَالَةً صَحِيحَةً، وَلَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا، فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ جَارِيَةً، إنْ اشْتَرَى بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ أَوْ بِزِيَادَةٍ يُتَغَابَنُ فِي مِثْلِهَا جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ اشْتَرَى بِزِيَادَةٍ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا يَلْزَمُ الْوَكِيلَ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْقَلِيلَةَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا فَلَوْ مَنَعْتَ النَّفَاذَ عَلَى الْمُوَكِّلِ لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى الْوُكَلَاءِ وَلَامْتَنَعُوا عَنْ قَبُولِ الْوَكَالَاتِ وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَيْهَا، فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى تَحَمُّلِهَا وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْكَثِيرِ لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ، وَالْفَاصِلُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ إنْ كَانَتْ زِيَادَةً تَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَهِيَ قَلِيلَةٌ، وَمَا لَا تَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِهِمْ فَهِيَ كَثِيرَةٌ؛ لِأَنَّ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، لَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ زِيَادَةً وَمَا لَا يَدْخُلُ كَانَتْ زِيَادَتُهُ مُتَحَقَّقَةً، وَقَدَّرَ مُحَمَّدٌ الزِّيَادَةَ الْقَلِيلَةَ الَّتِي يُتَغَابَنُ فِي مِثْلِهَا فِي الْجَامِعِ بِنِصْفِ الْعُشْرِ فَقَالَ: إنْ كَانَتْ نِصْفَ الْعُشْرِ أَوْ أَقَلَّ فَهِيَ مِمَّا يُتَغَابَنُ فِي مِثْلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ فَهِيَ مِمَّا لَا يُتَغَابَنُ فِي مِثْلِهَا، وَقَالَ الْجَصَّاصُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ، لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ التَّقْدِيرِ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السِّلَعِ. مِنْهَا مَا يُعَدُّ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ غَبْنًا فِيهِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُعَدُّ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ غَبْنًا فِيهِ، وَقَدَّرَ نَصْرُ بْنُ يَحْيَى: الْقَلِيلَ بالده ينم وَفِي الْحَيَوَانِ بالده يازده وَفِي الْعَقَارِ بالده دوازده، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ إذَا اشْتَرَى نِصْفَهُ فَالشِّرَاءُ مَوْقُوفٌ إنْ اشْتَرَى بَاقِيَهُ قَبْلَ الْخُصُومَةِ لَزِمَ الْمُوَكِّلَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ الْوَكِيلِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَلْزَمُ الْوَكِيلَ وَلَوْ خَاصَمَ الْمُوَكِّلُ الْوَكِيلَ إلَى الْقَاضِي قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْوَكِيلُ الْبَاقِيَ، وَأَلْزَمَ الْقَاضِي الْوَكِيلَ ثُمَّ إنَّ الْوَكِيلَ اشْتَرَى الْبَاقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْزَمُ الْوَكِيلَ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ. وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ مَا فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ وَفِي تَشْقِيصِهِ عَيْبٌ، كَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَالدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ، فَبَاعَ نِصْفَهُ أَوْ جُزْءًا مِنْهُ مَعْلُومًا أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ بَاعَ الْبَاقِيَ مِنْهُ أَوْ لَا، وَالْفَرْقُ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا. وَلَوْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ مَا اشْتَرَى نِصْفَهُ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْبَاقِيَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ أَعْتَقَهُ الْمُوَكِّلُ جَازَ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْوَكِيلُ لَمْ يَجُزْ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الْوَكِيلَ قَدْ خَالَفَ فِيمَا وُكِّلَ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ مُشْتَرِيًا لِلْمُوَكِّلِ فَكَيْفَ يَنْفُذُ مِنْهُ إعْتَاقُهُ وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ، فَيَنْفُذُ إعْتَاقُهُ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ إعْتَاقَ الْمُوَكِّلِ صَادَفَ عَقْدًا مَوْقُوفًا نَفَاذُهُ عَلَى إجَازَتِهِ، فَكَانَ الْإِعْتَاقُ إجَازَةً مِنْهُ، كَمَا إذَا صَرَّحَ بِالْإِجَازَةِ. وَإِعْتَاقُ الْوَكِيلِ لَمْ يُصَادِفْ عَقْدًا مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَحْتَمِلْ التَّوَقُّفَ عَلَى إجَازَتِهِ؛ فَبَطَلَ. وَإِنْ كَانَ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ لَيْسَ فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ وَلَا فِي تَشْقِيصِهِ عَيْبٌ فَاشْتَرَى نِصْفَهُ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ، وَلَا يَقِفُ لُزُومُهُ عَلَى شِرَاءِ الْبَاقِي. نَحْوَ إنْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ كُرِّ حِنْطَةٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَاشْتَرَى نِصْفَ الْكُرِّ بِخَمْسِينَ، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَاشْتَرَى أَحَدَهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ، لَزِمَ الْمُوَكِّلَ إجْمَاعًا. وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعَبِيدِ، فَاشْتَرَى وَاحِدًا مِنْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ عَشَرَةِ أَرْطَالِ لَحْمٍ بِدِرْهَمٍ إذَا اشْتَرَى عِشْرِينَ رَطْلًا بِدِرْهَمٍ مِنْ لَحْمٍ يُبَاعُ مِثْلُهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ، لَزِمَ الْمُوَكِّلَ مِنْهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ الْعِشْرُونَ بِدِرْهَمٍ وَلَوْ اشْتَرَى عَشْرَةَ أَرْطَالٍ وَنِصْفَ رَطْلٍ بِدِرْهَمٍ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ اسْتِحْسَانًا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ هَذَا خِلَافٌ صُورَةً لَا مَعْنًى لِأَنَّهُ خِلَافٌ إلَى خَيْرٍ، وَذَا لَا يَمْنَعُ النَّفَاذَ عَلَى الْمُوَكِّلِ. كَمَا إذَا اشْتَرَى عَشَرَةَ أَرْطَالٍ وَنِصْفًا بِدِرْهَمٍ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ الْآمِرِ، فَلَا يَتَعَدَّى تَصَرُّفُهُ مَوْضِعَ الْأَمْرِ، وَقَدْ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ عَشَرَةِ أَرْطَالٍ فَلَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ. بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى عَشَرَةَ أَرْطَالٍ وَنِصْفَ رَطْلٍ بِدِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْقَلِيلَةَ لَا تَتَحَقَّقُ زِيَادَةً

لِدُخُولِهَا بَيْنَ الْوَزْنَيْنِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِمِائَةٍ، فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي مِائَةً رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ عَبْدَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ فَاشْتَرَى أَحَدَهُمَا بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ، لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ الثَّانِيَ بِبَقِيَّةِ الْأَلْفِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا، يَلْزَمُهُ وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ خِلَافًا وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَالْوَكِيلُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ، وَإِذَا اشْتَرَى يَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ عَزْلٌ لِنَفْسِهِ عَنْ الْوَكَالَةِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ، كَمَا لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ عَزْلَهُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّه - تَعَالَى -. (وَأَمَّا) الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ إذَا اشْتَرَى يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ لِلْمُوَكِّلِ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّهُ إذَا قَالَ: اشْتَرَيْتُهُ لِنَفْسِي، وَصَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ، فَالْمُشْتَرَى لَهُ، وَإِذَا قَالَ الْمُوَكِّلُ: اشْتَرَيْتُهُ لِي وَصَدَّقَهُ الْوَكِيلُ، فَالْمُشْتَرَى لِلْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ، كَمَا يَمْلِكُ لِلْمُوَكِّلِ، فَاحْتُمِلَ شِرَاؤُهُ لِنَفْسِهِ، وَاحْتُمِلَ شِرَاؤُهُ لِمُوَكَّلِهِ، فَيَحْكُمُ فِيهِ التَّصْدِيقُ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ بِتَصَادُقِهِمَا. وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْوَكِيلُ: اشْتَرَيْتُهُ لِنَفْسِي، وَقَالَ الْمُوَكِّلُ: بَلْ اشْتَرَيْتَهُ لِي، يَحْكُمُ فِيهِ الثَّمَنُ، فَإِنْ أَدَّى الْوَكِيلُ الثَّمَنَ مِنْ دَرَاهِمَ نَفْسِهِ. فَالْمُشْتَرَى لَهُ، وَإِنْ أَدَّاهُ مِنْ دَرَاهِمَ مُوَكِّلِهِ؛ فَالْمُشْتَرَى لِمُوَكِّلِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ نَقْدُ الثَّمَنِ مِنْ مَالِ مَنْ يُشْتَرَى لَهُ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلثَّمَنِ، فَكَانَ صَادِقًا فِي حُكْمِهِ. (وَأَمَّا) إذَا لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ وَقْتَ الشِّرَاءِ، وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ يَحْكُمُ فِيهِ الثَّمَنُ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُتَصَرِّفًا لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْوَكِيلِ فَكَانَ الْمُشْتَرَى لَهُ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصَّلَاحِ وَالسَّدَادِ مَا أَمْكَنَ وَذَلِكَ فِي تَحْكِيمِ الثَّمَنِ عَلَى مَا مَرَّ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ مِنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ فِي بَابِ الشِّرَاءِ تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ، فَيُؤَدِّي إلَى الْإِحَالَةِ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ مُسَلِّمًا وَمُتَسَلَّمًا مُطَالِبًا وَمُطَالَبًا؛ وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي الشِّرَاءِ مِنْ نَفْسِهِ. وَلَوْ أَمَرَهُ الْمُوَكِّلُ بِذَلِكَ لَا يَصِحُّ، لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى مِنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شِرَاءٌ مِنْ نَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى مِنْ عَبْدِهِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، أَوْ مُكَاتَبِهِ. وَكَذَا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ مِنْ أَبِيهِ، وَجَدِّهِ، وَوَلَدِهِ، وَوَلَدِ وَلَدِهِ، وَزَوْجَتِهِ، وَكُلِّ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ إذَا اشْتَرَى بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، أَوْ بِأَقَلَّ، أَوْ بِزِيَادَةٍ يُتَغَابَنُ فِي مِثْلِهَا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ مِنْ عَبْدِهِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ، وَمُكَاتَبِهِ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ بِحُجَجِهَا مِنْ قَبْلُ. وَلَوْ كَانَتْ الْوَكَالَةُ عَامَّةً، بِأَنْ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ مَا شِئْتَ، أَوْ قَالَ لَهُ: بِعْ مِنْ هَؤُلَاءِ، أَوْ أَجَازَ مَا صَنَعَهُ الْوَكِيلُ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ التُّهْمَةُ وَقَدْ زَالَتْ بِالْأَمْرِ وَالْإِجَازَةِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ، وَوَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بِهَا طَعَامًا، فَهُوَ عَلَى الْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ لَا عَلَى الْفَاكِهَةِ وَاللَّحْمِ وَالْخُبْزِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانَ اسْمًا لِمَا يُطْعَمُ، لَكِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ بِقَرِينَةِ الشِّرَاءِ فِي الْعُرْفِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ السُّوقُ الَّذِي تُبَاعُ فِيهِ الْحِنْطَةُ وَالدَّقِيقُ سُوقَ الطَّعَامِ دُونَ غَيْرِهِ، إلَّا إذَا كَانَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ قَلِيلًا، كَالدَّرَاهِمِ وَنَحْوِهِ، أَوْ كَانَ هُنَاكَ وَلِيمَةً فَيَنْصَرِفُ إلَى الْخُبْزِ، وَقِيلَ: يَحْكُمُ الثَّمَنُ إنْ كَانَ قَلِيلًا يَنْصَرِفُ إلَى الْخُبْزِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يَنْصَرِفُ إلَيْهِمَا. وَلَوْ قَالَ اشْتَرِ لِي بِدِرْهَمٍ لَحْمًا، يَنْصَرِفُ إلَى اللَّحْمِ الَّذِي يُبَاعُ فِي السُّوقِ، وَيَشْتَرِي النَّاسُ مِنْهُ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ لَحْمِ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ وَالْبَقَرِ وَالْإِبِلِ إنْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِشِرَائِهِ. وَلَا يَنْصَرِفُ إلَى الْمَشْوِيِّ وَالْمَطْبُوخِ، إلَّا إذَا كَانَ مُسَافِرًا وَنَزَلَ خَانًا، وَدَفَعَ إلَى إنْسَانٍ دِرْهَمًا لِيَشْتَرِيَ بِهِ لَحْمًا وَلَا إلَى لَحْمِ الطَّيْرِ وَالْوَحْشِ وَالسَّمَكِ وَلَا إلَى شَاةٍ حَيَّةٍ وَلَا إلَى مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ؛ لِانْعِدَامِ جَرَيَانِ الْعَادَةِ بِاشْتِرَائِهِ، وَإِنْ اشْتَرَى مَسْلُوخًا جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْمَسْلُوخَ يُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ فِي الْعَادَةِ، وَلَا إلَى الْبَطْنِ وَالْكِرْشِ وَالْكَبِدِ وَالرَّأْسِ وَالْكُرَاعِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِلَحْمٍ، وَلَا يُشْتَرَى مَقْصُودًا أَيْضًا بَلْ تَبَعًا لِلَّحْمِ فَلَا يَنْصَرِفُ مُطْلَقُ التَّوْكِيلِ إلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، أَنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً، وَمَبْنَى الْوَكَالَةِ عَلَى الْعُرْفِ عَادَةً وَفِعْلًا أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ الْحِنْثِ يَلْزَمُ بِأَكْلِ الْقَدِيدِ. وَلَوْ اشْتَرَى الْوَكِيلُ الْقَدِيدَ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ؛ لِانْعِدَامِ الْعَادَةِ بِبَيْعِ الْقَدِيدِ فِي الْأَسْوَاقِ فِي الْغَالِبِ. وَلَا إلَى شَحْمِ الْبَطْنِ وَالْأَلْيَةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِلَحْمٍ. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ أَلْيَةٍ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَحْمًا؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ اسْمًا وَمَقْصُودًا. وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ سَمَكًا بِدِرْهَمٍ فَهُوَ

فصل في الوكيلان هل ينفرد أحدهما بالتصرف فيما وكلا به

عَلَى الطَّرِيِّ الْكِبَارِ دُونَ الْمَالِحِ وَالصِّغَارِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ شِرَاءُ الطَّرِيِّ الْكِبَارِ مِنْهُ دُونَ الْمَالِحِ وَدُونَ الصِّغَارِ؛ وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ الرَّأْسِ فَهُوَ عَلَى النِّيءِ دُونَ الْمَطْبُوخِ وَالْمَشْوِيِّ، وَهُوَ عَلَى رَأْسِ الْغَنَمِ دُونَ الْبَقَرِ، وَالْإِبِلِ، إلَّا فِي مَوْضِعٍ جَرَتْ الْعَادَةُ بِذَلِكَ، وَالْمَذْكُورُ مِنْ الْخِلَافِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَرْجِعُ إلَى اخْتِلَافِ الْعَصْرِ وَالزَّمَانِ دُونَ الْحَقِيقَةِ وَدُونَ رَأْسِ الْعُصْفُورِ وَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ لِانْعِدَامِ الْعَادَةِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ دُهْنٍ، فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَيَّ دُهْنٍ شَاءَ، وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ فَاكِهَةٍ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَيَّ فَاكِهَةٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ عَادَةً؛ وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ الْبَيْضِ فَهُوَ عَلَى بَيْضِ الدَّجَاجِ. وَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ عَلَيْهِ تَقَعُ عَلَى بَيْضِ الطُّيُورِ كُلِّهَا لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَبَنًا فَهُوَ عَلَى مَا يُبَاعُ فِي عَادَةِ الْبَلَدِ فِي السُّوقِ مِنْ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْإِبِلِ وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ السَّمْنِ فَإِنْ اسْتَوَيَا فَهُوَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَذُوقُ لَبَنًا إنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى لَبَنِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْإِبِلِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعُرْفِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ الْكَبْشِ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَ النَّعْجَةِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ؛ لِأَنَّ الْكَبْشَ اسْمٌ لِلذَّكَرِ، وَالنَّعْجَةُ اسْمٌ لِلْأُنْثَى، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَنَاقٍ، فَاشْتَرَى جَدْيًا، أَوْ شِرَاءِ فَرَسٍ، أَوْ بِرْذَوْنٍ، فَاشْتَرَى رَمَكَةً، لَا يَجُوزُ عَلَى الْمُوَكِّلِ. وَالْبَقَرُ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَكَذَا الْبَقَرَةُ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] قِيلَ: إنَّهَا كَانَتْ ذَكَرًا وَقَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ} [البقرة: 71] وَإِثَارَةُ الْأَرْضِ عَمَلُ الثِّيرَانِ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا تَقَعُ عَلَى الْأُنْثَى. وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْجَامِعِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَالدَّجَاجُ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالدَّجَاجَةُ عَلَى الْأُنْثَى، وَالْبَعِيرُ عَلَى الذَّكَرِ، وَالنَّاقَةُ عَلَى الْأُنْثَى، وَالْبُخْتِيُّ ضَرْبٌ خَاصٌّ مِنْ الْإِبِلِ، وَالنَّجِيبَةُ ضَرْبٌ مَعْرُوفٌ بِسُرْعَةِ السَّيْرِ، وَهِيَ كَالْحِمَارَةِ فِي عُرْفِ بِلَادِنَا، وَلَا يَقَعُ اسْمُ الْبَقَرِ عَلَى الْجَامُوسِ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْبَقَرِ حَتَّى يَتِمَّ بِهِ نِصَابُ الزَّكَاةِ لِبُعْدِهِ عَنْ أَوْهَامِهِمْ لِقِلَّتِهِ فِيهِمْ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ، فَاشْتَرَى إنْ فَعَلَهُ بِحَضْرَةِ الْأَوَّلِ، أَوْ بِإِجَازَتِهِ أَوْ بِإِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ، جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَإِلَّا فَلَا إلَّا إذَا كَانَتْ الْوَكَالَةُ عَامَّةً عَلَى مَا مَرَّ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الْوَكِيلَانِ هَلْ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا وُكِّلَا بِهِ] (فَصْلٌ) : الْوَكِيلَانِ هَلْ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا وُكِّلَا بِهِ؟ أَمَّا الْوَكِيلَانِ بِالْبَيْعِ فَلَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا التَّصَرُّفَ بِدُونِ صَاحِبِهِ. وَلَوْ فَعَلَ لَمْ يَجُزْ، حَتَّى يُجِيزَ صَاحِبُهُ أَوْ الْمُوَكِّلُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ، وَالْمُوَكِّلُ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا لَا بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا، وَاجْتِمَاعُهُمَا عَلَى ذَلِكَ مُمْكِنٌ فَلَمْ يُمْتَثَلْ أَمْرُ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَنْفُذُ عَلَيْهِ. وَكَذَا الْوَكِيلَانِ بِالشِّرَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ مُسَمًّى، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَكِيلُ الْآخَرُ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْبَيْعِ، إلَّا أَنَّ فِي الشِّرَاءِ إذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِدُونِ صَاحِبِهِ يَنْفُذُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلَا يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَفِي الْبَيْعِ يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ. وَكَذَلِكَ الْوَكِيلَانِ بِالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ، وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ وَالْخُلْعِ، وَالْكِتَابَةِ، وَكُلِّ عَقْدٍ فِيهِ بَدَلٌ هُوَ مَالٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى الرَّأْيِ، وَلَمْ يَرْضَ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا بِانْفِرَادِهِ. وَكَذَا مَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّمْلِيكِ بِأَنْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ: جَعَلْتُ أَمْرَ امْرَأَتِي بِيَدِكُمَا، أَوْ قَالَ لَهُمَا: طَلِّقَا امْرَأَتِي إنْ شِئْتُمَا، لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالتَّطْلِيقِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ أَمْرَ الْيَدِ تَمْلِيكًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقِفُ عَلَى الْمَجْلِسِ؟ وَالتَّمْلِيكَاتُ هِيَ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْمَجْلِسِ، وَالتَّمْلِيكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَشْرُوطٌ بِالْمَشِيئَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: طَلِّقَا امْرَأَتِي إنْ شِئْتُمَا وَهُنَاكَ لَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا التَّطْلِيقَ دُونَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطَيْنِ لَا يَنْزِلُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِهِمَا فَكَذَا هَذَا، وَكَذَا الْوَكِيلَانِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا أَنْ يَقْبِضَ دُونَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الدَّيْنِ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى الرَّأْيِ وَالْأَمَانَةِ، وَقَدْ فَوَّضَ الرَّأْيَ إلَيْهِمَا جَمِيعًا لَا إلَى أَحَدِهِمَا وَرَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا جَمِيعًا لَا بِأَمَانَةِ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا لَمْ يُبَرِّئْهُ الْغَرِيمُ حَتَّى يَصِلَ مَا قَبَضَهُ إلَى صَاحِبِهِ، فَيَقَعُ فِي أَيْدِيهِمَا جَمِيعًا، أَوْ يَصِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ الْمَقْبُوضُ إلَى صَاحِبِهِ أَوْ إلَى الْمُوَكِّلِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْقَبْضِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا قَبَضَاهُ جَمِيعًا ابْتِدَاءً. (وَأَمَّا) الْوَكِيلَانِ بِالطَّلَاقِ عَلَى غَيْرِ مَالٍ، وَالْعِتْقُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ وَالْوَكِيلَانِ بِتَسْلِيمِ الْهِبَةِ وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَيَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا وُكِّلَا بِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِمَّا لَا تَحْتَاجُ إلَى الرَّأْيِ، فَكَانَ إضَافَةُ التَّوْكِيلِ إلَيْهِمَا تَفْوِيضًا لِلتَّصَرُّفِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ. (وَأَمَّا) الْوَكِيلَانِ بِالْخُصُومَةِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَصَرَّفُ بِانْفِرَادِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَنْفَرِدُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْخُصُومَةَ مِمَّا يَحْتَاجُ، إلَى الرَّأْيِ، وَلَمْ يَرْضَ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا، فَلَا يَمْلِكُهَا أَحَدُهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ: أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ

الْخُصُومَةِ إعْلَامُ الْقَاضِي بِمَا يَمْلِكُهُ الْمُخَاصِمُ، وَاسْتِمَاعُهُ وَاجْتِمَاعُ الْوَكِيلِينَ عَلَى ذَلِكَ يُخِلُّ بِالْإِعْلَامِ وَالِاسْتِمَاعِ؛ لِأَنَّ ازْدِحَامَ الْكَلَامِ يُخِلُّ بِالْفَهْمِ، فَكَانَ إضَافَةُ التَّوْكِيلِ إلَيْهِمَا تَفْوِيضًا لِلْخُصُومَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَأَيُّهُمَا خَاصَمَ كَانَ تَمْثِيلًا، إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا الْقَبْضَ دُونَ صَاحِبِهِ وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ يَمْلِكُ الْقَبْضَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْقَبْضِ مُمْكِنٌ فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِقَبْضِ أَحَدِهِمَا بِانْفِرَادِهِ. (وَأَمَّا) الْمُضَارِبَانِ فَلَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا التَّصَرُّفَ بِدُونِ إذْنِ صَاحِبِهِ إجْمَاعًا. وَفِي الْوَصِيَّيْنِ خِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. الْوَكِيلُ هَلْ يَمْلِكُ الْحُقُوقَ؟ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّ الْمُوَكَّلَ بِهِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ لَا حُقُوقَ لَهُ، إلَّا مَا أَمَرَ بِهِ الْمُوَكِّلُ، كَالْوَكِيلِ بِتَقَاضِي الدَّيْنِ، وَالتَّوْكِيلِ بِالْمُلَازَمَةِ وَنَحْوِهِ. وَنَوْعٌ لَهُ حُقُوقٌ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَنَحْوِهِ. (أَمَّا) التَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ: فَحُقُوقُهَا تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ، فَيُسَلَّمُ الْمَبِيعَ، وَيَقْبِضُهُ وَيَقْبِضُ الثَّمَنَ وَيُطَالِبُ بِهِ وَيُخَاصِمُ فِي الْعَيْبِ وَقْتَ الِاسْتِحْقَاقِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى إضَافَتِهِ إلَى الْمُوَكِّلِ وَيَكْتَفِي فِيهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ، فَحُقُوقُهُ رَاجِعَةٌ إلَى الْعَاقِدِ كَالْبِيَاعَاتِ وَالْأَشْرِبَةِ. وَالْإِجَارَاتِ وَالصُّلْحِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ، فَحُقُوقُ هَذِهِ الْعُقُودِ تَرْجِعُ لِلْوَكِيلِ وَعَلَيْهِ، وَيَكُونُ الْوَكِيلُ فِي هَذِهِ الْحُقُوقِ كَالْمَالِكِ، وَالْمَالِكُ كَالْأَجْنَبِيِّ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُوَكِّلُ مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْوَكِيلِ بِالثَّمَنِ وَلَوْ طَالَبَهُ فَأَبَى لَا يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إلَيْهِ. وَلَوْ أَمَرَهُ الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مَلَكَ الْمُطَالَبَةَ، وَأَيُّهُمَا طَالَبَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إلَيْهِ. وَلَوْ نَهَاهُ الْوَكِيلُ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ صَحَّ نَهْيُهُ. وَلَوْ نَهَى الْمُوَكِّلُ الْوَكِيلَ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ لَا يَعْمَلُ نَهْيُهُ، غَيْرَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ إلَى الْمُوَكِّلِ يَبْرَأُ عَنْ الثَّمَنِ اسْتِحْسَانًا، وَكَذَا الْوَكِيلُ هُوَ الْمُطَالَبُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إذَا نَقَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ وَلَا يُطَالِبُ بِهِ الْمُوَكِّلُ. وَإِذَا اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْوَكِيلِ إنْ كَانَ نَقَدَ الثَّمَنَ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ نَقَدَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ عَيْبًا، لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْوَكِيلَ، وَإِذَا أَثْبَتَ الْعَيْبَ عَلَيْهِ وَرَدَّهُ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَخَذَ الثَّمَنَ مِنْ الْوَكِيلِ إنْ كَانَ نَقَدَهُ الثَّمَنَ، وَإِنْ كَانَ نَقَدَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ أَخَذَهُ مِنْهُ. وَكَذَا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ هُوَ الْمُطَالَبُ بِالثَّمَنِ دُونَ الْمُوَكِّلِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْبِضُ الْمَبِيعَ دُونَ الْمُوَكِّلِ. وَإِذَا اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ فَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ عَلَى بَائِعِهِ دُونَ الْمُوَكِّلِ. وَلَوْ وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا إنْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ، وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَى الْمُوَكِّلِ بَعْدُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ بِالْعَيْبِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَلَّمَهُ إلَى مُوَكِّلِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ إلَّا بِرِضَا مُوَكِّلِهِ. وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْإِجَارَةِ، وَالِاسْتِئْجَارِ وَأَخَوَاتِهِمَا، وَكُلُّ عَقْدٍ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى إضَافَتِهِ إلَى الْمُوَكِّلِ فَحُقُوقُهُ تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ، وَالْعَتَاقِ عَلَى مَالٍ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَالْكِتَابَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَنَحْوِهِ، فَحُقُوقُ هَذِهِ الْعُقُودِ تَكُونُ لِلْمُوَكِّلِ عَلَيْهِ، وَالْوَكِيلُ فِيهَا يَكُونُ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا مَحْضًا. حَتَّى إنَّ وَكِيلَ الزَّوْجِ فِي النِّكَاحِ لَا يُطَالَبُ بِالْمَهْرِ، وَإِنَّمَا يُطَالَبُ بِهِ الزَّوْجُ إلَّا إذَا ضَمِنَ الْمَهْرَ، فَحِينَئِذٍ يُطَالَبُ بِهِ لَكِنْ بِحُكْمِ الضَّمَانِ، وَوَكِيلُ الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ لَا يَمْلِكُ قَبْضَ الْمَهْرِ. وَكَذَا الْوَكِيلُ بِالْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ لَا يَمْلِكُ قَبْضَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ إنْ كَانَ وَكِيلَ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ وَكِيلَ الْمَرْأَةِ لَا يُطَالَبُ بِبَدَلِ الْخُلْعِ، إلَّا بِالضَّمَانِ. وَكَذَا الْوَكِيلُ بِالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ وَأَخَوَاتِهِمَا تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَرْجِعُ شَيْءٌ مِنْ الْحُقُوقِ إلَى الْوَكِيلِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْوَكِيلَ مُتَصَرِّفٌ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْمُوَكِّلِ، وَتَصَرُّفُ النَّائِبِ تَصَرُّفُ الْمَنُوبِ عَنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ تَصَرُّفِهِ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ؟ فَكَذَا حُقُوقُهُ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ تَابِعَةٌ لِلْحُكْمِ، وَالْحُكْمُ هُوَ الْمَتْبُوعُ فَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ لَهُ فَكَذَا التَّابِعُ. (وَلَنَا) : أَنَّ الْوَكِيلَ هُوَ الْعَاقِدُ حَقِيقَةً، فَكَانَتْ حُقُوقُ الْعَقْدِ رَاجِعَةً إلَيْهِ، كَمَا إذَا تَوَلَّى الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَكِيلَ هُوَ الْعَاقِدُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ عَقْدَهُ كَلَامُهُ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ حَقِيقَةً وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فَاعِلًا بِفِعْلِ الْغَيْرِ حَقِيقَةً، وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ مُقَرَّرَةٌ بِالشَّرِيعَةِ قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَقَالَ اللَّه - عَزَّ شَأْنُهُ -: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْحُكْمِ لَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ وُجِدَ مِنْهُ حَقِيقَةً وَشَرْعًا، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ أَصْلَ الْحُكْمِ لِلْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ إنَّمَا فَعَلَهُ لَهُ بِأَمْرِهِ وَإِنَابَتِهِ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ مُضَافٌ إلَى الْآمِرِ، فَتَعَارَضَ الشَّبْهَانِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، فَعَمِلْنَا بِشِبْهِ الْآمِرِ. وَالْإِنَابَةُ بِإِيجَابِ أَصْلِ الْحُكْمِ لِلْمُوَكِّلِ وَنِسْبَةِ الْحَقِيقَةِ الْمُقَرَّرَةِ بِالشَّرِيعَةِ

بِإِثْبَاتِ تَوَابِعِ الْحُكْمِ لِلْوَكِيلِ تَوْفِيرًا عَلَى الشَّبَهَيْنِ حَظُّهُمَا مِنْ الْحُكْمِ، وَلَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِالْعَكْسِ، وَهُوَ إثْبَاتُ أَصْلِ الْحُكْمِ لِلْوَكِيلِ، وَإِثْبَاتُ التَّوَابِعِ لِلْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي نَفَاذِ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ هُوَ الْوِلَايَةُ؛ لِأَنَّهَا عِلَّةُ نَفَاذِهِ إذْ لَا مِلْكَ لَهُ. وَالْمُوَكِّلُ أَصْلٌ فِي الْوِلَايَةِ، وَالْوَكِيلُ تَابِعٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةِ نَفْسِهِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ بَلْ بِوِلَايَةٍ مُسْتَفَادَةٍ مِنْ قِبَلِ الْمُوَكِّلِ، فَكَانَ إثْبَاتُ أَصْلِ الْحُكْمِ لِلْمُوَكِّلِ، وَإِثْبَاتُ التَّوَابِعِ لِلْوَكِيلِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ حَدُّ الْحِكْمَةِ، وَعَكْسُهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَهُوَ حَدُّ السَّفَهِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَأَخَوَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ هُنَاكَ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْمُوَكِّلِ بَلْ هُوَ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُضِيفُ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ، بَلْ إلَى مُوَكِّلِهِ؟ فَانْعَدَمَتْ النِّيَابَةُ، فَبَقِيَ سَفِيرًا مَحْضًا فَاعْتُبِرَ الْعَقْدُ مَوْجُودًا مِنْ الْمُوَكِّلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَيْهِ، ثُمَّ نَقُولُ: إنَّمَا تَلْزَمُهُ الْعُهْدَةُ، وَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَيْهِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعُهْدَةِ، (فَأَمَّا) إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَنْ كَانَ صَبِيًّا مَحْجُورًا يَنْفُذُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ، وَتَكُونُ الْعُهْدَةُ عَلَى الْمُوَكِّلِ لَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّبَرُّعِ؛ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، لِكَوْنِهِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ، فَيَقَعُ مَحْضًا لِحُصُولِ التَّجْرِبَةِ وَالْمُمَارَسَةِ لَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْوَكِيلِ الْمَحْجُورِ سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّهُ مَحْجُورٌ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَالِمًا فَلَا خِيَارَ لَهُ، فَأَمَّا إذَا كَانَ جَاهِلًا فَلَهُ الْخِيَارُ، إنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الرِّضَا شَرْطُ جَوَازِ التِّجَارَةِ، وَقَدْ اخْتَلَّ الرِّضَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى الْعَقْدِ، عَلَى أَنْ تَكُونَ الْعُهْدَةُ عَلَى الْعَاقِدِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِ اخْتَلَّ رِضَاهُ، فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ، كَمَا إذَا ظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ (وَجْهُ) ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الْجَهْلَ بِالْحَجْرِ لَيْسَ بِعُذْرٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ، خُصُوصًا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ هُوَ الْحَجْرُ، وَالْإِذْنُ يُعَارِضُ الرُّشْدَ، فَكَانَ سَبَبُ الْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ قَائِمًا، فَالْجَهْلُ بِهِ لِتَقْصِيرٍ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يُعْذَرُ وَيُعْتَبَرُ عَالِمًا. وَلَوْ عَلِمَ بِالْحَجْرِ حَقِيقَةً لَمَا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. الْوَكِيلُ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ وَالرَّهْنِ وَالْقَرْضِ إذَا فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَقَبَضَ لَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِرَدِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَى يَدِهِ وَلَا أَنْ يَقْبِضَ الْوَدِيعَةَ وَالْعَارِيَّةَ وَالرَّهْنَ وَلَا الْقَرْضَ مِمَّنْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ يَقِفُ عَلَى الْقَبْضِ، وَلَا صُنْعَ لِلْوَكِيلِ فِي الْقَبْضِ، بَلْ هُوَ صُنْعُ الْقَابِضِ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى، فَكَانَتْ حُقُوقُ الْعَقْدِ رَاجِعَةً إلَيْهِ، وَكَانَ الْوَكِيلُ سَفِيرًا عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ. بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَأَخَوَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا لِلْعَقْدِ لَا لِلْقَبْضِ، وَهُوَ الْعَاقِدُ حَقِيقَةً وَشَرْعًا عَلَى مَا قَرَّرْنَا فَكَانَتْ الْحُقُوقُ عَائِدَةً إلَيْهِ وَكَذَا فِي التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِعَارَةِ، وَالِارْتِهَانِ وَالِاسْتِيهَابِ، الْحُكْمُ وَالْحُقُوقُ تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ. وَكَذَا فِي التَّوْكِيلِ بِالشَّرِكَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ لِمَا قُلْنَا. وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فِي الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْحُقُوقِ، وَالْمَالِكُ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا فَمَلَكَ تَوْكِيلَ غَيْرِهِ فِيهَا (وَمِنْهَا) : أَنَّ الْمَقْبُوضَ فِي يَدِ الْوَكِيلِ بِجِهَةِ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَقَبْضِ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ - أَمَانَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ نِيَابَةٍ عَنْ الْمُوَكِّلِ بِمَنْزِلَةِ يَدِ الْمُودِعِ، فَيَضْمَنُ بِمَا يَضْمَنُ فِي الْوَدَائِعِ، وَيَبْرَأُ بِمَا يَبْرَأُ فِيهَا، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا وَقَالَ: اقْضِهِ فُلَانًا عَنْ دَيْنِي فَقَالَ الْوَكِيلُ: قَدْ قَضَيْتُ صَاحِبَ الدَّيْنِ، فَادْفَعْهُ إلَيَّ وَكَذَّبَهُ، صَاحِبُ الدَّيْنِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ عَنْ الضَّمَانِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ فِي أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى لَا يَسْقُطَ دَيْنُهُ عَنْ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَمِينٌ فَيُصَدَّقُ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى الْغَرِيمِ فِي إبْطَالِ حَقِّهِ، وَتَجِبُ الْيَمِينُ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُوَكِّلِ مِنْ تَصْدِيقِ أَحَدِهِمَا، وَتَكْذِيبِ الْآخَرِ، فَيَحْلِفُ الْمُكَذَّبُ مِنْهُمَا دُونَ الْمُصَدَّقِ. فَإِنْ صُدِّقَ الْوَكِيلُ فِي الدَّفْعِ، يَحْلِفُ الطَّالِبُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا قَبَضَهُ، فَإِنْ حَلَفَ لَمْ يَظْهَرْ قَبْضُهُ، وَلَمْ يَسْقُطْ دَيْنُهُ، وَإِنْ نَكَلَ ظَهَرَ قَبْضُهُ وَسَقَطَ دَيْنُهُ عَنْ الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ صُدِّقَ الطَّالِبُ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَكُذِّبَ الْوَكِيلُ، يَحْلِفُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - لَقَدْ دَفَعَهُ إلَيْهِ فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ مَا دَفَعَ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْدَعَ مَالَهُ رَجُلًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى فُلَانٍ، فَقَالَ الْمُودَعُ: دَفَعْتُ، وَكَذَّبَهُ فُلَانٌ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَلَوْ دَفَعَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ إلَى رَجُلٍ، وَادَّعَى أَنَّهُ قَدْ دَفَعَهَا إلَيْهِ بِأَمْرِ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ، وَأَنْكَرَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ الْأَمْرَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُودِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْأَمْرَ، وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ. وَلَوْ كَانَ الْمَالُ مَضْمُونًا عَلَى رَجُلٍ كَالْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَوْ الدَّيْنِ عَلَى الْغَرِيمِ، فَأَمَرَ الطَّالِبُ، أَوْ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى فُلَانٍ، فَقَالَ الْمَأْمُورُ: قَدْ دَفَعْتُ إلَيْهِ، وَقَالَ فُلَانٌ: مَا قَبَضْتُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ

فُلَانٍ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ. وَلَا يُصَدَّقُ الْوَكِيلُ عَلَى الدَّفْعِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِتَصْدِيقِ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَدَّعِي الدَّفْعَ إلَى فُلَانٍ يُرِيدُ إبْرَاءَ نَفْسِهِ عَنْ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ، فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِتَصْدِيقِ الْمُوَكِّلِ. فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ يَبْرَأُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إذَا صَدَّقَهُ فَقَدْ أَبْرَأَهُ عَنْ الضَّمَانِ، وَلَكِنَّهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ عَلَى الْقَابِضِ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمَا لَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْقَبْضِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ. وَلَوْ كَذَّبَهُ الْمُوَكِّلُ فِي الدَّفْعِ، وَطَلَبَ الْوَكِيلُ يَمِينَهُ؛ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ دَفَعَ، فَإِنْ حَلَفَ أُخِذَ مِنْهُ الضَّمَانُ، وَإِنْ نَكَلَ سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُ. وَلَوْ أَنَّ الْوَكِيلَ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ الْمَالُ قَضَى الدَّيْنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَأَمْسَكَ مَا دَفَعَ إلَيْهِ الْمُوَكِّلُ، جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ الدَّرَاهِمَ أَصْلًا وَقَضَى الْوَكِيلُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ وَكِيلٌ بِشِرَاءِ الدَّيْنِ مِنْ الطَّالِبِ، وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ جَازَ فَهَذَا أَوْلَى. وَلَوْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ شَيْئًا، وَلَكِنَّهُ أَمَرَهُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ فَقَالَ الْوَكِيلُ قَضَيْتُهُ، وَكَذَّبَهُ الطَّالِبُ وَالْمُوَكِّلُ، فَأَقَامَ الْوَكِيلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ قَضَى صَاحِبَ الدَّيْنِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَبَرِئَ الْمُوَكِّلُ مِنْ الدَّيْنِ وَيَرْجِعُ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا قَضَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ حِسًّا، وَمُشَاهَدَةً، وَقَدْ ثَبَتَ قَضَاءُ الدَّيْنِ بِالْبَيِّنَةِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَكَذَّبَهُ الطَّالِبُ وَالْمُوَكِّلُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مَعَ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِدَعْوَى الْقَبْضِ يُرِيدُ إيجَابَ الضَّمَانِ عَلَى الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ إسْقَاطَ الدَّيْنِ عَنْ الْمُوَكِّلِ، وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ: وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْمَقْبُوضُ مَضْمُونًا عَلَى الْقَابِضِ الطَّالِبِ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَلَهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ دَيْنٌ مِثْلُهُ، فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا، وَالطَّالِبُ مُنْكِرٌ. وَكَذَا الْمُوَكِّلُ مُنْكِرٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمَا مَعَ الْيَمِينِ. أَوْ يُقَالُ: إنَّ الْوَكِيلَ بِقَوْلِهِ: قَضَيْتُ يَدَّعِي عَلَى الطَّالِبِ بَيْعَ دَيْنِهِ مِنْ الْغَرِيمِ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ مِنْهُ وَهُمَا مُنْكِرَانِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمَا مَعَ الْيَمِينِ، وَيَحْلِفُ الْمُوَكِّلُ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَبْضُ الطَّالِبِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ فِي الْقَضَاءِ، وَكَذَّبَهُ الطَّالِبُ، يُصَدَّقُ عَلَى الْمُوَكِّلِ دُونَ الطَّالِبِ، حَتَّى يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا قَضَى، وَيَغْرَمَ أَلْفًا أُخْرَى لِلطَّالِبِ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ صَدَّقَهُ فِي دَعْوَى الْقَضَاءِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، وَهُوَ مُصَدَّقٌ عَلَى نَفْسِهِ فِي تَصْدِيقِهِ فَثَبَتَ الْقَضَاءُ فِي حَقِّهِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ هَكَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ: أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ يَعْتَمِدُ وُجُودَ الْقَضَاءِ، وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ مُنْكِرٌ؛ إلَّا أَنَّا نَقُولُ: إنْكَارُ الطَّالِبِ يَمْنَعُ وُجُودَ الْقَضَاءِ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ مَا لَا يُمْنَعُ وُجُودُهُ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ. وَإِقْرَارُ كُلِّ مُقِرٍّ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ، فَكَانَ الْأَوَّلُ أَشْبَهَ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ مَالًا لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ فَقَضَاهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ قَضَاهُ الْوَكِيلُ فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ لَمْ يَعْلَمْ بِمَا فَعَلَهُ الْمُوَكِّلُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ، وَيَرْجِعُ الْمُوَكِّلُ عَلَى الطَّالِبِ بِمَا قَبَضَ مِنْ الْوَكِيلِ. وَإِنْ عَلِمَ بِأَنَّ الْمُوَكِّلَ قَدْ قَضَاهُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمَّا قَضَاهُ بِنَفْسِهِ، فَقَدْ عَزَلَ الْوَكِيلَ إلَّا أَنَّ عَزْلَ الْوَكِيلِ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ. فَإِذَا عَلِمَ بِفِعْلِ الْمُوَكِّلِ فَقَدْ عَلِمَ بِالْعَزْلِ فَصَارَ مُتَعَدِّيًا فِي الدَّفْعِ فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ. وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّعَدِّي، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا كَالْوَكِيلِ بِدَفْعِ الزَّكَاةِ إذَا أَدَّى الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَدَّى الْوَكِيلُ أَنَّهُ يَضْمَنُ الْوَكِيلُ عَلِمَ بِأَدَاءِ الْمُوَكِّلِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ، مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ هُوَ إسْقَاطُ الْفَرْضِ بِتَمْلِيكِ الْمَالِ مِنْ الْفَقِيرِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ مِنْ الْوَكِيلِ لِحُصُولِهِ مِنْ الْمُوَكِّلِ فَبَقِيَ الدَّفْعُ مِنْ الْوَكِيلِ تَعَدِّيًا مَحْضًا، فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ. فَأَمَّا قَضَاءُ الدَّيْنِ فَعِبَارَةٌ عَنْ أَدَاءِ مَالٍ مَضْمُونٍ عَلَى الْقَابِضِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَالْمَدْفُوعُ إلَى الطَّالِبِ مَقْبُوضٌ عَنْهُ وَالْمَقْبُوضُ بِجِهَةِ الضَّمَانِ مَضْمُونٌ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، لِكَوْنِهِ مَقْبُوضًا بِجِهَةِ الْقَضَاءِ، وَالْمَقْبُوضُ بِجِهَةِ الْقَضَاءِ مَضْمُونٌ عَلَى الْقَابِضِ. وَيُقَالُ: إنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ عِبَارَةٌ عَنْ نَوْعِ مُعَاوَضَةٍ، وَهُوَ نَوْعُ شِرَاءِ الدَّيْنِ بِالْمَالِ. وَالْمَقْبُوضُ مِنْ الْوَكِيلِ مَقْبُوضٌ بِجِهَةِ الشِّرَاءِ، وَالْمَقْبُوضُ بِجِهَةِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي. بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَهُ عَلَى عِلْمِهِ بِدَفْعِ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ الْقَبْضُ بِجِهَةِ الضَّمَانِ، لِانْعِدَامِ الْقَبْضِ بِجِهَةِ الْقَضَاءِ، فَبَقِيَ تَعَدِّيًا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ التَّعَدِّي. وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ فِي أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِدَفْعِ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْأَمِينِ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ لَكِنْ مَعَ الْيَمِينِ. وَعَلَى هَذَا إذَا مَاتَ الْمُوَكِّلُ وَلَمْ يَعْلَمْ الْوَكِيلُ بِمَوْتِهِ حَتَّى قَضَى الدَّيْنَ، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِمَوْتِهِ، ضَمِنَ لِمَا قُلْنَا - وَاَللَّهُ عَزّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. الْوَكِيلُ بِبَيْعِ الْعَبْدِ إذَا قَالَ: بِعْتُ

وَقَبَضْتُ الثَّمَنَ وَهَلَكَ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ. (أَمَّا) إنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ سَلَّمَ الْعَبْدَ إلَى الْوَكِيلِ. أَوْ كَانَ لَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَلَّمَ الْعَبْدَ إلَيْهِ فَقَالَ الْوَكِيلُ: بِعْتُهُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَقَبَضْتُ مِنْهُ الثَّمَنَ وَهَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِي. أَوْ قَالَ دَفَعْتُهُ إلَى الْمُوَكِّلِ. فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا: أَنْ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ أَوْ كَذَّبَهُ. فَإِنْ كَذَّبَهُ بِالْبَيْعِ أَوْ صَدَّقَهُ بِالْبَيْعِ وَكَذَّبَهُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ أَوْ صَدَّقَهُ فِيهِمَا وَكَذَّبَهُ فِي الْهَلَاكِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَهْلِكُ الثَّمَنُ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ يَهْلِكُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ. وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: بِأَنْ كَذَّبَهُ بِالْبَيْعِ، أَوْ صَدَّقَهُ بِالْبَيْعِ وَكَذَّبَهُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يُصَدَّقُ فِي الْبَيْعِ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْوَكِيلِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ جَائِزٌ عَلَيْهِ. وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ نَقَدَ الثَّمَنَ ثَانِيًا إلَى الْمُوَكِّلِ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْمَبِيعَ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا عَلَى الْوَكِيلِ بِمَا نَقَدَهُ. كَذَا. وَلَوْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ، وَأَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْوَكِيلَ يُصَدَّقُ فِي الْبَيْعِ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي إقْرَارِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالْقَبْضِ، لِمَا ذَكَرْنَا. وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى مَا ذَكَرْنَا. إلَّا أَنَّ هُنَاكَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ. وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ فِي الْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ وَكَذَّبَهُ فِي الْهَلَاكِ أَوْ الدَّفْعِ إلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ فِي دَعْوَى الْهَلَاكِ، أَوْ الدَّفْعِ إلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ. وَيُجْبَرُ الْمُوَكِّلُ عَلَى تَسْلِيمِ الْعَبْدِ إلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ الْبَيْعُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ بِتَصْدِيقِهِ إيَّاهُ. وَلَا يُؤْمَرُ الْمُشْتَرِي بِنَقْدِ الثَّمَنِ ثَانِيًا إلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ وُصُولُ الثَّمَنِ إلَى يَدِ وَكِيلِهِ بِتَصْدِيقِهِ، وَوُصُولُ الثَّمَنِ إلَى يَدِ وَكِيلِهِ كَوُصُولِهِ إلَى يَدِهِ. هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ مُسَلَّمًا إلَى الْوَكِيلِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ مُسَلَّمًا إلَيْهِ فَقَالَ الْوَكِيلُ: بِعْتُهُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَقَبَضْتُ مِنْهُ الثَّمَنَ فَهَلَكَ عِنْدِي أَوْ قَالَ: دَفَعْتُهُ إلَى الْمُوَكِّلِ، أَوْ قَالَ: قَبَضَ الْمُوَكِّلُ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَيُسَلَّمُ الْعَبْدُ إلَى الْمُشْتَرِي، وَيَبْرَأُ الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ. (أَمَّا) إذَا صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: فَلَا يُشْكَلُ. وَكَذَا إذَا كَذَّبَهُ فِي الْبَيْعِ أَوْ صَدَّقَهُ فِيهِ وَكَذَّبَهُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَقَرَّ بِبَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي عَنْ الثَّمَنِ، فَلَا يَحْلِفُ. وَيَحْلِفُ الْوَكِيلُ. فَإِنْ حَلَفَ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ بَرِئَ مِنْ الثَّمَنِ. وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلْمُوَكِّلِ. فَإِنْ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي - فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْوَكِيلِ. إذَا أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ. وَالْوَكِيلُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا ضَمِنَ مِنْ الثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلَى قَبْضِ الثَّمَنِ فَإِقْرَارُ الْوَكِيلِ فِي حَقِّهِ جَائِزٌ وَلَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُوَكِّلَ عَلَى الْعِلْمِ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ. فَإِنْ نَكَلَ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمِنَ. وَلَوْ أَقَرَّ الْمُوَكِّلُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ الثَّمَنَ لَكِنَّهُ كَذَّبَهُ فِي الْهَلَاكِ أَوْ الدَّفْعِ إلَيْهِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ يَدَ وَكِيلِهِ كَيَدِهِ. وَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ لَمْ يُقِرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَبَضَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ الثَّمَنَ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُمَا عَلَى الْمُوَكِّلِ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمَبِيعَ، وَلَكِنَّهُ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا، كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْوَكِيلَ، فَإِذَا رَدَّ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، رَجَعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ إنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ، وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا ضَمِنَ، إذَا أَقَرَّ الْمُوَكِّلُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ الثَّمَنَ، وَيَكُونُ الْمَبِيعُ لِلْمُوَكِّلِ. وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ الْمُوَكِّلُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ الثَّمَنَ، لَا يَرْجِعُ الْوَكِيلُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْمُوَكِّلِ. وَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُوَكِّلَ عَلَى الْعِلْمِ بِقَبْضِهِ. فَإِنْ نَكَلَ رَجَعَ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْجِعُ، وَلَكِنَّهُ يَبِيعُ الْعَبْدَ فَيَسْتَوْفِي مَا ضَمِنَ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ رَدَّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقْصَانٌ فَلَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ عَلَى أَحَدٍ وَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ لَمْ يُقِرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ بِقَبْضِ الْمُوَكِّلِ، لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْهُ إلَيْهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ أَيْضًا لِأَنَّهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ وَعَلَى الْمُوَكِّلِ الْيَمِينُ عَلَى الْبَتَاتِ فَإِنْ نَكَلَ رَجَعَ عَلَيْهِ وَالْمَبِيعُ لَهُ. وَإِنَّ حَلَفَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ وَلَكِنَّ الْمَبِيعَ يُبَاعُ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْوَكِيلَ يَبِيعُهُ فِي قَوْلِهِمَا. وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَبِيعُهُ وَجَعَلَ هَذَا كَبَيْعِ مَالِ الْمَدْيُونِ الْمُفْلِسِ. وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ لَوْ بَاعَهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رُدَّ عَلَيْهِ فَسْخًا، عَادَتْ الْوَكَالَةُ. فَإِذَا بِيعَ الْعَبْدُ يَسْتَوْفِي الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ مِنْهُ إنْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الْمُوَكِّلِ وَلَمْ يُقِرَّ بِقَبْضِ نَفْسِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ وَضَمِنَ الْمُشْتَرِي، يَأْخُذُ مِنْ الثَّمَنِ مِقْدَارَ مَا غَرِمَ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ رَدَّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نُقْصَانٌ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ. (وَمِنْهَا) : أَنَّ الْوَكِيلَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ إذَا لَمْ يَدْفَعْ الْمُوَكِّلُ إلَيْهِ مَالًا لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْهُ فَقَضَاهُ مِنْ

فصل في بيان ما يخرج به الوكيل عن الوكالة

مَالِ نَفْسِهِ، يَرْجِعُ بِمَا قَضَى عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ اسْتِقْرَاضٌ مِنْهُ، وَالْمُقْرِضُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِمَا أَقْرَضَهُ. وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ مِنْ غَيْرِ دَفْعِ الثَّمَنِ إلَى الْوَكِيلِ تَوْكِيلٌ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَهُوَ الثَّمَنُ وَالْوَكِيلُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ: إذَا قَضَى مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ. فَكَذَا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ، وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ؛ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مِنْ الْمُوَكِّلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ: لَيْسَ لَهُ حَبْسُهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمَبِيعَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْوَكِيلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَالْهَلَاكُ عَلَى الْمُوَكِّلِ حَتَّى لَا يَسْقُطَ الثَّمَنُ عَنْهُ وَلَيْسَ لِلْأَمِينِ حَبْسُ الْأَمَانَةِ بَعْدَ طَلَبِ أَهْلِهَا، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] فَصَارَ كَالْوَدِيعَةِ. (وَلَنَا) أَنَّهُ عَاقِدٌ وَجَبَ الثَّمَنُ لَهُ عَلَى مَنْ وَقَعَ لَهُ حُكْمُ الْبَيْعِ - ضَمَانًا لِلْمَبِيعِ، فَكَانَ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ؛ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، كَالْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي - وَإِذَا طَلَبَ مِنْهُ الْمُوَكِّلُ، فَحَبَسَهُ حَتَّى هَلَكَ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا. لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يَكُونُ مَضْمُونًا ضَمَانَ الْبَيْعِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَكُونُ مَضْمُونًا ضَمَانَ الرَّهْنِ. وَقَالَ زُفَرُ: يَكُونُ مَضْمُونًا ضَمَانَ الْغَصْبِ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَبِيعَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، وَالْأَمِينُ لَا يَمْلِكُ حَبْسَ الْأَمَانَةِ عَنْ صَاحِبِهَا، فَإِذَا حَبَسَهَا فَقَدْ صَارَ غَاصِبًا، وَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونٌ بِقَدْرِهِ مِنْ الْمِثْلِ أَوْ بِالْقِيمَةِ بَالِغًا مَا بَلَغَ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذِهِ عَيْنٌ مَحْبُوسَةٌ بِدَيْنٍ يَسْقُطُ بِهَلَاكِهَا فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهَا وَمِنْ الدَّيْنِ كَالرَّهْنِ. (وَجْهٌ) قَوْلُهُمَا أَنَّ هَذِهِ عَيْنٌ مَحْبُوسَةٌ بِدَيْنٍ هُوَ ثَمَنٌ، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً ضَمَانَ الْبَيْعِ، كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ؛ إذَا بَاعَ، وَسَلَّمَ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي؛ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْوَكِيلِ؛ فَيَأْخُذُ عَيْنَهُ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَمِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ إنْ كَانَ هَالِكًا، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ: فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: الْوَكِيلُ يَخْرُجُ عَنْ الْوَكَالَةِ بِأَشْيَاءَ (مِنْهَا) : عَزْلُ الْمُوَكِّلِ إيَّاهُ وَنَهْيُهُ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ بِالْعَزْلِ وَالنَّهْيِ وَلِصِحَّةِ الْعَزْلِ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا عِلْمُ الْوَكِيلِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْعَزْلَ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ، فَلَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، كَالْفَسْخِ فَإِذَا عَزَلَهُ وَهُوَ حَاضِرٌ انْعَزَلَ، - وَكَذَا لَوْ كَانَ غَائِبًا فَكَتَبَ إلَيْهِ كِتَابَ الْعَزْلِ، فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ، وَعَلِمَ بِمَا فِيهِ، انْعَزَلَ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مِنْ الْغَائِبِ كَالْخِطَابِ مِنْ الْحَاضِرِ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا، فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ. وَقَالَ: إنَّ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إلَيْكَ، وَيَقُولُ: إنِّي عَزَلْتُكَ عَنْ الْوَكَالَةِ، فَإِنَّهُ يَنْعَزِلُ كَائِنًا مَا كَانَ الرَّسُولُ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، بَعْدَ أَنْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسِلِ مُعَبِّرٌ وَسَفِيرٌ عَنْهُ فَتَصِحُّ سِفَارَتُهُ بَعْدَ أَنْ صَحَّتْ عِبَارَتُهُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ. وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ كِتَابًا، وَلَا أَرْسَلَ رَسُولًا، وَلَكِنْ أَخْبَرَهُ بِالْعَزْلِ رَجُلَانِ عَدْلَانِ كَانَا أَوْ غَيْرَ عَدْلَيْنِ أَوْ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ، يَنْعَزِلُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْوَكِيلُ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ إذَا ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا فَخَبَرُ الْعَدْلَيْنِ أَوْ الْعَدْلِ أَوْلَى، وَإِنْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ: فَإِنْ صَدَّقَهُ يَنْعَزِلُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ لَا يَنْعَزِلُ وَإِنْ ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا يَنْعَزِلُ إذَا ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ وَإِنْ كَذَّبَهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ الْعَزْلِ مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَاتِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ، وَلَا الْعَدَالَةُ كَمَا فِي الْإِخْبَارِ فِي سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ الْعَزْلِ لَهُ شِبْهُ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْتِزَامَ حُكْمِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَهُوَ الْعَزْلُ، وَهُوَ لُزُومُ الِامْتِنَاعِ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَلُزُومُ الْعُهْدَةِ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بَعْدَ الْعَزْلِ، فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ؛ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ أَحَدِ شُرُوطِهَا وَهُوَ الْعَدَالَةُ أَوْ الْعَدَدُ - وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ: الشَّفِيعُ إذَا أَخْبَرَهُ بِالْبَيْعِ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ، وَلَمْ يَطْلُبْ الشُّفْعَةَ حَتَّى ظَهَرَ عِنْدَهُ صِدْقُ الْخَبَرِ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً فِي بَنِي آدَمَ، ثُمَّ أَخْبَرَ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ مَوْلَاهُ أَنَّ عَبْدَهُ قَدْ جَنَى، فَلَمْ يُصَدِّقْهُ حَتَّى أَعْتَقَهُ، لَا يَصِيرُ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا: يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ. وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ: الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا بَلَغَهُ حَجْرُ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ عَدْلٍ، فَلَمْ يُصَدِّقْهُ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا: يَصِيرُ مَحْجُورًا. وَإِنْ عَزَلَهُ الْمُوَكِّلُ، وَأَشْهَدَ عَلَى عَزْلِهِ، وَهُوَ غَائِبٌ، وَلَمْ يُخْبِرْهُ بِالْعَزْلِ أَحَدٌ، لَا يَنْعَزِلُ، وَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بَعْدَ الْعَزْلِ كَتَصَرُّفِهِ قَبْلَ الْعَزْلِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: فِي الْمُوَكِّلِ: إذَا عَزَلَ الْوَكِيلَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ، فَبَاعَ الْوَكِيلُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَهَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ وَمَاتَ

الْعَبْدُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي، كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمْنِ عَلَى الْوَكِيلِ، وَيَرْجِعَ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ كَمَا قَبْلَ الْعَزْلِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْعَزْلَ لَمْ يَصِحَّ لِانْعِدَامِ شَرْطِ صِحَّتِهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ. وَالثَّانِي - أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِالْوَكَالَةِ حَقُّ الْغَيْرِ، فَأَمَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ فَلَا يَصِحُّ الْعَزْلُ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ فِي الْعَزْلِ إبْطَالَ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَهُوَ كَمَنْ رَهَنَ مَالَهُ عِنْدَ رَجُلٍ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ وَضَعَهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ، وَجَعَلَ الْمُرْتَهَنَ أَوْ الْعَدْلَ مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِهِ، وَقَبْضِ ثَمَنِهِ عِنْدَ حِلِّ الْأَجَلِ، فَعَزَلَ الرَّاهِنُ الْمُسَلَّطَ عَلَى الْبَيْعِ، لَا يَصِحُّ بِهِ عَزْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا. وَكَذَلِكَ إذَا وَكَّلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ مَعَ الْمُدَّعِي بِالْتِمَاسِ الْمُدَّعِي، فَعَزَلَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَضْرَةِ الْمُدَّعِي، لَا يَنْعَزِلُ لِمَا ذَكَرْنَا. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ إنْ غَابَ ثُمَّ عَزَلَهُ الزَّوْجُ مِنْ غَيْرِ حَضْرَةِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ غَابَ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ عَزْلُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَذِهِ الْوَكَالَةِ حَقُّ الْمَرْأَةِ فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِحُّ عَزْلُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَجْبُورٍ عَلَى الطَّلَاقِ وَلَا عَلَى التَّوْكِيلِ بِهِ وَإِنَّمَا فَعَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ، فَيَمْلِكُ عَزْلَهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْوَكَالَاتِ. وَلَوْ وَكَّلَ وَكَالَةً غَيْرُ جَائِزٍ الرُّجُوعُ، يَعْنِي بِالْفَارِسِيَّةِ وَكِيلِي دماركست، هَلْ يَمْلِكُ عَزْلَهُ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ لَا يَمْلِكُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَكَّلَهُ وَكَالَةً ثَابِتَةً غَيْرُ جَائِزٍ الرُّجُوعُ عَنْهَا، فَقَدْ أَلْحَقَ حُكْمَ هَذَا التَّوْكِيلِ بِالْأَمْرِ، ثُمَّ لَوْ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ إلَى رَجُلٍ يُطَلِّقُهَا مَتَى شَاءَ، أَوْ أَمْرَ عَبْدِهِ إلَى رَجُلٍ يُعْتِقُهُ مَتَى شَاءَ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ، وَكَذَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ: طَلِّقْ امْرَأَتِي - إنْ شِئْتَ أَوْ أَعْتِقْ عَبْدِي إنْ شِئْتَ - لَا يَمْلِكُ عَزْلَهُ، كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِ يَمْلِكُ عَزْلَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ يَمْلِكُ الْعَزْلَ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ، بَلْ هِيَ إبَاحَةٌ، وَلِلْمُبِيحِ حَقُّ الْمَنْعِ عَنْ الْمُبَاحِ. وَلَوْ قَالَ وَقْتَ التَّوْكِيلِ: كُلَّمَا عَزَلْتُكَ فَأَنْتَ وَكِيلِي وَكَالَةً مُسْتَقْبَلَةً فَعَزَلَهُ يَنْعَزِلُ، وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ وَكِيلًا ثَانِيًا وَكَالَةً مُسْتَقْبَلَةً كَمَا شَرَطَ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ جَائِزٌ. وَلَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ: كُنْتُ وَكَّلْتُكَ وَقُلْتُ لَكَ: كُلَّمَا عَزَلْتُكَ فَأَنْتَ وَكِيلِي فِيهِ وَقَدْ عَزَلْتُكَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لَا يَصِيرُ وَكِيلًا بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بِتَوْكِيلٍ جَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلَّقَ التَّوْكِيلَ بِشَرْطٍ ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ، وَلَا يَصِيرُ وَكِيلًا بَعْدَ ذَلِكَ بِوُجُودِ الشَّرْطِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي التَّوْكِيلِ الْمُعَلَّقِ: لَا يَمْلِكُ الْعَزْلَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَيَكُونُ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ بَعْدَ الْعَزْلِ وَكَالَةً مُسْتَقْبَلَةً، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الْعَزْلَ فِي الْمُرْسَلِ فَفِي الْمُعَلَّقِ أَوْلَى. (وَمِنْهَا) مَوْتُ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ وَقَدْ بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ الْآمِرِ بِالْمَوْتِ فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ عَلِمَ الْوَكِيلُ بِمَوْتِهِ أَمْ لَا (وَمِنْهَا) جُنُونُهُ جُنُونًا مُطْبِقًا؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ الْمُطْبِقَ مُبْطِلٌ لِأَهْلِيَّةِ الْآمِرِ. وَاخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي حَدِّ الْجُنُونِ الْمُطْبِقِ فَحَدَّهُ أَبُو يُوسُفَ بِمَا يَسْتَوْعِبُ الشَّهْرَ، وَمُحَمَّدٌ بِمَا يَسْتَوْعِبُ الْحَوْلَ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُسْتَوْعِبَ لِلْحَوْلِ هُوَ الْمُسْقِطُ لِلْعِبَادَاتِ كُلِّهَا فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِهِ أَوْلَى (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ أَدْنَى مَا يَسْقُطُ بِهِ عِبَادَةُ الصَّوْمِ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِهِ أَوْلَى. (وَمِنْهَا) : لَحَاقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ، فَكَانَتْ وَكَالَةُ الْوَكِيلِ مَوْقُوفَةً أَيْضًا، فَإِنْ أَسْلَمَ الْمُوَكِّلُ نَفَذَتْ. وَإِنْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، بَطَلَتْ. وَعِنْدَهُمَا تَصَرُّفَاتُهُ نَافِذَةٌ، فَكَذَا الْوَكَالَةُ، وَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ امْرَأَةً فَارْتَدَّتْ، فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ حَتَّى تَمُوتَ أَوْ تَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ إجْمَاعًا. لِأَنَّ رِدَّةَ الْمَرْأَةِ لَا تَمْنَعُ نَفَاذَ تَصَرُّفِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ فِيمَا رُتِّبَ عَلَيْهِ النَّفَاذُ وَهُوَ الْمِلْكُ. (وَمِنْهَا) عَجْزُ الْمُوَكِّلِ وَالْحَجْرُ عَلَيْهِ بِأَنْ وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ رَجُلًا، فَعَجِزَ الْمُوَكِّلُ، وَكَذَا إذَا وَكَّلَ الْمَأْذُونُ إنْسَانًا، فَحُجِرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَجْزِ وَالْحَجْرِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ آمِرِهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ فَيَبْطُلُ الْأَمْرُ، فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ. (وَمِنْهَا) مَوْتُ الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْمَوْتَ مُبْطِلٌ لِأَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ (وَمِنْهَا) جُنُونُهُ الْمُطْبِقُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا، لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّصَرُّفُ إلَّا أَنْ يَعُودَ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ قَبْلَ الْحُكْمِ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ كَانَ مَوْقُوفًا فَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا زَالَ التَّوَقُّفُ، وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَرْتَدَّ أَصْلًا. وَإِنْ حُكِمَ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا هَلْ تَعُودُ الْوَكَالَةُ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تَعُودُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ تَعُودُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ نَفْسَ الرِّدَّةِ لَا تُنَافِي الْوَكَالَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ قَبْلَ لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ؟ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ تَصَرُّفُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِتَعَذُّرِ التَّنْفِيذِ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ. فَإِذَا عَادَ زَالَ الْمَانِعُ، فَيَجُوزُ، وَنَظِيرُهُ مَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدٍ بِالْكُوفَةِ، فَلَمْ يَبِعْهُ فِيهَا حَتَّى خَرَجَ إلَى الْبَصْرَةِ، لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ بِالْبَصْرَةِ، ثُمَّ إذَا عَادَ إلَى الْكُوفَةِ مَلَكَ بَيْعَهُ فِيهَا، كَذَا هَذَا. (وَجْهُ)

كتاب الصلح

قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدٌ، حُكِمَ بِبُطْلَانِهِ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ - كَالنِّكَاحِ. (وَأَمَّا) الْمُوَكِّلُ إذَا ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا، لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تَعُودُ: وَوَجْهُهُ: أَنَّ بُطْلَانَ الْوَكَالَةِ لِبُطْلَانِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ، فَإِذَا عَادَ مُسْلِمًا، عَادَ مِلْكُهُ الْأَوَّلُ، فَيَعُودُ بِحُقُوقِهِ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ لُحُوقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ. وَلَوْ مَاتَ لَا يُحْتَمَلُ الْعَوْدُ - فَكَذَا - إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ -. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ فِيمَا وَكَّلَ بِهِ قَبْلَ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ نَحْوُ مَا إذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ، فَبَاعَهُ الْمُوَكِّلُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَكَذَا إذَا اسْتَحَقَّ أَوْ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ. لِأَنَّ الْوَكِيلَ عَجَزَ عَنْ التَّصَرُّفِ؛ لِزَوَالِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ؛ فَيَنْتَهِي حُكْمُ الْوَكَالَةِ. كَمَا إذَا هَلَكَ الْعَبْدُ - وَلَوْ بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ، هَلْ تَعُودُ الْوَكَالَةُ كَمَا إذَا هَلَكَ الْعَبْدُ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تَعُودُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَعُودُ؛ لِأَنَّ الْعَائِدَ بِالْفَسْخِ عَيْنُ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ، فَيَعُودُ بِحُقُوقِهِ -. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُوَكِّلِ نَفْسِهِ يَتَضَمَّنُ عَزْلَ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ أَعْجَزَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيمَا وَكَّلَهُ بِهِ وَالْوَكِيلُ بَعْدَ مَا انْعَزَلَ لَا يَعُودُ وَكِيلًا، إلَّا بِتَجْدِيدِ التَّوْكِيلِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ، فَوَهَبَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فِي هِبَتِهِ، لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ؛ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْوَكِيلُ أَنْ يَهَبَهُ. فَمُحَمَّدٌ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَبَيْنَ الْهِبَةِ: (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ لَهُ لَمْ يَتَّضِحْ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِنَفْسِهِ، وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ، فَتَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ تَزْوِيجِهَا مِنْهُ، فَبَطَلَتْ الْوَكَالَةُ. وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَوْ بِالتَّدْبِيرِ أَوْ بِالْكِتَابَةِ أَوْ الْهِبَةِ فَفَعَلَ بِنَفْسِهِ لِمَا قُلْنَا. وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِخُلْعِ امْرَأَتِهِ. ثُمَّ خَلَعَهَا؛ لِأَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَا تَحْتَمِلُ الْخُلْعَ. وَكَذَا إذَا وَكَّلَهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ، فَطَلَّقَهَا بِنَفْسِهِ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ بَعْدَ الثَّلَاثِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَاحِدَةً، وَالْعِدَّةُ بَاقِيَةٌ فَالْوَكَالَةُ قَائِمَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فِي الْعِدَّةِ. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِالْكِتَابَةِ فَكَاتَبَهُ، ثُمَّ عَجَزَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً. وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً، فَزَوَّجَهُ، وَأَبَانَهَا، لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُزَوِّجَهُ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، فَإِذَا فَعَلَ مَرَّةً حَصَلَ الِامْتِثَالُ، فَانْتَهَى حُكْمُ الْآمِرِ كَمَا فِي الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ، ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ قَاضٍ، أَنَّ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي يُوجِبُ ارْتِفَاعَ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ، وَيَجْعَلُهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا تَكْرَارًا. حَتَّى لَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ جَدِيدٌ وَقَدْ انْتَهَتْ الْوَكَالَةُ بِالْأَوَّلِ فَلَا يَمْلِكُ الثَّانِي إلَّا بِتَجْدِيدِ التَّوْكِيلِ. (وَمِنْهَا) : هَلَاكُ الْعَبْدِ الَّذِي وُكِّلَ بِبَيْعِهِ أَوْ بِإِعْتَاقِهِ أَوْ بِهِبَتِهِ أَوْ بِتَدْبِيرِهِ أَوْ بِكِتَابَتِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْمَحَلِّ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ هَلَاكِهِ. وَالْوَكَالَةُ بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّصَرُّفَ مُحَالٌ، فَبَطَلَ - ثُمَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي ذَكَرْنَا لَهُ أَنْ يُخْرِجَ بِهَا الْوَكِيلَ مِنْ الْوَكَالَةِ سِوَى الْعَزْلِ وَالنَّهْيِ، لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فِيهَا بَيْنَ مَا إذَا عَلِمَ الْوَكِيلُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ عَنْ الْوَكَالَةِ، لَكِنْ تَقَعُ الْمُفَارَقَةُ فِيمَا بَيْنَ الْبَعْضِ وَالْبَعْضِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا بَاعَ الْعَبْدَ الْمُوَكَّلَ بِبَيْعِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْوَكِيلُ، فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ، فَهَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ، وَمَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي، وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَكِيلِ بِالثَّمَنِ، رَجَعَ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ. وَكَذَا لَوْ دَبَّرَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ، أَوْ اسْتَحَقَّ أَوْ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ. وَفِيمَا إذَا مَاتَ الْمُوَكِّلُ أَوْ جُنَّ أَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ الَّذِي وُكِّلَ بِبَيْعِهِ وَنَحْوَهُ لَا يَرْجِعُ الْوَكِيلُ. وَالْفَرْقُ: - أَنَّ الْوَكِيلَ هُنَاكَ وَإِنْ صَارَ مَعْزُولًا بِتَصَرُّفِ الْمُوَكَّل - لَكِنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ بِتَرْكِ إعْلَامِهِ إيَّاهُ، فَصَارَ كَفِيلًا لَهُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ؛ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ؛ إذْ ضَمَانُ الْغُرُورِ فِي الْحَقِيقَةِ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ - وَمَعْنَى الْغُرُورِ لَا يَتَقَدَّرُ فِي الْمَوْتِ وَهَلَاكِ الْعَبْدِ وَالْجُنُونِ وَأَخَوَاتِهَا، فَهُوَ الْفَرْقُ وَلَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ، ثُمَّ إنَّ الْمُوَكِّلَ وَهَبَ الْمَالَ لِلَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَالْوَكِيلُ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ فَقَبَضَ الْوَكِيلُ الْمَالَ، فَهَلَكَ فِي يَدِهِ كَانَ لِدَافِعِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ الْمُوَكِّلَ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ يَدُ نِيَابَةٍ عَنْ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِأَمْرِهِ. وَقَبْضُ النَّائِبِ كَقَبْضِ الْمَنُوبِ عَنْهُ، فَكَأَنَّهُ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَا وَهَبَهُ مِنْهُ. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَرَجَعَ عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. [كِتَابُ الصُّلْحِ] [أَنْوَاعُ الصُّلْحِ وَبَيَانِ شَرْعِيَّةِ كُلِّ نَوْعٍ] (كِتَابُ الصُّلْحِ) الْكَلَامُ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الصُّلْحِ، وَفِي بَيَانِ شَرْعِيَّةِ كُلِّ نَوْعٍ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِ الصُّلْحِ، وَفِي

فصل في ركن الصلح

بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الصُّلْحِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ الصُّلْحِ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا بَطَلَ، أَوْ لَمْ يَصِحَّ مِنْ الْأَصْلِ (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. الصُّلْحُ فِي الْأَصْلِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ:. صُلْحٌ عَنْ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَصُلْحٌ عَنْ إنْكَارِهِ، وَصُلْحٌ عَنْ سُكُوتِهِ مِنْ غَيْرِ إقْرَارٍ، وَلَا إنْكَارٍ، وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُدَّعِي، وَالْأَجْنَبِيِّ الْمُتَوَسِّطِ فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ مَشْرُوعٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: الْمَشْرُوعُ هُوَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ وَسُكُوتٍ لَا غَيْرِهِمَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَمَّا الْمَشْرُوعُ هُوَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ لَا غَيْرُ. (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ جَوَازَ الصُّلْحِ يَسْتَدْعِي حَقًّا ثَابِتًا، وَلَمْ يُوجَدْ فِي مَوْضِعِ الْإِنْكَارِ وَالسُّكُوتِ أَمَّا فِي الْإِنْكَارِ؛ فَلِأَنَّ الْحَقَّ لَوْ ثَبَتَ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالدَّعْوَى، وَقَدْ عَارَضَهَا الْإِنْكَارُ، فَلَا يَثْبُتُ الْحَقُّ عِنْدَ التَّعَارُضِ، فَأَمَّا فِي السُّكُوتِ فَلِأَنَّ السَّاكِتَ يُنَزَّلُ مُنْكِرًا حُكْمًا حَتَّى تُسْمَعَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ فَكَانَ إنْكَارُهُ مُعَارِضًا لِدَعْوَى الْمُدَّعِي فَلَمْ يَثْبُتْ الْحَقُّ. وَلَوْ بَذَلَ الْمَالَ لَبَذَلَهُ لِدَفْعِ خُصُومَةٍ بَاطِلَةٍ فَكَانَ فِي مَعْنَى الرِّشْوَةِ (وَلَنَا) ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] ، وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ جِنْسَ الصُّلْحِ بِالْخَيْرِيَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُوصَفُ بِالْخَيْرِيَّةِ، فَكَانَ كُلُّ صُلْحٍ مَشْرُوعًا بِظَاهِرِ هَذَا النَّصِّ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَعَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ رُدُّوا الْخُصُومَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورِثُ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنَ أَمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِرَدِّ الْخُصُومِ إلَى الصُّلْحِ مُطْلَقًا، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ حُجَّةً قَاطِعَةً؛ وَلِأَنَّ الصُّلْحَ شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إلَى قَطْعِ الْخُصُومَةِ، وَالْمُنَازَعَةِ وَالْحَاجَةُ إلَى قَطْعِهَا فِي التَّحْقِيقِ عِنْدَ الْإِنْكَارِ إذْ الْإِقْرَارُ مُسَالَمَةٌ، وَمُسَاعَدَةٌ، فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَجْوَزُ مَا يَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورِ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا صَنَعَ الشَّيْطَانُ مِنْ إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ فِي بَنِي آدَمَ مَا صَنَعَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي إنْكَارِهِ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَقَوْلُهُ أَنَّ الْحَقَّ لَيْسَ بِثَابِتٍ قُلْنَا هَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ مَمْنُوعٌ، بَلْ الْحَقُّ ثَابِتٌ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي، وَحَقُّ الْخُصُومَةِ وَالْيَمِينِ ثَابِتَانِ لَهُ شَرْعًا فَكَانَ هَذَا صُلْحًا عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فَكَانَ مَشْرُوعًا. [فَصْلٌ فِي رُكْنِ الصُّلْحِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُ الصُّلْحِ. فَالْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: صَالَحْتُكَ مِنْ كَذَا عَلَى كَذَا، أَوْ مِنْ دَعْوَاكَ كَذَا عَلَى كَذَا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: قَبِلْتُ، أَوْ رَضِيت، أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِهِ وَرِضَاهُ، فَإِذَا وُجِدَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، فَقَدْ تَمَّ عَقْدُ الصُّلْحِ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ رُكْن الصُّلْح وبعضها يرجع إلَى المصالح] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ. فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُصَالِحِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُصَالَحِ عَنْهُ. (أَمَّا) . الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُصَالِحِ. فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، وَهَذَا شَرْطٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ كُلِّهَا فَلَا يَصِحُّ صُلْحُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ بِانْعِدَامِ الْعَقْلِ. (فَأَمَّا) الْبُلُوغُ، فَلَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى يَصِحَّ صُلْحُ الصَّبِيِّ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ إذَا كَانَ لَهُ فِيهِ نَفْعٌ، أَوْ لَا يَكُونُ لَهُ فِيهِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ بَيَانُ ذَلِكَ إذَا وَجَبَ لِلصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ عَلَى إنْسَانٍ دَيْنٌ، فَصَالَحَهُ عَلَى بَعْضِ حَقِّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ جَازَ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ عِنْدَ انْعِدَامِ الْبَيِّنَةِ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا الْخُصُومَةُ، وَالْحَلِفُ وَالْمَالُ أَنْفَعُ لَهُ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ تَبَرُّعٌ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَاتِ. وَلَوْ أَخَّرَ الدَّيْنَ جَازَ سَوَاءً كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، أَوْ لَا فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الدَّيْنِ مِنْ أَعْمَالِ التِّجَارَةِ، وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ فِي التِّجَارَاتِ كَالْبَالِغِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّأْجِيلَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ بِأَنْ يَبِيعَ بِأَجَلٍ، فَيَمْلِكُهُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعَقْدِ أَيْضًا بِخِلَافِ الْحَطِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ، بَلْ هُوَ تَبَرُّعٌ فَلَا يَمْلِكُهُ إلَّا أَنَّهُ يَمْلِكُ حَطَّ بَعْضِ الثَّمَنِ لِأَجْلِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ حَطَّ بَعْضِ الثَّمَنِ لِلْعَيْبِ قَدْ يَكُونُ أَنْفَعَ مِنْ أَخْذِ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ، فَيَمْلِكُهُ وَلَوْ صَالَحَ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ جَازَ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ إقَالَةٌ لِلْعَقْدِ وَالْإِقَالَةُ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى سِلْعَةً وَظَهَرَ بِهَا عَيْبٌ فَصَالَحَ الْبَائِعَ عَلَى أَنْ قَبِلَهَا جَازَ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ أَنْفَعُ مِنْ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ عَادَةً. وَلَوْ صَالَحَهُ الْبَائِعُ، فَحَطَّ عَنْهُ بَعْضَ الثَّمَنِ لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ مِنْ الْبَائِعِ تَبَرُّعٌ مِنْهُ عَلَى الصَّبِيِّ، فَيَصِحُّ. وَلَوْ ادَّعَى إنْسَانٌ

عَلَيْهِ دَيْنًا فَأَقَرَّ بِهِ، فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ حَطَّ عَنْهُ الْبَعْضَ جَازَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ صَحِيحٌ، فَكَانَ الصُّلْحُ تَبَرُّعًا عَلَى الصَّبِيِّ بِحَطِّ بَعْضِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَالصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُتَبَرَّعَ عَلَيْهِ، فَيَصِحُّ. وَكَذَلِكَ حُرِّيَّةُ الْمُصَالِحِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الصُّلْحِ، حَتَّى يَصِحَّ صُلْحُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا كَانَ لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، أَوْ كَانَ مِنْ التِّجَارَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الصُّلْحَ عَلَى حَطِّ بَعْضِ الْحَقِّ إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، وَيَمْلِكُ التَّأْجِيلَ كَيْفَ مَا كَانَ، وَيَمْلِكُ حَطَّ بَعْضِ الثَّمَنِ لِأَجْلِ الْعَيْبِ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ صَالَحَهُ الْبَائِعُ عَلَى حَطِّ بَعْضِ الثَّمَنِ جَازَ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى عَلَى إنْسَانٍ دَيْنًا، وَهُوَ مَأْذُونٌ فَأَقَرَّ بِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ حَطَّ بَعْضَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ صَحِيحٌ فَكَانَ الْحَطُّ مِنْ الْمُدَّعِي تَبَرُّعَا عَلَى الْعَبْدِ بِبَعْضِ الدَّيْنِ فَيَصِحُّ. وَلَوْ حَجَر عَلَيْهِ الْمَوْلَى، ثُمَّ ادَّعَى إنْسَانٌ عَلَيْهِ دَيْنًا، فَأَقَرَّ بِهِ، وَهُوَ مَحْجُورٌ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَنْهُ عَلَى مَالٍ ضَمِنَهُ بِإِقْرَارِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مَالٌ لَا يَنْفُذُ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ لَا يَنْفُذُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مَالٌ وَإِذَا لَمْ يَنْفُذْ لَمْ يَنْفُذْ الصُّلْحُ فَلَا يُطَالَبُ بِهِ لِلْحَالِ وَلَكِنْ يُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ مِنْ نَفْسِهِ صَحِيحٌ لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِلْحَالِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ حَقُّ الْمَوْلَى، فَإِذَا عَتَقَ زَالَ الْمَانِعُ فَيَظْهَرُ حِينَئِذٍ. وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ فَيَجُوزُ إقْرَارُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا إقْرَارُ الْمَحْجُورِ لِبُطْلَانِ الْإِذْنِ بِالْحَجْرِ، وَإِقْرَارُ الْمَحْجُورِ غَيْرُ صَحِيحٍ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ مِنْ أَهْلِ الْإِقْرَارِ، وَإِنَّمَا الْمَانِعُ مِنْ ظُهُورِهِ حَقُّ الْمَوْلَى فَإِذَا كَانَتْ يَدُهُ ثَابِتَةً عَلَى هَذَا الْمَالِ مَنَعَ ظُهُورَ حَقِّ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي إقْرَارِهِ فَيَمْنَعُ ظُهُورَ حَقِّ الْمَوْلَى فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فَلَا يَظْهَرُ، فَلَا تَبْطُلُ يَدُهُ الثَّابِتَةُ عَلَيْهِ بِالشَّكِّ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مَالٌ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ حَقِيقَةً، وَالْإِقْرَارُ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمَلٌ فَلَا يُوجِبُ بُطْلَانَ يَدِهِ الثَّابِتَةِ حَقِيقَةً مَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبِ نَظِيرُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ، فَادَّعَى رَجُلٌ عَلَيْهِ دَيْنًا، فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَهُ، وَيُؤَخِّرَ بَعْضَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَجَزَ، فَقَدْ صَارَ مَحْجُورًا عَنْ التَّصَرُّف، فَلَا يَصِحّ صُلْحُهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ جَازَ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ عَجَزَ، فَالْخَصْم فِي دُيُونِهِ هُوَ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا لِحَطِّ الْبَعْضِ بِالصُّلْحِ. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ الْمُصَالِحُ بِالصُّلْحِ عَلَى الصَّغِيرِ مُضِرًّا بِهِ مَضَرَّةٌ ظَاهِرَةٌ حَتَّى أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى صَبِيٍّ دِينًا فَصَالَحَ أَبِ الْوَصِيِّ مِنْ دَعْوَاهُ عَلَى مَالِ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ، فَإِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةً، وَمَا أَعْطَى مِنْ الْمَالِ مِثْلَ الْحَقِّ الْمُدَّعَى، أَوْ زِيَادَةً يُتَغَابَنُ فِي مِثْلِهَا، فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ لَإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى كُلِّ الْحَقِّ بِالْبَيِّنَةِ، وَالْأَبُ يَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ عِنْدَ انْعِدَامِ الْبَيِّنَةِ يَقَعُ الصُّلْحُ تَبَرُّعًا بِمَالِ الصَّغِيرِ، وَأَنَّهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ، فَلَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ. وَلَوْ صَالَحَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَا أَضَرَّ بِالصَّغِيرِ، بَلْ نَفْعَهُ حَيْثُ قَطْعَ الْخُصُومَةَ عَنْهُ. وَلَوْ ادَّعَى أَبُو الصَّغِيرِ عَلَى إنْسَانٍ دَيْنًا لِلصَّغِيرِ فَصَالَحَ عَلَى أَنْ حَطَّ بَعْضَهُ، وَأَخَذَ الْبَاقِيَ فَإِنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ؛ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ مِنْهُ تَبَرُّعٌ مِنْ مَالِهِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى مِثْلِ قِيمَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ شَيْئًا يَسِيرًا جَازَ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِمَعْنَى الْبَيْعِ، وَهُوَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ فَيَمْلِكُ الصُّلْحَ، وَهَلْ يَمْلِكُ الْأَبُ الْحَطَّ مِنْ دَيْنٍ وَجَبَ لِلصَّغِيرِ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْهُ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: (إمَّا) إنْ كَانَ وَلِيَ ذَلِكَ الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ (وَإِمَّا) إنْ لَمْ يَكُنْ وَلِيَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلِيَهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ، وَالْإِبْرَاءَ مِنْ بَابِ التَّبَرُّعِ، وَالْأَبُ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ؛ لِكَوْنِهِ مَضَرَّةً مَحْضَةً، وَإِنْ كَانَ وَلِيَهُ بِنَفْسِهِ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَهَذَا عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا أَبْرَأَ الْمُشْتَرِي عَنْ الثَّمَنِ، أَوْ حَطَّ بَعْضَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، وَلَا يَجُوزُ صُلْحُ أَحَدٍ عَلَى حَمْلٍ أَيًّا كَانَ الْمُصَالِحُ أَوْ غَيْرُهُ، وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا بَعْدَ ذَلِكَ وَوِرْثَ وَجَازَتْ الْوَصَايَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ عَلَيْهِ؛ لَكَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَصِحَّ عَلَى اعْتِبَارِ الْحَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَصِحَّ عَلَى اعْتِبَارِ الِانْفِصَالِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ تَنْفِيذِ الْوِلَايَةِ، وَهُوَ لِلْحَالِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُوَلِّيًا عَلَيْهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ، وَيَمْلِكُ الْأَبُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، وَلَا يَمْلِكُ الْوَصِيُّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ تَصَرُّفٌ

فصل في الشرائط التي ترجع إلى المصالح عليه

عَلَى نَفْسِ الصَّغِيرِ بِالْإِحْيَاءِ، وَتَحْصِيلِ التَّشَفِّي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ، وَكَذَا مَنْفَعَةُ التَّشَفِّي رَاجِعَةٌ إلَى نَفْسِهِ، وَلِلْأَبِ، وِلَايَةٌ عَلَى نَفْسِ الصَّغِيرِ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْوَصِيِّ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا مَلَكَ إنْكَاحَهُ دُونَ الْوَصِيِّ إلَّا أَنَّهُ يَمْلِكُ الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَك الْأَمْوَالِ لِشَبَهِهِ بِالْأَمْوَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجْرِي بَيْنَ طَرَفِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَلَا بَيْنَ طَرَفِ الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى مَعَ جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمْ فِي الْأَنْفُسِ، وَيُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فِي الْحُرِّ كَمَا يُسْتَوْفَى فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ فِيهِ، وَلَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فِيهِ، وَيُقْضَى بِالنُّكُولِ فِي الْأَطْرَافِ، كَمَا يُقْضَى بِهِ فِي الْأَمْوَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يُقْضَى بِهِ فِي الْأَنْفُسِ، وَلَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْحَالِ، وَالْمَآلِ فَيَلِي التَّصَرُّفَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَيَمْلِكُ الْأَبُ الصُّلْحَ عَنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، وَمَا دُونَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ الِاسْتِيفَاءَ، فَلَأَنْ يَمْلِكَ الصُّلْحَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ، وَكَذَا الْوَصِيُّ يَمْلِكُ الصُّلْحَ عَنْ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَكَذَا الصُّلْحُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ، وَهَلْ يَمْلِكُ الصُّلْحَ عَنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يَمْلِكُ، وَكَذَا رَوَى الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِيفَاءِ وَبَيْنَ الصُّلْحِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِصَاصَ تَصَرُّفٌ فِي النَّفْسِ بِتَحْصِيلِ الْحَيَاةِ، وَالتَّشَفِّي، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ، فَأَمَّا الصُّلْحُ فَتَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ وَلَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، وَأَنَّهُ فَرْقٌ وَاضِحٌ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الصُّلْحِ أَنَّ الصُّلْحَ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْقِصَاصِ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ الْقِصَاصَ، فَكَيْفَ يَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ؟ وَلَوْ صَالَحَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ عَلَى أَقَلِّ مِنْ الدِّيَةِ فِي الْخَطَإِ، وَشِبْهِ الْعَمْدِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ تَبَرُّعٌ، وَهُمَا لَا يَمْلِكَانِ التَّبَرُّعَ بِمَالِ الْيَتِيمِ، وَالْحَطُّ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْغَبْنِ الْيَسِيرِ فِي الْبَيْعِ أَنَّهُمَا يَمْلِكَانِهِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَطَّ نُقْصَانٌ مُتَحَقِّقٌ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ مُقَدَّرَةٌ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ فَالنُّقْصَانُ عَنْهُ مُتَحَقِّقٌ وَإِنْ قَلَّ وَالنُّقْصَانُ فِي الْبَيْعِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ فِيهِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ لِاخْتِلَافِهِ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَإِذَا لَمْ يَتَقَدَّرْ الْعِوَضُ لَا يَتَحَقَّقُ النُّقْصَانُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمُصَالِحُ عَنْ الصَّغِيرِ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْوَصِيِّ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ، فَيَخْتَصُّ بِمَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَدًّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا صُلْحُهُ نَافِذٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ لَكِنْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ نَفَاذُ تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ نَفَاذُ تَصَرُّفِ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَصُلْحُهَا جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْحَرْبِيَّةِ إلَّا أَنَّهَا إذَا الْتَحَقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ بَطَلَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ كَصُلْحِ الْحَرْبِيَّةِ لِثُبُوتِ أَحْكَامِ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي حَقِّهَا بِالْتِحَاقِهَا بِدَارِ الْحَرْبِ. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِطِ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمُصَالِحِ عَلَيْهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ. فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَالًا فَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَصَيْدِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ وَكُلُّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ؛ لِأَنَّ فِي الصُّلْحِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَمَا لَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْبِيَاعَاتِ لَا يَصْلُحُ بَدَلَ الصُّلْحِ، وَكَذَا إذَا صَالَحَ عَلَى عَبْدٍ، فَإِذَا هُوَ حُرٌّ؛ لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا، أَوْ مَنْفَعَةً لَيْسَتْ بِعَيْنٍ وَلَا دَيْنٍ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ قَدْ يَكُونُ عَيْنًا، وَقَدْ يَكُونُ دَيْنًا، وَقَدْ يَكُونُ مَنْفَعَةً إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي بَعْضِ الْأَعْوَاضِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمُدَّعَى لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ (إمَّا) أَنْ يَكُونَ عَيْنًا، وَهُوَ مَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ مُطْلَقًا جِنْسًا وَنَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً وَاسْتِحْقَاقًا كَالْعُرُوضِ مِنْ الثِّيَابِ وَالْعَقَارِ مِنْ الْأَرْضَيْنِ وَالدُّورِ وَالْحَيَوَانِ مِنْ الْعَبِيدِ وَالدَّوَابِّ وَالْمَكِيلِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْمَوْزُونِ مِنْ الصُّفْرِ وَالْحَدِيدِ (وَإِمَّا) أَنْ يَكُونَ دَيْنًا، وَهُوَ مَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ وَالْمَوْزُونِ الْمَوْصُوفِ سِوَى الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ وَالثِّيَابِ الْمَوْصُوفَةِ وَالْحَيَوَانِ الْمَوْصُوفِ (وَإِمَّا) أَنْ يَكُونَ مَنْفَعَةً (وَإِمَّا) أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَيْسَ بِعَيْنٍ، وَلَا دَيْنٍ، وَلَا مَنْفَعَةٍ، وَبَدَلُ الصُّلْحِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً وَالصُّلْحُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ عَنْ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ عَنْ إنْكَارِهِ، أَوْ عَنْ سُكُوتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا فَصَالَحَ مِنْهَا عَنْ إقْرَارٍ يَجُوزُ سَوَاءً كَانَ بَدَلَ الصُّلْحِ عَيْنًا، أَوْ دَيْنًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ إلَّا الْحَيَوَانُ، وَإِلَّا الثِّيَابُ إلَّا بِجَمِيعِ شَرَائِطِ

السَّلَمِ؛ لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فَكَانَ بَدَلَ الصُّلْحِ فِي مَعْنَى الثَّمَنِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَصْلُحُ ثَمَنًا فِي الْبِيَاعَاتِ عَيْنًا كَانَتْ، أَوْ دَيْنًا إلَّا الْحَيَوَانَ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ أَصْلًا، وَالثِّيَابُ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إلَّا بِشَرَائِطِ السَّلَمِ مِنْ بَيَانِ الْقَدْرِ، وَالْوَصْفِ وَالْأَجَلِ، وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ يَثْبُتَانِ فِي الذِّمَّةِ مُطْلَقًا فِي الْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ غَيْرِ أَجْلٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرْفٍ وَلَا فِي تَرْكِ قَبْضِهِ افْتِرَاقٌ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، بَلْ هُوَ افْتِرَاقٌ عَنْ عَيْنٍ بِعَيْنٍ، أَوْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَإِنْ كَانَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، فَصَالَحَ مِنْهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ (إمَّا) إنْ صَالَحَ مِنْهَا عَلَى خِلَافِ جِنْسِهَا، أَوْ عَلَى جِنْسِهَا، فَإِنْ صَالَحَ مِنْهَا عَلَى خِلَافِ جِنْسِهَا فَإِنْ صَالَحَ مِنْهَا عَلَى عَيْنٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَيْهَا فِي مَعْنَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ، وَإِنْ صَالَحَ مِنْهَا عَلَى دَيْنٍ سِوَاهُ؛ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بَائِعٌ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانٌ أَبَدًا، وَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مَبِيعٌ فَالصُّلْحُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَقَعُ بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَإِنْ صَالَحَ مِنْهَا عَلَى جِنْسِهَا، فَإِنْ صَالَحَ مِنْ دَرَاهِمَ عَلَى دَرَاهِمَ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ، أَوْجُهٍ. (إمَّا) أَنْ صَالَحَ عَلَى مِثْلِ حَقِّهِ (وَإِمَّا) أَنْ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ. (وَإِمَّا) أَنْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، فَإِنْ صَالَحَ عَلَى مِثْلِ حَقِّهِ قَدْرًا أَوْ وَصْفًا بِأَنْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ جِيَادٍ عَلَى أَلْفٍ جِيَادٍ، فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِيفَاءُ عَيْنِ حَقِّهِ أَصْلًا وَوَصْفًا. وَلَوْ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا بِأَنْ صَالَحَ مِنْ الْأَلْفِ الْجِيَادِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ نَبَهْرَجَةٍ يَجُوزُ أَيْضًا، وَيُحْمَلُ عَلَى اسْتِيفَاءِ بَعْضِ عَيْنِ الْحَقِّ أَصْلًا وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الْبَاقِي أَصْلًا وَوَصْفًا؛ لِأَنَّ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصَّلَاحِ وَالسَّدَادِ مَا أَمْكَنَ. وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ؛ يُؤَدَّى إلَى الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا أَلْفًا بِخَمْسِمِائَةٍ، وَأَنَّهُ رِبًا، فَيُحْمَلُ عَلَى اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْحَقِّ، وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الْبَاقِي، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ، وَيَجُوزُ مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ؛ لِيَكُونَ صَرْفًا، وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ، وَصْفًا لَا قَدْرًا بِأَنْ صَالَحَ عَنْ أَلْفٍ جِيَادٍ عَلَى أَلْفٍ نَبَهْرَجَةٍ، أَوْ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا لَا وَصْفًا، بِأَنْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ جِيَادٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ جَيِّدَةٍ يَجُوزُ، وَيُحْمَلُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْبَعْضِ، وَالْحَطُّ وَالْإِبْرَاءُ وَالتَّجَوُّزُ بِدُونِ الْحَقِّ أَصْلًا وَوَصْفًا؛ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ وَمُؤَجَّلًا. وَلَوْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا بِأَنْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ نَبَهْرَجَةٍ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ جِيَادٍ، أَوْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا لَا وَصْفًا بِأَنْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ جِيَادٍ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ نَبَهْرَجَةٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ رِبَا؛ لِأَنَّهُ يَحْمِلُهُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ هُنَا لِتَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْبَعْضِ وَإِسْقَاطِ الْبَاقِي، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ وَصْفًا لَا قَدْرًا بِأَنْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ نَبَهْرَجَةٍ عَلَى أَلْفٍ جِيَادٍ جَازَ، وَيُشْتَرَطُ الْحُلُولُ، أَوْ التَّقَابُضُ حَتَّى لَوْ كَانَ الصُّلْحُ مُؤَجَّلًا إنْ لَمْ يُقْبَضْ فِي الْمَجْلِسِ يَبْطُلْ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ. (وَأَمَّا) إذَا صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ وَصْفًا، وَأَقِلَّ مِنْهُ قَدْرًا بِأَنْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ نَبَهْرَجَةٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ جِيَادٍ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: يَجُوزُ، ثُمَّ رَجَعَ (وَجْهُ) قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذَا حَطُّ بَعْضِ حَقِّهِ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ نَبَهْرَجَةٍ، فَيَبْقَى عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ نَبَهْرَجَةٍ إلَّا أَنَّهُ أَحْسَنَ فِي الْقَضَاءِ بِخَمْسِمِائَةٍ جَيِّدَةٍ فَلَا يُمْنَعُ عَنْهُ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ؛ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ إلَّا خَمْسَمِائَةٍ نَبَهْرَجَةٍ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الصُّلْحَ مِنْ الْأَلْفِ النَّبَهْرَجَةِ عَلَى الْخَمْسمِائَةِ الْجَيِّدَةِ اعْتِيَاضٌ عَنْ صِفَةِ الْجَوْدَةِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «جَيِّدُهَا، وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا لِسُقُوطِ قِيمَتِهَا شَرْعًا، وَالسَّاقِطُ شَرْعًا، وَالْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ سَوَاءٌ؛ وَلِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُجْعَلَ اسْتِيفَاءً لَعَيْنِ الْحَقِّ، أَوْ يُجْعَلَ مُعَاوَضَةً لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الرَّدِيءِ لَا فِي الْجَيِّدِ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ فَيَصِيرُ بَائِعًا أَلْفًا نَبَهْرَجَةً بِخَمْسِمِائَةٍ جَيِّدَةٍ فَيَكُونُ رِبًا، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الدَّنَانِيرِ، وَالصُّلْحُ مِنْهَا عَلَى دَنَانِيرَ كَحُكْمِ الدَّرَاهِمِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ صَالَحَ مِنْ دَرَاهِمَ عَلَى دَنَانِيرَ، أَوْ مِنْ دَنَانِيرَ عَلَى دَرَاهِمَ؛ جَازَ، وَيُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ. وَلَوْ ادَّعَى أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَمِائَةَ دِينَارٍ، فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى شَهْرٍ؛ جَازَ، وَطَرِيقُ جَوَازِهِ بِأَنْ يُجْعَلَ حَطًّا لَا مُعَاوَضَةَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ مُعَاوَضَةً؛ لَبَطَلَ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَعْضُ الْمِائَةِ عِوَضًا عَنْ الدَّنَانِيرِ، وَالْبَعْضُ عِوَضًا عَنْ الدَّرَاهِمِ، فَيَصِيرُ بَائِعًا تِسْعَمِائَةٍ بِخَمْسِينَ، فَيَكُونُ رِبًا، وَأُمُورُ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصَّلَاحِ وَالسَّدَادِ مَا أَمْكَنَ، وَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ حَطًّا لِلدَّنَانِيرِ أَصْلًا، وَبَعْضِ الدَّرَاهِمِ

وَذَلِكَ تِسْعُمِائَةٍ، وَتَأْجِيلُ الْبَعْضِ، وَذَلِكَ مِائَةٌ إلَى شَهْرٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَكُرٍّ، فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةٍ جَازَ، وَطَرِيقُ جَوَازِهِ أَنْ يُجْعَلَ حَطًّا وَإِسْقَاطًا لِلْكُرِّ لَا مُعَاوَضَةً؛ لِأَنَّ اسْتِبْدَالَ الْمُسْلِمِ فِيهِ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ كَانَ الْمَالَانِ عَلَيْهِ لِرَجُلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ وَالْآخَرُ دَنَانِيرُ فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ جَازَ، وَطَرِيقَةُ جَوَازِهِ أَنْ يُعْتَبَرَ مُعَاوَضَةً فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا وَحَطًّا، وَإِسْقَاطًا فِي حَقِّ الْآخَرِ، وَذَلِكَ أَنْ يُقَسَّمَ بَدَلُ الصُّلْحِ عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ دَيْنِهِمَا مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ، فَالْقَدْرُ الَّذِي أَصَابَ الدَّنَانِيرَ يَكُونُ عِوَضًا عَنْهَا فَيَكُونُ صَرْفًا، فَيُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ الصَّرْفِ، فَيَشْتَرِطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ وَالْقَدْرِ الَّذِي أَصَابَ الدَّرَاهِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ عِوَضًا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، فَيُجْعَلُ الصُّلْحُ فِي حَقِّهِ اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ الْحَقِّ وَإِبْرَاءً عَنْ الْبَاقِي، وَالْأَصْلُ أَنَّ الصُّلْحَ مَتَى وَقَعَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ يُعْتَبَرُ اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ الْحَقِّ وَإِبْرَاءً عَنْ الْبَاقِي، وَمَتَى وَقَعَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ مِنْهَا، أَوْ وَقَعَ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ مِنْ الدَّيْنِ، وَالْعَيْنِ يُعْتَبَرُ مُعَاوَضَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى اسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ عَيْنِ الْحَقِّ مِنْ جِنْسِهِ يَكُونُ، وَلَمْ يُوجَدْ فَيُعْتَبَرُ مُعَاوَضَةً فَمَا جَازَتْ بِهِ الْمُعَاوَضَاتُ يَجُوزُ هَذَا، وَمَا فَسَدَتْ بِهِ تِلْكَ؛ يَفْسُدُ بِهِ هَذَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ مَسَائِلِ هَذَا الْأَصْلِ، وَعَلَى هَذَا إذَا صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ حَالَّةٍ عَلَى أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ؛ جَازَ، وَيُعْتَبَرُ حَطًّا لِلْحُلُولِ، وَتَأْجِيلًا لِلدَّيْنِ، وَتَجَوُّزًا بِدُونِ مِنْ حَقِّهِ لَا مُعَاوَضَةَ. وَلَوْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ حَالَّةٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ، وَيُعْتَبَرُ اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ حَقِّهِ وَإِبْرَاءً عَنْ الْبَاقِي. وَأَمَّا إذَا صَالَحَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ أَنْ يُعْطِيَهَا إيَّاهُ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ (إمَّا) إنْ وَقَّتَ لِأَدَاءِ الْخَمْسِمِائَةِ وَقْتًا (وَإِمَّا) إنْ لَمْ يُوَقِّتْ فَإِنْ لَمْ يُوَقِّتْ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ، وَيَكُونُ حَطًّا لِلْخَمْسِمِائَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يُفِيدُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُذْكَرْ لَلَزِمَهُ الْإِعْطَاءُ، فَكَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ الْحَطُّ عَلَى هَذَا بِأَنْ قَالَ لِلْغَرِيمِ حَطَطْتُ عَنْكَ خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي خَمْسَمِائَةٍ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ وَقَّتَ بِأَنْ قَالَ: صَالَحْتُكَ عَلَى خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِيهَا الْيَوْمَ، أَوْ عَلَى أَنْ تُعَجِّلَهَا الْيَوْمَ فَأَمَّا إنْ اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى شَرْطِ الْعَدَمِ. وَأَمَّا إنْ نَصَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: فَإِنْ لَمْ تُعْطِنِي الْيَوْمَ، أَوْ إنْ لَمْ تُعَجِّلْ الْيَوْمَ، أَوْ عَلَى أَنْ تُعَجِّلَهَا الْيَوْمَ، فَالْأَلْفُ عَلَيْك فَإِنْ نَصَّ عَلَيْهِ فَإِنْ أَعْطَاهُ، وَعُجِّلَتْ فِي الْيَوْمِ، فَالصُّلْحُ مَاضٍ، وَبَرِئَ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ، فَالْأَلْفُ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَلِكَ الْحَطُّ عَلَى هَذَا. (وَأَمَّا) إذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى شَرَطِ الْعَدَمِ فَإِنْ أَعْطَاهُ فِي الْيَوْمِ بَرِئَ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُعْطِهِ حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ بَطَلَ الصُّلْحُ، وَالْأَلْفُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الصُّلْحُ مَاضٍ، وَعَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ فَقَطْ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ شَرْطَ التَّعْجِيلِ مَا أَفَادَهُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ؛ لِأَنَّ التَّعْجِيلَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَكَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَوْ سَكَتَ عَنْهُ؛ لَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا، فَكَذَا هَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: فَإِنْ لَمْ نَفْعَلْ فَكَذَا؛ لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى عَدَمِ الشَّرْطِ نَفْيٌ لِلْمَشْرُوطِ عِنْدَ عَدَمِهِ فَكَانَ مُفِيدًا. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ شَرْطَ التَّعْجِيلِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ شَرْطُ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ عِنْدَ عَدَمِهِ بِدَلَالَةِ حَالِ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَقْصِدُ بِتَصَرُّفِهِ الْإِفَادَةَ دُونَ اللَّغْوِ وَاللَّعِبِ وَالْعَبَثِ. وَلَوْ حُمِلَ الْمَذْكُورُ عَلَى ظَاهِرِ شَرْطِ التَّعْجِيلِ لَلَغَا؛ لِأَنَّ التَّعْجِيلَ ثَابِتٌ بِدُونِهِ فَيُجْعَلُ ذِكْرُ شَرْطِ التَّعْجِيلِ ظَاهِرًا شَرْطًا لِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ عِنْدَ عَدَمِ التَّعْجِيلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَقَالَ، فَإِنْ لَمْ تُعَجِّلْ فَلَا صُلْحَ بَيْنَنَا. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ الْفَسْخِ بِالشَّرْطِ لَا تَعْلِيقُ الْعَقْدِ، كَمَا إذَا بَاعَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَإِنْ لَمْ يَنْقُدْهُ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ جَائِزٌ لِدُخُولِ الشَّرْطِ عَلَى الْفَسْخِ لَا عَلَى الْعَقْدِ فَكَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا، وَشَرَطَ عَلَى الْكَفِيلِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَفِّهِ خَمْسَمِائَةٍ إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ فَعَلَيْهِ كُلُّ الْمَالِ، وَهُوَ الْأَلْفُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْأَلْفُ لَازِمَةٌ لِلْكَفِيلِ إنْ لَمْ يُوَفِّهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ عَدَمَ إيفَاءِ الْخَمْسِمِائَةِ إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ شَرْطًا لِلْكَفَالَةِ بِأَلْفٍ فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ ثَبَتَ الْمَشْرُوطُ. وَلَوْ ضَمِنَ الْكَفِيلُ الْأَلْفَ، ثُمَّ قَالَ: حَطَطْتُ عَنْك خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنْ تُوَفِّيَنِي رَأْسَ الشَّهْرِ خَمْسَمِائَةٍ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَالْأَلْفُ عَلَيْكَ فَهَذَا أَوْثَقُ مِنْ الْبَابِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هَذَا هُنَا عَلَّقَ الْحَطَّ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ، وَهُوَ إيفَاءُ الْخَمْسِمِائَةِ رَأْسَ الشَّهْرِ، وَجَعَلَ عَدَمَ هَذَا الشَّرْطِ شَرْطًا لِانْفِسَاخِ الْحَطِّ، وَفِي الْبَابِ الْأَوَّلِ جَعَلَ عَدَمَ التَّعْجِيلِ شَرْطًا لِلْعَقْدِ، وَهُوَ الْكَفَالَةُ بِالْأَلْفِ، وَالْفَسْخُ لِلشَّرْطِ أَقْبَلُ مِنْ الْعَقْدِ لِذَلِكَ كَانَ الثَّانِي

أَوْثَقَ مِنْ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ الْمَالَ نُجُومًا بِكَفِيلٍ، أَوْ بِغَيْرِ كَفِيلٍ، وَشَرَطَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَفِّهِ كُلَّ نَجْمٍ عِنْدَ مَحَلِّهِ، فَالْمَالُ حَالٌّ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا شَرَطَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْإِخْلَالَ بِنَجْمٍ شَرْطًا لِحُلُولِ كُلِّ الْمَالِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ صَحِيحٌ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفٌ فَقَالَ: أَدِّ إلَيَّ مِنْ الْأَلْفِ خَمْسَمِائَةٍ غَدًا عَلَى أَنَّك بَرِيءٌ مِنْ الْبَاقِي فَإِنْ أَدَّى إلَيْهِ خَمْسَمِائَةٍ غَدًا يَبْرَأُ مِنْ الْبَاقِي إجْمَاعًا، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ، فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا خَمْسَمِائَةٍ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ. وَلَوْ قَالَ: إنْ أَدَّيْتَ إلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ الْبَاقِي، أَوْ قَالَ: مَتَى أَدَّيْتَ فَأَدِّ إلَيْهِ خَمْسَمِائَةٍ لَا يَبْرَأُ عَنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ حَتَّى يُبْرِئَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِمُكَاتَبِهِ ذَلِكَ فَأَدَّى خَمْسَمِائَةٍ لَا يَبْرَأُ عَنْ الْبَاقِي حَتَّى يُبْرِئَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ بِالشَّرْطِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ أَوْ الْحَطِّ أَوْ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ تَعْلِيقَ الْبَرَاءَةِ بِالشَّرْطِ عَلَى مَا مَرَّ. وَلَوْ قَالَ لِمُكَاتَبِهِ إنْ أَدَّيْتَ إلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَدَّى خَمْسَمِائَةٍ عَتَقَ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ صَحِيحٌ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى إنْسَانٍ أَلْفٌ مُؤَجَّلَةٌ، فَصَالَحَ مِنْهَا فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ، إمَّا أَنْ صَالَحَ مِنْهَا عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ، أَوْ عَلَى تَمَامِ حَقِّهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَشْتَرِطَ التَّعْجِيلَ، أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ، فَإِنْ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا أَوْ وَصْفًا أَوْ قَدْرًا وَوَصْفًا، وَلَمْ يَشْتَرِطْ التَّعْجِيلَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ جَازَ، وَيَكُونُ حَطًّا، وَتَجَوُّزًا بِدُونِ حَقِّهِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِيَ بَعْدَ حِلِّ الْأَجَلِ، وَإِنْ شَرَطَ التَّعْجِيلَ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، وَعَلَيْهِ رَدُّ مَا قَبْضَ وَالرُّجُوعُ بِرَأْسِ مَالِهِ بَعْدَ حِلِّ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مُعَاوَضَةَ الْأَجَلِ، وَهُوَ التَّعْجِيلُ بِالْحَطِّ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى تَمَامِ حَقِّهِ؛ جَازَ، وَإِنْ شَرَطَ التَّعْجِيلَ فَإِنْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ عَلَى أَلْفٍ مُعَجَّلَةٍ لَكِنْ بِشَرْطِ الْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الدَّنَانِيرِ عَلَى هَذَا. وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَهْلَكُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيمَةِ، فَصَالَحَ فَإِنْ صَالَحَ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ حَالَّةً أَوْ مُؤَجَّلَةً جَازَ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّتِهِ قَبْلَ الْمُتْلَفِ صُورَةً وَمَعْنًى كَذَا الِاسْتِهْلَاكُ تَحْقِيقًا لِلْمَاثِلَةِ الْمُعَلَّقَةِ، ثُمَّ يَمْلِكُهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَإِذَا صَالَحَ كَانَ هَذَا الصُّلْحُ عَلَى عَيْنِ حَقِّهِ فَيَجُوزُ عَلَى أَيْ وَصْفٍ كَانَ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى غَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إنْ كَانَ عَيْنًا؛ جَازَ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا مَوْصُوفًا يَجُوزُ أَيْضًا لَكِنَّ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطٌ. وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِثْلَ الْمُسْتَهْلَكِ فَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الَّذِي لَيْسَ فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ فَحُكْمُ الصُّلْحِ فِيهِ كَحُكْمِ الصُّلْحِ فِي كُرِّ الْحِنْطَةِ فَنَقُولُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. إذَا كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَإِنْ كَانَ مَكِيلًا بِأَنْ كَانَ كُرَّ حِنْطَةٍ مِثْلًا، فَصَالَحَ مِنْهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ (أَمَّا) إنْ صَالَحَ عَلَى جِنْسِهِ، أَوْ عَلَى خِلَافِ جِنْسِهِ فَإِنْ صَالَحَ عَلَى جِنْسِهِ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. (أَمَّا) إنْ صَالَحَ عَلَى مِثْلِ حَقِّهِ. (وَأَمَّا) عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ (وَأَمَّا) إنْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ، فَإِنْ صَالَحَ عَلَى مِثْلِ حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا جَازَ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى عَيْنَ حَقِّهِ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا جَازَ، وَيَكُونُ حَطًّا لَا مُعَاوَضَةً لِمَا ذَكَرْنَا فِي الدَّرَاهِمِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ، وَيَكُونُ مُؤَجَّلًا، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ، وَصْفًا لَا قَدْرًا؛ جَازَ أَيْضًا، وَيَكُونُ اسْتِيفَاءً لَعَيْنِ حَقِّهِ أَصْلًا، وَإِبْرَاءً لَهُ عَنْ الصِّفَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضِ، وَيَجُوزُ حَتَّى لَا يَبْطُلَ بِالتَّأْجِيلِ أَوْ تَرْكِهِ، وَيُعْتَبَرُ رِضًا بِدُونِ حَقِّهِ. وَلَوْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا، أَوْ قَدْرًا لَا وَصْفًا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ رِبًا، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ وَصْفًا لَا قَدْرًا بِأَنْ صَالَحَ مِنْ كُرٍّ رَدِيءٍ عَلَى كُرٍّ جَيِّدٍ جَازَ وَيُعْتَبَرُ مُعَاوَضَةً احْتِرَازًا عَنْ الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَلَوْ صَالَحَ مِنْهُ عَلَى كُرٍّ مُؤَجَّلٍ جَازَ؛ لِأَنَّهُ حَطَّ حَقَّهُ فِي الْحُلُولِ، وَرَضِيَ بِدُونِ حَقِّهِ كَمَا فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ هَذَا إذَا كَانَ أَكْثَرَ الدَّيْنِ حَالًّا، فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَصَالَحَ عَلَى بَعْضِ حَقِّهِ، أَوْ عَلَى تَمَامِ حَقِّهِ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الصُّلْحِ مِنْ الْأَلْفِ الْمُؤَجَّلَةِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ هَذَا إذَا صَالَحَ مِنْ الْكُرِّ عَلَى جِنْسِهِ فَإِنْ صَالَحَ عَلَى خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ فَإِنْ كَانَ الْكُرُّ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَمًا لَا يَجُوزُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى خِلَافِ جِنْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ يَكُونُ مُعَاوَضَةً، وَفِيهِ اسْتِبْدَالُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الصُّلْحُ مِنْهُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ مِنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ يَكُونُ إقَالَةً لِلْمُسْلِمِ، وَفَسْخًا لَهُ وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَلَمًا فَصَالَحَ عَلَى خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؛ جَازَ، وَيُشْتَرَطُ الْقَبْضُ، وَإِنْ كَانَ مُعِينًا مُشَارًا إلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَ تَرْكُ قَبْضِهِ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الْمَكِيلَاتِ

وَهُوَ عَيْنٌ جَازَ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ جَازَ أَيْضًا فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَصَالَحَ مِنْهَا عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَبِيعٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قُوبِلَ بِالْأَثْمَانِ، وَالْمَبِيعُ مَا يُقَابِلُ بِالثَّمَنِ، وَهَذَا لَا يُقَابِلُ بِالثَّمَنِ فَلَا يَكُونُ مَبِيعًا إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ احْتِرَازًا مِنْ الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ فَإِنْ كَانَ عَيْنًا؛ جَازَ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا يَجُوزُ فِي الثِّيَابِ الْمَوْصُوفَةِ إذَا أَتَى بِشَرَائِطِ السَّلَمِ لَكِنْ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطُ احْتِرَازٍ عَنْ الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْحَيَوَانِ الْمَوْصُوفِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُثْبِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُدَّعَى مَوْزُونًا دَيْنًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ فَصَالَحَ مِنْهُ عَلَى جِنْسِهِ أَوْ عَلَى خِلَافِ جِنْسِهِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَكِيلِ الْمَوْصُوفِ هَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا دَيْنًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ. فَإِنْ كَانَ ثَوْبَ السَّلَمِ فَصَالَحَ مِنْهُ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ (إمَّا) إنْ صَالَحَ مِنْهُ عَلَى جِنْسِهِ، وَإِمَّا إنْ صَالَحَ مِنْهُ عَلَى خِلَافِ جِنْسِهِ فَإِنْ صَالَحَ عَلَى جِنْسِهِ؛ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. (إمَّا) إنْ صَالَحَ عَلَى مِثْلِ حَقِّهِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، أَوْ أَقَلَّ فَإِنْ صَالَحَ عَلَى مِثْلِ حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا فَإِنْ صَالَحَ مِنْ ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ جَيِّدٍ عَلَى ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ جَيِّدٍ؛ جَازَ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى عَيْنَ حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا، أَوْ وَصْفًا لَا قَدْرًا يَجُوزُ، وَيَكُونُ هَذَا اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ عَيْنِ حَقِّهِ، وَحَطًّا لِلْبَاقِي، وَإِبْرَاءً عَنْهُ أَصْلًا وَوَصْفًا، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا لَا وَصْفًا بِأَنْ صَالَحَ مِنْ ثَوْبٍ رَدِيءٍ عَلَى نِصْفِ ثَوْبٍ جَيِّدٍ؛ جَازَ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الْمَوْصُوفِينَ بِأَنْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ نَبَهْرَجَةٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ جِيَادٍ، أَوْ صَالَحَ مِنْ كُرٍّ رَدِيءٍ عَلَى نِصْفِ كُرٍّ جَيِّدٍ، أَوْ صَالَحَ مِنْ حَدِيدٍ رَدِيءٍ عَلَى نِصْفٍ مِنْ جَيِّدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ هُوَ الِاعْتِيَاضُ عَنْ الْجَوْدَةِ هُنَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ مُقَابِلَتِهَا بِجِنْسِهَا لَهَا قِيمَةٌ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَكُونَ الْجَوْدَةُ مُتَقَوِّمَةً فِي الْأَمْوَالِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهَا صِفَةٌ مَرْغُوبَةٌ يُبْذَلُ الْعِوَضُ فِي مُقَابِلَتِهَا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَهَا فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ تَعَبُّدًا بِقَوْلِهِ جَيِّدُهَا، وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ، فَبَقِيَتْ مُتَقَوِّمَةً فِي غَيْرِهَا عَلَى الْأَصْلِ فَيَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا بِأَنْ صَالَحَ مِنْ ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ جَيِّدٍ عَلَى ثَوْبَيْنِ هَرَوِيَّيْنِ جَيِّدَيْنِ يَجُوزُ لَكِنْ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، وَالْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبْض لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الرِّبَا، وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ قَدْرًا لَا وَصْفًا بِأَنْ صَالَحَ عَنْ ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ جَيِّدٍ عَلَى ثَوْبَيْنِ هَرَوِيَّيْنِ رَدِيئَيْنِ جَازَ، وَالْقَبْضُ شَرْطٌ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، وَصْفًا لَا قَدْرًا بِأَنْ صَالَحَ مِنْ ثَوْبٍ رَدِيءٍ عَلَى ثَوْبٍ جَيِّدٍ؛ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ إذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى اسْتِيفَاءِ عَيْن الْحَقّ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ لَهُ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ، وَيُشْتَرَطُ الْقَبْضَ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الرِّبَا، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ كَائِنًا مَا كَانَ لَا يَجُوزُ دَيْنًا كَانَ، أَوْ عَيْنًا؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِبْدَالَ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَيْهِ يَكُونُ إقَالَةً، وَفَسْخًا لَا اسْتِبْدَالًا. وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى حَيَوَانًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ، أَوْ شِبْهِ الْعَمْدِ فَصَالَحَ، فَنَقُولُ الْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ هَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ. (إمَّا) أَنْ صَالَحَ عَلَى مَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِي بَابِ الدِّيَةِ فِي الْجُمْلَةِ. (وَإِمَّا) أَنْ صَالَحَ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَفْرُوضٍ فِي الْبَابِ أَصْلًا، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ صَالَحَ قَبْلَ تَعْيِينِ الْقَاضِي نَوْعًا مِنْ الْأَنْوَاعِ الْمَفْرُوضَةِ، أَوْ بَعْدَ تَعْيِينِهِ نَوْعًا مِنْهَا، فَإِنْ صَالَحَ عَلَى الْمَفْرُوضِ قَبْلَ تَعْيِينِ الْقَاضِي بِأَنْ صَالَحَ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، أَوْ عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ، أَوْ عَلَى مِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ، أَوْ عَلَى مِائَةِ بَقَرَةٍ، أَوْ عَلَى أَلْفَيْ شَاةٍ، أَوْ عَلَى مِائَتَيْ حُلَّةٍ؛ جَازَ الصُّلْحُ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَعْيِينٌ مِنْهَا لِلْوَاجِبِ مِنْ أَحَدِ الْأَنْوَاعِ الْمَفْرُوضَةِ بِمَنْزِلَةِ تَعْيِينِ الْقَاضِي فَيَجُوزُ، وَيَكُونُ اسْتِيفَاءً لَعَيْنِ حَقِّهِ الْوَاجِبِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ ذَلِكَ فِعْلًا بِرِضَا الْقَاتِلِ، وَكَذَا إذَا صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ الْمَفْرُوضِ يَكُونُ اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ عَيْنِ الْحَقِّ، وَإِبْرَاءً عَنْ الْبَاقِي، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الْمَفْرُوضِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ رِبًا. وَلَوْ صَالَحَ بَعْدَ مَا عَيَّنَ الْقَاضِي نَوْعًا مِنْهَا فَإِنْ صَالَحَ عَلَى جِنْسِ حَقِّهِ الْمُعَيَّنِ جَازَ إذَا كَانَ مِثْلُهُ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ رِبًا، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى خِلَافِ الْجِنْسِ الْمُعَيَّنِ فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَفْرُوضِ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ عَيَّنَ الْقَاضِي مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فَصَالَحَ عَلَى مِائَةٍ مِنْ الْبَقَرِ، أَوْ أَكْثَرَ

جَازَ، وَتَكُونُ مُعَاوَضَةً؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ تَعَيَّنَتْ وَاجِبَةً بِتَعْيِينِ الْقَاضِي، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُهُ وَاجِبًا فَكَانَتْ الْبَقَرُ بَدَلًا عَنْ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ فَكَانَتْ مُعَاوَضَةً، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ احْتِرَازًا عَنْ الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْمَفْرُوضِ بِأَنْ صَالَحَ عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؛ جَازَ، وَيَكُونُ مُعَاوَضَةً، وَيُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ صَالَحَ عَلَى قِيمَةِ الْإِبِلِ أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ؛ جَازَ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْإِبِلِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ، وَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْإِبِلِ فَكَانَ الصُّلْحُ عَلَيْهَا مُعَاوَضَةً فَيَجُوزُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ، وَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَ مِنْ الْإِبِلِ عَلَى دَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ، وَافْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ؛ جَازَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ، بَلْ هُوَ اسْتِيفَاءُ عَيْنِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ الْوَاجِبَ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنْ كَانَ دِينًا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ لَازِمٍ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ إذَا جَاءَ بِقِيمَتِهِ يُجْبَرُ مَنْ لَهُ عَلَى الْقَبُولِ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ فَلَا يَكُونُ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ حَقِيقَةً هَذَا إذَا قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْإِبِلِ فَإِنْ قَضَى عَلَيْهِ بِالدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ فَصَالَحَ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ سِوَى الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، أَوْ بَقَرٍ لَيْسَ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ وَأَنَّهَا أَثْمَانٌ فَتَتَعَيَّنُ هَذِهِ مَبِيعَةً وَبَيْعُ الْمَبِيعِ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ لَا يَجُوزُ إلَّا بِطَرِيقِ السَّلَمِ هَذَا إذَا صَالَحَ عَلَى الْمَفْرُوضِ فِي بَابِ الدِّيَةِ فَأَمَّا إذَا صَالَحَ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَفْرُوضٍ أَصْلًا كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ لَهُ فِي الْفَرْضِ قَبْلَ تَعْيِينِ الْقَاضِي؛ جَازَ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الْمَفْرُوضِ لَكِنْ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطٌ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ فَيَجُوزُ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَعْيِينِ الْقَاضِي فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ. وَكَذَلِكَ حُكْمُ الصُّلْحِ عَنْ إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَسُكُوتِهِ بِحُكْمِ الصُّلْحِ عَنْ إقْرَارِهِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ مَالًا عَيْنًا أَوْ دَيْنًا فَأَمَّا إذَا كَانَ مَنْفَعَةً بِأَنْ صَالَحَ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ رُكُوبِ دَابَّةٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ عَلَى زِرَاعَةِ أَرْضٍ، أَوْ سُكْنَى دَارٍ، وَقْتًا مَعْلُومًا جَازَ الصُّلْحُ، وَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ سَوَاءً كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ عَنْ إنْكَارِهِ، أَوْ عَنْ سُكُوتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ، وَقَدْ وُجِدَ أَمَّا فِي مَوْضِعِ الْإِقْرَارِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ عِوَضٌ عَنْ الْمُدَّعَى، وَكَذَا فِي مَوْضِعِ الْإِنْكَارِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَفِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ عِوَضٌ عَنْ الْخُصُومَةِ وَالْيَمِينِ، وَكَذَا فِي السُّكُوتِ؛ لِأَنَّ السَّاكِتَ مُنْكِرٌ حُكْمًا سَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا، أَوْ دَيْنًا لَكِنَّ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ قَدْ يَكُونُ بِالْعَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالدَّيْنِ، كَمَا فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى مَنْفَعَةً فَإِنْ كَانَتْ الْمَنْفَعَتَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، كَمَا إذَا صَالَحَ مِنْ سُكْنَى دَارٍ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ، وَإِذَا اُعْتُبِرَ الصُّلْحُ عَلَى الْمَنَافِعِ إجَارَةً يَصِحُّ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الْإِجَارَاتُ، وَيَفْسُدُ بِمَا تَفْسُدُ بِهِ، وَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ أَنْ يُعْتِقَهُ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِعْتَاقِ يَقِفُ عَلَى قِيَامِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَإِنَّهُ قَائِمٌ فَأَشْبَهَ إعْتَاقَ الْمُسْتَأْجِرِ، وَالْمَرْهُونِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ بَعْدَ مِلْكِ الْيَدِ، وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ وَالْمَرْهُونِ. وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ بِالصُّلْحِ فَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَاهُ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ شَاءَ مَلَكَهَا مِنْ غَيْرِهِ كَالْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ، وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الصُّلْحِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَلَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ، كَمَا لَوْ آجَرَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، وَيَبْطُلُ الصُّلْحُ كَمَا لَوْ آجَرَهُ مِنْ الْمُؤَاجِرِ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ الْأُولَى، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ شَيْءٌ مِنْ الْأُجْرَةِ كَذَا هَذَا، وَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ، وَذَكَرَ فِي الْإِجَارَةَ أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ خِدْمَتِي السَّفَرِ، وَالْحَضَرِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُسَافَرَةَ بِالْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ لِلْخِدْمَةِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِالْآجِرِ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الرَّدِّ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا يُلْزِمُهُ بِرَدِّهِ مُؤْنَةً تَزِيدُ عَلَى الْأُجْرَةِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ فَلَمْ يَمْلِكْ الْمُسَافِرَةَ بِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى هَهُنَا مُنْعَدِمٌ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الرَّدِّ لَا تَلْزَمُ صَاحِبَ الْعَبْدِ فَأَشْبَهَ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ وَالْعَبْدَ الْمَرْهُونَ، وَهُمَا يَمْلِكَانِ الْمُسَافَرَةَ بِهِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَارًا فِي يَدِهِ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي فِي يَدِهِ الدَّارُ سَنَةً، ثُمَّ يَدْفَعُهَا إلَى الْمُدَّعِي؛ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِي مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِبَدَلِ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي زَعْمِهِ سَنَةً، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لِنَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ الْمَشْرُوطَةِ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فِي زَعْمِهِ فَيَجُوزُ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا، فَلَا يَصِحُّ

فصل في الشرائط التي ترجع إلى المصالح عنه

الصُّلْحُ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّهِ، وَكَذَا إذَا صَالَحَ عَلَى دَنٍّ مِنْ خَلٍّ فَإِذَا هُوَ خَمْرٌ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْمُصَالِحِ حَتَّى إنَّهُ إذَا صَالَحَ عَلَى مَالٍ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِ الْمُدَّعِي لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مَمْلُوكًا لِلْمُصَالِحِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يَصِحَّ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْبَدَلِ تُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَتُوجِبُ، فَسَادَ الْعَقْدِ إلَّا إذَا كَانَ شَيْئًا لَا يُفْتَقَرُ إلَى الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ، كَمَا إذَا ادَّعَى رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ حَقًّا، ثُمَّ تَصَالَحَا عَلَى أَنْ جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا ادَّعَاهُ عَلَى صَاحِبِهِ صُلْحًا مِمَّا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ يَصِحُّ الصُّلْحُ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْبَدَلِ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ لَعَيْنِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَإِذَا كَانَ مَالًا يُسْتَغْنَى عَنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَلَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ إلَّا أَنَّ الصُّلْحَ مِنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، وَمَا دُونَهُ تُتَحَمَّلُ الْجَهَالَةُ الْقَلِيلَةُ فِي الْبَدَلِ، كَمَا تُتَحَمَّل فِي الْمَهْرِ فِي بَابِ النِّكَاحِ، وَالْخُلْعِ، وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ وَالْكِتَابَةُ لِمَا عُلِّمَ وَلَوْ صَالَحَ عَلَى مُسَيِّلٍ، أَوْ شِرْبٍ مِنْ نَهْرٍ لَا حَقَّ لَهُ فِي رَقَبَتِهِ، أَوْ عَلَى أَنْ يُحَمِّلَ كَذَا، وَكَذَا جِذْعًا عَلَى هَذَا الْحَائِطِ، وَعَلَى أَنْ يُسَيِّلَ مِيزَابَهُ فِي دَارِهِ أَيَّامًا مَعْلُومَةً لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مُفْتَقِرٌ إلَى الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ فَلَمْ تَكُنْ جَهَالَتُهُ مُحْتَمَلَةً لِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، فَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَيْهَا، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ، وَمَا لَا، فَلَا. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمُصَالَحِ عَنْهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُصَالَحِ عَنْهُ. فَأَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ حَقَّ الْعَبْدِ لَا حَقَّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَوَاءً كَانَ مَالًا عَيْنًا، أَوْ دَيْنًا، أَوْ حَقًّا لَيْسَ بِمَالٍ عَيْنٍ، وَلَا دَيْنٍ حَتَّى لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ مِنْ حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ بِأَنْ أَخَذَ زَانِيًا أَوْ سَارِقًا مِنْ غَيْرِهِ أَوْ شَارِبَ خَمْرٍ، فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ أَنْ لَا يَرْفَعَهُ إلَى وَلِي الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ، وَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ؛ لِأَنَّ الْمُصَالِحَ بِالصُّلْحِ مُتَصَرِّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ إمَّا بِاسْتِيفَاءِ كُلِّ حَقِّهِ، أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْبَعْضِ، وَإِسْقَاطِ الْبَاقِي، أَوْ بِالْمُعَاوَضَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَكَذَا إذَا صَالَحَ مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ بِأَنْ قَذَفَ رَجُلًا فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ عَلَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ فَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَغْلُوبُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ شَرْعًا فَكَانَ فِي حُكْمِ الْحُقُوقِ الْمُتَمَحِّضَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الصُّلْحَ كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ شَاهِدًا يُرِيدُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ عَلَى مَالٍ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ فِي إقَامَةِ الشَّهَادَةِ مُحْتَسِبٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] ، وَالصُّلْحُ عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَاطِلٌ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَلَوْ عَلِمَ الْقَاضِي بِهِ أَبْطَلَ شَهَادَتَهُ؛ لِأَنَّهُ فِسْقٌ إلَّا أَنْ يُحْدِثَ تَوْبَةً فَتُقْبَلُ، وَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْ التَّعْزِيرِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ، وَكَذَا يَصِحُّ عَنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، وَمَا دُونَهُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ سَوَاءٌ كَانَ الْبَدَلُ عَيْنًا، أَوْ دَيْنًا إلَّا إذَا كَانَ دَيْنًا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ احْتِرَازًا عَنْ الِافْتِرَاقِ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَعْلُومًا، أَوْ مَجْهُولًا جَهَالَةً غَيْرَ مُتَفَاحِشَةٍ حَتَّى لَوْ صَالَحَ مِنْ الْقِصَاصِ عَلَى عَبْدٍ، أَوْ ثَوْبٍ هَرَوِيٌّ جَازَ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ قَلَّتْ بِبَيَانِ النَّوْعِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَبْدِ يَقَعُ عَلَى عَبْدٍ وَسَطٍ، وَمُطْلَقُ الثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ يَقَعُ عَلَى الْوَسَطِ مِنْهُ، فَتَقِلُّ الْجَهَالَةُ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ، وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَعْطَى الْوَسَطَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى قِيمَتَهُ كَمَا فِي النِّكَاحِ فَأَمَّا إذَا صَالَحَ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ دَارٍ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ وَالدَّوَابَّ أَجْنَاسٌ تَحْتَهَا أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَجَهَالَةُ النَّوْعِ مُتَفَاحِشَةٌ فَتَمْنَعُ الْجَوَازَ، وَكَذَا جَهَالَةُ الدُّورِ لِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ مُلْحَقَةٌ بِجَهَالَةِ الثَّوْبِ، وَالدَّابَّةِ فَتَمْنَعُ الْجَوَازَ كَمَا فِي بَابِ النِّكَاحِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ جَهَالَةٍ تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الصُّلْحِ مِنْ الْقِصَاصِ، وَمَا لَا فَلَا؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ، وَالْمَهْرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجِبُ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ، وَالْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ مِنْ الصِّحَّةِ لَعَيْنِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعِ وَرَدَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فِي بَابِ النِّكَاحِ مَعَ أَنَّهُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْهَا لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَمَبْنَى النِّكَاحِ وَالصُّلْحِ مِنْ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ كَالْإِنْسَانِ يُسَامِحُ بِنَفْسِهِ مَا لَا يُسَامِحُ بِمَالِهِ عَادَةً فَلَا يَكُونُ الْقَلِيلُ مِنْ الْجَهَالَةِ مُفْضِيًا إلَى الْمُنَازَعَةِ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ الْجَوَازِ بِخِلَافِ بَابِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُعَاكَسَةِ، وَالْمُضَايَقَةِ لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةَ مَالٍ بِمَالٍ، وَالْإِنْسَانُ يُضَايِقُ بِمَالِهِ مَا لَا يُضَايِقُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ لِتَفَاحُشِ جَهَالَةِ الْبَدَلِ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ، وَفِي النِّكَاحِ

يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ إلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا مِنْ وَجْهٍ، فَإِنَّهُ لَوْ صَالَحَ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لَا يَصِحُّ، وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ. وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ؛ لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. (وَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْخَمْرَ إذَا لَمْ تَصْلُحْ بَدَلَ الصُّلْحِ بَطَلَتْ تَسْمِيَتُهُ، وَجُعِلَ لَفْظَةُ الصُّلْحِ كِنَايَةً عَنْ الْعَفْوِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ الْفَضْلُ، وَفِي الصُّلْحِ مَعْنَى الْفَضْلِ فَأَمْكَنَ جَعْلُهُ كِنَايَةً عَنْهُ، وَبَعْدَ الْعَفْوِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ، فَأَمَّا لَفْظُ النِّكَاحِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ، وَلَوْ احْتَمَلَهُ فَالْعَفْوُ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ فَيَبْقَى النِّكَاحُ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، كَمَا إذَا سَكَتَ عَنْ الْمَهْرِ أَصْلًا فَهُوَ الْفَرْقُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَدَلُ قَدْرَ الدِّيَةِ، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} [البقرة: 178] أَيْ أُعْطِي لَهُ كَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَقَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] أَيْ فَلْيَتَّبِعْ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْوَلِيَّ بِالِاتِّبَاعِ بِالْمَعْرُوفِ، إذَا أُعْطِيَ لَهُ شَيْءٌ، وَاسْمُ الشَّيْءِ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ مِنْ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَتْلِ الْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ أَنَّهُ إذَا صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ لَا يَجُوزُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ فِي بَابِ الْخَطَإِ، وَشِبْهِ الْعَمْدِ عِوَضٌ عَنْ الدِّيَةِ، وَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ لَا تَزِيدُ عَلَيْهِ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى الْمُقَدَّرِ تَكُونُ رِبًا فَأَمَّا بَدَلُ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ، فَعِوَضٌ عَنْ الْقِصَاصِ، وَالْقِصَاصُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ حَتَّى يَكُونَ الْبَدَلُ عَنْهُ زِيَادَةً عَلَى الْمَالِ الْمُقَدَّرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا فَهُوَ الْفَرْقُ. وَأَمَّا كَوْنُ الْمُصَالَحِ عَنْهُ مَعْلُومًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الصُّلْحِ حَتَّى إنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ حَقًّا فِي عَيْنٍ، فَأَقَرَّ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ أَوْ أَنْكَرَ فَصَالَحَ عَلَى مَالٍ مَعْلُومٍ؛ جَازَ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ كَمَا يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ هُنَا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ لِجَهَالَةِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فَيُصَحَّحُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ وَالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ السَّاقِطَ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْجَهَالَةَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّسْلِيمَ، وَالْقَبْضَ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الصُّلْحِ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْمُصَالِحِ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا ثَابِتًا لَهُ فِي الْمَحَلِّ فَمَا لَا يَكُونُ حَقًّا لَهُ، أَوْ لَا يَكُونُ حَقًّا ثَابِتًا لَهُ فِي الْمَحَلِّ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهُ حَتَّى لَوْ أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ادَّعَتْ عَلَيْهِ صَبِيًّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْهَا، وَجَحَدَ الرَّجُلُ فَصَالَحَتْ عَنْ النَّسَبِ عَلَى شَيْءٍ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ حَقُّ الصَّبِيِّ لَا حَقُّهَا فَلَا تَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عَنْ حَقِّ غَيْرِهَا؛ وَلِأَنَّ الصُّلْحَ إمَّا إسْقَاطٌ أَوْ مُعَاوَضَةٌ، وَالنَّسَبُ لَا يَحْتَمِلُهُمَا. وَلَوْ صَالَحَ الشَّفِيعُ مِنْ الشُّفْعَةِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ عَلَى شَيْءٍ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ الدَّارَ لِلْمُشْتَرِي، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلشَّفِيعِ فِي الْمَحَلِّ إنَّمَا الثَّابِتُ لَهُ حَقُّ التَّمْلِيكِ، وَهُوَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي الْمَحَلِّ بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْوِلَايَةِ، وَأَنَّهَا صِفَةُ الْوَالِي، فَلَا يُحْتَمَلُ الصُّلْحُ عَنْهُ بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَحَلَّ يَصِيرُ مَمْلُوكًا فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ فَكَانَ الْحَقُّ ثَابِتًا فِي الْمَحَلِّ فَمَلَكَ الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ بِالصُّلْحِ، فَهُوَ الْفَرْقُ، وَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ إذَا صَالَحَ عَلَى مَالٍ عَلَى أَنْ يُبَرِّئَهُ مِنْ الْكَفَالَةِ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلطَّالِبِ قَبْلَ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ وِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ، وَأَنَّهَا صِفَةُ الْوَالِي فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهَا فَأَشْبَهَ الشُّفْعَةَ، وَهَلْ تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ إلَّا بِعِوَضٍ، وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ، وَفِي رِوَايَةٍ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْعِوَضِ فَيَصِحُّ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ الْعِوَضَ فَإِذَا صَحَّ أَنَّهُ إسْقَاطٌ فَالسَّاقِطُ لَا يَحْتَمِلُ الْعُودَ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ ظُلَّةً عَلَى طَرِيقٍ، أَوْ كَنِيفِ شَارِعِهِ، أَوْ مِيزَابِهِ فَخَاصَمَهُ رَجُلٌ، وَأَرَادَ أَنْ يَطْرَحَهُ فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ، فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ نَافِذًا، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ نَافِذًا فَإِذَا كَانَ نَافِذًا فَخَاصَمَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَرَادَ طَرْحَهُ فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ النَّافِذِ لَا تَكُونُ مِلْكًا لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا لَهُمْ حَقُّ الْمُرُورِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ ثَابِتٍ فِي رَقَبَةِ الطَّرِيقِ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ وِلَايَةِ الْمُرُورِ، وَإِنَّهُ صِفَةُ الْمَارِّ فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهُ مَعَ مَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الصُّلْحِ؛ لِأَنَّهُ إنْ سَقَطَ حَقُّ هَذَا الْوَاحِدِ بِالصُّلْحِ، فَلِلْبَاقِينَ حَقُّ الْقَلْعِ. وَكَذَا لَوْ صَالَحَ الثَّانِيَ مَعَ هَذَا الْمُتَقَدَّمِ إلَيْهِ عَلَى مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُتَقَدَّمِ إلَيْهِ الطَّرْحُ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الطَّرْحَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَأَخْذُ الْمَالِ عَلَيْهِ يَكُونُ رِشْوَةً هَذَا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ نَافِذًا، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ نَافِذًا فَصَالَحَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ عَلَى مَالٍ لِلتَّرْكِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ هُنَا مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِ السِّكَّةِ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهَا

مِلْكًا فَجَازَ الصُّلْحُ عَنْهُ، وَكَذَا إسْقَاطُ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالصُّلْحِ مُفِيدٌ لِاحْتِمَالِ تَحْصِيلِ رِضَا الْبَاقِينَ، وَلَا يُحْتَمَلُ ذَلِكَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصُونَ، وَكَذَا لَوْ صَالَحَ الثَّانِي مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى مَالٍ لِلتَّرْكِ؛ جَازَ، وَيَطِيبُ لَهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ عَلَى الشَّرِكَةِ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيهَا نَصِيبٌ فَكَانَ الصُّلْحُ اعْتِيَاضًا عَنْ مِلْكِهِ فَصَحَّ، فَأَمَّا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا وَلَا حَقَّ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ فَلَمْ يَكُنْ الصُّلْحُ اعْتِيَاضًا عَنْ مِلْكٍ، وَلَا حَقَّ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ فَبَطَلَ، وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ جَوَازَ الصُّلْحِ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا بَنَى عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَمَّا إذَا شَرَعَ إلَى الْهَوَاءِ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْهَوَاءِ. وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالًا، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي فَطَلَبَ مِنْهُ الْيَمِينَ فَصَالَحَ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى أَنْ لَا يَسْتَحْلِفُهُ؛ جَازَ الصُّلْحُ وَبَرِئَ مِنْ الْيَمِينِ، وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: صَالَحْتُكَ مِنْ الْيَمِينِ الَّتِي وَجَبَتْ لَكَ عَلَيَّ، أَوْ قَالَ افْتَدَيْتُ مِنْكَ يَمِينَكَ بِكَذَا، وَكَذَا صَحَّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ هَذَا صُلْحٌ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ لِلْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي قِبَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي قِصَّةِ الْحَضْرَمِيِّ وَالْكِنْدِيِّ: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: إذًا لَكَ يَمِينُهُ» جَعَلَ الْيَمِينَ حَقَّ الْمُدَّعِي فَكَانَ هَذَا صُلْحًا عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ شَرْعًا لِلْمُدَّعِي، وَكَذَا الْمِلْكُ فِي الْمُدَّعَى ثَابِتٌ فِي زَعْمِهِ، فَكَانَ الصُّلْحُ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهُوَ بَدَلُ الْمَالِ لِإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ، وَالِافْتِدَاءِ عَنْ الْيَمِينِ. وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْيَمِينَ عَلَى كَذَا، وَقَالَ الْمُدَّعِي بِعْتُ مِنْكَ الْيَمِينَ عَلَى كَذَا لَا يَصِحُّ فَقَدْ خَالَفَ الصُّلْحُ الْبَيْعَ، حَيْثُ جَازَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ وَالِافْتِدَاءِ، وَلَمْ يَجُزْ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَأَنْكَرَ فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ، جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا صُلْحٌ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى؛ لِأَنَّ الرِّقَّ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ فَكَانَ الصُّلْحُ فِي حَقِّهِ إعْتَاقًا عَلَى مَالٍ فَيَصِحُّ إلَّا أَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَكُونُ لَهُ لِإِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الرِّقَّ فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ بَيِّنَةً لَا تُقْبَلُ إلَّا فِي حَقِّ إثْبَاتِ الْوَلَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى حَيَوَانٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الرِّقَّ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى فَكَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ بَدَلًا عَنْ الْعِتْقِ فِي حَقِّهِ فَأَشْبَهَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَيَجُوزُ عَلَى حَيَوَانٍ فِي الذِّمَّةِ. وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَجَحَدَتْهُ، فَصَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ بَذَلَتْهُ حَتَّى يَتْرُكَ الدَّعْوَى جَازَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى فَكَانَ الصُّلْحُ عَلَى حَقٍّ ثَابِتٍ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْخُلْعِ إذْ هُوَ أَخْذُ الْمَالِ بِالْبُضْعِ، وَقَدْ وُجِدَ فَكَانَ جَائِزًا، وَفِي حَقِّهَا بَدَلُ مَالٍ لِإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ، وَإِنَّهُ جَائِزٌ أَيْضًا لِلنَّصِّ. وَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ نِكَاحًا فَجَحَدَ الرَّجُلُ فَصَالَحَهَا عَلَى مَالٍ بَذَلَهُ لَهَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ ثَابِتًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا كَانَ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهَا مِنْ الرَّجُلِ فِي مَعْنَى الرِّشْوَةِ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا لَا تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ بِهَذَا الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ فِي الْفُرْقَةِ تُعْطِيهِ الْمَرْأَةُ لَا الزَّوْجُ فَلَا يَكُونُ الْمَالُ الَّذِي تَأْخُذُهُ الْمَرْأَةُ عِوَضًا عَنْ شَيْءٍ، فَلَا يَجُوزُ. وَلَوْ ادَّعَى عَلَى إنْسَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ؛ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَتَصَالَحَا عَلَى أَنَّهُ إنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَهُوَ بَرِيءٌ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، وَالْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ حَتَّى لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَخَذَهُ بِهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَهُوَ بَرِيءٌ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ بِالشَّرْطِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَالْأَصْلُ فِي التَّمْلِيكِ أَنْ لَا يَحْتَمِلَ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَأَرَادَ اسْتِحْلَافَهُ؛ فَهُوَ عَلَى، وَجْهَيْنِ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْحَلِفُ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي؛ فَلَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ عِنْدَ الْقَاضِي مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْيَمِينَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَلَا تَنْقَطِعُ بِهَا خُصُومَةٌ، فَلَمْ يَكُنْ مُعْتَدًّا بِهَا، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْقَاضِي لَمْ يَسْتَحْلِفْهُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ عِنْدَ الْقَاضِي مُعْتَدٌّ بِهِ فَقَدْ اسْتَوْفَى الْمُدَّعِي حَقَّهُ مَرَّةً فَلَا يَجِبُ الْإِيفَاءُ ثَانِيًا. وَلَوْ تَصَالَحَا عَلَى أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِذَا حَلَفَ فَالْمَالُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ وُجُوبِ الْمَالِ بِالشَّرْطِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لِكَوْنِهِ قِمَارًا. وَلَوْ أُودَعَ إنْسَانًا وَدِيعَةً، ثُمَّ طَلَبَهَا مِنْهُ، فَقَالَ الْمُودَعُ: هَلَكَتْ، أَوْ قَالَ: رَدَدْتُهَا، وَكَذَّبَهُ الْمُودِعُ، وَقَالَ: اسْتَهْلَكْتَهَا فَتَصَالَحَا عَلَى شَيْءٍ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ صَحِيحٌ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذَا صُلْحٌ وَقَعَ عَنْ دَعْوَى صَحِيحَةٍ، وَيَمِينٍ مُتَوَجِّهَةٍ، فَيَصِحُّ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُدَّعِي مُنَاقَضٌ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ أَمِينُ الْمَالِكِ، وَقَوْلُ الْأَمِينِ قَوْلُ الْمُؤْتَمَنِ، فَكَانَ إخْبَارُهُ بِالرَّدِّ، وَالْهَلَاكِ إقْرَارًا مِنْ الْمُودِعِ، فَكَانَ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَى الِاسْتِهْلَاكِ، وَالتَّنَاقُضُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ لَكِنْ لَا لِدَفْعِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهَا مُنْدَفِعَةٌ لِبُطْلَانِهَا بَلْ لِلتُّهْمَةِ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى لَا يَصِحُّ

الصُّلْحُ. وَلَوْ ادَّعَى الْمُودِعُ الِاسْتِهْلَاكَ وَلَمْ يَقُلْ الْمُودَعُ إنَّهَا هَلَكَتْ، أَوْ رَدَدْتُهَا فَتَصَالَحَا عَلَى شَيْءٍ جَازَ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الِاسْتِهْلَاكِ صَحِيحَةٌ، وَالْيَمِينُ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَيْهِ فَصَحَّ الصُّلْحُ. وَلَوْ طَلَبَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ فَجَحَدَهَا الْمُودَعُ، وَقَالَ: لَمْ تُودِعْنِي شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: هَلَكَتْ، أَوْ رَدَدْتُهَا، وَقَالَ الْمُودِعُ: بَلْ اسْتَهْلَكْتَهَا فَتَصَالَحَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَدَّعِي عَلَيْهِ ضَمَانَ الْغَصْبِ بِالْجُحُودِ إذْ هُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ فِي الْوَدِيعَةِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي الْعَارِيَّةِ وَالْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ أَمَانَةٌ. وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا فَطَعَنَ فِيهِ بِعَيْبٍ، وَخَاصَمَهُ فِيهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى شَيْءٍ، أَوْ حَطَّ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مِمَّا يَجُوزُ رَدُّهُ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ دُونَ الرَّدِّ، فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْعَيْبِ صُلْحٌ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي الْمَحَلِّ، وَهُوَ صِفَةُ سَلَامَةِ الْمَبِيعِ عَنْ عَيْبٍ، وَأَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْأَمْوَالِ، فَكَانَ عَنْ الْعَيْبِ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ، فَصَحَّ، وَكَذَا الصُّلْحُ عَنْ الْأَرْشِ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ لَا شَكَّ فِيهِ، وَإِذَا صَارَ الْمَبِيعُ بِحَالٍ لَا يَمْلِكُ رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَا الْمُطَالَبَةَ بِأَرْشِهِ بِأَنْ بَاعَ الْعَبْدَ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ الدَّعْوَى، وَالْخُصُومَةِ فِيهِمَا قَبْلَ الْبَيْعِ قَدْ بَطَلَ بِالْبَيْعِ، فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ. وَلَوْ صَالَحَ مِنْ الْعَيْبِ، ثُمَّ زَالَ الْعَيْبُ بِأَنْ كَانَ بَيَاضًا فِي عَيْنِ الْعَبْدِ، فَانْجَلَى بَطَلَ الصُّلْحُ، وَيَرُدُّ مَا أَخَذَ؛ لِأَنَّ الْمُعَوَّضَ، وَهِيَ صِفَةُ السَّلَامَةِ قَدْ عَادَتْ فَيَعُودُ الْعِوَضُ فَبَطَلَ الصُّلْحُ. وَلَوْ طَعَنَ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ، فَصَالَحَهُ الْبَائِعُ عَلَى أَنْ يُبَرِّئَهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَيْبِ، وَمِنْ كُلِّ عَيْبٍ، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْعَيْبِ إبْرَاءٌ عَنْ صِفَةِ السَّلَامَةِ، وَإِسْقَاطٍ لَهَا، وَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْبَائِعِ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْهَا، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَإِنْ كَانَ إبْرَاءً عَنْ الْمَجْهُولِ لَكِنَّ جَهَالَةَ الْمُصَالِحِ عَنْهُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الصُّلْحِ فَلَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِبْرَاءِ لِلْفِقْهِ الَّذِي مَرَّ قَبْلَ هَذَا أَنَّ الْجَهَالَةَ لَعَيْنِهَا غَيْرُ مَانِعَةٍ بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ وَاَلَّذِي وَقَعَ الصُّلْحُ وَالْإِبْرَاءُ عَنْهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ، فَلَا تَضُرُّهُ الْجَهَالَةُ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَطْعَنْ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ، فَصَالَحَهُ الْبَائِعُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ عَلَى شَيْءٍ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَطْعَنْ بِعَيْبٍ، فَلَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ فَيُصَالِحُهُ لِإِبْطَالِ هَذَا الْحَقِّ. وَلَوْ خَاصَمَهُ فِي ضَرْبٍ مِنْ الْعُيُوبِ نَحْوَ الشِّجَاجِ وَالْقُرُوحِ، فَصَالَحَهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ عَيْبٌ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَنْ نَوْعٍ خَاصٍّ، فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ فِي غَيْرِهِ. وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ امْرَأَةٍ فَظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ، فَصَالَحَتْهُ عَلَى أَنْ تَتَزَوَّجَهُ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهَا بِالْعَيْبِ، فَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ أَرْشُ الْعَيْبِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَهُوَ مَهْرُهَا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ يُكَمَّلُ لَهَا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْعَيْبِ لَمَّا صَارَ مَهْرُهَا، وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَهْرِ فَإِذَا نَكَحَتْ نَفْسَهَا، فَقَدْ أَقَرَّتْ بِالْعَيْبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِأَرْشِ عَيْبٍ كَانَ إقْرَارًا بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مُعَاوَضَةٌ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ يَكُونُ إقْرَارًا بِالْعَيْبِ بِخِلَافِ الصُّلْحِ حَيْثُ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ مَرَّةً يَصِحُّ مُعَاوَضَةً، وَمَرَّةً يَصِحُّ إسْقَاطًا، فَلَا يَصِحُّ دَلِيلًا عَلَى الْإِقْرَارِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ. وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ كُلَّ وَاحِدٍ بِعَشَرَةٍ، فَقَبَضَهُمَا، ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا، فَصَالَحَ عَلَى أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ عَلَى أَنْ يَزِيدَهُ فِي ثَمَنِ الْآخَرِ دِرْهَمًا، فَالرَّدُّ جَائِزٌ، وَزِيَادَةُ الدِّرْهَمِ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فَسْخٌ، وَالْفَسْخَ بَيْعٌ جَدِيدٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ، وَالْبَيْعُ تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ بِالشَّرْطِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَلْحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَأَصْلُ الثَّمَنِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ فَكَذَا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ فَأَمَّا الرَّدُّ فَفَسْخُ الْعَقْدِ، وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الشَّرْطَ فَجَائِزٌ. وَلَوْ ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا، فَجَحَدَتْ فَصَالَحَهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تُقِرَّ لَهُ بِالنِّكَاحِ، فَأَقَرَّتْ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَتُجْعَلُ الْمِائَةُ مِنْ الزَّوْجِ زِيَادَةً فِي مَهْرِهَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهَا بِالنِّكَاحِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ. وَلَوْ ادَّعَى عَلَى إنْسَانٍ أَلْفًا، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعِي، فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِالْأَلْفِ، فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ الْأَلْفَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِيهَا فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِيهَا فَالْأَلْفُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَكُونُ أَخْذُ الْعِوَضُ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الرِّشْوَةِ وَأَنَّهُ حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ، فَإِقْرَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ الْتِزَامُ الْمَالِ ابْتِدَاءً، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: أَعْطَيْتُكِ مِائَةَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تَكُونِي امْرَأَتِي فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، فَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ وَيُجْعَلُ كِنَايَةً عَنْ إنْشَاءِ النِّكَاحِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: تَزَوَّجْتُكِ أَمْسِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَجَحَدَتْ، فَقَالَ: أَزِيدُكِ مِائَةَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تُقْرِي لِي بِالنِّكَاحِ، فَأَقَرَّتْ؛ جَازَ، وَلَهَا أَلْفٌ وَمِائَةٌ، وَيُحْمَلُ إقْرَارُهَا عَلَى الصِّحَّةِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ

أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَ الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ. (وَأَمَّا) إذَا كَانَ بَيْنَ الْمُدَّعِي، وَالْأَجْنَبِيِّ الْمُتَوَسِّطِ، أَوْ الْمُتَبَرِّعِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْهُ، وَالصُّلْحُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّوْكِيلَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَهُوَ صُلْحُ الْفُضُولِيِّ، وَإِنَّهُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يُضِيفَ الضَّمَانَ إلَى نَفْسِهِ: بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُدَّعِي: صَالَحْتُكَ، أَوْ أُصَالِحُكَ مِنْ دَعْوَاكِ هَذِهِ عَلَى فُلَانٍ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَكِ الْأَلْفَ، أَوْ عَلَى أَنَّ عَلَيَّ الْأَلْفَ، وَالثَّانِي: أَنْ يُضِيفَ الْمَالَ إلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَقُولَ عَلَى أَلْفِي هَذِهِ، أَوْ عَلَى عَبْدِي هَذَا، وَالثَّالِثُ أَنْ يُعَيِّنَ الْبَدَلَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْسُبُهُ إلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَقُولَ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفِ، أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ، وَالرَّابِعُ: أَنْ يُسَلِّمَ الْبَدَلَ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، وَلَمْ يُنْسِبْ بِأَنْ قَالَ: صَالَحْتُكَ عَلَى أَلْفٍ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ، وَالْخَامِسُ: أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ صَالَحْتُكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ عَلَى عَبْدٍ، وَسَطٌ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فَفِي الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ: يَصِحُّ الصُّلْحُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] ، وَهَذَا خَاصٌّ فِي صُلْحِ الْمُتَوَسِّطِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] ، وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصُّلْحِ لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَى الصُّلْحِ، وَأَنَّهُمَا لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ؛ وَلِأَنَّهُ بِالصُّلْحِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ مُتَصَرِّفٌ عَلَى نَفْسِهِ بِالتَّبَرُّعِ بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ عَلَى الْغَيْرِ بِالْقَضَاءِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إنْكَارٍ بِإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ فَيَصِحُّ تَبَرُّعُهُ كَمَا إذَا تَبَرَّعَ بِقَضَاءِ دَيْنِ غَيْرِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ابْتِدَاءً، وَمَتَى صَحَّ صُلْحُهُ يُجِبْ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ فِي الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ لَا يُطْلِقُ الرُّجُوعَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي فَصْلِ الْحُكْمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) فِي الْوَجْهِ الْخَامِسِ فَمَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ انْعِدَامِ الضَّمَانِ وَالنِّسْبَةِ، وَتَعْيِينِ الْبَدَلِ، وَالتَّمْكِينِ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّبَرُّعِ بِقَضَاءِ دَيْنِ غَيْرِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَلَا يَكُنْ مُتَصَرِّفًا عَلَى نَفْسِهِ، بَلْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَقِفُ عَلَى إجَازَتِهِ فَإِنْ أَجَازَ نَفَذَ، وَيَجِبُ الْبَدَلُ عَلَيْهِ دُونَ الْمُصَالِحِ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ اللَّاحِقَةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ. وَلَوْ كَانَ وَكِيلًا مِنْ الِابْتِدَاءِ لَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ عَلَى مُوَكِّلِهِ فَكَذَلِكَ إذَا الْتَحَقَ التَّوْكِيلُ بِالْإِجَازَةِ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ عَلَى الْإِنْسَانِ لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ وَإِجَازَتِهِ، ثُمَّ إنَّمَا يَصِحُّ صُلْحُ الْفُضُولِيِّ إذَا كَانَ حُرًّا بَالِغًا فَلَا يَصِحُّ صُلْحُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، وَالصَّبِيّ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، وَكَذَا الْخُلْعُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى هَذِهِ الْفُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَا بِأَنْ كَانَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ الْمَرْأَةِ يَصِيرُ وَكِيلًا، وَيَجِبُ الْمَالُ عَلَى الْمَرْأَةِ دُونَ الْوَكِيلِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا؛ فَهُوَ عَلَى الْفُصُولِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي الصُّلْحِ، وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ إنْ كَانَ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي يَكُونُ وَكِيلًا، وَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفُصُولِ، وَكَذَلِكَ الْعَفْوُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى هَذِهِ الْفُصُولِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ صَالَحَ عَلَى الْمَفْرُوضِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ الْمَفْرُوضِ بِمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ، أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْهُ قَبْلَ تَعْيِينِ الْقَاضِي، أَوْ بَعْدَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ صُلْحِ الْأَجْنَبِيِّ مَا يَجُوزُ مِنْ صُلْحِ الْقَاتِلِ وَمَا لَا فَلَا. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا صَالَحَ الْفُضُولِيَّ عَلَى خَمْسَةِ عَشَرَ أَلْفًا، أَوْ عَلَى أَلْفَيْ دِينَارٍ، وَضَمِنَ قَبْلَ تَعْيِينِ الْقَاضِي الْوَاجِبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ جَازَ الصُّلْحُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَعَلَى أَلْفِ دِينَارٍ، وَتَبْطُلُ الزِّيَادَةُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفُضُولِيَّ بِالصُّلْحِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ مُتَبَرِّعٌ بِقَضَاءِ دَيْنٍ عَلَى الْمُتَبَرَّعِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا هَذَا الْقَدْرُ، فَلَا يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ كَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ فَقَضَى عَنْهُ أَلْفَيْنِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الزِّيَادَةَ هَذَا إذَا صَالَحَ عَلَى الْمَفْرُوضِ، فَإِنْ صَالَحَ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ هُوَ الرِّبَا، وَلَا يَجْرِي فِي مُخْتَلِفِي الْجِنْسِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ عَلَى مِائَتَيْ بَعِيرٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا؛ جَازَ صُلْحُهُ عَلَى الْمِائَةِ لِمَا أَنَّ الْقَاتِلَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لَمَا جَازَ إلَّا عَلَى الْمِائَةِ فَكَذَا الْفُضُولِيُّ لِمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ إنْ كَانَتْ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا؛ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ عَلَى الْأَسْنَانِ الْوَاجِبَةِ فِي بَابِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِبِلِ فِي هَذَا الْبَابِ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاجِبِ، وَإِنْ كَانَتْ بِأَعْيَانِهَا، فَالْوَاجِبُ مِائَةٌ مِنْهَا، وَالْخِيَارُ إلَى الطَّالِبِ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِالْكُلِّ يَكُونُ رِضًا بِالْبَعْضِ، فَإِنْ كَانَ فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ نُقْصَانٌ عَنْ أَسْنَانِ الْإِبِلِ الْوَاجِبَةِ فِي بَابِ الدِّيَةِ فَلِلطَّالِبِ أَنْ يَرُدَّ الصُّلْحَ؛ لِأَنَّ صُلْحَ الطَّالِبِ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَفْرُوضِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ غَرَضَهُ أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ نُقْصَانٌ فِي السِّنِّ لَا يُجْبَرُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ، فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ لَهُ الزِّيَادَةُ لَمْ يَحْصُلْ غَرَضُهُ فَاخْتَلَّ رِضَاهُ بِالنُّقْصَانِ فَأَوْجَبَ حَقَّ النَّقْصِ. وَلَوْ صَالَحَ عَلَى مِائَةٍ عَلَى

فصل في بيان حكم الصلح

أَسْنَانِ الدِّيَةِ، وَضَمِنَهَا فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا خِيَارَ لِلطَّالِبِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى مِائَةٍ عَلَى أَسْنَانِ الدِّيَةِ اسْتِيفَاءُ عَيْنِ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي عَيَّنَ الْوَاجِبَ فَقَضَى عَلَيْهِ بِالدَّرَاهِمَ، فَصَالَحَ الْمُتَوَسِّطَ عَلَى أَلْفَيْ دِينَارٍ؛ جَازَ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ الْقَاتِلُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ، فَيُرَاعَى لَهُ شَرَائِطُهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ الصُّلْحِ] (فَصْلٌ) : (وَأَمَّا) بَيَانُ حُكْمِ الصُّلْحِ. فَنَقُولُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إنَّ لِلصُّلْحِ أَحْكَامًا بَعْضُهَا أَصْلِيٌّ لَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ جِنْسُ الصُّلْحِ الْمَشْرُوعِ، وَبَعْضُهَا دَخِيلٌ يَدْخُلُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الصُّلْحِ دُونَ الْبَعْضِ أَمَّا الْأَصْلُ، فَهُوَ انْقِطَاعُ الْخُصُومَةِ وَالْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ شَرْعًا حَتَّى لَا تُسْمَعَ دَعْوَاهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا حُكْمٌ لَازَمَ جِنْسَ الصُّلْحِ. فَأَمَّا. الدَّخِيلُ. فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا حَقُّ الشُّفْعَةِ لِلشَّفِيعِ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُدَّعَى لَوْ كَانَ دَارًا، وَبَدَلُ الصُّلْحِ سِوَى الدَّارِ مِنْ الدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ، وَغَيْرِهِمَا، فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا حَقُّ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَيَجِبُ حَقُّ الشُّفْعَةِ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ بَذْلُ الْمَالِ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ، وَالْيَمِينِ لَكِنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ الْمُدَّعِي فَيُدْلِيَ بِحُجَّتِهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ أَقَامَهَا الشَّفِيعُ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الصُّلْحَ كَانَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَحَلَّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَنَكَلَ، وَإِنْ كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ دَارًا، وَالصُّلْحُ عَنْ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ فِي الدَّارَيْنِ جَمِيعًا لِمَا مَرَّ أَنَّ الصُّلْحَ هُنَا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَصَارَ كَأَنَّهُمَا تَبَايَعَا دَارًا بِدَارٍ، فَيَأْخُذُ شَفِيعُ كُلِّ دَارٍ الدَّارَ الْمَشْفُوعَةَ بِقِيمَةِ الدَّارِ الْأُخْرَى، وَإِنْ تَصَالَحَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْمُدَّعِي الدَّارَ الْمُدَّعَاةَ، وَيُعْطِيَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَارًا أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ وَجَبَتْ فِيهِمَا الشُّفْعَةُ بِقِيمَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الدَّارَيْنِ جَمِيعًا مِلْكُ الْمُدَّعِي لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ مِلْكُهُ بَدَلًا عَنْ مِلْكِهِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ. وَلَوْ صَالَحَ عَنْ الدَّارِ عَلَى مَنَافِعَ لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ بِعَيْنِ مَالٍ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الشُّفْعَةِ بِهَا، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ فِي الدَّارِ الَّتِي هِيَ بَدَلُ الصُّلْحِ، وَلَا يَثْبُتُ فِي الدَّارِ الْمُدَّعَاةِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ يَسْتَدْعِي كَوْنَ الْمَأْخُوذِ مَبِيعًا فِي حَقِّ مَنْ يَأْخُذُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ إنْكَارٍ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي مُعَاوَضَةٌ فَكَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ بِمَعْنَى الْبَيْعِ فِي حَقِّهِ إذَا كَانَ عَيْنًا فَكَانَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ، وَفِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ، بَلْ هُوَ إسْقَاطُ الْخُصُومَةِ، وَدَفْعُ الْيَمِينِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلدَّارِ الْمُدَّعَاةِ حُكْمُ الْمَبِيعِ فِي حَقِّهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ إلَّا أَنْ يُدْلِيَ بِحُجَّةِ الْمُدَّعِي فَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، أَوْ يَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَنْكُلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَمِنْهَا حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَأَنَّهُ يَثْبُتُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا إنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إنْكَارٍ يَثْبُتُ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَلَا يَثْبُتُ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْعَيْبُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَاهُ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَخَذَ حِصَّةَ الْعَيْبِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ لَمْ يَرْجِعْ فِي شَيْءٍ، وَكَذَا لَوْ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الدَّارَ، وَقَدْ بَنَى فِيهَا بِنَاءً فَنُقِضَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعِي بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُدَّعَى جَارِيَةً، فَاسْتَوْلَدَهَا لَمْ يَكُنْ مَغْرُورًا، وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ الْمُدَّعِي لَيْسَ بَدَلَ الْمُدَّعَى فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ الْمُدَّعَاةُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعِي بِمَا أَدَّى إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى بَدَلُ الْخُصُومَةِ فِي حَقِّهِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا خُصُومَةَ فِيهِ فَكَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِالْمُؤَدَّى. وَلَوْ وُجِدَ بِبَدَلِ الصُّلْحِ عَيْبًا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ لِلْهَلَاكِ أَوْ لِلزِّيَادَةِ أَوْ لِلنُّقْصَانِ فِي يَدِ الْمُدَّعِي فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ يَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ فِي الْمُدَّعَى، وَإِنْ كَانَ عَنْ إنْكَارٍ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَاهُ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَخَذَ حِصَّةَ الْعَيْبِ، وَكَذَا إذَا حَلَّفَهُ فَنَكَلَ، وَإِنْ حَلَفَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا الرَّدُّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فِي نَوْعَيْ الصُّلْحِ، وَفَرَّقَ الطَّحَاوِيُّ بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ الرَّدَّ فِي الصُّلْحِ عَنْ إنْكَارٍ بِبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ وَبِالْمَهْرِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ، وَالرَّدُّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي تِلْكَ الْعُقُودِ، فَكَذَا هَهُنَا، وَفِي كِتَابِ الصُّلْحِ أَثْبَتَ حَقَّ الرَّدِّ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ ثَبَتَ لِلْمُدَّعِي فَيَسْتَدْعِي كَوْنَهُ مُعَاوَضَةً عَنْ حَقِّهِ، وَقَدْ وُجِدَ وَكَذَلِكَ الْأَحْكَامُ تَشْهَدُ بِصِحَّةِ هَذَا

فصل في بيان ما يبطل به الصلح بعد وجوده

عَلَى مَا نَذْكُرُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي بَدَلِ الصُّلْحِ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا كَانَ مَنْقُولًا فِي نَوْعَيْ الصُّلْحِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُدَّعِي بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَقَارًا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ لِلْمُصَالِحِ أَنْ يَبِيعَهُ، وَيَبْرَأَ عَنْهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ الْمَهْرُ وَالْخُلْعُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ التَّحَرُّزُ عَنْ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ عَلَى تَقْدِيرِ الْهَلَاكِ، وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْقِصَاصِ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الصِّيَانَةِ بِالْمَنْعِ كَالْمَوْرُوثِ، وَبِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ إلْحَاقَ الْعَقْدِ بِالْعُقُودِ الَّتِي هِيَ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ غَيْرُ سَدِيدٍ. وَلَوْ صَالَحَ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى عَيْنٍ، فَهَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ؛ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يَنْفَسِخْ فَبَقِيَ وُجُوبُ التَّسْلِيمِ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ لِلْمُصْلِحِ فَيَجِبُ تَسْلِيمُ الْقِيمَةِ. (وَمِنْهَا) أَنَّ الْوَكِيلَ بِالصُّلْحِ إذَا صَالَحَ بِبَدَلِ الصُّلْحِ يَلْزَمُهُ، أَوْ يَلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَهَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الصُّلْحُ فِي مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى اسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ فَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ يَلْزَمُهُ دُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى الْبَيْعِ، وَحُقُوقُ الْبَيْعِ رَاجِعَةٌ إلَى الْوَكِيلِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى اسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ أَيْضًا إمَّا إنْ ضَمِنَ بَدَلَ الصُّلْحِ وَإِمَّا إنْ لَمْ يَضْمَنْ، فَإِنْ لَمْ يَضْمَنْ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ سَفِيرًا بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ، فَلَا تَرْجِعُ إلَيْهِ الْحُقُوقُ، وَإِنْ ضَمِنَ لَزِمَهُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ لَا بِحُكْمِ الْعَقْدِ. (وَأَمَّا) الْفُضُولِيُّ فَإِنْ نَفَذَ صُلْحُهُ فَالْبَدَلُ عَلَيْهِ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ، وَإِنْ وَقْفَ صُلْحُهُ فَإِنْ رَدَّهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَطَلَ، وَلَا شَيْءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ، وَالْبَدَلُ عَلَيْهِ دُونَ الْفُضُولِيِّ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ الصُّلْحُ بَعْدَ وُجُودِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الصُّلْحُ بَعْدَ وُجُودِهِ. فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الصُّلْحُ أَشْيَاءُ (مِنْهَا) الْإِقَالَةُ فِيمَا سِوَى الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ مَا سِوَى الْقِصَاصِ لَا يَخْلُو عَنْ مَعْنَى مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ، فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ (فَأَمَّا) فِي الْقِصَاصِ فَالصُّلْحُ فِيهِ إسْقَاطٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ عَفْوٌ، وَالْعَفْوُ إسْقَاطٌ فَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ (وَمِنْهَا) لِحَاقُ الْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوْ مَوْتُهُ عَلَى الرِّدَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ اللُّحُوقِ بِدَارِ الْحَرْبِ وَالْمَوْتِ، فَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَ، وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَقَضَى الْقَاضِي بِهِ، أَوْ قُتِلَ، أَوْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ تَبْطُلُ، وَعِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ وَالْمُرْتَدَّةُ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ يَبْطُلُ مِنْ صُلْحِهَا مَا يَبْطُلُ مِنْ صُلْحِ الْحَرْبِيَّةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْحَرْبِيَّةِ، وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَمِنْهَا) الرَّدُّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّهُ يُفْسَخُ الْعَقْدُ لِمَا عُلِمَ (وَمِنْهَا) الِاسْتِحْقَاقُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ إبْطَالًا حَقِيقَةً، بَلْ هُوَ بَيَانُ أَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يَصِحَّ أَصْلًا لَا أَنَّهُ بَطَلَ بَعْدَ الصِّحَّةِ إلَّا أَنَّهُ إبْطَالٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ لِنَفَاذِ الصُّلْحِ ظَاهِرًا، فَيَجُوزُ إلْحَاقُهُ بِهَذَا الْقِسْمِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِإِبْطَالٍ حَقِيقَةً، فَكَانَ إلْحَاقُهُ بِأَقْسَامِ الشَّرَائِطِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَوْلَى وَأَقْرَبُ إلَى الصِّنَاعَةِ وَالْفِقْهِ، فَكَانَ أَوْلَى (وَمِنْهَا) هَلَاكُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْمَنَافِعِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْإِجَازَةِ، وَإِنَّمَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَأَمَّا هَلَاكُ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى مَنْفَعَتِهِ هَلْ يُوجِبُ بُطْلَانَ الصُّلْحِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ حَيَوَانًا كَالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ أَوْ غَيْرَ حَيَوَانٍ كَالدَّارِ وَالْبَيْتِ، فَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا؛ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِاسْتِهْلَاكٍ، فَإِنْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ يَبْطُلُ الصُّلْحُ إجْمَاعًا، وَإِنْ هَلَكَ بِاسْتِهْلَاكٍ، فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إنْ اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ، وَإِمَّا إنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِمَّا إنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُدَّعِي، فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ بَطَلَ الصُّلْحُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَبْطُلُ وَلَكِنْ لِلْمُدَّعِي الْخِيَارُ إنْ شَاءَ نَقْضَ الصُّلْحَ، وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى لَهُ بِقِيمَتِهِ عَبْدًا يَخْدُمُهُ إلَى الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ، وَقَدْ وُجِدَ؛ وَلِهَذَا مِلْكُ إجَارَةِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ، وَالْإِجَارَةُ تَبْطُلُ بِهَلَاكِ الْمُسْتَأْجِرِ سَوَاءٌ هَلَكَ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِاسْتِهْلَاكٍ كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ هَذَا صُلْحٌ فِيهِ مَعْنَى الْإِجَارَةِ، وَكَمَا أَنَّ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ لَازِمٌ فِي الْإِجَارَةِ فَمَعْنَى اسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ أَصْلٌ فِي الصُّلْحِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُمَا جَمِيعًا مَا أَمْكَنَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْمُدَّعَى فَيَجِبُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الِاسْتِيفَاءِ مِنْ مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ، وَهُوَ الرَّقَبَةُ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فِيهَا فَتُجْعَلُ كَأَنَّهَا مِلْكُهُ فِي حَقِّ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْهَا وَبَعْدَ الْقَتْلِ إنْ تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ عَيْنِهَا يُمْكِنُ مِنْ بَدَلِهَا، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْ الْبَدَلِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا فَيَخْدُمَهُ إلَى

فصل في بيان حكم الصلح إذا بطل بعد صحته

الْمُدَّةِ الْمَشْرُوطَةِ، وَلَهُ حَقُّ النَّقْضِ أَيْضًا لِتَعَذُّرِ مَحَلِّ الِاسْتِيفَاءِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنْ قَتَلَهُ، أَوْ كَانَ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ يَبْطُلُ الصُّلْحُ أَيْضًا، وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ، فَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَلَا يَبْطُلُ، وَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهَا عَبْدًا آخَرَ يَخْدُمُهُ إلَى الْمُدَّةِ الْمَشْرُوطَةِ، كَمَا إذَا قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ، وَكَالرَّاهِنِ إذَا قَتَلَ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ، أَوْ أَعْتَقَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ رَقَبَةَ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَكِنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِحَقِّ الْغَيْرِ، وَهُوَ الْمُدَّعِي لَتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهَا، فَتَجِبُ رِعَايَتُهُمَا جَمِيعًا بِتَنْفِيذِ الْعِتْقِ، وَيَضْمَنُ الْقِيمَةَ، كَمَا فِي الرَّهْنِ، وَكَذَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُدَّعِي بَطَلَ الصُّلْحُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَبْطُلُ، وَتُؤْخَذُ مِنْ الْمُدَّعِي قِيمَةُ الْعَبْدِ، وَيُشْتَرَى عَبْدٌ آخَرُ يَخْدُمُهُ، وَهَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُدَّعِي فِي نَقْضِ الصُّلْحِ عَلَى مَذْهَبِهِ فِيهِ نَظَرٌ هَذَا إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى مَنَافِعِ الْحَيَوَانِ فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى سُكْنَى بَيْتٍ فَهَلَكَ بِنَفْسِهِ بِأَنْ انْهَدَمَ، أَوْ بِاسْتِهْلَاكٍ بِأَنْ هَدَمَهُ غَيْرُهُ لَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ، وَلَكِنْ لِصَاحِبِ السُّكْنَى، وَهُوَ الْمُدَّعِي الْخِيَارُ إنْ شَاءَ بَنَاهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ بَيْتًا آخَرَ يَسْكُنُهُ إلَى الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الصُّلْحَ، وَلَا يَتَعَذَّرُ هُنَا خِلَافُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ إجَارَةَ الْعَبْدِ تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِجَارَةَ الدَّارِ لَا تَبْطُلُ بِانْهِدَامِهَا، وَلِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَبْنِيَهَا مَرَّةً أُخْرَى فِي بَعْضِ إشَارَاتِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا مَرَّ فِي الْإِجَارَاتِ. وَلَوْ تَصَالَحَا عَنْ إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى مَالٍ، ثُمَّ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ الصُّلْحِ لَا يَنْفَسِخُ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُبَيِّنٌ أَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ مُعَاوَضَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ مُقِرًّا لِلصُّلْحِ لَا مُبْطِلًا لَهُ. وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الصُّلْحِ لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ إلَّا إذَا ظَهَرَ بِبَدَلِ الصُّلْحِ عَيْبٌ، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لِيَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ، فَتُسْمَعَ بَيِّنَتُهُ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ لِلصُّلْحِ الْمَاضِي حُكْمَ الصُّلْحِ عَنْ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكُلُّ حُكْمٍ ثَبَتَ فِي ذَلِكَ ثَبَتَ فِي هَذَا. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ الصُّلْحِ إذَا بَطَلَ بَعْدَ صِحَّتِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الصُّلْحِ إذَا بَطَلَ بَعْدَ صِحَّتِهِ، أَوْ لَمْ يَصِحَّ أَصْلًا. فَهُوَ أَنْ يَرْجِعَ الْمُدَّعِي إلَى أَصْلِ دَعْوَاهُ إنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إقْرَارٍ، فَيَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْمُدَّعَى لَا غَيْرُهُ إلَّا أَنَّ فِي الصُّلْحِ عَنْ قِصَاصٍ إذَا لَمْ يَصِحَّ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَاتِلِ بِالدِّيَةِ دُونَ الْقِصَاصِ إلَّا أَنْ يَصِيرَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَرْجِعَ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْغُرُورِ أَيْضًا، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُمَا إذَا تَقَايَلَا الصُّلْحَ فِيمَا سِوَى الْقِصَاصِ، أَوْ رَدَّ الْبَدَلَ بِالْعَيْبِ، وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ يَرْجِعُ الْمُدَّعِي بِالْمُدَّعَى إنْ كَانَ عَنْ إقْرَارٍ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إنْكَارٍ يَرْجِعُ إلَى دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ وَالرَّدَّ بِالْعَيْبِ، وَخِيَارَ الرُّؤْيَةِ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ، وَإِذَا فُسِخَ جُعِلَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَعَادَ الْأَمْرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ، وَكَذَا إذَا اُسْتُحِقَّ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ لِفَوَاتِ شَرْطِ الصِّحَّةِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَصْلًا، فَكَانَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا أَنَّ فِي الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ عَنْ إقْرَارٍ لَا يَرْجِعُ بِالْمُدَّعَى، وَإِنْ فَاتَ شَرْطُ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ صُورَةَ الصُّلْحِ أَوْرَثَتْ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقَصَّاصِ وَالْقِصَاصُ لَا يُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبْهَةِ فَسَقَطَ لَكِنْ إلَى بَدَلٍ، وَهُوَ الدِّيَةُ، فَأَمَّا الْمَالُ، وَمَا سِوَى الْقِصَاصِ مِنْ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ فِيمَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مَعَ الشُّبْهَةِ فَأَمْكَنَ الرُّجُوعُ بِالْمُدَّعَى، وَلَا يُرْجَعُ بِشَيْءٍ آخَرَ إلَّا إذَا صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ جَارِيَةً، فَقَبَضَهَا وَاسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ جَاءَ مُسْتَحِقٌّ فَاسْتَحَقَّهَا وَأَخَذَهَا وَأَخَذَ عُقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا وَقْتَ الْخُصُومَةِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْمُدَّعَى، وَبِمَا ضَمِنَ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ إنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ يَرْجِعُ إلَى دَعْوَاهُ لَا غَيْرَ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ، أَوْ حَلَّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَنَكَلَ حِينَئِذٍ يَرْجِعُ بِمَا ادَّعَى، وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَغْرُورًا، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْغُرُورِ، وَلَا يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ فِي نَوْعَيْ الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ الْعُقْرَ بَدَلٌ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْتَوْفَى، فَكَانَ عَلَيْهِ الْعُقْرُ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، أَوْ مَا دُونَهَا فَصَالَحَ عَلَى جَارِيَةٍ فَاسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْجَارِيَة، وَبِمَا ضَمِنَ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ إنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ، وَلَا يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إنْكَارٍ؛ يَرْجِعُ إلَى دَعْوَاهُ لَا غَيْرَ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، أَوْ حَلَّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَنَكَلَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ، وَبِمَا ضَمِنَ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ، أَوْ صَالَحَ الْمُتَوَسِّطَ عَلَى عَبْدٍ مُعَيَّنٍ فَاسْتُحِقَّ الْعَبْدُ، أَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ حَتَّى بَطَلَ الصُّلْحُ لَا سَبِيلَ لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُتَوَسِّطِ، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمُدَّعَى إنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إنْكَارٍ يَرْجِعُ إلَى دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَسِّطَ بِهَذَا الصُّلْحِ لَا يَضْمَنُ سِوَى تَسْلِيمِ الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ. وَلَوْ صَالَحَ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ، وَضَمِنَهَا

كتاب الشركة

وَدَفَعَهَا إلَيْهِ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ، أَوْ وَجَدَهَا زُيُوفًا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُصَالِحِ الْمُتَوَسِّطِ؛ لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ الْجَارِيَةِ، وَسَلَامَةَ الْمَضْمُونِ. وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ الْمُدَّعَاةُ بَعْدَ الصُّلْحِ عَنْ إقْرَارٍ، أَوْ عَنْ إنْكَارٍ كَانَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا دَفَعَ. (أَمَّا) فِي مَوْضِعِ الْإِقْرَارِ، فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ عِوَضٌ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا. (وَأَمَّا) فِي مَوْضِعِ الْإِنْكَارِ فَلِأَنَّ الْمَأْخُوذَ عِوَضٌ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَقَدْ فَاتَ بِالِاسْتِحْقَاقِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ عِوَضِهِ هَذَا إذَا اسْتَحَقَّ كُلَّ الدَّارِ فَأَمَّا إذَا اسْتَحَقَّ بَعْضَهَا، فَإِنْ كَانَ ادَّعَى جَمِيعَ الدَّارِ يَرْجِعُ بِحِصَّةِ مَا اُسْتُحِقَّ لِفَوَاتِ بَعْضِ مَا هُوَ عِوَضٌ عَنْ الْمُسْتَحَقِّ، وَإِنْ كَانَ ادَّعَى فِيهَا حَقًّا لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى مَا وَرَاءَ الْمُسْتَحَقِّ، وَإِذَا بَطَلَ الصُّلْحُ عَلَى الْمَنَافِعِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ رَجَعَ بِالْمُدَّعَى بِقَدْرِ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ إنْكَارٍ رَجَعَ إلَى الدَّعْوَى فِي قَدْرِ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ. وَلَوْ صَالَحَ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى دَنٍّ مِنْ خَمْرٍ فَإِذَا هُوَ خَلٌّ، أَوْ عَلَى عَبْدٍ؛ فَإِذَا هُوَ حُرٌّ، فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي عُرِفَ فِي بَابِ النِّكَاحِ إلَّا أَنَّ فِيمَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ هُنَاكَ تَجِبُ الدِّيَةُ هُنَا، وَفِيمَا تَجِبُ الْقِيمَةُ لِرَجُلٍ مِثْلِهِ هُنَاكَ يَجِبُ ذَاكَ هُنَا، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا مَا إذَا صَالَحَ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى خَمْرٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِأَنَّهُ خَمْرٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَهَهُنَا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِتَسْمِيَةِ الْعَبْدِ وَالْخَلِّ، وَكُلُّ مَنْ غَرَّ غَيْرَهُ فِي شَيْءٍ، يَكُونُ مُلْتَزِمًا مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِيهِ، فَإِذَا ظَهَرَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ، وَمَعْنَى الْغُرُورِ، لَا يَتَقَدَّرُ عِنْدَ عِلْمِهِ بِحَالِ الْمُسَمَّى فَتَبْقَى لَفْظَةُ الصُّلْحِ كِنَايَةً عَنْ الْعَفْوِ، وَأَنَّهُ مُسْقِطٌ لِلْحَقِّ أَصْلًا، فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الشَّرِكَة] [أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ] (كِتَابُ الشَّرِكَة) الشَّرِكَةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: شَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ، وَشَرِكَةُ الْعُقُودِ وَشَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَثْبُتُ بِفِعْلِ الشَّرِيكَيْنِ، وَنَوْعٌ يَثْبُتُ بِغَيْرِ فِعْلِهِمَا. (أَمَّا) الَّذِي يَثْبُتُ بِفِعْلِهِمَا فَنَحْوُ أَنْ يَشْتَرِيَا شَيْئًا، أَوْ يُوهَبَ لَهُمَا، أَوْ يُوصَى لَهُمَا، أَوْ يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِمَا، فَيَقْبَلَا فَيَصِيرَ الْمُشْتَرَى وَالْمَوْهُوبُ وَالْمُوصَى بِهِ وَالْمُتَصَدَّقَ بِهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ مِلْكٍ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَثْبُتُ بِغَيْرِ فِعْلِهِمَا فَالْمِيرَاثُ بِأَنْ وَرِثَا شَيْئًا فَيَكُونَ الْمَوْرُوثُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ مِلْكٍ. (وَأَمَّا) . شَرِكَةُ الْعُقُودِ. فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَنْوَاعِهَا وَكَيْفِيَّةِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا، وَرُكْنِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ رُكْنِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الشَّرِكَةِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَشَرِكَةُ الْعُقُودِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: شَرِكَةٌ بِالْأَمْوَالِ، وَشَرِكَةٌ بِالْأَعْمَالِ، وَتُسَمَّى شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ وَشَرِكَةَ الصَّانِعِ، وَشَرِكَةٌ بِالتَّقَبُّلِ، وَشَرِكَةٌ بِالْوُجُوهِ (أَمَّا) الْأَوَّلُ: وَهُوَ الشَّرِكَةُ بِالْأَمْوَالِ: فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ اثْنَانِ فِي رَأْسِ مَالٍ، فَيَقُولَانِ اشْتَرَكْنَا فِيهِ، عَلَى أَنْ نَشْتَرِيَ وَنَبِيعَ مَعًا، أَوْ شَتَّى، أَوْ أَطْلَقَا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ رِبْحٍ، فَهُوَ بَيْنَنَا عَلَى شَرْطِ كَذَا، أَوْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا: ذَلِكَ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: نَعَمْ. وَلَوْ ذَكَرَا الشِّرَاءَ دُونَ الْبَيْعِ، فَإِنْ ذَكَرَا مَا يَدُلُّ عَلَى شَرِكَةِ الْعُقُودِ، بِأَنْ قَالَا: مَا اشْتَرَيْنَا فَهُوَ بَيْنَنَا، أَوْ مَا اشْتَرَى أَحَدُنَا مِنْ تِجَارَةٍ فَهُوَ بَيْنَنَا، يَكُونُ شَرِكَةً؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا جَعَلَا مَا اشْتَرَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ بَيْنَهُمَا عَلِمَ أَنَّهُمَا أَرَادَا بِهِ الشَّرِكَةَ، لَا الْوَكَالَةَ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يُوَكِّلُ مُوَكَّلَهُ عَادَةً، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَكَالَةً لَا تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى مَا تَقِفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْوَكَالَةِ، وَهُوَ التَّخْصِيصُ بِبَيَانِ الْجِنْسِ أَوْ النَّوْعِ أَوْ قَدْرِ الثَّمَنِ بَلْ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَذْكُرَا الشِّرَاءَ، وَلَا الْبَيْعَ. وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى شَرِكَةِ الْعُقُودِ، بِأَنْ قَالَ رَجُلٌ لِغَيْرِهِ: مَا اشْتَرَيْتُ مِنْ شَيْءٍ فَبَيْنِي وَبَيْنَكَ، أَوْ قَالَ: فَبَيْنَنَا، وَقَالَ الْآخَرُ: نَعَمْ فَإِنْ أَرَادَا بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَا بِمَعْنَى شَرِيكَيْ التِّجَارَةِ، كَانَ شَرِكَةً حَتَّى تَصِحَّ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ جِنْسِ الْمُشْتَرَى، وَنَوْعِهِ وَقَدْرِ الثَّمَنِ، كَمَا إذَا نَصَّا عَلَى الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ. وَإِنْ أَرَادَا بِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا خَاصَّةً بِعَيْنِهِ، وَلَا يَكُونَا فِيهِ كَشَرِيكَيْ التِّجَارَةِ بَلْ يَكُونُ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا بِعَيْنِهِ كَمَا إذَا أُورِثَا أَوْ وُهِبَ لَهُمَا، كَانَ وَكَالَةً لَا شَرِكَةً فَإِنْ وُجِدَ شَرْطُ صِحَّةِ الْوَكَالَةِ جَازَتْ الْوَكَالَةُ، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ بَيَانُ جِنْسِ الْمُشْتَرَى، وَبَيَانُ نَوْعِهِ، أَوْ مِقْدَارِ الثَّمَنِ فِي الْوَكَالَةِ الْخَاصَّةِ وَهِيَ أَنْ لَا يُفَوِّضَ الْمُوَكِّلُ الرَّأْيَ إلَى الْوَكِيلِ، بِأَنْ يَقُولَ: مَا اشْتَرَيْتَ لِي مِنْ عَبْدٍ تُرْكِيٍّ، أَوْ جَارِيَةٍ رُومِيَّةٍ، فَهُوَ جَائِزٌ أَوْ مَا اشْتَرَيْتَ لِي مِنْ عَبْدٍ أَوْ جَارِيَةٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ، أَوْ بَيَانُ الْوَقْتِ أَوْ قَدْرِ الثَّمَنِ أَوْ جِنْسِ الْمُشْتَرَى فِي الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ بِأَنْ يَقُولَ: مَا اشْتَرَيْتَ لِي مِنْ شَيْءٍ الْيَوْمَ

فصل في بيان جواز أنواع الشركة

أَوْ شَهْرَ كَذَا أَوْ سَنَةَ كَذَا فَهُوَ جَائِزٌ، أَوْ قَالَ: مَا اشْتَرَيْتَ لِي مِنْ شَيْءٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ أَوْ مَا اشْتَرَيْتَ لِي مِنْ الْبَزِّ وَالْخَزِّ، فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ هَذَا اللَّفْظِ يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ، وَيَحْتَمِلُ الْوَكَالَةَ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ فَإِنْ نَوَيَا بِهِ الشَّرِكَةَ كَانَ شَرِكَةً فِي عُمُومِ التِّجَارَاتِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرِكَةِ الْعُمُومُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِتَكْرَارِ التِّجَارَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا بَيَانُ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الشَّرِكَةِ وَإِنْ نَوَيَا بِهِ الْوَكَالَةِ كَانَ وَكَالَةً وَيَقِفُ صِحَّتُهَا عَلَى شَرَائِطِهَا مِنْ الْخَاصَّةِ أَوْ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْوَكَالَةِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَمَلَّكُ الْعَيْنِ لَا تَحْصِيلُ الرِّبْحِ مِنْهَا فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ التَّخْصِيصِ بِبَيَانِ مَا ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ بِبَيَانِ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي وَصَفْنَا لِأَنَّهُ لَمَّا عَمَّمَهَا بِتَفْوِيضِ الرَّأْيِ فِيهَا إلَى الْوَكِيلِ فَقَدْ شَبَّهَهَا بِالشَّرِكَةِ فَكَانَ فِي احْتِمَالِ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ كَالشَّرِكَةِ لَكِنَّهَا وَكَالَةٌ وَالْخُصُوصُ أَصْلٌ فِي الْوَكَالَةِ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ ضَرْبِ تَخْصِيصٍ فَإِنْ أَتَى بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، جَازَتْ وَإِلَّا بَطَلَتْ. قَالَ بِشْرٌ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ: مَا اشْتَرَيْتَ الْيَوْمَ مِنْ شَيْءٍ فَبَيْنِي وَبَيْنَكَ نِصْفَيْنِ فَقَالَ الرَّجُلُ: نَعَمْ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: هَذَا جَائِزٌ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ. وَكَذَلِكَ إنْ وَقَّتَ مَالًا، وَلَمْ يُوَقِّتْ يَوْمًا، وَكَذَا إنْ وَقَّتَ صِنْفًا مِنْ الثِّيَابِ، وَسَمَّى عَدَدًا، أَوْ لَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا وَلَا يَوْمًا، وَإِنْ قَالَ: مَا اشْتَرَيْتَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ لَا يَجُوزُ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَذْكُرْ الْبَيْعَ، وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى شَرِكَةِ الْعُقُودِ، عُلِمَ أَنَّهَا وَكَالَةٌ، فَلَا تَصِحُّ إلَّا بِضَرْبٍ مِنْ التَّخْصِيصِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: فِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا بِغَيْرِ مَالٍ عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَيَا الْيَوْمَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا خَصَّا صِنْفًا مِنْ الْأَصْنَافِ، أَوْ عَمَّا وَلَمْ يَخُصَّا فَهُوَ جَائِزٌ. وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يُوَقِّتَا لِلشَّرِكَةِ وَقْتًا كَانَ هَذَا جَائِزًا؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا جَعَلَا مَا يَشْتَرِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ بَيْنَهُمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا شَرِكَةٌ وَلَيْسَتْ بِوَكَالَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَكُونُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَادَةً، وَإِذَا كَانَ شَرِكَةً فَالشَّرِكَةُ لَا تَحْتَاجُ إلَى التَّخْصِيصِ. قَالَ وَإِنْ أَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا يَشْتَرِيهِ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ فَكُلَّمَا اشْتَرَيَا شَيْئًا، فَهُوَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَمَّا صَحَّتْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلَ الْآخَرِ فِيمَا يَشْتَرِيهِ، فَهُوَ بِالْإِشْهَادِ أَنَّهُ يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ، يُرِيدُ إخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنْ الْوَكَالَةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ، فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ. (وَأَمَّا) الشَّرِكَةُ بِالْأَعْمَالِ: فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَا عَلَى عَمَلٍ مِنْ الْخِيَاطَةِ، أَوْ الْقِصَارَةِ، أَوْ غَيْرِهِمَا فَيَقُولَا: اشْتَرَكْنَا عَلَى أَنْ نَعْمَلَ فِيهِ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أُجْرَةٍ فَهِيَ بَيْنَنَا، عَلَى شَرْطِ كَذَا،. (وَأَمَّا) الشَّرِكَةُ بِالْوُجُوهِ: فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَا وَلَيْسَ لَهُمَا مَالٌ، لَكِنْ لَهُمَا وَجَاهَةٌ عِنْدَ النَّاسِ فَيَقُولَا: اشْتَرَكْنَا عَلَى أَنْ نَشْتَرِيَ بِالنَّسِيئَةِ، وَنَبِيعَ بِالنَّقْدِ، عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَنَا عَلَى شَرْطِ كَذَا. وَسُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ شَرِكَةَ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاعُ بِالنَّسِيئَةِ إلَّا الْوَجِيهُ مِنْ النَّاسِ عَادَةً أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوَاجِهُ صَاحِبَهُ يَنْتَظِرَانِ مَنْ يَبِيعُهَا بِالنَّسِيئَةِ وَيَدْخُلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ: الْعِنَانُ وَالْمُفَاوَضَةُ وَيُفْصَلُ بَيْنَهُمَا بِشَرَائِطَ تَخْتَصُّ بِالْمُفَاوَضَةِ نَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ جَوَازِ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ جَوَازِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهَا جَائِزَةٌ، عِنَانًا كَانَتْ أَوْ مُفَاوَضَةً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: شَرِكَةُ الْأَعْمَالِ وَالْوُجُوهِ لَا جَوَازَ لَهَا أَصْلًا وَرَأْسًا. (وَأَمَّا) شَرِكَةُ الْأَمْوَالِ: فَتَجُوزُ فِيهَا الْعِنَانُ، وَلَا تَجُوزُ فِيهَا الْمُفَاوَضَةُ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا أَعْرِفُ الْمُفَاوَضَةَ. وَقِيلَ فِي اشْتِقَاقِ الْعِنَانِ: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْعَنِّ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ يُقَالُ: عَنَّ لِي، أَيْ اعْتَرَضَ وَظَهَرَ. قَالَ امْرُؤُ الْقِيسِ: فَعَنَّ لَنَا سِرْبٌ كَأَنَّ نِعَاجَهُ ... عَذَارَى دُوَارٍ فِي مُلَاءٍ مُذَيَّلِ سُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِثْلَ الشَّرِكَةِ عِنَانًا؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى حَسَبِ مَا يَعِنُّ لَهُمَا فِي كُلِّ التِّجَارَاتِ، أَوْ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ وَعِنْدَ تَسَاوِي الْمَالَيْنِ، أَوْ تَفَاضُلِهِمَا وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عِنَانِ الْفَرَسِ، أَنْ يَكُونَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، وَيَدُهُ الْأُخْرَى مُطْلَقَةٌ يَفْعَلُ بِهَا مَا يَشَاءُ، فَسُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الشَّرِكَةِ لَهُ عِنَانًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ وَيَتَصَرَّفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْبَاقِي كَيْفَ يَشَاءُ، أَوْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَعَلَ عِنَانَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ لِصَاحِبِهِ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَاطَوْنَ هَذِهِ الشَّرِكَةَ قَالَ النَّابِغَةُ

فصل في بيان شرائط جواز أنواع الشركة

وَشَارَكْنَا قُرَيْشًا فِي تُقَاهَا ... وَفِي أَحْسَابِهَا شِرْكَ الْعِنَانِ. (وَأَمَّا) . الْمُفَاوَضَةُ: فَقَدْ قِيلَ: إنَّهَا الْمُسَاوَاةُ فِي اللُّغَةِ قَالَ الْقَائِلُ وَهُوَ الْعَبْدِيُّ: تُهْدَى الْأُمُورُ بِأَهْلِ الرَّأْيِ مَا صَلُحَتْ ... فَإِنْ تَوَلَّتْ فَبِالْأَشْرَارِ تَنْقَادُ لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ ... وَلَا سَرَاةٌ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا سُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الشَّرِكَةِ مُفَاوَضَةً؛ لِاعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ وَالتَّصَرُّفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرُ. وَقِيلَ هِيَ مِنْ التَّفْوِيضِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُفَوِّضُ التَّصَرُّفَ إلَى صَاحِبِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. (وَأَمَّا) الْكَلَامُ فِي شَرِكَةِ الْأَعْمَالِ وَالْوُجُوهِ (فَوَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الشَّرِكَةَ تُنْبِئُ عَنْ الِاخْتِلَاطِ، وَلِهَذَا شَرَطَ الْخَلْطَ لِجَوَازِ الشَّرِكَةِ؛ وَلَا يَقَعُ الِاخْتِلَاطُ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ، وَكَذَا مَا وُضِعَ لَهُ الشَّرِكَةَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ؛ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِاسْتِنْمَاءِ الْمَالِ بِالتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ نَمَاءَ الْمَالِ بِالتِّجَارَةِ وَالنَّاسُ فِي الِاهْتِدَاءِ إلَى التِّجَارَةِ مُخْتَلِفُونَ، بَعْضُهُمْ أَهْدَى مِنْ الْبَعْضِ، فَشُرِعَتْ الشَّرِكَةُ؛ لِتَحْصِيلِ غَرَضِ الِاسْتِنْمَاءِ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَصْلٍ يُسْتَنْمَى، وَلَمْ يُوجَدْ فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَلَا يَحْصُلُ مَا وُضِعَ لَهُ الشَّرِكَةُ فَلَا يَجُوزُ. (وَلَنَا) : أَنَّ النَّاسَ يَتَعَامَلُونَ بِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ عَلَيْهِمْ مِنْ أَحَدٍ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ» ؛ وَلِأَنَّهُمَا يَشْتَمِلَانِ عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ، وَالْمُشْتَمِلُ عَلَى الْجَائِزِ جَائِزٌ وَقَوْلُهُ: إنَّ الشَّرِكَةَ شُرِعَتْ لِاسْتِنْمَاءِ الْمَالِ فَيَسْتَدْعِي أَصْلًا يُسْتَنْمَى فَنَقُولُ: الشَّرِكَةُ بِالْأَمْوَالِ شُرِعَتْ لِتَنْمِيَةِ الْمَالِ وَأَمَّا الشَّرِكَةُ بِالْأَعْمَالِ، أَوْ بِالْوُجُوهِ: فَمَا شُرِعَتْ لِتَنْمِيَةِ الْمَالِ، بَلْ لِتَحْصِيلِ أَصْلِ الْمَالِ، وَالْحَاجَةُ إلَى تَحْصِيلِ أَصْلِ الْمَالِ فَوْقَ الْحَاجَةِ إلَى تَنْمِيَتِهِ، فَلَمَّا شُرِعَتْ لِتَحْصِيلِ الْوَصْفِ فَلَأَنْ تُشْرَعَ لِتَحْصِيلِ الْأَصْلِ أَوْلَى. (وَأَمَّا) الْكَلَامُ فِي الشَّرِكَةِ بِالْأَمْوَالِ: فَأَمَّا الْعِنَانُ فَجَائِزٌ بِإِجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ؛ وَلِتَعَامُلِ النَّاسِ ذَلِكَ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ «أُسَامَةَ بْنَ شَرِيكٍ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَتَعْرِفُنِي؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: وَكَيْفَ لَا أَعْرِفُكَ وَكُنْتَ شَرِيكِي وَنِعْمَ الشَّرِيكُ، لَا تُدَارِي، وَلَا تُمَارِي» ، وَأَدْنَى مَا يُسْتَدَلُّ بِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْجَوَازُ، وَكَذَا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهَذِهِ الشَّرِكَةِ، فَقَرَّرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، حَيْثُ لَمْ يَنْهَهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، وَالتَّقْرِيرُ أَحَدُ وُجُوهِ السُّنَّةِ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَحَاجَتُهُمْ إلَى اسْتِنْمَاءِ الْمَالِ مُتَحَقِّقَةٌ. وَهَذَا النَّوْعُ طَرِيقٌ صَالِحٌ لِلِاسْتِنْمَاءِ فَكَانَ مَشْرُوعًا؛ وَلِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْوَكَالَةِ، وَالْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ إجْمَاعًا. (وَأَمَّا) الْمُفَاوَضَةُ: (فَأَمَّا) قَوْلُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا أَعْرِفُ الْمُفَاوَضَةَ فَإِنْ عَنَى بِهِ: لَا أَعْرِفُ مَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ فَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمُسَاوَاةِ، وَإِنْ عَنَى بِهِ: لَا أَعْرِفُ جَوَازَهَا فَقَدْ عَرَّفَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَوَازَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: تَفَاوَضُوا فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ، وَلِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَمْرَيْنِ جَائِزَيْنِ وَهُمَا: الْوَكَالَةُ وَالْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَائِزَةٌ حَالَ الِانْفِرَادِ، وَكَذَا حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ، كَالْعِنَانِ؛ وَلِأَنَّهَا طَرِيقُ اسْتِنْمَاءِ الْمَالِ أَوْ تَحْصِيلِهِ، وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ مُتَحَقِّقَةٌ فَكَانَتْ جَائِزَةٌ كَالْعِنَانِ. (وَأَمَّا) الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ عِنْدَكُمْ، وَالْكَفَالَةُ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا الْمُفَاوَضَةُ كَفَالَةٌ بِمَجْهُولٍ، وَأَنَّهَا غَيْرُ صَحِيحَةٍ حَالَةَ الِانْفِرَادِ فَكَذَا الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا الْمُفَاوَضَةُ وَدَلِيلُنَا عَلَى الْجَوَازِ: مَا ذَكَرْنَا مَعَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (وَأَمَّا) قَوْلُهُ: الْمَكْفُولُ لَهُ مَجْهُولٌ فَنَعَمْ، لَكِنْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْجَهَالَةِ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ عَفْوٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَفْوًا حَالَةَ الِانْفِرَادِ كَمَا فِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ، فَإِنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّوْكِيلُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ وَكَذَا الْمُضَارَبَةُ تَتَضَمَّنُ وَكَالَةً عَامَّةً وَأَنَّهَا صَحِيحَةٌ وَإِنْ كَانَتْ الْوَكَالَةُ الْعَامَّةُ لَا تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ حَالَةِ الِانْفِرَادِ، فَكَذَا هَذَا وَكَانَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ الْوَكَالَةِ لَا تَثْبُتُ فِي هَذَا الْعَقْدِ مَقْصُودًا، بَلْ ضِمْنًا لِلشَّرِكَةِ وَقَدْ يَثْبُتُ الشَّيْءُ ضِمْنًا وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ قَصْدًا، وَيُشْتَرَطُ لِلثَّابِتِ مَقْصُودًا مَا لَا يُشْتَرَطُ لِلثَّابِتِ ضِمْنًا وَتَبَعًا كَعَزْلِ الْوَكِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ شَرَائِطِ جَوَازِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَلِجَوَازِهَا شَرَائِطُ: بَعْضُهَا يَعُمُّ الْأَنْوَاعَ كُلَّهَا: وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ. (أَمَّا) الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) أَهْلِيَّةُ الْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَازِمَةٌ فِي الْكُلِّ وَهِيَ أَنْ يَصِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ

مِنْهُمَا وَكِيلَ صَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَتَقَبُّلِ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَذِنَ لِصَاحِبِهِ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَتَقَبُّلُ الْأَعْمَالِ مُقْتَضَى عَقْدِ الشَّرِكَةِ وَالْوَكِيلُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ عَنْ إذْنٍ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا أَهْلِيَّةُ الْوَكَالَةِ لِمَا عُلِمَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا تَفْسُدُ الشَّرِكَةُ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَجَهَالَتُهُ تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ جُزْءًا شَائِعًا فِي الْجُمْلَةِ، لَا مُعَيَّنًا، فَإِنْ عَيَّنَا عَشَرَةً، أَوْ مِائَةً، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ كَانَتْ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةً؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي تَحَقُّقَ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ وَالتَّعْيِينُ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَحْصُلَ مِنْ الرِّبْحِ إلَّا الْقَدْرُ الْمُعَيَّنُ لِأَحَدِهِمَا، فَلَا يَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ: فَيَخْتَلِفُ. (أَمَّا) الشَّرِكَةُ بِالْأَمْوَالِ فَلَهَا شُرُوطٌ: (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ وَهِيَ الَّتِي لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْمُفَاوَضَاتِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهِيَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ، عِنَانًا كَانَتْ الشَّرِكَةُ أَوْ مُفَاوَضَةً عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، فَلَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِي الْعُرُوضِ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِي الْعُرُوضِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْوَكَالَةِ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرِكَةِ، وَالْوَكَالَةُ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا الشَّرِكَةُ لَا تَصِحُّ فِي الْعُرُوضِ، وَتَصِحُّ فِي الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ. فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: بِعْ عَرْضَكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهُ بَيْنَنَا لَا يَجُوزُ وَإِذَا لَمْ تَجُزْ الْوَكَالَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ ضَرُورَاتِ الشَّرِكَةِ لَمْ تَجُزْ الشَّرِكَةُ. وَلَوْ قَالَ لَهُ: اشْتَرِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَا اشْتَرَيْتَهُ بَيْنَنَا جَازَ وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْعُرُوضِ تُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ يَكُونُ قِيمَةَ الْعُرُوضِ لَا عَيْنَهَا، وَالْقِيمَةُ مَجْهُولَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ، وَالظَّنِّ فَيَصِيرُ الرِّبْحُ مَجْهُولًا؛ فَيُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ مِنْ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عِنْدَ الْقِسْمَةِ عَيْنُهَا، فَلَا يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ وَالشَّرِكَةُ فِي الْعُرُوضِ تُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْهَلَاكِ فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِعَرْضٍ بِعَيْنِهِ، فَهَلَكَ الْعَرْضُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، لَا يَضْمَنُ شَيْئًا آخَرَ؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً، فَالشَّرِكَةُ فِيهَا تُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْهَلَاكِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَالشَّرِكَةُ فِيهَا لَا تُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ بَلْ يَكُونُ رِبْحُ مَا ضَمِنَ وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الشَّرِكَةِ فِي الْعُرُوضِ وَكُلِّ مَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَنْ يَبِيعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ مَالِهِ بِنِصْفِ مَالِ صَاحِبِهِ، حَتَّى يَصِيرَ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَيْنِ، وَتَحْصُلُ شَرِكَةُ مِلْكٍ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يَعْقِدَانِ بَعْدَ ذَلِكَ عَقْدَ الشَّرِكَةِ، فَتَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ، وَمِنْ الْآخَرِ عُرُوضٌ، فَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ: أَنْ يَبِيعَ صَاحِبُ الْعُرُوضِ نِصْفَ عَرْضِهِ بِنِصْفِ دَرَاهِمِ صَاحِبِهِ، وَيَتَقَابَضَا، وَيَخْلِطَا جَمِيعًا حَتَّى تَصِيرَ الدَّرَاهِمُ بَيْنَهُمَا، وَالْعُرُوضُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يَعْقِدَانِ عَلَيْهِمَا عَقْدَ الشَّرِكَةِ فَيَجُوزُ. وَأَمَّا التِّبْرُ فَهَلْ يَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ؟ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ وَجَعَلَهُ كَالْعُرُوضِ وَفِي كِتَابِ الصَّرْفِ جَعَلَهُ كَالْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ: إذَا اشْتَرَى بِهِ فَهَلَكَ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، وَالْأَمْرُ فِيهِ مَوْكُولٌ إلَى تَعَامُلِ النَّاسِ، فَإِنْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ، فَتَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهَا وَإِنْ كَانُوا لَا يَتَعَامَلُونَ بِهَا فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْعُرُوضِ، وَلَا تَجُوزُ فِيهَا الشَّرِكَةُ. (وَأَمَّا) الْفُلُوسُ: فَإِنْ كَانَتْ كَاسِدَةً فَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ، وَلَا الْمُضَارَبَةُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا عُرُوضٌ وَإِنْ كَانَتْ نَافِقَةً: فَكَذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَجُوزُ وَالْكَلَامُ فِيهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ لَيْسَتْ أَثْمَانًا عَلَى كُلِّ حَالٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَصِيرُ مَبِيعًا بِإِصْلَاحِ الْعَاقِدَيْنِ حَتَّى جَازَ بَيْعُ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهَا عِنْدَهُمَا، فَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا مُطْلَقَةً؛ لِاحْتِمَالِهَا التَّعْيِينَ بِالتَّعْيِينِ فِي الْجُمْلَةِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، لَمْ تَصْلُحْ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ كَسَائِرِ الْعُرُوضِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الثَّمَنِيَّةَ لَازِمَةٌ لِلْفُلُوسِ النَّافِقَةِ، فَكَانَتْ مِنْ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ، وَلِهَذَا أَبَى جَوَازَ بَيْعِ الْوَاحِدِ مِنْهَا بِاثْنَيْنِ، فَتَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ كَسَائِرِ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِالْفُلُوسِ، وَلَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ جَهَالَةُ الرِّبْحِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْكَسَادِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ فَإِذَا كَسَدَتْ صَارَ رَأْسُ الْمَالِ قِيمَةً، وَالْقِيمَةُ مَجْهُولَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ

فِي الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُمَا عِنْدَ الْكَسَادِ يَأْخُذَانِ رَأْسَ الْمَالِ عَدَدًا لَا قِيمَةً، فَكَانَ الرِّبْحُ مَعْلُومًا. (وَأَمَّا) الشَّرِكَةُ بِالْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِأَثْمَانٍ مُطْلَقَةٍ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ الَّتِي لَا تَتَفَاوَتُ فَلَا تَجُوزُ قَبْلَ الْخَلْطِ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، إذَا كَانَتْ عَيْنًا فَكَانَتْ كَالْعُرُوضِ؛ وَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا الشَّرِكَةُ فِيهَا لَا تَصِحُّ قَبْلَ الْخَلْطِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ آخَرُ قَبْلَ الْخَلْطِ: بِعْ حِنْطَتَكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهَا بَيْنَنَا لَمْ يَجُزْ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الشَّرِكَةُ مِنْ جِنْسَيْنِ أَوْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا بَعْدَ الْخَلْطِ: فَإِنْ كَانَتْ الشَّرِكَةُ فِي جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَا تَجُوزُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ إذَا خُلِطَتْ بِالشَّعِيرِ، خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ ثَمَنًا بِدَلِيلِ أَنَّ مُسْتَهْلِكَهَا يَضْمَنُ قِيمَتَهَا، لَا مِثْلَهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: لَا تَصِحُّ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ شَرِكَةَ مِلْكٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِيهَا بَعْدَ الْخَلْطِ وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَكِيلُ نِصْفَيْنِ، وَشَرَطَا الرِّبْحَ أَثْلَاثًا، فَخَلَطَاهُ وَاشْتَرَيَا بِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ نِصْفَيْنِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ: عَلَى مَا شَرَطَا فَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مُطَّرِدٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا، أَنَّ الْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ لَيْسَتْ أَثْمَانًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، بَلْ تَكُونُ تَارَةً ثَمَنًا، وَتَارَةً مَبِيعًا؛ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْجُمْلَةِ، فَكَانَتْ كَالْفُلُوسِ. (وَوَجْهُ) التَّخْرِيجِ لِمُحَمَّدٍ: أَنَّ مَعْنَى الْوَكَالَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا الشَّرِكَةُ ثَابِتٌ بَعْدَ الْخَلْطِ، فَأَشْبَهَتْ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْخَلْطِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ الَّتِي مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الشَّرِكَةِ لَا يَصِحُّ فِيهَا قَبْلَ الْخَلْطِ، وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِ الشَّرِكَةِ بِالْمَكِيلَاتِ، وَسَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ، وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنْ يُخْلَطَا حَتَّى تَصِيرَ شَرِكَةَ مِلْكٍ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يَعْقِدَا عَلَيْهَا عَقْدَ الشَّرِكَةِ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُ أَيْضًا. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِ الشَّرِكَةِ عَيْنًا حَاضِرًا لَا دَيْنًا، وَلَا مَالًا غَائِبًا، فَإِنْ كَانَ لَا تَجُوزُ عِنَانًا، كَانَتْ أَوْ مُفَاوَضَةً؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الشَّرِكَةِ الرِّبْحُ وَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ التَّصَرُّفِ، وَلَا يُمْكِنُ فِي الدَّيْنِ وَلَا الْمَالِ الْغَائِبِ، فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ الْحُضُورُ عِنْدَ الشِّرَاءِ لَا عِنْدَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الشَّرِكَةِ يَتِمُّ بِالشِّرَاءِ، فَيُعْتَبَرُ الْحُضُورُ عِنْدَهُ حَتَّى لَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لَهُ: أَخْرِجْ مِثْلَهَا، وَاشْتَرِ بِهِمَا، وَبِعْ فَمَا رَبِحْتَ يَكُونُ بَيْنَنَا، فَأَقَامَ الْمَأْمُورُ الْبَيِّنَةَ، أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَالُ حَاضِرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَمَّا كَانَ حَاضِرًا عِنْدَ الشِّرَاءِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ خَلْطُ الْمَالَيْنِ، وَهُوَ خَلْطُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ الدَّنَانِيرِ بِالدَّرَاهِمِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: لَا يُشْتَرَطُ، وَقَالَ زُفَرُ: يُشْتَرَطُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ: يُبْنَى مَا إذَا كَانَ الْمَالَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ، بِأَنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ، وَالْآخَرِ دَنَانِيرُ، أَنَّ الشَّرِكَةَ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُمَا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، لَكِنْ بِصِفَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ كَالصِّحَاحِ مَعَ الْمُكَسَّرَةِ، أَوْ كَانَتْ دَرَاهِمُ أَحَدِهِمَا بَيْضَاءَ، وَالْآخَرِ سَوْدَاءَ وَعِلَّةُ ذَلِكَ فِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ: أَنَّ الْخَلْطَ شَرْطٌ فِي الْمُفَاوَضَةِ، لَا فِي الْعِنَانِ وَلَكِنَّ الطَّحَاوِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِمَا عِنْدَ زُفَرَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الشَّرِكَةَ تُنْبِئُ عَنْ الِاخْتِلَاطِ، وَالِاخْتِلَاطُ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ تَمَيُّزِ الْمَالَيْنِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الشَّرِكَةِ، وَلِأَنَّ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِكَةِ أَنَّ الْهَلَاكَ يَكُونُ مِنْ الْمَالَيْنِ، وَمَا هَلَكَ قَبْلَ الْخَلْطِ مِنْ أَحَدِ الْمَالَيْنِ يَهْلَكُ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ خَاصَّةً وَهَذَا لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ. (وَلَنَا) : أَنَّ الشَّرِكَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى الْوَكَالَةِ، فَمَا جَازَ التَّوْكِيلُ بِهِ، جَازَتْ الشَّرِكَةُ فِيهِ وَالتَّوْكِيلُ جَائِزٌ فِي الْمَالَيْنِ قَبْلَ الْخَلْطِ كَذَا الشَّرِكَةُ. (وَأَمَّا) قَوْلُهُ: الشَّرِكَةُ تُنْبِئُ عَنْ الِاخْتِلَاطِ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنْ عَلَى اخْتِلَاطِ رَأْسَيْ الْمَالِ، أَوْ عَلَى اخْتِلَاطِ الرِّبْحِ فَهَذَا مِمَّا لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ لَفْظُ الشَّرِكَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَسْمِيَتُهُ شَرِكَةً لِاخْتِلَاطِ الرِّبْحِ، لَا لِاخْتِلَاطِ رَأْسِ الْمَالِ، وَاخْتِلَاطُ الرِّبْحِ يُوجَدُ وَإِنْ اشْتَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَالِ نَفْسِهِ عَلَى حِدَةٍ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ وَهِيَ الرِّبْحُ تَحْدُثُ عَلَى الشَّرِكَةِ. (وَأَمَّا) مَا هَلَكَ مِنْ أَحَدِ الْمَالَيْنِ قَبْلَ الْخَلْطِ: فَإِنَّمَا كَانَ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالشِّرَاءِ، فَمَا هَلَكَ قَبْلَهُ هَلَكَ قَبْلَ تَمَامِ الشَّرِكَةِ، فَلَا تُعْتَبَرُ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِأَحَدِهِمَا: كَانَ الْهَالِكُ مِنْ الْمَالَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ. (وَأَمَّا) تَسْلِيمُ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ مَالِهِ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ، فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْعِنَانِ، وَالْمُفَاوَضَةِ جَمِيعًا وَأَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا يُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ. (وَمِنْهَا) : مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمُفَاوَضَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ أَهْلِيَّةُ الْكَفَالَةِ، بِأَنْ يَكُونَا حُرَّيْنِ عَاقِلَيْنِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَحْكَامِ الْمُفَاوَضَةِ، أَنَّ كُلَّ مَا يَلْزَمُ لِأَحَدِهِمَا مِنْ حُقُوقِ مَا يَتَّجِرَانِ فِيهِ يَلْزَمُ

الْآخَرَ، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا وَجَبَ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفِيلِ عَنْهُ لِمَا نَذْكُرُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْكَفَالَةِ، وَشَرَائِطُ أَهْلِيَّةِ الْكَفَالَةِ تُطْلَبُ مِنْ كِتَابِ الْكَفَالَةِ (وَمِنْهَا) الْمُسَاوَاةُ فِي رَأْسِ الْمَالِ قَدْرًا وَهِيَ شَرْطُ صِحَّةِ الْمُفَاوَضَةِ بِلَا خِلَافٍ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَالَانِ مُتَفَاضِلَيْنِ قَدْرًا لَمْ تَكُنْ مُفَاوَضَةً؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تُنْبِئُ عَنْ الْمُسَاوَاةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا مَا أَمْكَنَ، وَكَذَا قِيمَةٍ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا صِحَاحًا وَالْآخَرُ مُكَسَّرَةً، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَلْفًا بَيْضَاءَ وَالْآخَرُ أَلْفًا سَوْدَاءَ وَبَيْنَهُمَا فَضْلُ قِيمَةٍ فِي الصَّرْفِ لَمْ تَجُزْ الْمُفَاوَضَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْقِيمَةِ بِمَنْزِلَةِ زِيَادَةِ الْوَزْنِ، فَلَا تَثْبُتُ الْمُسَاوَاةُ الَّتِي هِيَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ إحْدَى الْأَلْفَيْنِ إذَا كَانَتْ أَفْضَلَ مِنْ الْأُخْرَى جَازَ، وَكَانَتْ مُفَاوَضَةً لِأَنَّ الْجَوْدَةَ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا لَا قِيمَةَ لَهَا شَرْعًا عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا، فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْجَوْدَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَلْ تُشْتَرَطُ الْمُجَانَسَةُ فِي رَأْسِ الْمَالِ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَرَاهِمَ أَوْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَنَانِيرَ؟ فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ لَا تُشْتَرَطُ حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ وَالْآخَرُ دَنَانِيرَ، جَازَتْ الْمُفَاوَضَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ بَعْدَ أَنْ اسْتَوَيَا فِي الْقِيمَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمَا إذَا لَمْ يَسْتَوِيَا فِي الْقِيمَةِ لَمْ تَكُنْ مُفَاوَضَةً. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّهُ لَا تَكُونُ مُفَاوَضَةً وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْقِيمَةِ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا تُعْرَفُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ فَلَا تُعْرَفُ بِالْمُسَاوَاةِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ، فَكَانَتْ الْمُجَانَسَةُ ثَابِتَةً فِي الثَّمَنِيَّةِ (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضِينَ مَا تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الشَّرِكَةِ، فَإِنْ كَانَ، لَمْ تَكُنْ مُفَاوَضَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ الْمُسَاوَاةَ وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَصِحُّ فِيهَا الشَّرِكَةُ كَالْعُرُوضِ وَالْعَقَارِ وَالدَّيْنِ، جَازَتْ الْمُفَاوَضَةُ، وَكَذَا الْمَالُ الْغَائِبُ لِأَنَّ مَا لَا تَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الشَّرِكَةُ كَانَ وُجُودُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ، وَكَانَ التَّفَاضُلُ فِيهِ كَالتَّفَاضُلِ فِي الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ، (وَمِنْهَا) الْمُسَاوَاةُ فِي الرِّبْحِ فِي الْمُفَاوَضَةِ، فَإِنْ شَرَطَا التَّفَاضُلَ فِي الرِّبْحِ؛ لَمْ تَكُنْ مُفَاوَضَةً لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ (وَمِنْهَا) الْعُمُومُ فِي الْمُفَاوَضَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ، وَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِتِجَارَةٍ دُونَ شَرِيكِهِ لِمَا فِي الِاخْتِصَاصِ مِنْ إبْطَالِ مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ يَخْتَصُّ بِتِجَارَةٍ، لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِ، وَهِيَ التِّجَارَةُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَلَمْ يَسْتَوِيَا فِي التِّجَارَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي أَهْلِيَّةِ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ، وَتَجُوزُ مُفَاوَضَةُ الذِّمِّيِّينَ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التِّجَارَةِ. (وَأَمَّا) مُفَاوَضَةُ الْمُسْلِمِ وَالْمُرْتَدِّ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَكَذَا رَوَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مُتَوَقِّفَةٌ عِنْدَهُ لِوُقُوفِ أَمْلَاكِهِ فَلَا يُسَاوِي الْمُسْلِمَ فِي التَّصَرُّفِ، فَلَا تَجُوزُ كَمَا لَا تَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ: قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّهُ يَجُوزُ يَعْنِي قِيَاسَ قَوْلِهِ فِي الذِّمِّيّ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ نَاقِصٌ لِكَوْنِهِ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَاضِيًا لَوْ قَضَى بِبُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ وَزَوَالِ مِلْكِهِ؛ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ؟ وَإِذَا كَانَ نَاقِصَ الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْمُكَاتَبِ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ وَلَوْ فَاوَضَ مُسْلِمٌ مُرْتَدَّةً، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ، وَقَالَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْكُفْرَ عِنْدَهُمَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ. (وَأَمَّا) أَبُو يُوسُفَ فَالْكُفْرُ عِنْدَهُ غَيْرُ مَانِعٍ، وَإِنَّمَا الْمَانِعُ نُقْصَانُ الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْمَرْأَةِ. وَأَمَّا مُفَاوَضَةُ الْمُرْتَدَّيْنِ أَوْ شَرِكَتِهِمَا شَرِكَةَ الْعِنَانِ فَذَلِكَ مَوْقُوفٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا أَصْلُهُ فِي عُقُودِ الْمُرْتَدِّ، أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ، فَإِنْ أَسْلَمَا جَازَ عَقْدُهُمَا وَإِنْ قُتِلَا عَلَى رَدَّتِهِمَا أَوْ مَاتَا أَوْ لَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَ. (وَأَمَّا) عَلَى قَوْلِهِمَا، فَشَرِكَةُ الْعِنَانِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ عُقُودَهُمَا نَافِذَةٌ. (وَأَمَّا) مُفَاوَضَتُهُمَا فَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّ نُقْصَانَ الْمِلْكِ يَمْنَعُ الْمُفَاوَضَةَ كَالْمُكَاتَبِ، وَمِلْكُهُمَا نَاقِصٌ، لِمَا ذَكَرْنَا، فَصَارَا كَالْمُكَاتَبَيْنِ. (وَأَمَّا) عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَكَفَالَةُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ لَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ، وَالْمُفَاوَضَةُ تَقْتَضِي جَوَازَ الْكَفَالَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنْ شَارَكَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا، ثُمَّ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ، وَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُمَا

عَلَى الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قُتِلَ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ زَالَتْ أَمْلَاكُهُ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ حِينِ ارْتَدَّ، فَكَأَنَّهُ مَاتَ؛ فَبَطَلَتْ شَرِكَتُهُ، وَإِنْ أَسْلَمَ فَقَدْ زَالَ التَّوَقُّفُ، وَجُعِلَ كَأَنَّ الرِّدَّةَ لَمْ تَكُنْ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ الْمُرْتَدَّ مِنْهُمَا إذَا أَقَرَّ ثُمَّ قُتِلَ لَمْ يَلْزَمْ إقْرَارُهُ شَرِيكَهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يُحْكَمُ بِزَوَالِهِ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ، فَقَدْ أَقَرَّ بَعْدَ بُطْلَانِ الشَّرِكَةِ. (وَأَمَّا) عَلَى قَوْلِهِمَا فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ عَلَى شَرِيكِهِ، وَكَذَا بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عِنْدَهُمَا إنَّمَا بَطَلَتْ بِالْقَتْلِ أَوْ بِاللَّحَاقِ، فَكَانَتْ بَاقِيَةً قَبْلَ ذَلِكَ، فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ وَإِقْرَارُهُ، وَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُشَارِكَ الذِّمِّيَّ؛ لِأَنَّهُ يُبَاشِرُ عُقُودًا لَا تَجُوزُ فِي الْإِسْلَامِ، فَيَحْصُلُ كَسْبُهُ مِنْ مَحْظُورٍ فَيُكْرَهُ، وَلِهَذَا كُرِهَ تَوْكِيلُ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ. وَلَوْ شَارَكَهُ شَرِكَةَ عِنَانٍ، جَازَ كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ، (وَمِنْهَا) لَفْظُ الْمُفَاوَضَةِ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ إلَّا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ لِلْمُفَاوَضَةِ شَرَائِطَ لَا يَجْمَعُهَا إلَّا لَفْظُ الْمُفَاوَضَةِ أَوْ عِبَارَةٌ أُخْرَى تَقُومُ مَقَامَهَا، وَالْعَوَامُّ قَلَّمَا يَقِفُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْعُقُودُ فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ تُجْرَى بَيْنَهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْعَاقِدُ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ شَرَائِطِهَا بِلَفْظٍ آخَرَ يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَهَا؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعُقُودِ لِمَعَانِيهَا لَا عَيْنِ الْأَلْفَاظِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ الشُّرُوطِ بِالْمُفَاوَضَةِ كَانَتْ الشَّرِكَةُ عِنَانًا؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَضَمَّنَتْ الْعِنَانَ وَزِيَادَةً، فَبُطْلَانُ الْمُفَاوَضَةِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعِنَانِ، وَلِأَنَّ فَقْدَ شَرْطٍ فِي عَقْدٍ إنَّمَا يُوجِبُ بُطْلَانَهُ إذَا كَانَ الْعَقْدُ مَا يَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَقِفُ صِحَّةُ الْعِنَانِ عَلَى هَذِهِ الشَّرَائِطِ فَفُقْدَانُهَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَهُ. (وَأَمَّا) شَرِكَةُ الْعِنَانِ فَلَا يُرَاعَى لَهَا شَرَائِطُ الْمُفَاوَضَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا أَهْلِيَّةُ الْكَفَالَةِ حَتَّى تَصِحَّ مِمَّنْ لَا تَصِحُّ كَفَالَتُهُ مِنْ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ وَلَا الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ رَأْسَيْ الْمَالِ، فَيَجُوزُ مَعَ تَفَاضُلِ الشَّرِيكَيْنِ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَمَعَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا مَالٌ آخَرُ يَجُوزُ عَقْدُ الشَّرِكَةِ عَلَيْهِ سِوَى رَأْسِ مَالِهِ الَّذِي شَارَكَهُ صَاحِبُهُ فِيهِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ فِي عُمُومِ التِّجَارَاتِ بَلْ يَجُوزُ عَامًّا وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي عُمُومِ التِّجَارَاتِ، وَخَاصًّا وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي شَيْءٍ خَاصٍّ كَالْبَزِّ وَالْخَزِّ وَالرَّقِيقِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ هَذِهِ الشَّرَائِطِ فِي الْمُفَاوَضَاتِ لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهَا وَهُوَ مَعْنَى الْمُسَاوَاةِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْعِنَانِ وَلَا لَفْظَةِ الْمُفَاوَضَةِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا فِي الْمُفَاوَضَةِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى شَرَائِطَ مُخْتَصَّةٍ بِالْمُفَاوَضَةِ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْعِنَانِ فَلَا حَاجَةَ إلَى لَفْظَةِ الْمُفَاوَضَةِ وَلَا إلَى لَفْظَةِ الْعِنَانِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَى لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ بِخِلَافِ الْمُفَاوَضَةِ وَلَا الْمُسَاوَاةِ فِي الرِّبْحِ، فَيَجُوزُ مُتَفَاضِلًا وَمُتَسَاوِيًا لِمَا قُلْنَا، وَالْأَصْلُ أَنَّ الرِّبْحَ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ عِنْدَنَا إمَّا بِالْمَالِ وَإِمَّا بِالْعَمَلِ وَإِمَّا بِالضَّمَانِ، أَمَّا ثُبُوتُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْمَالِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ نَمَاءُ رَأْسِ الْمَالِ فَيَكُونُ لِمَالِكِهِ، وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ رَبُّ الْمَالِ الرِّبْحَ فِي الْمُضَارَبَةِ وَأَمَّا بِالْعَمَلِ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِعَمَلِهِ فَكَذَا الشَّرِيكُ. وَأَمَّا بِالضَّمَانِ فَإِنَّ الْمَالَ إذَا صَارَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُضَارِبِ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الرِّبْحِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمُقَابَلَةِ الضَّمَانِ خَرَاجًا بِضَمَانِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» ، فَإِذَا كَانَ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ كَانَ خَرَاجُهُ لَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ صَانِعًا تَقَبَّلَ عَمَلًا بِأَجْرٍ ثُمَّ لَمْ يَعْمَلْ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ قَبِلَهُ لِغَيْرِهِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ، وَلَا سَبَبَ لِاسْتِحْقَاقِ الْفَضْلِ إلَّا الضَّمَانَ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ صَالِحٌ لِاسْتِحْقَاقِ الرِّبْحِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: تَصَرَّفْ فِي مِلْكِكَ عَلَى أَنَّ لِي بَعْضَ رِبْحِهِ؛ لَمْ يَجُزْ، وَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ لِأَنَّهُ لَا مَالَ وَلَا عَمَلَ وَلَا ضَمَانَ، إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: إذَا شَرَطَا الرِّبْحَ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ مُتَسَاوِيًا أَوْ مُتَفَاضِلًا، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجُوزُ وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ سَوَاءٌ شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا وَالْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ مُتَسَاوِيًا وَمُتَفَاضِلًا؛ لِأَنَّ الْوَضِيعَةَ اسْمٌ لِجُزْءٍ هَالِكٍ مِنْ الْمَالِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الْمَالَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ فَشَرَطَا لِأَحَدِهِمَا فَضْلًا عَلَى رِبْحٍ يُنْظَرُ إنْ شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا جَازَ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ لِأَحَدِهِمَا أَكْثَرُ مِنْ رِبْحِ مَالِهِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا خِلَافَ فِي شَرِكَةِ الْمِلْكِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا تَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ حَتَّى لَوْ شَرَطَ الشَّرِيكَانِ فِي مِلْكِ مَاشِيَةٍ لِأَحَدِهِمَا فَضْلًا مِنْ أَوْلَادِهَا وَأَلْبَانِهَا، لَمْ تَجُزْ بِالْإِجْمَاعِ وَالْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ زُفَرَ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الرِّبْحَ عِنْدَهُ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ الْمِلْكِ فَيَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ كَالْأَوْلَادِ وَالْأَلْبَانِ. (وَأَمَّا) عِنْدَنَا فَالرِّبْحُ تَارَةً يُسْتَحَقُّ بِالْمَالِ وَتَارَةً بِالْعَمَلِ وَتَارَةً بِالضَّمَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَسَوَاءٌ عَمِلَا جَمِيعًا أَوْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا يَكُونُ عَلَى

الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الرِّبْحِ فِي الشَّرِكَةِ بِالْأَعْمَالِ بِشَرْطِ الْعَمَلِ لَا بِوُجُودِ الْعَمَلِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا اسْتَعَانَ بِرَبِّ الْمَالِ اسْتَحَقَّ الرِّبْحَ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْعَمَلُ؛ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَإِنْ شَرْطَاهُ عَلَى الَّذِي شَرَطَا لَهُ فَضْلَ الرِّبْحِ؛ جَازَ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ فَيَسْتَحِقُّ رِبْحَ رَأْسِ مَالِهِ بِمَالِهِ وَالْفَضْلَ بِعَمَلِهِ، وَإِنْ شَرْطَاهُ عَلَى أَقَلِّهِمَا رِبْحًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الَّذِي شَرَطَا لَهُ الزِّيَادَةَ لَيْسَ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ مَالٌ. وَلَا عَمَلٌ وَلَا ضَمَانٌ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرِّبْحَ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ وَإِنْ كَانَ الْمَالَانِ مُتَفَاضِلَيْنِ، وَشَرَطَا التَّسَاوِيَ فِي الرِّبْحِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ إذَا شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا، وَكَانَ زِيَادَةُ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ مَالِهِ بِعَمَلِهِ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يَجُوزُ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الرِّبْحِ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالَيْنِ عِنْدَهُ، وَإِنْ شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَإِنْ شَرَطَاهُ عَلَى الَّذِي رَأْسُ مَالِهِ أَقَلُّ؛ جَازَ، وَيَسْتَحِقُّ قَدْرَ رِبْحِ مَالِهِ بِمَالِهِ وَالْفَضْلَ بِعَمَلِهِ، وَإِنْ شَرَطَاهُ عَلَى صَاحِبِ الْأَكْثَرِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الرِّبْحِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْأَقَلِّ لَا يُقَابِلُهَا مَالٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا ضَمَانٌ. (وَأَمَّا) الْعِلْمُ بِمِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الشَّرِكَةِ بِالْأَمْوَالِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - شَرْطٌ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ تُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ، وَالْعِلْمُ بِمِقْدَارِ الرِّبْحِ شَرْطُ جَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ، فَكَانَ الْعِلْمُ بِمِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ شَرْطًا. (وَلَنَا) أَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ لِعَيْنِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَجَهَالَةُ رَأْسِ الْمَالِ وَقْتَ الْعَقْدِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ مِقْدَارَهُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ تُوزَنَانِ وَقْتَ الشِّرَاءِ، فَيَعْلَمُ مِقْدَارَهَا فَلَا يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ مِقْدَارِ الرِّبْحِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ. (وَأَمَّا) الشَّرِكَةُ بِالْأَعْمَالِ فَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ مِنْهَا (فَمِنْ) شَرَائِطِهَا أَهْلِيَّةُ الْكَفَالَةِ (وَمِنْهَا) التَّسَاوِي فِي الْأَجْرِ (وَمِنْهَا) مُرَاعَاةُ لَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الشَّرِكَةِ بِالْأَمْوَالِ، أَمَّا الْعِنَانُ مِنْهَا فَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ التَّوْكِيلِ فَقَطْ، كَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا تَجُوزُ فِيهِ الْوَكَالَةُ تَجُوزُ فِيهِ الشَّرِكَةُ، وَمَا لَا تَجُوزُ فِيهِ الْوَكَالَةُ لَا تَجُوزُ فِيهِ الشَّرِكَةُ، وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ الشَّرِكَةُ بِالْأَعْمَالِ فِي الْمُبَاحَاتِ مِنْ الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ فِي الْبَرَارِي وَمَا يَكُونُ فِي الْجِبَالِ مِنْ الثِّمَارِ وَمَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ الْمَعَادِنِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ بِأَنْ اشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَصِيدَا أَوْ يَحْتَطِبَا أَوْ يَحْتَشَّا أَوْ يَسْتَقِيَا الْمَاءَ وَيَبِيعَانِهِ عَلَى أَنَّ مَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا، أَنَّ الشَّرِكَةَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَنْعَقِدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا لِيَعْمَلَ لَهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ؟ كَذَا الشَّرِكَةُ، فَإِنْ تَشَارَكَا فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مُنْفَرِدًا كَانَ الْمَأْخُوذُ مِلْكًا لَهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْمُبَاحَاتِ الْأَخْذُ وَالِاسْتِيلَاءُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا انْفَرَدَ بِالْأَخْذِ وَالِاسْتِيلَاءِ فَيَنْفَرِدُ بِالْمِلْكِ، وَإِنْ أَخَذَاهُ جَمِيعًا مَعًا كَانَ الْمَأْخُوذُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنْ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ ثُمَّ خَلَطَاهُ وَبَاعَاهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ يُقَسَّمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ قُسِّمَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا بِالْقِيمَةِ، يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقِيمَةِ الَّذِي لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُتَمَاثِلَةِ فَتُمْكِنُ قِسْمَةُ الثَّمَنِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فَأَمَّا غَيْرُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُتَفَاوِتَةِ فَلَا يُمْكِنُ قِسْمَةُ الثَّمَنِ عَلَى عَيْنِهَا، فَيُقْسَمُ عَلَى قِيمَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ وَالْقِيمَةَ؛ يُصَدِّقُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَدَّعِيهِ إلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ مَعَ الْيَمِينِ عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ فِي أَيْدِيهِمَا، وَالْيَدُ دَلِيلُ الْمِلْكِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَالتَّسَاوِي فِي دَلِيلِ الْمِلْكِ يُوجِبُ التَّسَاوِي فِي الْمِلْكِ، فَإِنْ ادَّعَى أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ فَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا وَأَعَانَهُ الْآخَرُ فِي عَمَلِهِ بِالْجَمْعِ وَالرَّبْطِ فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلْعَامِلِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُعِينِ لِوُجُودِ السَّبَبِ مِنْ الْعَامِلِ دُونَ الْمُعِينِ، وَلِلْمُعِينِ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ قَدْرَ الْمُسَمَّى لَهُ مِنْ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ. (أَمَّا) وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ لِلْمُعِينِ؛ فَلِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ ثُمَّ قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يُجَاوِزُ بِهِ قِيمَةَ مَا سَمَّى وَقَاسَهُ عَلَى سَائِرِ الْإِجَارَاتِ الْفَاسِدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى الْمُسَمَّى هُنَاكَ، كَذَا هَذَا هُنَا وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ رَضِيَ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْمُسَمَّى فَلَا يَسْتَحِقُّ وَصَارَ كَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: بِعْ هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنَّ لَكَ نِصْفَ ثَمَنِهِ فَبَاعَهُ كَانَ لَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ الثَّمَنِ كَذَا هَذَا وَفَرَّقَ مُحَمَّدٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ سَائِرِ

الْإِجَارَاتِ الْفَاسِدَةِ، بِأَنَّ الْمُسَمَّى هُنَاكَ قَدْرٌ مَعْلُومٌ مِنْ الْأُجْرَةِ فَكَانَ الرِّضَا بِهِ إسْقَاطًا لِمَا زَادَ عَلَيْهِ وَالْمُسَمَّى هُنَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ بَلْ هُوَ مَعْدُومٌ؛ لِأَنَّهُ مَا سَمَّى إلَّا نِصْفَ الْحَطَبِ أَوْ ثُلُثَهُ، وَالرِّضَا بِغَيْرِ الْمَعْلُومِ لَا يَتَحَقَّقُ، فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ مُسْقِطَةَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُسَمَّى مِنْ أَجْرِ مِثْلِهِ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الْمُضَارَبَةُ الْفَاسِدَةُ إذَا رَبِحَ الْمُضَارِبُ فِيهَا أَنَّ لَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يَتَجَاوَزُ بِهِ الْمُسَمَّى مِنْ الرِّبْحِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رِبْحٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ رَبِحَ أَوْ لَمْ يَرْبَحْ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَجْلَسَ فِي دُكَّانِهِ رَجُلًا يَطْرَحُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِالنِّصْفِ، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ هَذِهِ الشَّرِكَةُ لِأَنَّهَا شَرِكَةُ الْعُرُوضِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَحَدِهِمَا الْعَمَلَ وَمِنْ الْآخَرِ الْحَانُوتَ، وَالْحَانُوتُ مِنْ الْعُرُوضِ، وَشَرِكَةُ الْعُرُوضِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ شَرِكَةُ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّهَا شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ، وَتَقَبُّلُ الْعَمَلِ مِنْ صَاحِبِ الْحَانُوتِ عَمَلٌ، وَشَرِكَةُ الْأَعْمَالِ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْوَكَالَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَائِزَةٌ، بِأَنْ يُوَكِّلَ خَيَّاطٌ أَوْ قَصَّارٌ وَكِيلًا يَتَقَبَّلُ لَهُ عَمَلَ الْخِيَاطَةِ وَالْقِصَارَةِ، وَكَذَا يَجُوزُ لِكُلِّ صَانِعٍ يَعْمَلُ بِأَجْرٍ أَنْ يُوَكِّلَ وَكِيلًا يَتَقَبَّلُ الْعَمَلَ فَإِنْ كَانَ لَهُمَا كَلْبٌ فَأَرْسَلَاهُ جَمِيعًا كَانَ مَا أَصَابَ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَلَوْ كَانَ الْكَلْبُ لِأَحَدِهِمَا وَكَانَ فِي يَدِهِ فَأَرْسَلَاهُ جَمِيعًا فَمَا أَصَابَ الْكَلْبُ فَهُوَ لِصَاحِبِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ إرْسَالَ الْأَجْنَبِيِّ لَا عِبْرَةَ بِهِ مَعَ إرْسَالِ الْمَالِكِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ كَأَنَّ الْمَالِكُ أَرْسَلَهُ وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَلْبٌ فَأَرْسَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَلْبَهُ فَأَصَابَا صَيْدًا وَاحِدًا كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ أَصَابَ كَلْبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَيْدًا عَلَى حِدَةٍ كَانَ لَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِفِعْلِهِ فَاخْتَصَّ بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اشْتَرَكَ رَجُلَانِ وَلِأَحَدِهِمَا بَغْلٌ وَلِلْآخِرِ بَعِيرٌ عَلَى أَنْ يُؤَاجِرَا ذَلِكَ فَمَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا فَآجَرَاهُمَا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فِي عَمَلٍ مَعْلُومٍ وَحِمْلٍ مَعْلُومٍ إنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ فَاسِدَةٌ وَيُقْسَمُ الْأَجْرُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِثْلِ أَجْرِ الْبَغْلِ وَمِثْلِ أَجْرِ الْبَعِيرِ، أَمَّا فَسَادُ الشَّرِكَةِ فَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا تَصِحُّ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِآخَرَ: أَجِّرْ بَعِيرَكَ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ بَيْنَنَا؛ لَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ كَذَا الشَّرِكَةُ؛ وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَصِحُّ فِي أَعْيَانِ الْحَيَوَانِ فَكَذَا فِي مَنَافِعِهَا. وَأَمَّا قِسْمَةُ الْأَجْرِ بَيْنَهُمَا عَلَى مِثْلِ أَجْرِ الْبَغْلِ وَمِثْلِ أَجْرِ الْبَعِيرِ؛ فَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ إذَا فَسَدَتْ فَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى مَنَافِعَ مَعْلُومَةٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ وَمِنْ حُكْمِ الْأُجْرَةِ أَنْ تُقَسَّمَ عَلَى قِيمَةِ الْمَنَافِعِ كَمَا يُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْمَبِيعَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَاجِرَا الْبَغْلَ وَالْبَعِيرَ وَلَكِنَّهُمَا تَقَبَّلَا حُمُولَةً مَعْلُومَةً بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ فَحَمَلَا الْحُمُولَةَ عَلَى ذَلِكَ، فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ هَذِهِ شَرِكَةُ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْحِمْلَ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِمَا بِالْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ عَمَلِ الْخِيَاطَةِ وَالْقِصَارَةِ، فَكَانَ الْبَدَلُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الضَّمَانِ وَقَدْ تَسَاوَيَا فِي الضَّمَانِ فَيَتَسَاوَيَا فِي الْأُجْرَةِ، وَلَا عِبْرَةَ بِزِيَادَةِ حِمْلِ الْبَعِيرِ عَلَى الْبَغْلِ كَمَا لَا عِبْرَةَ بِكَثْرَةِ عَمَلِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي شَرِكَةِ الصَّنَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ يُقَابِلُ الضَّمَانَ، وَالْبَغْلُ وَالْبَعِيرُ هُنَا آلَةُ إيفَاءِ الْعَمَلِ وَلَوْ آجَرَ الْبَعِيرَ بِعَيْنِهِ، كَانَتْ أُجْرَتُهُ لِصَاحِبِهِ لَا لِصَاحِبِ الْبَغْلِ، وَكَذَا إذَا آجَرَ الْبَغْلَ بِعَيْنِهِ؛ كَانَتْ الْأُجْرَةُ لِصَاحِبِ الْبَغْلِ لَا لِصَاحِبِ الْبَعِيرِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى مَنَافِعِ الْبَعِيرِ وَالْبَغْلِ بِإِذْنِ مَالِكِهِمَا، فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ لَهُ، فَإِنْ كَانَ الْآجِرُ أَعَانَهُ عَلَى الْحُمُولَةِ وَالنُّقْلَانِ؛ كَانَ لِلَّذِي أَعَانَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ شَرِيكِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ الْأَجْرِ الَّذِي آجَرَ بِهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي شَرِكَةِ الِاحْتِطَابِ، قَصَّارَانِ لَأَحَدِهِمَا أَدَاةُ الْقِصَارَةِ، وَلِلْآخَرِ بَيْتٌ اشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَعْمَلَا بِأَدَاةِ هَذَا فِي بَيْتِ هَذَا عَلَى أَنَّ الْكَسْبَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا، وَكَذَلِكَ الصَّاغَةُ وَالْخَيَّاطُونَ وَالصَّبَّاغُونَ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ هُنَا بَدَلٌ عَنْ الْعَمَلِ لَا عَنْ الْآلَةِ، وَقَدْ صَارَ الْعَمَلُ مَضْمُونًا عَلَيْهِمَا فَكَانَ بَدَلُهُ لَهُمَا وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُعِينًا لِلْآخَرِ بِنِصْفِ الْآلَةِ، وَالْآخَرُ مُعِينًا لَهُ بِنِصْفِ الدُّكَّانِ وَهُوَ نَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ أَنْ يَتَقَبَّلَا حُمُولَةً وَيَحْمِلَاهَا عَلَى دَابَّتِهِمَا. وَلَوْ اشْتَرَكَا وَلِأَحَدِهِمَا دَابَّةٌ وَلِلْآخَرِ إكَافٌ وَجُوَالِقَانِ عَلَى أَنْ يُؤَاجِرَا الدَّابَّةَ عَلَى أَنَّ أَجْرَهُمَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ كَانَتْ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةً، وَأَجْرُ الدَّابَّةِ لِصَاحِبِهَا وَلِلْآخَرِ مَعَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، أَمَّا فَسَادُ الشَّرِكَةِ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَكَالَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا تَصِحُّ كَذَا الشَّرِكَةُ. وَأَمَّا الْأَجْرُ فَلِأَنَّهُ بَدَلُ مَنَافِعِ الدَّابَّةِ فَكَانَتْ لِصَاحِبِهَا وَقَدْ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ آلَةِ الْآخَرِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَكَانَ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا،

فصل في حكم الشركة

وَلَوْ دَفَعَ دَابَّةً إلَى رَجُلٍ لِيُؤَاجِرَهَا عَلَى أَنَّ الْأَجْرَ بَيْنَهُمَا كَانَ ذَلِكَ فَاسِدًا، وَالْأَجْرُ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ وَلِلْآجِرِ أَجْرُ مِثْلِهِ وَكَذَلِكَ السَّفِينَةُ وَالْبَيْتُ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا تَصِحُّ فَلَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ وَالْأَجْرُ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ عَقَدَ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ وَلِلرَّجُلِ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّابَّةِ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَلَوْ كَانَ دَفَعَ إلَيْهِ الدَّابَّةَ لِيَبِيعَ عَلَيْهَا الطَّعَامَ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ كَانَ فَاسِدًا، وَالرِّبْحُ لِصَاحِبِ الْمَتَاعِ، وَلِصَاحِبِ الدَّابَّةِ أَجْرُ مِثْلِهَا، وَكَذَا الْبَيْتُ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ حَصَلَ بِعَمَلِهِ، وَقَدْ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ الدَّابَّةِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَكَانَ عَلَيْهِ أَجْرُهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ هَذِهِ الشَّرِكَةِ اتِّفَاقُ الْعَمَلِ، وَيَجُوزُ إنْ اتَّفَقَتْ أَعْمَالُهَا أَوْ اخْتَلَفَتْ كَالْخَيَّاطِ مَعَ الْقَصَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَجُوزُ هَذِهِ الشَّرِكَةُ إلَّا عِنْدَ اتِّفَاقِ الصَّنْعَةِ كَالْقَصَّارِينَ وَالْخَيَّاطِينَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّرِكَةَ تَجُوزُ بِالْمَالَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ عِنْدَنَا كَذَا بِالْعَمَلَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَعِنْدَهُ لَا تَجُوزُ بِالْمَالَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فَكَذَا بِالْعَمَلَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ فِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ بِضَمَانِ الْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِمَا اتَّفَقَ الْعَمَلَانِ أَوْ اخْتَلَفَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الشَّرِكَةُ بِالْوُجُوهِ فَشَرْطُ الْمُفَاوَضَةِ مِنْهَا أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ بِمُشْتَرَكٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، (وَمِنْهَا) أَنْ يَتَلَفَّظَا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ لِمَا فَصَّلْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ. (وَأَمَّا) شَرِكَةُ الْعِنَانِ مِنْهَا فَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا أَهْلِيَّةُ الْكَفَالَةِ وَلَا الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرَى حَتَّى لَوْ اشْتَرَكَا بِوُجُوهِهِمَا عَلَى أَنْ يَكُونَ مَا اشْتَرَيَا أَوْ أَحَدُهُمَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوْ أَثْلَاثًا أَوْ أَرْبَاعًا وَكَيْفَ مَا شَرَطَا عَلَى التَّسَاوِي وَالتَّفَاضُلِ؛ كَانَ جَائِزًا، وَضَمَانُ ثَمَنِ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا فِي الْمُشْتَرَى وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الضَّمَانِ، فَإِنْ شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا فَضْلَ رِبْحٍ عَلَى حِصَّتِهِ مِنْ الضَّمَانِ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ ضَمَانِهِمَا ثَمَنَ الْمُشْتَرَى، لِأَنَّ الرِّبْحَ فِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالضَّمَانِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّمَانِ، فَإِذَا شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا أَكْثَرُ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ الضَّمَانِ وَنَصِيبِهِ مِنْ الْمِلْكِ فَهُوَ شَرْطُ مِلْكٍ مِنْ غَيْرِ رِبْحٍ، وَلَا ضَمَانَ فَلَا يَجُوزُ، فَإِنْ قِيلَ: الرِّبْحُ كَمَا يُسْتَحَقُّ بِالْمِلْكِ وَالضَّمَانُ يُسْتَحَقُّ بِالْعَمَلِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ زِيَادَةَ الرِّبْحِ بِزِيَادَةِ الْعَمَلِ كَالْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ شَرِكَةَ الْعِنَانِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مُسَلَّمٌ إذَا كَانَ الْعَمَلُ فِي مَالٍ مَعْلُومٍ كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَشَرِكَةِ الْعِنَانِ، وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا، فَلَا يُسْتَحَقُّ كَمَنْ قَالَ لِآخَرَ: أَدْفَعُ إلَيْكَ أَلْفًا مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ تَعْمَلَ فِيهَا بِالنِّصْفِ وَلَمْ يُعَيِّنْ الْأَلْفَ؛ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ الْعَمَلَ فِي مَالٍ مُعَيَّنٍ. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ الشَّرِكَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الشَّرِكَةِ. فَأَمَّا شَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ فَحُكْمُهَا فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ كَأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ، لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّ الْمُطْلِقَ لِلتَّصَرُّفِ الْمِلْكُ أَوْ الْوِلَايَةُ وَلَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ وِلَايَةٌ بِالْوَكَالَةِ أَوْ الْقَرَابَةِ؛ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الشَّرِكَةُ فِي الْعَيْنِ أَوْ الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ بَاعَاهُ إمَّا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ أَلْفٍ بَيْنَهُمَا أَقْرَضَاهُ إيَّاهُ، أَوْ اسْتَهْلَكَ الرَّجُلُ عَلَيْهِمَا شَيْئًا قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ وَرِثَا دَيْنًا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَيْهِ، فَقَبَضَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ أَوْ بَعْضَ نَصِيبِهِ فَلِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فَيَأْخُذَ مِنْهُ نِصْفَ مَا قَبَضَهُ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الدَّيْنَ الْمُشْتَرَكَ الثَّابِتَ لِلشَّرِيكَيْنِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ إذَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْهُ فَلِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ مَقْبُوضٌ مِنْ النَّصِيبَيْنِ، إذْ لَوْ جُعِلَ لَأَحَدِهِمَا لَكَانَ ذَلِكَ قِسْمَةَ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ مَعْنَى الْقِسْمَةِ وَهُوَ التَّمْيِيزُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا فِي الذِّمَّةِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْقِسْمَةُ وَلِهَذَا لَمْ تَصِحَّ قِسْمَةُ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ كَصُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: خُذْ مِنْهَا لَكَ هَذَا الْجَانِبُ، وَلِيَ هَذَا الْجَانِبُ لَا يَجُوزُ لِانْعِدَامِ التَّمْيِيزِ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ فِي الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ فَفِي الدَّيْنِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ لِأَنَّ مَا مِنْ جُزْأَيْنِ إلَّا وَأَحَدُهُمَا مِلْكُهُ وَالْآخَرُ مِلْكُ صَاحِبِهِ، فَكَانَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ بَعْضَ مِلْكِهِ، وَبَعْضُهُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ، فَكَانَ قِسْمَةُ الدَّيْنِ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ فَجَعَلَ الْمَقْبُوضَ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى مَا قُلْنَا وَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ مَا قَبَضَهُ صَاحِبُهُ بِعَيْنِهِ لَيْسَ لِلْقَابِضِ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْهُ بِأَنْ يَقُولَ: أَنَا أُعْطِيكَ مِثْلَ نِصْفِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَقْبُوضِ مَقْبُوضٌ عَنْ نَصِيبِهِ، فَكَانَ عَيْنَ حَقِّهِ فَلَا يَمْلِكُ الْقَابِضُ مَنْعَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ

الْمَقْبُوضُ مِثْلَ حَقِّهِ أَوْ أَجْوَدَ أَوْ أَرْدَأَ، أَمَّا إذَا كَانَ أَجْوَدَ مِنْ حَقِّهِ فَلِأَنَّ الْجَوْدَةَ لَا عِبْرَةَ بِهَا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الرَّدِيءُ إذَا أَعْطَى الْجَيِّدَ يُجْبِرُ صَاحِبَ الدَّيْنِ عَلَى الْقَبُولِ فَكَانَ قَبْضُهُ قَبْضًا لِعَيْنِ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَ أَرْدَأَ فَقَبْضُ الرَّدِيءِ عَنْ الْجَيِّدِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ وَمَا قَبَضَ الشَّرِيكُ مِنْ شَرِيكِهِ يَكُونُ قَدْرُ ذَلِكَ لِلْقَابِضِ دَيْنًا عَلَى الْغَرِيمِ، وَيَكُونُ مَا عَلَى الْغَرِيمِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ مِنْ الدَّيْنِ حَتَّى لَوْ كَانَ الدَّيْنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ بَيْنَهُمَا، فَقَبَضَ أَحَدُهُمَا خَمْسَمِائَةٍ فَجَاءَ الشَّرِيكُ فَأَخَذَ نِصْفَهَا كَانَ لِلْقَابِضِ مَا بَقِيَ لَهُ عَلَى الْغَرِيمِ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، وَتَكُونُ الشَّرِكَةُ بَاقِيَةً فِي الدَّيْنِ كَمَا كَانَتْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ شَرِيكُهُ نِصْفَ الْمَقْبُوضِ انْتَقَضَ قَبْضُهُ فِي نِصْفِ مَا قَبَضَ وَبَقِيَ الْبَاقِي مِنْ دَيْنِهِ عَلَى حَالِهِ. فَإِنْ أَخْرَجَهُ الْقَابِضُ عَنْ يَدِهِ بِأَنْ وَهَبَهُ أَوْ بَاعَهُ أَوْ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَلِشَرِيكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ نِصْفَ مَا قَبَضَ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَا قَبَضَهُ مِنْ نَصِيبِهِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ شَيْئًا، وَلَكِنْ أَبْرَأَ الْغَرِيمَ مِنْ حِصَّتِهِ، جَازَتْ الْبَرَاءَةُ، وَلَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا مِنْ الدَّيْنِ بَلْ أَتْلَفَ حِصَّتَهُ لَا غَيْرُ، فَلَا يَضْمَنُ فَإِنْ أَبْرَأَهُ أَحَدُهُمَا عَنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ اقْتَسَمَاهُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْغَرِيمِ، فَيَكُونُ الْمَقْبُوضُ بَيْنَهُمَا عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمَّا أَبْرَأَ الْغَرِيمَ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ بَقِيَ لَهُ مِنْ الدَّيْنِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَلِشَرِيكِهِ خَمْسُمِائَةٍ، فَيَضْرِبَانِ فِي قَدْرِ الْمَقْبُوضِ بِتِسْعَةِ أَسْهُمٍ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْبَرَاءَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ قَبْلَ أَنْ يَقْتَسِمَا لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَقَعُ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا، فَإِنْ اقْتَسَمَا الْمَقْبُوضَ نِصْفَيْنِ، ثُمَّ أَبْرَأَ أَحَدُهُمَا الْغَرِيمَ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَالْقِسْمَةُ مَاضِيَةٌ وَلَا يَنْقُضُ إبْرَاؤُهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ شَيْئًا مِمَّا اقْتَسَمَاهُ، لِأَنَّهُمَا اقْتَسَمَا وَمِلْكُهُمَا سَوَاءٌ، فَزَوَالُ الْمُسَاوَاةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي الْقِسْمَةِ. وَلَوْ لَمْ يَقْبِضْ أَحَدُهُمَا شَيْئًا وَلَكِنْ اشْتَرَى بِنَصِيبِهِ ثَوْبًا مِنْ الْغَرِيمِ، فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ نِصْفَ ثَمَنِ الثَّوْبِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الثَّوْبِ لِأَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَى الثَّوْبَ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ لَا بِمَا لَهُ فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ، لِأَنَّهُ كَمَا اشْتَرَى وَجَبَ ثَمَنُ الثَّوْبِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَهُ فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ مِثْلُهُ، فَصَارَ مَا فِي ذِمَّتِهِ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَبَضَ نِصْفَ الدَّيْنِ فَلَا يَكُونُ لَهُ عَلَى الثَّوْبِ سَبِيلٌ، فَإِنْ اجْتَمَعَا جَمِيعًا عَلَى الشَّرِكَةِ فِي الثَّوْبِ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ ثَمَنِهِ، فَإِذَا سَلَّمَ لَهُ نِصْفَهُ بِذَلِكَ وَرَضِيَ شَرِيكُهُ بِهِ؛ صَارَ كَأَنَّهُ بَاعَ نِصْفَ الثَّوْبِ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ بِحِصَّتِهِ شَيْئًا وَلَكِنْ صَالَحَهُ مِنْ حَقِّهِ عَلَى ثَوْبٍ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ طَالَبَهُ شَرِيكُهُ بِمَا قَبَضَ فَإِنَّ الْقَابِضَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَلَّمَ إلَيْهِ نِصْفَ الثَّوْبِ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ مِثْلَ نِصْفِ حَقِّهِ مِنْ الدَّيْنِ، وَالْخِيَارُ فِي ذَلِكَ إلَى الْقَابِضِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يُوجِبْ شَيْئًا عَلَى الْمَصَالِحِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ، وَالْإِبْرَاءُ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ، إلَّا أَنَّهُ قَبَضَ ثَوْبًا عَنْ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ نِصْفَهُ إلَى الشَّرِيكِ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: أَنَا أُعْطِيكَ نِصْفَ حَقِّكَ مِنْ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَكَ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَلِلشَّرِيكِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا أَنْ يُسَلِّمَ لِلشَّرِيكِ مَا قَبَضَهُ وَيَرْجِعَ بِدَيْنِهِ عَلَى الْغَرِيمِ؛ لِأَنَّ مِنْ حُجَّتِهِ أَنْ يَقُولَ: دَيْنِي قَدْ ثَبَتَ عَلَيْكَ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ، فَتَسْلِيمُكَ إلَى غَيْرِي لَا يُسْقِطُ مَا لِي فِي ذِمَّتِكَ، فَإِنْ سَلَّمَ لِلشَّرِيكِ مَا قَبَضَ، ثُمَّ نَوَى الَّذِي عَلَى الْغَرِيمِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الشَّرِيكِ وَيَكُونَ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا لَمْ يُسَلِّمْ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَهُوَ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ بَعْدَ مَا قَبَضَ مِنْ الدَّرَاهِمِ بِعَيْنِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْهَا، وَيُعْطِيَهُ مِثْلَهَا لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ فِي الْأَصْلِ كَانَ عَنْ حَقٍّ مُشْتَرَكٍ، وَإِنَّمَا سَلَّمَ بِهِ الشَّرِيكُ الْمَقْبُوضَ لِلْقَابِضِ لِيُسَلِّمَ لَهُ مَا فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ بَقِيَ حَقُّهُ فِي الْمَقْبُوضِ كَمَا كَانَ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى عَيْنِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ عَنْ عَيْنِهَا بِالتَّسْلِيمِ، حَيْثُ أَجَازَ تَمَلُّكَ الْقَابِضِ لَهَا فَسَقَطَ حَقُّهُ عَنْ عَيْنِهَا، وَإِنَّمَا تَجَدَّدَ لَهُ ضَمَانٌ آخَرُ بِتَوَاءِ مَالِهِ، فَثَبَتَ ذَلِكَ فِي ذِمَّةِ الْقَابِضِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ. فَإِنْ أَخَّرَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ وَلَا تَوَلَّى هَذَا الْعَقْدَ فِيهِ، وَأَمَّا فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ نَصِيبَهُ مِلْكُهُ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَلِهَذَا مَلَكَ التَّصَرُّفَ فِيهِ إسْقَاطًا بِالْإِبْرَاءِ، فَالتَّأْخِيرُ أَوْلَى لِأَنَّهُ دُونَهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ تَأْخِيرَ نَصِيبِهِ قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ التَّأْخِيرَ قِسْمَةُ الدَّيْنِ أَنَّهُ وُجِدَ أَثَرُ الْقِسْمَةِ وَهُوَ انْفِرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ بِنَصِيبِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ لِلْآخَرِ فِيهِ

حَقٌّ، وَقِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْقِسْمَةِ وَهُوَ التَّمْيِيزُ إذْ هُوَ اسْمٌ لِلْفِعْلِ أَوْ لِمَالٍ حُكْمِيٍّ فِي الذِّمَّةِ بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَثَرُ الْقِسْمَةِ وَمَعْنَاهَا، بَلْ هُوَ إتْلَافٌ لِنَصِيبِهِ فَإِنْ قِيلَ: قِسْمَةُ الدَّيْنِ تَصَرُّفٌ فِي الدَّيْنِ وَالتَّأْخِيرُ لَيْسَ تَصَرُّفًا فِي الدَّيْنِ بَلْ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْإِسْقَاطِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّأْخِيرَ تَصَرُّفٌ فِي الدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَغْيِيرَ الدَّيْنِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ قَبْلَهُ كَانَ عَلَى صِفَةٍ لَوْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ، وَبَعْدَ التَّأْخِيرِ لَا يَبْقَى لَهُ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ مَا دَامَ الْأَجَلُ قَائِمًا، ثُمَّ فُرِّعَ عَلَى قَوْلِهِمَا فَقَالَ: إذَا قَبَضَ الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يُؤَخِّرْ نَصِيبَهُ؛ لَمْ يَكُنْ لِلَّذِي أَخَّرَ أَنْ يُشْرِكَهُ فِيمَا قَبَضَ حَتَّى يَحِلَّ دَيْنُهُ، فَإِنْ حَلَّ دَيْنُهُ فَلَهُ أَنْ يُشْرِكَهُ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا ضَمِنَهُ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمُطَالَبَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ حَقٌّ فِي الْمَقْبُوضِ، فَإِذَا حَلَّ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ حَالًّا فَتَثْبُتُ لَهُ الشَّرِكَةُ، فَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ الْآخَرُ شَيْئًا حَتَّى حَلَّ دَيْنُ الَّذِي أَخَّرَ؛ عَادَ الْأَمْرُ إلَى مَا كَانَ فَمَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْ شَيْءٍ يُشْرِكُهُ الْآخَرُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَمَّا حَلَّ فَقَدْ سَقَطَ الْأَجَلُ فَصَارَ كَمَا كَانَ قَبْلَ التَّأْجِيلِ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ فَتَزَوَّجَهَا أَحَدُهُمَا عَلَى نَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ، فَقَدْ رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ حَقِّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ النِّكَاحَ أَوْجَبَ الْمَهْرَ فِي ذِمَّتِهِ وَلَهُ فِي ذِمَّتِهَا مِثْلُهُ فَصَارَ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَبَضَ نِصْفَ الدَّيْنِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ حَقِّهِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى مِنْهَا ثَوْبًا بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: أَنَّ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ مَا يَحْتَمِلُ الْمُشَارَكَةَ، وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ كَمَا لَوْ أَبْرَأَهَا عَنْ نَصِيبِهِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْغَرِيمَ بِنَصِيبِهِ فَإِنَّ شَرِيكَهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَتِهَا بَدَلٌ مَضْمُونٌ بِالْعَقْدِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، وَكَذَا الَّذِي سَلَّمَ لَهُ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ قَابِلٌ لِلشَّرِكَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَحَدَ الطَّالِبَيْنِ إذَا شَجَّ الْمَطْلُوبَ مُوضِحَةً عَمْدًا فَصَالَحَهُ عَلَى حِصَّتِهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِشَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَا تُمْكِنُ الْمُشَارَكَةُ فِيهِ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ جِنَايَةِ عَمْدٍ لَيْسَ فِي مُقَابِلَتِهِ بَدَلٌ مَضْمُونٌ، فَلَمْ يُسَلِّمْ مَا تَصِحُّ الْمُشَارَكَةُ فِيهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَأَمَّا إذَا اسْتَهْلَكَ أَحَدُ الطَّالِبَيْنِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَالًا، فَصَارَتْ قِيمَتُهُ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ أَوْ اقْتَرَضَ مِنْهُ شَيْئًا بِقَدْرِ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ فَلِشَرِيكِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ لِأَنَّ قَدْرَ الْقَرْضِ وَقِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ صَارَ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ، وَالِاقْتِصَاصُ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَصَارَ كَأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَلَوْ كَانَ وَجَبَ لِلْمَطْلُوبِ عَلَى أَحَدِ الطَّالِبَيْنِ دَيْنٌ بِسَبَبٍ قَبْلَ أَنْ يَجِبَ لَهُمَا عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَصَارَ مَا عَلَيْهِ قِصَاصًا بِمَا لِأَحَدِ الطَّالِبَيْنِ؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي سَقَطَ عَنْهُ الدَّيْنُ لِشَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى الدَّيْنَ بَلْ قَضَى دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ، إذْ الْأَصْلُ فِي الدَّيْنَيْنِ إذَا الْتَقَيَا قِصَاصًا أَنْ يَصِيرَ الْأَوَّلُ مَقْضِيًّا بِالثَّانِي؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الثَّانِي، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَوْفِيًا لِلدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُشَارَكَةُ، إذْ الْمُشَارَكَةُ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَوْفَى، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ لَوْ أَنَّ أَحَدَ الْغَرِيمَيْنِ اللَّذَيْنِ لَهُمَا الْمَالُ قَتَلَ عَبْدَ الْمَطْلُوبِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَصَالَحَهُ الْمَطْلُوبُ عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا، وَبَرِئَ مِنْ حِصَّةِ الْقَاتِلِ مِنْ الدَّيْنِ، وَكَانَ لِشَرِيكِ الْقَاتِلِ أَنْ يُشْرِكَهُ فَيَأْخُذَ مِنْهُ نِصْفَ الْخَمْسَمِائَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ الْغَرِيمَةَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مُرْسَلَةٍ، أَوْ اسْتَأْجَرَ الْغَرِيمَ بِخَمْسِمِائَةٍ مُرْسَلَةٍ، فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى نَفْسِ الدَّيْنِ أَوْ تَزَوَّجَ بِهِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْعَقْدَ هُنَا وَهُوَ الصُّلْحُ وَالنِّكَاحُ وَقَعَ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْمُقَاصَّةَ؛ فَكَانَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مَعْنًى بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً، بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَلَى نَفْسِ الدَّيْنِ وَالتَّزَوُّجِ بِهِ فَإِنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ مَا وَقَعَ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ مُطْلَقًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ أُضِيفَ إلَى نَفْسِ الدَّيْنِ، فَلَمْ تَقَعْ الْمُقَاصَّةُ، وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ أَيْضًا مَا يَحْتَمِلُ الِاشْتِرَاكَ فِيهِ فَلَا يَرْجِعُ وَذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الْمَطْلُوبُ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَارِثُهُ وَتَرَك مَالًا لَيْسَ فِيهِ وَفَاءٌ اشْتَرَكَا بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ إلَى الْوَرَثَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] رَتَّبَ الْمِيرَاثَ عَلَى الدَّيْنِ فَلَمْ يَنْتَقِلْ الْمِلْكُ إلَى الْوَارِثِ فَلَا يَسْقُطُ دَيْنُهُ، وَكَانَ دَيْنُ الْوَارِثِ وَالْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ وَلَوْ أُعْطِيَ الْمَطْلُوبُ لِأَحَدِهِمَا رَهْنًا بِحِصَّتِهِ فَهَلَكَ الرَّهْنُ عِنْدَهُ فَلِشَرِيكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ، وَبِهَلَاكِ الرَّهْنِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِلدَّيْنِ حُكْمًا فَكَانَ كَالِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً، وَلَوْ غَصَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ

الْمَطْلُوبِ عَبْدًا فَمَاتَ عِنْدَهُ فَلِشَرِيكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ ضَامِنًا لِقِيمَةِ الْعَبْدِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ فَهَلَكَ الْمَغْصُوبُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ وَالِاسْتِنَادِ. وَلَوْ ذَهَبَتْ إحْدَى عَيْنَيْ الْعَبْدِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهُ لَمْ يَرْجِعْ شَرِيكُهُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَا يُمْكِنُ الْمُشَارَكَةُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِك الْمَضْمُونَ، فَلَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا بِخِلَافِ نَفْسِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالضَّمَانِ فَسَلَّمَ لَهُ مَا يُمْكِنُ الْمُشَارَكَةُ فِيهِ فَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ إذَا ذَهَبَتْ إحْدَى عَيْنَيْهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ الْغَرِيمِ عَبْدًا بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَهُ فَمَاتَ فِي يَدِهِ أَوْ بَاعَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَنَّهُ يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ كَمَا يَضْمَنُ فِي الْغَاصِبِ. وَلَوْ ذَهَبَتْ عَيْنُهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَرَدَّهُ لَمْ يَضْمَنْ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا وَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ خَاصَّةً وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) شَرِكَةُ الْعُقُودِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهَا أَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ فَاسِدَةً أَوْ صَحِيحَةً، أَمَّا الصَّحِيحَةُ، فَأَمَّا الشَّرِكَةُ بِالْأَمْوَالِ فَنُبَيِّنُ أَحْكَامَ الْعِنَانِ مِنْهَا وَالْمُفَاوَضَةِ وَمَا يَجُوزُ لِأَحَدِ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ وَالْمُفَاوَضَةِ أَنْ يَعْمَلَهُ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ، وَمَا لَا يَجُوزُ، أَمَّا الْعِنَانُ فَلِأَحَدِ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ أَنْ يَبِيعَ مَالَ الشَّرِكَةِ لِأَنَّهُمَا بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ بِبَيْعِ مَالِ الشَّرِكَةِ؛ وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلَ صَاحِبِهِ بِالْبَيْعِ؛ وَلِأَنَّ غَرَضَهُمَا مِنْ الشَّرِكَةِ الرِّبْحُ وَذَلِكَ بِالتِّجَارَةِ، وَمَا التِّجَارَةُ إلَّا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، فَكَانَ إقْدَامُهُمَا عَلَى الْعَقْدِ إذْنًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ دَلَالَةً، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ مَالَ الشَّرِكَةِ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْبَيْعِ بِمُقْتَضَى الشَّرِكَةِ وُجِدَ مُطْلَقًا وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَنْعَقِدُ عَلَى عَادَةِ التُّجَّارِ، وَمِنْ عَادَتِهِمْ الْبَيْعُ نَقْدًا وَنَسِيئَةً وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ بِقَلِيلِ الثَّمَنِ وَكَثِيرِهِ لِمَا قُلْنَا إلَّا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعَقْدِ وَهُوَ الِاسْتِرْبَاحُ لَا يَحْصُلُ بِهِ فَكَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْعَقْدِ دَلَالَةً، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ وَجَعَلَهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ. وَلَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا وَأَجَّلَ الْآخَرُ، لَمْ يَجُزْ تَأْجِيلُهُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَلْ يَجُوزُ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ؟ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ إذَا أَخَّرَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، هَذَا إذَا عَقَدَ أَحَدُهُمَا وَأَجَّلَ الْآخَرُ، فَأَمَّا إذَا عَقَدَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَجَّلَ الْعَاقِدُ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْجِيلُهُ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ وَعَاقِدٌ. وَأَمَّا فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَيَجُوزُ تَأْجِيلُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَالْكَلَامُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، أَنَّهُ يَمْلِكُ تَأْخِيرَ الثَّمَنِ وَالْإِبْرَاءُ عَنْهُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا يَمْلِكُ. (وَوَجْهُ) الْبِنَاءِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْعَاقِدَ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ وَكِيلٌ عَنْهُ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ إذَا أَخَّرَ يَضْمَنُ مِنْ مَالِهِ لِلْمُوَكِّلِ عِنْدَهُمَا، وَهُنَا لَا يَضْمَنُ الشَّرِيكُ الْعَاقِدُ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ الْعَاقِدَ يَمْلِكُ أَنْ يُقَايِلَ الْبَيْعَ ثُمَّ يَبِيعَهُ بِنَسِيئَةٍ، وَإِذَا لَمْ يُقَايِلْ وَأَخَّرَ الدَّيْنَ جَازَ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُقَايِلَ وَيَبِيعَ بِالنَّسِيئَةِ، فَإِذَا أَخَّرَ يَضْمَنُ، وَلَهُ يَشْتَرِي بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ؛ لِمَا قُلْنَا فِي الْبَيْعِ، وَهَذَا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ نَاضٌّ لِلشَّرِكَةِ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فَاشْتَرَى بِالدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ شَيْئًا نَسِيئَةً وَكَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَاشْتَرَى بِذَلِكَ الْجِنْسِ شَيْئًا نَسِيئَةً فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ دَرَاهِمُ وَلَا دَنَانِيرُ، فَاشْتَرَى بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ شَيْئًا، كَانَ الْمُشْتَرَى لَهُ خَاصَّةً دُونَ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا شِرَاءَهُ عَلَى الشَّرِكَةِ لَصَارَ مُسْتَدِينًا عَلَى مَالِ الشَّرِكَةِ، وَالشَّرِيكُ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِدَانَةَ عَلَى مَالِ الشَّرِكَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ بِذَلِكَ كَالْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَالُ الشَّرِكَةِ أَكْثَرَ مِمَّا رَضِيَ الشَّرِيكُ بِالْمُشَارَكَةِ فِيهِ، فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ عُرُوضٌ فَاشْتَرَى بِالدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ نَسِيئَةً لِأَنَّ الْعُرُوضَ لَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ فَكَانَ الشِّرَاءُ بِالْأَثْمَانِ اسْتِدَانَةً بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِهَا وَفِي يَدِهِ مِثْلُهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِاسْتِدَانَةٍ وَحَكَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي يَدِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ دَنَانِيرُ، فَاشْتَرَى بِدَرَاهِمَ؛ جَازَ وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ زُفَرَ يَعْتَبِرُ الْمُجَانَسَةَ فِي رَأْسِ مَالِ الشَّرِكَةِ حَقِيقَةً حَتَّى أَبَى انْعِقَادَ الشَّرِكَةِ فِي الدَّرَاهِمِ مَعَ الدَّنَانِيرِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ حَقِيقَةً، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ اشْتَرَى بِجِنْسِ مَا فِي يَدِهِ صُورَةً بِالدَّرَاهِمِ وَعِنْدَهُ عُرُوضٌ، وَنَحْنُ نَعْتَبِرُ الْمُجَانَسَةَ مَعْنًى وَهُوَ الثَّمَنِيَّةُ، وَقَدْ تَجَانَسَا فِي الثَّمَنِيَّةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى بِجِنْسِ مَا فِي يَدِهِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَلَهُ أَنْ يُبْضِعَ مَالَ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَنْعَقِدُ عَلَى عَادَةِ التُّجَّارِ، وَالْإِبْضَاعُ مِنْ عَادَاتِهِمْ، وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَلُ فِي الْبِضَاعَةِ بِعِوَضٍ، فَالْإِبْضَاعُ أَوْلَى، لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْبِضْعِ فِي الْبِضَاعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَهُ أَنْ يُودِعَ؛ لِأَنَّ

الْإِيدَاعَ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ وَمِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلتَّاجِرِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ عِنْدَ اعْتِرَاضِ أَحْوَالٍ تَقَعُ عَادَةً؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَحْفِظَ الْمُودَعَ بِأَجْرٍ فَبِغَيْرِ أَجْرٍ أَوْلَى، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ، فَإِنْ شَارَكَ رَجُلًا شَرِكَةَ عِنَانٍ، فَمَا اشْتَرَاهُ الشَّرِيكُ فَنِصْفُهُ لَهُ، وَنِصْفُهُ لِلشَّرِيكَيْنِ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ الشَّرِكَةَ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ، يَمْلِكُ التَّوْكِيلَ، وَعَقْدُ الشَّرِكَةِ يَتَضَمَّنُ التَّوْكِيلَ، فَكَانَ نِصْفُ مَا اشْتَرَاهُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ اشْتَرَى الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يُشَارِكْ فَمَا اشْتَرَاهُ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ نِصْفَيْنِ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَجْنَبِيِّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوَكِّلْهُ فَبَقِيَ مَا اشْتَرَاهُ عَلَى حُكْمِ الشَّرِكَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: إذَا شَارَكَ أَحَدُ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ رَجُلًا شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ شَرِيكِهِ؛ لَمْ تَكُنْ مُفَاوَضَةً وَكَانَتْ شَرِكَةَ عِنَانٍ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَقْتَضِي فَسْخَ شَرِكَةِ الْعِنَانِ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوِضَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَرِيكَهُ فِي كُلِّ الْمَالِ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ فَكَانَ ذَلِكَ فَسْخًا لِلشَّرِكَةِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ مَعَ غِيبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ صَحَّتْ الْمُفَاوَضَةُ؛ وَذَلِكَ إبْطَالٌ لِشَرِكَةِ الْعِنَانِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ فَسْخَ الشَّرِكَةِ مَعَ حُضُورِ صَاحِبِهِ؛ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْلِطَ مَالَ الشَّرِكَةِ بِمَالٍ لَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ إيجَابُ حَقٍّ فِي الْمَالِ؛ فَلَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْقَدْرِ الَّذِي رَضِيَ بِهِ رَبُّ الْمَالِ؛ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَالَ الشَّرِكَةِ مُضَارَبَةً؟ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَهُ ذَلِكَ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ نَوْعُ شَرِكَةٍ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ مَعَ الْمُضَارِبِ يَشْتَرِكَانِ فِي الرِّبْحِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الشَّرِكَةَ بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ، فَلَا يَمْلِكُ الْمُضَارَبَةَ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ أَجِيرًا يَعْمَلُ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ؛ فَلَأَنْ يَمْلِكَ الدَّفْعَ مُضَارَبَةً أَوْلَى لِأَنَّ الْأَجِيرَ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ، سَوَاءٌ حَصَلَ فِي الشَّرِكَةِ رِبْحٌ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، وَالْمُضَارِبُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا بِعَمَلِهِ إلَّا إذَا كَانَ فِي الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ فَلَمَّا مَلَكَ الِاسْتِئْجَارَ، فَلَأَنْ يَمْلِكَ الدَّفْعَ مُضَارَبَةً أَوْلَى، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالشَّرِكَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فَوْقَ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الشَّرِكَةَ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ؛ وَالْمُضَارَبَةُ تُوجِبُ الشَّرِكَةَ فِي الْفَرْعِ لَا فِي الْأَصْلِ، وَالشَّيْءُ يَسْتَتْبِعُ مَا هُوَ دُونَهُ وَلَا يَسْتَتْبِعُ مَا هُوَ فَوْقَهُ أَوْ مِثْلَهُ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمُضَارِبُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ مِثْلُ الْمُضَارَبَةِ وَيَمْلِكُ التَّوْكِيلَ؛ لِأَنَّهُ دُونَ الْمُضَارَبَةِ، وَالْوَكِيلُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِإِطْلَاقِ الْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ مِثْلُ الْوَكَالَةِ، وَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ كُلَّ مَا لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الشَّرِيكِ أَقْوَى مِنْ تَصَرُّفِ الْمُضَارِبِ وَأَعَمَّ مِنْهُ، فَمَا كَانَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَ فَالشَّرِيكُ أَوْلَى، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَالًا مُضَارَبَةً، وَيَكُونَ رِبْحَهُ لَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِعَمَلِهِ، فَيَخْتَصُّ بِهِ كَمَا لَوْ آجَرَ نَفْسَهُ، وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ شَرِيكَهُ رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَلَمْ يَرْضَ بِرَأْيِ غَيْرِهِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الشَّرِكَةَ تَنْعَقِدُ عَلَى عَادَةِ التُّجَّارِ، وَالتَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ عَادَاتِهِمْ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ التَّاجِرَ لَا يُمْكِنُهُ مُبَاشَرَةَ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ بِنَفْسِهِ، فَيَحْتَاجُ إلَى التَّوْكِيلِ؛ فَكَانَ التَّوْكِيلُ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ جَمِيعَ التَّصَرُّفَاتِ بَلْ لَا يَمْلِكُ إلَّا الشِّرَاءَ فَيُمْكِنُهُ مُبَاشَرَتُهُ بِنَفْسِهِ، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ؛ وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ أَعَمُّ مِنْ الْوَكَالَةِ، وَالْوَكَالَةُ أَخَصُّ مِنْهَا وَالشَّيْءُ يَسْتَتْبِعُ دُونَهُ وَلَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي خَادِمٍ أَوْ ثَوْبٍ خَاصَّةً أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُوَكِّلَ رَجُلًا بِبَيْعِهِ وَإِنْ وَكَّلَ لَمْ يَجُزْ فِي حِصَّةِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرِكَةُ مِلْكٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي شَرِكَةِ الْأَمْلَاكِ أَجْنَبِيٌّ عَنْ صَاحِبِهِ مَحْجُورٌ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي نَصِيبِهِ؛ لِانْعِدَامِ الْمُطْلِقِ لِلتَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَالْوِلَايَةُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ وَكِيلًا، وَيَدْفَعَ إلَيْهِ مَالًا وَيَأْمُرَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ تِجَارَتِهِمَا، وَالْمَالُ مِنْ الشَّرِكَةِ، لِمَا قُلْنَا إنَّ الشَّرِيكَ يَمْلِكَ التَّوْكِيلَ، فَكَانَ تَصَرُّفُهُ كَتَصَرُّفِ الْمُوَكِّلِ فَإِنْ أَخْرَجَ الشَّرِيكُ الْآخَرُ الْوَكِيلَ يَخْرُجُ مِنْ الْوَكَالَةِ إنْ كَانَ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ إجَارَةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَّا مَلَكَ التَّوْكِيلَ عَلَى صَاحِبِهِ مَلَكَ الْعَزْلَ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُوَكِّلَ وَكِيلٌ لِشَرِيكِهِ، فَإِذَا وَكَّلَ كَانَ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ وَكِيلَهُ، وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا فِي تَقَاضِي مَا دَايَنَهُ، فَلَيْسَ لِلْآخَرِ إخْرَاجُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ شَرِيكَهُ، فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَعْزِلَ وَكِيلَهُ عَنْهُ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ أَجِيرًا لِشَيْءٍ مِنْ تِجَارَتِهِمَا؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مِنْ التِّجَارَةِ حَتَّى يَمْلِكَهَا الْمَأْذُونُ فِي التِّجَارَةِ، وَهُوَ مِنْ عَادَاتِ التُّجَّارِ

أَيْضًا، وَمِنْ ضَرُورَات التِّجَارَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّاجِرَ لَا يَجِدْ بُدًّا مِنْهُ؛ وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ عِنْدَ إيرَادِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا تَجْرِي مَجْرَى الْأَعْيَانِ، فَكَانَ الِاسْتِئْجَارُ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ، وَهُوَ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ فَيَمْلِكُ الِاسْتِئْجَارَ، وَالْأَجْرُ يَكُونُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ يُطَالَبُ بِهِ دُونَ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ الْعَاقِدُ لَا شَرِيكُهُ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ وَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ فِي الْعَقْدِ، وَلَهُ أَنْ يَرْهَنَ مَتَاعًا مِنْ الشَّرِكَةِ بِدَيْنٍ وَجَبَ بِعَقْدِهِ وَهُوَ الشِّرَاءُ، وَأَنْ يَرْتَهِنَ بِمَا بَاعَهُ لِأَنَّ الرَّهْنَ إيفَاءُ الدَّيْنِ وَالِارْتِهَانَ اسْتِيفَاؤُهُ، وَأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِيفَاءَ وَالِاسْتِيفَاءَ فَيَمْلِكُ الرَّهْنَ وَالِارْتِهَانَ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ إذَا رَهَنَ أَحَدُهُمَا مَتَاعًا مِنْ الشَّرِكَةِ بِدَيْنٍ عَلَيْهَا، لَمْ يَجُزْ وَكَانَ ضَامِنًا لِلرَّهْنِ وَلَوْ ارْتَهَنَ بِدَيْنٍ لَهُمَا أَدَانَاهُ وَقَبَضَ، لَمْ يَجُزْ عَلَى شَرِيكِهِ وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا رَهَنَ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ عَلَيْهِمَا وَجَبَ بِعَقْدِهِمَا؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ إيفَاءٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَفِّيَ دَيْنَ الْآخَرِ مِنْ مَالِهِ إلَّا بِأَمْرِهِ، فَلَا يَمْلِكُ الرَّهْنَ وَالِارْتِهَانَ، وَاسْتِيفَاءُ أَحَدِهِمَا لَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ ثَمَنِ مَا عَقَدَهُ شَرِيكُهُ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَمْلِكُ ارْتِهَانَهُ، فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ وَقِيمَتُهُ وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ، ذَهَبَ بِحِصَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الرَّهْنَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَالرَّهْنُ الْفَاسِدُ يَكُونُ مَضْمُونًا كَالصَّحِيحِ، فَكَانَ مُسْتَوْفِيًا حِصَّتَهُ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ حِصَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ قَبْلَ الِارْتِهَانِ وَإِنْ وَلِيَهُ غَيْرُهُ، فَإِذَا ارْتَهَنَهُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِجَمِيعِ الدَّيْنِ، فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حِصَّتَهُ صُورَةً، فَذَهَبَ الرَّهْنُ بِحِصَّتِهِ، وَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَجَعَ بِحِصَّتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَيَرْجِعُ الْمَطْلُوبُ بِنِصْفِ قِيمَةِ الرَّهْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ شَرِيكَهُ حِصَّتَهُ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ تَقَرَّرَ اسْتِيفَاءُ كُلِّ الدَّيْنِ، وَمَنْ اسْتَوْفَى كُلَّ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ؛ كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْغَرِيمِ بِحِصَّتِهِ، وَيَرْجِعَ الْغَرِيمُ عَلَى الْقَابِضِ بِمَا قَبَضَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَلَّمَ إلَيْهِ لِيَمْلِكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِمَا سَلَّمَ، وَلَمْ يَمْلِكْ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ، كَذَا هُنَا، لِلْمَطْلُوبِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ قِيمَةِ الرَّهْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ شَاءَ الشَّرِيكُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ دَيْنِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا اسْتَوْفَى الدَّيْنَ الْمُشْتَرَكَ كُلَّهُ، كَانَ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنَصِيبِهِ، وَطَرِيقُ ذَلِكَ أَنَّ نِصْفَ الْمَقْبُوضِ وَقَعَ لِلْقَابِضِ وَلِشَرِيكِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ، وَمَتَى شَارَكَهُ فِيهِ، فَلِلْقَابِضِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِذَلِكَ، ثُمَّ يُشَارِكَهُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، هَكَذَا يَسْتَوْفِي هُوَ وَيُشَارِكُهُ الْآخَرُ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَا الدَّيْنَ، طَعَنَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ: يَجِبُ أَنْ لَا يَضْمَنَ الشَّرِيكُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ: لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ: أَعْطِنِي رَهْنًا بِدَيْنِ فُلَانٍ الَّذِي عَلَيْكَ فَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيَّ فَأَعْطَاهُ وَهَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَهَذَا الطَّعْنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ جَعَلَ الرَّهْنَ فِي يَدِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ رَهْنًا لِغَيْرِهِ، وَشَرَطَ أَنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَقَدْ صَارَ عَدْلًا، وَهَلَاكُ الرَّهْنِ فِي يَدِ الْعَدْلِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ لَيْسَ بِقَبْضِ اسْتِيفَاءٍ، وَهَهُنَا إنَّمَا قَبَضَهُ لِلِاسْتِيفَاءِ، وَالرَّهْنُ الْمَقْبُوضُ لِلِاسْتِيفَاءِ مَضْمُونٌ، فَلَمْ يَصِحَّ الطَّعْنُ، وَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مِنْ أَعْمَالِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ التَّاجِرَ يَحْتَاجُ إلَيْهَا لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْمُلَاءَةِ وَالْإِفْلَاسِ وَكَوْنِ بَعْضِهِمْ أَمْلَأَ مِنْ بَعْضٍ، وَفِي الْعَادَةِ يَخْتَارُ الْأَمْلَأَ فَالْأَمْلَأَ، فَكَانَتْ الْحَوَالَةُ وَسِيلَةً إلَى الِاسْتِيفَاءِ فَكَانَتْ فِي مَعْنَى الرَّهْنِ فِي التَّوَثُّقِ لِلِاسْتِيفَاءِ؛ وَلِأَنَّ الِاحْتِيَالَ تَمْلِيكُ مَا فِي الذِّمَّةِ بِمِثْلِهِ؛ فَيَجُوزُ كَالصَّرْفِ، وَحُقُوقُ عَقْدٍ تَوَلَّاهُ أَحَدُهُمَا تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ حَتَّى لَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَقْبِضَ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ دَيْنٍ لَزِمَ إنْسَانًا بِعَقْدٍ وَلِيَهُ أَحَدُهُمَا لَيْسَ لِلْآخَرِ قَبْضُهُ، وَلِلْمَدْيُونِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِهِ إلَيْهِ كَالْمُشْتَرِي مِنْ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْقَبْضَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَعُودُ إلَى الْعَاقِدِ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ لَمْ يَلْتَزِمْ الْحُقُوقَ لِلْمَالِكِ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَهَا الْعَاقِدُ، فَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ إلَّا بِتَوْكِيلِ الْعَاقِدِ، فَإِنْ دَفَعَ إلَى الشَّرِيكِ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلٍ بَرِئَ مِنْ حِصَّتِهِ، وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ حِصَّةِ الدَّائِنِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبْرَأَ الدَّافِعُ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْقَابِضِ بَلْ هُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ، فَكَانَ الدَّافِعُ إلَى الْقَابِضِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَا يَبْرَأُ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِ هَذَا الْقَبْضِ إذْ لَوْ نَقَضْنَاهُ لَاحْتَجْنَا إلَى إعَادَتِهِ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ يَلْزَمُهُ دَفْعُهُ إلَى الْعَاقِدِ، وَالْعَاقِدُ يَرُدُّ حِصَّةَ الشَّرِيكِ إلَيْهِ، فَلَا يُفِيدُ الْقَبْضُ ثُمَّ الْإِعَادَةُ فِي الْحَالِ، وَهَذَا عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا دَفَعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إلَى الْمُوَكِّلِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْوَكِيلِ لَا يُطَالِبُ الشَّرِيكَ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِمَا قُلْنَا، وَلَيْسَ

لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُخَاصِمَ فِيمَا أَدَانَهُ الْآخَرُ أَوْ بَاعَهُ وَالْخُصُومَةُ لِلَّذِي بَاعَ، وَعَلَيْهِ لَيْسَ عَلَى الَّذِي لَمْ يَلِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَلَا يُسْمَعُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فِيهِ وَلَا يُسْتَحْلَفُ وَهُوَ وَالْأَجْنَبِيُّ فِي هَذَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ وَلَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا لَا يُطَالَبُ الْآخَرُ بِالثَّمَنِ، وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ قَبْضُ الْمَبِيعِ لِمَا قُلْنَا، وَلِلْعَاقِدِ أَنْ يُوَكِّلَ وَكِيلًا بِقَبْضِ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ فِيمَا اشْتَرَى وَبَاعَ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلِأَحَدِهِمَا أَنْ يُقَايِلَ فِيمَا بَاعَهُ الْآخَرُ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فِيهَا مَعْنَى الشِّرَاءِ وَأَنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ عَلَى الشَّرِكَةِ، فَيَمْلِكُ الْإِقَالَةَ وَمَا بَاعَهُ أَحَدُهُمَا أَوْ اشْتَرَى فَظَهَرَ عَيْبٌ لَا يَرُدُّ الْآخَرُ بِالْعَيْبِ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ وَالرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ الْعَاقِدُ فَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِعَيْبِهِ فِي مَتَاعٍ جَازَ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ قَالَ الْكَرْخِيُّ: وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْوَكِيلِ إذَا أَقَرَّ بِالْعَيْبِ فَرَدَّ الْقَاضِي الْمَبِيعَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ إقْرَارُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ حَتَّى يَثْبُتَ، بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْإِقْرَارِ بِالْعَيْبِ ثُبُوتُ حَقِّ الرَّدِّ عَلَيْهِ وَلِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُقَايِلَ فِيمَا بَاعَهُ الْآخَرُ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فِيهَا مَعْنَى الشِّرَاءِ وَأَنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ إلَى أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ وَيَقْبَلَ الْعَقْدَ، وَالْوَكِيلُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فَإِنْ بَاعَ أَحَدُهُمَا مَتَاعًا مِنْ الشَّرِكَةِ، فَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَبِلَهُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي جَازَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْمَبِيعِ بِالتَّرَاضِي مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءٍ مُبْتَدَإٍ بِالتَّعَاطِي، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا بَاعَهُ عَلَى الشَّرِكَةِ وَكَذَا الْقَبُولُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ، وَإِقَالَةُ أَحَدِهِمَا تَنْفُذُ عَلَى الْآخَرِ، وَكَذَا لَوْ حَطَّ مِنْ ثَمَنِهِ أَوْ أَخَّرَ ثَمَنَهُ لِأَجْلِ الْعَيْبِ، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ يُوجِبُ الرَّدَّ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الصُّلْحُ وَالْحَطُّ أَنْفَعَ مِنْ الرَّدِّ، فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ حَطَّ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ أَوْ أَمْرٍ يَخَافُ مِنْهُ جَازَ فِي حِصَّتِهِ وَلَمْ يَجُزْ فِي حِصَّةِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ تَبَرُّعٌ، وَالْإِنْسَانُ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَبَرُّعٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَ مَا اشْتَرَاهُ، وَمَا اشْتَرَى صَاحِبُهُ مُرَابَحَةً عَلَى مَا اشْتَرَيَاهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلٌ لِصَاحِبِهِ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ يَمْلِكُ الْبَيْعَ مُرَابَحَةً وَهَلْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَالِ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ؟ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَالصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ وَكَذَا الْمُضَارِبُ وَالْمُبْضِعُ وَالْمُودَعُ لَهُمْ أَنْ يُسَافِرُوا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ أَنْ يُسَافِرَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ لَهُ الْمُسَافَرَةَ إلَى مَوْضِعٍ لَا يَبِيتُ عَنْ مَنْزِلِهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ يُسَافِرُ أَيْضًا بِمَا لَا حِمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ وَلَا يُسَافِرُ بِمَا لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ السَّفَرَ لَهُ خَطَرٌ، فَلَا يَجُوزُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ إلَّا بِإِذْنِهِ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الَّتِي فَرَّقَ فِيهَا بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، أَنَّهُ إذَا كَانَ قَرِيبًا بِحَيْثُ لَا يَبِيتُ عَنْ مَنْزِلِهِ، كَانَ فِي حُكْمِ الْمِصْرِ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الَّتِي فَرَّقَ فِيهَا بَيْنَ مَا لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ، وَمَا لَيْسَ لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ، أَنَّ مَا لَهُ حِمْلٌ إذَا احْتَاجَ شَرِيكُهُ إلَى رَدِّهِ، يَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، وَلَا مُؤْنَةَ تَلْزَمُهُ فِيمَا لَا حِمْلَ لَهُ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِذْنَ بِالتَّصَرُّفِ يُثْبِتُ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ، وَأَنَّهَا صَدَرَتْ مُطْلَقَةً عَنْ الْمَكَانِ، وَالْمُطْلَقُ يَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ إلَّا لِدَلِيلٍ، وَلِهَذَا جَازَ لِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ، عَلَى أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُودَعِ؛ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ كَالْمُودَعِ فِي مَالِ الْوَدِيعَةِ مَعَ مَا أَنَّ الشَّرِيكَ يَمْلِكُ أَمْرًا زَائِدًا لَا يَمْلِكُهُ الْمُودَعُ، وَهُوَ التَّصَرُّفُ، فَلَمَّا مَلَكَ الْمُودَعُ السَّفَرَ؛ فَلَأَنْ يَمْلِكَهُ الشَّرِيكُ أَوْلَى وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إنَّ الْمُسَافَرَةَ بِالْمَالِ مُخَاطَرَةٌ بِهِ، مُسَلَّمٌ، إذَا كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا (فَأَمَّا) إذَا كَانَ آمِنًا، فَلَا خَطَرَ فِيهِ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ بِالِابْتِغَاءِ فِي الْأَرْضِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَرَفَعَ الْجُنَاحَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] ، وَقَالَ عَزَّ شَأْنُهُ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَمَا ذَكَرَ مِنْ لُزُومِ مُؤْنَةِ الرَّدِّ فِيمَا لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ، فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ غَرَامَةً فِي عَادَةِ التُّجَّارِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُؤْنَةٍ تَلْزَمُ تَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ، هَذَا إذَا لَمْ يَقُلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: اعْمَلْ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِكَ، فَأَمَّا إذَا قَالَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمُسَافَرَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْمُشَارَكَةُ، وَخَلْطُ مَالِ الشَّرِكَةِ بِمَالٍ لَهُ خَاصَّةً، وَالرَّهْنُ وَالِارْتِهَانُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الرَّأْيَ إلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ الَّذِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الشَّرِكَةُ مُطْلَقًا، وَإِذَا سَافَرَ أَحَدُهُمَا بِالْمَالِ، وَقَدْ أُذِنَ لَهُ بِالسَّفَرِ، أَوْ قِيلَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ، أَوْ عِنْدَ إطْلَاقِ الشَّرِكَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ فِي

كِرَائِهِ وَنَفَقَتِهِ وَطَعَامِهِ وَإِدَامِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، رَوَى ذَلِكَ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ، لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِهِ نَصًّا. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ؛ لِأَنَّ عَادَةَ التُّجَّارِ الْإِنْفَاقُ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ، وَالْمَعْرُوفُ كَالْمَشْرُوطِ؛ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ التَّرَاضِي بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُسَافِرُ بِمَالِ الشَّرِكَةِ، وَيَلْتَزِمُ النَّفَقَةَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِرِبْحٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ؛ لِأَنَّهُ الْتِزَامُ ضَرَرٍ لِلْحَالِ لِنَفْعٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ فَكَانَ إقْدَامُهُمَا عَلَى عَقْدِ الشَّرِكَةِ دَلِيلًا عَلَى التَّرَاضِي بِالنَّفَقَةِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِ صَاحِبِهِ كَالْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ مِنْ الرِّبْحِ فَهُوَ فَرْعُ جَمِيعِ الْمَالِ، وَهُوَ يَسْتَحِقُّ نِصْفَ الرِّبْحِ شَائِعًا كَالْمُضَارِبِ، فَتَكُونُ النَّفَقَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ كَالْمُضَارِبِ إذَا سَافَرَ بِمَالِ نَفْسِهِ وَبِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، كَذَا هَذَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ: فَإِنْ رَبِحَتْ حُسِبَتْ النَّفَقَةُ مِنْ الرِّبْحِ وَإِنْ لَمْ يَرْبَحْ كَانَتْ النَّفَقَةُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ جُزْءٌ تَالِفٌ مِنْ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ رِبْحٌ فَهُوَ مِنْهُ، وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ الْأَصْلِ كَالْمُضَارِبِ، وَمَا اشْتَرَاهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ مَالِ الشَّرِكَةِ، لَا يَلْزَمُ صَاحِبَهُ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَدِينًا عَلَى مَالِ الشَّرِكَةِ، وَصَاحِبُهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالِاسْتِدَانَةِ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَهَبَ، وَلَا أَنْ يُقْرِضَ عَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَبَرَّعَ. (أَمَّا) الْهِبَةُ فَلَا شَكَّ فِيهَا. (وَأَمَّا) الْقَرْضُ؛ فَلِأَنَّهُ لَا عِوَضَ لَهُ فِي الْحَالِ، فَكَانَ تَبَرُّعًا فِي الْحَالِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ عَلَى شَرِيكِهِ، وَسَوَاءٌ قَالَ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ، أَوْ لَمْ يَقُلْ إلَّا أَنْ يَنُصَّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ تَفْوِيضُ الرَّأْيِ إلَيْهِ فِيمَا هُوَ مِنْ التِّجَارَةِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ وَلَوْ اسْتَقْرَضَ مَالًا لَزِمَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ تَمَلُّكُ مَالٍ بِالْعَقْدِ، فَكَانَ كَالصَّرْفِ، فَيَثْبُتُ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ شَرِيكِهِ؛ وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ الِاسْتِقْرَاضُ اسْتِعَارَةً فِي الْحَالِ، فَهُوَ يَمْلِكُ الِاسْتِعَارَةَ، وَإِنْ كَانَ تَمَلُّكًا يَمْلِكْهُ أَيْضًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدًا مِنْ تِجَارَتِهِمَا، وَلَا أَنْ يَعْتِقَ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَنْعَقِدُ عَلَى التِّجَارَةِ، وَالْكِتَابَةُ وَالْإِعْتَاقُ لَيْسَا مِنْ التِّجَارَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُمَا الْمَأْذُونُ فِي التِّجَارَةِ، وَسَوَاءٌ قَالَ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ، أَوْ لَا؛ لِمَا قُلْنَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدًا مِنْ تِجَارَتِهِمَا، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَة وَهُوَ ضَرَرٌ مَحْضٌ، فَلَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِإِذْنٍ نَصًّا، وَكَذَلِكَ تَزْوِيجُ الْأَمَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ، وَيَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَالْمَسْأَلَةُ تَقَدَّمَتْ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. وَلَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لَمْ يَجُزْ عَلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ، فَلَا يُصَدَّقُ فِي إيجَابِ الْحَقِّ عَلَى شَرِيكِهِ بِخِلَافِ الْمُفَاوَضَةِ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ فِي الْمُفَاوَضَةِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ لَا بِالْإِقْرَارِ، وَهَذِهِ الشَّرِكَةُ لَا تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ وَلَوْ أَقَرَّ بِجَارِيَةٍ فِي يَدِهِ مِنْ تِجَارَتِهِمَا، أَنَّهَا لِرَجُلٍ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَجَازَ فِي نَصِيبِهِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ يَنْفُذُ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ شَهَادَةٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُفِيدُ الْعُمُومَ فِيمَا تَتَضَمَّنُهُ الشَّرِكَةُ، وَالشَّرِكَةُ لَمْ تَتَضَمَّنْ الْإِقْرَارَ، وَمَا ضَاعَ مِنْ مَالِ الشَّرِيكِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، فَيُقْبَلُ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ فِي ضَيَاعِ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ: فَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَحَدِ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى شَرِيكِهِ إذَا فَعَلَهُ، فَيَجُوزُ لِأَحَدِ شَرِيكَيْ الْمُفَاوَضَةِ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَإِذَا فَعَلَهُ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ أَعَمُّ مِنْ الْعِنَانِ، فَلَمَّا جَازَ لِشَرِيكِ الْعِنَانِ فَجَوَازُهُ لِلْمُفَاوِضِ أَوْلَى، وَكَذَا كُلُّ مَا كَانَ شَرْطًا لِصِحَّةِ شَرِكَةِ الْعَنَانِ فَهُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أَعَمَّ مِنْ الْعِنَانِ، فَهُوَ يَقْتَضِي شُرُوطَ الْعِنَانِ، وَزِيَادَةً وَكَذَا مَا فَسَدَتْ بِهِ شَرِكَةُ الْعِنَانِ، تَفْسُدُ بِهِ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ يُفْسِدُهَا مَا لَا يُفْسِدُ الْعِنَانَ، لِاخْتِصَاصِهَا بِشَرَائِطَ لَمْ تُشْتَرَطْ فِي الْعِنَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالْآنَ نُبَيِّنُ الْأَحْكَامَ الْمُخْتَصَّةَ بِالْمُفَاوَضَةِ الَّتِي تَجُوزُ لِلْمُفَاوِضِ، وَلَا تَجُوزُ لِلشَّرِيكِ شَرِكَةَ الْعِنَانِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: يَجُوزُ إقْرَارُ أَحَدِ شَرِيكَيْ الْمُفَاوَضَةِ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ وَعَلَى شَرِيكِهِ، وَيُطَالِبُ الْمُقِرُّ لَهُ أَيَّهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ الْآخَرِ؛ فَيَلْزَمُ الْمُقِرَّ بِإِقْرَارِهِ، وَيَلْزَمُ شَرِيكَهُ بِكَفَالَتِهِ، وَكَذَلِكَ مَا وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ دَيْنِ التِّجَارَةِ كَثَمَنِ الْمُشْتَرَى فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَقِيمَتِهِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَأُجْرَةِ الْمُسْتَأْجَرِ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْخِلَافِ فِي الْوَدَائِعِ وَالْعَوَارِيّ وَالْإِجَارَاتِ وَالِاسْتِهْلَاكَات، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَ هَذَا بِدَيْنِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ شَرِيكَهُ بِحَقِّ الْكَفَالَةِ، أَمَّا دَيْنُ التِّجَارَةِ

فَلِأَنَّهُ دَيْنٌ لَزِمَهُ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ اشْتَمَلَ عَلَيْهِ عَقْدُ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ تِجَارَةٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ، فِيمَا يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ، وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْبَيِّنَةَ تُسْمَعُ فِي ذَلِكَ عَلَى الشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يَعْقِدْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَزِمَهُ كَمَا لَزِمَ شَرِيكَهُ؛ لِأَنَّهُ كَفِيلٌ عَنْ شَرِيكِهِ، وَالْبَيِّنَةُ بِالدَّيْنِ تُسْمَعُ عَلَى الْكَفِيلِ كَمَا تُسْمَعُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ، وَكَذَا الْبَيْعُ الْفَاسِدُ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْبَيْعِ يَتَنَاوَلُ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ، وَكَذَا الْأُجْرَةُ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تِجَارَةٌ. (وَأَمَّا) الْغَصْبُ فَلِأَنَّ ضَمَانَهُ فِي مَعْنَى ضَمَانِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ تَقَرُّرَ الضَّمَانِ فِيهِ يُفِيدُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى ضَمَانِ الْبَيْعِ، وَالْخِلَافُ فِي الْوَدَائِعِ وَالْعَوَارِيّ وَالْإِجَارَاتِ فِي مَعْنَى الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّعَدِّي عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْغَصْبِ، فَكَانَ ضَمَانُهُ ضَمَانَ الْغَصْبِ. (وَأَمَّا) أُرُوشُ الْجِنَايَاتِ وَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ شَرِيكُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِضَمَانِ التِّجَارَةِ وَلَا فِي مَعْنَى ضَمَانِ التِّجَارَةِ أَيْضًا؛ لِانْعِدَامِ مَعْنَى مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ رَأْسًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ لَا يَلْزَمُ إلَّا فَاعِلَهُ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ جِنَايَةٍ فَأَشْبَهَ ضَمَانَ الْجِنَايَةِ عَلَى بَنِي آدَمَ، وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ وَضَمَانَ الْإِتْلَافِ فِي غَيْرِ بَنِي آدَمَ ضَمَانُ مُعَاوَضَةٍ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمَضْمُونَ عِوَضًا عَنْهُ بِخِلَافِ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى بَنِي آدَمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِهِ الْمَضْمُونَ فَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ أَصْلًا. وَلَوْ كَفَلَ أَحَدُهُمَا عَنْ إنْسَانٍ، فَإِنْ كَفَلَ عَنْهُ بِمَالٍ، يَلْزَمُ شَرِيكَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَلْزَمُ، وَإِنْ كَفَلَ بِنَفْسٍ لَا يُؤْخَذْ بِذَلِكَ شَرِيكُهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ، فَلَا تَلْزَمُ صَاحِبَهُ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا تَبَرُّعٌ اخْتِصَاصُ جَوَازِهَا بِأَهْلِ التَّبَرُّعِ، حَتَّى لَا تَجُوزَ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، وَكَذَا تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ إذَا كَانَ فِي حَالِ الْمَرَضِ وَالشَّرِكَةُ لَا تَنْعَقِدُ عَلَى التَّبَرُّعِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْكَفَالَةَ تَقَعُ تَبَرُّعًا بِابْتِدَائِهَا، ثُمَّ تَصِيرُ مُعَاوَضَةً بِانْتِهَائِهَا لِوُجُودِ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ، حَتَّى يَرْجِعَ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِمَا كَفَلَ، إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فَقُلْنَا: لَا تَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ وَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ عَمَلًا بِالِابْتِدَاءِ، وَيَلْزَمُ شَرِيكَهُ عَمَلًا بِالِانْتِهَاءِ، وَحُقُوقُ عَقْدٍ تَوَلَّاهُ أَحَدُهُمَا تَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا، حَتَّى لَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ، يُطَالَبُ غَيْرُ الْبَائِعِ مِنْهُمَا بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، كَمَا يُطَالَبُ الْبَائِعُ، وَيُطَالِبُ غَيْرُ الْبَائِعِ مِنْهُمَا الْمُشْتَرِيَ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ كَالْبَائِعِ. وَلَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا يُطَالِبُ الْآخَرَ بِالثَّمَنِ، كَمَا يُطَالِبُ الْمُشْتَرِيَ، وَلَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْمَبِيعَ كَمَا لِلْمُشْتَرِي. وَلَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي مِنْهُمَا عَيْبًا بِالْمَبِيعِ، فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ كَمَا لِلْمُشْتَرِي، وَلَهُ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ كَالْمُشْتَرِي. وَلَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا سِلْعَةً مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهَا عَيْبًا، فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ. وَلَوْ أَنْكَرَ الْعَيْبَ، فَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْبَائِعَ عَلَى الْبَتَاتِ، وَشَرِيكَهُ عَلَى الْعِلْمِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا نَفَذَ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَشَرِيكِهِ. وَلَوْ بَاعَا سِلْعَةً مِنْ شَرِكَتِهِمَا، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهَا عَيْبًا، فَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى النِّصْفِ الَّذِي بَاعَهُ عَلَى الْبَتَاتِ، وَعَلَى النِّصْفِ الَّذِي بَاعَهُ شَرِيكُهُ عَلَى الْعِلْمِ بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الْعِلْمِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْبَتَاتِ فِيمَا بَاعَ، وَيَسْقُطُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ، وَهُمَا جَمِيعًا فِي خَرَاجِ التِّجَارَةِ وَضَمَانِهَا سَوَاءٌ، فَفِعْلُ أَحَدِهِمَا فِيهَا كَفِعْلِهِمَا، وَقَوْلُ أَحَدِهِمَا كَقَوْلِهِمَا، وَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ شَخْصَانِ وَفِي أَحْكَامِ التِّجَارَةِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ وَلِأَحَدِهِمَا أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَ التِّجَارَةِ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ بِالتِّجَارَةِ لِأَنَّ تَصَرُّفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَعُودُ نَفْعُهُ إلَى مَالِ الشَّرِكَةِ عَامٌّ، كَتَصَرُّفِ الْأَبِ فِي مَالِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ الْإِنْسَانُ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ فَالْمُفَاوِضُ فِيهِ أَجْوَزُ أَمْرًا، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَبَ يَمْلِكُ كِتَابَةَ عَبْدِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَإِذْنَهُ بِالتِّجَارَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ رَأْسًا، فَلَأَنْ يَمْلِكَ الْمُفَاوِضُ أَوْلَى. وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ شَيْئًا مِنْ عَبِيدِ التِّجَارَةِ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّبَرُّعِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ، وَيَبْقَى الْبَدَلُ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ قَدْ يُسَلَّمُ لَهُ وَقَدْ لَا يُسَلَّمُ، فَكَانَ فِي مَعْنَى التَّبَرُّعِ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ فِي مَالِ ابْنِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَزْوِيجُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ يَتَعَلَّقَانِ بِرَقَبَتِهِ، وَتَنْقُصُ بِهِ قِيمَتُهُ، وَيَكُونُ وَلَدُهُ لِغَيْرِهِ، فَكَانَ التَّزْوِيجُ ضَرَرًا مَحْضًا، فَلَا يُمْلِكُهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ الْأَمَةَ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ نَفْعٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ وَالْوَلَدَ وَيَسْقُطُ عَنْهُ نَفَقَتُهَا، وَتَصَرُّفُ الْمُفَاوِضِ نَافِذٌ فِي كُلِّ مَا يَعُودُ نَفْعُهُ إلَى مَالِ الشَّرِكَةِ، سَوَاءٌ

كَانَ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ أَوْ لَا، بِخِلَافِ الشَّرِيكِ شَرِكَةَ الْعِنَانِ فَإِنَّ نَفَاذَ تَصَرُّفِهِ يَخْتَصُّ بِالتِّجَارَةِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَتَزْوِيجُ الْأَمَةِ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ التِّجَارَةَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَا يَنْفُذُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَنْفُذُ كَتَصَرُّفِ الْمُفَاوِضِ لِوُجُودِ النَّفْعِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً، لِمَا ذَكَرْنَا فِي الشَّرِيكِ شَرِكَةَ عِنَانٍ، أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَلُ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ بِمَالٍ يَسْتَحِقُّهُ الْأَجِيرُ بِيَقِينٍ، فَالدَّفْعُ مُضَارَبَةً أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ مِنْهَا بِيَقِينٍ لِجَوَازِ أَنْ يَحْصُلَ، وَأَنْ لَا يَحْصُلَ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ شَرِكَةَ عِنَانٍ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ شَرِكَةَ الْعِنَانِ أَخَصُّ مِنْ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ، فَكَانَتْ دُونَهَا، فَجَازَ أَنْ تَتَضَمَّنَهَا الْمُفَاوَضَةُ كَمَا تَتَضَمَّنُ الْعِنَانُ الْمُضَارَبَةَ، لِأَنَّهَا دُونَهَا فَتَتْبَعُهَا؛ وَلِأَنَّ الْأَبَ يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي مَالِ ابْنِهِ، فَيَمْلِكُ الْمُفَاوِضُ عَلَى شَرِيكِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ لِلشَّرِيكِ الثَّالِثِ حَقًّا فِي مَالِ شَرِيكِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِهِ، هَذَا إذَا شَارَكَ رَجُلًا شَرِكَةَ عِنَانٍ، فَأَمَّا إذَا فَاوَضَ جَازَ عَلَيْهِ وَعَلَى شَرِيكِهِ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَقْدَ الْمُفَاوَضَةِ عَامٌّ فَيَصِيرُ تَصَرُّفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَتَصَرُّفِ الْآخَرِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ شَرِكَةَ الْعِنَانِ مِثْلُ الْمُفَاوَضَةِ وَالشَّيْءُ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْهَنَ وَيَرْتَهِنَ عَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ هُوَ إيفَاءٌ، وَالِارْتِهَانَ اسْتِيفَاءٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُ الْإِيفَاءَ وَالِاسْتِيفَاءَ فِيمَا عَقَدَهُ صَاحِبُهُ، وَيَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَقْضِيَ مَا أَدَانَاهُ، أَوْ ادَّانَهُ صَاحِبُهُ، أَوْ مَا يُوجِبُ لَهُمَا مِنْ غَصْبٍ عَلَى رَجُلٍ أَوْ كَفَالَةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلُ الْآخَرِ، فَيَمْلِكُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حُقُوقَهُ بِالْوَكَالَةِ، وَمَا وَجَبَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ الْآخَرِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ عَنْ صَاحِبِهِ يُطَالَبُ بِمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَيُقَامُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَيُسْتَحْلَفُ عَلَى عِلْمِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ ضَمَانِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ خَصْمٌ فِيمَا يَدَّعِي عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَيُسْتَحْلَفُ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمِينٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، وَمَا اشْتَرَاهُ أَحَدُهُمَا مِنْ طَعَامٍ لِأَهْلِهِ أَوْ كِسْوَةٍ أَوْ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَهُوَ لَهُ خَاصَّةً دُونَ صَاحِبِهِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَصِحُّ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ، لَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا أَنْ يَكُونَ لَهُ خَاصَّةً لِلضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ، فَكَانَ مُسْتَثْنَى مِنْ الْمُفَاوَضَةِ فَاخْتَصَّ بِهِ الْمُشْتَرِي، لَكِنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يُطَالِبَ بِالثَّمَنِ أَيَّهُمَا شَاءَ، وَإِنْ وَقَعَ الْمُشْتَرَى لِلَّذِي اشْتَرَاهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ الْآخَرِ بِبَدَلِ مَا يَجُوزُ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ، إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ الشَّرِيكَ يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ ثَمَنِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ ذَلِكَ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً لِلْوَطْءِ أَوْ لِلْخِدْمَةِ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ مِمَّا يَصِحُّ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى الِانْفِرَادِ بِمِلْكِهَا، فَصَارَتْ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ بِخِلَافِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ، فَإِنَّ ثَمَّةَ ضَرُورَةً فَأُخْرِجَا عَنْ عُمُومِ الشَّرِكَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرَرَ فِي الْجَارِيَةِ فَبَقِيَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ الْعُمُومِ، فَإِنْ اشْتَرَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَلَا لِشَرِيكِهِ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي الشَّرِكَةِ؛ فَكَانَتْ بَيْنَهُمَا، فَهَذِهِ جَارِيَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَلَا يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَطَأَهَا، فَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا جَارِيَةً لِيَطَأَهَا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ، فَهِيَ لَهُ خَاصَّةً وَلَمْ يَذْكُرْ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ، أَنَّ الشَّرِيكَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ أَوْ لَا يَرْجِعُ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْخِلَافَ فَقَالَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْوَطْءِ مُتَحَقِّقَةٌ فَتُلْحَقُ بِالْحَاجَةِ إلَى الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ، فَإِذَا اشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ خَاصَّةً وَقَعَتْ لَهُ خَاصَّةً، وَصَارَتْ مُسْتَثْنَاةً عَنْ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، فَقَدْ نَقَدَ مَا لَيْسَ بِمُشْتَرَكٍ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ بِالنِّصْفِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ إذَا اشْتَرَاهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، أَنْ يَقَعَ الْمُشْتَرَى مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ إذْنٍ جَدِيدٍ مِنْ الشَّرِيكِ بِالشِّرَاءِ إلَّا فِيمَا فِيهِ ضَرُورَةٌ، وَهُوَ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْوَطْءِ فَوَقَعَ الْمُشْتَرَى عَلَى الشَّرِكَةِ بِالْإِذْنِ الثَّابِتِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى إذْنٍ آخَرَ، فَلَمْ يَكُنْ الْإِذْنُ الْجَدِيدُ مِنْ الشَّرِيكِ لِوُقُوعِ الْمُشْتَرَى عَلَى الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ عَلَى الشَّرِكَةِ بِدُونِهِ، فَكَانَ لِلتَّمْلِيكِ كَأَنَّهُ قَالَ: اشْتَرِ جَارِيَةً بَيْنَنَا، وَقَدْ مَلَّكْتُكَ نَصِيبِي مِنْهَا فَكَانَتْ الْهِبَةُ مُتَعَلِّقَةً بِالشِّرَاءِ، فَإِذَا اشْتَرَى وَقَبَضَ، صَحَّتْ الْهِبَةُ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ قَبَضْتَ مَالِي عَلَى فُلَانٍ، فَقَدْ وَهَبْتُهُ لَكَ، فَقَبَضَهُ، يَمْلِكُهُ

كَذَا هُوَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ نَقَدَ ثَمَنَ الْوَاقِعِ عَلَى الشَّرِكَةِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ، فَإِنْ اشْتَرَى جَارِيَةً لِلْوَطْءِ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ، فَعَلَى الْوَاطِئِ الْعُقْرُ، يَأْخُذُ الْمُسْتَحِقُّ بِالْعُقْرِ أَيَّهُمَا شَاءَ. (وَأَمَّا) وُجُوبُ الْعُقْرِ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ وَطْءَ مِلْكِ الْغَيْرِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ الْغَرَامَتَيْنِ، إمَّا الْحَدُّ وَإِمَّا الْعُقْرُ، وَقَدْ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْحَدِّ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ، وَهِيَ صُورَةُ الْبَيْعِ، فَيَجِبُ الْعُقْرُ. وَأَمَّا وِلَايَةُ الْأَخْذِ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ؛ فَلِأَنَّ هَذَا ضَمَانٌ وَجَبَ بِسَبَبِ الشِّرَاءِ، وَالضَّمَانُ الْوَاجِبُ بِسَبَبِ الشِّرَاءِ يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مِنْ التِّجَارَةِ، فَكَانَ هَذَا ضَمَانَ التِّجَارَةِ، بِخِلَافِ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَالنِّكَاحُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الشَّرِكَةِ. وَلَوْ أَقَالَ أَحَدُهُمَا فِي بَيْعِ مَا بَاعَهُ الْآخَرُ، جَازَتْ الْإِقَالَةُ عَلَيْهِمَا، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِقَالَةَ فِي مَعْنَى الشِّرَاءِ، وَهُوَ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ عَلَى الشَّرِكَةِ فَيَمْلِكُ الْإِقَالَةَ وَلِأَنَّ الشَّرِيكَ شَرِكَةَ الْعِنَانِ يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ فَالْمُفَاوِضُ أَوْلَى، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَوْ تَفَرَّقَا، لَمْ يَكُنْ لِلَّذِي لَمْ يَلِ الْمُدَايَنَةَ أَنْ يَقْبِضَ الدَّيْنَ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ بَطَلَتْ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهَا وَكَالَةٌ، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ لِبُطْلَانِ أَمْرِهِ بِمَوْتِهِ وَتَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَكِيلِ لِتَعَذُّرِ تَصَرُّفِهِ فَتَبْطُلُ الشَّرِكَةُ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَقْبِضَ نَصِيبَ الْآخَرِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى الْعَقْدَ، وَيَجُوزُ قَبْضُهُ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مُوَكَّلٌ فِيهِ، وَقَبْضُ الْوَكِيلِ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا. (وَأَمَّا) الَّذِي وَلِيَ الْمُدَايَنَةَ، فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْجَمِيعَ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ ذَلِكَ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ لِكَوْنِهِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، فَلَا يَبْطُلُ بِانْفِسَاخِ الشَّرِكَةِ بِمَوْتِ الشَّرِيكِ كَمَا لَا يَبْطُلُ بِالْعَزْلِ. وَلَوْ آجَرَ أَحَدُهُمَا نَفْسَهُ فِي الْخِيَاطَةِ أَوْ عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ، فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَإِنْ آجَرَ نَفْسَهُ لِلْخِدْمَةِ فَالْأَجْرُ لَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ آجَرَ نَفْسَهُ فِي عَمَلٍ يَمْلِكُ أَنْ يَتَقَبَّلَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ، فَإِذَا عَمِلَ فَقَدْ أَوْفَى مَا عَلَيْهِمَا، فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ بَيْنَهُمَا، وَفِي الثَّانِي لَا يَمْلِكُ التَّقَبُّلَ عَلَى صَاحِبِهِ، بَلْ عَلَى نَفْسِهِ خَاصَّةً، فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ لَهُ خَاصَّةً، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا قَضَى أَحَدُهُمَا دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْمُفَاوَضَةِ، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَضَى فَقَدْ صَارَ الْمَقْضِيُّ دَيْنًا عَلَى الْقَاضِي أَوَّلًا، ثُمَّ يَصِيرُ قِصَاصًا بِمَالِهِ عَلَى الْقَاضِي، فَكَانَ هَذَا تَمْلِيكًا بِعِوَضٍ فَتَنَاوَلَهُ عَقْدُ الشَّرِكَةِ، فَمَلَكَهُ فَجَازَ الْقَضَاءُ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ سَبِيلٌ عَلَى الَّذِي قَبَضَ الدَّيْنَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَبْضَهُ قَبْضٌ مَضْمُونٌ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَا لِلشَّرِيكِ أَنْ يُمَلِّكَهُ إيَّاهُ، وَيَرْجِعَ شَرِيكُهُ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ نَفْسِهِ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، وَلَا تَنْتَقِضُ الْمُفَاوَضَةُ، وَإِنْ ازْدَادَ مَالُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ دَيْنٌ، وَزِيَادَةُ مَالِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إذَا كَانَتْ دَيْنًا، لَا تُوجِبُ بُطْلَانَ الْمُفَاوَضَةِ، كَمَا لَا تَمْنَعُ انْعِقَادَهَا، لِمَا مَرَّ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ، فَإِذَا اسْتَرْجَعَ ذَلِكَ بَطَلَتْ الْمُفَاوَضَةُ؛ لِأَنَّهُ ازْدَادَ لَهُ مَالٌ صَالِحٌ لِلشَّرِكَةِ عَلَى مَالِ شَرِيكِهِ. وَلَوْ رَهَنَ أَمَةً مِنْ مَالِ الْمُفَاوَضَةِ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ، فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، ذَهَبَتْ بِخَمْسِمِائَةٍ وَلَا يَضْمَنُ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَكَانَ مُودَعًا فِي قَدْرِ الْأَمَانَةِ مِنْ الرَّهْنِ، وَلِلْمُودَعِ وَالْمُفَاوِضِ أَنْ يُودِعَ، وَكَذَلِكَ وَصِيُّ أَيْتَامٍ رَهَنَ أَمَةً لَهُمْ بِأَرْبَعِمِائَةٍ عَلَيْهِ، وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، ذَهَبَتْ بِأَرْبَعِمِائَةٍ، وَذَلِكَ يَكُونُ دَيْنًا لِلْوَرَثَةِ عَلَى الْوَصِيِّ، وَهُوَ أَمِينٌ فِي الْفَضْلِ، وَكَذَلِكَ الْأَبُ يَرْهَنُ أَمَةَ ابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ يَمْلِكَانِ الْإِيدَاعَ وَالزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ مِنْ الرَّهْنِ أَمَانَةٌ فَكَانَتْ وَدِيعَةً قَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ أَقْرَضَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مَالًا فَأَعْطَاهُ رَجُلًا، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ سَفْتَجَةً كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا عَلَيْهِمَا، وَلَا يَضْمَنُ؛ تَوَى الْمَالُ أَوْ لَمْ يَتْوِ، وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الَّذِي أَقْرَضَ وَأَخَذَ السَّفْتَجَةَ يَضْمَنُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْكَفَالَةِ أَنَّ الْكَفِيلَ فِي حُكْمِ الْمُقْرِضِ، فَإِذَا جَازَتْ الْكَفَالَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ جَازَ الْقَرْضُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى التَّبَرُّعِ، فَكَذَلِكَ الْقَرْضُ وَقَالُوا فِي أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ، إذَا اسْتَأْجَرَ إبِلًا إلَى مَكَّةَ لِيَحُجَّ وَيَحْمِلَ عَلَيْهَا مَتَاعَ بَيْتِهِ فَلِلْمُؤَاجِرِ أَنْ يُطَالِبَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالْأَجْرِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَهُوَ، الْمَنْفَعَةُ؛ مِمَّا يَجُوزُ دُخُولُهُ فِي الشَّرِكَةِ، أَلَا تَرَى لَوْ أَبْدَلَهُ مِنْ حَمْلِ مَتَاعِهِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمَا مَتَاعَ الشَّرِكَةِ جَازَ، وَإِذَا دَخَلَ فِي الشَّرِكَةِ كَانَ الْبَدَلُ عَلَيْهِمَا فَيُطَالِبُ بِهِ شَرِيكَهُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ، وَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ لَهُ خَاصَّةً، كَمَا لَوْ اشْتَرَى طَعَامًا لِنَفْسِهِ أَنَّ الْمُشْتَرَى يَقَعُ لَهُ وَيُطَالَبُ الشَّرِيكُ بِالثَّمَنِ، كَذَا هَذَا. وَلَوْ آجَرَ أَحَدُهُمَا عَبْدًا لَهُ وَرِثَهُ لَمْ يَكُنْ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَقْبِضَ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ مَالٍ لَمْ يَدْخُلْ فِي الشَّرِكَةِ؛ فَلَا يَمْلِكُ قَبْضَهُ كَالدَّيْنِ الَّذِي وَجَبَ لَهُ بِالْمِيرَاثِ وَاَللَّهُ

عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الشَّرِكَةُ بِالْأَعْمَالِ فَأَمَّا الْعِنَانُ مِنْهَا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَقَبَّلَ الْعَمَلَ، وَمَتَى تَقَبَّلَ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَعَلَى شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ أَذِنَ لِصَاحِبِهِ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ، فَصَارَ وَكِيلُهُ فِيهِ كَأَنَّهُ تَقَبَّلَ الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ، وَلِصَاحِبِ الْعَمَلِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْعَمَلِ أَيَّهُمَا شَاءَ لِوُجُوبِهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُطَالِبَ صَاحِبَ الْعَمَلِ بِكُلِّ الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ كُلُّ الْعَمَلِ، فَكَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِكُلِّ الْأُجْرَةِ، وَإِلَى أَيِّهِمَا دَفَعَ صَاحِبُ الْعَمَلِ بَرِئَ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَى مَنْ أُمِرَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ، وَعَلَى أَيِّهِمَا وَجَبَ ضَمَانُ الْعَمَلِ، وَهُوَ جِنَايَةُ يَدِهِ، كَانَ لِصَاحِبِ الْعَمَلِ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ بِهِ اسْتِحْسَانًا، كَذَا رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ قَالَ: إذَا جَنَتْ يَدُ أَحَدِهِمَا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، يَأْخُذُ صَاحِبُ الْعَمَلِ أَيَّهُمَا شَاءَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ هَذِهِ شَرِكَةُ عِنَانٍ لَا شَرِكَةُ مُفَاوَضَةٍ، وَحُكْمُ الشَّرْعِ فِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ أَنَّ مَا يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدِهِ لَا يُطَالَبُ بِهِ الْآخَرُ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ شَرِكَةُ ضَمَانٍ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي يَتَقَبَّلُهُ أَحَدُهُمَا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ بِهِ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الشَّرِكَةُ مُقْتَضِيَةً وُجُوبَ الْعَمَلِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَانَتْ مُقْتَضِيَةً وُجُوبَ ضَمَانِ الْعَمَلِ، فَكَانَتْ فِي مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُفَاوَضَةً حَقِيقَةً؛ حَتَّى قَالُوا فِي الدَّيْنِ: إذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِثَمَنِ صَابُونٍ أَوْ أُشْنَانٍ أَوْ غَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى صَاحِبِهِ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ مُسْتَهْلَكًا إلَّا بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ، كَذَا إذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَجْرِ أَجِيرٍ أَوْ حَانُوتٍ بَعْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْإِجَارَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ لَمْ يُسْتَهْلَكْ وَمُدَّةُ الْإِجَارَةِ لَمْ تَمْضِ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا بِإِقْرَارِهِ، وَإِنْ جَحَدَهُ شَرِيكُهُ كَمَا فِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْمُفَاوَضَةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ بَلْ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا خَاصَّةً، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا ادَّعَى عَلَى أَحَدِهِمَا ثَوْبًا عِنْدَهُمَا فَأَقَرَّ بِهِ أَحَدُهُمَا وَجَحَدَ الْآخَرُ، جَازَ الْإِقْرَارُ عَلَى الْآخَرِ، وَيَدْفَعُ الثَّوْبَ وَيَأْخُذُ الْأُجْرَةَ، قَالَ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمُتَفَاوِضَيْنِ حَتَّى يُصَدَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بَلْ هُمَا شَرِيكَانِ شَرِكَةَ عِنَانٍ؛ فَلَا يَنْفُذُ إقْرَارُهُ عَلَى صَاحِبِهِ فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ كَشَرِيكَيْ الْعِنَانِ فِي الْمَالِ إذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِثَوْبٍ مِنْ شِرْكَتِهِمَا وَجَحَدَ الْآخَرُ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ إقْرَارَهُ عَلَى صَاحِبِهِ فِي نَصِيبِهِ، كَذَا هَذَا، وَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ: يَنْفُذُ إقْرَارُهُ فِي النِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ وَلَا يَنْفُذُ فِي النِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ الشَّرِيكِ (وَوَجْهُهُ) مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّيْءَ فِي أَيْدِيهِمَا، وَالشَّرِكَةُ شَرِكَةُ عِنَانٍ وَأَحَدُ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ إذَا أَقَرَّ بِثَوْبٍ فِي أَيْدِيهِمَا لَا يَنْفُذُ عَلَى صَاحِبِهِ وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَّا، وَأَلْحَقْنَاهَا بِالْمُفَاوَضَةِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعَمَلِ، وَالْمُطَالَبَةِ بِالْأُجْرَةِ فِي حَقِّ وُجُوبِ ضَمَانِ الْعَمَلِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ حُكْمُ الْمُفَاوَضَةِ فِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ فِي حَقِّ ضَمَانِ الْعَمَلِ وَهُوَ وُجُوبُهُ حَتَّى لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كُلُّ الْعَمَلِ؛ وَجَبَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِكُلِّ الْأُجْرَةِ، وَعَلَيْهِ بِكُلِّ الْعَمَلِ، وَلَزِمَهُ ضَمَانُ مَا حَدَثَ عَلَى شَرِيكِهِ يَظْهَرُ فِي مَحَلِّ الْعَمَلِ أَيْضًا، فَيَنْفُذُ إقْرَارُهُ بِمَحَلِّ الْعَمَلِ عَلَى صَاحِبِهِ وَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، بِأَنْ مَرِضَ أَوْ سَافَرَ، أَوْ بَطَلَ فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ فِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِضَمَانِ الْعَمَلِ لَا بِالْعَمَلِ لِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ يَكُونُ مِنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ كَالْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ إذَا اسْتَعَانَ بِرَجُلٍ عَلَى الْقِصَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ، أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ؛ لِوُجُودِ ضَمَانِ الْعَمَلِ مِنْهُ وَهَهُنَا شَرْطُ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا، فَإِذَا عَمِلَ أَحَدُهُمَا يَصِيرُ الشَّرِيكُ الْقَابِلُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي النِّصْفِ، وَلِشَرِيكِهِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ، وَيَجُوزُ شَرْطُ التَّفَاضُلِ فِي الْكَسْبِ، إذَا شَرَطَ التَّفَاضُلَ فِي الضَّمَانِ، بِأَنْ شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَيْ الْكَسْبِ، وَهُوَ الْأَجْرُ، وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ وَشَرَطَا الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا كَذَلِكَ، سَوَاءٌ عَمِلَ الَّذِي شَرَطَ لَهُ الْفَضْلَ أَوْ لَمْ يَعْمَلْ بَعْدَ أَنْ شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ فِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ بِالضَّمَانِ لَا بِالْعَمَلِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا اسْتَحَقَّ الْآخَرُ الْأَجْرَ، وَإِذَا كَانَ اسْتِحْقَاقُ أَصْلِ الْأَجْرِ بِأَصْلِ ضَمَانِ الْعَمَلِ لَا بِالْعَمَلِ، كَانَ اسْتِحْقَاقُ زِيَادَةِ الْأَجْرِ بِزِيَادَةِ الضَّمَانِ، لَا بِزِيَادَةِ الْعَمَلِ، وَحُكِيَ عَنْ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ عَلَّلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: الْمَنَافِعُ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ، وَالشَّرِيكُ قَدْ قَوَّمَهَا بِمِقْدَارِ مَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْعَمَلِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ الْجَصَّاصُ وَقَالَ هَذَا لَا يَصِحُّ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فَضْلَ الْأَجْرِ لِأَقَلِّهِمَا عَمَلًا بِأَنْ شَرَطَا ثُلُثَا الْأُجْرَةِ لَهُ، جَازَ، فَدَلَّ

فصل في صفة عقد الشركة

أَنَّ اسْتِحْقَاقَ فَضْلِ الْأُجْرَةِ بِفَضْلِ الضَّمَانِ لَا بِفَضْلِ الْعَمَلِ. وَلَوْ شَرَطَا التَّفَاضُلَ فِي الْأُجْرَةِ فَجَعَلَاهَا أَثْلَاثًا، وَلَمْ يَنْسِبَا الْعَمَلَ إلَى نِصْفَيْنِ، فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُمَا لَمَّا شَرَطَا التَّفَاضُلَ فِي الْكَسْبِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إلَّا بِشَرْطِ التَّفَاضُلِ فِي الْعَمَلِ، كَانَ ذَلِكَ اشْتِرَاطًا لِلتَّفَاضُلِ فِي الْعَمَلِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِمَا عِنْدَ إمْكَانِ التَّصْحِيحِ. وَلَوْ شَرَطَا الْكَسْبَ أَثْلَاثًا، وَشَرَطَا الْعَمَلَ نِصْفَيْنِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ فَضْلَ الْأُجْرَةِ لَا يُقَابِلُهَا مَالٌ، وَلَا عَمَلٌ وَلَا ضَمَانٌ، وَالرِّبْحُ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. (وَأَمَّا) الْوَضِيعَةُ فَلَا تَكُونُ بَيْنَهُمَا إلَّا عَلَى قَدْرِ الضَّمَانِ حَتَّى لَوْ شَرَطَا أَنَّ مَا يَتَقَبَّلَانِهِ فَثُلُثَاهُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، وَثُلُثُهُ عَلَى الْآخَرِ، وَالْوَضِيعَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، كَانَتْ الْوَضِيعَةُ بَاطِلَةً وَالْقِبَالَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ إذَا انْقَسَمَ عَلَى قَدْرِ الضَّمَانِ كَانَتْ الْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ الضَّمَانِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ زِيَادَةِ الضَّمَانِ فِي الْوَضِيعَةِ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ زِيَادَةِ الرِّبْحِ فِيهِ لِأَحَدِهِمَا، وَهُوَ الشَّرِكَةُ بِالْأَمْوَالِ حَتَّى لَا تَكُونَ الْوَضِيعَةُ فِيهَا إلَّا بِقَدْرِ الْمَالِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ زِيَادَةِ الرِّبْحِ فِيهِ لِأَحَدِهِمَا، فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ أَنْ تَكُونَ الْوَضِيعَةُ فِيهِ إلَّا عَلَى قَدْرِ الضَّمَانِ أَوْلَى. (وَأَمَّا) الْمُفَاوَضَةُ مِنْهُمَا فَمَا لَزِمَ أَحَدَهُمَا بِسَبَبِ هَذِهِ الشَّرِكَةِ، يَلْزَمُ صَاحِبَهُ، وَيُطَالَبُ بِهِ مِنْ ثَمَنِ صَابُونٍ أَوْ أُشْنَانٍ أَوْ أَجْرِ أَجِيرٍ أَوْ حَانُوتٍ، وَيَجُوزُ إقْرَارُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَيْهِ وَعَلَى شَرِيكِهِ بِالدَّيْنِ، وَلِلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ أَيَّهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَيَلْزَمُ الْمُقِرَّ بِإِقْرَارِهِ وَالشَّرِيكَ بِكَفَالَتِهِ. وَلَوْ ادَّعَى عَلَى أَحَدِهِمَا بِثَوْبٍ فِي أَيْدِيهِمَا، فَأَقَرَّ بِهِ أَحَدُهُمَا، وَجَحَدَ صَاحِبُهُ، يُصَدَّقُ عَلَى صَاحِبِهِ وَيَنْفُذُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ. (وَأَمَّا) الشَّرِكَةُ بِالْوُجُوهِ فَالْعِنَانُ مِنْهَا وَالْمُفَاوَضَةُ فِي جَمِيعِ مَا يَجِبُ لَهُمَا وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا، وَمَا يَجُوزُ فِيهِ فِعْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى شَرِيكِهِ، وَمَا لَا يَجُوزُ، بِمَنْزِلَةِ شَرِيكِ الْعِنَانِ، وَالْمُفَاوَضَةِ فِي الْأَمْوَالِ. (وَأَمَّا) الشَّرِكَةُ الْفَاسِدَةُ وَهِيَ الَّتِي فَاتَهَا شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ، فَلَا تُفِيدُ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَعْمَلَهُ بِالشَّرِكَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالرِّبْحُ فِيهَا عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِحْقَاقُ فِيهَا بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَصِحَّ، فَأُلْحِقَ بِالْعَدَمِ، فَبَقِيَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْمَالِ، فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمَالِ، وَلَا أَجْرَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أُجْرَةٌ فِيمَا عَمِلَ لِصَاحِبِهِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ، إلَّا أَنَّهُ اسْتَحَقَّ الرِّبْحَ بِعَمَلِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي صِفَةِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ عَقْدِ الشَّرِكَةِ. فَهِيَ أَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ حَتَّى يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْفَسْخِ، إلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْفَسْخِ أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ، أَيْ بِعِلْمِهِ، حَتَّى لَوْ فُسِخَ بِمَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ جَازَ الْفَسْخُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ صَاحِبُهُ غَائِبًا، وَعَلِمَ بِالْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا وَلَمْ يَبْلُغْهُ الْفَسْخُ؛ لَمْ يَجُزْ الْفَسْخُ وَلَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ صَاحِبِهِ إضْرَارٌ بِصَاحِبِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ عَزْلُ الْوَكِيلِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ مَعَ مَا أَنَّ الشَّرِكَةَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ، وَعِلْمُ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ شَرْطُ جَوَازِ الْعَزْلِ، فَكَذَا فِي الْوَكَالَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهُ الشَّرِكَةُ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: إذَا شَارَكَ أَحَدُ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ رَجُلًا شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ، أَنَّهُ إنْ كَانَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ شَرِيكِهِ لَمْ تَكُنْ مُفَاوَضَةً، وَإِنْ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ صَحَّتْ الْمُفَاوَضَةُ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ مَعَ غَيْرِهِ تَتَضَمَّنُ فَسْخَ الْعِنَانِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ عِنْدَ غَيْبَتِهِ، وَيَمْلِكُ عِنْدَ حَضْرَتِهِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَالُ الشَّرِكَةِ عَيْنًا وَقْتَ الشَّرِكَةِ لِصِحَّةِ الْفَسْخِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ شَرْطٌ حَتَّى لَوْ كَانَ مَالُ الشَّرِكَةِ عُرُوضًا وَقْتَ الْفَسْخِ، لَا يَصِحُّ الْفَسْخُ، وَلَا تَنْفَسِخُ الشَّرِكَةُ وَلَا رِوَايَةَ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي الشَّرِكَة وَفِي الْمُضَارَبَةِ رِوَايَةٌ وَهِيَ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ إذَا نَهَى الْمُضَارِبَ عَنْ التَّصَرُّفِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كَانَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ وَقْتَ النَّهْيِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، صَحَّ النَّهْيُ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ الدَّرَاهِمَ إلَى الدَّنَانِيرَ وَالدَّنَانِيرَ إلَى الدَّرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُمَا فِي الثَّمَنِيَّةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِ بِهَا شَيْئًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عُرُوضًا وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ وَقْتَ النَّهْيِ عُرُوضًا، فَلَا يَصِحُّ نَهْيُهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهَا لِيَظْهَرَ الرِّبْحُ، فَكَانَ الْفَسْخُ إبْطَالًا لِحَقِّهِ فِي التَّصَرُّفِ فَجَعَلَ الطَّحَاوِيُّ الشَّرِكَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُضَارَبَةِ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا فَرَّقَ بَيْنَ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ فَقَالَ يَجُوزُ فَسْخُ الشَّرِكَةِ وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عُرُوضًا وَلَا يَجُوزُ فَسْخُ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ مَالَ الشَّرِكَةِ فِي يَدِ الشَّرِيكَيْنِ جَمِيعًا، وَلَهُمَا جَمِيعًا وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فَيَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَهْيَ صَاحِبِهِ عَيْنًا كَانَ الْمَالُ أَوْ عُرُوضًا، فَأَمَّا مَالُ الْمُضَارَبَةِ فَفِي يَدِ الْمُضَارِبِ، وَوِلَايَةُ التَّصَرُّفِ لَهُ لَا لِرَبِّ الْمَالِ، فَلَا يَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ نَهْيَهُ بَعْدَ مَا صَارَ الْمَالُ عُرُوضًا.

فصل في بيان ما يبطل به عقد الشركة

[فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ الشَّرِكَةِ] فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ الشَّرِكَةِ. فَمَا يَبْطُلُ بِهِ نَوْعَانِ: (أَحَدُهُمَا) : يَعُمُّ الشَّرِكَاتِ كُلَّهَا (وَالثَّانِي) : يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ الْكُلَّ فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) الْفَسْخُ مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ، فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ، فَإِذَا فَسَخَهُ أَحَدُهُمَا عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ الْفَسْخِ يَنْفَسِخُ، (وَمِنْهَا) مَوْتُ أَحَدِهِمَا أَيُّهُمَا مَاتَ انْفَسَخَتْ الشَّرِكَةُ لِبُطْلَانِ الْمِلْكِ وَأَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ بِالْمَوْتِ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ صَاحِبِهِ، وَمَوْتُ الْمُوَكِّلِ يَكُونُ عَزْلًا لِلْوَكِيلِ عَلِمَ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ، فَلَا يَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ (وَمِنْهَا) رِدَّةُ أَحَدِهِمَا مَعَ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ، (وَمِنْهَا) جُنُونُهُ جُنُونًا مُطْبَقًا؛ لِأَنَّ بِهِ يَخْرُجُ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ، وَجَمِيعُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ يَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ الشَّرِكَة؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ عَلَى نَحْوِ مَا فَصَّلْنَا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَأَنْوَاعٌ (مِنْهَا) : هَلَاكُ الْمَالَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الشِّرَاءِ فِي الشَّرِكَةِ بِالْأَمْوَالِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَالَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ، أَوْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ قَبْلَ الْخَلْطِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ يَتَعَيَّنَانِ فِي الشَّرِكَاتِ، فَإِذَا هَلَكَتْ فَقَدْ هَلَكَ مَا تَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِعَيْنِهِ قَبْلَ انْبِرَامِ الْعَقْدِ وَحُصُولِ الْمَعْقُودِ بِهِ، فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِدَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ هَلَكَتْ الدَّرَاهِمُ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ، وَيَتَعَيَّنَانِ فِي الشَّرِكَاتِ، ثُمَّ إنَّمَا لَمْ تَتَعَيَّنْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ، وَتَتَعَيَّنُ فِي الشَّرِكَاتِ؛ لِأَنَّهُمَا جُعِلَا ثَمَنَيْنِ شَرْعًا، فَلَوْ تَعَيَّنَا فِي الْمُعَاوَضَاتِ لَانْقَلَبَا مُثْمَنَيْنِ، إذْ الْمُثْمَنُ اسْمٌ لِعَيْنٍ يُقَابِلُهَا عِوَضٌ، فَلَوْ تَعَيَّنَتْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ لَكَانَ عَيْنًا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ، فَكَانَ مُثْمَنًا، فَلَا يَكُونُ ثَمَنًا، وَفِيهِ تَغْيِيرُ حُكْمِ الشَّرْعِ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ وَلَيْسَ فِي تَعْيِينِهَا فِي بَابِ الشَّرِكَةِ تَغْيِيرُ حُكْمِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهَا لَا يُقَابِلُهَا عِنْدَ انْعِقَادِ الشَّرِكَةِ عَلَيْهِمَا عِوَضٌ، وَلِهَذَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْهِبَاتِ وَالْوَصَايَا بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ الْمُفْرَدَةِ عَنْ الشَّرِكَةِ، أَنَّهُمَا لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي هَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ التَّعْيِينُ فِيهِمَا تَغْيِيرًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَهُوَ جَعْلُهُمَا مُثْمَنَيْنِ لِمَا لَا عِوَضَ لِلْحَالِ يُقَابِلهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ وُضِعَ وَسِيلَةً إلَى الشَّرِكَةِ، وَالْوَسِيلَةُ إلَى الشَّيْءِ حُكْمُهُ حُكْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَجُعِلَ حُكْمُهُمَا فِي حَقِّ الْمَنْعِ مِنْ تَعَيُّنِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ حُكْمَ الشِّرَاءِ، فَلَمْ يَتَعَيَّنَا بِالْعَقْدِ وَالْإِشَارَةِ، بَلْ يَتَعَيَّنَانِ بِالْقَبْضِ كَمَا فِي الشِّرَاءِ، بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ وَقَعَتْ وَسِيلَةً إلَى الشِّرَاءِ لَكِنْ لَا بُدَّ مَعَ هَذَا مِنْ سَبَبٍ يُوجِبُ تَعَيُّنَ رَأْسِ الْمَالِ لِمَا مَرَّ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْقَبْضِ مُعَيِّنًا لِرَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْقَبْضِ فِيهِمَا لِيَتَعَيَّنَ رَأْسُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهِمَا مَشْرُوطٌ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ، وَكَوْنُ الْعَمَلِ مَشْرُوطًا مِنْ رَبِّ الْمَالِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ فِي يَدِهِ لِيُمْكِنَهُ الْعَمَلَ، وَكَوْنُ عَمَلِ الْآخَرِ مَشْرُوطًا يُوجِبُ التَّسْلِيمَ إلَيْهِ، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْعَمَلِ، فَلَا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لِلتَّعَارُضِ، وَلَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ يُوجِبُ تَعَيُّنَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْعَقْدُ، وَلَيْسَ وَرَاءَ الْقَبْضِ إلَّا الْعَقْدُ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إيجَابُ الْقَبْضِ جُعِلَ الْعَقْدُ مُوجِبًا تَعَيُّنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ وَسِيلَةً إلَى الشِّرَاءِ، لَكِنْ هَذِهِ الضَّرُورَةُ أَوْجَبَتْ اسْتِدْرَاكَهُ بِحُكْمٍ غَيْرِ حُكْمِ مَا جُعِلَ هُوَ وَسِيلَةً لَهُ. (فَأَمَّا) فِي الْوَكَالَةِ الْمُفْرَدَةِ وَالْمُضَارَبَةِ فَعَمَلُ رَبِّ الْمَالِ لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ، بَلْ لَوْ شُرِطَ ذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ؛ لَأَوْجَبَ فَسَادَهَا فَأَمْكَنَ جَعْلُ الْقَبْضِ سَبَبًا لِلتَّعْيِينِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى جَعْلِ الْعَقْدِ سَبَبًا، فَلَمْ يُوجِبْ الْعَقْدُ التَّعْيِينَ إلْحَاقًا لَهُ بِالشِّرَاءِ، ثُمَّ إذَا هَلَكَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ قَبْلَ الشِّرَاءِ هَلَكَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْهَالِكَ مَالٌ مَلَكَهُ أَحَدُهُمَا بِيَقِينٍ، وَأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، فَيَهْلَكُ عَلَى صَاحِبِهِ خَاصَّةً، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَخُلِطَا، ثُمَّ هَلَكَ أَنَّهُ يَهْلَكُ مُشْتَرَكًا؛ لِأَنَّا لَا نَتَيَقَّنُ أَنَّ الْهَالِكَ مَالُ أَحَدِهِمَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفِّقُ. (وَمِنْهَا) فَوَاتُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ رَأْسَيْ الْمَالِ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ بِالْمَالِ بَعْدَ وُجُودِهَا فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لِأَنَّ وُجُودَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمَالَيْنِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ كَمَا هُوَ شَرْطُ انْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ، فَبَقَاؤُهَا شَرْطُ بَقَائِهَا مُنْعَقِدَةً؛ لِأَنَّهَا مُفَاوَضَةٌ فِي الْحَالَيْنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْنَاهَا فِي الْحَالَيْنِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا تَفَاوَضَا، وَالْمَالُ مُسْتَوٍ، ثُمَّ وَرِثَ أَحَدُهُمَا مَا لَا تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ مِنْ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، وَصَارَ ذَلِكَ فِي يَدِهِ، أَنَّهُ تَبْطُلُ الْمُفَاوَضَةُ؛ لِبُطْلَانِ الْمُسَاوَاةِ الَّتِي هِيَ مَعْنَى الْعَقْدِ، وَإِنْ وَرِثَ عُرُوضًا لَا تَبْطُلُ، وَكَذَا لَوْ وَرِثَ دُيُونًا لَا تَبْطُلُ، مَا لَمْ يَقْبِضْ الدُّيُونَ؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ الْقَبْضِ، لَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ، وَكَذَا لَوْ ازْدَادَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ عَلَى الْآخَرِ قَبْلَ الشِّرَاءِ، بِأَنْ كَانَ

كتاب المضاربة

أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ وَالْآخَرُ دَنَانِيرَ، فَإِنْ زَادَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الشِّرَاءِ بَطَلَتْ الْمُفَاوَضَةُ؛ لِمَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الشَّرِكَةِ يَقِفُ تَمَامُهُ عَلَى الشِّرَاءِ فَكَانَ الْمَوْجُودُ قَبْلَ الشِّرَاءِ كَالْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ، كَالْبَيْعِ لَمَّا كَانَ تَمَامُهُ بِالْقَبْضِ كَانَ هَلَاكُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَهَلَاكِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَالزِّيَادَةُ وَقْتَ الْعَقْدِ تَمْنَعُ مِنْ الِانْعِقَادِ، فَإِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ يُبْطِلُهُ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ، ثُمَّ ازْدَادَ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَة لَا تَتِمُّ مَا لَمْ يَشْتَرِ بِالْمَالِ، فَصَارَ كَأَنَّ الزِّيَادَةَ كَانَتْ وَقْتَ الْعَقْدِ، فَإِنْ زَادَ الْمَالُ الْمُشْتَرَى فِي قِيمَتِهِ كَانَتْ الْمُفَاوَضَةُ بِحَالِهَا؛ لِأَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهَا؛ لِأَنَّهَا رِبْحٌ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَى فَلَا يَفْضُلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْقِيَاسُ إذَا اشْتَرَى بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ قَبْلَ صَاحِبِهِ أَنَّهُ تُنْتَقَضُ الْمُفَاوَضَةُ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ الَّتِي لَمْ يَشْتَرِ بِهَا بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا، وَقَدْ مَلَكَ صَاحِبُهَا نِصْفَ مَا اشْتَرَاهُ الْآخَرُ، فَصَارَ مَالُهُ أَكْثَرَ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَبْطُلَ الْمُفَاوَضَةُ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا، وَقَالُوا لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الَّذِي اشْتَرَى وَجَبَ لَهُ عَلَى شَرِيكِهِ نِصْفُ الثَّمَنِ دَيْنًا، فَلَمْ يَفْضُلْ الْمَالُ، فَلَا تَبْطُلُ الْمُفَاوَضَةُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْمُضَارَبَةِ] [جَوَازِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ] (كِتَابُ الْمُضَارَبَةِ) يُحْتَاجُ فِي هَذَا الْكِتَابِ إلَى مَعْرِفَةِ جَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ رُكْنِهِ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ صِفَةِ الْعَقْدِ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَبْطُلُ بِهِ، وَمَعْرِفَةِ حُكْمِهِ إذَا بَطَلَ، وَإِلَى بَيَانِ حُكْمِ اخْتِلَافِ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ، فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ بِأَجْرٍ مَجْهُولٍ بَلْ بِأَجْرٍ مَعْدُومٍ، وَلِعَمَلٍ مَجْهُولٍ، لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. (أَمَّا) الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] وَالْمُضَارِبُ يَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغِي مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] وقَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] (وَأَمَّا) السُّنَّةُ، فَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ سَيِّدُنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إذَا دَفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً، اشْتَرَطَ عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ لَا يَسْلُكَ بِهِ بَحْرًا وَلَا يَنْزِلَ بِهِ وَادِيًا، وَلَا يَشْتَرِيَ بِهِ دَابَّةً ذَاتَ كَبِدٍ رَطْبَةٍ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ فَبَلَغَ شَرْطُهُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَازَ شَرْطَهُ» وَكَذَا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ يَتَعَاقَدُونَ الْمُضَارَبَةَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ تَقْرِيرٌ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ وَالتَّقْرِيرُ أَحَدُ وُجُوهِ السُّنَّةِ. (وَأَمَّا) الْإِجْمَاعُ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ دَفَعُوا مَالَ الْيَتِيمِ، مُضَارَبَةً مِنْهُمْ سَيِّدُنَا عُمَرُ وَسَيِّدُنَا عُثْمَانُ وَسَيِّدُنَا عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَسَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْرَانِهِمْ أَحَدٌ، وَمِثْلُهُ يَكُونُ إجْمَاعًا. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَعُبَيْدَ اللَّهِ ابْنَيْ سَيِّدِنَا عُمَرَ قَدِمَا الْعِرَاقَ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَمِيرٌ بِهَا فَقَالَ لَهُمَا: لَوْ كَانَ عِنْدِي فَضْلٌ لَأَكْرَمَتْكُمَا، وَلَكِنْ عِنْدِي مَالٌ لِبَيْتِ الْمَالِ أَدْفَعُهُ إلَيْكُمَا، فَابْتَاعَا بِهِ مَتَاعًا وَاحْمِلَاهُ إلَى الْمَدِينَةِ وَبِيعَاهُ، وَادْفَعَا ثَمَنَهُ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا قَدِمَا الْمَدِينَةَ قَالَ لَهُمَا سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَذَا مَالُ الْمُسْلِمِينَ فَاجْعَلَا رِبْحَهُ لَهُمْ فَسَكَتَ عَبْدُ اللَّهِ، وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: لَيْسَ لَك ذَلِكَ، لَوْ هَلَكَ مِنَّا لَضَمِنَّا فَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اجْعَلْهُمَا كَالْمُضَارِبَيْنِ فِي الْمَالِ، لَهُمَا النِّصْفُ وَلِبَيْتِ الْمَالِ النِّصْفُ فَرَضِيَ بِهِ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَى هَذَا تَعَامَلَ النَّاسُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ مِنْ أَحَدٍ، وَإِجْمَاعُ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ، فَتُرِكَ بِهِ الْقِيَاسُ، وَنَوْعٌ مِنْ الْقِيَاسِ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إلَى عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ لَهُ مَالٌ لَكِنَّهُ لَا يَهْتَدِي إلَى التِّجَارَةِ، وَقَدْ يَهْتَدِي إلَى التِّجَارَةِ لَكِنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، فَكَانَ فِي شَرْعِ هَذَا الْعَقْدِ دَفْعُ الْحَاجَتَيْنِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مَا شَرَعَ الْعُقُودَ إلَّا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَدَفْعِ حَوَائِجِهِمْ. [فَصْلٌ فِي رُكْنِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُ الْعَقْدِ فَالْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَذَلِكَ بِأَلْفَاظٍ تَدُلُّ عَلَيْهِمَا فَالْإِيجَابُ هُوَ لَفْظُ الْمُضَارَبَةِ وَالْمُقَارَضَةِ وَالْمُعَامَلَةِ، وَمَا يُؤَدِّي مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، بِأَنْ يَقُولَ رَبُّ الْمَالِ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً، عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ

أَوْ أَطْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ مِنْ رِبْحٍ، فَهُوَ بَيْنَنَا عَلَى كَذَا مِنْ نِصْفٍ أَوْ رُبْعٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْزَاءِ الْمَعْلُومَةِ، وَكَذَا إذَا قَالَ: مُقَارَضَةً أَوْ: مُعَامَلَةً وَيَقُولُ الْمُضَارِبُ: أَخَذْتُ أَوْ: رَضِيتُ أَوْ: قَبِلْتُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَيَتِمُّ الرُّكْنُ بَيْنَهُمَا، أَمَّا لَفْظُ الْمُضَارَبَةِ فَصَرِيحٌ مَأْخُوذٌ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ السَّيْرُ فِيهَا، سُمِّيَ هَذَا الْعَقْدُ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسِيرُ فِي الْأَرْضِ وَيَسْعَى فِيهَا لِابْتِغَاءِ الْفَضْلِ. وَكَذَا لَفْظُ الْمُقَارَضَةِ صَرِيحٌ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الْمُضَارَبَةَ مُقَارَضَةً كَمَا يُسَمُّونَ الْإِجَارَةَ بَيْعًا، وَلِأَنَّ الْمُقَارَضَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْقَرْضِ، وَهُوَ الْقَطْعُ، سُمِّيَتْ الْمُضَارَبَةُ مُقَارَضَةً لِمَا أَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَقْطَعُ يَدَهُ عَنْ رَأْسَ الْمَالِ وَيَجْعَلُهُ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، وَالْمُعَامَلَةُ لَفْظٌ يَشْتَمِلُ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَهَذَا مَعْنَى هَذَا الْعَقْدِ، وَلَوْ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ وَاعْمَلْ بِهِ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا عَلَى كَذَا وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِلَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَى هَذَا الْعَقْدِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِمَعَانِيهَا لَا لِصُوَرِ الْأَلْفَاظِ، حَتَّى يَنْعَقِدَ الْبَيْعُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ بِلَا خِلَافٍ، وَيَنْعَقِدَ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ عِنْدَنَا وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ لَوْ قَالَ: خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ فَابْتَعْ بِهَا مَتَاعًا، فَمَا كَانَ مِنْ فَضْلٍ فَلَكَ النِّصْفُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا فَقَبِلَ هَذَا كَانَ مُضَارَبَةً اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ مُضَارَبَةً. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ ذَكَرَ الشِّرَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَيْعَ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ إلَّا بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْفَضْلَ، وَلَا يَحْصُلُ الْفَضْلُ إلَّا بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، فَكَانَ ذِكْرُ الِابْتِيَاعِ ذِكْرًا لِلْبَيْعِ، وَهَذَا مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ قَالَ: خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ بِالنِّصْفِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ كَانَ مُضَارَبَةً اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْأَخْذَ، وَالْأَخْذُ لَيْسَ عَمَلًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِوَضَ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالْعَمَلِ فِي الْمَأْخُوذِ وَهُوَ الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ، فَتَضَمَّنَ ذِكْرُهُ ذِكْرَ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَلَوْ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ فَاشْتَرِ بِهِ هَرَوِيًّا بِالنِّصْفِ أَوْ رَقِيقًا بِالنِّصْفِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا شَيْئًا، فَاشْتَرَى كَمَا أَمَرَهُ فَهَذَا فَاسِدٌ. وَلِلْمُشْتَرِي أَجْرٌ مِثْلُ عَمَلِهِ فِيمَا اشْتَرَى، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَا اشْتَرَى إلَّا بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الشِّرَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَيْعَ، وَلَا ذَكَرَ مَا يُوجِبُ ذِكْرَ الْبَيْعِ؛ لِيُحْمَلَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَحُمِلَ عَلَى الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الشِّرَاءِ بِأَجْرٍ مَجْهُولٍ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ، فَإِذَا اشْتَرَى كَمَا أَمَرَهُ فَالْمُسْتَأْجِرُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَاسْتَحَقَّ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَا اشْتَرَى مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ لَا بِالْبَيْعِ فَكَانَ الْمُشْتَرَى لَهُ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ، فَإِنْ بَاعَ مِنْهُ شَيْئًا لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ رَبِّ الْمَالِ، وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى عَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتْلِفًا مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَإِنْ أَجَازَ رَبُّ الْمَالِ الْبَيْعَ، وَالْمَتَاعُ قَائِمٌ جَازَ، وَالثَّمَنُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ لَحِقَهُ، فَإِذَا أَجَازَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ قَائِمٌ أَوْ هَالِكٌ فَأَجَازَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ بَقَاءُ الْمَبِيعِ حَتَّى يَعْلَمَ هَلَاكَهُ، وَإِنَّمَا شَرَطَ قِيَامَ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ صِحَّةَ الْإِجَازَةِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ مَا لَا يَكُونُ مَحِلًّا لِإِنْشَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، لَا يَكُونُ مَحِلًّا لِإِجَازَةِ الْعَقْدِ فِيهِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ هَلَكَ، فَالْإِجَازَةُ بَاطِلَةٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ لِيَشْتَرِيَ بِهَا وَيَبِيعَ، فَمَا رَبِحَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ الْمَالَ مَا لَمْ يُخَالِفْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ فَقَدْ أَتَى بِمَعْنَى الْمُضَارَبَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنَّ الْوَضِيعَةَ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ، فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْوَضِيعَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَتَبْقَى الْمُضَارَبَةُ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ: مُضَارَبَةً وَلَا بِضَاعَةً، وَلَا قَرْضًا وَلَا شَرِكَةً. وَقَالَ: مَا رَبِحَتْ فَهُوَ بَيْنَنَا فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، فَكَانَ ذِكْرُ الرِّبْحِ ذِكْرًا لِلشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَهَذَا مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ. وَلَوْ قَالَ: خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ عَلَى أَنَّ لَكَ نِصْفُ الرِّبْحِ، أَوْ ثُلُثُهُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا فَالْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَلِلْمُضَارِبِ مَا شَرَطَ، وَمَا بَقِيَ فَلِرَبِّ الْمَالِ، وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ: أَنَّ رَبَّ الْمَالِ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مَالِهِ لَا بِالشَّرْطِ، فَلَا يَفْتَقِرُ اسْتِحْقَاقُهُ إلَى الشَّرْطِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا فَسَدَ الشَّرْطُ كَانَ جَمِيعُ الرِّبْحِ لَهُ، وَالْمُضَارِبُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ، وَالْعَمَلُ لَا يُتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ. إذَا عُرِفَ هَذَا، فَنَقُولُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا سُمِّيَ لِلْمُضَارِبِ جُزْءًا مَعْلُومًا مِنْ الرِّبْحِ، فَقَدْ وَجَدَ فِي حَقِّهِ مَا يَفْتَقِرُ إلَى اسْتِحْقَاقِهِ الرِّبْحَ فَيَسْتَحِقُّهُ، وَالْبَاقِي يَسْتَحِقُّهُ رَبُّ الْمَالِ بِمَالِهِ، وَلَوْ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ

فصل في شرائط ركن المضاربة

مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ لِيَّ نِصْفَ الرِّبْحِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا فَالْقِيَاسُ أَنْ تَكُونَ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَكِنَّهَا جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا، وَيَكُونُ لِلْمُضَارِبِ النِّصْفُ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمْ يَجْعَلْ لِلْمُضَارِبِ شَيْئًا مَعْلُومًا مِنْ الرِّبْحِ، وَإِنَّمَا سَمَّى لِنَفْسِهِ النِّصْفَ فَقَطْ، وَتَسْمِيَتُهُ لِنَفْسِهِ لَغْوٌ؛ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، فَكَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى التَّسْمِيَةِ فِي حَقِّ الْمُضَارَبَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْتَضِي الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ، فَكَانَ تَسْمِيَةُ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ لِنَفْسِهِ تَسْمِيَةَ الْبَاقِي لِلْمُضَارِبِ، كَأَنَّهُ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ لَكَ النِّصْفَ كَمَا فِي مِيرَاثِ الْأَبَوَيْنِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] لَمَّا كَانَ مِيرَاثُ الْمَيِّتِ لِأَبَوَيْهِ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ لِلْأُمِّ مِنْهُ الثُّلُثَ كَانَ ذَلِكَ جَعَلَ الْبَاقِي لِلْأَبِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ وَلَكَ ثُلُثُهُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا، فَالثُّلُثُ لِلْمُضَارِبِ وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُضَارِبِ الرِّبْحَ بِالشَّرْطِ، وَاسْتِحْقَاقَ رَبِّ الْمَالِ لِكَوْنِهِ مِنْ نَمَاءِ مَالِهِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْمَشْرُوطَ لِلْمُضَارِبِ بِالشَّرْطِ يُسَلِّمُ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ، وَهُوَ الْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ نَمَاءِ مَالِهِ. وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بَيْنَنَا جَازَ ذَلِكَ، وَكَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ (الْبَيْنَ) كَلِمَةُ قِسْمَةٍ، وَالْقِسْمَةُ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ إذَا لَمْ يُبَيَّنْ فِيهَا مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر: 28] وَقَدْ فُهِمَ مِنْهَا التَّسَاوِي فِي الشِّرْبِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] هَذَا إذَا شُرِطَ جُزْءٌ مِنْ الرِّبْحِ فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ لِأَحَدِهِمَا، إمَّا الْمُضَارِبُ وَإِمَّا رَبُّ الْمَالِ، وَسَكَتَ عَنْ الْآخَرِ، فَأَمَّا إذَا شَرَطَ لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا، بِأَنْ شَرَطَ فِيهِ الثُّلُثَ لِلْمُضَارِبِ، وَالثُّلُثَ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالثُّلُثَ لِثَالِثٍ سِوَاهُمَا، فَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ أَجْنَبِيًّا، أَوْ كَانَ ابْنَ الْمُضَارِبِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ جَازَ، وَكَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ عَلَيْهِ الْعَمَلَ لَمْ يَجُزْ، وَمَا شَرَطَ لَهُ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يُسْتَحَقُّ فِي الْمُضَارَبَةِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ وَلَا مَالٍ، وَصَارَ الْمَشْرُوطُ لَهُ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ عَبْدَ الْمُضَارِبِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَذَلِكَ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ شَرَطَ عَمَلَهُ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ، فَكَانَ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ عَمَلَهُ فَمَا شَرَطَهُ فَهُوَ لِرَبِّ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْأَجْنَبِيِّ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: الْمَشْرُوطُ لَهُ يَكُونُ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ كَسْبَهُ عِنْدَهُمَا، كَمَا يَمْلِكُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ عَبْدَ رَبِّ الْمَالِ، فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أَيْضًا أَنَّهُ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنْ شَرَطَ عَمَلَهُ فَهُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ إكْسَابَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ عَمَلَهُ فَمَا شَرَطَ لَهُ فَهُوَ لِرَبِّ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا. وَعِنْدَهُمَا مَا شُرِطَ لَهُ فَهُوَ مَشْرُوطٌ لِمَوْلَاهُ، عَمِلَ أَوْ لَمْ يَعْمَلْ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَفِي عَبْدِ الْمُضَارِبِ الثُّلُثَانِ لِلْمُضَارِبِ، وَالثُّلُثُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى، فَكَانَ الْمَشْرُوطُ لَهُ مَشْرُوطًا لِلْمَوْلَى، وَصَارَ كَأَنَّهُ شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ الثُّلُثَيْنِ، وَفِي عَبْدِ رَبِّ الْمَالِ الثُّلُثُ لِلْمُضَارِبِ، وَالثُّلُثَانِ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ لَهُ يَكُونُ مَشْرُوطًا لِمَوْلَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَصَارَ كَأَنَّ رَبَّ الْمَالِ شَرَطَ لِنَفْسِهِ الثُّلُثَيْنِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: لَوْ شَرَطَ ثُلُثَ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ، وَالثُّلُثَ لِقَضَاءِ دَيْنِ الْمُضَارِبِ، وَالثُّلُثَ لِرَبِّ الْمَالِ إنَّ الثُّلُثَيْنِ لِلْمُضَارِبِ، وَالثُّلُثَ لِرَبِّ الْمَالِ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ ثُلُثَ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ، وَالثُّلُثَ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالثُّلُثَ لِقَضَاءِ دَيْنِ رَبِّ الْمَالِ إنَّ الثُّلُثَيْنِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالثُّلُثَ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ لِقَضَاءِ دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْرُوطٌ لَهُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ رُكْنِ الْمُضَارَبَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدَيْنِ، وَهُمَا رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الرِّبْحِ. (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدَيْنِ وَهُمَا رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ، فَأَهْلِيَّةُ التَّوْكِيلِ وَالْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ، وَهَذَا مَعْنَى التَّوْكِيلِ، وَقَدْ ذَكَرَ شَرَائِطَ أَهْلِيَّةِ التَّوْكِيلِ وَالْوَكَالَةِ، فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ إسْلَامُهُمَا فَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بَيْن أَهْلِ الذِّمَّةِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ حَتَّى لَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ، فَدَفَعَ مَالَهُ إلَى مُسْلِمٍ مُضَارَبَةً، أَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مُسْلِمٌ مَالَهُ مُضَارَبَةً فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ فِي دَارِنَا بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ، وَالْمُضَارَبَةُ مَعَ الذِّمِّيِّ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ، فَكَذَلِكَ مَعَ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ، فَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْمُسْلِمُ فَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَعَمِلَ بِالْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَ رَبِّ الْمَالِ فَلَمْ يُوجَدْ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ. وَإِنْ

كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْحَرْبِيَّ، فَرَجَعَ إلَى دَارِهِ الْحَرْبِيُّ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّ الْمَالِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا إنْ رَجَعَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا أَوْ مُعَاهِدًا أَوْ بِأَمَانٍ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْمُضَارَبَةُ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بَطَلَ أَمَانُهُ وَعَادَ إلَى حُكْمِ الْحَرْبِ كَمَا كَانَ، فَبَطَلَ أَمْرُ رَبِّ الْمَالِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ فَقَدْ تَعَدَّى بِالتَّصَرُّفِ فَمَلَكَ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ صَارَ كَأَنَّ رَبَّ الْمَالِ دَخَلَ مَعَهُ. وَلَوْ دَخَلَ رَبُّ الْمَالِ مَعَهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَمْ تَبْطُلْ الْمُضَارَبَةُ، فَكَذَا إذَا دَخَلَ بِأَمْرِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدُّخُولِ انْقَطَعَ حُكْمُ رَبِّ الْمَالِ عَنْهُ، فَصَارَ تَصَرُّفُهُ لِنَفْسِهِ فَمَلَكَ الْأَمْرَ بِهِ وَقَدْ قَالُوا فِي الْمُسْلِمِ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، فَدَفَعَ إلَيْهِ حَرْبِيٌّ مَالًا مُضَارَبَةً مِائَةَ دِرْهَمٍ، أَنَّهُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ جَائِزٌ، فَإِنْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَلَى هَذَا وَرَبِحَ أَوْ وُضِعَ فَالْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَالرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَ، وَيَسْتَوْفِي الْمُضَارِبُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ إلَّا مِائَةً فَهِيَ كُلُّهَا لِلْمُضَارِبِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ فَذَلِكَ لِلْمُضَارِبِ أَيْضًا، وَلَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمْ يَشْتَرِطْ الْمِائَةَ إلَّا مِنْ الرِّبْحِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَهَذَا فَرَّعَ اخْتِلَافَهُمْ فِي جَوَازِ الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لِمَا عُلِمَ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ فَأَنْوَاعٌ. (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ فَلَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ أَنَّ رِبْحَ مَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ رِبْحٌ مَا لَمْ يُضْمَنْ؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ تَتَعَيَّنُ عِنْدَ الشِّرَاءِ بِهَا، وَالْمُعَيَّنُ غَيْرُ مَضْمُونٍ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا شَيْءَ عَلَى الْمُضَارِبِ، فَالرِّبْحُ عَلَيْهَا يَكُونُ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ. «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ» ، وَمَا لَا يُتَعَيَّنُ يَكُونُ مَضْمُونًا عِنْدَ الشِّرَاءِ بِهِ حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ الْعَيْنُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَعَلَى الْمُشْتَرِي بِهِ ضَمَانُهُ، فَكَانَ الرِّبْحُ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ فَيَكُونُ رِبْحَ الْمَضْمُونِ، وَلِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالْعُرُوضِ تُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعُرُوضِ تُعْرَفُ بِالْحِرْزِ وَالظَّنِّ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ، وَالْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَالْمُنَازَعَةُ تُفْضِي إلَى الْفَسَادِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَقَدْ قَالُوا: إنَّهُ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ عُرُوضًا، فَقَالَ لَهُ: بِعْهَا وَاعْمَلْ بِثَمَنِهَا مُضَارَبَةً فَبَاعَهَا بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَتَصَرَّفَ فِيهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفْ الْمُضَارَبَةَ إلَى الْعُرُوضِ وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إلَى الثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ تَصِحُّ بِهِ الْمُضَارَبَةُ، فَإِنْ بَاعَهَا بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا، أَنَّهُ يَبِيعُ بِالْأَثْمَانِ وَغَيْرِهَا، إلَّا أَنَّ الْمُضَارَبَةَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُضَافَةً إلَى مَا لَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِهِ، وَهُوَ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَالْبَيْعُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِغَيْرِ الْأَثْمَانِ، وَلَا تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ مُضَافَةً إلَى مَا لَا يَصْلُحُ بِهِ رَأْسُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ. (وَأَمَّا) تِبْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَقَدْ جَعَلَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ، وَجَعَلَهُ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، وَالْأَمْرُ فِيهِ مَوْكُولٌ إلَى التَّعَامُلِ، فَإِنْ كَانَ النَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فَتَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَتَعَامَلُونَ بِهِ فَهُوَ كَالْعُرُوضِ فَلَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ. (وَأَمَّا) الزُّيُوفُ وَالنَّبَهْرَجَةِ فَتَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهَا، ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ كَالْجِيَادِ. (وَأَمَّا) السَّتُّوقَةُ فَإِنْ كَانَتْ لَا تُرَوَّجُ فَهِيَ كَالْعُرُوضِ، وَإِنْ كَانَتْ تُرَوَّجُ فَهِيَ كَالْفُلُوسِ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الدَّرَاهِمِ التِّجَارِيَّةِ لَا يَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا كَسَدَتْ عِنْدَهُمْ وَصَارَتْ سِلْعَةً. قَالَ: وَلَوْ أَجَزْتُ الْمُضَارَبَةَ بِهَا، أَجَزْتُهَا بِمَكَّةَ بِالطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَبَايَعُونَ بِالْحِنْطَةِ كَمَا يَتَبَايَعُ غَيْرُهُمْ بِالْفُلُوسِ. (وَأَمَّا) الْفُلُوسُ فَقَدْ ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِيهَا فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ بِهَا رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْمُضَارَبَةِ الْكَبِيرَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ: لَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ إلَّا بِالدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهَا تَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفُلُوسَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ عِنْدَهُ، فَكَانَتْ أَثْمَانًا كَالدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ تَتَعَيَّنُ، فَكَانَتْ كَالْعُرُوضِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ رَأْسِ الْمَالِ تُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ، وَكَوْنُ الرِّبْحِ مَعْلُومًا شَرْطَ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ. (وَمِنْهَا)

أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا لَا دَيْنًا، فَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ، فَقَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِدَيْنِي الَّذِي فِي ذِمَّتِكَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، إنَّ الْمُضَارَبَةَ فَاسِدَةٌ بِلَا خِلَافٍ فَإِنْ اشْتَرَى هَذَا الْمُضَارِبُ وَبَاعَ، لَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ، وَالدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ بِحَالٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا مَا اشْتَرَى وَبَاعَ لِرَبِّ الْمَالِ، لَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضَيْعَتُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ وَكَّلَ رَجُلًا يَشْتَرِي لَهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَى لَا يَبْرَأُ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَهُ. وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْأَمْرُ بِالشِّرَاءِ بِمَا فِي الذِّمَّةِ لَمْ تَصِحَّ إضَافَةُ الْمُضَارَبَةِ إلَى مَا فِي الذِّمَّةِ، وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ، وَلَكِنْ لَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ فَتَصِيرُ الْمُضَارَبَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مُضَارَبَةً بِالْعُرُوضِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ الْعُرُوضِ، ثُمَّ دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً فَتَصِيرُ مُضَارَبَةً بِالْعُرُوضِ فَلَا تَصِحُّ. وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: اقْبِضْ مَالِي عَلَى فُلَانٍ مِنْ الدَّيْنِ وَاعْمَلْ بِهِ مُضَارَبَةً جَازَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ هُنَا أُضِيفَتْ إلَى الْمَقْبُوضِ، فَكَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا لَا دَيْنًا. وَلَوْ أَضَافَ الْمُضَارَبَةَ إلَى عَيْنٍ هِيَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ مِنْ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، بِأَنْ قَالَ لِلْمُودَعِ أَوْ الْمُسْتَبْضَعِ: اعْمَلْ بِمَا فِي يَدكَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ جَازَ ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ أَضَافَهَا إلَى مَضْمُونَةٍ فِي يَدِهِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَغْصُوبَةِ، فَقَالَ لِلْغَاصِبِ: اعْمَلْ بِمَا فِي يَدِكِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ جَازَ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْتَضِي كَوْنَ الْمَالِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، وَالْمَغْصُوبُ مَغْصُوبٌ فِي يَدِهِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّصَرُّفُ لِلْمُضَارَبَةِ، فَلَا يَصِحُّ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مَضْمُونٌ إلَى أَنْ يَأْخُذَ فِي الْعَمَلِ، فَإِذَا أَخَذَ فِي الْعَمَلِ وَهُوَ الشِّرَاءُ تَصِيرُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ فَتَصِحُّ وَسَوَاءٌ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مَفْرُوزًا أَوْ مُشَاعًا، بِأَنْ دَفَعَ مَالًا إلَى رَجُلٍ، بَعْضُهُ مُضَارَبَةً وَبَعْضُهُ غَيْرِ مُضَارَبَةٍ مُشَاعًا فِي الْمَالِ، فَالْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْإِشَاعَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُشَاعِ، وَكَذَا الشَّرِكَةُ لَا تَمْنَعُ الْمُضَارَبَةَ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ إذَا رَبِحَ يَصِيرُ شَرِيكًا فِي الْمَالِ، وَيَجُوزُ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ فَإِذَا لَمْ يُمْنَعْ الْبَقَاءُ لَا يُمْنَعُ الِابْتِدَاءُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: نِصْفُهَا عَلَيْكَ قَرْضٌ، وَنِصْفُهَا مُضَارَبَةٌ إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ. أَمَّا جَوَازُ الْمُضَارَبَةِ فَلِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا جَوَازُ الْقَرْضِ فِي الْمُشَاعِ وَإِنْ كَانَ الْقَرْضُ تَبَرُّعًا وَالشِّيَاعُ يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّبَرُّعِ كَالْهِبَةِ فَلِأَنَّ الْقَرْضَ لَيْسَ بِتَبَرُّعٍ مُطْلَقٍ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ تَبَرُّعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ لِلْحَالِ، فَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِعِوَضٍ فِي الثَّانِي. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ رَدُّ الْمِثْلِ لَا رَدُّ الْعَيْنِ؟ فَلَمْ يَكُنْ تَبَرُّعًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلَا يَعْمَلُ فِيهِ الشُّيُوعُ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَإِنَّهَا تَبَرُّعٌ مَحْضٌ فَعَمِلَ الشُّيُوعُ فِيهَا، وَإِذَا جَازَ الْقَرْضُ وَالْمُضَارَبَةُ كَانَ نِصْفُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ مَلَكَهُ وَهُوَ الْقَرْضُ، وَوَضِيعَتُهُ عَلَيْهِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ عَلَى مَا شَرَطَا؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ مُسْتَفَادٌ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَوَضِيعَتُهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ أَحَدِهِمَا دُونَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِقِسْمَتِهِ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهُ: خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ عَلَى أَنَّ نِصْفَهَا قَرْضٌ عَلَيْكَ عَلَى أَنْ تَعْمَلَ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ لِي فَهَذَا مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةً فِي مُقَابَلَةِ الْقَرْضِ، وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا» فَإِنْ عَمِلَ عَلَى هَذَا فَرَبِحَ أَوْ وُضِعَ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَكَذَا الْوَضِيعَةُ. (أَمَّا) الرِّبْحُ فَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ مَلَكَ نِصْفَ الْمَالِ بِالْقَرْضِ، فَكَانَ نِصْفُ الرِّبْحِ لَهُ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بِضَاعَةً فِي يَدِهِ، فَكَانَ رِبْحُهُ لِرَبِّ الْمَالِ. (وَأَمَّا) الْوَضِيعَةُ فَلِأَنَّهَا جُزْءٌ هَالِكٌ مِنْ الْمَالِ، وَالْمَالُ مُشْتَرَكٌ، فَكَانَتْ الْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِهِ وَلَوْ قَالَ: خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ عَلَى أَنَّ نِصْفَهَا مُضَارَبَةٌ بِالنِّصْفِ وَنِصْفَهَا هِبَةٌ فَقَبَضَهَا الْمُضَارِبُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرَ مَقْسُومٍ، فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، فَإِنْ عَمِلَ فِي الْمَالِ فَرَبِحَ، كَانَ نِصْفُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ حِصَّةَ الْهِبَةِ، وَنِصْفُ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِمَا، أَمَّا نِصْفُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ حِصَّةُ الْهِبَةِ، فَلِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لَهُ فِيهِ إذَا قَبَضَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَكَانَ رِبْحُهُ لَهُ. وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ فَإِنَّمَا يَكُونُ رِبْحُهُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ اُسْتُفِيدَ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ مُضَارَبَةً صَحِيحَةً. (وَأَمَّا) كَوْنُ الْوَضِيعَةِ عَلَيْهِمَا، فَلِأَنَّهَا جُزْءٌ هَالِكٌ مِنْ الْمَالِ، وَالْمَالُ مُشْتَرَكٌ، فَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ أَوْ بَعْدَ مَا عَمِلَ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ الْمَالِ وَهُوَ الْهِبَةُ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْمَقْبُوضِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ. وَلَوْ كَانَ دَفَعَ نِصْفَ الْمَالِ بِضَاعَةً وَنِصْفَهُ مُضَارَبَةً،

فَقَبَضَهُ الْمُضَارِبُ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَالْمَالُ عَلَى مَا سَمَّيَا مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَالْبِضَاعَةُ وَالْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَنِصْفُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ وَنِصْفُهُ عَلَى مَا شَرَطَا؛ لِأَنَّ الْإِشَاعَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ الْعَمَلِ فِي الْمَالِ مُضَارَبَةً وَبِضَاعَةً، وَجَازَتْ الْمُضَارَبَةُ وَالْبِضَاعَةُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُبْضِعِ وَالْمُضَارِبِ فِي الْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةُ وَحِصَّةُ الْبِضَاعَةِ مِنْ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْمُبْضِعَ لَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ، وَحِصَّةُ الْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَالْمُضَارَبَةُ قَدْ صَحَّتْ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ عَلَى أَنَّ نِصْفَهَا وَدِيعَةٌ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَنِصْفُهَا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَالْمَالُ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ عَلَى مَا سَمَّيَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْنِي الْوَدِيعَةَ وَالْمُضَارَبَةَ أَمَانَةٌ، فَلَا يَتَنَافَيَانِ، فَكَانَ نِصْفُ الْمَالِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَدِيعَةً، وَنِصْفُهُ مُضَارَبَةً إلَّا أَنَّ التَّصَرُّفَ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ بَعْضُهُ مُضَارَبَةٌ وَبَعْضُهُ وَدِيعَةٌ، وَالتَّصَرُّفُ فِي الْوَدِيعَةِ لَا يَجُوزُ، فَإِنْ قَسَمَ الْمُضَارِبُ الْمَالَ نِصْفَيْنِ ثُمَّ عَمِلَ بِأَحَدِ النِّصْفَيْنِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَرَبِحَ أَوْ وُضِعَ فَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ نِصْفَانِ، وَنِصْفُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ وَنِصْفُهُ عَلَى مَا شَرَطَا؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمُضَارِبِ الْمَالَ لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهَا، فَإِذَا أُفْرِزَ بَعْضُهُ فَقَدْ تَصَرَّفَ فِي مَالِ الْوَدِيعَةِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَمَا كَانَ فِي حِصَّةِ الْوَدِيعَةِ فَهُوَ غَصْبٌ فَيَكُونُ رِبْحُهُ لِلْغَاصِبِ، وَمَا كَانَ فِي حِصَّةِ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ عَلَى الشَّرْطِ. وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَا إذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَتَاعًا، فَبَاعَ نِصْفَهُ مِنْ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ بِخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ النِّصْفَ الْبَاقِي وَيَعْمَلَ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ مُضَارَبَةً، عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، فَبَاعَ الْمُضَارِبُ نِصْفَ الْمَتَاعِ بِخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ عَمِلَ بِهَا وَبِالْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي عَلَيْهِ، فَرَبِحَ فِي ذَلِكَ أَوْ وُضِعَ فَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بِذَلِكَ الدَّيْنِ شَيْئًا لَا يَصِحُّ، وَالْمُشْتَرَى يَكُونُ لِلْمَأْمُورِ لَا لِلْآمِرِ، وَيَكُونُ الدَّيْنُ عَلَى الْمَأْمُورِ حَالَّةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَهُنَا أَمْرٌ أَنْ يَعْمَلَ بِالدَّيْنِ وَبِنِصْفِ ثَمَنِ الْمُبَاعِ، فَمَا رَبِحَ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ فَهُوَ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ رِبْحُهُ لَهُ، وَمَا رَبِحَ فِي نَصِيبِ الدَّافِعِ فَهُوَ لِلدَّافِعِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَالَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَ الْهَالِكُ بَيْنَهُمَا. (وَأَمَّا) فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَمِقْدَارُ مَا رَبِحَ فِي الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ نِصْفَ الْمَتَاعِ بِهَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عَلَى مَا شَرَطَا، وَمَا رَبِحَ فِي النِّصْفِ الَّذِي عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالشِّرَاءِ بِالدَّيْنِ يَصِحُّ، وَتَكُونُ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةً؛ لِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَى صَارَ عُرُوضًا، وَالْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ لَا تَصِحُّ، فَصَارَتْ الْمُضَارَبَةُ هُنَا جَائِزَةً فِي النِّصْفِ فَاسِدَةً فِي النِّصْفِ، فَالرِّبْحُ فِي الصَّحِيحَةِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَفِي الْفَاسِدَةِ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ وَلَوْ شَرَطَ الدَّافِعُ لِنَفْسِهِ الثُّلُثَ وَلِلْمُضَارِبِ الثُّلُثَيْنِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: ثُلُثَا الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا، نِصْفُ الرِّبْحِ مِنْ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ خَاصَّةً، وَالسُّدُسُ مِنْ نَصِيبِ الدَّافِعِ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِي نَصِيبِكَ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ لَكَ، وَاعْمَلْ فِي نَصِيبِي عَلَى أَنَّ لَكَ ثُلُثَ الرِّبْحِ مِنْ نَصِيبِي. (وَأَمَّا) عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا فَقَدْ دَفَعَ إلَيْهِ نِصْفَهُ مُضَارَبَةً جَائِزَةً، وَنِصْفَهُ مُضَارَبَةً فَاسِدَةً، فَمَا رَبِحَ فِي النِّصْفِ الَّذِي كَانَ دَيْنًا فَهُوَ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ، وَمَا رَبِحَ فِي النِّصْفِ الَّذِي هُوَ ثَمَنُ الْمَتَاعِ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا، فَصَارَ لِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثَا الرِّبْحِ، وَلِلْمُضَارِبِ الثُّلُثُ، وَإِنْ كَانَ شَرَطَ لِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثَيْ الرِّبْحِ، وَلِلْمُضَارِبِ الثُّلُثُ، فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ شَرَطَ النِّصْفَ مِنْ نَصِيبِ نَفْسِهِ، وَالزِّيَادَةَ مِنْ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ وَشَرْطُ الزِّيَادَةِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ وَلَا رَأْسِ مَالٍ بَاطِلٌ، فَيَكُونُ الرِّبْحُ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ وَفِي قِيَاسِ قَوْلِهِمَا: نِصْفُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ فِيهِ فَاسِدَةٌ، وَلِلْمُضَارِبِ ثُلُثُ رِبْحِ النِّصْفِ الْآخَرِ. (وَمِنْهَا) تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ إلَى الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ، وَهُوَ التَّخْلِيَةُ كَالْوَدِيعَةِ، وَلَا يَصِحُّ مَعَ بَقَاءِ يَدِ الدَّافِعِ عَلَى الْمَالِ؛ لِعَدَمِ التَّسْلِيمِ مَعَ بَقَاءِ يَدِهِ، حَتَّى لَوْ شَرَطَ بَقَاءَ يَدِ الْمَالِكِ عَلَى الْمَالِ فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ، لِمَا قُلْنَا فَرِّقْ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الشَّرِكَةِ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ مَعَ بَقَاءِ يَدِ رَبِّ الْمَالِ عَلَى مَالِهِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ انْعَقَدَتْ عَلَى رَأْسِ مَالٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَعَلَى الْعَمَلِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَمَلُ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ يَدِ رَبِّ الْمَالِ، فَكَانَ هَذَا شَرْطًا مُوَافِقًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ، بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهَا انْعَقَدَتْ عَلَى الْعَمَلِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَشَرْطُ زَوَالِ يَدِ رَبِّ الْمَالِ عَنْ الْعَمَلِ يُنَاقِضُ

مُقْتَضَى الْعَقْدِ. وَكَذَا لَوْ شَرَطَ فِي الْمُضَارَبَةِ عَمَلَ رَبِّ الْمَالِ، فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ سَوَاءٌ عَمِلَ رَبُّ الْمَالِ مَعَهُ أَوْ لَمْ يَعْمَلْ؛ لِأَنَّ شَرْطَ عَمَلِهِ مَعَهُ شَرْطُ بَقَاءِ يَدِهِ عَلَى الْمَالِ، وَإِنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ. وَلَوْ سَلَّمَ رَأْسَ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَمَلَهُ، ثُمَّ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى الْعَمَلِ أَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ بِضَاعَةً جَازَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ لَا تُوجِبُ خُرُوجَ الْمَالِ عَنْ يَدِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالِكُ عَاقِدًا أَوْ غَيْرَ عَاقِدٍ لَا بُدَّ مِنْ زَوَالِ يَدِ رَبِّ الْمَالِ عَنْ مَالِهِ؛ لِتَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ، حَتَّى إنَّ الْأَبَ أَوْ الْوَصِيَّ إذَا دَفَعَ مَالَ الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً، وَشَرَطَ عَمَلَ الصَّغِيرِ لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ يَدَ الصَّغِيرِ بَاقِيَةٌ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ فَتَمْنَعُ التَّسْلِيمَ، وَكَذَلِكَ أَحَدُ شَرِيكَيْ الْمُفَاوَضَةِ، أَوْ الْعِنَانِ إذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً، وَشَرَطَ عَمَلَ شَرِيكِهِ مَعَ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ لِشَرِيكِهِ فِيهِ مِلْكًا فَيُمْنَعُ التَّسْلِيمُ. (فَأَمَّا) الْعَاقِدُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْمَالِ فَشَرَطَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَالِ مَعَ الْمُضَارِبِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ الْمَالِكِ مُضَارَبَةً لَمْ تَفْسُدْ الْمُضَارَبَةُ، كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ إذَا دَفَعَا مَالَ الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً، وَشَرَطَا أَنْ يَعْمَلَا مَعَ الْمُضَارِبِ بِجُزْءٍ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ أَخَذَا مَالَ الصَّغِيرِ مُضَارَبَةً بِأَنْفُسِهِمَا جَازَ، فَكَذَا إذَا شَرَطَا عَمَلَهُمَا مَعَ الْمُضَارِبِ وَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَإِنْ كَانَ الْعَاقِدُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ الْمَالِكِ مُضَارَبَةً، فَشَرَطَ عَمَلَهُ، فَسَدَ الْعَقْدُ، كَالْمَأْذُونِ إذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً وَشَرَطَ عَمَلَهُ مَعَ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا رَقَبَةَ الْمَالِ فَيَدُ التَّصَرُّفِ ثَابِتَةٌ لَهُ عَلَيْهِ، فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى التَّصَرُّفِ، فَكَانَ قِيَامُ يَدِهِ مَانِعًا مِنْ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ، فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْمُضَارَبَةِ، وَإِنْ شَرَطَ الْمَأْذُونُ عَمَلَ مَوْلَاهُ مَعَ الْمُضَارِبِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى هُوَ الْمَالِكُ لِلْمَالِ حَقِيقَةً، فَإِذَا حَصَلَ الْمَالُ فِي يَدِهِ فَقَدْ وَجَدَ يَدَ الْمَالِكِ فَيَمْنَعُ التَّسْلِيمَ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ هَذَا الْمَالِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ. (وَأَمَّا) الْمُكَاتَبُ إذَا شَرَطَ عَمَلَ مَوْلَاهُ لَمْ تَفْسُدْ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ إكْسَابَ مُكَاتَبِهِ، وَهُوَ فِيهَا كَالْأَجْنَبِيِّ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ مَالًا مُضَارَبَةً وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ، وَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَعْمَلَ الْمُضَارِبُ مَعَهُ أَوْ يَعْمَلَ مَعَهُ رَبُّ الْمَالِ، فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لِلْمُضَارِبِ وَالْمِلْكَ لِلْمَوْلَى، وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ التَّسْلِيمِ، وَقَدْ قَالُوا فِي الْمُضَارِبِ: إذَا دَفَعَ الْمَالَ إلَى رَبِّ الْمَالِ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ فَالْمُضَارَبَةُ الثَّانِيَةُ فَاسِدَةٌ، وَالْمُضَارَبَةُ الْأُولَى عَلَى حَالِهَا جَائِزَةٌ، وَالرِّبْحُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ عَلَى مَا شَرَطَا فِي الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى، وَلَا أَجْرَ لِرَبِّ الْمَالِ. (وَأَمَّا) فَسَادُ الْمُضَارَبَةِ الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّ يَدَ رَبِّ الْمَالِ يَدُ مِلْكٍ، وَيَدُ الْمِلْكِ مَعَ يَدِ الْمُضَارِبِ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَلَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ الثَّانِيَةُ، وَبَقِيَتْ الْمُضَارَبَةُ الْأُولَى عَلَى حَالِهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيُّ خِلَافًا، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَنْفَسِخُ الْمُضَارَبَةُ الْأُولَى بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ زَوَالَ يَدِ رَبِّ الْمَالِ شَرْطُ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ، فَكَانَتْ إعَادَةُ يَدِهِ إلَيْهِ مُفْسِدَةً لَهَا. (وَلَنَا) أَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَصِيرُ مُعِينًا لِلْمُضَارِبِ، وَالْإِعَانَةُ لَا تُوجِبُ إخْرَاجَ الْمَالِ عَنْ يَدِهِ، فَيَبْقَى الْعَقْدُ الْأَوَّلُ، وَلَا أَجْرَ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الرِّبْحِ فَأَنْوَاعٌ. (مِنْهَا) إعْلَامُ مِقْدَارِ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الرِّبْحُ، وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَنْ أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الرِّبْحِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ الرِّبْحِ جَازَ ذَلِكَ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ: فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِبِ شِرْكًا فِي الرِّبْحِ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّرِكَةَ هِيَ النَّصِيبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} [الأحقاف: 4] أَيْ نَصِيبٌ. وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ: 22] أَيْ نَصِيبٍ فَقَدْ جَعَلَ لَهُ نَصِيبًا مِنْ الرِّبْحِ، وَالنَّصِيبُ مَجْهُولٌ فَصَارَ الرِّبْحُ مَجْهُولًا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشِّرْكَ بِمَعْنَى الشَّرِكَةِ، يُقَالُ: شَرَكْتُهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَشْرَكُهُ شِرْكَةً وَشِرْكًا قَالَ الْقَائِلُ: وَشَارَكْنَا قُرَيْشًا فِي بَقَاهَا ... وَفِي أَحْسَابِهَا شِرْكَ الْعِنَانِ وَيُذْكَرُ بِمَعْنَى النَّصِيبِ أَيْضًا، لَكِنْ فِي الْحَمْلِ عَلَى الشَّرِكَةِ تَصْحِيحٌ لِلْعَقْدِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ جُزْءًا شَائِعًا، نِصْفًا أَوْ ثُلُثًا أَوْ رُبْعًا، فَإِنْ شَرَطَا عَدَدًا مُقَدَّرًا بِأَنْ

فصل في بيان حكم المضاربة

شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنْ الرِّبْحِ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ وَالْبَاقِي لِلْآخَرِ لَا يَجُوزُ، وَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ نَوْعٌ مِنْ الشَّرِكَةِ، وَهِيَ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ، وَهَذَا شَرْطٌ يُوجِبُ قَطْعَ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ؛ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَرْبَحَ الْمُضَارِبُ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَلَا تَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ، فَلَا يَكُونُ التَّصَرُّفُ مُضَارَبَةً، وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا النِّصْفُ أَوْ الثُّلُثُ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ، أَوْ قَالَا: إلَّا مِائَةَ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَرْطٌ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا النِّصْفَ وَمِائَةً، فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مِائَتَيْنِ، فَيَكُونَ كُلُّ الرِّبْحِ لِلْمَشْرُوطِ لَهُ، وَإِذَا شَرَطَا لَهُ النِّصْفَ إلَّا مِائَةً، فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الرِّبْحِ مِائَةً، فَلَا يَكُونُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الرِّبْحِ. وَلَوْ شَرَطَا فِي الْعَقْدِ أَنْ تَكُونَ الْوَضِيعَةُ عَلَيْهِمَا بَطَلَ الشَّرْطُ، وَالْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةٌ وَالْأَصْلُ فِي الشَّرْطِ الْفَاسِدِ إذَا دَخَلَ فِي هَذَا الْعَقْدِ أَنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كَانَ يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ وَشَرْطُ الْوَضِيعَةِ عَلَيْهِمَا شَرْطٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْوَضِيعَةَ جُزْءٌ هَالِكٌ مِنْ الْمَالِ، فَلَا يَكُونُ إلَّا عَلَى رَبِّ الْمَالِ، لَا أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ فَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ، وَلِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْقَبْضِ، فَلَا يُفْسِدُهُ الشَّرْطُ الزَّائِدُ الَّذِي لَا يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ، وَلِأَنَّهَا وَكَالَةٌ وَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ لَا يَعْمَلُ فِي الْوَكَالَةِ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْمُضَارَبَةِ إذَا قَالَ رَبُّ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ: لَكَ ثُلُثُ الرِّبْحِ وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَا عَمِلْتَ فِي الْمُضَارَبَةِ صَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ مِنْ الثُّلُثِ، وَبَطَلَ الشَّرْطُ. وَذَكَرَ فِي الْمُزَارَعَةِ: إذَا دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضَهُ بِثُلُثِ الْخَارِجِ، وَجَعَلَ لَهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُلِّ شَهْرٍ، فَالْمُزَارَعَةُ بَاطِلَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، رِوَايَةُ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ تَقْتَضِي فَسَادَ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ لِلْمُضَارِبِ مِنْ الْمُشَاهَرَةِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَطَعَ عَنْهُ الشَّرِكَةَ، وَهَذَا يُفْسِدُ الْمُضَارَبَةَ، وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ يَقْتَضِي أَنْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى رِبْحٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ أَلْحَقَ بِهِ شَرْطًا فَاسِدًا، فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِجَارَةِ فِي الْمُزَارَعَةِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْمُضَارَبَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، وَالْمُضَارَبَةُ لَا تَفْتَقِرُ صِحَّتُهَا إلَى ذِكْرِ الْمُدَّةِ، فَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ جَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الْمُزَارَعَةِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمُضَارَبَةِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ، قَالَ مُحَمَّدٌ فِيمَنْ دَفَعَ أَلْفًا مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ أَرْضَهُ لِيَزْرَعَهَا سَنَةً أَوْ دَارًا لِيَسْكُنَهَا سَنَةً، فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَالْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَلْحَقَ بِهَا شَرْطًا فَاسِدًا لَا تَقْتَضِيه، فَبَطَلَ الشَّرْطُ وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الَّذِي شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ أَرْضَهُ لِيَزْرَعَهَا رَبُّ الْمَالِ سَنَةً، أَوْ يَدْفَعَ دَارِهِ إلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِيَسْكُنَهَا سَنَةً، فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ نِصْفَ الرِّبْحِ عِوَضًا عَنْ عَمَلِهِ وَعَنْ أُجْرَةِ الدَّارِ وَالْأَرْضِ، فَصَارَتْ حِصَّةُ الْعَمَلِ مَجْهُولَةً بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ دَفَعَ مَالًا إلَى رَجُلٍ مُضَارَبَةً، عَلَى أَنْ يَبِيعَ فِي دَارِ رَبِّ الْمَالِ أَوْ عَلَى أَنْ يَبِيعَ فِي دَارِ الْمُضَارِبِ، كَانَ جَائِزًا وَلَوْ شَرَطَا أَنْ يَسْكُنَ الْمُضَارِبُ دَارَ رَبِّ الْمَالِ، أَوْ رَبُّ الْمَالِ دَارَ الْمُضَارِبِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ الْبَيْعَ فِي أَحَدِ الدَّارَيْنِ فَإِنَّمَا خُصَّ الْبَيْعُ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان، وَلَمْ يُعْقَدْ عَلَى مَنَافِعِ الدَّارِ، وَإِذَا شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ السُّكْنَى فَقَدْ جَعَلَ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ أُجْرَةً لَهُ وَأَطْلَقَ أَبُو يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الشَّرْطُ أَوْ لَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْفَسَادُ فِي الشَّرْطِ لَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ شَرَطَ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ فَهُوَ قَرْضٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ، وَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِ مَا إذَا عَمِلَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ عَقْدُ شَرِكَةٍ فِي الرِّبْحِ، فَشَرْطُ قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِيهَا يَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا. (وَلَنَا) أَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهَا مُضَارَبَةً تُصَحَّحُ قَرْضًا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الْقَرْضِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِمَعَانِيهَا، وَعَلَى هَذَا إذَا شَرَطَ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ، فَهُوَ إبْضَاعٌ عِنْدَنَا؛ لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِبْضَاعِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ، فَالْمُضَارَبَةُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً أَوْ فَاسِدَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحْكَامٌ. أَمَّا أَحْكَامُ الصَّحِيحَةِ فَكَثِيرَةٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالِ الْمُضَارِبِ فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى عَمَلِ الْمُضَارِبِ، مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَعْمَلَهُ وَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ بِالْعَمَلِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ رَبُّ

الْمَالِ بِالْمَالِ. (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى حَالِ الْمُضَارِبِ فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُضَارِبُ بِهِ شَيْئًا أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ وَالْوَثِيقَةِ، فَإِذَا اشْتَرَى بِهِ شَيْئًا صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ، وَهُوَ مَعْنَى الْوَكِيلِ فَيَكُونُ شِرَاؤُهُ عَلَى الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ وَبَيْعِهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ. وَلَوْ اشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا يَمْلِكُ إذَا قَبَضَ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَيَكُونُ الشِّرَاءُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ. وَكَذَا إذَا بَاعَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بَيْعًا فَاسِدًا لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا وَلَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَوْكِيلٌ، وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ مُطْلَقًا يَمْلِكُ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ، فَلَا يَصِيرُ مُخَالِفًا، فَإِذَا ظَهَرَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ صَارَ شَرِيكًا فِيهِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ جُزْءًا مِنْ الْمَالِ الْمَشْرُوطِ بِعَمَلِهِ، وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مَالِهِ، فَإِذَا فَسَدَتْ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ لِرَبِّ الْمَالِ، فَإِذَا خَالَفَ شَرْطَ رَبِّ الْمَالِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ، وَيَصِيرُ الْمَالُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَيَكُونُ رِبْحُ الْمَالِ كُلُّهُ بَعْدَ مَا صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لَهُ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ بِالضَّمَانِ لَكِنَّهُ لَا يَطِيبُ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَطِيبُ لَهُ وَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْغَاصِبِ وَالْمُودَعِ إذَا تَصَرَّفَا فِي الْمَغْصُوبِ الْوَدِيعَةِ وَرَبِحَا. وَلَوْ أَرَادَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَجْعَلَ الْمَالَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُضَارِبِ، فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقْرِضَ الْمَالَ مِنْ الْمُضَارِبِ وَيُشْهِدَ عَلَيْهِ وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ، ثُمَّ يَأْخُذَ مِنْهُ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ أَوْ بِالثُّلُثِ، ثُمَّ يَدْفَعَهُ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ فَيَسْتَعِينَ بِهِ فِي الْعَمَلِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ كَانَ الْقَرْضُ عَلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَهْلِكْ وَرَبِحَ يَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ وَحِيلَةٌ أُخْرَى أَنْ يُقْرِضَ رَبُّ الْمَالِ جَمِيعَ الْمَالِ مِنْ الْمُضَارِبِ إلَّا دِرْهَمًا وَاحِدًا، وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ وَيُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي ذَلِكَ شَرِكَةَ عِنَانٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِ الْمُقْرِضِ دِرْهَمًا وَرَأْسُ مَالِ الْمُسْتَقْرِضِ جَمِيعَ مَا اسْتَقْرَضَ عَلَى أَنْ يَعْمَلَا جَمِيعًا وَشَرَطَا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَعْمَلُ الْمُسْتَقْرِضُ خَاصَّةً فِي الْمَالِ، فَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ كَانَ الْقَرْضُ عَلَى حَالِهِ. وَلَوْ رَبِحَ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى عَمَلِ الْمُضَارِبِ مِمَّا لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ بِالْعَقْدِ، وَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ. الْمُضَارَبَةَ نَوْعَانِ: مُطْلَقَةٌ وَمُقَيَّدَةٌ، فَالْمُطْلَقَةُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْعَمَلِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَصِفَةِ الْعَمَلِ وَمَنْ يُعَامِلُهُ وَالْمُقَيَّدَةُ أَنْ يُعَيِّنَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَتَصَرُّفُ الْمُضَارِبِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، قِسْمٌ مِنْهُ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَهُ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، وَلَا إلَى قَوْلِ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ فِيهِ وَقِسْمٌ مِنْهُ مَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ وَلَوْ قِيلَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، وَقِسْمٌ مِنْهُ مَا لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ إذَا قِيلَ لَهُ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ، وَقِسْمٌ مِنْهُ مَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ رَأْسًا وَإِنْ نَصَّ عَلَيْهِ. (وَأَمَّا) الْقِسْمُ الَّذِي لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَهُ مِنْ غَيْرِ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، وَلَا قَوْلِ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ كَالْمُضَارَبَةِ الْمُطْلَقَةِ عَنْ الشَّرْطِ وَالْقَيْدِ، وَهِيَ مَا إذَا قَالَ لَهُ: خُذْ هَذَا الْمَالَ وَاعْمَلْ بِهِ، عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَنَا عَلَى كَذَا أَوْ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَال مُضَارَبَةً عَلَى كَذَا فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ وَيَبِيعَ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِعَمَلٍ هُوَ سَبَبُ حُصُولِ الرِّبْحِ، وَهُوَ الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ، وَكَذَا الْمَقْصُودُ مِنْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ هُوَ الرِّبْحُ، وَالرِّبْحُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ إلَّا أَنَّ شِرَاءَهُ يَقَعُ عَلَى الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِمِثْلِ قِيمَةِ الْمُشْتَرَى، أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ وَشِرَاءُ الْوَكِيلِ يَقَعُ عَلَى الْمَعْرُوفِ، فَإِنْ اشْتَرَى بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ، بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ. (وَأَمَّا) بَيْعُهُ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فِي التَّوْكِيلِ بِمُطْلَقِ الْبَيْعِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ نَقْدًا وَنَسِيئَةً، وَبِغَبْنٍ فَاحِشٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْمُضَارِبُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ أَعَمُّ مِنْ الْوَكَالَةِ وَعِنْدَهُمَا لَا يُمْلَكُ الْبَيْعُ بِالنَّسِيئَةِ، وَلَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا بَدَا لَهُ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ فِي سَائِرِ الْأَمْكِنَةِ مَعَ سَائِرِ النَّاسِ لِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ بِضَاعَةً لِأَنَّ الْإِبْضَاعَ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْعَقْدِ هُوَ الرِّبْحُ، وَالْإِبْضَاعُ طَرِيقٌ إلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الِاسْتِئْجَارَ، فَالْإِبْضَاعُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ اسْتِعْمَالٌ فِي الْمَالِ بِعِوَضٍ، وَالْإِبْضَاعُ اسْتِعْمَالٌ فِيهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَكَانَ أَوْلَى، وَلَهُ أَنْ يُودِعَ؛ لِأَنَّ الْإِيدَاعَ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ وَمِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ وَلَهُ أَنْ

يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَلُ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ وَضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْأَجِيرِ. وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْبُيُوتَ لِيَجْعَلَ الْمَالَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ إلَّا بِهِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ السُّفُنَ وَالدَّوَابَّ لِلْحَمْلِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان طَرِيقٌ يُحَصِّلُ الرِّبْحَ، وَلَا يُمْكِنُهُ النَّقْلَ بِنَفْسِهِ وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ، وَلِأَنَّهُ طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ الرِّبْحُ، فَكَانَ بِسَبِيلٍ مِنْهُ كَالشَّرِيكِ، وَلِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ أَعَمُّ مِنْ الْوَكَالَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَفَادَ بِالشَّيْءِ مَا هُوَ دُونَهُ، بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ الْمُفْرَدَةِ، أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِمُطْلَقِ الْوَكَالَةِ، إلَّا إذَا قِيلَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ التِّجَارَةُ وَحُصُولُ الرِّبْحِ، بَلْ إدْخَالُ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِهِ، وَكَذَا الْوَكَالَةُ الثَّانِيَةُ مِثْلُ الْأُولَى، وَالشَّيْءُ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ وَكُلُّ مَا لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ، فَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ غَيْرَهُ، وَكُلُّ مَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ لَا يَجُوزُ فِيهِ وَكَالَتُهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ فَبِوَكِيلِهِ أَوْلَى، وَلَهُ أَنْ يَرْهَنَ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ فِي الْمُضَارَبَةِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَأَنْ يَرْتَهِنَ بِدَيْنٍ لَهُ مِنْهَا عَلَى رَجُلٍ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ بِالدَّيْنِ وَالِارْتِهَانَ مِنْ بَابِ الْإِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ، وَهُوَ يَمْلِكُ ذَلِكَ، فَيَمْلِكُ الرَّهْنَ وَالِارْتِهَانَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَ بَعْدَ نَهْيِ رَبِّ الْمَالِ عَنْ الْعَمَلِ وَلَا بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَبْطُلُ بِالنَّهْيِ وَالْمَوْتِ إلَّا فِي تَصَرُّفٍ يَنْضَرُّ بِهِ رَأْسُ الْمَالِ وَالرَّهْنُ لَيْسَ تَصَرُّفًا يَنْضَرُّ بِهِ رَأْسُ الْمَالِ، فَلَا يَمْلِكُهُ الْمُضَارِبُ وَلَوْ بَاعَ شَيْئًا وَأَخَّرَ الثَّمَنَ جَازَ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ لِلثَّمَنِ عَادَةَ التُّجَّارِ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فَلِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ يَمْلِكُ تَأْخِيرَ الثَّمَنِ، فَالْمُضَارِبُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ أَعَمُّ مِنْ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ، إلَّا أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إذَا أَخَّرَ الثَّمَنَ يَضْمَنُ عِنْدَهُمَا وَالْمُضَارِبُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَمْلِكُ أَنْ يَسْتَقِيلَ ثُمَّ يَبِيعَ نَسِيئَةً، فَيَمْلِكُ التَّأْخِيرَ ابْتِدَاءً فَلَمْ يَضْمَنْ. فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ، ثُمَّ الْبَيْعُ بِالنَّسِيئَةِ فَإِذَا أَخَّرَ ضَمِنَ. (وَأَمَّا) عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّمَا جَازَ تَأْخِيرُ الْمُضَارِبِ دُونَ الْوَكِيلِ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ الْمُضَارِبَ يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ أَوْ يَسْتَقِيلَ فِيهَا، ثُمَّ يَبِيعَهَا نَسَاءً فَيَمْلِكُ تَأْخِيرَ ثَمَنِهَا وَالْوَكِيلُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ بِالثَّمَنِ عَلَى رَجُلٍ مُوسِرًا كَانَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ؛ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى الدَّيْنِ قَدْ يَكُونُ أَيْسَرَ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ مِنْهُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، بِخِلَافِ الْوَصِيِّ إذَا احْتَالَ بِمَالِ الْيَتِيمِ إنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ أَصْلَحَ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مَبْنِيٌّ عَلَى النَّظَرِ، وَتَصَرُّفَ الْمُضَارِبِ مَبْنِيٌّ عَلَى عَادَةِ التُّجَّارِ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ أَرْضًا بَيْضَاءَ، وَيَشْتَرِيَ بِبَعْضِ الْمَالِ طَعَامًا فَيَزْرَعَهُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُقَلِّبَهَا لِيَغْرِسَ فِيهَا نَخْلًا أَوْ شَجَرًا أَوْ رُطَبًا، فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ، وَالرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ مِنْ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقُ حُصُولِ الرِّبْحِ، وَكَذَا هُوَ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ فَيَمْلِكُهُ الْمُضَارِبُ، وَلِلْمُضَارِبِ أَنْ لَا يُسَافِرَ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْعَقْدِ اسْتِنْمَاءُ الْمَالِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ بِالسَّفَرِ أَوْفَرُ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ صَدَرَ مُطْلَقًا عَنْ الْمَكَانِ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، وَلِأَنَّ مَأْخَذَ الِاسْمِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ السَّيْرُ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] وَلِأَنَّهُ طَلَبُ الْفَضْلِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنَهُ: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ. وَفِي رِوَايَةِ أَصْحَابِ الْإِمْلَاءِ عَنْهُ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الَّذِي يَثْبُتُ فِي وَطَنِهِ وَبَيْنَ الَّذِي لَا يَثْبُتُ، وَبَيْنَ مَا لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ، وَبَيْنَ مَا لَا حِمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ فِي الشَّرِكَةِ، فَالْمُضَارِبُ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّهُ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ بِالْكُوفَةِ وَهُمَا مِنْ أَهْلِيهَا، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَالِ. وَلَوْ كَانَ الدَّفْعُ فِي مِصْرٍ آخَرَ غَيْرِ الْكُوفَةِ، فَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ حَيْثُ شَاءَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ. (وَأَمَّا) وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ فَهُوَ أَنَّ الْمُسَافَرَةَ بِالْمَالِ مُخَاطَرَةٌ بِهِ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً، فَإِذَا دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ فِي بَلَدِهِمَا فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالسَّفَرِ نَصًّا وَلَا دَلَالَةً، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ، وَإِذَا دَفَعَ إلَيْهِ فِي غَيْرِ بَلَدِهِمَا فَقَدْ وَجَدَ دَلَالَةَ الْإِذْنِ بِالرُّجُوعِ إلَى الْوَطَنِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَأْخُذُ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَيَتْرُكُ بَلَدَهُ، فَكَانَ دَفْعُ الْمَالِ فِي غَيْرِ بَلَدِهِمَا رِضًا بِالرُّجُوعِ إلَى الْوَطَنِ، فَكَانَ إذْنًا دَلَالَةً وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبِيدِ الْمُضَارَبَةِ بِالتِّجَارَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ

مِنْ التِّجَارَةِ، وَمِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ أَيْضًا وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بِإِطْلَاقِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ أَعَمُّ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، فَلَا يَسْتَتْبِعُ مَا هُوَ فَوْقَهُ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُمْ إذَا لَحِقَهُمْ دَيْنٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الدَّيْنِ مِنْ التِّجَارَةِ، فَلَا يَقِفُ عَلَى حُضُورِ الْمَوْلَى. وَلَوْ جَنَى عَبْدُ الْمُضَارَبَةِ بِأَنْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً، وَقِيمَتُهُ مِثْلُ مَالِ الْمُضَارِبِ، بِأَنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفٌ فَقَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً، لَا يُخَاطَبُ الْمُضَارِبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ أَوْ الْفِدَاءَ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ، وَلَا مِلْكَ أَيْضًا لِلْمُضَارِبِ فِي رَقَبَتِهِ؛ لِانْعِدَامِ الْفِعْلِ وَالتَّدْبِيرِ فِي جِنَايَتِهِ إلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ خَالِصُ مِلْكِهِ، وَلَا مِلْكَ لِلْمُضَارِبِ فِيهَا، بِخِلَافِ عَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا جَنَى أَنَّهُ يُخَاطَبُ الْمَأْذُونُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ مَعَ غَيْبَةِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ فِي التَّصَرُّفِ كَالْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ كَالْحُرِّ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِالْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى. وَلَوْ كَانَ مُتَصَرِّفًا لِلْمَوْلَى لَرَجَعَ بِالْعُهْدَةِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يَرْجِعْ دَلَّ أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ حَقُّ الْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ عِنْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَتِهِ، فَإِذَا تَعَلَّقَتْ الْجِنَايَةُ بِرَقَبَتِهِ صَارَتْ مَشْغُولَةً، فَلَا يَظْهَرُ حَقُّ الْمَوْلَى فَيُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ كَالْحُرِّ. (فَأَمَّا) الْمُضَارِبُ فَإِنَّهُ وَكِيلُ رَبِّ الْمَالِ فِي التَّصَرُّفِ حَتَّى يَرْجِعَ بِالْعُهْدَةِ عَلَيْهِ، وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَا يُخَاطَبُ بِحُكْمِ الْجِنَايَةِ، فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَإِنْ اخْتَارَ رَبُّ الْمَالِ الدَّفْعَ وَاخْتَارَ الْمُضَارِبُ الْفِدَاءَ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِالْفِدَاءِ يَسْتَبْقِي مَالَ الْمُضَارَبَةِ، وَلَهُ فِيهِ فَائِدَةٌ فِي الْجُمْلَةِ لِتَوَهُّمِ الرِّبْحِ. وَلَوْ دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ أَوْ فَدَى خَرَجَ الْعَبْدُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ. (أَمَّا) إذَا دَفَعَ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ بِالدَّفْعِ زَالَ مِلْكُهُ لَا إلَى بَدَلٍ، فَصَارَ كَأَنَّهُ هَلَكَ وَإِذَا فَدَى فَقَدْ لَزِمَهُ ضَمَانٌ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْمُضَارَبَةِ، وَلِأَنَّ اخْتِيَارَ الْفِدَاءِ دَلِيلُ رَغْبَتِهِ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ، فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعَقْدِ وَهُوَ الرِّبْحُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ. وَلَوْ كَانَ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَيْنِ فَجَنَى جِنَايَةً خَطَأً، لَا يُخَاطَبُ الْمُضَارِبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ إذَا كَانَ رَبُّ الْمَالِ غَائِبًا لِمَا قُلْنَا، وَلَيْسَ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ وَلَا عَلَى الْغُلَامِ سَبِيلٌ، إلَّا أَنَّ لَهُمْ أَنْ يَسْتَوْثِقُوا مِنْ الْغُلَامِ بِكَفِيلٍ إلَى أَنْ يَقْدَمَ الْمَوْلَى، وَكَذَا لَا يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ إذَا كَانَ الْمُضَارِبُ غَائِبًا، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَفْدِيَ حَتَّى يَحْضُرَا جَمِيعًا، فَإِنْ فَدَى كَانَ مُتَطَوِّعًا بِالْفِدَاءِ فَإِذَا حَضَرَا دَفَعَا أَوْ فَدَيَا، فَإِنْ دَفَعَا فَلَيْسَ لَهُمَا شَيْءٌ، وَإِنْ فَدَيَا كَانَ الْفِدَاءُ عَلَيْهِمَا أَرْبَاعًا وَخَرَجَ الْعَبْدُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: حُضُورُ الْمُضَارِبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِحُكْمِ الْجِنَايَة. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ نَصِيبَ الْمُضَارِبِ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي الرِّبْحِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ بِالْقِسْمَةِ، وَلَمْ تُوجَدْ فَبَقِيَ الْمَالُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ، فَكَانَ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِحُكْمِ الْجِنَايَةِ، فَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمُضَارِبِ. (وَلَهُمَا) أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الْمُضَارَبَةِ فَضْلٌ كَانَ لِلْمُضَارِبِ مِلْكٌ فِي الْعَبْدِ، وَلِهَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ نَفَذَ إعْتَاقُهُ فِي نَصِيبِهِ، وَإِذَا كَانَ لَهُ نَصِيبٌ فِي الْعَبْدِ كَانَ فِدَاءُ نَصِيبِهِ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ. (وَأَمَّا) قَوْلُهُ أَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي الرِّبْحِ لِعَدَمِ تَعْيِينِ رَأْسِ الْمَالِ فَمَمْنُوعٌ، بَلْ تَعَيَّنَ ضَرُورَةُ لُزُومِ الْفِدَاءِ فِي نَصِيبِهِ، وَلَا يَلْزَمُ إلَّا بِتَعْيِينِ حَقِّهِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ حَقُّهُ إلَّا بِتَعْيِينِ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ رَأْسُ الْمَالِ إلَّا بِالْقِسْمَةِ، فَثَبَتَتْ الْقِسْمَةُ ضَرُورَةً فَإِنْ اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الدَّفْعَ وَالْآخَرُ الْفِدَاءَ فَلَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالِكٌ لِنَصِيبِهِ فَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، غَيْرَ أَنَّ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا حَضَرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَغَابَ الْآخَرُ، يُخَاطَبُ الْآخَرُ بِحُكْمِ الْجِنَايَةِ مِنْ الدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ، وَهَهُنَا لَا يُخَاطَبُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَحْضُرَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ أَحَدِهِمَا يَتَضَمَّنُ قِسْمَهُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَبْقَى عَلَى الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ الدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ، وَالْقِسْمَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا بِحَضْرَتِهِمَا، وَالدَّفْعُ أَوْ الْفِدَاءُ مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَتَضَمَّنُ قِسْمَةً وَلَا حُكْمًا فِي حَقِّ الشَّرِيكِ الْآخَرِ، فَلَا يَقِفُ عَلَى حُضُورِهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ فَجَنَى جِنَايَةً خَطَأً أَنَّهُ يُخَاطَبُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ بِحُكْمِ الْجِنَايَةِ، فَإِنْ اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الدَّفْعَ وَالْآخَرُ الْفِدَاءَ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا ذَلِكَ، وَيَلْزَمُهُمَا أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ وَاحِدٌ فَاخْتِلَافُ اخْتِيَارِهِمَا يُوجِبُ تَبْعِيضَ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ فِي حَقِّ مَالِكٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، كَالْعَبْدِ الَّذِي لَيْسَ بِرَهْنٍ، وَهُنَا مَالِكُ الْعَبْدِ اثْنَانِ فَلَوْ اخْتَلَفَ اخْتِيَارُهُمَا لَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَبْعِيضَ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ فِي حَقِّ مَالِكٍ وَاحِدٍ. وَقَدْ قَالُوا إذَا غَابَ أَحَدُهُمَا وَادُّعِيَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ، لَمْ تُسْمَعْ الْبَيِّنَةُ حَتَّى يَحْضُرَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ حَقُّ الْعَبْدِ، فَكَانَ التَّدْبِيرُ فِي الْجِنَايَةِ إلَيْهِمَا، فَلَا يَجُوزُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَحَدِهِمَا مَعَ غَيْبَةِ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا أَخَذَ بِالْعَبْدِ كَفِيلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ يَغِيبَ فَيَسْقُطَ

حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْثِقَ حَقَّهُ بِكَفِيلٍ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ تَرْجِعُ إلَى الْمُضَارِبِ لَا إلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ هُوَ الْعَاقِدُ فَهُوَ الَّذِي يُطَالَبُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَيُطَالِبُ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ، وَيَقْبِضُ الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ، وَيَرُدُّ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ، وَيُخَاصِمُ وَيُخَاصَمُ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا مَعِيبًا قَدْ عَلِمَ رَبُّ الْمَالِ بِعَيْبِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُضَارِبُ، فَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّهُ. وَلَوْ كَانَ عَلِمَ بِالْعَيْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ رَبُّ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُضَارِبِ لَا بِرَبِّ الْمَالِ، فَيُعْتَبَرُ عِلْمُ الْمُضَارِبِ لَا عِلْمَ رَبِّ الْمَالِ. وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ بَعْدَ الشِّرَاءِ: رَضِيتُ بِهَذَا الْعَبْدِ بَطَلَ الرَّدُّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِرَبِّ الْمَالِ فَإِذَا رَضِيَ بِهِ فَقَدْ أَبْطَلَ حَقَّ نَفْسِهِ. وَلَوْ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَبْدَ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ يَبِيعُهُ فَاشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ وَلَمْ يَرَهُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَلَا بِخِيَارِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالشِّرَاءِ بَعْدَ الْعِلْمِ رِضًا مِنْهُ بِذَلِكَ الْعَيْبِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ الشِّرَاءِ: قَدْ رَضِيتُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَشْتَرِي الْعَبْدَ الْمَعِيبَ لَا مَحَالَةَ حَتَّى يَكُونَ عِلْمُهُ دَلَالَةَ الرِّضَا بِهِ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ فِي دَارٍ اشْتَرَاهَا أَجْنَبِيٌّ إلَى جَنْبِ دَارِ الْمُضَارِبِ، أَوْ بَاعَ رَبُّ الْمَالِ دَارًا لِنَفْسِهِ، وَالْمُضَارِبُ شَفِيعُهَا بِدَارٍ أُخْرَى مِنْ الْمُضَارَبَةِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ دَفَعَ الْمَالَ إلَى رَجُلَيْنِ مُضَارَبَةً فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ، وَلَا يَعْمَلُ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِمَّا لِلْمُضَارِبِ الْوَاحِدِ أَنْ يَعْمَلَهُ سَوَاءٌ قَالَ لَهُمَا: اعْمَلَا بِرَأْيِكُمَا أَوْ لَمْ يَقُلْ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا وَلَمْ يَرْضَ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا، فَصَارَا كَالْوَكِيلَيْنِ وَإِذَا أَذِنَ لَهُ الشَّرِيكُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ جَازَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهُ فَقَدْ اجْتَمَعَ رَأْيُهُمَا، فَصَارَ كَأَنَّهُمَا عَقَدَا جَمِيعًا (وَأَمَّا) الْقِسْمُ الَّذِي لَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَهُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ فِي الْمُضَارَبَةِ الْمُطْلَقَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ اسْتَدَانَ لَمْ يَجُزْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَيَكُونُ دَيْنًا عَلَى الْمُضَارِبِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدَانَةَ إثْبَاتُ زِيَادَةٍ فِي رَأْسِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ رِضَا رَبِّ الْمَالِ، بَلْ فِيهِ إثْبَاتُ زِيَادَةِ ضَمَانٍ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ الْمُشْتَرَى بِرَأْسِ الْمَالِ فِي بَابِ الْمُضَارَبَةِ مَضْمُونٌ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُضَارِبَ لَوْ اشْتَرَى بِرَأْسِ الْمَالِ ثُمَّ هَلَكَ الْمُشْتَرَى قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَرْجِعُ إلَى رَبِّ الْمَالِ بِمِثْلِهِ فَلَوْ جَوَّزْنَا الِاسْتِدَانَةَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لَأَلْزَمْنَاهُ زِيَادَةَ ضَمَانٍ لَمْ يَرْضَ بِهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ثُمَّ الِاسْتِدَانَةُ هِيَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُضَارِبُ شَيْئًا بِثَمَنِ دَيْنٍ لَيْسَ فِي يَدِهِ مِنْ جِنْسِهِ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مِنْ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، بِأَنْ كَانَ اشْتَرَى بِرَأْسِ الْمَالِ سِلْعَةً، ثُمَّ اشْتَرَى شَيْئًا بِالدَّرَاهِمَ أَوْ الدَّنَانِيرَ، لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَكَانَ الْمُشْتَرَى لَهُ عَلَيْهِ ثَمَنُهُ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِثَمَنٍ لَيْسَ فِي يَدِهِ مِنْ جِنْسِهِ، فَكَانَ مُسْتَدِينًا عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَلَمْ تَجُزْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَجَازَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ وَجَدَ نَفَاذًا عَلَيْهِ، كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا خَالَفَ. وَسَوَاءٌ كَانَ اشْتَرَى بِثَمَنٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى بِمَا لَيْسَ فِي يَدِهِ مِنْ جِنْسِهِ صَارَ مُسْتَدِينًا عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ مَا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ الْعَرْضِ يُسَاوِي رَأْسَ الْمَالِ أَوْ أَكْثَرَ، فَاشْتَرَى شَيْئًا لِلْمُضَارَبَةِ بِالدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لِيَبِيعَ الْعَرْضَ وَيُؤَدِّيَ ثَمَنَهُ مِنْهَا، لَمْ يَجُزْ، سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ حَالًا أَوْ مُؤَجَّلًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ اسْتِدَانَةٌ. وَلَوْ بَاعَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْعَرْضِ بِالدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، وَحَصَلَ ذَلِكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ حَلِّ الْأَجَلِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ فِي حَالَةِ الشِّرَاءِ لَزِمَهُ الثَّمَنُ وَصَارَتْ السِّلْعَةُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ الشِّرَاءَ لِلْمُضَارَبَةِ فَوَقَعَ الْعَقْدُ لَهُ، فَلَا يَصِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمُضَارَبَةِ. وَكَذَا إذَا قَبَضَ الْمُضَارِبُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَكُونُ دَيْنًا، وَلَيْسَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ مَا يُؤَدِّيهِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى سِلْعَةً بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ أَلْفٌ، كَانَتْ حِصَّةُ الْأَلْفِ مِنْ السِّلْعَةِ الْمُشْتَرَاةِ لِلْمُضَارَبَةِ، وَحِصَّةُ مَا زَادَ عَلَى الْأَلْفِ لِلْمُضَارِبِ خَاصَّةً لَهُ رِبْحُ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ، وَالزِّيَادَةُ دَيْنٌ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ بِالْأَلْفِ وَلَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ بِمَا زَادَ عَلَيْهَا لِلْمُضَارَبَةِ، وَيَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ فَوَقَعَ لَهُ. وَكَذَا إذَا قَبَضَ الْمُضَارِبُ رَأْسَ الْمَالِ وَهُوَ قَائِمٌ فِي يَدِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِلْمُضَارَبَةِ بِغَيْرِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ وَالثَّوْبِ الْمَوْصُوفِ الْمُؤَجَّلِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِغَيْرِ الْمَالِ يَكُونُ اسْتِدَانَةٌ عَلَى الْمَالِ. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ، فَاشْتَرَى ثَوْبًا أَوْ عَبْدًا بِمَكِيلٍ أَوْ

مَوْزُونٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ، كَانَ الْمُشْتَرَى لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ فِي يَدِهِ مِنْ جِنْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ اسْتِدَانَةً وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ دَرَاهِمُ فَاشْتَرَى سِلْعَةً بِدَرَاهِمَ نَسِيئَةً، لَمْ يَكُنْ اسْتِدَانَةٌ؛ لِأَنَّ فِي يَدِهِ مِنْ جِنْسِهِ. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ دَرَاهِمُ فَاشْتَرَى بِدَنَانِيرَ، أَوْ كَانَ فِي يَدِهِ دَنَانِيرُ فَاشْتَرَى بِدَرَاهِمَ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً، فَقَدْ اشْتَرَى بِمَا لَيْسَ فِي يَدِهِ مِنْ جِنْسِهِ، فَيَكُونُ اسْتِدَانَةً، كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِالْعُرُوضِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عِنْدَ التُّجَّارِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُمَا أَثْمَانُ الْأَشْيَاءِ، بِهِمَا تُقَدَّرُ النَّفَقَاتُ وَأُرُوشُ الْجِنَايَاتِ وَقِيمَةُ الْمُتْلَفَاتِ، وَلَا يَتَعَذَّرُ نَقْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ، فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ مُشْتَرِيًا بِثَمَنٍ فِي يَدِهِ مِنْ جِنْسِهِ. وَكَذَلِكَ. لَوْ اشْتَرَى بِثَمَنٍ هُوَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ، لَكِنَّهُ يُخَالِفُهُ فِي الصِّفَةِ بِأَنْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ بِيضٍ وَرَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمُ سُودٍ، أَوْ اشْتَرَى بِصِحَاحٍ وَرَأْسُ الْمَالِ غَلَّةٌ، أَوْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ سُودٍ وَرَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمُ بِيضٍ، أَوْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ غَلَّةً وَرَأْسُ الْمَالِ صِحَاحٌ، فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَيَكُونُ اسْتِدَانَةً، وَيُجْعَلُ اخْتِلَافُ الصِّفَةِ كَاخْتِلَافِ الْجِنْسِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ اشْتَرَى بِمَا صِفَتُهُ أَنْقَصُ مِنْ صِفَةِ رَأْسِ الْمَالِ جَازَ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى بِمَا صِفَتُهُ أَزْيَدُ مِنْ صِفَةِ رَأْسِ الْمَالِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ. (وَوَجْهُهُ) أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى بِمَا صِفَتُهُ أَنْقَصُ مِنْ صِفَةِ رَأْسِ الْمَالِ كَانَ فِي يَدِهِ ذَلِكَ الْقَدْرُ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ وَزِيَادَةً فَجَازَ، وَإِذَا اشْتَرَى بِمَا صِفَتُهُ أَكْمَلُ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ الْقَدْرُ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ فَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمُضَارِبِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الصِّفَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَفَاوُتَ الصِّفَةِ دُونَ تَفَاوُتِ الْجِنْسِ وَلَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى سِلْعَةً بِأَلْفٍ أَوْ بِدَنَانِيرَ أَوْ بِفُلُوسٍ قِيمَةُ ذَلِكَ أَلْفٌ، لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَلْفِ الْمُضَارَبَةِ شَيْئًا بِأَلْفٍ أُخْرَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَلَوْ اشْتَرَى بَعْدَ ذَلِكَ لَصَارَ مُسْتَدِينًا عَلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ، فَإِنْ اشْتَرَى عَلَيْهَا أَوَّلًا عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ، لَا يَمْلِكُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ إلَّا بِقَدْرِ خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْخَمْسَمِائَةِ خَرَجَتْ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ دَيْنٍ يَلْحَقُ رَأْسَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَارَ مُسْتَحَقًّا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَيَخْرُجُ الْقَدْرُ الْمُسْتَحَقُّ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، فَإِذَا اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِمَّا بَقِيَ صَارَ مُسْتَدِينًا عَلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَلَا يَصِحُّ. وَلَوْ بَاعَ الْمُضَارِبُ وَاشْتَرَى وَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَحَصَلَ فِي يَدِهِ صُنُوفٌ مِنْ الْأَمْوَالِ: مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ دَرَاهِمُ وَلَا دَنَانِيرُ وَلَا فُلُوسٌ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَتَاعًا بِثَمَنٍ لَيْسَ فِي يَدِهِ مِثْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ وَصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ، بِأَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِكُرِّ حِنْطَةٍ مَوْصُوفَةٍ، فَإِنْ اشْتَرَى بِكُرِّ حِنْطَةٍ وَسَطٍ وَفِي يَدِهِ الْوَسَطُ، أَوْ بِكُرِّ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ وَفِي يَدِهِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ أَجْوَدَ مِمَّا اشْتَرَى بِهِ أَوْ أَدْوَنَ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُضَارَبَةِ وَكَانَ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مِثْلُ الثَّمَنِ صَارَ مُسْتَدِينًا عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَلَا يَجُوزُ وَلَيْسَ اخْتِلَافُ الصِّفَةِ هُنَا كَاخْتِلَافِ الصِّفَةِ فِي الدَّرَاهِمَ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ هُنَاكَ بَيْنَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ، فَاخْتِلَافُ الصِّفَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ، وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ هُنَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ، فَكَذَا اخْتِلَافُ الصِّفَةِ. ثُمَّ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ الْمُضَارِبِ الِاسْتِدَانَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ يَسْتَوِي فِيهِ مَا إذَا قَالَ رَبُّ الْمَالِ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ أَوْ لَمْ يَقُلْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ تَفْوِيضٌ إلَيْهِ، فِيمَا هُوَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَالِاسْتِدَانَةُ لَمْ تَدْخُلْ فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، فَلَا يَمْلِكُهَا الْمُضَارِبُ إلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ بِهَا نَصًّا، ثُمَّ كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ الِاسْتِدَانَةُ عَلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِدَانَةُ عَلَى إصْلَاحِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِجَمِيعِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ثِيَابًا، ثُمَّ اسْتَأْجَرَ عَلَى حَمْلِهَا أَوْ عَلَى قِصَارَتِهَا أَوْ نَقْلِهَا كَانَ مُتَطَوِّعًا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَبْقَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ صَارَ بِالِاسْتِئْجَارِ مُسْتَدِينًا عَلَى الْمُضَارَبَةِ فَلَمْ يَجُزْ عَلَيْهَا، فَصَارَ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ مُتَطَوِّعًا فِي مَالِ الْغَيْرِ، كَمَا لَوْ حَمَلَ مَتَاعًا لِغَيْرِهِ، أَوْ قَصَّرَ ثِيَابًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: وَكَذَلِكَ إذَا صَبَغَهَا سُودًا مِنْ مَالِهِ فَنَقَصَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدَانَةَ لَا تَجُوزُ، وَلَا يَصِيرُ شَرِيكًا بِالسَّوَادِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ فِي الْعَيْنِ زِيَادَةً، بَلْ أَوْجَبَ نُقْصَانًا فِيهَا، وَلَا يَضْمَنُ بِفِعْلِهِ، سَوَاءٌ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ أَوْ لَمْ يَقُلْ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ بِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ فَضْلٌ، فَصَبَغَ الثِّيَابَ بِهِ سُودًا

فَنَقَصَهَا ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ، وَكَذَلِكَ إذَا صَبَغَهَا بِمَالِ نَفْسِهِ وَلَوْ صَبَغَ الْمَتَاعَ بِعُصْفُرٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ أَوْ صِبْغٍ يَزِيدُ فِيهَا، وَلَيْسَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ شَيْءٌ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَقُلْ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَرَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ مَتَاعِهِ يَوْمَ صَبَغَهُ، وَسَلَّمَ إلَيْهِ الْمَتَاعَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الْمَتَاعَ حَتَّى يُبَاعَ فَيَتَصَرَّفَ فِيهِ رَبُّ الْمَالِ بِقِيمَتِهِ أَبْيَضَ، وَتَصَرَّفَ الْمُضَارِبُ بِمَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الصِّبْغَ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ فَمَا أَصَابَ الْمَتَاعَ فَهُوَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ، وَمَا زَادَ الصِّبْغُ فَلِلْمُضَارِبِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الصِّبْغَ اسْتِدَانَةٌ عَلَى الْمَالِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَصَارَ الصِّبْغُ مِنْ غَيْرِ الْمُضَارَبَةِ. وَالْمُضَارِبُ إذَا خَلَطَ مَالَ نَفْسِهِ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ يَضْمَنُ وَصَارَ كَأَجْنَبِيٍّ خَلَطَ الْمَالَ. وَلَوْ صَبَغَ الثِّيَابَ أَجْنَبِيٌّ، كَانَ لِلْمَالِكِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا عَلَى الشَّرِكَةِ، وَتَضَارَبَا بِثَمَنِهَا عَلَى الشَّرِكَةِ كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَخْلِطَ مَالَ نَفْسِهِ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَالصِّبْغُ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَضْمَنُ بِخَلْطِهِ، وَصَارَ الْمَتَاعُ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا بِيعَ الْمَتَاعُ قُسِّمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الثَّوْبِ أَبْيَضَ، فَمَا أَصَابَ ذَلِكَ كَانَ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَمَا أَصَابَ الصِّبْغُ كَانَ لِلْمُضَارِبِ، وَإِذَا أَذِنَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ جَازَ لَهُ الِاسْتِدَانَةُ، وَمَا يَسْتَدِينُهُ يَكُونُ شَرِكَةً بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ وُجُوهٍ، وَكَانَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُشْتَرَى بِالدَّيْنِ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا فِي مَالِ عَيْنٍ فَتُجْعَلَ شَرِكَةَ وُجُوهٍ، وَيَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الشَّرِكَةِ يَقْتَضِي التَّسَاوِيَ. وَسَوَاءٌ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا فِي الْمُضَارَبَةِ نِصْفَيْنِ أَوْ أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ شَرِكَةٌ عَلَى حِدَةٍ فَلَا يُبْنَى عَلَى حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الرِّبْحِ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ، إلَّا بِشَرْطِ التَّفَاضُلِ فِي الضَّمَانِ، فَإِنْ شَرَطَا التَّفَاضُلَ فِي الضَّمَانِ كَانَ الرِّبْحُ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَطْلَقَا كَانَ الْمُشْتَرَى نِصْفَيْنِ، لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ فِي الرِّبْحِ، وَإِذَا صَارَتْ هَذِهِ شَرِكَةَ وُجُوهٍ، صَارَ الثَّمَنُ دَيْنًا عَلَيْهِمَا مِنْ غَيْرِ مُضَارَبَةٍ، فَلَا يَمْلِكُ الْمُضَارِبُ أَنْ يَرْهَنَ بِهِ مَالَ الْمُضَارَبَةِ، إلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، فَقَدْ أَعَارَهُ نِصْفَ الرَّهْنِ لِيَرْهَنَ بِدَيْنِهِ، وَإِنْ هَلَكَ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْرِضَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ تَبَرُّعٌ فِي الْحَالِ، إذْ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ لِلْحَالِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُبَادَلَةً فِي الثَّانِي، وَمَالُ الْغَيْرِ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَرُّعَ. وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَبَرُّعٌ، وَلَا يَأْخُذُ سَفْتَجَةً؛ لِأَنَّ أَخْذَهَا اسْتِدَانَةٌ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِدَانَةَ، وَكَذَا لَا يُعْطَى سَفْتَجَةً؛ لِأَنَّ إعْطَاءَ السَّفْتَجَةِ إقْرَاضٌ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَاضَ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، هَكَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْرِضَ، وَلَا أَنْ يَأْخُذَ سَفْتَجَةً، حَتَّى يَأْمُرَهُ بِذَلِكَ بِعَيْنِهِ، فَيَقُولَ لَهُ: خُذْ السَّفَاتِجَ وَأَقْرِضْ إنْ أَحْبَبْتَ فَأَمَّا إذَا قَالَ لَهُ: اعْمَلْ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِكَ فَإِنَّمَا هَذَا عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَخَلْطِ الْمَالِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَقَوْلُنَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: اعْمَلْ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِكَ تَفْوِيضُ الرَّأْيِ إلَيْهِ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَالتَّبَرُّعُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْمُضَارَبَةِ، وَكَذَا الِاسْتِدَانَةُ بَلْ هِيَ عِنْدَ الْإِذْنِ شَرِكَةُ وُجُوهٍ، وَهِيَ عَقْدٌ آخَرُ وَرَاءَ الْمُضَارَبَةِ، وَهُوَ إنَّمَا فَوَّضَ إلَيْهِ الرَّأْيَ فِي الْمُفَاوَضَةِ خَاصَّةً، لَا فِي عَقْدٍ آخَرَ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهَا، فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، وَإِنْ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ. وَلَوْ اشْتَرَى يَصِيرُ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَوْكِيلٌ بِالشِّرَاءِ، وَالتَّوْكِيلُ بِالشِّرَاءِ مُطْلَقًا يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، أَوْ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ فِي مِثْلِهِ مُحَابَاةٌ، وَالْمُحَابَاةُ تَبَرُّعٌ، وَالتَّبَرُّعُ لَا يَدْخُلُ فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتِقَ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ عَنْ الرَّقَبَةِ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى التَّبَرُّعِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ إذْ التِّجَارَةُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَهَذَا مُبَادَلَةُ الْعِتْقِ بِالْمَالِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ؛ لِانْعِدَامِ مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ؛ لِهَذَا لَا يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدًا مِنْ الْمُضَارَبَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِ الْعَبْدِ فَضْلٌ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَإِنْ أَعْتَقَ لَمْ يَنْفُذْ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ السَّابِقَ لَا يُفِيدُهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ عَلَى مَالٍ، وَفِيهِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، فَالْإِعْتَاقُ بِغَيْرِ مَالٍ أَوْلَى، وَلَا مِلْكَ لِلْمُضَارِبِ فِي الْعَبْدِ مِمَّا لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ. وَسَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ مَالٌ آخَرُ سِوَى الْعَبْدِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ بِقَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ لَا فَضْلَ فِيهِ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ حَقٌّ؛ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِرَأْسِ الْمَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ ذَلِكَ الْمَالُ يَصِيرُ الْعَبْدُ رَأْسَ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْعَبْدِ الْمُعْتَقِ فَضْلٌ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ، جَازَ إعْتَاقُهُ فِي قَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ

الْمَالِ، فَقَدْ تَعَيَّنَ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ مِلْكٌ، فَيَنْفُذُ إعْتَاقُهُ فِي قَدْرِ نَصِيبِهِ، كَعَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَاتَبَ عَبْدًا مِنْ الْمُضَارَبَةِ، أَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ كَانَ كَعَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى مَالٍ، فَإِذَا قَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ عَلَيْهِ نَصِيبُهُ، وَكَانَ رَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ، وَلِرَبِّ الْمَالِ فَسْخُ الْكِتَابَةِ قَبْلَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ فِي الْحَالِ وَفِي الثَّانِي أَمَّا فِي الْحَالِ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعُ نَصِيبِهِ وَهِبَتِهِ مَا دَامَ شَيْءٌ مِنْهُ فَكَذَا هَذَا. (وَأَمَّا) الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَوْ أَدَّى وَعَتَقَ نَفْسُهُ، يَفْسُدُ الْبَاقِي عَلَى رَبِّ الْمَالِ، فَأَكَّدَ دَفْعَ هَذَا الضَّرَرِ بِالْفَسْخِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ قَابِلَةٌ لِلْفَسْخِ، فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ، كَأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إذَا بَاعَ حِصَّتَهُ مِنْ بَيْتٍ مُعَيَّنٍ مِنْ دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُمَا، كَانَ لِشَرِيكِهِ نَقْضُ بَيْعِهِ، وَإِنْ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ، لِمَا أَنَّ الشَّرِيكَ يَتَضَرَّرُ بِنَفَاذِ هَذَا الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ مَتَى أَرَادَ أَنْ يَقْسِمَ الدَّارَ يَحْتَاجُ إلَى قِسْمَيْنِ؛ قِسْمَةِ الْبَيْتِ مَعَ الْمُشْتَرِي، وَقِسْمَةِ بَقِيَّةِ الدَّارِ مَعَ الشَّرِيكِ الْأَوَّلِ، وَيَتَضَرَّرُ، فَكَانَ لَهُ نَقْضُ الْبَيْعِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، فَكَذَا هَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا دَبَّرَ الْمُضَارِبُ نَصِيبَهُ، أَوْ أَعْتَقَ إنَّهُ يَنْفُذُ، وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهِ رَبُّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ إنَّمَا يُدْفَعُ إذَا أَمْكَنَ، وَهُنَاكَ لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَالْإِعْتَاقَ تَصَرُّفَانِ لَا يَحْتَمِلَانِ الْفَسْخَ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ أَدَّى الْكِتَابَةَ قَبْلَ الْفَسْخِ عَتَقَ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ، وَهُوَ الْأَدَاءُ، إلَّا أَنَّ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّا أَدَّاهُ الْمُكَاتَبُ قَدْرَ حِصَّتِهِ مِنْ الْمُؤَدَّى؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَاشْتَرَى بِهَا الْمُضَارِبُ عَبْدَيْنِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ، فَأَعْتَقَ أَحَدَهُمَا إنَّهُ لَا يَجُوزُ إعْتَاقُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ إعْتَاقُهُ فِي نَصِيبِهِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَيْسَ إلَّا الْأَلْفَ، فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ رِبْحًا، وَيَكُونُ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ نَصِيبٌ، فَيَنْفُذُ إعْتَاقُهُ فِي نَصِيبِهِ. (وَلَنَا) أَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْمُضَارِبِ مِلْكٌ فِي أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ الْمَالِ، وَالْآخَرُ رِبْحًا، فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَنْ يُجْعَلَ رَأْسَ الْمَالِ وَالْآخَرُ رِبْحًا، أَوْلَى مِنْ الْقَلْبِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُضَارِبِ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الرِّبْحِ قَبْلَ تَعَيُّنِ رَأْسِ الْمَالِ، وَرَأْسُ الْمَالِ لَمْ يَتَعَيَّنْ إلَّا بِتَعْيِينِ مِلْكِ الْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ عِشْرُونَ عَبْدًا، قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَرَأْسُ الْمَالِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، إنَّهُ لَا يَجُوزُ عِتْقُهُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لِلْمُضَارِبِ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِلْكٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ هُوَ رَأْسَ الْمَالِ، فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا مِنْهُمْ لَمْ يَنْفُذْ إعْتَاقُهُ، مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ هَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْعَبِيدَ وَالْجَوَارِيَ لَا يُقْسَمُونَ قِسْمَةً وَاحِدَةً، بَلْ كُلُّ شَخْصٍ يُقْسَمُ عَلَى حِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَبِيدَ وَالْجَوَارِيَ بِمَنْزِلَةِ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ لِلْمُضَارِبِ مِلْكٌ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ الْعُرُوضِ وَنَحْوِهَا فَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ يُقْسَمُونَ قِسْمَةً وَاحِدَةً بِمَنْزِلَةِ الدَّوَابِّ، فَظَهَرَ الرِّبْحُ فَيَنْفُذُ إعْتَاقُهُ فِي قَدْرِ نَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا إنَّمَا يَقْسِمُ الْقَاضِي قِسْمَةً وَاحِدَةً إذَا رَأَى الْقَاضِي ذَلِكَ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا، بَلْ الْعَبِيدُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ لِهَذَا لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِدُونِ بَيَانِ الثَّمَنِ بِالِاتِّفَاقِ، كَالتَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ ثَوْبٍ؛ لِهَذَا لَوْ كَانَتْ الْعَبِيدُ لِلْخِدْمَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، لَا تَجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ بِسَبَبِهِمْ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَفِيهِ فَضْلٌ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ، إنَّهُ يُضَمُّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ، وَيَتَعَيَّنُ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ فِيمَا زَادَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَإِذَا كَانَ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلُ رَأْسِ الْمَالِ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ لِلْمُضَارِبِ فِي أَحَدِهِمَا مِلْكٌ؛ لِاشْتِغَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِرَأْسِ الْمَالِ، وَقَدْ قَالُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إنَّ رَبَّ الْمَالِ لَوْ أَعْتَقَ الْعَبِيدَ نَفَذَ إعْتَاقُهُ فِي جَمِيعِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْمُضَارِبِ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِلْكٌ، نَفَذَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَإِذَا أَعْتَقَهُمْ بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ عَتَقُوا، وَيَضْمَنُ حِصَّةَ الْمُضَارِبِ فِيهِمْ سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا. (أَمَّا) الضَّمَانُ فَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا مِنْ الْعَبِيدِ، فَقَدْ كَانَ لَهُ حَقٌّ أَنْ يَتَمَلَّكَ، وَقَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ فَيَضْمَنُ وَإِنَّمَا اسْتَوَى فِيهِ الْيَسَارُ وَالْإِعْسَارُ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ الْكُلَّ مُبَاشَرَةً، وَنَفَذَ إعْتَاقُهُ فِي الْكُلِّ، فَصَارَ مُتْلِفًا الْمَالَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ ضَمَانِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ نَصِيبُ الْمُعْتَقِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ يَسْرِي إلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهِ الْيَسَارُ وَالْإِعْسَارُ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ إنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ لَمْ تَجُزْ دَعْوَتُهُ،

وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ جَازَتْ دَعْوَتُهُ وَعَتَقَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ، وَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمِلْكِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ فَازْدَادَتْ قِيمَةُ رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَظَهَرَ فِيهِ فَضْلٌ، جَازَتْ دَعْوَتُهُ وَعَتَقَ عَلَيْهِ، وَكَانَ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَتَقَ عَلَى أَحَدِهِمَا نَصِيبُهُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، بِأَنْ وَرِثَ نَصِيبَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى النَّسَبَ وَلَا مِلْكَ لَهُ فِي الْحَالِ، كَانَتْ دَعْوَتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْمِلْكِ فَإِذَا ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ فَقَدْ مَلَكَ جُزْءًا مِنْهُ فَنَفَذَتْ دَعْوَتُهُ فِيهِ، كَمَنْ ادَّعَى النَّسَبَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ثُمَّ مَلَكَ إنَّهُ تَنْفُذُ دَعْوَتُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَهُ ثُمَّ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ، إنَّهُ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ؛ لِأَنَّ إنْشَاءَ الْإِعْتَاقِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَتَوَقَّفُ، كَمَنْ أَعْتَقَ مِلْكَ غَيْرِهِ ثُمَّ مَلَكَهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ عَتَقَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ بِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ، وَالْعَبْدُ الْمُشْتَرَكُ إذَا عَتَقَ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، لَا يَضْمَنُ لِلشَّرِيكِ شَيْئًا وَلَوْ اشْتَرَى أَمَةً قِيمَتُهَا أَلْفٌ، وَرَأْسُ الْمَالِ أَلْفٌ، فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا، فَادَّعَى الْوَلَدَ، لَا يَكُونُ وَلَدُهُ، وَلَا تَكُونُ الْأُمُّ أَمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ هَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا عَلِقَتْ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْعُلُوقُ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَحُكْمُ الْمَسْأَلَةِ يَتَغَيَّرُ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَغْرَمُ الْعُقْرَ مِائَةً، فَإِذَا اسْتَوْفَاهَا رَبُّ الْمَالِ مِنْهُ جَعَلَ الْمُسْتَوْفَى مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَيُنْتَقَصُ رَأْسُ الْمَالِ وَصَارَ تِسْعَمِائَةٍ، فَيَتَعَيَّنُ لِلْمُضَارِبِ مِلْكٌ فِيهِمَا جَمِيعًا، فَنَفَذَتْ دَعْوَتُهُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ، وَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ ضَمِنَ الْمُضَارِبُ مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ سَبْعَمِائَةٍ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَالِ تَمَامَ رَأْسِ مَالِهِ، ثُمَّ يَغْرَمُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَهُوَ تَمَامُ مَا بَقِيَ مِنْ الْأُمِّ، فَظَهَرَ أَنَّ الْوَلَدَ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا فَيَعْتِقُ نِصْفُ الْوَلَدِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَيَسْعَى فِي النِّصْفِ لِرَبِّ الْمَالِ قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ: إنَّ هَذَا الْجَوَابَ هُوَ الصَّحِيحُ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ مَسْأَلَةً أُخْرَى طَعَنَ فِيهَا عِيسَى، وَهُوَ مَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ تُسَاوِي أَلْفًا، فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا، فَادَّعَاهُ الْمُضَارِبُ، لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَيَغْرَمُ الْعُقْرَ، فَإِنْ زَادَتْ قِيمَةُ الْوَلَدِ حَتَّى صَارَتْ أَلْفَيْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ بَعْضَهُ لِظُهُورِ الرِّبْحِ فِي الْوَلَدِ بِزِيَادَةِ قِيمَتِهِ، فَيَعْتِقُ رُبْعَهُ عَلَيْهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ بِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ، وَلَا صُنْعَ لَهُ فِيهَا، وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْجَارِيَةُ عَلَى حَالِهَا لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُضَارِبِ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ رَبُّ الْمَالِ الْعُقْرَ وَالسِّعَايَةَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَظْهَرُ لَهُ الرِّبْحُ فِي الْجَارِيَةِ حَتَّى يَصِلَ إلَى رَبِّ الْمَالِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ، فَلَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْهَا وَلَا صِحَّةَ لِلِاسْتِيلَادِ بِدُونِ الْمِلْكِ وَلَوْ لَمْ تَزِدْ قِيمَةُ الْوَلَدِ، وَلَكِنْ زَادَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ فَصَارَتْ أَلْفَيْنِ، فَإِنَّ الْجَارِيَةَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ لِظُهُورِ الرِّبْحِ فِيهَا بِزِيَادَةِ قِيمَتِهَا، وَعَلَى الْمُضَارِبِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ قِيمَتِهَا لِرَبِّ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صُنْعٌ فِيهَا؛ لِأَنَّ ضَمَانَهَا ضَمَانُ تَمَلُّكٍ؛ لِهَذَا اسْتَوَى فِيهِ الْيَسَارُ وَالْإِعْسَارُ فَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ بِفِعْلِهِ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ مِنْ الْوَلَدِ شَيْئًا مَا لَمْ يَأْخُذْ رَبُّ الْمَالِ شَيْئًا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَلَوْ زَادَتْ قِيمَتُهُمَا جَمِيعًا فَصَارَتْ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ، يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ بَعْضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ الْفَضْلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِزِيَادَةِ قِيمَتِهِ، وَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ تَمَامَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَعُقْرَ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَظَهَرَ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ اسْتَوْفَى رَأْسَ مَالِهِ، وَاسْتَوْفَى مِنْ الرِّبْحِ أَلْفًا وَمِائَةً، وَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْ رِبْحِ الْوَلَدِ مِقْدَارَ أَلْفٍ وَمِائَةٍ فَعَتَقَ الْوَلَدُ مِنْهُ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ، وَبَقِيَ مِنْ الْوَلَدِ مِقْدَارُ تِسْعِمِائَةٍ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، فَمَا أَصَابَ الْمُضَارِبَ عَتَقَ وَمَا أَصَابَ رَبَّ الْمَالِ سَعَى فِيهِ الْوَلَدُ قَالَ عِيسَى: هَذَا الْجَوَابُ خَطَأٌ، وَالصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ: يَضْمَنُ الْمُضَارِبُ مِنْ الْأُمِّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ قِيمَتِهَا وَنِصْفَ الْعُقْرِ، وَبَقِيَ الْوَلَدُ رِبْحًا بَيْنَهُمَا، يَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِرَبِّ الْمَالِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ النِّصْفُ بِحِصَّةِ الْمُضَارِبِ قَالَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عِيسَى هُوَ جَوَابُ مُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، إذَا لَمْ تَزِدْ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَعَلَى قِيَاسِ مَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، الزِّيَادَةُ تَجِبُ أَنْ يَقُولَ: إذَا لَمْ تَزِدْ قِيمَتُهَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْرَمَ الْمُضَارِبُ أَلْفًا وَمِائَةً، ثُمَّ يَسْتَوْفِي الْمُضَارِبُ مِنْ الْوَلَدِ مِائَةً، وَبَقِيَ تِسْعُمِائَةٍ بَيْنَهُمَا فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: الْقِيَاسُ مَا أَجَابَ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي لَمْ تَزِدْ الْقِيمَةُ فِيهَا، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَغْرَمُ بَعْدَ مَا غَرِمَ تَمَامَ رَأْسِ مَالِهِ، إلَّا نِصْفَ مَا بَقِيَ مِنْ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ نِصْفَ مَا بَقِيَ مِنْ الْأُمِّ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَغْرَمَ الْكُلَّ، وَاَلَّذِي أَجَابَ بِهِ فِي مَسْأَلَةِ الزِّيَادَةِ هُوَ الِاسْتِحْسَانُ؛ لِأَنَّ فِي غُرْمِ تَمَامِ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ تَكْثِيرُ الْعِتْقِ، وَالْعِتْقُ وَالرِّقُّ إذَا اجْتَمَعَا غَلَبَتْ الْحُرِّيَّةُ

الرِّقَّ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّمَا افْتَرَقَتْ الْمَسْأَلَتَانِ لِوَصْفِهِمَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْعِتْقِ فِي مَسْأَلَةِ الزِّيَادَةِ زِيَادَةُ قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى سَبَبُ الْعِتْقِ قَبْضُ رَبِّ الْمَالِ الْعُقْرَ، فَلَمَّا شَارَكَ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ فِي سَبَبِ عِتْقِهِ أَنْ يَجْتَمِعَ رِبْحُهُ فِي الْجَارِيَةِ. (وَأَمَّا) فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى لَمَّا كَانَ عِتْقُهُ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ، صَرَفَ نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ إلَى الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ قَدْ مَلَكَهَا وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا: إنَّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا قَصَدَ تَكْثِيرَ الْعِتْقِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى إذَا لَمْ تَزِدْ الْقِيمَةُ لَا يَتَبَيَّنُ تَكْثِيرُ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ فِيمَا بَيْنَهُمَا مِقْدَارُ نِصْفِ الْعُشْرِ، فَلَا يَتَبَيَّنُ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ تَكْثِيرُ الْعِتْقِ، وَقَدْ قَالُوا فِي الْمُضَارِبِ: إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفٍ فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا، فَادَّعَاهُ رَبُّ الْمَالِ ثَبَتَ النَّسَبُ وَعَتَقَ الْوَلَدُ، وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَانْتَقَضَتْ الْمُضَارَبَةُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ صَادَفَتْ مِلْكَهُ، فَثَبَتَ النَّسَبُ وَاسْتَنَدَتْ الدَّعْوَةُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ، وَلَا قِيمَةَ لِلْوَلَدِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلَا فَضْلَ فِي الْمَالِ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ، وَلَا الْعُقْرُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدًا وَلَا أَمَةً مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُزَوِّجُ الْأَمَةَ وَلَا يُزَوِّجُ الْعَبْدَ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَةً مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى جَارِيَةِ الْمُضَارَبَةِ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ تَزَوَّجَ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ وَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ الْمُضَارَبَةِ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ لَمْ يَكُنْ لِلْمُضَارِبِ فِيهَا مِلْكٌ، وَإِنَّمَا لَهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ النِّكَاحَ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ. (وَأَمَّا) خُرُوجُ الْأَمَةِ عَنْ الْمُضَارَبَةِ، فَلِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً حَصَّنَهَا وَمَنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ، وَالْمُضَارَبَةُ تَقْتَضِي الْعَرْضَ عَلَى الْبَيْعِ وَإِبْرَازَهَا لِلْمُشْتَرِي، وَكَانَ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى التَّزْوِيجِ إخْرَاجًا إيَّاهَا عَنْ الْمُضَارَبَةِ، وَيَحْسِبُ مِقْدَارَ قِيمَتِهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَهَا مِنْ الْمُضَارَبَةِ صَارَ كَأَنَّهُ اسْتَرَدَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَةً مِنْ الْمُضَارَبَةِ لِعَبْدٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمُضَارِبِ يَخْتَصُّ بِالتِّجَارَةِ، وَالتَّزْوِيجُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَهُمْ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: إنْ كَانَ يَمْلِكُ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ، لَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ. وَلَوْ أَخَذَ الْمُضَارِبُ نَخْلًا أَوْ شَجَرًا أَوْ رَطْبَةً مُعَامَلَةً عَلَى أَنْ يُنْفِقَ الْمَالَ، لَمْ يَجُزْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ قَالَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ حِينَ دَفَعَ إلَيْهِ: اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُ مُعَامَلَةً عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعِ نَفْسِهِ، وَمَنَافِعُ نَفْسِ الْمُضَارِبِ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَجَرَ نَفْسَهُ لِلْخِدْمَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ مَا شَرَطَ مِنْ الْإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ تَابِعٌ لِلْعَمَلِ، كَالْخَيْطِ فِي إجَارَةِ الْخَيَّاطِ وَالصِّبْغِ فِي الصِّبَاغَةِ. وَكَذَا لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ تَفْوِيضَ الرَّأْيِ إلَيْهِ فِي الْمُضَارَبَةِ، وَالْمُضَارَبَةُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ، وَهَذَا عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعِ نَفْسِهِ، وَمَنَافِعُ نَفْسِ الْمُضَارِبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بَدَلَهَا رَبُّ الْمَالِ وَلَوْ أَخَذَ أَرْضًا مُزَارَعَةً عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا، فَمَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ نِصْفَيْنِ، فَاشْتَرَى طَعَامًا بِبَعْضِ الْمُزَارَعَةِ فَزَرَعَهُ، قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا يَجُوزُ إنْ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ حَقًّا لِرَبِّ الْأَرْضِ فِي مَالِ رَبِّ الْمَالِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ شَارَكَهُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِشْرَاكَ بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ مَا لَمْ يَقُلْ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ فَإِذَا قَالَ: مَلَكَ كَذَا هَذَا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: إنَّ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ وَالْبَقَرَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ، وَالْعَمَلُ عَلَى الْمُضَارِبِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ بَلْ يَكُونُ لِلْمُضَارِبِ خَاصَّةً، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعِ نَفْسِهِ، فَكَانَ لَهُ بَدَلُ مَنَافِعِ نَفْسِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّهُ رَبُّ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ إذَا شَرَطَ الْبَقَرَ عَلَى الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى مَنْفَعَتِهِ، وَإِنَّمَا الْبَقَرُ آلَةُ الْعَمَلِ، وَالْآلَةُ تَبَعٌ مَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا الْعَقْدُ وَلَوْ دَفَعَ الْمُضَارِبُ أَيْضًا بِغَيْرِ بَذْرٍ مُزَارَعَةً جَازَتْ، سَوَاءٌ قَالَ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ أَوْ لَمْ يَقُلْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ شَرِكَةً فِي مَالِ رَبِّ الْمَالِ، إنَّمَا أَجَرَ أَرْضَهُ، وَالْإِجَارَةُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْقِسْمُ الَّذِي لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَهُ إذَا قِيلَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ، فَالْمُضَارَبَةُ وَالشَّرِكَةُ وَالْخَلْطُ، فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ، وَأَنْ يُشَارِكَ غَيْرَهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ شَرِكَةَ عِنَانٍ، وَأَنْ يَخْلِطَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ بِمَالِ نَفْسِهِ، إذَا قَالَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، إذَا لَمْ يَقُلْ لَهُ ذَلِكَ أَمَّا الْمُضَارَبَةُ فَلِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ مِثْلُ الْمُضَارَبَةِ

وَالشَّيْءُ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ، فَلَا يُسْتَفَادُ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ مِثْلُهُ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ التَّوْكِيلَ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ كَذَا هَذَا. (وَأَمَّا) الشَّرِكَةُ فَهِيَ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْلِكَهَا الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَالشَّيْءُ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ، فَمَا فَوْقَهُ أَوْلَى. (وَأَمَّا) الْخَلْطُ فَلِأَنَّهُ يُوجِبُ فِي مَالِ رَبِّ الْمَالِ حَقًّا لِغَيْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ ذَلِكَ، فَدَفَعَ الْمُضَارِبُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ فَنَقُولُ: لَا يَخْلُو مِنْ وُجُوهٍ، إمَّا أَنْ كَانَتْ الْمُضَارَبَتَانِ صَحِيحَتَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَتَا فَاسِدَتَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا صَحِيحَةً، وَالْأُخْرَى فَاسِدَةً فَإِنْ كَانَتَا صَحِيحَتَيْنِ فَإِنَّ الْمَالَ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ بِمُجَرَّدِ الدَّفْعِ إلَى الثَّانِي، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِ الثَّانِي قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ يَهْلَكُ أَمَانَةً وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: يَصِيرُ مَضْمُونًا بِنَفْسِ الدَّفْعِ، عَمِلَ الثَّانِي أَوْ لَمْ يَعْمَلْ، وَإِذَا هَلَكَ قَبْلَ الْعَمَلِ يَضْمَنُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ إذَا لَمْ يَقُلْ لِلْمُضَارِبِ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ لَمْ يَمْلِكْ دَفْعَ الْمَالِ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ، فَإِذَا دَفَعَ صَارَ بِالدَّفْعِ مُخَالِفًا، فَصَارَ ضَامِنًا كَالْمُودَعِ إذَا أُودِعَ. (وَلَنَا) أَنَّ مُجَرَّدَ الدَّفْعِ إيدَاعٌ مِنْهُ، وَهُوَ يَمْلِكُ إيدَاعَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَلَا يَضْمَنُ بِالدَّفْعِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْأَوَّلِ حَتَّى يَعْمَلَ الثَّانِي وَيَرْبَحَ، فَإِذَا عَمِلَ بِهِ وَرَبِحَ كَانَ ضَامِنًا حِينَ رَبِحَ، وَإِنْ عَمِلَ فِي الْمَالِ فَلَمْ يَرْبَحْ حَتَّى ضَاعَ مِنْ يَدِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ الثَّانِي، فَإِذَا عَمِلَ ضَمِنَ، رَبِحَ الثَّانِي أَوْ لَمْ يَرْبَحْ وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ وَالْفَضْلُ بْنُ غَانِمٍ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّ هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا عَمِلَ فَقَدْ تَصَرَّفَ فِي الْمَالِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ، فَيَتَعَيَّنُ بِهِ الضَّمَانُ سَوَاءٌ رَبِحَ أَوْ لَمْ يَرْبَحْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ: لَا سَبِيلَ إلَى التَّضْمِينِ بِالدَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ إيدَاعٌ وَإِبْضَاعٌ، وَلَا بِالْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَرْبَحْ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُبْضَعِ، وَالْمُبْضِعُ لَا يَضْمَنُ بِالْعَمَلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ قَوْلٍ، وَمُجَرَّدُ الْقَوْلِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ؛ لَكِنَّهُ إذَا رَبِحَ فَقَدْ ثَبَتَ لَهُ شَرِكَةً فِي الْمَالِ بِإِثْبَاتِ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ، فَصَارَ الْأَوَّلُ مُخَالِفًا فَيَضْمَنُ، كَمَا لَوْ خَلَطَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ بِغَيْرِهِ، أَوْ شَارَكَ بِهِ، وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِالْعَمَلِ وَالرِّبْحِ أَوْ بِنَفْسِ الْعَمَلِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَرَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِي. أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي الْمُودِعِ إذَا أَوْدَعَ، فَظَاهِرٌ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَعَدَّى بِالدَّفْعِ، وَالثَّانِي تَعَدَّى بِالْقَبْضِ، فَصَارَ عِنْدَهُمَا كَالْمُودِعِ إذَا أَوْدَعَ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ عِنْدَهُ عَلَى الْمُودِعِ الْأَوَّلِ، لَا عَلَى الثَّانِي، وَفِي مَسْأَلَةِ الْمُضَارَبَةِ أَثْبَتَ لَهُ خِيَارَ تَضْمِينِ الثَّانِي، لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الثَّانِي يَعْمَلُ فِي الْمَالِ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، وَهِيَ الرِّبْحُ، فَكَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، فَجَازَ أَنْ يَضْمَنَ وَالْمُودِعُ الثَّانِي لَمْ يَقْبِضْ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، بَلْ لِمَنْفَعَةِ الْأَوَّلِ؛ لِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ فَلَمْ يَضْمَنْ، فَإِنْ ضَمِنَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ لَا يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الثَّانِي، وَصَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَالرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ الضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ، فَقَدْ مَلَكَ الْمَضْمُونَ، وَصَارَ كَأَنَّهُ دَفَعَ مَالَ نَفْسِهِ مُضَارَبَةً إلَى الثَّانِي، فَكَانَ الرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ صَحَّ. وَإِنْ ضَمِنَ الثَّانِي رَجَعَ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَصَارَ حَاصِلُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ غَرَّهُ بِالْعَقْدِ، فَصَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمِنَ، كَمُودِعِ الْغَاصِبِ، وَهُوَ ضَمَانُ كَفَالَةٍ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ الْتَزَمَ لَهُ سَلَامَةَ الْمَقْبُوضِ عَنْ الضَّمَانِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ، وَهُوَ مَا إذَا غَصَبَ رَجُلٌ شَيْئًا فَرَهَنَهُ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَاخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَ الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا ضَمِنَ، وَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الرَّهْنِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ قَبْضَ الْمَرْهُونِ شَرْطُ صِحَّةِ الرَّهْنِ، وَلَمَّا ضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ تَبَيَّنَ أَنَّ قَبْضَهُ لَمْ يَصِحَّ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرَّهْنَ لَمْ يَصِحَّ، إذْ لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الْقَبْضِ، فَأَمَّا فِي الْمُضَارَبَةِ فَيَضْمَنُ الثَّانِي إبْطَالَ الْقَبْضِ بَعْدَ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ عَقْدٌ جَائِزٌ فَكَانَ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ، كَأَنَّهُ ابْتَدَأَ الْعَقْدَ بَعْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ، فَكَانَ التَّضْمِينُ إبْطَالَ الْقَبْضِ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الْمُضَارَبَةَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَارِبَ لَوْ بَاعَ الْمَالَ مِنْ رَبِّ الْمَالِ لَا تَبْطُلُ الْمُضَارَبَةُ وَإِنْ بَطَلَ قَبَضَهُ وَلَوْ رَدَّ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ عَلَى الرَّاهِنِ يَبْطُلُ الرَّهْنُ لِذَلِكَ افْتَرَقَا وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَطِيبُ الرِّبْحُ لِلْأَسْفَلِ، وَلَا يَطِيبُ لِلْأَعْلَى عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَسْفَلِ بِعَمَلِهِ، وَلَا خَطَرَ فِي عَمَلِهِ، فَيَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ، فَأَمَّا الْأَعْلَى

فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَالْمِلْكُ فِي رَأْسِ الْمَالِ إنَّمَا حَصَلَ لَهُ بِالضَّمَانِ، فَلَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ خُبْثٍ، فَلَا يَطِيبُ لَهُ وَإِنْ كَانَتَا فَاسِدَتَيْنِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَجِيرٌ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَالثَّانِي أَجِيرُ الْأَوَّلِ، فَصَارَ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَعْمَلُ فِي مَالِهِ، فَاسْتَأْجَرَ الْأَجِيرُ رَجُلًا، وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا صَحِيحَةً وَالْأُخْرَى فَاسِدَةً، فَإِنْ كَانَتْ الْأُولَى صَحِيحَةً وَالْأُخْرَى فَاسِدَةً فَكَذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ عَمِلَ الْمُضَارِبُ الثَّانِي فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الثَّانِي أَجِيرُ الْأَوَّلِ، وَالْأَجِيرُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ شَرِكَةٌ فِي رَأْسِ الْمَالِ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ وَلَا عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْأَجِيرِ، وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ وَلَا عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْأَجِيرِ، وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ، وَلِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ مَا شَرَطَ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ لِوُقُوعِ الْمُضَارَبَةِ صَحِيحَةً. وَإِنْ كَانَتْ الْأُولَى فَاسِدَةً وَالثَّانِيَةُ صَحِيحَةً فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَجِيرٌ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الرِّبْحِ، فَلَمْ يَنْفُذْ شَرْطُهُ فِيهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ إذْ الضَّمَانُ إنَّمَا يَجِبُ بِإِثْبَاتِ الشَّرِكَةِ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ فِي مُضَارَبَةٍ فَاسِدَةٍ، وَلِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الثَّانِي وَقَعَ لَهُ، فَكَأَنَّهُ عَمِلَ بِنَفْسِهِ وَلِلثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ مِثْلُ مَا شَرَطَ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ مُضَارَبَةٍ صَحِيحَةٍ، وَقَدْ سَمَّى لَهُ أَشْيَاءَ، فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْغَيْرِ فَيَضْمَنُ هَذَا، إذَا لَمْ يَقُلْ لَهُ رَبُّ الْمَالِ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ فَأَمَّا إذَا قَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الرَّأْيَ إلَيْهِ، وَقَدْ رَأَى أَنْ يَدْفَعَهُ مُضَارَبَةً، فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ إذَا عَمِلَ الثَّانِي وَرَبِحَ، كَيْفَ يَقْسِمُ الرِّبْحَ؟ فَنَقُولُ: جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ كَانَ أَطْلَقَ الرِّبْحَ فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى الْمُضَارِبِ، بِأَنْ قَالَ: عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الرِّبْحِ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، أَوْ قَالَ: مَا أَطْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ وَإِمَّا أَنْ أَضَافَهُ إلَى الْمُضَارِبِ، بِأَنْ قَالَ: عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَكَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الرِّبْحِ، أَوْ مَا أَطْعَمَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ رِبْحٍ أَوْ: عَلَى أَنَّ مَا رَبِحْتَ مِنْ شَيْءٍ، أَوْ مَا أَصَبْتَ مِنْ رِبْحٍ، فَإِنْ أَطْلَقَ الرِّبْحَ وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى الْمُضَارِبِ، ثُمَّ دَفَعَ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ الْمَالَ إلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ فَرَبِحَ الثَّانِي، فَثُلُثُ جَمِيعِ الرِّبْحِ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي قَدْ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نِصْفَ الرِّبْحِ، فَكَانَ ثُلُثُ جَمِيعِ الرِّبْحِ بَعْضَ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْأَوَّلُ، فَجَازَ شَرْطُهُ لِلثَّانِي، فَكَانَ ثُلُثُ جَمِيعِ الرِّبْحِ لِلثَّانِي، وَنِصْفُهُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَمْلِكُ مِنْ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ شَيْئًا، فَانْصَرَفَ شَرْطُهُ إلَى نَصِيبِهِ لَا إلَى نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ، فَبَقِيَ نَصِيبُ رَبِّ الْمَالِ عَلَى حَالِهِ، وَهُوَ النِّصْفُ، وَسُدُسُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ لِلثَّانِي فَبَقِيَ لَهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَيَطِيبُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْمُضَارِبِ الثَّانِي وَقَعَ لَهُ، فَكَأَنَّهُ عَمِلَ بِنَفْسِهِ، كَمَنْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ، فَاسْتَأْجَرَ الْأَجِيرُ مَنْ خَاطَهُ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ، طَابَ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّ عَمَلَ أَجِيرِهِ وَقَعَ لَهُ، فَكَأَنَّهُ عَمِلَ بِنَفْسِهِ، كَذَا هَذَا. وَلَوْ دَفَعَ إلَى الثَّانِي مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَنِصْفُ الرِّبْحِ لِلثَّانِي، وَنِصْفُهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ جَمِيعَ مَا يَسْتَحِقُّهُ وَهُوَ نِصْفُ الرِّبْحِ لِلثَّانِي، وَصَحَّ جَعْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلنِّصْفِ، وَالنِّصْفُ لِرَبِّ الْمَالِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَصَارَ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ فَاسْتَأْجَرَ الْأَجِيرُ مَنْ خَاطَهُ بِدِرْهَمٍ. وَلَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثَيْنِ، فَنِصْفُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَنِصْفُهُ لِلْمُضَارِبِ الثَّانِي، وَيَرْجِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِمِثْلِ سُدُسِ الرِّبْحِ الَّذِي شَرَطَهُ لَهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الزِّيَادَةِ إنْ لَمْ يَنْفُذْ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ لَمَّا لَمْ يَرْضَ لِنَفْسِهِ بِأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الرِّبْحِ، فَقَدْ صَحَّ فِيمَا بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ غَرَّ الثَّانِي بِتَسْمِيَةِ الزِّيَادَةِ، وَالْغُرُورُ فِي الْعُقُودِ مِنْ أَسْبَابِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَوَّل صَارَ مُلْتَزِمًا سَلَامَةَ هَذَا الْقَدْرِ لِلثَّانِي، وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ فَيَغْرَمُ لِلثَّانِي مِثْلَ سُدُسِ الرِّبْحِ، وَلَا يَصِيرُ بِذَلِكَ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ لَمْ يَنْفُذْ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ، فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فِي حَقِّهِ، فَلَا يَضْمَنُ وَصَارَ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ، فَاسْتَأْجَرَ الْأَجِيرُ مَنْ يَخِيطُهُ بِدِرْهَمٍ وَنِصْفٍ إنَّهُ يَضْمَنُ زِيَادَةَ الْأُجْرَةِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ أَضَافَهُ إلَى الْمُضَارِبِ فَدَفَعَهُ الْأَوَّلُ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ بِالثُّلُثِ، أَوْ بِالنِّصْفِ، أَوْ بِالثُّلُثَيْنِ، فَجَمِيعُ مَا شَرَطَ لِلثَّانِي مِنْ الرِّبْحِ يُسَلَّمُ لَهُ، وَمَا شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ مِنْ الرِّبْحِ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ نِصْفَيْنِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ هُنَا شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ نِصْفَ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُضَارِبِ، أَوْ نِصْفَ مَا رَبِحَ الْمُضَارِبُ، فَإِذَا دَفَعَ إلَى الثَّانِي مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ كَانَ الَّذِي رَزَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُضَارِبَ الْأَوَّلَ الثُّلُثَيْنِ، فَكَانَ الثُّلُثُ لِلثَّانِي وَالثُّلُثَانِ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ نِصْفَيْنِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الثُّلُثُ

وَإِذَا دَفَعَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ كَانَ مَا رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ النِّصْفَ، فَكَانَ النِّصْفُ لِلثَّانِي وَالنِّصْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِذَا دَفَعَهُ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثَيْنِ كَانَ الَّذِي رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالثُّلُثَانِ لِلثَّانِي، وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ رَبُّ الْمَالِ إنَّمَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ جَمِيعِ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى وَنِصْفَ جَمِيعِ الرِّبْحِ، وَذَلِكَ يَنْصَرِفُ إلَى كُلِّ الرِّبْحِ. وَكَذَا لَهُ أَنْ يَخْلِطَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ بِمَالِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الرَّأْيَ إلَيْهِ، وَقَدْ رَأَى الْخَلْطَ وَإِذَا رَبِحَ قَسَّمَ الرِّبْحَ عَلَى الْمَالَيْنِ، فَرِبْحُ مَالِهِ يَكُونُ لَهُ خَاصَّةً، وَرِبْحُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَكَذَا لَهُ أَنْ يُشَارِكَ غَيْرَهُ شَرِكَةَ عِنَانٍ لِمَا قُلْنَا، وَيَقْسِمُ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ صَحَّ وَإِذَا قَسَمَ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا يَكُونُ مَالُ الْمُضَارَبَةِ مَعَ حِصَّةِ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ، فَيَسْتَوْفِي مِنْهَا رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ، وَمَا فَضَلَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ. (وَأَمَّا) الْقِسْمُ الَّذِي لَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَهُ أَصْلًا وَرَأْسًا، فَشِرَاءُ مَا لَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ وَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِيهِ إذَا قَبَضَهُ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَنَحْوُ شِرَاءِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَتَضَمَّنُ الْإِذْنَ بِالتَّصَرُّفِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الرِّبْحُ، وَالرِّبْحُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، فَمَا لَا يُمْلَكُ بِالشِّرَاءِ لَا يَحْصُلُ فِيهِ الرِّبْحُ، وَمَا يُمْلَكُ بِالشِّرَاءِ لَكِنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهِ، لَا يَحْصُلُ فِيهِ الرِّبْحُ أَيْضًا، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِذْنِ، فَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لَا لِلْمُضَارَبَةِ، فَإِنْ دَفَعَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ يَضْمَنُ، وَإِنْ اشْتَرَى ثَوْبًا أَوْ عَبْدًا، أَوْ عَرْضًا مِنْ الْعُرُوضِ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا سِوَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، فَالشِّرَاءُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ هُنَا مِمَّا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ، فَكَانَ هَذَا شِرَاءً فَاسِدًا وَالْإِذْنُ بِالشِّرَاءِ الْمُسْتَفَادِ بِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ يَتَنَاوَلُ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ. (وَأَمَّا) إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَيْتَةً أَوْ دَمًا، فَمَا اشْتَرَى بِهِ لَا يَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ لَا تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ أَصْلًا. (وَأَمَّا) الثَّانِي فَنَحْوُ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَا رَحِم مَحْرَمٍ مِنْ رَبِّ الْمَالِ، فَلَا يَكُونُ الْمُشْتَرَى لِلْمُضَارَبَةِ، بَلْ يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ شِرَاؤُهُ لِلْمُضَارَبَةِ لَعَتَقَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْإِذْنِ، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِذْنِ، وَلَوْ اشْتَرَى ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ فَالشِّرَاءُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ فَيَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهِ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ لَمْ يَكُنْ الشِّرَاءُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ يَمْلِكُ قَدْرَ نَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ فَيَعْتِقُ ذَلِكَ الْقَدْرُ عَلَيْهِ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهِ وَلَا عَلَى بَيْعِ الْبَاقِي لِأَنَّهُ مُعْتَقُ الْبَعْضِ، وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهِ لَا يَكُونُ لِلْمُضَارَبَةِ لِمَا قُلْنَا. (وَأَمَّا) الْمُضَارَبَةُ الْمُقَيَّدَةُ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا، لَا تُفَارِقُهَا إلَّا فِي قَدْرِ الْقَيْدِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْقَيْدَ إنْ كَانَ مُفِيدًا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشُّرُوطِ اعْتِبَارُهَا مَا أَمْكَنَ، وَإِذَا كَانَ الْقَيْدُ مُفِيدًا كَانَ يُمْكِنُ الِاعْتِبَارُ فَيُعْتَبَرُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» فَيَتَقَيَّدُ بِالْمَذْكُورِ وَيَبْقَى مُطْلَقًا فِيمَا وَرَاءَهُ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي الْمُطْلَقِ إذَا قُيِّدَ بِبَعْضِ الْمَذْكُورِ، إنَّهُ يَبْقَى مُطْلَقًا فِيمَا وَرَاءَهُ، كَالْعَامِّ إذَا خُصَّ مِنْهُ بَعْضُهُ، إنَّهُ يَبْقَى عَامًّا فِيمَا وَرَاءَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لَا يَثْبُتُ بَلْ يَبْقَى مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ يَلْغُو وَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا دَفَعَ رَجُلٌ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِهِ فِي الْكُوفَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي غَيْرِ الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَى أَنْ مِنْ أَلْفَاظِ الشَّرْطِ وَأَنَّهُ شَرْطٌ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ تَخْتَلِفُ بِالرُّخْصِ وَالْغَلَاءِ، وَكَذَا فِي السَّفَرِ خَطَرٌ فَيُعْتَبَرُ، وَحَقِيقَةُ الْفِقْهِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِذْنَ كَانَ عَدَمًا وَإِنَّمَا يَحْدُثُ بِالْعَقْدِ، فَيَبْقَى فِيمَا وَرَاءِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ عَلَى أَصْلِ الْعَدَمِ، وَكَذَا لَا يُعْطِيهَا بِضَاعَةً لِمَنْ يَخْرُجُ بِهَا مِنْ الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْلِكْ الْإِخْرَاجَ بِنَفْسِهِ، فَلَأَنْ لَا يَمْلِكَ الْأَمْرَ بِذَلِكَ أَوْلَى، وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ الْكُوفَةِ فَإِنْ اشْتَرَى بِهَا وَبَاعَ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فَصَارَ فِيهِ مُخَالِفًا فَيَضْمَنُ، وَكَانَ الْمُشْتَرَى لِنَفْسِهِ، لَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضَيْعَتُهُ، لَكِنْ لَا يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَطِيبُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ بِهَا شَيْئًا، حَتَّى رَدَّهَا إلَى الْكُوفَةِ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ، وَرَجَعَ الْمَالُ مُضَارَبَةً عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ قَبْلَ تَقَرُّرِ الْخِلَافِ، فَيَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ، كَالْمُودَعِ إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ. وَلَوْ لَمْ يَرُدَّهُ حَتَّى هَلَكَ قَبْلَ التَّصَرُّفِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَصَرَّفْ لَمْ يَتَقَرَّرْ الْخِلَافُ، فَلَا يَضْمَنُ. وَلَوْ اشْتَرَى بِبَعْضِهِ وَرَدَّ بَعْضَهُ فَمَا اشْتَرَاهُ فَهُوَ لَهُ وَمَا رَدَّ رَجَعَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ الْخِلَافُ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَى، وَزَالَ عَنْ الْقَدْرِ الْمَرْدُودِ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِي سُوقِ الْكُوفَةِ فَعَمِلَ فِي الْكُوفَةِ فِي غَيْرِ

سُوقِهَا فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ فِي مَكَان مُعَيَّنٍ، فَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي بَلَدٍ مُعَيَّنٍ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِسُوقِ الْكُوفَةِ غَيْرُ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّ الْبَلَدَ الْوَاحِدَ بِمَنْزِلَةِ بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّعْلِيقِ بِهَذَا الشَّرْطِ فَيَلْغُو الشَّرْطُ وَلَوْ قَالَ لَهُ: اعْمَلْ بِهِ فِي سُوقِ الْكُوفَةِ، أَوْ: لَا تَعْمَلْ بِهِ إلَّا فِي سُوقِ الْكُوفَةِ فَعَمِلَ فِي غَيْرِ سُوقِ الْكُوفَةِ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَعْمَلْ إلَّا فِي سُوقِ الْكُوفَةِ حَجْرٌ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ الْحَجْرِ وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مَا حَجَرَ عَلَيْهِ، بَلْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ فِي السُّوقِ، وَالشَّرْطُ غَيْرُ مُفِيدٍ فَلَغَا وَلَوْ قَالَ لَهُ: خُذْ هَذَا الْمَالَ تَعْمَلْ بِهِ فِي الْكُوفَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْعَمَلُ فِي غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ. فِي كَلِمَةُ ظَرْفٍ فَقَدْ جَعَلَ الْكُوفَةَ ظَرْفًا لِلتَّصَرُّفِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ فِيهِ، فَلَوْ جَازَ فِي غَيْرِهَا لَمْ تَكُنْ الْكُوفَةُ ظَرْفًا لِتَصَرُّفِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهُ: فَاعْمَلْ بِهِ فِي الْكُوفَةِ لِمَا قُلْنَا، وَلِأَنَّ الْفَاءَ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيقِ، فَتُوجِبُ تَعَلُّقَ مَا قَبْلَهَا بِمَا بَعْدَهَا، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ إذَا لَمْ يَجُزْ التَّصَرُّفُ فِي غَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ بِالتَّصَرُّفِ بِالْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ حَرْفُ إلْصَاقٍ فَتَقْتَضِي الْتِصَاقَ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ، وَهَذَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّصَرُّفِ فِي غَيْرِهَا وَلَوْ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً، وَاعْمَلْ بِهِ فِي الْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يُعْمِلَهُ بِالْكُوفَةِ، وَحَيْثُ مَا بَدَا لَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً، إذْنٌ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ مُطْلَقًا وَقَوْلَهُ: وَاعْمَلْ بِهِ فِي الْكُوفَةِ إذْنٌ لَهُ بِالْعَمَلِ فِي الْكُوفَةِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ، كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَعْتِقْ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِي ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَعْتِقْ عَبْدِي سَالِمًا إنَّ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ أَيَّ عَبْدٍ شَاءَ، وَلَا يَتَقَيَّدُ التَّوْكِيلُ بِإِعْتَاقِ سَالِمٍ، كَذَا هَذَا إذْ الْمُضَارَبَةُ تَوْكِيلٌ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَلَوْ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً إلَى سَنَةٍ جَازَتْ الْمُضَارَبَةُ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ إذَا وَقَّتَ لِلْمُضَارَبَةِ وَقْتًا، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَوْنُهَا فِي الْوَقْتِ، فَلَا يُفِيدُ الْعَقْدُ فَائِدَةً. (وَلَنَا) أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَوْكِيلٌ، وَالتَّوْكِيلُ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ وَقَالَ: لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا تَوْقِيتُ الْمُضَارَبَةِ وَقِيَاسُ قَوْلِهِمْ فِي الْوَكَالَةِ، أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِالْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ الْيَوْمَ، فَبَاعَهُ غَدًا جَازَ، كَالْوَكَالَةِ الْمُطْلَقَةِ وَمَا قَالَهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْوَكِيلِ: إذَا قِيلَ لَهُ: بِعْهُ الْيَوْمَ، وَلَا تَبِعْهُ غَدًا جَازَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ غَدًا. وَكَذَا إذَا قِيلَ لَهُ: عَلَى أَنْ تَبِيعَهُ الْيَوْمَ دُونَ غَدٍ وَلَوْ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، عَلَى أَنْ تَشْتَرِيَ بِهِ الطَّعَامَ أَوْ قَالَ: فَاشْتَرِ بِهِ الطَّعَامَ أَوْ قَالَ تَشْتَرِي بِهِ الطَّعَامَ أَوْ قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فِي الطَّعَامِ فَذَلِكَ كُلُّهُ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ سِوَى الطَّعَامِ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا ذَكَرْنَا، عَلَى أَنَّ إنْ لِلشَّرْطِ وَالْأَصْلُ فِي الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فِي الْكَلَامِ اعْتِبَارُهُ، وَالْفَاءُ لِتَعْلِيقِ مَا قَبْلَهَا بِمَا بَعْدَهَا، وَقَوْلُهُ: يَشْتَرِي بِهِ الطَّعَامَ تَفْسِيرُ التَّصَرُّفِ الْمَأْذُونِ بِهِ وَقَوْلُهُ فِي الطَّعَامِ فَفِي كَلِمَةُ ظَرْفٍ، فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى مَا لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا تَصِيرُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَقْتَضِي التَّقْيِيدَ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَأَنَّهُ شَرْطٌ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّ بَعْضَ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ بَعْضٍ. وَكَذَا النَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ يَهْتَدِي الْإِنْسَانُ إلَى بَعْضِ التِّجَارَةِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَانَ الشَّرْطُ مُفِيدًا فَيَتَقَيَّدُ بِهِ، وَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ غَيْرَ الطَّعَامِ، وَالطَّعَامُ هُوَ الْحِنْطَةُ وَدَقِيقُهَا، إذْ لَا يُرَادُ بِهِ كُلُّ مَا يُتَطَعَّمُ، بَلْ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ، وَالْأَمْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَادَةِ الْبُلْدَانِ، فَاسْمُ الطَّعَامِ فِي عُرْفِهِمْ لَا يَنْطَلِقُ إلَّا عَلَى الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ ذَكَرَ جِنْسًا آخَرَ بِأَنْ قَالَ لَهُ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، عَلَى أَنْ تَشْتَرِيَ بِهِ الدَّقِيقَ أَوْ الْخُبْزَ أَوْ الْبُرَّ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْجِنْسِ بِلَا خِلَافٍ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ الْجِنْسَ فِي الْمِصْرِ وَغَيْرِهِ، وَأَنْ يُبْضِعَ فِيهِ، وَأَنْ يَعْمَلَ فِيهِ جَمِيعَ مَا يَعْمَلُهُ الْمُضَارِبُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْمُطْلَقَةِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّفْظَ الْمُطْلَقَ إذَا قُيِّدَ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ يَبْقَى عَلَى إطْلَاقِهِ فِيمَا وَرَاءَهُ. وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا قَالَ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً، فَقَالَ لَهُ: إنْ اشْتَرَيْتَ بِهِ الْحِنْطَةَ فَلَكَ مِنْ الرِّبْحِ النِّصْفُ وَلِيَ النِّصْفُ، وَإِنْ اشْتَرَيْتَ بِهِ الدَّقِيقَ فَلَكَ الثُّلُثُ وَلِيَ الثُّلُثَانِ فَقَالَ: هَذَا جَائِزٌ، وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَيَّ ذَلِكَ شَاءَ عَلَى مَا سَمَّى لَهُ رَبُّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ عَمَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَيَجُوزُ كَمَا لَوْ خَيَّرَ الْخَيَّاطَ بَيْنَ الْخِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ عَمِلَ فِي الْمِصْرِ فَلَهُ ثُلُثُ الرِّبْحِ، وَإِنْ سَافَرَ فَلَهُ النِّصْفُ جَازَ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا، إنْ عَمِلَ فِي الْمِصْرِ فَلَهُ الثُّلُثُ، وَإِنْ سَافَرَ فَلَهُ النِّصْفُ، وَلَوْ اشْتَرَى فِي الْمِصْرِ وَبَاعَ فِي السَّفَرِ، أَوْ اشْتَرَى فِي السَّفَرِ وَبَاعَ فِي الْمِصْرِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمُضَارَبَةُ فِي هَذَا عَلَى الشِّرَاءِ، فَإِنْ اشْتَرَى فِي الْمِصْرِ فَمَا رَبِحَ فِي ذَلِكَ الْمَتَاعِ، فَهُوَ عَلَى مَا شُرِطَ فِي الْمِصْرِ. سَوَاءٌ

بَاعَهُ فِي الْمِصْرِ أَوْ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِالْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ يَحْصُلُ بِالشِّرَاءِ، فَإِذَا اشْتَرَى فِي الْمِصْرِ تَعَيَّنَ أَحَدُ الْعَمَلَيْنِ، فَلَا يَتَغَيَّرُ بِالسَّفَرِ، وَإِنْ عَمِلَ بِبَعْضِ الْمَالِ فِي السَّفَرِ وَبِالْبَعْضِ فِي الْحَضَرِ، فَرِبْحُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ عَلَى مَا شَرَطَ وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَى أَنْ تَشْتَرِيَ مِنْ فُلَانٍ وَتَبِيعَ مِنْهُ، جَازَ عِنْدَنَا وَهُوَ عَلَى فُلَانٍ خَاصَّةً لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ مِنْ غَيْرِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ فِي تَعْيِينِ الشَّخْصِ تَضْيِيقَ طَرِيقِ الْوُصُولِ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ التَّصَرُّفِ وَهُوَ الرِّبْحُ، وَتَغْيِيرَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ التَّصَرُّفُ مَعَ مَنْ شَاءَ. (وَلَنَا) أَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُفِيدٌ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ قَدْ يَكُونُ أَرْبَحَ لِكَوْنِهِ أَسْهَلَ فِي الْبَيْعِ، وَقَدْ يَكُونُ أَوْثَقَ عَلَى الْمَالِ فَكَانَ التَّقْيِيدُ مُفِيدًا، كَالتَّقْيِيدِ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ وَقَوْلُهُ: التَّعْيِينُ يُغَيِّرُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ مُفِيدًا مِنْ الِابْتِدَاءِ، وَإِنَّهُ قَيْدٌ مُفِيدٌ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ تَشْتَرِيَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَتَبِيعَ فَاشْتَرَى وَبَاعَ مِنْ رِجَالٍ بِالْكُوفَةِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يُفِيدُ إلَّا تَرْكَ السَّفَرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: عَلَى أَنْ تَشْتَرِيَ مِمَّنْ بِالْكُوفَةِ. وَكَذَلِكَ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا مُضَارَبَةً فِي الصَّرْفِ، عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الصَّيَارِفَةِ وَيَبِيعَ، كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ غَيْرِ الصَّيَارِفَةِ مَا بَدَا لَهُ مِنْ الصَّرْفِ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالصَّيَارِفَةِ لَا يُفِيدُ إلَّا تَخْصِيصَ الْبَلَدِ، أَوْ النَّوْعِ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ مِنْ صَيْرَفِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ سَوَاءٌ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا مُضَارَبَةً، ثُمَّ قَالَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: اشْتَرِ بِهِ الْبَزَّ وَبِعْ فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْبَزَّ وَغَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ بِالشِّرَاءِ مُطْلَقًا، ثُمَّ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ الْبَزِّ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا شَاءَ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً، وَاعْمَلْ بِهِ بِالْكُوفَةِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ الْقَيْدَ مُقَارَنٌ، وَهَهُنَا مُتَرَاخٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ نَهَاهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَالْحُكْمُ فِي التَّقْيِيدِ الطَّارِئِ عَلَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الشِّرَاءِ يَعْمَلُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَا اشْتَرَى بِهِ لَا يَعْمَلُ، إلَى أَنْ يَبِيعَهُ بِمَالِ عَيْنٍ، فَيَعْمَلُ التَّقْيِيدُ عِنْدَ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَجُوزَ أَنْ يَشْتَرِيَ إلَّا مَا قَالَ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِالنَّقْدِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ إلَّا بِالنَّقْدِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقْيِيدَ مُفِيدٌ فَيَتَقَيَّدُ بِالْمَذْكُورِ وَلَوْ قَالَ لَهُ: بِعْ بِنَسِيئَةٍ، وَلَا تَبِعْ بِالنَّقْدِ فَبَاعَ بِالنَّقْدِ جَازَ؛ لِأَنَّ النَّقْدَ أَنْفَعُ مِنْ النَّسِيئَةِ، فَلَمْ يَكُنِ التَّقْيِيدُ بِهَا مُفِيدًا فَلَا يَثْبُتُ الْقَيْدُ، وَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ لِلْوَكِيلِ: بِعْ بِعَشَرَةٍ فَبَاعَ بِأَكْثَرَ مِنْهَا جَازَ هَذَا. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى عَمَلِ رَبِّ الْمَالِ مِمَّا لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ، وَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا بَاعَ رَبُّ الْمَالِ مَالَ الْمُضَارَبَةِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ أَكْثَرَ جَازَ بَيْعُهُ، وَإِذَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يَجُزْ، إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْمُضَارِبُ، سَوَاءٌ بَاعَ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، أَوْ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ بَيْعِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ طَرِيقِ الْإِعَانَةِ لِلْمُضَارِبِ، وَلَيْسَ مِنْ الْإِعَانَةِ إدْخَالُ النَّقْصِ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ اسْتِهْلَاكٌ فَلَا يَتَحَمَّلُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اثْنَيْنِ، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَهُ، إلَّا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، أَوْ أَكْثَرَ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْمُضَارِبَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، بَلْ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ فِيهِ غَبْنٌ فَلَا يَمْلِكُ الْأَمْرَ بِهِ، وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ مَتَاعًا وَفِيهِ فَضْلٌ، أَوْ لَا فَضْلَ فِيهِ، فَأَرَادَ رَبُّ الْمَالِ بَيْعَ ذَلِكَ فَأَبَى الْمُضَارِبُ، وَأَرَادَ إمْسَاكَهُ حَتَّى يَجِدَ رِبْحًا، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْمَالِكِ عَنْ تَنْفِيذِ إرَادَتِهِ فِي مِلْكِهِ لِحَقٍ يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ وَالْعَدَمَ، وَهُوَ الرِّبْحُ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ: إنْ أَرَدْتَ الْإِمْسَاكَ فَرُدَّ عَلَيْهِ مَالَهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ يُقَالُ لَهُ: ادْفَعْ إلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ، وَحِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَيُسَلِّمُ الْمَتَاعَ إلَيْكَ. وَلَوْ أَخَذَ رَجُلٌ مَالًا لِيَعْمَلَ لِأَجْلِ ابْنِهِ مُضَارَبَةً، فَإِنْ كَانَ الِابْنُ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ الْبَيْعَ، فَالْمُضَارَبَةُ لِلْأَبِ، وَلَا شَيْءَ لِلِابْنِ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ فِي بَابِ الْمُضَارَبَةِ يُسْتَحَقُّ بِالْمَالِ أَوْ بِالْعَمَلِ، وَلَيْسَ لِلِابْنِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ الِابْنُ يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ فَالْمُضَارَبَةُ لِلِابْنِ وَالرِّبْحُ لَهُ إنْ عَمِلَ، فَإِنْ عَمِلَ الْأَبُ بِأَمْرِ الِابْنِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ، وَإِنْ عَمِلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ. وَقَدْ قَالُوا: فِي الْمُضَارِبِ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً، فَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَطَأَهَا، سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ أَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ رِبْحٌ، فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ مِلْكًا وَلَا يَجُوزُ وَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رِبْحٌ، فَلِلْمُضَارِبِ فِيهَا حَقٌّ يُشْبِهُ الْمِلْكَ، بِدَلِيلِ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَا يَمْلِكُ مَنْعَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ. وَلَوْ مَاتَ كَانَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَهَا

فَصَارَتْ كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ. وَيَجُوزُ شِرَاءُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَشِرَاءُ الْمُضَارِبِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ بَيْنَهُمَا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ هَذَا بَيْعُ مَالِهِ بِمَالِهِ، وَشِرَاءُ مَالهِ بِمَالِهِ إذْ الْمَالَانِ جَمِيعًا لِرَبِّ الْمَالِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ كَالْوَكِيلِ مَعَ الْمُوَكِّلِ. (وَلَنَا) أَنَّ لِرَبِّ الْمَالِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ مِلْكَ رَقَبَةٍ لَا مِلْكَ تَصَرُّفٍ، وَمِلْكُهُ فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ كَمِلْكِ الْأَجْنَبِيِّ، وَلِلْمُضَارِبِ فِيهِ مِلْكُ التَّصَرُّفِ لَا الرَّقَبَةِ، فَكَانَ فِي حَقِّ مِلْكِ الرَّقَبَةِ كَمِلْكِ الْأَجْنَبِيِّ حَتَّى لَا يَمْلِكَ رَبُّ الْمَالِ مَنْعَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ، فَكَانَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَالِ الْأَجْنَبِيِّ، لِذَلِكَ جَازَ الشِّرَاءُ بَيْنَهُمَا وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ دَارًا، وَرَبُّ الْمَالِ شَفِيعُهَا بِدَارٍ أُخْرَى بِجَنْبِهَا، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ انْتِزَاعَهُ مِنْ يَدِ الْمُضَارِبِ، وَلِهَذَا جَازَ شِرَاؤُهُ مِنْ الْمُضَارِبِ. وَلَوْ بَاعَ الْمُضَارِبُ دَارًا مِنْ الْمُضَارَبَةِ، وَرَبُّ الْمَالِ شَفِيعُهَا فَلَا شُفْعَةَ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الدَّارِ الْمَبِيعَةِ رِبْحٌ وَقْتَ الْبَيْعِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا رِبْحٌ فَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ وَكِيلُهُ بِالْبَيْعِ، وَالْوَكِيلُ بِبَيْعِ الدَّارِ إذَا بَاعَ لَا يَكُونُ لِلْمُوَكِّلِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ فَأَمَّا حِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ فَكَذَلِكَ هُوَ وَكِيلُ بَيْعِهَا. وَأَمَّا حِصَّةُ الْمُضَارِبِ فَلِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا فِيهَا الشُّفْعَةَ، لَتَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَلِأَنَّ الرِّبْحَ تَابِعٌ لِرَأْسِ الْمَالِ، فَإِذَا لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ فِي الْمَتْبُوعِ، لَا تَجِبُ فِي التَّابِعِ. وَلَوْ بَاعَ رَبُّ الْمَالِ دَارًا لِنَفْسِهِ، وَالْمُضَارِبُ شَفِيعُهَا بِدَارٍ أُخْرَى مِنْ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَفَاءٌ بِثَمَنِ الدَّارِ، لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ لَوَقَعَ لِرَبِّ الْمَالِ وَالشُّفْعَةُ لَا تَجِبُ لَبَائِعِ الدَّارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ وَفَاءٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ رِبْحٌ، فَلَا شُفْعَةَ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا لِرَبِّ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ، فَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ لَهُ نَصِيبًا فِي ذَلِكَ، فَجَازَ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ وَلَوْ أَنَّ أَجْنَبِيًّا اشْتَرَى دَارًا إلَى جَانِبِ دَارِ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَفَاءٌ بِالثَّمَنِ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ لِلْمُضَارَبَةِ، وَإِنْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ بَطَلَتْ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ وَجَبَتْ لِلْمُضَارَبَةِ وَمِلْكُ التَّصَرُّفِ فِي الْمُضَارَبَةِ لِلْمُضَارِبِ، فَإِذَا سَلَّمَ جَازَ بِتَسْلِيمِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ وَفَاءٌ. فَإِنْ كَانَ فِي الدَّارِ رِبْحٌ فَالشُّفْعَةُ لِلْمُضَارِبِ وَلِرَبِّ الْمَالِ جَمِيعًا، فَإِنْ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا فَلِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَهَا جَمِيعًا لِنَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ، كَدَارٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ رِبْحٌ فَالشُّفْعَةُ لِرَبِّ الْمَالِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا نَصِيبَ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ أَجِيرًا كُلَّ شَهْرٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لِيَشْتَرِيَ لَهُ وَيَبِيعَ، ثُمَّ دَفَعَ الْمُسْتَأْجِرُ إلَى الْأَجِيرِ دَرَاهِمَ مُضَارَبَةً، فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِلدَّافِعِ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَجِيرِ سِوَى الْأُجْرَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ وَلَا شَيْءَ لِلْأَجِيرِ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ مَشْغُولًا بِعَمَلِ الْمُضَارَبَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا دَفَعَ إلَيْهِ الْمُضَارَبَةَ فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى تَرْكِ الْإِجَارَةِ وَنَقْضِهَا، فَمَا دَامَ يَعْمَلُ بِالْمُضَارَبَةِ فَلَا أَجْرَ لَهُ، وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ شَرِكَةٌ، لِهَذَا لَا تَقْبَلُ التَّوْقِيتَ. وَلَوْ شَارَكَهُ بَعْدَ مَا اسْتَأْجَرَهُ جَازَتْ الشَّرِكَةُ، فَكَذَا الْمُضَارَبَةُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَأْجَرَهُ فَقَدْ مَلَكَ عَمَلَهُ، فَإِذَا دَفَعَ إلَيْهِ مُضَارَبَةً فَقَدْ شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ رِبْحًا بِعَمَلٍ قَدْ مَلَكَهُ رَبُّ الْمَالِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْجِبَ الرِّبْحَ وَالْأَجْرَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ بِالْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ أَقْوَى مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ، وَالْمُضَارَبَةُ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ وَالشَّيْءُ لَا يَنْتَقِضُ بِمَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ وَمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ شَرِكَةٌ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّرِيكَ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِالْمَالِ، وَالْمُضَارِبَ بِالْعَمَلِ، وَرَبُّ الْمَالِ قَدْ مَلَكَ الْعَمَلَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمُضَارِبُ الرِّبْحَ، وَلِأَنَّ الشَّرِيكَ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ، فَكَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ عَمَلِ الْإِجَارَةِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْأُجْرَةُ بِحِصَّتِهِ، وَالْمُضَارِبُ يَعْمَلُ لِرَبِّ الْمَالِ فَبَقِيَ عَمَلُهُ عَلَى الْإِجَارَةِ وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ أَلْفٌ، عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفٌ، فَقُتِلَ عَمْدًا، فَلِرَبِّ الْمَالِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِلْكُهُ عَلَى الْخُصُوصِ لَا حَقَّ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِصَاصٌ، وَإِنْ اجْتَمَعَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ أَمَّا رَبُّ الْمَالِ فَلِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَيْسَ هُوَ الْعَبْدُ، وَإِنَّمَا هُوَ الدَّرَاهِمُ. وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُعَيِّنَ رَأْسَ مَالِهِ فِي الْعَبْدِ، كَانَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَبِيعَ وَيَدْفَعَ إلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مِلْكُ رَبِّ الْمَالِ، لَمْ يَتَعَيَّنْ مِلْكُ الْمُضَارِبِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مِلْكُهُمَا فِي الْعَبْدِ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ اجْتَمَعَا، وَتُؤْخَذُ قِيمَةُ الْعَبْدِ

مِنْ الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ سَقَطَ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ لِمَانِعٍ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ وَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ يَشْتَرِي بِهِ الْمُضَارِبُ وَيَبِيعُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ كَالثَّمَنِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي النَّوَادِرِ: إذَا كَانَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ عَبْدَانِ، قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ، فَقَتَلَ رَجُلٌ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ عَمْدًا، لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَيْهِ قِصَاصٌ؛ لِأَنَّ مِلْكَ رَبِّ الْمَالِ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَعَلَى الْقَاتِلِ قِيمَتُهُ فِي مَالِهِ، وَيَكُونُ فِي الْمُضَارَبَةِ لِمَا قُلْنَا وَالْأَصْلُ أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَ بِالْقَتْلِ الْقِصَاصُ خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْ الْمُضَارَبَةِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَ بِالْقَتْلِ مَالٌ فَالْمَالُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إذَا اُسْتُوْفِيَ فَقَدْ هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ، وَهَلَاكُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْمُضَارَبَةِ، وَالْقِيمَةُ بَدَلُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَكَانَتْ عَلَى الْمُضَارَبَةِ كَالثَّمَنِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِبَعْضِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ عَمْدًا، فَلَا قِصَاصَ فِيهِ، لَا لِرَبِّ الْمَالِ، وَلَا لِلْمُضَارِبِ، وَلَا لَهُمَا إذَا اجْتَمَعَا أَمَّا رَبُّ الْمَالِ فَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِرَأْسِ الْمَالِ بِالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ وَلِهَذَا لَوْ عَفَا الْمَرِيضُ عَنْ الْقِصَاصِ كَانَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِذَا لَمْ يَصِرْ بِهِ مُسْتَوْفِيًا رَأْسَ مَالِهِ، يَسْتَوْفِي رَأْسَ الْمَالِ مِنْ بَقِيَّةِ الْمَالِ، وَإِذَا اسْتَوْفَى تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ رِبْحًا، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ انْفَرَدَ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ عَنْ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ. (وَأَمَّا) الْمُضَارِبُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمَا الْإِجْمَاعُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ إذَا اُدُّعِيَ عَلَى عَبْدِ الْمُضَارَبَةِ، أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْوَلِيِّ لِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ: يُشْتَرَطُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يُشْتَرَطُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْعَبْدَ فِي بَابِ الْقِصَاصِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ يَجُوزُ إقْرَارُهُ، وَإِنْ كَذَّبَهُ الْوَلِيُّ فَلَا يَقِفُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ عَلَى حُضُورِ الْمَوْلَى كَالْحُرِّ. (وَلَهُمَا) أَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا اسْتِحْقَاقُ رَقَبَةِ الْعَبْدِ، فَلَا تُسْمَعُ مَعَ غَيْبَةِ الْمَوْلَى كَالْبَيِّنَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ، وَالْبَيِّنَةُ الْقَائِمَةُ عَلَى جِنَايَةِ الْخَطَإِ وَقَدْ قَالُوا جَمِيعًا: لَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِقَتْلٍ عَمْدًا، فَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى وَالْمُضَارِبُ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقِصَاصِ مِمَّا لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى مِنْ عَبْدِهِ، وَهُوَ مِمَّا يُمْلَكُ، فَيَمْلِكُهُ الْعَبْدُ كَالطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ الدَّمُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ فَعَفَا أَحَدُهُمَا، فَلَا شَيْءَ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ انْقَلَبَ مَالًا وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي حَقِّ الْمَالِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ أَقَرَّ بِجِنَايَةِ الْخَطَإِ، فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ صَدَّقَهُ فِي إقْرَارِهِ، وَكَذَّبَهُ الْمُضَارِبُ، قِيلَ لِرَبِّ الْمَالِ: ادْفَعْ نِصْفَ نَصِيبِكَ أَوْ: افْدِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ صَدَّقَهُ، وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالِ، قِيلَ لِلْمُضَارِبِ: ادْفَعْ نَصِيبَكَ أَوْ: افْدِهِ وَصَارَ كَأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَقَرَّ فِي الْعَبْدِ بِجِنَايَةٍ وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ. (وَأَمَّا) وُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَى عَبْدِ الْمُضَارَبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ بِقَتْلِهِ لِكَوْنِ مُسْتَحِقِّ الدَّمِ غَيْرَ مُتَعَيِّنٍ، فَإِذَا كَانَ هُوَ الْقَاتِلُ، فَالْمُسْتَحِقُّ لِلْقِصَاصِ هُوَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ، وَإِنَّهُ مُتَعَيِّنٌ، وَتَجُوزُ الْمُرَابَحَةُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ رَبُّ الْمَالِ مِنْ مُضَارِبِهِ فَيَبِيعَهُ مُرَابَحَةً، أَوْ يَشْتَرِيَ الْمُضَارِبُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ فَيَبِيعَهُ مُرَابَحَةً لَكِنْ يَبِيعُهُ عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ إلَّا إذَا بَيَّنَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ، فَيَبِيعُهُ كَيْفَ شَاءَ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ جَوَازَ شِرَاءِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الْمُضَارِبِ، وَالْمُضَارِبِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ رَبَّ الْمَالِ اشْتَرَى مَالَ نَفْسِهِ بِمَالِ نَفْسِهِ، وَالْمُضَارِبُ يَبِيعُ مَالَ رَبِّ الْمَالِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ إذْ الْمَالَانِ مَالُهُ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَى ذَلِكَ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُضَارِبِ بِالْمَالِ وَهُوَ مِلْكُ التَّصَرُّفِ، فَجُعِلَ ذَلِكَ بَيْعًا فِي حَقِّهِمَا لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، بَلْ جُعِلَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَلِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ يُجْرِيهِ الْبَائِعُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَاسْتِخْلَافٍ، فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنْ الْجِنَايَةِ، وَعَنْ شِبْهِ الْجِنَايَةِ مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ تَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ فِي الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا؛ لِجَوَازِ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ بَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ وَرَضِيَ بِهِ الْمُضَارِبُ؛ لِأَنَّ الْجُودَ بِمَالِ الْغَيْرِ أَمْرٌ سَهْلٌ، فَكَانَ تُهْمَةُ الْجِنَايَةِ ثَابِتَةً، وَالتُّهْمَةُ فِي هَذَا الْبَابِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ، فَلَا يَبِيعُ مُرَابَحَةً إلَّا عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ: إذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً، فَاشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ، فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفٍ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ إلَّا إذَا بَيَّنَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ، فَيَبِيعُهُ كَيْفَ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ التُّهْمَةُ وَقَدْ زَالَتْ وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، فَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ، بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ مُرَابَحَةً بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ

الْمُضَارَبَةُ بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ يَنْقَسِمُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ، وَلَا شُبْهَةَ فِي حِصَّةِ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهِ لِرَبِّ الْمَالِ فَصَارَ كَأَنَّ رَبَّ الْمَالِ اشْتَرَى ذَلِكَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، وَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي حِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مَالُهُ بِعَيْنِهِ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ نَفْسِهِ، فَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ إلَّا إذَا بَيَّنَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ فَيَبِيعُهُ كَيْفَ شَاءَ وَلَوْ اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ سِلْعَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، تُسَاوِي أَلْفًا وَخَمْسِمِائَةٍ، فَبَاعَهَا مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ إلَّا إذَا بَيَّنَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ لِمَا ذَكَرْنَا قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ الْمُضَارَبَةِ - وَهُوَ آخِرُ مَا قَالَ: إذَا اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ عَبْدًا بِأَلْفٍ، فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِمِائَةٍ، وَرَأْسُ الْمَالِ أَلْفٌ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ عَلَى مِائَةٍ. وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِمِائَةٍ، بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ بِمِائَةٍ يَبِيعُهُ أَبَدًا عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي الْأَقَلِّ، وَإِنَّمَا التُّهْمَةُ فِي الزِّيَادَةِ فَيَثْبُتُ مَا لَا تُهْمَةَ فِيهِ، وَيَسْقُطُ مَا فِيهِ تُهْمَةٌ وَلَوْ اشْتَرَاهُ رَبُّ الْمَالِ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ، فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّ الْمِائَةَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَلْفِ رِبْحٌ، فَنِصْفُهَا لِلْمُضَارِبِ، وَمَا اشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ لَا تُهْمَةَ فِيهِ، فَيَضُمُّ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ إلَى الْقَدْرِ الَّذِي اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ بِهِ، وَيُسْقِطُ خَمْسَمِائَةٍ؛ لِأَنَّهَا نَصِيبُ رَبِّ الْمَالِ، وَيَسْقُطُ خَمْسُونَ؛ لِأَنَّهَا حَقُّ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ وَلَوْ اشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ بِسِتِّمِائَةٍ، بَاعَهُ مُرَابَحَةً بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي ثَمَنِهِ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَيَسْقُطُ كُلُّ الرِّبْحِ وَيُبَاعُ عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَحْتَسِبُ شَيْئًا مِنْ حِصَّةِ نَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ مَا نَقَدَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ، فَيَجِبُ مِنْ حِصَّتِهِ نِصْفُ مَا زَادَ عَلَى الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى أَلْفٍ بِأَنْ اشْتَرَى بِمِثْلِ رَأْسِ الْمَالِ، أَوْ بِأَقَلَّ مِنْهُ وَلَهُ فِي الْمَالِ رِبْحٌ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ فِي الْمُشْتَرَى حَقٌّ؛ لِكَوْنِهِ مَشْغُولًا بِرَأْسِ الْمَالِ، فَلَا يُظْهِرُ لَهُ الرِّبْحَ كُلَّهُ، كَأَنَّهُ اشْتَرَى وَلَا رِبْحَ فِي يَدِهِ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ تُجْرَى الْمَسَائِلُ، فَمَتَى كَانَ شِرَاءُ الْمُضَارِبِ بِأَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ فَإِنْ كَانَ لِلْمُضَارِبِ حِصَّةٌ ضَمَّهَا إلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ، وَإِذَا اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ مِنْ الْمُضَارِبِ، يَبِيعُهُ عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ، وَيَضُمُّ إلَيْهِ حِصَّةَ الْمُضَارِبِ. وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفَيْنِ فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ بِأَلْفٍ خَمْسُمِائَةٍ رَأْسُ الْمَالِ، وَخَمْسُمِائَةٍ حِصَّةُ الْمُضَارِبِ مِنْ الْأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الثَّمَنِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، فَتَسْقُطُ الزِّيَادَةُ فِيهَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَهُوَ أَلْفٌ، وَيَبْقَى مِنْ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ خَمْسُمِائَةٍ، وَنَصِيبُ الْمُضَارِبِ خَمْسُمِائَةٍ، وَرَبُّ الْمَالِ فِيهَا كَالْأَجْنَبِيِّ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ، ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفَيْنِ، بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ رَأْسُ مَالِ رَبِّ الْمَالِ، وَخَمْسَمِائَةٍ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ، وَرَبُّ الْمَالِ فِيهَا كَالْأَجْنَبِيِّ، وَخَمْسُمِائَةٍ نَصِيبُ رَبِّ الْمَالِ فَيَجِبُ إسْقَاطُهَا قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ، وَرَوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ - وَهُوَ قَوْلُهُ الْآخَرُ: إنَّ رَبَّ الْمَالِ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِعَشْرَةِ آلَافٍ، ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِمِائَةٍ، بَاعَهُ الْمُضَارِبُ مُرَابَحَةً عَلَى مِائَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِعَشْرَةِ آلَافٍ، فَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِمِائَةٍ، بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ مُرَابَحَةً عَلَى مِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ لَا تُهْمَةَ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ الْحَطُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ لَهُ حَطُّهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، لِحَقِّ رَبِّ الْمَالِ، فَإِذَا بَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ وَحَطَّ، فَقَدْ رَضِيَ رَبُّ الْمَالِ بِذَلِكَ فَجَازَ. (وَأَمَّا) عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ سِمَاعَةَ، فَهُوَ أَنَّ الْحَطَّ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفًا فَرَبِحَ فِيهِ أَلْفًا، ثُمَّ اشْتَرَى بِأَلْفَيْنِ جَارِيَةً، ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ حَطَّ مِنْ الثَّمَنِ خَمْسَمِائَةٍ، نِصْفُهَا مِنْ نَصِيبِهِ وَنِصْفُهَا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ يَمْلِكُ الْحَطَّ فِي حَقِّ نَصِيبِهِ، وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، فَلَمْ يَصِحَّ حَطُّ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ فَلِذَلِكَ بَاعَ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، فَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إذَا بَاعَ مُرَابَحَةً أَنْ يَقُولَ: قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا. وَلَا يَقُولَ اشْتَرَيْتُهُ بِكَذَا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَحِقَتْ بِالثَّمَنِ حُكْمًا، وَالشِّرَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا وَقَعَ الْعَقْدُ بِهِ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُ الْأَخِيرُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ الْحَطِّ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ لِحَقِّ رَبِّ الْمَالِ، فَإِذَا اشْتَرَى هُوَ فَقَدْ رَضِيَ بِذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ أَذِنَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَهُ بِنُقْصَانٍ لِأَجْنَبِيٍّ

وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ: لَوْ اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ عَبْدًا بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفَيْنِ أَلْفٌ رَأْسُ الْمَالِ، وَأَلْفٌ رِبْحٌ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، يَسْقُطُ مِنْ ذَلِكَ رِبْحُ رَبِّ الْمَالِ، وَيَبِيعُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَرِبْحُ الْمُضَارِبِ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَى الْعَبْدَ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَالْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفَيْنِ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ خَمْسُمِائَةٍ وَنَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْ الْمَالِ خَمْسُمِائَةٍ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ رِبْحُ رَبِّ الْمَالِ، فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ، فَيَبِيعُهُ كَيْفَ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْبَيْعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ التُّهْمَةُ، فَإِذَا بَيَّنَ فَقَدْ زَالَتْ التُّهْمَةُ، فَيَجُوزُ الْبَيْعُ. وَلَوْ اشْتَرَاهُ رَبُّ الْمَالِ بِأَلْفٍ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ، فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفَيْنِ؛ أَلْفٌ مُضَارَبَةٌ وَأَلْفٌ رِبْحٌ فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى مَا قِيمَتُهُ أَلْفُ ذَهَبٍ، رَبِحَهُ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ فِي الْمَالِ حِصَّةٌ، وَصَارَ كَأَنَّهُ مَالُ رَبِّ الْمَالِ فَبَاعَهُ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ. وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْمُضَارِبِ حِصَّةٌ، فَصَارَ شِرَاءُ مَالِ رَبِّ الْمَالِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فَيَبِيعُهُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ، فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ بِأَلْفَيْنِ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ بِأَلْفٍ وَلَا يَبِيعُهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ أَلْفٌ، فَلَيْسَ فِيهِ رِبْحٌ لِلْمُضَارِبِ يَبِيعُهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمَّا بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ مَا يُسَاوِي أَلْفًا، وَهُمَا مُتَّهَمَانِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ فِي الْعَقْدِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ أَخَذَ أَلْفًا، لَا عَلَى طَرِيقِ الْبَيْعِ وَبَاعَهُ الْعَبْدَ بِأَلْفٍ، فَلَا يَبِيعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَقَدْ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ وَأَرَادَ الْمُضَارِبُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً، بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّ فِي الْعَبْدِ رِبْحًا لِلْمُضَارِبِ، وَنَصِيبُهُ مِنْ الرِّبْحِ هُوَ مَعَ رَبِّ الْمَالِ فِيهِ كَالْأَجْنَبِيِّ، فَيَبِيعُهُ عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ مَعَ حِصَّةِ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: إذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً، فَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفَيْنِ، ثُمَّ إنَّ رَبَّ الْمَالِ بَاعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ مُسَاوَمَةً بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفَيْنِ. وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ مَسْأَلَةٍ أُخْرَى مَذْكُورَةٍ فِي الْبُيُوعِ، وَهِيَ مَا إذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَرَبِحَ فِيهِ ثُمَّ مَلَكَهُ بِشِرَاءٍ آخَرَ، فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً، فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْقُطُ الرِّبْحُ، وَيُعْتَبَرُ مَا مَضَى مِنْ الْعُقُودِ وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَدْ رَبِحَ فِيهِ رَبُّ الْمَالِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَمَّا اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ وَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفَيْنِ، فَنِصْفُ ذَلِكَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، فَلَمَّا بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ، فَقَدْ رَبِحَ فِيهِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَامَ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ، وَنَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ إذَا ضُمَّ إلَى ذَلِكَ فَقَدْ رَبِحَ أَلْفَيْنِ، فَإِذَا اشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ بِأَلْفَيْنِ، وَجَبَ أَنْ يَطْرَحَ الْأَلْفَيْنِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ مُرَابَحَةً إلَّا بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْعَقْدُ الْأَخِيرُ خَاصَّةً فَالرِّبْحُ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَا يَحُطُّ عَنْ الثَّانِي فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى جَمِيعِ الْأَلْفَيْنِ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفٍ، فَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ بِأَلْفٍ وَسِتِّمِائَةٍ، ثُمَّ إنَّ الْمُضَارِبَ اشْتَرَاهُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً، بَاعَهُ عَلَى أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ قَدْ رَبِحَ فِيهِ سِتَّمِائَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَارِبَ لَمَّا اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ بَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَنَصِيبُ رَبُّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، وَكَانَ رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَى بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ رَأْسَ الْمَالِ، وَحِصَّةَ الْمُضَارِبِ، فَلَمَّا بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَسِتِّمِائَةٍ، فَقَدْ رَبِحَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَقَدْ كَانَ رَبِحَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ بِرِبْحِ الْمُضَارِبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحُطَّ ذَلِكَ الْمُضَارِبُ مِنْ الثَّمَنِ، فَيَبْقَى أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ. وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفٍ، فَوَلَّاهُ رَبَّ الْمَالِ ثُمَّ إنَّ رَبَّ الْمَالِ بَاعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ إنَّ الْمُضَارِبَ اشْتَرَاهُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ مُرَابَحَةً بِأَلْفَيْنِ، ثُمَّ إنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمَّا حَطَّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ ثَلَاثَمِائَةٍ، فَإِنَّ الْأَجْنَبِيَّ يَحُطُّ مِنْ الْمُضَارِبِ أَرْبَعَمِائَةٍ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمَّا حَطَّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ ثَلَاثَمِائَةٍ، اسْتَنَدَ ذَلِكَ الْحَطُّ إلَى الْعَقْدِ فَكَأَنَّ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ لَمْ يَكُنْ، فَيُطْرَحُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَتُطْرَحُ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَقَدْ كَانَ الْأَجْنَبِيُّ رَبِحَ مِثْلَ ثُلُثِ الثَّمَنِ فَيَطْرَحُ مَعَ الثَّلَاثِمِائَةِ ثُلُثَهَا، فَيَصِيرُ الْحَطُّ عَنْ الْمُضَارِبِ أَرْبَعَمِائَةٍ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُضَارِبُ أَنْ يَبِيعَ هَذَا الْعَبْدَ مُرَابَحَةً، بَاعَهُ عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ رَبِحَ أَرْبَعَمِائَةٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ مِنْ

الْأَجْنَبِيِّ فَرَبِحَ خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ حَطَّ عَنْهُ ثَلَاثَمِائَةٍ - وَهَذَا الْحَطُّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ جَمِيعًا - مِائَتَيْنِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَمِائَةً مِنْ الرِّبْحِ، فَلَمَّا سَقَطَ مِنْ الرِّبْحِ مِائَةٌ، يَبْقَى الرِّبْحُ أَرْبَعُمِائَةٍ، فَلَمَّا اشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ حَطَّ عَنْهُ أَرْبَعَمِائَةٍ، صَارَ شِرَاؤُهُ بِأَلْفٍ وَسِتِّمِائَةٍ فَيَطْرَحُ عَنْهُ مِقْدَارَ مَا رَبِحَ فِيهِ رَبُّ الْمَالِ، وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةٍ، فَيَبِيعُهُ عَلَى مَا بَقِيَ وَتَجُوزُ الْمُرَابَحَةُ بَيْنَ الْمُضَارِبَيْنِ كَمَا تَجُوزُ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ. قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ: إذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، وَدَفَعَ إلَى رَجُلٍ آخَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَاشْتَرَى أَحَدُ الْمُضَارِبَيْنِ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ، فَبَاعَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ الْآخَرِ بِأَلْفٍ، فَأَرَادَ الثَّانِي أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً، بَاعَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، وَهُوَ أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارِبَيْنِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، فَصَارَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ، كَبَيْعِ الْإِنْسَانِ مِلْكَهُ بِمَالِهِ، فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ. وَلَوْ بَاعَهُ الْأَوَّلُ مِنْ الثَّانِي بِأَلْفَيْنِ، أَلْفٌ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَأَلْفٌ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَإِنَّ الثَّانِي يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ اشْتَرَى نِصْفَهُ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ كَانَ الْأَوَّلُ اشْتَرَى ذَلِكَ النِّصْفَ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ فَيَبِيعُهُ الثَّانِي مُرَابَحَةً عَلَى أَلْفٍ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصِيبَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي شِرَاءِ صَاحِبِهِ فَصَارَا كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ، فَأَمَّا النِّصْفُ الَّذِي اشْتَرَى الثَّانِي بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ، فَقَدْ كَانَ الْأَوَّلُ اشْتَرَاهُ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَهُوَ مَالٌ وَاحِدٌ فَيَبِيعُهُ عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ. وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ اشْتَرَاهُ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ فَبَاعَهُ مِنْ الثَّانِي بِأَلْفَيْنِ لِلْمُضَارَبَةِ، أَلْفٌ رَأْسُ الْمَالِ وَأَلْفٌ رِبْحٌ، فَإِنَّ الثَّانِيَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَبِيعُهُ عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ وَعَلَى حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ وَأَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ أَلْفٌ، وَحِصَّةُ الْمُضَارِبِ خَمْسُمِائَةٍ. وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا بَاعَهُ الثَّانِي عَلَى أَلْفٍ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الثَّمَنَيْنِ خَمْسُمِائَةٍ، وَحِصَّةُ الْمُضَارِبِ خَمْسُمِائَةٍ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ وَحِصَّةٍ مِنْ الرِّبْحِ وَالرِّبْحُ فِي الْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِي دَعْوَى الْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ بِالْعَمَلِ فَاَلَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِعَمَلِهِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ شَيْئَانِ، أَحَدُهُمَا: النَّفَقَةُ وَالْكَلَامُ فِي النَّفَقَةِ فِي مَوَاضِعَ فِي وُجُوبِهَا، وَفِي شَرْطِ الْوُجُوبِ، وَفِيمَا فِيهِ النَّفَقَةُ، وَفِي تَفْسِيرِ النَّفَقَةِ وَفِي قَدْرِهَا وَفِيمَا تُحْتَسَبُ النَّفَقَةُ مِنْهُ. (أَمَّا) الْوُجُوبُ فَلِأَنَّ الرِّبْحَ فِي بَابِ الْمُضَارَبَةِ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، وَالْعَاقِلُ لَا يُسَافِرُ بِمَالِ غَيْرِهِ لِفَائِدَةٍ تَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، مَعَ تَعْجِيلِ النَّفَقَةِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فَلَوْ لَمْ تُجْعَلْ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ قَبُولِ الْمُضَارَبَاتِ مَعَ مِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، فَكَانَ إقْدَامُهُمَا عَلَى هَذَا الْعَقْدِ، وَالْحَالُ مَا وَصَفْنَا إذْنًا مِنْ رَبِّ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَكَانَ مَأْذُونًا فِي الْإِنْفَاقِ دَلَالَةً، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ بِهِ نَصًّا، وَلِأَنَّهُ يُسَافِرُ لِأَجْلِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ وَلَا بِبَدَلٍ وَاجِبٍ لَهُ لَا مَحَالَةَ، فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ فِي الْمَالِ بِخِلَافِ الْمُبْضِعِ لَا يُسَافِرُ بِمَالِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ، وَبِخِلَافِ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِبَدَلٍ لَازِمٍ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا مَحَالَة فَلَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الشَّرِيكِ إذَا سَافَرَ بِالْمَالِ، أَنَّهُ يُنْفِقُ مِنْ الْمَالِ كَالْمُضَارِبِ. (وَأَمَّا) شَرْطُ الْوُجُوبِ فَخُرُوجُ الْمُضَارِبِ بِالْمَالِ مِنْ الْمِصْرِ الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ مِنْهُ مُضَارَبَةً، سَوَاءٌ كَانَ الْمِصْرُ مِصْرَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَمَا دَامَ يَعْمَلُ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ لَا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَإِنْ أَنْفَقَ شَيْئًا مِنْهُ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْإِذْنِ لَا تَثْبُتُ فِي الْمِصْرِ، وَكَذَا إقَامَتُهُ فِي الْحَضَرِ لَا تَكُونُ لِأَجْلِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ ذَلِكَ الْمِصْرِ، سَوَاءٌ كَانَ خُرُوجُهُ بِالْمَالِ مُدَّةَ سَفَرٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنْ مَكَانِ الْمُضَارَبَةِ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ مِنْ الْمِصْرِ لِأَجْلِ الْمَالِ، وَإِذَا انْتَهَى إلَى الْمِصْرِ الَّذِي قَصْدَهُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِصْرُ نَفْسِهِ، أَوْ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ أَهْلٌ، سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ حِينَ دَخَلَ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا بِدُخُولِهِ فِيهِ لَا لِأَجْلِ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِصْرَهُ، وَلَا لَهُ فِيهِ أَهْلٌ، لَكِنَّهُ أَقَامَ فِيهِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، لَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهُ مَا أَقَامَ فِيهِ، وَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا مَا لَمْ يَتَّخِذْ ذَلِكَ الْمِصْرَ الَّذِي هُوَ فِيهِ دَارَ إقَامَةٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَّخِذْهُ دَارَ إقَامَةٍ، كَانَتْ إقَامَتُهُ فِيهِ لِأَجْلِ الْمَالِ، وَإِنْ اتَّخَذَهُ وَطَنًا كَانَتْ إقَامَتُهُ لِلْوَطَنِ لَا لِلْمَالِ فَصَارَ كَالْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ، فَنَقُولُ:. الْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ نَفَقَةُ الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ إلَّا بِالْإِقَامَةِ فِي مِصْرِهِ، أَوْ فِي مِصْرٍ يَتَّخِذُهُ دَارَ إقَامَةٍ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ الَّذِي دَخَلَهُ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِنِيَّةِ الْعَوْدِ إلَى الْمِصْرِ

الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ فِيهِ مُضَارَبَةً، فَإِنَّ نَفَقَتَهُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ حَتَّى يَدْخُلَهُ، فَإِذَا دَخَلَهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِصْرَهُ، أَوْ كَانَ لَهُ فِيهِ أَهْلٌ، سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ وَإِلَّا فَلَا حَتَّى لَوْ أَخَذَ الْمُضَارِبُ مَالًا بِالْكُوفَةِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ الْكُوفَةَ مُسَافِرًا، فَلَا نَفَقَةَ لَهُ فِي الْمَالِ مَا دَامَ بِالْكُوفَةِ لِمَا قُلْنَا فَإِذَا خَرَجَ مِنْهَا مُسَافِرًا فَلَهُ النَّفَقَةُ حَتَّى يَأْتِيَ الْبَصْرَةَ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ لِأَجْلِ الْمَالِ، وَلَا يُنْفِقُ مِنْ الْمَالِ مَا دَامَ بِالْبَصْرَةِ؛ لِأَنَّ الْبَصْرَةَ وَطَنٌ أَصْلِيٌّ لَهُ، فَكَانَ إقَامَتُهُ فِيهَا لِأَجْلِ الْوَطَنِ لَا لِأَجْلِ الْمَالِ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ الْبَصْرَةِ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ الْمَالِ حَتَّى يَأْتِيَ الْكُوفَةَ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ مِنْ الْبَصْرَةِ لِأَجْلِ الْمَالِ. وَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ أَيْضًا مَا أَقَامَ بِالْكُوفَةِ حَتَّى يَعُودَ إلَى الْبَصْرَةِ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ كَانَ وَطَنَ إقَامَةٍ، وَأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالسَّفَرِ، فَإِذَا عَادَ إلَيْهَا وَلَيْسَ لَهُ وَطَنٌ، فَكَانَ إقَامَتُهُ فِيهَا لِأَجْلِ الْمَالِ، فَكَانَ نَفَقَتُهُ فِيهِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ مِمَّنْ يُعِينُهُ عَلَى الْعَمَلِ، فَنَفَقَتُهُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، أَوْ أَجِيرًا يَخْدُمُهُ أَوْ يَخْدُمُ دَابَّتَهُ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ كَنَفَقَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ السَّفَرُ إلَّا بِهِمْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ عَبِيدٌ لِرَبِّ الْمَالِ بَعَثَهُمْ لِيُعَاوِنُوهُ، فَلَا نَفَقَةَ لَهُمْ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَنَفَقَتُهُمْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ إعَانَةَ عَبْدِ رَبِّ الْمَالِ كَإِعَانَةِ رَبِّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ. وَرَبُّ الْمَالِ لَوْ أَعَانَ الْمُضَارِبَ بِنَفْسِهِ فِي الْعَمَلِ، لَمْ تَكُنْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ كَذَا عَبِيدُهُ، فَأَمَّا عَبْدُ الْمُضَارِبِ فَهُوَ كَالْمُضَارِبِ، وَالْمُضَارِبُ إذَا عَمِلَ بِنَفْسِهِ فِي الْمَالِ، أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْهُ كَذَا عَبْدُهُ. (وَأَمَّا) مَا فِيهِ النَّفَقَةُ فَالنَّفَقَةُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، مَا لَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَكُونُ دَيْنًا فِي الْمُضَارَبَةِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْ الْمَالِ وَتَدْبِيرَهُ إلَيْهِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِهِ، وَيَرْجِعَ بِهِ عَلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ، كَالْوَصِيِّ إذَا أَنْفَقَ عَلَى الصَّغِيرِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى مَالِ الصَّغِيرِ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَنْفَقَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، لَكِنْ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْمَالِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَالُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِشَيْءٍ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْمُضَارِبِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَإِذَا هَلَكَ هَلَكَ بِمَا فِيهِ كَالدَّيْنِ يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ، وَالزَّكَاةِ تَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ، وَحُكْمِ الْجِنَايَةِ يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْعَبْدِ الْجَانِي. (وَأَمَّا) تَفْسِيرُ النَّفَقَةِ الَّتِي فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَالْكِسْوَةُ وَالطَّعَامُ وَالْإِدَامُ، وَالشَّرَابُ وَأَجْرُ الْأَجِيرِ، وَفِرَاشٌ يَنَامُ عَلَيْهِ، وَعَلَفُ دَابَّتِهِ الَّتِي يَرْكَبُهَا فِي سَفَرِهِ، وَيَتَصَرَّفُ عَلَيْهَا فِي حَوَائِجِهِ، وَغَسْلِ ثِيَابِهِ وَدُهْنِ السِّرَاجِ وَالْحَطَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا فَكَانَ الْإِذْنُ ثَابِتًا مِنْ رَبِّ الْمَالِ دَلَالَةً. (وَأَمَّا) ثَمَنُ الدَّوَاءِ وَالْحِجَامَةِ وَالْفَصْدِ، وَالتَّنَوُّرِ وَالْأَدْهَانِ، وَمَا يَرْجِعُ إلَى التَّدَاوِي، وَصَلَاحِ الْبَدَنِ، فَفِي مَالِهِ خَاصَّةً لَا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُخْتَصَرِهِ فِي الدُّهْنِ خِلَافَ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ عِنْدَهُ، وَذَكَرَ فِي الْحِجَامَةِ وَالْإِطْلَاءِ بِالنُّورَةِ، وَالْخِضَابِ، قَوْلَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: يَكُونُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَكُونُ فِي مَالِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ لِلْمُضَارِبِ فِي الْمَالِ لِدَلَالَةِ الْإِذْنِ الثَّابِتِ عَادَةً، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ، هَذَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ، يَقْضِي بِالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ، وَلَا يَقْضِي بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ. (وَأَمَّا) الْفَاكِهَةُ فَالْمُعْتَادُ مِنْهَا يَجْرِي مَجْرَى الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ. وَقَالَ بِشْرٌ فِي نَوَادِرِهِ: سَأَلْتُ أَبَا يُوسُفَ عَنْ اللَّحْمِ فَقَالَ: يَأْكُلُ كَمَا كَانَ يَأْكُلُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَأْكُولِ الْمُعْتَادِ. (وَأَمَّا) قَدْرُ النَّفَقَةِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِالْمَعْرُوفِ عِنْدَ التُّجَّارِ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ، فَإِنْ جَاوَزَ ذَلِكَ ضَمِنَ الْفَضْلَ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ ثَابِتٌ بِالْعَادَةِ، فَيُعْتَبَرُ الْقَدْرُ الْمُعْتَادُ، وَسَوَاءٌ سَافَرَ بِرَأْسِ الْمَالِ أَوْ بِمَتَاعٍ عَنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ فِي الْحَالَيْنِ لِأَجْلِ الْمَالِ، وَكَذَا لَوْ سَافَرَ فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ شِرَاءُ مَتَاعٍ مِنْ حَيْثُ قَصَدَ، وَعَادَ بِالْمَالِ فَنَفَقَتُهُ مَا دَامَ مُسَافِرًا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ التِّجَارَةِ عَلَى هَذَا، وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَ الشِّرَاءُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَمَكَانٍ دُونَ مَكَان وَسَوَاءٌ سَافَرَ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَحْدَهُ، أَوْ بِمَالِهِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ لِرَجُلٍ أَوْ رَجُلَيْنِ، فَلَهُ النَّفَقَةُ غَيْرَ أَنَّهُ سَافَرَ بِمَالِهِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ، أَوْ بِمَالَيْنِ لِرَجُلَيْنِ، كَانَتْ النَّفَقَةُ مِنْ الْمَالَيْنِ بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لِأَجْلِ الْمَالَيْنِ، فَتَكُونُ النَّفَقَةُ فِيهِمَا وَإِنْ كَانَ أَخَذَ الْمَالَيْنِ مُضَارَبَةً لِرَجُلٍ، وَالْآخَرُ بِضَاعَةً لِرَجُلٍ آخَرَ، فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ لِأَجْلِهِ لَا لِأَجْلِ الْبِضَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْعَمَلِ بِهَا، إلَّا أَنْ يَتَبَرَّعَ بِعَمَلِ الْبِضَاعَةِ، فَيُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْعَمَلِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَلَيْسَ عَلَى رَبِّ الْبِضَاعَةِ شَيْءٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَذِنَ لَهُ فِي النَّفَقَةِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِأَخْذِ الْبِضَاعَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ كَالْمُودَعِ. وَلَوْ خَلَطَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ بِمَالِهِ وَقَدْ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَالنَّفَقَةُ

بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ لِأَجْلِ الْمَالَيْنِ. (وَأَمَّا) مَا تُحْتَسَبُ النَّفَقَةُ مِنْهُ فَالنَّفَقَةُ تُحْتَسَبُ مِنْ الرِّبْحِ أَوَّلًا إنْ كَانَ فِي الْمَال رِبْحٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ جُزْءٌ هَالِكٌ مِنْ الْمَالِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْهَلَاكَ يَنْصَرِفُ إلَى الرِّبْحِ، وَلِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ خَاصَّةً، أَوْ فِي نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ لَازْدَادَ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ عَلَى نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ، فَإِذَا رَجَعَ الْمُضَارِبُ إلَى مِصْرِهِ فَمَا فَضَلَ عِنْدَهُ مِنْ الْكِسْوَةِ وَالطَّعَامِ رَدَّهُ إلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَهُ بِالنَّفَقَةِ كَانَ لِأَجْلِ السَّفَرِ، فَإِذَا انْقَطَعَ السَّفَرُ لَمْ يَبْقَ الْإِذْنُ، فَيَجِبُ رَدُّ مَا بَقِيَ إلَى الْمُضَارَبَةِ. وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ أَلْفُ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً، فَاشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفَيْنِ فَأَنْفَقَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَالنَّفَقَةُ تَكُونُ اسْتِدَانَةً عَلَى الْمَالِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ إذَا أَنْفَقَ عَلَى عَبْدِ غَيْرِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي أَمَرَهُ بِذَلِكَ، فَإِنْ رَفَعَهُ إلَى الْقَاضِي فَأَمَرَهُ الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ، فَمَا أَنْفَقَ فَهُوَ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذِهِ قِسْمَةٌ مِنْ الْقَاضِي بَيْنَ الْمُضَارِبِ، وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ إذَا قَضَى بِالنَّفَقَةِ، وَإِنَّمَا صَارَتْ النَّفَقَةُ دَيْنًا بِأَمْرِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً عَلَى الْغَائِبِ فِي حِفْظِ مَالِهِ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْحِفْظِ، فَيَمْلِكُ الْأَمْرَ بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا صَارَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ قِسْمَةً لِوُجُودِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ، وَهُوَ التَّعْيِينُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِي لَمَّا أَلْزَمَ الْمُضَارِبَ النَّفَقَةَ لِأَجْلِ نَصِيبِهِ، فَقَدْ عَيَّنَ نَصِيبَهُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ تَعْيِينُ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ إلَّا بَعْدَ تَعْيِينِ رَأْسِ الْمَالِ، وَهَذَا مَعْنَى الْقِسْمَةِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً، فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفَانِ، فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْمُضَارِبِ، وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: النَّفَقَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ كَذَا حَقَّقَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاخْتِلَافَ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُضَارِبَ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ مِلْكٌ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ، فَكَانَتْ الْجَارِيَةُ عَلَى حُكْمِ رَبِّ الْمَالِ، فَكَانَتْ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ، وَيَحْتَسِبُ بِهَا فِي رَأْسِ مَالِهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ يُقَالُ لِرَبِّ الْمَالِ: أَنْفِقْ إنْ شِئْتَ. (وَلَهُمَا) أَنَّ نَصِيبَ الْمُضَارِبِ مِنْ الْعَبْدِ عَلَى مِلْكِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ إعْتَاقَهُ يَنْفُذُ مِنْهُ، فَلَا يَجُوزُ إلْزَامُ رَبِّ الْمَالِ الْإِنْفَاقَ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، فَإِذَا قَضَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَفَقَةِ نَصِيبِهِ، فَقَدْ تَعَيَّنَ الرِّبْحُ وَرَأْسُ الْمَالِ، فَيَكُونُ قِسْمَةً، لِوُجُودِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ، الْعَبْدُ الْآبِقُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ إذَا جَاءَ بِهِ رَجُلٌ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ، وَلَيْسَ فِي يَدِهِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ غَيْرُ الْعَبْدِ إنَّ الْجَعْلَ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ عَلَى مِلْكِهِمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: الْجَعْلُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ يُحْسَبُ فِي رَأْسِ مَالِهِ إذْ هُوَ زِيَادَةٌ فِي رَأْسِ الْمَالِ، فَإِذَا بِيعَ اسْتَوْفَى رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ وَالْجَعْلَ، وَمَا بَقِيَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اُشْتُرِطَ مِنْ الرِّبْحِ. قَالَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إنَّ الْجَعْلَ لَا يُحْتَسَبُ بِهِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَيُحْتَسَبُ بِهِ فِيمَا بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ رِبْحٌ فَالْجَعْلُ مِنْهُ، وَإِلَّا فَهُوَ وَضِيعَةٌ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَلْحَقْ الْجَعْلُ بِرَأْسِ الْمَالِ فِي بَابِ الْمُرَابَحَةِ لِأَنَّ الَّذِي يَلْحَقُ رَأْسَ الْمَالِ فِي الْمُرَابَحَةِ، مَا جَرَتْ عَادَةُ التُّجَّارِ بِإِلْحَاقِهِ بِهِ وَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِإِلْحَاقِ الْجَعْلِ، وَلِأَنَّهُ نَادِرٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ، فَلَا يَلْحَقُ بِالْعَادَةِ مَا لَيْسَ بِمُعْتَادٍ، وَإِنَّمَا اُحْتُسِبَ بِهِ فِيمَا بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ غُرْمٌ لَزِمَ لِأَجْلِ الْمَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْتَسَبَ بِالشَّيْءِ فِيمَا بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ، وَلَا يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ كَنَفَقَةِ الْمُضَارِبِ عَلَى نَفْسِهِ. وَالثَّانِي، مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ بِعَمَلِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ وَهُوَ الرِّبْحُ الْمُسَمَّى إنْ كَانَ فِي الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ بِالْقِسْمَةِ وَشَرْطُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ، فَلَا تَصِحُّ قِسْمَةُ الرِّبْحِ قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ، حَتَّى لَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَرَبِحَ أَلْفًا فَاقْتَسَمَا الرِّبْحَ، وَرَأْسُ الْمَالِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ لَمْ يَقْبِضْهُ رَبُّ الْمَالِ فَهَلَكَتْ الْأَلْفُ الَّتِي فِي يَدِ الْمُضَارِبِ بَعْدَ قِسْمَتِهِمَا الرِّبْحَ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ الْأُولَى لَمْ تَصِحَّ، وَمَا قَبَضَ رَبُّ الْمَالِ فَهُوَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَمَا قَبَضَهُ الْمُضَارِبُ دَيْنٌ عَلَيْهِ يَرُدُّهُ إلَى رَبِّ الْمَالِ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ، وَلَا تَصِحُّ قِسْمَةُ الرِّبْحِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ الْمَالِ. وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ التَّاجِرِ، لَا يَسْلَمُ لَهُ رِبْحُهُ حَتَّى يَسْلَمَ لَهُ رَأْسُ مَالِهِ، كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ لَا تَسْلَمُ لَهُ نَوَافِلُهُ حَتَّى تَسْلَمَ لَهُ عَزَائِمُهُ» فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الرِّبْحِ قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ لَا تَصِحُّ؛ وَلِأَنَّ الرِّبْحَ زِيَادَةٌ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الشَّيْءِ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ سَلَامَةِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ الْمَالَ إذَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ فَحُكْمُ الْمُضَارَبَةِ بِحَالِهَا، فَلَوْ صَحَّحْنَا قِسْمَةَ الرِّبْحِ لَثَبَتَتْ قِسْمَةُ الْفَرْعِ قَبْلَ الْأَصْلِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ

الْقِسْمَةُ، فَإِذَا هَلَكَ مَا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، صَارَ الَّذِي اقْتَسَمَاهُ هُوَ رَأْسُ الْمَالِ، فَوَجَبَ عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يُرَدَّ مِنْهُ تَمَامَ رَأْسِ الْمَالِ، فَإِنْ قَبَضَ رَبُّ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، رَأْسُ مَالِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ ثُمَّ رَدَّ الْأَلْفَ الَّتِي قَبَضَهَا بِعَيْنِهَا إلَى يَدِ الْمُضَارِبِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِهَا بِالنِّصْفِ، فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ، فَإِنْ هَلَكَتْ فِي يَدِهِ لَمْ تُنْتَقَضْ الْقِسْمَةُ الْأُولَى؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمَّا اسْتَوْفَى رَأْسَ الْمَالِ فَقَدْ انْتَهَتْ الْمُضَارَبَةُ، وَصَحَّتْ الْقِسْمَةُ. فَإِذَا رَدَّ الْمَالَ فَهَذَا عَقْدٌ آخَرُ، فَهَلَاكُ الْمَالِ فِيهِ لَا يُبْطِلُ الْقِسْمَةَ فِي غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ الرِّبْحُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْأُولَى أَلْفَيْنِ، وَاقْتَسَمَا الرِّبْحَ، فَأَخَذَ رَبُّ الْمَالِ أَلْفًا وَالْمُضَارِبُ أَلْفًا، ثُمَّ هَلَكَ مَا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ بَاطِلَةٌ، وَمَا قَبَضَهُ رَبُّ الْمَالِ مَحْسُوبٌ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَرَدَّ الْمُضَارِبُ نِصْفَ الْأَلْفِ الَّذِي قَبَضَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا هَلَكَ مَا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ صِحَّةِ الْقِسْمَةِ، صَارَ مَا قَبَضَهُ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ، وَإِذَا صَارَ ذَلِكَ رَأْسَ الْمَالِ تَعَيَّنَ الرِّبْحُ فِيمَا قَبَضَهُ الْمُضَارِبُ بِالْقِسْمَةِ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ نِصْفَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَدْ هَلَكَ مَا قَبَضَهُ الْمُضَارِبُ مِنْ الرِّبْحِ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ نِصْفَهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَبَضَ نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَلَوْ هَلَكَ مَا قَبَضَ رَبُّ الْمَالِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِهَلَاكِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ مَا هَلَكَ بَعْدَ الْقَبْضِ يَهْلَكُ فِي ضَمَانِ الْقَابِضِ، فَبَقَاؤُهُ وَهَلَاكُهُ سَوَاءٌ. قَالُوا: وَلَوْ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ الْمُضَارِبُ: قَدْ كُنْتُ دَفَعْتُ إلَيْكَ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: لَمْ أَقْبِضْ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ، وَيَرُدُّ الْمُضَارِبُ مَا قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ تَمَامَ رَأْسِ الْمَالِ يَحْتَسِبُ عَلَى رَأْسِ رَبِّ الْمَالِ بِمَا قَبَضَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَيُتِمُّ لَهُ رَأْسَ الْمَالِ بِمَا يَرُدُّهُ الْمُضَارِبُ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّا قَبَضَهُ الْمُضَارِبُ كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي أَنَّهَا رَأْسُ الْمَالِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَالْمُضَارِبُ وَإِنْ كَانَ أَمِينًا لَكِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْأَمِينِ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، لَا فِي التَّسْلِيمِ إلَى غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي خُلُوصَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ وَالرِّبْحِ، وَرَبُّ الْمَالِ يَجْحَدُ ذَلِكَ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ إيفَاءَ رَأْسِ الْمَالِ. وَلَا يُقَالُ: الظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِلْمُضَارِبِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ إيفَاءِ رَأْسِ الْمَالِ، إذْ الرِّبْحُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْإِيفَاءِ، إذْ هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ قِسْمَةِ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ قَدْ جَرَتْ عَادَةُ التُّجَّارِ بِالْمُقَاسَمَةِ مَعَ بَقَاءِ رَأْسِ الْمَالِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ، فَلَمْ يَكُنْ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُضَارِبِ. وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً صَحِيحَةً، ثُمَّ جَعَلَ رَبُّ الْمَالِ يَأْخُذُ الْخَمْسِينَ وَالْعِشْرِينَ لِنَفَقَتِهِ، وَالْمُضَارِبُ يَعْمَلُ بِالنَّفَقَةِ وَيَتَرَبَّحُ فِيمَا يَشْتَرِي وَيَبِيعُ، ثُمَّ احْتَسَبَا فَإِنَّهُمَا يَحْتَسِبَانِ بِرَأْسِ الْمَالِ، أَلْفَ دِرْهَمٍ يَوْمَ يَحْتَسِبَانِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَلَا يَكُونُ مَا أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ مِنْ النَّفَقَةِ نُقْصَانًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلَكِنَّهُمَا يَحْتَسِبَا رَأْسَ الْمَالِ أَلْفًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَمَا بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الْمَقْبُوضَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ اسْتِرْجَاعَ رَبِّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْمُضَارَبَةِ، وَهُمَا لَمْ يَقْصِدَا إبْطَالَهَا، فَيُجْعَلُ رَأْسُ الْمَالِ فِيمَا بَقِيَ؛ لِئَلَّا يَبْطُلَ، هَذَا إذَا كَانَ فِي الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رِبْحٌ فَلَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ صَحَّ، فَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا مَا شَرَطَ، وَهُوَ الرِّبْحُ وَلَمْ يُوجَدْ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ رَبُّ الْمَالِ، فَالرِّبْحُ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ رِبْحٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُضَارِبِ، هَذَا كُلُّهُ حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ. (وَأَمَّا) حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ، فَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ، وَلَا يَثْبُتُ بِهَا شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا عَنْ أَحْكَامِ الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ، وَلَا الرِّبْحَ الْمُسَمَّى، وَإِنَّمَا لَهُ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ الْفَاسِدَةَ فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، وَالْأَجِيرُ لَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَلَا الْمُسَمَّى فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ أَجْرَ الْمِثْلِ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ شَطْرًا مِنْهُ بِالشَّرْطِ، وَلَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ فَكَانَ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالْخُسْرَانُ عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِي دَعْوَى الْهَلَاكِ وَالضَّيَاعُ وَالْهَلَاكُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ مَعَ يَمِينِهِ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَجَعَلَ الْمَالَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِيهِ اخْتِلَافًا، وَقَالَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ كَمَا فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ إذَا هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ.

فصل في صفة عقد المضاربة

[فَصْلٌ فِي صِفَةِ عَقْدِ الْمُضَارَبَة] فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ هَذَا الْعَقْدِ فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْنِي رَبَّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبَ الْفَسْخُ، لَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ، وَهُوَ عِلْمُ صَاحِبِهِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ، وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا وَقْتَ الْفَسْخِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، حَتَّى لَوْ نَهَى رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ عَنْ التَّصَرُّفِ، وَرَأْسُ الْمَالِ عُرُوضٌ وَقْتَ النَّهْيِ، لَمْ يَصِحَّ نَهْيُهُ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهَا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؛ لِيَظْهَرَ الرِّبْحُ، فَكَانَ النَّهْيُ وَالْفَسْخُ إبْطَالًا لَحَقِّهِ فِي التَّصَرُّفِ، فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَقْتَ الْفَسْخِ وَالنَّهْيِ، صَحَّ الْفَسْخُ وَالنَّهْيُ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ الدَّرَاهِمَ إلَى الدَّنَانِيرِ، وَالدَّنَانِيرَ إلَى الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ بَيْعًا لِاتِّحَادِهِمَا فِي الثَّمَنِيَّةِ. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ اخْتِلَافِ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ اخْتِلَافِ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْعُمُومَ، بِأَنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْمُضَارَبَةَ فِي عُمُومِ التِّجَارَاتِ، أَوْ فِي عُمُومِ الْأَمْكِنَةِ، أَوْ مَعَ عُمُومٍ مِنْ الْأَشْخَاصِ وَادَّعَى الْآخَرُ نَوْعًا دُونَ نَوْعٍ وَمَكَانًا دُونَ مَكَان، وَشَخْصًا دُونَ شَخْصٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَنْ يَدَّعِي الْعُمُومَ مُوَافِقٌ لِلْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعَقْدِ هُوَ الرِّبْحُ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ فِي الْعُمُومِ أَوْفَرُ. وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْإِطْلَاقَ، حَتَّى لَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تَتَّجِرَ فِي الْحِنْطَةِ دُونَ مَا سِوَاهَا وَقَالَ الْمُضَارِبُ: مَا سَمَّيْتَ لِي تِجَارَةً بِعَيْنِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ أَقْرَبُ إلَى الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا وَقِيلَ: إنَّهُ قَوْلُ زُفَرَ. (وَوَجْهُهُ) أَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ، فَكَانَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ، فَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الْعُمُومَ فِي دَعْوَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً وَفِي دَعْوَى التَّقْيِيدِ وَالْإِطْلَاقِ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُدَّعِي التَّقْيِيدَ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً فِيهِ، وَبَيِّنَةُ الْإِطْلَاقِ سَاكِتَةٌ وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى الْخُصُوصِ؛ لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ الْخَاصِّ فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْتُ الْمَالَ إلَيْكَ مُضَارَبَةً فِي الْبَزِّ وَقَالَ الْمُضَارِبُ: فِي الطَّعَامِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّرْجِيحُ هُنَا بِالْمَقْصُودِ مِنْ الْعَقْدِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ذَلِكَ فَتُرَجَّحُ بِالْإِذْنِ، وَإِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ بَيَّنْتَهُ مُثْبِتَةٌ وَبَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ نَافِيَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِثْبَاتِ، وَالْمُضَارِبُ يَحْتَاجُ إلَى الْإِثْبَاتِ لِدَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، فَالْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ أَوْلَى وَقَدْ قَالُوا فِي الْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا فِي صِفَةِ الْإِذْنِ وَقَدْ وُقِّتَتَا: إنَّ الْوَقْتَ الْأَخِيرَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الثَّانِي يَنْقُضُ الْأَوَّلَ، فَكَانَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ أَوْلَى. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: كَانَ رَأْسُ مَالِي أَلْفَيْنِ، وَشَرَطْتُ لَكَ ثُلُثَ الرِّبْحِ. وَقَالَ الْمُضَارِبُ: رَأْسُ الْمَالِ أَلْفٌ، وَشَرَطْتَ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ أَلْفُ دِرْهَمٍ يُقِرُّ أَنَّهَا مَالُ الْمُضَارَبَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِي أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ أَلْفٌ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ أَنَّهُ شَرَطَ ثُلُثَ الرِّبْحِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ. وَكَانَ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الرِّبْحَ يُسْتَفَادُ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ، وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْمَالِ مُضَارَبَةٌ، وَادَّعَى الْمُضَارِبُ اسْتِحْقَاقًا فِيهَا، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ الْمُضَارِبُ: بَعْضُ هَذِهِ الْأَلْفَيْنِ خَلَطْتُهُ بِهَا، أَوْ بِضَاعَةٌ فِي يَدِي؛ لِأَنَّهُمَا مَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ، وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْقَوْلَ فِي مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ قَوْلُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْقَابِضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ الْقَبْضَ أَصْلًا، وَقَالَ لَمْ أَقْبِضْ مِنْكَ شَيْئًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَا إذَا أَنْكَرَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ رَبِّ الْمَالِ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الرِّبْحِ يُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ الْمَشْرُوطِ قَوْلَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ الشَّرْطَ رَأْسًا، فَقَالَ لَمْ أَشْرُطْ لَكَ رِبْحًا، وَإِنَّمَا دَفَعْتُ إلَيْكَ بِضَاعَةً كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ؟ ؟ فَكَذَا إذَا أَقَرَّ بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُضَارِبِ فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ فِي قَوْلِهِ الْأَخِيرِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ فِي قَوْلِهِمْ: يَجْعَلُ رَأْسَ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَيَجْعَلُ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثَ الْأَلْفِ الْأُخْرَى، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي زِيَادَةِ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِي زِيَادَةِ شَرْطِ الرِّبْحِ وَعَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ يَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ الْأَلْفَيْنِ جَمِيعًا. وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى قَوْلِهِ الْأَخِيرِ،

وَاقْتَسَمَا مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ أَثْلَاثًا وَعَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، يَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَيَأْخُذُ ثُلُثَيْ الْأَلْفِ الْأُخْرَى لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ قَدْرَ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ أَقَلَّ، وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى قَبُولِ قَوْلِ رَبِّ الْمَالِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُضَارِبِ، فَإِنْ جَاءَ الْمُضَارِبُ بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَقَالَ: أَلْفٌ رَأْسُ الْمَالِ، وَأَلْفٌ رِبْحٌ، وَأَلْفٌ وَدِيعَةٌ لِآخَرَ، أَوْ مُضَارَبَةٌ لِآخَرَ، أَوْ بِضَاعَةٌ لِآخَرَ، أَوْ شَرِكَةٌ لِآخَرَ، أَوْ عَلَى أَلْفٌ دَيْنٌ، فَالْقَوْلُ فِي الْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْبِضَاعَةِ وَالدَّيْنِ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِي الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ مَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَهُ، إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ لِغَيْرِهِ، وَلَمْ يَعْتَرِفْ لِرَبِّ الْمَالِ بِهَذِهِ الْأَلْفِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهَا. وَكُلُّ مَنْ جَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ فِي هَذَا الْبَابِ فَهُوَ مَعَ يَمِينِهِ، وَمَنْ أَقَامَ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى مَا يَدَّعِي مِنْ فَضْلٍ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تُثْبِتُ زِيَادَةً، فَبَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ تُثْبِتُ زِيَادَةً فِي رَأْسِ الْمَالِ، وَبَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ تُثْبِتُ زِيَادَةً فِي الرِّبْحِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا قَالَ رَبُّ الْمَالِ شَرَطْتُ لَكَ ثُلُثَ الرِّبْحِ وَزِيَادَةً عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَقَالَ الْمُضَارِبُ بَلْ شَرَطْتَ لِي الثُّلُثَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى شَرْطِ الثُّلُثِ، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ زِيَادَةً لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهَا إلَّا فَسَادُ الْعَقْدِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ شَرْطٍ. وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: شَرَطْتُ لَكَ الثُّلُثَ إلَّا عَشَرَةً. وَقَالَ الْمُضَارِبُ: بَلْ شَرَطْتَ لِي الثُّلُثَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِبَعْضِ الثُّلُثِ وَالْمُضَارِبُ يَدَّعِي تَمَامَ الثُّلُثِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي زِيَادَةِ شَرْطِ الرِّبْحِ، وَفِي هَذَا نَوْعُ إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي فَسَادَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُضَارِبِ وَالْجَوَابُ أَنَّ دَعْوَى رَبِّ الْمَالِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ فَسَادُ الْعَقْدِ لَكِنَّهُ مُنْكِرٌ لِزِيَادَةٍ يَدَّعِيهَا الْمُضَارِبُ فَيُعْتَبَرُ إنْكَارُهُ؛ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ فِي الْجُمْلَةِ. وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: شَرَطْتُ لَكَ نِصْفَ الرِّبْحِ وَقَالَ الْمُضَارِبُ: شَرَطْتَ لِي مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ: لَمْ تَشْتَرِطْ لِي شَيْئًا، وَلِيَ أَجْرُ الْمِثْلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي أَجْرًا وَاجِبًا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَإِنْ أَقَامَ رَبُّ الْمَالِ الْبَيِّنَةَ عَلَى شَرْطِ النِّصْفِ، وَأَقَامَ الْمُضَارِبُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ شَيْئًا، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ لِلشَّرْطِ وَبَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ نَافِيَةٌ، وَالْمُثْبِتَةُ أَوْلَى. وَلَوْ أَقَامَ الْمُضَارِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ شَرَطَ لَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَبَيِّنَتُهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ اسْتَوَيَا فِي إثْبَاتِ الشَّرْطِ وَبَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ أَوْجَبَتْ حُكْمًا زَائِدًا، وَهُوَ إيجَابُ الْأَجْرِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، فَكَانَتْ أَوْلَى وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُمْ جَعَلُوا حُكْمَ الْمُزَارَعَةِ فِي هَذَا الْبَابِ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ إلَّا فِي هَذَا الْفَصْلِ خَاصَّةً، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا أَقَامَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ شَرَطَ لِلْعَامِلِ نِصْفَ الْخَارِجِ، وَقَالَ الْعَامِلُ: شَرَطْتَ لِي مِائَةَ قَفِيزٍ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الدَّافِعِ، وَفِي الْمُضَارَبَةِ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُزَارَعَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ فِي جَانِبِ الْعَامِلِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ لَا بَذْرَ لَهُ مِنْ جِهَتِهِ، لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْعَمَلِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ، فَرَجَّحْنَا بَيِّنَةَ مَنْ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَالْمُضَارَبَةُ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْعَمَلِ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَقَعْ التَّرْجِيحُ بِالتَّصْحِيحِ، فَرَجَّحْنَا بِإِيجَابِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْأَجْرُ. وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْتُ إلَيْكَ بِضَاعَةً وَقَالَ الْمُضَارِبُ: مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ أَوْ: مِائَةَ دِرْهَمٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسْتَفِيدُ الرِّبْحَ بِشَرْطِهِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ أَنَّهُ لَمْ يُشْتَرَطْ وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقًا فِي مَالَ الْغَيْرِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْمَالِ وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: أَقْرَضْتَنِي الْمَالَ، وَالرِّبْحُ لِي وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْتُ إلَيْكَ مُضَارَبَةً، أَوْ: بِضَاعَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّمْلِيكَ، وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ التَّمْلِيكَ، وَلِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ بِضَاعَةً، أَوْ مُضَارَبَةً، ثُمَّ أَقْرَضَهُ وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: دَفَعْتَ إلَيَّ مُضَارَبَةً وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَقْرَضْتُكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ كَانَ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَى الْمُضَارِبِ الضَّمَانَ، وَهُوَ يُنْكِرُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَصْلَ الضَّمَانِ. وَلَوْ جَحَدَ الْمُضَارِبُ الْمُضَارَبَةَ أَصْلًا، وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ مُضَارَبَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَيْهِ قَبْضَ مَالِهِ، وَهُوَ يُنْكِرُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَوْ جَحَدَ ثُمَّ أَقَرَّ فَقَدْ قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ قَالَ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً ثُمَّ طَلَبَهُ مِنْهُ، فَقَالَ: لَمْ تَدْفَعْ إلَيَّ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ: بَلَى أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ - قَدْ دَفَعْتَ إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً ضَامِنٌ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ، وَالْأَمِينُ إذَا جَحَدَ الْأَمَانَةَ ضَمِنَ كَالْمُودَعِ. وَهَذَا لِأَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ

لَيْسَ بِعَقْدٍ لَازِمٍ، بَلْ هُوَ عَقْدٌ جَائِزٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ، فَكَانَ جُحُودُهُ فَسْخًا لَهُ أَوْ رَفْعًا لَهُ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الْعَقْدُ صَارَ الْمَالُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْوَدِيعَةِ، فَإِنْ اشْتَرَى بِهَا مَعَ الْجُحُودِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ فَلَا يَبْقَى حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْمُضَارِبِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، فَإِذَا صَارَ ضِمْنِيًّا لَمْ يَبْقَ أَمِينًا، فَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ الْجُحُودِ لَا يَرْتَفِعُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ ارْتَفَعَ بِالْجُحُودِ، فَلَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ، فَإِنْ اشْتَرَى بِهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ مَا اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ الْمَالَ بِجُحُودِهِ فَلَا يَبْرَأُ مِنْهُ بِفِعْلِهِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ مَا اشْتَرَاهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَيَبْرَأُ مِنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشِّرَاءِ لَمْ يَرْتَفِعْ مَعَ الْجُحُودِ بَلْ هُوَ قَائِمٌ مَعَ الْجُحُودِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يُنَافِي الْأَمْرَ بِالشِّرَاءِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ شَيْئًا، فَأَمَرَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْغَاصِبَ بِبَيْعِ الْمَغْصُوبِ أَوْ بِالشِّرَاءِ بِهِ صَحَّ الْأَمْرُ، وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ. وَإِذَا بَقِيَ الْأَمْرُ بَعْدَ الْجُحُودِ فَإِذَا اشْتَرَى بِمُوجَبِ الْأَمْرِ وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْآمِرِ، وَلَنْ يَقَعَ الشِّرَاءُ لَهُ إلَّا بَعْدَ انْتِفَاءِ الضَّمَانِ، وَصَارَ كَالْغَاصِبِ إذَا بَاعَ الْمَغْصُوبَ بِأَمْرِ الْمَالِك وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ الضَّمَانِ كَذَا هَذَا، وَقَوْلُهُ: الْمَالُ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، فَلَا يَبْرَأُ مِنْ الضَّمَانِ بِفِعْلِهِ قُلْنَا: الْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ يَجُوزُ أَنْ يَبْرَأَ الضَّامِنُ مِنْهَا بِفِعْلِهِ كَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا أَمْرَ الْغَاصِبَ أَنْ يَجْعَلَ الْمَغْصُوبَ فِي مَوْضِعِ كَذَا، أَوْ يُسَلِّمَهُ إلَى فُلَانٍ، إنَّهُ يَبْرَأُ بِذَلِكَ مِنْ الضَّمَانِ. وَكَذَلِكَ رَجُلٌ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَبْدًا فَجَحَدَهُ الْأَلْفَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا، ثُمَّ اشْتَرَى، جَازَ الشِّرَاءُ، وَيَكُونُ لِلْآمِرِ وَبَرِئَ الْجَاحِدُ مِنْ الضَّمَانِ وَلَوْ اشْتَرَى بِهَا عَبْدًا ثُمَّ أَقَرَّ لَمْ يَبْرَأْ عَنْ الضَّمَانِ، وَكَانَ الشِّرَاءُ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُضَارِبِ. وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَبْدًا بِعَيْنِهِ ثُمَّ جَحَدَ الْأَلْفَ ثُمَّ اشْتَرَى بِهَا الْعَبْدَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِالْأَلْفِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ لِلْآمِرِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ أَقَرَّ ثُمَّ اشْتَرَى بِخِلَافِ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الشِّرَاءِ لِرَبِّ الْمَالِ، إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِالْمَالِ قَبْلَ الشِّرَاءِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْمَأْمُورِ بِبَيْعِ الْعَبْدِ إذَا جَحَدَهُ إيَّاهُ فَادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ بِهِ: إنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ، وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ضَمَانِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ عَبْدًا فَأَمَرَهُ أَنْ يَهَبَهُ لِفُلَانٍ فَجَحَدَهُ وَادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ بِهِ فَبَاعَهُ، إنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ضَمَانِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَهُ بِعِتْقِهِ فَجَحَدَهُ، وَادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ بِهِ فَأَعْتَقَهُ جَازَ عِتْقُهُ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ الْجُحُودِ قَائِمٌ، فَإِذَا جَحَدَ ثُمَّ أَقَرَّ فَقَدْ تَصَرَّفَ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ فَيَبْرَأُ مِنْ الضَّمَانِ وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدَ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَعْدَ الْبَيْعِ قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ: يَنْبَغِي فِي قِيَاسِ مَا إذَا دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَبْدًا بِعَيْنِهِ، إنَّهُ يَجُوزُ وَيَلْزَمُ الْآمِرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ لِنَفْسِهِ. وَقَالَ هِشَامٌ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا قَالَ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً، فَجَاءَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَقَالَ: هَذِهِ الْأَلْفُ رَأْسُ الْمَالِ، وَهَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ رِبْحٌ وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ: عَلَيَّ دَيْنٌ فِيهِ لِفُلَانٍ كَذَا كَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: إذَا أَقَرَّ الْمُضَارِبُ أَنَّهُ عَمِلَ بِالْمَالِ، وَأَنَّ فِي يَدِهِ عَشْرَةَ آلَافٍ، وَعَلَيَّ فِيهَا دَيْنٌ أَلْفٌ، أَوْ أَلْفَانِ فَقَالَ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ مُتَّصِلٍ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، يَدْفَعُ الدَّيْنَ مِنْهُ سَمَّى صَاحِبَهُ، أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ، وَإِنْ سَكَتَ سَكْتَةً ثُمَّ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَسَمَّى صَاحِبَهُ أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ لَمْ يُصَدَّقْ قَالَ: وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَسَنُ يُخَالِفُ مَا قَالَ مُحَمَّدٌ (وَوَجْهُهُ) أَنَّهُ قَالَ: فِي يَدِي عَشْرَةُ آلَافٍ وَسَكَتَ فَقَدْ أَقَرَّ بِالرِّبْحِ، فَإِذَا قَالَ: عَلَيَّ دَيْنٌ أَلْفٌ فَقَدْ رَجَعَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَالْإِقْرَارُ إذَا صَحَّ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَمْ يَسْتَقِرَّ بَعْدُ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ فِي حَالٍ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ، فَيَنْفُذُ إقْرَارُهُ كَمَا إذَا قَالَ: هَذَا رِبْحٌ وَعَلَيَّ دَيْنٌ وَقَوْلُهُ: إنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ دَيْنٌ بَعْدَ مَا سَكَتَ، يَكُونُ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الرِّبْحِ، مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُ رَبِحَ ثُمَّ لَزِمَهُ الدَّيْنُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ: قَدْ رَبِحْت وَلَزِمَنِي دَيْنٌ، وَهُوَ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ، فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ صَحَّ؟ وَلَوْ جَاءَ الْمُضَارِبُ بِأَلْفَيْنِ، فَقَالَ: أَلْفٌ رَأْسُ الْمَالِ، وَأَلْفٌ رِبْحٌ ثُمَّ قَالَ: مَا أَرْبَحُ إلَّا خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ كُلُّهُ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ فَإِنَّ الْمُضَارِبَ يَضْمَنُ الْخَمْسَمِائَةِ الَّتِي جَحَدَهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي بَاقِي الْمَالِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، فَإِذَا جَحَدَهُ صَارَ غَاصِبًا بِالْجُحُودِ فَيَضْمَنُ إذَا هَلَكَ، وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ: قَدْ دَفَعْتُ إلَيْكَ رَأْسَ مَالِكَ، وَاَلَّذِي بَقِيَ فِي يَدِي رِبْحٌ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: لَمْ أَدْفَعْهُ إلَيْكَ، وَلَكِنْ هَلَكَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا ادَّعَى دَفْعَهُ إلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ

فصل في بيان ما يبطل به عقد المضاربة

جَاحِدًا بِدَعْوَى الدَّفْعِ، فَيَضْمَنُ بِالْجُحُودِ. وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي الرِّبْحِ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَمْ أَدْفَعْهُ إلَيْكَ وَلَكِنَّهُ هَلَكَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا ادَّعَى دَفْعَهُ إلَى رَبِّ الْمَالِ لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الرِّبْحِ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: شَرَطْتُ لَكَ الثُّلُثَ وَقَالَ الْمُضَارِبُ: شَرَطْتَ لِي النِّصْفَ ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ قَالَ مُحَمَّدٌ: يَضْمَنُ الْمُضَارِبُ السُّدُسَ مِنْ الرِّبْحِ، يُؤَدِّيهِ إلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ مَالِهِ خَاصَّةً، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَوْلَ فِي شَرْطِ الرِّبْحِ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَصِيبُ الْمُضَارِبِ الثُّلُثُ، وَقَدْ ادَّعَى النِّصْفَ، وَمَنْ ادَّعَى أَمَانَةً فِي يَدِهِ ضَمِنَهَا، لِذَلِكَ يَضْمَنُ سُدُسَ الرِّبْحِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ فَعَقْدُ الْمُضَارَبَةِ يَبْطُلُ بِالْفَسْخِ، وَبِالنَّهْيِ عَنْ التَّصَرُّفِ، لَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ الْفَسْخِ وَالنَّهْيِ وَهُوَ عِلْمُ صَاحِبِهِ بِالْفَسْخِ وَالنَّهْيِ، وَأَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا وَقْتَ الْفَسْخِ وَالنَّهْيِ، فَإِنْ كَانَ مَتَاعًا لَمْ يَصِحَّ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ حَتَّى يَنِضَّ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا صَحَّ لَكِنْ لَهُ صَرْفُ الدَّرَاهِمِ إلَى الدَّنَانِيرِ، وَالدَّنَانِيرِ إلَى الدَّرَاهِمِ بِالْبَيْعِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ بَيْعًا لِتَجَانُسِهِمَا فِي مَعْنَى الثَّمَنِيَّةِ، وَتَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى الْوَكَالَةِ، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ وَسَوَاءٌ عَلِمَ الْمُضَارِبِ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ، إلَّا أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ إذَا صَارَ مَتَاعًا، فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَصِيرَ نَاضًّا لِمَا بَيَّنَّا، وَتَبْطُلُ بِجُنُونِ أَحَدِهِمَا إذَا كَانَ مُطْبِقًا؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ أَهْلِيَّةَ الْأَمْرِ لِلْآمِرِ، وَأَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ لِلْمَأْمُورِ، وَكُلُّ مَا تَبْطُلُ بِهِ الْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِهِ الْمُضَارَبَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ تَفْصِيلُهُ. وَلَوْ ارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ فَبَاعَ الْمُضَارِبُ وَاشْتَرَى بِالْمَالِ بَعْدَ الرِّدَّةِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ مَوْقُوفٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ إنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ نَفَذَ كُلُّهُ، وَالْتَحَقَتْ رِدَّتُهُ بِالْعَدَمِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ الْمُضَارَبَةِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَرْتَدَّ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ إنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا قَبْلَ أَنْ يُحْكَمَ بِلِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي يَشْتَرِطُ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِلِحَاقِهِ لِلْحُكْمِ بِمَوْتِهِ وَصَيْرُورَةِ أَمْوَالِهِ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ. فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَقَضَى الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ مِنْ يَوْمِ ارْتَدَّ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفٌ إنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، أَوْ لَحِقَ فَحُكِمَ بِاللُّحُوقِ، يَزُولُ مِلْكُهُ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ إلَى وَرَثَتِهِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَيَبْطُلُ تَصَرُّفُ الْمُضَارِبِ بِأَمْرِهِ لَبُطْلَانِ أَهْلِيَّةِ الْآمِرِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ يَوْمَئِذٍ قَائِمًا فِي يَدِهِ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ ثُمَّ اشْتَرَى بَعْدَ ذَلِكَ، فَالْمُشْتَرَى وَرِبْحُهُ يَكُونُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُ رَبِّ الْمَالِ عَنْ الْمَالِ فَيَنْعَزِلُ الْمُضَارِبُ عَنْ الْمُضَارَبَةِ، فَصَارَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ صَارَ رَأْسُ الْمَالِ مَتَاعًا فَبَيْعُ الْمُضَارِبِ فِيهِ وَشِرَاؤُهُ جَائِزٌ، حَتَّى يَنِضَّ رَأْسُ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لَا يَنْعَزِلُ بِالْعَزْلِ وَالنَّهْيِ، وَلَا بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ، فَكَذَلِكَ رِدَّتُهُ، فَإِنْ حَصَلَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ دَنَانِيرُ وَرَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمُ، أَوْ حَصَلَ فِي يَدِهِ دَرَاهِمُ وَرَأْسُ الْمَالِ دَنَانِيرُ، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ التَّصَرُّفُ؛ لِأَنَّ الَّذِي حَصَلَ فِي يَدِهِ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ مَعْنًى لِاتِّحَادِهِمَا فِي الثَّمَنِيَّةِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ عَيْنَ الْمَالِ قَائِمٌ فِي يَدِهِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فَقَالُوا إنْ بَاعَ بِجِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ جَازَ؛ لِأَنَّ عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ رَأْسِ الْمَالِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَا فِي يَدِهِ كَالْعُرُوضِ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَالرِّدَّةُ لَا تَقْدَحُ فِي مِلْكِ الْمُرْتَدِّ، فَيَجُوزُ تَصَرُّفُ الْمُضَارِبِ بَعْدَ رِدَّةِ رَبِّ الْمَالِ، كَمَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ رَبِّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ عِنْدَهُمَا، فَإِنْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ أَوْ قُتِلَ كَانَ مَوْتُهُ كَمَوْتِ الْمُسْلِمِ فِي بُطْلَانِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحُكِمَ بِلِحَاقِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَالَهُ يَصِيرُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ، فَبَطَلَ أَمْرُهُ فِي الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَرْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ وَلَكِنْ الْمُضَارِبُ ارْتَدَّ، فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ وُقُوفَ تَصَرُّفِ رَبِّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ لِوُقُوفِ مِلْكِهِ، وَلَا مِلْكَ لِلْمُضَارِبِ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ، بَلْ الْمِلْكُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلَمْ تُوجَدْ مِنْهُ الرِّدَّةُ، فَبَقِيَتْ الْمُضَارَبَةُ إلَّا أَنَّهُ لَا عُهْدَةَ عَلَى الْمُضَارِبِ، وَإِنَّمَا الْعُهْدَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْعُهْدَةَ تَلْزَمُ بِسَبَبِ الْمَالِ فَتَكُونُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَصَارَ كَمَا لَوْ وَكَّلَ صَبِيًّا مَحْجُورًا أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ كَتَصَرُّفِ الْمُسْلِمِ. وَإِنْ مَاتَ الْمُضَارِبُ أَوْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ فِي الرِّدَّةِ كَمَوْتِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ، وَكَذَا إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقُضِيَ بِلُحُوقِهِ؛ لِأَنَّ رِدَّتَهُ مَعَ اللَّحَاقِ، وَالْحُكْمُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ فِي بُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ، فَإِنْ لَحِقَ الْمُضَارِبُ

بِدَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ رِدَّتِهِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى هُنَاكَ، ثُمَّ رَجَعَ مُسْلِمًا، فَجَمِيعُ مَا اشْتَرَى وَبَاعَ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَكُونُ لَهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ صَارَ كَالْحَرْبِيِّ إذَا اسْتَوْلَى عَلَى مَالِ إنْسَانٍ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، إنَّهُ يَمْلِكُهُ، فَكَذَا الْمُرْتَدُّ، وَأَمَّا ارْتِدَادُ الْمَرْأَةِ أَوْ عَدَمُ ارْتِدَادِهَا سَوَاءٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ لَهَا أَوْ كَانَتْ مُضَارَبَةً؛ لِأَنَّ رِدَّتَهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي مِلْكِهَا، إلَّا أَنْ تَمُوتَ، فَتَبْطُلُ الْمُضَارَبَةُ كَمَا لَوْ مَاتَتْ قَبْلَ الرِّدَّةِ، أَوْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَحُكِمَ بِلِحَاقِهَا، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ، وَتَبْطُلُ بِهَلَاكِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ بِالْقَبْضِ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ كَالْوَدِيعَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُضَارِبُ أَوْ أَنْفَقَهُ أَوْ دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ، فَاسْتَهْلَكَهُ لِمَا قُلْنَا حَتَّى لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا لِلْمُضَارَبَةِ بِهِ، فَإِنْ أَخَذَ مِثْلَهُ مِنْ الَّذِي اسْتَهْلَكَهُ، كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ عِوَضَ رَأْسِ الْمَالِ، فَكَانَ أَخْذُ عِوَضِهِ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ ثَمَنِهِ، فَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ. وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَوْ أَقْرَضَهَا الْمُضَارِبُ رَجُلًا، فَإِنْ رَجَّعَ إلَيْهِ الدَّرَاهِمَ بِعَيْنِهَا، رَجَعَتْ عَلَى الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَعَدَّى يَضْمَنُ لَكِنْ زَالَ التَّعَدِّي فَيَزُولُ الضَّمَانُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ، وَإِنْ أَخَذَ مِثْلَهَا لَمْ يَرْجِعْ فِي الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ اسْتَقَرَّ بِهَلَاكِ الْعَيْنِ، وَحُكْمُ الْمُضَارَبَةِ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ. وَلِهَذَا يُخَالِفُ مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الِاسْتِهْلَاكِ، هَذَا إذَا هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُضَارِبُ شَيْئًا، فَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِأَنْ كَانَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ أَلْفًا، فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ الْبَائِعَ حَتَّى هَلَكَتْ الْأَلْفُ، فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: الْجَارِيَةُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَيَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِالْأَلْفِ، فَيُسَلِّمُهَا إلَى الْبَائِعِ، وَكَذَلِكَ إنْ هَلَكَتْ الثَّانِيَةُ الَّتِي قَبَضَ يَرْجِعُ بِمِثْلِهَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ سَبِيلُ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا حَتَّى يُسَلِّمَ إلَى الْبَائِعِ، وَيَكُونَ مَا دَفَعَهُ أَوَّلًا رَبُّ الْمَالِ، وَمَا غَرِمَ كُلُّهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ مُتَصَرِّفٌ لِرَبِّ الْمَالِ، فَيَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الضَّمَانِ بِتَصَرُّفِهِ كَالْوَكِيلِ. غَيْرَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا هَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ فَرَجَعَ بِمِثْلِهِ إلَى الْمُوَكِّلِ، ثُمَّ هَلَكَ الثَّانِي لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَالْمُضَارِبُ يَرْجِعُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْوَكَالَةَ قَدْ انْتَهَتْ بِشِرَاءِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوَكَالَةِ بِالشِّرَاءِ اسْتِفَادَةُ مِلْكِ الْمَبِيعِ لَا الرِّبْحِ، فَإِذَا اشْتَرَى فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَانْتَهَى عَقْدُ الْوَكَالَةِ بِانْتِهَائِهِ، وَوَجَبَ عَلَى الْوَكِيلِ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ، فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهُ الْبَائِعَ، وَجَبَ لِلْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ مِثْلُ مَا وَجَبَ لِلْبَائِعِ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ مَرَّةً فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، فَلَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ فَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ فَإِنَّهَا لَا تَنْتَهِي بِالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الرِّبْحُ، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ ثَانِيًا وَثَالِثًا، وَمَا غَرِمَ رَبُّ الْمَالِ مَعَ الْأَوَّلِ يَصِيرُ كُلُّهُ رَأْسَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ غَرِمَ لِرَبِّ الْمَالِ بِسَبَبِ الْمُضَارَبَةِ، فَيَكُونُ كُلُّهُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْعَقْدِ هُوَ الرِّبْحُ فَلَوْ لَمْ يَصِرْ مَا غَرِمَ رَبُّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَيَهْلَكُ مَجَّانًا، يَتَضَرَّرُ بِهِ رَبُّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يُخَسِّرُ وَيُرَبِّحُ الْمُضَارِبَ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَلَوْ قَبَضَ الْمُضَارِبُ الْأَلْفَ الْأُولَى فَتَصَرَّفَ فِيهَا حَتَّى صَارَتْ أَلْفَيْنِ، ثُمَّ اشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفَانِ، فَهَلَكَتْ الْأَلْفَانِ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهَا الْبَائِعُ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَيَغْرَمُ الْمُضَارِبُ مِنْ مَالِهِ خَمْسَمِائَةٍ، وَهِيَ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ، فَيَكُونُ رُبْعُ الْجَارِيَةِ لِلْمُضَارِبِ خَاصَّةً، وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَرَأْسُ الْمَالِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَى الْجَارِيَةَ بِأَلْفَيْنِ فَقَدْ اشْتَرَاهَا أَرْبَاعًا، رُبْعُهَا لِلْمُضَارِبِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا بَعْدَ مَا ظَهَرَ مِلْكُ الْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِأَلْفَيْنِ، وَرَأْسُ الْمَالِ أَلْفٌ - فَحِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ خَمْسُمِائَةٍ، وَحِصَّةُ الْمُضَارِبِ خَمْسُمِائَةٍ، فَمَا اشْتَرَاهُ لِرَبِّ الْمَالِ رَجَعَ عَلَيْهِ، وَمَا اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ فَضَمَانُهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا خَرَجَ رِبْحُ الْجَارِيَةِ مِنْ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا أَلْزَمَهُ ضَمَانَ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ فَقَدْ عَيَّنَهُ، وَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالْقِيمَةِ، فَخَرَجَ الرِّبْحُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَقَدْ لَزِمَ رَبَّ الْمَالِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ بِسَبَبِ الْمُضَارَبَةِ، فَصَارَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي رَأْسِ الْمَالِ، فَصَارَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ، فَإِنْ بِيعَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، مِنْهَا لِلْمُضَارِبِ أَلْفٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ، فَكَانَ مِلْكُهُ، وَبَقِيَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، لِرَبِّ الْمَالِ مِنْهَا أَلْفَانِ، وَخَمْسُمِائَةٍ رَأْسُ مَالِهِ، يَبْقَى رِبْحٌ خَمْسُمِائَةٍ،

فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى الشَّرْطِ. وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ، وَالشِّرَاءُ بِأَلْفٍ، وَهِيَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ، فَضَاعَتْ، غَرِمَهَا رَبُّ الْمَالِ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ إذَا وَقَعَ بِأَلْفٍ فَقَدْ وَقَعَ بِثَمَنٍ، كُلِّهِ رَأْسُ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ فِي الثَّانِي، فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ الشِّرَاءَ وَقَعَ بِأَلْفَيْنِ فَظَهَرَ رِبْحُ الْمُضَارِبِ، وَهَلَكَ رُبْعُ الْجَارِيَةِ، فَيَغْرَمُ حِصَّةَ ذَلِكَ الرُّبْعِ مِنْ الثَّمَنِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْمُضَارِبِ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، أَلْفٌ رِبْحٌ، وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ، فَضَاعَتْ الْأَلْفَانِ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهَا الْبَائِعَ، إنَّهُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُضَارِبِ الرُّبْعَ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَهَذَا عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْنِ، بِأَمَةٍ تُسَاوِي أَلْفًا، وَقَبَضَ الَّتِي اشْتَرَاهَا، وَلَمْ يَدْفَعْ أَمَتَهُ حَتَّى مَاتَتَا جَمِيعًا فِي يَدِهِ، فَإِنَّهُ يَغْرَمُ قِيمَةَ الَّتِي اشْتَرَى، وَهِيَ أَلْفٌ، يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا، وَلَا فَضْلَ فِي ذَلِكَ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَهَذَا إنَّمَا يَجُوزُ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُضَارِبُ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفٌ بِأَلْفَيْنِ، إذَا كَانَ رَبُّ الْمَالِ قَالَ لَهُ: اشْتَرِ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَإِلَّا فَشِرَاءُ الْمُضَارِبِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَصِحُّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي نَوَادِرِهِ، فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ، فَاشْتَرَى الْمُضَارِبُ وَبَاعَ حَتَّى صَارَ الْمَالُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، فَاشْتَرَى بِثَلَاثَةِ آلَافٍ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ، قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ أَلْفٌ، وَلَمْ يَنْقُدْ الْمَالَ حَتَّى ضَاعَ قَالَ: يَغْرَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَيَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ مِلْكٌ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْعَبِيدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ الْمَالِ، لِهَذَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِمْ، فَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ ثَمَنِهِمْ. وَقَدْ عَلَّلَ مُحَمَّدٌ لِهَذَا فَقَالَ مِنْ قَبْلُ: إنَّ الْمُضَارِبَ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ عِتْقُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعَبِيدِ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّ مُحَمَّدًا يَعْتَبِرُ الْمَضْمُونَ عَلَى الْمُضَارِبِ الَّذِي يَغْرَمُهُ دُونَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا قَبَضَ وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ حَتَّى هَلَكَ، كَانَ الْمُعْتَبَرُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ، فَإِنْ كَانَ مَا يَضْمَنُهُ زَائِدًا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، كَانَ عَلَى الْمُضَارِب حِصَّةُ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّا إذَا اعْتَبَرْنَا الضَّمَانَ فَقَدْ ضَمِنَ أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ، أَوْ يَكُونَ الشَّرْطُ فِيمَا صَارَ مَضْمُونًا عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يَتَعَيَّنَ حَقُّهُ فِيهِ، وَهُنَا وَإِنْ ضَمِنَ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ حَقُّهُ فِيهِ، وَأَمَّا تَعْلِيلُهُ بِعَدَمِ نَفَاذِ الْعِتْقِ فَلَا يَطَّرِدُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفًا، يَضْمَنُ وَإِنْ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ فِيهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ جَعَلَ نُفُوذَ الْعِتْقِ فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ بِأَلْفَيْنِ، وَقِيمَتُهَا أَلْفَانِ عَلَيْهِ؛ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَمَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ، يَكُونُ عَكْسَ الْعِلَّةِ، فَلَا يَلْزَمُهُ طَرْدُهُ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ إذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَهِيَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ، فَفَقَدَ الْمَالَ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: اشْتَرَيْتُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، ثُمَّ ضَاعَ الْمَالُ وَقَالَ الْمُضَارِبُ: اشْتَرَيْتُهُ بَعْدَ مَا ضَاعَ، وَأَنَا أَرَى أَنَّ الْمَالَ عِنْدِي فَإِذَا قَدْ ضَاعَ قَبْلَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَنْ يَشْتَرِي شَيْئًا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْحَالَ يَشْهَدُ بِهِ أَيْضًا، وَهُوَ هَلَاكُ الْمَالِ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُضَارِبِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْمُضَارَبَةِ الْكَبِيرَةِ إذَا اخْتَلَفَا، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: ضَاعَ قَبْلَ أَنْ تَشْتَرِيَ الْجَارِيَةَ، وَإِنَّمَا اشْتَرَيْتهَا لِنَفْسِكَ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ: ضَاعَ الْمَالُ بَعْدَ مَا اشْتَرَيْتُهَا، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ آخُذَكَ بِالثَّمَنِ، وَلَا أَعْلَمُ مَتَى ضَاعَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ، وَعَلَى الْمُضَارِبِ الْبَيِّنَةُ، أَنَّهُ اشْتَرَى وَالْمَالُ عِنْدَهُ إنَّمَا ضَاعَ بَعْدَ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَنْفِي الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْمُضَارِبُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الضَّمَانَ؛ لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي وُقُوعَ الْعَقْدِ لَهُ، وَرَبُّ الْمَالِ يُنْكِرُ ذَلِكَ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلِأَنَّ الْحَالَ وَهُوَ الْهَلَاكُ شَهِدَ لِرَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الضَّمَانَ فَكَانَتْ أَوْلَى. وَإِذَا انْفَسَخَتْ الْمُضَارَبَةُ، وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ دُيُونٌ عَلَى النَّاسِ، وَامْتَنَعَ عَنْ التَّقَاضِي وَالْقَبْضِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ أُجْبِرَ عَلَى التَّقَاضِي وَالْقَبْضِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ رِبْحٌ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِمَا، وَقِيلَ لَهُ: أَحِلَّ رَبَّ الْمَالِ بِالْمَالِ عَلَى الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ رِبْحٌ كَانَ لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ، فَيَكُونُ عَمَلُهُ عَمَلَ الْأَجِيرِ، وَالْأَجِيرُ مَجْبُورٌ عَلَى الْعَمَلِ فِيمَا الْتَزَمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ رِبْحٌ لَمْ تُسَلَّمْ لَهُ مَنْفَعَةٌ، فَكَانَ عَمَلُهُ عَمَلَ الْوُكَلَاءِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى إتْمَامِ الْعَمَلِ، كَمَا لَا يُجْبَرُ الْوَكِيلُ عَلَى قَبْضِ الثَّمَنِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُؤْمَرُ الْمُضَارِبُ أَوْ الْوَكِيلُ أَنْ يُحِيلَ رَبَّ الْمَالِ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ حَتَّى يُمْكِنَهُ قَبْضُهُ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ رَاجِعَةٌ إلَى الْعَاقِدِ، فَلَا يُثْبِتُ وِلَايَةَ الْقَبْضِ لِلْآمِرِ إلَّا بِالْحَوَالَةِ مِنْ الْعَاقِدِ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُحِيلَهُ بِالْمَالِ حَتَّى لَا يُتْوَى حَقُّهُ. وَلَوْ ضَمِنَ الْعَاقِدُ

كتاب الهبة

لِرَبِّ الْمَالِ هَذَا الدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ قَدْ جَعَلَهُ أَمِينًا فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ ضَمِينًا فِيمَا جَعَلَهُ الْعَاقِدُ أَمِينًا. وَلَوْ مَاتَ الْمُضَارِبُ وَلَمْ يُوجَدْ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فِيمَا خَلَفَ، فَإِنَّهُ يَعُودُ دَيْنًا فِيمَا خَلَفَ الْمُضَارِبُ، وَكَذَا الْمُودِعُ وَالْمُسْتَعِيرُ وَالْمُسْتَبْضِعُ وَكُلُّ مَنْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً، إذَا مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ وَلَا تُعْرَفُ الْأَمَانَةُ بِعَيْنِهَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِالتَّجْهِيلِ مُسْتَهْلِكًا لِلْوَدِيعَةِ، وَلَا تُصَدَّقُ وَرَثَتُهُ عَلَى الْهَلَاكِ وَالتَّسْلِيمِ إلَى رَبِّ الْمَالِ. وَلَوْ عَيَّنَ الْمَيِّتُ الْمَالَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، أَوْ عُلِمَ ذَلِكَ، يَكُونُ ذَلِكَ أَمَانَةً فِي وَصِيَّةٍ، أَوْ فِي يَدِ وَارِثِهِ، كَمَا كَانَ فِي يَدِهِ، وَيُصَدِّقُونَ عَلَى الْهَلَاكِ وَالدَّفْعِ إلَى صَاحِبِهِ، كَمَا يُصَدِّقُ الْمَيِّتُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْهِبَةِ] [رُكْنِ الْهِبَةِ] (كِتَابُ الْهِبَةِ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ رُكْنِ الْهِبَةِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْهِبَةِ أَمَّا رُكْنُ الْهِبَةِ فَهُوَ الْإِيجَابُ مِنْ الْوَاهِبِ فَأَمَّا الْقَبُولُ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَفِي قَوْلٍ قَالَ الْقَبْضُ أَيْضًا رُكْنٌ وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَهَبُ هَذَا الشَّيْءِ لِفُلَانٍ فَوَهَبَهُ مِنْهُ فَلَمْ يَقْبَلْ أَنَّهُ يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَقْبَلْ وَفِي قَوْلٍ مَا لَمْ يَقْبَلْ وَيَقْبِضْ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ هَذَا الشَّيْءَ لِفُلَانٍ فَبَاعَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ وَهَبْتُ هَذَا الشَّيْءَ مِنْكَ فَلَمْ يَقْبَلْ فَقَالَ الْمُقِرُّ لَهُ لَا بَلْ قَبِلْتُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِعْتُ هَذَا الشَّيْءَ مِنْكَ فَلَمْ تُقْبَلْ فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ لَا بَلْ قَبِلْتُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْهِبَةَ تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ وَالتَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ وُجُودُهُ شَرْعًا بِاعْتِبَارِهِ وَهُوَ انْعِقَادُهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِيجَابِ فَلَا يَكُونُ نَفْسُ الْإِيجَابِ هِبَةً شَرْعًا لِهَذَا أَمْكَنَ الْإِيجَابُ بِدُونِ الْقَبُولِ تَبَعًا كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْهِبَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَرَّدِ إيجَابِ الْمَالِكِ مِنْ غَيْرِ شَرِيطَةِ الْقَبُولِ وَإِنَّمَا الْقَبُولُ وَالْقَبْضُ لِثُبُوتِ حُكْمِهَا لَا لِوُجُودِهَا فِي نَفْسِهَا فَإِذَا أَوْجَبَ فَقَدْ أَتَى بِالْهِبَةِ فَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ وُقُوعَ التَّصَرُّفِ هِبَةٌ لَا يَقِفُ عَلَى الْقَبُولِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً مَحُوزَةً» أَطْلَقَ اسْمَ الْهِبَةِ بِدُونِ الْقَبْضِ وَالْحِيَازَةِ وَرُوِيَ أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ وَفِي رِوَايَةٍ بِوَدَّانِ فَرَدَّهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَالَ «لَوْلَا أَنَّا حَرَامٌ وَإِلَّا لَقَبِلْنَا» فَقَدْ أَطْلَقَ الرَّاوِي اسْمَ الْإِهْدَاءِ بِدُونِ الْقَبُولِ وَالْإِهْدَاءُ مِنْ أَلْفَاظِ الْهِبَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَعَى سَيِّدَتَنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَقَالَ لَهَا إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي بِالْعَالِيَةِ وَإِنَّكَ لَمْ تَكُونِي قَبَضْتِيهِ وَلَا حَرَزْتِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمُ مَالُ الْوَارِثِ أَطْلَقَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْمَ النِّحْلَى بِدُونِ الْقَبْضِ وَالنِّحْلَى مِنْ أَلْفَاظِ الْهِبَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْهِبَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْسِ إيجَابِ الْمِلْكِ وَالْأَصْلُ أَنَّ مَعْنَى التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيُّ هُوَ مَا دَلَّ اللَّفْظُ لُغَةً بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ اسْمُ الْإِيجَابِ مَعَ الْقَبُولِ فَلَا يُطْلَقُ اسْمُ الْبَيْعِ لُغَةً وَشَرِيعَةً عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَمَا لَمْ يُوجَدَا لَا يَتَّسِمُ التَّصَرُّفُ بِسِمَةِ الْبَيْعِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْهِبَةِ هُوَ اكْتِسَابُ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ بِإِظْهَارِ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ وَهَذَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْقَبُولِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَكَذَا الْغَرَضُ مِنْ الْحَلِفِ هُوَ مَنْعُ النَّفْسِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ هُوَ الْإِيجَابُ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْوَاهِبِ فَيَقْدِرُ عَلَى مَنْعِ نَفْسِهِ عَنْهُ. (فَأَمَّا) الْقَبُولُ وَالْقَبْضُ فَفِعْلُ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَا يَكُونُ مَقْدُورَ الْوَاهِبِ وَالْمِلْكُ مَحْكُومٌ شَرْعِيٌّ ثَبَتَ جَبْرًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى شَاءَ الْعَبْدُ أَوْ أَبَى فَلَا يُتَصَوَّرُ مَنْعَ النَّفْسِ عَنْهُ أَيْضًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ وَإِنْ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ فِعْلِهِ وَهُوَ الْإِيجَابُ إلَّا أَنَّ الْإِيجَابَ هُنَاكَ لَا يَصِيرُ تَبَعًا بِدُونِ الْقَبُولِ فَشَرَطَ الْقَبُولَ لِيَصِيرَ تَبَعًا فَالْإِيجَابُ هُوَ أَنْ يَقُولَ الْوَاهِبُ وَهَبْتُ هَذَا الشَّيْءَ لَكَ أَوْ مَلَّكْتُهُ مِنْكَ أَوْ جَعَلْتُهُ لَكَ أَوْ هُوَ لَكَ أَوْ أَعْطَيْتُهُ أَوْ نَحَلْتُهُ أَوْ أَهْدَيْتُهُ إلَيْكَ أَوْ أَطْعَمْتُكَ هَذَا الطَّعَامَ أَوْ حَمَلْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ وَنَوَى بِهِ الْهِبَةَ. (أَمَّا) قَوْلُهُ وَهَبْتُ لَكَ فَصَرِيحٌ فِي الْبَابِ وَقَوْلُهُ مَلَّكْتُكَ يُجْرَى مَجْرَى الصَّرِيحِ أَيْضًا لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ لِلْحَالِ مِنْ

غَيْرِ عِوَضٍ هُوَ تَفْسِيرُ الْهِبَةِ وَكَذَا قَوْلُهُ جَعَلْتُ هَذَا الشَّيْءَ لَكَ وَقَوْلُهُ هُوَ لَكَ لِأَنَّ اللَّامَ الْمُضَافَ إلَى مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْمِلْكِ لِلتَّمْلِيكِ فَكَانَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ مَعْنَى الْهِبَةِ وَكَذَا قَوْلُهُ أَعْطَيْتُكَ لِأَنَّ الْعَطِيَّةَ الْمُضَافَةَ إلَى الْعَيْنِ فِي عُرْفِ النَّاسِ هُوَ تَمْلِيكُهَا لِلْحَالِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَهَذَا مَعْنَى الْهِبَةِ وَكَذَا يُسْتَعْمَلُ الْإِعْطَاءُ اسْتِعْمَالَ الْهِبَةِ يُقَالُ أَعْطَاكَ اللَّهُ كَذَا وَوَهَبَكَ بِمَعْنَى وَالنِّحْلَةُ هِيَ الْعَطِيَّةُ يُقَالُ فُلَانٌ نَحَلَ وَلَدَهُ نِحْلَى أَيْ أَعْطَاهُ عَطِيَّةً وَالْهِبَةُ بِمَعْنَى الْعَطِيَّةِ وَقَوْلُهُ أَطْعَمْتُكَ هَذَا الطَّعَامَ فِي مَعْنَى أَعْطَيْتُكَ وَقَوْلُهُ حَمَلْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْهِبَةَ وَيَحْتَمِلُ الْعَارِيَّةَ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَمَلَ رَجُلًا عَلَى دَابَّةٍ ثُمَّ رَآهَا تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَرْجِعْ فِي صَدَقَتِكَ» فَاحْتَمَلَ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ وَاحْتَمَلَ تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ لِلتَّعْيِينِ. وَلَوْ قَالَ مَنَحْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ أَوْ قَالَ هَذَا الشَّيْءُ لَكَ مِنْحَةً فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِمَّا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلَاكٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلَاكٍ كَالدَّارِ وَالثَّوْبِ وَالدَّابَّةِ وَالْأَرْضِ بِأَنْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لَكَ مِنْحَةً أَوْ هَذَا الثَّوْبُ أَوْ هَذِهِ الدَّابَّةُ أَوْ هَذِهِ الْأَرْضُ فَهُوَ عَارِيَّةٌ لِأَنَّ الْمِنْحَةَ فِي الْأَصْلِ عِبَارَةٌ عَنْ هِبَةِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ مَا لَهُ حُكْمُ الْمَنْفَعَةِ وَقَدْ أُضِيفَ إلَى مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلَاكِهِ مِنْ السُّكْنَى وَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ وَالزِّرَاعَةِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ زِرَاعَتُهَا فَكَانَ هَذَا تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْإِعَارَةِ. وَكَذَا إذَا قَالَ لِأَرْضٍ بَيْضَاءَ هَذِهِ الْأَرْضُ لَكَ طُعْمَةً كَانَ عَارِيَّةً لِأَنَّ عَيْنَ الْأَرْضِ مِمَّا لَا يُطْعَمُ وَإِنَّمَا يُطْعَمُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَكَانَ طُعْمَةُ الْأَرْضِ زِرَاعَتَهَا فَكَانَ ذَلِكَ حِينَئِذٍ إعَارَةً وَلِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا زَرْعٌ وَإِنْ كَانَ فِيهَا زَرْعٌ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةُ الْقَلْعِ كَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَفِي الِاسْتِحْسَان يُتْرَكُ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ وَسَنَذْكُرُ وَجْهَيْهَا فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ وَلَوْ مَنَحَهُ شَاةً حَلُوبًا أَوْ نَاقَةً حَلُوبًا أَوْ بَقَرَةً حَلُوبًا وَقَالَ هَذِهِ الشَّاةُ لَكَ مِنْحَةٌ أَوْ هَذِهِ النَّاقَةُ أَوْ هَذِهِ الْبَقَرَةُ كَانَ عَارِيَّةً وَجَازَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِلَبَنِهَا لِأَنَّ اللَّبَنَ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا حَقِيقَةً فَهُوَ مَعْدُودٌ مِنْ الْمَنَافِعِ عُرْفًا وَعَادَةً فَأَعْطَى لَهُ حُكْمَ الْمَنْفَعَةِ كَأَنَّهُ أَبَاحَ لَهُ شُرْبَ اللَّبَنَ فَيَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِلَبَنِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ مَنَحَهُ جَدْيًا أَوْ عَنَاقًا كَانَ لَهُ عَارِيَّةً لِأَنَّ الْجَدْيَ بِعَرَضِ أَنْ يَصِيرَ فَحْلًا وَالْعَنَاقَ حَلُوبًا وَإِنْ عَنَى بِالْمِنْحَةِ الْهِبَةَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعَ عَلَى فَهُوَ مَا عَنَى لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِالِاسْتِهْلَاكِ كَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِأَنْ. قَالَ هَذَا الطَّعَامُ لَكَ مِنْحَةٌ أَوْ هَذَا اللَّبَنُ أَوْ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ كَانَ هِبَةً لِأَنَّ الْمِنْحَةَ الْمُضَافَةَ إلَى مَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِالِاسْتِهْلَاكِ لَا يُمْكِنُ حَمْلَهَا عَلَى هِبَةِ الْمَنْفَعَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى هِبَةِ الْعَيْنِ وَهِيَ تَمْلِيكُهَا وَتَمْلِيكُ الْعَيْنِ لِلْحَالِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ هُوَ تَغْيِيرُ الْهِبَةِ هَذَا إذَا كَانَ الْإِيجَابُ مُطْلَقًا عَنْ الْقَرِينَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِقَرِينَةٍ فَالْقَرِينَةُ لَا تَخْلُو. (إمَّا) إنْ كَانَ وَقْتًا. (وَإِمَّا) إنْ كَانَ شَرْطًا. (وَإِمَّا) إنْ كَانَ مَنْفَعَةً فَإِنْ كَانَ وَقْتًا بِأَنْ قَالَ أَعْمَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ أَوْ صَرَّحَ فَقَالَ جَعَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ لَك عُمْرَى أَوْ قَالَ جَعَلْتُهَا لَك عُمُرَكَ أَوْ قَالَ هِيَ لَك عُمُرَكَ أَوْ حَيَاتَكَ فَإِذَا مِتَّ أَنْتَ فَهِيَ رَدٌّ عَلَيَّ أَوْ قَالَ جَعَلْتُهَا عُمْرِي أَوْ حَيَاتِي فَإِذَا مِتَّ أَنَا فَهِيَ رَدٌّ عَلَى وَرَثَتِي فَهَذَا كُلُّهُ هِبَةٌ وَهِيَ لِلْمُعَمَّرِ لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَالتَّوْقِيتُ بَاطِلٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ لَا تَعْمُرُوهَا فَإِنَّ مَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا فَإِنَّهُ لِمَنْ أَعْمَرَهُ» وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي يُعْطَاهَا لَا يَرْجِعُ إلَى الَّذِي أَعْطَاهَا لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ» . وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى حَيَاتَهُ فَهِيَ لَهُ وَلِعَقِبِهِ يَرِثُهَا مَنْ يَرِثُهُ بَعْدَهُ» فَدَلَّتْ هَذِهِ النُّصُوصُ عَلَى جَوَازِ الْهِبَةِ وَبُطْلَانِ التَّوْقِيتِ لِأَنَّ قَوْلَهُ جَعَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ لَكَ أَوْ هِيَ لَك تَمْلِيكُ الْعَيْنِ لِلْحَالِ مُطْلَقًا ثُمَّ قَوْلُهُ عُمْرَى تَوْقِيتُ التَّمْلِيكِ وَإِنَّهُ تَغْيِيرٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَكَذَا تَمْلِيكُ الْأَعْيَانِ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ نَصًّا كَالْبَيْعِ فَكَانَ التَّوْقِيتُ تَصَرُّفًا مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَالشَّرْعِ فَبَطَلَ وَبَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَتْ الْقَرِينَةُ شَرْطًا نَظَرَ إلَى الشَّرْطِ الْمَقْرُونِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَمْنَعُ وُقُوعَ التَّصَرُّفِ تَمْلِيكًا لِلْحَالِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْهِبَةِ وَإِلَّا فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَتَصِحُّ الْهِبَةُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ أَرْقَبْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ صَرَّحَ فَقَالَ

جَعَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ لَكَ رُقْبَى أَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لَكَ رُقْبَى وَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَهِيَ عَارِيَّةٌ فِي يَدِهِ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ مَتَى شَاءَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ هَذَا هِبَةٌ وَقَوْلُهُ رُقْبَى بَاطِلٌ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى وَلِأَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لَكَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ لَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَلَمَّا قَالَ رُقْبَى فَقَدْ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ فَبَطَلَ الشَّرْطُ وَبَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا وَلِهَذَا لَوْ قَالَ دَارِي لَكَ عُمْرَى أَنَّهُ تَصِحُّ الْهِبَةُ وَيَبْطُلُ شَرْطُ الْمُعَمَّرِ كَذَا هَذَا. وَاحْتَجَّا بِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ شُرَيْحٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ الْعُمْرَى وَأَبْطَلَ الرُّقْبَى» وَمِثْلُهُمَا لَا يَكْذِبُ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لَكَ رُقْبَى تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ لِأَنَّ مَعْنَى الرُّقْبَى أَنَّهُ يَقُولُ إنْ مِتَّ أَنَا قَبْلَكَ فَهِيَ لَك وَإِنْ مِتَّ أَنْتَ قَبْلِي فَهِيَ لِي سَمَّى الرُّقْبَى مِنْ الرُّقُوبِ وَالِارْتِقَابِ وَالتَّرَقُّبُ وَهُوَ الِانْتِظَارُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَظِرُ مَوْتَ صَاحِبِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَانَتْ الرُّقْبَى تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِأَمْرٍ لَهُ خَطَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَالتَّمْلِيكَاتُ مِمَّا لَا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالْخَطَرِ فَلَمْ تَصِحَّ هِبَةً وَصَحَّتْ عَارِيَّةً لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ وَأَطْلَقَ لَهُ الِانْتِفَاعَ بِهِ وَهَذَا مَعْنَى الْعَارِيَّةِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعُمْرَى لِأَنَّ هُنَاكَ وَقَعَ التَّصَرُّفُ تَمْلِيكًا لِلْحَالِ فَهُوَ بِقَوْلِهِ عُمْرَى وَقْتَ التَّمْلِيكِ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ فَبَطَلَ وَبَقِيَ الْعَقْدُ عَلَى الصِّحَّةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّ الرُّقْبَى تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُرَاقَبَةِ وَهِيَ الِانْتِظَارُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الرِّقَابِ وَهُوَ هِبَةُ الرَّقَبَةِ:. فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْأَوَّلُ كَانَ حُجَّةً وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الثَّانِي لَا يَكُونُ حُجَّةً لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الثَّانِي تَوْفِيقًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ صِيَانَةً لِكَلَامِ مَنْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ التَّنَاقُضُ عَنْهُ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنْ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَة إنْ كَانَ الرُّقْبَى وَالْإِرْقَابُ مُسْتَعْمَلَيْنِ فِي اللُّغَةِ فِي هِبَةِ الرَّقَبَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ فَإِنْ عَنَى بِهِ هِبَةَ الرَّقَبَةِ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ عَنَى بِهِ مُرَاقَبَةَ الْمَوْتِ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ وَلَوْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ دَارِي لِأَطْوَلِكُمَا حَيَاةً فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَطْوَلُ حَيَاةً فَكَانَ هَذَا تَعْلِيقَ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ فَبَطَلَ وَلَوْ قَالَ دَارِي لَكَ حَبِيسٌ فَهَذَا عَارِيَّةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ هِبَةٌ وَقَوْلُهُ حَبِيسٌ بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ الرُّقْبَى. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لَكَ تَمْلِيكٌ وَقَوْلُهُ حَبِيسٌ نَفَى الْمِلْكَ فَلَمْ يَصِحَّ النَّفْيُ وَبَقِيَ التَّمْلِيكُ عَلَى حَالِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَهُ حَبِيسٌ خَرَجَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ لَكَ فَصَارَ كَأَنَّهُ ابْتَدَأَ بِالْحَبِيسِ فَقَالَ دَارِي حَبِيسٌ لَكَ وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ كَانَ عَارِيَّةً بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هَذَا وَلَوْ قَالَ دَارِي رُقْبَى لَكَ كَانَ عَارِيَّةً إجْمَاعًا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ وَلَوْ وَهَبَ جَارِيَةً عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا أَوْ عَلَى أَنْ يَتَّخِذَهَا أُمَّ وَلَدٍ أَوْ عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا لِفُلَانٍ أَوْ عَلَى أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ بَعْدَ شَهْرٍ جَازَتْ الْهِبَةُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ لِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ مِمَّا لَمْ تَمْنَعْ وُقُوعَ التَّصَرُّفِ تَمْلِيكًا لِلْحَالِ وَهِيَ شُرُوطٌ تُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَتَبْطُلُ وَيَبْقَى الْعَقْدُ عَلَى الصِّحَّةِ بِخِلَافِ شُرُوطِ الرُّقْبَى عَلَى مَا بَيَّنَّا وَبِخِلَافِ الْبَيْع فَإِنَّهُ تُبْطِلُهُ هَذِهِ الشُّرُوطُ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَكُونَ قِرَانُ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ لِعَقْدٍ مَا مُفَسِّرًا لَهُ لِأَنَّ ذِكْرَهُ فِي الْعَقْد لَمْ يَصِحَّ فَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ وَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا إلَّا أَنَّ الْفَسَادَ فِي الْبَيْعِ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِيهِ وَلَا نَهْيَ فِي الْهِبَةِ فَيَبْقَى الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى الْأَصْلِ وَلِأَنَّ دَلَائِلَ شَرْعِيَّةِ الْهِبَةِ عَامَّةٌ مُطْلَقَةٌ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّرْغِيبِ فِي أَكْلِ الْمَهْرِ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» وَهَذَا نَدْبٌ إلَى التَّهَادِي وَالْهَدِيَّةُ هِبَةٌ وَرَوَيْنَا عَنْ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ كَذَا وَكَذَا وَعَنْ سَيِّدنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِصِلَةِ رَحِمٍ أَوْ عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا الثَّوَابَ فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ يَرْجِعُ فِيهَا إنْ لَمْ يَرْضَ عَنْهَا وَنَحْوِهِ مِنْ الدَّلَائِلِ الْمُقْتَضِيَةِ لِشَرْعِيَّةِ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا قَرَنَ بِهَا شَرْطًا فَاسِدًا أَوْ لَمْ يَقْرِنْ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُج مَا إذَا وَهَبَ جَارِيَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا أَوْ وَهَبَ حَيَوَانًا وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهِ أَنَّ الْهِبَة جَائِزَةٌ فِي الْأُمِّ وَالْوَلَدِ جَمِيعًا وَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ وَالْكُلُّ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْعُقُودِ الَّتِي فِيهَا اسْتِثْنَاءُ الْحَمْلِ أَنَّهَا أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ قِسْمٌ مِنْهَا يَبْطُلُ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ جَمِيعًا وَقِسْمٌ مِنْهَا يَصِحُّ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ وَقِسْمٌ مِنْهَا يَصِحُّ وَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَهُوَ الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالرَّهْنُ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِمَا فِي الْبَطْنِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ وَهَذِهِ الْعُقُودُ تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ. (وَأَمَّا) الْقِسْمُ الثَّانِي فَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ

فصل في شرائط ركن الهبة

لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَدْخُلُ الْأُمُّ وَالْوَلَدُ جَمِيعًا فِي الْعَقْد لِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا إذَا لَمْ يَصْلُحْ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ وَكَذَا الْعِتْقُ بِأَنْ أَعْتَقَ جَارِيَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا أَنَّهُ يَصِحُّ الْعِتْقُ وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ حَتَّى يَعْتِقَ الْأُمَّ وَالْوَلَدَ جَمِيعًا لِمَا قُلْنَا. (وَأَمَّا) الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَالْوَصِيَّةُ بِأَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجَارِيَةٍ وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا لِأَنَّهُ لَمَا جَعَلَ الْجَارِيَةَ وَصِيَّةً لَهُ وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا فَقَدْ أَبْقَى مَا فِي بَطْنِهَا مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ وَالْمِيرَاثُ يُجْرَى فِيمَا فِي الْبَطْنِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِجَارِيَةٍ لِرَجُلٍ وَاسْتَثْنَى خِدْمَتَهَا وَغَلَّتَهَا لِوَرَثَتِهِ أَنَّهُ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّ الْغَلَّةَ وَالْخِدْمَةَ لَا يُجْرَى فِيهِمَا الْمِيرَاثُ بِانْفِرَادِهِمَا بِدُونِ الْأَصْلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِخِدْمَتِهَا وَغَلَّتِهَا لِإِنْسَانٍ وَمَاتَ الْمُوصِي ثُمَّ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ الْقَبُولِ لَا تَصِيرُ الْغَلَّةُ وَالْخِدْمَةُ مِيرَاثًا لِوَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ بَلْ تَعُودُ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي وَبِمِثْلِهِ لَوْ أَوْصَى بِمَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ لِإِنْسَانٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنَّ الْوَلَدَ يَصِيرُ مِيرَاثًا لِوَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ وَمَا افْتَرَقَا إلَّا لِمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَتْ الْقَرِينَةُ مَنْفَعَةً بِأَنْ قَالَ دَارِي لَك سُكْنَى أَوْ عُمْرَى سُكْنَى أَوْ صَدَقَةً سُكْنَى أَوْ هِبَةً سُكْنَى أَوْ سُكْنَى هِبَةً أَوْ هِيَ لَكَ عُمْرَى عَارِيَّةً وَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَهَذَا كُلُّهُ عَارِيَّةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ السُّكْنَى فِي قَوْلِهِ دَارِي لَكَ سُكْنَى أَوْ عُمْرَى سُكْنَى أَوْ صَدَقَةً سُكْنَى دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا لَكَ ظَاهِرُهُ وَإِنْ كَانَ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ مَنْفَعَةٌ عُرْفًا وَشَرْعًا وَقَوْلُهُ سُكْنَى مَوْضُوعٌ لِلْمَنْفَعَةِ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا لَهَا فَكَانَ مُحْكَمًا فَجُعِلَ تَفْسِيرًا لِلْمُحْتَمِلِ وَبَيَانًا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ وَتَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ هُوَ تَفْسِيرُ الْعَارِيَّةِ وَكَذَا قَوْلُهُ سُكْنَى بَعْدَ ذِكْرِ الْهِبَةِ يَكُونُ تَفْسِيرًا لِلْهِبَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ هِبَةٌ يَحْتَمِلُ هِبَةَ الْعَيْنِ وَيَحْتَمِلُ هِبَةَ الْمَنَافِعِ. فَإِذَا قَالَ سُكْنَى فَقَدْ عَيَّنَ هِبَةَ الْمَنَافِعِ فَكَانَ بَيَانًا لِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ أَنَّهُ أَرَادَ هِبَةَ الْمَنَافِعِ وَهِبَةُ الْمَنْفَعَةِ تَمْلِيكُهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ مَعْنَى الْعَارِيَّةِ وَإِذَا قَالَ سُكْنَى هِبَةً فَمَعْنَاهَا أَنَّ سُكْنَى الدَّارِ هِبَةٌ لَكَ فَكَانَ هِبَةُ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْعَارِيَّةِ وَلَوْ قَالَ هِيَ لَكَ عُمْرَى تَسْكُنُهَا أَوْ هِبَةً تَسْكُنُهَا أَوْ صَدَقَةً تَسْكُنُهَا وَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَهُوَ هِبَةٌ لِأَنَّهُ مَا فَسَّرَ الْهِبَةَ بِالسُّكْنَى لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ نَعْتًا فَيَكُونُ بَيَانًا لِلْمُحْتَمِلِ بَلْ وَهَبَ الدَّارَ مِنْهُ ثُمَّ شَاوَرَهُ فِيمَا يَعْمَلُ بِمِلْكِهِ وَالْمَشُورَةُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بَاطِلَةٌ فَتَعَلَّقَتْ الْهِبَةُ بِالْعَيْنِ وَقَوْلُهُ تَسْكُنُهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لِتَسْكُنَهَا كَمَا إذَا قَالَ وَهَبْتُهَا لَكَ لِتُؤَاجِرَهَا وَلَوْ قَالَ هِيَ لَكَ تَسْكُنُهَا كَانَتْ هِبَةً أَيْضًا لِأَنَّ الْإِضَافَةَ بِحَرْفِ اللَّامِ إلَى مَنْ هُوَ أَهْلُ الْمِلْكِ لِلتَّمْلِيكِ وَقَوْلُهُ تَسْكُنُهَا مَشُورَةٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا. [فَصْلٌ فِي شَرَائِط رُكْن الْهِبَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَاهِبِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْهُوبِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مُعَلَّقًا بِمَا لَهُ خَطَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ مِنْ دُخُول زَيْدٍ وَقُدُومِ خَالِدٍ وَالرُّقْبَى وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا مُضَافًا إلَى وَقْتٍ بِأَنْ يَقُولَ وَهَبْتُ هَذَا الشَّيْءَ مِنْكَ غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ لِلْحَالِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالْخَطَرِ وَالْإِضَافَةُ إلَى الْوَقْتِ كَالْبَيْعِ. (وَأَمَّا) مَا يَرْجِعُ إلَى الْوَاهِبِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ وَلِأَنَّ الْهِبَةَ تَبَرُّعٌ فَلَا يَمْلِكُهَا مَنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ التَّبَرُّعَ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا مَحْضًا لَا يُقَابِلُهُ نَفْعٌ دُنْيَوِيٌّ فَلَا يَمْلِكُهَا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَكَذَا الْأَبُ لَا يَمْلِكُ هِبَةَ مَالِ الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْعِوَضِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الْمُتَبَرِّعَ بِمَالِ الصَّغِيرِ قُرْبَانِ مَالِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْأَحْسَنِ وَلِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ نَفْعٌ دُنْيَوِيٌّ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ شَأْنَهُ {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُقَابِلْهُ عِوَضٌ دُنْيَوِيٌّ كَانَ التَّبَرُّعُ ضَرَرًا مَحْضًا وَتَرَكَ الْمَرْحَمَةِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ لَا يَرْحَمُ صَغِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَلِهَذَا لَمْ يَمْلِكْ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ وَإِعْتَاقَ عَبْدِهِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ. وَإِنْ شَرَطَ الْأَبُ الْعِوَضَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ وَعَلَى هَذَا هِبَةُ الْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَعِنْدَهُ يَجُوزُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ لَا بِعِوَضٍ وَلَا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَمْلِكُ الْبَيْعَ يَمْلِكُ الْهِبَةَ بِعِوَضٍ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ فَإِذَا شَرَطَ فِيهَا الْعِوَضَ كَانَتْ تَمْلِيكًا بِعِوَضٍ وَهَذَا

تَفْسِيرُ الْبَيْعِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَةُ وَلَا عِبْرَةَ بِاخْتِلَافِهَا بَعْدَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى كَلَفْظِ الْبَيْعِ مَعَ لَفْظَةِ التَّمْلِيكِ. (وَلَهُمَا) أَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ تَقَعُ تَبَرُّعًا ابْتِدَاءً ثُمَّ تَصِيرُ بَيْعًا فِي الِانْتِهَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَوْ وَقَعَتْ بَيْعًا مِنْ حِينِ وُجُودِهَا لَمَا تَوَقَّفَ الْمِلْكُ فِيهِ عَلَى الْقَبْضِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُفِيدَ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ دَلَّ أَنَّهَا وَقَعَتْ تَبَرُّعًا ابْتِدَاءً وَهَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُونَ التَّبَرُّعَ فَلَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ حِينَ وُجُودِهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَصِيرَ بَيْعًا بَعْدَ ذَلِكَ. (وَأَمَّا) مَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْهُوبِ فَأَنْوَاعٌ:. (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْهِبَةِ فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَقْتَ الْعَقْدِ بِأَنْ وَهَبَ مَا يُثْمِرُ نَخْلُهُ الْعَامَ وَمَا تَلِدُ أَغْنَامُهُ السَّنَةَ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ لِلْحَالِ وَتَمْلِيكُ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ وَالْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِضَافَةُ لَا تَمْنَعُ جَوَازَهَا وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ مَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ أَوْ مَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الشَّاةِ أَوْ مَا فِي ضَرْعِهَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ سَلَّطَهُ عَلَى الْقَبْضِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَالْحَلْبِ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ لِلْحَالِ لِاحْتِمَالِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ لِأَنَّ انْتِفَاخَ الْبَطْنِ قَدْ يَكُونُ لِلْحَمْلِ وَقَدْ يَكُونُ لِدَاءٍ فِي الْبَطْنِ وَغَيْرِهِ وَكَذَا انْتِفَاخُ الضَّرْعِ قَدْ يَكُونُ بِاللَّبَنِ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ فَكَانَ لَهُ خَطَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَلَا سَبِيلَ لِتَصْحِيحِهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا بَعْدَ زَمَانِ الْحُدُوثِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ بِالْهِبَةِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ فَبَطَلَ. وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَسَلَّطَهُ عَلَى الْقَبْضِ أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ لِلْحَالِ لِكَوْنِ الْمَوْهُوبِ مَوْجُودًا مَمْلُوكًا لِلْحَالِ مَقْدُورَ الْقَبْضِ بِطَرِيقِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ زُبْدًا فِي لَبَنٍ أَوْ دُهْنًا فِي سِمْسِمٍ أَوْ دَقِيقًا فِي حِنْطَةٍ لَا يَجُوزُ وَإِنْ سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ عِنْد حُدُوثِهِ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ لِلْحَالِ فَلَمْ يُوجَدْ مَحَلُّ حُكْمِ الْعَقْدِ لِلْحَالِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِضَافَةِ إلَى وَقْتِ الْحُدُوثِ فَبَطَلَ أَصْلًا بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ صُوفًا عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَجَزَّهُ وَسَلَّمَهُ أَنَّهُ يَجُوز لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مَوْجُودٌ مَمْلُوكٌ لِلْحَالِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْفُذْ لِلْحَالِ لِمَانِعٍ وَهُوَ كَوْنُ الْمَوْهُوبِ مَشْغُولًا بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ فَإِذَا جَزَّهُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ لِزَوَالِ الشُّغْلِ فَيَنْفُذُ عِنْدَ وُجُودِ الْقَبْضِ كَمَا لَوْ وَهَبَ شِقْصًا مُشَاعًا ثُمَّ قَسَّمَهُ وَسَلَّمَهُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا كَالْحُرِّ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَصَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَالْخِنْزِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْبُيُوعِ وَلَا هِبَةُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مُطْلَقٍ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ وَالْمُكَاتَبِ لِكَوْنِهِمْ أَحْرَارًا مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ هَؤُلَاءِ وَلَا هِبَةُ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ كَالْخَمْرِ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا فِي نَفْسِهِ فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ الْمُبَاحَاتِ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ وَتَمْلِيكُ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ مُحَالٌ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْوَاهِبِ فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِاسْتِحَالَةِ تَمْلِيكِ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ وَإِنْ شِئْتَ رَدَدْتَ هَذَا الشَّرْطَ إلَى الْوَاهِبِ وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمَالِكَ وَالْمَمْلُوكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ وَالْعَلَقَةُ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا الْإِضَافَةُ هِيَ الْمِلْكُ فَيَجُوزُ رَدُّ هَذَا الشَّرْطِ إلَى الْمَوْهُوبِ وَيَجُوزُ رَدُّهُ إلَى الْوَاهِبِ فِي صِنَاعَةِ التَّرْتِيبِ فَافْهَمْ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَمْلُوكُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا فَتَجُوزُ هِبَةُ الدَّيْنِ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا. (وَأَمَّا) هِبَةُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَجَائِزٌ أَيْضًا إذَا أَذِنَ لَهُ بِالْقَبْضِ وَقَبَضَهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ بِالْقَبْضِ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ جَوَازِ الْهِبَةِ وَمَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ لِمَنْ عَلَيْهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ وَذِمَّتُهُ فِي قَبْضِهِ فَكَانَ الدَّيْنُ فِي قَبْضِهِ بِوَاسِطَةِ قَبْضِ الذِّمَّةِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَدْيُونَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إلَّا أَنَّ قَبْضَهُ بِقَبْضِ الْعَيْنِ فَإِذَا قَبَضَ الْعَيْنَ قَامَ قَبْضُهَا مَقَامَ قَبْضِ عَيْنِ مَا فِي الذِّمَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ صَرِيحًا وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْقَبْضِ بِحَضْرَةِ الْوَاهِبِ بِخِلَافِ هِبَةِ الْعَيْنِ لِمَا نَذْكُرهُ فِي مَوْضِعِهِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَحُوزًا فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقَسَّمُ وَتَجُوزُ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ كَالْعَبْدِ وَالْحَمَّامِ وَالدِّنِّ وَنَحْوِهَا وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجُوزُ هِبَة الْمُشَاعِ فِيمَا يُقَسَّمُ وَفِيمَا لَا يُقَسَّمُ عِنْدَهُ وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نِصْفَ الْمَفْرُوضِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إلَّا أَنْ يُوجَدَ الْحَطُّ مِنْ الزَّوْجَاتِ عَنْ النِّصْفِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ وَالْمُشَاعِ وَالْمَقْسُومِ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ هِبَةِ الْمُشَاعِ فِي الْجُمْلَةِ وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمَّا شَدَّدَ فِي الْغُلُولِ فِي الْغَنِيمَةِ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ فَقَامَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى سَنَامِ بَعِيرٍ وَأَخَذَ مِنْهُ

وَبَرَةً ثُمَّ قَالَ «أَمَا إنِّي لَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنِيمَتِكُمْ وَلَوْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْوَبَرَةِ إلَّا الْخُمُسَ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ رُدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ فَإِنَّ الْغُلُولَ عَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى صَاحِبِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ بِكُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ فَقَالَ أَخَذْتُهَا لِأُصْلِحَ بِهَا بَرْدَعَةَ بَعِيرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ أَمَّا نَصِيبِي فَهُوَ لَكَ وَسَأُسَلِّمُكَ الْبَاقِيَ» وَهَذَا هِبَةُ الْمَشَاعِ فِيمَا يُقَسَّمُ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَزَلَ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَنَظَرَ إلَى مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ فَوَجَدَهُ بَيْنَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ وَبَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَوْمِهِ فَاسْتَبَاعَ أَسْعَدُ نَصِيبَهُمَا لِيَهَبَ الْكُلَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَبَيَا ذَلِكَ فَوَهَبَ أَسْعَدُ نَصِيبَهُ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَوَهَبَا أَيْضًا نَصِيبَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ قَبِلَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْهِبَةَ فِي نَصِيبِ أَسْعَدَ وَقَبِلَ فِي نَصِيبِ الرَّجُلَيْنِ أَيْضًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَمَا قَبِلَ لِأَنَّ أَدْنَى حَالِ فِعْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْجَوَازُ وَلِأَنَّ الشِّيَاعَ لَا يَمْنَعُ حُكْمَ هَذَا التَّصَرُّفِ وَلَا شَرْطَهُ لِأَنَّ حُكْمَ الْهِبَةِ الْمِلْكُ وَالشِّيَاعُ لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشَاعِ وَكَذَا هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ وَشَرْطُهُ هُوَ الْقَبْضُ وَالشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ الْقَبْضَ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ قَابِضًا لِلنِّصْفِ الْمُشَاعِ بِتَخْلِيَةِ الْكُلِّ وَلِهَذَا جَازَتْ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ وَإِنْ كَانَ الْقَبْضُ فِيهَا شَرْطًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ كَذَا هَذَا. (وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لِسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ غِنًى أَنْتِ وَأَعَزَّهُمْ عَلَيَّ فَقْرًا أَنْتِ وَإِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي بِالْعَالِيَةِ وَإِنَّكِ لَمْ تَكُونِي قَبَضْتِيهِ وَلَا جَذَيْتِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ اعْتَبَرَ سَيِّدُنَا الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْقَبْضَ وَالْقِيمَةَ فِي الْهِبَةِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْحِيَازَةَ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ الشَّيْءِ الْمُفَرَّقِ فِي حَيِّزٍ وَهَذَا مَعْنَى الْقِسْمَةِ لِأَنَّ الْأَنْصِبَاءَ الشَّائِعَةَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً وَالْقِسْمَةُ تَجْمَعُ كُلَّ نَصِيبٍ فِي حَيِّزٍ وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَنْحَلُ وَلَدَهُ نُحْلًا لَا يَحُوزُهَا وَلَا يَقْسِمُهَا وَيَقُولُ إنْ مِتُّ فَهُوَ لَهُ وَإِنْ مَاتَ رَجَعَتْ إلَيَّ وَأَيْمُ اللَّهِ لَا يَنْحَلُ أَحَدُكُمْ وَلَدَهُ نُحْلَى لَا يَحُوزُهَا وَلَا يَقْسِمُهَا فَيَمُوتُ إلَّا جَعَلْتُهَا مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ. وَالْمُرَادُ مِنْ الْحِيَازَةِ الْقَبْضُ هُنَا لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا بِمُقَابَلَةِ الْقِسْمَةِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى التَّكْرَارِ أَخْرَجَ الْهِبَةَ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِلْمِلْكِ بِدُونِ الْقَبْضِ وَالْقِسْمَةِ وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ مَنْ وَهَبَ ثُلُثَ كَذَا أَوْ رُبْعَ كَذَا لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يُقَاسِمْ وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ جَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ وَالشُّيُوعُ يَمْنَعُ مِنْ الْقَبْضِ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَبْضِ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَقْبُوضِ وَالتَّصَرُّفُ فِي النِّصْفِ الشَّائِعِ وَحْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ فَإِنَّ سُكْنَى نِصْفَ الدَّارِ شَائِعًا وَلُبْسَ نِصْفِ الثَّوْبِ شَائِعًا مُحَالٌ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْكُلِّ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْكُلَّ وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْمُشَاعِ الَّذِي لَا يُقَسَّمُ أَنَّ مَعْنَى الْقَبْضِ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ لِمَا قُلْنَا إلَّا أَنَّ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى هِبَةِ بَعْضِهِ وَلَا حُكْمَ لِلْهِبَةِ بِدُونِ الْقَبْضِ وَالشِّيَاعُ مَانِعٌ مِنْ الْقَبْضِ الْمُمَكِّنِ لِلتَّصَرُّفِ وَلَا سَبِيلَ إلَى إزَالَةِ الْمَانِعِ بِالْقِسْمَةِ لِعَدَمِ احْتِمَالِ الْقِسْمَةِ فَمَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْجَوَازِ وَإِقَامَةِ صُورَةِ التَّخْلِيَةِ مَقَامَ الْقَبْضِ الْمُمَكِّنِ مِنْ التَّصَرُّفِ وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا لِأَنَّ الْمَحَلَّ مُحْتَمِلٌ لِلْقِسْمَةِ فَيُمْكِنُ إزَالَةَ الْمَانِعِ مِنْ الْقَبْض الْمُمَكِّنِ بِالْقِسْمَةِ. أَوْ نَقُولَ: الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - شَرَطُوا الْقَبْضَ الْمُطْلَقَ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَقَبْضُ الْمُشَاعِ قَبْضٌ قَاصِرٌ لِوُجُودِهِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ دُونَ الْمَعْنَى عَلَى مَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى بِالصُّورَةِ فِي الْمُشَاع الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لِلضَّرُورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا فَلَزِمَ اعْتِبَارُ الْكَمَالِ فِي الْقَبْضِ وَلَا يُوجَدُ فِي الْمُشَاعِ وَلِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَوْ صَحَّتْ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَصَارَ عَقْدُ ضَمَانٍ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ الْوَاهِبِ بِالْقِسْمَةِ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْقِسْمَةِ فَيُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ الْمَشْرُوعِ وَلِهَذَا تَوَقَّفَ الْمِلْكُ فِي الْهِبَةِ عَلَى الْقَبْضِ لِمَا أَنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَثَبَتَتْ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّسْلِيمِ فَيُؤَدِّي إلَى إيجَابِ الضَّمَانِ فِي عَقْدِ التَّبَرُّعِ وَفِيهِ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ وَكَذَا هَذَا بِخِلَافِ مُشَاعٍ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُتَصَوَّرُ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ لِأَنَّ الضَّمَانَ ضَمَانُ الْقِسْمَةِ وَالْمَحِلُّ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَهُوَ الْفَرْقُ. (وَأَمَّا) الْآيَةُ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَفْرُوضِ الدَّيْنُ لَا الْعَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] وَالْعَفْوُ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ الْأَعْيَانِ لَا يُعْقَلُ وَكَذَا الْغَالِبُ فِي الْمَهْرِ أَنْ يَكُونَ

دَيْنًا وَهِبَةُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الدَّيْنِ عَنْهُ وَأَنَّهُ جَائِزٌ فِي الْمُشَاعِ. (وَأَمَّا) حَدِيثُ الْكُبَّةِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهَبَ نَصِيبَهُ مِنْهُ وَاسْتَوْهَبَ الْبَقِيَّةَ مِنْ أَصْحَابِ الْحُقُوقِ فَوَهَبُوا وَسَلَّمُوا الْكُلَّ جُمْلَةً وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَأُسَلِّمُكَ الْبَاقِي وَمَا كَانَ هُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِيَخْلِفَ فِي وَعْدِهِ وَهِبَةُ الْمُشَاعِ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ هِبَةٍ مُشَاعٍ لَا يَنْقَسِمُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ كُبَّةً وَاحِدَةً لَوْ قُسِمَتْ عَلَى الْجَمِّ الْغَفِيرِ لَا يُصِيبُ كُلًّا مِنْهُمْ إلَّا نَزْرٌ حَقِيرٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فَكَانَ فِي مَعْنَى مُشَاعٍ لَا يَنْقَسِمُ. (وَأَمَّا) حَدِيثُ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ فَحِكَايَةُ حَالٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَهَبَ نَصِيبَهُ وَشَرِيكَاهُ وَهَبَا نَصِيبَهُمَا مِنْهُ وَسَلَّمُوا الْكُلَّ جُمْلَةً وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْأَنْصِبَاءَ كَانَتْ مَقْسُومَةً مُفْرَزَةً وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ هَذَا بَيْنَهُمْ إذَا كَانَتْ الْجُمْلَةُ مُتَّصِلَةً بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَقَرْيَةٍ بَيْنَ جَمَاعَةٍ أَنَّهَا تُضَافُ إلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَتْ أَنْصِبَاؤُهُمْ مَقْسُومَةً وَاحْتَمَلَ بِخِلَافِهِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ لِأَنَّ حِكَايَةَ الْحَالِ لَا عُمُومَ لَهُ وَلَوْ قَسَمَ مَا وَهَبَ وَأَفْرَزَهُ ثُمَّ سَلَّمَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ جَازَ لِأَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ عِنْدَنَا مُنْعَقِدٌ مَوْقُوفٌ نَفَاذُهُ عَلَى الْقِسْمَةِ وَالْقَبْضُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ هُوَ الصَّحِيحُ إذْ الشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ رُكْنَ الْعَقْدِ وَلَا حُكْمَهُ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلَا سَائِرِ الشَّرَائِطِ إلَّا الْقَبْضُ الْمُمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فَإِذَا قَسَمَ وَقَبَضَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ النَّفَاذِ فَيَنْفُذُ. وَحَدِيثُ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ لَسَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي وَكَانَ ذَلِكَ هِبَةَ الْمُشَاعِ فِيمَا يَنْقَسِمُ لِأَنَّ النَّحْلَ مِنْ أَلْفَاظِ الْهِبَةِ وَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ لَمَا فَعَلَهُ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهُ مَا كَانَ لِيَعْقِدَ عَقْدًا بَاطِلًا فَدَلَّ قَوْلُ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى انْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي نَفْسِهِ وَتَوَقُّفِ حُكْمِهِ عَلَى الْقِسْمَةِ وَالْقَبْضِ وَهُوَ عَيْنُ مَذْهَبِنَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ نِصْفَ دَارِهِ مِنْ رَجُلٍ وَلَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ ثُمَّ وَهَبَ مِنْهُ النِّصْفَ الْآخَرَ وَسَلَّمَ إلَيْهِ جُمْلَةً جَازَ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ وَهَبَ مِنْهُ نِصْفَ الدَّارِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ بِنِحْلَةِ الْكُلِّ ثُمَّ وَهَبَ مِنْهُ النِّصْفَ الْآخَرَ وَسَلَّمَ لَمْ تَجُزْ الْهِبَةُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هِبَةُ الْمُشَاعِ وَهِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقْسَمُ لَا تَنْفُذُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ وَالتَّسْلِيمِ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْجَوَابُ فِي هِبَةِ الْمُشَاعِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ مِنْ شَرِيكِهِ كُلُّ ذَلِكَ يَجُوزُ لِقَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً مَحُوزَةً مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الشِّيَاعُ عِنْدَ الْقَبْضِ وَقَدْ وُجِدَ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ صَدَقَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يَنْقَسِمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الشِّيَاعَ لَا يَمْنَعُ حُكْمَ التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلَا شَرْطَهُ وَهُوَ الْقَبْضُ وَلَا يَمْنَعُ جَوَازَهُ كَالْمَفْرُوضِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ جَوَازِ الصَّدَقَةِ وَمَعْنَى الْقَبْضِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الشَّائِعِ أَوْ لَا يَتَكَامَلُ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْهِبَةِ وَلِأَنَّ التَّصَدُّقَ تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ وَتَصْحِيحُهُ فِي الْمُشَاعِ يُصَيِّرُهَا عَقْدَ ضَمَانٍ فَيَتَغَيَّرُ الْمَشْرُوعُ عَلَى مَا يُنَافِي الْهِبَةَ وَلَوْ وَهَبَ شَيْئًا يَنْقَسِمُ مِنْ رَجُلَيْنِ كَالدَّارِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَنَحْوِهَا وَقَبَضَاهُ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ رَجُلَانِ مِنْ وَاحِدٍ شَيْئًا يَنْقَسِمُ وَقَبَضَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ الشُّيُوعَ عِنْدَ الْقَبْضِ وَهُمَا يَعْتَبِرَانِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ جَمِيعًا فَلَمْ يُجَوِّزُ أَبُو حَنِيفَةَ هِبَةَ الْوَاحِدِ مِنْ اثْنَيْنِ لِوُجُودِ الشِّيَاعِ وَقْتَ الْقَبْضِ وَهُمَا جَوَّزَاهَا لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الشِّيَاعُ فِي الْحَالَيْنِ بَلْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ وَجَوَّزُوا هِبَةَ الِاثْنَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ. (أَمَّا) أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِعَدَمِ الشُّيُوعِ فِي وَقْتِ الْقَبْضِ. (وَأَمَّا) هُمَا فَلِانْعِدَامِهِ فِي الْحَالَيْنِ لِأَنَّهُ وُجِدَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلَمْ يُوجَدْ عِنْدَ الْقَبْضِ وَمَدَارُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ عَلَى حَرْفٍ وَهُوَ أَنَّ هِبَةَ الدَّارِ مِنْ رَجُلَيْنِ تَمْلِيكُ كُلِّ الدَّارِ جُمْلَةً أَوْ تَمْلِيكٌ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفُ مِنْ الْآخَرِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَمْلِيكُ النِّصْفِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفِ مِنْ الْآخَرِ فَيَكُونُ هِبَةَ الْمُشَاعِ فِيمَا يَنْقَسِمُ كَأَنَّهُ أَفْرَدَ تَمْلِيكَ كُلِّ نِصْفٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ وَعِنْدَهُمَا هِيَ تَمْلِيكُ الْكُلِّ مِنْهُمَا إلَّا تَمْلِيكَ النِّصْفِ مِنْ هَذَا وَالنِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ تَمْلِيكَ الشَّائِعِ فَيَجُوزُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَمَلَ بِمُوجَبِ الصِّيغَةِ هُوَ الْأَصْلُ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا لِأَنَّ قَوْلَهُ وَهَبْتُ هَذِهِ الدَّارَ كُلَّهَا هِبَةُ كُلِّ الدَّارِ جُمْلَةً مِنْهُمَا إلَّا هِبَةَ النِّصْفِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفِ مِنْ الْآخَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَوْزِيعٌ وَتَفْرِيقٌ وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ مُوجَبِ اللَّفْظِ لُغَةً إلَّا لِضَرُورَةِ الصِّحَّةِ وَفِي الْعُدُولِ عَنْ ظَاهِرِ الصِّيغَةِ هَهُنَا فَسَادُ الْعَقْدِ بِسَبَبِ الشُّيُوعِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الصِّيغَةِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْكُلِّ مِنْهُمَا وَمُوجِبُ التَّمْلِيكِ

مِنْهَا ثُبُوتُ الْمِلْكِ لَهُمَا فِي الْكُلِّ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ عِنْدَ الِانْقِسَامِ ضَرُورَةُ الْمُزَاحِمَةِ وَاسْتِوَائِهِمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ إذْ لَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ لِدُخُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعَقْدِ عَلَى السَّوَاءِ كَالْأَخَوَيْنِ فِي الْمِيرَاثِ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي الدَّرَجَةِ أَنَّ الْمِيرَاثَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِنْ كَانَ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ حَتَّى لَوْ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا يَسْتَحِقُّ كُلَّ الْمَالِ. وَإِذَا جَاءَتْ الْمُزَاحَمَةُ مَعَ الْمُسَاوَاةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ يَثْبُتُ عِنْدَ انْقِسَامِ الْمِيرَاثِ فِي النِّصْفِ وَكَذَا الشَّفِيعَانِ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَخْذَ نِصْفِ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ لِضَرُورَةِ الْمُزَاحَمَةِ وَالِاسْتِوَاءِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحًا لِإِثْبَاتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ فِي الْكُلِّ حَتَّى لَوْ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا يَكُونُ الْكُلُّ لِلْآخَرِ وَعَلَى هَذَا مَسَائِلَ فَلَمْ يَكُنْ الِانْقِسَامُ عَلَى التَّنَاصُفِ مُوجِبَ الصِّيغَةِ بَلْ لَتَضَايُقِ الْمَحَلِّ لِهَذَا جَازَ الرَّهْنُ مِنْ رَجُلٍ فَكَانَ ذَلِكَ رَهْنًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ إذْ لَوْ كَانَ رَهَنَ النِّصْفَ مِنْ هَذَا وَالنِّصْفَ مِنْ ذَلِكَ لَمَا جَازَ لِأَنَّهُ يَكُونُ رَهَنَ الْمُشَاعِ لِهَذَا لَوْ قَضَى الرَّاهِنُ دَيْنَ أَحَدِهِمَا كَانَ لِلْآخَرِ حَبْسُ الْكُلِّ دَلَّ أَنَّ ذَلِكَ رَهْنُ الْكُلِّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى الشَّائِعِ فَلَا يَجُوزُ كَمَا إذَا مَلَكَ نِصْفَ الدَّارِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفَ مِنْ الْآخَرِ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى الشَّائِعِ أَنَّ قَوْلَهُ وَهَبْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْكُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ تَمْلِيكَ كُلِّ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَمْلِيكَ النِّصْفِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفِ مِنْ الْآخَرِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الدَّارَ الْوَاحِدَةَ يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ وَالْمُحَالُ لَا يَكُونُ مُوجِبَ الْعَقْدِ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَمْلِيكَ النِّصْفِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفِ مِنْ الْآخَرِ لِهَذَا لَمْ يَمْلِكْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّصَرُّفَ فِي كُلِّ الدَّارِ بَلْ فِي نِصْفِهَا وَلَوْ كَانَ كُلُّ الدَّارِ مَمْلُوكًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَلَكَ وَكَذَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ صَاحِبِهِ بِالتَّهَايُؤِ أَوْ بِالْقِسْمَةِ وَهَذَا آيَةُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فِي النِّصْفِ وَإِذَا كَانَ هَذَا تَمْلِيكَ الدَّارِ لَهُمَا عَلَى التَّنَاصُفِ كَانَ تَمْلِيكًا مُضَافًا إلَى الشَّائِعِ كَأَنَّهُ أَفْرَدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَقْدَ فِي النِّصْفِ وَالشُّيُوعُ يُؤَثِّرُ فِي الْقَبْضِ الْمُمَكِّنِ مِنْ التَّصَرُّفِ عَلَى مَا مَرَّ. وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا أَنَّ مُوجِبَ الصِّيغَةِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي كُلِّ الدَّارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا مُحَالٌ وَالْمُحَالُ لَا يَكُونُ مُوجِبَ الْعَقْدِ وَلَا الْعَاقِدُ بِعَقْدِهِ يَقْصِدُ أَمْرًا مُحَالًا أَيْضًا فَكَانَ مُوجِبُ الْعَقْدِ التَّمْلِيكَ مِنْهُمَا عَلَى التَّنَاصُفِ لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكُ الدَّارِ مِنْهُمَا فَكَانَ عَمَلًا بِمُوجِبِ الصِّيغَةِ مِنْ غَيْرِ إحَالَةٍ فَكَانَ أَوْلَى بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّ الدَّارَ الْوَاحِدَةَ تَصْلُحُ مَرْهُونَةً عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الرَّهْنَ هُوَ الْحَبْسُ وَاجْتِمَاعُهُمَا عَلَى الْحَبْسِ مُتَصَوَّرٌ بِأَنْ يَحْبِسَاهُ مَعًا أَوْ يَضَعَاهُ جَمِيعًا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ فَتَكُونَ الدَّارُ مَحْبُوسَةً كُلُّهَا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ فِي الْمِلْكِ فَهُوَ الْفَرْقُ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا وَهَبَ مِنْ رَجُلَيْنِ فَقَسَمَ ذَلِكَ وَسَلَّمَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَازَ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الشُّيُوعُ عِنْدَ الْقَبْضِ وَقَدْ زَالَ هَذَا إذَا وَهَبَ مِنْ رَجُلَيْنِ شَيْئًا مِمَّا يُقْسَمُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقْسَمُ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ عَلَى أَصْلِهِمَا إذَا قَالَ لِرَجُلَيْنِ وَهَبْتُ لَكُمَا هَذِهِ الدَّارَ لِهَذَا نِصْفُهَا وَلِهَذَا نِصْفُهَا جَازَ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِهَذَا نِصْفُهَا وَلِهَذَا نِصْفُهَا خَرَجَ تَفْسِيرًا لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْعَقْدِ إذْ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَفْسِيرًا لِنَفْسِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ تَمْلِيكُ الدَّارِ جُمْلَةً مِنْهُمَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فَجُعِلَ تَفْسِيرًا لِحُكْمِهِ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ إشَاعَةً فِي الْعَقْدِ. وَلَوْ قَالَ وَهَبْتُ لَك نِصْفَهَا وَلِهَذَا نِصْفَهَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الشُّيُوعَ دَخَلَ عَلَى نَفْسِ الْعَقْدِ فَمَنَعَ الْجَوَازَ وَلَوْ قَالَ وَهَبْتُ لَكُمَا هَذِهِ الدَّارَ ثُلُثُهَا لِهَذَا وَثُلُثَاهَا لِهَذَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَجَازَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَقْدَ مَتَى جَازَ لِاثْنَيْنِ يَسْتَوِي فِيهِ التَّسَاوِي وَالتَّفَاضُلُ كَعَقْدِ الْبَيْعِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْجَوَازَ عِنْد التَّسَاوِي بِطَرِيقِ التَّفْسِيرِ لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْعَقْدِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ شُيُوعًا فِي الْعَقْدِ وَلَمَّا فَضَّلَ أَحَدَ النَّصِيبَيْنِ عَنْ الْآخَرِ تَعَذَّرَ جَعْلُهُ تَفْسِيرًا لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ لَا يَحْتَمِلُ التَّفَاضُلَ فَكَانَ تَفْضِيلُ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ فِي مَعْنَى إفْرَادِ الْعَقْدِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَكَانَ هِبَةَ الْمُشَاعِ وَالشُّيُوعُ يُؤَثِّرُ فِي الْهِبَةِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ وَلَوْ رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثُهُ وَلِلْآخِرِ ثُلُثَاهُ أَوْ نِصْفُهُ لِهَذَا وَنِصْفُهُ لِذَلِكَ عَلَى التَّفَاضُلِ وَالتَّنَاصُفِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَبْهَمَ بِأَنْ قَالَ وَهَبْتُ مِنْكُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَوْ وَهَبَ مِنْ فَقِيرَيْنِ شَيْئًا يَنْقَسِمُ فَالْهِبَةُ مِنْ فَقِيرَيْنِ بِمَنْزِلَةِ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ

الْهِبَةَ مِنْ الْفَقِيرِ صَدَقَةٌ لِأَنَّهُ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَنَذْكُرُ حُكْمَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ هِبَةَ الشَّجَرِ دُونَ الثَّمَرِ وَالثَّمَرِ دُونَ الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ دُونَ الزَّرْعِ وَالزَّرْعِ دُونَ الْأَرْضِ أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ اتِّصَالَ جُزْءٍ بِجُزْءٍ فَكَانَ كَهِبَةِ الْمُشَاعِ وَلَوْ فُصِلَ وَسُلِّمَ جَازَ كَمَا فِي هِبَةِ الْمُشَاعِ. وَلَوْ تَصَدَّقَ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى رَجُلَيْنِ فَإِنْ كَانَا غَنِيَّيْنِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الْغَنِيِّ هِبَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْهِبَةُ مِنْ اثْنَيْنِ لَا تَجُوزُ وَعِنْدَهُمَا جَائِزَةٌ وَإِنْ كَانَا فَقِيرَيْنِ فَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ كَمَا تَجُوزُ فِي الْهِبَةِ مِنْ رَجُلَيْنِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي كِتَاب الْهِبَةِ لَا يَجُوزُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَجُوزُ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ كِتَابِ الْهِبَةِ أَنَّ الشِّيَاعَ كَمَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْهِبَةِ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّدَقَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَهَهُنَا يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ فِي الْقَبْضِ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْجَامِعِ وَهِيَ الصَّحِيحَةُ أَنَّ مَعْنَى الشُّيُوعِ فِي الْقَبْضِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى فَقِيرَيْنِ لِأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَتَقَرَّبُ بِالصَّدَقَةِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ الْفَقِيرُ يَقْبِضُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الصَّدَقَةُ تَقَعُ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ الْفَقِيرِ» وَاَللَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الشُّيُوعِ كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ ثُمَّ وَكَّلَ بِقَبْضِهَا وَكِيلَيْنِ بِخِلَافِ التَّصَدُّقِ عَلَى غَنِيَّيْنِ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْغَنِيِّ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ الْغَنِيِّ فَكَانَتْ هَدِيَّةً لَا صَدَقَةً قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الصَّدَقَةُ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّارُ الْآخِرَةُ» وَالْهَدِيَّةُ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ الرَّسُولِ وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ وَالْهَدِيَّةُ هِبَةٌ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الشُّيُوعِ فِي الْقَبْضِ وَأَنَّهُ مَانِعُ الْجَوَازِ عِنْدَهُ. (وَمِنْهَا) الْقَبْضُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْهُوبُ مَقْبُوضًا وَإِنْ شِئْت رَدَدْتَ هَذَا الشَّرْطَ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ لِأَنَّ الْقَابِضَ وَالْمَقْبُوضَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ وَالْعَلَقَةُ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا الْإِضَافَةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ هِيَ الْقَبْضُ فَيَصِحُّ رَدُّهُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صِنَاعَةِ التَّرْتِيبِ فَتَأَمَّلْ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ أَصْلِ الْقَبْضِ أَنَّهُ شَرْطٌ أَمْ لَا؟ وَفِي بَيَان شَرَائِطِ صِحَّةِ الْقَبْضِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ شَرْطٌ وَالْمَوْهُوبُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيَمْلِكُهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ بِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْوَصِيَّةِ. (وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ مَا رَوَيْنَا أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ وَسَيِّدَنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اعْتَبَرَا الْقِسْمَةَ وَالْقَبْضَ لِجَوَازِ النُّحْلَى بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ وَسَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً مَحُوزَةً وَلَمْ يَرِدْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ وَلِأَنَّهَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَوْ صَحَّتْ بِدُونِ الْقَبْضِ لَثَبَتَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وِلَايَةُ مُطَالَبَةِ الْوَاهِبِ بِالتَّسْلِيمِ فَتَصِيرُ عَقْدَ ضَمَانٍ وَهَذَا تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إيجَابِ الْمِلْكِ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ تَغْيِيرُهَا عَنْ مَوْضِعهَا إذْ لَا مُطَالَبَةَ قِبَلَ الْمُتَبَرِّعِ وَهُوَ الْمُوصِي لِأَنَّهُ مَيِّتٌ وَكَذَلِكَ الْقَبْضُ شَرْطُ جَوَازِ الصَّدَقَةِ لَا يُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجُوزُ الصَّدَقَةُ إذَا أُعْلِمَتْ وَإِنْ لَمْ تُقْبَضْ وَلَا تَجُوزُ الْهِبَةُ وَلَا النَّحْلَى إلَّا مَقْبُوضَةً وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدنَا عُمَرَ وَسَيِّدنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا إذَا عُلِمَتْ الصَّدَقَةُ جَازَتْ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَبْضِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ خَبَرًا عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى «يَا ابْنَ آدَمَ تَقُولُ مَالِي وَلَيْسَ لَكَ مِنْ مَالِكَ إلَّا مَا أَكَلْت فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَبْقَيْتَ» اعْتَبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِمْضَاءَ فِي الصَّدَقَةِ وَالْإِمْضَاءُ هُوَ التَّسْلِيمُ دَلَّ أَنَّهُ شَرْطٌ وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدنَا أَبِي بَكْرٍ وَسَيِّدنَا عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا لَا تَتِمُّ الصَّدَقَةُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَلِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ كَالْهِبَةِ وَمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدنَا عُمَرَ وَسَيِّدنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَحْمُولٌ عَلَى صَدَقَةِ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَبِهِ نَقُولُ لَا حَاجَةَ هُنَاكَ إلَى الْقَبْضِ حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ. (وَالثَّانِي) شَرَائِطُ صِحَّةِ الْقَبْضِ فَأَنْوَاعٌ. (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْقَبْضِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ فِي بَابِ الْبَيْعِ حَتَّى لَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ كَانَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ

فَلَأَنْ يَكُونَ فِي الْهِبَةِ أَوْلَى لِأَنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ بِدُونِ الْقَبْضِ وَالْهِبَةُ لَا صِحَّةَ لَهَا بِدُونِ الْقَبْضِ فَلَمَّا كَانَ الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ شَرْطًا لَصِحَّتِهِ فِيمَا لَا يَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْقَبْضِ فَلَأَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِيمَا يَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْقَبْضِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْقَبْضَ فِي بَابِ الْهِبَةِ يُشْبِهُ الرُّكْنَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُكْنًا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَيُشْبِهُ الْقَبُولَ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَلَا يَجُوزُ الْقَبُولُ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ وَرِضَاهُ فَلَا يَجُوزُ الْقَبْضُ مِنْ غَيْرِ إذْن الْوَاهِبِ أَيْضًا وَالْإِذْنُ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ وَدَلَالَةٌ. أَمَّا الصَّرِيحُ فَنَحْوِ أَنْ يَقُولَ اقْبِضْ أَوْ أَذِنْتُ لَكَ بِالْقَبْضِ أَوْ رَضِيتُ وَمَا يُجْرَى هَذَا الْمَجْرَى فَيَجُوزُ قَبْضُهُ سَوَاءٌ قَبَضَهُ بِحَضْرَةِ الْوَاهِبِ أَوْ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ قَبْضُهُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْقَبْضَ عِنْدَهُ رُكْنٌ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ كَمَا لَا يَصِحُّ الْقَبُولُ عِنْدَهُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ كَالْقَبُولِ فِي بَابِ الْبَيْعِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُمِلَ إلَيْهِ سِتُّ بَدَنَاتٍ فَجَعَلْنَ يَزْدَلِفْنَ إلَيْهِ فَقَامَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَنَحَرَهُنَّ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ وَقَالَ مَنْ شَاءَ فَلِيَقْطَعَ وَانْصَرَفَ فَقَدْ أَذِنَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقَبْضِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ حَيْثُ أَذِنَ لَهُمْ بِالْقَطْعِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْقَبْضِ وَاعْتِبَارُهُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَلِأَنَّ الْإِذْنَ بِقَبْضِ الْوَاهِبِ صَرِيحًا بِمَنْزِلَةِ إذْنِ الْبَائِعِ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ وَذَلِكَ يَعْمَلُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ كَذَا هَذَا. (وَأَمَّا) الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَقْبِضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْعَيْنَ فِي الْمَجْلِسِ وَلَا يَنْهَاهُ الْوَاهِبُ فَيَجُوزُ قَبْضُهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ كَمَا لَا يَجُوزَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي الزِّيَادَاتِ وَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بَيْعًا جَائِزًا بِحَضْرَةِ الْبَائِعِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ قَبْضُهُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يُسْتَرَدَّ وَفِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ اخْتِلَافُ رِوَايَتَيْ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْبُيُوعِ (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْقَبْضَ رُكْنٌ فِي الْهِبَةِ كَالْقَبُولِ فِيهَا فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ كَالْقَبُولِ مِنْ بَابِ الْبَيْعِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِذْنَ بِالْقَبْضِ وُجِدَ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى إيجَابِ الْهِبَةِ إذْنٌ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ قَصْدِ التَّمْلِيكِ وَلَا ثُبُوتَ لِلْمِلْكِ إلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْإِيجَابِ إذْنًا بِالْقَبْضِ دَلَالَةً وَالثَّابِتُ دَلَالَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ دَلَالَةُ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ لَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَلِأَنَّ لِلْقَبْضِ فِي بَابِ الْهِبَةِ شَبَهًا بِالرُّكْنِ فَيُشْبِهُ الْقَبُولَ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَإِيجَابُ الْبَيْعِ يَكُونُ إذْنًا بِالْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ لَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَكَذَا إيجَابُ الْهِبَةِ يَكُونُ إذْنًا بِالْقَبْضِ لَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ. وَلَوْ وَهَبَ شَيْئًا مُتَّصِلًا بِغَيْرِهِ مِمَّا لَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْهِبَةُ كَالثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الشَّجَرِ دُونَ الشَّجَرِ أَوْ الشَّجَرِ دُونَ الْأَرْضِ أَوْ حِلْيَةِ السَّيْفِ دُونَ السَّيْفِ أَوْ الْقَفِيزِ مِنْ الصُّبْرَةِ أَوْ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا جَوَازَ لِلْهِبَةِ فِيهِ إلَّا بِالْفَصْلِ وَالْقَبْضِ فَفَصَلَ وَقَبَضَ فَإِنْ قَبَضَ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَاهِبِ لَمْ يَجُزْ الْقَبْضُ سَوَاءٌ كَانَ الْفَصْلُ وَالْقَبْضُ بِحَضْرَةِ الْوَاهِبِ أَوْ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ وَلِأَنَّ الْجَوَازَ فِي الْمُنْفَصِلِ عِنْدَ حَضْرَةِ الْوَاهِبِ لِلْإِذْنِ الثَّابِتِ دَلَالَةَ الْإِيجَابِ وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا لِأَنَّ الْإِيجَابَ لَمْ يَقَعْ صَحِيحًا حِينَ وُجُودِهِ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال عَلَى الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ وَإِنْ قَبَضَ بِإِذْنِهِ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ إذَا وَقَعَ فَاسِدًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ عِنْدَهُ بِحَالٍ لِاسْتِحَالَةِ انْقِلَابِ الْفَاسِدِ جَائِزًا وَعِنْدَنَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِإِسْقَاطِ الْمُفْسِدِ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ أَوْ مِنْ حِينِ وُجُودِ الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ عَلَى اخْتِلَافِ الطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الْبَيْعِ. وَكَذَلِكَ إذَا وَهَبَ دَيْنًا لَهُ عَلَى إنْسَانٍ لِآخَرَ أَنَّهُ إنَّ قَبَضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ صَرِيحًا جَازَ قَبْضُهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ قَبَضَهُ بِحَضْرَتِهِ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا فَرَّقَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْجَوَازَ فِي هِبَةِ الْعَيْنِ عِنْدَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ لِكَوْنِ الْإِيجَابِ فِيهَا دَلَالَةَ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ لِكَوْنِ دَلَالَةِ قَصْدِهِ تَمْلِيكُ مَا هُوَ مِلْكَهُ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَإِيجَابُ الْهِبَةِ فِي الدَّيْنِ لِغَيْرِ مِنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا تَصِحُّ دَلَالَةُ الْإِذْنِ إلَّا بِقَبْضِهِ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ بِوَاسِطَةِ دَلَالَةِ قَصْدِ التَّمْلِيكِ وَتَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالتَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهُ إذَا أَذِنَ لَهُ بِالْقَبْضِ صَرِيحًا قَامَ قَبْضُهُ مَقَامَ قَبْضِ الْوَاهِبِ فَيَصِيرُ بِقَبْضِ الْعَيْنِ قَابِضًا لِلْوَاهِبِ أَوَّلًا وَيَصِيرُ الْمَقْبُوضُ مِلْكًا لَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ مِنْ الْوَاهِبِ فَيَصِيرُ الْوَاهِبُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي

ذَكَرْنَا وَاهِبًا مِلْكَ نَفْسِهِ وَالْمَوْهُوبُ لَهُ قَابِضًا مِلْكَ الْوَاهِبِ فَصَحَّتْ الْهِبَةُ وَالْقَبْضُ وَإِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِذْنِ بِالْقَبْضِ بَقِيَ الْمَقْبُوضُ مِنْ الْمَالِ الْعَيْن عَلَى مِلْكِ مَنْ عَلَيْهِ فَلَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ فَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْهُوبُ مَشْغُولًا بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَبْضِ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَقْبُوضِ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الشَّغْلِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا وَهَبَ دَارًا فِيهَا مَتَاعَ الْوَاهِبِ وَسَلَّمَ الدَّارَ إلَيْهِ أَوْ سَلَّمَ الدَّارَ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَتَاعِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْفَرَاغَ شَرْطُ صِحَّةِ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ وَلَمْ يُوجَدْ قِيلَ الْحِيلَةُ فِي صِحَّةِ التَّسْلِيمِ أَنْ يُودِعَ الْوَاهِبُ الْمَتَاعَ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوَّلًا وَيُخْلَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَتَاعِ ثُمَّ يُسَلِّمُ الدَّارَ إلَيْهِ فَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِيهَا لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِمَتَاعٍ هُوَ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَفِي هَذِهِ الْحِيلَةِ إشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ يَدَ الْمُودِع يَدُ الْمُودَعِ مَعْنَى فَكَانَتْ يَدُهُ قَائِمَةً عَلَى الْمَتَاعِ فَتَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيمِ. وَلَوْ أَخْرَجَ الْمَتَاعَ مِنْ الدَّارِ ثُمَّ سَلَّمَ فَارِغًا جَازَ وَيَنْظُرُ إلَى حَالِ الْقَبْضِ لَا إلَى حَالِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ النَّفَاذِ قَدْ زَالَ فَيَنْفُذُ كَمَا فِي هِبَةِ الْمُشَاعِ وَلَوْ وَهَبَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَتَاعِ دُونَ الدَّارِ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَتَاعِ جَازَتْ الْهِبَةُ لِأَنَّ الْمَتَاعَ لَا يَكُونُ مَشْغُولًا بِالدَّارِ وَالدَّارُ تَكُونُ مَشْغُولَةً بِالْمَتَاعِ لِهَذَا افْتَرَقَا فَيَصِحُّ تَسْلِيمُ الْمَتَاعِ وَلَا يَصِحُّ تَسْلِيمُ الدَّارِ وَلَوْ جَمَعَ فِي الْهِبَةِ بَيْنَ الْمَتَاعِ وَبَيْنَ الدَّارِ الَّذِي فِيهَا فَوَهَبَهُمَا جَمِيعًا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ قَدْ صَحَّ فِيهِمَا جَمِيعًا فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْهِبَةِ بِأَنْ وَهَبَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ وَهَبَ الْآخَرَ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي التَّسْلِيمِ وَأَمَّا إنْ فَرَّقَ فَإِنْ جَمَعَ جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا وَإِنْ فَرَّقَ بِأَنْ وَهَبَ أَحَدَهُمَا وَسَلَّمَ ثُمَّ وَهَبَ الْآخَرَ وَسَلَّمَ نَظَرَ فِي ذَلِكَ وَرُوعِيَ فِيهِ التَّرْتِيبُ إنْ قَدَّمَ هِبَةَ الدَّارِ فَالْهِبَةُ فِي الدَّارِ لَمْ تَجُزْ لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْمَتَاعِ فَلَمْ يَصِحَّ تَسْلِيمُ الدَّارِ وَجَازَتْ فِي الْمَتَاعِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْغُولٍ بِالدَّارِ فَيَصِحُّ تَسْلِيمُهُ وَلَوْ قَدَّمَ هِبَةَ الْمَتَاعِ جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا أَمَّا فِي الْمَتَاعِ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْغُولٍ بِالدَّارِ فَيَصِحُّ تَسْلِيمُهُ وَأَمَّا فِي الدَّارِ فَلِأَنَّهَا وَقْتَ التَّسْلِيمِ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِمَتَاعٍ هُوَ مِلْكُ الْمَوْهُوبِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَيْضًا يَخْرُجُ مَا إذَا وَهَبَ جَارِيَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا أَوْ حَيَوَانًا وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَكَانَ ذَلِكَ هِبَةَ مَا هُوَ مَشْغُولٌ بِغَيْرِهِ وَإِنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ لِأَنَّهُ لَا جَوَازَ لَهَا بِدُونِ الْقَبْضِ وَكَوْنُ الْمَوْهُوبِ مَشْغُولًا بِغَيْرِهِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ وَلَوْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ ثُمَّ وَهَبَ الْأُمَّ يَجُوزُ وَذَكَرَ فِي الْعَتَاقِ أَنَّهُ لَوْ دَبَّرَ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ لَا يَجُوزُ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ عَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّ الْمَوْهُوبَ مَشْغُولٌ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ فَأَشْبَهَ هِبَةَ دَارٍ فِيهَا مَتَاعُ الْوَاهِبِ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْجَوَازِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْكَرْخِيِّ أَنَّ حُرِّيَّةَ الْجَنِينِ تَجْعَلُهُ مُسْتَثْنَى مِنْ الْعَقْدِ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ مَعَ تَنَاوُلِهِ إيَّاهُ ظَاهِرًا وَهَذَا مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءُ وَلَوْ اسْتَثْنَاهُ لَفْظًا جَازَتْ الْهِبَةُ فِي الْأُمِّ فَكَذَا إذَا كَانَ مُسْتَثْنَى فِي الْمَعْنَى وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْمُدَبَّرَ مَالُ الْمَوْلَى فَإِذَا وَهَبَ الْأُمَّ فَقَدْ وَهَبَ مَا هُوَ مَشْغُولٌ بِمَالِ الْوَاهِبِ فَلَمْ يَجُزْ كَهِبَةِ دَارٍ فِيهَا مَتَاعُ الْوَاهِبِ وَأَمَّا الْحُرُّ فَلَيْسَ بِمَالٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ وَهَبَ دَارًا فِيهَا حُرٌّ جَالِسٌ وَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْهِبَةِ كَذَا هَذَا وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْهُوبُ مُتَّصِلًا بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبِ اتِّصَالِ الْأَجْزَاءِ لِأَنَّ قَبْضَ الْمَوْهُوبِ وَحْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الْمُشَاعِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا وَهَبَ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ دُونَ الزَّرْعِ أَوْ شَجَرًا عَلَيْهَا ثَمَرٌ دُونَ الثَّمَرِ أَوْ وَهَبَ الزَّرْعَ دُونَ الْأَرْضِ أَوْ الثَّمَرَ دُونَ الشَّجَرِ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبِ اتِّصَالِ جُزْءٍ بِجُزْءٍ فَمَنَعَ صِحَّةَ الْقَبْضِ وَلَوْ جَذَّ الثَّمَرَ وَحَصَدَ الزَّرْعَ ثُمَّ سَلَّمَهُ فَارِغًا جَازَ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ النَّفَاذِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ قَدْ زَالَ وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْهِبَةِ فَوَهَبَهُمَا جَمِيعًا وَسَلَّمَ مُتَفَرِّقًا جَازَ وَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْهِبَةِ فَوَهَبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ بِأَنْ وَهَبَ الْأَرْضَ ثُمَّ الزَّرْعَ أَوْ الزَّرْعَ ثُمَّ الْأَرْضَ فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي التَّسْلِيمِ جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا وَإِنْ فَرَّقَ لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ سَوَاءٌ. بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ الْقَبْضِ هُنَا الِاتِّصَالُ وَأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ وَالْمَانِعُ هُنَاكَ الشَّغْلُ وَأَنَّهُ يَخْتَلِفُ نَظِيرَ هَذَا مَا إذَا وَهَبَ نِصْفَ الدَّارِ مُشَاعًا مِنْ رَجُلٍ وَلَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ حَتَّى وَهَبَ النِّصْفَ الْبَاقِي مِنْهُ وَسَلَّمَ الْكُلَّ أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَوْ وَهَبَ النِّصْفَ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَهَبَ الْبَاقِي وَسَلَّمَ لَا يَجُوزُ كَذَا هَذَا وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا وَهَبَ صُوفًا عَلَى ظَهْرِ غَنَمٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ

الْقَبْضِ وَلَوْ جَزَّهُ وَسَلَّمَهُ جَازَ لِزَوَالِ الْمَانِعِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا إذَا وَهَبَ دَابَّةً وَعَلَيْهَا حِمْلٌ بِدُونِ الْحِمْلِ لَا تَجُوزُ وَلَوْ رَفَعَ الْحَمْلَ عَنْهَا وَسَلَّمَهَا فَارِغًا جَازَ لِمَا قُلْنَا بِخِلَافِ هِبَةِ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ أَوْ مَا فِي بَطْنِ غَنَمِهِ أَوْ مَا فِي ضَرْعِهَا أَوْ هِبَةِ سَمْنٍ فِي لَبَنٍ أَوْ دُهْنٍ فِي سِمْسِمٍ أَوْ زَيْتٍ فِي زَيْتُونٍ أَوْ دَقِيقٍ فِي حِنْطَةٍ أَنَّهُ يَبْطُلُ وَإِنْ سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ عِنْدَ الْوُلَاةِ أَوْ عِنْدَ اسْتِخْرَاجِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ هُنَاكَ لَيْسَ مَحَلَّ الْعَقْدِ لِكَوْنِهِ مَعْدُومًا لِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا فَلَا تَجُوزُ هِبَتُهَا وَهُنَا بِخِلَافِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَمِنْهَا أَهْلِيَّةُ الْقَبْضِ وَهِيَ الْعَقْلُ فَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ اسْتِحْسَانًا فَيَجُوزُ قَبْضُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ مَا وَهَبَ لَهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْقَبْضَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ قَبْضُهُ فِي الْهِبَةِ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ النَّافِعَةِ الْمَحْضَةِ فَيَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ كَمَا يَمْلِكُ وَلِيُّهُ وَمَنْ هُوَ فِي عِيَالِهِ وَكَذَا الصَّبِيَّةُ إذَا عَقَلَتْ جَازَ قَبْضُهَا لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ الْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَيَجُوزُ قَبْضُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إذَا وُهِبَ لَهُ هِبَةٌ وَلَا يَجُوز قَبْضُ الْمَوْلَى عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوَّلًا فَالْقَبْضُ إلَى الْعَبْدِ وَالْمِلْكُ لِلْمَوْلَى فِي الْمَقْبُوضِ لِأَنَّ الْقَبْضَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ وَقَعَ لِلْعَبْدِ فَكَانَ الْقَبْضُ إلَيْهِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ لِعَارِضٍ فَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِمْ إطْلَاقَ التَّصَرُّفِ لَهُمْ وَالِانْحِجَارَ لِعَارِضِ الرِّقِّ عَنْ التَّصَرُّفِ يَتَضَمَّنُ الضَّرَرَ بِالْمَوْلَى وَلَمْ يُوجَدْ فَبَقِيَ فِيهِ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَقْبُوضُ كَسْبُ الْعَبْدِ وَكَسْبُ الْعَبْدِ الْقِنِّ لِلْمَوْلَى وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إذَا وُهِبَ لَهُ هِبَةٌ فَالْقَبْضُ إلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْمَوْلَى عَنْهُ لِمَا قُلْنَا فِي الْقِنِّ فَإِذَا قَبَضَ الْمُكَاتَبُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْهِبَةَ كَسْبُهُ وَالْمُكَاتَبُ أَحَقُّ بِاكْتِسَابِهِ وَمِنْهَا الْوِلَايَةُ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْقَبْضِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْقَبْضَ نَوْعَانِ قَبْضٌ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَقَبْضٌ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ. (أَمَّا) الْقَبْضُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فَهُوَ أَنْ يَقْبِضَ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَشَرْطُ جَوَازِهِ الْعَقْلَ فَقَطْ عَلَى مَا بَيَّنَّا. (وَأَمَّا) الْقَبْضُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ فَالنِّيَابَةُ فِي الْقَبْضِ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْقَابِضِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَبْضِ أَمَّا الْأَوَّلُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَابِضِ فَهُوَ الْقَبْضُ لِلصَّبِيِّ وَشَرْطُ جَوَازِهِ الْوِلَايَةِ بِالْحَجْرِ وَالْعَيْلَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْوِلَايَةِ فَيَقْبِضُ لِلصَّبِيِّ وَلِيُّهُ أَوْ مَنْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي حِجْرِهِ وَعِيَالِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلِيِّ فَيَقْبِضُ لَهُ أَبُوهُ ثُمَّ وَصِيُّ أَبِيهِ بَعْدَهُ ثُمَّ جَدُّهُ أَبُو أَبِيهِ بَعْدَ أَبِيهِ وَوَصِيُّهُ ثُمَّ وَصِيُّ جَدِّهِ بَعْدَهُ سَوَاءٌ كَانَ الصَّبِيُّ فِي عِيَالِ هَؤُلَاءِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَيَجُوزُ قَبْضُهُمْ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ حَالَ حَضْرَتِهِمْ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ وِلَايَةٌ عَلَيْهِمْ فَيَجُوزُ قَبْضُهُمْ لَهُ. وَإِذَا غَابَ أَحَدُهُمْ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً جَازَ قَبْضُ الَّذِي يَتْلُوهُ فِي الْوِلَايَةِ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إلَى قُدُومِ الْغَائِبِ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الصَّغِيرِ فَتَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إلَى مَنْ يَتْلُوهُ وَإِنْ كَانَ دُونَهُ كَمَا فِي وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ وُجُودِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ سَوَاءٌ كَانَ الصَّبِيُّ فِي عِيَالِ الْقَابِضِ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَسَوَاءٌ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْأُمِّ وَنَحْوِهِمْ أَوْ أَجْنَبِيًّا لِأَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ فَقِيَامُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ لَهُمْ تَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّ الْقَبْضِ لِغَيْرِهِمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ جَازَ قَبْضُ مِنْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي حِجْرِهِ وَعِيَالِهِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ أَجْنَبِيًّا كَانَ أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي فِي عِيَالِهِ لَهُ عَلَيْهِ ضَرْبُ وِلَايَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤَدِّبُهُ وَيُسَلِّمُهُ فِي الصَّنَائِعِ الَّتِي لِلصَّبِيِّ فِيهَا مَنْفَعَةٌ وَلِلصَّبِيِّ فِي قَبْضِ الْهِبَةِ مَنْفَعَةٌ مَحْضَةٌ فَقِيَامُ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْوِلَايَةِ يَكْفِي لِتَصَرُّفٍ فِيهِ مَنْفَعَةٌ مَحْضَةٌ لِلصَّبِيِّ. (وَأَمَّا) مَنْ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ أَصْلًا فَلَا يَجُوزُ قَبْضُهُ لَهُ كَالْأَجْنَبِيِّ وَالْقَبْضُ لِلصَّبِيَّةِ إذَا عَقَلَتْ وَلَهَا زَوْجٌ قَدْ دَخَلَ بِهَا زَوْجهَا أَيْضًا اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهَا فِي عِيَالِهِ لَكِنْ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فَأَمَّا عِنْدَ وُجُودٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الزَّوْجِ كَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ فِي مُخْتَصَرِهِ. (وَأَمَّا) الثَّانِي الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَبْضِ فَهُوَ أَنَّ الْقَبْضَ الْمَوْجُودَ فِي الْهِبَةِ يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْجُودُ وَقْتَ الْعَقْدِ مِثْلَ قَبْضِ الْهِبَةِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِثْلُهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقَ التَّنَاوُبِ إذْ الْمُتَمَاثِلَانِ غَيْرَانِ يَنُوبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ صَاحِبِهِ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ فَتُثْبِتُ الْمُنَاوَبَةُ مُقْتَضَى الْمُمَاثَلَةِ وَإِذَا كَانَ أَقْوَى مِنْهُ يُوجَدُ فِيهِ الْمُسْتَحَقُّ وَزِيَادَةٌ وَبَيَانُ هَذَا فِي مَسَائِلَ إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَدِيعَةً أَوْ عَارِيَّةً

فصل في حكم الهبة

فَوَهَبَ مِنْهُ جَازَتْ الْهِبَةُ وَصَارَ قَابِضًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَوَقَعَ الْعَقْدُ وَالْقَبْضُ مَعًا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ بَعْدَ الْعَقْدِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِيرَ قَابِضًا مَا لَمْ يُجَدِّدْ الْقَبْضَ وَهُوَ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ الْمَوْهُوبِ بَعْدَ الْعَقْدِ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ يَدَ الْمُودِعِ إنْ كَانَتْ يَدُهُ صُورَةً فَهِيَ يَدُ الْمُودَعِ مَعْنَى فَكَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ وَهَبَ مَا فِي يَدِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ بِالتَّخْلِيَةِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَبْضَيْنِ مُتَمَاثِلَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبْضٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ إذْ الْهِبَةُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ وَكَذَا عَقْدُ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ فَتَمَاثَلَ الْقَابِضَانِ فَيَتَنَاوَبَانِ ضَرُورَةً بِخِلَافِ بَيْعِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ مِنْ الْمُودِعِ وَالْمُسْتَعِيرِ لِأَنَّ قَبَضَهُمَا لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْبَيْعِ لِأَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ أَمَانَةٌ وَقَبْضَ الْبَيْعِ قَبْضُ ضَمَانٍ فَلَمْ يَتَمَاثَلْ الْقَبْضَانِ بَلْ الْمَوْجُودُ أَدْنَى مِنْ الْمُسْتَحَقِّ فَلَمْ يَتَنَاوَبَا وَلَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ فِي يَدِهِ مَغْصُوبًا أَوْ مَقْبُوضًا بِبَيْعِ فَاسِدٍ أَوْ مَقْبُوضًا عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ فَكَذَا يَنُوبُ ذَلِكَ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ لِوُجُودِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وَهُوَ أَصْلُ الْقَبْضِ وَزِيَادَةُ ضَمَانٍ. وَلَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ مَرْهُونًا فِي يَدِهِ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا وَيَنُوبُ قَبْضُ الرَّهْنِ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ لِأَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ قَبْضُ أَمَانَةٍ وَقَبْضَ الرَّهْنِ فِي حَقّ الْعَيْنِ قَبْضُ أَمَانَةٍ أَيْضًا فَيَتَمَاثَلَانِ فَنَابَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ وَلَئِنْ كَانَ قَبْضُ الرَّهْنِ قَبْضَ ضَمَانٍ فَقَبْضُ الضَّمَانِ أَقْوَى مِنْ قَبْضِ الْأَمَانَةِ وَالْأَقْوَى يَنُوبُ عَنْ الْأَدْنَى لِوُجُودِ الْأَدْنَى فِيهِ وَزِيَادَةٌ وَإِذَا صَحَّتْ الْهِبَةُ بِالْقَبْضِ بَطَلَ الرَّهْنُ وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ بِدَيْنِهِ عَلَى الرَّاهِنِ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا حَتَّى يُجَدِّدَ الْقَبْضَ بَعْدَ عَقْدِ الْهِبَةِ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ وَإِنْ كَانَ قَبْضُ ضَمَانٍ لَكِنْ هَذَا ضَمَانٌ لَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِبْرَاءَ بِالْهِبَةِ لِيَصِيرَ قَبْضَ أَمَانَةٍ فَيَتَجَانَسُ الْقَبْضَانِ فَيَبْقَى قَبْضُ ضَمَانٍ فَاخْتَلَفَ الْقَبْضَانِ فَلَا يَتَنَاوَبَانِ بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ الضَّمَانَ مِمَّا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ عَنْهُ فَيَبْرَأُ عَنْهُ بِالْهِبَةِ وَيَبْقَى قَبْضٌ بِغَيْرِ ضَمَانٍ فَتَمَاثَلَ الْقَابِضَانِ فَيَتَنَاوَبَانِ وَلَوْ كَانَ مَبِيعًا قَبْلَ الْقَبْضِ فَوَهَبَ مِنْ الْبَائِعِ جَازَ وَلَكِنْ لَا يَكُونُ هِبَةً بَلْ يَكُونُ إقَالَةً حَتَّى لَا تَصِحَّ بِدُونِ قَبُولِ الْبَائِعِ وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يُجْعَلُ إقَالَةً بَلْ يَبْطُلُ أَصْلًا وَرَأْسًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَلَوْ نَحَلَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ شَيْئًا جَازَ وَيَصِيرُ قَابِضًا لَهُ مَعَ الْعَقْدِ كَمَا إذَا بَاعَ مَالَهُ مِنْهُ حَتَّى لَوْ هَلَكَ عَقِيبَ الْبَيْعِ يَهْلَكُ مِنْ مَالِ الِابْنِ لِصَيْرُورَتِهِ قَابِضًا لِلصَّغِيرِ مَعَ الْعَقْدِ وَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي النَّحْلَى لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] . (وَأَمَّا) كَيْفِيَّةُ الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ الْعَدْلُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ فِي الْعَطِيَّةِ وَلَا يُفَضِّلَ الذَّكَرَ عَلَى الْأُنْثَى وَقَالَ مُحَمَّدٌ الْعَدْلُ بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطِيَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّرْتِيبِ فِي الْمَوَارِيثِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْمُوَطَّإِ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ وَلَدِهِ فِي النُّحْلِ وَلَا يُفَضِّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ بَشِيرًا أَبَا النُّعْمَانِ أَتَى بِالنُّعْمَانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا فَقَالَ لَا فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَأَرْجِعهُ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى الْعَدْلِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي النِّحْلَةِ وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ وَلِأَنَّ فِي التَّسْوِيَةِ تَأْلِيفَ الْقُلُوبِ وَالتَّفْضِيلُ يُورِثُ الْوَحْشَةِ بَيْنَهُمْ فَكَانَتْ التَّسْوِيَةُ أَوْلَى وَلَوْ نَحَلَ بَعْضًا وَحَرَمَ بَعْضًا جَازَ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَدْلًا سَوَاءٌ كَانَ الْمَحْرُومُ فَقِيهًا تَقِيًّا أَوْ جَاهِلًا فَاسِقًا عَلَى قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الْمُتَأَدِّبِينَ وَالْمُتَفَقِّهِينَ دُونَ الْفَسَقَةِ الْفَجَرَةِ. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْهِبَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْهِبَةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ وَفِي بَيَانِ مَا يَرْفَعُ الْحُكْمَ. أَمَّا أَصْلُ الْحُكْمِ فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي الْمَوْهُوبِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ حُكْمُهَا مِلْكَ الْمَوْهُوبِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ. وَأَمَّا صِفَتُهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا قَالَ أَصْحَابُنَا هِيَ ثُبُوتُ مِلْكٍ غَيْرِ لَازِمٍ فِي الْأَصْلِ وَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ اللُّزُومُ وَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ بِأَسْبَابِ عَارِضَةٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الثَّابِتُ بِالْهِبَةِ مِلْكٌ لَازِمٌ فِي الْأَصْلِ وَلَا يَثْبُتُ الرُّجُوعُ إلَّا فِي هِبَةِ الْوَلَدِ خَاصَّةً وَهِيَ هِبَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ فَنَقُولُ يَقَعُ

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ وَفِي بَيَانِ الْعَوَارِضِ الْمَانِعَةِ مِنْ الرُّجُوعِ وَفِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الرُّجُوعِ وَحُكْمِهِ شَرْعًا. أَمَّا ثُبُوتُ حَقِّ الرُّجُوعِ فَحَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ ثَابِتٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إلَّا فِيمَا يَهَبُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ» وَهَذَا نَصٌّ فِي مَسْأَلَةِ هِبَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَالْوَالِدِ وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ» وَالْعَوْدُ فِي الْقَيْءِ حَرَامٌ كَذَا فِي الْهِبَةِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ هُوَ اللُّزُومُ وَالِامْتِنَاعُ بِعَارِضِ خَلَلٍ فِي الْمَقْصُودِ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْهِبَةِ اكْتِسَابُ الصِّيتِ بِإِظْهَارِ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ لَا طَلَبُ الْعِوَضِ فَمَنْ طَلَبَ مِنْهُمَا الْعِوَضَ فَقَدْ طَلَبَ مِنْ الْعَقْدِ مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ طَلَبُهُ أَصْلًا. (وَلَنَا) الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَمَّا الْكِتَابُ الْعُزَيْرُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] وَالتَّحِيَّةُ وَإِنْ كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ فِي مَعَانٍ مِنْ السَّلَامِ وَالثَّنَاءِ وَالْهَدِيَّةِ بِالْمَالِ. (قَالَ الْقَائِلُ) تَحِيَّتُهُمْ بِيضُ الْوَلَاءِ بِدِينِهِمْ لَكِنْ الثَّالِثُ تَفْسِيرٌ مُرَادٌ بِقَرِينَةٍ مِنْ نَفْسِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] لِأَنَّ الرَّدَّ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَعْيَانِ لَا فِي الْأَعْرَاضِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إعَادَةِ الشَّيْءِ وَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَعْرَاضِ وَالْمُشْتَرَكِ يَتَعَيَّنُ أَحَدُ وُجُوهِهِ بِالدَّلِيلِ وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثِبْ مِنْهَا» أَيْ بِعِوَضٍ جَعَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْوَاهِبَ أَحَقَّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الْعِوَضُ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ وَأَمَّا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَيِّدنَا عُمَرَ وَسَيِّدنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدنَا عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدنَا عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَفَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا مِثْلَ مَذْهَبِنَا وَلَمْ يَرِدْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ فَيَكُونَ إجْمَاعًا. وَلِأَنَّ الْعِوَضَ الْمَالِيَّ قَدْ يَكُونُ مَقْصُودًا مِنْ هِبَةِ الْأَجَانِبِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَهَبُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ إحْسَانًا إلَيْهِ وَإِنْعَامًا عَلَيْهِ وَقَدْ يَهَبُ لَهُ طَمَعًا فِي الْمُكَافَأَةِ وَالْمُجَازَاةِ عُرْفًا وَعَادَةً فَالْمَوْهُوبُ لَهُ مَنْدُوبٌ إلَى ذَلِكَ شَرْعًا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ اصْطَنَعَ إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» وَالتَّهَادِي تَفَاعُلٌ مِنْ الْهَدِيَّةِ فَيَقْتَضِي الْفِعْلَ مِنْ اثْنَيْنِ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَفَوَاتُ الْمَقْصُودِ مِنْ عَقْدٍ مُحْتَمِلٍ لِلْفَسْخِ يُمْنَعُ لُزُومُهُ كَالْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَعْدَمُ الرِّضَا وَالرِّضَا فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا هُوَ شَرْطُ الصِّحَّةِ فَهُوَ شَرْطُ اللُّزُومِ كَمَا فِي الْبَيْعِ إذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ عَيْبًا لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَقْدُ لِعَدَمِ الرِّضَا عِنْدَ عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ السَّلَامَةُ كَذَا هَذَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَلَهُ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الرُّجُوعِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضَاءٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إلَّا فِيمَا وَهَبَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْوَلَدِ وَلَا قَضَاءِ الْقَاضِي إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ الثَّانِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْحِلِّ مِنْ حَيْثُ الْمُرُوءَةِ وَالْخَلْفِ لَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ لِأَنَّ نَفْيَ الْحِلِّ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ فِي رَسُولِنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] قِيلَ فِي بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ لَا يَحِلُّ لَكَ مِنْ حَيْثُ الْمُرُوءَةِ وَالْخَلْفِ أَنْ تَتَزَوَّجَ عَلَيْهِنَّ بَعْدَ مَا اخْتَرْنَ إيَّاكَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنْ الزِّينَةِ لَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ إذَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجُ بِغَيْرِهِنَّ وَهَذَا تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ وَالْآخَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّشْبِيهُ مِنْ حَيْثُ ظَاهِرِ الْقُبْحِ مُرُوءَةً وَطَبِيعَةً لَا شَرِيعَةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» وَفِعْلُ الْكَلْبِ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ الشَّرْعِيَّةِ لَكِنَّهُ يُوصَفُ بِالْقُبْحِ الطَّبِيعِيِّ كَذَا هَذَا وَقَوْلُهُ فِيمَا يَهَبُهُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ مَحْمُولٌ عَلَى أَخْذِهِ مَالِ ابْنِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لَكِنَّهُ سَمَّاهُ رُجُوعًا لِتَصَوُّرِهِ بِصُورَةِ الرُّجُوعِ مَجَازًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا حَقِيقَةً عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّجُوعِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ حَتَّى لَا يَصِحَّ بِدُونِ الْقَضَاءِ وَالرِّضَا لِأَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخُ الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِهِ وَفَسْخُ الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِهِ يَصِحُّ بِدُونِ الْقَضَاءِ وَالرِّضَا كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ فِي الْبَيْعِ بَعْدَ الْقَبْضِ. وَأَمَّا الْعَوَارِضُ الْمَانِعَةُ مِنْ الرُّجُوعِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا هَلَاكُ الْمَوْهُوبِ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الرُّجُوعِ فِي الْهَالِكِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الرُّجُوعِ فِي قِيمَتِهِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ

بِمَوْهُوبَةٍ لِانْعِدَامِ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا. وَمِنْهَا خُرُوجُ الْمَوْهُوبِ مِنْ مِلْكِ الْوَاهِبِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْمَوْتِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ الْمِلْكَ يَخْتَلِفُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إمَّا بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهِمَا فَظَاهِرٌ وَكَذَا بِالْمَوْتِ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْوَارِثِ غَيْرُ مَا كَانَ ثَابِتًا لِلْمُوَرِّثِ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْمِلْكَ عَرَضٌ يَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ زَمَانٍ إلَّا أَنَّهُ مَعَ تَجَدُّدِهِ حَقِيقَةً جُعِلَ مُتَجَدِّدًا تَقْدِيرًا فِي حَقِّ الْمَحَلِّ حَتَّى يَرُدَّ الْوَارِثُ بِالْعَيْبِ وَيُرَدَّ عَلَيْهِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ فَاخْتَلَفَ الْمِلْكَانِ وَاخْتِلَافُ الْمِلْكَيْنِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْعَيْنَيْنِ ثُمَّ لَوْ وَهَبَ عَيْنًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَيْنٍ أُخْرَى فَكَذَا إذَا أَوْجَبَهُ مِلْكًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ مِلْكًا آخَرَ بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ لِعَبْدِ رَجُلٍ هِبَةً فَقَبَضَهَا الْعَبْدُ أَنَّ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ لَمْ يَخْتَلِفْ لِأَنَّ الْهِبَةَ انْعَقَدَتْ مُوجِبَة لِلْمِلْكِ لِلْمَوْلَى ابْتِدَاء فَلَمْ يَخْتَلِف الْمِلْك. وَكَذَا الْمُكَاتَبُ إذَا وَهَبَ لَهُ هِبَةً وَقَبَضَهَا فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ إنْ أَعْتَقَ الْمُكَاتَبَ لِأَنَّ الْمِلْك الَّذِي أَوْجَبَهُ بِالْهِبَةِ قَدْ اسْتَقَرَّ بِالْعِتْقِ فَكَأَنَّهُ وَهَبَ لَهُ بَعْد الْعِتْق فَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَرُدَّ فِي الرِّقّ فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِع عِنْد أَبِي يُوسُفَ وَعِنْد مُحَمَّدٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِع وَهَذَا بِنَاء عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا عَجَزَ عَنْ أَدَاء بَدَل الْكِتَابَة فَالْمَوْلَى يَمْلِك أَكْسَابه بِحُكْمِ الْمِلْك الْأَوَّل أَوْ يَمْلِكهَا مِلْكًا مُبْتَدَأ فَعِنْد أَبِي يُوسُفَ يَمْلِكهَا بِحُكْمِ الْمِلْك الْأَوَّل فَلَمْ يَخْتَلِف الْمِلْك فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِع وَعِنْد مُحَمَّدٍ يَمْلِكهَا مِلْكًا مُبْتَدَأ فَاخْتَلَفَ الْمِلْكُ فَمَنَعَ الرُّجُوع. (وَجْه) قَوْل مُحَمَّدٍ أَنَّ مِلْك الْكَسْب لِلْمَوْلَى قَدْ بَطَلَ بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ صَارَ أَحَقّ بِأَكْسَابِهِ بِالْكِتَابَةِ فَبَطَلَ مِلْك الْمَوْلَى بِالْكَسْبِ وَالْبَاطِل لَا يَحْتَمِل الْعَوْد فَكَانَ هَذَا مِلْكًا مُبْتَدَأ فَيُمْنَع الرُّجُوع كَمِلْكِ الْوَارِث. (وَجْه) قَوْل أَبِي يُوسُفَ أَنَّ سَبَب ثُبُوت مِلْك الْكَسْب هُوَ مِلْك الرَّقَبَة وَمِلْك الرَّقَبَة قَائِم بَعْد الْكِتَابَة إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ ظُهُورُ مِلْك الْكَسْب لِلْمَوْلَى لِضَرُورَةِ التَّوَصُّل إلَى الْمَقْصُود مِنْ الْكِتَابَة فِي جَانِب الْمُكَاتَبِ وَهُوَ شَرَف الْحُرِّيَّة بِأَدَاءِ بَدَل الْكِتَابَة فَإِذَا عَجَزَ زَالَتْ الضَّرُورَة وَظَهَرَ مِلْك الْكَسْب تَبَعًا لِمِلْكِ الرَّقَبَة فَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِلْكًا مُبْتَدَأ أَوْ مِنْهَا مَوْت الْوَاهِب لِأَنَّ الْوَارِث لَمْ يُوجِب الْمِلْك لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فَكَيْفَ يَرْجِع فِي مِلْك لَمْ يُوجِبهُ. وَمِنْهَا الزِّيَادَة فِي الْمَوْهُوب زِيَادَة مُتَّصِلَة فَنَقُول جُمْلَة الْكَلَام فِي زِيَادَة الْهِبَة إنَّهَا لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ مُتَّصِلَة بِالْأَصْلِ وَإِمَّا إنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَة عَنْهُ فَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَة بِالْأَصْلِ فَإِنَّهَا تَمْنَع الرُّجُوع سَوَاء كَانَتْ الزِّيَادَة بِفِعْلِ الْمَوْهُوب لَهُ أَوْ لَا بِفِعْلِهِ وَسَوَاء كَانَتْ مُتَوَلِّدَةً أَوْ غَيْر مُتَوَلِّدَةٍ نَحْو مَا إذَا كَانَ الْمَوْهُوب جَارِيَة هَزِيلَة فَسَمِنَتْ أَوْ دَارًا فَبَنَى فِيهَا أَوْ أَرْضًا فَغَرَسَ فِيهَا غَرْسًا أَوْ نَصَبَ دُولَابًا وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَقَى بِهِ وَهُوَ مُثَبَّت فِي الْأَرْضِ مَبْنِيٌّ عَلَيْهَا عَلَى وَجْه يَدْخُل فِي بَيْعِ الْأَرْض مِنْ غَيْر تَسْمِيَة قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا أَوْ كَانَ الْمَوْهُوب ثَوْبًا فَصَبَغَهُ بِعُصْفُرٍ أَوْ زَعْفَرَان أَوْ قَطَّعَهُ قَمِيصًا وَخَاطَهُ أَوْ جُبَّةً وَحَشَاهُ أَوْ قَبَاءً لِأَنَّهُ لَا سَبِيل إلَى الرُّجُوع فِي الْأَصْل مَعَ زِيَادَة لِأَنَّ الزِّيَادَة لَيْسَتْ بِمَوْهُوبَةٍ إذَا لَمْ يَرِد عَلَيْهَا الْعَقْد فَلَا يَجُوز أَنْ يَرِد عَلَيْهَا الْفَسْخ وَلَا سَبِيل إلَى الرُّجُوع فِي الْأَصْل بِدُونِ الزِّيَادَة لِأَنَّهُ غَيْر مُمْكِن فَامْتَنَعَ الرُّجُوع أَصْلًا. وَإِنْ صَبَغَ الثَّوْب بِصِبْغٍ لَا يَزِيد فِيهِ أَوْ يَنْقُصهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ لِأَنَّ الْمَانِع مِنْ الرُّجُوع هُوَ الزِّيَادَة فَإِذَا لَمْ يَزِدْهُ الصِّبْغ فِي الْقِيمَة اُلْتُحِقَتْ الزِّيَادَة بِالْعَدَمِ وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَة مُنْفَصِلَة فَإِنَّهَا لَا تَمْنَع الرُّجُوع سَوَاء كَانَتْ مُتَوَلِّدَة مِنْ الْأَصْل كَالْوَلَدِ وَاللَّبَن وَالثَّمَر أَوْ غَيْر مُتَوَلِّدَة كَالْأَرْشِ وَالْعُقْر وَالْكَسْب وَالْغَلَّة لِأَنَّ هَذِهِ الزَّوَائِد لَمْ يَرِد عَلَيْهَا الْعَقْد فَلَا يَرِد عَلَيْهَا الْفَسْخ وَإِنَّمَا وَرَدَ عَلَى الْأَصْل وَيُمْكِن فَسْخ الْعَقْد فِي الْأَصْل دُون الزِّيَادَة بِخِلَافِ الْمُتَّصِلَة وَبِخِلَافِ وَلَد الْمَبِيع أَنَّهُ يَمْنَعُ الرَّدّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ الْمَانِع هُنَاكَ وَهُوَ الرِّبَا لِأَنَّهُ يَبْقَى الْوَلَد بَعْد رَدَّ الْأُمّ بِكُلِّ الثَّمَن مَبِيعًا مَقْصُودًا لَا يُقَابِلهُ عِوَض وَهَذَا تَفْسِير الرِّبَا وَمَعْنَى الرِّبَا لَا يُتَصَوَّر فِي الْهِبَة لِأَنَّ جَرَيَان الرِّبَا يَخْتَصُّ بِالْمُعَاوَضَاتِ فَجَازَ أَنْ يَبْقَى الْوَلَد مَوْهُوبًا مَقْصُودًا بِلَا عِوَض بِخِلَافِ الْمَبِيع وَكَذَا الزِّيَادَة فِي سِعْر لَا تَمْنَع الرُّجُوع لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْمَوْهُوبِ وَإِنَّمَا هِيَ رَغْبَة يُحْدِثُهَا اللَّه تَعَالَى فِي الْقُلُوب فَلَا تَمْنَع الرُّجُوع وَلِهَذَا لَمْ تُعْتَبَر هَذِهِ الزِّيَادَة فِي أُصُول الشَّرْع فَلَا تُغَيِّر ضَمَان الرَّهْن وَلَا الْغَصْب وَلَا تَمْنَع الرَّدّ بِالْعَيْبِ. وَأَمَّا نُقْصَان الْمَوْهُوب فَلَا يَمْنَع الرُّجُوع لِأَنَّ ذَلِكَ رُجُوع فِي بَعْض الْمَوْهُوب وَلَهُ أَنْ يَرْجِع فِي بَعْض الْمَوْهُوب مَعَ بَقَائِهِ بِكَمَالِهِ فَكَذَا إذَا نَقَصَ وَلَا يَضْمَن الْمَوْهُوب لَهُ النُّقْصَان لِأَنَّ قَبْض الْهِبَة لَيْسَ بِقَبْضٍ مَضْمُون. وَمِنْهَا الْعِوَض لِمَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ

مَا لَمْ يُثِبْ مِنْهَا» أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّض وَلِأَنَّ التَّعْوِيض دَلِيل عَلَى أَنَّ مَقْصُود الْوَاهِب هُوَ الْوُصُول إلَى الْعِوَض فَإِذَا وَصَلَ فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُوده فَيُمْنَع الرُّجُوع وَسَوَاء قَلَّ الْعِوَض أَوْ كَثُرَ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيث مِنْ غَيْر فَصْل فَنَقُول الْعِوَض نَوْعَانِ مُتَأَخِّر عَنْ الْعَقْد وَمَشْرُوط فِي الْعَقْد. أَمَّا الْعِوَض الْمُتَأَخِّر عَنْ الْعَقْد فَالْكَلَام فِيهِ يَقَع فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدهمَا فِي بَيَان شَرْط جَوَاز هَذَا التَّعْوِيض وَصَيْرُورَة الثَّانِي عِوَضًا وَالثَّانِي فِي بَيَان مَاهِيَّة هَذَا التَّعْوِيض أَمَّا الْأَوَّل فَلَهُ شَرَائِط ثَلَاثَة الْأَوَّل مُقَابَلَة الْعِوَض بِالْهِبَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّعْوِيض بِلَفْظٍ يَدُلّ عَلَى الْمُقَابَلَة نَحْو أَنْ يَقُولَ هَذَا عِوَض مِنْ هِبَتك أَوْ بَدَل عَنْ هِبَتك أَوْ مَكَان هِبَتك أَوْ نَحَلْتُكَ هَذَا عَنْ هِبَتك أَوْ تَصَدَّقْت بِهَذَا بَدَلًا عَنْ هِبَتك أَوْ كَافَأْتُك أَوْ جَازَيْتُك أَوْ أَتَيْتُك وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى لِأَنَّ الْعِوَض اسْم لِمَا يُقَابِل الْمُعَوَّضَ فَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظ يَدُلّ عَلَى الْمُقَابَلَة. حَتَّى لَوْ وَهَبَ لِإِنْسَانٍ شَيْئًا وَقَبَضَهُ الْمَوْهُوب لَهُ ثُمَّ إنَّ الْمَوْهُوب لَهُ أَيْضًا وَهَبَ شَيْئًا لِلْوَاهِبِ وَلَمْ يَقُلْ هَذَا عِوَض مِنْ هِبَتك وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا لَمْ يَكُنْ عِوَضًا بَلْ كَانَ هِبَة مُبْتَدَأَة وَلِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا حَقّ الرُّجُوع لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَل الْبَاقِيَ مُقَابَلًا بِالْأَوَّلِ لِانْعِدَامِ مَا يَدُلّ عَلَى الْمُقَابَلَة فَكَانَتْ هِبَة مُبْتَدَأَة فَيَثْبُت فِيهَا الرُّجُوع وَالثَّانِي لَا يَكُون الْعِوَض فِي الْعَقْد مَمْلُوكًا بِذَلِكَ الْعَقْد حَتَّى لَوْ عَوَّضَ الْمَوْهُوب لَهُ الْوَاهِبَ بِالْمَوْهُوبِ لَا يَصِحّ وَلَا يَكُون عِوَضًا وَإِنْ عَوَّضَهُ بِبَعْضِ الْمَوْهُوب عَنْ بَاقِيه فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوب عَلَى حَالِهِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْد لَمْ يَكُنْ عِوَضًا لِأَنَّ التَّعْوِيض بِبَعْضِ الْمَوْهُوب لَا يَكُون مَقْصُود الْوَاهِب عَادَة إذْ لَوْ كَانَ مَقْصُوده لَأَمْسَكَهُ وَلَمْ يَهَبهُ فَلَمْ يَحْصُل مَقْصُوده بِتَعْوِيضِ بَعْض مَا دَخَلَ تَحْت الْعَقْد فَلَا يَبْطُل حَقّ الرُّجُوع، وَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوب قَدْ تَغَيَّرَ عَنْ حَاله تَغَيُّرًا يَمْنَع الرُّجُوع فَإِنَّ بَعْض الْمَوْهُوب يَكُون عِوَضًا عَنْ الْبَاقِي لِأَنَّهُ بِالتَّغَيُّرِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ عَيْنٍ أُخْرَى فَصَلُحَ عِوَضًا، هَذَا إذَا وَهَبَ شَيْئًا وَاحِدًا أَوْ شَيْئَيْنِ فِي عَقْد وَاحِد فَأَمَّا إذَا وَهَبَ شَيْئَيْنِ فِي عَقْدَيْنِ فَعَوَّضَ أَحَدهمَا عَنْ الْآخَر فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَة عِوَضًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَكُون عِوَضًا. (وَجْه) قَوْل أَبِي يُوسُفَ إنْ حَقّ الرُّجُوع ثَابِت فِي غَيْر مَا عُوِّضَ لِأَنَّهُ مَوْهُوب وَحَقّ الرُّجُوع فِي الْهِبَة ثَابِت شَرْعًا فَإِذَا عُوِّضَ يَقَع عَنْ الْحَقّ الْمُسْتَحَقّ شَرْعًا فَلَا يَقَع مَوْقِع الْعِوَض بِخِلَافِ مَا إذَا تَغَيَّرَ الْمَوْهُوب فَجَعَلَ بَعْضه عِوَضًا عَنْ الْبَاقِي أَنَّهُ يَجُوز وَكَانَ مِلْكًا عِوَضًا لِأَنَّ حَقّ الرُّجُوع قَدْ بَطَلَ بِالتَّغَيُّرِ فَجَازَ أَنْ يَقَع مَوْقِع الْعِوَض. (وَجْه) قَوْلهمَا إنَّهُمَا مُلِكَا بِعَقْدَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ فَجَازَ أَنْ يُجْعَل أَحَدهمَا عِوَضًا عَنْ الْآخَر وَهَذَا لِأَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَكُون مَقْصُود الْوَاهِب مِنْ هِبَته الثَّانِيَة عَوْدَ الْهِبَة الْأُولَى لِأَنَّ الْإِنْسَان قَدْ يَهَب شَيْئًا ثُمَّ يَبْدُو لَهُ الرُّجُوع فَصَارَ الْمَوْهُوب بِأَحَدِ الْعَقْدَيْنِ بِمَنْزِلَةِ عَيْن أُخْرَى بِخِلَافِ مَا إذَا عُوِّضَ بَعْض الْمَوْهُوب عَنْ الْبَاقِي وَهُوَ عَلَى حَاله الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْد لِأَنَّ بَعْض الْمَوْهُوب لَا يَكُون مَقْصُود الْوَاهِب فَإِنَّ الْإِنْسَان لَا يَهَب شَيْئًا لِيُسَلَّمَ لَهُ بَعْضه عِوَضًا عَنْ بَاقِيهِ وَقَوْله حَقّ الرُّجُوع ثَابِت شَرْعًا نَعَمْ لَكِنَّ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَة لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلَا يَمْتَنِع وُقُوعه عَنْ جِهَة أُخْرَى كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْهُ وَلَوْ وَهَبَ لَهُ شَيْئًا وَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِشَيْءِ فَعَوَّضَهُ الصَّدَقَة مِنْ الْهِبَة كَانَتْ عِوَضًا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى اخْتِلَاف الْأَصْلَيْنِ. (أَمَّا) عَلَى أَصْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلَا يُشْكِل لِأَنَّهُمَا لَوْ مُلِكَا بِعَقْدَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدهمَا عِوَضًا عَنْ الْآخَر فَعِنْد اخْتِلَاف الْعَقْدَيْنِ أَوْلَى. (وَأَمَّا) عَلَى أَصْل أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَنَّ الصَّدَقَة لَا يَثْبُت فِيهَا حَقّ الرُّجُوع فَوَقَعَتْ مَوْقِع الْعِوَض، وَالثَّالِث سَلَامَة الْعِوَض لِلْوَاهِبِ فَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ بِأَنْ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَده لَمْ يَكُنْ عِوَضًا وَلَهُ أَنْ يَرْجِع فِي الْهِبَة لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ التَّعْوِيض لَمْ يَصِحّ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُعَوَّض أَصْلًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِع إنْ كَانَ الْمَوْهُوب قَائِمًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَهْلِك وَلَمْ يَزْدَدْ خَيْرًا وَلَمْ يَحْدُث فِيهِ مَا يَمْنَعُ الرُّجُوع فَإِنْ كَانَ قَدْ هَلَكَ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمَوْهُوب لَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ كَمَا لَوْ هَلَكَ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ قَبْلَ التَّعْوِيض وَكَذَا إذَا ازْدَادَ خَيْرًا لَمْ يَضْمَن كَمَا قَبْلَ التَّعْوِيض وَإِنْ اُسْتُحِقَّ بَعْض الْعِوَض وَبَقِيَ الْبَعْض فَالْبَاقِي عِوَض عَنْ كُلّ الْمَوْهُوب وَإِنْ شَاءَ رَدَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْعِوَض وَيَرْجِع فِي كُلّ الْمَوْهُوب إنْ كَانَ قَائِمًا فِي يَده وَلَمْ يَحْدُثْ فِيهِ مَا يَمْنَع الرُّجُوع وَهَذَا قَوْل أَصْحَابنَا الثَّلَاثَة وَقَالَ زُفَرُ يَرْجِع فِي الْهِبَة بِقَدْرِ الْمُسْتَحَقّ مِنْ الْعِوَض. (وَجْه) قَوْله إنَّ مَعْنَى الْمُعَاوَضَة ثَبَتَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا فَكَمَا أَنَّ الثَّانِيَ عِوَض عَنْ الْأَوَّل فَالْأَوَّل يَصِير عِوَضًا عَنْ الثَّانِي ثُمَّ لَوْ اُسْتُحِقَّ بَعْض الْهِبَة الْأُولَى كَانَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ

يَرْجِع فِي بَعْض الْعِوَض فَكَذَا إذَا اُسْتُحِقَّ بَعْض الْعِوَض كَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِع فِي بَعْض الْهِبَة تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْبَاقِيَ يَصْلُح عِوَضًا عَنْ كُلّ الْهِبَة أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَوِّضهُ إلَّا بِهِ فِي الِابْتِدَاء كَانَ عِوَضًا مَانِعًا عَنْ الرُّجُوع فَكَذَا فِي الِانْتِهَاء بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الْبَقَاء أَسْهَلُ إلَّا أَنَّ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَرْجِع فِي الْهِبَة لِأَنَّ الْمَوْهُوب لَهُ غَرَّهُ حَيْثُ عَوَّضَهُ لِإِسْقَاطِ الرُّجُوع بِشَيْءٍ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَار. (وَأَمَّا) سَلَامَة الْمُعَوَّض وَهُوَ الْمَوْهُوب لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فَشَرْطه لُزُوم التَّعْوِيض حَتَّى لَوْ اُسْتُحِقَّ الْمَوْهُوب كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِع فِيمَا عُوِّضَ لِأَنَّهُ إنَّمَا عُوِّضَ لِيُسْقِط حَقّ الرُّجُوع فِي الْهِبَة فَإِذَا اُسْتُحِقَّ الْمَوْهُوب تَبَيَّنَ أَنَّ حَقّ الرُّجُوع لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَصَارَ كَمَنْ صَالَحَ عَنْ دَيْن ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا دَيْن عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ لَوْ اُسْتُحِقَّ نِصْف الْمَوْهُوب فَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَرْجِع فِي نِصْف الْعِوَض إنْ كَانَ الْمَوْهُوب مِمَّا يَحْتَمِل الْقِسْمَة لِأَنَّهُ إنَّمَا جُعِلَ عِوَضًا عَنْ حَقِّ الرُّجُوع فِي جَمِيع الْهِبَة فَإِذَا لَمْ يَسْلَم لَهُ بَعْضه يَرْجِع فِي الْعِوَض بِقَدْرِهِ سَوَاء زَادَ الْعِوَض أَوْ نَقَصَ فِي السِّعْر أَوْ زَادَ فِي الْبَدَن أَوْ نَقَصَ فِي الْبَدَن كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذ نِصْفه وَنِصْف النُّقْصَان كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْإِمْلَاء وَإِنَّمَا لَمْ تَمْنَع الزِّيَادَةُ عَنْ الرُّجُوع فِي الْعِوَض لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقّ فَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِد فَيَثْبُت الْفَسْخ فِي الزَّوَائِد. وَإِنْ قَالَ الْمَوْهُوب لَهُ أَرُدّ مَا بَقِيَ مِنْ الْهِبَة وَأَرْجِع فِي الْعِوَض كُلّه لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعِوَض لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْد بَلْ هُوَ مُتَأَخِّر عَنْهُ وَالْعِوَض الْمُتَأَخِّر لَيْسَ بِعِوَضٍ عَنْ الْعَيْن حَقِيقَة بَلْ هُوَ لِإِسْقَاطِ الرُّجُوع وَقَدْ حَصَلَ لَهُ سُقُوط الرُّجُوع فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْهِبَة فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِع فِي الْعِوَض فَإِنْ كَانَ الْعِوَض مُسْتَهْلَكًا ضَمِنَ قَابِض الْعِوَض بِقَدْرِ مَا وَجَبَ الرُّجُوع لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِيهِ مِنْ الْعِوَض وَإِنْ اُسْتُحِقَّ كُلُّ الْهِبَة، وَالْعِوَضُ مُسْتَهْلَك يَضْمَن كُلّ قِيمَة الْعِوَض كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْل مِنْ غَيْر خِلَاف وَهُوَ إحْدَى رِوَايَتَيْ بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَرَوَى بِشْرٌ رِوَايَة أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَضْمَن شَيْئًا وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ. (وَجْه) رِوَايَة الْأَصْل أَنَّ الْقَبْض فِي الْعِوَض مَا وَقَعَ مَجَّانًا وَإِنَّمَا وَقَعَ مُبْطِلًا حَقّ الرُّجُوع فِي الْأَوَّل فَإِنْ لَمْ يَسْلَم الْمَقْصُود مِنْهُ بَقِيَ الْقَبْض مَضْمُونًا فَكَمَا يَرْجِع بِعَيْنِهِ لَوْ كَانَ قَائِمًا يَرْجِع بِقِيمَتِهِ إذَا هَلَكَ. (وَجْه) الرِّوَايَة الْأُخْرَى أَنَّ الْعِوَض الْمُتَأَخِّر عَنْ الْعَقْدِ فِي حُكْم الْهِبَة الْمُبْتَدَأَة حَتَّى يُشْتَرَط فِيهِ شَرَائِط الْهِبَة مِنْ الْقَبْض وَالْحِيَازَة، وَالْمَوْهُوب غَيْر مَضْمُون بِالْهَلَاكِ هَذَا إذَا كَانَ الْمَوْهُوب أَوْ الْعِوَض شَيْئًا لَا يَحْتَمِل الْقِسْمَة فَاسْتَحَقَّ بَعْضه. (فَأَمَّا) إذَا كَانَ مِمَّا يَحْتَمِل الْقِسْمَة فَاسْتَحَقَّ بَعْض أَحَدهمَا بَطَلَ الْعِوَض إنْ كَانَ هُوَ الْمُسْتَحَقّ وَكَذَا تَبْطُل الْهِبَة إنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْتَحَقَّة فَإِذَا بَطَلَ الْعِوَض رَجَعَ فِي الْهِبَة وَإِذَا بَطَلَتْ الْهِبَة يَرْجِع فِي الْعِوَض لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْهِبَة وَالتَّعْوِيض وَقَعَ فِي مَشَاعٍ يَحْتَمِل الْقِسْمَة وَذَلِكَ بَاطِل الثَّانِي: بَيَان مَاهِيَّته فَالتَّعْوِيض الْمُتَأَخِّر عَنْ الْهِبَة هِبَة مُبْتَدَأَة بِلَا خِلَاف مِنْ أَصْحَابنَا يَصِحّ بِمَا تَصِحّ بِهِ الْهِبَة وَيَبْطُل بِمَا تَبْطُل بِهِ الْهِبَة لَا يُخَالِفهَا إلَّا فِي إسْقَاط الرُّجُوع، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَثْبُت حَقّ الرُّجُوع فِي الْأُولَى وَلَا يَثْبُت فِي الثَّانِيَة. (فَأَمَّا) فِيمَا وَرَاء ذَلِكَ فَهُوَ فِي حُكْم هِبَةٍ مُبْتَدَأَة لِأَنَّهُ تَبَرُّع بِتَمْلِيكِ الْعَيْن لِلْحَالِّ وَهَذَا مَعْنَى الْهِبَة إلَّا أَنَّهُ تَبَرَّعَ بِهِ لِيُسْقِط حَقّ الرُّجُوع عَنْ نَفْسه فِي الْهِبَة الْأُولَى فَكَانَتْ هِبَة مُبْتَدَأَة مُسْقِطَة لِحَقِّ الرُّجُوع فِي الْهِبَة الْأُولَى وَلَوْ وَجَدَ الْمَوْهُوب لَهُ بِالْمَوْهُوبِ عَيْبًا فَاحِشًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدّهُ وَيَرْجِع فِي الْعِوَض وَكَذَلِكَ الْوَاهِب إذَا وَجَدَ بِالْعِوَضِ عَيْبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدّ الْعِوَض وَيَرْجِع فِي الْهِبَة لِأَنَّ الرَّدّ بِالْعَيْبِ مِنْ خَوَاصّ الْمُعَاوَضَات وَالْعِوَض إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْد لَمْ يَكُنْ عِوَضًا عَلَى الْحَقِيقَة بَلْ كَانَ هِبَة مُبْتَدَأَة وَلَا يَظْهَر مَعْنَى الْعِوَض فِيهِ إلَّا فِي إسْقَاط الرُّجُوع خَاصَّة فَإِذَا قَبَضَ الْوَاهِبُ الْعِوَضَ فَلَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبه فِيمَا مَلَّكَهُ. (أَمَّا) الْوَاهِبُ فَلِأَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ لَهُ الْعِوَض عَنْ الْهِبَة وَإِنَّهُ يَمْنَع الرُّجُوع. (وَأَمَّا) الْمَوْهُوب لَهُ فَلِأَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ لَهُ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْعِوَض فِي حَقّه وَهُوَ سُقُوط حَقّ الرُّجُوع فَيَمْنَعهُ مِنْ الرُّجُوع لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثِبْ مِنْهَا» وَسَوَاء عَوَّضَهُ الْمَوْهُوب لَهُ أَوْ أَجْنَبِيّ بِأَمْرِ الْمَوْهُوب لَهُ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِع فِي هِبَته وَلَا لِلْمُعَوِّضِ أَنْ يَرْجِع فِي الْعِوَض عَلَى الْوَاهِب وَلَا عَلَى الْمَوْهُوب لَهُ. (أَمَّا) الْوَاهِب فَإِنَّمَا لَمْ يَرْجِع فِي هِبَته لِأَنَّ الْأَجْنَبِيّ إنَّمَا عَوَّضَ بِأَمْرِ الْمَوْهُوب لَهُ قَامَ تَعْوِيضه مَقَام تَعْوِيضه بِنَفْسِهِ وَلَوْ عَوَّضَ بِنَفْسِهِ

لَمْ يَرْجِع فَكَذَا إذَا عَوَّضَ الْأَجْنَبِيّ بِأَمْرِهِ وَإِنْ عَوَّضَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَقَدْ تَبَرَّعَ بِإِسْقَاطِ الْحَقّ عَنْهُ وَالتَّبَرُّع بِإِسْقَاطِ الْحَقّ عَنْ الْغَيْر جَائِز كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِمُخَالَعَةِ امْرَأَة مِنْ زَوْجهَا. (وَأَمَّا) الْمُعَوِّضُ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِع عَلَى الْوَاهِب لِأَنَّ مَقْصُوده مِنْ التَّعْوِيض سَلَامَة الْمَوْهُوب لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَإِسْقَاط حَقّ التَّبَرُّع وَقَدْ سَلِمَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا لَمْ يَرْجِع عَلَى الْمَوْهُوب لَهُ. (أَمَّا) إذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلِأَنَّهُ تَبَرُّع بِإِسْقَاطِ الْحَقّ عَنْهُ فَلَا يَمْلِك أَنْ يَجْعَل ذَلِكَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ. (وَأَمَّا) إذَا عَوَّضَ بِأَمْرِهِ لَا يَرْجِع عَلَيْهِ أَيْضًا إلَّا إذَا قَالَ لَهُ عَوِّضْ عَنِّي عَلَى أَنِّي ضَامِن لِأَنَّهُ إذَا أَمَرَهُ بِالتَّعْوِيضِ وَلَمْ يَضْمَن لَهُ فَقَدْ أَمَرَهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ مُتَبَرِّع بِهِ فَلَمْ يُوجَب ذَلِكَ الضَّمَان عَلَى الْآمِر إلَّا بِشَرْطِ الضَّمَان وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِيمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَطْعِمْ عَنْ كَفَّارَة يَمِينِي أَوْ أَدِّ زَكَاتِي فَفَعَلَ لَا يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْآمِر إلَّا أَنْ يَقُول لَهُ عَلَى أَنِّي ضَامِن لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ غَيْره بِقَضَاءِ الدَّيْن فَقَضَاهُ أَنَّهُ يَرْجِع عَلَى الْآمِر وَإِنْ لَمْ يَقُلْ عَلَى يَاسِرٍ أَنِّي ضَامِن نَصًّا لِأَنَّ قَضَاء الدَّيْن مَضْمُون عَلَى الْآمِر فَإِذَا أَمَرَهُ بِهِ فَقَدْ ضَمِنَ لَهُ وَلَوْ عَوَّضَ الْمَوْهُوب لَهُ الْوَاهِب عَنْ نِصْف الْهِبَة كَانَ عِوَضًا عَنْ نِصْفهَا وَكَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِع فِي النِّصْف الْآخَر وَلَا يَرْجِع فِيمَا عُوِّضَ عَنْهُ لِأَنَّ حَقّ الرُّجُوع فِي الْهِبَة مِمَّا يَتَجَزَّأ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ فِي نِصْف الْهِبَة ابْتِدَاء دُون النِّصْف جَازَ فَجَازَ أَنْ يَثْبُت حَقّ الرُّجُوع فِي النِّصْف بِدُونِ النِّصْف بِخِلَافِ الْعَفْو عَنْ الْقِصَاص وَالطَّلَاق لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأ فَكَانَ إسْقَاط الْحَقّ عَنْ الْبَعْض إسْقَاطًا عَنْ الْكُلّ. (وَأَمَّا) الْعِوَض الْمَشْرُوط فِي الْعَقْد فَإِنْ قَالَ وَهَبْتُ لَك هَذَا الشَّيْءَ عَلَى أَنْ تُعَوِّضَنِي هَذَا الثَّوْبَ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَاهِيَّة هَذَا الْعَقْد قَالَ أَصْحَابنَا الثَّلَاثَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ عَقْده عَقْد هِبَة وَجَوَازه جَوَاز بَيْعِ وَرُبَّمَا عَبَّرُوا أَنَّهُ هِبَة ابْتِدَاء بَيْعٌ انْتِهَاء حَتَّى لَا يَجُوز فِي الْمَشَاع الَّذِي يَنْقَسِم وَلَا يَثْبُت الْمِلْك فِي كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مَا قَبْلَ الْقَبْض وَلِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِع فِي سِلْعَته مَا لَمْ يَقْبِضَا وَكَذَا إذَا قَبَضَ أَحَدهمَا وَلَمْ يَقْبِض الْآخَر فَلِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِع الْقَابِض وَغَيْرُ الْقَابِضِ فِيهِ سَوَاء حَتَّى يَتَقَابَضَا جَمِيعًا وَلَوْ تَقَابَضَا كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْع يَرُدُّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا بِالْعَيْبِ وَعَدَم الرُّؤْيَة وَيَرْجِع فِي الِاسْتِحْقَاق وَتَجِب الشُّفْعَة إذَا كَانَ غَيْر مَنْقُول وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَقْده عَقْد بَيْعٍ وَجَوَازه جَوَاز بَيْعٍ ابْتِدَاء وَانْتِهَاء وَتَثْبُت فِيهِ أَحْكَام الْبَيْع فَلَا يَبْطُل بِالشُّيُوعِ وَيُفِيد الْمِلْك بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْر شَرِيطَة الْقَبْض وَلَا يَمْلِكَانِ الرُّجُوع. (وَجْه) قَوْله إنَّ مَعْنَى الْبَيْع مَوْجُود فِي هَذَا الْعَقْد؛ لِأَنَّ الْبَيْع تَمْلِيك الْعَيْن بِعِوَضٍ وَقَدْ وُجِدَ إلَّا أَنَّهُ اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَة وَاخْتِلَافهَا لَا يُوجِب اخْتِلَاف الْحُكْم كَلَفْظِ الْبَيْع مَعَ لَفْظ التَّمْلِيك. (وَلَنَا) أَنَّهُ وُجِدَ فِي هَذَا الْعَقْد لَفْظ الْهِبَة وَمَعْنَى الْبَيْع، فَيُعْطَى شَبَهَ الْعَقْدَيْنِ فَيُعْتَبَر فِيهِ الْقَبْض وَالْحِيَازَة عَمَلًا يُشْبِه الْهِبَة وَيَثْبُت فِيهِ حَقّ الرَّدّ بِالْعَيْبِ وَعَدَم الرُّؤْيَة فِي حَقّ الشُّفْعَة عَمَلًا يُشْبِه الْبَيْع عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَان، وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَم. (وَمِنْهَا) مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْعِوَض، وَهُوَ ثَلَاثَة أَنْوَاع: الْأَوَّل: صِلَة الرَّحِم الْمَحْرَم فَلَا رُجُوع فِي الْهِبَة لِذِي رَحِم مَحْرَمٍ مِنْ الْوَاهِب وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَرْجِع الْوَالِد فِيمَا يَهَب لِوَلَدِهِ احْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يَهَبُ وَلَدَهُ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَاب. (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثِبْ مِنْهَا» أَيْ لَمْ يُعَوَّض، وَصِلَةُ الرَّحِم عِوَض مَعْنًى؛ لِأَنَّ التَّوَاصُل سَبَب التَّنَاصُر وَالتَّعَاوُن فِي الدُّنْيَا فَيَكُون وَسِيلَة إلَى اسْتِيفَاء النُّصْرَة وَسَبَب الثَّوَاب فِي الدَّار الْآخِرَة فَكَانَ أَقْوَى مِنْ الْمَال، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «اتَّقُوا اللَّهَ وَصِلُوا الْأَرْحَامَ فَإِنَّهُ أَبْقَى لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَخَيْرٌ لَكُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ» فَدَخَلَ تَحْت النَّصّ وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ وَهَبَ هِبَة لِصِلَةِ رَحِم أَوْ عَلَى وَجْه صَدَقَة فَإِنَّهُ لَا يَرْجِع فِيهَا وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَاب وَالْحَدِيث مَحْمُول عَلَى النَّهْيِ عَنْ شِرَاء الْمَوْهُوب لَكِنَّهُ سَمَّاهُ رُجُوعًا مَجَازًا لِتَصَوُّرِهِ بِصُورَةِ الرُّجُوع كَمَا هُنَا رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ لَهُ عَلَى رَجُل ثُمَّ وَجَدَهُ يُبَاع فِي السُّوق فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ فَسَأَلَ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ «لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ» وَسَيِّدنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَصَدَ الشِّرَاء لَا الْعَوْدَ فِي الصَّدَقَة لَكِنْ سَمَّاهُ عَوْدًا لِتَصَوُّرِهِ بِصُورَةِ الْعَوْدِ، وَهُوَ نَهْيُ نَدْبٍ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوب لَهُ يَسْتَحِي فَيُسَامِحهُ فِي ثَمَنه فَيَصِير كَالرَّاجِعِ فِي بَعْضه وَالرُّجُوع مَكْرُوه. وَهَذَا

الْمَعْنَى لَا يُوجَد فِي هِبَة الْوَالِد لِوَلَدِهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَد لَا يَسْتَحِي عَنْ الْمُضَايَقَة فِي الثَّمَن لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَن لِمُبَاسَطَةٍ بَيْنَهُمَا عَادَةً فَلَمْ يُكْرَه الشِّرَاءُ، حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ صِيَانَة لَهُمَا عَنْ التَّنَاقُض وَلَوْ وَهَبَ لِذِي رَحِم مَحْرَمٍ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ لِقُصُورِ مَعْنَى الصِّلَة فِي هَذِهِ الْقَرَابَة فَلَا يَكُون فِي مَعْنَى الْعِوَض وَكَذَا إذَا وَهَبَ لِذِي مَحْرَمٍ لَا رَحِم لَهُ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الصِّلَة أَصْلًا وَلَوْ وَهَبَ لِعَبْدٍ ذِي رَحِم وَمَوْلَاهُ أَجْنَبِيًّا. (فَإِمَّا) أَنْ كَانَ الْمَوْلَى ذَا رَحِم مَحْرَمٍ مِنْ الْوَاهِب وَالْعَبْد أَجْنَبِيًّا. (وَإِمَّا) أَنْ كَانَ الْمَوْلَى وَالْعَبْدُ جَمِيعًا ذَوِي رَحِمٍ مِنْ الْوَاهِبِ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْوَاهِبِ وَالْمَوْلَى أَجْنَبِيًّا فَلَهُ أَنْ يَرْجِع بِلَا خِلَاف بَيْنَ أَصْحَابنَا؛ لِأَنَّ حُكْم الْعَقْد يَقَع لِلْمَوْلَى وَإِنَّمَا؛ الْوَاقِع لِلْعَبْدِ صُورَة الْعَقْد بِلَا حُكْم وَأَنَّهُ لَا يُفِيد مَعْنَى الْعِلَّةِ فَانْعَدَمَ مَعْنَى الْعِوَض أَصْلًا وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى ذَا رَحِم مَحْرَمٍ مِنْ الْوَاهِب وَالْعَبْد أَجْنَبِيًّا اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرْجِع وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَرْجِع. (وَجْه) قَوْلهمَا أَنَّ بُطْلَانَ حَقّ الرُّجُوع بِحُصُولِ الصِّلَة؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْعِوَض عَلَى مَا بَيَّنَّا وَمَعْنَى الصِّلَة إنَّمَا يَتَحَقَّق لِوُقُوعِ الْحُكْم لِلْقَرِيبِ، وَالْحُكْم وَقَعَ لِلْمَوْلَى فَصَارَ كَأَنَّ الْوَاهِب أَوْجَبَ الْهِبَة لَهُ ابْتِدَاء وَأَنَّهُ يَمْنَع الرُّجُوع كَذَا هَذَا. (وَجْه) قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمِلْك لَمْ يَثْبُت لِلْمَوْلَى بِالْهِبَةِ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ لِلْعَبْدِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَبْض إلَيْهِ لَا إلَى الْمَوْلَى وَإِنَّمَا ثَبَتَ ضَرُورَة تَعَدُّد الْإِثْبَات لِلْعَبْدِ فَأُقِيم مُقَامه وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْك لَهُ بِالْهِبَةِ لَمْ يَحْصُل مَعْنَى الصِّلَة بِالْعَقْدِ فَلَا يَمْنَع الرُّجُوع مَعَ مَا أَنَّ الْمِلْك يَثْبُت لَهُ بِالْهِبَةِ، لَكِنَّ الْهِبَةَ وَقَعَتْ لِلْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ، وَلِلْعَبْدِ مِنْ وَجْه؛ لِأَنَّ الْإِيجَاب أُضِيف إلَى الْعَبْد، وَالْمِلْك وَقَعَ لِلْمَوْلَى إذَا لَمْ يَكُنْ دَيْن فَلَمْ يَتَكَامَل مَعْنَى الصِّلَة فِي الْهِبَة فَصَارَتْ كَالْهِبَةِ لِذِي رَحِم مَحْرَمٍ فَإِنْ كَانَا جَمِيعًا ذَا رَحِم مَحْرَمٍ مِنْ الْوَاهِب فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ قِيَاس قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَرْجِع؛ لِأَنَّ قَرَابَة الْعَبْد لَا تُؤَثِّرُ فِي إسْقَاط الرُّجُوع؛ لِأَنَّ الْمِلْك لَمْ يَقَع لَهُ وَقَرَابَة الْمَوْلَى أَيْضًا لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَاب لَمْ يَقَع لَهُ وَحَقّ الرُّجُوع هُوَ الْأَصْل فِي الْهِبَة، وَالِامْتِنَاع مُعَارِضُ الْمُسْقِطِ وَلَمْ يُوجَد فَلَا يَسْقُط وَذَكَرَ الْفَقِيه أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِع فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي قَوْلهمْ: لِأَنَّ الْهِبَة إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا حَالَ الْعَبْد أَوْ حَالَ الْمَوْلَى، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَرَحْمَة كَامِلَة، وَالصِّلَة الْكَامِلَة تَمْنَع الرُّجُوع. وَالْجَوَاب أَنَّهُ لَا يُعْتَبَر هَهُنَا حَالَ الْعَبْد وَحْدَهُ وَلَا حَالَ الْمَوْلَى وَحْدَهُ بَلْ يُعْتَبَر حَالهمَا جَمِيعًا وَاعْتِبَار حَالهمَا لَا يَمْنَعُ الرُّجُوع وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَم وَعَلَى هَذَا التَّفْرِيع إذَا وَهَبَ لِمُكَاتَبٍ شَيْئًا وَهُوَ ذُو رَحِم مَحْرَمٍ مِنْ الْوَاهِب أَوْ مَوْلَاهُ ذُو رَحِم مَحْرَم مِنْ الْوَاهِب أَنَّهُ إنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ فَعَتَقَ يُعْتَبَر حَاله فِي الْقَرَابَة وَعَدَمهَا إنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا يَرْجِع وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا لَا يَرْجِع؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَدَّى فَعَتَقَ اسْتَقَرَّ مِلْكه فَصَارَ كَأَنَّ الْهِبَة وَقَعَتْ لَهُ وَهُوَ حُرّ. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَرْجِع إنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا لَا يَرْجِع كَذَا هَذَا وَإِنْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقّ فَقِيَاس قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهُ يُعْتَبَر حَالَ الْمَوْلَى فِي الْقَرَابَة وَعَدَمهَا إنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنَاء عَلَى أَنَّ الْهِبَة عِنْده أَوْجَبَتْ مِلْكًا مَوْقُوفًا عَلَى الْمُكَاتَبِ وَعَلَى مَوْلَاهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إنْ أَدَّى فَعَتَقَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْك وَقَعَ لَهُ مِنْ حِين وُجُوده، وَإِنْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقّ يَظْهَرُ أَنَّهُ وَقَعَ لِلْمَوْلَى مِنْ وَقْت وُجُوده كَأَنَّ الْهِبَة وَقَعَتْ لَهُ مِنْ الِابْتِدَاء وَعَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ لَا يَرْجِع فِي الْأَحْوَال كُلّهَا؛ لِأَنَّ عِنْده كَسْب الْمُكَاتَبِ يَكُون لِلْمُكَاتَبِ مِنْ غَيْر تَوَقُّف ثُمَّ يَنْتَقِل إلَى الْمَوْلَى بِالْعَجْزِ كَأَنَّهُ وَهَبَ لِحَيٍّ فَمَاتَ وَانْتَقَلَ الْمَوْهُوب إلَى وَرَثَته الثَّانِي الزَّوْجِيَّة فَلَا يَرْجِع كُلّ وَاحِد مِنْ الزَّوْجَيْنِ فِيمَا وَهَبَهُ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ صِلَة الزَّوْجِيَّة تَجْرِي مَجْرَى صِلَة الْقَرَابَة الْكَامِلَة بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَعَلَّق بِهَا التَّوَارُث فِي جَمِيع الْأَحْوَال فَلَا يَدْخُلهَا حَجْبُ الْحِرْمَان، وَالْقَرَابَة الْكَامِلَة مَانِعَة مِنْ الرُّجُوع فَكَذَا مَا يَجْرِي مَجْرَاهَا. الثَّالِثُ: التَّوَارُث فَلَا رُجُوع فِي الْهِبَة مِنْ الْفَقِير بَعْد قَبْضِهَا؛ لِأَنَّ الْهِبَة مِنْ الْفَقِير صَدَقَة؛ لِأَنَّهُ يَطْلُب بِهَا الثَّوَاب كَالصَّدَقَةِ وَلَا رُجُوع فِي الصَّدَقَة عَلَى الْفَقِير بَعْد قَبْضِهَا لِحُصُولِ الثَّوَاب الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْعِوَض بِوَعْدِ اللَّه تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِوَضًا فِي الْحَقِيقَة إذْ الْعَبْدُ لَا يَسْتَحِقّ عَلَى مَوْلَاهُ عِوَضًا وَلَوْ تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ فَالْقِيَاس أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقّ الرُّجُوع؛ لِأَنَّ التَّصَدُّق عَلَى الْغَنِيِّ يَطْلُب مِنْهُ الْعِوَض عَادَة فَكَانَ هِبَة فِي الْحَقِيقَة فَيُوجِب الرُّجُوع إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَقَالُوا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ؛ لِأَنَّ الثَّوَاب قَدْ يُطْلَبُ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْأَغْنِيَاء أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَهُ نِصَابٌ تَجِب فِيهِ الزَّكَاة وَلَهُ عِيَال لَا يَكْفِيه مَا فِي

فصل في بيان ما يرفع عقد الهبة

يَده فَفِي الصَّدَقَة عَلَيْهِ ثَوَاب وَإِذَا كَانَ الثَّوَاب مَطْلُوبًا مِنْ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَة فَإِذَا أَتَى بِلَفْظَةِ الصَّدَقَة دَلَّ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الثَّوَاب وَأَنَّهُ يَمْنَعُ الرُّجُوع لِمَا بَيَّنَّا. (وَأَمَّا) الشُّيُوع فَنَقُول لَا يَمْنَعُ الرُّجُوع فِي الْهِبَة فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِع فِي نِصْف الْهِبَة مَشَاعًا، وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْقِسْمَةِ بِأَنْ وَهَبَ دَارًا فَبَاعَ الْمَوْهُوب لَهُ نِصْفهَا مَشَاعًا كَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْبَاقِي وَكَذَا لَوْ لَمْ يَبِعْ نِصْفهَا وَهِيَ قَائِمَة فِي يَد الْمَوْهُوب لَهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِع فِي بَعْضهَا دُونَ الْبَعْض بِخِلَافِ الْهِبَة الْمُسْتَقْبَلَة أَنَّهَا لَا تَجُوز فِي الْمَشَاع الَّذِي يَحْتَمِل الْقِسْمَة؛ لِأَنَّ الْقَبْض شَرْط جَوَاز الْعَقْد، وَالشِّيَاع يُخِلُّ فِي الْقَبْض الْمُمَكِّنِ مِنْ التَّصَرُّف، وَالرُّجُوع فَسْخ، وَالْقَبْض لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْفَسْخِ فَلَا يَكُون الشُّيُوع مَانِعًا مِنْ الرُّجُوع. (وَأَمَّا) بَيَان مَاهِيَّة الرُّجُوع وَحُكْمه شَرْعًا فَنَقُول وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق لَا خِلَاف فِي أَنَّ الرُّجُوع فِي الْهِبَة بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخ، وَاخْتُلِفَ فِي الرُّجُوع فِيهَا بِالتَّرَاضِي فَمَسَائِل أَصْحَابنَا تَدُلّ عَلَى أَنَّهُ فَسْخ أَيْضًا كَالرُّجُوعِ بِالْقَضَاءِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا يَصِحّ الرُّجُوع فِي الْمَشَاع الَّذِي يَحْتَمِل الْقِسْمَة. وَلَوْ كَانَ هِبَة مُبْتَدَأَة لَمْ يَصِحّ مَعَ الشِّيَاع وَكَذَا لَا تَقِف صِحَّته عَلَى الْقَبْض وَلَوْ كَانَتْ هِبَة مُبْتَدَأَة لَوَقَفَ صِحَّته عَلَى الْقَبْض وَكَذَا لَوْ وَهَبَ لِإِنْسَانٍ شَيْئًا وَوَهَبَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ لِآخَرَ ثُمَّ رَجَعَ الثَّانِي فِي هِبَتِهِ كَانَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ وَلَوْ كَانَ هِبَةً مُبْتَدَأَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقّ الرُّجُوع، فَهَذِهِ الْمَسَائِل تَدُلّ عَلَى أَنَّ الرُّجُوع بِغَيْرِ قَضَاء فَسْخ وَقَالَ زُفَرُ أَنَّهُ هِبَة مُبْتَدَأَة. (وَجْه) قَوْله إنَّ مِلْك الْمَوْهُوب عَادَ إلَى الْوَاهِب بِتَرَاضِيهِمَا فَأَشْبَهَ الرَّدّ بِالْعَيْبِ فَيُعْتَبَر عَقْدًا جَدِيدًا فِي حَقّ ثَالِث كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْد الْقَبْض، وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ هِبَة مُبْتَدَأَة مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَاب الْهِبَة أَنَّ الْمَوْهُوب لَهُ إذَا زَادَ الْهِبَة فِي مَرَض مَوْته أَنَّهَا تَكُون مِنْ الثُّلُث وَهَذَا حُكْم الْهِبَة الْمُبْتَدَأَة. (وَلَنَا) أَنَّ الْوَاهِب بِالْفَسْخِ يَسْتَوْفِي حَقّ نَفْسه وَاسْتِيفَاء الْحَقّ لَا يَتَوَقَّف عَلَى قَضَاء الْقَاضِي، وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ مُسْتَوْفٍ حَقّ نَفْسه بِالْفَسْخِ أَنَّ الْهِبَة عَقْد جَائِز مُوجَب حَقّ الْفَسْخ فَكَانَ بِالْفَسْخِ مُسْتَوْفِيًا ثَابِتًا لَهُ فَلَا يَقِفُ عَلَى الْقَضَاءِ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقّ ثَالِثٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمُشْتَرِي فِي الْفَسْخ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي صِفَة السَّلَامَة فَإِذَا لَمْ يَسْلَم اخْتَلَّ رِضَاهُ فَيَثْبُت حَقّ الْفَسْخ ضَرُورَة فَتَوَقَّفَ لُزُوم مُوجَب الْفَسْخ فِي حَقّ ثَالِث عَلَى قَضَاء الْقَاضِي. (وَأَمَّا) مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فَمِنْ أَصْحَابنَا مَنْ الْتَزَمَ وَقَالَ: هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الرُّجُوع بِغَيْرِ قَضَاء هِبَة مُبْتَدَأَة وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِل يَدُلّ عَلَى أَنَّهَا فَسْخ فَكَانَ فِي الْمَسْأَلَة رِوَايَتَانِ. (وَمِنْهُمْ) مِنْ قَالَ هَذَا لَا يَدُلّ عَلَى اخْتِلَاف الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اُعْتُبِرَ الرَّدّ مِنْ الثُّلُث لِكَوْنِ الْمَرِيض مُتَّهَمًا فِي الرَّدّ فِي حَقّ وَرَثَته فَكَانَ فَسْخًا فِيمَا بَيْنَ الْوَاهِب وَالْمَوْهُوب لَهُ هِبَة مُبْتَدَأَة فِي حَقّ الْوَرَثَة وَهَذَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يَكُون لِلْعَقْدِ الْوَاحِد حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ كَالْإِقَالَةِ فَإِنَّهَا فَسْخ فِي حَقّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ جَدِيد فِي حَقّ غَيْرهمَا وَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْد بِالرُّجُوعِ عَادَ الْمَوْهُوب إلَى قَدِيم مِلْك الْوَاهِب وَيَمْلِكهُ الْوَاهِب وَإِنْ لَمْ يَقْبِضهُ؛ لِأَنَّ الْقَبْض إنَّمَا يُعْتَبَر فِي انْتِقَال الْمِلْك لَا فِي عَوْدِ قَدِيم الْمِلْك كَالْفَسْخِ فِي بَاب الْبَيْع، وَالْمَوْهُوبُ بَعْد الرُّجُوع يَكُون أَمَانَة فِي يَد الْمَوْهُوب لَهُ حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَده لَا يَضْمَن؛ لِأَنَّ قَبْض الْهِبَة قَبْض غَيْر مَضْمُون فَإِذَا انْفَسَخَ عِنْدهَا بَقِيَ الْقَبْض عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ أَمَانَة غَيْر مُوجِب لِلضَّمَانِ فَلَا يَصِير مَضْمُونًا عَلَيْهِ إلَّا بِالتَّعَدِّي كَسَائِرِ الْأَمَانَات وَلَوْ لَمْ يَتَرَاضَيَا عَلَى الرُّجُوع وَلَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ وَلَكِنْ الْمَوْهُوب لَهُ وَهَبَ، وَالْمَوْهُوب لِلْوَاهِبِ وَقَبِلَهُ الْوَاهِب الْأَوَّل لَا يَمْلِكهُ حَتَّى يَقْبِضهُ وَإِذَا قَبَضَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الرُّجُوع بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَيْسَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَكَذَا الصَّدَقَة. (أَمَّا) وُقُوف الْمِلْك فِيهِ عَلَى الْقَبْض؛ فَلِأَنَّ الْمَوْجُود لَفْظ الْهِبَة لَا لَفْظ الْفَسْخ وَمِلْك الْوَاهِب لَا يَزُول إلَّا بِالْقَبْضِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الرُّجُوع أَنَّ الْوَاهِب يَمْلِكُهُ بِدُونِ الْقَبْض؛ لِأَنَّ اتِّفَاقهمَا عَلَى الرُّجُوع اتِّفَاق عَلَى الْفَسْخ وَلَا يُشْتَرَط لِلْفَسْخِ مَا يُشْتَرَط لِلْعَقْدِ ثُمَّ إذَا قَبَضَهُ الْوَاهِب قَامَ ذَلِكَ مَقَام الرُّجُوع؛ لِأَنَّ الرُّجُوع مُسْتَحَقّ فَتَقَع الْهِبَة عَنْ الرُّجُوع الْمُسْتَحَقّ وَلَا تَقَع مَوْقِع الْهِبَة الْمُبْتَدَأَة فَلَا يَصِحّ الرُّجُوع فِيهَا. [فَصْل فِي بَيَان مَا يَرْفَع عَقْد الْهِبَة] (فَصْل) وَأَمَّا بَيَان مَا يَرْفَع عَقْد الْهِبَة فَاَلَّذِي يَرْفَعهُ هُوَ الْفَسْخ إمَّا بِالْإِقَالَةِ أَوْ الرُّجُوع بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ التَّرَاضِي عَلَى مَا بَيَّنَّا وَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْد يَعُود الْمَوْهُوب إلَى قَدِيم مِلْكِ الْوَاهِب بِنَفْسِ الْفَسْخ مِنْ غَيْر الْحَاجَة إلَى الْقَبْض لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ.

كتاب الرهن

[كِتَابُ الرَّهْنِ] [بَيَانِ رُكْنِ الرَّهْنِ] الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ رُكْنِ عَقْدِ الرَّهْنِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الرَّهْنِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الرَّهْنُ عَنْ كَوْنِهِ مَرْهُونًا، وَمَا يَبْطُلُ بِهِ الرُّكْنُ وَمَا لَا يَبْطُلُ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ اخْتِلَافِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ وَالْعَدْلِ. أَمَّا رُكْنُ عَقْدِ الرَّهْنِ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّاهِنُ: رَهَنْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ بِمَا لَكَ عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ أَوْ يَقُولَ: هَذَا الشَّيْءُ رَهْنٌ بِدَيْنِكَ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى، وَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ: ارْتَهَنْتُ أَوْ قَبِلْتُ أَوْ رَضِيتُ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، فَأَمَّا لَفْظُ الرَّهْنِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِدَرَاهِمَ وَدَفَعَ إلَى الْبَائِعِ ثَوْبًا وَقَالَ لَهُ: امْسِكْ هَذَا الثَّوْبَ حَتَّى أُعْطِيَكَ الثَّمَنَ فَالثَّوْبُ رَهْنٌ؛؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الْعَقْدِ، وَالْعِبْرَةُ فِي بَابِ الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي. [فَصْلٌ فِي شَرَائِط رُكْن الرَّهْنِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرَّهْنِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَرْهُونِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَرْهُونِ بِهِ. (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرَّهْنِ فَهُوَ: أَنْ لَا يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ وَلَا مُضَافًا إلَى وَقْتٍ؛ لِأَنَّ فِي الرَّهْنِ وَالِارْتِهَانِ مَعْنَى الْإِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ، فَيُشْبِهُ الْبَيْعَ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِشَرْطٍ، وَالْإِضَافَةُ إلَى وَقْتٍ كَذَا هَذَا. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ فَعَقْلُهُمَا؛ حَتَّى لَا يَجُوزَ الرَّهْنُ وَالِارْتِهَانُ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ. (فَأَمَّا) الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ حَتَّى يَجُوزَ مِنْ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ؛؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فَيَمْلِكُهُ مَنْ يَمْلِكُ التِّجَارَةَ؛ وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَالِارْتِهَانَ مِنْ بَابِ إيفَاءِ الدَّيْنِ وَاسْتِيفَائِهِ وَهُمَا يَمْلِكَانِ ذَلِكَ وَكَذَا السَّفَرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الرَّهْنِ فَيَجُوزُ الرَّهْنُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ جَمِيعًا؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَقْرَضَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا وَرَهَنَهُ بِهِ دِرْعَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ رَهْنًا فِي الْحَضَرِ؛ وَلِأَنَّ مَا شُرِعَ لَهُ الرَّهْنُ وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى تَوْثِيقِ الدَّيْنِ يُوجَدُ فِي الْحَالَيْنِ وَهُوَ الرَّهْنُ عَنْ تَوَاءِ الْحَقِّ بِالْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ وَتَذَكُّرُهُ عِنْدَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى السَّفَرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ لِتَخْصِيصِ الْجَوَازِ بَلْ هُوَ إخْرَاجُ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الْعَادَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] . (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَرْهُونِ. فَأَنْوَاعٌ (مِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا قَابِلًا لِلْبَيْعِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ مَالًا مُطْلَقًا مُتَقَوِّمًا مَمْلُوكًا مَعْلُومًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ رَهْنُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلَا رَهْنُ مَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، كَمَا إذَا رَهْنَ مَا يُثْمِرُ نَخِيلُهُ الْعَامَ أَوْ مَا تَلِدُ أَغْنَامُهُ السَّنَةَ أَوْ مَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَا رَهْنُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ؛ لِانْعِدَامِ مَالِيَّتِهِمَا، وَلَا رَهْنُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ، وَلَا رَهْنُ الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا، وَلَا رَهْنُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ وَالْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُمْ أَحْرَارٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُونَ أَمْوَالًا مُطْلَقَةً، وَلَا رَهْنُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِ. سَوَاءٌ كَانَ الْعَاقِدَانِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ؛ لِانْعِدَامِ مَالِيَّةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ؛ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ إيفَاءُ الدَّيْنِ وَالِارْتِهَانَ اسْتِيفَاؤُهُ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ إيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ الْخَمْرِ وَاسْتِيفَاؤُهُ؛ إلَّا أَنَّ الرَّاهِنَ إذَا كَانَ ذِمِّيًّا، كَانَتْ الْخَمْرُ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ إذَا لَمْ يَصِحَّ كَانَتْ الْخَمْرُ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ وَخَمْرُ الذِّمِّيِّ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُسْلِمِ بِالْغَصْبِ، وَإِذَا كَانَ الرَّاهِنُ مُسْلِمًا وَالْمُرْتَهِنُ ذِمِّيًّا، لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَى أَحَدٍ. (وَأَمَّا) فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَيَجُوزُ رَهْنُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَارْتِهَانُهُمَا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِّ وَالشَّاةِ عِنْدَنَا، وَلَا رَهْنُ الْمُبَاحَاتِ مِنْ الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ فِي أَنْفُسِهَا. (فَأَمَّا) كَوْنُهُ مَمْلُوكًا لِلرَّاهِنِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الرَّهْنِ حَتَّى يَجُوزَ رَهْنُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ، كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ يَرْهَنُ مَالَ الصَّبِيِّ بِدَيْنِهِ وَبِدَيْنِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَخْلُو. (إمَّا) أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْإِيدَاعِ. (وَإِمَّا) أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْمُبَادَلَةِ، وَالْأَبُ يَلِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِ الصَّغِيرِ، فَإِنَّهُ يَبِيعُ مَالَ الصَّغِيرِ بِدَيْنِ نَفْسِهِ، وَيُودِعُ مَالَ الصَّغِيرِ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ قَبْلَ أَنْ يَفْتَكَّهُ الْأَبُ، هَلَكَ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِمَّا رَهَنَ بِهِ؛؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَقَعَ صَحِيحًا وَهَذَا حُكْمُ الرَّهْنِ الصَّحِيحِ وَضَمِنَ الْأَبُ قَدْرَ مَا سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ؛؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ نَفْسِهِ بِمَالِ وَلَدِهِ فَيَضْمَنُ، فَلَوْ أَدْرَكَ الْوَلَدُ وَالرَّهْنُ قَائِمٌ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، فَلَيْسَ

لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّهْنَ وَقَعَ صَحِيحًا لِوُقُوعِهِ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ، فَلَا يَمْلِكُ الْوَلَدُ نَقْضَهُ، وَلَكِنْ يُؤْمَرُ الْأَبُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَرَدِّ الرَّهْنِ عَلَى وَلَدِهِ؛ لِزَوَالِ وِلَايَتِهِ بِالْبُلُوغِ. وَلَوْ قَضَى الْوَلَدُ دَيْنَ أَبِيهِ وَافْتَكَّ الرَّهْنَ، لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا، وَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ مَا قَضَى عَلَى أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، إذْ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَى مِلْكِهِ إلَّا بِقَضَاءِ الدَّيْنِ كُلِّهِ، فَكَانَ مُضْطَرًّا فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا بَلْ يَكُونُ مَأْمُورًا بِالْقَضَاءِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ دَلَالَةً، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا قَضَى، كَمَا لَوْ اسْتَعَارَ مِنْ إنْسَانٍ عَبْدَهُ؛ لِيَرْهَنَهُ بِدَيْنِ نَفْسِهِ فَرَهْنَ، ثُمَّ إنَّ الْمُعِيرَ قَضَى دَيْنَ الْمُسْتَعِيرِ وَافْتَكَّ الرَّهْنَ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِجَمِيعِ مَا قَضَى عَلَى الْمُسْتَعِيرِ؛ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْوَصِيِّ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا حُكْمُ الْأَبِ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي فَصْلٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَرْتَهِنَ مَالَ الصَّغِيرِ بِدَيْنٍ ثَبَتَ عَلَى الصَّغِيرِ، وَإِذَا هَلَكَ يَهْلِكُ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ، وَإِذَا أَدْرَكَ الْوَلَدُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ؛ إذَا كَانَ الْأَبُ يَشْهَدُ عَلَى الِارْتِهَانِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْهَدْ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يُصَدَّقْ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْوَلَدِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْهَنَ مَالَهُ عِنْدَ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ بِدَيْنٍ لِلصَّغِيرِ عَلَيْهِ وَيَحْبِسَهُ لَأَجْلِ الْوَلَدِ، وَإِذَا هَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيُهْلِكُ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ؛ إذَا كَانَ أَشْهَدَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْهَلَاكِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْهَلَاكِ، لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْوَلَدُ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ، وَالْوَصِيُّ لَوْ فَعَلَ هَذَا مِنْ الْيَتِيمِ، لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ وَلَا ارْتِهَانُهُ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَلَا يُشْكِلُ؛؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى بَيْعَ مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا شِرَاءَ مَالِهِ لِنَفْسِهِ أَصْلًا، فَكَذَلِكَ الرَّهْنُ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا؛ إنْ كَانَ يَجُوزُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، لَكِنْ إذَا كَانَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ وَلَا خَيْرَ لَهُ فِي الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ يَهْلِكُ أَبَدًا بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ خَيْرٌ لِلْيَتِيمِ فَلَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ رَهْنُ مَالِ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ. كَمَا لَوْ اسْتَعَارَ مِنْ إنْسَانٍ شَيْئًا؛ لِيَرْهَنَهُ بِدَيْنٍ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّهْنَ: إيفَاءُ الدَّيْنِ وَقَضَاؤُهُ، وَالْإِنْسَانُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ نَفْسِهِ بِمَالِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، ثُمَّ إذَا أَذِنَ الْمَالِكُ بِالرَّهْنِ فَإِذْنُهُ بِالرَّهْنِ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ مُطْلَقًا، وَإِمَّا إنْ كَانَ مُقَيَّدًا، فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَلِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَرْهَنَهُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَبِأَيِّ جِنْسٍ شَاءَ، وَفِي أَيِّ مَكَان كَانَ وَمِنْ أَيِّ إنْسَانٍ أَرَادَ؛ وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ أَصْلٌ، وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِأَنْ سَمَّى قَدْرًا أَوْ جِنْسًا أَوْ مَكَانًا أَوْ إنْسَانًا يَتَقَيَّدُ بِهِ، حَتَّى لَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ بِعَشْرَةٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا وَلَا بِأَقَلَّ؛؛ لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ بِإِذْنٍ يَتَقَيَّدُ تَصَرُّفُهُ بِقَدْرِ الْإِذْنِ، وَالْإِذْنُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الزِّيَادَةَ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْهَنَ بِالْأَكْثَرِ وَلَا بِالْأَقَلِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مَضْمُونٌ وَالْمَالِكَ إنَّمَا جَعَلَهُ مَضْمُونًا بِالْقَدْرِ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ صَحِيحٌ فَكَانَ التَّقْيِيدُ بِهِ مُفِيدًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَذِنَ أَنْ يَرْهَنَهُ بِجِنْسٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ بِجِنْسٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ بَعْضِ الْأَجْنَاسِ قَدْ يَكُونُ أَيْسَرَ مِنْ بَعْضٍ، فَكَانَ التَّقْيِيدُ بِالْجِنْسِ مُفِيدًا. وَكَذَا إذَا أَذِنَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ بِالْكُوفَةِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ بِالْبَصْرَةِ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان مُفِيدٌ، فَيَتَقَيَّدُ بِالْمَكَانِ الْمَذْكُورِ، وَكَذَا إذَا أَذِنَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ مِنْ إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْمُعَامَلَاتِ فَكَانَ التَّعْيِينُ مُفِيدًا، فَإِنْ خَالَفَ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، فَهُوَ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهِ إذَا هَلَكَ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَصَارَ غَاصِبًا، وَلِلْمَالِكِ أَنْ يَأْخُذَ الرَّهْنَ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَمْ يَصِحَّ، فَبَقِيَ الْمَرْهُونُ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْمَرْهُونِ لَا قَبْلَ الرَّهْنِ وَلَا بَعْدَ الِانْفِكَاكِ فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ؛؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ إلَّا بِالرَّهْنِ، فَإِنْ انْتَفَعَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْهَنَهُ، ثُمَّ رَهَنَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ، بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ حِينَ رَهَنَ، ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَعَ بِهِ فَقَدْ خَالَفَ، ثُمَّ لَمَّا رَهَنَهُ فَقَدْ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ فَيَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ، كَالْمُودِعِ إذَا عَادَ إلَى الْوِفَاقِ بَعْدَ مَا خَالَفَ فِي الْوَدِيعَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَعَارَ الْعَيْنَ لِيَنْتَفِعَ بِهَا فَخَالَفَ، ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ إنَّهُ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لِلِانْتِفَاعِ لَيْسَتْ يَدُهُ يَدَ الْمَالِكِ بَلْ يَدَ نَفْسِهِ، حَيْثُ تَعُودُ الْمَنْفَعَةُ إلَيْهِ فَلَمْ تَكُنْ بِالْعَوْدِ إلَى الْوِفَاقِ رَادًّا لِلْمَالِ إلَى يَدِ الْمَالِكِ، فَلَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ. (فَأَمَّا) الْمُسْتَعِيرُ لِلرَّهْنِ فَيَدُهُ قَبْلَ الرَّهْنِ يَدُ الْمَالِكِ، فَإِذَا عَادَ إلَى الْوِفَاقِ، فَقَدْ رَدَّ الْمَالَ إلَى يَدِ الْمَالِكِ فَيَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ وَإِذَا قَبَضَ الْمُسْتَعِيرُ الْعَارِيَّةَ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْهَنَهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ فِي قَبْضِ الْعَارِيَّةِ لَا فِي قَبْضِ الرَّهْنِ، وَقَبْضُ الْعَارِيَّةِ قَبْضُ أَمَانَةٍ لَا قَبْضُ ضَمَانٍ، وَكَذَلِكَ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بَعْدَ مَا افْتَكَّهُ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ بِالِافْتِكَاكِ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ عَادَ عَارِيَّةً فَكَانَ الْهَلَاكُ فِي قَبْضِ الْعَارِيَّةِ وَلَوْ وَكَّلَ الرَّاهِنُ يَعْنِي الْمُسْتَعِيرُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ مِنْ الْمُرْتَهِنِ أَحَدًا فَقَبَضَهُ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْقَابِضِ، فَإِنْ كَانَ الْقَابِضُ فِي عِيَالِهِ، لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِهِ،

وَالْمَالِكُ رَضِيَ بِيَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ كَيَدِهِ فَلَمْ يَكُنْ الْمَالِكُ رَاضِيًا بِيَدِهِ، وَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَقَدْ رَهَنَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَذِنَ فِيهِ، ضَمِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُعِيرِ قَدْرَ مَا سَقَطَ عَنْهُ مِنْ الدَّيْنِ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ نَفْسِهِ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ بِالرَّهْنِ، إذْ الرَّهْنُ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَيَتَعَذَّرُ الْقَضَاءُ عِنْدَ الْهَلَاكِ. وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَهُ عَيْبٌ فَسَقَطَ بَعْضُ الدَّيْنِ، ضَمِنَ الرَّاهِنُ ذَلِكَ الْقَدْرَ؛ لِأَنَّهُ قَضَى ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ دَيْنِهِ بِمَالِ الْغَيْرِ فَيَضْمَنُ ذَلِكَ الْقَدْرَ، فَكَانَ الْمُسْتَعِيرُ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ لِإِنْسَانٍ فَقَضَى دَيْنَ نَفْسِهِ بِمَالِ الْوَدِيعَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا، فَمَا قَضَى يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يَقْبِضْ يَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، فَإِنْ عَجَزَ الرَّاهِنُ عَنْ الِافْتِكَاكِ فَافْتَكَّهُ الْمَالِكُ، لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا وَيَرْجِعُ بِجَمِيعِ مَا قَضَى عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِقَدْرِ مَا كَانَ يَمْلِكُ الدَّيْنَ بِهِ، وَلَا يَرْجِعُ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ وَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيهَا؛ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ رَهَنَ بِأَلْفَيْنِ وَقِيمَةُ الرَّهْنِ أَلْفٌ فَقَضَى الْمَالِكُ أَلْفَيْنِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بِأَلْفَيْنِ وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ. (وَجْهُ) قَوْلِ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْمَضْمُونَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ قَدْرُ الدَّيْنِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ عِنْدَ الْهَلَاكِ إلَّا قَدْرَ الدَّيْنِ، فَإِذَا قَضَى الْمَالِكُ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمُقَدَّرِ، كَانَ مُتَبَرِّعًا فِيهَا. (وَجْهُ) الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الْمَالِكَ مُضْطَرٌّ إلَى قَضَاءِ كُلِّ الدَّيْنِ الَّذِي رَهْنَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ مَالَهُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ بِحَيْثُ لَا فِكَاكَ لَهُ إلَّا بِقَضَاءِ كُلِّ الدَّيْنِ، فَكَانَ مُضْطَرًّا فِي قَضَاءِ الْكُلِّ فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ قِبَلِ الرَّاهِنِ دَلَالَةً، كَأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ فَقَضَاهُ الْمُعِيرُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَرَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا قَضَى كَذَا هَذَا، وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبْضِ الدَّيْنِ مِنْ الْمُعِيرِ، وَيُجْبَرُ عَلَى الْقَبْضِ وَيُسَلِّمُ الرَّهْنَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةُ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِتَخَلُّصِ مِلْكِهِ وَإِزَالَةِ الْعَلَقِ عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ وِلَايَةُ الِامْتِنَاعِ مِنْ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ، فَإِنْ اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُعِيرُ وَقَدْ هَلَكَ الرَّهْنُ فَقَالَ الْمُعِيرُ: هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَقَالَ الْمُسْتَعِيرُ: هَلَكَ قَبْلَ أَنْ أَرْهَنَهُ أَوْ بَعْدَ مَا افْتَكَّيْتُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ؛ لِكَوْنِهِ قَاضِيًا دَيْنَ نَفْسِهِ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ وَهُوَ يُنْكِرُ الْقَضَاءَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ. وَلَا يَجُوزُ رَهْنُ الْمَجْهُولِ وَلَا يَجُوزُ التَّسْلِيمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا جُمْلَةَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضَ الْمُرْتَهِنِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ وَالْكَلَامُ فِي الْقَبْضِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَنَّهُ شَرْطُ جَوَازِ الرَّهْنِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّتِهِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْقَبْضِ وَمَاهِيَّتِهِ، وَفِي بَيَانِ أَنْوَاعِهِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ شَرْطٌ، وَقِيَاسُ قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْهِبَةِ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا كَالْقَبُولِ حَتَّى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يُرْهِنُ فُلَانًا شَيْئًا فَرَهَنَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ يَحْنَثُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَحْنَثُ كَمَا فِي الْهِبَةِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وَلَوْ كَانَ الْقَبْضُ رُكْنًا، لَصَارَ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الرَّهْنِ فَلَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ {مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] مَعْنًى، فَدَلَّ ذِكْرُ الْقَبْضِ مَقْرُونًا بِذَكَرِ الرَّهْنِ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَيْسَ بِرُكْنٍ وَلَا شَرْطٍ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وَصَفَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الرَّهْنَ بِكَوْنِهِ مَقْبُوضًا فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ فِيهِ شَرْطًا؛ صِيَانَةً لِخَبَرِهِ تَعَالَى عَنْ الْخُلْفِ؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ لِلْحَالِ فَلَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ كَسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ. وَلَوْ تَعَاقَدَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ، لَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ. وَلَوْ أَرَادَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْ يَدِهِ لِيَحْبِسَهُ رَهْنًا، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ أَدْخَلَاهُ فِي الرَّهْنِ فَلَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ، وَلَوْ تَعَاقَدَا عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْعَدْلِ وَقَبَضَهُ الْعَدْلُ، جَازَ وَيَكُونُ قَبْضُهُ كَقَبْضِ الْمُرْتَهِنِ، وَهَذَا قَوْلُ الْعَامَّةِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا بِقَبْضِ الْمُرْتَهِنِ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ وَالْعَدْلِ؛ وَلِأَنَّ قَبْضَ الْعَدْلِ بِرِضَا الْمُرْتَهِنِ قَبْضُ الْمُرْتَهِنِ مَعْنًى وَلَوْ قَبْضَهُ الْعَدْلُ ثُمَّ تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ فِي يَدِ عَدْلٍ آخَرَ وَوَضَعَاهُ فِي يَدِهِ جَازَ؛؛ لِأَنَّهُ جَازَ وَضْعُهُ فِي يَدِ الْأَوَّلِ لِتَرَاضِيهِمَا، فَيَجُوزُ وَضَعْهُ فِي يَدِ الثَّانِي بِتَرَاضِيهِمَا، وَكَذَا إذَا قَبَضَهُ الْعَدْلُ ثُمَّ تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَوَضَعَا فِي يَدِهِ جَازَ؛؛ لِأَنَّهُ جَازَ وَضْعه فِي يَدِ الْأَوَّلِ لِتُرَاضِيهِمَا، فَيَجُوزُ وَضْعُهُ فِي يَدِ الثَّانِي بِتَرَاضِيهِمَا، وَكَذَا إذَا قَبَضَهُ الْعَدْلُ ثُمَّ تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَوَضَعَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ جَازَ وَضْعُهُ فِي يَدِهِ فِي الِابْتِدَاءِ، فَكَذَا فِي الِانْتِهَاءِ. وَكَذَا إذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ أَوْ الْعَدْلُ ثُمَّ تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ وَوَضَعَهُ فِي يَدِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ الصَّحِيحَ لِلْعَقْدِ قَدْ وُجِدَ، وَقَدْ خَرَجَ الرَّهْنُ مِنْ يَدِهِ فَبَعْدَ ذَلِكَ يَدُهُ وَيَدُ الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ. وَلَوْ رَهَنَ رَهْنًا وَسَلَّطَ عَدْلًا عَلَى بَيْعِهِ عِنْدَ الْمَحَلِّ فَلَمْ يَقْبِضْ حَتَّى حَلَّ الْأَجَلُ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ بِالْقَبْضِ، وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ

التَّوْكِيلِ لَا تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْقَبْضِ فَصَحَّ الْبَيْعُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ. وَكَذَلِكَ لَوْ رَهَنَ مُشَاعًا وَسَلَّطَهُ عَلَى بَيْعِهِ، فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ وَالْوَكَالَةُ صَحِيحَةٌ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ جَعَلَ عَدْلًا فِي الْإِمْسَاكِ وَعَدْلًا فِي الْبَيْعِ، جَازَ؛؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرٌ مَقْصُودٌ فَيَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالتَّوْكِيلِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ شَرَائِطِ صِحَّتِهِ فَأَنْوَاعٌ. (مِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْهِبَةِ أَنَّ الْإِذْنَ بِالْقَبْضِ شَرْطُ صِحَّتِهِ فِيمَا لَهُ صِحَّةٌ بِدُونِ الْقَبْضِ وَهُوَ الْبَيْعُ فَلَأَنْ يَكُونَ شَرْطٌ فِيمَا لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الْقَبْضِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْقَبْضَ فِي هَذَا الْبَابِ يُشْبِهُ الرُّكْنَ كَمَا فِي الْهِبَةِ فَيُشْبِهُ الْقَبُولَ، وَذَا لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الرَّاهِنِ كَذَا هَذَا، ثُمَّ نَقُولُ: الْإِذْنُ نَوَعَانِ: نَصٌّ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى النَّصِّ دَلَالَةً فَالْأَوَّلُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: أَذِنْتُ لَهُ بِالْقَبْضِ أَوْ رَضِيت بِهِ أَوْ اقْبِضْ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى، فَيَجُوزُ قَبْضُهُ سَوَاءٌ قَبَضَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ اسْتِحْسَانًا، وَقِيَاسُ قَوْلِ زُفَرَ فِي الْهِبَةِ أَنْ لَا يَجُوزَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَالثَّانِي نَحْوُ أَنْ يَقْبِضَ الْمُرْتَهِنُ بِحَضْرَةِ الرَّاهِنِ فَيَسْكُتُ وَلَا يَنْهَاهُ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ اسْتِحْسَانًا، وَقِيَاسُ قَوْلِ زُفَرَ فِي الْهِبَةِ أَنْ لَا يَصِحَّ، كَمَا لَا يَصِحُّ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ عِنْدَهُ رُكْنٌ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ كَالْقَبُولِ، وَصَارَ كَالْبَيْعِ الصَّحِيحِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لَصِحَّتِهِ وَأَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الرَّهْنِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ وَجَدَ الْإِذْنَ هَهُنَا دَلَالَةَ الْإِقْدَامِ عَلَى إيجَابِ الرَّهْنِ؛؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلَالَةُ الْقَصْدِ إلَى إيجَابِ حُكْمِهِ، وَلَا ثُبُوتَ لِحُكْمِهِ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَلَا صِحَّةَ لِلْقَبْضِ بِدُونِ الْإِذْنِ، فَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْإِيجَابِ دَلَالَةَ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ، وَالْإِقْدَامُ دَلَالَةَ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ لَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ، فَلَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ هُنَاكَ نَصًّا وَدَلَالَةً بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ بِدُونِ الْقَبْضِ فَلَمْ يَكُنْ الْإِقْدَامُ عَلَى إيجَابِهِ دَلِيلَ الْقَبْضِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِذْنِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَلَوْ رَهْنَ شَيْئًا مُتَّصِلًا بِمَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الرَّهْنُ، كَالثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الشَّجَرِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ فِيهِ إلَّا بِالْفَصْلِ وَالْقَبْضِ، فَفُصِلَ وَقُبِضَ فَإِنْ قُبِضَ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ لَمْ يَجُزْ قَبْضُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْفَصْلُ وَالْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ هَهُنَا لَمْ يَقَعْ صَحِيحًا فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ، وَإِنْ قُبِضَ بِإِذْنِهِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ جَائِزٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِي الْهِبَةِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (وَمِنْهَا) الْحِيَازَةُ عِنْدَنَا فَلَا يَصِحُّ قَبْضُ الْمُشَاعِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَقَبْضُ الْمُشَاعِ صَحِيحٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الشِّيَاعَ لَا يَقْدَحُ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ وَلَا فِي شَرْطِهِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ الرَّهْنِ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ عِنْدَهُ: كَوْنُ الْمُرْتَهِنِ أَحَقَّ بِبَيْعِ الْمَرْهُونِ وَاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ بَدَلِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ وَالشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ وَشَرْطُهُ هُوَ الْقَبْضُ، وَإِنَّهُ مُمْكِنٌ فِي النِّصْفِ الشَّائِعِ بِتَخْلِيَةِ الْكُلِّ. (وَلَنَا) أَنَّ قَبْضَ النِّصْفِ الشَّائِعِ وَحْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَيْسَ بِمَرْهُونٍ فَلَا يَصِحُّ قَبْضُهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُشَاعًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَوْ لَا يَحْتَمِلُهَا؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ قَبْضِ الشَّائِعِ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا، بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَإِنَّ الشُّيُوعَ فِيهَا لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُنَاكَ ضَمَانُ الْقِسْمَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْهِبَةِ وَأَنَّهُ يَخُصُّ الْمَقْسُومَ، وَسَوَاءٌ رَهَنَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ مِنْ شَرِيكِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَسَوَاءٌ كَانَ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ أَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشُّيُوعَ الطَّارِئَ عَلَى الْعَقْدِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ، صُورَتُهُ: إذَا رَهَنَ شَيْئًا وَسَلَّطَ الْمُرْتَهِنَ أَوْ الْعَدْلَ عَلَى بَيْعِهِ كَيْفَ شَاءَ مُجْتَمِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا، فَبَاعَ نِصْفَهُ شَائِعًا، أَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الرَّهْنِ شَائِعًا. (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ حَالَ الْبَقَاءِ لَا يُقَاسُ عَلَى حَالِ الِابْتِدَاءِ؛؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ حُكْمِ الِابْتِدَاءِ؛ لِهَذَا فَرَّقَ الشَّرْعُ بَيْنَ الطَّارِئِ وَالْمُقَارَنِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، كَالْعِدَّةِ الطَّارِئَةِ وَالْإِبَاقِ الطَّارِئِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَكَوْنُ الْحِيَازَةِ شَرْطًا فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا شَرْطَ الْبَقَاءِ عَلَى الصِّحَّةِ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَانِعَ فِي الْمُقَارَنِ كَوْنُ الشُّيُوعِ مَانِعًا عَنْ تَحَقُّقِ الْقَبْضِ فِي النِّصْفِ الشَّائِعِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الطَّارِئِ فَيَمْنَعُ الْبَقَاءَ عَلَى الصِّحَّةِ وَلَوْ رَهَنَ رَجُلَانِ رَجُلًا عَبْدًا بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِمَا رَهْنًا وَاحِدًا، جَازَ وَكَانَ كُلُّهُ رَهْنًا بِكُلِّ الدَّيْنِ، حَتَّى أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُمْسِكَهُ حَتَّى يُسْتَوْفَى كُلُّ الدَّيْنِ، وَإِذَا قَضَى أَحَدُهُمَا دَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنْ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَهَنَ كُلَّ الْعَبْدِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ لَا نِصْفَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَمْلُوكُ مِنْهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كَوْنَ الْمَرْهُونِ مَمْلُوكُ الرَّاهِنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الرَّهْنِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ رَهْنُ مَالِ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا وَإِقْدَامُهُمَا عَلَى رَهْنِهِ صَفْقَةً وَاحِدَةً دَلَالَةُ الْإِذْنِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ فَصَارَ كُلُّ الْعَبْدِ

رَهْنًا بِكُلِّ الدَّيْنِ وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ حُبِسَ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ الْوَاحِدُ مَحْبُوسًا بِكُلِّ الدَّيْنِ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا رَهْنَ الشَّائِعِ فَجَازَ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ إذَا قَضَى مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ؛؛ لِأَنَّ كُلَّهُ مَرْهُونٌ بِكُلِّ الدَّيْنِ، فَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بَقِيَ اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ. وَكَذَلِكَ إذَا رَهَنَ رَجُلٌ رَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ لَهُمَا عَلَيْهِ وَهُمَا شَرِيكَانِ فِيهِ أَوْ لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا جَازَ، وَإِذَا قَضَى الرَّاهِنُ دَيْنَ أَحَدِهِمَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ شَيْئًا مِنْ الرَّهْنِ؛؛ لِأَنَّهُ رَهَنَ كُلَّ الْعَبْدِ بِدَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكُلُّ الْعَبْدِ يَصْلُحُ رَهْنًا بِدَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ، كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَهَذَا بِخِلَافِ الْهِبَةِ مِنْ رَجُلَيْنِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ؛؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ وَتَمْلِيكُ شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ اثْنَيْنِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ مُحَالٌ، وَالْعَاقِلُ لَا يَقْصِدُ بِتَصَرُّفِهِ الْمُحَالَ، فَأَمَّا الرَّهْنُ فَحَبْسٌ، وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي كَوْنِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مَحْبُوسًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّيْنَيْنِ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، غَيْرَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّيْنَيْنِ لَكِنَّهُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا إلَّا بِحِصَّتِهِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ تَنْقَسِمُ قِيمَتُهُ عَلَى الدَّيْنَيْنِ فَيَسْقُطُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا الدَّيْنَ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ، وَأَنَّهُ لَا يَفِي لِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنَيْنِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيُقْسَمُ عَلَيْهِمَا، فَيَسْقُطُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقِدْرِهِ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ حَبْسُ الْمَبِيعِ بِأَنْ اشْتَرَى رَجُلَانِ مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا فَأَدَّى أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ شَيْئًا مِنْ الْمَبِيعِ وَكَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ كُلَّهُ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا عَلَى الْآخَر؛ لِأَنَّ كُلَّ الْمَبِيعِ مَحْبُوسٌ بِكُلِّ الثَّمَنِ فَمَا بَقِيَ جُزْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بَقِيَ اسْتِحْقَاقُ حَبْسِ كُلِّ الْمَبِيعِ وَلَوْ رَهْنَ بَيْتًا بِعَيْنِهِ مِنْ دَارٍ أَوْ رَهَنَ طَائِفَةً مُعَيَّنَةً مِنْ دَارٍ، جَازَ؛ لِانْعِدَامِ الشُّيُوعِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ زِيَادَةُ الدَّيْنِ عَلَى الرَّهْنِ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهَا أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ: زِيَادَةُ الرَّهْنِ: وَهِيَ نَمَاؤُهُ كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالتَّمْرِ وَالصُّوفِ وَكُلِّ مَا هُوَ مُتَوَلَّدٌ مِنْ الرَّهْنِ أَوْ فِي حُكْمِ الْمُتَوَلَّدِ مِنْهُ، بِأَنْ كَانَ بَدَلَ جُزْءٍ فَائِتٍ أَوْ بَدَلَ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ كَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ وَزِيَادَةُ الرَّهْنِ عَلَى أَصْلِ الرَّهْنِ، كَمَا إذَا رَهَنَ بِالدَّيْنِ جَارِيَةً، ثُمَّ زَادَ عَبْدًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ رَهْنًا بِذَلِكَ الدَّيْنِ، وَزِيَادَةُ الرَّهْنِ عَلَى نَمَاءِ الرَّهْنِ، كَمَا إذَا رَهَنَ بِالدَّيْنِ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا، ثُمَّ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ ثُمَّ زَادَ رَهْنًا عَلَى الْوَلَدِ، وَزِيَادَةُ الدَّيْنِ عَلَى الرَّهْنِ كَمَا إذَا رَهَنَ عَبْدًا بِأَلْفٍ، ثُمَّ إنَّ الرَّاهِنَ اسْتَقْرَضَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ أَلْفًا أُخْرَى عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِالْأَوَّلِ وَالزِّيَادَةِ جَمِيعًا. (أَمَّا) زِيَادَةُ الرَّهْنِ فَمَرْهُونَةٌ عِنْدَنَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُ الْأَصْلِ فِيهَا، وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ عَلَى طَرِيقِ اللُّزُومِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَتْ بِمَرْهُونَةٍ أَصْلًا، وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي بَيَانِ حُكْمِ الرَّهْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) زِيَادَةُ الرَّهْنِ فَجَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. (وَأَمَّا) زِيَادَةُ الرَّهْنِ عَلَى نَمَاءِ الرَّهْنِ بَعْدَ هَلَاكِ الْأَصْلِ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ إنْ بَقِيَ الْوَلَدُ إلَى وَقْتِ الْفَكَاكِ، جَازَتْ الزِّيَادَةُ، وَإِنْ هَلَكَ، لَمْ تَجُزْ؛ لِأَنَّهَا إذَا هَلَكَتْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا حَصَلَتْ بَعْدَ سُقُوطِ الدَّيْنِ، وَقِيَامُ الدَّيْنِ شَرْطُ صِحَّةِ الزِّيَادَةِ. (وَأَمَّا) زِيَادَةُ الدَّيْنِ عَلَى الرَّهْنِ فَهِيَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ جَائِزَةٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الدَّيْنَ فِي بَابِ الرَّهْنِ كَالثَّمَنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا بِالدَّيْنِ كَمَا لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إلَّا بِالثَّمَنِ، ثُمَّ هُنَاكَ جَازَتْ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ جَمِيعًا، فَكَذَا هُنَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا، وَالْجَامِعُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ أَنَّ الزِّيَادَةَ عِنْدَنَا تُلْتَحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، كَأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جَمِيعًا؛ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ رَهَنَ بِالدَّيْنِ عَبْدَيْنِ ابْتِدَاءً وَذَا جَائِزٌ، كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَوْ صَحَّتْ، لَأَوْجَبَتْ الشُّيُوعَ فِي الرَّهْنِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ؛ لَصَارَ بَعْضُ الْعَبْدِ بِمُقَابِلَتِهَا فَلَا يَخْلُو. (إمَّا) أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ الْبَعْضُ بِمُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ مَعَ بَقَائِهِ مَشْغُولًا بِالْأَوَّلِ. (وَإِمَّا) أَنْ يَفْرُغَ مِنْ الْأَوَّلِ وَيَصِيرَ مَشْغُولًا بِالزِّيَادَةِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمَشْغُولَ بِشَيْءٍ لَا يَحْتَمِلُ الشَّغْلَ بِغَيْرِهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ رَهَنَ بَعْضَ الْعَبْدِ بِالدَّيْنِ وَهَذَا رَهْنُ الْمُشَاعِ فَلَا يَجُوزُ، كَمَا إذَا رَهَنَ عَبْدًا وَاحِدًا بِدَيْنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضُهُ، بِخِلَافِ زِيَادَةِ الرَّهْنِ عَلَى أَصْلِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ هُنَاكَ لَا تُؤَدِّي إلَى شُيُوعِ الرَّهْنِ بَلْ إلَى شُيُوعِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الزِّيَادَةِ كَانَ الْعَبْدُ بِمُقَابَلَةِ كُلِّ الدَّيْنِ وَبَعْدَ الزِّيَادَةِ صَارَ كُلُّهُ بِمُقَابَلَةِ بَعْضِ الدَّيْنِ، وَالْعَبْدُ وَالزِّيَادَةُ بِمُقَابَلَةِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، فَيَرْجِعُ

الشُّيُوعُ إلَى الدَّيْنِ لَا إلَى الرَّهْنِ، وَالشُّيُوعُ فِي الدَّيْنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ وَفِي الرَّهْنِ يَمْنَعُ صِحَّتَهُ، أَلَا تَرَى لَوْ رَهَنَ عَبْدًا بِنِصْفِ الدَّيْنِ، جَازَ. وَلَوْ رَهَنَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِالدَّيْنِ، لَمْ يُجْزَ، لِذَلِكَ افْتَرَقَ حُكْمُ الزِّيَادَتَيْنِ. وَلَوْ رَهَنَ مُشَاعًا فَقَسَّمَ وَسَلَّمَ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الْحَقِيقَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْقِسْمَةِ وَالتَّسْلِيمِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، فَإِذَا وُجِدَ، فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ النَّفَاذِ فَيَنْفُذُ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ فَارِغًا عَمَّا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ، فَإِنْ كَانَ مَشْغُولًا بِهِ بِأَنْ رَهَنَ دَارًا فِيهَا مَتَاعُ الرَّاهِنِ وَسَلَّمَ الدَّارَ، أَوْ سَلَّمَ الدَّارَ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَتَاعِ، أَوْ رَهَنَ جُوَالِقًا دُونَ مَا فِيهِ، وَسَلَّمَ الْجُوَالِقَ أَوْ سَلَّمَهُ مَعَ مَا فِيهِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَبْضِ هُوَ التَّخْلِيَةُ الْمُمْكِنَةُ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الشَّغْلِ. وَلَوْ أَخْرَجَ الْمَتَاعَ مِنْ الدَّارِ ثُمَّ سَلَّمَهَا فَارِغَةً؛ جَازَ، وَيُنْظَرُ إلَى حَالِ الْقَبْضِ لَا إلَى حَالِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الشَّغْلُ، وَقَدْ زَالَ فَيَنْفُذُ، كَمَا فِي رَهْنِ الْمُشَاعِ. وَلَوْ رَهَنَ الْمَتَاعَ الَّذِي فِيهَا دُونَ الدَّارِ، وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّارِ جَازَ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَهَنَ الدَّارَ دُونَ الْمَتَاعِ؛؛ لِأَنَّ الدَّارَ تَكُونُ مَشْغُولَةً بِالْمَتَاعِ، فَأَمَّا الْمَتَاعُ فَلَا يَكُونُ مَشْغُولًا بِالدَّارِ، فَيَصِحُّ قَبْضُ الْمَتَاعِ وَلَمْ يَصِحَّ قَبْضُ الدَّارِ. وَلَوْ رَهَنَ الدَّارَ وَالْمَتَاعَ وَاَلَّذِي فِيهَا صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا، وَهُوَ خَارِجُ الدَّارِ جَازَ الرَّهْنُ فِيهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ رَهَنَ الْكُلَّ وَسَلَّمَ الْكُلَّ، وَصَحَّ تَسْلِيمُهُمَا جَمِيعًا. وَلَوْ فَرَّقَ الصَّفْقَةَ فِيهِمَا بِأَنْ رَهَنَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ الْآخَرَ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي التَّسْلِيمِ، صَحَّ الرَّهْنُ فِيهِمَا جَمِيعًا. (أَمَّا) فِي الْمَتَاعِ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَتَاعَ لَا يَكُونُ مَشْغُولًا بِالدَّارِ. (وَأَمَّا) فِي الدَّارِ؛ فَلِأَنَّ الْمَانِعَ وَهُوَ الشَّغْلُ قَدْ زَالَ، وَإِنْ فَرَّقَ بِأَنْ رَهَنَ أَحَدَهُمَا وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَهَنَ الْآخَرَ وَسَلَّمَ، لَمْ يَجُزْ الرَّهْنُ فِي الدَّارِ وَجَازَ فِي الْمَتَاعِ، سَوَاءٌ قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَإِنَّ هُنَاكَ يُرَاعَى فِيهِ التَّرْتِيبُ، إنْ قَدَّمَ هِبَةَ الدَّارِ لَمْ تَجُزْ الْهِبَةُ فِي الدَّارِ وَجَازَتْ فِي الْمَتَاعِ، كَمَا فِي الرَّهْنِ، وَإِنْ قَدَّمَ هِبَةَ الْمَتَاعِ، جَازَتْ الْهِبَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا. (أَمَّا) فِي الْمَتَاعِ؛ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْغُولٍ بِالدَّارِ. (وَأَمَّا) فِي الدَّارِ؛ فَلِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَشْغُولَةً وَقْتَ الْقَبْضِ لَكِنْ بِمَتَاعٍ هُوَ مِلْكُ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْقَبْضِ، وَهُنَا الدَّارُ مَشْغُولَةٌ بِمَتَاعٍ هُوَ مِلْكُ الرَّاهِنِ؛ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَلَوْ رَهَنَ دَارًا وَالرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فِي جَوْفِ الدَّارِ فَقَالَ الرَّاهِنُ: سَلَّمْتُهَا إلَيْكَ لَمْ يَصِحَّ التَّسْلِيمُ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الدَّارِ ثُمَّ يُسَلِّمَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ كَوْنِهِ فِي الدَّارِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمٍ جَدِيدٍ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا. وَلَوْ رَهَنَ دَابَّةً عَلَيْهَا حِمْلٌ دُونَ الْحِمْلِ، لَمْ يَتِمَّ الرَّهْنُ، حَتَّى يُلْقِيَ الْحِمْلَ عَنْهَا ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُرْتَهِنِ. وَلَوْ رَهَنَ الْحِمْلَ دُونَ الدَّابَّةِ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ كَانَ رَهْنًا تَامًّا فِي الْحِمْلِ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ مَشْغُولَةٌ بِالْحِمْلِ، أَمَّا الْحِمْلُ فَلَيْسَ مَشْغُولًا بِالدَّابَّةِ، كَمَا فِي رَهْنِ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا الْمَتَاعُ بِدُونِ الْمَتَاعِ، وَرَهْنُ الْمَتَاعِ الَّذِي فِي الدَّارِ بِدُونِ الدَّارِ وَلَوْ رَهَنَ سَرْجًا عَلَى دَابَّةٍ أَوْ لِجَامًا فِي رَأْسِهَا أَوْ رَسَنًا فِي رَأْسِهَا، فَدَفَعَ إلَيْهِ الدَّابَّةَ مَعَ اللِّجَامِ وَالسَّرْجِ وَالرَّسَنِ لَمْ يَكُنْ رَهْنًا حَتَّى يَنْزِعَهُ مِنْ رَأْسِ الدَّابَّةِ ثُمَّ يُسَلِّمَ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَهَنَ مَتَاعًا فِي الدَّارِ؛ لِأَنَّ السَّرْجَ وَنَحْوَهُ مِنْ تَوَابِعِ الدَّابَّةِ، فَلَمْ يَصِحَّ رَهْنُهَا بِدُونِ الدَّابَّةِ، كَمَا لَا يَصِحُّ رَهْنُ الثَّمَرِ بِدُونِ الشَّجَرِ، بِخِلَافِ الْمَتَاعِ فَإِنَّهُ لَيْسَ تَبَعًا لِلدَّارِ. وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ رَهَنَ دَابَّةً عَلَيْهَا سَرْجٌ أَوْ لِجَامٌ، دَخَلَ ذَلِكَ فِي الرَّهْنِ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا رَهَنَ جَارِيَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا، أَوْ بَهِيمَةَ وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا الْعَقْدُ، أَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ؛ فَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ، لَكَانَ الْمَرْهُونُ مَشْغُولًا بِمَا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ. وَأَمَّا الْعَقْدُ؛ فَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ مَا فِي الْبَطْنِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَالرَّهْنُ تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ، كَالْبَيْعِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ. وَلَوْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ ثُمَّ رَهَنَ الْأُمَّ أَوْ دَبَّرَ مَا فِي بَطْنِهَا، ثُمَّ رَهَنَ الْأُمَّ، فَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْهِبَةِ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِي الْهِبَةِ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ مُنْفَصِلًا مُتَمَيِّزًا عَمَّا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ، فَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ عَنْهُ، لَمْ يَصِحَّ قَبْضُهُ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمَرْهُونِ وَحْدَهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَالْمُتَّصِلُ بِهِ غَيْرُ مَرْهُونٍ، فَأَشْبَهَ رَهْنَ الْمُشَاعِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ مَا إذَا رَهَنَ الْأَرْضَ بِدُونِ الْبِنَاءِ أَوْ بِدُونِ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ، أَوْ الزَّرْعَ وَالشَّجَرَ بِدُونِ الْأَرْضِ، أَوْ الشَّجَرَ بِدُونِ الثَّمَرِ أَوْ الثَّمَرَ بِدُونِ الشَّجَرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ سَلَّمَ الْمَرْهُونَ بِتَخْلِيَةِ الْكُلِّ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ، وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ وَلَوْ وَجَدَ الثَّمَرَ وَحَصَدَ الزَّرْعَ وَسَلَّمَ مُنْفَصِلًا، جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ النَّفَاذِ قَدْ زَالَ. وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ فَرَهَنَهُمَا جَمِيعًا وَسَلَّمَ مُتَفَرِّقًا، جَازَ، وَإِنْ فَرَّقَ الصَّفْقَةَ بِأَنْ رَهَنَ الزَّرْعَ ثُمَّ الْأَرْضَ أَوْ الْأَرْضَ ثُمَّ الزَّرْعَ، يَنْظُرْ إنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي التَّسْلِيمِ، جَازَ الرَّهْنُ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَإِنْ فَرَّقَ، لَا يَجُوزُ فِيهِمَا جَمِيعًا سَوَاءٌ قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ فِي الْفَصْلَيْنِ مُخْتَلِفٌ،

فَالْمَانِعُ مِنْ صِحَّةِ الْقَبْضِ فِي هَذَا الْفَصْلِ هُوَ الِاتِّصَالُ، وَأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ، وَالْمَانِعُ مِنْ صِحَّةِ الْقَبْضِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ هُوَ الشَّغْلُ وَأَنَّهُ يَخْتَلِفُ. مِثَالُ هَذَا: إذَا رَهَنَ نِصْفَ دَارِهِ مُشَاعًا مِنْ رَجُلٍ وَلَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ حَتَّى رَهَنَهُ النِّصْفَ الْبَاقِيَ وَسَلَّمَ الْكُلَّ أَنَّهُ يَجُوزُ. وَلَوْ رَهَنَ النِّصْفَ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَهَنَ النِّصْفَ الْبَاقِي وَسَلَّمَ، لَا يَجُوزُ كَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا إذَا رَهَنَ صُوفًا عَلَى ظَهْرِ غَنَمٍ بِدُونِ الْغَنَمِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ، وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ. وَلَوْ جَزَّهُ وَسَلَّمَهُ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ وَعَلَى هَذَا أَيْضًا إذَا رَهَنَ دَابَّةً عَلَيْهَا حِمْلٌ بِدُونِ الْحِمْلِ، لَا يَجُوزُ. وَلَوْ رَفَعَ الْحِمْلَ عَنْهَا وَسَلَّمَهَا فَارِغَةً، جَازَ؛ لِمَا قُلْنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا رَهَنَ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ أَوْ مَا فِي بَطْنِ غَنَمِهِ أَوْ مَا فِي ضَرْعِهَا، أَوْ رَهَنَ سَمْنًا فِي لَبَنٍ أَوْ دُهْنًا فِي سِمْسِمٍ أَوْ زَيْتًا فِي زَيْتُونٍ أَوْ دَقِيقًا فِي حِنْطَةٍ أَنَّهُ يَبْطُلُ، وَإِنْ سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ أَوْ عِنْدَ اسْتِخْرَاجِ ذَلِكَ فَقَبَضَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ لَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا؛ لِعَدَمِ الْمَحَلِّ؛ لِكَوْنِهِ مُضَافًا إلَى الْمَعْدُومِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَنْعَقِدْ الْبَيْعُ الْمُضَافُ إلَيْهَا فَكَذَا الرَّهْنُ. أَمَّا هُنَا فَالْعَقْدُ مُنْعَقِدٌ مَوْقُوفٌ نَفَاذُهُ عَلَى صِحَّةِ التَّسْلِيمِ بِالْفَصْلِ وَالتَّمْيِيزِ، فَإِذَا وُجِدَ، فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ وَلَوْ رَهَنَ الشَّجَرَ بِمَوَاضِعِهِ مِنْ الْأَرْضِ، جَازَ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ مُمْكِنٌ. وَلَوْ رَهَنَ شَجَرًا وَفِيهِ ثَمَرٌ لَمْ يُسَمِّهِ فِي الرَّهْنِ، دَخَلَ فِي الرَّهْنِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الثَّمَرُ فِي بَيْعِ الشَّجَرِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَصْحِيحَ الرَّهْنِ، وَلَا صِحَّةَ بِدُونِ الْقَبْضِ وَلَا صِحَّةَ لِلْقَبْضِ بِدُونِ دُخُولِ مَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ تَصْحِيحًا لَهُ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ فِي الشَّجَرِ بِدُونِ الثَّمَرِ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إدْخَالِ الثَّمَرِ لِلتَّصْحِيحِ وَلَوْ قَالَ: رَهَنْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ هَذَا الْكَرْمَ، وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ وَلَمْ يَخُصَّ شَيْئًا دَخَلَ فِيهِ كُلُّ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ مِنْ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مَعَ أَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ فَلَأَنْ يَدْخُلَ فِي الرَّهْنِ أَوْلَى، إلَّا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ الْمَتَاعِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي رَهْنِ الدَّارِ، وَيَدْخُلُ الثَّمَرُ فِي رَهْنِ الشَّجَرِ؛؛ لِأَنَّ الثَّمَرَ تَابِعٌ لِلشَّجَرِ وَالْمَتَاعَ لَيْسَ بِتَابِعٍ لِلدَّارِ. وَلَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْمَرْهُونِ بَعْدَ صِحَّةِ الرَّهْنِ يَنْظُرُ إلَى الْبَاقِي إنْ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ مِمَّا يَجُوزُ رَهْنُهُ ابْتِدَاءً، لَا يَفْسُدُ الرَّهْنُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ ابْتِدَاءً، فَسَدَ الرَّهْنُ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اُسْتُحِقَّ بَعْضَهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَصِحَّ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ إلَّا عَلَى الْبَاقِي فَكَأَنَّهُ رَهَنَ هَذَا الْقَدْرَ ابْتِدَاءً، فَيَنْظُرُ فِيهِ إنْ كَانَ مَحَلًّا لِابْتِدَاءِ الرَّهْنِ، يَبْقَى الرَّهْنُ فِيهِ وَإِلَّا فَيَفْسُدُ فِي الْكُلِّ، كَمَا لَوْ رَهَنَ هَذَا الْقَدْرَ ابْتِدَاءً، إلَّا أَنَّهُ إذَا بَقِيَ الرَّهْنُ فِيهِ يَبْقَى بِحِصَّتِهِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَلَا يَذْهَبُ جَمِيعُ الدَّيْنِ، وَإِذَا رَهَنَ الْبَاقِي ابْتِدَاءً وَفِيهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ فَهَلَكَ، يَهْلِكْ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، وَإِنْ شِئْت أَنْ تَجْعَلَ الْحِيَازَةَ شَرْطًا مُفْرَدًا وَخَرَّجْتَ الْمُشَاعَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ مَرْهُونٌ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ حَقِيقَةً، فَكَانَ تَخْرِيجُهُ عَلَيْهِ مُسْتَقِيمًا فَافْهَمْ. وَمِنْهَا أَهْلِيَّةٌ الْقَبْضِ وَهِيَ الْعَقْلُ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ أَهْلِيَّةُ الرُّكْنِ وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلَأَنْ تَثْبُتَ بِهِ أَهْلِيَّةُ الشَّرْطِ أَوْلَى. وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقَبْضِ فَالْقَبْضُ عِبَارَةٌ عَنْ التَّخَلِّي: وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ إثْبَاتِ الْيَدِ وَذَلِكَ بِارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ، وَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِتَخْلِيَةِ الرَّاهِنِ بَيْنَ الْمَرْهُونِ وَالْمُرْتَهِنِ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ، صَارَ الرَّاهِنُ مُسْلِمًا وَالْمُرْتَهِنُ قَابِضًا، وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مَعَهُ النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ فَمَا لَمْ يُوجَدْ؛ لَا يَصِيرُ قَابِضًا وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ صِحَّةِ الرَّهْنِ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وَمُطْلَقُ الْقَبْضِ يَنْصَرِفُ إلَى الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالنَّقْلِ، فَأَمَّا التَّخَلِّي فَقَبْضٌ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً، فَلَا يُكْتَفَى بِهِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّخَلِّيَ بِدُونِ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ قَبْضٌ فِي الْعُرْفِ وَالشَّرْعِ، أَمَّا الْعُرْفُ: فَإِنَّ الْقَبْضَ يَرُدُّ عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَالتَّحْوِيلَ مِنْ الدَّارِ وَالْعَقَارِ، يُقَالُ: هَذِهِ الْأَرْضُ أَوْ هَذِهِ الْقَرْيَةُ أَوْ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِي يَدِ فُلَانٍ فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا التَّخَلِّيَ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَأَمَّا الشَّرْعُ: فَإِنَّ التَّخَلِّيَ فِي بَابِ الْبَيْعِ قَبْضٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ وَتَحْوِيلٍ دَلَّ أَنَّ التَّخَلِّيَ بِدُونِ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ قَبْضٌ حَقِيقَةً وَشَرِيعَةً فَيُكْتَفَى بِهِ وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِ الْقَبْضِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْقَبْضُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَنَوْعٌ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ أَمَّا الْقَبْضُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ: فَهُوَ أَنْ يَقْبِضَ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ. وَأَمَّا الْقَبْضُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْقَابِضِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعْ إلَى نَفْسِ الْقَبْضِ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَابِضِ: فَنَحْوُ قَبْضِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَعَنْ الصَّبِيِّ، كَذَا قَبْضُ الْعَدْلِ يَقُومُ مَقَامَ قَبْضِ

الْمُرْتَهِنِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ كَانَ الْهَلَاكُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْقَبْضِ مِمَّا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ؛ وَلِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، وَاسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِمَّا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَبْضِ: فَهُوَ أَنَّ الْمَرْهُونَ إذَا كَانَ مَقْبُوضًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَهَلْ يَنُوبُ ذَلِكَ عَنْ قَبْضِ الرَّهْنِ؟ فَالْأَصْلُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَالْهِبَةِ أَنَّ الْقَابِضَيْنِ إذَا تَجَانَسَا، نَابَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ، وَإِذَا اخْتَلَفَا، نَابَ الْأَعْلَى عَنْ الْأَدْنَى، وَقَدْ بَيَّنَّا فِقْهَ هَذَا الْأَصْلِ وَفُرُوعِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ شِئْتَ عَدَدْتَ الْحِيَازَةَ وَالْفَرَاغَ وَالتَّمْيِيزَ مِنْ شَرَائِطِ نَفْسِ الْعَقْدِ: فَقُلْتَ: وَمِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ مَحُوزًا عِنْدَنَا، وَبَنَيْتَ الْمُشَاعَ عَلَيْهِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ. وَمِنْهَا: دَوَامُ الْقَبْضِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَبَنَيْتَ عَلَيْهِ الْمُشَاعَ. (وَلَنَا) فِي إثْبَاتِ هَذَا الشَّرْطِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا قَوْله تَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْمَرْهُونَ مَقْبُوضٌ، فَيَقْتَضِي كَوْنَهُ مَقْبُوضًا مَا دَامَ مَرْهُونًا؛ لِأَنَّ إخْبَارَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَحْتَمِلُ الْخُلْفَ، وَالشُّيُوعُ يَمْنَعُ دَوَامَ الْقَبْضِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ وَالثَّانِي أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَمَّاهُ رَهْنًا، وَكَذَا يُسَمَّى رَهْنًا فِي مُتَعَارَفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، وَالرَّهْنُ حَبْسٌ فِي اللُّغَةِ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] أَيْ حَبِيسَةٌ بِكَسْبِهَا، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا مَا دَامَ مَرْهُونًا، وَالشِّيَاعُ يَمْنَعُ دَوَامَ الْحَبْسِ فَيَمْنَعُ جَوَازَ الرَّهْنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَوْ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُهَا؛؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ يَمْنَعُ إدَامَةَ الْقَبْضُ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الشُّيُوعُ مُقَارَنًا أَوْ طَارِئًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ دَوَامَ الْقَبْضِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الرَّهْنُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ مِنْ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ، لَأَمْسَكَهُ الشَّرِيكُ يَوْمًا بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَيَوْمًا بِحُكْمِ الرَّهْنِ؛ فَتَخْتَلِفُ جِهَةُ الْقَبْضِ وَالْحَبْسِ فَلَا يَدُومُ الْقَبْضُ وَالْحَبْسُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ رَهَنَهُ يَوْمًا، وَيَوْمًا لَا، وَذَا لَا يَجُوزُ. وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَخْرُجُ رَهْنُ مَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِعَيْنٍ لَيْسَ بِمَرْهُونٍ؛؛ لِأَنَّ اتِّصَالَهُ بِعَيْنِ الْمَرْهُونِ يَمْنَعُ مِنْ إدَامَةِ الْقَبْضِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ شَرْطُ جَوَازِ الرَّهْنِ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فَارِغًا مَا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُنْفَصِلًا مُمَيَّزًا عَمَّا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ، وَخَرَجَتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَسَائِلُهُ الَّتِي ذَكَرْنَا فَافْهَمْ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَرْهُونِ بِهِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ يَقَعُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي أَصْلِ اشْتِرَاطِ الضَّمَانِ، وَالثَّانِي فِي صِفَةِ الْمَضْمُونِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَصْلُ الضَّمَانِ هُوَ كَوْنُ الْمَرْهُونِ بِهِ مَضْمُونًا شَرْطُ جَوَازِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ عِنْدَنَا مَضْمُونٌ بِمَعْنَى سُقُوطِ الْوَاجِبِ عِنْدَ هَلَاكِهِ، أَوْ بِمَعْنَى اسْتِيفَاءِ الْوَاجِبِ، وَلَسْنَا نَعْنِي بِالْمَضْمُونِ سِوَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ التَّسْلِيمِ عَلَى الرَّاهِنِ، وَالْمَضْمُونُ نَوْعَانِ: دَيْنٌ، وَعَيْنٌ. أَمَّا الدَّيْنُ: فَيَجُوزُ الرَّهْنُ بِأَيِّ سَبَبٍ وَجَبَ مِنْ الْإِتْلَافِ وَالْغَصْبِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ كُلَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى اخْتِلَافِ أَسْبَابِ وُجُوبِهَا، فَكَانَ الرَّهْنُ بِهَا رَهْنًا بِمَضْمُونٍ فَيَصِحُّ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الِاسْتِبْدَالَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ لَا يَحْتَمِلُهُ، كَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَبَدَلِ الصَّرْفِ وَالْمُسَلَّمِ فِيهِ، وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِهَذِهِ الدُّيُونِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سُقُوطَ الدَّيْنِ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ بِطَرِيقِ الِاسْتِبْدَالِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ عَيْنَ الدَّيْنِ تَصِيرُ بَدَلًا عَنْ الدَّيْنِ لَا بِطَرِيقِ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ الْمُجَانَسَةِ، وَالرَّهْنُ مَعَ الدَّيْنِ يَكُونَانِ مُخْتَلِفَيْ الْجِنْسِ عَادَةً، فَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ بِالسُّقُوطِ بِطَرِيقِ الِاسْتِيفَاءِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الِاسْتِبْدَالِ فَيَخْتَصُّ جَوَازُ الرَّهْنِ بِمَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِبْدَالَ، وَهَذِهِ الدُّيُونُ كَمَا لَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهَا فَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِهَا. (وَلَنَا) أَنَّ السُّقُوطَ بِطَرِيقِ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتِيفَاءُ هَذِهِ الدُّيُونِ مُمْكِنٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: الِاسْتِيفَاءُ يَسْتَدْعِي الْمُجَانَسَةَ قُلْنَا: الْمُجَانَسَةُ ثَابِتَةٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ يَقَعُ بِمَالِيَّةِ الرَّهْنِ لَا بِصُورَتِهِ، وَالْأَمْوَالُ كُلُّهَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْمَالِيَّةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْمُجَانَسَةِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ، وَيُكْتَفَى بِمُطْلَقِ الْمَالِيَّةِ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، كَمَا فِي إتْلَافِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ فِي بَابِ الرَّهْنِ؛ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى تَوْثِيقِ دُيُونِهِمْ مِنْ جَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ، فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَإِذَا جَازَ الرَّهْنُ بِهَذِهِ الدُّيُونِ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي الْمَجْلِسِ، تَمَّ الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ؛؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا عَيْنَ حَقِّهِ فِي الْمَجْلِسِ لَا مُسْتَبْدِلًا، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ حَتَّى افْتَرَقَا، بَطَلَا؛ لِفَوَاتِ شَرْطِ الْبَقَاءِ عَلَى الصِّحَّةِ وَهُوَ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ. وَأَمَّا الْعَيْنُ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِالْعَيْنِ الَّتِي هِيَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الرَّاهِنِ، كَالْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالْبِضَاعَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُسْتَأْجَرِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ أَصْلًا

وَأَمَّا الْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ هُوَ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ مِثْلُهُ عِنْدَ هَلَاكِهِ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ، وَقِيمَتُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ، كَالْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَالْمَهْرِ فِي يَدِ الزَّوْجِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ، وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فِي يَدِ الْعَاقِلَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ الرَّهْنُ بِهِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْبِسَ الرَّهْنَ حَتَّى يَسْتَرِدَّ الْعَيْنَ، فَإِنْ هَلَكَ الْمَرْهُونُ فِي يَدِهِ قَبْلَ اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ يُقَالُ لِلرَّاهِنِ: سَلِّمْ الْعَيْنَ إلَى الْمُرْتَهِنِ، وَخُذْ مِنْهُ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ وَمِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ عِنْدَنَا مَضْمُونٌ بِذَلِكَ، فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ الْعَيْنُ، يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ قَدْرِ الْمَضْمُونِ إلَى الرَّاهِنِ، فَإِنْ هَلَكَتْ الْعَيْنُ وَالرَّهْنُ قَائِمٌ، صَارَ الرَّهْنُ بِهَا رَهْنًا بِقِيمَتِهَا، حَتَّى وَهَلَكَ الرَّهْنُ بَعْدَ ذَلِكَ، يَهْلِكُ مَضْمُونًا بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَقِيمَةِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَيْنِ بَدَلُهَا، وَبَدَلُ الشَّيْءِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ. وَأَمَّا الَّذِي هُوَ مَضْمُونٌ بِغَيْرِهِ لَا بِنَفْسِهِ، كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَيْسَ هُوَ مَضْمُونًا بِنَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ، لَا يَضْمَنُ شَيْئًا، بَلْ هُوَ مَضْمُونٌ بِغَيْرِ الثَّمَنِ حَتَّى يَسْقُطَ الثَّمَنُ الْمُشْتَرَى إذَا هَلَكَ، فَهَلْ يَجُوزُ الرَّهْنُ بِهِ؟ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَقْبِضَ الْمَبِيعَ، وَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، يَهْلِكْ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ قِيمَةِ الْمَبِيعِ، وَلَا يَصِيرُ قَابِضًا لِلْمَبِيعِ بِهَلَاكِهِ، وَلَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْمَبِيعَ إذَا أَوْفَى ثَمَنَهُ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا ضَمَانُ الْأَقَلِّ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ. وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالرَّهْنُ قَائِمٌ، بَطَلَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ إهْلَاكَ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْمَبِيعِ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ الرَّهْنَ عَلَى الْبَائِعِ. وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ الرَّدِّ، هَلَكَ بِضَمَانِهِ وَهُوَ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمَنْ قِيمَةِ الْمَبِيعِ لِلْبَائِعِ، وَلَا يَبْطُلُ ضَمَانُهُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ وَبُطْلَانِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ، فَقَدْ سَقَطَ الثَّمَنُ بِمُقَابَلَتِهِ فَكَانَ بُطْلَانُهُ بِعِوَضٍ، فَلَا يَبْطُلُ ضَمَانُهُ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الرَّهْنُ، وَبِهِ أَخَذَ الْكَرْخِيُّ وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءِ الْمَرْهُونِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الِاسْتِيفَاءِ فِي الْمَضْمُونِ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا شَيْئًا بِهَلَاكِ الرَّهْنِ، إنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ الثَّمَنُ لَا غَيْرُ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الِاسْتِيفَاءُ هَهُنَا يَحْصُلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ، يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي، فَكَانَ سُقُوطُ الثَّمَنِ عَنْهُ كَالْعِوَضِ عَنْ هَلَاكِ الْمَبِيعِ فَيَحْصُل مُسْتَوْفِيًا مَالِيَّةَ الْمَبِيعِ مِنْ الرَّهْنِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَكَانَ فِي مَعْنَى الْمَضْمُونِ بِنَفْسِهِ فَيَصِحُّ الرَّهْنُ بِهِ وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى دَرَاهِمَ بِعَيْنِهَا، أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِدَرَاهِمَ بِعَيْنِهَا فَأَعْطَى بِهَا رَهْنًا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَإِنْ عُيِّنَتْ فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الرَّاهِنِ مِثْلُهَا لَا عَيْنُهَا، فَلَمْ يَكُنْ الْمُعَيَّنُ مَضْمُونًا؛ فَلَمْ يَجُزْ الرَّهْنُ بِهِ، وَعِنْدَهُ يُتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بِمَنْزِلَةِ الْعِوَضِ فَكَانَ الْمُعَيَّنُ مَضْمُونًا؛ فَجَازَ الرَّهْنُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْكَفِيلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ، لَا يَجِبُ عَلَى الرَّاهِنِ شَيْءٌ وَلَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُرْتَهِنِ بِمُقَابَلَتِهِ. وَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ عَلَى الْمُشْتَرِي، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ، لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُرْتَهِنِ بِشَيْءٍ بِمُقَابَلَتِهِ، فَكَانَ رَهْنًا بِمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ؛ فَلَمْ يَجُزْ، وَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِالْعَبْدِ الْجَانِي وَالْعَبْدِ الْمَدْيُونِ؛؛ لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ، لَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى شَيْءٌ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ بِمُقَابَلَتِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا أَصْلًا فَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِأُجْرَةِ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ، بِأَنْ اسْتَأْجَرَ مُغَنِّيَةً أَوْ نَائِحَةً أَوْ أَعْطَاهُمَا بِالْأُجْرَةِ رَهْنًا؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَمْ تَصِحَّ فَلَمْ تَجِبْ الْأُجْرَةُ، فَكَانَ رَهْنًا بِمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ؛ فَلَمْ يَجُزْ وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ رَهْنًا لِيُقْرِضَهُ فَهَلَكَ الرَّهْنُ قَبْلَ أَنْ يُقْرِضَهُ يَهْلِكُ مَضْمُونًا بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِمَّا سَمَّى فِي الْقَرْضِ، وَإِنْ حَصَلَ الِارْتِهَانُ بِمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَضْمُونِ؛؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الرَّهْنَ لِيُقْرِضَهُ فَكَانَ قَبْضُ الرَّهْنِ عَلَى جِهَةِ الضَّمَانِ، وَالْمَقْبُوضُ عَلَى جِهَةِ شَيْءٍ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي الشَّرْعِ، كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ. (وَأَمَّا) صِفَةُ الْمَضْمُونِ فَنَوْعَانِ: (أَحَدُهُمَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، (وَالثَّانِي) مُخْتَلَفٌ فِيهِ أَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: هُوَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا فِي الْحَالِ، فَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ مِمَّا يَصِيرُ مَضْمُونًا فِي الثَّانِي، كَالرَّهْنِ بِالدَّرَكِ بِأَنْ بَاعَ شَيْئًا وَقَبَضَ الثَّمَنَ وَسَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي، فَخَافَ الْمُشْتَرِي الِاسْتِحْقَاقَ فَأَخَذَ بِالثَّمَنِ مِنْ الْبَائِعِ رَهْنًا قَبْلَ الدَّرَكِ لَا يَجُوزُ؛ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْحَبْسَ، سَوَاءٌ وُجِدَ الدَّرَكُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ. وَلَوْ هَلَكَ، يَهْلِكُ أَمَانَةً سَوَاءٌ وُجِدَ الدَّرَكُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، وَكَذَا لَوْ ارْتَهَنَ بِمَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَى الرَّاهِنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ بِمَا يَصِيرُ مَضْمُونًا فِي

الثَّانِي جَائِزَةٌ، كَمَا إذَا كَفَلَ بِمَا يَذُوبُ لَهُ عَلَى فُلَانٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِارْتِهَانَ اسْتِيفَاءٌ مِنْ وَجْهٍ لِلْحَالِ، وَلَا شَيْءَ لِلْحَالِ يُسْتَوْفَى، وَاسْتِيفَاءُ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ؛ وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَالِارْتِهَانَ لَمَّا كَانَ مِنْ بَابِ الْإِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءُ أَشْبَهَ الْبَيْعَ فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ كَالْبَيْعِ؛ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَدْعِي مَضْمُونًا، إلَّا أَنَّ الْجَوَازَ فِي الْكَفَالَةِ؛ لِتَعَامُلِ النَّاسِ، وَلَا تَعَامُلَ فِي الرَّهْنِ، فَيَبْقَى الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ رَهْنًا لِيُقْرِضَهُ أَنَّ الرَّهْنَ يَكُونُ مَضْمُونًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ رَهْنًا بِمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ لَهُ حُكْمَ الْمَضْمُونِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا حَقِيقَةً؛ لِوُجُودِ الْقَبْضِ عَلَى جِهَةِ الضَّمَانِ، وَالْمَقْبُوضُ عَلَى جِهَةِ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ عَلَى حَقِيقَةٍ، كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا. وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ: ضَمِنْتُ لَكَ مَالَكَ عَلَى فُلَانٍ إذَا حَلَّ، يَجُوزُ أَخْذُ الْكَفِيلِ الرَّهْنَ بِهِ وَلَوْ قَالَ: إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَأَنَا ضَامِنٌ مَالَكَ عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الْكَفِيلِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى الْكَفَالَةَ وَالرَّهْنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أُضِيفَ إلَى مَضْمُونٍ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ وَاجِبٌ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ عَلَى طَرِيقِ التَّوَسُّعِ، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ التَّأْجِيلِ فِي تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ بِضَمَانِ الدَّرَكِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَضْمُونَ هُنَالِكَ لِلْحَالِ وَلَا مَا لَهُ حُكْمُ الْمَضْمُونِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَأَنَا ضَامِنٌ مَالَكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيقُ الضَّمَانِ بِقُدُومِ فُلَانٍ، فَكَانَ عَدَمًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَلَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى مَضْمُونٍ لِلْحَالِ؛ فَبَطَلَ الرَّهْنُ وَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَدْعِي مَضْمُونًا فِي الْحَالِ بَلْ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَا مَرَّ. وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ كَوْنُهُ مَضْمُونًا ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا، أَوْ كَوْنُهُ مَضْمُونًا مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ يَكْفِي لِجَوَازِ الرَّهْنِ، ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ مَضْمُونًا فِي الظَّاهِرِ كَافٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَضْمُونًا حَقِيقَةً، فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفًا وَهِيَ قَرْضٌ عَلَيْهِ، فَجَحَدَهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ إنَّهُ صَالَحَ الْمُدَّعَى مِنْ ذَلِكَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَأَعْطَاهُ بِهَا رَهْنًا يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ كَانَ بَاطِلًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ كَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الرَّاهِنِ خَمْسَمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ ثَابِتًا عَلَى الرَّاهِنِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ اخْتَصَمَا إلَى الْقَاضِي قَبْلَ أَنْ يَتَصَادَقَا، أَنَّ الْقَاضِيَ يُجْبِرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى إيفَاءِ الْخَمْسِمِائَةِ، فَكَانَ هَذَا رَهْنًا بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ ظَاهِرٌ فَيَصِحُّ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الرَّهْنَ بِجِهَةِ الضَّمَانِ جَائِزٌ عَلَى مَا ذُكِرَ؛ فَلَأَنْ يَجُوزَ بِالضَّمَانِ الثَّابِتِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ أَوْلَى وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ تَبَيَّنَ أَنَّ الرَّهْنَ حَصَلَ بِمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ أَصْلًا؛ فَلَمْ يَصِحَّ، وَكَذَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ إذَا اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَبَضَ الْعَبْدَ وَأَعْطَاهُ بِالْأَلْفِ رَهْنًا يُسَاوِي أَلْفًا، فَهَلَكَ الرَّهْنُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ ثُمَّ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ حُرٌّ أَوْ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ مِنْ يَدِهِ يَهْلِكُ مَضْمُونًا؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الرَّاهِنِ ظَاهِرًا فَقَدْ حَصَلَ الِارْتِهَانُ بِدَيْنٍ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ؛ فَجَازَ. وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى شَاةً مَذْبُوحَةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ اشْتَرَى دَنًّا مِنْ خَلٍّ أَوْ أَعْطَاهُ بِالثَّمَنِ رَهْنًا فَهَلَكَ الرَّهْنُ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الشَّاةَ مَيْتَةٌ وَالْخَلَّ خَمْرٌ فَالرَّهْنُ مَضْمُونٌ؛ لِمَا قُلْنَا. وَكَذَا لَوْ قَتَلَ عَبْدَ إنْسَانٍ خَطَأً، وَأَعْطَاهُ بِقِيمَتِهِ رَهْنًا، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الْعَبْدَ حُرٌّ كَانَ الْمَرْهُونُ مَضْمُونًا بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَعَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الِارْتِهَانَ حَصَلَ بِمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ حَقِيقَةً فَلَمْ يَصِحَّ وَلَوْ ادَّعَى الْمُسْتَوْدَعُ أَوْ الْمُضَارِبُ هَلَاكَ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْمُضَارَبَةِ، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ عَلَيْهِمَا الِاسْتِهْلَاكَ، وَتَصَالَحَا عَلَى مَالٍ وَأَخَذَ رَبُّ الْمَالِ بِالْمَالِ رَهْنًا مِنْ الْمُسْتَوْدَعِ، فَهَلَكَ عِنْدَهُ، ثُمَّ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْوَدِيعَةَ هَلَكَتْ عِنْدَهُ يَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَضْمَنُ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمَا فِي صِحَّةِ الصُّلْحِ، فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَمَّا صَحَّ الصُّلْحُ كَانَ رَهْنًا بِمَضْمُونٍ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ؛ فَيَصِحُّ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ فَقَدْ حَصَلَ الرَّهْنُ بِمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ حَقِيقَةً؛ فَلَمْ يَصِحَّ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مُحْتَمَلًا لِلِاسْتِيفَاءِ مِنْ الرَّهْنِ فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ، لَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ بِهِ؛؛ لِأَنَّ الِارْتِهَانَ اسْتِيفَاءٌ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الرَّهْنُ بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنْ الرَّهْنِ، وَيَجُوزُ الرَّهْنُ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ؛؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الرَّهْنِ مُمْكِنٌ فَصَحَّ الرَّهْنُ بِهِ وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَخْرُجُ الرَّهْنُ بِالشُّفْعَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الرَّهْنِ؛ فَلَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ بِهِ وَعَلَى هَذَا

فصل في حكم الرهن

أَيْضًا يَخْرُجُ الرَّهْنُ بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ؛؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الرَّهْنِ. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الرَّهْنِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الرَّهْنُ نَوْعَانِ: صَحِيحٌ، وَفَاسِدٌ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَلَهُ أَحْكَامٌ بَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِحَالِ قِيَامِ الْمَرْهُونِ وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِحَالِ هَلَاكِهِ. (أَمَّا) الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ قِيَامِهِ فَعِنْدَنَا ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ مِلْكُ حَبْسِ الْمَرْهُونِ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ إلَى وَقْتِ الْفِكَاكِ، أَوْ مِلْكِ الْعَيْنِ فِي حَقِّ الْحَبْسِ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ إلَى وَقْتِ الْفِكَاكِ، وَكَوْنُ الْمُرْتَهِنِ أَحَقَّ بِحَبْسِ الْمَرْهُونِ عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ إلَى وَقْتِ الْفِكَاكِ، وَالْعِبَارَاتُ مُتَّفِقَةُ الْمَعَانِي فِي مُتَعَارَفِ الْفُقَهَاءِ. (وَالثَّانِي) اخْتِصَاصُ الْمُرْتَهِنِ بِبَيْعِ الْمَرْهُونِ أَوْ اخْتِصَاصُهُ بِثَمَنِهِ، وَهَذَانِ الْحُكْمَانِ أَصْلِيَّانِ لِلرَّهْنِ عِنْدَنَا. (وَالثَّالِثُ) وُجُوبُ تَسْلِيمِ الْمَرْهُونِ عِنْدَ الِافْتِكَاكِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلرَّهْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ كَوْنُ الْمُرْتَهِنِ أَحَقَّ بِبَيْعِ الْمَرْهُونِ وَأَخَصَّ بِثَمَنِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ. (فَأَمَّا) حَقُّ حَبْسِ الْمَرْهُونِ فَلَيْسَ بِحُكْمٍ لَازِمٍ، حَتَّى أَنَّ الْمَرْهُونَ إنْ كَانَ شَيْئًا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِدُونِ اسْتِهْلَاكِهِ، كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَيَنْتَفِعُ بِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الِانْتِفَاعِ، رَدَّهُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِاسْتِهْلَاكِهِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، فَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْ يَدِهِ، احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ، لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ، لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ، هُوَ لِصَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» أَخْبَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَغْلَقُ أَيْ لَا يُحْبَسُ، وَعِنْدَكُمْ يُحْبَسُ، فَكَانَ حُجَّةً عَلَيْكُمْ، وَكَذَا أَضَافَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الرَّهْنَ إلَى الرَّاهِنِ " فَاللَّامُ " التَّمْلِيكِ، وَسَمَّاهُ صَاحِبًا لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَالِكُ لِلرَّهْنِ مُطْلَقًا رَقَبَةً وَانْتِفَاعًا وَحَبْسًا؛ وَلِأَنَّ الرَّهْنَ شُرِعَ تَوْثِيقًا لِلدَّيْنِ، وَمِلْكُ الْحَبْسِ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ يُضَادُّ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ؛؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي يَدِهِ دَائِمًا، وَعَسَى يَهْلِكُ؛ فَيَسْقُطُ الدَّيْنُ، فَكَانَ تَوْهِينًا لِلدَّيْنِ لَا تَوْثِيقًا لَهُ؛ وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْتُمْ: تَعْطِيلُ الْعَيْنِ الْمُنْتَفِعِ بِهَا فِي نَفْسِهَا مِنْ الِانْتِفَاعِ؛؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالرَّهْنِ أَصْلًا، وَالرَّاهِنُ لَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِهِ عِنْدَكُمْ؛ فَكَانَ تَعْطِيلًا وَالتَّعْطِيلُ تَسْيِيبٌ وَأَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ نَفَاهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} [المائدة: 103] . (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِكَوْنِ الرَّهْنِ مَقْبُوضًا وَإِخْبَارُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَحْتَمِلُ الْخَلَلَ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ مَقْبُوضًا مَا دَامَ مَرْهُونًا؛ وَلِأَنَّ الرَّهْنَ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ الْحَبْسِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] أَيْ حَبِيسٌ، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ مَحْبُوسًا مَا دَامَ مَرْهُونًا وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ مِلْكُ الْحَبْسِ عَلَى الدَّوَامِ لَمْ يَكُنْ مَحْبُوسًا عَلَى الدَّوَامِ فَلَمْ يَكُنْ مَرْهُونًا؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا سَمَّى الْعَيْنَ الَّتِي وَرَدَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا رَهْنًا وَأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ الْحَبْسِ لُغَةً كَانَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ لُغَةً حُكْمًا لَهُ شَرْعًا؛؛ لِأَنَّ لِلْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ دَلَالَاتٍ عَلَى أَحْكَامِهَا، كَلَفْظِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ وَنَحْوِهَا؛ وَلِأَنَّ الرَّهْنَ شُرِعَ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مَا يَقَعُ بِهِ التَّوْثِيقُ لِلدَّيْنِ كَالْكَفَالَةِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ التَّوْثِيقُ إذَا كَانَ يَمْلِكُ حَبْسَهُ عَلَى الدَّوَامِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ عَنْ الِانْتِفَاعِ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ فِي أَسْرَعِ الْأَوْقَاتِ، وَكَذَا يَقَعُ إلَّا مِنْ عَنْ تَوَاءِ حَقِّهِ بِالْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ» أَيْ لَا يُمْلَكُ بِالدَّيْنِ، كَذَا قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ: غَلِقَ الرَّهْنُ أَيْ مُلِكَ بِالدَّيْنِ، وَهَذَا كَانَ حُكْمًا جَاهِلِيًّا فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «هُوَ لِصَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ» تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَهُ غُنْمُهُ» أَيْ زَوَائِدُهُ «وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» أَيْ نَفَقَتُهُ وَكَنَفُهُ وَقَوْلُهُ: إنَّ مَا شُرِعَ لَهُ الرَّهْنُ لَا يَحْصُلُ بِمَا قُلْتُمْ؛؛ لِأَنَّهُ يُتْوَى حَقُّهُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ قُلْنَا: عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقِينَ لَا يُتْوَى بَلْ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا، وَالِاسْتِيفَاءُ لَيْسَ بِهَلَاكِ الدَّيْنِ. (وَأَمَّا) عَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ فَالْهَلَاكُ لَيْسَ بِغَالِبٍ بَلْ قَدْ يَكُونُ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَإِذَا هَلَكَ، فَالْهَلَاكُ لَيْسَ يُضَافُ إلَى حُكْمِ الرَّهْنِ؛؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ مِلْكُ الْحَبْسِ لَا نَفْسُ الْحَبْسِ، وَقَوْلُهُ: فِيهِ تَسْيِيبٌ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ بِعَقْدِ الرَّهْنِ مَعَ التَّسْلِيمِ يَصِيرُ الرَّاهِنُ مُوفِيًا دَيْنَهُ فِي حَقِّ الْحَبْسِ، وَالْمُرْتَهِنُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا فِي حَقِّ الْحَبْسِ، وَالْإِيفَاءُ وَالِاسْتِيفَاءُ مِنْ مَنَافِعِ الرَّهْنِ، وَإِذَا عُرِفَ حُكْمُ الرَّهْنِ فِي حَالِ قِيَامِهِ، فَيَخْرُجُ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ. (أَمَّا) عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مِلْكُ الْحَبْسِ فَالْمَسَائِلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَذَا الْحُكْمِ بَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْحُكْمِ وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّتِهِ، أَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْحُكْمِ فَنَقُولُ: وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ

لَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْمَرْهُونِ اسْتِخْدَامًا وَرُكُوبًا وَلُبْسًا وَسُكْنَى وَغَيْرَ ذَلِكَ؛؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ ثَابِتٌ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ، وَهَذَا يَمْنَعُ الِاسْتِرْدَادَ وَالِانْتِفَاعَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ غَيْرُ الْمُرْتَهِنِ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ. وَلَوْ بَاعَهُ، تَوَقَّفَ نَفَاذُ الْبَيْعِ عَلَى إجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ، إنْ أَجَازَ، جَازَ؛ لِأَنَّ عَدَمَ النَّفَاذِ لِمَكَانِ حَقِّهِ، فَإِذَا رَضِيَ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ زَالَ الْمَانِعُ؛ فَنَفَذَ وَكَانَ الثَّمَنُ رَهْنًا، سَوَاءٌ شَرَطَ الْمُرْتَهِنُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ كَوْنَهُ رَهْنًا، أَوْ لَا فِي جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ رَهْنًا إلَّا بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَيْسَ بِمَرْهُونٍ حَقِيقَةً بَلْ الْمَرْهُونُ هُوَ الْمَبِيعُ، وَقَدْ زَالَ حَقُّهُ عَنْهُ بِالْبَيْعِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا شُرِطَ عِنْدَ الْإِجَازَةِ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا فَلَمْ يَرْضَ بِزَوَالِ حَقِّهِ عَنْهُ إلَّا بِبَدَلٍ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ زَالَ حَقُّهُ أَصْلًا. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْمَرْهُونِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا زَالَ حَقُّهُ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ زَالَ إلَى خَلْفٍ وَالزَّائِلُ إلَى خَلْفٍ قَائِمٌ مَعْنًى، فَيُقَامُ الْخَلْفُ مَقَامَ الْأَصْلِ، وَسَوَاءٌ قَبَضَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ مَا كَانَ مَقْبُوضًا، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ؛ لِمَا قُلْنَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَهَبَهُ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ فَعَلَ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ إنْ رَدَّهُ بَطَلَ، وَلَهُ أَنْ يُعِيدَهُ رَهْنًا، وَإِنْ أَجَازَهُ، جَازَتْ الْإِجَازَةُ؛ لِمَا قُلْنَا، وَبَطَلَ عَقْدُ الرَّهْنِ؛؛ لِأَنَّهُ زَالَ عَنْ مِلْكِهِ لَا إلَى خَلْفٍ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ مِلْكِ الْحَبْسِ لَهُ يَمْنَعُ الْإِجَازَةَ؛ وَلِأَنَّ الْإِجَازَةَ بِعَقْدِ الِانْتِفَاعِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِهِ بِنَفْسِهِ فَكَيْف يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ؟ وَلَوْ فَعَلَ وَقَفَ عَلَى إجَازَتِهِ فَإِنْ رَدَّهُ، بَطَلَ، وَإِنْ أَجَازَ، جَازَتْ الْإِجَازَةُ؛ لِمَا قُلْنَا، وَبَطَلَ عَقْدُ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إذَا جَازَتْ وَأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ لَا يَبْقَى الرَّهْنُ ضَرُورَةً وَالْأُجْرَةُ لِلرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ مَنْفَعَةٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ، وَوِلَايَةُ قَبْضِ الْأُجْرَةِ لَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ، وَلَا تَكُونُ الْأُجْرَةُ رَهْنًا؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ بِمَرْهُونَةٍ فَلَا يَكُونُ بَدَلُهَا مَرْهُونًا. (فَأَمَّا) الثَّمَنُ فِي بَابِ الْبَيْعِ فَبَدَلُ الْمَبِيعِ، وَأَنَّهُ مَرْهُونٌ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَدَلُهُ مَرْهُونًا، وَكَذَلِكَ لَوْ آجَرَهُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ صَحَّتْ الْإِجَارَةُ وَبَطَلَ الرَّهْنُ إذَا جَدَّدَ الْمُرْتَهِنُ الْقَبْضَ لِلْإِجَارَةِ. (أَمَّا) صِحَّةُ الْإِجَارَةِ وَبُطْلَانُ الرَّهْنِ؛ فَلِمَا ذَكَرْنَا. (وَأَمَّا) الْحَاجَةُ إلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ؛ فَلِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ دُونَ قَبْضِ الْإِجَارَةِ، فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ. وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا يَهْلِكُ أَمَانَةً؛ إنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْعٌ مِنْ الرَّاهِنِ، وَإِنْ مَنْعَهُ الرَّاهِنُ ثُمَّ هَلَكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، ضَمِنَ كُلَّ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا بِالْمَنْعِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، فَلَوْ أَعَارَ وَسَلَّمَ، فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُبْطِلَ الْإِعَارَةَ وَيُعِيدَهُ رَهْنًا، وَإِنْ أَجَازَ، جَازَ، وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ وَلَكِنْ يَبْطُلُ ضَمَانُهُ، وَكَذَا إذَا أَعَارَهُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَهُ فَأَجَازَ الْمُرْتَهِنُ، أَوْ آجَرَهُ بِإِذْنِهِ أَنَّهُ يَبْطُلُ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ جَوَازِهَا بُطْلَانُ الرَّهْنِ فَأَمَّا الْإِعَارَةُ فَلَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ؛؛ لِأَنَّ لِلْمُعِيرِ وِلَايَةَ الِاسْتِرْدَادِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ، فَجَوَازُهَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ عَقْدِ الرَّهْنِ إلَّا أَنَّهُ يَبْطُلُ ضَمَانَ الرَّهْنِ؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا لَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْمَرْهُونِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الرَّاهِنُ عَبْدًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ، وَإِنْ كَانَ دَابَّةً لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهَا، وَإِنْ كَانَ ثَوْبًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَلْبَسَهُ، وَإِنْ كَانَ دَارًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْكُنَهَا، وَإِنْ كَانَ مُصْحَفًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِ؛؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ يُفِيدُ مِلْكَ الْحَبْسِ لَا مِلْكَ الِانْتِفَاعِ، فَإِنْ انْتَفَعَ بِهِ فَهَلَكَ فِي حَالِ الِاسْتِعْمَالِ يَضْمَنُ كُلَّ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ؛؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهُ لَيْسَ إلَّا مِلْكُ الْحَبْسِ، فَأَمَّا مِلْكُ الْعَيْنِ فَلِلرَّاهِنِ، وَالْبَيْعُ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ. وَلَوْ بَاعَ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ، وَقَفَ عَلَى إجَازَتِهِ فَإِنْ أَجَازَهُ، جَازَ وَكَانَ الثَّمَنُ رَهْنًا، وَكَذَا إذَا بَاعَ بِإِذْنِهِ، جَازَ وَكَانَ ثَمَنُهُ رَهْنًا، سَوَاءٌ قَبَضَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ. وَلَوْ هَلَكَ، كَانَ الْهَلَاكُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَهَذَا يُشْكِلُ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرْنَا؛ لِجَوَازِ الرَّهْنِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَرْهُونُ دَيْنًا وَالثَّمَنُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، فَكَيْفَ يَصْلُحُ رَهْنًا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الدَّيْنَ يَصْلُحُ رَهْنًا فِي حَالِ الْبَقَاءِ وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ ابْتِدَاءً؛؛ لِأَنَّهُ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ بَدَلُ الْمَرْهُونِ، وَبَدَلُ الْمَرْهُونِ مَرْهُونٌ؛؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَرْهُونِ كَأَنَّهُ هُوَ، بِخِلَافِ حَالَةِ الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ رَدَّ، بَطَلَ وَعَادَ الْمَبِيعُ رَهْنًا كَمَا كَانَ. وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْإِجَازَةِ، فَلَمْ تَجُزْ الْإِجَازَةُ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِجَازَةِ، وَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ

الْمُشْتَرِيَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ غَاصِبًا لِلْمُرْتَهِنِ بِالتَّسْلِيمِ وَالْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ، جَازَ الْبَيْعُ وَالثَّمَنُ لِلْمُرْتَهِنِ، وَكَانَ الضَّمَانُ رَهْنًا؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ؛ فَجَازَ وَكَانَ الثَّمَنُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ، وَالضَّمَانُ يَكُونُ رَهْنًا؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَرْهُونِ فَيَكُونُ مَرْهُونًا، وَقِيلَ: إنَّمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِتَضْمِينِ الْمُرْتَهِنِ إذَا سَلَّمَ الرَّهْنَ إلَى الْمُشْتَرِي أَوَّلًا، ثُمَّ بَاعَهُ مِنْهُ، فَأَمَّا إذَا بَاعَهُ ثُمَّ سَلَّمَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ هُوَ التَّسْلِيمُ؛؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَمِلْكُ الْمَضْمُونِ بِمِلْكِ الضَّمَانِ، وَالتَّسْلِيمُ وُجِدَ بَعْدَ الْبَيْعِ؛ فَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ، كَمَا إذَا بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَذَا هَذَا، وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هَذَا التَّفْصِيلُ. وَلَوْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ، بَطَلَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ بِتَضْمِينِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ بَاعَ مَالَ نَفَسِهِ، وَالضَّمَانُ يَكُونُ رَهْنًا؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَرْهُونِ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَصِحَّ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَهَبَهُ أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ؛؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالتَّصَدُّقَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ، وَالثَّابِتُ لِلْمُرْتَهِنِ مِلْكُ الْحَبْسِ لَا مِلْكُ الْعَيْنِ، فَلَا يَمْلِكُهَا كَمَا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ، فَإِنْ فَعَلَ، وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الرَّاهِنِ إنْ أَجَازَ، جَازَ وَبَطَلَ الرَّهْنُ، وَإِنْ رَدَّ، عَادَ رَهْنًا كَمَا كَانَ. وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِجَازَةَ، فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمَوْهُوبَ لَهُ وَالْمُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَأَيُّهُمَا ضَمَّنَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى صَاحِبِهِ، أَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَرْهُونَ بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ بِمِلْكِ نَفَسِهِ، (وَأَمَّا) الْمَوْهُوبُ لَهُ وَالْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ؛ فَلِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالضَّمَانِ بِحُكْمِ الضَّرَرِ، وَأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِ الرَّاهِنِ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَالثَّابِتُ لَهُ مِلْكُ الْحَبْسِ لَا مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ فَكَيْف يُمَلِّكُهَا مِنْ غَيْرِهِ؟ فَإِنْ فَعَلَ، وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الرَّاهِنِ فَإِنْ أَجَازَ، جَازَ وَبَطَلَ الرَّهْنُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَتْ الْأُجْرَةُ لِلرَّاهِنِ وَلَا تَكُونُ رَهْنًا؛ لِمَا مَرَّ، وَوِلَايَةُ قَبْضِهَا لِلْمُرْتَهِنِ؛؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَالْعَاقِدُ هُوَ الْمُرْتَهِنُ، وَلَا يَعُودُ رَهْنًا إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ بَطَلَ فَلَا يَعُودُ إلَّا بِالِاسْتِئْنَافِ، وَإِنْ رَدَّ، بَطَلَ وَأَعَادَهُ رَهْنًا كَمَا كَانَ. وَلَوْ أَجَرَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ قِيمَتَهُ وَقْتَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ التَّسْلِيمُ وَالْقَبْضُ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ، لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، لَكِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأُجْرَةِ قَدْرِ الْمُسْتَوْفَى مِنْ الْمَنَافِعِ إلَى وَقْتِ الْهَلَاكِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ آجَرَ مِلْكَ نَفَسِهِ؛ فَصَحَّ وَكَانَتْ الْأُجْرَةُ لَهُ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ مَنْفَعَةٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ إلَّا أَنَّهَا لَا تَطِيبُ لَهُ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ، فَالْمُسْتَأْجَرُ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْغُرُورِ وَهُوَ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ. وَلَوْ سَلَّمَ وَاسْتَرَدَّهُ الْمُرْتَهِنُ، عَادَ رَهْنًا كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَرَدَّهُ فَقَدْ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ بَعْدَ مَا خَالَفَ؛ فَأَشْبَهَ الْمُودَعَ إذَا خَالَفَ فِي الْوَدِيعَةِ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ، وَالْأَجْرُ لِلْمُرْتَهِنِ لَكِنْ لَا يَطِيبُ لَهُ، كَالْغَاصِبِ إذَا آجَرَ الْمَغْصُوبَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَ الرَّهْنَ مِنْ غَيْرِ الرَّاهِنِ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْإِجَارَةِ فَإِنْ أَعَارَهُ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُسْتَعِيرِ، فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يُبْطِلَ الْإِعَارَةَ، فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ، فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُسْتَعِيرَ وَأَيُّهُمَا ضَمَّنَ لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَيَكُونُ الضَّمَانُ رَهْنًا. (أَمَّا) عَدَمُ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ فَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَعَارَ مِلْكَهُ. (وَأَمَّا) الْمُسْتَعِيرُ؛ فَلِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالْغَرَرِ، وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ (وَأَمَّا) كَوْنُ الضَّمَانِ رَهْنًا؛ فَلِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَرْهُونِ فَيَكُونُ مَرْهُونًا، وَإِنْ سَلَّمَ وَاسْتَرَدَّهُ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ، عَادَ رَهْنًا كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ فَالْتَحَقَ الْخِلَافُ فِيهِ بِالْعَدَمِ وَلَوْ أَعَارَهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَأَجَازَ، جَازَ وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ لَكِنْ يَبْطُلُ ضَمَانُ الرَّهْنِ؛ لِمَا نَذْكُرُ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهَا تُبْطِلُ الرَّهْنَ، وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِحَبْسِ غَيْرِهِ فَإِنْ فَعَلَ، فَلِلرَّاهِنِ الْأَوَّلِ أَنْ يُبْطِلَ الرَّهْنَ الثَّانِي وَيُعِيدَهُ إلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ الثَّانِي لَمْ يَصِحَّ، فَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ الثَّانِي قَبْلَ الْإِعَادَةِ إلَى الْأَوَّلِ، فَالرَّاهِنُ الْأَوَّلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ الْأَوَّلَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ الثَّانِي، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ الْأَوَّلَ، جَازَ الرَّهْنُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُ الْمُرْتَهِنَ الْأَوَّلَ بِالضَّمَانِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ رَهَنَ مِلْكَ نَفَسِهِ وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ

الثَّانِي يَهْلِكُ بِالدَّيْنِ فَكَانَ ضَمَانُهُ رَهْنًا؛؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَرْهُونِ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ الثَّانِي، بَطَلَ الرَّهْنُ الثَّانِي وَيَكُونُ الضَّمَانُ رَهْنًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ الْأَوَّلِ؛ لِكَوْنِهِ بَدَلَ الْمَرْهُونِ وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ الثَّانِي عَلَى الْمُرْتَهِنِ الْأَوَّلِ بِمَا ضَمِنَ وَبِدَيْنِهِ. (أَمَّا) الرُّجُوعُ بِالضَّمَانِ؛ فَلِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ. (وَأَمَّا) الرُّجُوعُ بِدَيْنِهِ؛ فَلِأَنَّ الرَّهْنَ الثَّانِي لَمْ يَصِحَّ فَيَبْقَى دَيْنُهُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ وَإِنْ رَهَنَ عِنْدَ الثَّانِي بِإِذْنِ الرَّاهِنِ الْأَوَّلِ، جَازَ الرَّهْنُ الثَّانِي وَبَطَلَ الرَّهْنُ الْأَوَّلُ. (أَمَّا) جَوَازُ الرَّهْنِ الثَّانِي؛ فَلِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ قَدْ زَالَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا أَجَازَ الثَّانِي، بَطَلَ الْأَوَّلُ ضَرُورَةً، وَصَارَ كَأَنَّ الْمُرْتَهِنَ الْأَوَّلَ اسْتَعَارَ مَالَ الرَّاهِنِ الْأَوَّلِ؛ لِيَرْهَنَهُ بِدَيْنِهِ فَرَهَنَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُودِعَهُ عِنْدَ أَجْنَبِيٍّ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ لَمْ يَرْضَ إلَّا بِيَدِهِ أَوْ بِيَدِ مَنْ يَدُهُ فِي مَعْنَى يَدِهِ، وَيَدُ الْأَجْنَبِيِّ الَّذِي لَيْسَ فِي عِيَالِهِ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى يَدِهِ، فَإِنْ فَعَلَ وَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُودِعِ؛ ضَمَّنَ كُلَّ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا بِالْإِيدَاعِ، وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى مَنْ هُوَ فِي عِيَالِهِ، كَزَوْجَتِهِ وَخَادِمِهِ وَأَجِيرِهِ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ يَدَ هَؤُلَاءِ كَيَدِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحْفَظُ مَالَ نَفَسِهِ بِيَدِهِمْ، فَكَانَ الْهَالِكُ فِي أَيْدِيهِمْ كَالْهَالِكِ فِي يَدِهِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَفْعَلَ فِي الرَّهْنِ مَا يُعَدُّ حِفْظًا لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يُعَدُّ اسْتِعْمَالًا لَهُ وَانْتِفَاعًا بِهِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا ارْتَهَنَ خَاتَمًا فَجَعَلَهُ فِي خِنْصَرِهِ فَهَلَكَ ضَمِنَ كُلَّ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ التَّخَتُّمَ بِالْخِنْصَرِ مِمَّا يُتَجَمَّلُ بِهِ عَادَةً، فَكَانَ اسْتِعْمَالًا لَهُ وَهُوَ مَأْذُونٌ فِي الْحِفْظِ لَا فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي التَّجَمُّلِ بِهَذَا النَّوْعِ، مِنْهُمْ مَنْ يَتَجَمَّلُ بِالتَّخَتُّمِ فِي الْيُمْنَى وَمِنْهُمْ مِنْ يَتَجَمَّلُ بِهِ فِي الْيُسْرَى، فَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ اسْتِعْمَالًا. وَلَوْ جَعَلَهُ فِي بَقِيَّةِ الْأَصَابِعِ فَهَلَكَ، يَهْلِكُ هَلَاكَ الرَّهْنِ؛؛ لِأَنَّ التَّخَتُّمَ بِهَا غَيْرُ مُعْتَادٍ، فَكَانَ حِفْظًا لَا اسْتِعْمَالًا وَلَوْ لَبِسَ خَاتَمًا فَوْقَ خَاتَمٍ، يَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَإِنْ كَانَ اللَّابِسُ مِمَّنْ يَتَجَمَّلُ بِخَاتَمَيْنِ، يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُتَجَمَّلُ بِهِ، يَهْلِكُ بِمَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ حَافِظٌ إيَّاهُ وَلَوْ رَهَنَهُ سَيْفَيْنِ فَتَقَلَّدَ بِهِمَا، يَضْمَنُ. وَلَوْ كَانَتْ السُّيُوفُ ثَلَاثَةً فَتَقَلَّدَ بِهَا، لَمْ يَضْمَنْ؛؛ لِأَنَّ التَّقَلُّدَ بِسَيْفَيْنِ مُعْتَادٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَكَانَ مِنْ بَابِ الِاسْتِعْمَالِ، (فَأَمَّا) بِالثَّلَاثَةِ فَلَيْسَ بِمُعْتَادٍ فَكَانَ حِفْظًا لَا اسْتِعْمَالًا وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ طَيْلَسَانًا أَوْ قَبَاءً فَلَبِسَهُ لُبْسًا مُعْتَادًا، يَضْمَنْ، وَإِنْ جَعَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ فَهَلَكَ، يَهْلِكْ رَهْنًا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتِعْمَالٌ وَالثَّانِي حِفْظٌ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ مَا يُخَافُ الْفَسَادُ عَلَيْهِ بِإِذْنِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ بَيْعَ مَا يُخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ، فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ لَكِنْ بِإِذْنِ الْقَاضِي لَهُ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً فِي مَالِ غَيْرِهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنْ بَاعَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَإِذَا بَاعَ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ كَانَ ثَمَنُهُ رَهْنًا فِي يَدِهِ؛؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَرْهُونِ فَيَكُونُ رَهْنًا، وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ الرَّاهِنَ بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ مَعَ قِيَامِ عَقْدِ الرَّهْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا لِأَنَّ الرَّهْنَ شُرِعَ لِتَوْثِيقِ الدَّيْنِ وَلَيْسَ مِنْ الْوَثِيقَةِ سُقُوطُ الْمُطَالَبَةِ بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ. وَلَوْ طَالَبَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ بِحَقِّهِ فَقَالَ الرَّاهِنُ: بِعْهُ، وَاسْتَوْفِ حَقَّكَ، فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: لَا أُرِيدُ الْبَيْعَ وَلَكِنْ أُرِيدُ حَقِّي، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ، وَبِالْبَيْعِ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ رَهْنًا فَيَبْطُلُ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ، فَلَهُ أَنْ يَتَوَثَّقَ بِاسْتِيفَائِهِ إلَى اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ وَلَوْ قَالَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ: إنْ جِئْتُكَ بِحَقِّكَ إلَى وَقْتِ كَذَا، وَإِلَّا فَهُوَ لَكَ بِدَيْنِكَ أَوْ بَيْعٌ بِحَقِّكَ لَمْ يَجُزْ وَهُوَ رَهْنٌ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالشَّرْطِ وَأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ بِدَيْنِ الْمُرْتَهِنِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الرَّاهِنِ، لَكِنَّهُ يَحْبِسُ الرَّاهِنَ حَتَّى يَبِيعَهُ بِنَفْسِهِ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وَعِنْدَهُمَا لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَيْهِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْحَجْرِ. وَكَذَلِكَ لَيْسَ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ، كَمَا لَيْسَ لِلرَّاهِنِ وَلَا لِلْمُرْتَهِنِ ذَلِكَ، وَالْكَلَامُ فِي الْعَدْلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا فِي بَيَانِ مَا لِلْعَدْلِ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي الرَّهْنِ وَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فِيهِ. وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَنْ يَصْلُحُ عَدْلًا فِي الرَّهْنِ وَمَنْ لَا يَصْلُحُ وَالثَّالِثُ فِي بَيَانِ مَا يَنْعَزِلُ بِهِ الْعَدْلُ يَخْرُجُ عَنْ الْوَكَالَةِ وَمَا لَا يَنْعَزِلُ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: لِلْعَدْلِ أَنْ يُمْسِكَ الرَّهْنَ بِيَدِهِ وَبِيَدِ مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ بِيَدِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ، وَلَا إلَى الرَّاهِنِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ قَبْلَ سُقُوطِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَرْضَ بِيَدِ صَاحِبِهِ حَيْثُ وَضَعَاهُ فِي يَدِ الْعَدْلِ. وَلَوْ دَفَعَهُ إلَى أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ، فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ وَيُعِيدَهُ إلَى يَدِ الْعَدْلِ كَمَا كَانَ، وَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ الِاسْتِرْدَادِ، ضَمِنَ الْعَدْلُ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا بِالدَّفْعِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ

بِالرَّهْنِ وَلَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالرَّهْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهُ بِالْوَضْعِ فِي يَدِهِ هُوَ حَقُّ الْإِمْسَاكِ لَا الِانْتِفَاعِ وَالتَّصَرُّفِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ؛ لِمَا قُلْنَا، إلَّا إذَا كَانَ مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِهِ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ أَوْ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ وَكِيلًا بِالْبَيْعِ إلَّا أَنَّ التَّسْلِيطَ إذَا كَانَ فِي الْعَقْدِ، لَا يَمْلِكُ عَزْلَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمُرْتَهِنِ، وَإِذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعَقْدِ، يَمْلِكُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ الزِّيَادَةَ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنْ الرَّهْنِ؛ لِكَوْنِهَا مَرْهُونَةً تَبَعًا لِلْأَصْلِ. وَكَذَا لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَا هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الرَّهْنِ، نَحْوُ أَنْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا فَقَتَلَهُ عَبْدٌ أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَامَ مَقَامَهُ، جُعِلَ كَأَنَّ الْأَوَّلَ قَائِمٌ، ثُمَّ إذَا سَلَّطَهُ عَلَى الْبَيْعِ مُطْلَقًا، فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِأَيِّ جِنْسٍ كَانَ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَغَيْرِهِمَا، وَبِأَيِّ قَدْرٍ كَانَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْهُ قَدْرَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، وَبِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ؛؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْبَيْعِ مُطْلَقٌ، وَإِذَا بَاعَ، كَانَ الثَّمَنُ رَهْنًا عِنْدَهُ إلَى أَنْ يَحِلَّ الْأَجَلُ؛؛ لِأَنَّ ثَمَنَ الْمَرْهُونِ مَرْهُونٌ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ أَوْفَى دَيْنَ الْمُرْتَهِنِ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ، وَإِنْ سُلِّطَ عَلَى الْبَيْعِ عِنْدَ الْمَحَلِّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَهُ؛ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ فَسَلَّطَهُ عَلَى الْبَيْعِ عِنْدَ الْمَحَلِّ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِجِنْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُهُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَبِجِنْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ أَنَّهُ يَبِيعُ بِأَيِّ ثَمَنٍ كَانَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ وَلَا بِالنَّسِيئَةِ وَلَا بِغَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، إلَّا أَنَّهُمَا جَوَّزَا مَا فِي مَسْأَلَةِ السَّلَمِ بِجِنْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْبَيْعِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَالْجِنْسُ أَقْرَبُ إلَى الْقَضَاءِ مِنْهُ. وَلَوْ نَهَاهُ الرَّاهِنُ عَنْ الْبَيْعِ بِالنَّسِيئَةِ فَإِنْ نَهَاهُ عِنْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بِالنَّسِيئَةِ؛؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ حَصَلَ مُقَيَّدًا فَيَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ الْقَيْدِ مُتَأَخِّرًا إذَا كَانَ التَّقْيِيدُ مُفِيدًا، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّقْيِيدِ مُفِيدٌ وَلَوْ نَهَاهُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعَقْدِ، لَمْ يَصِحَّ نَهْيُهُ؛؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ الْمُتَرَاخِيَ إبْطَالٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ، كَالتَّخْصِيصِ الْمُتَرَاخِي عَنْ النَّصِّ الْعَامِّ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا، حَتَّى جَعَلُوهُ فَسْخًا لَا بَيَانًا، وَإِذَا كَانَ إبْطَالًا لَا يَمْلِكُهُ الرَّاهِنُ كَمَا لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ الْوَكَالَةِ الثَّابِتَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ بِالْعَزْلِ، ثُمَّ إذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ، خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ رَهْنًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي وَصَارَ ثَمَنُهُ هُوَ الرَّهْنَ؛؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَهُ سَوَاءٌ كَانَ مَقْبُوضًا أَوْ غَيْرَ مَقْبُوضٍ، حَتَّى لَوْ تَوِيَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، كَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَيُهْلِكُ بِالْأَقَلِّ مِنْ قَدْرِ الثَّمَنِ وَمِنْ الدَّيْنِ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ الْمَبِيعِ بَلْ يُنْظَر إلَى الثَّمَنِ بَعْدَ الْبَيْعِ؛؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ انْتَقَلَ إلَى الثَّمَنِ، وَخَرَجَ الْمَبِيعُ عَنْ كَوْنِهِ رَهْنًا فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الرَّهْنِ، ثُمَّ إنْ بَاعَهُ بِجِنْسِ الدَّيْنِ، قَضَى دَيْنَ الْمُرْتَهِنِ مِنْهُ، وَإِنْ بَاعَهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ، بَاعَ الثَّمَنَ بِجِنْسِ الدَّيْنِ وَقَضَى الدَّيْنَ مِنْهُ؛؛ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ جِنْسِهِ يَكُونُ وَلَوْ بَاعَ الْعَدْل الرَّهْن ثُمَّ اُسْتُحِقَّ فِي يَد الْمُشْتَرِي، فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْعَدْلِ؛؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ هُوَ وَحُقُوقُ الْعَقْدِ فِي بَابِ الْبَيْعِ تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ، وَالْعَدْلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ يَسْتَرِدُّ مِنْ الْمُرْتَهِنِ مَا أَوْفَاهُ مِنْ الثَّمَنِ وَعَادَ دَيْنُهُ عَلَى الرَّاهِنِ كَمَا كَانَ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الرَّاهِنِ وَسَلَّمَ لِلْمُرْتَهِنِ مَا قَبَضَ. (أَمَّا) وِلَايَةُ اسْتِرْدَادِ الثَّمَنِ مِنْ الْمُرْتَهِنِ؛ فَلِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ بَطَلَ بِالِاسْتِحْقَاقِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ مِنْ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَصِحَّ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْهُ، وَإِذَا اسْتَرَدَّهُ، عَادَ الدَّيْنُ عَلَى حَالِهِ. (وَأَمَّا) الرُّجُوعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الرَّاهِنِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْعُهْدَةِ عَلَيْهِ، وَإِذَا رَجَعَ عَلَيْهِ، سَلَّمَ لِلْمُرْتَهِنِ مَا قَبَضَهُ؛؛ لِأَنَّهُ صَحَّ قَبْضُهُ، هَذَا إذَا سَلَّمَ الثَّمَنَ إلَى الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ كَانَ هَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَّا عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُ الرَّاهِنِ بِالْبَيْعِ عَامِلٌ لَهُ، فَكَانَ عُهْدَةُ عَمَلِهِ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ لَا عَلَى غَيْرِهِ، إلَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، فَإِذَا لَمْ يَقْبِضْ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ فَيَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا ضَمِنَ، وَبَطَلَ الرَّهْنُ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ بِدَيْنِهِ عَلَى الرَّاهِنِ. وَلَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الرَّهْنَ وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْعَدْلِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْبَيْعِ وَأَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ، وَالْعَاقِدُ هُوَ الْعَدْلُ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ وَيَسْتَرِدُّ مِنْهُ الثَّمَنُ الَّذِي أَعْطَاهُ، وَالْعَدْلُ بِالْخِيَارِ إنْ كَانَ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، إنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ إنْ كَانَ سَلَّمَ الثَّمَنَ إلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ أَمَّا عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ فَلِأَنَّهُ إذَا رَدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَقَدْ انْفَسَخَ الْبَيْعُ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ وَعَادَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ عَلَى الرَّاهِنِ، وَعَادَ الرَّهْنُ الْمَرْدُودُ رَهْنًا بِالدَّيْنِ. (وَأَمَّا) الرُّجُوعُ عَلَى الرَّاهِنِ؛ فَلِأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْعُهْدَةِ، وَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ لَمْ يُعْطِ الْمُرْتَهِنَ الثَّمَنَ فَإِنْ رَدَّ الْعَدْلُ مَا قَبْضَ مِنْ الثَّمَنِ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَى

أَحَدٍ، وَإِنْ كَانَ هَلَكَ فِي يَدِهِ وَضَمِنَ فِي مَالِهِ، يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الرَّاهِنِ خَاصَّةً دُونَ الْمُرْتَهِنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَيَكُونُ الْمَرْدُودُ رَهْنًا كَمَا كَانَ، هَذَا إذَا كَانَ بَيْعُ الْعَدْلِ بِتَسْلِيطٍ مَشْرُوطٍ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بِتَسْلِيطٍ وُجِدَ مِنْ الرَّاهِنِ بَعْدَ الرَّهْنِ، فَإِنَّ الْعَدْلَ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الرَّاهِنِ لَا عَلَى الْمُرْتَهِنِ، سَوَاءٌ قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ؛؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُ الرَّاهِنِ، وَعُهْدَةُ الْوَكِيلِ فِيمَا وُكِّلَ بِهِ عَلَى مُوَكِّلِهِ فِي الْأَصْلِ؛؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ، فَكَانَ عُهْدَةُ عَمَلِهِ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ التَّسْلِيطَ إذَا كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ، يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهَذِهِ الْوَكَالَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ لِحَقِّهِ، جَازَ أَنْ يَرْجِعَ بِالضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِيهِ، لَمْ يَثْبُتْ التَّعْلِيقُ فَبَقِيَ حَقُّ الرُّجُوعِ بِالْعُهْدَةِ عَلَى الْمُوَكِّلِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، وَلِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ الزَّوَائِدَ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنْ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهَا مَرْهُونَةٌ تَبَعًا لِلْأَصْلِ؛ لِثُبُوتِ حُكْمِ الرَّهْنِ فِيهَا، وَهُوَ حَقُّ الْحَبْسِ تَبَعًا فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا كَمَا لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَصْلَ وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَدْفُوعُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الرَّهْنِ بِأَنْ قَتَلَ الرَّهْنِ أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ فَدُفِعَ بِهِ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَهُ؛ لِأَنَّ الثَّانِي قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ لَحْمًا وَدَمًا، فَصَارَ كَأَنَّ الْأَوَّلَ قَائِمٌ، وَلِلْعَدْلِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْبَيْعِ، وَإِذَا امْتَنَعَ، لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ التَّسْلِيطُ عَلَى الْبَيْعِ بَعْدَ الرَّهْنِ وَإِنْ كَانَ فِي الرَّهْنِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْهُ. وَلَوْ امْتَنَعَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيطَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي الرَّهْنِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فَكَانَ تَوْكِيلًا مَحْضًا بِالْبَيْعِ، فَأَشْبَهَ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَإِذَا كَانَ مَشْرُوطًا فِيهِ كَانَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقًا بِهِ فَلَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى الْبَيْعِ؛ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَنْ يَصْلُحُ عَدْلًا فِي الرَّهْنِ وَمَنْ لَا يَصْلُحُ: فَالْمَوْلَى لَا يَصْلُحُ عَدْلًا فِي رَهْنِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ، حَتَّى لَوْ رَهَنَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ عَلَى أَنْ يَضَعَ عَلَى يَدِ مَوْلَاهُ، لَمْ يَجُزْ الرَّهْنُ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَالْعَبْدُ يَصْلُحُ عَدْلًا فِي رَهْنِ مَوْلَاهُ، حَتَّى لَوْ رَهَنَ إنْسَانٌ شَيْئًا عَلَى أَنْ يَضَعَ فِي يَدِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ، يَصِحُّ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ فَيَصِيرُ الْعَدْلُ وَكِيلًا فِي اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، وَالْمَوْلَى لَا يَصْلُحُ وَكِيلَ الْأَجْنَبِيِّ فِي اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ مَنْ يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ، وَاسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ عَبْدِهِ عَمَلٌ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ فَرَاغِ رَقَبَةِ عَبْدِهِ عَنْ شَغْلِ الدَّيْنِ، وَالْعَبْدُ يَصْلُحُ وَكِيلَ الْأَجْنَبِيِّ فِي اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَوْلَاهُ؛ لِذَلِكَ افْتَرَقَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَوْلَى يَصْلُحُ عَدْلًا فِي رَهْنِ مُكَاتَبِهِ، وَالْمُكَاتَبُ يَصْلُحُ عَدْلًا فِي رَهْنِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ حُرٌّ يَدًا، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْنَبِيًّا عَمَّا فِي يَدِ الْآخَرِ، وَالْمَكْفُولُ عَنْهُ لَا يَصْلُحُ عَدْلًا فِي رَهْنِ الْكَفِيلِ، وَكَذَا الْكَفِيلُ لَا يَصْلُحُ عَدْلًا فِي رَهْنِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَصْلُحُ وَكِيلًا فِي اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ، أَمَّا الْمَكْفُولُ عَنْهُ فَبِتَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ عَنْ الدَّيْنِ. (وَأَمَّا) الْكَفِيلُ فَبِتَخْلِيصِ نَفَسِهِ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ، وَأَحَدُ شَرِيكَيْ الْمُفَاوَضَةِ لَا يَصْلُحُ عَدْلًا فِي رَهْنِ صَاحِبِهِ بِدَيْنِ التِّجَارَةِ؛؛ لِأَنَّ يَدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدُ صَاحِبِهِ، فَكَانَ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ؛ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ خُرُوجُ الرَّهْنِ مِنْ يَدِ الرَّاهِنِ، وَإِنَّهُ شَرْطُ صِحَّةِ الرَّهْنِ، وَكَذَا أَحَدُ شَرِيكَيْ الْعَنَانِ فِي التِّجَارَةِ لَا يَصْلُحُ عَدْلًا فِي رَهْنِ صَاحِبِهِ بِدَيْنِ التِّجَارَةِ؛ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ التِّجَارَةِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الشَّرِيكَيْنِ جَمِيعًا؛؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْنَبِيٌّ عَنْ صَاحِبِهِ فِي غَيْرِ دَيْنِ التِّجَارَةِ، فَلَمْ تَكُنْ يَدُهُ كَيَدِ صَاحِبِهِ فَوُجِدَ خُرُوجُ الرَّهْنِ مِنْ يَدِ الرَّاهِنِ. وَرَبُّ الْمَالِ لَا يَصْلُحُ عَدْلًا فِي رَهْنِ الْمُضَارِبِ وَلَا الْمُضَارِبُ فِي رَهْنِ رَبِّ الْمَالِ، حَتَّى لَوْ رَهَنَ الْمُضَارِبُ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِدَيْنٍ فِي الْمُضَارَبَةِ، عَلَى أَنْ يَضَعَهُ عَلَى يَدِ رَبِّ الْمَالِ، أَوْ رَهَنَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى أَنْ يَضَعَهُ عَلَى يَدِ الْمُضَارِبِ لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ؛؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُضَارِبِ يَدٌ لِرَبِّ الْمَالِ، وَعَمَلُ رَبِّ الْمَالِ كَعَمَلِ الْمُضَارِبِ؛ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ خُرُوجُ الرَّهْنِ مِنْ يَدِ الرَّاهِنِ؛ فَلَمْ يَجُزْ الرَّهْنُ وَالْأَبُ لَا يَصْلُحُ عَدْلًا فِي رَهْنِهِ بِثَمَنِ مَا اشْتَرَى لِلصَّغِيرِ، بِأَنْ اشْتَرَى الْأَبُ لِلصَّغِيرِ شَيْئًا، وَرَهَنَ بِثَمَنِ مَا اشْتَرَى لَهُ عَلَى أَنْ يَضَعَهُ عَلَى يَدِ نَفَسِهِ فَالشِّرَاءُ جَائِزٌ وَالرَّهْنُ بَاطِلٌ؛؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ عَلَى أَنْ يَضَعَهُ فِي يَدِ نَفَسِهِ، فَقَدْ شَرَطَ عَلَى أَنْ لَا يَخْرُجَ الرَّهْنُ مِنْ يَدِ الرَّاهِنِ، وَإِنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ؛ فَيَفْسُدُ الرَّهْنُ، وَهَلْ يَصْلُحُ الرَّاهِنُ عَدْلًا فِي الرَّهْنِ؟ فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ لَمْ يُقْبَضْ مِنْ يَدِهِ بَعْدُ، لَا يَصْلُحُ، حَتَّى لَوْ شَرَطَ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ، فَسَدَ الْعَقْدُ؛؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمُرْتَهِنِ شَرْطُ صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْقَبْضُ إلَّا بِخُرُوجِ الرَّهْنِ مِنْ يَدِ الرَّاهِنِ، فَكَانَ شَرْطُ كَوْنِهِ فِي يَدِهِ شَرْطًا فَاسِدًا فَيَفْسُدُ الرَّهْنُ، وَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ ثُمَّ وَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، جَازَ بَيْعُهُ؛؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ صَحَّ بِالْقَبْضِ، وَالْبَيْعُ تَصَرُّفٌ مِنْ الرَّاهِنِ

فِي مِلْكِهِ، فَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ هُوَ النَّفَاذَ، وَالتَّوَقُّفُ كَانَ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، فَإِذَا رَضِيَ بِهِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيَنْفُذُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَنْعَزِلُ بِهِ الْعَدْلُ وَيَخْرُجُ عَنْ الْوَكَالَةِ وَمَا لَا يَنْعَزِلُ، فَنَقُولُ: التَّسْلِيطُ عَلَى الْبَيْعِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ. فَإِنْ كَانَ فِي الْعَقْدِ فَعَزَلَ الرَّاهِنُ الْعَدْلَ؛ لَا يَنْعَزِلُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ إذَا كَانَتْ فِي الْعَقْدِ كَانَتْ تَابِعَةً لِلْعَقْدِ، فَكَانَتْ لَازِمَةً بِالْعَقْدِ، فَلَا يَنْفَرِدُ الرَّاهِنُ بِفَسْخِهَا كَمَا لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الْعَقْدِ، وَكَذَا لَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ وَلَا بِمَوْتِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَكَالَةَ الثَّابِتَةَ فِي الْعَقْدِ مِنْ تَوَابِعِ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَكَذَا مَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِهِ، وَإِنْ كَانَ التَّسْلِيطُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعَقْدِ فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَعْزِلَهُ، وَيَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيطَ الْمُتَأَخِّرَ عَنْ الْعَقْدِ تَوْكِيلٌ مُبْتَدَأٌ، فَيَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِعَزْلِ الْمُوَكِّلِ وَمَوْتِهِ وَسَائِرِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا جُمْلَةَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّسْلِيطَ الطَّارِئَ عَلَى الْعَقْدِ وَالْمُقَارِنَ إيَّاهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَحِقُ بِالْعَقْدِ فَيَصِيرُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيطَ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَ الْعَقْدِ حَقِيقَةً، وَجَعْلُ الْمَعْدُومِ حَقِيقَةً مَوْجُودًا تَقْدِيرًا؛ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَمْ يُوجَدْ، وَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِمَوْتِ الْعَدْلِ سَوَاءٌ كَانَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ أَوْ فِي الْعَقْدِ، وَلَا يَقُومُ وَارِثُهُ وَلَا وَصِيُّهُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تُورَثُ؛ وَلِأَنَّ الرَّاهِنَ رَضِيَ بِهِ وَلَمْ يَرْضَ بِغَيْرِهِ، فَإِذَا مَاتَ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ لَكِنْ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ، وَيُوضَعُ الرَّهْنُ فِي يَدِ عَدْلٍ آخَرَ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ جَازَ الْوَضْعُ فِي يَدِ الْأَوَّلِ فِي الِابْتِدَاءِ بِتَرَاضِيهِمَا، فَكَذَا فِي يَدِ الثَّانِي فِي الِانْتِهَاءِ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ نَصَّبَ الْقَاضِي عَدْلًا وَوَضَعَ الرَّهْنَ عَلَى يَدِهِ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ، وَلَيْسَ لِلْعَدْلِ الثَّانِي أَنْ يَبِيعَ إلَّا أَنْ يَمُوتَ الرَّاهِنُ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ سَلَّطَ الْأَوَّلَ لَا الثَّانِيَ. وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ نَفَقَةُ الرَّاهِنِ أَنَّهَا عَلَى الرَّاهِنِ لَا عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ فَهُوَ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ، وَمَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْيَدِ فَهُوَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ إذَا عُرِفَ هَذَا، فَنَقُولُ: الرَّهْنُ إذَا كَانَ رَقِيقًا فَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ وَكِسْوَتُهُ عَلَى الرَّاهِنِ، وَكَفَنُهُ عَلَيْهِ وَأُجْرَةُ ظِئْرِ وَلَدِ الرَّهْنِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً فَالْعَلَفُ وَأُجْرَةُ الرَّاعِي عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بُسْتَانًا فَسَقْيُهُ وَتَلْقِيحُ نَخْلِهِ وَجِدَادُهُ وَالْقِيَامُ بِمَصَالِحِهِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ فَضْلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ، وَمُؤْنَاتُ الْمِلْكِ عَلَى الْمَالِكِ، وَالْمِلْكُ لِلرَّاهِنِ فَكَانَتْ الْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ وَالْخَرَاجُ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ. (وَأَمَّا) الْعُشْرُ: فَفِي الْخَارِجِ يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي الْبَاقِي، بِخِلَافِ مَا إذَا اُسْتُحِقَّ بَعْضُ الرَّهْنِ شَائِعًا، أَنَّهُ يَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي الْبَاقِي. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْفَسَادَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ لِمَكَانِ الشُّيُوعِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ الرَّهْنَ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ لَمْ يَصِحَّ، وَالْبَاقِي شَائِعٌ وَالشِّيَاعُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ بِخِلَافِ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ فِي الْخَارِجِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ مِلْكِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيَجُوزُ لَهُ الْأَدَاءُ مِنْ غَيْرِهِ، فَكَانَ الدَّفْعُ إلَى الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ إخْرَاجِ الشَّيْءِ عَنْ مِلْكِهِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الشُّيُوعِ فَهُوَ الْفَرْقُ. وَلَوْ كَانَ فِي الرَّهْنِ نَمَاءٌ فَأَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يَجْعَلَ النَّفَقَةَ، الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا عَلَيْهِ، فِي نَمَاءِ الرَّهْنِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ زَوَائِدَ الْمَرْهُونِ مَرْهُونَةٌ عِنْدَنَا تَبَعًا لِلْأَصْلِ، فَلَا يَمْلِكُ الْإِنْفَاقَ مِنْهَا، كَمَا لَا يَمْلِكُ الْإِنْفَاقَ مِنْ الْأَصْلِ، وَالْحِفْظُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، حَتَّى لَوْ شَرَطَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ أَجْرًا عَلَى حِفْظِهِ فَحَفِظَ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ حِفْظَ الرَّهْنِ عَلَيْهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِإِتْيَانِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمُودِعِ إذَا شَرَطَ لِلْمُودَعِ أَجْرًا عَلَى حِفْظِ الْوَدِيعَةِ أَنَّ لَهُ الْأَجْرَ؛ لِأَنَّ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ؛ فَجَازَ شَرْطُ الْأَجْرِ، وَأُجْرَةُ الْحَافِظِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مُؤْنَةُ الْحِفْظِ وَالْحِفْظُ عَلَيْهِ. وَكَذَا أُجْرَةُ الْمَسْكَنِ وَالْمَأْوَى؛ لِمَا قُلْنَا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ كِرَاءَ الْمَأْوَى عَلَى الرَّاهِنِ، وَجُعْلُهُ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ، وَجُعْلُ الْآبِقِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ وَالْفَضْلُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى الْمَالِكِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ وَالدَّيْنِ سَوَاءً أَوْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَقَلَّ فَالْجُعْلُ كُلُّهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ فَبِقَدْرِ الدَّيْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَبِقَدْرِ الزِّيَادَةِ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجُعْلِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِكَوْنِ الْمَرْهُونِ مَضْمُونًا وَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِقَدْرِ الدَّيْنِ وَالْفَضْلُ أَمَانَةٌ فَانْقَسَمَ الْجُعْلُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ الْأَمَانَةِ وَالضَّمَانِ، بِخِلَافِ أُجْرَةِ الْمَسْكَنِ أَنَّهَا عَلَى الْمُرْتَهِنِ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ فَضْلٌ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِكَوْنِهَا مُؤْنَةَ الْحِفْظِ، وَكُلُّ الْمَرْهُونِ مَحْفُوظٌ بِحِفْظِهِ فَكَانَ كُلُّ الْمُؤْنَةِ عَلَيْهِ فَأَمَّا الْجُعْلُ فَإِنَّمَا لَزِمَهُ؛ لِكَوْنِ الْمَرْدُودِ مَضْمُونًا

وَالْمَضْمُونُ بَعْضُهُ لَا كُلُّهُ، فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّمَانِ وَالْفِدَاءِ مِنْ الْجِنَايَةِ، وَالدَّيْنُ الَّذِي يَلْحَقُهُ الرَّهْنُ بِمَنْزِلَةِ جُعْلِ الْآبِقِ يَنْقَسِمُ عَلَى الْمَضْمُونِ وَالْأَمَانَةِ، وَكَذَلِكَ مُدَاوَاةُ الْجُرُوحِ وَالْقُرُوحِ وَالْأَمْرَاضِ تَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ الضَّمَانِ وَالْأَمَانَةِ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ الْمُدَاوَاةَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مِنْ بَابِ إحْيَاءِ حَقِّهِ وَهُوَ الدَّيْنُ وَكُلُّ مَا وَجَبَ عَلَى الرَّاهِنِ فَأَدَّاهُ الْمُرْتَهِنُ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَوْ وَجَبَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَأَدَّاهُ الْمُرْتَهِنُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَهُوَ مَقْطُوعٌ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنْ فَعَلَ بِأَمْرِ الْقَاضِي يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَهُ وِلَايَةُ حِفْظِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَصِيَانَتِهَا عَنْ الْهَلَاكِ، وَالْإِذْنُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى وَجْهٍ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا أَنْفَقَ طَرِيقُ صِيَانَةِ الْمَالَيْنِ، وَكَذَا إذَا فَعَلَ أَحَدُهُمَا بِأَمْرِ صَاحِبِهِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ وَكِيلًا عَنْهُ بِالْإِنْفَاقِ. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الرَّاهِنَ إنْ كَانَ غَائِبًا فَأَنْفَقَ الْمُرْتَهِنُ بِأَمْرِ الْقَاضِي، يَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَرْجِعُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَلِي عَلَى الْحَاضِرِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَلِي عَلَيْهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ وَسَتَأْتِي فِي كِتَابِ الْحَجْرِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ زَوَائِدُ الرَّهْنِ أَنَّهَا مَرْهُونَةٌ عِنْدَنَا. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي زَوَائِدِ الرَّهْنِ أَنَّهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: زِيَادَةٍ غَيْرِ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْأَصْلِ، وَلَا فِي حُكْمِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ، كَالْكَسْبِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَزِيَادَةٍ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْأَصْلِ، كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ، أَوْ فِي حُكْمِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ الْأَصْلِ، كَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الزِّيَادَةَ الْأُولَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَرْهُونَةٍ بِنَفْسِهَا، وَلَا هِيَ بَدَلُ الْمَرْهُونَةِ وَلَا جُزْءٌ مِنْهُ وَلَا بَدَلُ جُزْءٍ مِنْهُ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا حُكْمُ الرَّهْنِ، وَاخْتُلِفَ فِي الزِّيَادَةِ الثَّانِيَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إنَّهَا مَرْهُونَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَيْسَتْ بِمَرْهُونَةٍ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلرَّهْنِ عِنْدَهُ هُوَ كَوْنُ الْمُرْتَهِنِ أَخَصَّ بِبَيْعِ الْمَرْهُونِ، وَأَحَقَّ بِثَمَنِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، فَقَبْلَ الْبَيْعِ لَا حَقَّ لَهُ فِي الرَّهْنِ حَتَّى يَسْرِيَ إلَى الْوَلَدِ؛ فَأَشْبَهَ وَلَدَ الْجَارِيَةِ إذَا جَنَتْ ثُمَّ وَلَدَتْ، أَنَّ حُكْمَ الْجِنَايَةِ لَا يَثْبُتُ فِي وَلَدِهَا؛ لِمَا أَنَّ حُكْمَ جِنَايَةِ الْأُمِّ هُوَ وُجُوبُ الدَّفْعِ إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْنًى ثَابِتٍ فِي الْأُمِّ فَلَمْ يَسْرِ إلَى الْوَلَدِ كَذَا هَذَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ مَرْهُونَةً أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ. وَلَوْ كَانَتْ مَرْهُونَةً؛ لَكَانَتْ مَضْمُونَةً كَالْأَصْلِ، وَعِنْدَنَا حَقُّ الْحَبْسِ حُكْمٌ أَصْلِيٌّ لِلرَّهْنِ أَيْضًا وَهَذَا الْحَقُّ ثَابِتٌ فِي الْأُمِّ فَيَثْبُتُ فِي الْوَلَدِ تَبَعًا لِلْأُمِّ، إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ؛ لِثُبُوتِ حُكْمِ الرَّهْنِ فِيهَا تَبَعًا لِلْأَصْلِ فَكَانَتْ مَرْهُونَةً تَبَعًا لَا أَصْلًا، كَوَلَدِ الْمَبِيعِ أَنَّهُ مَبِيعٌ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَكِنْ تَبَعًا لَا أَصْلًا، فَلَا يَكُونُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ؛ إلَّا إذَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْقَبْضِ، فَكَذَا الْمَرْهُونُ تَبَعًا لَا يَكُونُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الضَّمَانِ؛ إلَّا إذَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْفِكَاكِ، وَإِذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ مَرْهُونَةً عِنْدَنَا، كَانَتْ مَحْبُوسَةً مَعَ الْأَصْلِ بِكُلِّ الدَّيْنِ، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَفْتَكَّ أَحَدَهُمَا إلَّا بِقَضَاءِ الدَّيْنِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرْهُونٌ، وَالْمَرْهُونُ مَحْبُوسٌ كُلُّهُ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الدَّيْنِ؛ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَنْقَسِمُ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصْلِ، وَالزِّيَادَةِ عَلَى تَقْدِيرِ بَقَائِهَا إلَى وَقْتِ الْفِكَاكِ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا، لَكِنْ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْأَصْلِ يَوْمَ الْعَقْدِ، وَقِيمَةُ الزِّيَادَةِ يَوْمَ الْفِكَاكِ وَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الزِّيَادَةُ عَلَى الرَّهْنِ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ جَائِزَةً عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْبِسَهُمَا جَمِيعًا بِالدَّيْنِ، وَلَا سَبِيلَ لِلرَّاهِنِ عَلَى أَحَدِهِمَا مَا لَمْ يَقْبِضْ جَمِيعَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرْهُونٌ، وَيُقْسَمُ الدَّيْنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا، إلَّا أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الرَّهْنِ الْأَصْلِيِّ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَقِيمَةُ الزِّيَادَةِ وَقْتَ الزِّيَادَةِ، وَأَيُّهُمَا هَلَكَ؛ يَهْلِكُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الرَّهْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الزِّيَادَتَيْنِ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ هَذَا الْحُكْمِ فَنَوْعَانِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ حَبْسِ الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ الَّذِي رَهَنَ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ بِدَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى الرَّاهِنِ قَبْلَ الرَّهْنِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مَرْهُونٌ بِهَذَا الدَّيْنِ لَا بِدَيْنٍ آخَرَ، فَلَا يَمْلِكُ حَبْسَهُ بِدَيْنٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ لَا رَهْنَ بِهِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْمَرْهُونَ مَحْبُوسٌ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ الَّذِي رَهَنَ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ أَوْ أَقَلَّ، حَتَّى لَوْ قَضَى الرَّاهِنُ بَعْضَ الدَّيْنِ، كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْبِسَ كُلَّ الرَّهْنِ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا بَقِيَ، قَلَّ الْبَاقِي أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ فِي حَقِّ مِلْكِ الْحَبْسِ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ، فَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بَقِيَ مَحْبُوسًا بِهِ، كَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمَّا كَانَ مَحْبُوسًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بَقِيَ مَحْبُوسًا بِهِ كَذَا هَذَا؛ وَلِأَنَّ صَفْقَةَ الرَّهْنِ وَاحِدَةٌ فَاسْتِرْدَادُ شَيْءٍ مِنْ الْمَرْهُونِ بِقَضَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ يَتَضَمَّنُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَا

الْمُرْتَهِنِ؛ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَرْهُونُ شَيْئًا وَاحِدًا أَوْ أَشْيَاءَ، لَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَرِدَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِقَضَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَسَوَاءٌ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا مِنْ الْمَالِ الَّذِي رَهَنَ بِهِ أَوْ لَمْ يُسَمِّ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ فِيمَنْ رَهَنَ مِائَةَ شَاةٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، عَلَى أَنَّ كُلَّ شَاةٍ مِنْهُمْ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَأَدَّى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ شَاةً. ذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمَا ذُكِرَ فِي الزِّيَادَاتِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ عَنْ مُحَمَّدٍ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَمَّا سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنًا مُتَفَرِّقًا؛ أَوْجَبَ ذَلِكَ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ رَهَنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهَا أُضِيفَتْ إلَى الْكُلِّ إضَافَةً وَاحِدَةً، إلَّا أَنَّهُ تَفَرَّقَتْ التَّسْمِيَةُ، وَتَفْرِيقُ التَّسْمِيَةِ لَا يُوجِبُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ إذَا اشْتَمَلَتْ الصَّفْقَةُ عَلَى أَشْيَاءَ كَانَ لِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ كُلِّهَا إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ الثَّمَنِ، وَإِنْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا عَلَى حِدَةٍ كَذَا هَذَا. (وَأَمَّا) الْحُكْمُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِصَاصُ الْمُرْتَهِنِ بِبَيْعِ الْمَرْهُونِ لَهُ، وَاخْتِصَاصُهُ بِثَمَنِهِ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إذَا بِيعَ الرَّهْنُ فِي حَالِ حَيَاةِ الرَّاهِنِ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ أُخَرُ، فَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِثَمَنِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ بِعَقْدِ الرَّهْنِ ثَبَتَ لَهُ الِاخْتِصَاصُ بِالْمَرْهُونِ؛ فَيَثْبُتُ لَهُ الِاخْتِصَاصُ بِبَدَلِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ، ثُمَّ إنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا وَالثَّمَنُ مِنْ جِنْسِهِ، فَقَدْ اسْتَوْفَاهُ؛ إنْ كَانَ فِي الثَّمَنِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ، رَدَّهُ عَلَى الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَ أَنْقَصَ مِنْ الدَّيْنِ، يَرْجِعْ الْمُرْتَهِنُ بِفَضْلِ الدَّيْنِ عَلَى الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا حُبِسَ الثَّمَنُ إلَى وَقْتِ حُلُولِ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَرْهُونِ فَيَكُونُ مَرْهُونًا، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، صَارَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ، يَحْبِسُهُ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ كُلَّهُ، وَكَذَلِكَ إذَا بِيعَ الرَّهْنُ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّاهِنِ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ وَلَمْ يَخْلُفْ مَالًا آخَرَ سِوَى الرَّهْنِ، كَانَ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِثَمَنِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ، يُضَمُّ الْفَضْلُ إلَى مَالِ الرَّاهِنِ وَيُقْسَمُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْفَضْلِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْ الدَّيْنِ، يَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ بِمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِ فِي مَالِ الرَّاهِنِ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْفَضْلِ مِنْ الدَّيْنِ دَيْنٌ لَا رَهْنَ بِهِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْغُرَمَاءُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَى الرَّاهِنِ دَيْنٌ آخَرُ، كَانَ الْمُرْتَهِنُ فِيهِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الدَّيْنَ لَا رَهْنَ بِهِ فَيَتَضَارَبُ فِيهِ الْغُرَمَاءُ كُلُّهُمْ. (وَأَمَّا) الْحُكْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ وُجُوبُ تَسْلِيمِ الْمَرْهُونِ عِنْدَ الِافْتِكَاكِ، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَعْرِفَةُ وَقْتِ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَنَقُولُ: وَقْتُ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ مَا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، يَقْضِي الدَّيْنَ أَوَّلًا ثُمَّ يُسَلِّمُ الرَّهْنَ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ، وَفِي تَقْدِيمِ تَسْلِيمِهِ إبْطَالُ الْوَثِيقَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ الرَّهْنَ أَوَّلًا فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَمُوتَ الرَّاهِنُ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ؛ فَيَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ كَوَاحِدٍ مِنْ الْغُرَمَاءِ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ، فَلَزِمَ تَقْدِيمُ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَلَى تَسْلِيمِ الرَّهْنِ، إلَّا أَنَّ الْمُرْتَهِنَ إذَا طَلَبَ الدَّيْنَ، يُؤْمَرُ بِإِحْضَارِ الرَّهْنِ أَوَّلًا وَيُقَالُ لَهُ: أَحْضِرْ الرَّهْنَ؛ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِحْضَارِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ زَائِدٍ، ثُمَّ يُخَاطَبُ الرَّاهِنُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خُوطِبَ بِقَضَائِهِ مِنْ غَيْرِ إحْضَارِ الرَّهْنِ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الرَّهْنَ قَدْ هَلَكَ وَصَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ مِنْ الرَّهْنِ فَيُؤَدِّي إلَى الِاسْتِيفَاءِ مَرَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ أَوَّلًا؛ إذَا كَانَ دَيْنًا، ثُمَّ يُؤْمَرُ الْبَائِعُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، إلَّا أَنَّ الْبَائِعَ إذَا طَالَبَهُ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ، يُقَالُ لَهُ: أَحْضِرْ الْمَبِيعَ؛ لِجَوَازِ أَنَّ الْمَبِيعَ قَدْ هَلَكَ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَيْنُ الرَّهْنِ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، أَوْ كَانَ فِي يَدِهِ بَدَلُهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْبَدَلُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الدَّيْنِ، نَحْوُ مَا إذَا كَانَ الْمُرْتَهِنُ مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ فَبَاعَهُ بِخِلَافِ جِنْسِ الدَّيْنِ أَوْ قُتِلَ الرَّهْنُ خَطَأً، وَقُضِيَ بِالدِّيَةِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الدَّيْنِ، فَطَالَبَهُ الْمُرْتَهِنُ بِدَيْنِهِ كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ لَا يَدْفَعَ حَتَّى يُحْضِرَهُ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُبْدَلِ فَكَانَ الْمُبْدَلُ قَائِمًا. وَلَوْ كَانَ قَائِمًا، كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَا لَمْ يُحْضِرْهُ الْمُرْتَهِنُ فَكَذَلِكَ إذَا قَامَ الْبَدَلُ مَقَامَهُ. وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ وَجَعَلَا لِلْعَدْلِ أَنْ يَضَعَهُ عِنْدَ مَنْ أَحَبَّ وَقَدْ وَضَعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ، فَطَلَبَ الْمُرْتَهِنُ دَيْنَهُ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَا يُكَلَّفُ الْمُرْتَهِنُ بِإِحْضَارِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ عَلَى الرَّاهِنِ عَلَى سَبِيلِ التَّضْيِيقِ، إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ التَّأْخِيرُ إلَى غَايَةِ إحْضَارِ الدَّيْنِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِحْضَارِ، وَهُنَا لَا قُدْرَةَ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى إحْضَارِهِ؛ لِأَنَّ لِلْعَدْلِ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْهُ. وَلَوْ أُخِذَ مِنْ يَدِهِ جَبْرًا، كَانَ غَاصِبًا

فصل في ما يتعلق بحال هلاك المرهون

وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: كَيْفَ يُؤْمَرُ بِإِحْضَارِ شَيْءٍ لَوْ أَخَذَهُ كَانَ غَاصِبًا؟ وَإِذَا سَقَطَ التَّكْلِيفُ بِالْإِحْضَارِ، زَالَتْ الرُّخْصَةُ فَيُخَاطَبُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَا الرَّهْنَ عَلَى يَدِ عَدْلٍ، فَغَابَ الْعَدْلُ بِالرَّهْنِ وَلَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ، لَا يُكَلَّفُ الْمُرْتَهِنُ بِإِحْضَارِ الرَّهْنِ، وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَالْتَقَيَا فِي بَلَدٍ آخَرَ، فَطَالَبَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِمَّا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ، يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَلَا يُجْبَرُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى إحْضَارِ الرَّهْنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّضْيِيقِ وَالتَّأْخِيرِ إلَى وَقْتِ الْإِحْضَارِ لِلضَّرُورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِحْضَارِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ زَائِدٍ، وَالْمُرْتَهِنُ هُنَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِحْضَارِ إلَّا بِالْمُسَافَرَةِ بِالرَّهْنِ، أَوْ بِنَقْلِهِ مِنْ مَكَانِ الْعَقْدِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمُرْتَهِنِ فَسَقَطَ التَّكْلِيفُ بِالْإِحْضَارِ. وَلَوْ ادَّعَى الرَّاهِنُ هَلَاكَ الرَّهْنِ فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: لَمْ يَهْلِكْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ كَانَ قَائِمًا، وَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ بَقَاؤُهُ، فَالْمُرْتَهِنُ يَسْتَصْحِبُ حَالَةَ الْقِيَامِ، وَالرَّاهِنُ يَدَّعِي زَوَالَ تِلْكَ الْحَالَةِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْأَصْلَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ؛ وَلِأَنَّ الرَّاهِنَ بِدَعْوَى الْهَلَاكِ يَدَّعِي عَلَى الْمُرْتَهِنِ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ؛ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَيُحَلَّفُ عَلَى الْبَتَاتِ؛ لِأَنَّهُ يُحَلَّفُ عَلَى فِعْلِ نَفَسِهِ وَهُوَ الْقَبْضُ السَّابِقُ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِالْهَلَاكِ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ بَلْ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ وَذَلِكَ فِعْلُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الرَّهْنُ عِنْدَ عَدْلٍ فَغَابَ بِالرَّهْنِ؛ فَاخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فِي هَلَاكِ الرَّهْنِ أَنَّ هُنَاكَ يُحَلَّفُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْعِلْمِ لَا عَلَى الْبَتَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَحْلِيفٌ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ وَهُوَ قَبْضُ الْعَدْلِ فَتَعَذَّرَ التَّحْلِيفُ عَلَى الْبَتَاتِ فَيُحَلَّفُ عَلَى الْعِلْمِ، كَمَا لَوْ ادَّعَى الرَّاهِنُ أَنَّهُ أَوْفَى الدَّيْنَ وَكِيلُ الْمُرْتَهِنِ، وَالْمُرْتَهِنُ يُنْكِرُ، أَنَّهُ يُحَلَّفُ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مِمَّا لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ، فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُجْبَرُ مَا لَمْ يُحْضِرْ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إحْضَارِهِ ضَرَرٌ زَائِدٌ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ فِي الزِّيَادَاتِ. وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا وَلَمْ يَقْبِضْهُ وَلَمْ يُسَلِّمْ الثَّمَنَ حَتَّى لَقِيَهُ الْبَائِعُ فِي غَيْرِ مِصْرِهِ الَّذِي وَقَعَ الْبَيْعُ فِيهِ، فَطَالَبَهُ بِالثَّمَنِ وَأَبَى الْمُشْتَرِي حَتَّى يُحْضِرَ الْمَبِيعَ لَا يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ حَتَّى يُحْضِرَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فُرِّقَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ مَطْلُوبَةٌ عَادَةً وَشَرِيعَةً، وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ مِنْ غَيْرِ إحْضَارِ الْمَبِيعِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ مُطْلَقَةٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، فَلَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمَرْهُونِ وَالْمَرْهُونِ بِهِ وَهُوَ الدَّيْنُ فِي هَذَا الْحُكْمِ. [فَصْلٌ فِي مَا يَتَعَلَّق بحال هَلَاكِ الْمَرْهُونِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ هَلَاكِ الْمَرْهُونِ: فَالْمَرْهُونُ إذَا هَلَكَ، لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَهْلِكَ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا أَنْ يَهْلِكَ بِالِاسْتِهْلَاكِ، فَإِنْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ، يَهْلِكُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ عِنْدَنَا. وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا فِي بَيَانِ أَصْلِ الضَّمَانِ أَنَّهُ ثَابِتٌ أَمْ لَا، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ شَرَائِطِ الضَّمَانِ، وَالثَّالِثُ فِي بَيَانِ قَدْرِ الضَّمَانِ وَكَيْفِيَّتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: إنَّ الْمَرْهُونَ يَهْلِكُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَهْلِكُ أَمَانَةً احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ، لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ، لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ، هُوَ لِصَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - غُرْمَ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ غُرْمُهُ عَلَيْهِ إذَا هَلَكَ أَمَانَةً؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ، فَأَمَّا إذَا هَلَكَ مَضْمُونًا، كَانَ غُرْمُهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ حَيْثُ سَقَطَ حَقُّهُ، لَا عَلَى الرَّاهِنِ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ شُرِعَ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ. وَلَوْ سَقَطَ الدَّيْنُ بِهَلَاكِ الْمَرْهُونِ، لَكَانَ تَوْهِينًا لَا تَوْثِيقًا؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ تَعْرِيضُ الْحَقِّ لِلتَّلَفِ عَلَى تَقْدِيرِ هَلَاكِ الرَّهْنِ، فَكَانَ تَوْهِينًا لِلْحَقِّ لَا تَوْثِيقًا لَهُ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: الرِّهَانُ بِمَا فِيهَا» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ بِدَيْنٍ عِنْدَ رَجُلٍ فَرَسًا بِحَقٍّ لَهُ عَلَيْهِ، فَنَفَقَ الْفَرَسُ عِنْدَهُ؛ فَطَالَبَهُ الْمُرْتَهِنُ بِحَقِّهِ، فَاخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ذَهَبَ حَقُّكَ» ؛ وَلِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ جُعِلَ مُسْتَوْفِيًا لِلدَّيْنِ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ، فَلَا يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ ثَانِيًا كَمَا إذَا اسْتَوْفَى بِالْفِكَاكِ، وَتَقْرِيرُ مَعْنَى الِاسْتِيفَاءِ فِي الرَّهْنِ ذَكَرْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ

فصل في شرائط كون المرهون مضمونا عند الهلاك

فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ» أَيْ لَا يَهْلِكُ، إذْ الْغَلْقُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْهَلَاكِ، كَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ الْحَدِيثُ حُجَّةً عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِالدَّيْنِ؛ فَلَا يَكُونُ هَالِكًا مَعْنًى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَيْ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُرْتَهِنُ وَلَا يَمْلِكُهُ عِنْدَ امْتِنَاعِ الرَّاهِنِ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَهَذَا كَانَ حُكْمًا جَاهِلِيًّا، جَاءَ الْإِسْلَامُ فَأَبْطَلَهُ، وَقَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَيْهِ غُرْمُهُ، أَيْ نَفَقَتُهُ وَكَنَفُهُ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ: إنَّهُ وَثِيقَةٌ، قُلْنَا: مَعْنَى التَّوْثِيقِ فِي الرَّهْنِ هُوَ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ فِي أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ وِلَايَةُ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مُطْلَقِ مَالِهِ، وَبَعْدَ الرَّهْنِ حَدَثَتْ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِالْقَضَاءِ مِنْ مَالِهِ الْمُعَيَّنِ وَهُوَ الرَّهْنُ بِوَاسِطَةِ الْبَيْعِ فَازْدَادَ طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَى حَقِّهِ؛ فَحَصَلَ مَعْنَى التَّوْثِيقِ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ كَوْن الْمَرْهُون مَضْمُونًا عِنْدَ الْهَلَاكِ] (فَصْلٌ) : (وَأَمَّا) شَرَائِطُ كَوْنِهِ مَضْمُونًا عِنْدَ الْهَلَاكِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا قِيَامُ الدَّيْنِ، حَتَّى لَوْ سَقَطَ الدَّيْنُ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ هَلَكَ أَمَانَةً وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَبْرَأَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ عَنْ الدَّيْنِ، ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ يَهْلِكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِيهِ إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَنْعُ الرَّهْنِ مِنْ الرَّاهِنِ عِنْدَ طَلَبِهِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُضْمَنَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَلَوْ اسْتَوْفَى دَيْنَهُ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ، يَهْلِكُ بِالدَّيْنِ وَعَلَيْهِ بَدَلُ مَا اسْتَوْفَى، وَزُفَرُ سَوَّى بَيْنَ الْإِبْرَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ، وَنَحْنُ نُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ، وَيَتَقَرَّرُ ذَلِكَ الِاسْتِيفَاءُ عِنْدَ الْهَلَاكِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ، ثُمَّ أَبْرَأَ عَنْهُ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يُضْمَنُ كَذَا هَذَا؛ وَلِأَنَّ الْمَرْهُونَ لَمَّا صَارَ مَضْمُونًا بِالْقَبْضِ؛ يَبْقَى الضَّمَانُ مَا بَقِيَ الْقَبْضُ وَقَدْ بَقِيَ؛ لِانْعِدَامِ مَا يَنْقُضُهُ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ كَوْنَ الْمَرْهُونِ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ يَسْتَدْعِي قِيَامَ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ هُوَ ضَمَانُ الدَّيْنِ، وَقَدْ سَقَطَ بِالْإِبْرَاءِ؛ فَاسْتَحَالَ أَنْ يَبْقَى مَضْمُونًا بِهِ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إنَّ الِاسْتِيفَاءَ يَتَقَرَّرُ عِنْدَ الْهَلَاكِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: نَعَمْ؛ إذَا كَانَ الدَّيْنُ قَائِمًا، فَإِذَا سَقَطَ بِالْإِبْرَاءِ، لَا يُتَصَوَّرُ الِاسْتِيفَاءُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَوْفَى الدَّيْنَ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَائِمٌ وَالضَّمَانَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، فَيَبْقَى مَا بَقِيَ الْقَبْضُ، مَا لَمْ يُوجَدْ الْمُسْقِطُ، وَالِاسْتِيفَاءُ لَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ بَلْ يُقَرِّرُهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُسْقِطٌ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ فَلَا يَبْقَى الضَّمَانُ، فَهُوَ الْفَرْقُ، هَذَا إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُرْتَهِنِ مَنْعُ الرَّهْنِ مِنْ الرَّاهِنِ بَعْدَ طَلَبِهِ، فَإِنْ وُجِدَ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ، ضَمِنَ كُلَّ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا بِالْمَنْعِ، وَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونٌ بِكُلِّ الْقِيمَةِ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَخَذَتْ الْمَرْأَةُ بِصَدَاقِهَا رَهْنًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهَا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهَا فِي نِصْفِ الصَّدَاقِ الَّذِي سَقَطَ بِالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ مُسْتَوْفِيَةً لِذَلِكَ النِّصْفِ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ؛ لِسُقُوطِهِ بِالطَّلَاقِ فَلَمْ يَبْقَ الْقَبْضُ مَضْمُونًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَتْ بِالصَّدَاقِ رَهْنًا، ثُمَّ ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا حَتَّى سَقَطَ الصَّدَاقُ، ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ لَمَّا سَقَطَ بِالرِّدَّةِ لَمْ يَبْقَ الْقَبْضُ مَضْمُونًا، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَبْرَأَتْهُ عَنْ الصَّدَاقِ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهَا. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَهْرُ مُسَمًّى حَتَّى وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَأَخَذَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ رَهْنًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْمُتْعَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الرَّهْنَ بِالْمُتْعَةِ. وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهَا وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا مَنْعٌ يَهْلِكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَالْمُتْعَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى الزَّوْجِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهَا حَقُّ الْحَبْسِ بِالْمُتْعَةِ. وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الرَّهْنَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ هَلْ يَكُونُ رَهْنًا بِالْمُتْعَةِ؟ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَكُونُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ، وَلَمْ يُذْكَرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْأَصْلِ؛ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلَهُ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الرَّهْنَ بِالشَّيْءِ رَهْنٌ بِبَدَلِهِ فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ؛ لِهَذَا كَانَ الرَّهْنُ بِالْمَغْصُوبِ رَهْنًا بِقِيمَتِهِ عِنْدَ هَلَاكِهِ، وَالرَّهْنُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ رَهْنًا بِرَأْسِ الْمَالِ عِنْدَ الْإِقَالَةِ، وَالْمُتْعَةُ بَدَلٌ عَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِهِ وَهُوَ النِّكَاحُ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَهَذَا حَدُّ الْبَدَلِ فِي أَصْلِ الشُّيُوعِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُتْعَةَ وَجَبَتْ أَصْلًا بِنَفْسِهَا لَا بَدَلًا عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَالسَّبَبُ انْعَقَدَ لِوُجُوبِهَا ابْتِدَاءً، كَمَا أَنَّ الْعَقْدَ لِوُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ بِالطَّلَاقِ زَالَ فِي حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ وَبَقِيَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ الْآخَرِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ فِيهِ إلَّا بَعْدَ الطَّلَاقِ فَكَانَ الطَّلَاقُ شَرْطَ عَمَلِ السَّبَبِ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا بَدَلًا كَمَا فِي سَائِرِ الْأَسْبَابِ الْمُعَلَّقَةِ بِالشُّرُوطِ. وَلَوْ أَسْلَمَ فِي طَعَامٍ وَأَخَذَ بِهِ رَهْنًا ثُمَّ تَفَاسَخَا الْعَقْدَ، كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الرَّهْنَ بِرَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ بَدَلٌ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ، يَهْلِكُ بِالطَّعَامِ؛ لِأَنَّ

الْقَبْضَ حِينَ وُجُودِهِ وَقَعَ مَضْمُونًا بِالطَّعَامِ وَبِالْإِقَالَةِ لَمْ يَسْقُطْ الضَّمَانُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ بَدَلَهُ قَائِمٌ وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ فَيَبْقَى الْقَبْضُ مَضْمُونًا عَلَى مَا كَانَ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَبْرَأَهُ عَنْ الدَّيْنِ ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، أَنَّهُ يَهْلِكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ هُنَاكَ سَقَطَ أَصْلًا وَرَأْسًا، فَخَرَجَ الْقَبْضُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا وَتَقَابَضَا ثُمَّ تَفَاسَخَا، كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِس الْمَبِيعَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بَعْدَ التَّفَاسُخِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ، وَلِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ فَكَذَا الْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ الْبَائِعَ سَلَّمَ الْمَبِيعَ وَأَخَذَ بِالثَّمَنِ رَهْنًا مِنْ الْمُشْتَرِي ثُمَّ تَقَايَلَا كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ الرَّهْنَ حَتَّى يَقْبِضَ الْمَبِيعَ كَمَا فِي السَّلَمِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ هَلَاكُ الْمَرْهُونِ فِي قَبْضِ الرَّهْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ، وَإِنْ بَقِيَ عَقْدُ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ إنَّمَا صَارَ مَضْمُونًا بِالْقَبْضِ، فَإِذَا خَرَجَ عَنْ قَبْضِ الرَّهْنِ، لَمْ يَبْقَ مَضْمُونًا وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ الرَّهْنَ غَاصِبٌ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْغَصْبِ أَبْطَلَ قَبْضَ الرَّهْنِ، وَإِنْ لَمْ يُبْطِلْ عَقْدَ الرَّهْنِ حَتَّى كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَنْقُضَ قَبْضَ الْغَاصِبِ فَيَرُدَّهُ إلَى الرَّهْنِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اسْتَعَارَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ مِنْ الرَّاهِنِ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فَهَلَكَ، أَنَّهُ إنْ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي الِانْتِفَاعِ أَوْ بَعْدَ مَا فَرَغَ عَنْهُ يَهْلِكُ بِالدَّيْنِ، وَإِنْ هَلَكَ فِي حَالِ الِانْتِفَاعِ، يَهْلِكُ أَمَانَةً؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي الِانْتِفَاعِ عَلَى حُكْمِ قَبْضِ الرَّهْنِ لِانْعِدَامِ مَا يَنْقُضُهُ وَهُوَ قَبْضُ الِانْتِفَاعِ، وَإِذَا أَخَذَ فِي الِانْتِفَاعِ، فَقَدْ نَقَضَهُ؛ لِوُجُودِ قَبْضِ الْإِعَارَةِ، وَقَبْضُ الْإِعَارَةِ يُنَافِي قَبْضَ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ قَبْضُ أَمَانَةٍ، وَقَبْضُ الرَّهْنِ قَبْضُ ضَمَانٍ، فَإِذَا جَاءَ أَحَدُهُمَا انْتَفَى الْآخَرُ، ثُمَّ إذَا فَرَغَ مِنْ الِانْتِفَاعِ، فَقَدْ انْتَهَى قَبْضُ الْإِعَارَةِ فَعَادَ قَبْضُ الرَّهْنِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْمَرْهُونِ، فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ. وَلَوْ اسْتَعَارَهُ الرَّاهِنُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فَقَبَضَهُ، خَرَجَ عَنْ ضَمَانِ الرَّهْنِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ، يَهْلِكُ أَمَانَةً وَالدَّيْنُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ قَبْضُ الْعَارِيَّةِ وَإِنَّهُ قَبْضُ أَمَانَةٍ فَيُنَافِي قَبْضَ الضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ بِالِانْتِفَاعِ بِالرَّهْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعَارَهُ الرَّاهِنُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ أَعَارَهُ الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُسْتَعِيرِ فَالْمَرْهُونُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا يَخْرُجُ عَنْ ضَمَانِ الرَّهْنِ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ عَقْدِ الرَّهْنِ، وَالْخُرُوجُ عَنْ الضَّمَانِ لَا يُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنْ الْعَقْدِ كَزَوَائِدِ الرَّهْنِ وَلَوْ كَانَ الْمَرْهُونُ جَارِيَةً فَاسْتَعَارَهَا الرَّاهِنُ فَوَلَدَتْ فِي يَدِهِ وَلَدًا فَالْوَلَدُ رَهْنٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَرْهُونٌ لِقِيَامِ عَقْدِ الرَّهْنِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ الْجَارِيَةُ قَبْل أَنْ يَقْبِضَ الْمُرْتَهِنُ الْوَلَدَ، فَالدَّيْنُ قَائِمٌ وَالْوَلَدُ رَهْنٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ وَإِنْ فَاتَ، فَالْعَقْدُ قَائِمٌ، وَفَوَاتُ الضَّمَانِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ فِي الْأُمِّ، صَارَ الْوَلَدُ مَرْهُونًا تَبَعًا لِلْأُمِّ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ بِجَمِيعِ الْمَالِ، وَكَذَا لَوْ وَلَدَتْ هَذِهِ الِابْنَةُ وَلَدًا، فَإِنَّهُمَا رَهْنٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ، وَإِنْ مَاتَا، لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُمَّ لَوْ كَانَتْ قَائِمَةً فَهَلَكَ الْوَلَدُ، لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ، فَكَذَا إذَا كَانَتْ هَالِكَةً وَلَا يَفْتَكُّ الرَّاهِنُ وَاحِدًا مِنْهُمَا حَتَّى يُؤَدِّيَ الْمَالَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّهُمَا دَخَلَا جَمِيعًا فِي الْعَقْدِ فَلَا يَمْلِكُ الرَّاهِنُ التَّفْرِيقَ. وَلَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ وَالرَّهْنُ قَائِمٌ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ فَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ؛ لِقِيَامِ عَقْدِ الرَّهْنِ وَإِنْ بَطَلَ الضَّمَانُ، كَمَا فِي وَلَدِ الرَّهْنِ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَمَانٌ. وَلَوْ أَعَارَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ أَوْ أَذِنَ لَهُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ فَجَاءَ يَفْتَكُّ الرَّهْنَ وَهُوَ ثَوْبٌ وَبِهِ خَرْقٌ فَاخْتَلَفَا، فَقَالَ الرَّاهِنُ: حَدَثَ هَذَا فِي يَدِكَ قَبْلَ اللُّبْسِ أَوْ بَعْدَ مَا لَبِسْته وَرَدَدْته إلَى الرَّهْنِ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ لَا بَلْ حَدَثَ هَذَا فِي حَالِ اللُّبْسِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اتَّفَقَا عَلَى اللُّبْسِ؛ فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى خُرُوجِهِ مِنْ الضَّمَانِ، فَالرَّاهِنُ يَدَّعِي عَوْدَهُ إلَى الضَّمَانِ، وَالْمُرْتَهِنُ يُنْكِرُ؛ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، هَذَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى اللُّبْسِ وَاخْتَلَفَا فِي وَقْتِهِ، فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ اللُّبْسِ فَقَالَ الرَّاهِنُ: لَمْ أَلْبَسْهُ وَلَكِنَّهُ تَخَرَّقَ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: لَبِسْتَهُ فَتَخَرَّقَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى دُخُولِهِ فِي الضَّمَانِ، فَالْمُرْتَهِنُ بِدَعْوَاهُ اللُّبْسَ يَدَّعِي الْخُرُوجَ مِنْ الضَّمَانِ وَالرَّاهِنُ يُنْكِرُ؛ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَإِنْ أَقَامَ الرَّاهِنُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَخَرَّقَ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ، وَأَقَامَ الْمُرْتَهِنُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَخَرَّقَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ الضَّمَانِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ مُثْبِتَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الِاسْتِيفَاءَ، وَبَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ تَنْفِي الِاسْتِيفَاءَ، فَالْمُثْبِتَةُ أَوْلَى. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ مَقْصُودًا فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنْ الرَّهْنِ - أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمُتَوَلِّدِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ وَالْعُقْرِ وَنَحْوِهَا - مَضْمُونًا إلَّا الْأَرْشَ خَاصَّةً حَتَّى

لَوْ هَلَكَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ إلَّا الْأَرْشَ فَإِنَّهُ إذَا هَلَكَ، تَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الدَّيْنِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ بِمَرْهُونٍ مَقْصُودًا بَلْ تَبَعًا لِلْأَصْلِ كَوَلَدِ الْمَبِيعِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مَبِيعٌ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا، وَالْمَرْهُونُ تَبَعًا لَا حِصَّةَ لَهُ مِنْ الضَّمَانِ إلَّا إذَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْفِكَاكِ كَمَا أَنَّ الْمَبِيعَ تَبَعًا لَا حِصَّةَ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا إذَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْقَبْضِ بِخِلَافِ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَرْهُونِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الرَّهْنِ مَرْهُونٌ، وَبَدَلُ الشَّيْءِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هُوَ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ مَضْمُونٌ فَكَذَا بَدَلُهُ، بِخِلَافِ الْوَلَدِ وَنَحْوِهِ، وَبِخِلَافِ الزِّيَادَةِ عَلَى الرَّهْنِ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ لِأَنَّهَا مَرْهُونَةٌ مَقْصُودًا لَا تَبَعًا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ إذَا صَحَّتْ الْتَحَقَتْ بِأَصْلِ الْعَقْدِ كَأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى الزِّيَادَةِ وَالْمَزِيدِ عَلَيْهِ، عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ هَلَكَ الْأَصْلُ وَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ، يُقْسَمُ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصْلِ، وَالزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا، وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْأَصْلِ وَقْتَ الْقَبْضِ وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَهُوَ اخْتِلَافُ عِبَارَةٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ لَا يَصِيرُ عَقْدًا شَرْعًا إلَّا عِنْدَ الْقَبْضِ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الزِّيَادَةِ وَقْتَ الْفِكَاكِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إنَّمَا صَارَ مَضْمُونًا بِالْقَبْضِ؛ فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ يَوْمِ الْقَبْضِ، وَالزِّيَادَةُ إنَّمَا يَصِيرُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الضَّمَانِ بِالْفِكَاكِ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا حِينَئِذٍ، إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ لِلْحَالِ لَيْسَتْ قِسْمَةً حَقِيقِيَّةً بَلْ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، حَتَّى تَتَغَيَّرَ بِتَغَيُّرِ قِيمَةِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مِنْ حَيْثُ السِّعْرُ وَالْبَدَنُ وَالْقِسْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَقْتَ الْفِكَاكِ، وَلَا تَتَغَيَّرُ الْقِسْمَةُ بِتَغَيُّرِ قِيمَةِ الْأَصْلِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي السِّعْرِ أَوْ فِي الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ دَخَلَ فِي الضَّمَانِ بِالْقَبْضِ، وَالْقَبْضُ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَلَا يَتَغَيَّرُ الضَّمَانُ، وَالْوَلَدُ إنَّمَا يَأْخُذُ قِسْطًا مِنْ الضَّمَانِ بِالْفِكَاكِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْفِكَاكِ. وَشَرْحُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: إذَا رَهَنَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفٌ بِأَلْفٍ فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا، فَإِنَّ الدَّيْنَ يُقْسَمُ عَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ نِصْفَيْنِ، فَيَكُونُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ الْأُمُّ، سَقَطَ نِصْفُ الدَّيْنِ وَبَقِيَ الْوَلَدُ رَهْنًا بِالنِّصْفِ الْبَاقِي، يَفْتَكُّهُ الرَّاهِنُ بِهِ إنْ بَقِيَ إلَى وَقْتِ الِافْتِكَاكِ، وَإِنْ هَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ، هَلَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَجُعِلَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَعَادَتْ حِصَّتُهُ مِنْ الدَّيْنِ إلَى الْأُمِّ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأُمَّ هَلَكَتْ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَهْلِكْ لَكِنْ تَغَيَّرَتْ قِيمَتُهُ إلَى الزِّيَادَةِ فَصَارَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ بَطَلَتْ قِسْمَةُ الْإِنْصَافِ وَصَارَتْ الْقِسْمَةُ أَثْلَاثًا، ثُلُثَا الدَّيْنِ فِي الْوَلَدِ، وَالثُّلُثُ فِي الْأُمِّ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأُمَّ هَلَكَتْ بِثُلُثِ الدَّيْنِ وَبَقِيَ الْوَلَدُ رَهْنًا بِالثُّلُثَيْنِ، فَإِنْ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ وَصَارَ يُسَاوِي ثَلَاثَةَ آلَافٍ بَطَلَتْ قِسْمَةُ الْأَثْلَاثِ وَصَارَتْ الْقِسْمَةُ أَرْبَاعًا، ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدَّيْنِ فِي الْوَلَدِ، وَرُبُعٌ فِي الْأُمِّ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأُمَّ هَلَكَتْ بِرُبُعِ الدَّيْنِ، وَبَقِيَ الْوَلَدُ رَهْنًا بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ. وَلَوْ تَغَيَّرَتْ قِيمَتُهُ إلَى النُّقْصَانِ فَصَارَ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ بَطَلَتْ قِسْمَةُ الْأَرْبَاعِ وَصَارَتْ الْقِسْمَةُ أَثْلَاثًا، ثُلُثَا الدَّيْنِ فِي الْأُمِّ، وَالثُّلُثُ فِي الْوَلَدِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأُمَّ هَلَكَتْ بِثُلُثَيْ الدَّيْنِ، وَبَقِيَ الْوَلَدُ رَهْنًا بِالثُّلُثِ هَكَذَا عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ وُلِدُوا مَعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا؛ يُقْسَمُ الدَّيْنُ عَلَى الْأُمِّ وَعَلَى الْأَوْلَادِ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمْ، لَكِنْ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْأُمِّ يَوْمَ الْعَقْدِ، وَقِيمَةُ الْأَوْلَادِ يَوْمَ الْفِكَاكِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَوَلَدُ الْوَلَدِ فِي الْقِسْمَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْوَلَدِ، حَتَّى لَوْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ بِنْتًا، وَوَلَدَتْ بِنْتُهَا وَلَدًا فَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدَيْنِ، حَتَّى يُقْسَمَ الدَّيْنُ عَلَى الْجَارِيَةِ وَعَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمْ، وَلَا يُقْسَمُ عَلَى الْجَارِيَةِ وَعَلَى الْوَلَدِ الْأَصْلِيِّ، ثُمَّ يُقْسَمُ بَاقِيهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الرَّهْنِ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ حَتَّى يَتْبَعَهُ وَلَدُهُ، فَكَأَنَّهُمَا فِي الْحُكْمِ وَلَدَانِ. وَلَوْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ وَلَدًا ثُمَّ نَقَصَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ فِي السِّعْرِ أَوْ فِي الْبَدَنِ فَصَارَتْ تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ، أَوْ زَادَتْ قِيمَتُهَا فَصَارَتْ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ، وَالْوَلَدُ عَلَى حَالِهِ يُسَاوِي أَلْفًا فَالدَّيْنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لَا يَتَغَيَّرُ عَمَّا كَانَ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ عَلَى حَالِهَا وَانْتَقَصَتْ قِيمَةُ الْوَلَدِ بِعَيْبٍ دَخَلَهُ أَوْ لِسِعْرٍ فَصَارَ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ صَارَ الدَّيْنُ فِيهِمَا أَثْلَاثًا، الثُّلُثَانِ فِي الْأُمِّ، وَالثُّلُثُ فِي الْوَلَدِ. وَلَوْ زَادَتْ قِيمَةُ الْوَلَدِ فَصَارَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَثُلُثَا الدَّيْنِ فِي الْوَلَدِ، وَالثُّلُثُ فِي الْأُمِّ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ الْأُمُّ، يَبْقَى الْوَلَدُ رَهْنًا بِالثُّلُثَيْنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ إنَّمَا دَخَلَ تَحْتَ الضَّمَانِ بِالْقَبْضِ، وَالْقَبْضُ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَلَا تَتَغَيَّرُ الْقِسْمَةُ وَالْوَلَدُ إنَّمَا يَصِيرُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الضَّمَانِ بِالْفِكَاكِ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْفِكَاكِ. وَلَوْ اعْوَرَّتْ الْأُمُّ بَعْدَ الْوِلَادَةِ أَوْ كَانَتْ اعْوَرَّتْ قَبْلَهَا، ذَهَبَ مِنْ الدَّيْنِ بِعَوَرِهَا رُبُعُهُ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، وَبَقِيَ الْوَلَدُ رَهْنًا بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدَّيْنِ وَذَلِكَ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ، وَهَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا وَلَدَتْ ثُمَّ اعْوَرَّتْ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ قَبْلَ الِاعْوِرَارِ كَانَ فِيهِمَا نِصْفَيْنِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ، فَإِذَا اعْوَرَّتْ وَالْعَيْنُ مِنْ

الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ فَذَهَبَ قَدْرُ مَا فِيهَا مِنْ الدَّيْنِ وَهُوَ نِصْفُ نِصْفِ الدَّيْنِ وَهُوَ رُبُعُ الْكُلِّ، وَبَقِيَ الْوَلَدُ رَهْنًا بِبَقِيَّةِ الدَّيْنِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ، (فَأَمَّا) إذَا اعْوَرَّتْ ثُمَّ وَلَدَتْ، فَفِيهِ إشْكَالٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ: وَهُوَ أَنَّ قَبْلَ الِاعْوِرَارِ كَانَ كَأَنَّ كُلَّ الدَّيْنِ فِيهَا، وَبِالِاعْوِرَارِ ذَهَبَ النِّصْفُ وَبَقِيَ النِّصْفُ، فَإِذَا وَلَدَتْ وَلَدًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْسَمَ النِّصْفُ الْبَاقِي مِنْ الدَّيْنِ عَلَى الْجَارِيَةِ الْعَوْرَاءِ وَعَلَى وَلَدِهَا أَثْلَاثًا، الثُّلُثَانِ عَلَى الْوَلَدِ، وَالثُّلُثُ عَلَى الْأُمِّ. (وَالْجَوَابُ) أَنَّ ذَهَابَ نِصْفِ الدَّيْنِ بِالِاعْوِرَارِ لَمْ يَكُنْ حَتْمًا بَلْ عَلَى التَّوَقُّفِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْوِلَادَةِ، فَإِذَا وَلَدَتْ، تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَهَبَ بِالِاعْوِرَارِ إلَّا رُبُعُ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تُجْعَلُ كَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ لَدَى الْعَقْدِ، فَصَارَ كَأَنَّهَا وَلَدَتْ ثُمَّ اعْوَرَّتْ. وَلَوْ هَلَكَ الْوَلَدُ وَقَدْ اعْوَرَّتْ الْأُمُّ قَبْلَ الْوِلَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا ذَهَبَ نِصْفُ الدَّيْنِ بِالِاعْوِرَارِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَمَّا هَلَكَ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَجُعِلَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَعَادَتْ حِصَّتُهُ إلَى الْأُمِّ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأُمَّ كَانَتْ رَهْنًا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، فَإِذَا اعْوَرَّتْ ذَهَبَ بِالِاعْوِرَارِ نِصْفُهُ وَبَقِيَ النِّصْفُ الْآخَرُ. وَلَوْ لَمْ يَهْلِكْ وَلَكِنَّهُ اعْوَرَّ وَلَمْ يَسْقُطْ بِاعْوِرَارِهِ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ، لَا يَسْقُطُ، فَإِذَا اعْوَرَّ أَوْلَى، لَكِنَّ تِلْكَ الْقِسْمَةَ الَّتِي كَانَتْ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ تَتَغَيَّرُ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ بِتَغَيُّرِ قِيمَةِ الْوَلَدِ إلَى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ الزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ بِأَنْ رَهَنَ جَارِيَةً ثُمَّ زَادَ عَبْدًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ مَقْصُودَةٌ؛ لِوُرُودِ فِعْلِ الرَّهْنِ عَلَيْهَا مَقْصُودًا، فَكَانَتْ مَرْهُونَةً أَصْلًا لَا تَبَعًا فَكَانَتْ مَضْمُونَةً، وَيُقْسَمُ الدَّيْنُ عَلَى الْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَالزِّيَادَةِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي كَيْفِيَّةِ الِانْقِسَامِ أَنَّ الرَّاهِنَ لَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ زَادَ فِي الرَّهْنِ وَلَيْسَ فِي الرَّهْنِ نَمَاءٌ، (وَإِمَّا) أَنْ كَانَ فِيهِ نَمَاءٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَمَاءٌ، يُقْسَمُ الدَّيْنُ عَلَى الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، وَالزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهَا حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ أَلْفًا وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفٌ وَالدَّيْنُ أَلْفٌ كَانَ الدَّيْنُ فِيهِمَا نِصْفَيْنِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ الزِّيَادَةِ خَمْسَمِائَةٍ، كَانَ الدَّيْنُ فِيهِمَا أَثْلَاثًا، الثُّلُثَانِ فِي الْعَبْدِ وَالثُّلُثُ فِي الْجَارِيَةِ، وَأَيُّهُمَا هَلَكَ يَهْلِكُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرْهُونٌ مَقْصُودًا لَا تَبَعًا، إلَّا أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ يَوْمَ الْعَقْدِ وَهُوَ يَوْمُ قَبْضِهِ، وَقِيمَةُ الزِّيَادَةِ يَوْمَ الزِّيَادَةِ وَهُوَ يَوْمُ قَبْضِهَا، وَلَا يُعْتَبَرُ تَغَيُّرُ قِيمَتِهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا دَخَلَ فِي الضَّمَانِ بِالْقَبْضِ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ، وَالْقَبْضُ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِتَغَيُّرِ الْقِيمَةِ فَلَا تَتَغَيَّرُ الْقِسْمَةُ، بِخِلَافِ زِيَادَةِ الرَّهْنِ وَهِيَ نَمَاؤُهُ أَنَّ الْقِسْمَةَ تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهَا مَرْهُونَةٌ تَبَعًا لَا أَصْلًا، وَالْمَرْهُونُ تَبَعًا لَا يَأْخُذُ حِصَّةً مِنْ الضَّمَانِ إلَّا بِالْفِكَاكِ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْفِكَاكِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ قَبْلَهُ مُحْتَمِلَةً لِلتَّغَيُّرِ. وَلَوْ نَقَصَ الرَّهْنُ الْأَصْلِيُّ فِي يَدِهِ حَتَّى ذَهَبَ قَدْرُهُ مِنْ الدَّيْنِ ثُمَّ زَادَهُ الرَّاهِنُ بَعْدَ ذَلِكَ رَهْنًا آخَرَ يُقْسَمُ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى قِيمَةِ الْبَاقِي وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ يَوْمَ قُبِضَتْ، نَحْوُ مَا إذَا رَهَنَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفٌ بِأَلْفٍ فَاعْوَرَّتْ، حَتَّى ذَهَبَ نِصْفُ الدَّيْنِ وَبَقِيَ النِّصْفُ ثُمَّ زَادَ الرَّاهِنُ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفٌ؛ يُقْسَمُ النِّصْفُ الْبَاقِي عَلَى قِيمَةِ الْجَارِيَةِ عَوْرَاءَ، وَعَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ الزِّيَادَةِ أَثْلَاثًا، فَيَكُونُ ثُلُثَا هَذَا النِّصْفِ وَذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، فِي الْعَبْدِ الزِّيَادَةِ وَالثُّلُثُ وَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ فِي الْجَارِيَةِ، فُرِّقَ بَيْنَ الزِّيَادَةِ فِي الرَّهْنِ وَزِيَادَةِ الرَّهْنِ وَهِيَ نَمَاؤُهُ بِأَنْ اعْوَرَّتْ الْجَارِيَةُ ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا قِيمَتُهُ أَلْفٌ؛ أَنَّ الدَّيْنَ يُقْسَمُ عَلَى قِيمَةِ الْجَارِيَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ صَحِيحَةً، وَعَلَى قِيمَةِ الْوَلَدِ يَوْمَ الْفِكَاكِ نِصْفَيْنِ، فَيَكُونُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْأُمَّ وَهُوَ النِّصْفُ ذَهَبَ بِالِاعْوِرَارِ نِصْفُهُ وَهُوَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وَبَقِيَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدَّيْنِ وَذَلِكَ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ فِي الْأُمِّ وَالْوَلَدِ ثُلُثَا ذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ فِي الْوَلَدِ، وَثُلُثُ ذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ فِي الْأُمِّ، وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَى الرَّهْنِ يَبْقَى الْأَصْلُ وَالزِّيَادَةُ بِنِصْفِ الدَّيْنِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ بَيْنَ الزِّيَادَتَيْنِ أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَهِيَ الزِّيَادَةُ عَلَى الرَّهْنِ ثَبَتَ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ؛ لِكَوْنِهَا زِيَادَةً مَقْصُودَةً؛ لِوُرُودِ فِعْلِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا مَقْصُودًا فَيُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ وَقْتَ الزِّيَادَةِ، وَلَمْ يَبْقَ وَقْتَ الزِّيَادَةِ إلَّا النِّصْفُ فَيُقْسَمُ ذَلِكَ النِّصْفُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا، بِخِلَافِ زِيَادَةِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَرْهُونَةٍ مَقْصُودًا؛ لِانْعِدَامِ وُجُودِ الرَّهْنِ فِيهَا مَقْصُودًا بَلْ تَبَعًا لِلْأَصْلِ؛ لِكَوْنِهَا مُتَوَلِّدَةً مِنْهُ فَيَثْبُتُ حُكْمُ الرَّهْنِ فِيهَا تَبَعًا لِلْأَصْلِ، كَأَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِهِ فَتَصِيرُ كَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَكَانَ الثَّابِتُ فِي الْوَلَدِ غَيْرَ مَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْأُمِّ، فَيُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ قِيمَةُ الْأُمِّ يَوْمَ الْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَضَى الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ زَادَهُ فِي الرَّهْنِ

عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفٌ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ تَلْحَقُ الْخَمْسَمِائَةِ الْبَاقِيَةَ فَيُقْسَمُ عَلَى نِصْفِهِ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَهِيَ خَمْسُمِائَةٍ، وَعَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ الزِّيَادَةِ، وَبَقِيَ أَلْفٌ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا فِي الْعَبْدِ وَثُلُثُهَا فِي الْجَارِيَةِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ، هَلَكَ بِثُلْثَيْ الْخَمْسِمِائَةِ وَذَلِكَ ثَلَثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ وَلَوْ هَلَكَتْ الْجَارِيَةُ هَلَكَتْ بِالثُّلُثِ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ زِيَادَةٌ عَلَى الْمَرْهُونِ، وَالْمَرْهُونُ مَحْبُوسٌ بِالدَّيْنِ، وَالْمَحْبُوسُ بِالدَّيْنِ هُوَ نِصْفُ الْجَارِيَةِ لَا كُلُّهَا، وَلَمْ يَبْقَ نِصْفُ الدَّيْنِ؛ لِصَيْرُورَتِهِ مَقْضِيًّا فَالزِّيَادَةُ تَدْخُلُ فِي الْبَاقِي وَيَنْقَسِمُ الْبَاقِي عَلَى قِيمَةِ نِصْفِ الْجَارِيَةِ وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ أَثْلَاثًا. وَلَوْ قَضَى خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ اعْوَرَّتْ الْجَارِيَةُ قَبْلَ أَنْ يَزِيدَ الرَّهْنَ ثُمَّ زَادَ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ قُسِمَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ عَلَى نِصْفِ الْجَارِيَةِ الْعَوْرَاءِ وَعَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، أَرْبَعَةٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الزِّيَادَةِ، وَسَهْمٌ فِي الْجَارِيَةِ الْعَوْرَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَضَى الرَّاهِنُ خَمْسَمِائَةٍ؛ فَرَغَ نِصْفُ الْجَارِيَةِ شَائِعًا مِنْ الدَّيْنِ وَبَقِيَ النِّصْفُ الْبَاقِي فِي نِصْفِهَا شَائِعًا وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ، فَإِذَا اعْوَرَّتْ، فَقَدْ ذَهَبَ نِصْفُ ذَلِكَ النِّصْفِ بِمَا فِيهِ مِنْ الدَّيْنِ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، وَبَقِيَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ مِنْ الدَّيْنِ فِيمَا لَمْ يَذْهَبْ مِنْ نِصْفِ الْجَارِيَةِ، فَإِذًا هَذِهِ الزِّيَادَةُ تَلْحَقُ هَذَا الْقَدْرَ فَيُقْسَمُ هَذَا الْقَدْرُ فِي الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ أَخْمَاسًا أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ، وَذَلِكَ مِائَتَانِ فِي الزِّيَادَةِ وَخُمُسَهُ وَذَلِكَ خَمْسُونَ فِي الْأَصْلِ، هَذَا إذَا زَادَ وَلَيْسَ فِي الرَّهْنِ نَمَاءٌ، فَأَمَّا إذَا زَادَ وَفِيهِ نَمَاءٌ بِأَنْ رَهَنَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفٌ بِأَلْفٍ فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا، ثُمَّ زَادَهُ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفٌ فَالرَّاهِنُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ زَادَ وَالْأُمُّ قَائِمَةٌ. وَأَمَّا أَنْ زَادَ بَعْدَ مَا هَلَكَتْ الْأُمُّ فَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً فَزَادَ، لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ جَعَلَهُ زِيَادَةً عَلَى الْوَلَدِ أَوْ عَلَى الْأُمِّ أَوْ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، أَوْ أَطْلَقَ الزِّيَادَةَ وَلَمْ يُسَمِّ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ الْأُمُّ أَوْ الْوَلَدُ، فَإِنْ جَعَلَهُ زِيَادَةً عَلَى الْوَلَدِ فَهُوَ رَهْنٌ مَعَ الْوَلَدِ خَاصَّةً وَلَا يَدْخُلُ فِي حِصَّةِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُقُوعُ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ، وَقَدْ جَعَلَهُ زِيَادَةً عَلَى الْوَلَدِ فَيَكُونُ زِيَادَةً مَعَهُ فَيُقْسَمُ الدَّيْنُ أَوَّلًا عَلَى الْأُمِّ وَالْوَلَدِ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا، تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْأُمِّ يَوْمَ الْعَقْدِ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ يَوْمَ الْفِكَاكِ، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْوَلَدُ يُقْسَمُ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْعَبْدِ الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْوَلَدِ يَوْمَ الْفِكَاكِ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَقِيمَةُ الزِّيَادَةِ وَقْتَ الزِّيَادَةِ وَهِيَ وَقْتُ قَبْضِهَا؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا جُعِلَتْ فِي الضَّمَانِ بِالْقَبْضِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْقَبْضِ. وَلَوْ هَلَكَ الْوَلَدُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ، بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّهُ إذَا هَلَكَ، جُعِلَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا وَرَأْسًا فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَزِيدٍ عَلَيْهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الزِّيَادَةَ لَمْ تَقَعْ رَهْنًا، وَإِنْ جَعَلَهُ زِيَادَةً عَلَى الْأُمِّ، فَهُوَ عَلَى مَا جَعَلَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَاشَرَهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ الزِّيَادَةَ لَوَقَعَتْ عَلَى الْأُمِّ فَعِنْدَ التَّقْيِيدِ وَالتَّنْصِيصِ أَوْلَى، وَإِذَا وَقَعَتْ زِيَادَةٌ عَلَى الْأُمِّ جُعِلَ كَأَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْعَقْدِ فَيُقْسَمُ الدَّيْنُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْأَصْلِ يَوْمَ الْعَقْدِ وَقِيمَةُ الزِّيَادَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْأُمَّ يُقْسَمُ عَلَيْهَا وَعَلَى وَلَدِهَا عَلَى اعْتِبَارِ قِيمَةِ الْأُمِّ يَوْمَ الْعَقْدِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ يَوْمَ الْفِكَاكِ. وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ أَوْ زَادَتْ قِيمَتُهُ أَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا، فَالْحُكْمُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ الزِّيَادَةِ لَا تَتَغَيَّرُ، وَيُقْسَمُ الدَّيْنُ أَوَّلًا عَلَى الْجَارِيَةِ وَالْعَبْدِ نِصْفَيْنِ، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْأُمَّ يُقْسَمُ عَلَيْهَا وَعَلَى وَلَدِهَا فَتُعْتَبَرُ زِيَادَةُ الْوَلَدِ فِي حَقِّ الْأُمِّ وَلَا تُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، سَوَاءٌ زَادَ بَعْدَ حُدُوثِ الْوَلَدِ أَوْ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَوْ هَلَكَتْ الْأُمُّ بَعْدَ الزِّيَادَةِ، ذَهَبَ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ الدَّيْنِ وَبَقِيَ الْوَلَدُ وَالزِّيَادَةُ بِمَا فِيهِمَا، بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ الْوَلَدُ أَنَّهَا تَبْطُلُ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ بِهَلَاكِ الْأُمِّ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَكُنْ بَلْ يَتَنَاهَى وَيَتَقَرَّرُ حُكْمُهُ، فَهَلَاكُهُ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ إذَا هَلَكَ، الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ مِنْ الْأَصْلِ وَجُعِلَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الزِّيَادَةَ لَمْ تَصِحَّ رَهْنًا. وَلَوْ هَلَكَ الْوَلَدُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ، ذَهَبَ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْهَلَاكِ فَإِذَا هَلَكَ، جُعِلَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَجُعِلَ كَأَنَّ الزِّيَادَةَ حَدَثَتْ وَلَا بُدَّ لِلْجَارِيَةِ، كَذَلِكَ وَإِنْ جَعَلَهُ زِيَادَةً عَلَى الْأُمِّ وَالْوَلَدِ جَمِيعًا فَالْعَبْدُ زِيَادَةٌ عَلَى الْأُمِّ خَاصَّةً، وَلَا عِبْرَةَ لِلْوَلَدِ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ وَلَا يَدْخُلُ فِي حِصَّتِهَا وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْأُمِّ وَيَدْخُلُ فِي حِصَّةِ الْأُمِّ، وَالْوَلَدِ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ حَالَ وُجُودِ الْأُمِّ كَالْعَدَمِ فَلَا تَصْلُحُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ فِي حَالِ قِيَامِ الْأُمِّ فَيُقْسَمُ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصْلِ وَالْعَبْدِ الزِّيَادَةِ بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهِمَا قِيمَةِ الْأَصْلِ يَوْمَ الْعَقْدِ، وَقِيمَةِ الزِّيَادَةِ يَوْمَ الزِّيَادَةِ، ثُمَّ يُقْسَمُ مَا أَصَابَ الْأُمَّ قِسْمَةً أُخْرَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا عَلَى اعْتِبَارِ قِيمَتِهِمَا يَوْمَ الْعَقْدِ وَيَوْمَ الْفِكَاكِ، كَذَلِكَ وَإِنْ أَطْلَقَ الزِّيَادَةَ وَلَمْ يُسَمِّ الْأُمَّ

وَلَا الْوَلَدَ فَالزِّيَادَةُ رَهْنٌ مَعَ الْأُمِّ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَزِيدٍ عَلَيْهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ يَصْلُحُ مَزِيدًا عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّ الْأُمَّ أَصْلٌ فِي الرَّهْنِ وَالْوَلَدَ تَابِعٌ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ جَعْلُهَا زِيَادَةً عَلَى الْأَصْلِ أَوْلَى، وَإِذَا صَارَتْ الزِّيَادَةُ رَهْنًا مَعَ الِاسْمِ، يُقْسَمُ الدَّيْنُ قِسْمَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا، هَذَا إذَا كَانَتْ الْأُمُّ قَائِمَةً وَقْتَ الزِّيَادَةِ. (فَأَمَّا) إذَا هَلَكَتْ الْأُمُّ ثُمَّ زَادُوا الْعَبْدَ زِيَادَةً عَلَى الْوَلَدِ فَكَانَا جَمِيعًا رَهْنًا بِخَمْسِمِائَةٍ يَفْتَكُّ الرَّهْنَ كُلُّ وَاحِد مِنْهُمَا بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَسْتَدْعِي مَزِيدًا عَلَيْهِ، وَالْهَالِكُ خَرَجَ عَنْ احْتِمَالِ ذَلِكَ فَتَعَيَّنَ الْوَلَدُ مَزِيدًا عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَهَبَ نِصْفُ الدَّيْنِ بِهَلَاكِ الْأُمِّ وَبَقِيَ النِّصْفُ وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ، فَيَنْقَسِمُ ذَلِكَ عَلَى الزِّيَادَةِ وَالْوَلَدِ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا وَلَوْ هَلَكَ الْوَلَدُ أَخَذَ الرَّاهِنُ الْعَبْدَ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا هَلَكَ فَقَدْ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَعَادَتْ حِصَّتُهُ إلَى الْأُمِّ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا هَلَكَتْ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الزِّيَادَةَ حَصَلَتْ بَعْدَ سُقُوطِ الدَّيْنِ؛ فَلَمْ تَصِحَّ. وَلَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ الزِّيَادَةُ بَعْدَ هَلَاكِ الْوَلَدِ فِي يَدَ الْمُرْتَهِنِ هَلَكَ أَمَانَةً، إلَّا إذَا مَنَعَهُ بَعْدَ الطَّلَبِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَهْنًا فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِمَا بَيَّنَّا فَصَارَ كَمَا إذَا رَهَنَ بِدَيْنٍ ثُمَّ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ لَا دَيْنَ، ثُمَّ هَلَكَ الرَّهْنُ أَنَّهُ يَهْلِكُ أَمَانَةً؛ لِمَا قُلْنَا. كَذَا هَذَا، إلَّا إذَا مَنَعَ بَعْدَ الطَّلَبِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا بِالْمَنْعِ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْغَصْبِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ وَقَدْرِهِ فَالرَّهْنُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا وَاحِدًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَشْيَاءَ، فَإِنْ كَانَ شَيْئًا وَاحِدًا، يَهْلِكُ مَضْمُونًا بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ، وَتَفْسِيرُهُ إذَا رَهَنَ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفٌ بِأَلْفٍ فَهَلَكَ، ذَهَبَ الدَّيْنُ كُلُّهُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَيْنِ فَهَلَكَ، ذَهَبَ كُلُّ الدَّيْنِ أَيْضًا، وَفَضْلُ الرَّهْنِ يَهْلِكُ أَمَانَةً، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَمِائَةٍ، ذَهَبَ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُمِائَةٍ وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِفَضْلِ الدَّيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، مِثْلُ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ رَوَاهُ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، أَيْ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَضْلُ قِيمَةِ الرَّهْنِ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، أَيْ يَذْهَبُ كُلُّ الدَّيْنِ قَلَّتْ قِيمَةُ الدَّيْنِ أَوْ كَثُرَتْ وَهُوَ مَذْهَبُ شُرَيْحٍ وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ: يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ يَعْنِي إنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِفَضْلِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ، فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِفَضْلِ الدَّيْنِ. وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ: إنَّ الْمَرْهُونَ أَمَانَةٌ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ وَقَدْرِهِ اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى كَوْنِهِ مَضْمُونًا، فَإِنْكَارُ الضَّمَانِ أَصْلًا يَرْجِعُ إلَى مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ فَكَانَ بَاطِلًا، ثُمَّ الرُّجْحَانُ فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ؛ لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مَضْمُونٌ عِنْدَنَا بِطَرِيقِ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءِ وَيَتَقَرَّرُ الِاسْتِيفَاءُ عِنْدَ الْهَلَاكِ فَيَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ فِيهِ بِقَدْرِ الِاسْتِيفَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ مِثْلَ الدَّيْنِ، أَمْكَنَ تَحْقِيقُ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ مِثْلُهُ صُورَةً وَمَعْنًى أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً، وَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ، لَا يَتَحَقَّقُ الِاسْتِيفَاءُ إلَّا فِي قَدْرِ الدَّيْنِ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِي الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْأَقَلِّ مِنْ الْأَكْثَرِ يَكُونُ رِبًا، وَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ، لَا يُمْكِنُهُ تَحْقِيقُ الِاسْتِيفَاءِ إلَّا بِقَدْرِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْأَكْثَرِ مِنْ الْأَقَلِّ لَا يُتَصَوَّرُ، هَذَا إذَا كَانَ الْمَرْهُونُ شَيْئًا وَاحِدًا فَأَمَّا إذَا كَانَ أَشْيَاءَ بِأَنْ رَهَنَ عَبْدَيْنِ أَوْ ثَوْبَيْنِ أَوْ دَابَّتَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَلَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ أَطْلَقَ الرَّهْنَ وَلَمْ يُسَمِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا مِنْ الدَّيْنِ. (وَإِمَّا) أَنْ قَيَّدَ وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرًا مَعْلُومًا مِنْ الدَّيْنِ، فَإِنْ أَطْلَقَ، يُقْسَمُ الدَّيْنُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونًا بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَةِ نَفَسِهِ وَمِنْ حِصَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرْهُونٌ وَالْمَرْهُونُ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِسْمَةِ الدَّيْنِ عَلَى قِيمَتِهِمَا؛ لِيُعْرَفَ قَدْرُ مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الضَّمَانِ، كَمَا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا فِي بَابِ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهِمَا لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ قَيَّدَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونًا بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِمَّا سُمِّيَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَمَّى وَجَبَ اعْتِبَارُ التَّسْمِيَةِ فَيُنْظَرُ إلَى الْقَدْرِ الْمُسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَيُّهُمَا هَلَكَ؛ يَهْلِكُ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الْقَدْرِ الْمُسَمَّى، كَمَا فِي بَابِ الْبَيْعِ إذَا سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَبِيعَيْنِ ثَمَنًا، أَنَّهُ يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى كَذَا هَذَا، إذَا كَانَ الْمَرْهُونُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الدَّيْنِ وَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ

جِنْسِهِ بِأَنْ رَهَنَ مَوْزُونًا بِجِنْسِهِ أَوْ مَكِيلًا بِجِنْسِهِ وَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَهْلِكُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ دُونَ الْقِيمَةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ وَزْنُ الرَّهْنِ بِمِثْلِ وَزْنِ الدَّيْنِ، وَقِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْهُ فَهَلَكَ يَذْهَبُ كُلُّ الدَّيْنِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: يَضْمَنُ الْقِيمَةَ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْوَزْنُ دُونَ الْقِيمَةِ فِي الْهَالِكِ، وَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْوَزْنَ فِيمَا لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُرْتَهِنُ، فَأَمَّا فِيمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ فَيَضْمَنَانِ الْقِيمَةَ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ. (وَأَمَّا) فِي الِانْكِسَارِ فَأَبُو حَنِيفَةَ يُضَمِّنُ الْقِيمَةَ، وَكَذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي الْوَزْنِ وَالْقِيمَةِ وَلَا يَرَيَانِ الْجَعْلَ بِالدَّيْنِ أَصْلًا، وَمُحَمَّدٌ يَجْعَلُ بِالدَّيْنِ لَكِنْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ بِأَنْ لَا يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إلَى الضَّرَرِ بِالرَّاهِنِ وَلَا بِالْمُرْتَهِنِ، وَلَا يُؤَدِّيَ إلَى الرِّبَا فَإِنْ أَدَّى إلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ لَا يَجْعَلُ بِالدَّيْنِ أَيْضًا، وَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنُ أَكْثَرَ فَأَبُو يُوسُفَ يَجْعَلُ النُّقْصَانَ الْحَاصِلَ بِالِانْكِسَارِ شَائِعًا فِي قَدْرِ الْأَمَانَةِ وَالْمَضْمُونِ، فَمَا كَانَ فِي الْأَمَانَةِ يَذْهَبُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَمَا كَانَ فِي الْمَضْمُونِ يَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ قِيمَتَهُ وَيَمْلِكُ مِنْ الرَّهْنِ بِقَدْرِهِ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصْرِفُ النُّقْصَانَ إلَى الزِّيَادَةِ، وَإِذَا كَثُرَ النُّقْصَانُ حَتَّى انْتَقَصَ مِنْ الدَّيْنِ، يُخَيَّرُ الرَّاهِنُ بَيْنَ أَنْ يَفْتَكَّهُ وَبَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهُ بِالدَّيْنِ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الزُّيُوفِ مِنْ الْجِيَادِ، حَتَّى لَوْ أَخَذَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الزُّيُوفَ عَنْ الْجِيَادِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَتَّى هَلَكَ عِنْدَهُ سَقَطَ دَيْنُهُ، وَكَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا تَرَكَ أَصْلَهُ فِي الرَّهْنِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَسْقُطُ بَلْ يَرُدُّ مِثْلَ مَا قَبَضَ وَيَأْخُذُ مِثْلَ حَقِّهِ، فَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الزُّيُوفِ عَنْ الْجِيَادِ، فَهَذِهِ أُصُولُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ. (وَأَمَّا) تَخْرِيجُهَا عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إذَا كَانَ الدَّيْنُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَرَهَنَ بِهِ قُلْبَ فِضَّةٍ فَهَلَكَ أَوْ انْكَسَرَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَوَزْنُ الْقُلْبِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ وَزْنِ الدَّيْنِ بِأَنْ كَانَ عَشَرَةً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِهِ بِأَنْ كَانَ ثَمَانِيَةً، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ بِأَنْ كَانَ اثْنَيْ عَشَرَ، وَكُلُّ وَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ يَدْخُلُهُ الْهَلَاكُ وَالِانْكِسَارُ، فَإِنْ كَانَ وَزْنُ الْقُلْبِ مِثْلَ وَزْنِ الدَّيْنِ عَشَرَةً فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ وَزْنِهِ فَهَلَكَ يَهْلِكْ بِالدَّيْنِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ فِي وَزْنِهِ وَقِيمَتِهِ وَفَاءً بِالدَّيْنِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ بِأَحَدٍ وَلَا فِيهِ رِبًا فَيَهْلِكُ بِالدَّيْنِ عَلَى مَا هُوَ حُكْمُ الرَّهْنِ عِنْدَنَا، وَإِنْ انْكَسَرَ وَانْتَقَصَ لَا يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى الِافْتِكَاكِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ لَوْ افْتَكَّهُ إمَّا أَنْ يَفْتَكَّهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَسْقُطَ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بِمُقَابَلَةِ النُّقْصَانِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِالرَّاهِنِ لِفَوَاتِ حَقِّهِ عَنْ الْجَوْدَةِ وَالصِّنَاعَةِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَالرَّهْنَ يَسْتَوِيَانِ فِي الْوَزْنِ، وَالْجَوْدَةُ لَا قِيمَةَ لَهَا شَرْعًا عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ شَرْعًا، فَيَكُونُ إيفَاءُ عَشَرَةٍ بِثَمَانِيَةٍ فَتَكُونُ رِبًا، فَيَتَخَيَّرُ؛ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَرَضِيَ بِالنُّقْصَانِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ قِيمَتَهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ فَكَانَتْ رَهْنًا مَكَانَهُ، وَيَصِيرُ الْقُلْبُ مِلْكًا لِلْمُرْتَهِنِ بِالضَّمَانِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ بِالدَّيْنِ وَيَصِيرُ مِلْكَ الْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ ضَمَانَ الْقِيمَةِ لَا يُنَاسِبُ قَبْضَ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُوجِبُ قَبْضٍ هُوَ تَعَدٍّ كَقَبْضِ الْغَصْبِ، وَقَبْضُ الرَّهْنِ مَأْذُونٌ فِيهِ فَلَا يُنَاسِبُ ضَمَانَ الْقِيمَةِ وَيُنَاسِبُهُ الْجَعْلُ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ وَفِي الْجَعَلِ بِالدَّيْنِ تَقْرِيرُ الِاسْتِيفَاءِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ جَعْلَ الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ حَالَ قِيَامِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، جَاءَ الْإِسْلَامُ وَأَبْطَلَهُ بِقَوْلِهِ: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ» وَالْجَعْلُ بِالدَّيْنِ غَلْقُ الرَّهْنِ فَكَانَ بَاطِلًا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مِلْكَ الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمَ هَذَا التَّصَرُّفِ وَأَنَّ حُكْمَهُ مِلْكُ الْيَدِ وَالْحَبْسُ لَا مِلْكُ الْعَيْنِ وَالرَّقَبَةِ. (فَأَمَّا) ضَمَانُ الْقِيمَةِ فَيَصْلُحُ حُكْمًا لَهُ فِي الْجُمْلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ بِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَعْلِ بِالدَّيْنِ عَلَى مَا نَذْكُرُ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِ الدَّيْنِ بِأَنْ كَانَتْ ثَمَانِيَةً فَهَلَكَ، يَهْلِكُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْوَزْنَ دُونَ الْقِيمَةِ عِنْدَ الْهَلَاكِ، وَفِي وَزْنِهِ وَفَاءُ الدَّيْنِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَهْلِكُ بِالدَّيْنِ وَيَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ قِيمَتَهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ بِالدَّيْنِ (إمَّا) أَنْ يَهْلِكَ بِوَزْنِهِ، (وَإِمَّا) أَنْ يَهْلِكَ بِقِيمَتِهِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِالْمُرْتَهِنِ، وَلَا وَجْهَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَيُخَيَّرُ الْمُرْتَهِنُ بَيْنَ أَنْ يَرْضَى بِسُقُوطِ الدَّيْنِ، وَبَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ قِيمَةَ الرَّهْنِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ فَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، وَالْجَيِّدَ وَالرَّدِيءَ فِي الِاسْتِيفَاءِ عَلَى السَّوَاءِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الزُّيُوفِ عَنْ الْجِيَادِ جَائِزٌ عِنْدَهُ، وَإِنْ

انْكَسَرَ، فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ قِيمَتَهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَيْسَ لَهُ خِيَارُ الْجَعْلِ بِالدَّيْنِ هُنَا بِلَا خِلَافٍ. (أَمَّا) عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ فَلِأَنَّهُمَا لَا يَرَيَانِ الْجَعْلَ بِالدَّيْنِ أَصْلًا، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَ يَرَى ذَلِكَ لَكِنْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الدَّيْنَ بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ يُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ بِالْمُرْتَهِنِ حَيْثُ يَصِيرُ الرَّهْنُ الَّذِي قِيمَتُهُ ثَمَانِيَةٌ بِعَشَرَةٍ. وَلَوْ جُعِلَ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَمَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى ضَمَانِ الْقِيمَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ بِأَنْ كَانَتْ اثْنَيْ عَشَرَ فَهَلَكَ، يَهْلِكُ بِالدَّيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا لِلْوَزْنِ وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ هُنَا فَضْلٌ، فَكَانَ أَمَانَةً بِمَنْزِلَةِ الْفَضْلِ فِي الْوَزْنِ. (أَمَّا) عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَقِيلَ: يَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْقُلْبِ مِنْ الذَّهَبِ، وَيَرْجِعُ بِدَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ عِنْدَهُ مَضْمُونَةٌ، وَقِيلَ: يَهْلِكُ بِالدَّيْنِ عِنْدَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْوَزْنَ فِي الْهَلَاكِ لَا الْجَوْدَةَ وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ الْجَوْدَةَ فِي الِانْكِسَارِ، وَإِنْ انْكَسَرَ، فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِالدَّيْنِ مَعَ النُّقْصَانِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ فَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ كَانَ النُّقْصَانُ الْحَاصِلُ بِالِانْكِسَارِ قَدْرَ دِرْهَمٍ بِأَنْ عَادَتْ قِيمَتُهُ إلَى أَحَدَ عَشَرَ، أَوْ قَدْرَ دِرْهَمَيْنِ بِأَنْ عَادَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ صَارَتْ قِيمَتُهُ ثَمَانِيَةً، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِالدَّيْنِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ قِيمَتَهُ خَمْسَةَ أَسْدَاسٍ مِنْ الْقُلْبِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ، فَتَصِيرُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ الرَّهْنِ مِلْكًا لِلْمُرْتَهِنِ بِالضَّمَانِ، وَسُدُسُ الرَّهْنِ مَعَ خَمْسَةِ أَسْدَاسِ الْقِيمَةِ رَهْنًا بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنْ يُجْعَلَ قَدْرُ النُّقْصَانِ الْحَاصِلِ بِالِانْكِسَارِ شَائِعًا فِي قَدْرِ الْأَمَانَةِ، وَالْمَضْمُونُ وَالْقَدْرُ الَّذِي فِي الْأَمَانَةِ يَذْهَبُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَالْقَدْرُ الَّذِي فِي الْمَضْمُونِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ الرَّهْنِ مِلْكًا لَهُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُنْظَرُ إلَى النُّقْصَانِ إنْ كَانَ قَدْرَ دِرْهَمٍ أَوْ دِرْهَمَيْنِ، لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى الْفِكَاكِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ، يُخَيَّرُ بَيْنَ الْفِكَاكِ وَبَيْنَ الْجَعْلِ بِالدَّيْنِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ وَوَزْنُهُ سَوَاءً؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ يَصْرِفُ النُّقْصَانَ الْحَاصِلَ بِالِانْكِسَارِ إلَى الْجَوْدَةِ الزَّائِدَةِ، إلَّا إذَا كَثُرَ النُّقْصَانُ حَتَّى عَادَتْ قِيمَتُهُ إلَى ثَمَانِيَةٍ، فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ بِالدَّيْنِ إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ افْتَكَّهُ، وَقِيلَ: إنَّ عَلَى قَوْلِهِ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِمَا فِي الْجَعْلِ بِالدَّيْنِ مِنْ إسْقَاطِ حَقِّهِ عَنْ الْجَوْدَةِ، هَذَا إذَا كَانَ وَزْنُ الْقُلْبِ مِثْلَ وَزْنِ الدَّيْنِ عَشَرَةً، فَأَمَّا إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِهِ ثَمَانِيَةً فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ وَزْنِهِ فَهَلَكَ، يَهْلِكُ بِمِثْلِ وَزْنِهِ مِنْ الدَّيْنِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ انْكَسَرَ، فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِالدَّيْنِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُرْتَهِنَ قِيمَتَهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ فَكَانَتْ رَهْنًا، وَالْقُلْبُ لِلْمُرْتَهِنِ بِالضَّمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِالدَّيْنِ وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ بِمِثْلِ وَزْنِهِ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِهِ سَبْعَةً فَهَلَكَ، يَهْلِكُ بِثَمَانِيَةٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ اعْتِبَارًا لِلْوَزْنِ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ انْكَسَرَ، ضَمِنَ الْقِيمَةَ بِالْإِجْمَاعِ. (أَمَّا) عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ فَلِأَنَّهُمَا لَا يُجِيزَانِ الْجَعْلَ بِالدَّيْنِ حَالَ قِيَامِ الرَّهْنِ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَمُحَمَّدٌ إنْ كَانَ يُجِيزُهُ؛ لَكِنَّ شَرِيطَةَ انْعِدَامِ الضَّرَرِ، وَفِي الْجَعْلِ بِالدَّيْنِ هُنَا ضَرَرٌ بِالْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ فَكَانَتْ تِسْعَةً أَوْ كَانَتْ مِثْلَ الدَّيْنِ عَشَرَةً فَهَلَكَ يَهْلِكُ بِقَدْرِ وَزْنِهِ ثَمَانِيَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ الْقِيمَةَ، وَإِنْ انْكَسَرَ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِالدَّيْنِ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْقِيمَةَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ اثْنَيْ عَشَرَ فَهَلَكَ يَهْلِكُ بِثَمَانِيَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ قِيمَتِهِ، وَإِنْ انْكَسَرَ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِالدَّيْنِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ وَكَانَتْ قِيمَتُهُ رَهْنًا وَالْقُلْبُ مِلْكًا لِلْمُرْتَهِنِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ قِيمَتِهِ وَيَكُونُ سُدُسُ الْقُلْبِ مَعَ خَمْسَةِ أَسْدَاسِ قِيمَتِهِ رَهْنًا عِنْدَهُ بِالدَّيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصْرِفُ النُّقْصَانَ الْحَاصِلَ بِالِانْكِسَارِ بِالْأَمَانَةِ إنْ قَلَّ النُّقْصَانُ بِأَنْ كَانَ دِرْهَمًا أَوْ دِرْهَمَيْنِ، وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى الِافْتِكَاكِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، يُخَيَّرُ الرَّاهِنُ بَيْنَ الِافْتِكَاكِ وَبَيْنَ الْجَعْلِ بِالدَّيْنِ؛ هَذَا إذَا كَانَ وَزْنُ الْقُلْبِ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِ الدَّيْنِ ثَمَانِيَةً، فَأَمَّا إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ اثْنَا عَشَرَ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ وَزْنِهِ اثْنَيْ عَشَرَ فَهَلَكَ، سَقَطَ الدَّيْنُ وَالزِّيَادَةُ عَلَى الدَّيْنِ تَهْلِكُ أَمَانَةً بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ انْكَسَرَ ضَمِنَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ بِالدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِهِ

وَأَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ بِأَنْ كَانَتْ أَحَدَ عَشَرَ فَهَلَكَ سَقَطَ الدَّيْنُ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِهِ، وَالزِّيَادَةُ تَهْلِكُ أَمَانَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا رِوَايَةَ عَنْهُمَا فِي هَذَا الْفَصْلِ. وَإِنْ انْكَسَرَ ضَمِنَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ الْقُلْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ الْجَوْدَةَ وَلَا يَرَى الْجَعْلَ بِالدَّيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَكَذَا، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِتَعَذُّرِ التَّمْلِيكِ بِالدَّيْنِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ وَزْنِ الدَّيْنِ عَشَرَةً فَهَلَكَ، يَهْلِكُ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ بِالدَّيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْوَزْنَ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ وَيَرْجِعُ بِحَقِّهِ، وَإِنْ انْكَسَرَ ضَمِنَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَغْرَمُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ وَلَا يُمْكِنُ الْجَعْلُ بِالدَّيْنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ ثَمَانِيَةً فَهَلَكَ، ذَهَبَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ بِالدَّيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ انْكَسَرَ ضَمِنَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ، وَعِنْدَهُمَا يَغْرَمُ الْقِيمَةَ فِي الْحَالَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَهَلَكَ، يَهْلِكُ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ بِالدَّيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ انْكَسَرَ ضَمِنَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ بَعْضَ الْقُلْبِ وَهَلَكَ ذَلِكَ الْقَدْرُ بِالضَّمَانِ وَصَارَ شَرِيكًا، فَهَذَا شُيُوعٌ طَارِئٌ فَعَلَى جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُقْطَعُ الْقُلْبُ فَيَكُونُ الْبَاقِي مَعَ الْقَدْرِ الَّذِي غَرِمَ رَهْنًا؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ مُقَارِنًا كَانَ أَوْ طَارِئًا، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ لَا حَاجَةَ إلَى الْقَطْعِ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ الطَّارِئَ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ. (وَأَمَّا) الرَّهْنُ الْفَاسِدُ فَلَا حُكْمَ لَهُ حَالَ قِيَامِ الْمَرْهُونِ، حَتَّى لَا يَثْبُتَ لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْحَبْسِ وَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ، فَإِنْ مَنَعَهُ حَتَّى هَلَكَ، يَضْمَنْ مِثْلَهُ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ، وَقِيمَتَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا بِالْمَنْعِ، وَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْمِثْلِ أَوْ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْمَنْعُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ حَتَّى هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَهْلِكُ أَمَانَةً؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ إذَا لَمْ يَصِحَّ كَانَ الْقَبْضُ قَبْضَ أَمَانَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَأَشْبَهَ قَبْضَ الْوَدِيعَةِ، وَحَكَى الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ مَحَلٌّ لِلرَّهْنِ الصَّحِيحِ فَإِذَا رَهَنَهُ رَهْنًا فَاسِدًا فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، يَهْلِكُ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلرَّهْنِ الصَّحِيحِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالرَّهْنِ الْفَاسِدِ، كَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ كَانَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْمَرْهُونِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بَلْ يَكُونُ أَمَانَةً، وَإِنْ كَانَ الْفَسَادُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ يَكُونُ مَضْمُونًا. (وَوَجْهُهُ) أَنَّ الْمَرْهُونَ مَضْمُونٌ بِالْقَبْضِ وَلَا فَسَادَ فِي الْقَبْضِ، إلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الْمَقْبُوضِ مَضْمُونًا أَنْ يَكُونَ مَالًا مُطْلَقًا مُتَقَوِّمًا كَالْمَقْبُوضِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، فَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ، يَكُونُ مَضْمُونًا وَإِلَّا فَلَا، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ هَلَاكِ الْمَرْهُونِ (وَأَمَّا) حُكْمُ اسْتِهْلَاكِهِ فَنَقُولُ: الْمَرْهُونُ لَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ يَكُونَ مِنْ بَنِي آدَمَ كَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، (وَإِمَّا) إنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ بَنِي آدَمَ مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ بَنِي آدَمَ فَاسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ، ضَمِنَ قِيمَتَهُ إنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ، وَمِثْلَهُ إنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ، كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَرْهُونًا وَالْمُرْتَهِنُ هُوَ الْخَصْمُ فِي تَضْمِينِهِ وَكَانَ الضَّمَانُ رَهْنًا؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَرْهُونِ ثُمَّ إنْ كَانَ الضَّمَانُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ وَالدَّيْنُ حَالٌّ، اسْتَوْفَاهُ بِدَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لَمْ يَحِلَّ، حَبَسَهُ رَهْنًا مَكَانَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ مَالًا مَمْلُوكًا مُتَقَوِّمًا بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ فَيَضْمَنُ مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ وَكَانَ رَهْنًا مَكَانَهُ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ الرَّاهِنُ فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا، يُطَالَبُ بِالدَّيْنِ لَا فَائِدَةَ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالضَّمَانِ، فَيُطَالَبُ بِالدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَحِلَّ، أَخَذَ الْمُرْتَهِنُ مِنْهُ بِالضَّمَانِ فَأَمْسَكَهُ إلَى أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ، وَإِذَا كَانَ فِي الرَّهْنِ نَمَاءٌ كَاللَّبَنِ وَالْوَلَدِ فَاسْتَهْلَكَهُ الْمُرْتَهِنُ أَوْ الرَّاهِنُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ بِأَنْ كَانَ الرَّهْنُ شَاةً قِيمَتُهَا عَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ، فَحُلِبَتْ أَوْ وَلَدَتْ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ. (أَمَّا) وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَالْمُرْتَهِنِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِلْكُ الرَّاهِنِ وَإِتْلَافُ مَالٍ مَمْلُوكٍ لِلْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ يُوجِبُ الضَّمَانَ. (وَأَمَّا) وُجُوبُهُ عَلَى الرَّاهِنِ؛ فَلِأَنَّ الْمُتْلَفَ وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ لَكِنْ لِلْمُرْتَهِنِ فِيهِ حَقٌّ قَوِيٌّ فَيَلْحَقُ بِالْمِلْكِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ، كَانَ الضَّمَانُ مَعَ الشَّاةِ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَرْهُونِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ، فَإِنْ هَلَكَ الضَّمَانُ، لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ بِالدَّيْنِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ لَوْ هَلَكَ يَهْلِكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ كَذَا الْبَدَلُ وَإِنْ هَلَكَتْ الشَّاةُ، سَقَطَتْ حِصَّتُهَا مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهَا مَرْهُونَةٌ مَقْصُودَةٌ فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْهَلَاكِ، وَيَفْتَكُّ الرَّاهِنُ ضَمَانَ الزِّيَادَةِ بِقَدْرِهَا مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَصِيرُ مَقْصُودَةً بِالْفِكَاكِ فَيَصِيرُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الدَّيْنِ، هَذَا إذَا كَانَ الِاسْتِهْلَاكُ بِغَيْرِ إذْنٍ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بِإِذْنٍ بِأَنْ قَالَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ: احْلِبْ الشَّاةَ، فَمَا حَلَبَتْ

فَهُوَ حَلَالٌ لَكَ. أَوْ قَالَ لَهُ: كُلْ هَذَا الْحِمْلَ فَحَلَبَ وَشَرِبَ وَأَكَلَ حَلَّ لَهُ ذَلِكَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِلْكُ الرَّاهِنِ فَيَصِحُّ إذْنُهُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ، حَتَّى لَوْ جَاءَ الرَّاهِنُ يَفْتَكُّ الشَّاةَ يَفْتَكُّهَا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الْمُرْتَهِنِ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ مُضَافٌ إلَى الرَّاهِنِ كَأَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِنَفْسِهِ. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ وَكَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمُتْلَفِ. كَذَا هَذَا، وَإِنْ لَمْ يَفْتَكَّهَا حَتَّى هَلَكَ، تَهْلِكُ بِحِصَّتِهَا مِنْ الدَّيْنِ، فَيُقْسَمُ الدَّيْنُ عَلَيْهَا وَعَلَى لَبَنِهَا أَوْ وَلَدِهَا عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهَا، فَمَا كَانَ حِصَّةَ الشَّاةِ يَسْقُطُ وَمَا كَانَ حِصَّةَ الزِّيَادَةِ يَبْقَى، وَيُخَاطَبُ الرَّاهِنُ بِقَضَائِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُرْتَهِنِ لَمَّا كَانَ مُضَافًا إلَى الرَّاهِنِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ لِلزِّيَادَةِ حِصَّةٌ مِنْ الدَّيْنِ، فَيُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ فَإِنْ كَانَ فِيهَا خَمْسَةٌ، كَانَ فِيهَا ثُلُثُ الدَّيْنِ وَفِي الشَّاةِ ثُلُثَاهُ، فَإِذَا هَلَكَتْ الشَّاةُ، ذَهَبَ ثُلُثَا الدَّيْنِ وَبَقِيَ الثُّلُثُ وَعَلَى الرَّاهِنِ قَضَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ، فَالْجَوَابُ فِيهِ وَفِي الْمُرْتَهِنِ إذَا اسْتَهْلَكَهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ سَوَاءٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الرَّاهِنُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ لَا لِحَقِّ نَفَسِهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَقَدْ أَبْطَلَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّ نَفَسِهِ بِالْإِذْنِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الضَّمَانَ، وَجُعِلَ كَأَنَّ الزِّيَادَةَ هَلَكَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَبَقِيَتْ الشَّاةُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمَرْهُونُ مِنْ بَنِي آدَمَ فَجَنَى عَلَيْهِ، فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي جِنَايَاتِ الرَّهْنِ أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: جِنَايَةُ غَيْرِ الرَّهْنِ عَلَى الرَّهْنِ، وَجِنَايَةُ الرَّهْنِ عَلَى غَيْرِ الرَّهْنِ، وَجِنَايَةُ الرَّهْنِ عَلَى الرَّهْنِ أَمَّا جِنَايَةُ غَيْرِ الرَّهْنِ عَلَى الرَّهْنِ: فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي النَّفْسِ وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ، وَالْجَانِي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، فَإِنْ كَانَتْ فِي النَّفْسِ عَمْدًا وَالْجَانِي حُرٌّ، فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَقْتَصَّ إذَا اجْتَمَعَا عَلَى الِاقْتِصَاصِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَيْسَ لَهُ الِاقْتِصَاصُ وَإِنْ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاخْتِلَافَ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى قَاتِلِهِ وَإِنْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَلِيٍّ، وَالْوَلِيُّ هُنَا غَيْرُ مَعْلُومٍ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْعَيْنِ وَالرَّقَبَةِ لِلرَّاهِنِ وَمِلْكَ الْيَدِ وَالْحَبْسِ لِلْمُرْتَهِنِ، فَكَانَ الْعَبْدُ مُضَافًا إلَى الرَّاهِنِ مِنْ وَجْهٍ وَإِلَى الْمُرْتَهِنِ مِنْ وَجْهٍ؛ فَصَارَ الْوَلِيُّ مُشْتَبَهًا مَجْهُولًا، وَجَهَالَةُ الْوَلِيِّ تَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ كَعَبْدِ الْمُكَاتَبِ إذَا قُتِلَ عَمْدًا، أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْ قَاتِلِهِ وَإِنْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبُ؛ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا قُتِلَ عَمْدًا، أَنَّ لَهُمَا الِاقْتِصَاصَ إذَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْوِلَايَةَ لَهُمَا ثَابِتَةٌ عَلَى الشَّرِكَةِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَكَانَ الْوَلِيُّ مَعْلُومًا فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ لَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمِلْكِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمِلْكَ لِلرَّاهِنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِنَّمَا لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْحَبْسِ فَقَطْ، وَالْمِلْكُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ فَكَانَ الْوَلِيُّ مَعْلُومًا، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَتَوَقَّفَ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى رِضَا الْمُرْتَهِنِ، إلَّا أَنَّهُ تَوَقَّفَ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ، فَإِذَا رَضِيَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ، بِخِلَافِ عَبْدِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ لِلْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ وَلِلْمُكَاتَبِ مِنْ وَجْهٍ، فَلَمْ يَكُنْ الْمِلْكُ فِيهِ ثَابِتًا لِلْمَوْلَى مُطْلَقًا وَلَا لِلْمُكَاتَبِ مُطْلَقًا؛ فَأَشْبَهَ الْوَلِيَّ فَامْتَنَعَ الِاسْتِيفَاءُ وَإِذَا اُقْتُصَّ الْقَاتِلُ سَقَطَ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا كَانَ رَهْنًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ، وَقَدْ بَطَلَتْ مَالِيَّتُهُ بِالْقَتْلِ لَا إلَى بَدَلٍ، إذْ الْقِصَاصُ لَا يَصْلُحُ بَدَلًا عَنْ الْمَالِيَّةِ فَسَقَطَ الْقِصَاصُ كَمَا لَوْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ، هَذَا إذَا اجْتَمَعَا عَلَى الْقِصَاصِ، (فَأَمَّا) إذَا اخْتَلَفَا لَا يُقْتَصُّ الْقَاتِلُ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الِاقْتِصَاصِ لِلْمُرْتَهِنِ لِعَدَمِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَلَا لِلرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ فِي اسْتِيفَائِهِ إبْطَالَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَهُوَ الدَّيْنُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَعَلَى الْقَاتِلِ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَكَانَتْ الْقِيمَةُ رَهْنًا. وَلَوْ اخْتَلَفَا فَأَبْطَلَ الْقَاضِي الْقِصَاصَ، ثُمَّ قَضَى الرَّاهِنُ الدَّيْنَ فَلَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ وَإِنْ بَطَلَ بِالْفِكَاكِ لَكِنْ بَعْدَ مَا حَكَمَ الْقَاضِي بِبُطْلَانِ الْقِصَاصِ، فَلَا يَحْتَمِلُ الْعُودَ وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ قِيمَتُهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ يَقْبِضُهَا الْمُرْتَهِنُ فَتَكُونُ رَهْنًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - حَتَّى لَا تُزَادَ دِيَتُهُ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ، وَلَكِنَّهُ مَرْهُونٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ؛ فَجَازَ أَنْ تَقُومَ قِيمَتُهُ مَقَامَهُ وَتَكُونَ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الرَّهْنُ مُؤَجَّلًا، كَانَتْ فِي يَدِهِ إلَى حَلِّ الْأَجَلِ، وَإِذَا حَلَّ

فَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ مِنْ جِنْس الدَّيْنِ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ مِنْهَا، وَإِنْ بَقِيَ فِيهَا فَضْلٌ رَدَّهُ عَلَى الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ اسْتَوْفَى مِنْهَا مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِهَا بِالْفَضْلِ أَيْ يَرْجِعُ بِالْبَقِيَّةِ عَلَى الرَّاهِنِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الدَّيْنِ حَبَسَهَا فِي يَدِهِ إلَى وَقْتِ الْفِكَاكِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا فَالْحُكْمُ فِيهِ وَفِيمَا إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا فَحَلَّ سَوَاءٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْعَبْدِ فِي ضَمَانِ الِاسْتِهْلَاكِ يَوْمَ الِاسْتِهْلَاكِ وَفِي ضَمَانِ الرَّهْنِ يَوْمَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الِاسْتِهْلَاكِ يَجِبُ بِالِاسْتِهْلَاكِ وَضَمَانَ الرَّهْنِ يَجِبُ بِالْقَبْضِ، فَيُعْتَبَرُ حَالُ وُجُودِ السَّبَبِ حَتَّى لَوْ كَانَ الدَّيْنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ يَوْمَ الرَّهْنِ أَلْفًا فَانْتَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَتَرَاجَعَتْ إلَى خَمْسِمِائَةٍ فَقُتِلَ غَرِمَ الْقَاتِلُ خَمْسَمِائَةٍ وَسَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ خَمْسُمِائَةٍ، وَإِذَا غَرِمَ خَمْسَمِائَةٍ بِالِاسْتِهْلَاكِ، كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ رَهْنًا بِمِثْلِهَا مِنْ الدَّيْنِ وَيَسْقُطُ الْبَاقِي مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا كُلَّ الدَّيْنِ بِهَا وَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الرِّبَا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَهُ عَبْدٌ أَقَلَّ قِيمَةً مِنْهُ فَدُفِعَ بِهِ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ كُلِّ الدَّيْنِ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ جَازَ وَإِنْ كَانَ لَا يُسَاوِيهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ رِبًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَهُ الْمُرْتَهِنُ، يَغْرَمُ قِيمَتَهُ وَالْحُكْمُ فِيهِ وَفِي الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَلَوْ قَتَلَهُ الرَّاهِنُ فَهَذَا، وَمَا إذَا كَانَ الرَّهْنُ مِنْ غَيْرِ بَنِي آدَمَ سَوَاءٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ هَذَا إذَا كَانَ الْجَانِي حُرًّا. (أَمَّا) إذَا كَانَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً، يُخَاطَبُ مَوْلَى الْقَاتِلِ بِالدَّفْعِ أَوْ بِالْفِدَاءِ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ، فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ مِثْلَ قِيمَةِ الْمَدْفُوعِ أَوْ أَكْثَرَ فَالْمَدْفُوعُ رَهْنٌ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى الِافْتِكَاكِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ أَلْفًا وَالدَّيْنُ أَلْفٌ وَقِيمَةُ الْمَدْفُوعِ مِائَةٌ فَهُوَ رَهْنٌ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ أَيْضًا وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى الِافْتِكَاكِ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، كَمَا كَانَ يُجْبَرُ عَلَى افْتِكَاكِ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ لَوْ كَانَ حَيًّا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ لَمْ يَكُنْ بِقِيمَةِ الْقَاتِلِ وَفَاءٌ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ، فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ لِلْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ، فَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْجَعْلِ بِالدَّيْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَبْرِ عَلَى الِافْتِكَاكِ وَهُنَا تَعَذَّرَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالرَّاهِنِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا دُفِعَ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ؛ قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ لَحْمًا وَدَمًا، وَالْأَوَّلُ كَانَ رَهْنًا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَكَانَ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى الِافْتِكَاكِ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، فَكَذَا الثَّانِي، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ الْمُرْتَهَنُ نَقَصَ فِي السِّعْرِ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَقَتَلَهُ عَبْدٌ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَدُفِعَ بِهِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، هَذَا إذَا كَانَ اخْتَارَ مَوْلَى الْقَاتِلِ الدَّفْعَ، فَأَمَّا إذَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَإِنَّهُ يَفْدِيهِ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ، وَكَانَتْ الْقِيمَةُ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ اسْتَوْفَى دَيْنَهُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ حَبَسَهَا رَهْنًا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ دَيْنِهِ، وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى الِافْتِكَاكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُخَيَّرُ الرَّاهِنُ بَيْنَ الِافْتِكَاكِ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَبَيْنَ التَّرْكِ لِلْمُرْتَهِنِ بِالدَّيْنِ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ هَذَا إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي النَّفْسِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَإِنْ كَانَ الْجَانِي حُرًّا، يَجِبُ أَرْشُهُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى عَاقِلَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا. (أَمَّا) الْوُجُوبُ فِي مَالِهِ؛ فَلِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ (وَأَمَّا) التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ؛ فَلِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجْرِي بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ فَاسْتَوَى فِيهِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ فِي وُجُوبِ الْأَرْشِ فَكَانَ الْأَرْشُ رَهْنًا مَعَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ جُزْءٍ مَرْهُونٍ، وَإِنْ كَانَ الْجَانِي عَبْدًا، يُخَاطَبُ مَوْلَاهُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ بِالْأَرْشِ كَانَ الْأَرْشُ مَعَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ رَهْنًا، وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ يَكُونُ الْجَانِي مَعَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ رَهْنًا، وَالْخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ لَهُ، وَالْجَانِي فَوَّتَ الْحَبْسَ عَنْ بَعْضِ أَجْزَاءِ الرَّهْنِ فَلَهُ أَنْ يُقِيمَ بَدَلَ الْفَائِتِ فَيُقِيمَهُ مَقَامَهُ رَهْنًا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ جِنَايَةِ غَيْرِ الرَّهْنِ عَلَى الرَّهْنِ. (وَأَمَّا) حُكْمُ جِنَايَةِ الرَّهْنِ عَلَى غَيْرِ الرَّهْنِ: فَجِنَايَتُهُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ عَلَى بَنِي آدَمَ، وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ بَنِي آدَمَ مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى بَنِي آدَمَ، فَلَا تَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ عَمْدًا وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ خَطَأً أَوْ فِي مَعْنَاهُ فَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا، يُقْتَصُّ مِنْهُ كَمَا إذَا لَمْ تَكُنْ رَهْنًا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّاهِنِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ إذَا لَمْ يَكُنْ رَهْنًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمِلْكُ مَانِعًا فَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ دُونَ الْمِلْكِ سَوَاءٌ قَتَلَ أَجْنَبِيًّا أَوْ الرَّاهِنَ أَوْ الْمُرْتَهِنَ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ ضَمَانُ الدَّمِ، وَلَا حَقَّ لِلْمَوْلَى فِي دَمِهِ بَلْ هُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ، وَكَذَا لِلْمُرْتَهِنِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى إذْ الثَّابِتُ لَهُ الْحَقُّ وَالْحَقُّ دُونَ الْمِلْكِ فَصَارَتْ جِنَايَتُهُ

عَلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ فِي حَقِّ الْقِصَاصِ، وَجِنَايَتُهُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءً، وَإِذَا قُتِلَ قِصَاصًا سَقَطَ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ هَلَاكَهُ حَصَلَ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ فَسَقَطَ دِيَتُهُ، كَمَا إذَا هَلَكَ بِنَفْسِهِ هَذَا إذَا كَانَتْ جِنَايَتُهُ عَمْدًا، (فَأَمَّا) إذَا كَانَتْ خَطَأً أَوْ مُلْحَقَةً بِالْخَطَأِ، فَإِنْ كَانَتْ شِبْهَ عَمْدٍ أَوْ كَانَتْ عَمْدًا، لَكِنَّ الْقَاتِلَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، أَوْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَإِنَّهُ يُدْفَعُ أَوْ يُفْدَى؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَاتِ مِنْ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ تُوجِبُ الدَّفْعَ أَوْ الْفِدَاءَ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْعَبْدُ كُلُّهُ مَضْمُونًا بِأَنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ دُونَهُ، نَحْوُ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفًا، وَالدَّيْنُ أَلْفًا، أَوْ كَانَ الدَّيْنُ أَلْفًا وَقِيمَةُ الْعَبْدِ خَمْسَمِائَةٍ يُخَاطَبُ الْمُرْتَهِنُ أَوَّلًا بِالْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ بِالْفِدَاءِ يَسْتَبْقِي حَقَّ نَفَسِهِ فِي الرَّهْنِ بِتَطْهِيرِهِ عَنْ الْجِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ. وَلَوْ بُدِئَ بِالرَّاهِنِ وَخُوطِبَ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ عَلَى مَا هُوَ حُكْمُ الشَّرْعِ فَرُبَّمَا يَخْتَارُ الدَّفْعَ فَيَبْطُلُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ وَيَسْقُطُ دَيْنُهُ فَكَانَتْ الْبُدَاءَةُ بِخِطَابِ الْمُرْتَهِنِ بِالْفِدَاءِ أَوْلَى. وَإِذَا فَدَاهُ بِالْأَرْشِ، فَقَدْ اسْتَخْلَصَهُ وَاسْتَصْفَاهُ عَنْ الْجِنَايَةِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ أَصْلًا، فَيَبْقَى رَهْنًا كَمَا كَانَ، وَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِمَّا فَدَى عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ فَدَى مِلْكَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فِيهِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ، كَمَا لَوْ فَدَاهُ أَجْنَبِيٌّ وَلِأَنَّهُ بِالْفِدَاءِ أَصْلَحَ الرَّهْنَ بِاخْتِيَارِهِ وَاسْتَبْقَى حَقَّ نَفْسِهِ، فَكَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ بِالْفِدَاءِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ تَمْلِيكُ الرَّقَبَةِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ، وَإِنْ أَبَى الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَفْدِيَ، يُخَاطَبُ الرَّاهِنُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْخِطَابِ هُوَ الرَّاهِنُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ، وَإِنَّمَا يُبْدَأُ بِالْمُرْتَهِنِ بِخِطَابِ الْفِدَاءِ صِيَانَةً لِحَقِّهِ، فَإِذَا أَبَى عَادَ الْأَمْرُ إلَى الْأَصْلِ، فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ بَطَلَ الرَّهْنُ وَسَقَطَ الدَّيْنُ. (أَمَّا) بُطْلَانُ الرَّهْنِ؛ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ زَالَ عَنْ مِلْكِهِ بِالدَّفْعِ إلَى خَلَفٍ فَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ رَهْنًا وَأَمَّا سُقُوطُ الدَّيْنِ؛ فَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الزَّوَالِ حَصَلَ بِمَعْنًى فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ هَلَكَ فِي يَدِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاضِيًا بِمَا فَدَى الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّ الْفِدَاءَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ لِحُصُولِ الْجِنَايَةِ فِي ضَمَانِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَبَى الْفِدَاءَ، وَالرَّاهِنُ مُحْتَاجٌ إلَى اسْتِخْلَاصِ عَبْدِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إلَّا بِالْفِدَاءِ؛ فَكَانَ مُضْطَرًّا فِي الْفِدَاءِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِمَا فَدَى، وَلَهُ عَلَى الرَّاهِنِ مِثْلُهُ فَيَصِيرُ قِصَاصًا بِهِ وَإِذَا صَارَ قَاضِيًا دَيْنَ الْمُرْتَهِنِ مِمَّا فَدَى، يُنْظَرُ إلَى مَا فَدَى وَإِلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَإِلَى الدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْفِدَاءُ مِثْلَ الدَّيْنِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ أَكْثَرَ سَقَطَ الدَّيْنُ كُلُّهُ، وَإِنْ كَانَ الْفِدَاءُ أَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ أَكْثَرَ سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِ الْفِدَاءِ، وَحُبِسَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِالْبَاقِي، وَإِنْ كَانَ الْفِدَاءُ قَدْرَ الدَّيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ يَسْقُطُ مِنْ الدَّيْنِ قَدْرُ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَلَا يَسْقُطُ أَكْثَرُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ، لَا يَسْقُطُ مِنْ الدَّيْنِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ فَكَذَا عِنْدَ الْفِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ بَعْضُهُ مَضْمُونًا وَالْبَعْضُ أَمَانَةً، بِأَنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَيْنِ وَالدَّيْنِ أَلْفًا فَالْفِدَاءُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ نِصْفَهُ مَضْمُونٌ وَنِصْفَهُ أَمَانَةٌ، فَكَانَ فِدَاءُ نِصْفِ الْمَضْمُونِ مِنْهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَفِدَاءُ نِصْفِ الْأَمَانَةِ عَلَى الرَّاهِنِ فَيُخَاطَبَانِ جَمِيعًا بِالدَّفْعِ أَوْ بِالْفِدَاءِ، وَالْمَعْنَى مِنْ خِطَابِ الدَّفْعِ فِي جَانِبِ الْمُرْتَهِنِ، الرِّضَا بِالدَّفْعِ لَا فِعْلُ الدَّفْعِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الدَّفْعِ لَيْسَ إلَيْهِ، ثُمَّ إذَا خُوطِبَ بِذَلِكَ، (إمَّا) أَنْ اجْتَمَعَا عَلَى الدَّفْعِ، (وَإِمَّا) أَنْ اجْتَمَعَا عَلَى الْفِدَاءِ، (وَإِمَّا) أَنْ اخْتَلَفَا، فَاخْتَارَ أَحَدُهُمَا الدَّفْعَ وَالْآخَرُ الْفِدَاءَ، وَالْحَالُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَا حَاضِرَيْنِ وَإِمَّا أَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا، فَإِنْ كَانَا حَاضِرَيْنِ وَاجْتَمَعَا عَلَى الدَّفْعِ وَدَفَعَا، فَقَدْ سَقَطَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ بِمَنْزِلَةِ الْهَلَاكِ وَإِنْ اجْتَمَعَا عَلَى الْفِدَاءِ، فَدَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الْأَرْشِ، وَإِذَا فَدَيَا طَهُرَتْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ عَنْ الْجِنَايَةِ وَيَكُونُ رَهْنًا كَمَا كَانَ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَبَرِّعًا حَتَّى لَا يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا فَدَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَدَّى مَا عَلَيْهِ فَكَانَ مُؤَدِّيًا عَنْ نَفَسِهِ لَا عَنْ صَاحِبِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا الْفِدَاءَ وَالْآخَرُ الدَّفْعَ، فَأَيُّهُمَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَاخْتِيَارُهُ أَوْلَى. (أَمَّا) الْمُرْتَهِنُ؛ فَلِأَنَّهُ بِالْفِدَاءِ يَسْتَبْقِي حَقَّ نَفَسِهِ وَلَا يُسْقِطُ حَقَّ الرَّاهِنِ، وَالرَّاهِنُ بِالدَّفْعِ يُسْقِطُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فَكَانَ اخْتِيَارُ الْمُرْتَهِنِ أَوْلَى وَأَمَّا الرَّاهِنُ؛ فَلِأَنَّهُ يَسْتَبْقِي مِلْكَ الرَّقَبَةِ بِالْفِدَاءِ وَالْمُرْتَهِنُ بِاخْتِيَارِ الدَّفْعِ يُرِيدُ إسْقَاطَ دَيْنِهِ وَإِبْطَالَ مِلْكِ الرَّاهِنِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي اخْتِيَارِ الدَّفْعِ نَفْعٌ بَلْ كَانَ سَفَهًا مَحْضًا وَتَعَنُّتًا بَارِدًا؛ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، فَكَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَفْدِيَ ثُمَّ أَيُّهُمَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى الْعَبْدَ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ وَلَا يَمْلِكُ الْآخَرُ دَفْعَهُ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الَّذِي اخْتَارَ الدَّفْعَ هُوَ الْمُرْتَهِنَ فَفَدَى بِجَمِيعِ الْأَرْشِ، بَقِيَ الْعَبْدُ رَهْنًا كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ طَهُرَتْ رَقَبَتُهُ عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ، وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ

بِدَيْنِهِ، وَهَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِحِصَّةِ الْأَمَانَةِ؟ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يَرْجِعُ بَلْ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا، وَفِي رِوَايَةٍ يَرْجِعُ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَّا بِدَيْنِهِ خَاصَّةً، وَلَمْ يَذْكُرْ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُ الْتَزَمَ الْفِدَاءَ بِاخْتِيَارِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ لَا يَلْتَزِمَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَلْتَزِمْ لَخُوطِبَ الرَّاهِنُ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فِيهِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَحْتَاجُ إلَى إصْلَاحِ قَدْرِ الْمَضْمُونِ مِنْهُ وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِصْلَاحِ قَدْرِ الْأَمَانَةِ، فَكَانَ مُضْطَرًّا فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا، وَإِنْ كَانَ الَّذِي اخْتَارَ الْفِدَاءَ هُوَ الرَّاهِنَ فَفَدَاهُ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ، لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بَلْ يَكُونُ قَاضِيًا بِنِصْفِ الْفِدَاءِ دَيْنَ الْمُرْتَهِنِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ نِصْفُ الْفِدَاءِ مِثْلَ كُلِّ الدَّيْنِ سَقَطَ الدَّيْنُ كُلُّهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِهِ وَرَجَعَ بِالْفَضْلِ عَلَى الرَّاهِنِ وَيَحْبِسُهُ رَهْنًا بِهِ، هَذَا إذَا كَانَا حَاضِرَيْنِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا حَاضِرًا فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الدَّفْعِ أَيَّهُمَا كَانَ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُرْتَهِنَ أَوْ الرَّاهِنَ أَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِي الْعَبْدِ أَصْلًا، وَالدَّفْعُ تَمْلِيكٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْمِلْكِ. وَأَمَّا الرَّاهِنُ؛ فَلِأَنَّ الدَّفْعَ إسْقَاطُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَلَهُ وِلَايَةُ الْفِدَاءِ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ، فَإِنْ كَانَ الْحَاضِرُ هُوَ الْمُرْتَهِنَ فَفَدَاهُ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ، لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِي نِصْفِ الْفِدَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِدَيْنِهِ وَبِنِصْفِ الْفِدَاءِ، لَكِنَّهُ يَحْبِسُ الْعَبْدَ رَهْنًا بِالدَّيْنِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ رَهْنًا بِنِصْفِ الْفِدَاءِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كَانَ الْمُرْتَهِنُ مُتَبَرِّعًا فِي نِصْفِ الْفِدَاءِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ إلَّا بِدَيْنِهِ خَاصَّةً، كَمَا لَوْ فَدَاهُ بِحَضْرَةِ الرَّاهِنِ فَهُمَا سَوَّيَا بَيْنَ الْغَيْبَةِ وَالْحَضْرَةِ وَجَعَلَاهُ مُتَبَرِّعًا فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَّقَ بَيْنَ حَالِ الْحَضْرَةِ وَالْغَيْبَةِ فَجَعَلَهُ مُتَبَرِّعًا فِي الْحَضْرَةِ لَا فِي الْغَيْبَةِ، وَإِنْ كَانَ الْحَاضِرُ هُوَ الرَّاهِنَ فَفَدَاهُ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِي نِصْفِ الْفِدَاءِ بِالْإِجْمَاعِ بَلْ يَكُونُ قَاضِيًا بِنِصْفِ الْفِدَاءِ دَيْنَ الْمُرْتَهِنِ، كَمَا لَوْ فَدَاهُ الرَّاهِنُ بِحَضْرَةِ الْمُرْتَهِنِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُرْتَهِنَ فَدَى مِلْكَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا، كَمَا لَوْ فَدَاهُ أَجْنَبِيٌّ؛ وَلِهَذَا كَانَ مُتَبَرِّعًا فِي حَالَةِ الْحَضْرَةِ كَمَا فِي الْغَيْبَةِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فِي حَالِ الْحَضْرَةِ الْتَزَمَ الْفِدَاءَ بِاخْتِيَارِهِ مَعَ إمْكَانِ خِطَابِ الرَّاهِنِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا، وَالْخِطَابُ لَا يُمْكِنُ حَالَةَ الْغَيْبَةِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى إصْلَاحِ قَدْرِ الْمَضْمُونِ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِصْلَاحِ قَدْرِ الْأَمَانَةِ فَكَانَ مُضْطَرًّا فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ جِنَايَةِ الرَّهْنِ. (فَأَمَّا) حُكْمُ جِنَايَةِ وَلَدِ الرَّهْنِ بِأَنْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً فَحُكْمُهُ أَنَّهُ لَا فِدَاءَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَيُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ، أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْفِدَاءِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ فَلِأَنَّ خِطَابَهُ بِفِدَاءِ الرَّهْنِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِلْكَهُ لِحُصُولِ الْجِنَايَةِ مِنْ الرَّهْنِ فِي ضَمَانِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْوَلَدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ يَهْلِكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَأَمَّا خِطَابُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ؛ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ فَإِنْ دَفَعَهُ خَرَجَ الْوَلَدُ عَنْ الرَّهْنِ وَلَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ، أَمَّا خُرُوجُهُ عَنْ الرَّهْنِ فَلِزَوَالِ مِلْكِ الرَّاهِنِ عَنْهُ فَيَخْرُجُ عَنْ الرَّهْنِ كَمَا لَوْ هَلَكَ. وَأَمَّا عَدَمُ سُقُوطِ شَيْءٍ مِنْ الدَّيْنِ؛ فَلِأَنَّ الْوَلَدَ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْهَلَاكِ بِخِلَافِ الْأُمِّ وَإِنْ فَدَى فَهُوَ رَهْنٌ مَعَ أَنَّهُ عَلَى حَالِهِ، فَإِنْ اخْتَارَ الرَّاهِنُ الدَّفْعَ، فَقَالَ لَهُ الْمُرْتَهِنُ: أَنَا أَفْدِي فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَرْهُونٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلرَّهْنِ ثَابِتٌ فِيهِ وَهُوَ حَقُّ الْحَبْسِ، فَكَانَ الْفِدَاءُ مِنْهُ إصْلَاحًا لِلرَّهْنِ فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ هَذَا إذَا جَنَى الرَّهْنُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ، فَأَمَّا إذَا جَنَى عَلَى الرَّاهِنِ أَوْ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَمَّا جِنَايَتُهُ عَلَى نَفْسِ الْمُرْتَهِنِ جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلْمَالِ أَوْ عَلَى مَالِهِ فَهَدْرٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِلْكُهُ، وَالْمَوْلَى لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ بِخِلَافِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَوْ عَلَى مَالِهِ، عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمْلَكُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْجِنَايَةَ لَمْ تَكُنْ جِنَايَةَ الْعَبْدِ عَلَى مَوْلَاهُ وَأَمَّا جِنَايَتُهُ عَلَى نَفْسِ الْمُرْتَهِنِ فَهَدَرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مُعْتَبَرَةٌ، يُدْفَعُ أَوْ يُفْدَى إنْ رَضِيَ بِهِ الْمُرْتَهِنُ وَيَبْطُلُ الدَّيْنُ، وَإِنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ: لَا أَطْلُبُ الْجِنَايَةَ؛ لِمَا فِي الدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ مِنْ سُقُوطٍ حَقِّي، فَلَهُ ذَلِكَ وَبَطَلَتْ الْجِنَايَةُ وَالْعَبْدُ رَهْنٌ عَلَى حَالِهِ. هَكَذَا أَطْلَقَ الْكَرْخِيُّ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ وَفَصَّلَ فَقَالَ: إنْ كَانَ الْعَبْدُ كُلُّهُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ مَضْمُونًا وَبَعْضُهُ أَمَانَةً فَجِنَايَتُهُ مُعْتَبَرَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَيُقَالُ لِلرَّاهِنِ: إنْ شِئْتَ فَادْفَعْ، وَإِنْ شِئْتَ فَافْدِهِ فَإِنْ دَفَعَهُ وَقَبِلَ الْمُرْتَهِنُ، بَطَلَ الدَّيْنُ كُلُّهُ وَصَارَ الْعَبْدُ كُلُّهُ لِلرَّاهِنِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَنِصْفُ الْفِدَاءِ عَلَى الرَّاهِنِ وَنِصْفُهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَمَا

كَانَ حِصَّةَ الْمُرْتَهِنِ يَبْطُلُ وَمَا كَانَ حِصَّةَ الرَّاهِنِ يُفْدَى، وَالْعَبْدُ رَهْنٌ عَلَى حَالِهِ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي جِنَايَةِ الرَّهْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي جِنَايَتِهِ عِنْدَ الْغَصْبِ عَلَى الْغَاصِبِ أَنَّهَا هَدَرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا مُعْتَبَرَةٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذِهِ جِنَايَةٌ وَرَدَتْ عَلَى غَيْرِ الْمَالِكِ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً، كَمَا إذَا وَرَدَتْ عَلَى أَجْنَبِيٍّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْجِنَايَاتِ اعْتِبَارُهَا، وَسُقُوطُ الِاعْتِبَارِ لِمَكَانِ عَدَمِ الْفَائِدَةِ وَهُنَا فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ مُوجَبَهَا الدَّفْعُ وَلَهُ فِيهِ فَائِدَةٌ وَهُوَ الْوُصُولُ إلَى مِلْكِ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ سُقُوطُ دَيْنِهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ عَلَى غَيْرِ الْمَالِكِ لَكِنَّهَا وُجِدَتْ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ، فَوُرُودُهَا عَلَى غَيْرِ الْمَالِكِ إنْ كَانَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً، فَوُجُودُهَا فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ يَقْتَضِي أَنْ لَا تُعْتَبَرَ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْفِدَاءَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ لَهُ وَإِنَّهُ مُحَالٌ، فَوَقَعَ الشَّكُّ وَالِاحْتِمَالُ فِي اعْتِبَارِهَا فَلَا تُعْتَبَرُ. هَذَا إذَا جَنَى عَلَى نَفْسِ الْمُرْتَهِنِ، فَأَمَّا إذَا جَنَى عَلَى مَالِهِ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ وَالدَّيْنُ سَوَاءً وَلَيْسَ فِي قِيمَتِهِ فَضْلٌ فَجِنَايَتُهُ هَدَرٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ، إذْ لَيْسَ حُكْمُهَا وُجُوبَ الدَّفْعِ إلَى الْمُرْتَهِنِ لِيَمْلِكَهُ بَلْ تَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ، فَلَوْ بِيعَ وَأُخِذَ ثَمَنُهُ؛ لَسَقَطَ دَيْنُهُ فَلَمْ يَكُنْ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ فَائِدَةٌ فَلَا تُعْتَبَرُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ تُعْتَبَرُ الْجِنَايَةُ فِي قَدْرِ الْأَمَانَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ أَصْلًا وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الِاعْتِبَارِ كَوْنُ الْعَبْدِ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ، وَقَدْرُ الْأَمَانَةِ وَهُوَ الْفَضْلُ عَلَى الدَّيْنِ لَيْسَ فِي ضَمَانِهِ، فَأَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْجِنَايَةِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَضْمُونِ؛ لِثُبُوتِ حُكْمِ الرَّهْنِ فِيهِ وَهُوَ الْحَبْسُ فَيُمْنَعُ الِاعْتِبَارُ وَأَمَّا جِنَايَةُ الرَّهْنِ عَلَى ابْنِ الرَّاهِنِ أَوْ عَلَى ابْنِ الْمُرْتَهِنِ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الِاعْتِبَارِ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ هُوَ كَوْنُ الْعَبْدِ مَمْلُوكًا لَهُ، وَفِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ كَوْنُهُ فِي ضَمَانِهِ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ هُنَا فَكَانَتْ جِنَايَتُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءً هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ جِنَايَةِ الرَّهْنِ عَلَى بَنِي آدَمَ. وَأَمَّا حُكْمُ جِنَايَتِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَمْوَالِ، بِأَنْ اسْتَهْلَكَ مَالًا يَسْتَغْرِقُ رَقَبَتَهُ فَحُكْمُهَا، وَحُكْمُ جِنَايَةِ غَيْرِ الرَّهْنِ سَوَاءٌ، وَهُوَ تَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ، إلَّا إذَا قَضَى الرَّاهِنُ أَوْ الْمُرْتَهِنُ دَيْنَهُ، فَإِذَا قَضَاهُ أَحَدُهُمَا فَالْحُكْمُ فِيهِ وَالْحُكْمُ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْفِدَاءِ مِنْ جِنَايَتِهِ عَلَى بَنِي آدَمَ سَوَاءٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ قَضَى الْمُرْتَهِنُ الدَّيْنَ، بَقِيَ دَيْنُهُ وَبَقِيَ الْعَبْدُ رَهْنًا عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْفِدَاءِ اسْتَفْرَغَ رَقَبَةَ الْعَبْدِ عَنْ الدَّيْنِ وَاسْتَصْفَاهَا عَنْهُ فَيَبْقَى الْعَبْدُ رَهْنًا بِدَيْنِهِ، كَمَا كَانَ لَوْ فَدَاهُ عَنْ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ أَبَى الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَقْضِيَ وَقَضَاهُ الرَّاهِنُ، بَطَلَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْفِدَاءِ مِنْ الْجِنَايَةِ، فَإِنْ امْتَنَعَا عَنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ، يُبَاعُ الْعَبْدُ بِالدَّيْنِ وَيُقْضَى دَيْنُ الْغَرِيمِ مِنْ ثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى، فَعَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ، ثُمَّ إذَا بِيعَ الْعَبْدُ وَقُضِيَ دَيْنُ الْغَرِيمِ مِنْ ثَمَنِهِ فَثَمَنُهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ وَفَاءٌ بِدَيْنِ الْغَرِيمِ، وَإِمَّا أَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَفَاءٌ بِهِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ، فَدَيْنُهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ سَقَطَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ زَالَ عَنْ مِلْكِ الرَّاهِنِ بِسَبَبٍ وُجِدَ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ فَصَارَ كَأَنَّهُ هَلَكَ، وَمَا فَضَلَ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ يَكُونُ لِلرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ فَيَكُونُ لَهُ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ سَقَطَ مِنْ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ بِقَدْرِهِ، وَمَا فَضَلَ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ يَكُونُ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ بِمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ فِيهِ فَيَبْقَى رَهْنًا، ثُمَّ إنْ كَانَ الدَّيْنُ قَدْ حَلَّ أَخَذَهُ بِدَيْنِهِ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ أَمْسَكَهُ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لَمْ يَحِلَّ أَمْسَكَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِ إلَى أَنْ يَحِلَّ هَذَا إذَا كَانَ كُلُّ الْعَبْدِ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ نِصْفُهُ مَضْمُونًا وَنِصْفُهُ أَمَانَةً، لَا يُصْرَفُ الْفَاضِلُ كُلُّهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ بَلْ يُصْرَفُ نِصْفُهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ وَنِصْفُهُ إلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْأَمَانَةِ لَا دَيْنَ فِيهِ، فَيُصْرَفُ ذَلِكَ إلَى الرَّاهِنِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَدْرُ الْمَضْمُونِ مِنْهُ وَالْأَمَانَةِ عَلَى التَّفَاضُلِ، يُصْرَفُ الْفَضْلُ إلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ تَفَاوُتِ الْمَضْمُونِ وَالْأَمَانَةِ فِي ذَلِكَ؛ لِمَا قُلْنَا لَمْ يَكُنْ فِي ثَمَنِ الْعَبْدِ وَفَاءٌ بِدَيْنِ الْغَرِيمِ أَخَذَ الْغَرِيمُ ثَمَنَهُ وَمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِ يَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعَتَاقِ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْ أَحَدٍ، إنَّمَا وُجِدَ مِنْهُ وَحُكْمُهُ: تَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ وَاسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهَا، فَإِذَا لَمْ تَفِ رَقَبَتُهُ بِالدَّيْنِ، يَتَأَخَّرُ مَا بَقِيَ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَإِذَا أُعْتِقَ وَأَدَّى الْبَاقِيَ، لَا يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى

عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ حُكْمُ جِنَايَةِ وَلَدِ الرَّهْنِ عَلَى سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَحُكْمُ جِنَايَةِ الْأُمِّ سَوَاءٌ، فِي أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ كَمَا فِي الْأُمِّ، إلَّا أَنَّ هُنَا لَا يُخَاطَبُ الْمُرْتَهِنُ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْغَرِيمِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الدَّيْنِ لَمْ يُوجَدْ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ؛ وَلِأَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ بِخِلَافِ الْأُمِّ، بَلْ يُخَاطَبُ الرَّاهِنُ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَ الْوَلَدَ بِالدَّيْنِ وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَإِنْ قَضَى الدَّيْنَ، بَقِيَ الْوَلَدُ رَهْنًا كَمَا كَانَ، وَإِنْ بِيعَ بِالدَّيْنِ، لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ، بِخِلَافِ الْأُمِّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ جِنَايَةِ غَيْرِ الرَّهْنِ عَلَى الرَّهْنِ وَحُكْمُ جِنَايَةِ الرَّهْنِ عَلَى غَيْرِ الرَّهْنِ. فَأَمَّا حُكْمُ جِنَايَةِ الرَّهْنِ عَلَى الرَّهْنِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: جِنَايَةُ الرَّهْنِ عَلَى الرَّهْنِ نَوْعَانِ: جِنَايَةٌ عَلَى الرَّهْنِ نَفَسِهِ، وَجِنَايَةٌ عَلَى جِنْسِهِ. أَمَّا جِنَايَتُهُ عَلَى نَفَسِهِ: فَهِيَ وَالْهَلَاكُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ سَوَاءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْعَبْدُ كُلُّهُ مَضْمُونًا، سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِ النُّقْصَانِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ مَضْمُونًا وَبَعْضُهُ أَمَانَةً، سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ قَدْرُ مَا انْتَقَصَ مِنْ الْمَضْمُونِ لَا مِنْ الْأَمَانَةِ وَأَمَّا جِنَايَةُ الرَّهْنِ عَلَى نَفَسِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ أَيْضًا: جِنَايَةِ بَنِي آدَمَ عَلَى جِنْسِهِ، وَجِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ عَلَى جِنْسِهَا وَعَلَى غَيْرِ جِنْسِهَا. أَمَّا جِنَايَةُ بَنِي آدَمَ عَلَى جِنْسِهِ: بِأَنْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدَيْنِ فَجَنَى أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَالْعَبْدَانِ لَا يَخْلُو أَمَّا إنْ كَانَا رَهْنًا فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِمَّا إنْ كَانَا رَهْنًا فِي صَفْقَتَيْنِ فَإِنْ كَانَا رَهْنًا فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ فَجَنَى أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، فَجِنَايَتُهُ لَا تَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: جِنَايَةِ الْمَشْغُولِ عَلَى الْمَشْغُولِ وَجِنَايَةِ الْمَشْغُولِ عَلَى الْفَارِغِ وَجِنَايَةِ الْفَارِغِ عَلَى الْفَارِغِ وَجِنَايَةِ الْفَارِغِ عَلَى الْمَشْغُولِ، وَالْكُلُّ هَدَرٌ إلَّا وَاحِدَةً: وَهِيَ جِنَايَةُ الْفَارِغِ عَلَى الْمَشْغُولِ، فَإِنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ، وَيَتَحَوَّلُ مَا فِي الْمَشْغُولِ مِنْ الدَّيْنِ إلَى الْفَارِغِ، وَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ. أَمَّا جِنَايَةُ الْمَشْغُولِ عَلَى الْمَشْغُولِ؛ فَلِأَنَّهَا لَوْ اُعْتُبِرَتْ إمَّا أَنْ تُعْتَبَرَ لِحَقِّ الْمَوْلَى أَعْنِي الرَّاهِنَ، وَإِمَّا أَنْ تُعْتَبَرَ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَالِاعْتِبَارُ لِحَقِّ الرَّهْنِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْكُهُ، وَجِنَايَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَمْلُوكِ سَاقِطَةُ الِاعْتِبَارِ لِحَقِّ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا فِي حَقِّهِ لِوُجُوبِ الدَّفْعِ عَلَيْهِ أَوْ الْفِدَاءِ لَهُ، وَإِيجَابُ شَيْءٍ عَلَى الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ مُمْتَنِعٌ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ، وَلَا سَبِيلَ إلَى اعْتِبَارِ جِنَايَةِ الْمَشْغُولِ عَلَى الْمَشْغُولِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِحَقِّهِ يُحَوِّلُ مَا فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ إلَى الْجَانِي، وَالْجَانِي مَشْغُولٌ بِدَيْنِ نَفْسِهِ، وَالْمَشْغُولُ بِنَفْسِهِ لَا يَشْتَغِلُ بِغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ جِنَايَةُ الْمَشْغُولِ عَلَى الْفَارِغِ؛ لِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا جِنَايَةُ الْفَارِغِ عَلَى الْفَارِغِ؛ فَلِأَنَّهُ لَا دَيْنَ لِلْفَارِغِ لِيَتَحَوَّلَ إلَى الْجَانِي فَلَا يُفِيدُ اعْتِبَارُهَا فِي حَقِّهِ. وَأَمَّا جِنَايَةُ الْفَارِغِ عَلَى الْمَشْغُولِ فَمُمْكِنُ الِاعْتِبَارِ لِحَقٍّ يَتَحَوَّلُ مَا فِيهِ مِنْ الدَّيْنِ إلَى الْفَارِغِ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ: إذَا كَانَ الدَّيْنُ أَلْفَيْنِ وَالرَّهْنُ عَبْدَيْنِ، يُسَاوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ جَنَى عَلَيْهِ جِنَايَةً فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِمَّا قَلَّ أَرْشُهَا أَوْ كَثُرَ فَجِنَايَتُهُ هَدَرٌ وَيَسْقُطُ الدَّيْنُ الَّذِي كَانَ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِقَدْرِهِ، وَلَا يَتَحَوَّلُ قَدْرُ مَا سَقَطَ إلَى الْجَانِي؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْغُولٌ كُلُّهُ بِالدَّيْنِ وَجِنَايَةُ الْمَشْغُولِ عَلَى الْمَشْغُولِ هَدَرٌ فَجُعِلَ كَأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ أَلْفًا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَلَا دَفْعَ وَلَا فِدَاءَ، وَكَانَ الْقَاتِلُ رَهْنًا بِسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الدَّيْنِ خَمْسَمِائَةٍ، فَكَانَ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَارِغًا وَنِصْفُهُ مَشْغُولًا، فَإِذَا قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَقَدْ جَنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ نِصْفَيْ الْقَاتِلِ عَلَى النِّصْفِ الْمَشْغُولِ وَالنِّصْفِ الْفَارِغِ مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. وَجِنَايَةُ قَدْرِ الْمَشْغُولِ عَلَى الْمَشْغُولِ وَقَدْرِ الْمَشْغُولِ عَلَى الْفَارِغِ وَقَدْرِ الْفَارِغِ عَلَى الْفَارِغِ هَدَرٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا، فَيَسْقُطُ مَا كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ وَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْجَانِي، وَجِنَايَةُ قَدْرِ الْفَارِغِ عَلَى قَدْرِ الْمَشْغُولِ مُعْتَبَرَةٌ، فَيَتَحَوَّلُ قَدْرُ مَا كَانَ فِيهِ إلَى الْجَانِي، وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ، وَقَدْ كَانَ فِي الْجَانِي خَمْسُمِائَةٍ فَيَبْقَى رَهْنًا بِسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ. وَلَوْ فَقَأَ أَحَدُهُمَا عَيْنَ صَاحِبِهِ، تَحَوَّلَ نِصْفُ مَا كَانَ مِنْ الدَّيْنِ فِي الْعَيْنِ إلَى الْبَاقِي فَيَصِيرُ الْبَاقِي رَهْنًا بِسِتِّمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، وَبَقِيَ الْمَفْقُوءُ عَيْنُهُ رَهْنًا بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْفَاقِئَ جَنَى عَلَى نِصْفِ الْعَبْدِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ النِّصْفَ نِصْفُهُ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ وَنِصْفُهُ فَارِغٌ مِنْ الدَّيْنِ، وَالْفَاقِئُ جَنَى عَلَى النِّصْفِ الْمَشْغُولِ وَالْفَارِغِ جَمِيعًا، وَالْفَاقِئُ نِصْفُهُ مَشْغُولٌ وَنِصْفُهُ فَارِغٌ إلَّا أَنَّ جِنَايَةَ الْمَشْغُولِ عَلَى قَدْرِ الْمَشْغُولِ وَالْفَارِغِ، وَجِنَايَةَ الْفَارِغِ عَلَى قَدْرِ الْفَارِغِ وَالْمَشْغُولِ، فَقَدْرُ جِنَايَةِ الْفَارِغِ عَلَى قَدْرِ الْمَشْغُولِ مُعْتَبَرَةٌ فَيَتَحَوَّلُ قَدْرُ مَا كَانَ فِي الْمَشْغُولِ مِنْ الدَّيْنِ إلَى الْفَاقِئِ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ

فصل في بيان ما يخرج به المرهون عن كونه مرهونا ويبطل به عقد الرهن

وَعِشْرُونَ، وَقَدْ كَانَ فِي الْفَاقِئِ خَمْسُمِائَةٍ فَيَصِيرُ الْفَاقِئُ رَهْنًا بِسِتِّمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، وَيَبْقَى الْمَفْقُوءُ عَيْنُهُ رَهْنًا بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ؛ لِانْعِدَامِ وُرُودِ الْجِنَايَةِ عَلَى ذَلِكَ النِّصْفِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ الْعَبْدَانِ رَهْنًا فِي صَفْقَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ، بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ أَلْفًا وَقَدْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ تُعْتَبَرُ الْجِنَايَةُ رَهْنًا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ إذَا تَفَرَّقَتْ، صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ رَهَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلًا عَلَى حِدَةٍ، فَجَنَى أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَهُنَاكَ يَثْبُتُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ كَذَا هَهُنَا بِخِلَافِ مَا إذَا اتَّحَدَتْ الصَّفْقَةُ وَإِذَا اُعْتُبِرَتْ الْجِنَايَةُ هُنَا، يُخَيَّرُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فَإِنْ شَاءَا جَعَلَا الْقَاتِلَ مَكَانَ الْمَقْتُولِ فَيَبْطُلُ مَا كَانَ فِي الْقَتْلِ مِنْ الدَّيْنِ، وَإِنْ شَاءَا فَدَيَا الْقَاتِلَ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ وَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَ الْمَقْتُولِ، وَالْقَاتِلُ رَهْنٌ عَلَى حَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ أَلْفَيْنِ وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَإِنْ دَفَعَاهُ فِي الْجِنَايَةِ، قَامَ الْمَدْفُوعُ مَقَامَ الْمَقْتُولِ وَيَبْطُلُ الدَّيْنُ الَّذِي كَانَ فِي الْقَاتِلِ، وَإِنْ قَالَا: نَفْدِي، فَالْفِدَاءُ كُلُّهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ كُلُّهُ بَلْ بَعْضُهُ، وَهُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونٌ كُلُّهُ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ دَفَعَ الرَّاهِنُ أَلْفًا وَأَخَذَ عَبْدَهُ، وَكَانَتْ الْأَلْفُ الْأُخْرَى قِصَاصًا بِهَذِهِ الْأَلْفِ إذَا كَانَ مِثْلَهُ. وَلَوْ فَقَأَ أَحَدُهُمَا عَيْنَ الْآخَرِ، قِيلَ لَهُمَا: ادْفَعَاهُ أَوْ افْدِيَاهُ، فَإِنْ دَفَعَاهُ بَطَلَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الدَّيْنِ، وَإِنْ فَدَيَاهُ كَانَ الْفِدَاءُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ وَكَانَ الْفِدَاءُ رَهْنًا مَعَ الْمَفْقُوءِ عَيْنُهُ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مُعْتَبَرَةٌ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، فَصَارَ كَعَبْدِ الرَّهْنِ إذَا جَنَى عَلَى عَبْدٍ أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ: أَنَا لَا أَفْدِي وَلَكِنِّي أَدَعُ الرَّهْنَ عَلَى حَالِهِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ الْفَاقِئُ رَهْنًا مَكَانَهُ عَلَى حَالِهِ، وَقَدْ ذَهَبَ نِصْفُ مَا كَانَ فِي الْمَفْقُوءِ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجِنَايَةِ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ لَا لِحَقِّ الرَّاهِنِ، فَإِذَا رَضِيَ الْمُرْتَهِنُ بِهَدْرِ الْجِنَايَةِ، صَارَ هَدَرًا. وَإِنْ قَالَ الرَّاهِنُ: أَنَا أَفْدِي، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: لَا أَفْدِي، كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَفْدِيَهُ، وَهَذَا إذَا طَلَبَ الْمُرْتَهِنُ حُكْمَ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا طَلَبَ حُكْمَ الْجِنَايَةِ فَحُكْمُهَا التَّخْيِيرُ وَإِنْ أَبَى الرَّاهِنُ الْفِدَاءَ وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: أَنَا أَفْدِي وَالرَّاهِنُ حَاضِرٌ أَوْ غَائِبٌ، فَهُوَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ. (وَأَمَّا) جِنَايَةُ الْبَهِيمَةِ عَلَى جِنْسِهَا: فَهِيَ هَدَرٌ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ» أَيْ هَدَرٌ، وَالْعَجْمَاءُ: الْبَهِيمَةُ، وَالْجِنَايَةُ إذَا هُدِرَتْ، سَقَطَ اعْتِبَارُهَا وَصَارَ الْهَلَاكُ بِهَا وَالْهَلَاكُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ سَوَاءً، وَكَذَلِكَ جِنَايَتُهَا عَلَى خِلَافِ جِنْسِهَا هَدَرٌ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ وَأَمَّا جِنَايَةُ بَنِي آدَمَ عَلَيْهَا فَحُكْمُهَا وَحُكْمُ جِنَايَتِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَمْوَالِ سَوَاءٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْمَرْهُونُ عَنْ كَوْنِهِ مَرْهُونًا وَيَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ الرَّهْنِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْمَرْهُونُ عَنْ كَوْنِهِ مَرْهُونًا وَيَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ الرَّهْنِ، وَمَا لَا يَخْرُجُ وَلَا يَبْطُلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: يَخْرُجُ الْمَرْهُونُ عَنْ كَوْنِهِ مَرْهُونًا وَيَبْطُلُ الرَّهْنُ بِالْإِقَالَةِ؛ لِأَنَّهَا فَسْخُ الْعَقْدِ وَنَقْضُهُ، وَالشَّيْءُ لَا يَبْقَى مَعَ مَا يَنْقُضُهُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُبْطِلُهُ بِنَفْسِ الْإِقَالَةِ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ مَا لَمْ يَرُدَّ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ عَلَى الرَّاهِنِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ، حَتَّى كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ حَبْسُهُ بَعْدَ الْإِقَالَةِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْعَقِدُ فِي الْحُكْمِ بِدُونِ الْقَبْضِ فَلَا يَتِمُّ فَسْخُهُ بِدُونِ فَسْخِهِ، أَيْضًا وَفَسْخُهُ بِالرَّدِّ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا رَهَنَ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا بِأَلْفٍ فَقَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ، ثُمَّ جَاءَ الرَّاهِنُ بِجَارِيَةٍ وَقَالَ لِلْمُرْتَهِنِ: خُذْهَا مَكَانَ الْأُولَى وَرُدَّ الْعَبْدَ إلَيَّ لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا إقَالَةُ الْعَقْدِ فِي الْأَوَّلِ وَإِنْشَاءُ الْعَقْدِ فِي الثَّانِي وَهُمَا يَمْلِكَانِ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ الْأَوَّلُ عَنْ ضَمَانِ الرَّهْنِ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الرَّاهِنِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ الرَّدِّ، يَهْلِكُ بِالدَّيْنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَبْضَ فِي هَذَا الْبَابِ يَجْرِي مَجْرَى الرُّكْنِ، حَتَّى لَا يَثْبُتُ الضَّمَانُ بِدُونِهِ فَلَا يَتِمُّ الْفَسْخُ بِدُونِ نَقْضِ الْقَبْضِ، وَكَذَا لَا يَدْخُلُ الثَّانِي فِي الضَّمَانِ إلَّا بِرَدِّ الْأَوَّلِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الثَّانِي فِي يَدِهِ قَبْلَ رَدِّ الْأَوَّلِ وَيَهْلِكُ أَمَانَةً؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ لَمْ يَرْضَ بِرَهْنِيَّتِهِمَا عَلَى الْجَمِيعِ وَإِنَّمَا رَضِيَ بِرَهْنِ أَحَدِهِمَا، حَيْثُ رَهَنَ الثَّانِيَ وَطَلَبَ رَدَّ الْأَوَّلِ، وَالْأَوَّلُ كَانَ مَضْمُونًا بِالْقَبْضِ فَمَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مَضْمُونًا بِبَعْضِ الْقَبْضِ فِيهِ؛ لَا يَدْخُلُ الثَّانِي فِي الضَّمَانِ. وَلَوْ هَلَكَا جَمِيعًا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَسَقَطَ الدَّيْنُ بِهَلَاكِ الْعَبْدِ، وَهَلَكَتْ الْجَارِيَةُ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ هَلَكَتْ فِي يَدِهِ فَتَهْلِكُ هَلَاكَ الْأَمَانَاتِ وَلَوْ قَبَضَ الرَّاهِنُ الْعَبْدَ وَسَلَّمَ الْجَارِيَةَ، خَرَجَ عَنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مَرْهُونًا وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ مَضْمُونَةً حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ، تَهْلِكُ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ رَهَنَهَا بِالدَّيْنِ الَّذِي كَانَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا بِهِ، وَالْعَبْدُ كَانَ مَضْمُونًا بِذَلِكَ الدَّيْنِ فَكَذَا الْجَارِيَةُ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ خَمْسَمِائَةٍ وَهُوَ رَهْنٌ بِأَلْفٍ وَقِيمَةُ

الْجَارِيَةِ أَلْفٌ فَهَلَكَتْ تَهْلِكُ بِالْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ رَهَنَ الْجَارِيَةَ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ فَكَانَتْ رَهْنًا ابْتِدَاءً، إلَّا أَنَّ شَرْطَ كَوْنِهِ مَضْمُونًا رَدُّ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِرَهْنِهِمَا جَمِيعًا إلَّا أَنْ يَكُونَ الثَّانِي بَدَلَ الْأَوَّلِ، بَلْ هُوَ مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ فِي كَوْنِهِ رَهْنًا، فَكَانَ الْمَضْمُونُ قَدْرَ قِيمَتِهِ لَا قَدْرَ قِيمَةِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفًا وَالْجَارِيَةُ تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ، فَرَدَّ الْعَبْدَ عَلَى الرَّاهِنِ وَقَبَضَ الْجَارِيَةَ فَهِيَ رَهْنٌ بِالْأَلْفِ، وَلَكِنَّهَا إنْ هَلَكَتْ تَهْلِكُ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الثَّانِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لِكَوْنِهِ مَرْهُونًا بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ، فَيُعْتَبَرُ فِي الضَّمَانِ قَدْرُ قِيمَتِهِ وَلَا يَخْرُجُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ مَا اسْتَوْفَى دَيْنَهُ فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا اسْتَوْفَى، وَيَخْرُجُ بِالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَيَبْطُلُ الرَّهْنُ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا يَخْرُجُ بِالْإِعَارَةِ وَيَخْرُجُ بِالْإِجَارَةِ بِأَنْ أَجَرَهُ الرَّاهِنُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، أَوْ الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ، أَوْ اسْتَأْجَرَهُ الْمُرْتَهِنُ، وَيَبْطُلُ الرَّهْنُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَيَخْرُجُ بِالْكِتَابَةِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، إذَا فَعَلَ أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ وَيَخْرُجُ بِالْبَيْعِ بِأَنْ بَاعَهُ الرَّاهِنُ أَوْ الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ أَوْ بَاعَهُ الْعَدْلُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَرْهُونِ قَدْ زَالَ بِالْبَيْعِ وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّهُ زَالَ إلَى خَلَفٍ وَهُوَ الثَّمَنُ فَبَقِيَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، وَكَذَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ خَرَجَ وَاخْتَلَفَ بَدَلًا، وَيَخْرُجُ بِالْإِعْتَاقِ إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا بِالْإِنْفَاقِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَخْرُجُ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ نَافِذٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَنْفُذُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا إعْتَاقٌ تَضَمَّنَ إبْطَالَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَضَمَّنَ إبْطَالَ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالرَّهْنِ وَيَبْطُلُ بِالْإِعْتَاقِ، وَعِصْمَةُ حَقِّهِ تَمْنَعُ مِنْ الْإِبْطَالِ؛ وَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ الْبَيْعُ كَذَا الْإِعْتَاقُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ الْإِبْطَالُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَى دَيْنِهِ لِلْحَالِ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ. (وَلَنَا) أَنَّ إعْتَاقَهُ صَادَفَ مَوْقُوفًا هُوَ مَمْلُوكُهُ رَقَبَةً فَيَنْفُذُ كَإِعْتَاقِهِ الْآبِقَ وَالْمُسْتَأْجَرَ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مَمْلُوكٌ لِلرَّاهِنِ عَيْنًا وَرَقَبَةً إنْ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا يَدًا وَحَبْسًا، وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ يَكْفِي لِنَفَاذِ الْإِعْتَاقِ، كَمَا فِي إعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ وَالْآبِقِ، وَقَوْلُهُ يُبْطِلُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنْ ضَرُورَةَ بُطْلَانِ مِلْكِ الرَّاهِنِ، وَذَا لَا يَمْنَعُ النَّفَاذَ كَمَا فِي مَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ، مَعَ أَنَّ الثَّابِتَ لِلرَّاهِنِ حَقِيقَةً الْمِلْكُ، وَالثَّابِتَ لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْحَبْسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اعْتِبَارَ الْحَقِيقَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَقْوَى بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ نَفَاذَهُ يَعْتَمِدُ قِيَامَ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَالْيَدِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ شَرْطُ نَفَاذِهِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْمَرْهُونِ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَإِذَا نَفَذَ إعْتَاقُهُ خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ حُرًّا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْحُرُّ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْمُدَبَّرُ لَا يَصْلُحُ لِلرَّهْنِ فَالْحُرُّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْلَى، وَلِهَذَا لَمْ يَصْلُحْ رَهْنًا فِي حَالَةِ الِابْتِدَاءِ فَكَذَا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا وَالدَّيْنُ حَالٌّ، يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى قَضَائِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا وَقَدْ حَلَّ الْأَجَلُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَحِلَّ، غَرِمَ الرَّاهِنُ قِيمَةَ الْعَبْدِ وَأَخَذَهُ الْمُرْتَهِنُ رِضًا مَكَانَهُ وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ، أَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الرَّاهِنِ؛ فَلِأَنَّهُ أَبْطَلَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ حَقَّهُ حَقًّا قَوِيًّا، هُوَ فِي مَعْنَى الْمِلْكِ أَوْ هُوَ مِلْكُهُ مِنْ وَجْهٍ لِصَيْرُورَتِهِ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ مِنْ مَالِيَّتِهِ مِنْ وَجْهٍ؛ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ رَهْنًا؛ فَلِأَنَّهُ بَدَلُ الْعَبْدِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ بَدَلُ مَالِيَّتِهِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ وَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ، يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ يُسْتَوْفَى مِنْهَا دَيْنُهُ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ رَدَّ الْفَضْلَ عَلَى الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ يَرْجِعُ بِفَضْلِ الدَّيْنِ عَلَى الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الدَّيْنِ، حَبَسَهَا بِالدَّيْنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ. (وَأَمَّا) عَدَمُ وُجُوبِ السِّعَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بِسَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْإِتْلَافُ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ وُجِدَ مِنْ الرَّاهِنِ لَا مِنْ الْعَبْدِ، وَمُؤَاخَذَةُ الْإِنْسَانِ بِالضَّمَانِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةِ سَبَبٍ مِنْهُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا وَقْتَ الْإِعْتَاقِ ثُمَّ أَعْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِوَقْتِ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِدَيْنِهِ عَلَى الرَّاهِنِ إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ، وَيُعْتَبَرُ فِي الْعَبْدِ أَيْضًا أَقَلُّ قِيمَتِهِ وَقْتَ الرَّهْنِ وَوَقْتَ الْإِعْتَاقِ، وَيَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْهُمَا وَمِنْ الدَّيْنِ، حَتَّى لَوْ كَانَ أَلْفَيْنِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ وَقْتَ الرَّهْنِ أَلْفًا فَازْدَادَتْ قِيمَتُهُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ حَتَّى صَارَتْ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ وَهُوَ مُعْسِرٌ سَعَى الْعَبْدُ فِي أَلْفٍ قَدْرِ

قِيمَتِهِ وَقْتَ الرَّهْنِ وَلَوْ انْتَقَصَتْ قِيمَتُهُ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ، سَعَى فِي خَمْسِمِائَةٍ قَدْرِ قِيمَتِهِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ. (أَمَّا) اخْتِيَارُ الرُّجُوعِ عَلَى الرَّاهِنِ؛ فَلِأَنَّهُ أَبْطَلَ حَقَّهُ بِالْإِعْتَاقِ. (وَأَمَّا) وِلَايَةُ اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ؛ فَلِأَنَّ بِالرَّهْنِ صَارَتْ مَالِيَّةُ هَذَا الْعَبْدِ مَمْلُوكَةً لِلْمُرْتَهِنِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ مِنْ مَالِيَّتِهِ، فَإِذَا أَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ فَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْمَالِيَّةُ مُحْتَبَسَةً عِنْدَ الْعَبْدِ، فَوَصَلَتْ إلَى الْعَبْدِ بِالْإِتْلَافِ مَالِيَّةٌ مَشْغُولَةٌ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَكَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَسْتَخْرِجَهَا مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إلَّا بِاسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَهُ، بِخِلَافِ حَالَةِ الْيَسَارِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى الرَّاهِنِ وَإِنَّمَا الْعَبْدُ جُعِلَ مَحَلًّا لِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الرَّاهِنِ عَلَى مَا هُوَ مَوْضُوعُ الرَّهْنِ فِي الشَّرْعِ أَنَّ الرَّاهِنَ يُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَعِنْدَ التَّعَذُّرِ يُسْتَوْفَى مِنْ الرَّهْنِ، كَمَا قَبْلَ الْإِعْتَاقِ وَالتَّعَذُّرِ عِنْدَ إعْسَارِ الرَّاهِنِ لَا عِنْدَ يَسَارِهِ، فَيَسْعَى فِي حَالِ الْإِعْسَارِ لَا فِي حَالِ الْيَسَارِ، وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي وَهُوَ مُفْلِسٌ، لَا يَكُونُ لِلْبَائِعِ وِلَايَةُ اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ بِقَدْرِ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا قَبْلَ التَّسْلِيمِ بِالثَّمَنِ، كَالْمَرْهُونِ مَحْبُوسٌ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِنَفْسِ الْبَيْعِ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَمْ يُوجَدْ احْتِبَاسُ مَالِيَّةٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْبَائِعِ عِنْدَ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا لِلْبَائِعِ مُجَرَّدُ حَقِّ الْحَبْسِ، فَإِذَا خَرَجَ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْحَبْسِ بِالْإِعْتَاقِ، بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ أَصْلًا وَبَقِيَ حَقُّهُ فِي مُطَالَبَةِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ فَحَسْبُ، أَمَّا هَهُنَا فَبِخِلَافِهِ. (وَأَمَّا) السِّعَايَةُ فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ؛ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِسْعَاءَ لِمَكَانِ ضَرُورَةِ الْمَالِيَّةِ الْمَمْلُوكَةِ لِلْمُرْتَهِنِ مِنْ وَجْهٍ مُحْتَبَسَةً عِنْدَ الْعَبْدِ، فَتُقَدَّرُ السِّعَايَةُ بِقَدْرِ الِاحْتِبَاسِ، ثُمَّ إذَا سَعَى الْعَبْدُ، يَرْجِعُ بِمَا سَعَى عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ الرَّاهِنِ مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ عَلَى وَجْهِ الِاضْطِرَارِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ السِّعَايَةَ وَالْقَاضِي أَلْزَمَهُ، وَمَنْ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ مُضْطَرًّا مِنْ مَالِ نَفَسِهِ لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ، كَالْوَارِثِ إذَا قَضَى دَيْنَ الْمَيِّتِ مِنْ مَالِ نَفَسِهِ، أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى التَّرِكَةِ كَذَا هَذَا، فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ السِّعَايَةِ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ، رَجَعَ الْمُرْتَهِنُ بِذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ وَلَوْ نَقَصَ الْعَبْدُ فِي السِّعْرِ قَبْلَ الْإِعْتَاقِ بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ أَلْفًا وَقِيمَةُ الْعَبْدِ وَقْتَ الرَّهْنِ أَلْفًا، فَنَقَصَ فِي السِّعْرِ حَتَّى عَادَتْ قِيمَتُهُ إلَى خَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ وَهُوَ مُعْسِرٌ سَعَى فِي قَدْرِ قِيمَتِهِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّاهِنِ بِخَمْسِمِائَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ مِنْ حَقِّهِ إلَّا قَدْرُ خَمْسِمِائَةٍ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي وَلَوْ لَمْ يَنْقُصْ الْعَبْدُ فِي السِّعْرِ وَلَكِنَّهُ قَتَلَهُ عَبْدٌ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَدُفِعَ مَكَانَهُ، فَأَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ وَهُوَ مُعْسِرٌ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ، وَيَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِتِسْعِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دُفِعَ بِهِ فَقَدْ قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ لَحْمًا وَدَمًا فَصَارَ رَهْنًا بِجَمِيعِ الْمَالِ، كَأَنَّ الْأَوَّلَ قَائِمٌ وَتَرَاجَعَ سِعْرُهُ إلَى مِائَةٍ؛، فَأَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ وَهُوَ مُعْسِرٌ. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَسَعَى فِي قِيمَتِهِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ، وَكَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرْجِعَ بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِ عَلَى الرَّاهِنِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفًا بِأَلْفٍ فَوَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي أَلْفًا، فَأَعْتَقَهَا الْمَوْلَى وَهُوَ مُعْسِرٌ سَعَيَا فِي أَلْفٍ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ فِيهِمَا أَلْفٌ. وَلَوْ لَمْ تَلِدْ وَلَكِنْ قَتَلَهَا عَبْدٌ قِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَدُفِعَ بِهَا ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى سَعَى فِي أَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَضْمُونًا بِهَذَا الْقَدْرِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَقْتُولَةِ لَحْمًا وَدَمًا، وَهِيَ كَانَتْ مَضْمُونَةً بِهَذَا الْقَدْرِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ قَالَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ: رَهَنْتُكَ عِنْدَ فُلَانٍ، وَكَذَّبَهُ الْعَبْدُ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَهُوَ مُعْسِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى، وَلَزِمَهُ السِّعَايَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمَوْلَى بِهَذَا الْإِقْرَارِ يُرِيدُ إلْزَامَ السِّعَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ، وَقَوْلُهُ " فِي إلْزَامِ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ " غَيْرُ مَقْبُولٍ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ. (وَلَنَا) أَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ عَلَيْهِ لِلْحَالِ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ لَهُ عَلَيْهِ لِلْحَالِ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ الْمِلْكُ فَيَصِحُّ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى تَكْذِيبِ الْعَبْدِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ أَقَرَّ بِمَا لَا يَمْلِكُ لِلْحَالِ إنْشَاءَهُ لِزَوَالِ مِلْكِ الْوِلَايَةِ بِالْإِعْتَاقِ هَذَا إذَا أَعْتَقَهُ، فَأَمَّا إذَا دَبَّرَهُ فَيَجُوزُ تَدْبِيرُهُ وَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ رَهْنًا، أَمَّا جَوَازُ التَّدْبِيرِ؛ فَلِأَنَّهُ يَقِفُ عَلَى قِيَامِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ لِجَوَازِ الْإِعْتَاقِ، وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ قَائِمٌ بَعْدَ الرَّهْنِ. (وَأَمَّا) خُرُوجُهُ عَنْ الرَّهْنِ؛ فَلِأَنَّ الْمُدَبَّرَ لَا يَصْلُحُ رَهْنًا؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَرْهُونِ مَالًا مُطْلَقًا شَرْطُ جَوَازِ الرَّهْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَبِالتَّدْبِيرِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا مُطْلَقًا فَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ رَهْنًا؛ وَلِهَذَا لَمْ يَصْلُحْ رَهْنًا ابْتِدَاءً فَكَذَا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ وَهَلْ يَسْعَى لِلْمُرْتَهِنِ؟ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الرَّاهِنَ إذَا كَانَ مُعْسِرًا يَسْعَى. (وَأَمَّا) إذَا كَانَ مُوسِرًا، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ

- رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَسْعَى، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يَسْعَى، وَسَوَّى بَيْنَ الْمُرْتَهِنِ وَبَيْنَ الْإِعْتَاقِ، وَهُوَ أَنَّ الدَّيْنَ إنْ كَانَ حَالًّا، أَخَذَ الْمُرْتَهِنُ جَمِيعَ دَيْنِهِ مِنْ الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا، أَخَذَ قِيمَةَ الْعَبْدِ مِنْ الرَّاهِنِ وَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ، كَمَا فِي الْإِعْتَاقِ. (وَجْهُ) مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الدَّيْنَ عَلَى الْمَوْلَى، وَكَسْبُ الْمُدَبَّرِ مِلْكُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ بِالتَّدْبِيرِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى، فَكَانَتْ سِعَايَةَ مَالِ الْمَوْلَى، فَكَانَ صَرْفُ السِّعَايَةِ إلَى الْمُرْتَهِنِ قَضَاءَ دَيْنِ الْمَوْلَى مِنْ مَالِ الْمَوْلَى، فَيَسْتَوِي فِيهِ حَالُ الْإِعْسَارِ وَالْيَسَارِ بِخِلَافِ كَسْبِ الْمُعْتَقِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ الْحُرِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَكَسْبُ الْحُرِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِلْكُهُ فَكَانَتْ السِّعَايَةُ مِلْكَهُ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يُؤْمَرَ الْإِنْسَانُ بِقَضَاءِ دَيْنِ غَيْرِهِ مِنْ مَالِ نَفَسِهِ؛ إلَّا عِنْدَ الْعَجْرِ عَنْ الْقَضَاءِ بِنَفْسِهِ فَيَتَقَيَّدُ بِحَالِ الْعَجْزِ وَهِيَ حَالَةُ الْإِعْسَارِ. (وَجْهُ) مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَنَّ السِّعَايَةَ وَإِنْ كَانَتْ مِلْكَ الْمَوْلَى لَكِنْ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِي الْكِتَابَةِ بِسَبَبِ وُجُوبِهَا، إذْ لَا صُنْعَ لَهُ فِي التَّدْبِيرِ بَلْ هُوَ فِعْلُ الْمَوْلَى، وَمَهْمَا أَمْكَنَ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ مُبَاشَرَةٌ بِسَبَبِ وُجُوبِهِ كَانَ أَوْلَى مِنْ إيجَابِهِ عَلَى مَنْ لَا صُنْعَ فِيهِ أَصْلًا وَرَأْسًا، فَإِذَا كَانَ الْمَوْلَى مُعْسِرًا كَانَ الْإِمْكَانُ ثَابِتًا فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ السِّعَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ، ثُمَّ إذَا سَعَى فِي حَالَةِ الْإِعْسَارِ يَسْعَى فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ بَالِغًا مَا بَلَغَ؛ لِأَنَّ السِّعَايَةَ مَالُ الْمَوْلَى، فَكَانَ الِاسْتِسْعَاءُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِتَمَامِهِ سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا؛ لِمَا قُلْنَا وَقِيلَ: إنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا فَكَذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا فَلَا يَسْعَى إلَّا فِي قَدْرِ قِيمَتِهِ وَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الدَّيْنَ إذَا كَانَ حَالًّا، كَانَ وَاجِبَ الْقَضَاءِ لِلْحَالِ عَلَى سَبِيلِ التَّضْيِيقِ، وَهَذَا مَالُ الْمَوْلَى فَيُقْضَى مِنْهُ دَيْنُهُ عَلَى الْكَمَالِ، وَإِذَا كَانَ مُؤَجَّلًا، لَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ لِلْحَالِ أَصْلًا وَلَا يَجِبُ عَلَى سَبِيلِ التَّضْيِيقِ، إلَّا أَنَّ الرَّاهِنَ بِالتَّدْبِيرِ فَوَّتَ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ؛ فَتَجِبُ إعَادَةُ حَقِّهِ إلَيْهِ بِعِوَضٍ يَقُومُ مَقَامَهُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ، فَيَتَقَدَّرُ الْجَائِزُ بِقَدْرِ الْفَائِتِ فَيَسْتَسْعِيهِ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ وَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُدَبَّرُ بِمَا يَسْعَى عَلَى الرَّاهِنِ بِخِلَافِ الْمُعْتَقِ فَوَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ التَّدْبِيرِ وَالْإِعْتَاقِ فِي مَوْضِعَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْمُدَبَّرَ يَسْعَى فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ بَالِغًا مَا بَلَغَ وَلَا يُنْظَرُ إلَى الْقِيمَةِ، وَالْمُعْتَقَ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ وَالثَّانِي أَنَّ الْمُدَبَّرَ لَا يَرْجِعُ بِمَا يَسْعَى عَلَى الْمَوْلَى، وَالْمُعْتَقَ يَرْجِعُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا يَرْجِعُ إلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ سِعَايَةَ الْمُدَبَّرِ مِلْكُ مَوْلَاهُ؛ لِكَوْنِ الْمُدَبَّرِ مِلْكَهُ؛ إذْ الْفَائِتُ بِالتَّدْبِيرِ لَيْسَ إلَّا مَنْفَعَةَ الْبَيْعِ، فَكَانَ الِاسْتِسْعَاءُ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى، فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ وَلَا يَرْجِعُ بِمَا يَسْعَى عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ الْمَوْلَى مِنْ مَالِ الْمَوْلَى فَكَيْفَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ؟ بِخِلَافِ الْمُعْتَقِ؛ لِأَنَّ سِعَايَةَ مِلْكِهِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ خَالِصٌ إلَّا أَنَّهُ لَزِمَتْهُ السِّعَايَةُ لِاسْتِخْرَاجِ مِلْكِ الْمُرْتَهِنِ مِنْ وَجْهٍ الْمُحْتَبَسِ عِنْدَهُ وَهُوَ مَالٌ فَتَتَقَدَّرُ السِّعَايَةُ بِقَدْرِ الِاحْتِبَاسِ، وَيَرْجِعُ بِالسِّعَايَةِ عَلَى الْمَوْلَى إذَا كَانَ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنًا وَاجِبًا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفَسِهِ مُضْطَرًّا فَيَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي مَوْضِعٍ ثَالِثٍ أَيْضًا: وَهُوَ أَنَّ الْمُدَبَّرَ يَسْعَى مَعَ إيسَارِ الْمَوْلَى، وَالْمُعْتَقَ لَا يَسْعَى مَعَ إيسَارِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ هَذَا إذَا أُعْتِقَ أَوْ دُبِّرَ فَأَمَّا إذَا اُسْتُوْلِدَ بِأَنْ كَانَ الرَّهْنُ جَارِيَةً فَحَبِلَتْ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، فَادَّعَاهُ الرَّاهِنُ، فَدَعْوَاهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ، صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَيَثْبُتُ الْوَلَدُ مِنْهُ، وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَخَرَجَتْ عَنْ الرَّهْنِ. (أَمَّا) صِحَّةُ الدَّعْوَةِ؛ فَلِأَنَّ الْجَارِيَةَ مِلْكُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْمِلْكُ مِنْ وَجْهٍ يَكْفِي لِصِحَّةِ الدَّعْوَةِ، فَالْمِلْكُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْلَى، وَثُبُوتُ النَّسَبِ حُكْمُ صِحَّةِ الدَّعْوَةِ، وَصَيْرُورَةُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ حُكْمُ ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَخُرُوجُ الْجَارِيَةِ عَنْ الرَّهْنِ حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ وَهُوَ صَيْرُورَتُهَا أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تَصْلُحُ لِلرَّهْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ رَهْنًا ابْتِدَاءً، فَكَذَا فِي حَالِ الْبَقَاءِ وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ حُرًّا قَبْلَ الْوِلَادَةِ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الرَّهْنِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الرَّهْنِ فِيهِ. (وَأَمَّا) الْجَارِيَةُ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إذَا دَبَّرَهُ الرَّاهِنُ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ وَضَعَتْ الْحَمْلَ ثُمَّ ادَّعَى الرَّاهِنُ الْوَلَدَ، صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَثَبَتَ النَّسَبُ وَصَارَ حُرًّا، وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَخَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، إلَّا أَنَّ هُنَا صَارَ الْوَلَدُ حُرًّا بَعْدَ مَا دَخَلَ فِي الرَّهْنِ، وَصَارَتْ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الرَّهْنِ فَيُقْسَمُ الدَّيْنُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا، إلَّا أَنَّ قِيمَةَ

فصل في حكم اختلاف الراهن والمرتهن

الْجَارِيَةِ تُعْتَبَرُ يَوْمَ الرَّهْنِ، وَقِيمَةَ الْوَلَدِ تُعْتَبَرُ يَوْمَ الدَّعْوَةِ، فَيَكُونُ حُكْمُ الْجَارِيَةِ فِي حِصَّتِهَا مِنْ الدَّيْنِ حُكْمَ الْمُدَبَّرِ فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ وَحُكْمُ الْوَلَدِ فِي حِصَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ حُكْمُ الْمُعْتَقِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يُنْظَرُ إلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ وَقْتَ الرَّهْنِ، وَإِلَى قِيمَتِهِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ، وَإِلَى الدَّيْنِ، فَيَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَهُنَا يُنْظَرُ فَقَطْ إلَى قِيمَةِ الْوَلَدِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ وَإِلَى حِصَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ، فَيَسْعَى فِي أَقَلِّهِمَا إذَا كَانَ الرَّاهِنُ مُعْسِرًا، وَيَرْجِعُ بِمَا سَعَى عَلَيْهِ. [فَصْلٌ فِي حُكْمُ اخْتِلَافِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ] (وَأَمَّا) حُكْمُ اخْتِلَافِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ وَالْعَدْلِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إذَا كَانَ الدَّيْنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَاخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فِي قَدْرِ الْمَرْهُونِ بِهِ فَقَالَ الرَّاهِنُ: إنَّهُ رُهِنَ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بِأَلْفٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَدَّعِي عَلَى الرَّاهِنِ زِيَادَةَ ضَمَانٍ، وَهُوَ يُنْكِرُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ ضَمَانٍ. وَلَوْ قَالَ الرَّاهِنُ: رَهَنْتُهُ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ الَّذِي لَكَ عَلَيَّ، وَهُوَ أَلْفٌ وَالرَّهْنُ يُسَاوِي أَلْفًا، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ ارْتَهَنْتُهُ بِخَمْسِمِائَةٍ وَالرَّهْنُ قَائِمٌ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ وَيَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَهُوَ الْمَرْهُونُ بِهِ، فَأَشْبَهَ اخْتِلَافَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ، وَهُنَاكَ يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ كَذَا هُنَا، فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ قَبْلَ أَنْ يَتَحَالَفَا، كَانَ كَمَا قَالَ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةَ ضَمَانٍ، وَهُوَ يُنْكِرُ وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ كَانَ بِأَلْفٍ وَاخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْجَارِيَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةَ ضَمَانٍ، وَهُوَ يُنْكِرُ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْغَاصِبِ فِي مِقْدَارِ الضَّمَانِ فَكَذَا هَذَا. وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ ضَمَانٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الرَّهْنُ ثَوْبَيْنِ هَلَكَ أَحَدُهُمَا فَاخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ، وَالْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ فِي زِيَادَةِ الْقِيمَةِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الرَّهْنِ فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: رَهَنْتَنِي هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ الرَّاهِنُ: رَهَنْتُ أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ يُحَلَّفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ التَّحَالُفَ كَمَا فِي بَابِ الْبَيْعِ. وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ ضَمَانٍ. وَلَوْ قَالَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ: هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِكَ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: قَبَضْتَهُ مِنِّي بَعْدَ الرَّهْنِ فَهَلَكَ فِي يَدِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى دُخُولِهِ فِي الضَّمَانِ، وَالْمُرْتَهِنُ يَدَّعِي الْبَرَاءَةَ وَالرَّاهِنُ يُنْكِرُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ وَبَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ تَنْفِي ذَلِكَ فَالْمُثْبِتَةُ أَوْلَى وَلَوْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ: هَلَكَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ قَبْلَ أَنْ أَقْبِضَهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ يَدَّعِي دُخُولَهُ فِي الضَّمَانِ، وَهُوَ يُنْكِرُ. وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الضَّمَانَ وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا فَاعْوَرَّ، فَاخْتَلَفَا فَقَالَ الرَّاهِنُ: كَانَتْ الْقِيمَةُ يَوْمَ الرَّهْنِ أَلْفًا، فَذَهَبَ بِالِاعْوِرَارِ النِّصْفُ خَمْسُمِائَةٍ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: لَا، بَلْ كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ الرَّهْنِ خَمْسَمِائَةٍ وَإِنَّمَا ازْدَادَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا ذَهَبَ مِنْ حَقِّي الرُّبُعُ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِالْحَالِ عَلَى الْمَاضِي فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ ضَمَانٍ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ مِائَةً وَالرَّهْنُ فِي يَدِ عَدْلٍ فَبَاعَهُ، فَاخْتَلَفَا فَقَالَ الرَّاهِنُ: بَاعَهُ بِمِائَةٍ، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: بِخَمْسِينَ وَدَفَعَ إلَيَّ، وَصَدَّقَ الْعَدْلُ الرَّاهِنَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مَضْمُونًا بِنَفْسِهِ بِخُرُوجِهِ عَنْ كَوْنِهِ رَهْنًا بِالْمَبِيعِ، وَتَحَوَّلَ الضَّمَانُ إلَى الثَّمَنِ، فَالرَّاهِنُ يَدَّعِي تَحَوُّلَ زِيَادَةِ ضَمَانٍ وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ قِيمَةِ الرَّهْنِ بَعْدَ هَلَاكِهِ. وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةَ ضَمَانٍ وَبَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ تَنْفِي تِلْكَ الزِّيَادَةَ فَالْمُثْبِتَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ اتِّفَاقَهُمَا عَلَى الرَّهْنِ اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا عَلَى الدُّخُولِ فِي الضَّمَانِ، فَالْمُرْتَهِنُ بِدَعْوَى الْبَيْعِ يَدَّعِي خُرُوجَهُ عَنْ الضَّمَانِ وَتَحَوُّلَ الضَّمَانِ إلَى الثَّمَنِ، وَالرَّاهِنُ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا كَانَ الرَّهْنُ مِثْلَ الدَّيْنِ فِي الْقِيمَةِ، وَالْمُرْتَهِنُ مُسَلَّطٌ عَلَى بَيْعِهِ بِأَنْ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ وَهُوَ أَلْفٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ: بِعْتُهُ بِتِسْعِمِائَةٍ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ ضَاعَ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِالنُّقْصَانِ إلَى أَنْ تَجِيءَ بَيِّنَتُهُ أَوْ يُصَدِّقَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ كَانَ مَضْمُونًا، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي انْتِقَالِ الضَّمَانِ. وَكَذَلِكَ الْعَدْلُ إذَا قَالَ: بِعْتُ بِتِسْعِمِائَةٍ، وَلَا يُعْلَمُ إلَّا بِقَوْلِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَدْلِ إلَّا تِسْعُمِائَةٍ

كتاب المزارعة

وَيَكُونُ الرَّاهِنُ رَاهِنًا بِمَا فِيهِ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِالْمِائَةِ الْفَاضِلَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْعَدْلِ مَقْبُولٌ فِي بَرَاءَةِ نَفَسِهِ، غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ بَعْضِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ وَلَا فِي الرُّجُوعِ عَلَى الرَّاهِنِ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ: إذَا كَانَ الْمُرْتَهِنُ مُسَلَّطًا عَلَى الْبَيْعِ فَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ بَاعَهُ بِتِسْعَةٍ، وَأَقَامَ الرَّاهِنُ بَيِّنَةً أَنَّهُ مَاتَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ أُخِذَ بِبَيِّنَةِ الْمُرْتَهِنِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُؤْخَذُ بِبَيِّنَةِ الرَّاهِنِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ بَيِّنَةَ الرَّاهِنِ تُثْبِتُ زِيَادَةَ ضَمَانٍ بِنَفْيِهَا بَيِّنَةَ الْمُرْتَهِنِ، فَكَانَتْ الْمُثْبِتَةُ أَوْلَى. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُرْتَهِنِ تُثْبِتُ أَمْرًا لَمْ يَكُنْ وَهُوَ تَحَوُّلُ الضَّمَانِ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الثَّمَنِ، وَبَيِّنَةُ الرَّاهِنِ تُقَرِّرُ ضَمَانًا كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْمَوْتِ، فَكَانَتْ الْمُثْبِتَةُ أَوْلَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْمُزَارَعَةِ] [مَعْنَى الْمُزَارَعَةِ] (كِتَابُ الْمُزَارَعَةِ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ فِي مَعْنَى الْمُزَارَعَةِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَفِي بَيَانِ شَرْعِيَّتِهَا، وَفِي بَيَانِ رُكْنِ الْمُزَارَعَةِ، وَفِي بَيَانِ الشَّرَائِطِ الْمُصَحِّحَةِ لِلرُّكْنِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ الْمُزَارَعَةَ، وَالشَّرَائِطِ الْمُفْسِدَةِ لَهَا، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ، وَفِي بَيَانِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ عُذْرٌ فِي فَسْخِ الْمُزَارَعَةِ، وَفِي بَيَانِ الَّذِي يَنْفَسِخُ بِهِ عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الْمُنْفَسِخَةِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالْمُزَارَعَةُ فِي اللُّغَةَ: مُفَاعَلَةٌ مِنْ الزَّرْعِ، وَهُوَ الْإِنْبَاتُ، وَالْإِنْبَاتُ الْمُضَافُ إلَى الْعَبْدِ مُبَاشَرَةً فِعْلٌ أَجْرَى اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْعَادَةَ بِحُصُولِ النَّبَاتِ عَقِيبَهُ لَا بِتَخْلِيقِهِ وَإِيجَادِهِ، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَنْ الْعَقْدِ عَلَى الْمُزَارَعَةِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ بِشَرَائِطِهِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُ شَرْعًا، فَإِنْ قِيلَ: الْمُزَارَعَةُ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ فَيَقْتَضِي وُجُودَ الْفِعْلِ مِنْ اثْنَيْنِ، كَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَفِعْلُ الزَّرْعِ يُوجَدُ مِنْ الْعَامِلِ دُونَ غَيْرِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُسَمَّى هُوَ مُزَارِعًا دُونَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ وَمَنْ لَا عَمَلَ مِنْ جِهَتِهِ، فَكَيْفَ يُسَمَّى هَذَا الْعَقْدُ مُزَارَعَةً؟ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُفَاعَلَةَ جَازَ أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِيمَا لَا يُوجَدُ الْفِعْلُ إلَّا مِنْ وَاحِدٍ، كَالْمُدَاوَاةِ وَالْمُعَالَجَةِ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ لَا يُوجَدُ إلَّا مِنْ الطَّبِيبِ وَالْمُعَالِجِ، وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] . وَلَا أَحَدَ يَقْصِدُ مُقَاتَلَةَ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنَهُ - فَكَذَلِكَ الْمُزَارَعَةُ جَازَ أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ. وَالثَّانِي: إنْ كَانَ أَصْلُ الْبَابِ مَا ذُكِرَ فَقَدْ وُجِدَ الْفِعْلُ هُنَا مِنْ اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الزَّرْعِ، وَالزَّرْعُ هُوَ الْإِنْبَاتُ لُغَةً وَشَرْعًا، وَالْإِنْبَاتُ الْمُتَصَوَّرُ مِنْ الْعَبْدِ هُوَ التَّسْبِيبُ لِحُصُولِ النَّبَاتِ، وَفِعْلُ التَّسْبِيبِ يُوجَدُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ التَّسْبِيبَ مِنْ أَحَدِهِمَا بِالْعَمَلِ وَمِنْ الْآخَرِ بِالتَّمْكِينِ مِنْ الْعَمَلِ بِإِعْطَاءِ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي لَا يَحْصُلُ الْعَمَلُ بِدُونِهَا عَادَةً، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُزَارِعًا حَقِيقَةً؛ لِوُجُودِ فِعْلِ الزَّرْعِ مِنْهُ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ إلَّا أَنَّهُ اُخْتُصَّ الْعَامِلُ بِهَذَا الِاسْمِ فِي الْعُرْفِ، وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ، كَاسْمِ الدَّابَّةِ وَنَحْوِهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. [فَصْلٌ فِي شَرْعِيَّةُ الْمُزَارَعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرْعِيَّةُ الْمُزَارَعَةِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ -: أَنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - إنَّهَا مَشْرُوعَةٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَفَعَ نَخْلَ خَيْبَرَ مُعَامَلَةً، وَأَرْضَهَا مُزَارَعَةً» ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْجَوَازُ، وَكَذَا هِيَ شَرِيعَةٌ مُتَوَارَثَةٌ لِتَعَامُلِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ (أَمَّا) النَّصُّ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي حَائِطٍ لَا تَسْتَأْجِرْهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ» ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ» ، وَالِاسْتِئْجَارُ بِبَعْضِ الْخَارِجِ فِي مَعْنَاهُ، وَالْمَنْهِيُّ غَيْرُ مَشْرُوعٍ. (وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الِاسْتِئْجَارَ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَنَحْوِهِ اسْتِئْجَارٌ بِبَدَلٍ مَجْهُولٍ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ حَدِيثَ خَيْبَرَ مَحْمُولٌ عَلَى الْجِزْيَةِ دُونَ الْمُزَارَعَةِ صِيَانَةً لِدَلَائِلِ الشَّرْعِ عَنْ التَّنَاقُضِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُزَارَعَةِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ فِيهِ «أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ» ، وَهَذَا مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَجْهِيلُ الْمُدَّةِ، وَجَهَالَةُ الْمُدَّةِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْمُزَارَعَةِ بِلَا خِلَافٍ. بَقِيَ تَرْكُ الْإِنْكَارِ عَلَى التَّعَامُلِ، وَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلْجَوَازِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ مَعَ الِاحْتِمَالِ.

فصل في ركن المزارعة

[فَصْلٌ فِي رُكْنُ الْمُزَارَعَةِ] فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُ الْمُزَارَعَةِ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ: دَفَعْتُ إلَيْكَ هَذِهِ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً بِكَذَا، وَيَقُولَ الْعَامِلُ: قَبِلْتُ أَوْ رَضِيتُ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِهِ وَرِضَاهُ فَإِذَا وُجِدَا تَمَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط المصححة للمزارعة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَهِيَ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: شَرَائِطُ مُصَحِّحَةٌ لِلْعَقْدِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ الْمُزَارَعَةَ، وَشَرَائِطُ مُفْسِدَةٌ لَهُ. (أَمَّا) الْمُصَحِّحَةُ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُزَارِعِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الزَّرْعِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْمُزَارَعَةَ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْآلَةِ لِلْمُزَارَعَةِ وَبَعْضُهَا إلَى الْخَارِجِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَزْرُوعِ فِيهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ. (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُزَارِعِ فَنَوْعَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَلَا تَصِحُّ مُزَارَعَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ الْمُزَارَعَةَ دَفْعًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ. (وَأَمَّا) الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْمُزَارَعَةِ حَتَّى تَجُوزَ مُزَارَعَةُ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ دَفْعًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّهَا تِجَارَةٌ فَيَمْلِكُ الْمُزَارَعَةَ، وَكَذَلِكَ الْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ فَتَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ دَفْعًا وَاحِدًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَدًّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قِيَاسِ قَوْلِ مَنْ أَجَازَ الْمُزَارَعَةَ، فَلَا تَنْفُذُ مُزَارَعَتُهُ لِلْحَالِ، بَلْ هِيَ مَوْقُوفَةٌ وَعِنْدَهُمَا هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْمُزَارَعَةِ، وَمُزَارَعَةُ الْمُرْتَدِّ نَافِذَةٌ لِلْحَالِ بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا دَفَعَ الْمُرْتَدُّ أَرْضًا إلَى رَجُلٍ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ أَوْ بِالثُّلُثِ أَوْ بِالرُّبُعِ فَعَمِلَ الرَّجُلُ وَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ زَرْعًا ثُمَّ قُتِلَ الْمُرْتَدُّ أَوْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَقُضِيَ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ دَفَعَ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ جَمِيعًا مُزَارَعَةً أَوْ دَفَعَ الْأَرْضَ دُونَ الْبَذْرِ، فَإِنْ دَفَعَهُمَا جَمِيعًا مُزَارَعَةً فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِلْمُزَارِعِ، وَلَا شَيْءَ لِوَرَثَةِ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّ مُزَارَعَتَهُ كَانَتْ مَوْقُوفَةً فَإِذَا مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ أَصْلًا، فَصَارَ كَأَنَّ الْعَامِلَ زَرَعَ أَرْضَهُ بِبَذْرٍ، مَغْصُوبٍ وَمَنْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ حَبًّا وَبَذَرَ بِهِ أَرْضَهُ فَأَخْرَجَتْ كَانَ الْخَارِجُ لَهُ دُونَ صَاحِبِ الْبَذْرِ، وَعَلَى الْعَامِلِ مِثْلُ ذَلِكَ الْبَذْرِ؛ لِأَنَّهُ مَغْصُوبٌ اسْتَهْلَكَهُ، وَلَهُ مِثْلُهُ فَيَلْزَمُهُ مِثْلُهُ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ الْأَرْضُ نَقَصَتْهَا الْمُزَارَعَةُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَيَتَصَدَّقُ بِمَا وَرَاءَ قَدْرِ الْبَذْرِ وَنُقْصَانِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ فَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْقُصْهَا الْمُزَارَعَةُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ، وَإِنْ أَسْلَمَ فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ سَوَاءٌ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْصِدَ الزَّرْعُ أَوْ بَعْدَ مَا اسْتَحْصَدَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ كَيْفَ مَا كَانَ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ نَافِذَةٌ عِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفَاتِ الْمُسْلِمِ، فَتَكُونُ حِصَّتُهُ لَهُ فَإِنْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ، وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ الْأَرْضَ دُونَ الْبَذْرِ فَالْخَارِجُ لَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَصِحَّ الْمُزَارَعَةُ صَارَ كَأَنَّهُ غَصَبَ أَرْضًا وَبَذَرَهَا بِبَذْرِ نَفْسِهِ، فَأَخْرَجَتْ. وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْخَارِجُ لَهُ كَذَا هَذَا إلَّا أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ بَذْرِهِ وَنَفَقَتِهِ وَضَمَانِ النُّقْصَانِ إنْ كَانَتْ الْمُزَارَعَةُ نَقَصَتْهَا وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَنْقُصْهَا، فَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مَنْ أَجَازَ الْمُزَارَعَةَ أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِلْعَامِلِ، وَلَا يَلْزَمَهُ نُقْصَانُ الْأَرْضِ وَلَا غَيْرُهُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: الْخَارِجُ بَيْنَ الْعَامِلِ وَبَيْنَ وَرَثَةِ الْمُرْتَدِّ عَلَى الشَّرْطِ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ، وَمَنْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا بِبَذْرِ نَفْسِهِ، وَلَمْ تَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ كَانَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كَذَا هَذَا (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ انْعِدَامَ صِحَّةِ تَصَرُّفِ الْمُرْتَدِّ بَعْدَ الْمَوْتِ وَاللَّحَاقِ لَيْسَ لِمَكَانِ انْعِدَامِ أَهْلِيَّتِهِ لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُنَافِي انْعِدَامَ الْأَهْلِيَّةِ بَلْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ وَرَثَتِهِ بِمَالِهِ لِوُجُودِ أَمَارَةِ الِاسْتِغْنَاءِ بِالرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يُسْلِمُ بَلْ يُقْتَلُ أَوْ يَلْحَقُ بِدَارِ الْحَرْبِ فَيَسْتَغْنِي عَنْ مَالِهِ فَيَثْبُتُ التَّعَلُّقُ نَظَرًا لَهُمْ، وَنَظَرُهُمْ هُنَا فِي تَصْحِيحِ التَّصَرُّفِ لَا فِي إبْطَالِهِ لِيَصِلَ إلَيْهِمْ شَيْءٌ فَأَشْبَهَ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ، إذَا آجَرَ نَفْسَهُ، وَسَلِمَ مِنْ الْعَمَلِ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ تَصَرُّفُهُ بَلْ يُصَحَّحُ حَتَّى تَجِبَ الْأُجْرَةُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ لِنَظَرِ الْمَوْلَى، وَنَظَرُهُ هَهُنَا فِي التَّصْحِيحِ دُونَ الْإِبْطَالِ كَذَا هَذَا، وَإِذَا أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ فَالْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ سَوَاءٌ أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُزَارَعَةِ أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا نَقَصَتْ الزِّرَاعَةُ الْأَرْضَ أَوْ لَمْ تَنْقُصْهَا، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا: الْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ كَيْفَ مَا كَانَ أَسْلَمَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ نَافِذَةٌ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفَاتِ الْمُسْلِمِ هَذَا إذَا

فصل في الشرائط التي ترجع إلى الزرع

دَفَعَ مُرْتَدٌّ أَرْضَهُ مُزَارَعَةً إلَى مُسْلِمٍ أَمَّا إذَا دَفَعَ مُسْلِمٌ أَرْضَهُ مُزَارَعَةً إلَى مُرْتَدٍّ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَيْضًا: إمَّا أَنْ دَفَعَ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ جَمِيعًا أَوْ دَفَعَ الْأَرْضَ دُونَ الْبَذْرِ، فَإِنْ دَفَعَهُمَا جَمِيعًا مُزَارَعَةً فَعَمِلَ الْمُرْتَدُّ فَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ زَرْعًا كَثِيرًا ثُمَّ قُتِلَ الْمُرْتَدُّ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ وَرَثَةِ الْمُرْتَدِّ عَلَى الشَّرْطِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ صِحَّةِ تَصَرُّفِ الْمُرْتَدِّ لَا لِعَيْنِ رِدَّتِهِ بَلْ لِتَضَمُّنِهِ إبْطَالَ حَقِّ الْوَرَثَةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِمَالِهِ عَلَى مَا مَرَّ، وَعَمَلُ الْمُرْتَدِّ هَهُنَا لَيْسَ تَصَرُّفًا فِي مَالِهِ بَلْ عَلَى نَفْسِهِ بِإِيفَاءِ الْمَانِعِ، وَلَا حَقَّ لِوَرَثَتِهِ فِي نَفْسِهِ فَصَحَّتْ الْمُزَارَعَةُ فَكَانَ الْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ دَفَعَ الْأَرْضَ دُونَ الْبَذْرِ فَعَمِلَ الْمُرْتَدُّ بِبَذْرِهِ وَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ زَرْعًا. فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مَنْ أَجَازَ الْمُزَارَعَةَ أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لِوَرَثَةِ الْمُرْتَدِّ، وَلَا يَجِبُ نُقْصَانُ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ غَيْرُ نَافِذَةٍ لِلْحَالِ فَلَمْ تَنْفُذْ مُزَارَعَتُهُ فَكَانَ الْخَارِجُ حَادِثًا عَلَى مِلْكِهِ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ فَكَانَ لِوَرَثَتِهِ، وَفِيهِ إشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْخَارِجَ مِنْ أَكْسَابِ رِدَّتِهِ، وَكَسْبُ الرِّدَّةِ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَكَيْفَ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ؟ (وَالْجَوَابُ) : أَنَّهُ حِينَ بَذَرَ كَانَ حَقُّ الْوَرَثَةِ مُتَعَلِّقًا بِالْبَذْرِ؛ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ، فَالْحَاصِلُ مِنْهُ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِمْ فَلَا يَكُونُ كَسْبَ الرِّدَّةِ، وَلَا يَجِبُ نُقْصَانُ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ النُّقْصَانِ يَعْتَمِدُ إتْلَافَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ؛ إذْ الْمُزَارَعَةُ حَصَلَتْ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ كَمَا إذَا كَانَ مُسْلِمًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ أَسْلَمَ فَالْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْصِدَ الزَّرْعُ أَوْ بَعْدَ مَا اسْتَحْصَدَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا هَذَا إذَا كَانَتْ الْمُزَارَعَةُ بَيْنَ مُرْتَدٍّ وَمُسْلِمٍ (فَأَمَّا) إذَا كَانَتْ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ ثُمَّ ارْتَدَّا أَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا فَالْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُسْلِمًا وَقْتَ الْعَقْدِ صَحَّ التَّصَرُّفُ فَاعْتِرَاضُ الرِّدَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تُبْطِلُهُ. (وَأَمَّا) الْمُرْتَدَّةُ فَتَصِحُّ مُزَارَعَتُهَا دَفْعًا وَاحِدًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِهَا نَافِذَةٌ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفَاتِ الْمُسْلِمَةِ فَتَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ مِنْهَا دَفْعًا وَاحِدًا بِمَنْزِلَةِ مُزَارَعَةِ الْمُسْلِمَةِ. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الزَّرْعِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الزَّرْعِ فَنَوْعٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِأَنْ بَيَّنَ مَا يَزْرَعُ؛ لِأَنَّ حَالَ الْمَزْرُوعِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّرْعِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَرُبَّ زَرْعٍ يَزِيدُ فِي الْأَرْضِ، وَرُبَّ زَرْعٍ يَنْقُصُهَا، وَقَدْ يَقِلُّ النُّقْصَانُ، وَقَدْ يَكْثُرُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ؛ لِيَكُونَ لُزُومُ الضَّرَرِ مُضَافًا إلَى الْتِزَامِهِ إلَّا إذَا قَالَ لَهُ: ازْرَعْ فِيهَا مَا شِئْتَ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا مَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَيْهِ فَقَدْ رَضِيَ بِالضَّرَرِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْغَرْسَ؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْعَقْدِ الزَّرْعُ دُونَ الْغَرْسِ. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمَزْرُوعِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَزْرُوعِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِعَمَلِ الزِّرَاعَةِ، وَهُوَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ الْعَمَلُ بِالزِّيَادَةِ بِمَجْرَى الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْعَمَلُ بِالزِّيَادَةِ عَادَةً لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ عَمَلُ الزِّرَاعَةِ حَتَّى لَوْ دَفَعَ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ قَدْ اسْتَحْصَدَ مُزَارَعَةً لَمْ يَجُزْ كَذَا قَالُوا؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ إذَا اسْتَحْصَدَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ عَمَلُ الزِّرَاعَةِ بِالزِّيَادَةِ، فَلَا يَكُونُ قَابِلًا لِعَمَلِ الزِّرَاعَةِ. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْخَارِجِ مِنْ الزَّرْعِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْخَارِجِ مِنْ الزَّرْعِ فَأَنْوَاعٌ (مِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا فِي الْعَقْدِ حَتَّى لَوْ سَكَتَ عَنْهُ فَسَدَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ اسْتِئْجَارٌ، وَالسُّكُوتُ عَنْ ذِكْرِ الْأُجْرَةِ يُفْسِدُ الْإِجَارَةَ (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ لَهُمَا حَتَّى لَوْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ لِأَحَدِهِمَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الشَّرِكَةِ لَازِمٌ لِهَذَا الْعَقْدِ، وَكُلُّ شَرْطٍ يَكُونُ قَاطِعًا لِلشَّرِكَةِ يَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ (وَمِنْهَا) : أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُزَارِعَيْنِ بَعْضَ الْخَارِجِ حَتَّى لَوْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ بِهِ تَنْفَصِلُ عَنْ الْإِجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ الْخَارِجِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ مِنْ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ التَّقْدِيرِ يُؤَدِّي إلَى الْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ وَلِهَذَا شُرِطَ بَيَانُ مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَاتِ كَذَا هَذَا (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ جُزْءًا شَائِعًا مِنْ الْجُمْلَةِ حَتَّى لَوْ شَرَطَ لِأَحَدِهِمَا قُفْزَانًا مَعْلُومَةً لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ فِيهَا مَعْنَى الْإِجَارَةِ، وَالشَّرِكَةُ تَنْعَقِدُ إجَارَةً ثُمَّ تَتِمُّ شَرِكَةً. (أَمَّا) مَعْنَى الْإِجَارَةِ فَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ، وَالْمُزَارَعَةُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ إنْ كَانَ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، فَالْعَامِلُ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ بِعِوَضٍ، وَهُوَ نَمَاءُ بَذْرِهِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَرَبُّ الْأَرْضِ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ أَرْضِهِ مِنْ الْعَامِلِ بِعِوَضٍ هُوَ نَمَاءُ بَذْرِهِ، فَكَانَتْ الْمُزَارَعَةُ اسْتِئْجَارًا، إمَّا لِلْعَامِلِ، وَإِمَّا لِلْأَرْضِ، لَكِنْ بِبَعْضِ الْخَارِجِ. وَأَمَّا مَعْنَى الشَّرِكَةِ

فصل في الشرائط التي ترجع إلى المزروع فيه وهو الأرض

فَلِأَنَّ الْخَارِجَ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَعْنَى الْإِجَارَةِ وَالشَّرِكَةِ لَازِمٌ لِهَذَا الْعَقْدِ فَاشْتِرَاطُ قَدْرٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْخَارِجِ يَنْفِي لُزُومَ مَعْنَى الشَّرِكَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْأَرْضَ لَا تُخْرِجُ زِيَادَةً عَلَى الْقَدْرِ الْمَعْلُومِ؛ وَلِهَذَا إذَا شُرِطَ فِي الْمُضَارَبَةِ سَهْمٌ مَعْلُومٌ مِنْ الرِّبْحِ لَا يَصِحُّ كَذَا هَذَا، وَكَذَا إذَا ذَكَرَ جُزْءًا شَائِعًا، وَشَرَطَ مَعَهُ زِيَادَةَ أَقْفِزَةٍ مَعْلُومَةٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِمَا قُلْنَا، وَعَلَى هَذَا إذَا شَرَطَ أَحَدُهُمَا الْبَذْرَ لِنَفْسِهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا لَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ؛ لِجَوَازِ أَنْ لَا تُخْرِجَ الْأَرْضُ إلَّا قَدْرَ الْبَذْرِ، فَيَكُونَ كُلُّ الْخَارِجِ لَهُ فَلَا يُوجَدُ مَعْنَى الشَّرِكَةِ، وَلِأَنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ شَرَطَ قَدْرَ الْبَذْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ لَا عَيْنُ الْبَذْرِ؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ تَهْلِكُ فِي التُّرَابِ، وَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ؛ لِأَنَّ قَدْرَ رَأْسِ الْمَالِ يُرْفَعُ، وَيُقْسَمُ الْبَاقِي عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْتَضِي الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ لَا فِي غَيْرِهِ، وَدَفْعُ رَأْسِ الْمَالِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ (فَأَمَّا) الْمُزَارَعَةُ فَتَقْتَضِي الشَّرِكَةَ فِي كُلِّ الْخَارِجِ، وَاشْتِرَاطُ قَدْرٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْخَارِجِ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الشَّرِكَةِ فِي كُلِّهِ، فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، وَكَذَا إذَا شَرَطَا مَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَالسَّوَاقِي لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ مَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَالسَّوَاقِي مَعْلُومٌ، فَشَرْطُهُ يَمْنَعُ لُزُومَ الشَّرِكَةِ فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرِطُونَ فِي عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ لِأَحَدِهِمَا مَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَالسَّوَاقِي، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ الْمُكَرَّمُ - عَلَيْهِ أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ - أَبْطَلَهُ. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمَزْرُوعِ فِيهِ وَهُوَ الْأَرْضُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَزْرُوعِ فِيهِ، وَهُوَ الْأَرْضُ فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) : أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ سَبِخَةً أَوْ نَزَّةً لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ عَقْدُ اسْتِئْجَارٍ لَكِنْ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَالْأَرْضُ السَّبِخَةُ وَالنَّزَّةُ لَا تَجُوزُ إجَارَتُهَا، فَلَا تَجُوزُ مُزَارَعَتُهَا (فَأَمَّا) إذَا كَانَتْ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ فِي الْمُدَّةِ لَكِنْ لَا تُمْكِنُ زِرَاعَتُهَا وَقْتَ الْعَقْدِ لِعَارِضٍ مِنْ انْقِطَاعِ الْمَاءِ وَزَمَانِ الشِّتَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْعَوَارِضِ الَّتِي هِيَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فِي الْمُدَّةِ تَجُوزُ مُزَارَعَتُهَا، كَمَا تَجُوزُ إجَارَتُهَا. (وَمِنْهَا) أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةً لَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ؛ لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ. وَلَوْ دَفَعَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً عَلَى أَنَّ مَا يَزْرَعُ فِيهَا حِنْطَةً فَكَذَا، وَمَا يَزْرَعُ فِيهَا شَعِيرًا فَكَذَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْمَزْرُوعَ فِيهِ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ فَيَقَعُ عَلَى بَعْضِ الْأَرْضِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ يَزْرَعَ بَعْضَهَا حِنْطَةً وَبَعْضَهَا شَعِيرًا؛ لِأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى التَّبْعِيضِ تَنْصِيصٌ عَلَى التَّجْهِيلِ. وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ مَا زَرَعْتَ فِيهَا حِنْطَةً فَكَذَا، وَمَا زَرَعْتَ فِيهَا شَعِيرًا فَكَذَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَرْضَ كُلَّهَا ظَرْفًا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ أَوْ لِزَرْعِ الشَّعِيرِ؛ فَانْعَدَمَ التَّجْهِيلُ. وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ أَزْرَعَ فِيهَا بِغَيْرِ كِرَابٍ فَكَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ جَائِزٌ، وَهَذَا مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَزْرُوعَ فِيهِ مِنْ الْأَرْضِ مَجْهُولٌ فَأَشْبَهَ مَا إذَا قَالَ: مَا زَرَعَ فِيهَا حِنْطَةً فَكَذَا وَمَا زَرَعَ فِيهَا شَعِيرًا فَكَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ اشْتَغَلَ بِتَصْحِيحِ جَوَابِ الْكِتَابِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَتَّضِحْ. وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّهُ إنْ زَرَعَ حِنْطَةً فَكَذَا، وَإِنْ زَرَعَ شَعِيرًا فَكَذَا، وَإِنْ زَرَعَ سِمْسِمًا فَكَذَا، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا فَهُوَ جَائِزٌ لِانْعِدَامِ جَهَالَةِ الْمَزْرُوعِ فِيهِ، وَجَهَالَةُ الزَّرْعِ لِلْحَالِ لَيْسَ بِضَائِرٍ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الِاخْتِيَارَ إلَيْهِ فَأَيُّ ذَلِكَ اخْتَارَهُ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْعَقْدُ بِاخْتِيَارِهِ فِعْلًا كَمَا قُلْنَا فِي الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ. وَلَوْ زَرَعَ بَعْضَهَا حِنْطَةً وَبَعْضَهَا شَعِيرًا جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ زَرَعَ الْكُلَّ حِنْطَةً أَوْ الْكُلَّ شَعِيرًا لَجَازَ، فَإِذَا زَرَعَ الْبَعْضَ حِنْطَةً وَالْبَعْضَ شَعِيرًا أَوْلَى (وَمِنْهَا) : أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مُسَلَّمَةً إلَى الْعَامِلِ مُخَلَّاةً، وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْأَرْضِ، وَبَيْنَ الْعَامِلِ حَتَّى لَوْ شَرَطَ الْعَمَلَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ لَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ لِانْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ، فَكَذَا إذَا اشْتَرَطَ فِيهِ عَمَلَهُمَا فَيَمْنَعُ التَّخْلِيَةَ جَمِيعًا؛ لِمَا قُلْنَا؛ وَلِهَذَا لَوْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ الْعَمَلَ مَعَ الْمُضَارِبِ لَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يَمْنَعُ وُجُودَ مَا هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ كَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا إذَا دَفَعَ أَرْضًا وَبَذْرًا وَبَقَرًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَ الْعَامِلُ وَعَبْدُ رَبِّ الْأَرْضِ وَلِلْعَامِلِ الثُّلُثُ، وَلِرَبِّ الْأَرْضِ الثُّلُثُ وَلِعَبْدِهِ الثُّلُثُ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ صَارَ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ الَّذِي هُوَ نَمَاءُ مِلْكِهِ، فَصَحَّ وَشَرْطُ الْعَمَلِ عَلَى عَبْدِهِ لَا يَكُونُ شَرْطًا عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَهُ يَدُ نَفْسِهِ عَلَى كَسْبِهِ لَا يَدُ النِّيَابَةِ عَنْ مَوْلَاهُ، فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَا يَمْنَعُ تَحْقِيقَ التَّخْلِيَةِ، فَلَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، وَيَكُونُ نَصِيبُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ لَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ وَالْبَقَرِ وَالْعَبْدِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ الَّذِي هُوَ نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَذَا

فصل في الشرائط التي ترجع إلى ما عقد عليه المزارعة

لَا يَصِحُّ، عَلَى مَا نَذْكُرُ وَيَكُونُ الْخَارِجُ لَهُ، وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ وَالْبَقَرِ وَالْعَبْدِ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ شَرَطَ عَمَلَ رَبِّ الْأَرْضِ مَعَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَيْضًا أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي تَرْجِعُ إلَى مَا عُقِدَ عَلَيْهِ الْمُزَارَعَةُ] فَصْلٌ وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَا عُقِدَ عَلَيْهِ الْمُزَارَعَةُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْمُزَارَعَةِ مَقْصُودًا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا إجَارَةُ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا مَنْفَعَةُ الْعَامِلِ بِأَنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَإِمَّا مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ بِأَنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلِ، وَإِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ، وَإِذَا اجْتَمَعَا فِي الِاسْتِئْجَارِ فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ، فَأَمَّا مَنْفَعَةُ الْبَقَرِ فَإِنْ حَصَلَتْ تَابِعَةً صَحَّتْ الْمُزَارَعَةُ، وَإِنْ جُعِلَتْ مَقْصُودَةً فَسَدَتْ. [فَصْلٌ فِي بَيَان أَنْوَاعِ الْمُزَارَعَةِ] (فَصْلٌ) : وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِبَيَانِ أَنْوَاعِ الْمُزَارَعَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْمُزَارَعَةُ أَنْوَاعٌ (مِنْهَا) : أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ وَالْبَقَرُ وَالْآلَةُ مِنْ جَانِبٍ، وَالْعَمَلُ مِنْ جَانِبٍ وَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلِ لَا غَيْرُ لِيَعْمَلَ لَهُ فِي أَرْضِهِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ الَّذِي هُوَ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَهُوَ الْبَذْرُ. (وَمِنْهَا) : أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مِنْ جَانِبٍ، وَالْبَاقِي كُلُّهُ مِنْ جَانِبٍ، وَهَذَا أَيْضًا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ لَا غَيْرُ بِبَعْضِ الْخَارِجِ الَّذِي هُوَ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَهُوَ الْبَذْرُ (وَمِنْهَا) : أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ مِنْ جَانِبٍ وَالْبَقَرُ وَالْآلَةُ وَالْعَمَلُ مِنْ جَانِبٍ فَهَذَا أَيْضًا جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِئْجَارٌ لِلْعَامِلِ لَا غَيْرُ مَقْصُودًا فَأَمَّا الْبَذْرُ فَغَيْرُ مُسْتَأْجَرٍ مَقْصُودًا، وَلَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْأُجْرَةِ بَلْ هِيَ تَوَابِعُ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْفَعَةُ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ لِلْعَمَلِ فَلَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْعَمَلِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا فَخَاطَ بِإِبْرَةِ نَفْسِهِ جَازَ وَلَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الْأُجْرَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَابِعًا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَكَانَ جَارِيًا مَجْرَى الصِّفَةِ لِلْعَمَلِ كَانَ الْعَقْدُ عَقْدًا عَلَى عَمَلٍ جَيِّدٍ، وَالْأَوْصَافُ لَا قِسْطَ لَهَا مِنْ الْعِوَضِ فَأَمْكَنَ أَنْ تَنْعَقِدَ إجَارَةً ثُمَّ تَتِمَّ شَرِكَةً بَيْنَ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَبَيْنَ مَنْفَعَةِ الْعَامِلِ. (وَمِنْهَا) : أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالْبَقَرُ مِنْ جَانِبٍ، وَالْبَذْرُ وَالْعَمَلُ مِنْ جَانِبٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ مِنْ جَانِبٍ، وَجُعِلَتْ مَنْفَعَةُ الْبَقَرِ تَابِعَةً لِمَنْفَعَةِ الْعَامِلِ فَكَذَا، إذَا كَانَ الْأَرْضُ وَالْبَقَرُ مِنْ جَانِبٍ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ، وَيُجْعَلَ مَنْفَعَةُ الْبَقَرِ تَابِعَةً لِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَامِلَ هُنَا يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ وَالْبَقَرِ جَمِيعًا مَقْصُودًا بِبَعْضِ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ هُنَا؛ لِاخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْبَقَرِ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ، فَبَقِيَتْ أَصْلًا بِنَفْسِهَا، فَكَانَ هَذَا اسْتِئْجَارَ الْبَقَرِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ أَصْلًا وَمَقْصُودًا، وَاسْتِئْجَارُ الْبَقَرِ مَقْصُودًا بِبَعْضِ الْخَارِجِ لَا يَجُوزُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُزَارَعَةَ تَنْعَقِدُ إجَارَةً ثُمَّ تَتِمُّ شَرِكَةً، وَلَا يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الشَّرِكَةِ بَيْنَ مَنْفَعَةِ الْبَقَرِ وَبَيْنَ مَنْفَعَةِ الْعَامِلِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الشَّرِكَةِ بَيْنَ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَمَنْفَعَةِ الْعَامِلِ وَالثَّانِي: أَنَّ جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَعْدُومَةٌ، وَهِيَ مَعَ انْعِدَامِهَا مَجْهُولَةٌ فَيَقْتَصِرُ جَوَازُهَا عَلَى الْمَحَلِّ الَّذِي وَرَدَ النَّصُّ فِيهِ، وَذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْآلَةُ تَابِعَةً، فَإِذَا جُعِلَتْ مَقْصُودَةً يُرَدُّ إلَى الْقِيَاسِ (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ وَالْبَقَرُ مِنْ جَانِبٍ، وَالْأَرْضُ وَالْعَمَلُ مِنْ جَانِبٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ وَالْعَامِلِ جَمِيعًا بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْمُزَارَعَةِ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ جَانِبٍ، وَالْبَاقِي كُلُّهُ مِنْ جَانِبٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَيْضًا؛ لِمَا قُلْنَا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ أَيْضًا أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَائِزٌ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فَكَذَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ (وَالْجَوَابُ) : مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَوَازَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ ثَبَتَ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فَتَبْقَى حَالَةُ الِاجْتِمَاعِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَطَرِيقُ الْجَوَازِ فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ أَنْ يَأْخُذَ صَاحِبُ الْبَذْرِ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً ثُمَّ يَسْتَعِيرَ مِنْ صَاحِبِهَا لِيَعْمَلَ لَهُ فَيَجُوزَ، وَالْخَارِجُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَشْتَرِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَحَدِهِمْ الْأَرْضُ وَمِنْ الْآخَرِ الْبَقَرُ وَمِنْ الْآخَرِ الْبَذْرُ وَمِنْ الرَّابِعِ الْعَمَلُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ أَيْضًا لِمَا مَرَّ، وَفِي عَيْنِ هَذَا وَرَدَ الْخَبَرُ بِالْفَسَادِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ اشْتَرَكُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فصل في الشرائط التي ترجع إلى آلة المزارعة

عَلَى هَذَا الْوَجْهَ فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُزَارَعَتَهُمْ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يُشْتَرَطَ فِي عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْبَذْرِ مِنْ قِبَلِ أَحَدِهِمَا، وَالْبَعْضُ مِنْ قِبَلِ الْآخَرِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا صَاحِبَهُ فِي قَدْرِ بَذْرِهِ، فَيَجْتَمِعُ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ وَالْعَمَلُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَإِنَّهُ مُفْسِدٌ. (وَمِنْهَا) : أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مِنْ جَانِبٍ، وَالْبَذْرُ وَالْبَقَرُ مِنْ جَانِبٍ دَفَعَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَرْضَهُ إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ وَبَقَرِهِ مَعَ هَذَا الرَّجُلِ الْآخَرِ عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ شَيْءٍ فَثُلُثُهُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَثُلُثَاهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَالْبَقَرِ، وَثُلُثُهُ لِذَلِكَ الْعَامِلِ، وَهَذَا صَحِيحٌ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَالْعَامِلُ الْأَوَّلُ فَاسِدٌ فِي حَقِّ الْعَامِلِ الثَّانِي، وَيَكُونُ ثُلُثُ الْخَارِجِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَثُلُثَاهُ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ، وَلِلْعَامِلِ الثَّانِي أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَفْسُدَ الْمُزَارَعَةُ فِي حَقِّ الْكُلِّ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ، وَهُوَ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ جَمَعَ بَيْنَ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ، وَالْعَامِلِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ؛ لِكَوْنِهِ خِلَافَ مَوْرِدِ الشَّرْعِ بِالْمُزَارَعَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ حُكِمَ بِصِحَّتِهَا فِي حَقِّ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيمَا بَيْنَ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ الْأَوَّلِ وَقَعَ اسْتِئْجَارًا لِلْأَرْضِ لَا غَيْرُ وَإِنَّهُ صَحِيحٌ، وَفِيمَا بَيْنَ الْعَامِلَيْنِ وَقَعَ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ جَمِيعًا وَإِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الْوَاحِدُ لَهُ جِهَتَانِ: جِهَةُ الصِّحَّةِ وَجِهَةُ الْفَسَادِ خُصُوصًا فِي حَقِّ شَخْصَيْنِ، فَيَكُونُ صَحِيحًا فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا فَاسِدًا فِي حَقِّ الْآخَرِ. وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ صَحَّتْ الْمُزَارَعَةُ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمْ عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُعْتَبَرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلَيْنِ جَمِيعًا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ اسْتِئْجَارِ الْعَامِلَيْنِ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ كَانَ الْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي تَرْجِعُ إلَى آلَةِ الْمُزَارَعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى آلَةِ الْمُزَارَعَةِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبَقَرُ فِي الْعَقْدِ تَابِعًا، فَإِنْ جُعِلَ مَقْصُودًا فِي الْعَقْدِ تَفْسُدُ الْمُزَارَعَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي تَرْجِعُ إلَى مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً، فَلَا تَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهَا اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَلَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمُعَامَلَةِ أَنْ لَا تَصِحَّ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهَا اسْتِئْجَارُ الْعَامِلِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، فَكَانَتْ إجَارَةً بِمَنْزِلَةِ الْمُزَارَعَةِ إلَّا أَنَّهَا جَازَتْ فِي الِاسْتِحْسَانِ لِتَعَامُلِ النَّاسِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُدَّةِ، وَتَقَعُ عَلَى أَوَّلِ جُزْءٍ يَخْرُجُ مِنْ الثَّمَرَةِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ ابْتِدَاءِ الْمُعَامَلَةِ مَعْلُومٌ (فَأَمَّا) وَقْتُ ابْتِدَاءِ الْمُزَارَعَةِ فَمُتَفَاوِتٌ حَتَّى إنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَفَاوَتُ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُدَّةِ، وَهُوَ عَلَى أَوَّلِ زَرْعٍ يَخْرُجُ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ أَنَّ بَيَانَ الْمُدَّةِ فِي دِيَارِنَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، كَمَا فِي الْمُعَامَلَةِ. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِطُ الْمُفْسِدَةُ لِلْمُزَارَعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الْمُفْسِدَةُ لِلْمُزَارَعَةِ فَأَنْوَاعٌ: وَقَدْ دَخَلَ بَعْضُهَا فِي بَيَانِ الشَّرَائِطِ الْمُصَحِّحَةِ (مِنْهَا) : شَرْطُ كَوْنِ الْخَارِجِ لِأَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ الْعَقْدِ (وَمِنْهَا) : شَرْطُ الْعَمَلِ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ، وَهُوَ التَّخْلِيَةُ. (وَمِنْهَا) : شَرْطُ الْبَقَرِ؛ لِأَنَّ فِيهِ جَعْلَ مَنْفَعَةِ الْبَقَرِ مَعْقُودًا عَلَيْهَا مَقْصُودَةً فِي بَابِ الْمُزَارَعَةِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ. (وَمِنْهَا) شَرْطُ الْعَمَلِ وَالْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ مَوْرِدِ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْقِيَاسِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْفُصُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ. (وَمِنْهَا) : شَرْطُ الْحَمْلِ وَالْحِفْظِ عَلَى الْمُزَارِعِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ. (وَمِنْهَا) : شَرْطُ الْحَصَادِ وَالرَّفْعِ إلَى الْبَيْدَرِ وَالدِّيَاسُ وَالتَّذْرِيَةُ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ؛ إذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ صَلَاحُهُ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الزَّرْعُ قَبْلَ تَنَاهِيهِ وَإِدْرَاكِهِ وَجَفَافِهِ مِمَّا يَرْجِعُ إلَى إصْلَاحِهِ مِنْ السَّقْيِ وَالْحِفْظِ وَقَلْعِ الْحَشَاوَةِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ وَتَسْوِيَةِ الْمُسَنَّاةِ وَنَحْوِهَا فَعَلَى الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الزَّرْعِ، وَهُوَ النَّمَاءُ لَا يَحْصُلُ بِدُونِهِ عَادَةً، فَكَانَ مِنْ تَوَابِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَكَانَ مِنْ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ فَيَكُونُ عَلَى الْمُزَارِعِ، وَكُلُّ عَمَلٍ يَكُونُ بَعْدَ تَنَاهِي الزَّرْعِ وَإِدْرَاكِهِ وَجَفَافِهِ قَبْلَ قِسْمَةِ الْحَبِّ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِخُلُوصِ الْحَبِّ وَتَنْقِيَتِهِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى شَرْطِ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ دَفَعَ أَرْضًا مُزَارَعَةً، وَفِيهَا زَرْعٌ قَدْ اسْتَحْصَدَ لَا يَجُوزُ لِانْقِضَاءِ وَقْتِ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ؛ إذْ الْعَمَلُ

فصل في بيان حكم المزارعة الصحيحة

فِيهِ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ مِمَّا لَا يُفِيدُهُ، وَكُلُّ عَمَلٍ يَكُونُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ مِنْ الْحَمْلِ إلَى الْبَيْتِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِحْرَازِ الْمَقْسُومِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُؤْنَةُ مِلْكِهِ فَيَلْزَمُهُ دُونَ غَيْرِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَجَازَ شَرْطَ الْحَصَادِ وَرَفْعِ الْبَيْدَرِ وَالدِّيَاسِ وَالتَّذْرِيَةِ عَلَى الْمُزَارِعِ لِتَعَامُلِ النَّاسِ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ يُفْتُونَ بِهِ أَيْضًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ نُصَيْرِ بْنِ يَحْيَى وَمُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ مِنْ مَشَايِخِ خُرَاسَانَ وَالْجُذَاذُ فِي بَابِ الْمُعَامَلَةِ لَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ بِلَا خِلَافٍ (أَمَّا) فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلَا يُشْكِلُ. وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ فَلِانْعِدَامِ التَّعَامُلِ فِيهِ. وَلَوْ بَاعَ الزَّرْعَ قَصِيلًا فَاجْتَمَعَا عَلَى أَنْ يَقْصِلَاهُ كَانَ الْقَصْلُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي قَدْرِ شَرْطِ الْحَبِّ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْحَصَادِ (وَمِنْهَا) : شَرْطُ التِّبْنِ لِمَنْ لَا يَكُونُ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ التِّبْنُ بَيْنَهُمَا وَإِمَّا أَنْ سَكَتَا عَنْهُ وَإِمَّا أَنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا لَا شَكَّ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُقَرَّرٌ، وَمُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْخَارِجِ مِنْ الزَّرْعِ مِنْ مَعَانِي هَذَا الْعَقْدِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنْ سَكَتَا عَنْهُ يَفْسُدُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: لَا يَفْسُدُ، وَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ مِنْهُمَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مُحَمَّدًا رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ صَاحِبُ الْبَذْرِ يَسْتَحِقُّهُ بِبَذْرِهِ لَا بِالشَّرْطِ فَكَانَ شَرْطُ التِّبْنِ، وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا - أَعْنِي الْحَبَّ وَالتِّبْنَ - مَقْصُودٌ مِنْ الْعَقْدِ فَكَانَ السُّكُوتُ عَنْ التِّبْنِ بِمَنْزِلَةِ السُّكُوتِ عَنْ الْحَبِّ، وَذَا مُفْسِدٌ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا هَذَا، وَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَإِنْ شَرْطَاهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ جَازَ، وَيَكُونُ لَهُ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ يَسْتَحِقُّهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ؛ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ فَالشَّرْطُ لَا يَزِيدُهُ إلَّا تَأْكِيدًا، وَإِنْ شَرَطَاهُ لِمَنْ لَا بَذْرَ لَهُ فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ صَاحِبِ الْبَذْرِ التِّبْنَ بِالْبَذْرِ لَا بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَنَمَاءُ مِلْكِ الْإِنْسَانِ مِلْكُهُ فَصَارَ شَرْطُ كَوْنِ التِّبْنِ لِمَنْ لَا بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ كَوْنِ الْحَبِّ لَهُ، وَذَا مُفْسِدٌ كَذَا هَذَا. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَشْتَرِطَ صَاحِبُ الْأَرْضِ عَلَى الْمُزَارِعِ عَمَلًا يَبْقَى أَثَرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ بَعْدَ مُدَّةٍ، فَالْمُزَارَعَةُ كَبِنَاءِ الْحَائِطِ والسرقند وَاسْتِحْدَاثِ حَفْرِ النَّهْرِ وَرَفْعِ الْمُسَنَّاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَبْقَى أَثَرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ إلَى مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ. وَأَمَّا الْكِرَابُ فَلَا يَخْلُو فِي الْأَصْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَمَّا إنْ شَرَطَاهُ فِي الْعَقْدِ وَأَمَّا إنْ سَكَتَا عَنْهُ، فَإِنْ سَكَتَا عَنْهُ هَلْ يَدْخُلُ تَحْتَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ حَتَّى يُجْبَرَ الْمُزَارِعُ عَلَيْهِ لَوْ امْتَنَعَ أَوْ لَا؟ فَسَنَذْكُرُهُ فِي حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -، وَإِنْ شَرَطَاهُ فِي الْعَقْدِ فَلَا يَخْلُو أَيْضًا مِنْ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ شَرَطَاهُ مُطْلَقًا عَنْ صِفَةِ التَّثْنِيَةِ، وَإِمَّا أَنْ شَرَطَاهُ مُقَيَّدًا بِهَا، فَإِنْ شَرَطَاهُ مُطْلَقًا عَنْ الصِّفَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّ أَثَرَهُ يَبْقَى إلَى مَا بَعْدَ الْمُدَّةِ وَقَالَ عَامَّتُهُمْ: لَا يُفْسِدُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْكِرَابَ بِدُونِ التَّثْنِيَةِ مِمَّا يُبْطِلُ السَّقْيَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ وَمَنْفَعَةٌ بَعْدَ الْمُدَّةِ فَلَمْ يَكُنْ شَرْطُهُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ، وَإِنْ شَرَطَاهُ مَعَ التَّثْنِيَةِ فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ؛ لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ عِبَارَةً عَنْ الْكِرَابِ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً لِلزِّرَاعَةِ وَمَرَّةً بَعْدَ الْحَصَادِ؛ لِيَرُدَّ الْأَرْضَ عَلَى صَاحِبِهَا مَكْرُوبَةً، وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَرْطُ عَمَلٍ لَيْسَ هُوَ مِنْ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّ الْكِرَابَ بَعْدَ الْحَصَادِ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ فِعْلِ الْكِرَابِ مَرَّتَيْنِ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ، وَإِنَّهُ عَمَلٌ يَبْقَى أَثَرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ إلَى مَا بَعْدَ الْمُدَّةِ، فَكَانَ مُفْسِدًا حَتَّى إنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَبْقَى لَا يُفْسِدُ كَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا. وَلَوْ دَفَعَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً عَلَى أَنَّهُ إنْ زَرَعَهَا بِغَيْرِ كِرَابٍ فَلِلْمُزَارِعِ الرُّبُعُ، وَإِنْ زَرَعَهَا بِكِرَابٍ فَلَهُ الثُّلُثُ، وَإِنْ كَرَبَهَا وَثَنَّاهَا فَلَهُ النِّصْفُ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا شَرَطَا كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَهَذَا مُشْكِلٌ فِي شَرْطِ الْكِرَابِ مَعَ التَّثْنِيَةِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُفْسِدٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفْسِدَهَا هَذَا الشَّرْطُ، وَإِذَا عَمِلَ يَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ، فَأَمَّا شَرْطُ الْكِرَابِ وَعَدَمُهُ فَصَحِيحٌ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفْسِدٍ، وَبَعْضُهُمْ صَحَّحُوا جَوَابَ الْكِتَابِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ هَذَا الشَّرْطِ وَبَيْنَ شَرْطِ التَّثْنِيَةِ بِفَرْقٍ لَمْ يَتَّضِحْ، وَفَرَّعَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ: وَلَوْ زَرَعَ بَعْضَ الْأَرْضِ بِكِرَابٍ وَبَعْضَهَا بِغَيْرِ كَرَابٍ وَبَعْضَهَا بِثُنْيَانٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ الْأَرْضِ نَافِذٌ عَلَى مَا شَرَطَا كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ إنْ شَرَطَ التَّثْنِيَةَ فِي كُلِّ الْأَرْضِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ ذَلِكَ يَصِحُّ فِي الْبَعْضِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: لِلْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ أَحْكَامٌ:

فصل في حكم المزارعة الفاسدة

مِنْهَا) : أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِصْلَاحِهِ فَعَلَى الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. (وَمِنْهَا) : أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّرْعِ مِنْ السِّرْقِينِ وَقَلْعِ الْحَشَاوَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا، وَكَذَلِكَ الْحَصَادُ وَالْحَمْلُ إلَى الْبَيْدَرِ وَالدِّيَاسُ وَتَذْرِيَتُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ حَتَّى يَخْتَصَّ بِهِ الْمُزَارِعُ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ صَحَّ فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» . (وَمِنْهَا) : أَنَّهَا إذَا لَمْ تُخْرِجُ الْأَرْضُ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا أَجْرُ الْعَمَلِ وَلَا أَجْرُ الْأَرْضِ سَوَاءٌ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ أَوْ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا أَجْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ هُوَ الْمُسَمَّى وَهُوَ بَعْضُ الْخَارِجِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْخَارِجُ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَالْوَاجِبُ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ مِثْلِ الْعَمَلِ فِي الذِّمَّةِ لَا فِي الْخَارِجِ، فَانْعِدَامُ الْخَارِجِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَهُ فِي الذِّمَّةِ فَهُوَ الْفَرْقُ (وَمِنْهَا) : أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي جَانِبِ صَاحِبِ الْبَذْرِ لَازِمٌ فِي جَانِبِ صَاحِبِهِ. وَلَوْ امْتَنَعَ بَعْدَمَا عَقَدَ الْمُزَارَعَةَ عَلَى الصِّحَّةِ، وَقَالَ: لَا أُرِيدُ زِرَاعَةَ الْأَرْضِ لَهُ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَلَوْ امْتَنَعَ صَاحِبُهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَعَقْدُ الْمُعَامَلَةِ لَازِمٌ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَمْتَنِعَ إلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ لَا يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِإِتْلَافِ مِلْكِهِ، وَهُوَ الْبَذْرُ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ يَهْلِكُ فِي التُّرَابِ فَلَا يَكُونُ الشُّرُوعُ فِيهِ مُلْزِمًا فِي حَقِّهِ؛ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إتْلَافِ مِلْكِهِ وَلَا كَذَلِكَ مَنْ لَيْسَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ وَالْمُعَامَلَاتُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لُزُومِ الْمَعْنَى إيَّاهُمْ إتْلَافُ مِلْكِهِمْ، فَكَانَ الشُّرُوعُ فِي حَقِّهِمْ مُلْزِمًا، وَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ كَمَا فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُزَارِعُ كَرَبَ الْأَرْضَ أَوْ لَمْ يَكْرُبْهَا؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا، وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ فِي عَمَلِ الْكِرَابِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الْمُنْفَسِخَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَمِنْهَا: وِلَايَةُ جَبْرِ الْمُزَارِعِ عَلَى الْكِرَابِ وَعَدَمُهَا، وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ شَرَطَا الْكِرَابَ فِي الْعَقْدِ وَإِمَّا أَنْ سَكَتَا عَنْ شَرْطِهِ فَإِنْ شَرْطَاهُ يُجْبَرُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ صَحِيحٌ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِنْ سَكَتَا عَنْهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ الْأَرْضُ مِمَّا يُخْرِجُ الزَّرْعَ بِدُونِ الْكِرَابِ زَرْعًا مُعْتَادًا يُقْصَدُ مِثْلُهُ فِي عُرْفِ النَّاسِ لَا يُجْبَرُ الْمُزَارِعُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُخْرِجُ أَصْلًا أَوْ يُخْرِجُ، وَلَكِنْ شَيْئًا قَلِيلًا لَا يُقْصَدُ مِثْلُهُ بِالْعَمَلِ يُجْبَرُ عَلَى الْكِرَابِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ يَقَعُ عَلَى الزِّرَاعَةِ الْمُعْتَادَةِ، وَعَلَى هَذَا إذَا امْتَنَعَ الْمُزَارِعُ عَنْ السَّقْيِ، وَقَالَ: اُدْعُهَا حَتَّى تَسْقِيَهَا السَّمَاءُ فَهُوَ عَلَى قِيَاسِ هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الزَّرْعُ مِمَّا يَكْتَفِي بِمَاءِ السَّمَاءِ، وَيُخْرِجُ زَرْعًا مُعْتَادًا بِدُونِهِ لَا يُجْبَرُ عَلَى السَّقْيِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ السَّقْيِ أَجْوَدَ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَكْتَفِي بِهِ يُجْبَرُ عَلَى السَّقْيِ؛ لِمَا قُلْنَا. (وَمِنْهَا) : جَوَازُ الزِّيَادَةِ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ مِنْ الْخَارِجِ وَالْحَطِّ عَنْهُ وَعَدَمُ الْجَوَازِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا احْتَمَلَ إنْشَاءَ الْعَقْدِ عَلَيْهِ احْتَمَلَ الزِّيَادَةَ، وَمَا لَا فَلَا، وَالْحَطُّ جَائِزٌ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا كَمَا فِي الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ فِي الْمُزَارَعَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُزَارِعِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْمَزَارِعِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَا اسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْصِدَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتَحْصَدَ، وَالْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ، وَكَانَتْ الْمُزَارَعَةُ عَلَى النِّصْفِ مَثَلًا فَزَادَ الْمَزَارِعُ صَاحِبَ الْأَرْضِ السُّدُسَ فِي حِصَّتِهِ، وَجَعَلَ لَهُ الثُّلُثَيْنِ، وَرَضِيَ بِهِ صَاحِبُ الْأَرْضِ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ نِصْفَانِ، وَإِنْ زَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْمَزَارِعَ السُّدُسَ فِي حِصَّتِهِ وَتَرَاضَيَا فَالزِّيَادَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ زِيَادَةٌ عَلَى الْأُجْرَةِ بَعْدَ انْتِهَاءِ عَمَلِ الْمُزَارَعَةِ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ - وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ أَنْشَآ الْعَقْدَ بَعْدَ الْحَصَادِ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ -، وَالثَّانِيَ حَطٌّ مِنْ الْأُجْرَةِ وَإِنَّهُ لَا يَسْتَدْعِي قِيَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَمَا فِي بَابِ الْبَيْعِ، هَذَا إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ زَادَ الْمُزَارِعُ جَازَ؛ لِمَا قُلْنَا، هَذَا إذَا زَادَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ مَا اسْتَحْصَدَ الزَّرْعَ فَإِنْ زَادَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْصِدَ جَازَ أَيُّهُمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ يَحْتَمِلُ إنْشَاءَ الْعَقْدِ فَيَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ أَيْضًا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) : أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُزَارِعِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّ

فصل في المعاني التي هي عذر في فسخ المزارعة

وُجُوبَهُ بِالْعَقْدِ وَلَمْ يَصِحَّ وَ (مِنْهَا) : أَنَّ الْخَارِجَ يَكُونُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ سَوَاءٌ كَانَ رَبَّ الْأَرْضِ أَوْ الْمُزَارِعَ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ صَاحِبِ الْبَذْرِ الْخَارِجَ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ لَا بِالشَّرْطِ لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ بِالْمِلْكِ عَنْ الشَّرْطِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ الْخَارِجِ بِالشَّرْطِ وَهُوَ الْعَقْدُ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ اسْتَحَقَّهُ صَاحِبُ الْمِلْكِ وَلَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ. (وَمِنْهَا) : أَنَّ الْبَذْرَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ كَانَ لِلْعَامِلِ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ كَانَ هُوَ مُسْتَأْجِرًا لِلْعَامِلِ فَإِذَا فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ وَجَبَ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ، وَإِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ كَانَ عَلَيْهِ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ يَكُونُ هُوَ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ، فَإِذَا فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ. (وَمِنْهَا) : أَنَّ الْبَذْرَ إذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَاسْتَحَقَّ الْخَارِجَ وَغَرِمَ لِلْعَامِلِ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ طَيِّبٌ؛ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ مِنْ مِلْكِهِ وَهُوَ الْبَذْرُ فِي مِلْكِهِ وَهُوَ الْأَرْضُ، وَإِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ وَاسْتَحَقَّ الْخَارِجَ وَغَرِمَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَجْرَ مِثْلِ أَرْضِهِ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لَا يَطِيبُ لَهُ بَلْ يَأْخُذُ مِنْ الزَّرْعِ قَدْرَ بَذْرِهِ وَقَدْرَ أَجْرِ مِثْلِ الْأَرْضِ وَيَطِيبُ ذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ سُلِّمَ لَهُ بِعِوَضٍ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَوَلَّدَ مِنْ بَذْرِهِ لَكِنْ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَتَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةُ الْخُبْثِ فَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ. (وَمِنْهَا) : أَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ لَا يَجِبُ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ مَا لَمْ يُوجَدْ اسْتِعْمَالُ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ عَقْدُ إجَارَةٍ وَالْأُجْرَةُ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ لَا تَجِبُ إلَّا بِحَقِيقَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَلَا تَجِبُ بِالتَّخْلِيَةِ لِانْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ فِيهَا حَقِيقَةً؛ إذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ الْمَوَانِعِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا، وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْإِجَارَاتِ. (وَمِنْهَا) : أَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ يَجِبُ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ، وَإِنْ لَمْ تُخْرِجْ الْأَرْضُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ اسْتَعْمَلَهَا الْمُزَارِعُ، وَفِي الْمُزَارَعَةِ الصَّحِيحَةِ إذَا لَمْ تُخْرِجْ شَيْئًا لَا يَجِبُ شَيْءٌ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ فِيمَا تَقَدَّمَ. (وَمِنْهَا) : أَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ يَجِبُ مُقَدَّرًا بِالْمُسَمَّى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: يَجِبُ تَامًّا، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْأُجْرَةُ وَهُوَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَمَّاةً فِي الْعَقْدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ تَامًّا بِالْإِجْمَاعِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِجَارَةِ وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ وَمَبْنَى الْمُعَاوَضَاتِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ، وَذَلِكَ فِي وُجُوبِ أَجْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ الْمِثْلُ الْمُمْكِنُ فِي الْبَابِ؛ إذْ هُوَ قَدْرُ قِيمَةِ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ إلَّا أَنَّ فِيهِ ضَرْبَ جَهَالَةٍ، وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ فَوَجَبَ الْمُسَمَّى عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْمَنَافِعِ أَيْضًا، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْبَدَلِ الْأَصْلِيِّ لِلْمَنَافِعِ وَهُوَ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ وَلِهَذَا إذَا لَمْ يُسَمِّ الْبَدَلَ أَصْلًا فِي الْعَقْدِ وَجَبَ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الْأَصْلَ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَهُوَ: وُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ بَدَلًا عَنْ الْمَنَافِعِ قِيمَةً لَهَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمِثْلُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ لَكِنْ مُقَدَّرًا بِالْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَجِبُ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْبَدَلِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ يَجِبُ اعْتِبَارُ التَّسْمِيَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَأَمْكَنَ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ أَجْرِ الْمِثْلِ بِالْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَا رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمُسَمَّى، وَالْآجِرُ مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ عَنْهُ فَكَانَ اعْتِبَارُ الْمُسَمَّى فِي تَقْدِيرِ أَجْرِ الْمِثْلِ بِهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ وَرِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فَكَانَ أَوْلَى بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْبَدَلُ مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى أَصْلًا لَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ أَجْرِ الْمِثْلِ فَهُوَ الْفَرْقُ. [فَصْلٌ فِي الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ عُذْرٌ فِي فَسْخِ الْمُزَارَعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ عُذْرٌ فِي فَسْخِ الْمُزَارَعَةِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُزَارِعِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ فَهُوَ الدَّيْنُ الْفَادِحُ الَّذِي لَا قَضَاءَ لَهُ إلَّا مِنْ ثَمَنِ هَذِهِ الْأَرْضِ تُبَاعُ فِي الدَّيْنِ، وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ بِهَذَا الْعُذْرِ إذَا أَمْكَنَ الْفَسْخَ بِأَنْ كَانَ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ أَوْ بَعْدَهَا إذَا أَدْرَكَ الزَّرْعُ، وَبَلَغَ مَبْلَغَ الْحَصَادِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُضِيُّ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ تَحَمُّلُ الضَّرَرِ فَيَبِيعُ الْقَاضِي الْأَرْضَ بِدَيْنِهِ أَوَّلًا ثُمَّ يَفْسَخُ الْمُزَارَعَةَ وَلَا تَنْفَسِخُ بِنَفْسِ الْعُذْرِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الْفَسْخُ بِأَنْ كَانَ الزَّرْعُ لَمْ يُدْرِكْ وَلَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الْحَصَادِ لَا يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ وَلَا يُفْسَخُ إلَى أَنْ يُدْرِكَ الزَّرْعُ؛ لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ إبْطَالَ حَقِّ الْعَامِلِ، وَفِي الِانْتِظَارِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ تَأْخِيرَ حَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ

فصل في الذي ينفسخ به عقد المزارعة بعد وجوده

وَفِيهِ رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ - فَكَانَ أَوْلَى وَيُطْلَقُ مِنْ الْحَبْسِ إنْ كَانَ مَحْبُوسًا إلَى غَايَةِ الْإِدْرَاكِ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الظُّلْمِ وَهُوَ الْمَطْلُ وَإِنَّهُ غَيْرُ مُمَاطِلٍ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ؛ لِكَوْنِهِ مَمْنُوعًا عَنْ بَيْعِ الْأَرْضِ شَرْعًا، وَالْمَمْنُوعُ مَعْذُورٌ فَإِذَا أَدْرَكَ الزَّرْعُ يُرَدُّ إلَى الْحَبْسِ ثَانِيًا؛ لِيَبِيعَ أَرْضَهُ وَيُؤَدِّيَ دَيْنَهُ بِنَفْسِهِ، وَإِلَّا فَيَبِيعُ الْقَاضِي عَلَيْهِ. (وَأَمَّا) الثَّانِي الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُزَارِعِ فَنَحْوُ الْمَرَضِ - لِأَنَّهُ مُعْجِزٌ عَنْ الْعَمَلِ -، وَالسَّفَرِ - لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ -، وَتَرْكِ حِرْفَةٍ إلَى حِرْفَةٍ - لِأَنَّ مِنْ الْحِرَفِ مَا لَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ فَيَحْتَاجُ إلَى الِانْتِقَالِ إلَى غَيْرِهِ -، وَمَانِعٍ يَمْنَعُهُ مِنْ الْعَمَلِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ. [فَصْلٌ فِي الَّذِي يَنْفَسِخُ بِهِ عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ بَعْد وجوده] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَنْفَسِخُ بِهِ عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ بَعْدَ وُجُودِهِ فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) : الْفَسْخُ وَهُوَ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ، وَدَلَالَةٌ فَالصَّرِيحُ: أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْفَسْخِ وَالْإِقَالَةِ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْإِجَارَةِ وَالشَّرِكَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَابِلٌ لِصَرِيحِ الْفَسْخِ وَالْإِقَالَةِ. وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَنَوْعَانِ: الْأَوَّلُ: امْتِنَاعُ صَاحِبِ الْبَذْرِ عَنْ الْمُضِيِّ فِي الْعَقْدِ بِأَنْ قَالَ: لَا أُرِيدُ مُزَارَعَةَ الْأَرْضِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّهِ فَكَانَ بِسَبِيلٍ مِنْ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْمُضِيِّ فِيهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا مِنْهُ دَلَالَةً. وَالثَّانِي: حَجْرُ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بَعْدَ مَا دَفَعَ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ مُزَارَعَةً، وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ إذَا دَفَعَ الْأَرْضَ وَالْبَذْرَ مُزَارَعَةً فَحَجَرَهُ الْمَوْلَى قَبْلَ الْمُزَارَعَةِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ حَتَّى يَمْلِكَ مَنْعَ الْمُزَارِعِ عَنْ الْمُزَارَعَةِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَقَعْ لَازِمًا مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ بَذْرٍ فَيَمْلِكُ الْمَوْلَى مَنْعَهُ عَنْ الزِّرَاعَةِ بِالْحَجْرِ كَمَا كَانَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ مَنْعَهُ قَبْلَ الْحَجْرِ. وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ جِهَةِ الْمُزَارِعِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمَوْلَى وَلَا الْعَبْدُ مَنْعَ الْمُزَارِعِ عَنْ الْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْبَذْرِ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ مَنْعَهُ عَنْ الزِّرَاعَةِ قَبْلَ الْحَجْرِ فَلَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى مَنْعَهُ بِالْحَجْرِ أَيْضًا هَذَا إذَا دَفَعَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً، فَأَمَّا إذَا أَخَذَهَا مُزَارَعَةً، فَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ إذَا حُجِرَ عَلَيْهِ فَقَدْ عَجَزَ عَنْ الْعَمَلِ، وَإِنَّهُ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ وَالْأَرْضُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْبَذْرِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالْحَجْرِ؛ لِأَنَّهُ بِالْحَجْرِ لَمْ يَعْجَزْ عَنْ الْعَمَلِ إلَّا أَنَّ لِلْمَوْلَى مَنْعَهُ عَنْ الْعَمَلِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافِ مِلْكِهِ وَهُوَ الْبَذْرُ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ مَا لَا يَنْفَسِخَ بِالْحَجْرِ هَذَا إذَا حَجَرَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ وَلَكِنْ نَهَاهُ عَنْ الزِّرَاعَةِ أَوْ فَسَخَ الْعَقْدَ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ أَوْ نَهَى قَبْلَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ فَالنَّهْيُ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ نَهْيُ الْأَبِ الصَّبِيَّ الْمَأْذُونَ قَبْلَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ أَوْ بَعْدَهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الزِّرَاعَةِ وَالْفَسْخَ بَعْدَهَا مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ، وَالْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ. (وَمِنْهَا) : انْقِضَاءُ مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّهَا إذَا انْقَضَتْ فَقَدْ انْتَهَى الْعَقْدُ وَهُوَ مَعْنَى الِانْفِسَاخِ (وَمِنْهَا) : مَوْتُ صَاحِبِ الْأَرْضِ سَوَاءٌ مَاتَ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ أَوْ بَعْدَهَا وَسَوَاءٌ أَدْرَكَ الزَّرْعُ أَوْ وَهُوَ بَقْلٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ أَفَادَ الْحُكْمَ لَهُ دُونَ وَارِثِهِ؛ لِأَنَّهُ عَاقِدٌ لِنَفْسِهِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَنْ عَقَدَ لِنَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فَحُكْمُ تَصَرُّفِهِ يَقَعُ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ (وَمِنْهَا) : مَوْتُ الْمُزَارِعِ سَوَاءٌ مَاتَ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ أَوْ بَعْدَهَا بَلَغَ الزَّرْعُ حَدَّ الْحَصَادِ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ لِمَا ذَكَرْنَا. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الْمُنْفَسِخَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الْمُنْفَسِخَةِ فَنَقُولُ: وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ انْفَسَخَتْ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ أَوْ بَعْدَهَا، فَإِنْ انْفَسَخَتْ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ لَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ، وَإِنْ كَرَبَ الْأَرْضَ وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ وَسَوَّى الْمُسَنَّيَاتِ بِأَيِّ طَرِيقٍ انْفَسَخَ سَوَاءٌ انْفَسَخَ بِصَرِيحِ الْفَسْخِ أَوْ بِدَلِيلِهِ أَوْ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِانْتِهَاءِ حُكْمِهِ لَا فِي الْمَاضِي فَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، وَالْوَاجِبُ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ الْمُسَمَّى وَهُوَ بَعْضُ الْخَارِجِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا شَيْءَ، وَقِيلَ: هَذَا جَوَابُ الْحُكْمِ، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِ أَنْ يُرْضِيَ الْعَامِلَ فِيمَا إذَا امْتَنَعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي الْعَقْدِ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِامْتِنَاعُ شَرْعًا فَإِنَّهُ يُشْبِهُ التَّغْرِيرَ وَإِنَّهُ حَرَامٌ، وَإِنْ انْفَسَخَتْ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ، فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ قَدْ أَدْرَكَ وَبَلَغَ الْحَصَادَ فَالْحَصَادُ وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُدْرِكْ فَكَذَا الْجَوَابُ فِي صَرِيحِ الْفَسْخِ وَدَلِيلِهِ وَانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ، وَالْعَمَلُ فِيمَا بَقِيَ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ

كتاب المعاملة

عَلَيْهِمَا وَعَلَى الْمُزَارِعِ أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ. (أَمَّا) الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ فَلِمَا مَرَّ أَنَّ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي الْمَاضِي فَبَقِيَ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الِانْفِسَاخِ. (وَأَمَّا) الْعَمَلُ فِيمَا بَقِيَ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ فِي مَالٍ مُشْتَرَكٍ لَمْ يُشْتَرَطْ الْعَمَلُ فِيهِ عَلَى أَحَدِهِمَا فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى الْمُزَارِعِ أَجْرُ مِثْلِ نِصْفِ الْأَرْضِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْفَسَخَ، وَفِي الْقَلْعِ ضَرَرٌ بِالْمُزَارِعِ، وَفِي التَّرْكِ بِغَيْرِ أَجْرٍ ضَرَرٌ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ فَكَانَ التَّرْكُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ نَظَرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ صَاحِبُ الْأَرْضِ، وَالزَّرْعُ بَقْلٌ أَنَّ الْعَمَلَ يَكُونُ عَلَى الْمُزَارِعِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ هُنَاكَ انْفَسَخَ الْعَقْدُ حَقِيقَةً لِوُجُودِ سَبَبِ الْفَسْخِ وَهُوَ الْمَوْتُ إلَّا أَنَّا بَقَّيْنَاهُ تَقْدِيرًا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْفَسَخَ لَثَبَتَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ حَقُّ الْقَلْعِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمُزَارِعِ فَجُعِلَ هَذَا عُذْرًا فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ تَقْدِيرًا، فَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ كَانَ الْعَمَلُ عَلَى الْمُزَارِعِ خَاصَّةً كَمَا كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَهَذَا لَا يَتَّضِحُ فَإِنْ اتَّفَقَ أَحَدُهُمَا مِنْ غَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَمِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ. وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّرْعَ بَقْلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِالْمُزَارِعِ. وَلَوْ أَرَادَ الْمُزَارِعُ أَنْ يَأْخُذَهُ بَقْلًا فَصَاحِبُ الْأَرْضِ بَيْنَ خِيَارَاتٍ ثَلَاثٍ: إنْ شَاءَ قَلَعَ الزَّرْعَ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى الْمُزَارِعَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مِنْ الزَّرْعِ، وَإِنْ شَاءَ أَنْفَقَ هُوَ عَلَى الزَّرْعِ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْمُزَارِعِ بِحِصَّتِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ الْجَانِبَيْنِ. (وَأَمَّا) فِي مَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَمَّا إذَا مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ بَعْدَ مَا دَفَعَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً ثَلَاثَ سِنِينَ وَنَبَتَ الزَّرْعُ وَصَارَ بَقْلًا تُتْرَكُ الْأَرْضُ فِي يَدَيْ الْمُزَارِعِ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ، وَيُقْسَمُ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ فِي التَّرْكِ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ نَظَرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَفِي الْقَلْعِ إضْرَارًا بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمُزَارِعُ، وَيَكُونُ الْعَمَلُ عَلَى الْمُزَارِعِ خَاصَّةً لِبَقَاءِ الْعَقْدِ تَقْدِيرًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي هَذَا الزَّرْعِ، وَإِنْ مَاتَ الْمُزَارِعُ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ فَقَالَ وَرَثَتُهُ: نَحْنُ نَعْمَلُ عَلَى شَرْطِ الْمُزَارَعَةِ وَأَبَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْأَرْضِ فَالْأَمْرُ إلَى وَرَثَةِ الْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّ فِي الْقَلْعِ ضَرَرًا بِالْوَرَثَةِ وَلَا ضَرَرَ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ فِي التَّرْكِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ، وَإِذَا تَرَكَ لَا أَجْرَ لِلْوَرَثَةِ فِيمَا يَعْمَلُونَ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ عَلَى حُكْمِ عَقْدِ أَبِيهِمْ تَقْدِيرًا فَكَأَنَّهُ يَعْمَلُ أَبُوهُمْ، وَإِنْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ قَلْعَ الزَّرْعِ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَى الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا بَقَّيْنَاهُ بِاخْتِيَارِهِمْ نَظَرًا لَهُمْ، فَإِنْ امْتَنَعُوا عَنْ الْعَمَلِ بَقِيَ الزَّرْعُ مُشْتَرَكًا، فَإِمَّا أَنْ يُقْسَمَ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ أَوْ يُعْطِيَهُمْ صَاحِبُ الْأَرْضِ قَدْرَ حِصَّتِهِمْ مِنْ الزَّرْعِ الْبَقْلِ أَوْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ ثُمَّ يَرْجِعَ عَلَيْهِمْ بِحِصَّتِهِمْ؛ لِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ الْجَانِبَيْنِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْمُعَامَلَةِ] وَقَدْ يُسَمَّى كِتَابَ الْمُسَاقَاةِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْمُزَارَعَةِ، أَمَّا مَعْنَى الْمُعَامَلَةِ لُغَةً: فَهُوَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْعَمَلِ، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَقْدِ عَلَى الْعَمَلِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مَعَ سَائِرِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ. وَأَمَّا شَرْعِيَّتُهَا: فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ -: إنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَشْرُوعَةٌ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ خَيْبَرَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَفَعَ نَخِيلَهُمْ مُعَامَلَةً، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ، وَقَدْ مَرَّ الْجَوَابُ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ خَيْبَرَ فَلَا نُعِيدُهُ. (وَأَمَّا) رُكْنُهَا: فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ. وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الْمُصَحِّحَةُ لَهَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُهَا فَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدَانِ عَاقِلَيْنِ فَلَا يَجُوزُ عَقْدُ مَنْ لَا يَعْقِلُ فَأَمَّا الْبُلُوغُ: فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ عَلَى نَحْوِ مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَا مُرْتَدَّيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مَنْ أَجَازَ الْمُعَامَلَةَ حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُرْتَدًّا وُقِفَتْ الْمُعَامَلَةُ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ هُوَ الدَّافِعَ فَإِنْ أَسْلَمَ فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِلدَّافِعِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَلِلْآخَرِ أَجْرُ الْمِثْلِ إذَا عَمِلَ، وَعِنْدَهُمَا الْخَارِجُ بَيْنَ الْعَامِلِ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ وَرَثَةِ الدَّافِعِ عَلَى الشَّرْطِ فِي الْحَالَيْنِ كَمَا إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ هُوَ الْعَامِلَ فَإِنْ أَسْلَمَ فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ. وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ فَالْخَارِجُ بَيْنَ الدَّافِعِ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ وَرَثَةِ الْعَامِلِ الْمُرْتَدِّ عَلَى الشَّرْطِ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا مَرَّ فِي الْمُزَارَعَةِ، هَذَا إذَا كَانَتْ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَمُرْتَدٍّ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ ثُمَّ ارْتَدَّا أَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا فَالْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ لِمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ، وَيَجُوزُ مُعَامَلَةُ الْمُرْتَدَّةِ دَفْعًا وَاحِدًا

فصل في الشرائط المفسدة للمعاملة

بِالْإِجْمَاعِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ مِنْ الشَّجَرِ الَّذِي فِيهِ ثَمَرَةُ مُعَامَلَةٍ فِيمَا يَزِيدُ ثَمَرُهُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ نَخْلًا فِيهِ طَلْعٌ أَوْ بُسْرٌ قَدْ احْمَرَّ أَوْ اخْضَرَّ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهُ جَازَتْ الْمُعَامَلَةُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَنَاهَى عِظَمُهُ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَرْطُبْ فَالْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَنَاهَى عِظَمُهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْعَمَلُ بِالزِّيَادَةِ عَادَةً فَلَمْ يُوجَدْ الْعَمَلُ الْمَشْرُوطُ عَلَيْهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْخَارِجَ بَلْ يَكُونُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ لَهُمَا، فَلَوْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا فَسَدَتْ لِمَا عُلِمَ. (وَمِنْهَا) أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ بَعْضِ الْخَارِجِ مُشَاعًا مَعْلُومَ الْقَدْرِ لِمَا عُلِمَ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْعَمَلِ وَهُوَ الشَّجَرُ مَعْلُومًا، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ (وَمِنْهَا) التَّسْلِيمُ إلَى الْعَامِلِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ حَتَّى لَوْ شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا فَسَدَتْ لِانْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ فَأَمَّا بَيَانُ الْمُدَّةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْمُعَامَلَةِ اسْتِحْسَانًا، وَيَقَعُ عَلَى أَوَّلِ ثَمَرَةٍ تَخْرُجُ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْبَيَانِ يُؤَدِّي إلَى الْجَهَالَةِ كَمَا فِي الْمُزَارَعَةِ إلَّا أَنَّهُ تُرِكَ الْقِيَاسُ لِتَعَامُلِ النَّاسِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُدَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الْمُزَارَعَةِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ وُجِدَ التَّعَامُلُ بِهِ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُدَّةِ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْمُزَارَعَةِ، وَلَوْ دَفَعَ أَرْضًا لِيَزْرَعَ فِيهَا الرِّطَابَ أَوْ دَفَعَ أَرْضًا فِيهَا أُصُولٌ رَطْبَةٌ نَابِتَةٌ وَلَمْ يُسَمِّ الْمُدَّةَ فَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَيْسَ لِابْتِدَاءِ نَبَاتِهِ وَلَا لِانْتِهَاءِ جَذِّهِ وَقْتٌ مَعْلُومٌ فَالْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ وَقْتُ جَذِّهِ مَعْلُومًا يَجُوزُ وَيَقَعُ عَلَى الْجَذَّةِ الْأُولَى كَمَا فِي الشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِطِ الْمُفْسِدَةِ لِلْمُعَامَلَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الْمُفْسِدَةُ لِلْمُعَامَلَةِ فَأَنْوَاعٌ: دَخَلَ بَعْضُهَا فِي الشَّرَائِطِ الْمُصَحِّحَةِ لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ وُجُودُهُ شَرْطًا لِلصِّحَّةِ كَانَ انْعِدَامُهُ شَرْطًا لِلْإِفْسَادِ. (مِنْهَا) شَرْطُ كَوْنِ الْخَارِجِ كُلِّهِ لِأَحَدِهِمَا (وَمِنْهَا) شَرْطُ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا قُفْزَانٌ مُسَمَّاةٌ (وَمِنْهَا) شَرْطُ الْعَمَلِ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ. (وَمِنْهَا) شَرْطُ الْحَمْلِ وَالْحِفْظِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ عَلَى الْعَامِلِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ. (وَمِنْهَا) شَرْطُ الْجِذَاذِ وَالْقِطَافِ عَلَى الْعَامِلِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمُعَامَلَةِ فِي شَيْءٍ وَلِانْعِدَامِ التَّعَامُلِ بِهِ أَيْضًا فَكَانَ مِنْ بَابِ مُؤْنَةِ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا. (وَمِنْهَا) شَرْط عَمَلٍ تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْمُعَامَلَةِ نَحْوُ السَّرْقَنَةِ وَنَصْبِ الْعَرَائِشِ وَغَرْسِ الْأَشْجَارِ وَتَقْلِيبِ الْأَرْضِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِيه الْعَقْدُ وَلَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَمَقَاصِدِهِ. (وَمِنْهَا) شَرِكَةُ الْعَامِلِ فِيمَا يَعْمَلُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ أَجِيرُ رَبِّ الْأَرْضِ، وَاسْتِئْجَارُ الْإِنْسَانِ لِلْعَمَلِ فِي شَيْءٍ هُوَ فِيهِ شَرِيكُ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَجُوزُ حَتَّى إنَّ النَّخْلَ لَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَدَفَعَهُ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ مُعَامَلَةً مُدَّةً مَعْلُومَةً عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثٌ ثُلُثَاهُ لِلشَّرِيكِ الْعَامِلِ وَثُلُثُهُ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ فَالْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةٌ وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ وَلَا أَجْرَ لِلْعَامِلِ عَلَى شَرِيكِهِ لِمَا مَرَّ أَنَّ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعْنَى الْإِجَارَةِ، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِعَمَلٍ فِيهِ الْأَجِيرُ شَرِيكُ الْمُسْتَأْجِرِ وَإِذَا عَمِلَ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ عَلَى شَرِيكِهِ لِمَا عُرِفَ فِي الْإِجَارَاتِ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْمُزَارَعَةَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ إذَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ دَفَعَهَا أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ مُزَارَعَةً عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ. وَلَهُ ثُلُثَا الْخَارِجِ أَنَّهُ تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَتَحَقَّقْ الِاسْتِئْجَارُ لِلْعَمَلِ فِي شَيْءٍ الْأَجِيرُ فِيهِ شَرِيكُ الْمُسْتَأْجِرِ لِانْعِدَامِ الشَّرِكَةِ فِي الْبَذْرِ وَهُنَا تَحَقَّقَ لِثُبُوتِ الشَّرِكَةِ فِي النَّخْلِ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَلَا يَتَصَدَّقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ مِنْ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ مَالِهِ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ، وَلَوْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ لَهُمَا عَلَى قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا جَازَتْ الْمُعَامَلَةُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْنِي مِنْ الشَّرِيكَيْنِ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ لَا بِالْعَمَلِ بَلْ الْعَامِلُ مِنْهُمَا مُعِينٌ لِصَاحِبِهِ فِي الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الِاسْتِئْجَارُ. وَلَوْ أَمَرَ الشَّرِيكُ السَّاكِتُ الشَّرِيكَ الْعَامِلَ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا يُلَقِّحُ بِهِ النَّخْلَ فَاشْتَرَاهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَالًا مُتَقَوِّمًا عَلَى الشَّرِكَةِ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَامِلُ فِي عَقْدِ الْمُعَامَلَةِ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى لَوْ دَفَعَ رَجُلٌ نَخْلَهُ إلَى رَجُلَيْنِ مُعَامَلَةً بِالنِّصْفِ أَوْ بِالثُّلُثِ جَازَ وَسَوَاءٌ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ أَوْ جَعَلَ لِأَحَدِهِمَا فَضْلًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجِيرُ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالشَّرْطِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الشَّرْطِ. وَلَوْ شُرِطَ لِأَحَدِ الْعَامِلَيْنِ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالْآخَرِ ثُلُثُ الْخَارِجِ وَلِرَبِّ الْأَرْضِ الثُّلُثَانِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُجْرَةٌ مَشْرُوطَةٌ فَيَجِبُ عَلَى حَسْبِ مَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْطُ وَلَوْ

فصل في حكم المعاملة الصحيحة

شَرَطَا لِصَاحِبِ النَّخْلِ الثُّلُثَ وَلِأَحَدِ الْعَامِلَيْنِ الثُّلُثَيْنِ وَلِلْآخَرِ أَجْرُ مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى الْعَامِلِ الَّذِي شُرِطَ لَهُ الثُّلُثَانِ فَهُوَ فَاسِدٌ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْمُزَارَعَةَ إنَّ مَنْ دَفَعَ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ الثُّلُثَ وَلِلزَّارِعِ الثُّلُثَانِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فُلَانٌ مَعَهُ بِثُلُثِ الْخَارِجِ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ جَائِزَةٌ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعِ فَاسِدَةٌ فِي حَقِّ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ اسْتِئْجَارُ الْعَامِلِ، وَالْأُجْرَةُ تَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ دُونَ الْأَجِيرِ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ. وَالْعَمَلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ عَلَيْهِ فَإِذَا اشْتَرَطَهَا عَلَى الْأَجِيرِ فَقَدْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَعْمَلَ لَهُ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ فَفَسَدَ الْعَقْدُ، وَهَذَا هُوَ الْمُوجِبُ لِلْفَسَادِ فِي حَقِّ الثَّالِثِ فِي بَابِ الْمُزَارَعَةِ لَا أَنَّهُ صَحَّ فِيمَا بَيْنَ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعِ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ عَقْدَيْنِ فَفَسَادُ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْآخَرِ وَهَذَا مَعَ هَذَا التَّكَلُّفِ غَيْرُ وَاضِحٍ وَيَتَّضِحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْمُعَامَلَةِ الصَّحِيحَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْمُعَامَلَةِ الصَّحِيحَةِ عِنْدَ مُجِيزِهَا فَأَنْوَاعٌ (مِنْهَا) أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ عَمَلِ الْمُعَامَلَةِ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الشَّجَرُ وَالْكَرْمُ وَالرِّطَابُ وَأُصُولُ الْبَاذِنْجَانِ مِنْ السَّقْيِ وَإِصْلَاحِ النَّهْرِ وَالْحِفْظِ وَالتَّلْقِيحِ لِلنَّخْلِ فَعَلَى الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ تَوَابِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ، وَكُلَّمَا كَانَ مِنْ بَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الشَّجَرِ وَالْكَرْمِ وَالْأَرْضِ مِنْ السِّرْقِينِ وَتَقْلِيبِ الْأَرْضِ - الَّتِي فِيهَا الْكَرْمُ وَالشَّجَرُ وَالرِّطَابُ - وَنَصْبِ الْعَرَائِشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَا مَقْصُودًا وَلَا ضَرُورَةً. وَكَذَلِكَ الْجِذَاذُ وَالْقِطَافُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَمَلِ فَلَا يَكُونُ مِنْ حُكْمِ عَقْدِ الْمُعَامَلَةِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ لِمَا مَرَّ (وَمِنْهَا) أَنَّهُ إذَا لَمْ يُخْرِجْ الشَّجَرُ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ لِمَا مَرَّ مِنْ الْفَرْقِ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ. (وَمِنْهَا) أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَازِمٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ أَحَدُهُمَا الِامْتِنَاعَ وَالْفَسْخَ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي جَانِبِ صَاحِبِ الْبَذْرِ، وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ. (وَمِنْهَا) وِلَايَةُ جَبْرِ الْعَامِلِ عَلَى الْعَمَلِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. (وَمِنْهَا) جَوَازُ الزِّيَادَةِ عَلَى الشَّرْطِ وَالْحَطِّ عَنْهُ وَانْعِدَامُ الْجَوَازِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ احْتَمَلَ إنْشَاءَ الْعَقْدِ احْتَمَلَ الزِّيَادَةَ وَإِلَّا فَلَا، وَالْحَطُّ جَائِزٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَصْلُهُ بِالزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ، فَإِذَا دَفَعَ نَخْلًا بِالنِّصْفِ مُعَامَلَةً فَخَرَجَ الثَّمَرُ فَإِنْ لَمْ يَتَنَاهَ عِظَمُهُ جَازَتْ الزِّيَادَةُ مِنْهُمَا أَيَّهُمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْإِنْشَاءَ لِلْعَقْدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ جَائِزٌ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ جَائِزَةً. وَلَوْ تَنَاهَى عِظَمُ الْبُسْرِ جَازَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ الْعَامِلِ لِرَبِّ الْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ فِي الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ أَجِيرٌ وَالْمَحَلُّ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ، وَالْأَوَّلُ حَطٌّ مِنْ الْأُجْرَةِ وَاحْتِمَالُ الْإِنْشَاءِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَطِّ. (وَمِنْهَا) أَنَّ الْعَامِلَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى غَيْرِهِ مُعَامَلَةً إلَّا إذَا قَالَ لَهُ رَبُّ الْأَرْضِ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى غَيْرِهِ إثْبَاتُ الشَّرِكَةِ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا يَصِحُّ، وَإِذَا قَالَ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَقَدْ أَذِنَ لَهُ فَصَحَّ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك فِيهِ فَدَفَعَ الْعَامِلُ إلَى رَجُلٍ آخَرَ مُعَامَلَةً فَعَمِلَ فِيهِ فَأَخْرَجَ فَهُوَ لِصَاحِبِ النَّخْلِ وَلَا أَجْرَ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ؛ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِالشَّرْطِ - وَهُوَ شَرْطُ الْعَمَلِ - وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْعَمَلُ بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ عَقْدَهُ مَعَهُ لَمْ يَصِحَّ فَلَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ مُضَافًا إلَيْهِ وَلَهُ عَلَى الْعَامِلِ الْأَوَّلِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ يَوْمَ عَمِلَ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ لَهُ بِأَمْرِهِ فَاسْتَحَقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ. وَلَوْ هَلَكَ الثَّمَرُ فِي يَدِ الْعَامِلِ الْأَخِيرِ مِنَّا غَيْرِ عَمَلِهِ وَهُوَ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِانْعِدَامِ الْغَصْبِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ. وَلَوْ هَلَكَ مِنْ عَمَلِهِ فِي أَمْرٍ خَالَفَ فِيهِ أَمْرَ الْعَامِلِ الْأَوَّلِ فَالضَّمَانُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ عَلَى الْعَامِلِ الْآخَرِ دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ قَطَعَ نِسْبَةَ عَمَلِهِ إلَيْهِ فَبَقِيَ مُتْلِفًا عَلَى الْمَالِكِ مَالَهُ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ مِنْ عَمَلِهِ فِي أَمْرٍ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَمْرَ الْعَامِلِ الْأَوَّلِ فَلِصَاحِبِ النَّخْلِ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بِخِلَافٍ بَقِيَ عَمَلُهُ مُضَافًا إلَيْهِ كَأَنَّهُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ وَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الثَّانِيَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى غَاصِبِ الْغَاصِبِ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْأَوَّلِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ بِأَمْرِ الْأَوَّلِ فَلَوْ رَجَعَ عَلَيْهِ لَرَجَعَ هُوَ عَلَيْهِ أَيْضًا فَلَا يُفِيدُ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْآخَرِ يَرْجِعُ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ فِي هَذَا الْعَقْدِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْغُرُورِ وَهُوَ ضَمَانُ السَّلَامَةِ هَذَا إذَا لَمْ يَقُلْ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك فَأَمَّا إذَا قَالَ وَشَرَطَ النِّصْفَ فَدَفَعَهُ إلَى رَجُلٍ آخَرَ بِثُلُثِ

فصل في حكم المعاملة الفاسدة

الْخَارِجِ فَهُوَ جَائِزٌ لِمَا ذَكَرْنَا، وَمَا خَرَجَ مِنْ الثَّمَرِ فَنِصْفُهُ لِرَبِّ النَّخْلِ وَالسُّدُسُ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الثُّلُثِ يَرْجِعُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَبَقِيَ لَهُ السُّدُسُ ضَرُورَةً وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقُلْ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك وَشَرَطَ لَهُ شَيْئًا مَعْلُومًا وَشَرَطَ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي مِثْلَ ذَلِكَ فَهُمَا فَاسِدَانِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْعَامِلِ الْأَوَّلِ [فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْمُعَامَلَةِ الْفَاسِدَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْمُعَامَلَةِ الْفَاسِدَةِ فَأَنْوَاعٌ ذَكَرْنَاهَا فِي الْمُزَارَعَةِ مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْعَامِلُ عَلَى الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْعَمَلِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَلَمْ يَصِحَّ، وَمِنْهَا أَنَّ الْخَارِجَ كُلَّهُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْخَارِجِ لِكَوْنِهِ نَمَاءَ مِلْكِهِ وَاسْتِحْقَاقَ الْعَامِلِ بِالشَّرْطِ وَلَمْ يَصِحَّ فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ عَنْ خَالِصِ مِلْكِهِ، وَمِنْهَا أَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ لَا يَجِبُ فِي الْمُعَامَلَةِ الْفَاسِدَةِ مَا لَمْ يُوجَدْ الْعَمَلُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُزَارَعَةِ، وَمِنْهَا أَنَّ وُجُوبَ أَجْرِ الْمِثْلِ فِيهَا لَا يَقِفُ عَلَى الْخَارِجِ بَلْ يَجِبُ وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ الشَّجَرُ شَيْئًا بِخِلَافِ الْمُعَامَلَةِ الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ وَمِنْهَا أَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ فِيهَا يَجِبُ مُقَدَّرًا بِالْمُسَمَّى لَا يَتَجَاوَزُ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ تَامًّا وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَمَّاةً فِي الْعَقْدِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسَمَّاةً فِي الْعَقْدِ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ تَامًّا بِلَا خِلَافٍ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ [فَصْلٌ فِي الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ عُذْرٌ فِي فَسْخِ المعاملة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ عُذْرٌ فِي فَسْخِهَا فَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ، وَمِنْ الْأَعْذَارِ الَّتِي فِي جَانِبِ الْعَامِلِ أَنْ يَكُونَ سَارِقًا مَعْرُوفًا بِالسَّرِقَةِ فَيُخَافُ الثَّمَرَ وَالسَّعَفَ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَنْفَسِخُ بِهِ عَقْدُ الْمُعَامَلَةِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا صَرِيحُ الْفَسْخِ، وَمِنْهَا الْإِقَالَةُ، وَمِنْهَا انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ، وَمِنْهَا مَوْتُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْمُعَامَلَةِ الْمُنْفَسِخَةِ فَعَلَى نَحْوِ حُكْمِ الْمُزَارَعَةِ الْمُنْفَسِخَةِ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -. [كِتَابُ الشِّرْبِ] الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الشِّرْبِ لُغَةً وَشَرْعًا وَفِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْمِيَاهِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالشِّرْبُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ مِنْ الْمَاءِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - قَالَ {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] وَفِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ قِسْمَةِ الشِّرْبِ بِالْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَزَّ اسْمُهُ - أَخْبَرَ عَنْ نَبِيِّهِ سَيِّدِنَا صَالِحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَبْلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْقُبْهُ بِالْفَسْخِ فَصَارَتْ شَرِيعَةً لَنَا مُبْتَدَأَةً، وَبِهَا اسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الشِّرْبِ لِجَوَازِ قِسْمَةِ الشِّرْبِ بِالْأَيَّامِ وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ حَقِّ الشِّرْبِ وَالسَّقْيِ وَأَمَّا بَيَانُ. أَنْوَاعِ الْمِيَاهِ فَنَقُولُ: الْمِيَاهُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ: الْمَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْأَوَانِي وَالظُّرُوفِ وَالثَّانِي الْمَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْآبَارِ وَالْحِيَاضِ وَالْعُيُونِ وَالثَّالِثُ مَاءُ الْأَنْهَارِ الصِّغَارِ الَّتِي تَكُونُ لِأَقْوَامٍ مَخْصُوصِينَ وَالرَّابِعُ: مَاءُ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ كَجَيْحُونَ وَسَيَحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهَا أَمَّا بَيَانُ حُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا عَلَى الْقِسْمَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فِي الْأَصْلِ لَكِنَّ الْمُبَاحَ يُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ كَمَا إذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالصَّيْدِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَكَذَا السَّقَّاءُونَ يَبِيعُونَ الْمِيَاهَ الْمَحْرُوزَةَ فِي الظُّرُوفِ، بِهِ جَرَتْ الْعَادَةُ فِي الْأَمْصَارِ وَفِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَلَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ فَيَشْرَبَ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ. وَلَوْ خَافَ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْعَطَشِ فَسَأَلَهُ فَمَنَعَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَضْلٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ هَذَا دَفَعَ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ بِإِهْلَاكِ غَيْرِهِ لَا بِقَصْدِ إهْلَاكِهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ مَاءٍ عَنْ حَاجَتِهِ فَلِلْمَمْنُوعِ أَنْ يُقَاتِلَهُ لِيَأْخُذَ مِنْهُ الْفَضْلَ لَكِنْ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ، كَمَا إذَا أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ وَعِنْدَ صَاحِبِهِ فَضْلُ طَعَامٍ فَسَأَلَهُ فَمَنَعَهُ وَهُوَ لَا يَجِدُ غَيْرَهُ. وَأَمَّا الثَّانِي: الْمَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْحِيَاضِ وَالْآبَارِ وَالْعُيُونِ فَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِصَاحِبٍ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ أَوْ مَمْلُوكَةٍ لَكِنْ لَهُ حَقٌّ خَاصٌّ فِيهِ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي الْأَصْلِ خُلِقَ مُبَاحًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

«النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ» وَالشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ تَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ إلَّا أَنَّهُ إذَا جُعِلَ فِي إنَاءٍ وَأَحْرَزَهُ بِهِ فَقَدْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَهُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْمُسْتَوْلِي كَمَا فِي سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ الْغَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ الثَّابِتَةِ بِالشَّرْعِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ هُوَ الْمَالُ الْمَمْلُوكُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ الشَّفَةِ - وَهُوَ الشُّرْبُ بِأَنْفُسِهِمْ - وَسَقْيِ دَوَابِّهِمْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ مَنْعِ نَبْعِ الْبِئْرِ وَهُوَ فَضْلُ مَائِهَا الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهَا، فَلَهُمْ أَنْ يَسْقُوا مِنْهَا لِشِفَاهِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ فَأَمَّا لِزُرُوعِهِمْ وَأَشْجَارِهِمْ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ لِمَا فِي الْإِطْلَاقِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ أَصْلًا إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَلِصَاحِبِهَا أَنْ يَمْنَعَهُمْ عَنْ الدُّخُولِ فِي أَرْضِهِ إذَا لَمْ يُضْطَرُّوا إلَيْهِ بِأَنْ وَجَدُوا غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ إضْرَارٌ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَجِدُوا غَيْرَهُ وَاضْطُرُّوا وَخَافُوا الْهَلَاكَ يُقَالُ لَهُ: إمَّا أَنْ تَأْذَنَ بِالدُّخُولِ، وَإِمَّا أَنْ تُعْطِيَ بِنَفْسِك فَإِنْ لَمْ يُعْطِهِمْ وَمَنَعَهُمْ مِنْ الدُّخُولِ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُ بِالسِّلَاحِ لِيَأْخُذُوا قَدْرَ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْهَلَاكُ عَنْهُمْ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى الْبِئْرِ فَأَبَوْا وَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا فَأَبَوْا فَقَالُوا لَهُمْ: إنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا كَادَتْ تُقْطَعُ فَأَبَوْا فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: هَلَّا وَضَعْتُمْ فِيهِمْ السِّلَاحَ بِخِلَافِ الْمَاءِ الْمُحْرَزِ فِي الْأَوَانِي وَالطَّعَامِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ هُنَاكَ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ وَكَذَا الطَّعَامُ فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ حُرْمَةِ الْمِلْكِ لِحُرْمَةِ الْقِتَالِ بِالسِّلَاحِ، وَلَا مِلْكَ هُنَاكَ بَلْ هُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَإِذَا مَنَعَهُ أَحَدٌ مَا لَهُ حَقُّ أَخْذِهِ قَاتَلَهُ بِالسِّلَاحِ كَمَا إذَا مَنَعَهُ مَالَهُ الْمَمْلُوكَ وَأَمَّا الثَّالِثُ: الْمَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْأَنْهَارِ الَّتِي تَكُونُ لِأَقْوَامٍ مَخْصُوصِينَ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْمَاءِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الشِّرْبِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى النَّهْرِ. أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْمَاءِ فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَاءَ خُلِقَ مُبَاحَ الْأَصْلِ بِالنَّصِّ وَإِنَّمَا يَأْخُذُ حُكْمَ الْمِلْكِ بِالْإِحْرَازِ بِالْأَوَانِي فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ. وَلَوْ قَالَ: اسْقِنِي يَوْمًا مِنْ نَهْرِك عَلَى أَنْ أَسْقِيَك يَوْمًا مِنْ نَهْرِ كَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذَا مُبَادَلَةُ الْمَاءِ بِالْمَاءِ فَيَكُونُ بَيْعًا أَوْ إجَارَةَ الشِّرْبِ بِالشِّرْبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ لَا تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِمَنَافِعِهَا لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حَوْضًا أَوْ بِئْرًا لِيَسْقِيَ مِنْهُ مَاءً لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِئْجَارُ الْمَاءِ، وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ النَّهْرَ لِيَصِيدَ مِنْهُ السَّمَكَ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِئْجَارُ السَّمَكِ، وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَجَمَةً لِيَحْتَطِبَ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِئْجَارٌ لِحَطَبٍ وَالْأَعْيَانُ لَا تَحْتَمِلُ الْإِجَارَةَ. وَلَيْسَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ الشَّفَةِ وَهُوَ شُرْبُ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ سَقْيِ الزَّرْعِ وَالْأَشْجَارِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ حَقًّا خَاصًّا وَفِي إطْلَاقِ السَّقْيِ إبْطَالُ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَتَبَادَرُ إلَيْهِ فَيَسْقِي مِنْهُ زَرْعَهُ وَأَشْجَارَهُ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ أَصْلًا. وَلَوْ أَذِنَ بِالسَّقْيِ وَالنَّهْرُ خَاصٌّ لَهُ جَازَ، لِأَنَّهُ أَبْطَلَ حَقَّ نَفْسِهِ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الشِّرْبِ: فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُنْفَرِدًا بِأَنْ بَاعَ شِرْبَ يَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ حَقِّ الشِّرْبِ وَالسَّقْيِ وَالْحُقُوقُ لَا تَحْتَمِلُ الْإِفْرَادَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَلَوْ اشْتَرَى بِهِ دَارًا وَعَبْدًا وَقَبَضَهُمَا لَزِمَهُ رَدُّ الدَّارِ وَالْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَكَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ كَمَا فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا انْتَفَعَ بِهِ مِنْ الشِّرْبِ. وَلَوْ بَاعَ الْأَرْضَ مَعَ الشِّرْبِ جَازَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الشَّيْءَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَجْعَلُهُ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ كَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ، وَلَا يَدْخُلُ الشِّرْبُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ صَرِيحًا أَوْ بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ: بِعْتُهَا بِحُقُوقِهَا أَوْ بِمَرَافِقِهَا أَوْ كُلُّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ لَهَا دَاخِلٌ فِيهَا وَخَارِجٌ عَنْهَا مِنْ حُقُوقِهَا فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْأَرْضِ بِصِيغَتِهِ وَحُرُوفِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى الشِّرْبِ وَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ مُفْرَدًا؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَحْتَمِلُ الْإِجَارَةَ عَلَى الِانْفِرَادِ كَمَا لَا تَحْتَمِلُ الْبَيْعَ وَكَذَا لَوْ جَعَلَهُ أُجْرَةً فِي إجَارَةِ الدَّارِ وَالْعَبْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ كَالثَّمَنِ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا فِي الْبِيَاعَاتِ فَلَا يَصْلُحُ أُجْرَةً فِي الْإِجَارَاتِ. وَلَوْ انْتَفَعَ بِالدَّارِ وَالْعَبْدِ لَزِمَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَقْدًا فَاسِدًا فَيَلْزَمُهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ كَمَا فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ الْفَاسِدَةِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ مَعَ الشِّرْبِ جَازَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ كَمَا فِي الْبَيْعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا وَلَمْ يَذْكُرْ الشِّرْبَ وَالْمَسِيلَ أَصْلًا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ الشِّرْبُ وَالْمَسِيلُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ كَانَا لَهُ وَيَدْخُلَا تَحْتَ

إجَارَةِ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ نَصًّا لِوُجُودِهَا دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ بِدُونِ الشِّرْبِ فَيَصِيرُ الشِّرْبُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الْأَرْضِ دَلَالَةً بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ تَحْتَمِلُ الْمِلْكَ بِدُونِهِ، وَلَا تَجُوزُ هِبَتُهُ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ وَالْحُقُوقُ الْمُفْرَدَةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ، وَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ بِأَنْ صَالَحَ مِنْ دَعْوَى عَلَى شِرْبٍ سَوَاءٌ كَانَ دَعْوَى الْمَالِ أَوْ الْحَقِّ مِنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُ يُسْقِطُ الْقِصَاصَ وَيَكُونُ الصُّلْحُ كَأَنَّهُ عَلَى الْعَفْوِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ، وَلِأَنَّ صُورَةَ الصُّلْحِ أَوْرَثَتْ شُبْهَةً وَالْقِصَاصُ لَا يُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبُهَاتِ وَتَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ وَالْجَارِحِ الدِّيَةُ وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ. وَلَا تَصِحَّ تَسْمِيَتُهُ فِي بَابِ النِّكَاحِ بِأَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَيْهِ وَعَلَى الزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ تَصَرُّفُ تَمْلِيكٍ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ يَجِبُ الْعِوَضُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَلَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ فِي الْخُلْعِ بِأَنْ اخْتَلَعَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ نَفْسِهَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا رَدُّ الْمَأْخُوذِ مِنْ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَتَهُ فِي مَعْرِضِ التَّمْلِيكِ إنْ لَمْ يَصِحَّ فَهُوَ مَالٌ لِكَوْنِهِ مَرْغُوبًا فِيهِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَحْتَمِلْ التَّمْلِيكَ لَمْ يَصْلُحْ بَدَلَ الْخُلْعِ، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ مَالٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ أَصْلًا فَيَظْهَرُ فِي وُجُوبِ رَدِّ الْمَأْخُوذِ، وَهَذَا أَصْلِيٌّ فِي بَابِ الْخُلْعِ مَحْفُوظٌ أَنَّهُ شَيْءٌ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ مَالٌ مَرْغُوبٌ فِي نَفْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهَا رَدُّ الْمَأْخُوذِ مِنْ الْمَهْرِ وَمُوَرَّثِهِ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ لَا يَقِفُ عَلَى الْمِلْكِ لَا مَحَالَةَ بَلْ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمَالِ كَمَا يَثْبُتُ فِي الْمِلْكِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيُوصِي بِهِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً مِنْ شِرْبِهِ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ وَتُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَإِنْ كَانَ تَمْلِيكًا لَكِنَّهَا تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُوصَى لَهُ لَا يَمْلِكُ الْمُوصَى بِهِ فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا يَمْلِكُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَأَشْبَهَ الْمِيرَاثَ فَإِذَا احْتَمَلَ الْإِرْثَ احْتَمَلَ الْوَصِيَّةَ الَّتِي هِيَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَإِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ حَتَّى لَا تَصِيرَ مِيرَاثًا لِوَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ لَيْسَ بِعَيْنِ مَالٍ بَلْ هُوَ حَقٌّ مَالِيٌّ وَشِبْهُ الْخِدْمَةِ ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِالْخِدْمَةِ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ وَلَا تَصِيرُ مِيرَاثًا، فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِالشِّرْبِ. وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُتَصَدَّقَ بِالشِّرْبِ عَلَى الْمَسَاكِينِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ التَّمْلِيكَ بِالتَّصَدُّقِ اسْتَوَى فِيهِ الْحَالُ وَالْإِضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْوَصِيَّةِ وَيَسْقِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ عَلَى قَدْرِ شِرْبِهِ وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الشِّرْبِ وَلَا بَيِّنَةَ لِأَحَدِهِمْ تُحَكَّمُ الْأَرَاضِي فَيَكُونُ الشِّرْبُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيهِمْ وَلَا يُعْتَبَرُ عَدَدُ الرُّءُوسِ بِخِلَافِ الْجَمَاعَةِ إذَا اخْتَلَفُوا فِي طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ لَا تُحَكَّمُ فِيهِ بُقْعَةُ الدَّارِ بَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ عَدَدُ الرُّءُوسِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ الشِّرْبِ السَّقْيُ، وَالسَّقْيُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَرَاضِي، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الطَّرِيقِ هُوَ الْمُرُورُ وَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدُّورِ. وَلَوْ كَانَ الْأَعْلَى مِنْهُمْ لَا يَشْرَبُ مَا لَمْ يَسْكُرْ النَّهْرَ عَنْ الْأَسْفَلِ بِأَنْ كَانَتْ أَرْضُهُ رَبْوَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَشْرَبُ بِحِصَّتِهِ؛ لِأَنَّ فِي سَكْرِ النَّهْرِ حَتَّى يَشْرَبَ الْأَعْلَى مَنْعَ الْأَسْفَلِ مِنْ الشِّرْبِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، إلَّا إذَا تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ كُلٌّ فِي نَوْبَتِهِ فَيَجُوزُ. وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَنْصِبَ عَلَى النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ رَحًى أَوْ دَالِيَةً أَوْ سَانِيَةً نُظِرَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالشِّرْبِ وَالنَّهْرِ وَكَانَ مَوْضِعُ الْبِنَاءِ أَرْضَ صَاحِبِهِ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ النَّهْرِ وَمَوْضِعَ الْبِنَاءِ مِلْكٌ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَحَقُّ الْكُلِّ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَاءِ وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ وَالْحَقِّ الْمُشْتَرَكِ إلَّا بِرِضَا الشُّرَكَاءِ وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى النَّهْرِ: فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ النَّهْرَ الْخَاصَّ لِجَمَاعَةٍ لَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمْ التَّصَرُّفَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْبَاقِينَ سَوَاءٌ أَضَرَّ بِهِمْ التَّصَرُّفُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ النَّهْرِ مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ، وَحُرْمَةَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَمْلُوكِ لَا تَقِفُ عَلَى الْإِضْرَارِ بِالْمَالِكِ حَتَّى لَوْ أَرَادَ وَاحِدٌ مِنْ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَحْفِرَ نَهْرًا صَغِيرًا مِنْ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ فَيَسُوقُ الْمَاءَ إلَى أَرْضٍ أَحْيَاهَا لَيْسَ لَهَا مِنْهُ شِرْبٌ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهُمْ لِأَنَّ الْحَفْرَ تَصَرُّفٌ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ عَلَى الشَّرِكَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ فَيُمْنَعُ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ هَذَا النَّهْرُ يَأْخُذُ الْمَاءَ مِنْ النَّهْرِ الْعَظِيمِ فَأَرَادَ وَاحِدٌ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا كُوَّةً مِنْ غَيْرِ رِضَا الشُّرَكَاءِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفُهُمْ فِي النَّهْرِ بِإِجْرَاءِ زِيَادَةِ مَاءٍ فِيهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ فَيُمْنَعَ عَنْهُ. وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ رَحًى فَإِنْ كَانَ مَوْضِعُ الْبِنَاءِ مَمْلُوكًا لَهُ وَالْمَاءُ يُدِيرُ الرَّحَى عَلَى سَيْبِهِ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَوْضِعُ الْبِنَاءِ مُشْتَرَكًا أَوْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى تَعْرِيجِ الْمَاءِ ثُمَّ الْإِعَادَةِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالشُّرَكَاءِ بِتَأْخِيرِ

وُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ بِالتَّعْرِيجِ، كَمَا إذَا حَفَرَ نَهْرًا فِي أَرْضِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُعَرِّجَ الْمَاءَ إلَيْهِ ثُمَّ يُعِيدَهُ إلَى النَّهْرِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَنْصِبَ دَالِيَةً أَوْ سَانِيَةً فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَضَعَ قَنْطَرَةً عَلَى هَذَا النَّهْرِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ؛ لِأَنَّ الْقَنْطَرَةَ تَصَرُّفٌ فِي حَافَّتَيْ النَّهْرِ وَفِي هَوَاهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُشْتَرَكٌ وَلَوْ كَانَ النَّهْرُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ لَهُ خَمْسُ كُوًى مِنْ النَّهْرِ الْأَعْظَمِ وَلِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَرْضٌ فِي أَعْلَى النَّهْرِ وَلِلْآخَرِ أَرْضٌ فِي أَسْفَلِهِ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْأَعْلَى أَنْ يَسُدَّ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْكُوَى لِمَا يُدْخِلُ مِنْ الضَّرَرِ فِي أَرْضِهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَا شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ شَرِيكُهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِإِضْرَارِ غَيْرِهِ. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَهَايَآ حَتَّى يَسُدَّ فِي حِصَّتِهِ مَا شَاءَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَا الشَّرِيكِ لَمَا قُلْنَا، وَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ زَمَانًا ثُمَّ بَدَا لِصَاحِبِ الْأَسْفَلِ أَنْ يَنْقُضَ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُرَاضَاةَ عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ تَكُونُ مُهَايَأَةً وَإِنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ وَلَوْ كَانَ النَّهْرُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لَهُ كُوًى فَأَضَافَ رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ إلَيْهَا كُوَّةً وَحَفَرَ نَهْرًا مِنْهُ إلَى أَرْضِهِ بِرِضًا مِنْهُمَا وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ زَمَانٌ ثُمَّ بَدَا لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْقُضَ فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ لَا تَكُونُ لَازِمَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ لِوَرَثَتِهِمَا أَنْ يَنْقُضُوا ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ جَمَاعَةٍ يَأْخُذُ الْمَاءَ مِنْ النَّهْرِ الْأَعْظَمِ وَلِكُلِّ رَجُلٍ نَهْرٌ مِنْ هَذَا النَّهْرِ فَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ كُوَّتَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ ثَلَاثُ كُوًى فَقَالَ صَاحِبُ الْأَسْفَلِ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى: إنَّكُمْ تَأْخُذُونَ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِكُمْ؛ لِأَنَّ دَفْعَةَ الْمَاءِ وَكَثْرَتَهُ فِي أَوَّلِ النَّهْرِ وَلَا يَأْتِينَا إلَّا وَهُوَ قَلِيلٌ فَأَرَادُوا الْمُهَايَأَةَ أَيَّامًا مَعْلُومَةً فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَيُتْرَكُ الْمَاءُ وَالنَّهْرُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُمْ فِي رَقَبَةِ النَّهْرِ لَا فِي نَفْسِ الْمَاءِ. وَلَوْ أَرَادَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُوَسِّعَ كُوَّةَ نَهْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُدْخِلُ فِيهَا الْمَاءَ زَائِدًا عَلَى حَقِّهِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ. وَلَوْ حَفَرَ فِي أَسْفَلِ النَّهْرِ جَازَ. وَلَوْ زَادَ فِي عَرْضِهِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْكُوَى مِنْ حُقُوقِ النَّهْرِ فَيَمْلِكُهُ بِمِلْكِ النَّهْرِ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ فِي الْعَرْضِ، وَلَوْ كَانَ نَهْرٌ يَأْخُذُ الْمَاءَ مِنْ النَّهْرِ الْأَعْظَمِ بَيْنَ قَوْمٍ فَخَافُوا أَنْ يَنْبَثِقَ فَأَرَادُوا أَنْ يُحَصِّنُوهُ فَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ ضَرَرًا عَامًّا يُجْبَرُونَ عَلَى أَنْ يُحَصِّنُوهُ بِالْحِصَصِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ لَا يُجْبَرُونَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ مُتَعَذَّرٌ عِنْدَ عُمُومِ الضَّرَرِ، فَكَانَ الْجَبْرُ عَلَى التَّحْصِيصِ مِنْ بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْجَمَاعَةِ فَجَازَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الضَّرَرُ عَامًّا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِالنَّهْرِ فَكَانَ الْجَبْرُ بِالتَّحْصِيصِ جَبْرًا عَلَيْهِ لِزِيَادَةِ الِانْتِفَاعِ بِالنَّهْرِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَوْ كَانَ نَهْرٌ لِرَجُلٍ مُلَاصِقٌ لِأَرْضِ رَجُلٍ فَاخْتَلَفَ صَاحِبُ الْأَرْضِ وَالنَّهْرِ فِي مُسَنَّاةٍ فَالْمُسَنَّاةُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ أَنْ يَغْرِسَ فِيهَا طِينَهُ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْدِمَهَا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْمُسَنَّاةُ لِصَاحِبِ النَّهْرِ حَرِيمًا لِنَهْرِهِ وَلَهُ أَنْ يَغْرِسَ فِيهَا وَيُلْقِيَ طِينَهُ وَيَجْتَازَ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُلَاصِقًا بَلْ كَانَ بَيْنَ النَّهْرِ وَالْأَرْضِ حَائِلٌ مِنْ حَائِطٍ وَنَحْوِهِ كَانَتْ الْمُسَنَّاةُ لِصَاحِبِ النَّهْرِ بِالْإِجْمَاعِ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا بَنَوْا هَذَا الِاخْتِلَافَ عَلَى أَنَّ النَّهْرَ هَلْ لَهُ حَرِيمٌ أَمْ لَا؟ بِأَنْ حَفَرَ رَجُلٌ نَهْرًا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا حَرِيمَ لَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ حَرِيمٌ. (وَوَجْهُ) الْبِنَاءِ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْرِ حَرِيمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَمَّا كَانَ لَهُ حَرِيمٌ عِنْدَهُمَا كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِصَاحِبِ النَّهْرِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يُصَحِّحُوا الْبِنَاءَ. وَقَالُوا: لَا خِلَافَ أَنَّ لِلنَّهْرِ حَرِيمًا فِي أَرْضِ الْمَوَاتِ؛ لِأَنَّ لِلْبِئْرِ وَالْعَيْنِ حَرِيمًا بِمَا فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ رَوَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمَا حَرِيمًا لِحَاجَتِهِمَا إلَى الْحَفْرِ لِتَعَذُّرِ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِدُونِ الْحَفْرِ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ النَّهْرِ إلَى الْحَرِيمِ كَحَاجَةِ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ بَلْ أَشَدَّ فَكَانَ جَعْلُ الشَّرْعِ لِلْبِئْرِ وَالْعَيْنِ حَرِيمًا جَعْلًا لِلنَّهْرِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، دَلَّ أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَكَانَ هَذَا خِلَافًا مُبْتَدَأً. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلنَّهْرِ حَرِيمٌ بِالِاتِّفَاقِ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِصَاحِبِ النَّهْرِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُسَنَّاةَ إذَا كَانَتْ مُسْتَوِيَةً بِالْأَرْضِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مِلْكُ صَاحِبِ الْأَرْضِ، إذْ لَوْ كَانَتْ حَرِيمًا لِلنَّهْرِ لَكَانَتْ مُرْتَفِعَةً لِكَوْنِهَا مَلْقَى طِينِهِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ هَدْمَهَا لِتَعَلُّقِ حَقِّ صَاحِبِ النَّهْرِ بِهَا، وَفِي الْهَدْمِ إبْطَالُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ الْإِنْسَانُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ كَحَائِطٍ لِإِنْسَانٍ عَلَيْهِ جُذُوعٌ لِغَيْرِهِ فَأَرَادَ هَدْمَ الْحَائِطِ يُمْنَعُ مِنْهُ كَذَا هَذَا، ثُمَّ كَرْيُ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى أَصْحَابِ النَّهْرِ وَلَيْسَ عَلَى أَصْحَابِ الشَّفَةِ فِي الْكَرْيِ

كتاب الأراضي

شَيْءٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ لِأَهْلِ الشَّفَةِ فِي رَقَبَةِ النَّهْرِ بَلْ لَهُمْ حَقُّ شُرْبِ الْمَاءِ وَالسَّقْيِ لِلدَّوَابِّ فَقَطْ وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ الْكَرْيِ عَلَيْهِمْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِمْ أَنْ يَكْرُوا مِنْ أَعْلَاهُ وَإِذَا جَاوَزُوا أَرْضَ رَجُلٍ دَفَعَ عَنْهُ وَكَانَ الْكَرْيُ عَلَى مَنْ بَقِيَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الْكَرْيُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ بِحِصَصِ الشِّرْبِ وَالْأَرَاضِي حَتَّى إنَّ النَّهْرَ لَوْ كَانَ بَيْنَ عَشَرَةِ أَنْفُسٍ أَرَاضِيهِمْ عَلَيْهِ لَأُخِّرَ كَرْيُ فُوَّهَةِ النَّهْرِ إلَى أَنْ يُجَاوِزَ شِرْبَ أَوَّلِهِمْ بَيْنَهُمْ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْعُشْرُ فَإِذَا جَاوَزُوا شِرْبَ الْأَوَّلِ سَقَطَ عَنْهُ الْكَرْيُ. وَكَانَ عَلَى الْبَاقِينَ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ فَإِذَا جَاوَزُوا شِرْبَ الثَّانِي سَقَطَ عَنْهُ الْكَرْيُ وَكَانَ عَلَى الْبَاقِينَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ هَكَذَا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. (وَأَمَّا) عِنْدَهُمَا فَالْكَرْيُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ مِنْ أَعْلَى النَّهْرِ إلَى أَسْفَلِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكَرْيَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ وَالْمِلْكَ فِي الْأَعْلَى مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكُلِّ مِنْ فُوَّهَةِ النَّهْرِ إلَى شِرْبِ أَوَّلِهِمْ فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَى الْكُلِّ فَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا مِلْكَ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى فِيهِ إنَّمَا لَهُ حَقٌّ وَهُوَ حَقُّ تَسْيِيلِ الْمَاءِ فِيهِ فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَى صَاحِبِ الْمِلْكِ لَا عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ وَلِهَذَا كَانَتْ مُؤْنَةُ الْكَرْيِ عَلَى أَصْحَابِ النَّهْرِ وَلَا شَيْءَ عَلَى أَهْلِ الشَّفَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِأَصْحَابِ النَّهْرِ وَلِأَهْلِ الشَّفَةِ حَقُّ الشُّرْبِ وَسَقْيِ دَوَابِّهِمْ وَكَذَا كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ مَيْلٌ عَلَى سَطْحٍ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِ فَكَانَتْ غَرَامَتُهُ عَلَى صَاحِبِ السَّطْحِ لَا عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا. (وَأَمَّا) الْأَنْهَارُ الْعِظَامُ كَسَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهَا فَلَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا وَلَا فِي رَقَبَةِ النَّهْرِ وَكَذَا لَيْسَ لِأَحَدٍ حَقٌّ خَاصٌّ فِيهَا وَلَا فِي الشِّرْبِ بَلْ هُوَ حَقٌّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَذِهِ الْأَنْهَارِ بِالشَّفَةِ وَالسَّقْيِ وَشَقِّ النَّهْرِ مِنْهَا إلَى أَرْضِهِ بِأَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً بِإِذْنِ الْإِمَامِ لَهُ أَنْ يَشُقَّ إلَيْهَا نَهْرًا مِنْ هَذِهِ الْأَنْهَارِ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ وَلَا لِأَحَدٍ مَنْعُهُ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالنَّهْرِ وَكَذَا لَهُ أَنْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ رَحًى وَدَالِيَةً وَسَانِيَةً إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالنَّهْرِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَنْهَارَ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ يَدِ أَحَدٍ فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِصَاصُ بِهَا لِأَحَدٍ فَكَانَ النَّاسُ فِيهَا كُلُّهُمْ عَلَى السَّوَاءِ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ بِسَبِيلٍ مِنْ الِانْتِفَاعِ لَكِنْ بِشَرِيطَةِ عَدَمِ الضَّرَرِ بِالنَّهْرِ كَالِانْتِفَاعِ بِطَرِيقِ الْعَامَّةِ وَإِنْ أَضَرَّ بِالنَّهْرِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَنْعُهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ حَقٌّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِبَاحَةُ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّهِمْ مَشْرُوطَةٌ بِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ كَالتَّصَرُّفِ فِي الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ وَسُئِلَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ نَهْرِ مَرْوَ وَهُوَ نَهْرٌ عَظِيمٌ أَحْيَا رَجُلٌ أَرْضًا كَانَتْ مَوَاتًا فَحَفَرَ لَهَا نَهْرًا فَوْقَ مَرْوَ مِنْ مَوْضِعٍ لَيْسَ يَمْلِكُهُ أَحَدٌ فَسَاقَ الْمَاءَ إلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِ مَرْوَ ضَرَرٌ فِي مَائِهِمْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّهُمْ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ لِمَا قُلْنَا وَسُئِلَ أَيْضًا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ كُوًى مَعْرُوفَةٌ هَلْ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا؟ فَقَالَ: إنْ زَادَ فِي مِلْكِهِ وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِأَهْلِ النَّهْرِ فَلَهُ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ نَهْرٌ خَاصٌّ لِقَوْمٍ يَأْخُذُ الْمَاءَ مِنْ هَذَا النَّهْرِ فَأَرَادَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَزِيدَ كُوَّةً لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالنَّهْرِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ تَصَرُّفٌ فِي حَقٍّ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْعَامَّةِ، وَحُرْمَةُ التَّصَرُّفِ فِي حُقُوقِ الْعَامَّةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَرِيطَةِ الضَّرَرِ، وَالزِّيَادَةُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي تَصَرُّفٌ فِي مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ بِأَخْذِ زِيَادَةِ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ، وَالتَّصَرُّفُ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ لَا تَقِفُ حُرْمَتُهُ عَلَى الضَّرَرِ بِالْمَالِكِ هُوَ الْفَرْقُ. وَلَوْ جَزَرَ مَاءُ هَذِهِ الْأَنْهَارِ عَنْ أَرْضٍ فَلَيْسَ لِمَنْ يَلِيهَا أَنْ يَضُمَّهَا إلَى أَرْضِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ مَاؤُهَا إلَى مَكَانِهِ وَلَا يَجِدُ إلَيْهِ سَبِيلًا فَيُحْمَلُ عَلَى جَانِبٍ آخَرَ فَيَضُرُّ، حَتَّى لَوْ أَمِنَ الْعَوْدَ أَوْ كَانَ بِإِزَائِهَا مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ أَرْضٌ مَوَاتٌ لَا يَسْتَضِرُّ أَحَدٌ بِحَمْلِ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَلَهُ ذَلِكَ وَيَمْلِكُهُ إذَا أَحْيَاهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ. وَلَوْ احْتَاجَتْ هَذِهِ الْأَنْهَارُ إلَى الْكَرْيِ فَعَلَى السُّلْطَانِ كِرَاهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ مُؤْنَتُهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» وَكَذَا لَوْ خِيفَ مِنْهَا الْغَرَقُ فَعَلَى السُّلْطَانِ إصْلَاحُ مُسَنَّاتِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ -. [كِتَابُ الْأَرَاضِي] [أَنْوَاعِ الْأَرَاضِي وَبَيَانِ حُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا] (كِتَابُ الْأَرَاضِي) الْكَلَامُ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْأَرَاضِي وَفِي بَيَانِ حُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالْأَرَاضِي فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: أَرْضٌ مَمْلُوكَةٌ، وَأَرْضٌ مُبَاحَةٌ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ، وَالْمَمْلُوكَةُ نَوْعَانِ: عَامِرَةٌ وَخَرَابٌ، وَالْمُبَاحَةُ نَوْعَانِ أَيْضًا: نَوْعٌ هُوَ مِنْ

مَرَافِقِ الْبَلْدَةِ مُحْتَطَبًا لَهُمْ وَمَرْعًى لِمَوَاشِيهِمْ وَنَوْعٌ لَيْسَ مِنْ مَرَافِقِهَا وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَوَاتِ. (أَمَّا) بَيَانُ حُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا. (أَمَّا) الْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَةُ الْعَامِرَةُ: فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ عِصْمَةَ الْمِلْكِ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ الْخَرَابُ الَّذِي انْقَطَعَ مَاؤُهَا وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ سُنُونَ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا قَائِمٌ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهَا وَهِبَتُهَا وَإِجَارَتُهَا وَتَصِيرَ مِيرَاثًا إذَا مَاتَ صَاحِبُهَا إلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ خَرَابًا فَلَا خَرَاجَ عَلَيْهَا إذْ لَيْسَ عَلَى الْخَرَابِ خَرَاجٌ إلَّا إذَا عَطَّلَهَا صَاحِبُهَا مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِنْمَاءِ فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ وَهَذَا إذَا عُرِفَ صَاحِبُهَا فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ فَحُكْمُهَا حُكْمُ اللُّقَطَةِ يُعْرَفُ فِي كِتَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْكَلَأُ الَّذِي يَنْبُتُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ إلَّا إذَا قَطَعَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ وَأَخْرَجَ فَيَمْلِكُهُ، هَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: أَنَّهُ إذَا سَقَاهُ وَقَامَ عَلَيْهِ مَلَكَهُ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ هُوَ الْإِبَاحَةُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ وَالْكَلَأُ» اسْمٌ لِحَشِيشٍ يَنْبُتُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْعَبْدِ، وَالشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ هِيَ الْإِبَاحَةُ إلَّا إذَا قَطَعَهُ وَأَحْرَزَهُ لِأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ فَيَمْلِكُهُ كَالْمَاءِ الْمُحْرَزِ فِي الْأَوَانِي وَالظُّرُوفِ وَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ، وَالنَّارُ اسْمٌ لِجَوْهَرٍ مُضِيءٍ دَائِمِ الْحَرَكَةِ عُلُوًّا فَلَيْسَ لِمَنْ أَوْقَدَهَا أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنْ الِاصْطِلَاءِ بِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَثْبَتَ الشَّرِكَةَ فِيهَا فَأَمَّا الْجَمْرُ: فَلَيْسَ بِنَارٍ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ فَلَهُ حَقُّ الْمَنْعِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ. وَلَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ مِلْكَهُ لِاحْتِشَاشِ الْكَلَإِ فَإِذَا كَانَ يَجِدُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُهُ فَيُقَالُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ: إمَّا أَنْ تَأْذَنَ لَهُ بِالدُّخُولِ وَإِمَّا أَنْ تَحُشَّ بِنَفْسِك فَتَدْفَعَهُ إلَيْهِ كَالْمَاءِ الَّذِي فِي الْآبَارِ وَالْعُيُونِ وَالْحِيَاضِ الَّتِي فِي الْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الشِّرْبِ. وَلَوْ دَخَلَ إنْسَانٌ أَرْضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَاحْتَشَّ لَيْسَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ مَالٌ مَمْلُوكٌ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى مِلْكِ أَحَدٍ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَحْتَمِلُ الْإِجَارَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الشِّرْبِ، وَالْجَوَابُ فِي الْكَلَإِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ وَالْوَصِيَّةِ كَالْجَوَابِ فِي الشِّرْبِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا غَيْرُ مَمْلُوكٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي الشِّرْبِ. وَكَذَلِكَ الْمُرُوجُ الْمَمْلُوكَةُ فِي حُكْمِ الْكَلَإِ عَلَى هَذَا، وَكَذَلِكَ الْآجَامُ الْمَمْلُوكَةُ فِي حُكْمِ السَّمَكِ، لِأَنَّ السَّمَكَ أَيْضًا مُبَاحُ الْأَصْلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} [المائدة: 96] وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ» الْحَدِيثَ فَلَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا إلَّا بِالْأَخْذِ وَالِاسْتِيلَاءِ لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ حُظِرَ السَّمَكُ فِي حَظِيرَةٍ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ صَيْدٍ يَمْلِكُهُ بِنَفْسِ الْحَظْرِ لِوُجُودِ الِاسْتِيلَاءِ وَإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَوْ بَاعَهُ جَازَ وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ إلَّا بِصَيْدٍ لَا يَمْلِكُهُ صَاحِبُ الْحَظِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَلَا يُمْلَكُ الْمُبَاحُ إلَّا بِالِاسْتِيلَاءِ، وَلِهَذَا لَوْ بَاعَهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْمُبَاحَاتِ كَالطَّيْرِ إذَا بَاضَتْ أَوْ فَرَّخَتْ فِي أَرْضِ إنْسَانٍ أَنَّهُ يَكُونُ مُبَاحًا وَيَكُونُ لِلْآخِذِ لَا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ اتَّخَذَ لَهُ وَكْرًا أَمْ لَا. وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إنَّهُ إنْ كَانَ اتَّخَذَ لَهُ مِلْكًا لَهُ يَسْتَرِدُّهُ مِنْ الْآخِذِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَنْ أَخَذَهُ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمُبَاحِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ وَالْآخِذُ هُوَ الْمُسْتَوْلِي دُونَ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَإِنْ اتَّخَذَ لَهُ وَكْرًا، وَكَذَلِكَ صَيْدٌ الْتَجَأَ إلَى أَرْضِ رَجُلٍ أَوْ دَارِهِ فَهُوَ لِلْآخِذِ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ رَدَّ صَاحِبُ الدَّارِ بَابَ الدَّارِ عَلَيْهِ بَعْدَ الدُّخُولِ يَمْلِكُهُ إنْ أَمْكَنَهُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ صَيْدٍ لِوُجُودِ الِاسْتِيلَاءِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً فَتَعَقَّلَ بِهَا صَيْدٌ تَعَقُّلًا لَا خَلَاصَ لَهُ فَهُوَ لِنَاصِبِ الشَّبَكَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ الشَّبَكَةُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، كَمَنْ أَرْسَلَ بَازِيَ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَأَخَذَ صَيْدًا أَوْ أَغْرَى كَلْبًا لِإِنْسَانٍ عَلَى صَيْدٍ فَأَخَذَهُ فَكَانَ لِلْمُرْسِلِ وَالْمُغْرِي لَا لِصَاحِبِهِ، وَلَوْ نَصَبَ فُسْطَاطًا فَجَاءَ صَيْدٌ فَتَعَقَّلَ بِهِ فَهُوَ لِلْآخِذِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ نَصْبَ الشَّبَكَةِ وُضِعَ لِتَعَقُّلِ الصَّيْدِ وَمُبَاشِرُ السَّبَبِ الْمَوْضُوعِ لِلشَّيْءِ اكْتِسَابٌ لَهُ. (فَأَمَّا) نَصْبُ الْفُسْطَاطِ: فَمَا وُضِعَ لِذَلِكَ بَلْ لِغَرَضٍ آخَرَ فَتَوَقَّفَ الْمِلْكُ فِيهِ عَلَى الِاسْتِيلَاءِ

وَالْأَخْذِ حَقِيقَةً وَلَوْ حَفَرَ حَفِيرَةً فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ فَإِنْ كَانَ حَفَرَهَا لِاجْتِمَاعِ الْمَاءِ فِيهَا فَهُوَ لِلْآخِذِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاصْطِيَادِ وَإِنْ كَانَ حَفَرَهَا لِلِاصْطِيَادِ بِهَا فَهُوَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّبَكَةِ. (وَأَمَّا) الْآجَامُ الْمَمْلُوكَةُ فِي حُكْمِ الْقَصَبِ وَالْحَطَبِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَطِبَ مِنْ أَجَمَةِ رَجُلٍ إلَّا بِإِذْنِهِ؛ لِأَنَّ الْحَطَبَ وَالْقَصَبَ مَمْلُوكَانِ لِصَاحِبِ الْأَجَمَةِ يَنْبُتَانِ عَلَى مِلْكِهِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِنْبَاتُ أَصْلًا، بِخِلَافِ الْكَلَإِ فِي الْمُرُوجِ الْمَمْلُوكَةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَجَمَةِ هِيَ الْقَصَبُ وَالْحَطَبُ فَكَانَ ذَلِكَ مَقْصُودًا مِنْ مِلْكِ الْأَجَمَةِ فَيُمْلَكُ بِمِلْكِهَا. (فَأَمَّا) الْكَلَأُ فَغَيْرُ مَقْصُودٍ مِنْ الْمَرْجِ الْمَمْلُوكِ بَلْ الْمَقْصُودُ هُوَ الزِّرَاعَةُ. وَلَوْ أَنَّ بَقَّارًا رَعَى بَقَرًا فِي أَجَمَةٍ مَمْلُوكَةٍ لِإِنْسَانٍ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا رَعَى وَأَفْسَدَ مِنْ الْقَصَبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَجَمَةِ الْقَصَبُ وَالْحَطَبُ وَهُمَا مَمْلُوكَانِ لِصَاحِبِ الْأَجَمَةِ، وَإِتْلَافُ مَالٍ مَمْلُوكٍ لِصَاحِبِهِ يُوجِبُ الضَّمَانَ بِخِلَافِ الْكَلَإِ فِي الْمُرُوجِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ عَلَى الْإِبَاحَةِ دُونَ الْمِلْكِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ دَفْعُ الْقَصَبِ مُعَامَلَةً وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْكَلَإِ مُعَامَلَةً، وَالْأَصْلُ الْمَحْفُوظُ فِيهِ أَنَّ الْقَصَبَ وَالْحَطَبَ يُمْلَكَانِ بِمِلْكِ الْأَرْضِ وَالْكَلَأُ لَا. (وَأَمَّا) مَا لَا يَنْبُتُ عَادَةً إلَّا بِصُنْعِ الْعَبْدِ كَالْقَتَّةِ وَالْقَصِيلِ وَمَا بَقِيَ مِنْ حَصَادِ الزَّرْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ يَكُونُ مَمْلُوكًا وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْبَاتَ يُعَدُّ اكْتِسَابًا لَهُ فَيَمْلِكُهُ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَمْلُوكِ مَمْلُوكًا إلَّا أَنَّ الْإِبَاحَةَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ تَثْبُتُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ بِالشَّرْعِ وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهَا فِي أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهَا. (وَأَمَّا) أَرْضُ الْمَوَاتِ فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الْأَرْضِ الْمَوَاتِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُ الْإِمَامُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَوَاتِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ فِي الْمَوَاتِ، وَمَا يَثْبُتُ بِهِ الْحَقُّ فِيهِ دُونَ الْمِلْكِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا مُلِكَ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالْأَرْضُ الْمَوَاتُ هِيَ أَرْضٌ خَارِجَ الْبَلَدِ لَمْ تَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَا حَقًّا لَهُ خَاصًّا فَلَا يَكُونُ دَاخِلَ الْبَلَدِ مَوَاتٌ أَصْلًا، وَكَذَا مَا كَانَ خَارِجَ الْبَلْدَةِ مِنْ مَرَافِقِهَا مُحْتَطَبًا بِهَا لِأَهْلِهَا أَوْ مَرْعًى لَهُمْ لَا يَكُونُ مَوَاتًا حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْإِمَامُ إقْطَاعَهَا؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ مَرَافِقِ أَهْلِ الْبَلْدَةِ فَهُوَ حَقُّ أَهْلِ الْبَلْدَةِ كَفِنَاءِ دَارِهِمْ وَفِي الْإِقْطَاعِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ. وَكَذَلِكَ أَرْضُ الْمِلْحِ وَالْقَارِّ وَالنِّفْطِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْمُسْلِمُونَ لَا تَكُونُ أَرْضَ مَوَاتٍ حَتَّى لَا يَجُوزَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَهَا لِأَحَدٍ؛ لِأَنَّهَا حَقٌّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي الْإِقْطَاعِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا مِنْ الْعُمْرَانِ؟ شَرَطَهُ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ قَالَ: وَمَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ فَلَيْسَ بِمَوَاتٍ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ أَرْضَ الْمَوَاتِ بُقْعَةٌ لَوْ وَقَفَ عَلَى أَدْنَاهَا مِنْ الْعَامِرِ رَجُلٌ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ الْعَامِرِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، حَتَّى إنَّ بَحْرًا مِنْ الْبَلْدَةِ جَزَرَ مَاؤُهُ أَوْ أَجَمَةً عَظِيمَةً لَمْ تَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ تَكُونُ أَرْضَ مَوَاتٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَقَوْلِ الطَّحَاوِيِّ لَا تَكُونُ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوَاتَ اسْمٌ لِمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَا حَقًّا خَاصًّا لَمْ يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهِ كَانَ بَعِيدًا عَنْ الْبَلْدَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَمْلِكُ الْإِمَامُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَوَاتِ: فَالْإِمَامُ يَمْلِكُ إقْطَاعَ الْمَوَاتِ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى عِمَارَةِ الْبِلَادِ، التَّصَرُّفُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لِلْإِمَامِ كَكَرْيِ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ وَإِصْلَاحِ قَنَاطِرِهَا وَنَحْوِهِ. وَلَوْ أَقْطَعَ الْإِمَامُ الْمَوَاتَ إنْسَانًا فَتَرَكَهُ وَلَمْ يَعْمُرْهُ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ فَإِذَا مَضَى ثَلَاثُ سِنِينَ فَقَدْ ظَلَّ مَوَاتًا كَمَا كَانَ وَلَهُ أَنْ يُقْطِعَهُ غَيْرَهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَيْسَ لِمُحْتَجِرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَقٌّ» وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ سِنِينَ مُدَّةٌ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ فَإِذَا أَمْسَكَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ وَلَمْ يَعْمُرْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ عِمَارَتَهَا بَلْ تَعْطِيلَهَا فَبَطَلَ حَقُّهُ وَتَعُودُ إلَى حَالِهَا مَوَاتًا، وَكَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهَا غَيْرَهُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ فِي الْمَوَاتِ وَمَا لَا يَثْبُتُ وَيَثْبُتُ بِهِ الْحَقُّ فَالْمِلْكُ فِي الْمَوَاتِ يَثْبُتُ بِالْإِحْيَاءِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِحْيَاءِ وَإِذْنُ الْإِمَامِ لَيْسَ بِشَرْطٍ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ فِيهِ حَقٌّ» أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِلْمُحْيِي مِنْ غَيْرِ شَرِيطَةِ إذْنِ الْإِمَامِ وَلِأَنَّهُ مُبَاحٌ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ فَيَمْلِكُهُ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ كَمَا لَوْ أَخَذَ صَيْدًا أَوْ حَشَّ كَلَأً، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ فِيهِ

حَقٌّ رُوِيَ مُنَوَّنًا وَمُضَافًا، فَالْمُنَوَّنُ هُوَ أَنْ تَنْبُتَ عُرُوقُ أَشْجَارِ إنْسَانٍ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ قَلْعُهَا حَشِيشًا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ فَإِذَا لَمْ يَأْذَنْ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ» وَلِأَنَّ الْمَوَاتَ غَنِيمَةٌ فَلَا بُدَّ لِلِاخْتِصَاصِ بِهِ مِنْ إذْنِ الْإِمَامِ كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ غَنِيمَةً اسْمٌ لِمَا أُصِيبَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ بِإِيجَافِ الْخَيْل وَالرِّكَابِ، وَالْمَوَاتُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا كَانَتْ تَحْتَ أَيْدِي أَهْلِ الْحَرْبِ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً وَقَهْرًا فَكَانَتْ كُلُّهَا غَنَائِمَ فَلَا يَخْتَصُّ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ بِشَيْءٍ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ بِخِلَافِ الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَجَازَ أَنْ تُمْلَكَ بِنَفْسِ الِاسْتِيلَاءِ وَإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهَا. (وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ شَرْعًا وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَذِنَ جَمَاعَةً بِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ بِذَلِكَ النَّظْمِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ نَظِيرَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» حَتَّى لَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي إيجَابِ السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ السِّيَرِ، أَوْ يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى حَالِ الْإِذْنِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَيَمْلِكُ الذِّمِّيُّ بِالْإِحْيَاءِ كَمَا يَمْلِكُ الْمُسْلِمُ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ. وَلَوْ حَجَرَ الْأَرْضَ الْمَوَاتَ لَا يَمْلِكُهَا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَوَاتَ يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ وَضْعِ أَحْجَارٍ أَوْ خَطٍّ حَوْلَهَا يُرِيدُ أَنْ يَحْجُرَ غَيْرَهُ عَنْ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِحْيَاءٍ فَلَا يَمْلِكُهَا وَلَكِنْ صَارَ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يُزْعِجَهُ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ وَالسَّبْقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ فِي الْجُمْلَةِ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مِنِّي: مُبَاحُ مَنْ سَبَقَ» وَعَلَى هَذَا الْمُسَافِرُ إذَا نَزَلَ بِأَرْضٍ مُبَاحَةٍ أَوْ رِبَاطٍ صَارَ أَحَقَّ بِهَا وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُ أَنْ يُزْعِجَهُ عَنْهَا. وَإِذَا صَارَ أَحَقَّ بِهَا فَلَا يُقْطِعُهَا الْإِمَامُ غَيْرَهُ إلَّا إذَا عَطَّلَهَا الْمُتَحَجِّرُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَلَمْ يَعْمُرْهَا. (وَأَمَّا) بَيَانُ حُكْمِ أَرْضِ الْمَوَاتِ إذَا مُلِكَتْ فَيَخْتَصُّ بِهَا حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا: حُكْمُ الْحَرِيمِ، وَالثَّانِي: الْوَظِيفَةُ مِنْ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: فِي أَصْلِ الْحَرِيمِ، وَالثَّانِي: فِي قَدْرِهِ. (أَمَّا) أَصْلُهُ: فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي أَرْضِ الْمَوَاتِ يَكُونُ لَهَا حَرِيمٌ حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَحْفِرَ فِي حَرِيمِهِ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَعَلَ لِلْبِئْرِ حَرِيمًا، وَكَذَلِكَ الْعَيْنُ لَهَا حَرِيمٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَعَلَ لِكُلِّ أَرْضٍ حَرِيمًا. (وَأَمَّا) النَّهْرُ: فَقَدْ ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِيهِ. (وَأَمَّا) تَقْدِيرُهُ: فَحَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ بِالْإِجْمَاعِ وَبِهِ نَطَقَتْ السُّنَّةُ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا بِالْإِجْمَاعِ نَطَقَتْ بِهِ السُّنَّةُ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا وَأَمَّا حَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَعِنْدَهُمَا سِتُّونَ ذِرَاعًا، احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنَّهُ قَالَ وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا» . (وَجْهُ) قَوْلِ: أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَوَاتِ يَثْبُتُ بِالْإِحْيَاءِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إحْيَاءُ الْحَرِيمِ، وَكَذَا إذْنُ الْإِمَامِ يَتَنَاوَلُ الْحَرِيمَ مَقْصُودًا إلَّا أَنَّ دُخُولَ الْحَرِيمِ لِحَاجَةِ الْبِئْرِ إلَيْهِ، وَحَاجَةُ النَّاضِحِ تَنْدَفِعُ بِأَرْبَعِينَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَحَاجَةِ الْعَطَنِ فَبَقِيَ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الْمَوَاتِ، وَالْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَلِكَ فِي بِئْرٍ خَاصٍّ، وَلِلْإِمَامِ وِلَايَةُ ذَلِكَ. (وَأَمَّا) حَرِيمُ النَّهْرِ: فَقَدْ اخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي تَقْدِيرِهِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ قَدْرُ نِصْفِ بَطْنِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ النِّصْفُ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَالنِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ قَدْرُ جَمِيعِ بَطْنِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ قَدْرُ جَمِيعِهِ. (وَأَمَّا) النَّهْرُ إذَا حُفِرَ فِي أَرْضِ الْمَوَاتِ فَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ حَرِيمًا بِلَا خِلَافٍ لِمَا قُلْنَا. (وَأَمَّا) الثَّانِي: حُكْمُ الْوَظِيفَةِ فَإِنْ أَحْيَاهَا مُسْلِمٌ قَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْعُشْرِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيِّزِ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْعُشْرِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٍ، وَإِنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْخَرَاجِ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ، وَإِنْ أَحْيَاهَا ذِمِّيٌّ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ كَيْفَ مَا كَانَ بِالْإِجْمَاعِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ - وَاَللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ -.

كتاب المفقود

[كِتَابُ الْمَفْقُودِ] [بَيَان حَال الْمَفْقُود] الْكَلَامُ فِي الْمَفْقُودِ يَقَعُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ، فِي تَفْسِيرِ الْمَفْقُودِ، وَفِي بَيَانِ حَالِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُصْنَعُ بِمَالِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ مَالِهِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالْمَفْقُودُ اسْمٌ لِشَخْصٍ غَابَ عَنْ بَلَدِهِ وَلَا يُعْرَفُ خَبَرُهُ أَنَّهُ حَيٌّ أَمْ مَيِّتٌ (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حَالُ الْمَفْقُودِ: فَعِبَارَةُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَنْ حَالِهِ أَنَّهُ حَيٌّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَيِّتٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ حَيًّا وَمَيِّتًا حَقِيقَةً لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ وَلَكِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّهُ (تَجْرِي) عَلَيْهِ أَحْكَامُ (الْأَحْيَاءِ) فِيمَا كَانَ لَهُ فَلَا يُورَثُ مَالُهُ وَلَا تَبِينُ امْرَأَتُهُ كَأَنَّهُ حَيٌّ حَقِيقَةً (وَتَجْرِي) عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأَمْوَاتِ فِيمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فَلَا يَرِثُ أَحَدًا كَأَنَّهُ مَيِّتٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ يَصْلُحُ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ وَلَا يَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ وَمِلْكُهُ فِي أَحْكَامِ أَمْوَالِهِ وَنِسَائِهِ أَمْرٌ قَدْ كَانَ وَاسْتَصْحَبْنَا حَالَ الْحَيَاةِ لِإِبْقَائِهِ وَأَمَّا مِلْكُهُ فِي مَالِ غَيْرِهِ: فَأَمْرٌ لَمْ يَكُنْ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْإِثْبَاتِ وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ، وَتَحْقِيقُ الْعِبَارَةِ عَنْ حَالِهِ أَنَّ غَيْرُ مَعْلُومٍ، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ حَيٌّ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَيِّتٌ، وَهَذَا يَمْنَعُ التَّوَارُثَ وَالْبَيْنُونَةَ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ حَيًّا يَرِثُ أَقَارِبَهُ وَلَا يَرِثُونَهُ وَلَا تَبِينُ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا لَا يَرِثُ أَقَارِبَهُ وَيَرِثُونَهُ وَالْإِرْثُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِهِ فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْنُونَةُ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي " الثَّابِتُ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، وَغَيْرُ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ " فَإِذَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ أَقَارِبِهِ يُوقَفُ نَصِيبُهُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ حَالُهُ أَنَّهُ حَيٌّ أَمْ مَيِّتٌ لِاحْتِمَالِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ لِلْحَالِ حَتَّى إنَّ مَنْ هَلَكَ وَتَرَكَ ابْنًا مَفْقُودًا وَابْنَتَيْنِ وَابْنَ ابْنٍ وَطَلَبَتْ الِابْنَتَانِ الْمِيرَاثَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي لَهُمَا بِالنِّصْفِ وَيُوقِفُ النِّصْفَ الثَّانِيَ إلَى أَنْ يَظْهَرَ حَالُهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ حَيًّا كَانَ لَهُ النِّصْفُ وَالنِّصْفُ لِلِابْنَتَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِابْنِ الِابْنِ وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا كَانَ لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِابْنِ الِابْنِ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ النِّصْفِ لِلِابْنَتَيْنِ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَيُدْفَعُ ذَلِكَ إلَيْهِمَا وَيُوقَفُ النِّصْفُ الْآخَرُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ حَالُهُ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ الَّتِي يُعْرَفُ فِيهَا مَوْتُهُ يُدْفَعُ الثُّلُثَانِ إلَيْهِمَا وَالْبَاقِي لِابْنِ الِابْنِ وَكَذَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ يُوقَفُ، وَكَذَا إذَا فُقِدَ الْمُرْتَدُّ وَلَا يُدْرَى أَنَّهُ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَمْ لَا تُوقَفُ تَرِكَتُهُ كَالْمُسْلِمِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يُصْنَعُ بِمَالِ الْمَفْقُود] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُصْنَعُ بِمَالِهِ فَاَلَّذِي يُصْنَعُ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنَّ الْقَاضِيَ يَحْفَظُ مَالَهُ يُقِيمُ مَنْ يُنَصِّبُهُ لِلْحِفْظِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا حَافِظَ لَهُ لِعَجْزِ صَاحِبِهِ عَنْ الْحِفْظِ فَيَحْفَظُ عَلَيْهِ الْقَاضِي نَظَرًا لَهُ كَمَا يَحْفَظُ مَالَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ الَّذِي لَا وَلِيَّ لَهُمَا، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَبِيعُ مِنْ مَالِهِ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ وَيَحْفَظُ ثَمَنَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حِفْظٌ لَهُ مَعْنًى وَلَا يَأْخُذُ مَالَهُ الَّذِي فِي يَدِ مُودَعِهِ وَمُضَارِبِهِ لِيَحْفَظَهُ؛ لِأَنَّ يَدَهُمَا يَدُ نِيَابَةٍ عَنْهُ فِي الْحِفْظِ فَكَانَ مَحْفُوظًا بِحِفْظِهِ مَعْنًى فَلَا حَاجَةَ إلَى حِفْظِ الْقَاضِي وَمِنْهَا أَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَى زَوْجَتِهِ مِنْ مَالِهِ إنْ كَانَ عَالِمًا بِالزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا إحْيَاءٌ لَهَا فَكَانَ مِنْ بَابِ حِفْظِ مِلْكِ الْغَائِبِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ الْحِفْظِ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُهُ كَمَا يَمْلِكُ حِفْظَ مَالِهِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ يُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ عَلَى أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَعَلَى أَوْلَادِهِ الْفُقَرَاءِ الزَّمْنَى مِنْ الذُّكُورِ وَالْفَقِيرَاتِ مِنْ الْإِنَاثِ سَوَاءٌ كُنَّ زَمْنَى أَوْ لَا، وَعَلَى وَالِدَيْهِ الْمُحْتَاجَيْنِ إنْ كَانَ عَالِمًا بِالنَّسَبِ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ أَوْلَادِهِ إنَّمَا تَجِبُ بِحُكْمِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ إحْيَاءً لَهُمْ، وَإِحْيَاءُ نَفْسِهِ وَاجِبٌ فَكَذَا إحْيَاءُ جُزْئِهِ وَكُلِّهِ فَكَانَ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِهِ إحْيَاءً لَهُمْ مَعْنًى وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَيَقُومُ بِهِ الْقَاضِي، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْقَاضِي بِالزَّوْجِيَّةِ وَالنَّسَبِ فَأَحْضَرُوا رَجُلًا فِي يَدِهِ مَالٌ وَدِيعَةً لِلْمَفْقُودِ أَوْ مُضَارَبَةً أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَهُ فَأَقَرَّ الرَّجُلُ بِذَلِكَ وَبِالزَّوْجِيَّةِ وَالنَّسَبِ أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَ نَفَقَتَهَا مِنْ مَالِ زَوْجِهَا إذَا ظَفِرَتْ بِهِ قَدْرَ مَا يَكْفِيهَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِامْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ «خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» فَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ هَذَا مَالَهُ وَهَذِهِ امْرَأَتُهُ ثَبَتَ لَهَا حَقُّ الْأَخْذِ، وَكَذَا فِي الْأَوْلَادِ يَأْخُذُ الْبَعْضُ كِفَايَتَهُ مِنْ مَالِ الْبَعْضِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَإِذَا أَقَرَّ بِالنَّسَبِ وَالْمَالِ فَقَدْ ثَبَتَ لَهُمْ حَقُّ الْأَخْذِ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لِلْقَاضِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ وَنَحْنُ نَقُولُ: لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ النَّظَرِ لِلْغَائِبِ وَلِلْقَاضِي وِلَايَةُ النَّظَرِ لِلْغَائِبِ لِمَا عُلِمَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ. وَلَوْ أَخَذَ الْقَاضِي مِنْهُمْ كَفِيلًا كَانَ حَسَنًا لِجَوَازِ أَنْ يَحْضُرَ الْمَفْقُودُ فَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ

فصل في حكم مال المفقود

كَانَ أَعْطَاهُمْ النَّفَقَةَ مُعَجَّلَةً هَذَا إذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ بِهِمَا فَأَمَّا إذَا أَنْكَرَهُمَا جَمِيعًا أَوْ أَقَرَّ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ وَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ وَلَهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ وَالْمُضَارِبَ وَالْغَرِيمَ لَيْسُوا خُصَمَاءَ عَنْ الْغَائِبِ فِي إثْبَاتِ الزَّوْجِيَّةِ وَإِيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وَكَذَا الْأَوْلَادُ وَالْوَالِدُونَ وَالْمَرْأَةُ لَيْسُوا خُصَمَاءَ لِلْغَائِبِ فِي إثْبَاتِ مِلْكِ الْمَالِ لَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَإِنْ أَعْطَوْهُمْ شَيْئًا فَهُوَ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَطَوِّعُونَ فِي ذَلِكَ وَلَا يُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ لَيْسَتْ بِعِلَّةِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ لِعَدَمِهَا بَلْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَالْبِرِّ بِهِمْ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَمُدُّوا أَيْدِيَهُمْ فَيَأْخُذُوا مِنْ مَالِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ فَكَانَ الْإِنْفَاقُ مِنْ مَالِهِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَالٍ ثَبَتَ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْهُ لِلْمُنْفَقِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ، وَمَا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْهُ إلَّا بِقَضَاءٍ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ. ثُمَّ الْقَاضِي إنَّمَا يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الْمَفْقُودِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا إذَا كَانَ الْمَالُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ طَعَامًا أَوْ ثِيَابًا هِيَ مِنْ جِنْسِ كِسْوَتِهَا فَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْعَقَارِ فَلَا يُنْفِقُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْإِنْفَاقُ إلَّا بِالْبَيْعِ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ الْعَقَارَ وَالْعُرُوضَ عَلَى الْغَائِبِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَلَى الْغَائِبِ فِي مَعْنَى الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَالْحَجْرُ عَلَى الْحُرِّ الْبَالِغِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا إنْ جَازَ عَلَى الْحَاضِرِ لَكِنْ لَا يَجُوزُ عَلَى الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ عَلَى الْحَاضِرِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقَضَاءِ مِنْ ثَمَنِ الْعَيْنِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ الظُّلْمُ مِنْهُ حَالَةَ الْغَيْبَةِ لَمَّا لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْإِنْفَاقِ فَافْتَرَقَ الْحَالَانِ، وَإِنَّمَا مَلَكَ بَيْعَ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ بَيْعًا صُورَةً فَهُوَ حِفْظٌ وَإِمْسَاكٌ لَهُ مَعْنًى، وَالْقَاضِي يَمْلِك حِفْظَ مَالِ الْمَفْقُودِ. وَأَمَّا الْأَبُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعَقَارَ فِي نَفَقَةِ الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْمَنْقُولُ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي وَعِنْدَهُمَا لَا يَبِيعُ الْمَنْقُولَ كَمَا لَا يَبِيعُ الْعَقَارَ لِمَا عُلِمَ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - [فَصْلٌ فِي حُكْمِ مَالِ الْمَفْقُود] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ مَالِهِ: فَهُوَ أَنَّهُ إذَا مَضَتْ مِنْ وَقْتِ وِلَادَتِهِ مُدَّةٌ لَا يَعِيشُ إلَيْهَا عَادَةً يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ وَيُعْتَقُ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُهُ وَتَبِينُ امْرَأَتُهُ وَيَصِيرُ مَالُهُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ الْأَحْيَاءِ وَقْتَ الْحُكْمِ وَلَا شَيْءَ لِمَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُقَدِّرْ لِتِلْكَ الْمُدَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَقْدِيرًا. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَدَّرَهَا بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْ وَقْتِ وِلَادَتِهِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ فُقِدَ رَجُلٌ بِصِفِّينَ أَوْ بِالْجَمَلِ ثُمَّ اخْتَصَمَ وَرَثَتُهُ فِي مَالِهِ فِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ وَقِيلَ: كَانَتْ وَفَاةُ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَوَفَاةُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي سَنَةِ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَدَّرَهَا بِمِائَةِ سَنَةٍ فَإِذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ الْمُقَدَّرَةُ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ وَتَثْبُتُ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُدَّةِ كَمَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِهِ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ -. [كِتَابُ اللَّقِيطِ] [فَصْلٌ بَيَان حَال اللَّقِيط] (كِتَابُ اللَّقِيطِ) الْكَلَامُ فِي اللَّقِيطِ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ اللَّقِيطِ لُغَةً وَعُرْفًا، وَفِي بَيَانِ حَالِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ. أَمَّا فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ فَعِيلٌ مِنْ اللَّقْطِ وَهُوَ اللِّقَاءُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْمَلْقُوطُ وَهُوَ الْمُلْقَى أَوْ الْأَخْذُ وَالرَّفْعُ بِمَعْنَى الْمَلْقُوطِ وَهُوَ الْمَأْخُوذُ وَالْمَرْفُوعُ عَادَةً لِمَا أَنَّهُ يُؤْخَذُ فَيُرْفَعُ وَأَمَّا فِي الْعُرْفِ فَنَقُولُ هُوَ اسْمٌ لِلطِّفْلِ الْمَفْقُودِ وَهُوَ الْمُلْقَى أَوْ الطِّفْلِ الْمَأْخُوذِ وَالْمَرْفُوعِ عَادَةً فَكَانَ تَسْمِيَتُهُ لَقِيطًا بِاسْمِ الْعَاقِبَةِ؛ لِأَنَّهُ يُلْقَطُ عَادَةً أَيْ: يُؤْخَذُ وَيُرْفَعُ وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ عَاقِبَتِهِ أَمْرٌ شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] سَمَّى الْعِنَبَ خَمْرًا وَالْحَيَّ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْمَوْتَ مَيِّتًا بِاسْمِ الْعَاقِبَةِ كَذَا هَذَا. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حَالِهِ فَلَهُ أَحْوَالٌ ثَلَاثٌ لَا بُدَّ مِنْ التَّعَرُّفِ عَنْهَا حَالُهُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، وَحَالُهُ فِي النَّسَبِ. أَمَّا حَالُهُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ: فَهُوَ أَنَّهُ حُرٌّ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، كَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ أَنَّهُمَا حَكَمَا بِكَوْنِ اللَّقِيطِ حُرًّا؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْحُرِّيَّةُ فِي بَنِي آدَمَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَوْلَادُ سَيِّدِنَا آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَحَوَّاءَ وَهُمَا كَانَا

حُرَّيْنِ وَالْمُتَوَلَّدُ مِنْ الْحُرَّيْنِ يَكُونُ حُرًّا وَإِنَّمَا حَدَثَ الرِّقُّ فِي الْبَعْضِ شَرْعًا بِعَارِضِ الِاسْتِيلَاءِ بِسَبَبٍ عَارِضٍ وَهُوَ الْكُفْرُ الْبَاعِثُ عَلَى الْحِرَابِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى الْعَارِضِ فَرُتِّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأَحْرَارِ مِنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْأَحْرَارِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ قَاذِفُ أَمَةٍ، لِأَنَّ إحْصَانَ الْمَقْذُوفِ شَرْطُ انْعِقَادِ عِلَّةٍ تُوجِبُ عَلَى الْقَاذِفِ وَلَمْ يُعْرَفْ إحْصَانُهَا لِانْعِقَادِ الْقَذْفِ عَلَيْهِ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ وَلَوْ ادَّعَى الْمُلْتَقِطُ أَوْ غَيْرُهُ أَنَّهُ عَبْدُهُ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُ ثَابِتَةٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إبْطَالِ هَذَا الظَّاهِرِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَلَوْ بَلَغَ فَأَقَرَّ أَنَّهُ عَبْدُ فُلَانٍ نُظِرَ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْأَحْرَارِ بَعْدُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَضَرْبِ قَاذِفِهِ الْحَدَّ وَنَحْوِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُعْرَفْ حُرِّيَّتُهُ إلَّا بِظَاهِرِ الْحَالِ فَإِذَا أَقَرَّ بِالرِّقِّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِالرِّقِّ كَاذِبًا فَصَحَّ إقْرَارُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي إبْطَالِ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ الْهِبَةِ وَالْكَفَالَةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا الْعَبْدُ حَتَّى لَا تَنْفَسِخَ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَنْفَسِخُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالرِّقِّ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ رَقِيقًا وَقْتَ التَّصَرُّفِ فَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ كَمَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى رِقِّهِ، وَلَنَا أَنَّ هَذَا إقْرَارٌ تَضَمَّنَ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُ ثَابِتَةٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْغَيْرِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْإِقْرَارَ تَصَرُّفٌ عَلَى نَفْسِ الْمُقِرِّ فَإِذَا تَضَمَّنَ إبْطَالَ حَقِّهِ حَقَّ الْغَيْرِ كَانَ دَعْوَى أَوْ شَهَادَةً عَلَى غَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ فَيُصَدَّقُ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ، كَمَنْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ إنْسَانٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ عَتَقَ عَلَيْهِ وَلَا يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْبَيِّنَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي شَهَادَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَأَمَّا الْمُقِرُّ فِي إقْرَارِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَمُتَّهَمٌ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْأَحْرَارِ فَقَدْ ظَهَرَتْ حُرِّيَّتُهُ عِنْدَ النَّاسِ كَافَّةً فَظَهَرَ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهَا بِالْإِقْرَارِ بِالرِّقِّ وَأَمَّا حَالُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ فَإِنْ وَجَدَهُ مُسْلِمٌ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى لَوْ مَاتَ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ وَجَدَهُ ذِمِّيٌّ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ أَوْ فِي قَرْيَةٍ لَيْسَ فِيهَا مُسْلِمٌ يَكُونُ ذِمِّيًّا تَحْكِيمًا لِلظَّاهِرِ كَمَا إذَا وَجَدَهُ مُسْلِمٌ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ أَوْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ يَكُونُ ذِمِّيًّا. وَلَوْ وَجَدَهُ ذِمِّيٌّ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْفِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ يَكُونُ مُسْلِمًا كَذَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ اللَّقِيطِ مِنْ الْأَصْلِ وَاعْتَبَرَ الْمَكَانَ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ اعْتَبَرَ حَالَ الْوَاجِدِ مِنْ كَوْنِهِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَفِي كِتَابِ الدَّعْوَى اعْتَبَرَ الْإِسْلَامَ إلَى أَيِّهِمَا نُسِبَ إلَى الْوَاجِدِ أَوْ إلَى الْمَكَانِ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ هَذَا الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي مَكَان هُوَ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَتَصَرُّفِهِمْ فِي أَيْدِيهِمْ، وَاللَّقِيطُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ وَتَصَرُّفِهِ يَكُونُ مُسْلِمًا ظَاهِرًا، وَالْمَوْجُودُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِي أَيْدِي أَهْلِ الذِّمَّةِ وَتَصَرُّفِهِمْ فِي أَيْدِيهِمْ وَاللَّقِيطُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِ الذِّمِّيِّ وَتَصَرُّفِهِ يَكُونُ ذِمِّيًّا ظَاهِرًا، فَكَانَ اعْتِبَارُ الْمَكَانِ أَوْلَى فَإِنْ وَجَدَهُ مُسْلِمٌ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَبَلَغَ كَافِرًا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ إسْلَامُهُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا حُكِمَ بِهِ تَبَعًا لِلدَّارِ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ رِدَّتُهُ فَلَا يُقْتَلُ وَأَمَّا حَالُهُ فِي النَّسَبِ فَهُوَ أَنَّهُ مَجْهُولُ النَّسَبِ حَتَّى لَوْ ادَّعَى إنْسَانٌ نِسْبَةَ الْمُلْتَقَطِ أَوْ عِتْقَهُ تَصِحُّ دَعْوَتُهُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ لِمَا عُلِمَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى. وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا أَنَّ الْتِقَاطَهُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى سَيِّدَنَا عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِلَقِيطٍ فَقَالَ: هُوَ حُرٌّ وَلَأَنْ أَكُونَ وُلِّيتُ مِنْ أَمْرِهِ مِثْلَ الَّذِي وُلِّيتَ أَنْتَ كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا، عَدَّ جُمْلَةً مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ فَقَدْ رَغَّبَ فِي الِالْتِقَاطِ وَبَالَغَ فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ حَيْثُ فَضَّلَهُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي النَّدْبِ إلَيْهِ. وَلِأَنَّهُ نَفْسٌ لَا حَافِظَ لَهَا بَلْ هِيَ فِي مَضْيَعَةٍ فَكَانَ الْتِقَاطُهَا إحْيَاءً لَهَا مَعْنًى وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] وَمِنْهَا أَنَّ الْمُلْتَقِطَ أَوْلَى بِإِمْسَاكِهِ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَحْيَاهُ بِالْتِقَاطِهِ وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ مُبَاحُ الْأَخْذِ سَبَقَتْ يَدُ الْمُلْتَقِطِ إلَيْهِ وَالْمُبَاحُ مُبَاحُ مَنْ سَبَقَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْهَا أَنَّ نَفَقَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ وَلَاءَهُ لَهُ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مَالٌ مَشْدُودٌ عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَالُهُ فَيَكُونُ لَهُ

كَثِيَابِهِ الَّتِي عَلَيْهِ. وَكَذَا إذَا وُجِدَ مَشْدُودًا عَلَى دَابَّةٍ فَالدَّابَّةُ لَهُ لِمَا قُلْنَا وَتَكُونُ النَّفَقَةُ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلنَّفَقَةِ عَلَيْهِ وَلَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَإِنْ فَعَلَ بِإِذْنِ الْقَاضِي لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ وَإِنْ فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَطَوِّعًا فِيهِ وَمِنْهَا أَنَّ عَقْلَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ عَاقِلَتَهُ بَيْتُ الْمَالِ فَيَكُونُ عَقْلُهُ لَهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» وَمِنْهَا أَنَّ وَلَاءَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا وَمِنْهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ إذَا بَلَغَ إلَّا إذَا عَقَلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ أَحَدًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَلْزَمُ بِالْعَقْلِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - لِمَا عُلِمَ فِي الْوَلَاءِ وَمِنْهَا أَنَّ وَلِيَّهُ السُّلْطَانُ، لَهُ الْوِلَايَةُ فِي مَالِهِ وَنَفْسِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ وَالسُّلْطَانُ نَائِبُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» فَيُزَوِّجُ اللَّقِيطَ وَيَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ سَبَبِهَا وَهُوَ الْقَرَابَةُ وَالسَّلْطَنَةُ إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْهِبَةَ لَهُ وَيُسَلِّمَهُ فِي صِنَاعَةٍ وَيُؤَاجِرَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ بَلْ مِنْ بَابِ إصْلَاحِ حَالِهِ وَإِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ الْمَحْضَةِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَأَشْبَهَ إطْعَامَهُ وَغَسْلَ ثِيَابِهِ وَمِنْهَا أَنَّ نَسَبَهُ مِنْ الْمُدَّعِي يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولُ النَّسَبِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي كِتَابِ الدَّعْوَى، حَتَّى لَوْ ادَّعَى الْمُلْتَقِطُ أَوْ غَيْرُهُ أَنَّهُ ابْنُهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَبَيِّنَتُهُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تُسْمَعَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَجْهُ الْقِيَاسِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي أَمْرًا جَائِزَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَلَا بُدَّ لِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ مُرَجِّحٍ وَذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ وَلَمْ تُوجَدْ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّهُ عَامِلٌ أَخْبَرَ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلِ الثُّبُوتِ وَكُلُّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ وَالْمَخْبَرُ بِهِ مُحْتَمَلُ الثُّبُوتِ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُخْبِرِ، هُوَ الْأَصْلُ إلَّا إذَا كَانَ فِي تَصْدِيقِهِ ضَرَرٌ بِالْغَيْرِ وَهَهُنَا فِي التَّصْدِيقِ وَإِثْبَاتِ النَّسَبِ نَظَرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ اللَّقِيطِ بِشَرَفِ النَّسَبِ وَالتَّرْبِيَةِ وَالصِّيَانَةِ عَنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَجَانِبِ الْمُدَّعِي بِوَلَدٍ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَصَالِحِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَتَصْدِيقُ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَى مَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ غَيْرُهُ بَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ لَا يَقِفُ عَلَى الْبَيِّنَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعِي مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ عَبْدًا حَتَّى لَوْ ادَّعَى نَسَبَهُ ذِمِّيٌّ تَصِحُّ دَعْوَتُهُ حَتَّى يَثْبُتَ نَسَبُهُ مِنْهُ لَكِنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى شَيْئَيْنِ يُتَصَوَّرُ انْفِصَالُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ نَسَبُ الْوَلَدِ وَكَوْنُهُ كَافِرًا وَيُمْكِنُ تَصْدِيقُهُ فِي أَحَدِهِمَا لِكَوْنِهِ نَفْعًا لِلَّقِيطِ وَهُوَ كَوْنُهُ ابْنًا لَهُ وَلَا يُمْكِنُ تَصْدِيقُهُ فِي الْآخَرِ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا بِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ كَافِرًا فَيُصَدَّقُ فِيمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ وَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَضُرُّهُ فَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الْوَلَدِ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ وَبِإِسْلَامِ أُمِّهِ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ كَافِرًا هَذَا إذَا أَقَرَّ الذِّمِّيُّ أَنَّهُ ابْنُهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ وَيَكُونُ عَلَى دِينِهِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ أَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي إقْرَارِهِ بِمَا يَتَضَمَّنُهُ إقْرَارُهُ وَهُوَ كَوْنُ الْوَلَدِ عَلَى دِينِهِ وَلَا تُهْمَةَ فِي الشَّهَادَةِ لِمَا مَرَّ. وَلَوْ ادَّعَى عَبْدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ لَكِنَّهُ يَكُونُ حُرًّا لِمَا ذَكَرْنَا فِي دَعْوَى الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا نَفْعُ اللَّقِيطِ وَالْآخَرُ مَضَرَّةٌ - وَهُوَ الرِّقُّ - فَيُصَدَّقُ فِيمَا يَنْفَعُهُ لَا فِيمَا يَضُرُّهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي دَعْوَى الذِّمِّيّ وَلَوْ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ أَنَّهُ ابْنُهُمَا وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ ذِمِّيًّا فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلَّقِيطِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا فَالْحُرُّ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لَهُ، وَإِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ حُرَّيْنِ فَإِنْ وَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ فَالْوَاصِفُ أَوْلَى بِهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُرْجَعُ إلَى الْقَائِفِ فَيُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ الدَّعْوَتَيْنِ مَتَى تَعَارَضَتَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ مِنْهُمَا وَقَدْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا بِالْعَلَامَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا رَضِيَ الْعَلَامَةَ وَلَمْ يَصِفْ الْآخَرَ دَلَّ عَلَى أَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ سَابِقَةٌ فَلَا بُدَّ لِزَوَالِهَا مِنْ دَلِيلٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْعَلَامَةِ قَوْله تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ خَبَرًا عَنْ أَهْلِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف: 26] {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 27] {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْحُكْمِ بِالْعَلَامَةِ عَنْ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِمْ، وَالْحَكِيمُ إذَا حَكَى عَنْ مُنْكَرٍ غَيَّرَهُ فَصَارَ الْحُكْمُ بِالْعَلَامَةِ شَرِيعَةً لَنَا مُبْتَدَأَةً، وَكَذَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ يُمَيَّزُ ذَلِكَ بِالْعَلَامَةِ كَذَا هَهُنَا، وَإِنْ لَمْ

كتاب اللقطة

يَصِفْ أَحَدُهُمَا الْعَلَامَةَ يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ ابْنًا لَهُمَا إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ ابْنًا لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مِثْلِ هَذَا أَنَّهُ قَالَ: إنَّهُ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ وَهُوَ لِلثَّانِي مِنْهُمَا فَإِنْ ادَّعَاهُ أَكْثَرُ مِنْ رَجُلَيْنِ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تُسْمَعُ مِنْ خَمْسَةٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ مِنْ اثْنَيْنِ وَلَا تُسْمَعُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تُسْمَعُ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَلَا تُسْمَعُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ هَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي رَجُلًا فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً فَادَّعَتْهُ أَنَّهُ ابْنُهَا فَإِنْ صَدَّقَهَا زَوْجُهَا أَوْ شَهِدَتْ لَهَا الْقَابِلَةُ أَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ صَحَّتْ دَعْوَتُهَا وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ فِيهِ حَمْلَ نَسَبِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ. وَلَوْ ادَّعَاهُ امْرَأَتَانِ وَأَقَامَتْ إحْدَاهُمَا الْبَيِّنَةَ فَهِيَ أَوْلَى بِهِ وَإِنْ أَقَامَتَا جَمِيعًا فَهُوَ ابْنُهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَكُونُ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ يُجْعَلُ ابْنَهُمَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ لَا يُجْعَلُ ابْنَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ -. [كِتَابُ اللُّقَطَةِ] [أَنْوَاع اللُّقَطَة] (كِتَابُ اللُّقَطَةِ) الْكَلَامُ فِي اللُّقَطَةِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِهَا، وَفِي بَيَانِ أَحْوَالِهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يُصْنَعُ بِهَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَوْعَانِ: مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ وَهُوَ الْمَالُ السَّاقِطُ لَا يُعْرَفُ مَالِكُهُ، وَنَوْعٌ مِنْ الْحَيَوَانِ وَهُوَ الضَّالَّةُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مِنْ الْبَهَائِمِ إلَّا أَنَّهُ يُسَمَّى لُقَطَةً مِنْ اللَّقْطِ وَهُوَ الْأَخْذُ وَالرَّفْعُ؛ لِأَنَّهُ يُلْقَطُ عَادَةً أَيْ يُؤْخَذُ وَيُرْفَعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ اللَّقِيطِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ اللُّقَطَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ أَحْوَالِهَا مِنْهَا فِي الْأَصْلِ حَالَانِ: حَالُ مَا قَبْلَ الْأَخْذِ، وَحَالُ مَا بَعْدَهُ أَمَّا قَبْلَ الْأَخْذِ: فَلَهَا أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ قَدْ يَكُونُ مَنْدُوبَ الْأَخْذِ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحَ الْأَخْذِ، وَقَدْ يَكُونُ حَرَامَ الْأَخْذِ أَمَّا حَالَةُ النَّدْبِ: فَهُوَ أَنْ يُخَافَ عَلَيْهَا الضَّيْعَةُ لَوْ تَرَكَهَا فَأَخْذُهَا لِصَاحِبِهَا أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا خَافَ عَلَيْهَا الضَّيْعَةَ كَانَ أَخْذُهَا لِصَاحِبِهَا إحْيَاءً لِمَالِ الْمُسْلِمِ مَعْنًى فَكَانَ مُسْتَحَبًّا - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - وَأَمَّا حَالَةُ الْإِبَاحَةِ: فَهُوَ أَنْ لَا يَخَافَ عَلَيْهَا الضَّيْعَةَ فَيَأْخُذَهَا لِصَاحِبِهَا، وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا خَافَ عَلَيْهَا يَجِبُ أَخْذُهَا وَإِنْ لَمْ يَخَفْ يُسْتَحَبُّ أَخْذُهَا، وَزَعَمَ أَنَّ التَّرْكَ عِنْدَ خَوْفِ الضَّيْعَةِ يَكُونُ تَضْيِيعًا لَهَا وَالتَّضْيِيعُ حَرَامٌ فَكَانَ الْأَخْذُ وَاجِبًا، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ التَّرْكَ لَا يَكُونُ تَضْيِيعًا بَلْ هُوَ امْتِنَاعٌ مِنْ حِفْظٍ غَيْرِ مُلْزَمٍ وَالِامْتِنَاعُ مِنْ حِفْظٍ غَيْرِ مُلْزَمٍ لَا يَكُونُ تَضْيِيعًا كَالِامْتِنَاعِ عَنْ قَبُولِ الْوَدِيعَةِ. وَأَمَّا حَالَةُ الْحُرْمَةِ: فَهُوَ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ لَا لِصَاحِبِهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يَأْوِي الضَّالَّةَ إلَّا ضَالٌّ» وَالْمُرَادُ أَنْ يَضُمَّهَا إلَى نَفْسِهِ لِأَجْلِ نَفْسِهِ لَا لِأَجْلِ صَاحِبِهَا بِالرَّدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الضَّمَّ إلَى نَفْسِهِ لِأَجْلِ صَاحِبِهَا لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْغَصْبِ، وَكَذَا لُقَطَةُ الْبَهِيمَةِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا أَصْلًا وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ فَقَالَ «مَا لَك وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ دَعْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا» نَهَى عَنْ التَّعَرُّضِ لَهَا وَأَمَرَ بِتَرْكِ الْأَخْذِ فَدَلَّ عَلَى حُرْمَةِ الْأَخْذِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ بَعِيرًا بِالْحَرَّةِ فَعَرَّفَهُ ثُمَّ ذَكَرَهُ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَأَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ فَقَالَ الرَّجُلُ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ قَدْ شَغَلَنِي عَنْ ضَيْعَتِي فَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ أَرْسِلْهُ حَيْثُ وَجَدْتَهُ وَلِأَنَّ الْأَخْذَ حَالَ خَوْفِ الضَّيْعَةِ إحْيَاءٌ لِمَالِ الْمُسْلِمِ فَيَكُونُ مُسْتَحَبًّا وَحَالَ عَدَمِ الْخَوْفِ ضَرْبُ إحْرَازٍ فَيَكُونُ مُبَاحًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ قَرِيبًا مِنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا» وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ إذَا كَانَ قَرِيبًا أَوْ كَانَ رَجَاءُ اللِّقَاءِ ثَابِتًا، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ قَالَ «خُذْهَا فَإِنَّهَا لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ» دَعَاهُ إلَى الْأَخْذِ وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ خَوْفُ الضَّيْعَةِ وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْإِبِلِ وَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِيهَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَارِدًا فِي الْإِبِلِ وَسَائِرِ الْبَهَائِمِ دَلَالَةً إلَّا أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَصَلَ بَيْنَهُمَا فِي الْجَوَابِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ لِهُجُومِ الذِّئْبِ عَلَى الْغَنَمِ إذَا لَمْ يَلْقَهَا رَبُّهَا عَادَةً بَعِيدًا كَانَ أَوْ قَرِيبًا وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ؛ لِأَنَّهَا تَذُبُّ عَنْ نَفْسِهَا عَادَةً هَذَا الَّذِي

ذَكَرْنَا حَالَ مَا قَبْلَ الْأَخْذِ وَأَمَّا حَالُ مَا بَعْدَهُ فَلَهَا بَعْدَ الْأَخْذِ حَالَانِ فِي حَالٍ هِيَ أَمَانَةٌ وَفِي حَالٍ هِيَ مَضْمُونَةٌ. أَمَّا حَالَةُ الْأَمَانَةِ: فَهِيَ أَنْ يَأْخُذَهَا لِصَاحِبِهَا لِأَنَّهُ أَخَذَهَا عَلَى سَبِيلِ الْأَمَانَةِ فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ أَمَانَةٍ كَيَدِ الْمُودَعِ وَأَمَّا حَالَةُ الضَّمَانِ: فَهِيَ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ لِنَفْسِهِ مَغْصُوبٌ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ جِهَةَ الْأَمَانَةِ إنَّمَا تُعْرَفُ مِنْ جِهَةِ الضَّمَانِ إمَّا بِالتَّصْدِيقِ أَوْ بِالْإِشْهَادِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا بِالتَّصْدِيقِ أَوْ بِالْيَمِينِ حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ فَجَاءَ صَاحِبُهَا وَصَدَّقَهُ فِي الْأَخْذِ لَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْأَمَانَةِ قَدْ ثَبَتَتْ بِتَصْدِيقِهِ وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ فَكَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَشْهَدَ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُلْتَقِطِ مَعَ يَمِينِهِ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنْ أَشْهَدَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِشْهَادِ ظَهَرَ أَنَّ الْأَخْذَ كَانَ لِصَاحِبِهِ فَظَهَرَ أَنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَلَوْ أَقَرَّ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْغَصْبِ وَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَخَذَهُ لَا لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا مَكَّنَهُ مِنْ الْأَخْذِ بِهَذِهِ الْجِهَةِ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى الْأَخْذِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ أَخْذٌ بِالْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَكِنْ مَعَ الْحَلِفِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الْأَمَانَةِ بِأَنْ أَخَذَهُ لِصَاحِبِهِ فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا وَذَلِكَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالْإِشْهَادِ فَإِذَا لَمْ يُشْهِدْ لَمْ يُعْرَفْ كَوْنُ الْأَخْذِ لِصَاحِبِهِ فَبَقِيَ الْأَخْذُ سَبَبًا فِي حَقِّ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْأَصْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ عَمَلَ كُلِّ إنْسَانٍ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وقَوْله تَعَالَى {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] فَكَانَ أَخْذُهُ اللُّقَطَةَ فِي الْأَصْلِ لِنَفْسِهِ لَا لِصَاحِبِهَا وَأَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِنَفْسِهِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ غَصْبٌ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْأَخْذُ لِصَاحِبِهَا بِالْإِشْهَادِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ تَعَيَّنَ أَنَّ الْأَخْذَ لِنَفْسِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَلَوْ أَخَذَ اللُّقَطَةَ ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا: هَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا رَفَعَهَا وَلَمْ يَبْرَحْ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ حَتَّى وَضَعَهَا فِي مَوْضِعِهَا فَأَمَّا إذَا ذَهَبَ بِهَا عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا يَضْمَنُ وَجَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مُطْلَقٌ عَنْ هَذَا التَّفْصِيلِ مُسْتَغْنٍ عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَضْمَنُ ذَهَبَ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ لَمْ يَذْهَبْ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَهَا مِنْ مَكَانِهَا فَقَدْ الْتَزَمَ حِفْظَهَا بِمَنْزِلَةِ قَبُولِ الْوَدِيعَةِ فَإِذَا رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا فَقَدْ ضَيَّعَهَا بِتَرْكِ الْحِفْظِ الْمُلْتَزَمِ فَأَشْبَهَ الْوَدِيعَةَ إذَا أَلْقَاهَا الْمُودَعُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ حَتَّى ضَاعَتْ. (وَلَنَا) أَنَّهُ أَخَذَهَا مُحْتَسِبًا مُتَبَرِّعًا لِيَحْفَظَهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَإِذَا رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا فَقَدْ فَسَخَ التَّبَرُّعَ مِنْ الْأَصْلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهَا أَصْلًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ الْحِفْظُ وَإِنَّمَا تَبَرَّعَ بِهِ وَقَدْ رَدَّهُ بِالرَّدِّ إلَى مَكَانِهَا فَارْتَدَّ وَجُعِلَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، هَذَا إذَا كَانَ أَخَذَهَا لِصَاحِبِهَا ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا فَضَاعَتْ وَصَدَّقَهُ صَاحِبُهَا فِيهِ أَوْ كَذَّبَهُ لَكِنَّ الْمُلْتَقِطَ قَدْ كَانَ أَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لَمْ يُشْهِدْ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجِبُ أَشْهَدَ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِصَاحِبِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا ثُمَّ تَفْسِيرُ الْإِشْهَادِ عَلَى اللُّقْطَةِ أَنْ يَقُولَ الْمُلْتَقِط بِمَسْمَعٍ مِنْ النَّاسِ إنِّي الْتَقَطْت لُقَطَةً أَوْ عِنْدِي لُقَطَةٌ فَأَيُّ النَّاسِ أَنْشَدَهَا فَدُلُّوهُ عَلَيَّ أَوْ يَقُولَ: عِنْدِي شَيْءٌ فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَسْأَلُ شَيْئًا فَدُلُّوهُ عَلَيَّ. فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا فَقَالَ الْمُلْتَقِطُ قَدْ هَلَكَتْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ عَشْرُ لُقَطَاتٍ؛ لِأَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ وَاللُّقَطَةِ مُنَكَّرٌ إنْ كَانَ يَقَعُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَلُقَطَةٍ وَاحِدَةٍ لُغَةً لَكِنْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ يُرَادُ بِهَا كُلُّ الْجِنْسِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَا فَرْدٌ مِنْ الْجِنْسِ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّعْرِيفِ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَالْمُعْتَادِ فَكَانَ هَذَا إشْهَادًا عَلَى الْكُلِّ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ أَخَذَهَا غَصْبًا فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ إلَى الْمَالِكِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ» فَإِذَا عَجَزَ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ يَجِبُ عَلَيْهِ بَدَلُهَا كَمَا فِي الْغَصْبِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ الضَّالَّةَ ثُمَّ أَرْسَلَهَا إلَى مَكَانِهَا الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ فَحُكْمُهَا حُكْمُ اللُّقَطَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَحَدُ نَوْعَيْ اللُّقَطَةِ وَقَدْ رَوَيْنَا فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ

فصل في بيان ما يصنع باللقطة

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِوَاجِدِ الْبَعِيرِ الضَّالِّ: " أَرْسِلْهُ حَيْثُ وَجَدَتْهُ " وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ وُجُوبِ الضَّمَانِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يُصْنَعُ بِاللُّقَطَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُصْنَعُ بِهَا فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: إذَا أَخَذَ اللُّقَطَةَ فَإِنَّهُ يُعَرِّفُهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «عَرِّفْهَا حَوْلًا» حِينَ سُئِلَ عَنْ اللُّقَطَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَقَالَ: إنِّي وَجَدْت لُقَطَةً فَمَا تَأْمُرُنِي فِيهَا فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً وَرَوَيْنَا عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَمَرَ بِتَعْرِيفِ الْبَعِيرِ الضَّالِّ. ثُمَّ نَقُولُ: الْكَلَامُ فِي التَّعْرِيفِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَكَانِ التَّعْرِيفِ أَمَّا مُدَّةُ التَّعْرِيفِ: فَيَخْتَلِفُ قَدْرُ الْمُدَّةِ لِاخْتِلَافِ قَدْرِ اللُّقَطَةِ إنْ كَانَ شَيْئَا لَهُ قِيمَةٌ تَبْلُغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا يُعَرِّفُهُ حَوْلًا، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا قِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ يُعَرِّفُهُ أَيَّامًا عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ التَّعْرِيفُ عَلَى خَطَرِ الْمَالِ إنْ كَانَ مِائَةً وَنَحْوَهَا عَرَّفَهَا سَنَةً، وَإِنْ كَانَ عَشَرَةً وَنَحْوَهَا عَرَّفَهَا شَهْرًا، وَإِنْ كَانَ ثَلَاثَةً وَنَحْوَهَا عَرَّفَهَا جُمُعَةً أَوْ قَالَ عَشَرَةً، وَإِنْ كَانَ دِرْهَمًا وَنَحْوَهُ عَرَّفَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَ دَانَقًا وَنَحْوَهُ عَرَّفَهُ يَوْمًا، وَإِنْ كَانَ تَمْرَةً أَوْ كِسْرَةً تَصَدَّقَ بِهَا " وَإِنَّمَا تَكْمُلُ مُدَّةَ التَّعْرِيفِ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ فَإِنْ خَافَ الْفَسَادَ لَمْ تَكْمُلْ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا وَأَمَّا مَكَانُ التَّعْرِيفِ فَالْأَسْوَاقُ وَأَبْوَابُ الْمَسَاجِدِ؛ لِأَنَّهَا مَجْمَعُ النَّاسِ وَمَمَرُّهُمْ فَكَانَ التَّعْرِيفُ فِيهَا أَسْرَعَ إلَى تَشْهِيرِ الْخَبَرِ، ثُمَّ إذَا عَرَّفَهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَتُقَامُ الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا مِلْكُهُ أَخَذَهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ» وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ الْعَلَامَةَ بِأَنْ وَصَفَ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَوَزْنَهَا وَعَدَدَهَا يَحِلُّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ بِالْعَلَامَةِ مِمَّا قَدْ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا فِي اللَّقِيطِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ وَهُنَا لَا يُجْبَرُ. لِأَنَّ هُنَاكَ يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى فَمَعَ الْعَلَامَةِ أَوْلَى، وَهُنَا لَا عِبْرَةَ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى بِالْإِجْمَاعِ فَجَازَ أَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى الدَّفْعِ مَعَ الْعَلَامَةِ وَلَكِنْ يَحِلُّ لَهُ الدَّفْعُ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ كَفِيلًا لِجَوَازِ مَجِيءِ آخَرَ فَيَدَّعِيهَا وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ، ثُمَّ إذَا عَرَّفَهَا وَلَمْ يَحْضُرْ صَاحِبُهَا مُدَّةَ التَّعْرِيفِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا إلَى أَنْ يَحْضُرَ صَاحِبُهَا، وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا فَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا عَرَّفَهَا حَوْلًا وَلَمْ يَحْضُرْ صَاحِبُهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، وَتَكُونُ قَرْضًا عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ اللُّقَطَةِ «عَرِّفْهَا حَوْلًا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُك بِهَا» وَهَذَا إطْلَاقُ الِانْتِفَاعِ لِلْمُلْتَقِطِ مِنْ غَيْرِ السُّؤَالِ عَنْ حَالِهِ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَوْ غَنِيٌّ، بَلْ إنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تَحِلُّ اللَّقَطُ فَمَنْ الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً فَإِنْ جَاءَهُ صَاحِبُهَا فَلْيَرُدَّهَا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فَلْيَتَصَدَّقْ» وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ نَفَى الْحِلَّ مُطْلَقًا، وَحَالَةُ الْفَقْرِ غَيْرُ مُرَادَةٍ بِالْإِجْمَاعِ فَتَعَيَّنَ حَالَةُ الْغِنَى وَالثَّانِي أَنَّهُ أَمَرَ بِالتَّصَدُّقِ وَمَصْرِفُ الصَّدَقَةِ الْفَقِيرُ دُونَ الْغَنِيِّ وَأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِمَالِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ إذَا كَانَ غَنِيًّا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ: فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَشَأْنُك بِهَا إرْشَادٌ إلَى الِاشْتِغَالِ بِالْحِفْظِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ شَأْنَهُ الْمَعْهُودَ بِاللَّقَطِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ أَوْ يَحْمِلُهُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ صِيَانَةً لَهُمَا عَنْ التَّنَاقُضِ وَإِذَا تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَمْضَى الصَّدَقَةَ وَلَهُ ثَوَابُهَا، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُلْتَقِط أَوْ الْفَقِيرَ إنْ وَجَدَهُ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ وَأَيُّهُمَا ضَمِنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ كَمَا فِي غَاصِبِ الْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَإِنْ شَاءَ أَنْفَقَهَا عَلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا خَيَّرَهُ بَيْنَ الْأَجْرِ وَبَيْنَ أَنْ يَضْمَنَهَا لَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ غَنِيًّا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ، وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ فِي لُقَطَةِ الْحِلِّ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي لُقَطَةِ الْحَرَمِ يُصْنَعُ بِهَا مَا يُصْنَعُ بِلُقَطِ الْحِلِّ مِنْ التَّعْرِيفِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لُقَطَةُ الْحَرَمِ تُعَرَّفُ أَبَدًا وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِحَالٍ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ مَكَّةَ «وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ» أَيْ لِمُعَرِّفٍ فَالْمُنْشِدُ الْمُعَرِّفُ وَالنَّاشِدُ الطَّالِبُ وَهُوَ الْمَالِكُ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا تَحِلُّ لُقَطَةُ الْحَرَمِ إلَّا لِلتَّعْرِيفِ. (وَلَنَا) مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ لُقَطَةِ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِهِ: إنَّهُ لَا يَحِلُّ الْتِقَاطُهَا إلَّا

كتاب الإباق

لِلتَّعْرِيفِ وَهَذَا حَالُ كُلِّ لُقَطَةٍ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لُقَطَةَ الْحَرَمِ بِذَلِكَ، لِمَا لَا يُوجَدُ صَاحِبُهَا عَادَةً فَتَبَيَّنَ أَنَّ ذَا لَا يُسْقِطُ التَّعْرِيفَ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الضَّالَّةِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا، وَتَنْفَرِدُ بِحُكْمٍ آخَرَ وَهُوَ النَّفَقَةُ فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا بِأَمْرِ الْقَاضِي يَكُونُ دَيْنًا عَلَى مَالِكِهَا وَإِنْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ إذْنِهِ يَكُونُ مُتَطَوِّعًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ بَهِيمَةً يُحْتَمَلُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ أَمَرَهُ بِأَنْ يُؤَاجِرَهَا وَيُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ أُجْرَتِهَا نَظَرًا لِلْمَالِكِ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُحْتَمَلُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ وَخَشِيَ أَنْ لَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتَغْرِقَ النَّفَقَةُ قِيمَتَهَا أَمَرَهُ بِبَيْعِهَا وَحِفْظِ ثَمَنِهَا مَقَامَهَا فِي حُكْمِ الْهَلَاكِ وَإِنْ رَأَى الْأَصْلَحَ أَنْ لَا يَبِيعَهَا بَلْ يُنْفِقُ عَلَيْهَا أَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا لَكِنْ نَفَقَةً لَا تَزِيدُ عَلَى قِيمَتِهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا حَتَّى إذَا حَضَرَ يَأْخُذُ مِنْهُ النَّفَقَةَ، وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ اللُّقَطَةَ بِالنَّفَقَةِ كَمَا يَحْبِسُ الْمَبِيعَ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُؤَدِّي النَّفَقَةَ بَاعَهَا الْقَاضِي وَدَفَعَ إلَيْهِ قَدْرَ مَا أَنْفَقَ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ - [كِتَابُ الْإِبَاقِ] [فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُصْنَعُ بِالْآبِقِ] (كِتَابُ الْإِبَاقِ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الْآبِقِ، وَفِي بَيَانِ حَالِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُصْنَعُ بِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ مَالِهِ (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالْآبِقُ اسْمٌ لِرَقِيقٍ يَهْرَبُ مِنْ مَوْلَاهُ وَأَمَّا حَالُهُ فَحَالُ اللُّقَطَةِ قَبْلَ الْأَخْذِ وَبَعْدَهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفَاصِيلَهُ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُصْنَعُ بِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: إذَا أُخِذَ الْآبِقُ لِصَاحِبِهِ فَإِنْ شَاءَ الْآخِذُ أَمْسَكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يَجِيءَ فَيَأْخُذَهُ، وَإِنْ شَاءَ ذَهَبَ بِهِ إلَى صَاحِبِهِ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ فَإِنْ أَمْسَكَهُ فَجَاءَ إنْسَانٌ وَادَّعَى أَنَّهُ عَبْدُهُ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ دَفَعَهُ إلَيْهِ وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا إنْ شَاءَ لِجَوَازِ أَنْ يَجِيءَ آخَرُ فَيَدَّعِيه وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْثِقَ بِكَفِيلٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَلَكِنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِذَلِكَ دَفَعَهُ إلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى شَيْئًا لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ لَهُ وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا إنْ شَاءَ لِمَا قُلْنَا وَمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْقَاضِي يَرْجِعُ بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَطَوِّعًا فَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَجِئْ لَهُ طَالِبٌ بَاعَهُ الْقَاضِي وَأَخَذَ ثَمَنَهُ يَحْفَظُهُ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حِفْظٌ لَهُ مَعْنًى، فَإِنْ بَاعَهُ وَأَخَذَ ثَمَنَهُ ثُمَّ جَاءَ إنْسَانٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ دَفَعَ الثَّمَنَ إلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مِنْ الْقَاضِي صَدَرَ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ حِفْظِ مَالِهِ إذْ لَوْ لَمْ يَبِعْ لَأَتَتْ النَّفَقَةُ عَلَى جَمِيعِ قِيمَتِهِ فَيَضِيعُ الْمَالُ فَكَانَ بَيْعُهُ حِفْظًا لَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالْقَاضِي يَمْلِكُ مَالَ الْغَائِبِ؛ وَلِهَذَا يَبِيعُ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ. وَلَوْ زَعَمَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ قَدْ كَانَ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ لَمْ يُصَدَّقْ فِي نَقْضِ الْبَيْعِ لِمَا قُلْنَا وَيُنْفِقُ الْقَاضِي عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ حَبْسِهِ إيَّاهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ إذَا جَاءَ صَاحِبُهُ أَخَذَهُ مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ مِنْ ثَمَنِهِ إنْ بَاعَهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ إحْيَاءُ مَالِهِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ وَإِذَا جَاءَ بِالْآبِقِ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ بِالْجُعْلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَاءَ بِهِ فَقَدْ اسْتَحَقَّ الْجُعْلَ عَلَى مَالِكِهِ فَكَانَ لَهُ حَقُّ حَبْسِهِ بِالْجُعْلِ كَمَا يُحْبَسُ الْمَبِيعُ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ. وَلَوْ هَلَكَ فِي حَالِ الْحَبْسِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لَكِنْ يَسْقُطُ الْجُعْلُ كَمَا لَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ الْمَحْبُوسِ بِالثَّمَنِ، لَكِنْ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي. وَلَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الرَّقِيقِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْبَلُ فِي الْعَبْدِ وَلَا يُقْبَلُ فِي الْجَارِيَةِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْقَاضِي فِي بَيَانِ شَرَائِطِ قَبُولِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ مَالِ الْآبِق] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ مَالِهِ فَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْجُعْلِ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَالْكَلَامُ فِي الْجُعْلِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ وَفِي بَيَانِ سَبَبِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ. (أَمَّا) أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ فَثَابِتٌ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ أَصْلًا كَمَا لَا يَثْبُتُ بِرَدِّ الضَّالَّةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ وَلَا يَثْبُتُ بِدُونِهِ حَتَّى لَوْ شَرَطَ الْآخِذُ الْجُعْلَ عَلَى الْمَالِكِ وَجَبَ وَإِلَّا فَلَا. (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ رَدُّ مَالِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ مُحْتَسِبًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ كَمَا لَوْ رَدَّ الضَّالَّةَ إلَّا إذَا شَرَطَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الشَّرْطِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» . (وَلَنَا) مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْت قَاعِدًا عِنْدَ

فصل في شرائط استحقاق جعل الآبق

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ قَدِمَ فُلَانٌ بِإِبَاقٍ مِنْ الْقَوْمِ فَقَالَ الْقَوْمُ: لَقَدْ أَصَابَ أَجْرًا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَجُعْلًا إنْ شَاءَ مِنْ كُلِّ رَأْسٍ دِرْهَمًا. وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّ جُعْلَ الْآبِقِ طَرِيقُ صِيَانَةٍ عَنْ الضَّيَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالطَّلَبِ عَادَةً إذْ لَيْسَ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ يُطْلَبُ هُنَاكَ فَلَوْ لَمْ يَأْخُذْهُ لَضَاعَ وَلَا يُؤْخَذُ لِصَاحِبِهِ وَيَتَحَمَّلُ مُؤْنَةَ الْأَخْذِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ عَادَةً وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ جُعْلًا يَحْمِلُ مَشَقَّةَ الْأَخْذِ وَالرَّدِّ طَمَعًا فِي الْجُعْلِ فَتَحْصُلُ الصِّيَانَةُ عَنْ الضَّيَاعِ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ الْجُعْلِ طَرِيقَ صِيَانَةِ الْآبِقِ عَنْ الضَّيَاع وَصِيَانَةُ الْمَالِ عَنْ الضَّيَاعِ وَاجِبٌ فَكَانَ الْمَالِكُ شَارِطًا لِلْأَجْرِ عِنْدَ الْأَخْذِ وَالرَّدِّ دَلَالَةً بِخِلَافِ الضَّالَّةِ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ إذَا ضَلَّتْ فَإِنَّهَا تَرْعَى فِي الْمَرَاعِي الْمَأْلُوفَةِ فَيُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهَا بِالطَّلَبِ عَادَةً فَلَا تَضِيعُ دُونَ الْأَخْذِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الصِّيَانَةِ بِالْجُعَلِ، فَإِنْ أَخَذَهُ أَحَدٌ كَانَ فِي الْأَخْذِ وَالرَّدِّ مُحْتَسِبًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ فَهُوَ الْفَرْقُ وَأَمَّا سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْجُعْلِ فَهُوَ الْأَخْذُ لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقُ الصِّيَانَةِ عَلَى الْمَالِكِ وَهُوَ مَعْنَى التَّسَبُّبِ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ اسْتِحْقَاقِ جَعَلَ الْآبِق] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الِاسْتِحْقَاقِ فَأَنْوَاعٌ (مِنْهَا) : الرَّدُّ عَلَى الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الصِّيَانَةَ تَحْصُلُ عِنْدَهُ وَهُوَ مَعْنَى الشَّرْطِ أَنْ تُوجَدَ الْعِلَّةُ عِنْدَ وُجُودِهِ، حَتَّى لَوْ أَخَذَهُ فَمَاتَ أَوْ أَبِقَ مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الرَّدِّ لَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ وَلَوْ أَخَذَهُ فَأَبِقَ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذَهُ غَيْرُهُ فَرَدَّهُ عَلَى الْمَالِكِ فَالْجُعْلُ لِلثَّانِي وَلَا شَيْءَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَبِقَ مِنْ يَدِهِ فَقَدْ انْفَسَخَ ذَلِكَ السَّبَبُ أَوْ بَقِيَ ذَلِكَ سَبَبًا مَحْضًا لِانْعِدَامِ شَرْطِهِ - وَهُوَ الرَّدُّ عَلَى الْمَالِكِ - وَقَدْ وُجِدَ السَّبَبُ وَالشَّرْطُ مِنْ الثَّانِي فَكَانَ الْأَوَّلُ صَاحِبَ سَبَبٍ مَحْضٍ وَالسَّبَبُ الْمَحْضُ لَا حُكْمَ لَهُ، وَالثَّانِي صَاحِبَ عِلَّةٍ فَيَكُونُ الْجُعْلُ لَهُ. وَلَوْ كَانَ الرَّادُّ وَاحِدًا وَالْآبِقُ اثْنَيْنِ فَلَهُ جُعْلَانِ لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَشَرْطِهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَوْ كَانَ الرَّادُّ اثْنَيْنِ وَالْآبِقُ وَاحِدًا فَلَهُمَا جُعَلٌ وَاحِدٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ وَالشَّرْطِ. وَلَوْ كَانَ الرَّادُّ وَاحِدًا وَالْآبِقُ وَاحِدًا وَالْمَالِكُ اثْنَيْنِ فَعَلَيْهِمَا جُعْلٌ وَاحِدٌ عَلَى قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا. وَلَوْ جَاءَ بِالْآبِقِ فَوَجَدَ الْمَالِكَ قَدْ مَاتَ فَلَهُ الْجُعْلُ فِي تَرِكَتِهِ لِوُجُودِ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِالرَّدِّ عَلَى التَّرِكَةِ، ثُمَّ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِمَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْعَبْدِ حَتَّى يُعْطَى الْجُعْلَ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى الْعَبْدِ يُقَدَّمُ الْجُعْلُ عَلَى سَائِرِ الدُّيُونِ فَيُبَاعُ الْعَبْدُ وَيُبْدَأُ بِالْجُعْلِ مِنْ ثَمَنِهِ ثُمَّ يُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَحَقَّ بِحَبْسِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ لِاسْتِيفَاءِ الْجُعْلِ، فَكَانَ أَحَقَّ بِثَمَنِهِ بِقَدْرِ الْجُعْلِ كَالْمُرْتَهِنِ، هَذَا إذَا جَاءَ بِهِ أَجْنَبِيٌّ فَوَجَدَ الْمَالِكَ قَدْ مَاتَ فَأَمَّا إذَا جَاءَ بِهِ وَارِثُ الْمَيِّتِ فَوَجَدَ مُوَرِّثَهُ قَدْ مَاتَ فَلَهُ الْجُعْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - إذَا كَانَ الْمَالِكُ حَيًّا وَقْتَ الْأَخْذِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا جُعْلَ لَهُ وَإِنْ كَانَ حَيًّا وَقْتَ الْأَخْذِ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ فَاتَ شَرْطُ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الرَّدُّ عَلَى الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ رَدٌّ عَلَى نَفْسِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا إنَّ الْمَجِيءَ بِهِ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَثَلًا فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَالِكِ عَلَى قَصْدِ الرَّدِّ رُدَّ عَلَى الْمَالِكِ فَيَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ كَمَا إذَا وَجَدَهُ حَيًّا، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الرَّادُّ أَجْنَبِيًّا اسْتَحَقَّ الْجُعْلَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. وَلَوْ جَاءَ بِهِ فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ أَوْ بَاعَهُ مِنْهُ فَلَهُ الْجُعْلُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَجِيءَ بِهِ عَلَى قَصْدِ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ رَدٌّ عَلَيْهِ وَيَجِبُ الْجُعْلُ بِرَدِّ الْآبِقِ الْمَرْهُونِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَهُوَ الرَّدُّ عَلَى الْمَالِكِ، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الصِّيَانَةِ رَجَعَتْ إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ضَاعَ يَسْقُطُ دَيْنُهُ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ فَإِذَا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ لَهُ كَانَتْ الْمَضَرَّةُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» وَسَوَاءً كَانَ الرَّادُّ بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا حُرًّا أَوْ عَبْدًا؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ مِنْ أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ بِالْعَمَلِ وَكَذَا الْعَبْدُ إلَّا أَنَّ الْجُعْلَ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ -. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ الرَّادُّ عَلَى الْمَالِكِ فِي عِيَالِ الْمَالِكِ حَتَّى لَوْ كَانَ فِي عِيَالِهِ لَا جُعْلَ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ وَارِثًا أَوْ أَجْنَبِيًّا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي عِيَالِهِ كَانَ الرَّدُّ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْمَالِكِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي عِيَالِهِ كَانَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الرَّدِّ تَعُودُ إلَيْهِ وَمَنْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ عَلَى غَيْرِهِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ الرَّادَّ إذَا كَانَ فِي عِيَالِ الْمَالِكِ لَا جُعْلَ لَهُ كَائِنًا مَا كَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ فَلَهُ الْجُعْلُ كَائِنًا مَا كَانَ إلَّا الِابْنَ يَرُدُّ آبِقَ أَبِيهِ وَالزَّوْجَ يَرُدُّ آبِقَ زَوْجَتِهِ أَنَّهُ لَا جُعْلَ لَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَكُونَا فِي عِيَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الِابْنَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِ أَبِيهِ فَالرَّدُّ مِنْهُ يَجْرِي مَجْرَى الْخِدْمَةِ؛ لِأَبِيهِ، وَالِابْنُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِخِدْمَةِ أَبِيهِ؛ لِأَنَّهَا

فصل في بيان من يستحق عليه جعل الآبق

مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ ابْنَهُ لَخِدْمَتِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِخِلَافِ الْأَبِ مَعَ مَا أَنَّ الْأَوْلَادَ فِي الْعَادَاتِ يَحْفَظُونَ أَمْوَالَ الْآبَاءِ لِطَمَعِ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِطَرِيقِ الْإِرْثَ فَكَانَ رَادًّا عَبْدَ نَفْسِهِ مَعْنًى إذْ كَانَ بِالرَّدِّ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ إذَا رَدَّ عَبْدَ زَوْجَتِهِ فَقَدْ رَدَّ عَبْدَ نَفْسِهِ مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِمَا لِهَا عَادَةً وَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ. (وَأَمَّا) الْأَبُ إذَا رَدَّ عَبْدَ ابْنِهِ فَإِنْ كَانَ فِي عِيَالِهِ لَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ الَّذِي فِي عِيَالِهِ لَا جُعْلَ لَهُ فَالْقَرَابَةُ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ فَلَهُ الْجُعْلُ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَا يُسْتَخْدَمُ طَبْعًا وَشَرْعًا وَعَقْلًا وَلِهَذَا لَوْ خَدَمَ بِالْأَجْرِ وَجَبَ الْأَجْرُ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْخِدْمَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى طَلَبِ الْأَجْرِ، وَكَذَا الْآبَاءُ لَا يَحْفَظُونَ أَمْوَالَ الْأَوْلَادِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا بِطَرِيقِ الْإِرْثِ لِأَنَّ مَوْتَهُمْ يَتَقَدَّمُ مَوْتَ الْأَوْلَادِ عَادَةً فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الرَّدِّ، وَالْعَمَلُ لِنَفْسِهِ لِذَلِكَ افْتَرَقَ الْأَمْرَانِ، وَعَلَى هَذَا سَائِرُ ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنْ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْخَالِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الرَّادَّ إنْ كَانَ فِي عِيَالِ الْمَالِكِ لَا جُعْلَ لَهُ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ فَلَهُ الْجُعْلُ، وَعَلَى هَذَا الْوَصِيُّ إذَا رَدَّ عَبْدَ الْيَتِيمِ لَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْيَتِيمَ فِي عِيَالِهِ، وَحِفْظُ مَالِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ عَلَى الرَّدِّ، وَكَذَا عَبْدُ الْوَصِيِّ إذَا رَدَّ عَبْدَ الْيَتِيمِ؛ لِأَنَّ رَدَّ عَبْدِهِ كَرَدِّهِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ مَرْقُوقًا مُطْلَقًا كَالْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُكَاتَبًا لَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَرْقُوقٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ هُوَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَكَاسِبِهِ حُرٌّ، وَلِهَذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ مُطْلَقُ اسْمِ الْمَمْلُوكِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ " كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ " إلَّا بِالنِّيَّةِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ؛ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْجُعْلِ مَعْلُولٌ بِالصِّيَانَةِ عَنْ الضَّيَاعِ وَلَا حَاجَةَ إلَى الصِّيَانَةِ فِي الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَهْرَبُ عَادَةً؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي جَانِبِهِ غَيْرُ لَازِمٍ، فَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ يُعَجِّزُ نَفْسَهُ بِالْإِبَاءِ عَنْ الْكَسْبِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُمَا يُسْتَخْدَمَانِ عَادَةً فَلَعَلَّهُمَا يُكَلَّفَانِ مَا لَا يُطِيقَانِ فَيَحْمِلُهُمَا ذَلِكَ عَلَى الْهَرَبِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الصِّيَانَةِ بِالْجُعْلِ كَمَا فِي الْقِنِّ إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْقِنِّ أَنَّهُ إذَا جَاءَ بِالْقِنِّ وَقَدْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ فَلَهُ الْجُعْلُ، وَإِنَّ جَاءَ بِالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَقَدْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهِ لَا جُعْلَ لَهُ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُمَا يُعْتَقَانِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ فَلَمْ يُوجَدْ رَدُّ الْمَرْقُوقِ أَصْلًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ بِخِلَافِ الْقِنِّ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ -. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَنْ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ جَعَلَ الْآبِق] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ: فَالْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ هُوَ الْمَالِكُ إذَا أَبِقَ مِنْ يَدِهِ لِأَنَّ الْجُعْلَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ وَمَنْفَعَةُ الرَّدِّ عَائِدَةٌ إلَى الْمَالِكِ فَكَانَتْ الْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ لِيَكُونَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَلَوْ أَبَقَ عَبْدُ الرَّهْنِ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَالْجُعْلُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الرَّدِّ تَعُودُ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْحَبْسِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ يَجِبُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى الرَّاهِنِ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ - [فَصْلٌ بَيَانُ قَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ فِي جَعَلَ الْآبِق] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ قَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ فَيُنْظَرُ إنْ رَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنْ رَدَّهُ دُونَ ذَلِكَ فَبِحِسَابِهِ وَإِنْ رَدَّهُ مِنْ أَقْصَى الْمِصْرِ رَضَخَ لَهُ عَلَى قَدْرِ عَنَائِهِ وَتَعَبِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مُدَّةِ السَّفَرِ سَقَطَ اعْتِبَارُهَا بِالشَّرْعِ فَيَبْقَى الْوَاجِبُ فِي الْمُدَّةِ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ فَيَزْدَادُ بِزِيَادَتِهِ وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ هَذَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ الْجُعْلِ، فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ الْجُعْلِ أَوْ أَنْقَصَ مِنْهُ يَنْقُصُ مِنْ قِيمَتِهِ دِرْهَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهُ الْجُعْلُ تَامًّا، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ دِرْهَمًا وَاحِدًا وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ مِنْ كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا اعْتَبَرَ الرَّأْسَ دُونَ الْقِيمَةِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَاجِبَ مَعْلُولٌ بِمَعْنَى الصِّيَانَةِ عَنْ الضَّيَاعِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا فَائِدَةَ فِي هَذِهِ الصِّيَانَةِ لَوْ اعْتَبَرْنَا الرَّأْسَ دُونَ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ يُصَانُ مِنْ وَجْهٍ يَضِيعُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الضَّيَاعِ بِتَرْكِ الْأَخْذِ وَالْإِمْسَاكِ وَبَيْنَ الضَّيَاعِ بِالْجُعْلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ قِيمَتِهِ دِرْهَمٌ لِيَكُونَ الصَّوْنُ بِالْأَخْذِ مُفِيدًا، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ رَأْسٍ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

كتاب السباق

[كِتَابُ السِّبَاقِ] الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي تَفْسِيرِ السِّبَاقِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالسِّبَاقُ فِعَالٌ مِنْ السَّبْقِ وَهُوَ أَنْ يُسَابِقَ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ فِي الْخَيْلِ أَوْ الْإِبِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَقُولُ: إنْ سَبَقْتُك فَكَذَا أَوْ إنْ سَبَقْتَنِي فَكَذَا، وَيُسَمَّى أَيْضًا رِهَانًا فِعَالًا مِنْ الرَّهْنِ (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِهِ فَأَنْوَاعٌ (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ فِي الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ الْحَافِرِ وَالْخُفِّ وَالنَّصْلِ وَالْقَدَمِ لَا فِي غَيْرِهَا لِمَا رُوِيَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «لَا سَبَقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نِصَالٍ» إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ السَّبْقُ فِي الْقَدَمِ بِحَدِيثِ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَفِيمَا وَرَاءَهُ بَقِيَ عَلَى أَصْلِ النَّفْيِ؛ وَلِأَنَّهُ لَعِبٌ وَاللَّعِبُ حَرَامٌ فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّ اللَّعِبَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ صَارَ مُسْتَثْنًى مِنْ التَّحْرِيمِ شَرْعًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّ لَعِبٍ حَرَامٌ إلَّا مُلَاعَبَةَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَقَوْسَهُ وَفَرَسَهُ» حَرَّمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كُلَّ لَعِبٍ وَاسْتَثْنَى الْمُلَاعَبَةَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَخْصُوصَةِ فَبَقِيَتْ الْمُلَاعَبَةُ بِمَا وَرَاءَهَا عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ إذْ الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، وَكَذَا الْمُسَابَقَةُ بِالْخُفِّ صَارَتْ مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْحَدِيثِ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْعَضْبَاءَ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ تَسْبِقُ كُلَّمَا دُفِعَتْ فِي سِبَاقٍ فَدُفِعَتْ يَوْمًا فِي إبِلٍ فَسُبِقَتْ فَكَانَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَآبَةٌ إذْ سُبِقَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ النَّاسَ إذَا رَفَعُوا شَيْئًا أَوْ أَرَادُوا رَفْعَ شَيْءٍ وَضَعَهُ اللَّهُ» وَكَذَا السَّبْقُ بِالْقَدَمِ لِمَا رَوَتْ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ «سَابَقْت النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَسَبَقْتُهُ فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي فَقُلْتُ: هَذَا بِتِلْكَ» فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ مُسْتَثْنَاةً مِنْ التَّحْرِيمِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهَا عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا - وَهُوَ الرِّيَاضَةُ وَالِاسْتِعْدَادُ لِأَسْبَابِ الْجِهَادِ فِي الْجُمْلَةِ - فَكَانَتْ لَعِبًا صُورَةً وَرِيَاضَةً وَتَعَلُّمَ أَسْبَابِ الْجِهَادِ فَيَكُونُ جَائِزًا إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْجَوَازِ، وَلَئِنْ كَانَ لَعِبًا لَكِنَّ اللَّعِبَ إذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ عَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ لَا يَكُونُ حَرَامًا، وَلِهَذَا اسْتَثْنَى مُلَاعَبَةَ الْأَهْلِ لِتَعَلُّقِ عَاقِبَةٍ حَمِيدَةٍ بِهَا وَهُوَ انْبِعَاثُ الشَّهْوَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى الْوَطْءِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُلِ وَالسُّكْنَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْمُسْتَثْنَى فَبَقِيَ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْخَطَرُ فِيهِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إلَّا إذَا وَجَدَ فِيهِ مُحَلِّلًا حَتَّى لَوْ كَانَ الْخَطَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا وَلَمْ يُدْخِلَا فِيهِ مُحَلِّلًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقِمَار نَحْوَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إنْ سَبَقَتْنِي فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا، وَإِنْ سَبَقْتُك فَلِي عَلَيْك كَذَا فَقَبِلَ الْآخَرُ وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ إنْ سَبَقْتَنِي فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا وَإِنْ سَبَقْتُك فَلَا شَيْءَ عَلَيْك فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْخَطَرَ إذَا كَانَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لَا يَحْتَمِلُ الْقِمَارَ فَيُحْمَلُ عَلَى التَّحْرِيضِ عَلَى اسْتِعْدَادِ أَسْبَابِ الْجِهَادِ فِي الْجُمْلَةِ بِمَالِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ مَشْرُوعٌ كَالتَّنْفِيلِ مِنْ الْإِمَامِ وَبَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ نَفْسِهِ بِالْبَدَلِ، وَالْإِمَامُ بِالتَّنْفِيلِ يَتَصَرَّفُ فِيمَا لِغَيْرِهِ فِيهِ حَقٌّ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ الْغَنِيمَةُ فَلَمَّا جَازَ ذَلِكَ فَهَذَا بِالْجَوَازِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْخَطَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلَكِنْ أَدْخَلَا فِيهِ مُحَلِّلًا بِأَنْ كَانُوا ثَلَاثَةً لَكِنْ الْخَطَرُ مِنْ الِاثْنَيْنِ مِنْهُمْ وَلَا خَطَرَ مِنْ الثَّالِثِ، بَلْ إنْ سَبَقَ أَخَذَ الْخَطَرَ وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ لَا يَغْرَمُ شَيْئًا، فَهَذَا مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلهُ السَّلَاطِينُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ السُّلْطَانُ لِرَجُلَيْنِ: مَنْ سَبَقَ مِنْكُمَا فَلَهُ كَذَا فَهُوَ جَائِزٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّحْرِيضِ عَلَى اسْتِعْدَادِ أَسْبَابِ الْجِهَادِ خُصُوصًا مِنْ السُّلْطَانِ فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِأَسْبَابِ الْجِهَادِ، ثُمَّ الْإِمَامُ إذَا حَرَّضَ وَاحِدًا مِنْ الْغُزَاةِ عَلَى الْجِهَادِ بِأَنْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ مِنْ النَّفْلِ كَذَا وَنَحْوَهُ جَازَ كَذَا هَذَا، وَبَلْ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا. (وَمِنْهَا) أَنْ تَكُونَ الْمُسَابَقَةُ فِيمَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَسْبِقَ وَيُسْبَقَ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ فِيمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَسْبِقُ غَالِبًا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيضِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَتَحَقَّقُ فَبَقِيَ الرِّهَانُ الْتِزَامُ الْمَالِ بِشَرْطٍ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ فَيَكُونُ عَبَثًا وَلَعِبًا - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -.

كتاب الوديعة

[كِتَابُ الْوَدِيعَةِ] [رُكْن الْوَدِيعَة] الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ رُكْنِ الْعَقْدِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْعَقْدِ، وَفِي بَيَانِ حَالِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ حَالِهِ. (أَمَّا) رُكْنُهُ: فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَهُوَ: أَنْ يَقُولَ لِغَيْرِهِ: أَوْدَعْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ، أَوْ احْفَظْ هَذَا الشَّيْءَ لِي، أَوْ خُذْ هَذَا الشَّيْءَ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَيَقْبَلُهُ الْآخَرُ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ تَمَّ عَقْدُ الْوَدِيعَةِ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ رُكْن الْوَدِيعَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) عَقْلُ الْمُودَعِ، فَلَا يَصِحُّ الْإِيدَاعُ مِنْ الْمَجْنُونِ، وَالصَّبِيِّ، الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. (وَأَمَّا) بُلُوغُهُ: فَلَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا، حَتَّى يَصِحَّ الْإِيدَاعُ مِنْ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ التَّاجِرُ؛ فَكَانَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ، فَيَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ، كَمَا يَمْلِكُ التِّجَارَةَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَمْلِكُ التِّجَارَةَ، فَلَا يَمْلِكُ تَوَابِعَهَا عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ. وَكَذَا حُرِّيَّتُهُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَيَمْلِكُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ الْإِيدَاعَ لِمَا قُلْنَا فِي الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ، (وَمِنْهَا) عَقْلُ الْمُودَعِ فَلَا يَصِحُّ قَبُولُ الْوَدِيعَةِ مِنْ الْمَجْنُونِ، وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ هَذَا الْعَقْدِ هُوَ لُزُومُ الْحِفْظِ، وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ. (وَأَمَّا) بُلُوغُهُ: فَلَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى يَصِحَّ قَبُولُ الْوَدِيعَةِ مِنْ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ لَكَانَ الْإِذْنُ لَهُ سَفَهًا. (وَأَمَّا) الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ، فَلَا يَصِحُّ قَبُولُ الْوَدِيعَةِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ الْمَالَ عَادَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ مُنِعَ مِنْهُ مَالُهُ؟ وَلَوْ قَبِلَ الْوَدِيعَةَ فَاسْتَهْلَكَهَا؛ فَإِنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً؛ يَضْمَنْ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَتْ سِوَاهُمَا فَإِنْ قَبِلَهَا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ قَبِلَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ - لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ إيدَاعَهُ لَوْ صَحَّ فَاسْتَهْلَكَ الْوَدِيعَةَ؛ يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَإِنْ لَمْ يَصِحْ؛ جُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، فَصَارَ الْحَالُ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْحَالِ قَبْلَهُ. وَلَوْ اسْتَهْلَكَهَا قَبْلَ الْعَقْدِ؛ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ إيدَاعَ الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ إهْلَاكٌ لِلْمَالِ مَعْنَى، فَكَانَ فِعْلُ الصَّبِيِّ إهْلَاكَ مَالٍ قَائِمٍ صُورَةً لَا مَعْنَى، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَدَلَالَةُ مَا قُلْنَا: أَنَّهُ لَمَّا وَضَعَ الْمَالَ فِي يَدِهِ، فَقَدْ وَضَعَ فِي يَدِ مَنْ لَا يَحْفَظُهُ عَادَةً، وَلَا يَلْزَمُهُ الْحِفْظُ شَرْعًا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُ الْوَدِيعَةِ شَرْعًا؛ لِأَنَّ الصَّبِيِّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الشَّرَائِعِ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْفَظُ الْوَدِيعَةَ عَادَةً؛ أَنَّهُ مُنِعَ عَنْهُ مَالُهُ وَلَوْ كَانَ يَحْفَظُ الْمَالَ عَادَةً لَدُفِعَ إلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْمَأْذُونَ؛ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ الْمَالَ عَادَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ دُفِعَ إلَيْهِ مَالُهُ. وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْحِفْظُ عَادَةً؛ لَكَانَ الدَّفْعُ إلَيْهِ سَفَهًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَالِ أَيْضًا؛ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الدَّمِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ بِقَتْلِ الْعَبْدِ ضَمَانُ الْآدَمِيِّ، لَا ضَمَانَ الْمَالِ، وَالْعَبْدُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ قَبْلَ الْإِيدَاعِ وَبَعْدَهُ، فَهُوَ الْفَرْقُ وَكَذَلِكَ حُرِّيَّةُ الْمُودَعِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، حَتَّى يَصِحَّ الْقَبُولُ مِنْ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْقَبُولُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ الْمَالَ عَادَةً. وَلَوْ قَبِلَهَا فَاسْتَهْلَكَهَا، فَإِنْ كَانَتْ عَبْدًا أَوْ أَمَةً يُؤْمَرُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ، أَوْ الْفِدَاءِ وَإِنْ كَانَتْ سِوَاهُمَا، فَإِنْ قَبِلَهَا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ؛ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ قَبِلَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ؛ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ، وَالْكَلَامُ فِي الطَّرَفَيْنِ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرنَا فِي الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ عَقْدِ الْوَدِيعَة] (فَصْلٌ) : فَحُكْمُهُ لُزُومُ الْحِفْظِ لِلْمَالِكِ لِأَنَّ الْإِيدَاعَ مِنْ جَانِبِ الْمَالِكِ اسْتِحْفَاظٌ وَمِنْ جَانِبِ الْمُودَعِ الْتِزَامُ الْحِفْظِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ فَيَلْزَمُهُ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» وَالْكَلَامُ فِي الْحِفْظِ فِي مَوْضِعَيْنِ: - أَحَدُهُمَا فِيمَا يُحْفَظُ بِهِ - وَالثَّانِي: فِيمَا فِيهِ يُحْفَظُ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ، فَالِاسْتِحْفَاظُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا، فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا؛ فَلِلْمُودَعِ أَنْ يَحْفَظَ بِيَدِ نَفْسِهِ، وَمَنْ هُوَ فِي عِيَالِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَسْكُنُ مَعَهُ، وَيُمَوِّنُهُ، فَيَكْفِيهِ

طَعَامَهُ، وَشَرَابَهُ، وَكِسْوَتَهُ، كَائِنًا مَنْ كَانَ قَرِيبًا، أَوْ أَجْنَبِيًّا، مِنْ وَلَدِهِ، وَامْرَأَتِهِ، وَخَدَمِهِ، وَأَجِيرِهِ، لَا الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَبِيَدِهِ مَنْ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ مِمَّنْ يَحْفَظُ مَالَهُ بِنَفْسِهِ عَادَةً، كَشَرِيكِهِ الْمُفَاوِضِ، وَالْعِنَانِ، وَعَبْدِهِ الْمَأْذُونِ، وَعَبْدِهِ الْمَعْزُولِ عَنْ بَيْتِهِ. هَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفَظَ إلَّا بِيَدِ نَفْسِهِ، إلَّا أَنْ يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغِيبَ عَنْ عَيْنِهِ، حَتَّى لَوْ فَعَلَ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَا يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا لَا يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ سَائِرُ الْأَجَانِبِ. (وَلَنَا) : أَنَّ الْمُلْتَزَمَ بِالْعَقْدِ هُوَ الْحِفْظُ وَالْإِنْسَانُ لَا يَلْتَزِمُ بِحِفْظِ مَالِ غَيْرِهِ عَادَةً؛ إلَّا بِمَا يَحْفَظُ بِهِ مَالَ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ بِيَدِهِ مَرَّةً وَبِيَدِ هَؤُلَاءِ أُخْرَى، فَلَهُ أَنْ يَحْفَظَ الْوَدِيعَةَ بِيَدِهِمْ أَيْضًا، فَكَانَ الْحِفْظُ بِأَيْدِيهِمْ دَاخِلًا تَحْتَ الْعَقْدِ، دَلَالَةً، وَكَذَا لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْوَدِيعَةَ عَلَى أَيْدِيهِمْ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْمَالِكِ، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ يَدَهُمْ يَدُ الْمُودَعِ مَعْنًى، فَمَا دَامَ فِي أَيْدِيهِمْ؛ كَانَ مَحْفُوظًا بِحِفْظِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى غَيْرِهِمْ، إلَّا لِعُذْرٍ، حَتَّى لَوْ دَفَعَ، تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ مَا رَضِيَ بِيَدِهِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا يَرْضَى مَالَ نَفْسِهِ بِيَدِهِ، فَإِذَا دَفَعَ؛ فَقَدْ صَارَ مُخَالِفًا، فَتَدْخُلُ الْوَدِيعَةُ فِي ضَمَانِهِ إلَّا إذَا كَانَ عَنْ عُذْرٍ، بِأَنْ وَقَعَ فِي دَارِهِ حَرِيقٌ، أَوْ كَانَ فِي السَّفِينَةِ، فَخَافَ الْغَرَقَ؛ فَدَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلْحِفْظِ، فَكَانَ الدَّفْعُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ دَلَالَةً فَلَا يَضْمَنُ، فَلَوْ أَرَادَ السَّفَرَ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُودِعَ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لَيْسَ بِعُذْرٍ. وَلَوْ أَوْدَعَهَا عِنْدَ مَنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُودِعَهُ، فَضَاعَتْ فِي يَدِ الثَّانِي - فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ، لَا عَلَى الثَّانِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ: الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِيَ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الثَّانِي، وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ. (وَجْهُ قَوْلِهِمَا) : أَنَّهُ وَجَدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ، أَمَّا - الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّهُ دَفَعَ مَالَ الْغَيْرِ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، فَيُخَيَّرُ الْمَالِكُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِيَ، كَمُودَعِ الْغَاصِبِ مَعَ الْغَاصِبِ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ؛ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ مَلَكَ الْوَدِيعَة بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَوْدَعَ مَالَهُ نَفْسَهُ إيَّاهُ فَهَذَا مُودَعٌ هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ فِي يَدِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ، يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ غَرَّهُ بِالْإِيدَاعِ، فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْغُرُورِ، كَأَنَّهُ كَفَلَ عَنْهُ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي هَذَا الْعَقْدِ، إذْ ضَمَانُ الْغُرُورِ ضَمَانُ كَفَالَةٍ، لِمَا عُلِمَ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ يَدَ الْمُودَعِ الثَّانِي لَيْسَتْ بِيَدٍ مَانِعَةٍ، بَلْ هِيَ يَدُ حِفْظٍ وَصِيَانَةِ الْوَدِيعَةِ عَنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ إلَى الْمَالِكِ، قَالَ اللَّه تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ - {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] . وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِيدَاعَ مِنْهُ مُبَاشَرَةُ سَبَبِ الصِّيَانَةِ وَالْحِفْظِ لَهُ، فَكَانَ مُحْسِنًا فِيهِ، إلَّا أَنَّهُ صَارَ مَخْصُوصًا عَنْ النَّصِّ، فَبَقِيَ الْمُودَعُ الثَّانِي عَلَى ظَاهِرِهِ. وَلَوْ أَوْدَعَ غَيْرَهُ وَادَّعَى أَنَّهُ فَعَلَ عَنْ عُذْرٍ، لَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى غَيْرِهِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ، فَدَعْوَى الضَّرُورَةِ دَعْوَى أَمْرٍ عَارِضٍ، يُرِيدُ بِهِ دَفْعَ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ، هَذَا إذَا هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ فِي يَدِ الْمُودَعِ الثَّانِي؛ فَأَمَّا إذَا اسْتَهْلَكَهَا، فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ، يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الثَّانِي، وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ؛ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ وُجِدَ مِنْ الثَّانِي حَقِيقَةً، وَهُوَ الِاسْتِهْلَاكُ لِوُقُوعِهِ إعْجَازًا لِلْمَالِكِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْأَوَّلِ إلَّا الدَّفْعُ إلَى الثَّانِي عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْفَاظِ دُونَ الْإِعْجَازِ، إلَّا أَنَّهُ أَلْحَقَ ذَلِكَ بِالْإِعْجَازِ شَرْعًا فِي حَقِّ اخْتِيَارِ التَّضْمِينِ صُورَةً؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ سَبَبَ الْإِعْجَازِ، فَكَانَ الضَّمَانُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، لِذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي، وَلَمْ يَرْجِعْ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ مُودِعِ الْغَاصِبِ إذَا هَلَكَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِهِ إنَّ الْمَالِكَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ الْغَاصِبُ، أَوْ يَضْمَنَ الْمُودَعُ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُودَعِ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُودَعَ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَوَدَعَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ مَالًا، فَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا لِلْقِسْمَةِ اقْتَسَمَاهُ، وَحَفِظَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُودَعَهُ مِنْ رَجُلَيْنِ، فَقْد اسْتَحْفَظَهُمَا جَمِيعًا، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ الْوَدِيعَةُ فِي حِفْظِهِمَا جَمِيعًا، وَلَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ لِيَكُونَ النِّصْفُ فِي يَدِ هَذَا، وَالنِّصْفُ فِي يَدِ ذَاكَ

وَالْمَحِلُّ مُحْتَمِلٌ لِلْقِسْمَةِ فَيَقْتَسِمَانِ نِصْفَيْنِ. وَلَوْ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا النِّصْفَ إلَى صَاحِبِهِ فَضَاعَتْ، فَمِنْ الْمُسَلَّمِ نِصْفُ الْوَدِيعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ: لَا يَضْمَنُ الْقَابِضُ شَيْئًا بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُسَلِّمَ الْكُلَّ إلَى صَاحِبِهِ، وَإِذَا فَعَلَ فَضَاعَتْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْمَالِكَ لَمَّا اسْتَحْفَظَهَا، فَقَدْ رَضِيَ بِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى كُلِّ الْوَدِيعَةِ، كَمَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْوَدِيعَةُ مُحْتَمِلَةً لِلْقِسْمَةِ: (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْمَالِكَ اسْتَحْفَظَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي بَعْضِ الْوَدِيعَةِ لَا فِي كُلِّهَا، فَكَانَ رَاضِيًا بِثُبُوتِ يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْكُلِّ، وَهَذَا لِمَا ذَكَرْنَا، أَنَّهُ لَمَّا اسْتَحْفَظَهَا جَمِيعًا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ فِي حِفْظِهِمَا جَمِيعًا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِلِاسْتِحَالَةِ فَيُقْسَمُ لِيَكُونَ النِّصْفُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَالنِّصْفُ فِي يَدِ الْآخَرِ، فَإِذَا كَانَ الْمَحَلُّ مُحْتَمِلًا لِلْقِسْمَةِ؛ وَلَمْ يَكُنْ رَاضِيًا يَكُونُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، فَإِذَا فَعَلَ فَقَدْ خَالَفَهُ، فَدَخَلَ فِي ضَمَانِهِ، فَإِذَا ضَاعَ ضَمِنَ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ تَعَذَّرَ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ فِي حِفْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، عَلَى التَّوْزِيعِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ رَاضِيًا بِكَوْنِهِ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فِي زَمَانَيْنِ عَلَى التَّهَايُؤِ فَلَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا بِالدَّفْعِ، فَهُوَ الْفَرْقُ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا: الْمُرْتَهِنَانِ وَالْوَكِيلَانِ بِالشِّرَاءِ، إذَا كَانَ الْمَرْهُونُ وَالْمُشْتَرَى مِمَّا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، فَسَلَّمَهُ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ، - وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ الْكَلَامُ فِيمَا فِيهِ تُحْفَظُ الْوَدِيعَةُ، فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ؛ مُطْلَقًا فَلَهُ أَنْ يَحْفَظَهَا فِيمَا يَحْفَظُ فِيهِ مَالَ نَفْسِهِ مِنْ دَارِهِ وَحَانُوتِهِ وَكِيسِهِ وَصُنْدُوقِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ حِفْظَهَا إلَّا فِيمَا يَحْفَظُ فِيهِ مَالَ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفَظَ فِي حِرْزِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ حِرْزَ غَيْرِهِ فِي يَدِ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَلَا يَمْلِكُ الْحِفْظَ بِيَدِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ بِمَا فِي يَدِهِ أَيْضًا، إلَّا إذَا اسْتَأْجَرَ حِرْزًا لِنَفْسِهِ، فَلَهُ أَنْ يَحْفَظَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحِرْزَ فِي يَدِهِ فَمَا فِي الْحِرْزِ يَكُونُ فِي يَدِهِ أَيْضًا فَكَانَ حَافِظًا بِيَدِ نَفْسِهِ فَمَلَكَ ذَلِكَ، وَلَهُ أَنْ يَحْفَظَ الْحَضَرَ وَالسَّفَرَ بِأَنْ يُسَافِرَ بِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَ لِلْوَدِيعَةِ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، إنْ كَانَ لَهَا حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ؛ لَا يَمْلِكُ الْمُسَافَرَةَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَمْلِكُ كَيْفَ مَا كَانَ أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَوَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الْمُسَافَرَةَ الْوَدِيعَةِ تَضْيِيعُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَفَازَةَ مَضْيَعَةٌ، قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ - «الْمُسَافِرُ وَمَالُهُ عَلَى قَلْبٍ إلَّا مَا وَقَى اللَّهُ» فَكَانَ التَّحْوِيلُ إلَيْهَا تَضْيِيعًا فَلَا يَمْلِكُهُ الْمُودَعِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحِفْظِ صَدَرَ مُطْلَقًا عَنْ تَعْيِينِ الْمَكَانِ، فَلَا يَجُوزُ التَّعْيِينُ إلَّا بِدَلِيلٍ، قَوْلُهُ: الْمَفَازَةُ مَضْيَعَةٌ قُلْنَا: مَمْنُوعٌ أَوْ نَقُولُ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا أَمَّا إذَا كَانَ آمِنًا فَلَا، وَالْكَلَامُ فِيمَا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، حِينَ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْكَفَرَةِ، وَكَانَتْ الطَّرِيقُ مَخُوفَةً، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ. وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ فِي الْمُسَافَرَةِ بِمَالِهِ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ ضَرَرًا، بِالْمَالِكِ لِجَوَازِ أَنْ يَمُوتَ الْمُودَعُ فِي السَّفَرِ، فَيَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِرْدَادِ مِنْ مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ، إلَّا بِحِمْلٍ وَمُؤْنَةٍ عَظِيمَةٍ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، وَلَا كَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحِفْظِ لَا يَتَعَرَّضُ لِمَكَانٍ دُونَ مَكَان، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ؛ قَوْلُهُمَا فِيهِ ضَرَرٌ، - قُلْنَا -: هَذَا النَّوْعُ مِنْ الضَّرَرِ لَيْسَ بِغَالِبٍ، فَلَا يَجِبُ دَفْعُهُ، عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ، فَهُوَ الَّذِي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ أَطْلَقَ الْأَمْرَ، وَمَنْ لَمْ يَنْظُرْ لِنَفْسِهِ لَا يُنْظَرُ لَهُ، هَذَا إذَا كَانَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطٍ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، فَأَمَّا إذَا شَرَطَ فِيهِ شَرْطًا نَظَرَ فِيهِ، إنْ كَانَ شَرْطًا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ وَيُفِيدُ؛ اُعْتُبِرَ، وَإِلَّا فَلَا، بَيَانُ ذَلِكَ؛ إذَا أَمَرَهُ بِالْحِفْظِ وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَهَا بِيَدِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا يَضَعُهَا؛ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ حَتَّى لَوْ وَضَعَهَا فِي بَيْتِهِ، أَوْ فِيمَا يُحْرِزُ فِيهِ مَالَهُ عَادَةً، فَضَاعَتْ؛ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إمْسَاكَ الْوَدِيعَةِ بِيَدِهِ، بِحَيْثُ لَا يَضَعُهَا - أَصْلًا غَيْرَ مَقْدُورٍ لَهُ عَادَةً، فَكَانَ شَرْطًا لَا يُمْكِنُ مُرَاعَاتُهُ فَيُلْغَى وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْحِفْظِ وَنَهَاهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى امْرَأَتِهِ، أَوْ عَبْدِهِ، أَوْ وَلَدِهِ الَّذِي هُوَ فِي عِيَالِهِ؛ أَوْ مَنْ يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ بِيَدِهِ عَادَةً، نَظَرَ فِيهِ إنْ كَانَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ؛ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ كَانَ النَّهْيِ عَنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ نَهْيًا عَنْ الْحِفْظِ فَكَانَ سَفَهًا فَلَا يَصِحُّ نَهْيُهُ وَإِنْ كَانَ يَجِدُ بُدًّا مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ. وَلَوْ دَفَعَ - يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَكَانَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ فِي الدَّفْعِ إلَيْهِ، أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ وَهُوَ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّ الْأَيْدِيَ فِي الْحِفْظِ مُتَفَاوِتَةٌ، وَالْأَصْلُ فِي الشُّرُوطِ اعْتِبَارُهَا مَا أَمْكَنَ. وَلَوْ قَالَ: لَا تُخْرِجْهَا مِنْ الْكُوفَةِ، فَخَرَجَ بِهَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ وَهُوَ مُفِيدٌ؛

فصل في بيان حال الوديعة

لِأَنَّ الْحِفْظَ فِي الْمِصْرِ أَكْمَلُ مِنْ الْحِفْظِ فِي السَّفَرِ؛ إذْ السَّفَرُ مَوْضِعُ الْخَطَرِ؛ إلَّا إذَا خَافَ التَّلَفَ عَلَيْهَا؛ فَاضْطُرَّ إلَى الْخُرُوجِ بِهَا، فَخَرَجَ لَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ طَرِيقٌ مُتَعَيَّنٌ لِلْحِفْظِ، كَمَا إذَا وَقَعَ فِي دَارِهِ حَرِيقٌ؛ أَوْ كَانَ فِي سَفِينَةٍ فَخَافَ الْغَرَقَ، فَدَفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ. وَلَوْ قَالَ لَهُ: احْفَظْ الْوَدِيعَةَ فِي دَارِكَ هَذِهِ، فَحَفِظَهَا فِي دَارٍ لَهُ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَتْ الدَّارَانِ فِي الْحِرْزِ سَوَاءً أَوْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ أَحْرَزَ، لَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُولَى أَحْرَزَ مِنْ الثَّانِيَةِ دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِهِ عِنْدَ تَفَاوُتِ الْحِرْزِ مُفِيدٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَضَعَهَا فِي دَارِهِ فِي هَذِهِ الْقِرْيَةِ، وَنَهَاهُ عَنْ أَنْ يَضَعَهَا فِي دَارِهِ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى - فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ. وَلَوْ قَالَ لَهُ أَخْبَأَهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَأَشَارَ إلَى بَيْتٍ مُعَيَّنٍ فِي دَارِهِ فَخَبَّأَهَا فِي بَيْتٍ آخَرَ فِي تِلْكَ الدَّارِ - لَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَيْنِ مِنْ دَارٍ وَاحِدَةٍ، لَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْحِرْزِ عَادَةً، بِخِلَافِ الدَّارَيْنِ، فَلَا يَكُونُ التَّعْيِينُ مُفِيدًا، حَتَّى لَوْ تَفَاوَتَا بِأَنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَحْرَزَ مِنْ الثَّانِي، تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ، وَالْأَصْلُ الْمَحْفُوظُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا ذَكَرْنَا، أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ يُمْكِنُ مُرَاعَاتُهُ، وَيُفِيدُ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ، وَكُلُّ شَرْطٍ لَا يُمْكِنُ مُرَاعَاتُهُ، وَلَا يُفِيدُ فَهُوَ هَدَرٌ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَجِبُ مُرَاعَاةُ الشُّرُوطِ فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا حَتَّى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْحِفْظِ فِي بَيْتٍ مُعَيَّنٍ لَا يَمْلِكُ الْحِفْظَ فِي بَيْتٍ آخَرَ مِنْ دَارٍ وَاحِدَةٍ؛ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ فَلَا يَتْرُكُ هَذَا الْأَصْلَ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَمْ تُوجَدْ، وَصَارَ كَالدَّارَيْنِ، وَالْجَوَابُ: نَعَمْ، إذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ عَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ، فَأَمَّا إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ السَّفَهِ وَالْعَبَثِ فَلَا؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ عِنْدَ انْعِدَامِ التَّفَاوُتِ فِي الْحِرْزِ يَجْرِي مَجْرَى الْعَبَثِ، كَمَا إذَا قَالَ: احْفَظْ بِيَمِينِكَ، وَلَا تَحْفَظْ بِشِمَالِكَ، أَوْ احْفَظْ فِي هَذِهِ الزَّاوِيَةِ مِنْ الْبَيْتِ، وَلَا تَحْفَظْ فِي الزَّاوِيَةِ الْأُخْرَى، فَلَا يَصِحُّ التَّعْيِينُ؛ لِانْعِدَامِ الْفَائِدَةِ حَتَّى لَوْ تَفَاوَتَا فِي الْحِرْزِ يَصِحُّ، بِخِلَافِ الدَّارَيْنِ، وَالْأَصْلُ فِي الدَّارَيْنِ اخْتِلَافُ الْحِرْزِ، فَكَانَ التَّعْيِينُ مُفِيدًا حَتَّى لَوْ لَمْ يَخْتَلِفْ، فَالْجَوَابُ فِيهَا كَالْجَوَابِ فِي الْبَيْتَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ حَالِ الْوَدِيعَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حَالِ الْوَدِيعَةِ فَحَالُهَا أَنَّهَا فِي يَدِ الْمُودَعِ أَمَانَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ مُؤْتَمَنٌ، فَكَانَتْ الْوَدِيعَةُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، وَيَتَعَلَّقُ بِكَوْنِهَا أَمَانَةً أَحْكَامٌ: مِنْهَا: وُجُوبُ الرَّدِّ عِنْدَ طَلَبِ الْمَالِكِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] . حَتَّى لَوْ حَبَسَهَا بَعْدَ الطَّلَبِ فَضَاعَتْ ضَمِنَ هَذَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُشَاعًا لِرَجُلَيْنِ، فَجَاءَ أَحَدُهُمَا، وَطَلَبَ حِصَّتَهُ - لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ؛ بِأَنْ أَوَدَعَ رَجُلَانِ رَجُلًا وَدِيعَةً، دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ وَثِيَابًا، وَغَابَ ثُمَّ جَاءَهُ أَحَدُهُمَا، وَطَلَبَ بَعْضَهَا، وَأَبَى الْمُسْتَوْدَعُ ذَلِكَ، لَمْ يَأْمُرْ الْقَاضِي بِدَفْعِ شَيْءٍ إلَيْهِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْغَائِبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُقَسِّمُ ذَلِكَ، وَيَدْفَعُ إلَيْهِ حِصَّتَهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قِسْمَةً جَائِزَةً عَلَى الْغَائِبِ بِلَا خِلَافٍ؛ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْبَاقِي فِي يَدِ الْمُودَعِ، ثُمَّ جَاءَ الْغَائِبُ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ صَاحِبَهُ فِي الْمَقْبُوضِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا وَلَوْ هَلَكَ الْمَقْبُوضُ فِي يَدِ الْقَابِضِ ثُمَّ جَاءَ الْغَائِبِ فَلَيْسَ لِلْقَابِضِ أَنْ يُشَارِكَ صَاحِبَهُ فِي الْبَاقِي. وَجْهُ قَوْلِهِمَا؛ أَنَّ الْآخِذَ بِأَخْذِ حِصَّتِهِ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَضْرَةِ الْغَائِبِ، كَمَا إذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ دَيْنٌ مُشْتَرَكٌ عَلَى رَجُلٍ، فَجَاءَ أَحَدُهُمَا وَطَلَبَ حِصَّتَهُ مِنْ الدَّيْنِ؛ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِ حِصَّتَهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْمُودَعَ لَوْ دَفَعَ شَيْئًا إلَى الشَّرِيكِ الْحَاضِرِ، لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا، وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مِنْ نَصِيبِهِ خَاصَّةً، لَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ نَصِيبِ الْغَائِبِ إلَيْهِ مُمْتَنِعٌ شَرْعًا. وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ شَائِعٌ فِي كُلِّ الْأَلْفِ؛ لِكَوْنِ الْأَلْفِ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا، وَلَا تَتَمَيَّزُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ، وَالْقِسْمَةُ عَلَى الْغَائِبِ غَيْرُ جَائِزَةٍ؛ وَلَوْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ حَتَّى قَالَا: إذَا جَاءَ الْغَائِبُ وَقَدْ هَلَكَ الْبَاقِي، لَهُ أَنْ يُشَارِكَ الْقَابِضَ فِي الْمَقْبُوضِ. وَلَوْ نَفَذَتْ الْقِسْمَةُ لَمَا شَارَكَهُ فِيهِ؛ لِتَمَيُّزِ حَقِّهِ عَنْ حَقِّ صَاحِبِهِ بِالْقِسْمَةِ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْغَرِيمَ يَدْفَعُ نَصِيبَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، بِدَفْعِ مَالِ نَفْسِهِ لَا مَالِ شَرِيكِهِ الْغَائِبِ، وَهُنَا يَدْفَعُ مَالَ الْغَائِبِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَلَا يَسْتَقِيمُ الْقِيَاسُ. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَجَاءَهُ رَجُلَانِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ أَوْدَعَهُ إيَّاهَا، فَقَالَ الْمُودَعُ أَوْدَعَهَا أَحَدُكُمَا وَلَسْتُ أَدْرِي أَيُّكُمَا هُوَ، فَهَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ اصْطَلَحَ الْمُتَدَاعِيَانِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَا الْأَلْفَ وَتَكُونَ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا إنْ لَمْ يَصْطَلِحَا، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الْأَلْفَ لَهُ خَاصَّةً لَا لِصَاحِبِهِ، فَإِنْ اصْطَلَحَا عَلَى ذَلِكَ فَلَهُمَا ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ الْأَلْفِ إلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْأَلْفَ لِأَحَدِهِمَا وَإِذَا اصْطَلَحَا عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ بَيْنَهُمَا، لَا يُمْنَعَانِ عَنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَسْتَحْلِفَا

فصل في بيان ما يغير حال الوديعة من الأمانة إلى الضمان

الْمُودَعَ بَعْدَ الصُّلْحِ، وَإِنْ لَمْ يَصْطَلِحَا وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الْأَلْفَ لَهُ، لَا يَدْفَعُ إلَى أَحَدِهِمَا شَيْئًا؛ لِجَهَالَةِ الْمُقِرِّ لَهُ الْوَدِيعَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمُودَعَ فَإِنْ اسْتَحْلَفَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو، إمَّا أَنْ يَحْلِفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِمَّا أَنْ يَنْكُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِمَّا أَنْ يَحْلِفَ لِأَحَدِهِمَا وَيَنْكُلَ لِلْآخَرِ، فَإِنْ حَلَفَ لَهُمَا فَقَدْ انْقَطَعَتْ خُصُومَتُهُمَا لِلْحَالِ إلَى وَقْتِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، كَمَا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، وَهَلْ يَمْلِكَانِ الِاصْطِلَاحَ عَلَى أَخْذِ الْأَلْفِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الِاسْتِحْلَافِ، فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَالْمَعْرُوفُ بَيْنَ، أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، عَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَمْلِكَانِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَمْلِكَانِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ بَعْدَ الْحَلِفِ، وَقَدْ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ. وَإِنْ نَكَلَ لَهُمَا يُقْضَى بِالْأَلْفِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَيَضْمَنُ أَلْفًا أُخْرَى بَيْنَهُمَا، فَيَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّ كُلَّ الْأَلْفِ لَهُ فَإِذَا نَكَلَ لَهُ وَالنُّكُولُ بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ، فَكَأَنَّهُ بَذَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا، أَوْ أَقَرَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَلْفٍ، فَيُقْضَى عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا بِأَلْفٍ، وَيَضْمَنُ أَيْضًا أَلْفًا أُخْرَى، تَكُونُ بَيْنَهُمَا؛ لِيَحْصُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ كَامِلَةٌ، لَوْ حَلَفَ لِأَحَدِهِمَا وَنَكَلَ لِلْآخَرِ، قَضَى بِالْأَلْفِ لِلَّذِي نَكَلَ لَهُ، وَلَا شَيْءَ لِلَّذِي حَلَفَ لَهُ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةُ مَنْ نَكَلَ لَهُ لَا حُجَّةَ مَنْ حَلَفَ لَهُ، وَمِنْهَا وُجُوبُ الْأَدَاءِ إلَى الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا، وَأَهْلُهَا مَالِكُهَا. حَتَّى لَوْ رَدَّهَا إلَى مَنْزِلِ الْمَالِكِ، فَجَعَلَهَا فِيهِ، أَوْ دَفَعَهَا إلَى مَنْ هُوَ فِي عِيَالِ الْمَالِكِ، دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ، حَتَّى لَوْ ضَاعَتْ؛ يَضْمَنُ، بِخِلَافِ الْعَارِيَّةِ، فَإِنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَوْ جَاءَ بِمَتَاعِ الْعَارِيَّةِ وَأَلْقَاهَا فِي دَارِ الْمُعِيرِ، أَوْ جَاءَ بِالدَّابَّةِ فَأَدْخَلَهَا فِي إصْطَبْلِهِ - كَانَ رَدًّا صَحِيحًا؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ الَّذِي تَلَوْنَا أَنْ لَا يَصِحَّ، إلَّا أَنَّهَا صَارَتْ مَخْصُوصَةً عَنْ عُمُومِ الْآيَاتِ، فَبَقِيَتْ الْوَدِيعَةُ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَا ذَكَرنَا مِنْ لُزُومِ الرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا فِي الْعَارِيَّةِ لِلْعَادَةِ الْجَارِيَةِ فِيهَا بِرَدِّهَا إلَى بَيْتِ الْمَالِكِ، أَوْ بِدَفْعِهَا إلَى مَنْ فِي عِيَالِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْعَارِيَّةُ شَيْئًا نَفِيسًا، كَعِقْدِ جَوْهَرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لَا يَصِحُّ الرَّدُّ؛ لِانْعِدَامِ جَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ فِي الْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ، وَلَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ فِي مَالِ الْوَدِيعَةِ، فَتَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ؛ وَلِأَنَّ مَبْنَى الْإِيدَاعِ عَلَى السِّتْرِ وَالْإِغْفَاءِ عَادَةً، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُودَعُ مَالَ غَيْرِهِ سِرًّا عَنْ النَّاسِ، لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، فَلَوْ رَدَّهُ عَلَى غَيْرِ الْمَالِكِ لَانْكَشَفَ. إذْ السِّرُّ إذَا جَاوَزَ اثْنَيْنِ يَفْشُو، فَيَفُوتُ الْمَعْنَى الْمَجْعُولُ لَهُ الْإِيدَاعُ، بِخِلَافِ الْعَارِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْإِعْلَانِ، وَالْإِظْهَارِ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِحَاجَةِ الْمُسْتَعِيرِ إلَى اسْتِعْمَالِهَا فِي حَوَائِجِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِعْمَالُ سِرًّا عَنْ النَّاسِ عَادَةً، وَالرَّدُّ إلَى غَيْرِ الْمَالِكِ لَا يُفَوِّتُ مَا شُرِعَتْ لَهُ الْعَارِيَّةُ، فَهُوَ الْفَرْقُ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ إذَا ضَاعَتْ فِي يَدِ الْمُودَعِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، لَا يَضْمَنُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغَلِّ الضَّمَانُ وَلَا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغَلِّ الضَّمَانُ» ؛ وَلِأَنَّ يَدَهُ يَدُ الْمَالِكِ، فَالْهَلَاكُ فِي يَدِهِ كَالْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمَالِكِ، وَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَهَا نَقْصٌ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ هَلَاكُ بَعْضِ الْوَدِيعَةِ، وَهَلَاكُ الْكُلِّ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى وَمِنْهَا أَنَّ الْمُودَعَ مَعَ الْمُودِعِ إذَا اخْتَلَفَا، فَقَالَ الْمُودَعُ: هَلَكَتْ أَوْ؛ قَالَ: رَدَدْتُهَا إلَيْكَ وَقَالَ الْمَالِكُ: بَلْ اسْتَهْلَكْتُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُودَعِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَدَّعِي عَلَى الْأَمِينِ أَمْرًا عَارِضًا، وَهُوَ التَّعَدِّي، وَالْمُودَعُ مُسْتَصْحِبٌ لِحَالِ الْأَمَانَةِ، فَكَانَ مُتَمَسِّكًا بِالْأَصْلِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، لَكِنَّ مَعَ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ قَائِمَةٌ، فَيُسْتَحْلَفُ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: الْمُودِعُ اُسْتُهْلِكَتْ مِنْ غَيْرِ إذْنِي وَقَالَ الْمُودَعُ: بَلْ اسْتَهْلَكْتَهَا أَنْتَ، أَوْ غَيْرُكَ بِأَمْرِكَ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُودَعِ؛ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ قَالَ: إنَّهَا قَدْ ضَاعَتْ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: بَلْ كُنْتُ رَدَدْتُهَا إلَيْكَ، لَكَنَّى أُوهِمْتُ لَمْ يُصَدَّقْ، وَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ نَفَى الرَّدَّ بِدَعْوَى الْهَلَاكِ، وَنَفَى الْهَلَاكَ بِدَعْوَى الرَّدِّ، فَصَارَ نَافِيًا مَا أَثْبَتَهُ مُثْبِتًا مَا نَفَاهُ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ، فَلَا تُسْمَعُ مِنْهُ دَعْوَى الضَّيَاعِ وَالرَّدِّ؛ لِأَنَّ الْمُنَاقِضَ لَا قَوْلَ لَهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى دَعْوَتَيْنِ وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَقَدْ ذَهَبَتْ أَمَانَتُهُ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ. [فَصَلِّ فِي بَيَانِ مَا يُغَيِّرُ حَالَ الْوَدِيعَة مِنْ الْأَمَانَةِ إلَى الضَّمَانِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُغَيِّرُ حَالَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ الْأَمَانَةِ إلَى الضَّمَانِ، فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا تَرْكُ الْحِفْظِ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ الْتَزَمَ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ تَرَكَ حِفْظَهَا حَتَّى هَلَكَتْ يَضْمَنُ بَدَلَهَا، وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ، وَلِهَذَا لَوْ رَأَى إنْسَانًا يَسْرِقُ الْوَدِيعَةَ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَنْعِهِ ضَمِنَ؛ لِتَرْكِ الْحِفْظِ الْمُلْتَزَمِ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَشَايِخِنَا إنَّ الْمُودَعَ يُؤْخَذُ بِضَمَانِ الْعَقْدِ، وَمِنْهَا تَرْكُ الْحِفْظِ لِلْمَالِكِ؛ بِأَنْ خَالَفَهُ فِي الْوَدِيعَةِ بِأَنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ، أَوْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا، أَوْ عَبْدًا فَاسْتَعْمَلَهُ، أَوْ أَوْدَعَهَا مَنْ لَيْسَ فِي

عِيَالِهِ، وَلَا هُوَ مِمَّنْ يَحْفَظُ مَالَهُ بِيَدِهِ عَادَةً؛ لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ بِالْعَقْدِ هُوَ الْحِفْظُ لِلْمَالِكِ، فَإِذَا حَفِظَ لِنَفْسِهِ، فَقَدْ تَرَكَ الْحِفْظَ لِلْمَالِكِ، فَدَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ، وَحَكَى عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ: أَنَّهُ مَنَعَ دُخُولَ الْعَيْنِ فِي ضَمَانِهِ فِي الْمُنَاظَرَةِ حِينَ قَدِمَ بُخَارَى، وَسُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهَذَا خِلَافُ إطْلَاقِ الْكِتَابِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ وَالْبَرَاءَةُ عَنْ الضَّمَانِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الضَّمَانِ تَكُونُ. وَكَذَلِكَ الْمُودِعُ مَعَ الْمُودَعِ إذَا اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُودَعُ: هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ أَوْ رَدَدْتُهَا إلَيْكَ وَقَالَ الْمَالِكُ: اسْتَهْلَكْتَهَا، إنْ كَانَ قَبْلَ الْخِلَافِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ، الْمُودَعِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى دُخُولِ الْوَدِيعَةِ فِي ضَمَانِهِ بِالْخِلَافِ، وَإِنْ خَالَفَ فِي الْوَدِيعَةِ، ثُمَّ عَادَ الْوِفَاقُ، يَبْرَأْ عَنْ الضَّمَانِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْوَدِيعَةَ لَمَّا دَخَلَتْ فِي ضَمَانِ الْمُودَعِ بِالْخِلَافِ؛ فَقَدْ ارْتَفَعَ الْعَقْدُ، فَلَا يَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ، وَلَمْ يُوجَدْ؛ فَصَارَ كَمَا لَوْ جَحَدَ الْوَدِيعَةَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَعِيرُ، وَالْمُسْتَأْجَرُ، إذَا خَالَفَا، ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ، لَا يَبْرَآنِ عَنْ الضَّمَانِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَلَنَا: إنَّهُ بَعْدَ الْخِلَافِ مُودَعٌ وَالْمُودَعُ إذَا هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، كَمَا قَبْلَ الْخِلَافِ وَدَلَالَةُ أَنَّهُ بَعْدَ الْخِلَافِ مُودَعٌ أَنَّ الْمُودَعَ مَنْ يَحْفَظُ مَالَ غَيْرِهِ لَهُ بِأَمْرِهِ وَهُوَ بَعْدَ الْخِلَافِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْحِفْظِ حَافِظٌ مَالَ الْمَالِكِ لَهُ بِأَمْرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ تَنَاوَلَ مَا بَعَدَ الْخِلَافِ قَوْلُهُ: الْوَدِيعَةُ دَخَلَتْ فِي ضَمَانِ الْمُودَعِ؛ فَيَرْتَفِعُ الْعَقْدُ، قُلْنَا: مَعْنَى الدُّخُولِ فِي ضَمَانِ الْمُودَعِ، إنَّهُ انْعَقَدَ، سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ مَوْقُوفًا وُجُوبُهُ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الْهَلَاكُ فِي حَالَةِ الْخِلَافِ، لَكِنَّ هَذَا لَمْ يُوجِبْ ارْتِفَاعَ الْعَقْدِ أَلَيْسَ أَنَّ مَنْ وَكَّلَ إنْسَانًا يَبِيعُ عَبْدَهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ؛ فَبَاعَهُ بِأَلْفٍ، وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي دَخَلَ الْعَبْدُ فِي ضَمَانِهِ؟ لِانْعِقَادِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَهُوَ تَسْلِيمُ مَالِ الْغَيْرِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ وَمَعَ ذَلِكَ بَقِيَ الْعَقْدُ، حَتَّى لَوْ أَخَذَهُ كَانَ لَهُ بَيْعُهُ بِأَلْفَيْنِ كَذَا هَذَا عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْعَقْدَ انْفَسَخَ، لَكِنْ فِي قَدْرِ مَا فَاتَ مِنْ حَقِّهِ وَحُكْمُهُ: وَهُوَ الْحِفْظُ الْمُلْتَزَمُ لِلْمَالِكِ فِي زَمَانِ الْخِلَافِ، لَا فِيمَا بَقِيَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا إذَا اسْتَحْفَظَهُ بِأَجْرِ كُلِّ شَهْرٍ، بِكَذَا، وَتَرَكَ الْحِفْظَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِهِ فِي الْبَاقِي، بَقِيَ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي، يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِقَدْرِهِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا؛ أَنَّ الِارْتِفَاعَ لِضَرُورَةِ فَوَاتِ حُكْمِ الْعَقْدِ؛ فَلَا يَظْهَرُ إلَّا فِي قَدْرِ الْفَائِتِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ، وَالْإِعَارَةِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ تَمْلِيكُ مَنَافِعَ مُقَدَّرَةٍ بِالْمَكَانِ، أَوْ الزَّمَانِ فَإِذَا بَلَغَ الْمَكَانَ الْمَذْكُورَ: فَقَدْ انْتَهَى الْعَقْدُ؛ لِانْتِهَاءِ حُكْمِهِ، فَلَا يَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ وَكَذَا الْإِعَارَةُ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ عِنْدَنَا، إلَّا أَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالْإِجَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ وَأَمَّا حُكْمُ عَقَدِ الْوَدِيعَةِ: فَلُزُومُ الْحِفْظِ لِلْمَالِكِ مُطْلَقًا أَوْ شَهْرًا، وَزَمَانُ مَا بَعْدَ الْخِلَافِ دَاخِلٌ فِي الْمُطْلَقِ وَالْوَقْتِ؛ فَلَا يَنْقَضِي بِالْخِلَافِ، بَلْ يَتَقَرَّرُ، فَهُوَ الْفَرْقُ وَمِنْهَا جُحُودُ الْوَدِيعَةِ فِي وَجْهِ الْمَالِكِ عِنْدَ طَلَبِهِ، حَتَّى لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْإِيدَاعِ، أَوْ نَكَلَ الْمُودَعُ عَنْ الْيَمِينِ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ، دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا ظَهَرَ بِالْحُجَّةِ؛ فَقَدْ ظَهَرَ ارْتِفَاعُهُ بِالْجُحُودِ، أَوْ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُ الْوَدِيعَةَ، فَقَدْ عَزَلَهُ عَنْ الْحِفْظِ، وَالْمُودَعُ لَمَّا جَحَدَ الْوَدِيعَةَ حَالَ حَضْرَةِ الْمَالِكِ، فَقَدْ عَزَلَ نَفْسَهُ عَنْ الْحِفْظِ؛ فَانْفَسَخَ الْعَقْدُ، فَبَقِيَ مَالُ الْغَيْرِ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، فَإِذَا هَلَكَ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ وَلَوْ جَحَدَ، الْوَدِيعَةَ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى هَلَاكِهَا، فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ - أَوْجُهٍ: إمَّا إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا هَلَكَتْ بَعْدَ الْجُحُودِ، أَوْ قَبْلَ الْجُحُودِ، أَوْ مُطْلَقًا؛ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا هَلَكَتْ بَعْدَ الْجُحُودِ، أَوْ مُطْلَقًا لَا يَنْتَفِعُ بِبَيِّنَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ ارْتَفَعَ بِالْجُحُودِ، أَوْ عِنْدَهُ؛ فَدَخَلَتْ الْعَيْنُ فِي ضَمَانِهِ، وَالْهَلَاكُ بَعْدَ ذَلِكَ يُقَرِّرُ الضَّمَانَ، لَا أَنْ يُسْقِطَهُ؛ وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا هَلَكَتْ قَبْلَ الْجُحُودِ، تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ قَبْلَ الْجُحُودِ لَمَّا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ؛ فَقَدْ ظَهَرَ انْتِهَاءُ الْعَقْدِ قَبْلَ الْجُحُودِ، فَلَا يَرْتَفِعُ بِالْجُحُودِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْوَدِيعَةَ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ، فَلَا يَضْمَنُ. وَلَوْ ادَّعَى الْهَلَاكَ قَبْلَ الْجُحُودِ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ، وَطَلَب الْيَمِينَ مِنْ الْمُودِعِ، حَلَّفَهُ الْقَاضِي بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا يَعْلَمُ أَنَّهَا هَلَكَتْ قَبْلَ جُحُودِهِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي بَابِ الِاسْتِحْلَافِ، أَنَّ الَّذِي يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ أَمْرًا، لَوْ أَقَرَّ بِهِ الْحَالِفُ لَلَزِمَهُ، فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ وَهُنَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَوْ أَقَرَّ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ الْجُحُودِ لَقُبِلَ مِنْهُ، وَيَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْ الْمُودَعِ فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ، لَكِنْ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ، هَذَا إذَا جَحَدَ حَالَ حَضْرَةِ الْمَالِكِ، فَإِنْ جَحَدَ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِ حَالَ غَيْبَتِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَضْمَنُ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَضْمَنُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ: أَنَّ مَا هُوَ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْحَضْرَةِ، وَالْغِيبَةِ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ، وَجْهُ قَوْلِ

أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْجُحُودَ سَبَبٌ لِلضَّمَانِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ بِالْعَزْلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَلَا يَصِحُّ الْعَزْلُ حَالَةَ الْغَيْبَةِ، فَلَا يَرْتَفِعُ الْعَقْدُ؛ وَلِأَنَّ الْجُحُودَ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِ حَالَ غَيْبَتِهِ مَعْدُودٌ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ عُرْفًا، وَعَادَةً؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْإِيدَاعِ عَلَى السِّتْرِ، وَالْإِخْفَاءِ، فَكَانَ الْجُحُودُ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِ - حَالَ غَيْبَتِهِ - حِفْظًا مَعْنًى، فَكَيْفَ يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ؟ وَمِنْهَا الْإِتْلَافُ حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى وَهُوَ إعْجَازُ الْمَالِكِ عَنْ الِانْتِفَاعِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ حَتَّى لَوْ طَلَبَ الْوَدِيعَةَ، فَمَنَعَهَا الْمُودَعُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الدَّفْعِ، وَالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ، حَتَّى هَلَكَتْ، يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَبَسَهَا عَنْهُ؛ عَجَزَ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا لِلْحَالِ؛ فَدَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ، فَإِذَا هَلَكَتْ تَقَرَّرَ الْعَجْزُ؛ فَيَجِبُ الضَّمَانُ وَلَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِالْإِتْلَافِ، وَادَّعَى؛ أَنَّهُ كَانَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ، وَقَوْلُهُ: كَانَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ دَعْوَى أَمْرٍ عَارِضٍ، فَلَا تُقْبَلُ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَكَذَلِكَ الْمُودَعُ إذَا خَلَطَ الْوَدِيعَةَ بِمَالِهِ خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ، يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَتَمَيَّزُ، فَقَدْ عَجَزَ الْمَالِكُ مِنْ الِانْتِفَاعِ الْوَدِيعَةِ؛ فَكَانَ الْخَلْطُ مِنْهُ إتْلَافًا؛ فَيَضْمَنُ، وَيَصِيرُ مِلْكًا بِالضَّمَانِ وَإِنْ مَاتَ كَانَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ الْغُرَمَاءِ، وَالْمُودَعُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ فِيهِ، وَلَوْ اخْتَلَطَتْ بِمَالِهِ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ؛ لَا يَضْمَنُ وَهُوَ شَرِيكٌ لِصَاحِبِهَا أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ؛ فَلِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ، بَلْ تَلِفَتْ بِنَفْسِهَا؛ لِانْعِدَامِ الْفِعْلِ مِنْ جِهَتِهِ؛ وَأَمَّا كَوْنُهُ شَرِيكًا لِصَاحِبِهَا؛ فَلِوُجُودِهِ مَعْنَى الشَّرِكَةِ؛ وَهُوَ اخْتِلَاطُ الْمِلْكَيْنِ وَلَوْ أَوْدَعَهُ رَجُلَانِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَخَلَطَ الْمُودَعُ الْمَالَيْنِ خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ؛ فَلَا سَبِيلَ لَهُمَا عَلَى أَخْذِ الدَّرَاهِمِ؛ يَضْمَنُ الْمُودَعُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا وَيَكُونُ الْمَخْلُوطُ لَهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هُمَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَا اقْتَسَمَا الْمَخْلُوطَ نِصْفَيْنِ، وَإِنْ شَاءَا ضَمَّنَا الْمُودَعَ أَلْفَيْنِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ سَائِرُ الْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، إذَا خُلِطَ الْجِنْسُ بِالْجِنْسِ خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ، كَالْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالدُّهْنِ بِالدُّهْنِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَدِيعَةَ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا، لَكِنْ عَجَزَ الْمَالِكُ عَنْ الْوُصُولِ إلَيْهَا بِعَارِضِ الْخَلْطِ، فَإِنْ شَاءَا اقْتَسَمَا؛ لِاعْتِبَارِ جِهَةِ الْقِيَامِ، وَإِنْ شَاءَا ضَمَّنَا، لِاعْتِبَارِ جِهَةِ الْعَجْزِ؛ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَمَّا خَلَطَهُمَا خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ، فَقَدْ عَجَزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْمَخْلُوطِ؛ فَكَانَ الْخَلْطُ مِنْهُ إتْلَافَ الْوَدِيعَةِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ فَيَضْمَنُ؛ وَلِهَذَا يَثْبُتُ اخْتِيَارُ التَّضْمِينِ عِنْدَهُمَا وَاخْتِيَارُ التَّضْمِينِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِوُجُودِ الْإِتْلَافِ، دَلَّ أَنَّ الْخَلْطَ مِنْهُ وَقَعَ إتْلَافًا وَلَوْ أَوَدَعَهُ رَجُلٌ حِنْطَةً، وَآخَرُ شَعِيرًا، فَخَلَطَهُمَا، فَهُوَ ضَامِنٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلَ حَقِّهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ إتْلَافٌ؛ وَعِنْدَهُمَا لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَا الْعَيْنَ، وَيَبِيعَاهَا، وَيَقْتَسِمَا الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ مَخْلُوطًا بِالشَّعِيرِ، وَعَلَى قِيمَةِ الشَّعِيرِ غَيْرِ مَخْلُوطٍ بِالْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْحِنْطَةِ تَنْقُصُ بِخَلْطِ الشَّعِيرِ؛ وَهُوَ يَسْتَحِقُّ الثَّمَنَ لِقِيَامِ الْحَقِّ فِي الْعَيْنِ وَهُوَ مُسْتَحِقُّ الْعَيْنِ، بِخِلَافِ قِيمَةِ الشَّعِيرِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الشَّعِيرِ تَزْدَادُ بِالْخَلْطِ بِالْحِنْطَةِ، وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ مِلْكُ الْغَيْرِ، فَلَا يَسْتَحِقُّهَا صَاحِبُ الشَّعِيرِ. وَلَوْ أَنْفَقَ الْمُودَعُ بَعْضَ الْوَدِيعَةِ؛ ضَمِنَ قَدْرَ مَا أَنْفَقَ، وَلَا يَضْمَنُ الْبَاقِيَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا إتْلَافُ قَدْرِ مَا أَنْفَقَ؛ وَلَوْ رَدَّ مِثْلَهُ فَخَلَطَهُ بِالْبَاقِي يَضْمَنُ الْكُلَّ؛ لِوُجُودِ إتْلَافِ الْكُلِّ مِنْهُ: النِّصْفُ بِالْإِتْلَافِ، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي بِالْخَلْطِ؛ لِكَوْنِ الْخَلْطِ إتْلَافًا عَلَى بَيَّنَّا وَلَوْ أَخَذَ بَعْضَ دَرَاهِمِ الْوَدِيعَةِ؛ لِيُنْفِقَهَا فَلَمْ يُنْفِقْهَا، ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَوْضِعِهَا بَعْدَ أَيَّامٍ؛ فَضَاعَتْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْمَنُ وَجْهُ قَوْلِهِ، أَنَّهُ أَخَذَهَا عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي؛ فَيَضْمَنُ كَمَا لَوْ انْتَفَعَ بِهَا. (وَلَنَا) أَنَّ نَفْسَ الْأَخْذِ لَيْسَ بِإِتْلَافٍ، وَنِيَّةُ الْإِتْلَافِ لَيْسَتْ بِإِتْلَافٍ؛ فَلَا تُوجِبُ الضَّمَانَ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - عَفَا عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَفْعَلُوا» ظَاهِرُ الْحَدِيثِ: يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا حَدَّثَتْ بِهِ النَّفْسُ عَفْوًا عَلَى الْعُمُومِ، إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَوْدَعَهُ كِيسًا مَسْدُودًا؛ فَحَلَّهُ الْمُسْتَوْدَعُ، أَوْ صُنْدُوقًا مُقْفَلًا، فَفَتْحَ الْقُفْلَ؛ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، حَتَّى ضَاعَ أَوْ مَاتَ الْمُودَعُ؛ فَإِنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا تُرَدُّ عَلَى صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا عَيْنُ مَالِهِ، وَمَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ؛ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَتْ لَا تُعْرَفُ بِعَيْنِهَا، فَهِيَ دَيْنٌ فِي تَرِكَتِهِ يُحَاصُّ الْغُرَمَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ مُجْهِلًا لِلْوَدِيعَةِ، فَقَدْ أَتْلَفَهَا مَعْنَى، لِخُرُوجِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِعًا بِهَا فِي حَقِّ الْمَالِكِ بِالتَّجْهِيلِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْإِتْلَافِ. وَلَوْ قَالَتْ الْوَرَثَةُ: إنَّهَا هَلَكَتْ أَوْ رُدَّتْ عَلَى الْمَالِكِ لَا، يُصَدَّقُونَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ مُجْهَلًا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ؛ لِكَوْنِهِ إتْلَافًا، فَكَانَ

كتاب العارية

دَعْوَى الْهَلَاكِ، وَالرَّدِّ دَعْوَى أَمْرٍ عَارِضٍ فَلَا يُقْبَلُ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَيُحَاصُّ الْمُودَعُ الْغُرَمَاءَ؛ لِأَنَّهُ دَيْنُ الِاسْتِهْلَاكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا؛ فَيُسَاوِي دَيْنَ الصِّحَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْعَارِيَّةِ] [رُكْن الْعَارِيَّةِ] (كِتَابُ الْعَارِيَّةِ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ رُكْنِ الْعَارِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْعَقْدِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكهُ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْتَعَارِ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ، وَفِي بَيَانِ حَالِ الْمُسْتَعَارِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ حَالِهِ أَمَّا رُكْنُهَا: فَهُوَ الْإِيجَابُ مِنْ الْمُعِيرِ، وَأَمَّا الْقَبُولُ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، كَمَا فِي الْهِبَةِ، حَتَّى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يُعِيرُ فُلَانًا فَأَعَارَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ يَحْنَثُ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَهَبُ فُلَانًا شَيْئًا فَوَهَبَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْهِبَةِ وَالْإِيجَابُ هُوَ أَنْ يَقُولَ: أَعَرْتُك هَذَا الشَّيْءَ، أَوْ مَنَحْتُك هَذَا الثَّوْبَ أَوْ هَذِهِ الدَّارَ، أَوْ أَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ هَذِهِ الْأَرْضُ لَك طُعْمَةً، أَوْ أَخْدَمْتُك هَذَا الْعَبْدَ أَوْ هَذَا الْعَبْدُ لَك خِدْمَةً، أَوْ حَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إذَا لَمْ يَنْوِ بِهِ الْهِبَةَ أَوْ دَارِي سُكْنَى أَوْ دَارِي لَكَ عُمْرَى سُكْنَى أَمَّا لَفْظُ الْإِعَارَةِ فَصَرِيحٌ فِي بَابِهَا. وَأَمَّا الْمِنْحَةُ فَهِيَ اسْمٌ لِلْعَطِيَّةِ الَّتِي يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ بِهَا زَمَانًا ثُمَّ يَرُدُّهَا عَلَى صَاحِبِهَا، وَهُوَ مَعْنَى الْعَارِيَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَمِنْحَةُ الْأَرْضِ زِرَاعَتُهَا» قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ازْرَعْهَا أَوْ امْنَحْهَا أَخَاك» وَكَذَا الْإِطْعَامُ الْمُضَافُ إلَى الْأَرْضِ، هُوَ إطْعَامُ مَنَافِعِهَا الَّتِي تَحْصُلُ مِنْهَا بِالزِّرَاعَةِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ عُرْفًا وَعَادَةً، وَهُوَ مَعْنَى الْعَارِيَّةِ. وَأَمَّا إخْدَامُ الْعَبْدِ إيَّاهُ فَجَعَلَ خِدْمَتَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْعَارِيَّةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: دَارِي لَك سُكْنَى أَوْ عُمْرِي سُكْنَى، هُوَ جَعْلُ سُكْنَى الدَّارِ لَهُ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَسُكْنَى الدَّارِ مَنْفَعَتُهَا الْمَطْلُوبَةُ مِنْهَا عَادَةً، فَقَدْ أَتَى بِمَعْنَى الْإِعَارَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: حَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِعَارَةَ وَالْهِبَةَ، فَأَيُّ ذَلِكَ نَوَى فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يُحْتَمَلُ لَفْظُهُ، وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْعَارِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَدْنَى فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهَا أَوْلَى. وَلَوْ قَالَ: دَارِي لَك رُقْبَى أَوْ حَبْسٌ، فَهُوَ عَارِيَّةٌ عِنْد أَبِي حَنِيفَة وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْد أَبِي يُوسُفَ هِبَةٌ، وَقَوْلُهُ رُقْبَى أَوْ حَبْسٌ بَاطِلٌ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْهِبَةِ. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِطِ الَّتِي يَصِيرُ الرُّكْنُ بِهَا إعَارَةً شَرْعًا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الَّتِي يَصِيرُ الرُّكْنُ بِهَا إعَارَةً شَرْعًا فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا الْعَقْلُ، فَلَا تَصِحُّ الْإِعَارَةُ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ. وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا حَتَّى تَصِحَّ الْإِعَارَةُ مِنْ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ، وَأَنَّهُ يَمْلِكُ التِّجَارَةَ فَيَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَمْلِكُ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْمَأْذُونِ، وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَيَمْلِكُهَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فَيَمْلِكُ بِمِلْكِ ذَلِكَ، وَمِنْهَا الْقَبْضُ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ بِدُونِ الْقَبْضِ كَالْهِبَةِ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَعَارُ مِمَّا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِدُونِ اسْتِهْلَاكِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا تَصِحُّ إعَارَتُهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ ثَبَتَ فِي الْمَنْفَعَةِ لَا فِي الْعَيْنِ، إلَّا إذَا كَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْمَنْفَعَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ عَقْدِ الْإِعَارَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْعَقْدِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ صِفَتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْتَعِيرِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، أَوْ مَا هُوَ مُلْحَقٌ بِالْمَنْفَعَةِ عُرْفًا وَعَادَةً عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إبَاحَةُ الْمَنْفَعَةِ حَتَّى يَمْلِكَ الْمُسْتَعِيرُ الْإِعَارَةَ، عِنْدَنَا فِي الْجُمْلَةِ كَالْمُسْتَأْجِرِ يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ، وَعِنْدَهُ لَا يَمْلِكُهَا أَصْلًا، كَالْمُبَاحِ لَهُ الطَّعَامُ لَا يَمْلِكُ الْإِبَاحَةَ مِنْ غَيْرِهِ. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِجَوَازِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ لَمَا جَازَ مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ كَالْإِجَارَةِ، وَكَذَا الْمُسْتَعِيرُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَجِّرَ الْعَارِيَّةَ، وَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ فِي الْمَنْفَعَةِ لِمِلْكٍ كَالْمُسْتَأْجِرِ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ لِانْعِدَامِ الْمَنْفَعَةِ حَالَةَ الْعَقْدِ، وَالْمَعْدُومُ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ، إلَّا أَنَّهَا جُعِلَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْعَقْدِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ حُكْمًا لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْإِعَارَةِ، فَبَقِيَتْ الْمَنَافِعُ فِيهَا عَلَى أَصْلِ الْعَدَمِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمُعِيرَ سَلَّطَهُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَصَرْفِهَا إلَى نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ زَالَتْ يَدُهُ عَنْهَا، وَالتَّسْلِيطُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ تَمْلِيكًا لَا إبَاحَةً كَمَا فِي الْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا

صَحَّ مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ؛ لِأَنَّ بَيَانَ الْأَجَلِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَالْجَهَالَةُ فِي بَابِ الْعَارِيَّةِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ وَالْإِعَارَةُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، فَلَوْ مَلَكَ الْإِجَارَةَ لَكَانَ فِيهِ إثْبَاتُ صِفَةِ اللُّزُومِ بِمَا لَيْسَ بِلَازِمٍ، أَوْ سَلْبُ صِفَةِ اللُّزُومِ عَنْ اللَّازِمِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَقَوْلُهُ: الْمَنَافِعُ مُنْعَدِمَةٌ عِنْدَ الْعَقْدِ قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقْدَ الْوَارِدَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ عِنْدَنَا عَقْدٌ مُضَافٌ إلَى حِينِ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ، فَلَا يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا، فَلَمْ يَكُنْ بَيْعُ الْمَعْدُومِ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ إعَارَةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَنَّهَا تَكُونُ قَرْضًا لَا إعَارَةً؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ لَمَّا كَانَتْ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ أَوْ إبَاحَةَ الْمَنْفَعَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ، وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهَا، وَلَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ فِي الْعَيْنِ لَا فِي الْمَنْفَعَةِ، وَلَا يُمْكِنُ - تَصْحِيحًا - إعَارَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، فَتُصَحَّحُ قَرْضًا مَجَازًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِعَارَةِ فِيهِ، حَتَّى لَوْ اسْتَعَارَ حُلِيًّا لِيَتَجَمَّلَ بِهِ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلَاكٍ بِالتَّجَمُّلِ، فَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ، وَكَذَا إعَارَةُ كُلِّ مَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهِ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، يَكُونُ قَرْضًا لَا إعَارَةً لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَحَلَّ حُكْمِ الْإِعَارَةِ الْمَنْفَعَةُ لَا بِالْعَيْنِ، إلَّا إذَا كَانَ مُلْحَقًا بِالْمَنْفَعَةِ عُرْفًا وَعَادَةً، كَمَا إذَا مَنَحَ إنْسَانًا شَاةً أَوْ نَاقَةً لِيَنْتَفِعَ بِلَبَنِهَا وَوَبَرِهَا مُدَّةً ثُمَّ يَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْدُودٌ مِنْ الْمَنَافِعِ عُرْفًا وَعَادَةً، فَكَانَ لَهُ حُكْمُ الْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «هَلْ مِنْ أَحَدٍ يَمْنَحُ مِنْ إبِلِهِ نَاقَةَ أَهْلِ بَيْتٍ لَا دُرَّ لَهُمْ» وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّرْغِيبِ، كَمَنْ مَنَحَ مِنْحَةَ وَرِقٍ أَوْ مِنْحَةَ لُبْسٍ كَانَ لَهُ بِعِدْلِ رَقَبَةٍ، وَكَذَا لَوْ مَنَحَ جَدْيًا أَوْ عَنَاقًا كَانَ عَارِيَّةً؛ لِأَنَّهُ يَعْرِضُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِلَبَنِهِ وَصُوفِهِ وَيَتَّصِلُ بِهَذَا الْفَصْلِ بَيَانُ مَا يَمْلِكُهُ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْتَعَارِ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ عَقْدَ الْإِعَارَةِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا إنْ كَانَ مُطْلَقًا، وَإِمَّا إنْ كَانَ مُقَيَّدًا، فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا بِأَنْ أَعَارَ دَابَّتَهُ إنْسَانًا وَلَمْ يُسَمِّ مَكَانًا وَلَا زَمَانًا وَلَا الرُّكُوبَ وَلَا الْحَمْلَ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا فِي أَيِّ مَكَان وَزَمَانٍ شَاءَ. وَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ أَوْ يَحْمِلَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُطْلَقِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَقَدْ مَلَّكَهُ مَنَافِعَ الْعَارِيَّةِ مُطْلَقًا، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي مَلَكَهَا، إلَّا أَنَّهُ لَا يَحْمِلُ عَلَيْهَا مَا يَعْلَمُ أَنَّ مِثْلَهَا لَا يُطِيقُ بِمِثْلِ هَذَا الْحَمْلِ، وَلَا يَسْتَعْمِلُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا مَا لَا يَسْتَعْمِلُ مِثْلَهَا مِنْ الدَّوَابِّ لِذَلِكَ عَادَةً، حَتَّى لَوْ فَعَلَ فَعَطِبَتْ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْإِطْلَاقِ، لَكِنَّ الْمُطْلَقَ يَتَقَيَّدُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ دَلَالَةً، كَمَا يَتَقَيَّدُ نَصًّا، وَلَهُ أَنْ يُعِيرَ الْعَارِيَّةَ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَتْ الْعَارِيَّةُ مِمَّا يَتَفَاوَتُ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمُسْتَعِيرِ، فَكَانَ هُوَ فِي التَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي مَلَكَهُ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ آجَرَ وَسَلَّمَ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ مَالَ الْغَيْرِ إلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَصَارَ غَاصِبًا، فَإِنْ شَاءَ ضَمِنَهُ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَالْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ آجَرَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِكَوْنِهَا عَارِيَّةً فِي يَدِهِ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَقَدْ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَعِيرِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْغُرُورِ، وَهُوَ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ فِي الْحَقِيقَةِ. وَإِذَا كَانَ عَالِمًا لَمْ يَصِرْ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ وَهَلْ يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ: يَمْلِكُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِعَارَةَ فَالْإِيدَاعُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا دُونَ الْإِعَارَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَمْلِكُ اسْتِدْلَالًا بِمَسْأَلَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَهِيَ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ إذَا رَدَّ الْعَارِيَّةَ عَلَى يَدِ أَجْنَبِيٍّ ضَمِنَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّدَّ عَلَى يَدِهِ إيدَاعُ إيَّاهُ، وَلَوْ مَلَكَ الْإِيدَاعَ لَمَا ضَمِنَ وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا، فَيُرَاعَى فِيهِ الْقَيْدُ مَا أَمْكَنَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ اعْتِبَارِ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَصَرَّفَ، إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ اعْتِبَارُهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَغَا الْوَصْفَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْعَبَثِ، ثُمَّ إنَّمَا يُرَاعَى الْقَيْدُ فِيمَا دَخَلَ لَا فِيمَا لَمْ يَدْخُلْ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ إذَا قُيِّدَ بِبَعْضِ الْأَوْصَافِ يَبْقَى مُطْلَقًا فِيمَا وَرَاءَهُ، فَيُرَاعَى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِيمَا وَرَاءَهُ بَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ: إذَا أَعَارَ إنْسَانًا دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا الْمُسْتَعِيرُ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَعَارَهُ ثَوْبًا

فصل في صفة الحكم في الإعارة

عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ بِنَفْسِهِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُقَيَّدِ اعْتِبَارُ الْقَيْدِ فِيهِ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ، وَاعْتِبَارُ هَذَا الْقَيْدِ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي اسْتِعْمَالِ الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ رُكُوبًا وَلُبْسًا، فَلَزِمَ اعْتِبَارُ الْقَيْدِ فِيهِ، فَإِنْ فَعَلَ حَتَّى هَلَكَ ضَمِنَ لِأَنَّهُ خَالَفَ، وَإِنْ رَكِبَ بِنَفْسِهِ وَأَرْدَفَ غَيْرَهُ فَعَطِبَتْ فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ؛ مِمَّا تُطِيقُ حَمْلَهُمَا جَمِيعًا يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ الدَّابَّةِ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ إلَّا فِي قَدْرِ النِّصْفِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ مِمَّا لَا تُطِيقُ حَمْلَهُمَا ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهَا، وَلَوْ أَعَارَهُ دَارًا لِيَسْكُنَهَا بِنَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يُسْكِنَهَا غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ بِالْعَقْدِ السُّكْنَى، وَالنَّاسُ لَا يَتَفَاوَتُونَ فِيهِ عَادَةً فَلَمْ يَكُنْ التَّقْيِيدُ بِسُكْنَاهُ مُفِيدًا فَيَلْغُو، إلَّا إذَا كَانَ الَّذِي يُسْكِنُهَا إيَّاهُ حَدَّادًا أَوْ قَصَّارًا وَنَحْوَهُمَا مِمَّنْ يُوهِنُ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَهَا إيَّاهُ، وَلَا أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُعِيرَ لَا يَرْضَى بِهِ عَادَةً، وَالْمُطْلَقُ يَتَقَيَّدُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، وَلَوْ أَعَارَهُ دَابَّةً عَلَى أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ شَعِيرٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ أَثْقَلُ مِنْ الشَّعِيرِ، فَكَانَ اعْتِبَارُ الْقَيْدِ مُفِيدًا فَيُعْتَبَرُ، وَلَوْ أَعَارَهَا عَلَى أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ فَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ شَعِيرًا أَوْ دُخْنًا أَوْ أُرْزًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ مِثْلَ الْحِنْطَةِ أَوْ أَخَفَّ مِنْهَا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ، حَتَّى أَنَّهَا لَوْ عَطِبَتْ لَا يَضْمَنُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ، وَجَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ خِلَافًا صُورَةً فَلَيْسَ بِخِلَافٍ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَكُونُ رَاضِيًا بِهِ دَلَالَةً فَلَمْ يَكُنْ التَّقْيِيدُ بِالْحِنْطَةِ مُفِيدًا، وَصَارَ كَمَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ مِنْ حِنْطَةِ نَفْسِهِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ مِنْ حِنْطَةِ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا حَتَّى لَا يَضْمَنَ، كَذَا هَذَا، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةً لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا حَطَبًا أَوْ تِبْنًا أَوْ آجُرًّا أَوْ حَدِيدًا أَوْ حِجَارَةً سَوَاءٌ كَانَ مِثْلَهَا فِي الْوَزْنِ أَوْ أَخَفَّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَشَقُّ عَلَى الدَّابَّةِ أَوْ أَنْكَى لِظَهْرِهَا أَوْ أَعْقَرَ، وَلَوْ فَعَلَ حَتَّى عَطِبَتْ ضَمِنَ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا مِائَةً مِنْ قُطْنٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا مِثْلَهُ مِنْ الْحَدِيدِ وَزْنًا فَعَطِبَتْ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْقُطْنَ يَنْبَسِطُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، فَكَانَ ضَرُورَتُهُ أَقَلَّ مِنْ الْحَدِيدِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ ضَرُورَةً بِالدَّابَّةِ أَكْثَرَ وَالرِّضَا بِأَدْنَى الضَّرَرَيْنِ لَا يَكُونُ رِضًا بِأَعْلَاهُمَا، فَكَانَ التَّقْيِيدُ مُفِيدًا فَيَلْزَمُ اعْتِبَارُهُ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا مِنْ الْحِنْطَةِ زِيَادَةً عَلَى الْمُسَمَّى فِي الْقَدْرِ فَعَطِبَتْ نُظِرَ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِمَّا لَا تُطِيقُ الدَّابَّةُ حَمْلَهَا، يَضْمَنُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ حَمْلَ مَا لَا تُطِيقُ الدَّابَّةُ إتْلَافٌ لِلدَّابَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ مِمَّا تُطِيقُ حَمْلَهَا يَضْمَنُ مِنْ قِيمَتِهَا قَدْرَ الزِّيَادَةِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَحَدَ عَشَرَ مَخْتُومًا فَعَطِبَتْ يَضْمَنُ جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتْلِفْ مِنْهَا إلَّا هَذَا الْقَدْرَ، وَلَوْ قَيَّدَهَا بِالْمَكَانِ، بِأَنْ قَالَ: عَلَى أَنْ تَسْتَعْمِلَهَا فِي مَكَانِ كَذَا فِي الْمِصْرِ يَتَقَيَّدُ بِهِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ بِأَيِّ شَيْءٍ شَاءَ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ لَمْ يُوجَدْ إلَّا بِالْمَكَانِ فَبَقِيَ مُطْلَقًا فِيمَا وَرَاءَهُ، لَكِنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُجَاوِزَ ذَلِكَ الْمَكَانَ، حَتَّى لَوْ جَاوَزَهُ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ، وَلَوْ أَعَادَهَا إلَى الْمَكَانِ الْمَأْذُونِ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ مِنْ قَبْلِ التَّسْلِيمِ إلَى الْمَالِكِ يَضْمَنُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - الْآخَرُ، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ كَالْمُودِعِ إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاق ثُمَّ رَجَعَ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَيَّدَهَا بِالزَّمَانِ بِأَنْ قَالَ: عَلَى أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا يَوْمًا يَبْقَى مُطْلَقًا فِيمَا وَرَاءَهُ، لَكِنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِالزَّمَانِ، حَتَّى لَوْ مَضَى الْيَوْمُ وَلَمْ يَرُدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ حَتَّى هَلَكَتْ يَضْمَنُ، لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَيَّدَهَا بِالْحَمْلِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَيَّدَهَا بِالِاسْتِعْمَالِ، بِأَنْ قَالَ: عَلَى أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا حَتَّى لَوْ أَمْسَكَهَا وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهَا حَتَّى هَلَكَتْ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مِنْهُ خِلَافٌ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمُعِيرُ أَوْ الْمُسْتَعِيرُ فِي الْأَيَّامِ أَوْ الْمَكَانِ أَوْ فِيمَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعِيرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَسْتَفِيدُ مِلْكَ الِانْتِفَاعِ مِنْ الْمُعِيرِ، فَكَانَ الْقَوْلُ فِي الْمِقْدَارِ وَالتَّعْيِينِ قَوْلَهُ، لَكِنْ مَعَ الْيَمِينِ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ. [فَصْلٌ فِي صِفَةُ الْحُكْمِ فِي الْإِعَارَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْحُكْمِ فَهِيَ أَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ لِلْمُسْتَعِيرِ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ، فَلَا يَكُونُ لَازِمًا كَالْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالْهِبَةِ، فَكَانَ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَارِيَّةِ سَوَاءٌ أَطْلَقَ الْعَارِيَّةَ أَوْ وَقَّتَ لَهَا وَقْتًا، وَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَعَارَ مِنْ آخَرَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ عَلَيْهَا أَوْ لِيَغْرِسَ فِيهَا، ثُمَّ بَدَا لِلْمَالِكِ أَنْ يُخْرِجَهُ فَلَهُ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَتْ الْعَارِيَّةُ مُطْلَقَةً أَوْ مُوَقَّتَةً، لِمَا قُلْنَا غَيْرَ أَنَّهَا إنْ

فصل في بيان حال المستعار

كَانَتْ مُطْلَقَةً لَهُ أَنْ يُجْبِرَ الْمُسْتَعِيرَ عَلَى قَلْعِ الْغَرْسِ وَنَقْضِ الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ فِي التَّرْكِ ضَرَرًا بِالْمُعِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَإِذَا قَلَعَ وَنَقَضَ لَا يَضْمَنُ الْمُعِيرُ شَيْئًا مِنْ قِيمَةِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ لَوَجَبَ بِسَبَبِ الْغُرُورِ، وَلَا غُرُورَ مِنْ جِهَتِهِ، حَيْثُ أَطْلَقَ الْعَقْدَ وَلَمْ يُوَقِّتْ فِيهِ وَقْتًا فَأَخْرَجَهُ قَبْلَ الْوَقْتِ، بَلْ هُوَ الَّذِي غَرَّرَ نَفْسَهُ حَيْثُ حَمَلَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْأَبَدِ، وَإِنْ كَانَتْ مُوَقَّتَةً فَأَخْرَجَهُ قَبْلَ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى النَّقْضِ وَالْقَلْعِ. وَالْمُسْتَعِيرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ صَاحِبَ الْأَرْضِ قِيمَةَ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ قَائِمًا سَلِيمًا وَتَرَكَ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَّتَ لِلْعَارِيَّةِ وَقْتًا ثُمَّ أَخْرَجَهُ قَبْلَ الْوَقْتِ فَقَدْ غَرَّهُ، فَصَارَ كَفِيلًا عَنْهُ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ، إذْ ضَمَانُ الْغُرُورِ كَفَالَةٌ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ، وَيَمْلِكُ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ الْمَضْمُونَاتِ أَنَّهَا تُمْلَكُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ غَرْسَهُ وَبِنَاءَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ ثُمَّ إنَّمَا يَثْبُتُ خِيَارُ الْقَلْعِ وَالنَّقْضِ لِلْمُسْتَعِيرِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَلْعُ أَوْ النَّقْضُ مُضِرًّا بِالْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَ مُضِرًّا بِهَا فَالْخِيَارُ لِلْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ وَالْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ تَابِعٌ لَهَا، فَكَانَ الْمَالِكُ صَاحِبَ أَصْلٍ وَالْمُسْتَعِيرُ صَاحِبَ تَبَعٍ، فَكَانَ إثْبَاتُ الْخِيَارِ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ أَوْلَى إنْ شَاءَ أَمْسَكَ الْغَرْسَ وَالْبِنَاءَ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِالْقَلْعِ وَالنَّقْضِ هَذَا إذَا اسْتَعَارَ أَرْضًا لِلْغَرْسِ أَوْ الْبِنَاءِ، فَأَمَّا إذَا اسْتَعَارَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ فَزَرَعَهَا، ثُمَّ أَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَحْصُدَ الزَّرْعَ، بَلْ يُتْرَكُ فِي يَدِهِ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ اسْتِحْسَانًا فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِلِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النَّظَرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَرِعَايَةَ الْحَقَّيْنِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي الزَّرْعِ؛ لِأَنَّ إدْرَاكَ الزَّرْعِ لَهُ وَقْتٌ مَعْلُومٌ، فَيُمْكِنُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ الْمُسْتَعِيرِ لَا شَكَّ فِيهِ، وَجَانِبِ الْمَالِكِ بِالتَّرْكِ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ بِالْأَجْرِ، وَلَا يُمْكِنُ فِي الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ وَقْتٌ مَعْلُومٌ، فَكَانَ مُرَاعَاةُ صَاحِبِ الْأَصْلِ أَوْلَى، وَقَالُوا فِي بَابِ الْإِجَارَةِ: إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ لَمْ يَسْتَحْصِدْ أَنَّهُ يُتْرَكُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ، كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ لِمَا قُلْنَا، بِخِلَافِ بَابِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ التَّرْكَ لِلنَّظَرِ، وَالْغَاصِبُ جَانٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ بَلْ يُجْبَرُ عَلَى الْقَلْعِ [فَصْلٌ فِي بَيَانِ حَالِ الْمُسْتَعَارِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حَالِ الْمُسْتَعَارِ: فَحَالُهُ أَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ فِي حَالِ الِاسْتِعْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ حَالِ الِاسْتِعْمَالِ فَكَذَلِكَ عِنْدنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَضْمُونٌ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعَارَ مِنْ صَفْوَانَ دِرْعًا يَوْمَ حُنَيْنٌ، فَقَالَ صَفْوَانُ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ» وَلِأَنَّ الْعَيْنَ مَضْمُونَةُ الرَّدِّ حَالَ قِيَامِهَا، فَكَانَتْ مَضْمُونَةَ الْقِيمَةِ حَالَ هَلَاكِهَا كَالْمَغْصُوبِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَيْنَ اسْمٌ لِلصُّورَةِ، وَالْمَعْنَى وَبِالْهَلَاكِ إنْ عَجَزَ عَنْ رَدِّ الصُّورَةِ لَمْ يَعْجِزْ عَنْ رَدِّ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الشَّيْءِ مَعْنَاهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ بِمَعْنَاهُ كَمَا فِي الْغَصْبِ، وَلِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ الْغَيْرِ لِنَفْسِهِ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ. (وَلَنَا) أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ كَالْوَدِيعَةِ وَالْإِجَارَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ بِدُونِ فِعْلِهِ، وَفِعْلُهُ الْمَوْجُودُ مِنْهُ ظَاهِرًا هُوَ الْعَقْدُ وَالْقَبْضُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ أَمَّا الْعَقْدُ؛ فَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ بِالْمَنْفَعَةِ تَمْلِيكًا أَوْ إبَاحَةً عَلَى اخْتِلَاف الْأَصْلَيْنِ. وَأَمَّا الْقَبْضُ، فَلِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ قَبْضَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، فَبِالْإِذْنِ أَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّ قَبْضَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ هُوَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ وَحِفْظُهُ وَصِيَانَتُهُ عَنْ الْهَلَاكِ وَهَذَا إحْسَانٌ فِي حَقِّ الْمَالِكِ قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] دَلَّ أَنَّ قَبْضَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، فَمَعَ الْإِذْنِ أَوْلَى وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَبْضَ الْمَأْذُونَ فِيهِ لَا يَكُونُ تَعَدِّيًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُفَوِّتُ يَدَ الْمَالِكِ وَلَا ضَمَانَ إلَّا عَلَى الْمُتَعَدِّي، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193] بِخِلَافِ قَبْضِ الْغَصْبِ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِضَمَانِ الرَّدِّ، قُلْنَا: إنْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْعَيْنِ حَالَ قِيَامِهَا، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ رَدُّ الْقِيمَةِ حَالَ هَلَاكِهَا وَقَوْلُهُ: قِيمَتُهَا مَعْنَاهَا، قُلْنَا: مَمْنُوعٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقِيمَةَ هِيَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ عَيْنٌ أُخْرَى لَهَا صُورَةٌ وَمَعْنًى غَيْرُ الْعَيْنِ الْأُولَى، فَالْعَجْزُ عَنْ رَدِّ أَحَدِ الْعَيْنَيْنِ لَمْ يُوجِبْ رَدَّ الْعَيْنِ الْأُخْرَى، وَفِي بَابِ الْغَصْبِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، بَلْ بِطَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ إتْلَافُ الْمَغْصُوبِ مَعْنًى لِمَا عُلِمَ، وَهُنَا لَمْ يُوجَدْ، حَتَّى لَوْ وُجِدَ يَجِبُ الضَّمَانُ

فصل في بيان ما يوجب تغير حال المستعار من الأمانة إلى الضمان

ثُمَّ نَقُولُ: إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الرَّدِّ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَتَى انْتَهَى بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ بِالطَّلَبِ بَقِيَ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ كَالْمَغْصُوبِ، وَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونُ الرَّدِّ حَالَ قِيَامِهِ وَمَضْمُونُ الْقِيمَةِ حَالَ هَلَاكِهِ، وَعِنْدَنَا إذَا هَلَكَتْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ضَمِنَ وَأَمَّا قَوْلُهُ: قَبْضُ مَالِ الْغَيْرِ لِنَفْسِهِ فَنَعَمْ، لَكِنْ قَبْضُ مَالِ الْغَيْرِ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لِمَا ذَكَرْنَا، فَمَعَ الْإِذْنِ أَوْلَى. وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْقَبْضِ بَلْ بِالْعَقْدِ بِطَرِيقِ التَّعَاطِي، بِشَرْطِ الْخِيَارِ الثَّابِتِ دَلَالَةً لِمَا عُلِمَ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ، فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ هَرَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فَأَمَّنَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُ حُنَيْنًا، فَقَالَ: هَلْ عِنْدَك شَيْءٌ مِنْ السِّلَاحِ فَقَالَ: عَارِيَّةً أَوْ غَصْبًا فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: عَارِيَّةً، فَأَعَارَهُ» وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الضَّمَانَ، وَالْحَادِثَةُ حَادِثَةٌ وَاحِدَةٌ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَا يَكُونُ الثَّابِتُ إلَّا إحْدَاهُمَا فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ، مَعَ مَا أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ فَيَحْتَمِلُ ضَمَانَ الرَّدِّ، وَبِهِ نَقُولُ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى ضَمَانِ الْغَيْرِ مَعَ الِاحْتِمَالِ، يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا، مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ» . [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ حَالِ الْمُسْتَعَارِ مِنْ الْأَمَانَةِ إلَى الضَّمَانِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ حَالِهَا فَاَلَّذِي يُغَيِّرُ حَالَ الْمُسْتَعَارِ مِنْ الْأَمَانَةِ إلَى الضَّمَانِ، مَا هُوَ الْمُغَيِّرُ حَالَ الْوَدِيعَةِ، وَهُوَ الْإِتْلَافُ حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى بِالْمَنْعِ بَعْدَ الطَّلَبِ أَوْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَبِتَرْكِ الْحِفْظِ، وَبِالْخِلَافِ، حَتَّى لَوْ حَبَسَ الْعَارِيَّةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ بَعْدَ الطَّلَبِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبُ الرَّدِّ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ» وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ» وَلِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ انْتَهَى بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَوْ الطَّلَبِ، فَصَارَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ كَالْمَغْصُوبِ، وَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونُ الرَّدِّ حَالَ قِيَامِهِ، وَمَضْمُونُ الْقِيمَةِ حَالَ هَلَاكِهِ، وَلَوْ رَدَّ الْعَارِيَّةَ مَعَ عَبْدِهِ أَوْ ابْنِهِ أَوْ بَعْضِ مَنْ فِي عِيَالِهِ، أَوْ مَعَ عَبْدِ الْمُعِيرِ، أَوْ رَدَّهَا بِنَفْسِهِ إلَى مَنْزِلِ الْمَالِكِ وَجَعَلَهَا فِيهِ، لَا يَضْمَنُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ، وَكَذَا إذَا تَرَكَ الْحِفْظَ حَتَّى ضَاعَتْ، وَكَذَا إذَا خَالَفَ، إلَّا أَنَّ فِي بَابِ الْوَدِيعَةِ إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَهُنَا لَا يَبْرَأُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ، وَلَوْ تَصَرَّفَ الْمُسْتَعِيرُ وَادَّعَى أَنَّ الْمَالِكَ قَدْ أَذِنَ لَهُ بِذَلِكَ، وَجَحَدَ الْمَالِكُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ حَتَّى يَقُومَ لِلْمُسْتَعِيرِ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةٌ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ مِنْهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ، فَدَعْوَى الْإِذْنِ مِنْهُ دَعْوَى أَمْرٍ عَارِضٍ فَلَا تُسْمَعُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ] [جَوَازِ الْوَقْف وَكَيْفِيَّته] (كِتَابُ الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ) أَمَّا الْوَقْفُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ جَوَازِ الْوَقْفِ وَكَيْفِيَّتِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْوَقْفِ الْجَائِزِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ الْوَقْفِ فِي حَقِّ وُجُوبِ التَّصَدُّقِ بِالْفَرْعِ مَا دَامَ الْوَقْفُ حَيًّا، حَتَّى أَنَّ مَنْ وَقَفَ دَارِهِ أَوْ أَرْضَهُ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِغَلَّةِ الدَّارِ وَالْأَرْضِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ بِالتَّصَدُّقِ بِالْغَلَّةِ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي جَوَازِهِ فِي حَقِّ زَوَالِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي أَوْ أَضَافَهُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، بِأَنْ قَالَ: إذَا مِتَّ فَقَدْ جَعَلْتُ دَارِي أَوْ أَرْضِي وَقْفًا عَلَى كَذَا أَوْ قَالَ: هُوَ وَقْفٌ فِي حَيَاتِي صَدَقَةٌ بَعْدَ وَفَاتِي وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ مُزِيلًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ إذَا لَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا اتَّصَلَ بِهِ حُكْمُ حَاكِمٍ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: لَا يَجُوزُ، حَتَّى كَانَ لِلْوَاقِفِ بَيْعُ الْمَوْقُوفِ وَهِبَتُهُ، وَإِذَا مَاتَ يَصِيرُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -: يَجُوزُ، حَتَّى لَا يُبَاعَ وَلَا يُوهَبَ وَلَا يُورَثَ، ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا وَقَفَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ، وَبَيْنَ مَا إذَا وَقَفَ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ، حَتَّى لَا يَجُوزَ عِنْدَهُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا إذَا لَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ وَلَا حُكْمُ الْحَاكِمِ. وَرَوَى الطَّحَاوِيَّ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا وَقَفَ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ جَازَ عِنْدَهُ، وَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَهُوَ جَائِزٌ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا بَنَى رِبَاطًا أَوْ خَانًا لَلْمُجْتَازِينَ، أَوْ سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً، لَا تَزُولُ رَقَبَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَنْ مِلْكِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَضَافَهُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ وَعِنْدَهُمَا

فصل في شرائط جواز الوقف وبعضها يرجع إلى الواقف

يَزُولُ بِدُونِ ذَلِكَ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِنَفْسِ الْقَوْلِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِوَاسِطَةِ التَّسْلِيمِ وَذَلِكَ بِسُكْنَى الْمُجْتَازِينَ فِي الرِّبَاطِ وَالْخَانِ وَسِقَايَةُ النَّاسِ مِنْ السِّقَايَةِ وَالدَّفْنِ فِي الْمَقْبَرَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ جَعَلَ دَارِهِ أَوْ أَرْضَهُ مَسْجِدًا يَجُوزُ، وَتَزُولُ الرَّقَبَةُ عَنْ مِلْكِهِ لَكِنَّ عَزْلَ الطَّرِيقِ وَإِفْرَازَهُ وَالْإِذْنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ، وَالصَّلَاةُ شَرْطٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَزُولُ الرَّقَبَةُ عَنْ مِلْكِهِ بِنَفْسِ قَوْلِهِ: جَعَلْتُهُ مَسْجِدًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. (وَجْهُ) قَوْلِ الْعَامَّةِ الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ، وَوَقَفَ سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ، وَسَيِّدُنَا عُمَرُ، وَسَيِّدُنَا عُثْمَانُ، وَسَيِّدُنَا عَلِيٌّ، وَغَيْرُهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَقَفُوا؛ وَلِأَنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ إلَّا إزَالَةَ الْمِلْكِ عَنْ الْمَوْقُوفِ وَجَعْلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَأَشْبَهَ الْإِعْتَاقَ وَجَعَلَ الْأَرْضَ أَوْ الدَّارَ مَسْجِدًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَصِحُّ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيَصِحُّ مُنَجَّزًا، وَكَذَا لَوْ اتَّصَلَ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي يَجُوزُ، وَغَيْرُ الْجَائِزِ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ لِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ وَفُرِضَتْ فِيهَا الْفَرَائِضُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى» أَيْ لَا مَالَ يُحْبَسُ بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِهِ عَنْ الْقِسْمَةِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَالْوَقْفُ حَبْسٌ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ، فَكَانَ مَنْفِيًّا شَرْعًا وَعَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ بِبَيْعِ الْحَبِيسِ وَهَذَا مِنْهُ رِوَايَةً عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَوْقُوفِ؛ لِأَنَّ الْحَبِيسَ هُوَ الْمَوْقُوف فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، إذْ الْوَقْفُ حَبْسٌ لُغَةً فَكَانَ الْمَوْقُوفُ مَحْبُوسًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الرَّقَبَةِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ (وَأَمَّا) وَقْفُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّمَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ وُقُوعِهِ حَبْسًا عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَدَفْعُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقَعْ حَبْسًا عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» (وَأَمَّا) أَوْقَافُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَمَا كَانَ مِنْهَا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اُحْتُمِلَ أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ النِّسَاءِ فَلَمْ تَقَعْ حَبْسًا عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا كَانَ بَعْدَ وَفَاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَاحْتُمِلَ أَنَّ وَرَثَتَهُمْ أَمْضَوْهَا بِالْإِجَازَةِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنَّمَا جَازَ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ فَيَجُوزُ كَسَائِرِ الْوَصَايَا، لَكِنْ جَوَازُهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ لَا بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، أَلَا تَرَى لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ جَازَ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِثُلُثِ مَالِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا إذَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ فَإِنَّمَا جَازَ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ صَادَفَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ وَأَفْضَى اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ، بِمَا أَفْضَى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، جَائِزٌ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ جَوَازِ الْوَقْف وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَاقِفِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَاقِفِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْوَقْفِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْقُوفِ (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْوَاقِفِ فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) الْعَقْلُ (وَمِنْهَا) الْبُلُوغُ فَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ؛ لِكَوْنِهِ إزَالَةَ الْمِلْكِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ، وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ مِنْهُمَا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْإِعْتَاقُ وَنَحْوُ ذَلِكَ (وَمِنْهَا) الْحُرِّيَّةُ فَلَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَأْذُونًا أَوْ مَحْجُورًا؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ وَلَا مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ، فَلَا يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ كَمَا لَا يَمْلِكُ الصَّدَقَةَ وَالْهِبَةَ وَالْإِعْتَاقَ. (وَمِنْهَا) أَنْ يُخْرِجَهُ الْوَاقِفُ مِنْ يَدِهِ وَيَجْعَلَ لَهُ قَيِّمًا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَفَ، وَكَانَ يَتَوَلَّى أَمْرَ وَقْفِهِ بِنَفْسِهِ وَكَانَ فِي يَدِهِ، وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ كَذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ هَذَا إزَالَةُ الْمِلْكِ لَا إلَى حَدٍّ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّسْلِيمُ كَالْإِعْتَاقِ وَلَهُمَا أَنَّ الْوَقْفَ إخْرَاجُ الْمَالِ عَنْ الْمِلْكِ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ، فَلَا يَصِحُّ بِدُونِ التَّسْلِيمِ كَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ (وَأَمَّا) وَقْفُ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَاحْتَمَلَ أَنَّهُمَا أَخْرَجَاهُ عَنْ أَيْدِيهِمَا وَسَلَّمَاهُ إلَى الْمُتَوَلِّي بَعْدَ ذَلِكَ فَصَحَّ، كَمَنْ وَهَبَ مِنْ آخَرَ شَيْئًا أَوْ تَصَدَّقَ، أَوْ لَمْ يُسَلَّمْ إلَيْهِ وَقْتَ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ ثُمَّ سُلِّمَ صَحَّ التَّسْلِيمُ كَذَا هَذَا

فصل في الشرائط التي ترجع إلى الموقوف

ثُمَّ التَّسْلِيمُ فِي الْوَقْفِ عِنْدَهُمَا أَنْ يَجْعَلَ لَهُ قَيِّمًا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ، وَفِي الْمَسْجِدِ أَنْ يُصَلَّى فِيهِ جَمَاعَةً بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ بِإِذْنِهِ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِهِ أَنَّهُ إذَا أَذِنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ فَصَلَّى وَاحِدٌ كَانَ تَسْلِيمًا، وَيَزُولُ مِلْكُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَشْرُطَ الْوَاقِفُ لِنَفْسِهِ مِنْ مَنَافِعِ الْوَقْفِ شَيْئًا، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ شَرْطٌ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذَا إخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَجَعْلُهُ خَالِصًا لَهُ، وَشَرْطُ الِانْتِفَاعِ لِنَفْسِهِ يَمْنَعُ الْإِخْلَاصَ فَيَمْنَعُ جَوَازَ الْوَقْفِ، كَمَا إذَا جَعَلَ أَرْضَهُ أَوْ دَارِهِ مَسْجِدًا وَشَرَطَ مِنْ مَنَافِعِ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، وَكَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَشَرَطَ خِدْمَتَهُ لِنَفْسِهِ وَلِأَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ وَقَفَ وَشَرَطَ فِي وَقْفِهِ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَكَانَ يَلِي أَمْرَ وَقْفِهِ بِنَفْسِهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْوَاقِفَ إذَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ بَيْعَ الْوَقْفِ وَصَرْفَ ثَمَنِهِ إلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْبَيْعِ شَرْطٌ لَا يُنَافِيهِ الْوَقْفُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُبَاعُ بَابُ الْمَسْجِدِ إذَا خَلِقَ، وَشَجَرُ الْوَقْفِ إذَا يَبِسَ (وَمِنْهَا) أَنْ يَجْعَلَ آخِرَهُ بِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُف ذِكْرُ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ بَلْ يَصِحُّ وَإِنْ سَمَّى جِهَةً تَنْقَطِعُ، وَيَكُونُ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ ثَبَتَ الْوَقْفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ هَذَا الشَّرْطُ ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً وَلِأَنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ أَنْ يَكُونَ آخِرُهُ لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ، فَكَانَ تَسْمِيَةُ هَذَا الشَّرْطِ ثَابِتًا دَلَالَةً، وَالثَّابِتُ دَلَالَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا، وَلَهُمَا أَنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطُ جَوَازِ الْوَقْفِ لِمَا نَذْكُرُ، وَتَسْمِيَةُ جِهَةٍ تَنْقَطِعُ تَوْقِيتٌ لَهُ مَعْنًى فَيَمْنَعُ الْجَوَازَ (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْوَقْفِ فَهُوَ التَّأْبِيدُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا حَتَّى لَوْ وَقَّتَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ لَا إلَى حَدٍّ فَلَا تَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ كَالْإِعْتَاقِ وَجَعْلِ الدَّارِ مَسْجِدًا. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمَوْقُوفِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَوْقُوفِ فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ كَالْعَقَارِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَجُوزُ وَقْفُ الْمَنْقُولِ مَقْصُودًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطُ جَوَازِهِ، وَوَقْفُ الْمَنْقُولِ لَا يَتَأَبَّدَ لِكَوْنِهِ عَلَى شَرَفِ الْهَلَاكِ، فَلَا يَجُوزُ وَقْفُهُ مَقْصُودًا إلَّا إذَا كَانَ تَبَعًا لِلْعَقَارِ، بِأَنْ وَقَفَ ضَيْعَةً بِبَقَرِهَا وَأَكَرَتِهَا وَهُمْ عَبِيدُهُ فَيَجُوزُ، كَذَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ، وَجَوَازُهُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ مَقْصُودًا كَبَيْعِ الشُّرْبِ وَمَسِيلِ الْمَاءِ، وَالطَّرِيقُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَقْصُودًا وَيَجُوزُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ وَالدَّارِ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا جَرَتْ الْعَادَةُ بِوَقْفِهِ، كَوَقْفِ الْمَرِّ وَالْقَدُومِ لِحَفْرِ الْقُبُورِ، وَوَقْفِ الْمِرْجَلِ لِتَسْخِينِ الْمَاءِ، وَوَقْفِ الْجِنَازَةِ وَثِيَابِهَا. وَلَوْ وَقَفَ أَشْجَارًا قَائِمَةً، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّهُ وَقَفَ الْمَنْقُولَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ لِتَعَامُلِ النَّاسِ ذَلِكَ، وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مَنْقُولٌ وَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا بَيْعُ مَا هَرِمَ مِنْهَا، أَوْ صَارَ بِحَالٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فَيُبَاعُ وَيُرَدُّ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ، كَأَنَّهُمَا تَرَكَا الْقِيَاسَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ بِالنَّصِّ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «أَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ احْتَبَسَ أَكْرَاعًا وَأَفْرَاسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى» وَلَا حُجَّةَ لَهُمَا فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ وَقَفَ ذَلِكَ فَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ: حَبَسَهُ، أَيْ أَمْسَكَهُ لِلْجِهَادِ لَا لِلتِّجَارَةِ (وَأَمَّا) وَقْفُ الْكُتُبِ فَلَا يَجُوزُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (وَأَمَّا) عَلَى قَوْلِهِمَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، وَحُكِيَ عَنْ نَصْرِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ وَقَفَ كُتُبَهُ عَلَى الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مَقْسُومًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلَا يَجُوزُ وَقْفُ الْمُشَاعِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَجُوزُ مَقْسُومًا كَانَ أَوْ مُشَاعًا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ شَرْطُ الْجَوَازِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَالشُّيُوعُ يُخِلُّ بِالْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ التَّسْلِيمُ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَصْلًا، فَلَا يَكُونُ الْخَلُّ فِيهِ مَانِعًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَلَكَ مِائَةَ سَهْمٍ بِخَيْبَرَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «احْبِسْ أَصْلَهَا» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشُّيُوعَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَقْفِ، وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَقَفَ مِائَةَ سَهْمٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ بَعْدَهَا، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، عَلَى أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ أَنَّ الْوَقْفَ كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَيُحْمَلُ أَنَّهُ وَقَفَهَا شَائِعًا ثُمَّ قَسَّمَ وَسَلَّمَ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ فَعَلَ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ جَائِزٌ كَمَا لَوْ وَهَبَ مُشَاعًا ثُمَّ قَسَّمَ وَسَلَّمَ. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْوَقْفِ الْجَائِزِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْوَقْفِ الْجَائِزِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ: فَالْوَقْفُ إذَا جَازَ عَلَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، فَحُكْمُهُ أَنَّهُ يَزُولُ

فصل في الصدقة الموقوفة

الْمَوْقُوفُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِغَلَّتِهِ بِالتَّصَدُّقِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ حَبْسُ الْأَصْلِ وَتَصَدُّقٌ بِالْفَرْعِ، وَالْحَبْسُ لَا يُوجِبُ مِلْكَ الْمَحْبُوسِ كَالرَّهْنِ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَبْدَأَ بِصَرْفِ الْفَرْعِ إلَى مَصَالِحِ الْوَقْفِ مِنْ عِمَارَتِهِ وَإِصْلَاحِ مَا وَهِيَ مِنْ بِنَائِهِ وَسَائِرِ مُؤْنَاتِهِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، سَوَاءٌ شَرَطَ ذَلِكَ الْوَاقِفُ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا تَجْرِي إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ. وَلَوْ وَقَفَ دَارِهِ عَلَى سُكْنَى وَلَدِهِ، فَالْعِمَارَةُ عَلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَهُ فَكَانَتْ الْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» كَالْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ أَنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ؛ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا، فَإِنْ امْتَنَعَ، مِنْ الْعِمَارَةِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا بِأَنْ كَانَ فَقِيرًا، آجَرَهَا الْقَاضِي وَعَمَرَهَا بِالْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْوَقْفِ وَاجِبٌ وَلَا يَبْقَى إلَّا بِالْعِمَارَةِ، فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ عَجَزَ عَنْهُ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي اسْتِبْقَائِهِ بِالْإِجَارَةِ، كَالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ إذَا امْتَنَعَ صَاحِبُهَا عَنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا أَنْفَقَ الْقَاضِي عَلَيْهَا بِالْإِجَارَةِ، كَذَا هَذَا. وَمَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ صَرَفَهُ الْحَاكِمُ فِي عِمَارَةِ الْوَقْفِ إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ أَمْسَكَهُ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَى عِمَارَتِهِ فَيَصْرِفُهُ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى مُسْتَحِقِّي الْوَقْفِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْغَلَّةِ لَا فِي الْعَيْنِ، بَلْ هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ، وَلَوْ جَعَلَ دَارِهِ مَسْجِدًا فَخَرِبَ جِوَارُ الْمَسْجِدِ أَوْ اسْتَغْنَى عَنْهُ لَا يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ، وَيَكُونُ مَسْجِدًا أَبَدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ بِوَجْهٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَكَانٍ يُصَلِّي فِيهِ النَّاسُ، فَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ فَقَدْ فَاتَ غَرَضُهُ مِنْهُ فَيَعُودُ إلَى مِلْكِهِ، كَمَا لَوْ كَفَّنَ مَيِّتًا ثُمَّ أَكَلَهُ سَبْعٌ وَبَقِيَ الْكَفَنُ يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ، كَذَا هَذَا وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُ مَسْجِدًا فَقَدْ حَرَّرَهُ وَجَعَلَهُ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَصَحَّ ذَلِكَ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ إلَى مِلْكِهِ كَالْإِعْتَاقِ، بِخِلَافِ تَكْفِينِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ مَا حَرَّرَ الْكَفَنَ وَإِنَّمَا دَفَعَ حَاجَةَ الْمَيِّتِ بِهِ وَهُوَ سَتْرُ عَوْرَتِهِ، وَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْهُ فَيَعُودُ مِلْكًا لَهُ وَقَوْلُهُ: أَزَالَ مِلْكَهُ بِوَجْهٍ وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ، قُلْنَا: مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْمُجْتَازِينَ يُصَلُّونَ فِيهِ، وَكَذَا احْتِمَالُ عَوْدِ الْعِمَارَةِ قَائِمٌ، وَجِهَةُ الْقُرْبَةِ قَدْ صَحَّتْ بِيَقِينٍ فَلَا تَبْطُلُ بِاحْتِمَالِ عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَلَوْ وَقَفَ دَارًا أَوْ أَرْضًا عَلَى مَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَصِيرُ مِيرَاثًا بِالْخَرَابِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِيرُ مِيرَاثًا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ: يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ بِالِاتِّفَاقِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ بِالِاتِّفَاقِ. [فَصْلٌ فِي الصَّدَقَةُ الْمَوْقُوفَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الصَّدَقَةُ إذَا قَالَ دَارِي هَذِهِ فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةً تَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِعَيْنِهَا جَازَ؛ لِأَنَّ النَّاذِرَ بِالنَّذْرِ يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَنْذُورِ بِهِ، وَمَعْنَى الْقُرْبَةِ يَحْصُلُ بِالتَّصَدُّقِ بِثَمَنِ الدَّارِ وَبَلْ أَوْلَى، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِعَيْنِ الدَّارِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: دَارِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ، تَصَدَّقَ بِالسُّكْنَى وَالْغَلَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ بِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ، وَالْوَقْفُ حَبْسُ الْأَصْلِ وَتَصَدُّقٌ بِالْفَرْعِ، وَلَوْ قَالَ: مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةً، تَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْكُلِّ لِأَنَّ اسْمَ الْمَالِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكُلِّ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إيجَابِ الصَّدَقَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاسْمِ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْله تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً وَنَحْوُ ذَلِكَ تُصْرَفُ إلَى بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ الْكُلِّ، فَكَذَا إيجَابُ الْعَبْدِ، وَلَوْ قَالَ: مَا أَمْلِكُهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ، تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَيُقَال لَهُ: أَمْسِكْ قَدْرَ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِك وَعِيَالِك إلَى أَنْ تَكْتَسِبَ مَالًا، فَإِذَا اكْتَسَبْتَ مَالًا تَصَدَّقْت بِمِثْلِ مَا أَمْسَكْت لِنَفْسِك؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الصَّدَقَةَ إلَى الْمَمْلُوكِ، وَجَمِيعُ مَالِهِ مَمْلُوكٌ لَهُ فَيَتَصَدَّقُ بِالْجَمِيعِ، إلَّا أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: أَمْسِكْ قَدْرَ النَّفَقَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِالْكُلِّ عَلَى غَيْرِهِ لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الدَّعْوَى] [بَيَانِ رُكْنِ الدَّعْوَى] (كِتَابُ الدَّعْوَى) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ رُكْنِ الدَّعْوَى وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ حَدِّ الْمُدَّعِي

فصل في الشرائط المصححة للدعوى

وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الدَّعْوَى وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ وَفِي بَيَانِ حُجَّةِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَفِي بَيَانِ عَلَائِقِ الْيَمِينِ وَفِي بَيَانِ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الْخُصُومَةُ عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ خَصْمًا وَفِي بَيَانِ حُكْمِ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ مَعَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ وَحُكْمِ تَعَارُضِ الدَّعْوَى لَا غَيْرَ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ الثَّابِتِ فِي الْمَحَلِّ (أَمَّا) رُكْنُ الدَّعْوَى فَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِي عَلَى فُلَانٍ أَوْ قِبَل فُلَانٍ كَذَا أَوْ قَضَيْتُ حَقَّ فُلَانٍ أَوْ أَبْرَأَنِي عَنْ حَقِّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِطِ الْمُصَحِّحَةِ لِلدَّعْوَى] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الْمُصَحِّحَةُ لِلدَّعْوَى فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا عَقْلُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَى الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَكَذَا لَا تَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَيْهِمَا حَتَّى لَا يَلْزَمَ الْجَوَابُ وَلَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى مَعْلُومًا لِتَعَذُّرِ الشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ وَالْعِلْمُ بِالْمُدَّعَى إنَّمَا يَحْصُلُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا الْإِشَارَةُ وَإِمَّا التَّسْمِيَةُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمُدَّعَى لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا فَإِنْ كَانَ عَيْنًا فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْلِ أَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْلِ فَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ إحْضَارِهِ لِتُمْكِنَ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ عِنْدَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ فَيَصِيرُ مَعْلُومًا بِهَا إلَّا إذَا تَعَذَّرَ نَقْلُهُ كَحَجَرِ الرَّحَى وَنَحْوِهِ فَإِنْ شَاءَ الْقَاضِي اسْتَحْضَرَهُ وَإِنْ شَاءَ بَعَثَ إلَيْهِ أَمِينًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْلِ وَهُوَ الْعَقَارُ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ حَدِّهِ لِيَكُونَ مَعْلُومًا لِأَنَّ الْعَقَارَ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالتَّحْدِيدِ. ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِذِكْرِ حَدٍّ وَاحِدٍ وَكَذَا بِذِكْرِ حَدَّيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَهَلْ تَقَعُ الْكِفَايَةُ بِذَكَرِ ثَلَاثَةِ حُدُودٍ قَالَ عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - نَعَمْ وَقَالَ زُفَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الشُّرُوطِ وَكَذَا لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَوْضِعِ الْمَحْدُودِ وَبَلَدِهِ لِيَصِيرَ مَعْلُومًا هَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا فَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِبَيَانِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَمِنْهَا أَنْ يَذْكُرَ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَى الْعَقَارِ أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ عَلَى خَصْمٍ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنَّمَا يَصِيرُ خَصْمًا إذَا كَانَ بِيَدِهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ فِي يَدِهِ لِيَصِيرَ خَصْمًا فَإِذَا ذَكَرَ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي فَإِنَّهُ يَحْلِفُ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْمُدَّعِي عَلَى أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ لَا تُسْمَعُ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ فِي يَدِ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْيَدِ غَيْرَهُ وَاصْطَلَحَا عَلَى ذَلِكَ فَلَوْ سَمِعَ الْقَاضِي بَيِّنَتَهُ لَكَانَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ وَهَذَا الْمَعْنَى هُنَا مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّهُ لَا قَضَاءَ هُنَا أَصْلًا لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَحْلِفَ وَإِمَّا أَنْ يَنْكُلَ فَإِنْ حَلَفَ فَالْأَمْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ وَإِنْ نَكَلَ فَكَذَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْ الدَّارِ وَيُخَلِّيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُدَّعِي وَمِنْهَا أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ لِأَنَّ حَقَّ الْإِنْسَانِ إنَّمَا يَجِبُ إيفَاؤُهُ بِطَلَبِهِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بِلِسَانِهِ عَيْنًا إذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ عُذْرٌ إلَّا إذَا رَضِيَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِلِسَانِ غَيْرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَة وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ وَكَّلَ الْمُدَّعِي بِالْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ عِنْدَهُ حَتَّى لَا يَلْزَمَ الْجَوَابُ وَلَا تُسْمَعَ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ حَتَّى يَلْزَمَ وَتُسْمَعَ لِمَا عُلِمَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ. وَمِنْهَا مَجْلِسُ الْحُكْمِ فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى إلَّا بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي كَمَا لَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ إلَّا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْهَا حَضْرَةُ الْخَصْمِ فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ إلَّا عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ إلَّا إذَا الْتَمَسَ الْمُدَّعِي بِذَلِكَ كِتَابًا حُكْمِيًّا لِلْقَضَاءِ بِهِ فَيُجِيبُهُ الْقَاضِي إلَيْهِ فَيَكْتُبُ إلَى الْقَاضِي الَّذِي الْغَائِبُ فِي بَلَدِهِ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ لِيَقْضِيَ عَلَيْهِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَضْرَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِسَمَاعِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ وَالْقَضَاءِ فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ ظَهَرَ صِدْقُ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ بِبَيِّنَتِهِ قِيَاسًا عَلَى الْحَاضِرِ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَإِنْ كَانَ خَبَرًا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ لَكِنْ يُرَجَّحُ جَانِبُ صِدْقِهِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ فِي خَبَرِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَيَظْهَرُ صِدْقُهُ فِي دَعْوَاهُ كَمَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَاضِرًا يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا فَإِنْ كَانَ مُقِرًّا فَكَانَ الْمُدَّعِي صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقَضَاءِ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا فَظَهَرَ صِدْقُهُ بِالْبَيِّنَةِ فَكَانَ الْقَضَاءُ بِالْبَيِّنَةِ قَضَاءً بِحُجَّةٍ مُظْهِرَةٍ لِلْحَقِّ فَجَازَ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لَا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا لَمْ تَسْمَعْ كَلَامَ الْآخَرِ» نَهَاهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ الْقَضَاءِ

لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَبْلَ سَمَاعِ كَلَامِ الْآخَرِ وَالْقَضَاءُ بِالْحَقِّ لِلْمُدَّعِي حَالَ غَيْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَضَاءٌ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَبْلَ سَمَاعِ كَلَامِ الْآخَرِ فَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] «وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ اقْضِ بَيْنَ هَذَيْنِ قَالَ أَقْضِي وَأَنْتَ حَاضِرٌ بَيْننَا؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اقْضِ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ» وَالْحَقُّ اسْمٌ لِلْكَائِنِ الثَّابِتِ. وَلَا ثُبُوتَ مَعَ احْتِمَالِ الْعَدَمِ وَاحْتِمَالُ الْعَدَمِ ثَابِتٌ فِي الْبَيِّنَةِ لِاحْتِمَالِ الْكَذِبِ فَلَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ بِالْبَيِّنَةِ حُكْمًا بِالْحَقِّ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ الْحُكْمُ بِهَا أَصْلًا إلَّا أَنَّهَا جُعِلَتْ حُجَّةً لِضَرُورَةِ فَصْلِ الْخُصُومَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ وَلَمْ يَظْهَرْ حَالَةَ الْغَيْبَةِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ كَلَامِهِ ثُمَّ إنَّمَا لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ عِنْدَنَا عَلَى الْغَائِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ فَإِنْ كَانَ يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْحَاضِرِ حَقِيقَةً وَمَعْنًى وَالْخَصْمُ الْحَاضِرُ الْوَكِيلُ وَالْوَصِيُّ وَالْوَارِثُ وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَائِبِ اتِّصَالٌ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الدَّعْوَى لِأَنَّ الْوَكِيلَ وَالْوَصِيَّ نَائِبَانِ عَنْهُ بِصَرِيحِ النِّيَابَةِ وَالْوَارِثُ نَائِبٌ عَنْهُ شَرْعًا وَحَضْرَةُ النَّائِبِ كَحَضْرَةِ الْمَنُوبِ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ مَعْنًى. وَكَذَا إذَا كَانَ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ اتِّصَالٌ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الدَّعْوَى بِأَنْ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّ الْغَائِبِ لِأَنَّ الْحَاضِرَ يَصِيرُ مُدَّعًى عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ حَقُّهُ وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ حَقِّهِ ثُبُوتُ حَقِّ الْغَائِبِ فَكَانَ الْكُلُّ حَقَّ الْحَاضِرِ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ ضَرُورَاتِ الشَّيْءِ كَانَ مُلْحَقًا بِهِ فَيَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْحَاضِرِ حَتَّى أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ أَخُوهُ وَلَمْ يَدَّعِ مِيرَاثًا وَلَا نَفَقَةً لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ دَعْوَى عَلَى الْغَائِبِ لِأَنَّهُ يُرِيدُ إثْبَاتَ نَسَبِهِ مِنْ أَبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأُمِّهِ وَهُمَا غَائِبَانِ وَلَيْسَ عَنْهُمَا خَصْمٌ حَاضِرٌ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الْإِنَابَةُ وَلَا حَقٌّ يَقْضِي بِهِ عَلَى الْوَارِثِ لِيَكُونَ ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ الْغَائِبِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ تَبَعًا لَهُ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ أَصْلًا وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ مِيرَاثًا أَوْ نَفَقَةً عِنْدَ الْحَاجَةِ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ دَعْوَى حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْحَاضِرِ وَهُوَ الْمَالُ وَلَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِإِثْبَاتِ نَسَبِهِ مِنْ الْغَائِبِ فَيُنَصَّبُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ تَبَعًا لَهُ وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ بِالنَّسَبِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْمَالِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْمَالِ الْحَاضِرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَمْلُ نَسَبِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ فَكَانَ دَعْوَى عَلَى الْحَاضِرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالْأُخُوَّةِ وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ الْمَسَائِلُ الْمُخَمَّسَةُ وَتَوَابِعُهَا عَلَى مَا نَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا عَدَمُ التَّنَاقُضِ فِي الدَّعْوَى وَهُوَ أَنْ لَا يَسْبِقَ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ دَعْوَاهُ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ الشَّيْءِ مَعَ مَا يُنَاقِضُهُ وَيُنَافِيهِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ لِرَجُلٍ فَأَمَرَ الْقَاضِي بِدَفْعِهَا إلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهَا مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ لِلْحَالِ يَمْنَعُ الشِّرَاءَ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي فَكَانَ مُنَاقِضًا لِلْإِقْرَارِ وَالْإِقْرَارُ يُنَاقِضُهُ فَلَا يَصِحُّ وَكَذَا لَوْ لَمْ يُقِرَّ وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهُ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ النُّكُولَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ هَذَا إذَا ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ قَبْلَ الْإِقْرَارِ وَالنُّكُولِ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمِلْكِ لِفُلَانٍ لَا يَمْنَعُ الشِّرَاءَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِانْعِدَامِ التَّنَاقُضِ لِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَلَوْ قَالَ هَذَا لِفُلَانٍ اشْتَرَيْته مِنْهُ تُسْمَعُ مِنْهُ مَوْصُولًا قَالَ ذَلِكَ أَوْ مَفْصُولًا لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ الدَّعْوَى بَلْ سَبَقَ مِنْهُ مَا يُقَرِّرُهَا لِأَنَّ سَابِقَةَ الْمِلْكِ لِفُلَانٍ شَرْطُ تَحَقُّقِ الشِّرَاءِ مِنْهُ. وَلَوْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ لِفُلَانٍ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ مَوْصُولًا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَصِحَّ دَعْوَاهُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَصِحُّ وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ مَفْصُولًا لَا تَصِحُّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ قَوْلَهُ هُوَ لِفُلَانٍ إقْرَارٌ مِنْهُ بِكَوْنِهِ مِلْكًا لِفُلَانٍ فِي الْحَالِ فَهَذَا يُنَاقِضُ دَعْوَى الشِّرَاءِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُوجِبُ كَوْنَهُ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي فَلَا يَصِحُّ كَمَا إذَا قَالَ مَفْصُولًا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَوْلَهُ هُوَ لِفُلَانٍ اشْتَرَيْته مِنْهُ مَوْصُولًا مَعْنَاهُ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ أَنَّهُ كَانَ لِفُلَانٍ فَاشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 26] أَيْ إذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا إذْ لَمْ يَكُونُوا قَلِيلًا وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَصْحِيحًا لَهُ وَلَا عَادَةَ جَرَتْ بِذَلِكَ فِي الْمَفْصُولِ فَحُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهُوَ بِحَقِيقَتِهِ مُنَاقَضَةٌ فَلَا تُسْمَعُ هَذَا إذَا بَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ قَبْلَ الْإِقْرَارِ فَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بَعْدَهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِانْعِدَامِ التَّنَاقُضِ

فصل في بيان حد المدعي والمدعى عليه

عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يُبَيِّنْ وَادَّعَى الشِّرَاءَ مُبْهَمًا بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ تُسْمَعُ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَذْكُرْ الْوَقْتَ يُحْمَلُ عَلَى الْحَالِ تَصْحِيحًا لَهُ هَذَا إذَا قَالَ هَذَا الشَّيْءُ لِفُلَانٍ وَلَمْ يَقُلْ لَا حَقَّ لِي فِيهِ فَإِنْ قَالَ لَا حَقَّ لِي فِيهِ ثُمَّ ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا حَقَّ لِي فِيهِ لِتَأْكِيدِ الْبَرَاءَةِ إلَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَتُسْمَعُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَيْنًا فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ قَضَاهُ إيَّاهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَتُقْبَلُ بَيِّنَته لِجَوَازِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا قَضَاهُ إيَّاهُ لَدَفْعِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ. وَلَوْ قَالَ لَمْ يَكُنْ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ وَلَا أَعْرِفُكَ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ وَقَضَى الْقَاضِي بِبَيِّنَتِهِ ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ قَضَاهُ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا أَعْرِفُكَ يُنَاقِضُ دَعْوَى الْقَضَاءِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَقْضِي إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ إيَّاهُ فَكَانَ فِي دَعْوَى الْقَضَاءِ مُنَاقِضًا فَلَا تُسْمَعُ وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا بِعَيْنِهِ وَالْعَبْدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَأَنْكَرَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ فَأَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ وَقَضَى الْقَاضِي بِهِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَأَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ فَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ أَبْرَأهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ إنْكَارَ الْبَيْعِ يُنَاقِضُ دَعْوَى الْإِبْرَاءِ عَنْ الْعَيْبِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ يَقْتَضِي وُجُودَ الْبَيْعِ فَكَانَ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَى الْإِبْرَاءِ فَلَا تُسْمَعُ وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ إذَا سَبَقَ مِنْ الْمُدَّعِي مَا يُنَاقِضُ دَعْوَاهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى إلَّا فِي النَّسَبِ وَالْعِتْقِ فَإِنَّ التَّنَاقُضَ فِيهِمَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِأَنْ قَالَ لِمَجْهُولِ النَّسَبِ هُوَ ابْنِي مِنْ الزِّنَا ثُمَّ قَالَ هُوَ ابْنِي مِنْ النِّكَاحِ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَكَذَا مَجْهُولُ النَّسَبِ إذَا أَقَرَّ بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ حَتَّى تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ بَيَانَ النَّسَبِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ وَهُوَ الْعُلُوقُ مِنْهُ إذْ هُوَ مِمَّا يَغْلِبُ خَفَاؤُهُ عَلَى النَّاسِ فَالتَّنَاقُضُ فِي مِثْلِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ كَمَا إذَا اخْتَلَعَتْ امْرَأَةٌ زَوْجَهَا عَلَى مَالٍ ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهُ كَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ الْخُلْعِ وَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ تُسْمَعُ دَعْوَاهَا وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهَا لَمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا وَكَذَا الرِّقُّ وَالْحُرِّيَّةُ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى مِمَّا يُحْتَمَلُ لِلثُّبُوتِ لِأَنَّ دَعْوَى مَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ حَقِيقَةً أَوْ عَادَةً تَكُونُ دَعْوَى كَاذِبَةً حَتَّى لَوْ قَالَ لِمَنْ لَا يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ هَذَا ابْنِي لَا تُسْمَع دَعْوَاهُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْأَكْبَرُ سِنًّا ابْنًا لِمَنْ هُوَ أَصْغَرُ سِنًّا مِنْهُ وَكَذَا إذَا قَالَ لِمَعْرُوفِ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ هَذَا ابْنِي وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ حَدِّ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حَدِّ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ فِي تَحْدِيدِهِمَا قَالَ بَعْضُهُمْ الْمُدَّعِي مَنْ إذَا تَرَكَ الْخُصُومَةَ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ إذَا تَرَكَ الْجَوَابَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُدَّعِي مَنْ يَلْتَمِسُ قِبَلَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا أَوْ حَقًّا وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ يَدْفَعُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُنْظَرُ إلَى الْمُتَخَاصِمَيْنِ أَيُّهُمَا كَانَ مُنْكِرًا فَالْآخَرُ يَكُونُ مُدَّعِيًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُدَّعِي مَنْ يُخْبِرُ عَمَّا فِي يَدِ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُخْبِرُ عَمَّا فِي يَدِ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ فَيَنْفَصِلَانِ بِذَلِكَ عَنْ الشَّاهِدِ وَالْمُقِرِّ وَالشَّاهِدُ مَنْ يُخْبِرُ عَمَّا فِي يَدِ غَيْرِهِ لِغَيْرِهِ وَالْمُقِرُّ مَنْ يُخْبِرُ عَمَّا فِي يَدِ نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ الدَّعْوَى وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الدَّعْوَى وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ فَحُكْمُهَا وُجُوبٌ الْجَوَابِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّ قَطْعَ الْخُصُومَةِ وَالْمُنَازَعَةِ وَاجِبٌ وَلَا يُمْكِن الْقَطْعُ إلَّا بِالْجَوَابِ فَكَانَ وَاجِبًا وَهَلْ يَسْأَلُهُ الْقَاضِي الْجَوَابَ قَبْلَ طَلَبِ الْمُدَّعِي ذَكَرَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَسْأَلُهُ وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُ مَا لَمْ يَقُلْ الْمُدَّعِي اسْأَلْهُ عَنْ دَعْوَايَ وَعَلَى هَذَا إذَا تَقَدَّمَ الْخَصْمَانِ إلَى الْقَاضِي هَلْ يَسْأَلُ الْمُدَّعِيَ عَنْ دَعْوَاهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَسْأَلُهُ وَفِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي وَسَيَأْتِي وَإِذَا وَجَبَ الْجَوَابُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِمَّا إنْ أَقَرَّ أَوْ سَكَتَ أَوْ أَنْكَرَ فَإِنْ أَقَرَّ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَى الْمُدَّعِي لِظُهُورِ صِدْقِ دَعْوَاهُ. وَإِنْ أَنْكَرَ فَإِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ أَقَامَهَا وَلَوْ قَالَ لَا بَيِّنَةَ لِي ثُمَّ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ هَلْ تُقْبَل رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا تُقْبَلُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا لَا تُقْبَل وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ قَوْلَهُ لَا بَيِّنَةَ لِي إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ وَالْإِنْسَانُ لَا يُتَّهَمُ فِي إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَالْإِتْيَانُ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ رُجُوعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يَصِحُّ وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يَعْلَمْهَا الْمُدَّعِي بِأَنْ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ هَؤُلَاءِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِهَا فَأَمْكَنَ التَّوْفِيقُ فَلَا يَكُونُ الْإِتْيَانُ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ رُجُوعًا فَتُقْبَلُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَطَلَب يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَحْلِفُ فِيمَا

فصل في حجة المدعي والمدعى عليه

يَحْتَمِلُ التَّحْلِيفَ فَإِنْ سَكَتَ عَنْ الْجَوَابِ يَأْتِي حُكْمُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْفَصْلِ الَّذِي يَلِيهِ. [فَصْلٌ فِي حُجَّةِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُجَّةُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَالْبَيِّنَةُ حُجَّةُ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ حُجَّةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» جَعَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْبَيِّنَةَ حُجَّةَ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ حُجَّةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْمَعْقُولُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَدَّعِي أَمْرًا خَفِيًّا فَيَحْتَاجُ إلَى إظْهَارِهِ وَلِلْبَيِّنَةِ قُوَّةُ الْإِظْهَارِ لِأَنَّهَا كَلَامُ مَنْ لَيْسَ بِخَصْمٍ فَجُعِلَتْ حُجَّةُ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ. وَإِنْ كَانَتْ مُؤَكَّدَةً بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَكِنَّهَا كَلَامُ الْخَصْمِ فَلَا تَصْلُحُ حُجَّة مُظْهِرَةً لِلْحَقِّ وَتَصْلُحُ حُجَّةٌ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالظَّاهِرِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْيَدِ فَحَاجَتُهُ إلَى اسْتِمْرَارِ حُكْمِ الظَّاهِرِ وَالْيَمِينُ وَإِنْ كَانَتْ كَلَامَ الْخَصْمِ فَهِيَ كَافٍ لِلِاسْتِمْرَارِ فَكَانَ جَعْلُ الْبَيِّنَةِ حُجَّةَ الْمُدَّعِي وَجَعْلُ الْيَمِينِ حُجَّةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَضْعَ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ حَدُّ الْحِكْمَةِ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّج الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ وَيَمِينٍ مِنْ الْمُدَّعِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ» وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا كَانَتْ حُجَّةَ الْمُدَّعِي لِكَوْنِهَا مُرَجِّحَةً جِنْسِيَّةَ الصِّدْقِ عَلَى جِنْسِيَّةِ الْكَذِبِ فِي دَعْوَاهَا الرُّجْحَانَ فَكَمَا يَقَعُ بِالشَّهَادَةِ يَقَعُ بِالْيَمِينِ فَكَانَتْ الْيَمِينُ فِي كَوْنِهَا حُجَّةً مِثْلَ الْبَيِّنَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِهَا إلَّا أَنَّهُ ضَمَّ إلَيْهَا الشَّهَادَةَ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ (وَلَنَا) الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَالْمَعْقُولُ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْجَبَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَوْ جُعِلْت حُجَّةَ الْمُدَّعِي لَا تَبْقَى وَاجِبَةً عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ وَالثَّانِي أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَعَلَ كُلَّ جِنْسِ الْيَمِين حُجَّةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَكَرَ الْيَمِينَ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ فَيَقْتَضِي اسْتِغْرَاقَ كُلِّ الْجِنْسِ فَلَوْ جُعِلَتْ حُجَّةَ الْمُدَّعِي لَا يَكُونُ كُلُّ جِنْسِ الْيَمِينِ حُجَّةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَلْ يَكُونُ مِنْ الْأَيْمَانِ مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ لَهُ وَهُوَ يَمِينُ الْمُدَّعِي وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ طَعَنَ فِيهِ يَحْيَى بْن مَعِينٍ وَقَالَ لَمْ يَصِحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فَقَالَ بِدْعَةٌ وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهِمَا مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ قَالَ كَانَ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ إلَّا شَاهِدَانِ وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ مَعَ مَا أَنَّهُ وَرَدَ مَوْرِدَ الْآحَادِ وَمُخَالِفًا لِلْمَشْهُورِ فَلَا يُقْبَلُ وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ أَمَّا لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ فِيهِ قَضَى وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فِي الْأَمَانِ وَعِنْدَنَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الْأَمَانِ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ إذَا كَانَ عَدْلًا بِأَنْ شَهِدَ أَنَّهُ أَمَّنَ هَذَا الْكَافِرَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ حَتَّى لَا يُقْتَلَ لَكِنْ يُسْتَرَقُّ وَالْيَمِينُ مِنْ بَابِ مَا يُحْتَاطُ فِيهِ فَحُمِلَ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رَدِّهِ الْيَمِينَ إلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا جَعَلَ الْيَمِينَ حُجَّةً إلَّا فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَالرَّدُّ إلَى الْمُدَّعِي يَكُونُ وَضْع الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَهَذَا حَدُّ الظُّلْمِ وَعَلَى هَذَا يُخَرِّج مَسْأَلَةَ الْخَارِجِ مَعَ ذِي الْيَدِ إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا تُقْبَل بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ حُجَّةً لِلْمُدَّعِي وَذُو الْيَدِ لَيْسَ بِمُدَّعٍ بَلْ هُوَ مُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا تَكُونُ الْبَيِّنَةُ حُجَّةً لَهُ فَالْتَحَقَتْ بَيِّنَتُهُ بِالْعَدَمِ فَخَلَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي عَنْ الْمُعَارِضِ فَيُعْمَلُ بِهَا وَقَدْ تُخَرَّجُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَصْل آخِرٍ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَإِذَا عَرَفْت أَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةُ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ حُجَّةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ عَلَائِقِهِمَا وَعَلَائِقِ الْبَيِّنَةِ قَدْ مَرَّ ذِكْرُهَا فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ. وَنَذْكُرُ هُنَا عَلَائِقَ الْيَمِينِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْكَلَامُ فِي الْيَمِينِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنَّ الْيَمِينَ وَاجِبَةٌ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَفِي بَيَانِ الْوُجُوبِ وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ أَدَائِهِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الِامْتِنَاعِ عَنْ تَحْصِيلِ الْوَاجِبِ أَمَّا دَلِيلُ الْوُجُوبِ فَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَعَلَى كَلِمَةٍ إيجَابٌ. وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا الْإِنْكَارُ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ التُّهْمَةِ وَهِيَ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي الْإِنْكَارِ فَإِذَا كَانَ مُقِرًّا لَا حَاجَةَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُتَّهَم فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ الْإِنْكَارُ نَوْعَانِ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ صَرِيحُ الْإِنْكَارِ وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهُوَ السُّكُوتُ عَنْ جَوَابِ الْمُدَّعِي عَنْ غَيْرِ آفَةٍ لِأَنَّ الدَّعْوَى أَوْجَبَتْ الْجَوَابَ عَلَيْهِ وَالْجَوَابُ نَوْعَانِ إقْرَارٌ وَإِنْكَارٌ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ السُّكُوتِ عَلَى

أَحَدِهِمَا وَالْحَمْلُ عَلَى الْإِنْكَارِ أَوْلَى لِأَنَّ الْعَاقِلَ الْمُتَدَيِّنَ لَا يَسْكُتُ عَنْ إظْهَارِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ لِغَيْرِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَقَدْ يَسْكُتُ عَنْ إظْهَارِ الْحَقِّ لِنَفْسِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ فَكَانَ حَمْلُ السُّكُوتِ عَلَى الْإِنْكَارِ أَوْلَى فَكَانَ السُّكُوتُ إنْكَارًا دَلَالَةً وَلَوْ لَمْ يُسْكَتْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَمْ يُقِرَّ وَلَكِنَّهُ قَالَ لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا إنْكَارٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا إقْرَارٌ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا أُنْكِرُ إخْبَارٌ عَنْ السُّكُوتِ عَنْ الْجَوَابِ وَالسُّكُوتُ إنْكَارٌ عَلَى مَا مَرَّ وَمِنْهَا الطَّلَبُ مِنْ الْمُدَّعِي لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقًّا لِلْمُدَّعِي وَحَقُّ الْإِنْسَانِ قِبَلَ غَيْرِهِ وَاجِبَ الْإِيفَاءِ عِنْدَ طَلَبِهِ، وَمِنْهَا عَدَمُ الْبَيِّنَةِ الْحَاضِرَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْيَمِينَ حُجَّةُ الْمُدَّعِي كَالْبَيِّنَةِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ إلَّا عِنْدَ طَلَبِهِ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ أَيِّهِمَا شَاءَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ فِي كَوْنِهَا حُجَّةَ الْمُدَّعِي كَالْأَصْلِ لِكَوْنِهَا كَلَامَ غَيْرِ الْخَصْمِ وَالْيَمِينُ كَالْخَلْفِ عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا كَلَامَ الْخَصْمِ فَلِهَذَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ ثُمَّ أَرَادَ اسْتِحْلَافَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْخَلْفِ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمُدَّعَى حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَالِصًا فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِحْلَافُ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَحَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لِأَجْلِ النُّكُولِ وَلَا يُقْضَى بِالنُّكُولِ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِأَنَّهُ بَذْلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ وَالْحُدُودُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَذْلَ وَلَا تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ لِهَذَا لَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّ فِي السَّرِقَةِ يَحْلِفُ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ وَكَذَا لَا يَمِينَ فِي اللَّعَّانِ لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْحَدِّ وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَيَجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْحُدُودِ الْمُتَمَحِّضَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ يَشُوبُهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَأَشْبَهَ التَّعْزِيرَ. وَفِي التَّعْزِيرِ يَحْلِفُ كَذَا هَذَا وَيَجْرِي الِاسْتِحْلَافُ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَالطَّرَفِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى مُحْتَمِلًا لِلْإِقْرَارِ بِهِ شَرْعًا بِأَنْ كَانَ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَصَحَّ إقْرَارُهُ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَجْرِ فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ حَتَّى أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَخُوهُ وَلَمْ يَدَّعِ فِي يَدِهِ مِيرَاثًا فَأَنْكَرَ لَا يَحْلِفُ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِالْأُخُوَّةِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ لِكَوْنِهِ إقْرَارًا عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ أَبُوهُ وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ أَخُوهُ وَأَنَّ فِي يَدِهِ مَالًا مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِنِصْفِهِ بِإِرْثِهِ مِنْ أَبِيهِ فَأَنْكَرَ يَحْلِفُ لِأَجْلِ الْمِيرَاثِ لَا لِلْأُخْوَةِ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخُوهُ صَحَّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْإِرْثِ حَتَّى يُؤْمَرَ بِتَسْلِيمِ نِصْفِ الْمِيرَاثِ إلَيْهِ وَلَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ النَّسَبِ حَتَّى لَا يُقْضَى بِأَنَّهُ أَخُوهُ وَعَلَى هَذَا عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ فَأَقَرَّ بِهِ لِأَحَدِهِمَا وَسَلَّمَ الْقَاضِي الْعَبْدَ إلَيْهِ فَقَالَ الْآخِرُ لَا بَيِّنَةَ لِي وَطَلَب مِنْ الْقَاضِي تَحْلِيفَ الْمُقِرِّ لَا يُحَلِّفُهُ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَكَانَ إقْرَارُهُ بَاطِلًا فَإِذَا أَنْكَرَ لَا يُحَلَّفُ إلَّا أَنْ يَقُولَ الَّذِي لَمْ يُقِرَّ لَهُ أَنَّك أَتْلَفَتْ عَلَيَّ الْعَبْدَ بِإِقْرَارِك بِهِ لِغَيْرِي فَاضْمَنْ قِيمَتَهُ لِي يَحْلِفُ الْمُقِرُّ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَةِ ذَلِكَ الْعَبْدِ عَلَى هَذَا الْمُدَّعِي وَلَا رَدُّ شَيْءٍ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِإِتْلَافِهِ لَصَحَّ وَضَمِنَ الْقِيمَةَ فَإِذَا أَنْكَرَ يَسْتَحْلِفُهُ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ زَوَّجَهُ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ وَأَنْكَرَ الْأَبُ لَا يَحْلِفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِطَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهِ عِنْدَهُ فَإِذَا أَنْكَرَ لَا يُسْتَحْلَفُ وَالثَّانِي أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لَا يَجْرِي فِي النِّكَاحِ وَعِنْدَهُمَا يَجْرِي لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى الْحَاصِلِ وَالْحُكْمُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ هَذَا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً عِنْدَ الدَّعْوَى فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً وَادَّعَى أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا إيَّاهُ فِي صِغَرِهَا لَا يَحْلِفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا قُلْنَا مِنْ الطَّرِيقَيْنِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْلِفُ أَيْضًا لِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ وَلَكِنْ تَحْلِفُ الْمَرْأَةُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ لَصَحَّ إقْرَارُهَا وَعِنْدَهُمَا الِاسْتِحْلَافُ يَجْرِي فِيهِ لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا تَعْلَمُ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ إلَّا عِنْدَ التَّعَرُّضِ فَتَحْلِفُ عَلَى الْحُكْمِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ وَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَوَّجَهَا عَبْدَهُ فَأَنْكَرَ الْمَوْلَى لَا يَحْلِفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِطَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا اسْتِحْلَافَ فِي النِّكَاحِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْلِفُ أَيْضًا لَكِنْ لِطَرِيقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَوَّجَهُ أَمَتَهُ لَا يَحْلِفُ الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَحْلِفُ لِطَرِيقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ

فصل في بيان كيفية اليمين

الِاسْتِحْلَافَ لَا يَجْرِي فِي النِّكَاحِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَجْرِي وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى مِمَّا يَحْتَمِلُ الْبَذْلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ كَوْنِهِ مُحْتَمِلًا لِلْإِقْرَارِ وَعِنْدَهُمَا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ سَوَاءٌ احْتَمَلَ الْبَذْلَ أَوْ لَا وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْأَشْيَاءِ السَّبْعَةِ أَنَّهَا لَا يَجْرِي فِيهَا الِاسْتِحْلَافُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ النِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ وَالْفَيْءُ فِي الْإِيلَاءِ وَالنَّسَبُ وَالرِّقُّ وَالْوَلَاءُ وَالِاسْتِيلَادُ أَمَّا النِّكَاحُ فَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ تَدَّعِي امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَوْجُهَا وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي وَطَلَب يَمِينَ الْمُنْكِرِ وَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لِلْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قَدْ كُنْت رَاجَعَتْك وَأَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ وَعَجَزَ الزَّوْجُ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَطَلَب يَمِينَهَا وَأَمَّا الْفَيْءُ فِي الْإِيلَاءِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ وَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَقَالَ قَدْ كُنْت فِئْت إلَيْك بِالْجِمَاعِ فَلَمْ تُبَيِّنِي فَقَالَتْ لَمْ تَفِئْ إلَيَّ وَلَا بَيِّنَةَ لِلزَّوْجِ فَطَلَب يَمِينَهَا وَأَمَّا النَّسَبُ فَنَحْوُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ فَأَنْكَرَ الرَّجُلُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ وَطَلَب يَمِينَهُ وَأَمَّا الرِّقُّ فَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَأَنْكَرَ وَقَالَ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ أَبَدًا وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي فَطَلَب يَمِينَهُ وَأَمَّا الْوَلَاءُ فَإِنَّهُ يَدَّعِي عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ أَبَاهَا وَأَنَّ أَبَاهَا مَاتَ وَوَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَأَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ أَعْتَقَهُ وَأَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ ثَابِتًا مِنْهُ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي فَطَلَب يَمِينَهَا عَلَى مَا أَنْكَرَتْ مِنْ الْوَلَاءِ وَأَمَّا الِاسْتِيلَادُ فَهُوَ أَنْ تَدَّعِيَ أَمَةٌ عَلَى مَوْلَاهَا فَتَقُولُ أَنَا أُمُّ وَلَدٍ لِمَوْلَايَ وَهَذَا وَلَدِي فَأَنْكَرَ الْمَوْلَى لَا يَجْرِي الِاسْتِحْلَافُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ السَّبْعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجْرِي وَالدَّعْوَى مِنْ الْجَانِبَيْنِ تُتَصَوَّرُ فِي الْفُصُولِ السِّتَّةِ وَفِي الِاسْتِيلَادِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ جَانِبُ الْأَمَةِ فَأَمَّا جَانِبُ الْمَوْلَى فَلَا تُتَصَوَّرُ الدَّعْوَى لِأَنَّهُ لَوْ ادَّعَى لَثَبَتَ بِنَفْسِ الدَّعْوَى وَهَذَا بِنَاء عَلَى مَا ذَكَرنَا أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ عَنْهُ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَذْلَ وَعِنْدَهُمَا إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَثْبُت بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ نُكُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَلِيلُ كَوْنِهِ كَاذِبًا فِي إنْكَارِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَادِقًا لَمَا امْتَنَعَ مِنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ فَكَانَ النُّكُولُ إقْرَارًا دَلَالَةً إلَّا أَنَّهُ دَلَالَةٌ قَاصِرَةٌ فِيهَا شُبْهَةُ الْعَدَمِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ قَاصِرٍ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ) أَنَّ النُّكُولَ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ لَمَا قُلْتُمْ وَيَحْتَمِلُ الْبَذْلَ لِأَنَّ الْعَاقِلَ الدَّيِّنَ كَمَا يَتَحَرَّجُ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ يَتَحَرَّجُ عَنْ التَّغْيِيرِ وَالطَّعْنِ بِالْيَمِينِ بِبَذْلِ الْمُدَّعِي إلَّا أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْبَذْلِ أَوْلَى لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ إقْرَارًا لَكَذَّبْنَاهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِنْكَارِ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ بَذْلًا لَمْ نَكْذِبْهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ هَذَا لَك وَلَكِنِّي لَا أَمْنَعُك عَنْهُ وَلَا أُنَازِعُك فِيهِ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى التَّكْذِيبِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَذْلَ فَلَا تَحْتَمِلُ النُّكُولَ فَلَا تَحْتَمِلُ التَّحْلِيفَ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعِيَ لِيَنْكُلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَقْضِي عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلْ النُّكُولَ لَا يَحْتَمِل التَّحْلِيفَ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِمَوْضِعَيْنِ (أَحَدُهُمَا) فِي بَيَانِ صِفَةِ التَّحْلِيفِ نَفْسِهِ أَنَّهُ كَيْفَ يَحْلِفُ وَالثَّانِي فِي بَيَانِ صِفَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَلَى مَاذَا يَحْلِفُ (أَمَّا الْأَوَّلُ) فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ الْحَالِفُ مُسْلِمًا وَإِمَّا أَنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَيُحَلِّفُهُ الْقَاضِي بِاَللَّهِ تَعَالَى إنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَغْلِيظٍ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَّفَ يَزِيدَ بْنَ رُكَانَةَ أَوْ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَرَدْت بِالْبَتَّةِ ثَلَاثًا» وَإِنْ شَاءَ غَلَّظَ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِتَغْلِيظِ الْيَمِينِ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَّفَ ابْنَ صُورِيَّا الْأَعْوَرَ وَغَلَّظَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى سَيِّدِنَا مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ حَدَّ الزِّنَا فِي كِتَابِكُمْ هَذَا» . وَقَالَ مَشَايِخُنَا يَنْظُرُ إلَى حَالِ الْحَالِفِ إنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُخَافُ مِنْهُ الِاجْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ يَكْتَفِي فِيهِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ غَيْرِ تَغْلِيظٍ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُخَافُ مِنْهُ ذَلِكَ تُغَلَّظُ لِأَنَّ مِنْ الْعَوَامّ مَنْ لَا يُبَالِي عَنْ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَاذِبًا فَإِذَا غُلِّظَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ يَمْتَنِعُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ كَانَ الْمَالُ الْمُدَّعَى يَسِيرًا يَكْتَفِي فِيهِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يُغَلَّظُ وَصِفَةُ التَّغْلِيظِ أَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالَمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَعْلَمُ مِنْ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ تَغْلِيظًا فِي الْيَمِينِ. وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ كَافِرًا فَإِنَّهُ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَيْضًا ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ مُشْرِكًا لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]

فَيُعَظِّمُونَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ وَيَعْتَقِدُونَ حُرْمَةَ الْإِلَهِ إلَّا الدَّهْرِيَّةَ وَالزَّنَادِقَةَ وَأَهْلَ الْإِبَاحَةِ. وَهَؤُلَاءِ أَقْوَامٌ لَمْ يَتَجَاسَرُوا عَلَى إظْهَارِ نِحْلَتِهِمْ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَنَرْجُو مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أُمَّةِ حَبِيبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا يُقَدِّرَهُمْ عَلَى إظْهَارِ مَا انْتَحَلُوهُ إلَى انْقِضَاءِ الدُّنْيَا وَإِنْ رَأَى الْقَاضِي مَا يَكُونُ تَغْلِيظًا فِي دِينِهِ فَعَلَ لِمَا رَوَيْنَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَلَّظَ عَلَى ابْنِ صُورِيَّا» دَلَّ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ سَائِغٌ فَيُغَلِّظُ عَلَى الْيَهُودِيِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى سَيِّدِنَا مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعَلَى النَّصْرَانِيِّ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى سَيِّدِنَا عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعَلَى الْمَجُوسِيِّ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ وَلَا يَحْلِفُ عَلَى الْإِشَارَةِ إلَى مُصْحَفٍ مُعَيَّنٍ بِأَنْ يَقُولَ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا الْإِنْجِيلَ أَوْ هَذِهِ التَّوْرَاةَ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ تَحْرِيفُ بَعْضِهَا فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ تَقَعَ الْإِشَارَةُ إلَى الْمُحَرَّفِ فَيَكُونُ التَّحْلِيفُ بِهِ تَعْظِيمًا لِمَا لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يَبْعَثُ هَؤُلَاءِ إلَى بُيُوتِ عِبَادَتِهِمْ مِنْ الْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ وَبَيْتِ النَّارِ لِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَكَذَا لَا يَجِبُ تَغْلِيظُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَان عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ يَحْلِفُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ يَحْلِفُ عِنْدَ الْمِيزَابِ وَيَحْلِفُ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» مُطْلَقًا عَنْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَرُوِيَ أَنَّهُ اخْتَصَمَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ مُطِيعٍ فِي دَارٍ إلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فَقَضَى عَلَى زَيْدِ ابْنِ ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ أَحْلِفُ لَهُ مَكَانِي فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ لَا وَاَللَّهِ إلَّا عِنْدَ مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ فَجَعَلَ زَيْدٌ يَحْلِفُ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَازِمًا لَمَا احْتَمَلَ أَنْ يَأْبَاهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ التَّحْلِيفِ بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ تَعْظِيمُ غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَفِيهِ مَعْنَى الْإِشْرَاكِ فِي التَّعْظِيمِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ صِفَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَلَى مَاذَا يَحْلِفُ فَنَقُولُ الدَّعْوَى لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً عَنْ سَبَبٍ وَإِمَّا إنْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِسَبَبٍ فَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً عَنْ سَبَبٍ بِأَنْ ادَّعَى عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً أَوْ أَرْضًا وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى الْحُكْمِ وَهُوَ مَا وَقَعَ فِيهِ الدَّعْوَى فَيُقَالُ بِاَللَّهِ مَا هَذَا الْعَبْدُ أَوْ الْجَارِيَةُ أَوْ الْأَرْضُ لِفُلَانٍ هَذَا وَلَا شَيْءَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِسَبَبٍ بِأَنْ ادَّعَى أَنَّهُ أَقْرَضَهُ أَلْفًا أَوْ غَصْبه أَلْفًا أَوْ أَوْدَعَهُ أَلْفًا وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ أَوْ عَلَى الْحُكْمِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ بِاَللَّهِ مَا اسْتَقْرَضْت مِنْهُ أَلْفًا أَوْ مَا غَصَبْته أَلْفًا أَوْ مَا أَوْدَعَنِي أَلْفًا إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يُصَرِّحُ فَيَقُولُ قَدْ يُسْتَقْرَضُ الْإِنْسَانُ وَقَدْ يَغْصِبُ وَقَدْ يُودَعُ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ لِمَا أَنَّهُ أَبْرَأهُ عَنْ ذَلِكَ أَوْ رَدَّ الْوَدِيعَةَ وَأَنَا لَا أُبَيِّنُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَلْزَمَنِي شَيْءٌ فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى الْحُكْمِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَحْلِفُ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ الِابْتِدَاءِ بِاَللَّهِ مَا لَهُ عَلَيْكَ هَذِهِ الْأَلْفُ الَّتِي ادَّعَى. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّحْلِيفَ عَلَى السَّبَبِ تَحْلِيفٌ عَلَى مَا لَا يُمْكِنُهُ الْحَلِفُ عَلَيْهِ عَسَى لِجَوَازِ أَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ السَّبَبُ ثُمَّ ارْتَفَعَ بِالْإِبْرَاءِ أَوْ بِالرَّدِّ فَلَا يُمْكِنُهُ الْحَلِفُ عَلَى نَفْيِ السَّبَبِ وَيُمْكِنُهُ الْحَلِفُ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَكَانَ التَّحْلِيفُ عَلَى الْحُكْمِ أَوْلَى (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَّفَ الْيَهُودَ بِاَللَّهِ» وَفِي بَابِ الْقَسَامَةِ عَلَى السَّبَبِ «فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِاَللَّهِ مَا قَتَلْتُمُوهُ وَلَا عَلِمْتُمْ لَهُ قَاتِلًا» فَيَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَلِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْحَلِفِ مَا هُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ الدَّعْوَى وَالدَّاخِلُ تَحْتَ الدَّعْوَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَقْصُودًا هُوَ السَّبَبُ فَيَحْلِفُ عَلَيْهِ فَبَعْدَ ذَلِكَ إنْ أَمْكَنَهُ الْحَلِفُ عَلَى السَّبَبِ حَلَفَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ وَعَرَّضَ فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى الْحُكْمِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ دَعْوَى الشِّرَاءِ إذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا بِعْته هَذَا الشَّيْءَ إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ الْخَصْمُ وَالتَّعْرِيضُ فِي هَذَا أَنْ يَقُولَ قَدْ يَبِيعُ الرَّجُلُ الشَّيْءَ ثُمَّ يَعُودُ إلَيْهِ بِهِبَةٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ إقَالَةٍ أَوْ رَدٍّ بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارِ شَرْطٍ أَوْ خِيَارِ رُؤْيَةٍ وَأَنَا لَا أُبَيِّنُ ذَلِكَ كَيْ لَا يَلْزَمَنِي شَيْءٌ فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى الْحُكْمِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا بَيْنَكُمَا بَيْعٌ قَائِمٌ أَوْ شِرَاءٌ قَائِمٌ بِهَذَا السَّبَبِ الَّذِي يَدَّعِي وَهَكَذَا يَحْلِفُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَعَلَى هَذَا دَعْوَى الطَّلَاقِ بِأَنْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَالَعَهَا عَلَى كَذَا وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ذَلِكَ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ مَا خَالَعَهَا إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ الزَّوْجُ فَيَقُولُ الْإِنْسَانُ قَدْ يُخَالِعُ

فصل في حكم أداء اليمين

امْرَأَتَهُ ثُمَّ تَعُودُ إلَيْهِ وَقَدْ يُطَلِّقُهَا ثَلَاثًا ثُمَّ تَعُودُ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا هِيَ حَرَامٌ عَلَيْك بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ أَوْ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا هِيَ مُطَلَّقَةٌ مِنْك ثَلَاثًا أَوْ مَا هِيَ حَرَامٌ عَلَيْك بِالْخَلْعِ أَوْ مَا هِيَ بَائِنٌ مِنْك وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ. وَهَكَذَا يَحْلِفُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَعَلَى هَذَا دَعْوَى الْعَتَاقِ فِي الْأَمَةِ بِأَنْ ادَّعَتْ أَمَةٌ عَلَى مَوْلَاهَا أَنَّهُ أَعْتَقَهَا وَهُوَ مُنْكِرٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُ الْمَوْلَى عَلَى السَّبَبِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَعْتَقَهَا إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ لِأَنَّهُ يَتَصَوَّرُ النَّقْضَ فِي هَذَا وَالْعَوْدَ إلَيْهِ بِأَنْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ سَبَاهَا أَوْ سَبَاهَا غَيْرُهُ فَاشْتَرَاهَا فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ كَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَلَوْ كَانَ الَّذِي يَدَّعِي الْعِتْقَ هُوَ الْعَبْدَ فَيَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ بِلَا خِلَافٍ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَعْتَقَهُ فِي الرِّقِّ الْقَائِمِ لِلْحَالِ فِي مِلْكِهِ لِانْعِدَامِ تَصَوُّرِ التَّعْرِيضِ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ لَا يَحْتَمِلُ السَّبْيَ بَعْدَ الْعِتْقِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْعَبْدُ لَمْ يُعْرَفْ مُسْلِمًا أَوْ كَانَ كَافِرًا يَحْلِفُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى الْحُكْمِ لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ إلَى الرِّقِّ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا نَقَضَ الْعَهْدَ وَلِحَقِّ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ سُبِيَ يُسْتَرَقُّ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَيُقْتَلُ إنْ أَبَى وَلَا يُسْتَرَقّ وَعَلَى هَذَا دَعْوَى النِّكَاحِ وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِمَا لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَرَى الِاسْتِحْلَافَ فِيهِ فَيَقُولُ الدَّعْوَى لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ الرَّجُلِ أَوْ مِنْ الْمَرْأَةِ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الرَّجُلِ وَأَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ النِّكَاحَ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ لِاحْتِمَالِ الطَّلَاقِ وَالْفُرْقَةِ بِسَبَبٍ مَا فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ عَلَى الْحُكْمِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا بَيْنَكُمَا نِكَاحٌ قَائِمٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَوْ قَالَ الزَّوْجُ أَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَيَقُولُ لَهُ إنْ كُنْت تُرِيدُ ذَلِكَ فَطَلِّقْ هَذِهِ ثُمَّ تَزَوَّجْ أُخْتَهَا أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا وَإِنْ كَانَ دَعْوَى النِّكَاحِ مِنْ الْمَرْأَةِ عَلَى رَجُلٍ فَأَنْكَرَ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ فَيَحْلِفَ عَلَى الْحُكْمِ كَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُمَكِّنُهَا مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهَا قَدْ أَقَرَّتْ أَنَّ لَهَا زَوْجًا فَلَا يُمَكِّنُهَا مِنْ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ فَإِنْ قَالَتْ مَا الْخَلَاصُ عَنْ هَذَا وَقَدْ بَقِيَتْ فِي عُهْدَتِهِ أَبَدَ الدَّهْرِ وَلَيْسَتْ لِي بَيِّنَةٌ وَهَذِهِ تُسَمَّى عُهْدَةَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَقُولُ الْقَاضِي لِلزَّوْجِ طَلِّقْهَا فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ لَوْ طَلَّقْتهَا لَلَزِمَنِي الْمَهْرُ فَلَا أَفْعَلُ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ الْقَاضِي قُلْ لَهَا إنْ كُنْت امْرَأَتِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَطْلُقُ لَوْ كَانَتْ امْرَأَتَك وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَلَا وَلَا يَلْزَمُك شَيْءٌ لِأَنَّ الْمَهْرَ لَا يَلْزَمُ بِالشَّكِّ فَإِنْ أَبَى يَجْبُرُهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَا فَعَلَ تَخَلَّصَ عَنْ تِلْكَ الْعُهْدَةِ وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَى إجَارَةِ الدَّارِ أَوْ عَبْدٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ مُزَارِعَةٍ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ إلَّا إذَا عَرَّضَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْلِفُ عَلَى الْحُكْمِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا كَانَ صَحِيحًا وَهُوَ الْإِجَارَةُ يَحْلِفُ وَمَا كَانَ فَاسِدًا وَهُوَ الْمُعَامَلَةُ وَالْمُزَارَعَةُ لَا يَحْلِفُ أَصَلًا لِأَنَّ الْحَلِفَ بِنَاءً عَلَى الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ وَلَمْ تَصِحَّ عِنْدَهُ وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ بِأَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ خَطَأً وَأَنَّهُ وَجَبَتْ الدِّيَةُ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْت إلَّا إذَا عَرَّضَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى الْحُكْمِ بِاَللَّهِ لَيْسَ عَلَيْك الدِّيَةُ وَلَا عَلَى عَاقِلَتِك وَإِنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِاخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ فِي الدِّيَةِ فِي فَصْلِهِ الْخَطَإِ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ابْتِدَاءً أَوْ تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ ثُمَّ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْعَاقِلَةُ فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَإِنْ نَكَلَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ أَدَاء الْيَمِين] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ أَدَائِهِ فَهُوَ انْقِطَاعُ الْخُصُومَةِ لِلْحَالِ لَا مُطْلَقًا بَلْ مُوَقَّتًا إلَى غَايَةِ إحْضَارِ الْبَيِّنَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ حُكْمُهُ انْقِطَاعُ الْخُصُومَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَحَتَّى لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ بَعْدَ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَا تَبْقَى لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِحْلَافِ فَكَذَا إذَا اسْتَحْلَفَ لَا يَبْقَى لَهُ وِلَايَةُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَالْجَامِعُ أَنَّ حَقَّهُ فِي أَحَدِهِمَا فَلَا يَمْلِكُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي الْحُجَّةِ لِأَنَّهَا كَلَامُ الْأَجْنَبِيِّ فَأَمَّا الْيَمِينُ فَكَالْخَلَفِ عَنْ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا كَلَامُ الْخَصْمِ صِيرَ إلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ فَإِذَا جَاءَ الْأَصْلُ انْتَهَى حُكْمُ الْخَلَفِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَصْلًا وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعِي لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ احْلِفْ وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ هَذَا الْحَقِّ الَّذِي ادَّعَيْته أَوْ أَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ هَذَا الْحَقِّ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتَ بَرِيءٌ يَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ لِلْحَالِ أَيْ بَرِيءٌ عَنْ دَعْوَاهُ وَخُصُومَتِهِ لِلْحَالِ وَيَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ عَنْ الْحَقِّ فَلَا يُجْعَلُ إبْرَاءً عَنْ الْحَقِّ بِالشَّكِّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

فصل في حكم الامتناع عن تحصيل اليمين

[فَصْلٌ فِي حُكْمِ الِامْتِنَاعِ عَنْ تَحْصِيلِ الْيَمِين] فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الِامْتِنَاعِ عَنْ تَحْصِيلِهِ فَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا نَكَل عَنْ الْيَمِينِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي دَعْوَى الْمَالِ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْمَالِ عِنْدَنَا لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لَهُ إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك الْيَمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنْ حَلَفْت وَإِلَّا قَضَيْت عَلَيْك لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِمَّنْ لَا يَرَى الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ أَوْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَرَى الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ أَوْ لَحِقَهُ حِشْمَةُ الْقُضَاةِ وَمَهَابَةُ الْمَجْلِسِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ أَنْ يَقُولَ لَهُ ذَلِكَ فَإِنْ نَكَل عَنْ الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَقْضِي بِالنُّكُولِ وَلَكِنْ يَرُدُّ الْيَمِينَ إلَى الْمُدَّعِي فَيَحْلِفُ فَيَأْخُذُ حَقَّهُ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» جَعَلَ الْبَيِّنَةَ حُجَّةَ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ حُجَّةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - النُّكُولَ فَلَوْ كَانَ حُجَّةَ الْمُدَّعِي لَذَكَرَهُ وَالْمَعْقُولُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَكَلَ لِكَوْنِهِ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ. فَاحْتُرِزَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَكَل مَعَ كَوْنِهِ صَادِقًا فِي الْإِنْكَارِ تَوَرُّعًا عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةَ الْقَضَاءِ مَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ لَكِنْ يَرُدُّ الْيَمِينَ إلَى الْمُدَّعِي لِيَحْلِفَ فَيَقْضِيَ لَهُ لِأَنَّهُ تَرَجَّحَ جَنْبَهُ الصِّدْقُ فِي دَعْوَاهُ بِيَمِينِهِ وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِرَدِّ الْيَمِينِ إلَى الْمُدَّعِي فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ادَّعَى عَلَى الْمِقْدَادِ مَالًا بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَنْكَرَ الْمِقْدَادُ وَتَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَرَدَّ الْيَمِينَ عَلَى سَيِّدِنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدُنَا عُمَر جَوَّزَ ذَلِكَ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ شُرَيْحًا قَضَى عَلَى رَجُلٍ بِالنُّكُولِ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَا أَحْلِفُ فَقَالَ شُرَيْحٌ مَضَى قَضَائِي وَكَانَ لَا تَخْفَى قَضَايَاهُ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ وَلِأَنَّهُ ظَهَرَ صِدْقُ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ عِنْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَقْضِي لَهُ كَمَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ ظُهُورِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ إنْكَارُهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَقَدْ عَارَضَهُ النُّكُولُ لِأَنَّهُ كَانَ صَادِقًا فِي إنْكَارِهِ لَمَّا نَكَل فَزَالَ الْمَانِعُ لِلتَّعَارُضِ فَظَهَرَ صِدْقُهُ فِي دَعْوَاهُ وَقَوْلُهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَكَل تَوَرُّعًا عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ قُلْنَا هَذَا احْتِمَالٌ نَادِرٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ الصَّادِقَةَ مَشْرُوعَةٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَرْضَى بِفَوَاتِ حَقِّهِ تَحَرُّزًا عَنْ مُبَاشَرَةِ أَمْرٍ مَشْرُوعٍ وَمِثْلُ هَذَا الِاحْتِمَالِ سَاقِطِ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا أَلَا يُرَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةُ الْقَضَاءِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَتْ مُحْتَمَلَةً فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّهَا خَبَرُ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الظَّاهِرُ هُوَ الصِّدْقَ سَقَطَ اعْتِبَارُ احْتِمَالِ الْكَذِبِ كَذَا هَذَا وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ الْبَيِّنَةُ حُجَّةُ الْمُدَّعِي وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا حُجَّةً وَقَوْلُهُ لَوْ كَانَ حُجَّةً لَذَكَرَهُ قُلْنَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ لِمَا قُلْتُمْ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ نَصًّا مَعَ كَوْنِهِ حُجَّةً تَسْلِيطًا لِلْمُجْتَهِدِينَ عَلَى الِاجْتِهَادِ لِيُعْرَفَ كَوْنُهُ حُجَّةً بِالرَّأْيِ وَالِاسْتِنْبَاطِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ. وَأَمَّا رَدُّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لِمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ وَأَمَّا حَدِيثُ الْمِقْدَادِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ فِيهِ ذِكْرَ الرَّدِّ مِنْ غَيْرِ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ أَقَاوِيلِ الْكُلِّ فَكَانَ مُؤَوَّلًا عِنْدَ الْكُلِّ ثُمَّ تَأْوِيلُهُ أَنَّ الْمِقْدَادَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ادَّعَى الْإِيفَاءَ فَأَنْكَرَ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَتَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ هَذَا إذَا نَكَل عَنْ الْيَمِينِ فِي دَعْوَى الْمَالِ فَإِنْ كَانَ النُّكُولُ فِي دَعْوَى الْقِصَاصِ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَإِنْ كَانَ فِي النَّفْسِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُقْضَى فِيهِ لَا بِالْقِصَاصِ وَلَا بِالْمَالِ لَكِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ أَبَدًا وَإِنْ كَانَ الدَّعْوَى فِي الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ وَبِالدِّيَةِ فِي الْخَطَإِ وَعِنْدَهُمَا لَا يُقْضَى بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَالطَّرَفِ جَمِيعًا وَلَكِنْ يَقْضِي بِالْأَرْشِ وَالدِّيَةِ فِيهِمَا جَمِيعًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالطَّرَفُ يَحْتَمِلُ الْبَذْلَ وَالْإِبَاحَةَ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّ مَنْ وَقَعَتْ فِي يَدِهِ أَكِلَةٌ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَأَمْرُ غَيْرِهِ بِقَطْعِهَا يُبَاحُ لَهُ قَطْعُهَا صِيَانَةً لِلنَّفْسِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّرَفَ يَسْلُكُ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ خُلِقَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ كَالْمَالِ فَأَمَّا النَّفْسُ فَلَا تَحْتَمِلُ الْبَذْلَ وَالْإِبَاحَةَ بِحَالٍ وَكَذَا الْمُبَاحُ لَهُ الْقَطْعُ إذَا قَطَعَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَالْمُبَاحُ لَهُ الْقَتْلُ إذَا قَتَلَ يَضْمَنُ فَكَانَ الطَّرَفُ جَارِيًا مَجْرَى الْمَالِ بِخِلَافِ النَّفْسِ فَأَمْكَنَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ فِي الطَّرَفِ دُونَ النَّفْسِ فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْتَحْلِف فِي النَّفْس عِنْده كَمَا لَا يَسْتَحْلِف فِي الْأَشْيَاء السَّبْعَة لِأَنَّ الِاسْتِحْلَاف لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْمَقْصُود الْمُدَّعِي وَهُوَ إحْيَاء حَقّه بِالْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ وَلَا يَقْضِي فِيهَا بِالنُّكُولِ أَصْلًا عِنْده فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحْلِف إلَّا أَنَّهُ اُسْتُحْسِنَ فِي الِاسْتِحْلَاف فِيهَا لِأَنَّ

فصل في بيان ما تندفع به الخصومة عن المدعى عليه

الشَّرْع وَرَدَ بِهِ فِي الْقَسَامَةِ وَجَعَلَهُ حَقًّا مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الدَّمِ وَتَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ لِكَوْنِ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ مُهْلِكَةً فَصَارَ بِالنُّكُولِ مَانِعًا حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ مَقْصُودًا فَيُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ السَّبْعَةِ فَإِنَّ الِاسْتِحْلَافَ فِيهَا لِلتَّوَسُّلِ إلَى اسْتِيفَاءِ الْمَقْصُودِ بِالنُّكُولِ وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ وَعِنْدَهُمَا النُّكُولُ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِطَرِيقِ السُّكُوتِ وَأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ وَالْقِصَاصُ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ يَجِبُ الْمَالُ بِخِلَافِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ فِي بَابِ الْقِصَاصِ أَصْلًا لِأَنَّ التَّعَذُّرَ هُنَاكَ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ وَهُوَ عَدَمُ الْإِتْيَانِ بِحُجَّةٍ مُظْهِرَةٍ لِلْحَقِّ وَهِيَ شَهَادَةُ شُهُودٍ أُصُولٍ مَذْكُورٍ وَالتَّعَذُّرُ هُنَا مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَهُوَ عَدَمُ التَّنْصِيصِ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقِصَاصَ إذَا بَطَل مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ لَا تَجِبُ الدِّيَةُ وَإِذَا بَطَل مِنْ جِهَةِ مَنْ عَلَيْهِ تَجِبُ الدِّيَةُ وَأَمَّا فِي دَعْوَى السَّرِقَةِ إذَا حَلَفَ عَلَى الْمَالِ وَنَكَل يُقْضَى بِالْمَالِ لَا بِالْقَطْعِ لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةٌ فِي الْأَمْوَالِ دُونَ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ وَأَمَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ إذَا اسْتَحْلَفَ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَكُلٌّ يَقْضِي بِالْحَدِّ فِي ظَاهِرِ الْأَقَاوِيلِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ التَّعْزِيرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْحُدُودِ لَا يُقْضَى فِيهِ بِشَيْءٍ وَلَا يُحَلَّفُ لِأَنَّهُ حَدٌّ وَقِيلَ يُحَلَّفُ وَيُقْضَى فِيهِ بِالتَّعْزِيرِ دُونَ الْحَدِّ كَمَا فِي السَّرِقَةِ يُحَلَّفُ وَيُقْضَى بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الْخُصُومَةُ عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الْخُصُومَةُ عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ خَصْمًا لِلْمُدَّعِي فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنه خَصْمًا لِلْمُدَّعِي بِكَوْنِ يَدِهِ غَيْرَ يَدِ الْمَالِكِ وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِعِلْمِ الْقَاضِي نَحْوُ مَا إذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَارًا أَوْ ثَوْبًا أَوْ دَابَّةً فَقَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ هُوَ مِلْكُ فُلَانٍ الْغَائِبِ أَوْدَعَنِيهِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ مِلْكًا مُطْلَقًا وَلَمْ يَدَّعِ عَلَيْهِ فِعْلًا أَوْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ فِعْلًا فَإِنْ ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا وَلَمْ يَدَّعِ عَلَيْهِ فِعْلًا فَقَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ أَوْدَعَنِيهَا فُلَانُ الْغَائِبُ أَوْ رَهَنَهَا أَوْ آجَرَهَا أَوْ أَعَارَهَا أَوْ غَصَبْتهَا أَوْ سَرَقْتهَا أَوْ أَخَذْتهَا أَوْ انْتَزَعْتهَا أَوْ ضَلَّتْ مِنْهُ فَوَجَدْتهَا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَوْ لَمْ يُقِمْ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ لَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَوْ لَمْ يُقِمْ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِالِافْتِعَالِ وَالِاحْتِيَالِ فَإِنْ كَانَ تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَيْضًا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَنْدَفِعُ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْمُخَمَّسَةِ وَالْحُجَجُ تُعْرَفُ فِي الْجَامِعِ وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى لِنَفْسِهِ وَالْفِعْلَ عَلَى غَيْرِ ذِي الْيَدِ بِأَنْ قَالَ هَذَا مِلْكِي غَصْبه مِنِّي فُلَانٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ عَلَى ذِي الْيَدِ فِعْلًا فَصَارَ فِي حَقِّ ذِي الْيَدِ دَعْوَى مُطْلَقَة فَكَانَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرنَا فَأَمَّا إذَا ادَّعَى فِعْلًا عَلَى ذِي الْيَدِ بِأَنْ قَالَ هَذِهِ دَارِي أَوْ دَابَّتِي أَوْ ثَوْبِي أَوْدَعْتُكهَا أَوْ غَصَبْتنِيهَا أَوْ سَرَقْتهَا أَوْ اسْتَأْجَرْتهَا أَوْ ارْتَهَنْتهَا مِنِّي وَقَالَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ إنَّهَا لِفُلَانٍ الْغَائِبِ أَوْدَعَنِيهَا أَوْ غَصَبْتهَا مِنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ ذَا الْيَدِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إنَّمَا يَكُونُ خَصْمًا بِيَدِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُدَّعِي فِي يَدِهِ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ الْيَدَ لِغَيْرِهِ كَانَ الْخَصْمُ ذَلِكَ الْغَيْرَ وَهُوَ غَائِبٌ فَأَمَّا فِي دَعْوَى الْفِعْلِ فَإِنَّمَا يَكُونُ خَصْمًا بِفِعْلِهِ لَا بِيَدِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْخُصُومَةَ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَيْهِ بِدُونِ يَدِهِ وَإِذَا كَانَ خَصْمًا بِفِعْلِهِ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْفِعْلَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ فَبَقِيَ خَصْمًا وَلَوْ ادَّعَى فِعْلًا لَمْ يُسَمِّ فَاعِلَهُ بِأَنْ قَالَ غُصِبَتْ مِنِّي أَوْ أُخِذَتْ مِنِّي فَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِيدَاعِ تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ لِأَنَّهُ ادَّعَى الْفِعْلَ عَلَى مَجْهُولٍ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ دَعْوَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ فَتَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ لِأَنَّهُ ادَّعَى الْفِعْلَ عَلَى مَجْهُولٍ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ دَعْوَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ فَتَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ. وَلَوْ قَالَ سُرِقَ مِنِّي فَالْقِيَاسُ أَنْ تَنْدَفِعَ الْخُصُومَةُ كَمَا فِي الْغَصْبِ وَالْأَخْذِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَنْدَفِعُ فَرْقًا بَيْنَ الْغَصْبِ وَالْأَخْذِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَوَجْهُ الْفَرْقِ يُعْرَفُ فِي الْجَامِعِ وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعِي هَذِهِ الدَّارُ كَانَتْ لِفُلَانٍ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ وَقَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ أَوْدَعَنِي فُلَانٌ الَّذِي ادَّعَيْت الشِّرَاءَ مِنْ جِهَتِهِ أَوْ سَرَقْتهَا مِنْهُ أَوْ غَصَبْتهَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ مِنْ غَيْرِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ كَوْنُ يَدِهِ يَدَ غَيْرِهِ بِتَصَادُقِهِمَا أَمَّا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا الْمُدَّعِي فَبِدَعْوَاهُ الشِّرَاءَ مِنْهُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مِنْهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ

فصل في حكم تعارض الدعوتين مع تعارض البينتين

الْيَدِ وَكَذَا لَوْ أَقَامَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي بِذَلِكَ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ عَايَنَا إقْرَارَهُ لَانْدَفَعَتْ الْخُصُومَةُ كَذَا هَذَا وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ الْقَاضِي بِذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمُسْتَفَادَ لَهُ فِي زَمَانِ الْقَضَاءِ فَوْقَ الْإِقْرَارِ لِكَوْنِهِ حُجَّةً مُتَعَدِّيَةً إلَى النَّاسِ كَافَّةً بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ وَكَوْنِ الْإِقْرَارِ حُجَّةً مُقْتَصِرَةً عَلَى الْمُقِرِّ خَاصَّةً ثُمَّ لَمَّا انْدَفَعَتْ الْخُصُومَةُ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعِي فَبِعِلْمِ الْقَاضِي أَوْلَى وَلَوْ قَالَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ ابْتَعْته مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ لِأَنَّهُ ادَّعَى الْمِلْكَ وَالْيَدَ لِنَفْسِهِ وَهَذَا مُقِرٌّ بِكَوْنِهِ خَصْمًا فَكَيْفَ تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْتَاعَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ أَوْدَعَنِيهِ عَبْدُ اللَّهِ ذَلِكَ تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى الْوُصُولِ إلَيْهِ مِنْ يَدِ عَبْدِ اللَّهِ فَأَثْبَتَا الْيَدَ لَهُ وَهُوَ غَائِبٌ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ فِي الْجَامِعِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ مَعَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ مَعَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ حُكْمِ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ مَعَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ الْقَائِمَتَيْنِ عَلَى أَصْلِ الْمِلْكِ وَالثَّانِي فِي بَيَانِ حُكْمِ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ الْقَائِمَتَيْنِ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَصْلُ أَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا فِي أَصْلِ الْمِلْكِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَإِنْ أَمْكَنَ تَرْجِيحُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى يُعْمَلُ بِالرَّاجِحِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مِنْ حُجَجِ الشَّرْعِ وَالرَّاجِحُ مُلْحَقٌ بِالْمُتَيَقَّنِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَإِنْ تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ فَإِنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا مِنْ وَجْهٍ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِمَا لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالدَّلِيلِينَ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَإِنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَصْلًا سَقَطَ اعْتِبَارُهُمَا وَالْتَحَقَا بِالْعَدَمِ إذْ لَا حُجَّةَ مَعَ الْمُعَارَضَةِ كَمَا لَا حُجَّةَ مَعَ الْمُنَاقَضَةِ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الدَّعْوَى ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: دَعْوَى الْمِلْكِ وَدَعْوَى الْيَدِ وَدَعْوَى الْحَقِّ، وَزَادَ مُحَمَّدٌ مَسَائِلَ الدَّعْوَى عَلَى دَعْوَى الْمِلْكِ وَالْيَدِ وَالنَّسَبِ (أَمَّا) دَعْوَى الْمِلْكِ فَلَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ الْخَارِجِ عَلَى ذِي الْيَدِ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ الْخَارِجِينَ عَلَى ذِي الْيَدِ (وَإِمَّا) أَنْ تَكُونَ مِنْ صَاحِبَيْ الْيَدِ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْخَارِجِ عَلَى ذِي الْيَدِ دَعْوَى الْمِلْكِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ عَنْ الْوَقْتِ وَإِمَّا أَنْ قَامَتَا عَلَى مِلْكٍ مُؤَقَّتٍ وَإِمَّا أَنْ قَامَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ وَالْأُخْرَى عَلَى مِلْكٍ مُؤَقَّتٍ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ بِسَبَبٍ وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ بِغَيْرِ سَبَبٍ فَإِنْ قَامَتَا عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ عَنْ الْوَقْتِ فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْيَدِ فَكَانَ الْعَمَلُ بِهَا أَوْلَى وَلِهَذَا عُمِلَ بِبَيِّنَتِهِ فِي دَعْوَى النِّكَاحِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةُ الْمُدَّعِي لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» وَذُو الْيَدِ لَيْسَ بِمُدَّعٍ فَلَا تَكُونُ الْبَيِّنَةُ حَجَّتَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُدَّعٍ مَا ذَكَرنَا مِنْ تَحْدِيدِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ اسْمٌ لِمَنْ يُخْبِرُ عَمَّا فِي يَدِ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ وَالْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ هُوَ الْخَارِجُ لَا ذُو الْيَدِ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَمَّا فِي يَدِ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ مُدَّعِيًا فَالْتَحَقَتْ بِبَيِّنَتِهِ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِج بِلَا مُعَارِضٍ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا وَلِأَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَظْهَرَتْ لَهُ سَبْقَ الْمِلْكِ فَكَانَ الْقَضَاءُ بِهَا أَوْلَى كَمَا إذَا وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ نَصًّا وَوُقِّتَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ دَلَالَةً وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهَا أَظْهَرَتْ لَهُ سَبْقَ الْيَدِ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا لَهُ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ. وَلَا تَحِلُّ لَهُمْ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إلَّا بِعِلْمِهِمْ بِهِ وَلَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْمِلْكِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِدَلِيلِ الْمِلْكِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ سِوَى الْيَدِ فَإِذَا شَهِدُوا لِلْخَارِجِ فَقَدْ أَثْبَتُوا كَوْنَ الْمَالِ فِي يَدِهِ وَكَوْنُ الْمَالِ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ ظَاهِرًا ثَابِتٌ لِلْحَالِ فَكَانَتْ يَدُ الْخَارِجِ سَابِقَةً عَلَى يَدِهِ فَكَانَ مِلْكُهُ سَابِقًا ضَرُورَةً وَإِذَا ثَبَتَ سَبْقُ الْمِلْكِ لِلْخَارِجِ يَقْضِي بِبَيِّنَتِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ لَهُ الْمِلْكُ وَالْيَدُ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ فِي زَمَانٍ سَابِقٍ وَلَمْ يُعْرَفْ لِثَالِثٍ فِيهَا يَدٌ وَمِلْكٌ عُلِمَ أَنَّهَا انْتَقَلَتْ مِنْ يَدِهِ إلَيْهِ فَوَجَبَ إعَادَةُ يَدِهِ وَرَدُّ الْمَالِ إلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ صَاحِبُ الْيَدِ الْآخِرِ الْحُجَّةَ أَنَّهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ انْتَقَلَ إلَيْهِ كَمَا إذَا عَايَنَ الْقَاضِي كَوْنَ الْمَالِ فِي يَدِ إنْسَانٍ وَيَدَّعِيه لِنَفْسِهِ ثُمَّ رَآهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُهُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ إذَا أُدْعَاهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ إلَى أَنْ يُبَيِّنَ سَبَبًا صَالِحًا لِلِانْتِقَالِ إلَيْهِ وَكَذَا إذَا أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْمَالَ كَانَ فِي يَدِ الْمُدَّعِي فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ إلَى أَنْ يُبَيِّنَ بِالْحُجَّةِ طَرِيقًا صَالِحًا لِلِانْتِقَالِ إلَيْهِ كَذَلِكَ هَذَا وَصَارَ كَمَا إذَا أَرَّخَا نَصًّا وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ لِأَنَّ هَذَا تَارِيخٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِخِلَافِ النِّتَاج لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَثْبُتْ

سَبْقُ الْخَارِجِ لِانْعِدَامِ تَصَوُّرِ السَّبْقِ وَالتَّأْخِيرِ فِيهِ لِأَنَّ النِّتَاجَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ فَيُطْلَبُ التَّرْجِيحُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ بِالْيَدِ وَهُنَا بِخِلَافِهِ هَذَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ عَنْ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ سَبَبِ. فَأَمَّا إذَا قَامَتَا عَلَى مِلْكٍ مُوَقَّتٍ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَإِنْ اسْتَوَى الْوَقْتَانِ يَقْضِي لِلْخَارِجِ لِأَنَّهُ بَطَل اعْتِبَارُ الْوَقْتَيْنِ لِلتَّعَارُضِ فَبَقِيَ دَعْوَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ مِنْ الْآخَرِ يُقْضَى لِلْأَسْبَقِ وَقْتًا أَيُّهُمَا كَانَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ عِنْدَ رُجُوعِهِ مِنْ الرِّقَّةِ وَقَالَ لَا تُقْبَلُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ بَيِّنَةٌ عَلَى وَقْتٍ وَغَيْرِهِ إلَّا فِي النِّتَاجِ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ بَيِّنَةَ صَاحِبِ الْوَقْتِ الْأَسْبَقِ أَظْهَرَتْ الْمِلْكَ لَهُ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعهُ فِيهِ أَحَدٌ فَيَدْفَعُ الْمُدَّعِي إلَى أَنْ يُثْبِتَ بِالدَّلِيلِ سَبَبًا لِلِانْتِقَالِ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ أَقَامَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى مِلْكٍ مُطْلَق وَالْأُخْرَى عَلَى مِلْكٍ مُوَقَّتٍ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ لَا عِبْرَةَ لِلْوَقْتِ عِنْدَهُمَا وَيَقْضِي لِلْخَارِجِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْوَقْتِ أَيُّهُمَا كَانَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثْلُهُ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ بَيِّنَةَ صَاحِبِ الْوَقْتِ أَظْهَرَتْ الْمِلْكَ لَهُ فِي وَقْتٍ خَاصٍّ لَا يُعَارِضُهَا فِيهِ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ بِيَقِينٍ بَلْ تَحْتَمِلُ الْمُعَارَضَةَ وَعَدَمَهَا لِأَنَّ الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ لَا يَتَعَارَضُ لِلْوَقْتِ فَلَا تَثْبُتُ الْمُعَارَضَةُ بِالشَّكِّ وَلِهَذَا لَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجَيْنِ عَلَى ثَالِثٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَوُقِّتَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا وَأُطْلِقَتْ الْأُخْرَى أَنَّهُ يَقْضِي لِصَاحِبِ الْوَقْتِ كَذَا هَذَا وَلَهُمَا أَنَّ الْمِلْكَ احْتَمَلَ السَّبْقَ وَالتَّأْخِيرَ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ وَالسَّبْقَ لِجَوَازِ أَنَّ صَاحِبَ الْبَيِّنَةِ الْمُطْلَقَةِ لَوْ وُقِّتَتْ بَيِّنَتُهُ كَانَ وَقْتُهَا أَسْبَقَ فَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ فِي سَبْقِ الْمِلْكِ الْمُوَقَّتِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْوَقْتِ فَبَقِيَ دَعْوَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ فَيُقْضَى لِلْخَارِجِ بِخِلَافِ الْخَارِجَيْنِ إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْبَائِعَ إذَا كَانَ وَاحِدًا فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْهُ بِبَيْعِهِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ حَادِثٌ وَقَدْ ظَهَرَ بِالتَّارِيخِ أَنَّ شِرَاءَ صَاحِبِ الْوَقْتِ أَسْبَقُ وَلَا تَارِيخَ مَعَ الْآخَرِ وَشِرَاؤُهُ أَمْرٌ حَادِثٌ وَلَا يُعْلَمُ تَارِيخُهُ فَكَانَ صَاحِبُ التَّارِيخِ أَوْلَى هَذَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ أَوْ مُوَقَّتٍ مِنْ غَيْرِ سَبَبِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي دَعْوَى ذَلِكَ بِسَبَبٍ فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ الْإِرْثَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ حَتَّى لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ بِسَبَبِ الْإِرْث بِأَنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ مِلْكُهُ مَاتَ أَبُوهُ وَتَرَكَهُ مِيرَاثًا لَهُ يُقْضَى لِلْخَارِجِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَكَذَلِكَ إنْ قَامَتَا عَلَى مِلْكٍ مُوَقَّتٍ وَاسْتَوَى الْوَقْتَانِ لِأَنَّهُ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْوَقْتَيْنِ لِلتَّعَارُضِ فَبَقِيَ دَعْوَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ مِنْ الْآخَرِ يُقْضَى لِأَسْبَقِهِمَا وَقْتًا أَيُّهُمَا كَانَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْأَوَّلِ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْآخَرِ يُقْضَى لِلْخَارِجِ لِأَنَّ دَعْوَى الْإِرْث دَعْوَى مِلْكِ الْمَيِّتِ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ أَظْهَرَتْ مِلْكَ الْمَيِّتِ لَكِنْ قَامَ الْوَارِثُ مَقَامَ الْمَيِّتِ فِي مِلْكِ الْمَيِّتِ فَكَأَنَّ الْوَارِثَيْنِ ادَّعَيَا مِلْكًا مُطْلَقًا أَوْ مُوَقِّتًا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ وَهُنَاكَ الْجَوَابُ هَكَذَا فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا مِنْ الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ إلَّا فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مَا إذَا قَامَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ وَالْأُخْرَى عَلَى مِلْكٍ مُوَقَّتٍ فَإِنَّ هُنَا يُقْضَى لِلْخَارِجِ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا عِبْرَةَ لِلْوَقْتِ كَمَا لَا عِبْرَةَ لَهُ فِي دَعْوَى الْمُوَرِّثِينَ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَيُشْكَلُ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ الشِّرَاءَ بِأَنْ ادَّعَى الْخَارِجُ أَنَّهُ اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ وَادَّعَى صَاحِبُ الْيَدِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْخَارِجِ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ غَيْرِ وَقْتٍ وَلَا قَبْضٍ لَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَتَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلَا يَجِبُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ شَيْءٌ وَيَتْرُكُ الْمُدَّعِي فِي يَدِ ذِي الْيَدِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْضَى بِالْبَيِّنَتَيْنِ وَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ الْمُدَّعِي إلَى الْخَارِجِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّوْفِيقَ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَأَمْكَنَ التَّوْفِيقُ هُنَا بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ بِتَصْحِيحِ الْعَقْدَيْنِ بِأَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ اشْتَرَاهُ أَوَّلًا مِنْ الْخَارِجِ وَقَبَضَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْخَارِجُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ وَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى بَاعَهُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ فَيُوجَدُ الْعَقْدَانِ عَلَى الصِّحَّةِ لَكِنْ بِتَقْدِيرِ تَارِيخٍ وَقَبْضٍ وَفِي هَذَا التَّقْدِيرِ تَصْحِيحُ الْعَقْدَيْنِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِالْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّ الْخَارِجَ اشْتَرَى أَوَّلًا مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ وَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى بَاعَهُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ

فِي هَذَا التَّقْدِيرِ إفْسَادَ الْعَقْدِ الْأَخِيرِ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُ فَتَعَيَّنَ تَصْحِيحُ الْعَقْدَيْنِ بِالتَّقْدِيرِ الَّذِي قُلْنَا وَإِذَا صَحَّ الْعَقْدَانِ يَبْقَى الْمُشْتَرَى فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ فَيُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْخَارِجِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كُلَّ مُشْتَرٍ يَكُونُ مُقِرًّا بِكَوْنِ الْبَيْعِ مِلْكًا لِلْبَائِعِ فَكَانَ دَعْوَى الشِّرَاءِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إقْرَارًا بِمِلْكِ الْمَبِيعِ لِصَاحِبِهِ فَكَانَ الْبَيِّنَتَانِ قَائِمَتَيْنِ عَلَى إقْرَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمِلْكِ لِصَاحِبِهِ وَبَيْنَ مُوجِبِي الْإِقْرَارَيْنِ تَنَافٍ فَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ أَصْلًا وَإِنْ وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَوَقْتُ الْخَارِجِ أَسْبَقُ فَإِذَا لَمْ يَذْكُرُوا قَبْضًا يَقْضِي بِالدَّارِ لِصَاحِبِ الْيَدِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْضَى لِلْخَارِجِ لِأَنَّ وَقْتَ الْخَارِجِ إذَا كَانَ أَسْبَقَ جُعِلَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى الدَّارَ أَوَّلًا وَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى بَاعَهَا مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْضَى لِلْخَارِجِ لِأَنَّ وَقْتَ الْخَارِجِ إذَا كَانَ أَسْبَقَ جُعِلَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى الدَّارَ أَوَّلًا وَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى بَاعَهَا مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ وَبَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ بَقِيَ عَلَى مِلْكِ الْخَارِجِ وَعِنْدَهُمَا ذَلِكَ جَائِزٌ فَصَحَّ الْبَيْعَانِ وَلَوْ ذَكَرُوا الْقَبْضَ جَازَ الْبَيْعَانِ وَيُقْضَى بِالدَّارِ لِصَاحِبِ الْيَدِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ بَيْعَ الْعَقَارِ بَعْدَ الْقَبْضِ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ فَيَجُوزُ الْبَيْعَانِ. (وَأَمَّا) إذَا كَانَ وَقْتُ صَاحِبِ الْيَدِ أَسْبَقَ وَلَمْ يَذْكُرُوا قَبْضًا يُقْضَى بِهَا لِلْخَارِجِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ وَقْتُهُ أَسْبَقَ يُجْعَلُ سَابِقًا فِي الشِّرَاءِ كَأَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ الْخَارِجِ وَقَبَضَ ثُمَّ اشْتَرَى مِنْهُ الْخَارِجُ وَلَمْ يَقْبِضْ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ إنْ ذَكَرُوا قَبْضًا لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ كَأَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ أَوَّلًا وَقَبَضَ ثُمَّ اشْتَرَى الْخَارِجُ مِنْهُ وَقَبَضَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ بِوَجْهٍ آخَرَ. وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ النِّتَاجَ وَهُوَ الْوِلَادَةُ فِي الْمِلْكِ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى النِّتَاجِ مُطْلَقَتَيْنِ عَنْ الْوَقْتِ وَإِمَّا أَنْ وَقَّتَا وَقْتًا فَإِنْ لَمْ يُوَقِّتَا وَقْتًا يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ عَلَى النِّتَاجِ قَائِمَةٌ عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ وَقَدْ اسْتَوَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي إظْهَارِ الْأَوَّلِيَّةِ فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ بِالْيَدِ فَيُقْضَى بِبَيِّنَتِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نِتَاجَ نَاقَةٍ فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّاقَةِ لِصَاحِبِ الْيَدِ» وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ لَا يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ بَلْ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وَيُتْرَك الْمُدَّعَى فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَد قَضَاءَ تَرْكٍ وَهَذَا خِلَافِ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى لَفْظَة الْقَضَاءِ وَالتَّرْكِ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ لَا يَكُونُ قَضَاءً حَقِيقَةً وَكَذَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ لِصَاحِبِ الْيَدِ وَكَذَلِكَ فِي دَعْوَى النِّتَاجِ مِنْ الْخَارِجَيْنِ عَلَى ثَالِثٍ يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَا يُتْرَكُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ دَلَّ أَنَّ مَا ذَكَره خِلَافُ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا. وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ وَالْآخَرُ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ عَنْ النِّتَاجِ فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى لِمَا قُلْنَا إنَّهَا قَامَتْ عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ لِصَاحِبِهِ فَلَا تَثْبُتُ لِغَيْرِهِ إلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْهُ وَأَمَّا إنْ وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ فَإِنْ اتَّفَقَ الْوَقْتَانِ فَكَذَلِكَ السُّقُوطُ اعْتِبَارُهُمَا لِلتَّعَارُضِ فَبَقِيَ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَإِنْ اخْتَلَفَا بِحُكْمِ سِنِّ الدَّابَّةِ فَتُقْضَى لِصَاحِبِ الْوَقْتِ الَّذِي وَافَقَهُ السِّنُّ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ الْأُخْرَى كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ هَذَا إذَا عُلِمَ سِنُّهَا فَأَمَّا إذَا أُشْكِل سَقَطَ اعْتِبَارُ التَّارِيخِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سِنُّهَا مُوَافِقًا لِهَذَا الْوَقْتِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِذَلِكَ الْوَقْتِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لَهُمَا جَمِيعًا فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُمَا كَأَنَّهُمَا سَكَتَا عَنْ التَّارِيخِ أَصْلًا وَإِنْ خَالَفَ سِنُّهَا الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا سَقَطَ الْوَقْتُ كَذَا ذَكَره فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ بُطْلَانُ التَّوْقِيتِ فَكَأَنَّهُمَا لَمْ يُوَقِّتَا فَبَقِيَتْ الْبَيِّنَتَانِ قَائِمَتَيْنِ عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ وَذَكَر الْحَاكِمُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي اللَّيْثِ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ قَالَ وَهُوَ الصَّحِيحُ. (وَوَجْهُهُ) أَنَّ سِنَّ الدَّابَّةِ إذَا خَالَفَ الْوَقْتَيْنِ فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِكَذِبِ الْبَيِّنَتَيْنِ فَالْتَحَقَتَا بِالْعَدَمِ فَيُتْرَكُ الْمُدَّعِي فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ كَمَا كَانَ وَالْجَوَابُ أَنَّ مُخَالَفَةَ السِّنِّ الْوَقْتَيْنِ يُوجِبُ كَذِبَ الْوَقْتَيْنِ لَا كَذِبَ الْبَيِّنَتَيْنِ أَصْلًا وَرَأْسًا. وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي جَارِيَةٍ فَقَالَ الْخَارِجُ إنَّهَا وُلِدَتْ فِي مِلْكِي مِنْ أَمَتِي هَذِهِ وَقَالَ صَاحِبُ الْيَدِ كَذَلِكَ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي الصُّوفِ وَالْمِرْعِزَّى وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ جَزُّهُ فِي مِلْكِهِ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْغَزْلِ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ غَزْلُهُ

مِنْ قُطْنٍ هُوَ لَهُ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُنَازَعَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي سَبَبِ مِلْكٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ النِّتَاجِ فَيُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ فَإِذَا وَقَعَتْ فِي سَبَبِ مِلْكٍ يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ لَا يَكُونُ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ وَيُقْضَى لِلْخَارِجِ. وَإِنْ أُشْكِلَ الْأَمْرُ فِي الْمِلْكِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ أَوْ لَا يُقْضَى لِلْخَارِجِ أَيْضًا فَعَلَى هَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي اللَّبَنِ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ حُلِبَ فِي يَدِهِ وَفِي مِلْكِهِ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ اللَّبَنَ الْوَاحِدَ لَا يَحْتَمِلُ الْحَلْبَ مَرَّتَيْنِ فَكَانَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الشَّاةَ الَّتِي حَلَبَ مِنْهَا اللَّبَنَ نَتَجَتْ عِنْدَهُ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ بِالشَّاةِ وَاللَّبَنِ جَمِيعًا وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي جُبْنٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ صَنْعُهُ فِي مِلْكِهِ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ اللَّبَنَ الْوَاحِدَ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَصْنَعَ جُبْنًا مَرَّتَيْنِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ النِّتَاجِ وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ أَرْضُهُ غَرَسَ النَّخْلَ فِيهَا يُقْضَى بِهَا لِلْخَارِجِ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ لِأَنَّ النِّتَاجَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْوَلَدِ وَالْغَرْسُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الْأَرْضِ وَكَذَا الْغَرْسُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْحُبُوبِ النَّابِتَةِ وَالْقُطْنِ الثَّابِتِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَهُ زَرْعُهُ فِي أَرْضِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالْأَرْضِ وَالْحَبِّ وَالْقُطْنِ لِلْخَارِجِ وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْبِنَاءِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ بُنِيَ عَلَى أَرْضِهِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي حُلِيٍّ مَصُوغٍ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ صَاغَهُ فِي مِلْكِهِ يُقْضَى لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الصِّيَاغَةَ تَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ فَلَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي ثَوْبِ خَزٍّ أَوْ شَعْرٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ نَسَجَهُ فِي مِلْكِهِ فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنْسَجُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النِّتَاجِ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ يُنْسَجُ مَرَّتَيْنِ يُقْضَى لِلْخَارِجِ وَكَذَا إنْ كَانَ مُشْكِلًا وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي سَيْفٍ مَطْبُوعٍ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ طُبِعَ فِي مِلْكِهِ يَرْجِعُ فِي هَذَا إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي جَارِيَةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ أُمَّهَا أَمَتُهُ وَأَنَّهَا وَلَدَتْ هَذِهِ فِي مِلْكِهِ يُقْضَى بِالْجَارِيَةِ وَبِأُمِّهَا لِلْخَارِجِ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ دَعْوَى النِّتَاجِ بَلْ هُوَ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ مِلْكُ الْأُمِّ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَيُقْضَى بِالْأُمِّ لِلْخَارِجِ ثُمَّ يُمْلَكُ الْوَلَدُ بِمِلْكِ الْأُمِّ وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي الشَّاةِ مَعَ الصُّوفِ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ هَذِهِ الشَّاةَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ وَأَنَّ هَذَا صُوفُ هَذِهِ الشَّاةِ يُقْضَى بِالشَّاةِ وَالصُّوفِ لِلْخَارِجِ لَمَا قُلْنَا شَاتَانِ إحْدَاهُمَا بَيْضَاءُ وَالْأُخْرَى سَوْدَاءُ وَهُمَا فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ الشَّاةَ الْبَيْضَاءَ شَاتُه وَلَدَتْهَا السَّوْدَاءُ فِي مِلْكِهِ وَأَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ السَّوْدَاءَ شَاتُه وَلَدَتْهَا الْبَيْضَاءُ فِي مِلْكِهِ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالشَّاةِ الَّتِي شَهِدَتْ شُهُودُهُ أَنَّهَا وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ فَيُقْضَى لِلْخَارِجِ بِالْبَيْضَاءِ وَلِصَاحِبِ الْيَدِ بِالسَّوْدَاءِ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ قَامَتْ عَلَى النِّتَاجِ فِي الْبَيْضَاءِ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ قَامَتْ فِيهَا عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى كَذَا بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ قَامَتْ عَلَى النِّتَاجِ فِي السَّوْدَاءِ وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ فِيهَا قَامَتْ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي اللَّبَنِ الَّذِي صُنِعَ مِنْهُ الْجُبْنُ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ اللَّبَنَ الَّذِي صُنِعَ مِنْهُ الْجُبْنُ فِي مِلْكِهِ فَيُقْضَى لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ عَلَى مِلْكِ اللَّبَنِ قَائِمَةٌ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ لَا عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَلَوْ ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدِ إنْسَانٍ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ وَأَنَّهُ وُلِدَ فِي مِلْكِ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْهُ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ وَأَنَّهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ دَعْوَى الْوِلَادَةِ فِي مِلْكِ بَائِعِهِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الْوِلَادَةِ فِي مِلْكِهِ لِأَنَّهُ تَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْ جِهَتِهِ وَهُنَاكَ يُقْضَى لَهُ كَذَا هَذَا وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى مِيرَاثًا أَوْ هِبَةً أَوْ صَدَقَةً أَوْ وَصِيَّةً وَأَنَّهُ وُلِدَ فِي مِلْكِ الْمُوَرِّثِ وَالْوَاهِبِ وَالْمُوصِي فَإِنَّهُ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ ادَّعَى الْخَارِجُ مَعَ ذِي الْيَدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّتَاجَ فَقَضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ وَادَّعَى النِّتَاجَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ يُقْضَى لَهُ إلَّا أَنْ يُعِيدَ صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ فَيَكُونُ هُوَ أَوْلَى لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْمُدَّعِي الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْمُدَّعِي الثَّانِي فَلَمْ يَكُنْ الثَّانِي مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فَتُسْمَعُ الْبَيِّنَةَ مِنْهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْمِلْكِ وَبَيْنَ الْعِتْقِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعِتْقِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى النَّاسِ كَافَّةً وَالْقَضَاءُ بِالْمِلْكِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ قَضَاءً عَلَى غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةُ النِّتَاجِ تُوجِبُ الْمِلْكَ بِصِفَةِ الْأَوَّلِيَّةِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ كَالْعِتْقِ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إبْطَالِهِ حَتَّى لَا يَجُوزَ اسْتِرْقَاقُ الْحُرِّ بِرِضَاهُ وَلَوْ كَانَ

حَقُّ الْعَبْدِ لَقَدَرَ عَلَى إبْطَالِهِ كَالرِّقِّ وَإِذَا كَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَالنَّاسُ فِي إثْبَاتِ حُقُوقِهِ خُصُومٌ عَنْهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ لِكَوْنِهِمْ عَبِيدَهُ فَكَانَ حَضْرَةُ الْوَاحِدِ كَحَضْرَةِ الْكُلِّ وَالْقَضَاءُ عَلَى الْوَاحِد قَضَاءٌ عَلَى الْكُلِّ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْعُبُودِيَّةِ كَالْوَرَثَةِ لَمَّا قَامُوا مَقَامَ الْمَيِّتِ فِي إثْبَاتِ حُقُوقِهِ وَالدَّفْعِ عَنْهُ لِكَوْنِهِمْ خُلَفَاءَهُ فَقَامَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مَقَامَ الْكُلِّ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْخِلَافَةِ بِخِلَافِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ فَالْحَاضِرُ فِيهِ لَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ إلَّا بِالْإِنَابَةِ حَقِيقَةً أَوْ بِثُبُوتِ النِّيَابَةِ عَنْهُ شَرْعًا وَاتِّصَالٍ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الدَّعْوَى عَلَى مَا عُرِفَ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَالْقَضَاءُ عَلَى غَيْرِهِ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّ هَذِهِ الْحِنْطَةَ مِنْ زَرْعٍ حُصِدَ مِنْ أَرْضِ هَذَا الرَّجُلِ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْأَرْض أَنْ يَأْخُذَهَا لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ لِغَيْرِهِ وَمِلْكُ الزَّرْعِ يَتْبَعُ مِلْكَ الْبَذْرِ لَا مِلْكَ الْأَرْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَرْضَ الْمَغْصُوبَةَ إذَا زَرَعَهَا الْغَاصِبُ مِنْ بَذْر نَفْسِهِ كَانَتْ الْحِنْطَةُ لَهُ وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ هَذِهِ الْحِنْطَةَ مِنْ زَرْعِ هَذَا أَوْ هَذَا التَّمْرُ مِنْ نَخْلِ هَذَا يُقْضَى لَهُ لِأَنَّ مِلْكَ الْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ يَتْبَعُ مِلْكَ الزَّرْعِ وَالنَّخْلِ وَلَوْ قَالُوا هَذِهِ الْحِنْطَةُ مِنْ زَرْعٍ كَانَ مِنْ أَرْضِهِ لَمْ يَقْضِ لَهُ لِأَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ حُصِدَ مِنْ أَرْضِهِ لَمْ يَقْضِ لَهُ فَهَذَا أَوْلَى وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ هَذَا اللَّبَنَ وَهَذَا الصُّوفَ حِلَابُ شَاتِه وَصُوفُ شَاتِه لَمْ يَقْضِ لَهُ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الشَّاةُ لَهُ وَحِلَابُهَا وَصُوفُهَا لِغَيْرِهِ بِأَنْ أَوْصَى بِذَلِكَ لِغَيْرِهِ هَذَا الَّذِي ذَكَرنَا كُلّه فِي دَعْوَى الْخَارِجِ الْمِلْكَ فَأَمَّا دَعْوَى الْخَارِجَيْنِ عَلَى ذِي الْيَدِ الْمِلْكَ. فَنَقُولُ لَا تَخْلُو فِي الْأَصْلِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ مَا يَدَّعِي الْآخَرُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَكْثَرَ مِمَّا يَدَّعِي الْآخَرُ فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ مَا يَدَّعِي الْآخَرُ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرنَا أَيْضًا وَهُوَ أَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ إمَّا أَنْ قَامَتَا عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ عَنْ الْوَقْتِ وَإِمَّا أَنْ قَامَتَا عَلَى مِلْكٍ مُوَقَّتٍ وَإِمَّا أَنْ قَامَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ وَالْأُخْرَى عَلَى مِلْكٍ مُوَقَّتٍ وَكُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبٍ أَوْ بِغَيْرِ سَبَبٍ فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالْمُدَّعَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلَانِ فِي قَوْلٍ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وَيُتْرَكُ الْمُدَّعَى فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ وَفِي قَوْلٍ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَيُقْضَى لِمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ مِنْهُمَا وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَيِّنَتَيْنِ مُتَعَذِّرٌ لِتَنَافٍ بَيْنَ مُوجِبِهِمَا لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ مَمْلُوكَةً لِاثْنَيْنِ عَلَى الْكَمَالِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فَيَبْطُلَانِ جَمِيعًا إذْ لَيْسَ الْعَمَلُ بِإِحْدَاهُمَا أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالْأُخْرَى لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُوَّةِ أَوْ تُرَجَّحُ إحْدَاهُمَا بِالْقُرْعَةِ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِالْقُرْعَةِ فِي الْجُمْلَةِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْبَيِّنَةَ دَلِيلٌ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَالْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ وَاجِبٌ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فَإِنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يُعْمَلُ بِهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يُعْمَلُ بِهِمَا مِنْ وَجْهٍ كَمَا فِي سَائِرِ دَلَائِلِ الشَّرْعِ مِنْ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ وَأَخْبَارُ الْآحَادِ وَالْأَقْيِسَةِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا تَعَارَضَتْ وَهُنَا إنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِإِظْهَارِ الْمِلْكِ فِي كُلِّ الْمَحِلِّ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا بِإِظْهَارِ الْمِلْكِ فِي النِّصْفِ فَيُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ. وَلَوْ قَامَتَا عَلَى مِلْكٍ مُوَقَّتٍ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَإِنْ اسْتَوَى الْوَقْتَانِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ سَبْقُ أَحَدِهِمَا بِحُكْمٍ التَّعَارُضِ سَقَطَ التَّارِيخُ وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ. وَإِنْ كَانَ وَقْتُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقَ مِنْ الْآخَرِ فَالْأَسْبَقُ أَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يَجِيءُ هُنَا خِلَافُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ مِنْ الْخَارِجِ مَسْمُوعَةٌ بِلَا خِلَافٍ وَالْبَيِّنَتَانِ قَامَتَا مِنْ الْخَارِجَيْنِ فَكَانَتَا مَسْمُوعَتَيْنِ ثُمَّ تَرَجَّحَ إحْدَاهُمَا بِالتَّارِيخِ لِأَنَّهَا أَثْبَتَتْ الْمِلْكَ فِي وَقْتٍ لَا تُعَارِضُهَا فِيهِ الْأُخْرَى فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ إلَى أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ انْتَقَلَ إلَيْهِ الْمِلْكُ. وَإِنْ أُرِّخَتْ إحْدَاهُمَا وَأُطْلِقَتْ الْأُخْرَى مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْوَقْتِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْإِطْلَاقِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ أَقْوَى لِأَنَّ الْمِلْك الْمُطْلَقَ مِلْكِهِ مِنْ الْأَصْلِ حُكْمًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَظْهَرُ فِي الزَّوَائِدِ وَتُسْتَحَقّ بِهِ الْأَوْلَادُ وَالْأَكْسَابُ وَهَذَا حُكْمُ ظُهُورِ الْمِلْكِ مِنْ الْأَصْلِ وَلَا يُسْتَحَقّ ذَلِكَ بِالْمِلْكِ الْمُوَقَّتِ فَكَانَتْ الْبَيِّنَةُ الْقَائِمَةُ عَلَيْهِ أَقْوَى فَكَانَ الْقَضَاءُ بِهَا أَوْلَى. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا ذَكَرنَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ الْمُؤَرَّخَةَ تُظْهِرُ الْمِلْكَ فِي زَمَانٍ لَا تُعَارِضُهَا فِيهِ الْبَيِّنَةُ الْمُطْلَقَةُ عَنْ التَّارِيخِ

بِيَقِينٍ بَلْ تَحْتَمِلُ الْمُعَارِضَةَ وَعَدَمَهَا فَلَا تَثْبُتُ الْمُعَارِضَةُ بِالشَّكِّ فَتَثْبُتُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ التَّارِيخِ بِلَا مُعَارِضٍ فَكَانَ صَاحِبُ التَّارِيخِ أَوْلَى. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا مَرَّ أَيْضًا أَنَّ الْمِلْكَ الْمُوَقَّتَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا لِاحْتِمَالِ أَنَّ صَاحِبَ الْإِطْلَاقِ لَوْ أَرَّخَ لَكَانَ تَارِيخُهُ أَقْدَمَ يَثْبُتُ السَّبْقُ مَعَ الِاحْتِمَالِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ التَّارِيخِ فَبَقِيَ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ هَذَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ مِنْ الْخَارِجَيْنِ عَلَى ذِي الْيَدِ عَلَى الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ ادَّعَيَا الْمِلْكَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ مِنْ الْإِرْثِ أَوْ الشِّرَاءِ أَوْ النِّتَاجِ وَنَحْوِهَا وَإِمَّا أَنْ ادَّعَيَاهُ بِسَبَبَيْنِ فَإِنْ ادَّعَيَا الْمِلْكَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ الْإِرْثَ فَإِنْ لَمْ تُوَقَّتْ الْبَيِّنَتَانِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ الْمِلْكَ الْمَوْرُوثَ هُوَ مِلْكُ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنَّمَا الْوَارِثُ يَخْلُفُهُ وَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي مِلْكِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُجَهَّزُ مِنْ التَّرِكَةِ وَيُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ وَيُرَدُّ الْوَارِثُ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ فَكَانَ الْمُوَرِّثَيْنِ حَضَرَا وَادَّعَيَا مِلْكًا مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ وَإِنْ وَقَّتَا وَقْتًا فَإِنْ كَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا فَكَذَلِكَ لِمَا مَرَّ وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْوَقْتَيْنِ أَسْبَقَ يُقْضَى لِمَنْ هُوَ أَسْبَقُ وَقْتًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ عِنْدَهُ فِي الْمِيرَاثِ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْمَوْرُوثَ مِلْكُ الْمَيِّتِ وَالْوَارِثُ قَامَ مَقَامَهُ فَلَمْ يَكُنْ الْمَوْتُ تَارِيخًا لَمِلْكِ الْوَارِثِ فَسَقَطَ التَّارِيخُ لِمِلْكِهِ وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ عَنْ التَّارِيخِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمَا إنْ لَمْ يُؤَرِّخَا مِلْكَ الْمَيِّتَيْنِ فَكَذَلِكَ فَأَمَّا إذَا أَرَّخَا مِلْكَ الْمَيِّتَيْنِ فَيُقْضَى لِأَسْبَقِهِمَا تَارِيخًا ذَكَره فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ. وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَقُولَانِ بَلْ الْوَارِثُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يُظْهِرُ الْمِلْكَ لِلْمُوَرِّثِ لَا لِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ حَضَرَ الْمُوَرِّثَانِ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً مُؤَرَّخَةً وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقُضِيَ لِأَسْبَقِهِمَا وَقْتًا لِإِثْبَاتِهِ الْمِلْك فِي وَقْتٍ لَا تُعَارِضُهُ فِيهِ بَيِّنَةُ الْآخَرِ كَذَا هَذَا وَلَوْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا وَلَمْ تُوَقَّتْ الْأُخْرَى يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّ التَّارِيخَ فِي بَابِ الْمِيرَاث سَاقِطٌ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْمُوَرِّثَيْنِ الْخَارِجَيْنِ حَضَرَا وَادَّعَيَا مِلْكًا فَأَرَّخَهُ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُؤَرِّخْهُ الْآخَرُ وَهُنَاكَ كَانَ الْمُدَّعَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَكَذَا هُنَا لِأَنَّهُمَا ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ رَجُلَيْنِ وَلَا عِبْرَةَ فِيهِ بِالتَّارِيخِ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ الشِّرَاءَ فَنَقُولُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الدَّارُ فِي يَدِ ثَالِثٍ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ وَإِمَّا إنْ ادَّعَيَاهُ مِنْ اثْنَيْنِ فَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ ثَالِثٍ وَادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ وَنَقَدَ الثَّمَنَ مُطْلَقًا عَنْ التَّارِيخِ وَذَكَر الْقَبْضَ يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ فِي قَوْلٍ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وَفِي قَوْلٍ يَقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَيُقْضَى لِمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ التَّهَاتُرِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ. وَإِذَا قُضِيَ بِالدَّارِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ يَكُونُ لَهُمَا الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ لِأَنَّ غَرَضَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الشِّرَاءِ الْوُصُولُ إلَى جَمِيعِ الْمَبِيعِ وَلَمْ يَحْصُلْ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ خَلَلًا فِي الرِّضَا فَلِذَلِكَ أُثْبِت لَهُمَا الْخِيَارُ فَإِنْ اخْتَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَخْذَ نِصْفِ الدَّارِ رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ لَمْ يُحَصَّلْ لَهُ إلَّا نِصْفُ الْمَبِيعِ وَإِنْ اخْتَارَ الرَّدَّ رَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ انْفَسَخَ الْبَيْعُ فَإِنْ اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الرَّدَّ وَالْآخَرُ الْأَخْذَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي وَتَخْيِيرِهِ إيَّاهُمَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ إلَّا النِّصْفَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ لِأَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي بِذَلِكَ أَوْجَبَ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ فَلَا يَعُودُ إلَّا بِالتَّحْدِيدِ كَمَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ لِلشَّفِيعَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا الشُّفْعَةَ لَا يَكُونُ لِصَاحِبِهِ إلَّا نِصْفُ الدَّارِ فَأَمَّا إذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا تَرْكَ الْخُصُومَةِ قَبْلَ تَخْيِيرِ الْقَاضِي فَلِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ الْمَبِيعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ كُلُّ الْبَيْعِ وَالِامْتِنَاعُ بِحُكْمِ الْمُزَاحَمَةِ فَإِذَا انْقَطَعَتْ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ كَأَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ إذَا سَلَّمَ الشُّفْعَةَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ يُقْضَى لِصَاحِبِهِ بِالْكُلِّ وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الشِّرَاءَ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ سِوَى صَاحِبِ الْيَدِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ يُقْضَى بِالدَّارِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَنَا وَثَبَتَ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالْكَلَامُ فِي تَوَابِعِ الْخِيَارِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ الشَّهَادَةَ الْقَائِمَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ وَهُوَ الْبَائِعُ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ ذَكَر الْمِلْكِ لَهُ وَالشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ لَا تُقْبَلُ إلَّا بِذِكْرِ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فِي يَدِ الْبَائِعِ

وَالْيَدُ دَلِيلُ الْمِلْكِ فَوَقَعَتْ الْغُنْيَةُ عَنْ ذِكْرِهِ وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي الْمَبِيعُ لَيْسَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذِكْرِهِ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ هَذَا إذَا لَمْ تُؤَرَّخْ الْبَيِّنَتَانِ فَأَمَّا إذَا أُرِّخَتَا فَإِنْ اسْتَوَى التَّارِيخَانِ فَكَذَلِكَ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِهِمَا بِالتَّعَارُضِ فَبَقِيَ دَعْوَى مُطْلَقِ الشِّرَاءِ. وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَسْبَقَ تَارِيخًا كَانَتْ أَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ الْمِلْكَ فِي وَقْتٍ لَا تُعَارِضُهَا فِيهِ الْأُخْرَى فَتَنْدَفِعُ بِهَا الْأُخْرَى وَلَوْ أُرِّخَتْ إحْدَاهُمَا وَأُطْلِقَتْ الْأُخْرَى فَالْمُؤَرَّخَةُ أَوْلَى لِأَنَّهَا تُظْهِرُ الْمِلْكَ فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ وَالْأُخْرَى لَا تَتَعَرَّضُ لِلْوَقْتِ فَتَحْتَمِلُ السَّبْقَ وَالتَّأْخِيرَ فَلَا تُعَارِضُهَا مَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ وَلَوْ لَمْ تُؤَرَّخْ الْبَيِّنَتَانِ وَلَكِنْ ذَكَرَتْ إحْدَاهُمَا الْقَبْضَ فَهِيَ أَوْلَى لِأَنَّهَا لَمَّا أَثْبَتَتْ قَبْضَ الْمَبِيعِ جُعِلَ كَأَنَّ بَيْعَ صَاحِبِ الْقَبْضِ أَسَبْقُ فَيَكُونُ أَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ ذَكَرَتْ إحْدَاهُمَا تَارِيخًا وَالْأُخْرَى قَبْضًا فَبَيِّنَةُ الْقَبْضِ أَوْلَى إلَّا أَنْ تَشْهَدَ بَيِّنَةُ التَّارِيخِ أَنَّ شِرَاءَهُ قَبْلَ شِرَاءِ الْآخَرِ فَيُقْضَى لَهُ وَيَرْجِعُ الْآخَرُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ وَكَذَا لَوْ أَرَّخَا تَارِيخًا وَاحِدًا وَذَكَرَتْ إحْدَاهُمَا الْقَبْضَ فَبَيِّنَةُ الْقَبْضِ أَوْلَى إلَّا إذَا كَانَ وَقْتُ الْآخَرِ أَسْبَقَ هَذَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ وَهُوَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْ غَيْرُهُ فَأَمَّا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ اثْنَيْنِ سِوَى صَاحِبِ الْيَدِ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُمَا ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ الْبَائِعَيْنِ فَقَامَا مَقَامَهُمَا فَصَارَ كَأَنَّ الْبَائِعَيْنِ الْخَارِجَيْنِ حَضَرَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ وَلَوْ كَانَ كَذَاك يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَذَا هَذَا وَيَثْبُتُ لَهُمَا الْخِيَارُ وَالْكَلَامُ فِي الْخِيَارِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرنَا وَلَوْ وَقَّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ فَإِنْ كَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ مِنْ الْآخَرِ فَالْأَسْبَقُ تَارِيخًا أَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَكَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي رِوَايَةِ الْأُصُولِ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عِنْدَهُ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ ذَكَرَهُ الدَّارِيِّ وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ وَالْوَارِثُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِلْمَيِّتِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الْمِيرَاثِ وَالشِّرَاءِ وَقَالَ لَا عِبْرَةَ بِالتَّارِيخِ فِي الشِّرَاءِ أَيْضًا إلَّا أَنْ يُؤَرِّخَا مِلْكَ الْبَائِعَيْنِ وَإِنْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا وَلَمْ تُوَقَّتْ الْأُخْرَى يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ أَيْضًا فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَوُقِّتَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا وَأُطْلِقَتْ الْأُخْرَى أَنَّ بَيِّنَةَ الْوَقْتِ أَوْلَى وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُمَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ اثْنَيْنِ فَقَدْ ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ الْبَائِعَيْنِ فَتَارِيخُ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ أَحَدِ الشراءين بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شِرَاءُ صَاحِبِهِ أَسْبَقَ مِنْ شِرَائِهِ فَلَا يُحْكَمُ بِسَبْقِ أَحَدِهِمَا مَعَ الِاحْتِمَالِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ لِأَنَّ هُنَاكَ اتَّفَقَا عَلَى تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ وَاحِدٍ فَتَارِيخُ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ أَوْجَبَ تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْهُ فِي زَمَانٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ حَتَّى يَقُومَ عَلَى التَّلَقِّي مِنْهُ دَلِيلٌ آخَرُ هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ ثَالِثٍ فَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَإِنْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ فَصَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى سَوَاءٌ أَرَّخَ الْآخَرُ أَوْ لَمْ يُؤَرِّخ وَسَوَاءٌ ذَكَر شُهُودَ الْقَبْضِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ لِأَنَّ الْقَبْضَ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ أَقْوَى لِثُبُوتِهِ حِسًّا وَمُشَاهَدَةً وَقَبْضُ الْآخَرِ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَكَانَ الْقَبْضُ الْمَحْسُوسُ أَوْلَى فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الْقَبْضَ الثَّابِتَ بِالْحِسِّ أَوْلَى مِنْ الثَّابِتِ بِالْخَبَرِ وَمِنْ التَّارِيخِ أَيْضًا وَالْقَبْضُ الثَّابِتُ بِالْخَبَرِ أَوْلَى مِنْ التَّارِيخِ وَإِنْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ اثْنَيْنِ يُقْضَى لِلْخَارِجِ سَوَاءٌ وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ أَوْ لَا أَوْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى إلَّا إذَا وُقِّتَتَا وَوَقْتُ صَاحِبِ الْيَدِ أَسْبَقُ لِأَنَّهُمَا ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ الْبَائِعَيْنِ فَقَامَا مَقَامَ الْبَائِعَيْنِ فَصَارَ كَأَنَّ الْبَائِعَيْنِ حَضَرَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يُقْضَى لِلْخَارِجِ كَذَا هَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ وَاحِدًا لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَهُمَا بِالشِّرَاءِ مِنْ جِهَتِهِ وَلِأَحَدِهِمَا يَدٌ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ شِرَاءَ صَاحِبِ الْيَدِ أَسْبَقُ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ النِّتَاجَ بِأَنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجَيْنِ أَنَّهَا دَابَّتُهُ نَتَجَتْ عِنْدَهُ فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ الْحُجَّتَيْنِ وَتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا بِإِظْهَارِ الْمِلْكِ فِي كُلِّ الْمَحَلِّ فَلْيُعْمَلْ بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُوَقَّتٍ. فَإِنْ اتَّفَقَ الْوَقْتَانِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ اخْتَلَفَا يُحَكَّمُ سِنُّ الدَّابَّةِ إنْ عُلِمَ وَإِنْ أُشْكِلَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْضَى لِأَسْبَقِهِمَا وَقْتًا وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى بَيْنَهُمَا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ السِّنَّ إذَا أُشْكِلَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِوَقْتِ هَذَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِوَقْتِ ذَاكَ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْوَقْتِ وَصَارَ كَأَنَّهُمَا سَكَتَا عَنْ الْوَقْتِ أَصْلًا وَجْهُ قَوْلِ

أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ وُقُوعَ الْإِشْكَالِ فِي السِّنِّ يُوجِبُ سُقُوطَ اعْتِبَارِ حُكْمِ السَّبْقِ فَبَطَل تَحْكِيمُهُ فَبَقِيَ الْحُكْمُ لِلْوَقْتِ فَالْأَسْبَقُ أَوْلَى وَهَذَا يُشْكِلُ بِالْخَارِجِ مَعَ ذِي الْيَدِ وَإِنْ خَالَفَ الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرنَا فِي الْخَارِجِ مَعَ ذِي الْيَدِ وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ وَالْآخَرُ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى لِمَا مَرَّ هَذَا إذَا ادَّعَى الْخَارِجَانِ الْمِلْكَ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ بِسَبَبَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ مِنْ الْمِيرَاثِ وَالشِّرَاءِ وَالنِّتَاجِ فَإِنْ كَانَ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مِنْ اثْنَيْنِ وَإِمَّا أَنْ كَانَ مِنْ وَاحِدٍ فَإِنْ كَانَ مِنْ اثْنَيْنِ يَعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ السَّبَبَيْنِ بِأَنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى هَذِهِ الدَّابَّةَ مِنْ فُلَانٍ وَادَّعَى الْآخَرُ أَنَّ فُلَانًا آخَرَ وَهَبَهَا لَهُ وَقَبَضَهَا مِنْهُ قُضِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُمَا ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ الْبَائِعِ وَالْوَاهِبِ فَقَامَا مَقَامَهُمَا كَأَنَّهُمَا حَضَرَا وَادَّعَيَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُرْسَلٍ. وَكَذَا لَوْ ادَّعَى ثَالِثٌ مِيرَاثًا عَنْ أَبِيهِ فَإِنَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَلَوْ ادَّعَى رَابِعٌ وَصَدَّقَهُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ وَاحِدٍ يُنْظَرُ إلَى السَّبَبَيْنِ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْوَى يُعْمَلُ بِهِ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالرَّاجِحِ وَاجِبٌ وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْقُوَّةِ يُعْمَلُ بِهِمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَان عَلَى مَا هُوَ سَبِيلُ دَلَائِلِ الشَّرْعِ بَيَانُ ذَلِكَ إذَا أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ وَقَبَضَ الدَّارَ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا ذَاكَ وَهَبَهَا لَهُ وَقَبَضَهَا يُقْضَى لِصَاحِبِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ. وَالْهِبَةُ لَا تُفِيدُ الْحُكْمَ إلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ الشِّرَاءُ أَوْلَى (وَكَذَلِكَ) الشِّرَاءُ مَعَ الصَّدَقَةِ وَالْقَبْضِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ الشِّرَاءُ مَعَ الرَّهْنِ وَالْقَبْضِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُفِيدُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَالرَّهْنُ يُفِيدُ مِلْكَ الْيَدِ وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ أَقْوَى وَلَوْ اجْتَمَعَتْ الْبَيِّنَتَانِ مَعَ الْقَبْضِ يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ السَّبَبَيْنِ (وَقِيلَ) هَذَا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَالدَّابَّةِ وَالْعَبْدِ وَنَحْوِهِمَا (فَأَمَّا فِيمَا) يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَالدَّارِ وَنَحْوِهَا فَلَا يُقْضَى لَهُمَا بِشَيْءٍ عَلَى أَصْل أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْهِبَةِ مِنْ رَجُلَيْنِ لِحُصُولِ مَعْنَى الشُّيُوعِ (وَقِيلَ) لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَبَيْنَ مَا لَا يَحْتَمِلُهَا هُنَا لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الشُّيُوعِ الطَّارِئِ لِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْكُلِّ وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ (وَكَذَلِكَ) لَوْ اجْتَمَعَتْ الصَّدَقَةُ مَعَ الْقَبْضِ أَوْ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ مَعَ الْقَبْضِ يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ السَّبَبَيْنِ لَكِنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُدَّعَى فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَإِنْ كَانَ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا مَرَّ. (وَلَوْ اجْتَمَعَ) الرَّهْنُ وَالْهِبَةُ أَوْ الرَّهْنُ وَالصَّدَقَةُ فَالْقِيَاسُ أَنْ تَكُونَ الْهِبَةُ أَوْلَى (وَكَذَا) الصَّدَقَةُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُفِيدُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَالرَّهْنُ يُفِيدُ مِلْكَ الْيَدِ وَالْحَبْسَ وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ أَقْوَى وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الرَّهْنُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَرْهُونَ عِنْدَنَا مَضْمُونٌ بِقَدْرِ الدَّيْنِ فَأَمَّا الْمَوْهُوبُ فَلَيْسَ بِمَضْمُونٍ أَصْلًا فَكَانَ الرَّهْنُ أَقْوَى (وَلَوْ اجْتَمَعَ) النِّكَاحَانِ بِأَنْ ادَّعَتْ امْرَأَتَانِ وَأَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ السَّبَبَيْنِ (وَلَوْ اجْتَمَعَ) النِّكَاحُ مَعَ الْهِبَةِ أَوْ الصَّدَقَةِ أَوْ الرَّهْنِ فَالنِّكَاحُ أَوْلَى لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ فَكَانَ أَقْوَى وَلَوْ اجْتَمَعَ الشِّرَاءُ وَالنِّكَاحُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَلِلْمَرْأَةِ نِصْفُ نِصْفِ الْقِيمَةِ عَلَى الزَّوْجِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الشِّرَاءُ أَوْلَى وَلِلْمَرْأَةِ الْقِيمَةُ عَلَى الزَّوْجِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الشِّرَاءَ أَقْوَى مِنْ النِّكَاحِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ وَيَصِحُّ النِّكَاحُ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ وَكَذَا لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ بِدُونِ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ وَتَصِحُّ فِي بَابِ النِّكَاحِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ عَلَى جَارِيَةِ غَيْرِهِ دَلَّ أَنَّ الشِّرَاءَ أَقْوَى مِنْ النِّكَاحِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ النِّكَاحَ مِثْلُ الشِّرَاءِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعَاوَضَةٌ يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ هَذَا إذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ مَا يَدَّعِي الْآخَرُ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِمَّا يَدَّعِي الْآخَرُ بِأَنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا كُلَّ الدَّارِ وَالْآخَرُ نِصْفَهَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْضَى لِمُدَّعِي الْكُلِّ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدَّارِ وَلِمُدَّعِي النِّصْفِ بِرُبْعِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى لِمُدَّعِي الْكُلِّ بِثُلُثَيْ الدَّارِ وَلِمُدَّعِي النِّصْفِ بِثُلُثِهَا وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ جَوَابُهُمْ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي طَرِيقِ الْقِسْمَةِ فَتُقْسَمُ عِنْدَهُ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ وَهُمَا قَسَّمَا بِطَرِيقِ الْعَدْلِ وَالْمُضَارَبَةِ (وَتَفْسِيرُ) الْقِسْمَةِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْقَدْرِ الَّذِي وَقَعَ التَّنَازُعُ فِيهِ فَيُجْعَلُ الْجُزْءُ الَّذِي خَلَا عَنْ الْمُنَازَعَةِ سَالِمًا لِمُدَّعِيهِ (وَتَفْسِيرُ) الْقِسْمَةِ عَلَى طَرِيقِ الْعَدْلِ وَالْمُضَارَبَةِ أَنْ تُجْمَعَ السِّهَامُ كُلُّهَا فِي الْعَيْنِ فَتُقَسَّمُ بَيْنَ الْكُلِّ بِالْحِصَصِ فَيَضْرِبُ كُلٌّ بِسَهْمِهِ كَمَا فِي الْمِيرَاثِ وَالدُّيُونِ الْمُشْتَرَكَةِ الْمُتَزَاحِمَةِ وَالْوَصَايَا فَلَمَّا كَانَتْ الْقِسْمَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ تَجِبُ مُرَاعَاةُ مَحَلِّ النِّزَاع فَهُنَا يَدَّعِي أَحَدُهُمَا

كُلَّ الدَّارِ وَالْآخَرُ لَا يُنَازِعُهُ إلَّا فِي النِّصْفِ فَبَقِيَ النِّصْفُ الْآخَرُ خَالِيًا عَنْ الْمُنَازَعَةِ فَيُسَلَّمُ لِمُدَّعِي الْكُلِّ لِأَنَّهُ يَدَّعِي شَيْئًا لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَمَنْ ادَّعَى شَيْئًا لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ غَيْرُهُ يُسَلَّمُ لَهُ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ اسْتَوَتْ فِيهِ مُنَازَعَتُهُمَا فَيَقْضِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ أَرْبَاعًا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدَّارِ لِمُدَّعِي الْكُلِّ وَرُبْعُهَا لِمُدَّعِي النِّصْفِ وَلَمَّا كَانَتْ الْقِسْمَةُ عِنْدَهُمَا عَلَى طَرِيقِ الْمُضَارَبَةِ يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى مَبْلَغِ السِّهَامِ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ بِسَهْمِهِ فَهُنَا أَحَدُهُمَا يَدَّعِي كُلَّ الدَّارِ وَالْآخَرُ يَدَّعِي نِصْفَهَا فَيُجْعَلُ أَخَسُّهُمَا سَهْمًا فَجُعِلَ نِصْفُ الدَّارِ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا جُعِلَ نِصْفُ الدَّارِ بَيْنَهُمَا صَارَ الْكُلُّ سَهْمَيْنِ فَمُدَّعِي الْكُلِّ يَدَّعِي سَهْمَيْنِ وَمُدَّعِي النِّصْفِ يَدَّعِي سَهْمًا وَاحِدًا فَيُعْطَى هَذَا سَهْمًا وَذَاكَ سَهْمَيْنِ فَكَانَتْ الدَّارُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا لِمُدَّعِي الْكُلِّ وَثُلُثُهَا لِمُدَّعِي النِّصْفِ وَالصَّحِيحُ قِسْمَةُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْقِسْمَةِ لِضَرُورَةِ الدَّعْوَى وَالْمُنَازَعَةِ وَوُقُوعِ التَّعَارُضِ فِي الْحُجَّةِ وَلَا مُنَازَعَةَ لِمُدَّعِي الْكُلِّ إلَّا فِي النِّصْفِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ إلَّا فِيهِ فَيُسَلَّمُ لَهُ مَا وَرَاءَهُ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَخُلُوّهَا عَنْ الْمُعَارِضِ فَكَانَ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَمَلًا بِالدَّلِيلِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ ثَالِثٍ فَإِنْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهمَا فَبَيِّنَةُ مُدَّعِي الْكُلِّ أَوْلَى لِأَنَّهُ خَارِجٌ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَى صَاحِبِهِ النِّصْفَ الَّذِي فِي يَدِهِ وَمُدَّعِي النِّصْفِ لَا يَدَّعِي شَيْئًا هُوَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي إلَّا النِّصْفَ وَالنِّصْفُ فِي يَدِهِ فَكَانَ مُدَّعِي الْكُلِّ خَارِجًا وَمُدَّعِي النِّصْفِ صَاحِبَ يَدٍ فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى فَيُقْضَى لَهُ بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَيُتْرَكُ النِّصْفُ الَّذِي فِي يَدِهِ عَلَى حَالِهِ هَذَا إذَا ادَّعَى الْخَارِجَانِ شَيْئًا فِي يَدِ ثَالِثٍ فَأَنْكَرَ الَّذِي فِي يَده فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ لَمْ يُقِمْ لَهُمَا بَيِّنَةً وَطَلَبَا بِيَمِينِ الْمُنْكِرِ يَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ نَكَل لَهُمَا جَمِيعًا يُقْضَى لَهُمَا بِالنُّكُولِ لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا فَإِنْ حَلَفَ لِأَحَدِهِمَا وَنَكَل لِلْآخَرِ يُقْضَى لِلَّذِي نَكَل لِوُجُودِ الْحُجَّة فِي حَقِّهِ وَإِنْ حَلَفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُتْرَك الْمُدَّعَى فِي يَدِهِ قَضَاءَ تَرْكٍ لَا قَضَاءَ اسْتِحْقَاقٍ حَتَّى لَوْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُمَا وَيُقْضَى لَهُمَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ أَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ مِلْكُهُ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَكَذَا إذَا أَقَامَ أَحَدُ الْمُدَّعِيَيْنِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّصْفِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ صَاحِبُهُ بَعْدَ مَا قُضِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ بِالتَّرْكِ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ حَقِيقَةً فَتُسْمَعُ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ (فَأَمَّا) صَاحِبُ الْيَدِ فَقَدْ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَكَذَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ بَعْدَ مَا قُضِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فِي النِّصْفِ وَالْبَيِّنَةُ مِنْ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ إلَّا إذَا ادَّعَى التَّلَقِّيَ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَحِقِّ أَوْ ادَّعَى النِّتَاجَ وَكَذَا لَوْ ادَّعَى بَائِعُ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ أَوْ بَائِعُ بَائِعِهِ هَكَذَا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ عَلَى الْبَاعَةِ كُلِّهِمْ فِي حَقِّ بُطْلَانِ الدَّعْوَى إنْ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً عَلَيْهِمْ فِي حَقِّ وِلَايَةِ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ إلَّا إذَا قَضَى الْقَاضِي لِهَذَا الْمُشْتَرِي بِالرُّجُوعِ عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ فَيَرْجِعُ هَذَا الْبَائِعُ عَلَى بَائِعِهِ أَيْضًا هَكَذَا فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْحُرِّيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحُرِّيَّةِ قَضَاءٌ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي حَقِّ بُطْلَانِ الدَّعْوَى وَثُبُوتِ وِلَايَةِ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَاعَةِ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ بَيْنَ الْمِلْكِ وَالْعِتْقِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرنَا مِنْ قَبْلِ هَذَا إذَا أَنْكَرَ الَّذِي فِي يَدِهِ فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ لِأَحَدِهِمَا (فَنَقُولُ) هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ كَانَ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَإِمَّا أَنْ كَانَ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَإِنْ أَقَرَّ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ جَازَ إقْرَارُهُ وَدَفَعَ إلَى الْمُقِرِّ لَهُ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ فِي يَدِهِ وَمِلْكِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالْإِقْرَارِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ قَبْلَ التَّزْكِيَةِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ تَضَمُّن إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ وَهُوَ الْبَيِّنَةُ فَكَانَ إقْرَارًا عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَلَكِنْ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَى الْمَقَرِّ لَهُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ صَحِيحٌ وَكَذَا الْبَيِّنَةُ قَدْ لَا تَتَّصِلُ بِهَا التَّزْكِيَةُ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَى الْمَقَرِّ لَهُ فِي الْحَالِ فَإِذَا زُكِّيَتْ الْبَيِّنَتَانِ يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُدَّعَى كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَظَهَرَ أَنَّ إقْرَارَهُ كَانَ إبْطَالًا لِحَقِّ الْغَيْرِ فَلَمْ يَصِحَّ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ. وَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَبَعْدَ التَّزْكِيَةِ يُقْضَى بَيْنَهُمَا لِمَا قُلْنَا إنَّ إقْرَارَهُ لَمْ يَصِحَّ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْخَارِجِ عَلَى ذِي الْيَدِ أَوْ مِنْ الْخَارِجَيْنِ عَلَى ذِي الْيَدِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مِنْ صَاحِبَيْ الْيَدِ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِأَنْ كَانَ الْمُدَّعَى فِي أَيْدِيهمَا فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَالنِّصْفُ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ تُرِكَ فِي يَدِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَضَاءِ التَّرْكِ

وَلَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ النِّصْفِ خَارِجٌ وَلَوْ لَمْ تَقُمْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ يُتْرَكُ فِي أَيْدِيهمَا قَضَاءَ تَرْكٍ حَتَّى لَوْ قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ بَيِّنَةٌ تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ حَقِيقَةً هَذَا إذَا لَمْ تُوَقَّتْ الْبَيِّنَتَانِ فَإِنْ وُقِّتَا فَإِنْ اتَّفَقَ الْوَقْتَانِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ اخْتَلَفَا فَالْأَسْبَقُ أَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (وَأَمَّا) عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلَا عِبْرَةَ لِلْوَقْتِ فِي بَيِّنَةِ صَاحِبِ الْيَدِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِنْ وَقَّتَ إحْدَاهُمَا دُون الْأُخْرَى يَكُونُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالْوَقْتُ سَاقِطٌ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ لِصَاحِبِ الْوَقْتِ وَقَدْ مَرَّتْ الْحُجَجُ قَبْلَ هَذَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) حُكْمُ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ الْقَائِمَتَيْنِ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ. فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْبَيِّنَةَ الْمُظْهِرَةَ لِلزِّيَادَةِ أَوْلَى كَمَا إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ بِأَلِفَيْ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْته مِنْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِبَيِّنَةِ الْبَائِعِ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ زِيَادَةَ أَلْفٍ وَكَذَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَبِيعِ فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ وَهَذِهِ الْجَارِيَةَ بِأَلْفٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ يُقْضَى بِبَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهَا تُظْهِرُ زِيَادَةً وَكَذَا لَوْ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ فَقَالَ الزَّوْجُ تَزَوَّجْتُكِ عَلَى أَلْفٍ وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى أَلْفَيْنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ يُقْضَى بِبَيِّنَةِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ فَضْلًا ثُمَّ إنَّمَا كَانَتْ بَيِّنَةُ الزِّيَادَةِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا مُعَارِضَ لَهَا فِي قَدْرِ الزِّيَادَةِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ لِخُلُوِّهَا عَنْ الْمُعَارِضِ وَلَا يُمْكِنُ إلَّا بِالْعَمَلِ فِي الْبَاقِي فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا فِي الْبَاقِي ضَرُورَةَ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا فِي الزِّيَادَةِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَا إذَا اخْتَلَفَ الشَّفِيعُ وَالْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ ثَمَنِ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ فَقَالَ الشَّفِيعُ اشْتَرَيْتهَا بِأَلْفٍ. وَقَالَ الْمُشْتَرِي بِأَلْفَيْنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ يُقْضَى بِبَيِّنَةِ الشَّفِيعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي تُظْهِرُ الزِّيَادَةَ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا تُقْبَلُ مِنْ الْمُدَّعِي لِأَنَّهَا جُعِلَتْ حُجَّةَ الْمُدَّعِي فِي الْأَصْلِ وَالْمُدَّعِي هُنَاكَ هُوَ الشَّفِيعُ لِوُجُودِ حَدِّ الْمُدَّعِي فِيهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا فِي الْخُصُومَةِ بِحَيْثُ لَوْ تَرَكَهَا يُتْرَكُ وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا فَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَمَجْبُورٌ عَلَى الْخُصُومَةِ أَلَا تَرَى لَوْ تَرَكَهَا لَا يُتْرَكُ بَلْ يُجْبَرُ عَلَيْهَا فَكَانَ هُوَ مُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةُ الْمُدَّعِي لَا حُجَّةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ لِذَلِكَ قُضِيَ بِبَيِّنَةِ الشَّفِيعِ لَا بِبَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ الثَّمَنِ لِأَنَّ هُنَاكَ الْبَائِعَ هُوَ الْمُدَّعِي لِأَنَّ الْمُخَيَّرَ فِي الْخُصُومَةِ إنْ شَاءَ خَاصَمَ وَإِنْ شَاءَ لَا وَفِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَبِيعِ الْمُدَّعِي هُوَ الْمُشْتَرِي أَلَا تَرَى لَوْ تَرَكَ الْخُصُومَةَ يُتْرَكُ وَكَذَا فِي بَابِ النِّكَاحِ الْمُدَّعِي فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمَرْأَةُ لِمَا قُلْنَا فَهُوَ الْفَرْقُ. وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ الْفَرْقِ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ اخْتِلَافُ الْمُتَبَايِعِينَ فِي أَجَلِ الثَّمَنِ فِي أَصْلِ الْأَجَلِ أَوْ فِي قَدْرِهِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهَا تُظْهِرُ الزِّيَادَةَ وَكَذَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي مُضِيِّهِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَمْ يَمْضِ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ زِيَادَةً وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْمُسَلَّمِ فِيهِ فِي قَدْرِهِ أَوْ جِنْسِهِ أَوْ صِفَتِهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ رَبِّ السَّلَمِ وَيُقْضَى بِسَلَمٍ وَاحِدٍ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمُسَلَّمَ إلَيْهِ لَمْ يَقْبِضْ إلَّا رَأْسَ مَالٍ وَاحِدِ وَإِنْ اخْتَلَفَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ فَكَذَلِكَ وَيُقْضَى بِسَلَمٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُقْبَلُ الْبَيِّنَتَانِ جَمِيعًا وَيُقْضَى بِسَلَمَيْنِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ قَامَتْ عَلَى عَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ لِاخْتِلَافِ الْبَدَلَيْنِ فَيُعْمَلُ بِهِمَا جَمِيعًا وَيُقْضَى بِسَلَمَيْنِ إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا وَلَهُمَا أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَدْرًا أَوْ جِنْسًا أَوْ صِفَةً وَبَيِّنَةُ رَبِّ السَّلَمِ تُظْهِرُ زِيَادَةً فَكَانَتْ أَقْوَى وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي رَأْسِ الْمَالِ فِي قَدْرِهِ أَوْ جِنْسِهِ أَوْ صِفَتِهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْمُسَلَّمِ فِيهِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ تُقْبَلُ الْبَيِّنَتَانِ جَمِيعًا وَيُقْضَى بِسَلَمَيْنِ وَالْحُجَجُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرنَا هَذَا إذَا تَصَادَقَا أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ كَانَ دَيْنًا فَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّهُ عَيْنٌ وَاخْتَلَفَا فِي الْمُسَلَّمِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا وَاحِدَةً يُقْضَى بِسَلَمٍ وَاحِدٍ كَمَا إذَا قَالَ رَبُّ السَّلَمِ أَسْلَمْت إلَيْك هَذَا الثَّوْبَ فِي كَرِّ حِنْطَةٍ وَقَالَ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ فِي كَرِّ شَعِيرٍ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ السَّلَمِ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ إذَا كَانَ عَيْنًا وَاحِدَةً لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عَقْدَيْنِ فَيُجْعَلُ عَقْدًا وَاحِدًا وَبَيِّنَةُ رَبِّ السَّلَمِ تُظْهِرُ زِيَادَةً فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَإِذَا كَانَ عَيْنَيْنِ بِأَنْ قَالَ رَبُّ السَّلَم أَسْلَمْت إلَيْك هَذَا الْفَرَسَ فِي كَرِّ حِنْطَةٍ وَقَالَ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ هَذَا الثَّوْبُ فِي كَرِّ شَعِيرٍ يُقْضَى بِسَلَمَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عَقْدَيْنِ فَيُجْعَلُ سَلَمَيْنِ هَذَا كُلُّهُ

دعوى النسب

إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى دَعْوَى الْمِلْكِ فَأَمَّا دَعْوَى الْيَدِ بِأَنْ تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي شَيْءٍ يَدَّعِيه كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ فِي يَدِهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ عَلَى الْيَدِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ الْمِلْكَ وَالْيَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ يُقْضَى بِكَوْنِهِ فِي أَيْدِيهمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُجَّة وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ صَارَ صَاحِبَ يَدٍ وَصَارَ مُدَّعَى عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تَقُمْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْيَمِينُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُنْكِرُ دَعْوَى صَاحِبِ الْيَدِ فَيَحْلِفُ هَذَا كُلُّهُ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى الْمِلْكِ أَوْ عَلَى الْيَدِ. فَأَمَّا إذَا قَامَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الْمِلْكِ وَالْأُخْرَى عَلَى الْيَدِ فَبَيِّنَةُ الْمِلْكِ أَوْلَى نَحْوُ مَا إذَا أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لَهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا فِي يَدِهِ مُنْذُ ثَلَاثِ سِنِينَ يُقْضَى بِهَا لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ عَلَى الْمِلْكِ أَقْوَى لِأَنَّ الْيَدَ قَدْ تَكُونُ مُحِقَّةً وَقَدْ تَكُونُ مُبْطِلَةً كَيَدِ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْيَدُ الْمُحِقَّةُ قَدْ تَكُونُ يَدَ مِلْكٍ وَقَدْ تَكُونُ يَدَ إعَارَةٍ وَإِجَارَةٍ فَكَانَتْ مُحْتَمِلَةً فَلَا تَصْلُحُ بَيِّنَتُهَا مُعَارِضَةً لِبَيِّنَةِ الْمِلْكِ. [دعوى النَّسَب] [بَيَانِ مَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ] (وَأَمَّا) دَعْوَى النَّسَبِ. فَالْكَلَامُ فِي النَّسَبِ فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ مَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ النَّسَبُ وَفِي بَيَانِ صِفَةِ النَّسَبِ الثَّابِتِ أَمَّا مَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ مَا يَثْبُتُ بِهِ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الرَّجُلِ وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يَثْبُتُ بِهِ نَسَبُهُ مِنْ الْمَرْأَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الرَّجُلِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْفِرَاشِ وَهُوَ أَنْ تَصِيرَ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا لَهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجْرُ» . وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ أَيْ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ إلَّا أَنَّهُ أَضْمَرَ الْمُضَافَ فِيهِ اخْتِصَارًا كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وَنَحْوِهِ وَالْمُرَادُ مِنْ الْفِرَاشِ هُوَ الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تُسَمَّى فِرَاشَ الرَّجُلِ وَإِزَارَهُ وَلِحَافَهُ وَفِي التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] أَنَّهَا نِسَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَسُمِّيَتْ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا لِمَا أَنَّهَا تُفْرَشُ وَتُبْسَطُ بِالْوَطْءِ عَادَةً وَدَلَالَةُ الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَخْرُج الْكَلَامَ مُخْرَجَ الْقِسْمَةِ فَجَعَلَ الْوَلَدَ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ وَالْحَجْرَ لِلزَّانِي فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَكُونَ الْوَلَدُ لِمَنْ لَا فِرَاشَ لَهُ كَمَا لَا يَكُونُ الْحَجْرُ لِمَنْ لَا زِنَا مِنْهُ إذْ الْقِسْمَةُ تَنْفِي الشَّرِكَةَ وَالثَّانِي أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَعَلَ الْوَلَدَ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ وَنَفَاهُ عَنْ الزَّانِي بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلِلْعَاهِرِ الْحَجْرُ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ جَعَلَ كُلَّ جِنْسِ الْوَلَدِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ فَلَوْ ثَبَتَ نَسَبُ وَلَدٍ لِمَنْ لَيْسَ بِصَاحِبِ الْفِرَاشِ لَمْ يَكُنْ كُلُّ جِنْسِ الْوَلَدِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ فَعَلَى هَذَا إذَا زَنَى رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ الزَّانِي لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ لِانْعِدَامِ الْفِرَاشِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهَا لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي جَانِبِهَا يَتْبَعُ الْوِلَادَةَ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ وُجِدَتْ وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَبْدًا صَبِيًّا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ الزِّنَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ كَذَّبَهُ الْمَوْلَى فِيهِ أَوْ صَدَّقَهُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ هَلَكَ الْوَلَدُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ عَتَقَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ وَإِنْ مَلَكَ أُمَّهُ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ تَتْبَعُ ثَبَاتَ النَّسَبِ وَلَمْ يَثْبُتْ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ هَذَا الْعَبْدُ لِأَبِ الْمُدَّعِي أَوْ عَمِّهِ لِمَا ذَكَرنَا وَلَوْ كَانَ لِابْنِ الْمُدَّعِي فَقَالَ هُوَ ابْنِي مِنْ الزِّنَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَهُوَ مُخْطِئٌ فِي قَوْلِهِ مِنْ الزِّنَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا الْجَارِيَةَ عِنْدَنَا قُبَيْلَ الِاسْتِيلَادِ أَوْ مُقَارِنًا لَهُ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْوَطْءُ زِنًا مَعَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي غَيْرَ الْأَبِ فَقَالَ هُوَ ابْنِي مِنْهَا وَلَمْ يَقُلْ مِنْ الزِّنَا فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَيَكُونُ عَبْدًا لِمَوْلَى الْأُمِّ وَإِنْ كَذَّبَهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ لِلْحَالِ وَإِذَا مَلَكَهُ الْمُدَّعِي يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْبُنُوَّةِ مُطْلَقًا عَنْ الْجِهَةِ مَحْمُولٌ عَلَى جِهَةٍ مُصَحِّحَةٍ لِلنَّسَبِ وَهِيَ الْفِرَاشُ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ نَفَاذُهُ لِلْحَالِ لِقِيَامِ مِلْكِ الْمَوْلَى فَإِذَا مَلَكَهُ زَالَ الْمَانِعُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ هُوَ ابْنِي مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ شِرَاءٍ فَاسِدٍ وَادَّعَى شُبْهَةً بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ أَوْ قَالَ أَحَلَّهَا لِي اللَّهُ إنْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى يَثْبُتُ النَّسَبُ وَإِنْ كَذَّبَهُ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مَا دَامَ عَبْدًا فَإِذَا مَلَكَهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ فِي ثَبَاتِ النَّسَبِ وَكَذَلِكَ الشُّبْهَةُ فِيهِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فَكَانَ هَذَا إقْرَارًا بِالنَّسَبِ بِجِهَةٍ مُصَحِّحَةٍ لِلنَّسَبِ شَرْعًا إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ ظُهُورُهُ لِلْحَالِ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَإِذَا زَالَ ظَهَرَ وَعَتَقَ لِأَنَّهُ مِلْكُ ابْنِهِ وَإِنْ مَلَكَ أُمَّهَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَهُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ بِنَاءً عَلَى وُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ بِجِهَةٍ

مُصَحِّحَةٍ لَهُ شَرْعًا إلَّا أَنَّهَا تَوَقَّفَتْ عَلَى شَرْطِهَا وَهُوَ الْمِلْكُ وَقَدْ وُجِدَ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ أَصْلًا لِانْعِدَامِ سَبَبِ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِجِهَةٍ مُصَحِّحَةٍ شَرْعًا وَعَلَى هَذَا إذَا تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ الزِّنَا مِنْ فُلَانٍ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَيَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَهُ وَعَلَى هَذَا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ صَبِيًّا فِي يَدِ امْرَأَةٍ فَقَالَ هُوَ ابْنِي مِنْ الزِّنَا وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ هُوَ مِنْ النِّكَاحِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الرَّجُلِ وَلَا مِنْ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الرَّجُلَ أَقَرَّ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ الزِّنَا وَالزِّنَا لَا يُوجِبُ النَّسَبَ وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِي النِّكَاحَ وَالنِّكَاحُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حُجَّةٍ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى الْعَكْس بِأَنْ ادَّعَى الرَّجُلُ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ النِّكَاحِ وَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ مِنْ الزِّنَا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ هُوَ مِنْ النِّكَاحِ أَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي هُوَ مِنْ النِّكَاحِ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا تَنَاقَضَا لِأَنَّ التَّنَاقُضَ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا فِي بَابِ النَّسَبِ كَمَا هُوَ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا فِي بَابِ الْعِتْقِ لِمَا ذَكَرنَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا الثَّانِي فَنَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الْمَرْأَةِ يَثْبُتُ بِالْوِلَادَةِ سَوَاءٌ كَانَ بِالنِّكَاحِ أَوْ بِالسِّفَاحِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْفِرَاشِ إنَّمَا عَرَفْنَاهُ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» أَيْ لِمَالِكِ الْفِرَاشِ وَلَا فِرَاشَ لِلْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَالِكَةٍ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِي جَانِبِهَا مُتَعَلِّقًا بِالْوِلَادَةِ وَإِذَا عَرَفْت أَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ مِنْ الرَّجُلِ لَا يَثْبُتُ إلَّا إذَا صَارَتْ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا لَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا وَكَيْفِيَّةِ عَمَلِهِ فِي ذَلِكَ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْمَرْأَةُ تَصِيرُ فِرَاشًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا عَقْدُ النِّكَاحِ وَالثَّانِي مِلْكُ الْيَمِينِ إلَّا أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يُوجِبُ الْفِرَاشَ بِنَفْسِهِ لِكَوْنِهِ عَقْدًا مَوْضُوعًا لِحُصُولِ الْوَلَدِ شَرْعًا قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «تَنَاكَحُوا تَوَالَدُوا تَكْثُرُوا فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَوْ بِالسَّقْطِ» وَكَذَا النَّاسُ يُقْدِمُونَ عَلَى النِّكَاحِ لِغَرَضِ التَّوَالُدِ عَادَةً فَكَانَ النِّكَاحُ سَبَبًا مُفْضِيًا إلَى حُصُولِ الْوَلَدِ فَكَانَ سَبَبًا لِثَبَاتِ النَّسَبِ بِنَفْسِهِ وَيَسْتَوِي فِيهِ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ وَالْفَاسِدُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْوَطْءُ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لِوُجُودِ رُكْنِ الْعَقْدِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ وَالْفَاسِدُ مَا فَاتَهُ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ. وَهَذَا لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ إلَّا أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ الْوَطْءِ لِغَيْرِهِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ ثَبَاتَ النَّسَبِ كَالْوَطْءِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمَنْكُوحَةُ حُرَّةً أَوْ أُمَّةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ فِرَاشِ الزَّوْجِيَّةِ لَا يَخْتَلِفُ وَأَمَّا مِلْكُ الْيَمِينِ فَفِي أُمِّ الْوَلَدِ يُوجِبُ الْفِرَاشَ بِنَفْسِهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مِلْكٌ يَقْصِدُ بِهِ حُصُولُ الْوَلَدِ عَادَةً كَمِلْكِ النِّكَاحِ فَكَانَ مُفْضِيًا إلَى حُصُولِ الْوَلَدِ كَمِلْكِ النِّكَاحِ إلَّا أَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِ ذَلِكَ مِثْلَ مَا يُقْصَدُ بِمِلْكِ النِّكَاحِ وَكَذَا يَحْتَمِلُ النَّقْلُ إلَى غَيْرِهِ بِالتَّزْوِيجِ وَيَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ بِخِلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَأَمَّا فِي الْأَمَةِ فَلَا يُوجِبُ الْفِرَاشَ بِنَفْسِهِ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَا تَصِيرَ الْأَمَةُ فِرَاشًا بِنَفْسِ الْمِلْكِ بِلَا خِلَافٍ وَهَلْ تَصِيرُ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - لَا تَصِيرُ فِرَاشًا إلَّا بِقَرِينَةِ الدَّعْوَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ تَصِيرُ فِرَاشًا بِنَفْسِ الْوَطْءِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ وَعِبَارَةُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْفِرَاشَ ثَلَاثَةٌ فِرَاشٌ قَوِيٌّ وَفِرَاشٌ ضَعِيفٌ وَفِرَاشٌ وَسَطٌ فَالْقَوِيُّ فِرَاشُ الْمَنْكُوحَةِ حَتَّى يَثْبُتَ النَّسَبُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ وَلَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ وَالْوَسَطُ فِرَاشُ أُمِّ الْوَلَدِ حَتَّى يَثْبُتَ النَّسَبُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ وَيَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ وَالضَّعِيفُ فِرَاشُ الْأَمَةِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ النَّسَبُ فِيهِ إلَّا بِالدَّعْوَةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ ثَبَاتَ النَّسَبِ مِنْهُ لِحُصُولِ الْوَلَدِ مِنْ مَائِهِ وَهَذَا يَحْصُلُ بِالْوَطْءِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ لِأَنَّ الْوَطْءَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ قُصِدَ مِنْهُ ذَلِكَ أَوْ لَا. (وَلَنَا) أَنَّ وَطْءَ الْأَمَةِ لَا يُقْصَدُ بِهِ حُصُولُ الْوَلَدِ عَادَةً لِأَنَّهَا لَا تُشْتَرَى لِلْوَطْءِ عَادَةً بَلْ لِلِاسْتِخْدَامِ وَالِاسْتِرْبَاحِ وَلَوْ وَطِئَتْ فَلَا يُقْصَدُ بِهِ حُصُولُ الْوَلَدِ عَادَةً لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِتَرْكِ الْعَزْلِ وَالظَّاهِرُ فِي الْإِمَاءِ هُوَ الْعَزْلُ وَالْعَزْلُ بِدُونِ رِضَاهُنَّ مَشْرُوعٌ فَلَا يَكُونُ وَطْؤُهَا سَبَبًا لِحُصُولِ الْوَلَدِ إلَّا بِقَرِينَةِ الدَّعْوَةِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى عِلْمًا بِقَرِينَةِ الدَّعْوَةِ أَنَّهُ وَطِئَهَا وَلَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا وَالْوَطْءُ مِنْ غَيْرِ عَزْلٍ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَوْلَى وَطِئَهَا وَحَصَّنَهَا وَلَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا لَا يَحِلُّ لَهُ النَّفْيُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ بَلْ تَلْزَمُهُ الدَّعْوَى وَالْإِقْرَارُ بِهِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَلَدُهُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ نَفْيُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا وَطِئَهَا

وَحَصَّنَهَا وَلَكِنْ عَزْل عَنْهَا أَوْ لَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يُحَصِّنْهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَحِلُّ لَهُ النَّفْيُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَدْعُوَ إذَا كَانَ وَطِئَهَا وَلَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا وَإِنْ لَمْ يُحَصِّنْهَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعْتَقَ وَلَدُهَا وَيَسْتَمْتِعُ بِأُمِّهِ إلَى أَنْ يَقْرُبَ مَوْتُهُ فَيُعْتِقُهَا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا وَلَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا اُحْتُمِلَ كَوْنُ الْوَلَدِ مِنْهُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ النَّفْيُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُحَصِّنْهَا اُحْتُمِلَ كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِقْرَارُ بِهِ بِالشَّكِّ لِأَنَّ غَيْرَ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ كَمَا أَنَّ الثَّابِتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا اُحْتُمِلَ كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِهِ لَا يَلْزَمُهُ الْإِقْرَارُ بِهِ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلِمَا اُحْتُمِلَ كَوْنُهُ مِنْهُ لَا يَجُوزُ لَهُ النَّفْيُ أَيْضًا كَمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ لَكِنْ يَسْلُكُ فِيهِ مَسْلَكَ الِاحْتِيَاطِ فَيُعْتَقُ الْوَلَدُ صِيَانَةً عَنْ اسْتِرْقَاقِ الْحُرِّ عَسَى وَيَسْتَمْتِعُ بِأُمِّهِ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْأَمَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ مُبَاحٌ وَيُعْتِقُهَا عِنْدَ مَوْتِهِ صِيَانَةً عَنْ اسْتِرْقَاقِ الْحُرَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ عَسَى وَيَسْتَوِي فِي فِرَاشِ الْمِلْكِ مِلْكُ كُلِّ الْمَحَلِّ وَبَعْضِهِ وَمِلْكُ الذَّاتِ وَمِلْكُ الْيَدِ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ إذَا حَمَلَتْ الْجَارِيَةُ فِي مِلْكِ رَجُلَيْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ لِأَنَّ مَا لَهُ مِنْ الْمِلْكِ أَوْجَبَ النَّسَبَ بِقَدْرِهِ إلَّا أَنَّ النَّسَبَ لَا يَتَجَزَّأُ فَمَتَى ثَبَتَ فِي الْبَعْضِ يَتَعَدَّى إلَى الْكُلِّ وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهَا لِشَرِيكِهِ وَنِصْفُ الْعُقْرِ وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْعِتْقِ وَلَوْ ادَّعَيَاهُ جَمِيعًا مَعًا فَهُوَ ابْنُهُمَا وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُمَا وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ ابْنُ أَحَدِهِمَا وَيَتَعَيَّنُ بِقَوْلِ الْقَائِفِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ خَلْقَ وَلَدٍ وَاحِدٍ مِنْ مَاءِ فَحْلَيْنِ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً مَا أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَادَةَ بِذَلِكَ إلَّا فِي الْكِلَابِ عَلَى مَا قِيلَ فَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ إلَّا مِنْ أَحَدِهِمَا وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِقَوْلِ الْقَائِفِ فَإِنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِقَبُولِ قَوْلِ الْقَائِفِ فِي النَّسَبِ فَإِنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ قَائِفًا مَرَّ بِأُسَامَةَ وَزَيْدٍ وَهُمَا تَحْتَ قَطِيفَةٍ وَاحِدَةٍ قَدْ غَطَّى وُجُوهَهُمَا وَأَرْجُلُهُمَا بَادِيَةٌ فَقَالَ إنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَفَرِحَ بِذَلِكَ حَتَّى كَادَتْ تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -» فَقَدْ اعْتَبَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَوْلَ الْقَائِفِ حَيْثُ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بَلْ قَرَّرَهُ بِإِظْهَارِ الْفَرَحِ. (وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ فِي زَمَنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَتَبَ إلَى شُرَيْحٍ لَبَّسَا فَلُبِّسَ عَلَيْهِمَا وَلَوْ بَيَّنَا لَبُيِّنَ لَهُمَا هُوَ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ النَّسَبِ بِأَصْلِ الْمِلْكِ وَقَدْ وُجِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَثْبُتُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ حِصَّةٌ لِلنَّسَبِ ثُمَّ يَتَعَدَّى لِضَرُورَةِ عَدَمِ التَّجَزِّي فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ وَأَمَّا فَرَحُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَتَرْكُ الرَّدِّ وَالنُّكُرِ فَاحْتُمِلَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِاعْتِبَارِهِ قَوْلَ الْقَائِفِ حُجَّةً بَلْ لِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ الْقِيَافَةَ فَلَمَّا قَالَ الْقَائِفُ ذَلِكَ فَرِحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِظُهُورِ بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عِنْدَهُمْ فَكَانَ فَرَحُهُ فِي الْحَقِيقَةِ بِزَوَالِ الطَّعْنِ بِمَا هُوَ دَلِيلُ الزَّوَالِ عِنْدَهُمْ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ أَوْ خَمْسَةٍ فَادَّعَوْهُ جَمِيعًا مَعًا فَهُوَ ابْنُهُمْ جَمِيعًا ثَابِتُ نَسَبِهِ مِنْهُمْ وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَثْبُتُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَثْبُتُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ لِمَا ذَكَرنَا لِلشَّافِعِيِّ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي رَجُلَيْنِ بِأَثَرِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَبَقِيَ حُكْمُ الزِّيَادَةِ مَرْدُودًا إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْحَمْلَ الْوَاحِدَ يَجُوزُ أَنْ يَكُون ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ يُخْلَقَ مِنْ مَاءٍ عَلَى حِدَةٍ وَقَدْ جَاءَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَثْبَتَ النَّسَبَ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثَةِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَنَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ فَالشَّرْعُ الْوَارِدُ فِي الِاثْنَيْنِ يَكُونُ وَارِدًا فِي الثَّلَاثَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِثَبَاتِ النَّسَبِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ عَدَدِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمْسَةِ فَالْفَصْلُ بَيْنَ عَدَدٍ وَعَدَدٍ يَكُونُ تَحَكُّمًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْأَنْصِبَاءُ مُتَّفِقَةً أَوْ مُخْتَلِفَةً بِأَنْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ السُّدُسُ وَلِلْآخَرِ الرُّبْعُ وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ وَلِلْآخَرِ مَا بَقِيَ فَالْوَلَدُ ابْنُهُمْ جَمِيعًا فَحُكْمُ النَّسَبِ لَا يَخْتَلِفُ لِأَنَّ سَبَبَ ثَبَاتِ النَّسَبِ هُوَ أَصْلُ الْمِلْكِ لَا صِفَةُ الْمَالِكِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَم وَأَمَّا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ فَيَثْبُتُ فِي نَصِيبِ كُلِّ

وَاحِدٍ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الْمِلْكِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى نَصِيبِ غَيْرِهِ. وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ جَمِيعًا مَعًا فَالْأَبُ أَوْلَى عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ أَصْلُ الْمِلْكِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ. (وَلَنَا) أَنَّ التَّرْجِيحَ لِجَانِبِ الْأَبِ لِأَنَّ نِصْفَ الْجَارِيَةِ مِلْكُهُ حَقِيقَةً وَلَهُ حَقُّ تَمْلِيكِ النِّصْفِ الْآخِرِ وَلَيْسَ لِلِابْنِ إلَّا مِلْكُ النِّصْفِ فَكَانَ الْأَبُ أَوْلَى وَيَتَمَلَّكُ نَصِيبَ الِابْنِ مِنْ الْجَارِيَةِ بِالْقِيمَةِ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ فِي نَصِيبِهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ كَمَا فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَيَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ نِصْفَ الْعُقْرِ لِأَنَّ الْوَطْءَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي قَدْرِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ حَصَلَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْأَجْنَبِيَّيْنِ يَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الْعُقْرِ لِلْآخَرِ ثُمَّ يَكُون النِّصْفُ بِالنِّصْفِ قِصَاصًا كَمَا فِي الْأَجَانِبِ وَهَذَا بِخِلَافِ حَالَةِ الِانْفِرَادِ فَإِنَّ أَمَةً لِرَجُلٍ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَبُوهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَلَا عُقْرَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ صَارَ مُتَمَلِّكًا الْجَارِيَةَ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ سَابِقًا عَلَيْهِ أَوْ مُقَارِنًا لَهُ لِانْعِدَامِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ فَجُعِلَ الْوَطْءُ فِي الْمِلْكِ وَهَهُنَا الِاسْتِيلَادُ صَحِيحٌ بِدُونِ التَّمَلُّكِ لِقِيَامِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ فِي النِّصْفِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّمَلُّكِ لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ وَأَنَّهُ صَحِيحٌ بِدُونِهِ وَإِنَّمَا يُثْبِتُ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ فِي نَصِيبِهِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ عَلَى مَا ذَكَرنَا هُوَ الْفَرْقُ وَكَذَلِكَ الْجَدُّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَلَوْ كَانَ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْحَافِدِ جَارِيَةٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ مَعًا وَالْأَبُ حَيٌّ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُمَا جَمِيعًا لِأَنَّ الْجَدَّ حَالَ قِيَامِ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ ادَّعَى الْوَلَدَ أَحَدُ الْمَالِكِينَ وَأَبُ الْمَالِكِ الْآخَرِ فَالْمَالِكُ أَوْلَى لِأَنَّ لَهُ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ وَلِأَبٍ الْمَالِكِ الْآخَرِ حَقُّ التَّمَلُّكِ فَكَانَ الْمَالِكُ الْحَقِيقِيُّ أَوْلَى هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الشَّرِيكَانِ الْمُدَّعِيَانِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا فَالْحُرُّ أَوْلَى لِأَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ مِنْهُ أَنْفَعُ حَيْثُ يَصِلُ هُوَ إلَى حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ وَأُمُّهُ إلَى حَقِّ الْحُرِّيَّةِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا مُكَاتَبًا فَالْحُرُّ أَوْلَى لِأَنَّ الْوَلَدَ يَصِلُ إلَى حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُكَاتَبًا وَالْآخَرُ عَبْدًا فَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى لِأَنَّهُ حُرٌّ يَدًا فَكَانَ أَنْفَعَ لِلْوَلَدِ وَلَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُمَا جَمِيعًا لَكِنْ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ تَصْدِيقُ الْمَوْلَى فِيهِ رِوَايَتَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ وَفَّقَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَحَمَلَ شَرْطَ التَّصْدِيقِ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَحْجُورًا وَحَمَلَ الْأُخْرَى عَلَى مَا إذَا كَانَ مَأْذُونًا عَمَلًا بِهِمَا جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ ذِمِّيًّا فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ النَّسَبَ حُكْمُ الْمِلْكِ وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي الْمِلْكِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي حُكْمِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمِلْكِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ مِنْ الْمُسْلِمِ أَنْفَعُ لِلصَّبِيِّ لِأَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا فَالْقِيَاسُ أَنْ يَثْبُتَ النَّسَبُ مِنْهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمِلْكِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْكِتَابِيُّ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ الْمَجُوسِيِّ فَكَانَ أَنْفَعَ لِلصَّبِيِّ وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ مُكَاتَبًا مُسْلِمًا وَالْآخَر حُرًّا كَافِرًا فَالْحُرُّ أَوْلَى لِأَنَّ هَذَا أَنْفَعُ لِلصَّبِيِّ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتَسِبَ الْإِسْلَامَ بِنَفْسِهِ إذَا عَقَلَ وَلَا يُمْكِنُهُ اكْتِسَابُ الْحُرِّيَّةِ بِحَالٍ وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذِمِّيًّا وَالْآخَرُ مُرْتَدًّا فَهُوَ ابْنُ الْمُرْتَدِّ لِأَنَّ وَلَدَ الْمُرْتَدِّ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا بَلَغَ كَافِرًا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِذَا أُجْبِرَ عَلَيْهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُسْلِمُ فَكَانَ هَذَا أَنْفَعَ لِلصَّبِيِّ هَذَا كُلُّهُ إذَا خَرَجَتْ دَعْوَةُ الشَّرِيكَيْنِ مَعًا فَأَمَّا إذَا سَبَقَتْ دَعْوَةُ أَحَدِهِمَا فِي هَذِهِ الْفُصُولِ كُلِّهَا كَائِنًا مَنْ كَانَ فَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّ النَّسَبَ إذَا ثَبَتَ مِنْ إنْسَانٍ فِي زَمَانٍ لَا يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ الزَّمَانِ هَذَا إذَا حَمَلَتْ الْجَارِيَةُ فِي مِلْكِهِمَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا أَوْ ادَّعَيَاهُ جَمِيعًا فَأَمَّا إذَا كَانَ الْعُلُوقُ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِأَنْ اشْتَرَيَاهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا فَأَمَّا حُكْمُ نَسَبِ الْوَلَدِ وَصَيْرُورَةُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَضَمَانُ نِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا فَلَا يَخْتَلِفُ وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْعُقْرِ وَالْوَلَدِ فَلَا يَجِبُ الْعُقْرُ هُنَا وَيَجِبُ هُنَاكَ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ هُنَا لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْوَطْءِ لِتَيَقُّنِنَا بِعَدَمِ الْعُلُوقِ فِي الْمِلْكِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَالْوَلَدُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعُلُوقِ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ فَلَمْ يَجُزْ إسْنَادُ الدَّعْوَى إلَى حَالَةِ الْعُلُوقِ إلَّا أَنَّهُ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدٍ بَعْضُهُ عَلَى مِلْكِهِ وَدَعْوَى الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْإِعْتَاقِ وَلَوْ أَعْتَقَ هَذَا

الْوَلَدَ يَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ مِنْهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَلَمْ يَضْمَنْ إنْ كَانَ مُعْسِرًا كَذَا هَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِقَتْ الْجَارِيَةُ فِي مِلْكِهَا لِأَنَّ هُنَاكَ اسْتَنَدَتْ الدَّعْوَةُ إلَى حَالِ الْعُلُوقِ فَسَقَطَ الضَّمَانُ وَهُنَا لَا تَسْتَنِدُ فَلَا بُدَّ مِنْ إفْرَادِ الْوَلَدِ بِالضَّمَانِ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ ادَّعَيَاهُ فَهُوَ ابْنُهُمَا وَلَا عُقْرَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ وَلَا يَفْتَرِقَانِ إلَّا فِي الْوَلَاءِ فَإِنْ ثَبَتَ هُنَا لَا يَثْبُتُ هُنَاكَ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ ثَمَّةَ دَعْوَةُ الِاسْتِيلَادِ فَيُعَلَّقُ الْوَلَدُ حُرًّا وَالدَّعْوَةُ هُنَا دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ وَأَنَّهُ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْوَلَاءِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَاةُ زَوْجَةَ أَحَدِهِمَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَقَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّ عُلُوقَ الْوَلَدِ كَانَ مِنْ النِّكَاحِ وَعَقْدُ النِّكَاحِ يُوجِبُ الْفِرَاشَ بِنَفْسِهِ وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَصَارَ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِالْقِيمَةِ وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ وَلَوْ اشْتَرَى أَخَوَانِ جَارِيَةً حَامِلًا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ فَإِذَا ادَّعَاهُ فَقَدْ حَرَّرَهُ وَالتَّحْرِيرُ إتْلَافُ نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ وَلَا يُعْتَقُ الْوَلَدُ عَلَى عَمِّهِ بِالْقَرَابَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ مِنْ أَخِيهِ إعْتَاقٌ حَقِيقَةً فَيُضَافُ الْعِتْقُ إلَيْهِ لَا إلَى الْقَرَابَةِ هَذَا إذَا وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَكَةُ وَلَدًا فَادَّعَاهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَوْ ادَّعَيَاهُ جَمِيعًا فَأَمَّا إذَا وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَدًا عَلَى حِدَةٍ فَنَقُولُ هَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَلَدَتْهُمَا فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ وَإِمَّا أَنْ وَلَدَتْهُمَا فِي بَطْنَيْنِ مُخْتَلِفِينَ وَالدَّعْوَتَانِ إمَّا أَنْ خَرَجَتَا جَمِيعًا مَعًا وَإِمَّا أَنْ سَبَقَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى فَإِنْ وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ الْوَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَإِنْ خَرَجَتْ الدَّعْوَتَانِ جَمِيعًا مَعًا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدَيْنِ مِنْهُمَا جَمِيعًا لِأَنَّ دَعْوَةَ أَحَدِ التَّوْأَمَيْنِ دَعْوَةُ الْآخَرِ لِاسْتِحَالَةِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا فِي النَّسَبِ لِعُلُوقِهِمَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ فَكَانَتْ دَعْوَةُ أَحَدِهِمَا دَعْوَةَ الْآخَرِ ضَرُورَةً وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَةِ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدَيْنِ مِنْهُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُدَّعَى وَمِنْ ضَرُورَتِهِ ثُبُوتُ نَسَبِ الْآخَرِ وَعَتَقَا جَمِيعًا لِعُلُوقِهِمَا حُرَّيْ الْأَصْلِ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَغَرِمَ نِصْفَ الْعُقْرِ وَنِصْفَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا وَلَدَتْهُمَا فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَأَمَّا إذَا وَلَدَتْهُمَا فِي بَطْنَيْنِ مُخْتَلِفِينَ فَإِنْ خَرَجَتْ الدَّعْوَتَانِ جَمِيعًا مَعًا ثَبَتَ نَسَبُ الْأَكْبَرِ مِنْ مُدَّعِي الْأَكْبَرِ بِلَا شَكٍّ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَغَرِمَ نِصْفَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَنِصْفَ الْعُقْرِ لِمُدَّعِي الْأَصْغَرِ وَهَلْ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ الْأَصْغَرِ مِنْ مُدَّعِي الْأَصْغَرِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ إلَّا بِتَصْدِيقِ مُدَّعِي الْأَكْبَرِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَثْبُتُ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْجَارِيَةَ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِمُدَّعِي الْأَكْبَرِ لِثُبُوتِ نَسَبِ الْأَكْبَرِ مِنْهُ فَمُدَّعِي الْأَصْغَرِ يَدَّعِي وَلَدَ أُمِّ وَلَدِ الْغَيْرِ وَمَنْ ادَّعَى وَلَدَ أُمِّ وَلَدِ الْغَيْرِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ إلَّا بِتَصْدِيقِهِ وَلَمْ يُوجَدْ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مُدَّعِيَ الْأَكْبَرِ غَيْرُ مُدَّعِي الْأَصْغَرِ حَيْثُ أَخَّرَ الدَّعْوَةَ إلَى دَعْوَتِهِ فَصَارَ مُدَّعِي الْأَصْغَرِ بِتَأْخِيرِ دَعْوَةِ الْأَكْبَرِ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ وَوَلَدُ الْمَغْرُور ثَابِتُ النَّسَبِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ وَعَلَى مُدَّعِي الْأَصْغَرِ الْعُقْرُ لِمُدَّعِي الْأَكْبَرِ لَكِنَّ نَصِفَ الْعُقْرِ أَوْ كُلَّهُ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ لِأَنَّ رِوَايَةَ نِصْفِ الْعُقْرِ عَلَى مُدَّعِي الْأَصْغَرِ جَوَابُ حَاصِلِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْعُقْر بَعْدَ الْقِصَاصِ وَهُوَ النِّصْفُ وَرِوَايَةُ الْكُلِّ بَيَانُ مَا عَلَيْهِ قِبَلَهُ لِأَنَّ مُدَّعِيَ الْأَكْبَرِ قَدْ غَرِمَ نِصْفَ الْعُقْرِ لِمُدَّعِي الْأَصْغَرِ فَالنِّصْفُ بِالنِّصْفِ يَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا فَلَا يَبْقَى عَلَى مُدَّعِي الْأَصْغَرِ بَعْدَ الْمُقَاصَّةِ إلَّا النِّصْفَ فَأَمْكَنَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَعَلَى مُدَّعِي الْأَصْغَرِ قِيمَةُ الْوَلَدِ الْأَصْغَرِ لِأَنَّهُ وَلَدُ الْمَغْرُورِ وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَإِذًا عَلَى مُدَّعِي الْأَصْغَرِ نِصْفُ الْعُقْرِ وَكُلُّ قِيمَةِ الْوَلَدِ وَعَلَى مُدَّعِي الْأَكْبَرِ نِصْفُ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِصَيْرُورَتِهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَيَصِيرُ نِصْفُ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ الَّذِي عَلَى مُدَّعِي الْأَكْبَرِ قِصَاصًا بِنِصْفِ الْعُقْرِ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ الَّذِي عَلَى مُدَّعِي الْأَصْغَرِ وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ هَذَا إذَا خَرَجَتْ الدَّعْوَتَانِ جَمِيعًا مَعًا فَادَّعَى أَحَدُهُمَا الْأَكْبَرَ وَالْآخَرُ الْأَصْغَرَ فَأَمَّا إذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَةِ فَإِنْ ادَّعَى السَّابِقُ الْأَكْبَرَ أَوَّلًا فَقَدْ ثَبَتَ نَسَبُ الْأَكْبَرِ مِنْهُ وَعَتَقَ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَغَرِمَ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَنِصْفَ الْعُقْرِ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا ادَّعَى الْآخَرُ الْأَصْغَرَ فَقَدْ ادَّعَى وَلَدَ أُمِّ وَلَدِ الْغَيْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّصْدِيقِ لِثَبَاتِ النَّسَبِ فَإِنْ صَدَّقَهُ ثَبَتَ النَّسَبُ وَيَكُونُ عَلَى حُكْمِ أُمِّهِ وَإِنْ كَذَّبَهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ هَذَا إذَا ادَّعَى السَّابِقُ بِالدَّعْوَةِ الْأَكْبَرَ

أَوَّلًا فَأَمَّا إذَا ادَّعَى الْأَصْغَرَ أَوَّلًا ثَبَتَ نَسَبُ الْأَصْغَرِ مِنْهُ وَعَتَقَ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَنِصْفَ عُقْرِهَا لِشَرِيكِهِ الْآخَرِ وَالْأَكْبَرُ بَعْدُ رَقِيقٌ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ وَلَدُ جَارِيَةٍ مَمْلُوكَةٍ بَيْنَهُمَا لَمْ يَدَّعِهِ أَحَدٌ فَإِذَا ادَّعَاهُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ صَارَ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَالشَّرِيكُ الْآخَرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُعْتِقَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَهُ خِيَارُ الْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِسْعَاءِ لَا غَيْرُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ مُوسِرًا فَلَهُ تَضْمِينُ الْمُوسِرِ لَا غَيْرُ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَهُ الِاسْتِسْعَاءُ عَلَى مَا عُلِمَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا الْأَكْبَرُ ابْنِي وَالْأَصْغَرُ ابْنُ شَرِيكِي ثَبَتَ نَسَبُ الْأَكْبَرِ مِنْهُ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَضَمِنَ نِصْفَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَنِصْف الْعُقْرِ لِشَرِيكِهِ وَالْأَصْغَرُ وَلَدُ أُمِّ وَلَدِهِ أَقَرَّ بِنَسَبِهِ لِشَرِيكِهِ فَإِنْ صَدَّقَهُ شَرِيكُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَلَا يُعْتَقُ وَإِنْ كَذَّبَهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَّمَ وَأَخَّرَ بِأَنْ قَالَ الْأَصْغَرُ ابْنِي وَالْأَكْبَرُ ابْنُ شَرِيكِي ثَبَتَ نَسَبُ الْأَصْغَرِ مِنْهُ وَنَسَب الْأَكْبَرِ مَوْقُوفٌ عَلَى تَصْدِيقِ شَرِيكِهِ وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا الْأَصْغَرُ ابْنِي وَالْأَكْبَرُ ابْنُ شَرِيكِي أَوْ قَدَّمَ وَأَخَّرَ فَقَالَ الْأَكْبَرُ ابْنُ شَرِيكِي وَالْأَصْغَرُ ابْنِي ثَبَتَ نَسَبُ الْأَصْغَرِ مِنْهُ وَعَتَقَ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَعَتَقَ وَضَمِنَ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَنِصْفَ الْعُقْرِ وَنَسَبُ الْأَكْبَرِ مَوْقُوفٌ عَلَى تَصْدِيقِ شَرِيكِهِ فَإِنْ صَدَّقَهُ ثَبَتَ النَّسَبِ مِنْهُ وَيَغْرَمُ لِمُدَّعِي الْأَصْغَرِ نِصْفَ قِيمَةِ الْأَكْبَرِ وَإِنْ كَذَّبَهُ صَارَ كَعَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْإِعْتَاقِ وَكَذَّبَهُ صَاحِبُهُ لِمَا عُلِمَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ. وَلَوْ وَلَدَتْ جَارِيَةٌ فِي يَدِ إنْسَانٍ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمْ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ وُلِدُوا فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ وَإِمَّا إنْ وُلِدُوا فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ ادَّعَى أَحَدُهُمْ بِعَيْنِهِ وَإِمَّا إنْ ادَّعَى أَحَدُهُمْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَإِنْ وُلِدُوا فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَقَالَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ ابْنِي أَوْ عَيَّنَ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَقَالَ هَذَا ابْنِي عَتَقُوا وَثَبَتَ نَسَبُ الْكُلِّ مِنْهُ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمْ ثُبُوتُ نَسَبِ الْبَاقِينَ لِأَنَّهُمْ تَوْأَمٌ عَلِقُوا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ فَلَا يُفْصَلُ بَيْنَ الْبَعْضِ وَالْبَعْضِ فِي النَّسَبِ وَإِذَا ثَبَتَ نَسَبُهُمْ صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ هَذَا إذَا وُلِدُوا فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ وَأَمَّا إذَا وُلِدُوا فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ فَقَالَ الْأَكْبَرُ وَلَدِي ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَهَلْ يَثْبُتُ نَسَبُ الْأَوْسَطِ وَالْأَصْغَرِ الْقِيَاسُ أَنْ يَثْبُتَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا حُكْمَ الْأُمِّ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَثْبُتُ وَجْهُ الْقِيَاسِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ الْأَكْبَرِ فَقَدْ صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَكَانَ الْأَوْسَطُ وَالْأَصْغَرُ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ وَوَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ مَوْلَاهَا مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ مَا لَمْ يُوجَدْ النَّفْيُ مِنْهُ وَلَمْ يُوجَدْ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النَّفْيَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ نَصًّا فَقَدْ وُجِدَ دَلَالَةً وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى تَخْصِيصِ أَحَدِهِمْ بِالدَّعْوَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ نَفْيِ الْبَوَاقِي إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْبَعْضِ مَعَ اسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي اسْتِحْقَاقِ الدَّعْوَةِ مَعْنًى هَذَا إذَا ادَّعَى الْأَكْبَرُ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى الْأَوْسَطُ فَهُوَ حُرٌّ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَالْأَكْبَرُ رَقِيقٌ لِأَنَّهُ وَلَدٌ عَلَى مِلْكِهِ وَلَمْ يَدَّعِهِ أَحَدٌ وَهَلْ يَثْبُتُ نَسَبُ الْأَصْغَرِ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرنَا مِنْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانُ هَذَا إذَا ادَّعَى الْأَوْسَطُ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى الْأَصْغَرُ فَهُوَ حُرٌّ ثَابِتُ النَّسَبِ وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَالْأَكْبَرُ وَالْأَوْسَطُ رَقِيقَانِ لِمَا ذَكَرنَا هَذَا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمْ بِعَيْنِهِ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَقَالَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ ابْنِي فَإِنْ بَيَّنَ فَالْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرنَا وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ بِلَا شَكٍّ لِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى نَسَبَ أَحَدِهِمْ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ الْجَارِيَةَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَأُمُّ الْوَلَدِ تُعْتَقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ وَأَمَّا حُكْمُ الْأَوْلَادِ فِي الْعِتْقِ فَقَدْ ذَكَرنَا الِاخْتِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ عَبْدٌ صَغِيرٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ ادَّعَاهُ الْآخَرُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَنِصْفُ وَلَائِهِ لَلْآخَرِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ فَيَبْقَى نَصِيبُ الْمُدَّعِي عَلَى مِلْكِهِ فَتَصِحُّ دَعْوَتُهُ فِيهِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَيُعْتَقُ الْكُلُّ فَلَمْ يَبْقَ لِلْمُدَّعِي فِيهِ مِلْكٌ فَلَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ كَبِيرًا فَكَذَلِكَ عِنْدَهُ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّهُ يَبْقَى الْمِلْكُ لَهُ فِي نَصِيبِهِ وَعِنْدَهُمَا إنْ صَدَّقَهُ الْعَبْدُ ثَبَتَ النَّسَبُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ عَتَقَ كُلُّهُ بِإِعْتَاقِ الْبَعْضِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِهِ وَيُخَرَّجُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا دَعْوَةُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَلَدَ جَارِيَةٍ مِنْ أَكْسَابِهِ أَنَّهَا تَصِحُّ وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوُلْدِ مِنْهُ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَدِ ثَابِتٌ لَهُ وَأَنَّهُ كَافٍ لِثَبَاتِ

النَّسَبِ وَلَوْ ادَّعَى الْمُضَارِبُ وَلَدَ جَارِيَةِ الْمُضَارَبَةِ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمُضَارِبِ رِبْحٌ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِثَبَاتِ النَّسَبِ مِنْ مِلْكٍ وَلَا مِلْكَ لِلْمُضَارِبِ أَصْلًا لَا مِلْكُ الذَّاتِ وَلَا مِلْكُ الْيَدِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ وَلَوْ ادَّعَى وَلَدًا مِنْ جَارِيَةٍ لِمَوْلَاهُ لَيْسَ مِنْ تِجَارَتِهِ وَادَّعَى أَنَّ مَوْلَاهَا أَحَلَّهَا لَهُ أَوْ زَوَّجَهَا مِنْهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ لَهُ فِيهِ أَصْلًا فَالْتَحَقَ بِسَائِرِ الْأَجَانِبِ إلَّا فِي الْحَدِّ فَإِنْ كَذَّبَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ عَتَقَ فَمَلَكَ الْجَارِيَةَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ نَفَذَتْ دَعْوَتُهُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِجِهَةٍ مُصَحِّحَة لِلنَّسَبِ لَكِنْ تَوَقَّفَ نَفَاذُهُ لِحَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ. وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمَأْذُونُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً فَوَطِئَهَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ النِّكَاحُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى أَوْ لَا لِأَنَّ النَّسَبَ ثَبَتَ بِالنِّكَاحِ صَحِيحًا كَانَ أَوْ فَاسِدًا وَعَلَى هَذَا دَعْوَةُ الْمُكَاتَبِ وَلَدَ جَارِيَةٍ مِنْ أَكْسَابِهِ صَحِيحَةً لِأَنَّ مِلْكَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ ثَابِتٌ لَهُ كَالْمَأْذُونِ وَإِذَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْوَلَدِ وَلَا بَيْعُ الْجَارِيَةِ أَمَّا الْوَلَدُ فَلِأَنَّهُ مُكَاتَبٌ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ وَأَمَّا الْأُمُّ فَلِأَنَّهُ لَهُ فِيهَا حَقُّ مِلْكٍ يَنْقَلِبُ ذَلِكَ الْحَقُّ حَقِيقَةً عِنْدَ الْأَدَاءِ فَمُنِعَ مِنْ بَيْعِهَا وَالْعَبْدُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ سَوَاءٌ فِي دَعْوَى النَّسَبِ وَكَذَا الْمُكَاتَبُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُنَافِي النَّسَبَ وَيَسْتَوِي فِي دَعْوَتِهِ الِاسْتِيلَادَ وُجُودُ الْمِلْكِ وَعَدَمُهُ عِنْدَ الدَّعْوَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْعُلُوقُ فِي الْمِلْكِ فَإِنْ كَانَ الْعُلُوقُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ كَانَتْ دَعْوَتُهُ دَعْوَةَ تَحْرِيرٍ فَيُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ فَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ فِي مَلَكِ غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِشَرْطِ التَّصْدِيقِ أَوْ الْبَيِّنَةِ فَنَقُولُ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الدَّعْوَةَ نَوْعَانِ دَعْوَةُ الِاسْتِيلَادِ وَدَعْوَةُ تَحْرِيرٍ فَدَعْوَةُ الِاسْتِيلَادِ هِيَ أَنْ يَكُونَ عُلُوقُ الْمُدَّعَى فِي مِلْكِ الْمُدَّعِي وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ تَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَتَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْوَطْءِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ عَلِقَ حُرًّا وَدَعْوَةُ التَّحْرِيرِ هُوَ أَنْ يَكُونَ عُلُوقُ الْمُدَّعَى فِي غَيْرِ مِلْكِ الْمُدَّعِي وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ تَقْتَصِرُ عَلَى الْحَالِ وَلَا تَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْوَطْءِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَقْتَ الْعُلُوقِ وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ إذَا وَلَدَتْ جَارِيَةٌ فِي مِلْكِ رَجُلٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَلَمْ يَدَّعِ الْوَلَدَ حَتَّى بَاعَ الْأُمَّ وَالْوَلَدَ ثُمَّ ادَّعَى الْوَلَدَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَعَتَقَ وَظَهَرَ أَنَّ الْجَارِيَةَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي الْجَارِيَةِ وَفِي وَلَدِهَا وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَفِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا تَصِحَّ دَعْوَتُهُ وَلَا يَثْبُتَ النَّسَبُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قِيَامَ الْمِلْكِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ بَلْ الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ عُلُوقُ الْوَلَدِ فِي الْمِلْكِ لِأَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ تَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فَإِذَا كَانَ عُلُوقُ الْوَلَدِ فِي مِلْكِ الْمُدَّعِي فَقَدْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ اسْتِحْقَاقِ النَّسَبِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ كَمَا لَا يَحْتَمِلُ حَقِيقَةَ النَّسَبِ فَلَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ وَصَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَظَهَرَ أَنَّ الْجَارِيَةَ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهَا وَبَيْعُ وَلَدِهَا فَيَرُدُّهَا وَوَلَدَهَا وَيَرُدُّ الثَّمَنَ وَلَوْ لَمْ يَدَّعِهِ الْبَائِعُ حَتَّى خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ يَفْسَخُ وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهُ لَا يَفْسَخُ إلَّا لِضَرُورَةٍ فَنَقُولُ بَيَانُهُ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي بَاعَ الْوَلَدَ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ رَهْنه أَوْ آجَرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ نَقَضَ ذَلِكَ وَثَبَتَ النَّسَبُ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالنَّقْضَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي بَاعَ الْأُمَّ أَوْ كَاتَبَهَا أَوْ رَهَنَهَا أَوْ آجَرَهَا أَوْ زَوَّجَهَا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كَانَ أَعْتَقَهَا أَوْ أَعْتَقَ الْوَلَدَ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةِ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْعِتْقَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ إلَّا لِضَرُورَةٍ لِأَنَّهُ يَعْقُبُهُ أَثَرٌ لَا يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ وَهُوَ الْوَلَاءُ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْوَلَدُ أَوْ قُتِلَ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مُسْتَغْنٍ عَنْ النَّسَبِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي بَاعَ الْوَلَدَ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ مَاتَ عَبْدُهُ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَعْتَقَ الْأُمَّ أَوْ دَبَّرَهَا دُونَ الْوَلَدِ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ فِي الْوَلَدِ وَلَمْ تَصِحَّ فِي الْأُمِّ وَفُسِخَ الْبَيْعُ فِي الْوَلَدِ وَلَا يُفْسَخُ فِي الْأُمِّ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْفَسْخِ خَصَّ الْأُمَّ وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ ثَبَاتِ النَّسَبِ بَلْ تَنْفَصِلُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ كَمَنْ اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ الْغَيْرِ بِالنِّكَاحِ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِلْحَالِ إلَّا أَنْ يَمْلِكَهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَإِذَا فُسِخَ الْبَيْعُ فِي الْوَلَدِ يَرُدُّ الْبَائِعُ مِنْ الثَّمَنِ حِصَّةَ الْوَلَدِ فَيُقَسَّم الثَّمَنُ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْأُمِّ يَوْمَ الْعَقْدِ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ يَوْمَ الْوِلَادَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ وَلَدًا بِالْوِلَادَةِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمئِذٍ فَيَسْقُطُ قَدْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ وَيَرُدُّ قَدْرَ قِيمَةِ الْوَلَدِ وَلَوْ كَانَتْ قُطِعَتْ يَدُ الْوَلَد عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَأَخَذَ أَرْشَهَا ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَسَلَّمَ الْأَرْشَ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ هَذِهِ دَعْوَةُ الِاسْتِيلَادِ وَأَنَّهَا تَسْتَنِدُ إلَى

وَقْتِ الْعُلُوقِ وَمِنْ شَأْنِ الْمُسْتَنِدِ أَنْ يَثْبُتَ لِلْحَالِ أَوَّلًا ثُمَّ يَسْتَنِدُ فَيَسْتَدْعِي قِيَامَ الْمَحَلِّ لِلْحَالِ لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْهَالِكِ وَالْيَدُ الْمَقْطُوعَةُ هَالِكَةٌ فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الدَّعْوَةِ فِيهَا بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَيَسْقُطُ عَنْ الْبَائِعِ مِنْ الثَّمَنِ حِصَّةُ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ سَلَّمَ الْبَدَلَ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ الْأَرْشُ وَلَوْ مَاتَتْ الْأُمُّ ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَثَبَتَ النَّسَبُ لِأَنَّ مَحَلَّ النَّسَبِ قَائِمٌ وَهُوَ الْوَلَدُ وَأُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ لِمَا تَقَدَّمَ فَثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ وَإِنْ لَمْ تَصِرْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَهَلْ يَرُدُّ جَمِيعَ الثَّمَنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ نَعَمْ وَعِنْدَهُمَا لَا يَرُدُّ إلَّا قَدْرَ قِيمَةِ الْوَلَدِ فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَتَانِ وَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا فَمَا أَصَابَ قِيمَةَ الْأُمِّ يَسْقُطُ وَمَا أَصَابَ قِيمَةَ الْوَلَدِ يُرَدُّ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْجَارِيَةَ أُمُّ وَلَدِهِ وَمَنْ بَاعَ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ هَلَكَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ غَيْرُ مُتَقَوَّمَةٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَالٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا مُتَقَوَّمَةٌ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْعَتَاقِ وَعَلَى هَذَا إذَا بَاعَهَا وَالْحَمْلُ غَيْرُ ظَاهِرٍ فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَعَلَى هَذَا إذَا حَمَلَتْ الْجَارِيَةُ فِي مِلْكِهِ فَبَاعَهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ هَذَا إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا (فَأَمَّا) إذَا وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَادَّعَى الْبَائِعُ فَإِنْ ادَّعَاهُمَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدَيْنِ مِنْهُ وَهَذَا ظَاهِرٌ وَكَذَا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَلَزِمَهُ الْوَلَدَانِ جَمِيعًا لِمَا مَرَّ أَنَّ التَّوْأَمَيْنِ لَا يَحْتَمِلَانِ الْفَصْلَ فِي النَّسَبِ لِانْخِلَاقِهِمَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ فَإِنْ وَلَدَتْ أَحَدَهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةٌ وَالْآخَرَ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَى أَحَدَهُمَا ثَبَتَ نَسَبُهُمَا وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وَلَدَتْهُمَا جَمِيعًا عِنْدَ الْبَائِعِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِأَنَّهُمَا كَانَا جَمِيعًا فِي الْبَطْنِ وَقْتَ الْبَيْعِ وَلَوْ وَلَدَتْهُمَا عِنْدَ الْبَائِعِ فَبَاعَ أَحَدَ الْوَلَدَيْنِ مَعَ الْأُمِّ ثُمَّ ادَّعَى الْوَلَدَ الَّذِي عِنْدَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَنَسَبُ الْوَلَدِ الْمَبِيعِ أَيْضًا سَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرِي ادَّعَاهُ أَوْ أَعْتَقَهُ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّهُمَا لَا يَحْتَمِلَانِ الْفَصْلَ فِي ثَبَاتِ النَّسَبِ فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ نَسَبِ الْآخَرِ وَكَذَلِكَ لَوْ وَلَدَتْهُمَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَأَعْتَقَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الْآخَرَ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا جَمِيعًا وَيُنْتَقَضُ الْعِتْقُ ضَرُورَةً فَرْقًا بَيْنَ الْوَلَدِ وَبَيْنَ الْأُمِّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَعْتَقَ الْأُمَّ فَادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ لَا يُنْتَقَضُ الْعِتْقُ فِي الْأُمِّ وَيُنْتَقَضُ فِي الْوَلَدِ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ مَقْصُودًا وَإِنَّمَا يَحْتَمِلُهُ لِلضَّرُورَةِ وَفِي الْوَلَدِ ضَرُورَةُ عَدَمِ الِاحْتِمَالِ لِلِانْفِصَالِ فِي النَّسَبِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْأُمِّ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ تَنْفَصِلُ عَنْ إثْبَاتِ النَّسَبِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُ أَحَدِ الْوَلَدَيْنِ ثُمَّ ادَّعَاهُمَا الْبَائِعُ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا وَكَانَ الْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي لَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الدَّعْوَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَتَكُونُ لَهُ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ مَا ثَبَتَ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ ثَبَتَ فِي الْحَالِ ثُمَّ يَسْتَنِدُ فَيَسْتَدْعِي قِيَامَ الْمَحَلِّ لِلْحَالِ وَالْيَدُ الْمَقْطُوعَةُ هَالِكَةٌ فَلَا يَظْهَرُ أَثَرُ الدَّعْوَةِ فِيهَا وَلَوْ قُتِلَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ ادَّعَاهُمَا الْبَائِعُ ثَبَتَ نَسَبَهُمَا وَكَانَتْ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ لَا لِلْمُشْتَرِي فَرْقًا بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ مَحَلَّ حُكْمِ الدَّعْوَةِ مَقْصُودًا هُوَ النَّفْسُ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الْأَطْرَافِ تَبَعًا لِلنَّفْسِ وَبِالْقَطْعِ انْقَطَعَتْ التَّبَعِيَّةُ فَلَا يَظْهَرُ حُكْمُ الدَّعْوَةِ فِيهَا فَسَلِمَ الْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي وَنَفْسُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ التَّوْأَمَيْنِ أَصْلٌ فِي حُكْمِ الدَّعْوَةِ فَمَتَى صَحَّتْ فِي أَحَدِهِمَا تَصِحُّ فِي الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ مَقْتُولًا ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا فِي النَّسَبِ وَمَتَى صَحَّتْ الدَّعْوَةُ اسْتَنَدَتْ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ لِأَنَّهَا دَعْوَةُ الِاسْتِيلَادِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمَا عَلِقَا حُرَّيْنِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ لَا الْقِيمَةُ إلَّا أَنَّهُ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ لِأَنَّ صِحَّةَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَالْمُسْتَنَدِ يَكُونُ ظَاهِرًا مِنْ وَجْهٍ مُقْتَصَرًا عَلَى الْحَال مِنْ وَجْهٍ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ فَأَوْجَبْنَا الْقِيمَةَ عَمَلًا بِشَبَهِ الِاقْتِصَادِ وَجَعَلْنَا الْوَاجِبَ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ عَمَلًا بِشَبَهِ الظُّهُورِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي أَحَدَهُمَا ثُمَّ قُتِلَ وَتَرَكَ مِيرَاثًا فَأَخَذَ دِيَتَهُ وَمِيرَاثَهُ بِالْوَلَاءِ ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَيْنِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالْحَيِّ وَأُمِّهِ لِلْبَائِعِ وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ الْمَقْتُولِ مِنْهُ وَيَأْخُذُ الدِّيَةَ وَالْمِيرَاثَ مِنْ الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا هَذَا إذَا وَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ فَإِنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ الْبَائِعُ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِالْعُلُوقِ فِي الْمِلْكِ فَلَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُ هَذِهِ الدَّعْوَةِ دَعْوَةَ اسْتِيلَادٍ فَتُصَحَّحُ دَعْوَةَ تَحْرِيرٍ وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ قِيَامُ الْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي وَقْتَ الدَّعْوَةِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا تَصِحُّ إلَّا إذَا صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي فَتَصِحُّ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِنَسَبِ عَبْدِ غَيْرِهِ وَقَدْ صَدَّقَهُ الْغَيْرُ فِي ذَلِكَ فَثَبَتَ نَسَبُهُ وَيَكُونُ عَبْدًا لِمَوْلَاهُ وَلَوْ

ادَّعَى الْمُشْتَرِي نَسَبَهُ بَعْدَ تَصْدِيقِهِ الْبَائِعَ لَمْ يَصِحَّ لِمَا مَرَّ أَنَّ النَّسَبَ مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ فِي زَمَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ هَذَا كُلِّهِ إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْبَائِعِ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْمُشْتَرِي وَقَدْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَثَبَتَ النَّسَبُ لِأَنَّ هَذِهِ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ لَا دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ لِتَيَقُّنِنَا أَنَّ الْعُلُوقَ لَمْ يَكُنْ فِي الْمِلْكِ فَيَسْتَدْعِي قِيَامَ الْمِلْكِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ وَقَدْ وُجِدَ فَلَوْ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَتُهُ لِمَا مَرَّ أَنَّ إثْبَاتَ نَسَبِ وَلَدٍ وَاحِدٍ مِنْ اثْنَيْنِ عَلَى التَّعَاقُبِ يَمْتَنِعُ وَلَوْ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي مَعًا فَدَعْوَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى لِأَنَّ دَعْوَتَهُ دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ لِوُقُوعِ الْعُلُوقِ فِي الْمِلْكِ وَأَنَّهَا تَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَدَعْوَةُ الْمُشْتَرِي دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ لِوُقُوعِ الْعُلُوقِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ بِيَقِينٍ وَأَنَّهَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْحَال وَالْمُسْتَنِدُ أَوْلَى لِأَنَّهُ سَابِقٌ فِي الْمَعْنَى وَالْأَسْبَقُ أَوْلَى كَرَجُلَيْنِ ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ وَاحِدٍ وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ كَانَ الْأَسْبَقُ أَوْلَى كَذَا هَذَا وَعَلَى هَذَا إذَا وَلَدَتْ أَمَةُ رَجُلٍ وَلَدًا فِي مِلْكِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَادَّعَاهُ أَبُوهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ سَوَاءٌ ادَّعَى شُبْهَةً أَوْ لَا صَدَّقَهُ الِابْنُ فِي ذَلِكَ أَوْ كَذَّبَهُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِنَسَبِ الْوَلَدِ إقْرَارٌ بِوَطْءِ الْجَارِيَةِ وَالْأَبُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ مِنْ غَيْرِ نِكَاحٍ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا إيَّاهَا لِحَاجَتِهِ إلَى نَسَبِ وَلَدٍ يَحْيَا بِهِ ذِكْرُهُ وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَّا بِالْمِلْكِ وَلِلْأَبِ وِلَايَةُ تَمَلُّكِ مَالِ ابْنِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَمَلَّكُ مَالَهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ كَذَا هَذَا إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَتَمَلَّكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُنَا بِعِوَضٍ وَهُوَ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ لِتَفَاوُتٍ بَيْنَ الْحَاجَتَيْنِ إذْ الْحَاجَةُ هُنَاكَ إلَى إبْقَاءِ النَّفْسِ وَالْحَاجَةُ هُنَا إلَى إبْقَاءِ الذِّكْرِ وَالِاسْمِ وَالتَّمَلُّكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَقْوَى مِنْ التَّمَلُّكِ بِعِوَضٍ لِأَنَّ مَا قَابَلَهُ عِوَضٌ كَانَ تَمَلُّكًا صُورَةً لَا مَعْنًى وَقَدْ دَفَعَ الشَّارِعُ كُلَّ حَاجَةٍ بِمَا يُنَاسِبُهَا فَدَفَعَ حَاجَةَ اسْتِيفَاءِ الْمُهْجَةِ بِالتَّمَلُّكِ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَحَاجَةَ اسْتِيفَاءِ الذِّكْرِ بِالتَّمَلُّكِ بِبَدَلٍ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ جَانِبِ الِابْنِ وَجَانِبِ الْأَبِ وَتَصْدِيقُ الِابْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَسَوَاءٌ صَدَّقَهُ الِابْنُ فِي الدَّعْوَى وَالْإِقْرَارِ أَوْ كَذَّبَهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ فَرْقًا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمَوْلَى إذَا ادَّعَى وَلَدَ أَمَةِ مُكَاتَبِهِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمُكَاتَبِ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْمَوْلَى عَلَى مَالِ الْمُكَاتَبِ فَكَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَصْدِيقِهِ وَلِلْأَبِ وِلَايَةٌ عَلَى مَالِ ابْنِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَصْدِيقِهِ لِصِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ لَكِنْ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ كَوْنُ الْجَارِيَةِ فِي مِلْكِ الِابْنِ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ إلَى وَقْتِ الدَّعْوَةِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَاهَا الِابْنُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ الْأَبُ لَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَقْتَ الْعُلُوقِ وَكَذَا لَوْ بَاعَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ الْأَبُ لَمْ تَصِحَّ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ وَكَذَا لَوْ كَانَ الْعُلُوقُ فِي مِلْكِهِ وَوَلَدَتْ فِي مِلْكِهِ وَخَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا لِانْقِطَاعِ الْمِلْكِ فِيمَا بَيْنَهُمَا ثُمَّ إنَّمَا كَانَ قِيَامُ الْمِلْكِ لِلِابْنِ فِي الْجَارِيَةِ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ إلَى وَقْتِ الدَّعْوَةِ شَرْطًا لِصِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إلَى زَمَانِ الْعُلُوقِ وَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ إلَّا بِالتَّمَلُّكِ وَلَا تَمَلُّكَ إلَّا بِوِلَايَةِ التَّمَلُّكِ لِأَنَّ تَمَلُّكَ مَالِ الْإِنْسَانِ عَلَيْهِ كُرْهًا وَتَنْفِيذَ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ جَبْرًا لَا يَكُونُ إلَّا بِالْوِلَايَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْوِلَايَةِ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْجَارِيَةُ فِي مِلْكِهِ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ إلَى وَقْتِ الدَّعْوَةِ لَمْ تَتِمَّ الْوِلَايَةُ فَلَا يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ وَكَذَلِكَ الْأَبُ لَوْ كَانَ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا فَادَّعَى لَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ لِأَنَّ الْكُفْرَ وَالرِّقَّ يَنْفِيَانِ الْوِلَايَةَ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ أَوْ عَبْدًا فَأُعْتِقَ فَادَّعَى نُظِرَ فِي ذَلِكَ إنْ وَلَدَتْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْ الْإِعْتَاقِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَته لِانْعِدَامِ وِلَايَةِ التَّمَلُّكِ وَقْتَ الْعُلُوقِ وَإِنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةٍ فَصَاعِدًا صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ لِقِيَامِ الْوِلَايَةِ وَلَوْ كَانَ مَعْتُوهًا فَأَفَاقَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَصِحَّ لِأَنَّ الْجُنُونَ مُنَافٍ لِلْوِلَايَةِ بِمَنْزِلَةِ الْكُفْرِ وَالرِّقِّ (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجُنُونَ أَمْرٌ عَارِضٌ كَالْإِغْمَاءِ وَكُلُّ عَارِضٍ عَلَى أَصْلٍ إذَا زَالَ يُلْتَحَقُ بِالْعَدَمِ مِنْ الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَمَا لَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ وَلَوْ كَانَ مُرْتَدًّا فَادَّعَى وَلَدَ جَارِيَةِ ابْنِهِ فَدَعْوَتُهُ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِتَوَقُّفِ وِلَايَتِهِ وَعِنْدَهُمَا صَحِيحَةٌ لِنَفَاذِ وِلَايَتِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ وَإِذَا ثَبَتَ الْوَلَدُ مِنْ الْأَبِ فَنَقُولُ صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ وَلَا عُقْرَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعُقْرُ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ وَالِاسْتِيلَادُ إيلَاجُ مَنْزِلٍ مُعَلَّقٍ فَكَانَ الْفِعْلُ قَبْلَ الْإِنْزَالِ خَالِيًا عَنْ الْمِلْكِ فَيُوجِبُ الْعُقْرَ وَلِهَذَا يُوجِبُ نِصْفَ الْعُقْرِ فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّيْنِ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا لِأَنَّ

الْوَطْءَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ حَصَلَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَيُوجِبُ نِصْفَ الْعُقْرِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْإِيلَاجَ الْمُنْزِلَ الْمُعَلَّقَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ إيلَاجٌ وَاحِدٌ فَكَانَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ اسْتِيلَادًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَتَقَدَّمَهُ الْمِلْكُ أَوْ يُقَارِنَهُ عَلَى جَارِيَةٍ مَمْلُوكَةٍ لِنَفْسِهِ فَلَا عُقْرَ بِخِلَافِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ لَمْ يَكُنْ نَصِيبُ الشَّرِيكِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ وَثَبَاتُ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْجَارِيَةِ مِلْكُهُ وَقِيَامُ أَصْلِ الْمِلْكِ يَكْفِي لِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمًا لِلثَّابِتِ فِي نَصِيبِهِ قَضِيَّةً لِلنَّسَبِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَحُكْمُ الشَّيْءِ لَا يَسْبِقُهُ بَلْ يَتَعَقَّبُهُ فَوَطْءُ الْمُدَّعِي صَادَفَ نَصِيبَهُ وَنَصِيبَ شَرِيكِهِ وَلَا مِلْكَ لَهُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ يُوجِبُ الْحَدَّ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَوَجَبَ الْعُقْرُ وَهُنَا التَّمَلُّكُ ثَبَتَ شَرْطًا لِثُبُوتِ النَّسَبِ وَصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَكُونُ سَابِقًا عَلَيْهِ أَوْ مُقَارِنًا لَهُ فَالْوَطْءُ صَادَفَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَلَا يُوجِبُ الْعُقْرَ وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ عَلِقَ حُرًّا وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ مَمْلُوكَةً لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ الْإِعْتَاقِ فَيَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الرِّقِّ وَلَمْ يُوجَدْ وَدَعْوَةُ الْجَدِّ أَبِي الْأَبِ وَلَدَ جَارِيَةِ ابْنِ الِابْنِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَةِ الْأَبِ عِنْدَ انْعِدَامِهِ أَوْ عِنْدَ انْعِدَامِ وِلَايَتِهِ (فَأَمَّا) عِنْدَ قِيَامِ وِلَايَتِهِ فَلَا حَتَّى لَوْ كَانَ الْجَدُّ نَصْرَانِيًّا وَحَافِدُهُ مِثْلُهُ وَالْأَبُ مُسْلِمٌ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَةُ الْجَدِّ لِقِيَامِ وِلَايَةِ الْأَبِ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مَيِّتًا أَوْ كَانَ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْجَدِّ لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْأَبِ وَكَذَا إذَا كَانَ الْأَبُ مَعْتُوهًا مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ إلَى وَقْتِ الدَّعْوَةِ صَحَّتْ دَعْوَةُ الْجَدِّ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ أَفَاقَ ثُمَّ ادَّعَى الْجَدُّ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَفَاقَ فَقَدْ الْتَحَقَ الْعَارِضُ بِالْعَدَمِ مِنْ الْأَصْلِ فَعَادَتْ وِلَايَةُ الْأَبِ فَسَقَطَتْ وِلَايَةُ الْجَدِّ وَلَوْ كَانَ الْأَبُ مُرْتَدًّا فَدَعْوَةُ الْجَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ مَاتَ صَحَّتْ دَعْوَةُ الْجَدِّ وَإِنْ أَسْلَمَ لَمْ تَصِحَّ لِتَوَقُّفٍ وِلَايَتِهِ عِنْدَهُ كَتَوَقُّفِ تَصَرُّفَاتِهِ وَعِنْدَهُمَا لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْجَدِّ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ عِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ قَائِمَةً هَذَا إذَا وَطِئَ الْأَبُ جَارِيَةَ الِابْنِ مِنْ غَيْرِ نِكَاحٍ (فَأَمَّا) إذَا وَطِئَهَا بِالنِّكَاحِ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ سَوَاءٌ وَطِئَهَا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُوجِبُ الْفِرَاشَ بِنَفْسِهِ صَحِيحًا كَانَ أَوْ فَاسِدًا وَلَا يَتَمَلَّكُ الْجَارِيَةَ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا عَلَى مِلْكِ الِابْنِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ هَذَا النِّكَاحُ لِمَا عُلِمَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَيُعْتَقُ الْوَلَدُ عَلَى أَخِيهِ بِالْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِعَقْدِ النِّكَاح لَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَبَقِيَتْ الْجَارِيَةُ عَلَى مِلْكِ الِابْنِ وَقَدْ مَلَكَ الِابْنُ أَخَاهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ فَإِنْ مَلَكَ الْأَبُ الْجَارِيَةَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِوُجُودِ سَبَبِ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَهُوَ ثَبَاتُ النَّسَبِ إلَّا أَنَّهُ تَوَقَّفَ حُكْمُهُ عَلَى وُجُودِ الْمِلْكِ فَإِذَا مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ هَذَا كُلُّهُ إذَا ادَّعَى الْأَبُ وَلَدَ جَارِيَةِ ابْنِهِ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى وَلَدَ أُمِّ وَلَدِهِ أَوْ مُدَبَّرَتِهِ بِأَنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ الِابْنُ حَتَّى انْتَفَى نَسَبُهُ مِنْهُ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْأَبُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ الْعُقْرِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ وَبَيْنَ وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ فَقَالَ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ مِنْ الْأَبِ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْوَلَدِ وَالْعُقْرِ وَالْوَلَاءِ لِلِابْنِ (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ لَا يَقِفُ عَلَى مِلْكِ الْجَارِيَةِ لَا مَحَالَةَ فَإِنْ نَسَبَ وَلَدًا لَأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ وَالْأَمَةُ مِلْكُ الْمَوْلَى (وَأَمَّا) الْقِيمَةُ؛ فَلِأَنَّهُ وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ عَلِقَ حُرًّا فَأَشْبَهَ وَلَدَ الْمَغْرُورِ فَيَكُونُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ وَالْوَلَاءُ لِلِابْنِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهُ بِالتَّدْبِيرِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ بِخِلَافِ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ فِرَاشٌ لِمَوْلَاهَا فَكَانَ الْوَلَدُ مَوْلُودًا عَلَى فِرَاشِ الِابْنِ وَالْمَوْلُودُ عَلَى فِرَاشِ إنْسَانٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ انْتَفَى عَنْهُ بِالنَّفْيِ كَمَا فِي اللِّعَانِ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْمِلْكِ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةُ لَا يَحْتَمِلَانِ التَّمَلُّكَ وَيَضْمَنُ الْعُقْرَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَمَلَّكْهَا فَقَدْ حَصَلَ الْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الْعُقْرُ هَذَا إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ الِابْنُ فِي الدَّعْوَى بَعْدَمَا نَفَاهُ فَإِنْ صَدَّقَهُ ثَبَتَ النَّسَبُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَةِ الْأَجْنَبِيِّ يَثْبُتُ مِنْ الْمُدَّعِي بِتَصْدِيقِهِ فِي النَّسَبِ فَنَسَبُ وَلَدِ جَارِيَةِ الِابْنِ أَوْلَى وَيُعْتَقُ عَلَى الِابْنِ؛ لِأَنَّ أَخَاهُ مَلَكَهُ وَوَلَاؤُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ وَلَوْ ادَّعَى وَلَدَ مُكَاتَبَةِ ابْنِهِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْمِلْكِ وَالْمُكَاتَبَةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ إلَّا إذَا عَجَزَتْ فَتَنْفُذُ دَعْوَتُهُ؛ لِأَنَّهَا إذَا عَجَزَتْ فَقَدْ عَادَتْ قِنًّا وَجُعِلَ الْمُعَارِضُ كَالْعَدَمِ مِنْ الْأَصْلِ فَصَارَ كَمَا لَوْ ادَّعَى قَبْلَ الْكِتَابَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

فصل في بيان ما يظهر به النسب

[فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ النَّسَبُ] فَصْلٌ} وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ النَّسَبُ فَالنَّسَبُ يَظْهَرُ بِالدَّعْوَةِ مَرَّةً وَبِالْبَيِّنَةِ أُخْرَى أَمَّا ظُهُورُ النَّسَبِ بِالدَّعْوَةِ فَيَسْتَدْعِي شَرَائِطَ صِحَّةِ الدَّعْوَةِ وَالْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ وَسَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ وَقَدْ لَا يَظْهَرُ إلَّا بِشَرِيطَةِ التَّصْدِيقِ فَنَقُولُ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمُدَّعَى نَسَبُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ نَفْسِهِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْمُدَّعِي إلَّا إذَا صَدَّقَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَإِقْرَارُهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ يَدِهِ فَلَا تَبْطُلُ إلَّا بِرِضَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا وَإِمَّا أَنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ إذَا كَانَ فِي مِلْكِ الْمُدَّعِي وَقْتَ الدَّعْوَةِ وَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ فَإِنْ كَانَ عُلُوقُهُ فِي مِلْكِ الْمُدَّعِي ثَبَتَ نَسَبُهُ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ أَيْضًا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُلُوقُهُ فِي مِلْكِهِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمَالِكِ عَلَى مَا ذَكَرنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا فَإِمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ أَحَدٍ لَا فِي يَدِ غَيْرِهِ وَلَا فِي يَدِ نَفْسِهِ كَالصَّبِيِّ الْمَنْبُوذِ وَإِمَّا إنْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدٍ كَاللَّقِيطِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ أَحَدٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ ادَّعَى أَمْرًا جَائِزَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَلَا بُدَّ لِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مِنْ مُرَجِّحٍ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَةُ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ عَاقِلٌ أَخْبَرَ بِمَا هُوَ مُحْتَمَلُ الثُّبُوتِ وَكُلُّ عَاقِلٍ أَخْبَرَ بِمَا يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ وَهُوَ الْأَصْلُ إلَّا إذَا كَانَ فِي تَصْدِيقِهِ ضَرَرٌ بِالْغَيْرِ وَهُنَا فِي التَّصْدِيقِ نَظَرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ اللَّقِيطِ بِالْوُصُولِ إلَى شَرَفِ النَّسَبِ وَالْحَضَانَةِ وَالتَّرْبِيَةِ وَجَانِبِ الْمُدَّعِي بِوَلَدٍ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَصَالِحِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَتَصْدِيقُ الْعَاقِلِ فِي دَعْوَى مَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا يَتَضَرَّرُ غَيْرُهُ بِهِ وَاجِبٌ وَلَوْ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَثْبُتُ إلَّا مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَتَعَيَّنُ بِقَبُولِ الْقَافَةِ عَلَى مَا ذَكَرنَا وَلَوْ ادَّعَاهُ أَكْثَرُ مِنْ رَجُلَيْنِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ اثْنَيْنِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ ثَلَاثَةٍ. وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ وَلَوْ ادَّعَتْهُ امْرَأَتَانِ صَحَّتْ دَعْوَتُهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا تَصِحُّ وَسَنَذْكُرُ الْحُجَجَ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ أَحَدٍ فَإِنْ كَانَ وَهُوَ اللَّقِيطُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْمُلْتَقِطِ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ وَقَدْ ذَكَرنَا وَجْهَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَكَذَا مِنْ الْخَارِجِ صَدَّقَهُ الْمُلْتَقَطُ فِي ذَلِكَ أَوْ لَا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ إذَا كَذَّبَهُ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا إقْرَارٌ تَضَمَّنَ إبْطَالَ يَدِ الْمُلْتَقِطِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ ثَابِتَةٌ حَقِيقَةً وَشَرْعًا حَتَّى لَوْ أَرَادَ غَيْرُهُ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْ يَدِهِ جَبْرًا لِيَحْفَظَهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَالْإِقْرَارُ إذَا تَضَمَّنَ إبْطَالَ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ يَدَ الْمُدَّعِي أَنْفَعُ لِلصَّبِيِّ مِنْ يَدِ الْمُلْتَقِطِ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ بِحَضَانَتِهِ وَتَرْبِيَتِهِ وَيَتَشَرَّفُ بِالنَّسَبِ فَكَانَ الْمُدَّعِي بِهِ أَوْلَى وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعِي مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَصِحَّ دَعْوَةُ الذِّمِّيِّ (وَوَجْهُهُ) أَنَّا لَوْ صَحَّحْنَا دَعْوَتَهُ وَأَثْبَتنَا نَسَبَ الْوَلَدِ مِنْهُ لَلَزِمَنَا اسْتِتْبَاعُهُ فِي دِينِهِ وَهَذَا يَضُرُّ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ ادَّعَى أَمْرَيْنِ يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ النَّسَبُ وَالتَّبَعِيَّةُ فِي الدِّينِ إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الْوَلَدِ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى دِينِهِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَتْ أَمُّهُ يَحْكُمُ بِإِسْلَامِهِ وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ كَافِرًا فَيُصَدَّقُ فِيمَا يَنْفَعُهُ وَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَضُرُّهُ وَيَكُونُ مُسْلِمًا. وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ مَنْ الْتَقَطَ لَقِيطًا فَادَّعَاهُ نَصْرَانِيٌّ فَهُوَ ابْنُهُ ثُمَّ إنْ كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الشِّرْكِ بِأَنْ يَكُونَ فِي رَقَبَتِهِ صَلِيبٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى دِينِ النَّصَارَى هَذَا إذَا أَقَرَّ الذِّمِّيُّ أَنَّهُ ابْنُهُ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِي اسْتِتْبَاعِ الْوَلَدِ فِي دِينِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ تَضَمَّنَتْ إبْطَالَ يَدِ الْمُسْلِمِ وَهُوَ الْمُلْتَقِطُ فَكَانَتْ شَهَادَةً عَلَى الْمُسْلِمِ فَلَا تُقْبَلُ وَإِنْ كَانُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ تُقْبَلُ وَيَكُونُ الْوَلَدُ عَلَى دِينِهِ فَرْقًا بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَبَيْنَ الْبَيِّنَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي إقْرَارِهِ وَلَا تُهْمَةَ فِي الشَّهَادَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعِي حُرًّا أَوْ عَبْدًا؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا يَحْتَمِلُ الْفَصْلَ عَلَى الْآخَرِ وَهُوَ النَّسَبُ وَالرَّقّ فَيُصَدَّقُ فِيمَا يَنْفَعُهُ وَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَضُرُّهُ وَلَوْ ادَّعَاهُ الْخَارِجُ وَالْمُلْتَقِطُ مَعًا فَالْمُلْتَقِطُ أَوْلَى لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّعْوَةِ وَنَفْعِ الصَّبِيِّ فَتُرَجَّحُ بِالْيَدِ فَإِنْ سَبَقَتْ دَعْوَةُ الْمُلْتَقِطِ لَا تَسْمَعُ دَعْوَةُ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ لَا تُعَارِضُ الْبَيِّنَةَ. وَلَوْ ادَّعَاهُ خَارِجَانِ فَإِنْ كَانَ

أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَر ذِمِّيًّا فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُهُ فِي الْإِسْلَامِ فَكَانَ أَنْفَعَ لِلصَّبِيِّ وَكَذَا إذَا ادَّعَتْهُ مُسْلِمَةٌ وَذِمِّيَّةٌ فَالْمُسْلِمَةُ أَوْلَى وَلَوْ شَهِدَ لِلذِّمِّيِّ مُسْلِمَانِ وَلِلْمُسْلِمِ ذِمِّيَّانِ فَهُوَ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّتَيْنِ وَإِنْ تَعَارَضَتَا فَإِسْلَامُ الْمُدَّعِي كَافٍ لِلتَّرْجِيحِ وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا فَالْحُرُّ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلَّقِيطِ وَإِنْ كَانَا حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ فَإِنْ ذَكَرَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي بَدَنِ اللَّقِيطِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْآخَرُ فَوَافَقَتْ دَعْوَتُهُ الْعَلَامَةَ فَصَاحِبُهَا أَوْلَى لِرُجْحَانِ دَعْوَاهُ بِالْعَلَامَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالتَّرْجِيحِ بِالْعَلَامَةِ فِي الْجُمْلَةِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف: 26] {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 27] {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] جَعَلَ قَدَّ الْقَمِيصِ مِنْ خَلْفٍ دَلِيلَ مُرَاوَدَتِهَا إيَّاهُ لِمَا أَنَّ ذَلِكَ عَلَامَةُ جَذْبِهَا إيَّاهُ إلَى نَفْسِهَا وَالْقَدُّ مِنْ قُدَّامِ عَلَامَةَ دَفْعِهَا إيَّاهُ عَنْ نَفْسِهَا وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي لُؤْلُئِيٍّ وَدَبَّاغٍ فِي حَانُوتٍ وَاحِدٍ هُوَ فِي أَيْدِيهِمَا فِيهِ لُؤْلُؤٌ وَإِهَابٍ فَتَنَازَعَا أَنَّهُ فِيهِمَا يُقْضَى بِاللُّؤْلُؤِ لِلُّؤْلُئِيِّ وَبِالْإِهَابِ لِلدَّبَّاغِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ بِاللُّؤْلُؤِ لِلُّؤْلُئِيِّ وَبِالْإِهَابِ لِلدَّبَّاغِ. وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الزَّوْجَيْنِ اخْتَلَفَا فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ أَنَّ مَا يَكُونُ لِلرِّجَالِ يَجْعَلُ فِي يَدِ الزَّوْجِ وَمَا يَكُونُ لِلنِّسَاءِ يُجْعَلُ فِي يَدِهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ وَغَالِبِ الْأَمْرِ كَذَا هَذَا فَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلَامَاتٍ فِي هَذَا اللَّقِيطِ فَوَافَقَ الْبَعْضَ وَخَالَفَ الْبَعْضَ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّعَارُضُ فِي الْعَلَامَاتِ فَسَقَطَ التَّرْجِيحُ بِهَا كَأَنْ سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الْعَلَامَةِ رَأْسًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً أَصْلًا وَلَكِنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ لَا تُعَارِضُ الْبَيِّنَةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَهَذَا عِنْدَنَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّعْوَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إلَّا مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَتَعَيَّنُ بِقَوْلِ الْقَافَةِ عَلَى مَا ذَكَرنَا وَالْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَقَدَّمَ وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ رَجُلَيْنِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ. وَلَوْ قَالَ أَحَدُ الْمُدَّعِيَيْنِ هُوَ ابْنِي وَهُوَ غُلَامٌ فَإِذَا هُوَ جَارِيَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهُ بِيَقِينٍ وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا هُوَ ابْنِي وَقَالَ الْآخَرُ هُوَ ابْنَتِي فَإِذَا هُوَ خُنْثَى يُحَكَّمُ مَبَالُهُ فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ الرِّجَالِ فَهُوَ ابْنُ مُدَّعِي الْبُنُوَّةِ وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ النِّسَاءِ فَهِيَ ابْنَةُ مُدَّعِي الْبِنْتِيَّةِ وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْهُمَا جَمِيعًا يُعْتَبَرُ السَّبْقُ فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي السَّبْقِ فَهُوَ مُشْكَلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا تُعْتَبَرُ كَثْرَةُ الْبَوْلِ فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ فَهُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ الْخُنْثَى وَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَلَوْ قَالَ الْمُلْتَقِطُ هُوَ ابْنِي مِنْ زَوْجَتِي هَذِهِ فَصَدَّقَتْهُ فَهُوَ ابْنُهُمَا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً غَيْرَ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ حُرَّةً كَانَ الِابْنُ حُرًّا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً كَانَ مِلْكًا لِمَوْلَى الْأَمَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ حُرًّا وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ نَسَبَهُ وَإِنْ ثَبَتَ مِنْ الْأَمَةِ لَكِنْ فِي جَعْلِهِ تَبَعَا لَهَا فِي الرِّقِّ مَضَرَّةٌ بِالصَّبِيِّ وَفِي جَعْلِهِ حُرًّا مَنْفَعَةٌ لَهُ فَيَتْبَعُهَا فِيمَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَتْبَعُهَا فِيمَا يَضُرُّهُ كَالذِّمِّيِّ إذَا ادَّعَى نَسَبَ لَقِيطٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ لَكِنْ لَا يَتْبَعُهُ فِيمَا يَضُرُّهُ وَهُوَ دِينُهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ رَقِيقًا وَالرِّقُّ وَإِنْ كَانَ يَضُرُّهُ فَهُوَ ضَرَرٌ يَلْحَقُهُ ضَرُورَةَ غَيْرِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ. وَلَوْ ادَّعَتْهُ امْرَأَةٌ أَنَّهُ ابْنُهَا وَهِيَ حُرَّةٌ أَوْ أَمَةٌ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا لَا تُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ وَإِنْ أَقَامَتْ امْرَأَةً وَاحِدَةً عَلَى الْوِلَادَةِ قُبِلَتْ إذَا كَانَتْ حُرَّةً عَدْلَةٌ أَطْلَقَ الْجَوَابَ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ أَمْ لَا مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ هَذَا الْجَوَابَ عَلَى مَا إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ كَانَ فِي تَصْحِيحِ دَعْوَتِهَا حَمْلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا تَصِحُّ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى التَّحْمِيلِ فَيَصِحُّ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّقَ جَوَابَ الْكِتَابِ وَأَجْرَى رِوَايَةَ الْأَصْلِ عَلَى إطْلَاقِهَا وَفَرَّقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَقَالَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الرَّجُلِ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهَا إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ النَّسَبَ فِي جَانِبِ الرِّجَالِ يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ وَفِي جَانِبِ النِّسَاءِ يَثْبُتُ بِالْوِلَادَةِ وَلَا تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَأَدْنَى الدَّلَائِلِ عَلَيْهَا شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ وَلَوْ ادَّعَتْهُ امْرَأَتَانِ فَهُوَ ابْنُهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَذَا إذَا كُنَّ خَمْسًا عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ أَصْلًا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ النَّسَبَ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ يَثْبُتُ بِالْوِلَادَةِ وَوِلَادَةُ وَلَدٍ

وَاحِدٍ مِنْ امْرَأَتَيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَا يُتَصَوَّرَ ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ فِي جَانِبِهِمْ يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ سَبَبَ ظُهُورِ النَّسَبِ هُوَ الدَّعْوَةُ وَقَدْ وُجِدَتْ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَمَا قَالَا إنَّ الْحُكْمَ فِي جَانِبِهِنَّ مُتَعَلِّقٌ بِالْوِلَادَةِ فَنَعَمْ لَكِنْ فِي مَوْضِعٍ أَمْكَنَ وَهُنَا لَا يُمْكِنُ فَتَعَلَّقَ بِالدَّعْوَةِ وَقَدْ ادَّعَيَاهُ جَمِيعًا فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمَا وَعَلَى هَذَا لَوْ ادَّعَاهُ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْكُلِّ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ مِنْ الرَّجُلِ لَا غَيْرُ. وَلَوْ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ وَامْرَأَتَانِ كُلُّ رَجُلٍ يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ صَدَّقَتْهُ فَهُوَ ابْن الرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَتَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا ابْنُ الرَّجُلَيْنِ لَا غَيْرَ وَأَمَّا ظُهُورُ النَّسَبِ بِالْبَيِّنَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْبَيِّنَةُ يَظْهَرُ بِهَا النَّسَبُ مَرَّةً وَيَتَأَكَّدُ ظُهُورُهُ أُخْرَى فَكُلُّ نَسَبٍ يَجُوزُ ثُبُوتُهُ مِنْ الْمُدَّعِي إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ الظُّهُورَ بِالدَّعْوَةِ أَصْلًا لَا بِنَفْسِهَا وَلَا بِقَرِينَةِ التَّصْدِيقِ بِأَنْ كَانَ فِيهِ حَمْلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ يَظْهَرُ بِالْبَيِّنَةِ وَكَذَا مَا احْتَمَلَ الظُّهُورَ بِالدَّعْوَةِ لَكِنْ بِقَرِينَةِ التَّصْدِيقِ إذَا انْعَدَمَ التَّصْدِيقُ وَظَهَرَ أَيْضًا بِالْبَيِّنَةِ وَكُلُّ نَسَبٍ يَحْتَمِلُ الظُّهُورَ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ يَتَأَكَّدُ ظُهُورُهُ بِالْبَيِّنَةِ كَمَا إذَا ادَّعَى اللَّقِيطَ رَجُلٌ الْمُلْتَقِطُ أَوْ غَيْرُهُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْمُدَّعِي ثُمَّ ادَّعَاهُ رَجُلٌ آخَرُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ يُقْضَى لَهُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ وَإِنْ ظَهَرَ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ فَاحْتَمَلَ الْبُطْلَانَ بِالْبَيِّنَةِ وَكَذَا لَوْ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ مَعًا ثُمَّ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ فَصَاحِبُ الْبَيِّنَةِ أَوْلَى لِمَا قُلْنَا وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي النَّسَبِ فَالْأَصْلُ فِيهِ مَا ذَكَرنَا فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الْمِلْكِ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ تَرْجِيحُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى يُعْمَلُ بِالرَّاجِحِ وَإِنْ تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ يُعْمَلُ بِهِمَا إلَّا أَنَّ هُنَاكَ إذَا تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ يُعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَهُنَا يُعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ لِإِمْكَانِ إثْبَاتِ النَّسَبِ لِوَلَدٍ وَاحِدٍ مِنْ اثْنَيْنِ عَلَى الْكَمَالِ وَاسْتِحَالَةُ كَوْنِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مَمْلُوكًا لِاثْنَيْنِ عَلَى الْكَمَالِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ تَعَارُضَ الْبَيِّنَتَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخَارِجِ وَبَيْنَ ذِي الْيَدِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخَارِجَيْنِ وَبَيْنَ ذِي الْيَدِ فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْبَيِّنَةِ فَيُرَجَّحُ صَاحِبُ الْيَدِ بِالْيَدِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْخَارِجَيْنِ وَبَيْنَ ذِي الْيَدِ فَإِنْ أَمْكَنَ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَلَامَةِ وَالْيَدِ وَقُوَّةِ الْفِرَاشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ يُعْمَلُ بِالرَّاجِحِ وَإِنْ اسْتَوَيَا يُعْمَلُ بِهِمَا وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُمَا. وَعَلَى هَذَا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّقِيطَ ابْنُهُ وَادَّعَى الْآخَرُ أَنَّهُ عَبْدُهُ يُقْضَى لِلَّذِي ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْحُرِّيَّةَ وَالْآخَرُ يَدَّعِي الرِّقَّ فَبَيِّنَةُ الْحُرِّيَّةِ أَقْوَى وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ هَذِهِ الْحُرَّةِ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ فَهُوَ ابْنُ الْحُرِّ وَالْحُرَّةِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ فَهُوَ ابْنُ الرَّجُلَيْنِ وَابْنُ الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا ابْنُ الرَّجُلَيْنِ لَا غَيْرَ لِمَا مَرَّ وَلَوْ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ وَوُقِّتَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ اسْتَوَى الْوَقْتَانِ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُمَا لِاسْتِوَاءِ الْبَيِّنَتَيْنِ وَلَوْ كَانَ وَقْتُ إحْدَاهُمَا أَسْبَقَ يُحْكَمُ سِنّ الصَّبِيِّ فَيُعْمَلُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُ عَدْلٍ فَإِنْ أَشْكَلَ سِنُّهُ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْضَى لِأَسْبِقْهُمَا وَقْتًا وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى لَهُمَا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ إذَا أَشْكَلَ السِّنُّ سَقَطَ اعْتِبَارُ التَّارِيخِ أَصْلًا كَأَنَّهُمَا سَكَتَا عَنْهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا أَشْكَلَ السِّنُّ لَمْ يَصْلُحْ حُكْمًا فَبَقِيَ الْحُكْمُ لِلتَّارِيخِ فَيُرَجَّحُ الْأَسْبَقُ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ اللَّقِيطَ ابْنُهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ ابْنُهَا وَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَ ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُمَا كَمَا إذَا ادَّعَاهُ رَجُلَانِ بَلْ أَوْلَى وَعَلَى هَذَا غُلَامٌ قَدْ احْتَلَمَ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ أَنَّهُ ابْنُهُمَا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ وَامْرَأَتُهُ أَنَّ الْغُلَامَ ابْنُهُمَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ ثَبَتَ نَسَبُ الْغُلَامِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ الَّذِي ادَّعَاهُ الْغُلَامُ أَنَّهُ ابْنُهُمَا وَيَبْطُلُ النَّسَبُ الَّذِي أَنْكَرَهُ الْغُلَامُ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ الْغُلَامِ بِيَدِهِ إذْ هُوَ فِي يَدِ نَفْسِهِ كَالْخَارِجَيْنِ إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَلِأَحَدِهِمَا يَدٌ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى كَذَا هُنَا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْغُلَامُ نَصْرَانِيًّا فَأَقَامَ بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَجُلٍ نَصْرَانِيٍّ وَامْرَأَةٍ نَصْرَانِيَّةٍ وَادَّعَاهُ مُسْلِمٌ وَمُسْلِمَةٌ فَبَيِّنَةُ الْغُلَامِ أَوْلَى وَلَا تَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا وَإِنْ كَانَ بَيِّنَةُ الْغُلَامِ مِنْ النَّصَارَى يُقْضَى بِالْغُلَامِ لِلْمُسْلِمِ وَالْمُسْلِمَةِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ مُجَرَّدُ الدَّعْوَةِ فَلَا تُعَارِضُ الْبَيِّنَةَ وَيُجْبَرُ الْغُلَامُ عَلَى الْإِسْلَامِ. غُلَامٌ فِي

فصل في صفة النسب الثابت

يَدِ إنْسَانٍ ادَّعَى صَاحِبُ الْيَدِ أَنَّهُ ابْنُهُ وَوَلَدَتْهُ أَمَتُهُ هَذِهِ فِي مِلْكِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ وَادَّعَى خَارِجٌ أَنَّ الْغُلَامَ ابْنُهُ وَلَدَتْهُ الْأَمَةُ فِي مِلْكِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ كَانَ الْغُلَامُ صَغِيرًا لَا يَتَكَلَّمُ يُقْضَى بِهِ لِصَاحِبِ الْيَد لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْبَيِّنَة فَيُرَجَّحُ صَاحِبُ الْيَدَ بِالْيَدِ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا يَتَكَلَّمُ فَقَالَ أَنَا ابْنُ الْآخَرِ يُقْضَى بِالْأَمَةِ وَالْغُلَامِ لِلْخَارِجِ؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ إذَا كَانَ كَبِيرًا يَتَكَلَّمُ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَالْبَيِّنَةُ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْغُلَامُ أَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْغُلَامُ وَلَدَ حُرَّةٍ وَهُمَا فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ وَالْغُلَامُ يَتَكَلَّمُ وَيَدَّعِي ذَلِكَ وَأَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكِهِ يُقْضَى بِالْمَرْأَةِ وَبِالْوَلَدِ لِلَّذِي هُمَا فِي يَدِهِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي يَدِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمَرْأَةُ ذِمِّيَّةٌ وَأَقَامَ شُهُودًا مُسْلِمِينَ يُقْضَى بِالْمَرْأَةِ وَالْوَلَدِ لِلَّذِي هُمَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمُسْلِمِينَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فِي وَقْتِ كَذَا وَأَقَامَ الَّذِي فِي يَدِهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى وَقْتٍ دُونَهُ يُقْضَى لِلْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ سَبْقُ أَحَدِ النِّكَاحَيْنِ كَانَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا فَاسِدًا فَالْبَيِّنَةُ الْقَائِمَةُ عَلَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَقْوَى فَكَانَتْ أَوْلَى وَعَلَى هَذَا غُلَامٌ قَدْ احْتَلَمَ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ وَلَدَتْهُ أَمَتُهُ فُلَانَةُ عَلَى فِرَاشِهِ وَذَلِكَ الرَّجُلُ يَقُولُ هُوَ عَبْدِي وَلَدُ أَمَتِي الَّتِي زَوَّجْتهَا عَبْدِي فُلَانًا فَوَلَدَتْ هَذَا الْغُلَامَ مِنْهُ وَالْعَبْدُ حَيٌّ يَدَّعِي ذَلِكَ فَهُوَ ابْنُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ تَعَارَضَ الْفِرَاشَانِ فِرَاشُ النِّكَاحِ وَفِرَاشُ الْمِلْكِ وَفِرَاشُ النِّكَاحِ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ وَفِرَاشُ الْمِلْكِ يَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ فَكَانَ فِرَاشُ النِّكَاحِ أَقْوَى فَكَانَ أَوْلَى. وَلَوْ ادَّعَى الْغُلَامُ أَنَّهُ ابْنُ الْعَبْدِ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ فَأَقَرَّ الْعَبْدُ بِذَلِكَ وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَادَّعَى الْمَوْلَى أَنَّهُ ابْنُهُ فَهُوَ ابْنُ الْعَبْدِ لِمَا قُلْنَا وَيُعْتَقُ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى نَسَبَهُ وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْحُرِّيَّةِ فَإِنْ لَمْ يُعْمَلْ فِي النَّسَبِ يُعْمَلُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَك مَالًا فَأَقَامَ الْغُلَامُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ مِنْ أَمَتِهِ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَلَدَتْهُ أَمَتُهُ مِنْ زَوْجِهَا فُلَانٍ وَالزَّوْجُ عَبْدُهُ أَيْضًا وَالْعَبْدُ حَيٌّ يَدَّعِي ذَلِكَ يُقْضَى لَهُ بِالنَّسَبِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي فِرَاشَ النِّكَاحِ وَأَنَّهُ أَقْوَى فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مَيِّتًا ثَبَتَ نَسَبُ الْغُلَامِ مِنْ الْحُرِّ وَوَرِثَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْغُلَامِ خَلَتْ عَنْ الْمُعَارِضِ لِانْعِدَامِ الدَّعْوَةِ مِنْ الْعَبْدِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي صِفَةِ النَّسَب الثَّابِتِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ النَّسَب الثَّابِتِ فَالنَّسَبُ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ إذَا ثَبَتَ يَلْزَمُ حَتَّى لَا يَحْتَمِلَ النَّفْيَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ فِي جَانِبهنَّ يَثْبُتُ بِالْوِلَادَةِ وَلَا مَرَدَّ لَهَا (وَأَمَّا) فِي جَانِبِ الرِّجَالِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَحْتَمِلُ النَّفْيَ وَنَوْعٌ لَا يَحْتَمِلُهُ أَمَّا مَا يَحْتَمِلُ النَّفْيَ فَنَوْعَانِ (نَوْعٌ) يَنْتَفِي بِنَفْسِ النَّفْيِ مِنْ غَيْرِ لِعَانٍ وَنَوْعٌ لَا يَنْتَفِي بِنَفْسِ النَّفْيِ بَلْ بِوَاسِطَةِ اللِّعَانِ (أَمَّا الَّذِي) يَنْتَفِي بِنَفْسِ النَّفْيِ فَهُوَ نَسَبُ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ فِرَاشَ أُمِّ الْوَلَدِ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ حَتَّى احْتَمَلَ النَّقْلَ إلَى غَيْرِهِ بِالتَّزْوِيجِ فَاحْتَمَلَ الِانْتِفَاءَ بِنَفْسِ النَّفْيِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى اللِّعَانِ (وَأَمَّا) الَّذِي لَا يَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ فَهُوَ نَسَبُ وَلَدِ زَوْجَةٍ يَجْرِي بَيْنَهُمَا اللِّعَانُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَانِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ غَيْرَ مَحْدُودَيْنِ فِي الْقَذْف عَلَى مَا ذَكَرنَا فِي كِتَابِ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّ فِرَاشَ النِّكَاحِ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ فَكَانَ قَوِيًّا فَلَا يَحْتَمِلُ الِانْتِفَاءَ بِنَفْسِ النَّفْيِ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ اللِّعَانُ. وَلِهَذَا إذَا كَانَ الْعُلُوقُ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ شُبْهَةِ نِكَاحٍ لَا يَنْتَفِي نَسَبُ الْوَلَدِ بِالنَّفْيِ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاءَ بِوَاسِطَةِ اللِّعَانِ وَلَا لِعَانَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لِانْعِدَامِ الزَّوْجِيَّةِ حَقِيقَةً لِمَا عُلِمَ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَأَمَّا الَّذِي) لَا يَحْتَمِلُ النَّفْيَ فَهُوَ نَسَبُ وَلَدِ زَوْجَةٍ لَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا اللِّعَانُ فَإِذَا كَانَ الزَّوْجَانِ مِمَّنْ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا لَا يَنْتَفِي نَسَبُ الْوَلَدِ بِالنَّفْيِ وَكَذَا النَّسَبُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّفْيَ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ يَكُونُ إنْكَارًا بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَلَا يُسْمَعُ إلَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ نَوْعَانِ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ لِمَا ذَكَرنَا فِي كِتَابِ اللِّعَانِ. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ لَا غَيْرُ] [حُكْم تعارض الدعوتين فِي أَصْلِ الْملك] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ لَا غَيْرُ أَمَّا حُكْمُهُ فِي النَّسَبِ فَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ فِي أَثْنَاءِ مَسَائِلِ النَّسَبِ وَأَمَّا حُكْمُهُ فِي الْمِلْكِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ (أَحَدُهُمَا) فِي حُكْمِ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ فِي أَصْلِ الْمِلْكِ وَالثَّانِي فِي قَدْرِ الْمِلْكِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَسَبِيلُ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ فِي أَصْلِ الْمِلْكِ مَا هُوَ سَبِيلُ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِيهِ مِنْ طَلَبِ التَّرْجِيحِ وَالْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَعِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ تَصْحِيحًا لِلدَّعْوَتَيْنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ رَجُلَانِ ادَّعَيَا دَابَّةً أَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِلِجَامِهَا فَهِيَ لِلرَّاكِبِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لِلدَّابَّةِ فَكَانَتْ فِي يَدِهِ (وَكَذَلِكَ) إذَا

كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ حَمْلٌ وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ كَوْرٌ مُعَلَّقٌ أَوْ مِخْلَاةٌ مُعَلَّقَةٌ فَصَاحِبُ الْحَمْلِ أَوْلَى لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كَانَا جَمِيعًا رَاكِبَيْنِ لَكِنَّ أَحَدَهُمَا فِي السَّرْجِ وَالْآخَرَ رَدِيفُهُ فَهِيَ لَهُمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (وَرُوِيَ) عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا لِرَاكِبِ السَّرْجِ لِقُوَّةِ يَدِهِ (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُمَا جَمِيعًا اسْتَوَيَا فِي أَصِلْ الِاسْتِعْمَالِ فَكَانَتْ الدَّابَّةُ فِي أَيْدِيهمَا فَكَانَتْ لَهُمَا. وَلَوْ كَانَا جَمِيعًا رَاكِبَيْنِ فِي السَّرْجِ فَهِيَ لَهُمَا إجْمَاعًا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الِاسْتِعْمَالِ وَلَوْ ادَّعَيَا عَبْدًا صَغِيرًا لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ فِي أَيْدِيهمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ وَالْبَهَائِمِ فَتَبْقَى الْيَدُ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى صَبِيًّا صَغِيرًا مَجْهُولَ النَّسَبِ فِي يَدِهِ أَنَّهُ عَبْدُهُ ثُمَّ كَبَرَ الصَّبِيُّ فَادَّعَى الْحُرِّيَّةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ وَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى الْحُرِّيَّةِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ فَلَا تَزُولُ يَدُهُ عَنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ (وَبِمِثْلِهِ) لَوْ ادَّعَى غُلَامًا كَبِيرًا أَنَّهُ عَبْدُهُ وَقَالَ الْغُلَامُ أَنَا حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَاهُ فِي حَالٍ هُوَ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَوْ ادَّعَيَا عَبْدًا كَبِيرًا فَقَالَ الْعَبْدُ أَنَا عَبْدٌ لِأَحَدِهِمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا وَلَا يُصَدَّقُ الْعَبْدُ فِي ذَلِكَ وَكَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَرَّ أَنَّهُ لِرَجُلٍ آخَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ وَلَا يُصَدَّقُ الْعَبْدُ فِي إقْرَارِهِ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالرِّقِّ إقْرَارٌ بِسُقُوطِ يَدِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ فَلَا يُسْمَعُ قَوْلُهُ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا قَوْلَ لَهُ وَلَوْ قَالَ كُنْت عَبْدَ فُلَانٍ فَأَعْتَقَنِي وَأَنَا حُرٌّ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْعَبْدِ وَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ إذْ الْحُرِّيَّةُ أَصْلٌ فِي بَنِي آدَمَ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا فَقَدْ أَقَرَّ بِزَوَالِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَثُبُوتِ الْعَارِضِ وَهُوَ الرِّقُّ مِنْهُ فَصَارَ الرِّقُّ فِيهِ هُوَ الْأَصْلَ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ وَلَوْ ادَّعَيَا ثَوْبًا وَأَحَدُهُمَا لَابِسُهُ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِذَيْلِهِ فَاللَّابِسُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لِلثَّوْبِ (وَلَوْ ادَّعَيَا) بِسَاطًا وَأَحَدُهُمَا جَالِسٌ عَلَيْهِ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا وَلَا يَكُونُ الْجَالِسُ بِجُلُوسِهِ وَالنَّوْمُ عَلَيْهِ أَوْلَى لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْيَدِ عَلَيْهِ (وَلَوْ ادَّعَيَا) دَارًا وَأَحَدُهُمَا سَاكِنٌ فِيهَا فَهِيَ لِلسَّاكِنِ (وَكَذَلِكَ) لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَحْدَثَ فِيهَا شَيْئًا مِنْ بِنَاءٍ أَوْ حَفْرٍ فَهِيَ لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ وَالْحَفْرِ؛ لِأَنَّ سُكْنَى الدَّارِ وَإِحْدَاثَ الْبِنَاءِ وَالْحَفْرِ تَصَرُّفٌ فِي الدَّارِ فَكَانَتْ فِي يَدِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا دَاخِلٌ فِيهَا وَالْآخَرُ خَارِجٌ مِنْهَا فَهِيَ بَيْنَهُمَا (وَكَذَا) إذَا كَانَا جَمِيعًا فِيهَا؛ لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى الْعَقَارِ لَا تَثْبُتُ بِالْكَوْنِ فِيهِ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ وَلَوْ وُجِدَ خَيَّاطٌ يَخِيطُ ثَوْبًا فِي دَارِ إنْسَانٍ فَاخْتَلَفَا فِي الثَّوْبِ فَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْخَيَّاطِ صُورَةً فَهُوَ فِي يَدِ صَاحِبِ الدَّارِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْخَيَّاطَ وَمَا فِي يَدِهِ فِي دَارِهِ وَالدَّارُ فِي يَدِهِ فَمَا فِيهَا يَكُونُ فِي يَدِهِ (حَمَّالٌ) خَرَجَ مِنْ دَارِ رَجُلٍ وَعَلَى عَاتِقِهِ مَتَاعٌ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْحَامِلُ يُعْرَفُ بِبَيْعِ ذَلِكَ وَحَمْلِهِ فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِر شَاهِدٌ لَهُ وَإِنْ كَانَ يُعْرَفُ بِذَلِكَ فَهُوَ لِصَاحِبِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ (وَكَذَلِكَ) حَمَّالٌ عَلَيْهِ كَارَّةٌ وَهُوَ فِي دَارِ بَزَّازٍ اخْتَلَفَا فِي الْكَارَّةِ فَإِنْ كَانَتْ الْكَارَّةُ مِمَّا يُحْمَلُ فِيهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَمَّالِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُحْمَلُ فِيهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ رَجُلٌ اصْطَادَ طَائِرًا فِي دَارِ رَجُلٍ فَاخْتَلَفَا فِيهِ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لَمْ يَسْتَوْلِ عَلَيْهِ قَطُّ فَهُوَ لِلصَّائِدِ سَوَاءٌ اصْطَادَهُ مِنْ الْهَوَاءِ أَوْ مِنْ الشَّجَرِ أَوْ الْحَائِطِ؛ لِأَنَّهُ الْآخِذُ دُونَ صَاحِبِ الدَّارِ إذْ الصَّيْدُ لَا يَصِيرُ مَأْخُوذًا بِكَوْنِهِ عَلَى حَائِطٍ أَوْ شَجَرَةٍ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ» وَإِنْ اخْتَلَفَا فَقَالَ صَاحِبُ الدَّارِ اصْطَدْتُهُ قَبْلَك أَوْ وَرِثْته وَأَنْكَرَ الصَّائِدُ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ أَخَذَهُ مِنْ الْهَوَاءِ فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ الْآخِذُ إذْ لَا يَدَ لِأَحَدٍ عَلَى الْهَوَاءِ وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ جِدَارِهِ أَوْ شَجَرِهِ فَهُوَ لِصَاحِبِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْجِدَارَ وَالشَّجَرَ فِي يَدِهِ وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفَا فِي أَخْذِهِ مِنْ الْهَوَاءِ أَوْ مِنْ الْجِدَارِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا فِي دَارِ إنْسَانٍ يَكُونُ فِي يَدِهِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مَسْأَلَةٌ لِلصَّيْدِ عَلَى هَذَا الْفَصْلِ وَلَوْ ادَّعَيَا وَأَحَدُهُمَا سَاكِنٌ فِيهَا فَهِيَ لِلسَّاكِنِ فِيهَا وَكَذَا لَوْ كَانَ أَحْدَثَ فِيهَا شَيْئًا مِنْ بِنَاءٍ أَوْ حَفْرٍ فَهِيَ لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ وَالْحَفْرِ؛ لِأَنَّ سُكْنَى الدَّارِ وَإِحْدَاثَ الْبِنَاءِ وَالْحَفْرِ تَصَرُّفٌ فِي الدَّارِ فَكَانَتْ فِي يَدِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ أَحَدَهُمَا دَاخِلٌ فِيهَا وَالْآخَرُ خَارِجٌ مِنْهَا فَهِيَ بَيْنَهُمَا وَكَذَا لَوْ كَانَا جَمِيعًا فِيهَا؛ لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى الْعَقَارِ لَا تَثْبُتُ بِالْكَوْنِ فِيهَا وَإِنَّمَا

تَثْبُتُ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا وَلَمْ يُوجَدْ وَلَوْ ادَّعَيَا حَائِطًا مِنْ دَارَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لِلْحَائِطِ وَلَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُذُوعٌ فَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ فَهِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ سَوَاءٌ اسْتَوَتْ جُذُوعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ كَانَتْ لِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ بَعْدَ أَنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ جُذُوعٍ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي اسْتِعْمَالِ الْحَائِطِ فَاسْتَوَيَا فِي ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهِ وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْبَيْتِ أَنْ يَتَبَرَّعَ عَلَى الْآخَرِ بِمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لَكِنْ يُقَالُ لَهُ زِدْ أَنْتَ أَيْضًا إلَى تَمَامِ عَدَدِ خَشَبِ صَاحِبِك إنْ أَطَاقَ الْحَائِطُ حَمْلَهَا وَإِلَّا فَلَيْسَ لَك الزِّيَادَةُ وَلَا النَّزْعُ وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا ثَلَاثَةُ جُذُوعٍ وَلِلْآخَرِ جِذْعٌ أَوْ جِذْعَانِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْحَائِطُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَكُونُ (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ زِيَادَةَ الِاسْتِعْمَالِ بِكَثْرَةِ الْجُذُوعِ زِيَادَةٌ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ وَالزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ الْحَجَّةِ لَا يَقَعُ بِهَا التَّرْجِيحُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا ثَلَاثَةٌ وَلِلْآخَرِ أَرْبَعَةٌ كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِنْ كَانَ اسْتِعْمَالُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ دَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَصْلُ الِاسْتِعْمَالِ لَا قَدْرُهُ وَقَدْ اسْتَوَيَا فِيهِ (وَوَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنْ يُقَالَ نَعَمْ لَكِنَّ أَصْلَ الِاسْتِعْمَالِ لَا يَحْصُلُ بِمَا دُونَ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ الْجِدَارَ لَا يُبْنَى لَهُ عَادَةً وَإِنَّمَا يُبْنَى لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْأَكْثَرَ مِمَّا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَالثَّلَاثَةُ أَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ فَقُيِّدَ بِهِ فَكَانَ مَا وَرَاءَ مَوْضِعِ الْجُذُوعِ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ وَأَمَّا مَوْضِعُ الْجِذْعِ الْوَاحِدِ فَكَذَلِكَ عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ وَإِنَّمَا لِصَاحِبِ الْقَلِيلِ حَقُّ وَضَعَ الْجِذْعِ لَا أَصْلُ الْمِلْكِ وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الدَّعْوَى لَهُ مَوْضِعُ الْجِذْعِ مِنْ الْحَائِطِ وَمَا وَرَاءَهُ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ مُسْتَعْمِلٌ لِذَلِكَ الْقَدْرِ حَقِيقَةً فَكَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ فِي يَدِهِ فَيَمْلِكُهُ (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْإِقْرَارِ مَا مَرَّ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ لَا يَحْصُلُ بِالْجِذْعِ وَالْجِذْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى لَهُ عَادَةً فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْحَائِطِ فِي يَدِهِ فَكَانَ كُلُّهُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ دَفْعُ الْجُذُوعِ وَإِنْ كَانَ مَوْضِعُ الْجِذْعِ مَمْلُوكًا لَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْحَائِطِ مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ وَلِآخَرَ عَلَيْهِ حَقُّ الْوَضْعِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْحَائِطَ لَهُ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ فَإِذَا أَقَامَهَا تُبَيِّنُ أَنَّ الْوَضْعَ مِنْ الْأَصْلِ كَانَ بِغَيْرِ حَقِّ وِلَايَةِ الدَّفْعِ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ حَالَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّا إنَّمَا جَعَلْنَا الْحَائِطَ لَهُ لِظَاهِرِ الْيَدِ وَالظَّاهِرُ يَصْلُحُ لِلتَّقْرِيرِ لَا لِلتَّغْيِيرِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَلَوْ كَانَ الْحَائِطُ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ إحْدَى الدَّارَيْنِ اتِّصَالَ الْتِزَاقٍ وَارْتِبَاطٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُتَعَلِّقِ بِهِ وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالُ الْتِزَاقٍ وَلِلْآخَرِ جُذُوعٍ فَصَاحِبُ الْجُذُوعِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لِلْحَائِطِ وَلَا اسْتِعْمَالَ مِنْ صَاحِبِ الِاتِّصَالِ وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالُ الْتِزَاقٍ وَارْتِبَاطٍ وَلِلْآخَرِ اتِّصَالُ تَرْبِيعٍ فَصَاحِبُ التَّرْبِيعِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ التَّرْبِيعِ أَقْوَى مِنْ اتِّصَالِ الِالْتِزَاقِ وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالُ تَرْبِيعٍ وَلِلْآخَرِ جُذُوعٍ فَالْحَائِطُ لِصَاحِبِ التَّرْبِيعِ وَلِصَاحِبِ الْجُذُوعِ حَقُّ وَضْعِ الْجُذُوعِ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي صُورَةِ التَّرْبِيعِ فَنَقُولُ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ التَّرْبِيعَ هُوَ أَنْ يَكُونَ أَنْصَافُ أَلْبَانِ الْحَائِطِ مُدَاخَلَةً حَائِطَ إحْدَى الدَّارَيْنِ يُبْنَى كَذَلِكَ كَالْأَزَجِ وَالطَّاقَاتِ فَكَانَ بِمَعْنَى النِّتَاجِ فَكَانَ صَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ تَفْسِيرَ التَّرْبِيعِ أَنْ يَكُونَ طَرَفَا هَذَا الْحَائِط الْمُدَّعَى مُدَاخَلِينَ حَائِطَ إحْدَى الدَّارَيْنِ وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَصِيرُ الْحَاصِلُ أَنَّ الْمُدَاخَلَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ جَانِبَيْ الْحَائِطِ كَانَ صَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ فَعَلَى قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى وَعَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَاحِبُ الْجُذُوعِ أَوْلَى وَجْه قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى النِّتَاجِ حَيْثُ حَدَثَ مِنْ بِنَائِهِ كَذَلِكَ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْمُدَاخَلَةَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ تُوجِبُ الِاتِّحَادَ وَجَعْلَ الْكُلِّ بِنَاءً وَاحِدًا فَسَقَطَ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ لِضَرُورَةِ الِاتِّحَادِ فَمِلْكُ الْبَعْضِ يُوجِبُ مِلْكَ الْكُلِّ ضَرُورَةً إلَّا أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الرَّفْعِ بَلْ يُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ مِلْكِ الْأَصْلِ بَلْ يَحْتَمِلُ الِانْفِصَالَ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ السَّقْفَ الَّذِي هُوَ بَيْنَ بَيْتِ الْعُلُوِّ وَبَيْنَ بَيْتِ السُّفْلِ هُوَ مِلْكُ صَاحِبِ السُّفْلِ وَلِصَاحِبِ الْعُلُوِّ عَلَيْهِ حَقُّ الْقَرَارِ حَتَّى لَوْ أَرَادَ صَاحِبُ السُّفْلِ رَفْعَ السَّقْفِ مُنِعَ مِنْهُ شَرْعًا كَذَا هَذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ وَلِصَاحِبِ الْجُذُوعِ حَقُّ وَضْعِ الْجِذْعِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ

أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الرَّفْعِ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ثُمَّ فَرَّعَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ تَفْسِيرِ التَّرْبِيعِ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى دَارًا وَلِرَجُلٍ آخِرَ دَارٌ بِجَنْبِ تِلْكَ الدَّارِ وَبَيْنَهُمَا حَائِطٌ وَأَقَامَ الرَّجُلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ فَأَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ إنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ حَائِطِ الْمُدَّعِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِبِنَائِهِ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْبَيْعَ فَلَمْ يَكُنْ مَبِيعًا فَلَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الرُّجُوعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ الْمُدَّعِي وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِبِنَاءِ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّةِ الْحَائِطِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِحَائِطِ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ تَنَاوَلَهُ الْبَيْعُ فَكَانَ مَبِيعًا فَيَثْبُتُ الرُّجُوعُ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِحَائِطِ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ جُذُوعٌ لَا يَرْجِعُ وَهَذَا يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْكَرْخِيِّ أَنَّ صَاحِبَ الْجُذُوعِ أَوْلَى مِنْ صَاحِبِ الِاتِّصَالِ إذَا كَانَ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَلَوْ كَانَ اتِّصَالَ تَرْبِيعٍ وَاسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي الرُّجُوعَ عَلَى الْبَائِعِ لَا تُنْزَعُ الْجُذُوعُ بَلْ تُتْرَكُ عَلَى حَالِهَا لِمَا ذَكَرنَا وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ سُتْرَةٌ أَوْ بِنَاءٌ وَصَاحِبُهُ مُقِرٌّ بِأَنَّ السُّتْرَةَ وَالْبِنَاءَ لَهُ فَالْحَائِطُ لِصَاحِبِ السُّتْرَةِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ الْحَائِطَ بِالسُّتْرَةِ فَكَانَ فِي يَدِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سُتْرَةٌ وَلَكِنْ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ مَرَادَيْ هُوَ الْقَصَبُ الْمَوْضُوعُ عَلَى رَأْسِ الْجِدَارِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا وَلَا يَسْتَحِقُّ بِالْمُرَادِي وَالْبَوَادِي شَيْئًا؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْمُرَادِي عَلَى الْحَائِطِ لَيْسَ بِأَمْرٍ مَقْصُودٍ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى لَهُ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ وَلَوْ كَانَ وَجْهُ الْحَائِطِ إلَى أَحَدِهِمَا وَظَهْرُهُ إلَى الْآخَرِ وَكَانَ أَنْصَافُ اللَّبِنِ أَوْ الطَّاقَاتِ إلَى أَحَدِهِمَا فَلَا حُكْمَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْحَائِطُ بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُمَا الْحَائِطُ لِمَنْ إلَيْهِ وَجْهُ الْبِنَاءِ وَأَنْصَافُ اللَّبِنِ وَالطَّاقَاتِ وَهَذَا إذَا جُعِلَ الْوَجْهُ وَقْتَ الْبِنَاءِ حِينَ مَا بَنَى فَأَمَّا إذَا جُعِلَ بَعْدِ الْبِنَاءِ بِالنَّقْشِ وَالتَّطَيُّنِ فَلَا عِبْرَةَ بِذَلِكَ إجْمَاعًا وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا ادَّعَيَا بَابًا مُغْلَقًا عَلَى حَائِطٍ بَيْنَ دَارَيْنِ وَالْغَلْقُ إلَى أَحَدِهِمَا فَالْبَابُ لَهُمَا عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لِمَنْ إلَيْهِ الْغَلْقُ وَلَوْ كَانَ لِلْبَابِ غَلِقَانِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَهُوَ لَهُمَا إجْمَاعًا وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ خُصٌّ بَيْنَ دَارَيْنِ أَوْ بَيْنَ كَرْمَيْنِ وَالْقِمْطُ إلَى أَحَدِهِمَا فَالْخُصُّ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يُنْظَرُ إلَى الْقِمْطِ وَعِنْدَهُمَا الْخُصُّ لِمَنْ إلَيْهِ الْقِمْطُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَإِنَّ النَّاسَ فِي الْعَادَاتِ يَجْعَلُونَ وَجْهَ الْبِنَاءِ وَأَنْصَافَ اللَّبَنِ وَالطَّاقَاتِ وَالْغَلْقِ وَالْقِمْطِ إلَى صَاحِبِ الدَّارِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِنَاؤُهُ فَكَانَ فِي يَدِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا دَلِيلُ الْيَدِ فِي الْمَاضِي لَا وَقْتَ الدَّعْوَةِ وَالْيَدُ فِي الْمَاضِي لَا تَدُلُّ عَلَى الْيَدِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ وَالْحَاجَةُ فِي إثْبَاتِ الْيَدِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ قُضِيَ بِالْمِلْكِ لِأَحَدِهِمَا لِكَوْنِ الْمُدَّعَى فِي يَدِهِ تَجِبُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ لِصَاحِبِهِ إذَا طُلِبَ فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَإِنْ نَكِل يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَعَلَى هَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْمُرُورِ فِي دَارٍ وَلِأَحَدِهِمَا بَابٌ مِنْ دَارِهِ إلَى تِلْكَ الدَّارِ فَلِصَاحِبِ الدَّارِ مَنْعُ صَاحِبِ الْبَابِ عَنْ الْمُرُورِ فِيهَا حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ فِي دَارِهِ طَرِيقًا وَلَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْبَابِ بِالْبَابِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ فَتْحَ الْبَابِ إلَى دَارِ غَيْرِهِ قَدْ يَكُونُ بِحَقٍّ لَازِمٍ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَصْلًا وَقَدْ يَكُونُ بِحَقٍّ غَيْرِ لَازِمٍ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى حَقِّ الْمُرُورِ فِي الدَّارِ مَعَ الِاحْتِمَالِ وَكَذَا لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ كَانَ يَمُرُّ فِيهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ شَيْئًا لِاحْتِمَالِ أَنَّ مُرُورَهُ فِيهَا كَانَ غَصْبًا أَوْ إبَاحَةً وَلَئِنْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لِحَقِّ الْمُرُورِ لَكِنْ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَامَتْ عَلَيْهِ فَلَا يَثْبُتُ بِهَا الْحَقُّ لِلْحَالِ وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ لَهُ فِيهَا طَرِيقًا فَإِنْ حَدُّوا الطَّرِيقَ فَسَمَّوْا طُولَهُ وَعَرْضَهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَحُدُّوهُ كَذَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ حَمَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى مَا إذَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ صَاحِبِ الدَّارِ بِالطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ الْمَشْهُودِ بِهِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الشَّهَادَةِ أَمَّا جَهَالَةُ الْمَقَرِّ بِهِ فَلَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى جَوَابَ الْكِتَابِ عَلَى إطْلَاقِهِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ طُولُهُ مَعْلُومٌ وَعَرْضُهُ مِقْدَارُ عَرْضِ الْبَابِ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ فَكَانَتْ هَذِهِ شَهَادَةُ بِمَعْلُومٍ فَتُقْبَلُ وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَ طَرِيقًا فِي هَذِهِ الدَّارِ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرنَا وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ مِيزَابٌ فِي دَارِ رَجُلٍ فَاخْتَلَفَا فِي مَسِيلِ الْمَاءِ فَلِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ التَّسْيِيلِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ مَسِيلَ مَاءٍ وَلَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْمِيزَابِ بِنَفْسِ الْمِيزَابِ شَيْئًا لِمَا ذَكَرنَا وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمِيزَابَ إذَا كَانَ قَدِيمًا فَلَهُ حَقُّ التَّسْيِيلِ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ فِي نَهْرٍ فِي أَرْضِ رَجُلٍ يَسِيلُ فِيهِ الْمَاءُ فَاخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَسِيلُ

فصل في حكم تعارض الدعوتين في قدر الملك

فِيهِ الْمَاءُ كَانَ النَّهْرُ مَشْغُولًا بِالْمَاءِ فَكَانَ النَّهْرُ مُسْتَعْمَلًا بِهِ فَكَانَ فِي يَدِهِ بِخِلَافِ الْمِيزَابِ فَإِنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمِيزَابِ مَاءٌ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ النَّهْرِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا الْمَاءَ يَسِيلُ فِي الْمِيزَابِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ التَّسْيِيلَ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَكَذَا الشَّهَادَةُ مَا قَامَتْ بِحَقٍّ كَائِنٍ عَلَى مَا مَرَّ وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الدَّارِ مِنْ حَيْثُ التَّسْيِيلُ فَإِنْ بَيَّنُوا أَنَّهُ لِمَاءِ الْمَطَرِ فَهُوَ لِمَاءِ الْمَطَرِ وَإِنْ بَيَّنُوا أَنَّهُ مَسِيلُ مَاءٍ دَائِمٍ لِلْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنُوا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ أَيْضًا وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِ الدَّارِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لِلْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ أَوْ لِمَاءِ الْمَطَرِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَقِّ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ وَبَقِيَتْ الصِّفَةُ مَجْهُولَةً فَيَتَبَيَّنُ بِبَيَانِ صَاحِبِ الدَّارِ لَكِنْ مَعَ الْيَمِينِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ أَصْلًا يُسْتَحْلَفُ صَاحِبُ الدَّارِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَإِنْ نَكِل يُقْضَى بِالنُّكُولِ كَمَا فِي بَابِ الْأَمْوَالِ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ وَلَا بَيِّنَةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى مَا ذَكَرنَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ فِي قَدْرِ الْمِلْكِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ فِي قَدْرِ الْمِلْكِ فَهُوَ كَاخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ أَوْ الْمَبِيعِ فَنَقُولُ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ وَإِمَّا إنْ اخْتَلَفَا فِي الْمَبِيعِ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ وَإِمَّا إنْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِهِ وَإِمَّا إنْ اخْتَلَفَا فِي وَقْتِهِ وَهُوَ الْأَجَلُ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ بِأَنْ قَالَ الْبَائِعُ بِعْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت بِأَلْفٍ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ قَائِمَةً وَإِمَّا إنْ كَانَتْ هَالِكَةً فَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً فَإِمَّا إنْ كَانَتْ قَائِمَةً عَلَى حَالِهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ وَإِمَّا إنْ تَغَيَّرَتْ إلَى الزِّيَادَةِ أَوْ إلَى النُّقْصَانِ. فَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً عَلَى حَالِهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ وَمُدَّعًى عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَلَى الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ ثَمَنٍ وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ إلَيْهِ عِنْدَ أَدَاءِ الْأَلْفِ وَهُوَ يُنْكِرُ فَيَتَحَالَفَانِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» . وَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْلِفَ الْبَائِعُ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي عَلَى الْبَائِعِ شَيْئًا لِسَلَامَةِ الْمَبِيعِ لَهُ وَالْبَائِعُ يَدَّعِي عَلَى الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ ثَمَنٍ وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا التَّحَالُفَ وَهُوَ الْحَلِفُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِنَصٍّ خَاصٍّ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» وَيُبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ يُبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ وَيُقَالُ إنَّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَظِيفَةُ الْمُنْكِرِ وَالْمُشْتَرِي أَشَدُّ إنْكَارًا مِنْ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ وَالْبَائِعُ بَعْدَ الْقَبْضِ لَيْسَ بِمُنْكِرٍ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي لَا يَدَّعِي عَلَيْهِ شَيْئًا فَكَانَ أَشَدَّ إنْكَارًا مِنْهُ وَقَبْلَ الْقَبْضِ إنْ كَانَ مُنْكِرًا لَكِنَّ الْمُشْتَرِي أَسْبَقُ إنْكَارًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُطَالَبُ أَوَّلًا بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ حَتَّى يَصِيرَ عَيْنًا وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ أَسْبَقَ إنْكَارًا مِنْ الْبَائِعِ فَيُبْدَأُ بِيَمِينِهِ فَإِنْ نَكِل لَزِمَهُ دَعْوَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ أَوْ إقْرَارٌ وَإِنْ حَلَفَ يَحْلِفُ الْبَائِعُ ثُمَّ إذَا تَحَالَفَا هَلْ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ أَوْ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى فَسْخِ الْقَاضِي اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ يَنْفَسِخُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا تُحَالَفَا لَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ فَيَنْفَسِخُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِفَسْخِ الْقَاضِي عِنْدَ طَلَبِهِمَا أَوْ طَلَبِ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الصَّحِيحُ حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا إمْضَاءَ الْبَيْعِ بِمَا يَقُولُهُ صَاحِبُهُ فَلَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْفَائِدَةِ ثَابِتٌ لِاحْتِمَالِ التَّصْدِيقِ مِنْ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ وَالْعَقْدُ الْمُنْعَقِدُ قَدْ يَبْقَى لِفَائِدَةٍ مُحْتَمَلَةِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ بِيَقِينٍ فَلَا يَزُولُ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ الْفَائِدَةِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي الثَّابِتِ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزُولُ بِالِاحْتِمَالِ فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِفَسْخِ الْقَاضِي وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ لِانْعِدَامِ الْفَائِدَةِ لِلْحَالِ؛ وَلِأَنَّ الْمُنَازَعَةَ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِفَسْخِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَحَالَفَا صَارَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا فَيَتَنَازَعَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَلَا تَنْقَطِعُ إلَّا بِالْقَضَاءِ بِالْفَسْخِ هَذَا إذَا كَانَتْ السِّلْعَةُ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ تَغَيَّرَتْ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَغَيَّرَتْ إلَى الزِّيَادَةِ وَإِمَّا أَنْ تَغَيَّرَتْ إلَى النُّقْصَانِ فَإِنْ كَانَ التَّغْيِيرُ إلَى الزِّيَادَةِ فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ كَالسَّمْنِ وَالْجَمَالِ مَنَعَتْ التَّحَالُفَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

لَا تَمْنَعُ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْعَيْنَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ تُمْنَع الْفَسْخَ عِنْدَهُمَا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَتَمْنَعُ التَّحَالُفَ وَعِنْدَهُ لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ فَلَا تَمْنَعُ التَّحَالُفَ وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَة غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْأَصْلِ كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ وَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ فِي الْأَرْضِ فَكَذَلِكَ تَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا تَمْنَعُ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ لِمَنْ هُمَا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الزِّيَادَةِ بِمَنْزِلَةِ الْهَلَاكِ وَهَلَاكُ السِّلْعَةِ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الزِّيَادَةَ وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْأَصْلِ كَالْمَوْهُوبِ فِي الْمَكْسُوبِ لَا تَمْنَعُ التَّحَالُفَ إجْمَاعًا فَيَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْعَيْنَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَلَا تَمْنَعُ التَّحَالُفَ وَكَذَا هِيَ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى هَلَاكِ الْعَيْنِ فَلَا تَمْنَعُ التَّحَالُفَ وَإِذَا تَحَالَفَا يَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ دُونَ الزِّيَادَةِ وَكَانَتْ الزِّيَادَةُ لَهُ؛ لِأَنَّهَا حَدَّثَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَتَطِيبُ لَهُ لِعَدَمِ تَمَكُّنِ الْحِنْثِ فِيهَا هَذَا إذَا تَغَيَّرَتْ السِّلْعَةُ إلَى الزِّيَادَةِ فَأَمَّا إذَا تَغَيَّرَتْ إلَى النُّقْصَانِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَنَذْكُرُ حُكْمَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا إذَا كَانَتْ السِّلْعَةُ قَائِمَةً فَأَمَّا إذَا كَانَتْ هَالِكَةً فَلَا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَالْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ فَإِنْ حَلَفَ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ وَإِنْ نَكِل لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْقِيمَةِ عَلَى قَوْلِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ فِي مِقْدَارِ الْقِيمَةِ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ هَلَاكَ السِّلْعَةِ هَلْ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا يَمْنَعُ وَعِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» أَثْبَتَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - التَّحَالُفَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ قِيَامِ السِّلْعَةِ وَلَا يُقَالُ وَرَدَ هُنَا نَصٌّ خَاصٌّ مُقَيَّدٌ بِحَالِ قِيَامِ السِّلْعَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ لِمَا فِي الْحَمْلِ مِنْ ضَرْبِ النُّصُوصِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ بَلْ يَجْرِي الْمُطْلَقُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَالْمُقَيَّدُ عَلَى تَقْيِيدِهِ فَكَانَ جَرَيَانُ التَّحَالُفِ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ ثَابِتًا بِنَصَّيْنِ وَحَالُ هَلَاكِهَا ثَابِتًا بِنَصٍّ وَاحِدٍ وَهُوَ النَّصُّ الْمُطْلَقُ وَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا جَمِيعًا وَلَهُمَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَبَقِيَ التَّحَالُفُ وَهُوَ الْحَلِفُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بَعْدَ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْجَبَ جِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى جِنْسِ الْمُنْكِرِينَ فَلَوْ وَجَبَتْ يَمِينٌ لَا عَلَى مُنْكِرٍ لَمْ يَكُنْ جِنْسُ الْيَمِينِ عَلَى جِنْسِ الْمُنْكِرِينَ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَالْمُنْكِرُ بَعْدَ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ هُوَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةَ ثَمَنٍ وَهُوَ يُنْكِرُ فَأَمَّا الْإِنْكَارُ مِنْ قِبَلِ الْبَائِعِ؛ فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي عَلَيْهِ شَيْئًا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ التَّحَالُفُ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِنَصٍّ خَاصٍّ مُقَيَّدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» وَهَذَا الْقَيْدُ ثَابِتٌ فِي النَّصِّ الْآخَرِ أَيْضًا دَلَالَةً؛ لِأَنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَتَرَادَّا وَالتَّرَادُّ لَا يَكُونُ إلَّا حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ فَبَقِيَ التَّحَالُفُ حَالَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ مُثْبَتًا بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ وَيَسْتَوِي هَلَاكُ كُلِّ السِّلْعَةِ وَبَعْضِهَا فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّحَالُفِ أَصْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هَلَاكُ السِّلْعَةِ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ فِي قَدْر الْهَالِكِ لَا غَيْرَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَمْنَعُ أَصْلًا حَتَّى لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَقَبَضَهُمَا ثُمَّ هَلَكَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَتَحَالَفَانِ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْقَائِمَ وَلَا يَأْخُذُ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ شَيْئًا فَحِينَئِذٍ يَتَحَالَفَانِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَتَحَالَفَانِ عَلَى الْهَالِكِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي حِصَّةِ الْهَالِكِ وَيَتَحَالَفَانِ عَلَى الْقَائِمِ وَيُتَرَادَّانِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ عَلَيْهِمَا وَيَرُدُّ قِيمَةَ الْهَالِكِ أَمَّا مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ كُلِّ السِّلْعَةِ عِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى وَكَذَلِكَ لِأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ التَّحَالُفِ هُوَ الْهَلَاكُ فَيَتَقَدَّرُ الْمَنْعُ بِقَدْرِهِ تَقْدِيرًا لِلْحُكْمِ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحَدِيثَ يَنْفِي التَّحَالُفَ بَعْدَ قَبْضِ السِّلْعَةِ لِمَا ذَكَرنَا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِنَصٍّ خَاصٍّ وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي حَالِ قِيَامِ كُلِّ السِّلْعَةِ فَبَقِيَ التَّحَالُفُ حَالَ هَلَاكِ بَعْضِهَا مَنْفِيًّا بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ؛ وَلِأَنَّ قَدْرَ الثَّمَنِ الَّذِي يُقَابِلُ الْقَائِمَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا يَجُوزُ التَّحَالُفُ عَلَيْهِ إلَّا إذَا شَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَدَّ وَلَا يَأْخُذَ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ شَيْئًا فَحِينَئِذٍ يَتَحَالَفَانِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ كُلُّهُ بِمُقَابِلَةِ الْقَائِمِ فَيَخْرُجُ الْهَالِكُ

عَنْ الْعَقْدِ كَأَنَّهُ مَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْقِيَامِ فَيَتَحَالَفَانِ عَلَيْهِ وَسَوَاءٌ كَانَ هَلَاكُ الْمَبِيعِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِأَنْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّ الْهَالِكَ حُكْمًا يُلْحَقُ بِالْهَالِكِ حَقِيقَةً وَقَدْ مَرَّ الِاخْتِلَافُ فِيهِ وَسَوَاءٌ خَرَجَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَخُرُوجُ الْبَعْضِ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّحَالُفِ بِمَنْزِلَةِ خُرُوجِ الْكُلِّ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ التَّحَالُفَ هُنَا يُؤَدِّي إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْقَائِمَ وَحِصَّةَ الْخَارِجِ مِنْ الثَّمَنِ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي فَحِينَئِذٍ يَتَحَالَفَانِ عَلَى الْقَائِمِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي مَا بَقِيَ فِي مِلْكِهِ وَعَلَيْهِ حِصَّةُ الْخَارِجِ بِقَوْلِهِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَتَحَالَفَانِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَيَتَحَالَفَانِ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقِيَّ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُ فَالْحُكْمِيُّ أَوْلَى ثُمَّ هَلَاكُ الْكُلِّ بِأَنْ خَرَجَ كُلُّهُ عَنْ مِلْكِهِ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى وَإِذَا تَحَالَفَا عِنْدَهُ فَإِنْ هَلَكَ كُلُّ الْمَبِيعِ بِأَنْ خَرَجَ كُلُّهُ عَنْ مِلْكِهِ يَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا وَالْمِثْلُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهُ بِأَنْ خَرَجَ الْبَعْضُ عَنْ مِلْكِهِ دُونَ الْبَعْضِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ وَفِي تَشْقِيصِهِ عَيْبٌ فَالْبَائِعُ بَعْدَ التَّحَالُفِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ وَقِيمَةَ الْهَالِكِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الْبَاقِيَ وَأَخَذَ قِيمَةَ الْكُلِّ وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ وَلَا عَيْبَ فِي تَشْقِيصِهِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِيَ وَمِثْلَ الْفَائِتِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَقِيمَتَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا وَلَوْ خَرَجَتْ السِّلْعَةُ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ نُظِرَ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَوْدُ فَسْخًا بِأَنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْعَيْنَ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ رَفْعٌ مِنْ الْأَصْلِ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَوْدُ فَسْخًا بِأَنْ كَانَ مِلْكًا جَدِيدًا لَا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ إذَا لَمْ يَكُنْ فَسْخًا لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْهَلَاكَ لَمْ يَكُنْ وَالْهَلَاكُ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ لَا الْعَيْنَ وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَخْرُجْ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِهِ لَكِنَّهُ صَارَ بِحَالٍ يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ إمَّا بِالزِّيَادَةِ وَإِمَّا بِالنُّقْصَانِ أَمَّا حُكْمُ الزِّيَادَةِ فَقَدْ مَرَّ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِيهِ وَأَمَّا حُكْمُ النُّقْصَانِ فَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ مِنْ بَابِ الْهَلَاكِ فَنَقُولُ إذَا انْتَقَضَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أَوْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أَوْ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ أَوْ بِفِعْلِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْمَبِيع هَلَاكُ جُزْءٍ مِنْهُ وَهَلَاكُ الْجُزْءِ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّحَالُفِ كَهَلَاكِ الْكُلِّ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَا يَتَحَالَفَانِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي إلَّا إذَا كَانَ النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أَوْ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي وَرَضِيَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ نَاقِصًا وَلَا يَأْخُذُ لِأَجَلِ النُّقْصَانِ شَيْئًا فَحِينَئِذٍ يَتَحَالَفَانِ وَيُتَرَادَّانِ وَعِنْدَ مُحَمَّدِ يَتَحَالَفَانِ ثُمَّ الْبَائِعُ بَعْدَ التَّحَالُفِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَبِيعَ نَاقِصًا وَلَا يَأْخُذُ لِأَجَلِ النُّقْصَانِ شَيْئًا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَأَخَذَ الْقِيمَةَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنْ اخْتَارَ أَخْذَ الْعَيْنِ يَأْخُذُ مَعَهَا النُّقْصَانَ كَالْمَقْبُوضِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ أَوْ بِفِعْلِ الْبَائِعِ يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَحَالَفَانِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ هَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ. فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِهِ بِأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا الثَّمَنُ عَيْنٌ وَقَالَ الْآخَرُ هُوَ دِينٌ فَإِنْ كَانَ مُدَّعِي الْعَيْنِ هُوَ الْبَائِعَ بِأَنْ قَالَ لِلْمُشْتَرِي بِعْت مِنْك جَارِيَتِي بِعَبْدِك هَذَا وَقَالَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ اشْتَرَيْتهَا مِنْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ قَائِمَةً تَحَالَفَا وَتَرَادَّا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» مِنْ غَيْرِ فِصَلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ أَوْ فِي جِنْسِهِ وَإِنْ كَانَتْ هَالِكَةً عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ مَعَ يَمِينِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ هَلَاكِ السِّلْعَةِ وَقَدْ مَرَّتْ. وَإِنْ كَانَ مُدَّعِي الْعَيْنِ هُوَ الْمُشْتَرِي بِأَنْ قَالَ اشْتَرَيْت جَارِيَتَك بِعَبْدِي هَذَا وَقَالَ الْبَائِعُ بِعْتهَا مِنْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ قَائِمَةً يَتَحَالَفَانِ بِالنَّصِّ وَإِنْ كَانَتْ هَالِكَةً يَتَحَالَفَانِ أَيْضًا إجْمَاعًا وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ إمَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ السِّلْعَةِ عِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ وَإِمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا؛ فَلِأَنَّ وُجُوبَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُشْتَرِي ظَاهِرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ ثَمَنَ الْجَارِيَةِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَهُوَ يُنْكِرُ وَأَمَّا وُجُوبُ الْيَمِينِ عَلَى الْبَائِعِ؛ فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي عَلَيْهِ إلْزَامَ الْعَيْنِ وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا مِنْ وَجْهٍ مُنْكِرًا مِنْ وَجْهٍ فَيَتَحَالَفَانِ وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ يَدَّعِي عَيْنًا وَالْبَعْضَ دَيْنًا وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي

الْكُلَّ دَيْنًا بِأَنْ قَالَ الْبَائِعُ بِعْت مِنْك جَارِيَتِي بِعَبْدِك هَذَا وَبِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت جَارِيَتَك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ وَهُوَ الْجَارِيَةُ قَائِمًا تَحَالَفَا بِالنَّصِّ وَإِنْ كَانَ هَالِكًا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ. وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ كَأَنْ يَدَّعِيَ الْبَعْضَ عَيْنًا وَالْبَعْضَ دَيْنًا وَالْبَائِعُ يَدَّعِي الْكُلَّ دَيْنًا بِأَنْ قَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت مِنْك جَارِيَتَك بِعَبْدِي هَذَا وَبِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ خَمْسُمِائَةٍ وَقَالَ الْبَائِعُ بِعْتُك جَارِيَتِي هَذِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ قَائِمَةً تَحَالَفَا وَتَرَادَّا بِالنَّصِّ وَإِنْ كَانَتْ هَالِكَةً يَتَحَالَفَانِ أَيْضًا إجْمَاعًا إلَّا أَنَّ عِنْدَهُمَا تُقَسَّمُ الْجَارِيَةُ عَلَى قِيمَة الْعَبْدِ وَعَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَمَا كَانَ بِإِزَاءِ الْعَيْنِ وَهُوَ الْعَبْدُ وَذَلِكَ ثُلُثُ الْجَارِيَةِ يَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ وَمَا كَانَ بِإِزَاءِ الدَّيْنِ وَهُوَ الْأَلْفُ وَذَلِكَ ثُلُثَا الْجَارِيَةِ يَرُدُّ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَا يَرُدُّ الْقِيمَةَ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ كَانَ يَدَّعِي كُلَّ الثَّمَنِ عَيْنًا كَانَا يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ عَلَى مَا ذَكَرنَا وَلَوْ كَانَ كُلُّ الثَّمَنِ دَيْنًا لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَا يَتَحَالَفَانِ عَلَى مَا مَرَّ فَإِذَا كَانَ يَدَّعِي بَعْضَ الثَّمَنِ عَيْنًا وَبَعْضَهُ دَيْنًا يَرُدُّ الْقِيمَةَ بِإِزَاءِ الْعَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِإِزَاءِ الدَّيْنِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ هَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ. فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي وَقْتِهِ وَهُوَ الْأَجَلُ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى قَدْرِهِ وَجِنْسِهِ فَنَقُولُ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إنْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْأَجَلِ وَإِمَّا إنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ وَإِمَّا أَنْ اخْتَلَفَا فِي مُضِيِّهِ وَإِمَّا أَنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ وَمُضِيِّهِ جَمِيعًا فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِهِ لَا يَتَحَالَفَانِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ أَمْرٌ يُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِوُجُودِهِ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الثَّمَنِ هُوَ الْحُلُولُ وَالتَّأْجِيلُ عَارِضٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِي الْأَصْلَ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مُضِيِّهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَصْلِهِ وَقَدْرِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَمْ يَمْضِ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ صَارَ حَقًّا لَهُ بِتَصَادُقِهِمَا فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْقَدْرِ وَالْمُضِيِّ جَمِيعًا فَقَالَ الْبَائِعُ الْأَجَلُ شَهْرٌ وَقَدْ مَضَى وَقَالَ الْمُشْتَرِي شَهْرَانِ وَلَمْ يَمْضِيَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ فِي الْقَدْرِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي الْمُضِيِّ فَيُجْعَلُ الْأَجَلُ شَهْرًا لَمْ يَمْضِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِلْبَائِعِ فِي الْقَدْرِ وَلِلْمُشْتَرِي فِي الْمُضِيِّ عَلَى مَا مَرَّ هَذَا إذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا فَأَمَّا إذَا هَلَكَ الْعَاقِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا وَالْمَبِيعُ قَائِمٌ فَاخْتَلَفَ وَرَثَتُهُمَا أَوْ الْحَيُّ مِنْهُمَا وَوَرَثَةُ الْمَيِّتِ فَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ غَيْرَ مَقْبُوضَةٍ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا؛ لِأَنَّ لِلْقَبْضِ شَبَهًا بِالْعَقْدِ فَكَانَ قَبْضُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ الْوَارِثِ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ مِنْهُ فَيَجْرِي بَيْنَهُمَا التَّحَالُفُ إلَّا أَنَّ الْوَارِثَ يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ لَا عَلَى الْبَتَاتِ؛ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِهِ. وَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ مَقْبُوضَةً فَلَا تَحَالُفَ عِنْدَهُمَا وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي أَوْ وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ وَالْأَصْلُ أَنَّ هَلَاكَ الْعَاقِدِ بَعْدَ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهَلَاكُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا فَكَذَا هَلَاكُ الْعَاقِدِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّحَالُفِ كَذَا هَذَا وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمَشْهُورَ يَمْنَعُ مِنْ التَّحَالُفِ لَكُنَّا عَرَفْنَاهُ بِنَصٍّ خَاصٍّ حَالَ قِيَامِ الْعَاقِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَحَالُفَ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَالْمُتَبَايِعُ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ فِعْلُ الْبَيْعِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْوَارِثِ حَقِيقَةً فَبَقِيَ التَّحَالُفُ بَعْدَ هَلَاكِهِمَا أَوْ هَلَاكِ أَحَدِهِمَا مَنْفِيًّا بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ هَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ. أَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْمَبِيعِ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو الْمَبِيعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا وَهُوَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ عَيْنًا فَاخْتَلَفَا فِي جِنْسِهِ أَوْ فِي قَدْرِهِ بِأَنْ قَالَ الْبَائِعُ بِعْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت مِنْك هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ قَالَ الْبَائِعُ بِعْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ مَعَ هَذِهِ الْجَارِيَةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» . وَإِنْ كَانَ دَيْنًا وَهُوَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ فَاخْتَلَفَا فَنَقُولُ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ (إمَّا) إنْ اخْتَلَفَا فِي الْمُسَلَّمِ فِيهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى رَأْسِ الْمَالِ (وَإِمَّا) إنْ اخْتَلَفَا فِي رَأْسِ الْمَالِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْمُسَلَّمِ فِيهِ (وَإِمَّا) إنْ اخْتَلَفَا فِيهِمَا جَمِيعًا فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْمُسَلَّمِ فِيهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى رَأْس الْمَالِ (فَإِمَّا) إنْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ (وَإِمَّا) إنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ (وَإِمَّا) إنْ اخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ (وَإِمَّا) إنْ اخْتَلَفَا فِي مَكَانِ إيفَائِهِ (وَإِمَّا) إنْ اخْتَلَفَا فِي وَقْتِهِ وَهُوَ الْأَجَلُ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِهِ أَوْ قَدْرِهِ أَوْ صِفَتِهِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا؛ لِأَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ التَّحَالُفَ بِالنَّصِّ. وَاَلَّذِي يَبْدَأُ بِالْيَمِينِ هُوَ الْمُسْلِمُ إلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ هُوَ رَبُّ السَّلَمِ (وَجْهُ)

فصل في بيان حكم الملك والحق الثابت في المحل

قَوْلِهِمَا أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْيَمِينِ مِنْ الْمُشْتَرِي كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَرَبِّ السَّلَمِ هُوَ الْمُشْتَرِي فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ وَالْمُنْكِرُ هُوَ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ وَلَا إنْكَارَ مَعَ رَبِّ السَّلَمِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْلِفَ أَصْلًا إلَّا أَنَّ التَّحْلِيفَ فِي جَانِبِهِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ أَيُّهُمَا بَدَأَ بِالدَّعْوَى يَسْتَحْلِفُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ التَّعْيِينُ إلَى الْقَاضِي يَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَإِنْ شَاءَ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا فَيَبْدَأُ بِاَلَّذِي خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي مَكَانِ إيفَاءِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ فَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ شَرَطْت عَلَيْك الْإِيفَاءَ فِي مَكَانِ كَذَا وَقَالَ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ بَلْ شَرَطْت لَك الْإِيفَاءَ فِي مَكَانِ كَذَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ وَلَا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَتَحَالَفَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ لَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْإِيفَاءِ عِنْدَهُ حَتَّى كَانَ تَرْكُ بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ مُفْسِدًا لِلسَّلَمِ عِنْدَهُ فَلَمْ يَدْخُلْ مَكَانُ الْإِيفَاءِ فِي الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ بَلْ بِالشَّرْطِ وَالِاخْتِلَافُ فِيمَا لَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِالشَّرْطِ لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ كَالْأَجَلِ وَعِنْدَهُمَا مَكَانُ الْعَقْدِ يَتَعَيَّنُ مَكَانًا لِلْإِيفَاءِ حَتَّى لَا يَفْسُدَ السَّلَمُ بِتَرْكِ بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ عِنْدَهُمَا فَكَانَ الْمَكَانُ دَاخِلًا فِي الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَيُوجِبُ التَّحَالُفَ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي وَقْتِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ وَهُوَ الْأَجَلُ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْأَجَلِ. (وَإِمَّا) أَنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ (وَإِمَّا) أَنْ اخْتَلَفَا فِي مُضِيِّهِ (وَإِمَّا) أَنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ وَمُضِيِّهِ جَمِيعًا فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْأَجَلِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا وَاحْتَجَّ بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» ؛ وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي أَصْلِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ كَالِاخْتِلَافِ فِي صِفَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا صِحَّةَ لِلسَّلَمِ بِدُونِ الْأَجَلِ كَمَا لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الْوَصْفِ فَصَارَ الْأَجَلُ وَصْفًا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَرْعًا فَيُوجِبُ التَّحَالُفَ. (وَلَنَا) أَنَّ الْأَجَلَ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ وَالِاخْتِلَافُ فِيمَا لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ فِي الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ فِي الدَّيْنِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ كَالْأَجَلِ وَالِاخْتِلَافُ فِي الْأَجَلِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ فَكَذَا فِي الصِّفَةِ وَإِذَا لَمْ يَتَحَالَفَا فَإِنْ كَانَ مُدَّعِي الْأَجَلِ هُوَ رَبُّ السَّلَمِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَيَجُوزُ السَّلَمُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْدِ وَالْمُسَلَّمُ إلَيْهِ يَدَّعِي الْفَسَادَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الصِّحَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْمُسَلَّمَ إلَيْهِ مُتَعَنِّتٌ فِي إنْكَارِ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُ وَالْمُتَعَنِّتُ لَا قَوْلَ لَهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُسَلَّمَ إلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَجُوزُ السَّلَمُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ رَبِّ السَّلَمِ وَيَفْسُدُ السَّلَمُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْأَجَلَ أَمْرٌ يُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ السَّلَمِ حَقًّا عَلَيْهِ شَرْعًا وَإِنَّهُ مُنْكِرٌ ثُبُوتَهُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ فِي الشَّرْعِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُسَلَّمَ إلَيْهِ بِدَعْوَى الْأَجَلِ يَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْدِ وَرَبُّ السَّلَمِ بِالْإِنْكَارِ يَدَّعِي فَسَادَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِي الصِّحَّةَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسَلِّمِ اجْتِنَابُ الْمَعْصِيَةِ وَمُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ مَعْصِيَةٌ وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي أَصْلِ الْأَجَلِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي مِقْدَارِ الْأَجَلِ أَيْضًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ إلَى شَهْرٍ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى الْآجَالِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى شَهْرٍ فَلَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَنَا خِلَافًا لَزُفَرَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبّ السَّلَمِ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ الْأَجَلَ أَمْرٌ يُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِهِ فَيَرْجِعُ فِي بَيَانِ الْقَدْرِ إلَيْهِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مُضِيِّهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ وَصُورَتُهُ إذَا قَالَ رَبُّ السَّلَمِ كَانَ الْأَجَلُ شَهْرًا وَقَدْ مَضَى وَقَالَ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ كَانَ شَهْرًا وَلَمْ يَمْضِ وَإِنْ أَخَذْت السَّلَمَ السَّاعَةَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَصَادَقَا عَلَى أَصْلِ الْأَجَلِ وَقَدْرِهِ فَقَدْ صَارَ الْأَجَلُ حَقًّا لِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِي الْمُضِيِّ قَوْلَهُ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ وَمُضِيِّهِ جَمِيعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ السَّلَمِ فِي الْقَدْرِ وَقَوْلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِرَبِّ السَّلَمِ فِي الْقَدْرِ وَلِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ فِي الْمُضِيِّ هَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْمُسَلَّمِ فِيهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى رَأْسُ الْمَالِ فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي رَأْسِ الْمَالِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْمُسَلَّمِ فِيهِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا أَيْضًا سَوَاءٌ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ قَدْرِهِ أَوْ صِفَتِهِ لِمَا قُلْنَا فِي الِاخْتِلَافِ فِي الْمُسَلَّمِ فِيهِ إلَّا أَنَّ الَّذِي يَبْدَأُ بِالْيَمِينِ هَهُنَا هُوَ رَبُّ السَّلَمِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ الْمُشْتَرِي وَهُوَ الْمُنْكِرُ أَيْضًا وَإِنْ اخْتَلَفَا فِيهِمَا جَمِيعًا فَكَذَلِكَ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ وَالِاخْتِلَافُ فِي أَحَدِهِمَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ فَفِيهِمَا أَوْلَى وَالْقَاضِي يَبْدَأُ بِالْيَمِينِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ الثَّابِتِ فِي الْمَحِلِّ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ الثَّابِتِ فِي الْمَحِلِّ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ حُكْمُ الْمِلْكِ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ لِلْمَالِكِ فِي

الْمَمْلُوكِ بِاخْتِيَارِهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ وِلَايَةُ الْجَبْرِ عَلَيْهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَا لِأَحَدٍ وِلَايَةُ الْمَنْعِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهِ إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ فَيُمْنَعُ عَنْ التَّصَرُّفِ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ وَغَيْرُ الْمَالِكِ لَا يَكُونُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ وَرِضَاهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْحَقِّ الثَّابِتِ فِي الْمَحِلِّ عَرَفَ هَذَا فَنَقُولُ لِلْمَالِكِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ أَيَّ تَصَرُّفٍ شَاءَ سَوَاءٌ كَانَ تَصَرُّفًا يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إلَى غَيْرِهِ أَوْ لَا يَتَعَدَّى فَلَهُ أَنْ يَبْنِيَ فِي مِلْكِهِ مِرْحَاضًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ رَحًى أَوْ تَنُّورًا وَلَهُ أَنْ يُقْعِدَ فِي بِنَائِهِ حَدَّادًا أَوْ قَصَّارًا وَلَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِي مِلْكِهِ بِئْرًا أَوْ بَالُوعَةً أَوْ دِيمَاسًا وَإِنْ كَانَ يُهِنَّ مِنْ ذَلِكَ الْبِنَاءِ وَيَتَأَذَّى بِهِ جَارُهُ. وَلَيْسَ لِجَارِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ حَتَّى لَوْ طَلَب جَارُهُ تَحْوِيلَ ذَلِكَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْأَصْلِ وَالْمَنْعُ مِنْهُ لِعَارِضِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ التَّعَلُّقُ لَا يَمْنَعُ إلَّا أَنَّ الِامْتِنَاعَ عَمَّا يُؤْذِي الْجَارَ دَيَّانَةً وَاجِبٌ لِلْحَدِيثِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» وَلَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى وَهَنَ الْبِنَاءُ وَسَقَطَ حَائِطُ الْجَارِ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ مِنْهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَعَلَى هَذَا سُفْلٌ لِرَجُلٍ وَعَلَيْهِ عُلُوٌّ لِغَيْرِهِ انْهَدَمَا لَمْ يُجْبَرْ صَاحِبُ السُّفْلِ عَلَى بِنَاءِ السُّفْلِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَالْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ عَلَى عِمَارَةِ مِلْكِ نَفْسِهِ وَلَكِنْ يُقَالُ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ إنْ شِئْت فَابْن السُّفْلَ مِنْ مَالِ نَفْسِك وَضَعَ عَلَيْهِ عُلُوَّك ثُمَّ امْنَعْ صَاحِبَ السُّفْلِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالسُّفْلِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْك قِيمَةَ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ. وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَكِنَّ فِيهِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ نَفْسِهِ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَصَارَ مُطْلَقًا لَهُ شَرْعًا وَلَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ مِلْكُهُ لِحُصُولِهِ بِإِذْنِ الشَّرْعِ وَإِطْلَاقِهِ فَلَهُ أَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ إلَّا بِبَدَلٍ يَعْدِلُهُ وَهُوَ الْقِيمَةُ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَهُ وَكَذَا ذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِالْعُلُوِّ إلَّا بِبِنَاءِ السُّفْلِ وَلَا ضَرَرَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ فِي بِنَائِهِ بَلْ فِيهِ نَفْعٌ صَارَ مَأْذُونًا بِالْإِنْفَاقِ مِنْ قِبَلِهِ دَلَالَةً فَكَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِمَا أَنْفَقَ وَهَذَا بِخِلَافِ الْبِئْرِ الْمُشْتَرَكِ وَالدُّولَابِ الْمُشْتَرَكِ وَالْحَمَّامِ الْمُشْتَرَكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا خَرِبَتْ فَامْتَنَعَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْعِمَارَةِ أَنَّهُ يُجْبَرُ الْآخَرُ عَلَى الْعِمَارَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِوَاسِطَةِ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَالتَّرْكَ لِذَلِكَ تَعْطِيلُ الْمِلْكِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِمَا فَكَانَ الَّذِي أَبَى الْعِمَارَةَ مُتَعَنِّتًا مَحْضًا فِي الِامْتِنَاعِ فَيَدْفَعُ تَعَنُّتَهُ بِالْجَبْرِ عَلَى الْعِمَارَةِ هَذَا إذَا انْهَدَمَا بِأَنْفُسِهِمَا فَأَمَّا إذَا هَدَمَ صَاحِبُ السُّفْلِ سُفْلَهُ حَتَّى انْهَدَمَ الْعُلُوُّ يُجْبَرُ عَلَى إعَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ حَقَّ صَاحِبِ الْعُلُوِّ بِإِتْلَافِ مَحِلِّهِ وَيُمْكِنُ جَبْرُهُ بِالْإِعَادَةِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَتُهُ. وَعَلَى هَذَا حَائِطٌ بَيْنَ دَارَيْنِ انْهَدَمَ وَلَهُمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ لَمْ يُجْبَرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى بِنَائِهِ لِمَا قُلْنَا وَلَكِنْ إذَا أَبَى أَحَدُهُمَا الْبِنَاءَ يُقَالُ لِلْآخَرِ إنْ شِئْت فَابْنِ مِنْ مَالِ نَفْسِك وَضَعْ خَشَبَك عَلَيْهِ وَامْنَعْ صَاحِبَك مِنْ الْوَضْعِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْك نِصْفَ قِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا أَوْ نِصْفَ مَا أَنْفَقْته عَلَى حَسْبِ مَا ذَكَرنَا فِي السُّفْلِ وَالْعُلُوِّ وَقِيلَ إنَّمَا يَرْجِعُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْضِعُ الْحَائِطِ عَرِيضًا وَلَا يُمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبْنِيَ حَائِطًا عَلَى حِدَةٍ فِي نُصِبْهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ (فَأَمَّا) إذَا كَانَ عَرِيضًا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ وَأَنْ يَبْنِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ حَائِطًا يَصْلُحُ لِوَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَيْهِ فَبَنَاهُ كَمَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى صَاحِبِهِ بَلْ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا؛ لِأَنَّهُ يَبْنِي مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ عُرْضَةِ الْحَائِطِ لَمْ تُقْسَمْ إلَّا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا بِالْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ حَقَّ وَضْعِ الْخَشَبِ وَفِي الْقِسْمَةِ جَبْرًا إبْطَالُ حَقِّ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَرِيضًا فَإِنْ كَانَ يُقْسَمُ قِسْمَةَ جَبْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ وَلَوْ كَانَتْ الْجُذُوعُ عَلَيْهِ لِأَحَدِهِمَا فَطَلَب أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ وَأَبَى الْآخَرُ فَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ صَاحِبَ الْجُذُوعِ يُجْبَرُ الْآخَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي الِانْتِفَاعِ مُتَعَنِّتٌ وَإِنَّمَا الْحَقُّ لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ وَقَدْ رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ مَنْ لَا جِذْعَ لَهُ لَا يُجْبَرُ صَاحِبُ الْجُذُوعِ عَلَى الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّهِ فِي وَضْعِ الْجُذُوعِ فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ. وَلَوْ هَدَمَ الْحَائِطَ أَحَدُهُمَا يُجْبَرُ عَلَى إعَادَتِهِ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّهُ أَتْلَفَ مَحَلَّ حَقِّ أَحَدِهِمَا فَيَجِبُ جَبْرُهُ عَلَى الْإِعَادَةِ وَعَلَى هَذَا سُفْلٌ لِرَجُلٍ وَعَلَيْهِ عُلُوٌّ لِغَيْرِهِ فَأَرَادَ صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا أَوْ يُثْبِتَ كَوَّةً أَوْ يَحْفِرَ طَاقًا أَوْ يَقُدَّ وَتِدًا عَلَى الْحَائِطِ أَوْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْعُلُوِّ سَوَاءٌ أَضَرَّ ذَلِكَ بِالْعُلُوِّ

بِأَنْ أَوْجَبَ وَهَنَ الْحَائِطِ أَوْ لَمْ يَضُرَّ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَضُرَّ بِالْعُلُوِّ وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَحْفِرَ فِي سُفْلِهِ بِئْرًا أَوْ بَالُوعَةً أَوْ سِرْدَابًا فَلَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْعُلُوِّ إجْمَاعًا وَكَذَا إيقَادُ النَّارِ لِلطَّبْخِ أَوْ لِلْخُبْزِ وَصَبُّ الْمَاءِ لِلْغُسْلِ أَوْ لِلْوُضُوءِ بِالِاتِّفَاقِ وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافُ لَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ أَنْ يُحْدِثَ عَلَى عُلُوِّهِ بِنَاءً أَوْ يَضَعَ جُذُوعًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ يَشْرَعَ فِيهِ بَابًا أَوْ كَنِيفًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ أَضَرَّ بِالسُّفْلِ أَوْ لَا وَعِنْدَهُمَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مَا لَمْ يَضُرَّ بِالسُّفْلِ وَلَهُ إيقَادُ النَّارِ وَصَبُّ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ إجْمَاعًا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ وَقَوْلُهُمَا تَفْسِيرُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّقَ الْخِلَافَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ صَاحِبَ السُّفْلِ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا يُمْنَعُ إلَّا لِحَقِّ الْغَيْرِ وَحَقُّ الْغَيْرِ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ لَعَيْنِهِ بَلْ لِمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْنَعُ مِنْ الِاسْتِظْلَالِ بِجِدَارِ غَيْرِهِ وَمِنْ الِاصْطِلَاءِ بِنَارِ غَيْرِهِ لِانْعِدَامِ تَضَرُّرِ الْمَالِكِ وَالْخِلَافُ هُنَا فِي تَصَرُّفٌ لَا يَضُرُّ بِصَاحِبِ الْعُلُوِّ فَلَا يُمْنَعُ عَنْهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَحَقِّهِ لَا يَقِفُ عَلَى الضَّرَرِ بَلْ هُوَ حَرَامٌ سَوَاءٌ تَضَرَّرَ بِهِ أَمْ لَا أَلَا تَرَى أَنَّ نَقْلَ الْمِرْآةِ والمبحار مِنْ دَارِ الْمَالِكِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَالِكُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُبَاحُ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَحَقِّهِ بِرِضَاهُ وَلَوْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ لَمَا أُبِيحَ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يَنْعَدِمُ بِرِضَا الْمَالِكِ وَصَاحِبُ الْحَقِّ دَلَّ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَحَقِّهِ حَرَامٌ أَضَرَّ بِالْمَالِكِ أَوْ لَا وَهُنَا حَقٌّ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ مُتَعَلِّقٌ بِالسُّفْلِ فَيَحْرُمُ التَّصَرُّفُ فِيهِ إلَّا بِإِذْنِهِ وَرِضَاهُ بِخِلَافِ مَا ضَرَبْنَا مِنْ الْمِثَالِ وَهُوَ الِاسْتِظْلَالُ بِجِدَارِ غَيْرِهِ وَالِاصْطِلَاءُ بِنَارِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ تَصَرُّفًا فِي مِلْكٍ الْغَيْرِ وَحَقِّهِ إذْ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ مُتَّصِلٌ بِمِلْكِ الْغَيْرِ وَحَقِّهِ وَهُنَا بِخِلَافِهِ وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ مَسِيلُ مَاءٍ فِي قَنَاةٍ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْقَنَاةِ أَنْ يَجْعَلَهُ مِيزَابًا أَوْ كَانَ مِيزَابًا فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ قَنَاةً لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ مِيزَابًا أَطْوَلَ مِنْ مِيزَابِهِ أَوْ أَعْرَضَ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَسِيلَ مَاءُ سَطْحٍ آخَرَ فِي ذَلِكَ الْمِيزَابِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَهْلُ الدَّارِ أَنْ يَبْنُوا حَائِطًا لِيَسُدُّوا مَسِيلَهُ أَوْ أَرَادُوا أَنْ يَنْقُلُوا الْمِيزَابَ عَنْ مَوْضِعِهِ أَوْ يَرْفَعُوهُ أَوْ يُسْفِلُوهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِالْإِبْطَالِ وَالتَّغْيِيرِ فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَوْ بَنَى أَصْلَ الدَّارِ لِتَسْيِيلِ مِيزَابِهِ عَلَى ظُهْرِهِ فَلَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ صَاحِبِ الْمِيزَابِ حَاصِلٌ فِي الْحَالَيْنِ. دَارٌ لِرَجُلٍ فِيهَا طَرِيقٌ فَأَرَادَ أَهْلُ الدَّارِ أَنْ يَبْنُوا فِي سَاحَةِ الدَّارِ مَا يَقْطَعُ طَرِيقَهُ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْمُرُورِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكُوا فِي سَاحَةِ الدَّارِ عَرْضَ بَابِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ عَرْضَ الطَّرِيقِ مُقَدَّرٌ بِعَرْضِ بَابِ الدَّارِ وَلَوْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَشْرَعَ إلَى الطَّرِيقِ جَنَاحًا أَوْ مِيزَابًا فَنَقُولُ هَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إنْ كَانَتْ السِّكَّةُ نَافِذَةً وَإِمَّا إنْ كَانَتْ غَيْرَ نَافِذَةٍ فَإِنْ كَانَتْ نَافِذَةً فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَضُرُّ بِالْمَارِّينَ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي دِينِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا ضَرَرَ وَلَا إضْرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يُقْلِعَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَضُرُّ بِالْمَارِّينَ حَلَّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْ إلَيْهِ أَحَدٌ بِالرَّفْعِ وَالنَّقْضِ فَإِذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْ عُرْضِ النَّاسِ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ قَبْلَ التَّقَدُّمِ وَبَعْدَهُ وَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ فِي غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَبِنَاءُ الدَّكَاكِينَ وَالْجُلُوسِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا مَا ذَكَرنَا أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ لَيْسَ لَعَيْنِهِ بَلْ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الضَّرَرِ وَلَا ضِرَارَ بِالْمَارَّةِ فَاسْتَوَى فِيهِ حَالُ مَا قَبْلَ التَّقَدُّمِ وَبَعْدَهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ إشْرَاعَ الْجَنَاحِ وَالْمِيزَابِ إلَى طَرِيقِ الْعَامَّة تَصَرُّفٌ فِي حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّ هَوَاءَ الْبُقْعَةِ فِي حُكْمِ الْبُقْعَةِ وَالْبُقْعَةُ حَقُّهُمْ فَكَذَا هَوَاؤُهَا فَكَانَ الِانْتِفَاعُ بِذَلِكَ تَصَرُّفًا فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَقَدْ مَرَّ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ حَرَامٌ سَوَاءٌ أَضَرَّ بِهِ أَوْ لَا إلَّا أَنَّهُ حَلَّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِذَلِكَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ لِوُجُودِ الْإِذْنِ مِنْهُمْ دَلَالَةً وَهِيَ تَرْكُ التَّقَدُّمِ بِالنَّقْضِ وَالتَّصَرُّفُ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ بِإِذْنِهِ مُبَاحٌ فَإِذَا وَقَعَتْ الْمُطَالَبَةُ بِصَرِيحِ النَّقْضِ بَطَلَتْ الدَّلَالَةُ فَبَقِيَ الِانْتِفَاعُ بِالْمَبْنَى تَصَرُّفًا فِي حَقٍّ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْكُلِّ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِمْ وَرِضَاهُمْ فَلَا يَحِلُّ هَذَا إذَا كَانَتْ السِّكَّةُ نَافِذَةً فَأَمَّا إذَا كَانَتْ غَيْرَ نَافِذَةٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ فِي التَّقْدِيمِ فَلَيْسَ لِأَهْلِ السِّكَّةِ حَقُّ الْمَنْعِ لِتَصَرُّفِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ

كتاب الشهادة

يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِي التَّقْدِيمِ فَلَهُمْ مَنْعُهُ سَوَاءٌ كَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَضَرَّةٌ أَوْ لَا لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ لَا تَقِفُ عَلَى الْمَضَرَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمَ. [كِتَابُ الشَّهَادَةِ] [بَيَان رُكْن الشَّهَادَة] (كِتَابُ الشَّهَادَةِ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ رُكْنِ الشَّهَادَةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ بِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الشَّهَادَةِ أَمَّا رُكْنُ الشَّهَادَةِ، فَقَوْلُ الشَّاهِدِ: " أَشْهَدُ بِكَذَا وَكَذَا " وَفِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ: هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِ مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ لِغَيْرِهِ، فَكُلُّ مَنْ أَخْبَرَ بِأَنَّ مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ لِغَيْرِهِ، فَهُوَ شَاهِدٌ، وَبِهِ يَنْفَصِلُ عَنْ الْمُقِرِّ وَالْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ رُكْن الشَّهَادَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فِي الْأَصْلِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ هُوَ شَرْطُ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، وَنَوْعٌ هُوَ شَرْطُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا - أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ، فَلَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛؛ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الشَّهَادَةِ عِبَارَةٌ عَنْ فَهْمِ الْحَادِثَةِ وَضَبْطِهَا، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِآلَةِ الْفَهْمِ وَالضَّبْطِ، وَهِيَ الْعَقْلُ. - وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ عِنْدَنَا، فَلَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ مِنْ الْأَعْمَى، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْبَصَرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ التَّحَمُّلِ وَلَا لِصِحَّةِ الْأَدَاءِ؛؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْبَصَرِ عِنْدَ التَّحَمُّلِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالسَّمَاعِ، وَلِلْأَعْمَى سَمَاعٌ صَحِيحٌ فَيَصِحُّ تَحَمُّلُهُ لِلشَّهَادَةِ، وَيَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ بَعْدَ التَّحَمُّلِ. (وَلَنَا) أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ السَّمَاعُ مِنْ الْخَصْمِ؛؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَقَعُ لَهُ وَلَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ خَصْمًا إلَّا بِالرُّؤْيَةِ؛؛ لِأَنَّ النَّغَمَاتِ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا. (وَأَمَّا) الْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْعَدَالَةُ فَلَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ التَّحَمُّلِ، بَلْ مِنْ شَرَائِطِ الْأَدَاءِ حَتَّى لَوْ كَانَ وَقْتَ التَّحَمُّلِ صَبِيًّا عَاقِلًا، أَوْ عَبْدًا، أَوْ كَافِرًا، أَوْ فَاسِقًا، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ، وَعَتَقَ الْعَبْدُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَتَابَ الْفَاسِقُ فَشَهِدُوا عِنْدَ الْقَاضِي، تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ لِمَوْلَاهُ، ثُمَّ عَتَقَ فَشَهِدَ لَهُ، تُقْبَلُ. وَكَذَا الْمَرْأَةُ إذَا تَحَمَّلَتْ الشَّهَادَةَ لِزَوْجِهَا ثُمَّ بَانَتْ مِنْهُ فَشَهِدَتْ لَهُ، تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا؛؛ لِأَنَّ تَحَمُّلَهَا الشَّهَادَةَ لِلْمَوْلَى وَالزَّوْجِ صَحِيحٌ، وَقَدْ صَارَا مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ بِالْعِتْقِ وَالْبَيْنُونَةِ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، وَلَوْ شَهِدَ الْفَاسِقُ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتُهْمَةِ الْفِسْقِ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتُهْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ، ثُمَّ شَهِدُوا فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَالْبَيْنُونَةِ، لَا تُقْبَلُ. وَلَوْ شَهِدَ الْعَبْدُ أَوْ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ أَوْ الْكَافِرُ عَلَى مُسْلِمٍ فِي حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَعَتَقَ الْعَبْدُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ فَشَهِدُوا فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ بِعَيْنِهَا، تُقْبَلُ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْفَاسِقَ وَالزَّوْجَ لَهُمَا شَهَادَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ وَرَدَتْ فَإِذَا شَهِدُوا بَعْدَ التَّوْبَةِ وَزَوَالِ الزَّوْجِيَّةِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ، فَقَدْ أَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ وَهِيَ مَرْدُودَةٌ، وَالشَّهَادَةُ الْمَرْدُودَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْقَبُولَ بِخِلَافِ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ؛؛ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَصْلًا، وَكَذَا الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ لَا شَهَادَةَ لَهُمَا أَصْلًا، فَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَعَتَقَ الْعَبْدُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ، فَقَدْ حَدَثَتْ لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَالْعِتْقِ وَالْبُلُوغِ شَهَادَةٌ، وَهِيَ غَيْرُ الْمَرْدُودَةِ فَقُبِلَتْ فَهُوَ الْفَرْقُ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّحَمُّلُ بِمُعَايَنَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ، إلَّا فِي أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ يَصِحُّ التَّحَمُّلُ فِيهَا بِالتَّسَامُعِ مِنْ النَّاسِ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلشَّاهِدِ: «إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ، وَإِلَّا فَدَعْ» وَلَا يَعْلَمُ مِثْلَ الشَّمْسِ إلَّا بِالْمُعَايَنَةِ بِنَفْسِهِ فَلَا تُطْلَقُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ إلَّا فِي أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ، وَهِيَ النِّكَاحُ وَالنَّسَبُ وَالْمَوْتُ، فَلَهُ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ فِيهَا بِالتَّسَامُعِ مِنْ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يُعَايِنْ بِنَفْسِهِ؛؛ لِأَنَّ مَبْنَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الِاشْتِهَارِ فَقَامَتْ الشُّهْرَةُ فِيهَا مَقَامَ الْمُعَايَنَةِ. وَكَذَا إذَا شَهِدَ الْعُرْسَ وَالزِّفَافَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ النِّكَاحِ، وَكَذَا فِي الْمَوْتِ إذَا شَهِدَ جِنَازَةَ رَجُلٍ أَوْ دَفْنَهُ، حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِمَوْتِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ التَّسَامُعِ، فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ أَنْ يَشْتَهِرَ ذَلِكَ وَيَسْتَفِيضَ وَتَتَوَاتَرَ بِهِ الْأَخْبَارُ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُؤٍ؛؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالتَّوَاتُرِ وَالْمَحْسُوسَ بِحِسِّ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ سَوَاءٌ، فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ شَهَادَةً عَنْ مُعَايَنَةٍ، فَعَلَى هَذَا إذَا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ رَجُلَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لَا يَحِلُّ لَهُ الشَّهَادَةُ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي حَدِّ التَّوَاتُرِ وَذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مِهْرَانَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ إذَا أَخْبَرَهُ رَجُلَانِ عَدْلَانِ، أَوْ رَجُلٌ

وَامْرَأَتَانِ أَنَّ هَذَا ابْنُ فُلَانٍ أَوْ امْرَأَةُ فُلَانٍ، يَحِلُّ لَهُ الشَّهَادَةُ بِذَلِكَ اسْتِدْلَالًا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَشَهَادَتِهِ، فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُعَايَنَةٍ مِنْهُ بَلْ بِخَبَرِهِمَا، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ بَعْدَ الْعَزْلِ، كَذَا هَذَا وَلَوْ أَخْبَرَهُ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ بِمَوْتِ إنْسَانٍ حَلَّ لِلسَّامِعِ أَنْ يَشْهَدَ بِمَوْتِهِ فَعَلَى هَذَا يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَوْتِ وَبَيْنَ النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ مَبْنَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَإِنْ كَانَ عَلَى الِاشْتِهَارِ، إلَّا أَنَّ الشُّهْرَةَ فِي الْمَوْتِ أَسْرَعُ مِنْهُ فِي النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ، لِذَلِكَ شُرِطَ الْعَدَدُ فِي النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ، لَا فِي الْمَوْتِ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَلَى الْبَتَاتِ وَالْقَطْعِ دُونَ التَّفْصِيلِ وَالتَّقْيِيدِ، بِأَنْ يَقُولَ: " إنِّي لَمْ أُعَايِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ سَمِعْتُ مِنْ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا " حَتَّى لَوْ شَهِدَ كَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ. وَأَمَّا الْوَلَاءُ فَالشَّهَادَةُ فِيهِ بِالتَّسَامُعِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ تُقْبَلُ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَلَاءَ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، ثُمَّ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ فِي النَّسَبِ مَقْبُولَةٌ، كَذَا فِي الْوَلَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّا كَمَا نَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ كَانَ ابْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَشْهَدُ أَنَّ نَافِعًا كَانَ مَوْلَى ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ فِي النَّسَبِ لِمَا أَنَّ مَبْنَى النَّسَبِ عَلَى الِاشْتِهَارِ، فَقَامَتْ الشُّهْرَةُ فِيهِ مَقَامَ السَّمَاعِ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ مَبْنَى الْوَلَاءِ عَلَى الِاشْتِهَارِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُعَايَنَةِ الْإِعْتَاقِ، حَتَّى لَوْ اشْتَهَرَ اشْتِهَارَ نَافِعٍ لِابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَلَّتْ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ. وَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ فِي الْوَقْفِ فَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا أَلْحَقُوهُ بِالْمَوْتِ؛؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْوَقْفِ عَلَى الِاشْتِهَارِ أَيْضًا كَالْمَوْتِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِهِ، وَكَذَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ فِي الْقَضَاءِ وَالْوِلَايَةِ: أَنَّ هَذَا قَاضِي بَلَدِ كَذَا وَوَالِي بَلَدِ كَذَا، وَإِنْ لَمْ يُعَايِنْ الْمَنْشُورَ؛؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْقَضَاءِ وَالْوِلَايَةِ عَلَى الشُّهْرَةِ، فَقَامَتْ الشُّهْرَةُ فِيهَا مَقَامَ الْمُعَايَنَةِ، ثُمَّ تُحْمَلُ الشَّهَادَةُ كَمَا يَحْصُلُ بِمُعَايَنَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ بِنَفْسِهِ يَحْصُلُ بِمُعَايَنَةِ دَلِيلِهِ، بِأَنْ يَرَى ثَوْبًا أَوْ دَابَّةً أَوْ دَارًا فِي يَدِ إنْسَانٍ يَسْتَعْمِلُهُ اسْتِعْمَالَ الْمُلَّاكِ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ حَتَّى لَوْ خَاصَمَهُ غَيْرُهُ فِيهِ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمِلْكِ لِصَاحِبِ الْيَدِ؛؛ لِأَنَّ الْيَدَ الْمُتَصَرِّفَةَ فِي الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ دَلِيلُ الْمِلْكِ فِيهِ، بَلْ لَا دَلِيلَ بِشَاهِدٍ فِي الْأَمْوَالِ أَقْوَى مِنْهَا وَزَادَ أَبُو يُوسُفَ فَقَالَ: لَا تَحِلُّ لَهُ الشَّهَادَةُ حَتَّى يَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَهُمْ جَمِيعًا: أَنَّهُ لَا تَجُوزُ لِلرَّائِي الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِصَاحِبِ الْيَدِ حَتَّى يَرَاهُ فِي يَدِهِ، يَسْتَعْمِلُهُ اسْتِعْمَالَ الْمُلَّاكِ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ، وَحَتَّى يَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَالَ: " كُلُّ شَيْءٍ فِي يَدِ إنْسَانٍ سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ يَسَعُك أَنْ تَشْهَدَ أَنَّهُ لَهُ " اسْتَثْنَى الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ فَيَقْتَضِي أَنْ لَا تَحِلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِصَاحِبِ الْيَدِ فِيهِمَا إلَّا إذَا أَقَرَّا بِأَنْفُسِهِمَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْعَبْدَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ فِي نَفْسِهِ يَدٌ، بِأَنْ كَانَ كَبِيرًا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ. وَكَذَا الْأَمَةُ؛؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَ فِي يَدِ نَفْسِهِ ظَاهِرٌ، إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْحُرِّيَّةُ فِي بَنِي آدَمَ، وَالرِّقُّ عَارِضٌ فَكَانَتْ يَدُهُ إلَى نَفْسِهِ أَقْرَبَ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ فَلَمْ تَصْلُحْ يَدُ غَيْرِهِ دَلِيلَ الْمِلْكِ فِيهِ بِخِلَافِ الْجَمَادَاتِ وَالْبَهَائِمِ؛؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهَا، فَبَقِيَتْ يَدُ صَاحِبِ الْيَدِ دَلِيلًا عَلَى الْمِلْكِ؛ وَلِأَنَّ الْحُرَّ قَدْ يَخْدُمُ كَأَنَّهُ عَبْدٌ عَادَةً، وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ فَتَعَارَضَ الظَّاهِرَانِ فَلَمْ تَصْلُحْ الْيَدُ دَلِيلًا فِيهِ أَمَّا إذَا كَانَ صَغِيرًا لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ، كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الثَّوْبِ وَالْبَهِيمَةِ؛؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ فِي نَفْسِهِ يَدٌ فَيَلْحَقُ بِالْعُرُوضِ وَالْبَهَائِمِ فَتَحِلُّ لِلرَّائِي الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ فِيهِ لِصَاحِبِ الْيَدِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا شَرَائِطُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الشَّاهِدِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الشَّهَادَةِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الشَّهَادَةِ. وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَشْهُودِ بِهِ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الشَّاهِدِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَعُمُّ الشَّهَادَاتِ كُلَّهَا، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، أَمَّا الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ فَمِنْهَا الْعَقْلُ؛؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ لَا يَعْرِفُ الشَّهَادَةَ فَكَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا، وَمِنْهَا الْبُلُوغُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ؛؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ إلَّا بِالتَّحَفُّظِ، وَالتَّحَفُّظُ بِالتَّذَكُّرِ، وَالتَّذَكُّرُ بِالتَّفَكُّرِ، وَلَا يُوجَدُ مِنْ الصَّبِيِّ عَادَةً؛ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهَا مَعْنَى الْوِلَايَةِ. وَالصَّبِيُّ مُوَلًّى عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ شَهَادَةٌ لَلَزِمَتْهُ الْإِجَابَةُ عِنْدَ الدَّعْوَةِ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] أَيْ دُعُوا لِلْأَدَاءِ فَلَا يَلْزَمُهُ إجْمَاعًا، وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ، وقَوْله تَعَالَى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] وَالشَّهَادَةُ شَيْءٌ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ؛؛ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَجْرِي مَجْرَى الْوِلَايَاتِ وَالتَّمْلِيكَاتِ أَمَّا مَعْنَى

الْوِلَايَةِ فَإِنَّ فِيهِ تَنْفِيذَ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ، وَإِنَّهُ مِنْ بَابِ الْوَلَاءِ وَأَمَّا مَعْنَى التَّمْلِيكِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَمْلِكُ الْحُكْمَ بِالشَّهَادَةِ، فَكَأَنَّ الشَّاهِدَ مَلَّكَهُ الْحُكْمَ، وَالْعَبْدُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يَمْلِكُ فَلَا شَهَادَةَ لَهُ،؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ شَهَادَةٌ لَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ إذَا دُعِيَ لِأَدَائِهَا لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَلَا يَجِبُ لِقِيَامِ حَقِّ الْمَوْلَى، وَكَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ؛؛ لِأَنَّهُمْ عُبَيْدٌ، وَكَذَا مُعْتَقُ الْبَعْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ حُرٍّ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَمِنْهَا بَصَرُ الشَّاهِدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى عِنْدَهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ أَوْ لَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ إذَا كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى شَيْئًا لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهِ وَقْتَ الْأَدَاءِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ شَيْئًا يَحْتَاجُ إلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهِ وَقْتَ الْأَدَاءِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إجْمَاعًا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ اشْتِرَاطَ الْبَصَرِ لَيْسَ لَعَيْنِهِ بَلْ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ، وَذَا يَحْصُلُ إذَا كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَشْهُودِ لَهُ، وَالْإِشَارَةِ إلَيْهِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ فَإِذَا كَانَ أَعْمَى عِنْدَ الْأَدَاءِ لَا يَعْرِفُ الْمَشْهُودَ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَمِنْهَا النُّطْقُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ؛؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ لَفْظَةِ الشَّهَادَةِ شَرْطُ صِحَّةِ أَدَائِهَا، وَلَا عِبَارَةَ لِلْأَخْرَسِ أَصْلًا فَلَا شَهَادَةَ لَهُ. وَمِنْهَا الْعَدَالَةُ، لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ دُونَهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَالشَّاهِدُ الْمَرْضِيُّ هُوَ الشَّاهِدُ الْعَدْلُ، وَالْكَلَامُ فِي الْعَدَالَةِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الْعَدَالَةِ أَنَّهَا مَا هِيَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْعَدَالَةِ الْمَشْرُوطَةِ، وَفِي بَيَانِ أَنَّهَا شَرْطُ أَصْلِ الْقَبُولِ وُجُودًا، أَمْ شَرْطُ الْقَبُولِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وُجُودًا وَوُجُوبًا أَمَّا الْأَوَّلُ، فَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي مَاهِيَّةِ الْعَدَالَةِ الْمُتَعَارَفَةِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ لَمْ يُطْعَنْ عَلَيْهِ فِي بَطْنٍ وَلَا فَرْجٍ فَهُوَ عَدْلٌ؛؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ وَالشَّرِّ يَرْجِعُ إلَى هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ لَمْ يُعْرَفْ عَلَيْهِ جَرِيمَةٌ فِي دِينِهِ فَهُوَ عَدْلٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: " مَنْ غَلَبَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ فَهُوَ عَدْلٌ " وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الصَّلَاةَ فِي الْمَسَاجِدِ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ» وَرُوِيَ «مَنْ صَلَّى إلَى قِبْلَتِنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: " مَنْ يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ وَأَدَّى الْفَرَائِضَ وَغَلَبَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ فَهُوَ عَدْلٌ، " وَهُوَ اخْتِيَارُ أُسْتَاذِ أُسْتَاذِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ عَلِيٍّ الْبَزْدَوِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وَاخْتُلِفَ فِي مَاهِيَّةِ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: " مَا فِيهِ حَدٌّ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، وَمَا لَا حَدَّ فِيهِ فَهُوَ صَغِيرَةٌ "، وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ، فَإِنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ وَأَكْلَ الرِّبَا كَبِيرَتَانِ وَلَا حَدَّ فِيهِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ: " مَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، وَمَا لَا يُوجِبُهُ فَهُوَ صَغِيرَةٌ، " وَهَذَا يَبْطُلُ أَيْضًا بِأَكْلِ الرِّبَا فَإِنَّهُ كَبِيرَةٌ وَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَكَذَا يَبْطُلُ أَيْضًا بِأَشْيَاءَ أُخَرَ، هِيَ كَبَائِرُ وَلَا تُوجِبُ الْحَدَّ، نَحْوُ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ وَنَحْوِهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلَّمَا جَاءَ مَقْرُونًا بِوَعِيدٍ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، نَحْوُ قَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَالزِّنَا، وَالرَّبَّا، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَقِيلَ لَهُ: إنَّ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ الْكَبَائِرُ سَبْعٌ، فَقَالَ هِيَ إلَى سَبْعِينَ أَقْرَبُ، وَلَكِنْ لَا كَبِيرَةَ مَعَ تَوْبَةٍ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هُنَّ فَوَاحِشُ وَفِيهِنَّ عُقُوبَةٌ، ثُمَّ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مُتَّكِئًا فَجَلَسَ ثُمَّ قَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ» . فَإِذَا عَرَفْت تَفْسِيرَ الْعَدَالَةِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ فَلَا عَدَالَةَ لِشَارِبِ الْخَمْرِ؛؛ لِأَنَّ شُرْبَهُ كَبِيرَةٌ فَتَسْقُطُ بِهِ الْعَدَالَةُ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا فِي أُمُورِهِ تَغْلِبُ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ، وَلَا يُعْرَفُ بِالْكَذِبِ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ الْكَبَائِرِ غَيْرَ أَنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ أَحْيَانًا لِصِحَّةِ الْبَدَنِ وَالتَّقَوِّي، لَا لِلتَّلَهِّي - يَكُونُ عَدْلًا، وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَدْلًا؛ لِأَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ، وَإِنْ كَانَ لِلتَّقَوِّي وَمَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ بِنَفْسِ الشُّرْبِ؛؛ لِأَنَّ شُرْبَهُ لِلتَّقَوِّي دُونَ التَّلَهِّي حَلَالٌ، وَأَمَّا السُّكْرُ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ وَقَعَ مِنْهُ مَرَّةً، وَهُوَ لَا يَدْرِي أَوْ وَقَعَ سَهْوًا، لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ، وَإِنْ كَانَ يُعْتَادُ السُّكْرَ مِنْهُ تَسْقُطُ

عَدَالَتُهُ؛؛ لِأَنَّ السُّكْرَ مِنْهُ حَرَامٌ، وَلَا عَدَالَةَ لِمَنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَ الشُّرْبِ وَيَجْلِسُ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَشْرَبُ؛ لِأَنَّ حُضُورَهُ مَجْلِسَ الْفِسْقِ فِسْقٌ. وَلَا عَدَالَةَ لِلنَّائِحِ وَالنَّائِحَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا مَحْظُورٌ، وَأَمَّا الْمُغَنِّي فَإِنْ كَانَ يَجْتَمِعُ النَّاسُ عَلَيْهِ لِلْفِسْقِ بِصَوْتِهِ، فَلَا عَدَالَةَ لَهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَشْرَبُ؛ لِأَنَّهُ رَأْسُ الْفَسَقَةِ، وَإِنْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَعَ نَفْسِهِ لِدَفْعِ الْوَحْشَةِ، لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ السَّمَاعَ مِمَّا يُرَقِّقُ الْقُلُوبَ لَكِنْ لَا يَحِلُّ الْفِسْقُ بِهِ. وَأَمَّا الَّذِي يَضْرِبُ شَيْئًا مِنْ الْمَلَاهِي فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَشْنَعًا كَالْقَصَبِ وَالدُّفِّ وَنَحْوِهِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَشْنَعًا كَالْعُودِ وَنَحْوِهِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ. وَاَلَّذِي يَلْعَبُ بِالْحَمَامِ فَإِنْ كَانَ لَا يُطَيِّرُهَا لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ، وَإِنْ كَانَ يُطَيِّرُهَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ؛؛ لِأَنَّهُ يَطَّلِعُ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ، وَيَشْغَلُهُ ذَلِكَ عَنْ الصَّلَاةِ وَالطَّاعَاتِ، وَمَنْ يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ فَلَا عَدَالَةَ لَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَيَعْتَادُهُ فَلَا عَدَالَةَ لَهُ، وَإِنْ أَبَاحَهُ بَعْضُ النَّاسِ لِتَشْحِيذِ الْخَاطِرِ وَتَعَلُّمِ أَمْرِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ عِنْدَنَا لِكَوْنِهِ لَعِبًا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّ لَعِبٍ حَرَامٌ إلَّا مُلَاعَبَةَ الرَّجُلِ أَهْلَهُ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَرَمْيَهُ عَنْ قَوْسِهِ» وَكَذَلِكَ إذَا اعْتَادَ ذَلِكَ يَشْغَلُهُ عَنْ الصَّلَاةِ وَالطَّاعَاتِ، فَإِنْ كَانَ يَفْعَلُهُ أَحْيَانًا وَلَا يُقَامِرُ بِهِ لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ. وَلَا عَدَالَةَ لِمَنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ؛؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرِيضَةٌ، وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَاتِ اسْتِخْفَافًا بِهَا وَهَوَانًا بِتَرْكِهَا فَلَا عَدَالَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ، وَإِنْ كَانَ تَرَكَهَا عَنْ تَأْوِيلٍ بِأَنْ كَانَ الْإِمَامُ غَيْرَ مَرْضِيٍّ عِنْدَهُ، لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ، وَلَا عَدَالَةَ لِمَنْ يَفْجُرُ بِالنِّسَاءِ، أَوْ يَعْمَلُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ، وَلَا لِلسَّارِقِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَالْمُتَلَصِّصِ وَقَاذِفِ الْمُحْصَنَاتِ وَقَاتِلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ وَآكِلِ الرِّبَا وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ رُءُوسِ الْكَبَائِرِ. وَلَا عَدَالَةَ لِلْمُخَنَّثِ؛؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ وَعَمَلَهُ كَبِيرَةٌ، وَلَا عَدَالَةَ لِمَنْ لَمْ يُبَالِ مِنْ أَيْنَ يَكْتَسِبُ الدَّرَاهِمَ، مِنْ أَيِّ وَجْهٍ كَانَ؛؛ لِأَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُ أَنْ يَشْهَدَ زُورًا طَمَعًا فِي الْمَالِ، وَالْمَعْرُوفُ بِالْكَذِبِ لَا عَدَالَةَ لَهُ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا وَإِنْ تَابَ؛؛ لِأَنَّ مَنْ صَارَ مَعْرُوفًا بِالْكَذِبِ وَاشْتُهِرَ بِهِ لَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ فِي تَوْبَتِهِ بِخِلَافِ الْفَاسِقِ إذَا تَابَ عَنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْفِسْقِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَكَذَا مَنْ وَقَعَ فِي الْكَذِبِ سَهْوًا وَابْتُلِيَ بِهِ مَرَّةً ثُمَّ تَابَ؛ لِأَنَّهُ قَلَّ مَا يَخْلُو مُسْلِمٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَوْ مُنِعَ الْقَبُولُ لَانْسَدَّ بَابُ الشَّهَادَةِ. وَأَمَّا الْأَقْلَفُ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا كَانَ عَدْلًا، وَلَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ الْخِتَانَ رَغْبَةً عَنْ السُّنَّةِ لِعُمُومَاتِ الشَّهَادَةِ؛ وَلِأَنَّ إسْلَامَهُ إذَا كَانَ فِي حَالِ الْكِبَرِ فَيَجُوزُ أَنَّهُ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ التَّلَفَ، فَإِنْ لَمْ يَخَفْ وَلَمْ يَخْتَتِنْ تَارِكًا لِلسُّنَّةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، كَالْفَاسِقِ وَاَلَّذِي يَرْتَكِبُ الْمَعَاصِيَ: أَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تَجُوزُ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَسْتَيْقِنُ كَوْنَهُ فَاسِقًا فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ وَلَدِ الزِّنَا كَانَ عَدْلًا لِعُمُومَاتِ الشَّهَادَةِ؛؛ لِأَنَّ زِنَا الْوَالِدَيْنِ لَا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَلَدُ الزِّنَا أَسْوَأُ الثَّلَاثَةِ» فَذَا فِي وَلَدٍ مُعَيَّنٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْخَصِيِّ لِعُمُومَاتِ الشَّهَادَةِ، وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَبِلَ شَهَادَةَ عَلْقَمَةَ الْخَصِيِّ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ؛؛ وَلِأَنَّ الْخِصَاءَ لَا يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ فَلَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ. وَأَمَّا شَهَادَةُ صَاحِبِ الْهَوَى إذَا كَانَ عَدْلًا فِي هَوَاهُ وَدِينِهِ، نُظِرَ فِي ذَلِكَ، إنْ كَانَ هَوًى يُكَفِّرُهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يُكَفِّرُهُ فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْعَصَبِيَّةِ وَصَاحِبُ الدَّعْوَةِ إلَى هَوَاهُ، أَوْ كَانَ فِيهِ مَجَانَةٌ لَا تُقْبَلُ أَيْضًا؛؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْعَصَبِيَّةِ وَالدَّعْوَةِ لَا يُبَالِي مِنْ الْكَذِبِ وَالتَّزْوِيرِ لِتَرْوِيجِ هَوَاهُ، فَكَانَ فَاسِقًا فِيهِ، وَكَذَا إذَا كَانَ فِيهِ مَجَانَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَاجِنَ لَا يُبَالِي مِنْ الْكَذِبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَهُوَ عَدْلٌ فِي هَوَاهُ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ هَوَاهُ يَزْجُرُهُ عَنْ الْكَذِبِ. ، إلَّا صِنْفٌ مِنْ الرَّافِضَةِ يُسَمَّوْنَ بِالْخَطَّابِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ؛؛ لِأَنَّ مِنْ نِحْلَتِهِمْ أَنَّهُ تَحِلُّ الشَّهَادَةُ لِمَنْ يُوَافِقُهُمْ عَلَى مَنْ يُخَالِفُهُمْ، وَقِيلَ مِنْ نِحْلَتِهِمْ أَنَّ مَنْ ادَّعَى أَمْرًا مِنْ الْأُمُورِ وَحَلَفَ عَلَيْهِ كَانَ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ فَيَشْهَدُونَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ هَذَا مَذْهَبَهُمْ فَلَا تَخْلُو شَهَادَتُهُمْ عَنْ الْكَذِبِ. وَكَذَا لَا عَدَالَةَ لِأَهْلِ الْإِلْهَامِ؛؛ لِأَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ بِالْإِلْهَامِ، فَيَشْهَدُونَ لِمَنْ يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي دَعْوَاهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ الْكَذِبِ. وَلَا عَدَالَةَ لِمَنْ يُظْهِرُ شَتِيمَةَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّ شَتِيمَةَ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ مُسْقِطَةٌ لِلْعَدَالَةِ، فَشَتِيمَتُهُمْ أَوْلَى. وَلَا عَدَالَةَ لِصَاحِبِ الْمَعْصِيَةِ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ» وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ مَاتَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ كَحِمَارٍ نَزَعَ

بِدِينِهِ» فَكَانَتْ الْمَعْصِيَةُ مَعْصِيَةً مُسْقِطَةً لِلْعَدَالَةِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ مَنْ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْكَبَائِرِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ، إلَّا أَنْ يَتُوبَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْكَبَائِرِ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَيْهَا وَاعْتَادَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ بِالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا تَصِيرُ كَبِيرَةً قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ» وَإِنْ لَمْ يُصِرَّ عَلَيْهَا لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ، إذَا غَلَبَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ. وَأَمَّا بَيَانُ صِفَةِ الْعَدَالَةِ الْمَشْرُوطَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الشَّرْطُ هُوَ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ، فَأَمَّا الْعَدَالَةُ الْحَقِيقِيَّةُ، وَهِيَ الثَّابِتَةُ بِالسُّؤَالِ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ بِالتَّعْدِيلِ وَالتَّزْكِيَةِ، فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّهَا شَرْطٌ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ جَائِزٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا طَعَنَ الْخَصْمُ فِي الشَّاهِدِ أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ، بَلْ يَسْأَلُ الْقَاضِي عَنْ حَالِ الشُّهُودِ، وَكَذَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ حَالِهِمْ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَلَا يَكْتَفِي بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ، سَوَاءٌ طَعَنَ الْخَصْمُ فِيهِمْ أَوْ لَمْ يَطْعَنْ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ إذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَسْأَلُ، وَقَالَا يَسْأَلُ. عَنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: هَذَا الِاخْتِلَافُ اخْتِلَافُ زَمَانٍ لَا اخْتِلَافَ حَقِيقَةٍ؛؛ لِأَنَّ زَمَنَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ مِنْ أَهْلِ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ؛ لِأَنَّهُ زَمَنُ التَّابِعِينَ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُمْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْخَيْرِيَّةِ بِقَوْلِهِ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِي أَنَا فِيهِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ» الْحَدِيثَ، " فَكَانَ الْغَالِبُ فِي أَهْلِ زَمَانِهِ الصَّلَاحَ وَالسَّدَادَ، فَوَقَعَتْ الْغُنْيَةُ عَنْ السُّؤَالِ عَنْ حَالِهِمْ فِي السِّرِّ، ثُمَّ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ وَظَهَرَ الْفَسَادُ فِي قَرْنِهِمَا فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى السُّؤَالِ عَنْ الْعَدَالَةِ، فَكَانَ اخْتِلَافُ جَوَابِهِمْ لِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ، فَلَا يَكُونُ اخْتِلَافًا حَقِيقَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّقَ الْخِلَافَ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَدَالَةَ الظَّاهِرَةَ تَصْلُحُ لِلدَّفْعِ لَا لِلْإِثْبَاتِ لِثُبُوتِهَا بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ دُونَ الدَّلِيلِ، وَالْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى الْإِثْبَاتِ وَهُوَ إيجَابُ الْقَضَاءِ، وَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ الْعَدَالَةِ بِدَلِيلِهَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أَيْ عَدْلًا، وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُؤْمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْوَسَاطَةِ، وَهِيَ الْعَدَالَةُ، وَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَصَارَتْ الْعَدَالَةُ أَصْلًا فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَزَوَالُهَا بِعَارِضٍ،؛ وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ الْحَقِيقِيَّةَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهَا فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالظَّاهِرِ، وَقَدْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُمْ قَبْلَ السُّؤَالِ عَنْ حَالِهِمْ فَيَجِبُ الِاكْتِفَاءُ بِهِ، إلَّا أَنْ يَطْعَنَ الْخَصْمُ؛ لِأَنَّهُ إذَا طَعَنَ الْخَصْمُ وَهُوَ صَادِقٌ فِي الطَّعْنِ فَيَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الظَّاهِرَيْنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّرْجِيحِ بِالسُّؤَالِ، وَالسُّؤَالُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ طَرِيقٌ لِدَرْئِهَا، وَالْحُدُودُ يُحْتَالُ فِيهَا لِلدَّرْءِ، وَلَوْ طَعَنَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي حُرِّيَّةِ الشَّاهِدَيْنِ وَقَالَ: إنَّهُمَا رَقِيقَانِ، وَقَالَا: نَحْنُ حُرَّانِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ حَتَّى تَقُومَ لَهُمَا الْبَيِّنَةُ عَلَى حُرِّيَّتِهِمَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ - وَإِنْ كَانَ هُوَ الْحُرِّيَّةَ لِكَوْنِهِمْ أَوْلَادَ آدَمَ وَحَوَّاءَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُمَا حُرَّانِ - لَكِنَّ الثَّابِتَ بِحُكْمِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْخَصْمِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِهَا بِالدَّلَائِلِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَحْرَارٌ إلَّا فِي أَرْبَعَةٍ: الشَّهَادَاتِ وَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالْعَقْلِ، هَذَا إذَا كَانَا مَجْهُولَيْ النَّسَبِ لَمْ تُعْرَفْ حُرِّيَّتُهُمَا وَلَمْ تَكُنْ ظَاهِرَةً مَشْهُورَةً، بِأَنْ كَانَا مِنْ الْهِنْدِ أَوْ التُّرْكِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا تُعْرَفُ حُرِّيَّتُهُ أَوْ كَانَا عَرَبِيَّيْنِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُونَا مِمَّنْ يَجْرِي عَلَيْهِ الرِّقُّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا وَلَا يَثْبُتُ رِقُّهُمَا إلَّا بِالْبَيِّنَةِ. وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ قَبُولِ أَصْلِ الشَّهَادَةِ وُجُودًا، أَمْ شَرْطُ الْقَبُولِ مُطْلَقًا وُجُوبًا وَوُجُودًا، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إنَّهَا شَرْطُ الْقَبُولِ لِلشَّهَادَةِ وُجُودًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَوُجُوبًا لَا شَرْطَ أَصْلِ الْقَبُولِ حَتَّى يَثْبُتَ الْقَبُولُ بِدُونِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ -: إنَّهَا شَرْطُ أَصْلِ الْقَبُولِ لَا يَثْبُتُ الْقَبُولُ أَصْلًا دُونَهَا، حَتَّى إنَّ الْقَاضِيَ لَوْ تَحَرَّى الصِّدْقَ فِي شَهَادَةِ الْفَاسِقِ يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ شَهَادَتِهِ، وَلَا يَجُوزُ الْقَبُولُ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ بِالْإِجْمَاعِ. وَكَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ شَهَادَةَ الْعَدْلِ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ، وَإِذَا شَهِدَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ، وَهَذَا هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ شَهَادَةِ الْعَدْلِ وَبَيْنَ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ أَصْلًا، وَكَذَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقَيْنِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَنْعَقِدُ. (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَبْنَى قَبُولِ الشَّهَادَاتِ عَلَى الصِّدْقِ، وَلَا يَظْهَرُ الصِّدْقُ إلَّا بِالْعَدَالَةِ؛؛ لِأَنَّ خَبَرَ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ

وَالْكَذِبَ، وَلَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ إلَّا بِالْعَدَالَةِ، وَاحْتَجَّ فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» . (وَلَنَا) عُمُومَاتُ قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَالْفَاسِقُ شَاهِدٌ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] قَسَّمَ الشُّهُودَ إلَى مَرْضِيِّينَ وَغَيْرِ مَرْضِيِّينَ، فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِ غَيْرِ الْمَرْضِيِّ - وَهُوَ الْفَاسِقُ - شَاهِدًا؛ وَلِأَنَّ حَضْرَةَ الشُّهُودِ فِي بَابِ النِّكَاحِ لِدَفْعِ تُهْمَةِ الزِّنَا - لَا لِلْحَاجَةِ إلَى شَهَادَتِهِمْ عِنْدَ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ؛؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَشْتَهِرُ بَعْدَ وُقُوعِهِ - فَيُمْكِنُ دَفْعُ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ بِالشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ، وَالتُّهْمَةُ تَنْدَفِعُ بِحَضْرَةِ الْفَاسِقِ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحَضْرَتِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " الرُّكْنُ فِي الشَّهَادَةِ هُوَ صِدْقُ الشَّاهِدِ " فَنَعَمْ، لَكِنَّ الصِّدْقَ لَا يَقِفُ عَلَى الْعَدَالَةِ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّ مِنْ الْفَسَقَةِ مَنْ لَا يُبَالِي بِارْتِكَابِهِ أَنْوَاعًا مِنْ الْفِسْقِ، وَيَسْتَنْكِفُ عَنْ الْكَذِبِ، وَالْكَلَامُ فِي فَاسِقٍ تَحَرَّى الْقَاضِي الصِّدْقَ فِي شَهَادَتِهِ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ - وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ - لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ عِنْدَنَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ نَقَلَةِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَنْ يَثْبُتَ، فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ جَعْلُ الْعَدَالَةِ صِفَةً لِلشَّاهِدِ؛؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ: لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، بَلْ هَذَا إضَافَةُ الشَّاهِدَيْنِ إلَى الْعَدْلِ، وَهُوَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ فَكَأَنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ مُقَابِلَيْ كَلِمَةِ الْعَدْلِ، وَهِيَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ، وَالْفَاسِقُ مُسْلِمٌ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحَضْرَتِهِ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ عِنْدَنَا وَهُوَ شَرْطُ الْأَدَاءِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَاحْتَجَّ بِعُمُومَاتِ الشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْفِسْقُ بِالْقَذْفِ، وَقَدْ زَالَ بِالتَّوْبَةِ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى جَلَّ وَعَلَا {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] " الْآيَةَ " نَهَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الرَّامِي عَلَى التَّأْبِيدِ، فَيَتَنَاوَلُ زَمَانَ مَا بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومَاتِ الشَّهَادَةِ عَمَلًا بِالنُّصُوصِ كُلِّهَا صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ، وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا قَذَفَ مُسْلِمًا فَحُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَبِمِثْلِهِ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ إذَا قَذَفَ حُرًّا ثُمَّ حُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ، ثُمَّ عَتَقَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا، وَإِنْ أُعْتِقَ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ تُوجِبُ بُطْلَانَ شَهَادَةٍ كَانَتْ لِلْقَاذِفِ قَبْلَ الْإِقَامَةِ وَالثَّابِتُ لِلذِّمِّيِّ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ شَهَادَتُهُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، لَا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَتَبْطُلُ تِلْكَ الشَّهَادَةُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، فَإِذَا أَسْلَمَ فَقَدْ حَدَثَتْ لَهُ بِالْإِسْلَامِ شَهَادَةٌ غَيْرُ مَرْدُودَةٍ، وَهِيَ شَهَادَةٌ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ،؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ لِتَبْطُلَ بِالْحَدِّ فَتُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ، ثُمَّ مِنْ ضَرُورَةِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ قَبُولُ شَهَادَتِهِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ؛؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ شَهَادَةٌ مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّ لَهُ عَدَالَةَ الْإِسْلَامِ، وَالْحَدُّ أَبْطَلَ ذَلِكَ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَلَوْ ضُرِبَ الذِّمِّيُّ بَعْضَ الْحَدِّ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ ضُرِبَ الْبَاقِيَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمُبْطِلَ لِلشَّهَادَةِ إقَامَةُ الْحَدِّ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ تُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ اسْمٌ لِلْكُلِّ فَلَا يَكُونُ الْبَعْضُ حَدًّا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَتَجَزَّأُ، وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - رِوَايَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ فَقَالَ فِي رِوَايَةٍ " لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ "، وَفِي رِوَايَةٍ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلَوْ ضُرِبَ سَوْطًا وَاحِدًا فِي الْإِسْلَامِ؛؛ لِأَنَّ السِّيَاطَ الْمُتَقَدِّمَةَ تَوَقَّفَ كَوْنُهَا حَدًّا عَلَى وُجُودِ السَّوْطِ الْأَخِيرِ، وَقَدْ وُجِدَ كَمَالُ الْحَدِّ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ، وَفِي رِوَايَةٍ اُعْتُبِرَ الْأَكْثَرُ: إنْ وُجِدَ أَكْثَرُ الْحَدِّ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ وَإِلَّا، فَلَا؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ فِي الشَّرْعِ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَدَّ اسْمٌ لِلْكُلِّ، وَعِنْدَ ضَرْبِ السَّوْطِ الْأَخِيرِ تَبَيَّنَ أَنَّ السِّيَاطَ كُلَّهَا كَانَتْ حَدًّا، وَلَمْ يُوجَدْ الْكُلُّ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ، بَلْ الْبَعْضُ فَلَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ الْحَادِثَةُ بِالْإِسْلَامِ، هَذَا إذَا شَهِدَ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَبَعْدَ التَّوْبَةِ، فَأَمَّا إذَا شَهِدَ بَعْدَ التَّوْبَةِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ شَهِدَ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ قَبْلَ التَّوْبَةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ شَهِدَ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَقَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ فَهِيَ مَسْأَلَةُ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ وَقَدْ مَرَّتْ. وَأَمَّا النِّكَاحُ بِحَضْرَةِ الْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ فَيَنْعَقِدُ بِالْإِجْمَاعِ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ فَلِأَنَّ لَهُ شَهَادَةً أَدَاءً، فَكَانَتْ لَهُ شَهَادَةٌ سَمَاعًا، وَأَمَّا عِنْدَنَا؛ فَلِأَنَّ حَضْرَةَ الشُّهُودِ لَدَى النِّكَاحِ لَيْسَتْ لِدَفْعِ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ لِانْدِفَاعِ الْحَاجَةِ بِالشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ، بَلْ لِرَفْعِ رِيبَةِ الزِّنَا وَالتُّهْمَةِ بِهِ، وَذَا يُجْعَلُ بِحَضْرَةِ الْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ، فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحَضْرَتِهِمْ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِلنَّهْيِ عَنْ الْقَبُولِ، وَالِانْعِقَادُ يَنْفَصِلُ

عَنْ الْقَبُولِ فِي الْجُمْلَةِ وَأَمَّا الْمَحْدُودُ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ إذَا تَابَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ عَدْلًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ إذَا تَابَ لَوْلَا النَّصُّ الْخَاصُّ بِعَدَمِ الْقَبُولِ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَجُرَّ الشَّاهِدُ إلَى نَفْسِهِ مَغْنَمًا، وَلَا يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَغْرَمًا بِشَهَادَتِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا شَهَادَةَ لِجَارِ الْمَغْنَمِ وَلَا لِدَافِعِ الْمَغْرَمِ» ،؛ وَلِأَنَّ شَهَادَتَهُ إذَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى النَّفْعِ وَالدَّفْعِ فَقَدْ صَارَ مُتَّهَمًا، وَلَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَلِأَنَّهُ إذَا جَرَّ النَّفْعَ إلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ لَمْ تَقَعْ شَهَادَتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى - عَزَّ وَجَلَّ -، بَلْ لِنَفْسِهِ، فَلَا تُقْبَلُ وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ، وَإِنْ عَلَا لِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ، وَعَكْسُهُ أَنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ؛؛ لِأَنَّ الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ يَنْتَفِعُ الْبَعْضُ بِمَالِ الْبَعْضِ عَادَةً، فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى جَرِّ النَّفْعِ، وَالتُّهْمَةِ، وَالشَّهَادَةِ لِنَفْسِهِ فَلَا تُقْبَلُ، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَدَبِ الْقَاضِي عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَلَا الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، وَلَا السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ، وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، وَلَا الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا، وَلَا الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ» . وَأَمَّا سَائِرُ الْقَرَابَاتِ، كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْخَالِ وَنَحْوِهِمْ فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ؛؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسَ لِبَعْضِهِمْ تَسَلُّطٌ فِي مَالِ الْبَعْضِ، عُرْفًا وَعَادَةً فَالْتَحَقُوا بِالْأَجَانِبِ، وَكَذَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ مِنْ الرَّضَاعِ لِوَلَدِهِ مِنْ الرَّضَاعِ، وَشَهَادَةُ الْوَلَدِ مِنْ الرَّضَاعِ لِوَالِدِهِ مِنْ الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ مَا جَرَتْ بِانْتِفَاعِ هَؤُلَاءِ بَعْضِهِمْ بِمَالِ الْبَعْضِ فَكَانُوا كَالْأَجَانِبِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ، وَلَا شَهَادَةُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ لِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ فَلَا تُقْبَلُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُقْبَلُ، وَاحْتَجَّ بِعُمُومَاتِ الشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى - جَلَّ وَعَلَا - {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وَقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَقَوْلِهِ - عَظُمَتْ كِبْرِيَاؤُهُ - {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ عَدْلٍ وَعَدْلٍ، وَمَرْضِيٍّ وَمَرْضِيٍّ. (وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ النُّصُوصِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " لَا شَهَادَةَ لِجَارِ الْمَغْنَمِ "، وَلَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ، وَأَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بِشَهَادَتِهِ لِلزَّوْجِ الْآخَرِ يَجُرُّ الْمَغْنَمَ إلَى نَفْسِهِ،؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِمَالِ صَاحِبِهِ عَادَةً، فَكَانَ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ، لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ الْخَصَّافِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَمَّا الْعُمُومَاتُ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهَا لَكِنْ لَمَّا قُلْتُمْ إنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ لِصَاحِبِهِ عَدْلٌ وَمَرْضِيٌّ، بَلْ هُوَ مَائِلٌ وَمُتَّهَمٌ لِمَا قُلْنَا، لَا يَكُونُ شَاهِدًا فَلَا تَتَنَاوَلُهُ الْعُمُومَاتُ، وَكَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ لَهُ فِي الْحَادِثَةِ الَّتِي اسْتَأْجَرَهُ فِيهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تُهْمَةِ جَرِّ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِصَاحِبِهِ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ، وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ لِرَجُلَيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ شَهِدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا لِلشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَشَهَادَةُ الْفَرِيقَيْنِ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَائِزَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ شَهِدَا أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لَهُمَا بِالثُّلُثِ، وَشَهِدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لِلشَّاهِدَيْنِ بِالثُّلُثِ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ الْمَيِّتَ غَصَبَهُمَا دَارًا أَوْ عَبْدًا وَشَهِدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا لِلشَّاهِدَيْنِ بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَشَهَادَةُ الْفَرِيقَيْنِ جَائِزَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَشْهَدُ لِغَيْرِهِ لَا لِنَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ مُتَّهَمًا فِي شَهَادَتِهِ، وَلَهُمَا أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ كُلُّ فَرِيقٍ، فَالْفَرِيقُ الْآخَرُ يُشَارِكُهُ فِيهِ، فَكَانَ كُلُّ فَرِيقٍ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَشْهُودِ بِهِ؛؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ مَعْنَى الشَّرِكَةِ لَا يَتَحَقَّقُ. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ خَصْمًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ» ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ خَصْمًا فَشَهَادَتُهُ تَقَعُ لِنَفْسِهِ فَلَا تُقْبَلُ، وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ شَهَادَةُ الْوَصِيِّ لِلْمَيِّتِ وَالْيَتِيمِ الَّذِي فِي حِجْرِهِ؛؛ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِيهِ، وَكَذَا شَهَادَةُ الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ لِمَا قُلْنَا وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْمَشْهُودِ بِهِ وَقْتَ الْأَدَاءِ، ذَاكِرًا لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى إنَّهُ لَوْ رَأَى اسْمَهُ وَخَطَّهُ وَخَاتَمَهُ فِي الْكِتَابِ، لَكِنَّهُ لَا يَذْكُرُ الشَّهَادَةَ، لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَوْ شَهِدَ وَعَلِمَ الْقَاضِي بِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَوْ شَهِدَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا رَأَى اسْمَهُ وَخَطَّهُ وَخَاتَمَهُ عَلَى الصَّكِّ، دَلَّ أَنَّهُ تُحْمَلُ الشَّهَادَةُ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ فِي الصَّكِّ، فَيَحِلُّ لَهُ أَدَاؤُهَا، وَإِذَا أَدَّاهَا تُقْبَلُ،؛ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ أَمْرٌ جُبِلَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ خُصُوصًا عِنْدَ طُولِ الْمُدَّةِ بِالشَّيْءِ؛؛ لِأَنَّ طُولَ الْمُدَّةِ يُنْسِي، فَلَوْ شَرَطَ تَذَكُّرَ الْحَادِثَةِ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَانْسَدَّ بَابُ الشَّهَادَةِ فَيُؤَدِّي إلَى تَضْيِيعِ الْحُقُوقِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْله تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِشَاهِدٍ «إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا

فَدَعْ» ، وَلَا اعْتِمَادَ عَلَى الْخَطِّ وَالْخَتْمِ؛؛ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ وَالْخَتْمُ يُشْبِهُ الْخَتْمَ وَيَجْرِي فِيهِ الِاحْتِيَالُ وَالتَّزْوِيرُ مَعَ مَا أَنَّ الْخَطَّ لِلتَّذَكُّرِ فَخَطٌّ لَا يُذْكَرُ، وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا وَجَدَ الْقَاضِي فِي دِيوَانِهِ شَيْئًا لَا يَذْكُرُهُ - وَدِيوَانُهُ تَحْتَ خَتْمِهِ - أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِهِ عِنْدَهُ، وَعِنْدُهُمَا يَعْمَلُ إذَا كَانَ تَحْتَ خَتْمِهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا عُزِلَ الْقَاضِي، ثُمَّ اسْتَقْضَى بَعْدَمَا عُزِلَ، فَأَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ بِشَيْءٍ مِمَّا يَرَى فِي دِيوَانِهِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الشَّرَائِطُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الشَّهَادَةِ، فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا لَفْظُ الشَّهَادَةِ، فَلَا تُقْبَلُ بِغَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ، كَلَفْظِ الْإِخْبَارِ وَالْإِعْلَامِ وَنَحْوِهِمَا، وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي مَعْنَى الشَّهَادَةِ تَعَبُّدًا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى. وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِلدَّعْوَى فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى فَإِنْ خَالَفَتْهَا لَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ الْمُدَّعِي بَيْنَ الدَّعْوَى وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ عِنْدَ إمْكَانِ التَّوْفِيقِ؛؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إذَا خَالَفَتْ الدَّعْوَى فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى، وَتَعَذَّرَ التَّوْفِيقُ انْفَرَدَتْ عَنْ الدَّعْوَى، وَالشَّهَادَةُ الْمُنْفَرِدَةُ عَنْ الدَّعْوَى فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ: إذَا ادَّعَى مِلْكًا بِسَبَبٍ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ لَا تُقْبَلُ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ بِسَبَبٍ تُقْبَلُ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ أَعَمُّ مِنْ الْمِلْكِ بِسَبَبٍ؛؛ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ الْأَصْلِ حَتَّى تُسْتَحَقَّ بِهِ الزَّوَائِدُ، وَالْمِلْكُ بِسَبَبٍ يَقْتَصِرُ عَلَى وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ، فَكَانَ الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ أَعَمَّ، فَصَارَ الْمُدَّعِي بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ مُكَذِّبًا شُهُودَهُ فِي بَعْضِ مَا شَهِدُوا بِهِ. وَالتَّوْفِيقُ مُتَعَذَّرٌ؛؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مِنْ الْأَصْلِ يُنَافِي الْمِلْكَ الْحَادِثَ بِسَبَبٍ لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِهِمَا مَعًا فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ بِسَبَبٍ؛؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِسَبَبٍ أَخَصُّ مِنْ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَقَدْ شَهِدُوا بِأَقَلَّ مِمَّا ادَّعَى، فَلَمْ يَصِرْ الْمُدَّعِي مُكَذِّبًا شُهُودَهُ، بَلْ صَدَّقَهُمْ فِيمَا شَهِدُوا بِهِ، وَادَّعَى زِيَادَةَ شَيْءٍ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَصَارَ كَمَا لَوْ ادَّعَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى أَلْفٍ أَنَّهُ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْأَلْفِ لِمَا، قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَلَوْ ادَّعَى الْمِلْكَ بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ بِسَبَبٍ آخَرَ: بِأَنْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَرِثَهَا مِنْ أَبِيهِ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ: أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ أَوْ وَهَبَهَا لَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ وَقَبَضَ، أَوْ ادَّعَى الشِّرَاءَ أَوْ الْهِبَةَ أَوْ الصَّدَقَةَ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِرْثِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ؛؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ خَالَفَتْ الدَّعْوَى لِاخْتِلَافِ الْبَيِّنَتَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى، أَمَّا الصُّورَةُ فَلَا شَكَّ فِيهَا. وَأَمَّا الْمَعْنَى؛ فَلِأَنَّ حُكْمَ الْبَيِّنَتَيْنِ يَخْتَلِفُ فَلَا يُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ، فَقَالَ: كُنْتُ اشْتَرَيْتُ مِنْهُ لَكِنَّهُ جَحَدَنِي الشِّرَاءَ وَعَجَزْتُ عَنْ إثْبَاتِهِ فَاسْتَوْهَبْتُ مِنْهُ فَوَهَبَ مِنِّي، وَقَبَضْتُ، وَأَعَادَ الْبَيِّنَةَ، تُقْبَلُ؛؛ لِأَنَّهُ وَفَّقَ فَقَدْ زَالَتْ الْمُخَالَفَةُ وَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يُكَذِّبْ شُهُودَهُ، وَيَصِيرُ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ ابْتِدَاءً. وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْبَيِّنَةِ لِتَقَعَ الشَّهَادَةُ عِنْدِ الدَّعْوَى، وَكَذَا إذَا وَفَّقَ فَقَالَ: وَرِثْتُهُ مِنْ أَبِي إلَّا أَنَّهُ جَحَدَ إرْثِي فَاشْتَرَيْتُ مِنْهُ، أَوْ وَهَبَ لِي فَإِنَّهَا تُقْبَلُ لِزَوَالِ التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ بَيْن الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ، وَلَوْ ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ هَذَا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَا تُقْبَلُ؛؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ قَدْ اخْتَلَفَ، وَاخْتِلَافُ الْبَدَلِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَقْدِ، فَقَدْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى عَقْدٍ آخَرَ غَيْرَ مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي، فَلَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ الْمُدَّعِي، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ بِالْعَبْدِ إلَّا أَنَّهُ جَحَدَنِي الشِّرَاءَ بِهِ فَاشْتَرَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَتُقْبَلُ لِزَوَالِ الْمُخَالَفَةِ، وَهَذَا إذَا كَانَ دَعْوَى التَّوْفِيقِ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ بِأَنْ قَامَ عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ ثُمَّ جَاءَ وَادَّعَى التَّوْفِيقَ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقُمْ عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَدَعْوَى التَّوْفِيقِ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ، وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ لَهُ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ، تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فِيهِ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ لَهُ لَا تُقْبَلُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ قَوْلَهُ أَوَّلًا: إنَّهُ لِي لَا يَنْفِي قَوْلَهُ: إنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ بِحَقِّ الْخُصُومَةِ وَالْمُطَالَبَةِ، وَلِغَيْرِهِ بِحَقِّ الْمِلْكِ، فَكَانَ التَّوْفِيقُ مُمْكِنًا فَقُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الثَّانِي؛؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ هُوَ لِفُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فِيهِ، يَنْفِي قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ لِي؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ لِفُلَانٍ، وَأَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: إنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فِيهِ، فَكَانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: " هُوَ لِي " إقْرَارًا مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِنَفْسِهِ فَكَانَ مُنَاقِضًا فَلَا تُقْبَلُ، وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فِيهِ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ لِفُلَانٍ آخَرَ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فِيهِ، لَا تُقْبَلُ؛؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَوَّلًا: إنَّهُ لِفُلَانٍ

وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فِيهِ، كَمَا يَنْفِي قَوْلَهُ: " إنَّهُ لِي " يَنْفِي قَوْلَهُ: " إنَّهُ لِفُلَانٍ آخَرَ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فِيهِ " فَلَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ فَقَالَ: " إنَّ الْمُوَكِّلَ الْأَوَّلَ بَاعَ مِنْ الْمُوَكِّلِ الثَّانِي ثُمَّ وَكَّلَنِي الثَّانِي بِالْخُصُومَةِ " فَيُقْبَلُ لِزَوَالِ الْمُنَاقَضَةِ، وَلَوْ ادَّعَى فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذِهِ الدَّارَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِأَلْفٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِالدَّارِ عَلَى الْمُدَّعِي فِي شَعْبَانَ، لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ؛؛ لِأَنَّ دَعْوَى التَّصَدُّقِ فِي شَعْبَانَ تُنَافِي الشِّرَاءَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِاسْتِحَالَةِ شِرَاءِ الْإِنْسَانِ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَالتَّوْفِيقُ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَا تُقْبَلُ. وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى التَّصَدُّقِ فِي شَوَّالٍ، وَوَفَّقَ فَقَالَ: " جَحَدَنِي الشِّرَاءَ ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيَّ " تُقْبَلُ وَلَوْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَنَّهَا لَهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي بِالْأَمْسِ لَا تُقْبَلُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تُقْبَلُ وَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ، وَلَوْ أَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكًا لِلْمُدَّعِي تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْبَيِّنَةَ لَمَّا قَامَتْ عَلَى أَنَّهَا مَا كَانَتْ فِي يَدِهِ، فَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ بَقَاؤُهُ، وَلِهَذَا قَبِلْت الْبَيِّنَةُ عَلَى مِلْكٍ كَانَ؛ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَوْ ثَبَتَ بِالْمُعَايَنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ بِالْأَمْسِ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ كَذَا هَذَا (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الشَّهَادَةَ قَامَتْ عَلَى يَدٍ كَانَتْ، فَلَا يَثْبُتُ الْكَوْنُ لِلْحَالِ إلَّا بِحُكْمِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ، وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ،؛ وَلِأَنَّ الْيَدَ قَدْ تَكُونُ مُحِقَّةً، وَقَدْ تَكُونُ مُبْطِلَةً، وَقَدْ تَكُونُ يَدَ مِلْكٍ، وَقَدْ تَكُونُ يَدَ أَمَانَةٍ، فَكَانَتْ مُحْتَمَلَةً، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً، بِخِلَافِ الْمِلْكِ وَالْمُعَايَنَةِ، وَبِخِلَافِ الْإِقْرَارِ؛؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ بِنَفْسِهِ، وَالْبَيِّنَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَلَا وَجْهَ لِلْقَضَاءِ بِالْمُحْتَمَلِ، وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ بِالْأَمْسِ فَأَخَذَهَا هَذَا مِنْهُ، أَوْ غَصَبَهَا أَوْ أَوْدَعَهُ أَوْ أَعَارَهُ تُقْبَلُ، وَيَقْضِي لِلْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ تَلَقَّى الْيَدَ مِنْ جِهَةِ الْخَارِجِ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَرِثَهَا مِنْ أَبِيهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ، فَنَقُولُ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، إمَّا أَنْ شَهِدُوا أَنَّ الدَّارَ كَانَتْ لِأَبِيهِ وَلَمْ يَقُولُوا مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ، وَإِمَّا أَنْ قَالُوا إنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ، وَإِمَّا أَنْ قَالُوا إنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ أَبِيهِ يَوْمَ الْمَوْتِ، وَإِمَّا أَنْ أَثْبَتُوا مِنْ أَبِيهِ فِعْلًا فِيهَا عِنْدَ مَوْتِهِ أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - " لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ " وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ " تُقْبَلُ "، وَكَذَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ مَاتَ قَبْلَهَا لَا تُقْبَلُ، قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْأَمَالِي " يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ "، (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمِلْكَ مَتَى ثَبَتَ لِأَبِيهِ بِشَهَادَتِهِمْ، فَالْأَصْلُ فِيمَا ثَبَتَ يَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُزِيلُ فَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ يَوْمَ الْمَوْتِ أَيْضًا (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ خَالَفَتْ الدَّعْوَى؛؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِي ادَّعَى مِلْكًا كَائِنًا، وَالشَّهَادَةُ وَقَعَتْ بِمِلْكٍ كَانَ لَا بِمِلْكٍ كَائِنٍ، فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ مُخَالِفَةً لِلدَّعْوَى فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ مَا ثَبَتَ يَبْقَى، قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنْ لَا حُكْمًا لِدَلِيلِ الثُّبُوتِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الثُّبُوتِ لَا يَتَعَرَّضُ لِلْبَقَاءِ، وَإِنَّمَا الْبَقَاءُ بِحُكْمِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ، وَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ لِجَدِّهِ فَعِنْدَهُمَا لَا يَقْضِي بِهَا مَا لَمْ يَشْهَدُوا بِالْمِيرَاثِ بِأَنْ يَقُولُوا: " مَاتَ جَدُّهُ وَتَرَكَهَا لِأَبِيهِ ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ " وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَنْظُرُ: إنْ عَلِمَ أَنَّ الْجَدَّ مَاتَ قَبْلَ الْأَبِ يَقْضِي بِهَا لَهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْأَبَ مَاتَ قَبْلَ الْجَدِّ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَقْضِ بِهَا، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا لِأَبِيهِ لَا يَقْضِي بِهَا لَهُ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذَا عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تُقْبَلُ وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ مَا إذَا شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ مَقْبُولَةٌ؛؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْمِلْكِ الْمَوْرُوثِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالتَّرْكِ مِيرَاثًا لَهُ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْمِلْكِ الْمَوْرُوثِ وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ - وَهُوَ مَا إذَا شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ يَوْمَ الْمَوْتِ، فَالشَّهَادَةُ مَقْبُولَةٌ؛؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْيَدِ مِنْ الْأَصْلِ يُحْمَلُ عَلَى يَدِ الْمَالِكِ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ بِيَدٍ قَائِمَةٍ عِنْدَ الْمَوْتِ شَهَادَةً بِمِلْكٍ قَائِمٍ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَإِذَا مَاتَ فَقَدْ تَرَكَ فَثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ فِي الْمَتْرُوكِ، إذْ هُوَ تَفْسِيرُ الْمِلْكِ الْمَوْرُوثِ؛ وَلِأَنَّ يَدَهُ إنْ كَانَتْ يَدَ مِلْكٍ كَانَ الْمِلْكُ ثَابِتًا لِلْمُوَرِّثِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَتْ يَدَ أَمَانَةٍ انْتَقَلَتْ يَدَ مِلْكٍ إذَا مَاتَ مُجَهِّلًا؛؛ لِأَنَّ التَّجْهِيلَ عِنْدَ الْمَوْتِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْمَضْمُونِ عِنْدَنَا وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ، وَهُوَ مَا إذَا ثَبَتَ لِيَدِ الْمَشْهُودِ مِنْ الْأَبِ فِعْلًا فِي الْعَيْنِ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِعْلًا هُوَ دَلِيلُ الْيَدِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِعْلًا لَيْسَ هُوَ دَلِيلُ الْيَدِ، وَالْفِعْلُ

الَّذِي هُوَ دَلِيلُ الْيَدِ هُوَ فِعْلٌ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ بِدُونِ النَّقْلِ فِي النَّقْلِيَّاتِ، كَاللُّبْسِ وَالْحَمْلِ، أَوْ فِعْلٌ يُوجَدُ لِلنَّقْلِ عَادَةً، كَالرُّكُوبِ فِي الدَّوَابِّ، أَوْ فِعْلًا يُوجَدُ فِي الْغَالِبِ مِنْ الْمُلَّاكِ فِيمَا لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ لَا مِنْ غَيْرِهِمْ كَالسُّكْنَى فِي الدُّورِ، وَالْفِعْلُ الَّذِي لَيْسَ بِدَلِيلِ الْيَدِ هُوَ فِعْلٌ ثَبَتَ فِي النَّقْلِيَّاتِ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ، وَلَا يَكُونُ حُصُولُهُ لِلنَّقْلِ عَادَةً كَالْجُلُوسِ عَلَى الْبِسَاطِ، أَوْ فِعْلٌ لَيْسَ بِفِعْلٍ لِلْمُلَّاكِ غَالِبًا فِيمَا لَا يَقْبَلُ، كَالنَّوْمِ وَالْجُلُوسِ فِي الدَّارِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ فِعْلًا هُوَ دَلِيلُ الْيَدِ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَى ثُبُوتِهِ عِنْدَ مَوْتِ الْأَبِ،؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ الْقَائِمَةَ عَلَى مَا هُوَ دَلِيلُ الْيَدِ عِنْدَ الْمَوْتِ قَائِمَةٌ عَلَى الْيَدِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَ فِعْلًا لَيْسَ بِدَلِيلِ الْيَدِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ دَلِيلُ الْيَدِ الَّتِي هِيَ دَلَالَةُ الْمِلْكِ؛ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ فِي هَذِهِ الدَّارِ: أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْيَدِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمِلْكِ، وَلَا عَلَى فِعْلٍ دَالٍّ عَلَى الْيَدِ، وَلَا عَلَى فِعْلٍ هُوَ فِعْلُ الْمُلَّاكِ غَالِبًا؛ لِأَنَّ الدَّارَ قَدْ يَمُوتُ فِيهَا الْمَالِكُ، وَقَدْ يَمُوتُ فِيهَا غَيْرُ الْمَالِكِ مِنْ الزُّوَّارِ وَالضَّيْفِ وَنَحْوِهِ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ لَابِسٌ هَذَا الْقَمِيصَ، أَوْ لَابِسٌ هَذَا الْخَاتَمَ تُقْبَلُ؛؛ لِأَنَّ لُبْسَ الْقَمِيصِ وَالْخَاتَمِ فِعْلٌ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ النَّقْلِ، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى الْيَدِ عِنْدَ الْمَوْتِ أَطْلَقَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْجَامِعِ الْجَوَابَ فِي الْخَاتَمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ جَوَابَ الْكِتَابِ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْخَاتَمُ فِي خِنْصَرِهِ أَوْ بِنْصِرِهِ يَوْمَ الْمَوْتِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِيمَا سِوَاهُمَا مِنْ الْأَصَابِعِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمُلَّاكِ فِي الْخَاتَمِ هَذَا عَادَةٌ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَيْهِ قَائِمَةً عَلَى الْيَدِ، فَأَمَّا جَعْلُهُ فِيمَا سِوَاهُمَا مِنْ الْأَصَابِعِ مِنْ الْمُلَّاكِ فَهُوَ لَيْسَ بِمُعْتَادٍ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِعْمَالَ الْخَاتَمِ، فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْيَدِ، وَلِهَذَا قَالُوا لَوْ جَعَلَ الْمُودِعُ الْخَاتَمَ فِي خِنْصَرِهِ أَوْ بِنْصِرِهِ فَضَاعَ مِنْ يَدِهِ يُضْمَنُ لِمَا أَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ، وَلَوْ جَعَلَهُ فِيمَا سِوَاهُمَا الْأَصَابِعَ فَضَاعَ لَا يَضْمَنُ لِمَا أَنَّ ذَلِكَ حِفْظٌ وَلَيْسَ بِاسْتِعْمَالٍ، وَالصَّحِيحُ إطْلَاقُ جَوَابِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ كَيْفَ مَا كَانَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ النَّقْلِ فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى الْيَدِ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى هَذَا الْبِسَاطِ، أَوْ عَلَى هَذَا الْفِرَاشِ أَوْ نَائِمٌ عَلَيْهِ، لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ تُتَصَوَّرُ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ وَلَا تُفْعَلُ لِلنَّقْلِ عَادَةً، فَلَمْ يَكُنْ دَلِيلَ الْيَدِ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ فِي بِسَاطٍ، أَحَدُهُمَا جَالِسٌ عَلَيْهِ، وَالْآخِرُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَهَذَا دَلِيلُ ثُبُوتِ يَدَيْهِمَا عَلَيْهِ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا قَضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِدَعْوَاهُمَا أَنَّهُ فِي يَدَيْهِمَا لَا لِثُبُوتِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْجُلُوسَ عَلَيْهِ وَالتَّعَلُّقَ بِهِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ النَّقْلِ، وَلَا يُوجَدُ أَنَّ النَّقْلَ غَالِبًا عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْيَدِ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ تُقْبَلُ، وَيَقْضِي بِالدَّابَّةِ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الرُّكُوبَ وَإِنْ كَانَ يَتَهَيَّأُ بِدُونِ نَقْلِ الدَّابَّةِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُفْعَلُ عَادَةً إلَّا لِلنَّقْلِ، فَكَانَ دَلِيلَ الْيَدِ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ سَاكِنٌ هَذِهِ الدَّارَ تُقْبَلُ، وَيَقْضِي لِلْوَارِثِ (وَرُوِيَ) عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ وَلَا يَقْضِي، (وَوَجْهُهُ) أَنَّ فِعْلَ السُّكْنَى فِي الدَّارِ كَمَا يُوجَدُ مِنْ الْمُلَّاكِ يُوجَدُ مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْيَدِ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛؛ لِأَنَّ السُّكْنَى فِعْلٌ يُوجَدُ فِي الْغَالِبِ مِنْ الْمُلَّاكِ لَا مِنْ غَيْرِهِمْ هَذَا هُوَ الْمُعْتَادُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ وَهَذَا الثَّوْبُ مَوْضُوعٌ عَلَى رَأْسِهِ، وَلَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ كَانَ حَامِلًا لَهُ لَا تُقْبَلُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي بِهَذَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَضَعَهُ بِنَفْسِهِ، أَوْ وَضَعَهُ غَيْرُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَقَعَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ بِأَنْ هَبَّتْ رِيحٌ بِهِ فَأَلْقَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي النَّقْلُ مِنْهُ، فَلَا يَثْبُتُ النَّقْلُ مِنْهُ بِالشَّكِّ، فَلَا تَثْبُتُ الْيَدُ بِالشَّكِّ، ثُمَّ نَقُولُ إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ قَالُوا: " هَذَا وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ "، وَإِمَّا أَنْ قَالُوا: " هُوَ وَارِثُهُ لَا نَعْلَمُ أَنَّ لَهُ وَارِثًا غَيْرُهُ "، وَإِمَّا أَنْ قَالُوا: " هُوَ وَارِثُهُ "، وَلَمْ يَقُولُوا لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، وَلَا قَالُوا: " لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ " فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ - وَهُوَ مَا إذَا قَالُوا: " هُوَ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ " فَإِنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تُقْبَلَ؛ لِأَنَّهَا كَشَهَادَةٍ عَلَى مَا لَا عِلْمَ لِلشَّاهِدِ بِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ لَا يَعْلَمُهُ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلشَّاهِدِ «إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ، وَإِلَّا فَدَعْ» (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ مَعْنَاهُ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ: لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، أَوْ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فِي عِلْمِنَا، وَلَوْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ لَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ، فَكَذَا هَذَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (وَأَمَّا) الْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ مَا إذَا قَالُوا: " هُوَ وَارِثُهُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ "

تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تُقْبَلُ حَتَّى يَقُولُوا: " لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ "؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَقُولُوا: " لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ " اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُ لَا يَعْلَمُونَهُ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ إنَّمَا تَحِلُّ لَهُ الشَّهَادَةُ بِمَا فِي عِلْمِهِ، وَنَفْيُ وَارِثٍ آخَرَ لَيْسَ فِي عِلْمِهِ، فَلَا تَحِلُّ لَهُ الشَّهَادَةُ بِهِ، إلَّا عَلَى اعْتِبَارِ مَا فِي عِلْمِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَوْ قَالُوا: " لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فِي هَذَا الْمِصْرِ، أَوْ فِي أَرْضِ كَذَا " تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا تُقْبَلُ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَهُمْ: " لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فِي هَذَا الْمِصْرِ " لَا يَنْفِي وَارِثًا غَيْرَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ فِي مِصْرٍ آخَرَ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَعَلِمُوهُ؛ لِأَنَّ وَارِثَ الْإِنْسَانِ لَا يَخْفَى عَلَى أَهْلِ بَلَدِهِ عَادَةً، فَكَانَ التَّخْصِيصُ وَالتَّعْمِيمُ فِيهِ سَوَاءٌ، ثُمَّ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، أَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ وَارِثُهُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، أَوْ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فِي هَذَا الْمِصْرِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ يَدْفَعُ كُلَّ التَّرِكَةِ إلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَارِثُ مِمَّنْ لَا يَحْتَمِلُ الْحَجْبَ، كَالِابْنِ وَالْأَبِ وَالْأُمِّ وَنَحْوِهِمْ، أَوْ يَحْتَمِلُهُ، كَالْأَخِ وَالْأُخْتِ وَالْجَدِّ وَنَحْوِهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ وَارِثًا لَهُ فَيُدْفَعُ إلَيْهِ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ إلَّا إذَا كَانَ زَوْجًا أَوْ زَوْجَةً فَلَا يُعْطَى إلَّا أَكْثَرُ نَصِيبِهِ، فَلَا يُعْطَى الزَّوْجُ إلَّا النِّصْفُ، وَلَا تُعْطَى الْمَرْأَةُ إلَّا الرُّبُعُ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَسْتَحِقَّانِ مِنْ الْمِيرَاثِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِمَا، وَفِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ الْوَارِثِ كَفِيلٌ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ - وَهُوَ مَا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ وَارِثُهُ وَلَمْ يَقُولُوا: " لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ "، وَلَا قَالُوا: " لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ " فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَحْتَمِلُ الْحَجْبَ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ شَيْءٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ثَمَّةَ حَاجِبٍ، فَإِنْ كَانَ لَا يُعْطَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُعْطَى بِالشَّكِّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَحْتَمِلُ الْحَجْبَ يُدْفَعُ إلَيْهِ جَمِيعُ الْمَالِ إلَّا الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ، فَإِنَّهُ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِمَا إلَّا نَصِيبُهُمَا، وَهُوَ أَكْثَرُ النَّصِيبَيْنِ، عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَقَلُّ النَّصِيبَيْنِ، لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ وَلِلْمَرْأَةِ الثُّمْنُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ النُّقْصَانَ عَنْ أَكْثَرِ النَّصِيبَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْمُزَاحَمَةِ، وَفِي وُجُودِ الْمُزَاحِمِ شَكٌّ، فَلَا يَثْبُتُ النُّقْصَانُ بِالشَّكِّ، وَلِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَقَلَّ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ، وَفِي الزِّيَادَةِ شَكٌّ فَلَا تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ بِالشَّكِّ وَرُوِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ لِلزَّوْجِ الرُّبُعَ وَلِلْمَرْأَةِ رُبُعُ الثُّمْنِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَيَكُونُ لَهَا رُبُعُ الثُّمْنِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ وَفِي الزِّيَادَةِ شَكٌّ، وَرَوَى عَنْهُ أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ وَلِلزَّوْجِ الْخُمُسُ، وَلِلْمَرْأَةِ رُبُعُ التُّسْعِ، أَمَّا الزَّوْجُ؛ فَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ أَبَوَانِ وَبِنْتَانِ وَزَوْجٌ، أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، لِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ: أَرْبَعَةٌ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ: ثَمَانِيَةٌ، وَلِلزَّوْجِ الرُّبُعُ: ثَلَاثَةٌ، فَعَالَتْ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فَصَارَتْ الْفَرِيضَةُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ: خُمُسُهَا فَذَلِكَ لِلزَّوْجِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ؛ فَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَيِّتِ أَبَوَانِ وَبِنْتَانِ وَزَوْجَةٌ، أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، لِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ: ثَمَانِيَةٌ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ: سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ: ثَلَاثَةٌ، فَعَالَتْ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فَصَارَتْ الْفَرِيضَةُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ: تُسْعُهَا، ثُمَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا ثَلَاثَةٌ أُخْرَى فَيَكُنَّ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ، فَيَكُونُ لَهَا رُبُعُ التُّسْعِ، وَثَلَاثَةٌ عَلَى أَرْبَعَةٍ لَا تَسْتَقِيمُ، فَتُضْرَبُ أَرْبَعَةٌ فِي تِسْعَةٍ، وَيَكُونُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ سَهْمًا، تُسْعُهَا: أَرْبَعَةٌ، فَلَهَا مِنْ ذَلِكَ سَهْمٌ، وَهُوَ رُبُعُ التُّسْعِ، وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا، ثُمَّ فِي هَذَا الْوَجْهِ الثَّالِثِ إذَا كَانَ الْوَارِثُ مِمَّنْ لَا يَحْتَمِلُ الْحَجْبَ وَدُفِعَ الْمَالُ إلَيْهِ هَلْ يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ -: " لَا يُؤْخَذُ "، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: " يُؤْخَذُ " (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ لِصِيَانَةِ الْحَقِّ، وَالْحَاجَةُ مَسَّتْ إلَى الصِّيَانَةِ لِاحْتِمَالِ ظُهُورِ وَارِثٍ آخَرَ فَيُؤْخَذُ الْكَفِيلُ نَظَرًا لِلْوَارِثِ، كَمَا فِي رَدِّ الْآبِقِ وَاللُّقَطَةِ إلَى صَاحِبِهَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ لِلْحَالِ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ، وَفِي ثُبُوتِ الْحَقِّ لِوَارِثٍ آخَرَ شَكٌّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ وَارِثٌ آخَرُ، وَقَدْ لَا يَظْهَرُ، فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْحَقِّ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لِحَقٍّ مَشْكُوكٍ فِيهِ مَعَ مَا أَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ مَجْهُولٌ، وَالْكَفَالَةُ لِلْمَجْهُولِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَإِنَّمَا أُخِذَ الْكَفِيلُ بِتَسْلِيمِ الْآبِقِ وَاللُّقَطَةِ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ قَوْلُهُمَا لِمَا أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ عَلَى أَنَّا سَلَّمْنَا فَتِلْكَ كَفَالَةٌ لِمَعْلُومٍ لَا لِمَجْهُولٍ؛ لِأَنَّ الرَّادَّ إنَّمَا يَأْخُذُ الْكَفِيلَ لِنَفْسِهِ كَيْ لَا يَلْزَمَهُ الضَّمَانُ فَلَمْ تَكُنْ كَفَالَةً لِمَجْهُولٍ وَذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ

وَقَالَ هَذَا شَيْءٌ احْتَاطَ بِهِ بَعْضُ الْقُضَاةِ، وَهُوَ ظُلْمٌ، أَرَأَيْتَ لَوْ لَمْ يَجِدْ كَفِيلًا كُنْتُ أَمْنَعُهُ حَقَّهُ دَلَّتْ تَسْمِيَتُهُ أَخُذَ الْكَفِيلِ ظُلْمًا عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ: أَنَّ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، إذْ الصَّوَابُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ظُلْمًا فَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى بَرَاءَةِ سَاحَتِهِ عَنْ لَوْثِ الِاعْتِزَالِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَمَنِّهِ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَشْهُودِ بِهِ، فَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ بِمَعْلُومٍ، فَإِنْ كَانَتْ بِمَجْهُولٍ لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّ عِلْمَ الْقَاضِي بِالْمَشْهُودِ بِهِ شَرْطُ صِحَّةِ قَضَائِهِ، فَمَا لَمْ يَعْلَمْ لَا يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عِنْدَ الْقَاضِي: أَنَّ فُلَانًا وَارِثُ هَذَا الْمَيِّتِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِمَجْهُولٍ لِجَهَالَةِ الْوَارِثِ أَسْبَابَ الْوِرَاثَةِ وَاخْتِلَافَ أَحْكَامِهَا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولُوا: " ابْنُهُ وَوَارِثُهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ "، أَوْ " أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ "، وَقَوْلُهُ: " لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ " لِئَلَّا يَتَلَوَّمَ الْقَاضِي لَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ الشَّهَادَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِجِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بَابٌ فِي الزِّيَادَاتِ يُعْرَفُ ثَمَّةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِهِ مَعْلُومًا لِلشَّاهِدِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حَتَّى لَوْ ظَنَّ، لَا تَحِلُّ لَهُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ رَأَى خَطَّهُ وَخَتْمَهُ وَأَخْبَرَهُ النَّاسُ بِمَا يَتَذَكَّرُ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا إنْ رَأَى خَطَّهُ وَخَتْمَهُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِلَافِ وَالْحُجَجِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ الْمَكَانَ فَوَاحِدٌ، وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَصِيرُ حُجَّةً مُلْزِمَةً إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَتَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الشَّرَائِطُ الَّتِي تَخُصُّ بَعْضَ الشَّهَادَاتِ دُونَ الْبَعْضِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا (مِنْهَا) الدَّعْوَى فِي الشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ مِنْ الْمُدَّعِي بِنَفْسِهِ أَوْ نَائِبِهِ؛؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي هَذَا الْبَابِ شُرِعَتْ لِتَحْقِيقِ قَوْلِ الْمُدَّعِي وَلَا يَتَحَقَّقُ قَوْلُهُ إلَّا بِدَعْوَاهُ إمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِنَائِبِهِ. وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الدَّعْوَى كَأَسْبَابِ الْحُرُمَاتِ مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ، وَأَسْبَابُ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، إلَّا أَنَّهُ شُرِطَتْ الدَّعْوَى فِي بَابِ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَسْرُوقِ مِلْكًا لِغَيْرِ السَّارِقِ شَرْطُ تَحَقُّقِ كَوْنِ الْفِعْلِ سَرِقَةً شَرْعًا، وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إلَّا بِالدَّعْوَى فَشُرِطَتْ الدَّعْوَى لِهَذَا، وَاخْتُلِفَ فِي عِتْقِ الْعَبْدِ: أَنَّهُ حَقٌّ لِلْعَبْدِ فَتُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى، أَوْ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، لِمَا عُلِمَ مِنْ الْخِلَافِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الْعَدَدُ فِي الشَّهَادَةِ بِمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] (وَقَوْلُهُ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] ؛ وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الشَّاهِدِ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - " الْآيَةُ " وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] ، وقَوْله تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] وَلَا تَقَعُ الشَّهَادَةُ لِلَّهِ إلَّا وَأَنْ تَكُونَ خَالِصَةً صَافِيَةً عَنْ جَرِّ النَّفْعِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي الشَّهَادَةِ مَنْفَعَةً لِلشَّاهِدِ مِنْ حَيْثُ التَّصْدِيقُ؛؛ لِأَنَّ مَنْ صَدَقَ قَوْلُهُ يَتَلَذَّذُ بِهِ، فَلَوْ قُبِلَ قَوْلُ الْفَرْدِ لَمْ تَخْلُ شَهَادَتُهُ عَنْ جَرِّ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ، فَلَا يَخْلُصُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَشُرِطَ الْعَدَدُ فِي الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مُضَافًا إلَى قَوْلِ صَاحِبِهِ، فَتَصْفُو الشَّهَادَةُ لِلَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ -؛ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ فَرْدًا يُخَافُ عَلَيْهِ السَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَطْبُوعٌ عَلَى السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ، فَشَرْطُ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ لِيُذَكِّرَ الْبَعْضُ الْبَعْضَ عِنْدَ اعْتِرَاضِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إقَامَةِ امْرَأَتَيْنِ مَقَامَ رَجُلٍ فِي الشَّهَادَةِ {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] ثُمَّ الشَّرْطُ عَدَدُ الْمُثَنَّى فِي عُمُومِ الشَّهَادَاتِ الْقَائِمَةِ عَلَى مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، إلَّا فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] ، وقَوْله تَعَالَى {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] . وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي هَذَا الْبَابِ أَحَدُ نَوْعَيْ الْحُجَّةِ، فَتُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ، ثُمَّ عَدَدُ الْأَقَارِيرِ الْأَرْبَعَةِ شَرْطُ ظُهُورِ الزِّنَا عِنْدَنَا فَكَذَا عَدَدُ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِي الْإِقْرَارِ لِظُهُورِهَا، فَكَذَا فِي الشَّهَادَةِ؛ وَلِأَنَّ عَدَدَ الْأَرْبَعَةِ فِي الزِّنَا ثَبَتَ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ خَبَرَ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مِنْ الْكَذِبِ لَا يَخْلُو عَنْ احْتِمَالِ الْكَذِبِ، وَعَدَدُ الْأَرْبَعَةِ فِي احْتِمَالِ الْكَذِبِ، مِثْلُ عَدَدِ الْمُثَنَّى مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي حَدِّ التَّوَاتُرِ، لَكِنَّا عَرَفْنَاهُ شَرْطًا بِنَصٍّ خَاصٍّ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ فَبَقِيَ سَائِرُ الْأَبْوَابِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَأَمَّا فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ كَالْوِلَادَةِ وَالْعُيُوبِ الْبَاطِنَةِ فِي النِّسَاءِ فَالْعَدَدُ فِيهِ لَيْسَ

بِشَرْطٍ عِنْدَنَا، فَتُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ الْعَدَدَ فِيهِ شَرْطٌ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُكْتَفَى فِيهِ بِامْرَأَتَيْنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا بُدَّ مِنْ الْأَرْبَعِ، وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ شَهَادَةَ الرِّجَالِ لَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُهَا فِي هَذَا الْبَابِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَجَبَ الِاكْتِفَاءُ بِعَدَدِهِمْ مِنْ النِّسَاءِ، وَوَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ لَا يُكْتَفَى بِأَقَلَّ مِنْ رَجُلَيْنِ، فَلَا يُكْتَفَى بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ. (وَلَنَا) أَنَّ شَرْطَ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَ تَعَبُّدًا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى؛؛ لِأَنَّ خَبَرَ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ قَطْعًا وَيَقِينًا، وَإِنَّمَا يُفِيدُهُ غَالِبُ الرَّأْيِ وَأَكْثَرُ الظَّنِّ، وَهَذَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ الْعَدَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا الْعَدَدَ فِيهَا شَرْطًا بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ بِالْعَدَدِ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] ، فَبَقِيَتْ حَالَةُ الِانْفِرَادِ عَنْ الرِّجَالِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ، وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَاحِدٌ بِالْوِلَادَةِ يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَبِلَ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَشَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْلَى، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَمِنْهَا اتِّفَاقُ الشَّهَادَتَيْنِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ فَإِنْ اخْتَلَفَا لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ،؛ وَلِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الشَّهَادَتَيْنِ لَمْ يُوجَدْ إلَّا أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ، وَلَا يُكْتَفَى بِهِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ، ثُمَّ نَقُولُ: الِاخْتِلَافُ قَدْ يَكُونُ فِي جِنْسِ الْمَشْهُودِ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي قَدْرِهِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الزَّمَانِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَكَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي الْجِنْسِ فَقَدْ يَكُونُ فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَالِ، أَمَّا فِي الْعَقْدِ فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا بِالْبَيْعِ وَالْآخَرُ بِالْمِيرَاثِ أَوْ بِالْهِبَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا تُقْبَلُ لِاخْتِلَافِ الْعَقْدَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى، فَقَدْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ غَيْرِ مَا شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ وَأَمَّا فِي الْمَالِ فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا بِمَكِيلٍ وَالْآخَرُ بِمَوْزُونٍ، فَلَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ. وَأَمَّا اخْتِلَافُ الشَّهَادَةِ فِي قَدْرِ الْمَشْهُودِ بِهِ، فَنَحْوُ مَا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفَيْنِ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ، لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَصْلًا، وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ، تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ بِالْإِجْمَاعِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تُخَالِفْ الدَّعْوَى فِي قَدْرِ الْأَلْفِ بَلْ وَافَقَتْهَا بِقَدْرِهَا، إلَّا أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَدَّعِي زِيَادَةَ مَالٍ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ، فَيَثْبُتُ قَدْرُ مَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ، كَمَا إذَا ادَّعَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ شَطْرَ الشَّهَادَةِ خَالَفَ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَدَّعِي أَلْفَيْنِ، وَأَنَّهُ اسْمٌ وُضِعَ دَلَالَةً عَلَى عَدَدٍ مَعْلُومٍ، وَالِاسْمُ الْمَوْضُوعُ دَلَالَةً عَلَى عَدَدٍ لَا يَقَعُ عَلَى مَا دُونَ ذَلِكَ الْعَدَدِ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ، كَالْبَرْكِ لِأَلْفٍ مِنْ الْإِبِلِ وَالْهُنَيْدَةِ لِمِائَةٍ مِنْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَمْ تَكُنْ الْأَلْفُ الْمُفْرَدَةُ مُدَّعًى، فَلَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ شَاهِدَةً عَلَى مَا دَخَلَ تَحْتَ الدَّعْوَى فَانْفَرَدَتْ الشَّهَادَةُ عَنْ الدَّعْوَى فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى، فَلَا تُقْبَلُ، بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ أَنَّهُ يُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ وَالْخَمْسَمِائَةِ اسْمٌ لِعَدَدَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُعْطَفُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيُقَالُ: أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ دَاخِلًا تَحْتَ الدَّعْوَى، فَالشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَيْهِمَا تَكُونُ قَائِمَةً عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودًا، فَإِذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ فَقَدْ شَهِدَ بِأَحَدِ الْعَدَدَيْنِ الدَّاخِلَيْنِ تَحْتَ الدَّعْوَى، فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ مُوَافِقَةً لِلدَّعْوَى فِي عَدَدِ الْأَلْفِ فَيُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي؛ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ - بِخِلَافِ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ -؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِعَدَدٍ وَاحِدٍ لَا تَصِحُّ عَلَى مَا دُونَهُ بِحَالٍ، فَلَمْ تَكُنْ الْأَلْفُ الْمُفْرَدَةُ دَاخِلَةً تَحْتَ الدَّعْوَى، فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَيْهَا شَهَادَةً عَلَى مَا لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الدَّعْوَى، فَلَا تُقْبَلُ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَلَوْ ادَّعَى أَلْفًا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْأَلْفِ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ لَا تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ كَذَّبَ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ فِي بَعْضِ مَا شَهِدَ بِهِ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ تُهْمَةً فِي الْبَاقِي، فَلَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ فَقَالَ: كَانَ لِي عَلَيْهِ أَلْفَانِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ قَدْ قَضَانِي أَلْفًا، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الشَّاهِدُ فَيُقْبَلُ، وَكَذَا لَوْ ادَّعَى أَلْفًا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِهَا وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لَا تُقْبَلُ لِمَا قُلْنَا، إلَّا إذَا وَفَّقَ فَقَالَ: كَانَ لِي عَلَيْهِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، إلَّا أَنَّهُ قَضَانِي خَمْسَمِائَةٍ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا الشَّاهِدُ فَتُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَفَّقَ فَقَدْ زَالَ الِاخْتِلَافُ الْمَانِعُ مِنْ الْقَبُولِ

وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ يُنْكِرُ، فَشَهِدَ شَاهِدٌ بِأَلْفَيْنِ وَآخَرُ بِأَلْفٍ، أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ لَا تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الْبَدَلِ، وَاخْتِلَافُ الْبَدَلَيْنِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَقْدَيْنِ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدًا بِعَقْدٍ غَيْرِ عَقْدِ صَاحِبِهِ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ فَلَا تُقْبَلُ وَلَا يَثْبُتُ الْعَقْدُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُدَّعِيًا وَالْبَائِعُ مُدَّعًى عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا فِي الْإِجَارَةِ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمُؤَاجِرِ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ دَعْوَى الْعَقْدِ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ فَلَا تُقْبَلُ كَمَا فِي بَابِ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَهَذَا دَعْوَى الْمَالِ لَا دَعْوَى الْعَقْدِ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الدُّيُونِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ، هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمُؤَاجِرِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ لَا تُقْبَلُ، سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْمُدَّةِ، أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا؛؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَى الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي النِّكَاحِ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمَرْأَةِ، فَهَذَا دَعْوَى الْمَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - حَتَّى أَنَّهَا لَوْ ادَّعَتْ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَشَهِدَ لَهَا شَاهِدَانِ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ تُقْبَلُ، وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَعِنْدَهُمَا لَا تُقْبَلُ وَلَا يَجُوزُ النِّكَاحُ؛؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَى الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةُ تُنْكَرُ لَا تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ؛؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَى الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْخُلْعِ أَوْ فِي الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ، أَوْ فِي الْعَتَاقِ، أَوْ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى مَالٍ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ الْمَوْلَى أَوْ وَلِيِّ الْقِصَاصِ تُقْبَلُ؛؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَى الْمَالِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمَرْأَةِ أَوْ الْعَبْدِ أَوْ الْقَاتِلِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَى الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي الْكِتَابَةِ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمُكَاتَبِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَى الْعَقْدِ، فَلَا تُقْبَلُ وَلَا تَصِحُّ الْكِتَابَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْمَوْلَى فَلَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُعْجِزَ نَفْسَهُ مَتَى شَاءَ. (وَأَمَّا) اخْتِلَافُ الشَّهَادَةِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْأَقَارِيرِ لَا يَمْنَعُ الْقَبُولَ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَفَاعِيلِ مِنْ الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَالْغَصْبِ وَإِنْشَاءِ الْبَيْعِ، وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهَا يَمْنَعُ الْقَبُولَ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ الْإِقْرَارَ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ، فَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ لِسَمَاعِهِ عَنْ الْإِقْرَارِ فِي زَمَانَيْنِ أَوْ مَكَانَيْنِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَإِنْشَاءِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ، فَاخْتِلَافُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فِيهَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الشَّهَادَتَيْنِ فَيَمْنَعُ الْقَبُولَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ قَرْضَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَحَدُهُمَا عَلَى الْقَرْضِ وَالْآخَرُ عَلَى الْقَرْضِ وَالْقَضَاءِ، يَقْضِي بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى الْقَرْضِ وَلَا يَقْضِي بِالْقَضَاءِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهِمَا بِالْقَرْضِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا وَإِنْ اجْتَمَعَا عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْقَرْضِ لَكِنَّ الَّذِي شَهِدَ بِالْقَضَاءِ فَسَخَ شَهَادَتَهُ بِالْقَرْضِ، فَبَقِيَ عَلَى الْقَرْضِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَلَا يَقْضِي بِالشَّهَادَةِ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ اخْتَلَفَتَا فِي الْقَضَاءِ لَا فِي الْقَرْضِ، بَلْ اتَّفَقَا عَلَى الْقَرْضِ فَيُقْضَى بِهِ، وَقَوْلُهُ: شَاهِدُ الْقَضَاءِ فَسَخَ شَهَادَتَهُ بِالْقَرْضِ قُلْنَا: مَمْنُوعٌ بَلْ قَرَّرَ شَهَادَتَهُ عَلَى الْقَرْضِ؛؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَرْضِ بَعْدَ الْقَرْضِ يَكُونُ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَكَانِ فَوَاحِدٌ وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَضَاءِ وَمِنْهَا الذُّكُورَةُ فِي الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَلَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا - أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ،؛ وَلِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ مَبْنَاهُمَا عَلَى الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ بِالشُّبُهَاتِ، وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ لَا تَخْلُو عَنْ شُبْهَةٍ؛ لِأَنَّهُنَّ جُبِلْنَ عَلَى السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ وَنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ، فَيُورِثُ ذَلِكَ شُبْهَةً بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ؛ وَلِأَنَّ جَوَازَ شَهَادَةِ النِّسَاءِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ شَهَادَةِ الرِّجَالِ، وَالْإِبْدَالُ فِي بَابِ الْحُدُودِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، كَالْكَفَالَاتِ وَالْوَكَالَاتِ. وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَمْوَالِ فَالذُّكُورَةُ لَيْسَتْ فِيهَا بِشَرْطٍ، وَالْأُنُوثَةُ لَيْسَتْ بِمَانِعَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، فَتُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي بَابِ الْمُدَايَنَةِ {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] . وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِهَا فِي الشَّهَادَةِ بِالْحُقُوقِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَالٍ، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالنَّسَبِ، قَالَ أَصْحَابُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: " لَيْسَتْ بِشَرْطٍ " وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " شَرْطٌ " (وَجْهُ)

قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ حُجَّةٌ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ حُجَّةً فِي بَابِ الدِّيَانَاتِ عِنْدَ عَدَمِ الرِّجَالِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَالٍ لِانْدِفَاعِ الْحَاجَةِ فِيهَا بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ، وَلِهَذَا لَمْ تُجْعَلْ حُجَّةً فِي بَابِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ. وَكَذَا لَمْ تُجْعَلْ حُجَّةً بِانْفِرَادِهِنَّ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، (وَلَنَا) قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا} [البقرة: 282] الْآيَةَ، جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ شَهَادَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَهُمْ مِنْ الشُّهَدَاءِ، وَالشَّاهِدُ الْمُطْلَقُ مَنْ لَهُ شَهَادَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ شَهَادَةٌ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، إلَّا مَا قُيِّدَ بِدَلِيلٍ. وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي النِّكَاحِ وَالْفُرْقَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى الْجَوَازِ؛ وَلِأَنَّ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي إظْهَارِ الْمَشْهُودِ بِهِ مِثْلُ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهَا عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ بِالْعَدَالَةِ، لَا أَنَّهَا لَمْ تُجْعَلْ حُجَّةً فِيمَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ لِنَوْعِ قُصُورٍ وَشُبْهَةٍ فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا، وَهَذِهِ الْحُقُوقُ تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ. (وَأَمَّا) قَوْلُهُ بِأَنَّهَا ضَرُورَةٌ فَلَا تَسْلَمُ، فَإِنَّهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى شَهَادَةِ الرِّجَالِ فِي بَابِ الْأَمْوَالِ مَقْبُولَةٌ، فَدَلَّ أَنَّهَا شَهَادَةٌ مُطْلَقَةٌ لَا ضَرُورَةً، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ نُقْصَانَ الْأُنُوثَةِ يَصِيرُ مَجْبُورًا بِالْعَدَدِ فَكَانَتْ شَهَادَةً مُطْلَقَةً، وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِهَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِحْصَانِ، قَالَ عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: " لَيْسَتْ بِشَرْطٍ " وَقَالَ زُفَرُ: شَرْطٌ حَتَّى يَظْهَرَ الْإِحْصَانُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَظْهَرُ (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الذُّكُورَةَ شَرْطٌ فِي عِلَّةِ الْعُقُوبَاتِ بِالْإِجْمَاعِ، حَتَّى لَا يَظْهَرَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَالْإِحْصَانُ مِنْ جُمْلَةِ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ وُجُوبِ الرَّجْمِ لَيْسَ هُوَ الزِّنَا الْمُطْلَقَ، بَلْ الزِّنَا لِمَوْصُوفٍ بِالتَّغْلِيظِ، وَلَا يَتَغَلَّظُ إلَّا بِالْإِحْصَانِ، فَكَانَ الْإِحْصَانُ مِنْ جُمْلَةِ الْعِلَّةِ فَلَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ بِالْإِحْصَانِ جَازَ رُجُوعُهُ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَا رَجَعَ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَى الْإِحْصَانِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى كَالشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى الزِّنَا. (وَلَنَا) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَاسْتَشْهِدُوا} [النساء: 15] الْآيَةَ، وَدَلَالَتُهَا عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " مِنْ جُمْلَةِ الْعِلَّةِ الْإِحْصَانُ "، قُلْنَا: " لَا مَمْنُوعٌ، بَلْ هُوَ شَرْطُ الْعِلَّةِ " فَيَصِيرُ الزِّنَا عِنْدَهُ عِلَّةً، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ لَا إلَى الشَّرْطِ لِمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا الرُّجُوعُ عَنْهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَا يَصِحُّ فِي قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى زُفَرَ، وَلَا رِوَايَةَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -، فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَ، وَعَدَمُ اشْتِرَاطِ الدَّعْوَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا عَلَى أَنَّهُ تُضَافُ إلَيْهِ الْعُقُوبَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي عِتْقِ الْأَمَةِ إجْمَاعًا، وَلَا فِي عِتْقِ الْعَبْدِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَقَرَّرُ تَعَلُّقُ عُقُوبَةٍ بِهِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِحْصَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْوَقْتِ، عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ. وَمِنْهَا إسْلَامُ الشَّاهِدِ إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مُسْلِمًا، حَتَّى لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهَا مَعْنَى الْوِلَايَةِ، وَهُوَ تَنْفِيذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْكَافِرِ، فَلَا شَهَادَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَعَلَى الْكَافِرِ أَوْلَى (وَأَمَّا) إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ كَافِرًا، فَإِسْلَامُ الشَّاهِدِ، هَلْ هُوَ شَرْطٌ لِقَبُولِ شَهَادَتِهِ عَلَيْهِ؟ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - " لَيْسَ بِشَرْطٍ " حَتَّى تُقْبَلَ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ أَوْ اخْتَلَفَتْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا عُدُولًا فِي دِينِهِمْ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: شَرْطٌ حَتَّى لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمْ أَصْلًا. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] نَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَكُونَ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلٌ، وَفِي قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إثْبَاتُ السَّبِيلِ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنَّهُ مَنْفِيٌّ؛ وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَالْفِسْقُ مَانِعٌ، وَالْكُفْرُ رَأْسُ الْفِسْقِ، فَكَانَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنْ الْقَبُولِ. (وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ «فَإِذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» ، وَلِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ شَهَادَةٌ، فَكَذَا لِلذِّمِّيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ شَهَادَةٌ كَالْمُسْلِمِ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ صَارَ مَخْصُوصًا مِنْ عُمُومِ النَّصِّ،؛ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَسَّتْ إلَى صِيَانَةِ حُقُوقِ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَلَا تَحْصُلُ الصِّيَانَةُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ شَهَادَةٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَاجَةَ

إلَى صِيَانَةِ حُقُوقِهِمْ مَاسَّةٌ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا، وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصِّيَانَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ شَهَادَةٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ تَكْثُرُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَحْضُرُونَ مُعَاقَدَتِهِمْ لِيَتَحَمَّلُوا حَوَادِثَهُمْ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ شَهَادَةٌ لَضَاعَتْ حُقُوقُهُمْ عِنْدَ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الصِّيَانَةِ بِالشَّهَادَةِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَوُجُوبُ الْقَضَاءِ لَا يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالتَّقْلِيدِ السَّابِقِ، وَالشَّهَادَةُ شَرْطُ الْوُجُوبِ، وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ، فَلَا يَكُونُ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إثْبَاتُ السَّبِيلِ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ، سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ أَوْ اخْتَلَفَتْ، فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ النَّصْرَانِيِّ عَلَى الْيَهُودِيِّ، وَالْيَهُودِيِّ عَلَى الْمَجُوسِيِّ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: " إنْ اخْتَلَفَتْ لَا تُقْبَلُ ": وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ صُورَةً، فَهُوَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ حَقِيقَةً، فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَيْفَ مَا كَانَ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِ عَلَى الذِّمِّيِّ؛؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ فِيهَا صُورَةً؛ لِأَنَّهُ مَا دَخَلَ دَارَنَا لِلسُّكْنَى فِيهَا بَلْ لِيَقْضِيَ حَوَائِجَهُ، ثُمَّ يَعُودَ عَنْ قَرِيبٍ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالذِّمِّيُّ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَاخْتَلَفَتْ الدَّارَانِ فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا، وَصَارَ حُكْمُ الْمُسْتَأْمَنِ مَعَ الذِّمِّيِّ فِي الشَّهَادَةِ كَحُكْمِ الذِّمِّيِّ مَعَ الْمُسْلِمِ، وَشَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِ تُقْبَلُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ إنْ اتَّفَقَتْ دَارُهُمْ وَمِلَلُهُمْ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ لَا تُقْبَلُ. وَمِنْهَا عَدَمُ التَّقَادُمِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ كُلِّهَا إلَّا حَدَّ الْقَذْفِ، حَتَّى لَا تُقْبَلَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ، إلَّا عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِمَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قِيَامُ الرَّائِحَةِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ إذَا لَمْ يَكُنْ سَكْرَانَ، وَلَمْ يُحَقَّقْ أَنَّهُ مِنْ مَسِيرِهِ لَا يَبْقَى الرِّيحُ مِنْ الْمَجِيءِ بِهِ مِنْ مِثْلِهَا عَادَةً عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْحُدُودِ وَتُذْكَرُ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَمِنْهَا) الْأَصَالَةُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، حَتَّى لَا تُقْبَلَ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ، وَهِيَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ عِنْدَنَا، كَذَا لَا يُقْبَلُ فِيهَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ بِشَرْطٍ، حَتَّى تُقْبَلَ فِيهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْأَمْوَالِ وَالْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْهَا؛ فَتُقْبَلُ فِيهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَكِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، إلَّا فِي الْعَبْدِ الْآبِقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُقْبَلُ فِيهِ أَيْضًا عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْفُرُوعَ يُؤَدُّونَ الشَّهَادَةَ نِيَابَةً عَنْ الْأُصُولِ، فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ شَهَادَةَ الْأُصُولِ مَعْنًى، وَشَهَادَةُ الْأُصُولِ عَلَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ مَقْبُولَةٌ. (وَلَنَا) أَنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ مِمَّا تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا تَخْلُو عَنْ شُبْهَةٍ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي شَهَادَتِهِنَّ بِسَبَبِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ هُنَا تَمَكَّنَتْ فِي مَجْلِسٍ، فَكَانَ فِيهَا زِيَادَةٌ لَيْسَتْ فِي شَهَادَةِ الْأُصُولِ؛ وَلِأَنَّ الْحُدُودَ لَمَّا كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى الدَّرْءِ أَوْجَبَ ذَلِكَ اخْتِصَاصَهَا بِحُجَجٍ مَخْصُوصَةٍ، بَلْ إيقَافَ إقَامَتِهَا، وَلِهَذَا شُرِطَ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا؛ لِأَنَّ اطِّلَاعَ أَرْبَعَةٍ مِنْ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ عَلَى غَيْبُوبَةِ ذَكَرِهِ فِي فَرْجِهَا، كَمَا يَغِيبُ الْمِيلُ فِي الْمُكْحُلَةِ نَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ، ثُمَّ نَقُولُ الْكَلَامُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي صُورَةِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَفِي شَرَائِطِ التَّحَمُّلِ، وَفِي صُورَةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَفِي شَرَائِطِ الْأَدَاءِ أَمَّا صُورَةُ التَّحَمُّلِ فَلَهَا عِبَارَتَانِ: مُخْتَصَرَةٌ، وَمُطَوَّلَةٌ، أَمَّا اللَّفْظُ الْمُخْتَصَرُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ: " أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا "، أَوْ يَقُولَ: " أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا، فَأَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ ". وَأَمَّا الْمُطَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ: " أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا، أُشْهِدُكَ عَلَى شَهَادَتِي هَذِهِ وَآمُرُكَ أَنْ تَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِي هَذِهِ فَاشْهَدْ ". وَأَمَّا شَرَائِطُ تَحَمُّلِ هَذِهِ الشَّهَادَاتِ فَمَا ذَكَرْنَا فِي عُمُومِ الشَّهَادَاتِ وَأَمَّا الَّذِي يَخْتَصُّ بِهَا فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا الْإِشْهَادُ حَتَّى لَا يَصِحَّ التَّحَمُّلُ بِنَفْسِ السَّمَاعِ دُونَ الْإِشْهَادِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: " أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا " فَسَمِعَ إنْسَانٌ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ: " اشْهَدْ أَنْتَ " لَمْ يَصِحَّ التَّحَمُّلُ بِخِلَافِ سَائِرِ الشَّهَادَاتِ، أَنَّهُ يَصِحُّ التَّحَمُّلُ فِيهَا بِنَفْسِ مُعَايَنَةِ الْفِعْلِ وَسَمَاعِ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْفُرُوعَ يَشْهَدُونَ نِيَابَةً عَنْ الْأُصُولِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِنَابَةِ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ

فصل في بيان ما يلزم الشاهد بتحمل الشهادة

بِالْإِشْهَادِ بِخِلَافِ سَائِرِ الشَّهَادَاتِ؛ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الشَّاهِدِ فِي سَائِرِهَا بِطَرِيقِ الْإِحَالَةِ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ، فَيَصِحُّ التَّحَمُّلُ فِيهَا بِطَرِيقِ الْمُعَايَنَةِ. وَمِنْهَا الْإِشْهَادُ عَلَى شَهَادَتِهِ حَتَّى لَوْ قَالَ: " أَشْهَدُ بِمِثْلِ مَا شَهِدْتُ "، أَوْ " كَمَا شَهِدْت "، أَوْ " عَلَى مَا شَهِدْتُ " لَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ مَا لَمْ يَقُلْ " عَلَى شَهَادَتِي "؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّحَمُّلِ وَالْإِنَابَةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْإِشْهَادِ عَلَى شَهَادَتِهِ. وَمِنْهَا عَدَدُ التَّحَمُّلِ، وَهُوَ أَنْ يَتَحَمَّلَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ اثْنَانِ، حَتَّى لَوْ تَحَمَّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَاحِدٌ، وَتَحَمَّلَ مِنْ الْآخَرِ وَاحِدٌ لَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الشَّاهِدِ، وَالْحُقُوقُ الثَّابِتَةُ فِي الذِّمَمِ لَا يَنْقُلُهَا إلَى الْقَاضِي إلَّا شَاهِدَانِ، وَلَوْ تَحَمَّلَ اثْنَانِ مِنْ أَحَدِهِمَا شَهَادَتَهُ، ثُمَّ تَحَمَّلَا مِنْ الْآخَرِ شَهَادَتَهُ جَازَ التَّحَمُّلُ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ عَلَى التَّحَمُّلِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَانِ، فَأَمَّا الذُّكُورَةُ فِي تَحَمُّلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ حَتَّى يَصِحَّ التَّحَمُّلُ فِيهَا مِنْ النِّسَاءِ. (وَأَمَّا) صُورَةُ أَدَاءِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فَلَهَا لَفْظَانِ أَيْضًا: مُخْتَصَرٌ، وَمُطَوَّلٌ فَالْمُخْتَصَرُ أَنْ يَقُولَ: " شَهِدَ فُلَانٌ عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ فَأَنَا أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ ". وَأَمَّا الْمُطَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: " شَهِدَ عِنْدِي فُلَانٌ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا، وَأَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ، وَأَنَا أَشْهَدُ الْآنَ عَلَى شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ "، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ: " وَأَمَرَنِي أَنْ أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ " جَازَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّحَمُّلِ وَالْإِنَابَةِ يَتَأَدَّى بِقَوْلِهِ: " أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ " فَكَانَ قَوْلُهُ: " أَمَرَنِي بِذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّأْكِيدِ " وَأَمَّا شَرَائِطُهَا فَمَا ذَكَرْنَاهُ كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَيِّتًا، أَوْ غَائِبًا مَسِيرَةَ سَفَرٍ، أَوْ مَرِيضًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، وَلَا تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ إلَّا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِأَدَاءِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فَتُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] فَظَاهِرُ النَّصِّ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلنِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ شَهَادَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، إلَّا مَا قُيِّدَ بِدَلِيلٍ؛ وَلِأَنَّ قَضِيَّةَ الْقِيَاسِ أَنْ لَا تُشْتَرَطَ الذُّكُورَةُ وَالْأَصْلُ فِي عُمُومِ الشَّهَادَاتِ، إلَّا أَنَّ اشْتِرَاطَ الذُّكُورَةِ فِي شَهَادَةِ الْأُصُولِ عَلَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ثَبَتَ بِنَصٍّ خَاصٍّ، وَهُوَ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِتَمَكُّنِ شُبْهَةٍ فِي شَهَادَتِهِنَّ لَيْسَتْ فِي شَهَادَةِ الرِّجَالِ، وَاشْتِرَاطُ الْأَصَالَةِ فِي الشَّهَادَةِ لِتَمَكُّنِ زِيَادَةِ شُبْهَةٍ فِي شَهَادَةِ الْفُرُوعِ لَيْسَتْ فِي شَهَادَةِ الْأُصُولِ، وَهُوَ الشُّبْهَةُ فِي الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَشُرِطَ ذَلِكَ احْتِيَالًا لِدَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالْأَمْوَالُ وَالْحُقُوقُ مِمَّا ثَبَتَ بِالشُّبْهَةِ فَثَبَتَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ بِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ بِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ فَاَلَّذِي يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيمَا سِوَى أَسْبَابِ الْحُدُودِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] ، وَقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] إلَّا أَنَّ فِي الشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ وَأَسْبَابِهَا لَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمَشْهُودِ لَهُ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ، فَإِذَا طَلَبَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ، حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ بَعْدَ الطَّلَبِ يَأْثَمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] أَيْ دُعُوا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَمَانَةُ الْمَشْهُودِ لَهُ فِي ذِمَّةِ الشَّاهِدِ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] وَقَالَ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وَأَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَفِيمَا سِوَى أَسْبَابِ الْحُدُودِ، نَحْوُ طَلَاقِ امْرَأَةٍ وَإِعْتَاقِ عَبْدٍ، وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَنَحْوُهَا مِنْ أَسْبَابِ الْحُرُمَاتِ تَلْزَمُهُ الْإِقَامَةُ حِسْبَةً لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْإِقَامَةِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ. وَأَمَّا فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ مِنْ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَشْهَدَ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتُرَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَقَدْ نَدَبَهُ الشَّرْعُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إنْ شَاءَ اخْتَارَ جِهَةَ الْحِسْبَةِ فَأَقَامَهَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ جِهَةَ السَّتْرِ فَيَسْتُرُ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ الشَّهَادَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الشَّهَادَةِ فَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهَا مُظْهِرَةٌ لِلْحَقِّ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] ، وَثُبُوتُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ الْأَحْكَامِ.

كتاب الرجوع عن الشهادة

[كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ] الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ بَيَانُ حُكْمِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا - يَرْجِعُ إلَى مَالِ الشَّاهِدِ، وَالثَّانِي - يَرْجِعُ إلَى نَفْسِهِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَالِهِ فَهُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ، أَمَّا الْأَوَّلُ - فَسَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي هَذَا الْبَابِ إتْلَافُ الْمَالِ أَوْ النَّفْسِ بِالشَّهَادَةِ؛؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ فِي الشَّرْعِ إنَّمَا يَجِبُ إمَّا بِالِالْتِزَامِ أَوْ بِالْإِتْلَافِ، وَلَمْ يُوجَدْ الِالْتِزَامُ فَيَتَعَيَّنَ الْإِتْلَافُ فِيهَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، فَإِنْ وَقَعَتْ إتْلَافًا انْعَقَدَتْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَإِلَّا فَلَا. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفٍ، وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ الْأَلْفَ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَقَعَتْ سَبَبًا إلَى الْإِتْلَافِ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَالتَّسَبُّبُ إلَى الْإِتْلَافِ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشَرَةِ فِي حَقِّ سَبَبِيَّةِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، كَالْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ وَحَفْرِ الْبِئْرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ، (فَإِنْ قِيلَ) لَمَّا رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا تَبَيَّنَ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي لَمْ يَصِحَّ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَخَذَ الْمَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلِمَ لَا يَرُدُّهُ إلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّهُ بِالرُّجُوعِ لَمْ يَتَبَيَّنْ بُطْلَانُ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْقَاضِي وَالْمَشْهُودِ لَهُ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلِ - أَنَّ الرُّجُوعَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَالْقَضَاءُ بِالْحَقِّ لِلْمَشْهُودِ بِهِ نَفَذَ بِدَلِيلٍ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَهُوَ الشَّهَادَةُ الصَّادِقَةُ عِنْدَ الْقَاضِي، فَلَا يُنْتَقَضُ الثَّابِتُ ظَاهِرًا بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ فَبَقِيَ الْقَضَاءُ مَاضِيًا عَلَى الصِّحَّةِ وَالْمُدَّعَى فِي يَدِ الْمُدَّعِي كَمَا كَانَ. وَالثَّانِي - أَنَّ الشَّاهِدَ فِي الرُّجُوعِ عَنْ شَهَادَتِهِ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ، لِجَوَازِ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ غَرَّهُ بِمَالٍ أَوْ غَيْرِهِ لِيَرْجِعَ عَنْ شَهَادَتِهِ فَيَظْهَرَ كَذِبُ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ فَلَمْ يُصَدَّقْ فِي الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ لِلتُّهْمَةِ، إذْ التُّهْمَةُ كَمَا تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ فِي حَقِّهِ فَلَمْ يُنْقَضْ الْقَضَاءُ، وَلَا يُسْتَرَدُّ الْمُدَّعَى مِنْ يَدِهِ، وَمَعْنَى التُّهْمَةِ لَا يُتَوَهَّمُ فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَصَحَّ الرُّجُوعُ فِي حَقّه، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إظْهَارُ الصِّحَّةِ فِي نَقْضِ الْقَضَاءِ وَالتَّوَصُّلِ إلَى عَيْنِ الْمَشْهُودِ بِهِ، فَيَظْهَرُ فِي التَّوَصُّلِ إلَى بَدَلِهِ رِعَايَةً لِلْجَوَانِبِ كُلِّهَا، وَإِذَا رَجَعَا قَبْلَ الْقَضَاءِ لَا يَضْمَنَانِ؛؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَصِيرُ حُجَّةً إلَّا بِالْقَضَاءِ، فَلَا تَقَعُ تَسْبِيبًا إلَى الْإِتْلَافِ بِدُونِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا، إنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِأَنْ كَانَ الزَّوْجُ مُقِرًّا بِالدُّخُولِ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَيَتَأَكَّدُ بِالدُّخُولِ لَا بِشَهَادَتِهِمَا فَلَمْ تَقَعْ شَهَادَتُهُمَا إتْلَافًا، فَلَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَضَى الْقَاضِي بِنِصْفِ الْمَهْرِ بِأَنْ كَانَ الْمَهْرُ مُسَمًّى أَوْ بِالْمُتْعَةِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ الْمَهْرُ مُسَمًّى ثُمَّ رَجَعَا: ضَمِنَا ذَلِكَ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ عَلَى الزَّوْجِ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ، لَكِنَّهَا أَكَّدَتْ الْوَاجِبَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلسُّقُوطِ بِأَنْ جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا وَبِشَهَادَتِهِمَا بِالطَّلَاقِ تَأَكَّدَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بَعْدَهُ أَصْلًا، فَصَارَتْ شَهَادَتُهُمَا مُؤَكِّدَةً لِلْوَاجِبِ، وَالْمُؤَكِّدُ لِلْوَاجِبِ بِمَنْزِلَةِ الْوَاجِبِ فِي الشَّرْعِ، كَالْمُحْرِمِ إذَا أَخَذَ صَيْدًا فَذَبَحَهُ رَجُلٌ فِي يَدِهِ يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْآخِذِ، وَيَرْجِعُ الْآخِذُ بِذَلِكَ عَلَى الْقَاتِلِ لِوُقُوعِ الْقَتْلِ مِنْهُ تَأْكِيدًا لِلْجَزَاءِ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُحْرِمِ، إذْ لَوْلَا ذَبْحُهُ لَاحْتَمَلَ السُّقُوطَ بِالْإِرْسَالِ، فَهُوَ بِالذَّبْحِ أَكَّدَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فَنَزَلَ الْمُؤَكَّدُ مِنْهُ مَنْزِلَةَ الْوَاجِبِ كَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً لَهُ، وَهُوَ يُنْكِرُ فَقَضَى الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعَا يَضْمَنَانِ قِيمَةَ الْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ فَيَضْمَنَانِ، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ نَفَذَ عَلَيْهِ وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، فَإِنْ قِيلَ: " هَذَا إتْلَافٌ بِعِوَضٍ وَهُوَ الْوَلَاءُ فَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ " قِيلَ لَهُ: " الْوَلَاءُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْإِرْثِ فَكَانَ هَذَا إتْلَافًا بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ ". وَلَوْ شَهِدَا عَلَى إقْرَارِ الْمَوْلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَمَةَ وَلَدَتْ مِنْهُ، وَهُوَ مُنْكِرٌ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَا فَنَقُولُ هَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ

أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ رَجَعَا فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى، وَإِمَّا أَنْ رَجَعَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ وَرَجَعَا فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى يَضْمَنَانِ لِلْمَوْلَى نُقْصَانَ قِيمَتِهَا، فَتُقَوَّمُ أَمَةً قِنًّا وَتُقَوَّمُ أُمَّ وَلَدٍ: لَوْ جَازَ بَيْعُهَا فَيَضْمَنَانِ النُّقْصَانَ؛؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمَا هَذَا الْقَدْرَ حَالَ حَيَاتِهِ فَيَضْمَنَانِهِ، فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ، وَأُمُّ الْوَلَدِ تَعْتِقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا، وَيَضْمَنَانِ بَقِيَّةَ قِيمَتِهَا لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا بِشَهَادَتِهِمَا كُلَّ الْجَارِيَةِ، لَكِنَّ بَعْضَهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَالْبَاقِي بَعْدَ الْوَفَاةِ فَيَضْمَنَانِ، كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ وَرَجَعَا فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ قِيمَةَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهُ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا لَكَانَ الْوَلَدُ عَبْدًا لَهُ، فَهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا أَتْلَفَاهُ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِمَا الضَّمَانُ، وَعَلَيْهِمَا ضَمَانُ نُقْصَانِ قِيمَةِ الْأُمِّ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا، فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْوَلَدِ شَرِيكٌ فِي الْمِيرَاثِ فَلَا يَضْمَنَانِ لَهُ شَيْئًا، وَيَرْجِعَانِ عَلَى الْوَلَدِ بِمَا قَبَضَ الْأَبُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْوَلَدَانِ رُجُوعَهُمَا بَاطِلٌ وَأَنَّ مَا أَخَذَ الْأَبُ مِنْهُمَا أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَصَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَيُؤَدِّي مِنْ تَرِكَتِهِ إنْ كَانَتْ لَهُ تَرِكَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَقَرَّ عَلَى مُوَرِّثِهِ بِدَيْنٍ وَلَيْسَ لِلْمَيِّتِ تَرِكَةٌ لَا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْوَارِثِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَخٌ فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ لِلْأَخِ نِصْفَ الْبَقِيَّةِ مِنْ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ، وَيَرْجِعَانِ عَلَى الْوَلَدِ بِمَا أَخَذَهُ الْأَبُ مِنْهُمَا لِمَا قُلْنَا، وَلَا يَرْجِعَانِ بِمَا قَبَضَ الْأَخُ؛ لِأَنَّ الْأَخَ ظَلَمَ عَلَيْهِمَا فِي زَعْمِهِمَا فَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَظْلِمَا عَلَيْهِ، وَلَا ضَمَانَ لِلْأَخِ مَا أَخَذَ هَذَا مِنْ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُمَا مَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ الْمِيرَاثَ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، هَذَا إذَا كَانَ الرُّجُوعُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى، فَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْوَلَدِ شَرِيكٌ فِي الْمِيرَاثِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُكَذِّبُهُمَا فِي الرُّجُوعِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَرِيكٌ فِي الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ لِلْأَخِ نِصْفَ الْبَقِيَّةِ مِنْ قِيمَتِهِمَا لِمَا قُلْنَا، وَيَضْمَنَانِ لِلْأَخِ نِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ؛؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ نِصْفَ الْوَلَدِ، وَلَا يَضْمَنَانِ لَهُ مَا أَخَذَ هَذَا الْوَلَدُ مِنْ الْمِيرَاثِ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يَرْجِعَانِ عَلَى الْوَلَدِ هَهُنَا؛ لِأَنَّ هَذَا ظُلْمٌ لِلْأَخِ فِي زَعْمِهِمَا فَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَظْلِمَا الْوَلَدَ، هَذَا إذَا كَانَتْ الشَّهَادَةُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى وَالرُّجُوعُ عَلَيْهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ. فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الشَّهَادَةُ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِأَنْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنًا وَعَبْدًا وَأَمَةً وَتَرِكَةً، فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ وَلَدَتْهُ هَذِهِ الْأَمَةُ مِنْ الْمَيِّتِ، وَصَدَّقَهُمَا الْوَلَدُ وَالْأَمَةُ، وَأَنْكَرَ الِابْنُ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ وَجَعَلَ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ رَجَعَا: يَضْمَنَانِ قِيمَةَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَنِصْفَ الْمِيرَاثِ لِلِابْنِ، فُرِّقَ بَيْنَ حَالِ الْحَيَاةِ وَبَيْنَ حَالِ الْمَمَاتِ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يَضْمَنَانِ الْمِيرَاثَ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالنَّسَبِ حَالَ الْحَيَاةِ لَا تَكُونُ شَهَادَةً بِالْمَالِ وَالْمِيرَاثِ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ، فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَمُوتَ الْأَبُ أَوَّلًا فَيَرِثَهُ الِابْنُ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ الِابْنُ أَوَّلًا وَيَرِثَهُ الْأَبُ، فَلَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ بِالنَّسَبِ شَهَادَةً بِالْمَالِ وَالْمِيرَاثِ لَا مَحَالَةَ، فَلَا تَتَحَقَّقُ الشَّهَادَةُ إتْلَافًا لِلْمَالِ فَلَا يَضْمَنَانِ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهَا شَهَادَةٌ بِالْمَالِ لَا مَحَالَةَ فَقَدْ أَتْلَفَا عَلَيْهِ نِصْفَ الْمِيرَاثِ فَيَضْمَنَانِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ دَبَّرَ عَبْدَهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَا: يَضْمَنَانِ لِلْمَوْلَى نُقْصَانَ التَّدْبِيرِ، فَيُقَوَّمُ قِنًّا، وَيُقَوَّمُ مُدَبَّرًا فَيَضْمَنَانِ النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ حَالَ حَيَاتِهِ بِشَهَادَتِهِمَا هَذَا الْقَدْرَ فَيَضْمَنَانِهِ فَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ عَتَقَ الْعَبْدُ كُلُّهُ إنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُدَبَّرُهُ، وَيَضْمَنَانِ لِلْوَرَثَةِ بَقِيَّةَ قِيمَتِهِ عَبْدًا؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا بِشَهَادَتِهِمَا بَقِيَّةَ مَالِيَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إعْتَاقٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى الْمُدَبَّرِ عَتَقَ عَلَيْهِ مَجَّانًا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ فَيُعْتَبَرُ بِسَائِرِ الْوَصَايَا، وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ عَبْدًا قِنًّا لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لَا تَنْفُذُ مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَيَضْمَنُ الشَّاهِدُ أَنَّ لِلْوَرَثَةِ ثُلُثَ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمَا ثُلُثَ الْعَبْدِ، هَذَا إذَا كَانَتْ السِّعَايَةُ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَتْ لَا تَخْرُجُ بِأَنْ كَانَ مُعْسِرًا فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ جَمِيعَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا، ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْعَبْدِ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهِ إذَا أَيْسَرَ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِهِ: " إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِالدُّخُولِ، ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ، وَإِنَّمَا الدُّخُولُ شَرْطٌ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْعِتْقِ لَا إلَى الشَّرْطِ، فَكَانَ التَّلَفُ حَاصِلًا بِشَهَادَتِهِمَا فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا أَنَّهُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: " إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ "، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِالدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعُوا لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ

بِالزِّنَا وَشَهِدَ آخَرَانِ بِالْإِحْصَانِ ثُمَّ رَجَعُوا، فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الزِّنَا لَا عَلَى شُهُودِ الْإِحْصَانِ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطٌ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا خَطَأً، وَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الدِّيَةَ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا عَلَيْهِ وَتَكُونُ فِي مَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ مِنْهُمَا بِالْإِتْلَافِ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْإِقْرَارَ كَمَا لَوْ أَقَرَّا صَرِيحًا، وَلِهَذَا لَوْ رَجَعَا فِي حَالِ الْمَرَضِ اُعْتُبِرَ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ حَتَّى يَقْدَمَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَقَارِيرِ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَطَعَ يَدَ فُلَانٍ خَطَأً، وَقَضَى الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا دِيَةَ الْيَدِ لِمَا قُلْنَا. وَكَذَا لَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ رَجَعَا، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ جَاءَ الشَّاهِدَانِ بِآخَرَ فَقَالَا: " أَوْهَمْنَا أَنَّ السَّارِقَ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ " فَقَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " لَا أُصَدِّقُكُمَا عَلَى هَذَا وَأُغَرِّمُكُمَا دِيَةَ يَدِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ عَلِمْتَ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُ أَيْدِيَكُمَا، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا عَمْدًا فَقَضَى الْقَاضِي وَقُتِلَ، ثُمَّ رَجَعَا فَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا شَهِدَا أَنَّهُ قَطَعَ يَدَ فُلَانٍ، (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَقَعَتْ قَتْلًا تَسْبِيبًا؛ لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمَا تَسْبِيبًا إلَى الْقَتْلِ، وَالتَّسْبِيبُ فِي بَابِ الْقِصَاصِ فِي مَعْنَى الْمُبَاشَرَةِ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ. (وَلَنَا) أَنْ نُسَلِّمَ أَنَّ الشَّهَادَةَ وَقَعَتْ تَسْبِيبًا إلَى الْقَتْلِ لَكِنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ مُبَاشَرَةً لَا تَسْبِيبًا؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ الْوَارِدِ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ مُقَيَّدٌ بِالْمِثْلِ شَرْعًا، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً وَبَيْنَ الْقَتْلِ تَسْبِيبًا، بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ هُوَ الْمُكْرِهُ مُبَاشَرَةً لَكِنْ بِيَدِ الْمُكْرَهِ وَهُوَ كَالْآلَةِ، وَالْفِعْلُ لِمُسْتَعْمِلِ الْآلَةِ لَا لِلْآلَةِ عَلَى مَا عُرِفَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَتْلًا تَسْبِيبًا فَهُوَ مَخْصُوصٌ عَنْ نُصُوصِ الْمُمَاثَلَةِ فَمَنْ ادَّعَى تَخْصِيصَ الْفَرْعِ يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَهِدَا عَلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ أَنَّهُ عَفَا عَنْ الْقَتْلِ وَقَضَى الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعَا: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا إتْلَافُ الْمَالِ وَلَا النَّفْسِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا قَامَتْ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ فَعَفَا لَا يَضْمَنُ الْمُكْرَهُ، وَلَوْ كَانَ الْقِصَاصُ مَالًا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَضْمَنُ بِالْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ وَكَذَا مَنْ وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ وَهُوَ مَرِيضٌ فَعَفَا، ثُمَّ مَاتَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَلَوْ كَانَ مَالًا اُعْتُبِرَ مِنْ الثُّلُثِ، كَمَا إذَا تَبَرَّعَ فِي مَرَضِهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ الدِّيَةَ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا إتْلَافٌ لِلنَّفْسِ؛؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ فِي حَقِّ الْقِصَاصِ، فَقَدْ أَتْلَفَا بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى الْمَوْلَى نَفْسًا تُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَيَضْمَنَانِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ، بَلْ الثَّابِتُ لَهُ مِلْكُ الْفِعْلِ لَا مِلْكُ الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ فِي الْمَحَلِّ مَا يُنَافِي الْمِلْكَ لِمَا عُلِمَ فِي مَسَائِلِ الْقِصَاصِ فَلَمْ تَقَعْ شَهَادَتُهُمَا إتْلَافَ النَّفْسِ وَلَا إتْلَافَ الْمَالِ فَلَا يَضْمَنَانِ. وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ ابْنُ هَذَا الرَّجُلِ، وَالْأَبُ يَجْحَدُهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَا لَا يَبْطُلُ النَّسَبُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ لِانْعِدَامِ إتْلَافِ الْمَالِ مِنْهُمَا. (وَأَمَّا) شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْقَضَاءِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ لِمَا ذَكَرْنَا: أَنَّ الرُّكْنَ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ بِالشَّهَادَةِ وُقُوعُ الشَّهَادَةِ إتْلَافًا، وَلَا تَصِيرُ إتْلَافًا إلَّا إذَا صَارَتْ حُجَّةً وَلَا تَصِيرُ حُجَّةً إلَّا بِالْقَضَاءِ فَلَا تَصِيرُ إتْلَافًا إلَّا بِهِ. (وَمِنْهَا) مَجْلِسُ الْقَضَاءِ فَلَا عِبْرَةَ بِالرُّجُوعِ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي كَمَا لَا عِبْرَةَ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَ غَيْرِهِ، حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى رُجُوعِهِمَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، وَكَذَا لَا يَمِينَ عَلَيْهِمَا إذَا أَنْكَرَ الرُّجُوعَ إلَّا إذَا حَكَيَا عِنْد الْقَاضِي رُجُوعَهُمَا عِنْدَ غَيْرِهِ فَيُعْتَبَرُ رُجُوعُهُمَا؛؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ رُجُوعِهِمَا عِنْدَ الْقَاضِي فَكَانَ مُعْتَبَرًا. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمُتْلَفُ بِالشَّهَادَةِ عَيْنَ مَالٍ حَتَّى لَوْ كَانَ مَنْفَعَةً لَا يَجِبُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْإِتْلَافِ عِنْدَنَا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَهِدَا أَنَّهُ تَزَوَّجَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَانِ، وَهِيَ تُنْكِرُ فَقَضَى الْقَاضِي بِالنِّكَاحِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ رَجَعَا لَا يَضْمَنَانِ لِلْمَرْأَةِ شَيْئًا؛؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهَا مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ. وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ بِعَيْنِ مَالٍ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يُعْطَى لَهَا حُكْمُ الْأَمْوَالِ بِعَارِضِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَكَذَا لَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ فَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا لِلزَّوْجِ شَيْئًا؛؛ لِأَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا

أَتْلَفَا عَلَى الزَّوْجِ الْمَنْفَعَةَ لَا عَيْنَ الْمَالِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ هَذِهِ الدَّابَّةَ مِنْ فُلَانٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَأَجْرُ مِثْلِهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَالْمُؤَجِّرُ يُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ وَقَضَى الْقَاضِي. ثُمَّ رَجَعَا لَا يَضْمَنَانِ لِلْمُؤَجِّرِ شَيْئًا؛؛ لِأَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا أَتْلَفَا الْمَنْفَعَةَ لَا عَيْنَ الْمَالِ (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ إتْلَافُ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِنْ كَانَ بِعِوَضٍ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ، سَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ عَيْنَ مَالٍ أَوْ مَنْفَعَةً لَهَا حُكْمُ عَيْنِ الْمَالِ؛؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ بِعِوَضٍ يَكُونُ إتْلَافًا صُورَةً لَا مَعْنًى، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ مِنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ وَقَضَى الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعَا: أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِلْمُشْتَرِي؛؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَقَعَتْ إتْلَافًا بِعِوَضٍ، فَلَا يَكُونُ إتْلَافًا مَعْنًى فَلَا يُوجَبُ الضَّمَانُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ يَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ لَهُ لِوُقُوعِ الشَّهَادَةِ إتْلَافًا بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمُشْتَرِي وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الثَّمَنِ الْمَذْكُورِ أَوْ أَقَلَّ لَا ضَمَانَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ لِلْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ يَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ لِلْبَائِعِ؛؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَقَعَتْ إتْلَافًا بِغَيْرِ الزِّيَادَةِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَالرَّجُلُ يُنْكِرُ فَشَهِدَ لَهَا شَاهِدَانِ بِذَلِكَ، وَقَضَى الْقَاضِي بِالنِّكَاحِ بِأَلْفٍ، ثُمَّ رَجَعَا: أَنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنَا لِلزَّوْجِ شَيْئًا وَإِنْ أَتْلَفَا عَلَيْهِ عَيْنَ الْمَالِ؛؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا بِعِوَضٍ لَهُ حُكْمُ عَيْنِ الْمَالِ، وَهُوَ الْبُضْعُ؛؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَالًا حَالَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَبَ يَمْلِكُ أَنْ يُزَوِّجَ مِنْ ابْنِهِ امْرَأَةً وَلَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ الْبُضْعُ مَالًا حَالَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ لِمَا مَلَكَ؛؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَمْلِكُ عَلَى ابْنِهِ مُعَاوَضَةَ مَالٍ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ مَهْرُ مِثْلِهَا، لَا يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ بَلْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْبُضْعُ فِي حُكْمِ الْمَالِ فِي حَالِ الدُّخُولِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ لَاعْتُبِرَ مِنْ الثُّلُثِ كَالتَّبَرُّعِ، دَلَّ أَنَّ الْبُضْعَ يُعْتَبَرُ مَالًا فِي حَقِّ الزَّوْجِ حَالَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ فَكَانَ الْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ هُوَ فِي حُكْمِ عَيْنِ الْمَالِ، فَلَا يَكُونُ إتْلَافًا مَعْنًى، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ يَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِلزَّوْجِ؛؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَالْمَرْأَةُ تُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ وَقَضَى الْقَاضِي عَلَيْهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ رَجَعَا: أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ لِلْمَرْأَةِ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهَا عَيْنَ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا؛؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ حَالَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِ الزَّوْجِ لَا يُعْتَبَرُ مَالًا بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَبَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَخْلَعَ مِنْ ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ عَلَى مَالٍ، وَلَوْ فَعَلَ وَأَدَّى مِنْ مَالِهَا يَضْمَنُ وَلَوْ كَانَ مَالًا لِمِلْكٍ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهَا مُعَاوَضَةَ مَالٍ بِمَالٍ، وَكَذَلِكَ الْمَرِيضَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ نَفْسِهَا حَالَ مَرَضِهَا عَلَى مَالٍ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ كَالْوَصِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْمَالِ لَاعْتُبِرَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، كَمَا فِي سَائِرِ مُعَاوَضَاتِ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمُ الْمَالِ حَالَ الْخُرُوجِ عَنْ مِلْكِ الزَّوْجِ حَصَلَتْ شَهَادَتُهُمَا إتْلَافًا عَلَيْهِمَا مِنْ عِوَضٍ أَصْلًا فَيَجِبُ الضَّمَانُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ آجَرَ دَارِهِ مِنْ فُلَانٍ شَهْرًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَالْمُسْتَأْجِرُ يُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ، وَقَضَى الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعَا، فَأَمَّا إنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ يَنْظُرُ، إنْ كَانَ أُجْرَةُ الدَّارِ مِثْلَ الْمُسَمَّى لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَلَوْ أَتْلَفَا عَلَيْهِ عَيْنَ مَالٍ لَكِنْ بِعِوَضٍ، لَهُ حُكْمُ عَيْنِ الْمَالِ، وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ؛؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ لَهَا حُكْمُ عَيْنِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَتْ أُجْرَةُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِنْ الْمُسَمَّى فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ حَصَلَ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَعَلَيْهِمَا ضَمَانُ الْأُجْرَةِ؛؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا، فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِمَا. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى الْقَاتِلِ: أَنَّهُ صَالَحَ وَلِيَّ الْقَتِيلِ عَلَى مَالٍ، وَالْقَاتِلُ يُنْكِرُ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُمَا لَا يَضْمَنَانِ شَيْئًا لِلْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ عَيْنَ مَالٍ بِعِوَضٍ، وَهُوَ النَّفْسُ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ عِوَضًا بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَرِيضِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَصَالَحَ الْوَلِيَّ عَلَى الدِّيَةِ جَازَ، وَلَا تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، بَلْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلَوْ لَمْ تَصْلُحْ النَّفْسُ عِوَضًا لَاعْتُبِرَ مِنْ الثُّلُثِ، دَلَّ أَنَّ هَذَا إتْلَافٌ بِعِوَضٍ فَلَا يُوجَبُ الضَّمَانُ إلَّا إذَا شَهِدَا عَلَى الصُّلْحِ بِأَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ فَيَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ عَلَى الدِّيَةِ لِلْقَاتِلِ؛؛ لِأَنَّ تَلَفَ الزِّيَادَةِ حَصَلَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَيُمْكِنُ تَخَرُّجُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى فَصْلِ التَّسَبُّبِ؛ لِأَنَّ مَا قَابَلَهُ عِوَضٌ، لَا يَكُونُ إتْلَافًا مَعْنًى، فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَلَا يَجِبُ فَافْهَمْ ذَلِكَ. وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ الرُّجُوعُ

عَنْ الشَّهَادَةِ، وَالرُّجُوعُ عَلَى الشَّهَادَةِ حَتَّى لَوْ رَجَعَتْ الْفُرُوعُ وَثَبَتَ الْأُصُولُ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْفُرُوعِ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُمْ لِوُجُودِ الشَّهَادَةِ مِنْهُمْ حَقِيقَةً، وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولُ وَثَبَتَ الْفُرُوعُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْفُرُوعِ لِانْعِدَامِ الرُّجُوعِ مِنْهُمْ، وَهَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْأُصُولِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا يَجِبُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَجِبُ، (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْفُرُوعَ لَا يَشْهَدُونَ بِشَهَادَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ فَإِذَا شَهِدُوا فَقَدْ أَظْهَرُوا شَهَادَتَهُمْ، فَكَأَنَّهُمْ حَضَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ، وَشَهِدُوا ثُمَّ رَجَعُوا، (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ وُجِدَتْ مِنْ الْفُرُوعِ لَا مِنْ الْأُصُولِ لِعَدَمِ الشَّهَادَةِ حَقِيقَةً، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا شَهِدَ الْفُرُوعُ، وَهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ فَلَمْ يُوجَدْ الْإِتْلَافُ مِنْ الْأُصُولِ لِعَدَمِ الشَّهَادَةِ مِنْهُمْ حَقِيقَةً، فَلَا يَضْمَنُونَ، وَعَلَى هَذَا إذَا رَجَعُوا جَمِيعًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْفُرُوعِ عِنْدَهُمَا، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْأُصُولِ لِوُجُودِ الشَّهَادَةِ مِنْ الْفُرُوعِ حَقِيقَةً لَا مِنْ الْأُصُولِ، وَعِنْدَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمِنَ الْفُرُوعُ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْأُصُولُ لِوُجُودِ الشَّهَادَةِ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ أَحَدٌ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ وَلَكِنَّ الْأُصُولَ أَنْكَرُوا الْإِشْهَادَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ لِانْعِدَامِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ. وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ ضَمَانِ الرُّجُوعِ رُجُوعُ الشُّهُودِ وَالْمُزَكِّينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى إنَّ الْمُزَكِّينَ لَوْ زَكَّوْا الشُّهُودَ فَشَهِدُوا، وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ، ثُمَّ رَجَعَ الْمُزَكُّونَ ضَمِنُوا عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا رُجُوعُ الْمُزَكِّينَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ رُجُوعَ الْمُزَكِّينَ بِمَنْزِلَةِ رُجُوعِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ؛؛ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ لَيْسَتْ إلَّا بِنَاءً عَنْ الشُّهُودِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ خِصَالٌ حَمِيدَةٌ، ثُمَّ الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِحْصَانِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّزْكِيَةَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ؛؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الشَّهَادَةِ إنَّمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ لِوُقُوعِهِ إتْلَافًا، وَإِنَّمَا يَصِيرُ إتْلَافًا بِالتَّزْكِيَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا التَّزْكِيَةُ لَمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ، فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ عَامِلَةً بِالتَّزْكِيَةِ، فَكَانَتْ التَّزْكِيَةُ فِي مَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ، فَكَانَتْ إتْلَافًا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِحْصَانِ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطُ كَوْنِ الزِّنَا عِلَّةً، وَالْحُكْمُ لِلْعِلَّةِ لَا لِلشَّرْطِ. وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْ الضَّمَانِ فَالْأَصْلُ أَنَّ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ الْإِتْلَافِ؛؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْإِتْلَافُ، وَالْحُكْمُ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ، وَالْعِبْرَةُ فِيهِ لِبَقَاءِ مَنْ بَقِيَ مِنْ الشُّهُودِ بَعْدَ رُجُوعِ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بَعْدَ الرُّجُوعِ مَنْ يَحْفَظُ الْحَقَّ كُلَّهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ لِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ أَصْلًا مِنْ أَحَدٍ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْهُمْ مَنْ يَحْفَظُ بَعْضَ الْحَقِّ وَجَبَ عَلَى الرَّاجِعِينَ ضَمَانُ قَدْرِ التَّالِفِ بِالْحِصَصِ، فَنَقُولُ: بَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَالِ؛؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مَحْفُوظٌ بِشَهَادَةِ الْبَاقِي، وَلَوْ كَانَتْ الشُّهُودُ أَرْبَعَةً، فَرَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا رَجَعَ اثْنَانِ؛ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ يَحْفَظَانِ الْمَالَ، وَلَوْ رَجَعَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ فَعَلَيْهِمْ نِصْفُ الْمَالِ؛؛ لِأَنَّ النِّصْفَ عِنْدَنَا بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ. وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِمَالٍ، ثُمَّ رَجَعَ الرَّجُلُ: غَرِمَ نِصْفَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ بَقِيَ بِثَبَاتِ الْمَرْأَتَيْنِ، وَلَوْ رَجَعَتْ الْمَرْأَتَانِ غَرِمَتَا نِصْفَ الْمَالِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِبَقَاءِ النِّصْفِ بِثَبَاتِ الرَّجُلِ، وَلَوْ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَعَلَيْهِمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالُ، نِصْفُهُ عَلَى الرَّجُلِ، وَرُبُعُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ؛؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بِبَقَاءِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ الرُّبُعُ، فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ثَلَاثَةَ الْأَرْبَاعِ، وَالرَّجُلُ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ فَكَانَ عَلَيْهَا الرُّبُعُ وَعَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ، وَلَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا فَنِصْفُ الْمَالِ عَلَى الرَّجُلِ، وَالنِّصْفُ عَلَى الْمَرْأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَى الرَّجُلَيْنِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَرْأَةِ؛؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ فِي الشَّهَادَةِ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؛؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهَا، وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَتَانِ ثُمَّ رَجَعَتْ الْمَرْأَتَانِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛؛ لِأَنَّ الْحَقَّ يَبْقَى مَحْفُوظًا بِالرَّجُلَيْنِ، وَلَوْ رَجَعَ الرَّجُلَانِ يَضْمَنَانِ نِصْفَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ تَحْفَظَانِ النِّصْفَ، وَلَوْ رَجَعَ رَجُلٌ وَاحِدٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ يَحْفَظُونَ جَمِيعَ الْمَالِ وَلَوْ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَعَلَيْهِمَا رُبُعُ الْمَالِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا: ثُلُثَاهُ عَلَى الرَّجُلِ، وَثُلُثُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ؛؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ ثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ بِبَقَاءِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ الرُّبُعَ، وَالرَّجُلُ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ فَكَانَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَلَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا فَالضَّمَانُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثٌ أَيْضًا: ثُلُثَاهُ عَلَى الرَّجُلَيْنِ، وَثُلُثُهُ عَلَى الْمَرْأَتَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّجُلَ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ، فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِ ضِعْفَ مَا تَلِفَ بِشَهَادَتِهَا وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرُ

نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعُوا جَمِيعًا فَالضَّمَانُ بَيْنَهُمْ أَسْدَاسٌ: سُدُسُهُ عَلَى الرَّجُلِ، وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ عَلَى النِّسْوَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالضَّمَانُ بَيْنَهُمْ نِصْفَانِ: نِصْفُهُ عَلَى الرَّجُلِ وَنِصْفُهُ عَلَى النِّسْوَةِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ النِّسَاءَ وَإِنْ كَثُرْنَ فَلَهُنَّ شَطْرُ الشَّهَادَةِ لَا غَيْرُ، فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِنَّ نِصْفَ الْمَالِ وَالنِّصْفَ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ، فَكَانَ الضَّمَانُ بَيْنَهُمْ أَنْصَافًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي الشَّهَادَةِ، فَكَانَ قِسْمَةُ الضَّمَانِ بَيْنَهُمْ أَسْدَاسًا وَلَوْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ ضَمِنَ نِصْفَ الْمَالِ؛؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مَحْفُوظٌ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَكَذَا لَوْ رَجَعَتْ النِّسْوَةُ غَرِمْنَ نِصْفَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مَحْفُوظٌ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ، هَذَانِ الْفَصْلَانِ يُؤَيِّدَانِ قَوْلَهُمَا فِي الظَّاهِرِ وَلَوْ رَجَعَ ثَمَانِ نِسْوَةٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِنَّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ بَقِيَ مَحْفُوظًا بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَوْ رَجَعَتْ امْرَأَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهَا وَعَلَى الثَّمَانِ رُبُعُ الْمَالِ؛؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ بِثَبَاتِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ، فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِنَّ الرُّبُعَ، وَلَوْ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَعَلَيْهِمَا نِصْفُ الْمَالِ أَثْلَاثًا: ثُلُثَاهُ عَلَى الرَّجُلِ، وَالثُّلُثُ عَلَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ تِسْعَ نِسْوَةٍ يَحْفَظْنَ الْمَالَ، فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ النِّصْفَ، وَالرَّجُلُ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ الرَّجُلُ وَامْرَأَةٌ فَعَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ الْمَالِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -، وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نِصْفُ الْمَالِ يَكُونُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا: ثُلُثَاهُ عَلَى الرَّجُلِ وَثُلُثُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا فَالضَّمَانُ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: خُمُسَاهُ عَلَى الرَّجُلِ، وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ عَلَى النِّسْوَةِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ، وَعِنْدَهُمَا نِصْفُ الضَّمَانِ عَلَى الرَّجُلِ وَنِصْفُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ لَهُنَّ شَطْرَ الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَثُرْنَ، فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ كُلِّ نَوْعٍ نِصْفَ الْمَالِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِالدُّخُولِ فَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ، ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ أَرْبَاعٌ: عَلَى شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ الرُّبُعُ؛ لِأَنَّ شَاهِدَيْ الدُّخُولِ شَهِدَا بِكُلِّ الْمَهْرِ؛؛ لِأَنَّ كُلَّ الْمَهْرِ يَتَأَكَّدُ بِالدُّخُولِ، وَلِلْمُؤَكَّدِ حُكْمُ الْمُوجَبِ عَلَى مَا مَرَّ، وَشَاهِدَيْ الطَّلَاقِ شَهِدَا بِالنِّصْفِ؛؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَهْرِ يَتَأَكَّدُ بِالطَّلَاقِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَالْمُؤَكِّدُ لِلْوَاجِبِ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ، فَشَاهِدُ الدُّخُولِ انْفَرَدَ بِنِصْفِ الْمَهْرِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ اشْتَرَكَ فِيهِ الشُّهُودُ كُلُّهُمْ، فَكَانَ نِصْفُ النِّصْفِ وَهُوَ الرُّبُعُ عَلَى شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ، وَثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ عَلَى شَاهِدَيْ الدُّخُولِ. فَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِهِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا - وُجُوبُ الْحَدِّ لَكِنْ فِي شَهَادَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَى الزِّنَا، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا، إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جَمِيعِ الشُّهُودِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنْ رَجَعُوا جَمِيعًا يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ، سَوَاءٌ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ أَوْ قَبْلَ الْقَضَاءِ، أَمَّا قَبْلَ الْقَضَاءِ؛ فَلِأَنَّ كَلَامَهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ انْعَقَدَ قَذْفًا لَا شَهَادَةً، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ لِلْحَالِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَصِيرَ شَهَادَةً بِقَرِينَةِ الْقَضَاءِ، فَإِذَا رَجَعُوا فَقَدْ زَالَ الِاحْتِمَالُ فَبَقِيَ قَذْفًا فَيُوجَبُ الْحَدُّ بِالنَّصِّ. وَأَمَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ؛ فَلِأَنَّ كَلَامَهُمْ وَإِنْ صَارَ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَقَدْ انْقَلَبَ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ فَصَارُوا بِالرُّجُوعِ قَذَفَةً فَيُحَدُّونَ، وَلَوْ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَالْإِمْضَاءِ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ إذَا كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا، وَإِنْ كَانَ رَجْمًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ كَلَامَهُمْ وَقَعَ قَذْفًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ قَذَفُوا صَرِيحًا، ثُمَّ مَاتَ الْمَقْذُوفُ، وَحَدُّ الْقَذْفِ لَا يُوَرَّثُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فَيَسْقُطُ. (وَلَنَا) أَنَّ بِالرُّجُوعِ لَا يَظْهَرُ أَنَّ كَلَامَهُمْ كَانَ قَذْفًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ قَذْفًا وَقْتَ الرُّجُوعِ، وَالْمَقْذُوفُ وَقْتَ الرُّجُوعِ مَيِّتٌ فَصَارَ قَذْفًا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيَجِبُ الْحَدُّ هَذَا حُكْمُ الْحَدِّ. وَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ، فَأَمَّا قَبْلَ الْإِمْضَاءِ: لَا ضَمَانَ أَصْلًا لِعَدَمِ الْإِتْلَافِ أَصْلًا، وَأَمَّا بَعْدَ الْإِمْضَاءِ، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا ضَمِنُوا الدِّيَةَ بِلَا خِلَافٍ لِوُقُوعِ شَهَادَتِهِمْ إتْلَافًا أَوْ إقْرَارًا بِالْإِتْلَافِ، وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أَرْشُ الْجَلَدَاتِ إذَا لَمْ يَمُتْ مِنْهَا وَلَا الدِّيَةُ إنْ مَاتَ مِنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُونَ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ شَهَادَتَهُمْ وَقَعَتْ إتْلَافًا بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ؛؛ لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَى الْقَضَاءِ. وَالْقَضَاءُ يُفْضِي إلَى إقَامَةِ الْجَلَدَاتِ وَأَنَّهَا تُفْضِي إلَى التَّلَفِ فَكَانَ التَّلَفُ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ مُضَافًا إلَى الشَّهَادَةِ فَكَانَتْ إتْلَافًا تَسْبِيبًا، وَلِهَذَا لَوْ شَهِدُوا بِالْقِصَاصِ أَوْ بِالْمَالِ، ثُمَّ رَجَعُوا وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ وَالضَّمَانُ كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ

الرَّحْمَةُ - أَنَّ الْأَثَرَ حَصَلَ مُضَافًا إلَى الضَّرْبِ دُونَ الشَّهَادَتَيْنِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا - أَنَّ الشُّهُودَ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى ضَرْبٍ جَارِحٍ؛؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ الْجَارِحَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فِي الْجَلْدِ، فَلَا يَكُونُ الْجُرْحُ مُضَافًا إلَى شَهَادَتِهِمْ وَالثَّانِي - أَنَّ الضَّرْبَ مُبَاشَرَةُ الْإِتْلَافِ وَالشَّهَادَةَ تَسْبِيبٌ إلَيْهِ. وَإِضَافَةُ الْأَثَرِ إلَى الْمُبَاشَرَةِ أَوْلَى مِنْ إضَافَتِهِ إلَى التَّسْبِيبِ، إلَّا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ خَطَأً مِنْ الْقَاضِي لِيَكُونَ عَطَاؤُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِنَوْعِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ، وَلَا تَقْصِيرَ مِنْ جِهَتِهِ هَهُنَا فَلَا شَيْءَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، هَذَا إذَا رَجَعُوا جَمِيعًا، فَأَمَّا إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَضَاءِ يُحَدُّونَ جَمِيعًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُحَدُّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كَلَامَهُمْ وَقَعَ شَهَادَةً قَذْفًا لِكَمَالِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ. وَإِنَّمَا يَنْقَلِبُ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ، وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا مِنْ أَحَدِهِمْ، فَيَنْقَلِبُ كَلَامُهُ قَذْفًا خَاصَّةً، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ ثَلَاثَةٌ بِالزِّنَا أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ؛؛ لِأَنَّ هُنَاكَ نِصَابَ الشَّهَادَةِ لَمْ يَكْمُلْ فَوَقَعَ كَلَامُهُمْ مِنْ الِابْتِدَاءِ قَذْفًا. (وَلَنَا) أَنَّ كَلَامَهُمْ لَا يَصِيرُ شَهَادَةً إلَّا بِقَرِينَةِ الْقَضَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَصِيرُ حُجَّةً إلَّا بِهِ فَقَبْلَهُ يَكُونُ قَذْفًا لَا شَهَادَةً، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ بِالنَّصِّ لِوُجُودِ الرَّمْيِ مِنْهُمْ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَامُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَصِيرَ شَهَادَةً بِقَرِينَةِ الْقَضَاءِ، وَلِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى سَدِّ بَابِ الشَّهَادَةِ، فَإِذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى فَبَقِيَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا فَيُحَدُّونَ، وَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ الشُّهُودُ مِنْ الِابْتِدَاءِ ثَلَاثَةً، فَإِنَّهُمْ يَحُدُّونَ لِوُقُوعِ كَلَامِهِمْ قَذْفًا كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ جَمِيعًا عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الرَّاجِعُ خَاصَّةً، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كَلَامَهُمْ وَقَعَ شَهَادَةً لِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ، فَلَا يَنْقَلِبُ قَذْفًا إلَّا بِالرُّجُوعِ، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَّا وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَيَنْقَلِبُ كَلَامُهُ خَاصَّةً قَذْفًا، فَلَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ فَبَقِيَ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً فَلَا يُحَدُّونَ، وَلَهُمَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ فِي بَابِ الْحُدُودِ مِنْ الْقَضَاءِ، بِدَلِيلِ أَنَّ عَمَى الشُّهُودِ أَوْ رِدَّتَهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ كَمَا يَمْنَعُ مِنْ الْقَضَاءِ فَبَعْدَهُ يَمْنَعُ مِنْ الْإِمْضَاءِ، فَكَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ بِمَنْزِلَةِ رُجُوعِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ. وَلَوْ رَجَعَ قَبْلَ الْقَضَاءِ يُحَدُّونَ جَمِيعًا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، كَذَا إذَا رَجَعَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِمْضَاءِ، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا يُحَدُّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً بِالْإِجْمَاعِ؛؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً لَا فِي حَقِّ الْبَاقِينَ فَانْقَلَبَتْ شَهَادَتُهُ خَاصَّةً قَذْفًا فَيُحَدُّ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا وَمَاتَ الْمَقْذُوفُ يُحَدُّ الرَّاجِعُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ هَذَا حُكْمُ الْحَدِّ. فَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ فَلَا ضَمَانَ إذَا كَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ لِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا بَعْدَ الْإِمْضَاءِ فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّاجِعِ مِنْ أَرْشِ السِّيَاطِ وَلَا مِنْ الدِّيَةِ إنْ مَاتَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ، وَإِنْ كَانَ رَجْمًا غَرِمَ الرَّاجِعُ رُبُعَ الدِّيَةِ؛؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ يَحْفَظُونَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِ الرُّبُعَ، هَذَا إذَا كَانَ شُهُودُ الزِّنَا أَرْبَعَةً، فَأَمَّا إذَا كَانُوا خَمْسَةً فَرَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِمَا بَقِيَ مِنْ الشُّهُودِ؛؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ نِصَابٌ تَامٌّ يَحْفَظُونَ الْحَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَمْضَى الْحَدَّ ثُمَّ رَجَعَ اثْنَانِ ضَمِنَا رُبُعَ الدِّيَةِ إنْ مَاتَ الْمَرْجُومُ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ قَامُوا بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْحَقِّ فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِمَا الرُّبُعَ فَيَضْمَنَانِهِ. وَإِنْ لَمْ يَمُتْ فَلَيْسَ عَلَيْهِمَا أَرْشٌ لِلضَّرْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْمَسْأَلَةُ، وَالثَّانِي - وُجُوبُ التَّعْزِيرِ فِي عُمُومِ الشَّهَادَاتِ سِوَى الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا بِأَنْ تَعَمَّدَ شَهَادَةَ الزُّورِ، وَظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ؛؛ لِأَنَّ قَوْلَ الزُّورِ جِنَايَةٌ لَيْسَ فِيهَا فِيمَا سِوَى الْقَذْفِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَتُوجِبُ التَّعْزِيرَ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّعْزِيرِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - تَعْزِيرُهُ تَشْهِيرٌ فَيُنَادَى عَلَيْهِ فِي سُوقِهِ أَوْ مَسْجِدِ حَيِّهِ وَيُحَذَّرُ النَّاسُ مِنْهُ فَيُقَالُ: " هَذَا شَاهِدُ الزُّورِ فَاحْذَرُوهُ "، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يُضَمُّ إلَيْهِ ضَرْبُ أَسْوَاطٍ، هَذَا إذَا تَابَ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَتُبْ وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: " إنِّي شَهِدْتُ بِالزُّورِ وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ قَائِمٌ " فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ بِالْإِجْمَاعِ، احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ وَسَخَّمَ وَجْهَهُ. ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَ الزُّورِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَلَيْسَ إلَيْهِ فِيمَا سِوَى الْقَذْفِ بِالزِّنَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيَحْتَاجُ إلَى أَبْلَغِ الزَّوَاجِرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا رُوِيَ أَنَّ شُرَيْحًا كَانَ يَشْهَرُ شَاهِدَ الزُّورِ وَلَا يُعَزِّرُهُ، وَكَانَ لَا تَخْفَى قَضَايَاهُ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ - وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ؛ وَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ

شَهِدَ بِزُورٍ نَادِمًا عَلَى مَا فَعَلَ لَا مُصِرًّا عَلَيْهِ، وَالنَّدَمُ تَوْبَةٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّائِبُ لَا يَسْتَوْجِبُ الضَّرْبَ، حَتَّى لَوْ كَانَ مُصِرًّا عَلَى ذَلِكَ يُضْرَبُ، وَفِعْلُ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَحْمُولٌ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

كتاب آداب القاضي

[كِتَاب آدَاب الْقَاضِي] [بَيَانِ فَرْضِيَّةِ نَصْبِ الْقَاضِي] الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ فَرْضِيَّةِ نَصْبِ الْقَاضِي، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ قَبُولُ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ الْقَضَاءِ، وَفِي بَيَانِ آدَابِ الْقَضَاءِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْفُذُ مِنْ الْقَضَايَا، وَمَا يُنْقَضُ مِنْهَا؛ إذَا رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ، وَفِي بَيَانِ مَا يُحِلُّهُ الْقَاضِي وَمَا لَا يُحِلُّهُ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ خَطَأِ الْقَاضِي فِي الْقَضَاءِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْقَاضِي عَنْ الْقَضَاءِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَنَصْبُ الْقَاضِي فَرْضٌ؛ لِأَنَّهُ يُنْصَبُ لِإِقَامَةِ أَمْرٍ مَفْرُوضٍ، وَهُوَ الْقَضَاءُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِنَبِيِّنَا الْمُكَرِّمِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48] وَالْقَضَاءُ هُوَ: الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ، وَالْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَكَانَ نَصْبُ الْقَاضِي؛ لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ، فَكَانَ فَرْضًا ضَرُورَةً؛ وَلِأَنَّ نَصْبَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ فَرْضٌ، بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ، وَلَا عِبْرَةَ - بِخِلَافِ بَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ -؛ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى ذَلِكَ، وَلِمِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ؛ لِتَقَيُّدِ الْأَحْكَامِ، وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ، وَقَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ الَّتِي هِيَ مَادَّةُ الْفَسَادِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الَّتِي لَا تَقُومُ إلَّا بِإِمَامٍ، لِمَا عُلِمَ فِي أُصُولِ الْكَلَامِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِمَا نُصِبَ لَهُ بِنَفْسِهِ، فَيَحْتَاجُ إلَى نَائِبٍ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْقَاضِي؛ وَلِهَذَا «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ إلَى الْآفَاقِ قُضَاةً، فَبَعَثَ سَيِّدَنَا مُعَاذًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى الْيَمَنِ، وَبَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ إلَى مَكَّةَ، فَكَانَ نَصْبُ الْقَاضِي مِنْ ضَرُورَاتِ نَصْبِ الْإِمَامِ، فَكَانَ فَرْضًا» ، وَقَدْ سَمَّاهُ مُحَمَّدٌ فَرِيضَةً مُحْكَمَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالْعَقْلِ، وَالْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِسَاخَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

فصل في بيان من يصلح للقضاء

[فَصْلٌ فِي بَيَان مِنْ يصلح لِلْقَضَاءِ] فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ فَنَقُولُ: الصَّلَاحِيَّةُ لِلْقَضَاءِ لَهَا شَرَائِطُ (مِنْهَا) : الْعَقْلُ، (وَمِنْهَا) الْبُلُوغُ، (وَمِنْهَا) : الْإِسْلَامُ، (وَمِنْهَا) : الْحُرِّيَّةُ، (وَمِنْهَا) : الْبَصَرُ (وَمِنْهَا) : النُّطْقُ، (وَمِنْهَا) : السَّلَامَةُ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ؛ لِمَا قُلْنَا فِي الشَّهَادَةِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ، وَالْكَافِرِ وَالْعَبْدِ، وَالْأَعْمَى وَالْأَخْرَسِ، وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ، بَلْ هُوَ أَعْظَمُ الْوِلَايَاتِ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسَتْ لَهُمْ أَهْلِيَّةُ أَدْنَى الْوِلَايَاتِ - وَهِيَ الشَّهَادَةُ - فَلَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ أَهْلِيَّةٌ أَعْلَاهَا أَوْلَى، وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ التَّقْلِيدِ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَاتِ فِي الْجُمْلَةِ، إلَّا أَنَّهَا لَا تَقْضِي بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لَهَا فِي ذَلِكَ، وَأَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ تَدُورُ مَعَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ. (وَأَمَّا) الْعِلْمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ: فَهَلْ هُوَ شَرْطُ جَوَازِ التَّقْلِيدِ؟ عِنْدَنَا لَيْسَ بِشَرْطِ الْجَوَازِ، بَلْ شَرْطُ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ، وَعِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ كَوْنُهُ عَالِمًا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ؛ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ؛ مَعَ بُلُوغِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ شَرْطُ جَوَازِ التَّقْلِيدِ، كَمَا قَالُوا فِي الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ. وَعِنْدَنَا هَذَا لَيْسَ بِشَرْطِ الْجَوَازِ فِي الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِ غَيْرِهِ، بِالرُّجُوعِ إلَى فَتْوَى غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ، فَكَذَا فِي الْقَاضِي، لَكِنْ مَعَ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ الْجَاهِلُ بِالْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِنَفْسِهِ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرُ مِمَّا يُصْلِحُ، بَلْ يَقْضِي بِالْبَاطِلِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، وَقَاضِيَانِ فِي النَّارِ، رَجُلٌ عَلِمَ عِلْمًا فَقَضَى بِمَا عَلِمَ؛ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ عَلِمَ فَقَضَى بِغَيْرِ مَا عَلِمَ؛ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ جَهِلَ فَقَضَى بِالْجَهْلِ؛ فَهُوَ فِي النَّارِ» إلَّا أَنَّهُ لَوْ قُلِّدَ جَازَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ، بِعِلْمِ غَيْرِهِ بِالِاسْتِفْتَاءِ مِنْ الْفُقَهَاءِ، فَكَانَ تَقْلِيدُهُ جَائِزًا فِي نَفْسِهِ، فَاسِدًا لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَالْفَاسِدُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ يَصْلُحُ لِلْحُكْمِ عِنْدَنَا، مِثْلُ الْجَائِزِ حَتَّى يَنْفُذَ قَضَايَاهُ الَّتِي لَمْ يُجَاوِزْ فِيهَا حَدَّ الشَّرْعِ، وَهُوَ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، أَنَّهُ مِثْلُ الْجَائِزِ عِنْدَنَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ، كَذَا هَذَا، وَكَذَا الْعَدَالَةُ عِنْدَنَا، لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ التَّقْلِيدِ، لَكِنَّهَا شَرْطُ الْكَمَالِ، فَيَجُوزُ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ وَتَنْفُذُ قَضَايَاهُ؛ إذَا لَمْ يُجَاوِزْ فِيهَا حَدَّ الشَّرْعِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - شَرْطُ الْجَوَازِ، فَلَا يَصْلُحُ الْفَاسِقُ قَاضِيًا عِنْدَهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ، فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْقَضَاءِ، وَعِنْدَنَا هُوَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْقَضَاءِ، لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ الْفَاسِقُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ أَمَانَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ أَمَانَةُ الْأَمْوَالِ، وَالْأَبْضَاعِ وَالنُّفُوسِ، فَلَا يَقُومُ بِوَفَائِهَا إلَّا مَنْ كَمُلَ وَرَعُهُ، وَتَمَّ تَقْوَاهُ، إلَّا أَنَّهُ مَعَ هَذَا لَوْ قُلِّدَ؛ جَازَ التَّقْلِيدُ فِي نَفْسِهِ وَصَارَ قَاضِيًا؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، فَلَا يَمْنَعُ جَوَازُ تَقْلِيدِهِ الْقَضَاءَ فِي نَفْسِهِ؛ لِمَا مَرَّ. (وَأَمَّا) تَرْكُ الطَّلَبِ: فَلَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِجَوَازِ التَّقْلِيدِ بِالْإِجْمَاعِ، فَيَجُوزُ تَقْلِيدُ الطَّالِبِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ، لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ يَكُونُ مُتَّهَمًا. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّا لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا مَنْ كَانَ لَهُ طَالِبًا» وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وُكِّلَ إلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أُجْبَرَ عَلَيْهِ نَزَلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ» وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الطَّالِبَ، لَا يُوَفَّقُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ، وَالْمُجْبَرُ عَلَيْهِ يُوَفَّقُ. وَأَمَّا شَرَائِطُ الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي عَالِمًا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ، قَدْ بَلَغَ فِي عِلْمِهِ ذَلِكَ حَدَّ الِاجْتِهَادِ، عَالِمًا بِمُعَاشَرَةِ النَّاسِ وَمُعَامَلَتِهِمْ، عَدْلًا وَرِعًا، عَفِيفًا عَنْ التُّهْمَةِ، صَائِنَ النَّفْسِ عَنْ الطَّمَعِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ: هُوَ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ، فَإِذَا كَانَ الْمُقَلَّدُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَقْضِي إلَّا بِالْحَقِّ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَرْطُ جَوَازِ التَّقْلِيدِ، فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ التَّحْكِيمِ؛ لِأَنَّ التَّحْكِيمَ مَشْرُوعٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ -: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] فَكَانَ الْحُكْمُ مِنْ الْحَكَمَيْنِ بِمَنْزِلَةِ حُكْمِ الْقَاضِي الْمُقَلَّدِ، إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ فِي أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ. (مِنْهَا) : أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ. (وَمِنْهَا) : أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْحُكْمُ، حَتَّى لَوْ رَجَعَ أَحَدُ الْمُتَحَاكِمَيْنِ قَبْلَ الْحُكْمِ؛ يَصِحُّ رُجُوعُهُ، وَإِذَا حَكَمَ صَارَ لَازِمًا. (وَمِنْهَا) : أَنَّهُ إذَا حَكَمَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، ثُمَّ رُفِعَ حُكْمُهُ إلَى الْقَاضِي، وَرَأْيُهُ يُخَالِفُ رَأْيَ الْحَاكِمِ الْمُحَكَّمِ، لَهُ أَنْ يَفْسَخَ حُكْمَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَنْ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ قَبُولُ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ قَبُولُ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ، فَنَقُولُ: إذَا عُرِضَ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ عَدَدٌ يَصْلُحُونَ لِلْقَضَاءِ، لَا يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ، بَلْ هُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ الْقَبُولِ وَالتَّرْكِ. (أَمَّا) جَوَازُ الْقَبُولِ؛ فَلِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ، - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - قَضَوْا بَيْنَ الْأُمَمِ بِأَنْفُسِهِمْ، وَقَلَّدُوا غَيْرَهُمْ وَأَمَرُوا بِذَلِكَ، فَقَدْ بَعَثَ

فصل في بيان شرائط جواز القضاء

رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَاذًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا، وَبَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى مَكَّةَ قَاضِيًا، وَقَلَّدَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - الْأَعْمَالَ، وَبَعَثَهُمْ إلَيْهَا، وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ قَضَوْا بِأَنْفُسِهِمْ، وَقَلَّدُوا غَيْرَهُمْ، فَقَلَّدَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شُرَيْحًا الْقَضَاءَ، وَقَرَّرَهُ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ، وَسَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. (وَأَمَّا) جَوَازُ التَّرْكِ؛ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ «قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إيَّاكَ وَالْإِمَارَةَ» وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنَّهُ قَالَ: لَا تَتَأَمَّرْنَ عَلَى اثْنَيْنِ» وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عُرِضَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَأَبَى حَتَّى ضُرِبَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَقْبَلْ، وَكَذَا لَمْ يَقْبَلْهُ كَثِيرٌ مِنْ صَالِحِي الْأُمَّةِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ، دَخَلَ فِيهِ قَوْمٌ صَالِحُونَ وَتَرَكَ الدُّخُولَ فِيهِ قَوْمٌ صَالِحُونَ، ثُمَّ إذَا جَازَ التَّرْكُ وَالْقَبُولُ فِي هَذَا الْوَجْهِ، اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْقَبُولَ أَفْضَلُ أَمْ التَّرْكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: التَّرْكُ أَفْضَلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَبُولُ أَفْضَلُ، احْتَجَّ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ جُعِلَ عَلَى الْقَضَاءِ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى الزَّجْرِ عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ، احْتَجَّ الْفَرِيقُ الْآخَرُ بِصُنْعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَصُنْعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ؛ لِأَنَّ لَنَا فِيهِمْ قُدْوَةً؛ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَقِّ إذَا أَرَادَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ يَكُونُ عِبَادَةً خَالِصَةً بَلْ هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ، قَالَ النَّبِيُّ الْمُكَرَّمُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ: «عَدْلُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً» . وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَاضِي الْجَاهِلِ، أَوْ الْعَالِمِ الْفَاسِقِ، أَوْ الطَّالِبِ الَّذِي لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ الرِّشْوَةَ، فَيَخَافُ أَنْ يَمِيلَ إلَيْهَا، تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، هَذَا إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ عَدَدٌ يَصْلُحُونَ لِلْقَضَاءِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَمْ يَصْلُحْ لَهُ إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ؛ فَإِنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ؛ إذَا عُرِضَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَصْلُحْ لَهُ غَيْرُهُ - تَعَيَّنَ هُوَ لِإِقَامَةِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، فَصَارَ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّقْلِيدِ، فَإِذَا قُلِّدَ - اُفْتُرِضَ عَلَيْهِ الْقَبُولُ عَلَى وَجْهٍ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْقَبُولِ - يَأْثَمُ، كَمَا فِي سَائِرِ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَان شَرَائِطِ جَوَازِ الْقَضَاءِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْقَضَاءِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاضِي، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَضَاءِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ. (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَاضِي فَمَا ذَكَرْنَا مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَصْلُحُ قَاضِيًا؛ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ ضَرُورَةً. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَضَاءِ، فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ بِحَقٍّ، وَهُوَ الثَّابِتُ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ حُكْمِ الْحَادِثَةِ، إمَّا قَطْعًا بِأَنْ قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، وَهُوَ النَّصُّ الْمُفَسَّرُ مِنْ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ، أَوْ الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ وَالْمُتَوَاتِرُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَإِمَّا ظَاهِرًا؛ بِأَنْ قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ، يُوجِبُ عِلْمَ غَالِبِ الرَّأْيِ، وَأَكْثَرَ الظَّنِّ، مِنْ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالْمُتَوَاتِرِ وَالْمَشْهُورِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، وَذَلِكَ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَاَلَّتِي لَا رِوَايَةَ فِي جَوَابِهَا عَنْ السَّلَفِ، بِأَنْ لَمْ تَكُنْ وَاقِعَةً، حَتَّى لَوْ قَضَى بِمَا قَامَ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ عَلَى خِلَافِهِ - لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ بِالْبَاطِلِ قَطْعًا، وَكَذَا لَوْ قَضَى فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ، بِمَا كَانَ خَارِجًا عَنْ أَقَاوِيلِ الْفُقَهَاءِ كُلِّهِمْ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُو أَقَاوِيلَهُمْ، فَالْقَضَاءُ بِمَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهَا كُلِّهَا يَكُونُ قَضَاءً بَاطِلًا قَطْعًا. وَكَذَا لَوْ قَضَى بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا فِيهِ نَصٌّ ظَاهِرٌ، يُخَالِفُهُ مِنْ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ - لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ كَانَ النَّصُّ قَطْعِيًّا أَوْ ظَاهِرًا. وَأَمَّا فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ يُخَالِفُهُ، وَلَا إجْمَاعَ النُّقُولِ، لَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. (وَإِمَّا) أَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَأَفْضَى رَأْيُهُ إلَى شَيْءٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتْبَعَ رَأْيَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ظَاهِرًا، فَكَانَ غَيْرُهُ بَاطِلًا ظَاهِرًا،؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ وَاحِدٌ، وَالْمُجْتَهِدُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ - عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ جَمِيعًا، وَلَوْ أَفْضَى رَأْيُهُ إلَى شَيْءٍ. وَهُنَاكَ مُجْتَهِدٌ آخَرُ - أَفْقَهُ مِنْهُ - لَهُ رَأْيٌ آخَرُ، فَأَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ، مِنْ غَيْرِ النَّظَرِ فِيهِ، وَتَرَجَّحَ رَأْيُهُ بِكَوْنِهِ أَفْقَهَ مِنْهُ، هَلْ يَسَعُهُ ذَلِكَ؟ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَسَعُهُ ذَلِكَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَسَعُهُ إلَّا أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِ نَفْسِهِ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ هَذَا الِاخْتِلَافَ عَلَى الْعَكْسِ، فَقَالَ: عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَسَعُهُ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا: يَسَعُهُ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى أَنَّ كَوْنَ أَحَدِ الْمُجْتَهِدَيْنِ أَفْقَهَ، مِنْ غَيْرِ النَّظَرِ فِي رَأْيِهِ، هَلْ يَصْلُحُ مُرَجِّحًا؟ مَنْ قَالَ: يَصْلُحُ مُرَجِّحًا، قَالَ: يَسَعُهُ، وَمَنْ قَالَ

لَا يَصْلُحُ، قَالَ: يَسَعُهُ. (وَجْهُ) قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى التَّرْجِيحَ بِكَوْنِهِ أَفْقَهَ، أَنَّ التَّرْجِيحَ يَكُونُ بِالدَّلِيلِ، وَكَوْنُهُ أَفْقَهَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّلِيلِ، فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ، وَهَذَا لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مَنْ يَرَى بِهِ التَّرْجِيحَ، أَنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ أَفْقَهَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اجْتِهَادَهُ إقْرَارٌ إلَى الصَّوَابِ، فَكَانَ مِنْ جِنْسِ الدَّلِيلِ فَيَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ، إنْ لَمْ يَصْلُحْ دَلِيلَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ، وَأَبَدًا يَكُونُ التَّرْجِيحُ بِمَا لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا قِيلَ: فِي حَدِّهِ زِيَادَةٌ لَا يَسْقُطُ بِهَا التَّعَارُضُ حَقِيقَةً؛ لِمَا عُلِمَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلِهَذَا أَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَرَجَّحَهُ عَلَى الْقِيَاسِ؛ لِمَا أَنَّ قَوْلَهُ أَقْرَبُ إلَى إصَابَةِ الْحَقِّ مِنْ قَوْلِ الْقَائِسِ كَذَا هَذَا، وَإِنْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَادِثَةِ اسْتَعْمَلَ رَأْيَهُ فِي ذَلِكَ وَعَمِلَ بِهِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُشَاوِرَ أَهْلَ الْفِقْهِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ - نَظَرَ فِي ذَلِكَ، فَأَخَذَ بِمَا يُؤَدِّي إلَى الْحَقِّ ظَاهِرًا، وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى رَأْيٍ يُخَالِفُ رَأْيَهُ - عَمِلَ بِرَأْيِ نَفْسِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِالْعَمَلِ بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَحَرُمَ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَجِّلَ بِالْقَضَاءِ، مَا لَمْ يَقْضِ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَالِاجْتِهَادِ، وَيَنْكَشِفْ لَهُ وَجْهُ الْحَقِّ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ بِاجْتِهَادِهِ، قَضَى بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَلَا يَكُونَنَّ خَائِفًا فِي اجْتِهَادِهِ، بَعْدَ مَا بَذَلَ مَجْهُودَهُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ، فَلَا يَقُولَنَّ: إنِّي أَرَى، وَإِنِّي أَخَافُ؛ لِأَنَّ الْخَوْفَ وَالشَّكَّ وَالظَّنَّ، يَمْنَعُ مِنْ إصَابَةِ الْحَقِّ، وَيَمْنَعُ مِنْ الِاجْتِهَادِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَرِيئًا جُسُورًا عَلَى الِاجْتِهَادِ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يُقَصِّرْ فِي طَلَبِ الْحَقِّ، حَتَّى لَوْ قَضَى مُجَازِفًا لَمْ يَصِحَّ قَضَاؤُهُ، فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَدْرِي - يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَضَى بِرَأْيِهِ، وَيُحْكَمُ بِالصِّحَّةِ حَمْلًا لِأَمْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ مَا أَمْكَنَ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَإِنْ عَرَفَ أَقَاوِيلَ أَصْحَابِنَا، وَحَفِظَهَا عَلَى الِاخْتِلَافِ وَالِاتِّفَاقِ - عَمِلَ بِقَوْلِ مَنْ يَعْتَقِدُ قَوْلَهُ حَقًّا عَلَى التَّقْلِيدِ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ أَقَاوِيلَهُمْ - عَمِلَ بِفَتْوَى أَهْلِ الْفِقْهِ فِي بَلَدِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ إلَّا فَقِيهٌ وَاحِدٌ؟ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ، وَنَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ سِوَاهُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ - مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْأَخْذِ بِقَوْلِهِ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وَلَوْ قَضَى بِمَذْهَبِ خَصْمِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ بَاطِلٌ عِنْدَهُ فِي اعْتِقَادِهِ، فَلَا يَنْفُذُ كَمَا لَوْ كَانَ مُجْتَهِدًا، فَتَرَكَ رَأْيَ نَفْسِهِ، وَقَضَى بِرَأْيِ مُجْتَهِدٍ يَرَى رَأْيَهُ بَاطِلًا - فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ بَاطِلٌ فِي اجْتِهَادِهِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ نَسِيَ الْقَاضِي مَذْهَبَهُ فَقَضَى بِشَيْءٍ، عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مَذْهَبُ نَفْسِهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَذْهَبُ خَصْمِهِ؟ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّ لَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا - تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَضَى بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ حَقًّا، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا، كَمَا لَوْ قَضَى وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ خَصْمِهِ، وَذَكَرَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي: أَنَّهُ يَصِحُّ قَضَاؤُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِحُّ، لَهُمَا أَنَّ الْقَاضِيَ مُقَصِّرٌ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ حِفْظُ مَذْهَبِ نَفْسِهِ، وَإِذَا لَمْ يَحْفَظْ فَقَدْ قَصَّرَ، وَالْمُقَصِّرُ غَيْرُ مَعْذُورٍ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ النِّسْيَانَ غَالِبٌ - خُصُوصًا عِنْدَ تَزَاحُمِ الْحَوَادِثِ - فَكَانَ مَعْذُورًا، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ قَضَاؤُهُ فِي الْحُكْمِ، بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يَكُونُ لِقَاضٍ آخَرَ أَنْ يُبْطِلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى النِّسْيَانِ، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اجْتَهَدَ، فَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى مَذْهَبِ خَصْمِهِ فَقَضَى بِهِ، فَيَكُونُ قَضَاؤُهُ بِاجْتِهَادِهِ فَيَصِحُّ. وَإِنْ قَضَى فِي حَادِثَةٍ - وَهِيَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ - بِرَأْيِهِ، ثُمَّ رُفِعَتْ إلَيْهِ ثَانِيًا فَتَحَوَّلَ رَأْيُهُ يَعْمَلُ بِالرَّأْيِ الثَّانِي، وَلَا يُوجِبُ هَذَا نَقْضَ الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالرَّأْيِ الْأَوَّلِ؛ قَضَاءٌ مُجْمَعٌ عَلَى جَوَازِهِ؛ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ فِي مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ؛ وَبِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَكَانَ هَذَا قَضَاءً مُتَّفَقًا عَلَى صِحَّتِهِ، وَلَا اتِّفَاقَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الرَّأْيِ الثَّانِي، فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ بِالْمُخْتَلَفِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لِقَاضٍ آخَرَ أَنْ يُبْطِلَ هَذَا الِاجْتِهَادَ كَذَا هَذَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى فِي حَادِثَةٍ، ثُمَّ قَضَى فِيهَا بِخِلَافِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ، فَسُئِلَ فَقَالَ: تِلْكَ كَمَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ كَمَا نَقْضِي، وَلَوْ رُفِعَتْ إلَيْهِ ثَالِثًا، فَتَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى الْأَوَّلِ يُعْمَلُ بِهِ، وَلَا يُبْطَلُ قَضَاؤُهُ بِالرَّأْيِ الثَّانِي، بِالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ الْأَوَّلِ، كَمَا لَا يُبْطَلُ قَضَاؤُهُ الْأَوَّلُ، بِالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ الثَّانِي لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ أَنَّ فَقِيهًا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ، وَمِنْ رَأْيِهِ أَنَّهُ بَائِنٌ، فَأَمْضَى رَأْيَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، وَعَزَمَ عَلَى

أَنَّهَا قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى أَنَّهَا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ، يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ؛ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ بِرَأْيِهِ الْأَوَّلِ فِي حَقِّ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُعْمَلُ بِرَأْيِهِ الثَّانِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فِي حَقِّهَا وَفِي حَقِّ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ رَأْيٌ أَمْضَاهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَمَا أُمْضِيَ بِالِاجْتِهَادِ؛ لَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ رَأْيُهُ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ، يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ، فَعَزَمَ عَلَى أَنَّهَا مَنْكُوحَةٌ، ثُمَّ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى أَنَّهُ بَائِنٌ، فَإِنَّهُ يُعْمَلُ بِرَأْيِهِ الْأَوَّلِ، وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ؛ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَزَمَ عَلَى الْحُرْمَةِ، فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ حَتَّى تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى الْحِلِّ، لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَكَذَا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، لَوْ لَمْ يَكُنْ عَزَمَ عَلَى الْحِلِّ، حَتَّى تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى الْحُرْمَةِ، تَحْرُمُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الِاجْتِهَادِ مَحِلُّ النَّقْضِ، مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْإِمْضَاءُ، وَاتِّصَالُ الْإِمْضَاءِ بِمَنْزِلَةِ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ، وَاتِّصَالُ الْقَضَاءِ يَمْنَعُ مِنْ النَّقْضِ، فَكَذَا اتِّصَالُ الْإِمْضَاءِ. وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا، فَاسْتَفْتَى: فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ بِحَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى أَفْتَاهُ فَقِيهٌ آخَرُ بِخِلَافِهِ، فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ وَأَمْضَاهُ فِي مَنْكُوحَتِهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ مَا أَمْضَاهُ فِيهِ، وَيَرْجِعُ إلَى مَا أَفْتَاهُ بِهِ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِمَا أَمْضَى وَاجِبٌ، لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ مُجْتَهِدًا كَانَ أَوْ مُقَلِّدًا؛ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ مُتَعَبِّدٌ بِالتَّقْلِيدِ، كَمَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مُتَعَبِّدٌ بِالِاجْتِهَادِ، ثُمَّ لَمْ يَجُزْ لِلْمُجْتَهِدِ نَقْضُ مَا أَمْضَاهُ، فَكَذَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمُقَلِّدِ. ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَفَاذِ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ، وَالْمَقْضِيُّ لَهُ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، أَوْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، وَلَكِنْ لَمْ يُخَالِفْ رَأْيُهُمَا رَأْيَ الْقَاضِي، فَأَمَّا إذَا كَانَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَخَالَفَ رَأْيُهُمَا رَأْيَ الْقَاضِي، فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي يَنْفُذُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ، عَامِّيًّا مُقَلِّدًا أَوْ فَقِيهًا مُجْتَهِدًا، يُخَالِفُ رَأْيُهُ رَأْيَ الْقَاضِي بِلَا خِلَافٍ، أَمَّا إذَا كَانَ مُقَلِّدًا فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ الْمُفْتِي، فَتَقْلِيدُ الْقَاضِي أَوْلَى، وَكَذَا إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُ الْقَاضِي، قَضَاءٌ مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَا مَعْنَى لِلصِّحَّةِ إلَّا النَّفَاذُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ وَرَأَى الزَّوْجُ أَنَّهُ وَاحِدَةٌ، يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَرَأَى الْقَاضِي أَنَّهُ بَائِنٌ، فَرَافَعَتْهُ الْمَرْأَةُ إلَى الْقَاضِي، فَقَضَى بِالْبَيْنُونَةِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِمَا قُلْنَا وَأَمَّا قَضَاؤُهُ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ بِمَا يُخَالِفُ رَأْيَهُ، هَلْ يَنْفُذُ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَنْفُذُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَنْفُذُ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ، وَرَأَى الزَّوْجُ أَنَّهُ بَائِنٌ، وَرَأَى الْقَاضِي أَنَّهُ وَاحِدَةٌ، يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ، فَرَافَعَتْهُ إلَى الْقَاضِي؛ فَقَضَى بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ؛ لَا يَحِلُّ لَهُ الْمَقَامُ مَعَهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحِلُّ لَهُ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ مَا ذَكَرْنَا: أَنَّ هَذَا قَضَاءٌ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى جَوَازِهِ، لِوُقُوعِهِ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، فَيَنْفُذُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ وَالْمَقْضِيِّ لَهُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِمَا جَمِيعًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْضِيِّ لَهُ، وَلِأَبِي يُوسُفَ: أَنَّ صِحَّةَ الْقَضَاءِ إنْفَاذُهُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي حَقِّ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ، لَا فِي حَقِّ الْمَقْضِيِّ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ مَجْبُورٌ فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْمَقْضِيُّ لَهُ فَمُخْتَارٌ فِي الْقَضَاءِ لَهُ، فَلَوْ اتَّبَعَ رَأْيَ الْقَاضِي، إنَّمَا يَتْبَعُهُ تَقْلِيدًا، وَكَوْنُهُ مُجْتَهِدًا يَمْنَعُ مِنْ التَّقْلِيدِ، فَيَجِبْ الْعَمَلُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا كُلُّ تَحْلِيلٍ أَوْ تَحْرِيمٍ، أَوْ إعْتَاقٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ؛ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِمَا يُخَالِفُ رَأْيَ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ أَوْ لَهُ، فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَكَذَلِكَ الْمُقَلِّدُ إذَا أَفْتَاهُ إنْسَانٌ فِي حَادِثَةٍ، ثُمَّ رُفِعَتْ إلَى الْقَاضِي، فَقَضَى بِخِلَافِ رَأْيِ الْمُفْتِي، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَيَتْرُكُ رَأْيَ الْمُفْتِي؛ لِأَنَّ رَأْيَ الْمُفْتِي يَصِيرُ مَتْرُوكًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَمَا ظَنُّكَ بِالْمُقَلِّدِ؟ وَلَمْ يَذْكُرْ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْخِلَافَ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَذَكَرَهُ شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَسَنَنْظُرُ فِيهِ فِيمَا يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْقَضَاءُ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْعَادِلَةَ مُظْهِرَةٌ لِلْمُدَّعِي، فَكَانَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ قَضَاءً بِالْحَقِّ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْقَضَاءُ بِالْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ كَاذِبًا، هَذَا هُوَ، الظَّاهِرُ، فَكَانَ الْقَضَاءُ بِهِ قَضَاءً بِالْحَقِّ، وَكَذَا الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ عِنْدَنَا، فِيمَا يُقْضَى فِيهِ بِالنُّكُولِ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا بَذْلٌ، أَوْ إقْرَارٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ دَلِيلُ صِدْقِ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ؛ لِمَا عُلِمَ، فَكَانَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ قَضَاءً بِالْحَقِّ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِعِلْمِ نَفْسِهِ، فِي الْجُمْلَةِ، فَنَقُولُ: تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ قَضَى بِعِلْمٍ اسْتَفَادَهُ فِي زَمَنِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي قُلِّدَ قَضَاءَهُ، وَإِمَّا أَنْ قَضَى بِعِلْمٍ اسْتَفَادَهُ قَبْلَ زَمَانِ الْقَضَاءِ، وَفِي غَيْرِ مَكَانِهِ، وَإِمَّا أَنْ قَضَى بِعِلْمٍ اسْتَفَادَهُ بَعْدَ زَمَانِ الْقَضَاءِ، فِي غَيْرِ مَكَانِهِ، فَإِنْ قَضَى بِعِلْمٍ اسْتَفَادَهُ فِي زَمَنِ الْقَضَاءِ، وَفِي مَكَانِهِ، بِأَنْ سَمِعَ رَجُلًا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمَالٍ، أَوْ سَمِعَهُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ، أَوْ يُعْتِقُ عَبْدَهُ، أَوْ يَقْذِفُ

رَجُلًا، أَوْ رَآهُ يَقْتُلُ إنْسَانًا، وَهُوَ قَاضٍ فِي الْبَلَدِ الَّذِي قُلِّدَ قَضَاءَهَا، جَازَ قَضَاؤُهُ عِنْدَنَا، وَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِهِ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ، بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، إلَّا أَنَّ فِي السَّرِقَةِ يَقْضِي بِالْمَالِ لَا بِالْقَطْعِ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ، فِي قَوْلٍ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ فِي الْكُلِّ، وَفِي قَوْلٍ: يَجُوزُ فِي الْكُلِّ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَوْ جَازَ لَهُ الْقَضَاءُ بِعِلْمِهِ، لَمْ يَبْقَ مَأْمُورًا بِالْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا. (وَجْهُ) قَوْلِهِ الثَّانِي، أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْبَيِّنَةِ الْعِلْمُ بِحُكْمِ الْحَادِثَةِ، وَقَدْ عُلِمَ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ لَا يَخْتَلِفُ. (وَلَنَا) أَنَّهُ جَازَ لَهُ الْقَضَاءُ بِالْبَيِّنَةِ، فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ بِعِلْمِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْبَيِّنَةِ لَيْسَ عَيْنُهَا، بَلْ حُصُولُ الْعِلْمِ بِحُكْمِ الْحَادِثَةِ، وَعِلْمُهُ الْحَاصِلُ بِالْمُعَايَنَةِ، أَقْوَى مِنْ عِلْمِهِ الْحَاصِلِ بِالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِالشَّهَادَةِ عِلْمُ غَالِبِ الرَّأْيِ وَأَكْثَرُ الظَّنِّ، وَالْحَاصِلُ بِالْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ عِلْمُ الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ، فَكَانَ هَذَا أَقْوَى، فَكَانَ الْقَضَاءُ بِهِ أَوْلَى، إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْضِي بِهِ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ يُحْتَاطُ فِي دَرْئِهَا، وَلَيْسَ مِنْ الِاحْتِيَاطِ فِيهَا الِاكْتِفَاءُ بِعِلْمِ نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي وَضْعِ الشَّيْءِ، هِيَ الْبَيِّنَةُ الَّتِي تَتَكَلَّمُ بِهَا، وَمَعْنَى الْبَيِّنَةِ وَإِنْ وُجِدَ، فَقَدْ فَاتَتْ صُورَتُهَا، وَفَوَاتُ الصُّورَةِ يُورِثُ شُبْهَةً، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا يُحْتَاطُ فِي إسْقَاطِهَا، وَكَذَا حَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ، وَكِلَاهُمَا لَا يَسْقُطَانِ بِشُبْهَةِ فَوَاتِ الصُّورَةِ، هَذَا إذَا قَضَى بِعِلْمٍ اسْتَفَادَهُ فِي زَمَنِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ، فَأَمَّا إذَا قَضَى بِعِلْمٍ، اسْتَفَادَهُ فِي غَيْرِ زَمَنِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ، أَوْ فِي زَمَانِ الْقَضَاءِ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْبَلَدِ، الَّذِي وَلِي قَضَاءَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَصْلًا، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ، فَأَمَّا فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ فَلَا يَجُوزُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِالْعِلْمِ الْمُسْتَفَادِ فِي زَمَنِ الْقَضَاءِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِالْعِلْمِ الْمُسْتَفَادِ قَبْلَ زَمَنِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ فِي الْحَالَيْنِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ، إلَّا أَنَّ هَهُنَا اسْتَدَامَ الْعِلْمُ، الَّذِي كَانَ لَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ، بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهِ، وَهُنَاكَ حَدَثَ لَهُ عِلْمٌ لَمْ يَكُنْ، وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بِهِ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ؛ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ التُّهْمَةِ، وَالشُّبْهَةُ تُؤَثِّرُ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ الْحَادِثَ لَهُ فِي زَمَنِ الْقَضَاءِ عِلْمٌ فِي وَقْتٍ هُوَ مُكَلَّفٌ فِيهِ بِالْقَضَاءِ، فَأَشْبَهَ الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ فِيهِ، وَالْعِلْمُ الْحَاصِلُ فِي غَيْرِ زَمَانِ الْقَضَاءِ عِلْمٌ فِي وَقْتٍ هُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فِيهِ بِالْقَضَاءِ، فَأَشْبَهَ الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ فِيهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي صِحَّةِ الْقَضَاءِ هُوَ الْبَيِّنَةُ، إلَّا أَنَّ غَيْرَهَا قَدْ يَلْحَقُ بِهَا؛ إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا، وَالْعِلْمُ الْحَادِثُ فِي زَمَانِ الْقَضَاءِ - فِي مَعْنَى الْبَيِّنَةِ - يَكُونُ حَادِثًا فِي وَقْتٍ هُوَ مُكَلَّفٌ بِالْقَضَاءِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الْبَيِّنَةِ، وَالْحَاصِلُ قَبْلَ زَمَانِ الْقَضَاءِ، أَوْ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى مَكَانِهِ، حَاصِلٌ فِي وَقْتٍ هُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِالْقَضَاءِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْبَيِّنَةِ، فَلَمْ يَجُزْ الْقَضَاءُ بِهِ، فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمَيْنِ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْقَضَاءُ بِكِتَابِ الْقَاضِي، فَنَقُولُ: لِقَبُولِ الْكِتَابِ مِنْ الْقَاضِي شَرَائِطُ، مِنْهَا: الْبَيِّنَةُ عَلَى أَنَّهُ كِتَابُهُ، فَتَشْهَدُ الشُّهُودُ عَلَى أَنَّ هَذَا كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي، وَيَذْكُرُوا اسْمَهُ وَنَسَبَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ كِتَابُهُ بِدُونِهِ، وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ مَخْتُومًا، وَيَشْهَدُوا عَلَى أَنَّ هَذَا خَتْمُهُ؛ لِصِيَانَتِهِ عَنْ الْخَلَلِ فِيهِ، وَمِنْهَا: أَنْ يَشْهَدُوا بِمَا فِي الْكِتَابِ، بِأَنْ يَقُولُوا: إنَّهُ قَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَعَ الشَّهَادَةِ بِالْخَتْمِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا شَهِدُوا بِالْكِتَابِ وَالْخَاتَمِ تُقْبَلُ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِمَا فِي الْكِتَابِ، وَكَذَا إذَا شَهِدُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا فِي جَوْفِهِ تُقْبَلُ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِالْخَاتَمِ، بِأَنْ قَالُوا: لَمْ يُشْهِدْنَا عَلَى الْخَاتَمِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ الْكِتَابُ مَخْتُومًا أَصْلًا، لِأَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الشَّهَادَةِ حُصُولُ الْعِلْمِ لِلْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، بِأَنَّ هَذَا كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي، وَهَذَا يَحْصُلُ بِمَا ذَكَرْنَا. وَلَهُمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ، لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْعِلْمِ بِمَا فِيهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الشَّهَادَةِ بِمَا فِيهِ؛ لِتَكُونَ شَهَادَتُهُمْ عَلَى عِلْمٍ بِالْمَشْهُودِ بِهِ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، وَبَيْنَ الْقَاضِي الْكَاتِبِ مَسِيرَةُ سَفَرٍ، فَإِنْ كَانَ دُونَهُ لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِكِتَابِ الْقَاضِي أَمْرٌ جُوِّزَ لِحَاجَةِ النَّاسِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ بِالشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى غَائِبٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ خَصْمٍ حَاضِرٍ، لَكِنْ جُوِّزَ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا دُونَ مَسِيرَةِ السَّفَرِ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ - الَّتِي لَا حَاجَةَ إلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهَا عِنْدَ الدَّعْوَى - وَالشَّهَادَةِ، كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ. وَأَمَّا فِي الْأَعْيَانِ الَّتِي تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهَا، كَالْمَنْقُولِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ، لَا تُقْبَلُ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: تُقْبَلُ فِي الْعَبْدِ خَاصَّةً إذَا أَبَقَ، وَأُخِذَ فِي بَلَدٍ، فَأَقَامَ صَاحِبُهُ الْبَيِّنَةَ عِنْدَ قَاضِي بَلَدِهِ أَنَّ عَبْدَهُ أَخَذَهُ فُلَانٌ فِي بَلَدِ كَذَا، فَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الْمِلْكِ، أَوْ عَلَى صِفَةِ الْعَبْدِ وَحِلْيَتِهِ، فَإِنَّهُ يَكْتُبُ إلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي الْعَبْدُ فِيهِ، أَنَّهُ قَدْ شَهِدَ الشُّهُودُ عِنْدِي، أَنَّ عَبْدًا صِفَتُهُ وَحِلْيَتُهُ كَذَا وَكَذَا مِلْكُ فُلَانٍ، أَخَذَهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ. يَنْسِبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى أَبِيهِ وَإِلَى جَدِّهِ، عَلَى رَسْمِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، وَإِذَا وَصَلَ إلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ كِتَابُهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ، يُسَلِّمُ الْعَبْدَ إلَيْهِ، وَيَخْتِمُ فِي عُنُقِهِ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا، ثُمَّ يَبْعَثُ بِهِ إلَى الْقَاضِي الْكَاتِبِ، حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ بِعَيْنِهِ عَلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهِ، ثُمَّ يَكْتُبُ الْقَاضِي الْكَاتِبُ لَهُ، كِتَابًا آخَرَ إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ كِتَابُهُ قَبِلَهُ وَقَضَى، وَسَلَّمَ الْعَبْدَ إلَى الَّذِي جَاءَ بِالْكِتَابِ، وَأَبْرَأَ كَفِيلَهُ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الْجَارِيَةِ بِالْإِجْمَاعِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى قَبُولِ كِتَابِ الْقَاضِي فِي الْعَبْدِ مُتَحَقِّقَةٌ؛ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ؛ لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ؛ وَلَضَاعَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَهْرَبُ عَادَةً لِعَجْزِهَا، وَضَعْفِ بِنْيَتِهَا وَقَلْبِهَا، وَلَهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى مَعْلُومٍ؛ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وَالْمَنْقُولُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ، وَالْإِشَارَةُ إلَى الْغَائِبِ مُحَالٌ، فَلَمْ تَصِحَّ شَهَادَةُ الشُّهُودِ، وَلَا دَعْوَى الْمُدَّعِي؛ لِجَهَالَةِ الْمُدَّعِي فَلَا يُقْبَلُ الْكِتَابُ فِيهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُقْبَلُ فِي الْجَارِيَةِ، وَفِي سَائِرِ الْمَنْقُولَاتِ بِخِلَافِ الْعَقَارِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالتَّحْدِيدِ وَبِخِلَافِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالْوَصْفِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْكُلِّ، وَقُضَاةُ زَمَانِنَا يَعْمَلُونَ بِمَذْهَبِهِ؛ لِحَاجَةِ النَّاسِ، وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي الْمُرْسَلِ إلَيْهِ، أَنْ لَا يَفُكَّ الْكِتَابَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ؛ لِيَكُونَ أَبْعَدَ مِنْ التُّهْمَةِ، وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ فِيهِمَا، كَذَا هَذَا. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْمَكْتُوبِ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَاسْمُ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَفَخِذِهِ مَكْتُوبًا فِي الْكِتَابِ، حَتَّى لَوْ نَسَبَهُ إلَى أَبِيهِ وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَ جَدِّهِ، أَوْ نَسَبَهُ إلَى قَبِيلَةٍ، كَبَنِي تَمِيمٍ وَنَحْوِهِ لَا يَقْبَلُ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَا يَحْصُلُ بِهِ، إلَّا وَأَنْ يَكُونَ شَيْئًا ظَاهِرًا مَشْهُورًا، أَشْهُرَ مِنْ الْقَبِيلَةِ فَيُقْبَلُ؛ لِحُصُولِ التَّعْرِيفِ، وَمِنْهَا: ذِكْرُ الْحُدُودِ فِي الدُّورِ وَالْعَقَارِ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْمَحْدُودِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِذِكْرِ الْحَدِّ، وَلَوْ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ ثَلَاثَةَ حُدُودٍ، يُقْبَلُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُقْبَلُ مَا لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى الْحُدُودِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى حَدَّيْنِ لَا تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ مَشْهُورَةً كَدَارِ الْأَمِيرِ وَغَيْرِهِ، لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الشُّرُوطِ، وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي الْكَاتِبُ عَلَى قَضَائِهِ، عِنْدَ وُصُولِ كِتَابِهِ إلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهِ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ وُصُولِ الْكِتَابِ إلَيْهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ، وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ عَلَى قَضَائِهِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ وُصُولِ الْكِتَابِ إلَيْهِ، ثُمَّ وَصَلَ إلَى الْقَاضِي الَّذِي وَلِيَ مَكَانَهُ، لَمْ يُعْمَلْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ إلَيْهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي الْكَاتِبُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ. فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، لَمْ يَعْمَلْ بِهِ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ، بَلْ يَرُدُّهُ كَبْتًا وَغَيْظًا لَهُمْ، وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِصًا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَةُ إخْلَاصُ الْعَمَلِ بِكُلِّيَّتِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِنَفْسِهِ، وَلَا لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَهُ قَضَاءٌ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ، فَلَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَكَذَا إذَا قَضَى فِي حَادِثَةٍ بِرِشْوَةٍ، لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ، وَإِنْ قَضَى بِالْحَقِّ الثَّابِتِ عِنْدَ اللَّهِ جَلَّا وَعَلَا مِنْ حُكْمِ الْحَادِثَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ عَلَى الْقَضَاءِ رِشْوَةً؛ فَقَدْ قَضَى لِنَفْسِهِ لَا لِلَّهِ عَزَّ اسْمُهُ، فَلَمْ يَصِحَّ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ فَأَنْوَاعٌ، مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِلْقَاضِي، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ لَا يَجُوزُ قَضَاءُ الْقَاضِي لَهُ؛ لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا وَقْتَ الْقَضَاءِ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَجُزْ الْقَضَاءُ لَهُ، إلَّا إذَا كَانَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ كَمَا لَا يَجُوزُ، فَالْقَضَاءُ لِلْغَائِبِ أَيْضًا لَا يَجُوزُ، وَمِنْهَا: طَلَبُ الْقَضَاءِ مِنْ الْقَاضِي فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَسِيلَةٌ إلَى حَقِّهِ، فَكَانَ حَقُّهُ وَحَقُّ الْإِنْسَانِ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِطَلَبِهِ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فَحَضْرَتُهُ حَتَّى لَا يَجُوزَ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ، إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ

فصل في بيان آداب القضاء

بِشَرْطٍ، وَالْمَسْأَلَةُ ذُكِرَتْ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَان آدَابِ الْقَضَاءِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا آدَابُ الْقَضَاءِ فَكَثِيرَةٌ، وَالْأَصْلُ فِيهَا كِتَابُ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَمَّاهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كِتَابَ السِّيَاسَةِ، وَفِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، فَافْهَمْ إذَا أُدْلِيَ إلَيْكَ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمُ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ، آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهَكَ وَمَجْلِسِكَ وَعَدْلِكَ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِكَ، وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِكَ - وَفِي رِوَايَةٍ: وَلَا يَخَافُ ضَعِيفٌ جَوْرَكَ - الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا، وَلَا يَمْنَعُكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ بِالْأَمْسِ رَاجَعْتَ فِيهِ نَفْسَكَ، وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ لَا يَبْطُلُ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ، الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا يَخْتَلِجُ فِي صَدْرِكَ، مِمَّا لَمْ يَبْلُغْكَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ اعْرِفْ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ، وَقِسْ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَاعْمَدْ إلَى أَحَبِّهَا، وَأَقْرَبِهَا إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتّ عَالَى، وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ، اجْعَلْ لِلْمُدَّعِي أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ، فَإِذَا أَحْضَرَ بَيِّنَةً أُخِذَ بِحَقِّهِ، وَإِلَّا وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ - وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا اسْتَحْلَلْتَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ - فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ وَأَجْلَى لِلْعَمَى، الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ، أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ قَرَابَةٍ، أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى مِنْكُمْ السِّرَّ - وَفِي رِوَايَةٍ السَّرَائِرَ - وَدَرَأَ عَنْكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، إيَّاكَ وَالْغَضَبَ وَالْقَلَقَ، وَالضَّجَرَ وَالتَّأَذِّي بِالنَّاسِ؛ لِلْخُصُومِ فِي مَوَاطِنِ الْحَقِّ، الَّذِي يُوجِبُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ الْأَجْرَ، وَيُحْسِنُ بِهِ الذُّخْرَ، وَأَنَّ مَنْ يُخْلِصُ نِيَّتَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى - وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْحَقِّ - يَكْفِهِ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ يَتَزَيَّنْ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ خِلَافَهُ؛ شَانَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعِبَادَةِ إلَّا مَا كَانَ خَالِصًا، فَمَا ظَنُّكَ بِثَوَابٍ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مِنْ عَاجِلِ رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ، وَالسَّلَامُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فَهِمًا عِنْدَ الْخُصُومَةِ، فَيَجْعَلُ فَهْمَهُ وَسَمْعَهُ وَقَلْبَهُ إلَى كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ؛ لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي كِتَابِ السِّيَاسَةِ: فَافْهَمْ إذَا أُولِيَ إلَيْك؛ وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مَعَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يَفْهَمْ الْقَاضِي كَلَامَهُمَا؛ يَضِيعُ الْحَقُّ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمُ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ، وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ قَلِقًا وَقْتَ الْقَضَاءِ؛ لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إيَّاكَ وَالْقَلَقَ. وَهَذَا نَدْبٌ إلَى السُّكُونِ وَالتَّثْبِيتِ، وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ ضَجِرًا عِنْدَ الْقَضَاءِ؛ إذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْأُمُورُ فَضَاقَ صَدْرُهُ؛ لِقَوْلِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إيَّاكَ وَالضَّجَرَ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ غَضْبَانَ وَقْتَ الْقَضَاءِ؛ لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إيَّاكَ وَالْغَضَبَ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» ؛ وَلِأَنَّهُ يُدْهِشُهُ عَنْ التَّأَمُّلِ، وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ جَائِعًا وَلَا عَطْشَانَ وَلَا مُمْتَلِئًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ مِنْ الْقَلَقِ، وَالضَّجَرِ وَالْغَضَبِ، وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالِامْتِلَاءِ، مِمَّا يَشْغَلُهُ عَنْ الْحَقِّ، وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَقْضِيَ وَهُوَ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، أَوْ يَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ وَالسَّيْرَ يَشْغَلَانِهِ عَنْ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْضِيَ وَهُوَ مُتَّكِئٌ؛ لِأَنَّ الِاتِّكَاءَ لَا يَقْدَحُ فِي التَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ. وَمِنْهَا: أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي الْجُلُوسِ، فَيُجْلِسُهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ لَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ قَرَّبَ أَحَدَهُمَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَذَا لَا يُجْلِسُ أَحَدَهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ؛ لِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا عَلَى الْيَسَارِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ وَأُبَيُّ بْنَ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اخْتَصَمَا فِي حَادِثَةٍ إلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَأَلْقَى لِسَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وِسَادَةً، فَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَذَا أَوَّلُ جَوْرِكَ، وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْهَا: أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا فِي النَّظَرِ، وَالنُّطْقِ وَالْخَلْوَةِ، فَلَا يَنْطَلِقُ بِوَجْهِهِ إلَى أَحَدِهِمَا، وَلَا يُسَارَّ أَحَدَهُمَا، وَلَا يُومِئُ إلَى أَحَدِهِمَا بِشَيْءٍ دُونَ خَصْمِهِ، وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَلَا يُكَلِّمُ أَحَدَهُمَا بِلِسَانٍ لَا يَعْرِفُهُ الْآخَرُ، وَلَا يَخْلُو بِأَحَدٍ فِي مَنْزِلِهِ، وَلَا يُضَيِّفُ أَحَدَهُمَا، فَيَعْدِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي هَذَا كُلِّهِ؛ لِمَا فِي تَرْكِ الْعَدْلِ فِيهِ مِنْ كَسْرِ قَلْبِ الْآخَرِ، وَيُتَّهَمُ الْقَاضِي بِهِ أَيْضًا. وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَقْبَلَ الْهَدِيَّةَ مِنْ أَحَدِهِمَا، إلَّا إذَا كَانَ لَا يَلْحَقُهُ بِهِ تُهْمَةٌ. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّ الْمُهْدِي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا كَانَ يُهْدِي إلَيْهِ قَبْلَ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ لَا يُهْدِي إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ لَا يُهْدِي إلَيْهِ، فَإِمَّا إنْ كَانَ قَرِيبًا لَهُ أَوْ أَجْنَبِيًّا، فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا لَهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ لَهُ خُصُومَةٌ فِي الْحَالِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ، وَإِنْ كَانَ لَا خُصُومَةَ لَهُ فِي الْحَالِ يَقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا

لَا يَقْبَلُ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ خُصُومَةٌ فِي الْحَالِ، أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ خُصُومَةٌ فِي الْحَالِ، كَانَ بِمَعْنَى الرِّشْوَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ؛ فَرُبَّمَا يَكُونُ لَهُ خُصُومَةٌ فِي الْحَالِ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا يَقْبَلُ وَلَوْ قَبِلَ يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ، هَذَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ لَا يُهْدِي إلَيْهِ قَبْلَ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يُهْدِي إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِي الْحَالِ خُصُومَةٌ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ لَا خُصُومَةَ لَهُ فِي الْحَالِ، يُنْظَرُ إنْ كَانَ أَهْدَى مِثْلَ مَا كَانَ يُهْدِي أَوْ أَقَلَّ يَقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَرُدُّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَبِلَ كَانَ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ لِلْحَالِ حَتَّى انْقَضَتْ الْخُصُومَةُ ثُمَّ قَبِلَهَا، لَا بَأْسَ بِهِ، وَمِنْهَا: أَنْ لَا يُجِيبَ الدَّعْوَةَ الْخَاصَّةَ، بِأَنْ كَانُوا خَمْسَةً أَوْ عَشَرَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ التُّهْمَةِ، إلَّا إذَا كَانَ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ مِمَّنْ كَانَ يَتَّخِذُ لَهُ الدَّعْوَةَ قَبْلَ الْقَضَاءِ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَاضِي قَرَابَةٌ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْضُرَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ خُصُومَةٌ؛ لِانْعِدَامِ التُّهْمَةِ، فَإِنْ عَرَفَ الْقَاضِي لَهُ خُصُومَةً لَمْ يَحْضُرْهَا. وَأَمَّا الدَّعْوَةُ الْعَامَّةُ: فَإِنْ كَانَتْ بِدْعَةً، كَدَعْوَةِ الْمُبَارَاةِ وَنَحْوِهَا؛ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْضُرَهَا لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِ الْقَاضِي إجَابَتُهَا فَالْقَاضِي أَوْلَى، وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةً كَوَلِيمَةِ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ، فَإِنَّهُ يُجِيبُهَا؛ لِأَنَّهُ إجَابَةُ السُّنَّةِ، وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ. وَمِنْهَا: أَنْ لَا يُلَقِّنَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ حُجَّتَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَكْسَرَةَ قَلْبِ الْآخَرِ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ إعَانَةَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، فَيُوجِبُ التُّهْمَةَ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ تَكَلَّمَ أَحَدُهُمَا، أَسْكَتَ الْآخَرَ؛ لِيَفْهَمَ كَلَامَهُ وَمِنْهَا: أَنْ لَا يُلَقِّنَ الشَّاهِدَ، بَلْ يَتْرُكُهُ يَشْهَدُ بِمَا عِنْدَهُ، فَإِنْ أَوْجَبَ الشَّرْعُ قَبُولَهُ قَبِلَهُ، وَإِلَّا رَدَّهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِتَلْقِينِ الشَّاهِدِ بِأَنْ يَقُولَ: أَتَشْهَدُ بِكَذَا وَكَذَا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الشَّاهِدَ يَلْحَقُهُ الْحَصْرُ؛ لِمَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فَيُعْجِزُهُ عَنْ إقَامَةِ الْحُجَّةِ، فَكَانَ التَّلْقِينُ تَقْوِيمًا لِحُجَّةٍ ثَابِتَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَلَهُمَا أَنَّ الْقَاضِيَ يُتَّهَمُ بِتَلْقِينِ الشَّاهِدِ فَيَتَحَرَّجُ عَنْهُ وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَعْبَثَ بِالشُّهُودِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُشَوِّشُ عَلَيْهِمْ عُقُولَهُمْ فَلَا يُمَكِّنُهُمْ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا، وَإِذَا اتَّهَمَ الشُّهُودَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُفَرِّقَهُمْ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَيَسْأَلَهُمْ أَيْنَ كَانَ وَمَتَى كَانَ؟ فَإِنْ اخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ؛ رَدَّهَا وَإِلَّا فَلَا، وَيَشْهَدُ الْقَاضِي الْجِنَازَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْمَيِّتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا فِي أَدَاءِ سُنَّةٍ فَيَحْضُرُهَا، إلَّا إذَا اجْتَمَعَتْ الْجَنَائِزُ عَلَى وَجْهٍ: لَوْ حَضَرَهَا كُلَّهَا لَشَغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ أَنْ لَا يَشْهَدَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَرْضُ عَيْنٍ، وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَكَانَ إقَامَةُ فَرْضِ الْعَيْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَوْلَى. وَيَعُودُ الْمَرِيضَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ بِإِقَامَتِهِ وَيُسَلِّمُ عَلَى الْخُصُومِ إذَا دَخَلُوا الْمَحْكَمَةَ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ مِنْ سُنَّةِ الْإِسْلَامِ - وَكَانَ شُرَيْحٌ يُسَلِّمُ عَلَى الْخُصُومِ - لَكِنْ لَا يَخُصُّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ دُونَ الْآخَرِ، وَهَذَا قَبْلَ جُلُوسِهِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَأَمَّا إذَا جَلَسَ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، وَلَا هُمْ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، أَمَّا هُوَ فَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُسَلِّمَ الْقَائِمُ عَلَى الْقَاعِدِ، لَا الْقَاعِدُ عَلَى الْقَائِمِ، وَهُوَ قَاعِدٌ وَهُمْ قِيَامٌ. وَأَمَّا هُمْ فَلَا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ سَلَّمُوا عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ؛ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ بِأَمْرٍ هُوَ أَهَمُّ وَأَعْظَمُ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الِاشْتِغَالُ كَذَا ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرِ الْهِنْدُوَانِيُّ فِي رَجُلٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ آخَرُ: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ الْجَوَابُ، وَكَذَا الْمُدَرِّسُ إذَا جَلَسَ لِلتَّدْرِيسِ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ سَلَّمَ لَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ؛ لِمَا قُلْنَا، بِخِلَافِ الْأَمِيرِ إذَا جَلَسَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ، إنَّهُمْ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ السُّنَّةُ، وَإِنْ كَانَ سَلَاطِينُ زَمَانِنَا يَكْرَهُونَ التَّسْلِيمَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ خَطَأٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ جَلَسُوا لِلزِّيَارَةِ، وَمِنْ سُنَّةِ الزَّائِرِ التَّسْلِيمُ عَلَى مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْقَاضِي فَإِنَّمَا جَلَسَ لِلْعِبَادَةِ لَا لِلزِّيَارَةِ، فَلَا يُسَنُّ التَّسْلِيمُ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْجَوَابُ إنْ سَلَّمُوا، لَكِنْ لَوْ أَجَابَ جَازَ. وَمِنْهَا: أَنْ يَسْأَلَ الْقَاضِي عَنْ حَالِ الشُّهُودِ، فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَإِنْ لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ، وَهُوَ مِنْ آدَابِ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا عِنْدَهُ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعَدَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَفْضَلُ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَهُوَ مِنْ وَاجِبَاتِ الْقَضَاءِ، وَكَذَا إذَا طَعَنَ الْخَصْمُ عِنْدَهُ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَفِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ طَعَنَ أَوْ لَمْ يَطْعَنْ، ثُمَّ الْقُضَاةُ مِنْ السَّلَفِ كَانُوا يَسْأَلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ مِنْ أَهْلِ مَحَلَّتِهِمْ، وَأَهْلِ سُوقِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ سُوقِيًّا مِمَّنْ هُوَ أَتْقَى النَّاسِ، وَأَوْرَعُهُمْ، وَأَعْظَمُهُمْ أَمَانَةً، وَأَعْرَفُهُمْ بِأَحْوَالِ النَّاسِ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا، وَالْقُضَاةُ فِي زَمَانِنَا نُصِبُوا لِلْعَدْلِ، تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَيْهِمْ؛ لِمَا يَتَعَذَّرُ عَلَى الْقَاضِي طَلَبُ الْمُعَدِّلِ فِي كُلِّ شَاهِدٍ، فَاسْتَحْسَنُوا نَصْبَ الْعَدْلِ. ثُمَّ نَقُولُ: لِلتَّعْدِيلِ شَرَائِطُ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَدْلِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى فِعْلِ

التَّعْدِيلِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا الْعَقْلُ، وَمِنْهَا الْبُلُوغُ؛ وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ، فَلَا يَجُوزُ تَعْدِيلُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ؛ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ كَانَتْ تَجْرِي مَجْرَى الشَّهَادَةِ، فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، فَلَا يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ عَنْ الدِّيَانَاتِ فَخَبَرُهُمْ فِي الدِّيَانَاتِ غَيْرُ مَقْبُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْعَدَالَةِ، وَلَا عَدَالَةَ لِهَؤُلَاءِ، وَمِنْهَا الْعَدَالَةُ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَكُونُ عَدْلًا فِي نَفْسِهِ كَيْف يَعْدِلُ غَيْرَهُ؟ وَأَمَّا الْعَدَدُ فَلَيْسَ بِشَرْطِ الْجَوَازِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَكِنَّهُ شَرَطُ الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ شَرْطُ الْجَوَازِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ التَّزْكِيَةَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ أَمْرٍ غَابَ عَنْ عِلْمِ الْقَاضِي، وَهَذَا مَعْنَى الشَّهَادَةِ، فَيُشْتَرَطُ لَهَا نِصَابُ الشَّهَادَةِ، وَلَهُمَا أَنَّ التَّزْكِيَةَ لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ، فَلَا يَلْزَمُ فِيهَا الْعَدَدُ، عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَاتِ ثَبَتَ نَصًّا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ، فَلَا يَلْزَمُ مُرَاعَاةُ الْعَدَدِ فِيمَا وَرَاءَهُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ: الْعَدَدُ فِي التُّرْجُمَانِ، وَحَامِلِ الْمَنْشُورِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ شَرْطٌ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ: حُرِّيَّةُ الْمُعَدِّلِ، وَبَصَرُهُ، وَسَلَامَتُهُ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمَا، فَتَصِحُّ تَزْكِيَةُ الْأَعْمَى، وَالْعَبْدِ، وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ شَرْطٌ، فَلَا تَصِحُّ تَزْكِيَتُهُمْ؛ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ شَهَادَةٌ عِنْدَهُ، فَيُشْتَرَطُ لَهُ مَا يُشْتَرَطُ لِسَائِرِ الشَّهَادَاتِ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ، فَلَا يُرَاعَى فِيهَا شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ؛ لِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ التَّزْكِيَةِ، فَتَجُوزُ تَزْكِيَةُ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ امْرَأَةً تَخْرُجُ لِحَوَائِجِهَا، وَتُخَالِطُ النَّاسَ فَتَعْرِفُ أَحْوَالَهُمْ، وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَلَى أَصْلِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ عَنْ الدِّيَانَاتِ، وَهِيَ مِنْ أَهْلِهِ. وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَتُقْبَلُ تَزْكِيَتُهَا فِيمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا، فَتَصِحُّ تَزْكِيَتُهَا فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَتَجُوزُ تَزْكِيَةُ الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ، وَالْوَالِدِ لِلْوَلَدِ، وَكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْعَدْلِ فِي التَّعْدِيلِ، إنَّمَا هُوَ حَقُّ الْمُدَّعِي فَلَا يُوجِبُ تُهْمَةً فِيهِ، وَهَذَا يُشْكِلُ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ يُجْرِي التَّعْدِيلَ مَجْرَى الشَّهَادَةِ، وَشَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَعَكْسُهُ لَا تُقْبَلُ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمُزَكَّى مَشْهُودًا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ لَمْ تُعْتَبَرْ تَزْكِيَتُهُ، وَيَجِبُ السُّؤَالُ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَا وَجَبَتْ حَقًّا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ حَقًّا لِلشَّرْعِ. وَحَقُّ الشَّرْعِ لَا يَتَأَدَّى بِتَعْدِيلِهِ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي وَالشُّهُودِ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي إنْكَارِهِ، فَلَا يَصِحُّ تَعْدِيلُهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ السُّؤَالُ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ حَقُّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَحَقُّ الْإِنْسَانِ لَا يُطْلَبُ إلَّا بِطَلَبِهِ، فَمَا لَمْ يَطْعَنْ لَا يَتَحَقَّقُ الطَّلَبُ، فَلَا تَجِبُ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ التَّزْكِيَةِ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ إذَا قَالَ لِلشَّاهِدِ: هُوَ عَدْلٌ لَا يُكْتَفَى بِهِ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ آخَرُ، عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، فَصَارَ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ: لَا تُعْتَبَرُ أَصْلًا وَفِي رِوَايَةٍ: يُقْبَلُ تَعْدِيلُهُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ. وَأَمَّا الثَّانِي الَّذِي يَرْجِعُ إلَى فِعْلِ التَّعْدِيلِ - فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمُعَدِّلُ فِي التَّعْدِيلِ: هُوَ عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: هُوَ عَدْلٌ، وَلَمْ يَقُلْ: جَائِزُ الشَّهَادَةِ لَا يُقْبَلُ تَعْدِيلُهُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عَدْلًا فِي نَفْسِهِ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، كَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ إذَا تَابَ وَصَلُحَ، وَالْعَبْدُ الصَّالِحُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ فِي الرَّدِّ: هُوَ لَيْسَ بِعَدْلٍ لَا يَرُدُّ مَا لَمْ يَقُلْ: هُوَ غَيْرُ جَائِزِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْعَدْلِ - وَهُوَ الْفَاسِقُ - تَجُوزُ شَهَادَتُهُ إذَا تَحَرَّى الْقَاضِي الصِّدْقَ فِي شَهَادَتِهِ، وَلَوْ قَضَى بِهِ الْقَاضِي يَنْفُذُ، وَمِنْهَا أَنْ يَسْأَلَ الْمُعَدِّلَ فِي السِّرِّ أَوَّلًا، فَإِنْ وَجَدَهُ عَدْلًا يَعْدِلُهُ فِي الْعَلَانِيَةِ أَيْضًا، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمُزَكَّى وَالشُّهُودِ، وَبَيْنَ الْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فِي تَعْدِيلِ الْعَلَانِيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ عَدْلًا يَقُولُ لِلْمُدَّعِي: زِدْ فِي شُهُودِكَ وَلَا يَكْشِفُ عَنْ حَالِ الْمَجْرُوحِ سَتْرًا عَلَى الْمُسْلِمِ، وَلَا يَكْتَفِي بِتَعْدِيلِ السِّرِّ خَوْفًا مِنْ الِاحْتِيَالِ وَالتَّزْوِيرِ، بِأَنْ يُسَمِّيَ غَيْرَ الْعَدْلِ بِاسْمِ الْعَدْلِ، فَكَانَ الْأَدَبُ هُوَ التَّزْكِيَةُ فِي الْعَلَانِيَةِ، بَعْدَ التَّزْكِيَةِ فِي السِّرِّ. وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمُعَدِّلَانِ فَعَدَّلَهُ أَحَدُهُمَا، وَجَرَّحَهُ الْآخَرُ، سَأَلَ الْقَاضِي غَيْرَهُمَا فَإِنْ عَدَّلَهُ آخَرُ أَخَذَ بِالتَّزْكِيَةِ، وَإِنْ جَرَّحَهُ آخَرُ أَخَذَ بِالْجَرْحِ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ، وَإِنْ انْضَمَّ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلٌ آخَرُ فَعَدَّلَهُ اثْنَانِ وَجَرَّحَهُ اثْنَانِ عَمِلَ بِالْجَرْحِ؛ لِأَنَّ الْجَارِحَ يَعْتَمِدُ حَقِيقَةَ الْحَالِ، وَالْمُعَدِّلُ يَبْنِي الْأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْإِنْسَانِ أَنْ يُظْهِرَ الصَّلَاحَ، وَيَكْتُمَ الْفِسْقَ، فَكَانَ قَبُولُ قَوْلِ الْجَارِحِ أَوْلَى كَذَلِكَ لَوْ جَرَّحَهُ اثْنَانِ وَعَدَّلَهُ ثَلَاثَةٌ، أَوْ أَرْبَعَةٌ، أَوْ أَكْثَرُ يَعْمَلُ بِقَوْلِ الْجَارِحِ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَقَعُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ. وَمِنْهَا أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ، يُشَاوِرُهُمْ وَيَسْتَعِينُ بِرَأْيِهِمْ فِيمَا يَجْهَلُهُ

مِنْ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ نَدَبَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - رَسُولَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى الْمُشَاوِرَةِ بِقَوْلِهِ {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] مَعَ انْفِتَاحِ بَابِ الْوَحْيِ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْهُ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كَانَ يَقُولُ لِسَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ، وَسَيِّدِنَا عُمَرَ: - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قُولَا، فَإِنِّي فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيَّ مِثْلُكُمَا» ؛ وَلِأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ مِنْ بَابِ الْمُجَاهَدَةِ فِي اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَيَكُونُ سَبَبًا لِلْوُصُولِ إلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] . وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْلِسَ مَعَهُ مَنْ يُوثَقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ؛ لِئَلَّا يَضِنَّ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، بَلْ يَهْدِيهِ إلَى ذَلِكَ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشَاوِرَهُمْ بِحَضْرَةِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ بِمَهَابَةِ الْمَجْلِسِ، وَالنَّاسُ يَتَّهِمُونَهُ بِالْجَهْلِ، وَلَكِنْ يُقِيمُ النَّاسَ عَنْ الْمَجْلِسِ، ثُمَّ يُشَاوِرُهُمْ، أَوْ يَكْتُبُ فِي رُقْعَةٍ فَيَدْفَعُ إلَيْهِمْ، أَوْ يُكَلِّمُهُمْ بِلُغَةٍ لَا يَفْهَمُهَا الْخَصْمَانِ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَاضِي لَا يَدْخُلُهُ حَصْرٌ بِإِجْلَاسِهِمْ عِنْدَهُ، وَلَا يَعْجِزُ عَنْ الْكَلَامِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَإِنْ كَانَ لَا يُجْلِسُهُمْ، فَإِنْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ؛ بَعَثَ إلَيْهِمْ وَسَأَلَهُمْ، وَمِنْهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ جِلْوَازٌ - وَهُوَ الْمُسَمَّى بِصَاحِبِ الْمَجْلِسِ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا - يَقُومُ عَلَى رَأْسِ الْقَاضِي؛ لِتَهْذِيبِ الْمَجْلِسِ، وَبِيَدِهِ سَوْطٌ يُؤَدِّبُ بِهِ الْمُنَافِقَ، وَيُنْذِرُ بِهِ الْمُؤْمِنَ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْسِكُ بِيَدِهِ سَوْطًا، يُنْذِرُ بِهِ الْمُؤْمِنَ، وَيُؤَدِّبُ بِهِ الْمُنَافِقَ» . وَكَانَ سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ يَمْسِكُ سَوْطًا، وَسَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اتَّخَذَ دِرَّةً وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَعْوَانٌ، يَسْتَحْضِرُونَ الْخُصُومَ، وَيَقُومُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ إجْلَالًا لَهُ؛ لِيَكُونَ مَجْلِسًا مَهِيبًا، وَيُذْعِنُ الْمُتَمَرِّدُ لِلْحَقِّ، وَهَذَا فِي زَمَانِنَا، فَأَمَّا فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَمَا كَانَ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْظُرُونَ إلَى الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ بِعَيْنِ التَّبْجِيلِ وَالتَّعْظِيمِ، وَيَخَافُونَهُمْ وَيَنْقَادُونَ لِلْحَقِّ بِدُونِ ذَلِكَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ، فَإِذَا فَرَغَ اسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ وَتَوَسَّدَ بِالْحَصَى، وَمَا كَانَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ حُرْمَتِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَبِسَ قَمِيصًا، فَازْدَادَتْ أَكْمَامُهُ عَنْ أَصَابِعِهِ؛ فَدَعَا بِالشَّفْرَةِ فَقَطَعَهُمَا، وَكَانَ لَا يَكْفِهِمَا أَيَّامًا، وَكَانَتْ الْأَطْرَافُ مُتَعَلِّقَةً مِنْهَا، وَالنَّاسُ يَهَابُونَهُ غَايَةَ الْمَهَابَةِ. فَأَمَّا الْيَوْمُ فَقَدْ فَسَدَ الزَّمَانُ، وَتَغَيَّرَ النَّاسُ؛ فَهَانَ الْعِلْمُ وَأَهْلُهُ، فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى هَذِهِ التَّكْلِيفَاتِ؛ لِلتَّوَسُّلِ إلَى إحْيَاءِ الْحَقِّ، وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لَهُ تُرْجُمَانٌ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْقَاضِي لُغَتَهُ، مِنْ الْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالشُّهُودِ، وَالْكَلَامُ فِي عَدَدِ التُّرْجُمَانِ وَصِفَاتِهِ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ، كَالْكَلَامِ فِي عَدَدِ الْمُزَكَّى وَصِفَاتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَمِنْهَا أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُحَافَظَةِ الدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ وَالْإِقْرَارَاتِ لَا يُمْكِنُهُ حِفْظُهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ الْكِتَابَةِ، وَقَدْ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجَ إلَى كَاتِبٍ يَسْتَعِينُ بِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَفِيفًا صَالِحًا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ، أَمَّا الْعِفَّةُ وَالصَّلَاحُ؛ فَلِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْأَمَانَةِ، وَالْأَمَانَةُ لَا يُؤَدِّيهَا إلَّا الْعَفِيفُ الصَّالِحُ. وَأَمَّا أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ؛ فَلِأَنَّ الْقَاضِيَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى شَهَادَتِهِ. وَأَمَّا مَعْرِفَتُهُ بِالْفِقْهِ؛ فَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الِاخْتِصَارِ وَالْحَذْفِ مِنْ كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ، وَالنَّقْلِ مِنْ لُغَةٍ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا كَتَبَ كَلَامَ الْخَصْمَيْنِ كَمَا سَمِعَهُ، وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؛ لِئَلَّا يُوجِبَ حَقًّا لَمْ يَجِبْ، وَلَا يُسْقِطَ حَقًّا وَاجِبًا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ غَيْرِ الْفَقِيهِ بِتَفْسِيرِ الْكَلَامِ لَا يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْعِدَ الْكَاتِبَ حَيْثُ يَرَى مَا يَكْتُبُ وَمَا يَصْنَعُ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ، ثُمَّ فِي عُرْفِ بِلَادِنَا يُقَدِّمُ كِتَابَةَ الدَّعْوَى عَلَى الدَّعْوَى، فَيَكْتُبُ دَعْوَى الْمُدَّعِي، وَيَتْرُكُ مَوْضِعَ التَّارِيخِ بَيَاضًا؛ لِجَوَازِ أَنْ تَتَخَلَّفَ الدَّعْوَى عَنْ وَقْتِ الْكِتَابَةِ، وَيَتْرُكُ مَوْضِعَ الْجَوَابِ أَيْضًا بَيَاضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُقِرُّ أَوْ يُنْكِرُ، وَيَكْتُبُ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ - إنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي شُهُودٌ - وَيَتْرُكُ بَيْنَ كُلِّ شَاهِدَيْنِ بَيَاضًا؛ لِيَكْتُبَ الْقَاضِي التَّارِيخَ، وَجَوَابَ الْخَصْمِ، وَشَهَادَةَ الشُّهُودِ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ يَطْوِي الْكَاتِبُ الْكِتَابَ وَيَخْتِمُهُ، ثُمَّ يَكْتُبُ عَلَى ظَهْرِهِ: خُصُومَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ مَعَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، فِي شَهْرِ كَذَا، فِي سَنَةِ كَذَا، وَيَجْعَلُهُ فِي قِمْطَرَةٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ لِخُصُومَاتِ كُلِّ شَهْرٍ قِمْطَرًا عَلَى حِدَةٍ؛ لِيَكُونَ أَبْصَرَ بِذَلِكَ، ثُمَّ يَكْتُبُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ بِنَفْسِهِ عَلَى بِطَاقَةٍ، أَوْ يَسْتَكْتِبُ الْكِتَابَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَبْعَثُهَا إلَى الْمُعَدِّلِ سِرًّا - وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْمَسْتُورَةِ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا - وَالْأَفْضَلُ أَنْ

يَبْعَثَ عَلَى يَدَيْ عَدْلَيْنِ، وَإِنْ بَعَثَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يُقَدِّمَ الْخُصُومَ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ فِي الْحُضُورِ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُبَاحُ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ» وَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ حَالُهُمْ؛ اسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ، فَقَدَّمَ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، إلَّا الْغُرَبَاءَ إذَا خَاصَمُوا بَعْضَ أَهْلِ الْمِصْرِ إلَيْهِ، أَوْ خَاصَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ خَاصَمَهُمْ بَعْضُ أَهْلِ الْمِصْرِ، فَإِنَّهُ يُقَدِّمُهُمْ فِي الْخُصُومَةِ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَدِّمْ الْغَرِيبَ، فَإِنَّك إذَا لَمْ تَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا ذَهَبَ وَضَاعَ حَقُّهُ، فَتَكُونُ أَنْتَ الَّذِي ضَيَّعْتَهُ نَدَبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى تَقْدِيمِ الْغَرِيبِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِظَارُ، فَكَانَ تَأْخِيرُهُ فِي الْخُصُومَةِ تَضْيِيعًا لِحَقِّهِ، إلَّا إذَا كَانُوا كَثِيرًا، بِحَيْثُ يَشْتَغِلُ الْقَاضِي عَنْ أَهْلِ الْمِصْرِ فَيَخْلِطُهُمْ بِأَهْلِ الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَهُمْ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْمِصْرِ، وَكَذَا تَقْدِيمُ صَاحِبِ الشُّهُودِ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ إكْرَامَ الشُّهُودِ وَاجِبٌ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَكْرِمُوا الشُّهُودَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِ بِهِمْ الْحُقُوقَ» وَلَيْسَ مِنْ الْإِكْرَامِ حَبْسُهُمْ عَلَى بَابِ الْقَاضِي، وَهَذَا إذَا كَانَ وَاحِدًا، فَإِنْ كَانُوا كَثِيرًا أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ الرِّجَالَ عَلَى حِدَةٍ، وَالنِّسَاءَ عَلَى حِدَةٍ؛ لِمَا فِي الْخَلْطِ مِنْ خَوْفِ الْفِتْنَةِ، وَلَوْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُنَّ يَوْمًا عَلَى حِدَةٍ؛ لِكَثْرَةِ الْخُصُومِ فَعَلَ؛ لِأَنَّ إفْرَادَهُنَّ بِيَوْمٍ أَسْتَرُ لَهُنَّ وَمِنْهَا أَنْ لَا يُتْعِبَ نَفْسَهُ فِي طُولِ الْجُلُوسِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ فِي الْحُجَجِ، وَبِطُولِ الْجُلُوسِ يَخْتَلُّ النَّظَرُ فِيهَا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَيَكْفِي الْجُلُوسُ طَرَفَيْ النَّهَارِ، وَقَدْرَ مَا لَا يَفْتُرُ عَنْ النَّظَرِ فِي الْحُجَجِ، وَإِذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ الْخَصْمَانِ هَلْ يَسْأَلُ الْمُدَّعِي عَنْ دَعْوَاهُ؟ ذَكَرَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَسْأَلُ، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ وَكَذَا إذَا ادَّعَى دَعْوَى صَحِيحَةً هَلْ يَسْأَلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ دَعْوَى خَصْمِهِ؟ ذَكَرَ فِي آدَابِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَسْأَلُ، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ، حَتَّى يَقُولَ لَهُ الْمُدَّعِي: سَلْهُ عَنْ جَوَابِ دَعْوَايَ. وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ الدَّعْوَى إنْشَاءُ الْخُصُومَةِ، وَالْقَاضِي لَا يُنْشِئُ الْخُصُومَةَ وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ يَلْحَقُهُ مَهَابَةُ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ؛ فَيَعْجِزُ عَنْ الْبَيَانِ دُونَ سُؤَالِ الْقَاضِي، فَيَسْأَلُ عَنْ دَعْوَاهُ وَمِنْهَا أَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، فَادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الدَّفْعَ وَقَالَ: لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ أَمْهَلَهُ زَمَانًا؛ لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي كِتَابِ السِّيَاسَةِ: اجْعَلْ لِلْمُدَّعِي أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ وَأَرَادَ بِهِ مُدَّعِي الدَّفْعَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ عَجَزَ اسْتَحْلَلْتَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْهِلْهُ، وَقَضَى بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي، رُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى نَقْضِ قَضَائِهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَأْتِيَ بِالدَّفْعِ مُؤَخَّرًا، فَهُوَ مِنْ صِيَانَةِ الْقَضَاءِ عَنْ النَّقْضِ، ثُمَّ ذَلِكَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي، إنْ شَاءَ أَخَّرَ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، وَإِنْ شَاءَ إلَى الْغَدِ، وَإِنْ شَاءَ إلَى بَعْدِ الْغَدِ، وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ، فَلَا يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ أَدَّى بِبَيِّنَةٍ غَائِبَةٍ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ، بَلْ يَقْضِي لِلْمُدَّعِي. وَمِنْهَا أَنْ يَجْلِسَ لِلْقَضَاءِ فِي أَشْهَرِ الْمَجَالِسِ؛ لِيَكُونَ أَرْفَقَ بِالنَّاسِ، وَهَلْ يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يَقْضِي وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَقْضِي، بَلْ يَقْضِي فِي بَيْتِهِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَأْتِيهِ الْمُشْرِكُ، وَالْحَائِضُ، وَالنُّفَسَاءُ، وَالْجُنُبُ، وَيَجْرِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ كَلَامُ اللَّغْوِ وَالرَّفَثُ وَالْكَذِبُ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ، وَتَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عَنْ هَذَا كُلِّهِ وَاجِبٌ. (وَلَنَا) الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ، وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ لِلْقَضَاءِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ وَاجِبٌ، وَلَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَرُدَّ الْخُصُومَ إلَى الصُّلْحِ إنْ طَمَعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] فَكَانَ الرَّدُّ إلَى الصُّلْحِ رَدًّا إلَى الْخَيْرِ، وَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رُدُّوا الْخُصُومَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورِثُ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنَ فَنَدَبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْقُضَاةَ إلَى رَدِّ الْخُصُومِ إلَى الصُّلْحِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِ ضَغِينَةٍ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى مَرَّةٍ أَوْ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ اصْطَلَحَا، وَإِلَّا قَضَى بَيْنَهُمَا بِمَا يُوجِبُ الشَّرْعُ، وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ مِنْهُمْ الصُّلْحَ لَا يَرُدُّهُمْ إلَيْهِ، بَلْ يَنْفُذُ الْقَضِيَّةَ فِيهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الرَّدِّ. وَهَلْ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ الرِّزْقَ؟ فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْكِفَايَةِ، وَلَا كِفَايَةَ لَهُ، فَكَانَتْ كِفَايَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ أُجْرَةَ عَمَلِهِ، وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْهِ وَعَلَى عِيَالِهِ كَيْ لَا يَطْمَعَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ. وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَعَثَ

فصل في بيان ما ينفذ من القضايا وما ينقض منها إذا رفع إلى قاض آخر

عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى مَكَّةَ، وَوَلَّاهُ أَمْرَهَا، رَزَقَهُ أَرْبَعَمِائَةَ دِرْهَمٍ فِي كُلِّ عَامٍ» . وَرُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ الْكِرَامَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجَرُوا لِسَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا وَثُلُثًا أَوْ ثُلُثَيْنِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَانَ لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كُلَّ يَوْمٍ قَصْعَةٌ مِنْ ثَرِيدٍ، وَرَزَقَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شُرَيْحًا، وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا فَرَضَ لَهُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِحُكْمِ الْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَى ذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحِلُّ لَهُ الْأَخْذُ، وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ. أَمَّا الْحِلُّ؛ فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَكَانَتْ كِفَايَتُهُ عَلَيْهِمْ لَا مِنْ طَرِيقِ الْأَجْرِ وَأَمَّا الْأَفْضَلِيَّةُ؛ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ فَرُبَّمَا يَجِيءُ بَعْدَهُ قَاضٍ مُحْتَاجٌ، وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ سُنَّةً وَرَسْمًا، فَتَمْتَنِعُ السَّلَاطِينُ عَنْ إبْطَالِ رِزْقِ الْقُضَاةِ إلَيْهِمْ - خُصُوصًا سَلَاطِينُ زَمَانِنَا - فَكَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْأَخْذِ شُحًّا بِحَقِّ الْغَيْرِ، فَكَانَ الْأَفْضَلُ هُوَ الْأَخْذُ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ إلَّا إذَا أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِالتَّفْوِيضِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ كَالْوَكِيلِ، وَلَوْ اسْتَخْلَفَ تَتَوَقَّفُ قَضَايَا خَلِيفَتِهِ عَلَى إجَازَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ الْخَاصِّ، إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ فَتَصَرَّفَ، وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ أَذِنَ لَهُ بِذَلِكَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، كَالْوَكِيلِ الْعَامِّ وَفِي آدَابِ الْقَضَاءِ وَمَا نَدَبَ الْقَاضِي إلَى فِعْلِهِ كَثْرَةً لَهَا كِتَابٌ مُفْرَدٌ هُنَاكَ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَنْفُذُ مِنْ الْقَضَايَا وَمَا يُنْقَضُ مِنْهَا إذَا رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَنْفُذُ مِنْ الْقَضَايَا، وَمَا يُنْقَضُ مِنْهَا إذَا رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: قَضَاءُ الْقَاضِي الْأَوَّلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَقَعَ فِي فَصْلٍ فِيهِ نَصٌّ مُفَسَّرٌ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَإِمَّا أَنْ وَقَعَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ مِنْ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَالْقِيَاسِ، فَإِنْ وَقَعَ فِي فَصْلٍ فِيهِ نَصٌّ مُفَسَّرٌ مِنْ الْكِتَابِ، أَوْ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، أَوْ الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ وَافَقَ قَضَاؤُهُ ذَلِكَ نَفَذَ وَلَا يَحِلُّ لَهُ النَّقْضُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ صَحِيحًا قَطْعًا، وَإِنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا قَطْعًا. وَإِنْ وَقَعَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَى كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِي كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُجْمَعًا عَلَى كَوْنِهِ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ، فَإِمَّا أَنْ كَانَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ هُوَ الْمَقْضِيُّ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ نَفْسَ الْقَضَاءِ، فَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهِدُ فِيهِ هُوَ الْمَقْضِيُّ بِهِ، فَرُفِعَ قَضَاؤُهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ؛ لَمْ يَرُدَّهُ الثَّانِي، بَلْ يُنَفِّذُهُ؛ لِكَوْنِهِ قَضَاءً مُجْمَعًا عَلَى صِحَّته؛ لِمَا عُلِمَ أَنَّ النَّاسَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِأَيِّ الْأَقْوَالِ الَّذِي مَالَ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَكَانَ قَضَاؤُهُ مُجْمَعًا عَلَى صِحَّته، فَلَوْ نَقَضَهُ إنَّمَا يَنْقُضُهُ بِقَوْلِهِ. وَفِي صِحَّتِهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ النَّاسِ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ مَا صَحَّ بِالِاتِّفَاقِ بِقَوْلٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَ الثَّانِي دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ بَلْ اجْتِهَادِيٌّ، وَصِحَّةُ قَضَاءِ الْقَاضِي الْأَوَّلِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَهُوَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ بِأَيِّ وَجْهٍ اتَّضَحَ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ مَا مَضَى بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ؛ وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُوجِبُ الْقَوْلَ بِلُزُومِ الْقَضَاءِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الِاجْتِهَادِ، وَأَنْ لَا يَجُوزَ نَقْضُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ نَقْضُهُ يَرْفَعُهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَ رَأْيِ الْأَوَّلِ فَيَنْقُضُهُ، ثُمَّ يَرْفَعُهُ الْمُدَّعِي إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَ رَأْيِ الْقَاضِي الثَّانِي فَيَنْقُضُ نَقْضَهُ، وَيَقْضِي كَمَا قَضَى الْأَوَّلُ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا تَنْدَفِعَ الْخُصُومَةُ وَالْمُنَازَعَةُ أَبَدًا، وَالْمُنَازَعَةُ سَبَبُ الْفَسَادِ، وَمَا أَدَّى إلَى الْفَسَادِ فَسَادٌ. فَإِنْ كَانَ رَدَّهُ الْقَاضِي الثَّانِي فَرَفَعَهُ إلَى قَاضٍ ثَالِثٍ نَفَذَ قَضَاءُ الْقَاضِي الْأَوَّلِ، وَأُبْطِلَ قَضَاءُ الْقَاضِي الثَّانِي؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ، وَقَضَاءَ الثَّانِي بِالرَّدِّ بَاطِلٌ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَاضِي الْأَوَّلُ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ، فَإِنْ كَانَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ فَرُفِعَتْ قَضَايَاهُ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ، بِأَنْ ظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ عَلَى الْمِصْرِ - الَّذِي كَانَ فِي يَدِ الْخَوَارِجِ - فَرُفِعَتْ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ قَضَايَا قَاضِيهِمْ، لَمْ يَنْفُذْ شَيْئًا مِنْهَا، بَلْ يَنْقُضُهَا كُلَّهَا - وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ - كَبْتًا وَغَيْظًا لَهُمْ؛ لِيَنْزَجِرُوا عَنْ الْبَغْيِ، وَإِنْ كَانَ نَفْسُ الْقَضَاءِ مُجْتَهَدًا فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَمْ لَا كَمَا لَوْ قَضَى بِالْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ أَوْ قَضَى عَلَى الْغَائِبِ؟ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي الثَّانِي أَنْ يُنْقَضَ قَضَاءَ الْأَوَّلِ إذَا مَالَ اجْتِهَادُهُ إلَى خِلَافِ اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ هُنَا لَمْ يَجُزْ بِقَوْلِ الْكُلِّ، بَلْ بِقَوْلِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَلَمْ يَكُنْ جَوَازُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْضِ بِمِثْلِهِ. بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْقَضَاءِ هُنَاكَ ثَبَتَ بِقَوْلِ الْكُلِّ، فَكَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَلَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بِقَوْلِ الْبَعْضِ؛ وَلِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ إذَا كَانَتْ مُخْتَلَفًا فِيهَا، فَالْقَاضِي بِالْقَضَاءِ يَقْطَعُ أَحَدَ الِاخْتِلَافَيْنِ، وَيَجْعَلُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ بِالْقَضَاءِ الْمُتَّفَقِ عَلَى جَوَازِهِ، وَإِذَا كَانَ نَفْسُ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفًا فِيهِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ بِالْخِلَافِ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَضَاءُ فِي مَحِلٍّ أَجْمَعُوا عَلَى كَوْنِهِ

فصل في بيان ما يحله القضاء وما لا يحله

مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي مَحِلٍّ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ أَمْ لَا، كَبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ هَلْ يَنْفُذُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي أَمْ لَا؟ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَنْفُذُ؛ لِأَنَّهُ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ عِنْدَهُمَا؛ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَنْفُذُ؛ لِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، فَخَرَجَ عَنْ مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ. وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ هَلْ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ؟ عِنْدَهُمَا لَا يُرْفَعُ، وَعِنْدَهُ يُرْفَعُ، فَكَانَ هَذَا الْفَصْلُ مُخْتَلَفًا فِي كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ مِنْ رَأْيِ الْقَاضِي الثَّانِي أَنَّهُ يَجْتَهِدُ فِيهِ، يُنَفِّذُ قَضَاءَهُ، وَلَا يَرُدُّهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ رَأْيِهِ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الِاجْتِهَادِ، وَصَارَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، لَا يُنَفِّذُ، بَلْ يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ وَقَعَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ؛ فَكَانَ بَاطِلًا، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مِنْ فَصَّلَ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ تَفْصِيلًا آخَرَ فَقَالَ: إنْ كَانَ الِاجْتِهَادُ شَنِيعًا مُسْتَنْكَرًا جَازَ لِلْقَاضِي الثَّانِي أَنْ يَنْقُضَ قَضَاءَ الْأَوَّلِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّ كَوْنُهُ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ فَلَا مَعْنَى لِلْفَصْلِ بَيْنَ مُجْتَهِدٍ وَمُجْتَهِدٍ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِلثَّانِي نَقْضُ قَضَاءِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ صَادَفَ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يُحِلُّهُ الْقَضَاءُ وَمَا لَا يُحِلُّهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُحِلُّهُ الْقَضَاءُ، وَمَا لَا يُحِلُّهُ، فَالْأَصْلُ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِشَاهِدَيْ الزُّورِ فِيمَا لَهُ وِلَايَةُ إنْشَائِهِ فِي الْجُمْلَةِ، يُفِيدُ الْحِلَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَضَاؤُهُ بِهِمَا فِيمَا لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إنْشَائِهِ أَصْلًا، لَا يُفِيدُ الْحِلَّ بِالْإِجْمَاعِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُفِيدُ الْحِلَّ فِيهِمَا جَمِيعًا، فَنَقُولُ: جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِشَاهِدَيْنِ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُمَا شَاهِدَا زُورٍ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ قَضَى بِعَقْدٍ أَوْ بِفَسْخِ عَقْدٍ، وَإِمَّا أَنْ قَضَى بِمِلْكٍ مُرْسَلٍ، فَإِنْ قَضَى بِعَقْدٍ أَوْ بِفَسْخِ عَقْدٍ فَقَضَاؤُهُ يُفِيدُ الْحِلَّ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمْ لَا يُفِيدُ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ بِشُهُودِ زُورٍ هَلْ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؟ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَإِنْ قَضَى بِمِلْكٍ مُرْسَلٍ، لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا بِالْإِجْمَاعِ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ: إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، فَأَنْكَرَتْ، فَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْ زُورٍ، فَقَضَى الْقَاضِي بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا - وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا - حَلَّ لِلرَّجُلِ وَطْؤُهَا، وَحَلَّ لَهَا التَّمْكِينُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَحِلُّ وَكَذَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا - وَهُوَ مُنْكِرٌ - فَقَضَى الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ؛ حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِزُورٍ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَحِلُّ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ دَعْوَى الْبَيْعِ وَالْإِعْتَاقِ. وَفِي الْهِبَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَتَانِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ، وَهِيَ تُنْكِرُ وَتَقُولُ: أَنَا أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ، أَوْ أَنَا فِي عِدَّةٍ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ، فَشَهِدَ بِالنِّكَاحِ شَاهِدَانِ، وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا، وَالْمَرْأَةُ تَعْلَمُ أَنَّهَا كَمَا أَخْبَرَتْ لَا يَحِلُّ لَهَا التَّمْكِينُ، وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ هَذِهِ جَارِيَتُهُ، وَهِيَ تُنْكِرُ، فَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْنِ، وَقَضَى الْقَاضِي بِالْجَارِيَةِ، أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ أَيْضًا أَنْ يَشْتَرِيَهَا احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» أَخْبَرَ الشَّارِعُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ الْقَضَاءَ بِمَا لَيْسَ لِلْمُدَّعِي قَضَاءٌ لَهُ بِقِطْعَةٍ مِنْ النَّارِ، وَلَوْ نَفَذَ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا لَمَا كَانَ الْقَضَاءُ بِهِ قَضَاءً بِقِطْعَةٍ مِنْ النَّارِ؛ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَنْفُذُ بِالْحُجَّةِ - وَهِيَ الشَّهَادَةُ الصَّادِقَةُ - وَهَذِهِ كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَنْفُذُ حَقِيقَةً؛ وَلِهَذَا لَمْ يَنْفُذْ بِالْمِلْكِ الْمُرْسَلِ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُحَرَّمَةً بِالْعِدَّةِ وَالرِّدَّةِ، أَوْ الرَّضَاعِ أَوْ الْقَرَابَةِ، أَوْ الْمُصَاهَرَةِ، كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِمَا يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ إنْشَاءٌ لَهُ، فَيَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، كَمَا لَوْ أَنْشَأَ صَرِيحًا. وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّ الْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ، وَلَا يَقَعُ قَضَاؤُهُ بِالْحَقِّ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ إلَّا بِالْحَمْلِ عَلَى الْإِنْشَاءِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ تَكُونُ صَادِقَةً، وَقَدْ تَكُونُ كَاذِبَةً، فَيُجْعَلُ إنْشَاءً، وَالْعُقُودُ وَالْفُسُوخُ مِمَّا تَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ مِنْ الْقَاضِي، فَإِنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ إنْشَائِهَا فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ الْمِلْكِ الْمُرْسَلِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْمِلْكِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَنْشَأَ الْقَاضِي أَوْ غَيْرُهُ صَرِيحًا - لَا يَصِحُّ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُحَرَّمَةً بِأَسْبَابٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَنْشَأَ صَرِيحًا لَا يَنْفُذُ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ

فصل في بيان حكم خطأ القاضي في القضاء

قِيلَ: إنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ ذَلِكَ فِي أَخَوَيْنِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فِي مَوَارِيثَ دُرِسَتْ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ إلَى آخِرِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ إلَّا دَعْوَاهُمَا، كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَالْمِيرَاثُ وَمُطْلَقُ الْمِلْكِ سَوَاءٌ فِي الدَّعْوَى - وَبِهِ نَقُولُ - مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ السَّبَبِ، وَالْكَلَامُ فِي الْقَضَاءِ بِسَبَبٍ عَلَى أَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِهِ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إنَّ الْقَضَاءَ بِسَبَبِ قَضَاءٍ لَهُ مِنْ مَالٍ آخَرَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ بَلْ هُوَ قَضَا لَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَبِحَقٍّ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِسَبَبِ الْمِلْكِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا، فَقَدْ قُلْنَا بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ. [فَصْلٌ فِي بَيَان حُكْمِ خَطَأِ الْقَاضِي فِي الْقَضَاءِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ خَطَأِ الْقَاضِي فِي الْقَضَاءِ فَنَقُولُ: الْأَصْلُ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْطَأَ فِي قَضَائِهِ، بِأَنْ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ كَانُوا عَبِيدًا أَوْ مَحْدُودِينَ فِي قَذْفٍ، أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ بِالْقَضَاءِ لَمْ يَعْمَلْ لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ فَلَا تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ، ثُمَّ يُنْظَرُ إمَّا أَنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - خَالِصًا، كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَالرَّجْمِ فِي زِنَا الْمُحْصَنِ، فَإِنْ كَانَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، فَإِنْ كَانَ مَالًا - وَهُوَ قَائِمٌ - رَدَّهُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ وَقَعَ بَاطِلًا، وَرَدُّ عَيْنِ الْمَقْضِيِّ بِهِ مُمْكِنٌ، فَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ» . وَلِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، «وَمَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ عَمِلَ لَهُ فَكَانَ خَطَؤُهُ عَلَيْهِ؛ لِيَكُونَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا عَمِلَ لَهُ فَكَانَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَيْسَ بِمَالٍ، كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بَطَلَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ قَضَاءَهُ كَانَ بَاطِلًا، وَأَنَّهُ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ يَحْتَمِلُ الرَّدَّ فَيُرَدُّ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَالْمَالِ الْهَالِكِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ بِنَفْسِهِ فَيُرَدُّ بِالضَّمَانِ، هَذَا إذَا كَانَ الْمَقْضِيُّ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - خَالِصًا فَضَمَانُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِيهَا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِعَوْدِ مَنْفَعَتِهَا إلَيْهِمْ - وَهُوَ الزَّجْرُ - فَكَانَ خَطَؤُهُ عَلَيْهِمْ؛ لِمَا قُلْنَا فَيُؤَدَّى مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ، وَلَا يُضَمَّنُ الْقَاضِي؛ لِمَا قُلْنَا، وَلَا الْجَلَّادُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ بِأَمْرِ الْقَاضِي، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَان مَا يَخْرُجُ بِهِ الْقَاضِي عَنْ الْقَضَاءِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْقَاضِي عَنْ الْقَضَاءِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: كُلُّ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ يَخْرُجُ بِهِ الْقَاضِي عَنْ الْقَضَاءِ، وَمَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ أَشْيَاءَ - ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ - لَا يَخْتَلِفَانِ إلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ: وَهُوَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا مَاتَ أَوْ خُلِعَ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ، وَالْخَلِيفَةُ إذَا مَاتَ أَوْ خُلِعَ لَا تَنْعَزِلُ قُضَاتُهُ وَوُلَاتُهُ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْوَكِيلَ يَعْمَلُ بِوِلَايَةِ الْمُوَكِّلِ وَفِي خَالِصِ حَقِّهِ أَيْضًا، وَقَدْ بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ الْوِلَايَةِ فَيَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ، وَالْقَاضِي لَا يَعْمَلُ بِوِلَايَةِ الْخَلِيفَةِ وَفِي حَقِّهِ بَلْ بِوِلَايَةِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي حُقُوقِهِمْ، وَإِنَّمَا الْخَلِيفَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ عَنْهُمْ؛ لِهَذَا لَمْ تَلْحَقْهُ الْعُهْدَةُ، كَالرَّسُولِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ وَالْوَكِيلِ فِي النِّكَاحِ، وَإِذَا كَانَ رَسُولًا كَانَ فِعْلُهُ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَوِلَايَتِهِمْ بَعْدَ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ بَاقِيَةٌ، فَيَبْقَى الْقَاضِي عَلَى وِلَايَتِهِ؛ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَزْلِ، فَإِنَّ الْخَلِيفَةَ إذَا عَزَلَ الْقَاضِي أَوْ الْوَالِي يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ، وَلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْخَلِيفَةِ أَيْضًا حَقِيقَةً، بَلْ بِعَزْلِ الْعَامَّةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَوْلِيَتَهُ بِتَوْلِيَةِ الْعَامَّةِ، وَالْعَامَّةُ وَلَّوْهُ الِاسْتِبْدَالَ دَلَالَةً؛ لِتَعَلُّقِ مَصْلَحَتِهِمْ بِذَلِكَ، فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ مِنْهُمْ مَعْنًى فِي الْعَزْلِ أَيْضًا، فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَزْلِ وَالْمَوْتِ. وَلَوْ اسْتَخْلَفَ الْقَاضِي بِإِذْنِ الْإِمَامِ، ثُمَّ مَاتَ الْقَاضِي لَا يَنْعَزِلُ خَلِيفَتُهُ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ فِي الْحَقِيقَةِ، لَا نَائِبُ الْقَاضِي، وَلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْخَلِيفَةِ أَيْضًا، كَمَا لَا يَنْعَزِلُ الْقَاضِي؛ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يَمْلِكُ الْقَاضِي عَزْلَ خَلِيفَتِهِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ، فَلَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ كَالْوَكِيلِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ الْوَكِيلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ وَكِيلُ الْمُوَكِّلِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا وَكِيلَهُ، كَذَا هَهُنَا، إلَّا إذَا أَذِنَ لَهُ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ مَنْ شَاءَ فَيَمْلِكُ عَزْلَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَيْضًا عَزْلًا مِنْ الْخَلِيفَةِ لَا مِنْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ كَالْوَكِيلِ إذَا قَالَ لَهُ الْمُوَكِّلُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّوْكِيلَ وَالْعَزْلَ، وَإِذَا عَزَلَ كَانَ الْعَزْلُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ الْمُوَكِّلِ، كَذَا هَذَا. وَعِلْمُ الْمَعْزُولِ بِالْعَزْلِ شَرْطُ صِحَّةِ الْعَزْلِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْوَكَالَةِ، وَهَلْ يَنْعَزِلُ بِأَخْذِ الرِّشْوَةِ فِي الْحُكْمِ؟ عِنْدَنَا لَا يَنْعَزِلُ لَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ فَيَعْزِلُهُ الْإِمَامُ وَيُعَزِّرُهُ، كَذَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، وَقَالَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ يَنْعَزِلُ وَقَالُوا: صَحَّتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ يَنْعَزِلُ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْقَضَاءِ، لَكِنْ رِوَايَةُ مَشَايِخِنَا: أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْقَضَاءِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مُشْتَبِهَةٌ، وَرِوَايَةُ كِتَابِ الْحُدُودِ مُحْكَمَةٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْإِمَامَ يَعْزِلُهُ وَيُعَزِّرُهُ فَكَانَ فِيمَا قُلْنَا: حَمْلُ الْمُحْتَمَلِ عَلَى

كتاب القسمة

الْمُحْكَمِ، فَكَانَ عَمَلًا بِالرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا فَكَانَ أَوْلَى. وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: يَنْعَزِلُ وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا فَسَقَ هَلْ يَنْعَزِلُ أَوْ لَا؟ فَعِنْدَنَا لَا يَنْعَزِلُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَنْعَزِلُ، وَبِهِ قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ لَكِنْ بِنَاءً عَلَى أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: فَأَصْلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْفِسْقَ يُخْرِجُ صَاحِبَهُ عَنْ الْإِيمَانِ فَيَبْطُلُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ كَمَا هِيَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْقَضَاءِ تَدُورُ مَعَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ زَالَتْ بِالْفِسْقِ فَتَبْطُلُ الْأَهْلِيَّةُ وَالْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنَّ الْكَبِيرَةَ لَا تُخْرِجُ صَاحِبَهَا مِنْ الْإِيمَانِ، وَالْعَدَالَةُ لَيْسَ بِشَرْطِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ، كَمَا لَيْسَتْ بِشَرْطِ؛ الْأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْقِسْمَةِ] [أَنْوَاع الْقِسْمَة وَبَيَان شرعية كُلّ نَوْع] (كِتَابُ الْقِسْمَةِ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْقِسْمَةِ، وَفِي بَيَانِ شَرْعِيَّةِ كُلِّ نَوْعٍ، وَفِي بَيَانِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْقِسْمَةِ، وَفِي بَيَانِ صِفَاتِ الْقِسْمَةِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْقِسْمَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالْقِسْمَةُ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا - قِسْمَةُ الْأَعْيَانِ وَالثَّانِي - قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ وَقِسْمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ مَشْرُوعَةٌ، أَمَّا قِسْمَةُ الْأَعْيَانِ فَقَدْ عُرِفَتْ شَرْعِيَّتُهَا بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. (أَمَّا) السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَسَّمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الشَّرْعِيَّةُ» (وَأَمَّا) الْإِجْمَاعُ: فَإِنَّ النَّاسَ اسْتَعْمَلُوا الْقِسْمَةَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَتْ شَرْعِيَّتُهُ مُتَوَارَثَةً، وَالْمَعْقُولُ يَقْتَضِيهِ تَوْفِيرًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَصْلَحَتُهُ بِكَمَالِهَا. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَعْنَى الْقِسْمَةِ لُغَةً وَشَرْعًا، أَمَّا فِي اللُّغَةِ: فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ إفْرَازِ النَّصِيبِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ إفْرَازِ بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ عَنْ بَعْضٍ، وَمُبَادَلَةِ بَعْضٍ بِبَعْضٍ؛ لِأَنَّ مَا مِنْ جُزْأَيْنِ مِنْ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ لَا يَتَجَزَّآنِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، إلَّا وَأَحَدُهُمَا مِلْكُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، وَالْآخَرُ مِلْكُ صَاحِبِهِ غَيْرَ عَيْنٍ، فَكَانَ نِصْفُ الْعَيْنِ مَمْلُوكًا لِهَذَا، وَالنِّصْفُ مَمْلُوكًا لِذَاكَ عَلَى الشُّيُوعِ، فَإِذَا قُسِّمَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَالْأَجْزَاءُ الْمَمْلُوكَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَائِعَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، فَتَجْتَمِعُ بِالْقِسْمَةِ فِي نَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَجْتَمِعَ فِي نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْزَاءٌ، بَعْضُهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ، وَبَعْضُهَا مَمْلُوكَةٌ لِصَاحِبِهِ عَلَى الشُّيُوعِ. فَلَوْ لَمْ تَقَعْ الْقِسْمَةُ مُبَادَلَةً فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ الْمَقْسُومِ، لَمْ يَكُنْ الْمَقْسُومُ كُلُّهُ مِلْكًا لِلْمَقْسُومِ عَلَيْهِ، بَلْ يَكُونُ بَعْضُهُ مِلْكَ صَاحِبِهِ، فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ مِنْهُمَا بِالتَّرَاضِي، أَوْ بِطَلَبِهَا مِنْ الْقَاضِي رِضًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ نِصْفِ نَصِيبِهِ بِعِوَضٍ - وَهُوَ نِصْفُ نَصِيبِ صَاحِبِهِ - وَهُوَ تَفْسِيرُ الْمُبَادَلَةِ، فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ فِي حَقِّ الْأَجْزَاءِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ إفْرَازًا وَتَمْيِيزًا، أَوْ تَعْيِينًا لَهَا فِي الْمِلْكِ وَفِي حَقِّ الْأَجْزَاءِ الْمَمْلُوكَةِ لِصَاحِبِهِ مُعَاوَضَةً، وَهِيَ مُبَادَلَةُ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ الْمُجْتَمِعَةِ فِي نَصِيبِهِ بِبَعْضِ الْأَجْزَاءِ الْمُجْتَمِعَةِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ، فَكَانَتْ إفْرَازَ بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ وَمُعَاوَضَةَ الْبَعْضِ ضَرُورَةً، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْقِسْمَةِ الْمَعْقُولَةِ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَكَانَ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ لَازِمًا فِي كُلِّ قِسْمَةٍ شَرْعِيَّةٍ، إلَّا أَنَّهُ أَعْطَى لَهَا حُكْمَ الْإِفْرَازِ فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ الْعِوَضِ مِثْلُ الْمَتْرُوكِ مِنْ الْمُعَوَّضِ، فَجُعِلَ كَأَنَّهُ يَأْخُذُ عَيْنَ حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقْرِضِ، حَتَّى كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ، فَجُعِلَ إفْرَازًا حُكْمًا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ وَالْمُعَاوَضَاتُ مِمَّا لَا يُجْرَى فِيهَا الْجَبْرُ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ؟ . (فَالْجَوَابُ) أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ قَدْ يُجْرَى فِيهَا الْجَبْرُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَرِيمَ يُجْبَرُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ - عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ - دَلَّ أَنَّ الْجَبْرَ لَا يَنْفِي الْمُعَاوَضَةَ فَجَازَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُعَاوَضَةً مَعَ مَا أَنَّ الْجَبْرَ لَا يَجْرِي فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ، كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَالْقِسْمَةُ لَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ مُطْلَقَةٍ، بَلْ هِيَ إفْرَازٌ مِنْ وَجْهٍ، وَمُعَاوَضَةٌ مِنْ وَجْهٍ، فَجَازَ أَنْ يَجْرِيَ فِيهَا الْجَبْرُ؛ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ قِسْمَةُ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، أَنَّهَا لَا تَجُوزُ مُجَازَفَةً كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مُجَازَفَةً؛ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ

فصل في شرائط القسمة وبعضها يرجع إلى القاسم

رَجُلَيْنِ ثَلَاثُونَ مِنْهُ رَدِيئَةً وَعَشَرَةٌ مِنْهُ جَيِّدَةً قِيمَتُهَا سَوَاءٌ فَأَرَادَا أَنْ يَقْتَسِمَاهُ فَيَأْخُذُ أَحَدُهُمَا ثَلَاثِينَ وَالْآخَرُ عَشَرَةً أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِتَمَكُّنِ الرِّبَا فِيهِ لَتَحَقُّقِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ. وَلَوْ زَادَ صَاحِبُ الزِّيَادَةِ ثَوْبًا أَوْ شَيْئًا آخَرَ جَازَ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ صَارَتْ مُقَابِلَةً بِالثَّوْبِ، فَزَالَ مَعْنَى الرَّبَّا وَقَالَ فِي زَرْعٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُمَا فَأَرَادَا قِسْمَةَ الزَّرْعِ دُونَ الْأَرْضِ، وَقَدْ سَنْبَلَ الزَّرْعُ: إنَّهُ لَا تَجُوزُ قِسْمَتُهُ؛ لِأَنَّ قِسْمَتَهُ بِطَرِيقِ الْمُجَازَفَةِ، وَلَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ بِطَرِيقِ الْمُجَازَفَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِصُوفٍ عَلَى ظَهْرِ غَنَمٍ لِرَجُلَيْنِ، أَوْ أَوْصَى بِاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ لَهُمَا، لَمْ تَجُزْ قِسْمَتُهُ قَبْلَ الْجَزِّ وَالْحَلْبِ؛ لِأَنَّ الصُّوفَ وَاللَّبَنَ مِنْ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فَلَا يَحْتَمِلَانِ الْقِسْمَةَ مُجَازَفَةً، كَمَا لَا يَحْتَمِلَانِ الْبَيْعَ مُجَازَفَةً، وَكَذَا خِيَارُ الْعَيْبِ يَدْخُلُ فِي نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ كَمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ يَدْخُلُ فِي أَحَدِ النَّوْعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، لَا لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلَانِ مِنْ رَجُلٍ كُرَّ حِنْطَةٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَاقْتَسَمَاهُ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا. وَلَوْ اشْتَرَيَا دَارًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَاقْتَسَمَاهَا، لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِينَ، وَإِنَّمَا افْتَرَقَ النَّوْعَانِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، لَا لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ فِي أَحَدِهِمَا وَالْمُبَادَلَةُ فِي الْآخَرِ، بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِمِثْلِ الْمَذْكُورِ ثَمَنًا فِي الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِمِثْلِ الْمَذْكُورِ ثَمَنًا فِي الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةِ شَيْءٍ فِيمَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ. وَأَمَّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ فَلَا، كَمَا إذَا اشْتَرَى كُرَّ حِنْطَةٍ بِكُرِّ حِنْطَةٍ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الْكُرِّ كَذَا هُنَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُعَاوَضَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَالْمُعَاوَضَةُ فِي الْقِسْمَةِ لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ هَذَا الثَّمَنِ شَرْعًا فِي هَذَا الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى أَوَّلِ ثَمَنٍ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ، وَهُوَ الْخَمْسُونَ بِخِلَافِ قِسْمَةِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يُمْكِنُ الْبَيْعُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ - وَهُوَ ثَمَنُ الْقِسْمَةِ - وَزِيَادَةُ شَيْءٍ بِأَنْ يَبِيعَ نِصْفَهُ مِنْ شَرِيكِهِ بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ وَرِبْحُ دِرْهَمٍ مَثَلًا، كَمَا إذَا اشْتَرَى دَارًا بِدَارٍ، أَوْ اشْتَرَى كُرَّ حِنْطَةٍ بِثَوْبٍ، فَأَمْكَنَ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَفِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِينَ، إلَّا أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ مُرَابَحَةً، أَوْ بَاعَهُ مِنْ بَائِعِهِ بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ بِرِبْحِ دَهٍ يازده لَا يَجُوزُ؛ لِمَعْنًى عُرِفَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ الْقِسْمَةِ وبعضها يرجع إلَى الْقَاسِم] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاسِمِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْسُومِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْسُومِ لَهُ. (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَاسِمِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ هُوَ شَرْطُ الْجَوَازِ وَنَوْعٌ: هُوَ شَرْطُ الِاسْتِحْبَابِ أَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا الْعَقْلُ، فَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ مِنْ شَرَائِطِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْقِسْمَةِ حَتَّى تَجُوزَ قِسْمَةُ الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ الْقِسْمَةَ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ وَالذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْقِسْمَةِ، فَتَجُوزُ قِسْمَةُ الذِّمِّيِّ وَالْمَرْأَةِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْعِ فَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الْقِسْمَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الْمِلْكُ وَالْوِلَايَةُ، فَلَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ بِدُونِهِمَا أَمَّا الْمِلْكُ فَالْمَعْنِيُّ بِهِ: أَنْ يَكُونَ الْقَاسِمُ مَالِكًا فَيَقْسِمُ الشُّرَكَاءُ بِالتَّرَاضِي. وَأَمَّا الْوِلَايَةُ فَنَوْعَانِ: وِلَايَةُ قَضَاءٍ، وَوِلَايَةُ قَرَابَةٍ، إلَّا أَنَّ شَرْطَ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ الطَّلَبُ، فَيَقْسِمُ الْقَاضِي وَأَمِينُهُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ، عِنْدَ طَلَبِ الشُّرَكَاءِ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ - عَلَى مَا نَذْكُرُهُ - وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي وِلَايَةِ الْقَرَابَةِ، فَيَقْسِمُ الْأَبُ وَوَصِيُّهُ، وَالْجَدُّ وَوَصِيُّهُ، عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَعْتُوهِ، مِنْ غَيْرِ طَلَبِ أَحَدٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْبَيْعِ فَلَهُ وِلَايَةُ الْقِسْمَةِ، وَمَنْ لَا فَلَا، وَلِهَؤُلَاءِ وِلَايَةُ الْبَيْعِ فَكَانَتْ لَهُمْ وِلَايَةُ الْقِسْمَةِ، وَكَذَا الْقَاضِي لَهُ وِلَايَةُ بَيْعِ مَالِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فِي الْجُمْلَةِ، فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ الْقِسْمَةِ فِي الْجُمْلَةِ. (وَأَمَّا) وَصِيُّ الْأُمِّ وَوَصِيُّ الْأَخِ وَالْعَمِّ فَيَقْسِمُ الْمَنْقُولَ دُونَ الْعَقَارِ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ بَيْعِ الْمَنْقُولِ دُونَ الْعَقَارِ، وَفِي وَصِيِّ الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ أَنَّهُ هَلْ يَقْسِمُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَهَذَا كُلُّهُ يُقَرِّرُ مَا قُلْنَا: إنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ لَازِمٌ فِي الْقِسْمَةِ، حَيْثُ جَعَلَ سَبِيلَهُ سَبِيلَ الْبَيْعِ فِي الْوِلَايَةِ، وَلَا يَقْسِمُ وَصِيُّ الْمَيِّتِ عَلَى الْمُوصَى لَهُ؛ لِانْعِدَامِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَا يَقْسِمُ الْوَرَثَةُ عَلَيْهِ؛ لِانْعِدَامِ وِلَايَتِهِمْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ كَوَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ، وَلَا يَقْسِمُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ عَلَى بَعْضٍ؛ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ فَلَا يَقْسِمُونَ عَلَى الْمُوصَى لَهُ، وَلَوْ اقْتَسَمُوا وَهُوَ غَائِبٌ نُقِضَتْ قِسْمَتُهُمْ، لَكِنْ هَذَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِالتَّرَاضِي، فَإِنْ

فصل في الشرائط التي ترجع إلى المقسوم له

كَانَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي - تَنْفُذُ وَلَا تُنْقَضُ؛ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا شَرَائِطُ الِاسْتِحْبَابِ فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ عَدْلًا أَمِينًا عَالِمًا بِالْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ خَائِنًا، أَوْ جَاهِلًا بِأُمُورِ الْقِسْمَةِ يُخَافُ مِنْهُ الْجَوْرُ فِي الْقِسْمَةِ لَا يَجُوزُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبَ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ غَيْرِهِ لَا تَنْفُذُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْغَائِبِ؛ وَلِأَنَّهُ أَجْمَعُ لِشَرَائِطِ الْأَمَانَةِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَرْزُقَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِيَقْسِمَ لِلنَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَجْرٍ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَرْفَقُ بِالْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَرْزُقَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ يَقْسِمُ لَهُمْ بِأَجْرٍ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُقَدِّرَ لَهُ أُجْرَةً مَعْلُومَةً كَيْ لَا يَتَحَكَّمَ عَلَى النَّاسِ، وَلَوْ أَرَادَ النَّاسُ أَنْ يَسْتَأْجِرُوا قَسَّامًا آخَرَ غَيْرَ الَّذِي نَصَبَهُ الْقَاضِي لَا يَمْنَعُهُمْ الْقَاضِي عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يَجْبُرُهُمْ عَلَى أَنْ يَسْتَأْجِرُوا قَسَّامًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَعَلَّهُ لَا يَرْضَى إلَّا بِأُجْرَةٍ كَثِيرَةٍ فَيَتَضَرَّرُ النَّاسُ، وَكَذَا لَا يَتْرُكُ الْقَسَّامِينَ يَشْتَرِكُونَ فِي الْقِسْمِ؛ لِمَا قُلْنَا. (وَمِنْهَا) الْمُبَالَغَةُ فِي تَعْدِيلِ الْأَنْصِبَاءِ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ السِّهَامِ بِأَقْصَى الْإِمْكَانِ؛ لِئَلَّا يَدْخُلَ قُصُورٌ فِي سَهْمٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَدَعَ حَقًّا بَيْنَ شَرِيكَيْنِ غَيْرَ مَقْسُومٍ مِنْ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ وَالشُّرْبِ، إلَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضُمَّ نَصِيبَ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ إلَى بَعْضٍ إلَّا إذَا رَضَوْا بِالضَّمِّ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْقِسْمَةِ ثَانِيًا، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُدْخِلَ فِي قِسْمَةِ الدَّارِ وَنَحْوِهَا الدَّرَاهِمَ، إلَّا إذَا كَانَ لَا يُمْكِنُ الْقِسْمَةُ إلَّا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَحِلَّ الْقِسْمَةِ الْمِلْكُ الْمُشْتَرَكُ، وَلَا شِرْكَةَ فِي الدَّرَاهِمِ فَلَا يُدْخِلُهَا فِي الْقِسْمَةِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِسْمَةِ، وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ قَبُولَ مَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ أَوَّلًا فَلَهُ هَذَا السَّهْمُ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ مِنْ الدَّارِ، وَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ بَعْدَهُ فَلَهُ السَّهْمُ الَّذِي يَلِيهِ هَكَذَا، ثُمَّ يُقْرِعُ بَيْنَهُمْ؛ لَا لِأَنَّ الْقُرْعَةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ؛ بَلْ لِتَطْيِيبِ النُّفُوسِ؛ وَلِوُرُودِ السُّنَّةِ بِهَا؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ فَكَانَ سُنَّةً، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَإِذَا قَسَمَ بِأُجْرَةٍ فَأُجْرَةُ الْقِسْمَةِ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَهُمَا - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - عَلَى قَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ أُجْرَةَ الْقِسْمَةِ مِنْ مُؤْنَاتِ الْمِلْكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ كَالنَّفَقَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّ الْأُجْرَةَ بِمُقَابِلَةِ الْعَمَلِ، وَعَمَلُهُ فِي حَقِّ الْكُلِّ عَلَى السَّوَاءِ فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ عَلَيْهِمْ عَلَى السَّوَاءِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ عَمَلَهُ تَمْيِيزُ الْأَنْصِبَاءِ، وَالتَّمْيِيزُ عَمَلٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ تَمْيِيزَ الْقَلِيلِ مِنْ الْكَثِيرِ، هُوَ بِعَيْنِهِ تَمْيِيزُ الْكَثِيرِ مِنْ الْقَلِيلِ، وَالتَّفَاوُتُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مُحَالٌ، وَإِذَا لَمْ يَتَفَاوَتْ الْعَمَلُ لَا تَتَفَاوَتُ الْأُجْرَةُ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهَا بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ يَتَفَاوَتُ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي ترجع إلَى الْمَقْسُوم لَهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْسُومِ لَهُ فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) أَنْ لَا يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ دُونَ النَّوْعِ الْآخَرِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِسْمَةَ نَوْعَانِ: قِسْمَةُ جَبْرٍ: وَهِيَ الَّتِي يَتَوَلَّاهَا الْقَاضِي، وَقِسْمَةُ رِضًا: وَهِيَ الَّتِي يَفْعَلُهَا الشُّرَكَاءُ بِالتَّرَاضِي، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَوْعَيْنِ: قِسْمَةُ تَفْرِيقٍ، وَقِسْمَةُ جَمْعٍ. (أَمَّا) قِسْمَةُ التَّفْرِيقِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: إنَّ الَّذِي تُصَادِفُهُ الْقِسْمَةُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: (إمَّا) أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ بِالشَّرِيكَيْنِ أَصْلًا بَلْ لَهُمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ. (وَإِمَّا) أَنْ يَكُونَ مِمَّا فِي تَبْعِيضِهِ مَضَرَّةٌ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مَضَرَّةُ فِي تَبْعِيضِهِ أَصْلًا بَلْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلشَّرِيكَيْنِ، كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ، فَتَجُوزُ قِسْمَةُ التَّفْرِيقِ فِيهَا قِسْمَةُ جَبْرٍ، كَمَا تَجُوزُ فِيهَا قِسْمَةُ الرِّضَا؛ لِتُحَقِّقَ مَا شُرِعَ لَهُ الْقِسْمَةُ، وَهُوَ تَكْمِيلُ مَنَافِعِ الْمِلْكِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: (إمَّا) أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَرَرٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. (وَإِمَّا) أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَرَرٌ بِأَحَدِهِمَا نَفْعٌ فِي حَقِّ الْآخَرِ، فَإِنْ كَانَ فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الْجَبْرِ فِيهِ، وَذَلِكَ نَحْوُ اللُّؤْلُؤَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْيَاقُوتَةِ وَالزُّمُرُّدَةِ وَالثَّوْبِ الْوَاحِدِ وَالسَّرْجِ وَالْقَوْسِ وَالْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ، وَالْقَبَاءِ وَالْجُبَّةِ وَالْخَيْمَةِ وَالْحَائِطِ وَالْحَمَّامِ وَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ وَالْحَانُوتِ الصَّغِيرِ وَالرَّحَى وَالْفَرَسِ وَالْجَمَلِ وَالْبَقَرَةِ وَالشَّاةِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قِسْمَةُ إضْرَارٍ بِالشَّرِيكَيْنِ جَمِيعًا، وَالْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْجَبْرَ عَلَى الْإِضْرَارِ، وَكَذَلِكَ النَّهْرُ وَالْقَنَاةُ وَالْعَيْنُ وَالْبِئْرُ؛ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ أَرْضٌ؛ قُسِمَتْ الْأَرْضُ وَتُرِكَتْ الْبِئْرُ وَالْقَنَاةُ عَلَى الشِّرْكَةِ. (فَأَمَّا) إذَا كَانَتْ أَنْهَارُ الْأَرَضِينَ مُتَفَرِّقَةً أَوْ عُيُونًا أَوْ آبَارًا؛ قُسِمَتْ الْآبَارُ وَالْعُيُونُ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي الْقِسْمَةِ، وَكَذَا الْبَابُ وَالسَّاحَةُ وَالْخَشَبَةُ إذَا كَانَ فِي قَطْعِهِمَا ضَرَرٌ فَإِنْ كَانَتْ الْخَشَبَةُ كَبِيرَةً يُمْكِنُ تَعْدِيلُ الْقِسْمَةِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ؛ جَازَتْ، وَتَجُوزُ قِسْمَةُ الرِّضَا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِأَنْ يَقْتَسِمَاهَا بِأَنْفُسِهِمَا بِتَرَاضِيهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الْإِضْرَارَ بِأَنْفُسِهِمَا مَعَ مَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ نَفْعٍ، وَمَا لَا تَجْرِي

فِيهِ الْقِسْمَةُ لَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى بَيْعِ حِصَّتِهِ مِنْ صَاحِبِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا اخْتَصَمَا فِيهِ؛ بَاعَ الْقَاضِي وَقَسَمَ الثَّمَنَ بَيْنَهُمَا. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ الْجَبْرَ عَلَى إزَالَةِ الْمِلْكِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَعَلَى هَذَا طَرِيقٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ وَأَبَى الْآخَرُ فَإِنْ كَانَ يَسْتَقِيمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَرِيقٌ نَافِذٌ بَعْدَ الْقِسْمَةِ يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَقَعُ تَحْصِيلًا لِمَا شُرِعَتْ لَهُ - وَهُوَ تَكْمِيلُ مَنَافِعِ الْمِلْكِ - فَيُجْبَرُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِيمُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهَا قِسْمَةُ إضْرَارٍ بِالشَّرِيكَيْنِ فَلَا يَلِيهَا الْقَاضِي إلَّا إذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ مِنْ الدَّارِ مَفْتَحٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَيَقْسِمُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا تَقَعُ إضْرَارًا، وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا جَازَتْ لِتَرَاضِيهِمَا بِالضَّرَرِ، وَكَذَلِكَ الْمَسِيلُ الْمُشْتَرَكُ إذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ وَأَبَى الْآخَرُ. وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ قُسِمَ يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ قَدْرُ مَا يَسِيلُ مَاؤُهُ، أَوْ كَانَ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ يُمْكِنُهُ التَّسْيِيلُ فِيهِ يَقْسِمُ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ لَمْ يَقْسِمْ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّرِيقِ، وَعَلَى هَذَا إذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا مَفْتَحَ الدَّارِ مِنْ غَيْرِ رَفْعِ الطَّرِيقِ، وَأَبَى الْآخَرُ إلَّا بِرَفْعِ الطَّرِيقِ أَنَّهُ إنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَفْتَحٌ آخَرُ يَفْتَحُهُ فِي نَصِيبِهِ؛ قَسَمَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ رَفْعِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْقِسْمَةِ - وَهُوَ تَكْمِيلُ مَنَافِعِ الْمِلْكِ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ - أَوْفَرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَفَعَ بَيْنَهُمَا طَرِيقًا وَقَسَمَ الْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مَفْتَحٌ كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِغَيْرِ طَرِيقٍ تَفْوِيتًا لِلْمَنْفَعَةِ لَا تَكْمِيلًا لَهَا، فَكَانَتْ إضْرَارًا بِهِمَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا بِغَيْرِ طَرِيقٍ فَيَجُوزُ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي سَعَةِ الطَّرِيقِ وَضِيقِهِ جُعِلَ الطَّرِيقُ عَلَى قَدْرِ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ وَطُولِهِ عَلَى أَدْنَى مَا يَكْفِيهَا؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ وُضِعَ لِلِاسْتِطْرَاقِ، وَالْبَابُ هُوَ الْمَوْضُوعُ مَدْخَلًا إلَى أَدْنَى مَا يَكْفِي لِلِاسْتِطْرَاقِ فَيَحْكُمُ فِيهِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا إذَا بَنَى رَجُلَانِ فِي أَرْضِ رَجُلٍ بِإِذْنِهِ، وَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الْبِنَاءِ وَأَبَى الْآخَرُ، وَصَاحِبُ الْأَرْضِ غَائِبٌ؛ لَمْ تُقْسَمْ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ الْمَبْنِيَّ عَلَيْهَا بَيْنَهُمَا شَائِعٌ بِالْإِعَارَةِ أَوْ بِالْإِجَارَةِ، فَلَوْ قَسَمَ الْبِنَاءَ بَيْنَهُمَا لَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبِيلٌ فِي بَعْضِ نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَفِيهِ ضَرَرٌ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَلَوْ اقْتَسَمَا بِالتَّرَاضِي جَازَتْ، وَكَذَا لَوْ هَدَمَهَا وَكَانَتْ الْآلَةُ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى هَذَا زَرْعٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُمَا؛ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الزَّرْعِ دُونَ الْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ قَدْ بَلَغَ وَسَنْبَلَ لَا يَقْسِمُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ طَلَبَا جَمِيعًا لَا يَقْسِمُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الرِّبَا وَحُرْمَةُ الرَّبَّا لَا تَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ بِالرِّضَا، وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ بَقْلًا فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا لَا يَقْسِمُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ مَمْلُوكَةٌ لَهُمَا عَلَى الشِّرْكَةِ فَلَوْ قَسَمَ؛ لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبِيلٍ مِنْ الْقَطْعِ وَفِيهِ ضَرَرٌ وَلَا جَبْرَ عَلَى الضَّرَرِ. وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا وَشَرَطَا الْقَطْعَ جَازَتْ؛ لِأَنَّهُمَا رَضِيَا بِالضَّرَرِ، وَلَوْ شَرَطَا التَّرْكَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْأَرْضِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَ شَرْطُ التَّرْكِ مِنْهُمَا فِي الْقِسْمَةِ شَرْطًا لِانْتِفَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِلْكِ شَرِيكِهِ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ فَكَانَ مُفْسِدًا لِلْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ تَكُنْ الْأَرْضُ مَمْلُوكَةً لَهُمَا، وَكَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا بِالْإِعَارَةِ أَوْ بِالْإِجَارَةِ، وَالزَّرْعُ بَقْلٌ لَا تُقْسَمُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا جَازَتْ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَلَا تَجُوزُ بِشَرْطِ التَّرْكِ كَالْبَيْعِ عَلَى ذِكْرِنَا، وَكَذَلِكَ طَلْعٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الطَّلْعِ دُونَ النَّخْلِ وَالْأَرْضِ لَمْ يَقْسِمْ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الزَّرْعِ، وَلَوْ اقْتَسَمَا بِالتَّرَاضِي فَإِنْ شَرَطَا الْقَطْعَ جَازَ، وَإِنْ شَرَطَا التَّرْكَ لَمْ يَجُزْ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الزَّرْعِ. وَلَوْ تَرَكَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَأَدْرَكَ وَقَلَعَ فَالْفَضْلُ لَهُ طَيِّبٌ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ حَصَلَ فِي مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ لَكِنَّهُ حَصَلَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَلَا يَكُونُ خَبِيثًا، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ؛ لِتَمَكُّنِ الْخُبْثِ فِيهِ فَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ، هَذَا إذَا كَانَ شَيْئًا فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ شَيْئًا فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، كَالدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا فِيهَا شِقْصٌ قَلِيلٌ فَإِنْ طَلَبَ صَاحِبُ الْكَثِيرِ الْقِسْمَةَ قُسِمَتَا إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي حَقِّهِ مُفِيدَةٌ؛ لِوُقُوعِهَا مُحَصَّلَةٌ لِمَا شُرِعَتْ لَهُ مِنْ تَكْمِيلِ مَنَافِعِ الْمِلْكِ، وَفِي حَقِّ صَاحِبِ الْقَلِيلِ تَقَعُ مَنْعًا لَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ إذْ لَا يَقْدِرُ صَاحِبُ الْقَلِيلِ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ إلَّا بِالِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ؛ لِقِلَّةِ نَصِيبِهِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ فِي حَقِّهِ مَنْعًا لَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِ شَرِيكِهِ فَجَازَتْ، وَإِنْ طَلَبَ صَاحِبُ الْقَلِيلِ الْقِسْمَةَ فَقَدْ ذَكَرَ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يُقْسَمُ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ. (وَجْهُ) مَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْكَثِيرِ، بَلْ لَهُ فِيهِ مُنَفِّعَةٌ فَكَانَ فِي الْإِبَاءِ مُتَعَنِّتًا فَلَا يُعْتَبَرُ إبَاؤُهُ، وَصَاحِبُ الْقَلِيلِ قَدْ

رَضِيَ بِالضَّرَرِ حَيْثُ طَلَبَ الْقِسْمَةَ فَيُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ، كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِأَحَدِهِمَا أَصْلًا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ تَقَعُ الْقِسْمَةُ إضْرَارًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَمْ يُوجَدْ الرِّضَا بِالضَّرَرِ، وَالْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْجَبْرَ عَلَى الْإِضْرَارِ فَهُوَ الْفَرْقُ. (وَجْهُ) مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ مُتَعَنِّتٌ فِي طَلَبِ الْقِسْمَةِ؛ لِكَوْنِ الْقِسْمَةِ ضَرَرًا مَحْضًا فِي حَقِّهِ فَلَا يُعْتَبَرُ طَلَبُهُ، وَقِسْمَةُ الْجَبْرِ لَمْ تُشْرَعْ بِدُونِ الطَّلَبِ، وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا جَازَتْ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ قَدْ رَضِيَ بِالضَّرَرِ بِنَفْسِهِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ أَصْلًا فَجَازَتْ قِسْمَتُهَا. وَعَلَى هَذَا دَارٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ قُسِمَتْ بَيْنَهُمَا، فَأَصَابَ أَحَدَهُمَا مَوْضِعٌ بِغَيْرِ طَرِيقٍ شُرِطَ لَهُ فِي الْقِسْمَةِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِيمَا أَصَابَهُ مَفْتَحٌ إلَى الطَّرِيقِ جَازَتْ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا مَضَرَّةَ لَهُ فِيهَا إذْ يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ بِفَتْحِ طَرِيقٍ آخَرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيمَا أَصَابَهُ مَفْتَحٌ أَصْلًا فَإِنْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ فِي الْقِسْمَةِ؛ فَلَهُ حَقُّ الِاخْتِيَارِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ مِنْ الْحُقُوقِ فَصَارَ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ لَمْ تَجُزْ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّهَا قِسْمَةُ إضْرَارٍ فِي حَقِّ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، وَكَذَلِكَ إذَا قُسِمَتْ بِغَيْرِ مَسِيلٍ شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا، وَوَقَعَ الْمَسِيلُ فِي نَصِيب الْآخَرِ؛ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الطَّرِيقِ، وَلَوْ اقْتَسَمَا عَلَى أَنْ لَا طَرِيقَ لَهُ، وَلَا مَسِيلَ جَازَتْ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالضَّرَرِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ قِسْمَةُ الْجَمْعِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا فِي جِنْسَيْنِ؛ لِأَنَّهَا فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ تَقَعُ إضْرَارًا فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِي ذَكَرْنَا قِسْمَةُ التَّفْرِيقِ. وَأَمَّا قِسْمَةُ الْجَمْعِ: فَهِيَ أَنْ يَجْمَعَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي عَيْنٍ عَلَى حِدَةٍ، وَأَنَّهَا جَائِزَةٌ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ وَلَا تَجُوزُ فِي جِنْسَيْنِ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ تَقَعُ وَسِيلَةً إلَى مَا شُرِعَتْ لَهُ - وَهُوَ تَكْمِيلُ مَنَافِعِ الْمِلْكِ - وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ تَقَعُ تَفْوِيتًا لِلْمَنْفَعَةِ لَا تَكْمِيلًا لَهَا إذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي الْأَمْثَالِ الْمُتَسَاوِيَةِ، وَهِيَ الْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ وَالْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَقَارِبَةُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ تُقْسَمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ مَا شُرِعَتْ لَهُ الْقِسْمَةُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ؛ لِانْعِدَامِ التَّفَاوُتِ، وَكَذَلِكَ تِبْرُ الذَّهَبِ وَتِبْرُ النُّحَاسِ وَتِبْرُ الْحَدِيدِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ الثِّيَابُ إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْهَرَوِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَالْمَطْلُوبِ لَا يَتَفَاحَشُ بَلْ يَقِلُّ. وَالتَّفَاوُتُ الْقَلِيلُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ أَوْ يُجْبَرُ بِالْقِيمَةِ فَيُمْكِنُ تَعْدِيلُ الْقِسْمَةِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ اللَّآلِئُ الْمُنْفَرِدَةُ، وَكَذَا الْيَوَاقِيتُ الْمُنْفَرِدَةُ؛ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ فِي جِنْسَيْنِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَزْرُوعِ وَالْعَدَدِيِّ قِسْمَةُ جَمْعٍ، كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْقُطْنِ وَالْحَدِيدِ وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالثِّيَابِ الْبَرْدِيَّةِ وَالْمَرْوِيَّةِ، وَكَذَلِكَ اللَّآلِئُ وَالْيَوَاقِيتُ، وَكَذَا الْخَيْلُ وَالْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ فَرْدٌ كَبِرْذَوْنٍ وَجَمَلٍ وَبَقَرَةٍ وَشَاةٍ وَثَوْبٍ وَقَبَاءٍ وَجُبَّةٍ وَقَمِيصٍ وَوِسَادَةٍ وَبِسَاطٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَوْ قُسِمَتْ عَلَى الْجَمْعِ كَانَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ تُقْسَمُ بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا، وَإِمَّا أَنْ تُقْسَمُ بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهَا بِإِنْ يَضُمَّ إلَى بَعْضِهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِأَحَدِهِمَا لِكَثْرَةِ التَّفَاوُتِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَالْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْجَبْرَ عَلَى الضَّرَرِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قِسْمَةٌ فِي غَيْرِ مَحِلِّهَا؛ لِأَنَّ مَحِلَّهَا الْمِلْكُ الْمُشْتَرَكُ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الدَّرَاهِمِ. وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا أَوْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ جَازَتْ الْقِسْمَةُ، حَتَّى لَوْ اقْتَسَمَا ثَوْبَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الْقِيمَةِ وَزَادَ مَعَ الْأَوْكَسِ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً جَازَ، وَكَذَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ قِسْمَةَ الرِّضَا لَا قِسْمَةَ الْقَضَاءِ، وَكَذَا الْأَوَانِي سَوَاءٌ اخْتَلَفَتْ أُصُولُهَا أَوْ اتَّحَدَتْ؛ لِأَنَّهَا بِالصِّنَاعَةِ أَخَذَتْ حُكْمَ جِنْسَيْنِ، حَتَّى جَازَ بَيْعُ الْأَوَانِي الصِّغَارِ وَاحِدًا بِاثْنَيْنِ. وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَلَا يُقْسَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قِسْمَةُ جَمْعٍ، وَعِنْدَهُمَا يُقْسَمُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الرَّقِيقَ عَلَى اخْتِلَافِ أَوْصَافِهَا وَقِيمَتِهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فَاحْتَمَلَ الْقِسْمَةَ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَمَا فِيهَا مِنْ التَّفَاوُتِ يُمْكِنُ تَعْدِيلُهُ بِالْقِيمَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ، وَجَوَازُ التَّصَرُّفِ بِدُونِ شَرْطِ جَوَازِهِ مُحَالٌ، وَبَيَانُ ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّا لَوْ قَسَمْنَاهَا رِقًّا - بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا - فَقَدْ أَضْرَرْنَا بِأَحَدِهِمَا لِتَفَاحُشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ عَبْدٍ وَعَبْدٍ فِي الْمَعَانِي الْمَطْلُوبَةِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، فَكَانَا فِي حُكْمِ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَمِنْ شَرْطِ جَوَازِ هَذِهِ الْقِسْمَةِ أَنْ لَا تَتَضَمَّنَ ضَرَرًا بِالْمَقْسُومِ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَسَمْنَاهَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ لَوَقَعَتْ الْقِسْمَةُ فِي غَيْرِ مَحِلِّهَا؛ لِأَنَّ مَحِلَّهَا الْمِلْكُ الْمُشْتَرَكُ وَلَا شِرْكَةَ فِي الْقِيمَةِ، وَالْمَحَلِّيَّةُ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ فَصَحَّ مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا جَازَ

لِتَرَاضِيهِمَا بِالضَّرَرِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَ الرَّقِيقِ غَيْرُهُ قُسِمَ. كَذَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مَقْصُودًا فَيُجْعَلُ تَبَعًا لِمَا يَحْتَمِلُهَا فَيُقْسَمُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، كَالشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا مَقْصُودًا، ثُمَّ يَدْخُلَانِ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لِلنَّهْرِ وَالْأَرْضِ، كَذَا هَذَا، وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ مَحْمُولٌ عَلَى قِسْمَةِ الرِّضَا. وَأَمَّا قِسْمَةُ الْقَضَاءِ فَلَا تَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَقْسُومِ لَيْسَ تَبَعًا لِلْمَقْسُومِ بَلْ هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ - بِخِلَافِ الشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ -، وَكَذَلِكَ الدُّورُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُقْسَمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ حَتَّى لَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ دَارَانِ تُقْسَمُ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَلَى حِدَتِهَا، سَوَاءٌ كَانَتَا مُنْفَصِلَتَيْنِ أَوْ مُتَلَاصِقَتَيْنِ، وَعِنْدَهُمَا يَنْظُرُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ الْأَعْدَلُ فِي الْجَمْعِ جَمَعَ، وَإِنْ كَانَ الْأَعْدَلُ فِي التَّفْرِيقِ فَرَّقَ، وَكَذَا لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَرْضَانِ أَوْ كَرْمَانِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ. وَأَمَّا الْبَيْتَانِ فَيُقْسَمَانِ قِسْمَةَ جَمْعٍ إجْمَاعًا مُتَّصِلَيْنِ كَانَا أَوْ مُنْفَصِلَيْنِ، وَكَذَا الْمَنْزِلَانِ الْمُتَّصِلَانِ. وَأَمَّا الْمُنْفَصِلَانِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَى الْخِلَافِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الدُّورَ كُلَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَالتَّفَاوُتُ الَّذِي بَيْنَ الدَّارَيْنِ يُمْكِنُ تَعْدِيلُهُ بِالْقِيمَةِ فَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي إنْ رَأَى الْأَعْدَلَ فِي التَّفْرِيقِ فَرَّقَ، وَإِنْ رَأَى الْأَعْدَلَ فِي الْجَمْعِ جَمَعَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الرَّقِيقِ أَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهَا بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا، وَيَقَعُ ضَرَرُ التَّفَاوُتِ مُتَفَاحِشًا بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ؛ لِاخْتِلَافِ الدُّورِ فِي أَنْفُسِهَا وَاخْتِلَافُهَا بِاخْتِلَافِ الْبِنَاءِ وَالْبِقَاعِ، فَكَانَا فِي حُكْمِ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَالْقِسْمَةُ فِيهَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ تَقَعُ تَصَرُّفًا فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ فَلَا يَصِحُّ، وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا أَوْ بِالْقَاضِي بِتَرَاضِيهِمَا جَازَ؛ لِمَا مَرَّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا دَارٌ وَضِيعَةٌ أَوْ دَارٌ وَحَانُوتٌ فَلَا تُجْمَعُ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ يَقْسِمُ كُلَّ وَاحِدَةٍ عَلَى حِدَةٍ؛ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَمِنْهَا الطَّلَبُ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ - وَهُوَ قِسْمَةُ الْجَبْرِ - حَتَّى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ الطَّلَبُ مِنْ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ أَصْلًا لَمْ تَجُزْ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ الْقَاضِي تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَالتَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ مَحْظُورٌ فِي الْأَصْلِ، إلَّا أَنَّهُ عِنْدَ طَلَبِ الْبَعْضِ يَرْتَفِعُ الْحَظْرُ؛ لِأَنَّهُ إذَا طَلَبَ عُلِمَ أَنَّهُ لَهُ فِي اسْتِيفَاءِ هَذِهِ الشَّرِكَةِ ضَرَرًا، إذْ لَوْ كَانَ الطَّلَبُ لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ لِطَلَبِ صَاحِبِهِ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْإِضْرَارِ دِيَانَةً، فَإِذَا أَبَى الْقِسْمَةَ، عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فَيَدْفَعُ الْقَاضِي ضَرَرَهُ بِالْقِسْمَةِ، فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْقَاضِي نُصِبَ لَهُ، وَنَظِيرُهُ الشُّفْعَةُ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ الدَّارَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالشُّفْعَةِ مِنْ غَيْرِ رِضًا دَفْعًا لِضَرَرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ الشُّفْعَةَ عُلِمَ أَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِجِوَارِهِ فَالشَّرْعُ دَفَعَ ضَرَرَهُ عَنْهُ بِإِثْبَاتِ حَقِّ التَّمْلِيكِ بِالشُّفْعَةِ جَبْرًا عَلَيْهِ، كَذَا هَذَا. (وَمِنْهَا) الرِّضَا فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ، وَهُوَ رِضَا الشُّرَكَاءِ فِيمَا يَقْسِمُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الرِّضَا، أَوْ رِضَا مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ، إذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الرِّضَا فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَا يَصِحُّ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي الْوَرَثَةِ صَغِيرٌ لَا وَصِيَّ لَهُ، أَوْ كَبِيرٌ غَائِبٌ، فَاقْتَسَمُوا؛ فَالْقِسْمَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهَا مَعْنَى الْبَيْعِ، وَقِسْمَةُ الرِّضَا أَشْبَهُ بِالْبَيْعِ، ثُمَّ لَا يَمْلِكُونَ الْبَيْعَ إلَّا بِالتَّرَاضِي، فَكَذَا الْقِسْمَةُ، إلَّا إذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الرِّضَا كَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينَ فَيَقْسِمُ الْوَلِيُّ أَوْ الْوَصِيُّ إذَا كَانَ فِي الْقِسْمَةِ مَنْفَعَةٌ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الْبَيْعَ فَيَمْلِكَانِ الْقِسْمَةَ، وَكَذَا إذَا كَانَ فِيهِمْ صَغِيرٌ وَلَهُ وَلِيٌّ، أَوْ وَصِيٌّ، يَقْتَسِمُونَ بِرِضَا الْوَلِيِّ أَوْ الْوَصِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَصَبَ الْقَاضِي عَنْ الصَّغِيرِ وَصِيًّا، وَاقْتَسَمُوا بِرِضَاهُ فَإِنْ أَبَى تَرَافَعُوا إلَى الْقَاضِي، حَتَّى يَقْسِمَ بَيْنَهُمْ، وَمِنْهَا حَضْرَةُ الشُّرَكَاءِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ فِي نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ أَصْلًا وَلَا يَقْسِمُ الْقَاضِي أَيْضًا إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ وَلَكِنَّهُ لَوْ قَسَمَ لَا تُنْقَصُ قِسْمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُنْقَضُ. وَمِنْهَا الْبَيِّنَةُ فِي قِسْمَةِ الْقَضَاءِ فِي الْإِقْرَارِ بِمِيرَاثِ الْإِقْرَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَيَقْسِمُ بِإِقْرَارِهِمْ فَنَقُولُ - جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي بَيَانِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ: إنَّ جَمَاعَةً إذَا جَاءُوا إلَى الْقَاضِي، وَهُمْ عُقَلَاءُ بَالِغُونَ أَصِحَّاءُ فِي أَيْدِيهِمْ مَالٌ، فَأَقَرُّوا أَنَّهُ مِلْكُهُمْ، وَطَلَبُوا الْقِسْمَةَ مِنْ الْقَاضِي فَهَذَا لَا يَخْلُو فِي الْأَصْلِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ:. (إمَّا) أَنْ يُقِرُّوا بِالْمِلْكِ مُطْلَقًا عَنْ ذَكَرِ سَبَبٍ، وَإِمَّا أَنْ يُقِرُّوا بِالْمِلْكِ بِسَبَبٍ ادَّعَوْا انْتِقَالَ الْمِلْكِ بِهِ مِنْ أَحَدٍ، وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: (إمَّا) أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ مَنْقُولًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَقَارًا، فَإِنْ أَقَرُّوا بِالْمِلْكِ مُطْلَقًا عَنْ سَبَبِ الِانْتِقَالِ قَسَمَ بِإِقْرَارِهِمْ، وَيَذْكُرُ فِي الْإِشْهَادِ فِي كِتَابِ الصَّكِّ أَنِّي قَسَمْتُ بِإِقْرَارِهِمْ وَلَمْ أَقْضِ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ. وَلَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَصْلِ الْمِلْكِ مَنْقُولًا

كَانَ الْمَالُ أَوْ عَقَارًا، إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ وَهُوَ الْيَدُ وَالْإِقْرَارُ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ، وَلَا دَعْوَى انْتِقَالِ الْمِلْكِ مِنْ أَحَدٍ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ لَمْ يَقْسِمْ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَضْرَةَ الشُّرَكَاءِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ شَرْطٌ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَصْلُحُونَ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ، وَإِنْ أَقَرُّوا بِالْمِلْكِ بِسَبَبِ الْمِيرَاثِ بِأَنْ قَالُوا: هُوَ بَيْنَنَا مِيرَاثٌ عَنْ فُلَانٍ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ مَنْقُولًا؛ قُسِمَ بَيْنَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا تُطْلَبُ مِنْهُمْ الْبَيِّنَةُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْحَاضِرَانِ اثْنَيْنِ كَبِيرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا صَغِيرٌ قَدْ نُصِبَ عَنْهُ وَصِيٌّ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ عَقَارًا فَلَا يُقْسَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَوْتِ فُلَانٍ وَعَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ، وَيُشْهِدُ عَلَى ذَلِكَ فِي الصَّكِّ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ مَحِلَّ قِسْمَةِ الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ وَقَدْ وُجِدَ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْمِلْكِ - وَهُوَ الْيَدُ وَالْإِقْرَارُ بِالْإِرْثِ - مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ فَصَادَفَتْ الْقِسْمَةُ مَحِلَّهَا فَيَقْسِمُ، وَيَكْتُبُ أَنَّهُ قَسَمَ بِإِقْرَارِهِمْ كَمَا فِي الْمَنْقُولِ؛ وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا تُقَامُ عَلَى مُنْكِرٍ، وَالْكُلُّ مُقِرُّونَ فَعَلَى مَنْ تُقَامُ الْبَيِّنَةُ؟ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ صَادَفَتْ حَقَّ الْمَيِّتِ بِالْإِبْطَالِ فَلَا تَصِحُّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ كَدَعْوَى الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّارَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مُبْقَاةٌ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الزَّوَائِدَ الْحَادِثَةَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ التَّرِكَةُ شَجَرَةً فَأَثْمَرَتْ كَانَ الثَّمَرُ لَهُ حَتَّى تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ، وَتَنْفُذُ مِنْهُ وَصَايَاهُ، فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ تَصَرُّفًا عَلَى مِلْكِهِ بِالْإِبْطَالِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَيْسَ قَطْعًا لِحَقِّ الْمَيِّتِ بَلْ هِيَ حِفْظُ حَقِّ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ مُحْتَاجٌ إلَى الْحِفْظِ وَالْقِسْمَةُ نَوْعُ حِفْظٍ لَهُ. وَأَمَّا الْعَقَارُ فَمُسْتَغْنٍ عَنْ الْحِفْظِ، فَبَقِيَتْ قِسْمَتُهُ قَطْعًا لِحَقِّهِ فَلَا يَمْلِكُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُمَا لَا مُنْكَرٌ هَهُنَا فَعَلَى مَنْ تُقَامُ الْبَيِّنَةُ؟ (قُلْنَا) : تُقَامُ عَلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ مِنْ الْبَعْض، وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ - وَذَلِكَ جَائِزٌ - كَالْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ إذَا أَقَرَّا عَلَى الصَّغِيرِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ وَلَا مُنْكِرَ هَهُنَا، كَذَا هَذَا. هَذَا إذَا أَقَرُّوا بِالْمِلْكِ بِسَبَبِ الْإِرْثِ، فَإِنْ أَقَرُّوا بِهِ بِسَبَبِ الشِّرَاءِ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ مَنْقُولًا قُسِمَ بَيْنَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ عَقَارًا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَقْسِمُ بِإِقْرَارِهِمْ وَلَا تُطْلَبُ مِنْهُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ فُلَانٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الشِّرَاءِ وَبَيْنَ الْمِيرَاثِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا يَقْسِمُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ كَالْمِيرَاثِ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُمْ لَمَّا أَقَرُّوا أَنَّهُمْ مَلَكُوهُ بِالشِّرَاءِ مِنْ فُلَانٍ فَقَدْ أَقَرُّوا بِالْمِلْكِ لَهُ، وَادَّعَوْا الِانْتِقَالَ إلَيْهِمْ مِنْ جِهَتِهِ، فَإِقْرَارُهُمْ مُسَلَّمٌ وَدَعْوَاهُمْ مَمْنُوعَةٌ وَمُحْتَاجَةٌ إلَى الدَّلِيلِ وَهُوَ الْبَيِّنَةُ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الشِّرَاءِ وَبَيْنَ الْمِيرَاثِ أَنَّ امْتِنَاعَ الْقِسْمَةِ فِي الْمَوَارِيثِ بِنَفْسِ الْإِقْرَارِ لِمَا يَتَضَمَّنُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ مُنْعَدِمٌ فِي بَابِ الْبَيْعِ إذْ لَا حَقَّ بَاقٍ لِلْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ؛ فَصَادَفَتْ مَحِلَّهَا فَصَحَّتْ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْوَرَثَةِ كَبِيرٌ غَائِبٌ أَوْ صَغِيرٌ حَاضِرٌ، فَإِنْ كَانَ فَأَقَرُّوا بِالْمِيرَاثِ فَلَا يُشْكِلُ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا يَقْسِمُ بِإِقْرَارِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْسِمُ بَيْنَ الْكِبَارِ الْحُضُورِ فَكَيْفَ يَقْسِمُ هَهُنَا؟ وَأَمَّا عِنْدَهُمْ فَيَنْظُرُ إنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْكِبَارِ الْحُضُورِ يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ؛ لِمَا بَيَّنَّا، وَيَضَعُ حِصَّةَ الْغَائِبِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ يَحْفَظُهُ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ خَصْمٌ مِنْ الْبَعْضِ، وَيَنْصِبُ عَنْ الصَّغِيرِ وَصِيًّا وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْغَائِبِ الْكَبِيرِ أَوْ فِي يَدِ الْحَاضِرِ الصَّغِيرِ أَوْ فِي أَيْدِيهِمَا مِنْهَا شَيْءٌ؛ لَا يَقْسِمُ، حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمِيرَاثِ وَعَدَدِ الْوَرَثَةِ بِالْإِجْمَاعِ. لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ الدَّارِ شَيْءٌ فَالْحَاجَةُ إلَى اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ مِنْ يَدِهِ، فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ هَذَا إذَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى مِيرَاثِ الْعَقَارِ، فَأَمَّا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ وَطَلَبُوا الْقِسْمَةَ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ: إنْ كَانَ الْحَاضِرُ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا وَالْغَائِبُ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ وَفِيهِمْ صَغِيرٌ حَاضِرٌ؛ فَإِنَّهُ يَقْسِمُ وَيَعْزِلُ نَصِيبَ كُلِّ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ، فَيُوَكِّلُ وَكِيلًا يَحْفَظُهُ، بِخِلَافِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إذَا حَضَرَ شَرِيكَانِ وَشَرِيكٌ غَائِبٌ؛ أَنَّهُ لَا يَقْسِمُ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ قِسْمَةَ الْعَقَارِ تَصَرُّفٌ عَلَى الْمَيِّتِ وَقَضَاءٌ عَلَيْهِ بِقَطْعِ حَقِّهِ عَنْ التَّرِكَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَيِّتِ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا يَرُدُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْعَيْبِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ الْحَاضِرُ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا أَمْكَنَ أَنْ يَجْعَلَ أَحَدَهُمَا خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، وَالْآخَرَ مَقْضِيًّا لَهُ فَتَصِحُّ الْقِسْمَةُ، وَإِنْ كَانَ الْحَاضِرُ وَاحِدًا وَالْبَاقُونَ غَيْبًا لَمْ يَقْسِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هُوَ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ حَتَّى تُسْمَعَ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ؛ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ مَقْضِيًّا لَهُ وَعَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْحَاضِرِ وَارِثٌ

فصل في الشرائط التي ترجع إلى المقسوم

صَغِيرٌ نَصَبَ الْقَاضِي عَنْهُ وَصِيًّا وَقَسَمَ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ هَهُنَا مُمْكِنَةٌ؛ لِوُجُودِ مُتَقَاسِمَيْنِ حَاضِرَيْنِ، وَإِذَا قَسَمَ الْمَنْقُولَ - بَيْنَ الْوَرَثَةِ بِإِقْرَارِهِمْ - أَوْ الْعَقَارَ - بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ فَعَزَلَ نَصِيبَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ، ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ فَإِنْ أَقَرَّ، كَمَا أَقَرُّوا أُولَئِكَ، فَقَدْ مَضَى الْأَمْرُ، وَإِنْ أَنْكَرَ تُرَدُّ الْقِسْمَةُ فِي الْمَنْقُولِ بِالْإِجْمَاعِ. وَكَذَلِكَ فِي الْعَقَارِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - فِي الْعَقَارِ لَا تُرَدُّ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى الْبَيِّنَةِ قَدْ تَقَدَّمَتْ عَلَى الْغَائِبِ فَلَا يُعْتَبَرُ إنْكَارُهُ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ مِيرَاثًا وَفِيهِ وَصِيَّةٌ بِالثُّلُثِ وَبَعْضُ الْوَرَثَةِ غَائِبٌ، فَطَلَبَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ الْقِسْمَةَ بَعْدَ مَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِيرَاثِ وَالثُّلُثِ قَسَمَ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ حَاضِرٌ فَكَأَنَّهُ حَضَرَ اثْنَانِ مِنْ الْوَرَثَةِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ قَسَمَ وَإِنْ كَانَ الْبَاقُونَ غَيْبًا، كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَقْسُومُ عَلَيْهِ مَالِكًا لِلْمَقْسُومِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ مِلْكٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، لَمْ تَجُزْ الْقِسْمَةُ؛ لِمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمَقْسُومِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْسُومِ فَوَاحِدٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْسُومُ مَمْلُوكًا لِلْمَقْسُومِ لَهُ وَقْتَ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ، وَمُبَادَلَةُ الْبَعْضِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمَمْلُوكِ، وَعَلَى هَذَا إذَا اُسْتُحِقَّتْ الْعَيْنُ الْمَقْسُومَةُ تُبْطَلُ الْقِسْمَةُ فِي الظَّاهِرِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَصِحَّ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّ شَيْءٌ مِنْهَا تُبْطَلُ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ، ثُمَّ قَدْ تُسْتَأْنَفُ الْقِسْمَةُ وَقَدْ لَا تُسْتَأْنَفُ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ وَقَدْ لَا يَثْبُتُ. وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: أَنَّهُ إذَا وَرَدَ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى الْمَقْسُومِ لَا يَخْلُو الْأَمْرُ فِيهِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ وَرَدَ عَلَى كُلِّهِ، وَإِمَّا أَنْ وَرَدَ عَلَى جُزْءٍ، فَإِنْ وَرَدَ عَلَى كُلِّ الْمَقْسُومِ تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ لَمْ تَصِحَّ مِنْ الْأَصْلِ؛ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الصِّحَّةِ - وَهُوَ الْمِلْكُ الْمُشْتَرَكُ - فَتُسْتَأْنَفُ الْقِسْمَةُ، وَإِنْ وَرَدَ عَلَى جُزْءٍ مِنْ الْمَقْسُومِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ أَيْضًا: إمَّا أَنْ وَرَدَ عَلَى جُزْءٍ شَائِعٍ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ وَرَدَ عَلَى جُزْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ، فَإِنْ وَرَدَ عَلَى جُزْءٍ شَائِعٍ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: أَيْضًا إمَّا أَنْ وَرَدَ عَلَى جُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا، وَإِمَّا أَنْ وَرَدَ عَلَى جُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، فَإِنْ وَرَدَ الْآخَرُ عَلَى جُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا. كَالدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ نِصْفَيْنِ، اقْتَسَمَاهَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا ثُلُثًا مِنْ مُقَدَّمِهَا، وَأَخَذَ الْآخَرُ ثُلُثَيْنِ مِنْ مُؤَخَّرِهَا، وَقِيمَتُهَا سَوَاءٌ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتّمِائَةِ دِرْهَمٍ مَثَلًا فَاسْتَحَقَّ نِصْفَ الدَّارِ فَاسْتَأْنَفَ الْقِسْمَةَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ نِصْفَ الدَّارِ شَائِعًا مِلْكُ الْمُسْتَحَقِّ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَمْ تَصِحَّ فِي النِّصْفِ الشَّائِعِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَبَطَلَتْ الْقِسْمَةُ أَصْلًا، وَإِنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ نَصِيبِ صَاحِبِ الْمُقَدَّمِ شَائِعًا تُسْتَأْنَفُ الْقِسْمَةُ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ شَرِيكُهُمَا فِي الدَّارِ فَظَهَرَ أَنَّ قِسْمَتَهُمَا لَمْ تَصِحَّ دُونَهُ، فَتُسْتَأْنَفُ الْقِسْمَةُ، كَمَا إذَا وَرَدَ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى نِصْفِ الدَّارِ شَائِعًا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الرَّحْمَة - لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ مَا فِي يَدِهِ وَرَجَعَ بِبَاقِي حِصَّتِهِ وَهُوَ مِثْلُ مَا اسْتَحَقَّ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَمْ تَصِحَّ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ لَا فِيمَا وَرَاءَهُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الصِّحَّةِ انْعِدَامُ الْمِلْكِ، وَذَلِكَ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ لَا فِي مَا وَرَاءَهُ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ انْعِدَامِ الصِّحَّةِ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ انْعِدَامُهَا فِي الْبَاقِي. لِأَنَّ مَعْنَى الْقِسْمَةِ - وَهُوَ الْإِفْرَازُ وَالْمُبَادَلَةُ - لَمْ يَنْعَدِمْ بِاسْتِحْقَاقِ هَذَا الْقَدْرِ فِي الْبَاقِي فَلَا تُبْطَلُ الْقِسْمَةُ فِي الْبَاقِي، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الدَّارِ شَائِعًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ وَإِنْ وَرَدَ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى النِّصْفِ فَأَوْجَبَ بُطْلَانَ الْقِسْمَةِ فِيهِ مَقْصُودًا، لَكِنْ مِنْ ضَرُورَتِهِ بُطْلَانُ الْقِسْمَةِ فِي الْبَاقِي؛ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ فِي الْبَاقِي أَصْلًا، وَهَهُنَا لَمْ يَنْعَدِمْ فَلَا تُبْطَلُ، لَكِنْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ رَجَعَ بِبَاقِي حِصَّتِهِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ نِصْفِ الْمُسْتَحَقِّ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُسْتَحَقَّ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَهُوَ رُبْعُ نَصِيبِهِ إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْقِسْمَةَ؛ لِاخْتِلَافِ مَعْنَاهَا وَلِدُخُولِ عَيْبِ الشَّرِكَةِ، إذْ الشَّرِكَةُ فِي الْأَعْيَانِ الْمُجْتَمَعَةِ عَيْبٌ، وَالْعَيْبُ يُثْبِتُ الْخِيَارَ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الْمُقَدَّمِ بَاعَ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ وَاسْتَحَقَّ النِّصْفَ الْبَاقِي فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِرُبْعِ مَا فِي يَدِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَغْرَمُ نِصْفَ قِيمَةِ مَا بَاعَ لِشَرِيكِهِ وَيَضُمُّهُ إلَى مَا فِي يَدِ شَرِيكِهِ وَيَقْتَسِمَانِ نِصْفَيْنِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مَا بَيَّنَّا أَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَمْ تَصِحَّ أَصْلًا

وَأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ فَاسِدًا فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ مَا بَاعَ شَرِيكُهُ، ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ الْبَاقِي نِصْفَيْنِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُقَدَّمَةِ، إلَّا أَنَّ هُنَا لَا يَثْبُتُ خِيَارُ الْفَسْخِ؛ لِمَانِعٍ وَهُوَ الْبَيْعُ فَيَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِرُبْعِ مَا فِي يَدِهِ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ مُعَيَّنٍ مِنْ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ لَا تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ هَهُنَا وَرَدَ عَلَى جُزْءٍ مُعَيَّنٍ، فَلَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ كَانَ شَرِيكًا لَهُمَا فَلَا تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ لَكِنْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ، وَالْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ أَوْجَبَ انْتِقَاضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالِانْتِقَاضُ فِي الْأَعْيَانِ الْمُجْتَمَعَةِ عَيْبٌ، فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِرُبْعِ مَا فِي يَدِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَدْرَ الْمُسْتَحَقَّ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا، وَلَوْ اسْتَحَقَّ كُلَّ مَا فِي يَدِهِ لَرَجَعَ عَلَيْهِ بِالنِّصْفِ فَإِذَا اسْتَحَقَّ النِّصْفَ يَرْجِعُ بِالرُّبْعِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا مِائَةُ شَاةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ اقْتَسَمَاهَا، فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا أَرْبَعِينَ تُسَاوِي خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَخَذَ الْآخَرُ سِتِّينَ تُسَاوِي خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَاسْتُحِقَّتْ شَاةٌ مِنْ الْأَرْبَعِينَ تَسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لَمْ تَبْطُلْ الْقِسْمَةُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقِسْمَةَ صَادَفَتْ الْمَمْلُوكَ فِيمَا وَرَاءَ الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ، وَالْمُسْتَحَقُّ مُعَيَّنٌ فَلَا تَظْهَرُ الشَّرِكَةُ هُنَا أَصْلًا، فَلَا تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحَقِّهِ وَهُوَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. كُرُّ حِنْطَةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ نِصْفَانِ عَشَرَةٌ مِنْهُ طَعَامٌ جَيِّدٌ، وَثَلَاثُونَ رَدِيءٌ فَاقْتَسَمَاهُ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ جَيِّدَةً وَثَوْبًا، وَأَخَذَ الْآخَرُ ثَلَاثِينَ رَدِيئًا، حَتَّى جَازَتْ الْقِسْمَةُ فَاسْتَحَقَّ مِنْ الثَّلَاثِينَ عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ، يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ الثَّوْبِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ مَا ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِثُلُثِ الثَّوْبِ وَثُلُثِ الطَّعَامِ الْجَيِّدِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ وَرَدَ عَلَى عَشَرَةٍ شَائِعَةٍ فِي الثَّلَاثِينَ، فَكَانَ الْمُسْتَحَقُّ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ كُلِّ عَشَرَةٍ ثُلُثَهَا، وَذَلِكَ يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِثُلُثِ الطَّعَامِ الْجَيِّدِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ طَرِيقَ جَوَازِ هَذِهِ الْقِسْمَةِ أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ بِمُقَابَلَةِ الْعَشَرَةِ، وَالْعِشْرُونَ بِمُقَابَلَةِ الثَّوْبِ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ مِنْهُ عَشَرَةً، وَأَنَّهُ بِمُقَابِلَةِ نِصْفِ الثَّوْبِ؛ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الثَّوْبِ، وَقَوْلُهُ: لِلْمُسْتَحِقِّ عَشَرَةٌ شَائِعَةٌ فِي الثَّلَاثِينَ لَا الْعَشَرَةِ الْمُعَيَّنَةِ - وَهِيَ الَّتِي مِنْ حِصَّةِ الثَّوْبِ - فَنَعَمْ. هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ، إلَّا أَنَّا لَوْ عَمِلْنَا بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ؛ لَاحْتَجْنَا إلَى نَقْضِ الْقِسْمَةِ وَإِعَادَتِهَا، وَلَوْ صَرَفْنَا الِاسْتِحْقَاقَ إلَى عَشَرَةٍ - هِيَ مِنْ حِصَّةِ الثَّوْبِ - لَمْ نَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ، وَتَصَرُّفُ الْعَاقِلِ تَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنْ النَّقْضِ وَالْإِبْطَالِ مَا أَمْكَنَ، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَاهُ. وَعَلَى هَذَا أَرْضٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ نِصْفَيْنِ قُسِمَتْ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ وَقَدْ بَنَى صَاحِبُهُ فِيهِ بِنَاءً أَوْ غَرَسَ غَرْسًا فَنَقَضَ الْبِنَاءَ وَقَلَعَ الْغَرْسَ؛ لَمْ يَرْجِعْ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ مِنْ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ قِسْمَةٍ وَقَعَتْ بِإِجْبَارِ الْقَاضِي أَوْ بِاخْتِيَارِ الشَّرِيكَيْنِ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْبُرُهُمَا الْقَاضِي، وَلَوْ تَرَافَعَا إلَيْهِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ وَقَدْ بَنَى صَاحِبُهُ فِيهِ بِنَاءً أَوْ غَرَسَ غَرْسًا فَنَقَضَ وَقَلَعَ؛ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ مَجْبُورٌ عَلَى الْقِسْمَةِ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي فَيَكُونُ مُضَافًا إلَى الْقَاضِي، أَمَّا إذَا وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ بِإِجْبَارِ الْقَاضِي فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَكَذَا إذَا اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قِسْمَةُ جَبْرٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِدُخُولِهِمَا تَحْتَ جَبْرِ الْقَاضِي عِنْدَ الْمُرَافَعَةِ إلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ مَجْبُورًا عَلَيْهِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ ضَمَانُ السَّلَامَةِ؛ فَلَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ، إذْ هُوَ ضَمَانُ السَّلَامَةِ. وَنَظِيرُ هَذَا الشَّفِيعُ إذَا أَخَذَ الْعَقَارَ مِنْ الْمُشْتَرِي بِالشُّفْعَةِ، وَبَنَى فِيهِ أَوْ غَرَسَ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ وَقُلِعَ الْبِنَاءُ لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَكَهُ بِاخْتِيَارِهِ بَلْ أُخِذَ مِنْهُ جَبْرًا، وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَارِيَةِ الْمَأْسُورَةِ إذَا اشْتَرَاهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، ثُمَّ أَخَذهَا الْمَالِكُ الْقَدِيمُ فَاسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ: لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الَّذِي أَخَذَهَا مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهَا مِنْهُ بِاخْتِيَارِهِ بَلْ كُرْهًا وَجَبْرًا، وَكَذَلِكَ الْأَبُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَأَعْلَقَهَا، ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ؛ لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الِابْنِ؛ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَهَا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الِابْنِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إذَا غَصَبَ جَارِيَةً فَأَبَقَتْ مِنْ يَدِهِ فَأَدَّى ضَمَانَهَا، ثُمَّ عَادَتْ الْجَارِيَةُ فَاسْتَوْلَدَهَا الْغَاصِبُ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُخْتَارًا فِي أَخْذِ الْقِيمَةِ مِنْ الْغَاصِبِ، فَكَانَ ضَامِنًا السَّلَامَةَ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الضَّمَانِ. وَعَلَى هَذَا دَارَانِ أَوْ أَرْضَانِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ اقْتَسَمَا، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إحْدَاهُمَا وَبَنَى فِيهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجْبَرُ عَلَى قِسْمَةِ الْجَمْعِ فِي الدُّورِ وَالْعَقَارَاتِ عِنْدَهُ، فَإِذَا اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ مِنْهُمَا مُبَادَلَةً،

فصل في صفات القسمة

فَأَشْبَهَتْ الْبَيْعَ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنًا سَلَامَةَ النِّصْفِ لِصَاحِبِهِ، فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الضَّمَانِ كَمَا فِي الْبَيْعِ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يُجْبَرُ عَلَى هَذِهِ الْقِسْمَةِ عِنْدَهُمَا، فَأَشْبَهَ اسْتِحْقَاقَ النِّصْفِ مِنْ دَارٍ وَاحِدَةٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَرْجِعُ. وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الْقُدُورِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يُجْبَرُ عَلَى قِسْمَةِ الْجَمْعِ هَهُنَا عِنْدَهُمَا إذَا رَأَى الْجَمْعَ أَعْدَلَ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِ الْقَاضِي إذَا فَعَلَا بِأَنْفُسِهِمَا، وَلَوْ كَانَتَا جَارِيَتَيْنِ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِالنِّصْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجْبَرُ عَلَى قِسْمَةِ الرَّقِيقِ عِنْدَهُ، فَإِذَا اقْتَسَمَا بِتَرَاضِيهِمَا أَشْبَهَ الْبَيْعَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْجِعَ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَفَرَّقَ بَيْنَ الرَّقِيقِ وَبَيْنَ الدُّورِ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ هُنَاكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْجَمْعِ عَيْنًا وَلَكِنَّهُ يُرَاعِي الْأَعْدَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ التَّفْرِيقِ وَالْجَمْعِ، وَهَهُنَا يُجْبَرُ عَلَى الْجَمْعِ؛ لَتَعَذُّرِ التَّفْرِيقِ فَلَمْ يُوجَدْ ضَمَانُ السَّلَامَةِ مِنْ صَاحِبِهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ إذَا اقْتَسَمَ قَوْمٌ دَارًا، وَفِيهَا كَنِيفٌ شَارِعٌ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ ظِلِّهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ؛ لَا يُحْسَبُ ذَرْعُ الْكَنِيفِ وَالظِّلِّ مِنْ ذَرْعِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْأَرْضِ لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ، بَلْ هِيَ حَقُّ الْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذٍ يُحْسَبُ ذَلِكَ مِنْ ذَرْعِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي السِّكَّةِ مَسْلَكًا فَأَشْبَهَ عُلُوَّ الْبَيْتِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي صِفَاتِ الْقِسْمَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَاتُ الْقِسْمَةِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ تَكُونَ عَادِلَةً غَيْرَ جَائِرَةٍ وَهِيَ أَنْ تَقَعَ تَعْدِيلًا لِلْأَنْصِبَاءِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ النَّصِيبِ وَلَا نُقْصَانَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ، وَمُبَادَلَةُ الْبَعْضِ، وَمَبْنَى الْمُبَادَلَاتِ عَلَى الْمُرَاضَاةِ، فَإِذَا وَقَعَتْ جَائِرَةً؛ لَمْ يُوجَدْ التَّرَاضِي، وَلَا إفْرَازُ نَصِيبِهِ بِكَمَالِهِ؛ لِبَقَاءِ الشَّرِكَةِ فِي الْبَعْضِ فَلَمْ تَجُزْ وَتُعَادُ. وَعَلَى هَذَا إذَا ظَهَرَ الْغَلَطُ فِي الْقِسْمَةِ الْمُبَادَلَةِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ تُسْتَأْنَفُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ حَقَّهُ، فَظَهَرَ أَنَّ مَعْنَى الْقِسْمَةِ لَمْ يَتَحَقَّقْ بِكَمَالِهِ، وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْغَلَطَ فِي الْقِسْمَةِ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ كَانَ الْمُدَّعِي أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ دَعْوَى الْغَلَطِ؛ لِكَوْنِهِ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ إقْرَارٌ بِوُصُولِ حَقِّهِ إلَيْهِ بِكَمَالِهِ، وَدَعْوَى الْغَلَطِ إخْبَارٌ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ حَقُّهُ بِكَمَالِهِ فَيَتَنَاقَضُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُقِرَّ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ؛ لَا تُعَادُ الْقِسْمَةُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قَدْ صَحَّتْ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُهَا إلَّا بِحُجَّةٍ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أُعِيدَتْ الْقِسْمَةُ؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ لَمْ تُقَمْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَأَنْكَرَ شَرِيكُهُ، فَأَرَادَ اسْتِحْلَافَهُ حَلَّفَهُ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ الْغَلَطِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَقًّا هُوَ جَائِزُ الْوُجُودِ. وَالْعَدَمِ، وَهُوَ يُنْكِرُ فَيَحْلِفُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ: دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ اقْتَسَمَا، وَاسْتَوْفَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقَّهُ ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا غَلَطًا فِي الْقِسْمَةِ لَا تُعَادُ الْقِسْمَةُ، وَلَكِنْ يُسْأَلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْغَلَطِ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا فَيَحْلِفُ شَرِيكُهُ إنْ شَاءَ؛ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَنَكَلَ الْآخَرُ، فَإِنْ كَانَ الشُّرَكَاءُ ثَلَاثَةً يَجْمَعُ بَيْنَ نَصِيبِ الْمُدَّعِي وَبَيْنَ نَصِيبِ النَّاكِلِ، فَيَقْسِمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِمَا؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ دَلِيلُ كَوْنِ الْمُدَّعِي صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ فِي حَقِّهِ، فَكَانَ حُجَّةً فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ الشَّرِيكِ الْحَالِفِ، فَلَمْ تَصِحَّ الْقِسْمَةُ فِي حَقِّهِمَا فَتُعَادُ فِي قَدْرِ نَصِيبِهِمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْغَلَطَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَالْقَبْضِ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَذْرُوعَاتِ. وَلَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ دَارَانِ اقْتَسَمَاهُمَا، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارًا، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْغَلَطَ فِي الْقِسْمَةِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ، فَالْقِسْمَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَعِنْدَهُمَا لَا تَبْطُلُ وَلَكِنْ يُقْضَى لِلْمُدَّعِي بِذَلِكَ الذَّرْعِ مِنْ الدَّارِ الْأُخْرَى، وَبَنَوْا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى بَيْعِ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ. وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ قِسْمَةَ الْجَمْعِ فِي الدُّورِ بِالتَّرَاضِي جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا فِي نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ لَكِنْ هَذَا النَّوْعُ بِالْمُبَادَلَاتِ أَشْبَهُ، وَإِذَا تَحَقَّقَتْ الْمُبَادَلَةُ صَحَّ الْبِنَاءُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَلَوْ اقْتَسَمَا دَارًا بَيْنَهُمَا، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا بَيْتًا فِي يَدِ صَاحِبِهِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي قِسْمَتِهِ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً؛ سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ؛ أُخِذَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْإِشْهَادِ وَالْقَبْضِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا، وَكَذَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْحُدُودِ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدًّا فِي يَدِ صَاحِبِهِ أَنَّهُ أَصَابَهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ؛ قُضِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْحَدِّ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ

وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَّا فِي يَدِ صَاحِبِهِ خَارِجٌ، وَإِنْ قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ يُقْضَى بِبَيِّنَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تُقَمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا وَهَلْ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِنَفْسِ التَّالِفِ أَمْ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى فَسْخِ الْقَاضِي؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْبُيُوعِ. وَلَوْ اقْتَسَمَ رَجُلَانِ أَقْرِحَةً، فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا قَرَاحَيْنِ، وَالْآخَرُ أَرْبَعَةً، ثُمَّ ادَّعَى صَاحِبُ الْقَرَاحَيْنِ أَنَّ أَحَدَ الْأَقْرِحَةِ الْأَرْبَعَةِ أَصَابَهُ فِي قِسْمَتِهِ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لَهُ بِهِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي أَثْوَابٍ اقْتَسَمَاهَا، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ بَعْضَهُمَا، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ أَحَدَ الْأَثْوَابِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ أَصَابَهُ فِي قِسْمَتِهِ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لَهُ بِهِ، وَلَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ثَوْبًا مِمَّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ أَصَابَهُ فِي قِسْمَتِهِ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا فِي يَدِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَّا فِي يَدِ صَاحِبِهِ خَارِجٌ. وَلَوْ اقْتَسَمَا مِائَةَ شَاةٍ فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا خَمْسَةً وَخَمْسِينَ، وَأَصَابَ الْآخَرُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ ادَّعَى صَاحِبُ الْأَوْكَسِ الْغَلَطَ فِي الْقِسْمَةِ أَوْ الْخَطَأَ فِي التَّقْوِيمِ؛ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَلَوْ قَالَ: أَخْطَأْنَا فِي الْعَدَدِ، وَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا خَمْسِينَ - وَهَذِهِ الْخَمْسَةُ فِي قِسْمَتِهِ - وَأَنْكَرَ الْآخَرُ تَحَالَفَا، وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ رُدَّتْ الْقِسْمَةُ. وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَخَذْتَ أَنْتَ إحْدَى وَخَمْسِينَ غَلَطًا، وَأَخَذْتُ أَنَا تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ، وَقَالَ الْآخَرُ: مَا أَخَذْتُ إلَّا خَمْسِينَ. فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِاسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ عَلَى حَقِّهِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ قِسْمَةُ عَرْصَةِ الدَّارِ بِالذِّرَاعِ أَنَّهُ يُحْسَبُ فِي الْقِسْمَةِ كُلُّ ذِرَاعَيْنِ مِنْ الْعُلْوِ بِذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُحْسَبُ ذِرَاعٌ مِنْ السُّفْلِ بِذِرَاعٍ مِنْ الْعُلْوِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُحْسَبُ عَلَى الْقِيمَةِ دُونَ الذَّرْعِ. زَعَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّ التَّعْدِيلَ فِيمَا يَقُولُهُ، وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَيْنَ أَبِي يُوسُفَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ صَاحِبَ الْعُلْوِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْعُلْوِ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ السُّفْلِ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِصَاحِبِ السُّفْلِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ إنْ لَمْ يَضُرَّ الْبِنَاءُ بِهِ. وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ صَاحِبَ الْعُلْوِ إذَا لَمْ يَمْلِكْ الْبِنَاءَ عَلَى عُلُوِّهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ لِلْعُلُوِّ مَنْفَعَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ مَنْفَعَةُ السُّكْنَى فَحَسْبُ، وَلِلسُّفْلِ مَنْفَعَتَانِ: مَنْفَعَةُ السُّكْنَى، وَمَنْفَعَةُ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ، وَكَذَا السُّفْلُ كَمَا يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى يَصْلُحُ لِجَعْلِ الدَّوَابِّ فِيهِ، فَأَمَّا الْعُلْوُ فَلَا يَصْلُحُ إلَّا لِلسُّكْنَى خَاصَّةً، فَكَانَ لِلسُّفْلِ مَنْفَعَتَانِ وَلِلْعُلْوِ مَنْفَعَةٌ وَاحِدَةٌ، فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ عِنْدَهُ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَمَّا مَلَكَ صَاحِبُ الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلُوِّهِ كَانَتْ لَهُ مَنْفَعَتَانِ أَيْضًا، فَاسْتَوَى الْعُلْوُ وَالسُّفْلُ فِي الْمَنْفَعَةِ، فَوَجَبَ التَّعْدِيلُ بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَهُمَا فِي الذَّرْعِ. وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَإِنَّمَا اعْتَبَرَ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْبِلَادِ وَأَهْلَهَا فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ السُّفْلَ عَلَى الْعُلْوِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ الْعُلْوَ عَلَى السُّفْلِ، فَكَانَ التَّعْدِيلُ فِي اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، وَالْعَمَلُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا فَضَّلَ السُّفْلَ عَلَى الْعُلْوِ بِنَاءً عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ اخْتِيَارِهِمْ السُّفْلَ عَلَى الْعُلْوِ، وَأَبُو يُوسُفَ إنَّمَا سَوَّى بَيْنَهُمَا عَلَى عَادَةِ أَهْلِ بَغْدَادَ؛ لِاسْتِوَاءِ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ عِنْدَهُمْ، فَأَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفَتْوَى عَلَى عَادَةِ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَمُحَمَّدٌ بَنَى الْفَتْوَى عَلَى الْمَعْلُومِ مِنْ اخْتِلَافِ الْعَادَاتِ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ فَكَانَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي سُفْلٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَعُلُوٍّ مِنْ بَيْتٍ آخَرَ بَيْنَهُمَا، أَرَادَا قِسْمَتَهُمَا يُقْسَمُ الْبِنَاءُ عَلَى الْقِيمَةِ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا الْعَرْصَةُ فَتُقْسَمُ بِالذَّرْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِالْقِيمَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ بِالذَّرْعِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ذِرَاعٌ بِذِرَاعَيْنِ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ذِرَاعٌ بِذِرَاعٍ. وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا بَيْتٌ تَامٌّ عُلُوٌّ وَسُفْلٌ، وَعُلُوٌّ مِنْ بَيْتٍ آخَرَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُحْسَبُ فِي الْقِسْمَةِ كُلُّ ذِرَاعٍ مِنْ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ بِثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ مِنْ الْعُلْوِ أَرْبَاعًا عِنْدَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ أَرْبَاعًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ذِرَاعٌ مِنْ السُّفْلِ وَالْعُلْوِ بِذِرَاعَيْنِ مِنْ الْعُلْوِ؛ لِاسْتِوَاءِ السُّفْلِ وَالْعُلْوِ عِنْدَهُ، فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ أَثْلَاثًا. وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا بَيْتٌ تَامٌّ سُفْلٌ وَعُلُوٌّ، وَسُفْلٌ آخَرُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُحْسَبُ فِي الْقِسْمَةِ كُلُّ ذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ وَالْعُلْوِ بِذِرَاعٍ وَنِصْفٍ مِنْ السُّفْلِ، وَذِرَاعٍ مِنْ سُفْلِ الْبَيْتِ بِذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ الْآخَرِ، وَذِرَاعٍ مِنْ عُلُوِّهِ بِنِصْفِ ذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ الْآخَرِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ذِرَاعٌ مِنْ التَّامِّ بِذِرَاعَيْنِ مِنْ السُّفْلِ، - وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ مَا إذَا اقْتَسَمَا دَارًا وَفَضَّلَا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ

فصل في بيان حكم القسمة

لِفَضْلِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْمَوْضِعِ أَنَّ الْقِسْمَةَ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ عَادِلَةً مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الدَّارَ قَدْ يُفَضَّلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْبِنَاءِ وَالْمَوْضِعِ، فَكَانَ ذَلِكَ تَفْصِيلًا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ تَعْدِيلًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلَوْ لَمْ يُسَمِّيَا قِيمَةَ فَضْلِ الْبِنَاءِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ جَازَتْ الْقِسْمَةُ اسْتِحْسَانًا، وَتَجِبُ قِيمَةُ فَضْلِ الْبِنَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَاهَا فِي الْقِسْمَةِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ قِسْمَةُ بَعْضِ الدَّارِ دُونَ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْعَرْصَةَ مَعَ الْبِنَاءِ بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَقِسْمَةُ الْبِنَاءِ بِالْقِيمَةِ فَإِذَا وُجِدَتْ الْقِسْمَةُ مَجْهُولَةً فَوَقَعَتْ الْقِسْمَةُ لِلْعَرْصَةِ دُونَ الْبِنَاءِ؛ بَقِيَتْ وَإِنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قِسْمَةَ الْعَرْصَةِ قَدْ صَحَّتْ بِوُقُوعِهَا فِي مَحِلِّهَا - وَهُوَ الْمِلْكُ - وَلَا صِحَّةَ لَهَا إلَّا بِقِسْمَةِ الْبِنَاءِ، وَذَلِكَ بِالْقِيمَةِ، فَتَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْفَضْلِ قِيمَةُ فَضْلِ الْبِنَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ ضَرُورَةً صِحَّةَ الْقِسْمَةِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ أَيْضًا قِسْمَةُ الْجَمْعِ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ جَبْرًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِتَعَذُّرِ تَعْدِيلِ الْأَنْصِبَاءِ إلَّا بِالْقِيمَةِ، وَإِنَّهَا لَيْسَتْ مَحِلَّ الْقِسْمَةِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَا يَجُوزُ فِي الرَّقِيقِ وَالدُّورِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَا تَقَعُ الْقِسْمَةُ فِيهَا عَادِلَةً أَوْ جَائِرَةً، وَلَا تُقْسَمُ الْأَوْلَادُ فِي بُطُونِ الْغَنَمِ؛ لِتَعَذُّرِ التَّعْدِيلِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ رَدُّ الْمَقْسُومِ بِالْعَيْبِ فِي نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهَا وَقَعَتْ جَائِرَةً لَا عَادِلَةً، فَكَانَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَلَوْ امْتَنَعَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ؛ لِوُجُودِ الْمَانِعِ مِنْهُ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، إلَّا أَنَّ فِي الْبَيْعِ يَرْجِعُ بِتَمَامِ النُّقْصَانِ وَفِي الْقِسْمَةِ يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ فِي الْقِسْمَةِ يَرْجِعُ بِالنَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا فَيَرْجِعُ بِنِصْفِ النُّقْصَانِ مِنْ نَصِيبِ شَرِيكِهِ. وَأَمَّا الرَّدُّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ فَيَثْبُتُ فِي قِسْمَةِ الرِّضَا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهَا مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ أَشْبَهُ بِالْمُبَادَلَاتِ؛ لِوُجُودِ الْمُرَاضَاةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَيَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَلَا يَثْبُتُ فِي قِسْمَةِ الْقَضَاءِ لَا لِخُلُوِّهَا عَنْ الْمُبَادَلَةِ بَلْ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّهَا بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ؛ لَأَجْبَرَهُ الْقَاضِي ثَانِيًا فَلَا يُفِيدُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ يَتْبَعُ الْمُبَادَلَةَ الْمَحْضَةَ؛ لِثُبُوتِهَا عَلَى مُخَالِفَةِ الْقِيَاسِ، وَالْقِسْمَةُ مُبَادَلَةٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا تَحْتَمِلُ الشُّفْعَةَ؛ وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَجِبَ لِلشَّرِيكِ أَوْ لِلْجَارِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ لِغَيْرِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ أَوْلَى مِنْ الْجَارِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَمِنْهَا الْوُجُوبُ عِنْدَ الطَّلَبِ، حَتَّى يُجْبَرَ عَلَى الْقِسْمَةِ فِيمَا يَنْتَفِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ بِقِسْمَتِهِ، وَكَذَا فِيمَا يَنْتَفِعُ بِهَا أَحَدُهُمَا وَيَسْتَضِرُّ الْآخَرُ عِنْدَ طَلَبِ الْمُنْتَفِعِ بِالْإِجْمَاعِ، وَعِنْدَ طَلَبِ الْمُسْتَضِرِّ اخْتِلَافُ رِوَايَتَيْ الْحَاكِمِ، وَالْقُدُورِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَمِنْهَا اللُّزُومُ بَعْدَ تَمَامِهَا فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا، حَتَّى لَا يَحْتَمِلَ الرُّجُوعُ عَنْهَا إذَا تَمَّتْ. وَأَمَّا قَبْلَ التَّمَامِ فَكَذَلِكَ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ، وَهُوَ قِسْمَةُ الْقَضَاءِ دُونَ النَّوْعِ الْآخَرِ، وَهُوَ قِسْمَةُ الشُّرَكَاءِ، بَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الدَّارَ إذَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ قَوْمٍ فَقَسَمَهَا الْقَاضِي أَوْ الشُّرَكَاءُ بِالتَّرَاضِي فَخَرَجَتْ السِّهَامُ كُلُّهَا بِالْقُرْعَةِ؛ لَا يَجُوزُ لَهُمْ الرُّجُوعُ، وَكَذَا إذَا خَرَجَ الْكُلُّ إلَّا سَهْمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خُرُوجُ السِّهَامِ كُلِّهَا؛ لِكَوْنِ ذَلِكَ السَّهْمُ مُتَعَيَّنًا بِمَنْ بَقِيَ مِنْ الشُّرَكَاءِ، وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُ السِّهَامِ دُونَ الْبَعْضِ فَكَذَلِكَ فِي قِسْمَةِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ أَحَدُهُمْ لَأَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ ثَانِيًا فَلَا يُفِيدُ رُجُوعُهُ. وَأَمَّا فِي قِسْمَةِ التَّرَاضِي فَيَجُوزُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ التَّرَاضِي لَا تَتِمُّ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ السِّهَامِ كُلِّهَا، وَكُلُّ عَاقِدٍ بِسَبِيلٍ مِنْ الرُّجُوعِ عَنْ الْعَقْدِ قَبْلَ تَمَامِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَان حُكْمِ الْقِسْمَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْقِسْمَةِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: حُكْمُ الْقِسْمَةِ ثُبُوتُ اخْتِصَاصٍ بِالْمَقْسُومِ عَيْنًا تَصَرُّفًا فِيهِ فَيَمْلِكُ الْمَقْسُومُ لَهُ فِي الْمَقْسُومِ جَمِيعَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمِلْكِ، حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ سَاحَةٌ لَا بِنَاءَ فِيهَا، وَوَقَعَ الْبِنَاءُ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فَلِصَاحِبِ السَّاحَةِ أَنْ يَبْنِيَ فِي سَاحَتِهِ، وَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ بِنَاءَهُ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ أَنْ يَمْنَعَهُ، وَإِنْ كَانَ يُفْسِدُ عَلَيْهِ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا يَمْنَعُ عَنْهُ، وَكَذَا لَهُ أَنْ يَبْنِيَ فِي سَاحَتِهِ مَخْرَجًا أَوْ تَنُّورًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ رَحًى؛ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا لَهُ أَنْ يُقْعِدَ فِي بِنَائِهِ حَدَّادًا، أَوْ قَصَّارًا، وَإِنْ كَانَ يَتَأَذَّى بِهِ جَارُهُ؛ لِمَا قُلْنَا، وَلَهُ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا أَوْ كُوَّةً؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ الْجِدَارَ أَصْلًا فَفَتْحُ الْبَابِ وَالْكُوَّةِ أَوْلَى، وَلَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِي مِلْكِهِ بِئْرًا أَوْ بَالُوعَةً أَوْ كِرْبَاسًا، وَإِنْ كَانَ يَهِي بِذَلِكَ حَائِطَ جَارِهِ، وَلَوْ طَلَبَ جَارُهُ تَحْوِيلَ ذَلِكَ؛ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى التَّحْوِيلِ، وَلَوْ سَقَطَ الْحَائِطُ مِنْ ذَلِكَ

لَا يُضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ مِنْهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يُمْنَعَ الْإِنْسَانُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ إلَّا أَنَّ الْكَفَّ عَمَّا يُؤْذِي الْجَارَ أَحْسَنُ. قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36] إلَى قَوْله تَعَالَى {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] خَصَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ، فَلَئِنْ لَا يُحْسِنُ إلَيْهِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ أَذَاهُ. وَعَلَى هَذَا دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَلِرَجُلٍ فِيهَا طَرِيقٌ فَأَرَادَا أَنْ يَقْتَسِمَاهَا، لَيْسَ لِصَاحِبِ الطَّرِيقِ مَنْعُهُمَا عَنْ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُمَا بِالْقِسْمَةِ مُتَصَرِّفَانِ فِي مِلْكِ أَنْفُسِهِمَا فَلَا يُمْنَعَانِ عَنْهُ، فَيَقْتَسِمَانِ مَا وَرَاءَ الطَّرِيقِ، وَيَتْرُكَانِ الطَّرِيقَ عَلَى حَالِهِ عَلَى سَعَةِ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. وَلَوْ بَاعُوا الدَّارَ وَالطَّرِيقَ فَإِنْ كَانَتْ رَقَبَةُ الطَّرِيقِ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ؛ قَسَمُوا مَمَرَّ الطَّرِيقِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَإِنْ كَانَتْ الرَّقَبَةُ لِشَرِيكَيْ الدَّارِ وَلِصَاحِبِ الطَّرِيقِ حَقُّ الْمُرُورِ، حَكَى الْقُدُورِيُّ عَنْ الْكَرْخِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنْ لَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الطَّرِيقِ مِنْ الثَّمَنِ، وَيَكُونُ الثَّمَنُ كُلُّهُ لِلشَّرِيكَيْنِ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ يَضْرِبُ بِحَقِّهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، وَيَضْرِبُ صَاحِبُ الطَّرِيقِ بِحَقِّ الْمُرُورِ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى قِيمَةِ الْعَرْصَةِ بِغَيْرِ طَرِيقٍ، وَيَنْظُرَ إلَى قِيمَتِهَا وَفِيهَا طَرِيقٌ، فَيَكُونَ لِصَاحِبِ الطَّرِيقِ فَضْلُ مَا بَيْنَهُمَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ نِصْفُ قِيمَةِ الْمَنْفَعَةِ إذَا كَانَ فِيهَا طَرِيقٌ. (وَجْهُ) مَا حُكِيَ عَنْ الْكَرْخِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ مَقْصُودًا بَلْ يَحْتَمِلُهُ تَبَعًا لِلرَّقَبَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ وَحْدَهُ لَمْ يَجُزْ، فَإِذَا بِيعَ الطَّرِيقُ بِإِذْنِهِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ أَصْلًا فَلَا يُقَابِلُهُ ثَمَنٌ. (وَجْهُ) مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ مَقْصُودًا بَلْ يَحْتَمِلُهُ تَبَعًا لِلرَّقَبَةِ، وَهَهُنَا مَا بِيعَ مَقْصُودًا بَلْ تَبَعًا لِلرَّقَبَةِ فَيُقَابِلُهُ الثَّمَنُ، لَكِنْ ثَمَنُ الْحَقِّ لَا ثَمَنُ الْمِلْكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَكَذَلِكَ دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فِيهَا مَسِيلُ الْمَاءِ، فَأَرَادَا أَنْ يَقْتَسِمَاهَا لَيْسَ لِصَاحِبِ الْمَسِيلِ مَنْعُهُمَا مِنْ الْقِسْمَةِ؛ لِمَا قُلْنَا، بَلْ يَقْسِمُ الدَّارَ وَيَتْرُكُ الْمَسِيلَ عَلَى حَالِهِ كَمَا فِي الطَّرِيقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الدَّارِ مَنْزِلٌ لِرَجُلٍ وَطَرِيقُهُ فِي الدَّارِ، فَأَرَادَا أَنْ يَقْتَسِمَا الدَّارَ لَا يُمْنَعَانِ مِنْ الْقِسْمَةِ، وَلَكِنْ يَتْرُكَانِ طَرِيقَ الْمَنْزِلِ عَلَى حَالِهِ عَلَى سَعَةِ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ، لَا عَلَى سَعَةِ بَابِ الْمَنْزِلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ أَنْ يَفْتَحَ إلَى هَذَا الطَّرِيقِ بَابًا آخَرَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ الْحَائِطَ كُلَّهُ فَهَذَا أَوْلَى، وَلَوْ اشْتَرَى صَاحِبُ الْمَنْزِلِ دَارًا مِنْ وَرَاءِ الْمَنْزِلِ وَفَتَحَ بَابَهُ إلَى الْمَنْزِلِ، فَإِنْ كَانَ سَاكِنُ الدَّارِ وَالْمَنْزِلِ وَاحِدًا فَلَهُ أَنْ يَمُرَّ مِنْ الدَّارِ إلَى الْمَنْزِلِ، وَمِنْ الْمَنْزِلِ إلَى الطَّرِيقِ الَّذِي فِي الدَّارِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُرُورِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَ سَاكِنُ الدَّارِ غَيْرَ سَاكِنِ الْمَنْزِلِ فَلَيْسَ لِسَاكِنِ الدَّارِ أَنْ يَمُرَّ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي فِي الدَّارِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ فَيُمْنَعُ مِنْ الْمُرُورِ فِيهِ. دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ اقْتَسَمَاهَا، وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً مِنْهَا، فَأَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْتَحَ بَابًا أَوْ كُوَّةً إلَى السِّكَّةِ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَسَعُ لِأَهْلِ السِّكَّةِ مَنْعُهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَمْلِكُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ رَفْعَ الْحَائِطِ أَصْلًا فَالْبَابُ وَالْكُوَّةُ أَوْلَى. وَعَلَى هَذَا حَائِطٌ بَيْنَ قَسِيمَيْنِ وَلِأَحَدِ الْقَسِيمَيْنِ عَلَيْهِ جُذُوعُ الْحَائِطِ الْآخَرِ فَإِنْ شَرَطُوا قَطْعَ الْجُذُوعِ فِي الْقِسْمَةِ قَطَعَهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» . وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطُوا تُرِكَ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّ التَّرْكَ وَإِنْ كَانَ ضَرَرًا لَكِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَشْتَرِطُوا الْقَطْعَ فِي الْقِسْمَةِ فَقَدْ اُلْتُزِمَ الضَّرَرُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ وَقَعَ عَلَى هَذَا الْحَائِطِ دَرَجَةٌ أَوْ أُسْطُوَانَةٌ جُمِعَ عَلَيْهَا جُذُوعٌ؛ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ رَوْشَنًا وَقَعَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ شَرَفًا عَلَى نَصِيبِ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يُقْلِعَ الرَّوْشَنَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَلْعِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَطْرَافُ خَشَبٍ عَلَى حَائِطِ صَاحِبِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَيْهَا سَقْفٌ لَمْ يُكَلَّفْ قَلْعُهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ كُلِّفَ الْقَلْعَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ عَلَيْهَا سَقْفٌ أَمْكَنَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فَيَلْتَحِقُ بِالْحُقُوقِ، فَأَشْبَهَ الرَّوْشَنَ وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَعَذُّرُ إلْحَاقِهَا بِالْحُقُوقِ فَبَقِيَ شَاغِلًا هُوَ لِصَاحِبِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَيُكَلَّفُ قَطْعَهَا، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا شَجَرَةٌ أَغْصَانُهَا مُظِلَّةٌ عَلَى نَصِيبِ الْآخَرِ فَهَلْ تُقْطَعُ؟ ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ؛ لِأَنَّ فِي الْقَطْعِ ضَرَرًا لِصَاحِبِهَا، وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ تُقْطَعُ كَمَا يُقْطَعُ أَطْرَافُ الْخَشَبِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَسْقِيفُهَا، وَلَوْ اخْتَلَفَ أَهْلُ طَرِيقٍ فِي الطَّرِيقِ، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَهُ؛ فَهُوَ بَيْنَهُمْ بِالتَّسْوِيَةِ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ، لَا عَلَى ذُرْعَانِ الدُّورِ وَالْمَنَازِلِ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي الْيَدِ؛ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْمُرُورِ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقُومَ لِأَحَدِهِمْ بَيِّنَةٌ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْيَدِ بِالْبَيِّنَةِ. دَارٌ لِرَجُلٍ وَفِيهَا طَرِيقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ

فصل في ما يوجب نقض القسمة بعد وجودها

رَجُلٍ فَمَاتَ صَاحِبُ الدَّارِ، فَاقْتَسَمَتْ الْوَرَثَةُ الدَّارَ بَيْنَهُمْ، وَتَرَكُوا الطَّرِيقَ كَانَ الطَّرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّجُلِ نِصْفَيْنِ لَا عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ، حَتَّى لَوْ بَاعُوا الدَّارَ يُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَبَيْنَهُ نِصْفَيْنِ لَا عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ قَامُوا مَقَامَ الْمُوَرِّثِ، وَقَدْ كَانَ الطَّرِيقُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَكَذَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ الدَّارَ مِيرَاثٌ بَيْنَهُمْ وَجَحَدُوا ذَلِكَ فَالطَّرِيقُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ؛ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْيَدِ عَلَى مَا مَرَّ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي مَا يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الَّذِي يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا أَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) ظُهُورُ دَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ؛ إذَا طَلَبَ الْغُرَمَاءُ دُيُونَهُمْ وَلَا مَالَ لِلْمَيِّتِ سِوَاهُ، وَلَا قَضَاهُ الْوَرَثَةُ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ، وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْوَرَثَةَ إذَا اقْتَسَمُوا التَّرِكَةَ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ، وَإِمَّا أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ، وَلَا قَضَاهُ الْوَرَثَةُ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ؛ تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ سَوَاءً كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِرْثِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] . قَدَّمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الدَّيْنَ عَلَى الْوَصِيَّةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ إذَا كَانَ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ؛ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْوَرَثَةِ فِيهَا إلَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ بَلْ هِيَ مِلْكٌ لِلْمَيِّتِ يَتَعَلَّقُ بِهَا بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَقِيَامُ مِلْكِ الْغَيْرِ فِي الْمَحِلِّ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقِسْمَةِ، فَقِيَامُ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ أَوْلَى. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ فَمِلْكُ الْمَيِّتِ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ - وَهُوَ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ - ثَابِتٌ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ مِنْ التَّرِكَةِ عَلَى الشُّيُوعِ، فَيَمْنَعُ جَوَازَ الْقِسْمَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ يُجْعَلُ الدَّيْنُ فِيهِ، وَتَمْضِي الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تُصَانُ عَنْ النَّقْضِ مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ صِيَانَتُهَا بِجَعْلِ الدَّيْنِ فِيهِ، وَكَذَا الْوَرَثَةُ إذَا قَضَوْا الدَّيْنَ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ لَا تُنْقَضُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِصُورَةِ التَّرِكَةِ، وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ بِمَعْنَاهَا وَهُوَ الْمَالِيَّةُ، فَإِذَا قَضَوْا الدَّيْنَ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ فَقَدْ اسْتَخْلَصُوا التَّرِكَةَ لِأَنْفُسِهِمْ صُورَةً وَمَعْنًى، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ اقْتَسَمُوا مَالَ أَنْفُسِهِمْ صُورَةً وَمَعْنًى، فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا وَقَعَتْ صَحِيحَةً فَلَا تُنْقَضُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَبْرَأَهُ الْغُرَمَاءُ مِنْ دُيُونِهِمْ لَا تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ لِحَقِّهِمْ وَقَدْ أَسْقَطُوهُ بِالْإِبْرَاءِ، وَكَذَلِكَ إذَا ظَهَرَ لِبَعْضِ الْمُقْتَسِمِينَ دَيْنٌ عَلَى الْمَيِّتِ، بِأَنْ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ؛ فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْقِسْمَةَ؛ لِمَا قُلْنَا، وَلَا تَكُونُ قِسْمَتُهُ إبْرَاءً مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ يَتَعَلَّقُ بِمَعْنَى التَّرِكَةِ وَهُوَ مَالِيَّتُهَا لَا بِالصُّورَةِ، وَلِهَذَا كَانَ لِلْوَرَثَةِ حَقُّ الِاسْتِخْلَاصِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ إقْدَامُهُ عَلَى الْقِسْمَةِ إقْرَارًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ فَلَمْ يَكُنْ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ فَسُمِعَتْ. (وَمِنْهَا) ظُهُورُ الْوَصِيَّةِ حَتَّى لَوْ اقْتَسَمُوا ثُمَّ ظَهَرَ ثَمَّ مُوصًى لَهُ بِالثُّلُثِ؛ نُقِضَتْ قِسْمَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ مِنْ التَّرِكَةِ شَيْءٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ يُهْلَكُ مِنْ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ جَمِيعًا، وَالْبَاقِي عَلَى الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ، وَلَوْ اقْتَسَمُوا وَثَمَّةَ وَارِثٌ آخَرُ غَائِبٌ تُنْقَضُ، فَكَذَا هَذَا، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِالتَّرَاضِي، فَإِنْ كَانَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا تُنْقَضُ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ وَإِنْ كَانَ كَوَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ، لَكِنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَسَمَ عِنْدَ غَيْبَةِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ لَا تُنْقَضُ قِسْمَتُهُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي إذَا صَادَفَ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ يَنْفُذُ وَلَا يُنْقَضُ. (وَمِنْهَا) ظُهُورُ الْوَارِثِ حَتَّى لَوْ اقْتَسَمُوا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ ثَمَّةَ وَارِثٌ آخَرُ؛ نُقِضَتْ قِسْمَتُهُمْ، وَلَوْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا تُنْقَضُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ ادَّعَى وَارِثٌ وَصِيَّةً لِابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ، حَتَّى لَا تُسْمَعَ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ؛ لِكَوْنِهِ مُنَاقِضًا فِي الدَّعْوَى إذْ لَا تَصِحُّ قِسْمَتُهُمْ الْمِيرَاثَ وَثَمَّ مُوصًى لَهُ، فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى الْقِسْمَةِ إقْرَارًا مِنْهُ بِانْعِدَامِ الْوَصِيَّةِ، فَكَانَ دَعْوَى وُجُودِ الْوَصِيَّةِ مُنَاقِضَةً فَلَا تُسْمَعُ، وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الصَّغِيرِ بِقِسْمَةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى بَعْضُ الْوَرَثَةِ أَنَّ أَخًا لَهُ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَرِثَ أَبَاهُ مَعَهُمْ، وَأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ وَوَرِثَهُ هَذَا الْمُدَّعِي، وَجَحَدَ الْبَاقُونَ ذَلِكَ، فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ هُنَا قُضِيَ فِي دَعْوَاهُ؛ لِدَلَالَةِ إقْرَارِهِ بِانْعِدَامِ وَارِثٍ آخَرَ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مِيرَاثٍ يَدَّعِيهِ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِلتَّنَاقُضِ بِدَلَالَةِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِبَيْتٍ مِنْهَا لِرَجُلٍ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ لَمْ يُوجِبْ تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِالْعَيْنِ لِحَقِّ الشَّرِيكِ الْآخَرِ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعَيْنِ

فصل في قسمة المنافع

لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْقِسْمَةِ فَتُقْسَمُ الدَّارُ وَيُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَمَتَى قُسِمَتْ فَإِنْ وَقَعَ الْبَيْتُ الْمُقَرُّ بِهِ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ دَفَعَهُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَدْ صَحَّ وَتَسْلِيمُ عَيْنِ الْمُقَرِّ بِهِ مُمْكِنٌ، فَيُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ، وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ يَدْفَعُ إلَيْهِ قَدْرَ ذَرْعِ الْمُقَرِّ بِهِ مِنْ نَصِيبِ نَفْسِهِ، فَيَقْسِمُ مَا أَصَابَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُ، فَيَضْرِبُ الْمُقَرُّ لَهُ بِذَرْعِ الْبَيْتِ وَيَضْرِبُ الْمُقِرُّ بِنِصْفِ ذَرْعِ الدَّارِ بَعْدَ الْبَيْتِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ - وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْرِبُ الْمُقِرُّ بِنِصْفِ ذَرْعِ الدَّارِ كَمَا قَالَا، وَلَكِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ يَضْرِبُ بِنِصْفِ ذَرْعِ الْبَيْتِ لَا بِكُلِّهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ ذَرْعُ الدَّارِ مِائَةً، وَذَرْعُ الْبَيْتِ عَشَرَةً، فَتُقْسَمُ الدَّارُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، يَكُونُ لِلْمُقَرِّ لَهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ جَمِيعُ ذَرْعِ الْبَيْتِ وَالْبَاقِي - وَهُوَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ - لِلْمُقِرِّ؛ لِأَنَّهُ نِصْفُ ذَرْعِ الدَّارِ بَعْدَ ذَرْعِ الْبَيْتِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَكُونُ لِلْمُقَرِّ لَهُ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ، إذْ هُوَ نِصْفُ ذَرْعِ الْبَيْتِ الْمُقَرِّ بِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْإِقْرَارَ صَادَفَ مَحِلًّا مُعَيَّنًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْأَيْنِ مِنْ الدَّارِ أَحَدُهُمَا لَهُ، وَالْآخَرُ لِصَاحِبِهِ عَلَى الشُّيُوعِ فَيَبْطُلُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَيَصِحُّ فِي نَصِيبِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ لِلْمُقَرِّ لَهُ نِصْفُ ذَرْعِ الْبَيْتِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمُشْتَرَكِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْقِسْمَةِ، وَلَوْ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ لَمَنَعَ، فَإِذَا قُسِمَتْ الدَّارُ الْآنَ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، فَإِنْ وَقَعَ الْمُقَرُّ بِهِ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَقَدْ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ عَيْنِهِ فَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ بَدَلِهِ مِنْ نَصِيبِهِ، وَهُوَ تَمَامُ ذَرْعِ الْمُقَرِّ بِهِ، هَذَا إذَا كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ شَيْئًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، كَبَيْتٍ مِنْ حَمَّامٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَقَرَّ أَنَّهُ لِرَجُلٍ وَأَنْكَرَ صَاحِبُهُ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ، وَلَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى قِسْمَتِهِ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْإِضْرَارِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْجَبْرَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَيَلْزَمُهُ نِصْفُ قِيمَةِ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَالْإِقْرَارُ بِعَيْنٍ مَعْجُوزِ التَّسْلِيمِ يَكُونُ إقْرَارًا بِبَدَلِهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ، وَصِيَانَةً لِحَقِّ الْغَيْرِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، كَالْإِقْرَارِ بِجِذْعٍ فِي الدَّارِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ] [أَنْوَاع الْمُهَايَئَات وَمَا يَجُوز مِنْهَا وَمَا لَا يَجُوز] (فَصْلٌ) : هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا قِسْمَةُ الْأَعْيَانِ. (وَأَمَّا) قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ فَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْمُهَايَئَاتِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْمُهَايَئَاتِ وَمَا يَجُوزُ مِنْهَا وَمَا لَا يَجُوزُ، وَفِي بَيَانِ مَحِلِّ الْمُهَايَئَاتِ وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْمُهَايَئَاتِ وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ وَمَا لَا يَمْلِكُ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالْمُهَايَئَاتُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمَكَانِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الزَّمَانِ. (أَمَّا) النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَتَهَايَآ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً مِنْهَا يَسْكُنُهَا وَأَنَّهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُهَايَئَاتِ قِسْمَةٌ فَتُعْتَبَرُ بِقِسْمَةِ الْعَيْنِ، وَقِسْمَةُ الْعَيْنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَائِزَةٌ فَكَذَا قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ، وَكَذَا لَوْ تَهَايَئَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا السُّفْلَ وَالْآخَرُ الْعُلْوَ جَازَ ذَلِكَ؛ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْمُدَّةِ فِي هَذَا النَّوْعِ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمَنَافِعِ لَيْسَتْ بِمُبَادَلَةِ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ مُبَادَلَةَ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَنَا، كَإِجَازَةِ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ بِالْخِدْمَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَهَايَئَا فِي دَارَيْنِ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارًا يَسْكُنُهَا أَوْ يَسْتَغِلُّهَا فَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ (أَمَّا) عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْجَمْعِ فِي عَيْنِ الدُّورِ جَائِزَةٌ، فَكَذَا فِي الْمَنَافِعِ. (وَأَمَّا) أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَيْنِ وَبَيْنَ الْمَنْفَعَةِ. (وَجْهُ) الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ الدُّورَ فِي حُكْمِ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ لِتَفَاحُشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ فِي نَفْسِهَا وَبِنَائِهَا وَمَوْضِعِهَا، وَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الْجَمْعِ فِي جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ. (وَأَمَّا) التَّفَاوُتُ فِي الْمَنَافِعِ فَقَلَّ مَا يَتَفَاحَشُ بَلْ يَتَقَارَبُ، فَلَمْ تَلْتَحِقُ مَنَافِعُ الدَّارَيْنِ بِالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فَجَازَتْ الْقِسْمَةُ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَهَايَئَا فِي عَبْدَيْنِ عَلَى الْخِدْمَةِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ. (أَمَّا) عِنْدَهُمَا؛ فَلِأَنَّ قِسْمَةَ الْجَمْعِ فِي أَعْيَانِ الرَّقِيقِ جَائِزَةٌ، وَكَذَا فِي مَنَافِعِهَا. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الدَّارَيْنِ وَلَوْ تَهَايَئَا فِي عَبْدَيْنِ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا يَخْدُمُهُ وَشَرَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ طَعَامَ الْعَبْدِ الَّذِي يَخْدُمُهُ؛ جَازَ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ. (وَوَجْهُهُ) أَنَّ طَعَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ جَمِيعًا عَلَى الْمُنَاصَفَةِ، فَاشْتِرَاطُ كُلِّ الطَّعَامِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ يَخْرُجُ مَخْرَجَ مُعَاوَضَةِ بَعْضِ الطَّعَامِ بِالْبَعْضِ، وَإِنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ لِلْجَهَالَةِ. (وَوَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْجَهَالَةِ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الطَّعَامِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ دُونَ الْمُضَايِقَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ كِسْوَةَ

فصل في محل المهايئات

الْعَبْدِ الَّذِي يَخْدُمُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي فِي الْكِسْوَةِ مِنْ الْمُضَايِقَةِ مَا لَا يَجْرِي فِي الطَّعَامِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ فِي الْكِسْوَةِ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ، مَعَ مَا إنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْكِسْوَةِ تَتَفَاحَشُ بِخِلَافِ الطَّعَامِ؛ لِذَلِكَ افْتَرَقَا، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) التَّهَايُؤُ فِي الدَّوَابِّ بِأَنْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا وَالْآخَرُ دَابَّةً أُخْرَى مِنْ جِنْسِهَا يَسْتَغِلُّهَا، وَشَرَطَ الِاسْتِغْلَالَ فَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْجَمْعِ فِي أَعْيَانِ الدَّوَابِّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ جَائِزَةٌ، فَكَذَا قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ وَبَيْنَ الْمَنْفَعَةِ أَنَّهُ جَوَّزَ قِسْمَةَ الْجَمْعِ فِي أَعْيَانِهَا وَلَمْ يُجَوِّزْ فِي مَنَافِعِهَا. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّهَا بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ لَكِنَّهَا فِي مَنْفَعَةِ الرُّكُوبِ فِي حُكْمِ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا لَمْ يَمْلِكْ أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِلرُّكُوبِ، وَلَوْ فَعَلَ لَضَمِنَ، فَأَشْبَهَ اخْتِلَافُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ اخْتِلَافَ جِنْسِ الْعَيْنِ، وَاخْتِلَافُ جِنْسِ الْعَيْنِ عِنْدَهُ مَانِعٌ جَوَازَ قِسْمَةِ الْجَمْعِ، كَذَا فِي الْمَنْفَعَةِ، بِخِلَافِ الْمُهَايَئَاتِ فِي الدَّارَيْنِ وَالْعَبْدَيْنِ أَنَّهَا جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَنَافِعَ مُتَقَارِبَةٌ غَيْرُ مُتَفَاحِشَةٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ فِيهَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَمْ يَخْتَلِفْ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ فَجَازَتْ الْمُهَايَئَاتُ. (وَأَمَّا) النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ الْمُهَايَئَاتُ بِالزَّمَانِ فَهُوَ أَنْ يَتَهَايَآ فِي بَيْتٍ صَغِيرٍ عَلَى أَنْ يَسْكُنَهُ هَذَا يَوْمًا، وَهَذَا يَوْمًا، أَوْ فِي عَبْدٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَخْدُمَ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا، وَهَذَا جَائِزٌ؛ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ سَيِّدِنَا صَالِحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُهَايَئَاتُ فِي الشِّرْبِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْحَكِيمُ إذَا حَكَى عَنْ مُنْكَرٍ غَيَّرَهُ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْمُهَايَئَاتِ بِالزَّمَانِ بِظَاهِرِ النَّصِّ، وَثَبَتَ جَوَازُ النَّوْعِ الْآخَرِ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّهَا أَشْبَهُ بِالْمُقَاسَمَةِ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ؛ وَلِأَنَّ جَوَازَ الْمُهَايَئَاتِ بِالزَّمَانِ لِمَكَانِ حَاجَاتِ النَّاسِ، وَحَاجَتُهُمْ إلَى الْمُهَايَئَاتِ بِالْمَكَانِ أَشَدُّ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ كُلَّهَا فِي احْتِمَالِ الْمُهَايَئَاتِ بِالزَّمَانِ شَرْعٌ، سَوَاءٌ مِنْ الْأَعْيَانِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْمُهَايَئَاتِ بِالْمَكَانِ كَالْعَبْدِ وَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ وَنَحْوِهِمَا، فَلَمَّا جَازَتْ تِلْكَ فَلَأَنْ تَجُوزَ هَذِهِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي مَحِلِّ الْمُهَايَئَاتِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَحِلِّ الْمُهَايَئَاتِ فَنَقُولُ - وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: إنَّ مَحِلَّهَا الْمَنَافِعُ دُونَ الْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّهَا قِسْمَةُ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الْعَيْنِ، فَكَانَ مَحِلُّهَا الْمَنْفَعَةَ دُونَ الْعَيْنِ، حَتَّى أَنَّهُمَا لَوْ تَهَايَئَا فِي نَخْلٍ أَوْ شَجَرٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً يَسْتَثْمِرُهَا؛ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ إذَا تَهَايَئَا فِي الْغَنَمِ الْمُشْتَرَكَةِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَطِيعًا وَيَنْتَفِعُ بِأَلْبَانِهَا - لَا يَجُوزُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا عَقْدُ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ، وَالثَّمَرُ وَاللَّبَنُ عَيْنُ مَالٍ فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ عَقْدِ الْمُهَايَئَاتِ، وَلَوْ تَهَايَئَا فِي الْأَرَاضِي الْمُشْتَرَكَةِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا وَيَذْرَعُ - جَازَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ، وَهُوَ مَعْنَى الْمُهَايَئَاتِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي صِفَةِ الْمُهَايَئَاتِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ الْمُهَايَئَاتِ فَهِيَ أَنَّهَا عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، حَتَّى لَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الْعَيْنِ بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ قَسَمَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، وَفَسَخَ الْمُهَايَئَاتِ؛ لِأَنَّهَا كَالْخُلْفِ عَنْ قِسْمَةِ الْعَيْنِ، وَقِسْمَةُ الْعَيْنِ كَالْأَصْلِ فِيمَا شُرِعَتْ لَهُ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ شُرِعَتْ لِتَكْمِيلِ مَنَافِعِ الْمِلْكِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي قِسْمَةِ الْعَيْنِ أَكْمَلُ؛ وَلِهَذَا لَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ قَبْلَ الْمُهَايَئَاتِ؛ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى الْقِسْمَةِ؛ فَكَانَ عَقْدًا جَائِزًا فَاحْتَمَلَ الْفَسْخَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، وَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ بَطَلَتْ لَأَعَادَهَا الْقَاضِي لِلْحَالِ ثَانِيًا فَلَا يُفِيدُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ، أَمَّا فِي الْمُهَايَئَاتِ بِالْمَكَانِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَسْتَغِلَّ مَا أَصَابَهُ بِالْمُهَايَئَاتِ سَوَاءٌ شَرَطَ الِاسْتِغْلَالَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَا، وَسَوَاءٌ تَهَايَئَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ أَوْ دَارَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا أَخَذَهُ، فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالتَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِهِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُهَايَئَاتِ فِي هَذَا النَّوْعِ لَيْسَتْ بِإِعَارَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ لَا تُؤَاجَرُ. (وَأَمَّا) الْمُهَايَئَاتُ بِالزَّمَانِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُسْكِنَ أَوْ يَسْتَخْدِمَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْوَقْتِ مِنْ الْيَوْمِ وَالشَّهْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمُهَايَأَةِ بِالْمَكَانِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةَ السُّكْنَى وَالِاسْتِغْلَالِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الْوَقْتِ لِتَصِيرَ الْمَنَافِعُ مَعْلُومَةً، وَالْمُهَايَئَاتُ بِالْمَكَانِ قِسْمَةُ مَنَافِعَ مَقْدِرَةٍ مَجْمُوعَةٍ بِالْمَكَانِ، وَمَكَانُ الْمَنْفَعَةِ مَعْلُومٌ، فَصَارَتْ الْمَنَافِعُ مَعْلُومَةً بِالْعِلْمِ بِمَكَانِهَا، فَجَازَتْ الْمُهَايَأَةُ. وَأَمَّا الْمُهَايَأَةُ بِالزَّمَانِ فَقِسْمَةٌ مُقَدَّرَةٌ

كتاب الحدود

بِالزَّمَانِ، فَلَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً إلَّا بِذِكْرِ زَمَانٍ مَعْلُومٍ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَهَلْ يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِاسْتِغْلَالَ فِي نَوْبَتِهِ؟ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمَا إذَا لَمْ يَشْتَرِطَا - لَمْ يَمْلِكْ، فَأَمَّا إذَا شَرَطَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْمُهَايَأَةِ فِي مَعْنَى الْإِعَارَةِ، وَالْعَارِيَّةُ لَا تُؤْجَرُ وَذَكَرَ الْأَصْلُ: أَنَّ التَّهَايُؤَ فِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ عَلَى السُّكْنَى وَالْغَلَّةِ جَائِزَةٌ. (مِنْهُمْ) مَنْ قَالَ: الْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ لَيْسَ بِمُهَايَئَاتٍ حَقِيقَةً؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ أَضَافَ التَّهَايُؤَ إلَى الْغَلَّةِ دُونَ الِاسْتِغْلَالِ، وَالْغَلَّةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّهَايُؤَ حَقِيقَةً إذْ هِيَ عَيْنٌ، وَالتَّهَايُؤُ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ دُونَ الْأَعْيَانِ. وَالثَّانِي - أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ غَلَّةَ الدَّارِ إذَا وَصَلَتْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا شَارَكَهُ فِيهِ صَاحِبُهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ حُكْمُ جَوَازِ الْمُهَايَئَاتِ، وَكَمَا أَنَّ الْمُهَايَأَةَ بِالْمَكَانِ فِي الدَّارَيْنِ إذَا تَهَايَئَا أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَخْذُهُ، يَسْتَغِلُّهَا فَاسْتَغَلَّهَا فَفَضَلَ مِنْ الْغَلَّةِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، أَنَّ الْفَاضِلَ يَكُونُ لَهُ خَاصَّةً، وَيَكُونُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ مَحْمُولًا عَلَى مَا إذَا اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ هَذَا غَلَّةَ شَهْرٍ وَذَلِكَ غَلَّةَ شَهْرٍ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ مُهَايَأَةً مَجَازًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُهَايَأَةً حَقِيقَةً فِي هَذِهِ الصُّورَةِ - يَكُونُ فَضْلُ الْغَلَّةِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَعَلَى هَذَا يَرْتَفِعُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ دَلِيلًا عَلَى شَرْطِ جَوَازِ الِاسْتِغْلَالِ، إذْ الْغَلَّةُ يَجُوزُ أَنْ تُذْكَرَ بِمَعْنَى الِاسْتِغْلَالِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ قَامَ دَلِيلُ إرَادَةِ الِاسْتِغْلَالِ هَهُنَا - وَهُوَ قَرِينَةُ التَّهَايُؤِ - إذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ دُونَ الْغَلَّةِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ مَالِهِ، وَكَذَا التَّهَايُؤُ يَكُونُ عَلَى شَيْءٍ هُوَ مَقْدُورُ التَّهَايُؤِ وَهُوَ فِعْلُ الِاسْتِغْلَالِ دُونَ عَيْنِ الْغَلَّةِ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ بِهَا السُّكْنَى الَّذِي هُوَ فِعْلُ السَّاكِنِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مَا فَضَلَ مِنْ الْغَلَّةِ فِي يَدِهِ يُشَارِكُهُ فِيهِ صَاحِبُهُ، مَحْمُولًا عَلَى مَا إذَا تَهَايَئَا بِشَرْطِ الِاسْتِغْلَالِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَلَّةَ شَهْرٍ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَكُونُ فَضْلُ الْغَلَّةِ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي الدَّارَيْنِ. فَعَلَى هَذَا ثَبَتَ اخْتِلَافُ رِوَايَتَيْ الْحَاكِمِ وَأَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ الْقُدُورِيِّ - عَلَيْهِمْ الرَّحْمَةُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْحُدُودِ] جَمَعَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ مَسَائِلِ الْحُدُودِ وَبَيْنَ مَسَائِلِ التَّعْزِيرِ، وَبَدَأَ بِمَسَائِلِ الْحُدُودِ، فَبَدَأَ بِمَا بَدَأَ بِهِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التَّوْفِيقُ: الْكَلَامُ فِي الْحُدُودِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْحَدِّ لُغَةً وَشَرْعًا، وَفِي بَيَانِ أَسْبَابِ وُجُوبِ الْحُدُودِ وَشَرَائِطِ وُجُوبِهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ وُجُوبُهَا عِنْدَ الْقَاضِي، وَفِي بَيَانِ صِفَاتِهَا، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهَا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ إقَامَتِهَا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ إقَامَتِهَا وَمَوْضِعِ الْإِقَامَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا اجْتَمَعَتْ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْمَحْدُودِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: الْحَدُّ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ الْمَنْعِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَوَّابُ حَدَّادًا؛ لِمَنْعِهِ النَّاسَ عَنْ الدُّخُولِ، وَفِي الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَنْ عُقُوبَةٍ مُقَدَّرَةٍ وَاجِبَةٍ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ، قَدْ يَكُونُ بِالضَّرْبِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْحَبْسِ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِمَا، وَبِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ عُقُوبَةً مُقَدَّرَةً لَكِنَّهُ يَجِبُ حَقًّا لِلْعَبْدِ، حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الْعَفْوُ وَالصُّلْحُ، سُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعُقُوبَةِ حَدًّا؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتْلِفًا وَغَيْرَهُ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَيَمْنَعُ مَنْ يُشَاهِدُ ذَلِكَ وَيُعَايِنُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتْلِفًا؛ لِأَنَّهُ يَتَصَوَّرُ حُلُولَ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ بِنَفْسِهِ؛ لَوْ بَاشَرَ تِلْكَ الْجِنَايَةَ فَيَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ أَسْبَابِ وُجُوب الْحُدُود] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ أَسْبَابِ وُجُوبِهَا فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِهَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ كُلِّ نَوْعٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّوْعِ، فَنَقُولُ: الْحُدُودُ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ: حَدُّ السَّرِقَةِ، وَحَدُّ الزِّنَا، وَحَدُّ الشُّرْبِ، وَحَدُّ السُّكْرِ، وَحَدُّ الْقَذْفِ. (أَمَّا) حَدُّ السَّرِقَةِ: فَسَبَبُ وُجُوبِهِ السَّرِقَةُ، وَسَنَذْكُرُ رُكْنَ السَّرِقَةِ وَشَرَائِطَ الرُّكْنِ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ. (وَأَمَّا) حَدُّ الزِّنَا فَنَوْعَانِ: جَلْدٌ، وَرَجْمٌ، وَسَبَبُ وُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ الزِّنَا، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الشَّرْطِ، وَهُوَ الْإِحْصَانُ، فَالْإِحْصَانُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْجَلْدِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الزِّنَا وَالْإِحْصَانِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، أَمَّا الزِّنَا: فَهُوَ اسْمٌ لِلْوَطْءِ الْحَرَامِ فِي قُبُلِ الْمَرْأَةِ الْحَيَّةِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ فِي دَارِ الْعَدْلِ، مِمَّنْ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ الْعَارِي عَنْ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَعَنْ شُبْهَتِهِ، وَعَنْ حَقِّ الْمِلْكِ وَعَنْ حَقِيقَةِ النِّكَاحِ وَشُبْهَتِهِ، وَعَنْ شُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ فِي الْمِلْكِ وَالنِّكَاحِ

جَمِيعًا. وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ الشُّبْهَةِ فِي هَذَا الْبَابِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مُتَكَامِلَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مُتَكَامِلَةً، وَالْوَطْءُ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ لَا يَتَكَامَلُ جِنَايَةً؛ إلَّا عِنْدَ انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ كُلِّهَا إذَا عُرِفَ الزِّنَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ فَنُخَرِّجُ عَلَيْهِ بَعْضَ الْمَسَائِلِ فَنَقُولُ: الصَّبِيُّ أَوْ الْمَجْنُونُ إذَا وَطِئَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ، فَلَا يَكُونُ الْوَطْءُ مِنْهُمَا زِنًا، فَلَا حَدَّ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا طَاوَعَتْهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: عَلَيْهَا الْحَدُّ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعَاقِلَ الْبَالِغَ إذَا زَنَى بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا، لَهُمَا أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ وُقُوعِ الْفِعْلِ زِنًا خَصَّ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ فَيَخْتَصُّ بِهِ الْمَنْعُ، كَالْعَاقِلِ الْبَالِغِ إذَا زَنَى بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا؛ لِمَا قُلْنَا. كَذَا هَذَا. (وَلَنَا) أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي بَابِ الزِّنَا لَيْسَ لِكَوْنِهَا زَانِيَةً؛ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهَا وَهُوَ الْوَطْءُ؛ لِأَنَّهَا مَوْطُوءَةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاطِئَةٍ، وَتَسْمِيَتُهَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ زَانِيَةً مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهَا؛ لِكَوْنِهَا مَزْنِيًّا بِهَا، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَيْسَ بِزِنًا فَلَا تَكُونُ هِيَ مَزْنِيًّا بِهَا، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ، وَفِعْلُ الزِّنَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ فَكَانَتْ الصَّبِيَّةُ أَوْ الْمَجْنُونَةُ مَزْنِيًّا بِهَا، إلَّا أَنَّ الْحَدَّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا؛ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْأَهْلِيَّةُ ثَابِتَةٌ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ فَيَجِبُ، وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ فِي الْأُنْثَى أَوْ الذَّكَرِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا؛ لِعَدَمِ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ فَلَمْ يَكُنْ زِنًا، وَعِنْدَهُمَا وَالشَّافِعِيُّ يُوجِبُ الْحَدَّ - وَهُوَ الرَّجْمُ - إنْ كَانَ مُحْصَنًا وَالْجَلْدُ إنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ لَا لِأَنَّهُ زِنًا؛ بَلْ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الزِّنَا؛ لِمُشَارَكَةِ الزِّنَا فِي الْمَعْنَى الْمُسْتَدْعِي لِوُجُوبِ الْحَدِّ وَهُوَ الْوَطْءُ الْحَرَامُ عَلَى وَجْهِ التَّمَحُّضِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الزِّنَا، فَوُرُودُ النَّصِّ بِإِيجَابِ الْحَدِّ هُنَاكَ يَكُونُ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللِّوَاطَةُ لَيْسَتْ بِزِنًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الزِّنَا اسْمٌ لِلْوَطْءِ فِي قُبُلِ الْمَرْأَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ: لَاطَ وَمَا زَنَى، وَزَنَى وَمَا لَاطَ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ لُوطِيٌّ وَفُلَانٌ زَانِي، فَكَذَا يَخْتَلِفَانِ اسْمًا، وَاخْتِلَافُ الْأَسَامِي دَلِيلُ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي فِي الْأَصْلِ؛ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي حَدِّ هَذَا الْفِعْلِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا زِنًا - لَمْ يَكُنْ لِاخْتِلَافِهِمْ مَعْنًى؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الزِّنَا كَانَ مَعْلُومًا لَهُمْ بِالنَّصِّ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا وَلَا فِي مَعْنَى الزِّنَا أَيْضًا؛ لِمَا فِي الزِّنَا مِنْ اشْتِبَاهِ الْأَنْسَابِ وَتَضْيِيعِ الْوَلَدِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي هَذَا الْفِعْلِ، إنَّمَا فِيهِ تَضْيِيعُ الْمَاءِ الْمَهِينِ الَّذِي يُبَاحُ مِثْلُهُ بِالْعَزْلِ، وَكَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ فِيمَا شُرِعَ لَهُ الْحَدُّ وَهُوَ الزَّجْرُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَلَا يَغْلِبُ وُجُودُ هَذَا الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِ شَخْصَيْنِ، وَلَا اخْتِيَارَ إلَّا لِدَاعٍ يَدْعُو إلَيْهِ، وَلَا دَاعِي فِي جَانِبِ الْمَحِلِّ أَصْلًا، وَفِي الزِّنَا وُجِدَ الدَّاعِي مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا - وَهُوَ الشَّهْوَةُ الْمُرَكَّبَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا - فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الزِّنَا - فَوُرُودُ النَّصِّ هُنَاكَ لَيْسَ وُرُودًا هَهُنَا، وَكَذَا اخْتِلَافُ اجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ بِهَذَا الْفِعْلِ هُوَ التَّعْزِيرُ؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ التَّعْزِيرَ هُوَ الَّذِي يَحْتَمِلُ الِاخْتِلَافَ فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ لَا الْحَدِّ. وَالثَّانِي - أَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِي الْحَدِّ بَلْ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ، وَلِلِاجْتِهَادِ مَجَالٌ فِي التَّعْزِيرِ. وَكَذَا وَطْءُ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَيُوجِبُ التَّعْزِيرَ؛ لِعَدَمِ وَطْءِ الْمَرْأَةِ الْحَيَّةِ. وَكَذَا وَطْءُ الْبَهِيمَةِ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا؛ لِانْعِدَامِ الْوَطْءِ فِي قُبُلِ الْمَرْأَةِ فَلَمْ يَكُنْ زِنًا، ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْبَهِيمَةُ مِلْكَ الْوَاطِئِ قِيلَ: إنَّهَا تُذْبَحُ وَلَا تُؤْكَلُ، وَلَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَكِنْ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمْ يَحُدَّ وَاطِئَ الْبَهِيمَةِ، وَأَمَرَ بِالْبَهِيمَةِ حَتَّى أُحْرِقَتْ بِالنَّارِ. وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ عَنْ إكْرَاهٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ. وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَفِي دَارِ الْبَغْيِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، حَتَّى إنَّ مَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْحَدِّ حِينَ وُجُودِهِ؛ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ فَلَا يُسْتَوْفَى بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ إذَا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ أَوْ ذِمِّيَّةٍ أَوْ، ذِمِّيٌّ زَنَى بِحَرْبِيَّةٍ مُسْتَأْمَنَةٍ لَا حَدَّ عَلَى الْحَرْبِيِّ وَالْحَرْبِيَّةِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُحَدَّانِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ مُدَّةَ إقَامَتِهِ فِيهَا فَصَارَ كَالذِّمِّيِّ؛ وَلِهَذَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ كَمَا يُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ؛ وَلَهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ دَارَ الْإِسْلَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِقَامَةِ وَالتَّوَطُّنِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَّةِ؛ لِيُعَامِلَنَا وَنُعَامِلَهُ، ثُمَّ يَعُودَ فَلَمْ يَكُنْ دُخُولُهُ دَارَ الْإِسْلَامِ دَلَالَةَ الْتِزَامِهِ حَقَّ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - خَالِصًا، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ الْأَمَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ

الْتَزَمَ أَمَانَهُمْ عَنْ الْإِيذَاءِ بِنَفْسِهِ وَظَهَرَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِ، ثُمَّ يُحَدُّ الْمُسْلِمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُحَدُّ، وَيُحَدُّ الذِّمِّيُّ بِلَا خِلَافٍ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَصْلَ فِعْلُ الرَّجُلِ، وَفِعْلُهَا يَقَعُ تَبَعًا فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَصْلِ لَا يَجِبْ عَلَى التَّبَعِ كَالْمُطَاوَعَةِ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ فِعْلَ الْحَرْبِيِّ حَرَامٌ مَحْضٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤَاخَذُ فَكَانَ زِنًا فَكَانَتْ هِيَ مَزْنِيًّا بِهَا، إلَّا أَنَّ الْحَدَّ لَمْ يَجِبْ عَلَى الرَّجُلِ؛ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَنَا، وَهَذَا أَمْرٌ يَخُصُّهُ، وَيُحَدُّ الذِّمِّيُّ؛ لِأَنَّهُ بِالذِّمَّةِ وَالْعَهْدِ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ مُطْلَقًا إلَّا فِي قَدْرِ مَا وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا. وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالصَّائِمَةِ وَالْمُحْرِمَةِ وَالْمَجْنُونَةِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ وَاَلَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ آلَى مِنْهَا؛ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا؛ لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَالنِّكَاحِ فَلَمْ يَكُنْ زِنًا. وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَالْمُرْتَدَّةِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُحْرِمَةِ بِرَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ أَوْ جَمْعٍ؛ لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا وَعُلِمَ بِالْحُرْمَةِ، وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْأَبِ جَارِيَةَ الِابْنِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَإِنْ عُلِمَ بِالْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي مَالِ ابْنِهِ شُبْهَةَ الْمِلْكِ - وَهُوَ الْمِلْكُ مِنْ وَجْهٍ - أَوْ حَقُّ الْمِلْكِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» فَظَاهِرُ إضَافَةِ مَالِ الِابْنِ إلَى الْأَبِ بِحَرْفِ اللَّامِ يَقْتَضِي حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، فَلَئِنْ تَقَاعَدَ عَنْ إفَادَةِ الْحَقِيقَةِ فَلَا يَتَقَاعَدُ عَلَى إيرَاثِ الشُّبْهَةِ أَوْ حَقِّ الْمِلْكِ، وَكَذَلِكَ وَطْءُ جَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عِنْدَنَا عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ فَكَانَ مَمْلُوكُ الْمَوْلَى رَقَبَةً، وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي مِلْكَ الْكَسْبِ فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مُقْتَضَاهُ حَقِيقَةً فَلَا أَقَلَّ مِنْ الشُّبْهَةِ، وَكَذَلِكَ وَطْءُ جَارِيَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُ الْمَوْلَى، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْمَأْذُونِ مِلْكُ الْمَوْلَى وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي مِلْكَ الْكَسْبِ كَمَا فِي جَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ وَبَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمَأْذُونِ أَقْرَبُ إلَى الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ هُنَاكَ فَهَهُنَا أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ هَذَا الْمِلْكَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهِ - وَاخْتِلَافُهُمْ يُورِثُ شُبْهَةً - فَأَشْبَهَ وَطْئًا حَصَلَ فِي نِكَاحٍ وَهُوَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ، وَذَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَذَا هَذَا. وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْجَدِّ - أَبَ الْأَبِ وَإِنْ عَلَا - عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ وَطْءِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَادًا فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْأَبِ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْ الْغَانِمِينَ إذَا وَطِئَ جَارِيَةً مِنْ الْمَغْنَمِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ قَبْلَهُ - لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ وَطْأَهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ لِثُبُوتِ الْحَقِّ لَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ؛ لِانْعِقَادِ سَبَبِ الثُّبُوتِ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَلَا أَقَلَّ مِنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ فَيُورِثُ شُبْهَةً، وَلَوْ جَاءَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ فِي الْمَحِلِّ، أَمَّا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَوْ مِنْ وَجْهٍ، وَلَمْ يُوجَدْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، بَلْ الْمَوْجُودُ حَقٌّ عَامٌّ، وَأَنَّهُ يَكْفِي لِسُقُوطِ الْحَدِّ وَلَا يَكْفِي لِثُبُوتِ النَّسَبِ. وَكَذَلِكَ وَطْءُ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ بِغَيْرِ وَلِيٍّ عِنْدَ مَنْ لَا يُجِيزُهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ النِّكَاحُ بِدُونِ الشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَةِ، فَاخْتِلَافُهُمْ يُورِثُ شُبْهَةً، وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ مُعْتَدَّةَ الْغَيْرِ أَوْ مَجُوسِيَّةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ أَوْ أَمَةً بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا، أَوْ الْعَبْدُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَوَطِئَهَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِوُجُودِ لَفْظِ النِّكَاحِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ شُبْهَةً. وَكَذَلِكَ إذَا نَكَحَ مَحَارِمَهُ أَوْ الْخَامِسَةَ أَوْ أُخْتَ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا - لَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ عَلِمَ بِالْحُرْمَةِ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، وَعِنْدَهُمَا وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّ النِّكَاحَ إذَا وُجِدَ مِنْ الْأَهْلِ مُضَافًا إلَى مَحِلٍّ قَابِلٍ لِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ - يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ، سَوَاءٌ كَانَ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّحْرِيمُ مُخْتَلَفًا فِيهِ أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ ظَنَّ الْحِلَّ فَادَّعَى الِاشْتِبَاهَ أَوْ عَلِمَ بِالْحُرْمَةِ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ النِّكَاحَ إذَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى التَّأْبِيدِ أَوْ كَانَ تَحْرِيمُهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ يَجِبُ الْحَدُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا عَلَى التَّأْبِيدِ أَوْ كَانَ تَحْرِيمُهُ مُخْتَلَفًا فِيهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمْ أَنَّ هَذَا نِكَاحٌ أُضِيفَ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهِ فَيَلْغُو، وَدَلِيلُ عَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ أَنَّ مَحِلَّ النِّكَاحِ هِيَ الْمَرْأَةُ الْمُحَلَّلَةُ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وَالْمَحَارِمُ مُحَرَّمَاتٌ عَلَى التَّأْبِيدِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] الْآيَةَ إلَّا أَنَّهُ إذَا ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ، وَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ. لِي سَقَطَ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ صِيغَةَ لَفْظِ النِّكَاحِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ دَلِيلُ الْحِلِّ فَاعْتُبِرَ هَذَا الظَّنُّ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا حَقِيقَةً إسْقَاطًا لِمَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَإِذَا لَمْ يَدَّعِ خَلَا الْوَطْءَ عَنْ الشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الْحَدُّ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ، كَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَنِكَاحِ

الْمُتْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ فِي وُجُودِ لَفْظِ النِّكَاحِ وَالْأَهْلِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْمَحَلِّيَّةِ - أَنَّ مَحِلَّ النِّكَاحِ هُوَ الْأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ سَيِّدِنَا آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - النُّصُوصُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا النُّصُوصُ، فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21] ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [النجم: 45] جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى النِّسَاءَ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ مَحِلَّ النِّكَاحِ وَالزَّوْجِيَّةِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ؛ فَلِأَنَّ الْأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ سَيِّدِنَا آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَحِلٌّ صَالِحٌ لِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ مِنْ السُّكْنَى وَالْوَلَدِ وَالتَّحْصِينِ وَغَيْرِهَا، فَكَانَتْ مَحِلًّا لِحُكْمِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّصَرُّفِ وَسِيلَةٌ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّصَرُّفِ، فَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ مَحِلَّ الْمَقْصُودِ مَحِلَّ الْوَسِيلَةِ لَمْ يَثْبُتْ مَعْنَى التَّوَسُّلِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَخْرَجَهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحِلًّا لِلنِّكَاحِ شَرْعًا مَعَ قِيَامِ الْمَحَلِّيَّةِ حَقِيقَةً، فَقِيَامُ صُورَةِ الْعَقْدِ وَالْمَحَلِّيَّةِ يُورِثُ شُبْهَةً، إذْ الشُّبْهَةُ اسْمٌ لِمَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ، أَوْ نَقُولُ: وُجِدَ رُكْنُ النِّكَاحِ وَالْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، إلَّا أَنَّهُ فَاتَ شَرْطُ الصِّحَّةِ فَكَانَ نِكَاحًا فَاسِدًا، وَالْوَطْءُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يَكُونُ زِنًا بِالْإِجْمَاعِ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّلَ فَيُقَالُ: هَذَا الْوَطْءُ لَيْسَ بِزِنًا. فَلَا يُوجِبُ حَدَّ الزِّنَا قِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَسَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ. وَلَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ الْأَبِ أَوْ الْأُمِّ فَإِنْ ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ بِأَنْ قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهُ تَحِلُّ لِي. لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ - يَجِبُ، وَهُوَ تَفْسِيرُ شُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ، وَأَنَّهَا تُعْتَبَرُ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ: فِي جَارِيَةِ الْأَبِ وَجَارِيَةِ الْأُمِّ وَجَارِيَةِ الْمَنْكُوحَةِ وَجَارِيَةِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا - مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ - وَأُمِّ الْوَلَدِ - مَا دَامَتْ تَعْتَدُّ مِنْهُ - وَالْعَبْدُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ وَالْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ إذَا وَطِئَهَا الْمُرْتَهِنُ، فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ، وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ يَجِبُ الْحَدُّ وَلَا يُعْتَبَرُ ظَنُّهُ، أَمَّا إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ زَوْجَتِهِ؛ فَلِأَنَّ الرَّجُلَ يَنْبَسِطُ فِي مَالِ أَبَوَيْهِ وَزَوْجَتِهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَحِشْمَةٍ عَادَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَخْدِمُ جَارِيَةَ أَبَوَيْهِ وَمَنْكُوحَتِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ؛ فَظَنَّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِانْتِفَاعِ مُطْلَقٌ لَهُ شَرْعًا أَيْضًا، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ دَلِيلًا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهُ لَمَّا ظَنَّهُ دَلِيلًا اُعْتُبِرَ فِي حَقِّهِ؛ لِإِسْقَاطِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. وَإِذَا لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ فَقَدْ عَرَّى الْوَطْءَ عَنْ الشُّبْهَةِ فَتَمَحَّضَ حَرَامًا - فَيَجِبُ الْحَدُّ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ سَوَاءٌ ادَّعَى بِالِاشْتِبَاهِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ ثَبَاتَ النَّسَبِ يَعْتَمِدُ قِيَامَ مَعْنًى فِي الْمَحِلِّ وَهُوَ الْمِلْكُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الظَّنَّ وَلَمْ يَدَّعِ الْآخَرُ - لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا مَا لَمْ يُقِرَّا جَمِيعًا أَنَّهُمَا قَدْ عَلِمَا بِالْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يَقُومُ بِهِمَا جَمِيعًا فَإِذَا تَمَكَّنَتْ فِيهِ الشُّبْهَةُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ؛ فَقَدْ تَمَكَّنَتْ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ ضَرُورَةً. وَأَمَّا مَنْ سِوَى الْأَبِ وَالْأُمِّ مِنْ سَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، كَالْأَخِ وَالْأُخْتِ وَنَحْوِهِمَا إذَا وَطِئَ جَارِيَتَهُ يَجِبُ الْحَدُّ، وَإِنْ قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي؛ لِأَنَّ هَذَا دَعْوَى الِاشْتِبَاهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَسِطُ بِالِانْتِفَاعِ بِمَالِ أَخِيهِ وَأُخْتِهِ عَادَةً، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا ظَنًّا مُسْتَنِدًا إلَى دَلِيلٍ فَلَا يُعْتَبَرُ. ، وَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَ جَارِيَةً ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ امْرَأَتِهِ؛ لِمَا قُلْنَا، أَمَّا إذَا وَطِئَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا فِي الْعِدَّةِ؛ فَلِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ زَالَ فِي حَقِّ الْحِلِّ أَصْلًا؛ لِوُجُودِ الْمُبْطِلِ لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ وَهُوَ الطَّلَقَاتُ الثَّلَاثُ، وَإِنَّمَا بَقِيَ فِي حَقِّ الْفِرَاشِ وَالْحُرْمَةِ عَلَى الْأَزْوَاجِ فَقَطْ فَتَمَحَّضَ الْوَطْءُ حَرَامًا فَكَانَ زِنًا فَيُوجِبُ الْحَدَّ؛ إلَّا إذَا ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ وَظَنَّ الْحِلَّ؛ لِأَنَّهُ بَنَى ظَنَّهُ عَلَى نَوْعِ دَلِيلٍ وَهُوَ بَقَاءُ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الْفِرَاشِ وَحُرْمَةِ الْأَزْوَاجِ فَظَنَّ أَنَّهُ بَقِيَ فِي حَقِّ الْحِلِّ أَيْضًا، وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ دَلِيلًا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهُ لَمَّا ظَنَّهُ دَلِيلًا اُعْتُبِرَ فِي حَقِّهِ دَرْأٌ لِمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً - لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ، وَإِنْ قَالَ: عَلِمْتَ أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ بِالْإِبَانَةِ وَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ؛ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّ مِثْلَ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ فِي الْكِنَايَاتِ: إنَّهَا رَوَاجِعُ، وَطَلَاقُ الرَّجْعِيِّ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ فَاخْتِلَافُهُمْ يُورِثُ شُبْهَةً. وَلَوْ خَالَعَهَا أَوْ طَلَّقَهَا عَلَى مَالٍ فَوَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ بِالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الشُّبْهَةُ فَيَجِبُ الْحَدُّ إلَّا إذَا ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثِ، وَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَ أُمَّ وَلَدِهِ وَهِيَ تَعْتَدُّ مِنْهُ بِأَنْ أَعْتَقَهَا؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ بِالْإِعْتَاقِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَلَمْ تَثْبُتْ الشُّبْهَةُ. وَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَنْبَسِطُ فِي مَالِ مَوْلَاهُ عَادَةً بِالِانْتِفَاعِ فَكَانَ وَطْؤُهُ مُسْتَنِدًا إلَى مَا هُوَ دَلِيلٌ فِي حَقِّهِ فَاعْتُبِرَ فِي حَقِّهِ؛ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ وَإِذَا لَمْ يَدَّعِ يُحَدُّ؛ لِعَرَاءِ الْوَطْءِ عَنْ

فصل في أنواع الإحصان

الشُّبْهَةِ. وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ إذَا وَطِئَ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ، (فَوَجْهُ) رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ أَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ يَدُ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ؛ فَصَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا الدَّيْنَ مِنْ الْجَارِيَةِ يَدًا، فَقَدْ وَطِئَ جَارِيَةً هِيَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ يَدًا؛ فَلَا يَجِبُ، الْحَدُّ، كَالْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ إذَا وَطِئَهَا الْبَائِعُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ؛ إلَّا إذَا ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ وَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي؛ لِأَنَّهُ اسْتَنَدَ ظَنُّهُ إلَى نَوْعِ دَلِيلٍ وَهُوَ مِلْكُ الْيَدِ، فَيُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ دَرْأٌ لِلْحَدِّ، وَإِذَا لَمْ يَدَّعِ فَلَا شُبْهَةَ - فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ فِي بَابِ الرَّهْنِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ لَا مِنْ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْجِنْسِ وَلَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ التَّوْثِيقِ وَبَيْنَ عَيْنِ الْجَارِيَةِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ عَيْنِهَا فَلَا يُعْتَبَرُ ظَنُّهُ. وَلَوْ وَطِئَ الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ - لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ إذَا وَطِئَ الْجَارِيَةَ الَّتِي تَزَوَّجَ عَلَيْهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَإِنْ زَالَ بِالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ فَمِلْكُ الْيَدِ قَائِمٌ فَيُورِثُ شُبْهَةً. وَلَوْ وَطِئَ الْمُسْتَأْجِرُ جَارِيَةَ الْإِجَارَةِ، وَالْمُسْتَعِيرُ جَارِيَةَ الْإِعَارَةِ، وَالْمُسْتَوْدِعُ جَارِيَةَ الْوَدِيعَةِ يُحَدُّ، وَإِنْ قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي؛ لِأَنَّ هَذَا ظَنٌّ عُرِّيَ عَنْ دَلِيلٍ فَكَانَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ. وَلَوْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ، وَقُلْنَ النِّسَاءُ: إنَّ هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَوَطِئَهَا - لَا حَدَّ عَلَيْهِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ؛ لِشُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٌ، فَإِنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ، وَلَوْ كَانَ امْتِنَاعُ الْوُجُوبِ لِشُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ فِي شُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ كَمَا فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ، وَهَهُنَا يَثْبُتُ النَّسَبُ، دَلَّ أَنَّ الِامْتِنَاعَ لَيْسَ لِشُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ. وَهُوَ إنْ وَطِئَهَا بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ - يَجُوزُ بِنَاءُ الْوَطْءِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهَا امْرَأَتُهُ، بَلْ لَا دَلِيلَ هَهُنَا سِوَاهُ فَلَئِنْ تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَقِيَامُ الدَّلِيلِ الْمُبِيحِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ يُورِثُ شُبْهَةً، وَلَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً وَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا امْرَأَتِي أَوْ جَارِيَتِي أَوْ شَبَّهْتُهَا بِامْرَأَتِي أَوْ جَارِيَتِي - يَجِبُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّنَّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ لِعَدَمِ اسْتِنَادِهِ إلَى دَلِيلٍ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَلَا يَحِلُّ الْوَطْءُ بِنَاءً عَلَى هَذَا الظَّنِّ، مَا لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ بِدَلِيلٍ، إمَّا بِكَلَامِهَا أَوْ بِإِخْبَارِ مُخْبِرٍ، وَلَمْ يُوجَدْ، مَعَ مَا أَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا هَذَا الظَّنَّ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ لَمْ يَقُمْ حَدُّ الزِّنَا فِي مَوْضِعٍ مَا، إذْ الزَّانِي لَا يَعْجِزُ عَنْ هَذَا الْقَدْرِ فَيُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَوْ قِيلَ هَذَا لَمَا أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى أَحَدٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الرَّجُلُ أَعْمَى فَوَجَدَ امْرَأَةً فِي بَيْتِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا وَقَالَ: ظَنَنْتهَا امْرَأَتِي عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ هَذَا ظَنٌّ لَمْ يَسْتَنِدْ إلَى دَلِيلٍ، إذْ قَدْ يَكُونُ فِي الْبَيْتِ مَنْ لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا مِنْ الْمَحَارِمِ وَالْأَجْنَبِيَّاتِ؛ فَلَا يَحِلُّ الْوَطْءُ بِنَاءً عَلَى هَذَا الظَّنِّ فَلَمْ تَثْبُتْ الشُّبْهَةُ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ أَعْمَى دَعَا امْرَأَتَهُ فَقَالَ: يَا فُلَانَةُ، فَأَجَابَتْ غَيْرُهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا؛ أَنَّهُ يُحَدُّ، وَلَوْ أَجَابَتْهُ غَيْرُهَا وَقَالَتْ: أَنَا فُلَانَةُ فَوَقَعَ عَلَيْهَا - لَمْ يُحَدَّ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ وَهِيَ كَالْمَرْأَةِ الْمَزْفُوفَةِ إلَى غَيْرِ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بِنَفْسِ الْإِجَابَةِ مَا لَمْ تَقُلْ أَنَا فُلَانَةُ؛ لِأَنَّ الْإِجَابَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ الَّتِي نَادَاهَا، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِهَا، فَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْوَطْءِ عَلَى نَفْسِ الْإِجَابَةِ، فَإِذَا فَعَلَ لَمْ يُعَذَّرْ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَتْ: أَنَا فُلَانَةُ فَوَطِئَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْأَعْمَى إلَى أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ إلَّا بِذَلِكَ الطَّرِيقِ، فَكَانَ مَعْذُورًا فَأَشْبَهَ الْمَرْأَةَ الْمَزْفُوفَةَ، حَتَّى لَوْ كَانَ الرَّجُلُ بَصِيرًا لَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ بِالرُّؤْيَةِ. وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ فِي رَجُلٍ أَعْمَى وَجَدَ عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ مَجْلِسِهِ امْرَأَةً نَائِمَةً فَوَقَعَ عَلَيْهَا وَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا امْرَأَتِي؛ يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ وَعَلَيْهِ الْعُقْرُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُدْرَأُ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ ظَنَّ فِي مَوْضِعِ الظَّنِّ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ، فَكَانَ ظَنُّهُ مُسْتَنِدًا إلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ؛ فَيُوجِبُ دَرْأَ الْحَدِّ، كَمَا لَوْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ النَّوْمَ عَلَى الْفِرَاشِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِحْلَالُ الْوَطْءِ بِهَذَا الْقَدْرِ، فَإِذَا اسْتَحَلَّ وَظَهَرَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ - لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي أَنْوَاع الْإِحْصَانِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْإِحْصَانُ، فَالْإِحْصَانُ نَوْعَانِ: إحْصَانُ الرَّجْمِ، وَإِحْصَانُ الْقَذْفِ أَمَّا إحْصَانُ الرَّجْمِ فَهُوَ عِبَارَةٌ - فِي الشَّرْعِ - عَنْ اجْتِمَاعِ صِفَاتٍ اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ، وَهِيَ سَبْعَةٌ: الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ وَكَوْنُ الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ، فَوُجُودُ هَذِهِ الصِّفَاتِ جَمِيعًا فِيهِمَا شَرْطٌ؛ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْصَنًا، وَالدُّخُولُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ بَعْدَ سَائِرِ الشَّرَائِطِ مُتَأَخِّرًا عَنْهَا، فَإِنْ تَقَدَّمَهَا لَمْ يُعْتَبَرْ مَا لَمْ يُوجَدْ دُخُولٌ آخَرُ بَعْدَهَا، فَلَا إحْصَانَ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ وَالْكَافِرِ، وَلَا بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ

وَلَا بِنَفْسِ النِّكَاحِ مَا لَمْ يُوجَدْ الدُّخُولُ. وَمَا لَمْ يَكُنْ الزَّوْجَانِ جَمِيعًا وَقْتَ الدُّخُولِ عَلَى صِفَةِ الْإِحْصَانِ، حَتَّى أَنَّ الزَّوْجَ الْعَاقِلَ الْبَالِغَ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ إذَا دَخَلَ بِزَوْجَتِهِ، وَهِيَ صَبِيَّةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ أَوْ أَمَةٌ أَوْ كِتَابِيَّةٌ، ثُمَّ أَدْرَكَتْ الصَّبِيَّةُ وَأَفَاقَتْ الْمَجْنُونَةُ وَأُعْتِقَتْ الْأَمَةُ وَأَسْلَمَتْ الْكَافِرَةُ؛ لَا يَصِيرُ مُحْصَنًا مَا لَمْ يُوجَدْ دُخُولٌ آخَرُ بَعْدَ زَوَالِ هَذِهِ الْعَوَارِضِ، حَتَّى لَوْ زَنَى قَبْلَ دُخُولٍ آخَرَ - لَا يُرْجَمُ، فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ صَارَ الشَّخْصُ مُحْصَنًا؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْحِصْنِ، يُقَالُ: أَحْصَنَ، أَيْ دَخَلَ الْحِصْنَ، كَمَا يُقَالُ: أَعْرَقَ أَيْ دَخَلَ الْعِرَاقَ، وَأَشْأَمَ أَيْ دَخَلَ الشَّامَ، وَأَحْصَنَ أَيْ دَخَلَ فِي الْحِصْنِ، وَمَعْنَاهُ دَخَلَ حِصْنًا عَنْ الزِّنَا إذَا دَخَلَ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْإِنْسَانُ دَاخِلًا فِي الْحِصْنِ عَنْ الزِّنَا عِنْدَ تَوَفُّرِ الْمَوَانِعِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَانِعٌ عَنْ الزِّنَا، فَعِنْدَ اجْتِمَاعِهَا تَتَوَفَّرُ الْمَوَانِعُ. أَمَّا الْعَقْلُ؛ فَلِأَنَّ لِلزِّنَا عَاقِبَةً ذَمِيمَةً، وَالْعَقْلُ يَمْنَعُ عَنْ ارْتِكَابِ مَا لَهُ عَاقِبَةٌ ذَمِيمَةٌ. وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَإِنَّ الصَّبِيَّ؛ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِ وَلِقِلَّةِ تَأَمُّلِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ لَا يَقِفُ عَلَى عَوَاقِبِ الْأُمُورِ فَلَا يَعْرِفُ الْحَمِيدَةَ مِنْهَا وَالذَّمِيمَةَ. وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ؛ فَلِأَنَّ الْحُرَّ يَسْتَنْكِفُ عَنْ الزِّنَا وَكَذَا الْحُرَّةُ؛ وَلِهَذَا «لَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آيَةَ الْمُبَايَعَةِ عَلَى النِّسَاءِ وَبَلَغَ إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا يَزْنِينَ} [الممتحنة: 12] قَالَتْ هِنْدُ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ: أَوَتَزْنِي الْحُرَّةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟» وَأَمَّا الْإِسْلَامُ؛ فَلِأَنَّهُ نِعْمَةٌ كَامِلَةٌ مُوجِبَةٌ لِلشُّكْرِ فَيَمْنَعُ مِنْ الزِّنَا الَّذِي هُوَ وَضْعُ الْكُفْرِ فِي مَوْضِعِ الشُّكْرِ. وَأَمَّا اعْتِبَارُ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا؛ فَلِأَنَّ اجْتِمَاعَهَا فِيهِمَا يُشْعِرُ بِكَمَالِ حَالِهِمَا، وَذَا يُشْعِرُ بِكَمَالِ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ اقْتِضَاءَ الشَّهْوَةِ بِالصَّبِيَّةِ وَالْمَجْنُونَةِ قَاصِرٌ، وَكَذَا بِالرَّقِيقِ؛ لِكَوْنِ الرِّقِّ مِنْ نَتَائِجِ الْكُفْرِ فَيَنْفِرُ عَنْهُ الطَّبْعُ، وَكَذَا بِالْكَافِرَةِ؛ لِأَنَّ طَبْعَ الْمُسْلِمِ يَنْفِرُ عَنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْكَافِرَةِ. وَلِهَذَا «قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِحُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً: دَعْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُكَ» وَأَمَّا الدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ؛ فَلِأَنَّهُ اقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ بِطَرِيقٍ حَلَالٍ فَيَقَعُ بِهِ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ الْحَرَامِ، وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ لَا يُفِيدُ فَلَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِغْنَاءُ. وَأَمَّا كَوْنُ الدُّخُولِ آخِرَ الشَّرَائِطِ؛ فَلِأَنَّ الدُّخُولَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ لَا يَقَعُ اقْتِضَاءَ الشَّهْوَةِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ، فَلَا تَقَعُ الْغُنْيَةُ بِهِ عَنْ الْحَرَامِ عَلَى التَّمَامِ، وَبَعْدَ اسْتِيفَائِهَا تَقَعُ بِهِ الْغُنْيَةُ عَلَى الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَوَانِعُ عَنْ الزِّنَا فَيَحْصُلُ بِهَا مَعْنَى الْإِحْصَانِ وَهُوَ الدُّخُولُ فِي الْحِصْنِ عَنْ الزِّنَا، وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلَّا فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ حَتَّى لَا يَصِيرَ الْمُسْلِمُ مُحْصَنًا بِنِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ، وَالدُّخُولِ بِهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ الْحُرُّ الثَّيِّبُ إذَا زَنَى لَا يُرْجَمُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَلْ يُجْلَدُ، وَعَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَصِيرُ الْمُسْلِمُ مُحْصَنًا بِنِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ، وَيُرْجَمُ الذِّمِّيُّ بِهِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ» وَلَوْ كَانَ الْإِسْلَامُ شَرْطًا لَمَا رَجَمَ؛ وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِسْلَامِ لِلزَّجْرِ عَنْ الزِّنَا، وَالدِّينُ الْمُطْلَقُ يَصْلُحُ لِلزَّجْرِ عَنْ الزِّنَا؛ لِأَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا. (وَلَنَا) فِي زِنَا الذِّمِّيِّ قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْجَلْدَ عَلَى كُلِّ زَانٍ وَزَانِيَةٍ، أَوْ عَلَى مُطْلَقِ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَمَتَى وَجَبَ الْجَلْدُ انْتَفَى وُجُوبُ الرَّجْمِ ضَرُورَةً؛ وَلِأَنَّ زِنَا الْكَافِرِ لَا يُسَاوِي زِنَا الْمُسْلِمِ فِي كَوْنِهِ جِنَايَةً، فَلَا يُسَاوِيهِ فِي اسْتِدْعَاءِ الْعُقُوبَةِ كَزِنَا الْبِكْرِ مَعَ زِنَا الثَّيِّبِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ زِنَا الْمُسْلِمِ اُخْتُصَّ بِمَزِيدِ قُبْحٍ انْتَفَى، ذَلِكَ فِي زِنَا الْكَافِرِ وَهُوَ كَوْنُ زِنَاهُ وَضْعَ الْكُفْرَانِ فِي مَوْضِعِ الشُّكْرِ؛ لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ نِعْمَةٌ وَدِينَ الْكُفْرِ لَيْسَ بِنِعْمَةٍ، وَفِي زِنَا الْمُسْلِمِ بِالْكِتَابِيَّةِ «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِحُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً: دَعْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُكَ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» وَالذِّمِّيُّ مُشْرِكٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا وَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِي اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ بِالْكَافِرَةِ قُصُورًا، فَلَا يَتَكَامَلُ مَعْنَى النِّعْمَةِ فَلَا يَتَكَامَلُ الزَّاجِرُ، وَقَوْلُهُ الزَّجْرُ يَحْصُلُ بِأَصْلِ الدِّينِ قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنَّهُ لَا يَتَكَامَلُ إلَّا بِدِينِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ نِعْمَةٌ فَيَكُونُ الزِّنَا - مِنْ الْمُسْلِمِ - وَضْعَ الْكُفْرَانِ فِي مَوْضِعِ الشُّكْرِ، وَدِينُ الْكُفْرِ لَيْسَ بِنِعْمَةٍ؛ فَلَا يَكُونُ فِي كَوْنِهِ زَاجِرًا مِثْلُهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْجَلْدِ؛ فَانْتَسَخَ بِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ نُزُولِهَا، وَنَسْخُ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَهْوَنُ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَإِحْصَانُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّانِيَيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ

فصل في حد الشرب

لِوُجُوبِ الرَّجْمِ عَلَى أَحَدِهِمَا، حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا وَالْآخَرُ غَيْرَ مُحْصَنٍ، فَالْمُحْصَنُ مِنْهُمَا يُرْجَمُ، وَغَيْرُ الْمُحْصَنِ يُجْلَدُ، ثُمَّ إذَا ظَهَرَ إحْصَانُ الزَّانِي بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ يُرْجَمُ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا النَّصُّ فَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى مَعَانٍ ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ، وَزِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ، وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» . وَرُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَجَمَ مَاعِزًا وَكَانَ مُحْصَنًا» . وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْمُحْصَنَ إذَا تَوَفَّرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَانِعُ مِنْ الزِّنَا، فَإِذَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مَعَ تَوَفُّرِ الْمَوَانِعِ - صَارَ زِنَاهُ غَايَةً فِي الْقُبْحِ، فَيُجَازَى بِمَا هُوَ غَايَةٌ فِي الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَهُوَ الرَّجْمُ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَوَعَّدَ نِسَاءَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ إذَا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ؛ لِعِظَمِ جِنَايَتِهِنَّ؛ لِحُصُولِهَا مَعَ تَوَفُّرِ الْمَوَانِعِ فِيهِنَّ؛ لِعِظَمِ نِعَمِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَيْهِنَّ؛ لِنَيْلِهِنَّ صُحْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُضَاجَعَتَهُ، فَكَانَتْ جِنَايَتُهُنَّ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِتْيَانِ غَايَةً فِي الْقُبْحِ، فَأُوعِدْنَ بِالْغَايَةِ مِنْ الْجَزَاءِ. كَذَا هَهُنَا، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا؛ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» . (وَلَنَا) «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَجَمَ مَاعِزًا وَلَمْ يَجْلِدْهُ» ، وَلَوْ وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَجَمَعَ؛ وَلِأَنَّ الزِّنَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا يُوجِبُ إلَّا عُقُوبَةً وَاحِدَةً، وَالْجَلْدُ وَالرَّجْمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُقُوبَةٌ عَلَى حِدَةٍ، فَلَا يَجِبَانِ لِجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ، لَكِنْ فِي حَالَيْنِ فَيَكُونُ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ، وَإِذَا فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ لَا يُرْجَمُ بَلْ يُجْلَدُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِنَفْسِ الزِّنَا هُوَ الْجَلْدُ بِآيَةِ الْجَلْدِ؛ وَلِأَنَّ زِنَا غَيْرَ الْمُحْصَنِ لَا يَبْلُغُ غَايَةً فِي الْقُبْحِ فَلَا تَبْلُغُ عُقُوبَتُهُ النِّهَايَةَ، فَيُكْتَفَى بِالْجَلْدِ وَهَلْ يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُجْمَعُ إلَّا إذَا رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا؛ فَيَجْمَعُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ» وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ جَلَدَ وَغَرَّبَ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَعَلَ كَذَا، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا. (وَلَنَا) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] . وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَمَرَ بِجَلْدِ الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّغْرِيبَ، فَمَنْ أَوْجَبَهُ فَقَدْ زَادَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ نَسْخٌ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ النَّصِّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالثَّانِي - أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الْجَلْدَ جَزَاءً، وَالْجَزَاءُ اسْمٌ لِمَا تَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ مَأْخُوذٌ مِنْ الِاجْتِزَاءِ - وَهُوَ الِاكْتِفَاءُ - فَلَوْ أَوْجَبْنَا التَّغْرِيبَ لَا تَقَعُ الْكِفَايَةُ بِالْجَلْدِ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ؛ لِأَنَّ التَّغْرِيبَ تَعْرِيضٌ لِلْمُغَرَّبِ عَلَى الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي بَلَدِهِ يَمْتَنِعُ عَنْ الْعَشَائِرِ وَالْمَعَارِفِ حَيَاءً مِنْهُمْ، وَبِالتَّغْرِيبِ يَزُولُ هَذَا الْمَعْنَى فَيُعَرَّى الدَّاعِي عَنْ الْمَوَانِعِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَالزِّنَا قَبِيحٌ فَمَا أَفْضَى إلَيْهِ مِثْلُهُ، وَفِعْلُ الصَّحَابَةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ مَصْلَحَةً عَلَى طَرِيقِ التَّعْزِيرِ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ نَفَى رَجُلًا فَلَحِقَ بِالرُّومِ فَقَالَ: لَا أَنْفِي بَعْدَهَا أَبَدًا. وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً فَدَلَّ أَنَّ فِعْلَهُمْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ التَّعْزِيرِ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ: إنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفِيَ إنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي التَّغْرِيبِ، وَيَكُونُ النَّفْيُ تَعْزِيرًا لَا حَدًّا، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَأَمَّا إحْصَانُ الْقَذْفِ فَنَذْكُرُهُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي حَدِّ الشُّرْبِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حَدُّ الشُّرْبِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ الشُّرْبُ؛ وَهُوَ شُرْبُ الْخَمْرِ خَاصَّةً، حَتَّى يَجِبَ الْحَدُّ بِشُرْبِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، وَلَا يَتَوَقَّفُ الْوُجُوبُ عَلَى حُصُولِ السُّكْرِ مِنْهَا، وَحَدُّ السُّكْرِ سَبَبُ وُجُوبِهِ السُّكْرُ الْحَاصِلُ بِشُرْبِ مَا سِوَى الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُسْكِرَةِ كَالسُّكَّرِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ، وَالْمَطْبُوخِ أَدْنَى طَبْخَةٍ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَوْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْمُثَلَّثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ وُجُوبِ حَدِّ الشُّرْبِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهَا فَمِنْهَا الْعَقْلُ، وَمِنْهَا الْبُلُوغُ، فَلَا حَدَّ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فَلَا حَدَّ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ بِالشُّرْبِ وَلَا بِالسُّكْرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَمِنْهَا عَدَمُ الضَّرُورَةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، فَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ خَمْرٍ وَلَا عَلَى مَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِالْجِنَايَةِ، وَكَذَا الشُّرْبُ لِضَرُورَةِ الْمَخْمَصَةِ، وَالْإِكْرَاهُ حَلَالٌ فَلَمْ

فصل في سبب وجوب حد القذف

يَكُنْ جِنَايَةً، وَشُرْبُ الْخَمْرِ مُبَاحٌ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ أَكْثَرِ مَشَايِخِنَا فَلَا يَكُونُ جِنَايَةً، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لَكِنَّا نُهِينَا عَلَى التَّعْرِيضِ لَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ وَفِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ تَعَرُّضٌ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُهُمْ مِنْ الشُّرْبِ، وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُمْ إذَا شَرِبُوا وَسَكِرُوا يُحَدُّونَ لِأَجْلِ السُّكْرِ لَا لِأَجْلِ الشُّرْبِ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ حَسَنٌ. وَمِنْهَا بَقَاءُ اسْمِ الْخَمْرِ لِلْمَشْرُوبِ وَقْتَ الشُّرْبِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالشُّرْبِ تَعَلُّقٌ بِهِ، حَتَّى لَوْ خُلِطَ الْخَمْرُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ شُرِبَ نُظِرَ فِيهِ إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْمَاءِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَمْرِيَّةِ يَزُولُ عِنْدَ غَلَبَةِ الْمَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْخَمْرِ أَوْ كَانَا سَوَاءً يُحَدُّ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ بَاقٍ وَهِيَ عَادَةُ بَعْضِ الشَّرَبَةِ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَهَا مَمْزُوجَةً بِالْمَاءِ، وَكَذَلِكَ مَنْ شَرِبَ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُو عَنْ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ. (فَأَمَّا) الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ حَتَّى يَجِبَ الْحَدُّ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَكَذَلِكَ إلَّا أَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ يَكُونُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ تُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ رَائِحَةِ الْخَمْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ؛ لِجَوَازِ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ بِهَا وَلَمْ يَشْرَبْهَا، أَوْ شَرِبَهَا عَنْ إكْرَاهٍ أَوْ مَخْمَصَةٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَقَيَّأَ خَمْرًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَأَمَّا الْأَشْرِبَةُ الَّتِي تُتَّخَذُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالدُّخْنِ وَالذُّرَةِ وَالْعَسَلِ وَالتِّينِ وَالسُّكَّرِ وَنَحْوِهَا، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِهَا؛ لِأَنَّ شُرْبَهَا حَلَالٌ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لَكِنْ هِيَ حُرْمَةُ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، فَلَمْ يَكُنْ شُرْبُهَا جِنَايَةً مَحْضَةً فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ وَلَا بِالسُّكْرِ مِنْهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ إذَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا أَصْلًا فَلَا عِبْرَةَ بِنَفْسِ السُّكْرِ كَشُرْبِ الْبَنْجِ وَنَحْوِهِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي سَبَب وُجُوب حَدِّ الْقَذْفِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ الْقَذْفُ بِالزِّنَا؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهُ إلَى الزِّنَا، وَفِيهَا إلْحَاقُ الْعَارِ بِالْمَقْذُوفِ فَيَجِبُ الْحَدُّ دَفْعًا لِلْعَارِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ وبعضها يرجع إلَى القاذف] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاذِفِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَبَعْضُهَا إلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ فِيهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَذْفِ. أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَاذِفِ فَأَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا - الْعَقْلُ، وَالثَّانِي - الْبُلُوغُ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْقَاذِفُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ فَيَسْتَدْعِي كَوْنَ الْقَذْفِ جِنَايَةً، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً، وَالثَّالِثُ - عَدَمُ إثْبَاتِهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، فَإِنْ أَتَى بِهِمْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] عَلَّقَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وُجُوبَ إقَامَةِ الْحَدِّ بَعْدَ الْإِثْبَاتِ بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَدَمَ الْإِتْيَانِ فِي جَمِيعِ الْعُمْرِ، بَلْ عِنْدَ الْقَذْفِ وَالْخُصُومَةِ، إذْ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْأَبَدِ لَمَا أُقِيمَ حَدٌّ أَصْلًا، إذْ لَا يُقَامُ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وَجَبَ لِدَفْعِ عَارِ الزِّنَا عَنْ الْمَقْذُوفِ، وَإِذَا ظَهَرَ زِنَاهُ بِشَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ لَا يَحْتَمِلُ الِانْدِفَاعَ بِالْحَدِّ؛ وَلِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ يَزْجُرُ عَنْ قَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ. وَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْقَاذِفِ وَإِسْلَامُهُ وَعِفَّتُهُ عَنْ فِعْلِ الزِّنَا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ؛ فَيُحَدُّ الرَّقِيقُ وَالْكَافِرُ وَمَنْ لَا عِفَّةَ لَهُ عَنْ الزِّنَا، وَالشَّرْطُ إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ لَا إحْصَانَ الْقَاذِفِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي ترجع إلَى الْمَقْذُوف] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا - أَنْ يَكُونَ مُحْصَنًا رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً وَشَرَائِطُ إحْصَانِ الْقَذْفِ خَمْسَةٌ: الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْعِفَّةُ عَنْ الزِّنَا، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالرَّقِيقِ وَالْكَافِرِ وَمَنْ لَا عِفَّةَ لَهُ عَنْ الزِّنَا. أَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ؛ فَلِأَنَّ الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَكَانَ قَذْفُهُمَا بِالزِّنَا كَذِبًا مَحْضًا فَيُوجِبُ التَّعْزِيرَ لَا الْحَدَّ. وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ؛ فَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَرَطَ الْإِحْصَانَ فِي آيَةِ الْقَذْفِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] وَالْمُرَادُ مِنْ الْمُحْصَنَاتِ هَهُنَا الْحَرَائِرُ لَا الْعَفَائِفُ عَنْ الزِّنَا، فَدَلَّ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ شَرْطٌ، وَلِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا عَلَى قَاذِفِ الْمَمْلُوكِ الْجَلْدَ؛ لَأَوْجَبْنَا ثَمَانِينَ، وَهُوَ لَوْ أَتَى بِحَقِيقَةِ الزِّنَا لَا يُجْلَدُ إلَّا خَمْسِينَ وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ نِسْبَةٌ إلَى الزِّنَا وَأَنَّهُ دُونَ حَقِيقَةِ الزِّنَا. وَأَمَّا الْإِسْلَامُ وَالْعِفَّةُ عَنْ الزِّنَا؛ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 23] وَالْمُحْصَنَاتُ الْحَرَائِرُ، وَالْغَافِلَاتُ الْعَفَائِفُ عَنْ الزِّنَا، وَالْمُؤْمِنَاتُ مَعْلُومَةٌ فَدَلَّ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعِفَّةَ عَنْ

الزِّنَا وَالْحُرِّيَّةِ شَرْطٌ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْحَرَائِرُ لَا الْعَفَائِفُ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ الْمُحْصَنَاتِ وَالْغَافِلَاتِ فِي الذِّكْرِ وَالْغَافِلَاتُ الْعَفَائِفُ؛ فَلَوْ أُرِيدَ بِالْمُحْصَنَاتِ الْعَفَائِفُ لَكَانَ تَكْرَارًا؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَجِبُ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ، وَمَنْ لَا عِفَّةَ لَهُ عَنْ الزِّنَا لَا يَلْحَقُهُ الْعَارُ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا، وَكَذَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وَجَبَ بِالْقَذْفِ دَفْعًا لِعَارِ الزِّنَا عَنْ الْمَقْذُوفِ، وَمَا فِي الْكَافِرِ مِنْ عَارِ الْكُفْرِ أَعْظَمُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. ثُمَّ تَفْسِيرُ الْعِفَّةِ عَنْ الزِّنَا: هُوَ إنْ لَمْ يَكُنْ الْمَقْذُوفُ وَطِئَ فِي عُمْرِهِ وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ أَصْلًا، وَلَا فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَسَادًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ فِي السَّلَفِ، فَإِنْ كَانَ فَعَلَ سَقَطَتْ عِفَّتُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْوَطْءُ زِنًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا لَكِنْ فِي الْمِلْكِ أَوْ النِّكَاحِ حَقِيقَةً، أَوْ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ لَكِنْ فَسَادًا هُوَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ؛ لَا تَسْقُطُ عِفَّتُهُ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ: إذَا وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ بِأَنْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا سَقَطَتْ عِفَّتُهُ؛ لِوُجُودِ الْوَطْءِ الْحَرَامِ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ أَصْلًا، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ؛ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُبِيحِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُصَادِفُ كُلَّ الْجَارِيَةِ - وَكُلُّهَا لَيْسَ مِلْكَهُ - فَيُصَادِفُ مِلْكَ الْغَيْرِ لَا مَحَالَةَ، فَكَانَ الْفِعْلُ زِنًا مِنْ وَجْهٍ، لَكِنْ دُرِئَ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ. وَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ أَبَوَيْهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ جَارِيَةً اشْتَرَاهَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لِغَيْرِ الْبَائِعِ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ؛ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَأَعْلَقَهَا أَوْ لَمْ يُعْلِقْهَا؛ لِوُجُودِ الْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ فِي غَيْرِ مِلْكٍ حَقِيقَةً. وَلَوْ وَطِئَ الْحَائِضَ أَوْ النُّفَسَاءَ أَوْ الصَّائِمَةَ أَوْ الْمُحْرِمَةَ أَوْ الْحُرَّةَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا، أَوْ الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَةَ - لَمْ تَسْقُطْ عِفَّتُهُ؛ لِقِيَامِ الْمِلْكِ أَوْ النِّكَاحِ حَقِيقَةً، وَأَنَّهُ مُحَلَّلٌ إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ الْوَطْءِ لِغَيْرِهِ، وَكَذَا إذَا وَطِئَ مُكَاتَبَتَهُ فِي قَوْلِهِمَا، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ تَسْقُطُ عِفَّتُهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا وَطْءٌ حَصَلَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ أَوْجَبَ زَوَالَ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الْوَطْءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا، وَكَذَا الْمَهْرُ يَكُونُ لَهَا لَا لِلْمَوْلَى، وَهَذَا دَلِيلُ زَوَالِ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الْوَطْءِ، وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ يُصَادِفُ الذَّاتَ، وَمِلْكُ الذَّاتِ قَائِمٌ بَعْدَ الْكِتَابَةِ، فَكَانَ الْمِلْكُ الْمُحَلِّلُ قَائِمًا، وَإِنَّمَا الزَّائِلُ مِلْكُ الْيَدِ فَمُنِعَ مِنْ الْوَطْءِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِرْدَادِ يَدِهَا عَلَى نَفْسِهَا فَأَشْبَهَتْ الْجَارِيَةَ الْمُزَوَّجَةَ. وَلَوْ تَزَوَّجَ مُعْتَدَّةَ الْغَيْرِ أَوْ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ أَوْ مَجُوسِيَّةً أَوْ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ؛ سَقَطَتْ عِفَّتُهُ، سَوَاءٌ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ - لَا تَسْقُطُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ - لَا يَكُونُ الْوَطْءُ حَرَامًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَأَثِمَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا - لَمْ تَسْقُطْ الْعِفَّةُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ حُرْمَةَ الْوَطْءِ هَهُنَا ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، إلَّا أَنَّ الْإِثْمَ مُنْتَفٍ، وَالْإِثْمُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الْحُرْمَةِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَإِذَا كَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً بِيَقِينٍ سَقَطَتْ الْعِفَّةُ، وَلَوْ قَبَّلَ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَ بِابْنَتِهَا فَوَطِئَهَا أَوْ تَزَوَّجَ بِأُمِّهَا فَوَطِئَهَا؛ لَا تَسْقُطُ عِفَّتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا تَسْقُطُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّقْبِيلَ أَوْ النَّظَرَ أَوْجَبَ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ، وَإِنَّهَا حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ فَتَسْقُطُ الْعِصْمَةُ كَحُرْمَةِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لَيْسَتْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا، بَلْ هِيَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ فِي السَّلَفِ، فَلَا تَسْقُطُ الْعِفَّةُ. فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَطِئَهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَ ابْنَتَهَا أَوْ أُمَّهَا فَوَطِئَهَا سَقَطَتْ عِفَّتُهُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ هَذَا النِّكَاحَ مُجْمَعٌ عَلَى فَسَادِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ. وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ شُهُودٍ فَوَطِئَهَا - سَقَطَتْ عِفَّتُهُ؛ لِأَنَّ فَسَادَ هَذَا النِّكَاحَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ فِي السَّلَفِ، إذْ لَا يُعْرَفُ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ مَالِكٍ فِيهِ. وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً وَحُرَّةً فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَوَطِئَهَا، أَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ فَوَطِئَهُمَا - لَمْ تَسْقُطْ عِفَّتُهُ؛ لِأَنَّ فَسَادَ هَذَا النِّكَاحِ لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ فِي السَّلَفِ، بَلْ هُوَ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَالْوَطْءُ فِيهِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْعِفَّةِ. وَلَوْ تَزَوَّجَ ذِمِّيٌّ امْرَأَةً ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ ثُمَّ أَسْلَمَ فَقَذَفَهُ رَجُلٌ إنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ - سَقَطَتْ عِفَّتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ الدُّخُولُ فِي حَالِ الْكُفْرِ - لَمْ تَسْقُطْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا تَسْقُطُ، هَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ إحْصَانُهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ هَذَا النِّكَاحَ مُجْمَعٌ عَلَى فَسَادِهِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْحَدُّ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - لِنَوْعِ شُبْهَةٍ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً مَحْدُودَةً

فصل في الشرائط التي ترجع إلى القاذف والمقذوف

فِي الزِّنَا، أَوْ مَعَهَا وَلَدٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ أَبٌ أَوْ لَاعَنَتْ بِوَلَدٍ؛ لِأَنَّ أَمَارَةَ الزِّنَا مَعَهَا ظَاهِرَةٌ فَلَمْ تَكُنْ عَفِيفَةً، فَإِنْ لَاعَنَتْ بِغَيْرِ الْوَلَدِ أَوْ مَعَ الْوَلَدِ لَكِنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ النَّسَبَ أَوْ قَطَعَ لَكِنَّ الزَّوْجَ عَادَ وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ وَأُلْحِقَ النَّسَبُ بِالْأَبِ - حُدَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا عَلَامَةُ الزِّنَا - فَكَانَتْ عَفِيفَةً، وَالثَّانِي - أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ مَعْلُومًا فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لَا يَجِبُ الْحَدُّ كَمَا إذَا قَالَ لِجَمَاعَةٍ: كُلُّكُمْ زَانٍ إلَّا وَاحِدًا، أَوْ قَالَ: لَيْسَ فِيكُمْ زَانٍ إلَّا وَاحِدٌ، أَوْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ: أَحَدُكُمَا زَانٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ مَجْهُولٌ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ: أَحَدُكُمَا زَانٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَحَدُهُمَا هَذَا، فَقَالَ: لَا، لَا حَدَّ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ بِصَرِيحِ الزِّنَا، وَلَا بِمَا هُوَ فِي مَعْنَى الصَّرِيحِ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: جَدُّكَ زَانٍ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ اسْمَ الْجَدِّ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَسْفَلِ وَعَلَى الْأَعْلَى فَكَانَ الْمَقْذُوفُ مَجْهُولًا وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ أَخُوكَ زَانٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ، أَوْ أَخَوَانِ سِوَاهُ - لَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ مَجْهُولٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا أَخٌ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا حَضَرَ وَطَالَبَ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ مَعْلُومٌ وَلَيْسَ لِهَذَا الْأَخِ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) حَيَاةُ الْمَقْذُوفِ وَقْتَ الْقَذْفِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ، حَتَّى يَجِبَ الْحَدُّ بِقَذْفِ الْمَيِّتِ؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْقَاذِفِ وَالْمَقْذُوفِ] وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَوَاحِدٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الْقَاذِفُ أَبِ الْمَقْذُوفِ وَلَا جَدَّهُ وَإِنْ عَلَا، وَلَا أُمَّهُ وَلَا جَدَّتَهُ وَإِنْ عَلَتْ، فَإِنْ كَانَ - لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] وَالنَّهْيُ عَنْ التَّأْفِيفِ نَصًّا، نَهْيٌ عَنْ الضَّرْبِ دَلَالَةً؛ وَلِهَذَا لَا يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا؛ وَلِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] وَالْمُطَالَبُ بِالْقَذْفِ لَيْسَ مِنْ الْإِحْسَانِ فِي شَيْءٍ فَكَانَ مَنْفِيًّا بِالنَّصِّ؛ وَلِأَنَّ تَوْقِيرَ الْأَبِ وَاحْتِرَامَهُ وَاجِبٌ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَالْمُطَالَبَةُ بِالْقَذْفِ لِلْجَدِّ تَرْكُ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ فَكَانَ حَرَامًا، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا - أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ بِصَرِيحِ الزِّنَا وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ، وَهُوَ نَفْيُ النَّسَبِ فَإِنْ كَانَ بِالْكِنَايَةِ - لَا يُوجِبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ مُحْتَمَلَةٌ وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ، فَمَعَ الِاحْتِمَالِ أَوْلَى، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ: إذَا قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِي أَوْ قَالَ: زَنَيْتَ، أَوْ قَالَ أَنْتَ زَانِي - يُحَدُّ، لِأَنَّهُ أَتَى بِصَرِيحِ الْقَذْفِ بِالزِّنَا، وَلَوْ قَالَ: يَا زَانِئ (بِالْهَمْزِ) أَوْ: زَنَأْتَ (بِالْهَمْزِ) - يُحَدُّ، وَلَوْ قَالَ: عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ فِي الْجَبَلِ - لَا يُصَدَّقُ، لِأَنَّ الْعَامَّةَ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَهْمُوزِ وَالْمُلَيَّنِ، وَكَذَا مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَهْمِزُ الْمُلَيَّنَ فَبَقِيَ مُجَرَّدُ النِّيَّةِ، فَلَا يُعْتَبَرُ، وَلَوْ قَالَ: زَنَأْتَ فِي الْجَبَلِ - يُحَدُّ، وَلَوْ قَالَ: عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ فِي الْجَبَلِ لَا يُصَدَّقُ فِي قَوْلِهِمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُصَدَّقُ، وَلَوْ قَالَ: زَنَأْتَ عَلَى الْجَبَلِ، وَقَالَ: عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ - لَا يُصَدَّقُ بِالْإِجْمَاعِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الزِّنَا الَّذِي هُوَ فَاحِشَةٌ مُلَيَّنٌ يُقَالُ: زَنَى يَزْنِي زِنًى، وَالزِّنَا الَّذِي هُوَ صُعُودٌ مَهْمُوزٌ، يُقَالُ: زَنَأَ يَزْنَأُ زَنْئًا، وَقَالَ الشَّاعِرُ وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زَنْئًا فِي الْجَبَلْ وَأَرَادَ بِهِ الصُّعُودَ إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقُلْ عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ - حُمِلَ عَلَى الزِّنَا الْمَعْرُوفِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الزِّنَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْفُجُورِ عُرْفًا وَعَادَةً، وَإِذَا قَالَ عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ فَقَدْ عَنَى بِهِ مَا هُوَ مُوجِبُ اللَّفْظِ لُغَةً فَلَزِمَ اعْتِبَارُهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ اسْمَ الزِّنَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْفُجُورِ عُرْفًا وَعَادَةً، وَالْعَامَّةُ لَا تَفْصِلُ بَيْنَ الْمَهْمُوزِ وَالْمُلَيَّنِ بَلْ تَسْتَعْمِلُ الْمَهْمُوزَ مُلَيَّنًا وَالْمُلَيَّنَ مَهْمُوزًا، فَلَا يُصَدَّقُ فِي الصَّرْفِ عَنْ الْمُتَعَارَفِ، كَمَا إذَا قَالَ: زَنَيْتَ فِي الْجَبَلِ، وَقَالَ عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ، أَوْ: زَنَأْتَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَبَلَ، إلَّا أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ كَلِمَة " فِي " مَكَانَ كَلِمَةِ " عَلَى "، وَأَنَّهُ جَائِزٌ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أَيْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ عَلَّلَ لَهُمَا بِأَنَّ الْمَهْمُوزَ مِنْهُ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْمُلَيَّنِ وَهُوَ الزِّنَا الْمَعْرُوفُ؛ لِأَنَّ مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَهْمِزُ الْمُلَيَّنَ فَيَتَعَيَّنُ مَعْنَى الْمُلَيَّنِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهِيَ حَالُ الْغَضَبِ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَقْصُورَةٌ فِيهَا، وَإِذَا قَالَ: زَنَأْتَ عَلَى الْجَبَلِ، وَقَالَ عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ - لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ لَا تُسْتَعْمَلُ كَلِمَةُ " عَلَى " فِي الصُّعُودِ، فَلَا يُقَالُ: صَعِدَ عَلَى الْجَبَلِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: صَعِدَ فِي الْجَبَلِ. وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ الزَّانِي - فَهُوَ قَاذِفٌ لِأَبِيهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَبُوكَ زَانِي، وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ - فَهُوَ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أُمُّكَ زَانِيَةٌ، وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنَ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ - فَهُوَ قَاذِفٌ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَبَوَاكَ زَانِيَانِ، وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنَ الزِّنَا أَوْ يَا وَلَدَ الزِّنَا - كَانَ قَذْفًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَتِهِمْ أَنَّكَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءِ الزِّنَا، وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنَ الزَّانِيَتَيْنِ - يَكُونُ قَذْفًا، وَيُعْتَبَرُ إحْصَانُ أُمِّهِ الَّتِي وَلَدَتْهُ لَا إحْصَانَ جَدَّتِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ أُمُّهُ مُسْلِمَةً فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَتْ

جَدَّتُهُ كَافِرَةً وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ كَافِرَةً - فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ جَدَّتُهُ مُسْلِمَةً؛ لِأَنَّ أُمَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالِدَتُهُ وَالْجَدَّةُ تُسَمَّى أُمًّا مَجَازًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: يَا ابْنَ مِائَةِ زَانِيَةٍ، أَوْ يَا ابْنَ أَلْفِ زَانِيَةٍ - يَكُونُ قَاذِفًا لِأُمِّهِ، وَيُعْتَبَرُ فِي الْإِحْصَانِ حَالُ الْأُمِّ؛ لِمَا قُلْنَا، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ عَدَدَ الْمَرَّاتِ لَا عَدَدَ الْأَشْخَاصِ، أَيْ أُمُّكَ زَنَتْ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَلْفَ مَرَّةٍ، وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الزَّانِيَةِ يُسْتَعْمَلُ عَلَى الْمُهَيَّأَةِ الْمُسْتَعِدَّةِ لِلزِّنَا وَإِنْ لَمْ تَزْنِ، فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: يَا ابْنَ الدَّعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الدَّعِيَّةَ هِيَ الْمَرْأَةُ الْمَنْسُوبَةُ إلَى قَبِيلَةٍ لَا نَسَبَ لَهَا مِنْهُمْ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا زَانِيَةً؛ لِجَوَازِ ثُبُوتِ نَسَبِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ. وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِي فَقَالَ الرَّجُلُ: لَا، بَلْ أَنْتَ الزَّانِي، أَوْ قَالَ: لَا، بَلْ أَنْتَ - يُحَدَّانِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَذَفَ صَاحِبَهُ صَرِيحًا، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانِيَةُ، فَقَالَتْ: زَنَيْتُ بِكَ - لَا حَدَّ عَلَى الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ صَدَّقَتْهُ فِي الْقَذْفِ، فَخَرَجَ قَذْفُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَتُحَدُّ الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّهَا قَذَفَتْهُ بِالزِّنَا نَصًّا وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّصْدِيقُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانِيَةُ، فَقَالَتْ زَنَيْتُ مَعَكَ - لَا حَدَّ عَلَى الرَّجُلِ، وَلَا عَلَى الْمَرْأَةِ، أَمَّا عَلَى الرَّجُلِ؛ فَلِوُجُودِ التَّصْدِيقِ مِنْهَا إيَّاهُ. وَأَمَّا عَلَى الْمَرْأَةِ؛ فَلِأَنَّ قَوْلَهَا زَنَيْتُ مَعَكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ زَنَيْتُ بِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ زَنَيْتُ بِحَضْرَتِكَ، فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا زَانِيَةُ، فَقَالَتْ لَا، بَلْ أَنْتَ - حُدَّتْ الْمَرْأَةُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَلَا لِعَانَ عَلَى الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ قَذَفَ صَاحِبَهُ، وَقَذْفُ الْمَرْأَةِ يُوجِبُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَقَذْفُ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُدَّ. وَفِي الْبِدَايَةِ بِحَدِّ الْمَرْأَةِ إسْقَاطُ الْحَدِّ عَنْ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْأَيْمَانِ، وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ لَا شَهَادَةَ لَهُ وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا زَانِيَةُ بِنْتُ الزَّانِيَةِ، فَخَاصَمَتْ الْأُمُّ أَوَّلًا فَحُدَّ الزَّوْجُ حَدَّ الْقَذْفِ - سَقَطَ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّهُ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ، وَلَوْ خَاصَمَتْ الْمَرْأَةُ أَوَّلًا فَلَاعَنَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، ثُمَّ خَاصَمَتْ الْأُمُّ - يُحَدُّ الرَّجُلُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا زَانِيَةُ، فَقَالَتْ زَنَيْتُ بِكَ - لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ بِقَوْلِهَا زَنَيْتُ بِكَ أَيْ قَبْلَ النِّكَاحِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَيْ مَا مَكَّنْتُ مِنْ الْوَطْءِ غَيْرَكَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ زِنًا فَهُوَ زِنًا؛ لِأَنَّ هَذَا مُتَعَارَفٌ فَإِنْ أَرَادَتْ الْأَوَّلَ - لَا يَجِبُ اللِّعَانُ، وَيَجِبُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِالزِّنَا وَإِنْ أَرَادَتْ بِهِ الثَّانِي - يَجِبُ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ قَذَفَهَا بِالزِّنَا، وَهِيَ لَمْ تُصَدِّقْهُ فِيمَا قَذَفَهَا بِهِ؛ وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا فَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ فِي ثُبُوتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَثْبُتُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: أَنْتِ زَانِيَةٌ، فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي - يُحَدُّ الرَّجُلُ. وَلَا تُحَدُّ الْمَرْأَةُ، أَمَّا الرَّجُلُ؛ فَلِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِصَرِيحِ الزِّنَا وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا التَّصْدِيقُ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ؛ فَلِأَنَّ قَوْلَهَا: أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي يُحْتَمَلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ بِهِ النِّسْبَةَ إلَى الزِّنَا عَلَى التَّرْجِيحِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْتَ أَقْدَرُ عَلَى الزِّنَا وَأَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْقَذْفِ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِإِنْسَانٍ: أَنْتَ أَزْنَى النَّاسِ، أَوْ أَزْنَى الزُّنَاةِ، أَوْ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ - لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِمَا قُلْنَا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَزْنَى النَّاسِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَزْنَى مِنِّي أَوْ مِنْ فُلَانٍ، فَقَالَ فِي الْأَوَّلِ: يُحَدُّ، وَفِي الثَّانِي: لَا يُحَدُّ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتَ أَزْنَى النَّاسِ، أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الصِّيغَةِ وَهُوَ التَّرْجِيحُ فِي وُجُودِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُ؛ لِتَحَقُّقِ الزِّنَا مِنْ النَّاسِ فِي الْجُمْلَةِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي أَوْ مِنْ فُلَانٍ، لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّرْجِيحِ فِي وُجُودِ الزِّنَا؛ لِجَوَازِ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الزِّنَا مِنْهُ أَوْ مِنْ فُلَانٍ، فَيُحْمَلُ عَلَى التَّرْجِيحِ فِي الْقُدْرَةِ أَوْ الْعِلْمِ، فَلَا يَكُونُ قَذْفًا بِالزِّنَا، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: زَنَيْتَ وَفُلَانٌ مَعَكَ - كَانَ قَاذِفًا لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ أَحَدَهُمَا وَعَطَفَ الْآخَرَ عَلَيْهِ بِحَرْفِ " الْوَاوِ " وَأَنَّهَا لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، فَكَانَ مُخْبِرًا عَنْ وُجُودِ الزِّنَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. رَجُلَانِ اسْتَبَّا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا أَبِي بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ، لَمْ يَكُنْ هَذَا قَذْفًا؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ نَفْيُ الزِّنَا عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أُمِّهِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُكَنِّي بِهَذَا الْكَلَامِ عَنْ نِسْبَةِ أَبُ صَاحِبِهِ وَأُمِّهِ إلَى الزِّنَا. لَكِنَّ الْقَذْفَ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَنْتَ تَزْنِي لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِقْبَالِ وَيُسْتَعْمَلُ لِلْحَالِ، فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتَ تَزْنِي وَأَنَا - أُضْرَبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فِي عُرْفِ النَّاسِ لَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ الْقَذْفِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى طَرِيقِ ضَرْبِ الْمَثَلِ عَلَى الِاسْتِعْجَابِ أَنْ كَيْفَ تَكُونُ الْعُقُوبَةُ عَلَى إنْسَانٍ وَالْجِنَايَةُ مِنْ غَيْرِهِ؟ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: مَا رَأَيْتُ زَانِيَةً خَيْرًا مِنْكِ، أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: مَا رَأَيْتُ زَانِيًا خَيْرًا مِنْكَ - لَمْ يَكُنْ قَذْفًا؛ لِأَنَّهُ مَا جَعَلَ

هَذَا الْمَذْكُورَ خَيْرَ الزُّنَاةِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ خَيْرًا مِنْ الزُّنَاةِ. وَهَذَا لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الزِّنَا مِنْهُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: زَنَى بِكِ زَوْجُكِ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَكِ - فَهُوَ قَاذِفٌ؛ فَإِنَّهُ نَسَبَ زَوْجَهَا إلَى زِنًا حَصَلَ مِنْهُ قَبْلَ التَّزَوُّجِ فِي كَلَامٍ مَوْصُولٍ فَيَكُونُ قَذْفًا، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: وَطِئَكِ فُلَانٌ وَطْئًا حَرَامًا، أَوْ جَامَعَكِ حَرَامًا، أَوْ فَجَرَ بِكِ، أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: وَطِئْتَ فُلَانَةَ حَرَامًا، أَوْ بَاضَعْتَهَا أَوْ جَامَعْتَهَا حَرَامًا - فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْقَذْفُ بِالزِّنَا بَلْ بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ حَرَامًا وَلَا يَكُونُ زِنًا، كَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: اذْهَبْ إلَى فُلَانٍ فَقُلْ لَهُ: يَا زَانِي أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ - لَمْ يَكُنْ الْمُرْسِلُ قَاذِفًا؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْقَذْفِ وَلَمْ يَقْذِفْ. وَأَمَّا الرَّسُولُ فَإِنْ ابْتَدَأَ فَقَالَ - لَا عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ: يَا زَانِي أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ - فَهُوَ قَاذِفٌ وَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ بَلَّغَهُ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ بِأَنْ قَالَ: أَرْسَلَنِي فُلَانٌ إلَيْكَ وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُلْ لَكَ: يَا زَانِي أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ - لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ بَلْ أَخْبَرَ عَنْ قَذْفِ غَيْرِهِ، وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ: أُخْبِرْتُ أَنَّكَ زَانٍ أَوْ أُشْهِدْتُ عَلَى ذَلِكَ - لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا؛ لِأَنَّهُ حَكَى خَبَرَ غَيْرِهِ بِالْقَذْفِ وَإِشْهَادَ غَيْرِهِ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ قَاذِفًا، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا لُوطِيُّ - لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ هَذَا نَسَبَهُ إلَى قَوْمِ لُوطٍ فَقَطْ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ وَهُوَ اللِّوَاطُ، وَلَوْ أَفْصَحَ وَقَالَ: أَنْتَ تَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، وَسَمَّى ذَلِكَ - لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا. وَعِنْدَهُمَا هُوَ قَاذِفٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ بِزِنًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ فِي مَعْنَى الزِّنَا، وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي مَوْضِعِهَا، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِي، فَقَالَ لَهُ آخَرُ: صَدَقْتَ - يُحَدُّ الْقَاذِفُ وَلَا حَدَّ عَلَى الْمُصَدِّقِ. أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِوُجُودِ الْقَذْفِ الصَّرِيحِ مِنْهُ. وَأَمَّا الْمُصَدِّقُ؛ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: صَدَقْتَ قَذْفٌ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ، وَلَوْ قَالَ: صَدَقْتَ هُوَ كَمَا قُلْتَ - يُحَدُّ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الصَّرِيحِ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَخُوك زَانٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَا، بَلْ أَنْتَ - يُحَدُّ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ " لَا بَلْ "؛ لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ، فَقَدْ قَذَفَ الْأَوَّلَ بِالزِّنَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ لِلرَّجُلِ إخْوَةٌ أَوْ أَخَوَانِ سِوَاهُ - فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا أَخٌ وَاحِدٌ - فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْحَدِّ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْأَخِ الْمُخَاطَبِ أَنْ يُطَالِبَهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ قَالَ: لَسْتَ لِأَبِيكَ - فَهُوَ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ، سَوَاءٌ قَالَ فِي غَضَبٍ أَوْ رِضًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يُذْكَرُ إلَّا لِنَفْيِ النَّسَبِ عَنْ الْأَبِ، فَكَانَ قَذْفًا لِأُمِّهِ، وَلَوْ قَالَ: لَيْسَ هَذَا أَبُوكَ، أَوْ قَالَ: لَسْتَ أَنْتَ ابْنَ فُلَانٍ لِأَبِيهِ، أَوْ قَالَ: أَنْتَ ابْنُ فُلَانٍ لِأَجْنَبِيٍّ، إنْ كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ - فَهُوَ قَذْفٌ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ حَالِ الْغَضَبِ - فَلَيْسَ بِقَذْفٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ قَدْ يُذْكَرُ لِنَفْيِ النَّسَبِ وَقَدْ يُذْكَرُ لِنَفْيِ التَّشَبُّهِ فِي الْأَخْلَاقِ، أَيْ أَخْلَاقُكَ لَا تُشْبِهُ أَخْلَاقَ أَبِيكَ، أَوْ أَخْلَاقُكَ تُشْبِهُ أَخْلَاقَ فُلَانٍ الْأَجْنَبِيِّ، فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ مُزَيْقِيَا، أَوْ يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ - أَنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا فِي حَالَةِ الْغَضَبِ لَا فِي حَالَةِ الرِّضَا؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ نَفْيَ النَّسَبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَدْحَ بِالتَّشْبِيهِ بِرَجُلَيْنِ مِنْ سَادَاتِ الْعَرَبِ، فَعَامِرُ بْنُ حَارِثَةَ كَانَ يُسَمَّى مَاءَ السَّمَاءِ؛ لِصَفَائِهِ وَسَخَائِهِ، وَعَمْرُو بْنُ عَامِرٍ كَانَ يُسَمَّى الْمُزَيْقِيَا؛ لِمَزْقِهِ الثِّيَابَ، إذْ كَانَ ذَا ثَرْوَةٍ وَنَخْوَةٍ، كَانَ يَلْبَسُ كُلَّ يَوْمٍ ثَوْبًا جَدِيدًا، فَإِذَا أَمْسَى خَلَعَهُ وَمَزَّقَهُ؛ لِئَلَّا يَلْبَسَهُ غَيْرُهُ فَيُسَاوِيهِ، فَيُحَكَّمُ الْحَالُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ نَفْيَ النَّسَبِ؛ فَيَكُونُ قَذْفًا، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الرِّضَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَدْحَ؛ فَلَمْ يَكُنْ قَذْفًا، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَنْتَ ابْنُ فُلَانٍ لِعَمِّهِ أَوْ لِخَالِهِ، أَوْ لِزَوْجِ أُمِّهِ - لَمْ يَكُنْ قَذْفًا؛ لِأَنَّ الْعَمَّ يُسَمَّى أَبًا. وَكَذَلِكَ الْخَالُ وَزَوْجُ الْأُمِّ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة: 133] وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ عَمَّ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَدْ سَمَّاهُ أَبَاهُ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف: 100] وَقِيلَ: إنَّهُمَا أَبُوهُ وَخَالَتُهُ وَإِذَا كَانَتْ الْخَالَةُ أُمًّا - كَانَ الْخَالُ أَبًا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: إنَّهُ كَانَ ابْنَ امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ قَالَ: لَسْتَ بِابْنٍ لِفُلَانٍ لِجَدِّهِ - لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كَلَامِهِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْجَدَّ لَا يُسَمَّى أَبًا حَقِيقَةً بَلْ مَجَازًا، وَلَوْ قَالَ لِلْعَرَبِيِّ: يَا نَبَطِيُّ - لَمْ يَكُنْ قَذْفًا، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: لَسْتَ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، لِلْقَبِيلَةِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا - لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَكُونُ قَذْفًا، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ: يَا نَبَطِيُّ؛ لَمْ يَقْذِفْهُ، وَلَكِنَّهُ نَسَبَهُ إلَى غَيْرِ بَلَدِهِ، كَمَنْ قَالَ لِلْبَلَدِيِّ: يَا رُسْتَاقِيُّ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: يَا ابْنَ الْخَيَّاطِ، أَوْ يَا ابْنَ الْأَصْفَرِ أَوْ الْأَسْوَدِ، وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ - لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا بَلْ يَكُونُ كَاذِبًا، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: يَا ابْنَ الْأَقْطَعِ، أَوْ يَا ابْنَ الْأَعْوَرِ، وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ - يَكُونُ كَاذِبًا لَا قَاذِفًا، كَمَا إذَا قَالَ لِلْبَصِيرِ: يَا أَعْمَى، ثُمَّ الْقَذْفُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ وَيَجِبُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَذْفِ هُوَ النِّسْبَةُ إلَى الزِّنَا، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ لِسَانٍ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَالثَّانِي

فصل في الشرائط التي ترجع إلى المقذوف فيه

أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ بِهِ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ مِنْ الْمَقْذُوفِ، فَإِنْ كَانَ لَا يُتَصَوَّرُ - لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ لِآخَرَ: زَنَى فَخْذُكَ، أَوْ ظَهْرُكَ - أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ حَقِيقَةً، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَجَازَ مِنْ طَرِيقِ النَّسَبِ، كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ يُكَذِّبُهُ "، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: زَنَيْتَ بِأُصْبُعِكَ؛ لِأَنَّ الزِّنَا بِالْأُصْبُعِ لَا يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً، وَلَوْ قَالَ: زَنَى فَرْجُكَ - يُحَدُّ؛ لِأَنَّ الزِّنَا بِالْفَرْجِ يَتَحَقَّقُ، كَأَنَّهُ قَالَ: زَنَيْتُ بِفَرْجِكَ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: زَنَيْتِ بِفَرَسٍ أَوْ حِمَارٍ أَوْ بَعِيرٍ أَوْ ثَوْرٍ - لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تَمْكِينَهَا مِنْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَصَوَّرٌ حَقِيقَةً. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ جَعْلَ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ عِوَضًا وَأُجْرَةً عَلَى الزِّنَا، فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ - لَا يَكُونُ قَذْفًا؛ لِأَنَّهَا بِالتَّمْكِينِ مِنْهَا لَا تَصِيرُ مَزْنِيًّا بِهَا؛ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الزِّنَا مِنْ الْبَهِيمَةِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الثَّانِي - يَكُونُ قَذْفًا، كَمَا إذَا قَالَ زَنَيْتِ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَمْتِعَةِ - فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: زَنَيْتِ بِنَاقَةٍ أَوْ بِبَقَرَةٍ أَوْ أَتَانٍ أَوْ رَمَكَةٍ - فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى التَّمْكِينِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْعِوَضِ. لِأَنَّ حَرْفَ " الْبَاءِ " قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَعْوَاضِ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِرَجُلٍ - لَمْ يَكُنْ قَذْفًا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَةِ الْوَطْءِ، وَوَطْؤُهَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ زِنًا فَلَا يَكُونُ قَذْفًا، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْعِوَضِ فَيَكُونُ قَذْفًا فَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ فِي كَوْنِهِ قَذْفًا فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَقَالَ: يَكُونُ قَذْفًا فِي الذَّكَرِ لَا فِي الْأُنْثَى؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَطْءِ مِنْ الرَّجُلِ يُوجَدُ فِي الْأُنْثَى فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْعِوَضِ، وَلَا يُوجَدُ فِي الذَّكَرِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْعِوَضِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُتَصَوَّرُ فِي الصِّنْفَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ زَنَيْتِ وَأَنْتِ مُكْرَهَةٌ أَوْ مَعْتُوهَةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ أَوْ نَائِمَةٌ - لَمْ يَكُنْ قَذْفًا؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهَا إلَى الزِّنَا فِي حَالٍ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا وُجُودُ الزِّنَا فِيهَا، فَكَانَ كَلَامُهُ كَذِبًا لَا قَذْفًا، وَبِمِثْلِهِ لَوْ قَالَ لِأَمَةٍ أُعْتِقَتْ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ أَمَةٌ، أَوْ قَالَ لِكَافِرَةٍ أَسْلَمَتْ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ كَافِرَةٌ - يَكُونُ قَذْفًا وَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قَذَفَهَا لِلْحَالِ بِالزِّنَا فِي حَالٍ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا وُجُودُ الزِّنَا فِيهَا، فَكَانَ كَلَامُهُ كَذِبًا لَا قَذْفًا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ قَذَفَهَا لِلْحَالِ لِوُجُودِ الزِّنَا مِنْهَا فِي حَالٍ يُتَصَوَّرُ مِنْهَا الزِّنَا وَهِيَ حَالُ الرِّقِّ وَالْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَمْنَعَانِ وُقُوعَ الْفِعْلِ زِنًا، وَإِنَّمَا يَمْنَعَانِ الْإِحْصَانَ. وَالْإِحْصَانُ يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ وَقْتَ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ وَقَدْ وُجِدَ، وَلَوْ قَالَ لِإِنْسَانٍ: لَسْتَ لِأُمِّكَ - لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ نَفْيُ النَّسَبِ مِنْ الْأُمِّ وَنَفْيُ النَّسَبِ مِنْ الْأُمِّ لَا يُتَصَوَّرُ، أَلَا تَرَى أَنَّ أُمَّهُ وَلَدَتْهُ حَقِيقَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: لَسْتَ لِأَبَوَيْكَ؛ لِأَنَّهُ نَفْيُ نَسَبِهِ عَنْهُمَا وَلَا يَنْتَفِي عَنْ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ فَيَكُونُ كَذِبًا، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: لَسْتَ لِأَبِيكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَفْيٍ لِوِلَادَةِ الْأُمِّ، بَلْ هُوَ نَفْيُ النَّسَبِ عَنْ الْأَبِ، وَنَفْيُ النَّسَبِ عَنْ الْأَبِ يَكُونُ قَذْفًا لِلْأُمِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: لَسْتَ لِأَبِيكَ وَلَسْتَ لِأُمِّكَ فِي كَلَامٍ مَوْصُولٍ - لَمْ يَكُنْ قَذْفًا؛ لِأَنَّ هَذَا وَقَوْلَهُ: لَسْتَ لِأَبَوَيْكَ سَوَاءٌ. وَلَوْ قَالَ لَهُ: لَسْتَ لِآدَمَ أَوْ لَسْتَ لِرَجُلٍ أَوْ لَسْت لِإِنْسَانٍ - لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْقِطَاعَ عَنْ هَؤُلَاءِ فَكَانَ كَذِبًا مَحْضًا لَا قَذْفًا فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِيَةُ، أَنَّهُ - لَا يَكُونُ قَذْفًا عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ قَذْفًا. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ " الْهَاءَ " قَدْ تَدْخُلُ صِلَةً زَائِدَةً فِي الْكَلَامِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - خَبَرًا عَنْ الْكُفَّارِ {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة: 28] {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 29] وَمَعْنَاهُ: مَالِي وَسُلْطَانِي " وَالْهَاءُ " زَائِدَةٌ؛ فَيُحْذَفُ الزَّائِدُ فَيَبْقَى قَوْلُهُ: يَا زَانِي، وَقَدْ تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَةِ، كَمَا يُقَالُ: عَلَّامَةُ وَنَسَّابَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَا يَخْتَلُّ بِهِ مَعْنَى الْقَذْفِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ إنْ حَذَفَهُ فِي نَعْتِ الْمَرْأَةِ لَا يُخِلُّ بِمَعْنَى الْقَذْفِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانِي - يَجِبُ الْحَدُّ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي نَعْتِ الرَّجُلِ، وَلَهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهُ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ فَيَلْغُو، وَدَلِيلُ عَدَمِ التَّصَوُّرِ؛ أَنَّهُ قَذَفَهُ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ وَهُوَ التَّمْكِينُ؛ لِأَنَّ " الْهَاءَ " فِي الزَّانِيَةِ " هَاءُ " التَّأْنِيثِ كَالضَّارِبَةِ وَالْقَاتِلَةِ وَالسَّارِقَةِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الرَّجُلِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانِي؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الِاسْمِ وَحَذَفَ " الْهَاءَ " وَهَاءُ التَّأْنِيثِ قَدْ تُحْذَفُ فِي الْجُمْلَةِ كَالْحَائِضِ وَالطَّالِقِ وَالْحَامِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ فِيهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ فِيهِ - وَهُوَ الْمَكَانُ - فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ فِي دَارِ الْعَدْلِ فَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْبَغْيِ فَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ الْمُقِيمَ لِلْحُدُودِ هُمْ الْأَئِمَّةُ، وَلَا وِلَايَةَ لِإِمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا عَلَى دَارِ الْبَغْيِ

فصل في الشرائط التي ترجع إلى نفس القذف

فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِقَامَةِ فِيهِمَا، فَالْقَذْفُ فِيهِمَا لَا يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ حِينَ وُجُودِهِ فَلَا يُحْتَمَلُ الِاسْتِيفَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ لِلْوَاجِبِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي تَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَذْفِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَذْفِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا عَنْ الشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ، فَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ - لَا يُوجِبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الشَّرْطِ أَوْ الْوَقْتِ يَمْنَعُ وُقُوعَهُ قَذْفًا لِلْحَالِ، وَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ أَوْ الْوَقْتِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ نَجَّزَ الْقَذْفَ - كَمَا فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ وَالْإِضَافَاتِ - فَكَانَ قَاذِفًا تَقْدِيرًا مَعَ انْعِدَامِ الْقَذْفِ حَقِيقَةً؛ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ رَجُلٌ: مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ زَانٍ أَوْ ابْنُ الزَّانِيَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا قُلْتُ - أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْمُبْتَدِئِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْقَذْفَ بِشَرْطِ الْقَوْلِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِرَجُلٍ: إنْ دَخَلْتَ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتَ زَانٍ أَوْ ابْنُ الزَّانِيَةِ فَدَخَلَ - لَا حَدَّ عَلَى الْقَائِلِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَنْتَ زَانٍ أَوْ ابْنُ الزَّانِيَةِ غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا، فَجَاءَ الْغَدُ وَالشَّهْرُ - لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْقَذْفِ إلَى وَقْتٍ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْقَذْفِ فِي الْحَالِ وَفِي الْمَآلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا تَظْهَرُ بِهِ الْحُدُودُ عِنْدَ الْقَاضِي] وَأَمَّا بَيَانُ مَا تَظْهَرُ بِهِ الْحُدُودُ عِنْدَ الْقَاضِي فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْحُدُودُ كُلُّهَا تَظْهَرُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ، لَكِنْ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهَا، أَمَّا شَرَائِطُ الْبَيِّنَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى الْحَدِّ (فَمِنْهَا) مَا يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا. (وَمِنْهَا) مَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ. أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ الْكُلَّ: فَالذُّكُورَةُ وَالْأَصَالَةُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَلَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا؛ لِتَمَكُّنِ زِيَادَةِ شُبْهَةٍ فِيهَا - ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَالْحُدُودُ - لَا تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَلَوْ ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّ الْمَقْذُوفَ صَدَّقَهُ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ - جَازَ، وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ هَهُنَا قَامَتْ عَلَى إسْقَاطِ الْحَدِّ لَا عَلَى إثْبَاتِهِ، وَالشُّبْهَةُ تَمْنَعُ مِنْ إثْبَاتِ الْحَدِّ لَا مِنْ إسْقَاطِهِ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ (فَمِنْهَا) عَدَمُ التَّقَادُمِ، وَأَنَّهُ شَرْطٌ فِي حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الشَّاهِدَ إذَا عَايَنَ الْجَرِيمَةَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وَبَيْنَ التَّسَتُّرِ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؛ لِقَوْلِهِ «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنْ سَتَرَ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ» فَلَمَّا لَمْ يَشْهَدْ عَلَى فَوْرِ الْمُعَايَنَةِ حَتَّى تَقَادَمَ الْعَهْدُ؛ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِيَارِ جِهَةِ السِّتْرِ، فَإِذَا شَهِدَ بَعْدَ ذَلِكَ - دَلَّ عَلَى أَنَّ الضَّغِينَةَ حَمَلَتْهُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " أَيُّمَا قَوْمٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ فَإِنَّمَا شَهِدُوا عَنْ ضَغَنٍ وَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ "، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا فَدَلَّ قَوْلُ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ شَهَادَةُ ضَغِينَةٍ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ؛ وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ وَالْحَالَةَ هَذِهِ يُوَرِّثُ تُهْمَةً، وَلَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ ثَمَّةَ لَا يَدُلُّ عَلَى الضَّغِينَةِ وَالتُّهْمَةِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى هُنَاكَ شَرْطٌ فَاحْتُمِلَ أَنَّ التَّأْخِيرَ كَانَ لِتَأْخِيرِ الدَّعْوَى مِنْ الْمُدَّعِي، وَالدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْحُدُودِ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ التَّأْخِيرُ؛ لِمَا قُلْنَا، وَيُشْكِلُ عَلَى هَذَا فَصْلُ السَّرِقَةِ فَإِنَّ الدَّعْوَى هُنَاكَ شَرْطٌ وَمَعَ هَذَا التَّقَادُمِ مَانِعٌ، وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ مَشَايِخِنَا فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ مَعْنَى الضَّغِينَةِ وَالتُّهْمَةِ حِكْمَةُ الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ. وَالسَّبَبُ الظَّاهِرُ هُوَ كَوْنُ الْحَدِّ خَالِصَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ لَا عَلَى الْحِكْمَةِ، وَقَدْ وُجِدَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ فِي السَّرِقَةِ؛ فَيُوجِبُ الْمَنْعَ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْحِكْمَةِ إلَّا إذَا كَانَ وَجْهُ الْحِكْمَةِ خَفِيًّا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِحَرَجٍ، فَيُقَامُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مَقَامَهُ وَتُجْعَلُ الْحِكْمَةُ مَوْجُودَةً تَقْدِيرًا، وَهَهُنَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ وَلَمْ تُوجَدْ فِي السَّرِقَةِ؛ لِمَا بَيَّنَّا، فَيَجِبُ أَنْ تُقْبَلَ الشَّهَادَةُ بَعْدَ التَّقَادُمِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِي السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى السَّرِقَةِ بَعْدَ التَّقَادُمِ لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ فِي الِابْتِدَاءِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ السَّرِقَةَ وَيَقْطَعَ طَمَعَهُ عَنْ مَالِهِ احْتِسَابًا لِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَبَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ أَخْذَ الْمَالِ سَتْرًا عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَلَمَّا أَخَّرَ - دَلَّ تَأْخِيرُهُ عَلَى اخْتِيَارِ جِهَةِ السَّتْرِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ جِهَةِ الْحِسْبَةِ، فَلَمَّا شَهِدَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ قَصَدَ الْإِعْرَاضَ عَنْ جِهَةِ السَّتْرِ فَلَا يَصِحُّ إعْرَاضُهُ وَلَمْ يُجْعَلْ قَاصِدًا جِهَةَ الْحِسْبَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ أَعْرَضَ عَنْهَا عِنْدَ اخْتِيَارِهِ جِهَةَ السَّتْرِ فَلَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ السَّرِقَةَ فَلَمْ تُقْبَلْ

الشَّهَادَةُ عَلَى السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ يَقِفُ عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ فِيمَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى، فَبَقِيَ مُدَّعِيًا أَخْذَ الْمَالِ لَا غَيْرَ؛ فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ حِسْبَةً، إذْ التَّقَادُمُ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ لَيْسَ بِمُخَيَّرٍ بَيْنَ بَدَلِ النَّفْسِ وَبَيْنَ إقَامَةِ الْحَدِّ بِالدَّعْوَى، بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ الْعَارِ عَنْ نَفْسِهِ وَدَعْوَى الْقَذْفِ، فَلَا يُتَّهَمُ بِالتَّأْخِيرِ فَكَانَتْ الدَّعْوَى صَحِيحَةً مِنْهُ. وَالشَّيْخُ مَنْصُورُ الْمَاتُرِيدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَشَارَ إلَى مَعْنًى آخَرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَكَيْتُهُ بِلَفْظِهِ: وَهُوَ أَنَّ عَادَةَ السُّرَّاقِ الْإِقْدَامُ عَلَى السَّرِقَةِ فِي حَالَةِ الْغَفْلَةِ وَانْتِهَازِ الْفُرْصَةِ فِي مَوْضِعِ الْخُفْيَةِ، وَصَاحِبُ الْحَقِّ لَا يَطَّلِعُ عَلَى مَنْ شَهِدَ ذَلِكَ وَلَا يَعْرِفُهُمْ إلَّا بِهِمْ وَبِخَبَرِهِمْ، فَإِذَا كَتَمُوا - أَثِمُوا، وَقَدْ يَعْلَمُ الْمُدَّعِي شُهُودَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ، وَيَطْلُبُهَا إذَا احْتَاجَ إلَيْهَا فَكَانُوا فِي سَعَةٍ مِنْ تَأْخِيرِهَا. وَإِذَا بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى السَّرِقَةِ بِالتَّقَادُمِ قُبِلَتْ فِي حَقِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَهَا فِي حَقِّ الْحَدِّ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِيهَا، وَالْحَدُّ لَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ. وَأَمَّا الْمَالُ فَيَثْبُتُ مَعَهَا، ثُمَّ التَّقَادُمُ إنَّمَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فِي الْحُدُودِ الثَّلَاثَةِ؛ إذَا كَانَ التَّقَادُمُ فِي التَّأْخِيرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ظَاهِرٍ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لِعُذْرٍ ظَاهِرٍ بِأَنْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ حَاكِمٌ فَحُمِلَ إلَى بَلَدٍ فِيهِ حَاكِمٌ، فَشَهِدُوا عَلَيْهِ - جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ تَأَخَّرَتْ؛ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ الْعُذْرِ فَلَا يَكُونُ التَّقَادُمُ فِيهِ مَانِعًا، ثُمَّ لَمْ يُقَدِّرْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلتَّقَادُمِ تَقْدِيرًا، وَفَوَّضَ ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادِ كُلِّ حَاكِمٍ فِي زَمَانِهِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُوَقِّتُ فِي التَّقَادُمِ شَيْئًا، وَجَهِدْنَا بِهِ أَنْ يُوَقِّتَ؛ فَأَبَى، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - قَدَّرَاهُ بِشَهْرٍ فَإِنْ كَانَ شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ - فَهُوَ مُتَقَادِمٌ، وَإِنْ كَانَ دُونَ شَهْرٍ - فَلَيْسَ بِمُتَقَادِمٍ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ أَدْنَى الْأَجَلِ فَكَانَ مَا دُونَهُ فِي حُكْمِ الْعَاجِلِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ التَّأْخِيرَ قَدْ يَكُونُ لِعُذْرٍ، وَالْأَعْذَارُ فِي اقْتِضَاءِ التَّأْخِيرِ مُخْتَلِفَةٌ فَتَعَذَّرَ التَّوْقِيتُ فِيهِ؛ فَفُوِّضَ إلَى اجْتِهَادِ الْقَاضِي فِيمَا يُعَدُّ إبْطَاءً وَمَا لَا يُعَدُّ، وَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الشُّهُودِ بِزِنًا مُتَقَادِمٍ هَلْ يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ؟ حَكَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ، وَتَأْخِيرُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِيَارِ جِهَةِ السَّتْرِ، فَخَرَجَ كَلَامُهُمْ عَنْ كَوْنِهِ شَهَادَةً؛ فَبَقِيَ قَذْفًا فَيُوجِبُ الْحَدَّ، وَقَالَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَهُمْ وَإِنْ أَوْرَثَ تُهْمَةً وَشُبْهَةً فِي الشَّهَادَةِ - فَأَصْلُ الشَّهَادَةِ بَاقٍ، فَلَمَّا اُعْتُبِرَتْ الشُّبْهَةُ فِي إسْقَاطِ حَدِّ الزِّنَا عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، فَلَأَنْ تُعْتَبَرَ حَقِيقَةُ الشَّهَادَةِ لِإِسْقَاطِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْ الشُّهُودِ أَوْلَى. (وَمِنْهَا) قِيَامُ الرَّائِحَةِ وَقْتَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ فِي قَوْلِهِمَا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَالْحُجَجُ سَتَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا. (وَمِنْهَا) عَدَدُ الْأَرْبَعِ فِي الشُّهُودِ فِي حَدِّ الزِّنَا؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] ؛ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْحُجَّةِ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ؛ وَهُوَ الْإِقْرَارُ، وَهُنَاكَ عَدَدُ الْأَرْبَعِ شَرْطٌ. كَذَا هَهُنَا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ فَإِنَّ عَدَدَ الْأَقَارِيرِ الْأَرْبَعِ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا، فَكَذَا عَدَدُ الْأَرْبَعِ مِنْ الشُّهُودِ؛ وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ عَدَدِ الْأَرْبَعِ فِي الشَّهَادَةِ يَثْبُتُ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الزِّنَا خَاصَّةً فَإِنْ شَهِدَ عَلَى الزِّنَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ الْمَشْرُوطِ، وَهَلْ يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا: يُحَدُّونَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا جَاءُوا مَجِيءَ الشُّهُودِ - لَمْ يُحَدُّوا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا شَهِدَ ثَلَاثَةٌ، وَقَالَ الرَّابِعُ: رَأَيْتُهُمَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ - أَنَّهُ يُحَدُّ الثَّلَاثَةُ عِنْدَنَا وَلَا حَدَّ عَلَى الرَّابِعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ إلَّا إذَا كَانَ قَالَ فِي الِابْتِدَاءِ: أَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ زَنَى، ثُمَّ فَسَّرَ الزِّنَا بِمَا ذَكَرَ فَحِينَئِذٍ يُحَدُّ. (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُمْ إذَا جَاءُوا مَجِيءَ الشُّهُودِ كَانَ قَصْدُهُمْ إقَامَةَ الشَّهَادَةِ حِسْبَةً لِلَّهِ - تَعَالَى - لَا الْقَذْفَ، فَلَمْ يَكُنْ جِنَايَةً فَلَمْ يَكُنْ قَذْفًا. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ ثَلَاثَةً شَهِدُوا عَلَى مُغِيرَةَ بِالزِّنَا، فَقَامَ الرَّابِعُ وَقَالَ: رَأَيْتُ أَقْدَامًا بَادِيَةً وَنَفَسًا عَالِيًا وَأَمْرًا مُنْكَرًا، وَلَا أَعْلَمُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَقَالَ سَيّ دُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَفْضَحْ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَدَّ الثَّلَاثَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الشُّهُودِ كَلَامُ قَذْفٍ حَقِيقَةً، إذْ الْقَذْفُ هُوَ النِّسْبَةُ إلَى الزِّنَا وَقَدْ وُجِدَ مِنْ الشُّهُودِ حَقِيقَةً، فَيَدْخُلُونَ تَحْتَ آيَةِ الْقَذْفِ، إلَّا أَنَّا اعْتَبَرْنَا تَمَامَ عَدَدِ الْأَرْبَعِ إذَا جَاءُوا مَجِيءَ الشُّهُودِ فَقَدْ قَصَدُوا إقَامَةَ الْحِسْبَةِ وَاجِبًا؛ حَقًّا لِلَّهِ

تَعَالَى فَخَرَجَ كَلَامُهُمْ عَنْ كَوْنِهِ قَذْفًا وَصَارَ شَهَادَةً شَرْعًا، فَعِنْدَ النُّقْصَانِ بَقِيَ قَذْفًا حَقِيقَةً فَيُوجِبُ الْحَدَّ. وَلَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ عَلَى الزِّنَا، وَشَهِدَ رَابِعٌ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ - تُحَدُّ الثَّلَاثَةُ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ صَارَتْ قَذْفًا؛ لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ، وَلَا حَدَّ عَلَى الرَّابِعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ بَلْ حَكَى قَذْفَ غَيْرِهِ، وَلَوْ عُلِمَ أَنَّ أَحَدَ الْأَرْبَعِ عَبْدٌ أَوْ مُكَاتَبٌ أَوْ صَبِيٌّ أَوْ أَعْمَى أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ - حُدُّوا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْعَبْدَ لَيْسَتْ لَهُمَا أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ أَصْلًا وَرَأْسًا، فَانْتُقِصَ الْعَدَدُ فَصَارَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا، وَالْأَعْمَى وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ لَيْسَتْ لَهُمْ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ، أَوْ إنْ كَانَتْ لَهُمْ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ تَحَمُّلًا وَسَمَاعًا فَقَصُرَتْ أَهْلِيَّتُهُمَا لِلشَّهَادَةِ فَانْتُقِصَ الْعَدَدُ فَصَارَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا، وَسَوَاءٌ عُلِمَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ، وَإِنْ عُلِمَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِمْضَاءِ فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا - فَكَذَلِكَ يُحَدُّونَ وَلَا يَضْمَنُونَ أَرْشَ الضَّرْبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ، وَإِنْ كَانَ رَجْمًا - لَا يُحَدُّونَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ كَلَامَهُمْ وَقَعَ قَذْفًا وَمَنْ قَذَفَ حَيًّا، ثُمَّ مَاتَ الْمَقْذُوفُ - سَقَطَ الْحَدُّ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ حَصَلَ مِنْ الْقَاضِي، وَخَطَأُ الْقَاضِي عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْتُ الْمَالِ مَالُ الْمُسْلِمِينَ. وَلَوْ شَهِدَ الزَّوْجُ وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ - حُدَّ الثَّلَاثَةُ وَلَاعَنَ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ؛ لِأَنَّ قَذْفَ الزَّوْجِ يُوجِبُ اللِّعَانَ لَا الْحَدَّ، فَانْتُقِصَ الْعَدَدُ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ، فَصَارَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا؛ فَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ. وَلَوْ عُلِمَ أَنَّ الشُّهُودَ الْأَرْبَعَةَ عَبِيدٌ أَوْ كُفَّارٌ أَوْ مَحْدُودُونَ فِي قَذْفٍ أَوْ عُمْيَانٌ - يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ فُسَّاقٌ - لَا يُحَدُّونَ، وَالْفَرْقُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَبْدَ وَالْكَافِرَ لَا شَهَادَةَ لَهُمَا أَصْلًا، وَالْأَعْمَى وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ لَهُمَا شَهَادَةٌ سَمَاعًا وَتَحَمُّلًا لَا أَدَاءً، فَكَانَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا، وَالْفَاسِقُ لَهُ شَهَادَةٌ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا سَمَاعًا، وَإِذَا كَانَ كَلَامُ الْفَاسِقِ شَهَادَةً لَا قَذْفًا فَلَا يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنَّ أَحَدَ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ عَبْدٌ - فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ حُرٌّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: النَّاسُ أَحْرَارٌ إلَّا فِي أَرْبَعٍ: الشَّهَادَةِ وَالْقِصَاصِ وَالْعَقْلِ وَالْحُدُودِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. (وَمِنْهَا) اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مُجْتَمِعِينَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ - يَشْهَدُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَيُحَدُّونَ وَإِنْ كَثُرُوا؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كَلَامَهُمْ قَذْفٌ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ قَذْفًا شَرْعًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَقْتَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَإِذَا انْعَدَمَتْ هَذِهِ الشَّرِيطَةُ - بَقِيَ قَذْفًا فَيُوجِبُ الْحَدَّ، حَتَّى لَوْ جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ أَوْ مُتَفَرِّقِينَ، وَقَعَدُوا فِي مَوْضِعِ الشُّهُودِ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ جَاءُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَشَهِدُوا - جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِوُجُودِ اجْتِمَاعِهِمْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَقْتَ الشَّهَادَةِ، إذْ الْمَسْجِدُ كُلُّهُ مَجْلِسٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانُوا خَارِجِينَ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَشَهِدَ، ثُمَّ جَاءَ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ - يُضْرَبُونَ الْحَدَّ، وَإِنْ كَانُوا مِثْلَ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَوْ جَاءَ رَبِيعَةُ وَمُضَرُ فُرَادَى - لَحَدَدْتُهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ؛ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوَطْءُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ كَالْمَجْبُوبِ - لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ. وَلَوْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ خَصِيًّا أَوْ عِنِّينًا - قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ وَيُحَدُّ؛ لِتَصَوُّرِ الزِّنَا مِنْهُمَا؛ لِقِيَامِ الْآلَةِ - بِخِلَافِ الْمَجْبُوبِ - (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى دَعْوَى الشُّبْهَةِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ كَالْأَخْرَسِ - لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَادِرًا لَادَّعَى شُبْهَةً، وَلَوْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا أَعْمَى قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى قَادِرٌ عَلَى دَعْوَى الشُّبْهَةِ لَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ. وَلَوْ شَهِدُوا بِالزِّنَا، ثُمَّ قَالُوا: تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ إلَى فَرْجِهَا - لَا تُبْطَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ التَّحَمُّلِ، وَلَا بُدَّ لِلتَّحَمُّلِ مِنْ النَّظَرِ إلَى عَيْنِ الْفَرْجِ، وَيُبَاحُ لَهُمْ النَّظَرُ إلَيْهَا لِقَصْدِ إقَامَةِ الْحِسْبَةِ، كَمَا يُبَاحُ لِلطَّبِيبِ لِقَصْدِ الْمُعَالَجَةِ، وَلَوْ قَالُوا: نَظَرْنَا مُكَرَّرًا - بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُمْ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) اتِّحَادُ الشُّهُودِ، وَهُوَ أَنْ يُجْمِعَ الشُّهُودُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ فَإِنْ اخْتَلَفُوا - لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى فِي مَكَانِ كَذَا، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى فِي مَكَان آخَرَ، وَالْمَكَانَانِ مُتَبَايِنَانِ؛ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ فِيهِمَا فِعْلٌ وَاحِدٌ عَادَةً، كَالْبَلَدَيْنِ وَالدَّارَيْنِ وَالْبَيْتَيْنِ - لَا تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ وَلَا حَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِفِعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْمَكَانَيْنِ، وَلَيْسَ

عَلَى أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ وَلَا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ أَيْضًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ يُحَدُّونَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ عَدَدَ الشُّهُودِ قَدْ اُنْتُقِصَ؛ لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ شَهِدَ بِفِعْلٍ غَيْرِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْفَرِيقُ الْآخَرُ، وَنُقْصَانُ عَدَدِ الشُّهُودِ يُوجِبُ صَيْرُورَةَ الشَّهَادَةِ قَذْفًا، كَمَا لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ بِالزِّنَا. (وَلَنَا) أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ لَمْ يَخْتَلِفْ عِنْدَ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا زِنًا وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَكَانِ فَثَبَتَ بِشَهَادَتِهِمْ شُبْهَةُ اتِّحَادِ الْفِعْلِ؛ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ، وَعَلَى هَذَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي الزَّمَانِ فَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي يَوْمِ كَذَا، وَاثْنَانِ فِي يَوْمٍ آخَرَ، وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى فِي هَذِهِ الزَّاوِيَةِ مِنْ الْبَيْتِ، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى فِي هَذِهِ الزَّاوِيَةِ الْأُخْرَى مِنْهُ - يُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ؛ لِجَوَازِ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْفِعْلِ وَقَعَ فِي هَذِهِ الزَّاوِيَةِ مِنْ الْبَيْتِ وَانْتِهَاؤُهُ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى مِنْهُ؛ لِانْتِقَالِهِمَا مِنْهُ وَاضْطِرَابِهِمَا فَلَمْ يَخْتَلِفْ الْمَشْهُودُ بِهِ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْبَيْتُ كَبِيرًا لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْتَيْنِ، وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ، فَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا، وَاثْنَانِ أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ - لَا حَدَّ عَلَى الْمَرْأَةِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إلَّا بِالزِّنَا طَوْعًا وَلَمْ تَثْبُتْ الطَّوَاعِيَةُ فِي حَقِّهَا، (وَأَمَّا) الرَّجُلُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَهُمَا يُحَدُّ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ زِنَا الرَّجُلِ عَنْ طَوْعٍ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الْأَرْبَعِ، إلَّا أَنَّهُ تَفَرَّدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ بِإِثْبَاتِ زِيَادَةِ الْإِكْرَاهِ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ، كَمَا لَوْ زَنَى بِهَا مُسْتَكْرَهَةً، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّ الْمَشْهُودَ قَدْ اخْتَلَفَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُكْرَهِ غَيْرُ فِعْلِ مَنْ لَيْسَ بِمُكْرَهٍ فَقَدْ شَهِدُوا بِفِعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ فَلَا يُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَلَا الشُّهُودُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، خِلَافًا لِزُفَرَ وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. ثُمَّ الشُّهُودُ إذَا اسْتَجْمَعُوا شَرَائِطَ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ، وَشَهِدُوا عِنْدَ الْقَاضِي سَأَلَهُمْ الْقَاضِي عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ وَكَيْف هُوَ وَمَتَى زَنَى وَأَيْنَ زَنَى وَبِمَنْ زَنَى؟ أَمَّا السُّؤَالُ عَنْ مَاهِيَّةِ الزِّنَا؛ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ غَيْرَ الزِّنَا الْمَعْرُوفِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الزِّنَا يَقَعُ عَلَى أَنْوَاعٍ لَا تُوجِبُ الْحَدَّ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ يُكَذِّبُهُ. " وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنْ الْكَيْفِيَّةِ؛ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ الْجِمَاعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى جِمَاعًا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ. وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنْ الزَّمَانِ؛ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِزِنًا مُتَقَادِمٍ، وَالتَّقَادُمُ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا، وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنْ الْمَكَانِ؛ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْبَغْيِ، وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنْ الْمَزْنِيِّ بِهَا؛ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ مِمَّنْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِوَطْئِهَا كَجَارِيَةِ الِابْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا سَأَلَهُمْ الْقَاضِي عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ - فَوَصَفُوا، سَأَلَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ أَهُوَ مُحْصَنٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ أَنْكَرَ الْإِحْصَانَ، وَشَهِدَ عَلَى الْإِحْصَانِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى الِاخْتِلَافِ - سَأَلَ الشُّهُودَ عَنْ الْإِحْصَانِ مَا هُوَ؛ لِأَنَّ لَهُ شَرَائِطَ يَجُوزُ أَنْ تَخْفَى عَلَى الشُّهُودِ، فَإِذَا وَصَفُوا - قُضِيَ بِالرَّجْمِ وَلَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ الْإِحْصَانِ أَنَّهُ جَامَعَهَا أَوْ بَاضَعَهَا - صَارَ مُحْصَنًا؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْعُرْفِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ دَخَلَ بِهَا - صَارَ مُحْصَنًا، وَهَذَا وَقَوْلُهُ جَامَعَهَا سَوَاءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِيرُ مُحْصَنًا. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَطْءِ وَيُسْتَعْمَلُ فِي الزِّفَافِ، فَلَا يَثْبُتُ الْإِحْصَانُ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَلَهُمَا أَنَّ الدُّخُولَ بِالْمَرْأَةِ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] حَرَّمَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الرَّبِيبَةَ بِشَرْطِ الدُّخُولِ بِأُمِّهَا، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الدُّخُولِ هُوَ الْوَطْءُ؛ لِأَنَّهَا تُحَرَّمُ بِمُجَرَّدِ نِكَاحِ الْأُمِّ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ الِاخْتِلَافَ عَلَى الْقَلْبِ فَقَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَصِيرُ مُحْصَنًا مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالْوَطْءِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِيرُ مُحْصَنًا، وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى الدُّخُولِ وَكَانَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ - هُوَ مُحْصَنٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَفَى بِالْوَلَدِ شَاهِدًا، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمْ. (وَأَمَّا) شَرَائِطُ الْإِقْرَارِ بِالْحَدِّ فَمِنْهَا مَا يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا، وَمِنْهَا مَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا فَمِنْهَا: الْبُلُوغُ، فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الصَّبِيِّ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَدِّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ جِنَايَةً، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً؛ فَكَانَ إقْرَارُهُ كَذِبًا مَحْضًا، وَمِنْهَا: النُّطْقُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ بِالْخِطَابِ وَالْعِبَارَةِ دُونَ الْكِتَابِ وَالْإِشَارَةِ، حَتَّى إنَّ الْأَخْرَسَ لَوْ كَتَبَ الْإِقْرَارَ فِي كِتَابٍ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ إشَارَةً مَعْلُومَةً - لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالْبَيَانِ الْمُتَنَاهِي، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ

بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ - لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالزِّنَا، وَالْبَيَانُ لَا يَتَنَاهَى إلَّا بِالصَّرِيحِ وَالْكِتَابَةِ - وَالْإِشَارَةُ بِمَنْزِلَةِ - الْكِتَابَةِ فَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ. وَأَمَّا الْبَصَرُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، فَيَصِحُّ إقْرَارُ الْأَعْمَى فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا كَالْبَصِيرِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يَمْنَعُ مُبَاشَرَةَ سَبَبِ وُجُوبِهَا، وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالذُّكُورَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ؛ حَتَّى يَصِحَّ إقْرَارُ الرَّقِيقِ وَالذِّمِّيِّ وَالْمَرْأَةِ فِي جَمِيعِ الْحُدُودِ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الْحُدُودِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى، وَالْكَلَامُ فِي التَّصْدِيقِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَمِنْهَا: عَدَدُ الْأَرْبَعِ فِي حَدِّ الزِّنَا خَاصَّةً، وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيُكْتَفَى بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً فِي الشَّرْعِ لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، وَهُوَ الْمَعْنَى عِنْدَ التَّكْرَارِ وَالتَّوَحُّدِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ وَالْخَبَرُ لَا يَزِيدُ رُجْحَانًا بِالتَّكْرَارِ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ، بِخِلَافِ عَدَدِ الْمُثَنَّى فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ زِيَادَةَ ظَنٍّ عَلَيْهِ فِيهَا، إلَّا أَنَّ شَرْطَ الْعَدَدِ الْأَرْبَعِ فِي بَابِ الزِّنَا تَعَبُّدٌ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْضِعِ التَّعَبُّدِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْقِيَاسَ مَا قَالَهُ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ مَاعِزًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقَرَّ بِالزِّنَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، هَكَذَا إلَى الْأَرْبَعِ، فَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ مَرَّةً مُظْهِرًا لِلْحَدِّ لَمَا أَخَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْأَرْبَعِ» ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ بَعْدَ مَا ظَهَرَ وُجُوبُهُ لِلْإِمَامِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ. (وَأَمَّا) الْعَدَدُ فِي الْإِقْرَارِ بِالْقَذْفِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّهُ كُلَّمَا يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ فَعَدَدُ الْإِقْرَارِ فِيهِ كَعَدَدِ الشُّهُودِ وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُشْتَرَطُ الْإِقْرَارُ مَرَّتَيْنِ فِي مَكَانَيْنِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - كَحَدِّ الزِّنَا، فَتَلْزَمُ مُرَاعَاةُ الِاحْتِيَاطِ فِيهِ بِاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ كَمَا فِي الزِّنَا، إلَّا أَنَّهُ يُكْتَفَى هَهُنَا بِالْمَرَّتَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ الْأَرْبَعُ هُنَاكَ اسْتِدْلَالًا بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ وَالشُّرْبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ بِنِصْفِ مَا يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَا؛ وَهُوَ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ، فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ، وَلَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ التَّكْرَارُ فِي الْإِقْرَارِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إخْبَارٌ وَالْمُخْبَرُ لَا يَزْدَادُ بِتَكْرَارِ الْخَبَرِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا عَدَدَ الْأَرْبَعِ فِي بَابِ الزِّنَا بِنَصٍّ غَيْرِ مَعْقُولِ الْمَعْنَى؛ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ، وَمِنْهَا عَدَدُ الْمَجَالِسِ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ أَرْبَعَ مَجَالِسَ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَجَالِسُ الْقَاضِي أَوْ مَجَالِسُ الْمُقِرِّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَجَالِسُ الْمُقِرِّ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَجَالِسُ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اعْتَبَرَ اخْتِلَافَ مَجَالِسِ مَاعِزٍ، حَيْثُ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، ثُمَّ يَعُودُ وَمَجْلِسُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَخْتَلِفْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَفْسِيرِ اخْتِلَافِ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ: هُوَ أَنْ يُقِرَّ مَرَّةً، ثُمَّ يَذْهَبُ حَتَّى يَتَوَارَى عَنْ بَصَرِ الْقَاضِي، ثُمَّ يَجِيءُ فَيُقِرُّ ثُمَّ يَذْهَبُ، هَكَذَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ إقْرَارُهُ بَيْنَ يَدَيْ الْإِمَامِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ غَيْرِهِ - لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ مَاعِزٍ كَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَوْ أَقَرَّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى إقْرَارِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُقِرًّا فَالشَّهَادَةُ لَغْوٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْإِقْرَارِ لَا لِلشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا فَالْإِنْكَارُ مِنْهُ رُجُوعٌ، وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - صَحِيحٌ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَمِنْهَا الصِّحَّةُ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ حَتَّى لَوْ كَانَ سَكْرَانَ - لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَنَّ السَّكْرَانَ: مَنْ صَارَ بِالشُّرْبِ إلَى حَالٍ لَا يَعْقِلُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا فَكَانَ عَقْلُهُ زَائِلًا مَسْتُورًا حَقِيقَةً. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا؛ فَلِأَنَّهُ إذَا غَلَبَ الْهَذَيَانُ عَلَى كَلَامِهِ؛ فَقَدْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ الْعَقْلِ، وَلِهَذَا لَمْ تَصِحَّ رِدَّتُهُ فَيُورِثُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي وُجُوبِ الْحَدِّ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ، وَلِلْعَبْدِ حَقٌّ فِي حَدِّ الْقَذْفِ؛ فَيَصِحُّ مَعَ السُّكْرِ كَالْإِقْرَارِ بِالْمَالِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِذَا صَحَّا فَإِنْ دَامَ عَلَى إقْرَارِهِ - تُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ كُلُّهَا، وَإِنْ أَنْكَرَهُ فَالْإِنْكَارُ مِنْهُ رُجُوعٌ فَيَصِحُّ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ وَهُوَ حَدُّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ فِي حَقِّ الْقَطْعِ، وَلَا يَصِحُّ فِي الْقَذْفِ وَالْقَتْلِ الْعَمْدِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ بِالزِّنَا مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ الزِّنَا مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ لَا يُتَصَوَّرُ كَالْمَجْبُوبِ - لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ؛ لِانْعِدَامِ

الْآلَةِ، وَيَصِحُّ إقْرَارُ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ لِتَصَوُّرِ الزِّنَا مِنْهُمَا؛ لِتَحَقُّقِ الْآلَةِ، وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ إذَا أَقَرَّ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ - فَهُوَ مِثْلُ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ صَحِيحٌ، وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَزْنِيُّ بِهِ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى دَعْوَى الشُّبْهَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ أَقَرَّ رَجُلٌ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ خَرْسَاءَ أَوْ أَقَرَّتْ امْرَأَةٌ أَنَّهَا زَنَتْ بِأَخْرَسَ - لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى النُّطْقِ؛ لَادَّعَى النِّكَاحَ أَوْ أَنْكَرَ الزِّنَا وَلَمْ يَدَّعِ شَيْئًا فَيَنْدَرِئُ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا حَضْرَةُ الْمَزْنِيِّ بِهَا فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ، حَتَّى لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ - صَحَّ الْإِقْرَارُ وَقُبِلَتْ الشَّهَادَةُ وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ بِالْغَيْبَةِ لَيْسَ إلَّا الدَّعْوَى وَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ؛ وَلِهَذَا رُجِمَ مَاعِزٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ حُضُورِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِالْمَزْنِيِّ بِهَا ثُمَّ إذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ يَعْرِفُهَا، فَحَضَرَتْ الْمَرْأَةُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ حَضَرَتْ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الرَّجُلِ، وَإِمَّا أَنْ حَضَرَتْ بَعْدَ الْإِقَامَةِ، فَإِنْ حَضَرَتْ بَعْدَ الْإِقَامَةِ، فَإِنْ أَقَرَّتْ بِمِثْلِ مَا أَقَرَّ بِهِ الرَّجُلُ - تُحَدُّ أَيْضًا كَمَا حُدَّ الرَّجُلُ، وَإِنْ أَنْكَرَتْ وَادَّعَتْ عَلَى الرَّجُلِ حَدَّ الْقَذْفِ - لَا يُحَدُّ الرَّجُلُ حَدَّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدَّانِ، وَقَدْ أُقِيمَ أَحَدُهُمَا فَلَا يُقَامُ الْآخَرُ. وَإِنْ حَضَرَتْ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الرَّجُلِ فَإِنْ أَنْكَرَتْ الزِّنَا وَادَّعَتْ النِّكَاحَ أَوْ لَمْ تَدَّعِ، وَادَّعَتْ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الرَّجُلِ أَوْ لَمْ تَدَّعِ فَحُكْمُهُ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْعِلْمُ بِالْمَزْنِيِّ بِهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: زَنَيْتُ بِامْرَأَةٍ وَلَا أَعْرِفُهَا - صَحَّ إقْرَارُهُ وَيُحَدُّ وَالْعِلْمُ بِالْمَشْهُودِ بِهِ شَرْطُ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ، حَتَّى لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ وَقَالُوا: لَا نَعْرِفُهَا - لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُقِرَّ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ يَبْنِي الْأَمْرَ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ - خُصُوصًا فِي الزِّنَا، فَكَانَ إقْرَارُهُ إخْبَارًا عَنْ وُجُودِ الزِّنَا مِنْهُ حَقِيقَةً، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ اسْمَ الْمَرْأَةِ وَنَسَبَهَا وَذَا لَا يُورِثُ شُبْهَةً، فَأَمَّا الشَّاهِدُ فَإِنَّهُ بِشَهَادَتِهِ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لِقُصُورِ عِلْمِهِ عَنْ الْوُصُولِ إلَى الْحَقِيقَةِ، فَقَوْلُهُمْ: لَا نَعْرِفُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ يُورِثُ شُبْهَةً؛ لِجَوَازِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ امْرَأَةٌ لَهُ فِيهَا شُبْهَةُ حِلٍّ أَوْ مِلْكٍ، فَهُوَ الْفَرْقُ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَأَمَّا عَدَمُ التَّقَادُمِ فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالْحَدِّ؟ أَمَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، وَكَذَلِكَ فِي حَدِّ الزِّنَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا فِي الشَّهَادَةِ. (وَلَنَا) الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَانِعَ فِي الشَّهَادَةِ تَمَكُّنُ التُّهْمَةِ وَالضَّغِينَةِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ وَكَذَا فِي حَدِّ السَّرِقَةِ؛ لِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا فِي حَدِّ الشُّرْبِ فَشَرْطٌ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قِيَامَ الرَّائِحَةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ عِنْدَهُمَا، وَلِهَذَا لَا يَبْقَى مَعَ التَّقَادُمِ، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَوْ لَمْ يَتَقَادَمْ الْعَهْدُ، وَلَكِنَّ رِيحَهَا لَا يُوجَدُ مِنْهُ - لَمْ يَصِحَّ الْإِقْرَارُ عِنْدَهُمَا، خِلَافًا لَهُ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا عُرِفَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَإِجْمَاعُهُمْ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يَثْبُتْ فَتْوَاهُ عِنْدَ زَوَالِ الرَّائِحَةِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ بِابْنِ أَخٍ لَهُ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَاعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: بِئْسَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ أَنْتَ، لَا أَدَّبْتَهُ صَغِيرًا وَلَا سَتَرْت عَلَيْهِ كَبِيرًا، ثُمَّ قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَلْتِلُوهُ وَمَزْمِزُوهُ وَاسْتَنْكِهُوهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ - فَاجْلِدُوهُ، وَأَفْتَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْحَدِّ عِنْدَ وُجُودِ الرَّائِحَةِ. وَلَمْ يَثْبُتْ فَتْوَاهُ عِنْدَ عَدَمِهَا، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ، فَلَا يَجِبُ بِدُونِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا إجْمَاعَ، ثُمَّ إنَّمَا تُعْتَبَرُ الرَّائِحَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ سَكْرَانَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ سَكْرَانًا - فَلَا؛ لِأَنَّ السُّكْرَ أَدُلُّ عَلَى الشُّرْبِ مِنْ الرَّائِحَةِ، وَلِذَلِكَ لَوْ جِيءَ بِهِ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ لَا تَبْقَى الرَّائِحَةُ بِالْمَجِيءِ مِنْ مِثْلِهِ عَادَةً - يُحَدُّ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ الرَّائِحَةُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ الْعُذْرِ فَلَا يُعْتَبَرُ قِيَامُ الرَّائِحَةِ فِيهِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَإِذَا أَقَرَّ إنْسَانٌ بِالزِّنَا عِنْدَ الْقَاضِي؛ يَنْبَغِي أَنْ يُظْهِرَ الْكَرَاهَةَ أَوْ يَطْرُدَهُ، وَكَذَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ هَكَذَا فُعِلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَاعِزٍ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " اُطْرُدُوا الْمُعْتَرِفِينَ ". أَيْ بِالزِّنَا، فَإِذَا أَقَرَّ أَرْبَعًا نُظِرَ فِي حَالِهِ أَهُوَ صَحِيحُ الْعَقْلِ أَمْ بِهِ آفَةٌ؟ هَكَذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَاعِزٍ أَبِكَ خَبَلٌ أَمْ بِكَ جُنُونٌ؟ وَبَعَثَ إلَى قَوْمِهِ فَسَأَلَهُمْ عَنْ حَالِهِ. فَإِذَا عُرِفَ أَنَّهُ صَحِيحُ الْعَقْلِ سَأَلَهُ عَنْ مَاهِيَّةِ الزِّنَا وَعَنْ كَيْفِيَّتِهِ وَعَنْ مَكَانِهِ وَعَنْ الْمَزْنِيِّ بِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الشَّهَادَةِ،

وَلَا يَسْأَلُهُ عَنْ الزَّمَانِ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنْ الزَّمَانِ لِمَكَانِ احْتِمَالِ التَّقَادُمِ، وَالتَّقَادُمُ فِي الْإِقْرَارِ، وَإِنَّمَا يَقْدَحُ فِي الشَّهَادَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الزَّمَانِ أَيْضًا؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ زَنَى فِي حَالِ الصِّغَرِ، فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ - سَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ أَهُوَ مُحْصَنٌ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ حُكْمَ الزِّنَا يَخْتَلِفُ بِالْإِحْصَانِ وَعَدَمِهِ، فَإِنْ قَالَ: أَنَا مُحْصَنٌ - سَأَلَهُ عَنْ مَاهِيَّةِ الْإِحْصَانِ أَنَّهُ مَا هُوَ؟ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ اجْتِمَاعِ شَرَائِطِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ فَإِذَا بَيَّنَ رَجَمَهُ. وَأَمَّا عِلْمُ الْقَاضِي فَلَا يَظْهَرُ بِهِ حَدُّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ وَالسَّرِقَةِ؛ حَتَّى لَا يَقْضِيَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ، لَكِنَّهُ يَقْضِي بِالْمَالِ فِي السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْأَمْوَالِ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ قَبْلَ زَمَانِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ أَوْ بَعْدَهُمَا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ مُعَايَنَةً بِأَنْ رَأَى إنْسَانًا يَزْنِي وَيَشْرَبُ وَيَسْرِقُ، أَوْ بِسَمَاعِ الْإِقْرَارِ بِهِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَ إقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ - لَزِمَهُ مُوجِبُ إقْرَارِهِ، إذْ لَوْ لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ - لَاحْتَاجَ الْقَاضِي إلَى أَنْ يَكُونَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى الْإِقْرَارِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ بِخِلَافِهِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَيَظْهَرُ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ فِي زَمَانِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ كَالْقِصَاصِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ وَالْأَمْوَالِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي ظُهُورِ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ فِي غَيْرِ زَمَانِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا جُمْلَةَ ذَلِكَ بِدَلَائِلِهِ فِي كِتَابِ آدَابِ الْقَاضِي، وَلَا يَظْهَرُ حَدُّ السَّرِقَةِ بِالنُّكُولِ، لَكِنَّهُ يَقْضِي بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ إمَّا بَدَلٌ، وَإِمَّا إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَالْحَدُّ لَا يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ وَلَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ، وَالْمَالُ يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ وَالثُّبُوتَ بِالشُّبْهَةِ. وَأَمَّا الْخُصُومَةُ فَهَلْ هِيَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْحَدِّ بِالشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ؟ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي حَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَالْخُصُومَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا تُقَامُ حِسْبَةً لِلَّهِ - تَعَالَى - فَلَا يَتَوَقَّفُ ظُهُورُهَا عَلَى دَعْوَى الْعَبْدِ. وَلَا خِلَافَ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ أَنَّ الْخُصُومَةَ فِيهَا شَرْطُ الظُّهُورِ بِالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ وَإِنْ كَانَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، لَكِنْ هَذَا الْحَقُّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ كَوْنِ الْمَسْرُوقِ مِلْكًا لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إلَّا بِالْخُصُومَةِ، وَفِي كَوْنِهَا شَرْطَ الظُّهُورِ بِالْإِقْرَارِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّهَا شَرْطُ الظُّهُورِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْقَذْفِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى كَمَا فِي سَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَعِنْدَنَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُغَلَّبُ فِيهِ، لَكِنْ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ بِصِيَانَةِ عِرْضِهِ عَنْ الْهَتْكِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى عَنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ شَرْطُ كَوْنِ النِّيَّةِ وَالْإِقْرَارِ مُظْهِرَيْنِ فِيهِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا - فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ، وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ مَنْ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُهَا، أَمَّا الْأَوَّلُ - فَنَقُولُ - وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى: الْأَفْضَلُ لِلْمَقْذُوفِ أَنْ يَتْرُكَ الْخُصُومَةَ؛ لِأَنَّ فِيهَا إشَاعَةَ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى تَرْكِهَا، وَكَذَا الْعَفْوُ عَنْ الْخُصُومَةِ وَالْمُطَالَبَةِ الَّتِي هِيَ حَقُّهَا مِنْ بَابِ الْفَضْلِ وَالْكَرَامَةِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] ، وَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي يُسْتَحْسَنُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِالْبَيِّنَةِ: أَعْرِضْ عَنْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ نَدْبٌ إلَى السَّتْرِ وَالْعَفْوِ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ، فَإِذَا لَمْ يَتْرُكْ الْخُصُومَةَ، وَادَّعَى الْقَذْفَ عَلَى الْقَاذِفِ، فَأَنْكَرَ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي فَأَرَادَ اسْتِحْلَافَهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا قَذَفَهُ، هَلْ يَحْلِفُ؟ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ فِي آدَابِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَحْلِفُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُمْ، وَإِذَا نَكِلَ - يَقْضِي عَلَيْهِ بِالْحَدِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْلِفَ، فَإِذَا نَكِلَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالتَّعْزِيرِ لَا بِالْحَدِّ. وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ تَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَدُّ الْقَذْفِ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ، فَيَجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ كَمَا فِي سَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا فَفِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى - عَزَّ وَجَلَّ - وَحَقُّ الْعَبْدِ فَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إنَّهُ يَحْلِفُ وَيَقْضِي بِالْحَدِّ عِنْدَ النُّكُولِ اعْتَبَرَ مَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ فَأَلْحَقَهُ فِي التَّحْلِيفِ بِالتَّعْزِيرِ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إنَّهُ لَا يَحْلِفُ أَصْلًا اعْتَبَرَ حَقَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُغَلَّبُ، فَأَلْحَقَهُ بِسَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْخَالِصَةِ، وَالْجَامِعُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِاسْتِحْلَافِ هُوَ النُّكُولُ، وَأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ بَدَلٌ، وَالْحَدُّ لَا يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ، وَعَلَى أَصْلِهِمَا إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحِ إقْرَارٍ، بَلْ هُوَ إقْرَارٌ بِطَرِيقِ السُّكُوتِ، فَكَانَ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَالْحَدُّ لَا يَثْبُتُ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ. إنَّهُ يَحْلِفَ وَيَقْضِي عَلَيْهِ بِالتَّعْزِيرِ عِنْدَ النُّكُولِ

دُونَ الْحَدِّ، اعْتَبَرَ حَقَّ الْعَبْدِ فِيهِ لِلِاسْتِحْلَافِ كَالتَّعْزِيرِ وَاعْتَبَرَ حَقَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْمَنْعِ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عِنْدَ النُّكُولِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ كَحَدِّ السَّرِقَةِ أَنَّهُ يَجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ، وَلَا يَقْضِي عِنْدَ النُّكُولِ بِالْحَدِّ، وَلَكِنْ يَقْضِي بِالْمَالِ، وَكَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ - فِي الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ وَالنَّفْسِ: إنَّهُ يَحْلِفُ، وَعِنْدَ النُّكُولِ لَا يَقْضِي بِالْقِصَاصِ بَلْ بِالدِّيَةِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ عَلَى قَذْفِهِ - يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْقَذْفُ إلَى قِيَامِ الْحَاكِمِ مِنْ مَجْلِسِهِ. وَالْمُرَادُ مِنْ الْحَبْسِ الْمُلَازَمَةُ أَيْ يُقَالُ لِلْمُدَّعِي: لَازِمْهُ إلَى هَذَا الْوَقْتِ، فَإِنْ أَحْضَرَ الْبَيِّنَةَ فِيهِ وَإِلَّا خُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ، هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْكَفِيلُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ فِي الْحُدُودِ غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ فِي الْكِتَابِ: وَلَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ وَلَا قِصَاصٍ، وَعِنْدَهُمَا يُكْفَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ جَبْرًا، فَأَمَّا إذَا بَذَلَ مِنْ نَفْسِهِ وَأَعْطَى الْكَفِيلَ - فَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَظَاهِرُ إطْلَاقِ الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ النَّفْيِ إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ؛ يُرَادُ بِهَا نَفْيُ الْجَوَازِ مِنْ الْأَصْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ وَلَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَنَحْوِ ذَلِكَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحَبْسَ جَائِزٌ فِي الْحُدُودِ، فَالْكَفَالَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ فِي الْحَبْسِ أَبْلَغُ مِنْهُ فِي الْكَفَالَةِ، فَلَمَّا جَازَ الْحَبْسُ فَالْكَفَالَةُ أَحَقُّ بِالْجَوَازِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْكَفَالَةَ شُرِعَتْ لِلِاسْتِيثَاقِ، وَالْحُدُودُ مَبْنَاهَا عَلَى الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . فَلَا يُنَاسِبُهَا الِاسْتِيثَاقُ بِالْكَفَالَةِ، بِخِلَافِ الْحَبْسِ فَإِنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ مَشْرُوعٌ، رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ» وَقَدْ ثَبَتَتْ التُّهْمَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ: لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ، فَجَازَ الْحَبْسُ فَإِذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ لَا يَعْرِفُهُمَا الْقَاضِي - أَيْ لَمْ تَظْهَرْ عَدَالَتُهُمَا بَعْدَ الْحَبْسِ - فَلَا خِلَافَ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ، وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا عَدْلًا حُبِسَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَهُمَا لَا يُحْبَسُ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحَقَّ لَا يَظْهَرُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا، فَالْحَبْسُ مِنْ أَيْنَ بِخِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ؟ فَإِنَّ سَبَبَ ظُهُورِ الْحَقِّ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ كَمَالُ عَدَدِ الْحُجَّةِ، إلَّا أَنَّ تَوَقُّفَ الظُّهُورِ لِتَوَقُّفِ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ فَثَبَتَتْ الشُّبْهَةُ؛ فَيُحْبَسُ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قَوْلَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ الْحَقَّ فَإِنَّهُ يُوجِبُ التُّهْمَةَ، وَحَبْسُ الْمُتَّهَمِ جَائِزٌ، وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعِي: لَا بَيِّنَةَ لِي أَوْ بَيِّنَتِي غَائِبَةٌ أَوْ خَارِجُ الْمِصْرِ - لَا يُحْبَسُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لِلْمَقْذُوفِ عَلَى الْقَذْفِ، أَوْ أَقَرَّ الْقَاذِفُ بِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقُولُ لَهُ: أَقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى صِحَّةِ قَذْفِكَ. فَإِنْ أَقَامَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهُودِ عَلَى مُعَايَنَةِ الزِّنَا مِنْ الْمَقْذُوفِ أَوْ عَلَى إقْرَارِهِ بِالزِّنَا - سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ، وَيُقَامُ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ - يُقِيمُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَاذِفِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وَإِنْ طَلَبَ التَّأْجِيلَ مِنْ الْقَاضِي، وَقَالَ: شُهُودِي غُيَّبٌ، أَوْ خَارِجُ الْمِصْرِ - لَمْ يُؤَجِّلْهُ، وَلَوْ قَالَ: شُهُودِي فِي الْمِصْرِ أَجَّلَهُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، وَلَازَمَهُ الْمَقْذُوفُ، وَيُقَالُ لَهُ: ابْعَثْ أَحَدًا إلَى شُهُودِكَ فَأَحْضِرْهُمْ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا يُؤَجَّلُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْكَفِيلُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي إخْبَارِهِ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةٌ فِي الْمِصْرِ، وَرُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ الْإِحْضَارُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّأْخِيرِ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي وَأَخْذِ الْكَفِيلِ؛ لِئَلَّا يُفَوِّتَ حَقَّهُ عَسَى، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ فِي التَّأْجِيلِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ الثَّانِي مَنْعًا مِنْ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ التَّأْخِيرِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا يُعَدُّ تَأْجِيلًا وَلَا مَنْعًا مِنْ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا ادَّعَى أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَبْعَثُهُ إلَى الشُّهُودِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَبْعَثُ مَعَهُ مِنْ الشُّرَطِ مَنْ يَحْفَظْهُ وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى يُقِرَّ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ - ضُرِبَ الْحَدُّ، وَلَوْ ضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ أَقَامَ الْقَاذِفُ الْبَيِّنَةَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ - قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَسَقَطَتْ بَيِّنَةُ الْجَلَدَاتِ، وَلَا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ وَيُقَامُ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ، كَمَا لَوْ أَقَامَهَا قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحَدَّ أَصْلًا وَلَوْ ضُرِبَ الْحَدَّ بِتَمَامِهِ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْقَبُولِ فِي جَوَازِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ، وَأَنْ لَا يَصِيرَ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ

فصل في بيان من يملك الخصومة ومن لا يملكها في القذف

مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ حَقِيقَةً، حَيْثُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْذُوفَ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا؛ لِأَنَّ مِنْ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ الْعِفَّةُ عَنْ الزِّنَا، وَقَدْ ظَهَرَ زِنَاهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ؛ فَلَمْ يَصِرْ الْقَاذِفُ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ، وَلَا يَظْهَرُ أَثَرُ قَبُولِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فِي إقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَذْفِ قَدْ تَقَرَّرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ. وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا فَقَالَ: يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ، ثُمَّ ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّ أُمَّ الْمَقْذُوفِ أَمَةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ، وَالْمَقْذُوفُ يَقُولُ: هِيَ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ - فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ، وَعَلَى الْمَقْذُوفِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ،. وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَ إنْسَانًا فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّ الْمَقْذُوفَ عَبْدٌ - فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْقَاذِفُ: أَنَا عَبْدٌ وَعَلَيَّ حَدُّ الْعَبْدِ، وَقَالَ الْمَقْذُوفُ: أَنْت حُرٌّ - فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ؛ لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ دَارُ الْأَحْرَارِ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْغَيْرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِالْبَيِّنَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَذَفَ أُمَّ رَجُلٍ فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُ أُمَّهُ حُرَّةً مُسْلِمَةً - جَلَدَ الْقَاذِفَ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ يَثْبُتَانِ بِالْبَيِّنَةِ فَعِلْمُ الْقَاضِي أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ فَوْقَ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ مِنْ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ، وَالْإِحْصَانُ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَالْقَاضِي يَقْضِي بِعِلْمِهِ بِسَبَبِ وُجُوبِ هَذَا الْحَدِّ؛ فَلَأَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ بِشَرْطِ الْوُجُوبِ أَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْقَاضِي - حَبَسَهُ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ الْقَذْفُ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْذُوفُ أُمَّهُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً، فَجَازَ أَنْ يَسْتَوْثِقَ مِنْهُ بِالْحَبْسِ، وَإِنْ لَمْ تُقَمْ بَيِّنَتُهُ - أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا أَوْ أَخْرَجَهُ وَأَخَذَ الْكَفِيلَ عَلَى مَذْهَبِهِ، فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا يُعَزِّرُهُ؛ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ مِنْ الْقَاضِي حُكْمٌ بِإِبْطَالِ إحْصَانِ الْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّ قَذْفَ الْمُحْصَنِ يُوجِبُ الْحَدَّ لَا التَّعْزِيرَ، وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِإِبْطَالِ الْإِحْصَانِ، وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى الْقَذْفِ وَاخْتَلَفَا فِي مَكَانِ الْقَذْفِ أَوْ زَمَانِهِ بِأَنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قُذِفَ فِي مَكَانِ كَذَا، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قُذِفَ فِي مَكَان آخَرَ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قُذِفَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قُذِفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ - قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَوَجَبَ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا لَا تُقْبَلُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُمَا شَهِدَا بِقَذْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ يُخَالِفُ الْقَذْفَ فِي مَكَان آخَرَ وَزَمَانٍ آخَرَ، فَقَدْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَذْفٍ غَيْرِ الْقَذْفِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ اخْتِلَافَ مَكَانِ الْقَذْفِ وَزَمَانِهِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْقَذْفِ؛ لِجَوَازِ أَنَّهُ كَرَّرَ الْقَذْفَ الْوَاحِدَ فِي مَكَانَيْنِ وَزَمَانَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ مِنْ بَابِ الْكَلَامِ وَالْكَلَامُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ وَالْإِعَادَةَ، وَالْمُعَادُ عَيْنُ الْأَوَّلِ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ حَقِيقَةً فَكَانَ الْقَذْفُ وَاحِدًا، فَقَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ، وَإِنْ اتَّفَقَا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَاخْتَلَفَا فِي الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ، بِأَنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ - لَا تُقْبَلُ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ تَقْبَلَ وَيُحَدُّ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ اخْتِلَافَ كَلَامِهِمَا فِي الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْقَذْفِ، كَمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِإِنْشَاءِ الْبَيْعِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ - أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِنْشَاءَ مَعَ الْإِقْرَارِ أَمْرَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْإِنْشَاءَ إثْبَاتُ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ، وَالْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ كَانَ، فَكَانَا مُخْتَلِفَيْنِ حَقِيقَةً فَكَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ مُخْتَلِفًا، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَاهِدَانِ فَلَا تُقْبَلُ. وَنَظِيرُهُ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: زَنَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ - فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ لَا الْحَدُّ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: قَذَفْتُكِ بِالزِّنَا قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ - فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لَا اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ زَنَيْتُ إنْشَاءُ الْقَذْفِ فَكَانَ قَاذِفًا لَهَا لِلْحَالِ، وَهِيَ لِلْحَالِ زَوْجَتُهُ، وَقَذْفُ الزَّوْجِ يُوجِبُ اللِّعَانَ لَا الْحَدَّ، وَقَوْلُهُ: قَذَفْتُكِ بِالزِّنَا، إقْرَارٌ مِنْهُ بِقَذْفٍ كَانَ مِنْهُ قَبْلَ التَّزَوُّجِ، وَهِيَ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً قَبْلَ التَّزَوُّجِ، وَقَذْفُ الْأَجْنَبِيَّةِ؛ يُوجِبُ الْحَدَّ لَا اللِّعَانَ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَنْ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُهَا فِي القذف] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُهَا فَنَقُولُ - وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى: الْمَقْذُوفُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا، فَإِنْ كَانَ حَيًّا فَلَا خُصُومَةَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ، وَإِنْ كَانَ وَلَدَهُ أَوْ وَالِدَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ كَانَ هُوَ الْمَقْذُوفُ صُورَةً وَمَعْنًى بِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ، فَكَانَ حَقُّ الْخُصُومَةِ لَهُ، وَهَلْ تَجُوزُ الْإِنَابَةُ فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ وَهُوَ التَّوْكِيلُ بِالْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عِنْدَهُمَا يَجُوزُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ

فصل في بيان صفات الحدود

لَا يَجُوزُ - وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ - وَلَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ بِالِاسْتِيفَاءِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ حَضْرَةَ الْمَقْذُوفِ بِنَفْسِهِ شَرْطُ جَوَازِ الِاسْتِيفَاءِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَتَقُومُ حَضْرَةُ الْوَكِيلِ مَقَامَ حَضْرَتِهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدَّ عِنْدَهُ حَدُّ الْمَقْذُوفِ عَلَى الْخُلُوصِ، فَتَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فِي الْإِثْبَاتِ وَالِاسْتِيفَاءِ جَمِيعًا. (وَلَنَا) أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ عِنْدَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ اسْتِيفَاءٌ مَعَ الشُّبْهَةِ؛ لِجَوَازِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَصَدَّقَ الْقَاذِفَ فِي قَذْفِهِ، وَالْحُدُودُ لَا تُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبُهَاتِ وَلَوْ كَانَ الْمَقْذُوفُ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ أَوْ بَعْدَهَا - سَقَطَ الْحَدُّ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُورَثُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُورَثُ - وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي مَوْضِعِهَا - هَذَا إذَا كَانَ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ. (وَأَمَّا) إذَا كَانَ مَيِّتًا فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ لِوَلَدِهِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَلِابْنِ ابْنِهِ، وَبِنْتِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَلِوَالِدِهِ وَإِنْ عَلَا، أَنْ يُخَاصِمَ الْقَاذِفَ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَذْفِ: هُوَ إلْحَاقُ الْعَارِ بِالْمَقْذُوفِ، وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مَعْنَى الْقَذْفِ رَاجِعًا إلَيْهِ بَلْ إلَى فُرُوعِهِ وَأُصُولِهِ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الْعَارُ بِقَذْفِ الْمَيِّتِ؛ لِوُجُودِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ، وَقَذْفُ الْإِنْسَانِ يَكُونُ قَذْفًا لِأَجْزَائِهِ فَكَانَ الْقَذْفُ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الْخُصُومَةِ؛ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ، ثُمَّ مَاتَ - أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلَدِ وَالْوَالِدِ حَقُّ الْخُصُومَةِ بَلْ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ أُضِيفَ إلَيْهِ وَهُوَ كَانَ مَحِلًّا قَابِلًا لِلْقَذْفِ صُورَةً وَمَعْنًى بِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ؛ فَانْعَقَدَ الْقَذْفُ مُوجِبًا حَقَّ الْخُصُومَةِ لَهُ خَاصَّةً، فَلَوْ انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهِ لَانْتَقَلَ إلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، وَهَذَا الْحَدُّ لَا يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ - لِمَا نَذْكُرُ - فَسَقَطَ ضَرُورَةً، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامَ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالَ وَالْخَالَاتِ لَا يَمْلِكُونَ الْخُصُومَةَ؛ لِأَنَّ الْعَارَ لَا يَلْحَقُهُمْ؛ لِانْعِدَامِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ فَالْقَذْفُ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى، وَكَذَا لَيْسَ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ صُورَةً وَمَعْنًى بِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ أَنَّهُمْ هَلْ يَمْلِكُونَ الْخُصُومَةَ؟ عِنْدَهُمَا يَمْلِكُونَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَمْلِكُونَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ وَلَدَ الْبِنْتِ يُنْسَبُ إلَى أَبِيهِ لَا إلَى جَدِّهِ فَلَمْ يَكُنْ مَقْذُوفًا مَعْنًى بِقَذْفِ جَدِّهِ. (وَلَهُمَا) أَنَّ مَعْنَى الْوِلَادِ مَوْجُودٌ وَالنِّسْبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ ثَابِتَةٌ بِوَاسِطَةِ أُمِّهِ؛ فَصَارَ مَقْذُوفًا مَعْنًى فَيَمْلِكُ الْخُصُومَةَ. وَهَلْ يُرَاعَى فِيهِ التَّرْتِيبُ بِتَقْدِيمِ الْأَقْرَبِ عَلَى الْأَبْعَدِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: لَا يُرَاعَى وَالْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ سَوَاءٌ فِيهِ، حَتَّى كَانَ لِابْنِ الِابْنِ أَنْ يُخَاصِمَ فِيهِ مَعَ قِيَامِ الِابْنِ الصُّلْبِيِّ. وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُرَاعَى فِيهِ التَّرْتِيبُ وَتَثْبُتُ لِلْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، وَلَيْسَ لِلْأَبْعَدِ حَقُّ الْخُصُومَةِ وَالْمُطَالَبَةِ بِالْقَذْفِ لِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِالْمُخَاصِمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَارَ الْأَقْرَبِ يَزِيدُ عَلَى الْأَبْعَدِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْخُصُومَةِ. (وَلَنَا) أَنَّ هَذَا الْحَقَّ لَيْسَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَثْبُتُ الْحَقُّ لِلْمَيِّتِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ بَلْ يَثْبُتُ لَهُمْ ابْتِدَاءً لَا بِطَرِيقِ الِانْتِقَالِ مِنْ الْمَيِّتِ إلَيْهِمْ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَيِّتَ بِالْمَوْتِ خَرَجَ عَنْ احْتِمَالِ لُحُوقِ الْعَارِ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ ثُبُوتُ الْحَقِّ لَهُمْ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، فَلَا يُرَاعَى فِيهِ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ، وَكَذَا لَا يُرَاعَى فِيهِ إحْصَانُ الْمُخَاصِمِ، بَلْ الشَّرْطُ إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْوَلَدُ أَوْ الْوَالِدُ عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا - فَلَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إحْصَانُ الْمُخَاصِمِ شَرْطٌ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ وَلَا الْكَافِرِ أَنْ يُخَاصِمَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ إثْبَاتَ حَقِّ الْخُصُومَةِ لَهُ لِصَيْرُورَتِهِ مَقْذُوفًا مَعْنًى بِإِضَافَةِ الْقَذْفِ إلَى الْمَيِّتِ، وَلَوْ أُضِيفَ إلَيْهِ الْقَذْفُ ابْتِدَاءً - لَا يَجِبُ الْحَدُّ فَهَهُنَا أَوْلَى. (وَلَنَا) أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ لَعَيْنِ الْقَذْفِ بَلْ لِلُحُوقِ عَارٍ كَامِلٍ بِالْمَقْذُوفِ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مُحْصَنًا فَقَدْ لَحِقَ الْوَلَدَ عَارٌ كَامِلٌ فَلَا يُشْتَرَطُ إحْصَانُهُ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ لِلُحُوقِ عَارٍ كَامِلٍ بِهِ، وَقَدْ لَحِقَهُ بِدُونِهِ وَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ قَتَلَهُ حَتَّى حُرِمَ الْمِيرَاثَ - فَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، وَلَوْ قَذَفَ رَجُلٌ أُمَّ ابْنِهِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ - فَلَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يُخَاصِمَ أَبَاهُ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ قَذَفَ وَلَدَهُ وَهُوَ حَيٌّ مُحْصَنٌ - لَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يُخَاصِمَ أَبَاهُ؛ تَعْظِيمًا لَهُ، فَفِي قَذْفِ الْأُمِّ الْمَيِّتَةِ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ الْمَوْلَى إذَا قَذَفَ أُمَّ عَبْدِهِ وَهِيَ حُرَّةٌ مَيِّتَةٌ - فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُخَاصِمَ مَوْلَاهُ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَان صِفَاتِ الْحُدُودِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَاتُ الْحُدُودِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: لَا خِلَافَ فِي حَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ وَالسَّرِقَةِ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَالصُّلْحَ وَالْإِبْرَاءَ بَعْدَ مَا ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، لَا حَقَّ لِلْعَبْدِ فِيهِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ، وَكَذَا يَجْرِي

فِيهِ التَّدَاخُلُ؛ حَتَّى لَوْ زَنَى مِرَارًا أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ مِرَارًا أَوْ سَكِرَ مِرَارًا - لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ هُوَ الزَّجْرُ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِحَدٍّ وَاحِدٍ، فَكَانَ فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ احْتِمَالُ عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، فَكَانَ فِيهِ احْتِمَالُ عَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحَدِّ مَعَ احْتِمَالِ عَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَلَوْ زَنَى أَوْ شَرِبَ أَوْ سَكِرَ أَوْ سَرَقَ فَحُدَّ، ثُمَّ زَنَى أَوْ شَرِبَ أَوْ سَرَقَ يُحَدُّ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ لَمْ يَحْصُلْ، وَكَذَا إذَا سَرَقَ سَرِقَاتٍ مِنْ أُنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ فَخَاصَمُوا جَمِيعًا فَقُطِعَ لَهُمْ - كَانَ الْقَطْعُ عَنْ السَّرِقَاتِ كُلِّهَا، وَالْكَلَامُ فِي الضَّمَانِ نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) حَدُّ الْقَذْفِ إذَا ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَالْإِبْرَاءُ وَالصُّلْحُ، وَكَذَلِكَ إذَا عَفَا الْمَقْذُوفُ قَبْلَ الْمُرَافَعَةِ، أَوْ صَالَحَ عَلَى مَالٍ - فَذَلِكَ بَاطِلٌ وَيُرَدُّ بِهِ الصُّلْحُ، وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِحُّ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَذَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ قَذَفَ إنْسَانًا بِالزِّنَا بِكَلِمَةٍ، أَوْ قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ بِكَلَامٍ عَلَى حِدَةٍ - لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ سَوَاءٌ حَضَرُوا جَمِيعًا أَوْ حَضَرَ وَاحِدٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ بِكَلَامٍ عَلَى حِدَةٍ - فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ عَلَى حِدَةٍ، وَلَوْ ضُرِبَ الْقَاذِفُ تِسْعَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا، ثُمَّ قَذَفَ آخَرَ ضُرِبَ السَّوْطَ الْأَخِيرَ فَقَطْ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُضْرَبُ السَّوْطَ الْأَخِيرَ لِلْأَوَّلِ وَثَمَانِينَ سَوْطًا أُخَرَ لِلثَّانِي، وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا فَحُدَّ، ثُمَّ قَذَفَ آخَرَ - يُحَدُّ لِلثَّانِي بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا هَذَا الْحَدُّ لَا يُورَثُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَعِنْدَهُمْ يُورَثُ، وَيُقْسَمُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ يُقْسَمُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ إلَّا الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَرْعِ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلِفٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، وَهُوَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَوْ الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّهُ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مَغْلُوبٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ أَوْ الْمُغَلَّبُ حَقُّ الْعَبْدِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ هَذَا الْحَدِّ؛ هُوَ الْقَذْفُ، وَالْقَذْفُ جِنَايَةٌ عَلَى عِرْضِ الْمَقْذُوفِ بِالتَّعَرُّضِ، وَعِرْضُهُ حَقُّهُ بِدَلِيلِ أَنَّ بَدَلَ نَفْسِهِ حَقُّهُ وَهُوَ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ، أَوْ الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ، فَكَانَ الْبَدَلُ حَقَّهُ، وَالْجَزَاءُ الْوَاجِبُ عَلَى حَقِّ الْإِنْسَانِ حَقُّهُ كَالْقِصَاصِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى، وَالدَّعْوَى لَا تُشْتَرَطُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُفَوَّضْ اسْتِيفَاؤُهُ إلَى الْمَقْذُوفِ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ؛ لِأَنَّ ضَرْبَ الْقَذْفِ أَخَفُّ الضَّرَبَاتِ فِي الشَّرْعِ، فَلَوْ فُوِّضَ إلَيْهِ إقَامَةُ هَذَا الْحَدِّ - فَرُبَّمَا يُقِيمُهُ عَلَى وَجْهِ الشِّدَّةِ؛ لِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْغَيْظِ بِسَبَبِ الْقَذْفِ فَفُوِّضَ اسْتِيفَاؤُهُ إلَى الْإِمَامِ؛ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ لَا لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ. (وَلَنَا) أَنَّ سَائِرَ الْحُدُودِ إنَّمَا كَانَتْ حُقُوقَ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - عَلَى الْخُلُوصِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ لِمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَهِيَ دَفْعُ فَسَادٍ يَرْجِعُ إلَيْهِمْ وَيَقَعُ حُصُولُ الصِّيَانَةِ لَهُمْ، فَحَدُّ الزِّنَا وَجَبَ؛ لِصِيَانَةِ الْأَبْضَاعِ عَنْ التَّعَرُّضِ، وَحَدُّ السَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَجَبَ؛ لِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ عَنْ الْقَاصِدِينَ، وَحَدُّ الشُّرْبِ وَجَبَ؛ لِصِيَانَةِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ فِي الْحَقِيقَةِ بِوَاسِطَةِ صِيَانَةِ الْعُقُولِ عَنْ الزَّوَالِ وَالِاسْتِتَارِ بِالسُّكْرِ، وَكُلُّ جِنَايَةٍ يَرْجِعُ فَسَادُهَا إلَى الْعَامَّةِ وَمَنْفَعَةُ جَزَائِهَا يَعُودُ إلَى الْعَامَّةِ، كَانَ الْجَزَاءُ الْوَاجِبُ بِهَا حَقَّ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - عَلَى الْخُلُوصِ تَأْكِيدًا لِلنَّفْعِ وَالدَّفْعِ؛ كَيْ لَا يَسْقُطَ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ وَهُوَ مَعْنَى نِسْبَةِ هَذِهِ الْحُقُوقِ إلَى اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي حَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الصِّيَانَةِ وَدَفْعَ الْفَسَادِ يَحْصُلُ لِلْعَامَّةِ بِإِقَامَةِ هَذَا الْحَدِّ، فَكَانَ حَقَّ اللَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ عَلَى الْخُلُوصِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ شَرَطَ فِيهِ الدَّعْوَى مِنْ الْمَقْذُوفِ، وَهَذَا لَا يَنْفِي كَوْنَهُ حَقًّا لِلَّهِ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - عَلَى الْخُلُوصِ، كَحَدِّ السَّرِقَةِ أَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ شَرْطًا. ثُمَّ نَقُولُ: إنَّمَا شُرِطَ فِيهِ الدَّعْوَى وَإِنْ كَانَ خَالِصَ حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى عَزَّ اسْمُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ يُطَالِبُ الْقَاذِفَ ظَاهِرًا أَوْ غَالِبًا؛ دَفْعًا لِلْعَارِ عَنْ نَفْسِهِ فَيَحْصُلُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْحَدِّ كَمَا فِي السَّرِقَةِ؛ وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ تَجِبُ بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ إمَّا صُورَةً وَمَعْنًى، وَإِمَّا مَعْنًى لَا صُورَةً؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْمَحِلِّ جَبْرًا، وَالْجَبْرُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْمِثْلِ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْحَدِّ وَالْقَذْفِ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى؛ فَلَا يَكُونُ حَقَّهُ. وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْمُمَاثَلَةُ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ جَزَاءً لِلْفِعْلِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ. (وَلَنَا) أَيْضًا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ لِلْإِمَامِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَ حَقَّ الْمَقْذُوفِ لَكَانَ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ لَهُ كَمَا فِي الْقِصَاصِ. (وَالثَّانِي) - أَنَّهُ يَتَنَصَّفُ بِرِقِّ الْقَاذِفِ،

فصل في بيان مقدار الواجب من الحدود

وَحَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّنْصِيفَ بِالرِّقِّ لَا حَقَّ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ - تَعَالَى - تَجِبُ جَزَاءً لِلْفِعْلِ، وَالْجَزَاءُ يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الْجِنَايَةِ وَيُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِهَا، وَالْجِنَايَةُ تَتَكَامَلُ بِكَمَالِ حَالِ الْجَانِي وَتُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِ حَالِهِ، فَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْمَحِلِّ وَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْجَانِي، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - خَالِصًا أَوْ الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّهُ فَنَقُولُ: لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ وَالِاعْتِيَاضُ؛ لِأَنَّ الِاعْتِيَاضَ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ وَلَا يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ إنَّمَا يَجْرِي فِي الْمَتْرُوكِ مِنْ مِلْكٍ أَوْ حَقٍّ لِلْمُوَرَّثِ عَلَى مَا قَالَ «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنْ تَرَكَ مَالًا أَوْ حَقًّا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ» وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُوَرَّثُ وَلَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْ الْحُدُودِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهَا فَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِي حَدِّ الزِّنَا إذَا لَمْ يَكُنْ الزَّانِي مُحْصَنًا - مِائَةُ جَلْدَةٍ إنْ كَانَ حُرًّا، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا - فَخَمْسُونَ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ؛ وَلِأَنَّ الْعُقُوبَةَ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ، وَالْجِنَايَةُ تَزْدَادُ بِكَمَالِ حَالِ الْجَانِي وَتَنْتَقِصُ بِنُقْصَانِ حَالِهِ، وَالْعَبْدُ أَنْقَصُ حَالًا مِنْ الْحُرِّ؛ لِاخْتِصَاصِ الْحُرِّ بِنِعْمَةِ الْحُرِّيَّةِ، فَكَانَتْ جِنَايَتُهُ أَنْقَصَ، وَنُقْصَانُ الْجِنَايَةِ يُوجِبُ نُقْصَانَ الْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ عَلَى قَدْرِ الْعِلَّةِ، هَذَا أَمْرٌ مَعْقُولٌ إلَّا أَنَّ التَّنْقِيصَ بِالتَّنْصِيفِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَقَادِيرِ ثَبَتَ شَرْعًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ، وَفِي حَدِّ الشُّرْبِ وَالسُّكْرِ وَالْقَذْفِ ثَمَانُونَ فِي الْحُرِّ وَأَرْبَعُونَ فِي الْعَبْدِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَفِي حَدِّ السَّرِقَةِ لَا يَخْتَلِفُ قَدْرُ الْوَاجِبِ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَلَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ جَوَازِ إقَامَةِ الْحُدُودِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ إقَامَتِهَا فَمِنْهَا مَا يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا، وَمِنْهَا مَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا فَهُوَ الْإِمَامَةُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُقِيمُ لِلْحَدِّ هُوَ الْإِمَامُ أَوْ مَنْ وَلَّاهُ الْإِمَامُ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلِلرَّجُلِ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ عَلَى مَمْلُوكِهِ - إذَا ظَهَرَ الْحَدُّ عِنْدَهُ بِالْإِقْرَارِ أَرْبَعًا عِنْدَنَا، وَمَرَّةً عِنْدَهُ وَبِالْمُعَايَنَةِ بِأَنْ رَأَى عَبْدَهُ زَنَى بِأَجْنَبِيَّةٍ، وَلَوْ ظَهَرَ عِنْدَهُ بِالشُّهُودِ بِأَنْ شَهِدُوا عِنْدَهُ وَالْمَوْلَى مِنْ أَهْلِ الْقَضَاءِ - فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ، وَكَذَا فِي إقَامَةِ الْمَرْأَةِ الْحَدَّ عَلَى مَمْلُوكِهَا، وَإِقَامَةِ الْمُكَاتَبِ الْحَدَّ عَلَى عَبْدٍ مِنْ أَكْسَابِهِ لَهُ فِيهِ قَوْلَانِ، احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» وَهَذَا نَصٌّ. وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا، فَإِنْ عَادَتْ - فَلْيَجْلِدْهَا، فَإِنْ عَادَتْ - فَلْيَجْلِدْهَا، فَإِنْ عَادَتْ - فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ» أَيْ بِحَبْلٍ، وَهَذَا أَيْضًا نَصٌّ فِي الْبَابِ؛ وَلِأَنَّ السُّلْطَانَ إنَّمَا مَلَكَ الْإِقَامَةَ؛ لِتَسَلُّطِهِ عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَتَسَلُّطُ الْمَوْلَى عَلَى مَمْلُوكِهِ فَوْقَ تَسَلُّطِ السُّلْطَانِ عَلَى رَعِيَّتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ، وَيَمْلِكُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفَاتِ، وَالْإِمَامُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ: فَلَمَّا ثَبَتَ الْجَوَازُ لِلسُّلْطَانِ فَالْمَوْلَى أَوْلَى؛ وَلِهَذَا مَلَكَ إقَامَةَ التَّعْزِيرِ عَلَيْهِ، كَذَا الْحَدُّ. (وَلَنَا) أَنَّ وِلَايَةَ إقَامَةِ الْحُدُودِ ثَابِتَةٌ لِلْإِمَامِ بِطَرِيقِ التَّعْيِينِ، وَالْمَوْلَى لَا يُسَاوِيهِ فِيمَا شُرِعَ لَهُ بِهَذِهِ الْوِلَايَةِ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِقَامَةِ اسْتِدْلَالًا بِوِلَايَةِ إنْكَاحِ الصِّغَارِ وَالصَّغَائِرِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا ثَبَتَتْ لِلْأَقْرَبِ - لَمْ تَثْبُتْ لِمَنْ لَا يُسَاوِيهِ فِيمَا شُرِعَ لَهُ الْوِلَايَةُ وَهُوَ الْأَبْعَدُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ وِلَايَةَ إقَامَةِ الْحَدِّ إنَّمَا ثَبَتَتْ لِلْإِمَامِ؛ لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ وَهِيَ صِيَانَةُ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ؛ لِأَنَّ الْقُضَاةَ يَمْتَنِعُونَ مِنْ التَّعَرُّضِ خَوْفًا مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، وَالْمَوْلَى لَا يُسَاوِي الْإِمَامَ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْإِمَامَةِ، وَالْإِمَامُ قَادِرٌ عَلَى الْإِقَامَةِ؛ لِشَوْكَتِهِ وَمَنَعَتِهِ وَانْقِيَادِ الرَّعِيَّةِ لَهُ قَهْرًا وَجَبْرًا، وَلَا يَخَافُ تَبِعَةَ الْجُنَاةِ وَأَتْبَاعِهِمْ؛ لِانْعِدَامِ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ، وَتُهْمَةُ الْمَيْلِ وَالْمُحَابَاةِ وَالْتَوَانِي عَنْ الْإِقَامَةِ مُنْتَفِيَةٌ فِي حَقِّهِ فَيُقِيمُ عَلَى وَجْهِهَا فَيَحْصُلُ الْغَرَضُ الْمَشْرُوعُ لَهُ الْوِلَايَةُ بِيَقِينٍ. وَأَمَّا الْمَوْلَى فَرُبَّمَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِقَامَةِ نَفْسِهَا وَرُبَّمَا لَا يَقْدِرُ؛ لِمُعَارَضَةِ الْعَبْدِ إيَّاهُ؛ وَلِأَنَّهُ رَقَبَانِيٌّ مِثْلُهُ يُعَارِضُهُ فَيَمْنَعُهُ عَنْ الْإِقَامَةِ - خُصُوصًا عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ عَلَى نَفْسِهِ - فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِقَامَةِ، وَكَذَا الْمَوْلَى يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ الْعَبْدِ الشِّرِّيرِ، وَلَوْ قَصَدَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ أَمْوَالِهِ وَيَقْصِدَ إهْلَاكَهُ، وَيَهْرُبَ مِنْهُ فَيَمْتَنِعُ عَنْ الْإِقَامَةِ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْإِقَامَةِ فَقَدْ يُقِيمُ

وَقَدْ لَا يُقِيمُ؛ لِمَا فِي الْإِقَامَةِ مِنْ نُقْصَانِ قِيمَتِهِ بِسَبَبِ عَيْبِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، أَوْ يَخَافُ سِرَايَةَ الْجَلَدَاتِ إلَى الْهَلَاكِ. وَالْمَرْءُ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ الْمَالِ، وَلَوْ أَقَامَ - فَقَدْ يُقِيمُ عَلَى الْوَجْهِ وَقَدْ لَا يُقِيمُ عَلَى الْوَجْهِ، بَلْ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فَلَا يَحْصُلُ الزَّجْرُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يُسَاوِي الْإِمَامَ فِي تَحْصِيلِ مَا شُرِعَ لَهُ إقَامَةُ الْحَدِّ، فَلَا يُزَاحِمُهُ فِي الْوِلَايَةِ بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ التَّعْزِيرَ: هُوَ التَّغْيِيرُ وَالتَّوْبِيخُ وَذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، فَقَدْ يَكُونُ بِالْحَبْسِ وَقَدْ يَكُونُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ وَتَعْبِيسِ الْوَجْهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِضَرْبِ أَسْوَاطٍ عَلَى حَسَبِ الْجِنَايَةِ وَحَالِ الْجَانِي؛ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَالْمَوْلَى يُسَاوِي الْإِمَامَ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّأْدِيبِ فَلَهُ قُدْرَةُ التَّأْدِيبِ، وَالْعَبْدُ يَنْقَادُ لِمِثْلِهِ لِلْمَوْلَى وَلَا يُعَارِضُهُ، فَالْمَوْلَى أَيْضًا لَا يَمْتَنِعُ عَنْ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْإِيلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ وَلَا تَعْيِيبًا فِيهِ، بِخِلَافِ الْحَدِّ. وَالثَّانِي - أَنَّ فِي التَّعْزِيرِ ضَرُورَةً لَيْسَتْ فِي الْحَدِّ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ التَّعْزِيرِ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهَا، فَيَحْتَاجُ الْمَوْلَى إلَى أَنْ يُعَزِّرَ مَمْلُوكَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ، وَفِي الرَّفْعِ إلَى الْإِمَامِ فِي كُلِّ حِينٍ وَزَمَانٍ حَرَجٌ عَظِيمٌ عَلَى الْمَوَالِي؛ فَفُوِّضَتْ إقَامَةُ الْحَدِّ إلَى الْمَوَالِي شَرْعًا، أَوْ صَارَ الْمَوْلَى مَأْذُونًا فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ دَلَالَةً، وَصَارَ نَائِبًا عَنْ الْإِمَامِ فِيهِ، وَلَا حَرَجَ فِي الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ؛ لِانْعِدَامِ كَثْرَةِ أَسْبَابِ وُجُوبِهِ وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِقَوْمٍ مَعْلُومِينَ، عُلِمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ الْحُدُودَ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِثْلُ الْأَمِيرِ وَالسُّلْطَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا لِلْأَئِمَّةِ فِي حَقِّ عَبِيدِهِمْ، وَالتَّخْصِيصُ لِلتَّرْغِيبِ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ؛ لِمَا أَنَّ الْأَئِمَّةَ وَالسَّلَاطِينَ لَا يُبَاشِرُونَ الْإِقَامَةَ بِأَنْفُسِهِمْ عَادَةً بَلْ يُفَوِّضُونَهَا إلَى الْحُكَّامِ وَالْمُحْتَسَبِينَ، وَقَدْ يَجِيءُ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ تَقْصِيرٌ، وَيُحْتَمَلُ الْإِقَامَةُ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ بِالسَّعْيِ لِرَفْعِ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ، وَتَخْصِيصُ الْمَوْلَى لِلتَّرْغِيبِ لَهُمْ فِي الْإِقَامَةِ؛ لِاحْتِمَالِ الْمَيْلِ وَالتَّقْصِيرِ فِي ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ التَّعْزِيرَ؛ لِوُجُودِ مَعْنَى الْحَدِّ فِيهِ - وَهُوَ الْمَنْعُ - فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِمَا مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى إقَامَةِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْجَمِيعِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ وُجُوبِهَا تُوجَدُ فِي أَقْطَارِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ إلَيْهَا، وَفِي الْإِحْضَارِ إلَى مَكَانِ الْإِمَامِ حَرَجٌ عَظِيمٌ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِخْلَافُ - لَتَعَطَّلَتْ الْحُدُودُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ وَلِهَذَا «كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَجْعَلُ إلَى الْخُلَفَاءِ تَنْفِيذَ الْأَحْكَامِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ» ، ثُمَّ الِاسْتِخْلَافُ نَوْعَانِ: تَنْصِيصٌ، وَتَوْلِيَةٌ، أَمَّا التَّنْصِيصُ: فَهُوَ أَنْ يَنُصَّ عَلَى إقَامَةِ الْحُدُودِ؛ فَيَجُوزُ لِلْخَلِيفَةِ إقَامَتُهَا بِلَا شَكٍّ. وَأَمَّا التَّوْلِيَةُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: عَامَّةٌ، وَخَاصَّةٌ فَالْعَامَّةُ: هِيَ أَنْ يُوَلِّيَ رَجُلًا وِلَايَةً عَامَّةً، مِثْلَ إمَارَةِ إقْلِيمٍ أَوْ بَلَدٍ عَظِيمٍ فَيَمْلِكُ الْمَوْلَى إقَامَةَ الْحُدُودِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَلَّدَهُ إمَارَةَ ذَلِكَ الْبَلَدِ فَقَدْ فَوَّضَ إلَيْهِ الْقِيَامَ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ - وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ مُعْظَمُ مَصَالِحِهِمْ - فَيَمْلِكُهَا، وَالْخَاصَّةُ: هِيَ أَنْ يُوَلِّيَ رَجُلًا وِلَايَةً خَاصَّةً، مِثْلَ جِبَايَةِ الْخَرَاجِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَا يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّوْلِيَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ إقَامَةَ الْحُدُودِ، وَلَوْ اُسْتُعْمِلَ أَمِيرٌ عَلَى الْجَيْشِ الْكَبِيرِ فَإِنْ كَانَ أَمِيرَ مِصْرٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَغَزَا بِجُنْدِهِ - فَإِنَّهُ يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحُدُودِ فِي مُعَسْكَرِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَمْلِكُ الْإِقَامَةَ فِي بَلَدِهِ، فَإِذَا خَرَجَ بِأَهْلِهِ أَوْ بِبَعْضِهِمْ مَلَكَ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ يَمْلِكُ فِيهِمْ قَبْلَ الْخُرُوجِ. وَأَمَّا مَنْ أَخْرَجَهُ أَمِيرُ الْبَلَدِ غَازِيًا فَمَا كَانَ يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْخُرُوجِ وَبَعْدَ الْخُرُوجِ، لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ الْإِقَامَةَ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقَامَةَ، وَالْإِمَامُ الْعَدْلُ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ وَيُنْفِذَ الْقَضَاءَ فِي مُعَسْكَرِهِ، كَمَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَى جَمِيعِ دَارِ الْإِسْلَامِ ثَابِتَةً، وَكَذَا إذَا اُسْتُعْمِلَ قَاضِيًا لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي الْمُعَسْكَرِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَمِنْهَا الْبِدَايَةُ مِنْ الشُّهُودِ فِي حَدِّ الرَّجْمِ إذَا ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ، حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ الشُّهُودُ عَنْ الْبِدَايَةِ أَوْ مَاتُوا أَوْ غَابُوا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ - لَا يُقَامُ الرَّجْمُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَيُقَامُ الرَّجْمُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الشُّهُودَ فِيمَا وَرَاءَ الشَّهَادَةِ وَسَائِرَ النَّاسِ سَوَاءٌ، ثُمَّ لَا تُشْتَرَطُ الْبِدَايَةُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَكَذَا مِنْ الشُّهُودِ؛ وَلِأَنَّ الرَّجْمَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْحَدِّ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ الْجَلْدُ، وَالْبِدَايَةُ مِنْ الشُّهُودِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ كَذَا فِي الرَّجْمِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: يَرْجُمُ الشُّهُودُ أَوَّلًا، ثُمَّ الْإِمَامُ، ثُمَّ النَّاسُ وَكَلِمَةُ " ثُمَّ " لِلتَّرْتِيبِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -

وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؛ فَيَكُونُ إجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْطِ احْتِيَاطًا فِي دَرْءِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ إذَا بَدَءُوا بِالرَّجْمِ - رُبَّمَا اسْتَعْظَمُوا فِعْلَهُ فَيَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْجَلْدِ؛ لِأَنَّا إنَّمَا عَرَفْنَا الْبِدَايَةَ شَرْطًا اسْتِحْسَانًا بِالْأَثَرِ - فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَلَيْهِ، وَالْأَثَرُ وَرَدَ فِي الرَّجْمِ خَاصَّةً فَيَبْقَى أَمْرُ الْجَلْدِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ؛ وَلِأَنَّ الْجَلْدَ لَا يُحْسِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ فَفُوِّضَ اسْتِيفَاؤُهُ إلَى الْأَئِمَّةِ - بِخِلَافِ الرَّجْمِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَمِنْهَا أَهْلِيَّةُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِلشُّهُودِ عِنْدَ الْإِقَامَةِ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا، حَتَّى لَوْ بَطَلَتْ الْأَهْلِيَّةُ بِالْفِسْقِ أَوْ الرِّدَّةِ أَوْ الْجُنُونِ أَوْ الْعَمَى أَوْ الْخَرَسِ أَوْ حَدِّ الْقَذْفِ، بِأَنْ فَسَقَ الشُّهُودُ أَوْ ارْتَدُّوا أَوْ جُنُّوا أَوْ عَمُوا أَوْ خَرِسُوا أَوْ ضُرِبُوا حَدَّ الْقَذْفِ كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ - لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اعْتِرَاضَ أَسْبَابِ الْجَرْحِ عَلَى الشَّهَادَةِ عِنْدَ إمْضَاءِ الْحَدِّ بِمَنْزِلَةِ اعْتِرَاضِهَا عِنْدَ الْقَضَاءِ بِهِ، وَاعْتِرَاضُهَا عِنْدَ الْقَضَاءِ يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ فَكَذَا عِنْدَ الْإِمْضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ عَنْ الْقَضَاءِ. وَأَمَّا مَوْتُ الشُّهُودِ وَغِيبَتُهُمْ عِنْدَ الْإِقَامَةِ فَلَا يَمْنَعَانِ مِنْ الْإِقَامَةِ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ إلَّا الرَّجْمُ، حَتَّى لَوْ مَاتُوا كُلُّهُمْ أَوْ غَابُوا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ - يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إلَّا الرَّجْمَ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَسْبَابِ الْجَرْحِ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ لَا تُبْطَلُ بِالْمَوْتِ وَالْغَيْبَةِ بَلْ تَتَنَاهَى وَتَتَقَرَّرُ وَتُخْتَمُ بِهَا الْعَدَالَةُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْجَرْحَ، وَفِي حَدِّ الرَّجْمِ إنَّمَا يَمْنَعَانِ الْإِقَامَةَ لَا لِأَنَّهُمَا يُجَرِّحَانِ فِي الشَّهَادَةِ بَلْ؛ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ مِنْ الشُّهُودِ شَرْطُ جَوَازِ الْإِقَامَةِ - وَلَمْ تُوجَدْ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الشُّهُودِ إذَا كَانُوا مَقْطُوعِي الْأَيْدِي أَوْ بِهِمْ مَرَضٌ لَا يَسْتَطِيعُونَ الرَّمْيَ - أَنَّ الْإِمَامَ يَرْمِي، ثُمَّ النَّاسُ، وَجَعَلَ قَطْعَ الْيَدِ أَوْ الْمَرَضَ عُذْرًا فِي فَوَاتِ الْبِدَايَةِ، وَلَمْ يَجْعَلْ الْمَوْتَ عُذْرًا فِيهِ، وَإِنْ ثَبَتَ الرَّجْمُ بِالْإِقْرَارِ يَبْدَأُ بِهِ الْإِمَامُ، ثُمَّ النَّاسُ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ فِي إقَامَةِ الْجَلَدَاتِ خَوْفُ الْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدَّ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا، فَلَا يَجُوزُ الْإِقَامَةُ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ؛ لِمَا فِي الْإِقَامَةِ فِيهِمَا مِنْ خَوْفِ الْهَلَاكِ، وَلَا يُقَامُ عَلَى مَرِيضٍ حَتَّى يَبْرَأَ؛ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ وَجَعُ الْمَرَضِ وَأَلَمُ الضَّرْبِ؛ فَيُخَافُ الْهَلَاكُ، وَلَا يُقَامُ عَلَى النُّفَسَاءِ حَتَّى يَنْقَضِيَ النِّفَاسُ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ نَوْعُ مَرَضٍ وَيُقَامُ عَلَى الْحَائِضِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَيْسَ بِمَرَضٍ، وَلَا يُقَامُ عَلَى الْحَامِلِ حَتَّى تَضَعَ وَتَطْهُرَ مِنْ النِّفَاسِ؛ لِأَنَّ فِيهِ خَوْفَ هَلَاكِ الْوَلَدِ وَالْوَالِدَةِ، وَيُقَامُ الرَّجْمُ فِي هَذَا كُلِّهِ إلَّا عَلَى الْحَامِلِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْإِقَامَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْهَلَاكِ وَالرَّجْمُ حَدٌّ مُهْلِكٌ، فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْهَلَاكِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَى الْحَامِلِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إهْلَاكَ الْوَلَدِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَلَا يُجْمَعُ الضَّرْبُ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَلَفِ ذَلِكَ الْعُضْوِ، أَوْ إلَى تَمْزِيقِ جِلْدِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، بَلْ يُفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ مِنْ الْكَتِفَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ وَالْعَضُدَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ إلَّا الْوَجْهَ وَالْفَرْجَ وَالرَّأْسَ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ عَلَى الْفَرْجِ مُهْلِكٌ عَادَةً، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اتَّقِ وَجْهَهُ وَمَذَاكِيرَهُ» وَالضَّرْبُ عَلَى الْوَجْهِ يُوجِبُ الْمُثْلَةَ وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُثْلَةِ» ، وَالرَّأْسُ مَجْمَعُ الْحَوَاسِّ وَفِيهِ الْعَقْلُ فَيُخَافُ مِنْ الضَّرْبِ عَلَيْهِ فَوَاتُ الْعَقْلِ أَوْ فَوَاتُ بَعْضِ الْحَوَاسِّ. وَفِيهِ إهْلَاكُ الذَّاتِ مِنْ وَجْهٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا: لَا يُضْرَبُ الصَّدْرُ وَالْبَطْنُ، وَيُضْرَبُ الرَّأْسُ سَوْطًا أَوْ سَوْطَيْنِ أَمَّا الصَّدْرُ وَالْبَطْنُ؛ فَلِأَنَّ فِيهِ خَوْفَ الْهَلَاكِ. وَأَمَّا الرَّأْسُ؛ فَلِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اضْرِبُوا الرَّأْسَ فَإِنَّ فِيهِ شَيْطَانًا، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي قَتْلِ أَهْلِ الْحَرْبِ خُصُوصًا قَوْمًا كَانُوا بِالشَّامِ يَحْلِقُونَ أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ، ثُمَّ تَفْرِيقُ الضَّرْبِ عَلَى الْأَعْضَاءِ مَذْهَبُنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: يُضْرَبُ كُلُّهُ عَلَى الظَّهْرِ، وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الْجَلْدُ وَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ ضَرْبِ الْجِلْدِ، وَالضَّرْبُ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ مُمَزِّقٌ لِلْجِلْدِ، وَبَعْدَ تَمْزِيقِ الْجِلْدِ لَا يُمْكِنُ الضَّرْبُ عَلَى الْجِلْدِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ فِي الْجَمْعِ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ خَوْفَ الْهَلَاكِ، وَهَذَا الْحَدُّ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ إقَامَةِ الْحُدُودِ فَأَمَّا حَدُّ الرَّجْمِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْبَطَ الْمَرْجُومُ بِشَيْءٍ، وَلَا أَنْ يُمْسَكَ، وَلَا أَنْ يُحْفَرَ لَهُ إذَا كَانَ رَجُلًا بَلْ يُقَامُ قَائِمًا؛ لِأَنَّ مَاعِزًا لَمْ يُرْبَطْ وَلَمْ يُمْسَكْ وَلَا حُفِرَ لَهُ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ هَرَبَ مِنْ أَرْضٍ قَلِيلَةِ الْحِجَارَةِ إلَى أَرْضٍ كَثِيرَةِ الْحِجَارَةِ وَلَوْ رُبِطَ أَوْ مُسِكَ أَوْ حُفِرَ لَهُ لَمَا قَدَرَ عَلَى الْهَرَبِ، وَإِنْ كَانَ الْمَرْجُومُ امْرَأَةً فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ حَفَرَ لَهَا، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَحْفِرْ، أَمَّا الْحَفْرُ؛ فَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَفَرَ لِلْمَرْأَةِ الْغَامِدِيَّةِ

إلَى ثَنْدُوَتِهَا، وَأَخَذَ حَصَاةً مِثْلَ الْحِمَّصَةِ وَرَمَاهَا بِهَا» . وَحَفَرَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِشُرَاحَة الْهَمْذَانِيَّةِ إلَى سُرَّتِهَا وَأَمَّا تَرْكُ الْحَفْرِ؛ فَلِأَنَّ الْحَفْرَ لِلسَّتْرِ وَهِيَ مَسْتُورَةٌ بِثِيَابِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُجَرَّدُ عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَلَا بَأْسَ لِكُلِّ مَنْ رَمَى أَنْ يَتَعَمَّدَ مَقْتَلَهُ؛ لِأَنَّ الرَّجْمَ حَدٌّ مُهْلِكٌ فَمَا كَانَ أَسْرَعُ إلَى الْهَلَاكِ كَانَ أَوْلَى، إلَّا إذَا كَانَ الرَّامِي ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمَرْجُومِ فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَعَمَّدَ مَقْتَلَهُ؛ لِأَنَّهُ قَطْعُ الرَّحِمِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ يَكْفِيهِ وَيُغْنِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ حَنْظَلَةَ - غَسِيلَ الْمَلَائِكَةِ - اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلِ أَبِيهِ أَبِي عَامِرٍ - وَكَانَ مُشْرِكًا - فَنَهَاهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: دَعْهُ يَكْفِيكَ غَيْرُكَ» . وَأَمَّا حَدُّ الْجَلْدِ: فَأَشَدُّ الْحُدُودِ ضَرْبًا حَدُّ الزِّنَا ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ ثُمَّ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الزِّنَا أَعْظَمُ مِنْ جِنَايَةِ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ، أَمَّا مِنْ جِنَايَةِ الْقَذْفِ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ نِسْبَةٌ إلَى الزِّنَا فَكَانَتْ دُونَ حَقِيقَةِ الزِّنَا. وَأَمَّا مِنْ جِنَايَةِ الشُّرْبِ؛ فَلِأَنَّ قُبْحَ الزِّنَا ثَبَتَ شَرْعًا وَعَقْلًا وَحُرْمَةُ نَفْسِ الشُّرْبِ ثَبَتَتْ شَرْعًا لَا عَقْلًا؛ وَلِهَذَا كَانَ الزِّنَا حَرَامًا فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا بِخِلَافِ الشُّرْبِ، وَكَذَا الْخَمْرُ يُبَاحُ عِنْدَ ضَرُورَةِ الْمَخْمَصَةِ وَالْإِكْرَاهِ وَلَا يُبَاحُ الزِّنَا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ وَغَلَبَةِ الشَّبَقِ، وَكَذَا وُجُوبُ الْجَلْدِ فِي الزِّنَا ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الْمَكْنُونِ وَلَا نَصَّ فِي الشُّرْبِ وَإِنَّمَا اسْتَخْرَجَهُ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْقَذْفِ فَقَالُوا: إذَا سَكِرَ - هَذَى، وَإِذَا هَذَى - افْتَرَى، وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ - فِي حَدِّ الزِّنَا فِي حَدِّ الزِّنَا {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [النور: 2] قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ: أَيْ بِتَخْفِيفِ الْجَلَدَاتِ، وَإِنَّمَا كَانَ ضَرْبُ الْقَذْفِ أَخَفَّ الضَّرْبَيْنِ؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ وُجُودَهُ ثَبَتَ بِسَبَبٍ مُتَرَدِّدٍ؛ لِأَنَّ الْقَاذِفَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي - أَنَّهُ انْضَافَ إلَيْهِ رَدُّ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ؛ فَجَرَى فِيهِ نَوْعُ تَخْفِيفٍ وَيُضْرَبُ قَائِمًا وَلَا يُمَدُّ عَلَى الْعِقَابَيْنِ وَلَا عَلَى الْأَرْضِ، كَمَا يُفْعَلُ فِي زَمَانِنَا؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ، بَلْ يُضْرَبُ قَائِمًا وَلَا يُمَدُّ السَّوْطَ بَعْدَ الضَّرْبِ بَلْ يُرْفَعُ؛ لِأَنَّ الْمَدَّ بَعْدَ الضَّرْبِ بِمَنْزِلَةِ ضَرْبَةٍ أُخْرَى؛ فَيَكُونُ زِيَادَةً عَلَى الْحَدِّ، وَلَا يَمُدُّ الْجَلَّادُ يَدَهُ إلَى مَا فَوْقَ رَأْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ فِيهِ الْهَلَاكُ أَوْ تَمْزِيقُ الْجِلْدِ، وَلَا يَضْرِبُ بِسَوْطٍ لَهُ ثَمَرَةٌ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ الثَّمَرَةِ بِمَنْزِلَةِ ضَرْبَةٍ أُخْرَى، فَيَصِيرُ كُلُّ ضَرْبَةٍ بِضَرْبَتَيْنِ؛ فَيَكُونُ زِيَادَةً عَلَى الْقَدْرِ الْمَشْرُوعِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَلَّادُ عَاقِلًا بَصِيرًا بِأَمْرِ الضَّرْبِ، فَيَضْرِبُ ضَرْبَةً بَيْنَ ضَرْبَتَيْنِ لَيْسَ بِالْمُبَرِّحِ وَلَا بِاَلَّذِي لَا يُوجَدُ فِيهِ مَسٌّ، وَيُجَرَّدُ الرَّجُلُ فِي حَدِّ الزِّنَا وَيُضْرَبُ عَلَى إزَارٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ الْحُدُودِ ضَرْبًا، وَمَعْنَى الشِّدَّةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتَّجْرِيدِ، وَفِي حَدِّ الشُّرْبِ يُجَرَّدُ أَيْضًا فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يُجَرَّدُ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ ضَرْبَ الشُّرْبِ أَخَفُّ مِنْ ضَرْبِ الزِّنَا، فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ آيَةِ التَّخْفِيفِ وَذَلِكَ بِتَرْكِ التَّجْرِيدِ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ قَدْ جَرَى التَّخْفِيفُ فِيهِ مَرَّةً فِي الضَّرْبِ، فَلَوْ خَفَّفَ فِيهِ ثَانِيًا بِتَرْكِ التَّجْرِيدِ - لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَدِّ وَهُوَ الزَّجْرُ، وَلَا يُجَرَّدُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِسَبَبٍ مُتَرَدِّدٍ مُحْتَمَلٌ فَيُرَاعَى فِيهِ التَّخْفِيفُ بِتَرْكِ التَّجْرِيدِ، كَمَا رُوعِيَ فِي أَصْلِ الضَّرْبِ، بِخِلَافِ حَدِّ الشُّرْبِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ ثَبَتَ بِسَبَبٍ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يُنْزَعُ عَنْهَا ثِيَابُهَا إلَّا الْحَشْوُ وَالْفَرْوُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ وَتُضْرَبُ قَاعِدَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا، وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ فِي الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ يَقَعُ إهْلَاكًا لِلْعُضْوِ أَوْ تَمْزِيقًا أَوْ تَخْرِيقًا لِلْجِلْدِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، فَيُفَرَّقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا إلَّا الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ وَالرَّأْسَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَلَا يُقَامُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ؛ وَلِأَنَّ تَعْظِيمَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ، وَفِي إقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهِ تَرْكُ تَعْظِيمِهِ، يُؤَيِّدُهُ أَنَّا نُهِينَا عَنْ سَلِّ السُّيُوفِ فِي الْمَسَاجِدِ، قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَبِيَاعَاتِكُمْ وَأَشْرِيَتِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ تَعْظِيمًا لِلْمَسْجِدِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَلَّ السَّيْفِ فِي تَرْكِ التَّعْظِيمِ دُونَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فَلَمَّا كُرِهَ ذَلِكَ؛ فَلَأَنْ يُكْرَهَ هَذَا أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ فِي الْمَسْجِدِ لَا تَخْلُو عَنْ تَلْوِيثِهِ؛ فَتَجِبُ صِيَانَةُ الْمَسْجِدِ عَنْ ذَلِكَ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُقَامَ الْحُدُودُ كُلُّهَا فِي مَلَإٍ مِنْ النَّاسِ؛ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - عَزَّ اسْمُهُ - {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي حَدِّ الزِّنَا، لَكِنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِيهِ يَكُونُ وَارِدًا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحُدُودِ كُلِّهَا وَاحِدٌ وَهُوَ زَجْرُ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ

فصل في بيان ما يسقط الحد بعد وجوبه

لَا يَحْصُلُ إلَّا وَأَنْ تَكُونَ الْإِقَامَةُ عَلَى رَأْسِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُضُورَ يَنْزَجِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ بِالْمُعَايَنَةِ وَالْغُيَّبَ يَنْزَجِرُونَ بِإِخْبَارِ الْحُضُورِ فَيَحْصُلُ الزَّجْرُ لِلْكُلِّ، وَكَذَا فِيهِ مَنْعُ الْجَلَّادِ مِنْ الْمُجَاوَزَةِ عَنْ الْحَدِّ الَّذِي جُعِلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَاوَزَ لَمَنَعَهُ النَّاسُ عَنْ الْمُجَاوَزَةِ، وَفِيهِ أَيْضًا دَفْعُ التُّهْمَةِ وَالْمَيْلِ فَلَا يَتَّهِمُهُ النَّاسُ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ عَلَيْهِ بِلَا جُرْمٍ سَبَقَ مِنْهُ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ بَعْدَ وُجُوبِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَالْمُسْقِطُ لَهُ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي الرُّجُوعِ وَهُوَ الْإِنْكَارُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي الْإِنْكَارِ يَكُونُ كَاذِبًا فِي الْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ - يَكُونُ صَادِقًا فِي الْإِقْرَارِ فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي ظُهُورِ الْحَدِّ، وَالْحُدُودُ لَا تُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا أَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالزِّنَا؛ لَقَّنَهُ الرُّجُوعَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لَعَلَّك قَبَّلْتَهَا، لَعَلَّك مَسَسْتَهَا» . «وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ أَسَرَقْتِ قُولِي: لَا مَا إخَالُكِ سَرَقْتِ» وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَلْقِينًا لِلرُّجُوعِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمَلًا لِلسُّقُوطِ بِالرُّجُوعِ - مَا كَانَ لِلتَّلْقِينِ مَعْنًى، وَهَذَا هُوَ السُّنَّةُ لِلْإِمَامِ إذَا أَقَرَّ إنْسَانٌ عِنْدَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ أَنْ يُلَقِّنَهُ الرُّجُوعَ دَرَأَ لِلْحَدِّ، كَمَا فَعَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، وَسَوَاءٌ رَجَعَ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ أَوْ بَعْدَ إمْضَاءِ بَعْضِ الْجَلَدَاتِ أَوْ بَعْضِ الرَّجْمِ وَهُوَ حَيٌّ بَعْدُ؛ لِمَا قُلْنَا، ثُمَّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ قَدْ يَكُونُ نَصًّا، وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَةً، بِأَنْ أَخَذَ النَّاسُ فِي رَجْمِهِ؛ فَهَرَبَ وَلَمْ يَرْجِعْ، أَوْ أَخَذَ الْجَلَّادُ فِي الْجَلْدِ؛ فَهَرَبَ وَلَمْ يَرْجِعْ، حَتَّى لَا يُتَّبَعَ وَلَا يُتَعَرَّضَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْهَرَبَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ دَلَالَةُ الرُّجُوعِ وَرُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا هَرَبَ مَاعِزٌ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ» دَلَّ أَنَّ الْهَرَبَ دَلِيلُ الرُّجُوعِ، وَأَنَّ الرُّجُوعَ مُسْقِطٌ لِلْحَدِّ، وَكَمَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا يَصِحُّ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْإِحْصَانِ، حَتَّى لَوْ ثَبَتَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا، وَرَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْإِحْصَانِ - يَسْقُطُ عَنْهُ الرَّجْمُ وَيُجْلَدُ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطُ صَيْرُورَةِ الزِّنَا عِلَّةً؛ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ فَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ، كَمَا يَصِحُّ عَنْ الزِّنَا؛ فَيَبْطُلُ الْإِحْصَانُ وَيَبْقَى الزِّنَا، فَيَجِبُ الْجَلْدُ. وَأَمَّا الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْقَذْفِ فَلَا يُسْقِطُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدَّ حَقُّ الْعَبْدِ مِنْ وَجْهٍ، وَحَقُّ الْعَبْدِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالرُّجُوعِ كَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهَا تَصْدِيقُ الْمَقْذُوفِ وَالْقَاذِفِ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُ فَقَدْ ظَهَرَ صِدْقُهُ فِي الْقَذْفِ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُحَدَّ الصَّادِقُ عَلَى الصِّدْقِ؛ وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ إنَّمَا وَجَبَ؛ لِدَفْعِ عَارِ الزِّنَا وَشَيْنِهِ عَنْ الْمَقْذُوفِ، وَلَمَّا صَدَّقَهُ فِي الْقَذْفِ فَقَدْ الْتَزَمَ الْعَارَ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ بِالْحَدِّ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً، وَمِنْهَا تَكْذِيبُ الْمَقْذُوفِ الْمُقِرَّ فِي إقْرَارِهِ بِالْقَذْفِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: إنَّكَ لَمْ تَقْذِفْنِي بِالزِّنَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَذَّبَهُ فِي الْقَذْفِ فَقَدْ كَذَّبَ نَفْسَهُ فِي الدَّعْوَى، وَالدَّعْوَى شَرْطُ ظُهُورِ هَذَا الْحَدِّ. (وَمِنْهَا) تَكْذِيبُ الْمَقْذُوفِ حُجَّتَهُ عَلَى الْقَذْفِ - وَهِيَ الْبَيِّنَةُ - بِأَنْ يَقُولَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْحَدِّ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ: شُهُودِي شَهِدُوا بِزُورٍ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي التَّكْذِيبِ فَثَبَتَ الشُّبْهَةُ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ مَعَ الشُّبْهَةِ. (وَمِنْهَا) تَكْذِيبُ الْمَزْنِيِّ بِهَا الْمُقِرَّ بِالزِّنَا قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ رَجُلٌ: زَنَيْتُ بِفُلَانَةَ فَكَذَّبَتْهُ وَأَنْكَرَتْ الزِّنَا، وَقَالَتْ: لَا أَعْرِفُكَ - وَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ الرَّجُلِ، وَهَذَا قَوْلُهُمَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَسْقُطُ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاخْتِلَافَ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ زِنَا الرَّجُلِ قَدْ ظَهَرَ بِإِقْرَارِهِ، وَامْتِنَاعُ الظُّهُورِ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ لِمَعْنًى يَخُصُّهَا وَهُوَ إنْكَارُهَا؛ فَلَا يَمْنَعُ الظُّهُورَ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ، وَلَهُمَا أَنَّ الزِّنَا لَا يَقُومُ إلَّا بِالْفَاعِلِ وَالْمَحِلِّ، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي جَانِبِهَا - امْتَنَعَ الظُّهُورُ فِي جَانِبِهِ، هَذَا إذَا أَنْكَرَتْ وَلَمْ تَدَّعِي عَلَى الرَّجُلِ حَدَّ الْقَذْفِ، فَإِنْ ادَّعَتْ عَلَى الرَّجُلِ حَدَّ الْقَذْفِ - يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَيَسْقُطُ حَدُّ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدَّانِ، هَذَا إذَا كَذَّبَتْهُ وَلَمْ تَدَّعِي النِّكَاحَ. (فَأَمَّا) إذَا ادَّعَتْ النِّكَاحَ وَالْمَهْرَ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ - يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ الرَّجُلِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا لِلشُّبْهَةِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ صَادِقَةً فِي دَعْوَى النِّكَاحِ فَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهَا، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْحَدُّ - تَعَدَّى إلَى جَانِبِ الرَّجُلِ فَسَقَطَ عَنْهُ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَخْلُو عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ، وَإِنْ كَانَ دَعْوَى النِّكَاحِ مِنْهَا بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الرَّجُلِ - لَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِضَرُورَةِ إقَامَةِ الْحَدِّ وَلَمْ تُوجَدْ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ

فصل في بيان حكم الحدود إذا اجتمعت

بِالزِّنَا مَعَ فُلَانٍ، فَأَنْكَرَ الرَّجُلُ وَكَذَّبَهَا أَوْ ادَّعَى النِّكَاحَ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَلَوْ أَقَرَّ الرَّجُلُ بِالزِّنَا بِفُلَانَةَ فَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ الِاسْتِكْرَاهَ - يُحَدُّ الرَّجُلُ بِالِاتِّفَاقِ، فُرِّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْأَوَّلِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنْكَرَتْ وُجُودَ الزِّنَا فَلَمْ يَثْبُتْ الزِّنَا مِنْ جَانِبِهَا؛ فَتَعَدَّى إلَى جَانِبِ الْآخَرِ، وَهَهُنَا أَقَرَّتْ بِالزِّنَا لَكِنَّهَا ادَّعَتْ الشُّبْهَةَ لِمَعْنًى يَخُصُّهَا - وَهُوَ كَوْنُهَا مُكْرَهَةً - فَلَا يَتَعَدَّى إلَى جَانِبِ الرَّجُلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّا لَوْ تَيَقَّنَّا بِالْإِكْرَاهِ - يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ تَيَقَّنَّا بِالنِّكَاحِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ - لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) رُجُوعُ الشُّهُودِ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُمْ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَيُورِثُ شُبْهَةً، وَالْحُدُودُ لَا تُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِرُجُوعِ الشُّهُودِ فِي بَابِ الْحُدُودِ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ، قَبْلَ الْإِمْضَاءِ أَوْ بَعْدَ الْإِمْضَاءِ، بِمَا فِيهِ مِنْ الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ. (وَمِنْهَا) بُطْلَانُ أَهْلِيَّةِ شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ بِالْفِسْقِ وَالرِّدَّةِ وَالْجُنُونِ وَالْعَمَى وَالْخَرَسِ وَحَدِّ الْقَذْفِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. (وَمِنْهَا) مَوْتُهُمْ فِي حَدِّ الرَّجْمِ خَاصَّةً فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبِدَايَةَ بِالشُّهُودِ شَرْطُ جَوَازِ الْإِقَامَةِ، وَقَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ فَسَقَطَ الْحَدُّ ضَرُورَةً. (وَأَمَّا) اعْتِرَاضُ مِلْكِ النِّكَاحِ أَوْ مِلْكِ الْيَمِينِ فَهَلْ يُسْقِطُ الْحَدَّ بِأَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَوْ بِجَارِيَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا؟ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ، رَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّ اعْتِرَاضَ الشِّرَاءِ يَسْقُطُ، وَاعْتِرَاضَ النِّكَاحِ لَا يَسْقُطُ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْبُضْعَ لَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ - كَانَ الْعُقْرُ لَهَا، وَالْعُقْرُ بَدَلُ الْبُضْعِ، وَالْبَدَلُ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ كَانَ لَهُ الْمُبْدَلُ، فَلَمْ يَحْصُلْ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ مِنْ مَحِلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ، فَلَا يُورِثُ شُبْهَةً، وَبُضْعُ الْأَمَةِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى بِالشِّرَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْعُقْرُ لِلْمَوْلَى فَحَصَلَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ مَحِلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ؛ فَيُورِثُ شُبْهَةً فَصَارَ كَالسَّارِقِ إذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِلزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ فِي حَقِّ الِاسْتِمْتَاعِ فَحَصَلَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ مَحِلٍّ مَمْلُوكٍ؛ فَيَصِيرُ شُبْهَةً كَالسَّارِقِ إذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْوَطْءَ حَصَلَ زِنًا مَحْضًا؛ لِمُصَادِفَتِهِ مَحِلًّا غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ فَحَصَلَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ وَالْعَارِضِ - وَهُوَ الْمِلْكُ - لَا يَصْلُحُ مُسْقِطًا؛ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى حَالَةِ ثُبُوتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ وَالشِّرَاءِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجِدَ لِلْحَالِ فَلَا يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِهِ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْوَطْءِ، فَبَقِيَ الْوَطْءُ خَالِيًا عَنْ الْمِلْكِ، فَبَقِيَ زِنًا مَحْضًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ، بِخِلَافِ السَّارِقِ إذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ وُجِدَ الْمُسْقِطُ وَهُوَ بُطْلَانُ وِلَايَةِ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ هُنَاكَ شَرْطٌ، وَقَدْ خَرَجَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا بِمِلْكِ الْمَسْرُوقِ، وَلِذَلِكَ افْتَرَقَا، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَلَوْ غَصَبَ جَارِيَةً فَزَنَى بِهَا فَمَاتَتْ؛ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَقِيمَةَ الْجَارِيَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُمَا أَنَّ عَلَيْهِ الْقِيمَةَ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ هَلَاكِ الْجَارِيَةِ، وَهِيَ بَعْدَ الْهَلَاكِ لَا تَحْتَمِلُ الْمِلْكَ فَلَا يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ بِالضَّمَانِ فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْحَدِّ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَجِبُ بَعْدَ الْهَلَاكِ وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَاةِ، وَهِيَ مُحْتَمَلَةٌ لِلْمِلْكِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ؛ وَلِأَنَّ حَيَاةَ الْمَحِلِّ تُشْتَرَطُ؛ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهِ مَقْصُودًا بِمُبَادَلَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَالْمِلْكُ هَهُنَا يُثْبِتُ ضَرُورَةَ اسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي عَقْدِ الْمُبَادَلَةِ، فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ حَيَاةُ الْمَحِلِّ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْمَيِّتِ، وَأَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ وَلَوْ غَصَبَ حُرَّةً فَزَنَى بِهَا فَمَاتَتْ - فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الضَّمَانِ فِي الْحُرَّةِ لَا يُوجِبُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ؛ لِأَنَّ الْمَحِلَّ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْحَدِّ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَان حُكْمِ الْحُدُودِ إذَا اجْتَمَعَتْ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْحُدُودِ إذَا اجْتَمَعَتْ، فَالْأَصْلُ فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ إذَا اجْتَمَعَتْ أَنْ يُقَدَّمَ حَقُّ الْعَبْدِ فِي الِاسْتِيفَاءِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ؛ لِحَاجَةِ الْعَبْدِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِحَقِّهِ، وَتَعَالَى اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْ الْحَاجَاتِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - تَسْقُطُ ضَرُورَةً، وَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا فَإِنْ كَانَ فِي إقَامَةِ شَيْءٍ مِنْهَا إسْقَاطُ الْبَوَاقِي - يُقَامُ ذَلِكَ دَرْءًا لِلْبَوَاقِي

فصل في بيان حكم المحدود

لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي إقَامَةِ شَيْءٍ مِنْهَا إسْقَاطُ الْبَوَاقِي - يُقَامُ الْكُلُّ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا - فَنَقُولُ: إذَا اجْتَمَعَ الْقَذْفُ وَالشُّرْبُ وَالسُّكْرُ وَالزِّنَا مِنْ غَيْرِ إحْصَانٍ - وَالسَّرِقَةُ - بِأَنْ قَذَفَ إنْسَانًا بِالزِّنَا، وَشَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمَعْهُودَةِ، وَزَنَى وَهُوَ غَيْرُ مُحْصَنٍ، وَسَرَقَ مَالَ إنْسَانٍ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ إلَى الْإِمَامِ؛ بَدَأَ الْإِمَامُ بِحَدِّ الْقَذْفِ فَيَضْرِبُهُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - مِنْ وَجْهٍ، وَمَا سِوَاهُ حُقُوقُ الْعِبَادِ عَلَى الْخُلُوصِ فَيُقَدَّمُ اسْتِيفَاؤُهُ، ثُمَّ يَسْتَوْفِي حُقُوقَ اللَّهِ - تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا. وَلَيْسَ فِي إقَامَةِ شَيْءٍ مِنْهَا إسْقَاطُ الْبَوَاقِي فَلَا يَسْقُطُ، ثُمَّ إذَا ضُرِبَ حَدَّ الْقَذْفِ - يُحْبَسُ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ الضَّرْبِ، ثُمَّ الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ فِي الْبِدَايَةِ إنْ شَاءَ بَدَأَ بِحَدِّ الزِّنَا، وَإِنْ شَاءَ بِحَدِّ السَّرِقَةِ، وَيُؤَخِّرُ حَدَّ الشُّرْبِ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا ثَبَتَا بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَحَدُّ الشُّرْبِ لَمْ يَثْبُتْ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ، إنَّمَا ثَبَتَ بِإِجْمَاعٍ مَبْنِيٍّ عَلَى الِاجْتِهَادِ أَوْ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الثَّابِتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ آكَدُ ثُبُوتًا، وَلَا يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، بَلْ يُقَامُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ مَا بَرَأَ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْكُلِّ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ يُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ. وَلَوْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْحُدُودِ حَدُّ الرَّجْمِ، بِأَنْ زَنَى وَهُوَ مُحْصَنٌ - يُبْدَأُ بِحَدِّ الْقَذْفِ، وَيَضْمَنُ السَّرِقَةَ، وَيُرْجَمُ، وَيُدْرَأُ عَنْهُ مَا سِوَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُقَدَّمُ فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَفِي إقَامَةِ حَدِّ الرَّجْمِ إسْقَاطُ الْبَوَاقِي فَيُقَامُ دَرْءًا لِلْبَوَاقِي؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ وَاجِبَةُ الدَّرْءِ مَا أَمْكَنَ؛ فَيُدْرَأُ، إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَحْتَمِلُ الدَّرْءَ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَ هَذِهِ الْحُدُودِ قِصَاصٌ فِي النَّفْسِ - يُبْدَأُ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَيَضْمَنُ السَّرِقَةَ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا، وَيُدْرَأُ مَا سِوَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا بُدِئَ بِحَدِّ الْقَذْفِ دُونَ الْقِصَاصِ الَّذِي هُوَ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ فِي الْبِدَايَةِ بِالْقِصَاصِ إسْقَاطَ حَدِّ الْقَذْفِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ؛ لِذَلِكَ يُبْدَأُ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا وَيَبْطُلُ مَا سِوَى ذَلِكَ؛ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ الْقَتْلِ، إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ؛ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ كَانَ مَعَ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ قِصَاصٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ - يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ، وَيُقْتَصُّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَيُقْتَصُّ فِي النَّفْسِ، وَيُلْغَى مَا سِوَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحُدُودِ حَدُّ الْقَذْفِ وَيُقْتَصُّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، ثُمَّ يُقْتَصُّ فِي النَّفْسِ، وَيُلْغَى مَا سِوَى ذَلِكَ، وَلَوْ اجْتَمَعَتْ الْحُدُودُ الْخَالِصَةُ وَالْقَتْلُ يُقْتَصُّ وَيُلْغَى مَا سِوَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْقِصَاصِ عَلَى الْحُدُودِ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَاجِبٌ، وَمَتَى قُدِّمَ اسْتِيفَاؤُهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْحُدُودِ؛ فَتَسْقُطُ ضَرُورَةً، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْمَحْدُودِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْمَحْدُودِ فَالْحَدُّ إنْ كَانَ رَجْمًا فَإِذَا قُتِلَ - يُدْفَعُ إلَى أَهْلِهِ فَيَصْنَعُونَ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِسَائِرِ الْمَوْتَى، فَيُغَسِّلُونَهُ وَيُكَفِّنُونَهُ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَيَدْفِنُونَهُ، بِهَذَا «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا رُجِمَ مَاعِزًا فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: اصْنَعُوا بِهِ مَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ» ، وَإِنْ كَانَ جَلْدًا فَحُكْمُ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ مِنْ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا، إلَّا الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ خَاصَّةً فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ عَلَى التَّأْبِيدِ، حَتَّى لَا تُقْبَلَ، وَإِنْ تَابَ إلَّا فِي الدِّيَانَاتِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ - وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ وَفُرُوعَهَا فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ - وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [فَصَلِّ فِي التَّعْزِير] [بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ التَّعْزِيرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ التَّعْزِيرِ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهِ، وَفِي بَيَانِ وَصْفِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ. (أَمَّا) سَبَبُ وُجُوبِهِ فَارْتِكَابُ جِنَايَةٍ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فِي الشَّرْعِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - كَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ بِأَنْ آذَى مُسْلِمًا بِغَيْرِ حَقٍّ بِفِعْلٍ أَوْ بِقَوْلٍ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ بِأَنْ قَالَ لَهُ: يَا خَبِيثُ، يَا فَاسِقُ، يَا سَارِقُ، يَا فَاجِرُ، يَا كَافِرُ، يَا آكِلَ الرِّبَا، يَا شَارِبَ الْخَمْرِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ لَهُ: يَا كَلْبُ، يَا خِنْزِيرُ، يَا حِمَارُ يَا ثَوْرُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ - لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ إنَّمَا وَجَبَ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّهُ أَلْحَقَ الْعَارَ بِالْمَقْذُوفِ، إذْ النَّاسُ بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ فَعُزِّرَ؛ دَفْعًا لِلْعَارِ عَنْهُ، وَالْقَاذِفُ فِي النَّوْعِ الثَّانِي أَلْحَقَ الْعَارَ بِنَفْسِهِ بِقَذْفِهِ غَيْرَهُ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ؛ فَيَرْجِعُ عَارُ الْكَذِبِ إلَيْهِ لَا إلَى الْمَقْذُوفِ. [فَصْلٌ فِي شَرْطِ وُجُوبِ التَّعْزِيرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِهِ فَالْعَقْلُ فَقَطْ؛ فَيُعَزَّرُ كُلُّ عَاقِلٍ ارْتَكَبَ جِنَايَةً لَيْسَ لَهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ، سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ، إلَّا الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ فَإِنَّهُ

فصل في قدر التعزير

يُعَزَّرُ تَأْدِيبًا لَا عُقُوبَةً؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّأْدِيبِ، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ؛ إذَا بَلَغُوا سَبْعًا وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا؛ إذَا بَلَغُوا عَشْرًا» وَذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ وَالتَّهْذِيبِ لَا بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَدْعِي الْجِنَايَةَ، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً، بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ التَّأْدِيبِ. [فَصْلٌ فِي قَدْرِ التَّعْزِيرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا قَدْرُ التَّعْزِيرِ فَإِنَّهُ إنْ وَجَبَ بِجِنَايَةٍ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا مَا يُوجِبُ الْحَدَّ، كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: يَا فَاسِقُ، يَا خَبِيثُ، يَا سَارِقُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ - فَالْإِمَامُ فِيهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ عَزَّرَهُ بِالضَّرْبِ، وَإِنْ شَاءَ بِالْحَبْسِ، وَإِنْ شَاءَ بِالْكَهْرِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِالْكَلَامِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: يَا أَحْمَقُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْزِيرِ مِنْهُ إيَّاهُ، لَا عَلَى سَبِيلِ الشَّتْمِ، إذْ لَا يُظَنُّ ذَلِكَ مِنْ مِثْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا بِأَحَدٍ فَضْلًا عَنْ الصَّحَابِيِّ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ رَتَّبَ التَّعْزِيرَ عَلَى مَرَاتِبِ النَّاسِ، فَقَالَ: التَّعَازِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ مَرَاتِبَ: تَعْزِيرُ الْأَشْرَافِ، وَهُمْ الدَّهَّاقُونَ وَالْقُوَّادُ، وَتَعْزِيرُ أَشْرَافِ الْأَشْرَافِ وَهُمْ الْعَلَوِيَّةُ وَالْفُقَهَاءُ، وَتَعْزِيرُ الْأَوْسَاطِ: وَهُمْ السُّوقَةُ، وَتَعْزِيرُ الْأَخِسَّاءِ: وَهُمْ السِّفْلَةُ. فَتَعْزِيرُ أَشْرَافِ الْأَشْرَافِ بِالْإِعْلَامِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ أَنْ يَبْعَثَ الْقَاضِي أَمِينَهُ إلَيْهِ فَيَقُولُ لَهُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، وَتَعْزِيرُ الْأَشْرَافِ بِالْإِعْلَامِ وَالْجَرِّ إلَى بَابِ الْقَاضِي وَالْخِطَابِ بِالْمُوَاجَهَةِ، وَتَعْزِيرُ الْأَوْسَاطِ بِالْإِعْلَامِ وَالْجَرِّ وَالْحَبْسِ، وَتَعْزِيرُ السَّفَلَةِ بِالْإِعْلَامِ وَالْجَرِّ وَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّعْزِيرِ هُوَ الزَّجْرُ، وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِي الِانْزِجَارِ عَلَى هَذِهِ الْمَرَاتِبِ، وَإِنْ وَجَبَ بِجِنَايَةٍ فِي جِنْسِهَا الْحَدُّ لَكِنَّهُ لَمْ يَجِبْ؛ لِفَقْدِ شَرْطِهِ كَمَا إذَا قَالَ لِصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ: يَا زَانِي، أَوْ لِذِمِّيَّةٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ: يَا زَانِيَةُ، فَالتَّعْزِيرُ فِيهِ بِالضَّرْبِ وَيَبْلُغُ أَقْصَى غَايَاتِهِ، وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ وَفِي رِوَايَةِ النَّوَادِرِ عَنْهُ تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ مُضْطَرِبٌ ذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ التَّعْزِيرُ الْحَدَّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ» إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَرَفَ الْحَدَّ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْأَحْرَارِ. وَزَعَمَ أَنَّهُ الْحَدُّ الْكَامِلُ لَا حَدَّ الْمَمَالِيكِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بَعْضُ الْحَدِّ وَلَيْسَ بِحَدٍّ كَامِلٍ، وَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ فِي كُلِّ بَابٍ؛ وَلِأَنَّ الْأَحْرَارَ هُمْ الْمَقْصُودُونَ فِي الْخِطَابِ، وَغَيْرُهُمْ مُلْحَقٌ بِهِمْ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ فِي رِوَايَةٍ يُنْقَصُ مِنْهَا سَوْطٌ، وَهُوَ الْأَقْيَسُ؛ لِأَنَّ تَرْكَ التَّبْلِيغِ يَحْصُلُ بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: يُنْتَقَصُ مِنْهَا خَمْسَةٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ أَثَرًا عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: يُعَزَّرُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَلَّدْتُهُ فِي نُقْصَانِ الْخَمْسَةِ وَاعْتُبِرَتْ عَنْهُ أَدْنَى الْحُدُودِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَخَذْتُ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ بَابِهِ، وَأَخَذْتُ التَّعْزِيرَ فِي اللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ مِنْ حَدِّ الزِّنَا، وَالْقَذْفَ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ؛ لِيَكُونَ إلْحَاقَ كُلِّ نَوْعٍ بِبَابِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ صَرَفَهُ إلَى حَدِّ الْمَمَالِيكِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ حَدًّا مُنَكَّرًا فَيَتَنَاوَلُ حَدًّا مَا، وَأَرْبَعُونَ حَدٌّ كَامِلٌ فِي الْمَمَالِيكِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ فِي الْحَمْلِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ أَخْذًا بِالثِّقَةِ وَالِاحْتِيَاطِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْحَدِّ يَقَعُ عَلَى النَّوْعَيْنِ، فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ يَقَعُ الْأَمْنُ عَنْ وَعِيدِ التَّبْلِيغِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ - لَا يَقَعُ الْأَمْنُ عَنْهُ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ حَدَّ الْمَمَالِيكِ فَيَصِيرُ مُبَلِّغًا غَيْرَ الْحَدِّ - الْحَدَّ؛ فَيَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِيمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي صِفَةِ التَّعْزِيرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَتُهُ فَلَهُ صِفَاتٌ مِنْهَا: أَنَّهُ أَشَدُّ الضَّرْبِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي الْمُرَادِ بِالشِّدَّةِ الْمَذْكُورَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: أُرِيدَ بِهَا الشِّدَّةُ مِنْ حَيْثُ الْجَمْعِ، وَهِيَ أَنْ يَجْمَعَ الضَّرَبَاتِ فِيهِ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ وَلَا يُفَرِّقُ بِخِلَافِ الْحُدُودِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْهَا الشِّدَّةُ فِي نَفْسِ الضَّرْبِ وَهُوَ الْإِيلَامُ، ثُمَّ إنَّمَا كَانَ أَشَدَّ الضَّرْبِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ شُرِعَ لِلزَّجْرِ الْمَحْضِ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى تَكْفِيرِ الذَّنْبِ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ فَإِنَّ مَعْنَى الزَّجْرِ فِيهَا يَشُوبُهُ مَعْنَى التَّكْفِيرِ لِلذَّنْبِ، قَالَ «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا» فَإِذَا تَمَحَّضَ التَّعْزِيرُ لِلزَّجْرِ - فَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَشَدَّ أَزْجَرُ فَكَانَ فِي تَحْصِيلِ مَا شُرِعَ لَهُ أَبْلَغُ. وَالثَّانِي - أَنَّهُ قَدْ نَقَصَ عَنْ عَدَدِ الضَّرَبَاتِ فِيهِ فَلَوْ لَمْ يُشَدِّدْ فِي الضَّرْبِ - لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ وَهُوَ الزَّجْرُ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ

فصل في بيان ما يظهر به التعزير

وَالصُّلْحَ وَالْإِبْرَاءَ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ خَالِصًا، فَتَجْرِي فِيهِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ، كَمَا تَجْرِي فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ لِلْعِبَادِ مِنْ الْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُوَرَّثُ كَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَتَدَاخَلُ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَبْدِ لَا تَحْتَمِلُ التَّدَاخُلَ - بِخِلَافِ الْحُدُودِ - وَيُؤْخَذُ فِيهِ الْكَفِيلُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحْبَسُ؛ لِتَعْدِيلِ الشُّهُودِ، أَمَّا التَّكْفِيلُ؛ فَلِأَنَّ التَّكْفِيلَ لِلتَّوْثِيقِ، وَالتَّعْزِيرُ حَقٌّ لِلْعَبْدِ فَكَانَ التَّوْثِيقُ مُلَائِمًا لَهُ بِخِلَافِ الْحُدُودِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَمَّا عَدَمُ الْحَبْسِ؛ فَلِأَنَّ الْحَبْسَ يَصْلُحُ تَعْزِيرًا فِي نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا قَبْلَ تَعْدِيلِ الشُّهُودِ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ أَنَّهُ يُحْبَسُ فِيهَا لِتَعْدِيلِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يَصْلُحُ حَدًّا، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ التَّعْزِيرُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ فَنَقُولُ: إنَّهُ يَظْهَرُ بِهِ سَائِرُ حُقُوقِ الْعِبَادِ مِنْ الْإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةِ وَالنُّكُولِ وَعِلْمِ الْقَاضِي، وَيُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَكِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، كَمَا فِي سَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى الْخُلُوصِ فَيَظْهَرُ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ حُقُوقُ الْعِبَادِ، وَلَا يُعْمَلُ فِيهِ الرُّجُوعُ كَمَا لَا يُعْمَلُ فِي الْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. [كِتَابُ السَّرِقَةِ] [فَصَلِّ فِي رُكْن السَّرِقَة] (كِتَابُ السَّرِقَةِ) يُحْتَاجُ لِمَعْرِفَةِ مَسَائِلِ السَّرِقَةِ إلَى مَعْرِفَةِ رُكْنِ السَّرِقَةِ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَظْهَرُ بِهِ السَّرِقَةُ عِنْدَ الْقَاضِي، وَإِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ السَّرِقَةِ. (فَصْلٌ) : أَمَّا رُكْنِ السَّرِقَةِ فَهُوَ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} [الحجر: 18] سَمَّى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْذَ الْمَسْمُوعِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَاءِ اسْتِرَاقًا؛ وَلِهَذَا يُسَمَّى الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ مُغَالَبَةً أَوْ نُهْبَةً، أَوْ خِلْسَةً، أَوْ غَصْبًا، أَوْ انْتِهَابًا وَاخْتِلَاسًا لَا سَرِقَةً وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُخْتَلِسِ، وَالْمُنْتَهِبِ فَقَالَ: تِلْكَ الدُّعَابَةُ لَا شَيْءَ فِيهَا. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا قَطْعَ عَلَى نَبَّاشٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا خَائِنٍ» ، ثُمَّ الْأَخْذُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَاءِ نَوْعَانِ: مُبَاشَرَةٌ، وَتَسَبُّبٌ (أَمَّا) الْمُبَاشَرَةُ فَهُوَ أَنْ يَتَوَلَّى السَّارِقُ أَخْذَ الْمَتَاعِ، وَإِخْرَاجَهُ مِنْ الْحِرْزِ بِنَفْسِهِ حَتَّى لَوْ دَخَلَ الْحِرْزَ، وَأَخَذَ مَتَاعًا فَحَمَلَهُ، أَوْ لَمْ يَحْمِلْهُ حَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْحِرْزِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ إثْبَاتُ الْيَدِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الْحِرْزِ وَلَمْ يُوجَدْ. وَإِنْ رَمَى بِهِ خَارِجَ الْحِرْزِ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ هُوَ مِنْ الْحِرْزِ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ عَلَيْهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْحِرْزِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ، وَأَخَذَ مَا كَانَ رَمَى بِهِ خَارِجَ الْحِرْزِ يُقْطَعُ، وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْأَخْذَ مِنْ الْحِرْزِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ مِنْهُ، وَالرَّمْيُ لَيْسَ بِإِخْرَاجٍ، وَالْأَخْذُ مِنْ الْخَارِجِ لَيْسَ أَخْذًا مِنْ الْحِرْزِ فَلَا يَكُونُ سَرِقَةً. (وَلَنَا) أَنَّ الْمَالَ فِي حُكْمِ يَدِهِ مَا لَمْ تَثْبُتْ عَلَيْهِ يَدُ غَيْرِهِ، فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ الْأَخْذُ وَالْإِخْرَاجُ مِنْ الْحِرْزِ، وَلَوْ رَمَى بِهِ إلَى صَاحِبٍ لَهُ خَارِجَ الْحِرْزِ فَأَخَذَهُ الْمَرْمِيُّ إلَيْهِ فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا: (أَمَّا) الْخَارِجُ؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ. (وَأَمَّا) الدَّاخِلُ؛ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِخْرَاجُ مِنْ الْحِرْزِ لِثُبُوتِ يَدِ الْخَارِجِ عَلَيْهِ، وَلَوْ نَاوَلَ صَاحِبًا لَهُ مُنَاوَلَةً مِنْ وَرَاءِ الْجِدَارِ وَلَمْ يَخْرُجَ هُوَ: فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يُقْطَعُ الدَّاخِلُ، وَلَا يُقْطَعُ الْخَارِجُ إذَا كَانَ الْخَارِجُ لَمْ يُدْخِلْ يَدَهُ إلَى الْحِرْزِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الدَّاخِلَ لَمَّا نَاوَلَ صَاحِبَهُ فَقَدْ أَقَامَ يَدَ صَاحِبِهِ مُقَامَ يَدِهِ، فَكَأَنَّهُ خَرَجَ وَالْمَالُ فِي يَدِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الْقَطْعِ عَلَى الْخَارِجِ لِانْعِدَامِ فِعْلِ السَّرِقَةِ مِنْهُ، وَهُوَ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِهِ عَلَى الدَّاخِلِ؛ لِانْعِدَامِ ثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ حَالَةَ الْخُرُوجِ مِنْ الْحِرْزِ؛ لِثُبُوتِ يَدِ صَاحِبِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَمَى بِهِ إلَى السِّكَّةِ، ثُمَّ خَرَجَ وَأَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَثْبُتْ عَلَيْهِ يَدُ غَيْرِهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ يَدِهِ، فَكَأَنَّهُ خَرَجَ بِهِ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْحِرْزِ فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِ الدَّاخِلِ: فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ

فصل في شرائط ركن السرقة وبعضها يرجع إلى السارق

أَبُو يُوسُفَ: أَقْطَعُهُمَا جَمِيعًا. (أَمَّا) عَدَمُ وُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَى الدَّاخِلِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ فَلِعَدَمِ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْحِرْزِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَ يَدَهُ، وَنَاوَلَ صَاحِبًا لَهُ لَمْ يُقْطَعْ، فَعِنْدَ عَدَمِ الْإِخْرَاجِ أَوْلَى، وَالْوُجُوبُ عَلَيْهِ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. (وَأَمَّا) الْكَلَامُ فِي الْخَارِجِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ السَّارِقَ إذَا نَقَبَ مَنْزِلًا، وَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ، وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ هَلْ يُقْطَعُ؟ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ، وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ: " أَقْطَعُ وَلَا أُبَالِي دَخَلَ الْحِرْزَ، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ "، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا نَقَبَ وَدَخَلَ، وَجَمَعَ الْمَتَاعَ عِنْدَ النَّقْبِ، ثُمَّ خَرَجَ، وَأَدْخَلَ يَدَهُ فَرَفَعَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الرُّكْنَ فِي السَّرِقَةِ هُوَ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ، فَأَمَّا الدُّخُولُ فِي الْحِرْزِ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الصُّنْدُوقِ، أَوْ فِي الْجَوَالِقِ، وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ يُقْطَعُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الدُّخُولُ، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " إذَا كَانَ اللِّصُّ ظَرِيفًا لَمْ يُقْطَعْ قِيلَ: وَكَيْفَ يَكُونُ ظَرِيفًا؟ قَالَ: يُدْخِلُ يَدَهُ إلَى الدَّارِ وَيُمْكِنُهُ دُخُولُهَا "، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّ هَتْكَ الْحِرْزِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ بِهِ تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ، وَلَا يَتَكَامَلُ الْهَتْكُ فِيمَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الدُّخُولُ إلَّا بِالدُّخُولِ، وَلَمْ يُوجَدْ، بِخِلَافِ الْأَخْذِ مِنْ الصُّنْدُوقِ، وَالْجَوَالِقِ؛ لِأَنَّ هَتْكَهُمَا بِالدُّخُولِ مُتَعَذَّرٌ، فَكَانَ الْأَخْذُ بِإِدْخَالِ الْيَدِ فِيهَا هَتْكًا مُتَكَامِلًا فَيُقْطَعُ وَلَوْ أَخْرَجَ السَّارِقُ الْمَتَاعَ مِنْ بَعْضِ بُيُوتِ الدَّارِ إلَى السَّاحَةِ: لَا يُقْطَعُ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ مَعَ اخْتِلَافِ بُيُوتِهَا حِرْزٌ، وَاحِدٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قِيلَ لِصَاحِبِ الدَّارِ احْفَظْ هَذِهِ الْوَدِيعَةَ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَحَفِظَ فِي بَيْتٍ آخَرَ فَضَاعَتْ لَمْ يَضْمَنْ. وَكَذَا إذَا أَذِنَ لِإِنْسَانٍ فِي دُخُولِ الدَّارِ فَدَخَلَهَا فَسَرَقَ مِنْ الْبَيْتِ لَا يُقْطَعُ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِدُخُولِ الْبَيْتِ دَلَّ أَنَّ الدَّارَ مَعَ اخْتِلَافِ بُيُوتِهَا حِرْزٌ، وَاحِدٌ فَلَمْ يَكُنْ الْإِخْرَاجُ إلَى صَحْنِ الدَّارِ إخْرَاجًا مِنْ الْحِرْزِ، بَلْ هُوَ نَقْلٌ مِنْ بَعْضِ الْحِرْزِ إلَى الْبَعْضِ بِمَنْزِلَةِ النَّقْلِ مِنْ زَاوِيَةٍ إلَى زَاوِيَةٍ أُخْرَى، هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ مَعَ بُيُوتِهَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، فَأَمَّا إذَا كَانَ كُلُّ مَنْزِلٍ فِيهَا لِرَجُلٍ فَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ مِنْ الْبَيْتِ إلَى السَّاحَةِ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ كُلَّ بَيْتٍ حِرْزٌ عَلَى حِدَةٍ، فَكَانَ الْإِخْرَاجُ مِنْهُ إخْرَاجًا مِنْ الْحِرْزِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي الدَّارِ حُجَرٌ، وَمَقَاصِيرُ فَسَرَقَ مِنْ مَقْصُورٍ مِنْهَا وَخَرَجَ بِهِ إلَى صَحْنِ الدَّارِ قُطِعَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَقْصُورَةٍ مِنْهَا حِرْزٌ عَلَى حِدَةٍ، فَكَانَ الْإِخْرَاجُ مِنْهَا إخْرَاجًا مِنْ الْحِرْزِ بِمَنْزِلَةِ الدَّارِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي مَحَلَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَوْ نَقَبَ رَجُلَانِ، وَدَخَلَ أَحَدُهُمَا فَاسْتَخْرَجَ الْمَتَاعَ فَلَمَّا خَرَجَ بِهِ إلَى السِّكَّةِ حَمَلَاهُ جَمِيعًا يُنْظَرُ: إنْ عُرِفَ الدَّاخِلُ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ السَّارِقُ لِوُجُودِ الْأَخْذِ وَالْإِخْرَاجِ مِنْهُ، وَيُعَزَّرُ الْخَارِجُ؛ لِأَنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَهَذِهِ مَعْصِيَةٌ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ الدَّاخِلُ مِنْهُمَا لَمْ يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْقَطْعُ مَجْهُولٌ، وَيُعَزَّرَانِ: أَمَّا الْخَارِجُ فَلِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الدَّاخِلُ فَلِارْتِكَابِهِ جِنَايَةً لَمْ يُسْتَوْفَ فِيهَا الْحَدُّ لِعُذْرٍ فَتَعَيَّنَ التَّعْزِيرُ، وَلَوْ نَقَبَ بَيْتَ رَجُلٍ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ مُكَابَرَةً لَيْلًا حَتَّى سَرَقَ مِنْهُ مَتَاعَهُ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يُوجَدَ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ مِنْ الْمَالِكِ فَقَدْ وُجِدَ مِنْ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْغَوْثَ لَا يَلْحَقُ بِاللَّيْلِ؛ لِكَوْنِهِ وَقْتَ نَوْمٍ، وَغَفْلَةٍ فَتَحَقَّقَتْ السَّرِقَةُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا التَّسَبُّبُ فَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ جَمَاعَةٌ مِنْ اللُّصُوصِ مَنْزِلَ رَجُلٍ، وَيَأْخُذُوا مَتَاعًا وَيَحْمِلُوهُ عَلَى ظَهْرِ وَاحِدٍ، وَيُخْرِجُوهُ مِنْ الْمَنْزِلِ: فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُقْطَعَ إلَّا الْحَامِلُ خَاصَّةً، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُقْطَعُونَ جَمِيعًا. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ: أَنَّ رُكْنَ السَّرِقَةِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الْحِرْزِ، وَذَلِكَ وُجِدَ مِنْهُ مُبَاشَرَةً، فَأَمَّا غَيْرُهُ فَمُعِينٌ لَهُ، وَالْحَدُّ يَجِبُ عَلَى الْمُبَاشِرِ لَا عَلَى الْمُعِينِ كَحَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ الْإِخْرَاجَ حَصَلَ مِنْ الْكُلِّ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِخْرَاجِ إلَّا بِإِعَانَةِ الْبَاقِينَ وَتَرَصُّدِهِمْ لِلدَّفْعِ، فَكَانَ الْإِخْرَاجُ مِنْ الْكُلِّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَلِهَذَا أُلْحِقَ الْمُعِينُ بِالْمُبَاشِرِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَفِي الْغَنِيمَةِ كَذَا هَذَا؛ وَلِأَنَّ الْحَامِلَ عَامِلٌ لَهُمْ فَكَأَنَّهُمْ حَمَلُوا الْمَتَاعَ عَلَى حِمَارٍ، وَسَاقُوهُ حَتَّى أَخْرَجُوهُ مِنْ الْحِرْزِ؛ وَلِأَنَّ السَّارِقَ لَا يَسْرِقُ وَحْدَهُ عَادَةً، بَلْ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَمِنْ عَادَةِ السُّرَّاقِ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ لَا يَشْتَغِلُونَ بِالْجَمْعِ وَالْإِخْرَاجِ، بَلْ يَرْصُدُ الْبَعْضُ، فَلَوْ جُعِلَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ لَانْسَدَّ بَابُ الْقَطْعِ، وَانْفَتَحَ بَابُ السَّرِقَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ وَلِهَذَا أُلْحِقَتْ الْإِعَانَةُ بِالْمُبَاشَرَةِ فِي بَابِ قَطْعِ الطَّرِيقِ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِط رُكْنِ السَّرِقَةِ وبعضها يرجع إلَى السَّارِق] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى السَّارِقِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ

فصل في الشرط الذي يرجع إلى المسروق

وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ فِيهِ، وَهُوَ الْمَكَانُ أَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى السَّارِقِ: فَأَهْلِيَّةُ وُجُوبِ الْقَطْعِ وَهِيَ: الْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ فَلَا يُقْطَعُ الصَّبِيُّ، وَالْمَجْنُونُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» أَخْبَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْهُمَا. وَفِي إيجَابِ الْقَطْعِ إجْرَاءُ الْقَلَمِ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ الْقَطْعَ عُقُوبَةٌ فَيَسْتَدْعِي جِنَايَةً، وَفِعْلُهُمَا لَا يُوصَفُ بِالْجِنَايَاتِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمَا سَائِرُ الْحُدُودِ كَذَا هَذَا، وَيَضْمَنَانِ السَّرِقَةَ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ ضَمَانِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ السَّارِقُ يُجَنُّ مُدَّةً، وَيُفِيقُ أُخْرَى فَإِنْ سَرَقَ فِي حَالِ جُنُونِهِ لَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ سَرَقَ فِي حَالِ الْإِفَاقَةِ؛ يُقْطَعْ وَلَوْ سَرَقَ جَمَاعَةٌ فِيهِمْ صَبِيٌّ، أَوْ مَجْنُونٌ يَدْرَأُ عَنْهُمْ الْقَطْعَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " إنْ كَانَ الصَّبِيُّ، وَالْمَجْنُونُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى إخْرَاجَ الْمَتَاعِ دُرِئَ عَنْهُمْ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ وَلِيَهُ غَيْرُهُمَا؛ قُطِعُوا جَمِيعًا إلَّا الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ ". (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْإِخْرَاجَ مِنْ الْحِرْزِ هُوَ الْأَصْلُ فِي السَّرِقَةِ، وَالْإِعَانَةُ كَالتَّابِعِ فَإِذَا وَلِيَهُ الصَّبِيُّ، أَوْ الْمَجْنُونُ؛ فَقَدْ أَتَى بِالْأَصْلِ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ بِالْأَصْلِ كَيْفَ يَجِبُ بِالتَّابِعِ؟ فَإِذَا وَلِيَهُ بَالِغٌ عَاقِلٌ؛ فَقَدْ حُصِلَ الْأَصْلُ مِنْهُ، فَسُقُوطُهُ عَنْ التَّبَعِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ عَنْ الْأَصْلِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ السَّرِقَةَ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ حَصَلَتْ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَمِمَّنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى أَحَدٍ كَالْعَامِدِ مَعَ الْخَاطِئِ إذَا اشْتَرَكَا فِي الْقَطْعِ، أَوْ فِي الْقَتْلِ، وَقَوْلُهُ الْإِخْرَاجُ أَصْلٌ فِي السَّرِقَةِ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّهُ حَصَلَ مِنْ الْكُلِّ مَعْنًى؛ لِاتِّحَادِ الْكُلِّ فِي مَعْنَى التَّعَاوُنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَكَانَ إخْرَاجُ غَيْرِ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ كَإِخْرَاجِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ضَرُورَةَ الِاتِّحَادِ. عَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا كَانَ فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ؛ لِأَنَّهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى أَحَدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ " يُدْرَأُ عَنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَيَجِبُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ "، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا كَانَ فِيهِمْ شَرِيكُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى أَحَدٍ، فَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ الْأَهْلِيَّةِ فَتُقْطَعُ الْأُنْثَى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، وَكَذَلِكَ الْحُرِّيَّةُ فَيُقْطَعُ الْعَبْدُ، وَالْأَمَةُ، وَالْمُدَبَّرُ، وَالْمُكَاتَبُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَيَسْتَوِي الْآبِقُ وَغَيْرُهُ؛ لِمَا قُلْنَا، وَذُكِرَ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ عَبْدًا لِعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سَرَقَ - وَهُوَ آبِقٌ - فَبَعَثَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ إلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِيَقْطَعَ يَدَهُ فَأَبَى سَعِيدٌ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ وَقَالَ: " لَا نَقْطَعُ يَدَ الْآبِقِ إذَا سَرَقَ " فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فِي أَيِّمَا كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ وَجَدْتَ هَذَا: أَنَّ الْعَبْدَ الْآبِقَ إذَا سَرَقَ لَا تُقْطَعُ يَدُهُ، فَأَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقُطِعَتْ يَدُهُ؛ وَلِأَنَّ الذُّكُورَةَ، وَالْحُرِّيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ سَائِرِ الْحُدُودِ، فَكَذَا هَذَا الْحَدُّ، وَكَذَا الْإِسْلَامُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيُقْطَعُ الْمُسْلِمُ، وَالْكَافِرُ لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ. [فَصْلٌ فِي الشَّرْط الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَالًا مُطْلَقًا لَا قُصُورَ فِي مَالِيَّتِهِ، وَلَا شُبْهَةَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَمَوَّلُهُ النَّاسُ، وَيَعُدُّونَهُ مَالًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِعِزَّتِهِ، وَخَطَرِهِ عِنْدَهُمْ، وَمَا لَا يَتَمَوَّلُونَهُ فَهُوَ تَافِهٌ حَقِيرٌ، قَدْ رُوِيَ عَنْ - سَيِّدَتِنَا - عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «لَمْ تَكُنِ الْيَدُ تُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ» ، وَهَذَا مِنْهَا بَيَانُ شَرْعٍ مُتَقَرِّرٍ؛ وَلِأَنَّ التَّفَاهَةَ تُخَلُّ فِي الْحِرْزِ؛ لِأَنَّ التَّافِهَ لَا يُحْرَزُ عَادَةً، أَوْ لَا يُحْرَزُ إحْرَازَ الْخَطَرِ، وَالْحِرْزُ الْمُطْلَقُ شَرْطٌ عَلَى مَا نَذْكُرُ. وَكَذَا تُخَلُّ فِي الرُّكْنِ، وَهُوَ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ؛ لِأَنَّ أَخْذَ التَّافِهِ مِمَّا لَا يَسْتَخْفِي مِنْهُ فَيَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ وَالشُّبْهَةُ فِي الرُّكْنِ، وَالشُّبْهَةُ فِي بَابِ الْحُدُودِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ وَيَخْرُجُ عَلَى هَذَا مَسَائِلُ: إذَا سَرَقَ صَبِيًّا حُرًّا لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَوْ سَرَقَ صَبِيًّا عَبْدًا لَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا يَعْقِلُ يُقْطَعُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يُقْطَعُ (وَوَجْهُهُ) : أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِمَالٍ مَحْضٍ، بَلْ هُوَ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ، آدَمِيٌّ مِنْ وَجْهٍ، فَكَانَ مَحَلُّ السَّرِقَةِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؛ فَلَا تَثْبُتُ الْمَحَلِّيَّةُ بِالشَّكِّ فَلَا يُقْطَعُ كَالصَّبِيِّ الْعَاقِلِ. (وَلَنَا) أَنَّهُ مَالٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ فِيهِ عَلَى الْكَمَالِ، وَلَا يَدَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَتَحَقَّقُ رُكْنُ السَّرِقَةِ - كَالْبَهِيمَةِ - وَكَوْنُهُ آدَمِيًّا لَا يَنْفِي كَوْنَهُ مَالًا، فَهُوَ آدَمِيٌّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَمَالٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِعَدَمِ التَّنَافِي فَيَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ، لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ، بِخِلَافِ الْعَاقِلِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَالًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَكِنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ يَدِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ؛ لِلتَّنَافِي فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ رُكْنُ السَّرِقَةِ: وَهُوَ الْأَخْذُ، وَلَوْ سَرَقَ مَيْتَةً، أَوْ جِلْدَ مَيْتَةٍ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِانْعِدَامِ الْمَالِ

وَلَا يُقْطَعُ فِي التِّبْنِ، وَالْحَشِيشِ، وَالْقَصَبِ، وَالْحَطَبِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَتَمَوَّلُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ. وَلَا يَظُنُّونَ بِهَا؛ لِعَدَمِ عِزَّتِهَا، وَقِلَّةِ خَطَرِهَا عِنْدَهُمْ، بَلْ يَعُدُّونَ الظِّنَّةَ بِهَا مِنْ بَابِ الْخُسَاسَةِ، فَكَانَتْ تَافِهَةً، وَلَا قَطْعَ فِي التُّرَابِ، وَالطِّينِ، وَالْجَصِّ، وَاللَّبِنِ، وَالنُّورَةِ، وَالْآجُرِّ، وَالْفَخَّارِ، وَالزُّجَاجِ؛ لِتَفَاهَتِهَا فَرَّقَ بَيْنَ التُّرَابِ، وَبَيْنَ الْخَشَبِ، حَيْثُ سَوَّى فِي التُّرَابِ بَيْنَ الْمَعْمُولِ مِنْهُ وَغَيْرِ الْمَعْمُولِ، وَفَرَّقَ فِي الْخَشَبِ؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ فِي الْخَشَبِ أَخْرَجَتْهُ عَنْ حَدِّ التَّفَاهَةِ، وَالصَّنْعَةَ فِي التُّرَابِ لَمْ تُخْرِجْهُ عَنْ كَوْنِهِ تَافِهًا، يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالرُّجُوعِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ فَصَّلَ فِي الْجَوَابِ فِي الزُّجَاجِ بَيْنَ الْمَعْمُولِ، وَغَيْرِ الْمَعْمُولِ، كَمَا فِي الْخَشَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الزُّجَاجَ بِالْعَمَلِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ التَّفَاهَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْكَسْرُ، بِخِلَافِ الْخَشَبِ. وَلَا يُقْطَعُ فِي الْخَشَبِ إلَّا إذَا كَانَ مَعْمُولًا بِأَنْ صَنَعَ مِنْهُ أَبْوَابًا، أَوْ آنِيَةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ مَا خَلَا السَّاجَ، وَالْقَنَا، وَالْأَبَنُوسَ، وَالصَّنْدَلَ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَصْنُوعِ مِنْ الْخَشَبِ لَا يَتَمَوَّلُ عَادَةً، فَكَانَ تَافِهًا، وَبِالصَّنْعَةِ يَخْرُجُ عَنْ التَّفَاهَةِ فَيَتَمَوَّلُ. وَأَمَّا السَّاجُ، وَالْأَبَنُوسُ، وَالصَّنْدَلُ فَأَمْوَالٌ لَهَا عِزَّةٌ وَخَطَرٌ عِنْدَ النَّاسِ فَكَانَتْ أَمْوَالًا مُطْلَقَةً. (وَأَمَّا) الْعَاجُ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ: أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ إلَّا فِي الْمَعْمُولِ مِنْهُ، وَقِيلَ هَذَا الْجَوَابُ فِي الْعَاجِ الَّذِي هُوَ مِنْ عَظْمِ الْجَمَلِ، فَلَا يُقْطَعُ إلَّا فِي الْمَعْمُولِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَوَّلُ لِتَفَاهَتِهِ، وَيُقْطَعُ فِي الْمَعْمُولِ؛ لِخُرُوجِهِ عَنْ حَدِّ التَّفَاهَةِ بِالصَّنْعَةِ - كَالْخَشَبِ الْمَعْمُولِ - فَأَمَّا مَا هُوَ مِنْ عَظْمِ الْفِيلِ فَلَا يُقْطَعُ فِيهِ أَصْلًا سَوَاءٌ كَانَ مَعْمُولًا، أَوْ غَيْرَ مَعْمُولٍ؛ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مَالِيَّتِهِ. حَتَّى حَرَّمَ بَعْضُهُمْ بَيْعَهُ، وَالِانْتِفَاعَ بِهِ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ قُصُورًا فِي الْمَالِيَّةِ، وَلَا قَطْعَ فِي قَصَبِ النُّشَّابِ، فَإِنْ كَانَ اتَّخَذَ مِنْهُ نُشَّابًا قُطِعَ؛ لِمَا قُلْنَا فِي الْخَشَبِ، وَلَا قَطْعَ فِي الْقُرُونِ مَعْمُولَةً كَانَتْ، أَوْ غَيْرَ مَعْمُولَةٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: " إنْ كَانَتْ مَعْمُولَةً وَهِيَ تُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ قُطِعَ " قِيلَ إنَّ اخْتِلَافَ الْجَوَابِ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ، فَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِي قُرُونِ الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ مُطْلَقٍ لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي مَالِيَّتِهَا، وَجَوَابُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِي قُرُونِ الْمُذَكَّى فَلَمْ يُوجِبْ الْقَطْعَ فِي غَيْرِ الْمَعْمُولِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ، وَأَوْجَبَ فِي الْمَعْمُولِ كَمَا فِي الْخَشَبِ الْمَعْمُولِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي جُلُودِ السِّبَاعِ الْمَدْبُوغَةِ: أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِيهَا فَإِنْ جُعِلَتْ مُصَلَّاةً، أَوْ بِسَاطًا قُطِعَ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَعْمُولِ مِنْهَا مِنْ أَجْزَاءِ الصَّيْدِ وَلَا قَطْعَ فِي الصَّيْدِ فَكَذَا فِي أَجْزَائِهِ، وَبِالصَّنْعَةِ صَارَتْ شَيْئًا آخَرَ فَأَشْبَهَ الْخَشَبَ الْمَصْنُوعَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَعْتَدَّ، بِخِلَافِ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْفُقَهَاءِ: إنَّ جُلُودَ السِّبَاعِ لَا تَطْهُرُ بِالزَّكَاةِ، وَلَا بِالدِّبَاغِ، وَلَا قَطْعَ فِي الْبَوَارِي؛ لِأَنَّهَا تَافِهَةٌ لِتَفَاهَةِ أَصْلِهَا وَهُوَ الْقَصَبُ، وَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ كَلْبٍ، وَلَا فَهْدٍ، وَلَا فِي سَرِقَةِ الْمَلَاهِي: مِنْ الطَّبْلِ، وَالدُّفِّ، وَالْمِزْمَارِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا لَا يَتَمَوَّلُ، أَوْ فِي مَالِيَّتِهَا قُصُورٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى كَاسِرِ الْمَلَاهِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَلَا عَلَى قَاتِلِ الْكَلْبِ، وَالْفَهْدِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ. وَلَوْ سَرَقَ مُصْحَفًا، أَوْ صَحِيفَةً فِيهَا حَدِيثٌ، أَوْ عَرَبِيَّةٌ، أَوْ شِعْرٌ فَلَا قَطْعَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُقْطَعُ إذَا كَانَ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَدَّخِرُونَهَا وَيَعُدُّونَهَا مِنْ نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمُصْحَفَ الْكَرِيمَ يُدَّخَرُ لَا لِلتَّمَوُّلِ، بَلْ لِلْقِرَاءَةِ، وَالْوُقُوفِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْعَمَلِ بِهِ، وَكَذَلِكَ صَحِيفَةُ الْحَدِيثِ، وَصَحِيفَةُ الْعَرَبِيَّةِ، وَالشِّعْرِ يُقْصَدُ بِهَا مَعْرِفَةُ الْأَمْثَالِ وَالْحِكَمِ لَا التَّمَوُّلِ. (وَأَمَّا) دَفَاتِرُ الْحِسَابِ فَفِيهَا الْقَطْعُ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهَا نِصَابًا؛ لِأَنَّ مَا فِيهَا لَا يَصْلُحُ مَقْصُودًا بِالْأَخْذِ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ قَدْرُ الْبَيَاضِ مِنْ الْكَاغَدِ، وَكَذَلِكَ الدَّفَاتِرُ الْبِيضُ إذَا بَلَغَتْ نِصَابًا؛ لِمَا قُلْنَا، عَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: " إنَّ كُلَّ مَا يُوجَدُ جِنْسُهُ تَافِهًا مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا قَطْعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا عِزَّ لَهُ، وَلَا خَطَرَ فَلَا يَتَمَوَّلُ النَّاسُ، فَكَانَ تَافِهًا "، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَعْنَى التَّفَاهَةِ دُونَ الْإِبَاحَةِ؛ لِمَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِي عَفْصٍ، وَلَا إهْلِيلَجَ، وَلَا أُشْنَانٍ وَلَا فَحْمٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُبَاحَةُ الْجِنْسِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَهِيَ تَافِهَةٌ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِي الْعَفْصِ، وَالْإِهْلِيلَجِ، وَالْأَدْوِيَةِ الْيَابِسَةِ، وَلَا قَطْعَ فِي طَيْرٍ وَلَا صَيْدٍ وَحْشِيًّا كَانَ، أَوْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الطَّيْرَ لَا يَتَمَوَّلُ عَادَةً، قَدْ رُوِيَ عَنْ - سَيِّدِنَا - عُثْمَانَ، وَسَيِّدِنَا - عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: " لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ " وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِمَا خِلَافَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ مِنْ الْجَوَارِحِ فَصَارَ صَيُودًا فَلَا قَطْعَ عَلَى سُرَّاقِهِ؛ لِأَنَّهُ - وَإِنْ عُلِمَ - فَلَا يُعَدُّ مَالًا وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ

النَّبَّاشُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِيمَا أَخَذَ مِنْ الْقُبُورِ فِي قَوْلِهِمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُقْطَعُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ أَخَذَ مَالًا مِنْ حِرْزٍ مِثْلِهِ فَيُقْطَعُ، كَمَا لَوْ أَخَذَ مِنْ الْبَيْتِ، وَلَهُمَا أَنَّ الْكَفَنَ لَيْسَ بِمَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَمَوَّلُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الطِّبَاعَ السَّلِيمَةَ تَنْفِرُ عَنْهُ أَشَدَّ النِّفَارِ، فَكَانَ تَافِهًا، وَلَئِنْ كَانَ مَالًا فَفِي مَالِيَّتِهِ قُصُورٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِثْلَ مَا يُنْتَفَعُ بِلِبَاسِ الْحَيِّ، وَالْقُصُورُ فَوْقَ الشُّبْهَةِ، ثُمَّ الشُّبْهَةُ تَنْفِي وُجُوبَ الْحَدِّ، فَالْقُصُورُ أَوْلَى، رَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ قَالَ: أُخِذَ نَبَّاشٌ فِي زَمَنِ مَرْوَانَ بِالْمَدِينَةِ فَأَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ سَرِقَةُ مَا لَا يَحْتَمِلُ الِادِّخَارَ، وَلَا يَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ، بَلْ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَحْتَمِلُ الِادِّخَارَ لَا يُعَدُّ مَالًا، فَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الطَّعَامِ الرَّطْبِ، وَالْبُقُولِ، وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ فِي قَوْلِهِمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْطَعُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ مَالٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً، مُبَاحُ الِانْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَكَانَ مَالًا، فَيُقْطَعُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَلَهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا لَا يُتَمَوَّلُ عَادَةً، وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِلِانْتِفَاعِ بِهَا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الِادِّخَارَ، وَالْإِمْسَاكَ إلَى زَمَانِ حُدُوثِ الْحَوَائِجِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ فَقَلَّ خَطَرُهَا عِنْدَ النَّاسِ فَكَانَتْ تَافِهَةً. وَلَوْ سَرَقَ تَمْرًا مِنْ نَخْلٍ، أَوْ شَجَرٍ آخَرَ مُعَلَّقًا فِيهِ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَائِطٌ اسْتَوْثَقُوا مِنْهُ وَأَحْرَزُوهُ، أَوْ هُنَاكَ حَائِطٌ؛ لِأَنَّ مَا عَلَى رَأْسِ النَّخْلِ لَا يُعَدُّ مَالًا؛ وَلِأَنَّهُ مَا دَامَ عَلَى رَأْسِ الشَّجَرِ لَا يَسْتَحْكِمُ جَفَافُهُ فَيَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» قَالَ مُحَمَّدٌ: الثَّمَرُ مَا كَانَ فِي الشَّجَرِ، وَالْكَثَرُ الْجُمَّارُ فَإِنْ كَانَ قَدْ جَذَّ الثَّمَرَ، وَجَعَلَهُ فِي الْجَرِينِ، ثُمَّ سُرِقَ فَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَحْكَمَ جَفَافُهُ قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَالًا مُطْلَقًا قَابِلًا لِلِادِّخَارِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ، وَلَا كَثَرٍ حَتَّى يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ» فَإِذَا آوَاهُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْوِيهِ الْجَرِينُ مَا لَمْ يَسْتَحْكِمْ جَفَافُهُ عَادَةً. فَإِذَا اسْتَحْكَمَ جَفَافُهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، فَكَانَ مَالًا مُطْلَقًا، وَكَذَلِكَ الْحِنْطَةُ إذَا كَانَتْ فِي سُنْبُلِهَا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فِي الشَّجَرِ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ مَا دَامَتْ فِي السُّنْبُلِ لَا تُعَدُّ مَالًا، وَلَا يَسْتَحْكِمُ جَفَافُهَا أَيْضًا. (وَأَمَّا) الْفَاكِهَةُ الْيَابِسَةُ الَّتِي تَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ فَالصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ يُقْطَعُ فِيمَا يَتَمَوَّلُ النَّاسُ إيَّاهَا؛ لِقَبُولِهَا الِادِّخَارَ فَانْعَدَمَ مَعْنَى التَّفَاهَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ رَطْبِ الْفَاكِهَةِ وَيَابِسِهَا، وَلَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ. وَلَوْ سَرَقَ مِنْ الْحَائِطِ نَخْلَةً بِأَصْلِهَا لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النَّخْلَةِ مِمَّا لَا يُتَمَوَّلُ، فَكَانَ تَافِهًا، وَرَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ: إنَّهُ النَّخْلُ الصِّغَارُ، وَيُقْطَعُ فِي الْحِنَّاءِ، وَالْوَسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ فَلَمْ يَخْتَلَّ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ، وَلَا قَطْعَ فِي اللَّحْمِ الطَّرِيِّ، وَالصَّفِيقِ؛ لِأَنَّهُ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، وَكَذَلِكَ لَا قَطْعَ فِي السَّمَكِ طَرِيًّا كَانَ، أَوْ مَالِحًا؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَعُدُّونَهُ مَالًا لِتَفَاهَتِهِ، وَلِتَسَارُعِ الْفَسَادِ إلَى الطَّرِيِّ مِنْهُ، وَلِمَا أَنَّهُ يُوجَدُ جِنْسُهُ مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا قَطْعَ فِي اللَّبَنِ؛ لِأَنَّهُ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، فَكَانَ تَافِهًا، وَيُقْطَعُ فِي الْخَلِّ، وَالدِّبْسِ لِعَدَمِ التَّفَاهَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِمَا الْفَسَادُ، وَلَا قَطْعَ فِي: عَصِيرِ الْعِنَبِ، وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ، وَنَبِيذِ التَّمْرِ؛ لِأَنَّهُ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ، فَكَانَ تَافِهًا كَاللَّبَنِ، وَلَا قَطْعَ فِي الطِّلَاءِ وَهُوَ الْمُثَلَّثُ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي إبَاحَتِهِ، وَفِي كَوْنِهِ مَالًا، فَكَانَ قَاصِرًا فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةً مِنْ نَقِيعِ الزَّبِيبِ، وَنَبِيذِ التَّمْرِ لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي إبَاحَةِ شُرْبِهِ. وَأَمَّا الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةً مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ فَلَمْ يَكُنْ مَالًا، وَيُقْطَعُ فِي الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَعَزِّ الْأَمْوَالِ، وَلَا تَفَاهَةَ فِيهِمَا بِوَجْهٍ، وَكَذَلِكَ الْجَوَاهِرُ، وَاللَّآلِئُ؛ لِمَا قُلْنَا. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ التَّعْوِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي مَنْعِ وُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَى مَعْنَى التَّفَاهَةِ، وَعَدَمِ الْمَالِيَّةِ لَا عَلَى إبَاحَةِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْجَوَاهِرِ، وَاللَّآلِئِ، وَغَيْرِهَا، وَيُقْطَعُ فِي الْحُبُوبِ كُلِّهَا، وَفِي الْأَدْهَانِ، وَالطِّيبِ كَالْعُودِ، وَالْمِسْكِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّفَاهَةِ، وَيُقْطَعُ فِي الْكَتَّانِ، وَالصُّوفِ، وَالْخَزِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيُقْطَعُ فِي جَمِيعِ الْأَوَانِي مِنْ الصُّفْرِ، وَالْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ، وَالرَّصَاصِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ سَرَقَ النُّحَاسَ نَفْسَهُ أَوْ الْحَدِيدَ نَفْسَهُ، أَوْ الرَّصَاصَ لِعِزَّةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَخَطَرِهَا فِي أَنْفُسِهَا: كَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا مُطْلَقًا فَلَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ الْخَمْرِ مِنْ مُسْلِمٍ، مُسْلِمًا كَانَ السَّارِقُ، أَوْ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْخَمْرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ. وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا سَرَقَ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا، أَوْ خِنْزِيرًا لَا يُقْطَعُ

لِأَنَّهُ - وَإِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا عِنْدَهُمْ - فَلَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ عِنْدَنَا، فَلَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا يُقْطَعُ فِي الْمُبَاحِ الَّذِي لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ، وَإِنْ كَانَ مَالًا لِانْعِدَامِ تَقَوُّمِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا فِي نَفْسِهِ فَلَا يُقْطَعُ فِي سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ: مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْجَوَاهِرِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْ مَعَادِنِهَا لِعَدَمِ الْمَالِكِ، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَخْرُجُ النَّبَّاشُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُقْطَع؛ لِأَنَّ الْكَفَنَ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، وَلَا، وَجْهَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ مُؤَخَّرٌ عَنْ حَاجَةِ الْمَيِّتِ إلَى الْكَفَنِ كَمَا هُوَ مُؤَخَّرٌ عَنْ الدَّيْنِ، وَالْوَصِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا أَصْلًا. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلسَّارِقِ فِيهِ مِلْكٌ، وَلَا تَأْوِيلُ الْمِلْكِ أَوْ شُبْهَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ، أَوْ مَا فِيهِ تَأْوِيلُ الْمِلْكِ، أَوْ الشُّبْهَةَ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُسَارَقَةِ الْأَعْيُنِ فَلَا يَتَحَقَّقُ رُكْنُ السَّرِقَةِ، وَهُوَ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ، وَالِاسْتِسْرَارِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ عُقُوبَةُ السَّرِقَةِ قَالَ اللَّهُ فِي آيَةِ السَّرِقَةِ {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38] فَيَسْتَدْعِي كَوْنَ الْفِعْلِ جِنَايَةً مَحْضَةً، وَأَخْذُ الْمَمْلُوكِ لِلسَّارِقِ لَا يَقَعُ جِنَايَةً أَصْلًا فَالْأَخْذُ بِتَأْوِيلِ الْمِلْكِ، أَوْ الشُّبْهَةِ لَا يَتَمَحَّضُ جِنَايَةً فَلَا يُوجِبُ الْقَطْعَ إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مَا أَعَارَهُ مِنْ إنْسَانٍ، أَوْ آجَرَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ قَائِمٌ، وَلَا عَلَى مَنْ سَرَقَ رَهْنَهُ مِنْ بَيْتِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْعَيْنِ لَهُ. وَإِنَّمَا الثَّابِتُ لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْحَبْسِ لَا غَيْرُ وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْعَدْلِ فَسَرَقَهُ الْمُرْتَهِنُ، أَوْ الرَّاهِنُ فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَمَّا الرَّاهِنُ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِلْكُهُ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَخْذِهِ، وَإِنْ مُنِعَ مِنْ الْأَخْذِ كَمَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ بِوَطْئِهِ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ، وَإِنْ مُنِعَ مِنْ الْوَطْءِ (وَأَمَّا) الْمُرْتَهِنُ فَلِأَنَّ يَدَ الْعَدْلِ يَدُهُ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ يَدِهِ عَائِدَةٌ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْسِكُهُ لِحَقِّهِ فَأَشْبَهَ يَدَ الْمُودَعِ، وَلَا عَلَى مَنْ سَرَقَ مَالًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِلْكُهُمَا عَلَى الشُّيُوعِ، فَكَانَ بَعْضُ الْمَأْخُوذِ مِلْكُهُ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَخْذِهِ، فَلَا يَجِبُ بِأَخْذِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ سَرِقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَا عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ الْخُمُسَ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ مِلْكًا، وَحَقًّا. وَلَوْ سَرَقَ مِنْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا قَطْعَ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِهِ، وَبِمَا فِي يَدِهِ لَا يُقْطَعُ أَيْضًا (أَمَّا) عَلَى أَصْلِهِمَا فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مِلْكُ الْمَوْلَى، وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكَهُ فَلَهُ فِيهِ ضَرْبُ اخْتِصَاصٍ يُشْبِهُ الْمِلْكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِخْلَاصَهُ لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ مَالٍ آخَرَ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الْمِلْكِ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْكَسْبُ جَارِيَةً لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَيُورِثَ شُبْهَةً، أَوْ نَقُولُ إذَا لَمْ يَمْلِكْهُ الْمَوْلَى، وَلَا الْمَأْذُونُ يَمْلِكُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَالْغُرَمَاءُ لَا يَمْلِكُونَ أَيْضًا فَهَذَا مَالُ مَمْلُوكٍ لَا مَالِكٍ، لَهُ مُعِينٌ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ، كَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَمَالِ الْغَنِيمَةِ. وَلَوْ سَرَقَ مِنْ مُكَاتَبِهِ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ كَسْبَ مُكَاتَبِهِ مِلْكُهُ مِنْ، وَجْهٍ، أَوْ فِيهِ شُبْهَةُ الْمِلْكِ لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ جَارِيَةً لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَالْمِلْكُ مِنْ وَجْهٍ، أَوْ شُبْهَةُ الْمِلْكِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ مَعَ مَا أَنَّ هَذَا مِلْكٌ مَوْقُوفٌ عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَعَلَى مَوْلَاهُ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَدَّى تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مِلْكَ الْمَوْلَى فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَ مَالَ نَفْسِهِ، وَإِنْ عَجَزَ فَرُدَّ فِي الرِّقِّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مِلْكَ الْمُكَاتَبِ، فَكَانَ الْمِلْكُ مَوْقُوفًا لِلْحَالِ فَيُوجِبُ شُبْهَةً، فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ كَأَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا سَرَقَ مَا شَرَطَ فِيهِ الْخِيَارَ، وَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ، وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي مَالِ، وَلَدِهِ تَأْوِيلَ الْمِلْكِ، أَوْ شُبْهَةَ الْمِلْكِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَنْتَ، وَمَالُك لِأَبِيك» فَظَاهِرُ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ فِي الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ فَيَثْبُتُ، أَوْ يَثْبُتُ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ يُورِثُ شُبْهَةً فِي وُجُوبِهِ. (وَأَمَّا) السَّرِقَةُ مِنْ سَائِرِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَا تُوجِبُ الْقَطْعَ أَيْضًا لَكِنْ لِفَقْدِ شَرْطٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَوْ دَخَلَ لِصٌّ دَارَ رَجُلٍ فَأَخَذَ ثَوْبًا فَشَقَّهُ فِي الدَّارِ نِصْفَيْنِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ وَهُوَ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَشْقُوقًا يُقْطَعُ فِي قَوْلِهِمَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " لَا يُقْطَعُ " وَلَوْ أَخَذَ شَاةً فَذَبَحَهَا، ثُمَّ أَخْرَجَهَا مَذْبُوحَةً لَا يُقْطَعُ بِالْإِجْمَاعِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ السَّارِقَ وُجِدَ مِنْهُ سَبَبُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ، وَهُوَ الشَّقُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ يُوجِبُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ مِنْ وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، وَذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُقْطَعْ إذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ شَاةً فَذَبَحَهَا، ثُمَّ أَخْرَجَهَا كَذَا هَذَا، وَلَهُمَا أَنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ فِي مِلْكِ

الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَيُوجِبُ الْقَطْعَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ الْمَشْقُوقَ لَا يَزُولُ عَنْ مِلْكِهِ مَادَامَ مُخْتَارًا لِلْعَيْنِ، وَإِنَّمَا يَزُولُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ، فَقَبْلَ الِاخْتِيَارِ كَانَ الثَّوْبُ عَلَى مِلْكِهِ فَصَارَ سَارِقًا ثَوْبَيْنِ قِيمَتُهُمَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَيُقْطَعُ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الشَّاةِ: إنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ فِي مِلْكِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ إلَّا أَنَّهَا تَمَّتْ فِي اللَّحْمِ، وَلَا قَطْعَ فِي اللَّحْمِ. وَقَوْلُهُ: وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ بِالشَّقِّ، قُلْنَا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ: مَمْنُوعٌ فَإِذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ السَّارِقِ، وَسَلَّمَ الثَّوْبَ إلَيْهِ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ مَلَكَهُ مِنْ حِينِ وُجُودِ الشَّقِّ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْرَجَ مِلْكَ نَفْسِهِ عَنْ الْحِرْزِ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَحُكِيَ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ شَقَّ الثَّوْبَ عَرْضًا، فَأَمَّا لَوْ شَقَّهُ طُولًا فَلَا قَطْعَ؛ لِأَنَّهُ بِالشَّقِّ طُولًا خَرَقَهُ خَرْقًا مُتَفَاحِشًا فَيَمْلِكُهُ بِالضَّمَانِ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ أَنَّ السَّارِقَ إذَا خَرَقَ الثَّوْبَ تَخْرِيقًا مُسْتَهْلَكًا، وَقِيمَتُهُ بَعْدَ تَخْرِيقِهِ عَشَرَةٌ: أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ التَّخْرِيقَ إذَا وَقَعَ اسْتِهْلَاكًا أَوْجَبَ اسْتِقْرَارَ الضَّمَانِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ. وَإِذَا لَمْ يَقَعْ اسْتِهْلَاكًا؛ كَانَ وُجُوبُ الضَّمَانِ فِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِ الْمَالِكِ، فَلَا يَجِبُ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ، فَلَا يَمْلِكُ الْمَضْمُونَ، - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ غَرِيمٍ لَهُ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَأْخُوذَ بِنَفْسِ الْأَخْذِ فَصَارَ قِصَاصًا بِحَقِّهِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي حَقِّ هَذَا الْمَالِ سَارِقًا، فَلَا يُقْطَعُ، وَلَوْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ، بَلْ بِالِاسْتِبْدَالِ وَالْبَيْعِ، فَكَانَ سَارِقًا مِلْكَ غَيْرِهِ فَيُقْطَعُ كَالْأَجْنَبِيِّ إلَّا إذَا قَالَ: أَخَذْتُهُ لِأَجْلِ حَقِّي عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَهَهُنَا جِنْسٌ مِنْ الْمَسَائِلِ يُمْكِنُ تَخْرِيجُهَا إلَى أَصْلٍ آخَرَ هُوَ أُولَى بِالتَّخْرِيجِ عَلَيْهِ، وَسَنَذْكُرُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدُ. مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا لَيْسَ لِلسَّارِقِ فِيهِ حَقُّ الْأَخْذِ، وَلَا تَأْوِيلُ الْأَخْذِ، وَلَا شُبْهَةُ التَّنَاوُلِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَيَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً، وَأَخْذُ غَيْرِ الْمَعْصُومِ لَا يَكُونُ جِنَايَةً أَصْلًا، وَمَا فِيهِ تَأْوِيلُ التَّنَاوُلِ، أَوْ شُبْهَةُ التَّنَاوُلِ لَا يَكُونُ جِنَايَةً مَحْضَةً، فَلَا تُنَاسِبُهُ الْعُقُوبَةُ الْمَحْضَةُ، وَلِأَنَّ مَا لَيْسَ بِمَعْصُومٍ يُؤْخَذُ مُجَاهَرَةً لَا مُخَافَتَةً فَيَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ فِي رُكْنِ السَّرِقَةِ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا قَطْعَ فِي سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ، وَلَا فِي الْمُبَاحِ الْمَمْلُوكِ، وَهُوَ مَالُ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ. (وَأَمَّا) مَالُ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا قَطْعَ فِيهِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مَعْصُومًا؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ اسْتَفَادَ الْعِصْمَةَ بِالْأَمَانِ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ كَمَالِ الذِّمِّيِّ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ هَذَا مَالٌ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ لِيَقْضِيَ بَعْضَ حَوَائِجِهِ، ثُمَّ يَعُودَ عَنْ قَرِيبٍ، فَكَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ يُورِثُ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ فِي مَالِهِ؛ وَلِهَذَا أَوْرَثَ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ فِي دَمِهِ حَتَّى لَا يُقْتَلَ بِهِ الْمُؤْمِنُ قِصَاصًا؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ بِعَارِضِ أَمَانٍ هُوَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، فَعِنْدَ الزَّوَالِ يَظْهَرُ أَنَّ الْعِصْمَةَ لَمْ تَكُنْ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ، إنَّ كُلَّ عَارِضٍ عَلَى أَصْلٍ، إذَا زَالَ؛ يُلْحَقُ بِالْعَدَمِ مِنْ الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَيُجْعَلَ كَأَنَّ الْعِصْمَةَ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، قَدْ اسْتَفَادَ الْعِصْمَةَ بِأَمَانٍ مُؤَبَّدٍ، فَكَانَ مَعْصُومَ الدَّمِ، وَالْمَالِ عِصْمَةً مُطْلَقَةً لَيْسَ فِيهَا شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ. وَبِخِلَافِ ضَمَانِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ ضَمَانِ الْمَالِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، وَكَذَا لَا قَطْعَ عَلَى الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فِي سَرِقَةِ مَالِ الْمُسْلِمِ، أَوْ الذِّمِّيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى اعْتِقَادِهِ الْإِبَاحَةَ، وَلِذَا لَمْ يَلْتَزِمْ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْطَعُ، وَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي حَدِّ الزِّنَا، وَلَا يُقْطَعُ الْعَادِلُ فِي سَرِقَةِ مَالِ الْبَاغِي؛ لِأَنَّ مَالَهُ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ فِي حَقِّهِ كَنَفْسِهِ، وَلَا الْبَاغِي فِي سَرِقَةِ مَالِ الْعَادِلِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ تَأْوِيلٍ، وَتَأْوِيلُهُ. وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا، لَكِنَّ التَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ عِنْدَ انْضِمَامِ الْمَنَعَةِ إلَيْهِ مُلْحَقٌ بِالتَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ فِي مَنْعِ وُجُوبِ الْقَطْعِ؛ وَلِهَذَا أُلْحِقَ بِهِ فِي حَقِّ مَنْعِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَالْحَدِّ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ السَّرِقَةُ مِنْ الْغَرِيمِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ سَرَقَ مِنْهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، وَإِمَّا إنْ كَانَ سَرَقَ مِنْهُ خِلَافَ جِنْسِ حَقِّهِ، فَإِنْ سَرَقَ جِنْسَ حَقِّهِ بِأَنْ سَرَقَ مِنْهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَلَهُ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ فَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ عَلَيْهِ حَالًا - لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مُبَاحٌ لَهُ لِأَنَّهُ ظَفَرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ، وَمَنْ لَهُ الْحَقُّ إذَا ظَفَرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ؛ يُبَاحُ لَهُ أَخْذُهُ، وَإِذَا أَخَذَهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ. وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ مِقْدَارِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ

بَعْضَ الْمَأْخُوذِ حَقُّهُ عَلَى الشُّيُوعِ، وَلَا قَطْعَ فِيهِ، فَكَذَا فِي الْبَاقِي - كَمَا إذَا سَرَقَ مَالًا مُشْتَرَكًا - وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ مُؤَجَّلًا فَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُقْطَعُ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الدَّيْنَ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا فَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْغَرِيمِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ سَرَقَهُ أَجْنَبِيٌّ (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ إنْ لَمْ يَثْبُتْ قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ؛ فَسَبَبُ ثُبُوتِ حَقِّ الْأَخْذِ قَائِمٌ، وَهُوَ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ التَّأْجِيلِ فِي تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ لَا فِي سُقُوطِ الدَّيْنِ، فَقِيَامُ سَبَبِ ثُبُوتِهِ يُورِثُ الشُّبْهَةَ. وَإِنْ سَرَقَ خِلَافَ جِنْسِ حَقِّهِ بِأَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ فَسَرَقَ مِنْهُ دَنَانِيرَ، أَوْ عُرُوضًا قُطِعَ، هَكَذَا أَطْلَقَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ أَنَّهُ إذَا سَرَقَ الْعَرُوضَ، ثُمَّ قَالَ أَخَذْتُ لِأَجْلِ حَقِّي لَا يَقْطَعُ فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ عَلَى الْمُطْلَقِ، وَهُوَ مَا إذَا سَرَقَ، وَلَمْ يَقُلْ: أَخَذْتُ لِأَجْلِ حَقِّي؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقُلْ فَقَدْ أَخَذَ مَالًا لَيْسَ لَهُ حَقُّ أَخْذِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ قِصَاصًا إلَّا بِالِاسْتِبْدَالِ، وَالتَّرَاضِي، وَلَمْ يَتَأَوَّلْ الْأَخْذَ أَيْضًا، فَكَانَ أَخْذُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَا شُبْهَةِ حَقٍّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعِيدُ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْفُقَهَاءِ: إنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ إذَا ظَفَرَ، بِخِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ أَنْ يَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ فَلَا يُعْتَبَرُ خِلَافًا مُؤْذِنًا لِلشُّبْهَةِ. وَإِذَا قَالَ أَخَذْتُ لِأَجْلِ حَقِّي فَقَدْ أَخَذَهُ مُتَأَوِّلًا؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْمَعْنَى، وَهِيَ الْمَالِيَّةُ لَا الصُّورَةُ، وَالْأَمْوَالُ كُلُّهَا فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ مُتَجَانِسَةٌ، فَكَانَ أَخْذًا عَنْ تَأْوِيلٍ فَلَا يُقْطَعُ وَلَوْ أَخَذَ صِنْفًا مِنْ الدَّرَاهِمِ أَجْوَدَ مِنْ حَقِّهِ، أَوْ أَرْدَأَ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا خَالَفَهُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَضِيَ بِهِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ، وَلَا يَكُونُ مُسْتَبْدِلًا حَتَّى يَجُوزَ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ، مَعَ أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ بِبَدَلِ الصَّرْفِ، وَالسَّلَمِ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ تَثْبُتُ شُبْهَةُ حَقِّ الْأَخْذِ فَيَلْحَقُ بِالْحَقِيقَةِ فِي بَابِ الْحَدِّ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ. وَلَوْ سَرَقَ حُلِيًّا مِنْ فِضَّةٍ، وَعَلَيْهِ دَرَاهِمُ، أَوْ حُلِيًّا مِنْ ذَهَبٍ، وَعَلَيْهِ دَنَانِيرُ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَصِيرُ قِصَاصًا مِنْ حَقِّهِ إلَّا بِالْمُرَاضَاةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْعًا، وَاسْتِبْدَالًا فَأَشْبَهَ الْعُرُوضَ، وَإِنْ كَانَ السَّارِقُ قَدْ اسْتَهْلَكَ الْعُرُوضَ، أَوْ الْحُلِيَّ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَهُوَ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِ مِنْ الْعَيْنِ فَإِنَّ هَذَا يُقْطَعُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَقَاصِدَ إنَّمَا تَقَعُ بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ فَلَا يُوجِبُ سِوَى الْقَطْعِ وَلَوْ سَرَقَ مُكَاتَبٌ، أَوْ عَبْدٌ مِنْ غَرِيمِ مَوْلَاهُ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ قَبْضِ دَيْنِ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ؛ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَوْلَى وَكَّلَهُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لَا يُقْطَعُ لِثُبُوتِ حَقِّ الْقَبْضِ لَهُ بِالْوَكَالَةِ، فَصَارَ كَصَاحِبِ الدَّيْنِ. وَلَوْ سَرَقَ مِنْ غَرِيمِ مُكَاتَبِهِ، أَوْ مِنْ غَرِيمِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِلْكُ مَوْلَاهُ، فَكَانَ لَهُ حَقُّ أَخْذِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْقَبْضِ؛ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ سَرَقَ مِنْ غَرِيمِ أَبِيهِ، أَوْ وَلَدِهِ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَلَا فِي قَبْضِهِ، إلَّا إذَا كَانَ غَرِيمُ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَلَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ لَهُ كَمَا فِي دَيْنِ نَفْسِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يُخَرَّجُ سَرِقَةُ الْمُصْحَفِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ لَهُ تَأْوِيلُ الْأَخْذِ إذْ النَّاسُ لَا يَضِنُّونَ بِبَذْلِ الْمَصَاحِفِ الشَّرِيفَةِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَادَةً فَأَخَذَهُ الْآخِذُ مُتَأَوِّلًا، وَكَذَلِكَ سَرِقَةُ الْبَرْبَطِ، وَالطَّبْلِ، وَالْمِزْمَارِ، وَجَمِيعِ آلَاتِ الْمَلَاهِي؛ لِأَنَّ آخِذَهَا يَتَأَوَّلُ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا لِمَنْعِ الْمَالِكِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَنَهْيِهِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَذَلِكَ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا، وَكَذَلِكَ سَرِقَةُ شِطْرَنْجٍ ذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ؛ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ سَرِقَةُ صَلِيبٍ، أَوْ صَنَمٍ مِنْ فِضَّةٍ مِنْ حِرْزٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَوَّلُ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِلْكَسْرِ. (وَأَمَّا) الدَّرَاهِمُ الَّتِي عَلَيْهَا التَّمَاثِيلُ فَيُقْطَعُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُعْبَدُ عَادَةً فَلَا تَأْوِيلَ لَهُ فِي الْأَخْذِ لِلْمَنْعِ مِنْ الْعِبَادَةِ فَيُقْطَعُ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قُطِعَ سَارِقٌ فِي مَالٍ، ثُمَّ سَرَقَهُ مِنْهُ سَارِقٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ فِي حَقِّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَلَا مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّهِ لِسُقُوطِ عِصْمَتِهِ، وَتَقَوُّمُهُ فِي حَقِّهِ بِالْقَطْعِ، وَلِأَنَّ كَوْنَ يَدِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ يَدًا صَحِيحَةً؛ شُرِطَ وُجُوبُ الْقَطْعِ، وَيَدُ السَّارِقِ لَيْسَتْ يَدًا صَحِيحَةً؛ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ سَرَقَ مَالًا فَقُطِعَ فِيهِ فَرَدَّهُ إلَى الْمَالِكِ، ثُمَّ عَادَ فَسَرَقَهُ مِنْهُ ثَانِيًا فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمَرْدُودَ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ كَانَ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَإِمَّا إنْ أَحْدَثَ الْمَالِكُ فِيهِ مَا يُوجِبُ تَغَيُّرَهُ، فَإِنْ كَانَ عَلَى حَالِهِ لَمْ يُقْطَعْ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. (أَمَّا) الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ لِلْمَسْرُوقِ حَقًّا لِلْعَبْدِ قَدْ سَقَطَتْ عِنْدَ السَّرِقَةِ الْأُولَى لِضَرُورَةِ وُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَى أَصْلِنَا، وَعَلَى أَصْلِهِ لَمْ تَسْقُطْ، بَلْ بَقِيَتْ عَلَى مَا كَانَتْ، وَسَنَذْكُرُ

تَقْرِيرَ هَذَا الْأَصْلِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَأَمَّا) الْكَلَامُ مَعَ أَبِي يُوسُفَ (وَجْهُ) مَا رَوَى أَنَّ الْمَحَلَّ وَإِنْ سَقَطَتْ قِيمَتُهُ الثَّابِتَةُ حَقًّا لِلْمَالِكِيَّةِ فِي السَّرِقَةِ الْأُولَى فَقَدْ عَادَتْ بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا عَادَتْ فِي حَقِّ الضَّمَانِ، حَتَّى لَوْ أَتْلَفَهُ السَّارِقُ يَضْمَنُ فَكَذَا فِي حَقِّ الْقَطْعِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْعِصْمَةَ، وَإِنْ عَادَتْ بِالرَّدِّ لَكِنْ مَعَ شُبْهَةِ الْعَدَمِ؛ لِأَنَّ السُّقُوطَ لِضَرُورَةِ وُجُوبِ الْقَطْعِ، وَأَثَرُ الْقَطْعِ قَائِمٌ بَعْدَ الرَّدِّ فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي الْعِصْمَةِ؛ وَلِأَنَّهُ سَقَطَ تَقَوُّمُ الْمَسْرُوقِ فِي حَقِّ السَّارِقِ بِالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ الْأُولَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَهُ لَا يَضْمَنُ. وَأَثَرُ الْقَطْعِ بَعْدَ الرَّدِّ قَائِمٌ فَيُورِثُ شُبْهَةَ عَدَمِ التَّقَوُّمِ فِي حَقِّهِ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ، وَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ؛ لِمَا بَيَّنَّا هَذَا إذَا كَانَ الْمَرْدُودُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ (فَأَمَّا) إذَا أَحْدَثَ الْمَالِكُ فِيهِ حَدَثًا يُوجِبُ تَغَيُّرَهُ عَنْ حَالِهِ، ثُمَّ سَرَقَهُ السَّارِقُ الْأَوَّلُ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ فِيهِ مَا لَوْ فَعَلَهُ الْغَاصِبُ فِي الْمَغْصُوبِ لَأَوْجَبَ انْقِطَاعَ حَقِّ الْمَالِكِ يُقْطَعُ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَبَدَّلَتْ الْعَيْنُ، وَتَصِيرُ فِي حُكْمِ عَيْنٍ أُخْرَى، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ لَمْ تَتَبَدَّلْ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا سَرَقَ غَزْلًا فَقُطِعَ فِيهِ، وَرُدَّ إلَى الْمَالِكِ فَنَسَجَهُ ثَوْبًا فَعَادَ فَسَرَقَهُ أَنَّهُ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ قَدْ تَبَدَّلَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَغْصُوبًا لَا يُقْطَعُ حَقُّ الْمَالِكِ، وَلَوْ سَرَقَ ثَوْبَ خَزٍّ فَقُطِعَ فِيهِ، وَرُدَّ إلَى الْمَالِكِ فَنَقَضَهُ فَسَرَقَ النَّقْضَ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَمْ تَتَبَدَّلْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ الْغَاصِبُ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ، وَلَوْ نَقَضَهُ الْمَالِكُ، ثُمَّ غَزَلَهُ غَزْلًا، ثُمَّ سَرَقَهُ السَّارِقُ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَوْ وُجِدَ مِنْ الْغَاصِبِ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَيَدُلُّ عَلَى تَبَدُّلِ الْعَيْنِ وَلَوْ سَرَقَ بَقَرَةً فَقُطِعَ فِيهَا، وَرَدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ فَوَلَدَتْ، وَلَدًا ثُمَّ سَرَقَ الْوَلَدَ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ عَيْنٌ أُخْرَى لَمْ يُقْطَعْ فِيهَا فَيُقْطَعُ بِسَرِقَتِهَا، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ جِنْسُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مُحْرَزًا مُطْلَقًا خَالِيًا عَنْ شُبْهَةِ الْعَدَمِ مَقْصُودًا بِالْحِرْزِ، وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ شَرْطِ الْحِرْزِ مَا رُوِيَ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ، وَلَا فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ فَإِذَا آوَاهُ الْمُرَاحُ، أَوْ الْجَرِينُ فَالْقَطْعُ فِيمَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ، وَلَا كَثَرٍ حَتَّى يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ، فَإِذَا آوَاهُ الْجَرِينُ فَفِيهِ الْقَطْعُ» عَلَّقَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْقَطْعَ بِإِيوَاءِ الْمُرَاحِ، وَالْمُرَاحُ حِرْزُ الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَالْجَرِينُ حِرْزُ الثَّمَرِ فَدَلَّ أَنَّ الْحِرْزَ شَرْطٌ، وَلِأَنَّ رُكْنَ السَّرِقَةِ هُوَ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ، وَالْأَخْذُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِخْفَاءِ فَلَا يَتَحَقَّقُ رُكْنُ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ وَجَبَ لِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ عَلَى أَرْبَابِهَا قَطْعًا لِأَطْمَاعِ السُّرَّاقِ عَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ. وَالْأَطْمَاعُ إنَّمَا تَمِيلُ إلَى مَا لَهُ خَطَرٌ فِي الْقُلُوبِ، وَغَيْرُ الْمُحَرَّزِ لَا خَطَرَ لَهُ فِي الْقُلُوبِ عَادَةً، فَلَا تَمِيلُ الْأَطْمَاعُ إلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الصِّيَانَةِ بِالْقَطْعِ، وَبِهَذَا لَمْ يُقْطَعْ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ، وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَمَلِ الِادِّخَارَ، ثُمَّ الْحِرْزُ نَوْعَانِ: حِرْزٌ بِنَفْسِهِ، وَحِرْزٌ بِغَيْرِهِ. (أَمَّا) الْحِرْزُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ: كُلُّ بُقْعَةٍ مُعَدَّةٍ لِلْإِحْرَازِ مَمْنُوعَةِ الدُّخُولِ فِيهَا إلَّا بِالْإِذْنِ: كَالدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ، وَالْخِيَمِ، وَالْفَسَاطِيطِ، وَالْخَزَائِنِ، وَالصَّنَادِيقِ. (وَأَمَّا) الْحِرْزُ بِغَيْرِهِ: فَكُلُّ مَكَان غَيْرُ مُعَدٍّ لِلْإِحْرَازِ يُدْخَلُ إلَيْهِ بِلَا إذْنٍ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ كَالْمَسَاجِدِ، وَالطُّرُقِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحْرَاءِ إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَافِظٌ. وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ حَافِظٌ فَهُوَ حِرْزٌ؛ لِهَذَا سُمِّيَ حِرْزًا بِغَيْرِهِ حَيْثُ وَقَفَ صَيْرُورَتُهُ حِرْزًا عَلَى وُجُودِ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْحَافِظُ، وَمَا كَانَ حِرْزًا بِنَفْسِهِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ وُجُودُ الْحَافِظِ لِصَيْرُورَتِهِ حِرْزًا، وَلَوْ وُجِدَ فَلَا عِبْرَةَ بِوُجُودِهِ، بَلْ وُجُودُهُ، وَالْعَدَمُ سَوَاءٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحِرْزَيْنِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ عَلَى حِيَالِهِ بِدُونِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَّقَ الْقَطْعَ بِإِيوَاءِ الْمُرَاحِ، وَالْجَرِينِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ وُجُودِ الْحَافِظِ. وَرُوِيَ أَنَّ «صَفْوَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ مُتَوَسِّدًا بِرِدَائِهِ فَسَرَقَهُ سَارِقٌ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ فَقَطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَعْتَبِرْ الْحِرْزَ بِنَفْسِهِ» فَدَلَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ نَوْعَيْ الْحِرْزِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا سَرَقَ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ يُقْطَعُ سَوَاءٌ كَانَ ثَمَّةَ حَافِظٌ، أَوْ لَا لِوُجُودِ الْأَخْذِ مِنْ الْحِرْزِ. وَسَوَاءٌ كَانَ مُغْلَقَ الْبَابِ، أَوْ لَا بَابَ لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَحْجُوزًا بِالْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ يُقْصَدُ بِهِ الْإِحْرَازُ كَيْفَ مَا كَانَ، وَإِذَا سَرَقَ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي يُقْطَعُ إذَا كَانَ الْحَافِظُ قَرِيبًا مِنْهُ فِي مَكَان يُمْكِنُهُ حِفْظُهُ، وَيُحْفَظُ فِي مِثْلِهِ الْمَسْرُوقُ عَادَةً، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَافِظُ مُسْتَيْقِظًا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، أَوْ نَائِمًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَقْصِدُ الْحِفْظَ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، وَلَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ إلَّا بِفِعْلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطَعَ سَارِقَ صَفْوَانَ، وَصَفْوَانُ كَانَ نَائِمًا وَلَوْ أُذِنَ لِإِنْسَانٍ بِالدُّخُولِ فِي دَارِهِ فَسَرَقَ الْمَأْذُونُ لَهُ بِالدُّخُولِ شَيْئًا مِنْهَا لَمْ يُقْطَعْ

وَإِنْ كَانَ فِيهَا حَافِظٌ، أَوْ كَانَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ نَائِمًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ حِرْزٌ بِنَفْسِهَا لَا بِالْحَافِظِ، وَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ حِرْزًا بِالْإِذْنِ فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْحَافِظِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا أُذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ فَقَدْ صَارَ فِي حُكْمِ أَهْلِ الدَّارِ. فَإِذَا أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ خَائِنٌ قَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ» ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَرَقَ مِنْ بَعْضِ بُيُوتِ الدَّارِ الْمَأْذُونِ فِي دُخُولِهَا، وَهُوَ مُقْفَلٌ، أَوْ مِنْ صُنْدُوقٍ فِي الدَّارِ، أَوْ مِنْ صُنْدُوقٍ فِي بَعْضِ الْبُيُوتِ، وَهُوَ مُقْفَلٌ عَلَيْهِ إذَا كَانَ الْبَيْتُ مِنْ جُمْلَةِ الدَّارِ الْمَأْذُونِ فِي دُخُولِهَا؛ لِأَنَّ الدَّارَ الْوَاحِدَةَ حِرْزٌ وَاحِدٌ قَدْ خَرَجَتْ بِالْإِذْنِ لَهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ حِرْزًا فِي حَقِّهِ فَكَذَلِكَ بُيُوتُهَا، وَمَا رُوِيَ أَنَّ أَسْوَدَ بَاتَ عِنْدَ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسَرَقَ حُلِيًّا لَهُمْ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَسْرُوقًا مِنْ دَارِ النِّسَاءِ لَا مِنْ دَارِ الرِّجَالِ، وَالدَّارَانِ الْمُخْتَلِفَانِ إذَا أُذِنَ بِالدُّخُولِ فِي إحْدَاهُمَا لَا تَصِيرُ الْأُخْرَى مَأْذُونًا بِالدُّخُولِ فِيهَا، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ كَانَ فِي حَمَّامٍ، أَوْ خَانٍ، وَثِيَابُهُ تَحْتَ رَأْسِهِ فَسَرَقَهَا سَارِقٌ: إنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ نَائِمًا أَوْ يَقْظَانًا، وَإِنْ كَانَ فِي صَحْرَاءَ، وَثَوْبُهُ تَحْتَ رَأْسِهِ قُطِعَ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ سَرَقَ مِنْ رَجُلٍ، وَهُوَ مَعَهُ فِي الْحَمَّامِ، أَوْ سَرَقَ مِنْ رَجُلٍ، وَهُوَ مَعَهُ فِي سَفِينَةٍ، أَوْ نَزَلَ قَوْمٌ فِي خَانٍ فَسَرَقَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى السَّارِقِ، وَكَذَلِكَ الْحَانُوتُ؛ لِأَنَّ الْحَمَّامَ، وَالْخَانَ، وَالْحَانُوتَ كُلُّ وَاحِدٍ حِرْزٌ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا أُذِنَ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ حِرْزًا فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَافِظُ فَلَا يَصِيرُ حِرْزًا بِالْحَافِظِ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: إذَا سَرَقَ مِنْ الْحَمَّامِ لَيْلًا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يُؤْذَنُوا بِالدُّخُولِ فِيهِ لَيْلًا فَأَمَّا الصَّحْرَاءُ، أَوْ الْمَسْجِدُ - وَإِنْ كَانَ مَأْذُونَ الدُّخُولِ إلَيْهِ - فَلَيْسَ حِرْزًا بِنَفْسِهِ، بَلْ بِالْحَافِظِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ مِنْ الْحَافِظِ فَلَا يَبْطُلُ مَعْنَى الْحِرْزِ فِيهِ. وَقَالُوا فِي السَّارِقِ مِنْ الْمَسْجِدِ: إذَا كَانَ ثَمَّةَ حَافِظٌ يُقْطَعُ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَيْسَ بِحِرْزٍ بِنَفْسِهِ، بَلْ بِالْحَافِظِ، فَكَانَتْ الْبُقْعَةُ الَّتِي فِيهَا الْحَافِظُ هِيَ الْحِرْزُ لَا كُلُّ الْمَسْجِدِ فَإِذَا انْفَصَلَ مِنْهَا فَقَدْ انْفَصَلَ مِنْ الْحِرْزِ فَيُقْطَعُ. (فَأَمَّا) الدَّارُ، فَإِنَّمَا صَارَتْ حِرْزًا بِالْبِنَاءِ، فَمَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا لَمْ يُوجَدْ الِانْفِصَالُ مِنْ الْحِرْزِ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رَجُلٍ سَرَقَ فِي السُّوقِ مِنْ حَانُوتٍ فَتَخَرَّبَ الْحَانُوتُ، وَقَعَدَ لِلْبَيْعِ، وَأُذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يُقْطَعْ، وَكَذَلِكَ لَوْ سُرِقَ مِنْهُ، وَهُوَ مُغْلَقٌ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهُ لَمَّا أُذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ فَقَدْ أُخْرِجَ الْحَانُوتُ مِنْ أَنْ يَكُونَ حِرْزًا فِي حَقِّهِمْ، وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَ مِنْ بَيْتِ قُبَّةٍ، أَوْ صُنْدُوقٍ فِيهِ مُقْفَلٌ؛ لِأَنَّ الْحَانُوتَ كُلَّهُ حِرْزٌ وَاحِدٌ كَالدَّارِ عَلَى مَا مَرَّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَمَعَهُ جُوَالِقُ وَضَعَهُ، وَنَامَ عِنْدَهُ يَحْفَظُهُ فَسَرَقَ مِنْهُ رَجُلٌ شَيْئًا، أَوْ سَرَقَ الْجُوَالِقَ: فَإِنِّي أَقْطَعُهُ؛ لِأَنَّ الْجَوَالِقَ بِمَا فِيهَا مُحْرَزٌ بِالْحَافِظِ فَيَسْتَوِي أَخْذُ جَمِيعِهِ، وَأَخْذُ بَعْضِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ فُسْطَاطًا مَلْفُوفًا قَدْ، وَضَعَهُ، وَنَامَ عِنْدَهُ يَحْفَظُهُ أَنَّهُ يُقْطَعُ، وَإِنْ كَانَ مَضْرُوبًا لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَلْفُوفًا كَانَ مُحْرَزًا بِالْحَافِظِ كَالْبَابِ الْمَقْلُوعِ إذَا كَانَ فِي الدَّارِ فَسَرَقَهُ سَارِقٌ، وَإِذَا كَانَ الْفُسْطَاطُ مَضْرُوبًا كَانَ حِرْزًا بِنَفْسِهِ فَإِذَا سَرَقَهُ فَقَدْ سَرَقَ نَفْسَ الْحِرْزِ، وَنَفْسُ الْحِرْزِ لَيْسَ فِي الْحِرْزِ فَلَا يُقْطَعُ كَسَارِقِ بَابِ الدَّارِ وَلَوْ كَانَ الْجَوَالِقُ عَلَى ظَهْرِ دَابَّةٍ فَشَقَّ الْجَوَالِقَ، وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْجُوَالِقَ حِرْزٌ؛ لِمَا فِيهِ. وَإِنْ أَخَذَ الْجَوَالِقَ كَمَا هِيَ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ نَفْسَ الْحِرْزِ، وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ الْجَمَلَ مَعَ الْجَوَالِقِ؛ لِأَنَّ الْحِمْلَ لَا يُوضَعُ عَلَى الْجَمَلِ لِلْحِفْظِ، بَلْ لِلْحَمْلِ؛ لِأَنَّ الْجَمَلَ لَيْسَ بِمُحْرِزٍ، وَإِنْ رَكِبَهُ صَاحِبُهُ فَلَمْ يَكُنْ الْجَمَلُ حِرْزًا لِلْجَوَالِقِ فَإِذَا أَخَذَ الْجَوَالِقَ فَقَدْ أَخَذَ نَفْسَ الْحِرْزِ وَلَوْ سَرَقَ مِنْ الْمَرَاعِي بَعِيرًا، أَوْ بَقَرَةً، أَوْ شَاةً لَمْ يُقْطَعْ سَوَاءٌ كَانَ الرَّاعِي مَعَهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ الْعَطَنِ، أَوْ الْمُرَاحِ الَّذِي يَأْوِي إلَيْهِ يُقْطَعُ إذَا كَانَ مَعَهَا حَافِظٌ، أَوْ لَيْسَ مَعَهَا حَافِظٌ، غَيْرَ أَنَّ الْبَابَ مُغْلَقٌ فَكَسَرَ الْبَابَ، ثُمَّ دَخَلَ فَسَرَقَ بَقَرَةً قَادَهَا قَوْدًا حَتَّى أَخْرَجَهَا أَوْ سَاقَهَا سَوْقًا حَتَّى أَخْرَجَهَا، أَوْ رَكِبَهَا حَتَّى أَخْرَجَهَا؛ لِأَنَّ الْمَرَاعِيَ لَيْسَتْ بِحِرْزٍ لِلْمَوَاشِي. وَإِنْ كَانَ الرَّاعِي مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا مِنْ الرَّعْيِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَحْصُلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوَاشِيَ لَا تُجْعَلُ فِي مَرَاعِيهَا لِلْحِفْظِ، بَلْ لِلرَّعْيِ فَلَمْ يُوجَدْ الْأَخْذُ مِنْ حِرْزٍ، بِخِلَافِ الْعَطَنِ، أَوْ الْمُرَاحِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُقْصَدُ بِهِ الْحِفْظُ، وَوُضِعَ لَهُ، فَكَانَ حِرْزًا، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهَا، وَجَلَدَاتٌ نَكَالًا» فَإِذَا أَوَاهَا الْمُرَاحُ، وَبَلَغَتْ قِيمَتُهَا ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهَا الْقَطْعُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَلَا يُقْطَعُ عَبْدٌ فِي سَرِقَةٍ مِنْ مَوْلَاهُ مُكَاتَبًا كَانَ الْعَبْدُ، أَوْ مُدَبَّرًا، أَوْ تَاجِرًا عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ أُمُّ وَلَدٍ سَرَقَتْ مِنْ مَالِ مَوْلَاهَا؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَأْذُونُونَ بِالدُّخُولِ فِي بُيُوتِ سَادَاتِهِمْ لِلْخِدْمَةِ فَلَمْ

يَكُنْ بَيْتُ مَوْلَاهُمْ حِرْزًا فِي حَقِّهِمْ. وَذَكَرَ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ - سَيِّدِنَا - عُمَرَ، وَالْحَضْرَمِيَّ جَاءَا إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِعَبْدٍ لَهُ فَقَالَ: اقْطَعْ هَذَا فَإِنَّهُ سَرَقَ فَقَالَ: وَمَا سَرَقَ قَالَ: مِرْآةً لِامْرَأَتِي ثَمَنُهَا سِتُّونَ دِرْهَمًا فَقَالَ - سَيِّدُنَا - عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَرْسِلْهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ، خَادِمُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ؛ فَيَكُونَ إجْمَاعًا، وَلَا قَطْعَ عَلَى خَادِمِ قَوْمٍ سَرَقَ مَتَاعَهُمْ، وَلَا عَلَى ضَيْفٍ سَرَقَ مَتَاعَ مَنْ أَضَافَهُ، وَلَا عَلَى أَجِيرٍ سَرَقَ مِنْ مَوْضِعٍ أُذِنَ لَهُ فِي دُخُولِهِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالدُّخُولِ أَخْرَجَ الْمَوْضِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ حِرْزًا فِي حَقِّهِ، وَكَذَا الْأَجِيرُ إذَا أَخَذَ الْمَتَاعَ الْمَأْذُونَ لَهُ فِي أَخْذِهِ مِنْ مَوْضِعٍ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدُّخُولِ فِيهِ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِأَخْذِ الْمَتَاعِ يُورِثُ شُبْهَةَ الدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ، وَلِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْأَخْذِ فَوْقَ الْإِذْنِ بِالدُّخُولِ، وَذَا يَمْنَعُ الْقَطْعَ فَهَذَا أَوْلَى. وَلَوْ سَرَقَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الْمُؤَاجِرِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَنْزِلٍ عَلَى حِدَةٍ يُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي الْحِرْزِ. وَأَمَّا الْمُؤَاجِرُ إذَا سَرَقَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ فَكَذَلِكَ يُقْطَعُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَعِنْدَهُمَا لَا يُقْطَعُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْحِرْزَ مِلْكُ السَّارِقِ فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ يُورِثُ شُبْهَةً فِي إبَاحَةِ الدُّخُولِ فَيَخْتَلُّ الْحِرْزُ فَلَا قَطْعَ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ مَعْنَى الْحِرْزِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمِلْكِ إذْ هُوَ اسْمٌ لِمَكَانٍ مُعَدٍّ لِلْإِحْرَازِ يُمْنَعُ مِنْ الدُّخُولِ فِيهِ إلَّا بِالْإِذْنِ، قَدْ وُجِدَ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ مَمْنُوعٌ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْمَنْزِلِ الْمُسْتَأْجَرِ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ. وَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَهُمَا وِلَادٌ، أَوْ لَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي الْوَالِدَيْنِ، وَالْمَوْلُودَيْنِ كَذَلِكَ فَأَمَّا فِي غَيْرِهِمْ فَيُقْطَعُ، وَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِ الْعِتْقِ، وَالنَّفَقَةِ، قَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْخُلُ فِي مَنْزِلِ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ إذْنٍ عَادَةً، وَذَلِكَ دَلَالَةُ الْإِذْنِ مِنْ صَاحِبِهِ فَاخْتَلَّ مَعْنَى الْحِرْزِ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ فِعْلٌ يُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ. وَذَلِكَ حَرَامٌ، وَالْمُفْضِي إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ وَلَوْ سَرَقَ جَمَاعَةٌ فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمَسْرُوقِ لَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُقْطَعُ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَيُقْطَعُ سِوَاهُ، وَالْكَلَامُ عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِيمَا تَقَدَّمَ فِيمَا إذَا كَانَ فِيهِمْ صَبِيٌّ، أَوْ مَجْنُونٌ، قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ غَيْرِ مَحْرَمٍ يُقْطَعُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُبَاسَطَةَ بِالدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي هَذِهِ الْقَرَابَةِ عَادَةً، وَكَذَا هَذِهِ الْقَرَابَةُ لَا تَجِبُ صِيَانَتُهَا عَنْ الْقَطِيعَةِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ فِي الْعِتْقِ، وَالنَّفَقَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْ سَرَقَ مِنْ ذِي مَحْرَمٍ لَا رَحِمَ لَهُ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يُقْطَعُ الَّذِي سَرَقَ مِمَّنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْ الرَّضَاعِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا سَرَقَ مِنْ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ لَا يُقْطَعُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْمُبَاسَطَةَ بَيْنَهُمَا فِي الدُّخُولِ ثَابِتَةٌ عُرْفًا، وَعَادَةً فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَدْخُلُ فِي مَنْزِلِ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ كَمَا يَدْخُلُ فِي مَنْزِلِ أُمِّهِ مِنْ النَّسَبِ، بِخِلَافِ الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ، وَلَهُمَا أَنَّ الثَّابِتَ بِالرَّضَاعِ لَيْسَ إلَّا الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ، وَأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ أُمِّ مَوْطُوءَتِهِ؛ وَلِهَذَا يُقْطَعُ فِي الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ وَلَوْ سَرَقَ مِنْ امْرَأَةِ أَبِيهِ، أَوْ مِنْ زَوْجِ أُمِّهِ، أَوْ مِنْ حَلِيلَةِ ابْنِهِ، أَوْ مِنْ ابْنِ امْرَأَتِهِ أَوْ بِنْتِهَا، أَوْ أُمِّهَا يُنْظَرُ إنْ سَرَقَ مَالَهُمْ مِنْ مَنْزِلِ مَنْ يُضَافُ السَّارِقُ إلَيْهِ مِنْ أَبِيهِ، وَأُمِّهِ، وَابْنِهِ، وَامْرَأَتِهِ لَا يُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ بِالدُّخُولِ فِي مَنْزِلِ هَؤُلَاءِ فَلَمْ يَكُنْ الْمَنْزِلُ حِرْزًا فِي حَقِّهِ. وَإِنْ سَرَقَ مِنْ مَنْزِلٍ آخَرَ فَإِنْ كَانَا فِيهِ لَمْ يُقْطَعْ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْزِلٌ عَلَى حِدَةٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ -: لَا يُقْطَعُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُقْطَعُ إذَا سَرَقَ مِنْ غَيْرِ مَنْزِلِ السَّارِقِ، أَوْ مَنْزِلِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْقَرَابَةُ، وَلَا قَرَابَةَ بَيْنَ السَّارِقِ، وَبَيْنَ الْمَسْرُوقِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْنَبِيٌّ عَنْ صَاحِبِهِ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ فِي الْحِرْزِ شُبْهَةً؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّزَاوُرِ ثَابِتٌ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ قَرِيبِهِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَنْزِلِ لِغَيْرِ قَرِيبِهِ لَا يَقْطَعُ التَّزَاوُرَ، وَهَذَا يُورِثُ شُبْهَةَ إبَاحَةِ الدُّخُولِ لِلزِّيَارَةِ فَيَخْتَلُّ مَعْنَى الْحِرْزِ، وَلَا قَطْعَ عَلَى أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ سَوَاءٌ سَرَقَ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي هُمَا فِيهِ، أَوْ مِنْ بَيْتٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْخُلُ فِي مَنْزِلِ صَاحِبِهِ، وَيَنْتَفِعُ بِمَالِهِ عَادَةً، وَذَلِكَ يُوجِبُ خَلَلًا فِي الْحِرْزِ، وَفِي الْمِلْكِ أَيْضًا، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا سَرَقَ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي هُمَا فِيهِ لَا يُقْطَعُ، وَإِنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتٍ آخَرَ يُقْطَعُ، وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الشَّهَادَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ عَبْدِ صَاحِبِهِ، أَوْ أَمَتِهِ، أَوْ مُكَاتَبِهِ، أَوْ سَرَقَ عَبْدُ أَحَدِهِمَا، أَوْ أَمَتُهُ، أَوْ مُكَاتَبُهُ مِنْ صَاحِبِهِ

أَوْ سَرَقَ خَادِمُ أَحَدِهِمَا مِنْ صَاحِبِهِ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ وَلَوْ سَرَقَتْ امْرَأَةٌ مِنْ زَوْجِهَا، أَوْ سَرَقَ رَجُلٌ مِنْ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَبَانَتْ بِغَيْرِ عِدَّةٍ لَمْ يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ حِينَ، وُجُودِهِ لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ لِقِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ فَلَا يَنْعَقِدُ عِنْدَ الْإِبَانَةِ؛ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ طَارِئَةٌ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ الطَّارِئُ مُقَارَنًا فِي الْحُكْمِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْحَقِيقَةِ إلَّا إذَا كَانَ فِي الِاعْتِبَارِ إسْقَاطُ الْحَدِّ وَقْتَ الِاعْتِبَارِ وَفِي الِاعْتِبَارِ هَهُنَا إيجَابُ الْحَدِّ فَلَا يُعْتَبَرُ وَلَوْ سَرَقَ مِنْ مُطَلَّقَتِهِ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، أَوْ سَرَقَتْ مُطَلَّقَتُهُ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَمْ يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا، أَوْ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي حَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ أَوْ أَثَرُهُ قَائِمٌ، وَهُوَ الْعِدَّةُ، وَقِيَامُ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَمْنَعُ الْقَطْعَ فَقِيَامُهُ مِنْ وَجْهٍ، أَوْ قِيَامُ أَثَرِهِ يُورِثُ شُبْهَةً. وَلَوْ سَرَقَ رَجُلٌ مِنْ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ، وَجْهَيْنِ: (إمَّا) أَنْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ، وَإِمَّا أَنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَمَا قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ فَإِنْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ؛ لَمْ يُقْطَعْ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ هَذَا مَانِعٌ طَرَأَ عَلَى الْحَدِّ، وَالْمَانِعُ الطَّارِئُ فِي الْحَدِّ كَالْمُقَارَنِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَصِيرُ طَرَيَان الزَّوْجِيَّةِ شُبْهَةً مَانِعَةً مِنْ الْقَطْعِ كَقِرَانِهَا، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ مَا قُضِيَ بِالْقَطْعِ لَمْ يُقْطَعْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُقْطَعُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ الْقَائِمَةَ عِنْدَ السَّرِقَةِ إنَّمَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ بِاعْتِبَارِ الشُّبْهَةِ، وَهِيَ شُبْهَةُ عَدَمِ الْحِرْزِ، أَوْ شُبْهَةُ الْمِلْكِ فَالطَّارِئَةُ لَوْ اُعْتُبِرَتْ مَانِعَةً لَكَانَ ذَلِكَ اعْتِبَارَ الشُّبْهَةِ، وَإِنَّهَا سَاقِطَةٌ فِي بَابِ الْحُدُودِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْإِمْضَاءَ فِي بَابِ الْحُدُودِ مِنْ الْقَضَاءِ فَكَانَتْ الشُّبْهَةُ الْمُعْتَرِضَةُ عَلَى الْإِمْضَاءِ كَالْمُعْتَرِضَةِ عَلَى الْقَضَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَذَفَ رَجُلًا بِالزِّنَا، وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالْحَدِّ، ثُمَّ إنَّ الْمَقْذُوفَ زَنَى قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ، وَجَعَلَ الزِّنَا الْمُعْتَرِضَ عَلَى الْحَدِّ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْقَذْفِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الطَّارِئَ عَلَى الْحُدُودِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي الطَّرَّارِ إذَا طَرَّ الصُّرَّةَ مِنْ خَارِجِ الْكُمِّ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْكُمِّ فَطَرَّهَا؛ يُقْطَعُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ هَذَا كُلُّهُ سَوَاءٌ، وَيُقْطَع، وَبِتَفْصِيلِ الْكَلَامِ فِيهِ يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ، وَيَتَّفِقُ الْجَوَابُ، وَهُوَ أَنَّ الطَّرَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقَطْعِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَلِّ الرِّبَاطِ، وَالدَّرَاهِمُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ مَصْرُورَةً عَلَى ظَاهِرِ الْكُمِّ، وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ مَصْرُورَةً فِي بَاطِنِهِ، فَإِنْ كَانَ الطَّرُّ بِالْقَطْعِ، وَالدَّرَاهِمُ مَصْرُورَةٌ عَلَى ظَاهِرِ الْكُمِّ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ الْحِرْزَ هُوَ الْكُمُّ. وَالدَّرَاهِمُ بَعْدَ الْقَطْعِ تَقَعُ عَلَى ظَاهِرِ الْكُمِّ فَلَمْ يُوجَدْ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ كَانَتْ مَصْرُورَةً فِي دَاخِلِ الْكُمِّ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ الْقَطْعِ تَقَعُ فِي دَاخِلِ الْكُمِّ، فَكَانَ الطَّرُّ أَخْذًا مِنْ الْحِرْزِ، وَهُوَ الْكُمُّ فَيُقْطَعُ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَإِنْ كَانَ الطَّرُّ بِحَلِّ الرِّبَاطِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ حَلَّ الرِّبَاطَ تَقَعُ الدَّرَاهِمُ عَلَى ظَاهِرِ الْكُمِّ بِأَنْ كَانَتْ الْعُقْدَةُ مَشْدُودَةً مِنْ دَاخِلِ الْكُمِّ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، وَهُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ كَانَ إذَا حَلَّ تَقَعُ الدَّرَاهِمُ فِي دَاخِلِ الْكُمِّ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى إدْخَالِ يَدِهِ فِي الْكُمِّ لِلْأَخْذِ يُقْطَعُ لِوُجُودِ الْأَخْذِ مِنْ الْحِرْزِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَيْضًا يَخْرُجُ النَّبَّاشُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْقَبْرَ لَيْسَ بِحِرْزٍ بِنَفْسِهِ أَصْلًا إذْ لَا تُحْفَظُ الْأَمْوَالُ فِيهِ عَادَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ مِنْهُ الدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ لَا يُقْطَعُ، وَلَا حَافِظَ لِلْكَفَنِ لِيُجْعَلَ حِرْزًا بِالْحَافِظِ فَلَمْ يَكُنْ الْقَبْرُ حِرْزًا بِنَفْسِهِ، وَلَا بِغَيْرِهِ، أَوْ فِيهِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْحِرْزِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ حِرْزَ مِثْلِهِ فَلَيْسَ حِرْزًا لِسَائِرِ الْأَمْوَالِ فَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي كَوْنِهِ حِرْزًا فَلَا يُقْطَعُ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حِرْزُ مِثْلِهِ، أَوْ حِرْزُ نَوْعِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّهُ: يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حِرْزُ مِثْلِهِ كَالْإِصْطَبْلِ لِلدَّابَّةِ، وَالْحَظِيرَةِ لِلشَّاةِ حَقٌّ لَوْ سَرَقَ اللُّؤْلُؤَةَ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يُقْطَعُ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ مَا كَانَ حِرْزَ النَّوْعِ يَكُونُ حِرْزًا لِلْأَنْوَاعِ كُلِّهَا، وَجَعَلُوا سُرَيْجَةَ الْبَقَّالِ حِرْزًا لِلْجَوَاهِرِ فَالطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْتَبَرَ الْعُرْفَ، وَالْعَادَةَ، وَقَالَ: حِرْزُ الشَّيْءِ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ عَادَةً، وَالنَّاسُ فِي الْعَادَاتِ لَا يُحْرِزُونَ الْجَوَاهِرَ فِي الْإِصْطَبْلِ، وَالْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْتَبَرَ الْحَقِيقَةَ؛ لِأَنَّ حِرْزَ الشَّيْءِ مَا يَحْرُزُ ذَلِكَ الشَّيْءَ حَقِيقَةً، وَسُرَيْجَةُ الْبَقَّالِ تَحْرُزُ الدَّرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرَ، وَالْجَوَاهِرَ حَقِيقَةً، فَكَانَتْ حِرْزًا لَهَا، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ نِصَابًا، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا فِي أَصْلِ النِّصَابِ أَنَّهُ شَرْطٌ أَمْ لَا؟ ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ

قَدْرِهِ، وَالثَّالِثُ: فِي بَيَانِ صِفَاتِهِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ شَرْطٌ فَلَا قَطْعَ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ، وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيُقْطَعُ فِي الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْخَوَارِجِ، وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] مِنْ غَيْرِ شَرْطِ النِّصَابِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنْ الْحِبَالِ مَا لَا يُسَاوِي دَانَقًا، وَالْبَيْضَةُ لَا تُسَاوِي حَبَّةً. (وَلَنَا) دَلَالَةُ النَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ مِنْ الصَّحَابَةِ، أَمَّا دَلَالَةُ النَّصِّ؛ فَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْجَبَ الْقَطْعَ عَلَى السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ، وَالسَّارِقُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ مَعْنًى، وَهُوَ السَّرِقَةُ، وَالسَّرِقَةُ اسْمٌ لِلْأَخْذِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ، وَمُسَارَقَةِ الْأَعْيُنِ، وَإِنَّمَا تَقَعُ الْحَاجَةُ فِي الِاسْتِخْفَاءِ فِيمَا لَهُ خَطَرٌ، وَالْحَبَّةُ لَا خَطَرَ لَهَا فَلَمْ يَكُنْ أَخْذُهَا سَرِقَةً، فَكَانَ إيجَابُ الْقَطْعِ عَلَى السَّارِقِ اشْتِرَاطًا لِلنِّصَابِ دَلَالَةً. (وَأَمَّا) الْإِجْمَاعُ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَجْمَعُوا عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ، وَإِنَّمَا جَرَى الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي التَّقْدِيرِ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي التَّقْدِيرِ إجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ أَصْلَ النِّصَابِ شَرْطٌ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَوَوْا مِنْ الْحَدِيثِ غَيْرُ ثَابِتٍ، أَوْ مَنْسُوخٌ، أَوْ يُحْمَلُ الْمَذْكُورُ عَلَى حَبْلٍ لَهُ خَطَرٌ كَحَبْلِ السَّفِينَةِ، وَبَيْضَةٍ خَطِيرَةٍ كَبَيْضَةِ الْحَدِيدِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْكَلَامُ فِي قَدْرِ النِّصَابِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا قَالَ أَصْحَابُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: إنَّهُ مُقَدَّرٌ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَلَا قَطْعَ فِي أَقَلِّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَابْنُ أَبِي لَيْلَى بِخَمْسَةٍ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِثَلَاثِينَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بِرُبْعِ دِينَارٍ حَتَّى لَوْ سَرَقَ رُبْعَ دِينَارٍ إلَّا حَبَّةً، وَهُوَ مَعَ نُقْصَانِهِ يُسَاوِي عَشَرَةً لَا يُقْطَعُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا يُقْطَعُ وَلَوْ سَرَقَ رُبُعَ دِينَارٍ لَا يُسَاوِي عَشَرَةً لَمْ يُقْطَعْ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُقْطَعُ، وَقِيمَةُ الدِّينَارِ عِنْدَنَا عَشَرَةٌ، وَعِنْدَهُ اثْنَا عَشَرَ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ احْتَجَّ مَنْ اعْتَبَرَ الْخَمْسَةَ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُقْطَعُ الْخَمْسَةُ إلَّا بِخَمْسَةٍ» ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَا رُوِيَ عَنْ - سَيِّدَتِنَا - عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» . وَرُوِيَ عَنْ - سَيِّدِنَا - عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ:» ، وَهِيَ قِيمَةُ رُبُعِ دِينَارٍ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الدِّينَارَ عَلَى أَصْلِهِ مُقَوَّمٌ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. (وَلَنَا) مَا رَوَى مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْطَعُ إلَّا فِي ثَمَنِ مِجَنٍّ» ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا قَطْعَ فِيمَا دُونَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي دِينَارٍ، أَوْ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُقْطَعُ السَّارِقُ إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ» ، وَكَانَ يُقَوَّمُ يَوْمَئِذٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَعَنْ ابْنِ أُمِّ أَيْمَنَ أَنَّهُ قَالَ «مَا قُطِعَتْ يَدٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ:» ، وَكَانَ يُسَاوِي يَوْمَئِذٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّ - سَيِّدَنَا - عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ سَارِقِ ثَوْبٍ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَمَرَّ بِهِ - سَيِّدُنَا - عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: إنَّ هَذَا لَا يُسَاوِي إلَّا ثَمَانِيَةً فَدَرَأَ - سَيِّدُنَا - عُمَرُ الْقَطْعَ عَنْهُ، وَعَنْ - سَيِّدِنَا - عُمَرَ، وَسَيِّدِنَا عُثْمَانَ، وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلُ مَذْهَبِنَا، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ فِي الْعَشَرَةِ. وَفِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ؛ لِاخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ فَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ فَلَا يَجِبُ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ النِّصَابَ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ الْقَدْرُ فِي أَخْذِ سَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ قُطِعَ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَهُوَ كَمَالُ النِّصَابِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ السَّرِقَةُ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِفَقْدِ الشَّرْطِ، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ إذَا دَخَلَ رَجُلٌ دَارَ الرَّجُلِ فَسَرَقَ مِنْ بَيْتٍ فِيهَا دِرْهَمًا فَأَخْرَجَهُ إلَى صَحْنِهَا، ثُمَّ عَادَ فَأَخَذَ دِرْهَمًا مِنْ الْبَيْتِ فَأَخْرَجَهُ، ثُمَّ عَادَ فَأَخَذَ دِرْهَمًا مِنْ الْبَيْتِ فَأَخْرَجَهُ فَلَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ حَتَّى أَخَذَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ أَخْرَجَ الْعَشَرَةَ مِنْ الدَّارِ قُطِعَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ سَرِقَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الدَّارَ مَعَ صَحْنِهَا، وَبُيُوتِهَا حِرْزٌ، وَاحِدٌ فَمَا دَامَ فِي الدَّارِ لَمْ يُوجَدْ الْإِخْرَاجُ مِنْ الْحِرْزِ فَإِذَا أَخْرَجَ مِنْ الدَّارِ جُمْلَةً فَقَدْ وُجِدَ إخْرَاجُ نِصَابٍ مِنْ الْحِرْزِ فَيَجِبُ الْقَطْعُ. وَلَوْ كَانَ خَرَجَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْ الدَّارِ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ سَرِقَاتٌ إذْ كُلُّ فِعْلٍ مِنْهُ إخْرَاجٌ مِنْ الْحِرْزِ، فَكَانَ

كُلُّ فِعْلٍ مِنْهُ مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ سَرِقَةُ مَا دُونَ النِّصَابِ فَلَا يُوجِبُ الْقَطْعَ، وَكَذَلِكَ جَمَاعَةٌ دَخَلُوا دَارًا، وَأَخْرَجُوا مِنْ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهَا الْمَتَاعَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إلَى صَحْنِ الدَّارِ، ثُمَّ أَخْرَجُوهُ مِنْ الصَّحْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً يُقْطَعُونَ إذَا كَانَ مَا أَخْرَجُوا يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَإِنْ تَفَرَّقَ الْإِخْرَاجُ يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَهُوَ سَرِقَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا تَفَرَّقَ فَهُوَ سَرِقَاتٌ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ وَلَوْ سَرَقَ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ مَنْزِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِأَنْ سَرَقَ مِنْهُ دِرْهَمًا، أَوْ تِسْعَةً لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهُمَا سَرِقَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَنْزِلَيْنِ حِرْزٌ بِانْفِرَادِهِ فَهَتْكُ أَحَدِهِمَا بِمَا دُونَ النِّصَابِ لَا يُعْتَبَرُ فِي هَتْكِ الْآخَرِ فَيَبْقَى كُلُّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَبَرًا فِي نَفْسِهِ. وَلَوْ سَرَقَ رَجُلٌ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لِعَشْرَةِ أَنْفُسٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ قُطِعَ، وَإِنْ تَفَرَّقَ مُلَّاكُهَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ حَالُ السَّارِقِ، وَالسَّارِقُ وَاحِدٌ، فَكَانَ النِّصَابُ كَامِلًا، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ حَالُ السَّارِقِ دُونَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَطْعِ، وَالْقَطْعُ عَلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ جَانِبُ مَنْ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ جَانِبُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَجِبْ لَهُ، بَلْ لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَإِنْ كَانَ عَشْرَةُ أَنْفُسٍ فِي دَارِ كُلُّ وَاحِدٍ فِي بَيْتٍ عَلَى حِدَةٍ فَسَرَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِرْهَمًا يُقْطَعُ إذَا خَرَجَ بِالْجَمِيعِ مِنْ الدَّارِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الدَّارَ حِرْزٌ وَاحِدٌ. وَقَدْ أَخْرَجَ مِنْهَا نِصَابًا كَامِلًا، فَكَانَتْ السَّرِقَةُ وَاحِدَةً، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ عَظِيمَةً فِيهَا حُجُرٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ حُجْرَةٌ فَسَرَقَ مِنْ كُلِّ حُجْرَةٍ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَرِقَاتٌ إذْ كُلُّ حُجْرَةٍ حِرْزٌ بِانْفِرَادِهَا، وَالسَّرِقَاتُ إذَا اخْتَلَفَتْ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا كَمَالُ النِّصَابِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَلَوْ سَرَقَ عَشْرَةُ أَنْفُسٍ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لَمْ يُقْطَعُوا، بِخِلَافِ الْوَاحِدِ إذَا سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ عَشْرَةِ أَنْفُسٍ أَنَّهُ يُقْطَعُ إذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ فِي حِرْزٍ وَاحِدٍ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ جَانِبُ السَّارِقِ لَا جَانِبُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، فَكَانَتْ السَّرِقَةُ وَاحِدَةً فَيُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ فِي حَقِّ السَّارِقِ لَا فِي حَقِّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ. وَسَوَاءٌ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ مُجْتَمَعَةً، أَوْ مُتَفَرِّقَةً بَعْدَ أَنْ كَانَ الْحِرْزُ وَاحِدًا حَتَّى لَوْ سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مُتَفَرِّقًا مِنْ كُلِّ كِيسٍ دِرْهَمًا مِنْ عَشْرَةِ أَنْفُسٍ مِنْ مَنْزِلٍ وَاحِدٍ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْحِرْزَ وَاحِدٌ فَإِذَا أَخْرَجَهَا مِنْهُ فَقَدْ خَرَجَ بِنِصَابٍ كَامِلٍ مِنْ السَّرِقَةِ فَيُقْطَعُ وَلَوْ سَرَقَ ثَوْبًا قِيمَتُهُ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ فَوَضَعَهُ عَلَى بَابِ الدَّارِ، ثُمَّ دَخَلَ فَأَخَذَ ثَوْبًا آخَرَ يُسَاوِي تِسْعَةً فَأَخْرَجَهُ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ الْمَأْخُوذُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا فَلَا يُقْطَعُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) صِفَاتُ النِّصَابِ (فَمِنْهَا) أَنْ تَكُونَ الدَّرَاهِمُ الْمَسْرُوقَةُ جِيَادًا حَتَّى لَوْ سَرَقَ عَشَرَةً زُيُوفًا، أَوْ نَبَهْرَجَةً، أَوْ سَتُّوقَةً لَا يُقْطَعُ إلَّا أَنْ تَكُونَ كَثِيرَةً تَبْلُغُ قِيمَةَ عَشَرَةٍ جِيَادٍ، وَكَذَلِكَ الْمَسْرُوقُ مِنْ غَيْرِ الدَّرَاهِمِ إذَا كَانَ لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ جِيَادٍ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الدَّرَاهِمِ فِي الْأَحَادِيثِ يَنْصَرِفُ إلَى الْجِيَادِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَعْتَبِرَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَزْنَ سَبْعَةٍ كَذَا قَالُوا؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَقَعُ عَلَى ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قُدِّرَ بِهِ النِّصَابُ فِي الزَّكَوَاتِ، وَالدِّيَاتِ، وَكَذَا النَّاسُ أَجْمَعُوا عَلَى هَذَا فِي، وَزْنِ الدَّرَاهِمِ. وَلِأَنَّ هَذَا أَوْسَطُ الْمَقَادِيرِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ صِغَارًا، وَكِبَارًا فَإِذَا جُمِعَ صَغِيرٌ، وَكَبِيرٌ كَانَا دِرْهَمَيْنِ مِنْ وَزْنِ سَبْعَةٍ، فَكَانَ هَذَا الْوَزْنُ هُوَ أَوْسَطُ الْمَقَادِيرِ فَاعْتُبِرَ بِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا:» ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ أَنْ تَكُونَ مَضْرُوبَةً؟ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّهُ يَعْتَبِرُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً، وَهَكَذَا رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ حَتَّى لَوْ كَانَ تِبْرًا قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً لَا يُقْطَعُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِمْ الرَّحْمَةُ - أَنَّ السَّارِقَ إذَا سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَرُوجُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ قُطِعَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهَا مَضْرُوبَةً لَيْسَ بِشَرْطٍ. بَلْ يُقْطَعُ فِي الْمَضْرُوبَةِ، وَغَيْرِهَا إذَا كَانَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَرُوجُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ لَهُمَا أَنَّ تَقْدِيرَ نِصَابِ السَّرِقَةِ وَقَعَ بِالدَّرَاهِمِ، أَوْ تَقْوِيمَ الْمِجَنِّ، وَقَعَ بِالدَّرَاهِمِ، وَالدَّرَاهِمُ اسْمٌ لِلْمَضْرُوبَةِ، وَالتِّبْرُ لَيْسَ بِمَضْرُوبٍ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَضْرُوبِ فِي الْمَالِيَّةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَنْقُصُ عَنْهُ فِي الْقِيمَةِ فَأَشْبَهَ نُقْصَانَ الْوَزْنِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْتَبَرَ الْجَوَازَ، وَالرَّوَاجَ فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ فَأَجْرَى بِهِ التَّعَامُلَ بَيْنَ النَّاسِ، يَسْتَوِي فِي نِصَابِهِ الْمَضْرُوبُ، وَالصَّحِيحُ، وَالْمُكَسَّرُ كَمَا فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ فَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ، وَمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ فِي بَابِ الْحُدُودِ، ثُمَّ كَمَالُ النِّصَابِ فِي قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ يُعْتَبَرُ وَقْتَ السَّرِقَةِ لَا غَيْرُ، أَمْ وَقْتَ السَّرِقَةِ، وَالْقَطْعِ جَمِيعًا؟ . وَفَائِدَةُ هَذَا تَظْهَرُ فِيمَا

إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ كَامِلَةً وَقْتَ السَّرِقَةِ، ثُمَّ نَقَصَتْ أَنَّهُ هَلْ يَسْقُطُ الْقَطْعُ؟ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّ نُقْصَانَ الْمَسْرُوقِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ نُقْصَانُ الْعَيْنِ بِأَنْ دَخَلَ الْمَسْرُوقَ عَيْبٌ، أَوْ ذَهَبَ بَعْضُهُ. (وَإِمَّا) أَنْ كَانَ نُقْصَانُ السِّعْرِ فَإِنْ كَانَ نُقْصَانُ الْعَيْنِ يُقْطَعُ السَّارِقُ، وَلَا يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ وَقْتَ الْقَطْعِ، بَلْ وَقْتَ السَّرِقَةِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ عَيْنِهِ هَلَاكُ بَعْضِهِ، وَهَلَاكُ الْكُلِّ لَا يُسْقِطُ الْقَطْعَ، فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ نُقْصَانُ السِّعْرِ - ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يُقْطَعُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا. وَرَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُقْطَعُ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْحِرْزِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ دُونَ نُقْصَانِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَحِلِّ، وَهَذَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، ثُمَّ نُقْصَانُ الْعَيْنِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي إسْقَاطِ الْقَطْعِ، فَنُقْصَانُ السِّعْرِ أَوْلَى (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْفَرْقُ بَيْنَ النُّقْصَانَيْنِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ يُورِثُ شُبْهَةَ نُقْصَانٍ فِي الْمَسْرُوقِ وَقْتَ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ بِحَالِهَا قَائِمَةٌ لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَتَغَيُّرُ السِّعْرِ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَى السَّارِقِ أَصْلًا فَيُجْعَلَ النُّقْصَانُ الطَّارِئُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ السَّرِقَةِ، بِخِلَافِ نُقْصَانِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْعَيْنِ إذْ هُوَ هَلَاكُ بَعْضِ الْعَيْنِ، وَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ وُجُودِهِ وَقْتَ السَّرِقَةِ، وَكَذَا إذَا سَرَقَ فِي بَلَدٍ فَأَخَذَ فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَالْقِيمَةُ فِيهِ أَنْقَصُ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ حَتَّى تَكُونَ الْقِيمَةُ جَمِيعًا فِي السِّعْرِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ السَّرِقَةِ لَا غَيْرُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ الَّذِي يُقْطَعُ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ مَقْصُودًا بِالسَّرِقَةِ لَا تَبَعًا لِمَقْصُودٍ، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ فِي قَوْلِهِمَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالسَّرِقَةِ إذَا كَانَ مِمَّا يُقْطَعُ فِيهِ لَوْ انْفَرَدَ، وَبَلَغَ نِصَابًا بِنَفْسِهِ يُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ بِنَفْسِهِ نِصَابًا إلَّا بِالتَّابِعِ يَكْمُلُ النِّصَابُ بِهِ فَيُقْطَعُ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ وَاحِدًا مِنْهُمَا مَقْصُودًا، وَلَا يَبْلُغُ بِنَفْسِهِ نِصَابًا يَكْمُلُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَيُقْطَعُ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالسَّرِقَةِ مِمَّا لَا يُقْطَعُ فِيهِ لَوْ انْفَرَدَ لَا يُقْطَعُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ مِمَّا يَبْلُغُ نِصَابًا إذَا لَمْ يَكُنْ الْغَيْرُ مَقْصُودًا بِالسَّرِقَةِ، بَلْ يَكُونُ تَابِعًا فِي قَوْلِهِمَا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْطَعُ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ نِصَابًا كَامِلًا، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ: إذَا سَرَقَ إنَاءً مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ فِيهِ شَرَابٌ، أَوْ مَاءٌ أَوْ لَبَنٌ، أَوْ مَاءُ وَرْدٍ، أَوْ ثَرِيدٌ، أَوْ نَبِيذٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُقْطَعُ فِيهِ لَوْ انْفَرَدَ؛ لَمْ يُقْطَعْ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْطَعُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ مَا فِي الْإِنَاءِ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يُقْطَعُ فِيهِ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَيُعْتَبَرُ أَخَذُ الْإِنَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ فَيُقْطَعُ فِيهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ السَّرِقَةِ مَا فِي الْإِنَاءِ، وَالْإِنَاءُ تَابِعٌ. أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ الْإِنَاءَ بِالْأَخْذِ لَأَبْقَى مَا فِيهِ، وَمَا فِي الْإِنَاءِ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ بِالْمَقْصُودِ لَا يَجِبُ بِالتَّابِعِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: إنَّمَا أَنْظُرُ إلَى مَا فِي جَوْفِهِ فَإِنْ كَانَ مَا فِي جَوْفِهِ لَا يُقْطَعُ فِيهِ؛ لَمْ أَقْطَعْهُ وَلَوْ سَرَقَ مَا فِي الْإِنَاءِ فِي الدَّارِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَ الْإِنَاءَ مِنْهَا، ثُمَّ أَخْرَجَ الْإِنَاءَ فَارِغًا مِنْهُ قُطِعَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَرَقَ مَا فِيهِ فِي الدَّارِ عُلِمَ أَنَّ مَقْصُودَهُ هُوَ الْإِنَاءُ، وَالْمَقْصُودُ بِالسَّرِقَةِ إذَا كَانَ مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ، وَبَلَغَ نِصَابًا يُقْطَعُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا سَرَقَ صَبِيًّا حُرًّا لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَلَيْهِ حُلِيٌّ. وَإِنْ كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ لَا يُقْطَعُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ لَهُ يَدًا عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُلِيِّ فَلَا يَكُونُ أَخْذُهُ سَرِقَةً، بَلْ يَكُونُ خِدَاعًا فَلَا يُقْطَعُ، وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ عَبْدًا صَبِيًّا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَلَيْهِ حُلِيٌّ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَا يُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ يُقْطَعُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُقْطَعُ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ سَرِقَةَ مِثْلِ هَذَا الْعَبْدِ يُوجِبُ الْقَطْعَ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ لَا يُوجِبُ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ وَلَوْ سَرَقَ كَلْبًا، أَوْ غَيْرَهُ مِنْ السِّبَاعِ فِي عُنُقِهِ طَوْقٌ لَمْ يُقْطَعْ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَرَقَ مُصْحَفًا مُفَضَّضًا، أَوْ مُرَصَّعًا بِيَاقُوتٍ لَمْ يُقْطَعْ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْطَعُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ سَرَقَ كُوزًا قِيمَتُهُ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ، وَفِيهِ عَسَلٌ يُسَاوِي دِرْهَمًا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِيهِ مِنْ الْعَسَلِ، وَالْكُوزُ تَبَعٌ فَيَكْمُلُ نِصَابُ الْأَصْلِ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَرَقَ حِمَارًا يُسَاوِي تِسْعَةً، وَعَلَيْهِ إكَافٌ يُسَاوِي دِرْهَمًا يُقْطَعُ؛ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ ثَوْبٍ، وَالثَّوْبُ لَا يُسَاوِي عَشَرَةً يُنْظَرُ إنْ كَانَ ذَلِكَ الثَّوْبُ يَصْلُحُ وِعَاءً لِلدَّرَاهِمِ بِأَنْ تُشَدَّ فِيهِ الدَّرَاهِمُ عَادَةً بِأَنْ كَانَتْ خِرْقَةً، وَنَحْوَهَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْأَخْذِ هُوَ مَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ بِأَنْ كَانَ ثَوْبَ كِرْبَاسَ فَإِنْ كَانَ تَبْلُغُ قِيمَةُ الثَّوْبِ

فصل في الشرط الذي يرجع إلى المسروق منه

نِصَابًا بِأَنْ كَانَ يُسَاوِي عَشَرَةً يُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ بِالسَّرِقَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَبْلُغُ نِصَابًا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يُقْطَعُ. وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ اللِّصَّ إنْ كَانَ يَعْلَمُ بِالدَّرَاهِمِ يُقْطَعْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ لَا يُقْطَعُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُقْطَعُ عَلِمَ بِهَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. (وَوَجْهُهُ) : أَنَّ الْعِلْمَ بِالْمَسْرُوقِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ، بَلْ الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ نِصَابًا، قَدْ وُجِدَ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْأَصْلِ: أَنَّهُ إذَا كَانَ يَعْلَمُ بِالدَّرَاهِمِ كَانَ مَقْصُودُهُ بِالْأَخْذِ الدَّرَاهِمَ وَقَدْ بَلَغَتْ نِصَابًا فَيُقْطَعُ، وَإِذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ بِهَا كَانَ مَقْصُودُهُ الثَّوْبَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ النِّصَابَ فَلَا يُقْطَعُ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِأَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّ مِثْلَ هَذَا الثَّوْبِ إذَا كَانَ مِمَّا لَا تُشَدُّ بِهِ الدَّرَاهِمُ عَادَةً كَانَ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ بِالسَّرِقَةِ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ الْقَطْعُ فَكَذَا فِيمَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهُ وَلَوْ سَرَقَ جُوَالِقًا، أَوْ جِرَابًا فِيهِ مَالٌ كَثِيرٌ قُطِعَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالسَّرِقَةِ هُوَ الْمَظْرُوفُ لَا الظَّرْفُ، وَالْمَقْصُودُ مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ فَيُقْطَعُ، وَكَذَا إذَا كَانَ الثَّوْبُ لَا يُسَاوِي عَشَرَةً، وَفِيهِ مَالٌ عَظِيمٌ عَلِمَ بِهِ اللِّصُّ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ يَصْلُحُ وِعَاءً لِلْمَالِ الْكَثِيرِ، وَلَا يَصْلُحُ وِعَاءً لِلْيَسِيرِ، فَفِيمَا صَلَحَ وِعَاءً لَهُ يُعْتَبَرُ مَا فِيهِ، لِأَنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ مَقْصُودَهُ مَا فِيهِ وَفِيمَا لَا يَصْلُحُ يَعْتَبِرُ نَفْسَهُ مَقْصُودًا بِالسَّرِقَةِ، وَمَا فِيهِ تَابِعًا لَهُ وَلَا قَطْعَ فِي الْمَقْصُودِ لِنُقْصَانِ النِّصَابِ فَكَذَا فِي التَّابِعِ؛ لِأَنَّ التَّبَعَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَصْلِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الشَّرْط الَّذِي يرجع إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ، وَهُوَ يَدُ الْمِلْكِ، أَوْ يَدُ الْأَمَانَةِ كَيَدِ الْمُودِعِ، وَالْمُسْتَعِيرِ، وَالْمُضَارِبِ، وَالْمُبْضِعِ، أَوْ يَدُ الضَّمَانِ كَيَدِ الْغَاصِبِ، وَالْقَابِضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَالْمُرْتَهِنِ فَيَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى السَّارِقِ مِنْ هَؤُلَاءِ، أَمَّا مِنْ الْمَالِكِ فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَكَذَا مِنْ أَمِينِهِ؛ لِأَنَّ يَدَ أَمِينِهِ يَدُهُ فَالْأَخْذُ مِنْهُ كَالْأَخْذِ مِنْ الْمَالِكِ، فَأَمَّا مِنْ الْغَاصِبِ فَإِنَّ مَنْفَعَةَ يَدَهُ عَائِدَةً إلَى الْمَالِكِ إذْ بِهَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ؛ لِيَخْرُجَ عَنْ الْعُهْدَةِ، فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ، وَلِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ. وَضَمَانُ الْغَصْبِ عِنْدَنَا ضَمَانُ مِلْكٍ فَأَشْبَهَ يَدَ الْمُشْتَرِي، وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ عَلَى الْقَابِضِ، وَالْمَرْهُونُ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِالدَّيْنِ؛ فَيَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى السَّارِقِ مِنْهُمْ، وَهَلْ يَسْتَوْفِي بِخُصُومَتِهِمْ حَالَ غِيبَةِ الْمَالِكِ؟ فِيهِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى السَّارِقِ مِنْ السَّارِقِ؛ لِأَنَّ يَدَ السَّارِقِ لَيْسَتْ بِيَدٍ صَحِيحَةٍ إذْ لَيْسَتْ يَدَ مِلْكٍ، وَلَا يَدَ أَمَانَةٍ، وَلَا يَدَ ضَمَانٍ، فَكَانَ الْأَخْذُ مِنْهُ كَالْأَخْذِ مِنْ الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ دُرِئَ عَنْ الْأَوَّلِ قُطِعَ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ إذَا دُرِئَ عَنْهُ الْقَطْعُ صَارَتْ يَدُهُ يَدَ ضَمَانٍ، وَيَدُ الضَّمَانِ يَدٌ صَحِيحَةٌ كَيَدِ الْغَاصِبِ، وَنَحْوِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الشَّرْط الَّذِي يرجع إلَى الْمَسْرُوقِ فِيهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ فِيهِ، وَهُوَ الْمَكَانُ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ السَّرِقَةُ فِي دَارِ الْعَدْلِ فَلَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَدَارِ الْبَغْيِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِلْإِمَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا عَلَى دَارِ الْبَغْيِ، فَالسَّرِقَةُ الْمَوْجُودَةُ فِيهِمَا لَا تَنْعَقِدُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْقَطْعِ، وَبَيَانُ هَذَا فِي مَسَائِلِ التُّجَّارِ، أَوْ الْأَسَارَى مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا سَرَقَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، ثُمَّ خَرَجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَخَذَ السَّارِقُ لَا يَقْطَعُهُ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِلْإِمَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَالسَّرِقَةُ الْمَوْجُودَةُ فِيهِمَا لَمْ تَنْعَقِدْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْقَطْعِ، فَلَا تَسْتَوْفِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ التُّجَّارُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي مُعَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ، أَوْ الْأَسَارَى فِي أَيْدِيهِمْ إذَا سَرَقَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. ثُمَّ خَرَجُوا إلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَأَخَذَ السَّارِقُ لَمْ يَقْطَعْهُ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ وُجِدَتْ فِي مَوْضِعٍ لَا يَدَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَتْ السَّرِقَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ جَاءَ لِلْإِمَامِ تَائِبًا، وَقَدْ سَرَقَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ لَمْ يَقْطَعْهُ؛ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ أَغَارَ عَلَى مُعَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَسَرَقَ مِنْهُمْ لَمْ يَقْطَعْهُ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ لَمْ تَنْعَقِدْ مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ لِعَدَمِ وَلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّهُ أَخَذَ عَنْ تَأْوِيلٍ؛ لِأَنَّ لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَأْخُذُوا أَمْوَالَ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَيَحْبِسُونَهَا عِنْدَهُمْ حَتَّى يَتُوبُوا، فَكَانَ فِي الْعِصْمَةِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا سَرَقَ مِنْ مُعَسْكَرِ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَعَادَ إلَى مُعَسْكَرِهِ، ثُمَّ أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُقْطَعْ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ إبَاحَةَ أَمْوَالِنَا، وَلَهُمْ مَنَعَةٌ، فَكَانَ أَخْذُهُ عَنْ تَأْوِيلٍ فَلَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ كَمَا لَا يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ سَرَقَ مِنْ إنْسَانٍ مَالًا، وَهُوَ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ، وَيَسْتَحِلُّ دَمَهُ، وَمَالَهُ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ اعْتِقَادِ الْإِبَاحَةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَلِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ لَأَدَّى إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ

فصل في بيان ما تظهر به السرقة عند القاضي

لِأَنَّ كُلَّ سَارِقٍ لَا يَعْجِزُ عَنْ إظْهَارِ ذَلِكَ فَيَسْقُطَ الْقَطْعُ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا قَبِيحٌ فَمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ مِثْلُهُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا تَظْهَرُ بِهِ السَّرِقَةُ عِنْدَ الْقَاضِي] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا تَظْهَرُ بِهِ السَّرِقَةُ عِنْدَ الْقَاضِي فَنَقُولُ: - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - السَّرِقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَطْعِ عِنْدَ الْقَاضِي تَظْهَرُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْبَيِّنَةُ، وَالثَّانِي: الْإِقْرَارُ. أَمَّا الْبَيِّنَةُ فَتَظْهَرُ بِهَا السَّرِقَةُ إذَا اُسْتُجْمِعَتْ شَرَائِطُهَا؛ لِأَنَّهَا خَبَرٌ يُرَجَّحُ فِيهِ جَنَبَةُ الصِّدْقِ عَلَى جَنَبَةِ الْكَذِبِ فَيَظْهَرُ الْمُخْبَرُ بِهِ، وَشَرَائِطُ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ فِي بَابِ السَّرِقَةِ بَعْضُهَا يَعُمُّ الْبَيِّنَاتِ كُلَّهَا، قَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ أَبْوَابَ الْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ، وَهُوَ الذُّكُورَةُ، وَالْعَدَالَةُ، وَالْأَصَالَةُ فَلَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ، وَلَا شَهَادَةُ الْفُسَّاقِ، وَلَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ فِي شَهَادَةِ هَؤُلَاءِ زِيَادَةَ شُبْهَةٍ، لَا ضَرُورَةَ إلَى تَحَمُّلِهَا فِيمَا يُحْتَالُ لِدَفْعِهِ، وَيُحْتَاطُ لِدَرْئِهِ، وَكَذَا عَدَمُ تَقَادُمِ الْعَهْدِ إلَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ، وَالْقِصَاصِ حَتَّى لَوْ شَهِدُوا بِالسَّرِقَةِ بَعْد حِينٍ لَمْ تُقْبَلْ وَلَا يُقْطَعُ، وَيَضْمَنُ الْمَالَ، وَالْأَصْلُ أَنَّ التَّقَادُمَ يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ عَلَى الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ، وَلَا يُبْطِلُهَا عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ، وَلَا يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ أَيْضًا. وَالْفَرْقُ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ الْمَالَ؛ لِأَنَّ التَّقَادُمَ إنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلشُّبْهَةِ، وَالشُّبْهَةُ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ، وَلَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ وَالْحُقُوقِ، وَهُوَ الْخُصُومَةُ، وَالدَّعْوَى مِمَّنْ لَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ، حَتَّى لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْمَسْرُوقُ، مِنْهُ وَيُخَاصِمُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كَوْنَ الْمَسْرُوقِ مِلْكًا لِغَيْرِ السَّارِقِ شَرْطٌ لِكَوْنِ الْفِعْلِ سَرِقَةً وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إلَّا بِالْخُصُومَةِ فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ الْخُصُومَةُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، وَلَكِنْ يُحْبَسُ السَّارِقُ؛ لِأَنَّ إخْبَارَهُمْ أَوْرَثَ تُهْمَةً، وَيَجُوزُ الْحَبْسُ بِالتُّهْمَةِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ» وَهَلْ يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى لِقَبُولِ الْبَيِّنَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى سَرِقَةِ عَبْدِهِ مَالَ إنْسَانٍ، وَالْعَبْدُ يَجْحَدُ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ -: يُشْتَرَطُ حَتَّى لَوْ كَانَ مَوْلَاهُ غَائِبًا لَمْ تُقْبَلْ الْبَيِّنَةُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ، وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ غَائِبًا. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ بِالسَّرِقَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ مُكَلَّفٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ حَضْرَتِهِ، كَمَا لَا تُشْتَرَطُ حَضْرَةُ سَائِرِ الْأَجَانِبِ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ نَفَذَ إقْرَارُهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ -: أَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ تَتَضَمَّنُ إتْلَافَ مِلْكِ الْمَوْلَى فَلَا يُقْضَى بِهَا مَعَ غِيبَةِ الْمَوْلَى كَالْبَيِّنَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى مِلْكِ شَيْءٍ مِنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَادَّعَى شُبْهَةً مَانِعَةً مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ مَا أَمْكَنَ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا وَقَعَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى رَدَّهُ بِوَجْهٍ فَلَمْ تَتَمَكَّنْ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلَا تَظْهَرُ السَّرِقَةُ بِالنُّكُولِ حَتَّى لَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ سَرِقَةً فَأَنْكَرَ فَاسْتُخْلِفَ فَنَكَلَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ، وَيُقْضَى بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ إمَّا أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْبَدَلِ. وَالْقَطْعُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ وَالْإِبَاحَةَ، وَالْمَالُ يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ وَالْإِبَاحَةَ، وَإِمَّا أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى إقْرَارٍ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ؛ لِكَوْنِهِ إقْرَارًا مِنْ طَرِيقِ السُّكُوتِ لَا صَرِيحًا، وَالشُّبْهَةُ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ، وَلَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ. (وَأَمَّا) الْإِقْرَارُ فَتَظْهَرُ بِهِ السَّرِقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَطْعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ فَتَظْهَرَ بِهِ السَّرِقَةُ، كَمَا تَظْهَرُ بِالْبَيِّنَةِ، وَبَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يُتَّهَمُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مَا لَا يُتَّهَمُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الَّذِي أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ عَبْدًا مَأْذُونًا، أَوْ مَحْجُورًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُقْطَعُ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ: أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةِ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مَأْذُونًا، أَوْ مَحْجُورًا، وَالْمَالُ قَائِمٌ، أَوْ هَالِكٌ فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا؛ يُقْطَعُ ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَالُ هَالِكًا، أَوْ مُسْتَهْلَكًا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ صَدَّقَهُ مَوْلَاهُ فِي إقْرَارِهِ، أَوْ كَذَّبَهُ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا فَهُوَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يُقْطَعُ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى، وَالْمَالُ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ يَتَضَمَّنُ إتْلَافَ مَالِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ مَالُ مَوْلَاهُ فَلَا يُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى. (وَلَنَا) أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهِ فَضَرَرُ الْعَبْدِ أَعْظَمُ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا فِي إقْرَارِهِ فَيُقْبَلَ؛ وَلِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِي يَدِ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْقَطْعِ، كَمَا لَا مِلْكَ لَهُ فِي نَفْسِهِ فِي حَقِّ الْقَتْلِ، فَكَانَ الْعَبْدُ فِيهِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ كَالْحُرِّ، وَبِهِ

تَبَيَّنَ أَنَّ إقْرَارَهُ لَمْ يَتَضَمَّنْ إبْطَالَ حَقِّ الْمَوْلَى فِي حَقِّ الْقَطْعِ لِعَدَمِ الْحَقِّ لَهُ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا تُقْطَعْ يَدُهُ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَالُ هَالِكًا، أَوْ مُسْتَهْلَكًا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَذَّبَهُ مَوْلَاهُ، أَوْ صَدَّقَهُ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا، فَإِنْ صَدَّقَهُ مَوْلَاهُ؛ تُقْطَعُ يَدُهُ، وَالْمَالُ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَإِنْ كَذَّبَهُ بِأَنْ قَالَ: هَذَا مَالِي اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: " تُقْطَعُ يَدُهُ، وَالْمَالُ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ "، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: " تُقْطَعُ يَدُهُ، وَالْمَالُ لِلْمَوْلَى، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْعَبْدِ فِي الْحَالِ، وَلَا بَعْدَ الْعِتْقِ ". وَقَالَ مُحَمَّدٌ: " لَا تُقْطَعُ يَدُهُ، وَالْمَالُ لِلْمَوْلَى، وَيَضْمَنُ مِثْلَهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ ". (وَجْهُ) قَوْلِهِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ بِالْمَالِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِلْكُ مَوْلَاهُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا، وَإِذَا لَمْ يَنْفُذْ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ بَقِيَ الْمَالُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَوْلَى، وَلَا قَطْعَ فِي مَالِ الْمَوْلَى، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمَالِ جَائِزٌ، وَإِذَا جَازَ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ لِغَيْرِهِ تَثْبُتُ السَّرِقَةُ مِنْهُ فَيُقْطَعُ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْحَدِّ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ بِالْمَالِ إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ جَوَازِ إقْرَارِهِ فِي حَقِّ الْحَدِّ جَوَازُهُ فِي الْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: سَرَقْت هَذَا الْمَالَ الَّذِي فِي يَدِ زَيْدٍ مِنْ عَمْرٍو يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي الْقَطْعِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الْمَالِ كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ بِالْحَدِّ جَائِزٌ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَلَزِمَهُ الْقَطْعُ، فَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُقْطَعَ فِي الْمَالِ الْمُقِرِّ بِهِ بِعَيْنِهِ، وَيُرَدَّ الْمَسْرُوقُ إلَى الْمَوْلَى، وَإِمَّا أَنْ يُقْطَعَ فِي مَالٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ فِي مَالٍ مَحْكُومٍ بِهِ لِمَوْلَاهُ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ فِي مَالٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ صَادَفَ مَالًا مُعَيَّنًا فَتَعَيَّنَ أَنْ يُقْطَعَ فِي الْمَالِ الْمُقِرِّ بِهِ بِعَيْنِهِ، وَيُرَدَّ الْمَالُ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ هَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ بَالِغًا عَاقِلًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ صَبِيًّا عَاقِلًا فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِالشَّرَائِعِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَأْذُونًا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ فَإِنْ كَانَ قَائِمًا يُرَدُّ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ هَالِكًا يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمَوْلَى، فَإِنْ كَذَّبَهُ فَالْمَالُ لِلْمَوْلَى إنْ كَانَ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لَا فِي الْحَالِ، وَلَا بَعْدَ الْعَتَاقِ وَلَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِسَرِقَةِ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ شَرْطٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَأْذُونًا يَصِحَّ إقْرَارُهُ، وَيُرَدُّ الْمَالُ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا يَضْمَنْ سَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ مُخَاطَبًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا، فَإِنْ صَدَّقَهُ مَوْلَاهُ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَالْمَالُ لِلْمَوْلَى، وَيَضْمَنُ الْعَبْدُ بَعْدَ الْعِتْقِ إنْ كَانَ مُخَاطَبًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ. وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ: أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ يَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ فِيهِ، ثُمَّ الْمَوْلَى إذَا أَقَرَّ عَلَى عَبْدِهِ بِالْقِصَاصِ، أَوْ حَدِّ الزِّنَا، أَوْ حَدِّ الْقَذْفِ، أَوْ السَّرِقَةِ، أَوْ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ لَا يَصِحُّ، فَإِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَصِحُّ. (وَأَمَّا) إذَا أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ بِالْجِنَايَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الدَّفْعُ، أَوْ الْفِدَاءُ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ صَحَّ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ فِيهَا مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ فَكَأَنَّ الْمَوْلَى أَقَرَّ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ. وَلَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ يَصِحُّ كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَصِحُّ كَذَا إذَا أَقَرَّ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ، وَعَدَمُ التَّقَادُمِ فِي الْإِقْرَارِ (إقْرَارُ الْعَبْدِ بِالسَّرِقَةِ) لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِهِ فَيَجُوزُ سَوَاءٌ تَقَادَمَ عَهْدُ السَّرِقَةِ، أَوْ لَا، بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ، وَالْفَرْقُ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْعَدَدِ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ: أَنَّهُ هَلْ هُوَ شَرْطٌ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَظْهَرُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - شَرْطٌ فَلَا يُقْطَعُ مَا لَمْ يُقِرَّ مَرَّتَيْنِ فِي مَكَانَيْنِ، وَالدَّلَائِلُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ. وَكَذَا اُخْتُلِفَ فِي دَعْوَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَنَّهَا هَلْ هِيَ شَرْطُ كَوْنِ الْإِقْرَارِ مُظْهِرًا لِلسَّرِقَةِ كَمَا هِيَ شَرْطُ كَوْنِ الْبَيِّنَةِ مُظْهِرَةً لَهَا؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - شَرْطٌ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ السَّارِقُ أَنَّهُ سَرَقَ مَالَ فُلَانٍ الْغَائِبِ لَمْ يُقْطَعْ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ، وَيُخَاصَمُ عِنْدَهُمَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ الدَّعْوَى فِي الْإِقْرَارِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، وَيُقْطَعُ حَالَ غَيْبَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ إقْرَارَهُ بِالسَّرِقَةِ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْإِنْسَانُ يُصَدَّقُ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ، وَهِيَ غَائِبَةٌ قَبْلَ إقْرَارِهِ حُدَّ كَذَا هَذَا، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ «أَنَّ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إنِّي سَرَقْت لِآلِ فُلَانٍ فَأَنْفَذَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: إنَّا فَقَدْنَا بَعِيرًا لَنَا فِي لَيْلَةِ كَذَا فَقَطَعَهُ» فَلَوْلَا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ شَرْطُ ظُهُورِ السَّرِقَةِ بِالْإِقْرَارِ لَمْ يَكُنْ لِيَسْأَلَهُمْ، بَلْ كَانَ يَقْطَعُ السَّارِقَ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِلْكُهُ. (فَأَمَّا) إذَا أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ لَمْ يُحْكَمْ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ حَتَّى يُصَدِّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَالْغَائِبُ يَجُوزُ أَنْ يُصَدِّقَهُ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُكَذِّبَهُ فَبَقِيَ عَلَى حُكْمِ

مِلْكِ السَّارِقِ فَلَا يُقْطَعُ، وَلِأَنَّ فِي ظُهُورِ السَّرِقَةِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ شُبْهَةَ الْعَدَمِ لِاحْتِمَالِ التَّكْذِيبِ مِنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْضُرَ فَيُكَذِّبُهُ فِي إقْرَارِهِ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ أَنَّهُ يُحَدُّ الْمُقِرُّ، وَإِنْ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَحْضُرَ الْمَرْأَةُ فَتَدَّعِي شُبْهَةً؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَوْ كَانَتْ حَاضِرَةً، وَادَّعَتْ الشُّبْهَةَ يَسْقُطُ الْحَدُّ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ فَلَوْ سَقَطَ عِنْدَ غَيْبَتِهَا لَسَقَطَ لِشُبْهَةِ الشُّبْهَةِ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَهَهُنَا، بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا، وَكَذَّبَ السَّارِقَ فِي إقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ لَا لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ، بَلْ لِانْعِدَامِ فِعْلِ السَّرِقَةِ. فَلَمْ يَكُنْ السُّقُوطُ حَالَ الْغَيْبَةِ اعْتِبَارَ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ قَالَ سَرَقْت هَذِهِ الدَّرَاهِمَ، وَلَا أَدْرِي لِمَنْ هِيَ، أَوْ قَالَ: سَرَقْتهَا، وَلَا أُخْبِرُك مَنْ صَاحِبُهَا: لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَوْقَ غَيْبَتِهِ، ثُمَّ الْغَيْبَةُ لَمَّا مَنَعَتْ الْقَطْعَ عَلَى أَصْلِهِ فَالْجَهَالَةُ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْخُصُومَةَ لَمَّا كَانَتْ شَرْطًا، فَإِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مَجْهُولًا تَتَحَقَّقُ الْخُصُومَةُ فَلَا يُقْطَعُ، وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطُ ظُهُورِ السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَبِالْإِقْرَارِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَنْ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ، وَمَنْ لَا يَمْلِكُهَا فَنَقُولُ: - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ، وَمَنْ لَا فَلَا، فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُخَاصِمَ السَّارِقَ إذَا سَرَقَ مِنْهُ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ يَدٌ صَحِيحَةٌ. وَأَمَّا الْمُودِعُ، وَالْمُسْتَعِيرُ، وَالْمُضَارِبُ، وَالْمُبْضِعُ، وَالْغَاصِبُ، وَالْقَابِضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَالْمُرْتَهِنُ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أَنَّ لَهُمْ أَنْ يُخَاصِمُوا السَّارِقَ، وَتُعْتَبَرُ خُصُومَتُهُمْ فِي حَقِّ ثُبُوتِ وَلَايَةِ الِاسْتِرْدَادِ، وَالْإِعَادَةِ إلَى أَيْدِيهِمْ. وَأَمَّا فِي حُقُوقِ الْقَطْعِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَيُقْطَعُ السَّارِقُ بِخُصُومَتِهِمْ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا تُعْتَبَرُ خُصُومَتُهُمْ فِي حَقِّ الْقَطْعِ، وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ بِخُصُومَةِ هَؤُلَاءِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يُعْتَبَرُ بِخُصُومَةِ غَيْرِ الْمَالِكِ أَصْلًا لَا فِي حَقِّ الْقَطْعِ، وَلَا فِي حَقِّ وَلَايَةِ الِاسْتِرْدَادِ. (وَوَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ يَدَ هَؤُلَاءِ لَيْسَتْ بِيَدٍ صَحِيحَةٍ فِي الْأَصْلِ أَمَّا يَدُ الْمُرْتَهِنِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهَا يَدُ حِفْظٍ لَا أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ وَلَايَةُ الْخُصُومَةِ لِضَرُورَةِ الْإِعَادَةِ إلَى يَدِ الْحِفْظِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّسْلِيمِ مِنْ الْمَالِكِ، وَكَذَلِكَ يَدُ الْغَاصِبِ، وَالْقَابِضِ - عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ - وَالْمُرْتَهِنِ يَدُهُمْ يَدُ ضَمَانٍ لَا يَدُ خُصُومَةٍ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُمْ وَلَايَةُ الْخُصُومَةِ لِإِمْكَانِ الرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ، فَكَانَ ثُبُوتُ وَلَايَةِ الْخُصُومَةِ لَهُمْ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَالثَّابِتُ بِضَرُورَةٍ يَكُونُ عَدَمًا فِيمَا، وَرَاءَ مَحِلِّ الضَّرُورَةِ؛ لِانْعِدَامِ عِلَّةِ الثُّبُوتِ، وَهِيَ الضَّرُورَةُ، فَكَانَتْ الْخُصُومَةُ مُنْعَدِمَةً فِي حَقِّ الْقَطْعِ، وَلَا قَطْعَ بِدُونِ الْخُصُومَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ السَّارِقِ كَذَا هَذَا. (وَلَنَا) أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطُ صَيْرُورَةِ الْبَيِّنَةِ: حُجَّةً مُظْهِرَةً لِلسَّرِقَةِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَتَحَقَّقُ سَرِقَةً مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِلْكُ غَيْرِ السَّارِقِ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ بِالْخُصُومَةِ، فَكَانَتْ الْخُصُومَةُ شَرْطُ كَوْنِ الْبَيِّنَةِ مُظْهِرَةً لِلسَّرِقَةِ، وَكَوْنُهَا مُظْهِرَةً لِلسَّرِقَةِ ثَبَتَ بِخُصُومَةِ هَؤُلَاءِ، وَإِذَا ظَهَرَتْ السَّرِقَةُ يُقْطَعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، بِخِلَافِ السَّارِقِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ؛ لِمَا نَذْكُرُ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْقَطْعِ هُنَاكَ لِخَلَلٍ فِي مِلْكِ الْمَسْرُوقِ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهَهُنَا لَا خَلَلَ فِي الْعِصْمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ هُنَاكَ لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ، وَهَهُنَا يُقْطَعُ وَلَوْ حَضَرَ الْمَالِكُ، وَغَابَ الْمُرْتَهِنُ هَلْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ السَّارِقَ، وَيَقْطَعَهُ، ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ أَنَّ وَلَايَةَ الْخُصُومَةِ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَالْمَالِكُ لَيْسَ بِمَسْرُوقٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ السَّارِقَ لَمْ يَسْرِقْ مِنْهُ، وَإِنَّمَا سَرَقَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَايَةُ الْخُصُومَةِ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْجَامِعِ أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي بَابِ السَّرِقَةِ إنَّمَا شُرِطَتْ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِلْكُ غَيْرِ السَّارِقِ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ فَتَصِحُّ خُصُومَتُهُ كَمَا تَصِحُّ خُصُومَةُ الْمُرْتَهِنِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ يَدُ نِيَابَةٍ فَلَمَّا صَحَّتْ الْخُصُومَةُ بِيَدِ النِّيَابَةِ فَيَدُ الْأَصَالَةِ أَوْلَى. وَلَوْ حَضَرَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ، وَغَابَ الْغَاصِبُ، ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ، وَيُطَالِبَ بِالْقَطْعِ، وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي الْغَصْبِ خِلَافًا، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِيهِمَا، وَاحِدًا، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يُخَاصِمَ السَّارِقَ فَيَقْطَعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْقَبْضِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَلَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ، حَتَّى لَوْ قَضَى الدَّيْنَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ وَلَايَةُ الْقَبْضِ بِالْفِكَاكِ قَالَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ لَا يَثْبُتُ لِلرَّاهِنِ وَلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ مَعَ غَيْبَةِ الْمُرْتَهِنِ كَمَا فِي الْمُودِعِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ أَقْوَى مِنْ يَدِ الْمُودِعِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ لِنَفْسِهِ، وَيَدَ الْمُودِعِ لِغَيْرِهِ. وَلَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ

فصل في حكم السرقة

فِي يَدِ السَّارِقِ كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَقْطَعَهُ، وَلَا سَبِيلَ لِلرَّاهِنِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ كَانَ لَهُ وَلَايَةُ الْقَطْعِ قَبْلَ الْهَلَاكِ، وَهَلَاكُ الْمَحِلِّ لَا يُسْقِطُ الْقَطْعَ فَيُثْبِتَ الْوَلَايَةَ. (فَأَمَّا) الرَّاهِنُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ فِي الْمَرْهُونِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ فَلَا تَثْبُتُ لَهُ وَلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ. (وَأَمَّا) السَّارِقُ فَلَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَدِ مِلْكٍ، وَلَا يَدِ ضَمَانٍ، وَلَا يَدِ أَمَانَةٍ فَصَارَ الْأَخْذُ مِنْ يَدِهِ كَالْأَخْذِ مِنْ الطَّرِيقِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الثَّانِيَ بِالْقَطْعِ، وَلَا لِلْمَالِكِ أَيْضًا وَلَايَةُ الْمُخَاصَمَةِ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْمَالِ مِنْ الْيَدِ الصَّحِيحَةِ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَطْعِ، وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ، فَلَا تَثْبُتُ لَهُ وَلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ. وَهَلْ لِلسَّارِقِ الْأَوَّلِ أَنْ يُطَالِبَ الثَّانِيَ بِرَدِّ الْمَسْرُوقِ إلَى يَدِهِ قَالُوا: فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ لَهُ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا: أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ فَصَارَ الْأَخْذُ مِنْهُ كَالْأَخْذِ مِنْ الطَّرِيقِ سَوَاءٌ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَخْتَارَ الْمَالِكُ الضَّمَانَ، وَيَتْرُكَ الْقَطْعَ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْ يَدِهِ فَيَدْفَعُ إلَيْهِ فَيَتَخَلَّصُ عَنْ الضَّمَانِ كَمَا فِي الْغَصْبِ، وَنَحْوِهِ عَلَى مَا مَرَّ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مَا لَمْ يُقْطَعْ فَلَهُ ذَلِكَ. (وَأَمَّا) بَعْدَ الْقَطْعِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْقَطْعِ يُحْتَمَلُ اخْتِيَارُ الضَّمَانِ، وَبَعْدَهُ لَا، قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَطْعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَيَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِرْدَادِ لِيَتَخَلَّصَ عَنْ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَلَا تَظْهَرُ السَّرِقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَطْعِ بِعِلْمِ الْقَاضِي، سَوَاءٌ اسْتَفَادَهُ قَبْلَ زَمَانِ الْقَضَاءِ، أَوْ فِي زَمَانِ الْقَضَاءِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ السَّرِقَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ السَّرِقَةِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: لِلسَّرِقَةِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ، وَالْآخَرُ: يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ (أَمَّا) الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ فَالْقَطْعُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ؛ وَلِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ صِفَاتِ هَذَا الْحُكْمِ، وَفِي بَيَانِ مَحِلِّ إقَامَتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُقِيمُهُ، وَفِي بَيَانِ مَا يَسْقُطُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ السُّقُوطِ بَعْدَ الثُّبُوتِ، أَوْ عَدَمِ الثُّبُوتِ أَصْلًا لِمَانِعٍ مِنْ الشُّبْهَةِ. (أَمَّا) صِفَاتُ هَذَا الْحُكْمِ فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) أَنْ يَبْقَى وُجُوبُ ضَمَانِ الْمَسْرُوقِ عِنْدَنَا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَالْقَطْعُ فِي سَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الضَّمَانَ، وَالْقَطْعَ هَلْ يَجْتَمِعَانِ فِي سَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ؟ عِنْدَنَا لَا يَجْتَمِعَانِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَسْرُوقُ فِي يَدِ السَّارِقِ بَعْدَ الْقَطْعِ، أَوْ قَبْلَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَيُقْطَعُ، وَيَضْمَنُ مَا اسْتَهْلَكَهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّهُ وُجِدَ مِنْ السَّارِقِ سَبَبُ وُجُوبِ الْقَطْعِ وَالضَّمَانِ؛ فَيَجِبَانِ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ السَّرِقَةُ، وَإِنَّهَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ، وَالضَّمَانِ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حَقَّيْنِ: حَقُّ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَحَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ. (أَمَّا) الْجِنَايَةُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَهَتْكُ حُرْمَةِ حِفْظِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - إذْ الْمَالُ حَالَ غَيْبَةِ الْمَالِكِ مَحْفُوظٌ بِحِفْظِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -. (وَأَمَّا) الْجِنَايَةُ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ فَبِإِتْلَافِ مَالِهِ، فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى حَقَّيْنِ، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِضَمَانَيْنِ فَيَجِبُ ضَمَانُ الْقَطْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَضَمَانُ الْمَالِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ، كَمَنْ شَرِبَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَالضَّمَانُ حَقًّا لِلْعَبِيدِ، وَكَذَا قَتْلُ الْخَطَأِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَالدِّيَةَ حَقًّا لِلْعَبْدِ، كَذَا هَذَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَسْرُوقَ لَوْ كَانَ قَائِمًا يَجِبُ رَدُّهُ عَلَى الْمَالِكِ فَدَلَّ أَنَّهُ بَقِيَ مَعْصُومًا حَقًّا لِلْمَالِكِ. (وَلَنَا) الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْمَعْقُولُ: أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - سَمَّى الْقَطْعَ جَزَاءً، وَالْجَزَاءُ يُبْنَى عَلَى الْكِفَايَةِ فَلَوْ ضَمَّ إلَيْهِ الضَّمَانُ لَمْ يَكُنْ الْقَطْعُ كَافِيًا فَلَمْ يَكُنْ جَزَاءً تَعَالَى اللَّهُ - سُبْحَانَهُ عَزَّ شَأْنُهُ - عَنْ الْخُلْفِ فِي الْخَبَرِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ الْقَطْعَ كُلَّ الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ ذَكَرَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ لَصَارَ الْقَطْعُ بَعْضَ الْجَزَاءِ؛ فَيَكُونُ نَسْخًا لِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ - سَيِّدِنَا - عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قُطِعَ السَّارِقُ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ» ، وَالْغُرْمُ فِي اللُّغَةِ مَا يَلْزَمُ أَدَاؤُهُ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ. (وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِنَاءٌ، وَالْآخَرُ ابْتِدَاءٌ (أَمَّا) وَجْهُ الْبِنَاءِ فَهُوَ: أَنَّ الْمَضْمُونَاتِ عِنْدَنَا تُمْلَكُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ، أَوْ اخْتِيَارِهِ مِنْ وَقْتِ الْأَخْذِ فَلَوْ ضَمَّنَّا السَّارِقَ

قِيمَةَ الْمَسْرُوقِ، أَوْ مِثْلَهُ لَمَلَكَ الْمَسْرُوقَ مِنْ وَقْتِ الْأَخْذِ فَتَبَيَّنَّ أَنَّهُ قُطِعَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. (وَأَمَّا) ، وَجْهُ الِابْتِدَاءِ فَمَا قَالَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَهُوَ: أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِأَخْذِ مَالٍ مَعْصُومٍ ثَبَتَتْ عِصْمَتُهُ حَقًّا لِلْمَالِكِ؛ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَضْمُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِيَكُونَ اعْتِدَاءً بِالْمِثْلِ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانَات، وَالْمَضْمُونُ حَالَةَ السَّرِقَةِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا حَقًّا لِلْمَالِكِ بِدَلَالَةِ وُجُوبِ الْقَطْعِ، وَلَوْ بَقِيَ مَعْصُومًا حَقًّا لِلْمَالِكِ لَمَا وَجَبَ، إذْ الثَّابِتُ حَقًّا لِلْعَبْدِ يَثْبُتُ لِدَفْعِ حَاجَتِهِ، وَحَاجَةُ السَّارِقِ كَحَاجَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَتَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ، وَإِنَّهَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ. وَالْقَطْعُ وَاجِبٌ فَيَنْتَفِي الضَّمَانُ ضَرُورَةً إلَّا أَنَّهُ وَجَبَ رَدُّ الْمَسْرُوقِ حَالَ قِيَامِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الرَّدِّ يَقِفُ عَلَى الْمِلْكِ لَا عَلَى الْعِصْمَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ خَمْرَ الْمُسْلِمِ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ؛ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِيهَا، وَلَوْ هَلَكَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ الثَّابِتَةِ حَقًّا لِلْعَبْدِ زَوَالُ مِلْكِهِ عَنْ الْمَحِلّ، وَهَهُنَا الْمِلْكُ قَائِمٌ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ، وَالْعِصْمَةُ زَائِلَةٌ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْهَلَاكِ، وَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ إذَا اسْتَهْلَكَ السَّارِقُ الْمَسْرُوقَ بَعْدَ الْقَطْعِ لَا يَضْمَنُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَضْمَنُ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الْمَسْرُوقَ بَعْدَ الْقَطْعِ بَقِيَ عَلَى مِلْكِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ رَدُّهُ عَلَى الْمَالِكِ، وَقَبْضُ السَّارِقِ لَيْسَ بِقَبْضٍ مَضْمُونٍ، فَكَانَ الْمَسْرُوقُ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمَانَةِ فَإِذَا اسْتَهْلَكَهَا ضَمِنَ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ عِصْمَةَ الْمَحِلِّ الثَّابِتَةِ حَقًّا لِلْمَالِكِ قَدْ سَقَطَتْ فِي حَقِّ السَّارِقِ لِضَرُورَةِ إمْكَانِ إيجَابِ الْقَطْعِ، فَلَا يَعُودُ إلَّا بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ فَلَمْ يَكُنْ مَعْصُومًا قَبْلَهُ؛ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا، وَلَوْ اُسْتُهْلِكَ؛ رَجُلٌ آخَرُ يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ إنَّمَا سَقَطَتْ فِي حَقِّ السَّارِقِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ؛ فَيَضْمَنُ، وَلَوْ سَقَطَ الْقَطْعُ لِشُبْهَةٍ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الضَّمَانِ هُوَ الْقَطْعُ، قَدْ زَالَ الْمَانِعُ. وَلَوْ بَاعَ السَّارِقُ الْمَسْرُوقَ مِنْ إنْسَانٍ، أَوْ مَلَكَهُ مِنْهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، فَإِنْ كَانَ قَائِمًا فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مِلْكِهِ، وَلِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى السَّارِقِ بِالثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَهُ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ لَا يُوجِبُ ضَمَانًا عَلَى السَّارِقِ فِي عَيْنِ الْمَسْرُوقِ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِثَمَنِ الْمَسْرُوقِ لَا بِقِيمَتِهِ لِيُوجِبَ ذَلِكَ مِلْكَ الْمَسْرُوقِ لِلسَّارِقِ، وَإِنْ كَانَ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّارِقِ، وَلَا عَلَى الْقَابِضِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَمَّا السَّارِقُ؛ فَلِأَنَّ الْقَطْعَ يَنْفِي الضَّمَانَ. (وَأَمَّا) الْمُشْتَرِي؛ فَلِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَهُ الْمَالِكُ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالضَّمَانِ عَلَى السَّارِقِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْمَالِكَ ضَمِنَ السَّارِقَ، وَقَطْعُهُ يَنْفِي الضَّمَانَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ اسْتَهْلَكَهُ الْقَابِضُ كَانَ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَهَلَكَ فِي يَدِهِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى السَّارِقِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ لَيْسَ بِتَضْمِينٍ وَلَوْ اغْتَصَبَهُ إنْسَانٌ مِنْ السَّارِقِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْقَطْعِ فَلَا ضَمَانَ لِلسَّارِقِ، وَلَا لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، (أَمَّا) السَّارِقُ؛ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ. (وَأَمَّا) الْمَالِكُ؛ فَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ لَهُ حَقًّا قَدْ بَطَلَتْ، قَالَ الْقُدُورِيُّ: وَكَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَهُ الْغَاصِبَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى السَّارِقِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا سَرَقَ ثَوْبًا فَخَرَقَهُ فِي الدَّارِ خَرْقًا فَاحِشًا، ثُمَّ أَخْرَجَهُ وَهُوَ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْخَرْقَ الْفَاحِشَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقَطْعَ، وَإِنْ خَرَقَهُ عَرْضًا؛ فَقَدْ مَرَّ الِاخْتِلَافُ فِيهِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ التَّدَاخُلُ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ سَرَقَ سَرِقَاتٍ فَرَفَعَ فِيهَا كُلِّهَا فَقُطِعَ، أَوْ رَفَعَ فِي بَعْضِهَا فَقُطِعَ فِيمَا رَفَعَ فَالْقَطْعُ لِلسَّرِقَاتِ كُلِّهَا، وَلَا يُقْطَعُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحُدُودِ إذَا اجْتَمَعَتْ - وَأَنَّهَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ - يُكْتَفَى فِيهَا بِحَدٍّ وَاحِدٍ كَمَا فِي الزِّنَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ هُوَ الزَّجْرُ، وَالرَّدْعُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ الْوَاحِدِ، فَكَانَ فِي إقَامَةِ الثَّانِي. وَالثَّالِثِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْفَائِدَةِ فَلَا يُقَامُ؛ وَلِهَذَا يُكْتَفَى فِي بَابِ الزِّنَا بِالْإِقَامَةِ لِأَوَّلِ حَدٍّ كَذَا هَذَا، وَلِأَنَّ مَحِلَّ الْإِقَامَةِ قَدْ فَاتَ، إذْ مَحِلُّهَا الْيَدُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ كُلَّ سَرِقَةٍ وُجِدَتْ مَا أَوْجَبَتْ إلَّا قَطْعَ الْيَدِ الْيُمْنَى، فَإِذَا قُطِعَتْ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَقَدْ فَاتَ مَحِلُّ الْإِقَامَةِ، وَصَارَ كَمَا لَوْ ذَهَبَتْ الْيَدُ الْيُمْنَى بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ. وَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أَنَّهُ إذَا حَضَرَ أَصْحَابُ السَّرِقَاتِ، وَخَاصَمُوا فِيهَا فَقُطِعَ بِمُخَاصَمَتِهِمْ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى السَّارِقِ فِي السَّرِقَاتِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ مُخَاصَمَةَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ بِالْقَطْعِ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الضَّمَانِ عِنْدَنَا، فَإِذَا خَاصَمُوا جَمِيعًا فَكَأَنَّهُمْ أَبْرَءُوا. وَأَمَّا إذَا خَاصَمَ وَاحِدٌ فِي سَرِقَةٍ فَقُطِعَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّارِقِ فِيمَا خُوصِمَ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَأَمَّا فِيمَا لَمْ يُخَاصَمْ فِيهِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: " لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ السَّرِقَاتِ خَاصَمُوا، أَوْ لَمْ يُخَاصِمُوا "، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: " يَضْمَنُ فِي السَّرِقَاتِ كُلِّهَا إلَّا فِيمَا خُوصِمَ ". (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ الْمَالَ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ، وَهُوَ الضَّمَانُ، وَبَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ السَّرِقَةَ لِيَسْتَوْفِيَ فِي حَقِّ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَهُوَ الْقَطْعُ، وَلَا ضَمَانَ لَهُ، فَكَانَ سُقُوطُ الضَّمَانِ مَبْنِيًّا عَلَى دَعْوَى السَّرِقَةِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا، فَمَنْ خَاصَمَ مِنْهُمْ فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ سُقُوطَ الضَّمَانِ، وَمَنْ لَمْ يُخَاصِمْ؛ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْمُسْقِطُ فَيَبْقَى حَقُّهُ فِي الضَّمَانِ كَمَا كَانَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ النَّافِيَ لِلضَّمَانِ هُوَ الْقَطْعُ، وَالْقَطْعُ وَقَعَ لِلسَّرِقَاتِ كُلِّهَا فَيَنْفِي الضَّمَانَ فِي السَّرِقَاتِ كُلِّهَا، هَذَا إذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ هَالِكًا، أَمَّا إذَا كَانَ قَائِمًا رُدَّ كُلُّ مَسْرُوقٍ إلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ يَنْفِي الضَّمَانَ لَا الرَّدَّ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ حَتَّى لَوْ أَمَرَ الْإِمَامُ بِقَطْعِ السَّارِقِ فَعَفَا عَنْهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ كَانَ عَفْوُهُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْعَفْوِ يَعْتَمِدُ كَوْنَ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ حَقًّا لِلْعَافِي، وَالْقَطْعُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَا حَقَّ لِلْعَبْدِ فِيهِ فَلَا يَصِحُّ عَفْوُهُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَحِلُّ إقَامَةِ هَذَا الْحُكْمِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ أَصْلِ الْمَحِلِّ، وَمُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فِيهِ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ مَوْضِعِ إقَامَةِ الْحُكْمِ مِنْهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَصْلُ الْمَحِلِّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا طَرَفَانِ فَقَطْ، وَهُمَا: الْيَدُ الْيُمْنَى، وَالرِّجْلُ الْيُسْرَى فَتُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى فِي السَّرِقَةِ الْأُولَى، وَتُقْطَعُ الرِّجْلُ الْيُسْرَى فِي السَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَا يُقْطَعُ بَعْدَ ذَلِكَ أَصْلًا، وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ، وَيُعَزَّرُ، وَيُحْبَسُ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْأَطْرَافُ الْأَرْبَعَةُ مَحِلُّ الْقَطْعِ عَلَى التَّرْتِيبِ: فَتُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَتَقْطَعُ الرِّجْلُ الْيُسْرَى فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَتُقْطَعُ الْيَدُ الْيُسْرَى فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، وَتُقْطَعُ الرِّجْلُ الْيُمْنَى فِي السَّرِقَةِ الرَّابِعَة، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، وَالْأَيْدِي اسْمُ جَمْعٍ، وَالِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ إلَّا قَلْبٌ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي قَطْعِ الْأَيْدِي ثَبَتَ بِدَلِيلٍ آخَرَ. وَهَذَا لَا يُخْرِجُ الْيَدَ الْيُسْرَى مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحِلًّا لِلْقَطْعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَرُوِيَ أَنَّ - سَيِّدَنَا - أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَطَعَ سَارِقَ حُلِيِّ أَسْمَاءَ، وَكَانَ أَقْطَعَ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ - سَيِّدَنَا - عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّانِيَةَ وَقَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّالِثَةَ وَقَدْ سَرَقَ فَقَالَ: لَا أَقْطَعُهُ إنْ قَطَعْت يَدَهُ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَأْكُلُ بِأَيِّ شَيْءٍ يَتَمَسَّحُ، وَإِنْ قَطَعْت رِجْلَهُ بِأَيِّ شَيْءٍ يَمْشِي إنِّي لَأَسْتَحْيِ مِنْ اللَّهِ فَضَرَبَهُ بِخَشَبَةٍ، وَحَبَسَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ - سَيِّدَنَا - عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُتِيَ بِسَارِقٍ أَقْطَعَ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ قَدْ سَرَقَ نِعَالًا يُقَالُ لَهُ سَدُومُ، وَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَهُ فَقَالَ لَهُ - سَيِّدُنَا - عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا عَلَيْهِ قَطْعُ يَدٍ وَرِجْلٍ فَحَبَسَهُ - سَيِّدُنَا - عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يَقْطَعْهُ، وَسَيِّدُنَا عُمَرُ وَسَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمْ يَزِيدَا فِي الْقَطْعِ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى، وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا مُنْكِرٌ؛ فَيَكُونَ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. (وَلَنَا) أَيْضًا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ، وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَهِيَ أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْيَدَ الْيُمْنَى إذَا كَانَتْ مَقْطُوعَةً لَا يُعْدَلُ إلَى الْيَدِ الْيُسْرَى، بَلْ إلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى، وَلَوْ كَانَ لِلْيَدِ الْيُسْرَى مَدْخَلًا فِي الْقَطْعِ لَكَانَ لَا يُعْدَلُ إلَّا إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إلَى غَيْرِهِ فَدَلَّ الْعُدُولُ إلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى لَا إلَيْهَا عَلَى أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ أَصْلًا. وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ فِي قَطْعِ الْيَدِ الْيُسْرَى تَفْوِيتَ جِنْسِ مَنْفَعَةٍ مِنْ مَنَافِعِ النَّفْسِ أَصْلًا، وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ؛ لِأَنَّهَا تَفُوتُ بِقَطْعِ الْيَدِ الْيُسْرَى بَعْدَ قَطْعِ الْيُمْنَى فَتَصِيرُ النَّفْسُ فِي حَقِّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ هَالِكَةً، فَكَانَ قَطْعُ الْيَدِ الْيُسْرَى إهْلَاكَ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ، وَكَذَا قَطْعُ الرِّجْلِ الْيُمْنَى بَعْدَ قَطْعِ الرِّجْلِ الْيُسْرَى تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمَشْيِ تَفُوتُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَكَانَ قَطْعُ الرِّجْلِ الْيُمْنَى إهْلَاكَ النَّفْسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِهْلَاكُ النَّفْسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَصْلُحُ حَدًّا فِي السَّرِقَةِ، كَذَا إهْلَاكُ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ وَجْهٍ مُلْحَقٌ بِالثَّابِتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الْحُدُودِ احْتِيَاطًا، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَرَأَ " فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا "، وَلَا يُظَنُّ بِمِثْلِهِ أَنْ يَقْرَأَ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ. بَلْ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجَتْ قِرَاءَتُهُ مَخْرَجَ التَّفْسِيرِ لِمُبْهَمِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] أَنَّهُ قَالَ أَيْمَانَهُمَا، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَأَمَّا حَدِيثُ لَا قَطْعَ فَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ - سَيِّدَتِنَا - عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا كَانَ الَّذِي سَرَقَ حُلِيَّ أَسْمَاءَ أَقْطَعَ الْيَدِ الْيُمْنَى فَقَطَعَ - سَيِّدُنَا - أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَكَانَتْ تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ أَقْطَعَ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ، ثُمَّ إنَّمَا تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى فِي الْكَرَّةِ الْأُولَى إذَا كَانَتْ الْيَدُ الْيُسْرَى صَحِيحَةً يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا بَعْدَ قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى. وَالرِّجْلُ الْيُمْنَى صَحِيحَةٌ يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بَعْدَ قَطْعِ الرِّجْلِ الْيُسْرَى، فَإِنْ كَانَتْ الْيَدُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً، أَوْ شَلَّاءَ، أَوْ مَقْطُوعَةَ الْإِبْهَامِ، أَوْ أُصْبُعَيْنِ سِوَى الْإِبْهَامِ لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْيَدُ الْيُسْرَى يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا؛ فَقَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى يَقَعُ تَفْوِيتًا لِجِنْسِ الْمَنْفَعَةِ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ أَصْلًا فَيَقَعُ إهْلَاكًا لِلنَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا تُقْطَعُ، وَلَا يَقْطَعُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ أَحَدُ الشِّقَّيْنِ عَلَى الْكَمَالِ فَيُهْلِكُ النَّفْسَ مِنْ وَجْهٍ وَلَوْ كَانَتْ الْيَدُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةَ أُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ سِوَى الْإِبْهَامِ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَتَضَمَّنُ فَوَاتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ. وَكَذَا إنْ كَانَتْ الرِّجْلُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةً، أَوْ شَلَّاءَ، أَوْ بِهَا عَرَجٌ يَمْنَعُ الْمَشْيَ عَلَيْهَا لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى؛ لِمَا فِيهِ مِنْ فَوَاتِ الشِّقِّ، وَلَا رِجْلُهُ الْيُسْرَى، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى بِلَا رِجْلَيْنِ فَيَفُوتُ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ وَلَوْ كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةَ الْأَصَابِعِ كُلِّهَا فَإِنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ، وَالْمَشْيَ عَلَيْهَا تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا يَفُوتُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ لَا يُقْطَعُ لِفَوَاتِ الشِّقِّ وَلَوْ كَانَتْ يَدَاهُ صَحِيحَتَيْنِ، وَلَكِنَّ رِجْلَهُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةٌ، أَوْ شَلَّاءُ أَوْ مَقْطُوعَةُ الْإِبْهَامِ أَوْ الْأَصَابِعِ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْمَنْفَعَةِ لَا يَفُوتُ، وَلَا فِيهِ فَوَاتُ الشِّقِّ أَيْضًا. وَلَوْ سَرَقَ وَيُمْنَاهُ شَلَّاءُ، أَوْ مَقْطُوعَةُ الْإِبْهَامِ، أَوْ الْأَصَابِعِ لِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] أَيْ: أَيْمَانَهُمَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ يَمِينٍ، وَيَمِينٍ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ سَلِيمَةً تُقْطَعُ فَالنَّاقِصَةُ الْمَعِيبَةُ أَوْلَى بِالْقَطْعِ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَبَيْنَ الْإِعْتَاقِ فِي الْكَفَّارَةِ حَيْثُ جَعَلَ فَوَاتَ إصْبَعَيْنِ سِوَى الْإِبْهَامِ مِنْ الْيَدِ الْيُسْرَى نُقْصَانًا مَانِعًا مِنْ قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى، وَلَمْ يُجْعَلْ فَوَاتُ إصْبَعَيْنِ نُقْصَانًا مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْإِعْتَاقِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَلَاثًا. (وَجْهُ) الْفَرْقِ: أَنَّ الْقَطْعَ حَدٌّ فَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ النُّقْصَانِ يُورِثُ شُبْهَةً، بِخِلَافِ الْعِتْقِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَلَوْ قَالَ الْحَاكِمُ لِلْحَدَّادِ اقْطَعْ يَدَ السَّارِقِ فَقَطَعَ الْيَدَ الْيُسْرَى فَهَذَا عَلَى، وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ قَالَ اقْطَعْ يَدَهُ مُطْلَقًا، وَإِمَّا أَنْ قَيَّدَهُ فَقَالَ: اقْطَعْ يَدَهُ الْيُمْنَى فَإِنْ أَطْلَقَ فَقَالَ: لَهُ اقْطَعْ يَدَهُ فَقَطَعَ الْيُسْرَى لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ حَيْثُ أَمَرَهُ بِقَطْعِ الْيَدِ، وَقَدْ قَطَعَ الْيَدَ، وَإِنْ قَيَّدَ فَقَالَ: اقْطَعْ يَدَهُ الْيُمْنَى فَقَطَعَ الْيُسْرَى فَإِنْ أَخْرَجَ السَّارِقُ يَدَهُ، وَقَالَ هَذَا هُوَ يَمِينِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ بِأَمْرِهِ فَلَا يَضْمَنُ كَمَنْ قَالَ لِآخَرَ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ السَّارِقُ يَدَهُ، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ قَطَعَ الْيُسْرَى خَطَأً لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَيْسَ بِعُذْرٍ. (وَلَنَا) أَنَّ هَذَا خَطَأٌ فِي الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ الْيَسَارَ مَقَامَ الْيَمِينِ بِاجْتِهَادِهِ مُتَمَسِّكًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْيَمِينِ، وَالْيَسَارِ، فَكَانَ هَذَا خَطَأً مِنْ الْمُجْتَهِدِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَأَنَّهُ مَوْضُوعٌ، وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْخَطَأِ لَا فِيمَا إذَا أَخْطَأَ فَظَنَّ الْيَسَارَ يَمِينًا مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِ قَطْعِ الْيَمِينِ مَعَ مَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَضْمَنُ هُنَاكَ أَيْضًا عَلَى مَا نُبَيِّنُ، وَإِنْ قَطَعَ الْيُسْرَى عَمْدًا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ لَهُمَا أَنَّهُ تَعَمَّدَ الظُّلْمَ بِإِقَامَةِ الْيَسَارِ مَقَامَ الْيَمِينِ فَلَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا فَيَضْمَنُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَتْلَفَ، وَأَخْلَفَ خَيْرًا مِمَّا أَتْلَفَ، فَلَا يَضْمَنُ كَرَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِبَيْعِ عَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفٌ بِأَلْفَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُمَا لَا يَضْمَنَانِ؛ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ أَخْلَفَ خَيْرًا مِمَّا أَتْلَفَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَطَعَ الْيُسْرَى فَقَدْ سَلِمَتْ لَهُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْطَعُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْتَى عَلَى أَطْرَافِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْيُمْنَى خَيْرٌ مِنْ الْيُسْرَى ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - هَلْ يَكُونُ هَذَا الْقَطْعُ - وَهُوَ قَطْعُ الْيُسْرَى - قَطْعًا مِنْ السَّرِقَةِ حَتَّى إذَا هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِ السَّارِقِ، أَوْ اسْتَهْلَكَهُ لَا يَضْمَنُ، أَوْ لَا يَكُونُ مِنْ السَّرِقَةِ حَتَّى يَضْمَنَ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُونُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكُونُ هَذَا كُلُّهُ إذَا قَطَعَ الْحَدَّادُ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ، فَأَمَّا الْأَجْنَبِيُّ إذَا قَطَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى فَإِنْ كَانَ خَطَأً تَجِبُ الدِّيَةُ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَسَقَطَ عَنْهُ الْقَطْعُ فِي الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يُؤَدِّي إلَى إهْلَاكِ النَّفْسِ مِنْ، وَجْهٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا

وَيُرَدُّ عَلَيْهِ الْمَسْرُوقُ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ فِي الْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الضَّمَانِ هُوَ الْقَطْعُ وَقَدْ سَقَطَ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَطْعُ الْيَدِ الْيَمِينِ فِي السَّرِقَةِ فَلَمْ تُقْطَعْ حَتَّى قَطَعَ قَاطِعٌ يَمِينَهُ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ فَعَلَى قَاطِعِهِ الْقِصَاصُ إنْ كَانَ عَمْدًا، وَالْأَرْشُ إنْ كَانَ خَطَأً، وَتُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى فِي السَّرِقَةِ كَأَنَّهُ سَرَقَ، وَلَا يَمِينَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْخُصُومَةِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، إلَّا أَنَّا هَهُنَا لَا نَقْطَعُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خُوصِمَ كَانَ الْوَاجِبُ فِي الْيَمِينِ وَقَدْ فَاتَتْ؛ فَسَقَطَ الْوَاجِبُ كَمَا لَوْ ذَهَبَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْقَاطِعِ؛ لِأَنَّهُ احْتَسَبَ لِإِقَامَةِ حَدِّ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَكَانَ قَطْعُهُ عَنْ السَّرِقَةِ حَتَّى لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى السَّارِقِ فِيمَا هَلَكَ مِنْ مَالِ السَّرِقَةِ فِي يَدِهِ، أَوْ اُسْتُهْلِكَ. وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الَّذِي يُقْطَعُ مِنْ الْيَدِ الْيُمْنَى فَهُوَ مَفْصِلُ الزَّنْدِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَالَ بَعْضُهُمْ تُقْطَعُ الْأَصَابِعُ، وَقَالَ الْخَوَارِجُ: تُقْطَعُ مِنْ الْمَنْكِبِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ مِنْ مَفْصِلِ الزَّنْدِ» ، فَكَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِلْمُرَادِ مِنْ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ كَأَنَّهُ نَصَّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَقَالَ: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] مِنْ مَفْصِلِ الزَّنْدِ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْأُمَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يُقِيمُ هَذَا الْحُكْمُ فَاَلَّذِي يُقِيمُهُ الْإِمَامُ، أَوْ مَنْ وَلَّاهُ؛ لِأَنَّ هَذَا حَدٌّ وَالْمُتَوَلِّي لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ الْأَئِمَّةُ أَوْ مَنْ وَلَّوْهُمْ مِنْ الْقُضَاةِ، وَالْحُكَّامِ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْمَوْلَى يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَمْلُوكِهِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ. وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَنَقُولُ: مَا يُسْقِطُهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا تَكْذِيبُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ السَّارِقَ فِي إقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: لَمْ تَسْرِقْ مِنِّي، وَمِنْهَا تَكْذِيبُهُ الْبَيِّنَةَ بِأَنْ يَقُولَ: شَهِدَ شُهُودِي بِزُورٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَذَبَ فَقَدْ بَطَلَ الْإِقْرَارُ وَالشَّهَادَةُ؛ فَسَقَطَ الْقَطْعُ، وَمِنْهَا رُجُوعُ السَّارِقِ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ فَلَا يُقْطَعُ، وَيَضْمَنُ الْمَالَ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ يُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يُورِثُ شُبْهَةً فِي الْإِقْرَارِ، وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَلَا يُسْقِطُ الْمَالَ رَجُلَانِ أَقَرَّا بِسَرِقَةِ ثَوْبٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا: الثَّوْبُ ثَوْبُنَا لَمْ نَسْرِقْهُ، أَوْ قَالَ: هَذَا لِي دُرِئَ الْقَطْعُ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا أَقَرَّا بِالسَّرِقَةِ فَقَدْ ثَبَتَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي السَّرِقَةِ. ثُمَّ لَمَّا أَنْكَرَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ فَبَطَلَ الْحَدُّ عَنْهُ بِرُجُوعِهِ فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي حَقِّ الشَّرِيكِ؛ لِاتِّحَادِ السَّرِقَةِ وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: سَرَقْنَا هَذَا الثَّوْبَ مِنْ فُلَانٍ فَكَذَّبَهُ الْآخَرُ، وَقَالَ كَذَبْت لَمْ نَسْرِقْهُ قُطِعَ الْمُقِرُّ وَحْدَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ، فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ بِإِنْكَارِهِ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ ضَرُورَةَ اتِّحَادِ السَّرِقَةِ، وَهَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ فَأَنْكَرَتْ: إنَّهُ يُحَدُّ الرَّجُلُ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ إنْكَارَ الْمَرْأَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي إقْرَارِ الرَّجُلِ إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ عَدَمِ الزِّنَا مِنْ جَانِبِهَا عَدَمُهُ مِنْ جَانِبِهِ، كَمَا لَوْ زَنَى بِصَبِيَّةٍ، أَوْ مَجْنُونَةٍ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وُجِدَ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ، فَعَدَمُ السَّرِقَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الْآخَرِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ إقْرَارَهُ بِالشَّرِكَةِ فِي السَّرِقَةِ إقْرَارٌ بِوُجُودِ السَّرِقَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ صَاحِبُهُ السَّرِقَةَ لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ فِعْلُ السَّرِقَةِ، وَعَدَمُ الْفِعْلِ مِنْهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي وُجُودِ الْفِعْلِ مِنْ صَاحِبِهِ فَبَقِيَ إقْرَارُ صَاحِبِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالسَّرِقَةِ فَيُؤْخَذُ بِهِ، بِخِلَافِ إقْرَارِ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ، وَهِيَ تَجْحَدُ؛ إنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَقُومُ إلَّا بِالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَإِذَا أَنْكَرَتْ لَمْ يَثْبُتْ مِنْهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ الْوُجُودُ مِنْ الرَّجُلِ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) رَدُّ السَّارِقِ الْمَسْرُوقَ إلَى الْمَالِكِ قَبْلَ الْمُرَافَعَةِ عِنْدَهُمَا، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الرَّدَّ بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ لَا يُسْقِطُ الْحَدَّ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ السَّرِقَةَ حِينَ وُجُودِهَا انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ فَرَدُّ الْمَسْرُوقِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِالسَّرِقَةِ الْمَوْجُودَةِ؛ فَلَا يَسْقُطُ الْقَطْعُ الْوَاجِبُ، كَمَا لَوْ رَدَّهُ بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ، وَلَهُمَا أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَمَّا رُدَّ الْمَسْرُوقُ عَلَى الْمَالِكِ فَقَدْ بَطَلَتْ الْخُصُومَةُ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجُودُ الْخُصُومَةِ لَا بَقَاؤُهَا، وَقَدْ وُجِدَتْ. (وَمِنْهَا) مِلْكُ السَّارِقِ الْمَسْرُوقَ قَبْلَ الْقَضَاءِ نَحْوُ مَا إذَا وَهَبَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ

الْمَسْرُوقَ مِنْ السَّارِقِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَهَبَهُ مِنْهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَإِمَّا أَنْ وَهَبَهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ فَإِنْ وَهَبَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ يَسْقُطُ الْقَطْعُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ وَهَبَهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ يَسْقُطُ عِنْدَهُمَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَسْقُطُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ: «أَنَّ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ أُخِذَ فَأُتِيَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقْطَعَ يَدُهُ فَقَالَ صَفْوَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ» فَدَلَّ أَنَّ الْهِبَةَ قَبْلَ الْقَضَاءِ تُسْقِطُ، وَبَعْدَهُ لَا تُسْقِطُ. وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ حُكْمٌ مُعَلَّقٌ بِوُجُودِ السَّرِقَةِ وَقَدْ تَمَّتْ السَّرِقَةُ، وَوَقَعَتْ مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَطَرَيَانُ الْمِلْكِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي السَّرِقَةِ الْمَوْجُودَةِ فَبَقِيَ الْقَطْعُ وَاجِبًا كَمَا كَانَ، كَمَا لَوْ رُدَّ الْمَسْرُوقُ عَلَى الْمَالِكِ بَعْدَ الْقَضَاءِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطُ ظُهُورِ السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ عِنْدَ الْقَاضِي، وَقَدْ بَطَلَ حَقُّ الْخُصُومَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْهِبَةِ، وَالْمِلْكُ فِي الْهِبَةِ يَثْبُتُ مِنْ، وَقْتِ الْقَبْضِ فَيَظْهَرُ الْمِلْكُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَوْ مِنْ وَجْهٍ، وَكَوْنُ الْمَسْرُوقِ مِلْكًا لِلسَّارِقِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ الشُّبْهَةِ يَمْنَعُ مِنْ الْقَطْعِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُقْطَعْ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي بَابِ الْحُدُودِ إمْضَاؤُهَا فَمَا لَمْ يَمْضِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُقْضَ، وَلَوْ كَانَ لَمْ يُقْضَ أَلَيْسَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فَكَذَا إذَا لَمْ يَمْضِ. وَلِأَنَّ الطَّارِئَ فِي بَابِ الْحُدُودِ مُلْحَقٌ بِالْمُقَارَنِ؛ إذَا كَانَ فِي الْإِلْحَاقِ إسْقَاطُ الْحَدِّ، وَهَهُنَا فِيهِ إسْقَاطُ الْحَدِّ فَيَلْحَقُ بِهِ. (وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ قَوْلُهُ " هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ "، وَقَوْلُهُ " هُوَ " يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَسْرُوقَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقَطْعَ، وَهِبَةُ الْقَطْعِ لَا تُسْقِطُ الْحَدَّ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَالَ: وَهَبْت الْقَطْعَ، وَكَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِالْمَسْرُوقِ، أَوْ وَهَبَهُ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَالْقَطْعُ إنَّمَا يَسْقُطُ بِالْهِبَةِ مَعَ الْقَبْضِ، وَعَلَى هَذَا إذَا بَاعَ الْمَسْرُوقُ مِنْ السَّارِقِ قَبْلَ الْقَضَاءِ، أَوْ بَعْدَهُ عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَالِاخْتِلَافِ وَلَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِالنِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِنَادَ إلَى وَقْتِ الْوَطْءِ فَلَا تَثْبُتُ الشُّبْهَةُ فِي الزِّنَا؛ فَيُحَدُّ. (وَأَمَّا) حُكْمُ السُّقُوطِ بَعْدَ الثُّبُوتِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ الشُّبْهَةُ وَغَيْرُهَا، فَدُخُولُ الْمَسْرُوقِ فِي ضَمَانِ السَّارِقِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ اسْتَهْلَكَهُ السَّارِقُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الضَّمَانِ هُوَ الْقَطْعُ، فَإِذَا سَقَطَ الْقَطْعُ زَالَ الْمَانِعُ فَيَضْمَنُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَالثَّانِي وُجُوبُ رَدِّ عَيْنِ الْمَسْرُوقِ عَلَى صَاحِبِهِ إذَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّ الْمَسْرُوقَ فِي يَدِ السَّارِقِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَإِمَّا أَنْ أَحْدَثَ السَّارِقُ فِيهِ حَدَثًا، فَإِنْ كَانَ عَلَى حَالِهِ رَدَّهُ عَلَى الْمَالِكِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . وَرُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَدَّ رِدَاءَ صَفْوَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَيْهِ، وَقَطَعَ السَّارِقَ فِيهِ» ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ السَّارِقُ قَدْ مَلَّكَ الْمَسْرُوقَ رَجُلًا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ السَّارِقُ امْرَأَتَهُ فَاخْتَلَعَتْ مِنْ نَفْسِهَا بِهِ. وَهُوَ قَائِمٌ فِي يَدِ الْمَالِكِ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، إذْ السَّرِقَةُ لَا تُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ، فَكَانَ تَمْلِيكُ السَّارِقِ بَاطِلًا، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى السَّارِقِ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ؛ لِمَا مَرَّ، فَإِنْ كَانَ قَدْ هَلَكَ فِي يَدَيْ الْقَابِضِ، وَكَانَ الْبَيْعُ قَبْلَ الْقَطْعِ، أَوْ بَعْدَهُ فَلَا ضَمَانَ لَا عَلَى السَّارِقِ، وَلَا عَلَى الْقَابِضِ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ أَحْدَثَ السَّارِقُ فِيهِ حَدَثًا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْجَبَ النُّقْصَانَ، وَإِمَّا إنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْجَبَ الزِّيَادَةَ، فَإِنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْجَبَ النُّقْصَانَ يُقْطَعْ، وَتُسْتَرَدَّ الْعَيْنُ عَلَى الْمَالِكِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْمَسْرُوقِ هَلَاكُ بَعْضِهِ، وَلَوْ هَلَكَ كُلُّهُ يُقْطَعُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَذَا إذَا هَلَكَ الْبَعْضُ، وَيَرُدُّ الْعَيْنَ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ رَدَّ الْكُلِّ فَكَذَا الْبَعْضِ، وَإِنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْجَبَ الزِّيَادَةَ فَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ السَّارِقَ إذَا أَحْدَثَ فِي الْمَسْرُوقِ حَدَثًا لَوْ أَحْدَثَهُ الْغَاصِبُ فِي الْمَغْصُوبِ لَا يُقْطَعُ حَقُّ الْمَالِكِ، يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَإِلَّا فَلَا، إلَّا أَنَّ فِي بَابِ الْغَصْبِ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ لِلْمَالِكِ مِثْلَ الْمَغْصُوبِ، أَوْ قِيمَتَهُ، وَهَهُنَا لَا يَضْمَنُ السَّارِقُ لِمَانِعٍ وَهُوَ الْقَطْعُ، إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: السَّارِقُ إذَا قَطَعَ الثَّوْبَ الْمَسْرُوقَ، وَخَاطَهُ قَمِيصًا؛ انْقَطَعَ حَقُّ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ الْغَاصِبُ لَانْقَطَعَ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ كَذَا إذَا فَعَلَهُ السَّارِقُ، وَلَا

كتاب قطاع الطريق

ضَمَانَ عَلَى السَّارِقِ؛ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ صَبَغَهُ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ فَكَذَلِكَ لَا سَبِيلَ لِلْمَالِكِ عَلَى الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا يَأْخُذُ الْمَالِكُ الثَّوْبَ، وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ هَذَا مِنْ الْغَاصِبِ لَخُيِّرَ الْمَالِكُ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ الْغَاصِبُ قِيمَةَ الثَّوْبِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ، وَيُعْطِيَهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ، إلَّا أَنَّ التَّضْمِينَ هَهُنَا مُتَعَذَّرٌ لِضَرُورَةِ الْقَطْعِ فَتَعَيَّنَ الْوَجْهُ الْآخَرُ وَهُوَ: أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ، وَيُعْطِيَهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ إذْ الْغَصْبُ، وَالسَّرِقَةُ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي هَذَا الْبَابِ إلَّا فِي الضَّمَانِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْغَصْبِ، وَالسَّرِقَةِ هَهُنَا وَهُوَ: أَنَّ حَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إنَّمَا لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ الثَّوْبِ بِالصَّبْغِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الثَّوْبِ مِلْكُهُ، وَهُوَ مُتَقَوِّمٌ، وَلِلْغَاصِبِ فِيهِ حَقٌّ مُتَقَوِّمٌ أَيْضًا، إلَّا أَنَّا أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ لِلْمَالِكِ لَا لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ صَاحِبُ أَصْلٍ، وَالْغَاصِبَ صَاحِبُ وَصْفٍ، وَهَهُنَا حَقُّ السَّارِقِ فِي الصَّبْغِ مُتَقَوِّمٌ، وَحَقُّ الْمَالِكِ فِي أَصْلِ الثَّوْبِ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ السَّارِقِ لِأَجْلِ الْقَطْعِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَهُ السَّارِقُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَاعْتُبِرَ حَقُّ السَّارِقِ، وَجُعِلَ حَقُّ الْمَالِكِ فِي الْأَصْلِ تَبَعًا لَحَقِّهِ فِي الْوَصْفِ، وَتَعَذَّرَ تَضْمِينُهُ لِضَرُورَةِ الْقَطْعِ فَيَكُونُ لَهُ مَجَّانًا، وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَذَا الثَّوْبِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ كَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ عَلَى مِلْكِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ رَدُّهُ، وَتَضْمِينُهُ فِي الْحُكْمِ، وَالْقَضَاءِ، فَمَا لَمْ يَمْلِكْهُ السَّارِقُ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِوَجْهٍ مَحْظُورٍ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الضَّمَانِ؛ فَلَا يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مَالُ إنْسَانٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبُ الرَّدِّ، وَالضَّمَانُ إلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ، لَكِنْ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - كَالْمُسْلِمِ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَأَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ، وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ - جَلَّ جَلَالُهُ. وَكَذَلِكَ الْبَاغِي إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْعَادِلِ، ثُمَّ تَابَ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ، وَيُفْتَى بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ إذَا أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ مَالِنَا، ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ، وَيُفْتَى بِذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ - جَلَّتْ عَظَمَتُهُ - وَكَذَلِكَ السَّارِقُ إذَا اسْتَهْلَكَ الْمَسْرُوقَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ، وَلَكِنْ يُفْتَى بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا قَاطِعُ الطَّرِيقِ إذَا قَتَلَ إنْسَانًا بِعَصًا ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا بَطَلَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَيُؤْمَرُ بِأَدَاءِ الدِّيَةِ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ، وَلَوْ قَتَلَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا بِعَصًا، ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يُفْتَى بِدَفْعِ الدِّيَةِ إلَى الْوَلِيِّ، بِخِلَافِ الْبَاغِي، وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقَتْلَ مِنْ الْحَرْبِيِّ لَمْ يَقَعْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ عِصْمَةَ الْمَقْتُولِ لَمْ تَظْهَرْ فِي حَقِّهِ، فَلَا يُجَبُّ بِالْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، بِخِلَافِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ، وَقَعَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِالضَّمَانِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ ضَرُورَةُ إقَامَةِ الْحَدِّ، إلَّا أَنَّ الْحَدَّ إذَا لَمْ يَجِبْ لِشُبْهَةٍ يُحْكَمُ بِالضَّمَانِ فَيَظْهَرُ أَثَرُ الْمَانِعِ فِي الْحُكْمِ، وَالْقَضَاءِ لَا فِي الْفَتْوَى، وَكَذَا فِعْلُ الْبَاغِي، وَقَعَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لَكِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِالْوُجُوبِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ عَدَمُ الْفَائِدَةِ لِقِيَامِ الْمَنَعَةِ، وَهَذَا الْمَانِعُ يَخُصُّ الْحُكْمَ، وَالْقَضَاءَ، فَكَانَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا عِنْدَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَيُقْضَى بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا سَرَقَ نَقْرَةَ فِضَّةٍ فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ أَنَّهُ يُقْطَعُ، وَالدَّرَاهِمُ تُرَدُّ عَلَى صَاحِبِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ عَنْ الدَّرَاهِمِ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الصُّنْعَ لَا يَقْطَعُ حَقَّ الْمَالِكِ فِي بَابِ الْغَصْبِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَنْقَطِعُ، وَلَوْ سَرَقَ حَدِيدًا، أَوْ صُفْرًا، أَوْ نُحَاسًا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَضَرَبَهَا أَوَانِيَ يُنْظَرُ إنْ كَانَ بَعْدَ الصِّنَاعَةِ، وَالضَّرْبِ تُبَاعُ وَزْنًا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَتْ تُبَاعُ عَدَدًا فَيُقْطَعُ حَقُّ الْمَالِكِ بِالْإِجْمَاعِ - كَمَا فِي الْغَصْبِ - وَعَلَى هَذَا إذَا سَرَقَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَسَنَذْكُرُ جُمْلَةَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -، وَاَللَّهُ أَعْلَم بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ] [فَصَلِّ فِي بَيَان رُكْن قطع الطَّرِيق] (كِتَابُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ رُكْنِ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ قَطْعُ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْقَاضِي، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ قَطْعِ الطَّرِيقِ (فَصْلٌ) : أَمَّا رُكْنَهُ فَهُوَ الْخُرُوجُ عَلَى الْمَارَّةِ لِأَخْذِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ عَلَى وَجْهٍ يَمْتَنِعُ الْمَارَّةُ عَنْ الْمُرُورِ، وَيَنْقَطِعُ الطَّرِيقُ سَوَاءٌ كَانَ الْقَطْعُ مِنْ جَمَاعَةٍ، أَوْ مِنْ وَاحِدٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُوَّةُ الْقَطْعِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَطْعُ بِسِلَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعَصَا

فصل في شرائط قطع الطريق وبعضها يرجع إلى القاطع

وَالْحَجَرِ، وَالْخَشَبِ، وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ انْقِطَاعَ الطَّرِيقِ يَحْصُلُ بِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِمُبَاشَرَةِ الْكُلِّ، أَوْ التَّسْبِيبِ مِنْ الْبَعْضِ بِالْإِعَانَةِ، وَالْأَخْذِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ يَحْصُلُ بِالْكُلِّ كَمَا فِي السَّرِقَةِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ عَادَةِ الْقُطَّاعِ أَعْنِي: الْمُبَاشَرَةَ مِنْ الْبَعْضِ، وَالْإِعَانَةَ مِنْ الْبَعْضِ بِالتَّسْمِيرِ لِلدَّفْعِ، فَلَوْ لَمْ يَلْحَقْ التَّسَبُّبُ بِالْمُبَاشَرَةِ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْحَدِّ؛ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى انْفِتَاحِ بَابِ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَانْسِدَادِ حُكْمِهِ، وَأَنَّهُ قَبِيحٌ؛ وَلِهَذَا أُلْحِقَ التَّسَبُّبُ بِالْمُبَاشَرَةِ فِي السَّرِقَةِ كَذَا هَهُنَا. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ قَطْعِ الطَّرِيقِ وبعضها يرجع إلَى الْقَاطِع] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاطِعِ خَاصَّةً، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ لَهُ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ فِيهِ. (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَاطِعِ خَاصَّةً فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ بَالِغًا فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا، أَوْ مَجْنُونًا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ فَيَسْتَدْعِي جِنَايَةً، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً؛ وَلِهَذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ كَذَا هَذَا وَلَوْ كَانَ فِي الْقُطَّاعِ صَبِيٌّ، أَوْ مَجْنُونٌ فَلَا حَدَّ عَلَى أَحَدٍ فِي قَوْلِهِمَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ كَانَ الصَّبِيُّ هُوَ الَّذِي يَلِي الْقَطْعَ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ؛ حَدَّ الْعُقَلَاءَ الْبَالِغِينَ، قَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ. (وَمِنْهَا) الذُّكُورَةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ فِي الْقُطَّاعِ امْرَأَةٌ فَوُلِّيَتْ الْقِتَالَ، وَأَخْذَ الْمَالِ دُونَ الرِّجَالِ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهَا فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ: النِّسَاءُ، وَالرِّجَالُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ سَوَاءٌ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْله تَعَالَى يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهَا، وَعَلَى الرِّجَالِ. (وَجْهُ) مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ: أَنَّ هَذَا حَدٌّ يَسْتَوِي فِي وُجُوبِهِ الذَّكَرُ، وَالْأُنْثَى كَسَائِرِ الْحُدُودِ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنْ كَانَ هُوَ الْقَطْعُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِهِ الذُّكُورَةُ، وَالْأُنُوثَةُ كَسَائِرِ الْحُدُودِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِهِ الذُّكُورَةُ كَحَدِّ السَّرِقَةِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْقَتْلُ فَكَذَلِكَ كَحَدِّ الزِّنَا، وَهُوَ الرَّجْمُ إذَا كَانَتْ مُحْصَنَةً. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ: أَنَّ رُكْنَ الْقَطْعِ، وَهُوَ الْخُرُوجُ عَلَى الْمَارَّةِ عَلَى وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ، وَالْمُغَالَبَةِ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ النِّسَاءِ عَادَةً لِرِقَّةِ قُلُوبِهِنَّ، وَضَعْفِ بِنْيَتِهِنَّ، فَلَا يَكُنَّ مِنْ أَهْلِ الْحِرَابِ؛ وَلِهَذَا لَا يُقْتَلْنَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، بِخِلَافِ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّهَا أَخْذُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَاءِ، وَمُسَارَقَةِ الْأَعْيُنِ، وَالْأُنُوثَةُ لَا تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَا أَسْبَابُ سَائِرِ الْحُدُودِ تَتَحَقَّقُ مِنْ النِّسَاءِ كَمَا تَتَحَقَّقُ مِنْ الرِّجَالِ. (وَأَمَّا) الرِّجَالُ الَّذِينَ مَعَهَا فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - سَوَاءٌ بَاشَرُوا مَعَهَا، أَوْ لَمْ يُبَاشِرُوا فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الصَّبِيِّ، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ حَيْثُ قَالَ: إذَا بَاشَرَ الصَّبِيُّ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ لَمْ يُبَاشِرْ مِنْ الْعُقَلَاءِ الْبَالِغِينَ، وَإِذَا بَاشَرَتْ الْمَرْأَةُ تُحَدُّ الرِّجَالُ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ: لَهُ أَنَّ امْتِنَاعَ الْوُجُوبِ عَلَى الْمَرْأَةِ لَيْسَ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَتَعَلَّقُ سَائِرُ الْحُدُودِ بِفِعْلِهَا، بَلْ لِعَدَمِ الْمُحَارَبَةِ مِنْهَا أَوْ نُقْصَانِهَا عَادَةً، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الرِّجَالِ فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، وَامْتِنَاعُ الْوُجُوبِ عَلَى الصَّبِيِّ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِيجَابِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ سَائِرُ الْحُدُودِ فَإِذَا انْتَفَى الْوُجُوبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَصْلٌ امْتَنَعَ التَّبَعُ ضَرُورَةً. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ شَيْءٌ، وَاحِدٌ، وَهُوَ قَطْعُ الطَّرِيقِ، وَقَدْ حَصَلَ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمِمَّنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَلَا يَجِبُ أَصْلًا كَمَا إذَا كَانَ فِيهِمْ صَبِيٌّ، أَوْ مَجْنُونٌ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] الْآيَةُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ؛ وَلِأَنَّ الرُّكْنَ، وَهُوَ قَطْعُ الطَّرِيقِ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْعَبْدِ حَسْبَ تَحَقُّقِهِ مِنْ الْحُرِّ؛ فَيَلْزَمُهُ حُكْمُهُ كَمَا يَلْزَمُ الْحُرَّ، وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ؛ لِمَا قُلْنَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي مَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ خَاصَّةً فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا فَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا لَا حَدَّ عَلَى الْقَاطِعِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مُطْلَقًا، بَلْ فِي عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا الْعِصْمَةُ بِعَارِضِ الْأَمَانِ مُؤَقَّتَةٌ إلَى غَايَةِ الْعَوْدِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَكَانَ فِي عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ الْحَدُّ بِالْقَطْعِ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ أَفَادَ لَهُ عِصْمَةَ مَالِهِ عَلَى التَّأْبِيدِ؛ فَتَعَلَّقَ الْحَدُّ بِأَخْذِهِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِسَرِقَتِهِ وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ يَدُهُ صَحِيحَةً بِأَنْ كَانَتْ يَدَ مِلْكٍ، أَوْ يَدَ أَمَانَةٍ، أَوْ يَدَ ضَمَانٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً كَيَدِ السَّارِقِ لَا حَدَّ عَلَى الْقَاطِعِ كَمَا لَا حَدَّ عَلَى السَّارِقِ عَلَى مَا مَرَّ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي مَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاطِعِ وَالْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَوَاحِدٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْقُطَّاعِ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ

فصل في ما يرجع إلى المقطوع له

فَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا تَبَسُّطًا فِي الْمَالِ، وَالْحِرْزِ؛ لِوُجُودِ الْإِذْنِ بِالتَّنَاوُلِ عَادَةً فَقَدْ أَخَذَ مَالًا لَمْ يُحْرِزْهُ عَنْهُ الْحِرْزُ الْمَبْنِيُّ فِي الْحَضَرِ، وَلَا السُّلْطَانُ الْجَارِي فِي السَّفَرِ فَأَوْرَثَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي الْأَجَانِبِ لِاتِّحَادِ السَّبَبِ، وَهُوَ قَطْعُ الطَّرِيقِ، وَكَانَ الْجَصَّاصُ يَقُولُ: جَوَابُ الْكِتَابِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ، وَفِي الْقُطَّاعِ مَنْ هُوَ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَحَدِهِمْ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَالٌ مُفَرَّزٌ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْبَاقِينَ، وَجَوَابُ الْكِتَابِ مُطْلَقٌ عَنْ هَذَا التَّفْصِيلِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي مَا يرجع إلَى الْمَقْطُوعِ لَهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ لَهُ فَمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَعْصُومًا لَيْسَ فِيهِ لِأَحَدٍ حَقُّ الْأَخْذِ، وَلَا تَأْوِيلُ التَّنَاوُلِ، وَلَا تُهْمَةُ التَّنَاوُلِ مَمْلُوكًا لَا مِلْكَ فِيهِ لِلْقَاطِعِ، وَلَا تَأْوِيلَ الْمِلْكِ، وَلَا شُبْهَةَ الْمِلْكِ مُحَرَّزًا مُطْلَقًا بِالْحَافِظِ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ نِصَابًا كَامِلًا: عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، أَوْ مُقَدَّرًا بِهَا حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ لَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقُطَّاعِ عَشَرَةً لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ، قَدْ ذَكَرْنَا دَلَائِلَ هَذِهِ الشَّرَائِطِ، وَالْمَسَائِلِ الَّتِي تُخَرَّجُ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَشَرَطَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي نِصَابِ قَطْعِ الطَّرِيقِ أَنْ يَكُونَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَصَاعِدًا، وَقَالَ عِيسَى بْنُ زِيَادٍ: إنْ قَتَلُوا قُتِلُوا، وَإِنْ كَانَ مَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ. (وَجْهُ) قَوْلِ الْحَسَنِ: أَنَّ الشَّرْعَ قَدَّرَ نِصَابَ السَّرِقَةِ بِعَشَرَةٍ، وَالْوَاجِبُ فِيهَا قَطْعُ طَرَفِ الْوَاحِدِ، وَهَهُنَا يُقْطَعُ طَرَفَانِ فَيُشْتَرَطُ نِصَابَانِ، وَذَلِكَ عِشْرُونَ. (وَجْهُ) قَوْلِ عِيسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ قَتَلُوا، وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ أَصْلًا قُتِلُوا، فَإِذَا أَخَذُوا شَيْئًا مِنْ الْمَالِ، وَإِنْ قَلَّ أَوْلَى أَنْ يُقْتَلُوا. (وَلَنَا) الْفَرْقُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَتَلُوا، وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ أَصْلًا عُلِمَ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ الْقَتْلُ لَا الْمَالُ، وَالْقَتْلُ جِنَايَةٌ مُتَكَامِلَةٌ فِي نَفْسِهَا فَيُجَازَى بِعُقُوبَةٍ مُتَكَامِلَةٍ، وَهِيَ الْقَتْلُ، وَلَمَّا أَخَذُوا الْمَالَ، وَقَتَلُوا دَلَّ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ الْمَالُ، وَإِنَّمَا قَتَلُوا لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ أَخْذِ الْمَالِ، وَأَخْذُ الْمَالِ لَا يَتَكَامَلُ جِنَايَةً إلَّا إذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ نِصَابًا كَمَا فِي السَّرِقَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي مَا يرجع إلَى الْمَقْطُوعِ فِيهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ فِيهِ، وَهُوَ الْمَكَانُ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَطْعُ الطَّرِيقِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ هُوَ الْإِمَامُ، وَلَيْسَ لَهُ وَلَايَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِقَامَةِ فَالسَّبَبُ حِينَ وُجُودِهِ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ؛ لِعَدَمِ الْوَلَايَةِ فَلَا يَسْتَوْفِيهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ وَلِهَذَا لَا يَسْتَوْفِي سَائِرَ الْحُدُودِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا وَجَدَ أَسْبَابَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَذَا هَذَا وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ مِصْرٍ فَإِنْ كَانَ فِي مِصْرٍ لَا يَجِبُ الْحَدُّ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَطْعُ نَهَارًا، أَوْ لَيْلًا، وَسَوَاءٌ كَانَ بِسِلَاحٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ: أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قَدْ تَحَقَّقَ، وَهُوَ قَطْعُ الطَّرِيقِ فَيَجِبُ الْحَدُّ كَمَا لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ مِصْرٍ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الِانْقِطَاعِ، وَالطَّرِيقُ لَا يَنْقَطِعُ فِي الْأَمْصَارِ، وَفِيمَا بَيْنَ الْقُرَى؛ لِأَنَّ الْمَارَّةَ لَا تَمْتَنِعُ عَنْ الْمُرُورِ عَادَةً فَلَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ، وَقِيلَ: إنَّمَا أَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - عَلَى مَا شَاهَدَهُ فِي زَمَانِهِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْأَمْصَارِ كَانُوا يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ فَالْقُطَّاعُ مَا كَانُوا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ مُغَالَبَتِهِمْ فِي الْمِصْرِ، وَالْآنَ تَرَكَ النَّاسُ هَذِهِ الْعَادَةَ؛ فَتُمْكِنُهُمْ الْمُغَالَبَةُ فَيَجْرِي عَلَيْهِمْ الْحَدُّ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ قَطَعَ الطَّرِيقَ بَيْنَ الْحِيرَةِ، وَالْكُوفَةِ: إنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْغَوْثَ كَانَ يَلْحَقُ هَذَا الْمَوْضِعَ فِي زَمَانِهِ؛ لِاتِّصَالِهِ بِالْمِصْرِ، وَالْآنَ صَارَ مُلْتَحِقًا بِالْبَرِّيَّةِ فَلَا يَلْحَقُ الْغَوْثَ؛ فَيَتَحَقَّقُ قَطْعُ الطَّرِيقِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ الْمِصْرِ مَسِيرَةُ سَفَرٍ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا قُطَّاعَ الطَّرِيقِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَكُونُونَ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ، وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّا فَيَجِبُ الْحَدُّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فِي الْمِصْرِ إنْ قَاتَلُوا نَهَارًا بِسِلَاحٍ يُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ، وَإِنْ خَرَجُوا بِخَشَبٍ لَهُمْ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ السِّلَاحَ لَا يَلْبَثُ فَلَا يَلْحَقُ الْغَوْثَ، وَالْخَشَبُ يَلْبَثُ فَالْغَوْثُ يَلْحَقُ، وَإِنْ قَاتَلُوا لَيْلًا بِسِلَاحٍ، أَوْ بِخَشَبٍ يُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْغَوْثَ قَلَّمَا يَلْحَقُ بِاللَّيْلِ؛ فَيَسْتَوِي فِيهِ السِّلَاحُ، وَغَيْرُهُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَلَوْ أَشْهَرَ عَلَى رَجُلٍ سِلَاحًا نَهَارًا أَوْ لَيْلًا فِي غَيْرِ مِصْرٍ، أَوْ فِي مِصْرٍ فَقَتَلَهُ الْمَشْهُورُ عَلَيْهِ عَمْدًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ شُهِرَ عَلَيْهِ عَصًا لَيْلًا فِي غَيْرِ مِصْرٍ، أَوْ فِي مِصْرٍ، وَإِنْ كَانَ نَهَارًا فِي مِصْرٍ فَقَتَلَهُ الْمَشْهُورُ عَلَيْهِ يُقْتَلْ بِهِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ مَنْ قَصَدَ قَتْلَ

فصل في بيان ما يظهر به القطع عند القاضي

إنْسَانٍ لَا يَنْهَدِرُ دَمُهُ، وَلَكِنْ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَلَيْهِ يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِدُونِ الْقَتْلِ لَا يُبَاحُ لَهُ الْقَتْلُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ إلَّا بِالْقَتْلِ يُبَاحُ لَهُ الْقَتْلُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ الدَّفْعِ، فَإِنْ شَهَرَ عَلَيْهِ سَيْفَهُ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الدَّفْعِ إلَّا بِالْقَتْلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَغَاثَ النَّاسَ لَقَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ الْغَوْثُ إذْ السِّلَاحُ لَا يَلْبَثُ، فَكَانَ الْقَتْلُ مِنْ ضَرُورَاتِ الدَّفْعِ؛ فَيُبَاحُ قَتْلُهُ فَإِذَا قَتَلَهُ فَقَدْ قَتَلَ شَخْصًا مُبَاحَ الدَّمِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَكَذَا إذَا أَشْهَرَ عَلَيْهِ الْعَصَا لَيْلًا؛ لِأَنَّ الْغَوْثَ لَا يَلْحَقُ بِاللَّيْلِ عَادَةً سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَفَازَةِ، أَوْ فِي الْمِصْرِ، وَإِنْ أَشْهَرَ عَلَيْهِ نَهَارًا فِي الْمِصْرِ لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ دَفْعُ شَرِّهِ بِالِاسْتِغَاثَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَفَازَةِ يُبَاحُ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِغَاثَةُ فَلَا يَنْدَفِعُ شَرُّهُ إلَّا بِالْقَتْلِ؛ فَيُبَاحُ لَهُ الْقَتْلُ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ قَتْلَهُ بِمَا لَوْ قَتَلَهُ بِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَقَتَلَهُ الْمَقْصُودُ قَتْلُهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ قَتْلُهُ إذْ لَوْ لَمْ يُبَحْ لَقَتَلَهُ الْقَاصِدُ. وَإِذَا قَتَلَهُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا، فَكَانَ فِيهِ إتْلَافُ نَفْسَيْنِ، فَإِذَا أُبِيحَ قَتْلُهُ كَانَ فِيهِ إتْلَافُ أَحَدِهِمَا، فَكَانَ أَهْوَنَ وَلَوْ قَصَدَ قَتْلَهُ بِمَا لَوْ قَتَلَهُ بِهِ لَكَانَ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لَا يُبَاحُ لِلْمَقْصُودِ قَتْلُهُ أَنْ يَقْتُلَ الْقَاصِدَ فَإِنْ قَتَلَهُ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَرْكِ الْإِبَاحَةِ هَهُنَا إتْلَافُ نَفْسٍ فَلَا يُبَاحُ، فَإِذَا قَتَلَهُ فَقَدْ قَتَلَ شَخْصًا مَعْصُومَ الدَّمِ عَلَى الْأَبَدِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ الْقَطْعُ عِنْدَ الْقَاضِي] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ الْقَطْعُ عِنْدَ الْقَاضِي: فَاَلَّذِي يَظْهَرُ بِهِ الْبَيِّنَةُ أَوْ الْإِقْرَارُ عَقِيبَ خُصُومَةٍ صَحِيحَةٍ، وَلَا يَظْهَرُ بِعِلْمِ الْقَاضِي عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي حُكْمُ قَطْعِ الطَّرِيقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ قَطْعِ الطَّرِيقِ فَلَهُ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ، وَالْآخَرُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ: أَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ فَهُوَ وُجُوبُ الْحَدِّ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَصْلِ هَذَا الْحُكْمِ، وَفِي بَيَانِ صِفَاتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَحِلِّ إقَامَتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُقِيمُهُ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ السُّقُوطِ بَعْدَ الْوُجُوبِ، أَوْ عَدَمِ الثُّبُوتِ لِمَانِعٍ: أَمَّا أَصْلُ الْحُكْمِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ فَلَنْ يُمْكِنَ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ قَطْعِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: قَطْعُ الطَّرِيقِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:. إمَّا أَنْ يَكُونَ بِأَخْذِ الْمَالَ لَا غَيْرُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقَتْلِ لَا غَيْرُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِهِمَا جَمِيعًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ غَيْرِ أَخْذٍ، وَلَا قَتْلٍ، فَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ، وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ، وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَمَنْ قَتَلَ، وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ قُتِلَ، وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ، وَقَتَلَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ، وَرِجْلَهُ، ثُمَّ قَتَلَهُ أَوْ صَلَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقِطْهُ، وَقَتَلَهُ أَوْ صَلَبَهُ، وَقِيلَ: إنَّ تَفْسِيرَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ: أَنْ يَقْطَعَهُ الْإِمَامُ، وَلَا يَحْسِمُ مَوْضِعَ الْقَطْعِ، بَلْ يَتْرُكُهُ حَتَّى يَمُوتَ، وَعِنْدَهُمَا يُقْتَلُ، وَلَا يُقْطَعُ، وَمَنْ أَخَافَ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا، وَلَا قَتَلَ نَفْسًا يُنْفَى، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَاطِعِ الطَّرِيق: مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] احْتَجَّ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَ الْأَجْزِيَةَ فِيهَا بِحَرْفِ، أَوْ، وَأَنَّهَا لِلتَّخْيِيرِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَكَفَّارَةِ جَزَاءِ الصَّيْدِ؛ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ هَذَا الْحَرْفِ إلَّا حَيْثُ قَامَ الدَّلِيلُ، بِخِلَافِهَا. (وَلَنَا) أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِ التَّخْيِيرِ فِي مُطْلَقِ الْمُحَارِبِ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الْجِنَايَةِ، وَيَنْتَقِصُ بِنُقْصَانِهَا هَذَا هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْلِ، وَالسَّمْعِ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فَالتَّخْيِيرُ فِي الْجِنَايَةِ الْقَاصِرَةِ بِالْجَزَاءِ فِي الْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ جَزَاءٌ فِي الْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ، وَفِي الْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ بِالْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ جَزَاءٌ فِي الْجِنَايَةِ الْقَاصِرَةِ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْأُمَّةَ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنَّ الْقُطَّاعَ لَوْ أَخَذُوا الْمَالَ، وَقَتَلُوا لَا يُجَازُونَ بِالنَّفْيِ وَحْدَهُ. وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ الْأَرْبَعِ دَلَّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ التَّخْيِيرِ عَلَى أَنَّ التَّخْيِيرَ الْوَارِدَ فِي الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ بِحَرْفِ التَّخْيِيرِ إنَّمَا يَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهِ إذَا كَانَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَاحِدًا، كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَكَفَّارَةِ جَزَاءِ الصَّيْدِ، أَمَّا إذَا كَانَ مُخْتَلِفًا فَيُخَرَّجُ مَخْرَجَ بَيَانِ الْحُكْمِ لِكُلٍّ فِي نَفْسِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف: 86] إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْمَذْكُورِينَ، بَلْ لِبَيَانِ

الْحُكْمِ لِكُلٍّ فِي نَفْسِهِ؛ لِاخْتِلَافِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَتَأْوِيلُهُ إمَّا أَنْ تُعَذِّبَ مَنْ ظَلَمَ أَوْ تَتَّخِذَ الْحُسْنَ فِيمَنْ آمَنَ، وَعَمِلَ صَالِحًا. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} [الكهف: 87] الْآيَةُ {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} [الكهف: 88] الْآيَةُ، وَقَطْعُ الطَّرِيقِ مُتَنَوِّعٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَّحِدًا مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ قَدْ يَكُونُ بِأَخْذِ الْمَالِ وَحْدَهُ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْقَتْلِ لَا غَيْرُ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، قَدْ يَكُونُ بِالتَّخْوِيفِ لَا غَيْرُ، فَكَانَ سَبَبُ الْوُجُوبِ مُخْتَلِفًا فَلَا يُحْمَلُ عَلَى التَّخْيِيرِ، بَلْ عَلَى بَيَانِ الْحُكْمِ لِكُلِّ نَوْعٍ، أَوْ يُحْتَمَلُ هَذَا، وَيُحْتَمَلُ مَا ذَكَرْتُمْ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ. وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ صُرِفَتْ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ إلَى ظَاهِرِ التَّخْيِيرِ فِي مُطْلَقِ الْمُحَارِبِ فَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَيُضْمَرَ فِي كُلِّ حُكْمٍ مَذْكُورٍ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ قَطْعِ الطَّرِيقِ كَأَنَّهُ قَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] إنْ أَخَذُوا الْمَالَ، وَقَتَلُوا {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] إنْ أَخَذُوا الْمَالَ لَا غَيْرُ {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] إنْ أَخَافُوا هَكَذَا «ذَكَرَ - سَيِّدُنَا - جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَطَعَ أَبُو بُرْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَصْحَابِهِ الطَّرِيقَ عَلَى أُنَاسٍ جَاءُوا يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ أَنَّ مَنْ قَتَلَ قُتِلَ، وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ وَمَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ، وَمَنْ جَاءَ مُسْلِمًا هَدَمَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الشِّرْكِ» ، وَإِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَذْهَبُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ، وَإِمَّا أَنْ يُعْمَلَ بِظَاهِرِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ الثَّلَاثَةِ، لَكِنْ فِي مُحَارِبٍ خَاصٍّ، وَهُوَ الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ، وَقَتَلَ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ التَّخْيِيرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَقْرَبَ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - جَمَعَ بَيْنَ الْقَتْلِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ فِي الذِّكْرِ بِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] فَالْمُحَارَبَةُ هِيَ الْقَتْلُ، وَالْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ هُوَ قَطْعُ الطَّرِيقِ فَأَوْجَبَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَحَدَ الْأَجْزِيَةِ مِنْ الْفِعْلَيْنِ بِمَا ذَكَرَ، وَفِيهِ عَمَلٌ بِحَقِيقَةِ حَرْفِ التَّخْيِيرِ، وَعَمَلٌ بِحَقِيقَةِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَهُوَ مَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى - مِنْ الْمُحَارَبَةِ، وَالسَّعْيِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ، إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَذْهَبُ الْحَسَنُ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ثُمَّ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَخَذَا بِالتَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ التَّرْتِيبِ فِي الْمُحَارِبِ إذَا أَخَذَ الْمَالَ، وَقِيلَ: إنَّهُ يُقْتَلُ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ - سَيِّدَنَا - جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا مَرَّ، وَحَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِهَذَا النَّصِّ، وَلِأَنَّ أَخْذَ الْمَالِ، وَالْقَتْلَ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ جِنَايَةُ قَطْعِ الطَّرِيقِ فَلَا يُقَابَلُ إلَّا بِعُقُوبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْقَتْلُ، وَالْقَطْعُ عُقُوبَتَانِ عَلَى أَنَّهُمَا إنْ كَانَتَا جِنَايَتَيْنِ يَجِبُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَزَاءٌ عِنْدَ الِانْفِرَادِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُمَا إذَا اجْتَمَعَا يَدْخُلُ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ كَالسَّارِقِ إذَا زَنَى، وَهُوَ مُحْصَنٌ. وَكَمَنْ زَنَى وَهُوَ غَيْرُ مُحْصَنٍ ثُمَّ أُحْصِنَ فَزَنَى: أَنَّهُ لَا يُرْجَمُ لَا غَيْرُ كَذَا هَهُنَا؛ وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إقَامَةِ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَدِّ وَهُوَ الزَّجْرُ، وَمَا هُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ وَهُوَ التَّكْفِيرُ يَحْصُلُ بِالْقَتْلِ وَحْدَهُ فَلَا يُفِيدُ الْقَطْعُ، فَلَا يُشْرَعُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخَذَ بِالتَّأْوِيلِ الثَّانِي، وَهُوَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ الثَّلَاثَةِ فِي الْمُحَارِبِ الَّذِي جَمَعَ بَيْنَ أَخْذِ الْمَالِ، وَالْقَتْلِ، وَهُوَ أَحَقُّ التَّأْوِيلَيْنِ لِلْآيَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ حَرْفِ التَّخْيِيرِ، وَبِحَقِيقَةِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَهُوَ الْمُحَارَبَةُ، وَالسَّعْيُ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا حُكْمَ أَخْذِ الْمَالِ وَحْدَهُ، وَحُكْمَ الْقَتْلِ وَحْدَهُ لَا بِهَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَلَكِنْ بِحَدِيثِ - سَيِّدِنَا - جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ بِالِاسْتِدْلَالِ بِحَالَةِ الِاجْتِمَاعِ. وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُوجِبَيْنِ عِنْدَ وُجُودِ الْقَطْعَيْنِ؛ يَجِبُ الْقَبُولُ بِإِفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يَقُولُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِالتَّرْتِيبِ فَيُوجِبُ الصَّلْبَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَالْقَطْعَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يَجِبُ أَنْ يُجْمَعَ إلَّا أَنَّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ قَامَ دَلِيلُ إسْقَاطِ الْأَخَفِّ، وَلَمْ يَقُمْ هَهُنَا، بَلْ قَامَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى هَذَا الْبَابِ عَلَى التَّغْلِيظِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَ قَطْعِ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ فِي أَخْذِ الْمَالِ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي أَخْذِ الْمَالِ فِي الْمِصْرِ، وَكَذَلِكَ يُصْلَبُ فِي الْقَتْلِ وَحْدَهُ هَهُنَا، وَلَمْ يَجِبْ أَنْ يُصْلَبَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْقَتْلِ فِي الْمِصْرِ فَكَذَا جَازَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْمُوجِبَيْنِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ النَّوْعَيْنِ هَهُنَا دُونَ سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ

فصل في صفات حكم قطع الطريق

وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الصَّلْبِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُصْلَبُ حَيًّا، ثُمَّ يُطْعَنُ بِرُمْحٍ حَتَّى يَمُوتَ، وَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ، وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ يُقْتَلُ، ثُمَّ يُصْلَبُ، وَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الصَّلْبَ حَيًّا مِنْ بَابِ الْمُثْلَةِ، قَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ الْمُثْلَةِ» ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الصَّلْبَ فِي هَذَا الْبَابِ شُرِعَ لِزِيَادَةٍ فِي الْعُقُوبَةِ تَغْلِيظًا، وَالْمَيِّتُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: يُصْلَبُ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: تُقْطَعُ يَدُهُ، وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ فَكَذَا هَذَا. وَالْمُرَادُ مِنْ الْمُثْلَةِ فِي الْحَدِيثِ قَطْعُ بَعْضِ الْجَوَارِحِ كَذَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقِيلَ: إذَا صَلَبَهُ الْإِمَامُ تَرَكَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عِبْرَةً لِلْخَلْقِ، ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُ، وَبَيْنَ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الثَّلَاثِ يَتَغَيَّرُ؛ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ النَّاسُ. وَأَمَّا النَّفْيُ فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] فَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْهُ، وَيُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ بِحَذْفِ الْأَلِفِ، وَمَعْنَاهُ: وَيُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ بِالْقَتْلِ، وَالصَّلْبِ إذًا هُوَ النَّفْيُ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ حَقِيقَةً، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ الشَّرِيفَةَ فِي الْمُحَارِبِ الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ، وَقِيلَ: إنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ الثَّلَاثَةِ، وَالنَّفْيِ مِنْ الْأَرْضِ لَيْسَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي التَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّ بِالْقَتْلِ، وَالصَّلْبِ يَحْصُلُ النَّفْيُ فَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ النَّفْيُ مُشَارِكًا الْأَجْزِيَةَ الثَّلَاثَةَ فِي التَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُزَاحِمُ الْقَتْلَ؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ بِكَثِيرٍ، وَقِيلَ: نَفْيُهُ أَنْ يُطْرَدَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةٍ أَنَّ نَفْيَهُ طَلَبُهُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّهُ يُطْلَبُ فِي كُلِّ بَلَدٍ، وَالْقَوْلَانِ لَا يَصِحَّانِ؛ لِأَنَّهُ إنْ طُلِبَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي قَطَعَ الطَّرِيقَ، وَنُفِيَ عَنْهُ فَقَدْ أَلْقَى ضَرَرَهُ إلَى بَلَدٍ آخَرَ، وَإِنْ طُلِبَ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَنُفِيَ عَنْهُ يَدْخُلُ دَارَ الْحَرْبِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ لَهُ عَلَى الْكُفْرِ، وَجَعْلُهُ حَرْبًا لَنَا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَعَنْ النَّخَعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً، وَفِيهِ نَفْيٌ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ مَعَ قِيَامِ الْحَيَاةِ إلَّا عَنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي حُبِسَ فِيهِ، وَمِثْلُ هَذَا فِي عُرْفِ النَّاسِ يُسَمَّى نَفْيًا عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَخُرُوجًا عَنْ الدُّنْيَا كَمَا أُنْشِدَ لِبَعْضِ الْمَحْبُوسِينَ خَرَجْنَا مِنْ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنْ أَهْلهَا ... فَلَسْنَا مِنْ الْأَحْيَاءِ فِيهَا وَلَا الْمَوْتَى إذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ ... عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنْ الدُّنْيَا. [فَصْلٌ فِي صِفَاتِ حُكْمِ قَطْعِ الطَّرِيقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَاتُ هَذَا الْحُكْمِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنَّهُ يَنْفِي وُجُوبَ ضَمَانِ الْمَالِ، وَالْجِرَاحَاتِ عَمْدًا كَانَتْ الْجِرَاحَةُ، أَوْ خَطَأً، أَمَّا الْمَالُ؛ فَلِأَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِّ، وَالضَّمَانِ عِنْدَنَا. وَأَمَّا الْجِرَاحَاتُ إذَا كَانَتْ خَطَأً؛ فَلِأَنَّهَا تُوجِبُ الضَّمَانَ وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا؛ فَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ، وَلَا يَجِبُ ضَمَانُ الْمَالِ فَكَذَا ضَمَانُ الْجِرَاحَاتِ، قَدْ ذَكَرْنَا مَا يَتَعَلَّقُ مِنْ الْمَسَائِلِ بِهَذَا الْأَصْلِ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ وَمِنْهَا أَنْ يَجْرِيَ فِيهَا التَّدَاخُلُ حَتَّى لَوْ قَطَعَ قِطْعَاتٍ فَرُفِعَ فِي بَعْضِهَا فَقُطِعَتْ يَدُهُ، وَرِجْلُهُ فِيمَا رُفِعَ فِيهِ كَانَ ذَلِكَ لِلْقِطْعَاتِ كُلِّهَا كَمَا فِي السَّرِقَةِ إلَّا أَنَّ ثَمَّةَ التَّدَاخُلَ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ الْفَائِدَةِ مَعَ بَقَاءِ مَحِلِّ الْقَطْعِ، وَهُوَ الرِّجْلُ الْيُسْرَى، وَهَهُنَا التَّدَاخُلُ لِعَدَمِ الْمَحِلِّ. وَالْكَلَامُ فِي الضَّمَانِ فِيمَا لَمْ يُخَاصَمْ فِيهِ مَا هُوَ الْكَلَامُ فِي السَّرِقَةِ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَالُ قَائِمًا يَرُدُّهُ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ الْعَفْوُ، وَالْإِسْقَاطُ، وَالْإِبْرَاءُ، وَالصُّلْحُ عَنْهُ فَكُلُّ مَا وَجَبَ عَلَى قَاطِعِ الطَّرِيقِ مِنْ قَتْلٍ، أَوْ قَطْعٍ، أَوْ صَلْبٍ يُسْتَوْفَى مِنْهُ، سَوَاءٌ عَفَا الْأَوْلِيَاءُ، وَأَرْبَابُ الْأَمْوَالِ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَعْفُو أَوْ سَوَاءٌ أَبْرَءُوا مِنْهُ، أَوْ صَالَحُوا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَيْضًا إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ تَرْكُهُ، وَإِسْقَاطُهُ، وَالْعَفْوُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ حَدٌّ، وَالْحُدُودُ حُقُوقُ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فَلَا يَعْمَلُ فِيهَا الْعَبْدُ، وَلَا صُلْحُهُ، وَلَا الْإِبْرَاءُ عَنْهَا. [فَصْلٌ فِي مَحِلِّ إقَامَةِ حُكْمِ قَطْعِ الطَّرِيقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَحِلُّ إقَامَةِ هَذَا الْحُكْمِ فَنَقُولُ: مَحِلُّ إقَامَةِ هَذَا الْحُكْمِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ هُوَ الْقَتْلُ بِأَنْ قَتَلَ، أَوْ أَخَذَ الْمَالَ، وَقَتَلَ، أَوْ الْحَبْسُ بِأَنْ لَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ، وَلَمْ يَقْتُلْ، وَلَكِنَّهُ خَوَّفَ لَا غَيْرُ فَمَحِلُّ إقَامَتِهِ النَّفْسُ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ هُوَ الْقَطْعُ بِأَنْ أَخَذَ الْمَالَ لَا غَيْرُ فَمَحِلُّ إقَامَتِهِ الْيَدُ الْيُمْنَى، وَالرِّجْلُ الْيُسْرَى؛ لِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] ، وَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ سَلَامَةُ الْيَدِ الْيُسْرَى، وَالرِّجْلِ الْيُمْنَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ فِعْلِ الْحَدَّادِ إذَا قَطَعَ الْيَدَ الْيُسْرَى مَكَانَ الْيُمْنَى مُتَعَمِّدًا، أَوْ مُخْطِئًا، وَحُكْمُ فِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ إذَا قَطَعَ الْيَدَ الْيُسْرَى خَطَأً أَوْ عَمْدًا هَهُنَا

فصل في بيان من يقيم حد قطع الطريق

مِثْلُ الْحُكْمِ فِي السَّرِقَة، قَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَكَذَا مَحِلُّ الْقَطْعِ مِنْ الْيَدِ الْيُمْنَى هُوَ الْمَفْصِلُ كَمَا فِي السَّرِقَةِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَنْ يُقِيمُ حَدّ قَطْعِ الطَّرِيقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يُقِيمُ هَذَا الْحُكْمَ فَاَلَّذِي يُقِيمُهُ الْإِمَامُ، أَوْ مَنْ وَلَّاهُ الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ، لَيْسَ إلَى الْأَوْلِيَاءِ، وَلَا إلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ، بَلْ يُقِيمُهُ الْإِمَامُ طَالَبَ الْأَوْلِيَاءُ، وَأَرْبَابُ الْأَمْوَالِ بِالْإِقَامَةِ، أَوْ لَمْ يُطَالِبُوا، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْمَوْلَى يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَمْلُوكِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْلِيَةِ الْإِمَامِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُ حَدّ قَطْعِ الطَّرِيقِ بَعْدَ وُجُوبِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُ هَذَا الْحُكْمَ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَالْمُسْقِطُ لَهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ أَشْيَاءُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ: (مِنْهَا) تَكْذِيبُ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ الْقَاطِعَ فِي إقْرَارِهِ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ أَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ. (وَمِنْهَا) رُجُوعُ الْقَاطِعِ عَنْ إقْرَارِهِ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ. (وَمِنْهَا) تَكْذِيبُ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ. (وَمِنْهَا) مِلْكُ الْقَاطِعِ الْمَقْطُوعَ لَهُ، وَهُوَ الْمَالُ قَبْلَ التَّرَافُعِ أَوْ بَعْدَهُ عَلَى التَّفْصِيلِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ. (وَمِنْهَا) تَوْبَةُ الْقَاطِعِ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] أَيْ: رَجَعُوا عَمَّا فَعَلُوا فَنَدِمُوا عَلَى ذَلِكَ، وَعَزَمُوا عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلُوا مِثْلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ عَلَى أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ إذَا تَابَ قَبْلَ أَنْ يُظْفَرَ بِهِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ، وَتَوْبَتُهُ بِرَدِّ الْمَالِ عَلَى صَاحِبِهِ إنْ كَانَ أَخَذَ الْمَالَ لَا غَيْرُ، مَعَ الْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ مِثْلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ أَصْلًا، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَتْلُ حَدًّا، وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَ الْمَالَ، وَقَتَلَ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَلَكِنْ يَدْفَعُهُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ لِيَقْتُلُوهُ قِصَاصًا إنْ كَانَ الْقَتْلُ بِسِلَاحٍ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ، وَلَمْ يَقْتُلْ فَتَوْبَتُهُ النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ الْإِمَامَ عَنْ طَوْعٍ، وَاخْتِيَارٍ، وَيُظْهِرَ التَّوْبَةَ عِنْدَهُ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَبْسُ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتَّوْبَةِ، وَقَدْ تَابَ فَلَا مَعْنًى لِلْحَبْسِ، وَكَذَلِكَ السَّرِقَةُ الصُّغْرَى، إذَا تَابَ السَّارِقُ قَبْلَ أَنْ يُظْفَرَ بِهِ، وَرَدَّ الْمَالَ إلَى صَاحِبِهِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ فِي السَّرِقَةِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى؛ لِأَنَّ مَحِلَّ الْجِنَايَةِ خَالِصُ حَقِّ الْعِبَادِ، وَالْخُصُومَةُ تَنْتَهِي بِالتَّوْبَةِ، وَالتَّوْبَةُ تَمَامُهَا بِرَدِّ الْمَالِ إلَى صَاحِبِهِ، فَإِذَا وَصَلَ الْمَالُ إلَى صَاحِبِهِ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ مَعَ السَّارِقِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ فَإِنَّ الْخُصُومَةَ فِيهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَعَدَمُهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ، وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ إنْ كَانَتْ شَرْطًا لَكِنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالتَّوْبَةِ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَهَا بِرَدِّ الْمَالِ إلَى صَاحِبِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَتَبَ إلَيْهِ عَامِلُهُ بِالْبَصْرَةِ أَنَّ حَارِثَةَ بْنَ زَيْدٍ حَارَبَ اللَّهَ، وَرَسُولَهُ، وَسَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا فَكَتَبَ إلَيْهِ - سَيِّدُنَا - عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ حَارِثَةَ قَدْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَقْدِرَ عَلَيْهِ فَلَا تَتَعَرَّضْ لَهُ إلَّا بِخَيْرٍ هَذَا إذَا تَابَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا إذَا تَابَ بَعْدَ مَا قُدِرَ عَلَيْهِ بِأَنْ أَخَذَ، ثُمَّ تَابَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ عَنْ السَّرِقَةِ إذَا أَخَذَ الْمَالَ بِرَدِّ الْمَالِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَبَعْدَ الْأَخْذِ لَا يَكُونُ رَدُّ الْمَالِ، بَلْ يَكُونُ اسْتِرْدَادًا مِنْهُ جَبْرًا فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ، وَإِذَا لَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ فَهُوَ بَعْدَ الْأَخْذِ مُتَّهَمٌ فِي إظْهَارِ التَّوْبَةِ فَلَا تَتَحَقَّقُ تَوْبَتُهُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ سُقُوطِ حَدِّ قطع الطَّرِيق بَعْدَ وُجُوبه] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ سُقُوطِ الْحَدِّ بَعْدَ الْوُجُوبِ، وَحُكْمُ عَدَمِ الْوُجُوبِ لِمَانِعٍ فَنَقُولُ: - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - إذَا سَقَطَ الْحَدُّ بَعْدَ التَّوْبَةِ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانُوا أَخَذُوا الْمَالَ لَا غَيْرُ رَدُّوهُ عَلَى صَاحِبِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا، أَوْ مُسْتَهْلَكًا؛ فَعَلَيْهِمْ الضَّمَانُ، وَإِنْ كَانُوا قَتَلُوا لَا غَيْرُ يُدْفَعُ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ بِسِلَاحٍ إلَى الْأَوْلِيَاءِ لِيَقْتُلُوهُ، أَوْ يَعْفُوا عَنْهُ، وَمَنْ قَتَلَ بِعَصًا، أَوْ حَجَرٍ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ، وَإِنْ كَانُوا أَخَذُوا الْمَالَ، وَقَتَلُوا فَحُكْمُ أَخْذِ الْمَالِ، وَالْقَتْلِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مَا هُوَ حُكْمُهُمَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ إذَا سَقَطَ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ صَارَ حُكْمُ الْقَتْلِ، وَأَخْذُ الْمَالِ، وَهَلَاكُهُ، وَاسْتِهْلَاكُهُ مَا هُوَ حُكْمُهَا فِي غَيْرِ قَطْعِ الطَّرِيقِ مَا قُلْنَا. وَإِنْ كَانُوا أَخَذُوا الْمَالَ، وَجَرَحُوا، أَوْ أَخَذُوا الْمَالَ، وَقَتَلُوا، وَجَرَحُوا قَوْمًا، أَوْ جَرَحُوا قَوْمًا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ أَخْذٌ، وَلَا قَتْلٌ فَحُكْمُ الْقَتْلِ، وَالْمَالِ مَا ذَكَرْنَا، وَالْجِرَاحَاتُ فِيهَا الْقِصَاصُ فِيمَا يَقْدِرُ

فصل في حكم المال الذي أخذه قاطع الطريق

فِيهِ عَلَى الْقِصَاصِ، وَالْأَرْشُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ سُقُوطِ الْحَدِّ صَارَ كَأَنَّ الْجِرَاحَةَ حَصَلَتْ مِنْ غَيْرِ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ إنْ قُدِرَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ قَتْلٌ، وَلَا أَخْذُ مَالٍ قَدْ أَخَافُوا قَوْمًا بِجِرَاحَاتٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا يُسْتَطَاعُ فِيهِ الِاقْتِصَاصُ، وَالدِّيَةُ فِيمَا لَا يُسْتَطَاعُ فَيُودَعُونَ السِّجْنَ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَعْزِيرًا لَا حَدًّا. وَالتَّعْزِيرُ لَا تَدْخُلُ فِيهِ الْجِرَاحَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُدِرَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّوْبَةِ، قَدْ قَتَلُوا أَوْ أَخَذُوا الْمَالَ، أَوْ جَمَعُوا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْحَدُّ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْجِرَاحَةُ، وَكَذَلِكَ إذَا سَقَطَ الْحَدُّ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْإِقْرَارِ يَصِحُّ فِي حَقِّ سُقُوطِ الْحَدِّ، وَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ ضَمَانِ الْمَالِ، وَالْقِصَاصِ فَبَقِيَ إقْرَارُهُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهِمَا. (وَأَمَّا) إذَا كَانَ السُّقُوطُ بِتَكْذِيبِ الْحُجَّةِ مِنْ الْإِقْرَارِ، أَوْ الْبَيِّنَةِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ لَمْ يَثْبُتْ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِالْحُجَّةِ وَقَدْ بَطَلَتْ أَصْلًا، وَرَأْسًا، بِخِلَافِ الرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ بَعْدَ الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْحَدِّ دَرْءًا لِلْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ فَبَقِيَ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ ضَمَانِ الْمَالِ، وَالْقِصَاصِ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَعَلَى هَذَا حُكْمُ عَدَمِ الْوُجُوبِ لِمَانِعٍ بِأَنْ فَاتَ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَدِّ نَحْوَ نُقْصَانِ النِّصَابِ بِأَنْ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْمَالِ لَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَنَّهُمْ يَرُدُّونَهُ إنْ كَانَ قَائِمًا. وَيَضْمَنُونَ إنْ كَانَ هَالِكًا أَوْ مُسْتَهْلَكًا، وَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ فَإِنْ كَانَ بِسِلَاحٍ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ بِعَصًا أَوْ حَجَرٍ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ، وَمَنْ جَرَحَ يُقْتَصُّ مِنْهُ فِيمَا يُمْكِنُ الْقِصَاصُ، وَفِيمَا لَا يُمْكِنُ يَجِبُ الْأَرْشُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَدَّ إذَا امْتَنَعَ وُجُوبُهُ فَقَدْ حَصَلَ الْأَخْذُ، وَالْقَتْلُ، وَالْجِرَاحَةُ مِنْ غَيْرِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَحُكْمُهَا فِي غَيْرِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ مَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي الْمُحَارِبِينَ صَبِيٌّ، أَوْ مَجْنُونٌ حَتَّى امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ يُدْفَعُ كُلُّ بَالِغٍ عَاقِلٍ قَتَلَ مِنْهُمْ بِسِلَاحٍ إلَى الْأَوْلِيَاءِ فَيَقْتُلُونَ، أَوْ يَعْفُونَ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي وَلِيَ الْقَتْلَ مِنْهُمْ صَبِيٌّ، أَوْ مَجْنُونٌ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ، وَإِنْ قَتَلَ بِسِلَاحٍ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ، وَالْمَجْنُونَ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمَا، فَكَانَ عَمْدُهُمَا خَطَأً، وَإِنْ كَانَا أَخَذَا الْمَالَ ضَمِنَا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ ضَمَانِ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ إذَا امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى الْقُطَّاعِ لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي رَجَعُوا فِي ذَلِكَ إلَى حُكْمِ غَيْرِ الْقُطَّاعِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ قَاطِعُ الطَّرِيقِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ فَهُوَ وُجُوبُ الرَّدِّ إنْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ، وَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ أَيْنَمَا وَجَدَهُ سَوَاءٌ وَجَدَهُ فِي يَدِ الْمُحَارِبِ، أَوْ فِي يَدِ مَنْ مَلَّكَهُ الْمُحَارِبُ بِبَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَوْ تَغَيَّرَ الْمَالُ إلَى الزِّيَادَةِ، أَوْ النُّقْصَانِ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [كِتَابُ السِّيَرِ] [بَيَان مَعْنَى السَّيْر والجهاد] (كِتَابُ السِّيَرِ) وَقَدْ يُسَمَّى كِتَابَ الْجِهَادِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ مَعْنَى السِّيَرِ، وَالْجِهَادِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْجِهَادِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْدُبُ إلَيْهِ الْإِمَامُ عِنْدَ بَعْثِ الْجَيْشِ، أَوْ السَّرِيَّةِ إلَى الْجِهَادِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى الْغُزَاةِ الِافْتِتَاحُ بِهِ حَالَ شُهُودِ الْوَقْعَةِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَحِلُّ قَتْلُهُ مِنْ الْكَفَرَةِ وَمَنْ لَا يَحِلُّ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَجُوزُ تَرْكُهُ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ، وَفِي بَيَانِ مَا يُكْرَهُ حَمْلُهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَمَا لَا يُكْرَهُ، وَفِي بَيَانِ مَا يَعْتَرِضُ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُحَرِّمَةِ لِلْقِتَالِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْغَنَائِمِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ اسْتِيلَاءِ الْكَفَرَةِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي بَيَانِ أَحْكَامٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، وَفِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ، وَفِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْغُزَاةِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالسِّيَرُ جَمْعُ سِيرَةٍ، وَالسِّيرَةُ فِي اللُّغَةِ تُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الطَّرِيقَةُ، يُقَالُ: هُمَا عَلَى سِيرَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْ طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالثَّانِي: الْهَيْئَةُ، قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه: 21] أَيْ هَيْئَتَهَا فَاحْتَمَلَ تَسْمِيَةُ هَذَا الْكِتَابِ كِتَابَ السِّيَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ طُرُقِ الْغُزَاةِ وَهَيْئَاتِهِمْ مِمَّا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ وَأَمَّا الْجِهَادُ فِي اللُّغَةِ فَعِبَارَةٌ عَنْ بَذْلِ الْجُهْدِ بِالضَّمِّ وَهُوَ الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ، أَوْ عَنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الْعَمَلِ مِنْ الْجَهْدِ بِالْفَتْحِ، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ يُسْتَعْمَلُ فِي بَذْلِ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَاللِّسَانِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ الْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

فصل في بيان كيفية فرضية الجهاد

[فَصْلٌ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّةِ الْجِهَادِ] فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّةِ الْجِهَادِ، فَالْأَمْرُ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ، إمَّا إنْ كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا (وَإِمَّا) إنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ النَّفِيرُ عَامًّا فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَمَعْنَاهُ: أَنْ يُفْتَرَضَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، لَكِنْ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ؛ لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] وَعَدَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ الْحُسْنَى وَلَوْ كَانَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لَمَا وَعَدَ الْقَاعِدِينَ الْحُسْنَى؛ لِأَنَّ الْقُعُودَ يَكُونُ حَرَامًا وَقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] الْآيَةَ وَلِأَنَّ مَا فُرِضَ لَهُ الْجِهَادُ وَهُوَ الدَّعْوَةُ إلَى الْإِسْلَامِ، وَإِعْلَاءُ الدِّينِ الْحَقِّ، وَدَفْعُ شَرِّ الْكَفَرَةِ وَقَهْرِهِمْ، يَحْصُلُ بِقِيَامِ الْبَعْضِ بِهِ. وَكَذَا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَبْعَثُ السَّرَايَا، وَلَوْ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لَكَانَ لَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ الْقُعُودُ عَنْهُ فِي حَالٍ، وَلَا أَذِنَ غَيْرَهُ بِالتَّخَلُّفِ عَنْهُ بِحَالٍ، وَإِذَا كَانَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُخَلِّيَ ثَغْرًا مِنْ الثُّغُورِ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْغُزَاةِ فِيهِمْ غِنًى وَكِفَايَةٌ لِقِتَالِ الْعَدُوِّ، فَإِذَا قَامُوا بِهِ يَسْقُطُ عَنْ الْبَاقِينَ، وَإِنْ ضَعُفَ أَهْلُ ثَغْرٍ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْكَفَرَةِ، وَخِيفَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعَدُوِّ فَعَلَى مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ أَنْ يَنْفِرُوا إلَيْهِمْ، وَأَنْ يَمُدُّوهُمْ بِالسِّلَاحِ، وَالْكُرَاعِ، وَالْمَالِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ فُرِضَ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، لَكِنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ عَنْهُمْ بِحُصُولِ الْكِفَايَةِ بِالْبَعْضِ، فَمَا لَمْ يَحْصُلْ لَا يَسْقُطُ وَلَا يُبَاحُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَخْرُجَ إلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، وَلَا الْمَرْأَةُ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْمَوْلَى، وَالْقِيَامَ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ. كُلُّ ذَلِكَ فَرْضُ عَيْنٍ فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَكَذَا الْوَلَدُ لَا يَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا إذَا كَانَ الْآخَرُ مَيِّتًا؛ لِأَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ سَفَرٍ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ الْهَلَاكُ، وَيَشْتَدُّ فِيهِ الْخَطَرُ لَا يَحِلُّ لَلْوَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدِيهِ؛ لِأَنَّهُمَا يُشْفِقَانِ عَلَى وَلَدِهِمَا فَيَتَضَرَّرَانِ بِذَلِكَ، وَكُلُّ سَفَرٍ لَا يَشْتَدُّ فِيهِ الْخَطَرُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا إذَا لَمْ يُضَيِّعْهُمَا؛ لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ رَخَّصَ فِي سَفَرِ التَّعَلُّمِ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَضَرَّرَانِ بِذَلِكَ بَلْ يَنْتَفِعَانِ بِهِ، فَلَا يَلْحَقُهُ سِمَةُ الْعُقُوقِ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ النَّفِيرُ عَامًّا، فَأَمَّا إذَا عَمَّ النَّفِيرُ بِأَنْ هَجَمَ الْعَدُوُّ عَلَى بَلَدٍ، فَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ يُفْتَرَضُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41] قِيلَ: نَزَلَتْ فِي النَّفِيرِ. وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120] وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْكُلِّ قَبْلَ عُمُومِ النَّفِيرِ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّ السُّقُوطَ عَنْ الْبَاقِينَ بِقِيَامِ الْبَعْضِ بِهِ، فَإِذَا عَمَّ النَّفِيرُ لَا يَتَحَقَّقُ الْقِيَامُ بِهِ إلَّا بِالْكُلِّ، فَبَقِيَ فَرْضًا عَلَى الْكُلِّ عَيْنًا بِمَنْزِلَةِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، فَيَخْرُجُ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ، وَالْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ فِي حَقِّ الْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ عَيْنًا مُسْتَثْنَاةً عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ شَرْعًا، كَمَا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَكَذَا يُبَاحُ لِلْوَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدَيْهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ لَا يَظْهَرُ فِي فُرُوضِ الْأَعْيَانِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَنْ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ فَنَقُولُ إنَّهُ لَا يُفْتَرَضُ إلَّا عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ فَمَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ لَا جِهَادَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ بَذْلُ الْجُهْدِ، وَهُوَ الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ بِالْقِتَالِ، أَوْ الْمُبَالَغَةُ فِي عَمَلِ الْقِتَالِ، وَمَنْ لَا وُسْعَ لَهُ كَيْفَ يَبْذُلُ الْوُسْعَ وَالْعَمَلَ، فَلَا يُفْرَضُ عَلَى الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ، وَالزَّمِنِ وَالْمُقْعَدِ، وَالشَّيْخِ الْهَرِمِ، وَالْمَرِيضِ وَالضَّعِيفِ، وَاَلَّذِي لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ، قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور: 61] الْآيَةَ وَقَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَزَّ مِنْ قَائِلٍ - {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَدْ عَذَرَ اللَّهُ - جَلَّ شَأْنُهُ - هَؤُلَاءِ بِالتَّخَلُّفِ عَنْ الْجِهَادِ وَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْهُمْ. وَلَا جِهَادَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ بِنْيَتَهُمَا لَا تَحْتَمِلُ الْحَرْبَ عَادَةً، وَعَلَى هَذَا الْغُزَاةُ إذَا جَاءَهُمْ جَمْعٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَخَافُوهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ، فَلَا بَأْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْحَازُوا إلَى بَعْضِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ إلَى بَعْضِ جُيُوشِهِمْ، وَالْحُكْمُ فِي هَذَا الْبَابِ لِغَالِبِ الرَّأْيِ، وَأَكْبَرِ الظَّنِّ دُونَ الْعَدَدِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْغُزَاةِ أَنَّهُمْ يُقَاوِمُونَهُمْ يَلْزَمُهُمْ الثَّبَاتُ، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ عَدَدًا مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ يَغْلِبُونَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْحَازُوا إلَى الْمُسْلِمِينَ؛ لِيَسْتَعِينُوا بِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ عَدَدًا مِنْ الْكَفَرَةِ، وَكَذَا الْوَاحِدُ مِنْ الْغُزَاةِ لَيْسَ مَعَهُ سِلَاحٌ مَعَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ مَعَهُمَا سِلَاحٌ، أَوْ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الْكَفَرَةِ وَمَعَهُ

فصل في بيان ما يندب إليه الإمام عند بعث الجيش أو السرية إلى الجهاد

سِلَاحٌ، لَا بَأْسَ أَنْ يُوَلِّيَ دُبُرَهُ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ وَالْأَصْلُ فِيهِ: قَوْلُهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] اللَّهُ - عَزَّ شَأْنُهُ - نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ تَوْلِيَةِ الْأَدْبَارِ عَامًّا بِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] وَأَوْعَدَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] الْآيَةَ؛ لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] ثُمَّ اسْتَثْنَى - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَمَنْ يُوَلِّي دُبُرَهُ لِجِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ فَقَالَ - عَزَّ مِنْ قَائِلٍ - {إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْحَظْرِ إبَاحَةٌ، فَكَانَ الْمَحْظُورُ تَوْلِيَةً مَخْصُوصَةً، وَهِيَ أَنْ يُوَلِّيَ دُبُرَهُ غَيْرَ مُتَحَرِّفٍ لِقِتَالٍ، وَلَا مُتَحَيِّزٍ إلَى فِئَةٍ فَبَقِيَتْ التَّوْلِيَةُ إلَى جِهَةِ التَّحَرُّفِ وَالتَّحَيُّزِ مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْحَظْرِ، فَلَا تَكُونُ مَحْظُورَةً، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] إنَّهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْآيَةَ الشَّرِيفَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] وَقَوْلُهُ {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا} [الأنفال: 65] لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ؛ لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ لِلتَّحَيُّزِ إلَى فِئَةٍ خَصَّ فِيهَا، فَلَمْ تَكُنْ الْآيَتَانِ مَنْسُوخَتَيْنِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلَّذِينَ فَرُّوا إلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ فِيهَا «أَنْتُمْ الْكَرَّارُونَ، أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ» أَخْبَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ الْمُتَحَيِّزَ إلَى فِئَةٍ كَرَّارٌ وَلَيْسَ بِفَرَّارٍ مِنْ الزَّحْفِ، فَلَا يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَتْ الْغُزَاةُ فِي سَفِينَةٍ فَاحْتَرَقَتْ السَّفِينَةُ وَخَافُوا الْغَرَقَ، حَكَّمُوا فِيهِ غَالِبَ رَأْيِهِمْ، وَأَكْبَرَ ظَنِّهِمْ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى رَأْيِهِمْ أَنَّهُمْ لَوْ طَرَحُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الْبَحْرِ لِيَنْجُوا بِالسِّبَاحَةِ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ الطُّرُقُ لِيَسْبَحُوا فَيَتَحَيَّزُوا إلَى فِئَةٍ، وَإِنْ اسْتَوَى جَانِبَا الْحَرْقِ وَالْغَرَقِ، بِأَنْ كَانَ إذَا قَامُوا حُرِّقُوا، وَإِذَا طَرَحُوا غَرِقُوا، فَلَهُمْ الْخِيَارُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَاءِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُمْ لَوْ أَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَاءِ لَهَلَكُوا، وَلَوْ أَقَامُوا فِي السَّفِينَةِ لَهَلَكُوا أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُمْ لَوْ طَرَحُوا لَهَلَكُوا بِفِعْلِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ صَبَرُوا لَهَلَكُوا بِفِعْلِ الْعَدُوِّ، فَكَانَ الصَّبْرُ أَقْرَبَ إلَى الْجِهَادِ، فَكَانَ أُولَى. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ اسْتَوَى الْجَانِبَانِ فِي الْإِفْضَاءِ إلَى الْهَلَاكِ، فَيَثْبُتُ لَهُمْ الْخِيَارُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْهَلَاكُ بِالْغَرَقِ أَرْفَقَ قَوْلُهُ لَوْ أَقَامُوا لَهَلَكُوا بِفِعْلِ الْعَدُوِّ وَقُلْنَا وَلَوْ طَرَحُوا لَهَلَكُوا بِفِعْلِ الْعَدُوِّ أَيْضًا، إذْ الْعَدُوُّ هُوَ الَّذِي أَلْجَأَهُمْ إلَيْهِ، فَكَانَ الْهَلَاكُ فِي الْحَالَيْنِ مُضَافًا إلَى فِعْلِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْهَلَاكُ بِالْغَرَقِ أَسْهَلَ فَيَثْبُتُ لَهُمْ الْخِيَارُ، وَلَوْ طُعِنَ مُسْلِمٌ بِرُمْحٍ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمْشِيَ إلَى مَنْ طَعَنَهُ مِنْ الْكَفَرَةِ حَتَّى يُجْهِزَهُ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِالْمَشْيِ إلَيْهِ بَذْلَ نَفْسِهِ؛ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَتَحْرِيضَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنْ لَا يَبْخَلُوا بِأَنْفُسِهِمْ فِي قِتَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَكَانَ جَائِزًا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ -. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَنْدُبُ إلَيْهِ الْإِمَامُ عِنْدَ بَعْثِ الْجَيْشِ أَوْ السَّرِيَّةِ إلَى الْجِهَادِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُنْدَبُ إلَيْهِ الْإِمَامُ عِنْدَ بَعْثِ الْجَيْشِ أَوْ السَّرِيَّةِ إلَى الْجِهَادِ، فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إنَّهُ يُنْدَبُ إلَى أَشْيَاءَ، مِنْهَا أَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا بَعَثَ جَيْشًا إلَّا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْأَمِيرِ مَاسَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ وَسِيَاسَةِ الرَّعِيَّةِ، وَلَا يَقُومُ ذَلِكَ إلَّا بِالْأَمِيرِ لِتَعَذُّرِ الرُّجُوعِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ إلَى الْإِمَامِ (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الَّذِي يُؤَمَّرُ عَلَيْهِمْ عَالِمًا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، عَدْلًا عَارِفًا بِوُجُوهِ السِّيَاسَاتِ، بَصِيرًا بِتَدَابِيرِ الْحُرُوبِ وَأَسْبَابِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَحْصُلُ مَا يُنْصَبُ لَهُ الْأَمِيرُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يُوصِيَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ خَيْرًا، كَذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إذَا بَعَثَ جَيْشًا أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي نَفْسِهِ خَاصَّةً وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ خَيْرًا؛ وَلِأَنَّ الْإِمَارَةَ أَمَانَةٌ عَظِيمَةٌ فَلَا يَقُومُ بِهَا إلَّا الْمُتَّقِي وَإِذَا أَمَّرَ عَلَيْهِمْ يُكَلِّفُهُمْ طَاعَةَ الْأَمِيرِ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَلَوْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ أَجْدَعُ مَا حَكَمَ فِيكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى» وَلِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ، وَطَاعَةُ الْإِمَامِ لَازِمَةٌ كَذَا طَاعَتُهُ؛ لِأَنَّهَا طَاعَةُ الْإِمَامِ، إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُمْ

فصل في بيان ما يجب على الغزاة الافتتاح به حالة الوقعة ولقاء العدو

بِمَعْصِيَةٍ فَلَا تَجُوزُ طَاعَتُهُمْ إيَّاهُ فِيهَا؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» وَلَوْ أَمَرَهُمْ بِشَيْءٍ لَا يَدْرُونَ أَيَنْتَفِعُونَ بِهِ أَمْ لَا، فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ فِيهِ إذَا لَمْ يَعْلَمُوا كَوْنَهُ مَعْصِيَةً؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْإِمَامِ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ وَاجِبٌ، كَاتِّبَاعِ الْقُضَاةِ فِي مَوَاضِعِ الِاجْتِهَادِ وَاَللَّهُ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى الْغُزَاةِ الِافْتِتَاحُ بِهِ حَالَةَ الْوَقْعَةِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى الْغُزَاةِ الِافْتِتَاحُ بِهِ حَالَةَ الْوَقْعَةِ، وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ كَانَتْ الدَّعْوَةُ قَدْ بَلَغَتْهُمْ، وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ، فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَةُ لَمْ تَبْلُغْهُمْ فَعَلَيْهِمْ الِافْتِتَاحُ بِالدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ بِاللِّسَانِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ الْقِتَالُ قَبْلَ الدَّعْوَةِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ فَاسْتَحَقُّوا الْقَتْلَ بِالِامْتِنَاعِ، لَكِنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - حَرَّمَ قِتَالَهُمْ قَبْلَ بَعْثِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَبُلُوغِ الدَّعْوَةِ إيَّاهُمْ فَضْلًا مِنْهُ وَمِنَّةً قَطْعًا لِمَعْذِرَتِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِمَا أَقَامَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مِنْ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَوْ تَأَمَّلُوهَا حَقَّ التَّأَمُّلِ، وَنَظَرُوا فِيهَا لَعَرَفُوا حَقَّ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - عَلَيْهِمْ، لَكِنْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ -؛ لِئَلَّا يَبْقَى لَهُمْ شُبْهَةُ عُذْرٍ {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} [القصص: 47] . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلِأَنَّ الْقِتَالَ مَا فُرِضَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ، وَالدَّعْوَةُ دَعْوَتَانِ: دَعْوَةٌ بِالْبَنَانِ، وَهِيَ الْقِتَالُ وَدَعْوَةٌ بِالْبَيَانِ، وَهُوَ اللِّسَانُ، وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ وَالثَّانِيَةُ أَهْوَنُ مِنْ الْأُولَى؛ لِأَنَّ فِي الْقِتَالِ مُخَاطَرَةَ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَلَيْسَ فِي دَعْوَةِ التَّبْلِيغِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا احْتَمَلَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِأَهْوَنِ الدَّعْوَتَيْنِ لَزِمَ الِافْتِتَاحُ بِهَا، هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَةُ لَمْ تَبْلُغْهُمْ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَفْتَتِحُوا الْقِتَالَ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحُجَّةَ لَازِمَةٌ، وَالْعُذْرُ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْقَطِعٌ، وَشُبْهَةُ الْعُذْرِ انْقَطَعَتْ بِالتَّبْلِيغِ مَرَّةً، لَكِنْ مَعَ هَذَا الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَفْتَتِحُوا الْقِتَالَ إلَّا بَعْدَ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ لِرَجَاءِ الْإِجَابَةِ فِي الْجُمْلَةِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يُقَاتِلُ الْكَفَرَةَ حَتَّى يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فِيمَا كَانَ دَعَاهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ دَلَّ أَنَّ الِافْتِتَاحَ بِتَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ أَفْضَلُ، ثُمَّ، إذَا دَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْهُمْ الْقِتَالَ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا» وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي دَمَهُ وَمَالَهُ» فَإِنْ أَبَوْا الْإِجَابَةَ إلَى الْإِسْلَامِ دَعَوْهُمْ إلَى الذِّمَّةِ، إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - بَعْدُ فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْهُمْ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فَإِنْ قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَبَوْا، اسْتَعَانُوا بِاَللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَى قِتَالِهِمْ» وَوَثَّقُوا بِعَهْدِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - النَّصْرَ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ بَذَلُوا جُهْدَهُمْ، وَاسْتَفْرَغُوا وُسْعَهُمْ، وَثَبَتُوا وَأَطَاعُوا اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَرَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا عَلَى مَا قَالَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] وَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ وَإِنْ لَمْ يَبْدَءُوا بِالدَّعْوَةِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَسَوَاءٌ كَانَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَوْ فِي غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ السَّيْفِ، وَغَيْرِهَا مِنْ آيَاتِ الْقِتَالِ، وَلَا بَأْسَ بِالْإِغَارَةِ وَالْبَيَاتِ عَلَيْهِمْ، وَلَا بَأْسَ بِقَطْعِ أَشْجَارِهِمْ الْمُثْمِرَةِ، وَغَيْرِ الْمُثْمِرَةِ، وَإِفْسَادِ زُرُوعِهِمْ؛ لِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] أَذِنَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِقَطْعِ النَّخِيلِ فِي صَدْرِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَنَبَّهَ فِي آخِرِهَا أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ كَبْتًا وَغَيْظًا لِلْعَدُوِّ بِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] . وَلَا بَأْسَ بِإِحْرَاقِ حُصُونِهِمْ بِالنَّارِ، وَإِغْرَاقِهَا بِالْمَاءِ، وَتَخْرِيبِهَا وَهَدْمِهَا عَلَيْهِمْ، وَنَصْبِ الْمَنْجَنِيقِ عَلَيْهَا؛ لِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] وَلِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْقِتَالِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ قَهْرِ الْعَدُوِّ وَكَبْتِهِمْ وَغَيْظِهِمْ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْأَمْوَالِ؛ لِحُرْمَةِ أَرْبَابِهَا، وَلَا حُرْمَةَ لِأَنْفُسِهِمْ حَتَّى يُقْتَلُونَ، فَكَيْفَ لِأَمْوَالِهِمْ؟ وَلَا بَأْسَ بِرَمْيِهِمْ بِالنِّبَالِ، وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّ فِيهِمْ مُسْلِمِينَ مِنْ الْأَسَارَى وَالتُّجَّارِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرُورَةِ، إذْ حُصُونُ الْكَفَرَةِ قَلَّمَا تَخْلُو مِنْ مُسْلِمٍ أَسِيرٍ، أَوْ تَاجِرٍ فَاعْتِبَارُهُ يُؤَدِّي إلَى انْسِدَادِ بَابِ

فصل في بيان من يحل قتله من الكفرة ومن لا يحل

الْجِهَادِ، وَلَكِنْ يَقْصِدُونِ بِذَلِكَ الْكَفَرَةَ دُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي الْقَصْدِ إلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَكَذَا إذَا تَتَرَّسُوا بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِالرَّمْيِ إلَيْهِمْ؛ لِضَرُورَةِ إقَامَةِ الْفَرْضِ، لَكِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْكُفَّارَ دُونَ الْأَطْفَالِ، فَإِنْ رَمَوْهُمْ فَأَصَابَ مُسْلِمًا فَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَجِبُ الدِّيَةُ، وَالْكَفَّارَةُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (وَجْهُ) قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ دَمَ الْمُسْلِمِ مَعْصُومٌ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْ الرَّمْيِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُمْنَعْ لِضَرُورَةِ إقَامَةِ الْفَرْضِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ فِي رَفْعِ الْمُؤَاخَذَةِ لَا فِي نَفْيِ الضَّمَانِ، كَتَنَاوُلِ مَاءِ الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ إنَّهُ رَخَّصَ لَهُ التَّنَاوُلَ لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ لِمَا ذَكَرنَا، كَذَلِكَ هَاهُنَا. (وَلَنَا) أَنَّهُ كَمَا مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى دَفْعِ الْمُؤَاخَذَةِ لِإِقَامَةِ فَرْضِ الْقِتَالِ، مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى نَفْيِ الضَّمَانِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يَمْنَعُ مِنْ إقَامَةِ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْهُ خَوْفًا مِنْ لُزُومِ الضَّمَانِ، وَإِيجَابِ مَا يَمْنَعُ مِنْ إقَامَةِ الْوَاجِبِ مُتَنَاقِضٌ، وَفَرْضُ الْقِتَالِ لَمْ يَسْقُطْ، دَلَّ أَنَّ الضَّمَانَ سَاقِطٌ بِخِلَافِ حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ هُنَاكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّنَاوُلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْ لَهَلَكَ، وَكَذَا حَصَلَ لَهُ مِثْلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ التَّنَاوُلِ، فَلَا يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِالْكُفَّارِ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ غَدْرُهُمْ، إذْ الْعَدَاوَةُ الدِّينِيَّةُ تَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، إلَّا إذَا اُضْطُرُّوا إلَيْهِمْ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَنْ يَحِلُّ قَتْلُهُ مِنْ الْكَفَرَةِ وَمَنْ لَا يَحِلُّ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَحِلُّ قَتْلُهُ مِنْ الْكَفَرَةِ وَمَنْ لَا يَحِلُّ، فَنَقُولُ: الْحَالُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَالَ الْقِتَالِ، أَوْ حَالَ مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ، وَهِيَ مَا بَعْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ، أَمَّا حَالَ الْقِتَالِ فَلَا يَحِلُّ فِيهَا قَتْلُ امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ، وَلَا شَيْخٍ فَانٍ، وَلَا مُقْعَدٍ وَلَا يَابِسِ الشِّقِّ، وَلَا أَعْمَى، وَلَا مَقْطُوعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ، وَلَا مَقْطُوعِ الْيَدِ الْيُمْنَى، وَلَا مَعْتُوهٍ، وَلَا رَاهِبٍ فِي صَوْمَعَةٍ، وَلَا سَائِحٍ فِي الْجِبَالِ لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَقَوْمٍ فِي دَارٍ أَوْ كَنِيسَةٍ تَرَهَّبُوا وَطَبَقَ عَلَيْهِمْ الْبَابُ، أَمَّا الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ، فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا وَلَيَدًا» وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَأَى فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ امْرَأَةً مَقْتُولَةً فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «هَاهْ مَا أُرَاهَا قَاتَلَتْ، فَلِمَ قُتِلَتْ؟ وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ» وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَلَا يُقْتَلُونَ، وَلَوْ قَاتَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قُتِلَ، وَكَذَا لَوْ حَرَّضَ عَلَى الْقِتَالِ، أَوْ دَلَّ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ كَانَ الْكَفَرَةُ يَنْتَفِعُونَ بِرَأْيِهِ، أَوْ كَانَ مُطَاعًا، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً أَوْ صَغِيرًا؛ لِوُجُودِ الْقِتَالِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَبِيعَةَ بْنَ رَفِيعٍ السُّلَمِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَدْرَكَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ يَوْمَ حُنَيْنٌ، فَقَتَلَهُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ كَالْقَفَّةِ، لَا يَنْفَعُ إلَّا بِرَأْيِهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ» وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ يَحِلُّ قَتْلُهُ، سَوَاءٌ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ إلَّا إذَا قَاتَلَ حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى بِالرَّأْيِ وَالطَّاعَةِ وَالتَّحْرِيضِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَيُقْتَلُ الْقِسِّيسُ وَالسَّيَّاحُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ، وَالْأَصَمُّ وَالْأَخْرَسُ، وَأَقْطَعُ الْيَدِ الْيُسْرَى، وَأَقْطَعُ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوا؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، وَلَوْ قُتِلَ وَاحِدٌ مِمَّنْ ذَكَرنَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ مِنْ دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ، إلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ؛ لِأَنَّ دَمَ الْكَافِرِ لَا يَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْأَمَانِ وَلَمْ يُوجَدْ وَأَمَّا حَالَ مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ، وَهِيَ مَا بَعْدَ الْأَسْرِ وَالْأَخْذِ، فَكُلُّ مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ فِي حَالِ الْقِتَالِ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ، وَكُلُّ مَنْ يَحِلُّ قَتْلُهُ فِي حَالِ الْقِتَالِ إذَا قَاتَلَ حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى، يُبَاحُ قَتْلُهُ بَعْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ إلَّا الصَّبِيَّ، وَالْمَعْتُوهَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ قَتْلُهُمَا فِي حَالِ الْقِتَالِ إذَا قَاتَلَا حَقِيقَةً وَمَعْنًى، وَلَا يُبَاحُ قَتْلُهُمَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ إذَا أُسِرَا، وَإِنْ قَتَلَا جَمَاعَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَالِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الْأَسْرِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ، فَأَمَّا الْقَتْلُ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ فَلِدَفْعِ شَرِّ الْقِتَالِ، وَقَدْ وُجِدَ الشَّرُّ مِنْهُمَا فَأُبِيحَ قَتْلُهُمَا لِدَفْعِ الشَّرِّ، وَقَدْ انْعَدَمَ الشَّرُّ بِالْأَسْرِ، فَكَانَ الْقَتْلُ بَعْدَهُ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِهَا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ أَبَاهُ الْكَافِرَ الْحَرْبِيَّ بِالْقَتْلِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] أَمَرَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِمُصَاحَبَةِ الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالِابْتِدَاءُ بِالْقَتْلِ لَيْسَ مِنْ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ. وَرُوِيَ «أَنَّ حَنْظَلَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غَسِيلَ الْمَلَائِكَةِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلِ أَبِيهِ، فَنَهَاهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -» وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِإِحْيَائِهِ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ، فَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ فِيهِ إفْنَاؤُهُ، يَكُونُ مُتَنَاقِضًا فَإِنْ قَصَدَ الْأَبُ قَتْلَهُ، يَدْفَعْهُ عَنْ

فصل في بيان من يسع تركه في دار الحرب ممن لا يحل قتله، ومن لا يسع

نَفْسِهِ، وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ الدَّفْعِ، وَلَكِنْ لَا يَقْصِدُ بِالدَّفْعِ الْقَتْلَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى الْقَصْدِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَنْ يَسَعُ تَرْكُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ، وَمَنْ لَا يَسَعُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَسَعُ تَرْكُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ، وَمَنْ لَا يَسَعُ فَالْأَمْرُ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ، أَمَّا إذَا كَانَ الْغُزَاةُ قَادِرِينَ عَلَى عَمَلِ هَؤُلَاءِ، وَإِخْرَاجِهِمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا إنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ قَدِرُوا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ مِمَّنْ يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ، لَا يَجُوزُ تَرْكُهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِاللِّقَاحِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ، كَالشَّيْخِ الْفَانِي الَّذِي لَا قِتَالَ عِنْدَهُ، وَلَا لِقَاحَ، فَإِنْ كَانَ ذَا رَأْيٍ وَمَشُورَةٍ، فَلَا يُبَاحُ تَرْكُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَضَرَّةِ بِالْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَعِينُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِرَأْيِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ فَإِنْ شَاءُوا تَرَكُوهُ، فَإِنَّهُ لَا مَضَرَّةَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِهِ، وَإِنْ شَاءُوا أَخْرَجُوهُ لِفَائِدَةِ الْمُفَادَاةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى مُفَادَاةَ الْأَسِيرِ بِالْأَسِيرِ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى لَا يُخْرِجُونَهُمْ؛ لِمَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إخْرَاجِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْعَجُوزُ الَّتِي لَا يُرْجَى وَلَدُهَا، وَكَذَلِكَ الرُّهْبَانُ، وَأَصْحَابُ الصَّوَامِعِ إذَا كَانُوا حُضُورًا، لَا يَلْحَقُونَ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى حَمْلِ هَؤُلَاءِ وَنَقْلِهِمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لَا يَحِلُّ قَتْلُهُمْ، وَيُتْرَكُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَهَى عَنْ قَتْلِهِمْ، وَلَا قُدْرَةَ عَلَى نَقْلِهِمْ، فَيُتْرَكُونَ ضَرُورَةً. وَأَمَّا الْحَيَوَانُ وَالسِّلَاحُ إذَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَمَّا الْحَيَوَانُ فَيُذْبَحُ ثُمَّ يُحْرَقُ بِالنَّارِ؛ لِئَلَّا يُمْكِنَهُمْ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَأَمَّا السِّلَاحُ فَمَا يُمْكِنُ إحْرَاقُهُ بِالنَّارِ يُحْرَقُ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْإِحْرَاقَ كَالْحَدِيدِ وَنَحْوِهِ، فَيُدْفَنُ بِالتُّرَابِ لِئَلَّا يَجِدُوهُ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يُكْرَهُ حَمْلُهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَمَا لَا يُكْرَهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُكْرَهُ حَمْلُهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَمَا لَا يُكْرَهُ، فَنَقُولُ: لَيْسَ لِلتَّاجِرِ أَنْ يَحْمِلَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى الْحَرْبِ مِنْ الْأَسْلِحَةِ، وَالْخَيْلِ، وَالرَّقِيقِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَكُلِّ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ فِي الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إمْدَادَهُمْ، وَإِعَانَتَهُمْ عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ الْحَمْلِ وَكَذَا الْحَرْبِيُّ إذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ لَا يُمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلَاحَ، وَلَوْ اشْتَرَى لَا يُمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُدْخِلَهُ دَارَ الْحَرْبِ لِمَا قُلْنَا، إلَّا إذَا كَانَ دَاخِلَ دَارِ الْإِسْلَامِ بِسِلَاحٍ فَاسْتَبْدَلَهُ، فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ، إنْ كَانَ الَّذِي اسْتَبْدَلَهُ خِلَافَ جِنْسِ سِلَاحِهِ، بِأَنْ اُسْتُبْدِلَ الْقَوْسُ بِالسَّيْفِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، لَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ سِلَاحِهِ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ، أَوْ أَرْدَأَ مِنْهُ يُمَكَّنُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ أَجْوَدَ مِنْهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْهُ لِمَا قُلْنَا. وَلَا بَأْسَ بِحَمْلِ الثِّيَابِ وَالْمَتَاعِ وَالطَّعَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ إلَيْهِمْ؛ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْإِمْدَادِ، وَالْإِعَانَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَتْ الْعَادَةُ مِنْ تُجَّارِ الْأَعْصَارِ، أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ دَارَ الْحَرْبِ لِلتِّجَارَةِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ الرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، إلَّا أَنَّ التَّرْكَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَيَدْعُونَهُمْ إلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْكَفُّ وَالْإِمْسَاكُ عَنْ الدُّخُولِ مِنْ بَابِ صِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ الْهَوَانِ، وَالدِّينِ عَنْ الزَّوَالِ، فَكَانَ أَوْلَى. وَأَمَّا الْمُسَافَرَةُ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ، إنْ كَانَ الْعَسْكَرُ عَظِيمًا مَأْمُونًا عَلَيْهِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَإِذَا كَانَ الْعَسْكَرُ عَظِيمًا يَقَعُ الْأَمْنُ عَنْ الْوُقُوعِ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْمُونًا عَلَيْهِ، كَالسَّرِيَّةِ يُكْرَهُ الْمُسَافَرَةُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ الْوُقُوعِ فِي أَيْدِيهِمْ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ، فَكَانَ الدُّخُولُ بِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ تَعْرِيضًا لِلِاسْتِخْفَافِ بِالْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ. وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ، مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسَافَرَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ إخْرَاجِ النِّسَاءِ مَعَ أَنْفُسِهِمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ، إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، غَيْرُ مَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى الطَّبْخِ وَالْغُسْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ سَرِيَّةً لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا يُكْرَهُ إخْرَاجُهُنَّ لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَعْتَرِضُ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُحَرِّمَةِ لِلْقِتَالِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَعْتَرِضُ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُحَرِّمَةِ لِلْقِتَالِ فَنَقُولُ - وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ: الْأَسْبَابُ الْمُعْتَرِضَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلْقِتَالِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ، الْإِيمَانُ، وَالْأَمَانُ، وَالِالْتِجَاءُ إلَى الْحَرَمِ، أَمَّا الْإِيمَانُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ، أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ مَا يُحْكَمُ بِهِ بِكَوْنِ الشَّخْصِ مُؤْمِنًا وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِيمَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ: الطُّرُقُ الَّتِي يُحْكَمُ بِهَا بِكَوْنِ الشَّخْصِ مُؤْمِنًا ثَلَاثَةٌ: نَصٌّ، وَدَلَالَةٌ، وَتَبَعِيَّةٌ. أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَةِ، أَوْ بِالشَّهَادَتَيْنِ، أَوْ يَأْتِيَ بِهِمَا مَعَ التَّبَرُّؤِ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ صَرِيحًا. وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْكَفَرَةَ أَصْنَافٌ أَرْبَعَةٌ: صِنْفٌ مِنْهُمْ يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ أَصْلًا، وَهُمْ الدَّهْرِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ

يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَيُنْكِرُونَ تَوْحِيدَهُ، وَهُمْ الْوَثَنِيَّةُ وَالْمَجُوسُ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَيُنْكِرُونَ الرِّسَالَةَ رَأْسًا، وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَالرِّسَالَةِ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ رِسَالَةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ - وَهُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَإِنْ كَانَ مِنْ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَمْتَنِعُونَ عَنْ الشَّهَادَةِ أَصْلًا. فَإِذَا أَقَرُّوا بِهَا كَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ إيمَانِهِمْ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ كَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ، فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا - أَيَّتَهُمَا كَانَتْ - دَلَالَةَ الْإِيمَانِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الصِّنْفِ الثَّالِثِ فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ مُنْكِرَ الرِّسَالَةِ لَا يَمْتَنِعُ عَنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَلَوْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنْ هَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهَا دَلِيلَ الْإِيمَانِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ الصِّنْفِ الرَّابِعِ فَأَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ الدِّينِ الَّذِي عَلَيْهِ؛ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ؛ لِأَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُقِرُّ بِرِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ؛ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنَّهُ يَقُولُ: إنَّهُ بُعِثَ إلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ فَلَا يَكُونُ إتْيَانُهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِدُونِ التَّبَرُّؤِ دَلِيلًا عَلَى إيمَانِهِ، وَكَذَا إذَا قَالَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ: أَنَا مُؤْمِنٌ أَوْ مُسْلِمٌ أَوْ قَالَ: آمَنْتُ أَوْ: أَسْلَمْتُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ وَمُسْلِمُونَ، وَالْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ هُوَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ الْيَهُودِيُّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ: أَنَا مُسْلِمٌ أَوْ قَالَ: أَسْلَمْتُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَيَّ شَيْءٍ أَرَدْتَ بِهِ إنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ تَرْكَ الْيَهُودِيَّةِ، أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ، وَالدُّخُولَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ، حَتَّى لَوْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ مُرْتَدًّا وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي: أَسْلَمْتُ أَنِّي عَلَى الْحَقِّ، وَلَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ الرُّجُوعَ عَنْ دِينِي لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ وَلَوْ قَالَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَتَبَرَّأُ عَنْ الْيَهُودِيَّةِ، أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْتَنِعُونَ عَنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَالتَّبَرُّؤِ عَنْ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة، لَا يَكُونُ دَلِيلَ الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَبَرَّأَ عَنْ ذَلِكَ، وَدَخَلَ فِي دِينٍ آخَرَ سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَصْلُحُ التَّبَرُّؤُ دَلِيلَ الْإِيمَانِ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَلَوْ أَقَرَّ مَعَ ذَلِكَ فَقَالَ: دَخَلْتُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُكِمَ بِالْإِسْلَامِ؛ لِزَوَالِ الِاحْتِمَالِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُحْكَمُ بِهِ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ، فَنَحْوُ أَنْ يُصَلِّيَ كِتَابِيٌّ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي جَمَاعَةٍ، وَيُحْكَمَ بِإِسْلَامِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ وَلَوْ صَلَّى وَحْدَهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الصَّلَاةَ لَوْ صَلَحَتْ دَلَالَةَ الْإِيمَانِ لَمَا افْتَرَقَ الْحَالُ فِيهَا بَيْنَ حَالِ الِانْفِرَادِ، وَبَيْنَ حَالِ الِاجْتِمَاعِ وَلَوْ صَلَّى وَحْدَهُ لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ فَعَلَى ذَلِكَ إذَا صَلَّى بِجَمَاعَةٍ. (وَلَنَا) أَنَّ الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَةِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ الَّتِي نُصَلِّيهَا الْيَوْمَ، لَمْ تَكُنْ فِي شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا، فَكَانَتْ مُخْتَصَّةً بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَتْ دَلَالَةً عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَلَّى وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَحْدَهُ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِشَرِيعَتِنَا وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا صَلَّى وَحْدَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ دَلِيلُ الْإِسْلَامِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ شَهِدَ جِنَازَتَنَا، وَصَلَّى إلَى قِبْلَتِنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ» . وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَذَّنَ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَنَا أَنَّ الْأَذَانَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِهِ دَلِيلَ قَبُولِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ أَوْ تَلَقَّنَهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ مَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَهُ حَقِيقَةً، إذْ لَا كُلُّ مَنْ يَعْلَمُ شَيْئًا يُؤْمِنُ بِهِ، كَالْمُعَانِدِينَ مِنْ الْكَفَرَةِ، وَلَوْ حَجَّ هَلْ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ قَالُوا: يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إنْ تَهَيَّأَ لِلْإِحْرَامِ، وَلَبَّى وَشَهِدَ الْمَنَاسِكَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ عِبَادَةَ الْحَجِّ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ الْمَخْصُوصَةِ، لَمْ تَكُنْ فِي الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَكَانَتْ مُخْتَصَّةً بِشَرِيعَتِنَا، فَكَانَتْ دَلَالَةَ الْإِيمَانِ كَالصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ. وَإِنْ لَبَّى وَلَمْ يَشْهَدْ الْمَنَاسِكَ، أَوْ شَهِدَ الْمَنَاسِكَ، وَلَمْ يُلَبِّ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ عِبَادَةً فِي شَرِيعَتِنَا إلَّا بِالْأَدَاءِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ، وَالْأَدَاءُ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ يُصَلِّي سَنَةً، وَمَا قَالَا: رَأَيْنَاهُ يُصَلِّي فِي جَمَاعَةٍ وَهُوَ يَقُولُ: صَلَّيْتُ صَلَوَاتِي لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يُصَلُّونَ أَيْضًا، فَلَا تَكُونُ الصَّلَاةُ الْمُطْلَقَةُ دَلَالَةَ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا وَقَالَ: رَأَيْتُهُ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ وَشَهِدَ

الْآخَرُ وَقَالَ: رَأَيْتُهُ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ كَذَا وَهُوَ مُنْكِرٌ لَا تُقْبَلُ، وَلَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ اتَّفَقَا عَلَى وُجُودِ الصَّلَاةِ مِنْهُ بِجَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَسْجِدِ، وَذَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَكَانِ لَا نَفْسَ الْفِعْلِ، وَهُوَ الصَّلَاةُ، فَقَدْ اجْتَمَعَ شَاهِدَانِ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةً، لَكِنْ تُعْتَبَرُ شَهَادَتُهُمَا فِي الْجَبْرِ عَلَى الْإِسْلَامِ، لَا فِي الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ مُتَّحِدًا حَقِيقَةً، فَهُوَ مُخْتَلِفٌ صُورَةً لِاخْتِلَافِ مَحَلِّ الْفِعْلِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْقَتْلِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْحُكْمُ بِالْإِسْلَامِ مِنْ طَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ فَإِنَّ الصَّبِيَّ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ عَقَلَ أَوْ لَمْ يَعْقِلْ مَا لَمْ يُسْلِمْ بِنَفْسِهِ إذَا عَقَلَ، وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلدَّارِ أَيْضًا، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ: أَنَّ الصَّبِيَّ يَتْبَعُ أَبَوَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالدَّارِ مَعَ وُجُودِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دِينٍ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ، وَالصَّبِيُّ لَا يَهْتَمُّ لِذَلِكَ إمَّا لِعَدَمِ عَقْلِهِ، وَإِمَّا لِقُصُورِهِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، وَجَعْلُهُ تَبَعًا لِلْأَبَوَيْنِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْهُمَا وَإِنَّمَا الدَّارُ مُنْشَأٌ، وَعِنْدَ انْعِدَامِهِمَا فِي الدَّارِ الَّتِي فِيهَا الصَّبِيُّ تَنْتَقِلُ التَّبَعِيَّةُ إلَى الدَّارِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ تَسْتَتْبِعُ الصَّبِيَّ فِي الْإِسْلَامِ فِي الْجُمْلَةِ كَاللَّقِيطِ، فَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ، فَالْوَلَدُ يَتْبَعُ الْمُسْلِمَ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ، وَهِيَ التَّوَلُّدُ وَالتَّفَرُّعُ، فَيُرَجَّحُ الْمُسْلِمُ بِالْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا، وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا، فَالْوَلَدُ كِتَابِيٌّ؛ لِأَنَّ الْكِتَابِيَّ إلَى أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ أَقْرَبُ، فَكَانَ الْإِسْلَامُ مِنْهُ أَرْجَى وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: إذَا سُبِيَ الصَّبِيُّ، وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ،. فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ سُبِيَ مَعَ أَحَدِهِمَا، وَإِمَّا أَنْ سُبِيَ مَعَ أَحَدِهِمَا، وَإِمَّا أَنْ سُبِيَ وَحْدَهُ فَإِنْ سُبِيَ مَعَ أَبَوَيْهِ فَمَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَهُوَ عَلَى دِينِ أَبَوَيْهِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ وَكَذَا إذَا سُبِيَ مَعَ أَحَدِهِمَا وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَمَعَهُ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا لِمَا بَيَّنَّا، فَإِنْ مَاتَ الْأَبَوَانِ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى دِينِهِمَا حَتَّى يُسْلِمَ بِنَفْسِهِ، وَلَا تَنْقَطِعُ تَبَعِيَّةُ الْأَبَوَيْنِ بِمَوْتِهِمَا؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْأَصْلِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ، وَإِنْ أُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدُهُمَا فَهُوَ مُسْلِمٌ؛ لِأَنَّ التَّبَعِيَّةَ انْتَقَلَتْ إلَى الدَّارِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ سُبِيَ الصَّبِيُّ بَعْدَهُ وَأُدْخِلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَهُمَا دَارٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الدَّارِ لَا تُعْتَبَرُ مَعَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا قَبْلَ الْإِدْخَالِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّهُمَا فِي دَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَاخْتِلَافُ الدَّارِ يَمْنَعُ التَّبَعِيَّةَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ ثُمَّ إنَّمَا تُعْتَبَرُ تَبَعِيَّةُ الْأَبَوَيْنِ وَالدَّارِ إذَا لَمْ يُسْلِمْ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ، فَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ وَهُوَ يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ فَلَا تُعْتَبَرُ التَّبَعِيَّةُ، وَيَصِحُّ إسْلَامُهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» أَخْبَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ الصَّبِيَّ مَرْفُوعُ الْقَلَمِ وَالْفِقْهُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ لَوْ صَحَّ إسْلَامُهُ إمَّا أَنْ يَصِحَّ فَرْضًا، وَإِمَّا أَنْ يَصِحَّ نَفْلًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّنَفُّلَ بِالْإِسْلَامِ مُحَالٌ، وَالْفَرْضِيَّةُ بِخِطَابِ الشَّرْعِ، وَالْقَلَمُ عَنْهُ مَرْفُوعٌ، وَلِأَنَّ صِحَّةَ الْإِسْلَامِ مِنْ الْأَحْكَامِ الضَّارَّةِ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَالنَّفَقَةِ، وَوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ طَلَاقُهُ وَعِتَاقُهُ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ، فَلَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ. (وَلَنَا) أَنَّهُ آمَنَ بِاَللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَنْ غَيْبٍ فَيَصِحُّ إيمَانُهُ كَالْبَالِغِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيمَانَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّصْدِيقِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَهُوَ تَصْدِيقُ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي جَمِيعِ مَا أَنْزَلَ عَلَى رُسُلِهِ، أَوْ تَصْدِيقُ رُسُلِهِ فِي جَمِيعِ مَا جَاءُوا بِهِ عَنْ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ لِوُجُودِ دَلِيلِهِ، وَهُوَ إقْرَارُ الْعَاقِلِ، وَخُصُوصًا عَنْ طَوْعٍ، فَتُرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى وُجُودِ الْإِيمَانِ حَقِيقَةً قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ» وَقَوْلُهُ: إنَّهُ مَرْفُوعُ الْقَلَمِ قُلْنَا: نَعَمْ. فِي الْفُرُوعِ الشَّرْعِيَّةِ فَأَمَّا فِي الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ فَمَمْنُوعٌ، وَوُجُوبُ الْإِيمَانِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ وَالْحَدِيثُ يُحْمَلُ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَبِهِ نَقُولُ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَأَمَّا أَحْكَامُ الْإِيمَانِ فَنَقُولُ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلْإِيمَانِ - حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ، وَالثَّانِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ فَكَيْنُونَةُ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إذَا خَتَمَ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل: 89]

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا فَعِصْمَةُ النَّفْسِ وَالْمَالِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا» إلَّا أَنَّ عِصْمَةَ النَّفْسِ تَثْبُتُ مَقْصُودَةً، وَعِصْمَةُ الْمَالِ تَثْبُتُ تَابِعَةً لِعِصْمَةِ النَّفْسِ، إذْ النَّفْسُ أَصْلٌ فِي التَّخَلُّقِ، وَالْمَالُ خُلِقَ بَذْلُهُ لِلنَّفْسِ اسْتِبْقَاءً لَهَا، فَمَتَى ثَبَتَتْ عِصْمَةُ النَّفْسِ ثَبَتَتْ عِصْمَةُ الْمَالِ، تَبَعًا إلَّا إذَا وُجِدَ الْقَاطِعُ لِلتَّبَعِيَّةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فَعَلَى هَذَا إذَا أَسْلَمَ أَهْلُ بَلْدَةٍ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ حَرُمَ قَتْلُهُمْ، وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَى أَمْوَالِهِمْ عَلَى مَا قُلْنَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» . وَلَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا الْكَفَّارَةُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ الدِّيَةُ مَعَ الْكَفَّارَةِ فِي الْخَطَأِ، وَالْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ وَاحْتَجَّا بِالْعُمُومَات الْوَارِدَةِ فِي بَابِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مُؤْمِنٍ قُتِلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] أَوْجَبَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْكَفَّارَةَ وَجَعَلَهَا كُلَّ مُوجِبِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي هُوَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَنَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ جَزَاءً، وَالْجَزَاءُ يُنْبِئُ عَنْ الْكِفَايَةِ، فَاقْتَضَى وُقُوعَ الْكِفَايَةِ بِهَا عَمَّا سِوَاهَا مِنْ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ جَمِيعًا، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا لِحِكْمَةِ الْحَيَاةِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وَالْحَاجَةُ إلَى الْإِحْيَاءِ عِنْدَ قَصْدِ الْقَتْلِ لِعَدَاوَةٍ حَامِلَةٍ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ الْمُخَالَطَةِ، وَلَوْ لَمْ تُوجَدْ هَاهُنَا وَعَلَى هَذَا إذَا أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا حَتَّى ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ، فَمَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ الْمَقْتُولِ فَهُوَ لَهُ، وَلَا يَكُونُ فَيْئًا إلَّا عَبْدًا يُقَاتِلُ فَإِنَّهُ يَكُون فَيْئًا؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ اسْتَفَادَتْ الْعِصْمَةَ بِالْإِسْلَامِ، وَمَالُهُ الَّذِي فِي يَدِهِ تَابِعٌ لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَكَانَ مَعْصُومًا تَبَعًا لِعِصْمَةِ النَّفْسِ، إلَّا عَبْدًا يُقَاتِلُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَاتَلَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى، فَلَمْ يَبْقَ تَبَعًا لَهُ، فَانْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ، فَيَكُون مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ بِالِاسْتِيلَاءِ. وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ وَدِيعَةً لَهُ فَهُوَ لَهُ، وَلَا يَكُونُ فَيْئًا؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُهُ مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْفَظُ الْوَدِيعَةَ لَهُ، وَيَدُ نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْصُومٌ فَكَانَ مَا فِي يَدِهِ مَعْصُومًا فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ وَأَمَّا مَا كَانَ فِي يَدِ حَرْبِيٍّ وَدِيعَةً، فَيَكُونُ فَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ لَهُ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُهُ، فَكَانَ مَعْصُومًا وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْفَظُ لَهُ تَكُونُ يَدُهُ فَيَكُونُ تَبَعًا لَهُ، فَيَكُونُ مَعْصُومًا، وَمِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ لَا يَكُونُ مَعْصُومًا؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْحَرْبِيِّ غَيْرُ مَعْصُومَةٍ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْعِصْمَةِ، فَلَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ مَعَ الشَّكِّ، وَكَذَا عَقَارُهُ يَكُونُ فَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ وَالْمَنْقُولُ سَوَاءٌ وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ يَكُونُ فِي يَدِهِ، فَيَكُونُ تَبَعًا لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُحْصَنٌ مَحْفُوظٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ فِي يَدِهِ، فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لَهُ، فَلَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ مَعَ الشَّكِّ وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَأَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ تَبَعًا لَهُ، وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ وَامْرَأَتُهُ يَكُونُونَ فَيْئًا؛ لِأَنَّهُمْ فِي حُكْمِ أَنْفُسِهِمْ لِانْعِدَامِ التَّبَعِيَّةِ. وَأَمَّا الْوَلَدُ الَّذِي فِي الْبَطْنِ فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِأَبِيهِ وَرَقِيقٌ تَبَعًا لِأُمِّهِ، وَفِيهِ إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا إنْشَاءُ الرِّقِّ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَأَنَّهُ مَمْنُوعٌ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ إنْشَاءُ الرِّقِّ عَلَى مَنْ هُوَ مُسْلِمٌ حَقِيقَةً، لَا عَلَى مَنْ لَهُ حُكْمُ الْوُجُودِ، وَالْإِسْلَامُ شَرْعًا، هَذَا إذَا أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا، فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ، فَلَوْ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إلَيْنَا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ. أَمَّا أَمْوَالُهُ فَمَا كَانَ فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ وَدِيعَةً فَهُوَ لَهُ، وَلَا يَكُونُ فَيْئًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فَيْءٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا وَقِيلَ مَا كَانَ فِي يَدِ حَرْبِيٍّ وَدِيعَةً فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبِيهِمْ، وَلَا يُسْتَرَقُّونَ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ إنْشَاءَ الرِّقِّ إلَّا رِقًّا ثَبَتَ حُكْمًا بِأَنْ كَانَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِ الْأُمِّ، وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ فِي حُكْمِ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا يَكُونُونَ مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِ أَبِيهِمْ. وَكَذَلِكَ زَوْجَتُهُ وَالْوَلَدُ الَّذِي فِي الْبَطْنِ يَكُونُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأَبِيهِ، وَرَقِيقًا تَبَعًا لِأُمِّهِ، وَلَوْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ، فَجَمِيعُ مَالِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ، وَالْكِبَارِ، وَامْرَأَتِهِ، وَمَا فِي بَطْنِهَا فَيْءٌ، لِمَا لَمْ يُسْلِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى خَرَجَ إلَيْنَا لَمْ تَثْبُتْ الْعِصْمَةُ لِمَالِهِ؛ لِانْعِدَامِ عِصْمَةِ النَّفْسِ. فَبَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ صَارَتْ مَعْصُومَةً، لَكِنْ بَعْدَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، وَأَنَّهُ يُمْنَعُ ثُبُوتَ التَّبَعِيَّةِ وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ دَارَ الْحَرْبِ فَأَصَابَ هُنَاكَ مَالًا، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الَّذِي

أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا سَوَاءٌ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْأَمَانُ فَنَقُولُ: الْأَمَانُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: أَمَانٌ مُؤَقَّتٌ، وَأَمَانٌ مُؤَبَّدٌ أَمَّا الْمُؤَقَّتُ فَنَوْعَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا الْأَمَانُ الْمَعْرُوفُ، وَهُوَ أَنْ يُحَاصِرَ الْغُزَاةُ مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا مِنْ حُصُونِ الْكَفَرَةِ، فَيَسْتَأْمِنُهُمْ الْكُفَّارُ فَيُؤَمِّنُوهُمْ. وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ رُكْنِ الْأَمَانِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْأَمَانِ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْأَمَانُ. فَأَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُ عَلَى الْأَمَانِ، نَحْوُ قَوْلِ الْمُقَاتِلِ: أَمَّنْتُكُمْ أَوْ: أَنْتُمْ آمِنُونَ أَوْ: أَعْطَيْتُكُمْ الْأَمَانَ وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي حَالٍ يَكُونُ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ، وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةٌ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ فَرْضٌ، وَالْأَمَانُ يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ، فَيَتَنَاقَضُ. إلَّا إذَا كَانَ فِي حَالِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَقُوَّةِ الْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّهُ إذْ ذَاكَ يَكُونُ قِتَالًا مَعْنًى؛ لِوُقُوعِهِ وَسِيلَةً إلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ، فَلَا يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ. وَمِنْهَا الْعَقْلُ فَلَا يَجُوزُ أَمَانُ الْمَجْنُونِ، وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَسَلَامَةُ الْعَقْلِ عَنْ الْآفَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى إنَّ الصَّبِيَّ الْمُرَاهِقَ الَّذِي يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ، وَالْبَالِغَ الْمُخْتَلِطَ الْعَقْلِ إذَا أَمَّنَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ أَهْلِيَّةِ الْأَمَانِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَهْلِيَّةِ الْإِيمَانِ، وَالصَّبِيُّ الَّذِي يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْأَمَانِ كَالْبَالِغِ. (وَلَنَا) أَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ حُكْمِ الْأَمَانِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْأَمَانِ وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ حُرْمَةُ الْقِتَالِ، وَخِطَابُ التَّحْرِيمِ لَا يَتَنَاوَلُهُ، وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْأَمَانِ أَنْ يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةٌ، وَهَذِهِ حَالَةٌ خَفِيَّةٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ مِنْ الصَّبِيِّ لِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فَلَا يَصِحُّ أَمَانُ الْكَافِرِ، وَإِنْ كَانَ يُقَاتِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا تُؤْمَنُ خِيَانَتُهُ، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَّهَمًا فَلَا يَدْرِي أَنَّهُ بَنَى أَمَانَهُ عَلَى مُرَاعَاةِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ التَّفَرُّقِ عَنْ حَالِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ أَمْ لَا، فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي وُجُودِ شَرْطِ الصِّحَّةِ، فَلَا يَصِحُّ مَعَ الشَّكِّ. وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْأَمَانِ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي الْقِتَالِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَلْ يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَنْ الْقِتَالِ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَصِحُّ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَصِحُّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (وَجْهُ) قَوْلِهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» وَالذِّمَّةُ الْعَهْدُ، وَالْأَمَانُ نَوْعُ عَهْدٍ، وَالْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَدْنَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَتَنَاوَلُهُ الْحَدِيثُ وَلِأَنَّ حَجْرَ الْمَوْلَى يَعْمَلُ فِي التَّصَرُّفَاتِ، الضَّارَّةِ دُونَ النَّافِعَةِ، بَلْ هُوَ فِي التَّصَرُّفَاتِ النَّافِعَةِ غَيْرُ مَحْجُورٍ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَلَا مَضَرَّةَ لِلْمَوْلَى فِي أَمَانِ الْعَبْدِ بِتَعْطِيلِ مَنَافِعِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ، بَلْ لَهُ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، فَلَا يَظْهَرُ انْحِجَارُهُ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ الْمَأْذُونَ بِالْقِتَالِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَمَانُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ فَرْضٌ وَالْأَمَانُ يُحَرِّمُ الْقِتَالَ، إلَّا إذَا وَقَعَ فِي حَالٍ يَكُونُ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةٌ، لِوُقُوعِهِ وَسِيلَةً إلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَيَكُونُ قِتَالًا مَعْنًى إذْ الْوَسِيلَةُ إلَى الشَّيْءِ حُكْمُهَا حُكْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهَذِهِ حَالَةٌ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ فِي حَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي قُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ، وَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ لِاشْتِغَالِهِ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى لَا يَقِفُ عَلَيْهِمَا، فَكَانَ أَمَانُهُ تَرْكًا لِلْقِتَالِ الْمَفْرُوضِ صُورَةً وَمَعْنًى، فَلَا يَجُوزُ، فَبِهَذَا فَارَقَ الْمَأْذُونَ؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ بِالْقِتَالِ يَقِفُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، فَيَقَعُ أَمَانُهُ وَسِيلَةً إلَى الْقِتَالِ، فَكَانَ إقَامَةً لِلْفَرْضِ مَعْنًى فَهُوَ الْفَرْقُ. (وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَحْجُورَ؛ لِأَنَّ الْأَدْنَى إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الدَّنَاءَةِ، وَهِيَ الْخَسَاسَةُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الدُّنُوِّ، وَهُوَ الْقُرْبُ وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِمُرَادٍ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَتَنَاوَلُ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» وَلَا خَسَاسَةَ مَعَ الْإِسْلَامِ وَالثَّانِي لَا يَتَنَاوَلُ الْمَحْجُورَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي صَفِّ الْقِتَالِ، فَلَا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْكَفَرَةِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَكَذَلِكَ الذُّكُورَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا بِمَا مَعَهَا مِنْ الْعَقْلِ لَا تَعْجِزُ عَنْ الْوُقُوفِ عَلَى حَالِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَتَنَا زَيْنَبَ بِنْتَ النَّبِيِّ الْمُكَرَّمِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَمَّنَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَانَهَا» وَكَذَلِكَ السَّلَامَةُ عَنْ الْعَمَى، وَالزَّمَانَةِ وَالْمَرَضِ، لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي صِحَّةِ الْأَمَانِ صُدُورُهُ عَنْ رَأْيٍ وَنَظَرٍ فِي الْأَحْوَالِ الْخَفِيَّةِ مِنْ الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ، وَهَذِهِ

الْعَوَارِضُ لَا تَقْدَحُ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ التَّاجِرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالْأَسِيرِ فِيهَا، وَالْحَرْبِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقِفُونَ عَلَى حَالِ الْغُزَاةِ مِنْ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، فَلَا يَعْرِفُونَ لِلْأَمَانِ مَصْلَحَةً، وَلِأَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ فِي حَقِّ الْغُزَاةِ؛ لِكَوْنِهِمْ مَقْهُورِينَ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ، وَكَذَلِكَ الْجَمَاعَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْوَاحِدِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَالَةِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ لَا يَقِفُ عَلَى رَأْيِ الْجَمَاعَةِ، فَيَصِحُّ مِنْ الْوَاحِدِ وَسَوَاءٌ أَمَّنَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً أَوْ قَلِيلَةً، أَوْ أَهْلَ مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ، فَذَلِكَ جَائِزٌ. وَأَمَّا حُكْمُ الْأَمَانِ، فَهُوَ ثُبُوتُ الْأَمْنِ لِلْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْأَمَانِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَمَّنْتُ فَثَبَتَ الْأَمْنُ لَهُمْ عَنْ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالِاسْتِغْنَام، فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَتْلُ رِجَالِهِمْ، وَسَبْيُ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَاسْتِغْنَامُ أَمْوَالِهِمْ وَأَمَّا صِفَتُهُ فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، حَتَّى لَوْ رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي النَّقْضِ يَنْقُضُ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ مَعَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْقِتَالِ الْمَفْرُوضِ، كَانَ لِلْمَصْلَحَةِ، فَإِذَا صَارَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي النَّقْضِ نَقَضَ. وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُنْتَقَضُ بِهِ الْأَمَانُ فَالْأَمْرُ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ، إمَّا أَنْ كَانَ الْأَمَانُ مُطْلَقًا، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مُؤَقَّتًا إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَانْتِقَاضُهُ يَكُونُ بِطَرِيقَيْنِ، أَحَدُهُمَا: نَقْضُ الْإِمَامِ، فَإِذَا نَقَضَ الْإِمَامُ انْتَقَضَ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِالنَّقْضِ، ثُمَّ يُقَاتِلَهُمْ لِئَلَّا يَكُونَ مِنْهُمْ غَدْرٌ فِي الْعَهْدِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَجِيءَ أَهْلُ الْحِصْنِ بِالْأَمَانِ فَيَنْقُضَ، وَإِذَا جَاءُوا الْإِمَامَ بِالْأَمَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَبَوْا فَإِلَى الذِّمَّةِ، فَإِنْ أَبَوْا رَدَّهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ احْتِرَازًا عَنْ الْغَدْرِ، فَإِنْ أَبَوْا الْإِسْلَامَ وَالْجِزْيَةَ، وَأَبَوْا أَنْ يَلْحَقُوا بِمَأْمَنِهِمْ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يُؤَجِّلُهُمْ عَلَى مَا يَرَى فَإِنْ رَجَعُوا إلَى مَأْمَنِهِمْ فِي الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ، وَإِلَّا صَارُوا ذِمَّةً لَا يُمَكَّنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَرْجِعُوا إلَى مَأْمَنِهِمْ؛ لِأَنَّ مَقَامَهُمْ بَعْدَ الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ الْتِزَامُ الذِّمَّةِ دَلَالَةً، وَإِنْ كَانَ الْأَمَانُ مُؤَقَّتًا إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ يَنْتَهِي بِمُضِيِّ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى النَّقْضِ، وَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ إلَّا إذَا دَخَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَمَضَى الْوَقْتُ، وَهُوَ فِيهِ، فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى مَأْمَنِهِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. هَذَا إذَا حَاصَرَ الْغُزَاةُ مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا مِنْ حُصُونِ الْكَفَرَةِ، فَجَاءُوا فَاسْتَأْمَنُوهُمْ، فَأَمَّا إذَا اسْتَنْزَلُوهُمْ عَنْ الْحُكْمِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ. (إمَّا) أَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِمَّا أَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ الْعِبَادِ، بِأَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ فَإِنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - جَازَ إنْزَالُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَالْخِيَارُ إلَى الْإِمَامِ إنْ شَاءَ قَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَإِنْ شَاءَ سَبَى الْكُلَّ، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُمْ ذِمَّةَ مُقَاتَلَتِهِمْ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ يُدْعَوْنَ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَبَوْا جُعِلُوا ذِمَّةً وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي وَصَايَا الْأُمَرَاءِ عِنْدَ بَعْثِ الْجَيْشِ: «وَإِذَا حَاصَرْتُمْ مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا، فَإِنْ أَرَادُوا أَنْ تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ - تَعَالَى - فِيهِمْ» نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْإِنْزَالِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَنَبَّهَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَكَانَ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ الْإِمَامِ قَضَاءً بِالْمَجْهُولِ، وَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَيُدْعَوْنَ إلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوا فَهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ لَا سَبِيلَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَإِنْ أَبَوْا لَا يَقْتُلُهُمْ الْإِمَامُ وَلَا يَسْتَرِقُّهُمْ، وَلَكِنْ يَجْعَلُهُمْ ذِمَّةً، فَإِنْ طَلَبُوا مِنْ الْإِمَامِ أَنْ يُبْلِغَهُمْ مَأْمَنَهُمْ لَمْ يُجِبْهُمْ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ لَصَارُوا حَرْبًا لَنَا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الِاسْتِنْزَالَ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - هُوَ الِاسْتِنْزَالُ عَلَى الْحُكْمِ الْمَشْرُوعِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي حَقِّ الْكَفَرَةِ وَالْقَتْلُ وَالسَّبْيُ وَعَقْدُ الذِّمَّةِ كُلُّ ذَلِكَ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهِمْ، فَجَازَ الْإِنْزَالُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إنَّ ذَلِكَ مَجْهُولٌ لَا يَدْرِي الْمُنْزَلَ عَلَيْهِ، أَيُّ حُكْمٍ هُوَ؟ . قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنْ يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ وَالْعِلْمُ بِهِ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الِاخْتِيَارُ وَهَذَا لَا يَكْفِي لِجَوَازِ الْإِنْزَالِ عَلَيْهِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْكَفَّارَاتِ: إنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُقُوعَ تَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِهِ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ الْعِلْمِ بِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكُفْرِ الْمُكَلَّفُ، كَذَا هَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ الْعِبَادِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى حُكْمِ الْعِبَادِ إنْزَالٌ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - حَقِيقَةً، إذْ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْحُكْمِ مِنْ نَفْسِهِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 26] وَقَالَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} [يوسف: 40] وَلَكِنَّهُ يُظْهِرُ حُكْمَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمَشْرُوعَ فِي الْحَادِثَةِ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لَقَدْ حَكَمْتَ

بِحُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ» . (وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ إلَى زَمَانِ جَوَازِ وُرُودِ النَّسْخِ، وَهُوَ حَالُ حَيَاةِ النَّبِيِّ؛ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِانْعِدَامِ اسْتِقْرَارِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي حَيَاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِئَلَّا يَكُونَ الْإِنْزَالُ عَلَى الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ عَسَى؛ لِاحْتِمَالِ النَّسْخِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَقَدْ انْعَدَمَ هَذَا الْمَعْنَى بَعْدَ وَفَاتِهِ؛ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِخُرُوجِ الْأَحْكَامِ عَنْ احْتِمَالِ النَّسْخِ بِوَفَاتِهِ. - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِذَا جَازَ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَالْخِيَارُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ، فَأَيُّمَا كَانَ أَفْضَلَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالذِّمَّةِ فُعِلَ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْمَشْرُوعُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي حَقِّ الْكَفَرَةِ فَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ، فَهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ، لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَالْأَرْضُ لَهُمْ، وَهِيَ عُشْرِيَّةٍ وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلَهُمْ ذِمَّةً فَهُمْ أَحْرَارٌ، وَيَضَعُ عَلَى أَرَاضِيهِمْ الْخَرَاجَ فَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ صَارَتْ عُشْرِيَّةٍ، هَذَا إذَا كَانَ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى حُكْمِ الْعِبَادِ بِأَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ (إمَّا) أَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ، بِأَنْ قَالُوا: عَلَى حُكْمِ فُلَانٍ لِرَجُلٍ سَمَّوْهُ (وَإِمَّا) أَنْ اسْتَنْزَلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ كَانَ الِاسْتِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَهُوَ رَجُلٌ عَاقِلٌ مُسْلِمٌ عَدْلٌ، غَيْرُ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ، جَازَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمَّا حَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، اسْتَنْزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَحَكَمَ سَعْدٌ أَنْ تُقْتَلَ رِجَالُهُمْ، وَتُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ، وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةً» فَقَدْ اسْتَصْوَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُكْمَهُ، حَيْثُ أَخْبَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ مَا حَكَمَ بِهِ حُكْمُ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَا يَكُونُ إلَّا صَوَابًا. وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِرَدِّهِمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ حَكَمَ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لِمَا بَيَّنَّا؛ لِأَنَّهُمْ بِالرَّدِّ يَصِيرُونَ حَرْبِيِّينَ لَنَا، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ بِالْإِجْمَاعِ كَانَ فَاسِقًا، أَوْ مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ، لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْفَاسِقَ يَصْلُحُ قَاضِيًا، فَيَصْلُحُ حَكَمًا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَا يَصْلُحُ حَكَمًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَصْلُحْ قَاضِيًا، وَكَذَا الْفَاسِقُ لَا يَصْلُحُ حَكَمًا وَإِنْ صَلَحَ قَاضِيًا، لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَضَاؤُهُ، وَلِهَذَا لَوْ رُفِعَتْ قَضِيَّةٌ إلَى قَاضٍ آخَرَ، إنْ شَاءَ أَمْضَاهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا جَازَ حُكْمُهُ فِي الْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى جِنْسِهِ، وَإِنْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ يَخْتَارُونَهُ، فَاخْتَارُوا رَجُلًا فَإِنْ كَانَ مَوْضِعًا لِلْحُكْمِ جَازَ حُكْمُهُ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَوْضِعٍ لِلْحُكْمِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ حَتَّى يَخْتَارُوا رَجُلًا مَوْضِعًا لِلْحُكْمِ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَارُوا أَبْلَغَهُمْ الْإِمَامُ مَأْمَنَهُمْ؛ لِأَنَّ النُّزُولَ كَانَ عَلَى شَرْطٍ، وَهُوَ حُكْمُ رَجُلٍ يَخْتَارُونَهُ، فَإِذَا لَمْ يَخْتَارُوا فَقَدْ بَقُوا فِي يَدِ الْإِمَامِ بِالْأَمَانِ، فَيَرُدُّهُمْ إلَى مَأْمَنِهِمْ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَرُدُّهُمْ إلَى حِصْنٍ هُوَ أَحْصَنُ مِنْ الْأَوَّلِ، وَلَا إلَى حَدٍّ يَمْتَنِعُونَ بِهِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ إلَى الْمَأْمَنِ لِلتَّحَرُّجِ عَنْ تَوَهُّمِ الْعُذْرِ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِالرَّدِّ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَلَا ضَرُورَةَ فِي الرَّدِّ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يُعَيِّنَ رَجُلًا صَالِحًا لِلْحُكْمِ فِيهِمْ، أَوْ يَحْكُمَ لِلْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِهِ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ لَهُمْ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَالثَّانِي، الْمُوَادَعَةُ وَهِيَ: الْمُعَاهَدَةُ وَالصُّلْحُ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ يُقَالُ: تَوَادَعَ الْفَرِيقَانِ أَيَّ تَعَاهَدَا عَلَى أَنْ لَا يَغْزُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَالْكَلَامُ فِي الْمُوَادَعَةِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ رُكْنِهَا، وَشَرْطِهَا، وَحُكْمِهَا، وَصِفَتِهَا، وَمَا يُنْتَقَضُ بِهِ أَمَّا رُكْنُهَا: فَهُوَ لَفْظَةُ الْمُوَادَعَةِ، أَوْ الْمُسَالَمَةِ، أَوْ الْمُصَالَحَةِ، أَوْ الْمُعَاهَدَةِ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَى هَذِهِ الْعِبَارَاتِ وَشَرْطُهَا الضَّرُورَةُ، وَهِيَ ضَرُورَةُ اسْتِعْدَادِ الْقِتَالِ، بِأَنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ، وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةُ الْمُجَاوَزَةِ إلَى قَوْمٍ آخَرِينَ، فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ تَرْكُ الْقِتَالِ الْمَفْرُوضِ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا فِي حَالٍ يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ قِتَالًا مَعْنًى قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد: 35] . وَعِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61] وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَادَعَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ تُوضَعَ الْحَرْبُ عَشْرَ سِنِينَ وَلَا يُشْتَرَطُ إذْنُ الْإِمَامِ بِالْمُوَادَعَةِ، حَتَّى لَوْ وَادَعَهُمْ الْإِمَامُ، أَوْ فَرِيقٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ جَازَتْ مُوَادَعَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ كَوْنُ عَقْدِ الْمُوَادَعَةِ مَصْلَحَةً

لِلْمُسْلِمِينَ وَقَدْ وُجِدَ. وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ جُعْلًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ، وَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَطْلُبَ الْمُسْلِمُونَ الصُّلْحَ مِنْ الْكَفَرَةِ وَيُعْطُوا عَلَى ذَلِكَ مَالًا إذَا اُضْطُرُّوا إلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] أَبَاحَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَنَا الصُّلْحَ مُطْلَقًا، فَيَجُوزُ بِبَدَلٍ أَوْ غَيْرِ بَدَلٍ، وَلِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى مَالٍ لِدَفْعِ شَرِّ الْكَفَرَةِ لِلْحَالِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ فِي الثَّانِي مِنْ بَابِ الْمُجَاهَدَةِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، فَيَكُونُ جَائِزًا وَتَجُوزُ مُوَادَعَةُ الْمُرْتَدِّينَ إذَا ` غَلَبُوا عَلَى دَارٍ مِنْ دُورِ الْإِسْلَامِ، وَخِيفَ مِنْهُمْ، وَلَمْ تُؤْمَنْ غَائِلَتُهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ دَفْعِ الشَّرِّ لِلْحَالِ، وَرَجَاءِ رُجُوعِهِمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَتَوْبَتِهِمْ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَالٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْهُمْ شَيْئًا لَا يُرَدُّ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ غَيْرُ مَعْصُومٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَمْوَالَهُمْ مَحَلٌّ لِلِاسْتِيلَاءِ كَأَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ؟ وَكَذَلِكَ الْبُغَاةُ تَجُوزُ مُوَادَعَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ مُوَادَعَةُ الْكَفَرَةِ؛ فَلَأَنْ تَجُوزَ مُوَادَعَةُ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى، وَلَكِنْ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَالٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، يَكُونُ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ، وَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ إلَّا مِنْ كَافِرٍ. (وَأَمَّا) حُكْمُ الْمُوَادَعَةِ فَهُوَ حُكْمُ الْأَمَانِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ أَنْ يَأْمَنَ الْمُوَادِعُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ أَمَانٍ أَيْضًا، وَلَوْ خَرَجَ قَوْمٌ مِنْ الْمُوَادَعِينَ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى لَيْسَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُوَادَعَةٌ، فَغَزَا الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْبَلْدَةَ، فَهَؤُلَاءِ آمِنُونَ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ أَفَادَ الْأَمَانَ لَهُمْ فَلَا يُنْتَقَضُ بِالْخُرُوجِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، كَمَا فِي الْأَمَانِ الْمُؤَبَّدِ، وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ إنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِدُخُولِ الذِّمِّيِّ دَارَ الْحَرْبِ كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ فِي دَارِ الْمُوَادَعَةِ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ دَرَاهِمَ بِأَمَانٍ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ، فَهُوَ آمِنٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ دَارَ الْمُوَادَعِينَ بِأَمَانِهِمْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْ جُمْلَتِهِمْ فَلَوْ عَادَ إلَى دَارِهِ ثُمَّ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ كَانَ فَيْئًا، لَنَا أَنْ نَقْتُلَهُ وَنَأْسِرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إلَى دَارِهِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْمُوَادَعَةِ، فَبَطَلَ حُكْمُ الْمُوَادَعَةِ فِي حَقِّهِ فَإِذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَهَذَا حَرْبِيٌّ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ أَمَانٍ، وَلَوْ أَسَرَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُوَادَعِينَ أَهْلَ دَارٍ أُخْرَى فَغَزَا الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ، كَانَ فَيْئًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ إلَيْهِمْ تَاجِرٌ فَهُوَ آمِنٌ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّهُ لَمَّا أَسَرَ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ دَارِ الْمُوَادَعَةِ فِي حَقِّهِ، وَإِذَا دَخَلَ تَاجِرًا لَمْ يَنْقَطِعْ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) صِفَةُ عَقْدِ الْمُوَادَعَةِ، فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ مُحْتَمِلٌ لِلنَّقْضِ، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ؛ لِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] فَإِذَا وَصَلَ النَّبْذُ إلَى مَلِكِهِمْ، فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ يُبَلِّغُ قَوْمَهُ ظَاهِرًا إلَّا إذَا اسْتَيْقَنَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ خَبَرَ النَّبْذِ لَمْ يَبْلُغْ قَوْمَهُ، وَلَمْ يَعْلَمُوا بِهِ، فَلَا أُحِبُّ أَنْ يَغْزُوا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إذَا لَمْ يَبْلُغْهُمْ فَهُمْ عَلَى حُكْمِ الْأَمَانِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ قِتَالُهُمْ مِنَّا غَدْرًا وَتَغْرِيرًا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ النَّبْذُ مِنْ جِهَتِهِمْ بِأَنْ أَرْسَلُوا إلَيْنَا رَسُولًا بِالنَّبْذِ، وَأَخْبَرُوا الْإِمَامَ بِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوا عَلَيْهِمْ، لِمَا قُلْنَا إلَّا إذَا اسْتَيْقَنَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ أَهْلَ نَاحِيَةٍ مِنْهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ وَادَعَ الْإِمَامُ عَلَى جَعْلٍ، أَخَذَهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَنْقُضَ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْضِ، وَلَكِنْ يَبْعَثُ إلَيْهِمْ بِحِصَّةِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ مِنْ الْجَعْلِ الَّذِي أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَعْطَوْهُ ذَلِكَ بِمُقَابَلَةِ الْأَمَانِ فِي كُلِّ الْمُدَّةِ، فَإِذَا فَاتَ بَعْضُهَا لَزِمَ الرَّدُّ بِقَدْرِ الْفَائِتِ، هَذَا إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مُسْتَبْقِينَ عَلَى أَحْكَامِ الْكُفْرِ. (فَأَمَّا) إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَنَّهُ يُجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَهُوَ لَازِمٌ، لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ الْوَاقِعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَقْدُ ذِمَّةٍ، فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُنْقَضُ بِهِ عَقَدُ الْمُوَادَعَةِ، فَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ (إمَّا) أَنْ كَانَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ. (وَإِمَّا) أَنْ كَانَ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ فَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ فَاَلَّذِي يُنْتَقَضُ بِهِ نَوْعَانِ: نَصٌّ، وَدَلَالَةٌ فَالنَّصُّ، هُوَ النَّبْذُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ صَرِيحًا. (وَأَمَّا) الدَّلَالَةُ، فَهِيَ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّبْذِ، نَحْوُ أَنْ يَخْرُجَ قَوْمٌ مِنْ دَارِ الْمُوَادَعَةِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَيَقْطَعُوا الطَّرِيقَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ إذْنَ الْإِمَامِ بِذَلِكَ دَلَالَةُ النَّبْذِ، وَلَوْ خَرَجَ قَوْمٌ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، فَقَطَعُوا الطَّرِيقَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً لَا مَنَعَةَ لَهُمْ، لَا يَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْعَهْدِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ بِلَا مَنَعَةٍ لَا يَصْلُحُ دَلَالَةً لِلنَّقْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَصَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى النَّقْضِ لَا يُنْتَقَضُ؟ كَمَا فِي الْأَمَانِ الْمُؤَبَّدِ، وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ. وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً لَهُمْ مَنَعَةٌ فَخَرَجُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ وَلَا إذْنِ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ،

فَالْمَلِكُ وَأَهْلُ مَمْلَكَتِهِ عَلَى مُوَادَعَتِهِمْ؛ لِانْعِدَامِ دَلَالَةِ النَّقْضِ فِي حَقِّهِمْ، وَلَكِنْ يُنْتَقَضُ الْعَهْدُ فِيمَا بَيْنَ الْقُطَّاعِ، حَتَّى يُبَاحَ قَتْلُهُمْ وَاسْتِرْقَاقُهُمْ؛ لِوُجُودِ دَلِيلِ النَّقْضِ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ، يَنْتَهِي الْعَهْدُ بِانْتِهَاءِ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى النَّبْذِ، حَتَّى كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُؤَقَّتَ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى النَّاقِضِ، وَلَوْ كَانَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ بِالْمُوَادَعَةِ الْمُؤَقَّتَةِ، فَمَضَى الْوَقْتُ وَهُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى مَأْمَنِهِ؛ لِأَنَّ التَّعَرُّضَ لَهُ يُوهِمُ الْغَدْرَ وَالتَّغْرِيرَ، فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ مَا أَمْكَنَ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْأَمَانُ الْمُؤَبَّدُ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِعَقْدِ الذِّمَّةِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ رُكْنِ الْعَقْدِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْعَقْدِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْعَقْدِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُؤْخَذُ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ، وَمَا يَتَعَرَّضُ لَهُ وَمَا لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ. (أَمَّا) رُكْنُ الْعَقْدِ فَهُوَ نَوْعَانِ: نَصٌّ، وَدَلَالَةٌ. (أَمَّا) النَّصُّ فَهُوَ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَفْظُ الْعَهْدِ وَالْعَقْدِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ. (وَأَمَّا) الدَّلَالَةُ فَهِيَ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ نَحْوُ أَنْ يَدْخُلَ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ، فَإِنْ أَقَامَ بِهَا سَنَةً بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ فِي أَنْ يَخْرُجَ أَوْ يَكُونَ ذِمِّيًّا، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ، يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ، فَيَضْرِبَ لَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِي رَأْيُهُ وَيَقُولَ لَهُ: إنْ جَاوَزْتَ الْمُدَّةَ جَعَلْتُكَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِذَا جَاوَزَهَا صَارَ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ، فَقَدْ رَضِيَ بِصَيْرُورَتِهِ ذِمِّيًّا، فَإِذَا أَقَامَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ قَالَ لَهُ الْإِمَامُ، أَخَذَ مِنْهُ الْجِزْيَةَ وَلَا يَتْرُكُهُ يَرْجِعُ إلَى وَطَنِهِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ تَمَامِ السَّنَةِ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ الْإِمَامُ عِنْدَ الدُّخُولِ: اُدْخُلْ وَلَا تَمْكُثْ سَنَةً فَمَكَثَ سَنَةً، صَارَ ذِمِّيًّا، وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ اشْتَرَى الْمُسْتَأْمَنُ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً، فَإِذَا وَضَعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجَ صَارَ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ وَظِيفَةَ الْخَرَّاجِ يَخْتَصُّ بِالْمُقَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا قَبِلَهَا فَقَدْ رَضِيَ بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَيَصِيرُ ذِمِّيًّا، وَلَوْ بَاعَهَا قَبْلَ أَنْ يَجْبِيَ خَرَاجَهَا، لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ دَلِيلَ قَبُولِ الذِّمَّةِ، وُجُوبُ الْخَرَاجِ لَا نَفْسُ الشِّرَاءِ فَمَا لَمْ يُوضَعْ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً فَزَرَعَهَا لَمْ يَصِرْ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى الْآجِرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْتِزَامِ الذِّمَّةِ إلَّا إذَا كَانَ خَرَاجًا مُقَاسَمَةً، فَإِذَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ وَأَخَذَ الْإِمَامُ الْخَرَاجَ مِنْ الْخَارِجِ وَضَعَ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، وَجَعَلَهُ ذِمِّيًّا. وَلَوْ اشْتَرَى الْمُسْتَأْمَنُ أَرْضَ الْمُقَاسَمَةِ، وَأَجَّرَهَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَأَخَذَ الْإِمَامُ الْخَرَاجَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ الْمُسْتَأْمَنُ ذِمِّيًّا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ نَفْسَ الشِّرَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِالْتِزَامِ، بَلْ دَلِيلُ الِالْتِزَامِ هُوَ وُجُوبُ الْخَرَاجِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجِبْ وَلَوْ اشْتَرَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ أَرْضَ خَرَاجٍ فَزَرَعَهَا، فَأَخْرَجَتْ زَرْعًا، فَأَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ، إنَّهُ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ إذَا أَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ لَمْ يَجِبْ الْخَرَاجُ، فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَزْرَعْهَا فَبَقِيَ نَفْسُ الشِّرَاءِ، وَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ قَبُولِ الذِّمَّةِ وَلَوْ وَجَبَ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ الْخَرَاجُ فِي أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ مُنْذُ يَوْمِ مَلَكَهَا، صَارَ ذِمِّيًّا حِينَ وُجُوبِ الْخَرَاجِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ خَرَاجُ رَأْسِهِ بَعْدَ سَنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ؛ لِأَنَّهُ بِوُجُوبِ خَرَاجِ الْأَرْضِ صَارَ ذِمِّيًّا كَانَ عَقْدُ الذِّمَّةِ نَصًّا، فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ مِنْ حِينِ وُجُوبِ الْخَرَاجِ، فَيُؤْخَذُ خَرَاجُ الرَّأْسِ بَعْدَ تَمَامِ السَّنَةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَوْ تَزَوَّجَتْ الْحَرْبِيَّةُ الْمُسْتَأْمَنَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ذِمِّيًّا، صَارَتْ ذِمِّيَّةً وَلَوْ تَزَوَّجَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ذِمِّيَّةً لَمْ يَصِرْ ذِمِّيًّا. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَابِعَةٌ لِزَوْجِهَا، فَإِذَا تَزَوَّجَتْ بِذِمِّيٍّ فَقَدْ رَضِيَتْ بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا، فَصَارَتْ ذِمِّيَّةً تَبَعًا لِزَوْجِهَا فَأَمَّا الزَّوْجُ فَلَيْسَ بِتَابِعٍ لِلْمَرْأَةِ، فَلَا يَكُونُ تَزَوُّجُهُ إيَّاهَا دَلِيلَ الرِّضَا بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا، فَلَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ (مِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ الْمُعَاهَدُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] إلَى قَوْله تَعَالَى {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] أَمَرَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ إلَّا عِنْدَ تَوْبَتِهِمْ، وَهِيَ الْإِسْلَامُ وَيَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] إلَى قَوْله تَعَالَى {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29] الْآيَةَ وَسَوَاءٌ كَانُوا مِنْ الْعَرَبِ، أَوْ مِنْ الْعَجَمِ؛ لِعُمُومِ النَّصِّ وَيَجُوزُ مَعَ الْمَجُوسِ؛ لِأَنَّهُمْ مُلْحَقُونَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي حَقِّ الْجِزْيَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَجُوسِ «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» وَكَذَلِكَ فَعَلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِسَوَادِ الْعِرَاقِ وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى جَمَاجِمِهِمْ، وَالْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيهِمْ. ثُمَّ وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمُشْرِكِي

الْعَجَمِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ إنَّمَا تُرِكُوا بِالذِّمَّةِ وَقَبُولِ الْجِزْيَةِ لَا لِرَغْبَةٍ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ، أَوْ طَمَعٍ فِي ذَلِكَ، بَلْ لِلدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ لِيُخَالِطُوا الْمُسْلِمِينَ، فَيَتَأَمَّلُوا فِي مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ، وَيَنْظُرُوا فِيهَا فَيَرَوْهَا مُؤَسَّسَةً عَلَى مَا تَحْتَمِلُهُ الْعُقُولُ، وَتَقْبَلُهُ، فَيَدْعُوهُمْ ذَلِكَ إلَى الْإِسْلَامِ، فَيَرْغَبُونَ فِيهِ، فَكَانَ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِرَجَاءِ الْإِسْلَامِ. وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ مَعَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ تَقْلِيدٍ وَعَادَةٍ، لَا يَعْرِفُونَ سِوَى الْعَادَةِ وَتَقْلِيدِ الْآبَاءِ، بَلْ يَعُدُّونَ مَا سِوَى ذَلِكَ سُخْرِيَةً وَجُنُونًا، فَلَا يَشْتَغِلُونَ بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ فِي مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ لِيَقِفُوا عَلَيْهَا فَيَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَتَعَيَّنَ السَّيْفُ دَاعِيًا لَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ، وَمُشْرِكُو الْعَجَمِ مُلْحَقُونَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِالنَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَا. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَدًّا فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْ الْمُرْتَدِّ أَيْضًا إلَّا الْإِسْلَامُ، أَوْ السَّيْفُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] قِيلَ: إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الرِّدَّةِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَا عَرَفَ مَحَاسِنَهُ وَشَرَائِعَهُ الْمَحْمُودَةَ فِي الْعُقُولِ إلَّا لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ وَشُؤْمِ طَبْعِهِ، فَيَقَعُ الْيَأْسُ عَنْ فَلَاحِهِ، فَلَا يَكُونُ عَقْدُ الذِّمَّةِ وَقَبُولُ الْجِزْيَةِ فِي حَقِّهِ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ (وَأَمَّا) الصَّابِئُونَ فَيُعْقَدُ لَهُمْ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ، وَعِنْدَهُمَا قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، فَكَانُوا فِي حُكْمِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَتُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ إذَا كَانُوا مِنْ الْعَجَمِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا فَإِنْ وَقَّتَ لَهُ وَقْتًا لَمْ يَصِحَّ عَقْدُ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ فِي إفَادَةِ الْعِصْمَةِ كَالْخَلَفِ عَنْ عَقْدِ الْإِسْلَامِ، وَعَقْدُ الْإِسْلَامِ لَا يَصِحُّ إلَّا مُؤَبَّدًا، فَكَذَا عَقْدُ الذِّمَّةِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ حُكْمِ الْعَقْدِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ: إنَّ لِعَقْدِ الذِّمَّةِ أَحْكَامًا (مِنْهَا) عِصْمَةُ النَّفْسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] إلَى قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] نَهَى - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - إبَاحَةَ الْقِتَالِ إلَى غَايَةِ قَبُولِ الْجِزْيَةِ، وَإِذَا انْتَهَتْ الْإِبَاحَةُ، تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ ضَرُورَةً. (وَمِنْهَا) عِصْمَةُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِعِصْمَةِ النَّفْسِ وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ؛ لِتَكُونَ أَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا، وَدِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا. وَالْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الْجِزْيَةِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَسْقُطُ بِهِ بَعْدَ الْوُجُوبِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَسَبَبُ وُجُوبِهَا عَقْدُ الذِّمَّةِ. وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) الْعَقْلُ (وَمِنْهَا) الْبُلُوغُ (وَمِنْهَا) الذُّكُورَةُ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَجَانِينِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَوْجَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الْآيَةَ وَالْمُقَاتَلَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْقِتَالِ فَتَسْتَدْعِي أَهْلِيَّةِ الْقِتَالِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ. (وَمِنْهَا) الصِّحَّةُ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْمَرِيضِ إذَا مَرِضَ السَّنَةَ كُلَّهَا؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ، وَكَذَلِكَ إنْ مَرِضَ أَكْثَرَ السَّنَةِ، وَإِنْ صَحَّ أَكْثَرَ السَّنَةِ وَجَبَتْ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ. (وَمِنْهَا) السَّلَامَةُ عَنْ الزَّمَانَةِ وَالْعَمَى وَالْكِبَرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الزَّمِنِ وَالْأَعْمَى وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، وَتَجِبُ عَلَى هَؤُلَاءِ إذَا كَانَ لَهُمْ مَالٌ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ عَادَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ؟ وَكَذَا الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَعْتَمِلُ لَا قُدْرَةَ لَهُ لِأَنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ. (وَأَمَّا) أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ فَعَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ إذَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَعَدَمُ الْعَمَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ، كَمَا إذَا كَانَ لَهُ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ فَلَمْ يَزْرَعْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الزِّرَاعَةِ، لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْخَرَاجُ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) الْحُرِّيَّةُ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ. (وَأَمَّا) وَقْتُ الْوُجُوبِ فَأَوَّلُ السَّنَةِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ لِحَقْنِ الدَّمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَا تُؤَخَّرُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ، وَلَكِنْ تُؤْخَذُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِنْ الْفَقِيرِ دِرْهَمٌ، وَمِنْ الْمُتَوَسِّطِ دِرْهَمَانِ، وَمِنْ الْغَنِيِّ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْجِزْيَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: جِزْيَةٌ تُوضَعُ بِالتَّرَاضِي، وَهُوَ الصُّلْحُ، وَذَلِكَ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ، كَمَا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ وَجِزْيَةٌ يَضَعُهَا الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ، بِأَنْ ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَى أَرْضِ الْكُفَّارِ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ، وَجَعَلَهُمْ ذِمَّةً، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَرَاتِبَ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ: أَغْنِيَاءُ، وَأَوْسَاطٌ، وَفُقَرَاءُ، فَيَضَعُ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْوَسَطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا كَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَمَرَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى السَّوَادِ أَنْ يَضَعَ هَكَذَا وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَهُوَ كَالْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ مَعَ مَا أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأْيًا؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ سَبِيلُ مَعْرِفَتِهَا التَّوْقِيفُ وَالسَّمْعُ لَا الْعَقْلُ، فَهُوَ كَالْمَسْمُوعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْغَنِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالْوَسَطِ، وَالْفَقِيرِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَهُوَ فَقِيرٌ، وَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَهُوَ مِنْ الْأَوَاسِطِ، وَمَنْ مَلَكَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا فَهُوَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُمَا قَالَا: أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ، وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ كَنْزٌ وَقِيلَ: مَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى عَشْرَةِ آلَافٍ فَمَا دُونَهَا فَهُوَ مِنْ الْأَوْسَاطِ وَمَنْ مَلَكَ زِيَادَةً عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ فَهُوَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ (مِنْهَا) الْإِسْلَامُ (وَمِنْهَا) الْمَوْتُ عِنْدَنَا، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ إذَا أَسْلَمَ أَوْ مَاتَ سَقَطَتْ الْجِزْيَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ عِوَضًا عَنْ الْعِصْمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] إلَى قَوْلِهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] أَبَاحَ - جَلَّتْ عَظَمَتُهُ - دِمَاءَ أَهْلِ الْقِتَالِ ثُمَّ حَقَنَهَا بِالْجِزْيَةِ، فَكَانَتْ الْجِزْيَةُ عِوَضًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْعِوَضُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْعِوَضُ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ» وَعَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رَفَعَ الْجِزْيَةَ بِالْإِسْلَامِ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ إنَّ فِي الْإِسْلَامِ لَمَعَاذًا إنْ فَعَلَ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ، فَلَا تَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَالْمَوْتِ، كَالْقِتَالِ عَلَى أَنَّهَا وَجَبَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ الْإِسْلَامَ فُرِضَ بِالنُّصُوصِ وَالْجِزْيَةُ تَتَضَمَّنُ تَرْكَ الْقِتَالِ، فَلَا يَجُوزُ شَرْعُ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَالْجِزْيَةِ الَّذِي فِيهِ تَرْكُ الْقِتَالِ إلَّا لِمَا شُرِعَ لَهُ الْقِتَالُ، وَهُوَ التَّوَسُّلُ إلَى الْإِسْلَامِ، وَإِلَّا فَيَكُونُ تَنَاقُضًا، وَالشَّرِيعَةُ لَا تَتَنَاقَضُ وَتَعَذَّرَ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّوَسُّلِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ، فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً وَقَوْلُهُ: إنَّهَا وَجَبَتْ عِوَضًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ مَمْنُوعٌ بَلْ مَا وَجَبَتْ إلَّا وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ تَمْكِينَ الْكَفَرَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَتَرْكَ قِتَالِهِمْ مَعَ قَوْلِهِمْ فِي اللَّهِ مَا لَا يَلِيقُ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - لِلْوُصُولِ إلَى عَرَضٍ يَسِيرٍ مِنْ الدُّنْيَا، خَارِجٌ عَنْ الْحُكْمِ وَالْعَقْلِ فَأَمَّا التَّوَسُّلُ إلَى الْإِسْلَامِ، وَإِعْدَامُ الْكَفَرَةِ فَمَعْقُولٌ، مَعَ مَا أَنَّهَا إنْ وَجَبَتْ لِحَقْنِ الدَّمِ، فَإِنَّمَا تَجِبُ كَذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِذَا صَارَ دَمُهُ مَحْقُونًا فِيمَا مَضَى فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ لِأَجْلِهِ فَتَسْقُطُ. (وَمِنْهَا) مُضِيُّ سَنَةٍ تَامَّةٍ، وَدُخُولُ سَنَةٍ أُخْرَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا تَسْقُطُ، حَتَّى إنَّهُ إذَا مَضَى عَلَى الذِّمَّةِ سَنَةٌ كَامِلَةٌ وَدَخَلَتْ سَنَةٌ أُخْرَى قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا الذِّمِّيُّ تُؤْخَذُ مِنْهُ لِلسَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَلَا تُؤْخَذُ لِلسَّنَةِ الْمَاضِيَةِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا تُؤْخَذُ لِمَا مَضَى مَا دَامَ ذِمِّيًّا وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ بِالْمَوَانِيد أَنَّهَا تُؤْخَذُ أَمْ لَا؟ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجِزْيَةَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْخَرَاجِ فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ إلَى سَنَةٍ أُخْرَى اسْتِدْلَالًا بِالْخَرَاجِ الْآخَرِ، وَهُوَ خَرَاجُ الْأَرْضِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ، فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجْهَانِ (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْجِزْيَةَ مَا وَجَبَتْ إلَّا لِرَجَاءِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ حَتَّى دَخَلَتْ سَنَةٌ أُخْرَى، انْقَطَعَ الرَّجَاءُ فِيمَا مَضَى وَبَقِيَ الرَّجَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَيُؤْخَذُ لِلسَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَالثَّانِي أَنَّ الْجِزْيَةَ إنَّمَا جُعِلَتْ لِحَقْنِ الدَّمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِذَا صَارَ دَمُهُ مَحْقُونًا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، فَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ لِأَجْلِهَا؛ لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ كَمَا إذَا أَسْلَمَ أَوْ مَاتَ تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ؛ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى الْحَقْنِ بِالْجِزْيَةِ كَذَا هَذَا وَالِاعْتِبَارُ بِخَرَاجِ الْأَرْضِ غَيْرُ سَدِيدٍ، فَإِنَّ الْمَجُوسِيَّ إذَا أَسْلَمَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ خَرَاجُ الْأَرْضِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ خَرَاجُ الرَّأْسِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ بِهَا وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) صِفَةُ الْعَقْدِ فَهُوَ أَنَّهُ لَازِمٌ فِي حَقِّنَا حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُسْلِمُونَ نَقْضَهُ بِحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ. وَأَمَّا فِي حَقِّهِمْ فَغَيْرُ لَازِمٍ بَلْ

يَحْتَمِلُ الِانْتِفَاعَ فِي الْجُمْلَةِ؛ لَكِنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ إلَّا بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا: أَنْ يُسْلِمَ الذِّمِّيُّ لِمَا مَرَّ أَنَّ الذِّمَّةَ عُقِدَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ، وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَالثَّانِي: أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ، إلَّا أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ يُسْتَرَقُّ، وَالْمُرْتَدُّ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا يُسْتَرَقُّ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ - اللَّهُ تَعَالَى - (وَالثَّالِثُ) أَنْ يَغْلِبُوا عَلَى مَوْضِعٍ فَيُحَارِبُونَ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ صَارُوا أَهْلَ الْحَرْبِ وَيُنْتَقَضُ الْعَهْدُ ضَرُورَةً، وَلَوْ امْتَنَعَ الذِّمِّيُّ مِنْ إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِعُذْرِ الْعَدَمِ فَلَا يُنْتَقَضُ الْعَهْدُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَبَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا زِيَادَةُ كُفْرٍ عَلَى كُفْرٍ، وَالْعَهْدُ يَبْقَى مَعَ أَصْلِ الْكُفْرِ فَيَبْقَى مَعَ الزِّيَادَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مَعَاصٍ ارْتَكَبُوهَا وَهِيَ دُونَ الْكُفْرِ فِي الْقُبْحِ وَالْحُرْمَةِ ثُمَّ بَقِيَتْ الذِّمَّةُ مَعَ الْكُفْرِ، فَمَعَ الْمَعْصِيَةِ أَوْلَى وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُؤْخَذُ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ، وَمَا يَتَعَرَّضُ لَهُ وَمَا لَا يَتَعَرَّضُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ: إنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يُؤْخَذُونَ بِإِظْهَارِ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا، وَلَا يُتْرَكُونَ يَتَشَبَّهُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ وَمَرْكَبِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَيُؤْخَذُ الذِّمِّيُّ بِأَنْ يَجْعَلَ عَلَى وَسَطِهِ كَشْحًا مِثْلَ الْخَيْطِ الْغَلِيظِ، وَيَلْبَسَ قَلَنْسُوَةً طَوِيلَةً مَضْرُوبَةً وَيَرْكَبَ سَرْجًا عَلَى قَرَبُوسِهِ مِثْلَ الرُّمَّانَةِ، وَلَا يَلْبَسَ طَيْلَسَانًا مِثْلَ طَيَالِسَةِ الْمُسْلِمِينَ وَرِدَاءً مِثْلَ أَرْدِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَرَّ عَلَى رِجَالٍ رُكُوبٍ ذَوِي هَيْئَةٍ فَظَنَّهُمْ مُسْلِمِينَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، تَدْرِي مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ فَلَمَّا أَتَى مَنْزِلَهُ أَمَرَ أَنْ يُنَادِي فِي النَّاسِ أَنْ لَا يَبْقَى نَصْرَانِيٌّ إلَّا عَقَدَ نَاصِيَتَهُ، وَرَكِبَ الْإِكَافَ. وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ كَالْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ السَّلَامَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَيَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى إظْهَارِ هَذِهِ الشَّعَائِرِ عِنْدَ الِالْتِقَاءِ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ إلَّا بِتَمْيِيزِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْعَلَامَةِ، وَلِأَنَّ فِي إظْهَارِ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ إظْهَارَ آثَارِ الذِّلَّةِ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ صِيَانَةُ عَقَائِدِ ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ التَّغْيِيرِ عَلَى مَا قَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] وَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَتَمَيَّزَ نِسَاؤُهُمْ عَنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَالِ الْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ، وَيَجِبُ التَّمْيِيزُ فِي الْحَمَّامَاتِ فِي الْأُزُرِ، فَيُخَالِفُ أُزُرُهُمْ أُزُرَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا يَجِبُ أَنْ تُمَيَّزَ الدُّورُ بِعَلَامَاتٍ تُعْرَفُ بِهَا دُورُهُمْ مِنْ دُورِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِيَعْرِفَ السَّائِلُ الْمُسْلِمُ أَنَّهَا دُورُ الْكَفَرَةِ، فَلَا يَدْعُو لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ، وَيُتْرَكُونَ أَنْ يَسْكُنُوا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ شُرِعَ لِيَكُونَ وَسِيلَةً لَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، وَتَمْكِينُهُمْ مِنْ الْمُقَامِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَغُ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ. وَفِيهِ أَيْضًا مَنْفَعَةُ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَيُمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فِيهَا ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ كَمَا هِيَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، فَكَانَ إظْهَارُ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِنْهُمْ إظْهَارًا لِلْفِسْقِ فَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ. وَعِنْدَهُمْ: أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ فَكَانَ إظْهَارَ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فِي مَكَان مُعَدٍّ لِإِظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ فَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَا يُمْنَعُونَ مِنْ إدْخَالِهَا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ ظَاهِرًا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إنِّي لَا أَمْنَعُهُمْ مِنْ إدْخَالِ الْخَنَازِيرِ فَرَّقَ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِمَا فِي الْخَمْرِ مِنْ خَوْفِ وُقُوعِ الْمُسْلِمِ فِيهَا وَلَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ فِي الْخِنْزِيرِ. وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إظْهَارِ صَلِيبِهِمْ فِي عِيدِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إظْهَارُ شَعَائِرِ الْكُفْرِ، فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي كَنَائِسِهِمْ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ وَكَذَا لَوْ ضَرَبُوا النَّاقُوسَ فِي جَوْفِ كَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ لَمْ يُتَعَرَّضْ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ إظْهَارَ الشَّعَائِرِ لَمْ يَتَحَقَّقْ، فَإِنْ ضَرَبُوا بِهِ خَارِجًا مِنْهَا لَمْ يُمَكَّنُوا مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الشَّعَائِرِ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَالصَّلِيبِ، وَضَرْبِ النَّاقُوسِ فِي قَرْيَةٍ، أَوْ مَوْضِعٍ لَيْسَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ الَّتِي يُقَامُ فِيهَا الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ وَالْحُدُودُ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ إظْهَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ لِكَوْنِهِ إظْهَارَ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فِي مَكَانِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فَيَخْتَصُّ الْمَنْعُ بِالْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ وَهُوَ الْمِصْرُ الْجَامِعُ. (وَأَمَّا) إظْهَارُ فِسْقٍ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَتَهُ كَالزِّنَا وَسَائِرِ الْفَوَاحِشِ الَّتِي هِيَ حَرَامٌ فِي دِينِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانُوا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي أَمْصَارِهِمْ

فصل في بيان حكم الغنائم وما يتصل بها

وَمَدَائِنِهِمْ وَقُرَاهُمْ، وَكَذَا الْمَزَامِيرُ وَالْعِيدَانُ، وَالطُّبُولُ فِي الْغِنَاءِ، وَاللَّعِبُ بِالْحَمَامِ، وَنَظِيرُهَا، يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ كَمَا نَعْتَقِدُهَا نَحْنُ فَلَمْ تَكُنْ مُسْتَثْنَاةً عَنْ عَقْدِ الذِّمَّةِ لِيُقَرُّوا عَلَيْهَا. (وَأَمَّا) الْكَنَائِسُ وَالْبِيَعُ الْقَدِيمَةُ فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهَا وَلَا يُهْدَمُ شَيْءٌ مِنْهَا. (وَأَمَّا) إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ أُخْرَى فَيُمْنَعُونَ عَنْهُ فِيمَا صَارَ مِصْرًا مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا كَنِيسَةَ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ» . وَلَوْ انْهَدَمَتْ كَنِيسَةٌ فَلَهُمْ أَنْ يَبْنُوهَا كَمَا كَانَتْ؛ لِأَنَّ لِهَذَا الْبِنَاءِ حُكْمَ الْبَقَاءِ، وَلَهُمْ أَنْ يَسْتَبْقُوهَا فَلَهُمْ أَنْ يَبْنُوهَا، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُحَوِّلُوهَا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ التَّحْوِيلَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فِي حُكْمِ إحْدَاثِ كَنِيسَةٍ أُخْرَى. (وَأَمَّا) فِي الْقُرَى أَوْ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ، كَمَا لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَرَأَى أَنْ يَجْعَلَهُمْ ذِمَّةً، وَيَضَعَ عَلَى رُءُوسِهِمْ الْجِزْيَةَ. وَعَلَى أَرَاضِيهِمْ الْخَرَاجَ، لَا يُمْنَعُونَ مِنْ اتِّخَاذِ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ، وَإِظْهَارِ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ إظْهَارُ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فِي مَكَانِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ مَا إذَا صَارُوا ذِمَّةً بِالصُّلْحِ، بِأَنْ طَلَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنَّا أَنْ يَصِيرُوا ذِمَّةً يُؤَدُّونَ عَنْ رِقَابِهِمْ وَأَرَاضِيهِمْ شَيْئًا مَعْلُومًا، وَنُجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَصَالَحْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَتْ أَرَاضِيهِمْ مِثْلَ أَرَاضِي الشَّامِ مَدَائِنَ وَقُرًى، وَرَسَاتِيقَ وَأَمْصَارًا، إنَّهُ لَا يُتَعَرَّضُ لِكَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ، وَلَكِنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا أَنْ يُحْدِثُوا شَيْئًا مِنْهَا يُمْنَعُوا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِصْرًا مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِحْدَاثُ الْكَنِيسَةِ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ مَمْنُوعٌ عَنْهُ شَرْعًا فَإِنْ مَصَّرَ الْإِمَامُ مِصْرًا لِلْمُسْلِمِينَ، كَمَا مَصَّرَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْكُوفَةَ وَالْبَصْرَةَ، فَاشْتَرَى قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ دُورًا، وَأَرَادُوا أَنْ يَتَّخِذُوا فِيهَا كَنَائِسَ لَا يُمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَخَلَّى رَجُلٌ فِي صَوْمَعَتِهِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى اتِّخَاذِ الْكَنِيسَةِ، وَكُلُّ مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُشْرِكِينَ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ عَنْوَةً، وَجَعَلَهُمْ ذِمَّةً فَمَا كَانَ فِيهِ كَنِيسَةٌ قَدِيمَةٌ مَنَعَهُمْ مِنْ الصَّلَاةِ فِي تِلْكَ الْكَنَائِسِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فُتِحَ عَنْوَةً فَقَدْ اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ، فَيَمْنَعُهُمْ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوهَا مَسَاكِنَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَهْدِمَهَا وَكَذَلِكَ كُلُّ قَرْيَةٍ جَعَلَهَا الْإِمَامُ مِصْرًا، وَلَوْ عَطَّلَ الْإِمَامُ هَذَا الْمِصْرَ وَتَرَكُوا إقَامَةَ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَالْحُدُودِ فِيهِ، كَانَ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ أَنْ يُحْدِثُوا مَا شَاءُوا؛ لِأَنَّهُ عَادَ قَرْيَةً كَمَا كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ لَا يُمَكِّنُهَا مِنْ نَصْبِ الصَّلِيبِ فِي بَيْتِهِ؛ لِأَنَّ نَصْبَ الصَّلِيبِ كَنَصْبِ الصَّنَمِ، وَتُصَلِّي فِي بَيْتِهِ حَيْثُ شَاءَتْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ أَرْضِ الْعَجَمِ. (وَأَمَّا) أَرْضُ الْعَرَبِ فَلَا يُتْرَكُ فِيهَا كَنِيسَةٌ، وَلَا بِيعَةٌ وَلَا يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ مِصْرًا كَانَ أَوْ قَرْيَةً، أَوْ مَاءً مِنْ مِيَاهِ الْعَرَبِ، وَيُمْنَعُ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا أَرْضَ الْعَرَبِ مَسْكَنًا وَوَطَنًا كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ تَفْضِيلًا لِأَرْضِ الْعَرَبِ عَلَى غَيْرِهَا، وَتَطْهِيرًا لَهَا عَنْ الدِّينِ الْبَاطِلِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» . وَأَمَّا الِالْتِجَاءُ إلَى الْحَرَمِ فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا الْتَجَأَ إلَى الْحَرَمِ، لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ فِي الْحَرَمِ، وَلَكِنْ لَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُؤْوَى، وَلَا يُبَايَعُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ أَصْحَابُنَا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ، وَلَا يُخْرَجُ مِنْهُ أَيْضًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ فِي الْحُرُمِ، وَلَكِنْ يُبَاحُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْحَرَمِ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَحَيْثُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمَكَانِ، فَكَانَ هَذَا إبَاحَةً لِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] إذَا دَخَلَ مُلْتَجِئًا، أَمَّا إذَا دَخَلَ مُكَابِرًا أَوْ مُقَاتِلًا يُقْتَلُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] وَلِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ مُقَاتِلًا فَقَدْ هَتَكَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ، فَيُقْتَلُ تَلَافِيًا لِلْهَتْكِ زَجْرًا لِغَيْرِهِ عَنْ الْهَتْكِ وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِلْقِتَالِ، فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ، وَلَوْ انْهَزَمُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي قَتْلِهِمْ وَأَسْرِهِمْ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصَلِّ فِي بَيَانُ حُكْمِ الْغَنَائِمِ وَمَا يتصل بِهَا] (فَصْلٌ) . وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْغَنَائِمِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا، فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: النَّفَلُ، وَالْفَيْءُ، وَالْغَنِيمَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَعَانِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الشَّرَائِطِ وَالْأَحْكَامِ. (أَمَّا) النَّفَلُ فِي اللُّغَةِ فَعِبَارَةٌ عَنْ الزِّيَادَةِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ وَلَدُ الْوَلَدِ نَافِلَةً؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْوَلَدِ الصُّلْبِيِّ، وَسُمِّيَتْ نَوَافِلُ الْعِبَادَاتِ لِكَوْنِهَا زِيَادَاتٍ عَلَى الْفَرَائِضِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ

عَمَّا خَصَّهُ الْإِمَامُ لِبَعْضِ الْغُزَاةِ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، سُمِّيَ نَفْلًا لِكَوْنِهِ زِيَادَةً عَلَى مَا يُسْهَمُ لَهُمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَالتَّنْفِيلُ هُوَ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْغُزَاةِ بِالزِّيَادَةِ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ: مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَلَهُ رُبْعُهُ أَوْ ثُلُثُهُ أَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ أَوْ قَالَ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا أَوْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ أَوْ قَالَ لِسَرِيَّةٍ: مَا أَصَبْتُمْ فَلَكُمْ رُبْعُهُ أَوْ ثُلُثُهُ أَوْ قَالَ: فَهُوَ لَكُمْ وَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِذَلِكَ تَحْرِيضٌ عَلَى الْقِتَالِ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ وَمَنْدُوبٌ إلَيْهِ. قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ بِكُلِّ الْمَأْخُوذِ؛ لِأَنَّ التَّنْفِيلَ بِكُلِّ الْمَأْخُوذِ قَطْعُ حَقِّ الْغَانِمِينَ عَنْ النَّفْلِ أَصْلًا، لَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ فَفَعَلَهُ مَعَ سَرِيَّةٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَكُونُ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَيَجُوزُ التَّنْفِيلُ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالسَّلَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ يَتَحَقَّقُ فِي الْكُلِّ، وَالسَّلَبُ هُوَ ثِيَابُ الْمَقْتُولِ وَسِلَاحُهُ الَّذِي مَعَهُ، وَدَابَّتُهُ الَّتِي رَكِبَهَا بِسَرْجِهَا وَآلَاتِهَا، وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ مَالٍ فِي حَقِيبَةٍ عَلَى الدَّابَّةِ، أَوْ عَلَى وَسَطِهِ. (وَأَمَّا) حَقِيبَةُ غُلَامِهِ، وَمَا كَانَ مَعَ غُلَامِهِ مِنْ دَابَّةٍ أُخْرَى، فَلَيْسَ بِسَلَبٍ وَلَوْ اشْتَرَكَا فِي قَتْلِ رَجُلٍ كَانَ السَّلَبُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ بَدَأَ أَحَدُهُمَا فَضَرَبَهُ، ثُمَّ أَجْهَزَهُ الْآخَرُ بِأَنْ كَانَتْ الضَّرْبَةُ الْأُولَى قَدْ أَثْخَنَتْهُ وَصَيَّرَتْهُ إلَى حَالٍ لَا يُقَاتِلُ وَلَا يُعِينُ عَلَى الْقِتَالِ فَالسَّلَبُ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَتِيلُ الْأَوَّلِ. وَإِنْ كَانَتْ الضَّرْبَةُ الْأُولَى لَمْ تُصَيِّرْهُ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فَالسَّلَبُ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهُ قَتِيلُ الثَّانِي وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ وَاحِدٌ قَتِيلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهُ سَلَبُهُ وَهَلْ يَدْخُلُ الْإِمَامُ فِي التَّنْفِيلِ؟ إنْ قَالَ: فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مِنْكُمْ لَا يَدْخُلُ؛ لِأَنَّهُ خَصَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: مِنْكُمْ يَدْخُلْ؛ لِأَنَّهُ عَمَّ الْكَلَامَ، هَذَا إذَا نَفَّلَ الْإِمَامُ، فَإِنْ لَمْ يُنَفِّلْ شَيْئًا، فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنْ الْغُزَاةِ قَتِيلًا لَمْ يَخْتَصَّ بِسَلَبِهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ قَتَلَهُ مُدْبِرًا مُنْهَزِمًا لَمْ يَخْتَصَّ بِسَلَبِهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ مُقْبِلًا مُقَاتِلًا يَخْتَصُّ بِسَلَبِهِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَهَذَا مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -» نَصْبُ الشَّرْعِ، وَلِأَنَّهُ إذَا قَتَلَهُ مُقْبِلًا مُقَاتِلًا فَقَدْ قَتَلَهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَيَخْتَصُّ بِالسَّلَبِ، وَإِذَا قَتَلَهُ مُوَلِّيًا مُنْهَزِمًا فَإِنَّمَا قَتَلَهُ بِقُوَّةِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ السَّلَبُ غَنِيمَةً مَقْسُومَةً. (وَلَنَا) أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ التَّنْفِيلِ وَالِاخْتِصَاصِ بِالْمُصَابِ مِنْ السَّلَبِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ إنْ كَانَ هُوَ الْجِهَادَ وُجِدَ مِنْ الْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الِاسْتِيلَاءَ وَالْإِصَابَةَ، وَالْأَخْذُ بِذَلِكَ حَصَلَ بِقُوَّةِ الْكُلِّ فَيَقْتَضِي الِاسْتِحْقَاقَ لِلْكُلِّ، فَتَخْصِيصُ الْبَعْضِ بِالتَّنْفِيلِ يَخْرُجُ مَخْرَجَ قَطْعِ الْحَقِّ عَنْ الْمُسْتَحِقِّ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] وَالتَّنْفِيلُ تَحْرِيضٌ عَلَى الْقِتَالِ بِإِطْمَاعِ زِيَادَةِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ زِيَادَةُ غِنًى وَفَضْلُ شَجَاعَةٍ، لَا يَرْضَى طَبْعُهُ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَاطَرَةِ الرُّوحِ، وَتَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْهَلَاكِ، إلَّا بِإِطْمَاعِ زِيَادَةٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَإِذَا لَمْ يَطْمَعْ لَا يَظْهَرُ فَلَا يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَصَبَ ذَلِكَ الْقَوْلَ شَرْعًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَصَبَهُ شَرْطًا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَفَّلَ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً، مَعَ الِاحْتِمَالِ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ أَبُو حَنِيفَةَ حُجَّةً لِمِلْكِ الْأَرْضِ الْمُحْيَاةِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ لِمِثْلِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) شَرْطُ جَوَازِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ حُصُولِ الْغَنِيمَةِ فِي يَدِ الْغَانِمِينَ، فَإِذَا حَصَلَتْ فِي أَيْدِيهِمْ فَلَا نَفْلَ؛ لِأَنَّ جَوَازَ التَّنْفِيلِ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ، وَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا قَبْلَ أَخْذِ الْغَنِيمَةِ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَّلَ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ» فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّمَا نَفَّلَ مِنْ الْخُمْسِ، أَوْ مِنْ الصَّفِيِّ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي الْغَنَائِمِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّه - تَعَالَى - عَلَيْهِ، فَسَمَّاهُ الرَّاوِي غَنِيمَةً وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) حُكْمُ التَّنْفِيلِ فَنَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: اخْتِصَاصُ النَّفْلِ بِالْمُنَفَّلِ حَتَّى لَا يُشَارِكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَهَلْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ؟ فَفِيهِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ - شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا خُمْسَ فِي النَّفْلِ؛ لِأَنَّ الْخُمْسَ إنَّمَا يَجِبُ فِي غَنِيمَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَالنَّفَلُ مَا أَخْلَصَهُ الْإِمَامُ لِصَاحِبِهِ، وَقَطَعَ شَرِكَةَ الْأَغْيَارِ عَنْهُ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمْسُ وَيُشَارِكُ الْمُنَفَّلُ لَهُ الْغُزَاةَ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ مَا أَصَابُوا؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ أَوْ الْجِهَادَ حَصَلَ بِقُوَّةِ الْكُلِّ، إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ خَصَّ الْبَعْضَ بِبَعْضِهَا، وَقَطَعَ حَقَّ الْبَاقِينَ عَنْهُ، فَبَقِيَ حَقُّ الْكُلِّ مُتَعَلِّقًا بِمَا وَرَاءَهُ فَيُشَارِكُهُمْ فِيهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.

وَأَمَّا) الْفَيْءُ فَهُوَ اسْمٌ لِمَا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ، وَلَا رِكَابٍ، نَحْوُ الْأَمْوَالِ الْمَبْعُوثَةِ بِالرِّسَالَةِ إلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْأَمْوَالِ الْمَأْخُوذَةِ عَلَى مُوَادَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَا خُمْسَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ إذْ هِيَ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ الْكَفَرَةِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَقَدْ كَانَ الْفَيْءُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ، يَخْتَصُّهُ لِنَفْسِهِ، أَوْ يُفَرِّقُهُ فِيمَنْ شَاءَ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر: 6] . وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتْ خَالِصَةً لَهُ وَكَانَ يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ، وَمَا بَقِيَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَلِهَذَا كَانَتْ فَدَكُ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ كَانَتْ لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ فَدَكَ لَمَّا بَلَّغَهُمْ أَهْلُ خَيْبَرَ «أَنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُجْلِيَهُمْ وَيَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ وَيُخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَمْوَالِهِمْ، بَعَثُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَالَحُوهُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ فَدَكَ، فَصَالَحَهُمْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى ذَلِكَ» ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَالِ الْمَبْعُوثِ إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَنَّهُ يَكُونُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً أَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا أَشْرَكَ قَوْمَهُ فِي الْمَالِ الْمَبْعُوثِ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ هَيْبَةَ الْأَئِمَّةِ بِسَبَبِ قَوْمِهِمْ، فَكَانَتْ شَرِكَةً بَيْنَهُمْ. (وَأَمَّا) هَيْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَتْ بِمَا نُصِرَ مِنْ الرُّعْبِ لَا بِأَصْحَابِهِ، كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرَيْنِ» لِذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَصَّ لِنَفْسِهِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا إذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَأَخَذَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، يَكُونُ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ الْآخِذُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَكُونُ لِلْآخِذِ خَاصَّةً. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وُجِدَ مِنْ الْآخِذِ خَاصَّةً فَيَخْتَصُّ بِمِلْكِهِ، كَمَا إذَا دَخَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَاسْتَقْبَلَتْهَا سَرِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَأَخَذَتْهَا إنَّهُمْ يَخْتَصُّونَ بِمِلْكِهَا. وَالدَّلِيلُ عَنْ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وُجِدَ مِنْ الْآخِذِ خَاصَّةً أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْأَخْذُ، وَالِاسْتِيلَاءُ هُوَ إثْبَاتُ الْيَدِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ حَقِيقَةً مِنْ الْآخِذِ خَاصَّةً، وَأَهْلُ الدَّارِ إنْ كَانَتْ لَهُمْ يَدٌ لَكِنَّهَا يَدٌ حُكْمِيَّةٌ، وَيَدُ الْحَرْبِيِّ حَقِيقِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ، وَالْحُرُّ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَالْيَدُ الْحُكْمِيَّةُ لَا تَصْلُحُ مُبْطِلَةً لِلْيَدِ الْحَقِيقِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا دُونَهَا، وَنَقْضُ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ، أَوْ بِمَا هُوَ فَوْقَهُ، لَا بِمَا هُوَ دُونَهُ فَأَمَّا يَدُ الْآخِذِ فَيَدٌ حَقِيقَةً، وَهِيَ مُحِقَّةٌ وَيَدُ الْحَرْبِيِّ مُبْطِلَةٌ، فَجَازَ إبْطَالُهَا بِهَا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ الْمُبَاحُ فَيَصِيرُ مِلْكًا لِلْكُلِّ، كَمَا إذَا اسْتَوْلَى جَمَاعَةٌ عَلَى صَيْدٍ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ ثَبَتَ يَدُ أَهْلِ الدَّارِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ فِي أَيْدِيهِمْ فَمَا فِي الدَّارِ يَكُونُ فِي أَيْدِيهِمْ أَيْضًا، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْغَانِمِينَ فِي الْغَنَائِمِ مَا دَامُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، كَهَذَا هَاهُنَا قَوْلُهُ: يَدُ أَهْلِ الدَّارِ يَدٌ حُكْمِيَّةٌ، وَيَدُ الْحَرْبِيِّ حَقِيقِيَّةٌ، فَلَا تُبْطِلُهَا. قُلْنَا وَيَدُ أَهْلِ الدَّارِ حَقِيقِيَّةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مِنْ الْيَدِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ الْقُدْرَةُ مِنْ حَيْثُ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ، وَلِأَهْلِ الدَّارِ آلَاتٌ سَلِيمَةٌ لَوْ اسْتَعْمَلُوهَا فِي التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ لَحَدَثَتْ لَهُمْ بِمَجْرَى الْعَادَةِ قُدْرَةٌ حَقِيقِيَّةٌ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُمْ مُقَاوَمَتُهُمْ وَمُعَارَضَتُهُمْ، مَعَ مَا أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ يَدُ الْآخِذِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، فَقَدْ ثَبَتَ يَدُ أَهْلِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ أَهْلِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ دَارِ الْإِسْلَامِ كُلَّهُمْ مَنَعَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهُمْ يَذُبُّونَ عَنْ دِينٍ وَاحِدٍ، فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ الْكُلِّ مَعْنًى، كَمَا إذَا دَخَلَ الْغُزَاةُ دَارَ الْحَرْبِ، فَأَخَذَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ الْكَفَرَةِ، فَإِنَّ الْمَأْخُوذَ يَكُونُ غَنِيمَةً مَقْسُومَةً بَيْنَ الْكُلِّ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا السَّرِيَّتَانِ إذَا الْتَقَتَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَخَذَ مِنْهَا سَرِيَّةُ الْإِمَامِ فَإِنَّمَا اخْتَصُّوا بِمِلْكِهَا لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، وَهِيَ أَنَّ بِالْإِمَامِ حَاجَةً إلَى بَعْثِ السَّرَايَا لِحِرَاسَةِ الْحَوْزَةِ وَحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ عَنْ شَرِّ الْكَفَرَةِ، إذْ الْكَفَرَةُ يَقْصِدُونَ دَارَ الْإِسْلَامِ وَالدُّخُولَ فِي حُدُودِهَا بَغْتَةً، فَإِذَا عَلِمُوا بِبَعْثِ السَّرَايَا وَتَهَيُّئِهِمْ لِلذَّبِّ عَنْ حَرِيمِ الْإِسْلَامِ، قَطَعُوا الْأَطْمَاعَ فَبَقِيَتْ الْبَيْضَةُ مَحْرُوسَةً، فَلَوْ لَمْ يَخْتَصُّوا بِالْمَأْخُوذِ، لَمَا انْقَادَ طَبْعُهُمْ لِكِفَايَةِ هَذَا الشُّغْلِ، فَتَمْتَدُّ أَطْمَاعُ الْكَفَرَةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا إذَا نَفَّلَ الْإِمَامُ سَرِيَّةً، فَأَصَابُوا شَيْئًا يَخْتَصُّونَ بِهِ لِوُقُوعِ الْحَاجَةِ إلَى التَّنْفِيلِ؛ لِاخْتِصَاصِ بَعْضِ الْغُزَاةِ بِزِيَادَةِ

شَجَاعَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَادُ طَبْعُهُ لِإِظْهَارِهِ، إلَّا بِالتَّرْغِيبِ بِزِيَادَةٍ مِنْ الْمُصَابِ بِالتَّنْفِيلِ كَذَا هَذَا. وَهَلْ يَجِبُ فِيهِ الْخُمْسُ؟ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِوَايَتَانِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْخُمْسَ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْغَنَائِمِ، وَالْغَنِيمَةُ اسْمٌ لِلْمَالِ الْمَأْخُوذِ عَنْوَةً وَقَهْرًا بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَلَمْ يُوجَدْ لِحُصُولِهِ فِي أَيْدِيهِمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَكَانَ مُبَاحًا، مُلِكَ لَا عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمْسُ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْخُمْسُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ يَثْبُتُ بِأَخْذِهِ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَكَانَ فِي حُكْمِ الْغَنَائِمِ، وَلَوْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ، ثُمَّ أَخَذَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ حُرًّا لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وَهَذَا فَرْعُ الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبُ الْمِلْكِ فِيهِ لِوُقُوعِهِ فِي يَدِ أَهْلِ الدَّارِ، فَاعْتِرَاضُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ، وَعِنْدَهُمَا سَبَبُ الْمِلْكِ هُوَ: الْأَخْذُ حَقِيقَةً، فَكَانَ حُرًّا قَبْلَهُ حَيْثُ وُجِدَ الْإِسْلَامُ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ فِيهِ فَيُمْنَعُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَوْ رَجَعَ هَذَا الْحَرْبِيُّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَيْئًا بِالْإِجْمَاعِ. أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ حَقَّ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَتَأَكَّدُ إلَّا بِالْأَخْذِ حَقِيقَةً، وَلَمْ يُوجَدْ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ أَصْلًا إلَّا بِحَقِيقَةِ الْأَخْذِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا انْفَلَتَ وَاحِدٌ مِنْ الْأَسَارَى قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْتَحَقَ بِمَنَعَتِهِمْ إنَّهُ يَعُودُ حُرًّا كَمَا كَانَ كَذَا هَذَا وَلَوْ ادَّعَى هَذَا الْحَرْبِيُّ بِأَمَانٍ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ. أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ دُخُولَ دَارِ الْحَرْبِ سَبَبُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَالْأَمَانُ عَارِضٌ مَانِعٌ مِنْ انْعِقَادِ السَّبَبِ، فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْعَارِضِ إلَّا بِحُجَّةٍ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ يَقِفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَخْذِ فَكَانَ حُرًّا قَبْلَهُ فَكَأَنَّ دَعْوَى الْأَمَانِ دَعْوَى حُكْمِ الْأَصْلِ فَتُقْبَلُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْآخِذُ: إنِّي آمَنْتُهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ. أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ فَلَا يُقْبَلُ، وَعِنْدَهُمَا هَذَا إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَوْ دَخَلَ هَذَا الْحَرْبِيُّ الْحَرَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ، فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَدُخُولُ الْحَرَمِ لَا يُبْطِلُ ذَلِكَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يُبْطِلْ الْمِلْكَ، فَالْحَرَمُ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ الْحَرَمِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ فَيْئًا إلَّا بِحَقِيقَةِ الْأَخْذِ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، لَكِنَّهُ لَا يُطْعَمُ، وَلَا يُسْقَى، وَلَا يُؤْوَى، وَلَا يُبَايَعُ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ. وَلَوْ أَمَّنَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرَمِ أَوْ بَعْدَ مَا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ، وَيُرَدُّ إلَى مَأْمَنِهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ صَارَ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِ دُخُولِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ فَيْئًا إلَّا بِحَقِيقَةِ الْأَخْذِ، فَإِذَا أَمَّنَهُ قَبْلَ الْأَخْذِ يَصِحُّ وَلَا يَصِحُّ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مَرْمُوقٌ وَلَوْ أَخَذَهُ رَجُلٌ فِي الْحَرَمِ وَأَخْرَجَهُ مِنْهُ فَقَدْ أَسَاءَ، وَكَانَ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ لِمَنْ أَخَذَهُ، أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ ثَبَتَ بِدُخُولِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَالْأَخْذُ فِي الْحَرَمِ لَا يُبْطِلُهُ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كَانَ يَثْبُتُ بِالْأَخْذِ وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ لَكِنَّ النَّهْيَ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فَلَا يَمْنَعُ كَوْنُهُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ فِي ذَاتِهِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْ أَخَذَهُ فِي الْحَرَمِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ فِي الْحَرَمِ رِعَايَةً لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ مَا دَامَ فِيهِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْغَنِيمَةُ فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الْغَنِيمَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْغَنَائِمِ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ الْغَنَائِمِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ، وَفِي بَيَانِ مَصَارِفِهَا أَمَّا. الْأَوَّلُ: فَالْغَنِيمَةُ عِنْدَنَا اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَالْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْمَنَعَةِ إمَّا بِحَقِيقَةِ الْمَنَعَةِ، أَوْ بِدَلَالَةِ الْمَنَعَةِ، وَهِيَ إذْنُ الْإِمَامِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ كَيْفَ مَا كَانَ وَلَا يَشْتَرِطُ لَهُ الْمَنَعَةَ أَصْلًا، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ إذَا دَخَلَ جَمَاعَةٌ لَهُمْ مَنَعَةٌ دَارَ الْحَرْبِ فَأَخَذُوا أَمْوَالًا مِنْهُمْ، فَإِنَّهَا تُقْسَمُ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ بِالْإِجْمَاعِ. سَوَاءٌ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِوُجُودِ الْأَخْذِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ؛ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ الْمُقَاتَلَةِ حَقِيقَةً، وَأَقَلُّ الْمَنَعَةِ أَرْبَعَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَيْرُ الْأَصْحَابِ أَرْبَعَةٌ» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تِسْعَةٌ وَلَوْ دَخَلَ مَنْ لَا مَنَعَةَ لَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، كَانَ الْمَأْخُوذُ غَنِيمَةً فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا؛ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ دَلَالَةً عَلَى مَا

نَذْكُرهُ وَلَوْ دَخَلَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ لَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً عِنْدَنَا؛ لِانْعِدَامِ الْمَنَعَةِ أَصْلًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَكُونُ غَنِيمَةً. وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ وَالْغَنَمَ وَالْمَغْنَمَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَالٍ أُصِيبَ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَأَوْجَفَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ. وَكَذَا إشَارَةُ النَّصِّ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَهِيَ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] أَشَارَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - إلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ لَا يَكُونُ غَنِيمَةً، وَإِصَابَةُ مَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمَنَعَةِ، إمَّا حَقِيقَةً أَوْ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ مَنْ لَا مَنَعَةَ لَهُ لَا يُمْكِنُهُ الْأَخْذُ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَلَمْ يَكُنْ الْمَأْخُوذُ غَنِيمَةً بَلْ كَانَ مَالًا مُبَاحًا، فَيَخْتَصُّ بِهِ الْآخِذُ كَالصَّيْدِ، إلَّا إنْ أَخَذَاهُ جَمِيعًا فَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ أَخَذَا صَيْدًا، أَمَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَنَعَةِ فَيَتَحَقَّقُ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ. أَمَّا حَقِيقَةُ الْمَنَعَةِ فَظَاهِرَةٌ، وَكَذَا دَلَالَةُ الْمَنَعَةِ وَهِيَ إذْنُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ بِالدُّخُولِ فَقَدْ ضَمِنَ لَهُ الْمَعُونَةَ بِالْمَدَدِ وَالنُّصْرَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَكَانَ دُخُولُهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ امْتِنَاعًا بِالْجَيْشِ الْكَثِيفِ مَعْنًى، فَكَانَ الْمَأْخُوذُ مَأْخُوذًا عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَكَانَ غَنِيمَةً، فَهُوَ الْفَرْقُ وَلَوْ اجْتَمَعَ فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا دَخَلَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَالْآخَرُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ، فَالْحُكْمُ فِي كُلِّ فَرِيقٍ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مَا هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ، أَنَّهُ إنْ تَفَرَّدَ كُلُّ فَرِيقٍ بِأَخْذِ شَيْءٍ فَلِكُلِّ فَرِيقٍ مَا أَخَذَ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ كُلُّ فَرِيقٍ بِالدُّخُولِ، فَأَخَذَ شَيْئًا فَإِنْ اشْتَرَكَ الْفَرِيقَانِ فِي الْأَخْذِ، فَالْمَأْخُوذُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ الْآخِذِينَ، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْمَأْذُونَ لَهُمْ بِخُمْسٍ وَيَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ بَيْنَهُمْ مُشْتَرَكَةً فِيهِ الْآخِذُ وَغَيْرُ الْآخِذِ؛ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ، وَهَذَا سَبِيلُ الْغَنَائِمِ، وَمَا أَصَابَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ لَا خُمْسَ فِيهِ، فَيَكُونُ بَيْنَ الْآخِذِينَ، وَلَا يُشَارِكُهُمْ الَّذِينَ لَمْ يَأْخُذُوا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ. وَهَذَا حُكْمُ الْمَالِ الْمُبَاحِ عَلَى مَا بَيَّنَّا هَذَا إذَا اجْتَمَعَ فَرِيقَانِ وَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ، فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَا وَكَانَ لَهُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ مَنَعَةٌ، فَمَا أَصَابَ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَوْ جَمَاعَتَهُمْ بِخُمُسٍ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ غَنِيمَةٌ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ، فَكَانَ وُجُودُ الْإِذْنِ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ كَانَ الَّذِينَ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ لَهُمْ مَنَعَةٌ، ثُمَّ لَحِقَهُمْ لِصٌّ أَوْ لِصَّانِ لَا مَنَعَةَ لَهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ثُمَّ لَقَوْا قِتَالًا وَأَصَابُوا مَالًا وَأَصَابُوا غَنَائِمَ، فَمَا أَصَابَ الْعَسْكَرَ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُمْ اللِّصُّ، فَإِنَّ هَذَا اللِّصَّ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ، وَمَا أَصَابُوهُ بَعْدَ أَنْ لَحِقَ هَذَا اللِّصُّ بِهِمْ فَإِنَّهُ يُشَارِكُهُمْ؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ قَبْلَ اللَّحَاقِ حَصَلَتْ بِقِتَالِ الْعَسْكَرِ حَقِيقَةً، وَكَذَلِكَ الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ غُنْيَةً عَنْ مَعُونَةِ اللِّصِّ فَكَانَ دُخُولُهُ فِي الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمُصَابِ قَبْلَ اللَّحَاقِ وَعَدَمِهِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْجَيْشَ إذَا لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ أَنَّهُ يُشَارِكُهُمْ فِيمَا أَصَابُوا؛ لِأَنَّ الْجَيْشَ يَسْتَعِينُ بِالْمَدَدِ لِقُوَّتِهِمْ، فَكَانَ الْإِحْرَازُ حَاصِلًا بِالْكُلِّ. وَكَذَلِكَ الْإِصَابَةُ بَعْدَ اللُّحُوقِ حَصَلَتْ بِاسْتِيلَاءِ الْكُلِّ، لِذَلِكَ شَارَكَهُمْ بِخِلَافِ اللِّصِّ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ -. وَلَوْ أَخَذَ وَاحِدٌ مِنْ الْجَيْشِ شَيْئًا مِنْ الْمَتَاعِ الَّذِي لَهُ قِيمَةٌ، وَلَيْسَ فِي يَدِ إنْسَانٍ مِنْهُمْ، كَالْمَعَادِنِ وَالْكُنُوزِ وَالْخَشَبِ وَالسَّمَكِ، فَذَلِكَ غَنِيمَةٌ، وَفِيهِ الْخُمْسُ، وَذَلِكَ الْوَاحِدُ إنَّمَا أَخَذَهُ بِمَنَعَةِ الْجَمَاعَةِ وَقُوَّتِهِمْ، فَكَانَ مَالًا مَأْخُوذًا عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَكَانَ غَنِيمَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ الشَّيْءِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَفِي دَارِ الْإِسْلَامِ قِيمَةٌ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ لَا يَقَعُ فِيهِ تَمَانُعٌ وَتَدَافُعٌ، فَلَا يَقَعُ أَخْذُهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَلَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً، وَلَوْ أَخَذَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ نَحْوُ الْخَشَبِ فَعَمِلَهُ آنِيَةً أَوْ غَيْرَهَا رَدَّهُ إلَى الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ قِيمَةٌ بِذَاتِهِ فَالْعَمَلُ فِيهِ فَضْلٌ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُتَقَوِّمًا فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً لِمَا قُلْنَا، وَلَا خُمْسَ فِيمَا يُؤْخَذُ عَلَى مُوَادَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَأْخُوذٍ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَلَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً، وَكَذَا مَا بُعِثَ رِسَالَةً إلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ لَا خُمْسَ فِيهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ قَلْعَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَافْتَدَوْا أَنْفُسَهُمْ بِمَالٍ فَفِيهِ الْخُمْسُ؛ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ لِكَوْنِهِ مَأْخُوذًا عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْغَنَائِمِ، فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَى بِلَادِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَالْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَنْوَاعٍ ثَلَاثَةٍ: الْمَتَاعُ، وَالْأَرَاضِي، وَالرِّقَابُ، أَمَّا الْمَتَاعُ: فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ وَيُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَلَا خِيَارَ لِلْإِمَامِ فِيهِ. وَأَمَّا الْأَرَاضِي فَلِلْإِمَامِ فِيهَا خِيَارَانِ إنْ شَاءَ خَمَّسَهَا وَيَقْسِمُ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا فِي يَدِ أَهْلِهَا بِالْخَرَاجِ وَجَعَلَهُمْ ذِمَّةً إنْ كَانُوا بِمَحَلِّ الذِّمَّةِ، بِأَنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَجَمِ، وَوَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَالْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيهِمْ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ

الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الْأَرَاضِيَ فِي أَيْدِيهِمْ بِالْخَرَاجِ بَلْ يَقْسِمُهَا. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْأَرَاضِيَ صَارَتْ مِلْكًا لِلْغُزَاةِ بِالِاسْتِيلَاءِ، فَكَانَ التَّرْكُ فِي أَيْدِيهِمْ إبْطَالًا لِمِلْكِ الْغُزَاةِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ كَالْمَتَاعِ. (وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا فَتَحَ سَوَادَ الْعِرَاقَ تَرَكَ الْأَرَاضِيَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَضَرَبَ عَلَى رُءُوسِهِمْ الْجِزْيَةَ، وَعَلَى أَرَاضِيهِمْ الْخَرَاجَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ. وَأَمَّا الرِّقَابُ فَالْإِمَامُ فِيهَا بَيْنَ خِيَارَاتٍ، ثَلَاثٍ، إنْ شَاءَ قَتَلَ الْأَسَارَى مِنْهُمْ، وَهُمْ الرِّجَالُ الْمُقَاتِلَةُ، وَسَبَى النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ؛ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] وَهَذَا بَعْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ هُوَ الْإِبَانَةُ مِنْ الْمِفْصَلِ، وَلَا يُقْدَرُ عَلَى ذَلِكَ حَالَ الْقِتَالِ، وَيُقْدَرُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ الْكِرَامَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أَسَارَى بَدْرٍ، فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إلَى الْفِدَاءِ، وَأَشَارَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى الْقَتْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ جَاءَتْ مِنْ السَّمَاءِ نَارٌ مَا نَجَا إلَّا عُمَرُ» . أَشَارَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى أَنَّ الصَّوَابَ كَانَ هُوَ الْقَتْلَ وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ بِقَتْلِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَبِقَتْلِ هِلَالِ بْنِ خَطَلٍ وَمَقِيسِ بْنِ صَبَابَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْقَتْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِئْصَالِهِمْ، فَكَانَ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّ الْكُلَّ فَخَمَسَهُمْ وَقَسَمَهُمْ، لِأَنَّ الْكُلَّ غَنِيمَةٌ حَقِيقَةً لِحُصُولِهَا فِي أَيْدِيهِمْ عَنْوَةً وَقَهْرًا بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْسِمَ الْكُلَّ إلَّا رِجَالَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ، فَإِنَّهُمْ لَا يُسْتَرَقُّونَ عِنْدَنَا، بَلْ يُقْتَلُونَ أَوْ يُسْلِمُونَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ مُشْرِكِي الْعَجَمِ، وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْعَجَمِ، وَالْعَرَبِ فَكَذَا اسْتِرْقَاقُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَالْمُرْتَدِّينَ، وَهَذَا لِأَنَّ لِلِاسْتِرْقَاقِ حُكْمَ الْكُفْرِ، وَهُمْ فِي الْكُفْرِ سَوَاءٌ، فَكَانُوا فِي احْتِمَالِ الِاسْتِرْقَاقِ سَوَاءٌ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] إلَى قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] وَلِأَنَّ تَرْكَ الْقَتْلِ بِالِاسْتِرْقَاقِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُشْرِكِي الْعَجَمِ؛ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ وَمَعْنَى الْوَسِيلَةِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ مِنْهُمْ فَيُسْتَرَقُّونَ كَمَا يُسْتَرَقُّ نِسَاءُ مُشْرِكِي الْعَجَمِ وَذَرَارِيِّهِمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اسْتَرَقَّ نِسَاءَ هَوَازِنَ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَهُمْ مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ. وَكَذَا الصَّحَابَةُ اسْتَرَقُوا نِسَاءَ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ الْعَرَبِ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَإِنْ شَاءَ مَنَّ عَلَيْهِمْ وَتَرَكَهُمْ أَحْرَارًا بِالذِّمَّةِ، كَمَا فَعَلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِسَوَادِ الْعِرَاقِ إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُمْ بِالذِّمَّةِ وَعَقْدِ الْجِزْيَةِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بِالِاسْتِرْقَاقِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ شَهِدُوا بِشَهَادَةٍ قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَهُمْ الْإِمَامُ ذِمَّةً لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرْبِ، فَإِنْ جَعَلَهُمْ ذِمَّةً فَأَعَادُوا الشَّهَادَةَ جَازَتْ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَقْبُولَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَأَمَّا شَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ فَغَيْرُ مَقْبُولَةٍ أَصْلًا، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنَّ عَلَى الْأَسِيرِ فَيَتْرُكَهُ مِنْ غَيْرِ ذِمَّةٍ، لَا يَقْتُلُهُ وَلَا يَقْسِمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَرَجَعَ إلَى الْمَنَعَةِ فَيَصِيرُ حَرْبًا عَلَيْنَا، فَإِنْ قِيلَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَّ عَلَى الزُّبَيْرِ بْنِ بَاطَالَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ. وَكَذَا مَنَّ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَّ عَلَى الزُّبَيْرِ وَلَمْ يَقْتُلْهُ إمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ تُرِكَ بِالْجِزْيَةِ أَمْ بِدُونِهَا، فَاحْتَمَلَ أَنَّهُ تَرَكَهُ بِالْجِزْيَةِ وَبِعَقْدِ الذِّمَّةِ وَأَمَّا أَهْلُ خَيْبَرَ فَقَدْ كَانُوا أَهْلَ الْكِتَابِ فَتَرَكَهُمْ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ لِيَصِيرُوا كَرَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَجُوزُ الْمَنُّ لِذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ، فَيَكُونُ تَرْكًا بِالْجِزْيَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَهَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَادِيَ الْأَسَارَى؟ أَمَّا الْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: مُفَادَاةُ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يُرْجَى لَهُ وَلَدٌ تَجُوزُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ كَيْفَ مَا كَانَ، وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] وَقَدْ فَادَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسَارَى بَدْرٍ بِالْمَالِ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْجَوَازُ، وَالْإِبَاحَةُ. (وَلَنَا) أَنَّ قَتْلَ الْأَسْرَى مَأْمُورٌ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] وَأَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إلَى مَا بَعْدَ الْأَخْذِ وَالِاسْتِرْقَاقِ لِمَا قُلْنَا، وَقَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا لِمَا شُرِعَ لَهُ الْقَتْلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى التَّوَسُّلِ بِالْمُفَادَاةِ، فَلَا يَجُوزُ

تَرْكُ الْمَفْرُوضِ لِأَجَلِهِ، وَيَحْصُلُ بِالذِّمَّةِ وَالِاسْتِرْقَاقِ لِمَا بَيَّنَّا فَكَانَ إقَامَةً لِلْفَرْضِ مَعْنًى لَا تَرْكًا لَهُ، وَلِأَنَّ الْمُفَادَاةَ بِالْمَالِ إعَانَةٌ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى الْحِرَابِ؛ لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَى الْمَنَعَةِ فَيَصِيرُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: مَعْنَى الْإِعَانَةِ لَا يَحْصُلُ مِنْ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يُرْجَى مِنْهُ وَلَدٌ فَجَازَ فِدَاؤُهُ بِالْمَالِ، وَلَكِنَّنَا نَقُولُ: إنْ كَانَ لَا يَحْصُلُ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَحْصُلُ بِطَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ الرَّأْيُ وَالْمَشُورَةُ وَتَكْثِيرُ السَّوَادِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الْآيَةَ لِأَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فِيمَنْ مُنَّ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَسْرِهِمْ عَلَى أَنْ يَصِيرُوا كَرَّةً لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَهْلِ خَيْبَرَ، أَوْ ذِمَّةً كَمَا فَعَلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَهْلِ السَّوَادِ، وَيُسْتَرَقُّونَ. (وَأَمَّا) أَسَارَى بَدْرٍ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ وَلَمْ يَنْتَظِرْ الْوَحْيَ فَعُوتِبَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] حَتَّى قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ نَارًا مَا نَجَا إلَّا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْ التَّأْوِيلِ أَيْ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَأْخُذَ الْفِدَاءَ فِي الْأَسَارَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ حَتَّى يَغْلِبَ فِي الْأَرْضِ مَنَعَةً عَنْ أَخْذِ الْفِدَاءِ بِهَا، وَأَشَارَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ لِيَغْلِبَ فِي الْأَرْضِ؛ إذْ لَوْ أَطْلَقَهُمْ لَرَجَعُوا إلَى الْمَنَعَةِ، وَصَارُوا حَرْبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْغَلَبَةُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُفَادَاةَ كَانَتْ جَائِزَةً ثُمَّ انْتَسَخَتْ بِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] . وَإِنَّمَا عُوتِبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] لَا لِخَطَرِ الْمُفَادَاةِ، بَلْ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَنْتَظِرْ بُلُوغَ الْوَحْيِ، وَعَمِلَ بِاجْتِهَادِهِ، أَيْ لَوْلَا مِنْ حُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَحَدًا عَلَى الْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ، لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ بِالْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ، وَتَرْكِكُمْ انْتِظَارَ الْوَحْيِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَكَذَا لَا تَجُوزُ مُفَادَاةُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى إعَانَتِهِمْ عَلَى الْحَرْبِ، وَتَجُوزُ مُفَادَاةُ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَيْسَ فِيهَا إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى الْحَرْبِ، وَلَا يُفَادُونَ بِالسِّلَاحِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً لَهُمْ عَلَى الْحَرْبِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) مُفَادَاةُ الْأَسِيرِ فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَجُوزُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي الْمُفَادَاةِ إنْقَاذَ الْمُسْلِمِ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إهْلَاكِ الْكَافِرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ فُرِضَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] وقَوْله تَعَالَى {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا لِمَا شُرِعَ لَهُ إقَامَةُ الْفَرْضِ وَهُوَ التَّوَسُّلُ إلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تَرْكًا مَعْنًى، وَذَا لَا يَحْصُلُ بِالْمُفَادَاةِ، وَيَحْصُلُ بِالذِّمَّةِ وَالِاسْتِرْقَاقِ فِيمَنْ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهَا إعَانَةً لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَى الْمَنَعَةِ فَيَصِيرُونَ حَرْبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَلَا تَجُوزُ بَعْدَهَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَجُوزُ فِي الْحَالَيْنِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ الْمُفَادَاةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنْ لَمْ يَثْبُتْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَالْحَقُّ ثَابِتٌ، ثُمَّ قِيَامُ الْحَقِّ لَمْ يَمْنَعْ جَوَازَ الْمُفَادَاةِ، فَكَذَا قِيَامُ الْمِلْكِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُفَادَاةَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ إبْطَالُ مِلْكِ الْمَقْسُومِ لَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْأَصْلِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، إنَّمَا الثَّابِتُ حَقٌّ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِلْإِبْطَالِ بِالْمُفَادَاةِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْ الْأَسَارَى، وَيُؤْخَذَ بَدَلَهُ رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ كَمْ مِنْ وَاحِدٍ يَغْلِبُ اثْنَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيُؤَدِّي إلَى الْإِعَانَةِ عَلَى الْحَرْبِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِذَا عَزَمَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَتْلِ الْأَسَارَى، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبُوهُمْ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْذِيبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْذِيبٌ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَقَدْ رُوِيَ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ «لَا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ هَذَا الْيَوْمِ، وَحَرَّ السِّلَاحِ، وَلَا تُمَثِّلُوا بِهِمْ؛» لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي وَصَايَا الْأُمَرَاءِ «وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَ صَاحِبِهِ» ؛ لِأَنَّهُ لَهُ ضَرْبُ اخْتِصَاصٍ بِهِ حَيْثُ أَخَذَهُ وَأَسَرَهُ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ، كَمَا لَوْ الْتَقَطَ شَيْئًا وَالْأَفْضَلُ

أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْإِمَامَ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ الْإِمَامُ هُوَ الْحَكَمَ فِيهِ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُزَاةِ بِهِ، فَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ لِلْإِمَامِ، وَإِنَّمَا يُقْتَلُ مِنْ الْأَسَارَى مَنْ بَلَغَ إمَّا بِالسِّنِّ، أَوْ بِالِاحْتِلَامِ عَلَى قَدْرِ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَبْلُغْ أَوْ شُكَّ فِي بُلُوغِهِ فَلَا يُقْتَلُ، وَكَذَا الْمَعْتُوهُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ، فَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَسِيرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ مِنْ دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ وَلَا قِيمَةٍ؛ لِأَنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ فِيهِ خِيَرَةَ الْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ مِنْ دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ وَلَا قِيمَةٍ؛ لِأَنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَإِنَّ لِلْإِمَامِ فِيهِ خِيَرَةَ الْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَ الْبَيْعِ فَيُرَاعَى فِيهِ حُكْمُ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا قَسَمَهُمْ أَوْ بَاعَهُمْ فَقَدْ صَارَ دَمُهُمْ مَعْصُومًا، فَكَانَ مَضْمُونًا بِالْقَتْلِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِقِيَامِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ كَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ خِيَارِ الْقَتْلِ لِلْإِمَامِ فِي الْأَسَارَى قَبْلَ الْقِسْمَةِ إذَا لَمْ يُسْلِمُوا، فَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا يُبَاحُ قَتْلُهُمْ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عَاصِمٌ، وَلِلْإِمَامِ خِيَارَانِ فِيهِمْ، إنْ شَاءَ اسْتَرَقَّهُمْ فَقَسَمَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ أَحْرَارًا بِالذِّمَّةِ إنْ كَانُوا بِمَحَلِّ الذِّمَّةِ وَالِاسْتِرْقَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَرْفَعُ الرِّقَّ، إمَّا لَا يَرْفَعُهُ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغُزَاةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْقِسْمَةُ نَوْعَانِ، قِسْمَةُ حَمْلٍ وَنَقْلٍ، وَقِسْمَةُ مِلْكٍ. (أَمَّا) قِسْمَةُ الْحَمْلِ، فَهِيَ إنْ عَزَّتْ الدَّوَابُّ، وَلَمْ يَجِدْ الْإِمَامُ حَمُولَةً يُفَرِّقُ الْغَنَائِمَ عَلَى الْغُزَاةِ فَيَحْمِلُ كُلُّ رَجُلٍ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا مِنْهُمْ فَيَقْسِمُهَا قِسْمَةَ مِلْكٍ، وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا تَكُونُ قِسْمَةَ مِلْكٍ كَالْمُودِعَيْنِ يَقْتَسِمَانِ الْوَدِيعَةَ لِيَحْفَظَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضَهَا جَازَ ذَلِكَ، وَتَكُونُ قِسْمَةَ مِلْكٍ فَكَذَا هَذَا. (وَأَمَّا) قِسْمَةُ الْمِلْكِ فَلَا تَجُوزُ فِي دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَجُوزُ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ هَلْ يَثْبُتُ فِي الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلْغُزَاةِ؟ فَعِنْدَنَا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ أَصْلًا فِيهَا، لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَا مِنْ وَجْهٍ، وَلَكِنْ يَنْعَقِدُ سَبَبُ الْمِلْكِ فِيهَا عَلَى أَنْ تَصِيرَ عِلَّةً عِنْدَ الْأَحْرَارِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ حَقِّ الْمِلْكِ، أَوْ حَقِّ التَّمَلُّكِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَهُ فِي حَالِ فَوْرِ الْهَزِيمَةِ قَوْلَانِ، وَيُبْنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ: (مِنْهَا) أَنَّهُ إذَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُورَثُ نَصِيبُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُورَثُ وَاَللَّهُ تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنَّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ فَأَحْرَزُوا الْغَنَائِمَ جُمْلَةً إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ يُشَارِكُونَهُمْ فِيهَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يُشَارِكُونَهُمْ. (وَمِنْهَا) أَنَّهُ إذَا أَتْلَفَ وَاحِدٌ مِنْ الْغَانِمِينَ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَضْمَنُ. (وَمِنْهَا) أَنَّ الْإِمَامَ إذَا بَاعَ شَيْئًا مِنْ الْغَنَائِمِ لَا لِحَاجَةِ الْغُزَاةِ، لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَجُوزُ. (وَمِنْهَا) أَنَّ الْإِمَامَ إذَا قَسَمَ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُجَازِفًا غَيْرَ مُجْتَهِدٍ وَلَا مُعْتَقِدٍ جَوَازَ الْقِسْمَةِ لَا تَجُوزُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ تَجُوزُ. (فَأَمَّا) إذَا رَأَى الْإِمَامُ الْقِسْمَةَ فَقَسَمَهَا نَفَذَتْ قِسْمَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى الْبَيْعَ فَبَاعَهَا؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ أَمْضَاهُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، بِالِاجْتِهَادِ فَيَنْفُذُ. (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَسَمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ بِخَيْبَرَ، وَقَسَمَ غَنَائِمَ أَوْطَاسٍ بِأَوْطَاسٍ، وَقَسَمَ غَنَائِمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فِي دِيَارِهِمْ، وَقَسَمَ غَنَائِمَ بَدْرٍ بِالْجِعْرَانَةِ» وَهِيَ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ بَدْرٍ، وَأَدْنَى مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ فِعْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هُوَ الْجَوَازُ وَالْإِبَاحَةُ، وَلِأَنَّهُ وَجَدَ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ اسْتِدْلَالًا بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ مَالٌ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الْكَافِرِ، وَأَنَّهُ مُبَاحٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحَقُّقِ الِاسْتِيلَاءِ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْمَحَلِّ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ حَقِيقَةً، وَإِنْكَارُ الْحَقَائِقِ مُكَابَرَةٌ، وَرَجْعَةُ الْكُفَّارِ بَعْدَ انْهِزَامِهِمْ وَاسْتِرْدَادِهِمْ أَمْرٌ مَوْهُومٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، فَلَا يُعْتَبَرُ. (وَلَنَا) أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إنَّمَا يُفِيدُ الْمِلْكَ إذَا وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْكَفَرَةِ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْكَفَرَةِ كَانَ ثَابِتًا لَهُمْ، وَالْمِلْكُ مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِإِزَالَتِهِ، أَوْ يَخْرُجُ الْمَحَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ حَقِيقَةً بِالْهَلَاكِ، أَوْ بِعَجْزِ الْمَالِكِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ فِيمَا شُرِعَ الْمِلْكُ لَهُ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. (أَمَّا) الْإِزَالَةُ وَهَلَاكُ الْمَحَلِّ فَظَاهِرُ الْعَدَمِ. (وَأَمَّا) قُدْرَةُ الْكَفَرَةِ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِأَمْوَالِهِمْ؛ فَلِأَنَّ الْغُزَاةَ مَا دَامُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَالِاسْتِرْدَادُ لَيْسَ بَنَادِرِ، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ أَوْ مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا عَلَى السَّوَاءِ، وَالْمِلْكُ كَانَ ثَابِتًا لَهُمْ فَلَا يَزُولُ مَعَ الِاحْتِمَالِ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ: فَأَمَّا غَنَائِمُ خَيْبَرَ وَأَوْطَاسَ وَالْمُصْطَلِقِ، فَإِنَّمَا قَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تِلْكَ الدِّيَارِ؛ لِأَنَّهُ افْتَتَحَهَا فَصَارَتْ دِيَارَ الْإِسْلَامِ. (وَأَمَّا) غَنَائِمُ بَدْرٍ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَسَمَهَا بِالْمَدِينَةِ، فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ

بِهِ مَعَ التَّعَارُضِ ثُمَّ الْمِلْكُ إنْ لَمْ يَثْبُتْ لِلْغُزَاةِ فِي الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَقَدْ ثَبَتَ الْحَقُّ لَهُمْ حَتَّى يَجُوزَ لَهُمْ الِانْتِفَاعُ بِهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَلَوْلَا تَعَلُّقُ الْحَقِّ لَجَازَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَالًا مُبَاحًا وَكَذَا لَوْ وَطِئَ وَاحِدٌ مِنْ الْغُزَاةِ جَارِيَةً مِنْ الْمَغْنَمِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهَا حَقًّا فَأُورِثَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعُقْرُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بِالْوَطْءِ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْ مَنَافِعِ بِضْعِهَا، وَلَوْ أَتْلَفَهَا لَا يَضْمَنُ، فَهَاهُنَا أَوْلَى وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ أَيْضًا لَوْ ادَّعَى الْوَلَدَ؛ لِأَنَّ ثَبَاتَ النَّسَبِ مُعْتَمَدُ الْمِلْكِ أَوْ الْحَقِّ الْخَاصِّ، وَلَا مِلْكَ هَاهُنَا، وَالْحَقُّ عَامٌّ. وَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَكُونُ حُرًّا، وَيَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَانِمِينَ بِهِ بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَالِاسْتِيلَاءِ، فَاعْتِرَاضُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ لَا يُبْطِلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ قَبْلَ الْأَسْرِ أَنَّهُ يَكُونُ حُرًّا، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ أَحَدٍ، فَكَانَ الْإِسْلَامُ دَافِعًا الْحَقَّ، لَا رَافِعًا إيَّاهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا. (وَأَمَّا) بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ، أَوْ يَتَأَكَّدُ الْحَقُّ وَيَتَقَرَّرُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ الثَّابِتَ انْعَقَدَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ، أَوْ تَأَكُّدِ الْحَقِّ عَلَى أَنْ يَصِيرَ عِلَّةً عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهَا، وَهُوَ الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ وُجِدَ، فَتَجُوزُ الْقِسْمَةُ وَيَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ، وَيَضْمَنُ الْمُتْلِفُ، وَتَنْقَطِعُ شَرِكَةُ الْمَدَدِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ وَاحِدٌ مِنْ الْغَانِمِينَ عَبْدًا مِنْ الْمَغْنَمِ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ نَفَاذَ الْإِعْتَاقِ يَقِفُ عَلَى الْمِلْكِ الْخَاصِّ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالْقِسْمَةِ، فَأَمَّا الْمَوْجُودُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَمِلْكٌ عَامٌّ، أَوْ حَقٌّ مُتَأَكَّدٌ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِعْتَاقَ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ وَالْقِسْمَةَ، وَيَكْفِي لِإِيجَابِ الضَّمَانِ، وَانْقِطَاعِ شَرِكَةِ الْمَدَدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً مِنْ الْمَغْنَمِ وَادَّعَى الْوَلَدَ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ اسْتِحْسَانًا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ وَأُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ يَقِفَانِ عَلَى مِلْكٍ خَاصٍّ، وَذَلِكَ بِالْقِسْمَةِ، أَوْ حَقٍّ خَاصٍّ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَيَلْزَمُهُ الْعُقْرُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمِلْكَ الْعَامَّ أَوْ الْحَقَّ الْخَاصَّ يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ. (وَأَمَّا) بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ الْخَاصُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ الْأَنْصِبَاءِ وَتَعْيِينُهَا، وَلَوْ قَسَمَ الْإِمَامُ الْغَنَائِمَ فَوَقَعَ عَبْدٌ فِي سَهْمِ رَجُلٍ فَأَعْتَقَهُ، لَا شَكَّ أَنَّهُ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَ مِلْكًا خَاصًّا فَأَمَّا إذَا وَقَعَ فِي سَهْمِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَبْدٌ فَأَعْتَقَهُ أَحَدُهُمْ، يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَلَّ الشُّرَكَاءُ أَوْ كَثُرُوا. (وَرُوِيَ) عَنْ أَبِي يُوسُفَ إنْ كَانُوا عَشَرَةً أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَنْفُذُ فَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَظَرَ فِي خُصُوصِ الْمِلْكِ إلَى الْقِسْمَةِ، وَأَبُو يُوسُفَ إلَى الْعَدَدِ، وَالصَّحِيحُ نَظَرُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَمْيِيزٌ وَتَعْيِينٌ، فَكَانَتْ قَاطِعَةً لِعُمُومِ الشَّرِكَةِ، مُخَصِّصَةً لِلْمِلْكِ وَإِنْ كَثُرَ الْعَدَدُ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَلَوْ أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ غَنِيمَةً ثُمَّ غَلَبَهُمْ الْعَدُوُّ فَاسْتَنْقَذُوهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ، ثُمَّ جَاءَ عَسْكَرٌ آخَرُ فَأَخَذَهَا مِنْ الْعَدُوِّ فَأَخْرَجُوهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ اخْتَصَمَ الْفَرِيقَانِ نُظِرَ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُونَ لَمْ يَقْتَسِمُوهَا وَلَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَالْغَنِيمَةُ لِلْآخَرِينَ، لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ إلَّا مُجَرَّدُ حَقٍّ غَيْرِ مُتَقَرِّرٍ، وَقَدْ ثَبَتَ لِلْآخَرِينَ مِلْكٌ عَامٌّ أَوْ حَقٌّ مُتَقَرِّرٌ يَجْرِي مَجْرَى الْمِلْكِ، فَكَانُوا أَوْلَى بِالْغَنَائِمِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُونَ قَدْ اقْتَسَمُوهَا فَالْقِسْمَةُ لَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْقِسْمَةِ مِلْكًا خَاصًّا، فَإِذَا غَلَبَهُمْ الْكُفَّارُ فَقَدْ اسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْلَاكِهِمْ، فَإِنْ وَجَدُوهَا فِي يَدِ الْآخَرِينَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدُوهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءُوا كَمَا فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْعَدُوُّ، ثُمَّ وَجَدُوهَا فِي يَدِ الْغَانِمِينَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَقْتَسِمُوهَا وَلَكِنَّهُمْ أَحْرَزُوهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ وَجَدُوهَا بَعْدَ قِسْمَةِ الْآخَرِينَ فَالْآخَرُونَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهُمْ مِلْكٌ خَاصٌّ بِالْقِسْمَةِ وَالثَّابِتِ لِلْأَوَّلِينَ مِلْكٌ عَامٌّ أَوْ حَقٌّ مُتَقَرِّرٌ عَامٌّ، فَكَانَ اعْتِبَارُ الْمِلْكِ الْخَاصِّ أَوْلَى. (وَأَمَّا) إذَا وَجَدَهَا قَبْلَ قِسْمَةِ الْآخَرِينَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْأَوَّلِينَ أَوْلَى، وَذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْآخَرِينَ أَوْلَى. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ أَنَّ الثَّابِتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْحَقَّ الْمُتَأَكَّدَ، لَكِنَّ نَقْضَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ بِمِثْلِهِ كَمَا فِي النَّسْخِ، وَلِهَذَا جَازَ نَقْضُ الْمِلْكِ بِالْمِلْكِ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ حَقَّ الْآخَرِينَ ثَابِتٌ مُتَقَرِّرٌ، وَحَقُّ الْأَوَّلِينَ زَائِلٌ ذَاهِبٌ، فَاسْتِصْحَابُ الْحَالَةِ الثَّابِتَةِ أَوْلَى، إذْ هُوَ يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمِلْكِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْتَقَضَ الْحَادِثُ بِالْقَدِيمِ إلَّا أَنَّ النَّقْضَ هُنَاكَ ثَبَتَ نَصًّا (بِخِلَافِ) الْقِيَاسِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ، هَذَا إذَا كَانَ الْكُفَّارُ أَحْرَزُوا الْأَمْوَالَ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَإِنْ كَانُوا لَمْ يُحْرِزُوهَا حَتَّى أَخَذَهَا الْفَرِيقُ الْآخَرُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ

فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَالْغَنَائِمُ لِلْأَوَّلِينَ سَوَاءٌ قَسَمَهَا الْآخَرُونَ أَوْ لَمْ يَقْسِمُوهَا؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاسْتِيلَاءِ إلَّا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَكَانَتْ الْغَنَائِمُ فِي حُكْمِ يَدِ الْأَوَّلِينَ مَا دَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الْآخَرُونَ أَخَذُوهُ مِنْ أَيْدِي الْأَوَّلِينَ فَيَلْزَمُهُمْ الرَّدُّ عَلَيْهِ، إلَّا إذَا كَانَ الْإِمَامُ قَسَمَهَا بَيْنَ الْآخَرِينَ وَرَأْيُهُ أَنَّ الْكَفَرَةَ قَدْ مَلَكُوهَا بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَالِاسْتِيلَاءِ. وَإِنْ كَانُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ النَّاسِ، فَكَانَتْ قِسْمَةً فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَتَنْفُذُ، وَتَكُونُ لِلْآخَرِينَ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ شَرْطًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْغَنَائِمِ الْمُشْتَرَكَةِ. (وَأَمَّا) الْغَنَائِمُ الْخَالِصَةُ وَهِيَ الْأَنْفَالُ، فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ فِيهَا؟ (قَالَ) بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إنَّهُ شَرْطٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى لَا يَثْبُتَ الْمِلْكُ بَيْنَهُمَا فِيهَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَالْإِصَابَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَسْأَلَةٍ ظَهَرَ فِيهَا اخْتِلَافٌ، وَهِيَ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا نَفَّلَ، فَقَالَ: مَنْ أَصَابَ جَارِيَةً فَهِيَ لَهُ. فَأَصَابَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ جَارِيَةً، فَاسْتَبْرَأَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بِحَيْضَةٍ، لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحِلُّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْأَنْفَالِ بِالْإِجْمَاعِ وَاخْتِلَافُهُمَا فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْلِ، فَقَدْ ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ فِي الْغَنِيمَةِ الْمَقْسُومَةِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ إذَا قَسَمَ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَصَابَ رَجُلٌ جَارِيَةً فَاسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ، فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَكَذَا لَوْ رَأَى الْإِمَامُ بَيْعَ الْغَنَائِمِ، فَبَاعَ مِنْ رَجُلٍ جَارِيَةً فَاسْتَبْرَأَهَا الْمُشْتَرِي بِحَيْضَةٍ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ. (وَلَا خِلَافَ) بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي الْغَنَائِمِ الْمَقْسُومَةِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ دَلَّ أَنَّ مَنْشَأَ الْخِلَافِ هُنَاكَ شَيْءٌ آخَرُ وَرَاءَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَعَدَمِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي النَّفْلِ لَا يَقِفُ عَلَى الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، بِخِلَافِ الْغَنَائِمِ الْمَقْسُومَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ الْأَخْذُ وَالِاسْتِيلَاءُ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْحُكْمِ عَنْ سَبَبٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَفِي الْغَنَائِمِ الْمَقْسُومَةِ ضَرُورَةٌ، وَهِيَ خَوْفُ شَرِّ الْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ لَاشْتَغَلُوا بِالْقِسْمَةِ، وَلَتَسَارَعَ كُلُّ أَحَدٍ إلَى إحْرَازِ نَصِيبِهِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَتَفَرَّقَ الْجَمْعُ، وَفِيهِ خَوْفُ تَوَجُّهِ الشَّرِّ عَلَيْهِمْ مِنْ الْكَفَرَةِ، فَتَأَخَّرَ الْمِلْكُ فِيهَا إلَى مَا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ فِي الْأَنْفَالِ؛ لِأَنَّهَا خَالِصَةٌ غَيْرُ مَقْسُومَةٍ، فَلَا مَعْنَى لِتَأْخِيرِ الْحُكْمِ عَنْ السَّبَبِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ لَا يُشَارِكُ الْمُنَفَّلُ لَهُ كَمَا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ الْمَقْسُومَةِ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمُنَفَّلُ لَهُ يُورَثُ نُصِيبُهُ، كَمَا لَوْ مَاتَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ، بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ الْمَقْسُومَةِ فَيَثْبُتُ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ الْمِلْكَ فِي النَّفْلِ لَا يَقِفُ عَلَى الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، إلَّا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْمِلْكِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ حِلِّ الْوَطْءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمِلْكِ أَصْلًا، أَلَا تَرَى أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ قَدْ يَمْتَنِعُ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ لِعَوَارِضَ: مِنْ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَالْمَحْرَمِيَّة، وَالصِّهْرِيَّة، وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ . ثُمَّ إنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ الْحِلُّ هُنَاكَ مَعَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُتَزَلْزِلٌ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ لِاحْتِمَالِ الزَّوَالِ سَاعَةً فَسَاعَةً؛ لِأَنَّ الدَّارَ دَارُهُمْ فَكَانَ احْتِمَالُ الِاسْتِرْدَادِ قَائِمًا، وَمَتَى اسْتَرَدُّوا يَرْتَفِعْ السَّبَبُ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، وَيَلْتَحِقْ بِالْعَدَمِ، إمَّا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَوْ مِنْ وَجْهٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ وَهُوَ الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ، وَلِهَذَا - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا بَعْدَ قِسْمَةِ الْإِمَامِ وَبَيْعِهِ إذَا رَأَى ذَلِكَ، وَإِنْ وَقَعَتْ قِسْمَتُهُ جَائِزَةً وَبَيْعُهُ نَافِذًا مُفِيدًا لِلْمِلْكِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا بَيَانُ) مَا يَجُوزُ بِهِ الِانْتِفَاعُ مِنْ الْغَنَائِمِ، وَمَا لَا يَجُوزُ، فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) فِي بَيَانِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْهَا. (وَالثَّانِي) فِي بَيَانِ مَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ. (أَمَّا الْأَوَّلُ) فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، وَالْعَلَفِ وَالْحَطَبِ مِنْهَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَقِيرًا كَانَ الْمُنْتَفِعُ أَوْ غَنِيًّا؛ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ فِي حَقِّ الْكُلِّ، فَإِنَّهُمْ لَوْ كُلِّفُوا حَمْلَهَا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ مُدَّةَ ذَهَابِهِمْ وَإِيَابِهِمْ وَمُقَامِهِمْ فِيهَا لَوَقَعُوا فِي حَرَجٍ عَظِيمٍ، بَلْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ شَرْعًا وَالْتَحَقَتْ هَذِهِ الْمَحَالُّ بِالْمُبَاحَاتِ الْأَصْلِيَّةِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مَأْكُولًا مِثْلَ السَّمْنِ وَالزَّيْتِ وَالْخَلِّ لَا

بَأْسَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الرَّجُلُ وَيُدْهِنَ بِهِ نَفْسَهُ، وَدَابَّتَهُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَازِمَةٌ. وَمَا كَانَ مِنْ الْأَدْهَانِ لَا يُؤْكَلُ مِثْلُ الْبَنَفْسَجِ وَالْخَيْرِيِّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ لَيْسَ مِنْ الْحَاجَاتِ اللَّازِمَةِ، بَلْ مِنْ الْحَاجَاتِ الزَّائِدَةِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَبِيعُوا شَيْئًا مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ وَلَا عُرُوضٍ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ، وَإِسْقَاطَ اعْتِبَارِ الْحُقُوقِ وَإِلْحَاقِهَا بِالْعَدَمِ لِلضَّرُورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْبَيْعِ، وَلِأَنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ هُوَ الْمَالُ الْمَمْلُوكُ، وَهَذَا لَيْسَ بِمَالٍ مَمْلُوكٍ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَازَ بِالدَّارِ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَإِنْ بَاعَ رَجُلٌ شَيْئًا رَدَّ الثَّمَنَ إلَى الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ مَالٍ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَانِمِينَ فَكَانَ مَرْدُودًا إلَى الْمَغْنَمِ، وَلَوْ أَحْرَزُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُقْسَمُ الْغَنَائِمُ رَدُّوهَا إلَى الْمَغْنَمِ؛ لِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ. وَإِنْ كَانَتْ قَدْ قُسِمَتْ الْغَنِيمَةُ فَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ تَصَدَّقُوا بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ انْتَفَعُوا بِهِ لِتَعَذُّرِ قِسْمَتِهِ عَلَى الْغُزَاةِ لِكَثْرَتِهِمْ وَقِلَّتِهِ، فَأَشْبَهَ اللُّقَطَةَ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَعْلَمُ. هَذَا إذَا كَانَتْ قَائِمَةً بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنْ كَانَ انْتَفَعَ بِهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ كَانَ غَنِيًّا تَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ مَالًا لَوْ كَانَ قَائِمًا لَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ لِكَوْنِهِ مَالًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَانِمِينَ، وَتَعَذَّرَ صَرْفُهُ إلَيْهِمْ لِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِمْ، فَيَقُومُ بَدَلُهُ مَقَامَهُ، وَهُوَ قِيمَتُهُ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ مَالًا لَوْ كَانَ قَائِمًا لَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَا سِوَى الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، وَالْعَلَفِ وَالْحَطَبِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَانِمِينَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَفِي الِانْتِفَاعِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ، إلَّا أَنَّهُ إذَا احْتَاجَ إلَى اسْتِعْمَالِ شَيْءٍ مِنْ السِّلَاحِ أَوْ الدَّوَابِّ أَوْ الثِّيَابِ، فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ، بِأَنْ انْقَطَعَ سَيْفُهُ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ سَيْفًا مِنْ الْغَنِيمَةِ فَيُقَاتِلَ بِهِ لَكِنَّهُ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ رَدَّهُ إلَى الْمَغْنَمِ. وَكَذَا إذَا احْتَاجَ إلَى رُكُوبِ فَرَسٍ، أَوْ لُبْسِ ثَوْبٍ إذَا دَفَعَ حَاجَتَهُ بِذَلِكَ، رَدَّهُ إلَى الْمَغْنَمِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ الضَّرُورَةِ أَيْضًا، لَكِنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ لَا يَتَعَدَّى مَحَلَّ الضَّرُورَةِ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وِقَايَةً لِسِلَاحِهِ وَدَوَابِّهِ وَثِيَابِهِ وَصِيَانَةً لَهَا، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ؛ لِانْعِدَامِ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ، وَهَكَذَا إذَا ذَبَحُوا الْبَقَرَ أَوْ الْغَنَمَ وَأَكَلُوا اللَّحْمَ وَرَدُّوا الْجُلُودَ إلَى الْمَغْنَمِ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ لَيْسَ مِنْ الْحَاجَاتِ اللَّازِمَةِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَنْ يَنْتَفِعُ بِالْغَنَائِمِ، فَنَقُولُ: إنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا إلَّا الْغَانِمُونَ، فَلَا يَجُوزُ لِلتُّجَّارِ أَنْ يَأْكُلُوا شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ إلَّا بِثَمَنٍ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، وَلِلْغَانِمِينَ أَنْ يَأْكُلُوا وَيُطْعِمُوا عَبِيدَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَصِبْيَانَهُمْ؛ لِأَنَّ إنْفَاقَ الرَّجُلِ عَلَى هَؤُلَاءِ إنْفَاقٌ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، فَلَهُ أَنْ يُطْعِمَهُ، وَمَنْ لَا فَلَا وَلَا يَجُوزُ لِأَجِيرِ الرَّجُلِ لِلْخِدْمَةِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَيْهِ وَلِلْمَرْأَةِ إذَا دَخَلَتْ دَارَ الْحَرْبِ لِمُدَاوَاةِ الْمَرْضَى وَالْجَرْحَى أَنْ تَأْكُلَ وَتَعْلِفَ دَابَّتَهَا وَتُطْعِمَ رَقِيقَهَا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ الرَّضْخَ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَكَانَتْ مِنْ الْغَانِمِينَ وَاَللَّه - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ، وَبَيَانُ مَصَارِفِهَا، فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْغَنَائِمُ تُقْسَمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، مِنْهَا وَهُوَ خُمْسُ الْغَنِيمَةِ لِأَرْبَابِهِ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِلْغَانِمِينَ أَمَّا الْخُمْسُ، فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْخُمْسِ، وَفِي بَيَانِ مَصْرِفِهِ، فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ خُمْسَ الْغَنِيمَةِ فِي حَالِ حَيَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُقْسَمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، سَهْمٌ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَسَهْمٌ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] وَإِضَافَةُ الْخُمْسِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ مَصْرُوفًا إلَى وُجُوهِ الْقُرَبِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] الْآيَةَ عَلَى مَا تُضَافُ الْمَسَاجِدُ وَالْكَعْبَةُ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لِكَوْنِهَا مَوَاضِعَ إقَامَةِ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ - تَعَالَى وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَعْظِيمًا لِلْخُمْسِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالْأَصْلُ فِي إضَافَةِ جُزْئِيَّةِ الْأَشْيَاءِ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَنَّهَا تَخْرُجُ مَخْرَجَ تَعْظِيمِ الْمُضَافِ، كَقَوْلِهِ: نَاقَةُ اللَّهِ، وَبَيْتُ اللَّهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِخُلُوصِهِ - لِلَّهِ تَعَالَى - بِخُرُوجِهِ عَنْ تَصَرُّفِ الْغَانِمِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الحج: 56] وَالْمُلْكُ فِي كُلِّ الْأَيَّامِ كُلِّهَا لِلَّهِ - تَعَالَى - لَكِنْ خَصَّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - ذَلِكَ الْيَوْمَ بِالْمُلْكِ لَهُ

فِيهِ؛ لِانْقِطَاعِ تَصَرُّفِ الْأَغْيَارِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى بَعْدَ وَفَاتِهِ أَمَّا سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إنَّهُ سَقَطَ بَعْدَ وَفَاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ، وَيُصْرَفُ إلَى الْخُلَفَاءِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّمَا كَانَ يَأْخُذُهُ كِفَايَةً لَهُ لِاشْتِغَالِهِ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ مَشْغُولُونَ بِذَلِكَ فَيُصْرَفُ سَهْمُهُ إلَيْهِمْ كِفَايَةً لَهُمْ. (وَلَنَا) أَنَّ ذَلِكَ الْخُمْسَ كَانَ خُصُوصِيَّةً لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَالصَّفِيِّ الَّذِي كَانَ لَهُ خَاصَّةً، وَالْفَيْءُ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ خُصُوصٌ مِنْ الْفَيْءِ وَالصَّفِيِّ، فَكَذَا يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدٍ خُصُوصٌ مِنْ الْخُمْسِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ بَعْدَهُ لَكَانَ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّا - مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ - لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» (وَأَمَّا) سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهُ بَاقٍ وَيُصْرَفُ إلَى أَوْلَادِ بَنِي هَاشِمٍ مِنْ أَوْلَادِ سَيِّدَتِنَا فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَغَيْرِهَا، يَسْتَوِي فِيهِ فَقِيرُهُمْ وَغَنِيُّهُمْ. (وَأَمَّا) عِنْدَنَا فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ بَقِيَ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ أَنَّهُ كَيْفَ كَانَ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ لِفُقَرَاءِ الْقَرَابَةِ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ، يُعْطَوْنَ لِفَقْرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ لَا لِقَرَابَتِهِمْ، وَقَدْ بَقِيَ كَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى فُقَرَاءُ قَرَابَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كِفَايَتَهُمْ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ، وَيُقَدَّمُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَيُجَاوَزُ لَهُمْ مِنْ الْخُمْسِ أَيْضًا لِمَا لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ الصَّدَقَاتِ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى غَيْرُهُمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ دُونَهُمْ فَيُقَسَّمُ الْخُمْسُ عِنْدَنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَيَدْخُلُ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِمْ، وَيُقَدَّمُونَ، وَلَا يُدْفَعُ إلَى أَغْنِيَائِهِمْ شَيْءٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِذَوِي الْقُرْبَى سَهْمٌ عَلَى حِدَةٍ يُصْرَفُ إلَى غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] الْآيَةَ فَإِنَّ - اللَّهَ تَعَالَى - جَعَلَ سَهْمًا لِذَوِي الْقُرْبَى، وَهُمْ الْقَرَابَةُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَسَمَ الْخُمْسَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، وَأَعْطَى سَهْمًا مِنْهَا لِذَوِي الْقُرْبَى» ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ نَاسِخٌ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَلَا نَسْخَ بَعْدَ وَفَاتِهِ. (وَلَنَا) مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ السِّيَرِ أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ، وَسَيِّدَنَا عُمَرَ، وَسَيِّدَنَا عُثْمَانَ، وَسَيِّدَنَا عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَسَمُوا الْغَنَائِمَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى قَرَابَةَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذْ لَا يُظَنُّ بِهِمْ مُخَالَفَةُ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَمُخَالَفَةُ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي فِعْلِهِ وَمَنْعُ الْحَقِّ عَنْ الْمُسْتَحِقِّ، وَكَذَا لَا يُظَنُّ بِمَنْ حَضَرَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - السُّكُوتُ عَمَّا لَا يَحِلُّ مَعَ مَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ - تَعَالَى - بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَكَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ ذَوِي الْقُرْبَى يَتَنَاوَلُ عُمُومَ الْقَرَابَاتِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] وَلَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ قَرَابَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً وَكَذَا قَوْلُهُ {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] لَمْ يَنْصَرِفْ إلَى قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ قَسَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْخُمْسَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، فَأَعْطَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَا الْقُرْبَى سَهْمًا» فَنَعَمْ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ خَاصَّةً وَكَذَا قَوْلُهُ {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] وَلَمْ يَنْصَرِفْ إلَى قَرَابَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَقْرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ أَوْ لِقَرَابَتِهِمْ وَقَدْ عَلِمْنَا بِقِسْمَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ لِحَاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ لَا لِقَرَابَتِهِمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُشَدِّدُ فِي أَمْرِ الْغَنَائِمِ فَتَنَاوَلَ مِنْ وَبَرِ بَعِيرٍ، وَقَالَ: «مَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ وَلَا وَزْنُ هَذِهِ الْوَبَرَةِ إلَّا الْخُمْسُ وَهُوَ مَرْدُودٌ فِيكُمْ، رُدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ، فَإِنَّ الْغَلُولَ عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» لَمْ يَخُصَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْقَرَابَةَ بِشَيْءٍ مِنْ الْخُمْسِ بَلْ عَمَّ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْخُمْسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ فَدَلَّ أَنَّ سَبِيلَهُمْ سَبِيلُ سَائِرِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، يُعْطَى مَنْ يَحْتَاجُ مِنْهُمْ كِفَايَتَهُ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَلَوْ أُعْطِيَ أَيُّ فَرِيقٍ اتَّفَقَ مِمَّنْ سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى جَازَ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ لِبَيَانِ الْمَصَارِفِ لَا لِإِيجَابِ الصَّرْفِ إلَى كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ شَيْئًا، بَلْ لِتَعْيِينِ الْمَصْرِفِ حَتَّى لَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى غَيْرِ هَؤُلَاءِ،

كَمَا فِي الصَّدَقَاتِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ فَفِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ. مَنْ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ مِنْهُ وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الِاسْتِحْقَاقِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَاَلَّذِي يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ مِنْهَا هُوَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ الْمُقَاتِلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، وَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ، وَسَوَاءٌ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ وَالْقِتَالَ إرْهَابُ الْعَدُوِّ، وَذَا كَمَا يَحْصُلُ بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ يَحْصُلُ بِثَبَاتِ الْقَدَمِ فِي صَفِّ الْقِتَالِ رَدًّا لِلْمُقَاتَلَةِ خَشْيَةَ كَرِّ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ وَكَذَا رُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ بَدْرٍ كَانُوا ثَلَاثًا: ثُلُثٌ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ وَيَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَثُلُثٌ يَجْمَعُونَ الْغَنَائِمَ، وَثُلُثٌ يَكُونُونَ رَدًّا لَهُمْ خَشْيَةَ كَرِّ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ. وَسَوَاءٌ كَانَ مَرِيضًا أَوْ صَحِيحًا، شَابًّا أَوْ شَيْخًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا مَأْذُونًا بِالْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ. (فَأَمَّا) الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ الْعَاقِلُ، وَالذِّمِّيُّ وَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ، فَلَيْسَ لَهُمْ سَهْمٌ كَامِلٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِتَالُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالذِّمِّيِّ أَصْلًا؟ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ؟ وَهِيَ ضَرُورَةُ عُمُومِ النَّفِيرِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَحِقُّوا كَمَالَ السَّهْمِ، وَلَكِنْ يُرْضَخُ لَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْإِمَامُ وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كَانَ لَا يُعْطِي الْعَبِيدَ وَالصِّبْيَانَ وَالنِّسْوَانَ سَهْمًا كَامِلًا مِنْ الْغَنَائِمِ» . وَكَذَا لَا سَهْمَ لِلتَّاجِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ إلَّا إذَا قَاتَلَ مَعَ الْعَسْكَرِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْعَسْكَرُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ دَخَلَ الدَّارَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ فَكَانَ مُقَاتِلًا، وَلَا سَهْمَ لِلْأَجِيرِ لِانْعِدَامِ الدُّخُولِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ، فَإِنْ قَاتَلَ نُظِرَ فِي ذَلِكَ إنْ تَرَكَ الْخِدْمَةَ فَقَدْ دَخَلَ فِي جُمْلَةِ الْعَسْكَرِ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ فَلَا شَيْءَ لَهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتْرُكْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مِقْدَارِ الِاسْتِحْقَاقِ وَبَيَانُ حَالِ الْمُسْتَحِقِّ وَهُوَ الْمُقَاتِلُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْمُقَاتِلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِلًا. (وَإِمَّا) أَنْ يَكُونَ فَارِسًا فَإِنْ كَانَ رَاجِلًا فَلَهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ فَارِسًا فَلَهُ سَهْمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لَهُ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرِوَايَاتُ الْأَخْبَارِ تَعَارَضَتْ فِي الْبَابِ، رُوِيَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَسَمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ» وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَسَمَ لَهُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ» إلَّا أَنَّ رِوَايَةَ السَّهْمَيْنِ عَاضَدَهَا الْقِيَاسُ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ أَصْلٌ فِي الْجِهَادِ، وَالْفَرَسُ تَابِعٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِعْلَ الْجِهَادِ يَقُومُ بِالرَّجُلِ وَحْدَهُ، وَلَا يَقُومُ بِالْفَرَسِ وَحْدَهُ، فَكَانَ الْفَرَسُ تَابِعًا فِي بَابِ الْجِهَادِ وَلَا يَجُوزُ تَنْفِيلُ التَّبَعِ عَلَى الْأَصْلِ فِي السَّهْمِ، وَأَخْبَارُ الْآحَادِ إذَا تَعَارَضَتْ، فَالْعَمَلُ بِمَا عَاضَدَهُ الْقِيَاسُ أَوْلَى وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَتِيقُ مِنْ الْخَيْلِ وَالْفَرَسِ وَالْبِرْذَوْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي النُّصُوصِ بَيْنَ فَارِسٍ وَفَارِسٍ، وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ سَهْمِ الْفَرَسِ لِحُصُولِ إرْهَابِ الْعَدُوِّ بِهِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَصَفَ جِنْسَ الْخَيْلِ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] فَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ، وَلَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُسْهَمُ لِفَرَسَيْنِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْغَازِيَ تَقَعُ الْحَاجَةُ لَهُ إلَى فَرَسَيْنِ، يَرْكَبُ أَحَدَهُمَا وَيُجَنِّبُ الْآخَرَ حَتَّى إذَا أَعْيَا الْمَرْكُوبُ عَنْ الْكَرِّ وَالْفَرِّ تَحَوَّلَ إلَى الْجَنِيبَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمْ أَنَّ الْإِسْهَامَ لِلْخَيْلِ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْخَيْلَ آلَةُ الْجِهَادِ ثُمَّ لَا يُسْهَمُ لِسَائِرِ آلَاتِ الْجِهَادِ، فَكَذَا الْخَيْلُ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهِ كَفَرَسٍ وَاحِدٍ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تُرَدُّ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ عَلَى أَنَّ وُرُودَ الشَّرْعِ إنْ كَانَ مَعْلُولًا بِكَوْنِهِ آلَةً مُرْهِبَةً لِلْعَدُوِّ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْآلَاتِ فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ أَصْلُ الْإِرْهَابِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لِمَا زَادَ عَلَى فَرَسَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ، مَعَ أَنَّ مَعْنَى الْإِرْهَابِ يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الْفَرَسِ. ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي حَالِ الْمُقَاتِلِ مِنْ كَوْنِهِ فَارِسًا، أَوْ رَاجِلًا فِي أَيِّ وَقْتٍ يُعْتَبَرُ وَقْتُ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ أَمْ وَقْتُ شُهُودِ الْوَقْعَةِ، فَعِنْدَنَا يُعْتَبَرُ وَقْتُ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ إذَا دَخَلَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُعْتَبَرُ وَقْتُ شُهُودِ الْوَقْعَةِ، حَتَّى إنَّ الْغَازِيَ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَمَاتَ فَرَسُهُ أَوْ نَفَرَ، أَوْ أَخَذَهُ الْعَدُوُّ فَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَهُ سَهْمُ الرَّجَّالَةِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْغَنِيمَةِ بِالْجِهَادِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَقْتَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ بِالْمُقَاتَلَةِ، وَدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ مِنْ بَابِ قَطْعِ الْمَسَافَةِ لَا مِنْ بَابِ الْمُقَاتَلَةِ. (وَلَنَا) أَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - جَعَلَ الْغَنَائِمَ لِلْمُجَاهِدِينَ، قَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال: 69]

فصل في بيان حكم الاستيلاء من الكفرة على أموال المسلمين

وَقَالَ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] وَقَالَ - جَلَّتْ عَظَمَتُهُ وَكِبْرِيَاؤُهُ - {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 20] وَقَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: 7] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ، وَاَلَّذِي جَاوَزَ الدَّرْبَ فَارِسًا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ مُجَاهِدٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْمُجَاوَزَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إرْهَابُ الْعَدُوِّ، وَأَنَّهُ جِهَادٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ إرْهَابُ الْعَدُوِّ، وَأَنَّهُ جِهَادٌ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] وَلِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَا تَخْلُو عَنْ عُيُونِ الْكُفَّارِ وَطَلَائِعِهِمْ، فَإِذَا دَخَلَهَا جَيْشٌ كَثِيفٌ رِجَالًا وَرُكْبَانًا فَالْجَوَاسِيسُ يُخْبِرُونَهُمْ بِذَلِكَ، فَيَقَعُ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى يَتْرُكُوا الْقُرَى وَالرَّسَاتِيقَ هَرَبًا إلَى الْقِلَاعِ وَالْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ، فَكَانَ مُجَاوَزَةُ الدَّرْبِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ إرْهَابَ الْعَدُوِّ، وَأَنَّهُ جِهَادٌ. وَالثَّانِي أَنَّ فِيهِ غَيْظَ الْكَفَرَةِ وَكَبْتَهُمْ؛ لِأَنَّ وَطْءَ أَرْضِهِمْ وَعُقْرَ دَارِهِمْ مِمَّا يَغِيظُهُمْ قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ} [التوبة: 120] وَفِيهِ قَهْرُهُمْ وَمَا الْجِهَادُ إلَّا قَهْرُ أَعْدَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِإِعْزَازِ دِينِهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ فَدَلَّ أَنَّ مُجَاوَزَةَ الدَّرْبِ فَارِسًا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ جِهَادٌ وَمَنْ جَاهَدَ فَارِسًا فَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ، وَمَنْ جَاهَدَ رَاجِلًا فَلَهُ سَهْمُ الرَّجَّالَةِ، بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ. وَأَمَّا أَمْرُ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي وَقْعَةٍ خَاصَّةٍ، بِأَنْ وَقَعَ الْقِتَالُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا، ثُمَّ لَحِقَ الْمَدَدُ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ: إنَّ الْمَدَدَ لَا يُشَارِكُونَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ إلَّا إذَا شَهِدُوهَا، وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا دَخَلَ رَاجِلًا ثُمَّ اشْتَرَى فَرَسًا أَوْ اسْتَأْجَرَ، أَوْ اسْتَعَارَ أَوْ وُهِبَ لَهُ فَلَهُ سَهْمُ الرِّجَالِ عِنْدَنَا؛ لِاعْتِبَارِ وَقْتِ الدُّخُولِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ؛ لِاعْتِبَارِ وَقْتِ الشُّهُودِ وَقَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إذَا قَاتَلَ فَارِسًا فَلَهُ سَهْمُ فَارِسٍ، وَعَلَى هَذَا إذَا دَخَلَ فَارِسًا ثُمَّ بَاعَ فَرَسَهُ أَوْ آجَرَهُ، أَوْ وَهَبَهُ أَوْ أَعَارَهُ فَقَاتَلَ وَهُوَ رَاجِلٌ فَلَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ، ذَكَرَهُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ لَهُ سَهْمَ فَارِسٍ، وَسَوَّى عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْمَوْتِ، وَبَيْنَ الْبَيْعِ قَبْلَ شُهُودِ الْوَقْعَةِ وَبَعْدَهَا وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمُجَاوَزَةَ فَارِسًا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ دَلِيلُ الْجِهَادِ فَارِسًا، وَلَمَّا بَاعَ فَرَسَهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْجِهَادَ فَارِسًا، بَلْ قَصَدَ بِهِ التِّجَارَةَ، وَكَذَا هَذَا فِي الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالرَّهْنِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ شُهُودِ الْوَقْعَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَعْدَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْغَازِيَ لَا يَبِيعُ فَرَسَهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ لِقَصْدِ التِّجَارَةِ عَادَةً، بَلْ لِقَصْدِ ثَبَاتِ الْقَدَمِ وَالتَّشَمُّرِ لِلْقِتَالِ بِعَامَّةِ مَا فِي وُسْعِهِ وَإِمْكَانِهِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ حُكْمِ الِاسْتِيلَاءِ مِنْ الْكَفَرَةِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ] (فَصْلٌ) . وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الِاسْتِيلَاءِ مِنْ الْكَفَرَةِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْكُفَّارَ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِهِمْ، إنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهَا حَتَّى لَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ، وَأَخَذُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ، لَا يَصِيرُ مِلْكًا لَهُمْ، وَعَلَيْهِمْ رَدُّهَا إلَى أَرْبَابِهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَكَذَا لَوْ قَسَمُوهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ، فَأَخَذُوهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ، أَخَذَهَا أَصْحَابُهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ قِسْمَتَهُمْ لَمْ تَجُزْ لِعَدَمِ الْمِلْكِ، فَكَانَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، بِخِلَافِ قِسْمَةِ الْإِمَامِ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، إنَّهَا جَائِزَةٌ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِيهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْإِمَامِ إنَّمَا تَجُوزُ عِنْدَنَا إذَا اجْتَهَدَ وَأَفْضَى رَأْيُهُ إلَى الْمِلْكِ، حَتَّى لَوْ قَسَمَ مُجَازَفَةً لَا تَجُوزُ عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ هُنَاكَ قَضَاءٌ صَدَرَ مِنْ إمَامٍ جَائِزِ الْقَضَاءِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمْ أَيْضًا إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَى رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ، وَمُدَبِّرِيهِمْ، وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِمْ، وَمُكَاتَبِيهِمْ، أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُمْ، وَإِنْ أَحْرَزُوهُمْ بِالدَّارِ وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ فَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِ الْحَرْبِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَمْلِكُونَهَا حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْحَرْبِيُّ، أَوْ بَاعَهُ، أَوْ كَاتَبَهُ، أَوْ دَبَّرَهُ، أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا جَازَ ذَلِكَ خَاصَّةً وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَمْلِكُونَهَا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مَعْصُومٍ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالٍ مَعْصُومٍ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى الرِّقَابِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ عِصْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ إذَا بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْعِبَادَاتِ وَالِاسْتِيلَاءُ يَكُونُ مَحْظُورًا، وَالْمَحْظُورُ

لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ. (وَلَنَا) أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، وَمَنْ اسْتَوْلَى عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ يَمْلِكُهُ، كَمَنْ اسْتَوْلَى عَلَى الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالصَّيْدِ، وَدَلَالَةُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِيلَاءَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ أَنَّ مِلْكَ الْمَالِكِ يَزُولُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَتَزُولُ الْعِصْمَةُ ضَرُورَةً بِزَوَالِ الْمِلْكِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ أَنَّ الْمِلْكَ هُوَ الِاخْتِصَاصُ بِالْمَحَلِّ فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ، أَوْ شُرِعَ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلِّ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الدُّخُولُ بِنَفْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَاطَرَةِ الرُّوحِ، وَإِلْقَاءِ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ، وَغَيْرُهُ قَدْ لَا يُوَافِقُهُ وَلَوْ وَافَقَهُ فَقَدْ لَا يَظْفَرُ بِهِ، وَلَوْ ظَفَرَ بِهِ قَلَّمَا يُمْكِنُهُمْ الِاسْتِرْدَادُ؛ لِأَنَّ الدَّارَ دَارُهُمْ، وَأَهْلُ الدَّارِ يَذُبُّونَ عَنْ دَارِهِمْ، فَإِذَا زَالَ مَعْنَى الْمِلْكِ أَوْ مَا شُرِعَ لَهُ الْمِلْكُ يَزُولُ الْمِلْكُ ضَرُورَةً. وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَوْلَوْا عَلَى عَبِيدِنَا فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ قَابِلٌ لِلتَّمْلِيكِ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَلِهَذَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ الْأَحْرَارِ، وَالْمُدَبَّرَيْنِ، وَالْمُكَاتَبِينَ، وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَهَذَا إذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ فَاسْتَوْلَوْا عَلَى عَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوهُمْ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَأَمَّا إذَا أَبَقَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَأَخَذَهُ الْكُفَّارُ لَا يَمْلِكُونَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ يَمْلِكُونَهُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ فَيَمْلِكُونَهُ قِيَاسًا عَلَى الدَّابَّةِ الَّتِي نَدَّتْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَأَخَذَهَا الْكُفَّارُ وَسَائِرَ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ أَنَّهُ كَمَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَقَدْ زَالَ مِلْكُ الْمَالِكِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَزَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمَالِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الرِّقِّ؟ . (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ، فَلَا يُفِيدُ الْمِلْكَ قِيَاسًا عَلَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْأَحْرَارِ وَالْمُدَبَّرَيْنِ، وَالْمُكَاتَبِينَ، وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَدَلَالَةُ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ أَنَّ مَحَلَّ الِاسْتِيلَاءِ هُوَ الْمَالُ، وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ فِي هَذَا الْمَحَلِّ إنَّمَا ثَبَتَتْ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْغَانِمِينَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ هُوَ الْحُرِّيَّةُ، وَكَمَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَقَدْ زَالَ الْمِلْكُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَتَزُولُ الْمَالِيَّةُ الثَّابِتَةُ ضَرُورَةَ ثُبُوتِهِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزُولَ الرِّقُّ أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُ بَقِيَ شَرْعًا، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ، بِخِلَافِ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ فِيهَا لَا تَثْبُتُ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ وَالْأَمْوَالُ كُلُّهَا مَحَلٌّ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَبِخِلَافِ الْآبِقِ الْمُتَرَدِّدِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ حَقِيقَةً صَادَفَهُ وَهُوَ مَالٌ مَمْلُوكٌ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ لِلْحَالِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ، إلَّا أَنَّهُ تَأَخَّرَ إلَى وَقْتِ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ لِمَانِعٍ وَهُوَ مِلْكُ الْمَالِكِ، فَإِذَا أَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ لِزَوَالِ الْمِلْكِ، فَيَعْمَلُ الِاسْتِيلَاءُ السَّابِقُ، وَعَمَلُهُ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ. وَالْمِلْكُ لَا يَثْبُتُ إلَّا فِي الْمَالِ فَبَقِيَتْ الْمَالِيَّةُ ضَرُورَةَ الْمَرْءِ هَاهُنَا؛ لِاسْتِيلَاءِ حَالَ كَوْنِهِ مَالًا أَصْلًا، وَبَعْدَ مَا وُجِدَ الِاسْتِيلَاءُ لَا مَالِيَّةَ لِزَوَالِ الْمِلْكِ، فَلَمْ يُصَادِفْ الِاسْتِيلَاءُ مَحَلَّهُ فَلَا يُفِيدُ الْمِلْكَ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ فَنَقُولُ: مِلْكُ الْمُسْلِمِ يَزُولُ عَنْ مَالِهِ بِاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ، وَيَثْبُتُ لَهُمْ عِنْدَنَا عَلَى وَجْهٍ لَهُ حَقُّ الْإِعَادَةِ، إمَّا بِعِوَضٍ، أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، حَتَّى لَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوهَا وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ وَجَدَهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ لَا يَأْخُذُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ لَأَخَذَهُ بِمِثْلِهِ فَلَا يُفِيدُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْقِيمَةِ مُرَاعَاةَ الْجَانِبَيْنِ: جَانِبِ الْمِلْكِ الْقَدِيمِ بِإِيصَالِهِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ الْخَاصِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَجَانِبِ الْغَانِمِينَ بِصِيَانَةِ مِلْكِهِمْ الْخَاصِّ عَنْ الزَّوَالِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ. فَكَانَ الْأَخْذُ بِالْقِيمَةِ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ وَمُرَاعَاةَ الْحَقَّيْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَدَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، إنَّهُ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْغَانِمِينَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ لَيْسَ إلَّا الْحَقُّ الْمُتَأَكَّدُ، أَوْ الْمِلْكُ الْعَامُّ، فَكَانَتْ الْإِعَادَةُ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ رِعَايَةً لِلْمِلْكِ الْخَاصِّ أَوْلَى وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بَعِيرًا لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَرْبِ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَوَجَدَهُ صَاحِبُهُ فِي الْمَغْنَمِ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ فَقَالَ: «إنْ وَجَدْتَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لَكَ بِالْقِيمَةِ» . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْحَرْبِيُّ بَاعَ الْمَأْخُوذَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنَّ الْمَالِكَ الْقَدِيمَ يَأْخُذُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ مُسْتَحَقُّ الْإِعَادَةِ إلَى قَدِيمِ

الْمِلْكِ فَبَقِيَ كَذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَأَخْرَجُوهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، أَخَذَهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِغَيْرِ شَيْءٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مِنْ وَجْهٍ، وَالْحُرُّ مِنْ وَجْهٍ أَوْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُهُ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ، فَإِذَا حَصَلُوا فِي أَيْدِي الْغَانِمِينَ وَجَبَ رَدُّهُمْ إلَى الْمَالِكِ الْقَدِيمِ. وَلَوْ وَهَبَ الْحَرْبِيُّ مَا مَلَكَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَخَذَهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ مِنْ مُسْلِمٍ بِعِوَضٍ فَاسِدٍ، بِأَنْ بَاعَ مِنْ مُسْلِمٍ عَبْدَ الْمُسْلِمِ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، أَخَذَهُ صَاحِبُهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَمْ تَصِحَّ، فَكَانَ هَذَا بَيْعًا فَاسِدًا، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ مَضْمُونٌ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِقِيمَتِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْعِوَضُ فَاسِدًا أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ إنْ شَاءَ، إنْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ مُفِيدٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِجِنْسِهِ لَكِنْ بِأَقَلَّ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَاهُ، وَلَا يَكُونُ هَذَا رِبًا، لِأَنَّ الرِّبَا فَضْلُ مَالٍ قُصِدَ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يُقَابِلُهُ. وَالْمَالِكُ الْقَدِيمُ لَا يَأْخُذُهُ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ، بَلْ بِطَرِيقِ الْإِعَادَةِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِجِنْسِهِ بِمِثْلِهِ قَدْرًا لَا يَأْخُذُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ وَلَوْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْ الْعَدُوِّ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ، ثُمَّ حَضَرَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ أَخَذَهُ مِنْ الثَّانِي بِالثَّمَنِ الثَّانِي، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْبَيْعَ الثَّانِيَ، وَيَأْخُذَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي النَّوَادِرِ - أَنَّ الْمَالِكَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ وَأَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الثَّانِي. (وَجْهُ) رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ أَخْذَ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ تَمَلُّكٌ بِبَدَلٍ فَأَشْبَهَ حَقَّ الشُّفْعَةِ، ثُمَّ حَقُّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي، فَكَذَا حَقُّهُ وَالْجَامِعُ أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَابِقٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَالسَّبْقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ فِي الْمَحَلِّ بِوَجْهٍ، بَلْ هُوَ زَائِلٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ لَهُ حَقُّ الْإِعَادَةِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَعْنًى فِي الْمَحَلِّ، فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ، فَلَا يَمْلِكُ نَقْضَهُ بِخِلَافِ حَقِّ الشُّفْعَةِ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ نَقْضَ الْمَشْفُوعِ فَيَقْتَضِي الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِتَمْلِيكِ الْبَائِعِ مِنْهُ عَلَى مَا عُرِفَ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ إذَا عَلِمَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِشِرَاءِ الْمَأْسُورِ، وَتَرَكَ الطَّلَبَ زَمَانًا لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَخْذَ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِيُشْتَرَطَ لَهُ الطَّلَبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاثَبَةِ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَبْطُلُ كَمَا يَبْطُلُ حَقُّ الشُّفْعَةِ بِتَرْكِ الطَّلَبِ عَلَى الْمُوَاثَبَةِ. وَكَذَلِكَ هَذَا الْحَقُّ يُورَثُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ، كَانَ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَأْخُذُوهُ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُورَثُ كَمَا لَا يُورَثُ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَخْذَ لَيْسَ ابْتِدَاءَ تَمَلُّكٍ، بَلْ هُوَ إعَادَةٌ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَحَقُّ الْإِعَادَةِ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ كَحَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَلَيْسَ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ دُونَ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِلْكُلِّ فَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ الْبَعْضُ، وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْسُورَ رَجُلٌ فَأَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْعَدُوُّ ثَانِيًا، فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ آخَرُ، فَأَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَالْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ أَحَقُّ مِنْ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ، وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُسِرَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ نَزَلَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ، فَكَانَ حَقُّ الْأَخْذِ لَهُ. لَكِنْ إذَا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ فَلِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنَيْنِ إنْ شَاءَ أَوْ يَدَعَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ بِالثَّمَنِ فَقَدْ قَامَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنَيْنِ، فَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ وَلَمْ يُوجَدْ الْأَسْرُ أَصْلًا، وَلَوْ أَعْتَقَ الْحَرْبِيُّ الْعَبْدَ الْمَأْسُورَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ دَبَّرَهُ، أَوْ كَاتَبَهُ، أَوْ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَاسْتَوْلَدَهَا، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا، فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ، وَعَتَقَتْ هِيَ وَأَوْلَادُهَا، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ. (أَمَّا) إذَا أَعْتَقَهُ فَلِأَنَّ يَدَهُ زَالَتْ عَنْهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَحَصَلَ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَعَتَقَ عَلَيْهِ، كَالْعَبْدِ الْحَرْبِيِّ إذَا خَرَجَ إلَيْنَا مُسْلِمًا، وَالِاسْتِيلَادُ فَرْعُ النَّسَبِ، وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَقَهْرُ الْحَرْبِيِّ كَمَوْتِهِ، وَإِنْ مَاتَ عَتَقَتْ أُمُّ وَلَدِهِ، كَمَا إذَا غَلَبَ عَلَيْهِ، وَعِتْقُ الْمُدَبَّرِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَالْمُكَاتَبُ صَارَ فِي يَدِ نَفْسِهِ؛ لِزَوَالِ يَدِ الْمَوْلَى عَنْهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَيَعْتِقُ، وَلِأَنَّهُ إذَا قُهِرَ الْمَوْلَى سَقَطَ عَنْهُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ، فَعَتَقَ لِزَوَالِ رِقِّهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَأْسُورُ حُرًّا فَاشْتَرَاهُ مُسْلِمٌ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَا شَيْءَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ مَا اشْتَرَاهُ حَقِيقَةً؛ إذْ الْحُرُّ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ، لَكِنَّهُ بَذَلَ مَالًا لِاسْتِخْلَاصِ الْأَسِيرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَكَانَ مُتَطَوِّعًا فِيهِ، فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَمَرَهُ الْحُرُّ بِذَلِكَ فَفَعَلَهُ بِأَمْرِهِ رَجَعَ

فصل في بيان معنى الدارين دار الإسلام ودار الكفر

عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَكَأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمَالِ، فَأَقْرَضَهُ إيَّاهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى فُلَانٍ فَفَعَلَ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الِاسْتِقْرَاضِ، وَلَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الْحَرْبِ، وَمَتَاعُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي أَحْرَزُوهُ فِي أَيْدِيهِمْ فَهُوَ لَهُمْ وَلَا حَقَّ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ أَسْلَمُوا عَلَيْهِ، وَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الَّذِي ذَكَرنَا حُكْمُ اسْتِيلَاءِ الْكَافِرِ فَأَمَّا حُكْمُ الشِّرَاءِ، فَنَقُولُ: الْحَرْبِيُّ إذَا خَرَجَ إلَيْنَا فَاشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ فِيهِ عِنْدَنَا؛ لَكِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ إلَيْنَا بِعَبْدِهِ فَأَسْلَمَ فِي يَدِهِ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ شِرَاءُ الْكَافِرِ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْبُيُوعِ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ حَتَّى دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِهِ عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى، وَعِنْدَهُمَا لَا يَعْتِقُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ لِإِحْرَازِ الْكَافِرِ مَالَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ أَثَرًا فِي زَوَالِ الْعِصْمَةِ لَا فِي زَوَالِ الْمِلْكِ، فَإِنَّ مَالَ الْكَافِرِ مَمْلُوكٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الثَّابِتَ لِلْحَرْبِيِّ بِالشِّرَاءِ مِلْكٌ مَجْبُورٌ عَلَى إزَالَتِهِ، فَلَوْ لَمْ يَعْتِقْ بِإِدْخَالِهِ دَارَ الْحَرْبِ لَمْ يَبْقَ الْمِلْكُ الثَّابِتُ لَهُ شَرْعًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِتَعَذُّرِ الْجَبْرِ بِالْإِحْرَازِ بِوَجْهٍ، فَيُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ الْمَشْرُوعِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ثُمَّ طَرِيقُ الزَّوَالِ هُوَ الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي الْأَصْلِ شَرْطَ زَوَالِ الْمِلْكِ وَالْعِصْمَةِ فِي اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ لِتَعَذُّرِ تَحْصِيلِ الْعِلَّةِ، فَأُقِيمَ الشَّرْطُ مَقَامَهُ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ مِنْ إقَامَةِ الشَّرْطِ مَقَامَ الْعِلَّةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ، وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا ذِمِّيًّا فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ مَجْبُورٌ عَلَى بَيْعِ الذِّمِّيِّ أَيْضًا، وَلَا يُتْرَكُ لِيَدْخُلَ دَارَ الْحَرْبِ وَلَوْ. أَسْلَمَ عَبْدٌ لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَعْتِقُ، وَهُوَ عَبْدٌ عَلَى حَالِهِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كَانَ وَاجِبَ الْإِزَالَةِ لَكِنْ لَا طَرِيقَ لِلزَّوَالِ هَاهُنَا، فَبَقِيَ عَلَى حَالِهِ، وَلَوْ خَرَجَ هَذَا الْعَبْدُ إلَيْنَا، فَإِنْ خَرَجَ مُرَاغِمًا لِمَوْلَاهُ وَلَحِقَ بِعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ عَتَقَ؛ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ قَهْرٍ وَغَلَبَةٍ، وَقَدْ قَهَرَ مَوْلَاهُ بِخُرُوجِهِ مُرَاغِمًا إيَّاهُ، فَصَارَ مُسْتَوْلِيًا عَلَى نَفْسِهِ مُسْتَغْنِمًا إيَّاهَا، فَيَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ فِي إبَاقِ الطَّائِفِ: «هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» وَلَوْ خَرَجَ غَيْرَ مُرَاغَمٍ فَإِنْ خَرَجَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لِلتِّجَارَةِ فَهُوَ عَبْدٌ لِمَوْلَاهُ لَكِنْ يَبِيعُهُ الْإِمَامُ، وَيَقِفُ ثَمَنَهُ لِمَوْلَاهُ أَمَّا كَوْنُهُ عَبْدًا لِمَوْلَاهُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ قَاهِرًا مُسْتَوْلِيًا، وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ مُسْتَحَقُّ الزَّوَالِ بِالْإِسْلَامِ. وَأَمَّا وَقْفُ ثَمَنِهِ لِمَوْلَاهُ، فَلِأَنَّهُ بَاعَهُ عَلَى مِلْكِهِ. وَكَذَا لَوْ لَمْ يَخْرُجْ مُرَاغِمًا وَلَكِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ يُعْتَقُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ فَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِلْكٌ مُسْتَحَقُّ الزَّوَالِ، مُحْتَاجٌ إلَى طَرِيقِ الزَّوَالِ، وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ إحْرَازُ نَفْسِهِ بِمَنْعِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّهُ أَسْبَقُ مِنْ إحْرَازِ الْمُسْلِمِينَ إيَّاهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِيَمْلِكُوهُ، فَكَانَ أَوْلَى وَلَوْ لَمْ يَخْرُجْ وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَى الدَّارِ، وَلَكِنْ بَاعَهُ الْحَرْبِيُّ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ حَرْبِيٍّ، عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَبِلَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُعْتَقُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ كَمَا زَالَ مِلْكُ الْبَائِعِ عَنْهُ فَقَدْ ثَبَتَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فِيهِ، فَلَا يُعْتَقُ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا مِلْكٌ مُسْتَحَقُّ الزَّوَالِ مَوْقُوفٌ زَوَالُهُ عَلَى سَبَبِ الزَّوَالِ أَوْ شَرْطِ الزَّوَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَإِذَا عَرَضَهُ عَلَى الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ سَبَبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ فَقَدْ رَضِيَ بِزَوَالِهِ إلَى غَيْرِهِ فَكَانَ بِزَوَالِهِ إلَيْهِ أَرْضَى. لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الزَّوَالَ وَغَيْرُهُ مَا اسْتَحَقَّهُ، وَالرِّضَا بِالزَّوَالِ شَرْطُ الزَّوَالِ وَلَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَهُ رَقِيقٌ فِيهَا، فَخَرَجَ هُوَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ تَبِعَهُ عَبْدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَافِرًا كَانَ أَوْ مُسْلِمًا فَهُوَ عَبْدٌ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ إلَى مَوْلَاهُ كَخُرُوجِهِ مَعَ مَوْلَاهُ وَلَوْ كَانَ خَرَجَ مَعَ مَوْلَاهُ لَكَانَ عَبْدًا لِمَوْلَاهُ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَان مَعْنَى الدارين دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْكُفْرِ] (فَصْلٌ) . وَأَمَّا بَيَانُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، فَنَقُولُ: لَا بُدَّ أَوَّلًا مِنْ مَعْرِفَةِ مَعْنَى الدَّارَيْنِ، دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْكُفْرِ؛ لِتُعْرَفَ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِمَا، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا بِهِ، تَصِيرُ الدَّارُ دَارَ إسْلَامٍ أَوْ دَارَ كُفْرٍ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ دَارَ الْكُفْرِ تَصِيرُ دَارَ إسْلَامٍ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا وَاخْتَلَفُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، إنَّهَا بِمَاذَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهَا لَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ إلَّا بِثَلَاثِ شَرَائِطَ، أَحَدُهَا: ظُهُورُ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً لِدَارِ الْكُفْرِ وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ وَلَا ذِمِّيٌّ آمِنًا بِالْأَمَانِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَمَانُ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إنَّهَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَنَا دَارُ الْإِسْلَامِ وَدَارُ الْكُفْرِ إضَافَةُ دَارٍ إلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَى الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا تُضَافُ الدَّارُ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ إلَى الْكُفْرِ

فصل في بيان الأحكام التي تختلف باختلاف الدارين

لِظُهُورِ الْإِسْلَامِ أَوْ الْكُفْرِ فِيهَا، كَمَا تُسَمَّى الْجَنَّةُ دَارَ السَّلَامِ، وَالنَّارُ دَارَ الْبَوَارِ؛ لِوُجُودِ السَّلَامَةِ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَوَارِ فِي النَّارِ وَظُهُورُ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ بِظُهُورِ أَحْكَامِهِمَا، فَإِذَا ظَهَرَ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِي دَارٍ فَقَدْ صَارَتْ دَارَ كُفْرٍ فَصَحَّتْ الْإِضَافَةُ، وَلِهَذَا صَارَتْ الدَّارُ دَارَ الْإِسْلَامِ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ شَرِيطَةٍ أُخْرَى، فَكَذَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إضَافَةِ الدَّارِ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ لَيْسَ هُوَ عَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ الْأَمْنُ وَالْخَوْفُ. وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَمَانَ إنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْخَوْفُ لِلْكَفَرَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ الْأَمَانُ فِيهَا لِلْكَفَرَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْخَوْفُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَهِيَ دَارُ الْكُفْرِ وَالْأَحْكَامُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَمَانِ وَالْخَوْفِ لَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، فَكَانَ اعْتِبَارُ الْأَمَانِ وَالْخَوْفِ أَوْلَى، فَمَا لَمْ تَقَعْ الْحَاجَةُ لِلْمُسْلِمِينَ إلَى الِاسْتِئْمَانِ بَقِيَ الْأَمْنُ الثَّابِتُ فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ، وَكَذَا الْأَمْنُ الثَّابِتُ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْمُتَاخَمَةِ لِدَارِ الْحَرْبِ، فَتَوَقَّفَ صَيْرُورَتُهَا دَارَ الْحَرْبِ عَلَى وُجُودِهِمَا مَعَ أَنَّ إضَافَةَ الدَّارِ إلَى الْإِسْلَامِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِمَا قُلْتُمْ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِمَا قُلْنَا، وَهُوَ ثُبُوتُ الْأَمْنِ فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْكَفَرَةِ بِعَارِضِ الذِّمَّةِ وَالِاسْتِئْمَانِ، فَإِنْ كَانَتْ الْإِضَافَةُ لِمَا قُلْتُمْ تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ بِمَا قُلْتُمْ. وَإِنْ كَانَتْ الْإِضَافَةُ لِمَا قُلْنَا لَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ إلَّا بِمَا قُلْنَا، فَلَا تَصِيرُ مَا بِهِ دَارُ الْإِسْلَامِ بِيَقِينٍ دَارَ الْكُفْرِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ الثَّابِتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، بِخِلَافِ دَارِ الْكُفْرِ حَيْثُ تَصِيرُ دَارَ الْإِسْلَامِ؛ لِظُهُورِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ التَّرْجِيحَ لِجَانِبِ الْإِسْلَامِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى» فَزَالَ الشَّكُّ عَلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ إنْ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ الْأَحْكَامِ، لَكِنْ لَا تَظْهَرُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ - أَعْنِي الْمُتَاخَمَةَ وَزَوَالَ الْأَمَانِ الْأَوَّلِ - لِأَنَّهَا لَا تَظْهَرُ إلَّا بِالْمَنَعَةِ، وَلَا مَنَعَةَ إلَّا بِهِمَا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَقِيَاسُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي أَرْضٍ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ظَهَرَ عَلَيْهَا الْمُشْرِكُونَ، وَأَظْهَرُوا فِيهَا أَحْكَامَ الْكُفْرِ، أَوْ كَانَ أَهْلُهَا أَهْلَ ذِمَّةٍ فَنَقَضُوا الذِّمَّةَ. وَأَظْهَرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ، هَلْ تَصِيرُ دَارَ الْحَرْبِ؟ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ، فَإِذَا صَارَتْ دَارَ الْحَرْبِ فَحُكْمُهَا إذَا ظَهَرْنَا عَلَيْهَا، وَحُكْمُ سَائِرِ دُورِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَلَوْ فَتَحَهَا الْإِمَامُ ثُمَّ جَاءَ أَرْبَابُهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوا بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءُوا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ وَعَادَ الْمَأْخُوذُ عَلَى حُكْمِهِ الْأَوَّلِ الْخَرَاجِيُّ عَادَ خَرَاجِيًّا، وَالْعُشْرِيُّ عَادَ عُشْرِيًّا؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ اسْتِحْدَاثَ الْمِلْكِ، بَلْ هُوَ عَوْدُ قَدِيمِ الْمِلْكِ إلَيْهِ، فَيَعُودُ بِوَظِيفَتِهِ إلَّا إذَا كَانَ الْإِمَامُ وَضَعَ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَا يَعُودُ عَشْرِيًّا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِمَامِ صَدَرَ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ، فَلَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَان الْأَحْكَامِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ] (فَصْلٌ) . وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فَأَنْوَاعٌ، مِنْهَا أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا زَنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ سَرَقَ، أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ، أَوْ قَذَفَ مُسْلِمًا لَا يُؤْخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إقَامَةِ الْحُدُودِ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ. وَلَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا أَصْلًا، وَلَوْ فَعَلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ هَرَبَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ يُؤْخَذُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ مُوجِبًا لِلْإِقَامَةِ، فَلَا يَسْقُطُ بِالْهَرَبِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَ مُسْلِمًا لَا يُؤْخَذُ بِالْقِصَاصِ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا؛ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ إلَّا بِالْمَنَعَةِ؛ إذْ الْوَاحِدُ يُقَاوِمُ الْوَاحِدَ، وَالْمَنَعَةُ مُنْعَدِمَةٌ، وَلِأَنَّ كَوْنَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْوُجُوبِ. وَالْقِصَاصُ لَا يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَيَضْمَنُ الدِّيَةَ خَطَأً كَانَ أَوْ عَمْدًا، وَتَكُونُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ ابْتِدَاءً. أَوْ لِأَنَّ الْقَتْلَ وُجِدَ مِنْهُ. وَلِهَذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ وَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْقَاتِلِ لَا عَلَى غَيْرِهِ، فَكَذَا الدِّيَةُ تَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً، وَهُوَ الصَّحِيحُ ثُمَّ الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّعَاوُنِ لِمَا يَصِلُ إلَيْهِ بِحَيَاتِهِ مِنْ الْمَنَافِعِ مِنْ النُّصْرَةِ، وَالْعِزِّ، وَالشَّرَفِ بِكَثْرَةِ الْعَشَائِرِ، وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ لَهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا تَحْصُلُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، فَلَا تَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْعَاقِلَةُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ، أَوْ أَمِيرَ جَيْشٍ وَزَنَا رَجُلٌ مِنْهُمْ، أَوْ سَرَقَ، أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ، أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً أَوْ عَمْدًا، لَمْ يَأْخُذْهُ الْأَمِيرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ مَا فُوِّضَ إلَيْهِ إقَامَةُ

الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إقَامَتِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُهُ السَّرِقَةَ إنْ كَانَ اسْتَهْلَكَهَا وَيُضَمِّنُهُ الدِّيَةَ فِي بَابِ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ ضَمَانِ الْمَالِ. وَلَوْ غَزَا الْخَلِيفَةُ أَوْ أَمِيرٌ الشَّامَ، فَفَعَلَ رَجُلٌ مِنْ الْعَسْكَرِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَاقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْعَمْدِ وَضَمَّنَهُ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ إلَى الْإِمَامِ، وَتَمَكُّنُهُ الْإِقَامَةَ بِمَالِهِ مِنْ الْقُوَّةِ وَالشَّوْكَةِ بِاجْتِمَاعِ الْجُيُوشِ وَانْقِيَادِهَا لَهُ، فَكَانَ لِعَسْكَرِهِ حُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ شَذَّ رَجُلٌ مِنْ الْعَسْكَرِ فَفَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ؛ لِاقْتِصَارِ وِلَايَةِ الْإِمَامِ عَلَى الْمُعَسْكَرِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْحَرْبِيُّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً؛ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّقَوُّمَ عِنْدَنَا يَثْبُتُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ بِالْعِزَّةِ، وَلَا عِزَّةَ إلَّا بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّقَوُّمُ يَثْبُتُ بِالْإِسْلَامِ وَعَلَى هَذَا إذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ - وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ عَلَيْهِ صَلَاةً وَلَا صِيَامًا ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْوَقْتُ، وَشَرْطُهُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَالصَّلَاةُ الْوَاجِبَةُ إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا تُقْضَى، كَالذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ حَتَّى مَضَى عَلَيْهِ أَوْقَاتُ صَلَوَاتٍ ثُمَّ عَلِمَ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وُجُوبَ الشَّرَائِعِ يَعْتَمِدُ الْبُلُوغَ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ، بِالْإِجْمَاعِ إنْ اخْتَلَفَا فِي وُجُوبِ الْإِيمَانِ، إلَّا أَنَّ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بَلْ إمْكَانُ الْوُصُولِ إلَيْهِ كَافٍ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهَا دَارُ الْعِلْمِ بِالشَّرَائِعِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهَا دَارُ الْجَهْلِ بِهَا بِخِلَافِ وُجُوبِ الْإِيمَانِ، وَشُكْرِ النِّعَمِ، وَحُرْمَةِ الْكُفْرِ، وَالْكُفْرَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ لَا يَقِفُ وُجُوبُهَا عَلَى الشَّرْعِ، بَلْ تَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ عِنْدَنَا فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذِهِ الْعِبَارَةَ فَقَالَ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ فِي جَهْلِهِ مَعْرِفَةَ خَالِقِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ مَعْرِفَةُ الرَّبِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَتَوْحِيدُهُ؛ لِمَا يَرَى مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَخَلْقِ نَفْسِهِ، وَسَائِرِ مَا خَلَقَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَأَمَّا الْفَرَائِضُ فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْهَا، وَلَمْ تَبْلُغْهُ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ حُكْمِيَّةٌ بِلَفْظِهِ. وَعَلَى هَذَا إذَا دَخَلَ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، فَعَاقَدَ حَرْبِيًّا عَقْدَ الرِّبَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَسِيرًا فِي أَيْدِيهِمْ أَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا، فَعَاقَدَ حَرْبِيًّا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إلَّا مَا يَجُوزُ لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدِينَ، أَمَّا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا فِي حَقِّ الْحَرْبِيِّ فَلِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ وَقَالَ - تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ - {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] وَلِهَذَا حَرُمَ مَعَ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الَّذِي دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ أَخْذَ الرِّبَا فِي مَعْنَى إتْلَافِ الْمَالِ، وَإِتْلَافُ مَالِ الْحَرْبِيِّ مُبَاحٌ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ لِمَالِ الْحَرْبِيِّ، فَكَانَ الْمُسْلِمُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَخْذِهِ إلَّا بِطَرِيقِ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ، فَإِذَا رَضِيَ بِهِ انْعَدَمَ مَعْنَى الْغَدْرِ، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمَا مَعْصُومَةٌ عَلَى الْإِتْلَافِ، وَلَوْ عَاقَدَ هَذَا الْمُسْلِمُ الَّذِي دَخَلَ بِأَمَانٍ مُسْلِمًا أَسْلَمَ هُنَاكَ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَلَوْ كَانَا أَسِيرَيْنِ أَوْ دَخَلَا بِأَمَانٍ لِلتِّجَارَةِ فَتَعَاقَدَا عَقْدَ الرِّبَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ أَخْذَ الرِّبَا مِنْ الْمُسْلِمِ إتْلَافُ مَالٍ مَعْصُومٍ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ عَلَيْهِ أَنْ تَطِيبَ نَفْسُهُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ زَادَ وَاسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى» وَالسَّاقِطُ شَرْعًا، وَالْعَدَمُ حَقِيقَةً سَوَاءٌ فَأَشْبَهَ تَعَاقُدَ الْأَسِيرَيْنِ وَالتَّاجِرَيْنِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ أَخْذَ الرِّبَا فِي مَعْنَى إتْلَافِ الْمَالِ، وَمَالُ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْإِتْلَافِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ نَفْسَهُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْقِصَاصِ وَلَا بِالدِّيَةِ عِنْدَنَا، وَحُرْمَةُ الْمَالِ تَابِعَةٌ لِحُرْمَةِ النَّفْسِ، بِخِلَافِ التَّاجِرَيْنِ وَالْأَسِيرَيْنِ، فَإِنَّ مَالَهُمَا مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ، وَعَلَى هَذَا إذَا دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، فَأَدَانَهُ حَرْبِيٌّ أَوْ أَدَانَ حَرْبِيًّا، ثُمَّ خَرَجَ الْمُسْلِمُ وَخَرَجَ الْحَرْبِيُّ مُسْتَأْمَنًا، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شَيْئًا لَا يَقْضِي بِالْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الْمُدَايَنَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَعَتْ هَدَرًا؛

لِانْعِدَامِ وِلَايَتِنَا عَلَيْهِمْ وَانْعِدَامِ وِلَايَتِهِمْ أَيْضًا فِي حَقِّنَا، وَكَذَا غَصْبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَادَفَ مَالًا غَيْرُ مَضْمُونٍ فَلَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ حَرْبِيَّيْنِ دَايَنَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ثُمَّ خَرَجَا مُسْتَأْمَنَيْنِ، وَلَوْ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ لَقُضِيَ بِالدَّيْنِ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ، وَلَا يُقْضَى بِالْغَصْبِ لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ كَانَ هُوَ الْغَاصِبَ يُفْتَى بِأَنْ يَرُدّ عَلَيْهِمْ وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَادِرًا بِهِمْ نَاقِضًا عَهْدَهُمْ، فَتَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ، وَلَا تَتَحَقَّقُ التَّوْبَةُ إلَّا بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَعَلَى هَذَا: مُسْلِمَانِ دَخَلَا دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ بِأَنْ كَانَا تَاجِرَيْنِ مَثَلًا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَمْدًا لَا قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَالْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا دَخَلَا دَارَ الْحَرْبِ لِعَارِضِ أَمْرٍ، إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ، أَوْ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَوْ كَانَا أَسِيرَيْنِ، أَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ أَسِيرًا مُسْلِمًا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ إلَّا الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَسِيرَيْنِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمُسْتَأْمَنِينَ، وَإِنَّمَا الْأَسْرُ أَمْرٌ عَارِضٌ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْأَسِيرَ مَقْهُورٌ فِي يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَصَارَ تَابِعًا لَهُمْ فَبَطَلَ تَقَوُّمُهُ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا: الْحَرْبِيُّ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ الْحَرْبِيَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَنْفُذُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْفُذُ وَقِيلَ لَا خِلَافَ فِي الْعِتْقِ أَنَّهُ يَنْفُذُ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْوَلَاءِ أَنَّهُ هَلْ يَثْبُتُ مِنْهُ؟ عِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ رُكْنَ الْإِعْتَاقِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لِلْمُعْتَقِ، فَيَصِحُّ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُفِيدُ زَوَالَ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ حَقِيقَةٌ، فَكُلُّ مَقْهُورٍ مَمْلُوكٌ، وَكُلُّ قَاهِرٍ مَالِكٌ، هَذَا دِيَانَتُهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ سِوَى الْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، حَتَّى إنَّ الْعَبْدَ مِنْهُمْ إذَا قَهَرَ مَوْلَاهُ يَصِيرُ هُوَ مَالِكًا، وَمَوْلَاهُ مَمْلُوكًا، وَهَذَا لَا يُفِيدُهُ الْإِعْتَاقُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الْمَالِكِ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَشَايِخِنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُعْتَقٌ بِلِسَانِهِ مُسْتَرَقٌّ بِيَدِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى قَرِيبًا لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَقُ بِصَرِيحِ الْإِعْتَاقِ فَكَيْفَ يُعْتَقُ بِالشِّرَاءِ وَكَذَلِكَ لَوْ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى لَوْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ، وَمَعَهُ مُدَبَّرٌ أَوْ مُكَاتَبٌ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ جَازَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إعْتَاقٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْكِتَابَةُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِشَرْطِ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ لَمْ يَنْفُذْ إعْتَاقُهُ الْمُنْجَزُ، فَكَذَا الْمُعَلَّقُ وَالْمُضَافُ، وَلَوْ اسْتَوْلَدَ أَمَتَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ صَحَّ اسْتِيلَادُهُ إيَّاهَا، حَتَّى لَوْ خَرَجَ إلَيْنَا بِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ اكْتِسَابُ ثَبَاتِ النَّسَبِ لِلْوَلَدِ. وَالْحَرْبِيُّ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَنْسَابَ أَهْلِ الْحَرْبِ ثَابِتَةٌ؟ وَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ، فَخَرَجَتْ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ؛ لِكَوْنِهَا حُرَّةً مِنْ وَجْهٍ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» وَلَوْ دَخَلَ الْحَرْبِيُّ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَفَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَفَذَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ بِأَمَانٍ فَقَدْ لَزِمَهُ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَمِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُعْتِقُ أَنْ يَسْتَرِقَّ بِيَدِهِ مَا أَعْتَقَهُ بِلِسَانِهِ، وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَخَلَفَ الْمُدَبَّرَ، أَوْ خَلَفَ أُمَّ وَلَدِهِ الَّتِي اسْتَوْلَدَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ أَوْ قُتِلَ أَوْ أُسِرَ يُحْكَمُ بِعِتْقِهِمَا أَمَّا إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَ يُعْتَقَانِ بِمَوْتِ سَيِّدِهِمَا، وَالْمَقْتُولُ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ، وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ الْمُعْتَزِلَةِ (وَأَمَّا) إذَا أُسِرَ فَلِأَنَّهُ صَارَ مَمْلُوكًا فَلَمْ يَبْقَ مَالِكًا ضَرُورَةً. وَأَمَّا مُكَاتَبُهُ الَّذِي كَاتَبَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَدَخَلَ هُوَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مُكَاتَبٌ عَلَى حَالِهِ، وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ عَلَيْهِ لِوَرَثَتِهِ إذَا مَاتَ، وَكَذَلِكَ الرُّهُونُ وَالْوَدَائِعُ وَالدُّيُونُ الَّتِي لَهُ عَلَى النَّاسِ. وَمَا كَانَ لِلنَّاسِ عَلَيْهِ فَهِيَ كُلُّهَا عَلَى حَالِهَا إذَا مَاتَ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ وَمَعَهُ هَذِهِ الْأَمْوَالُ، فَكَانَ حُكْمُ الْأَمَانِ فِيهَا بَاقِيًا، وَكَذَلِكَ لَوْ ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ فَظَهَرَ الْحَرْبِيُّ أَوْ قُتِلَ وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَى الدَّارِ، فَمِلْكُهُ عَلَى حَالِهِ يَعُودُ فَيَأْخُذُ، أَوْ يَجِيءُ وَرَثَتُهُ فَيَأْخُذُونَهُ لَهُ أَمَّا إذَا هَرَبَ وَلَمْ يُقْتَلْ وَلَمْ يُؤْسَرْ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا إذَا قُتِلَ وَلَمْ يَظْهَرْ، فَلِأَنَّ مَالَهُ صَارَ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ، فَيَجِيئُونَ فَيَأْخُذُونَهُ، وَالْمُكَاتَبُ عَلَى حَالِهِ يُؤَدِّي إلَى وَرَثَتِهِ فَيُعْتَقُ، فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ وَأُسِرَ، أَوْ أُسِرَ وَلَمْ يَظْهَرْ، أَوْ ظَهَرَ وَقُتِلَ يُعْتَقْ مُكَاتَبُهُ أَمَّا إذَا ظَهَرَ وَأُسِرَ، أَوْ أُسِرَ وَلَمْ يَظْهَرْ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ بِالْأَسْرِ وَكَذَا إذَا ظَهَرَ وَقُتِلَ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الظُّهُورِ قَتْلٌ بَعْدَ الْأَسْرِ، وَيَبْطُلُ مَا كَانَ لَهُ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِالْأَسْرِ صَارَ مَمْلُوكًا فَلَمْ يَبْقَ مَالِكًا،

فصل في بيان أحكام المرتدين

فَسَقَطَتْ دُيُونُهُ ضَرُورَةً. وَلَا يَصِيرُ مَالِكًا لِلْأَسْرِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ، وَمَا فِي الذِّمَّةِ لَا يُعْمَلُ عَلَيْهِ الْأَسْرُ، وَكَذَلِكَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدُّيُونِ يَسْقُطُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ لَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ فَلَا يَخْلُصُ السَّبْيُ لِلسَّابِي وَأَمَّا وَدَائِعُهُ فَهِيَ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُودَعِ. (وَوَجْهُهُ) أَنَّ يَدَهُ عَنْ يَدِ الْغَانِمِينَ أَسْبَقُ، وَالْمُبَاحُ مُبَاحٌ لِمَنْ سَبَقَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ يَدَ الْمُودَعِ يَدُهُ تَقْدِيرًا، فَكَانَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِ بِالْأَسْرِ اسْتِيلَاءً عَلَى مَا فِي يَدِهِ تَقْدِيرًا، وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ الْغَانِمُونَ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ حَقِيقَةً، فَكَانَ فَيْئًا حَقِيقَةً لَا غَنِيمَةً، فَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْفَيْءِ وَأَمَّا الرَّهْنُ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ، وَالزِّيَادَةُ لَهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُبَاعُ فَيَسْتَوْفِي قَدْرَ دَيْنِهِ، وَالزِّيَادَةُ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَان أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ] (فَصْلٌ) . وَأَمَّا بَيَانُ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ رُكْنِ الرِّدَّةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّةِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الرِّدَّةِ أَمَّا رُكْنُهَا، فَهُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ بَعْدَ وُجُودِ الْإِيمَانِ، إذْ الرِّدَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ الرُّجُوعِ عَنْ الْإِيمَانِ، فَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِيمَانِ يُسَمَّى رِدَّةً فِي عُرْفِ الشَّرْعِ. وَأَمَّا شَرَائِطُ صِحَّتِهَا فَأَنْوَاعٌ، مِنْهَا الْعَقْلُ، فَلَا تَصِحُّ رِدَّةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ مِنْ شَرَائِطِ الْأَهْلِيَّةِ خُصُوصًا فِي الِاعْتِقَادَاتِ، وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَإِنْ ارْتَدَّ فِي حَالِ جُنُونِهِ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ ارْتَدَّ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ صَحَّتْ؛ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرُّجُوعِ فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى، وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ الذَّاهِبُ الْعَقْلِ لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَصِحَّ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْأَحْكَامَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِظَاهِرِ اللِّسَانِ لَا عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ، إذْ هُوَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ أَحْكَامَ الْكُفْرِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكُفْرِ، كَمَا أَنَّ أَحْكَامَ الْإِيمَانِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ يَرْجِعَانِ إلَى التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَإِنَّمَا الْإِقْرَارُ دَلِيلٌ عَلَيْهِمَا، وَإِقْرَارُ السَّكْرَانِ الذَّاهِبِ الْعَقْلِ لَا يَصْلُحُ دَلَالَةً عَلَى التَّكْذِيبِ، فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ. وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لَيْسَ بِشَرْطٍ فَتَصِحُّ رِدَّةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: شَرْطٌ حَتَّى لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ عَقْلَ الصَّبِيِّ فِي التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ طَلَاقُهُ وَإِعْتَاقُهُ وَتَبَرُّعَاتُهُ، وَالرِّدَّةُ مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ فَأَمَّا الْإِيمَانُ فَيَقَعُ مَحْضًا؛ لِذَلِكَ صَحَّ إيمَانُهُ وَلَمْ تَصِحَّ رِدَّتُهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ صَحَّ إيمَانُهُ فَتَصِحُّ رِدَّتُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِيمَانِ وَالرِّدَّةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى وُجُودِ الْإِيمَانِ وَالرِّدَّةِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَهُمَا أَفْعَالٌ خَارِجَةُ الْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ أَفْعَالِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ، وَالْإِقْرَارُ الصَّادِرُ عَنْ عَقْلٍ دَلِيلُ وُجُودِهِمَا، وَقَدْ وُجِدَ هَاهُنَا إلَّا أَنَّهُمَا مَعَ وُجُودِهِمَا مِنْهُ حَقِيقَةً لَا يُقْتَلُ، وَلَكِنْ يُحْبَسُ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ - اللَّهُ تَعَالَى - وَالْقَتْلُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الرِّدَّةِ عِنْدَنَا فَإِنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَالرِّدَّةُ مَوْجُودَةٌ وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَتَصِحُّ رِدَّةُ الْمَرْأَةِ عِنْدَنَا؛ لَكِنَّهَا لَا تُقْتَلُ بَلْ تُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُقْتَلُ؛ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ - اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهَا الطَّوْعُ، فَلَا تَصِحُّ رِدَّةُ الْمُكْرَهِ عَلَى الرِّدَّةِ اسْتِحْسَانًا إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَصِحَّ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَسَنَذْكُرُ وَجْهَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ - اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا حُكْمُ الرِّدَّةِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: إنَّ لِلرِّدَّةِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْمُرْتَدِّ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مِلْكِهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى تَصَرُّفَاتِهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَلَدِهِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِهِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا إبَاحَةُ دَمِهِ إذَا كَانَ رَجُلًا، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا؛ لِسُقُوطِ عِصْمَتِهِ بِالرِّدَّةِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . وَكَذَا الْعَرَبُ لَمَّا ارْتَدَّتْ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى قَتْلِهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَتَابَ وَيُعْرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُسْلِمَ، لَكِنْ لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُ فَإِنْ أَسْلَمَ فَمَرْحَبًا وَأَهْلًا بِالْإِسْلَامِ، وَإِنْ أَبَى نَظَرَ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ طَمِعَ فِي تَوْبَتِهِ، أَوْ سَأَلَ هُوَ التَّأْجِيلَ، أَجَّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ فِي تَوْبَتِهِ وَلَمْ يَسْأَلْ هُوَ التَّأْجِيلَ، قَتَلَهُ مِنْ سَاعَتِهِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَدِمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ مُغْرِيَةِ خَبَرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، رَجُلٌ كَفَرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ إسْلَامِهِ فَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَاذَا

فَعَلْتُمْ بِهِ قَالَ: قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ فَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَلَّا طَيَّنْتُمْ عَلَيْهِ بَيْتًا ثَلَاثًا، وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا، وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيَرْجِعُ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ، وَلَمْ آمُرْ، وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ قَالَ: يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ثَلَاثًا، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء: 137] وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ عَرَضَتْ لَهُ شُبْهَةٌ حَمَلَتْهُ عَلَى الرِّدَّةِ، فَيُؤَجَّلُ ثَلَاثًا لَعَلَّهَا تَنْكَشِفُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَكَانَتْ الِاسْتِتَابَةُ ثَلَاثًا وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ - عَسَى - فَنَدَبَ إلَيْهَا فَإِنْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِزَوَالِ عِصْمَتِهِ بِالرِّدَّةِ، وَتَوْبَتِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَيَبْرَأَ عَنْ الدَّيْنِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ، فَإِنْ تَابَ ثُمَّ ارْتَدَّ ثَانِيًا فَحُكْمُهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَحُكْمِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى أَنَّهُ إنْ تَابَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَكَذَا فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ؛ لِوُجُودِ الْإِيمَانِ ظَاهِرًا فِي كُلِّ كَرَّةٍ؛ لِوُجُودِ رُكْنِهِ، وَهُوَ إقْرَارُ الْعَاقِلِ وَقَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137] فَقَدْ أَثْبَتَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْإِيمَانَ بَعْدَ وُجُودِ الرِّدَّةِ مِنْهُ، وَالْإِيمَانُ بَعْدَ وُجُودِ الرِّدَّةِ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ، إلَّا أَنَّهُ إذَا تَابَ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ يَضْرِبُهُ الْإِمَامُ وَيُخَلِّي سَبِيلَهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ إذَا تَابَ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ حَبَسَهُ الْإِمَامُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ السِّجْنِ حَتَّى يَرَى عَلَيْهِ أَثَرَ خُشُوعِ التَّوْبَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يُبَاحُ دَمُهَا إذَا ارْتَدَّتْ، وَلَا تُقْتَلُ عِنْدَنَا، وَلَكِنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِجْبَارُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ أَنْ تُحْبَسَ وَتَخْرُجَ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَتُسْتَتَابُ وَيُعْرَضُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ وَإِلَّا حُبِسَتْ ثَانِيًا، هَكَذَا إلَى أَنْ تُسْلِمَ أَوْ تَمُوتَ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَزَادَ عَلَيْهِ - تُضْرَبُ أَسْوَاطًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ تَعْزِيرًا لَهَا عَلَى مَا فَعَلَتْ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُقْتَلُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَلِأَنَّ عِلَّةَ إبَاحَةِ الدَّمِ هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا قُتِلَ الرَّجُلُ وَقَدْ وُجِدَ مِنْهَا ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْحَرْبِيَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْكُفْرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ أَغْلَظُ مِنْ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا رُجُوعٌ بَعْدَ الْقَبُولِ وَالْوُقُوفِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَحُجَجِهِ، وَذَلِكَ امْتِنَاعٌ مِنْ الْقَبُولِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْوُقُوفِ دُونَ حَقِيقَةِ الْوُقُوفِ، فَلَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِدْلَال. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا وَلَيَدًا» وَلِأَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ بِالدَّعْوَةِ إلَيْهِ بِأَعْلَى الطَّرِيقَيْنِ عِنْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ إجَابَتِهَا بِأَدْنَاهُمَا، وَهُوَ دَعْوَةُ اللِّسَانِ بِالِاسْتِتَابَةِ، بِإِظْهَارِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَالنِّسَاءُ أَتْبَاعُ الرِّجَالِ فِي إجَابَةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ فِي الْعَادَةِ، فَإِنَّهُنَّ فِي الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ يُسْلِمْنَ بِإِسْلَامِ أَزْوَاجِهِنَّ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ وَكَانَتْ تَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَقَعُ شَرْعُ الْقَتْلِ فِي حَقِّهَا وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ، فَلَا يُفِيدُ وَلِهَذَا لَمْ تُقْتَلْ الْحَرْبِيَّةُ بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَتْبَعُ رَأْيَ غَيْرِهِ، خُصُوصًا فِي أَمْرِ الدِّينِ بَلْ يَتْبَعُ رَأْيَ نَفْسِهِ، فَكَانَ رَجَاءُ الْإِسْلَامِ مِنْهُ ثَابِتًا، فَكَانَ شَرْعُ الْقَتْلِ مُفِيدًا، فَهُوَ الْفَرْقُ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الذُّكُورِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا ارْتَدَّتْ لَا تُقْتَلُ عِنْدَنَا، وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ يُجْبِرُهَا مَوْلَاهَا إنْ احْتَاجَ إلَى خِدْمَتِهَا، وَيَحْبِسُهَا فِي بَيْتِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهَا بَعْدَ الرِّدَّةِ قَائِمٌ، وَهِيَ مَجْبُورَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ شَرْعًا فَكَانَ الرَّفْعُ إلَى الْمَوْلَى رِعَايَةً لِلْحَقَّيْنِ، وَلَا يَطَؤُهَا؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ لَا يُقْتَلُ، وَإِنْ صَحَّتْ رِدَّتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْبَالِغِ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ وَالدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ بِاللِّسَانِ وَإِظْهَارِ حُجَجِهِ وَإِيضَاحِ دَلَائِلِهِ لِظُهُورِ الْعِنَادِ وَوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ فَلَاحِهِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الصَّبِيِّ فَكَانَ الْإِسْلَامُ مِنْهُ مَرْجُوًّا وَالرُّجُوعُ إلَى الدِّينِ مِنْهُ مَأْمُولًا، فَلَا يُقْتَلُ وَلَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ يَكْفِيهِ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ، وَعَلَى هَذَا: صَبِيٌّ أَبَوَاهُ مُسْلِمَانِ حَتَّى حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ، فَبَلَغَ كَافِرًا وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ إقْرَارٌ بِاللِّسَانِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَا يُقْتَلُ؛ لِانْعِدَامِ الرِّدَّةِ مِنْهُ إذْ هِيَ اسْمٌ لِلتَّكْذِيبِ بَعْدَ سَابِقَةِ التَّصْدِيقِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّصْدِيقُ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَصْلًا لِانْعِدَامِ دَلِيلِهِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ، حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بِالْإِسْلَامِ ثُمَّ ارْتَدَّ يُقْتَلُ لِوُجُودِ الرِّدَّةِ مِنْهُ بِوُجُودِ دَلِيلِهَا وَهُوَ الْإِقْرَارُ، فَلَمْ يَكُنْ الْمَوْجُودُ مِنْهُ رِدَّةً حَقِيقَةً فَلَا يُقْتَلُ، وَلَكِنَّهُ يُحْبَسُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْبُلُوغِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ؟ وَالْحُكْمُ فِي إكْسَابِهِ كَالْحُكْمِ فِي إكْسَابِ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ حُكْمًا وَسَنَذْكُرُ الْكَلَامَ فِي إكْسَابِ الْمُرْتَدِّ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ - اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا حُرْمَةُ الِاسْتِرْقَاقِ

فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَسْتَرِقُّ، وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ؛ لِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] وَكَذَا الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي زَمَنِ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِأَنَّ اسْتِرْقَاقَ الْكَافِرِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ، وَاسْتِرْقَاقُهُ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ إبْقَاؤُهُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدَّةِ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، إنَّهَا تُسْتَرَقُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ قَتْلُهَا، وَلَا يَجُوزُ إبْقَاءُ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ إلَّا مَعَ الْجِزْيَةِ أَوْ مَعَ الرِّقِّ، وَلَا جِزْيَةَ عَلَى النِّسْوَانِ، فَكَانَ إبْقَاؤُهَا عَلَى الْكُفْرِ مَعَ الرِّقِّ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ إبْقَائِهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ وَكَذَا الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اسْتَرَقُّوا نِسَاءَ مَنْ ارْتَدَّ مِنْ الْعَرَبِ وَصِبْيَانَهُمْ حَتَّى قِيلَ: إنَّ أُمَّ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ إيَاسٍ كَانَتْ مِنْ سَبْيِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَمِنْهَا حُرْمَةُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ، فَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ الْمُرْتَدِّ لِمَا ذَكَرْنَا، وَمِنْهَا أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ جِنَايَتَهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَانِي، وَإِنَّمَا الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّعَاوُنِ. وَالْمُرْتَدُّ لَا يُعَاوَنُ، وَمِنْهَا الْفُرْقَةُ إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ الرِّدَّةُ مِنْ الْمَرْأَةِ كَانَتْ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الرَّجُلِ فَفِيهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَلَا تَرْتَفِعُ هَذِهِ الْفُرْقَةُ بِالْإِسْلَامِ وَلَوْ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا، أَوْ أَسْلَمَا مَعًا، فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَسَدَ النِّكَاحُ. وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ فَسَدَ النِّكَاحُ بِالْإِجْمَاعِ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ النِّكَاحِ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إنْكَاحُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ، وَمِنْهَا حُرْمَةُ ذَبِيحَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلَّةَ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ أَحَدٍ لِانْعِدَامِ الْمِلَّةِ وَالْوِلَايَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ تُحْبَطُ أَعْمَالُهُ لَكِنْ بِنَفْسِ الرِّدَّة عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِشَرِيطَةِ الْمَوْتِ عَلَيْهَا، وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ عَلَيْهِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَالِهِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ حُكْمُ الْمِلْكِ وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ، وَحُكْمُ الدَّيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ تَكُونُ أَمْوَالُهُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّهُ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ تَزُولُ أَمْوَالُهُ عَنْ مِلْكِهِ وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ تَزُولُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ، أَمْ بِالرِّدَّةِ مِنْ حِينِ وُجُودِهَا عَلَى التَّوَقُّفِ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - مِلْكُ الْمُرْتَدِّ لَا يَزُولُ عَنْ مَالِهِ بِالرِّدَّةِ، وَإِنَّمَا يَزُولُ بِالْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ أَوْ بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمِلْكُ فِي أَمْوَالِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ بُنِيَ حُكْمُ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ أَنَّهَا جَائِزَةٌ عِنْدَهُمَا كَمَا تَجُوزُ مِنْ الْمُسْلِمِ، حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ أَوْ دَبَّرَ أَوْ كَاتَبَ أَوْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى أَوْ وَهَبَ نَفَذَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَعُقْدَةُ تَصَرُّفَاتِهِ مَوْقُوفَةٌ لِوُقُوفِ أَمْلَاكِهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ جَازَ كُلُّهُ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَ كُلُّهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لَهُ حَالَةَ الْإِسْلَامِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَأَهْلِيَّتِهِ وَهِيَ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّدَّةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي كَيْفِيَّةِ الْجَوَازِ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جَوَازُهَا جَوَازُ تَصَرُّفِ الصَّحِيحِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جَوَازُ تَصَرُّفَاتِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُرْتَدَّ عَلَى شَرَفِ التَّلَفِ؛ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ، فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ اخْتِيَارَ الْإِسْلَامِ بِيَدِهِ، فَيُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلَى الْإِسْلَامِ فَيَخْلُصُ عَنْ الْقَتْلِ، وَالْمَرِيضُ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ الْمَرَضِ عَنْ نَفْسِهِ، فَأَنَّى يَتَشَابَهَانِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ زَوَالِ الْمِلْكِ وَهُوَ الرِّدَّةُ؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقَتْلِ. وَالْقَتْلُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَوْتِ، فَكَانَ زَوَالُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْمَوْتِ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ، وَهُوَ الرِّدَّةُ، وَلَا يُمْكِنُهُ اللَّحَاقُ بِدَارِ الْحَرْبِ بِأَمْوَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بَلْ يُقْتَلُ، فَيَبْقَى مَالُهُ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ لِلْحَالِ، إلَّا أَنَّا تَوَقَّفْنَا فِيهِ لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَادَ تَرْتَفِعُ الرِّدَّةُ مِنْ الْأَصْلِ، وَيُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، فَكَانَ التَّوَقُّفُ فِي الزَّوَالِ لِلْحَالِ لِاشْتِبَاهِ الْعَاقِبَةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ تَبَيَّنَ أَنَّ الرِّدَّةَ لَمْ تَكُنْ سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ لِارْتِفَاعِهَا مِنْ الْأَصْلِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ تَصَرُّفَهُ صَادَفَ مَحَلَّهُ فَيَصِحُّ، وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا وَقَعَتْ سَبَبًا لِلزَّوَالِ مِنْ حِينِ وُجُودِهَا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ زَائِلًا مِنْ حِينِ وُجُودِ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْ سَبَبِهِ، فَلَمْ يُصَادِفْ التَّصَرُّفُ مَحَلَّهُ فَبَطَلَ. فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ مِلْكُهُ مَوْقُوفًا فَكَانَتْ تَصَرُّفَاتُهُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهِ مَوْقُوفَةً ضَرُورَةً وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِيلَادُهُ حَتَّى إنَّهُ لَوْ اسْتَوْلَدَ أَمَتَهُ فَادَّعَى وَلَدَهَا، إنَّهُ يَثْبُتُ

النَّسَبُ، وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْمَحَلَّ مَمْلُوكٌ لَهُ مِلْكًا تَامًّا. (وَأَمَّا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَنَّ الْمِلْكَ الْمَوْقُوفَ لَا يَكُونُ أَدْنَى حَالًا مِنْ حَقِّ الْمِلْكِ، ثُمَّ حَقُّ الْمِلْكِ يَكْفِي لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ، وَتَسْلِيمُهُ الشُّفْعَةَ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ، وَالثَّابِتُ لِلشَّفِيعِ حَقٌّ لَا يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ، وَمُعَاوَضَتُهُ مَوْقُوفَةٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَاوَاةِ. (وَأَمَّا) الْمُرْتَدَّةُ فَلَا يَزُولُ مِلْكُهَا عَنْ أَمْوَالِهَا بِلَا خِلَافٍ، فَتَجُوزُ تَصَرُّفَاتُهَا فِي مَالِهَا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ، فَلَمْ تَكُنْ رِدَّتُهَا سَبَبًا لِزَوَالِ مِلْكِهَا عَنْ أَمْوَالِهَا بِلَا خِلَافٍ، فَتَجُوزُ تَصَرُّفَاتُهَا، وَإِذَا عُرِفَ حُكْمُ مِلْكِ الْمُرْتَدِّ وَحَالُ تَصَرُّفَاتِهِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهِ، فَحَالُ الْمُرْتَدِّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُسْلِمَ، أَوْ يَمُوتَ، أَوْ يُقْتَلَ، أَوْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ أَسْلَمَ فَقَدْ عَادَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ ارْتَفَعَتْ مِنْ الْأَصْلِ حُكْمًا، وَجُعِلَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ أَصْلًا، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ صَارَ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ، وَعَتَقَ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ وَمُكَاتَبُوهُ إذَا أَدَّى إلَى وَرَثَتِهِ، وَتَحِلُّ الدُّيُونُ الَّتِي عَلَيْهِ وَتُقْضَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَحْكَامُ الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا، وَقَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ؛ لِأَنَّ اللَّحَاقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ فِي حَقِّ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ أَمْوَالِهِ الْمَتْرُوكَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ الْمَالِ بِالْمَوْتِ حَقِيقَةٌ لِكَوْنِهِ مَالًا فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ لِانْتِهَاءِ حَاجَتِهِ بِالْمَوْتِ وَعَجْزِهِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ. وَقَدْ وُجِدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي اللَّحَاقِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي حَقِّهِ، لِعَجْزِهِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ، فَكَانَ فِي حُكْمِ الْمَالِ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَتِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِهِ، فَكَانَ اللَّحَاقُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ فِي كَوْنِهِ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ، فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِاللَّحَاقِ، يُحْكَمُ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ، وَيُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَتَحِلُّ دُيُونُهُ الْمُؤَجَّلَةُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَحْكَامٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَوْتِ، وَقَدْ وُجِدَ مَعْنًى. وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَيُؤَدِّي إلَى وَرَثَتِهِ فَيُعْتَقُ، وَإِذَا عَتَقَ فَوَلَاؤُهُ لِلْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّهُ الْمُعْتِقُ، وَلَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعُودَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَعُودَ بَعْدَ ذَلِكَ. فَإِنْ عَادَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ عَادَ عَلَى حُكْمِ أَمْلَاكِهِ فِي الْمُدَبَّرِينَ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَوْتِ، وَاللُّحُوقُ بِدَارِ الْحَرْبِ لَيْسَ بِمَوْتٍ حَقِيقَةً لَكِنَّهُ يَلْحَقُ بِالْمَوْتِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي بِاللَّحَاقِ، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ لَمْ يَلْحَقْ، فَإِذَا عَادَ يَعُودُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي بِاللَّحَاقِ فَمَا وُجِدَ مِنْ مَالِهِ فِي يَدِ وَرَثَتِهِ بِحَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ؛ لِأَنَّ وَلَدَهُ جُعِلَ خَلَفًا لَهُ فِي مَالِهِ، فَكَانَ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ لَهُ كَأَنَّهُ وَكِيلُهُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا وَجَدَهُ قَائِمًا عَلَى حَالِهِ. وَمَا زَالَ مِلْكُ الْوَارِثِ عَنْهُ بِالْبَيْعِ، أَوْ بِالْعِتْقِ، فَلَا رُجُوعَ فِيهِ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْخَلَفِ كَتَصَرُّفِ الْأَصْلِ، بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ وَأَمَّا مَا أَعْتَقَ الْحَاكِمُ مِنْ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ إذَا كَانَ أَدَّى الْمَالَ إلَى الْوَرَثَةِ، لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَتَقَ بِأَدَاءِ الْمَالِ، وَالْعِتْقُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَمَا أُدِّيَ إلَى الْوَرَثَةِ إنْ كَانَ قَائِمًا أُخِذَ وَإِنْ زَالَ مِلْكُهُمْ عَنْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ ضَمَانُهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤَدِّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ بَعْدُ، يُؤْخَذُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ. وَإِنْ عَجَزَ عَادَ رَقِيقًا لَهُ وَلَوْ رَجَعَ كَافِرًا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَخَذَ طَائِفَةً مِنْ مَالِهِ وَأَدْخَلَهَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ مَا قُضِيَ بِلَحَاقِهِ فَالْوَرَثَةُ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ وَجَدَتْهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَتْهُ مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ، وَإِنْ وَجَدَتْهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَتْهُ بِالْقِيمَةِ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَحِقَ وَقُضِيَ بِلَحَاقِهِ فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ إلَى الْوَرَثَةِ، فَهَذَا مَالُ مُسْلِمٍ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْكَافِرُ وَأَحْرَزَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَوَجَدَهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ فَالْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا وَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِاللَّحَاقِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ هَذَا، وَرُجُوعُهُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِاللَّحَاقِ سَوَاءٌ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يَكُونُ فَيْئًا لَا حَقَّ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ أَصْلًا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَلَوْ جَنَى الْمُرْتَدُّ جِنَايَةً ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ إلَيْنَا ثَانِيًا، فَمَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَالْقَذْفِ يُؤْخَذُ بِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ يَسْقُطُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ اللَّحَاقَ يُلْتَحَقُ بِالْمَوْتِ فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ مَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يُؤْخَذْ بِشَيْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا لِصَيْرُورَتِهِ فِي حُكْمِ أَهْلِ الْحَرْبِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ مَالِهِ الَّذِي خَلَّفَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا الَّذِي لَحِقَ بِهِ فِي دَارِ

الْحَرْبِ فَهُوَ مِلْكُهُ حَتَّى لَوْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ يَكُونُ فَيْئًا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْوَرَثَةِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْمَالِ الْمَحْمُولِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِ الْمُرْتَدِّ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْصُومٍ فَكَانَ مَحَلُّ التَّمَلُّكِ بِالِاسْتِيلَاءِ لِسَائِرِ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَأَمَّا حُكْمُ الْمِيرَاثِ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أَنَّ الْمَالَ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ يَكُونُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ وَقُضِيَ بِاللَّحَاقِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ فَيْءٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلَا الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ» نَفَى أَنْ يَرِثَ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَوَارِثُهُ مُسْلِمٌ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَرِثَهُ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَتَلَ الْمُسْتَوْرِدَ الْعِجْلَيَّ بِالرِّدَّةِ، وَقَسَمَ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ مُنْكِرٌ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ فِي كَوْنِهَا سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ، كَالْمَوْتِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. فَإِذَا ارْتَدَّ فَهَذَا مُسْلِمٌ مَاتَ، فَيَرِثُهُ الْمُسْلِمُ فَكَانَ هَذَا إرْثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ لَا مِنْ الْكَافِرِ، فَقَدْ قُلْنَا بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ بِحَمْدِ اللَّهِ - تَعَالَى وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَالرِّدَّةُ إنْ كَانَتْ لَا تُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ يُمْكِنُ احْتِمَالُ الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَيَبْقَى عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ حُكْمِ الْإِرْثِ؟ وَذَلِكَ جَائِزٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَقِيَ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ الْمَنْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ؟ فَجَازَ أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ فِي حَقِّ حُكْمِ الْإِرْثِ أَيْضًا؟ فَلَا يَكُونُ إرْثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ فَيَكُونُ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ أَيْضًا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَالِ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الرِّدَّةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ فَيْءٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - هُوَ مِيرَاثٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ كَسْبَ الرِّدَّةِ مِلْكُهُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرْتَدَّ أَهْلُ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْمِلْكِ بِالْحُرِّيَّةِ، وَالرِّدَّةُ لَا تُنَافِيهَا بَلْ تُنَافِي مَا يُنَافِيهَا، وَهُوَ الرِّقُّ؛ إذْ الْمُرْتَدُّ لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِرْقَاقَ، وَإِذَا ثَبَتَ مِلْكُهُ فِيهِ، احْتَمَلَ الِانْتِقَالَ إلَى وَرَثَتِهِ بِالْمَوْتِ، أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَوْتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرِّدَّةَ سَبَبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ مِنْ حِينِ وُجُودِهَا بِطَرِيقِ الظُّهُورِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَا وُجُودَ لِلشَّيْءِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِ زَوَالِهِ فَكَانَ الْكَسْبُ فِي الرِّدَّةِ مَالًا لَا مَالِكَ لَهُ، فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ فَيُوضَعُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَاللُّقَطَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا يُورَثُ مِنْ مَالِ الْمُرْتَدِّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُ الْوَارِثِ، وَهِيَ أَهْلِيَّةُ الْوِرَاثَةِ وَقْتَ الرِّدَّةِ، أَمْ وَقْتَ الْمَوْتِ، أَمْ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - تُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الْوِرَاثَةِ وَقْتَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ إنَّمَا يَزُولُ عِنْدَهُمَا بِالْمَوْتِ فَتُعْتَبَرُ الْأَهْلِيَّةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا غَيْرُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ، يُعْتَبَرُ وَقْتُ الرِّدَّةِ لَا غَيْرُ، حَتَّى لَوْ كَانَ أَهْلًا وَقْتَ الرِّدَّةِ وَرِثَ، وَإِنْ زَالَتْ أَهْلِيَّتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةٍ يُعْتَبَرُ دَوَامُ الْأَهْلِيَّةِ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِرْثَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ لَا بِطَرِيقِ الظُّهُورِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْإِرْثِ. وَالْقَوْلُ بِالْإِرْثِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ إيجَابُ الْإِرْثِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ فَإِذَا وُجِدَ الْمَوْتُ يَثْبُتُ الْإِرْثُ ثُمَّ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الرِّدَّةِ وَزَوَالِ الْأَهْلِيَّةِ، فِيمَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ يُمْنَعُ مِنْ الِاسْتِنَادِ، فَيُشْتَرَطُ دَوَامُ الْأَهْلِيَّةِ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، حَتَّى لَوْ كَانَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ مُسْلِمًا وَقْتَ الرِّدَّةِ، ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُرْتَدِّ، لَا يُورَثُ وَكَذَا إذَا مَاتَ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَوْ الْمَرْأَةُ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَبْلَ مَوْتِهِ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْإِرْثَ يَتْبَعُ زَوَالَ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ زَالَ بِالرِّدَّةِ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهَا، فَيَثْبُتُ الْإِرْثُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ قَوْلُهُ هَذَا إيجَابُ الْإِرْثِ قَبْلَ الْمَوْتِ قُلْنَا: هَذَا مَمْنُوعٌ بَلْ هَذَا إيجَابُ الْإِرْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ فِي مَعْنَى الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ الْمَوْتِ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَكَانَتْ الرِّدَّةُ مَوْتًا مَعْنًى، وَكَذَا اخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِيمَا إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي بِاللَّحَاقِ، إنَّهُ تُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الْوِرَاثَةِ وَقْتَ الْقَضَاءِ بِاللَّحَاقِ أَمْ وَقْتَ اللَّحَاقِ؟ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقْتَ الْقَضَاءِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُعْتَبَرُ وَقْتَ اللَّحَاقِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ وَقْتَ الْإِرْثِ وَقْتُ زَوَالِ الْمِلْكِ، وَمِلْكُ الْمُرْتَدِّ إنَّمَا يَزُولُ بِاللَّحَاقِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَعْجِزُ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ الْمَتْرُوكِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، إلَّا أَنَّ الْعَجْزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ، فَإِذَا قُضِيَ تَقَرَّرَ الْعَجْزُ وَصَارَ الْعَوْدُ بَعْدَهُ كَالْمُمْتَنِعِ عَادَةً، فَكَانَ الْعَامِلُ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ هُوَ اللَّحَاقَ فَتُعْتَبَرُ الْأَهْلِيَّةُ وَقْتَئِذٍ. (وَجْهُ) قَوْلِ

فصل في بيان حكم ولد المرتد

أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْقَضَاءِ، فَكَانَ الْمُؤَثِّرُ فِي الزَّوَالِ هُوَ الْقَضَاءَ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الْمُرْتَدَّةُ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ، وَلَوْ. ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ ثُمَّ قُتِلَ الْأَبُ عَلَى رِدَّتِهِ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ يَرِثُهُ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ قَطْعًا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ لَمْ يَرِثْهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَقَ فِي حَالَةِ الرِّدَّةِ، فَلَا يَرِثُ مَعَ الشَّكِّ، وَلَوْ ارْتَدَّ الزَّوْجُ دُونَ الْمَرْأَةِ، أَوْ كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ مُسْلِمَةٍ وَرِثَهُ مَعَ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ مُسْلِمَةٌ، فَكَانَ الْوَلَدُ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِأُمِّهِ فَيَرِثُ أَبَاهُ، وَلَوْ مَاتَ مُسْلِمٌ عَنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ فَارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَوَلَدَتْ هُنَاكَ ثُمَّ ظَهَرْنَا عَلَى الدَّارِ، فَإِنَّهُ لَا يُسْتَرَقُّ وَيَرِثُ أَبَاهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِأَبِيهِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ وَلَدَتْهُ حَتَّى سُبِيَتْ ثُمَّ وَلَدَتْهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ مُسْلِمٌ مَرْقُوقُ مُسْلِمٍ تَبَعًا لِأَبِيهِ، مَرْقُوقٌ تَبَعًا لِأُمِّهِ، وَلَا يَرِثُ أَبَاهُ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ مِنْ أَسْبَابِ الْحِرْمَانِ، وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمَةً فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا، أَوْ وَطِئَ أَمَةً مُسْلِمَةً فَوَلَدَتْ لَهُ فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِلْأُمِّ وَيَرِثُ أَبَاهُ لِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ كَافِرَةً لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ إسْلَامُ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَأَمَّا حُكْمُ الدَّيْنِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ: دُيُونُ الْمُرْتَدِّ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ، وَالرِّدَّةِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا مِيرَاثٌ وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ، إلَّا أَنْ لَا يَفِيَ بِهِ فَيَقْضِيَ الْبَاقِيَ مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ وَرَوَى الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْهُ أَنَّهُ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ لَا يَفِيَ بِهِ فَيَقْضِيَ الْبَاقِيَ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ وَقَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دَيْنُ الْإِسْلَامِ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ، وَدَيْنُ الرِّدَّةِ فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْإِنْسَانِ يُقْضَى مِنْ مَالِهِ لَا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، وَكَذَا دَيْنُ الْمَيِّتِ يُقْضَى مِنْ مَالِهِ لَا مِنْ مَالِ وَارِثِهِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الدَّيْنِ يَمْنَعُ زَوَالَ مِلْكِهِ إلَى وَارِثِهِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ؛ لِكَوْنِ الدَّيْنِ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِرْثِ، فَكَانَ قَضَاءُ دَيْنِ كُلِّ مَيِّتٍ مِنْ مَالِهِ لَا مِنْ مَالِ وَارِثِهِ وَمَالُهُ كَسْبُ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ فَمَالُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يُقْضَى مِنْهُ الدَّيْنُ إلَّا لِضَرُورَةٍ، فَإِذَا لَمْ يَفِ بِهِ كَسْبُ الْإِسْلَامِ مَسَّتْ الضَّرُورَةُ فَيَقْضِي الْبَاقِيَ مِنْهُ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَان حُكْمُ وَلَدِ الْمُرْتَدِّ] (فَصْلٌ) . وَأَمَّا حُكْمُ وَلَدِ الْمُرْتَدِّ فَوَلَدُ الْمُرْتَدِّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْلُودًا فِي الْإِسْلَامِ، أَوْ فِي الرِّدَّةِ، فَإِنْ كَانَ مَوْلُودًا فِي الْإِسْلَامِ، بِأَنْ وُلِدَ لِلزَّوْجَيْنِ وَلَدٌ وَهُمَا مُسْلِمَانِ، ثُمَّ ارْتَدَّا لَا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ وَأَبَوَاهُ مُسْلِمَانِ فَقَدْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ، فَلَا يَزُولُ بِرِدَّتِهِمَا لِتَحَوُّلِ التَّبَعِيَّةِ إلَى الدَّارِ، إذْ الدَّارُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ التَّبَعِيَّةِ ابْتِدَاءً عِنْدَ اسْتِتْبَاعِ الْأَبَوَيْنِ، تَصْلُحُ لِلْإِبْقَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ، فَمَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَبْقَى عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ، تَبَعًا لِلدَّارِ، وَلَوْ لَحِقَ الْمُرْتَدَّانِ بِهَذَا الْوَلَدِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَكَبِرَ الْوَلَدُ، وَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ وَكَبِرَ، ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِمْ أَمَّا حُكْمُ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ فَمَعْلُومٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُسْتَرَقُّ وَيُقْتَلُ، وَالْمُرْتَدَّةُ تُسْتَرَقُّ وَلَا تُقْتَلُ وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ وَأَمَّا حُكْمُ الْأَوْلَادِ فَوَلَدُ الْأَبِ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبَوَيْهِ تَبَعًا لَهُمَا، فَلَمَّا بَلَغَ كَافِرًا فَقَدْ ارْتَدَّ عَنْهُ، وَالْمُرْتَدُّ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ رِدَّةٌ حُكْمِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ لِوُجُودِ الْإِيمَانِ حُكْمًا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لَا حَقِيقَةً، فَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ لَكِنْ بِالْحَبْسِ لَا بِالسَّيْفِ إثْبَاتًا لِلْحُكْمِ عَلَى قَدْرِ الْعِلَّةِ، وَلَا يُجْبَرُ وَلَدُ وَلَدِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ لَا يَتْبَعُ الْجَدَّ فِي الْإِسْلَامِ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْكُفَّارُ كُلُّهُمْ مُرْتَدِّينَ لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ وَنُوحٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَيَنْبَغِي أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ مَوْلُودًا فِي الرِّدَّةِ بِأَنْ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ وَلَا وَلَدَ لَهُمَا، ثُمَّ حَمَلَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا بَعْدَ رِدَّتِهَا، وَهُمَا مُرْتَدَّانِ عَلَى حَالِهِمَا، فَهَذَا الْوَلَدُ بِمَنْزِلَةِ أَبَوَيْهِ لَهُ حُكْمُ الرِّدَّةِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ أَحَدًا، وَلَوْ لَحِقَا بِهَذَا الْوَلَدِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَبَلَغَ، وَوُلِدَ لَهُ أَوْلَادٌ فَبَلَغُوا، ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى الدَّارِ وَسُبُوا جَمِيعًا، يُجْبَرُ وَلَدُ الْأَبِ وَوَلَدُ وَلَدِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يُقْتَلُونَ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ السِّيَرِ وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ وَلَدُ وَلَدِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ. (وَجْهُ) مَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ أَنَّ وَلَدَ الْأَبِ تَبَعٌ لِأَبَوَيْهِ، فَكَانَ مَحْكُومًا بِرِدَّتِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ، وَوَلَدُ الْوَلَدِ تَبَعٌ لَهُ فَكَانَ مَحْكُومًا بِرِدَّتِهِ تَبَعًا لَهُ، وَالْمُرْتَدُّ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ رِدَّةٌ حُكْمِيَّةٌ فَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ لَا بِالْقَتْلِ

فصل في بيان أحكام البغاة

وَجْهُ) الْمَذْكُورِ فِي الْجَامِعِ أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ إنَّمَا صَارَ مَحْكُومًا بِرِدَّتِهِ تَبَعًا لِأَبِيهِ، وَالتَّبَعُ لَا يَسْتَتْبِعُ غَيْرَهُ. وَأَمَّا حُكْمُ الِاسْتِرْقَاقِ فَذُكِرَ فِي السِّيَرِ أَنَّهُ يُسْتَرَقُّ الْإِنَاثُ وَالذُّكُورُ الصِّغَارُ مِنْ أَوْلَادِهِ؛ لِأَنَّ أُمَّهُمْ مُرْتَدَّةٌ وَهِيَ تَحْتَمِلُ الِاسْتِرْقَاقَ، وَالْوَلَدُ كَمَا تَبِعَ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ يَتْبَعُهَا فِي احْتِمَالِ الِاسْتِرْقَاقِ. وَأَمَّا الْكِبَارُ فَلَا يُسْتَرَقُّونَ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ بِالْبُلُوغِ، وَيُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْوِلْدَانُ فَيْءٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ أُمَّهُ مُرْتَدَّةٌ. وَأَمَّا الْآخَرُ فَلِأَنَّهُ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ؛ لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الْأَبَوَيْنِ فِي الرِّدَّةِ قَدْ انْقَطَعَتْ بِالْبُلُوغِ، وَهُوَ كَافِرٌ، فَكَانَ كَافِرًا أَصْلِيًّا، فَاحْتَمَلَ الِاسْتِرْقَاقَ وَلَوْ ارْتَدَّتْ امْرَأَةٌ وَهِيَ حَامِلٌ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ سُبِيَتْ وَهِيَ حَامِلٌ كَانَ وَلَدُهَا فَيْئًا؛ لِأَنَّ السَّبْيَ لَحِقَهُ وَهُوَ فِي حُكْمِ جُزْءِ الْأُمِّ، فَلَا يَبْطُلُ بِالِانْفِصَالِ مِنْ الْأُمِّ وَالذِّمِّيُّ الَّذِي نَقَضَ الْعَهْدَ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْإِرْثِ وَالْحُكْمُ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَالْمُدَبَّرَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُوجِبُ لَحَاقَهُ، اللَّحَاقُ بِالْمَوْتِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَا يُفْصَلُ، إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ: وَهُوَ أَنَّ الذِّمِّيَّ يُسْتَرَقُّ وَالْمُرْتَدُّ لَا يُسْتَرَقُّ وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ شَرْعَ الِاسْتِرْقَاقِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ، وَاسْتِرْقَاقُ الْمُرْتَدِّ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ رَجَعَ بَعْدَ مَا ذَاقَ طَعْمَ الْإِسْلَامِ، وَعَرَفَ مَحَاسِنَهُ فَلَا يُرْجَى فَلَاحُهُ، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَان أَحْكَامِ الْبُغَاةِ] (فَصْلٌ) . وَأَمَّا بَيَانُ أَحْكَامِ الْبُغَاةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي تَفْسِيرِ الْبُغَاةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَلْزَمُ إمَامَ أَهْلِ الْعَدْلِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ عَلَيْهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُصْنَعُ بِهِمْ وَبِأَمْوَالِهِمْ عِنْدَ الظَّفَرِ بِهِمْ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَا يَجُوزُ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ إصَابَةِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُصْنَعُ بِقَتْلَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ قَضَايَاهُمْ أَمَّا تَفْسِيرُ الْبُغَاةِ، فَالْبُغَاةُ هُمْ الْخَوَارِجُ، وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ رَأْيِهِمْ أَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ كُفْرٌ، كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً، يَخْرُجُونَ عَلَى إمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَيَسْتَحِلُّونَ الْقِتَالَ وَالدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ، وَلَهُمْ مَنَعَةٌ وَقُوَّةٌ. وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَلْزَمُ إمَامَ الْعَدْلِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إنْ عَلِمَ الْإِمَامُ أَنَّ الْخَوَارِجَ يُشْهِرُونَ السِّلَاحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ، وَيُحْدِثُوا تَوْبَةً؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُمْ لَسَعَوْا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، فَيَأْخُذُهُمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَلَا يَبْدَؤُهُمْ الْإِمَامُ بِالْقِتَالِ حَتَّى يَبْدَءُوهُ؛ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ لَا لِشَرِّ شِرْكِهِمْ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، فَمَا لَمْ يَتَوَجَّهُ الشَّرُّ مِنْهُمْ لَا يُقَاتِلُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْإِمَامُ بِذَلِكَ حَتَّى تَعَسْكَرُوا وَتَأَهَّبُوا لِلْقِتَالِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الْعَدْلِ، وَالرُّجُوعِ إلَى رَأْيِ الْجَمَاعَةِ أَوَّلًا لِرَجَاءِ الْإِجَابَةِ وَقَبُولِ الدَّعْوَةِ، كَمَا فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ. وَكَذَا رُوِيَ أَنْ سَيِّدَنَا عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِ أَهْلُ حَرُورَاءَ نَدَبَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِيَدْعُوَهُمْ إلَى الْعَدْلِ، فَدَعَاهُمْ وَنَاظَرَ هُمْ، فَإِنْ أَجَابُوا كَفَّ عَنْهُمْ وَإِنْ أَبَوْا قَاتَلَهُمْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] وَكَذَا قَاتَلَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَهْلَ حَرُورَاءَ بِالنَّهْرَوَانِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ «إنَّكَ تُقَاتِلُ عَلَى التَّأْوِيلِ كَمَا تُقَاتِلُ عَلَى التَّنْزِيلِ» وَالْقِتَالُ عَلَى التَّأْوِيلِ هُوَ الْقِتَالُ مَعَ الْخَوَارِجِ، وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى إمَامَةِ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - شَبَّهَ قِتَالَ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى التَّأْوِيلِ بِقِتَالِهِ عَلَى التَّنْزِيلِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِتَالِهِ بِالتَّنْزِيلِ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ مُحِقًّا فِي قِتَالِهِ بِالتَّأْوِيلِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إمَامَ حَقٍّ لَمَا كَانَ مُحِقًّا فِي قِتَالِهِ إيَّاهُمْ، وَلِأَنَّهُمْ سَاعُونَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَيُقْتَلُونَ دَفْعًا لِلْفَسَادِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَإِنْ قَاتَلَهُمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُمْ لِكَوْنِهِمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ دَعَاهُ الْإِمَامُ إلَى قِتَالِهِمْ أَنْ يُجِيبَهُ إلَى ذَلِكَ وَلَا يَسَعُهُ التَّخَلُّفُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ غِنًى وَقُدْرَةٌ؛ لِأَنَّ طَاعَةَ الْإِمَامِ فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ فَرْضٌ، فَكَيْفَ فِيمَا هُوَ طَاعَةٌ؟ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْتَزِلَ الْفِتْنَةَ، وَيَلْزَمَ بَيْتَهُ، مَحْمُولٌ عَلَى وَقْتٍ خَاصٍّ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ إمَامٌ يَدْعُوهُ إلَى الْقِتَالِ وَأَمَّا إذَا كَانَ فَدَعَاهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُصْنَعُ بِهِمْ وَبِأَمْوَالِهِمْ عِنْدَ الظَّفَرِ بِهِمْ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ فَنَقُولُ: الْإِمَامُ إذَا قَاتَلَ أَهْلَ الْبَغْيِ فَهَزَمَهُمْ وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ يَنْحَازُونَ إلَيْهَا، فَيَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَقْتُلُوا مُدْبِرَهُمْ وَيُجْهِزُوا عَلَى

جَرِيحِهِمْ لِئَلَّا يَتَحَيَّزُوا إلَى الْفِئَةِ فَيَمْتَنِعُوا بِهَا فَيَكُرُّوا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَمَّا أَسِيرُهُمْ فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَتَلَهُ اسْتِئْصَالًا لِشَأْفَتِهِمْ، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ لِانْدِفَاعِ شَرِّهِ بِالْأَسْرِ وَالْحَبْسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ يَتَحَيَّزُونَ إلَيْهَا لَمْ يَتْبَعْ مُدْبِرَهُمْ، وَلَمْ يُجْهِزْ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَمْ يَقْتُلْ أَسِيرَهُمْ؛ لِوُقُوعِ الْأَمْنِ عَنْ شَرِّهِمْ عِنْدَ انْعِدَامِ الْفِئَةِ. (وَأَمَّا) أَمْوَالُهُمْ الَّتِي ظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ عَلَيْهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَعِينُوا بِكُرَاعِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ عَلَى قِتَالِهِمْ كَسْرًا لِشَوْكَتِهِمْ، فَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنْهَا أَمْسَكَهَا الْإِمَامُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ لَا تَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ بِالِاسْتِيلَاءِ لِكَوْنِهِمْ مُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ يَحْبِسُهَا عَنْهُمْ إلَى أَنْ يَزُولَ بَغْيُهُمْ فَإِذَا زَالَ رَدَّهَا عَلَيْهِمْ، وَكَذَا مَا سِوَى الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ مِنْ الْأَمْتِعَةِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلَكِنْ يُمْسَكُ وَيُحْبَسُ عَنْهُمْ إلَى أَنْ يَزُولَ بَغْيُهُمْ فَيُدْفَعَ إلَيْهِمْ لِمَا قُلْنَا وَيُقَاتَلُ أَهْلُ الْبَغْيِ بِالْمَنْجَنِيقِ وَالْحَرْقِ وَالْغَرَقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُقَاتَلُ بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لَدَفْعِ شَرِّهِمْ وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ فَيُقَاتَلُونَ بِكُلِّ مَا يَحْصُلُ بِهِ ذَلِكَ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُوَادِعَهُمْ لِيَنْظُرُوا فِي أُمُورِهِمْ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذُوا عَلَى ذَلِكَ مَالًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَنْ يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَا يَجُوزُ فَكُلُّ مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ الصِّبْيَانِ وَالنِّسْوَانِ وَالْأَشْيَاخِ وَالْعُمْيَانِ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُمْ لِدَفْعِ شَرِّ قِتَالِهِمْ فَيَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْقِتَالِ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَلَا يُقْتَلُونَ إلَّا إذَا قَاتَلُوا، فَيُبَاحُ قَتْلُهُمْ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ، إلَّا الصِّبْيَانَ وَالْمَجَانِينَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي حُكْمِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْعَبْدُ الْمَأْسُورُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ فَإِنْ كَانَ قَاتَلَ مَعَ مَوْلَاهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَإِنْ كَانَ يَخْدُمُ مَوْلَاهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَلَكِنْ يُحْبَسُ حَتَّى يَزُولَ بَغْيُهُمْ فَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ. (وَأَمَّا) الْكُرَاعُ فَلَا يُمْسَكُ وَلَكِنَّهُ يُبَاعُ وَيُحْبَسُ ثَمَنُهُ لِمَالِكِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ لِلْعَادِلِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِقَتْلِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ مُبَاشَرَةً، وَإِذَا أَرَادَ هُوَ قَتْلَهُ، لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِالْقَتْلِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَسَبَّبَ لِيَقْتُلَهُ غَيْرُهُ، بِأَنْ يَعْقِرَ دَابَّتَهُ لِيَتَرَجَّلَ فَيَقْتُلَهُ غَيْرُهُ بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ سَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ مُبَاشَرَةً وَتَسَبُّبًا ابْتِدَاءً إلَّا الْوَالِدَيْنِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الشِّرْكَ فِي الْأَصْلِ مُبِيحٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] إلَّا أَنَّهُ خُصَّ مِنْهُ الْأَبَوَانِ بِنَصٍّ خَاصٍّ حَيْثُ قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] فَبَقِيَ غَيْرُهُمَا عَلَى عُمُومِ النَّصِّ بِخِلَافِ أَهْلِ الْبَغْيِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ فِي الْأَصْلِ عَاصِمٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» وَالْبَاغِي مُسْلِمٌ، إلَّا أَنَّهُ أُبِيحَ قَتْلُ غَيْرِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ لَا لِشَوْكَتِهِمْ، وَدَفْعُ الشَّرِّ يَحْصُلُ بِالدَّفْعِ وَالتَّسْبِيبِ لِيَقْتُلَهُ غَيْرُهُ، فَبَقِيَتْ الْعِصْمَةُ عَمَّا وَرَاءَ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الْعَاصِمِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ حُكْمِ إصَابَةِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعَادِلَ إذَا أَصَابَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْ دَمٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ مَالٍ اسْتَهْلَكَهُ، إنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ (وَأَمَّا) الْبَاغِي إذَا أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ ذَلِكَ مَوْضُوعٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّهُ مَضْمُونٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْبَاغِيَ جَانٍ فَيَسْتَوِي فِي حَقِّهِ وُجُودُ الْمَنَعَةِ وَعَدَمُهَا؛ لِأَنَّ الْجَانِيَ يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ دُونَ التَّخْفِيفِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ قَالَ: وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَافِرُونَ فَاتَّفَقُوا أَنَّ كُلَّ دَمٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَكُلُّ مَالٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَكُلُّ فَرْجٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ فَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مَا قُلْنَا. وَإِنَّهُ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ أَنَّ لَهُمْ فِي الِاسْتِحْلَالِ تَأْوِيلًا فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لَكِنَّ لَهُمْ مَنَعَةً، وَالتَّأْوِيلُ الْفَاسِدُ عِنْدَ قِيَامِ الْمَنَعَةِ يَكْفِي لِرَفْعِ الضَّمَانِ، كَتَأْوِيلِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُنْقَطِعَةٌ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ، فَلَمْ يَكُنْ الْوُجُوبُ مُفِيدًا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ فَلَمْ يَجِبْ، وَلَوْ فَعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ الْخُرُوجِ وَظُهُورِ الْمَنَعَةِ أَوْ بَعْدَ الِانْهِزَامِ وَتَفَرُّقِ الْجَمْعِ يُؤْخَذُونَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنَعَةَ إذَا انْعَدَمَتْ الْوِلَايَةُ وَبَقِيَ مُجَرَّدُ تَأْوِيلٍ فَاسِدٍ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ، وَلَوْ قَتَلَ تَاجِرٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ تَاجِرًا آخَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي عَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ، أَوْ قَتَلَ الْأَسِيرُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ أَسِيرًا آخَرَ أَوْ قَطَعَ، ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ وَانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ عَسْكَرَ أَهْلِ الْبَغْيِ فِي حَقِّ انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ.

كتاب الغصب

وَدَارِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعَادِلَ إذَا قَتَلَ بَاغِيًا لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِسُقُوطِ عِصْمَةِ نَفْسِهِ وَأَمَّا الْبَاغِي إذَا قَتَلَ الْعَادِلَ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إنْ قَالَ: قَتَلْتُهُ، وَكُنْتُ عَلَى حَقٍّ وَأَنَا الْآنَ عَلَى حَقٍّ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ وَإِنْ قَالَ: قَتَلْتُهُ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنِّي عَلَى بَاطِلٍ يُحْرَمُ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ تَأْوِيلَهُ فَاسِدٌ، إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالصَّحِيحِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَنَعَةِ فِي حَقِّ الدَّفْعِ لَا فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّا نَعْتَبِرُ تَأْوِيلَهُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ وَالِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ هُوَ الْقَرَابَةُ، وَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ، إلَّا أَنَّ قَتْلَ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ سَبَّبَ الْحِرْمَانَ فَإِذَا قَتَلَهُ عَلَى تَأْوِيلِ الِاسْتِحْلَالِ، وَالْمَنَعَةُ مَوْجُودَةٌ اعْتَبَرْنَاهُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ وَهُوَ دَفْعُ الْحِرْمَانِ، فَأَشْبَهَ الضَّمَانَ، إلَّا أَنَّهُ إذَا قَالَ: قَتَلْتُهُ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنِّي عَلَى بَاطِلٍ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ؛ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ إنَّمَا يَلْحَقُ بِالصَّحِيحِ إذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يُصِرَّ، فَلَا تَأْوِيلَ لَهُ، فَلَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ الضَّمَانُ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُصْنَعُ بِقَتْلَى الطَّائِفَتَيْنِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: (أَمَّا) قَتْلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَيُصْنَعُ بِهِمْ مَا يُصْنَعُ بِسَائِرِ الشُّهَدَاءِ، لَا يُغَسَّلُونَ، وَيُدْفَنُونَ فِي ثِيَابِهِمْ، وَلَا يُنْزَعُ عَنْهُمْ إلَّا مَا لَا يَصْلُحُ كَفَنًا، وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ شُهَدَاءُ لِكَوْنِهِمْ مَقْتُولِينَ ظُلْمًا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ صُوحَانَ الْيَمَنِيَّ كَانَ يَوْمَ الْجَمَلِ تَحْتَ رَايَةِ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَأَوْصَى فِي رَمَقِهِ: لَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا، وَلَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا، وَارْمُسُونِي فِي التُّرَابِ رَمْسًا، فَإِنِّي رَجُلٌ مُحَاجٌّ أُحَاجُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَأَمَّا) قَتْلَى أَهْلِ الْبَغْيِ فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا صَلَّى عَلَى أَهْلِ حَرُورَاءَ، وَلَكِنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ وَيُكَفَّنُونَ وَيُدْفَنُونَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَّةِ مَوْتَى بَنِي سَيِّدِنَا آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَيُكْرَهُ أَنْ تُؤْخَذَ رُءُوسُهُمْ، وَتُبْعَثَ إلَى الْآفَاقِ، وَكَذَلِكَ رُءُوسُ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمُثْلَةِ، وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا لَا تُمَثِّلُوا» فَيُكْرَهُ إلَّا إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ وَهَنٌ لَهُمْ، فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَزَّ رَأْسَ أَبِي جَهْلٍ - عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ - يَوْمَ بَدْرٍ وَجَاءَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ أَبَا جَهْلٍ كَانَ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ» وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ. وَيُكْرَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَفِي عَسَاكِرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ السِّلَاحُ كَالْحَدِيدِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ سِلَاحًا إلَّا بِالْعَمَلِ وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ يُكْرَهُ بَيْعُ الْمَزَامِيرِ، وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ الْمِزْمَارُ، وَهُوَ الْخَشَبُ وَالْقَصَبُ، وَكَذَا بَيْعُ الْخَمْرِ بَاطِلٌ، وَلَا يَبْطُلُ بَيْعُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ، وَهُوَ الْعِنَبُ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) بَيَانُ حُكْمِ قَضَايَاهُمْ، فَنَقُولُ: الْخَوَارِجُ إذَا وَلَّوْا قَاضِيًا فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ وَلَّوْا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَإِمَّا أَنْ وَلَّوْا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَإِنْ وَلَّوْا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ فَقَضَى بِقَضَايَا ثُمَّ رُفِعَتْ قَضَايَاهُ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ لَا يُنْفِذُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهَا حَقًّا؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا، فَاحْتَمَلَ أَنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ بَاطِلٌ عَلَى رَأْيِ الْجَمَاعَةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَنْفِيذُهُ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَلَوْ كَتَبَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ بِكِتَابٍ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ قَضَى بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْعَدْلِ أَنْفَذَهُ؛ لِأَنَّهُ تَنْفِيذٌ لِحَقٍّ ظَاهِرٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ لَا يُنْفِذُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ حَقًّا، فَلَا يَجُوزُ تَنْفِيذُهُ لِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَإِنْ وَلَّوْا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَضَى فِيمَا بَيْنَهُمْ بِقَضَايَا، ثُمَّ رُفِعَتْ قَضَايَاهُ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ نَفَّذَهَا؛ لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ إيَّاهُ قَدْ صَحَّتْ، وَلِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَنْفِيذِ الْقَضَايَا بِمَنْعَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، فَصَحَّتْ التَّوْلِيَةُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَضَى عَلَى رَأْيِ أَهْلِ الْعَدْلِ، فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ، كَمَا إذَا رُفِعَتْ قَضَايَا قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ إلَى بَعْضِ قُضَاةِ أَهْلِ الْعَدْلِ. وَمَا أَخَذُوا مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي ظَهَرُوا عَلَيْهَا مِنْ الْخَرَاجِ وَالزَّكَاةِ الَّتِي وِلَايَةُ أَخْذِهَا لِلْإِمَامِ لَا يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْإِمَامِ لِمَكَانِ حِمَايَتِهِ، وَلَمْ تُوجَدْ، إلَّا أَنَّهُمْ يُفْتُونَ بِأَنْ يُعِيدُوا الزَّكَاةَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ لَا يَصْرِفُونَهَا إلَى مَصَارِفهَا، فَأَمَّا الْخَرَاجُ فَمَصْرِفُهُ الْمُقَاتِلَةُ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَ أَهْلَ الْحَرْبِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْغَصْبِ] جَمَعَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْغَصْبِ بَيْنَ مَسَائِلِ الْغَصْبِ وَبَيْنَ مَسَائِلِ الْإِتْلَافِ، وَبَدَأَ بِمَسَائِلِ الْغَصْبِ، فَنَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ

فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: مَعْرِفَةُ مَسَائِلِ الْغَصْبِ فِي الْأَصْلِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ حَدِّ الْغَصْبِ، وَعَلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ اخْتِلَافِ الْغَاصِبِ وَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ. (أَمَّا) حَدُّ الْغَصْبِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: هُوَ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ الْمُتَقَوِّمِ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ وَالْمُغَالَبَةِ بِفِعْلٍ فِي الْمَالِ وَقَالَ مُحَمَّد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْفِعْلُ فِي الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِكَوْنِهِ غَصْبًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالٍ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَالْإِزَالَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ. (أَمَّا) الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهُوَ احْتَجَّ لِتَمْهِيدِ أَصْلِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] جَعَلَ الْغَصْبَ مَصْدَرَ الْأَخْذِ، فَدَلَّ أَنَّ الْغَصْبَ وَالْأَخْذَ وَاحِدٌ، وَالْأَخْذُ: إثْبَاتُ الْيَدِ، إلَّا أَنَّ الْإِثْبَاتَ إذَا كَانَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ يُسَمَّى: إيدَاعًا وَإِعَارَةً وَإِبْضَاعًا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، وَإِذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْن الْمَالِكِ يُسَمَّى فِي مُتَعَارَفِ الشَّرْعِ: غَصْبًا، وَلِأَنَّ الْغَصْبَ إنَّمَا جُعِلَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ بِوَصْفِ كَوْنِهِ تَعَدِّيًا، فَإِذَا وَقَعَ الْإِثْبَاتُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ وَقَعَ تَعَدِّيًا، فَيَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ بِوَصْفِ كَوْنِهِ تَعَدِّيًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنْ غَاصِبَ الْغَاصِبِ ضَامِنٌ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ لِزَوَالِهَا بِغَصْبِ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ، وَإِزَالَةُ الزَّائِلِ مُحَالٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَلَنَا) الِاسْتِدْلَال بِضَمَانِ الْغَصْبِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَالِكَ اسْتَحَقَّ إزَالَةَ يَدِ الْغَاصِبِ عَنْ الضَّمَانِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْغَصْبُ مِنْهُ إزَالَةَ يَدِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُشَرِّعْ الِاعْتِدَاءَ إلَّا بِالْمِثْلِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَالثَّانِي: أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ ضَمَانَ زَجْرٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَمَانَ جَبْرٍ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الزَّجْرِ، وَلِأَنَّ الِانْزِجَارَ لَا يَحْصُلُ بِهِ، فَدَلَّ أَنَّهُ: ضَمَانُ جَبْرٍ، وَالْجَبْرُ يَسْتَدْعِي الْفَوَاتَ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَا بُدّ مِنْ التَّفْوِيتِ لِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَسَّرَ أَخْذَ الْمَلِكِ تِلْكَ السَّفِينَةَ بِغَصْبِهِ إيَّاهَا، كَأَنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَغْصِبُ كُلَّ سَفِينَةٍ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَخْذٍ غَصْبٌ، بَلْ هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ غَصْبَ ذَلِكَ الْمَلِكِ كَانَ إثْبَاتَ الْيَدِ عَلَى السَّفِينَةِ مَعَ إزَالَةِ أَيْدِي الْمَسَاكِينِ عَنْهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتٌ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ الْإِزَالَةَ. (وَأَمَّا) قَوْلُهُ: الْغَصْبُ إنَّمَا أَوْجَبَ الضَّمَانَ لِكَوْنِهِ تَعَدِّيًا فَمُسَلَّمٌ، لَكِنَّ التَّعَدِّيَ فِي الْإِزَالَةِ لَا فِي الْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ وُقُوعَهُ تَعَدِّيًا بِوُقُوعِهِ ضَارًّا بِالْمَالِكِ، وَذَلِكَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ، وَإِعْجَازِهِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ تَفْوِيتِ الْيَدِ وَإِزَالَتِهَا. (فَأَمَّا) مُجَرَّدُ الْإِثْبَاتِ فَلَا ضَرَرَ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ الْإِثْبَاتُ تَعَدِّيًا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ زَوَائِدُ الْغَصْبِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالثَّمَرَةِ، أَوْ مُتَّصِلَةً كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي يَدِ الْمَالِكِ وَقْتَ غَصْبِ الْأُمِّ، فَلَمْ تُوجَدْ إزَالَةُ يَدِهِ عَنْهَا، فَلَمْ يُوجَدْ الْغَصْبُ. وَعِنْد مُحَمَّدٍ مَضْمُونَةٌ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ عِنْدَهُ: إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ، وَقَدْ وُجِدَ الْغَصْبُ، وَهَلْ تَصِيرُ مَضْمُونَةً عِنْدَنَا بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْمَنْعِ أَوْ الِاسْتِهْلَاكِ أَوْ الِاسْتِخْدَامِ جَبْرًا. (أَمَّا) الْمُنْفَصِلَةُ: فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أَنَّهَا تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِهَا. (وَأَمَّا) الْمُتَّصِلَةُ: فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: إذَا غَصَبَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَازْدَادَتْ فِي بَدَنِهَا خَيْرًا حَتَّى صَارَتْ قِيمَتهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَبَاعَهَا، وَسَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ، فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا أَلْفَيْ دِرْهَم، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْبَائِعَ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْقَبْضِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْبَائِعِ ضَمَّنَهُ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ قِيمَتَهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ أَيْضًا، كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ. وَحَكَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْخِلَافَ: أَنْ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا يَوْمَ الْقَبْضِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ زِيَادَةً بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ وَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْمُنْتَقَى، وَحَكَى الْخِلَافَ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الِاسْتِهْلَاكَ مُطْلَقًا، فَقَالَ: إلَّا أَنْ يَسْتَهْلِكَهَا، وَفَسَّرَهُ الْجَصَّاصُ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ فَقَالَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً فَيُقْتَلُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، أَنَّ الْمَغْصُوبَ إذَا كَانَ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً فَقَتَلَهُ الْغَاصِبُ خَطَأً يَكُونُ الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ عَاقِلَةَ الْقَاتِلِ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْقَتْلِ زَائِدَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْبَيْعَ وَالتَّسْلِيمَ غَصْبٌ؛ لِأَنَّهُ تَفْوِيتُ إمْكَانِ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ

كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ قَبْلَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ، وَبَعْدَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ لَمْ يَبْقَ مُتَمَكِّنًا، وَتَفْوِيتُ إمْكَانِ الْأَخْذِ تَفْوِيتُ الْيَدِ مَعْنًى، فَكَانَ غَصْبًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ، وَهَذَا لِأَنَّ تَفْوِيتَ يَدِ الْمَالِكِ إنَّمَا كَانَ غَصْبًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ؛ لِكَوْنِهِ إخْرَاجَ الْمَالِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي حَقِّ الْمَالِك، وَإِعْجَازُهُ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِتَفْوِيتِ إمْكَانِ الْأَخْذِ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ، وَلِهَذَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى غَاصِبِ الْغَاصِبِ وَمُودِعِ الْغَاصِبِ وَالْمُشَتَّرِي مِنْ الْغَاصِبِ، كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْأَصْلَ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ الْأَوَّلِ، فَلَا يَقَعُ الْبَيْعُ وَالتَّسْلِيمُ غَصْبًا لَهُ؛ لِأَنَّ غَصْبَ الْمَغْصُوبِ لَا يُتَصَوَّرُ، وَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ لَا يُتَصَوَّرُ إفْرَادُهَا بِالْغَصْبِ لِتَصِيرَ مَغْصُوبَةً بِالْبَيِّعِ وَالتَّسْلِيمِ، بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ فَإِنْ إفْرَادَهَا بِالْغَصْبِ بِدُونِ الْأَصْلِ مُتَصَوَّرٌ، فَلَمْ تَكُنْ مَغْصُوبَةً بِالْغَصْبِ الْأَوَّلِ لِانْعِدَامِهَا، فَجَازَ أَنْ تَصِيرَ مَغْصُوبَةً بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ، فَهَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الزِّيَادَتَيْنِ، وَبِخِلَافِ الْقَتْل؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْمَغْصُوبِ مُتَصَوَّرٌ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْقَتْلِ غَيْرُ مَحَلِّ الْغَصْبِ، فَمَحَلُّ الْقَتْلِ هُوَ الْحَيَاةُ، وَمَحَلُّ الْغَصْبِ هُوَ مَالِيَّةُ الْعَيْنِ، فَتَحَقُّقُ الْغَصْبِ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقُ الْقَتْلِ، إلَّا أَنَّ الْمَضْمُونَ وَاحِدٌ، وَالْمُسْتَحَقُّ لِلضَّمَانِ وَاحِدٌ، فَيُخَيَّرُ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ السَّابِقِ لَا شَكَّ فِيهِ، فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْغَاصِبِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. (وَأَمَّا) الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ: فَالزِّيَادَةُ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِهِ فَتَكُونُ مِلْكَهُ، فَكَانَ الْبَيْعُ وَالتَّسْلِيمُ وَالْمَنْعُ وَالِاسْتِخْدَامُ وَالِاسْتِهْلَاكُ فِي غَيْرِ بَنِي آدَمَ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ تَصَرَّفَ فِي سَائِرِ أَمْلَاكِهِ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ؛ لِأَنَّا أَثْبَتْنَا الْمِلْكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ فَالْمُسْتَنَدُ يَظْهَرُ مِنْ وَجْهٍ وَيَقْتَصِرُ عَلَى الْحَالِ مِنْ وَجْهٍ، فَيُعْمَلُ بِشُبْهَةِ الظُّهُورِ فِي الزَّوَائِدِ الْمُتَّصِلَةِ وَبِشُبْهَةِ الِاقْتِصَارِ فِي الْمُنْفَصِلَةِ، إذْ لَا يَكُونُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى الْعَكْسِ لِيَكُونَ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. (وَأَمَّا) عَلَى طَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ فَتَخْرِيجُهُمَا مُشْكِلٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يَضْمَنُ بِالْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ، وَالْغَاصِب إنَّمَا مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ، فَلَمْ يَكُنْ هُوَ بِالْقَتْلِ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، لِهَذَا افْتَرَقَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ عَلَى أَصْلِهَا: إذَا اخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَ الْبَائِعِ، هَلْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَقْتَ الْبَيْعِ، وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقْتَ الْغَصْبِ، قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يَثْبُتُ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عِنْدَ اتِّحَادِ الذِّمَّةِ مِنْ بَابِ السَّفَهِ، بِخِلَافِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الذِّمَّةَ مُخْتَلِفَةٌ، فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَلِيًّا وَالْآخَر مُفْلِسًا، فَكَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا وَبِخِلَافِ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ ضَمَانُ الدَّمِ وَأَنَّهُ مُؤَجَّلٌ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ، وَضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ الْمَالِ وَأَنَّهُ حَالٌّ، فَكَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا، ثُمَّ إذَا ضَمَّنَ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ قِيمَةَ الْمَغْصُوبِ وَقْتَ الْغَصْبِ أَوْ وَقْتَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَالثَّمَنُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ وَإِنْ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ وَقْتَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالضَّمَانِ. ، وَلَوْ غَصَبَ مِنْ إنْسَانٍ شَيْئًا، فَجَاءَ آخَرُ وَغَصَبَهُ مِنْهُ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِي أَمَّا تَضْمِينُ الْأَوَّلِ فَلِوُجُودِ فِعْلِ الْغَصْبِ مِنْهُ: وَهُوَ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ. وَأَمَّا تَضْمِينُهُ الثَّانِيَ؛ فَلِأَنَّهُ فَوَّتَ يَدَ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ، وَيَدُهُ يَدُ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ مَالَهُ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهِ عَلَى الْمَالِكِ وَيَسْتَقِرُّ بِهِمَا الضَّمَانُ فِي ذِمَّتِهِ، فَكَانَتْ مَنْفَعَةُ يَدِهِ عَائِدَةً إلَى الْمَالِكِ، فَأَشْبَهَتْ يَدَ الْمُودِعِ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ، إلَّا أَنَّ الْمَضْمُونَ وَاحِدٌ فَخَيَّرْنَا الْمَالِكَ لِتَعَيُّنِ الْمُسْتَحِقِّ، فَإِنْ اخْتَارَ أَنْ يُضَمِّنَ الْأَوَّلَ رَجَّعَ بِالضَّمَانِ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَغْصُوبَ مِنْ وَقْتِ غَصْبِهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الثَّانِي غَصَبَ مِلْكَهُ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الثَّانِي لَا يُرْجَعُ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ ضَمَّنَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَهُوَ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَهْلَكَهُ الْغَاصِبُ الثَّانِي، وَمَتَى اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا، هَلْ يَبْرَأُ الْآخَرُ عَنْ الضَّمَانِ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ؟ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ يَبْرَأُ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ تَضْمِينَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ مَا لَمْ يَرْضَ مَنْ اخْتَارَ تَضْمِينَهُ أَوْ يَقْضِي بِهِ عَلَيْهِ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ عِنْدَ وُجُودِ الرِّضَا أَوْ الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ صَارَ الْمَغْصُوبُ مِلْكًا لِلَّذِي ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ، فَلَا يَمْلِكُ

الرُّجُوعَ بَعْدَ تَمْلِيكِهِ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ الْأَوَّلِ، فَأَمَّا قَبْلَ وُجُودِ الرِّضَا أَوْ الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ صَارَ الْمَغْصُوبُ مِلْكًا لِلَّذِي ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ، فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ بَعْدَ تَمْلِيكِهِ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ الْأَوَّلِ، فَأَمَّا قَبْلَ وُجُودِ الرِّضَا أَوْ الْقَضَاءِ، فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّمْلِيكُ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَلَهُ أَنْ يَمْلِكَهُ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْجَامِعِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِاخْتِيَارِهِ تَضْمِينَ الْغَاصِبِ الْآخَرِ أَظْهَرَ أَنَّهُ رَاضٍ بِأَخْذِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُودِعِ، وَبِاخْتِيَارِ تَضْمِينِ الْأَوَّلِ أَظْهَرَ أَنَّ الثَّانِي مَا أَتْلَفَ عَلَيْهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ يَدَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ بَاعَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ مِنْ الثَّانِي فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ فَيُضَمِّنُ أَيَّهمَا شَاءَ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ جَازَ بَيْعُهُ وَالثَّمَنُ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ بَطَلَ الْبَيْعُ وَلَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ، ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ، نَفَذَ إعْتَاقُهُ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَنْفُذُ قِيَاسًا، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ الْبَيْعُ الثَّانِي. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ وَلَا مِلْكَ لِلْمُشْتَرِي فِي الْعَبْدِ» ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَلَا يَنْعَقِدُ إعْتَاقُهُ فِيهِ فَيَنْفُذُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إعْتَاقَ الْمُشْتَرِي صَادَفَ مِلْكًا عَلَى التَّوَقُّفِ فَيَنْعَقِدُ عَلَى التَّوَقُّفِ، كَالْمُشْتَرِي مِنْ الْوَارِثِ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ بِالدِّينِ إذَا أَعْتَقَهُ، ثُمَّ أَبْرَأَ الْغُرَمَاءُ الْمَيِّتَ عَنْ دُيُونِهِمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَ مِلْكًا عَلَى التَّوَقُّفِ: أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ انْعَقَدَ عَلَى التَّوَقُّفِ وَهُوَ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ الْخَالِي عَنْ الشَّرْطِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْعِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْفُذْ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَالِكِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي التَّوَقُّفِ فَيَتَوَقَّفُ، وَإِذَا تَوَقَّفَ سَبَبُ الْمِلْكِ يَتَوَقَّفُ الْمِلْكُ فَيَتَوَقَّفُ الْإِعْتَاقُ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَعْتَمِدُ شُرُوطًا أُخَرُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ لِمَعْنَى الْغَرَرِ، وَفِي تَوْقِيفِ نَفَاذِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْغَرَرِ، وَلَوْ أَوْدَعَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُودَعِ يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ فِي التَّضْمِينِ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَوْدَعَ مِلْكَ نَفْسِهِ. وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُودَعَ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ بِالْإِيدَاعِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْغَرَرِ، وَهُوَ ضَمَانُ الِالْتِزَامِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُودَعُ فَالْجَوَابُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُودِعِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَ مَالَهُ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُودَعَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَّنَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ، وَلَوْ آجَرَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ أَوْ رَهَنَهُ مِنْ إنْسَانٍ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ آجَرَ وَرَهَنَ مِلْكَ نَفْسِهِ، إلَّا أَنَّ فِي الرَّهْنِ يَسْقُطُ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ عَلَى مَا هُوَ حُكْمُ هَلَاكِ الرَّهْنِ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ أَوْ الْمُرْتَهِنَ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا ضَمَّنَ، وَالْمُرْتَهِنُ يَرْجِعُ بِدَيْنِهِ أَيْضًا. أَمَّا رُجُوعُ الْمُرْتَهِنِ بِالضَّمَانِ، فَلَا شَكّ فِيهِ لِصَيْرُورَتِهِ مَغْرُورًا. وَأَمَّا رُجُوعُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ اسْتَفَادَ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ لَكِنْ بِعِوَضٍ وَهُوَ الْأُجْرَةُ فَيَتَحَقَّقُ الْغُرُورُ فَأَشْبَهَ الْمُودَعَ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ الْمُرْتَهِنُ يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ، إلَّا أَنَّهُ إنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ آجَرَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَرَهَنَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَاسْتَهْلَكَهُ الْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُرْتَهِنُ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ أَوْ الْمُرْتَهِنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ ضَمَّنَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ أَعَارَهُ الْغَاصِبُ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ، وَأَيُّهُمَا ضَمَّنَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى صَاحِبِهِ أَمَّا الْغَاصِبُ، فَلَا شَكّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَعَارَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ. وَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ فَلِأَنَّهُ اسْتَفَادَ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْغُرُورُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ مَنَافِعُ الْأَعْيَانِ الْمَنْقُولَةِ الْمَغْصُوبَةِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَضْمُونَةٌ، نَحْوُ مَا إذَا غَصَبَ عَبْدًا أَوْ دَابَّةً فَأَمْسَكَهُ أَيَّامًا وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ، ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى مَالِكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ الْمَنَافِعِ؛ لِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الزَّمَانِ، فَالْمَنْفَعَةُ الْحَادِثَةُ عَلَى يَدِ الْغَاصِبِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي يَدِ الْمَالِكِ، فَلَمْ يُوجَدْ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْهَا، فَلَمْ يُوجَدْ الْغَصْبُ، وَعِنْدَهُ حَدُّ الْغَصْبِ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ. وَقَدْ وُجِدَ فِي الْمَنَافِعِ وَالْمَنْفَعَةِ مَالٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا فِي الْإِجَارَةِ، وَتَصْلُحُ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ، فَتَحَقَّقَ الْغَصْبُ فِيهَا، فَيَجِبُ الضَّمَانُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ دَارًا أَوْ عَقَارًا فَانْهَدَمَ شَيْءٌ مِنْ

الْبِنَاءِ، أَوْ جَاءَ سَيْلٌ فَذَهَبَ بِالْبِنَاءِ وَالْأَشْجَارِ، أَوْ غَلَبَ الْمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ فَبَقِيَتْ تَحْتَ الْمَاءِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ يَضْمَنُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَدْ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فِي تَحْدِيدِ الْغَصْبِ أَنَّهُ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ، وَهَذَا يُوجَدُ فِي الْعَقَارِ، كَمَا يُوجَدُ فِي الْمَنْقُولِ. وَأَمَّا مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى فَقَدْ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فِي حَدِّ الْغَصْبِ أَنَّهُ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ، وَالْفِعْلُ فِي الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَقَدْ وُجِدَ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ الْعَقَارِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ إخْرَاجِ الْمَالِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ، أَوْ إعْجَازِ الْمَالِكِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَهَذَا كَمَا يُوجَدُ فِي الْمَنْقُولِ يُوجَدُ فِي الْعَقَارِ فَيَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ وَهِيَ: أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ دَارًا فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا يَضْمَنَانِ. كَمَا لَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْمَنْقُولِ، فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ فِي ضَمَانِ الرُّجُوعِ، فَدَلَّ أَنَّ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ يَتَحَقَّقُ فِيهِمَا جَمِيعًا وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوَسَّفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَمَرَّا عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الْغَصْبَ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ بِفِعْلٍ فِي الْمَالِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْعَقَارِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا شَرْطُ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ: الِاسْتِدْلَال بِضَمَانِ الْغَصْبِ، فَإِنَّ أَخْذَ الضَّمَانِ مِنْ الْغَاصِبِ تَفْوِيتُ يَدِهِ عَنْهُ بِفِعْلٍ فِي الضَّمَانِ، فَيَسْتَدْعِي وُجُودَ مِثْلِهِ مِنْهُ فِي الْمَغْصُوبِ، لِيَكُونَ اعْتِدَاءً بِالْمِثْلِ، وَعَلَى أَنَّهُمَا إنْ سَلَّمَا تَحَقَّقَ الْغَصْبُ فِي الْعَقَارِ، فَالْأَصْلُ فِي الْغَصْبِ أَنْ لَا يَكُونَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الضَّمَانِ مِنْ الْغَاصِبِ إتْلَافُ مَالِهِ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَزُولُ يَدُهُ وَمِلْكُهُ عَنْ الضَّمَانِ، فَيَسْتَدْعِي وُجُودَ الْإِتْلَافِ مِنْهُ إمَّا حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتُعَالَى لَمْ يُشَرِّعْ الِاعْتِدَاءَ، إلَّا بِالْمِثْلِ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا الْإِتْلَافُ مِنْ الْغَاصِبِ لَا حَقِيقَةً وَلَا تَقْدِيرًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرَةٌ. وَأَمَّا التَّقْدِيرُ فَلِأَنَّ ذَلِكَ بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ وَالتَّغْيِيبِ عَنْ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقِفُ عَلَى مَكَانِهِ، وَلِهَذَا لَوْ حَبَسَ رَجُلًا حَتَّى ضَاعَتْ مَوَاشِيهِ، وَفَسَدَ زَرْعُهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَالْعَقَارُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَالتَّحْوِيلَ، فَلَمْ يُوجَدْ الْإِتْلَافُ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَيَنْتَفِي الضَّمَانُ لِضَرُورَةِ النَّصِّ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا غَصَبَ عَقَارًا فَجَاءَ إنْسَانٌ فَأَتْلَفَهُ فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعَقَارِ فَيُعْتَبَرُ الْإِتْلَافُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ فِيهِ فَيَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْغَاصِبِ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُتْلِفِ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُتْلِفِ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ. (وَأَمَّا) مَسْأَلَةُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ مَنَعَهَا، وَقَالَ: إنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَنَى الْجَوَابَ عَلَى أَصْلِ نَفْسِهِ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَا يَضْمَنَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَّمَ وَلَا بَأْسَ بِالتَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الرُّجُوعِ ضَمَانُ إتْلَافٍ لَا ضَمَانُ غَصْبٍ وَالْعَقَارُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ بِلَا خِلَافٍ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ صَبِيًّا حُرًّا مِنْ أَهْلِهِ فَمَاتَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ أَصَابَتْهُ، بِأَنْ مَرِضَ فِي يَدِهِ فَمَاتَ، أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَغْصُوبِ مَالًا شَرْطُ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ، وَالْحُرُّ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَوْ مَاتَ فِي يَدِهِ بِآفَةٍ بِأَنْ عَقَرَهُ أَسَدٌ أَوْ نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ يَضْمَنُ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ تَسْبِيبًا، وَالْحُرُّ يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ مُبَاشَرَةً وَتَسْبِيبًا عَلَى مَا نَذْكُرهُ فِي مَسَائِلِ الْإِتْلَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ جَوَازُ بَيْعِهِ إذَا كَانَ مُدَبَّرًا مُطْلَقًا مَعَ كَوْنِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا لِانْعِقَادِ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ لِلْحَالِ. وَفِي الْبَيْعِ إبْطَالُ السَّبَبِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ مُكَاتَبًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَكَانَ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ كَالْمُكَاتَبِ، وَعَلَى أَصْلِهِمَا هُوَ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنُ، وَالْحُرُّ لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ، وَلَوْ غَصَبَ أُمَّ وَلَدٍ إنْسَانٌ فَهَلَكَتْ عِنْدَهُمْ لَمْ يَضْمَنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، وَلَا بِالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَلَا بِالْإِعْتَاقِ كَجَارِيَةٍ بَيْن رَجُلَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ جَمِيعًا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا لَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْعَى هِيَ فِي شَيْءٍ أَيْضًا عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَالْمُدَبَّرِ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ هَلْ هِيَ مُتَقَوِّمَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَالٌ أَمْ لَا وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ بِالْقَتْلِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُدَبَّرَ مُتَقَوِّمٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهَا كَانَتْ مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَالِاسْتِيلَادُ لَا يُوجِبُ الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ؛ لِأَنَّهُ

لَا يَثْبُتُ بِهِ إلَّا حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يُبْطِلُ الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ، كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الِاسْتِيلَادَ إعْتَاقٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ «قَالَ فِي جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ: أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْعِتْقِ لِلْحَالِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، إلَّا أَنَّهُ تَأَخَّرَ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ، فَمَنْ ادَّعَى التَّأَخُّرَ فِي حَقِّ سُقُوطِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَيْسَ بِإِعْتَاقٍ لِلْحَالِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْعِتْقُ لِلْحَالِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ لِلْحَالِ مُبَاشَرَةُ سَبَبِ الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ عِتْقٍ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقْوِيمِ، وَيَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ لِمَا قُلْنَا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ لِذِمِّيٍّ أَوْ لِمُسْلِمٍ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ لَيْسَا بِمَالٍ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا. وَلَوْ دَبَغَهُ الْغَاصِبُ وَصَارَ مَالًا فَحُكْمُهُ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ خَمْرًا لِمُسْلِمٍ أَوْ خِنْزِيرًا لَهُ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ، سَوَاءٌ كَانَ الْغَاصِبُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَكَذَا الْخِنْزِيرُ، فَلَا يَضْمَنَانِ بِالْغَصْبِ. وَلَوْ غَصَبَ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا لِذِمِّيٍّ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ يَضْمَنُ سَوَاءٌ كَانَ الْغَاصِبُ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْلِمًا غَيْرَ أَنَّ الْغَاصِبَ إنْ كَانَ ذِمِّيًّا فَعَلَيْهِ فِي الْخَمْرِ مِثْلُهَا، وَفِي الْخِنْزِيرِ قِيمَتُهُ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا ضَمَانَ عَلَى غَاصِبِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ كَائِنًا مَنْ كَانَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي صِفَةِ الْخُمُورِ أَنَّهُ: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] وَصِفَةُ الْمَحَلِّ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّخْصِ وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لَعَيْنِهَا» أَخْبَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَوْنَهَا مُحَرَّمَةً وَجَعَلَ عِلَّةَ حُرْمَتِهَا عَيْنَهَا، فَتَدُورُ الْحُرْمَةُ مَعَ الْعَيْنِ، وَإِذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً لَا تَكُونُ مَالًا؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَا يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهِ حَقِيقَةً، مُبَاحَ الِانْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ: «فَأَعْلِمُوهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَلِلْمُسْلِمِ الضَّمَانُ إذَا غُصِبَ مِنْهُ خَلُّهُ وَشَاتُه وَنَحْوُ ذَلِكَ إذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِلذِّمِّيِّ الضَّمَانُ إذَا غُصِبَ مِنْهُ خَمْرُهُ أَوْ خِنْزِيرُهُ؛ لِيَكُونَ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى: فَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: الْخَمْرُ مُبَاحٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَكَذَا الْخِنْزِيرُ، فَالْخَمْرُ فِي حَقِّهِمْ كَالْخَلِّ فِي حَقِّنَا، وَالْخِنْزِيرُ فِي حَقِّهِمْ كَالشَّاةِ فِي حَقِّنَا فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ شَرْعًا. فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ، وَدَلِيلُ الْإِبَاحَةِ فِي حَقِّهِمْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِإِقَامَةِ مَصْلَحَةِ الْبَقَاءِ، وَالْأَصْلُ فِي أَسْبَابِ الْبَقَاءِ هُوَ الْإِطْلَاقُ، إلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ تَثْبُتُ نَصًّا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، أَوْ مَعْقُول الْمَعْنَى لِمَعْنًى لَا يُوجَدُ هَاهُنَا، أَوْ يُوجَدُ لَكِنَّهُ يَقْتَضِي الْحِلَّ لَا الْحُرْمَةَ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] لِأَنَّ الصَّدَّ لَا يُوجَدُ فِي الْكَفَرَةِ، وَالْعَدَاوَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، وَلِأَنَّهَا سَبَبُ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُنَازَعَةُ سَبَبُ الْهَلَاكِ، وَهَذَا يُوجِبُ الْحِلَّ لَا الْحُرْمَةَ، فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّهِمْ، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: إنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ، كَمَا هِيَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْأَقْوَالِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَعَلَى هَذَا طَرِيقُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ:. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَمْرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الْحَالِ فَهِيَ بِعَرَضِ أَنْ تَصِيرَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الثَّانِي بِالتَّخَلُّلِ وَالتَّخْلِيلُ، وَوُجُوبُ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ يَعْتَمِدُ كَوْنَ الْمَحَلِّ الْمَغْصُوبِ وَالْمُتْلَفِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي الْجُمْلَةِ وَلَا يَقِفُ عَلَى ذَلِكَ لِلْحَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُهْرَ وَالْجَحْشَ وَمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي الْحَالِ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعْنَا عَنْ التَّعَرُّضِ لَهُمْ بِالْمَنْعِ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: «أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ» ، وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ، وَقَدْ دَانُوا شُرْبَ الْخَمْرِ وَأَكْلَ الْخِنْزِيرِ فَلَزِمَنَا تَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَبَقِيَ الضَّمَانُ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافُ يُفْضِي إلَى التَّعَرُّضِ؛ لِأَنَّ السَّفِيهَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إذَا غَصَبَ أَوْ أَتْلَفَ لَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ يُقْدِمُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ مَنْعُهُمْ وَتَعَرُّضٌ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَ لِمُسْلِمٍ خَمْرٌ غَصَبَهَا ذِمِّيٌّ أَوْ مُسْلِمٌ فَهَلَكَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ أَوْ خَلَّلَهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَهَا يَضْمَنُ خَلًّا مِثْلَهَا؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ حِينَ وُجُودِهِ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْغَاصِبِ صُنْعٌ آخَرُ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ لَيْسَ مِنْ صُنْعِهِ، فَلَا يَضْمَنُ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ

فصل في حكم الغصب

صُنْعٌ آخَرُ سِوَى الْغَصْبِ، وَهُوَ إتْلَافُ خَلٍّ مَمْلُوكٍ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَيَضْمَنُ وَلَوْ غَصَبَ مُسْلِمٌ مِنْ نَصْرَانِيٍّ صَلِيبًا لَهُ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ صَلِيبًا؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى ذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اسْتَخْدَمَ عَبْدُ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، أَوْ بَعَثَهُ فِي حَاجَةٍ، أَوْ قَادَ دَابَّةً لَهُ، أَوْ سَاقَهَا، أَوْ رَكِبَهَا، أَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا أَنَّهُ ضَامِنٌ بِذَلِكَ، سَوَاءٌ عَطِبَ فِي تِلْكَ الْخِدْمَةِ أَوْ فِي مُضِيِّهِ فِي حَاجَتِهِ أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَيْهِ. وَإِذَا أَثْبَتَ يَدَ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ فَقَدْ فَوَّتَ يَدَ الْمَالِكِ فَيَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ وَلَوْ دَخَلَ دَارَ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلَيْسَ فِي الدَّارِ أَحَدٌ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ فِي قَوْلِهِمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ جَلَسَ عَلَى فِرَاشِ غَيْرِهِ أَوْ بِسَاطِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهَلَكَ لَا يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ يَدِ الْمَالِكِ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ النَّقْلِ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْغَصْبُ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي حُكْمُ الْغَصْبِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْغَصْبِ فَلَهُ فِي الْأَصْلِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ، وَالثَّانِي: يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا. أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ فَهُوَ الْإِثْمُ وَاسْتِحْقَاقُ الْمُؤَاخَذَةِ إذَا فَعَلَهُ عَنْ عِلْمٍ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وَارْتِكَابُ الْمَعْصِيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَمُّدِ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طَوَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَإِنْ فَعَلَهُ لَا عَنْ عِلْمٍ، بِأَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مِلْكَهُ فَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَرْفُوعُ الْمُؤَاخَذَةِ شَرْعًا بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا، فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالَ قِيَامِ الْمَغْصُوبِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالِ هَلَاكِهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالِ نُقْصَانِهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالِ زِيَادَتِهِ. (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى حَالِ قِيَامِهِ فَهُوَ وُجُوبُ رَدِّ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْغَاصِبِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِع: فِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الرَّدِّ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَصِيرُ الْمَالِكُ بِهِ مُسْتَرِدًّا أَمَّا السَّبَبُ فَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» ، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ صَاحِبِهِ لَاعِبًا وَلَا جَادًّا، فَإِذَا أَخَذَ أَحَدُكُمْ عَصَا صَاحِبِهِ فَلْيَرُدَّ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ الْأَخْذَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعْصِيَةٌ، وَالرَّدْعُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ بِرَدِّ الْمَأْخُوذِ، وَيَجِبُ رَدُّ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، كَمَا يَجِبُ رَدُّ الْأَصْلِ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الرَّدِّ فِيهِ، وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ضَرُورَاتِ الرَّدِّ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ، كَمَا فِي رَدِّ الْعَارِيَّةِ. (وَأَمَّا) شَرْطُ وُجُوبِ الرَّدِّ فَقِيَامُ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ اُسْتُهْلِكَ صُورَةً وَمَعْنًى، أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً، يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ مِنْ الرَّدِّ إلَى الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْهَالِكَ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا الْغَاصِبُ أَوْ نَوَاةً فَغَرَسَهَا حَتَّى نَبَتَتْ، أَوْ بَاقِلَةً فَغَرَسَهَا حَتَّى صَارَتْ شَجَرَةً، أَوْ بَيْضَةً فَحَضَنَهَا حَتَّى صَارَتْ دَجَاجَةً، أَوْ قُطْنًا فَغَزَلَهُ، أَوْ غَزْلًا فَنَسَجَهُ، أَوْ ثَوْبًا فَقَطَّعَهُ أَوْ خَاطَهُ قَمِيصًا، أَوْ لَحْمًا فَشَوَاهُ أَوْ طَبَخَهُ، أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا أَوْ طَبَخَهَا، أَوْ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا، أَوْ دَقِيقًا فَخَبَزَهُ، أَوْ سِمْسِمًا فَعَصَرَهُ، أَوْ عِنَبًا فَعَصَرَهُ، أَوْ حَدِيدًا فَضَرَبَهُ سَيْفًا، أَوْ سِكِّينًا أَوْ صُفْرًا أَوْ نُحَاسًا فَعَمِلَهُ آنِيَةً، أَوْ تُرَابًا لَهُ قِيمَةٌ فَلَبِنَهُ أَوْ اتَّخَذَهُ خَزَفًا، أَوْ لَبَنًا فَطَبَخَهُ آجِرًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَسْتَرِدَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَيَزُولُ مِلْكُهُ بِضَمَانِ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ، وَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ ذَاتَ الْمَغْصُوبِ وَعَيْنَهُ قَائِمٌ بَعْدَ فِعْلِ الْغَاصِبِ، وَإِنَّمَا فَاتَ بَعْضُ صِفَاتِهِ، فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ، كَمَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَّعَهُ وَلَمْ يَخِطْهُ، أَوْ صِبْغَهُ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَغْصُوبِ كَانَ ثَابِتًا لِلْمَالِكِ، وَالْعَارِضُ وَهُوَ فِعْلُ الْغَاصِبِ مَحْظُورٌ، فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ، فَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ، فَيَبْقَى الْمَغْصُوبُ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ، فَتَبْقَى لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ. (وَلَنَا) أَنَّ فِعْلَ الْغَاصِبِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَقَعَ اسْتِهْلَاكًا لِلْمَغْصُوبِ إمَّا صُورَةً وَمَعْنًى أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً، فَيَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ عَنْهُ، وَتَبْطُلُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ، كَمَا إذَا اسْتَهْلَكَهُ حَقِيقَةً، وَدَلَالَةُ تَحَقُّقِ الِاسْتِهْلَاكِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ قَدْ تَبَدَّلَ وَصَارَ شَيْئًا آخَرَ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِيجَادِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَبْقَ صُورَتُهُ وَلَا مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعُ لَهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَلَا اسْمُهُ، وَقِيَامُ الْأَعْيَانِ بِقِيَامِ صُوَرِهَا

وَمَعَانِيهَا الْمَطْلُوبَةِ مِنْهَا، وَفِي بَعْضِهَا إنْ بَقِيَتْ الصُّورَةُ فَقَدْ فَاتَ مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعُ لَهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ عَادَةً، فَكَانَ فِعْلُهُ اسْتِهْلَاكًا لِلْمَغْصُوبِ صُورَةً وَمَعْنًى أَوْ مَعْنًى فَيَبْطُلُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ، إذْ الْهَالِكُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ كَالْهَالِكِ الْحَقِيقِيِّ، وَلِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ الِاسْتِهْلَاكُ يَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَبْقَى فِي الْهَالِكِ، كَمَا فِي الْهَالِكِ الْحَقِيقِيِّ، فَتَنْقَطِعُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ ضَرُورَةً، وَلِأَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ يُوجِبُ ضَمَانَ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةَ لِلْمَالِكِ لِوُقُوعِهِ اعْتِدَاءً عَلَيْهِ أَوْ إضْرَارًا بِهِ، وَهَذَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْ الْمَغْصُوبِ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا زَالَ مِلْكُ الْمَالِكِ بِالضَّمَانِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْغَاصِبِ فِي الْمَضْمُونِ لِوُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ، وَهُوَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ عَلَى مَالٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ فِعْلَهُ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ مُبَاحٌ لَا حَظَرَ فِيهِ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ لَبَنًا أَوْ آجِرًا أَوْ سَاجَةً فَأَدْخَلَهَا فِي بِنَائِهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ عِنْدَنَا، وَتَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ بِالْقِيمَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ الْمَعْهُودِ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ فِعْلَ الْغَاصِبِ مَحْظُورٌ، فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ، لِكَوْنِ الْمِلْكِ نِعْمَةً وَكَرَامَةً فَالْتَحَقَ فِعْلُهُ بِالْعَدَمِ شَرْعًا فَبَقِيَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، كَمَا كَانَ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمَغْصُوبَ بِالْإِدْخَالِ فِي الْبِنَاءِ وَالتَّرْكِيبِ صَارَ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ الْأَوَّلِ لِاخْتِلَافِ الْمَنْفَعَةِ، إذْ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْمُرَكَّبِ غَيْرُ الْمَطْلُوبِ مِنْ الْمُفْرَدِ، فَصَارَ بِهَا تَبَعًا لَهُ، فَكَانَ الْإِدْخَالُ إهْلَاكًا مَعْنًى فَيُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَيَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ، وَلِأَنَّ الْغَاصِبَ يَتَضَرَّرُ بِنَقْضِ الْبِنَاءِ، وَالْمَالِكُ وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِزَوَالِ مِلْكِهِ أَيْضًا لَكِنْ ضَرَرَهُ دُونَ ضَرَرِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ، فَكَانَ ضَرَرُ الْغَاصِبِ أَعْلَى، فَكَانَ أَوْلَى بِالدَّفْعِ، وَلِهَذَا لَوْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ خَيْطًا فَخَاطَ بِهِ بَطْنَ نَفْسِهِ أَوْ دَابَّتِهِ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ، كَذَا هَذَا وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَوْضُوعَ مَسْأَلَةِ السَّاجَةِ مَا إذَا بَنَى الْغَاصِبُ فِي حَوَالِي السَّاجَةِ لَا عَلَى السَّاجَةِ، فَأَمَّا إذَا بَنَى عَلَى نَفْسِ السَّاجَةِ لَا يَبْطُلُ مِلْكُ الْمَالِكِ، بَلْ يُنْقَضُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرِ الْهِنْدُوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى نَفْسِ السَّاجَةِ، لَمْ يَكُنْ الْغَاصِبُ مُتَعَدِّيًا بِالْبِنَاءِ لِيُنْقَضَ إزَالَةً لِلتَّعَدِّي. وَإِذَا كَانَ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا كَانَ مُتَعَدِّيًا عَلَى السَّاجَةِ، فَيُزَالُ تَعَدِّيهِ بِالنَّقْضِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْخِلَافُ فِي الْفَصْلَيْنِ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّهُ كَيْفَ مَا كَانَ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ السَّاجَةِ، إلَّا بِنَقْضِ الْبِنَاءِ وَلُزُومِ ضَرَرٍ مُعْتَبَرٍ، هَذَا مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ يُمْكِنُهُ الرَّدُّ بِدُونِ ذَلِكَ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ، وَلَوْ بِيعَتْ الدَّارُ فِي حَيَاةِ الْغَاصِبِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَانَ صَاحِبُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فِي الثَّمَن، فَلَا يَكُونُ أَخَصَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ عَنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ، فَبَطَلَ اخْتِصَاصُهُ بِالْعَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ خُوصًا فَجَعَلَهُ زِنْبِيلًا لَا سَبِيلَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّاجَةِ إذَا جَعَلَهَا بِنَاءً، وَلَوْ غَصَبَ نَخْلَةً فَشَقَّهَا فَجَعَلَهَا جُذُوعًا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجُذُوعَ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ قَائِمَةٌ. وَإِنَّمَا فَرَّقَ الْأَجْزَاءَ فَأَشْبَهَ الثَّوْبَ إذَا قَطَعَهُ وَلَمْ يَخِطْهُ، وَلَوْ غَصَبَ أَرْضًا فَبَنَى عَلَيْهَا أَوْ غَرْسَ فِيهَا لَا يَنْقَطِعُ مِلْكُ الْمَالِكِ، وَيُقَالُ لِلْغَاصِبِ أَقْلِعْ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ وَرُدَّهَا فَارِغَةً؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ بِحَالِهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ وَلَمْ تَصِرْ شَيْئًا آخَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَمْ تَتَرَكَّبْ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا جَاوَرَهَا الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ بِخِلَافِ السَّاجَةِ؛ لِأَنَّهَا رُكِّبَتْ وَصَارَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْبِنَاءِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ يُسَمِّي الْكُلَّ بِنَاءً وَاحِدًا، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ تَنْقُصُ بِقَلْعِ ذَلِكَ فَلِلْمَالِكِ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ مَقْلُوعًا، وَيَكُونُ لَهُ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ يَتَضَرَّرُ بِالْمَنْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِالْقَلْعِ، وَالْمَالِكُ أَيْضًا يَتَضَرَّرُ بِنُقْصَانِ مِلْكِهِ، فَلَزِمَ رِعَايَةَ الْجَانِبَيْنِ، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا، وَلَوْ غَصَبَ تِبْرَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَصَاغَهُ إنَاءً، أَوْ ضَرَبَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا يُعْطِيَهُ شَيْئًا لِأَجْلِ الصِّيَاغَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُ مَا غَصَبَ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا سَبَكَهُ وَلَمْ يَصُغْهُ، أَوْ جَعَلَهُ مُرَبَّعًا أَوْ مُطَوَّلًا أَوْ مُدَوَّرًا أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ صُنْعَ الْغَاصِبِ وَقَعَ اسْتِهْلَاكًا؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ بِالصِّيَاغَةِ صَارَ شَيْئًا آخَرَ، فَأَشْبَهَ مَا إذَا غَصَبَ حَدِيدًا فَاتَّخَذَهُ سَيْفًا أَوْ سِكِّينًا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اسْتِهْلَاكَ الشَّيْءِ إخْرَاجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ مَنْفَعَةً مَوْضُوعَةً لَهُ مَطْلُوبَةً مِنْهُ عَادَةً، وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الثَّمَنِيَّةَ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مَا اسْتَحْدَثَ الصَّنْعَةَ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الِاسْتِهْلَاكُ فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلَوْ غَصَبَ صُفْرًا أَوْ نُحَاسًا أَوْ حَدِيدًا فَضَرَبَهُ آنِيَةً يُنْظَرُ إنْ

كَانَ يُبَاعُ وَزْنًا فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِالضَّرْبِ وَالصِّنَاعَةِ عَنْ حَدِّ الْوَزْنِ. وَإِنْ كَانَ يُبَاعُ عَدَدًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مَوْزُونًا بِخِلَافِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ فِيهِمَا أَصْلٌ لَا يُتَصَوَّرُ سُقُوطُهُ أَبَدًا، وَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَّعَهُ وَلَمْ يَخِطْهُ، أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا وَلَمْ يَشْوِهَا وَلَا طَبَخَهَا لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ، إذْ الذَّبْحُ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ، بَلْ هُوَ تَنْقِيصٌ وَتَعْيِيبٌ، فَلَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ، بَلْ يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْمَالِكِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَصِيرُ الْمَالِكُ بِهِ مُسْتَرِدًّا لِلْمَغْصُوبِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْأَصْلُ أَنَّ الْمَالِكَ يَصِيرُ مُسْتَرِدًّا لِلْمَغْصُوبِ بِإِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْصُوبًا بِتَفْوِيتِ يَدِهِ عَنْهُ، فَإِذَا أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَدْ أَعَادَهُ إلَى يَدِهِ فَزَالَتْ يَدُ الْغَاصِبِ ضَرُورَةً، إلَّا أَنْ يَغْصِبَهُ ثَانِيًا. وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ الْمَسَائِلُ إذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ عَبْدًا فَاسْتَخْدَمَهُ، أَوْ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ، أَوْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا أَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا صَارَ مُسْتَرِدًّا لَهُ، وَيَبْرَأُ الْغَاصِبُ مِنْ الضَّمَانِ لِمَا قُلْنَا سَوَاءٌ عَلِمَ الْمَالِكُ أَنَّهُ مِلْكُهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْيَدِ عَلَى الْعَيْنِ أَمْرٌ حِسِّيٌّ لَا يَخْتَلِفُ بِالْعِلْمِ أَوْ الْجَهْلِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ شَرْطًا لِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ، فَلَا يَكُونُ شَرْطًا لِبُطْلَانِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ طَعَامًا فَأَكَلَهُ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَبَطَلَتْ يَدُ الْغَاصِبِ، وَكَذَا إذَا أَطْعَمَهُ الْغَاصِبُ يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَبْرَأُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ غَرَّهُ فِي ذَلِكَ حَيْثُ أَطْعَمَهُ وَلَمْ يُعْلِمْهُ أَنَّهُ مِلْكُهُ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الضَّمَانُ. (وَلَنَا) أَنَّهُ أَكْلَ طَعَامَ نَفْسِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الضَّمَانَ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَاسْتَهْلَكَهُ، وَقَوْلُهُ غَرَّهُ الْغَاصِبُ مَمْنُوعٌ، بَلْ هُوَ الَّذِي اغْتَرَّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ تَنَاوَلَ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ أَنَّهُ مِلْكُهُ أَوْ مِلْكُ الْغَاصِبِ، وَالْمُغْتَرُّ بِنَفْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الضَّمَانَ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ عَبْدًا فَآجَرَهُ مِنْ الْغَاصِبِ لِلْخِدْمَةِ، أَوْ ثَوْبًا فَآجَرَهُ مِنْهُ لِلُبْسِ، أَوْ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ وَقَبِلَ الْغَاصِبُ الْإِجَارَةَ بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ إذَا صَحَّتْ صَارَتْ يَدُ الْغَاصِبِ عَلَى الْمَحَلِّ يَدَ إجَارَةٍ، وَأَنَّهَا يَدٌ مُحِقَّةٌ فَتَبْطُل يَدُ الْغَصْبِ ضَرُورَةً، فَيَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ حِينَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ بِالْإِجَارَةِ، وَقَالُوا فِي الْغَاصِبِ إذَا آجَرَ الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ مِنْ مَوْلَاهُ لِيَبْنِيَ لَهُ حَائِطًا مَعْلُومًا أَنَّهُ يَسْقُطُ ضَمَانُ الْغَصْبِ حِينَ يَبْتَدِئُ بِالْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ عَنْ الضَّمَانِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا مُتَعَلِّقَةٌ بِوُجُوبِ الْأُجْرَةِ، وَالْأُجْرَةُ فِي اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ وَالثَّوْبِ تَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ. وَهَهُنَا تَجِبُ بِالْعَمَلِ لَا بِنَفْسِ التَّخْلِيَةِ؛ لِذَلِكَ افْتَرَقَا، وَلَوْ زَوَّجَ الْأَمَةَ الْمَغْصُوبَةَ مِنْ الْغَاصِبِ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ فِي. قِيَاسِ. قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَبْرَأُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِي هَلْ يَصِيرُ قَابِضًا بِالتَّزْوِيجِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْبَيْعِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْغَاصِبُ لِتَعْلِيمِ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ عَمَلًا مِنْ الْأَعْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ، لَكِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَرِدًّا لِلْعَبْدِ وَلَا يَبْرَأُ الْغَاصِبُ عَنْ الضَّمَانِ، بَلْ هُوَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ عَلَى ضَمَانِهِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ أَوْ بَعْدَهُ ضَمِنَ. وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجِرْهُ لِغَسْلِ الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ هَاهُنَا مَا وَقَعَتْ عَلَى الْمَغْصُوبِ، فَلَمْ تَثْبُتْ يَدُ الْإِجَارَةِ عَلَيْهِ لِتَبْطُلَ عَنْهُ يَدُ الْغَاصِبِ، فَبَقِيَ فِي يَدِ الْغَصْبِ كَمَا كَانَ، فَبَقِيَ مَضْمُونًا كَمَا كَانَ بِخِلَافِ اسْتِئْجَارِ الْمَغْصُوبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِذَا رَدَّ الْغَاصِبُ الثَّانِي الْمَغْصُوبَ عَلَى الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ بَرِئَ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ فَيَصِحُّ الرَّدُّ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ هَلَاكِ الْمَغْصُوبِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ، وَالثَّانِي: مِلْكُ الْغَاصِبِ الْمَضْمُونَ. (أَمَّا) وُجُوبُ الضَّمَانِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْغَاصِبُ عَنْ عُهْدَتِهِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالْمَغْصُوبُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، فَعَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ ضَمَانِ الْغَصْبِ ضَمَانُ اعْتِدَاءٍ، وَالِاعْتِدَاءُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا بِالْمِثْلِ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَالْمِثْلُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى، فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَمِثْلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ جَبْرِ الْفَائِتِ، وَمَعْنَى الْجَبْرِ بِالْمِثْلِ أَكْمَلُ مِنْهُ مِنْ الْقِيمَةِ، فَلَا يَعْدِلُ عَنْ الْمِثْلِ إلَى الْقِيمَةِ إلَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْجَوْزُ وَالْبَيْضُ مَضْمُونَانِ بِالْقِيمَةِ لَا بِالْمِثْلِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ الْمَذْرُوعَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْمِثْلِ صُورَةً وَمَعْنًى؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فَيَجِبُ

الْمِثْلُ مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّهَا الْمِثْلُ الْمُمْكِنُ، وَالْأَصْلُ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ لِلَّذِي لَمْ يُعْتَقْ وَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْعَبْدِ يَكُونُ وَارِدًا فِي إتْلَافِ كُلِّ مَا لَا مِثْلَ لَهُ دَلَالَةً وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) شَرْطُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَشَرْطُ وُجُوبِ ضَمَانِ الْمِثْلِ وَالْقِيمَةِ عَلَى الْغَاصِبِ: عَجْزُهُ عَنْ رَدِّ الْمَغْصُوبِ، فَمَا دَامَ قَادِرًا عَلَى رَدِّهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَخَذَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ: هُوَ وُجُوبُ رَدِّ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ؛ لِأَنَّ بِالرَّدِّ يَعُودُ عَيْنُ حَقِّهِ إلَيْهِ وَبِهِ يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالضَّمَانُ خَلَفٌ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى الْخَلَفِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ رَدِّ الْأَصْلِ، وَسَوَاءٌ عَجَزَ عَنْ الرَّدِّ بِفِعْلِهِ بِأَنْ اسْتَهْلَكَهُ، أَوْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ بِأَنْ اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُهُ، أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ بِأَنْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ إنَّمَا صَارَ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ لَا بِالْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ لَيْسَ صُنْعَهُ، لَكِنْ عِنْدَ الْهَلَاكِ يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَتَقَرَّرُ الْعَجْزُ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ فَيَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا ادَّعَى الْغَاصِبُ هَلَاكَ الْمَغْصُوبِ، وَلَمْ يُصَدِّقْهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ بَيِّنَةً، فَإِنْ أَقَامَهَا وَإِلَّا حَبَسَهُ الْقَاضِي مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ لَأَظْهَرَهُ، ثُمَّ قَضَى عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ ثَبَتَ عَجْزُهُ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ فَيُحْبَسُ، كَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَطُولِبَ بِهِ فَادَّعَى الْإِفْلَاسَ، وَمِنْ شَرْطِ الْخِطَابِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ مَوْجُودًا فِي أَيْدِي النَّاس، حَتَّى لَوْ غَصَبَ شَيْئًا لَهُ مِثْلٌ، ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ لَا يُخَاطَبُ بِأَدَائِهِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَقْدُورٍ، بَلْ يُخَاطَبُ بِالْقِيمَةِ، وَلَوْ اخْتَصَمَا فِي حَالِ انْقِطَاعِهِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُحْكَمُ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ يَخْتَصِمُونَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَوْمَ الْغَصْبِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَوْمَ الِانْقِطَاعِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْغَصْبَ أَوْجَبَ الْمِثْلَ عَلَى الْغَاصِبِ وَالْمَصِيرُ إلَى الْقِيمَةِ لِلتَّعَذُّرِ، وَالتَّعَذُّرُ حَصَلَ بِسَبَبِ الِانْقِطَاعِ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ، كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ ضَمَانِ الْمِثْلِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَالْقِيمَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ هُوَ الْغَصْبُ، وَالْحُكْمُ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِ سَبَبِهِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّ الْوَاجِبَ كَانَ مِثْلَ الْمَغْصُوبِ، وَبِالِانْقِطَاعِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ لَمْ يَبْطُلْ الْوَاجِبُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا ثَبَتَ يَبْقَى لِتَوَهُّمِ الْفَائِدَةِ، وَتَوَهُّمُ الْعَوْدِ هَهُنَا ثَابِتٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يَخْتَارَ الِانْتِظَارَ إلَى وَقْتِ إدْرَاكِهِ فَيَأْخُذَ الْمِثْلَ، وَإِذَا بَقِيَ الْمِثْلُ وَاجِبًا بَعْدَ الِانْقِطَاعِ فَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ حَقُّهُ مِنْ الْمِثْلِ إلَى الْقِيمَةِ بِالْخُصُومَةِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْخُصُومَةِ، فَأَمَّا عِلْمُ الْغَاصِبِ بِكَوْنِ الْمَغْصُوبِ مِلْكَ غَيْرِهِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، حَتَّى لَوْ أَخَذَ مَالًا عَلَى وَجْهٍ يَحِقُّ لَهُ أَخْذُهُ ظَاهِرًا وَفِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِهِ، كَمَا إذَا اشْتَرَى شَيْئًا أَوْ مَلَكَهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَتَصَرَّفَ فِيهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ يَضْمَنُ لَكِنْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ، وَهُوَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمُؤَاخَذَةِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] . (وَأَمَّا) وَقْتُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَوَقْتُ وُجُودِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِالْغَصْبِ، وَوَقْتُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ: وَقْتُ وُجُودِ سَبَبِهِ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمَغْصُوبِ يَوْمَ الْغَصْبِ، حَتَّى لَا يَتَغَيَّرَ بِتَغَيُّرِ السِّعْرِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَلَا تَغَيُّرِ الْمَحَلِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَرَاجُعَ السِّعْرِ لِفُتُورٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْغَاصِبُ عَنْ عُهْدَةِ الضَّمَانِ: فَاَلَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ عُهْدَتِهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَدَاءُ الضَّمَانِ إلَى الْمَالِكِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي طَرِيقِ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ أَدَاؤُهُ، وَلَوْ هَلَكَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ الثَّانِي فَأَدَّى الْقِيمَةَ إلَى الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ لِلْمَالِكِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا بِالْأَدَاءِ إلَى الْمَالِكِ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ الضَّمَانَ خَلَفٌ عَنْ الْعَيْنِ قَائِمٌ مَقَامَهُ، ثُمَّ لَوْ رَدَّ الْعَيْنَ بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ، فَكَذَا إذَا رَدَّ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رَدُّ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالثَّانِي الْإِبْرَاءُ وَهُوَ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ دَلَالَةً. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ: أَبْرَأْتُكَ عَنْ الضَّمَانِ، أَوْ أَسْقَطْتُهُ عَنْكَ، أَوْ وَهَبْتُهُ مِنْكَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَيَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ فَيَسْقُطُ. وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يَخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَ أَحَدِ الْغَاصِبَيْنِ فَيَبْرَأُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ تَضْمِينِ أَحَدِهِمَا إبْرَاءٌ لِلْآخَرِ دَلَالَةً لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ

فَيَبْرَأُ إمَّا بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ، أَوْ بِشَرِيطَةِ رِضَا مَنْ اخْتَارَ تَضْمِينَهُ، أَوْ الْقَضَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا. وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ ضَمَانِ الْعَيْنِ وَهِيَ قَائِمَةٌ فِي يَدِهِ صَحَّ الْإِبْرَاءُ وَسَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَصِحُّ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ، وَإِسْقَاطُ الْأَعْيَانِ لَا يُعْقَلُ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَتْ الْعَيْنُ مَضْمُونَةً كَمَا كَانَتْ، وَإِذَا هَلَكَتْ ضَمِنَ. (وَلَنَا) أَنَّ الْعَيْنَ صَارَتْ مَضْمُونَةً بِنَفْسِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ هَذَا إبْرَاءً عَنْ الضَّمَانِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ فَيَصِحُّ، كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَلَوْ أَجَّلَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْغَاصِبَ بِبَدَلِ الْغَصْبِ صَحَّ التَّأْجِيلُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَصِحُّ اسْتِدْلَالًا بِالْقَرْضِ. (وَلَنَا) أَنَّ عَدَمَ اللُّزُومِ فِي الْقَرْضِ لِكَوْنِهِ جَارِيًا مَجْرَى الْإِعَارَةِ لِمَا بُيِّنَ فِي كِتَابِ الْقَرْضِ، وَالْأَجَلُ لَا يَلْزَمُ فِي الْعَوَارِيّ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْغَصْبِ فَيَلْزَمُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ لُزُومُ التَّأْجِيلِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ وَهُوَ الدَّيْنُ، إلَّا أَنَّ عَدَمَ اللُّزُومِ فِي بَابِ الْقَرْضِ لِضَرُورَةِ الْإِعَارَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا فَيَلْزَمُ عَلَى الْأَصْلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) مِلْكُ الْغَاصِبِ الْمَضْمُون فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ أَنَّهُ سَبَبٌ أَمْ لَا، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِهِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يَثْبُتُ إذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلثُّبُوتِ ابْتِدَاءً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَثْبُتُ أَصْلًا، حَتَّى أَنَّ مَنْ غَصَبَ عَبْدًا وَاكْتَسَبَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، ثُمَّ هَلَكَ الْعَبْدُ وَضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ فَالْكَسْبُ مِلْكٌ لِلْغَاصِبِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ مِلْكٌ لِلْمَالِكِ، وَلَوْ أَبَقَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ مِنْ يَدِ الْغَاصِبِ وَعَجَزَ عَنْ رَدِّهِ إلَى الْمَالِكِ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ انْتَظَرَ إلَى أَنْ يَظْهَرَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَنْتَظِرْ وَضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ، وَلَوْ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ يُنْظَرُ إنْ أَخَذَ صَاحِبُهُ الْقِيمَةَ بِقَوْلِ نَفْسِهِ الَّتِي سَمَّاهَا وَرَضِيَ بِهَا، أَوْ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَيْهِ، أَوْ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ، أَوْ بِنُكُولِ الْغَاصِبِ عَنْ الْيَمِينِ، فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَأْخُذُ عَبْدَهُ بِعَيْنِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مُدَبَّرًا يَعُودُ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ بِالْإِجْمَاعِ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَالِكَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ، وَالْغَصْبُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ، وَالْمِلْكُ نِعْمَةٌ وَكَرَامَةٌ فَلَا يُسْتَفَادُ بِالْمَحْظُورِ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يُقَابِلُ الْعَيْنَ، وَإِنَّمَا يُقَابِلُ الْيَدَ الْفَائِتَةَ، فَلَا تُمْلَكُ بِهِ الْعَيْنُ، كَمَا فِي غَصْبِ الْمُدَبَّرِ. (وَلَنَا) أَنَّ مِلْكَ الْغَاصِبِ يَزُولُ عَنْ الضَّمَانِ، فَلَوْ لَمْ يَزُلْ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْ الْمَضْمُونِ لَمْ يَكُنْ الِاعْتِدَاءُ بِالْمِثْلِ، وَلِأَنَّهُ إذَا زَالَ مِلْكُ الْغَاصِبِ عَنْ الضَّمَانِ وَأَنَّهُ بَدَلُ الْمَغْصُوبِ؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِقِيمَتِهِ وَمَلَكَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَدَلَ بِكَمَالِهِ لَوْ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْ الْمَغْصُوبِ لَاجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ الْمَالِكِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. وَإِذَا زَالَ مِلْكُ الْمَالِكِ عَنْ الْمَغْصُوبِ فَالْغَاصِبُ أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَى مَالٍ قَابِلٍ لَلْمِلْكِ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهِ، فَيَمْلِكُهُ كَمَا يَمْلِكُ الْحَطَبَ وَالْحَشِيشَ بِإِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِمَا، وَبِهِ تَبَيَّنَّ أَنَّ مَا هُوَ سَبَبُ الْمِلْكِ فَهُوَ مُبَاحٌ لَا حَظْرَ فِيهِ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْمِلْكُ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ فَيَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ، لَكِنْ لَا يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحِلِّ التَّمَلُّكَ ابْتِدَاءً، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ أَخَذَ صَاحِبُهُ الْقِيمَةَ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ بِأَنْ اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ وَقَضَى الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ وَبِيَمِينِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ، ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِالْمَأْخُوذِ وَتَرَكَ الْعَبْدَ عِنْدَ الْغَاصِبِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْمَأْخُوذَ وَأَخَذَ الْعَبْدَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ بَعْضُ بَدَلِ الْعَيْنِ لَا كُلُّهُ، فَلَمْ يَمْلِكْ بَدَلَ الْمَغْصُوبِ بِكَمَالِهِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ أَرَادَ اسْتِرْدَادَ الْعَبْدِ، فَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَحْبِسَ الْعَبْدَ، حَتَّى يَأْخُذَ الْقِيمَةَ. وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ قَبْلَ رَدِّ الْقِيمَةِ لَا يَرُدُّ الْقِيمَةَ وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِنْ الْغَاصِبِ فَضْلَ الْقِيمَةِ إنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ فَضْلٌ عَلَى مَا أَخَذَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْلٌ، فَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَى الْقِيمَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ الْعَبْدُ وَقِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِمَّا قَالَهُ الْغَاصِبُ فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ مَا قَالَ الْغَاصِبُ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، فَلَا سَبِيلَ لِصَاحِبِهِ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا فَصَّلَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ بِهَذَا الْبَدَلِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَثْبَتَ الْخِيَارَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي زِيَادَةِ الْقِيمَةِ فَادَّعَى الْغَاصِبُ أَنَّهَا حَدَثَتْ بَعْدَ التَّضْمِينِ، وَادَّعَى الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَهُ، كَانَ الْجَصَّاصُ يَقُولُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ قَدْ صَحَّ فَلَا يَفْسَخُ الشَّكُّ. (وَأَمَّا) وَقْتُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ: فَهُوَ وَقْتُ وُجُودِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الضَّمَانِ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْغَصْبِ. فَكَذَا

فِي الْمَضْمُونِ، فَيَظْهَرُ فِي الْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ وَالرِّبْحِ. وَأَمَّا شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْمَضْمُونِ فَمَا هُوَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الضَّمَانِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الضَّمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْمَغْصُوبُ قَبْلَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ لَا يَخْتَارَ الضَّمَانَ، حَتَّى يَهْلَكَ الْمَغْصُوبُ عَلَى مِلْكِهِ وَيَكُونُ لَهُ ثَوَابُ هَلَاكِهِ عَلَى مِلْكِهِ وَيُخَاصِمُ الْغَاصِبَ فِي الْقِيمَةِ لَهُ ذَلِكَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ فِي الضَّمَانِ وَالْمَضْمُونِ جَمِيعًا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُبْنَى الصُّلْحُ عَنْ الْمَغْصُوبِ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ عَلَى أَضْعَافِ قِيمَتِهِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ. (وَوَجْهُ) الْبِنَاءِ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الضَّمَانُ بِنَفْسِ الْهَلَاكِ عِنْدَهُمَا وَهُوَ مَالٌ مُقَدَّرٌ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ تَكُونُ رِبًا، وَلَمَّا تَوَقَّفَ الْوُجُوبُ عَلَى اخْتِيَارِ الْمَالِكِ عِنْدَهُ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الِاخْتِيَارُ، كَانَ الصُّلْحُ تَقْدِيرًا لِقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ هَذَا الْقَدْر، وَتَمْلِيكًا لِلْمَغْصُوبِ بِهِ، كَأَنَّهُ بَاعَهُ مِنْ الْغَاصِبِ بِهِ، فَجَازَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) صِفَةُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْغَاصِبِ فِي الْمَضْمُونِ: فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ لَهُ يَظْهَرُ فِي حَقِّ نَفَاذِ التَّصَرُّفَاتِ، حَتَّى لَوْ بَاعَهُ، أَوْ وَهَبَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ يَنْفُذُ، كَمَا تَنْفُذُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ فِي الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِأَنْ يَأْكُلَهُ بِنَفْسِهِ، أَوْ يُطْعِمَهُ غَيْرَهُ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ، فَإِذَا حَصَلَ فِيهِ فَضْلٌ هَلْ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ، حَتَّى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ وَلَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقَ بِالْفَضْلِ إنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اسْتِحْسَانٌ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْغَاصِبِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، فَلَا مَعْنَى لِلْمَنْعِ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَتَوْقِيفِ الْحِلِّ عَلَى رِضَا غَيْرِ الْمَالِكِ، كَمَا فِي سَائِرِ أَمْلَاكِهِ، وَيَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ؛ لِأَنَّهُ رِبْحُ مَا هُوَ مَضْمُونٌ وَمَمْلُوكٌ، وَرِبْحُ مَا هُوَ مَضْمُونٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ يَطِيبُ لَهُ عِنْدَهُ لِمَا نَذْكُرُ، فَرِبْحُ الْمَمْلُوكِ الْمَضْمُونِ أَوْلَى. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَضَافَهُ قَوْمٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَدَّمُوا إلَيْهِ شَاةً مَصْلِيَّةً فَجَعَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَمْضُغُهُ وَلَا يُسِيغُهُ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّ هَذِهِ الشَّاةَ لَتُخْبِرُنِي أَنَّهَا ذُبِحَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَقَالُوا: هَذِهِ الشَّاةُ لِجَارٍ لَنَا ذَبَحْنَاهَا لِنُرْضِيَهُ بِثَمَنِهَا، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَطْعِمُوهَا الْأُسَارَى، أَمَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِأَنْ يُطْعِمُوهَا الْأُسَارَى» ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ وَلَا أَطْلَقَ لِأَصْحَابِهِ الِانْتِفَاعَ بِهَا، وَلَوْ كَانَ حَلَالًا طَيِّبًا لَأَطْلَقَ مَعَ خَصَاصَتِهِمْ وَشِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إلَى الْأَكْلِ، وَلِأَنَّ الطَّيِّبَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ. وَفِي هَذَا الْمِلْكِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ، وَالْمُسْتَنَدُ يَظْهَرُ مِنْ وَجْهٍ وَيَقْتَصِرُ عَلَى الْحَالِ مِنْ وَجْهٍ، فَكَانَ فِي وُجُودِهِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ وَالطَّيِّبُ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ مِنْ وَجْهٍ حَصَلَ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ، أَوْ وَقَعَ مَحْظُورًا بِابْتِدَائِهِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ خُبْثٍ، وَلِأَنَّ إبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ قَبْلَ الْإِرْضَاءِ يُؤَدِّي إلَى تَسْلِيطِ السُّفَهَاءِ عَلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَفَتْحِ بَابِ الظُّلْمِ عَلَى الظَّلَمَةِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالدَّقِيقِ، حَتَّى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ وَلَوْ غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرْعَهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، حَتَّى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ وَيَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يُكْرَهُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ، وَلَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ فَظَاهِرُ هَذَا الْإِطْلَاقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُمَا يُكْرَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، حَتَّى يَرْضَى صَاحِبُهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ، وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الزَّرْعِ وَالطَّحْنِ فَقَالَ فِي الطَّحْنِ مِثْلَ قَوْلِهِمَا: أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، حَتَّى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ لَمْ تَهْلَكْ بِالطَّحْنِ، وَإِنَّمَا تَغَيَّرَتْ صِفَتُهَا مِنْ التَّرْكِيبِ إلَى التَّفْرِيقِ، فَكَأَنَّ عَيْنَ الْحِنْطَةِ قَائِمَةٌ، فَكَانَ حَقُّ الْمَالِكِ فِيهَا قَائِمًا خِلَافَ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ يَهْلَكُ بِالزِّرَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَغِيبُ فِي الْأَرْضِ فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا، فَلَمْ يَبْقَ لِلْمَالِكِ فِيهِ حَقٌّ، فَلَمْ يُكْرَهْ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ غَصَبَ نَوًى فَصَارَ نَخْلًا أَنَّهُ يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ، كَمَا فِي الْحِنْطَةِ إذَا زَرَعَهَا. وَقَالَ فِي الْوَدِيِّ إذَا غَرَسَهُ فَصَارَ نَخْلًا أَنَّهُ يُكْرَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، حَتَّى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ؛ لِأَنَّ النَّوَى يَعْفَنُ وَيَهْلَكُ، وَالْوَدِيُّ يَزِيدُ فِي نَفْسِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الشَّاةِ إذَا ذَبَحَهَا فَشَوَاهَا أَنَّهُ لَا يَسَعُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهَا وَلَا يُطْعِمَ أَحَدًا، حَتَّى يَضْمَنَ الْقِيمَةَ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا غَائِبًا، أَوْ حَاضِرًا لَا يَرْضَى بِالضَّمَانِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهَا، وَإِذَا دَفَعَ الْغَاصِبُ

قِيمَتَهَا يَحِلُّ لَهُ الْأَكْلُ كَذَلِكَ إذَا ضَمَّنَهُ الْمَالِكُ الْقِيمَةَ، أَوْ ضَمَّنَهُ الْحَاكِمُ، وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِاخْتِلَافِ رِوَايَةٍ، بَلْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَفْسِيرٌ لِلْأُولَى؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ، حَتَّى يَرْضَى صَاحِبُهُ بِحِلِّهِ يَحْتَمِلُ الْإِرْضَاءَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَيَحْتَمِلُ الْإِرْضَاءَ بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ. فَالْمَذْكُورُ هَهُنَا مُفَسَّرٌ فَيُحْمَلُ الْمُجْمَلُ عَلَى الْمُفَسَّرِ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: حَتَّى يُرْضِيَهُ عَلَى الْإِرْضَاءِ بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ، وَرِضَاهُ لَا عَلَى الْإِرْضَاءِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ قَبْلَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ، وَيَحِلُّ بَعْدَهُ سَوَاءٌ أَدَّى الضَّمَانَ أَوْ لَا، وَهَذَا قَوْلُهُمَا، وَهُوَ. قِيَاسُ. قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الشَّاةِ الْمَشْوِيَّةِ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فَيَأْكُلُهَا وَيُطْعِمُهَا مَنْ شَاءَ سَوَاءٌ أَدَّى الضَّمَانَ أَمْ لَا، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا أَدَّى الضَّمَانَ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْأَكْلُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَبْرَأَهُ عَنْ الضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ إذَا ضَمَّنَهُ الْمَالِكُ الْقِيمَةَ، أَوْ ضَمَّنَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُضَمِّنُهُ، إلَّا بَعْدَ طَلَبِهِ، فَكَانَ مِنْهُ اخْتِيَارًا لِلضَّمَانِ وَرِضًا بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ عَبْدًا فَاسْتَغَلَّهُ فَنَقَصَتْهُ الْغَلَّةُ أَنَّهُ يَضْمَنُ النُّقْصَانَ وَالْغَلَّةَ لَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا فِي قَوْلِهِمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ طَيِّبَةٌ أَمَّا ضَمَانُ النُّقْصَانِ فَلِأَنَّ الِاسْتِغْلَالَ وَقَعَ إتْلَافًا، فَيَضْمَنُ قَدْرَ مَا أَتْلَفَ وَيَطِيبُ لَهُ قَدْرُ الْمَضْمُونِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَيْسَ بِرِبْحٍ وَالنَّهْيُ وَقَعَ عَنْ الرِّبْحِ. (وَأَمَّا) الْغَلَّةُ فَلِلْغَاصِبِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْمَالِكِ، وَهِيَ فُرَيْعَةُ مَسْأَلَةِ الْمَنَافِعِ، وَقَدْ مَرَّتْ فِي مَوْضِعِهَا. (وَأَمَّا) التَّصَدُّقُ بِالْغَلَّةِ وَهِيَ الْأُجْرَةُ عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهَا خَبِيثَةٌ لِحُصُولِهَا بِسَبَبٍ خَبِيثٍ، فَكَانَ سَبِيلُهَا التَّصَدُّقَ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَهَذَا رِبْحٌ مَضْمُونٌ، وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّحْرِيمَ لِعَدَمِ الضَّمَانِ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فَوْقَ الضَّمَانِ، وَلَوْ غَصَبَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا كُرًّا فَنَقَصَتْهَا الزِّرَاعَةُ، وَأَخْرَجَتْ ثَلَاثَةَ أَكْرَارٍ، يَغْرَمُ النُّقْصَانَ وَيَأْخُذُ رَأْسَ الْمَالِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ أَمَّا ضَمَانُ النُّقْصَانِ فَلِأَنَّ الْغَاصِبَ نَقَصَ الْأَرْضَ بِالزِّرَاعَةِ، وَذَلِكَ إتْلَافٌ مِنْهُ، وَالْعَقَارُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ فَلِحُصُولِهِ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ، وَهِيَ الزِّرَاعَةُ فِي أَرْضِ الْغَصْبِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِلْكًا لَهُ، وَيَطِيبُ لَهُ قَدْرُ النُّقْصَانِ وَقَدْرُ الْبَذْرِ لَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ الرِّبْحِ، وَذَا لَيْسَ بِرِبْحٍ فَلَمْ يَحْرُمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ أَلْفًا فَاشْتَرَى جَارِيَةً فَبَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ، ثُمَّ اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ جَارِيَةً فَبَاعَهَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ الرِّبْحِ فِي قَوْلِهِمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ مَضْمُونٌ مَمْلُوكٌ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ يَمْلِكُهُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْغَصْبِ وَمُجَرَّدُ الضَّمَانِ يَكْفِي لِلطَّيِّبِ، فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَ الضَّمَانُ وَالْمِلْكُ وَهُمَا يَقُولَانِ الطَّيِّبَ، كَمَا لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الضَّمَانِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْمِلْكِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَفِي هَذَا الْمِلْكِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَلَا يُفِيدُ الطَّيِّبُ. وَلَوْ اشْتَرَى بِالْأَلْفِ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَوَهَبَهَا، أَوْ اشْتَرَى بِهِ طَعَامًا يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَأَكَلَهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الرِّبْحُ، وَلِأَنَّ الْخَبَثَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِشُبْهَةِ عَدَمِ الْمِلْكِ، وَالشُّبْهَةُ تُوجِبُ التَّصَدُّقَ أَمَا لَا تُوجِبُ التَّضْمِينَ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا خَلَطَ الْمُسْتَوْدِعُ إحْدَى الْوَدِيعَتَيْنِ بِالْأُخْرَى خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ أَنَّ الْمَخْلُوطَ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَكِنْ لَا يَطِيبُ لَهُ، حَتَّى يُرْضِيَ صَاحِبَهُ عَلَى مَا نَذْكُرهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ اشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ شَيْئًا هَلْ يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ أَوْ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ؟ . ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ يُشِيرَ إلَيْهَا وَيَنْقُدَ مِنْهَا، وَإِمَّا أَنْ يُشِيرَ إلَيْهَا وَيَنْقُدَ مِنْ غَيْرِهَا، وَإِمَّا أَنْ يُشِيرَ إلَى غَيْرِهَا وَيَنْقُدَ مِنْهَا، وَإِمَّا أَنْ يُطْلِقَ إطْلَاقًا وَيَنْقُدَ مِنْهَا، وَإِذَا ثَبَتَ الطَّيِّبُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا، إلَّا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا وَالنَّقْدِ مِنْهَا، وَذَكَرَ أَبُو نَصْرٍ الصَّفَّارُ وَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَطِيبُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا، وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَطِيبُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي نَصْرٍ وَأَبِي اللَّيْثِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي دَرَاهِمُ مُطَلَّقَةٌ، وَالْمَنْقُودَةُ بَدَلٌ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ، أَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الْإِشَارَةِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا عِنْدَ الْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى الدَّرَاهِمِ لَا تُفِيدُ التَّعْيِينَ، فَالْتَحَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا بِالْعَدَمِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ دَرَاهِمَ مُطْلَقَةً، وَالدَّرَاهِمُ الْمَنْقُودَةُ بَدَلًا عَنْهَا، فَلَا يَخْبُثُ الْمُشْتَرَى، وَالْكَرْخِيُّ كَذَلِكَ يَقُولُ: إذَا لَمْ تَتَأَكَّدْ الْإِشَارَةُ بِمُؤَكَّدٍ وَهُوَ النَّقْدُ مِنْهَا فَإِذَا تَأَكَّدَتْ بِالنَّقْدِ مِنْهَا تَعَيَّنَ الْمُشَارُ إلَيْهِ، فَكَانَ الْمَنْقُودُ بَدَلَ الْمُشْتَرَى، فَكَانَ خَبِيثًا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ اسْتَفَادَ بِالْحَرَامِ مِلْكًا مِنْ طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، أَوْ الشُّبْهَةِ

فَيَثْبُتُ الْخَبَثُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إنْ أَشَارَ إلَى الدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ إنْ كَانَ لَا يَتَعَيَّنُ فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ يَتَعَيَّنُ فِي حَقِّ جَوَازِ الْعَقْدِ بِمَعْرِفَةِ جِنْسِ النَّقْدِ وَقَدْرِهِ، فَكَانَ الْمَنْقُودُ بَدَلَ الْمُشْتَرَى مِنْ وَجْهٍ نُقِدَ مِنْهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا. وَإِنْ لَمْ يُشِرْ إلَيْهَا وَنَقَدَ مِنْهَا، فَقَدْ اسْتَفَادَ بِذَلِكَ سَلَامَةَ الْمُشْتَرَى فَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فَيَخْبُثُ الرِّبْحُ، وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْجَامِعَيْنِ وَالْمُضَارَبَةُ دَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ اخْتَارَ الْفَتْوَى فِي زَمَانِنَا بِقَوْلِ الْكَرْخِيِّ تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ لِازْدِحَامِ الْحَرَامِ، وَجَوَابُ الْكُتُبِ أَقْرَبُ إلَى التَّنَزُّهِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَلِأَنَّ دَرَاهِمَ الْغَصْبِ مُسْتَحَقَّةُ الرَّدِّ عَلَى صَاحِبِهَا، وَعِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصْلِ، فَتُبَيِّنَ أَنَّ الْمُشْتَرَى كَانَ مَقْبُوضًا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَلَمْ يَحِلَّ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَلَوْ تَزَوَّجَ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ امْرَأَةً وَسِعَهُ أَنْ يَطَأَهَا، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ يَنْفَسِخُ الشِّرَاءُ، وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ ثَوْبًا فَاشْتَرَى بِهِ جَارِيَةً لَا يَسَعُهُ أَنْ يَطَأهَا، وَلَوْ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ امْرَأَةً حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ نُقْصَانِ الْمَغْصُوبِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ مَا يَكُونُ مَضْمُونًا مِنْ النُّقْصَانِ، وَمَا لَا يَكُونُ مَضْمُونًا مِنْهُ وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ طَرِيقِ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إذَا عَرَضَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مَا يُوجِبُ نُقْصَانَ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ، وَالْعَارِضُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ السِّعْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَوَاتَ جُزْءٍ مِنْ الْمَغْصُوبِ، أَوْ فَوَاتَ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فِيهَا، أَوْ مَعْنًى مَرْغُوبٍ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ السِّعْرِ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ نُقْصَانُ الْمَغْصُوبِ، وَنُقْصَانُ السِّعْرِ لَيْسَ بِنُقْصَانِ الْمَغْصُوبِ، بَلْ لِفُتُورٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا. وَإِنْ كَانَ فَوَاتُ جُزْءٍ مِنْ الْمَغْصُوبِ، أَوْ فَوَاتُ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فِيهَا، أَوْ مَعْنًى مَرْغُوبٍ فِيهِ فَالْمَغْصُوبُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا يَكُونُ مَضْمُونًا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِيهِ صُنْعٌ وَلَا اخْتِيَارٌ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ بَعْضُ الْمَغْصُوبِ صُورَةً وَمَعْنًى، أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً وَهَلَاكُ كُلِّ الْمَغْصُوبِ مَضْمُونٌ بِكُلِّ الْقِيمَةِ، فَهَلَاكُ بَعْضِهِ يَكُونُ مَضْمُونًا بِقَدْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ جَبْرِ الْفَائِتِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْفَوَاتِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا سَقَطَ عُضْوٌ مِنْ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ لَحِقَهُ زَمَانَةٌ، أَوْ عَرَجٌ، أَوْ شَلَلٌ، أَوْ عَمَى، أَوْ عَوَرٌ، أَوْ صَمَمٌ، أَوْ بَكَمٌ، أَوْ حُمَّى، أَوْ مَرَضٌ آخَرُ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ الْمَوْلَى وَيُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ لِوُجُودِ فَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الْبَدَنِ، أَوْ فَوَاتِ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فِيهَا، وَلَوْ زَالَ الْبَيَاضُ مِنْ عَيْنِهِ فِي يَدِ الْمُولَى، أَوْ أَقْلَعَ الْحُمَّى رَدَّ عَلَى الْغَاصِبِ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ بِسَبَبِ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ النُّقْصَانَ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ الِانْتِفَاعِ عَلَى طَرِيقِ الدَّوَامِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَبَقَ الْمَغْصُوبُ مِنْ يَدِ الْغَاصِبِ مِنْ عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ أَبَقَ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ زَنَتْ الْجَارِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ، أَوْ سَرَقَتْ إذَا لَمْ تَكُنْ زَنَتْ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِفَوَاتِ مَعْنًى مَرْغُوبٍ فِيهِ وَهُوَ الصِّيَانَةُ عَنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ عُيُوبًا مُوجِبَةً لِلرَّدِّ فِي بَابِ الْبَيْعِ، وَجُعْلُ الْآبِقِ عَلَى الْمَالِكِ، وَهَلْ يُرْجَعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يُرْجَعُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُرْجَعُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْجُعْلَ مِنْ ضَرُورَاتِ رَدِّ الْمَغْصُوبِ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْمَغْصُوبِ وَاجِبٌ عَلَى الْغَاصِبِ وَلَا يُمْكِنُهُ الرَّدُّ إلَّا بِإِعْطَاءِ الْجُعْلِ، فَكَانَ مِنْ ضَرُورَاتِ الرَّدِّ فَيَكُونُ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ الرَّدِّ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْجُعْلَ إنَّمَا يَجِبُ بِحَقِّ الْمَالِكِ، وَالْمِلْكُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَيَكُونُ الْجُعْلُ عَلَيْهِ كَمُدَاوَاةِ الْجِرَاحَةِ. وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ، أَوْ الْجَارِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ قَتِيلًا، أَوْ جَنَى عَلَى حُرٍّ، أَوْ عَبْدٍ فِي نَفْسٍ، أَوْ مَا دُونَهَا جِنَايَةً رُدَّ إلَى مَوْلَاهُ، وَيُقَالُ لَهُ ادْفَعْهُ بِجِنَايَتِهِ، أَوْ افْدِهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ وَيَرْجِعُ الْمُولَى عَلَى الْغَاصِبِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الضَّمَانَ إنَّمَا وَجَبَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِهِ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَ لِرَجُلٍ مَالًا يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالْبَيْعِ، أَوْ الْفِدَاءِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِمَّا أَدَّاهُ عَنْهُ مِنْ الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ قَتَلَ الْمَغْصُوبُ نَفْسَهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ بِالْغَصْبِ، وَلَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ بِقَتْلِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ نَفْسَهُ هَدَرٌ فَصَارَ كَمَوْتِهِ حَتْفَ أَنْفِهِ وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ أَمَةً فَوَلَدَتْ، ثُمَّ قَتَلَتْ وَلَدَهَا، ثُمَّ مَاتَتْ ضَمِنَ قِيمَةَ الْأُمِّ وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ. وَكَذَلِكَ إذَا كَبِرَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مِنْ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ بِأَنْ غَصَبَ عَبْدًا شَابًّا فَشَاخَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، أَوْ جَارِيَةً شَابَّةً فَصَارَتْ

عَجُوزًا فِي يَدِهِ ضَمِنَ النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّ الْكِبَرَ يُوجِبُ فَوَاتَ جُزْءٍ، أَوْ صِفَةٍ مَرْغُوبٍ فِيهَا، وَكَذَلِكَ إذَا غَصَبَ جَارِيَةً نَاهِدًا فَانْكَسَرَ ثَدْيُهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ نُهُودَ الثَّدْيَيْنِ صِفَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا، أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ: 33] وَأَمَّا نَبَاتُ اللِّحْيَةِ لِلْأَمْرَدِ فَلَيْسَ بِمَضْمُونٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنُقْصَانٍ، بَلْ هُوَ زِيَادَةٌ فِي الرِّجَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ حَلْقَ اللِّحْيَةِ يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ عَبْدًا قَارِئًا فَنَسَى الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، أَوْ مُحْتَرِفًا فَنَسَى الْحِرْفَةَ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْقُرْآنِ وَالْحِرْفَةِ مَعْنًى مَرْغُوبٌ فِيهِ. وَأَمَّا حَبَلُ الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ بِأَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَحَبَلَتْ فِي يَدِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى أَحْبَلَهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ بِفِعْلِ الْمَوْلَى، فَلَا يَضْمَنُهُ الْغَاصِبُ، كَمَا لَوْ قَتَلَهَا الْمَوْلَى فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَبَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مِنْ زَوْجٍ كَانَ لَهَا فِي يَدِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ مِنْ الزَّوْجِ حَصَلَ بِتَسْلِيطِ الْمَوْلَى فَصَارَ كَأَنَّهُ حَصَلَ مِنْهُ، أَوْ حَدَثَ فِي يَدِهِ، وَإِنْ حَبَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مِنْ زِنًا أَخَذَهَا الْمَوْلَى وَضَمَّنَهُ نُقْصَانَ الْحَبَلِ، وَالْكَلَامُ فِي قَدْرِ الضَّمَانِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُنْظَرُ إلَى مَا نَقَّصَهَا الْحَبَلُ وَإِلَى أَرْشِ عَيْبِ الزِّنَا فَيَضْمَنُ الْأَكْثَرَ وَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِيهِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْحَبَلَ وَالزِّنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْبٌ عَلَى حِدَةٍ، فَكَانَ النُّقْصَانُ الْحَاصِلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نُقْصَانًا عَلَى حِدَةٍ، فَيُفْرَدُ بِضَمَانٍ عَلَى حِدَةٍ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الضَّمَانَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْحَبَلِ إنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الزِّنَا، فَلَمْ يَكُنْ نُقْصَانًا بِسَبَبٍ عَلَى حِدَةٍ، حَتَّى يُفْرَدَ بِحُكْمٍ عَلَى حِدَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ إيجَابِ أَحَدِهِمَا فَأَوْجَبْنَا الْأَكْثَرَ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ يَدْخُلُ فِي الْأَكْثَرِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ دُخُولُ الْأَكْثَرِ فِي الْأَقَلِّ، فَإِنْ رَدَّهَا الْغَاصِبُ حَامِلًا فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْمَوْلَى مِنْ الْوِلَادَةِ فَبَقِيَ وَلَدُهَا ضَمِنَ الْغَاصِبُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ إلَّا نُقْصَانَ الْحَبَلِ خَاصَّةً. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الرَّدَّ وَقَعَ صَحِيحًا مِنْ الْغَاصِبِ فِي الْقَدْرِ الْمَرْدُودِ وَهُوَ مَا وَرَاءَ الْفَائِتِ بِالْحَبَلِ، وَالْهَلَاكُ بَعْدَ الرَّدِّ حَصَلَ فِي يَدِ الْمَالِكِ بِسَبَبٍ وُجِدَ فِي يَدِهِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَكَمَا لَوْ بَاعَ جَارِيَةً حُبْلَى فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ مَاتَتْ مِنْ نِفَاسِهَا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِشَيْءٍ كَذَا هَذَا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ وَهُوَ الْحَبَلُ أَوْ الزِّنَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَفْضَى إلَى الْوِلَادَةِ، وَالْوِلَادَةُ أَفْضَتْ إلَى الْمَوْتِ، فَكَانَ الْمَوْتُ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ، وَإِذَا حَصَلَ الْهَلَاكُ بِذَلِكَ السَّبَبِ تَبَيَّنَ أَنَّ الرَّدَّ لَمْ يَصِحَّ لِانْعِدَامِ شَرْطِ صِحَّتِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ مِثْلَ الْأَخْذِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، فَصَارَ كَأَنَّهَا وَلَدَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَمَاتَتْ مِنْ الْوِلَادَةِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا كَذَا هَذَا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ هُوَ التَّسْلِيمُ ابْتِدَاءً لَا الرَّدُّ، وَقَدْ وُجِدَ التَّسْلِيمُ فَخَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ. وَبِخِلَافِ الْحُرَّةِ إذَا زَنَا بِهَا مُكْرَهَةً فَمَاتَتْ مِنْ الْوِلَادَةِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْأَخْذِ لِيَلْزَمَهُ الرَّدُّ عَلَى وَجْهِ الْأَخْذِ بِخِلَافِ الْأَمَةِ. وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ زَنَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ فَحَدَثَ فِي يَدِهِ، وَنَقَّصَهَا الضَّرْبُ ضَمِنَ الْغَاصِبُ الْأَكْثَرَ مِنْ نُقْصَانِ الضَّرْبِ وَمِمَّا نَقَّصَهَا الزِّنَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا نُقْصَانُ الزِّنَا. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا إنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ فِي يَدِ الْمَالِكِ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ فَيُضَافُ إلَى حِينِ وُجُودِ السَّبَبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِسَبَبٍ وُجِدَ فِي يَدِهِ وَهُوَ الضَّرْبُ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ، كَمَا لَوْ حَصَلَ فِي يَدِ الْمَالِكِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَظَرَ إلَى وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ وَهُمَا نَظَرَا إلَى وَقْتِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَهُوَ النُّقْصَانُ. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَوَجَدَهُ مُبَاحَ الدَّمِ فَقُتِلَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي: أَنَّهُ يُنْتَقَضُ الْعَقْدُ وَيُرْجَعُ عَلَى الْبَائِعِ بِكُلِّ الْقِيمَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ سَارِقًا فَقُطِعَ فِي يَدِهِ رَجَعَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ اعْتِبَارًا لِلسَّبَبِ السَّابِقِ، وَعِنْدَهُمَا يَقْتَصِرُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَالِ، وَيَكُونُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُضَافُ النُّقْصَانُ إلَى سَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ، وَذَلِكَ السَّبَبُ لَمْ يُوجِبْ ضَرْبًا جَارِحًا فَكَيْفَ يُضَافُ نُقْصَانُ الْجُرْحِ إلَيْهِ. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شُهُودِ الزِّنَا: إذَا رَجَعُوا بَعْدَ إقَامَةِ الْجَلَدَاتِ أَنَّهُمْ لَا يُضَمَّنُونَ بِنُقْصَانِ الْجُرْحِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَمْ تُوجِبْ ضَرْبًا جَارِحًا، فَلَمْ يُضَفْ نُقْصَانُ الْجُرْحِ إلَيْهَا كَذَا هَذَا، قِيلَ لَهُ: إنَّ النُّقْصَانَ لَا يُضَافُ إلَى السَّبَبِ

السَّابِقِ هَهُنَا، كَمَا لَا يُضَافُ إلَى شَهَادَةِ الشُّهُودِ هُنَاكَ، إلَّا أَنَّهُ وَجَبَ الضَّمَانُ هَهُنَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ضَمَانِ الْغَصْبِ لَا يَقِفُ عَلَى الْفِعْلِ فَيَسْتَنِدُ الضَّرْبُ إلَى سَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَلَا يَسْتَنِدُ إلَيْهِ أَثَرُهُ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهَا ضُرِبَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَانْجَرَحَتْ عِنْدَ الضَّرْبِ لَا بِالضَّرْبِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَضَمِنَ الْغَاصِبُ، كَذَا هَذَا، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الْأَكْثَرُ مِنْ نُقْصَانِ الضَّرْبِ وَمِنْ نُقْصَانِ الزِّنَا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ النُّقْصَانَيْنِ جَمِيعًا حَصَلَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ، فَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ الضَّمَانَيْنِ، فَيَجِبُ الْأَكْثَرُ، وَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِيهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ سَرَقَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ فَقُطِعَتْ عِنْدَهُ، يَضْمَنُ الْغَاصِبُ نِصْفَ قِيمَتِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ إلَّا نُقْصَانَ السَّرِقَةِ وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الطَّرَفَيْنِ جَمِيعًا عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْتَبَرَ نُقْصَانَ الْقَطْعِ هَهُنَا، وَلَمْ يَعْتَبِرْ نُقْصَانَ عَيْبِ السَّرِقَةِ، وَاعْتَبَرَ نُقْصَانَ عَيْبِ الزِّنَا هُنَاكَ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْقَطْعِ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ نُقْصَانِ السَّرِقَةِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا، فَدَخَلَ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ بِخِلَافِ نُقْصَانِ عَيْبِ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ نُقْصَانِ الضَّرْبِ؛ لِذَلِكَ اخْتَلَفَ اعْتِبَارُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَلَوْ حُمَّتْ الْجَارِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهَا عَلَى الْمَوْلَى فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ مِنْ الْحُمَّى الَّتِي كَانَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَمْ يَضْمَنْ الْغَاصِبُ، إلَّا مَا نَقَّصَهَا الْحُمَّى فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ يَحْصُلُ بِالْآلَامِ الَّتِي لَا تَتَحَمَّلُهَا النَّفْسُ وَإِنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا إلَى أَنْ يَتَنَاهَى، فَلَمْ يَكُنْ الْمَوْتُ حَاصِلًا بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ، فَلَا يَضْمَنُ إلَّا قَدْرَ نُقْصَانِ الْحُمَّى، وَلَوْ غَصَبَ جَارِيَةً مَحْمُومَةً أَوْ حُبْلَى، أَوْ بِهَا جِرَاحَةٌ، أَوْ مَرَضٌ آخَرُ سِوَى الْحُمَّى فَمَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهَا وَبِهَا ذَلِكَ فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا مَاتَتْ فِي يَدِ الْمَوْلَى بِحَبَلٍ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، حَيْثُ جُعِلَ هُنَالِكَ مَوْتُهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ كَمَوْتِهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَلَمْ يُجْعَلْ هَهُنَا مَوْتُهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ كَمَوْتِهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْهَلَاكَ هُنَاكَ حَصَلَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ وَهُوَ الْحَبَلُ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَيْهِ فَأُضِيفَ إلَيْهِ كَأَنَّهُ حَصَلَ فِي يَدِهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرَّدَّ لَمْ يَصِحَّ لِعَدَمِ شَرْطِ الصِّحَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْهَلَاكُ هَهُنَا إنْ حَصَلَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْمَوْلَى لَكِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِسَبَبٍ كَانَ فِي ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّ الْحَبَلَ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ. فَإِذَا غَصَبَهَا فَقَدْ صَارَتْ مَضْمُونَةً بِالْغَصْبِ؛ لِأَنَّ انْعِقَادَ سَبَبِ الْهَلَاكِ لَا يَمْنَعُ دُخُولَهَا فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ضَمَانِ الْغَصْبِ لَا يَقِفُ عَلَى فِعْلِ الْغَاصِبِ، فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ لَكِنْ مَنْقُوصًا بِمَا بِهَا مِنْ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي ضَمَانِ الْغَصْبِ إلَّا كَذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ جَارِيَةً سَمِينَةً فَهَزَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَنَّ عَلَيْهِ نُقْصَانَ الْهُزَالِ، وَلَوْ عَادَتْ سَمِينَةً فِي يَدِهِ فَرَدَّهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْهُزَالِ انْجَبَرَ بِالسِّمَنِ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا، وَكَذَا إذَا قُلِعَتْ سِنُّهَا فِي يَدِهِ فَنَبَتَتْ فَرَدَّهَا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا نَبَتَتْ ثَانِيًا جُعِلَ كَأَنَّهَا لَمْ تُقْلَعْ، وَكَذَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهَا فِي يَدِهِ فَرَدَّهَا مَعَ الْأَرْشِ لِمَا قُلْنَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ نُقْصَانُ الْوِلَادَةِ أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ لِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الْمَغْصُوبِ بِالْوِلَادَةِ، إلَّا إذَا كَانَ لَهُ جَابِرٌ فَيَنْعَدِمُ الْفَوَاتُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ إذَا نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ الْأُمُّ أَوْ الْوَلَدُ جَمِيعًا قَائِمَيْنِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَإِمَّا أَنْ هَلَكَا جَمِيعًا فِي يَدِهِ، وَإِمَّا أَنْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا وَبَقِيَ الْآخَرُ، فَإِنْ كَانَا قَائِمَيْنِ رَدَّهُمَا عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ لِنُقْصَانِ الْوِلَادَةِ انْجَبَرَ بِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ انْجَبَرَ بِقَدْرِهِ وَضَمِنَ الْبَاقِيَ اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ وَقْتَ الرَّدِّ، ثُمَّ حَصَلَ بِهِ وَفَاءٌ بَعْدَ الرَّدِّ، لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَمْ تَحْصُلْ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ، فَلَا تَصْلُحُ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ، وَقَالُوا: إنَّ نُقْصَانَ الْحَبَلِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، بِأَنْ غَصَبَ جَارِيَةً حَائِلًا فَحَمَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهَا إلَى الْمَالِكِ فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ، وَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ. وَفِي الْوَلَدِ وَفَاءٌ لَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ شَيْئًا، خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا بِيعَتْ بَيْعًا فَاسِدًا وَهِيَ حَامِلٌ فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ وَفِي الْوَلَدِ وَفَاءً فَرَدُّ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ مَعَ الْوَلَدِ إلَى الْبَائِعِ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا كَانَ لَهُ جَارِيَةٌ لِلتِّجَارَةِ، فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَوَلَدَتْ فَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَفِي الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ أَنَّهُ يَبْقَى الْوَاجِبُ فِي جَمِيعِ الْأَلْفِ وَلَا يَسْقُطُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَعِنْدَ

زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَبْقَى فِيمَا وَرَاءَ النُّقْصَانِ وَيَسْقُطُ بِقَدْرِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ الْغَصْبِ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَهُوَ النُّقْصَانُ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ جَبْرًا لَهُ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ جَبْرِ الْفَائِتِ، وَقَدْ حَصَلَ الْفَوَاتُ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ جَابِرٍ وَالْوَلَدُ لَا يَصْلُحُ جَابِرًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَالْوَلَدُ مِلْكُهُ أَيْضًا، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مِلْكُ الْإِنْسَانِ جَابِرًا لِمِلْكِهِ فَلَزِمَ جَبْرُهُ بِالضَّمَانِ. (وَلَنَا) أَنَّ هَذَا نُقْصَانٌ صُورَةً لَا مَعْنًى، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا كَنُقْصَانِ السِّنِّ وَالسِّمَنِ وَالْقَطْعِ، وَقَدْ مَرَّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ نُقْصَانًا مَعْنًى: أَنَّ سَبَبَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْوِلَادَةُ، وَاتِّحَادُ سَبَبِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ النُّقْصَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مِثْلُ الْفَائِتِ، فَالسَّبَبُ الَّذِي فَوَّتَ أَفَادَ لَهُ مِثْلَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَلَمْ يَحْصُلْ الْفَوَاتُ إلَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ، وَالصُّورَةُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْقِيمَةِ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ. وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ أَنَّ جَبْرَ مِلْكِهِ بِمِلْكِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ النُّقْصَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ الْفَوَاتِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلَا حَاجَةَ إلَى الْجَابِرِ، وَإِنْ هَلَكَا جَمِيعًا فِي يَدِ الْغَاصِبِ ضَمِنَ قِيمَةَ الْأُمِّ يَوْمَ غَصَبَ؛ لِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ فِيهَا، وَلَمْ يَضْمَنْ قِيمَةَ الْوَلَدِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَغْصُوبٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْمَنُ لِوُجُودِ الْغَصْبِ فِيهِ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ قَتَلَ الْوَلَدَ، أَوْ بَاعَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مَعَ قِيمَةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ إنْ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِ الْغَاصِبِ عِنْدَنَا فَالْأَمَانَةَ تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ فِيهَا، وَقَدْ وُجِدَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَالْوَلَدُ يُسَاوِي مِائَتَيْنِ ضَمِنَ قِيمَةَ الْأُمِّ يَوْمَ الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَضَمِنَ مِنْ الْوَلَدِ نِصْفَ قِيمَتِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، يَدْخُلُ ذَلِكَ النِّصْفُ فِي قِيمَةِ الْأُمِّ، وَإِنْ شِئْت ضَمَّنْته قِيمَةَ الْأُمِّ يَوْمَ وَلَدَتْ وَقِيمَةَ الْوَلَدِ بِأُمِّهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ إذَا انْجَبَرَ بِالْوَلَدِ كَانَ الْوَاجِبُ مِنْ الضَّمَانِ فِي الْحَاصِلِ أَلْفًا وَمِائَةً، فَإِنْ اُعْتُبِرَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ تَامَّةً بَقِيَ نِصْفُ قِيمَةِ الْوَلَدِ، وَإِنْ اُعْتُبِرَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ تِسْعَمِائَةٍ بَقِيَ كُلُّ قِيمَةِ الْوَلَدِ، وَإِنْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا وَبَقِيَ الْآخَرُ، فَإِنْ هَلَكَ الْوَلَدُ قَبْلَ الرَّدِّ رَدَّ الْأُمَّ وَضَمِنَ نُقْصَانَ الْوِلَادَةِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْوَلَدِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ أَمَانَةً فَإِنْ هَلَكَتْ الْأُمُّ وَبَقِيَ الْوَلَدُ ضَمِنَ قِيمَةَ الْأُمِّ يَوْمَ غَصَبَ وَرَدَّ الْوَلَدَ وَلَا تُجْبَرُ الْأُمُّ بِالْوَلَدِ. وَإِنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِقِيمَةِ الْأُمِّ بِخِلَافِ ضَمَانِ النُّقْصَانِ أَنَّهُ يُجْبَرُ بِالْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْجَبْرَ هُنَاكَ لِاتِّحَادِ سَبَبِ النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ، وَلَمْ تُوجَدْ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ وَلَيْسَتْ سَبَبًا لِهَلَاكِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا لَا تُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ غَالِبًا، فَلَمْ يَتَّحِدْ السَّبَبُ فَيَتَعَذَّرُ الْجَبْرُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ وَلَمْ يَخِطْهُ أَنَّ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ غَيْرَ أَنَّ النُّقْصَانَ إنْ كَانَ يَسِيرًا لَا خِيَارَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلَيْسَ لَهُ، إلَّا ضَمَانُ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ وَتَعْيِيبٌ فَيُوجِبُ ضَمَانَ نُقْصَانِ الْعَيْبِ، وَإِنْ كَانَ فَاحِشًا بِأَنْ قَطَعَهُ قَبَاءً، أَوْ قَمِيصًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ مَقْطُوعًا وَضَمَّنَهُ مَا نَقَصَهُ الْقَطْعُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبٍ غَيْرِ مَقْطُوعٍ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ الْفَاحِشَ يُفَوِّتُ بَعْضَ الْمَنَافِعِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ الثَّوْبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِمَا كَانَ يَصْلُحُ لَهُ قَبْلَ الْقَطْعِ، فَكَانَ اسْتِهْلَاكًا لَهُ مِنْ وَجْهٍ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ شَاةً فَذَبَحَهَا، وَلَمْ يَشْوِهَا وَلَا طَبَخَهَا، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الشَّاةَ وَضَمَّنَهُ نُقْصَانَ الذَّبْحِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْغَصْبِ، كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَسَوَاءٌ سَلَخَهَا الْغَاصِبُ وَأَرَّبَهَا أَوْ لَا، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَوَاهَا وَلَا طَبَخَهَا، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الشَّاةَ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْغَصْبِ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ ذَبْحَ الشَّاةِ إنْ كَانَ نُقْصَانًا صُورَةً فَهُوَ زِيَادَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الشَّاةِ اللَّحْمُ، وَالذَّبْحُ وَسِيلَةٌ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ، فَلَمْ يَكُنْ نُقْصَانًا، بَلْ كَانَ زِيَادَةً حَيْثُ رَفَعَ عَنْهُ مُؤْنَةَ الْوَسِيلَةِ، فَكَانَ الْغَاصِبُ مُحْسِنًا فِي الذَّبْحِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] فَإِذَا اخْتَارَ أَخْذَ اللَّحْمِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ، إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ التَّرْكِ عَلَيْهِ، وَيُضَمِّنُهُ الْقِيمَةَ لِفَوَاتِ مَقْصُودِ مَا فِي الْجُمْلَةِ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الشَّاةَ كَمَا يُطْلَبُ مِنْهَا اللَّحْمُ يُطْلَبُ مِنْهَا مَقَاصِدُ أُخَرُ مِنْ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالتِّجَارَةِ، فَكَانَ الذَّبْحُ تَفْوِيتًا لِبَعْضِ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهَا، فَكَانَ تَنْقِيصًا لَهَا وَاسْتِهْلَاكًا مِنْ وَجْهٍ، فَيَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ تَضْمِينِ النُّقْصَانِ وَخِيَارُ تَضْمِينِ الْقِيمَةِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ. وَعَلَى هَذَا

الْأَصْلِ يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ مِنْ إنْسَانٍ عَيْنًا مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ، أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَنَقَلَهَا إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى فَالْتَقَيَا وَالْعَيْنُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، وَقِيمَتُهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ أَنَّ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُطَالِبَهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ بِقِيمَتِهَا الَّتِي فِي مَكَانِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهَا قِيَمُ أَعْيَانٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَإِذَا نَقَلَهَا إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَقِيمَتُهَا فِيهِ أَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ فَقَدْ نَقَصَهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِالنَّقْلِ، فَلَوْ أُجْبِرَ عَلَى أَخْذِ الْعَيْنِ لَتَضَرَّرَ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْغَاصِبِ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ طَالَبَهُ بِالْقِيمَةِ الَّتِي فِي مَكَانِ الْغَصْبِ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ الْعَوْدَ إلَى مَكَانِ الْغَصْبِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَدَهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي غَصَبَهُ فِيهِ. وَقَدْ انْتَقَصَ السِّعْرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ خِيَارٌ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ هُنَاكَ مَا حَصَلَ بِصُنْعِهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَغَيُّرِ السِّعْرِ وَلَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِي ذَلِكَ، بَلْ هُوَ مَحْضُ صُنْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَعْنِي مَصْنُوعَهُ، فَلَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَيْنِ فِي الْمَكَانِ الْمَنْقُولِ إلَيْهِ مِثْلَ قِيمَتِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ، أَوْ أَكْثَرَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ هُوَ وُجُوبُ رَدِّ الْعَيْنِ حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ، وَالْمَصِيرُ إلَى الْقِيمَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَهَهُنَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْزَمُهُ، فَلَا يَمْلِكُ الْعُدُولَ إلَى الْقِيمَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَ السِّعْرُ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جُعِلَتْ أَثْمَانَ الْأَشْيَاءِ، وَمَعْنَى الثَّمَنِيَّةِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ عَادَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لِعِزَّتِهَا وَقِلَّتِهَا عَادَةً، فَلَمْ يَكُنْ النَّقْلُ نُقْصَانًا لَهَا بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْحَمْلِ وَالْمُؤْنَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِيمَةِ، وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِرَدِّ عَيْنِهَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْغَصْبِ. وَالْمَصِيرُ إلَى الْقِيمَةِ لِعَارِضِ الْعَجْزِ أَوْ الضَّرَرِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا إذَا كَانَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ قَائِمَةً فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ هَالِكَةً فَالْتَقَيَا، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ أَخَذَ قِيمَتَهَا الَّتِي كَانَتْ وَقْتَ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهَا إذَا هَلَكَتْ تَبَيَّنَّ أَنَّ الْغَصْبَ السَّابِقَ وَقَعَ إتْلَافًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ مِنْ حِينِ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، يُنْظَرُ إنْ كَانَ سِعْرُهَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي الْتَقَيَا فِيهِ أَقَلَّ مِنْ سِعْرِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْقِيمَةَ الَّتِي لِلْعَيْنِ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ الْمِثْلِ فِي هَذَا الْمَكَانِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ نَقَصَ الْعَيْنَ بِالنَّقْلِ إلَى هَذَا الْمَكَانِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اخْتِلَافَ قِيمَةِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَهَا حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ لِمَكَانِ الْحَمْلِ وَالْمُؤْنَةِ، فَالْجَبْرُ عَلَى الْأَخْذِ فِي هَذَا الْمَكَانِ يَكُونُ إضْرَارًا بِهِ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْقِيمَةَ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْعَيْنُ قَائِمَةً، وَقِيمَتُهَا فِي هَذَا الْمَكَانِ أَقَلُّ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا فِي هَذَا الْمَكَانِ مِثْلَ قِيمَتِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا فِي مَكَانِ الْخُصُومَةِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا فِي مَكَانِ الْغَصْبِ، فَالْغَاصِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْطَى الْمِثْلَ فِي مَكَانِ الْخُصُومَةِ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى الْقِيمَةَ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ فِي إلْزَامِ تَسْلِيمِ الْمِثْلِ فِي مَكَانِ الْخُصُومَةِ ضَرَرًا بِالْغَاصِبِ، وَفِي التَّأْخِيرِ إلَى الْعَوْدِ إلَى مَكَانِ الْغَصْبِ ضَرَرًا بِالْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَيُسَلِّمُ إلَيْهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ الْقِيمَةَ الَّتِي لَهُ فِي مَكَانِ الْغَصْبِ، إلَّا أَنْ يَرْضَى الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالتَّأْخِيرِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، فَانْتَقَصَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِصُنْعِهِ، أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، فَلَيْسَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ وَيُضَمِّنَهُ قِيمَةَ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَعَفِنَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، أَوْ ابْتَلَّتْ، أَوْ صَبَّ الْغَاصِبُ فِيهَا مَاءً فَانْتَقَصَتْ قِيمَتُهَا أَنَّ صَاحِبَهَا بِالْخِيَارِ. إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِعَيْنِهَا وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا عَلَى الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ مِثْلَ مَا غُصِبَتْ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجَوْدَةَ بِانْفِرَادِهَا لَا قِيمَةَ لَهَا فِي أَمْوَالِ الرِّبَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَهَا قِيمَةٌ، وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ هُوَ الْمَالُ الْمُتَقَوِّمُ، وَلِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً تُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، وَلَوْ غَصَبَ دِرْهَمًا صَحِيحًا، أَوْ دِينَارًا صَحِيحًا فَانْكَسَرَ فِي يَدِهِ، أَوْ كَسَرَهُ إنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَفَاوَتُ الصَّحِيحُ وَالْمُكَسَّرُ فِي الْقِيمَةِ لَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَتَفَاوَتُ فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَيْنِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ مِثْلَ مَا أَخَذَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِعَيْنِهِ وَيُضَمِّنَهُ

النُّقْصَانَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ إنَاءَ فِضَّةٍ، أَوْ ذَهَبٍ فَانْهَشَمَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، أَوْ هَشَّمَهُ، فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَيْنِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ لَا قِيمَةَ لَهَا بِانْفِرَادِهَا، فَأَمَّا مَعَ الْأَصْلِ فَمُتَقَوِّمَةٌ، خُصُوصًا إذَا حَصَلَتْ بِصُنْعِ الْعِبَادِ، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّضْمِينِ، وَالتَّضْمِينُ بِالْمِثْلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فَوَجَبَ التَّضْمِينُ بِالْقِيمَةِ، ثُمَّ لَا سَبِيلَ إلَى تَضْمِينِهِ بِجِنْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَلَزِمَ تَضْمِينُهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إيجَابُ الْمِثْلِ مُمْكِنٌ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ، فَلَا يُعْدَلُ عَنْ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَلَوْ قَضَى عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ، ثُمَّ تَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَامَتْ مَقَامَ الْعَيْنِ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ، وَكَذَلِكَ آنِيَةُ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالشَّبَّةِ وَالرَّصَاصِ إنْ كَانَتْ تُبَاعُ وَزْنًا فَهِيَ وَآنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ تُبَاعُ وَزْنًا لَمْ تَخْرُجْ بِالصِّنَاعَةِ عَنْ حَدِّ الْوَزْنِ، فَكَانَتْ مَوْزُونَةً، فَكَانَتْ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَإِذَا انْهَشَمَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، فَحَدَثَ فِيهَا عَيْبٌ فَاحِشٌ أَوْ يَسِيرٌ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ كَذَلِكَ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَلَا يَكُونُ التَّقَابُضُ فِيهِ شَرْطًا بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ إذَا نَقَصَ مِنْ وَصْفِهِ لَا مِنْ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَإِنْ كَانَتْ تُبَاعُ عَدَدًا فَانْكَسَرَتْ أَوْ كُسِّرَتْ إنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يُورِثْ فِيهِ عَيْبًا فَاحِشًا، فَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ فِيهِ خِيَارُ التَّرْكِ، وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَيُضَمِّنُهُ نُقْصَانَ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ أَوْرَثَ عَيْبًا فَاحِشًا فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَأَخَذَ قِيمَةَ النُّقْصَانِ. وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا عَلَيْهِ وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا صَحِيحًا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ عَصِيرًا فَصَارَ خَلًّا فِي يَدِهِ، أَوْ لَبَنًا حَلِيبًا فَصَارَ مَخِيضًا، أَوْ عِنَبًا فَصَارَ زَبِيبًا، أَوْ رُطَبًا فَصَارَ تَمْرًا أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ ذَلِكَ الشَّيْء بِعَيْنِهِ وَلَا شَيْء لَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا، فَلَمْ تَكُنْ الْجَوْدَةُ فِيهَا بِانْفِرَادِهَا مُتَقَوِّمَةً، فَلَا تَكُونُ مُتَقَوِّمَةً، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَى الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ مِثْلَ مَا غَصَبَ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا طَرِيقُ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ فَهُوَ أَنْ يُقَوَّمَ صَحِيحًا وَيُقَوَّمَ وَبِهِ الْعَيْبُ، فَيَجِبُ قَدْرُ مَا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ النُّقْصَانِ، إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ زِيَادَةِ الْمَغْصُوبِ: فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إذَا حَدَثَتْ زِيَادَةٌ فِي الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَالزِّيَادَةُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْ الْمَغْصُوبِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِهِ فَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً عَنْهُ أَخَذَهَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ مَعَ الْأَصْلِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْغَاصِبِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ، أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمُتَوَلِّدِ كَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ، أَوْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ أَصْلًا كَالْكَسْبِ مِنْ الصَّيْدِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّدَ مِنْهَا نَمَاءُ مِلْكِهِ، فَكَانَ مِلْكَهُ، وَمَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمُتَوَلِّدِ بَدَلُ جُزْءٍ مَمْلُوكٍ، أَوْ بَدَلُ مَا لَهُ حُكْمُ الْجُزْءِ، فَكَانَ مَمْلُوكًا لَهُ وَغَيْرُ الْمُتَوَلِّدِ كَسْبٌ مَلَكَهُ، فَكَانَ مِلْكَهُ. وَأَمَّا بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ الْأُجْرَةُ بِأَنْ آجَرَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ عِنْدَنَا، وَيَتَصَدَّقُ بِهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ مُتَقَوِّمَةٍ بِأَنْفُسِهَا عِنْدَنَا، حَتَّى لَا تُضْمَنَ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّهُ وُجِدَ مِنْ الْغَاصِبِ، وَعِنْدَهُ هِيَ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ بِأَنْفُسِهَا مَضْمُونَةٌ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ كَالْأَعْيَانِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِهِ فَإِنْ كَانَتْ مُتَوَلِّدَةً كَالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ وَنَحْوِهَا أَخَذَهَا الْمَالِكُ مَعَ الْأَصْلِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ يُنْظَرُ، إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ فِي الْمَغْصُوبِ وَهُوَ تَابِعٌ لِلْمَغْصُوبِ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ أَخَذَهَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَتْ عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ لِلْمَغْصُوبِ، بَلْ هِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا، تَزُولُ عَنْ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَتَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ لِلضَّمَانِ، وَبَيَانُ هَذَا فِي مَسَائِلَ إذَا غَصَبَ مِنْ إنْسَانٍ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ الْغَاصِبُ بِصِبْغِ نَفْسِهِ، فَإِنْ صَبَغَهُ أَحْمَرَ، أَوْ أَصْفَرَ بِالْعُصْفُرِ وَالزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَلْوَانِ سِوَى السَّوَادِ، فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ مِنْ الْغَاصِبِ وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ، أَمَّا وِلَايَةُ أَخْذِ الثَّوْبِ؛ فَلِأَنَّ الثَّوْبَ مِلْكُهُ لِبَقَاءِ اسْمِهِ وَمَعْنَاهُ. وَأَمَّا ضَمَانُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ؛ فَلِأَنَّ لِلْغَاصِبِ عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ، فَلَا سَبِيلَ إلَى إبْطَالِ

مِلْكِهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ، فَكَانَ الْأَخْذُ بِضَمَانٍ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الثَّوْبَ عَلَى الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ يَوْمَ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى جَبْرِهِ عَلَى أَخْذِ الثَّوْبِ، إذْ لَا يُمْكِنُهُ أَخْذُهُ إلَّا بِضَمَانٍ وَهُوَ قِيمَةُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ. وَلَا سَبِيلَ إلَى جَبْرِهِ عَلَى الضَّمَانِ لِانْعِدَامِ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْهُ وَقِيلَ لَهُ خِيَارٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ لَهُ تَرْكَ الثَّوْبِ عَلَى حَالِهِ، وَكَانَ الصِّبْغُ فِيهِ لِلْغَاصِبِ فَيُبَاعُ الثَّوْبُ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا، كَمَا إذَا انْصَبَغَ لَا بِفِعْلِ أَحَدٍ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَالصِّبْغُ مِلْكُ الْغَاصِبِ وَالتَّمْيِيزُ مُتَعَذَّرٌ، فَصَارَا شَرِيكَيْنِ فِي الثَّوْبِ فَيُبَاعُ الثَّوْبُ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا، وَإِنَّمَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ لَا لِلْغَاصِبِ، وَإِنْ كَانَ لِلْغَاصِبِ فِيهِ مِلْكٌ أَيْضًا وَهُوَ الصِّبْغُ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ أَصْلٌ وَالصِّبْغَ تَابِعٌ لَهُ، فَتَخْيِيرُ صَاحِبِ الْأَصْلِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُخَيَّرَ صَاحِبُ التَّبَعِ، وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَحْبِسَ الثَّوْبَ بِالْعُصْفُرِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ تَبَعٍ، وَإِنْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: صَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَرَكَهُ عَلَى الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ، بَلْ يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: السَّوَادُ وَسَائِرُ الْأَلْوَانِ سَوَاءٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ السَّوَادَ نُقْصَانٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ يُحْرِقُ الثَّوْبَ فَيُنْقِصُهُ، وَعِنْدَهُمَا زِيَادَةٌ كَسَائِرِ الْأَلْوَانِ. وَقِيلَ إنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي سَوَادٍ يَنْقُصُ وَجَوَابُهُمَا فِي سَوَادٍ يَزِيدُ، وَقِيلَ كَانَ السَّوَادُ يُعَدُّ نُقْصَانًا فِي زَمَنِهِ، وَزَمَنَهُمَا كَانَ يُعَدُّ زِيَادَةً، فَكَانَ اخْتِلَافُ زَمَانٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَمَّا الْعُصْفُرُ إذَا نَقَصَ الثَّوْبَ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ ثَلَاثِينَ فَعَادَتْ قِيمَتُهُ بِالصَّبْغِ إلَى عِشْرِينَ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى قَدْرِ مَا يَزِيدُ هَذَا الصَّبْغُ لَوْ كَانَ فِي ثَوْبٍ يُزِيدُ هَذَا الصَّبْغُ قِيمَتَهُ وَلَا يُنْقِصُ، فَإِنْ كَانَ يُزِيدُهُ قَدْرَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَرَكَ الثَّوْبَ عَلَى الْغَاصِبِ وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ أَبْيَضَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَخَذَ مِنْ الْغَاصِبِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، كَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْعُصْفُرَ نَقَّصَ مِنْ هَذَا الثَّوْبِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إلَّا أَنْ يُقَدَّرَ خَمْسَةً فِيهِ صِبْغٌ فَانْجَبَرَ نُقْصَانُ الْخَمْسَةِ بِهِ، أَوْ صَارَتْ الْخَمْسَتَانِ قِصَاصًا وَبَقِيَ نُقْصَانُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِخَمْسَةٍ، وَكَذَلِكَ السَّوَادُ عَلَى هَذَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ صَبَغَ الثَّوْبَ الْمَغْصُوبَ بِعُصْفُرِ نَفْسِهِ وَبَاعَهُ وَغَابَ، ثُمَّ حَضَرَ صَاحِبُ الثَّوْبِ يَقْضِي لَهُ بِالثَّوْبِ وَيَسْتَوْثِقُ مِنْهُ بِكَفِيلٍ أَمَّا الْقَضَاءُ بِالثَّوْبِ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ، فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الثَّوْبَ أَصْلٌ وَالصِّبْغُ تَابِعٌ لَهُ، فَكَانَ صَاحِبُ الثَّوْبِ صَاحِبَ أَصْلٍ، فَكَانَ اعْتِبَارُ جَانِبِهِ أَوْلَى. وَأَمَّا الِاسْتِيثَاقُ بِكَفِيلٍ؛ فَلِأَنَّ لِلْغَاصِبِ فِيهِ عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ، وَلَوْ وَقَعَ الثَّوْبُ الْمَغْصُوبُ فِي صِبْغِ إنْسَانٍ فَصُبِغَ بِهِ، أَوْ هَبَّتْ الرِّيحُ بِثَوْبِ إنْسَانٍ فَأَلْقَتْهُ فِي صِبْغِ غَيْرِهِ فَانْصَبَغَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الصِّبْغُ عُصْفُرًا أَوْ زَعْفَرَانًا، فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ شَاءَ امْتَنَعَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى جَبْرِهِ عَلَى الضَّمَانِ؛ لِانْعِدَامِ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْهُ، فَيُبَاعُ الثَّوْبُ، فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَقِّهِ فَيَضْرِبُ صَاحِبُ الثَّوْبِ بِقِيمَةِ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الثَّوْبِ الْأَبْيَضِ. وَصَاحِبُ الصِّبْغِ يَضْرِبُ بِقِيمَةِ الصِّبْغِ فِي الثَّوْبِ وَهُوَ قِيمَةُ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الصِّبْغِ الْقَائِمِ فِي الثَّوْبِ لَا فِي الصِّبْغِ الْمُنْفَصِلِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ لَا لِلْغَاصِبِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَ سَوَادًا أَخَذَهُ صَاحِبُ الثَّوْبِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَةِ الصَّبْغِ، بَلْ يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ إنْ كَانَ غَاصِبًا؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ فِي ضَمَانِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَهُمَا حُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْأَلْوَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ السَّمْنُ يُخْلَطُ بِالسَّوِيقِ الْمَغْصُوبِ، أَوْ يُخْلَطُ بِهِ، فَالسَّوِيقُ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ وَالسَّمْنُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبْغِ؛ لِأَنَّ السَّوِيقَ أَصْلٌ وَالسَّمْنَ كَالتَّابِعِ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: سَوِيقٌ مَلْتُوتٌ، وَلَا يُقَالُ: سَمْنٌ مَلْتُوتٌ. وَأَمَّا الْعَسَلُ إذَا خُلِطَ بِالسَّمْنِ، أَوْ اخْتَلَطَ بِهِ فَكُلَاهُمَا أَصْلٌ. وَإِذَا خُلِطَ الْمِسْكُ بِالدُّهْنِ أَوْ اخْتَلَطَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ يَزِيدُ الدُّهْنَ وَيُصْلِحُهُ كَانَ الْمِسْكُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبْغِ، وَإِنْ كَانَ دُهْنًا لَا يَصْلُحُ بِالْخَلْطِ وَلَا تَزِيدُ قِيمَتُهُ كَالْأَدْهَانِ الْمُنْتِنَةِ فَهُوَ هَالِكٌ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ غَصَبَ مِنْ إنْسَانٍ ثَوْبًا وَمِنْ إنْسَانٍ صِبْغًا فَصَبَغَهُ بِهِ ضَمِنَ لِصَاحِبِ الصِّبْغِ صِبْغًا مِثْلَ صِبْغِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ صِبْغَهُ وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ فَبَعْدَ ذَلِكَ حُكْمُهُ

وَحُكْمُ مَا إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ الْمَغْصُوبَ بِصِبْغِ نَفْسِهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الصِّبْغَ بِالضَّمَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ، وَلَوْ غَصَبَ مِنْ إنْسَانٍ ثَوْبًا وَمِنْ آخَرَ صِبْغًا فَصَبَغَهُ فِيهِ، ثُمَّ غَابَ، وَلَمْ يُعْرَفْ فَهَذَا وَمَا إذَا انْصَبَغَ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ سَوَاءٌ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لِصَاحِبِ الصِّبْغِ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ سَبِيلٌ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصِّبْغَ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ، فَمَلَكَهُ بِالضَّمَانِ وَزَالَ عَنْهُ مِلْكُ صَاحِبِهِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إذَا غَابَ الْغَاصِبُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْرَفُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ فِعْلِهِ فِي إدَارَةِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ حَصَلَ لَا بِصِبْغِ أَحَدٍ، وَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا وَعُصْفُرًا مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَصَبَغَهُ بِهِ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ يَأْخُذُ الثَّوْبَ مَصْبُوغًا وَيُبْرِئُ الْغَاصِبَ مِنْ الضَّمَانِ فِي الْعُصْفُرِ وَالثَّوْبِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ عُصْفُرًا مِثْلَهُ ثُمَّ يَصِيرُ كَأَنَّهُ صَبَغَ ثَوْبَهُ بِعُصْفُرِ نَفْسِهِ، فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ عُصْفُرَهُ وَمَلَكَهُ بِالضَّمَانِ، فَهَذَا رَجُلٌ صَبَغَ ثَوْبًا بِعُصْفُرِ نَفْسِهِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ وَاحِدٌ فَالْغَاصِبُ خَلَطَ مَالَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِمَالِهِ، وَخَلْطُ مَالِ الْإِنْسَانِ بِمَالِهِ لَا يُعَدُّ اسْتِهْلَاكًا لَهُ بَلْ يَكُونُ نُقْصَانًا، فَإِذَا اخْتَارَ أَخْذَ الثَّوْبِ فَقَدْ أَبْرَأَهُ عَنْ النُّقْصَانِ، وَلَوْ كَانَ الْعُصْفُرُ لِرَجُلٍ وَالثَّوْبُ لِآخَرَ فَرَضِيَا أَنْ يَأْخُذَاهُ، كَمَا يَأْخُذُ الْوَاحِدُ أَنْ لَوْ كَانَا لَهُ فَلَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ هَهُنَا اخْتَلَفَ، فَكَانَ الْخَلْطُ اسْتِهْلَاكًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ غَصَبَ إنْسَانٌ عُصْفُرًا وَصَبَغَ بِهِ ثَوْبَ نَفْسِهِ ضَمِنَ عُصْفُرًا مِثْلَهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَ عَلَيْهِ عُصْفُرَهُ وَلَهُ مِثْلٌ فَيَضْمَنُ مِثْلَهُ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُصْفُرِ أَنْ يَحْبِسَ الثَّوْبَ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ أَصْلٌ وَالْعُصْفُرَ تَبَعٌ لَهُ وَالسَّوَادُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعُصْفُرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ الِاسْتِهْلَاكِ، وَالْأَلْوَانُ كُلُّهَا فِي حُكْمِ ضَمَانِ الِاسْتِهْلَاكِ سَوَاءٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ غَصَبَ دَارًا فَجَصَّصَهَا، ثُمَّ رَدَّهَا قِيلَ لِصَاحِبِهَا: أَعْطِهِ مَا زَادَ التَّجْصِيصُ فِيهَا، إلَّا أَنْ يَرْضَى صَاحِبُ الدَّارِ أَنْ يَأْخُذَ الْغَاصِبُ جِصَّهُ؛ لِأَنَّ لِلْغَاصِبِ فِيهَا عَيْنَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ وَهُوَ الْجِصُّ، فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَيُخَيَّرُ صَاحِبُ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَصْلٍ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَغَرِمَ لِلْغَاصِبِ مَا زَادَ التَّجْصِيصُ فِيهَا وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِأَنْ يَأْخُذَ جِصَّهُ، وَلَوْ غَصَبَ مُصْحَفًا فَنَقَطَهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ لِصَاحِبِهِ أَخْذَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: صَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْطَاهُ مَا زَادَ النَّقْطُ فِيهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَنْقُوطٍ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ النَّقْطَ زِيَادَةٌ فِي الْمُصْحَفِ، فَأَشْبَهَ الصِّبْغَ فِي الثَّوْبِ. (وَجْهُ) مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ النَّقْطَ أَعْيَانٌ لَا قِيمَةَ لَهَا، فَلَمْ يَكُنْ لِلْغَاصِبِ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ بَقِيَ مُجَرَّدُ عَمَلِهِ وَهُوَ النَّقْطُ وَمُجَرَّدُ الْعَمَلِ لَا يَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَلِأَنَّ النَّقْطَ فِي الْمُصْحَفِ مَكْرُوهٌ، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «جَرِّدُوا الْقُرْآنَ» ، وَإِذَا كَانَ التَّجْرِيدُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ كَانَ النَّقْطُ مَكْرُوهًا، فَلَمْ يَكُنْ زِيَادَةً، فَكَانَ لِصَاحِبِ الْمُصْحَفِ أَخْذُهُ، وَلَوْ غَصَبَ حَيَوَانًا فَكَبِرَ فِي يَدِهِ أَوْ سَمِنَ، أَوْ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ بِذَلِكَ، فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَاصِبِ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ، وَإِنَّمَا الزِّيَادَةُ نَمَاءُ مِلْكِ الْمَالِكِ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ جَرِيحًا، أَوْ مَرِيضًا فَدَاوَاهُ حَتَّى بَرَأَ وَصَحَّ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يَرْجِعُ الْغَاصِبُ عَلَى الْمَالِكِ بِمَا أَنْفَقَ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا. وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ فَسَقَاهُ الْغَاصِبُ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ، حَتَّى انْتَهَى بُلُوغُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ نَخْلًا أَطْلَعَ فَأَبَّرَهُ وَلَقَّحَهُ وَقَامَ عَلَيْهِ فَهُوَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ فِيمَا أَنْفَقَ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ كَانَ حَصَدَ الزَّرْعَ فَاسْتَهْلَكَهُ، أَوْ جَذَّ مِنْ الثَّمَرِ شَيْئًا، أَوْ جَزَّ الصُّوفَ، أَوْ حَلَبَ كَانَ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَضْمَن، وَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَفَتَلَهُ، أَوْ غَسَلَهُ، أَوْ قَصَّرَهُ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَاصِبِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ فِيهِ، أَمَّا الْفَتْلُ فَإِنَّهُ تَغْيِيرُ الثَّوْبِ مِنْ صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ. (وَأَمَّا) الْغَسْلُ فَإِنَّهُ إزَالَةُ الْوَسَخِ عَنْ الثَّوْبِ وَإِعَادَةٌ لَهُ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى، وَالصَّابُونُ أَوْ الْحُرُضُ فِيهِ يَتْلَفُ وَلَا يَبْقَى. وَأَمَّا الْقُصَارَةُ فَإِنَّهَا تَسْوِيَةُ أَجْزَاءِ الثَّوْبِ، فَلَمْ يَحْصُلْ فِي الْمَغْصُوبِ زِيَادَةُ عَيْنِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ فِيهِ، وَلَوْ غَصَبَ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا فَخَلَّلَهَا فَلِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَ الْخَلَّ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْخَلَّ مِلْكُهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لَهُ فِي الْخَمْرِ، وَإِذَا صَارَ خَلًّا حَدَثَ الْخَلُّ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ؛ لِأَنَّ الْمِلْحَ الْمُلْقَى فِي الْخَمْرِ يَتْلَفُ فِيهَا، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا فِي يَدِهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ كَذَا

فصل في حكم اختلاف الغاصب والمغصوب منه

هَذَا وَقِيلَ مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ خَلَّلَهَا بِالنَّقْلِ مِنْ الظِّلِّ إلَى الشَّمْسِ لَا بِشَيْءٍ لَهُ قِيمَةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ وَدَبَغَهُ أَنَّهُ إنْ دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ كَالْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَالشَّمْسِ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ كَانَ مِلْكَهُ وَبَعْدَمَا صَارَ مَالًا بِالدِّبَاغِ بَقِيَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ. وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ إنَّمَا فِيهِ مُجَرَّدُ فِعْلِ الدِّبَاغِ، وَمُجَرَّدُ الْعَمَلِ لَا يَتَقَوَّمُ، إلَّا بِالْعَقْدِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا إذَا أَخَذَهُ مِنْ مَنْزِلِهِ فَدَبَغَهُ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمَيْتَةُ مُلْقَاةً عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَذَ جِلْدَهَا فَدَبَغَهُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْجِلْدِ؛ لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ فِي الطَّرِيقِ إبَاحَةٌ لِلْأَخْذِ كَإِلْقَاءِ النَّوَى وَقُشُورِ الرُّمَّانِ عَلَى قَوَارِعِ الطُّرُقِ، وَلَوْ هَلَكَ الْجِلْدُ الْمَغْصُوبُ بَعْدَ مَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ إمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْغَصْبِ السَّابِقِ، وَإِمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْإِتْلَافِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ وَقْتَ الْغَصْبِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْإِتْلَافُ مِنْ الْغَاصِبِ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِلْكَهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ وَبَعْدَمَا صَارَ مَالًا بِالدِّبَاغِ بَقِيَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ لَا حَقَّ لِلْغَاصِبِ فِيهِ، وَإِتْلَافُ مَالٍ مَمْلُوكٍ لِلْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ. وَلَوْ دَبَغَهُ بِشَيْءٍ مُتَقَوِّمٍ كَالْقَرَظِ وَالْعَفْصِ وَنَحْوِهِمَا فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَغْرَمَ لَهُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ صَاحِبِهِ، وَلِلْغَاصِبِ فِيهِ عَيْنُ مِلْكٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ فَلَزِمَ مُرَاعَاةُ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الْجِلْدِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ لَضَمَّنَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ بَعْدَ مَا دَبَغَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مَدْبُوغًا وَيُعْطِيهِ الْمَالِكُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ عِنْدَهُمَا يَغْرَمُ قِيمَتَهُ أَنْ لَوْ كَانَ الْجِلْدُ ذَكِيًّا غَيْرَ مَدْبُوغٍ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَمْلُوكًا بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ، كَمَا إذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ فَاسْتَهْلَكَهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ، أَمَّا الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ فَلِأَنَّ الْجِلْدَ بِالدَّبَّاغِ صَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا. (وَأَمَّا) الْمِلْكُ فَلِأَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا لَهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَبَعْدَهُ بَقِيَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِيمَا إذَا دَبَغَهُ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ التَّقَوُّمَ حَدَثَ بِصُنْعِ الْغَاصِبِ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْحَادِثَ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ يَكُونُ حَقًّا لَهُ، فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَالْتُحِقَ هَذَا الْوَصْفُ بِالْعَدَمِ، فَكَانَ هَذَا إتْلَافُ مَالٍ لَا قِيمَةَ لَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ، وَلِأَنَّ تَقَوُّمَ الْجِلْدِ تَابِعٌ لِمَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِالدِّبَاغِ وَمَا زَادَ الدِّبَاغُ مَضْمُونٌ فِيهِ فَكَذَا مَا هُوَ تَابِعٌ لَهُ يَكُونُ مُلْحَقًا بِهِ، وَالْمَضْمُونُ بِبَدَلٍ لَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ كَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ. بِخِلَافِ مَا إذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَلَمْ يُوجَدْ الْأَصْلُ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَ الْجِلْدُ ذَكِيًّا فَدَبَغَهُ فَإِنْ دَبَغَهُ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ، فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِلْكُ صَاحِبِهِ، وَلَيْسَ لِلْغَاصِبِ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ قَائِمٍ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ قَائِمٌ لَمْ يُنْتَقَصْ، وَلَوْ دَبَغَهُ بِمَا لَهُ قِيمَةٌ، فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَدْبُوغٍ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ إذَا صَبَغَهُ أَصْفَرَ، أَوْ أَحْمَرَ بِصِبْغِ نَفْسِهِ، وَلَوْ أَنَّ الْغَاصِبَ جَعَلَ هَذَا الْجِلْدَ أَدِيمًا، أَوْ زِقًّا، أَوْ دَفْتَرًا، أَوْ جِرَابًا، أَوْ فَرْوًا لَمْ يَكُنْ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّهُ صَارَ شَيْئًا آخَرَ حَيْثُ تَبَدَّلَ الِاسْمُ وَالْمَعْنَى، فَكَانَ اسْتِهْلَاكًا لَهُ مَعْنًى، ثُمَّ إنْ كَانَ الْجِلْدُ ذَكِيًّا فَلَهُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَإِنْ كَانَ مَيْتَةً فَلَا شَيْءَ، وَلَوْ غَصَبَ عَصِيرَ الْمُسْلِمِ فَصَارَ خَمْرًا فِي يَدِهِ، أَوْ خَلًّا ضَمِنَ عَصِيرًا مِثْلَهُ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ فِي يَدِهِ بِصَيْرُورَتِهِ خَمْرًا، أَوْ خَلًّا، وَالْعَصِيرُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي حُكْمُ اخْتِلَافِ الْغَاصِبِ وَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ اخْتِلَافِ الْغَاصِبِ وَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا قَالَ الْغَاصِبُ هَلَكَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِي، وَلَمْ يُصَدِّقْهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْغَاصِبِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَحْبِسُ الْغَاصِبَ مُدَّةً لَوْ كَانَ قَائِمًا لَأَظْهَرَهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، ثُمَّ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ لِمَا قُلْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ هُوَ وُجُوبُ رَدِّ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ، وَالْقِيمَةُ خَلَفٌ عَنْهُ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ الْعَجْزُ عَنْ الْأَصْلِ لَا يَقْضِي بِالْقِيمَةِ الَّتِي هِيَ خَلْفٌ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْغَصْبِ، أَوْ فِي جِنْسِ الْمَغْصُوبِ وَنَوْعِهِ، أَوْ قَدْرِهِ، أَوْ صِفَتِهِ، أَوْ قِيمَتِهِ وَقْتَ الْغَصْبِ، فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الضَّمَانَ وَهُوَ يُنْكِرُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ

فصل في مسائل الإتلاف

إذْ الْقَوْلُ فِي الشَّرْعِ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. وَلَوْ أَقَرَّ الْغَاصِبُ بِمَا يَدَّعِي الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَادَّعَى الرَّدَّ عَلَيْهِ لَا يُصَدَّقُ، إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْغَصْبِ إقْرَارٌ بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُودِ الضَّمَانِ مِنْهُ فَهُوَ بِقَوْلِهِ: رَدَدْت عَلَيْك يَدَّعِي انْفِسَاخَ السَّبَبِ، فَلَا يُصَدَّقُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْغَاصِبُ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ هُوَ الَّذِي أَحْدَثَ الْعَيْبَ فِي الْمَغْصُوبِ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِوُجُودِ الْغَصْبِ مِنْهُ إقْرَارٌ بِوُجُودِ الْغَصْبِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ فِي ضَمَانِهِ فَهُوَ يَدَّعِي إحْدَاثَ الْعَيْبِ مِنْ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَيَدَّعِي خُرُوجَ بَعْضِ أَجْزَائِهِ عَنْ ضَمَانِهِ، فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ غَصَبَ الدَّابَّةَ وَنَفَقَتْ عِنْدَهُ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَيْهِ وَأَنَّهَا نَفَقَتْ عِنْدَهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ شُهُودَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ اعْتَمَدُوا فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ لِمَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا بِالْغَصْبِ وَمَا عَلِمُوا بِالرَّدِّ، فَبَنَوْا الْأَمْرَ عَلَى ظَاهِرِ بَقَاءِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ إلَى وَقْتِ الْهَلَاكِ وَشُهُودُ الْغَاصِبِ اعْتَمَدُوا فِي شَهَادَتِهِمْ بِالرَّدِّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَهُوَ الرَّدُّ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ، فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَى الرَّدِّ أَوْلَى، كَمَا فِي شُهُودِ الْجُرْحِ مَعَ شُهُودِ التَّزْكِيَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْغَاصِبَ ضَامِنٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ وَمَاتَ عِنْدَهُ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَبْدَ مَاتَ فِي يَدِ مَوْلَاهُ قَبْلَ الْغَصْبِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ فِي يَدِ مَوْلَاهُ قَبْلَ الْغَصْبِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، فَلَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ وَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِشَهَادَةِ شُهُودِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ شُهُودَ الْغَاصِبِ اعْتَمَدُوا اسْتِصْحَابَ الْحَالِ، وَهُوَ حَالُ الْيَدِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ لِلْمَوْلَى لِجَوَازِ أَنَّهُمْ عَلِمُوهَا ثَابِتَةً، وَلَمْ يَعْلَمُوهَا بِالْغَصْبِ وَظَنُّوا تِلْكَ الْيَدَ قَائِمَةً فَاسْتُصْحِبُوهَا وَشُهُودُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ اعْتَمَدُوا فِي شَهَادَتِهِمْ تَحَقُّقَ الْغَصْبِ، فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ. وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْغَاصِبَ غَصَبَ هَذَا الْعَبْدَ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ هُوَ وَالْعَبْدُ، فَالضَّمَانُ وَاجِبٌ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْغَاصِبِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ فَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ، فَبَقِيَتْ بَيِّنَةُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِلَا مُعَارِضٍ فَلَزِمَ الْعَمَلُ بِهَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْإِمْلَاءِ: إذَا أَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَاتَ فِي يَدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَأَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَاتَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْغَاصِبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بَيِّنَتَهُ قَامَتْ عَلَى إثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ الرَّدُّ، وَبَيِّنَةُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ قَامَتْ عَلَى إبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ وَهُوَ الْغَصْبُ، فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الرَّدِّ أَوْلَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الدَّابَّةَ نَفَقَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ مِنْ رُكُوبِهِ، وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَيْهِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَعَلَى الْغَاصِبِ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْغَاصِبِ لَا تَدْفَعُ بَيِّنَةَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى رَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ رَدَّهَا، ثُمَّ غَصَبَهَا ثَانِيًا وَرَكِبَهَا فَنَفَقَ فِي يَدِهِ فَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ شُهُودُ صَاحِبِ الدَّابَّةِ أَنَّ الْغَاصِبَ قَتَلَهَا، وَشَهِدَ شُهُودُ الْغَاصِبِ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، كَمَا إذَا قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ غَصَبْنَا مِنْكَ أَلْفًا، ثُمَّ قَالَ: كُنَّا عَشَرَةً، قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يُصَدَّقُ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُصَدَّقُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: غَصَبْنَا مِنْكَ حَقِيقَةٌ لِلْجَمْعِ، وَالْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ وَاجِبٌ وَفِي الْحَمْلِ عَلَى الْوَاحِدِ تَرْكٌ لِلْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ فَيُصَدَّقُ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْحَقِيقَةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ غَصَبْنَا إخْبَارٌ عَنْ وُجُودِ الْغَصْبِ مِنْ جَمَاعَةٍ مَجْهُولِينَ، فَلَوْ عَمِلْنَا بِحَقِيقَتِهِ لَأَلْغَيْنَا كَلَامَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمَجَازِ أَوْلَى مِنْ الْإِلْغَاءِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي مَسَائِلُ الْإِتْلَافِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا مَسَائِلُ الْإِتْلَافِ فَالْكَلَامُ فِيهَا أَنَّ الْإِتْلَافَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَرَدَ عَلَى بَنِي آدَمَ، وَإِمَّا أَنْ وَرَدَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ، فَإِنْ وَرَدَ عَلَى بَنِي آدَمَ فَحُكْمُهُ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ وَرَدَ عَلَى غَيْرِ بَنِي آدَمَ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَفِي بَيَانِ شُرُوطِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَفِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِتْلَافَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الشَّيْءِ إخْرَاجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ مَنْفَعَةً مَطْلُوبَةً مِنْهُ عَادَةً، وَهَذَا اعْتِدَاءٌ وَإِضْرَارٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ،

وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا إضْرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» وَقَدْ تَعَذَّرَ نَفْيُ الضَّرَرِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ، فَيَجِبُ نَفْيُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِالضَّمَانِ لِيَقُومَ الضَّمَانُ مَقَامَ الْمُتْلَفِ فَيَنْتَفِي الضَّرَرُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَلِهَذَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِالْغَصْبِ فَبِالْإِتْلَافِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ فِي كَوْنِهِ اعْتِدَاءً وَإِضْرَارًا فَوْقَ الْغَصْبِ، فَلَمَّا وَجَبَ بِالْغَصْبِ فَلَأَنْ يَجِبَ بِالْإِتْلَافِ أَوْلَى، سَوَاءٌ وَقَعَ إتْلَافًا لَهُ صُورَةً وَمَعْنًى بِإِخْرَاجِهِ عَنْ كَوْنِهِ صَالِحًا لِلِانْتِفَاعِ، أَوْ مَعْنًى بِإِحْدَاثِ مَعْنًى فِيهِ يَمْنَعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ مَعَ قِيَامِهِ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ اعْتِدَاءٌ وَإِضْرَارٌ سَوَاءٌ كَانَ الْإِتْلَافُ مُبَاشَرَةً بِإِيصَالِ الْآلَةِ بِمَحِلِّ التَّلَفِ، أَوْ تَسْبِيبًا بِالْفِعْلِ فِي مَحِلٍّ يُفْضِي إلَى تَلَفٍ غَيْرِهِ عَادَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقَعُ اعْتِدَاءً وَإِضْرَارًا فَيُوجِبُ الضَّمَانَ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ إذَا قَتَلَ دَابَّةَ إنْسَانٍ، أَوْ أَحْرَقَ ثَوْبَهُ، أَوْ قَطَعَ شَجَرَةَ إنْسَانٍ، أَوْ أَرَاقَ عَصِيرَهُ، أَوْ هَدَمَ بِنَاءَهُ ضَمِنَ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُتْلَفُ فِي يَدِ الْمَالِكِ، أَوْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لِتَحَقُّقِ الْإِتْلَافِ فِي الْحَالَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ إنْ كَانَ مَنْقُولًا وَهُوَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُتْلِفَ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْمُتْلِفِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَغْصُوبَ بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِتْلَافَ وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُتْلِفَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ كَانَ عَقَارًا ضَمِنَ الْمُتْلِفُ وَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْجَوَابُ فِيهِ، وَفِي الْمَنْقُولِ سَوَاءٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَقَارَ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ مَضْمُونٌ بِهِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهمَا شَاءَ، كَمَا فِي الْمَنْقُولِ. وَكَذَلِكَ إذَا نَقَصَ مَالُ إنْسَانٍ بِمَا لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا ضَمِنَ النُّقْصَانَ سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِ الْمَالِكِ، أَوْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ إتْلَافُ جُزْءٍ مِنْهُ وَتَضْمِينُهُ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَيَضْمَنُ قَدْرَ النُّقْصَانِ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عَلَى مَا مَرَّ، غَيْرَ أَنَّ النُّقْصَانَ إنْ كَانَ بِفِعْلِ غَيْرِ الْغَاصِبِ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ وَيَرْجِعُ الْغَاصِبُ عَلَى الَّذِي نَقَصَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الَّذِي نَقَصَ وَهُوَ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ غَصَبَ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَازْدَادَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ فَقَتَلَهُ إنْسَانٌ خَطَأً، فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَاتِلَ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْقَتْلِ أَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَا وُجُوبِ الضَّمَانِ الْغَصْبَ وَالْقَتْلَ. وَالزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْغَصْبِ وَهِيَ مَضْمُونَةٌ بِالْقَتْلِ؛ لِذَلِكَ ضَمِنَ الْغَاصِبُ أَلْفًا وَالْقَاتِلُ أَلْفَيْنِ، فَإِنْ ضَمِنَ الْقَاتِلُ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ ضَمِنَ الْغَاصِبُ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ بِأَلْفَيْنِ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ عَلَى الْأَلْفِ. وَأَمَّا الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ بِأَلْفَيْنِ فَلِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَغْصُوبَ بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَتْلَ وَرَدَ عَلَى عَبْدِ الْغَاصِبِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ. وَأَمَّا التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ عَلَى الْأَلْفِ فَلِتَمَكُّنِ الْخَبَثِ فِيهِ لِاخْتِلَالِ الْمِلْكِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَظْهَرَ، فَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْفَضْلُ طَيِّبٌ لَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ الْغَاصِبُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ خَطَأً، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ عَاقِلَتَهُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْقَتْلِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ، بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ إذَا كَانَ حَيَوَانًا سِوَى بَنِي آدَمَ فَقَتَلَهُ الْغَاصِبُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ، إلَّا يَوْمَ الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَدْ بَيَّنَّا لَهُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بَعْدَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ ضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ أَلْفًا؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ نَفْسَهُ يُهْدَرُ فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ مَاتَ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَذَا هَذَا، وَلَوْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ وَلَدَتْ وَلَدًا فَقَتَلَتْ وَلَدهَا، ثُمَّ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ، فَعَلَى الْغَاصِبِ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْغَصْبِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهَا وَلَدَهَا هَدَرٌ وَلَا حُكْمَ لَهُ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَهَلَكَ أَمَانَةً وَبَقِيَتْ الْأُمُّ مَضْمُونَةً بِالْغَصْبِ، وَلَوْ أَوْدَعَ رَجُلَانِ رَجُلًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَخَلَطَ الْمُسْتَوْدَعُ أَحَدَ الْأَلْفَيْنِ بِالْآخَرِ خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ ضَمِنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا، وَمَلَكَ الْمَخْلُوطَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ وَقَعَ إتْلَافًا مَعْنًى، وَعِنْدَهُمَا هُمَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَا ذَلِكَ وَيَقْتَسِمَاهُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَاهُ وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ. ثُمَّ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يَسَعُ الْمُودَعُ أَكْلَ هَذِهِ الدَّرَاهِم حَتَّى يُؤَدِّيَ مِثْلَهَا إلَى أَصْحَابِهَا، وَهَذَا صَحِيحٌ لَا خِلَافَ فِيهِ

لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْمَالِكِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ انْقَطَعَ وَثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُسْتَوْدَعِ لَكِنْ فِيهِ خَبَثٌ فَيُمْنَعُ مِنْ الصَّرْفِ فِيهِ، حَتَّى يَرْضَى صَاحِبُهُ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ كُرَّانِ اغْتَصَبَ رَجُلٌ أَحَدَهُمَا، أَوْ سَرَقَهُ، ثُمَّ إنَّ الْمَالِكَ أَوْدَعَ الْغَاصِبَ، أَوْ السَّارِقَ ذَلِكَ الْآخَرَ فَخَلَطَهُ بِكُرِّ الْغَصْبِ ثُمَّ ضَاعَ ذَلِكَ كُلُّهُ ضَمِنَ كُرَّ الْغَصْبِ، وَلَمْ يَضْمَنْ كُرَّ الْوَدِيعَةِ بِسَبَبِ الْخَلْطِ؛ لِأَنَّهُ خَلَطَ مِلْكَهُ بِمِلْكِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكِ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْخَلْطِ وَبَقِيَ الْكُرُّ الْمَضْمُونُ وَكُرُّ الْأَمَانَةِ فِي يَدِهِ عَلَى حَالِهِمَا فَصَارَ كَأَنَّهُمَا هَلَكَا قَبْلَ الْخَلْطِ، وَلَوْ خَلَطَ الْغَاصِبُ دَرَاهِمَ الْغَصْبِ بِدَرَاهِمِ نَفْسِهِ خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ ضَمِنَ مِثْلَهَا وَمَلَكَ الْمَخْلُوطَ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا بِالْخَلْطِ. وَإِنْ مَاتَ كَانَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ الْغُرَمَاءِ وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا وَصَارَ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ، وَلَوْ اخْتَلَطَتْ دَرَاهِمُ الْغَصْبِ بِدَرَاهِمِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، فَلَا يَضْمَنُ وَهُوَ شَرِيكٌ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ هَلَاكٌ، وَلَيْسَ بِإِهْلَاكٍ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَلِفَتْ بِنَفْسِهَا وَصَارَا شَرِيكَيْنِ لِاخْتِلَاطِ الْمِلْكَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ وَلَوْ صَبَّ مَاءً فِي طَعَامٍ فِي يَدِ إنْسَانٍ فَأَفْسَدَهُ وَزَادَ فِي كَيْلِهِ فَلِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَصُبَّ فِيهِ الْمَاءَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ طَعَامًا مِثْلَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَمِّنَهُ مِثْلَ كَيْلِهِ قَبْلَ صَبِّ الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَبَّ مَاءً فِي دُهْنٍ، أَوْ زَيْتٍ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يُضَمِّنَهُ مِثْلَ الطَّعَامِ الْمَبْلُولِ وَالدُّهْنِ الْمَصْبُوبِ فِيهِ الْمَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يُضَمِّنَهُ مِثْلَ كَيْلِ الطَّعَامِ قَبْلَ صَبِّ الْمَاءِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ غَصْبٌ مُتَقَدِّمٌ، حَتَّى لَوْ غَصَبَ ثُمَّ صَبَّ، فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ فَتَحَ بَابَ قَفَصٍ فَطَارَ الطَّيْرُ مِنْهُ وَضَاعَ لَمْ يَضْمَنْ فِي قَوْلِهِمَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَضْمَنُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ طَارَ مِنْ فَوْرِهِ ذَلِكَ ضَمِنَ، وَإِنْ مَكَثَ سَاعَةً، ثُمَّ طَارَ لَا يَضْمَنُ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ فَتْحَ بَابِ الْقَفَصِ وَقَعَ إتْلَافًا لِلطَّيْرِ تَسْبِيبًا؛ لِأَنَّ الطَّيَرَانَ لِلطَّيْرِ طَبْعٌ لَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَطِيرُ إذَا وَجَدَ الْمُخَلِّصَ، فَكَانَ الْفَتْحُ إتْلَافًا لَهُ تَسْبِيبًا فَيُوجِبُ الضَّمَانَ، كَمَا إذَا شَقَّ زِقَّ إنْسَانٍ فِيهِ دُهْنٌ مَائِعٌ فَسَالَ وَهَلَكَ، وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: إذَا مَكَثَ سَاعَةً لَمْ يَكُنْ الطَّيَرَانُ بَعْدَ ذَلِكَ مُضَافًا إلَى الْفَتْحِ، بَلْ إلَى اخْتِيَارِهِ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفَتْحَ لَيْسَ بِإِتْلَافٍ مُبَاشَرَةً وَلَا تَسْبِيبًا (أَمَّا) الْمُبَاشَرَةُ فَظَاهِرَةُ الِانْتِفَاءِ. (وَأَمَّا) التَّسْبِيبُ فَلِأَنَّ الطَّيْرَ مُخْتَارٌ فِي الطَّيَرَانِ؛ لِأَنَّهُ حَيٌّ وَكُلُّ حَيٍّ لَهُ اخْتِيَارٌ، فَكَانَ الطَّيَرَانُ مُضَافًا إلَى اخْتِيَارِهِ وَالْفَتْحُ سَبَبًا مَحْضًا، فَلَا حُكْمَ لَهُ كَمَا إذَا حَلَّ الْقَيْدَ عَنْ عَبْدِ إنْسَانٍ، حَتَّى آبِقَ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا بِخِلَافِ شَقِّ الزِّقِّ الَّذِي فِيهِ دُهْنٌ مَائِعٌ؛ لِأَنَّ الْمَائِعَ سَيَّالٌ بِطَبْعِهِ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ الِاسْتِمْسَاكُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ، إلَّا عَلَى نَقْضِ الْعَادَةِ، فَكَانَ الْفَتْحُ تَسَبُّبًا لِلتَّلَفِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا حَلَّ رِبَاطَ الدَّابَّةِ، أَوْ فَتَحَ بَابَ الْإِصْطَبْلِ، حَتَّى خَرَجَتْ الدَّابَّةُ وَضَلَّتْ، وَقَالُوا إذَا حَلَّ رِبَاطَ الزَّيْتِ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَائِبًا فَسَالَ مِنْهُ ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ السَّمْنُ جَامِدًا فَذَابَ بِالشَّمْسِ وَزَالَ لَمْ يَضْمَنْ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَائِعَ يَسِيلُ بِطَبْعِهِ إذَا وَجَدَ مَنْفَذًا بِحَيْثُ يَسْتَحِيلُ اسْتِمْسَاكُهُ عَادَةً، فَكَانَ حَلُّ الرِّبَاطِ إتْلَافًا لَهُ تَسْبِيبًا فَيُوجِبُ الضَّمَانَ بِخِلَافِ الْجَامِدِ؛ لِأَنَّ السَّيَلَانَ طَبْعُ الْمَائِعِ لَا طَبْعُ الْجَامِدِ، وَهُوَ وَإِنْ صَارَ مَائِعًا لَكِنْ لَا بِصُنْعِهِ، بَلْ بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ، فَلَمْ يَكُنْ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِ لَا مُبَاشَرَةً وَلَا تَسْبِيبًا، فَلَا يَضْمَنُ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا غَصَبَ صَبِيًّا صَغِيرًا حُرًّا مِنْ أَهْلِهِ فَعَقَرَهُ سَبْعٌ، أَوْ نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ، أَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ، أَوْ مِنْ سَطْحٍ فَمَاتَ أَنَّ عَلَى عَاقِلَةِ الْغَاصِبِ الدِّيَةَ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْ الْغَاصِبِ تَسْبِيبًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَحْفُوظًا بِيَدِ وَلِيِّهِ، إذْ هُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا فَوَّتَ حِفْظَ الْأَهْلِ عَنْهُ وَلَمْ يَحْفَظْهُ بِنَفْسِهِ، حَتَّى أَصَابَتْهُ آفَةٌ فَقَدْ ضَيَّعَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إتْلَافًا تَسْبِيبًا، وَالْحُرُّ إنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ مُبَاشَرَةً كَانَ أَوْ تَسْبِيبًا، وَلَوْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ خَطَأً فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلِأَوْلِيَائِهِ أَنْ يَتَّبِعُوا أَيَّهمَا شَاءُوا الْغَاصِبَ أَوْ الْقَاتِلَ. (أَمَّا) الْقَاتِلُ فَلِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ مُبَاشَرَةً. (وَأَمَّا) الْغَاصِبُ فَلِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ تَسْبِيبًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَالتَّسَبُّبُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمُبَاشَرَةِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الْقَتْلِ، حَتَّى لَوْ رَجَعَ شُهُودُ الْقِصَاصِ ضَمِنُوا فَإِنْ اتَّبَعُوا الْقَاتِلَ بِالْمَالِ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ اتَّبَعُوا الْغَاصِبَ فَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ قَامَ مَقَامَ الْمُسْتَحَقِّ فِي حَقِّ مِلْكِ الضَّمَانِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ فِي حَقِّ مِلْكِ الْمَضْمُونِ كَغَاصِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا قُتِلَ الْمُدَبَّرُ فِي يَدِهِ

فصل في بيان شروط وجوب ضمان الإتلاف

وَاخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَ الْغَاصِبِ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْقَاتِلِ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَ الْمُدَبَّرِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ حَائِطُ إنْسَانٍ فَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ وَيَرْجِعُ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الْحَائِطِ إنْ كَانَ تَقَدَّمَ إلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ عَمْدًا فَأَوْلِيَاؤُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا قَتَلُوا الْقَاتِلَ وَبَرِئَ الْغَاصِبُ. وَإِنْ شَاءُوا اتَّبَعُوا الْغَاصِبَ بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَيَرْجِعُ عَاقِلَةُ الْغَاصِبِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ عَمْدًا، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ الْقِصَاصُ. (أَمَّا) وِلَايَةُ الْقِصَاصِ مِنْ الْقَاتِلِ فَلِوُجُودِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْخَالِي عَنْ الْمَوَانِعِ. (وَأَمَّا) وِلَايَةُ اتِّبَاعِ الْغَاصِبِ بِالدِّيَةِ فَلِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ تَسْبِيبًا عَلَى مَا بَيَّنَّا فَإِنْ قَتَلُوا الْقَاتِلَ بَرِئَ الْغَاصِبُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فِي قَتْلٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ اتَّبَعُوا الْغَاصِبَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ تَرْجِعُ عَاقِلَتُهُ عَلَى مَالِ الْقَاتِلِ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَقْتَصُّوا مِنْ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَمْ يَصِرْ مِلْكًا لَهُمْ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ، إذْ هُوَ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ، فَلَمْ يَقُمْ الْغَاصِبُ مَقَامَ الْوَلِيِّ فِي مِلْكِ الْقِصَاصِ فَسَقَطَ الْقِصَاصُ وَيَنْقَلِبُ مَالًا، وَالْمَالُ يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ، فَجَازَ أَنْ يَقُومَ الْغَاصِبُ مَقَامَ الْوَلِيِّ فِي مِلْكِ الْمَالِ. وَلَوْ قَتَلَ الصَّبِيُّ إنْسَانًا فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهُ عَلَى الْوَلِيِّ وَضَمِنَ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الْغَاصِبِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ ضَمَانِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ ضَمَانِ الْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ إنَّمَا يَصِيرُ مُتْلِفًا إيَّاهُ تَسْبِيبًا بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ لَا بِجِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ قَتَلَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ، أَوْ أَتَى عَلَى شَيْءٍ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ أَرْكَبَهُ الْغَاصِبُ دَابَّةً فَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنْهَا فَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَضْمَنُ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ فِعْلَهُ عَلَى نَفْسِهِ هَدَرٌ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، أَوْ سَقَطَتْ يَدُهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ لَوَجَبَ بِالْغَصْبِ وَالْحُرُّ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ، وَلِهَذَا لَوْ جَنَى عَلَى غَيْرِهِ لَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ كَذَا هَذَا. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحُرَّ إنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ مُبَاشَرَةً أَوْ تَسْبِيبًا، وَقَدْ وُجِدَ التَّسْبِيبُ مِنْ الْغَاصِبِ حَيْثُ تَرَكَ حِفْظَهُ عَنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، فَكَانَ مُتْلِفًا إيَّاهُ تَسْبِيبًا، فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَلَا يَرْجِعُ الْغَاصِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ بِمَا ضَمِنَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يُعْتَبَرُ، فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَمَاتَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ غَصَبَ أُمَّ وَلَدٍ فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ لَمْ يَضْمَنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعِهَا، وَلَوْ مَاتَتْ فِي يَدِهِ بِآفَةٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ فِي الصَّبِيِّ الْحُرِّ، فَإِنَّ الْغَاصِبَ يَغْرَم قِيمَتَهَا حَالَّةً فِي مَالِهِ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ تَسْبِيبًا، وَأُمُّ الْوَلَدِ مَضْمُونَةٌ بِالْإِتْلَافِ بِلَا خِلَافٍ، وَلِهَذَا وَجَبَ الضَّمَانُ فِي الصَّبِيِّ الْحُرِّ فَفِي أُمِّ الْوَلَدِ أَوْلَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَان شُرُوط وُجُوب ضمان الْإِتْلَاف] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ هَذَا الضَّمَانِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُتْلَفُ مَالًا، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِ الْمَيِّتَةِ وَالدَّمِ وَجِلْدِ الْمَيِّتَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِمَالٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْبُيُوعِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ عَلَى الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُتْلِفُ مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا لِسُقُوطِ تَقَوُّمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَلَوْ أَتْلَفَ مُسْلِمٌ، أَوْ ذِمِّيٌّ عَلَى ذِمِّيٍّ خَمْرًا، أَوْ خِنْزِيرًا يَضْمَنُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالدَّلَائِلُ مَرَّتْ فِي مَسَائِلِ الْغَصْبِ، وَلَوْ أَتْلَفَ ذِمِّيٌّ عَلَى ذِمِّيٍّ خَمْرًا، أَوْ خِنْزِيرًا، ثُمَّ أَسْلَمَا، أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَمَّا فِي الْخِنْزِيرِ، فَلَا يَبْرَأُ الْمُتْلِفُ عَنْ الضَّمَانِ الَّذِي لَزِمَهُ سَوَاءٌ أَسْلَمَ الطَّالِبُ، أَوْ الْمَطْلُوبُ، أَوْ أَسْلَمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِإِتْلَافِ الْخِنْزِيرِ الْقِيمَةُ وَإِنَّهَا دَرَاهِمُ، أَوْ دَنَانِيرُ وَالْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبْضِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. (وَأَمَّا) فِي الْخَمْرِ فَإِنْ أَسْلَمَا جَمِيعًا، أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الطَّالِبُ الْمُتْلَفُ عَلَيْهِ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ الْمُتْلِفُ وَسَقَطَتْ عَنْهُ الْخَمْرُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ أَسْلَمَ الْمَطْلُوبُ أَوَّلًا، ثُمَّ أَسْلَمَ الطَّالِبُ، أَوْ لَمْ يُسْلِمْ فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَبْرَأُ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْخَمْرِ وَلَا يُتَحَوَّلُ إلَى الْقِيمَةِ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الطَّالِبُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَعَافِيَةَ بْنِ زَيْدٍ الْقَاضِي وَهُوَ رِوَايَتُهُمْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَبْرَأُ الْمَطْلُوبُ وَيَتَحَوَّلُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْخَمْرِ إلَى الْقِيمَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْإِتْلَافُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا لِلذِّمِّيِّ، فَكَذَا إذَا أَتْلَفَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَلَوْ كَسَرَ عَلَى إنْسَانٍ بَرْبَطًا أَوْ طَبْلًا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ خَشَبًا مَنْحُوتًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى خَشَبًا أَلْوَاحًا. وَعِنْدَهُمَا

لَا يَضْمَنُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا آلَةُ اللَّهْوِ وَالْفَسَادِ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا كَالْخَمْرِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَمَا يَصْلُحُ لِلَّهْوِ وَالْفَسَادِ يَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَكَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَاقَ لِإِنْسَانٍ مُسْكِرًا، أَوْ مُنَصَّفًا فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَلَوْ أَحْرَقَ بَابًا مَنْحُوتًا عَلَيْهِ تَمَاثِيلُ مَنْقُوشَةٌ ضَمِنَ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَنْقُوشٍ بِتَمَاثِيلَ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِنَقْشِ التَّمَاثِيلِ؛ لِأَنَّ نَقْشَهَا مَحْظُورٌ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ قَطَعَ رُءُوسَ التَّمَاثِيلِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مَنْقُوشًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تِمْثَالًا بِلَا رَأْسٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ، فَكَانَ النَّقْشُ مَنْقُوشًا وَلَوْ أَحْرَقَ بِسَاطًا فِيهِ تَمَاثِيلُ رِجَالٍ ضَمِنَ قِيمَتَهُ مُصَوَّرًا؛ لِأَنَّ التِّمْثَالَ عَلَى الْبِسَاطِ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ؛ لِأَنَّ الْبِسَاطَ يُوطَأُ، فَكَانَ النَّقْشُ مُتَقَوِّمًا، وَلَوْ هَدَمَ بَيْتًا مُصَوَّرًا ضَمِنَ قِيمَةَ الْبَيْتِ، وَالصُّوَرُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ؛ لِأَنَّ الصُّوَرَ عَلَى الْبَيْتِ لَا قِيمَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فَأَمَّا الصِّبْغُ فَمُتَقَوِّمٌ، وَلَوْ قَتَلَ جَارِيَةً مُغَنِّيَةً ضَمِنَ قِيمَتَهَا غَيْرَ مُغَنِّيَةٍ؛ لِأَنَّ الْغِنَاءَ لَا قِيمَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ، هَذَا إذَا كَانَ الْغِنَاءُ زِيَادَةً فِي الْجَارِيَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ نُقْصَانًا فِيهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قَدْرَ قِيمَتِهَا، وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ الْمُبَاحَاتُ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْإِتْلَافِ لِعَدَمِ تَقَوُّمِهَا إذْ التَّقَوُّمُ يُبْنَى عَلَى الْعِزَّةِ وَالْحَظْرِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ، إلَّا بِالْإِحْرَازِ وَالِاسْتِيلَاءِ. (وَأَمَّا) الْمُبَاحُ الْمَمْلُوكُ وَهُوَ مَالُ الْحَرْبِيِّ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِهِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا لِفَقْدِ شَرْطٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ شِئْت قُلْت وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ، وَالتَّخْرِيجُ عَلَى شَرْطِ التَّقَوُّمِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مَمْلُوكًا فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، فَإِنَّ الْمَوْقُوفَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ وَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ أَصْلًا، أَرْضٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ زَرْعَهَا أَحَدُهُمَا وَتَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يُعْطِيَ الَّذِي لَمْ يَزْرَعْ نِصْفَ الْبَذْرِ، وَيَكُونُ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا فَهَذَا لَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ كَانَ الزَّرْعُ نَبَتَ (وَإِمَّا) أَنْ كَانَ لَمْ يَنْبُتْ، فَإِنْ كَانَ قَدْ نَبَتَ جَازَ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعُ الْحَشِيشِ بِالْحِنْطَةِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ. وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْبُتْ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا بَقِيَ تَحْتَ الْأَرْضِ مِمَّا تَلِفَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَإِنْ نَبَتَ الزَّرْعُ وَطَلَبَ الَّذِي لَمْ يَزْرَعْ الْقِسْمَةَ قَسَمَ، وَأَمَرَ الَّذِي زَرَعَ أَنْ يَقْلَعَ مَا فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مَشْغُولٌ بِمِلْكِهِ فَيُجْبَرُ عَلَى تَفْرِيغِهِ وَتَضْمِينِهِ نُقْصَانَ الزِّرَاعَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمُتْلِفُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ أَتْلَفَتْ مَالَ إنْسَانٍ بَهِيمَةٌ لَا ضَمَانَ عَلَى مَالِكِهَا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ، فَكَانَ هَدَرًا وَلَا إتْلَافَ مِنْ مَالِكِهَا، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي الْوُجُوبِ فَائِدَةٌ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِإِتْلَافِ مَالِ الْحَرْبِيِّ وَلَا عَلَى الْحَرْبِيِّ بِإِتْلَافِ مَالِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَا لَا ضَمَانَ عَلَى الْعَادِلِ إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْبَاغِي، وَلَا عَلَى الْبَاغِي إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْعَادِلِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْوُجُوبِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى الضَّمَانِ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ، فَأَمَّا الْعِصْمَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ ضَمَانِ الْمَالِ، إلَّا أَنَّ الصَّبِيَّ مَأْخُوذٌ بِضَمَانِ الْإِتْلَافِ، وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ عِصْمَةُ الْمُتْلَفِ فِي حَقِّهِ، وَكَذَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِتَنَاوُلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَ الْمَخْمَصَةِ مَعَ إبَاحَةِ التَّنَاوُلِ، وَكَذَا كَسْرُ آلَاتِ الْمَلَاهِي مُبَاحٌ وَهِيَ مَضْمُونَةٌ بِالْإِتْلَافِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَا يَلْزَمُ إذَا أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ بِإِذْنِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ لَيْسَ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ بَلْ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمِنَ، فَلَا يُفِيدُ وَاَللَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ. وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِكَوْنِ الْمُتْلَفِ مَالَ الْغَيْرِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ مَالًا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مِلْكُهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِلْكُ غَيْرِهِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى الْعِلْمِ كَمَا فِي الْغَصْبِ عَلَى مَا مَرَّ، إلَّا أَنَّهُ إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ يَضْمَنُ وَيَأْثَمُ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ يَضْمَنُ وَلَا يَأْثَمُ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَرْفُوعُ الْمُؤَاخَذَةِ شَرْعًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي مَسَائِلِ الْغَصْبِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا بَيَانُ مَاهِيَّةِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِإِتْلَافِ مَا سِوَى بَنِي آدَمَ: فَالْوَاجِبُ بِهِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ بِالْغَصْبِ وَهُوَ ضَمَانُ الْمِثْلِ إنْ كَانَ الْمُتْلَفُ مِثْلِيًّا، وَضَمَانُ الْقِيمَةِ إنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ ضَمَانُ اعْتِدَاءٍ، وَالِاعْتِدَاءُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا بِالْمِثْلِ، فَعِنْدَ الْإِمْكَانِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْمِثْلِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى، وَعِنْدَ التَّعَذُّرِ يَجِبُ الْمِثْلُ مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ، كَمَا فِي الْغَصْبِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

كتاب الحجر والحبس

[كِتَابُ الْحَجْرِ وَالْحَبْسِ] [الْفَصْل الْأَوَّل فِي الْحَجَر] [أَسْبَاب الْحَجَر] كِتَابُ الْحَجْرِ) وَالْحَبْسِ فِي هَذَا الْكِتَابِ فَصْلَانِ: فَصْلٌ فِي الْحَجْرِ، وَفَصْلٌ فِي الْحَبْسِ، أَمَّا الْحَجْرُ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: فِي بَيَانِ أَسْبَابِ الْحَجْرِ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ حُكْمِ الْحَجْرِ، وَالثَّالِثُ: فِي بَيَانِ مَا يَرْفَعُ الْحَجْرَ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَجْرِ ثَلَاثَةٌ مَا لَهَا رَابِعٌ: الْجُنُونُ، وَالصِّبَا، وَالرِّقُّ، وَهُوَ قَوْلُ: زُفَرَ، وَقَالَ: أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى وَالسَّفَهُ، وَالتَّبْذِيرُ، وَمَطْلُ الْغَنِيِّ، وَرُكُوبُ الدَّيْنِ، وَخَوْفُ ضَيَاعِ الْمَالِ بِالتِّجَارَةِ، وَالتَّلْجِئَةُ. وَالْإِقْرَارُ لِغَيْرِ الْغُرَمَاءِ مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ أَيْضًا فَيَجْرِي عِنْدَهُمْ فِي السَّفِيهِ الْمُفْسِدِ لِلْمَالِ بِالصَّرْفِ إلَى الْوُجُوهِ الْبَاطِلَةِ، وَفِي الْمُبَذِّرِ الَّذِي يُسْرِفُ فِي النَّفَقَةِ، وَيَغْبِنُ فِي التِّجَارَاتِ، وَفِيمَنْ يَمْتَنِعُ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ إذَا ظَهَرَ مَطْلُهُ عِنْدَ الْقَاضِي، وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ عَلَيْهِ مَالَهُ، وَيَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ وَفِيمَنْ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ وَلَهُ مَالٌ فَخَافَ الْغُرَمَاءُ ضَيَاعَ أَمْوَالِهِ بِالتِّجَارَةِ فَرَفَعُوا الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ، أَوْ خَافُوا أَنْ يُلْجِئَ أَمْوَالَهُ فَطَلَبُوا مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَحْجُرَهُ عَنْ الْإِقْرَارِ لَا لِلْغُرَمَاءِ فَيَجْرِي الْحَجْرُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَهُ لَا يَجْرِي وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ لَا يُجْرِي الْحَجْرَ إلَّا عَلَى ثَلَاثَةٍ: الْمُفْتِي الْمَاجِنِ وَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ حَقِيقَةَ الْحَجْرِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُفْتِيَ لَوْ أَفْتَى بَعْدَ الْحَجْرِ، وَأَصَابَ فِي الْفَتْوَى جَازَ، وَلَوْ أَفْتَى قَبْلَ الْحَجْرِ وَأَخْطَأَ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا الطَّبِيبُ لَوْ بَاعَ الْأَدْوِيَةَ بَعْدَ الْحَجْرِ نَفَذَ بَيْعُهُ فَدَلَّ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الْحَجْرَ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمَنْعَ الْحِسِّيَّ أَيْ: يُمْنَعُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ عَنْ عَمَلِهِمْ حِسًّا؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّ الْمُفْتِيَ الْمَاجِنَ يُفْسِدُ أَدْيَانَ الْمُسْلِمِينَ، وَالطَّبِيبَ الْجَاهِلَ يُفْسِدُ أَبْدَانَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسَ يُفْسِدُ أَمْوَالَ النَّاسِ فِي الْمَفَازَةِ، فَكَانَ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، لَا مِنْ بَابِ الْحَجْرِ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّنَاقُضُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ وَلَوْ حَجَرَ الْقَاضِي عَلَى السَّفِيهِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَنْفُذْ حَجْرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ بَعْدَ الْحَجْرِ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الْحَجْرُ هَهُنَا مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ مِنْ الْقَاضِي قَضَاءٌ مِنْهُ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ إنَّمَا يَنْفُذُ، وَيَصِيرُ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ نَفْسُ الْقَضَاءِ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ فَلَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ الَّتِي لَا يَرْجِعُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا إلَى نَفْسِ الْقَضَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي وَاخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي السَّفِيهِ أَنَّهُ هَلْ يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِنَفْسِ السَّفَهِ أَمْ يَقِفُ الِانْحِجَارُ عَلَى حَجْرِ الْقَاضِي قَالَ أَبُو يُوسُفَ: " لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا إلَّا بِحَجْرِ الْقَاضِي "، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَنْحَجِرُ بِنَفْسِ السَّفَهِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى حَجْرِ الْقَاضِي، وَحُجَّةُ الْعَامَّةِ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْكُورِينَ وَلِيًّا، مِنْهُمْ السَّفِيهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا وَلِيَّ لِلسَّفِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ وَلِيٌّ دَلَّ أَنَّهُ مُوَلَّى عَلَيْهِ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] نَهَى عَنْ إعْطَاءِ الْأَمْوَالِ السُّفَهَاءَ، وَعِنْدَهُ يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَاعَ عَلَى مُعَاذٍ مَالَهُ بِسَبَبِ دُيُونٍ رَكِبَتْهُ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَلَيْهِ لَا يُذْكَرُ إلَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الرِّضَا؛ وَلِأَنَّ التَّصَرُّفَاتِ شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ. وَالْمَصْلَحَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْإِطْلَاقِ مَرَّةً وَبِالْحَجْرِ أُخْرَى، وَالْمَصْلَحَةُ هَهُنَا؛ فِي الْحَجْرِ وَلِهَذَا إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ سَفِيهًا يُمْنَعُ عَنْهُ مَالُهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً بِلَا خِلَافٍ، وَلِهَذَا حُجِرَ عَلَى الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ لِكَوْنِ الْحَجْرِ مَصْلَحَةً فِي حَقِّهِمَا، كَذَا هَهُنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عُمُومَاتُ الْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَالْإِقْرَارِ، وَالظِّهَارِ، وَالْيَمِينِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] إلَى قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: 282] أَجَازَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَدَلَيْنِ حَيْثُ نَدَبَ إلَى الْكِتَابَةِ وَأَثْبَتَ الْحَقَّ حَيْثُ أَمَرَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْإِمْلَاءِ، وَنَهَى عَنْ الْبَخْسِ عَامًّا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] .

فصل في بيان حكم الحجر

وَبَيْعُ مَالِ الْمَدْيُونِ عَلَيْهِ تِجَارَةً لَا عَنْ تَرَاضٍ فَلَا يَجُوزُ وَبَيْعُ السَّفِيهِ مَالَهُ تِجَارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ فَيَجُوزُ وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] عَامًّا وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ إقْرَارٌ وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» وَآيَةِ الظِّهَارِ وَآيَةِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ عَامًّا وَالْحَجْرُ عَنْ الْمَشْرُوعِ مُتَنَاقِضٌ، وَكَذَا نَصُّ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ يَقْتَضِيَانِ وُجُوبَ التَّحْرِيرِ عَلَى الْمُظَاهِرِ وَالْحَالِفِ الْحَانِثِ وَجَوَازَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ عَامًّا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ التَّحْرِيرُ عَلَى السَّفِيهِ وَلَوْ حَرَّرَ لَا يَجْزِيهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهُ تَجِبُ السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ فَيَكُونُ إعْتَاقًا بِعِوَضٍ، فَلَا يَقَعُ التَّحْرِيرُ تَكْفِيرًا فَكَانَتْ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِمَا، وَلِأَنَّ بَيْعَ السَّفِيهِ مَالَ نَفْسِهِ تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ الْأَهْلِ بِرُكْنِهِ فِي مَحِلٍّ هُوَ خَالِصُ مِلْكِهِ فَيَنْفُذُ كَتَصَرُّفِ الرَّشِيدِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُجُودَ التَّصَرُّفِ حَقِيقَةً بِوُجُودِ رُكْنِهِ، وَوُجُودَهُ شَرْعًا بِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَحُلُولِهِ فِي مَحِلِّهِ وَقَدْ وُجِدَ، وَبَيْعُ مَالِ الْمَدْيُونِ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمَالِكِ وَأَنَّهُ لَا يَنْفُذُ كَالْفُضُولِيِّ. (وَأَمَّا) الْآيَةُ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: السَّفِيهُ هُوَ الصَّغِيرُ وَبِهِ نَقُولُ وَقِيلَ: إنَّ الْوَلِيَّ هَهُنَا هُوَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ يُمْلِي بِالْعَدْلِ عِنْدَ حَضْرَةَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لِئَلَّا يَزِيدَ عَلَى مَا عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَوْ زَادَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ الْمُرَادُ مِنْ السُّفَهَاءِ النَّسَاءُ، وَالْأَوْلَادُ الصِّغَارُ يُؤَيِّدُهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ قَوْلُهُ {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] وَرِزْقُ النَّسَاءِ وَالْأَوْلَادِ الصِّغَارِ هُوَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَزْوَاجِ لَا رِزْقُ السَّفِيهِ وَكِسْوَتُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ مَالِ السَّفِيهِ عَلَى أَنَّ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ أَنْ لَا تُؤْتُوهُمْ مَالَ أَنْفُسِكُمْ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَضَافَ الْأَمْوَالَ إلَى الْمُعْطِي لَا إلَى الْمُعْطَى لَهُ وَبِهِ نَقُولُ. (وَأَمَّا) بَيْعُ مَالِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ كَانَ بِرِضَاهُ إذْ لَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يَكْرَهُ بَيْعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَمْتَنِعُ بِنَفْسِهِ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ لِيَنَالَ بَرَكَتَهُ فَيَصِيرُ دَيْنُهُ مَقْضِيًّا بِبَرَكَتِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ أَبُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ دُيُونًا فَطَلَبَ جَابِرٌ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يَبِيعَ أَمْوَالَهُ لِيَنَالَ بَرَكَتَهُ فَيَصِيرُ دَيْنُهُ بِذَلِكَ مَقْضِيًّا» وَكَانَ كَمَا ظَنَّ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِمَنْعِ الْمَالِ إذَا بَلَغَ سَفِيهًا لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ، وَالْحَجْرُ تَصَرُّفٌ عَلَى النَّفْسِ وَالنَّفْسُ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ الْمَالِ، فَثُبُوتُ أَدْنَى الْوِلَايَتَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ أَعْلَاهُمَا، ثُمَّ نَقُولُ إنَّمَا يُمْنَعُ عَنْ مَالِهِ نَظَرًا لَهُ تَقْلِيلًا لِلسَّفَهِ لِمَا أَنَّ السَّفَهَ غَالِبًا يَجْرِي فِي الْهِبَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ، فَإِذَا مُنِعَ مِنْهُ مَالُهُ يَنْسَدُّ بَابُ السَّفَهِ فَيَقِلُّ السَّفَهُ. (فَأَمَّا) الْمُعَاوَضَاتُ فَلَا يَغْلِبُ فِيهَا السَّفَهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْحَجْرِ لِتَقْلِيلِ السَّفَهِ، وَأَنَّهُ يَقِلُّ بِدُونِهِ فَيَتَمَحَّضُ الْحَجْرُ ضَرَرًا بِإِبْطَالِ أَهْلِيَّتِهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ فَلَمْ يَتَضَمَّنْ الْحَجْرُ إبْطَالَ الْأَهْلِيَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ حُكْمِ الْحَجْرِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْحَجْرِ فَحُكْمُهُ يَظْهَرُ فِي مَالِ الْمَحْجُورِ، وَفِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ (أَمَّا) حُكْمُ الْمَالِ فَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ عَنْهُ مَالُهُ مَادَامَ مَجْنُونًا، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَالِ فِي يَدِ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ إتْلَافُ الْمَالِ. (وَأَمَّا) الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ فَيُمْنَعُ عَنْهُ مَالُهُ إلَى أَنْ يُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدُهُ وَلَا بَأْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِ، وَيَأْذَنَ لَهُ بِالتِّجَارَةِ لِلِاخْتِبَارِ عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] أَذِنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْأَوْلِيَاءِ فِي ابْتِلَاءِ الْيَتَامَى، وَالِابْتِلَاءُ الِاخْتِبَارُ، وَذَلِكَ بِالتِّجَارَةِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِالِابْتِلَاءِ إذْنًا بِالتِّجَارَةِ، وَإِذَا اخْتَبَرَهُ فَإِنْ آنَسَ مِنْهُ رُشْدًا دَفَعَ الْبَاقِيَ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] وَالرُّشْدُ هُوَ الِاسْتِقَامَةُ وَالِاهْتِدَاءُ فِي حِفْظِ الْمَالِ وَإِصْلَاحِهِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُمْنَعُ مِنْهُ مَالُهُ وَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَدْفَعَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِ إلَيْهِ، وَأَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِالتِّجَارَةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَالْمَسْأَلَةُ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَأْنَسْ مِنْهُ رُشْدًا مَنَعَهُ مِنْهُ إلَى أَنْ يَبْلُغَ، فَإِنْ بَلَغَ رَشِيدًا دَفَعَ إلَيْهِ، وَإِنْ بَلَغَ سَفِيهًا مُفْسِدًا مُبَذِّرًا فَإِنَّهُ يَمْنَعُ عَنْهُ مَالَهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِذَا بَلَغَ هَذَا الْمَبْلَغَ وَلَمْ يُؤْنِسْ رُشْدَهُ دَفَعَ إلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ مَا دَامَ سَفِيهًا. (وَأَمَّا) الرَّقِيقُ فَلَا مَالَ لَهُ يُمْنَعُ فَلَا يَظْهَرُ أَثَرُ الْحَجْرِ فِي حَقِّهِ فِي الْمَالِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِي التَّصَرُّفَاتِ، هَذَا حُكْمُ الْحَجْرِ فِي مَالِ الْمَحْجُورِ. (وَأَمَّا) حُكْمُهُ فِي تَصَرُّفِهِ فَالتَّصَرُّفُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ

فصل في بيان ما يرفع الحجر

الْأَقْوَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَفْعَالِ. (أَمَّا) التَّصَرُّفَاتُ الْقَوْلِيَّةُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: نَافِعٍ مَحْضٍ، وَضَارٍّ مَحْضٍ وَدَائِرٍ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ. (أَمَّا) الْمَجْنُونُ فَلَا تَصِحُّ مِنْهُ التَّصَرُّفَاتُ الْقَوْلِيَّةُ كُلُّهَا فَلَا يَجُوزُ طَلَاقُهُ وَعِتَاقُهُ وَكِتَابَتُهُ وَإِقْرَارُهُ، وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ حَتَّى لَا تَلْحَقَهُ الْإِجَازَةُ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَكَذَا الصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ شَرْطُ جَوَازِ التَّصَرُّفِ وَانْعِقَادِهِ وَلَا أَهْلِيَّةَ بِدُونِ الْعَقْلِ. (وَأَمَّا) الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ فَتَصِحُّ مِنْهُ التَّصَرُّفَاتُ النَّافِعَةُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا تَصِحُّ مِنْهُ التَّصَرُّفَاتُ الضَّارَّةُ الْمَحْضَةُ بِالْإِجْمَاعِ (وَأَمَّا) الدَّائِرَةُ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَيَنْعَقِدُ عِنْدَنَا مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ فَإِنْ أَجَازَ جَازَ، وَإِنْ رَدَّ بَطَلَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَنْعَقِدُ أَصْلًا وَهِيَ مَسْأَلَةُ تَصَرُّفَاتِ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، وَقَدْ مَرَّتْ فِي مَوْضِعِهَا. (وَأَمَّا) الرَّقِيقُ فَيَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَكَذَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَإِقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ. (وَأَمَّا) إقْرَارُهُ بِالْمَالِ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ، وَيَصِحُّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ. (وَأَمَّا) الْبَيْعُ وَغَيْرُهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ فَلَا يَنْفُذُ بَلْ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى، وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ذُكِرَتْ فِي مَوَاضِعِهَا (وَأَمَّا) التَّصَرُّفَاتُ الْفِعْلِيَّةُ وَهِيَ الْغُصُوبُ وَالْإِتْلَافَاتُ فَهَذِهِ الْعَوَارِضُ وَهِيَ: الصِّبَا، وَالْجُنُونُ، وَالرِّقُّ لَا تُوجِبُ الْحَجْرَ فِيهَا حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ شَيْئًا، فَضَمَانُهُ فِي مَالِهِمَا، وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ لَكِنْ بَعْدَ الْعَتَاقِ. (وَأَمَّا) السَّفِيهُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ لَيْسَ بِمَحْجُورٍ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ أَصْلًا وَحَالُهُ وَحَالُ الرَّشِيدِ فِي التَّصَرُّفَاتِ سَوَاءٌ لَا يَخْتَلِفَانِ إلَّا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ: وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا بَلَغَ سَفِيهًا يُمْنَعُ عَنْهُ مَالُهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَإِذَا بَلَغَ رَشِيدًا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ. (فَأَمَّا) فِي التَّصَرُّفَاتِ فَلَا يَخْتَلِفَانِ حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ بَعْدَ مَا بَلَغَ سَفِيهًا وَمُنِعَ عَنْهُ مَالُهُ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، كَمَا يَنْفُذُ بَعْدَ أَنْ دُفِعَ الْمَالُ إلَيْهِ عِنْدَهُ. (وَأَمَّا) عِنْدَهُمَا فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَالْبَالِغِ الْمَعْتُوهِ سَوَاءٌ فَلَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ، وَشِرَاؤُهُ، وَإِجَارَتُهُ وَهِبَتُهُ، وَصَدَقَتُهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَالْفَسْخَ. (وَأَمَّا) فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ الرَّشِيدِ سَوَاءٌ، فَيَجُوزُ طَلَاقُهُ وَنِكَاحُهُ وَإِعْتَاقُهُ وَتَدْبِيرُهُ وَاسْتِيلَادُهُ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ زَوْجَاتِهِ وَأَقَارِبِهِ، وَالزَّكَاةُ فِي مَالِهِ، وَحِجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَيُنْفِقُ عَلَى زَوْجَاتِهِ، وَأَقَارِبِهِ، وَيُؤَدِّي الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ وَلَا مِنْ الْعُمْرَةِ، وَلَا مِنْ الْقَرَابِينِ، وَسُوقِ الْبَدَنَةِ لَكِنْ يُسَلِّمُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ وَالْكِرَاءَ وَالْهَدْيَ عَلَى يَدِ أَمِينٍ لِيُنْفِقَ عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقِ، وَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ لِأَبِيهِ وَجَدِّهِ وَوَصِيِّهِمَا، وَيَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَتَجُوزُ وَصَايَاهُ بِالْقُرْبِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ مِنْ ثُلْثِ مَالِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَصِحُّ مِنْ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الرَّشِيدِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَالزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ، وَإِذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ يَعْتِقُ مِنْ غَيْرِ سِعَايَةٍ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَا يَخْتَلِفَانِ، وَلَوْ بَاعَ السَّفِيهُ أَوْ اشْتَرَى نَظَرَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ فَمَا كَانَ خَيْرًا أَجَازَ وَمَا كَانَ فِيهِ مَضَرَّةٌ رَدَّهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَرْفَعُ الْحَجْرَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَرْفَعُ الْحَجْرَ (أَمَّا) الصَّبِيُّ فَاَلَّذِي يَرْفَعُ الْحَجْرَ عَنْهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: إذْنُ الْوَلِيِّ إيَّاهُ بِالتِّجَارَةِ، وَالثَّانِي: بُلُوغُهُ إلَّا أَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ يُزِيلُ الْحَجْرَ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ. (وَأَمَّا) التَّصَرُّفَاتُ الضَّارَّةُ الْمَحْضَةُ فَلَا يَزُولُ الْحَجْرُ عَنْهَا إلَّا بِالْبُلُوغِ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَزُولُ الْحَجْرُ عَنْ الصَّبِيِّ إلَّا بِالْبُلُوغِ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ ثَمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَزُولُ الْحَجْرُ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ بِالْبُلُوغِ سَوَاءٌ بَلَغَ رَشِيدًا أَوْ سَفِيهًا، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيَنْحَجِرُ بِحَجْرِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَنْحَجِرُ الصَّبِيُّ عَنْ التَّصَرُّفِ بِحَجْرِ الْقَاضِي لَكِنْ يَمْنَعُ مَالَهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ. وَالشَّافِعِيِّ لَا يَزُولُ إلَّا بِبُلُوغِهِ رَشِيدًا، ثُمَّ الْبُلُوغُ فِي الْغُلَامِ يُعْرَفُ بِالِاحْتِلَامِ وَالْإِحْبَالِ وَالْإِنْزَالِ، وَفِي الْجَارِيَةِ يُعْرَفُ بِالْحَيْضِ وَالِاحْتِلَامِ وَالْحَبَلِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَيُعْتَبَرُ بِالسِّنِّ. (أَمَّا) مَعْرِفَةُ الْبُلُوغِ بِالِاحْتِلَامِ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْهَا الصَّبِيُّ حَتَّى يَحْتَلِمَ» جَعَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الِاحْتِلَامَ غَايَةً لِارْتِفَاعِ الْخِطَابِ، وَالْخِطَابُ بِالْبُلُوغِ دَلَّ أَنَّ الْبُلُوغَ يَثْبُتُ بِالِاحْتِلَامِ؛ وَلِأَنَّ الْبُلُوغَ وَالْإِدْرَاكَ عِبَارَةٌ عَنْ بُلُوغِ الْمَرْءِ كَمَالَ الْحَالِ وَذَلِكَ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ، وَالْقُدْرَةُ

مِنْ حَيْثُ سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ هِيَ إمْكَانُ اسْتِعْمَالِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ السَّلِيمَةِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ عَلَى الْكَمَالِ إلَّا عِنْدَ الِاحْتِلَامِ، فَإِنْ قِيلَ الْإِدْرَاكُ إمْكَانُ اسْتِعْمَالِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ إنْ كَانَ ثَابِتًا، فَأَمَّا إمْكَانُ اسْتِعْمَالِ الْآلَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ فَلَيْسَ بِثَابِتٍ؛ لِأَنَّ كَمَالَهَا بِالْإِنْزَالِ وَالِاحْتِلَامِ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْمَاءِ عَلَى الْأَغْلَبِ فَجُعِلَ عَلَمًا عَلَى الْبُلُوغِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِابْتِغَاءِ الْوَلَدِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ لَهُ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] وَالتَّكْلِيفُ بِابْتِغَاءِ الْوَلَدِ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ فِي وَقْتٍ لَوْ ابْتَغَى الْوَلَدَ لَوُجِدَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي خُرُوجِ الْمَاءِ لِلشَّهْوَةِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ بِالِاحْتِلَامِ فِي الْمُتَعَارَفِ، وَلِأَنَّ عِنْدَ الِاحْتِلَامِ يَخْرُجُ عَنْ حَيِّزِ الْأَوْلَادِ وَيَدْخُلُ فِي حَيِّزِ الْآبَاءِ حَتَّى يُسَمَّى أَبَا فُلَانٍ لَا وَلَدَ فُلَانٍ فِي الْمُتَعَارَفِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ الْعَلُوقِ فَكَانَ الِاحْتِلَامُ عَلَمًا عَلَى الْبُلُوغِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبُلُوغَ يَثْبُتُ بِالِاحْتِلَامِ يَثْبُتُ بِالْإِنْزَالِ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي يَتَعَلَّقُ بِالنُّزُولِ لَا بِنَفْسِ الِاحْتِلَامِ إلَّا أَنَّ الِاحْتِلَامَ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْمَاءِ عَادَةً فَعُلِّقَ الْحُكْمُ بِهِ، وَكَذَا الْإِحْبَالُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْإِنْزَالِ عَادَةً فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا فَيُعْتَبَرُ الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَدْنَى السِّنِّ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْبُلُوغُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي الْغُلَامِ وَسَبْعَ عَشْرَةَ فِي الْجَارِيَةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ جَمِيعًا وَجْهُ قَوْلِهِمْ: أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْعَقْلُ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ إذْ بِهِ قِوَامُ الْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا الِاحْتِلَامُ جُعِلَ حَدًّا فِي الشَّرْعِ لِكَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى كَمَالِ الْعَقْلِ، وَالِاحْتِلَامُ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً عَادَةً فَإِذَا لَمْ يَحْتَلِمْ إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لِآفَةٍ فِي خِلْقَتِهِ، وَالْآفَةُ فِي الْخِلْقَةِ لَا تُوجِبُ آفَةً فِي الْعَقْلِ فَكَانَ الْعَقْلُ قَائِمًا بِلَا آفَةٍ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي لُزُومِ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «عُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُلَامٌ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّهُ وَعُرِضَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَهُ» فَقَدْ جَعَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَمْسَ عَشْرَةَ حَدًّا لِلْبُلُوغِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا عَلَّقَ الْحُكْمَ وَالْخِطَابَ بِالِاحْتِلَامِ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَيَجِبُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَلَا يَرْتَفِعُ الْحُكْمُ عَنْهُ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِعَدَمِهِ، وَيَقَعُ الْيَأْسُ عَنْ وُجُودِهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الْيَأْسُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِلَامَ إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ مُتَصَوَّرٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَا يَجُوزُ إزَالَةُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالِاحْتِلَامِ عَنْهُ مَعَ الِاحْتِمَالِ، عَلَى هَذَا أُصُولُ الشَّرْعِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْحَيْضِ لَمَّا كَانَ لَازِمًا فِي حَقِّ الْكَبِيرَةِ لَا يَزُولُ بِامْتِدَادِ الطُّهْرِ مَا لَمْ يُوجَدْ الْيَأْسُ، وَيَجِبُ الِانْتِظَارُ لِمُدَّةِ الْيَأْسِ لِاحْتِمَالِ عَوْدِ الْحَيْضِ، وَكَذَا التَّفْرِيقُ فِي حَقِّ الْعِنِّينِ لَا يَثْبُتُ مَا دَامَ طَمَعُ الْوُصُولِ ثَابِتًا، بَلْ يُؤَجَّلُ سَنَةً لِاحْتِمَالِ الْوُصُولِ فِي فُصُولِ السَّنَةِ، فَإِذَا مَضَتْ السَّنَةُ وَوَقَعَ الْيَأْسُ الْآنَ يُحْكَمُ بِالتَّفْرِيقِ، وَكَذَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِإِظْهَارِ الْحُجَجِ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ وَالدُّعَاءِ إلَى الْإِسْلَامِ إلَى أَنْ يَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ قَبُولِهِمْ، فَمَا لَمْ يَقَعْ الْيَأْسُ لَا يُبَاحُ لَنَا الْقِتَالُ، فَكَذَلِكَ هَهُنَا مَادَامَ الِاحْتِلَامُ يُرْجَى يَجِبُ الِانْتِظَارُ وَلَا يَأْسَ بَعْدَ مُدَّةِ خَمْسَ عَشْرَةَ إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ، بَلْ هُوَ مَرْجُوٌّ فَلَا يُقْطَعُ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالِاحْتِلَامِ عَنْهُ مَعَ رَجَاءِ وُجُودِهِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ وُجُودُهُ بَعْدَهَا فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ فِي زَمَانِ الْيَأْسِ عَنْ وُجُودِهِ. (وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ لَمَّا عَلِمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ احْتَلَمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ لَمَّا رَآهُ صَالِحًا لِلْحَرْبِ مُحْتَمِلًا لَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِيَادِ لِلْجِهَادِ، كَمَا أَمَرَنَا بِاعْتِبَارِ سَائِرِ الْقُرَبِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ وَالِاحْتِمَالِ لَهَا، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَإِذَا أَشْكَلَ أَمْرُ الْغُلَامِ الْمُرَاهِقِ فِي الْبُلُوغِ فَقَالَ: قَدْ بَلَغْتُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَيُحْكَمُ بِبُلُوغِهِ، وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ الْمُرَاهِقَةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبُلُوغِ هُوَ الِاحْتِلَامُ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَأَلْزَمَتْ الضَّرُورَةُ قَبُولَ قَوْلِهِ، كَمَا فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْمَجْنُونُ فَلَا يَزُولُ الْحَجْرُ عَنْهُ إلَّا بِالْإِفَاقَةِ فَإِذَا أَفَاقَ رَشِيدًا أَوْ سَفِيهًا فَحُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الصَّبِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. (وَأَمَّا) الرَّقِيقُ فَالْحَجْرُ يَزُولُ عَنْهُ بِالْإِعْتَاقِ مَرَّةً وَبِالْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ أُخْرَى إلَّا أَنَّ الْإِعْتَاقَ يُزِيلُ الْحَجْرَ عَنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ لَا يُزِيلُ إلَّا فِي التَّصَرُّفَاتِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ. (وَأَمَّا) السَّفِيهُ فَلَا حَجْرَ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفِ أَصْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَا يُتَصَوَّرُ الزَّوَالُ. (وَأَمَّا) عَلَى مَذْهَبِهِمْ فَزَوَالُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْإِطْلَاقُ مِنْ الْقَاضِي فَكَمَا لَا يَنْحَجِرُ إلَّا بِحَجْرِهِ

الفصل الثاني الحبس

لَا يَنْطَلِقُ إلَّا بِإِطْلَاقِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ زَوَالُ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ بِظُهُورِ رُشْدِهِ؛ لِأَنَّ الْحِجَارَةَ كَانَ بِسَفَهِهِ، فَانْطِلَاقُهُ يَكُونُ بِضِدِّهِ وَهُوَ رُشْدُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [الْفَصْلُ الثَّانِي الْحَبْسِ] (وَأَمَّا) الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ فَصْلُ الْحَبْسِ فَالْحَبْسُ عَلَى نَوْعَيْنِ: حَبْسُ الْمَدْيُونِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ، وَحَبْسُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الْحَبْسِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُمْنَعُ، عَنْهُ الْمَحْبُوسُ وَمَا لَا يُمْنَعُ أَمَّا سَبَبُ وُجُوبِ الْحَبْسِ فَهُوَ الدَّيْنُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الدَّيْنِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَدْيُونِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ. (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الدَّيْنِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَالًّا فَلَا يُحْبَسُ فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ الْمُتَحَقِّقِ بِتَأْخِيرِ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَدْيُونِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ هُوَ الَّذِي أَخَّرَ حَقَّ نَفْسِهِ بِالتَّأْجِيلِ؛ وَكَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْ السَّفَرِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ سَوَاءٌ بَعُدَ مَحِلُّهُ أَوْ قَرُبَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مُطَالَبَتَهُ قَبْلَ حَلِّ الْأَجَلِ، وَلَا يُمْكِنُ مَنْعُهُ وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ حَتَّى إذَا حَلَّ الْأَجَلُ مَنَعَهُ مِنْ الْمُضِيِّ فِي سَفَرِهِ إلَى أَنْ يُوَفِّيَهُ دَيْنَهُ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَدْيُونِ فَمِنْهَا الْقُدْرَةُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُعْسِرًا لَا يُحْبَسُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، وَلِأَنَّ الْحَبْسَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ بِإِيصَالِ حَقِّهِ إلَيْهِ وَلَوْ ظُلِمَ فِيهِ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لَا يَكُونُ الْحَبْسُ مُفِيدًا؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ شُرِعَ لِلتَّوَسُّلِ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لَا لِعَيْنِهِ، وَمِنْهَا الْمَطْلُ وَهُوَ تَأْخِيرُ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ فَيُحْبَسُ دَفْعًا لِلظُّلْمِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِوَاسِطَةِ الْحَبْسِ، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» وَالْحَبْسُ عُقُوبَةٌ، وَمَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ الْمَطْلُ لَا يُحْبَسُ لِانْعِدَامِ الْمَطْلِ وَاللَّيُّ مِنْهُ وَمِنْهَا، أَنْ يَكُونَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِمَّنْ سِوَى الْوَالِدَيْنِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ فَلَا يُحْبَسُ الْوَالِدُونَ وَإِنْ عَلَوْا بِدَيْنِ الْمَوْلُودِينَ وَإِنْ سَفَلُوا لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] وقَوْله تَعَالَى {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] وَلَيْسَ مِنْ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ حَبْسُهُمَا بِالدَّيْنِ إلَّا أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ الْوَالِدُ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ الَّذِي عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَحْبِسُهُ لَكِنْ تَعْزِيرًا لَا حَبْسًا بِالدَّيْنِ. (وَأَمَّا) الْوَلَدُ فَيُحْبَسُ بِدَيْنِ الْوَالِدِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْحَبْسِ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ، وَكَذَا سَائِرُ الْأَقَارِبِ يُحْبَسُ الْمَدْيُونُ بِدَيْنِ قَرِيبِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَيَسْتَوِي فِي الْحَبْسِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْحَبْسِ لَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَيُحْبَسُ وَلِيُّ الصَّغِيرِ إذَا كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ قَضَاءُ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الظُّلْمُ بِسَبِيلٍ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ صَارَ بِالتَّأْخِيرِ ظَالِمًا فَيُحْبَسُ لِيَقْضِيَ الدَّيْنَ فَيَنْدَفِعُ الظُّلْمُ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ فَطَلَبُ الْحَبْسِ مِنْ الْقَاضِي فَمَا لَمْ يَطْلُبْ لَا يُحْبَسْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ، وَالْحَبْسُ وَسِيلَةٌ إلَى حَقِّهِ، وَوَسِيلَةُ حَقِّ الْإِنْسَانِ حَقُّهُ وَحَقُّ الْمَرْءِ إنَّمَا يُطْلَبُ بِطَلَبِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الطَّلَبِ لِلْحَبْسِ، وَإِذَا عُرِفَ سَبَبُ وُجُوبِ الدَّيْنِ وَشَرَائِطُهُ. فَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي السَّبَبُ مَعَ شَرَائِطِهِ بِالْحُجَّةِ حَبَسَهُ لِتَحَقُّقِ الظُّلْمِ عِنْدَهُ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَالْقَاضِي نُصِّبَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ فَيَنْدَفِعُ الظُّلْمُ عَنْهُ، وَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَى الْقَاضِي حَالُهُ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ، وَلَمْ يَقُمْ عِنْدَهُ حُجَّةٌ عَلَى أَحَدِهِمَا وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ حَبْسَهُ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ لِيَتَعَرَّفَ عَنْ حَالِهِ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَمْ غَنِيٌّ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ غَنِيٌّ حَبَسَهُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّأْخِيرِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ فَقِيرٌ خَلَّى سَبِيلَهُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ الْحَبْسَ فَيُطْلِقُهُ، وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ الْغُرَمَاءَ عَنْ مُلَازَمَتِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، إلَّا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْإِنْظَارِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَالًا، إذْ الْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٌ وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُلَازِمُونَهُ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ذَكَرَ النَّظِرَةَ بِحَرْفِ الْفَاءِ فَثَبَتَ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي. (وَلَنَا) أَنَّ النَّظِرَةَ هِيَ التَّأْخِيرُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُؤَخَّرَ وَهُوَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ الْقَاضِي أَوْ صَاحِبُ الْحَقِّ، وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَلَا مِنْ السَّفَرِ فَإِذَا اكْتَسَبَ يَأْخُذُونَ فَضْلَ كَسْبِهِ فَيَقْتَسِمُونَهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ، وَإِذَا مَضَى عَلَى حَبْسِهِ شَهْرٌ، أَوْ شَهْرَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ وَلَمْ يَنْكَشِفْ حَالُهُ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ خَلَّى سَبِيلَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَبْسَ كَانَ لِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ وَإِبْلَاءِ عُذْرِهِ وَالثَّلَاثَةُ الْأَشْهُرِ مُدَّةٌ صَالِحَةٌ لِاشْتِهَارِ الْحَالِ وَإِبْلَاءِ الْعُذْرِ فَيُطْلِقُهُ، لَكِنْ الْغُرَمَاءُ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ مُلَازَمَتِهِ فَيُلَازِمُونَهُ لَكِنْ لَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَقَالَ الطَّالِبُ: هُوَ مُوسِرٌ وَقَالَ الْمَطْلُوبُ: أَنَا مُعْسَرٌ فَإِنْ قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ

فصل في بيان ما يمنع المحبوس عنه وما لا يمنع

زِيَادَةً وَهِيَ الْيَسَارُ. وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْكَفَالَةِ، وَالنِّكَاحِ، وَالزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ ثَبَتَ الدَّيْنُ بِمُعَاقَدَةٍ كَالْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْكَفَالَةِ، وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَالصُّلْحِ عَنْ الْمَالِ وَالْخُلْعِ، أَوْ ثَبَتَ تَبَعًا فِيمَا هُوَ مُعَاقَدَةٌ كَالنَّفَقَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ، وَكَذَا فِي الْغَصْبِ وَالزَّكَاةِ، وَإِنْ ثَبَتَ الدَّيْنُ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ، أَوْ الْقَتْلِ الَّذِي لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَيُوجِبُ الْمَالَ فِي مَالِ الْجَانِي، وَفِي الْخَطَأِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ وَذَكَرَ الْخَصَّافُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ إنْ وَجَبَ الدَّيْنُ عِوَضًا عَنْ مَالٍ سَالِمٍ لِلْمُشْتَرِي نَحْوَ ثَمَنِ الْمَبِيعِ الَّذِي سَلِمَ لَهُ الْبَيْعُ وَالْقَرْضُ وَالْغَصْبُ وَالسَّلَمُ الَّذِي أَخَذَ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ، وَكُلُّ دَيْنٍ لَيْسَ لَهُ عِوَضٌ أَصْلًا كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ، أَوْ لَهُ عِوَضٌ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْكَفَالَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَا يُحْبَسُ؛ لِأَنَّ الْفَقْرَ أَصْلٌ فِي بَنِي آدَمَ، وَالْغِنَى عَارِضٌ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمَطْلُوبِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْيَدُ وَاللِّسَانُ " وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُحَكَّمُ زِيُّهُ إذَا كَانَ زِيُّهُ زِيَّ الْأَغْنِيَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ وَإِنْ كَانَ زِيُّهُ زِيَّ الْفُقَرَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُحَكَّمُ زِيُّهُ فَيُؤْخَذُ بِحُكْمِهِ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، إلَّا إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْفُقَهَاءِ، أَوْ الْعَلَوِيَّةِ، أَوْ الْأَشْرَافِ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَاتِهِمْ التَّكَلُّفَ فِي اللِّبَاسِ وَالتَّجَمُّلَ بِدُونِ الْغِنَى فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَدْيُونِ أَنَّهُ مُعْسِرٌ (وَجْهُ) مَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ الْقَوْلَ فِي الشَّرْعِ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، وَإِذَا وَجَبَ الدَّيْنُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ سَلِمَ لَهُ، كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَتْ قُدْرَةُ الْمَطْلُوبِ بِسَلَامَةِ الْمَالِ، وَكَذَا فِي الزَّكَاةِ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلطَّالِبِ فِيمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ وَهُوَ إقْدَامُهُ عَلَى الْمُعَاقَدَةِ، فَإِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى التَّزَوُّجِ دَلِيلُ الْقُدْرَةِ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَزَوَّجُ حَتَّى يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ، وَلَا يَتَزَوَّجُ أَيْضًا حَتَّى يَكُونَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْمَهْرِ، وَكَذَا الْإِقْدَامُ عَلَى الْخُلْعِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُخَالِعُ عَادَةً حَتَّى يَكُونَ عِنْدَهَا شَيْءٌ، وَكَذَا الصُّلْحُ لَا يُقْدِمُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ عَنْهُ وَمَا لَا يُمْنَعُ] وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ عَنْهُ وَمَا لَا يُمْنَعُ فَالْمَحْبُوسُ مَمْنُوعٌ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى أَشْغَالِهِ وَمُهِمَّاتِهِ، وَإِلَى الْجُمَعِ، وَالْجَمَاعَاتِ، وَالْأَعْيَادِ وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَالزِّيَارَةِ وَالضِّيَافَةِ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتَّوَسُّلِ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِذَا مُنِعَ عَنْ أَشْغَالِهِ وَمُهِمَّاتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ تَضَجَّرَ فَيُسَارِعُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ أَقَارِبِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِمَا وَضَعَ لَهُ الْحَبْسُ بَلْ قَدْ يَقَعُ وَسِيلَةً إلَيْهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ: مِنْ الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْإِقْرَارِ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْغُرَمَاءِ حَتَّى لَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَفَذَ وَلَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ وِلَايَةُ الْإِبْطَالِ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ وَلَوْ طَلَبَ الْغُرَمَاءُ الَّذِينَ حُبِسَ لِأَجْلِهِمْ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَحْجُرَ عَلَى الْمَحْبُوسِ مِنْ الْإِقْرَارِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا لَمْ يُجِبْهُمْ إلَى ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدُهُمَا لَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَيْهِ. وَكَذَا إذَا طَلَبُوا مِنْ الْقَاضِي بَيْعَ مَالِهِ عَلَيْهِ مِمَّا سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مِنْ الْمَنْقُولِ وَالْعَقَارِ لَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَيْهِ عِنْدَهُمَا. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَا يُجِيبُهُمْ إلَى ذَلِكَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ، لَكِنْ إذَا كَانَ دَيْنُهُ دَرَاهِمَ، وَعِنْدَهُ دَرَاهِمُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِهَا دَيْنَهُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ دَرَاهِمَ وَعِنْدَهُ دَنَانِيرُ بَاعَهَا الْقَاضِي بِالدَّرَاهِمِ وَقَضَى بِهَا دَيْنَهُ. وَكَذَا إذَا كَانَ دَيْنُهُ دَنَانِيرَ وَعِنْدَهُ دَرَاهِمُ بَاعَهَا الْقَاضِي بِالدَّنَانِيرِ وَقَضَى بِهَا دَيْنَهُ، فَرْقٌ بَيْنَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَمْوَالِ أَنَّهُ يَبِيعُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَلَا يَبِيعُ سَائِرَ الْأَمْوَالِ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ: أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنْ وَجْهٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَكْمُلُ نِصَابُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ، وَالْمُؤَدَّى عَنْ أَحَدِهِمَا كَانَ مُؤَدًّى عَنْ الْآخَرِ عِنْدَ الْهَلَاكِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا مُجَانَسَةٌ مِنْ وَجْهٍ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَعَيْنِ الْآخَرِ حُكْمًا، وَلَيْسَ بَيْنَ الْعُرُوضِ وَبَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مُجَانَسَةٌ بِوَجْهٍ فَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ عَلَى الْمَحْبُوسِ بِبَيْعِهِمَا بِهَا؛ وَلِأَنَّ الْعُرُوضَ إذَا بِيعَتْ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهَا لَا تُشْتَرَى مِثْلَ مَا تُشْتَرَى فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، بَلْ دُونَ

فصل في حبس العين بالدين

ذَلِكَ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِ، وَلَا ضَرَرَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّهَا؛ لَا تَتَفَاوَتُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُ جَمِيعَ مَالِهِ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّ؛ بَيْعَ الْقَاضِي لَيْسَ تَصَرُّفًا عَلَى الْمَيِّتِ لِبُطْلَانِ أَهْلِيَّتِهِ بِالْمَوْتِ؛ وَلِأَنَّهُ رَضِيَ بِذَلِكَ فِي آخَرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدُّيُونِ مِنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ فَكَانَ رَاضِيًا بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ أَيِّ مَالٍ كَانَ تَخْلِيصًا لِنَفْسِهِ عَنْ عُهْدَةِ الدَّيْنِ عِنْدَمَا سَدَّهُ عَنْ حَيَاتِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَيُنْفِقُ الْمَحْبُوسُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَأَقَارِبِهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي حَبْسُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ] وَأَمَّا حَبْسُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ فَالْمَحْبُوسُ بِالدَّيْنِ فِي الْأَصْلِ عَلَى نَوْعَيْنِ: مَحْبُوسٌ هُوَ مَضْمُونٌ وَمَحْبُوسٌ هُوَ أَمَانَةٌ، وَالْمَضْمُونُ عَلَى نَوْعَيْنِ أَيْضًا مَضْمُونٍ بِالثَّمَنِ وَمَضْمُونٍ بِالْقِيمَةِ فَالْمَضْمُونُ بِالثَّمَنِ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ سَقَطَ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ لَطَالَبَهُ الْبَائِعُ بِهِ فَيُطَالِبُهُ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ بِإِزَاءِ تَمْلِيكٍ، وَتَسْلِيمٌ بِإِزَاءِ تَسْلِيمٍ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ التَّسْلِيمِ لِهَلَاكِ الْمَبِيعِ فَلَا يَمْلِكُ مُطَالَبَتَهُ فَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ مُطَالَبَتَهُ بِالثَّمَنِ، فَيُسْقِطُ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْبَقَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَا يَكُونُ أَدْنَى حَالًا مِنْ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَذَلِكَ مَضْمُونٌ، فَهَذَا أَوْلَى إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ، وَهَذَا بِالثَّمَنِ لِوُجُودِ التَّسْمِيَةِ الصَّحِيحَةِ هَهُنَا، وَانْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ هُنَاكَ أَصْلًا. وَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ إذَا أَدَّى الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَحَبَسَ السِّلْعَةَ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مِنْ الْمُوَكِّلِ فَهَلَكَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الطَّلَبِ يَهْلِكُ أَمَانَةً عِنْدَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَهْلِكُ مَضْمُونًا، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الطَّلَبِ يَهْلِكُ مَضْمُونًا، لَكِنْ ضَمَانُ الْمَبِيعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ضَمَانُ الرَّهْنِ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ضَمَانُ الْغَصْبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَأَمَّا الْمَضْمُونُ بِالْقِيمَةِ فَكَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ إذَا فَسَخَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ وَالْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَحَبَسَهُ لِيَرُدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ عَلَيْهِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، يَهْلِكُ بِقِيمَتِهِ وَيَتَقَاصَّانِ وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ، وَكَذَا الْمَرْهُونُ مَضْمُونٌ عِنْدَنَا، لَكِنْ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ بِمَضْمُونٍ أَصْلًا، وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الرَّهْنِ وَأَمَّا الْمَحْبُوسُ الَّذِي هُوَ أَمَانَةٌ فَنَحْوُ نَمَاءِ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ مَحْبُوسٌ بِالدَّيْنِ لَكِنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ، وَكَذَا الْمُسْتَأْجِرُ دَابَّةً إجَارَةً فَاسِدَةً إذَا كَانَ عَجَّلَ الْأُجْرَةَ فَحَبَسَهَا لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ حَتَّى هَلَكَتْ فِي يَدِهِ تَهْلِكُ أَمَانَةً وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْإِكْرَاهِ] الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْإِكْرَاهِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَفِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْإِكْرَاهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ إذَا أَتَى بِهِ الْمُكْرَهُ وَفِي بَيَانِ مَا عَدْلُ الْمُكْرَهِ إلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ أَوْ زَادَ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ أَوْ نَقَصَ عَنْهُ (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالْإِكْرَاهُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إثْبَاتِ الْكُرْهِ، وَالْكُرْهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِالْمُكْرَهِ يُنَافِي الْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا؛ وَلِهَذَا يُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَابِلَ الْآخَرِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَكْرَهُ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ، أَيْ لَا يُحِبُّهَا وَلَا يَرْضَى بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي بِإِرَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّعَاءِ إلَى الْفِعْلِ بِالْإِيعَادِ وَالتَّهْدِيدِ مَعَ وُجُودِ شَرَائِطِهَا الَّتِي نَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ فَنَقُولُ: إنَّهُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ طَبْعًا كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَالضَّرْبِ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ تَلَفُ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ قَلَّ الضَّرْبُ أَوْ كَثُرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِعَدَدِ ضَرَبَاتِ الْحَدِّ، وَأَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ تَحَقُّقُ الضَّرُورَةِ فَإِذَا تَحَقَّقَتْ فَلَا مَعْنَى لِصُورَةِ الْعَدَدِ، وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى إكْرَاهًا تَامًّا، وَنَوْعٌ لَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ وَهُوَ الْحَبْسُ وَالْقَيْدُ وَالضَّرْبُ الَّذِي لَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ، وَلَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ لَازِمٌ سِوَى أَنْ يَلْحَقَهُ مِنْهُ الِاغْتِمَامُ الْبَيِّنُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَعْنِي الْحَبْسَ وَالْقَيْدَ وَالضَّرْبَ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِكْرَاهِ يُسَمَّى إكْرَاهًا نَاقِصًا.

فصل في شرائط الإكراه

[فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ الْإِكْرَاهِ] فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْإِكْرَاهِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرِهِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرَهِ. (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَحْقِيقِ مَا أَوْعَدَ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - إنَّهُ يَتَحَقَّقُ مِنْ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: إنَّ الْإِكْرَاهَ لَيْسَ إلَّا إيعَادٌ بِإِلْحَاقِ الْمَكْرُوهِ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ مِنْ كُلِّ مُسَلَّطٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: غَيْرُ السُّلْطَانِ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْقِيقِ مَا أَوْعَدَ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَسْتَغِيثُ بِالسُّلْطَانِ فَيُغِيثُهُ فَإِذَا كَانَ الْمُكْرَهُ هُوَ السُّلْطَانُ فَلَا يَجِدُ غَوْثًا، وَقِيلَ: إنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْمَعْنَى إنَّمَا هُوَ خِلَافُ زَمَانٍ فَفِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ قُدْرَةُ الْإِكْرَاهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ الْحَالُ فِي زَمَانِهِمَا فَغَيَّرَ الْفَتْوَى عَلَى حَسَبِ الْحَالِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِتَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إذَا كَانَ مُطَاعًا مُسَلَّطًا، وَكَذَلِكَ الْعَقْلُ وَالتَّمْيِيزُ الْمُطْلَقُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ مِنْ الْبَالِغِ الْمُخْتَلَطِ الْعَقْلِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُطَاعًا مُسَلَّطًا. (وَأَمَّا) النَّوْعُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرَهِ فَهُوَ أَنْ يَقَعَ فِي غَالِبِ رَأْيِهِ وَأَكْثَرِ ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجِبْ إلَى مَا دُعِيَ إلَيْهِ تَحَقَّقَ مَا أُوعِدَ بِهِ؛ لِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ حُجَّةٌ خُصُوصًا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَى التَّعَيُّنِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي أَكْثَرِ رَأْيِ الْمُكْرَهِ أَنَّ الْمُكْرِهَ لَا يُحَقِّقُ مَا أَوْعَدَهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ شَرْعًا، وَإِنْ وَجَدَ صُورَةَ الْإِيعَادِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَمْ تَتَحَقَّقْ، وَمِثْلُهُ لَوْ أَمَرَهُ بِفِعْلٍ وَلَمْ يُوعِدْهُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ فِي أَكْثَرِ رَأْيِ الْمُكْرَهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ تَحَقَّقَ مَا أَوْعَدَ يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَلِهَذَا إنَّهُ لَوْ كَانَ فِي أَكْثَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ عَنْ تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَصَبَرَ إلَى أَنْ يَلْحَقَهُ الْجُوعُ الْمُهْلِكُ لَأُزِيلَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ لَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ بِتَنَاوُلِهَا، وَإِنْ كَانَ فِي أَكْثَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ، وَإِنْ صَبَرَ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لَمَا أُزِيلَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ يُبَاحُ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا لِلْحَالِ دَلَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِغَالِبِ الرَّأْيِ وَأَكْثَرِ الظَّنِّ دُونَ صُورَةِ الْإِيعَادِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: حِسِّيٌّ وَشَرْعِيٌّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُعَيَّنٍ وَمُخَيَّرٍ فِيهِ، أَمَّا الْحِسِّيُّ الْمُعَيَّنُ فِي كَوْنِهِ مُكْرَهًا عَلَيْهِ فَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالشَّتْمُ وَالْكُفْرُ وَالْإِتْلَافُ وَالْقَطْعُ عَيْنًا. وَأَمَّا الشَّرْعِيُّ فَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالتَّدْبِيرُ وَالنِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ وَالْيَمِينُ وَالنَّذْرُ وَالظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ وَالْفَيْءُ فِي الْإِيلَاءِ وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْهِبَةُ وَالْإِجَارَةُ وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الْحُقُوقِ وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ وَتَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ وَتَرْكُ طَلَبِهَا وَنَحْوُهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ [فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الْحِسِّيَّةُ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ، وَالثَّانِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -. التَّصَرُّفَاتُ الْحِسِّيَّةُ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا الْإِكْرَاهُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ هُوَ مُبَاحٌ، وَنَوْعٌ هُوَ مُرَخَّصٌ، وَنَوْعٌ هُوَ حَرَامٌ لَيْسَ بِمُبَاحٍ وَلَا مُرَخَّصٍ. (أَمَّا) النَّوْعُ الَّذِي هُوَ مُبَاحٌ فَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا بِأَنْ كَانَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا تُبَاحُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، أَيْ دَعَتْكُمْ شِدَّةُ الْمَجَاعَةِ إلَى أَكْلِهَا، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ وَقَدْ تَحَقَّقَ الِاضْطِرَارُ بِالْإِكْرَاهِ فَيُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ بَلْ لَا يُبَاحُ لَهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ، وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْهُ حَتَّى قُتِلَ يُؤَاخَذُ بِهِ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ؛ لِأَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ صَارَ مُلْقِيًا نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَهَى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَلَا يُرَخَّصُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ لِلضَّرُورَةِ بَلْ لِدَفْعِ الْغَمِّ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ بِحُكْمِهَا قَائِمَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِالْإِجَاعَةِ بِأَنْ قَالَ: لَتَفْعَلَنَّ كَذَا وَإِلَّا لَأُجِيعَنَّكَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ حَتَّى يَجِيئَهُ مِنْ الْجُوعِ مَا يُخَافُ مِنْهُ تَلَفُ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) النَّوْعُ الَّذِي هُوَ مُرَخَّصٌ فَهُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا وَهُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ مَعَ ثُبُوتِ الرُّخْصَةِ، فَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي تَغَيُّرِ حُكْمِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ لَا فِي تَغَيُّرِ وَصْفِهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ الْكُفْرِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ

قَائِمَةً إلَّا أَنَّهُ سَقَطَتْ الْمُؤَاخَذَةُ؛ لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْكَلَامِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَالِامْتِنَاعُ عَنْهُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ فَقُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا؛ لِأَنَّهُ جَادَ بِنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَرْجُو أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَوَابُ الْمُجَاهِدِينَ بِالنَّفْسِ هُنَا، وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ قُتِلَ مُجْبَرًا فِي نَفْسِهِ فَهُوَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَذَلِكَ التَّكَلُّمُ بِشَتْمِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا أَكْرَهَهُ الْكُفَّارُ وَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: مَا وَرَاءَك يَا عَمَّارُ فَقَالَ: شَرٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَرَكُونِي حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ عَادُوا فَعُدْ» فَقَدْ رَخَّصَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي إتْيَانِ الْكَلِمَةِ بِشَرِيطَةِ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ حَيْثُ أَمَرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْعَوْدِ إلَى مَا وُجِدَ مِنْهُ، لَكِنْ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ أَفْضَلُ لِمَا مَرَّ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ شَتْمُ الْمُسْلِمِ، لِأَنَّ عِرْضَ الْمُسْلِمِ حَرَامُ التَّعَرُّضِ فِي كُلِّ حَالٍ قَالَ النَّبِيُّ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ» إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُ، لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ. وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي سُقُوطِ الْمُؤَاخَذَةِ دُونَ الْحُرْمَةِ، وَالِامْتِنَاعُ عَنْهُ حِفْظًا لِحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ وَإِيثَارًا لَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَفْضَلُ وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ: إتْلَافُ مَالِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ حُرْمَةُ دَمِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ الْإِتْلَافُ لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ حَالَ الْمَخْمَصَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَلَوْ امْتَنَعَ حَتَّى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ بَلْ يُثَابُ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ قَائِمَةٌ فَهُوَ بِالِامْتِنَاعِ قَضَى حَقَّ الْحُرْمَةِ فَكَانَ مَأْجُورًا لَا مَأْزُورًا وَكَذَلِكَ إتْلَافُ مَالِ نَفْسِهِ مُرَخَّصٌ بِالْإِكْرَاهِ لَكِنْ مَعَ قِيَامِ الْحُرْمَةِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ فَقُتِلَ لَا يَأْثَمُ بَلْ يُثَابُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِهِ لَا تَسْقُطُ بِالْإِكْرَاهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الدَّفْعُ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ وَكَذَا مَنْ أَصَابَتْهُ الْمَخْمَصَةُ فَسَأَلَ صَاحِبَهُ الطَّعَامَ فَمَنَعَهُ فَامْتَنَعَ مِنْ التَّنَاوُلِ حَتَّى مَاتَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ» لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ رَاعَى حَقَّ الْحُرْمَةِ هَذَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا، فَإِنْ كَانَ نَاقِصًا مِنْ الْحَبْسِ وَالْقَيْدِ وَالضَّرْبِ الَّذِي لَا يُخَافُ مِنْهُ تَلَفُ النَّفْسِ وَالْعُضْوِ لَا يُرَخَّصُ لَهُ أَصْلًا، وَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ. وَإِنْ قَالَ: كَانَ قَلْبِي مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَيَأْثَمُ بِشَتْمِ الْمُسْلِمِ وَإِتْلَافِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَمْ تَتَحَقَّقْ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا وَلَكِنْ فِي أَكْبَرِ رَأْيِ الْمُكْرَهِ أَنَّ الْمُكْرِهَ لَا يُحَقِّقُ مَا أَوْعَدَهُ لَا يُرَخَّصُ لَهُ الْفِعْلُ أَصْلًا، وَلَوْ فَعَلَ يَأْثَمُ لِانْعِدَامِ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ لِانْعِدَامِ الْإِكْرَاهِ شَرْعًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) النَّوْعُ الَّذِي لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ بِالْإِكْرَاهِ أَصْلًا فَهُوَ قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ سَوَاءٌ كَانَ الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا أَوْ تَامًّا؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] ، وَكَذَا قَطْعُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، وَالضَّرْبُ الْمُهْلِكُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] ، وَكَذَلِكَ ضَرْبُ الْوَالِدَيْنِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] ، وَالنَّهْيُ عَنْ التَّأْفِيفِ نَهْيٌ عَنْ الضَّرْبِ دَلَالَةً بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ قَائِمَةً بِحُكْمِهَا فَلَا يُرَخَّصُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَقْدَمَ يَأْثَمُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) ضَرْبُ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ كَضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ نَحْوِهِ فَيُرْجَى أَنْ لَا يُؤَاخَذَ بِهِ، وَكَذَا الْحَبْسُ وَالْقَيْدُ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ دُونَ ضَرَرِ الْمُكْرَهِ بِكَثِيرٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَرْضَى بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الضَّرَرِ لِإِحْيَاءِ أَخِيهِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ أَوْ قَطَعَهُ أَوْ ضَرَبَهُ، فَقَالَ لِلْمُكْرَهِ: افْعَلْ لَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ وَلَوْ فَعَلَ فَهُوَ آثِمٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ بِنَفْسِهِ أَثِمَ فَبِغَيْرِهِ أَوْلَى، وَكَذَا الزِّنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ لِلرَّجُلِ بِالْإِكْرَاهِ، وَإِنْ كَانَ تَامًّا وَلَوْ فَعَلَ يَأْثَمُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الزِّنَا ثَابِتَةٌ فِي الْعُقُولِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الإسراء: 32] فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً فِي الْعَقْلِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ بِحَالٍ كَقَتْلِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَوْ أَذِنَتْ الْمَرْأَةُ بِهِ لَا يُبَاحُ أَيْضًا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً أَذِنَ لَهَا مَوْلَاهَا؛ لِأَنَّ الْفَرْجَ لَا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيُرَخَّصُ لَهَا؛ لِأَنَّ الَّذِي يُتَصَوَّرُ مِنْهَا لَيْسَ إلَّا التَّمْكِينُ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مَدْفُوعَةٌ إلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا كَمَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الرَّجُلِ يُتَصَوَّرُ مِنْ الْمَرْأَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

سَمَّاهَا زَانِيَةً إلَّا أَنَّ زِنَا الرَّجُلِ بِالْإِيلَاجِ، وَزِنَاهَا بِالتَّمْكِينِ وَالتَّمْكِينُ فِعْلٌ مِنْهَا لَكِنَّهُ فِعْلُ سُكُوتٍ فَاحْتَمَلَ الْوَصْفَ بِالْحَظْرِ وَالْحُرْمَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِيهِ حُكْمُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَلَا يُرَخَّصُ لِلْمَرْأَةِ كَمَا لَا يُرَخَّصُ لِلرَّجُلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْحُكْمُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا فِي الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ: أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَالْمُكْرَهُ عَلَى الشُّرْبِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ شُرِعَ زَاجِرًا عَنْ الْجِنَايَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالشُّرْبُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ جِنَايَةً بِالْإِكْرَاهِ، وَصَارَ مُبَاحًا بَلْ وَاجِبًا عَلَيْهِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِذَا كَانَ نَاقِصًا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَمْ يُوجِبْ تَغَيُّرَ الْفِعْلِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ بِوَجْهٍ مَا، فَلَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ حُكْمِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) النَّوْعُ الثَّانِي فَالْمُكْرَهُ عَلَى الْكُفْرِ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْإِيمَانِ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِيمَانِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الْإِيمَانَ فِي الْحَقِيقَةِ تَصْدِيقٌ وَالْكُفْرَ فِي الْحَقِيقَةِ تَكْذِيبٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يَعْمَلُ عَلَى الْقَلْبِ فَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ كَانَ مُؤْمِنًا لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ، وَإِنْ كَانَ مُكَذِّبًا بِقَلْبِهِ كَانَ كَافِرًا لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْكُفْرِ إلَّا أَنَّ عِبَارَةَ اللِّسَانِ جُعِلَتْ دَلِيلًا عَلَى التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ ظَاهِرًا حَالَةَ الطَّوْعِ، وَقَدْ بَطَلَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ بِالْإِكْرَاهِ فَبَقِيَ الْإِيمَانُ مِنْهُ وَالْكُفْرُ مُحْتَمَلًا، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْكَمَ بِالْإِسْلَامِ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ كَمَا لَمْ يُحْكَمْ بِالْكُفْرِ فِيهَا بِالِاحْتِمَالِ إلَّا أَنَّهُ حُكِمَ بِذَلِكَ؛ لِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّا إنَّمَا قَبِلْنَا ظَاهِرَ إيمَانِهِ مَعَ الْإِكْرَاهِ لِيُخَالِطَ الْمُسْلِمِينَ فَيَرَى مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ فَيَئُولُ أَمْرُهُ إلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُ بِإِيمَانِهِ لَا قَطْعًا وَلَا غَالِبًا. وَهَذَا جَائِزٌ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَبَاكَ وَتَعَالَى أَمَرَنَا فِي النِّسَاءِ الْمُهَاجِرَاتِ بِامْتِحَانِهِنَّ بَعْدَ وُجُودِ ظَاهِرِ الْكَلِمَةِ مِنْهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] لِيَظْهَرَ لَنَا إيمَانُهُنَّ بِالدَّلِيلِ الْغَالِبِ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] كَذَا هَهُنَا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ وَالثَّانِي أَنَّ اعْتِبَارَ الدَّلِيلِ الْمُحْتَمَلِ فِي بَابِ الْإِسْلَامِ يَرْجِعُ إلَى إعْلَاءِ الدِّينِ الْحَقِّ، وَأَنَّ اعْتِبَارَ الْغَالِبِ يَرْجِعُ إلَى ضِدِّهِ، وَإِعْلَاءُ الدِّينِ الْحَقِّ وَاجِبٌ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى» فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْمُحْتَمَلِ دُونَ الْغَالِبِ إعْلَاءً لِدِينِ الْحَقِّ، وَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ بِإِيمَانِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْحُكْمِ بِعَدَمِ كُفْرِ الْمُكْرَهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ ثُمَّ رَجَعَ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يُقْتَلُ بَلْ يُحْبَسُ وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْتَلَ لِوُجُودِ الرِّدَّةِ مِنْهُ وَهِيَ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِسْلَامِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّا إنَّمَا قَبِلْنَا كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ مِنْهُ ظَاهِرًا طَمَعًا لِلْحَقِيقَةِ، لِيُخَالِطَ الْمُسْلِمِينَ فَيَرَى مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ فَيَنْجَعَ التَّصْدِيقُ فِي قَلْبِهِ عَلَى مَا مَرَّ فَإِذَا رَجَعَ تُبُيِّنَ أَنَّهُ لَا مَطْمَعَ لِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ فِيهِ، وَأَنَّهُ عَلَى اعْتِقَادِهِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا رُجُوعًا عَنْ الْإِسْلَامِ بَلْ إظْهَارًا لِمَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّكْذِيبِ فَلَا يُقْتَلُ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ حَتَّى حُكِمَ بِإِسْلَامِهِمْ تَبَعًا لِأَبِيهِمْ فَبَلَغُوا كُفَّارًا يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُونَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ الْإِسْلَامُ حَقِيقَةً فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُقِرَّ أَنَّهُ أَسْلَمَ أَمْسِ فَأَقَرَّ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِذَا لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ بِإِجْرَاءِ الْكَلِمَةِ لَا تَثْبُتُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ حَتَّى لَا تَبِينَ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَثْبُتَ الْبَيْنُونَةُ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ وَهُوَ الْكَلِمَةُ أَوْ هِيَ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةِ الطَّلَاقِ ثُمَّ حُكْمُ تِلْكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالطَّوْعِ وَالْكَرْهِ فَكَذَا حُكْمُ هَذِهِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ الرِّدَّةُ دُونَ نَفْسِ الْكَلِمَةِ، وَإِنَّمَا الْكَلِمَةُ دَلَالَةٌ عَلَيْهَا حَالَةَ الطَّوْعِ، وَلَمْ يَبْقَ دَلِيلًا حَالَةَ الْإِكْرَاهِ فَلَمْ تَثْبُتْ الرِّدَّةُ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ، وَلَوْ قَالَ الْمُكْرَهُ خَطَرَ بِبَالِي فِي قَوْلِي: كَفَرْت بِاَللَّهِ أَنْ أُخْبِرَ عَنْ الْمَاضِي كَاذِبًا، وَلَمْ أَكُنْ فَعَلْت لَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ وَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ دُعِيَ إلَى إنْشَاءِ الْكُفْرِ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَتَى بِالْإِخْبَارِ وَهُوَ غَيْرُ مُكْرَهٍ عَلَى الْإِخْبَارِ بَلْ هُوَ طَائِعٌ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ طَائِعًا: كَفَرْت بِاَللَّهِ ثُمَّ قَالَ عَنَيْت بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ الْمَاضِي كَاذِبًا وَلَمْ أَكُنْ فَعَلْت لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ كَذَا هَذَا وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِخْبَارِ فِيمَا مَضَى ثُمَّ قَالَ مَا أَرَدْت بِهِ الْخَبَرَ عَنْ الْمَاضِي فَهُوَ كَافِرٌ فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجِبْهُ إلَى مَا دَعَاهُ إلَيْهِ بَلْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْشَأَ الْكُفْرَ طَوْعًا وَلَوْ قَالَ لَمْ

يَخْطِرْ بِبَالِي شَيْءٌ آخَرُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُرِدْ شَيْئًا يُحْمَلُ عَلَى الْإِجَابَةِ إلَى ظَاهِرِ الْكَلِمَةِ مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ فَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الصَّلَاةِ لِلصَّلِيبِ فَقَامَ يُصَلِّي فَخَطَرَ بِبَالِهِ أَنْ يُصَلِّيَ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ أَوْ غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ الْقِبْلَةَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِالصَّلَاةِ أَنْ تَكُونَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِذَا قَالَ نَوَيْت بِهِ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا دُعِيَ إلَيْهِ فَكَانَ طَائِعًا، وَالطَّائِعُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَقَالَ: نَوَيْت بِهِ ذَلِكَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ كَذَا هَذَا، وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ فِعْلُهُ، وَلَوْ صَلَّى لِلصَّلِيبِ وَلَمْ يُصَلِّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ خَطَرَ بِبَالِهِ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ صَلَّى لِلصَّلِيبِ طَائِعًا مَعَ إمْكَانِ الصَّلَاةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبِلَ الصَّلِيبِ، فَإِنْ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ وَصَلَّى لِلصَّلِيبِ ظَاهِرًا، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ وَيُحْمَلُ عَلَى الْإِجَابَةِ إلَى ظَاهِرِ مَا دُعِيَ إلَيْهِ مَعَ سُكُونِ قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى سَبِّ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَخَطَرَ بِبَالِهِ رَجُلٌ آخَرُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ فَسَبَّهُ، وَأَقَرَّ بِذَلِكَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ، وَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَطَرَ بِبَالِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَهَذَا طَائِعٌ فِي سَبِّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثُمَّ قَالَ: عَنَيْت بِهِ غَيْرَهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ كَلَامُهُ، وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ بِالسَّبِّ رَجُلًا آخَرَ، فَسَبَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَهُوَ كَافِرٌ فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ، وَلَوْ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ وَيُحْمَلُ عَلَى جِهَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى مَا مَرَّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ تَامًّا، فَأَمَّا إذَا كَانَ نَاقِصًا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُكْرَهٍ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا فَعَلَهُ لِلضَّرُورَةِ بَلْ لِدَفْعِ الْغَمِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَوْ قَالَ: كَانَ قَلْبِي مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ لَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ كَالطَّائِعِ إذَا أَجْرَى الْكَلِمَةَ ثُمَّ قَالَ: كَانَ قَلْبِي مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. (وَأَمَّا) الْمُكْرَهُ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ إذَا أَتْلَفَهُ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ دُونَ الْمُكْرَهِ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا؛ لِأَنَّ الْمُتْلِفَ هُوَ الْمُكْرَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا الْمُكْرَهُ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مَسْلُوبُ الِاخْتِيَارِ إيثَارًا وَارْتِضَاءً، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْفِعْلِ مِمَّا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ غَيْرِهِ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُكْرَهَ فَيَضْرِبَهُ عَلَى الْمَالِ فَأَمْكَنَ جَعْلُهُ آلَةَ الْمُكْرِهِ، فَكَانَ التَّلَفُ حَاصِلًا بِإِكْرَاهِهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرَهِ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَا يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ آلَةَ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْلَبُ الِاخْتِيَارُ أَصْلًا، فَكَانَ الْإِتْلَافُ مِنْ الْمُكْرَهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ مَالَ غَيْرِهِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْفِعْلِ وَهُوَ الْأَكْلُ مِمَّا لَا يَعْمَلُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ غَيْرِهِ فَكَانَ طَائِعًا فِيهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ طَعَامَ نَفْسِهِ فَأَكَلَ أَوْ عَلَى أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبَ نَفْسِهِ فَلَبِسَ حَتَّى تَخَرَّقَ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى أَكْلِ مَالِ غَيْرِهِ لَمَّا لَمْ يُوجِبْ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ فَعَلَى مَالِ نَفْسِهِ أَوْلَى مَعَ مَا أَنَّ أَكْلَ مَالِ نَفْسِهِ وَلُبْسَ ثَوْبِ نَفْسِهِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِتْلَافِ بَلْ هُوَ صَرْفُ مَالِ نَفْسِهِ إلَى مَصْلَحَةِ بَقَائِهِ، وَمَنْ صَرَفَ مَالَ نَفْسِهِ إلَى مَصْلَحَتِهِ لَا ضَمَانَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ. وَلَوْ أَذِنَ صَاحِبُ الْمَالِ الْمُكْرَهُ بِإِتْلَافِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَأَتْلَفَهُ لَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْإِتْلَافِ يَعْمَلُ فِي الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مِمَّا تُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ، وَإِتْلَافُ مَالٍ مَأْذُونٍ فِيهِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) النَّوْعُ الثَّالِثُ فَأَمَّا الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ فَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ وَيَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا وَلَكِنْ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرِهِ وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ دُونَ الْمُكْرِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ عَلَيْهِمَا. (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْقَتْلَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يُفْضِي إلَى زُهُوقِ الْحَيَاةِ عَادَةً، وَقَدْ وُجِدَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّهُ حَصَلَ مِنْ الْمُكْرَهِ مُبَاشَرَةً وَمِنْ الْمُكْرِهِ تَسْبِيبًا، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْقَتْلَ وُجِدَ مِنْ الْمُكْرَهِ حَقِيقَةً حِسًّا وَمُشَاهَدَةً، وَإِنْكَارُ الْمَحْسُوسِ مُكَابَرَةٌ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ مِنْهُ دُونَ الْمُكْرِهِ إذْ الْأَصْلُ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَّا بِدَلِيلٍ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُكْرِهَ لَيْسَ بِقَاتِلٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ مُسَبِّبٌ لِلْقَتْلِ، وَإِنَّمَا الْقَاتِلُ هُوَ الْمُكْرَهُ حَقِيقَةً ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْمُكْرَهِ أَوْلَى

(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ - مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «عَفَوْتُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ، وَعَفْوُ الشَّيْءِ عَفْوٌ عَنْ مُوجَبِهِ فَكَانَ مُوجَبُ الْمُسْتَكْرَهِ عَلَيْهِ مَعْفُوًّا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ هُوَ الْمُكْرِهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ مِنْ الْمُكْرَهِ صُورَةُ الْقَتْلِ فَأَشْبَهَ الْآلَةَ إذْ الْقَتْلُ مِمَّا يُمْكِنُ اكْتِسَابُهُ بِآلَةِ الْغَيْرِ كَإِتْلَافِ الْمَالِ، ثُمَّ الْمُتْلِفُ هُوَ الْمُكْرِهُ حَتَّى كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، فَكَذَا الْقَاتِلُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَطْعِ يَدِ نَفْسِهِ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ الْمُكْرِهِ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الْقَاطِعُ حَقِيقَةً لَمَا اقْتَصَّ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْحَيَاةِ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي بَابِ الْقِصَاصِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وَمَعْنَى الْحَيَاةِ شَرْعًا وَاسْتِيفَاءً لَا يَحْصُلُ بِشَرْعِ الْقِصَاصِ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ وَاسْتِيفَائِهِ مِنْهُ عَلَى مَا مَرَّ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ؛ لِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْمُكْرِهِ دُونَ الْمُكْرَهِ، وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ يَسْلُبُ الِاخْتِيَارَ أَصْلًا فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُكْرَهُ صَبِيًّا أَوْ مَعْتُوهًا يَعْقِلُ مَا أُمِرَ بِهِ فَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ الْمُكْرَهُ يَعْقِلُ وَهُوَ مُطَاعٌ أَوْ بَالِغٌ مُخْتَلَطُ الْعَقْلِ - وَهُوَ مُسَلَّطٌ - لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ خَطَأٌ. وَلَوْ قَالَ الْمُكْرَهُ عَلَى قَتْلِهِ الْمُكْرَهَ: اُقْتُلْنِي مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَقَتَلَهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَعِنْدَ زُفَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَكَذَا لَا قِصَاصَ عَلَى الْمُكْرَهِ عِنْدَنَا، وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ رِوَايَتَانِ وَمَوْضِعُ الْمَسْأَلَةِ كِتَابُ الدِّيَاتِ، وَمِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى قَتْلِ مُوَرِّثِهِ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْمُكْرَهِ صُورَةُ الْقَتْلِ لَا حَقِيقَتُهُ بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى الْآلَةِ، فَكَانَ الْقَتْلُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرَهِ، وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ وَلَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَلَا يُوجِبُ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ. (وَأَمَّا) الْمُكْرِهُ فَيُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا يُحْرَمُ لِانْعِدَامِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ وَالْكَفَّارَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ الْمُكْرِهُ بَالِغًا فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا وَهُوَ وَارِثُ الْمَقْتُولِ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الْقَتْلِ جَازِمًا أَنْ يَكُونَ حَرَامًا وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ، وَلِهَذَا إذَا قَتَلَهُ بِيَدِ نَفْسِهِ لَا يُحْرَمُ فَإِذَا قَتَلَهُ بِيَدِ غَيْرِهِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ عَلَى قَطْعِ يَدِ إنْسَانٍ إذَا قَطَعَ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْقَتْلِ غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ إذَا كَانَ أَذِنَ لِلْمُكْرَهِ بِقَطْعِ يَدِهِ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَقَطَعَ لَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ، وَفِي بَابِ الْقَتْلِ إذَا أَذِنَ الْمُكْرَهُ عَلَى قَتْلِهِ لِلْمُكْرَهِ بِالْقَتْلِ فَقَتَلَ فَهُوَ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَالْإِذْنُ بِإِتْلَافِ الْمَالِ الْمَحْضِ مُبِيحٌ، فَالْإِذْنُ بِإِتْلَافِ مَالِهِ حُكْمُ الْمَالِ فِي الْجُمْلَةِ يُورِثُ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِخِلَافِ النَّفْسِ يَدُلُّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ: لَتَقْطَعَنَّ يَدَك وَإِلَّا لَأَقْتُلَنَّكَ كَانَ فِي سِعَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَسَعُهُ ذَلِكَ فِي النَّفْسِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْمُكْرَهُ عَلَى الزِّنَا فَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَوَّلًا إذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى الزِّنَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِانْتِشَارِ الْآلَةِ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ فَكَانَ طَائِعًا فِي الزِّنَا فَكَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ مِنْ السُّلْطَانِ لَا يَجِبُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ فَإِذَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ مَا يَجِيءُ مِنْ السُّلْطَانِ لَا يَجِبُ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْمُكْرَهَ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ، وَلَا يَجِدُ غَوْثًا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ مِنْهُ. (وَأَمَّا) قَوْلُهُ إنَّ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِانْتِشَارِ الْآلَةِ فَنَعَمْ لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ تَنْتَشِرُ آلَتُهُ يَفْعَلُ، فَكَانَ فِعْلُهُ بِنَاءً عَلَى إكْرَاهِهِ فَيَعْمَلُ فِيهِ لِضَرُورَتِهِ مَدْفُوعًا إلَيْهِ خَوْفًا مِنْ الْقَتْلِ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ، وَلَكِنْ يَجِبُ الْعُقْرُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو عَنْ إحْدَى الْغَرَامَتَيْنِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْعُقْرُ عَلَى الْمُكْرَهِ دُونَ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ غَيْرِهِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ الْغَيْرِ فَضَمَانُهُ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَمَا يُتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ

بِآلَةِ الْغَيْرِ فَضَمَانُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا لَا حَدَّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا بِالْإِكْرَاهِ صَارَتْ مَحْمُولَةً عَلَى التَّمْكِينِ خَوْفًا مِنْ مَضَرَّةِ السَّيْفِ، فَيُمْنَعُ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهَا كَمَا فِي جَانِبِ الرَّجُلِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْهَا لَيْسَ إلَّا التَّمْكِينُ ثُمَّ الْإِكْرَاهُ لَمَّا أَثَّرَ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ فِي جَانِبِهَا أَوْلَى هَذَا إذَا كَانَ إكْرَاهُ الرَّجُلِ تَامًّا، فَأَمَّا إذَا كَانَ نَاقِصًا بِحَبْسٍ أَوْ قَيْدٍ أَوْ ضَرْبٍ لَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَا يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ مَدْفُوعًا إلَى فِعْلِ مَا أُكْرِهَ فَبَقِيَ مُخْتَارًا مُطْلَقًا فَيُؤَاخَذُ بِحُكْمِ فِعْلِهِ. (وَأَمَّا) فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ التَّامِّ وَالنَّاقِصِ وَيُدْرَأُ الْحَدُّ عَنْهَا فِي نَوْعَيْ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا فِعْلُ الزِّنَا بَلْ الْمَوْجُودُ هُوَ التَّمْكِينُ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ دَلِيلَ الرِّضَا بِالْإِكْرَاهِ فَيُدْرَأُ عَنْهَا الْحَدُّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا. ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ بِأَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَحَدِ فِعْلَيْنِ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - أَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِبَاحَةِ وَالرُّخْصَةِ وَالْحُرْمَةِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا يَخْتَلِفُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَالْمُرَخَّصِ أَنَّهُ يَبْطُلُ حُكْمُ الرُّخْصَةِ أَعْنِي بِهِ أَنَّ كُلَّ مَا يُبَاحُ حَالَةَ التَّعْيِينِ يُبَاحُ حَالَةَ التَّخْيِيرِ، وَكُلُّ مَا لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ حَالَةَ التَّعْيِينِ لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ حَالَةَ التَّخْيِيرِ، وَكُلُّ مَا يُرَخَّصُ حَالَةَ التَّعْيِينِ يُرَخَّصُ حَالَةَ التَّخْيِيرِ إلَّا إذَا كَانَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَبَيْنَ الْمُرَخَّصِ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ مَيْتَةٍ أَوْ قَتْلِ مُسْلِمٍ يُبَاحُ لَهُ الْأَكْلُ وَلَا يُرَخَّصُ لَهُ الْقَتْلُ، وَكَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ مَيْتَةٍ أَوْ أَكْلِ مَا لَا يُبَاحُ، وَلَا يُرَخَّصُ حَالَةَ التَّعْيِينِ مِنْ قَطْعِ الْيَدِ وَشَتْمِ الْمُسْلِمِ وَالزِّنَا يُبَاحُ لَهُ الْأَكْلُ وَلَا يُبَاحُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُرَخَّصُ كَمَا فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ، وَلَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْأَكْلِ حَتَّى قُتِلَ يَأْثَمُ كَمَا فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ وَالزِّنَا لَا يُرَخَّصُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ أَحَدَهُمَا، وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْهُمَا لَا يَأْثَمُ إذَا قُتِلَ بَلْ يُثَابُ كَمَا فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ أَوْ الْإِتْلَافِ لِمَالِ إنْسَانٍ رُخِّصَ لَهُ الْإِتْلَافُ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ أَحَدَهُمَا حَتَّى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ بَلْ يُثَابُ كَمَا فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ، وَكَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ إنْسَانٍ وَإِتْلَافِ مَالِ نَفْسِهِ يُرَخَّصُ لَهُ الْإِتْلَافُ دُونَ الْقَتْلِ كَمَا فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ، وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْهُمَا حَتَّى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ، وَكَذَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ أَوْ الْكُفْرِ يُرَخَّصُ لَهُ أَنْ يُجْرِيَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ وَلَا يُرَخَّصُ لَهُ الْقَتْلُ، وَلَوْ امْتَنَعَ حَتَّى قُتِلَ فَهُوَ مَأْجُورٌ كَمَا فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ، فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ مَيْتَةٍ أَوْ الْكُفْرِ لَمْ يُذْكَرْ هَذَا الْفَصْلُ فِي الْكِتَابِ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُرَخَّصَ لَهُ كَلِمَةُ الْكُفْرِ أَصْلًا كَمَا لَا يُرَخَّصُ لَهُ الْقَتْلُ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ فِي إجْرَاءِ الْكَلِمَةِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَيُمْكِنُهُ دَفْعُ الضَّرُورَةِ بِالْمُبَاحِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ الْأَكْلُ فَكَانَ إجْرَاءُ الْكَلِمَةِ حَاصِلًا بِاخْتِيَارِهِ مُطْلَقًا فَلَا يُرَخَّصُ لَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا فَقَدْ يَخْتَلِفُ بِالتَّخْيِيرِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ فَلَمْ يَأْكُلْ وَقَتَلَ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ دَفْعَ الضَّرُورَةِ بِتَنَاوُلِ الْمُبَاحِ فَكَانَ الْقَتْلُ حَاصِلًا بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيُؤَاخَذُ بِالْقِصَاصِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ أَوْ الْكُفْرِ فَلَمْ يَأْتِ بِالْكَلِمَةِ وَقَتَلَ، فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي الْقَتْلِ حَيْثُ آثَرَ الْحَرَامَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُرَخَّصِ فِيهِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا أَنَّ لَفْظَ الْكُفْرِ مُرَخَّصٌ لَهُ مِنْهُمْ مَنْ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَالِمًا، وَمَعَ ذَلِكَ تَرَكَهُ وَقَتَلَ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا مَخْرَجَ الشَّرْطِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجِبُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ أَمْرَ هَذَا الرَّجُلِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ الْقَتْلِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةَ الرُّخْصَةِ فِي الْقَتْلِ، وَالْقِصَاصُ لَا يَجِبُ مَعَ الشُّبُهَاتِ حَتَّى لَوْ كَانَ عَالِمًا يَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ؛ لِانْعِدَامِ الظَّنِّ الْمُورِثِ لِلشُّبْهَةِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ عَلِمَ بِالرُّخْصَةِ فَقَدْ اسْتَعْظَمَ حَرْفَ الْكُفْرِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ فَجُعِلَ اسْتِعْظَامُهُ شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْقِصَاصِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَإِنَّمَا وَجَبَ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُ عَمْدٌ. (وَقَالَ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا» وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ أَوْ الزِّنَا فَزَنَا الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُدْرَأُ عَنْهُ لِمَا مَرَّ، وَلَوْ قَتَلَ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَلَكِنَّهُ يُؤَدَّبُ بِالْحَبْسِ وَالتَّعْزِيرِ وَيُقْتَصُّ مِنْ الْمُكْرِهِ كَمَا فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ عَلَى مَا مَرَّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْأَفْعَالِ

الْحِسِّيَّةِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - التَّصَرُّفَاتُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: إنْشَاءٌ وَإِقْرَارٌ، وَالْإِنْشَاءُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَنَوْعٌ يَحْتَمِلُهُ أَمَّا الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالرَّجْعَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْيَمِينُ وَالنَّذْرُ وَالظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ وَالْفَيْءُ فِي الْإِيلَاءِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ جَائِزَةٌ مَعَ الْإِكْرَاهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَجُوزُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «عَفَوْت عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ كُلِّ مَا اُسْتُكْرِهَ عَلَيْهِ عَفْوًا، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ إلَى مَا وُضِعَ لَهُ التَّصَرُّفُ شَرْطُ جَوَازِهِ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَهَذَا الشَّرْطُ يَفُوتُ بِالْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَا يَقْصِدُ بِالتَّصَرُّفِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ دَفْعَ مَضَرَّةِ السَّيْفِ عَنْ نَفْسِهِ. (وَلَنَا) أَنَّ عُمُومَاتِ النُّصُوصِ وَإِطْلَاقَهَا يَقْتَضِي شَرْعِيَّةَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَتَقْيِيدٍ. (أَمَّا) الطَّلَاقُ فَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ» وَلِأَنَّ الْفَائِتَ بِالْإِكْرَاهِ لَيْسَ إلَّا الرِّضَا طَبْعًا، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّ طَلَاقَ الْهَازِلِ وَاقِعٌ وَلَيْسَ بِرَاضٍ بِهِ طَبْعًا، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ قَدْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ الْفَائِقَةَ حُسْنًا وَجَمَالًا الرَّائِقَةَ تَغَنُّجًا وَدَلَالًا لِخَلَلٍ فِي دِينِهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَرْضَى بِهِ طَبْعًا وَيَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ، وَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ ظَاهِرًا يَوْمَئِذٍ وَكَانَ يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ كَلِمَاتُ الْكُفْرِ خَطَأً وَسَهْوًا، فَعَفَا اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ عَنْ ذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مَا أَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِ الْحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ مُسْتَكْرَهٍ عَلَيْهِ مَعْفُوٌّ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَكِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَكُلَّ تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ مُسْتَكْرَهٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَعْمَلُ عَلَى الْأَقْوَالِ كَمَا يَعْمَلُ عَلَى الِاعْتِقَادَاتِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِ لِسَانِ غَيْرِهِ بِالْكَلَامِ عَلَى تَغْيِيرِ مَا يَعْتَقِدُهُ بِقَلْبِهِ جَبْرًا فَكَانَ كُلُّ مُتَكَلِّمٍ مُخْتَارًا فِيمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ فَلَا يَكُونُ مُسْتَكْرَهًا عَلَيْهِ حَقِيقَةً فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْحَدِيثُ. وَقَوْلُهُ الْقَصْدُ إلَى مَا وُضِعَ لَهُ التَّصَرُّفُ بِشَرْطِ اعْتِبَارِ التَّصَرُّفِ قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ بِطَلَاقِ الْهَازِلِ ثُمَّ إنْ كَانَ شَرْطًا فَهُوَ مَوْجُودٌ هَهُنَا؛ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ دَفْعَ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ إلَّا بِالْقَصْدِ إلَى مَا وُضِعَ لَهُ فَكَانَ قَاصِدًا إلَيْهِ ضَرُورَةً ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ أُكْرِهَ عَلَى تَنْجِيزِ الطَّلَاقِ أَوْ عَلَى تَعْلِيقِهِ بِشَرْطٍ أَوْ عَلَى تَحْصِيلِ الشَّرْطِ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَحُكْمُ الْجَوَازِ لَا يَخْتَلِفُ فِي نَوْعَيْ التَّنْجِيزِ وَالتَّعْلِيقِ، وَحُكْمُ الضَّمَانِ يَتَّفِقُ مَرَّةً وَيَخْتَلِفُ أُخْرَى، وَسَنَذْكُرُ تَفْصِيلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي فَصْلِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِعْتَاقِ، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ هَاهُنَا حُكْمَ جَوَازِ التَّطْلِيقِ الْمُنَجَّزِ فَنَقُولُ إذَا جَازَ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا يَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَفْرُوضِ إنْ كَانَ الْمَهْرُ مَفْرُوضًا وَالْمُتْعَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَفْرُوضًا؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَفَعَهُ إلَى مُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَكَانَ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا يَجْبُ عَلَيْهِ كَمَالُ الْمَهْرِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَتَأَكَّدُ بِاسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَهُوَ الَّذِي اسْتَوْفَى الْمُبْدَلَ بِاخْتِيَارِهِ فَعَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا لَا سَبِيلَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِاخْتِيَارِ الْمُكْرَهِ أَصْلًا عَلَى مَا مَرَّ هَذَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الطَّلَاقِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالطَّلَاقِ فَفَعَلَهُ الْوَكِيلُ فَحُكْمُهُ يُذْكَرُ فِي فَصْلِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِعْتَاقِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَأَمَّا الْعَتَاقُ فَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَالَ: عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ: اعْتِقْ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ فَقَالَ: أَوَلَيْسَا وَاحِدًا؟ فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَفَرَّدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا» ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا النَّدْبُ إلَى الْإِعْتَاقِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَالطَّائِعِ، وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ كَالطَّلَاقِ ثُمَّ لَا يَخْلُو. إمَّا أَنْ كَانَ عَلَى تَنْجِيزِ الْعِتْقِ بِشَرْطٍ أَوْ عَلَى شَرْطِ الْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ بِهِ أَمَّا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى تَنْجِيزِ الْعِتْقِ فَأَعْتَقَ يَضْمَنُ الْمُكْرِهُ قِيمَةَ الْعَبْدِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، وَلَا يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْعَبْدِ بِالضَّمَانِ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ وَالْوَلَاءُ لِمَوْلَاهُ، أَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ آدَمِيٌّ هُوَ مَالٌ، وَالْإِعْتَاقُ إتْلَافُ الْمَالِيَّةِ، وَالْأَمْوَالُ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُكْرِهِ بِالْإِتْلَافِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَيَسْتَوِي فِيهِ يَسَارُهُ وَإِعْسَارُهُ

لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ بِالضَّمَانِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْهُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا مَعْنَى لِلرُّجُوعِ إلَى غَيْرِهِ وَالْوَلَاءُ لَلْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَلَامٌ مُضَافٌ إلَى الْمُكْرِهِ لِاسْتِحَالَةِ وُرُودِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْأَقْوَالِ فَكَانَ الْوَلَاءُ لَهُ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يُسْتَسْعَى إمَّا لِتَخْرِيجِهِ إلَى الْعِتْقِ تَكْمِيلًا لَهُ، وَإِمَّا لِتَعْلِيقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ، وَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّكْمِيلِ، وَكَذَا لَا حَقَّ لِأَحَدٍ تَعَلَّقَ بِهِ فَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى شِرَاءِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ بِالنَّصِّ وَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْإِعْتَاقِ لَكِنْ لَا يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ هَهُنَا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ عِوَضٌ وَهُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأُكْرِهَ أَحَدُهُمَا عَلَى إعْتَاقِهِ فَأَعْتَقَهُ جَازَ عِتْقُهُ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْإِعْتَاقِ لَكِنْ يُعْتَقُ نِصْفُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا يُعْتَقُ كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ. وَلَا يَضْمَنُ الشَّرِيكُ الْمُكْرَهُ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ نَصِيبَهُ، وَلَكِنْ يَضْمَنُ الْمُكْرِهُ نَصِيبَ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْ حَيْثُ هُوَ إتْلَافُ الْمَالِ مُضَافٌ إلَى الْمُكْرِهِ فَكَانَ الْمُتْلِفُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى هُوَ الْمُكْرِهُ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، وَهَذَا بِخِلَافِ حَالَةِ الِاخْتِيَارِ إذَا أَعْتَقَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ السَّاكِتِ إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا وَهَهُنَا يَضْمَنُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُكْرَهِ ضَمَانُ إتْلَافٍ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْأَصْلُ أَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ لَيْسَ بِضَمَانِ إتْلَافٍ؛ لِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَإِنْ عَتَقَ لَكِنْ لَا بِإِعْتَاقِهِ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ عَتَقَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ عِنْدَ تَصَرُّفِهِ لَا بِتَصَرُّفِهِ فَلَا يَكُونُ مُضَافًا إلَيْهِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي دَارِ نَفْسِهِ فَوَقَعَ فِيهَا غَيْرُهُ أَوْ سَقَى أَرْضَ نَفْسِهِ فَفَسَدَتْ أَرْضُ غَيْرِهِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ إلَّا أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ عُرِفَ شَرْعًا. وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهِ عَلَى الْمُوسِرِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ، وَشَرِيكُ الْمُكْرَهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَهُ، وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَاهُ مُعْسِرًا كَانَ الْمُكْرَهُ أَوْ مُوسِرًا، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ إنْ كَانَ مُوسِرًا، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُكْرِهِ فَالْوَلَاءُ بَيْنَ الْمُكْرِهِ وَالْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَيْهِ بِاخْتِيَارِ طَرِيقِ الضَّمَانِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْإِعْتَاقَ أَوْ السِّعَايَةَ فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ الْمُكْرِهُ مُوسِرًا فَلِشَرِيكِ الْمُكْرَهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ لَا غَيْرُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ لَا غَيْرُ كَمَا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَمَوْضِعُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا بَعْضَ مَا يَخْتَصُّ بِالْإِكْرَاهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. (وَأَمَّا) التَّدْبِيرُ فَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَحْرِيرٌ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ» وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا أَنَّهُ لِلْحَالِ تَحْرِيرٌ مِنْ وَجْهٍ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ نَفَاذَ التَّحْرِيرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَمْنَعُ نَفَاذَ التَّحْرِيرِ مِنْ وَجْهٍ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَيَرْجِعُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ لِلْحَالِ بِمَا نَقَصَهُ التَّدْبِيرُ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ يَرْجِعُ وَرَثَتُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِبَقِيَّةِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لِلْحَالِ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ مِنْ وَجْهٍ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ، فَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى التَّدْبِيرِ إتْلَافًا لِمَالِ الْمُكْرِهِ لِلْحَالِ مِنْ وَجْهٍ فَيَضْمَنُ بِقَدْرِهِ مِنْ النُّقْصَانِ ثُمَّ يَتَكَامَلُ الْإِتْلَافُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَيَتَكَامَلُ الضَّمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ بَقِيَّةُ قِيمَتِهِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُكْرَهُ صَارَ ذَلِكَ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ هَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى تَنْجِيزِ الْعِتْقِ. ، فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ عَلَى تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِشَرْطٍ، أَمَّا حُكْمُ الْجَوَازِ فَلَا يَخْتَلِفُ فِي النَّوْعَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ فَقَدْ يَخْتَلِفُ بَيَانُ ذَلِكَ إذَا أُكْرِهَ عَلَى تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ فِعْلًا لَا بُدَّ مِنْهُ بِأَنْ كَانَ مَفْرُوضًا عَلَيْهِ أَوْ يَخَافُ مِنْ تَرْكِهِ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَفَعَلَهُ حَتَّى عَتَقَ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِفِعْلٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ إكْرَاهٌ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ فَكَانَ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَإِنْ كَانَ فِعْلًا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ كَتَقَاضِي دَيْنِ الْغَرِيمِ أَوْ تَنَاوُلِ شَيْءٍ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ فَفَعَلَ حَتَّى عَتَقَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ لَا يَكُونُ مُضْطَرًّا إلَى تَحْصِيلِهِ إذْ لَا يَلْحَقُهُ بِتَرْكِهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ فَأَشْبَهَ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ فَلَا يَكُونُ الْإِكْرَاهُ عَلَى تَعْلِيقِ

الْعِتْقِ إكْرَاهًا عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ تَلَفُ الْمَالِ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَقُولَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا أَسْتَقْبِلُهُ فَهُوَ حُرٌّ فَقَالَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَلَكَ مَمْلُوكًا حَتَّى عَتَقَ عَلَيْهِ، فَإِنْ مَلَكَ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَكَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَيَقْطَعُ إضَافَةَ إكْرَاهِ الْإِتْلَافِ إلَى الْمُكْرِهِ، وَإِنْ مَلَكَ بِإِرْثٍ فَكَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لِلْمُكْرَهِ فِي الْإِرْثِ فَبَقِيَ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: إنْ شِئْت فَأَنْتَ حُرٌّ فَقَالَ: شِئْت حَتَّى عَتَقَ ضَمِنَ الْمُكْرِهُ؛ لِأَنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ الْعِتْقَ تُوجَدُ غَالِبًا فَأَشْبَهَ التَّعْلِيقُ بِفِعْلٍ لَا بُدَّ مِنْهُ فَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ إكْرَاهًا عَلَيْهِ هَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ. ، فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ عَلَى تَحْصِيلِ الشَّرْطِ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ الْعِتْقُ عَنْ طَوْعٍ بِأَنْ قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدٍ: إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ فَأُكْرِهَ عَلَى الشِّرَاءِ فَاشْتَرَاهُ حَتَّى عَتَقَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَثْبُتْ بِالشَّرْطِ وَهُوَ الشِّرَاءُ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ وَهُوَ طَائِعٌ فِيهِ، وَكَذَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَأُكْرِهَ عَلَى الدُّخُولِ حَتَّى عَتَقَ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ إنَّمَا يَضْمَنُ الْمُكْرَهُ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا، فَأَمَّا إذَا كَانَ نَاقِصًا فَلَا ضَمَانَ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَا يَقْطَعُ الْإِضَافَةَ عَنْ الْمُكْرَهِ بِوَجْهٍ فَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِعْتَاقِ الْمُطْلَقِ عَيْنًا. ، فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَحَدِهِمَا غَيْرِ عَيْنٍ بِأَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ أَوْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا فَفَعَلَ الْمُكْرَهُ أَحَدَهُمَا غَرِمَ الْمُكْرِهُ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ نِصْفِ مَهْرِ الْمَرْأَةِ، أَمَّا إذَا فَعَلَ أَقَلَّهُمَا ضَمَانًا فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتْلَفَ عَلَيْهِ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ، وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ أَكْثَرَهُمَا ضَمَانًا؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ دَفْعَ الضَّرُورَةِ بِأَقَلِّ الْفِعْلَيْنِ ضَمَانًا فَإِذَا فَعَلَ أَكْثَرَهُمَا ضَمَانًا كَانَ مُخْتَارًا فِي الزِّيَادَةِ؛ لِانْعِدَامِ الِاضْطِرَارِ فِي هَذَا الْقَدْرِ فَلَا يَكُونُ تَلَفُ هَذَا الْقَدْرِ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا فَفَعَلَ الْمُكْرَهُ أَحَدَهُمَا لَا شَيْءَ عَلَى الْمُكْرِهِ أَمَّا إذَا طَلَّقَ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ دَفْعُ الضَّرُورَةِ بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ فِيهِ ضَمَانٌ أَصْلًا وَهُوَ الطَّلَاقُ فَكَانَ مُخْتَارًا فِي الْإِعْتَاقِ فَلَا يَكُونُ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ فَلَا يَضْمَنُ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا. وَلَكِنَّ الْإِكْرَاهَ نَاقِصٌ فَفَعَلَ الْمُكْرَهُ أَحَدَهُمَا لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَا يَقْطَعُ إضَافَةَ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ بِهِ فَكَانَ مُخْتَارًا مُطْلَقًا فِيهِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ الْمُكْرِهُ هَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِعْتَاقِ، فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ فَوَكَّلَ غَيْرَهُ بِهِ فَفَعَلَ الْوَكِيلُ، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ التَّوْكِيلُ وَلَا يَجُوزُ إعْتَاقُ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ؛ وَلِهَذَا يُبْطِلُهُ الْهَزْلُ كَالْبَيْعِ فَلَا يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ كَمَا لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِعْتَاقِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالْهَزْلَ فَنَعَمْ لَكِنَّهُ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ فَلَا يَعْمَلُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ كَمَا لَا يَعْمَلُ عَلَى الْإِعْتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِلْمُبَادَلَةِ حَقِيقَةً، وَحَقِيقَةُ الْمُبَادَلَةِ بِالتَّعَاطِي، وَإِنَّمَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ حَالَةَ الطَّوْعِ فَيَعْمَلُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِذَا نَفَذَ إعْتَاقُ الْوَكِيلِ يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَرْجِعَ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْمُكْرِهِ الْإِكْرَاهُ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ لَا عَلَى الْإِعْتَاقِ، وَإِنَّمَا الْإِعْتَاقُ حَصَلَ بِاخْتِيَارِ الْوَكِيلِ وَرِضَاهُ فَلَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ كَشُهُودِ التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ إذَا رَجَعُوا لَا يَضْمَنُونَ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْوَكَالَةِ بِالْإِعْتَاقِ كَذَا هَهُنَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ إكْرَاهٌ عَلَى الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَكَّلَ بِالْإِعْتَاقِ مَلَكَ الْوَكِيلُ إعْتَاقَهُ عَقِيبَ التَّوْكِيلِ بِلَا فَصْلٍ فَيَعْتِقُهُ فَيَتْلَفُ مَالُهُ، فَكَانَ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ فَيُؤَاخَذُ بِضَمَانِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ بِأَمْرِهِ أَمْرًا صَحِيحًا، وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] وَغَيْرِهِ مِنْ عُمُومَاتِ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ثُمَّ إذَا جَازَ النِّكَاحُ مَعَ الْإِكْرَاهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ أُكْرِهَ الزَّوْجُ أَوْ الْمَرْأَةُ، فَإِنْ أُكْرِهَ الزَّوْجُ

فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ مِقْدَارَ مَهْرِ الْمِثْلِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ يَجِبُ الْمُسَمَّى وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالَهُ حَيْثُ عَوَّضَهُ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ جُعِلَتْ أَمْوَالًا مُتَقَوِّمَةً شَرْعًا عِنْدَ دُخُولِهَا فِي مِلْكِ الزَّوْجِ لِكَوْنِهَا سَبَبًا لِحُصُولِ الْآدَمِيِّ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ وَصِيَانَةً لَهُ عَنْ الِابْتِذَالِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الْإِتْلَافُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ يَجِبُ قَدْرُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَتَبْطُلُ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ تَصِحَّ مَعَ الْإِكْرَاهِ فَبَطَلَتْ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ إلَّا قَدْرُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ وَقَعَ عَلَى النِّكَاحِ وَعَلَى إيجَابِ الْمَالِ إلَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُؤَثِّرُ فِي النِّكَاحِ وَيُؤَثِّرُ فِي إيجَابِ الْمَالِ كَمَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ أَصْلًا إلَّا أَنَّهَا صَحَّتْ فِي قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ شَرْعًا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَوْ أَبْطَلَ هَذَا الْقَدْرَ لَأَثْبَتَهُ ثَانِيًا فَلَمْ يَكُنْ الْإِبْطَالُ مُفِيدًا فَلَمْ يَبْطُلْ لِئَلَّا يَخْرُجَ الْإِبْطَالُ مَخْرَجَ الْعَيْبِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الزِّيَادَةِ فَلَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهَا هَذَا إذَا أُكْرِهَ الزَّوْجُ عَلَى النِّكَاحِ، فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ، فَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ جَازَ النِّكَاحُ وَلَزِمَ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بِأَنْ أُكْرِهَتْ عَلَى النِّكَاحِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمَهْرُ مِثْلِهَا عَشْرَةُ آلَافٍ فَزَوَّجَهَا أَوْلِيَاؤُهَا وَهُمْ مُكْرَهُونَ جَازَ النِّكَاحُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الْمُكْرِهِ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُكْرِهَ مَا أَتْلَفَ عَلَيْهَا مَالًا؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ بِأَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُتَقَوِّمَةً بِالْعَقْدِ. وَالْعَقْدُ قَوَّمَهَا بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى فَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُكْرِهِ إتْلَافُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ عَلَيْهَا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الشُّهُودِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُكْرِهِ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الشُّهُودِ أَوْلَى، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الزَّوْجُ كُفْئًا فَقَالَ لِلزَّوْجِ: إنْ شِئْت فَكَمِّلْ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا وَإِلَّا فَنُفَرِّقُ بَيْنَكُمَا، فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَ النِّكَاحُ، وَإِنْ أَبَى تَكْمِيلَ مَهْرِ الْمِثْلِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إنْ لَمْ تَرْضَ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ لَهَا فِي كَمَالِ مَهْرِ مِثْلِهَا حَقًّا؛ لِأَنَّهَا تُعَيَّرُ بِنُقْصَانِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَيَلْحَقُهَا ضَرَرُ الْعَارِ، وَإِذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، وَلَوْ رَضِيَتْ بِالنُّقْصَانِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً بِأَنْ دَخَلَ بِهَا عَنْ طَوْعٍ مِنْهَا فَلَهَا الْمُسَمَّى وَبَطَلَ حَقُّهَا فِي التَّفْرِيقِ لَكِنْ بَقِيَ حَقُّ الْأَوْلِيَاءِ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَهُمْ أَنْ يُفَرِّقُوا، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ التَّفْرِيقِ لِنُقْصَانِ الْمَهْرِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ. وَلَوْ دَخَلَ بِهَا عَلَى كُرْهٍ مِنْهَا لَزِمَهُ تَكْمِيلُ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلَالَةُ اخْتِيَارِ التَّكْمِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ كُفْئًا فَلِلْمَرْأَةِ خِيَارُ التَّفْرِيقِ لِانْعِدَامِ الْكَفَاءَةِ وَنُقْصَانِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَيْضًا، وَكَذَا الْأَوْلِيَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا لَهُمْ خِيَارُ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ إمَّا لَا خِيَارَ لَهُمْ لِنُقْصَانِ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَإِنْ سَقَطَ أَحَدُ الْخِيَارَيْنِ عَنْهَا يَبْقَى لَهَا حَقُّ التَّفْرِيقِ لِبَقَاءِ الْخِيَارِ الْآخَرِ، وَإِنْ سَقَطَ الْخِيَارَانِ جَمِيعًا فَلِلْأَوْلِيَاءِ خِيَارُ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَفِي خِيَارِ نُقْصَانِ الْمَهْرِ خِلَافٌ عَلَى مَا عُرِفَ حَتَّى أَنَّ الزَّوْجَ إذَا دَخَلَ بِهَا قَبْلَ التَّفْرِيقِ عَلَى كُرْهٍ مِنْهَا حَتَّى لَزِمَهُ التَّكْمِيلُ بَطَلَ خِيَارُ النُّقْصَانِ وَبَقِيَ لَهَا عَدَمُ خِيَارِ الْكَفَاءَةِ. وَلَوْ رَضِيَتْ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ أَيْضًا صَرِيحًا وَدَلَالَةً بِأَنْ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ عَلَى طَوْعٍ مِنْهَا سَقَطَ الْخِيَارَانِ جَمِيعًا وَبَطَلَ حَقُّهَا فِي التَّفْرِيقِ أَصْلًا لَكِنْ لِلْأَوْلِيَاءِ الْخِيَارَانِ جَمِيعًا، وَعِنْدَهُمَا أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مَا جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهِ بَلْ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَلِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] عَامًّا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْوَطْءُ وَاللَّمْسُ عَنْ شَهْوَةٍ وَالنَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ عَنْ شَهْوَةٍ وَالْإِكْرَاهُ لَا يَعْمَلُ عَلَى النَّوْعَيْنِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْيَمِينُ وَالنَّذْرُ بِأَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً أَوْ حَجًّا أَوْ شَيْئًا مِنْ وُجُوهِ الْقُرَبِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ فَلِعُمُومَاتِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ الطَّبَائِعِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وَقَالَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] أَيْ بِالْعُهُودِ، وَلِأَنَّ النَّذْرَ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] وَقَالَ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ وَكِبْرِيَاؤُهُ {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] ، وَلِأَنَّ هَذِهِ تَصَرُّفَاتٌ قَوْلِيَّةٌ. وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ

لَا يَعْمَلُ عَلَى الْأَقْوَالِ وَالْفَيْءُ فِي الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الْقَادِرِ بِالْجِمَاعِ وَفِي حَقِّ الْعَاجِزِ بِالْقَوْلِ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا فَكَانَ طَائِعًا فِي الْفَيْءِ فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَلَا تَلْزَمُهُ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ الْكَفَّارَةِ وَالْقُرْبَةِ الْمَنْذُورِ بِهَا عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَى الْمُكْرَهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ، وَكَذَا الْمَنْذُورُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِهَا مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ وَهُمَا مِمَّا لَا يُجْبَرُ عَلَى فِعْلِهِمَا أَيْضًا فَلَوْ وَجَبَ عَلَى الْمُكْرِهِ لَكَانَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ عَلَى الْمُكْرَهِ أَوْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُفِيدُ الْمُكْرِهَ شَيْئًا فَلَا مَعْنًى لِرُجُوعِهِ عَلَيْهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ الْمَشْرُوعِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا جَعْلُ الْمُوَسَّعِ مُضَيَّقًا، وَالثَّانِي جَعْلُ مَا لَا يُجْبَرُ عَلَى فِعْلِهِ مَجْبُورًا عَلَى فِعْلِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَغْيِيرٌ وَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ مِنْ وَجْهٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ مِنْ وَجْهَيْنِ؟ وَكَذَا فِي الْإِيلَاءِ إذَا لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ لَا يَرْجِعُ بِمَا لَزِمَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُ تَرْكُ الْقُرْبَانِ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِي تَرْكِهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْرَبَهَا فِي الْمُدَّةِ حَتَّى لَا تَبِينَ فَلَا يَلْزَمُهُ فَإِذَا لَمْ يَقْرَبْ كَانَ تَرْكُ الْقُرْبَانِ حَاصِلًا بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ بِفِعْلِهِ. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَعْتِقَ عَبْدَهُ عَنْ ظِهَارِهِ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ عَبْدٍ وَسَطٍ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ ذَلِكَ الْقَدْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى عَبْدٍ وَسَطٍ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ بِالظِّهَارِ وَلَا تَجْزِيهِ عَنْ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّهُ إعْتَاقٌ دَخَلَهُ عِوَضٌ وَالْإِعْتَاقُ بِعِوَضٍ، وَإِنْ قَلَّ لَا يَجْزِي عَنْ التَّكْفِيرِ. وَأَمَّا الْعَفْوُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَلِعُمُومَاتِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] وَلِقَوْلِهِ بِهِ أَيْ بِالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْقِصَاصِ هُوَ الْعَفْوُ وَقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] فَقَدْ نَدَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى الْعَفْوِ عَامًّا، وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إتْلَافُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْعَفْوِ إذَا رَجَعُوا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا النَّوْعُ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْهِبَةُ وَالْإِجَارَةُ وَنَحْوُهَا فَالْإِكْرَاهُ يُوجِبُ فَسَادَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُوجِبُ تَوَقُّفَهَا عَلَى الْإِجَازَةِ كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُوجِبُ بُطْلَانَهَا أَصْلًا (وَوَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الرِّضَا شَرْطُ الْبَيْعِ شَرْعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَالْإِكْرَاهُ يَسْلُبُ الرِّضَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَجَازَ الْمَالِكُ يَجُوزُ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِالْإِجَازَةِ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ، وَهَذِهِ شُبْهَةُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (وَلَنَا) ظَوَاهِرُ نُصُوصِ الْبَيْعِ عَامًّا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَتَقْيِيدٍ، وَلِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمُبَادَلَةُ صَدَرَ مُطْلَقًا مِنْ أَهْلِ الْبَيْعِ فِي مَحَلٍّ وَهُوَ مَالُ مَمْلُوكِ الْبَائِعِ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ التَّسْلِيمِ كَمَا فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ، وَلَا فَرْقَ سِوَى أَنَّ الْمُفْسِدَ هُنَاكَ لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ أَوْ الرِّبَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُنَا الْفَاسِدُ لِعَدَمِ الرِّضَا طَبْعًا فَكَانَ الرِّضَا طَبْعًا شَرْطَ الصِّحَّةِ لَا شَرْطَ الْحُكْمِ، وَانْعِدَامُ شَرْطِ الصِّحَّةِ لَا يُوجِبُ انْعِدَامَ الْحُكْمِ كَمَا فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ إلَّا أَنَّ سَائِرَ الْبِيَاعَاتِ لَا تَلْحَقُهَا الْإِجَازَةُ؛ لِأَنَّ فَسَادَهَا لَحِقَ الشَّرْعَ مِنْ حُرْمَةِ الرِّبَا وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَزُولُ بِرِضَا الْعَبْدِ، وَهُنَا الْفَسَادُ لَحِقَ الْعَبْدَ وَهُوَ عَدَمُ رِضَاهُ فَيَزُولُ بِإِجَازَتِهِ وَرِضَاهُ، وَإِذَا فَسَدَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ بِالْإِكْرَاهِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. إمَّا إنْ كَانَ الْمُكْرَهُ هُوَ الْبَائِعُ وَإِمَّا أَنْ كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِيَ. وَإِمَّا أَنْ كَانَا جَمِيعًا مُكْرَهَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ هُوَ الْبَائِعُ فَلَا يَخْلُو الْأَمْرُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْبَيْعِ طَائِعًا فِي التَّسْلِيمِ وَإِمَّا إنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ جَمِيعًا، فَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْبَيْعِ طَائِعًا فِي التَّسْلِيمِ فَبَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ طَائِعًا جَازَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِلْمُبَادَلَةِ فَإِذَا سَلَّمَ طَائِعًا فَقَدْ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْبَيْعِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَجُوزُ بِطَرِيقِ التَّعَاطِي، فَكَانَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ لَفْظِ الْبَيْعِ بِالْإِكْرَاهِ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ التَّسْلِيمُ مِنْهُ طَائِعًا إجَازَةً لِذَلِكَ الْبَيْعِ بَلْ يَكُونُ هَذَا بَيْعًا مُبْتَدَأً بِطَرِيقِ التَّعَاطِي. وَالثَّانِي: أَنَّ التَّسْلِيمَ مِنْهُ إجَازَةٌ لِذَلِكَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ صِحَّةُ التَّسْلِيمِ حَتَّى يَكُونَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ إكْرَاهًا عَلَى مَا لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِهِ إذْ الْبَيْعُ يَصِحُّ بِدُونِ التَّسْلِيمِ فَكَانَ طَائِعًا فِي التَّسْلِيمِ فَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا لِلْإِجَازَةِ بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ

عَلَى الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ إذَا سَلَّمَ طَائِعًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَكُونُ التَّسْلِيمُ إجَازَةً؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَا يَصِحَّانِ بِدُونِ الْقَبْضِ فَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهِمَا إكْرَاهًا عَلَى الْقَبْضِ فَلَمْ يَصِحَّ التَّسْلِيمُ دَلِيلًا عَلَى الْإِجَازَةِ فَهُوَ الْفَرْقُ هَذَا إذَا كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْبَيْعِ طَائِعًا فِي التَّسْلِيمِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُكْرَهًا عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَبَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ هُوَ الْمُبَادَلَةُ، وَالْإِكْرَاهُ يُؤَثِّرُ فِيهَا بِالْفَسَادِ وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ نَفَذَ إعْتَاقُهُ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ بِالْإِعْتَاقِ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْفَسْخُ إذْ الْإِعْتَاقُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَتَقَرَّرَ الْهَلَاكُ فَتَقَرَّرَتْ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ كَالْبَائِعِ. وَالْمُكْرَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْمُكْرِهِ بِقِيمَتِهِ ثُمَّ الْمُكْرِهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَمَّا حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُكْرِهِ فَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالَهُ بِإِزَالَةِ يَدِهِ عَنْهُ فَأَشْبَهَ الْغَاصِبَ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ مَا أَتْلَفَهُ كَالْغَاصِبِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ. وَأَمَّا حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ غَاصِبِ الْغَاصِبِ وَلِلْمَالِكِ وِلَايَةُ تَضْمِينِ غَاصِبِ الْغَاصِبِ كَذَا هَذَا، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْإِعْتَاقُ لَا يَنْفُذُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، فَإِنْ أَجَازَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ نَفَذَ الْبَيْعُ وَلَمْ يَنْفُذْ الْإِعْتَاقُ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْإِجَازَةِ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ فِي حُكْمِ الْإِنْشَاءِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ السَّابِقِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَالْمُسْتَنِدُ مُقْتَصِرٌ مِنْ وَجْهٍ ظَاهِرٌ مِنْ وَجْهٍ فَجَازَ أَنْ لَا يَظْهَرَ فِي حَقِّ الْمُعَلَّقِ بَلْ يُقْتَصَرَ، وَلِلْبَائِعِ خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ فِي هَذَا الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ. وَإِنْ ثَبَتَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَكِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَجْلِ الْفَسَادِ فَيَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ دَفْعًا لِلْفَسَادِ. وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلَهُ حَقُّ الْفَسْخِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِهَذَا الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِي الشِّرَاءِ فَكَانَ لَازِمًا فِي جَانِبِهِ لَكِنْ إنَّمَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ فَسْخَ هَذَا الْعَقْدِ إذَا كَانَ بِمَحَلِّ الْفَسْخِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَنْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي تَصَرُّفًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ وَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ، وَإِنْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْكَفَالَةِ وَنَحْوِهَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ بِخِلَافِ سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ، فَإِنْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الْفَسْخِ أَيَّ تَصَرُّفٍ كَانَ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ هُنَاكَ ثَبَتَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَمْلُوكِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالْجَهَالَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِزَوَالِ الْمَمْلُوكِ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ، فَلَمَّا ثَبَتَ حَقُّ الْفَسْخِ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَالِكِ وَهُوَ كَرَاهَتُهُ وَفَوَاتُ رِضَاهُ وَأَنَّهُ قَائِمٌ، فَكَانَ حَقُّ الْفَسْخِ ثَابِتًا، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي حَتَّى تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعُقُودَ كُلَّهَا لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا إنَّمَا يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ إلَّا إذَا كَانَ بِمَحَلِّ الْإِجَازَةِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَنْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي تَصَرُّفًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا تَجُوزُ إجَازَتُهُ حَتَّى لَا يَجِبَ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي بَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْمَحَلِّ وَقْتَ الْإِجَازَةِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ فِي الْمَحَلِّ ثُمَّ يُسْتَنَدُ، وَالْهَالِكُ لَا يَحْتَمِلُ الْمِلْكَ فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ، وَالْمَحَلُّ بِالْإِعْتَاقِ صَارَ فِي حُكْمِ الْهَالِكِ وَتَقَرَّرَ هَلَاكُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَيَتَقَرَّرُ عَلَى الْمُشْتَرِي قِيمَتُهُ، وَإِنْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ يَمْلِكْ الْإِجَازَةَ، وَإِنْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي. وَإِذَا أَجَازَ وَاحِدًا مِنْ الْعُقُودِ جَازَتْ الْعُقُودُ كُلُّهَا مَا بَعْدَ هَذَا الْعَقْدِ، وَمَا قَبْلَهُ أَيْضًا بِخِلَافِ الْغَاصِبِ إذَا بَاعَ الْمَغْصُوبَ ثُمَّ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي هَكَذَا حَتَّى تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي وَتَوَقَّفَتْ الْعُقُودُ كُلُّهَا، فَأَجَازَ الْمَالِكُ وَاحِدًا مِنْهَا إنَّمَا كَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ الْعَقْدُ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ، وَلَوْ لَمْ يُجِزْ الْمَالِكُ شَيْئًا مِنْ الْعُقُودِ، وَلَكِنَّهُ ضَمِنَ وَاحِدًا مِنْهُمْ يَجُوزُ مَا بَعْدَ عَقْدِهِ دُونَ مَا قَبْلَهُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي بَابِ الْغَصْبِ لَمْ يَنْفُذْ شَيْءٌ مِنْ الْعُقُودِ بَلْ تَوَقَّفَ نَفَاذُ الْكُلِّ عَلَى الْإِجَازَةِ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ شَرْطَ النَّفَاذِ فَيَنْفُذُ مَا لَحِقَهُ الشَّرْطُ دُونَ غَيْرِهِ أَمَّا هَهُنَا فَالْعُقُودُ مَا تَوَقَّفَ نَفَاذُهَا عَلَى الْإِجَازَةِ لِوُقُوعِهَا نَافِذَةً قَبْلَ الْإِجَازَةِ إذْ الْفَسَادُ لَا يَمْنَعُ النَّفَاذَ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ إزَالَةَ الْإِكْرَاهِ مِنْ الْأَصْلِ، وَمَتَى جَازَ الْإِكْرَاهُ مِنْ الْأَصْلِ جَازَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ فَتَجُوزُ الْعُقُودُ كُلُّهَا فَهُوَ الْفَرْقُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا ضَمِنَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَحَدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَغْصُوبَ عِنْدَ اخْتِيَارِ أَخْذِ الضَّمَانِ مِنْهُ مِنْ وَقْتِ جِنَايَتِهِ وَهُوَ الْقَبْضُ إمَّا

بِطَرِيقِ الظُّهُورِ وَإِمَّا بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ فَلَا يَظْهَرُ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ الْعُقُودِ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ عَلَى مَا مَرَّ. وَإِذَا قَالَ الْبَائِعُ: أَجَزْت جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ هُوَ الْإِكْرَاهُ، وَالْإِجَازَةُ إزَالَةُ الْإِكْرَاهِ، وَكَذَا إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ كَالْفُضُولِيِّ إذَا بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ فَقَبَضَ الْمَالِكُ الثَّمَنَ، وَلَوْ لَمْ يَعْتِقْهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ وَلَكِنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْإِجَازَةِ نَفَذَ إعْتَاقُهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ لَهُ بِالشِّرَاءِ وَسَوَاءٌ كَانَ قَبَضَ الْعَبْدَ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ صَحِيحٌ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ بَلْ بِوَاسِطَةِ الْقَبْضِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي الْأَخِيرُ ثُمَّ أَجَازَ الْبَائِعُ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ لَمْ تَجُزْ إجَازَتُهُ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُطَالَبَةَ بِالثَّمَنِ بَلْ تَجِبُ الْقِيمَةُ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُكْرِهِ، وَالْمُكْرِهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ. وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ أَيَّهُمَا كَانَ، أَمَّا الرُّجُوعُ عَلَى الْمُكْرِهِ فَلِمَا ذَكَرْنَا فِي إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مِلْكَهُ مَعْنًى فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ، وَلِلْمُكْرِهِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَضْمُونَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ، وَكَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ فَكَذَا لَهُ وَيَصِحُّ كُلُّ عَقْدٍ وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ الْمُكْرَهُ رَجَعَ عَلَى أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ أَيَّهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ غَاصِبِ الْغَاصِبِ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بَرِئَ الْمُكْرِهُ وَصَحَّتْ الْبِيَاعَاتِ كُلُّهَا؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِاخْتِيَارِ تَضْمِينِهِ فَتُبُيِّنَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَصَحَّ، فَيَصِحُّ كُلُّ بَيْعٍ وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي الْآخَرِ صَحَّ كُلُّ بَيْعٍ وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ وَبَطَلَ كُلُّ بَيْعٍ كَانَ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ تَضْمِينَهُ فَقَدْ خَصَّهُ بِمِلْكِ الْمَضْمُونِ فَتُبُيِّنَ أَنَّ كُلَّ بَيْعٍ كَانَ قَبْلَهُ كَانَ بَيْعُ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ فَبَطَلَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ هُوَ الْبَائِعُ. ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ هُوَ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْفَسْخِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ حَقُّ الْفَسْخِ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي إكْرَاهِ الْبَائِعِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُجِيزَ هَذَا الْعَقْدَ كَمَا لِلْبَائِعِ إذَا كَانَ مُكْرَهًا، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ وَدَفَعَ الثَّمَنَ وَالْمُشْتَرَى عَبْدٌ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي فَذَلِكَ إجَازَةٌ لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ وُجُودِهَا فَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا الْتِزَامًا لِلْمَالِكِ كَالْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى أَمَةً فَوَطِئَهَا أَوْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ فَهُوَ إجَازَةٌ لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نُقِضَ الْبَيْعُ لَتُبُيِّنَ أَنَّ الْوَطْءَ صَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ التَّحَرُّزُ عَنْ الْحَرَامِ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَيْهِ الْتِزَامًا لِلْبَيْعِ دَلَالَةً، وَلَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي حَتَّى أَعْتَقَهُ الْبَائِعُ نَفَذَ إعْتَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مِلْكِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ. وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي نَفَذَ إعْتَاقُهُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَنْفُذَ وَجْهُ الْقِيَاسِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مَا لَا يَمْلِكُهُ «وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ» عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ إجَازَةَ هَذَا الْبَيْعِ، فَإِقْدَامُهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ إجَازَةٌ لَهُ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ تَجِبُ صِيَانَتُهُ عَلَى الْإِلْغَاءِ مَا أَمْكَنَ، وَلَا صِحَّةَ لِتَصَرُّفِهِ إلَّا بِالْمِلْكِ وَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا بِالْإِجَازَةِ فَيَقْتَضِي الْإِعْتَاقُ إجَازَةَ هَذَا الْعَقْدِ سَابِقًا عَلَيْهِ أَوْ مُقَارِنًا لَهُ تَصْحِيحًا لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلِهَذَا نَفَذَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ كَذَا هَذَا. هَذَا إذَا أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ، وَلَوْ أَعْتَقَاهُ جَمِيعًا مَعًا قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِعْتَاقُ الْبَائِعِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ ثَابِتٌ مَقْصُودٌ، وَمِلْكَ الْمُشْتَرِي يَثْبُتُ ضِمْنًا لِلْإِجَازَةِ الثَّابِتَةِ ضِمْنًا لِلْإِعْتَاقِ فَكَانَ تَنْفِيذُ إعْتَاقِ الْبَائِعِ أَوْلَى، وَالثَّانِي أَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ وَمِلْكَ الْمُشْتَرِي يَثْبُتُ فِي الثَّانِي فَاعْتِبَارُ الْمَوْجُودِ لِلْحَالِ أَوْلَى هَذَا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ هُوَ الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي، فَأَمَّا إذَا كَانَا جَمِيعًا مُكْرَهَيْنِ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ فِي حَقِّهِمَا. وَالثَّابِتُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ بِمَحَلِّ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ، فَإِنْ أَجَازَا جَمِيعًا جَازَ، وَإِنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ جَازَ فِي جَانِبِهِ وَبَقِيَ الْخِيَارُ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ وُجُودِ الْإِجَازَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا أَصْلًا نَفَذَ إعْتَاقُهُ وَلَزِمَهُ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ تَصَرُّفٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَيْهِ الْتِزَامًا لِلْبَيْعِ فِي جَانِبِهِ وَلَا تَجُوزُ إجَازَةُ الْبَائِعِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْإِجَازَةِ بِالْإِعْتَاقِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قِيَامَ الْمَحَلِّ وَقْتَ الْإِجَازَةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِجَازَةِ، وَقَدْ هَلَكَ بِالْإِعْتَاقِ، وَلَوْ لَمْ يَعْتِقْهُ الْمُشْتَرِي وَلَكِنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ ثُمَّ أَعْتَقَاهُ مَعًا نَفَذَ إعْتَاقُ الْبَائِعِ وَبَطَلَ

إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ الْإِجَازَةُ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنْ الْبَائِعِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْمُشْتَرِي نَفَذَ إعْتَاقُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ إجَازَةَ الْمُشْتَرِي لَمْ تَعْمَلْ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ فَبَقِيَ الْبَائِعُ عَلَى خِيَارِهِ فَإِذَا أَعْتَقَ نَفَذَ إعْتَاقُهُ وَبَطَلَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ خِيَارَهُ بِالْإِجَازَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَازَةُ مِنْ الْبَائِعِ فَتَنْفِيذُ إعْتَاقِهِ أَوْلَى أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوَجْهَيْنِ فِي إكْرَاهِ الْمُشْتَرِي. وَلَوْ أَجَازَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ ثُمَّ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَعْتَقَ الْبَائِعُ بَعْدَهُ نَفَذَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي وَلَزِمَهُ الثَّمَنُ، وَلَا يَنْفُذُ إعْتَاقُ الْبَائِعِ أَمَّا نُفُوذُ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي فَلِبَقَاءِ الْخِيَارِ لَهُ. وَأَمَّا عَدَمُ نُفُوذِ إعْتَاقِ الْبَائِعِ فَلِسُقُوطِ خِيَارِهِ بِالْإِجَازَةِ. (وَأَمَّا) لُزُومُ الثَّمَنِ الْمُشْتَرِيَ فَلِلُزُومِ الْبَيْعِ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَيَسْتَوِي أَيْضًا فِي بَابِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ الْإِكْرَاهُ التَّامُّ وَالنَّاقِصُ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُفَوِّتُ الرِّضَا وَيَسْتَوِي فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْبَائِعِ تَسْمِيَةُ الْمُشْتَرِي وَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ حَتَّى يَفْسُدَ الْبَيْعُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُكْرِهِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا وَاحِدٌ وَهُوَ إزَالَةُ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْبَيْعِ مِنْ أَيِّ إنْسَانٍ كَانَ، وَلَوْ أَوْعَدَهُ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ الْحَبْسِ يَوْمًا أَوْ الْقَيْدِ يَوْمًا فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْإِكْرَاهِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ حَالَ الْمُكْرَهِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلِ هَذَا إذَا وَرَدَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ. فَأَمَّا إذَا وَرَدَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ فَبَاعَ الْوَكِيلُ وَسَلَّمَ وَهُوَ طَائِعٌ، وَالْمَبِيعُ عَبْدُهُ فَمَوْلَى الْعَبْدِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ أَوْ الْمُشْتَرِيَ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ، أَمَّا وِلَايَةُ تَضْمِينِ الْمُكْرِهِ فَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ إكْرَاهٌ عَلَى الْبَيْعِ لَكِنْ بِوَاسِطَةِ التَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ تَسْبِيبٌ إلَى إزَالَةِ الْيَدِ وَأَنَّهُ إتْلَافٌ مَعْنًى، فَكَانَ التَّلَفُ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ تَضْمِينِ الْمُكْرِهِ. وَأَمَّا تَضْمِينُ الْوَكِيلِ فَلِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي، وَقَبْضُ مَالِ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ رِضَاهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ تَضْمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ. فَإِنْ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ يَرْجِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَدَّى الضَّمَانَ فَقَدْ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ فَيَمْلِكُ تَضْمِينَهُ كَالْبَائِعِ وَلَكِنْ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْبَيْعُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبِعْهُ لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمَالِكُ فَيَقِفُ نَفَاذُهُ عَلَى إجَازَةِ مَنْ وَقَعَ لَهُ الْعَقْدُ وَهُوَ الْمَالِكُ لَا عَلَى فِعْلٍ يُوجَدُ مِنْهُ وَهُوَ أَدَاءُ الضَّمَانِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ ثُمَّ أَدَّى الضَّمَانَ أَنَّهُ يَنْفُذُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ بَاعَهُ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمَالِكُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَجَازَ وُقُوفُهُ عَلَى فِعْلِهِ وَهُوَ أَدَاءُ الضَّمَانِ، وَجَازَ وُقُوفُهُ عَلَى فِعْلِ مَالِكِهِ أَيْضًا قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ إنَّمَا يَمْلِكُهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ لَا يَخْتَارَ الْمَالِكُ الضَّمَانَ فَلَا يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ لِذَلِكَ وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلُ الْمَبِيعِ، وَقَدْ سَلَّمَ لَهُ الْمُبْدَلَ ثُمَّ إنْ كَانَ الْبَائِعُ قَبَضَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي يَسْتَرِدُّهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضْهُ فَلَا شَيْءَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. هَذَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا، فَإِنْ كَانَ نَاقِصًا لَا يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَا يُوجِبُ نِسْبَةَ الْإِتْلَافِ إلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ أَوْ الْمُشْتَرِي لِمَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْإِكْرَاهُ عَلَى الْهِبَةِ فَيُوجِبُ فَسَادَهَا كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْبَيْعِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا ثَبَتَ الْمِلْكُ كَمَا فِي الْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَنَّ فِي بَابِ الْبَيْعِ إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ طَائِعًا يَجُوزُ الْبَيْعُ وَفِي بَابِ الْهِبَةِ مُكْرَهًا لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ سَلَّمَ مُكْرَهًا أَوْ طَائِعًا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ صِحَّتُهُ بِاللِّسَانِ كَالْبَيْعِ حَتَّى تَبْطُلَ الشُّفْعَةُ بِالسُّكُوتِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ ثُمَّ الْبَيْعُ يَعْمَلُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ فَكَذَلِكَ تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِبْرَاءِ عَنْ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَلَا يَصِحُّ فِي الْمَجْهُولِ كَالْبَيْعِ، ثُمَّ الْبَيْعُ يَعْمَلُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ فَكَذَلِكَ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إبْرَاءٌ عَنْ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةُ الْمَالِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْبَيْعِ الَّذِي هُوَ تَمْلِيكُ الْمَالِ فَيَعْمَلُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ كَمَا يَعْمَلُ عَلَى الْبَيْعِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِنْشَاءِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى الْإِقْرَارِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ، وَصِحَّةُ الْإِخْبَارِ عَنْ الْمَاضِي بِوُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ سَابِقًا عَلَى الْإِخْبَارِ، وَالْمُخْبَرُ بِهِ هَهُنَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ جَنْبَةُ الْوُجُودِ عَلَى جَنْبَةِ الْعَدَمِ

فصل في بيان حكم ما عدل المكره إلى غير ما وقع عليه الإكراه

بِالصِّدْقِ، وَحَالُ الْإِكْرَاهِ لَا يَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَحَرَّجُ عَنْ الْكَذِبِ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ فَلَا يَثْبُتُ الرُّجْحَانُ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] . وَالشَّهَادَةُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَيْسَ إلَّا الْإِقْرَارُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَالشَّهَادَةُ تَرِدُ بِالتُّهْمَةِ وَهُوَ مُتَّهَمٌ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِمَا قُلْنَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، فَأَمَّا الْمَالُ فَلَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ هُنَاكَ فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ هَهُنَا أَوْلَى، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ قَبْلَ أَنْ يُقِرَّ بِهِ، ثُمَّ أَخَذَهُ فَأَقَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الْإِكْرَاهِ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ تَوَارَى عَنْ بَصَرِ الْمُكْرِهِ حِينَ مَا خَلَّى سَبِيلَهُ، وَإِمَّا أَنْ لَمْ يَتَوَارَ عَنْ بَصَرِهِ حَتَّى بَعَثَ مَنْ أَخَذَهُ وَرَدَّهُ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ ثُمَّ أَخَذَهُ فَأَقَرَّ إقْرَارًا مُسْتَقْبَلًا جَازَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خَلَّى سَبِيلَهُ حَتَّى تَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ، فَقَدْ زَالَ الْإِكْرَاهُ عَنْهُ فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ جَدِيدٍ فَقَدْ أَقَرَّ طَائِعًا فَصَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَارَ عَنْ بَصَرِهِ بَعْدُ حَتَّى رَدَّهُ إلَيْهِ فَأَقَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الْإِكْرَاهِ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَوَارَ عَنْ بَصَرِهِ فَهُوَ عَلَى الْإِكْرَاهِ الْأَوَّلِ. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْقِصَاصِ فَأَقَرَّ بِهِ فَقَتَلَهُ حِينَ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ يُدْرَأْ عَنْهُ الْقِصَاصُ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِهَا يَجِبْ الْقِصَاصُ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ الْقِصَاصُ كَيْفَ مَا كَانَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْإِقْرَارَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ شَرْعًا صَارَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ ابْتِدَاءً، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إنْ كَانَ لَا يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ لَكِنْ لِهَذَا الْإِقْرَارِ شُبْهَةُ الصِّحَّةِ إذَا كَانَ الْمُقِرُّ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ، لِوُجُودِ دَلِيلِ الصِّدْقِ فِي الْجُمْلَةِ وَذَا يُورِثُ شُبْهَةً فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فَبَدَأَ لِلشُّبْهَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ فَإِقْرَارُهُ لَا يُورِثُ شُبْهَةً فِي الْوُجُوبِ فَيَجِبُ، وَمِثَالُ هَذَا إذَا دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ فِي مَنْزِلِهِ فَخَافَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ أَنَّهُ ذَاعِرٌ دَخَلَ عَلَيْهِ لِيَقْتُلَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ فَبَادَرَهُ وَقَتَلَهُ، فَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى صَاحِبِ الْمَنْزِلِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ يَجِبْ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ يَجِبُ الْأَرْشُ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقِصَاصِ لِلشُّبْهَةِ، وَأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَرْشُ أَيْضًا إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ مَا عَدْلُ الْمُكْرَهِ إلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاه] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ مَا عَدْلُ الْمُكْرَهِ إلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ أَوْ زَادَ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ أَوْ نَقَصَ عَنْهُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - الْعُدُولُ عَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ إلَى غَيْرِهِ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْعَقْدِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ أَوْ بِالْفِعْلِ فِي الْمُعَامَلَاتِ أَمَّا حُكْمُ الْعُدُولِ عَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ بِالْعَقْدِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. (وَأَمَّا) الْعُدُولُ إلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ بِالْفِعْلِ فِي الْمُعَامَلَاتِ فَنَقُولُ: إذَا عَدَلَ الْمُكْرَهُ إلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ بِالْفِعْلِ جَازَ مَا فَعَلَ؛ لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِيمَا عَدَلَ إلَيْهِ حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ عَلَى بَيْعِ جَارِيَتِهِ فَوَهَبَهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ عَمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ لِتَغَايُرِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ طُولِبَ بِمَالٍ وَذَلِكَ الْمَالُ أَصْلُهُ بَاطِلٌ وَأُكْرِهَ عَلَى أَدَائِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ بَيْعَ الْجَارِيَةِ فَبَاعَ جَارِيَتَهُ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيْعِ الْجَارِيَةِ طَائِعٌ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ صِنْفٍ آخَرَ غَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ مِنْهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ اسْتِحْسَانًا جَائِزٌ قِيَاسًا، فَقَدْ اعْتَبَرَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْإِقْرَارِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا وَاعْتَبَرَهَا جِنْسًا وَاحِدًا فِي الْإِنْشَاءِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُمَا جُعِلَا جِنْسًا فِي مَوْضِعِ الْإِنْشَاءِ بَلْ مُخَالَفَةُ الْحَقِيقَةِ لِمَعْنًى هُوَ مُنْعَدِمٌ فِي الْإِقْرَارِ، وَهُوَ أَنَّ الْفَائِتَ بِالْإِكْرَاهِ هُوَ الرِّضَا طَبْعًا. وَالْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَمَا يَعْدَمُ الرِّضَا بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يَعْدَمُ الرِّضَا بِالْبَيْعِ بِمِائَةِ دِينَارٍ قِيمَتُهُ أَلْفٌ، لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا وَهُوَ الثَّمَنِيَّةَ فَكَانَ انْعِدَامُ الرِّضَا بِالْبَيْعِ بِأَحَدِهِمَا دَلِيلًا عَلَى انْعِدَامِ الرِّضَا بِالْبَيْعِ بِالْآخَرِ فَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ بِأَحَدِهِمَا إكْرَاهًا عَلَى الْبَيْعِ بِالْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْبَيْعِ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ آخَرَ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَقْصُودُ مُخْتَلَفٌ فَلَمْ يَكُنْ كَرَاهَةُ الْبَيْعِ بِأَحَدِهِمَا كَرَاهَةَ الْبَيْعِ بِالْآخَرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ إقْرَارِ الْمُكْرَهِ لِانْعِدَامِ رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ فِي اخْتِيَارِهِ بِدَلَالَةِ الْإِكْرَاهِ فَيَخْتَصُّ بِمَوْرِدِ الْإِكْرَاهِ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ، فَكَانَ

كتاب المأذون

صَادِقًا فِي الْإِقْرَارِ بِالدَّنَانِيرِ لِانْعِدَامِ الْمَانِعِ مِنْ الرُّجْحَانِ فِيهِ فَهُوَ الْفَرْقُ. (وَأَمَّا) إذَا زَادَ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ بِأَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ بِأَلْفَيْنِ جَازَ إقْرَارُهُ بِأَلْفٍ وَبَطَلَ بِأَلْفٍ؛ لِأَنَّهُ فِي الْإِقْرَارِ بِالْأَلْفِ الزَّائِدِ طَائِعٌ فَصَحَّ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ لِفُلَانٍ فَأَقَرَّ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْغَيْرُ فِي الشَّرِكَةِ لَمْ يَجُزْ أَصْلًا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ فِي نَصِيبِ الْغَيْرِ خَاصَّةً وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الصِّحَّةِ عِنْدَ التَّصْدِيقِ هُوَ الشَّرِكَةُ فِي مَالٍ لَمْ يَصِحَّ الْإِقْرَارُ بِنِصْفِهِ شَائِعًا فَإِذَا كَذَّبَهُ لَمْ تَثْبُتْ الشَّرِكَةُ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ لِلْغَيْرِ إذْ هُوَ فِيمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ طَائِعٌ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ، وَصِحَّةُ الْإِخْبَارِ عَنْ الْمَاضِي بِوُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ سَابِقًا عَلَى الْإِخْبَارِ، وَالْمُخْبَرُ بِهِ أَلْفٌ مُشْتَرَكَةٌ فَلَوْ صَحَّ إقْرَارُهُ لِغَيْرِ الْمُقَرِّ لَهُ بِالْإِكْرَاهِ لَمْ يَكُنْ الْمُخْبَرُ بِهِ عَلَى وَصْفِ الشَّرِكَةِ فَلَمْ يَصِحَّ إخْبَارُهُ عَنْ الْمُشْتَرَكِ فَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ. وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ إذَا أَقَرَّ لِوَارِثِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ بِالدَّيْنِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ أَصْلًا بِالْإِجْمَاعِ إنْ صَدَّقَهُ الْأَجْنَبِيُّ بِالشَّرِكَةِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى هِبَةِ عَبْدِهِ لِعَبْدِ اللَّهِ فَوَهَبَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ وَزَيْدٍ فَسَدَتْ الْهِبَةُ فِي حِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ، وَصَحَّتْ فِي حِصَّةِ زَيْدٍ؛ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ فِي حِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ لِوُرُودِ الْإِكْرَاهِ عَلَى كُلِّ الْعَبْدِ، وَالْإِكْرَاهُ عَلَى كُلِّ الشَّيْءِ إكْرَاهٌ عَلَى بَعْضِهِ فَلَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ فِي حِصَّتِهِ طَائِعٌ فِي حِصَّةِ زَيْدٍ، وَأَنَّهُ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَصَحَّتْ فِي حِصَّتِهِ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْعَبْدِ أَلْفٌ فَالْهِبَةُ فِي الْكُلِّ فَاسِدَةٌ بِالْإِجْمَاعِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الطَّائِعِ مِنْ اثْنَيْنِ لَا تَصِحُّ عِنْدَهُ فَهِبَةُ الْمُكْرَهِ أَوْلَى. (وَأَمَّا) عَلَى أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّهُ لَمَّا وُهِبَ الْأَلْفُ مِنْهُمَا، وَالْهِبَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا لَا تَصِحُّ بِحُكْمِ الْإِكْرَاهِ كَانَ وَاهِبًا نِصْفَ الْأَلْفِ مِنْ الْآخَرِ، وَهَذِهِ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا بِخِلَافِ حَالَةِ الطَّوَاعِيَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. هَذَا إذَا زَادَ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ، فَأَمَّا إذَا نَقَصَ عَنْهُ بِأَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ بِخَمْسِمِائَةٍ فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى أَلْفٍ إكْرَاهٌ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهَا بَعْضُ الْأَلْفِ، وَالْإِكْرَاهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ إكْرَاهٌ عَلَى بَعْضِهِ فَكَانَ مُكْرَهًا بِالْإِقْرَارِ بِخَمْسِمِائَةٍ فَلَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى بَيْعِ جَارِيَتِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ جَازَ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ بَاعَهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ اسْتِحْسَانًا جَائِزٌ قِيَاسًا وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَيْهِ هُوَ الْبَيْعُ بِأَلْفٍ فَإِذَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِنْهُ فَقَدْ عَقَدَ عَقْدًا آخَرَ إذْ الْبَيْعُ بِأَلْفٍ غَيْرُ الْبَيْعِ بِخَمْسِمِائَةٍ فَكَانَ طَائِعًا فِيهِ فَجَازَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ غَرَضَ الْمُكْرِهِ هُوَ الْإِضْرَارُ بِالْبَائِعِ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ. وَإِنْ قَلَّ الثَّمَنُ فَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ بِأَلْفٍ إكْرَاهًا عَلَى الْبَيْعِ بِأَقَلَّ مِنْهُ فَبَطَلَ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ حَالَ الْمُكْرِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَأْمُرُهُ بِالْبَيْعِ بِأَوْفَرِ الثَّمَنَيْنِ فَكَانَ طَائِعًا فِي الْبَيْعِ بِأَلْفَيْنِ فَجَازَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْمَأْذُونِ] الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ رُكْنِ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُ الْمَأْذُونُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَمَا لَا يَمْلِكُ حُكْمَ تَصَرُّفِهِ وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَأْذُونِ وَكَسْبِهِ، وَمَا لَا يَمْلِكُ حُكْمَ تَصَرُّفِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْغُرُورِ فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الدَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَأْذُونَ، وَفِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ وَيَصِيرُ مَحْجُورًا وَفِي بَيَانِ حُكْمِ تَصَرُّفِ الْمَحْجُورِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - رُكْنُ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ وَدَلَالَةٌ، وَالصَّرِيحُ نَوْعَانِ: خَاصٌّ وَعَامٌّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: مُنَجَّزٌ وَمُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ وَمُضَافٌ إلَى وَقْتٍ. (أَمَّا) الْخَاصُّ الْمُنَجَّزُ فَهُوَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِمَّا لَا يُؤْذَنُ فِي مِثْلِهِ لِلتِّجَارَةِ عَادَةً بِأَنْ يَقُولَ لَهُ اشْتَرِ لِي بِدِرْهَمٍ لَحْمًا أَوْ اشْتَرِ لِي طَعَامًا رِزْقًا لِي أَوْ لِأَهْلِي أَوْ لَكَ أَوْ اشْتَرِ لِي ثَوْبًا أَوْ لِأَهْلِي أَوْ لِأَهْلِكَ أَوْ اشْتَرِ ثَوْبًا اقْطَعْهُ قَمِيصًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِهِ التِّجَارَةُ عَادَةً وَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِيمَا تَنَاوَلَهُ الْإِذْنُ خَاصَّةً اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَصِيرَ مَأْذُونًا بِالتِّجَارَاتِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ مِمَّا لَا يَجْزِي فَكَانَ الْإِذْنُ فِي تِجَارَةٍ إذْنًا فِي الْكُلِّ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِذْنَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُوجَدُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْدَامِ عُرْفًا وَعَادَةً فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ الِاسْتِخْدَامُ دُونَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ مَعَ مَا أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الْإِذْنَ بِمِثْلِهِ إذْنًا

بِالتِّجَارَاتِ كُلِّهَا لَصَارَ الْمَأْذُونُ بِشِرَاءِ الْبَقْلِ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ، وَفِيهِ سَدُّ بَابِ اسْتِخْدَامِ الْمَمَالِيكِ وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَيْهِ فَاقْتُصِرَ عَلَى مَوْرِدِ الضَّرُورَةِ. (وَأَمَّا) الْعَامُّ الْمُنَجَّزُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَذِنْت لَك فِي التِّجَارَاتِ أَوْ فِي التِّجَارَةِ وَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا بِالْإِجْمَاعِ. (وَأَمَّا) إذَا أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ بِأَنْ قَالَ: اتَّجِرْ فِي الْبُرِّ أَوْ فِي الطَّعَامِ أَوْ فِي الدَّقِيقِ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا إلَّا فِي النَّوْعِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ ظَاهِرُ الْإِذْنِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهُ اتَّجِرْ فِي الْبُرِّ وَلَا تَتَّجِرْ فِي الْخُبْزِ لَا يَصِحُّ نَهْيُهُ وَتَصَرُّفُهُ وَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا، وَعَلَى هَذَا إذَا أَذِنَ لَهُ فِي ضَرْبٍ مِنْ الصَّنَائِعِ بِأَنْ قَالَ لَهُ: اُقْعُدْ قَصَّارًا أَوْ صَبَّاغًا يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَاتِ وَالصَّنَائِعِ كُلِّهَا حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَقْعُدَ صَيْرَفِيًّا وَصَائِغًا، وَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَهُ أَنْ يَتَّجِرَ شَهْرًا أَوْ سَنَةً يَصِيرُ مَأْذُونًا أَبَدًا مَا لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَبْدَ مُتَصَرِّفٌ عَنْ إذْنٍ فَلَا يَتَعَدَّى تَصَرُّفُهُ مَوْرِدَ الْإِذْنِ كَالْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ حُكْمُ تَصَرُّفِهِ لِمَوْلَاهُ. (وَلَنَا) أَنَّ تَقْيِيدَ الْإِذْنِ بِالنَّوْعِ غَيْرُ مُفِيدٍ فَيَلْغُو اسْتِدْلَالًا بِالْمُكَاتَبِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ تَمْكِينُ الْعَبْدِ مِنْ تَحْصِيلِ النَّفْعِ الْمَطْلُوبِ مِنْ التِّجَارَةِ وَهُوَ الرِّبْحُ، وَهَذَا فِي النَّوْعَيْنِ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ، وَكَذَا الضَّرَرُ الَّذِي يَلْزَمُهُ فِي الْعَقْدِ عَسَى لَا يَتَفَاوَتُ فَكَانَ الرِّضَا بِالضَّرَرِ فِي أَحَدِ النَّوْعَيْنِ رِضًا بِهِ فِي النَّوْعِ الْآخَرِ فَلَمْ يَكُنْ التَّقْيِيدُ بِالنَّوْعِ مُفِيدًا فَيَلْغُو، وَيَبْقَى الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ عَامًّا فَيَتَنَاوَلُ الْأَنْوَاعَ كُلَّهَا مَعَ مَا أَنَّهُ وُجِدَ الْإِذْنُ فِي النَّوْعِ الْآخَرِ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْإِذْنِ هُوَ حُصُولُ الرِّبْحِ، وَالنَّوْعَانِ فِي احْتِمَالِ الرِّبْحِ عَلَى السَّوَاءِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِأَحَدِهِمَا إذْنًا بِالْآخَرِ دَلَالَةً، وَلِهَذَا يَمْلِكُ قَبُولَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى صَرِيحًا لِوُجُودِهِ دَلَالَةً كَذَا هَهُنَا. (وَأَمَّا) الْخَاصُّ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَاشْتَرِ لِي بِدِرْهَمٍ لَحْمًا وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَالْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ أَنْ يَقُولَ: اشْتَرِ لِي بِدِرْهَمٍ لَحْمًا غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا. (وَأَمَّا) الْعَامُّ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَقَدْ أَذِنْت لَك بِالتِّجَارَةِ، وَالْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ أَنْ يَقُولَ: أَذِنْت لَك بِالتِّجَارَةِ غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ يَصِحُّ مُعَلَّقًا وَمُضَافًا كَمَا يَصِحُّ مُطْلَقًا بِخِلَافِ الْحَجْرِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ وَلَا إضَافَةٍ إلَى وَقْتٍ بِأَنْ يَقُولَ لِلْمَأْذُونِ: إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَأَنْتَ مَحْجُورٌ أَوْ فَقَدْ حَجَرْت عَلَيْك غَدًا أَوْ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْإِذْنَ تَصَرُّفُ إسْقَاطٍ؛ لِأَنَّ انْحِجَارَ الْعَبْدِ ثَبَتَ حَقًّا لِمَوْلَاهُ وَبِالْإِذْنِ أَسْقَطَهُ وَالْإِسْقَاطَاتُ تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ وَالْإِضَافَةَ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا، فَأَمَّا الْحَجْرُ فَإِثْبَاتُ الْحَقِّ وَإِعَادَتُهُ، وَالْإِثْبَاتُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ وَالْإِضَافَةَ كَالرَّجْعَةِ وَنَحْوِهَا، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْإِذْنَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ حَتَّى لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ بِالتِّجَارَةِ شَهْرًا أَوْ سَنَةً يَصِيرُ مَأْذُونًا أَبَدًا مَا لَمْ يُوجَدْ الْمُبْطِلُ لِلْإِذْنِ كَالْحَجْرِ وَغَيْرِهِ إلَّا أَنْ يُؤَقَّتَ الْإِذْنُ إلَى وَقْتِ إضَافَةِ الْحَجْرِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إذَا مَضَى شَهْرٌ أَوْ سَنَةٌ فَقَدْ حَجَرْت عَلَيْك أَوْ حَجَرْت عَلَيْك رَأْسَ شَهْرِ كَذَا، وَالْحَجْرُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ فَلَغَتْ الْإِضَافَةُ وَبَقِيَ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ مُطْلَقًا إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُبْطِلُ. (وَأَمَّا) الْإِذْنُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَنَحْوُ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَلَا يَنْهَاهُ وَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ عِنْدَنَا إلَّا فِي الْبَيْعِ الَّذِي صَادَفَهُ السُّكُوتُ. وَأَمَّا فِي الشِّرَاءِ فَيَصِيرُ مَأْذُونًا، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ السُّكُوتَ يَحْتَمِلُ الرِّضَا وَيَحْتَمِلُ السُّخْطَ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلُ الْإِذْنِ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَلِهَذَا لَمْ يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُ الَّذِي صَادَفَهُ السُّكُوتُ. (وَلَنَا) أَنَّهُ يُرَجَّحُ جَانِبُ الرِّضَا عَلَى جَانِبِ السُّخْطِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا لَنَهَاهُ إذْ النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ، فَكَانَ احْتِمَالُ السُّخْطِ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا فَكَانَ سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا. (وَأَمَّا) التَّصَرُّفُ الَّذِي صَادَفَهُ السُّكُوتُ، فَإِنْ كَانَ شِرَاءً يَنْفُذْ، وَإِنْ كَانَ بَيْعًا قَائِمًا لَمْ يَنْفُذْ لِانْعِدَامِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَسَوَاءٌ رَآهُ يَبِيعُ بَيْعًا صَحِيحًا أَوْ بَيْعًا فَاسِدًا إذَا سَكَتَ وَلَمْ يَنْهَهُ يَصِيرُ مَأْذُونًا؛ لِأَنَّ وَجْهَ دَلَالَةِ السُّكُوتِ عَلَى الْإِذْنِ لَا يَخْتَلِفُ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَآهُ الْمَوْلَى يَبِيعُ مَالَ أَجْنَبِيٍّ فَسَكَتَ يَصِيرُ مَأْذُونًا، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ مَالَ مَوْلَاهُ وَالْمَوْلَى حَاضِرٌ فَسَكَتَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ الْبَيْعُ وَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْمَوْلَى مِنْ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ حُصُولُ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الْمَضَرَّةِ، وَذَلِكَ بِاكْتِسَابِ مَا لَمْ يَكُنْ لَا بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ عَنْ مَالٍ كَائِنٍ، وَلَا يَنْجَبِرُ هَذَا الضَّرَرُ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ رَغَائِبُ فِي الْأَعْيَانِ مَا لَيْسَ فِي أَبْدَالِهَا حَتَّى لَوْ كَانَ شِرَاءً يَنْفُذُ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ، ثُمَّ لَا حُكْمَ لِلسُّكُوتِ إلَّا فِي مَوَاضِعَ

فصل في شرائط ركن الإذن بالتجارة

مِنْهَا سُكُوتُ الْمَوْلَى عِنْدَ تَصَرُّفِ الْعَبْدِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. (وَمِنْهَا) سُكُوتُ الْبَالِغَةِ الْبِكْرِ عِنْدَ اسْتِئْمَارِ الْوَلِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ إذْنًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ يَكُونُ إجَازَةً. (وَمِنْهَا) سُكُوتُ الشَّفِيعِ إذَا عَلِمَ بِالشِّرَاءِ أَنَّهُ يَكُونُ تَسْلِيمًا لِلشُّفْعَةِ. (وَمِنْهَا) سُكُوتُ الْوَاهِبِ أَوْ الْمُتَصَدِّقِ عِنْدَ قَبْضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ بِحَضْرَتِهِ أَنْ يَكُونَ إذْنًا بِالْقَبْضِ. (وَمِنْهَا) سُكُوتُ الْمَجْهُولِ النَّسَبِ إذَا بَاعَهُ إنْسَانٌ بِحَضْرَتِهِ، وَقَالَ لَهُ: قُمْ فَاذْهَبْ مَعَ مَوْلَاك فَقَامَ وَسَكَتَ أَنَّهُ يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُ بِالرِّقِّ حَتَّى لَا تَسْمَعَ دَعْوَاهُ الْحُرِّيَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ. (وَأَمَّا) سُكُوتُ الْبَائِعِ بَيْعًا صَحِيحًا بِثَمَنٍ حَالٍّ عِنْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي بِحَضْرَتِهِ هَلْ يَكُونُ إذْنًا بِالْقَبْضِ؟ ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إذْنًا بِالْقَبْضِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَكُونُ إذْنًا كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ نَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَدِّ إلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ كَذَا أَوْ كُلَّ شَهْرٍ كَذَا يَصِيرُ مَأْذُونًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْغَلَّةِ إلَّا بِالْكَسْبِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِأَدَاءِ الْغَلَّةِ إذْنًا بِالتِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ قَالَ: إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ يَصِيرُ مَأْذُونًا؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ حَمْلُ الْعَبْدِ عَلَى الْعِتْقِ بِوَاسِطَةِ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِهِ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ فَكَانَ التَّعْلِيقُ دَلِيلًا عَلَى الْإِذْنِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهُ: أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ، فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْلِيقِ عُرْفًا وَعَادَةً وَلَوْ قَالَ لَهُ: أَدِّ وَأَنْتَ حُرٌّ لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا وَيُعْتَقُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَنْجِيزٌ وَلَيْسَ بِتَعْلِيقٍ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ يَصِيرُ مَأْذُونًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَاتَبَهُ فَقَدْ جَعَلَهُ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالتِّجَارَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ رُكْنِ الْإِذْن بالتجارة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ لِمَنْ يَعْقِلُ التِّجَارَةَ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ لِمَنْ لَا يَعْقِلُ سَفَهٌ، فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِذْنِ فَيَصِحُّ الْإِذْنُ لِلْعَبْدِ بَالِغًا كَانَ أَوْ صَبِيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا كَانَ لِيُجِيبَ دَعْوَةَ الْمَحْجُورِ وَيَأْكُلَ مِنْ كَسْبِهِ فَتَعَيَّنَ الْمَأْذُونُ، وَكَذَا الْإِذْنُ لِلْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ بَعْدَ أَنْ عَقَلُوا التِّجَارَةَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْمَمْلُوكِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَكَذَا يَجُوزُ الْإِذْنُ لِلصَّبِيِّ الْحُرِّ بِالتِّجَارَةِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ التِّجَارَةَ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ الْإِذْنُ لِلصَّبِيِّ بِالتِّجَارَةِ بِحَالٍ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، وَكَذَا سَلَامَةُ الْعَقْلِ عَنْ الْفَسَادِ أَصْلًا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِذْنِ عِنْدَنَا حَتَّى يَجُوزَ الْإِذْنُ لِلْمَعْتُوهِ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِالتِّجَارَةِ وَعِنْدَهُ شَرْطٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التِّجَارَةِ فَلَا يَصِحُّ الْإِذْنُ لَهُ بِالتِّجَارَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ التِّجَارَةِ بِالْعَقْدِ الْكَامِلِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ دَائِرٌ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ كَمَالِ الْعَقْلِ وَعَقْلُ الصَّبِيِّ نَاقِصٌ فَلَا يَكْفِي لِأَهْلِيَّةِ التِّجَارَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ عَقْلُهُ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ كَذَا هَهُنَا. (وَلَنَا) قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأَوْلِيَاءَ بِابْتِلَاءِ الْيَتَامَى، وَالِابْتِلَاءُ هُوَ الْإِظْهَارُ فَابْتِلَاءُ الْيَتِيمِ إظْهَارُ عَقْلِهِ بِدَفْعِ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِ إلَيْهِ؛ لِيَنْظُرَ الْوَلِيُّ أَنَّهُ هَلْ يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ أَمْوَالِهِ عِنْدَ النَّوَائِبِ وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إلَّا بِالتِّجَارَةِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالِابْتِلَاءِ إذْنًا بِالتِّجَارَةِ، وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ إذَا كَانَ يَعْقِلُ التِّجَارَةَ يَعْقِلُ النَّافِعَ مِنْ الضَّارِّ فَيَخْتَارُ الْمَنْفَعَةَ عَلَى الْمَضَرَّةِ ظَاهِرًا فَكَانَ أَهْلًا لِلتِّجَارَةِ كَالْبَالِغِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ لِكَوْنِهَا إزَالَةَ مِلْكٍ لَا إلَى عِوَضٍ فَلَمْ يُجْعَلْ الصَّبِيُّ أَهْلًا لَهَا نَظَرًا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ وَمِنْهَا الْعِلْمُ بِالْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْإِذْنِ بِلَا خِلَافٍ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِذْنَ بِالْإِضَافَةِ إلَى النَّاسِ ضَرْبَانِ: إذْنُ إسْرَارٍ وَإِذْنُ إعْلَانٍ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ فِي الْكِتَابِ، فَالْخَاصُّ أَنْ يَقُولَ أَذِنْت لِعَبْدِي فِي التِّجَارَةِ لَا عَلَى وَجْهٍ يُنَادِي أَهْلَ السُّوقِ فَيَقُولُ: بَايِعُوا عَبْدِي فُلَانًا فَإِنِّي قَدْ أَذِنْت لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعِلْمَ بِالْإِذْنِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِذْنِ فِي هَذَا النَّوْعِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ هُوَ الْإِعْلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] أَيْ إعْلَامٌ، وَالْفِعْلُ لَا يُعْرَفُ إعْلَامًا إلَّا بَعْدَ تَعَلُّقِهِ بِالْعِلْمِ، وَلِأَنَّ إذْنَ الْعَبْدِ يُعْتَبَرُ بِإِذْنِ الشَّرْعِ ثُمَّ حُكْمُ الْإِذْنِ مِنْ الشَّرْعِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمَأْذُونِ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ فَعَلَى ذَلِكَ إذْنُ الْعَبْدِ، وَلِهَذَا كَانَ الْعِلْمُ بِالْوَكَالَةِ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ كَذَا هَذَا حَتَّى لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْوَكَالَةِ. وَأَمَّا فِي الْإِذْنِ الْعَامِّ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ أَنَّهُ يَصِيرُ مَأْذُونًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْعَبْدُ، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ فِيمَنْ قَالَ: لِأَهْلِ السُّوقِ بَايِعُوا ابْنِي فُلَانًا فَبَايَعُوهُ وَالصَّبِيُّ لَا يَعْلَمُ

فصل في بيان ما يظهر به الإذن بالتجارة

بِالْإِذْنِ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا مَا لَمْ يَعْلَمْ بِإِذْنِ الْأَبِ مِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي جَوَازِ الْإِذْنِ الْقَائِمِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ الْعَبْدِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُثْبِتْ الِاخْتِلَافَ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ فَجَعَلَ الْعِلْمَ شَرْطًا فِي الصَّبِيِّ دُونَ الْعَبْدِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ انْحِجَارَ الْعَبْدِ لِحَقِّ مَوْلَاهُ، فَإِذَا أَذِنَ انْفَكَّ بِمُبَايَعَتِهِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَانْفَكَّ الْحَجْرُ فَصَارَ مَأْذُونًا بِخِلَافِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ انْحِجَارَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ لِحَقِّ نَفْسِهِ لَا لِحَقِّ أَبِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُهْدَةَ تَلْزَمُهُ دُونَ أَبِيهِ، فَشَرْطُ عِلْمِهِ بِالْإِذْنِ الَّذِي هُوَ إزَالَةُ الْحَجْرِ لِيَكُونَ لُزُومُ الْعُهْدَةِ فِي التِّجَارَةِ مُضَافًا إلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْإِذْنَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفَاضَةِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْعِلْمِ لَهُمَا جَمِيعًا إلَّا أَنَّ السَّبَبَ لَا يُقَامُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَالضَّرُورَةُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ دُونَ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إلَى مُبَايَعَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لِلْعَبْدِ بِالتِّجَارَةِ مِنْ عَادَاتِ التُّجَّارِ وَإِذَا وُجِدَ الْإِذْنُ عَلَى الِاسْتِفَاضَةِ وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْعِلْمِ غَالِبًا فَالنَّاسُ يُعَامِلُونَهُ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الدَّلَالَةِ ثُمَّ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَأْذُونٍ؛ لِانْعِدَامِ الْعِلْمِ حَقِيقَةً فَتَتَعَلَّقُ دُيُونُهُمْ بِذِمَّةِ الْمُفْلِسِ وَتَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ فَيُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ بِهِمْ بِخِلَافِ الصِّبْيَانِ؛ لِأَنَّ إذْنَ الصَّبِيِّ بِالتِّجَارَةِ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ، وَالنَّاسُ أَيْضًا لَا يُعَامِلُونَ الصِّبْيَانَ عَادَةً، وَلَوْ تَوَقَّفَ الْإِذْنُ عَلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ لَا يَلْحَقُهُمْ الضَّرَرُ إلَّا عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ، وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ فَنَقُولُ مَا يَظْهَرُ بِهِ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ، أَمَّا الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى فَهُوَ تَشْهِيرُهُ الْإِذْنَ وَإِشَاعَتُهُ بِأَنْ يُنَادِيَ أَهْلَ السُّوقِ: إنِّي قَدْ أَذِنْت لِعَبْدِي فُلَانًا بِالتِّجَارَةِ فَبَايِعُوهُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِذْنِ الْعَامِّ. وَأَمَّا الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ فَهُوَ إخْبَارُهُ عَنْ كَوْنِهِ مَأْذُونًا بِالتِّجَارَةِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ الْإِذْنُ مِنْ الْمَوْلَى عَامًّا أَوْ قَدِمَ مِصْرًا لَمْ يَشْتَهِرْ فِيهِ إذْنُ الْمَوْلَى فَقَالَ: إنَّ مَوْلَايَ أَذِنَ لِي فِي التِّجَارَةِ، وَالْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ يَظْهَرُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا شَكَّ فِيهِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ لِلسَّامِعِينَ بِحِسِّ السَّمْعِ مِنْ الْإِذْنِ وَلِغَيْرِ السَّامِعِينَ بِالنَّقْلِ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَلَا الْعَدَالَةُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ إلَى إنْسَانٍ فَقَالَ: هَذِهِ هَدِيَّةٌ بَعَثَنِي بِهَا مَوْلَايَ إلَيْك جَازَ لَهُ الْقَبُولُ كَذَا هَذَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ فِي الْعَادَاتِ يَتَعَاطَاهَا الْعَبِيدُ وَالْخَدَمُ، وَالْفِسْقُ فِيهِمْ غَالِبٌ فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُمْ فِيهَا لَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْحَرَجِ، وَإِذَا قُبِلَ خَبَرُهُ ظَهَرَ الْإِذْنُ فَيَسْعَ النَّاسُ أَنْ يُعَامِلُوهُ غَيْرَ أَنَّهُمْ إنْ بَنَوْا مُعَامَلَاتِهِمْ عَلَى الْإِذْنِ الْعَامِّ فَعَامَلُوهُ، فَلَحِقَهُ دَيْنٌ يُبَاعُ فِيهِ كَسْبُهُ وَرَقَبَتُهُ بِدَيْنِ التِّجَارَةِ، وَإِنْ عَامَلُوهُ بِنَاءً عَلَى إخْبَارِهِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ يُبَاعُ كَسْبُهُ بِالدَّيْنِ وَلَا تُبَاعُ رَقَبَتُهُ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْمَوْلَى فَيُقِرُّ بِإِذْنِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَمَا لَا يَمْلِكُهُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَمَا لَا يَمْلِكُهُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ - كُلُّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ أَوْ تَوَابِعِهَا أَوْ ضَرُورَاتِهَا يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ وَمَا لَا فَلَا؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ فَيَمْلِكُ الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ وَالْعُرُوضِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ التِّجَارَةِ وَمِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ، وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التِّجَارَةِ وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ حَتَّى مَلَكَهُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ، وَكَذَا بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ فِي مَعْنَى التَّبَرُّعِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ الْمَرِيضُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا فِي سَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ وَالْمَأْذُونُ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا بَيْعٌ وَشِرَاءٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِوُقُوعِ اسْمِ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا فَكَانَ تِجَارَةً مُطْلَقَةً فَدَخَلَتْ تَحْتَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ ثُمَّ فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ الْمَأْذُونِ وَبَيْنَ الْوَكِيلِ حَيْثُ سَوَّى بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْمَأْذُونِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْوَكِيلِ حَيْثُ قَالَ: إنَّ الْمَأْذُونَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ وَالْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ بِالْإِجْمَاعِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ امْتِنَاعَ جَوَازِ الشِّرَاءِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ لِجَوَازِ أَنَّهُ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ فَلَمَّا ظَهَرَ الْغَبْنُ أَظْهَرَ الشِّرَاءَ لِمُوَكِّلِهِ فَلَمْ يَجُزْ لِلتُّهْمَةِ حَتَّى أَنَّ الْوَكِيلَ لَوْ كَانَ وَكَّلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكَّلِ لِانْعِدَامِ التُّهْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ وَمَعْنَى التُّهْمَةِ لَا يَتَقَدَّرُ فِي الْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ. وَهَلْ يَمْلِكُ الْمَأْذُونُ أَنْ

يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ مَوْلَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يُتَصَوَّرُ الْبَيْعُ مِنْ الْمَوْلَى لِاسْتِحَالَةِ بَيْعِ مَالِ الْإِنْسَانِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنْ بَاعَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ أَكْثَرَ جَازَ، وَإِنْ بَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَصْلًا، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ بِقَدْرِ الْمُحَابَاةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ الْمَوْلَى شَيْئًا مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَكُنْ بَيْعًا لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنْ بَاعَهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ جَازَ، وَإِنْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ وَتَبْطُلُ الزِّيَادَةُ، وَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَرَى الْمَوْلَى دَارًا بِجَنْبِ دَارِ الْعَبْدِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَالشُّفْعَةُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالدَّارُ الَّتِي فِي يَدِ الْعَبْدِ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى فَلَوْ أَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ لَأَخَذَهَا هُوَ فَكَيْفَ يَأْخُذُ مِلْكَ نَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ، وَلَوْ اشْتَرَى الْعَبْدُ دَارًا بِجَنْبِ دَارِ الْمَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَلَا حَاجَةَ لِلْمَوْلَى إلَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهَا خَالِصُ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ وَالْعُرُوضِ وَالْغَبْنِ الْيَسِيرِ وَالْبَيْعِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَهَذَا إذَا بَاعَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ اشْتَرَى مِنْهُ، فَإِنْ بَاعَ مِنْ أَبِيهِ شَيْئًا أَوْ اشْتَرَى مِنْهُ، فَإِنْ بَاعَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ أَكْثَرَ وَاشْتَرَى بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ أَقَلَّ جَازَ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ غَبْنٌ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ مُسْتَفَادَةٍ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ كَأَنَّهُ نَائِبُهُ فِي التَّصَرُّفِ فَصَارَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى الْأَبُ شَيْئًا مِنْ مَالِ ابْنِهِ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ مَالِهِ بِنَفْسِهِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ كَانَ الْجَوَابُ فِيهِ هَكَذَا كَذَا هَذَا. وَلَوْ بَاعَ مِنْ وَصِيِّهِ أَوْ اشْتَرَى مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا نَفْعٌ ظَاهِرٌ لَهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا نَفْعٌ ظَاهِرٌ، فَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ وَلِلْمَأْذُونِ أَنْ يُسَلِّمَ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ وَيُقْبَلُ السَّلَمُ فِيهِ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ مِنْ قِبَلِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ وَمِنْ قِبَلِ رَبِّ السَّلَمِ شِرَاءُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ تِجَارَةٌ، وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَادَاتِ التُّجَّارِ، أَوْ التَّاجِرُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ كُلَّهُ بِنَفْسِهِ فَكَانَ تَوْكِيلُهُ فِيهِ مِنْ أَعْمَالِ التِّجَارَةِ، وَكَذَا لَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَنْ غَيْرِهِ بِالْبَيْعِ بِالْإِجْمَاعِ وَتَكُونُ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَوَكَّلَ عَنْ غَيْرِهِ بِالشِّرَاءِ يُنْظَرُ إنْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَشْيَاءَ بِالنَّقْدِ جَازَ اسْتِحْسَانًا دَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يَدْفَعْ وَتَكُونُ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ هَذِهِ الْوَكَالَةُ. (وَوَجْهُهُ) أَنَّهَا لَوْ جَازَتْ لَلَزِمَتْهُ الْعُهْدَةُ وَهِيَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ فَيَصِيرُ فِي مَعْنَى الْكَفِيلِ بِالثَّمَنِ، وَلَا تَجُوزُ كَفَالَتُهُ فَلَا تَجُوزُ وَكَالَتُهُ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ فِي مَعْنَى التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ لَا فِي مَعْنَى الْكَفَالَةِ، وَلَوْ تَوَكَّلَ عَنْ غَيْرِهِ بِشِرَاءِ شَيْءٍ نَسِيئَةً فَاشْتَرَى لَمْ يَجُزْ حَتَّى كَانَ الشِّرَاءُ لِلْعَبْدِ دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ إذَا كَانَ نَسِيئَةً لَا يَمْلِكُ حَبْسَ الْمُشْتَرِي لِاسْتِيفَائِهِ بَلْ يَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُوَكَّلِ فَكَانَتْ وَكَالَتُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْتِزَامَ الثَّمَنِ فَكَانَتْ كَفَالَةً مَعْنًى فَلَا يَمْلِكُهَا الْمَأْذُونُ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ إنْسَانًا يَعْمَلُ مَعَهُ أَوْ مَكَانًا يَحْفَظُ فِيهِ أَمْوَالَهُ أَوْ دَوَابَّ يَحْمِلُ عَلَيْهَا أَمْتِعَتَهُ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ وَكَذَا لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ الدَّوَابَّ وَالرَّقِيقَ وَنَفْسَهُ لِمَا قُلْنَا، وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ مِنْ التِّجَارَةِ حَتَّى كَانَ الْإِذْنُ بِالْإِجَارَةِ إذْنًا بِالتِّجَارَةِ، وَلَهُ أَنْ يَرْهَنَ وَيَرْتَهِنَ وَيُعِيرَ وَيُودِعَ وَيَقْبَلَ الْوَدِيعَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ عَادَاتِ التُّجَّارِ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ التَّاجِرُ أَيْضًا، وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَيَأْخُذَ مِنْ غَيْرِ مُضَارَبَةٍ لِمَا قُلْنَا، وَلِأَنَّ الْأَخْذَ وَالدَّفْعَ مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ، وَالْمَأْذُونُ يَمْلِكُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَلَهُ أَنْ يُشَارِكَ غَيْرَهُ شَرِكَةَ عِنَانٍ؛ لِأَنَّهَا مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ التَّاجِرُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ لَهُ، وَلَا يَمْلِكُ الْكَفَالَةَ فَلَا يَمْلِكُ الْمُفَاوَضَةَ فَإِذَا فَاوَضَ تَنْقَلِبُ شَرِكَةَ عِنَانٍ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ فَسَادِ الْمُفَاوَضَةِ، وَلَوْ اشْتَرَكَ عَبْدَانِ مَأْذُونَانِ شَرِكَةَ عِنَانٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ جَازَ مَا اشْتَرَيَا بِالنَّقْدِ، وَمَا اشْتَرَيَا بِالنَّسِيئَةِ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ الْمَأْذُونُ عَنْ غَيْرِهِ بِالشِّرَاءِ نَقْدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِغَيْرِهِ بِالشِّرَاءِ نَسِيئَةً وَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ إذْ لَوْ لَمْ يَمْلِكْ لَامْتَنَعَ النَّاسُ عَنْ مُبَايَعَتِهِ خَوْفًا مِنْ تَوَاءِ أَمْوَالِهِمْ بِالْإِنْكَارِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَكَانَ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ فَيَصِحُّ وَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ قَدْ جَرَتْ بِشِرَاءِ

كَثِيرٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ بِظُرُوفِهَا فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْعَيْنِ لَامْتَنَعُوا عَنْ تَسْلِيمِ الْأَعْيَانِ إلَيْهِ فَلَا يَلْتَئِمُ أَمْرُ التِّجَارَةِ وَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْجِنَايَةِ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ وَلَا يُطَالَبُ بِهَا بَعْدَ الْعَتَاقِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْجِنَايَةِ يَلْزَمُ الْمَوْلَى دُونَ الْعَبْدِ فَكَانَ ذَلِكَ شَهَادَةً عَلَى الْمَوْلَى لَا إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَصِحَّ أَصْلًا إلَّا إذَا صَدَّقَهُ الْمَوْلَى فَيَجُوزُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْغُرَمَاءِ. وَهَلْ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِافْتِضَاضِ أَمَةٍ بِأُصْبُعِهِ غَصْبًا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا يَصِحُّ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِحُّ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا وَيَضْرِبُ مَوْلَى الْأَمَةِ مَعَ الْغُرَمَاءِ فِي ثَمَنِ الْعَبْدِ، وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ بِالْجِنَايَةِ أَمْ بِالْمَالِ، فَعِنْدَهُمَا هَذَا إقْرَارٌ بِالْجِنَايَةِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى، وَعِنْدَهُ هَذَا إقْرَارٌ بِالْمَالِ فَيَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَقَرَّ بِمَهْرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَائِزٍ أَوْ فَاسِدٍ أَوْ شُبْهَةٍ، فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمَوْلَى لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ حَتَّى لَا يُؤَاخَذَ بِهِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِالنِّكَاحِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ فَيَسْتَوِي فِيهِ إقْرَارُ الْمَأْذُونِ وَالْمَحْجُورِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجُزْ عَلَى الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَهُ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ فَيُبَاعُ فِي دَيْنِ الْغُرَمَاءِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْهُ يُصْرَفْ إلَى دَيْنِ الْمَرْأَةِ وَإِلَّا فَيَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْمَحْجُورَ يَمْلِكُ فَالْمَأْذُونُ أَوْلَى، وَإِذَا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْمَوْلَى لِلِاسْتِيفَاءِ بِلَا خِلَافٍ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى عِنْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا؟ فِيهِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَهَلْ يَمْلِكُ تَأْخِيرَ دَيْنٍ لَهُ وَجَبَ عَلَى إنْسَانٍ، فَإِنْ وَجَبَ لَهُ وَحْدَهُ يَمْلِكُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَكَذَا هُوَ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ، وَإِنْ وَجَبَ لَهُ وَلِرَجُلٍ آخَرَ دَيْنٌ عَلَى إنْسَانٍ فَأَخَّرَ الْمَأْذُونُ نَصِيبَ نَفْسِهِ فَالتَّأْخِيرُ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّأْخِيرَ مِنْهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَصِحُّ كَمَا لَوْ كَانَ كُلُّ الدَّيْنِ لَهُ فَأَخَّرَهُ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ التَّأْخِيرَ لَوْ صَحَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَصِحَّ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَصِحَّ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَالْوِلَايَةِ، وَتَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ لَا يَصِحُّ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا وِلَايَةٍ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ شَرِيكَهُ لَوْ قَبَضَ شَيْئًا مِنْ نَصِيبِهِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ يَخْتَصُّ بِالْمَقْبُوضِ وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ، وَمَعْنَى الْقِسْمَةِ هُوَ الِاخْتِصَاصُ بِالْمَقْسُومِ، وَقَدْ وُجِدَ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ اسْمٌ لِفِعْلٍ وَاجِبٍ وَهُوَ فِعْلُ تَسْلِيمِ الْمَالِ، وَالْمَالُ حُكْمِيٌّ فِي الذِّمَّةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَدَمٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ أُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ الْوُجُودِ لِحَاجَةِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَمْلِكُ مَا يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ مِنْ الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِقْرَاضِ وَالشِّرَاءِ بِثَمَنِ دَيْنٍ فَأُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ الْوُجُودِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى قِسْمَتِهِ فَبَقِيَ فِي حَقِّ الْقِسْمَةِ عَلَى أَصْلِ الْعَدَمِ، وَالْعَدَمُ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَإِذًا لَمْ يَصِحَّ التَّأْخِيرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَوْ أَخَذَ شَرِيكُهُ مِنْ الدَّيْنِ كَانَ الْمَأْخُوذُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ كَمَا قَبْلَ التَّأْخِيرِ، وَعِنْدَهُمَا كَانَ الْمَأْخُوذُ لَهُ خَاصَّةً وَلَا يُشَارِكُهُ حَتَّى يَحِلَّ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّأْخِيرِ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ وَالْمُطَالَبَةَ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ شَارَكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ حَقَّهُ مِنْ الْغَرِيمِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ حَلَّ بِحُلُولِ الْأَجَلِ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ فِي الْأَصْلِ مِنْهُمَا جَمِيعًا مُؤَجَّلًا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ شَارَكَهُ فِيهِ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ فَقَدْ سَقَطَ الْأَجَلُ عَنْ قَدْرِ الْمَقْبُوضِ وَصَارَ حَالًّا فَصَارَ الْمَقْبُوضُ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا فَيُشَارِكُهُ فِيهِ صَاحِبُهُ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْحَالِّ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ كُلُّهُ بَيْنَهُمَا مُؤَجَّلًا إلَى سَنَةٍ فَأَخَّرَهُ الْعَبْدُ سَنَةً أُخْرَى لَمْ يَجُزْ التَّأْخِيرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ حَتَّى لَوْ أَخَذَ شَرِيكُهُ مِنْ الْغَرِيمِ شَيْئًا فِي السَّنَةِ الْأُولَى شَارَكَهُ فِيهِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُشَارِكُهُ حَتَّى يَحِلَّ دَيْنُهُ فَإِذَا حَلَّ فَلَهُ الْخِيَارُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَا يَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ عَنْ الدَّيْنِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ بَلْ هُوَ تَبَرُّعٌ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ وَهَلْ يَمْلِكُ الْحَطَّ، فَإِنْ كَانَ الْحَطُّ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ لَا يَمْلِكُهُ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَ الْحَطُّ مِنْ عَيْبٍ بِأَنْ بَاعَ شَيْئًا ثُمَّ حَطَّ مِنْ ثَمَنِهِ يُنْظَرُ إنْ حَطَّ بِالْمَعْرُوفِ بِأَنْ حَطَّ مِثْلَ مَا يَحُطُّهُ التُّجَّارُ عَادَةً جَازَ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحَطِّ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْمَعْرُوفِ بِأَنْ كَانَ فَاحِشًا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا قَبْلُ، وَهَلْ يَمْلِكُ الصُّلْحَ بِأَنْ وَجَبَ لَهُ عَلَى إنْسَانٍ دَيْنٌ فَصَالَحَهُ عَلَى بَعْضِ

حَقِّهِ؟ . فَإِنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ لَا يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّهُ حَطَّ بَعْضَ الدَّيْنِ، وَالْحَطُّ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ بَلْ هُوَ تَبَرُّعٌ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ جَازَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَا حَقَّ لَهُ إلَّا الْخُصُومَةَ وَالْحَلِفَ، وَالْمَالُ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ فِي هَذَا الصُّلْحِ مَنْفَعَةٌ فَيَصِحُّ، وَكَذَا الصُّلْحُ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ كُلِّهِ مِنْ عَادَاتِ التُّجَّارِ فَكَانَ دَاخِلًا تَحْتَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ، وَيَمْلِكُ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا فَيَأْذَنُ لَهُ بِالتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ مِنْ عَادَاتِ التُّجَّارِ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا الْمَأْذُونُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ مِنْ التِّجَارَةِ بَلْ هِيَ إعْتَاقٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَمْلِكُهَا وَيَمْلِكُ الِاسْتِقْرَاضَ؛ لِأَنَّهُ تِجَارَةٌ حَقِيقَةٌ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ وَهُوَ مِنْ عَادَاتِ التُّجَّارِ وَلَيْسَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يُقْرِضَ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ تَبَرُّعٌ لِلْحَالِّ، وَلِهَذَا لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ الْأَجَلُ. وَلَا يَكْفُلُ بِمَالٍ وَلَا بِنَفْسٍ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ إلَّا إذَا أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى بِالْكَفَالَةِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ كَفَالَتُهُ أَصْلًا عَلَى مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ وَلَا يَهَبُ دِرْهَمًا تَامًّا لَا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا بِعِوَضٍ، وَكَذَا لَا يَتَصَدَّقُ بِدِرْهَمٍ وَلَا يَكْسُو ثَوْبًا؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَيَجُوزُ تَبَرُّعُهُ بِالطَّعَامِ الْيَسِيرِ إذَا وَهَبَ أَوْ أَطْعَمَ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَإِنْ قَلَّ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ» ، وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ عَادَةً فَكَانَ الْإِذْنُ فِيهِ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَيَمْلِكُهُ وَلِهَذَا مَلَكَتْ الْمَرْأَةُ التَّصَدُّقَ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ كَالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا لِكَوْنِهَا مَأْذُونَةً فِي ذَلِكَ دَلَالَةً كَذَا هَذَا، وَلَا يَتَزَوَّجُ مِنْ غَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ التَّزَوُّجَ لَيْسَ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْمَوْلَى وَلَا يَتَسَرَّى جَارِيَةً مِنْ إكْسَابِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْعَبْدِ حَقِيقَةً، وَحِلُّ الْوَطْءِ بِدُونِ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ مَنْفِيٌّ شَرْعًا. وَسَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى بِالتَّسَرِّي أَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا وَبِالْإِذْنِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا فَلَا تَنْدَفِعُ الِاسْتِحَالَةُ وَلَا يُزَوِّجُ عَبْدَهُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ وَفِيهِ أَيْضًا ضَرَرٌ بِالْمَوْلَى وَهَلْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَمُحَمَّدٌ لَا يُزَوِّجُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُزَوِّجُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ نَافِعٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُقَابَلَةُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ فَكَانَ أَنْفَعَ مِنْ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ فَالنِّكَاحُ أَوْلَى وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْإِذْنِ هُوَ التِّجَارَةُ، وَإِنْكَاحُ الْأَمَةِ وَإِنْ كَانَ نَافِعًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَلَيْسَ بِتِجَارَةٍ إذْ التِّجَارَةُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَلَمْ تُوجَدْ فَلَا يَمْلِكُهُ وَلَا يَعْتِقُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ بَلْ هُوَ تَبَرُّعٌ لِلْحَالِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَعْتِقُ بِنَفْسِ الْقَبُولِ فَأَشْبَهَ الْقَرْضَ وَلَا يَمْلِكُ الْقَرْضَ فَلَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ عَلَى مَالٍ، وَإِنْ أَعْتَقَ عَلَى مَالٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ أَجَازَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَمْلِكُ الْمَوْلَى إنْشَاءَ الْعِتْقِ فِيهِ فَيَمْلِكُ الْإِجَازَةَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَوِلَايَةُ قَبْضِ الْعِوَضِ لِلْمَوْلَى لَا لِلْعَبْدِ لِمَا نَذْكُرُ، وَإِنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ حَقٌّ فِي هَذَا الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ الْحُرِّ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ الْإِعْتَاقُ. وَإِنْ أَجَازَ الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ وَيَضْمَنُ الْمَوْلَى قِيمَةَ الْعَبْدِ لِلْغُرَمَاءِ وَلَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ عَلَى الْعِوَضِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَكَانُ الْإِعْتَاقِ كِتَابَةً أَنَّ عِنْدَهُمَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْبَدَلِ، وَهَهُنَا لَا يَتَعَلَّقُ؛ لِأَنَّ هَذَا كَسْبُ الْحُرِّ وَذَاكَ كَسْبُ الرَّقِيقِ وَحَقُّ الْغَرِيمِ يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِ الرَّقِيقِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِ الْحُرِّ وَلَا يُكَاتِبُ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ فَلَا يَمْلِكُهَا الْمَأْذُونُ، وَلِأَنَّهَا إعْتَاقٌ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ، فَإِنْ كَاتَبَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَسْبُهُ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ فَيَمْلِكُ الْإِجَازَةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِنْشَاءَ، فَالْإِجَازَةُ أَوْلَى. فَإِنْ أَجَازَ نَفَذَ وَصَارَ مُكَاتِبًا لِلْمَوْلَى، وَوِلَايَةُ قَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِلْمَوْلَى لَا لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ اللَّاحِقَةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ فَكَانَ الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ وَكِيلِ الْمَوْلَى فِي الْكِتَابَةِ، وَحُقُوقُ الْكِتَابَةِ تَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى لَا إلَى الْوَكِيلِ لِذَلِكَ لَمْ يَمْلِكْ الْمَأْذُونُ قَبْضَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَمَلَكَهُ الْمَوْلَى، وَلَوْ لَحِقَ الْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ دَيْنٌ فَلَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ فِيمَا عَلَى الْمُكَاتِبِ حَقٌّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ مُكَاتَبًا لِلْمَوْلَى فَقَدْ صَارَ كَسْبًا مُنْتَزَعًا مِنْ يَدِ الْمَأْذُونِ فَلَا يَكُونُ لِلْغُرَمَاءِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ. وَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ قَدْ أَدَّى جَمِيعَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ إلَى الْمَأْذُونِ قَبْلَ إجَازَةِ الْمَوْلَى لَمْ يُعْتَقْ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَمْ تَنْفُذْ لِانْعِدَامِ شَرْطِ النَّفَاذِ وَهُوَ الْإِجَازَةُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِرَقَبَتِهِ وَبِمَا فِي يَدِهِ لَا تَصِحُّ إجَازَةُ الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى لَا يُعْتَقَ إذَا أَدَّى الْبَدَلَ

فصل في بيان ما يملكه المولى من التصرف في المأذون وما لا يملك

لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ الَّذِي عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ لَا يَكُونُ مِلْكًا لِلْمَوْلَى عِنْدَهُ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْكِتَابَةِ فَلَا يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ، وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ إجَازَتُهُ كَمَا يَصِحُّ إنْشَاءُ الْكِتَابَةِ مِنْهُ وَيُعْتَقُ إذَا أَدَّى وَيَضْمَنُ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ فَصَارَ مُتْلِفًا عَلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَمَا قَبَضَ الْمَأْذُونُ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ يُسْتَوْفَى مِنْهُ الدَّيْنُ عِنْدَهُمَا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْفَرْقِ لَهُمَا فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ فِي الْمَعْنَى إنْشَاءَ الْكِتَابَةِ، وَلَوْ أَنْشَأَ ضَمِنَ الْقِيمَةَ عِنْدَهُمَا كَذَا هَذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِرَقَبَتِهِ وَبِمَا فِي يَدِهِ جَازَتْ إجَازَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ لِإِتْلَافِ حَقِّهِمْ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. [فَصَلِّ فِي بَيَانُ مَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَأْذُونِ وَمَا لَا يَمْلِكُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَأْذُونِ وَكَسْبِهِ، وَمَا لَا يَمْلِكُ وَبَيَانُ حُكْمِ تَصَرُّفِهِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - إنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ إعْتَاقَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ سَوَاءٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِعْتَاقِ تَقِفُ عَلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَقَدْ وُجِدَ إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالْغُرَمَاءُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا اتَّبَعُوا الْمَوْلَى بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَأَتْلَفَ حَقَّ الْغَيْرِ لِتَعَلُّقِ الْغُرَمَاءِ بِالرَّقَبَةِ فَيُرَاعَى جَانِبُ الْحَقِيقَةِ بِتَنْفِيذِ الْإِعْتَاقِ، وَيُرَاعَى جَانِبُ الْحَقِّ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ مُرَاعَاةً لِلْجَانِبَيْنِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ فَيُنْظَرُ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ مِثْلَ الدَّيْنِ غَرِمَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْهُ غَرِمَ قِيمَةَ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْهُ غَرِمَ ذَلِكَ الْقَدْرَ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتْلَفَ عَلَيْهِمْ بِالْإِعْتَاقِ إلَّا الْقَدْرَ الْمُتَعَلِّقَ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ فَيُؤَاخَذُ الْمَوْلَى بِذَلِكَ وَيَتْبَعُ الْغُرَمَاءُ الْعَبْدَ بِالْبَاقِي، وَإِنْ شَاءُوا اتَّبَعُوا الْعَبْدَ بِكُلِّ الدَّيْنِ فَيَسْتَسْعُوهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ الدَّيْنِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْوُجُوبِ مِنْهُ حَقِيقَةً وَهُوَ الْمُعَامَلَةُ إلَّا أَنَّ رَقَبَتَهُ تَعَيَّنَتْ لِاسْتِيفَاءِ قَدْرِ مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ الدَّيْنِ مِنْهَا بِتَعْيِينِ الْمَوْلَى أَوْ شَرْعًا عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ، وَقَدْ عَتَقَ فَيُطَالَبُ بِهِ، وَأَيَّهُمَا اخْتَارُوا اتِّبَاعَهُ لَا يَبْرَأُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ التَّضْمِينِ فِي بَابِ الْغَصْبِ يَتَضَمَّنُ الْمَغْصُوبَ، وَالتَّمْلِيكُ بِعِوَضٍ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ عَنْهُ، فَأَمَّا اخْتِيَارُ اتِّبَاعِ أَحَدِهِمَا هَهُنَا لَا يُوجِبُ مِلْكَ الدَّيْنِ مِنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَلَكِنَّهُ قَتَلَ عَبْدًا آخَرَ خَطَأً وَعَلِمَ الْمَوْلَى بِهِ فَأَعْتَقَهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ يَغْرَمُ الْمَوْلَى تَمَامَ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ إنْ كَانَ قَلِيلَ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرَ الْقِيمَةِ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ أَوْ أَكْثَرَ غَرِمَ عَشَرَةَ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً فَرَّقَ بَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالدَّيْنِ إذَا أَعْتَقَهُ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ لَا يَلْزَمُهُ تَمَامُ الدَّيْنِ بَلْ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ عَلِمَ بِالدَّيْنِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. وَهَهُنَا يَلْزَمُهُ تَمَامُ الْقِيمَةِ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ، وَوَجْهُ أَنَّ الْفَرْقَ مُوجِبٌ جِنَايَةَ الْعَبْدِ عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ الدَّفْعُ لَكِنْ جَعَلَ لَهُ سَبِيلَ الْخُرُوجِ عَنْهُ بِالْفِدَاءِ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ فَإِذَا أَعْتَقَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ فَقَدْ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ فَيَلْزَمُهُ الْفِدَاءُ بِجَمِيعِ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ إلَّا أَنْ تَكُونَ عَشَرَةَ آلَافٍ أَوْ أَكْثَرَ فَيُنْقِصُ مِنْهُ عَشَرَةً إذْ لَا مَزِيدَ لِدِيَةِ الْعَبْدِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ، فَأَمَّا مُوجَبُ مُعَامَلَةِ الْعَبْدِ وَهُوَ الدَّيْنُ فَعَلَى الْعَبْدِ حَقًّا لِلْغُرَمَاءِ إلَّا أَنَّ الْقِيمَةَ الَّتِي فِي مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ فَإِنَّهَا تُعَلَّقُ بِهَا وَبِالْإِعْتَاقِ مَا أَبْطَلَ عَلَيْهِمْ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ حَقِّهِمْ فَيَضْمَنُهُ، وَالزِّيَادَةُ بَقِيَتْ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ فَيُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَتَلَ حُرًّا خَطَأً فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ غَرِمَ الْمَوْلَى دِيَةَ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مَعَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ. وَدِيَةُ الْحُرِّ مُقَدَّرَةٌ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَيَغْرَمُهَا الْمَوْلَى هَذَا إذَا أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَهُوَ عَالِمٌ بِالْجِنَايَةِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ يَغْرَمُ قِيمَةَ عَبْدِهِ لِأَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ لَمْ يَكُنْ إعْتَاقُهُ دَلِيلَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِاخْتِيَارِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعِلْمِ وَيَلْزَمُهُ قِيمَةُ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ عَلَى الْمَوْلَى هُوَ دَفْعُ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ قَبْلَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ لَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْلَى، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْفِدَاءِ بِاخْتِيَارِ الْفِدَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْإِعْتَاقُ قَبْلَ الْعِلْمِ دَلِيلَ الِاخْتِيَارِ بَقِيَ الدَّفْعُ وَاجِبًا وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ دَفْعُ عَيْنِهِ فَيَلْزَمُهُ دَفْعُ مَالِيَّتِهِ إذْ هُوَ دَفْعُ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ. وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِرَقَبَتِهِ وَجَنَى جِنَايَاتٍ تُحِيطُ بِقِيمَتِهِ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ لِأَصْحَابِ الدَّيْنِ قِيمَتَهُ كَامِلَةً وَيَغْرَمُ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ قِيمَةً أُخْرَى إلَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ أَوْ أَكْثَرَ فَيُنْقِصُ مِنْهَا عَشَرَةً؛ لِأَنَّ حَقَّ أَصْحَابِ الدَّيْنِ قَدْ تَعَلَّقَ بِمَالِيَّةِ الْعَيْنِ، وَحَقَّ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ، وَالْمَوْلَى بِالْإِعْتَاقِ

أَبْطَلَ الْحَقَّيْنِ جَمْعًا فَيَضْمَنُهَا وَلَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ يَضْمَنُ قِيمَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ بِالْقَتْلِ ضَمَانُ إتْلَافِ النَّفْسِ، وَالنَّفْسُ وَاحِدَةٌ فَلَا يَتَعَدَّدُ ضَمَانُهَا، فَأَمَّا الضَّمَانُ الْوَاجِبُ بِالْإِعْتَاقِ فَضَمَانُ إبْطَالِ الْحَقِّ فَيَتَعَدَّدُ ضَمَانُهُ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يُشَارِكُ أَصْحَابُ الدَّيْنِ أَصْحَابَ الْجِنَايَةِ فَالْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ مَحَلِّ الْحَقَّيْنِ فَالدَّفْعُ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، وَالدَّيْنُ يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ الْعَيْنِ وَهُمَا مَحَلَّانِ مُخْتَلِفَانِ فَتَعَذَّرَتْ الْمُشَارَكَةُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ إعْتَاقَ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ الْمَأْذُونَيْنِ فِي التِّجَارَةِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ أَعْتَقَهُمَا وَعَلَيْهِمَا دَيْنٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَوْلَى مِنْ الدَّيْنِ وَلَا مِنْ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ التِّجَارَةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِمَا فَخُرُوجُهُمَا عَنْ احْتِمَالِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُمَا بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَاءِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إتْلَافُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ فَلَا يَضْمَنُ، وَهَلْ يَمْلِكُ إعْتَاقَ كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ؟ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ أَصْلًا يَمْلِكُ وَيَنْفُذُ إعْتَاقُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَ مَحَلًّا هُوَ خَالِصُ مِلْكِهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ، وَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ لَا يَمْلِكُ وَلَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَّا أَنْ يَسْقُطَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِأَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى دَيْنَهُمْ أَوْ تُبْرِئَهُ الْغُرَمَاءُ مِنْ الدَّيْنِ أَوْ يَشْتَرِيَهُ الْمَوْلَى مِنْ الْغُرَمَاءِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَمْلِكُ وَيَنْفُذُ إعْتَاقُهُ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ فِيهِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْمَالِكِ، وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ بِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا لِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ عِنْدَهُ لَا يُمْلَكُ، وَعِنْدَهُمَا يُمْلَكُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ رَقَبَةَ الْمَأْذُونِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَهِيَ مِلْكُ الْمَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَلَكَ إعْتَاقَهُ، وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ عِلَّةُ مِلْكِ الْكَسْبِ فَيَمْلِكُ الْكَسْبَ كَمَا يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ شَرْطَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْعَبْدِ فَرَاغُهُ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ فِيهِ كَمَا لَا يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْفَرَاغَ شَرْطٌ أَنَّ الْمِلْكَ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْعَبْدِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْأَصْلِ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بِكَسْبِهِ حَقِيقَةً، وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] . وَهَذَا لَيْسَ مِنْ سَعْيِهِ حَقِيقَةً فَلَا يَكُونُ لَهُ بِظَاهِرِ النَّصِّ إلَّا أَنَّ الْكَسْبَ الْفَارِغَ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ خُصَّ عَنْ عُمُومِ النَّصِّ وَجُعِلَ مِلْكًا لِلْمَوْلَى فَبَقِيَ الْكَسْبُ الْمَشْغُولُ بِحَاجَتِهِ عَلَى ظَاهِرِ النَّصِّ هَذَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالرَّقَبَةِ وَالْكَسْبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِهِمَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُحِيطَ عِنْدَهُمَا لَا يَمْنَعُ فَغَيْرُ الْمُحِيطِ أَوْلَى. (وَأَمَّا) أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا يَمْنَعُ حَتَّى لَا يَصِحَّ إعْتَاقُهُ شَيْئًا مِنْ كَسْبِهِ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا يَمْنَعُ وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَرَاغَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ، فَالشُّغْلُ وَإِنْ قَلَّ يَكُونُ مَانِعًا وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ مِلْكِ الْمَوْلَى كَوْنُ الْكَسْبِ مَشْغُولًا لِحَاجَةِ الْعَبْدِ وَبَعْضُهُ مَشْغُولٌ وَبَعْضُهُ فَارِغٌ. (فَإِمَّا) أَنْ يَعْتَبِرَ جَانِبَ الشُّغْلِ فِي الْمَنْعِ مِنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فِي كُلِّهِ. (وَإِمَّا) أَنْ يَعْتَبِرَ جَانِبَ الْفَرَاغِ فِي إيجَابِ الْمِلْكِ لَهُ فِي كُلِّهِ، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ الْفَرَاغِ أَوْلَى؛ لِأَنَّا إذَا اعْتَبَرْنَا جَانِبَ الْفَرَاغِ فَقَدْ رَاعَيْنَا حَقَّ الْمِلْكِ بِإِثْبَاتِ الْمِلْك لَهُ وَحَقَّ الْغُرَمَاءِ بِإِثْبَاتِ الْحَقِّ لَهُمْ فَإِذَا اعْتَبَرْنَا جَانِبَ الشُّغْلِ فَقَدْ رَاعَيْنَا جَانِبَ الْغُرَمَاءِ وَأَبْطَلْنَا حَقَّ الْمَالِكِ أَصْلًا فَقَضَيْنَا حَقَّ الْمَالِكِ بِتَنْفِيذِ إعْتَاقِهِ، وَقَضَيْنَا حَقَّ الْغُرَمَاءِ بِالضَّمَانِ صِيَانَةً لِلْحَقَّيْنِ عَنْ الْإِبْطَالِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَلِهَذَا أُثْبِتَ الْمِلْكُ لِلْوَارِثِ فِي كُلِّ التَّرِكَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِهَا كَذَا هَذَا، وَلَوْ أَعْتَقَهُ ثُمَّ قَضَى الْمَوْلَى دَيْنَ الْغُرَمَاءِ مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ أَوْ أَبْرَأهُ الْغُرَمَاءُ نَفَذَ إعْتَاقُهُ عِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَنْفُذُ وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَ كَسْبًا مَشْغُولًا بِحَاجَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ مَقْصُورًا عَلَى حَالِ الْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ فَيُمْنَعُ النَّفَاذُ كَمَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدَ مُكَاتَبِهِ ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ كَذَا هَذَا. (وَلَنَا) أَنَّ النَّفَاذَ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُمْ بِالْقَضَاءِ وَالْإِبْرَاءِ فَظَهَرَ النَّفَاذُ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ أَكْسَابِ مُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِأَكْسَابِهِ مِنْ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى أَكْسَابِهِ كَالْحُرِّ وَبِالْعَجْزِ لَا يُتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ فَلَمْ يَنْفُذْ إعْتَاقُ الْمَوْلَى، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ أَعْتَقَ الْوَارِثُ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ، ثُمَّ قَضَى الْوَارِثُ الدَّيْنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ أَوْ أَبْرَأَ الْغُرَمَاءُ الْمَيِّتَ مِنْ الدَّيْنِ أَنَّهُ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ خِلَافًا لِلْحَسَنِ، وَلَوْ وَطِئَ الْمَوْلَى جَارِيَةَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَصَارَتْ

الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَغَرِمَ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ لِلْغُرَمَاءِ، وَلَا يَغْرَمُ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ عُقْرِهَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا أَمَّا صِحَّةُ الدَّعْوَةِ فَلِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى إنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي الْكَسْبِ فِي الْحَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَهُ فِيهِ حَقُّ الْمِلْكِ فَصَحَّتْ دَعْوَتُهُ. (وَأَمَّا) لُزُومُ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِلْغُرَمَاءِ فَلِأَنَّهُ بِالدَّعْوَةِ أَبْطَلَ حَقَّهُمْ. (وَأَمَّا) عَدَمُ وُجُوبِ الْعُقْرِ فَلِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ ظُهُورِ مِلْكِهِ فِي الْكَسْبِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ، وَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُمْ بِالضَّمَانِ فَيَظْهَرُ الْمِلْكُ لَهُ فِيهِ مِنْ حِينِ اكْتَسَبَهُ الْعَبْدُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَطِئَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ، وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى جَارِيَةَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ ثُمَّ وَطِئَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَالْوَلَدُ حُرٌّ، وَيَضْمَنُ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ لِلْغُرَمَاءِ لِمَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ السَّابِقَ مِنْهُ لَمْ يُحْكَمْ بِنَفَاذِهِ لِلْحَالِ فَكَانَ حَقُّ الْمِلْكِ ثَابِتًا لَهُ إلَّا أَنَّ الْجَارِيَةَ هَهُنَا تَصِيرُ حُرَّةً بِالْإِعْتَاقِ السَّابِقِ، وَعَلَى الْمَوْلَى الْعُقْرُ لِلْجَارِيَةِ أَمَّا صَيْرُورَتُهَا حُرَّةً بِالْإِعْتَاقِ السَّابِقِ فَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ السَّابِقَ كَانَ نَفَاذُهُ مَوْقُوفًا عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَقَدْ سَقَطَ بِدَعْوَةِ الْمَوْلَى فَنَفَذَ فَصَارَتْ حُرَّةً بِذَلِكَ الْإِعْتَاقِ. (وَأَمَّا) لُزُومُ الْعُقْرِ لِلْجَارِيَةِ فَلِأَنَّ الْوَطْءَ صَادَفَ الْحُرَّةَ مِنْ وَجْهٍ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَيَمْلِكُ الْمَوْلَى بَيْعَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ إلَّا بِإِذْنِ الْغُرَمَاءِ أَوْ بِإِذْنِ الْقَاضِي بِالْبَيْعِ لِلْغُرَمَاءِ أَوْ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ بِالْبَيْعِ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْبَاقِينَ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي بَيَانِ حَقِّ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ وَيَمْلِكُ أَخْذَ كَسْبِ الْعَبْدِ مِنْ يَدِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّهُ فَارِغٌ عَنْ حَاجَتِهِ فَكَانَ خَالِصَ مِلْكِهِ، وَلَوْ لَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَالْمَأْخُوذُ سَالِمٌ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ شَرْطَ خُلُوصِ الْمِلْكِ لَهُ فِيهِ كَوْنُهُ فَارِغًا عِنْدَ الْأَخْذِ، وَقَدْ وُجِدَ. وَلَوْ كَانَ الْكَسْبُ فِي يَدِ الْعَبْدِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَأْخُذْ الْمَوْلَى حَتَّى لَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ لَا يَمْلِكُ أَخْذَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْفَرَاغُ عِنْدَ الْأَخْذِ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَفِي يَدِهِ كَسْبٌ لَا يَمْلِكُ أَخْذَهُ؛ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ، وَلَوْ أَخَذَهُ الْمَوْلَى فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَأْخُذُوهُ مِنْهُ إنْ كَانَ قَائِمًا وَقِيمَتَهُ إنْ كَانَ هَالِكًا؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِالْمَأْخُوذِ فَعَلَيْهِ رَدُّ عَيْنِهِ أَوْ بَدَلِهِ، وَلَوْ لَحِقَهُ دَيْنٌ آخَرُ بَعْدَمَا أَخَذَهُ الْمَوْلَى اشْتَرَكَ الْغُرَمَاءُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ فِي الْمَأْخُوذِ وَأَخَذُوا عَيْنَهُ أَوْ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّ زَمَانَ الْإِذْنِ مَعَ تَعَدُّدِهِ حَقِيقَةٌ فِي حُكْمِ زَمَانٍ وَاحِدٍ كَزَمَانِ الْمَرَضِ فَكَانَ زَمَانُ تَعَلُّقِ الدُّيُونِ كُلِّهَا وَاحِدًا لِذَلِكَ اشْتَرَكُوا فِيهِ وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى يَأْخُذُ الْغَلَّةَ مِنْ الْعَبْدِ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ قَبْضُ الْغَلَّةِ مَعَ قِيَامِ الدَّيْنِ؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَ يَأْخُذُ عَلَيْهِ مِثْلَهُ جَازَ لَهُ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ يَتَعَلَّقُ بِالْغَلَّةِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ نَظَرًا لِلْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالتِّجَارَةِ فَلَوْ مَنَعَ الْمَوْلَى عَنْ أَخْذِ غَلَّةِ الْمِثْلِ لِحَجْرِهِ عَنْ التِّجَارَةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْكَسْبِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْغُرَمَاءُ فَكَانَ إطْلَاقُ هَذَا الْقَدْرِ وَسِيلَةً إلَى غَرَضِهِمْ فَكَانَ تَحْصِيلًا لِلْغَلَّةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْ غَلَّةِ الْمِثْلِ، وَلَوْ أَخَذَ رَدَّ الْفَضْلَ عَلَى الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ ظُهُورِ حَقِّهِمْ فِي غَلَّةِ الْمِثْلِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الزِّيَادَةِ فَيَظْهَرُ حَقُّهُمْ فِيهَا مَعَ مَا أَنَّ فِي إطْلَاقِ ذَلِكَ إضْرَارًا بِالْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يُوَظَّفُ عَلَيْهِ غَلَّةٌ تَسْتَغْرِقُ كَسْبَ الشَّهْرِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْغُرَمَاءُ، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَفِي يَدِهِ مَالٌ فَاخْتَلَفَ الْعَبْدُ وَالْمَوْلَى فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ وَيَقْضِي مِنْهُ الدَّيْنَ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ فِي يَدِهِ وَالْمَأْذُونُ فِي إكْسَابِهِ الَّتِي فِي يَدِهِ كَالْحُرِّ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْيَدِ. وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ ثَالِثٌ فَهُوَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَاخْتَلَفَ الْعَبْدُ وَالْمَوْلَى وَأَجْنَبِيٌّ فَهُوَ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا عِبْرَةَ لِيَدِهِ فَكَانَتْ يَدُهُ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ فَبَقِيَتْ يَدُ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ فَكَانَ الْكَسْبُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ فِي مَنْزِلِ الْمَوْلَى، فَإِنْ كَانَ فِي مَنْزِلِ الْمَوْلَى وَفِي يَدِهِ ثَوْبٌ فَاخْتَلَفَا، فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ مِنْ تِجَارَةِ الْعَبْدِ فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي ظَاهِرِ الْيَدِ وَتُرَجَّحُ يَدُ الْعَبْدِ بِالتِّجَارَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ تِجَارَتِهِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمَوْلَى، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ رَاكِبًا عَلَى دَابَّةٍ أَوْ لَابِسًا ثَوْبًا فَهُوَ لِلْعَبْدِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ تِجَارَتِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ تُرَجَّحُ يَدُهُ بِالتَّصَرُّفِ فَكَانَتْ أَوْلَى مِنْ يَدِ الْمَوْلَى، وَلَوْ تَنَازَعَ الْمَأْذُونُ وَأَجْنَبِيٌّ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى السَّيِّدِ كَالْحُرِّ. ، وَلَوْ آجَرَ الْحُرُّ أَوْ الْمَأْذُونُ نَفْسَهُ مِنْ خَيَّاطٍ يَخِيطُ مَعَهُ أَوْ مِنْ تَاجِرٍ يَعْمَلُ مَعَهُ، وَفِي يَدِ الْأَجِيرِ ثَوْبٌ وَاخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: هُوَ لِي، وَقَالَ الْأَجِيرُ: هُوَ لِي، فَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ فِي حَانُوتِ التَّاجِرِ وَالْخَيَّاطِ فَهُوَ لِلتَّاجِرِ وَالْخَيَّاطِ

فصل في بيان حكم الغرور في العبد المأذون

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَنْزِلِهِ وَكَانَ فِي السِّكَّةِ فَهُوَ لِلْأَجِيرِ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ إذَا كَانَ فِي دَارِ الْخَيَّاطِ، وَدَارُ الْخَيَّاطِ فِي يَدِ الْخَيَّاطِ كَانَ الْأَجِيرُ مَعَ مَا فِي يَدِهِ فِي يَدِ الْخَيَّاطِ ضَرُورَةً، وَإِذَا كَانَ فِي السِّكَّةِ لَمْ يَكُنْ هُوَ فِي يَدِهِ فَكَذَا مَا فِي يَدِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مَكَانَ الْأَجِيرِ أَجْنَبِيٌّ، وَلَوْ آجَرَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ الْمَحْجُورَ مِنْ رَجُلٍ وَمَعَهُ ثَوْبٌ فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى وَالْمُسْتَأْجِرُ فَهُوَ لِلْمُسْتَأْجِرِ سَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ فِي مَنْزِلِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ الْأَجِيرِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَنْزِلِ الْمُسْتَأْجِرِ أَنَّهُ يَكُونُ لِلْأَجِيرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ بِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ يَدُ نِيَابَةٍ عَنْ الْمَوْلَى، وَقَدْ صَارَ مَعَ مَا فِي يَدِهِ بِالْإِجَارَةِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِ الْيَدِ، فَأَمَّا يَدُ الْأَجِيرِ فَيَدُ أَصَالَةٍ إذْ هُوَ فِي حَقِّ الْيَدِ كَالْحُرِّ فَلَا يَصِيرُ بِنَفْسِ الْإِجَارَةِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَوْ كَانَ الْمَحْجُورُ فِي مَنْزِلِ الْمَوْلَى فَهُوَ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مَنْزِلِ الْمَوْلَى كَانَ فِي يَدِهِ لِكَوْنِ مَنْزِلِهِ فِي يَدِهِ فَتَزُولُ يَدُ الْمُسْتَأْجِرِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ حُكْمِ الْغُرُورِ فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْغُرُورِ فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - إذَا جَاءَ رَجُلٌ بِعَبْدٍ إلَى السُّوقِ وَقَالَ: هَذَا عَبْدِي أَذِنْت لَهُ بِالتِّجَارَةِ فَبَايِعُوهُ فَبَايَعَهُ أَهْلُ السُّوقِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَوْ تُبُيِّنَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ كَانَ الرَّجُلُ حُرًّا وَإِمَّا إنْ كَانَ عَبْدًا، فَإِنْ كَانَ حُرًّا فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ الدَّيْنِ أَمَّا وُجُوبُ أَصْلِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ غَرَّهُمْ بِقَوْلِهِ: هَذَا عَبْدِي فَبَايِعُوهُ حَيْثُ أَضَافَ الْعَبْدَ إلَى نَفْسِهِ وَأَمَرَهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْغُرُورِ وَهَذَا لِأَنَّ أَمْرَهُ إيَّاهُمْ بِالْمُبَايَعَةِ إخْبَارٌ مِنْهُ عَنْ كَوْنِهِ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ، وَإِضَافَةُ الْعَبْدِ إلَى نَفْسِهِ إخْبَارٌ عَنْ كَوْنِهِ مِلْكًا لَهُ، وَالْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ مَعَ عَبْدِ الْإِذْنِ يُوجِبُ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ فَكَانَ الْإِذْنُ مَعَ الْإِضَافَةِ دَلِيلًا عَلَى الْكَفَالَةِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ الَّتِي هِيَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَيُؤْخَذُ بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ إذْ ضَمَانُ الْغُرُورِ فِي الْحَقِيقَةِ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (وَأَمَّا) وُجُوبُ الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ الدَّيْنِ فَلِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْكَفَالَةِ هَذَا الْقَدْرُ، وَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الَّذِي وُلِّيَ مُبَايَعَتَهُمْ إنْ كَانَ حُرًّا؛ لِأَنَّهُ الَّذِي بَاشَرَ سَبَبَ الْوُجُوبِ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ رِقَابَهُمْ لَا تَحْتَمِلُ الِاسْتِيفَاءَ قَبْلَ الْعَتَاقِ وَسَوَاءٌ قَالَ: أَذِنْت لَهُ بِالتِّجَارَةِ أَوْ لَمْ يَقُلْ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمُبَايَعَةِ يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ، وَسَوَاءٌ أَمَرَ بِتِجَارَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ لَغْوٌ عِنْدَنَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: مَا بَايَعْتُ فُلَانًا مِنْ الْبَزِّ فَهُوَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ كَفِيلًا بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ التَّخْصِيصَ صَحِيحٌ لِوُقُوعِ التَّصَرُّفِ فِي كَفَالَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَالْكَفَالَةُ الْمَقْصُودَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِلتَّخْصِيصِ، فَأَمَّا هَهُنَا فَالْكَفَالَةُ لَهُ مَا ثَبَتَتْ مَقْصُودَةً، وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ، وَالْأَمْرُ لَا يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ فَكَذَا الْكَفَالَةُ هَذَا إذَا أَضَافَ الْعَبْدَ نَفْسَهُ وَأَمَرَهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ، فَأَمَّا إذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَفَالَةِ لَا يَثْبُتُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِمَا. وَلَوْ كَانَ هَذَا الْعَبْدُ الَّذِي أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ وَأَمَرَ النَّاسَ بِمُبَايَعَتِهِ مِلْكًا لِلْآمِرِ فَدَبَّرَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ لَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْدَ التَّدْبِيرِ لَمْ يَضْمَنْ الْمَوْلَى شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَغُرَّهُمْ حَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْغُرُورِ، وَكَذَا لَمْ يُتْلِفْ عَلَيْهِمْ حَقَّهُمْ بِالتَّدْبِيرِ لِانْعِدَامِ الدَّيْنِ عِنْدَهُ، وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ بَايَعُوهُ لِمَا قُلْنَا هَذَا إذَا كَانَ الْآمِرُ حُرًّا، فَأَمَّا إذَا كَانَ عَبْدًا، فَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ حَتَّى يُعْتَقَ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ كَفَالَةٍ وَكَفَالَةُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ لَا تَنْفُذُ لِلْحَالِّ، وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا أَوْ مُكَاتَبًا وَكَانَ الْمَأْذُونُ حُرًّا لَا ضَمَانَ عَلَى الْآمِرِ فِي شَيْءٍ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْآمِرُ صَبِيًّا مَأْذُونًا؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ وَالْمُكَاتَبَ لَا تَنْفُذُ كَفَالَتُهُمَا لِلْحَالِّ، وَلَكِنَّهَا تَنْعَقِدُ فَيُؤَاخَذُنَّ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَالصَّبِيُّ لَا تَنْعَقِدُ كَفَالَتُهُ فَلَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ حُكْمِ الدَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَأْذُونَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الدَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَأْذُونَ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - حُكْمُهُ تَعَلُّقُهُ بِمَحَلٍّ يُسْتَوْفَى مِنْهُ إذَا ظَهَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ سَبَبِ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ وَبَيَانِ سَبَبِ ظُهُورِ الدَّيْنِ وَبَيَانِ حُكْمِ التَّعَلُّقِ أَمَّا بَيَانُ سَبَبِ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ فَلِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ أَسْبَابٌ مِنْهَا: التِّجَارَةُ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ وَالِاسْتِدَانَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ كَالْغَصْبِ وَجُحُودِ الْأَمَانَاتِ مِنْ الْوَدَائِعِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ وَجُحُودَ الْأَمَانَةِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْمِلْكِ فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمَجْحُودِ فَكَانَ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ، وَكَذَا الِاسْتِهْلَاكُ مَأْذُونًا كَانَ أَوْ مَحْجُورًا بِأَنْ عَقَرَ دَابَّةً أَوْ خَرَقَ ثَوْبًا خَرْقًا فَاحِشًا

فصل في بيان سبب ظهور الدين الذي يلحق المأذون

لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ قَبْلَ الْهَلَاكِ فَكَانَ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ عُقْرُ الْجَارِيَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِأَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ، وَإِنْ كَانَ قِيمَةَ مَنَافِعِ الْبُضْعِ لَكِنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ فَتُلْحَقُ بِالْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ فَكَانَ فِي حُكْمِ ضَمَانِ التِّجَارَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَمِنْهَا: النِّكَاحُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ بِدُونِ الْمَهْرِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ سَبَبِ ظُهُورِ الدَّيْنِ الَّذِي يَلْحَق الْمَأْذُون] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ سَبَبِ ظُهُورِ الدَّيْنِ فَسَبَبُ ظُهُورِهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ وَبِكُلِّ مَا هُوَ سَبَبٌ لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَحَلٍّ يُسْتَوْفَى مِنْهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ إظْهَارَ ذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَيَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ، وَالثَّانِي قِيَامُ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُظْهِرَةٌ لِلْحَقِّ وَلَا يُنْتَظَرُ حُضُورُ الْمَوْلَى بَلْ يُقْضَى عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مَحْجُورًا فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَوْلَى. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي الْمَأْذُونِ قَامَتْ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ يَدَ التَّصَرُّفِ لَهُ لَا لِلْمَوْلَى فَيَمْلِكُ الْخُصُومَةَ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ قَائِمَةً عَلَيْهِ لَا عَلَى الْمَوْلَى فَلَا مَعْنَى لِشَرْطِ حُضُورِ الْمَوْلَى بِخِلَافِ الْمَحْجُورِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ فَلَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ قَائِمَةً عَلَى الْمَوْلَى فَشُرِطَ حُضُورُهُ لِئَلَّا يَكُونَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ، وَلَوْ ادَّعَى عَلَى الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ وَدِيعَةً مُسْتَهْلَكَةً أَوْ بِضَاعَةً أَوْ شَيْئًا كَانَ أَصْلُهُ أَمَانَةً لَا يُقْضَى بِهَا لِلْحَالِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْضَى بِهَا لِلْحَالِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ وَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ لِلْحَالِّ عِنْدَهُمَا، وَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ فَيَتَوَقَّفُ الْقَضَاءُ بِالضَّمَانِ إلَيْهِ، وَعِنْدَهُ يُؤَاخَذُ بِهِ لِلْحَالِّ فَلَا يَتَوَقَّفُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ الْمَأْذُونِ بِذَلِكَ قُضِيَ عَلَيْهِ وَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى، وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِ الْمَحْجُورِ بِالْغَصْبِ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا؛ لِأَنَّ الْمَحْجُورَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لَمَا نَفَذَ عَلَى مَوْلَاهُ لِلْحَالِّ كَذَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ، وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ أَوْ الْمَحْجُورِ عَلَى سَبَبِ قِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ مِنْ الْقَتْلِ وَالْقَذْفِ وَالزِّنَا وَالشُّرْبِ لَمْ يُقْضَ بِهَا حَتَّى يَحْضُرَ الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْضَى بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّهَا تُقَامُ مِنْ غَيْرِ حَضْرَةِ الْمَوْلَى. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْعَبْدَ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمَوْلَى فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِهِ فَكَانَتْ هَذِهِ شَهَادَةً قَائِمَةً عَلَيْهِ لَا عَلَى الْمَوْلَى فَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُهُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ حَضْرَةُ الْمَوْلَى فِي الْإِقْرَارِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَبْدَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مَالُ الْمَوْلَى، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ إتْلَافُ مَالِهِ عَلَيْهِ فَيُصَانُ حَقُّهُ عَنْ الْإِتْلَافِ مَا أَمْكَنَ، وَفِي شَرْطِ الْحُضُورِ صِيَانَةُ حَقِّهِ عَنْ الْإِتْلَافِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا عَسَى يَدَّعِي شُبْهَةً مَانِعَةً مِنْ الْإِقَامَةِ، وَحَقُّ الْمُسْلِمِ تَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنْ الْبُطْلَانِ مَا أَمْكَنَ وَمِثْلُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِمَّا لَا يُعَدُّ فِي الْإِقْرَارِ بَعْدَ صِحَّتِهِ لِذَلِكَ افْتَرَقَا، وَكَذَلِكَ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى عَبْدٍ أَنَّهُ سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَهُوَ يَجْحَدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا يُقْطَعُ وَلَا يَضْمَنُ السَّرِقَةَ مَأْذُونًا كَانَ أَوْ مَحْجُورًا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا يَضْمَنُ السَّرِقَةَ وَلَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ غَيْبَةَ الْمَوْلَى لَا تَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِالضَّمَانِ فِي حَقِّ الْمَأْذُونِ وَمَتَى وَجَبَ الضَّمَانُ امْتَنَعَ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَعَلَى قِيَاسِ أَبِي يُوسُفَ هَذَا وَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ سَوَاءٌ يُقْطَعُ وَلَا يَضْمَنُ السَّرِقَةَ، وَلِأَنَّ حَضْرَةَ الْمَوْلَى عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْقَضَاءِ بِالْقَطْعِ وَالْقَطْعُ يَمْنَعُ الضَّمَانَ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا لَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ عَلَى السَّرِقَةِ فَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِقَطْعٍ وَلَا ضَمَانٍ عِنْدَهُمَا. (أَمَّا) الْقَطْعُ فَلِأَنَّ حَضْرَةَ الْمَوْلَى شَرْطٌ وَلَمْ يُوجَدْ (وَأَمَّا) الضَّمَانُ فَلِأَنَّ غَيْبَةَ الْمَوْلَى تَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِالضَّمَانِ فِي حَقِّ الْمَحْجُورِ وَعِنْدَهُ يُقْطَعُ وَلَا يُضْمَنُ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى سَرِقَةِ مَا دُونَ النِّصَابِ، فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا قُبِلَتْ وَلَزِمَهُ الضَّمَانُ دُونَ الْقَطْعِ سَوَاءٌ حَضَرَ الْمَوْلَى أَوْ غَابَ؛ لِأَنَّ سَرِقَةَ مَا دُونَ النِّصَابِ لَا تُوجِبُ الْقَطْعَ فَبَقِيَ دَعْوَى السَّرِقَةِ وَدَعْوَى الضَّمَانِ عَلَى الْمَأْذُونِ وَحَضْرَةُ الْمَوْلَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمَأْذُونِ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا لَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ أَصْلًا. (أَمَّا) عَلَى الْقَطْعِ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا عَلَى الْمَالِ فَلِأَنَّ حُضُورَ الْمَوْلَى شَرْطُ الْقَضَاءِ عَلَى

فصل في بيان محل تعلق الدين بالمأذون

الْمَحْجُورِ بِالْمَالِ، وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِ الْمَأْذُونِ أَوْ الْمَحْجُورِ بِسَبَبِ الْقِصَاصِ أَوْ الْحَدِّ لَزِمَهُ الْقَوَدُ وَحُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَضَرَ الْمَوْلَى أَوْ غَابَ وَلَا يَلْزَمُهُ مَا سِوَاهُمَا مِنْ الْحُدُودِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْعَبْدِ، وَكَذَا حَدُّ الْقَذْفِ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ، وَسَائِرُ الْحُدُودِ حُقُوقُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِصًا فَالْبَيِّنَةُ، وَإِنْ أَظْهَرَتْ الْإِقْرَارَ فَالْإِنْكَارُ مِنْهُ رُجُوعٌ عَنْ الْإِقْرَارِ، وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ يَصِحُّ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ وَيَسْقُطُ مَا سِوَاهُمَا غَيْرَ أَنَّهُ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ إنْ كَانَ مَأْذُونًا سَوَاءٌ بَلَغَ نِصَابًا أَوْ لَمْ يَبْلُغْ حَضَرَ الْمَوْلَى أَوْ غَابَ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَطْعِ لِلرُّجُوعِ، وَالرُّجُوعُ فِي حَقِّ الْمَالِ لَمْ يَصِحَّ فَيَجِبُ الضَّمَانُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْمَالِ عَلَى الْمَأْذُونِ لَا يَقِفُ عَلَى حُضُورِ الْمَوْلَى، وَلَوْ كَانَ مَحْجُورًا لَا قَطْعَ عَلَيْهِ وَلَا ضَمَانَ أَمَّا الْقَطْعُ فَلِمَكَانِ الرُّجُوعِ. وَأَمَّا الضَّمَانُ فَلِأَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ بِالْمَالِ غَيْرُ نَافِذٍ فِي الْحَالِّ فَلَا تَصِحُّ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ أَوْ الْمَعْتُوهِ الْمَأْذُونِ عَلَى قَتْلٍ أَوْ سَبَبِ حَدٍّ قُبِلَتْ عَلَى الْقَتْلِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَا تُقْبَلُ عَلَى الْحَدِّ لِتَصَوُّرِ سَبَبِ وُجُوبِ الدِّيَةِ مِنْهُ وَهُوَ الْقَتْلُ الْخَطَأُ؛ لِأَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ خَطَأٌ، وَانْعِدَامُ تَصَوُّرِ سَبَبِ وُجُوبِ الْحَدِّ مِنْهُ مِنْ الزِّنَا وَغَيْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ عَلَى السَّرِقَةِ قُبِلَتْ عَلَى الْمَالِ وَضَمَّنَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ الْمَأْذُونَ مِنْ أَهْلِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ، وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّبِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ فَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [فَصْلٌ فِي بَيَان مَحِلّ تعلق الدِّين بالمأذون] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ التَّعَلُّقِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ عَيَّنَهُ لِلِاسْتِيفَاءِ أَوْ تَعَيَّنَ شَرْعًا نَظَرًا لِلْغُرَمَاءِ سَوَاءٌ كَانَ كَسْبَ التِّجَارَةِ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا قَوْلُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِكَسْبِ التِّجَارَةِ وَتَكُونُ الْهِبَةُ وَغَيْرُهَا لِلْمَوْلَى. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ التَّعَلُّقَ حُكْمُ الْإِذْنِ، وَالْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ لَا لِغَيْرِهَا، وَهَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِ التِّجَارَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الدَّيْنُ. (وَلَنَا) أَنَّ شَرْطَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْعَبْدِ أَيَّ كَسْبٍ كَانَ فَرَاغُهُ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ لِلْفِقْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يُوجَدْ الْفَرَاغُ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ، وَسَوَاءٌ حَصَلَ الْكَسْبُ بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ أَوْ كَانَ حَاصِلًا قَبْلَهُ إلَّا الْوَلَدَ وَالْأَرْشَ فَإِنَّ مَا وَلَدَتْ الْمَأْذُونَةُ مِنْ غَيْرِ مَوْلَاهَا بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَمَا وَلَدَتْهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِهِ وَيَكُونُ لِلْمَوْلَى، وَكَذَلِكَ الْأَرْشُ بِأَنْ فُقِئَتْ عَيْنُهَا فَوَجَبَ الْأَرْشُ عَلَى الْفَاقِئِ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ التَّعَلُّقَ بِالْوَلَدِ بِحُكْمِ السِّرَايَةِ مِنْ الْأُمِّ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَحْدُثُ عَلَى وَصْفِ الْأُمِّ وَمَعْنَى السِّرَايَةِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْحَادِثِ بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ لَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَلَا دَيْنَ عَلَى الْأُمِّ فَلَمَّا حَدَثَ حَدَثَ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى، وَكَذَلِكَ الْأَرْشُ فِي حُكْمِ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مُنْفَصِلٌ مِنْ الْأَصْلِ وَالْأَرْشُ بَدَلُ جُزْءٍ مُنْفَصِلٍ مِنْ الْأَصْلِ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ وَأَمَّا تَعَلُّقُهُ بِغَيْرِهِمَا فَلَيْسَ بِحُكْمِ السِّرَايَةِ بَلْ الشُّغْلُ بِحَاجَةِ الْعَبْدِ فَإِذَا لَمْ يَنْزِعْهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ حَتَّى لَحِقَهُ دَيْنٌ مُحِيطٌ فَقَدْ صَارَ مَشْغُولًا بِحَاجَتِهِ فَلَا يَظْهَرُ مِلْكُ الْمَوْلَى فِيهِ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَهَهُنَا فَرْقٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْلُودَ بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ يَدْخُلُ فِي الدَّيْنِ وَوَلَدُ الْجِنَايَةِ لَا يَدْخُلُ فِي الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ فِي الدَّيْنِ بِحُكْمِ السِّرَايَةِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْأُمِّ فَسَرَى ذَلِكَ إلَى الْوَلَدِ فَحَدَثَ عَلَى وَصْفِ الْأُمِّ، وَالْجِنَايَةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّعَلُّقَ بِالرَّقَبَةِ فَلَا تَحْتَمِلُ السِّرَايَةَ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا لِيَعْمَلَ بِهِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى وَلَحِقَهُ دَيْنٌ لَا يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِالْمَالِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِ الْعَبْدِ، وَذَا لَيْسَ كَسْبَهُ أَصْلًا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. وَأَمَّا رَقَبَةُ الْعَبْدِ فَهَلْ يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِهَا اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -: يَتَعَلَّقُ وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَتَعَلَّقُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا إنْ كَانَ دَيْنَ الْعَبْدِ فَالرَّقَبَةُ مِلْكُ الْمَوْلَى، وَدَيْنُ الْإِنْسَانِ لَا يُقْضَى مِنْ مَالٍ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَإِنْ كَانَ دَيْنَ الْمَوْلَى فَلَا يَتَعَيَّنُ لَهُ مَالٌ دُونَ مَالٍ كَسَائِرِ دُيُونِ الْمَوْلَى، وَإِنَّمَا يُقْضَى مِنْ الْكَسْبِ لِوُجُودِ التَّعْيِينِ فَالْإِذْنُ مِنْ الْمَوْلَى دَلَالَةُ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءُ دَيْنِ التِّجَارَةِ مِنْ كَسْبِ التِّجَارَةِ فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ دَلَالَةً، وَمِثْلُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ لَمْ يُوجَدْ فِي الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْعَبْدِ لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِ التِّجَارَةِ. (وَلَنَا) أَنْ نَقُولَ هَذَا دَيْنُ الْعَبْدِ لَكِنْ ظَهَرَ وُجُوبُهُ عِنْدَ

فصل في بيان حكم تعلق الدين بالمأذون

الْمَوْلَى، وَدَيْنُ الْعَبْدِ إذَا ظَهَرَ وُجُوبُهُ عِنْدَ الْمَوْلَى يُقْضَى مِنْ رَقَبَتِهِ الَّتِي هِيَ مَالُ الْمَوْلَى كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ أَوْ نَقُولُ هَذَا دَيْنُ الْمَوْلَى فَيُقْضَى مِنْ الْمَالِ الَّذِي عَيَّنَهُ الْمَوْلَى لِلْقَضَاءِ مِنْهُ كَالرَّهْنِ وَالْمَوْلَى بِالْإِذْنِ عَيَّنَ الرَّقَبَةَ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهَا فَيَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِ الْمَوْلَى - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ - وَإِذَا كَانَتْ الرَّقَبَةُ وَالْكَسْبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلًّا لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِهِ فَإِذَا اجْتَمَعَ الْكَسْبُ وَالرَّقَبَةُ يُبْدَأُ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَسْبِ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ مَحَلٌّ لِلتَّعَلُّقِ قَطْعًا، وَمَحَلِّيَّةُ الرَّقَبَةِ لِتَعَلُّقِ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَكَانَتْ الْبَدَلِيَّةُ بِالْكَسْبِ أَوْلَى فَإِذَا قُضِيَ الدَّيْنُ مِنْهُ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ الْكَسْبِ شَيْءٌ فَهُوَ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ كَسْبٌ فَارِغٌ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ، وَإِنْ فَضَلَ الدَّيْنُ يُسْتَوْفَى مِنْ الرَّقَبَةِ عِنْدَنَا، فَإِنْ فَضَلَ عَلَى الثَّمَنِ يُتْبَعْ الْعَبْدُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. [فَصْلٌ فِي بَيَان حُكْم تعلق الدِّين بالمأذون] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ التَّعَلُّقِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ - إنَّ لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ أَحْكَامًا مِنْهَا وِلَايَةُ طَلَبِ الْبَيْعِ لِلْغُرَمَاءِ مِنْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ مَعْنَى تَعَلُّقِ الدَّيْنِ مِنْهُ لَيْسَ إلَّا تَعَيُّنُهُ لِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَعَيُّنُ مَالِيَّتِهِ لِلِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ مِنْ جِنْسِهِ يَكُونُ، وَذَلِكَ مَالِيَّتُهُ لَا عَيْنُهُ وَذَلِكَ بَيْعُهُ وَأَخْذُ ثَمَنِهِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى دُيُونَهُمْ فَتَخْلُصُ لَهُ الرَّقَبَةُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ، وَقَدْ قَضَى حَقَّهُمْ فَبَطَلَ التَّعَلُّقُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا بِيعَ الْعَبْدُ كَانَ ثَمَنُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الرَّقَبَةِ فَيَكُونُ لَهُمْ عَلَى قَدْرِ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِالْمُبْدَلِ وَهُوَ الرَّقَبَةُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِالْحِصَصِ فَكَذَا الثَّمَنُ كَثَمَنِ التَّرِكَةِ إذَا بِيعَتْ ثُمَّ إذَا بِيعَ الْعَبْدُ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِهِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى وَإِنْ فَضَلَ الدَّيْنُ لَا يُطَالَبُ الْمَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَى الْمَوْلَى وَيَتْبَعُ الْعَبْدَ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ صَارَ مَقْضِيًّا فَبَقِيَ الْفَاضِلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُبَاعُ الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ إذَا كَانَ حَالًّا، فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا لَا يُبَاعُ إلَى حِلِّ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَتْبَعُ التَّعَلُّقَ، وَالتَّعَلُّقَ يَتْبَعُ الْوُجُوبَ، وَالْوُجُوبَ عَلَى التَّضْيِيقِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ حَلّ الْأَجَلِ فَكَذَا التَّعَلُّقُ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا فَطَلَبَ أَصْحَابُ الْحَالِّ الْبَيْعَ بَاعَهُ الْقَاضِي وَأَعْطَى أَصْحَابَ الْحَالِّ قَدْرَ حِصَّتِهِمْ وَأَمْسَكَ حِصَّةَ أَصْحَابِ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ عَلَى التَّضْيِيقِ ثَبَتَ فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْحَالِّ لَا فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْأَجَلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْغُرَمَاءُ بَعْضُهُمْ حُضُورًا وَبَعْضُهُمْ غُيَّبًا فَطَلَبَ الْحُضُورُ الْبَيْعَ مِنْ الْقَاضِي بَاعَهُ الْقَاضِي وَأَعْطَى الْحُضُورَ حِصَّتَهُمْ، وَوَقَفَ حِصَّةَ الْغُيَّبِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الِانْفِرَادِ دَيْنًا مُتَعَلِّقًا بِالرَّقَبَةِ، وَذَا يُوجِبُ التَّحْوِيجَ إلَى الْبَيْعِ فَغَيْبَةُ الْبَعْضِ لَا تَكُونُ مَانِعَةً، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بَعْضُ الدُّيُونِ ظَاهِرًا، وَالْبَعْضُ لَا يَظْهَرُ لَكِنْ ظَهَرَ سَبَبُ وُجُوبِهِ بِأَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَحَفَرَ بِئْرًا عَلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَطَلَبَ الْغَرِيمُ الْبَيْعَ بَاعَهُ الْقَاضِي فِي دَيْنِهِ وَأَعْطَاهُ دَيْنَهُ. وَإِنْ كَانَ لَا يُفْضِلُ الثَّمَنُ عَنْ دَيْنِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ ظُهُورَ دَيْنِهِ أَوْجَبَ التَّعَلُّقَ بِرَقَبَتِهِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ بِمَا لَمْ يَظْهَرْ ثُمَّ إذَا وَقَعَتْ فِيهَا بَهِيمَةٌ فَعَطِبَتْ رَجَعَ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ عَلَى الْغَرِيمِ فَيَتَضَارَبَانِ، فَيَضْرِبُ صَاحِبُ الْبَهِيمَةِ بِقِيمَتِهَا وَيَضْرِبُ الْغَرِيمُ بِدَيْنِهِ فَيَكُونُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُسْتَنِدٌ إلَى وَقْتِ وُجُودِ سَبَبِهِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ شَرِيكَهُ فِي الرَّقَبَةِ فِي تَعَلُّقِ الدَّيْنِ فَيَتَشَارَكَانِ فِي بَدَلِهَا بِالْحِصَصِ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَأَقَرَّ قَبْلَ أَنْ يُبَاعَ لِغَائِبٍ يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى وَالْغُرَمَاءُ أَوْ كَذَّبُوهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا، وَإِذَا بِيعَ وَقَفَ الْقَاضِي مِنْ ثَمَنِهِ حِصَّةَ الْغَائِبِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِغَائِبٍ بَعْدَ مَا بِيعَ فِي الدَّيْنِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ. وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ إذَا بِيعَ فَقَدْ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، وَإِقْرَارُ الْمَحْجُورِ بِالدَّيْنِ لَا يَصِحُّ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى، فَإِنْ قَدِمَ الْغَائِبُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى الدَّيْنِ أَتْبَعَ الْغُرَمَاءَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ظَهَرَ إنْ كَانَ شَرِيكَهُمْ فِي الرَّقَبَةِ فِي تَعَلُّقِ الدَّيْنِ فَشَارَكَهُمْ فِي بَدَلِهَا وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الدَّيْنِ، وَمَحَلُّ تَعَلُّقِهِ الرَّقَبَةُ لَا غَيْرُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى غَيْرِهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَوْلَى بَيْعُ الْعَبْدِ الَّذِي عَلَيْهِ دَيْنٌ إلَّا بِإِذْنِ الْغُرَمَاءِ أَوْ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ بِإِذْنِ الْقَاضِي بِالْبَيْعِ لِلْغُرَمَاءِ، وَلَوْ بَاعَ لَا يَنْفُذُ إلَّا إذَا وَصَلَ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ وَفِيهِ وَفَاءٌ بِدُيُونِهِمْ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِرَقَبَتِهِ وَفِي الْبَيْعِ إبْطَالُ هَذَا الْحَقِّ عَلَيْهِمْ فَلَا يَنْفُذُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ كَبَيْعِ الْمَرْهُونِ إلَّا أَنْ يَصِلَ ثَمَنُهُ إلَيْهِمْ وَفِيهِ وَفَاءٌ بِدُيُونِهِمْ فَيَنْفُذُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّهُمْ فِي مَعْنَى الرَّقَبَةِ لَا فِي صُورَتِهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ قَضَى الْمَوْلَى الدَّيْنَ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ، وَدَلَّ إطْلَاقُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ حَالَ قِيَامِ الْكَسْبِ يَتَعَلَّقُ بِالْكَسْبِ وَالرَّقَبَةِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ جَوَازُ بَيْعِ الْمَوْلَى مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ عَدَمِ الْكَسْبِ، وَلَوْ كَانَ قِيَامُ الْكَسْبِ مَانِعًا مِنْ التَّعَلُّقِ بِالرَّقَبَةِ

لَجَازَ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ إذْ ذَاكَ تَكُونُ خَالِصَ مِلْكِ الْمَوْلَى، وَتَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ نَافِذٌ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَالِ عَدَمِ الْكَسْبِ حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ أَذِنَ لَهُ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ بِالْبَيْعِ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْبَاقُونَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ بِالرَّقَبَةِ فَكَانَ الْبَيْعُ تَصَرُّفًا فِي حَقِّ الْكُلِّ فَلَا يَنْفُذُ مِنْ غَيْرِ إجَازَتِهِمْ ثُمَّ فَرْقٌ بَيْنَ بَيْعِ الْمَوْلَى وَبَيْنَ بَيْعِ الْوَصِيِّ التَّرِكَةَ فِي الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْغُرَمَاءِ أَنَّهُ يَنْفُذُ هُنَاكَ، وَهُنَا لَا يَنْفُذُ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ لِلْغُرَمَاءِ حَقَّ اسْتِسْعَاءِ الْمَأْذُونِ، وَهَذَا الْحَقُّ يَبْطُلُ بِالْبَيْعِ فَكَانَ امْتِنَاعُ النَّفَاذِ مُفِيدًا، وَلَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ وِلَايَةُ اسْتِسْعَاءِ التَّرِكَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْخِيرِ قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ فَكَانَ عَدَمُ النَّفَاذِ لِلْوُصُولِ إلَى الثَّمَنِ خَاصَّةً، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِبَيْعِ الْوَصِيِّ فَلَمْ يَكُنْ التَّوَقُّفُ مُفِيدًا فَلَا يَتَوَقَّفُ هَذَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا، فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا نَفَذَ الْبَيْعُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ النَّفَاذِ هُوَ التَّعَلُّقُ عَنْ التَّضْيِيقِ وَلَمْ يُوجَدْ ثُمَّ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ، فَإِنْ كَانَتْ دُيُونُهُمْ مِثْلَ الثَّمَنِ أَوْ أَقَلَّ أَخَذُوا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ دُيُونُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ ضَمَّنُوا الْمَوْلَى إلَى تَمَامِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ بَيْعُ الْمَوْلَى لِوُجُودِ أَصْلِ التَّعْلِيقِ هَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَ هَالِكًا، فَالْغُرَمَاءُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمَوْلَى. وَإِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمُشْتَرِيَ قِيمَةَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَاصِبٌ لِحَقِّهِمْ فَكَانَ لَهُمْ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءُوا، فَإِنْ اخْتَارُوا تَضْمِينَ الْمَوْلَى نَفَذَ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ خَلَصَ مِلْكُهُ فِيهِ عِنْدَ الْبَيْعِ بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ فَكَأَنَّهُمْ بَاعُوهُ مِنْهُ بِثَمَنٍ هُوَ قَدْرُ قِيمَتِهِ وَاشْتَرَاهُ مِنْهُمْ بِهِ حَتَّى لَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا بَعْدَ هَلَاكِهِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ عَلَى الْمَوْلَى، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ اخْتَارُوا تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي بَطَلَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَمْلِيكُهُ مِنْهُ بِالضَّمَانِ فَبَطَلَ وَاسْتَرَدَّ الثَّمَنَ، وَلَوْ لَمْ يَهْلِكْ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَلَكِنْ غَابَ الْمَوْلَى، فَإِنْ وَجَدُوهُ ضَمَّنُوهُ الْقِيمَةَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدُوهُ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا وَمَا إذَا كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا سَوَاءٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِالرَّقَبَةِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ، فَأَمَّا حُكْمُ تَعَلُّقِهِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ بِأَنْ اجْتَمَعَ الدَّيْنُ وَالْجِنَايَةُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - إذَا اجْتَمَعَ الدَّيْنُ وَالْجِنَايَةُ بِأَنْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ رَجُلًا خَطَأً - وَعَلَيْهِ دَيْنٌ - لَا يَبْطُلُ الدَّيْنُ بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْجِنَايَةِ فِي الْأَصْلِ وُجُوبُ الدَّفْعِ وَلَهُ سَبِيلُ الْخُرُوجِ عَنْهُ بِالْفِدَاءِ أَوْ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَهَذَا لَا يُنَافِي الدَّيْنَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ مُتَعَلِّقًا رَقَبَتُهُ بِالدَّيْنِ، وَكَذَا لَا يُنَافِيهِ الْفِدَاءُ لَا شَكَّ فِيهِ، فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ حَضَرَ أَصْحَابُ الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ مَعًا وَإِمَّا إنْ حَضَرَ أَصْحَابُ الْجِنَايَةِ وَإِمَّا إنْ حَضَرَ أَصْحَابُ الدِّينِ، فَإِنْ حَضَرَ أَصْحَابُ الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ جَمِيعًا يُدْفَعُ الْعَبْدُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ ثُمَّ يَبِيعُهُ الْقَاضِي لِلْغُرَمَاءِ فِي دَيْنِهِمْ، فَإِنَّا إذَا دَفَعْنَاهُ بِالْجِنَايَةِ فَقَدْ رَاعَيْنَا حَقَّ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ وَرَاعَيْنَا حَقَّ الْغُرَمَاءِ بِالْبَيْعِ بِدَيْنِهِمْ وَإِذَا دَفَعْنَاهُ إلَى أَصْحَابِ الدَّيْنِ أَبْطَلْنَا حَقَّ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ لِتَعَذُّرِ الدَّفْعِ بَعْدَ الْبَيْعِ إذْ الثَّابِتُ لِلْمُشْتَرِي مِلْكٌ جَدِيدٌ خَالٍ عَنْ الْجِنَايَةِ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْجِنَايَةِ مُرَاعَاةَ الْحَقَّيْنِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى ثُمَّ فِي الدَّفْعِ إلَى أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ ثُمَّ الْبَيْعُ بِالدَّيْنِ فَائِدَةٌ وَهِيَ الِاسْتِخْلَاصُ بِالْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِي أَعْيَانِ الْأَشْيَاءِ رَغَائِبُ مَا لَيْسَ فِي إبْدَالِهَا، وَإِذَا دَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُمْ بِالدَّفْعِ فَكَانَ الدَّفْعُ مِنْهُ تَمْلِيكًا مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَمَنْ أَتَى بِفِعْلٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَمْنَعُهُ عَنْ إقَامَةِ الْوَاجِبِ فَيَتَنَاقَضُ، ثُمَّ إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِمْ فَبِيعَ لِلْغُرَمَاءِ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ دَيْنِهِمْ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ صُرِفَ إلَى أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ مِلْكًا لَهُمْ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا بِيعَ عَلَى مِلْكِهِمْ إلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الدَّيْنِ أَوْلَى بِثَمَنِهِ بِقَدْرِ دَيْنِهِمْ فَبَقِيَ الْفَاضِلُ مِنْ دَيْنِهِمْ عَلَى مِلْكِ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ جِنَايَةٌ فَبَاعَهُ الْقَاضِي لِلْغُرَمَاءِ وَفَضَلَ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْءٌ أَنَّ الْفَاضِلَ يَكُونُ لِلْمَوْلَى كَذَا هَذَا. وَلَوْ دَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى أَصْحَابِ الدَّيْنِ بِدَيْنِهِمْ إنْ كَانَ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ لَزِمَهُ الْأَرْشُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ دَفْعُ عَيْنِ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا الْفِدَاءُ لِلْخُرُوجِ عَنْهُ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالدَّفْعُ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ فَبَقِيَ دَفْعُ الْعَيْنِ وَاجِبًا، وَقَدْ تَعَدَّدَ دَفْعُ عَيْنِهِ بِالدَّفْعِ إلَى أَصْحَابِ الدَّيْنِ فَيَجِبُ دَفْعُ قِيمَتِهِ إذْ هُوَ دَفْعُ الْعَيْنِ مَعْنًى، وَإِنْ حَضَرَ أَصْحَابُ الْجِنَايَةِ أَوَّلًا فَكَذَلِكَ يُدْفَعُ الْعَبْدُ إلَيْهِمْ وَلَا

فصل في بيان ما يبطل به الإذن بعد وجوده ويصير محجورا

يَنْتَظِرُ حُضُورَ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا حُضُورًا لَكَانَ الْحُكْمُ هَكَذَا فَلَا مَعْنَى لِلِانْتِظَارِ، وَإِنْ حَضَرَ أَصْحَابُ الدَّيْنِ أَوَّلًا، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ لَا يَبِيعُهُ فِي دُيُونِهِمْ؛ لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ إبْطَالَ حَقِّ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا فَبَاعَهُ بَطَلَ حَقُّ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ حَتَّى لَوْ حَضَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَى الْقَاضِي وَلَا عَلَى الْمَوْلَى أَمَّا الْقَاضِي فَلِأَنَّهُ لَا عُهْدَةَ تَلْزَمُ الْقَاضِي فِيمَا يَفْعَلُهُ لِكَوْنِهِ أَمِينًا. وَأَمَّا الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ بَاعَهُ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَكَانَ مُضَافًا إلَى الْقَاضِي، وَلَوْ كَانَ بَاعَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي، فَإِنْ بَاعَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِالْجِنَايَةِ يَلْزَمْهُ الْأَرْشُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ يَلْزَمْهُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ الْأَرْشِ لِمَا بَيَّنَّا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ بَعْد وجوده ويصير مَحْجُورًا] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ بَعْدَ وُجُودِهِ فَنَقُولُ إنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ يَبْطُلُ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْحَجْرُ فَيَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ مَا يَصِيرُ الْعَبْدُ بِهِ مَحْجُورًا وَذَلِكَ أَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى وَبَعْضُهَا إلَى الْعَبْدِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: صَرِيحٌ وَدَلَالَةٌ وَضَرُورَةٌ، وَالصَّرِيحُ نَوْعَانِ: خَاصٌّ وَعَامٌّ أَمَّا الْعَامُّ فَهُوَ الْحَجْرُ بِاللِّسَانِ عَلَى سَبِيلِ الْإِشْهَارِ وَالْإِشَاعَةِ بِأَنْ يَحْجُرَهُ فِي أَهْلِ سُوقِهِ بِالنِّدَاءِ بِالْحَجْرِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْحَجْرِ يَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْبُطْلَانِ وَالشَّيْءُ يَبْطُلُ بِمِثْلِهِ وَبِمَا هُوَ فَوْقَهُ. وَأَمَّا الْخَاصُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْمَوْلَى وَلَا يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفَاضَةِ وَالِاشْتِهَارِ وَهَذَا النَّوْعُ لَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ الْعَامُّ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَبْطُلُ بِمَا هُوَ دُونَهُ، وَلِأَنَّ الْحَجْرَ إذَا لَمْ يَشْتَهِرْ فَالنَّاسُ يُعَامِلُونَهُ بِنَاءً عَلَى الْإِذْنِ الْعَامِّ ثُمَّ يَظْهَرُ الْحَجْرُ فَيَلْحَقُهُمْ ضَرَرُ الْغُرُورِ وَهُوَ إتْلَافُ دُيُونِهِمْ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ. وَمَعْنَى التَّغْرِيرِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْإِذْنِ الْعَامِّ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَمْتَنِعُونَ عَنْ مُعَامَلَتِهِ فَلَا يَلْحَقُهُمْ ضَرَرُ الْغُرُورِ وَيَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ الْخَاصُّ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِمَا حَسَبَ صِحَّةِ الْإِذْنِ فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ بِمِثْلِهِ وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ عِلْمُ الْعَبْدِ بِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ مَنْعٌ مِنْ تَصَرُّفٍ شَرْعِيٍّ، وَحُكْمُ الْمَنْعِ فِي الشَّرَائِعِ لَا يَلْزَمُ الْمَمْنُوعَ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَوْ أَخْبَرَهُ بِالْحَجْرِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ صَارَ مَحْجُورًا بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ عَدْلٌ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا أَوْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ وَصَدَّقَهُ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ وَالذُّكُورَةِ وَالْحُرِّيَّةِ إذَا صَدَّقَهُ فِيهِ. وَأَمَّا إذَا كَذَّبَهُ فَلَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِنْ ظَهَرَ صِدْقُ الْمُخْبِرِ، وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ مَحْجُورًا صَدَّقَهُ أَوْ كَذَّبَهُ إذَا ظَهَرَ صِدْقُ الْمُخْبِرِ، وَلَوْ كَانَ الْمُخْبِرُ رَسُولًا يَصِيرُ مَحْجُورًا بِالْإِجْمَاعِ صَدَّقَهُ أَوْ كَذَّبَهُ، وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ عَبْدًا فَأَذِنَ لَهُ بِالتِّجَارَةِ فَحَجَرَ الْمَوْلَى عَلَى أَحَدِهِمَا، فَإِنْ حَجَرَ عَلَى الْأَسْفَلِ لَمْ يَصِحَّ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْأَعْلَى دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ مِنْ جِهَةِ الْأَعْلَى لَا مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى، وَإِنْ حَجَرَ عَلَى الْأَعْلَى يُنْظَرْ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَصِيرُ الْأَسْفَلُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُمَا عَبْدَانِ مَمْلُوكَانِ لِلْمَوْلَى فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَذِنَ لَهُمَا ثُمَّ حَجَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَنْحَجِرُ أَحَدُهُمَا بِحَجْرِ الْآخَرِ كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْأَعْلَى دَيْنٌ يَصِيرُ مَحْجُورًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُ. (وَوَجْهُ) الْبِنَاءِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكْ عَبْدَهُ، وَقَدْ اسْتَفَادَ الْإِذْنَ مِنْ جِهَةِ الْأَعْلَى لَا مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى صَارَ حَجْرُ الْأَعْلَى كَمَوْتِهِ، وَلَوْ مَاتَ لَصَارَ الثَّانِي مَحْجُورًا كَذَا هَذَا، وَلَمَّا مَلَكَ عِنْدَهُمَا صَارَ الْجَوَابُ فِي هَذَا وَفِي الْأَوَّلِ سَوَاءٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا الْبَيْعُ وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ الْمَوْلَى وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ وَحَدَثَ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ مِلْكٌ جَدِيدٌ فَيَزُولُ إذْنُ الْبَائِعِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ وَلَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ مِنْ الْمُشْتَرِي فَيَصِيرُ مَحْجُورًا وَمِنْهَا الِاسْتِيلَادُ بِأَنْ كَانَ الْمَأْذُونُ جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا الْمَوْلَى اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِذْنُ؛ لِأَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى التَّصَرُّفِ بَعْدَ الِاسْتِيلَادِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التِّجَارَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْأَسْوَاقِ، وَأُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ مَمْنُوعَاتٌ عَنْ الْخُرُوجِ فِي الْعَادَاتِ فَكَانَ الِاسْتِيلَادُ حَجْرًا دَلَالَةً. وَأَمَّا التَّدْبِيرُ فَلَا يَكُونُ حَجْرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفِي الْإِذْنَ إذْ الْإِذْنُ إطْلَاقٌ وَالتَّدْبِيرُ لَا يُنَافِيهِ، وَمِنْهَا لُحُوقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ مَعَ اللُّحُوقِ تُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ وَذَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْإِذْنِ فَكَانَ حَجْرًا دَلَالَةً، فَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ

فصل في حكم تصرف المحجور

أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ تَصَرُّفُ الْمَأْذُونِ بَعْدَ الرِّدَّةِ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا يَنْفُذُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَأَمَّا الضَّرُورَةُ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا: مِنْهَا مَوْتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ مُبْطِلٌ لِلْمِلْكِ وَبُطْلَانُ الْمِلْكِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْإِذْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَمِنْهَا جُنُونُهُ جُنُونًا مُطْبِقًا؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْإِذْنِ شَرْطُ بَقَاءِ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ ثُمَّ ابْتِدَاءُ الْإِذْنِ لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْأَهْلِ فَلَا يَبْقَى أَيْضًا وَالْجُنُونُ الْمُطْبِقُ مُبْطِلٌ لِلْأَهْلِيَّةِ فَصَارَ مَحْجُورًا. فَإِنْ أَفَاقَ يُعَدُّ مَأْذُونًا؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْإِذْنِ لِبُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ مَعَ احْتِمَالِ الْعَوْدِ فَإِذَا أَفَاقَ عَادَتْ الْأَهْلِيَّةُ فَعَادَ مَأْذُونًا، وَصَارَ كَالْمُوَكَّلِ إذَا أَفَاقَ بَعْدَ جُنُونِهِ أَنَّهُ تَعُودُ الْوَكَالَةُ كَذَا هَذَا. وَأَمَّا الْإِغْمَاءُ فَلَا يُوجِبُ الْحَجْرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُ الْأَهْلِيَّةَ لِكَوْنِهِ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ سَاعَةً فَسَاعَةً عَادَةً، وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْعَبْدِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا: مِنْهَا إبَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِبَاقِ تَنْقَطِعُ مَنَافِعُ تَصَرُّفِهِ عَنْ الْمَوْلَى فَلَا يَرْضَى بِهِ الْمَوْلَى وَهَذَا يُنَافِي الْإِذْنَ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَأْذُونِ بِرِضَا الْمَوْلَى، وَمِنْهَا جُنُونُهُ جُنُونًا مُطْبِقًا؛ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ أَهْلِيَّةَ التِّجَارَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ إلَّا عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ لِزَوَالِ مَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعَقْلُ فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْإِذْنِ فَائِدَةٌ فَيَبْطُلُ، وَلَوْ أَفَاقَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَعُودُ مَأْذُونًا بِخِلَافِ الْمُوَكَّلِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَمَّا الْجُنُونُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُطْبِقٍ فَلَا يُوجِبُ الْحَجْرَ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُطْبَقِ مِنْهُ لَيْسَ بِمُبْطِلٍ لِلْأَهْلِيَّةِ لِكَوْنِهِ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْإِغْمَاءِ وَمِنْهَا رِدَّتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا تُوجِبُ الْحَجْرَ بِنَاءً عَلَى وُقُوفِ تَصَرُّفَاتِهِ عِنْدَهُ وَنُفُوذِهَا عِنْدَهُمَا، وَمِنْهَا لُحُوقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا؛ لِأَنَّ اللُّحُوقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ فَكَانَ مُبْطِلًا لِلْأَهْلِيَّةِ فَيَصِيرُ مَحْجُورًا لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ، وَعِنْدَهُمَا مِنْ وَقْتِ اللُّحُوقِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي حُكْمُ تَصْرِف الْمَحْجُور] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْحَجْرِ فَهُوَ انْحِجَارُ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى عَنْ كُلِّ تَصَرُّفٍ كَانَ يَمْلِكُهُ بِسَبَبِ الْإِذْنِ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مَالٌ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا يَمْلِكُ التِّجَارَةَ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهَا فِي حَقِّ الْمَوْلَى لَكِنْ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ لِصُدُورِهِ مِنْ الْأَهْلِ لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِلْحَالِ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَإِذَا عَتَقَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيَظْهَرُ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ يَنْفُذُ إقْرَارُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَنْفُذُ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارُ الْمَحْجُورِ فَكَيْفَ يَنْفُذُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ غَيْرُ مَحْجُورٍ فِيمَا فِي يَدِهِ وَلَمْ يَصِحَّ الْحَجْرُ فِي حَقِّ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَتَبَادَرَ الْمَوَالِي إلَى حَجْرِ عَبِيدِهِمْ الْمَأْذُونِينَ فِي التِّجَارَةِ إذَا عَلِمُوا أَنَّ عَلَيْهِمْ دَيْنًا لِتَسْلَمَ لَهُمْ أَكْسَابُهُمْ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ. وَقَدْ لَا يَكُونُ لِلْغُرَمَاءِ بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْغُرَمَاءُ لِتَعَلُّقِ دُيُونِهِمْ بِذِمَّةِ الْعَبْدِ الْمُفْلِسِ فَكَانَ إقْرَارُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ فَأَشْبَهَ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مَالٌ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ مِنْ الْمَوْلَى لِلْوُصُولِ إلَى الْكَسْبِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ كَسْبٌ فَلَا يَحْجُرُ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، وَلَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْمُعَايَنَةِ وَفِي يَدِهِ كَسْبٌ فَحَجَرَهُ الْمَوْلَى لَا سَبِيلَ لِلْمَوْلَى عَلَى الْكَسْبِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ وَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى أَوْ كَذَّبَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِي نَفْسِهِ فِي حَقِّ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَاسْتَوَى فِيهِ تَصْدِيقُهُ وَتَكْذِيبُهُ وَلَا يَحْتَاجُ فِي إقَامَتِهَا إلَى حُضُورِ الْمَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ، وَفِيمَا إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ قَامَ عَلَيْهِ اخْتِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا قَبْلُ وَالْمَحْجُورُ فِي الْجِنَايَةِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَالْمَأْذُونُ سَوَاءٌ، وَمَوْضِعُ مَعْرِفَةِ حُكْمِ جِنَايَتِهِمَا كِتَابُ الدِّيَاتِ وَسَنَذْكُرُهُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [كِتَابُ الْإِقْرَارِ] [رُكْن الْإِقْرَار] (كِتَابُ الْإِقْرَارِ) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ رُكْنِ الْإِقْرَارِ وَفِي بَيَانِ الشَّرَائِطِ الَّتِي يَصِيرُ الرُّكْنُ بِهَا إقْرَارًا شَرْعًا وَفِي بَيَانِ مَا يُصَدَّقُ الْمُقِرُّ فِيمَا أَلْحَقَ بِإِقْرَارِهِ مِنْ الْقَرَائِنِ مَا لَا يَكُونُ رُجُوعًا حَقِيقَةً وَمَا لَا يُصَدَّقُ فِيهِ مِمَّا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْهُ وَفِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِقْرَارُ بَعْدَ وُجُودِهِ. أَمَّا رُكْنُ الْإِقْرَارِ فَنَوْعَانِ: صَرِيحٌ وَدَلَالَةٌ، فَالصَّرِيحُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَيَّ كَلِمَةُ إيجَابٍ لُغَةً وَشَرْعًا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] وَكَذَا إذَا قَالَ

لِرَجُلٍ لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ الرَّجُلُ نَعَمْ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ نَعَمْ خَرَجَتْ جَوَابًا لِكَلَامِهِ، وَجَوَابُ الْكَلَامِ إعَادَةٌ لَهُ لُغَةً كَأَنَّهُ قَالَ: لَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ فِي ذِمَّتِي أَلْفُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ هُوَ الدَّيْنُ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ قِبَلِي أَلْفُ دِرْهَمٍ، ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إقْرَارٌ بِأَمَانَةٍ فِي يَدِهِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْقَبَالَةَ هِيَ الْكَفَالَةُ قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَزَّ مِنْ قَائِلٍ {وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا} [الإسراء: 92] أَيْ كَفِيلًا وَالْكَفَالَةُ هِيَ الضَّمَانُ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37] عَلَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ أَيْ ضَمِنَ الْقِيَامَ بِأَمْرِهَا وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْقَبَالَةَ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الضَّمَانِ وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْأَمَانَةِ فَإِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ مَنْ قَالَ: لَا حَقَّ لِي عَلَى فُلَانٍ يَبْرَأُ عَنْ الدَّيْنِ، وَمَنْ قَالَ: لَا حَقَّ لِي عِنْدَ فُلَانٍ أَوْ مَعَهُ يَبْرَأُ عَنْ الْأَمَانَةِ. وَلَوْ قَالَ: لَا حَقَّ لِي قِبَلَهُ يَبْرَأُ عَنْ الدَّيْنِ وَالْأَمَانَةِ جَمِيعًا فَكَانَتْ الْقَبَالَةُ مُحْتَمِلَةً لِلضَّمَانِ وَالْأَمَانَةِ، وَالضَّمَانُ لَمْ يُعْرَفْ وُجُوبُهُ فَلَا يَجِبُ بِالِاحْتِمَالِ وَلَوْ قَالَ لَهُ: فِي دَرَاهِمِي هَذِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ يَكُونُ إقْرَارًا بِالشَّرِكَةِ وَلَوْ قَالَ لَهُ: فِي مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ، ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ هَذَا إقْرَارٌ لَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ مَضْمُونٌ أَوْ أَمَانَةٌ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ الْجَصَّاصُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهُ يَكُونُ إقْرَارًا بِالشَّرِكَةِ لَهُ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَالَهُ ظَرْفًا لِلْمُقَرِّ بِهِ وَهُوَ الْأَلْفُ فَيَقْتَضِي الْخَلْطَ وَهُوَ مَعْنَى الشَّرِكَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ مَالُهُ مَحْصُورًا يَكُونُ إقْرَارًا بِالشَّرِكَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْصُورًا يَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ فَظَاهِرُ إطْلَاقِ الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ كَيْفَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ الظَّرْفِ فِي مِثْلِ هَذَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْوُجُوبِ؛ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فِي الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ وَفِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» وَلَوْ قَالَ: لَهُ فِي مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بَلْ يَكُونُ هِبَةً لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّامَ الْمُضَافَ إلَى أَهْلِ الْمِلْكِ لِلتَّمْلِيكِ، وَالتَّمْلِيكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ هِبَةٌ وَإِذَا كَانَ هِبَةً فَلَا يَمْلِكُهَا إلَّا بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ فِي مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا فَهُوَ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ الْأَلْفَ الَّتِي لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا لَا تَكُونُ دَيْنًا، إذْ لَوْ كَانَتْ هِبَةً لَكَانَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ وَلَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهُوَ وَدِيعَةٌ؛ لِأَنَّ عِنْدِي لَا تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ بَلْ هِيَ كَلِمَةُ حَضْرَةٍ وَقُرْبٍ وَلَا اخْتِصَاصَ لِهَذَا الْمَعْنَى بِالْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يُثْبِتُ الْوُجُوبُ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ مَعِي أَوْ فِي مَنْزِلِي أَوْ فِي بَيْتِي أَوْ صُنْدُوقِي أَلْفُ دِرْهَمٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ وَدِيعَةٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَا تَدُلُّ إلَّا عَلَى قِيَامِ الْيَدِ عَلَى الْمَذْكُورِ، وَذَا لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فِي الذِّمَّةِ لَا مَحَالَةَ فَلَمْ يَكُنْ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ فَكَانَتْ وَدِيعَةً؛ لِأَنَّهَا فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْوَدَائِعِ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ تُصْرَفُ إلَيْهَا وَلَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ عَارِيَّةً، فَهُوَ قَرْضٌ؛ لِأَنَّ عِنْدِي تُسْتَعْمَلُ فِي الْأَمَانَاتِ وَقَدْ فَسَّرَ بِالْعَارِيَّةِ، وَعَارِيَّةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ تَكُونُ قَرْضًا إذْ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهَا، وَإِعَارَةُ مَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهِ يَكُونُ قَرْضًا فِي الْمُتَعَارَفِ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ لِتَعَذُّرِ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِدُونِ الِاسْتِهْلَاكِ، فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِإِعَارَتِهَا إقْرَارًا بِالْقَرْضِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ لَهُ رَجُلٌ: لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ، فَيَقُولُ: قَدْ قَضَيْتُهَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ اسْمٌ لِتَسْلِيمِ مِثْلِ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ فَيَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ الْوُجُوبِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْقَضَاءِ إقْرَارًا بِالْوُجُوبِ ثُمَّ يَدَّعِي الْخُرُوجَ عَنْهُ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهُ رَجُلٌ: لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ: اتَّزِنْهَا لِأَنَّهُ أَضَافَ الِاتِّزَانَ إلَى الْأَلْفِ الْمُدَّعَاةِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَأْمَرُ الْمُدَّعِي بِاتِّزَانِ الْمُدَّعَى إلَّا بَعْدَ كَوْنِهِ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِالِاتِّزَانِ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ دَلَالَةً. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ انْتَقِدْهَا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ قَالَ: أَتَّزِنُ أَوْ أَنْتَقِدُ لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمُدَّعَى فَيَحْتَمِلُ الْأَمْرُ بِاتِّزَانِ شَيْءٍ آخَرَ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالِاحْتِمَالِ وَكَذَا إذَا قَالَ: أَجِّلْنِي بِهَا؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ مَعَ قِيَامِ أَصْلِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ وَلَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: حَقًّا، يَكُونُ إقْرَارًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَقَّقْتَ فِيمَا قُلْتَ لِأَنَّ انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إظْهَارِ صَدْرِهِ وَهُوَ الْفِعْلُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: قُلْ حَقًّا أَوْ الْزَمْ حَقًّا، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: الْحَقَّ؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيفُ الْمَصْدَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ حَقًّا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: صِدْقًا، أَوْ الصِّدْقَ، أَوْ يَقِينًا، أَوْ الْيَقِينَ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ قَالَ: بِرًّا، أَوْ الْبِرَّ لَا يَكُونُ إقْرَارًا؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْبِرِّ مُشْتَرَكٌ، تُذْكَرُ عَلَى إرَادَةِ الصِّدْقِ وَتُذْكَرُ عَلَى إرَادَةِ التَّقْوَى وَتُذْكَرُ عَلَى إرَادَةِ الْخَيْرِ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالِاحْتِمَالِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: صَلَاحًا أَوْ

القرينة المغيرة في ركن الإقرار

الصَّلَاحَ، لَا يَكُونُ إقْرَارًا لِأَنَّ لَفْظَةَ الصَّلَاحِ لَا تَكُونُ بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ، فَإِنَّهُ لَوْ صَرَّحَ وَقَالَ لَهُ: صَلَحْتَ، لَا يَكُونُ تَصْدِيقًا فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَمْرِ بِالصَّلَاحِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ الْكَذِبِ هَذَا إذَا ذَكَرَ لَفْظَةً مُفْرَدَةً مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْخَمْسَةِ فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ لَفْظَتَيْنِ مُتَجَانِسَتَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَحُكْمُهُ يُعْرَفُ فِي إقْرَارِ الْجَامِعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [القرينة المغيرة فِي رُكْن الْإِقْرَار] ثُمَّ رُكْنُ الْإِقْرَارِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِقَرِينَةٍ فَالْمُطْلَقُ هُوَ قَوْلُهُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ خَالِيًا عَنْ الْقَرَائِنِ (وَأَمَّا) الْمُلْحَقُ بِالْقَرِينَةِ فَبَيَانُهُ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلِ بَيَانِ مَا يُصَدَّقُ لِلْمُقِرِّ فِيمَا أَلْحَقَ بِإِقْرَارِهِ مِنْ الْقَرَائِنِ مَا لَا يَكُونُ رُجُوعًا وَمَا لَا يُصَدَّقُ فِيهِ مِمَّا يَكُونُ رُجُوعًا، فَنَقُولُ: الْقَرِينَةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: قَرِينَةٌ مُغَيِّرَةٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَقَرِينَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ. أَمَّا الْقَرِينَةُ الْمُغَيِّرَةُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَالْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهِيَ الْمُسْقِطَةُ لِاسْمِ الْجُمْلَةِ فَيُعْتَبَرُ بِهَا الِاسْمُ لَكِنْ يَتَبَيَّنُ بِهَا الْمُرَادُ فَكَانَ تَغْيِيرًا صُورَةً تَبْيِينًا مَعْنًى (وَأَمَّا) الْقَرِينَةُ الْمُغَيِّرَةُ فَتَتَنَوَّعُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ يَدْخُلُ فِي أَصْلِ الْإِقْرَارِ، وَنَوْعٌ يَدْخُلُ عَلَى وَصْفِ الْمُقَرِّ بِهِ، وَنَوْعٌ يَدْخُلُ عَلَى قَدْرِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مُتَّصِلًا وَقَدْ يَكُونُ مُنْفَصِلًا (أَمَّا) الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى أَصْلِ الْإِقْرَارِ فَنَحْوُ التَّعْلِيقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَّصِلًا بِاللَّفْظِ بِأَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِكَوْنِ الْأَلْفِ فِي الذِّمَّةِ أَمْرًا لَا يُعْرَفُ فَإِنْ شَاءَ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَلَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ كَائِنٍ، وَالْكَائِنُ لَا يَحْتَمِلُ تَعْلِيقَ كَوْنِهِ بِالْمَشِيئَةِ فَإِنَّ الْفَاعِلَ إذَا قَالَ: أَنَا فَاعِلٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، يَسْتَحِقُّ؛ وَلِهَذَا أَبْطَلْنَا الْقَوْلَ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْأَيْمَانِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَكَذَا إذَا عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ فُلَانٍ لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ أَقَرَّ بِشَرْطِ الْخِيَارِ بَطَلَ الشَّرْطُ وَصَحَّ الْإِقْرَارُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ، وَشَرْطُ الْخِيَارِ فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ، وَالْإِقْرَارُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ (وَأَمَّا) الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى وَصْفِ الْمُقَرِّ بِهِ فَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِاللَّفْظِ بِأَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً، يَصِحُّ وَيَكُونُ إقْرَارًا الْوَدِيعَةِ وَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْهُ بِأَنْ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ: عَنَيْتُ بِهِ الْوَدِيعَةَ لَا يَصِحُّ وَيَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ بَيَانَ الْمُغَيِّرِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِشَرْطِ الْوَصْلِ كَالِاسْتِثْنَاءِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إخْبَارٌ عَنْ وُجُوبِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَكَتَ عَلَيْهِ لَكَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ قَرَنَ بِهِ قَوْلَهُ وَدِيعَةً، وَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْحِفْظِ، فَقَدْ غَيَّرَ حُكْمَ الظَّاهِرِ مِنْ وُجُوبِ الْعَيْنِ إلَى وُجُوبِ الْحِفْظِ فَكَانَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَلَا يَصِحُّ إلَّا مَوْصُولًا كَالِاسْتِثْنَاءِ. وَإِنَّمَا يَصِحُّ مَوْصُولًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ يَحْتَمِلُ وُجُوبَ الْحِفْظِ أَيْ عَلَيَّ حِفْظُ أَلْفٍ دِرْهَم، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ فَيَصِحُّ بِشَرْطِ الْوَصْلِ وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً قَرْضًا أَوْ مُضَارَبَةً قَرْضًا أَوْ بِضَاعَةً قَرْضًا أَوْ قَالَ دَيْنًا مَكَانَ قَوْلِهِ قَرْضًا فَهُوَ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فِي مَعْنَاهُمَا مُمْكِنٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَمَانَةً فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ يَصِيرُ مَضْمُونًا فِي الِانْتِهَاءِ إذْ الضَّمَانُ قَدْ يَطْرَأُ عَلَى الْأَمَانَةِ كَالْوَدِيعَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ وَنَحْوِهَا، سَوَاءٌ وَصَلَ أَوْ فَصَلَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْإِقْرَارِ بِالضَّمَانِ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ. [فَصَلِّ فِي القرينة الداخلة عَلَى قَدْرَ الْمُقِرّ بِهِ فِي رُكْن الْإِقْرَار] (وَأَمَّا) الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى قَدْرِ الْمُقَرِّ بِهِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا الِاسْتِثْنَاءُ وَالثَّانِي الِاسْتِدْرَاكُ. أَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْأَصْلِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعَانِ مُتَّصِلٌ وَمُنْفَصِلٌ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: اسْتِثْنَاءُ الْقَلِيلِ مِنْ الْكَثِيرِ وَاسْتِثْنَاءُ الْكَثِيرِ مِنْ الْقَلِيلِ وَاسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ أَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْقَلِيلِ مِنْ الْكَثِيرِ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ وَيَلْزَمُهُ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْحَقِيقَةِ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا كَأَنَّهُ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ إلَّا أَنَّ لِلسَّبْعَةِ اسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا سَبْعَةٌ، وَالْآخَرُ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً؛ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَبِثَ فِيهِمْ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَامًا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ سِوَى ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ سِوَى مِنْ أَلْفَاظِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَكَذَا إذَا قَالَ: غَيْرَ ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّ غَيْرَ بِالنَّصْبِ لِلِاسْتِثْنَاءِ، فَإِنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ غَيْرَ دَانِقٍ، يَلْزَمُهُ خَمْسَةُ دَوَانِقَ وَلَوْ قَالَ: غَيْرُ دَانِقٍ بِالرَّفْعِ يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ تَامٌّ (وَأَمَّا) اسْتِثْنَاءُ الْكَثِيرِ مِنْ الْقَلِيلِ بِأَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ إلَّا عَشَرَةً فَجَائِزٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ

إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ وَعَلَيْهِ الْعَشَرَةُ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثِّنْيَا، وَهَذَا الْمَعْنَى كَمَا يُوجَدُ فِي اسْتِثْنَاءِ الْقَلِيلِ مِنْ الْكَثِيرِ يُوجَدُ فِي اسْتِثْنَاءِ الْكَثِيرِ مِنْ الْقَلِيلِ إلَّا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا وَضَعُوا الِاسْتِثْنَاءَ لِحَاجَتِهِمْ إلَى اسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ، وَمِثْلُ هَذَا الْغَلَطِ مِمَّا يَنْدُرُ وُقُوعُهُ غَايَةَ النُّدْرَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِدْرَاكِهِ لَكِنْ يُحْتَمَلُ الْوُقُوعُ فِي الْجُمْلَةِ فَيَصِحُّ (وَأَمَّا) اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ بِأَنْ يَقُولَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَبَاطِلٌ وَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ إذْ هُوَ تَكَلُّمٌ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثِّنْيَا، وَلَا حَاصِلَ هَهُنَا بَعْدَ الثِّنْيَا فَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً بَلْ يَكُونُ إبْطَالًا لِلْكَلَامِ وَرُجُوعًا عَمَّا تَكَلَّمَ بِهِ وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ لَا يَصِحُّ فَبَطَلَ الرُّجُوعُ وَبَقِيَ الْإِقْرَارُ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا زَائِفًا، لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ جِيَادٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَصِحُّ وَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ جِيَادٌ لِلْمُقَرِّ لَهُ وَعَلَى الْمُقَرِّ لَهُ دِرْهَمٌ زَائِفٌ لِلْمُقِرِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُقَاصَّةَ لَا تَقِفُ عَلَى صِفَةِ الْجَوْدَةِ بَلْ تَقِفُ عَلَى الْوَزْنِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَتَحَقَّقُ الْمُقَاصَّةُ إلَّا بِهِمَا جَمِيعًا وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ لَوَجَبَ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ دِرْهَمٌ زَائِفٌ وَحِينَئِذٍ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ صِفَةِ الْجَوْدَةِ لَا تَمْنَعُ الْمُقَاصَّةَ عِنْدَهُ، وَإِذَا وَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ يَصِيرُ الْمُسْتَثْنَى دِرْهَمًا جَيِّدًا لَا زَائِفًا وَهَذَا خِلَافُ مُوجَبِ تَصَرُّفِهِ فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا كَانَ اتِّحَادُهُمَا فِي صِفَةِ الْجَوْدَةِ شَرْطًا لِتَحَقُّقِ الْمُقَاصَّةِ - وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا - لَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ وَإِذَا لَمْ تَقَعْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَدَاءَ مَا عَلَيْهِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ مُوجَبِ الِاسْتِثْنَاءِ فَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَالصَّحِيحُ أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ الْجَوْدَةَ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ سَاقِطَةُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» وَالسَّاقِطُ شَرْعًا وَالْعَدَمُ حَقِيقَةً سَوَاءٌ. وَلَوْ انْعَدَمَتْ حَقِيقَةً لَوَقَعَتْ الْمُقَاصَّةُ، كَذَا إذَا انْعَدَمَتْ شَرْعًا وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمَ سَتُّوق فَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَعَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا قِيمَةَ دِرْهَمٍ سَتُّوقٍ وَقِيَاسُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ أَصْلًا وَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُجَانَسَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ شَرْطٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ: عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا قَلِيلًا فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْأَلْفِ، وَالْقَوْلُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْخَمْسِمِائَةِ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ أَسْمَاء الْإِضَافَةِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا يُقَابِلُهُ أَكْثَرَ مِنْهُ لِيَكُونَ هُوَ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ قَلِيلًا فَإِذَا اسْتَثْنَى الْقَلِيلَ مِنْ الْأَلْفِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ الْمُسْتَثْنَى، وَهُوَ الْأَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْأَلْفِ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] إنَّ اسْتِثْنَاءَ الْقَلِيلِ مِنْ الْأَمْرِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِقِيَامِ أَكْثَرِ اللَّيْلِ، وَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ الزِّيَادَةِ عَلَى نِصْفِ الْأَلْفِ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ الْمُجْمَلُ فِي قَدْرِ الزِّيَادَةِ فَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إلَّا شَيْئًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِلَفْظَةِ شَيْءٍ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْقَلِيلِ هَذَا إذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. فَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِمَّا لَا يُثْبِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مُطْلَقًا كَالثَّوْبِ، لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ مَا أَقَرَّ بِهِ عِنْدَنَا بِأَنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا ثَوْبًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِحُّ وَيَلْزَمُهُ قَدْرُ قِيمَةِ الثَّوْبِ وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِمَّا يُثْبِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مُطْلَقًا مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ بِأَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمًا أَوْ إلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ أَوْ مِائَةُ دِينَارٍ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارٌ إلَّا مِائَةَ جَوْزَةٍ، يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَيَطْرَحُ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ قَدْرَ قِيمَةِ الْمُسْتَثْنَى وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ أَصْلًا (أَمَّا) الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَوَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ لِنَصِّ الِاسْتِثْنَاءِ حُكْمًا عَلَى حِدَةٍ كَمَا لِنَصِّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ لُغَةً، فَقَوْلُهُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا مَعْنَاهُ إلَّا دِرْهَمًا فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيَّ، فَيَصِيرُ دَلِيلُ النَّفْيِ مُعَارِضًا لِدَلِيلِ الْإِثْبَاتِ فِي قَدْرِ الْمُسْتَثْنَى، وَلِهَذَا قَالَ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعْمَلُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ فَصَارَ قَوْلُهُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا أَيْ إلَّا ثَوْبًا فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيَّ مِنْ الْأَلِفِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَيْنَ

الثَّوْبِ مِنْ الْأَلْفِ لَيْسَ عَلَيْهِ فَكَانَ الْمُرَادُ قَدْرَ قِيمَتِهِ أَيْ مِقْدَارَ قِيمَةِ الثَّوْبِ لَيْسَ عَلَيَّ مِنْ الْأَلْفِ. وَجْهُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِنَصِّ الِاسْتِثْنَاءِ إلَّا بَيَانُ أَنَّ الْقَدْرَ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي إذَا كَانَ ثَابِتًا فَكَانَ انْعِدَامُ حُكْمِ نَصِّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي الْمُسْتَثْنَى لِانْعِدَامِ تَنَاوُلِ اللَّفْظِ إيَّاهُ لَا لِلْمُعَارَضَةِ مَعَ مَا أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمُعَارَضَةِ فَاسِدٌ؛ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُقَارِنٌ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَكَانَتْ الْمُعَارَضَةُ مُنَاقِضَةً. وَالثَّانِي أَنَّ الْمُعَارَضَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِدَلِيلٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ، وَنَصُّ الِاسْتِثْنَاءِ لَيْسَ بِنَصٍّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا إلَّا أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ إلَّا كَذَا فَإِنَّهُ كَذَا، وَهَذَا تَغْيِيرٌ وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ كَانَ أَوْلَى وَالثَّالِثُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمُعَارَضَةِ يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْإِقْرَارِ، وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا يَصِحُّ كَمَا إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَلَيْسَ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَإِذَا كَانَ بَيَانًا فَمَعْنَى الْبَيَانِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا إذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إمَّا فِي الِاسْمِ أَوْ فِي احْتِمَالِ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَوْلُهُمْ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَمِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ - مَحْمُولٌ عَلَى الظَّاهِرِ إذْ هُوَ فِي الظَّاهِرِ كَذَلِكَ دُونَ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَجْهَ إحَالَتِهِ فَيَكُونُ بَيَانًا حَقِيقَةً نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا جَمْعًا بَيْنَ النَّقْلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (وَأَمَّا) الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اسْتِخْرَاجُ بَعْضِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ تَحْتَ نَصِّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْجِنْسِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى ثَوْبًا لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، عَشَرَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ مُطْلَقًا مُسَمَّاةٌ بِالدَّرَاهِمِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْمُجَانَسَةِ فِي اسْمِ الدَّرَاهِمِ أَمْكَنَ تَحْقِيقُهَا فِي الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ فِي احْتِمَالِ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَجِبُ دَيْنًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ حَالًّا بِالِاسْتِقْرَاضِ وَالِاسْتِهْلَاكِ كَمَا تَجِبُ سَلَمًا وَثَمَنًا حَالًّا كَالدَّرَاهِمِ. (فَأَمَّا) الثَّوْبُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ فِي الذِّمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ سَلَمًا أَوْ ثَمَنًا مُؤَجَّلًا (فَأَمَّا) مَا لَا يَحْتَمِلُهُ اسْتِقْرَاضًا وَاسْتِهْلَاكًا وَثَمَنًا حَالًّا غَيْرَ مُؤَجَّلِ فَأَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْمُجَانَسَةِ بَيْنَهُمَا فِي وَصْفِ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي اسْمِ الدَّرَاهِمِ فَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي تَحَقُّقِ مَعْنَاهُ وَهُوَ الْبَيَانُ مِنْ وَجْهٍ، وَلَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ الثِّيَابِ وَالدَّرَاهِمِ لَا فِي الِاسْمِ وَلَا فِي احْتِمَالِ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَانْعَدَمَ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ أَصْلًا فَهُوَ الْفَرْقُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِدَارٍ وَاسْتَثْنَى بِنَاءَهَا لِنَفْسِهِ فَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لَا يَتَنَاوَلُ الْبِنَاءَ لُغَةً بَلْ وُضِعَ دَلَالَةً عَلَى الْعَرْصَةِ فِي اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا الْبِنَاءُ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ فَلَمْ يَكُنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَتَكُونُ الدَّارُ مَعَ الْبِنَاءِ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ اسْمًا عَامًّا لَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ كَمَنْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِخَاتَمٍ كَانَ لَهُ الْحَلْقَةُ وَالْفَصُّ لَا لِأَنَّهُ اسْمٌ عَامٌّ بَلْ هُوَ اسْمٌ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْحَلْقَةِ وَالْفَصِّ وَلَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ وَكَذَا مَنْ أَقَرَّ بِسَيْفٍ لِغَيْرِهِ كَانَ لَهُ النَّصْلُ وَالْجَفْنُ وَالْحَمَائِلُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا مَنْ أَقَرَّ بِحَجْلَةٍ كَانَ لَهُ الْعِيدَانُ وَالْكِسْوَةُ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَثْنَى رُبُعَ الدَّارِ أَوْ ثُلُثَهَا أَوْ شَيْئًا مِنْهَا أَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ فَكَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَصَحَّ. وَلَوْ قَالَ بِنَاءُ هَذِهِ الدَّارِ لِي وَالْعَرْصَةُ لِفُلَانٍ صَحَّ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبِنَاءِ لَا يَتَنَاوَلُ الْعَرْصَةَ إذْ هِيَ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إذَا وَرَدَ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ، فَأَمَّا إذَا وَرَدَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الدَّاخِلَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِ إلَيْهِ فَيُصْرَفُ الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي إلَيْهِ وَيُجْعَلُ الْبَاقِي مِنْهُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ وَعَلَى هَذَا إذَا وَرَدَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَإِنْ كَثُرَ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُصْرَفَ كُلُّ اسْتِثْنَاءٍ إلَى مَا يَلِيهِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ الْمَذْكُورِ إلَيْهِ فَيُبْدَأُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَخِيرِ فَيُسْتَثْنَى الْبَاقِي مِمَّا يَلِيهِ ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى الْبَاقِي مِمَّا يَلِيهِ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى الْبَاقِي هَكَذَا إلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى الْبَاقِي مِنْهُ فَيُسْتَثْنَى ذَلِكَ مِنْ الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ فَمَا بَقِيَ مِنْهَا فَهُوَ الْقَدْرُ الْمُقَرُّ بِهِ. بَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا يَكُونُ إقْرَارًا بِثَمَانِيَةِ دَرَاهِمَ لِأَنَّا صَرْفنَا

الِاسْتِثْنَاءَ الْأَخِيرَ إلَى مَا يَلِيهِ فَبَقِيَ دِرْهَمَانِ يَسْتَثْنِيهِمَا مِنْ الْعَشَرَةِ فَيَبْقَى ثَمَانِيَةٌ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَبَرًا عَنْ الْمَلَائِكَة {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر: 58] {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59] {إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} [الحجر: 60] اسْتَثْنَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى آلَ لُوطٍ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ لَا مِنْ الْمُجْرِمِينَ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْجِنْسِ وَآلُ لُوطٍ لَمْ يَكُونُوا مُجْرِمِينَ ثُمَّ اسْتَثْنَى امْرَأَتَهُ مِنْ آلِهِ فَبَقِيَتْ فِي الْغَابِرِينَ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا يَكُونُ إقْرَارًا بِسَبْعَةٍ لِأَنَّا جَعَلْنَا الدِّرْهَمَ مُسْتَثْنًى مِمَّا يَلِيهِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ فَبَقِيَ دِرْهَمَانِ اسْتَثْنَاهُمَا مِنْ خَمْسَةٍ فَبَقِيَ ثَلَاثَةٌ اسْتَثْنَاهَا مِنْ الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ فَبَقِيَ سَبْعَةٌ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا سَبْعَةَ دَرَاهِمَ إلَّا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمًا يَكُونُ إقْرَارًا بِسِتَّةٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلِ وَهَذَا الْأَصْلُ لَا يُخْطِئُ فِي إيرَادِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَإِنْ كَثُرَ هَذَا إذَا كَانَ الْأَصْلُ مُتَّصِلًا بِالْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْهَا بِأَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ إلَّا دِرْهَمًا لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ يَصِحُّ وَبِهِ أَخَذَ بَعْضُ النَّاسِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَيَصِحُّ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا كَبَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالتَّخْصِيصِ لِلْعَامِّ عِنْدَنَا. وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ أَنَّ صِيغَةَ الِاسْتِثْنَاءِ إذَا انْفَصَلَتْ عَنْ الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ لَا تَكُونُ كَلَامَ اسْتِثْنَاءٍ لُغَةً؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ مَا تَكَلَّمَتْ بِهِ أَصْلًا، وَلَوْ اشْتَغَلَ بِهِ أَحَدٌ يُضْحَكُ عَلَيْهِ كَمَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا، ثُمَّ قَالَ: بَعْدَ شَهْرٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُعَدُّ ذَلِكَ تَعْلِيقًا بِالْمَشِيئَةِ حَتَّى لَا يَصِحَّ، كَذَا هَذَا وَالرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَكَادُ تَصِحُّ، بِخِلَافِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْعَامِّ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَهُمْ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ وَحُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ؛ لِأَنَّ تَكْرِيرَ صِيغَةِ التَّحْرِيرِ لَغْوٌ فَكَانَ فِي مَعْنَى السَّكْتَةِ وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ وَكُرُّ شَعِيرٍ إلَّا كُرَّ حِنْطَةٍ وَقَفِيزَ شَعِيرٍ، لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ كُرِّ الْحِنْطَةِ بِالِاتِّفَاقِ لِانْصِرَافِ كُرِّ الْحِنْطَةِ إلَى جِنْسِهِ فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً لِلْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ فَلَمْ يَصِحَّ، وَهَلْ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْقَفِيزِ مِنْ الشَّعِيرِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاءُ كُرِّ الْحِنْطَةِ فَقَدْ لَغَا فَكَأَنَّهُ سَكَتَ ثُمَّ اسْتَثْنَى قَفِيزَ شَعِيرٍ فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ أَصْلًا، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الِاسْتِدْرَاكُ فَهُوَ فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْقَدْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الصِّفَةِ فَإِنْ كَانَ فِي الْقَدْرِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْجِنْسِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ، فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ أَلْفَانِ فَعَلَيْهِ أَلْفَانِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ قَوْلَهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إقْرَارٌ بِأَلْفٍ وَقَوْلُهُ لَا رُجُوعَ وَقَوْلُهُ بَلْ اسْتِدْرَاكٌ، وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالِاسْتِدْرَاكُ صَحِيحٌ فَأَشْبَهَ الِاسْتِدْرَاكَ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ وَكَمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ ثِنْتَيْنِ أَنَّهُ يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ مِمَّا يَجْرِي الْغَلَطُ فِي قَدْرِهِ أَوْ وَصْفِهِ عَادَةً فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى اسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ فِيهِ فَيُقْبَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا فِيهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُقَرِّ بِهِ فَتُقْبَلُ مِنْهُ بِخِلَافِ الِاسْتِدْرَاكِ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ الْغَلَطَ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ لَا يَقَعُ عَادَةً فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى اسْتِدْرَاكِهِ. وَبِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْشَاءُ الطَّلَاقِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَالْإِنْشَاءُ لَا يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ حَتَّى لَوْ كَانَ إخْبَارًا بِأَنْ قَالَ لَهَا: كُنْتُ طَلَّقْتُكِ أَمْسِ وَاحِدَةً لَا بَلْ اثْنَتَيْنِ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا إلَّا طَلَاقَانِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ لَا بَلْ كُرَّانِ وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ أَلْفَانِ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي النُّقْصَانِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِدْرَاكُهُ مَعَ مَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْغَلَطِ نَادِرٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِدْرَاكِهِ لِالْتِحَاقِهِ بِالْعَدَمِ. (وَأَمَّا) فِي خِلَافِ الْجِنْسِ كَمَا لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ مِائَةُ دِينَارٍ أَوْ لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ لَا بَلْ كُرُّ شَعِيرٍ لَزِمَهُ الْكُلُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْغَلَطِ لَا يَقَعُ إلَّا نَادِرًا، وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ هَذَا إذَا وَقَعَ الِاسْتِدْرَاكُ فِي قَدْرِ الْمُقَرِّ بِهِ (فَأَمَّا) إذَا وَقَعَ فِي صِفَةِ الْمُقَرِّ بِهِ بِأَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِيضٌ لَا بَلْ سُودٌ يُنْظَرُ فِيهِ إلَى أَرْفَعِ الصِّفَتَيْنِ، وَعَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي زِيَادَةِ الصِّفَةِ مُتَّهَمٌ فِي النُّقْصَانِ فَكَانَ مُسْتَدْرِكًا فِي الْأَوَّلِ رَاجِعًا فِي الثَّانِي فَيَصِحُّ اسْتِدْرَاكُهُ وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ كَمَا فِي الْأَلْفِ

وَالْأَلْفَيْنِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا رَجَعَ الِاسْتِدْرَاكُ إلَى الْمُقَرّ بِهِ فَأَمَّا إذَا رَجَعَ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ بِأَنْ قَالَ: هَذِهِ الْأَلْفُ لِفُلَانٍ لَا بَلْ لِفُلَانٍ وَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْفَعُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِهَا لِلْأَوَّلِ صَحَّ إقْرَارُهُ لَهُ فَصَارَ وَاجِبَ الدَّفْعِ إلَيْهِ، فَقَوْلُهُ: لَا بَلْ لِفُلَانٍ - رُجُوعٌ عَنْ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ فَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ وَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهَا لِلثَّانِي فِي حَقِّ الثَّانِي ثُمَّ إنْ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يَضْمَنُ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِهَا لِلثَّانِي فِي حَقِّ الثَّانِي صَحِيحٌ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ، وَإِذَا صَحَّ صَارَ وَاجِبَ الدَّفْعِ إلَيْهِ فَإِذَا دَفَعَهَا إلَى الْأَوَّلِ فَقَدْ أَتْلَفَهَا عَلَيْهِ فَيَضْمَنُ وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَضْمَنَ بِالدَّفْعِ. (وَإِمَّا) أَنْ يَضْمَنَ بِالْإِقْرَارِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ فِي الدَّفْعِ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي فَيَكُونُ كَالْمُكْرَهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لِلْغَيْرِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَلَوْ قَالَ: غَصَبْتُ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ فُلَانٍ لَا بَلْ مِنْ فُلَانٍ، يَدْفَعُ إلَى الْأَوَّلِ وَيَضْمَنُ لِلثَّانِي، سَوَاءٌ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ إقْرَارًا بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَهُوَ رَدُّ الْعَيْنِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَقِيمَةِ الْعَيْنِ عِنْدَ الْعَجْزِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ الثَّانِي فَيَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهِ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ لِلْغَيْرِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ وَإِنَّمَا التَّلَفُ فِي تَسْلِيمِ مَالِ الْغَيْرِ إلَى الْغَيْرِ بِاخْتِيَارِهِ عَلَى وَجْهٍ يَعْجِزُ عَنْ الْوُصُولِ إلَيْهِ فَلَا جَرَمَ إذَا وُجِدَ يَجِبُ الضَّمَانُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هَذِهِ الْأَلْفُ لِفُلَانٍ، أَخَذْتُهَا مِنْ فُلَانٍ، أَوْ أَقْرَضَنِيهَا فُلَانٌ، وَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهِيَ لِلْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ وَيَضْمَنُ لِلَّذِي أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ أَوْ أَقْرَضَهُ أَلْفًا مِثْلَهُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ وَالْقَرْضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهِمَا إقْرَارًا بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَيَرُدُّ الْأَلْفَ الْقَائِمَةَ إلَى الْأَوَّلِ لِصِحَّةِ إقْرَارِهِ بِهَا لَهُ، وَيَضْمَنُ لِلثَّانِي أَلْفًا أُخْرَى ضَمَانًا لِلْأَخْذِ وَالْقَرْضِ وَلَوْ قَالَ: أَوْدَعَنِي فُلَانٌ هَذِهِ الْأَلْفَ لَا بَلْ فُلَانٌ، يَدْفَعُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ لِمَا بَيَّنَّا ثُمَّ إنْ دَفَعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يَضْمَنُ لِلثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ دَفَعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَضْمَنُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْإِيدَاعِ مِنْ الثَّانِي صَحِيحٌ فِي حَقِّ الثَّانِي فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحِفْظُ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ وَقَدْ فَوَّتَهُ بِالْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ بَلْ اسْتَهْلَكَهُ فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ فَوَاتَ الْحِفْظِ وَالْهَلَاكَ حَصَلَ بِالدَّفْعِ إلَى الْأَوَّلِ بِالْإِقْرَارِ، وَالدَّفْعُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ قَالَ دَفَعَ إلَيَّ هَذِهِ الْأَلْفَ فُلَانٌ وَهِيَ لِفُلَانٍ، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا لَهُ فَهِيَ لِلدَّافِعِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِدَفْعِ فُلَانٍ قَدْ صَحَّ فَصَارَ وَاجِبَ الرَّدِّ عَلَيْهِ وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهِ لِلثَّانِي فِي حَقِّ الْأَوَّلِ لَكِنْ يَصِحُّ فِي حَقِّ الثَّانِي وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ الْأَلْفُ لِفُلَانٍ، دَفَعَهَا إلَيَّ فُلَانٌ فَهِيَ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِالْمِلْكِ، وَلَا يَكُونُ لِلدَّافِعِ شَيْءٌ، فَإِذَا ادَّعَى الثَّانِي ضَمِنَ لَهُ أَلْفًا أُخْرَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِهَا لِلْأَوَّلِ يُوجِبُ الرَّدَّ إلَيْهِ، وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهِ لِلثَّانِي فِي حَقِّ الْأَوَّلِ لَكِنَّهُ يَصِحُّ فِي حَقِّ الثَّانِي ثُمَّ إنْ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يَضْمَنُ وَإِنْ دَفَعَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَضْمَنُ، وَالْحُجَجُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ الْأَلْفُ لِفُلَانٍ أَرْسِلْ بِهَا إلَى فُلَانٍ، فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا عَلَى الَّذِي أَقَرَّ أَنَّهَا مِلْكُهُ وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لِمَا قُلْنَا، وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِلثَّانِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ بِأَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَبَضْتَهَا مِنْ فُلَانٍ، فَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ هُنَاكَ أَلْفٌ فِي الذِّمَّةِ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ لَهُ، وَلَزِمَهُ أَلْفٌ أُخْرَى لِفُلَانٍ بِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِهَا مِنْهُ إذْ الْقَبْضُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَلَزِمَهُ أَلْفَانِ، وَهَهُنَا الْمُقَرُّ بِهِ عَيْنٌ مُشَارٌ إلَيْهَا فَمَتَى صَحَّ إقْرَارُهُ بِهَا لَمْ يَصِحَّ لِلثَّانِي وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِلثَّانِي بِحَالٍ بِانْتِهَاءِ الرِّسَالَةِ بِالْوُصُولِ إلَى الْمُقِرِّ، وَفِي الْآخَرِ أَنَّهُ إنْ دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يَضْمَنُ فَإِنْ قَالَ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ: إنَّهَا مِلْكُهُ لَيْسَتْ الْأَلْف لِي، وَادَّعَاهَا الرَّسُولُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لِلْأَوَّلِ قَدْ ارْتَدَّ بِرَدِّهِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِالْيَدِ لِلرَّسُولِ، فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ وَلَوْ كَانَ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ أَنَّهَا مِلْكُهُ غَائِبًا وَأَرَادَ الرَّسُولُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ لَمْ يَأْخُذْهَا، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ رِسَالَتَهُ قَدْ انْتَهَتْ بِالْوُصُولِ إلَى الْمُقِرِّ وَلَوْ أَقَرَّ إلَى خَيَّاطٍ فَقَالَ: هَذَا الثَّوْبُ أَرْسَلَهُ إلَيَّ فُلَانٌ لِأَقْطَعَهُ قَمِيصًا وَهُوَ لِفُلَانٍ، فَهُوَ لِلَّذِي

فصل في القرينة المبنية على الإطلاق في ركن الإقرار

أَرْسَلَهُ إلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلثَّانِي شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْيَدِ لِلْمُرْسِلِ فَصَارَ وَاجِبَ الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهِ بِالْمِلْكِ الثَّانِي، كَمَا إذَا قَالَ: دَفَعَ إلَيَّ هَذِهِ الْأَلْفَ فُلَانٌ وَهِيَ لِفُلَانٍ، عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَوْ قَالَ الْخَيَّاطُ: هَذَا الثَّوْبُ الَّذِي فِي يَدِي لِفُلَانٍ أَرْسَلَهُ إلَيَّ فُلَانٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيهِ فَهُوَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَلَا يَضْمَنُ لِلثَّانِي شَيْئًا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَضْمَنُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا هَلَكَ فِي يَدِهِ عِنْدَهُ فَأَشْبَهَ الْوَدِيعَةَ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ الضَّمَانُ فَأَشْبَهَ الْغَصْبَ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْعَلِيمُ. [فَصْلٌ فِي الْقَرِينَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي رُكْن الْإِقْرَار] (فَصْلٌ) : (وَأَمَّا) الْقَرِينَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَهِيَ الْمُعَيِّنَةُ لِبَعْضِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ بِأَنْ كَانَ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ هَذَا وَذَاكَ قَبْلَ وُجُودِ الْقَرِينَةِ، فَإِذَا وُجِدَتْ الْقَرِينَةُ يَتَعَيَّنُ الْبَعْضُ مُرَادًا بِاللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ أَصْلًا ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ يَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلًا كَانَ أَوْ مُنْفَصِلًا. وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا ضَرْبُ رُجْحَانٍ فَإِنْ كَانَ الْإِفْهَامُ إلَيْهِ أَسْبَقَ عِنْد الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ، فَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا لَا يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ الرُّجُوعَ، وَإِنْ تَضَمَّنَ مَعْنَى الرُّجُوعِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْقَرِينَةِ أَيْضًا يَتَنَوَّعُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ يَدْخُلُ عَلَى أَصْلِ الْمُقَرِّ بِهِ، وَنَوْعٌ يَدْخُلُ عَلَى وَصْفِ الْمُقَرِّ بِهِ، وَنَوْعٌ يَدْخُلُ عَلَى قَدْرِ الْمُقَرِّ بِهِ (أَمَّا) الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى أَصْلِ الْمُقَرِّ بِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مَجْهُولَ الذَّاتِ بِأَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ أَوْ حَقٌّ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ كَائِنٍ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا وَقَدْ يَكُونُ مَجْهُولًا بِأَنْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرَ شَيْئًا لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ أَوْ جَرَحَ آخَرَ جِرَاحَةً لَيْسَ لَهَا فِي الشَّرْعِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَأَقَرَّ بِالْقِيمَةِ وَالْأَرْشِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْمَجْهُولِ إخْبَارًا عَنْ الْمُخْبِرِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ وَهُوَ حَدُّ الصِّدْقِ. بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمَشْهُودِ بِهِ تَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِالشَّهَادَةِ لِتَعَذُّرِ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَيَصِحُّ وَيُقَالُ لَهُ بَيِّنْ لِأَنَّهُ الْمُجْمِلُ فَكَانَ الْبَيَانُ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] وَيَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا لِأَنَّهُ بَيَانٌ مَحْضٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْوَصْلُ كَبَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْتَرَكَ لَكِنْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُبَيِّنَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا فِي ذِمَّتِهِ وَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ إذَا بَيَّنَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ وَادَّعَى عَلَيْهِ زِيَادَةً وَإِمَّا إنْ كَذَّبَهُ وَادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا آخَرَ. فَإِنْ صَدَّقَهُ فِيمَا بَيَّنَ وَادَّعَى عَلَيْهِ زِيَادَةً أَخَذَ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْمُبَيَّنَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الزِّيَادَةِ وَإِلَّا حَلَّفَهُ عَلَيْهَا إنْ أَرَادَ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ كَذَّبَهُ وَادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا آخَرَ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى مَالٍ آخَرَ وَإِلَّا حَلَّفَهُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْقَدْرَ الْمُبَيَّنَ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ إقْرَارَهُ لَهُ بِالتَّكْذِيبِ وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا وَلَمْ يُبَيِّنْ يَلْزَمُهُ الْبَيَانُ لِمَا قُلْنَا، وَلَكِنْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُبَيِّنَ شَيْئًا يَتَمَانَعُ فِي الْعَادَةِ وَيُقْصَدُ بِالْغَصْبِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتَمَانَعُ عَادَةً وَلَا يُقْصَدُ غَصْبُهُ نَحْوُ كَفٍّ مِنْ تُرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ لَا يُطْلَقُ فِيهِ اسْمُ الْغَصْبِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ: لَا يُشْتَرَطُ، وَقَالَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: يُشْتَرَطُ حَتَّى لَوْ بَيَّنَ أَنَّهُ غَصَبَ صَبِيًّا حُرًّا أَوْ غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ أَوْ خَمْرَ مُسْلِمٍ يُصَدَّقُ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ وَلَا يُصَدَّقُ عِنْدَ الْآخَرِينَ حَتَّى يُبَيِّنَ شَيْئًا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ (وَجْهُ) قَوْلِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ وُجُوبُ رَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَهَذَا لَا يَقِفُ عَلَى كَوْنِ الْمَغْصُوبِ مَالًا مُتَقَوِّمًا (وَجْهُ) قَوْلِ مَشَايِخِنَا أَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ وَلَهُ ضَمَانَانِ: أَحَدُهُمَا وُجُوبُ رَدِّ الْعَيْنِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَالثَّانِي وُجُوبُ قِيمَتِهَا عِنْدَ الْعَجْزِ فَكَانَ إقْرَارُهُ بِغَصْبِ شَيْءٍ إقْرَارًا بِغَصْبِ مَا يَحْتَمِلُ مُوجِبُهُ وَهُوَ الْمَالُ الْمُتَقَوِّمُ وَلَوْ بَيَّنَ غَصْبَ الْعَقَارِ؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُصَدَّقُ، وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ؛ لِأَنَّ الْعَقَارَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونَ الْقِيمَةِ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فَهُوَ مَضْمُونُ الرَّدِّ بِالِاتِّفَاقِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ مَضْمُونُ الْقِيمَةِ أَيْضًا فَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مَشَايِخِنَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُصَدَّقُ (وَأَمَّا) عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونِ الْقِيمَةِ بِالْغَصْبِ عِنْدَهُمَا، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ يُصَدَّقُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ اسْمُ مَا يُتَمَوَّلُ وَذَا يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَيَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فَالْبَيَانُ إلَيْهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

فصل في القرينة الداخلة على وصف المقر به في ركن الإقرار

[فَصْلٌ فِي القرينة الداخلة عَلَى وَصْفِ الْمُقَرِّ بِهِ فِي رُكْن الْإِقْرَار] فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى وَصْفِ الْمُقَرِّ بِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مَعْلُومَ الْأَصْلِ مَجْهُولَ الْوَصْفِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ غَصَبَ مِنْ فُلَانٍ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً أَوْ ثَوْبًا مِنْ الْعُرُوضِ فَيُصَدَّقُ فِي الْبَيَانِ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ، سَلِيمًا كَانَ أَوْ مَعِيبًا؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ يُرَدُّ عَلَى السَّلِيمِ وَالْمَعِيبِ عَادَةً، وَقَدْ بَيَّنَ الْأَصْلَ، وَأَجْمَلَ الْوَصْفَ فَيَرْجِعُ فِي بَيَانِ الْوَصْفِ إلَيْهِ فَيَصِحُّ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا، وَمَتَى صَحَّ بَيَانُهُ يَلْزَمُهُ الرَّدُّ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي مِقْدَارِ قِيمَتِهِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ الْيَمِينِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْ فُلَانٍ دَارًا، وَقَالَ: هِيَ بِالْبَصْرَةِ، يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ أَجْمَلَ الْمَكَانَ فَكَانَ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ الْمَكَانِ إلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الدَّارِ إلَيْهِ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ بِأَنْ خُرِّبَتْ أَوْ قَالَ: هِيَ هَذِهِ الدَّارُ الَّتِي فِي يَدَيْ زَيْدٍ وَزَيْدٌ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - الْآخَر وَلَا يَضْمَنُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ قِيمَةَ الدَّارِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَقَارَ غَيْرُ مَضْمُونِ الْقِيمَةِ بِالْغَصْبِ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ فَإِذَا أَقَرَّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ: هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ فَهَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْجِهَةِ وَإِمَّا إنْ بَيَّنَ الْجِهَةَ. فَإِنْ أَطْلَقَ بِأَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ جِهَةً أَصْلًا وَقَالَ: هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ، فَإِنْ وَصَلَ يُصَدَّقُ، وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ اسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ عَلَى الْجِيَادِ وَالزُّيُوفِ فَكَانَ قَوْلُهُ زُيُوفٌ بَيَانًا لِلنَّوْعِ إلَّا أَنَّهُ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا لِأَنَّهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تُصْرَفُ إلَى الْجِيَادِ فَكَانَ فَصْلُ الْبَيَانِ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يَصِحُّ وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَقَالَ: هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ يُصَدَّقُ، وَصَلَ أَوْ فَصَلَ؛ لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ الْوَدِيعَةِ، الْوَدِيعَةُ مَالٌ مَحْفُوظٌ عِنْدَ الْمُودَعِ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ جَيِّدًا وَقَدْ يَكُونُ زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً عَلَى حَسَبِ مَا يُودَعُ فَيُقْبَلُ بَيَانُهُ هَذَا إذَا أَطْلَقَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْجِهَةَ أَمَّا إذَا بَيَّنَ الْجِهَةَ بِأَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنَ مَبِيعٍ وَقَالَ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ فَلَا يُصَدَّقُ وَإِنْ وَصَلَ وَعَلَيْهِ الْجِيَادُ إذَا ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ الْجِيَادَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ وَصَلَ يُصَدَّقْ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا مَا ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَقَعُ عَلَى الزُّيُوفِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الْجِيَادِ إذْ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ وَالزِّيَافَةُ عَيْبٌ فِيهَا، وَاسْمُ كُلِّ جِنْسٍ يَقَعُ عَلَى السَّلِيمِ وَالْمَعِيبِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْجِنْسِ لَكِنْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْجِيَادِ فَيَصِحُّ بَيَانُهُ مَوْصُولًا لِوُقُوعِهِ تَعْيِينَا لِبَعْضِ مَا يَحْتَمِلهُ اللَّفْظُ وَلَا يَصِحُّ مَفْصُولًا لِكَوْنِهِ رُجُوعًا عَنْ الْإِقْرَارِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّ قَوْلَهُ هِيَ زُيُوفٌ بَعْدَ النِّسْبَةِ إلَى ثَمَنِ الْمَبِيعِ رُجُوعٌ عَنْ الْإِقْرَارِ فَلَا يَصِحُّ بَيَانُهُ أَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُبَادَلَةٍ فَيَقْتَضِي سَلَامَةَ الْبَدَلَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَرْضَى إلَّا بِالْبَدَلِ السَّلِيمِ فَكَانَ إقْرَارُهُ بِكَوْنِ الدَّرَاهِمِ ثَمَنًا إقْرَارًا بِصِفَةِ السَّلَامَةِ فَإِخْبَارُهُ عَنْ الزِّيَافَةِ يَكُونُ رُجُوعًا فَلَا يَصِحُّ، كَمَا إذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ عَلَى أَنَّهُ مَعِيبٌ لَا يُصَدَّقُ وَإِنْ وَصَلَ، كَذَا هَذَا وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضًا، وَقَالَ هِيَ زُيُوفٌ، فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الْبَيْعِ إنْ وَصَلَ يُصَدَّقْ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ بِخِلَافِ الْبَيْعِ (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْقَرْضَ فِي الْحَقِيقَةِ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ كَالْبَيْعِ فَكَانَ فِي اسْتِدْعَاءِ صِفَةِ السَّلَامَةِ كَالْبَيْعِ (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْقَرْضَ يُشْبِهُ الْغَصْبَ لِأَنَّهُ يَتِمُّ بِالْقَبْضِ كَالْغَصْبِ ثُمَّ بَيَانُ الزِّيَافَةِ مَقْبُولٌ فِي الْغَصْبِ، كَذَا فِي الْقَرْضِ وَيُشْبِهُ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ مَالٍ بِمَالٍ فَلِشَبَهِهِ بِالْغَصْبِ احْتَمَلَ الْبَيَانَ فِي الْجُمْلَةِ وَلِشَبَهِهِ بِالْبَيْعِ شَرَطْنَا الْوَصْلَ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَلَوْ قَالَ: غَصَبَ مِنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَالَ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ يُصَدَّقُ سَوَاءٌ وَصَلَ أَوْ فَصَلَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ إذَا فَصَلَ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ فِي الْأَجْوَدِ لَا يَسْتَدْعِي صِفَةَ السَّلَامَةِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَرِدُ عَلَى السَّلِيمِ يَرِدُ عَلَى الْمَعِيبِ عَلَى حَسَبِ مَا يَتَّفِقُ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْبَيَانِ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا لِانْعِدَامِ مَعْنَى الرُّجُوعِ فِيهِ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ غَصْبُ عَبْدٍ بِأَنْ قَالَ: غَصَبْتُ مِنْ فُلَانٍ عَبْدًا ثُمَّ قَالَ: غَصَبْتُهُ وَهُوَ مَعِيبٌ، يُصَدَّقُ وَإِنْ فَصَلَ، كَذَا هَذَا وَلَوْ قَالَ: أَوْدَعَنِي فُلَانٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَالَ هِيَ زُيُوفٌ يُصَدَّقُ بِلَا خِلَافٍ فَصَلَ أَوْ وَصَلَ؛ لِأَنَّ الْإِيدَاعَ اسْتِحْفَاظُ الْمَالِ، وَكَمَا يُسْتَحْفَظُ السَّلِيمُ يُسْتَحْفَظُ الْمَعِيبُ فَكَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ الزِّيَافَةِ بَيَانًا مَحْضًا فَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ الْوَصْلُ لِانْعِدَامِ تَضَمُّنِ مَعْنَى الرُّجُوعِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَدِيعَةِ وَبَيْنَ الْغَصْب حَيْثُ صَدَّقَهُ فِي الْوَدِيعَةِ مَوْصُولًا كَانَ الْبَيَانُ أَوْ مَفْصُولًا وَلَمْ يُصَدِّقْهُ

فِي الْغَصْبِ إلَّا مَوْصُولًا (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ مُبَادَلَةٌ إذَا الْمَضْمُونَاتُ تُمْلَكُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ فَأَشْبَهَ ضَمَانَ الْمَبِيعِ وَهُوَ الثَّمَنُ، وَفِي بَابِ الْبَيْعِ لَا يُصَدَّقُ إذَا فَصَلَ عِنْدَهُ كَذَا فِي الْغَصْبِ (فَأَمَّا) الْوَاجِبُ فِي بَابِ الْوَدِيعَةِ فَهُوَ الْحِفْظُ، وَالْمَعِيبُ فِي احْتِمَالِ الْحِفْظِ كَالسَّلِيمِ فَهُوَ الْفَرْقُ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ هَذَا إذَا أَقَرَّ بِالدَّرَاهِمِ وَقَالَ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ فَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِهَا وَقَالَ هِيَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ فَفِي الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ يُصَدَّقُ إنْ وَصَلَ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ السَّتُّوقَ وَالرَّصَاصَ لَيْسَا مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ إلَّا أَنَّهُ يُسَمَّى بِهَا مَجَازًا فَكَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ ذَلِكَ بَيَانًا مُغَيِّرًا فَيَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا كَالِاسْتِثْنَاءِ (وَأَمَّا) فِي الْبَيْعِ إذَا قَالَ: ابْتَعْتُ بِأَلْفِ سَتُّوقَةٍ أَوْ رَصَاصٍ فَلَا يُصَدَّقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَصَلَ أَوْ وَصَلَ وَهَذَا لَا يُشْكِلُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: ابْتَعْتُ بِأَلْفٍ زُيُوفٍ لَا يُصَدَّقُ عِنْدَهُ، وَصَلَ أَوْ فَصَلَ، فَهَهُنَا أَوْلَى وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُصَدَّقُ وَلَكِنْ يَفْسُدُ الْبَيْعُ أَمَّا التَّصْدِيقُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ خَرَجَ بَيَانًا لِوَصْفِ الثَّمَنِ فَيَصِحُّ، كَمَا إذَا قَالَ بِأَلْفٍ بِيضٍ أَوْ بِأَلْفٍ سُودٍ (وَأَمَّا) فَسَادُ الْبَيْعِ فَلِأَنَّ تَسْمِيَةَ السَّتُّوقَةِ فِي الْبَيْعِ يُوجِبُ فَسَادَهُ كَتَسْمِيَةِ الْعُرُوضِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِيضٌ زُيُوفٌ أَوْ وَضَحٌ زُيُوفٌ أَنَّهُ يُصَدَّقُ إذَا وَصَلَ وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ جِيَادٌ زُيُوفٌ أَوْ نَقْدُ بَيْتِ الْمَالِ زُيُوفٌ لَا يُصَدَّقُ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْبَيَاضَ يَحْتَمِلُ الْجُودَةَ وَالزِّيَافَةَ إذْ الْبِيضُ قَدْ تَكُونُ جِيَادًا وَقَدْ تَكُونُ زُيُوفًا فَاحْتَمَلَ الْبَيَانَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ جِيَادٌ؛ لِأَنَّ الْجُودَةَ لَا تَحْتَمِلُ الزِّيَافَةَ لِتَضَادٍّ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ فَلَا يُصَدَّقُ أَصْلًا وَعَلَى هَذَا إذَا أَقَرَّ بِأَلْفٍ ثَمَنِ عَبْدٍ اشْتَرَاهُ لَمْ يَقْبِضْهُ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ ذَكَرَ عَبْدًا مُعَيَّنًا مُشَارًا إلَيْهِ بِأَنْ قَالَ: ثَمَنُ هَذَا الْعَبْدِ وَإِمَّا إنْ ذَكَرَ عَبْدًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ بِأَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنِ عَبْدٍ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ وَلَمْ أَقْبِضْهُ فَإِنْ ذَكَرَا عَبْدًا بِعَيْنِهِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ فِي الْبَيْعِ يُقَالُ لِلْمُقَرِّ لَهُ إنْ شِئْتَ أَنْ تَأْخُذَ الْأَلْفَ فَسَلِّمْ الْعَبْدَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَكَ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ ثَمَنُ الْمَبِيعِ وَقَدْ ثَبَتَ الْبَيْعُ بِتَصَادُقِهِمَا وَالْبَيْعُ يَقْتَضِي تَسْلِيمًا بِإِزَاءِ تَسْلِيمٍ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي الْبَيْعِ وَقَالَ: مَا بِعْتُ مِنْكَ شَيْئًا وَالْعَبْدُ عَبْدِي وَلِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَالْعَبْدُ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْبَيْعَ وَهُوَ يُنْكِرُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُقَرِّ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ ثَمَنُ الْمَبِيعِ لَا غَيْرُهُ وَلَمْ يَثْبُتْ الْبَيْعُ فَإِنْ ذَكَرَ عَبْدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يُصَدَّقُ فِي عَدَمِ الْقَبْضِ سَوَاءٌ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ، صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْبَيْعِ أَوْ كَذَّبَهُ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ أَوَّلًا يَقُولُ إنْ وَصَلَ يُصَدَّقُ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ يُسْأَلُ الْمُقَرُّ لَهُ عَنْ الْجِهَةِ فَإِنْ صَدَّقَهُ فِيهَا لَكِنْ كَذَّبَهُ فِي الْقَبْضِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقِرِّ، سَوَاءٌ وَصَلَ أَوْ فَصَلَ وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي الْبَيْعِ وَادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفًا أُخْرَى إنْ وَصَلَ يُصَدَّقْ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ (وَجْهُ) قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ ثَمَنُ الْمَبِيعِ، وَالْمَبِيعُ قَدْ يَكُونُ مَقْبُوضًا وَقَدْ لَا يَكُونُ إلَّا أَنَّ الْغَالِبَ هُوَ الْقَبْضُ فَكَانَ قَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْهُ بَيَانًا فِيهِ مَعْنَى التَّغْيِيرِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَيُصَدَّقُ بِشَرْطِ الْوَصْلِ كَالِاسْتِثْنَاءِ (وَجْهُ) قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْقَبْضَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْجِهَةِ بِتَصَادُقِهِمَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ لَا يَلْزَمُ فِي الْبَيْعِ فَكَانَ قَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْهُ تَعْيِينًا لِبَعْضِ مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَكَانَ بَيَانًا مَحْضًا فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْوَصْلُ لِبَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْتَرَكِ، وَإِذَا كَذَّبَهُ يُشْتَرَطُ الْوَصْلُ لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَوَجَبَ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ لِلْمَالِ، فَإِذَا قَالَ: ثَمَنُ عَبْدٍ لَمْ أَقْبِضْهُ، لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ إلَّا بِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ فَكَانَ بَيَانًا فِيهِ مَعْنَى التَّغْيِيرِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِشَرْطِ الْوَصْلِ كَالِاسْتِثْنَاءِ (وَوَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قَوْلَهُ لَمْ أَقْبِضْهُ رُجُوعٌ عَنْ الْإِقْرَارِ فَلَا يَصِحُّ، بَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إقْرَارٌ بِوِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِالْأَلْفِ وَلَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ إلَّا بِقَبْضِ الْمَبِيعِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ إقْرَارًا بِقَبْضِ الْمَبِيعِ، فَقَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْهُ يَكُونُ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يَصِحُّ وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنُ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَعَلَيْهِ أَلْفٌ وَلَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ ثَمَنُ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِ لَا تَحْتَمِلُهُ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ أَصْلًا (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قَوْلَهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إقْرَارٌ بِأَلْفٍ وَاجِبٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَقَوْلُهُ ثَمَنُ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ إبْطَالٌ لِمَا أَقَرَّ بِهِ لِأَنَّ ذِمَّةَ الْمُسْلِمِ لَا تَحْتَمِلُ ثَمَنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَكَانَ رُجُوعًا فَلَا يَصِحُّ وَلَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ مِنْ فُلَانٍ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَكِنِّي لَمْ أَقْبِضْهُ يُصَدَّقُ، وَصَلَ أَوْ فَصَلَ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ قَدْ

يَتَّصِلُ بِهِ الْقَبْضُ وَقَدْ لَا يَتَّصِلُ فَكَانَ قَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْ بَيَانًا مَحْضًا فَيَصِحُّ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا وَلَوْ قَالَ: أَقْرَضَنِي فُلَانٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَمْ أَقْبِضْ إنَّمَا طَلَبْتُ إلَيْهِ الْقَبْضَ فَأَقْرَضَنِي وَلَمْ أَقْبِضْ، إنْ وَصَلَ يُصَدَّقْ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يُصَدَّقَ وَصَلَ أَوْ فَصَلَ (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ هُوَ الْقَرْضُ وَهُوَ اسْمٌ لِلْعَقْدِ لَا لِلْقَبْضِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِهِ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ كَمَا لَا يَكُونُ الْإِقْرَار بِالْبَيْعِ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ تَمَامَ الْقَرْضِ بِالْقَبْضِ كَمَا أَنَّ تَمَامَ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ ظَاهِرًا لَكِنْ يَحْتَمِلُ الِانْفِصَالَ فِي الْحُكْمِ فَكَانَ قَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْ بَيَانًا مَعْنًى فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِشَرْطِ الْوَصْلِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالِاسْتِدْرَاكِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَعْطَيْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَوْدَعْتَنِي أَوْ أَسْلَفْتَنِي أَوْ أَسْلَمْتَ إلَيَّ وَقَالَ لَمْ أَقْبِضْ لَا يُصَدَّقُ إنْ فَصَلَ، وَإِنْ وَصَلَ يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ وَالْإِيدَاعَ وَالْإِسْلَافَ يَسْتَدْعِي الْقَبْضَ حَقِيقَةً خُصُوصًا عِنْدَ الْإِضَافَةِ فَلَا يَصِحُّ مُنْفَصِلًا لَكِنْ يَحْتَمِلُ الْعَدَمَ فِي الْجُمْلَةِ فَيَصِحُّ مُتَّصِلًا وَلَوْ قَالَ بِعْتَنِي دَارَكَ أَوْ آجَرْتَنِي أَوْ أَعَرْتَنِي أَوْ وَهَبْتَنِي أَوْ تَصَدَّقْتَ عَلَيَّ وَقَالَ لَمْ أَقْبِضْ يُصَدَّقُ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ أَمَّا الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالْإِعَارَةُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِهَا إقْرَارًا بِالْقَبْضِ وَأَمَّا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ فَلِأَنَّ الْهِبَةَ اسْمٌ لِلرُّكْنِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَإِنَّمَا الْقَبْضُ فِيهِمَا شَرْطُ الْحُكْمِ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ وَلَا يَتَصَدَّقُ فَفَعَلَ وَلَمْ يَقْبِضْ الْمَوْهُوبُ لَهُ وَالْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ يَحْنَثُ وَلَوْ قَالَ: نَقَدْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ دَفَعْتَ إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَالَ لَمْ أَقْبِضْ، إنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ وَصَلَ لَا يُصَدَّقْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُصَدَّقُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ النَّقْدَ وَالدَّفْعَ يَقْتَضِي الْقَبْضَ حَقِيقَةً بِمَنْزِلَةِ الْأَدَاءِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْإِعْطَاءِ وَالْإِسْلَامِ وَيَحْتَمِلُ الِانْفِصَالَ فِي الْجُمْلَةِ فَيَصِحُّ بِشَرِيطَةِ الْوَصْلِ كَمَا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَبْضَ مِنْ لَوَازِمَ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ أَعْنِي النَّقْدَ وَالدَّفْعَ خُصُوصًا عِنْدَ صَرِيحِ الْإِضَافَةِ، وَالْإِقْرَارُ بِأَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ إقْرَارٌ بِالْآخَرِ فَقَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْ يَكُونُ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يَصِحُّ وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ: أَخَذْتُ مِنْكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَهَلَكَتْ عِنْدِي فَقَالَ الرَّجُلُ: لَا بَلْ أَخَذْتَهَا غَصْبًا، لَا يُصَدَّقُ فِيهِ الْمُقِرُّ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَالْمُقِرُّ ضَامِنٌ وَلَوْ قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: لَا بَلْ أَقْرَضْتُكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْأَخْذِ إقْرَارًا بِسَبَبِ الْوُجُوبِ فَدَعْوَى الْإِذْنِ تَكُونُ دَعْوَى الْبَرَاءَةِ عَنْ الضَّمَانِ وَصَاحِبُهُ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَقْرَضْتُكَ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْقَبْضِ إقْرَارٌ بِالْأَخْذِ بِالْإِذْنِ فَتَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ كَانَ بِإِذْنٍ وَالْأَخْذُ بِإِذْنٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ فَكَانَ دَعْوَى الْإِقْرَاضِ دَعْوَى الْأَخْذِ بِجِهَةِ الضَّمَانِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَلَوْ قَالَ: أَوْدَعْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ دَفَعْتَ إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً أَوْ أَعْطَيْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَهَلَكَتْ عِنْدِي، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: لَا بَلْ غَصَبْتَهَا مِنِّي كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِسَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ إذْ الْمُقَرُّ بِهِ هُوَ الْإِيدَاعُ وَالْإِعْطَاءُ وَإِنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَسْبَابِ الضَّمَانِ وَلَوْ قَالَ لَهُ: أَعَرْتَنِي ثَوْبَك أَوْ دَابَّتَك فَهَلَكَتْ عِنْدِي، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ غَصَبْتَ مِنِّي نُظِرَ فِي ذَلِكَ: إنْ هَلَكَ قَبْلَ اللُّبْسِ أَوْ الرُّكُوبِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ الْإِعَارَةُ وَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ اللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ لُبْسَ ثَوْبِ الْغَيْرِ وَرُكُوبَ دَابَّةِ الْغَيْرِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ فَكَانَ دَعْوَى الْإِذْنِ دَعْوَى الْبَرَاءَةِ عَنْ الضَّمَانِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهُ: دَفَعْتَ إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَهَلَكَتْ عِنْدِي فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: بَلْ غَصَبْتَهَا مِنِّي أَنَّهُ إنْ هَلَكَ قَبْلَ التَّصَرُّفِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَهُ يَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا فِي الْإِعَارَةِ وَلَوْ أَقَرَّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مُؤَجَّلَةٍ بِأَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَى شَهْرٍ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: لَا بَلْ هِيَ حَالَّةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَدَعْوَى الْأَجَلِ عَلَى الْغَيْرِ فَإِقْرَارُهُ مَقْبُولٌ وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَيَحْلِفُ الْمُقَرُّ لَهُ عَلَى الْأَجَلِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْأَجَلِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ الْيَمِينِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ وَقَالَ: كَفَلْتُ لِفُلَانٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى شَهْرٍ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ لَا بَلْ كَفَلْتَ بِهَا حَالَّةً أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقِرِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمُقِرِّ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَكُونُ مُؤَجَّلَةً عَادَةً بِخِلَافِ الدَّيْنِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ اقْتَضَى مِنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ وَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ

لَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَقَالَ هُوَ مَالِي قَبَضْتَهُ مِنِّي، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالِاقْتِضَاءِ إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ، وَالْقَبْضُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ بِالنَّصِّ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْقَبْضِ إقْرَارًا بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْهُ فَهُوَ بِدَعْوَةِ الْقَبْضِ بِجِهَةِ الِاقْتِضَاءِ يَدَّعِي بَرَاءَتَهُ عَنْ الضَّمَانِ، وَصَاحِبُهُ يُنْكِرُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدِيعَةً وَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ لَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ قَالَ: أَسْكَنْتُ فُلَانًا بَيْتِي ثُمَّ أَخْرَجْتُهُ وَادَّعَى السَّاكِنُ أَنَّهُ لَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْقَوْلُ قَوْلُ السَّاكِنِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَوْ قَالَ: أَعَرْتُهُ دَابَّتِي ثُمَّ أَخَذْتُهَا مِنْهُ، وَقَالَ صَاحِبُهُ: هِيَ لِي فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَهُ أَسْكَنْتُهُ دَارِي ثُمَّ أَخْرَجْتُهُ وَأَعَرْتُهُ دَابَّتِي ثُمَّ أَخَذْتُهَا مِنْهُ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْيَدِ لَهُمَا ثُمَّ الْأَخْذُ مِنْهُمَا فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» وَلِهَذَا لَوْ غَايَبَاهُ سَكَنَ الدَّارَ فَزَعَمَ الْمُقِرُّ أَنَّهُ أَعَارَهُمَا (1) مِنْهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فَكَذَا إذَا أَقَرَّ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ لَيْسَ هُوَ الْيَدُ الْمُطْلَقَةُ بَلْ الْيَدُ بِجِهَةِ الْإِعَارَةِ وَالسُّكْنَى، وَهَذَا لِأَنَّ الْيَدَ لَهُمَا مَا عُرِفَتْ إلَّا بِإِقْرَارِهِ فَبَقِيَتْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فَيُرْجَعُ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْيَدِ إلَيْهِ وَلَوْ أَقَرَّ فَقَالَ: إنَّ فُلَانًا الْخَيَّاطَ خَاطَ قَمِيصِي بِدِرْهَمٍ وَقَبَضْتُ مِنْهُ الْقَمِيصَ وَادَّعَى الْخَيَّاطُ أَنَّهُ لَهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَلَوْ قَالَ: خَاطَ لِي هَذَا الْقَمِيصَ وَلَمْ يَقُلْ قَبَضَهُ مِنْهُ لَمْ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْبَلْ قَبْضَهُ مِنْهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالْيَدِ لِلْخَيَّاطِ لِجَوَازِ أَنَّهُ خَاطَهُ فِي بَيْتِهِ فَلَمْ تَثْبُتْ يَدُهُ عَلَيْهِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى الرَّدِّ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الدَّارُ وَالثَّوْبُ مَعْرُوفًا لَهُ فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا لِلْمُقِرِّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا لَهُ كَانَ قَوْلُ صَاحِبِهِ هُوَ لِي مِنْهُ دَعْوَى التَّمَلُّكِ فَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا سَاكِنٌ فِي هَذَا الْبَيْتِ وَالْبَيْتُ لِي وَادَّعَى ذَلِكَ الرَّجُلُ الْبَيْتَ فَهُوَ لَهُ وَعَلَى الْمُقِرِّ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالسُّكْنَى إقْرَارٌ بِالْيَدِ فَصَارَ هُوَ صَاحِبَ يَدٍ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُدَّعِي إلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا زَرَعَ هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ بَنَى هَذِهِ الدَّارَ أَوْ غَرَسَ هَذَا الْكَرْمَ وَذَلِكَ فِي يَدَيْ الْمُقِرِّ وَادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ أَنَّهُ لَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالزَّرْعِ وَالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْيَدِ لِجَوَازِ وُجُودِهَا فِي يَدِ الْغَيْرِ فَلَا يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ هَذَا الشَّيْءَ فِي حَالِ الرِّقِّ وَهُوَ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ وَقَالَ الْعَبْدُ: لَا بَلْ أَخَذْتَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ وَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْعَبْدِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الرَّدِّ وَقَوْلَ الْمَوْلَى لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ بَلْ يَقْتَضِيهِ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي الْأَصْلِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ ضَمَانِ الرَّدِّ، وَالْإِضَافَةُ إلَى حَالِ الرِّقِّ لَا تَنْفِي الْوُجُوبَ فَإِنَّ الْمَوْلَى إذَا أَخَذَ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ يَلْزَمُهُ الرَّدُّ إلَيْهِ وَلَوْ أَقَرَّ بِالْإِتْلَافِ بِأَنْ قَالَ: أَتْلَفْتُ عَلَيْكَ مَالًا وَأَنْتَ عَبْدِي، وَقَالَ الْعَبْدُ: لَا بَلْ أَتْلَفْتَهُ وَأَنَا حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا قَالَ الْمَوْلَى: قَطَعْتُ يَدَك قَبْلَ الْعِتْقِ، وَقَالَ الْعَبْدُ: لَا بَلْ قَطَعْتَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَوْ تَنَازَعَا فِي الضَّرِيبَةِ فَقَالَ الْمَوْلَى: أَخَذْتُ مِنْكَ ضَرِيبَةَ كُلِّ شَهْرٍ كَذَا، وَهِيَ ضَرِيبَةُ مِثْلِهِ، وَقَالَ الْعَبْدُ: لَا بَلْ كَانَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى بِالِاتِّفَاقِ. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْمَوْلَى وَطْءَ الْأَمَةِ قَبْلَ الْعِتْقِ وَادَّعَتْ الْأَمَةُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ الْمَوْلَى يُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ أَضَافَ الضَّمَانَ إلَى حَالِ الرِّقِّ حَيْثُ قَالَ: أَتْلَفْتُ وَهُوَ رَقِيقٌ وَالرِّقُّ يُنَافِي الضَّمَانَ، إذْ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِعَبْدِهِ ضَمَانٌ فَكَانَ مُنْكِرًا وُجُوبَ الضَّمَانِ، وَالْعَبْدُ بِقَوْلِهِ أَتْلَفْتَ بَعْدَ الْعِتْقِ يَدَّعِي وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي الْغَلَّةِ وَالْوَطْءِ، كَذَا هَذَا (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ اعْتِبَارَ قَوْلِ الْعَبْدِ يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمَوْلَى لِأَنَّ إتْلَافَ مَالِ الْحُرِّ يُوجِبُ الضَّمَانَ وَاعْتِبَارُ قَوْلِ الْمَوْلَى لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْأَخْذِ وَالْأَخْذُ فِي الْأَصْلِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَالْإِضَافَةُ إلَى حَالِ الرِّقِّ لَا تَنْفِي الْوُجُوبَ فَإِنَّ إتْلَافَ كَسْبِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا لِلرَّقَبَةِ وَالْكَسْبِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فَإِذَا وُجِدَ الْمُوجِبُ وَانْعَدَمَ الْمَانِعُ بَقِيَ خَبَرُهُ وَاجِبَ الْقَبُولِ بِخِلَافِ الْوَطْءِ وَالْغَلَّةِ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الرَّقِيقَةِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانِ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ أَخْذُ ضَرِيبَةِ الْعَبْدِ وَهِيَ الْغَلَّةُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمَوْلَى فَإِنَّ الْمَوْلَى إذَا أَخَذَ ضَرِيبَةَ الْعَبْدِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ عَلَى مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ فَكَانَ الْمَوْلَى بِقَوْلِهِ كَانَ

قَبْلَ الْعِتْقِ مُنْكِرًا وُجُوبَ الضَّمَانِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ مَا أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَطْءِ أَنْ لَا يَكُونَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ إتْلَافُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَنَافِعِ أَنْ لَا تَكُونَ مَضْمُونَةً بِالْإِتْلَافِ فَتَرَجَّحَ خَبَرُ الْمَوْلَى بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ لَهُ فَكَانَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ كَمَا فِي الْإِخْبَارِ عَنْ طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ فَأَمَّا الْأَصْلُ فِي أَخْذِ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْعَبْدِ وَكَذَلِكَ الْغَلَّةُ لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَنَافِعُ فِي الْأَصْلِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَم وَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَأْمَنَ الْحَرْبِيُّ أَوْ صَارَ ذِمَّةً فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ: أَخَذْتُ مِنْكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَنْتَ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَقَالَ لَهُ الْمُقِرُّ: لَا بَلْ أَخَذْتَهُ وَأَنَا مُسْتَأْمَنٌ أَوْ ذِمِّيٌّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْأَلْفُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهِمَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ وَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ قَالَ أَخَذْتُ مِنْكَ أَلْفًا فَاسْتَهْلَكْتَهَا وَأَنْتَ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ قَالَ قَطَعْت يَدَك وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ لَا بَلْ فَعَلْت وَأَنَا مُسْتَأْمَنٌ أَوْ ذِمِّيٌّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ وَيَضْمَنُ لَهُ الْمُقِرُّ مَا قَطَعَ وَأَتْلَفَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَا يَضْمَنُ شَيْئًا (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الْمَوْلَى مُنْكِرٌ وُجُوبَ الضَّمَانِ لِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلْوُجُوبِ وَهِيَ حَالَةُ الْحِرَابِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْعَبْدِ إذْ الْعِصْمَةُ أَصْلٌ فِي النُّفُوسِ، وَالسُّقُوطُ بِعَارِضِ الْمُسْقِطِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الْأَصْلُ وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَزْنَ يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ وَزْنًا لَا عَدَدًا لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ فِي الْأَصْلِ مَوْزُونَةٌ إلَّا إذَا كَانَ الْإِقْرَارُ فِي بَلْدَةٍ دَرَاهِمُهَا عَدَدِيَّةٌ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْعَدَدِ الْمُتَعَارَفِ إذَا ذَكَرَ الْعَدَدَ بِأَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ عَدَدًا يَلْزَمُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَزْنًا وَيَلْغُو ذِكْرُ الْعَدَدِ وَيَقَعُ عَلَى مَا يَتَعَارَفُهُ أَهْلُ الْبَلَدِ مِنْ الْوَزْنِ وَهُوَ فِي دِيَارِنَا وَخُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ وَزْنُ سَبْعَةٍ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْهَا سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ فَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ يَلْزَمُهُ بِهَذَا الْوَزْنِ، وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ فِي بَلَدٍ يَتَعَامَلُونَ فِيهِ بِدَرَاهِمَ وَزْنُهَا يَنْقُصُ عَنْ وَزْنِ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ يَقَعُ إقْرَارُهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَزْنِ لِانْصِرَافِ مُطْلَقِ الْكَلَامِ إلَى الْمُتَعَارَفِ حَتَّى لَوْ ادَّعَى وَزْنًا أَقَلَّ مِنْ وَزْنِ بَلَدِهِ يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا. وَلَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ أَوْزَانٌ مُخْتَلِفَةٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْغَالِبُ كَمَا فِي نَقْدِ الْبَلَدِ فَإِنْ اسْتَوَتْ يُحْمَلْ عَلَى الْأَقَلِّ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَالزِّيَادَةُ مَشْكُوكٌ فِيهَا وَالْوُجُوبُ فِي الذِّمَّةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَالْوُجُوبُ فِي أَقَلِّهِ لَمْ يَكُنْ فَمَتَى وَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِهِ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ وَلَوْ سَمَّى زِيَادَةً عَلَى وَزْنِ الْبَلَدِ أَوْ أَنْقَصَ مِنْهُ بِأَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَزْنُ خَمْسَةٍ، إنْ كَانَ مَوْصُولًا يُقْبَلْ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَحْتَمِلُهُ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَاحْتَمَلَ الْبَيَانَ الْمَوْصُولَ، وَلَا يُصَدَّقُ إذَا فَصَلَ لِانْصِرَافِ الْأَفْهَامِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى وَزْنِ الْبَلَدِ فَكَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ غَيْرِهِ رُجُوعًا فَلَا يَصِحُّ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مَثَاقِيلَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى الْوَزْنِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّيَادَةِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ وَلَوْ أَقَرَّ وَهُوَ بِبَغْدَادَ فَقَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ طَبَرِيَّةٍ يَلْزَمُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ طَبَرِيَّةٍ لَكِنْ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ طَبَرِيَّةٍ خَرَجَ وَصْفًا لِلدَّرَاهِمِ أَيْ دَرَاهِمَ مَنْسُوبَةٍ إلَى طَبَرِسْتَانَ فَلَا يُوجِبُ تَغْيِيرَ وَزْنِ الْبَلَدِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ مَوْصِلِيَّةٍ، وَالْمُقِرُّ بِبَغْدَادَ يَلْزَمُهُ كُرُّ حِنْطَةٍ مَوْصِلِيَّةٍ لَكِنْ بِكَيْلِ بَغْدَادَ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِينَارٌ شَامِيٌّ أَوْ كُوفِيٌّ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ دِينَارًا وَاحِدًا وَزْنُهُ مِثْقَالٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ دِينَارَيْنِ وَزْنُهُمَا جَمِيعًا مِثْقَالٌ، بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ أَنَّهُ إذَا أَعْطَاهُ دِرْهَمَيْنِ صَغِيرَيْنِ مَكَانَ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ كَبِيرٍ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ كَذَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَكَانَ فِي عُرْفِهِمْ أَنَّ الدِّينَارَ إذَا كَانَ نَاقِصَ الْوَزْنِ يَكُونُ نَاقِصَ الْقِيمَةِ فَكَانَ نُقْصَانُ الْوَزْنِ فِيهِ وَضِيعَةً، كَذَلِكَ اُعْتُبِرَ الْوَزْنُ وَالْعَدَدُ جَمِيعًا وَفِي الدَّرَاهِمِ بِخِلَافٍ فَأَمَّا فِي عُرْفِ دِيَارِنَا فَالْعِبْرَةُ لِلْوَزْنِ، فَسَوَاءٌ أَعْطَاهُ دِينَارًا وَاحِدًا أَوْ دِينَارَيْنِ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ وَزْنُهُمَا مِثْقَالًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ قَفِيزُ حِنْطَةٍ فَهُوَ بِقَفِيزِ الْبَلَدِ، وَكَذَلِكَ الْأَوْقَارُ وَالْأَمْنَانُ لِمَا قُلْنَا فِي الدَّرَاهِمِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى قَدْرِ الْمُقَرِّ بِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مَجْهُولَ الْقَدْرِ وَأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَذْكُرَ عَدَدًا وَاحِدًا وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ عَدَدَيْنِ، فَالْأَوَّلُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ أَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ فَكَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ، وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا شَكٌّ وَحُكْمُ الْإِقْرَارِ لَا يَلْزَمُ بِالشَّكِّ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دُرَيْهِمٌ

أَوْ دُنَيْنِيرٌ فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ تَامٌّ وَدِينَارٌ كَامِلٌ لِأَنَّ التَّصْغِيرَ لَهُ قَدْ يُذْكَرُ لِصِغَرِ الْحَجْمِ وَقَدْ يُذْكَرُ لِاسْتِحْقَارِ الدِّرْهَمِ وَاسْتِقْلَالِهِ وَقَدْ يُذْكَرُ لِنُقْصَانِ الْوَزْنِ فَلَا يَنْقُصُ عَنْ الْوَزْنِ بِالشَّكِّ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَنَّ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّهُ أَجْمَلَ الشَّيْءَ وَفَسَّرَهُ بِدَرَاهِمَ أَيْ الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ دَرَاهِمُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: 30] أَيْ الرِّجْسِ الَّتِي هِيَ أَوْثَانٌ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ مُضَاعَفَةٌ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتَّةٍ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ لِلدَّرَاهِمِ ثَلَاثَةٌ، وَأَقَلُّ التَّضْعِيفِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا ضَعَّفْنَا الثَّلَاثَةَ مَرَّةً تَصِيرُ سِتَّةً وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّرَاهِمَ الْمُضَاعَفَةَ سِتَّةٌ، وَأَقَلُّ أَضْعَافِ السِّتَّةِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَأَضْعَافُهَا مُضَاعَفَةً لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَمَانِينَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَضَاعَفَ عَلَيْهَا أَضْعَافَهَا مُضَاعَفَةً، وَأَقَلُّ أَضْعَافِ الْعَشَرَةِ ثَلَاثُونَ فَذَلِكَ أَرْبَعُونَ، وَأَقَلُّ تَضْعِيفِ الْأَرْبَعِينَ مَرَّةٌ فَذَلِكَ ثَمَانُونَ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ غَيْرُ أَلْفٍ أَنَّ عَلَيْهِ أَلْفَيْنِ وَلَوْ قَالَ: غَيْرُ أَلْفَيْنِ، عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ؛ لِأَنَّ غَيْرَ مِنْ أَسْمَاءِ الْإِضَافَةِ فَيَقْتَضِي مَا يُغَايِرُهُ لِاسْتِحَالَةِ مُغَايَرَةِ الشَّيْءِ نَفْسَهُ فَاقْتَضَى أَلْفًا تُغَايِرُ الْأَلْفَ الَّذِي عَلَيْهِ فَصَارَ مَعْنَاهُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ غَيْرُ أَلْفٍ أَيْ غَيْرُ هَذَا الْأَلْفِ أَلْفٌ آخَرُ فَكَانَ إقْرَارًا بِأَلْفَيْنِ، وَكَذَا هَذَا الِاعْتِبَارُ فِي قَوْلِهِ غَيْرُ أَلْفَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ غَيْرُ أَلْفٍ أَيْ مِثْلُ أَلْفٍ؛ لِأَنَّ الْمُغَايَرَةَ مِنْ لَوَازِمِ الْمُمَاثَلَةِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الشَّيْءِ مُمَاثِلًا لِنَفْسِهِ وَلِهَذَا قِيلَ فِي حَدِّهَا: غَيْرَ أَنْ يَنُوبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَابَ صَاحِبِهِ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ وَالْمُلَازَمَةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ طَرِيقُ الْكِتَابَةِ فَصَحَّتْ الْكِتَابَةُ عَنْ الْمُمَاثَلَةِ بِالْمُغَايَرَةِ، فَإِذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ غَيْرُ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ مِثْلُ أَلْفٍ وَمِثْلُ الْأَلْفِ أَلْفٌ مِثْلُهُ فَكَانَ إقْرَارًا بِأَلْفَيْنِ، وَكَذَا هَذَا الِاعْتِبَارُ فِي قَوْلِهِ غَيْرُ أَلْفَيْنِ. وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ زُهَاءُ أَلْفٍ أَوْ عِظَمُ أَلْفٍ أَوْ جُلُّ أَلْفٍ فَعَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ وَشَيْءٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَارَاتٌ عَنْ أَكْثَرِ هَذَا الْقَدْرِ فِي الْعُرْفِ وَكَذَا إذَا قَالَ: قَرِيبٌ مِنْ أَلْفٍ؛ لِأَنَّ خَمْسَمِائَةٍ وَشَيْئًا أَقْرَبُ إلَى الْأَلْفِ مِنْ خَمْسِمِائَةِ وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ وَمَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ مَا دُونَهُ نِصَابُ الزَّكَاةِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ جَعَلَ الْكَثْرَةَ صِفَةً لِلدَّرَاهِمِ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ اسْمُ الدَّرَاهِمِ الْعَشَرَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ يُقَالُ: أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا هَكَذَا، وَلَا يُقَالُ دَرَاهِمُ فَكَانَتْ الْعَشَرَةُ أَكْثَرَ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ اسْمُ الدَّرَاهِمِ فَلَا تَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ أَوْ كَثِيرٌ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فِي الْمَشْهُورِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عَلَيْهِ عَشَرَةً (وَجْهُ) مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ وَصَفَ الْمَالَ بِالْعِظَمِ، وَالْعَشَرَةُ لَهَا عِظَمٌ فِي الشَّرْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَّقَ قَطْعَ الْيَدِ بِهَا فِي بَابِ السَّرِقَةِ، وَقَدَّرَ بِهَا بَدَلَ الْبُضْعِ وَهُوَ الْمَهْرُ فِي بَابِ النِّكَاحِ. (وَجْهُ) الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ أَنَّ الْعَشَرَةَ لَا تُسْتَعْظَمُ فِي الْعُرْفِ وَإِنَّمَا يُسْتَعْظَمُ النِّصَابُ وَلِهَذَا اسْتَعْظَمَهُ الشَّرْعُ حَيْثُ عَلَّقَ وُجُوبَ الْمُعْظَمِ وَهُوَ الزَّكَاةُ بِهِ فَكَانَ هَذَا أَقَلَّ مَا اسْتَعْظَمَهُ الشَّرْعُ عُرْفًا فَلَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَقِيلَ: إنْ كَانَ الرَّجُلُ غَنِيَّا يَقَعُ عَلَى مَا يُسْتَعْظَمُ عِنْدَ الْأَغْنِيَاءِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا يَقَعُ عَلَى مَا يُسْتَعْظَمُ عِنْدَ الْفُقَرَاءِ وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَمْوَالٌ عِظَامٌ فَعَلَيْهِ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ " عِظَامٌ " جَمْعُ عَظِيمٍ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ وَهَذَا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَاتِ فَأَمَّا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيَقَعُ عَلَى ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَلَوْ قَالَ: غَصَبْت فُلَانًا إبِلًا كَثِيرَةً فَهُوَ عَلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ لِأَنَّهُ وَصْفٌ بِالْكَثْرَةِ وَلَا تَكْثُرُ إلَّا إذَا بَلَغَتْ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا فِي جِنْسِهَا، وَأَقَلُّ ذَلِكَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ حِنْطَةٌ كَثِيرَةٌ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْبَيَانُ إلَيْهِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النِّصَابَ فِي بَابِ الْعَشْرِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا شَرْطٌ وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَا بَيْنَ مِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ أَوْ مِنْ مِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ فَعَلَيْهِ مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ مِائَتَانِ، وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ أَوْ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ فَعَلَيْهِ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا

عَلَيْهِ عَشَرَةٌ، وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةٌ وَلَوْ قَالَ: مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَائِطَيْنِ لِفُلَانٍ، لَمْ يَدْخُلْ الْحَائِطَانِ فِي إقْرَارِهِ بِالْإِجْمَاعِ لَوْ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَشَرَةً مُرَتَّبَةً فَقَالَ: مَا بَيْنَ هَذَا الدِّرْهَمِ إلَى هَذَا الدِّرْهَمِ وَأَشَارَ إلَى الدِّرْهَمَيْنِ لِفُلَانٍ لَمْ يَدْخُلْ الدِّرْهَمَانِ تَحْتَ إقْرَارِهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْغَايَتَانِ لَا يَدْخُلَانِ، وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلَانِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَدْخُلُ الْأَوَّلُ دُونَ الْآخَرِ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ مَا ضُرِبَتْ بِهِ الْغَايَةُ لَا الْغَايَةُ فَلَا تَدْخُلُ الْغَايَةُ تَحْتَ مَا ضُرِبَتْ لَهُ الْغَايَةُ وَهُنَا لَمْ يَدْخُلْ فِي بَابِ الْبَيْعِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُمَا غَايَتَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِمَا وَمِنْ ضَرُورَةِ وُجُودِهِمَا لُزُومُهُمَا (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الرُّجُوعُ إلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَإِنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ يُرِيدُ بِهِ دُخُولَ الْغَايَةِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قِيلَ: سِنُّ فُلَانٍ مَا بَيْنَ تِسْعِينَ إلَى مِائَةٍ لَا يُرَادُ بِهِ دُخُولُ الْمِائَةِ، كَذَا هَهُنَا وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَا بَيْنَ كُرِّ شَعِيرٍ إلَى كُرِّ حِنْطَةٍ فَعَلَيْهِ كُرُّ شَعِيرٍ وَكُرُّ حِنْطَةٍ إلَّا قَفِيزًا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ كُرَّانِ وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ أَوْ مِنْ دِينَارٍ إلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وَخَمْسَةُ دَرَاهِمَ تُجْعَلُ الْغَايَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ أَفْضَلِهِمَا، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ وَخَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ أَرْبَعَةٌ وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ عَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَتِسْعَةُ دَنَانِيرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِنْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ إلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ الْكُلُّ وَكَذَلِكَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْوَصِيَّةِ وَالطَّلَاقِ. وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فِي خَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَنَوَى الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ فَعَلَيْهِ خَمْسَةٌ، وَقَالَ زُفَرُ عَلَيْهِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ خَمْسَةً فِي خَمْسَةٍ عَلَى طَرِيقِ الضَّرْبِ وَالْحِسَابِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ. (وَلَنَا) أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَكَثَّرُ فِي نَفْسِهِ بِالضَّرْبِ وَإِنَّمَا يَتَكَثَّرُ بِأَجْزَائِهِ فَخَمْسَةٌ فِي خَمْسَةٍ لَهُ خَمْسَةُ أَجْزَاءٍ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ وَإِنْ نَوَى بِهِ خَمْسَةً مَعَ خَمْسَةٍ فَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ؛ لِأَنَّ " فِي " تَحْتَمِلُ " مَعَ " لِمُنَاسِبَةٍ بَيْنَهُمَا فِي مَعْنَى الِاتِّصَالِ وَلَوْ أَقَرَّ بِتَمْرٍ فِي قَوْصَرَّةٍ فَعَلَيْهِ التَّمْرُ وَالْقَوْصَرَّةُ جَمِيعًا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: غَصَبْت مِنْ فُلَانٍ ثَوْبًا فِي مِنْدِيلٍ يَلْزَمُهُ الثَّوْبُ وَالْمِنْدِيلُ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَلْزَمُهُ الظَّرْفُ وَلَوْ أَقَرَّ بِدَابَّةٍ فِي إصْطَبْلٍ لَا يَلْزَمُهُ الْإِصْطَبْلُ بِالْإِجْمَاعِ (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْإِقْرَارِ التَّمْرُ وَالثَّوْبُ لَا الْقَوْصَرَّةُ وَالْمِنْدِيلُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ ظَرْفًا فَالْإِقْرَارُ بِشَيْءٍ فِي ظَرْفِهِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِهِ وَبِظَرْفِهِ كَالْإِقْرَارِ بِدَابَّةٍ فِي الْإِصْطَبْلِ وَبِنَخْلَةٍ فِي الْبُسْتَانِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْإِصْطَبْلِ وَالْبُسْتَانِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالتَّمْرِ فِي قَوْصَرَّةٍ إقْرَارٌ بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِيهِمَا وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِغَصْبِ الثَّوْبِ فِي مِنْدِيلٍ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ يُغْصَبُ مَعَ الْمِنْدِيلِ الْمَلْفُوفِ فِيهِ عَادَةً، وَكَذَلِكَ التَّمْرُ مَعَ الْقَوْصَرَّةِ. وَأَمَّا غَصْبُ الدَّابَّةِ مَعَ الْإِصْطَبْلِ فَغَيْرُ مُعْتَادٍ مَعَ مَا أَنَّ الْعَقَارَ لَا يَحْتَمِلُ الْغَصْبَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ ثَوْبٌ فِي ثَوْبٍ، فَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ قَالَ: ثَوْبٌ فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَحَدَ عَشَرَ ثَوْبًا (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ جَعَلَ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ ظَرْفًا لِثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مُحْتَمِلٌ بِأَنْ يَكُونَ فِي وَسَطِ الْعَشَرَةِ فَأَشْبَهَ الْإِقْرَارَ بِثَوْبٍ فِي مِنْدِيلٍ أَوْ فِي ثَوْبٍ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مُمْكِنٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ لِلْمُعْتَادِ هَذَا إذَا ذَكَرَ عَدَدًا وَاحِدًا مُجْمَلًا فَإِنْ ذَكَرَ عَدَدًا وَاحِدًا مَعْلُومًا لَكِنْ أَضَافَهُ إلَى صِنْفَيْنِ بِأَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَتَا مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ أَوْ كُرَّا حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ فَلَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ وَكَذَلِكَ لَوْ سَمَّى أَجْنَاسًا ثَلَاثَةً فَعَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ الثُّلُثُ وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدًا وَاحِدًا وَأَضَافَهُ إلَى عَدَدَيْنِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَتَكُونُ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى السَّوَاءِ كَمَا إذَا أَضَافَهُ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ بِأَنْ أَقَرَّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ لِرَجُلَيْنِ فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ، كَذَا هَذَا وَلَوْ قَالَ: اسْتَوْدَعَنِي ثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ زُطِّيٌّ وَيَهُودِيٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ إنْ شَاءَ جَعَلَ زُطِّيَّيْنِ وَيَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَ يَهُودِيَّيْنِ وَزُطِّيًّا لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَثْوَابَ الثَّلَاثَةَ مِنْ جِنْسِ الزُّطِّيِّ وَالْيَهُودِيِّ فَيَكُونُ زُطِّيٌّ وَيَهُودِيٌّ مُرَادًا بِيَقِينٍ فَكَانَ الْبَيَانُ فِي الْآخَرِ إلَيْهِ لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ. وَلَوْ قَالَ: اسْتَوْدَعَنِي عَشَرَةَ أَثْوَابٍ هَرَوِيَّةٍ وَمَرْوِيَّةٍ كَانَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ النِّصْفُ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمُسَاوَاةِ هَهُنَا مُمْكِنٌ وَأَمَّا إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَدَدَيْنِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ جَمَعَ بَيْنَ عَدَدَيْنِ مُجْمَلَيْنِ وَإِمَّا إنْ أَجْمَلَ

فصل في شرائط ركن الإقرار

أَحَدَهُمَا وَبَيَّنَ الْآخَرَ فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ عَدَدَيْنِ مُجْمَلَيْنِ بِأَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا، لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ وَجَعَلَهُمَا اسْمًا وَاحِدًا مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْجَمْعِ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَحَدَ عَشَرَ وَاثْنَيْ عَشَرَ هَكَذَا إلَى تِسْعَةَ عَشَرَ إلَّا أَنَّ أَقَلَّ عَدَدٍ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ أَحَدَ عَشَرَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا بِهِ وَيَلْزَمُهُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا لِأَنَّهُ فَسَّرَ هَذَا الْعَدَدَ بِالدَّرَاهِمِ لَا بِغَيْرِهَا وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ إحْدَى وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ وَجَعَلَهُمَا اسْمًا وَاحِدًا، وَأَقَلُّ ذَلِكَ إحْدَى وَعِشْرُونَ وَأَمَّا إذَا أَجْمَلَ أَحَدَهُمَا وَبَيَّنَ الْآخَرَ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَنَيِّفٌ فَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي النَّيِّفِ مِنْ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مُطْلَقِ الزِّيَادَةِ وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ بِضْعٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا لَا يُصَدَّقُ فِي بَيَانِ الْبِضْعِ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ الْبِضْعَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِقِطْعَةٍ مِنْ الْعَدَدِ، وَفِي عُرْفِ اللُّغَةِ يُسْتَعْمَلُ فِي الثَّلَاثَةِ إلَى التِّسْعَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَقَلِّ الْمُتَعَارَفِ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَدَانِقٌ أَوْ قِيرَاطًا فَالدَّانِقُ وَالْقِيرَاطُ مِنْ الدَّرَاهِمِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ جُزْءٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ كَأَنَّهُ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ وَسُدُسٌ وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ فَالْمِائَةُ دَرَاهِمُ وَلَوْ قَالَ: مِائَةٌ وَدِينَارٌ فَالْمِائَةُ دَنَانِيرُ وَيَكُونُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمَعْطُوفِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ دِرْهَمٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْمِائَةِ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ أَبْهَمَ الْمِائَةَ وَعَطَفَ الدِّرْهَمَ عَلَيْهَا فَيُعْتَبَرُ تَصَرُّفُهُ عَلَى حَسَبِ مَا أَوْقَعَهُ فَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَالْقَوْلُ فِي الْمُبْهَمِ قَوْلُهُ (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَوْلَهُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ أَيْ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَدِرْهَمٌ، هَذَا مَعْنَى هَذَا فِي عُرْفِ النَّاسِ، إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الدِّرْهَمَ طَلَبًا لِلِاخْتِصَارِ عَلَى مَا عَلَيْهِ عَادَةُ الْعَرَبِ مِنْ الْإِضْمَارِ وَالْحَذْفِ فِي الْكَلَامِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَشَاةٌ فَالْمِائَةُ مِنْ الشِّيَاهِ عَلَيْهِ النَّاسِ وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَثَوْبٌ فَعَلَيْهِ ثَوْبٌ، وَالْقَوْلُ فِي الْمِائَةِ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُسْتَعْمَلُ فِي بَيَانِ كَوْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمَعْطُوفِ فَبَقِيَتْ الْمِائَةُ مُجْمَلَةً فَكَانَ الْبَيَانُ فِيمَا أَجْمَلَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: مِائَةٌ وَثَوْبَانِ وَلَوْ قَالَ: مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ فَالْكُلُّ ثِيَابٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مِائَةٌ وَثَلَاثَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُجْمَلٌ، وَقَوْلُهُ أَثْوَابٌ يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لَهُمَا فَجُعِلَ تَفْسِيرًا لَهُمَا وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ وَعَبْدٌ أَنَّ عَلَيْهِ عَبْدًا، وَالْبَيَانُ فِي الْعَشَرَةِ إلَيْهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ وَوَصِيفَةٌ أَنَّ عَلَيْهِ وَصِيفَةً، وَالْبَيَانُ فِي الْعَشَرَةِ إلَيْهِ وَلَوْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِأَلْفٍ فِي مَجْلِسٍ ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ بِأَلْفٍ أُخْرَى نُظِرَ فِي ذَلِكَ: فَإِنْ أَقَرَّ لَهُ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ أَلْفَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ أَلْفٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا. وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعِنْدَهُمَا لَا يُشْكِلُ أَنَّ عَلَيْهِ أَلْفًا وَاحِدًا وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ذُكِرَ عَنْ الْكَرْخِيُّ أَنَّ عَلَيْهِ أَلْفَيْنِ وَذُكِرَ عَنْ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ عَلَيْهِ أَلْفًا وَاحِدًا وَهُوَ الصَّحِيحُ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَادَةَ بَيْنَ النَّاسِ بِتَكْرَارِ الْإِقْرَارِ بِمَالٍ وَاحِدٍ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِتَكْثِيرِ الشُّهُودِ كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لِيَفْهَمَ الشُّهُودُ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى إنْشَاءِ الْإِقْرَارِ مَعَ الشَّكِّ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَلْفَ الْمَذْكُورَ فِي الْإِقْرَارِ الثَّانِي غَيْرُ الْأَلْفِ الْمَذْكُورِ فِي الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَلْفَيْنِ مُنَكَّرًا، وَالْأَصْلُ أَنَّ النَّكِرَةَ إذَا كُرِّرَتْ يُرَادُ بِالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6] حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ لِلْعَادَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ رُكْن الْإِقْرَار] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ لَكِنَّ بَعْضَهَا يَعُمُّ الْأَقَارِيرَ كُلَّهَا وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، أَمَّا الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا الْعَقْلُ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ إقْرَارُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَحْجُورِ لِأَنَّهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَالْقَبُولُ مِنْ الْمَأْذُونِ لِلضَّرُورَةِ وَلَمْ يُوجَدْ. وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ فَيَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ، وَكَذَا بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ لَكِنْ لَا يَنْفُذُ عَلَى الْمَوْلَى لِلْحَالِ حَتَّى لَا تُبَاعَ رَقَبَتُهُ بِالدَّيْنِ بِخِلَافِ

فصل أنواع المقر به ومنها حق العبد

الْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ إنَّمَا صَحَّ لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ، وَالْمَحْجُورُ لَا يَمْلِكُ التِّجَارَةَ فَلَا يَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهَا إلَّا أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِقْرَارِ لِوُجُودِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ النَّفَاذُ عَلَى الْمَوْلَى لِلْحَالِ لِحَقِّهِ فَإِذَا عَتَقَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيُؤَاخَذُ بِهِ وَكَذَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ فِي حَقِّ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ كَالْخَارِجِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ. وَكَذَلِكَ الصِّحَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَالْمَرَضُ لَيْسَ بِمَانِعٍ حَتَّى يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَرِيضِ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الصَّحِيحِ بِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، وَحَالُ الْمَرِيضِ أَدَلُّ عَلَى الصِّدْقِ فَكَانَ إقْرَارُهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مُتَّهَمًا فِي إقْرَارِهِ لِأَنَّ التُّهْمَةَ تُخِلُّ بِرُجْحَانِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ فِي إقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ شَهَادَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] وَالشَّهَادَةُ عَلَى نَفْسِهِ إقْرَارٌ دَلَّ أَنَّ الْإِقْرَارَ شَهَادَةٌ وَأَنَّهَا تُرَدُّ بِالتُّهْمَةِ. وَفُرُوعُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَأْتِي فِي خِلَالِ الْمَسَائِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهَا الطَّوْعُ حَتَّى لَا يَصِحَّ إقْرَارُ الْمُكْرَهِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ مَعْلُومًا حَتَّى لَوْ قَالَ: رَجُلَانِ لِفُلَانٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنَّا أَلْفُ دِرْهَمٍ، لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَا يَتَمَكَّنُ الْمُقَرُّ لَهُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ فَلَا يَكُونُ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ فَائِدَةٌ فَلَا يَصِحُّ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ أَحَدُهُمَا: غَصَبَ وَاحِدٌ مِنَّا، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: وَاحِدٌ مِنَّا زَنَى أَوْ سَرَقَ أَوْ شَرِبَ أَوْ قَذَفَ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْحَدِّ. وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ بَعْضَ الْأَقَارِيرِ دُونَ الْبَعْضِ فَمَعْرِفَتُهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ الْمُقَرِّ بِهِ فَنَقُولُ - وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى - إنَّ الْمُقَرَّ بِهِ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - وَالثَّانِي حَقُّ الْعَبْدِ أَمَّا حَقُّ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَنَوْعَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَدُّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ وَهُوَ حَدُّ الْقَذْفِ، وَلِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِهَا شَرَائِطُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ. [فَصْلٌ أَنْوَاع الْمُقِرّ بِهِ وَمِنْهَا حَقُّ الْعَبْدِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَهُوَ الْمَالُ مِنْ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ وَالنَّسَبِ وَالْقِصَاصِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِهَا مَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعَدَدِ وَمَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَالْعِبَارَةِ حَتَّى إنَّ الْأَخْرَسَ إذَا كَتَبَ الْإِقْرَارَ بِيَدِهِ أَوْ أَوْمَأَ بِمَا يُعْرَفُ أَنَّهُ إقْرَارٌ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَجُوزُ بِخِلَافِ الَّذِي اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ لِأَنَّ لِلْأَخْرَسِ إشَارَةً مَعْهُودَةً فَإِذَا أَتَى بِهَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمَنْ اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ وَلِأَنَّ إقَامَةَ الْإِشَارَةِ مَقَامَ الْعِبَارَةِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، وَالْخَرَسُ ضَرُورَةٌ لِأَنَّهُ أَصْلِيٌّ (فَأَمَّا) اعْتِقَالُ اللِّسَانِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ لِكَوْنِهِ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ لِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ ذَلِكَ إقْرَارًا بِالْحُدُودِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ عَلَى صَرِيحِ الْبَيَانِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَبْنِيِّ عَلَى صَرِيحِ الْبَيَانِ، فَإِنَّهُ إذَا أَقَرَّ مُطْلَقًا عَنْ صِفَةِ التَّعَمُّدِ بِذِكْرِ آلَةٍ دَالَّةٍ عَلَيْهِ، وَهِيَ السَّيْفُ وَنَحْوُهُ يُسْتَوْفَى بِمِثْلِهِ الْقِصَاصُ وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِهَا الصَّحْوُ حَتَّى يَصِحَّ إقْرَارُ السَّكْرَانِ لِأَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ أَنَّهُ غَيْرُ صَاحٍ أَوْ لِأَنَّهُ يُنَزَّلُ عَقْلُهُ قَائِمًا فِي حَقِّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَيُلْحَقُ فِيهَا بِالصَّاحِي مَعَ زَوَالِهِ حَقِيقَةً عُقُوبَةً عَلَيْهِ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. لَكِنْ الشَّرَائِطُ الْمُخْتَصَّةُ بِالْإِقْرَارِ بِحُقُوقِ الْعِبَاد نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُقَرِّ بِهِ (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ فَنَوْعٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مَوْجُودًا كَانَ أَوْ حَمْلًا حَتَّى لَوْ كَانَ مَجْهُولًا بِأَنْ قَالَ لِوَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ عَلَيَّ أَوْ لِزَيْدٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مُطَالَبَتَهُ فَلَا يُفِيدُ الْإِقْرَارُ حَتَّى لَوْ عَيَّنَ وَاحِدًا بِأَنْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ فُلَانًا يَصِحُّ، وَلَوْ قَالَ لِحَمْلِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَإِنْ بَيَّنَ جِهَةً يَصِحُّ وُجُوبُ الْحَقِّ لِلْحَمْلِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِأَنْ قَالَ الْمُقِرُّ: أَوْصَى بِهَا فُلَانٌ لَهُ أَوْ مَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَهُ صَحَّ الْإِقْرَارُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ يَجِبُ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ فَكَانَ صَادِقًا فِي إقْرَارِهِ فَيَصِحُّ. وَإِنْ أَجْمَلَ الْإِقْرَارَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ إقْرَارَ الْعَاقِلِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى إقْرَارِهِ عَلَى جِهَةٍ مُصَحِّحَةٍ لَهُ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا فَوَجَبَ

حَمْلُهُ عَلَيْهِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِقْرَارَ الْمُبْهَمَ لَهُ جِهَةُ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَصِحُّ بِالْحَمْلِ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَالْإِرْثُ يَفْسُدُ بِالْحَمْلِ عَلَى الْبَيْعِ وَالْغَصْبِ وَالْقَرْضِ فَلَا يَصِحُّ مَعَ الشَّكِّ مَعَ مَا أَنَّ الْحَمْلَ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَالشَّكُّ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا أَقَرَّ لِلْحَمْلِ (أَمَّا) إذَا أَقَرَّ بِالْحَمْلِ بِأَنْ أَقَرَّ بِحَمْلِ جَارِيَةٍ أَوْ بِحَمْلِ شَاةٍ لِرَجُلٍ صَحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حَمْلَ الْجَارِيَةِ وَالشَّاةِ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ فِي الذِّمَّةِ بِأَنْ أَوْصَى لَهُ بِهِ مَالِكُ الْجَارِيَةِ وَالشَّاةِ فَأَقَرَّ بِهِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُقَرِّ بِهِ أَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ فَشَرْطُ صِحَّةِ الْفَرَاغِ عَنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ فَإِنْ كَانَ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْغَيْرِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ مَعْصُومٌ مُحْتَرَمٌ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ وَقْتِ التَّعَلُّقِ وَمَعْرِفَةِ مَحَلِّ التَّعَلُّقِ (أَمَّا) وَقْتُ التَّعَلُّقِ فَهُوَ وَقْتُ مَرَضِ الْمَوْتِ، فَمَا دَامَ الْمَدْيُونُ صَحِيحًا فَالدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ فَإِذَا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ أَيْ يَتَعَيَّنُ فِيهَا وَيَتَحَوَّلُ مِنْ الذِّمَّةِ إلَيْهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَوْنُ الْمَرَضِ مَرَضَ الْمَوْتِ إلَّا بِالْمَوْتِ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَرَضَ كَانَ مَرَضَ الْمَوْتِ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّعَلُّقَ يَثْبُتُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَبَيَانُ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِبَيَانِ حُكْمِ إقْرَارِ الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ وَمَا يَفْتَرِقَانِ فِيهِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ وَمَا يَسْتَوِيَانِ فِيهِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - إقْرَارُ الْمَرِيضِ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ لِغَيْرِهِ وَإِقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِهِ (فَأَمَّا) إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ لِغَيْرِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ (أَمَّا) إنْ أَقَرَّ بِهِ لِأَجْنَبِيٍّ أَوْ لِوَارِثٍ: فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ لِوَارِثٍ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِإِجَازَةِ الْبَاقِينَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَصِحُّ (وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ جِهَةَ الصِّحَّةِ لِلْإِقْرَارِ هِيَ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، وَهَذَا فِي الْوَارِثِ مِثْلُ مَا فِي الْأَجْنَبِيِّ ثُمَّ يُقْبَلُ إقْرَارُ الْأَجْنَبِيِّ كَذَا الْوَارِثِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَابْنِهِ سَيِّدِنَا عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ لَمْ يَجُزْ وَإِذَا أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ جَازَ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمَا خِلَافُ ذَلِكَ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ لِجَوَازِ أَنَّهُ آثَرَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ عَلَى بَعْضٍ بِمَيْلِ الطَّبْعِ أَوْ بِقَضَاءِ حَقٍّ مُوجِبٍ لِلْبَعْثِ عَلَى الْإِحْسَانِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ وَالْوَصِيَّةِ بِهِ فَأَرَادَ تَنْفِيذَ غَرَضِهِ بِصُورَةِ الْإِقْرَارِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْوَارِثِ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَانَ مُتَّهَمًا فِي إقْرَارِهِ فَيُرَدُّ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يَتَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ الثُّلُثِ مَعَ مَا أَنَّهُ خَالِصُ مِلْكِهِ لَا حَقَّ لِأَجْنَبِيٍّ فِيهِ فَكَانَ إقْرَارُهُ لِلْبَعْضِ إبْطَالًا لِحَقِّ الْبَاقِينَ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِمْ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَجُزْ لِوَارِثٍ فَالْإِقْرَارُ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الْإِقْرَارُ لَارْتَفَعَ بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ يَمِيلُ إلَى الْإِقْرَارِ اخْتِيَارًا لِلْإِيثَارِ بَلْ هُوَ أَوْلَى مِنْ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَذْهَبُ بِالْوَصِيَّةِ إلَّا الثُّلُثُ، وَبِالْإِقْرَارِ يَذْهَبُ جَمِيعُ الْمَالِ فَكَانَ إبْطَالُ الْإِقْرَارِ إبْطَالَ الْوَصِيَّةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَيَصِحُّ إقْرَارُ الصَّحِيحِ لِوَارِثٍ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَوَانِعِ مُنْعَدِمَةٌ فِي إقْرَارِهِ هَذَا إذَا أَقَرَّ لِوَارِثٍ فَإِنْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ مِنْ جَمِيعِ التَّرِكَةِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ إلَّا فِي الثُّلُثِ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مُتَعَلِّقٌ وَلِهَذَا لَمْ يَمْلِكْ التَّبَرُّعَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْأَثَرِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ لِأَجْنَبِيٍّ جَازَ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ تَرِكَتِهِ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ فِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - مُخَالِفٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّهُ فِي الْإِقْرَارِ لِلْأَجْنَبِيِّ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فَيَصِحُّ، وَيَصِحُّ إقْرَارُ الصَّحِيحِ لِلْأَجْنَبِيِّ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِانْعِدَامِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ بَلْ الدَّيْنُ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ حَالَةَ الْمَرَضِ وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ الصَّحِيحُ بِدُيُونٍ لِأُنَاسٍ كَثِيرَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ بِأَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ جَازَ عَلَيْهِ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ حَالَ الصِّحَّةِ حَالُ الْإِطْلَاقِ لِوُجُودِ الْمُوجِبِ لِلْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا الِامْتِنَاعُ لِعَارِضِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ أَوْ لِلتُّهْمَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ هَهُنَا مُنْعَدِمٌ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ لِحُصُولِ الْكُلِّ فِي حَالَةِ الْإِطْلَاقِ وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدُيُونٍ لِأُنَاسٍ كَثِيرَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ بِأَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ بِدَيْنٍ جَازَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَاسْتَوَى فِيهِ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ اسْتِوَاءَ الْكُلِّ فِي التَّعَلُّقِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي زَمَانِ التَّعَلُّقِ وَهُوَ زَمَانُ الْمَرَضِ إذْ زَمَنُ الْمَرَضِ مَعَ امْتِدَادِهِ بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهِ حَقِيقَةً بِمَنْزِلَةِ زَمَانٍ وَاحِدٍ فِي الْحُكْمِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ وَلَوْ أَقَرَّ وَهُوَ مَرِيضٌ بِدَيْنٍ ثُمَّ بِعَيْنٍ بِأَنْ أَقَرَّ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ الَّذِي فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ فَهُمَا دَيْنَانِ وَلَا تُقَدَّمُ

الْوَدِيعَةُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالدَّيْنِ قَدْ صَحَّ فَأَوْجَبَ تَعَلُّقَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِالْعَيْنِ لِكَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لَهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ، وَالْإِقْرَارُ الْوَدِيعَةِ لَا يُبْطِلُ التَّعَلُّقَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ يُصَانُ عَنْ الْإِبْطَالِ مَا أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِإِقْرَارِهِ بِاسْتِهْلَاكِ الْوَدِيعَةِ بِتَقْدِيمِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ، وَإِذَا صَارَ مُقِرًّا بِاسْتِهْلَاكِ الْوَدِيعَةِ فَالْإِقْرَارُ بِاسْتِهْلَاكِ الْوَدِيعَةِ يَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِذَلِكَ كَانَا دَيْنَيْنِ وَلَوْ أَقَرَّ الْوَدِيعَةِ أَوَّلًا ثُمَّ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ فَالْإِقْرَارُ الْوَدِيعَةِ أَوْلَى لِأَنَّ الْإِقْرَارَ الْوَدِيعَةِ لَمَّا صَحَّ خَرَجَتْ الْوَدِيعَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّعَلُّقِ لِخُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِهِ فَلَا يَثْبُتُ التَّعَلُّقُ بِالْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ حَقَّ غَرِيمِ الْمَرِيضِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ لَا بِغَيْرِهَا وَلَمْ يُوجَدْ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِمَالٍ فِي يَدِهِ أَنَّهُ بِضَاعَةٌ أَوْ مُضَارَبَةٌ فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الْوَدِيعَةِ سَوَاءٌ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. هَذَا إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِالدَّيْنِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ فِي حَالِ الصِّحَّةِ يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ بِغَيْرِ إقْرَارِهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ آخَرَ نُظِرَ فِي ذَلِكَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُقَرُّ بِهِ ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِغَيْرِ إقْرَارِهِ تُقَدَّمُ الدُّيُونُ الظَّاهِرَةُ لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فِي الْقَضَاءِ فَتُقْضَى دُيُونُهُمْ أَوَّلًا مِنْ التَّرِكَةِ فَمَا فَضَلَ يُصْرَفُ إلَى غَيْرِ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسْتَوِيَانِ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ غَرِيمَ الْمَرَضِ مَعَ غَرِيمِ الصِّحَّةِ اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا كَانَ سَبَبًا لِظُهُورِ الْحَقِّ لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، وَحَالَةُ الْمَرَضِ أَدَلُّ عَلَى الصِّدْقِ لِأَنَّهَا حَالَةٌ يَتَدَارَكُ الْإِنْسَانُ فِيهَا مَا فَرَّطَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ فَإِنَّ الصِّدْقَ فِيهَا أَغْلَبُ فَكَانَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ. (وَلَنَا) أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ لَمْ يُوجَدْ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرْطَ فَرَاغُ الْمَالِ عَنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ حَقَّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِهِ مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لَا يَنْفُذُ تَبَرُّعُهُ وَلَوْلَا تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ لَنَفَذَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ التَّبَرُّعُ تَصَرُّفًا مِنْ الْأَصْلِ فِي مَحَلٍّ هُوَ خَالِصُ مِلْكِهِ وَحُكْمُ الشَّرْعِ فِي مِثْلِهِ النَّفَاذُ فَدَلَّ عَدَمُ النَّفَاذِ عَلَى تَعَلُّقِ النَّفَاذِ، وَإِذَا ثَبَتَ التَّعَلُّقُ فَقَدْ انْعَدَمَ الْفَرَاغُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ وُجُوبَهُ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ مَعْلُومٍ سِوَى إقْرَارِهِ كَانَ مُتَّهَمًا فِي هَذَا الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ضَرْبُ عِنَايَةٍ فِي حَقِّ شَخْصٍ يَمِيلُ طَبْعُهُ إلَى الْإِحْسَانِ إلَيْهِ أَوْ بَيْنَهُمَا حُقُوقٌ تَبْعَثُهُ عَلَى الْمَعْرُوفِ وَالصِّلَةِ فِي حَقِّهِ وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ فَيُرِيدُ بِهِ تَحْصِيلَ مُرَادِهِ بِصُورَةِ الْإِقْرَارِ فَكَانَ مُتَّهَمًا فِي حَقِّ أَصْحَابِ الدُّيُونِ الظَّاهِرَةِ أَنَّهُ أَظْهَرَ الْإِقْرَارَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيُرَدُّ إقْرَارُهُ بِالتُّهْمَةِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ فَأَقَرَّ بِعَبْدِهِ فِي يَدِهِ أَنَّهُ لِفُلَانٍ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَكَانُوا أَحَقَّ بِالْغُرَمَاءِ مِنْ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْعَبْدِ لِمَا بَيَّنَّا وَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْعَبْدِ لِفُلَانٍ إبْطَالًا لِحَقِّهِمْ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّهِمْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ الْمُقَرُّ بِهِ ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِغَيْرِ إقْرَارِهِ. (فَأَمَّا) إذَا كَانَ بِأَنْ كَانَ بَدَلًا عَنْ مَالٍ مَلَكَهُ كَبَدَلِ الْقَرْضِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ أَوْ بَدَلًا عَنْ مَالٍ اسْتَهْلَكَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الصِّحَّةِ وَيُقَدَّمَانِ جَمِيعًا عَلَى دَيْنِ الْمَرَضِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِسَبَبٍ مَعْلُومٍ لَمْ يَحْتَمِلْ الرَّدَّ فَيَظْهَرُ وُجُوبُهُ بِإِقْرَارِهِ وَتَعَلُّقِهِ بِالتَّرِكَةِ مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ وَكَذَا إذَا كَانَ ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِسَبَبٍ مَعْلُومٍ لَا يُتَّهَمُ فِي إقْرَارِهِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي مَرَضِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ جَازَ ذَلِكَ عَلَى غُرَمَاءِ الصِّحَّة وَالْمَرْأَةُ تُخَاصِمُهُمْ بِمَهْرِهَا لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ النِّكَاحُ - وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِوُجُوبِ الْمَهْرِ - كَانَ وُجُوبُهُ ظَاهِرًا مَعْلُومًا لِظُهُورِ سَبَبِ وُجُوبِهِ وَهُوَ النِّكَاحُ فَلَمْ يَكُنْ وُجُوبُهُ مُحْتَمِلًا لِلرَّدِّ فَيَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ ضَرُورَةً يُحَقِّقُهُ أَنَّ النِّكَاحَ إذَا لَمْ يَجُزْ بِدُونِ وُجُوبِ الْمَهْرِ، وَالنِّكَاحُ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ، فَكَذَلِكَ وُجُوبُ الْمَهْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ شَرْعًا وَالْمَرِيضُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ صَرْفِ مَالِهِ إلَى حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ كَثَمَنِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ، وَلِلصَّحِيحِ أَنْ يُؤْثِرَ بَعْضَ الْغُرَمَاءِ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ قَضَى دَيْنَ أَحَدِهِمْ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الْبَاقُونَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّيْنَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمَالِ بَلْ هُوَ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَكُونُ فِي إيثَارِ الْبَعْضِ إبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ إلَّا أَنْ يُقِرَّ لِرَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ وَاحِدٍ فَمَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ شَيْئًا كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنًا مُشْتَرَكًا فَكَانَ الْمَقْبُوضُ عَلَى الشَّرِكَةِ وَلَيْسَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يُؤْثِرَ بَعْضَ غُرَمَائِهِ عَلَى بَعْضٍ، سَوَاءٌ كَانُوا غُرَمَاءَ الْمَرَضِ أَوْ غُرَمَاءَ الصِّحَّةِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ قَضَى

فصل في بيان محل تعلق الحق في الإقرار

دَيْنَ أَحَدِهِمْ شَارَكَهُ الْبَاقُونَ فِي الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ أَوْجَبَ تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِالتَّرِكَةِ، وَحُقُوقُهُمْ فِي التَّعَلُّقِ عَلَى السَّوَاءِ فَكَانَ فِي إيثَارِ الْبَعْضِ إبْطَالَ حَقِّ الْبَاقِينَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَدَلَ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنَ مَبِيعٍ بِأَنْ اسْتَقْرَضَ فِي مَرَضِهِ أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا مَعْلُومًا فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ الْقَرْضَ وَيَنْقُدَ الثَّمَنَ وَلَا يُشَارِكَهُ الْغُرَمَاءُ فِي الْمَقْبُوضِ وَالْمَنْقُودِ لِأَنَّ الْإِيثَارَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَ إبْطَالًا لِحَقِّ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعْنَى التَّرِكَةِ لَا بِصُورَتِهَا وَالتَّرِكَةُ قَائِمَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِقِيَامِ بَدَلِهَا لِأَنَّ بَدَلَ الشَّيْءِ يَقُومُ مُقَامَةَ كَأَنَّهُ هُوَ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إبْطَالًا مَعْنًى وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً أَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَنَقَدَهُمَا الْمَهْرَ وَالْأُجْرَةَ لَا يُسَلِّمُ لَهُمَا الْمَنْقُودَ بَلْ الْغُرَمَاءُ يَتْبَعُونَهُمَا وَيُخَاصِمُونَهُمَا بِدُيُونِهِمْ وَكَانُوا أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ أَعْنِي جَعْلَ الْمَنْقُودِ سَالِمًا لَهُمَا إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ صُورَةً وَمَعْنًى؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ بَدَلٌ عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ تَعَلُّقَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ وَكَذَلِكَ الْأُجْرَةُ بَدَلٌ عَنْ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَوْفَاةِ وَهِيَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِهِ لِذَلِكَ لَزِمَ الِاسْتِوَاءُ فِي الْقِسْمَةِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ تَقْدِيمُ الدَّيْنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ حَقٌّ وُضِعَ فِي الْمَالِ الْفَارِغِ عَنْ حَاجَةِ الْمَيِّتِ، فَإِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِلتَّرِكَةِ وَالتَّرِكَةُ مَشْغُولَةٌ بِحَاجَتِهِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ جَرَيَانِ الْإِرْثِ فِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - عَزَّ مِنْ قَائِلٍ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] وَقَدْ قَدَّمَ الدَّيْنَ عَلَى الْمِيرَاثِ، وَسَوَاءٌ كَانَ دَيْنَ الصِّحَّةِ أَوْ دَيْنَ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ مَا بَيَّنَّا، وَإِذَا اجْتَمَعَتْ الدُّيُونُ فَالْغُرَمَاءُ يُقَسِّمُونَ التَّرِكَةَ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ بِالْحِصَصِ وَلَوْ تَوَى شَيْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ اقْتَسَمُوا الْبَاقِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ وَيُجْعَلُ التَّاوِي كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَعَلَّقَ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ التَّرِكَةِ فَكَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَحَلِّ تَعَلُّقِ الْحَقِّ فِي الْإِقْرَار] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ تَعَلُّقِ الْحَقِّ فَمَحَلُّ تَعَلُّقِ الْحَقِّ هُوَ الْمَالُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يُقْضَى مِنْ الْمَالِ لَا مِنْ غَيْرِهِ فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِكُلِّ مَتْرُوكٍ وَهُوَ مَالٌ مِنْ الْعَيْنِ، وَالدَّيْنُ، وَدِيَةُ الْمَدْيُونِ، وَأَرْشُ الْجِنَايَاتِ الْوَاجِبَةُ لَهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَالٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا حَتَّى لَا يَصِحَّ عَفْوُهُمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَوْ عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ عَنْ الْقِصَاصِ حَتَّى انْقَلَبَ نَصِيبُ الْبَاقِينَ مَالًا يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِهِ وَيُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُمْ لِأَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِ الْمَقْتُولِ فَكَانَ حَقَّهُ فَيُصْرَفُ إلَى دُيُونِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ الْمَتْرُوكَةِ. وَكَذَلِكَ الْمَدْيُونُ إذَا كَانَتْ امْرَأَةً يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِمَهْرِهَا وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ مَالٌ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَمَا عُرِفَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَقَارِيرِ وَتَفَاصِيلِهَا فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ فِي إقْرَارِ الْحُرِّ فَهُوَ الْحُكْمُ فِي إقْرَارِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ فَكَانَ هُوَ فِي حُكْمِ الْإِقْرَارِ وَالْحُرُّ سَوَاءً وَلَوْ تَصَرَّفَ الْمَأْذُونُ فِي مَرَضِهِ جَازَتْ مُحَابَاتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَمُحَابَاةُ الْحُرِّ الْمَرِيضِ لَا تَجُوزُ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ انْحِجَارَ الْحُرِّ عَنْ الْمُحَابَاةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَالْعَبْدُ لَا وَارِثَ لَهُ وَحُكْمُ تَصَرُّفِهِ يَقَعُ لِمَوْلَاهُ فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَحَابَى أَنَّهُ تَجُوزُ مُحَابَاتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، كَذَا هَذَا وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَفِي يَدِهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ أَخَذَ الْغُرَمَاءُ دُيُونَهُمْ وَجَازَتْ الْمُحَابَاةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَا فِي يَدِهِ يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي إنْ شِئْت فَأَدِّ جَمِيعَ الْمُحَابَاةِ وَإِلَّا فَارْدُدْ الْمَبِيعَ، كَالْحُرِّ الْمَرِيضِ إذَا حَابَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى وَارِثٍ، وَإِمَّا إنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَإِمَّا إنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ وَإِمَّا إنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ: فَإِنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ يَصِحُّ وَيُصَدَّقُ فِي إقْرَارِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ حَتَّى يَبْرَأَ الْغَرِيمُ عَنْ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ الْوَاجِبُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ نَحْوَ أَرْشِ جِنَايَةٍ أَوْ بَدَلِ صُلْحٍ عَنْ عَمْدٍ أَوْ كَانَ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ نَحْوَ بَدَلِ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ، وَسَوَاءٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ. أَمَّا إذَا وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالُ فُلَانٍ الْمَرِيضِ

فصل في إقرار المريض بدين وجب له على وارثه

بِهَذَا الْإِقْرَارِ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ اسْتَحَقَّ الْبَرَاءَةَ عَنْ الدَّيْنِ بِالْإِقْرَارِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ حَالَةَ الصِّحَّةِ كَمَا اسْتَحَقَّهَا بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمَالِ وَبَيْنَ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَالْعَارِضُ هُوَ الْمَرَضُ وَأَثَرُهُ فِي حَجْرِ الْمَرِيضِ عَمَّا كَانَ لَهُ لَا فِي حَجْرِهِ عَمَّا كَانَ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا أَقَرَّ بَعْدَ الْحَجْرِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ ثَبَتَ لَهُ فِي حَالَةِ الْإِذْنِ أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حَجْرَ الْعَبْدِ أَقْوَى لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَحْجُورًا عَنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَالْمَرِيضُ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عَنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ثُمَّ أَثَرُ الْحَجْرِ هُنَاكَ ظَهَرَ فِيمَا لَهُ لَا فِيمَا عَلَيْهِ فَهَهُنَا أَوْلَى (وَأَمَّا) إذَا وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ فَلِأَنَّ بِالْمَرَضِ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْمُبْدَلِ وَهُوَ النَّفْسُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَلِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُمْ بِهِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ إبْطَالًا لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ فَيَصِحُّ وَيَبْرَأُ الْغَرِيمُ وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ الْمَوْلَى بِاسْتِيفَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ الْوَاقِعَةِ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ يُصَدَّقُ وَيَبْرَأُ الْمُكَاتَبُ لِمَا قُلْنَا: هَذَا إذَا أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ فَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ فَإِنْ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ لَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ مِنْهُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْمُبْدَلِ لِأَنَّهُ مَالٌ فَكَانَ الْبَيْعُ وَالْقَرْضُ إبْطَالًا لِحَقِّهِمْ عَنْ الْمُبْدَلِ إلَّا أَنْ يَصِلَ الْبَدَلُ إلَيْهِمْ فَيَكُونُ بَدَلًا مَعْنًى لِقِيَامِ الْبَدَلِ مَقَامَهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالِاسْتِيفَاءِ فَلَا وُصُولَ لِلْبَدَلِ إلَيْهِمْ فَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ فِي حَقِّهِمْ فَبَقِيَ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالِاسْتِيفَاءِ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ اسْتَوْفَى دَيْنًا مِنْ غَيْرِهِ يَصِيرُ الْمُسْتَوْفَى دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَوْفِي ثُمَّ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالِاسْتِيفَاءِ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالدَّيْنِ - وَعَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ - لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَتْلَفَ رَجُلٌ عَلَى الْمَرِيضِ شَيْئًا فِي مَرَضِهِ فَأَقَرَّ الْمَرِيضُ بِقَبْضِ الْقِيمَةِ مِنْهُ لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمُبْدَلِ حَالَةَ الْمَرَضِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْبَدَلِ وَلَوْ أَتْلَفَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ فَأَقَرَّ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ صَحَّ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِقَبْضِ دَيْنِ الصِّحَّةِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ بَدَلًا عَمَّا هُوَ بِالْمَالِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ بِالْمَرَضِ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ بِالْمُبْدَلِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعَلُّقَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَلِ فَصَارَ الْإِقْرَارُ بِاسْتِيفَائِهِ وَالْإِقْرَارُ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ سَوَاءٌ وَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَكَذَا هَذَا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ لِلْمَرِيضِ أَنَّهُ قَتَلَ عَبْدًا فِي مَرَضِهِ خَطَأً أَوْ قَطَعَ يَدَ الْعَبْدِ أَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلَزِمَهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ فَأَقَرَّ الْمَرِيضُ بِالِاسْتِيفَاءِ فَهُوَ مُصَدَّقٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِقَتْلِ الْعَبْدِ بَدَلُ النَّفْسِ عِنْدَنَا لَا بَدَلُ الْمَالِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ مُقَدَّرًا كَأَرْشِ الْأَحْرَارِ حَتَّى لَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ قِيمَتُهُ ثَلَاثُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ إلَّا أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيُنْقِصُ عَشَرَةً عَنْ عَشْرَةِ آلَافٍ لِئَلَّا يَبْلُغَ دِيَةَ الْحُرِّ وَيُنْقِصُ الدِّرْهَمُ الْحَادِيَ عَشَرَ لِئَلَّا تَبْلُغَ بَدَلُ يَدِهِ بَدَلَ نَفْسِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ بِقَطْعِ يَدِ هَذَا الْعَبْدِ خَمْسَةُ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ دَلَّ أَنَّ أَرْشَ يَدِ الْعَبْدِ وَجَبَ مُقَدَّرًا فَكَانَ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ كَأَرْشِ الْحُرِّ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِالِاسْتِيفَاءِ إبْطَالًا لِحَقِّهِمْ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْجَانِي قَتَلَ الْعَبْدَ مُتَعَمِّدًا فَصَالَحَهُ الْمَرِيضُ عَلَى مَالٍ ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَوْفَى بَدَلَ الصُّلْحِ جَازَ وَكَانَ مُصَدَّقًا؛ لِأَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ بَدَلٌ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي إقْرَارِ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى وَارِثِهِ] (فَصْلٌ) : وَإِنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى وَارِثٍ لَا يَصِحُّ سَوَاءٌ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ أَوْ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْمُسْتَوْفَى دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَوْفِي فَكَانَ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ، وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بَاطِلٌ. وَعَلَى هَذَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَقَرَّتْ فِي مَرَضِ مَوْتِهَا أَنَّهَا اسْتَوْفَتْ مَهْرَهَا مِنْ زَوْجِهَا وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهَا وَعَلَيْهَا دَيْنُ الصِّحَّةِ ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا زَوْجُهَا وَلَا مَالَ لَهَا غَيْرُ الْمَهْرِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهَا وَيُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِرَدِّ الْمَهْرِ إلَى الْغُرَمَاءِ فَيَكُونُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ وَارِثُهَا وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى وَارِثِهِ لَا يَصِحُّ وَإِنْ وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لِلْوَارِثِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ وَلَوْ أَقَرَّتْ فِي مَرَضِهَا أَنَّهَا اسْتَوْفَتْ الْمَهْرَ مِنْ زَوْجِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا يَصِحُّ إقْرَارُهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لَهَا فَلَمْ يَكُنْ إقْرَارُهَا بِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ مِنْهُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِلْوَارِثِ فَصَحَّ، وَلَيْسَ

فصل في إقرار المريض بالإبراء

لِلزَّوْجِ أَنْ يُضَارِبَ الْغُرَمَاءَ بِنِصْفِ الْمَهْرِ فَيَقُولُ أَنَّهَا أَقَرَّتْ بِاسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْمَهْرِ مِنِّي وَهِيَ لَا تَسْتَحِقُّ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إلَّا نِصْفَ الْمَهْرِ فَصَارَ نِصْفُ الْمَهْرِ دَيْنًا لِي عَلَيْهَا فَأَنَا أَضْرِبُ مَعَ غُرَمَائِهَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهَا بِالِاسْتِيفَاءِ إنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ بَرَاءَةِ الزَّوْجِ عَنْ الْمَهْرِ لَا فِي حَقِّ إثْبَاتِ الشَّرِكَةِ فِي مَالِهَا مَعَ غُرَمَائِهَا؛ لِأَنَّ دُيُونَهُمْ دُيُونُ الصِّحَّةِ، وَإِقْرَارُهَا لِلزَّوْجِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِمْ وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ دَخَلَ بِهَا فَأَقَرَّتْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ ثُمَّ طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا ثُمَّ مَاتَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ عِنْدَ الْمَوْتِ لَيْسَ بِوَارِثٍ وَلَوْ مَاتَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّة لَا يَصِحُّ إقْرَارُهَا (أَمَّا) فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَلِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ بَاقِيَةٌ وَالْوِرَاثَةَ قَائِمَةٌ (وَأَمَّا) فِي الْبَائِنِ فَلِأَنَّ الْعِدَّةَ بَاقِيَةٌ، وَكَانَتْ مَمْنُوعَةً مِنْ هَذَا الْإِقْرَارِ لِقِيَامِ النِّكَاحِ فِي حَالَةِ الْعِدَّةِ فَكَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَزُولُ الْمَنْعُ مَا دَامَ الْمَانِعُ قَائِمًا مِنْ وَجْهٍ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُعْتَدَّةِ لِزَوْجِهَا وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهَا وَعَلَيْهَا دُيُونُ الصِّحَّةِ فَيَسْتَوْفِي أَصْحَابُ دُيُونِ الصِّحَّةِ دُيُونَهُمْ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِهَا شَيْءٌ يُنْظَرُ إلَى الْمَهْرِ وَإِلَى مِيرَاثِهِ مِنْهَا فَيُسَلَّمُ لَهُ الْأَقَلُّ مِنْهُمَا وَمَشَايِخُنَا يَقُولُونَ إنَّ هَذَا الْجَوَابَ عَلَى قَوْلِ. أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (وَأَمَّا) عَلَى قَوْلِهِمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إقْرَارُهَا بِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ مِنْ الزَّوْجِ صَحِيحًا فِي حَقِّ التَّقْدِيمِ عَلَى الْوَرَثَةِ فِي جَمِيعِ مَا أَقَرَّتْ (وَأَصْلُ) الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِي الْمَرِيضِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ بِسُؤَالِهَا ثُمَّ يُقِرُّ لَهَا بِمَالٍ أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ لَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ لَهَا الْأَقَلُّ مِنْ نَصِيبِهَا مِنْ الْمِيرَاثِ وَمِمَّا أَقَرَّ لَهَا بِهِ فَهُمَا يَعْتَبِرَانِ ظَاهِرَ كَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُمَا تَوَاضَعَا عَلَى ذَلِكَ لِيُقِرَّ لَهَا بِأَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهَا فَكَانَ مُتَّهَمًا فِيمَا زَادَ عَلَى مِيرَاثِهَا فِي حَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فَلَمْ يَصِحَّ فَهَذَا كَذَلِكَ، وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ فِي الْإِقْرَارِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ كَالْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ وَقَبْضِهِ كَالْحُرِّ، فَكُلُّ مَا صَحَّ مِنْ الْحُرِّ يَصِحُّ مِنْهُ وَمَا لَا فَلَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالْإِبْرَاءِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالْإِبْرَاءِ بِأَنْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ أَنَّهُ كَانَ أَبْرَأَ فُلَانًا مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ فِي صِحَّتِهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْإِبْرَاءِ لِلْحَالِ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِقَبْضِ الدَّيْنِ وَأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْقَبْضِ فَيَمْلِكُ الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِالْإِقْرَارِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ فَهُوَ الْإِقْرَارُ بِالْوَارِثِ وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا إقْرَارُ الرَّجُلِ بِوَارِثٍ وَالثَّانِي إقْرَارُ الْوَارِثِ بِوَارِثِهِ، وَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَانِ: حُكْمُ النَّسَبِ وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ أَمَّا الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ فَلِصِحَّتِهِ فِي حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ شَرَائِطُ، مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مُحْتَمِلَ الثُّبُوتِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ كَائِنٍ فَإِذَا اسْتَحَالَ كَوْنُهُ فَالْإِخْبَارُ عَنْ كَائِنٍ يَكُونُ كَذِبًا مَحْضًا، وَبَيَانُهُ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِغُلَامٍ أَنَّهُ ابْنُهُ وَمِثْلُهُ لَا يَلِدُ مِثْلَهُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لَهُ فَكَانَ كَذِبًا فِي إقْرَارِهِ بِيَقِينٍ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمُقَرُّ بِنَسَبِهِ مَعْرُوفَ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ غَيْرِهِ لَا يَحْتَمِلُ ثُبُوتَهُ لَهُ بَعْدَهُ، وَمِنْهَا تَصْدِيقُ الْمُقَرِّ بِنَسَبِهِ إذَا كَانَ فِي يَدِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ يَدِهِ فَلَا تَبْطُلُ إلَّا بِرِضَاهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْمُقِرِّ لِصِحَّةِ إقْرَارِهِ بِالنَّسَبِ حَتَّى يَصِحَّ مِنْ الصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ لَيْسَ بِمَانِعٍ لِعَيْنِهِ بَلْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ أَوْ التُّهْمَةِ فَكُلُّ ذَلِكَ مُنْعَدِمٌ، أَمَّا التَّعَلُّقُ فَظَاهِرُ الْعَدَمِ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ التَّعَلُّقُ فِي مَجْهُولِ النَّسَبِ وَكَذَلِكَ مَعْنَى التُّهْمَةِ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ النَّسَبِ فَإِنَّ لِحِرْمَانِ الْإِرْثِ أَسْبَابًا لَا تَقْدَحُ فِي النَّسَبِ مِنْ الْقَتْلِ وَالرِّقِّ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ وَالدَّارِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَمْلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ سَوَاءٌ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ بِنَسَبِهِ أَوْ صَدَّقَهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِهِ شَهَادَةٌ أَوْ دَعْوَى وَالدَّعْوَى الْمُفْرَدَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ فِيمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَهُوَ مِنْ بَابِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَالْإِقْرَارُ الَّذِي فِيهِ حَمْلُ نَسَبِ الْغَيْرِ عَلَى غَيْرِهِ إقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ دَعْوَى أَوْ شَهَادَةً وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُقْبَلُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ إقْرَارُ الرَّجُلِ بِخَمْسَةِ نَفَرٍ: الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ وَالْمَوْلَى، وَيَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: الْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالْمَوْلَى، وَلَا يَجُوزُ بِالْوَلَدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِقْرَارِ بِهَؤُلَاءِ حَمْلُ نَسَبِ الْغَيْرِ عَلَى غَيْرِهِ أَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْوَلَاءِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَمْلُ نَسَبٍ إلَى أَحَدٍ

وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالزَّوْجِيَّةِ لَيْسَ فِيهِ حَمْلُ نَسَبِ الْغَيْرِ عَلَى غَيْرِهِ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ التَّصْدِيقِ لِمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ إنْ وُجِدَ التَّصْدِيقُ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُقِرِّ جَازَ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ وُجِدَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ مِنْ الزَّوْجِ يَصِحُّ تَصْدِيقُ الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ صَدَّقَتْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ بِأَنْ أَقَرَّ الرَّجُلُ بِالزَّوْجِيَّةِ فَمَاتَ ثُمَّ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ وَجْهٍ لِبَقَاءِ بَعْضِ أَحْكَامِهِ فِي الْعِدَّةِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلتَّصْدِيقِ، وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِالزَّوْجِيَّةِ مِنْ الْمَرْأَةِ فَصَدَّقَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ مَوْتِهَا لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَصِحُّ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ النِّكَاحَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ وَجْهٍ فَيَجُوزُ التَّصْدِيقُ كَمَا إذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالزَّوْجِيَّةِ وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ النِّكَاحَ لِلْحَالِ عَدَمٌ حَقِيقَةً فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّصْدِيقِ إلَّا أَنَّهُ أُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ الْبَقَاءِ لِاسْتِيفَاءِ أَحْكَامٍ كَانَتْ ثَابِتَةً قَبْلَ الْمَوْتِ، وَالْمِيرَاثُ حُكْمٌ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ زَائِلًا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْوَلَدِ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَمْلُ نَسَبِ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ بَلْ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَيُقْبَلُ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ التَّصْدِيقِ إذَا كَانَ فِي يَدِ نَفْسِهِ لِمَا قُلْنَا، وَسَوَاءٌ وَجَدَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَيَجُوزُ التَّصْدِيقُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالْوَالِدَيْنِ لَيْسَ فِيهِ حَمْلُ نَسَبِ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَيُقْبَلُ وَكَذَلِكَ إقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِهَؤُلَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا إلَّا الْوَلَدَ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَمْلَ نَسَبِ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ نَسَبُ الْوَلَدِ عَلَى الزَّوْجِ فَلَا يُقْبَلُ إلَّا إذَا صَدَّقَهَا الزَّوْجُ أَوْ تَشْهَدُ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَمْلَ نَسَبِ الْوَلَدِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ الْإِقْرَارُ بِغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْعَمِّ وَالْأَخِ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَمْلَ نَسَبِ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ الْأَبُ وَالْجَدُّ وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ فِي حَقِّ حُكْمِ الْمِيرَاثِ يُشْتَرَطُ لَهُ مَا يُشْتَرَطُ لِلْإِقْرَارِ بِهِ فِي حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا إلَّا شَرْطَ حَمْلِ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ بِنَسَبٍ يَحْمِلُهُ الْمُقِرُّ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ أَصْلًا وَيَصِحُّ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ أَصْلًا وَيَكُونَ مِيرَاثُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ وَاجِبُ التَّصْحِيحِ مَا أَمْكَنَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فِي حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ لِفَقْدِ شَرْطِ الصِّحَّةِ أَمْكَنَ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ وَارِثٌ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ أَصْلًا وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْمِيرَاثِ بِأَنْ أَقَرَّ بِأَخٍ وَلَهُ عَمَّةٌ أَوْ خَالَةٌ فَمِيرَاثُهُ لِعَمَّتِهِ أَوْ لِخَالَتِهِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّهُمَا وَارِثَانِ بِيَقِينٍ فَكَانَ حَقُّهُمَا ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بِالصَّرْفِ إلَى غَيْرِهِمَا وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِأَخٍ أَوْ ابْنِ ابْنٍ وَلَهُ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ ثُمَّ مَاتَ فَالْمِيرَاثُ لِلْمَوْلَى وَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ الْوَلَاءَ مِنْ أَسْبَابِ الْإِرْثِ وَلَا يَكُونُ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ رُجُوعًا عَنْ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ لِانْعِدَامِ الرُّجُوعِ حَقِيقَةً فَبَقِيَ الْعَقْدُ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِالْمَذْكُورِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ هُوَ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ عَصَبَتُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ وَلَكِنَّهُ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ لِرَجُلٍ فَالثُّلُثُ لِلْمُوصَى لَهُ وَالْبَاقِي لِلْأَخِ الْمُقَرِّ بِهِ لِأَنَّهُ وَارِثٌ فِي زَعْمِهِ وَظَنِّهِ، وَلَوْ كَانَ مَعَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَالِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ أَيْضًا فَلِلْمُوصَى لَهُ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى وَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ لَكِنَّهَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِالْمَذْكُورِ لِمَا بَيَّنَّا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَكَانَ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ؛ لِأَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ آخِرُ الْوَرَثَةِ مُؤَخَّرٌ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَأَضْعَفُ الْوِلَاءَيْنِ لَمَّا مَنَعَ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِالْمَذْكُورِ فَأَقْوَاهُمَا أَوْلَى وَلَوْ أَقَرَّ بِأَخٍ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ ثُمَّ أَنْكَرَ الْمَرِيضُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَالَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَك قَرَابَةٌ بَطَلَ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ أَيْضًا حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بَعْدَ الْإِنْكَارِ بِمَالِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ فَالْمَالُ كُلُّهُ لِلْمُوصَى لَهُ بِجَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ مِنْهُ رُجُوعٌ، وَالرُّجُوعُ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْإِقْرَارِ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْوَصِيَّةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَصِيَّةً فِي الْحَقِيقَةِ وَالرُّجُوعُ عَنْ الْوَصِيَّةِ صَحِيحٌ وَلَوْ أَنْكَرَ وَلَيْسَ هُنَاكَ مُوصًى لَهُ بِالْمَالِ أَصْلًا فَالْمَالُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِبُطْلَانِ الْإِقْرَارِ أَصْلًا بِالرُّجُوعِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ، وَالثَّانِي فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَمْرُ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا إنْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا وَإِمَّا إنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ بِأَنْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ هَلْ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْمَيِّتِ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِ وَارِثٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَثْبُتُ وَبِهِ أَخَذَ

الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ بِأَنْ كَانَا رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ فَصَاعِدًا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ إقْرَارَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ فَيَكُونُ مَقْبُولًا فِي حَقِّ النَّسَبِ كَإِقْرَارِ الْجَمَاعَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأُخُوَّةِ إقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَمْلِ نَسَبِ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَكَانَ شَهَادَةً وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي النَّسَبِ مَقْبُولَةٌ وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ فَإِقْرَارُ الْوَارِثِ الْوَاحِد بِوَارِثٍ يَصِحُّ وَيُصَدَّقُ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ بِأَنْ أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِأَخٍ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يُشَارِكُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأُخُوَّةِ إقْرَارٌ بِشَيْئَيْنِ: النَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ إقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِأَنَّهُ دَعْوًى فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ شَهَادَةٌ، وَالْإِقْرَارُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ وَأَنَّهُ مَقْبُولٌ، وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ الْوَاحِدُ مَقْبُولًا بِجِهَةٍ غَيْرَ مَقْبُولٍ بِجِهَةٍ أُخْرَى كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْعِتْقِ وَلَا يُقْبَلُ فِي حَقِّ وِلَايَةِ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ فَعَلَى ذَلِكَ هَهُنَا جَازَ أَنْ يُقْبَلَ الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ. وَلَوْ أَقَرَّ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ بِأُخْتٍ أَخَذَتْ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ قَدْ صَحَّ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ وَلَهَا مَعَ الْأَخِ ثُلُثُ الْمِيرَاثِ وَلَوْ أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ أَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِيهِ فَلَهَا ثَمَنُ مَا فِي يَدِهِ وَلَوْ أَقَرَّ بِجَدَّةٍ هِيَ أُمُّ الْمَيِّتِ فَلَهَا سُدُسُ مَا فِي يَدِهِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُقِرَّ فِيمَا فِي يَدِهِ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ مَا لَوْ ثَبَتَ النَّسَبُ وَلَوْ أَقَرَّ ابْنُ الْمَيِّتِ بِابْنِ ابْنٍ لِلْمَيِّتِ وَصَدَّقَهُ لَكِنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ ابْنَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ وَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقَرِّ لَهُ وَالْمَالُ كُلُّهُ لَهُ مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى النَّسَبِ (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى إثْبَاتِ وِرَاثَةِ الْمُقَرِّ لَهُ وَاخْتَلَفَا فِي وِرَاثَةِ الْمُقِرِّ فَيَثْبُتُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ وَيَقِفُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ إنَّمَا اسْتَفَادَ الْمِيرَاثَ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ فَلَوْ بَطَلَ إقْرَارُهُ لَبَطَلَتْ وِرَاثَتُهُ وَفِي بُطْلَانِ وِرَاثَتِهِ بُطْلَانُ وِرَاثَةِ الْمُقَرِّ لَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِابْنَةٍ لِلْمَيِّتِ وَصَدَّقَتْهُ لَكِنَّهَا أَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ ابْنَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ اسْتِحْسَانًا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ أَقَرَّتْ امْرَأَةٌ بِأَخٍ لِلزَّوْجِ الْمَيِّتِ وَصَدَّقَهَا الْأَخُ وَلَكِنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ هِيَ امْرَأَةُ الْمَيِّتِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَعَلَى الْمَرْأَةِ إثْبَاتُ الزَّوْجِيَّةِ بِالْبَيِّنَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ وَالْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهَا وَلَوْ أَقَرَّ زَوْجُ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ بِأَخٍ لَهَا وَصَدَّقَهُ الْأَخُ لَكِنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ هُوَ زَوْجُهَا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ قِيَاسُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِالْمَعْنَى الْجَامِعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ (وَوَجْهُهُ) أَنَّ النِّكَاحَ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ وَالْإِقْرَارُ بِسَبَبٍ مُنْقَطِعٍ لَا يُسْمَعُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ بِخِلَافِ النَّسَبِ وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ ثَالِثٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْأَخُ الْمَعْرُوفُ فِي ذَلِكَ شَارَكَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ كَمَا إذَا أَقَرَّا جَمِيعًا لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ كَذَّبَهُ فِيهِ فَإِنَّهُ يُقْسَمُ الْمَالُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ أَوَّلًا نِصْفَيْنِ فَيُدْفَعُ النِّصْفُ إلَى الْأَخِ الْمُنْكِرِ وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ فَيُقْسَمُ بَيْنَ الْأَخِ الْمُقِرِّ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُ نِصْفَيْنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِلْمُقِرِّ وَثُلُثُهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ (وَجْهُ) قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ مِنْ زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ الْمَالَ بَيْنَ الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ أَثْلَاثٌ وَأَنَّ ثُلُثَ الْمُقَرِّ لَهُ نِصْفُهُ فِي يَدِهِ وَنِصْفُهُ فِي يَدِ أَخِيهِ الْمُنْكِرِ عَلَى الشُّيُوعِ إلَّا أَنَّ إقْرَارَهُ عَلَى أَخِيهِ لَا يَنْفُذُ فِيمَا فِي يَدِ أَخِيهِ فَيَنْفُذُ فِيمَا فِي يَدِهِ فَيُعْطِيهِ ثُلُثَ ذَلِكَ. (وَلَنَا) أَنَّ مِنْ زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ بِنَسَبِهِ فِي الْمِيرَاثِ حَقُّهُ وَأَنَّ الْمُنْكِرَ فِيمَا يَأْخُذُ مِنْ الزِّيَادَةِ وَهُوَ النِّصْفُ التَّامُّ ظَالِمٌ فَيُجْعَلُ مَا فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْهَالِكِ فَيَكُونُ النِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبْعُ الْمَالِ وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأُخْتٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْآخَرُ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَيُقْسَمُ الْمَالُ أَوَّلًا نِصْفَيْنِ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ، النِّصْفُ لِلْأَخِ الْمُنْكِرِ ثُمَّ يُقْسَمُ النِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَ الْأَخِ الْمُقِرِّ وَأُخْتِهِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِامْرَأَةٍ أَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِينَا فَإِنْ صَدَّقَهُ الْآخَرُ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبْعَةٌ لَا تَسْتَقِيمُ عَلَيْهَا فَتُصَحِّحْ الْمَسْأَلَةَ فَتَضْرِبُ سَهْمَيْنِ فِي ثَمَانِيَةٍ فَتَصِيرُ سِتَّةَ عَشَرَ لَهَا ثُمُنُهَا وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبْعَةٌ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَلَهَا تُسْعُ مَا فِي يَدِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهَا ثُمُنُ مَا فِي يَدِهِ (وَجْهُ) قَوْلِهِ فِي أَنَّ زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ

لِلْمَرْأَةِ ثُمُنَ مَا فِي يَدَيْ الْأَخَوَيْنِ إلَّا أَنَّ إقْرَارَهُ صَحَّ فِيمَا فِي يَدِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، وَإِذَا صَحَّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يُعْطِيهَا ثُمُنَ مَا فِي يَدِهِ (وَجْهُ) قَوْلِ الْعَامَّةِ أَنَّ فِي زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ ثُمُنَ التَّرِكَةِ لَهَا وَسَبْعَةَ أَثْمَانِهَا لَهُمَا بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوِيَّةِ، أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ وَقِسْمَتُهَا مَا ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّ الْأَخَ الْمُنْكِرَ فِيمَا يَأْخُذُ مِنْ الزِّيَادَةِ ظَالِمٌ فَيُجْعَلُ مَا فِي يَدِهِ كَالْهَالِكِ وَيُقْسَمُ النِّصْفُ الَّذِي فِي يَدِ الْمُقِرِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا وَيُجْعَلُ مَا يَحْصُلُ لِلْمُقِرِّ، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ سَهْمَانِ مِنْ ذَلِكَ لَهَا وَسَبْعَةُ أَسْهُمٍ لَهُ، وَإِذَا جُعِلَ هَذَا النِّصْفُ عَلَى تِسْعَةٍ صَارَ كُلُّ الْمَالِ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ: تِسْعَةٌ مِنْهَا لِلْأَخِ الْمُنْكِرِ وَسَهْمَانِ لِلْمَرْأَةِ وَسَبْعَةُ أَسْهُمٍ لِلْأَخِ الْمُقِرِّ هَذَا إذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ بِوَارِثٍ وَاحِدٍ. فَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِوَارِثٍ بَعْدَ وَارِثٍ بِأَنْ أَقَرَّ بِوَارِثٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِوَارِثٍ آخَرَ فَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ أَنَّهُ إنْ صَدَّقَ الْمُقِرُّ بِوِرَاثَةِ الْأَوَّلِ وَفِي إقْرَارِهِ بِالْوِرَاثَةِ لِلثَّانِي فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَذَّبَهُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ دَفَعَ نَصِيبَ الْأَوَّلِ إلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَضْمَنُ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْهَالِكِ، وَيُقْسَمَانِ عَلَى مَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا، وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يَضْمَنُ وَيُجْعَلُ الْمَدْفُوعُ كَالْقَائِمِ فِي يَدِهِ فَيُعْطَى الثَّانِي حَقَّهُ مِنْ كُلِّ الْمَالِ. بَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِيمَنْ هَلَكَ وَتَرَكَ ابْنًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ لَهُ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِ نِصْفَ الْمِيرَاثِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْإِخْوَةِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِأَخٍ آخَرَ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ أَقَرَّ بِهِ بَعْدَمَا دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ، وَإِمَّا إنْ أَقَرَّ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْأَوَّلِ نَصِيبَهُ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ مَا دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ نَصِيبَهُ فَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلِلثَّانِي رُبْعُ الْمَالِ وَيَبْقَى فِي يَدِ الْمُقِرِّ الرُّبْعُ؛ لِأَنَّ الرُّبْعَ فِي الْقَضَاءِ فِي حُكْمِ الْهَالِكِ لِكَوْنِهِ مَجْبُورًا فِي الدَّفْعِ فَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ الثَّانِيَ يُسَاوِيهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ النِّصْفِ وَهُوَ رُبْعُ الْكُلِّ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَمْ يَدْفَعْ إلَى الْأَوَّلِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَالِ صَارَ مُسْتَحَقَّ الصَّرْفِ إلَيْهِ وَالْمُسْتَحَقُّ كَالْمَصْرُوفِ كَانَ دَفَعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي أَعْطَى الثَّانِيَ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الدَّفْعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، وَالْمَضْمُونُ كَالْقَائِمِ فَيَدْفَعُ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ إلَيْهِ وَيَبْقَى فِي يَدِهِ الثُّلُثُ فَإِنْ دَفَعَ ثُلُثَ الْمَالِ إلَى الثَّانِي بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي ثُمَّ أَقَرَّ بِأَخٍ ثَالِثٍ وَكَذَّبَهُ الثَّالِثُ فِي الْإِقْرَارِ بِالْأَوَّلَيْنِ أَخَذَ الثَّالِثُ مِنْ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ رُبْعَ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ كُلَّ الْمَالِ قَائِمٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ مَضْمُونٌ عَلَى الدَّافِعِ فَيَأْخُذُ السُّدُسَ الَّذِي فِي يَدِ الْمُقِرِّ وَنِصْفَ سُدُسٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى الْأَوَّلَيْنِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ الثَّالِثِ فَيَضْمَنُ لَهُ قَدْرَ نِصْفِ سُدُسٍ فَيَدْفَعُهُ مَعَ السُّدُسِ الَّذِي فِي يَدِهِ إلَيْهِ وَعَلَى هَذَا إذَا تَرَكَ ابْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأَخٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِأَخٍ آخَرَ فَإِنْ صَدَّقَهُ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ اشْتَرَكُوا فِي الْمِيرَاثِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ بِوِرَاثَتِهِ الْأَوَّلُ فَنِصْفُ الْمَالِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثٌ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْوِرَاثَةِ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ الْمُقَرِّ بِوِرَاثَتِهِ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ الِابْنِ الْمَعْرُوفِ وَكَانَ النِّصْفُ لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَإِنْ كَذَّبَهُ فَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ دَفَعَ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ وَهُوَ رُبْعُ جَمِيعِ الْمَالِ إلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي كَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فِي حُكْمِ الْهَالِكِ فَكَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُمُنُ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ يُعْطِي الثَّانِيَ مِمَّا فِي يَدِهِ وَهُوَ رُبْعُ الْمَالِ سُدُسَ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ مَضْمُونٌ عَلَى الدَّافِعِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الرُّبْعُ كَالْقَائِمِ. وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأُخْتٍ وَدَفَعَ إلَيْهَا نَصِيبَهَا ثُمَّ أَقَرَّ بِأُخْتٍ أُخْرَى وَكَذَّبَهُ الْأَخُ فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الْأُخْتُ الْأُولَى فَنِصْفُ الْمَالِ لِلْأَخِ الْمُنْكِرِ وَالنِّصْفُ بَيْنَ الْأَخِ الْمُقِرِّ وَبَيْنَ الْأُخْتَيْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ فَإِنْ كَانَ دَفَعَ إلَيْهَا نَصِيبَهَا وَهُوَ ثُلُثُ النِّصْفِ، وَذَلِكَ سُدُسُ الْكُلِّ بِقَضَاءٍ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْمُقِرِّ وَبَيْنَ الْأُخْتِ الْأُخْرَى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْمَدْفُوعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فِي حُكْمِ الْهَالِكِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الدَّافِعِ، وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَإِنَّ الْمُقِرَّ يُعْطِي لِلْأُخْتِ الْأُخْرَى مِمَّا فِي يَدِهِ نِصْفَ رُبْعِ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ الدَّفْعَ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ إتْلَافٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَائِمٌ فِي يَدِهِ وَقَدْ أَقَرَّ بِأُخْتَيْنِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَكُونُ لَهُمَا رُبْعُ جَمِيعِ الْمَالِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ الثُّمُنُ كَذَلِكَ هَهُنَا يُعْطِي الْأُخْتَ الْأُخْرَى مِمَّا فِي يَدِهِ نِصْفَ رُبْعِ جَمِيعِ الْمَالِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ لَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِامْرَأَةٍ لِأَبِيهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِأُخْرَى فَإِنْ أَقَرَّ بِهِمَا مَعًا فَذَلِكَ التُّسْعَانِ لَهُمَا جَمِيعًا وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الزَّوْجَاتِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِالْأُولَى وَدَفَعَ إلَيْهَا ثُمَّ

فصل في بيان ما يبطل به الإقرار بعد وجوده

بِالْأُخْرَى فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الْأُولَى فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ وَإِنْ كَذَّبَتْهُ فَالنِّصْفُ لِلْأَخِ الْمُنْكِرِ وَتُسْعَانِ لِلْأُولَى فَبَقِيَ هُنَاكَ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ وَالْمَرْأَةُ الْأُخْرَى فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ دَفَعَ التُّسْعَيْنِ إلَى الْأُولَى بِالْقَضَاءِ يُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْهَالِكِ وَيُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَى الْبَاقِي وَهُوَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَ الِابْنِ الْمُقِرِّ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ الْأُخْرَى عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ: ثُمُنٌ مِنْ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ وَسَبْعَةٌ لِلِابْنِ الْمُقِرِّ وَإِنْ كَانَ دَفَعَ إلَيْهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ يُعْطِي مِنْ التِّسْعَةِ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُ سَهْمًا لِلْمَرْأَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ سُبُعُ نِصْفِ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ الْمَدْفُوعَ كَالْقَائِمِ عِنْدَهُ وَلَوْ كَانَ نِصْفُ الْمَالِ عِنْدَهُ قَائِمًا يُعْطِي الْأُخْرَى التُّسْعَ وَذَلِكَ سَهْمٌ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ ثُمُنُ الْمَالِ لِلْمَرْأَتَيْنِ جَمِيعًا، وَالثُّمُنُ هُوَ تُسْعَانِ تُسْعٌ لِلْأُولَى وَتُسْعٌ لِلْأُخْرَى إلَّا أَنَّ الْأُولَى ظَلَمَتْ حَيْثُ أَخَذَتْ زِيَادَةَ سَهْمٍ، وَذَلِكَ الظُّلْمُ حَصَلَ عَلَى الْأَخِ الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَيَدْفَعُ التُّسْعَ الثَّانِي إلَى الْأُخْرَى وَهُوَ سُبْعُ نِصْفِ الْمَالِ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ وَهُوَ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنًا مَعْرُوفًا وَأَلْفَ دِرْهَمٍ فِي يَدِهِ فَادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَدَّقَهُ الِابْنُ أَوْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَدَفَعَ إلَى الْغَرِيمِ ذَلِكَ ثُمَّ ادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ عَلَى الْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَدَّقَهُ الِابْنُ أَوْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَإِنْ كَانَ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءٍ لَمْ يَضْمَنْ لِلثَّانِي شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ فِي الدَّفْعِ مَجْبُورٌ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْهَالِكِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ يَضْمَنُ لِلثَّانِي نِصْفَ الْمَالِ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي الدَّفْعِ فَكَانَ إتْلَافًا فَيَضْمَنُ، كَمَا إذَا أَقَرَّ لَهُمَا ثُمَّ دَفَعَ إلَى أَحَدِهِمَا وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ بِأَخٍ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ لَسْت بِأَخٍ لِي وَإِنَّمَا أَخِي هَذَا الرَّجُلُ الْآخَرُ وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ بِذَلِكَ وَكَذَّبَهُ فِي الْإِقْرَارِ الْأَوَّلُ، فَإِنْ كَانَ دَفَعَ النِّصْفَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءٍ يُشَارِكُهُ الثَّانِي فِيمَا فِي يَدِهِ فَيَقْتَسِمَانِ نِصْفَيْنِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّفْعَ بِقَضَاءٍ فِي حُكْمِ الْهَلَاكِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ يَدْفَعُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ وَهُوَ نِصْفُ الْمَالِ إلَى الْآخَرِ لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا وَأَلْفَ دِرْهَمٍ فَادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَدَّقَهُ الْوَارِثُ وَدَفَعَ إلَيْهِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَكَذَّبَهُ الْوَارِثُ وَصَدَّقَهُ الْغَرِيمُ الْأَوَّلُ وَأَنْكَرَ الْغَرِيمُ الثَّانِي دَيْنَ الْغَرِيمِ الْأَوَّلِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إنْكَارِهِ وَيَقْتَسِمَانِ الْأَلْفَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْغَرِيمِ الثَّانِي إنَّمَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الْغَرِيمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ يُصَدِّقُهُ، وَهُوَ مَا أَقَرَّ لَهُ إلَّا بِالنِّصْفِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الْغَرِيمُ الثَّانِي لِغَرِيمٍ ثَالِثٍ فَإِنَّ الْغَرِيمَ الثَّالِثَ يَأْخُذُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ أَلْفًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَأَنْتَ أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ أَخًا لَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ اسْتِحْسَانًا عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ لِلْمُقَرِّ بِهِ: أَنَا وَأَنْتَ أَخَوَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَلِي عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ وَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ بِهِ الدَّيْنَ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الدَّيْنِ دَعْوَى أَمْرٍ عَارِضٍ مَانِعٍ مِنْ الْإِرْثِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ. وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا وَأَلْفَ دِرْهَمٍ فَادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَدَّقَهُ الْوَارِثُ بِذَلِكَ وَدَفَعَ إلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ وَصَدَّقَهُمَا بِذَلِكَ الِابْنُ الْمَعْرُوفُ وَكَذَّبَاهُ فِيمَا أَقَرَّ فَإِنْ كَانَ دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الدَّافِعِ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ وَالْوَصِيَّةَ مُؤَخَّرَانِ عَنْ الدَّيْنِ فَإِقْرَارُهُ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ وَلَمْ يُوجَدْ الْمِيرَاثُ وَلَوْ أَقَرَّ لَهُمَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَدَفَعَ إلَيْهِمَا ثُمَّ أَقَرَّ لِلْغَرِيمِ كَانَ لِلْغَرِيمِ أَنْ يُضَمِّنَهُ مَا دَفَعَ إلَى الْأَوَّلَيْنِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ فَإِذَا دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَقَدْ أَتْلَفَ عَلَى الْغَرِيمِ حَقَّهُ، وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِقَضَاءٍ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ ثَبَتَ الْوَصِيَّةُ أَوْ الْمِيرَاثُ بِالْبَيِّنَةِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْغَرِيمُ بِدَيْنِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِلْغَرِيمِ فِيمَا دَفَعَهُ إلَى الْوَارِثِ وَالْمُوصَى لَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمِيرَاثِ أَوْ الْوَصِيَّةِ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ وَارِثٌ مَعْرُوفٌ أَوْ مُوصًى لَهُ فَالْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّهِمَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ دَفَعَ إلَيْهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْغَرِيمِ وَيُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى الدَّفْعِ إلَى الْوَارِثِ وَالْمُوصَى لَهُ لِمَا قُلْنَا، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِقْرَارُ بَعْدَ وُجُودِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِقْرَارُ بَعْدَ وُجُودِهِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْإِقْرَارُ بَعْدَ وُجُودِهِ يَبْطُلُ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا تَكْذِيبُ الْمُقَرِّ لَهُ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْإِقْرَارِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ دَلِيلُ لُزُومِ الْمُقَرِّ بِهِ وَتَكْذِيبُ الْمُقِرِّ دَلِيلُ عَدَمِ اللُّزُومِ، وَاللُّزُومُ لَمْ يُعْرَفْ ثُبُوتُهُ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ. وَالثَّانِي رُجُوعُ الْمُقِرِّ عَنْ إقْرَارِهِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْإِقْرَارِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَالِصًا كَحَدِّ الزِّنَا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي الْإِنْكَارِ فَيَكُونُ كَاذِبًا

كتاب الجنايات

فِي الْإِقْرَارِ ضَرُورَةً فَيُوَرِّثُ شُبْهَةً فِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَسَوَاءٌ رَجَعَ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ تَمَامِ الْجَلْدِ أَوْ الرَّجْمِ قَبْلَ الْمَوْتِ لِمَا قُلْنَا. وَرُوِيَ «أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا رُجِمَ بَعْضَ الْحِجَارَةِ هَرَبَ مِنْ أَرْضٍ قَلِيلَةِ الْحِجَارَةِ إلَى أَرْضٍ كَثِيرَةِ الْحِجَارَةِ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سُبْحَانَ اللَّهِ هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ» وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ تَلْقِينُ الْمُقِرِّ الرُّجُوعَ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّك لَمَسْتَهَا أَوْ قَبَّلَتْهَا كَمَا لَقَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاعِزًا وَكَمَا لَقَّنَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - السَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا إخَالُهُ سَرَقَ أَوْ أَسَرَقْت، قُولِي لَا» لَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلرُّجُوعِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّلْقِينِ مَعْنًى وَفَائِدَةٌ فَكَانَ التَّلْقِينُ مِنْهُ - عَلَيْهِ أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ وَالتَّسْلِيمِ - احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ لِأَنَّهُ أَمَرَنَا بِهِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ - «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ لِأَنَّ الْحَدَّ الْوَاجِبَ بِهِمَا حَقُّ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - خَالِصًا فَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِهِمَا إلَّا أَنَّ فِي السَّرِقَةِ يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ لَا فِي حَقِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْقَطْعَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - عَلَى الْخُلُوصِ فَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ، فَأَمَّا الْمَالُ فَحَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهِ. وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ فِيهِ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقًّا فَيَكُونُ مُتَّهَمًا فِي الرُّجُوعِ فَلَا يَصِحُّ كَالرُّجُوعِ عَنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ الْمُتَمَحِّضَة لِلْعِبَادِ وَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ خَالِصُ حَقِّ الْعِبَادِ فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ الْجِنَايَاتِ] [الْقَتْل وَأَنْوَاعه] (كِتَابُ الْجِنَايَاتِ) الْجِنَايَةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: جِنَايَةٌ عَلَى الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ، وَجِنَايَةٌ عَلَى الْآدَمِيِّ. (أَمَّا) الْجِنَايَةُ عَلَى الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا: غَصْبٌ وَإِتْلَافٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي كِتَابِ الْغَصْبِ، وَهَذَا الْكِتَابُ وُضِعَ لِبَيَانِ حُكْمِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ خَاصَّةً، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: الْجِنَايَةُ عَلَى الْآدَمِيِّ فِي الْأَصْلِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: جِنَايَةٌ عَلَى النَّفْسِ مُطْلَقًا، وَجِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مُطْلَقًا، وَجِنَايَةٌ عَلَى مَا هُوَ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ. (أَمَّا) الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ مُطْلَقًا فَهِيَ قَتْلُ الْمَوْلُودِ، وَالْكَلَامُ فِي الْقَتْلِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ كُلِّ نَوْعٍ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالْقَتْلُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: قَتْلٌ هُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَمْدِ، وَقَتْلٌ عَمْدٌ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَمْدِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِشِبْهِ الْعَمْدِ، وَقَتْلٌ هُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَمْدِ، وَقَتْلٌ هُوَ فِي مَعْنَى الْقَتْلِ الْخَطَأِ. (أَمَّا) الَّذِي هُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ فَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْقَتْلَ بِحَدِيدٍ لَهُ حَدٌّ أَوْ طَعْنٌ كَالسَّيْفِ، وَالسِّكِّينِ، وَالرُّمْحِ، وَالْإِشْفَى، وَالْإِبْرَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ مَا يَعْمَلُ عَمَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فِي الْجَرْحِ، وَالطَّعْنِ كَالنَّارِ، وَالزُّجَاجِ، وَلِيطَةِ الْقَصَبِ، وَالْمَرْوَةِ، وَالرُّمْحِ الَّذِي لَا سِنَانَ لَهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْآلَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ النُّحَاسِ، وَكَذَلِكَ الْقَتْلُ بِحَدِيدٍ لَا حَدَّ لَهُ كَالْعَمُودِ، وَصَنْجَةِ الْمِيزَانِ، وَظَهْرِ الْفَأْسِ، وَالْمَرْوِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ عَمْدٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، (وَرَوَى) الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ لَيْسَ بِعَمْدٍ، فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْعِبْرَةُ لِلْحَدِيدِ نَفْسِهِ سَوَاءٌ جَرَحَ أَوْ لَا، وَعَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ الْعِبْرَةُ لِلْجَرْحِ نَفْسِهِ حَدِيدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي مَعْنَى الْحَدِيدِ كَالصُّفْرِ، وَالنُّحَاسِ، وَالْآنُكِ، وَالرَّصَاصِ، وَالذَّهَب، وَالْفِضَّة فَحُكْمُهُ حُكْم الْحَدِيدِ. وَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَى كَوْنِهِ شِبْهُ عَمْدٍ، وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، أَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْقَتْلَ بِعَصًا صَغِيرَةٍ أَوْ بِحَجَرٍ صَغِيرٍ أَوْ لَطْمَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ الْغَالِبَ فِيهِ الْهَلَاكُ كَالسَّوْطِ، وَنَحْوِهِ إذَا ضَرَبَ ضَرْبَةً أَوْ ضَرْبَتَيْنِ، وَلَمْ يُوَالِ فِي الضَّرَبَاتِ. وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَهُوَ أَنْ يَضْرِبَ بِالسَّوْطِ الصَّغِيرِ، وَيُوَالِيَ فِي الضَّرَبَاتِ إلَى أَنْ يَمُوتَ، وَهَذَا شِبْهُ عَمْدٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْن أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ عَمْدٌ، وَإِنْ قَصَدَ قَتْلَهُ بِمَا يَغْلِب فِيهِ الْهَلَاكُ مِمَّا لَيْسَ بِجَارِحٍ، وَلَا طَاعِنٍ كَمِدَقَّةِ الْقَصَّارِينَ، وَالْحَجَرِ الْكَبِيرِ، وَالْعَصَا الْكَبِيرَةِ، وَنَحْوِهَا فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا، وَالشَّافِعِيِّ هُوَ عَمْدٌ، وَلَا يَكُونُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ، فَمَا كَانَ شِبْهُ عَمْدٍ فِي النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ لَا يُقْصَدُ إتْلَافُهُ بِآلَةٍ دُونَ آلَةٍ عَادَةً فَاسْتَوَتْ الْآلَاتُ كُلُّهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْقَصْدِ فَكَانَ الْفِعْلُ عَمْدًا

وجوب القصاص وشرائطه

مَحْضًا فَيُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ إيجَابُ الْقِصَاصِ يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ يَجِبْ الْأَرْشُ. وَأَمَّا الْقَتْلُ الْخَطَأُ فَالْخَطَأُ قَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي ظَنِّ الْفَاعِلِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَنَحْوُ أَنْ يَقْصِدَ صَيْدًا فَيُصِيبَ آدَمِيًّا، وَأَنْ يَقْصِدَ رَجُلًا فَيُصِيبَ غَيْرَهُ، فَإِنْ قَصْدَ عُضْوًا مِنْ رَجُلٍ فَأَصَابَ عُضْوًا آخَرَ مِنْهُ فَهَذَا عَمْدٌ، وَلَيْسَ بِخَطَأٍ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَنَحْوَ أَنْ يَرْمِيَ إلَى إنْسَانٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ أَوْ مُرْتَدٌّ فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ. وَأَمَّا الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فَنَذْكُرُ حُكْمَهُ، وَصِفَتَهُ بَعْدَ هَذَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَهَذِهِ صِفَاتُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ. وَأَمَّا بَيَانُ أَحْكَامِهَا فَوُقُوعُ الْقَتْلِ بِإِحْدَى هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ عُلِمَ، وَإِمَّا أَنْ لَمْ يُعْلَمْ بِأَنْ وُجِدَ قَتِيلٌ لَا يُعْلَمُ قَاتِلُهُ فَإِنْ عُلِمَ ذَلِكَ. [وُجُوب الْقِصَاص وَشَرَائِطه] أَمَّا الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْمَحْضُ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ: مِنْهَا وُجُوبُ الْقِصَاصِ، وَالْكَلَامُ فِي الْقِصَاصِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَلِي اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ، وَشَرْطِ جَوَازِ اسْتِيفَائِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْتَوْفَى بِهِ الْقِصَاصُ، وَكَيْفِيَّةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُ الْقِصَاصَ بَعْدَ وُجُوبِهِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ:. فَلِوُجُوبِ الْقِصَاصِ شَرَائِطُ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاتِلِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْتُولِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَتْلِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَاتِلِ فَخَمْسَةٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَالِغًا، فَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ، لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا بِالْجِنَايَةِ، وَفِعْلُهُمَا لَا يُوصَفُ بِالْجِنَايَةِ. وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمَا الْحُدُودُ. وَأَمَّا ذُكُورَةُ الْقَاتِلِ، وَحُرِّيَّتُهُ، وَإِسْلَامُهُ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدًا فِي الْقَتْلِ قَاصِدًا إيَّاهُ فَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ «الْعَمْدُ قَوَدٌ» أَيْ الْقَتْلُ الْعَمْدُ يُوجِبُ الْقَوَدَ، شَرَطَ الْعَمْدَ لِوُجُوبِ الْقَوَدِ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ فَيَسْتَدْعِي جِنَايَةً مُتَنَاهِيَةً، وَالْجِنَايَةُ لَا تَتَنَاهَى إلَّا بِالْعَمْدِ، وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مِنْهُ عَمْدًا مَحْضًا لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَمْدِ، لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - شُرِطَ الْعَمْدُ مُطْلَقًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ «الْعَمْدُ قَوَدٌ» ، وَالْعَمْدُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْعَمْدُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَا كَمَالَ مَعَ شُبْهَةِ الْعَمْدِ. وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي هَذَا الْبَابِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الْقَتْلُ بِضَرْبَةٍ أَوْ ضَرْبَتَيْنِ عَلَى قَصْدِ الْقَتْلِ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَةَ أَوْ الضَّرْبَتَيْنِ مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ عَادَةً بَلْ التَّأْدِيبُ وَالتَّهْذِيبُ، فَتَمَكَّنَتْ فِي الْقَصْدِ شُبْهَةُ الْعَمْدِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الْمُوَالَاةِ فِي الضَّرَبَاتِ أَنَّهَا لَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي الضَّرَبَاتِ دَلِيلُ قَصْدِ الْقَتْلِ لِأَنَّهَا لَا يُقْصَدُ بِهَا التَّأْدِيبُ عَادَةً، وَأَصْلُ الْقَصْدِ مَوْجُودٌ فَيَتَمَحَّضُ الْقَتْلُ عَمْدًا فَيُوجِبُ الْقِصَاصَ. (وَلَنَا) أَنَّ شُبْهَةَ عَدَمِ الْقَصْدِ ثَابِتَةٌ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ حُصُولُ الْقَتْلِ بِالضَّرْبَةِ، وَالضَّرْبَتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى الضَّرَبَاتِ الْأُخَرِ، وَالْقَتْلُ بِضَرْبَةٍ أَوْ ضَرْبَتَيْنِ لَا يَكُونُ عَمْدًا، فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَإِذَا جَاءَ الِاحْتِمَالُ جَاءَتْ الشُّبْهَةُ وَزِيَادَةٌ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ خِلَافًا لَهُمَا، وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. (وَجْهُ) قَوْلِهِمْ أَنَّ الضَّرْبَ بِالْمُثْقَلِ مُهْلِكٌ عَادَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْقَتْلِ فَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ دَلِيلَ الْقَصْدِ إلَى الْقَتْلِ كَاسْتِعْمَالِ السَّيْفِ، وَقَدْ انْضَمَّ إلَيْهِ أَصْلُ الْقَصْدِ فَكَانَ الْقَتْلُ الْحَاصِلُ بِهِ عَمْدًا مَحْضًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَرِيقَانِ مُخْتَلِفَانِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقَتْلَ بِآلَةٍ غَيْرِ مُعَدَّةٍ لِلْقَتْلِ دَلِيلُ عَدَمِ الْقَصْدِ، لِأَنَّ تَحْصِيلَ كُلِّ فِعْلٍ بِالْآلَةِ الْمُعَدَّةِ لَهُ، فَحُصُولُهُ بِغَيْرِ مَا أُعِدَّ لَهُ دَلِيلُ عَدَمِ الْقَصْدِ، وَالْمُثْقَلُ، مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ لَيْسَ بِمُعَدٍّ لِلْقَتْلِ عَادَةً فَكَانَ الْقَتْلُ بِهِ دَلَالَةُ عَدَمِ الْقَصْدِ، فَيَتَمَكَّنُ فِي الْعَمْدِيَّةِ شُبْهَةُ الْعَمْدِ، بِخِلَافِ الْقَتْل بِحَدِيدٍ لَا حَدَّ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحَدِيدَ آلَةٌ مُعَدَّةٌ لِلْقَتْلِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] ، وَالْقَتْلُ بِالْعَمُودِ مُعْتَادٌ، فَكَانَ الْقَتْلُ بِهِ دَلِيلُ الْقَصْدِ فَيَتَمَحَّضُ عَمْدًا، وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَالثَّانِي وَهُوَ قِيَاسُ رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ اعْتِبَارُ الْجُرْحِ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْقُصُورُ فِي هَذَا الْقَتْلِ لِوُجُودِ فَسَادِ الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ، وَهُوَ نَقْضُ التَّرْكِيبِ، وَفِي الِاسْتِيفَاءِ إفْسَادُ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ جَمِيعًا، فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا خَنَقَ رَجُلًا فَقَتَلَهُ أَوْ غَرَّقَهُ بِالْمَاءِ أَوْ أَلْقَاهُ مِنْ جَبَلٍ أَوْ سَطْحٍ فَمَاتَ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ، وَلَوْ طَيَّنَ عَلَى أَحَدٍ بَيْتًا حَتَّى مَاتَ جُوعًا أَوْ عَطَشًا لَا يَضْمَنُ شَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ الدِّيَةَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الطِّينَ الَّذِي عَلَيْهِ تَسْبِيبٌ لِإِهْلَاكِهِ، لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلْآدَمِيِّ إلَّا بِالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ فَالْمَنْعُ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ عَلَيْهِ يَكُونُ

إهْلَاكًا لَهُ، فَأَشْبَه حَفْرَ الْبِئْرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْهَلَاكَ حَصَلَ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ لَا بِالتَّطْيِينِ، وَلَا صُنْعَ لِأَحَدٍ فِي الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، بِخِلَافِ الْحَفْرِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلْوُقُوعِ، وَالْحَفْرُ حَصَلَ مِنْ الْحَافِرِ فَكَانَ قَتْلًا تَسْبِيبًا، وَلَوْ أَطْعَمَ غَيْرَهُ سُمًّا فَمَاتَ، فَإِنْ كَانَ تَنَاوَلَ بِنَفْسِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي أَطْعَمَهُ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ، لَكِنَّهُ يُعَزَّرُ، وَيُضْرَبُ، وَيُؤَدَّبُ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ جِنَايَةً لَيْسَ لَهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ، وَهِيَ الْغَرُورُ فَإِنْ أَوْجَرَهُ السُّمَّ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَلَوْ غَرَّقَ إنْسَانًا فَمَاتَ أَوْ صَاحَ عَلَى وَجْهِهِ فَمَاتَ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَعِنْدَهُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُخْتَارًا، اخْتِيَارُ الْإِيثَارِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَعِنْدَ زُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لَهُمَا، وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْتُولِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعِ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ جُزْءَ الْقَاتِلِ، حَتَّى لَوْ قَتَلَ الْأَبُ وَلَدَهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْجَدُّ أَبُ الْأَبِ أَوْ أَبُ الْأُمِّ وَإِنْ عَلَا، وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَ الرَّجُلُ وَلَدَ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَكَذَا الْأُمُّ إذَا قَتَلَتْ وَلَدَهَا أَوْ أُمُّ الْأُمِّ أَوْ أُمُّ الْأَبِ إذَا قَتَلَتْ وَلَدَ وَلَدِهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ» ، وَاسْمُ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَالِدٍ، وَإِنْ عَلَا، وَكُلَّ وَلَدٍ وَإِنْ سَفَلَ، وَلَوْ كَانَ فِي وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ وَلَدُ الْقَاتِلِ أَوْ وَلَدُ وَلَدِهِ فَلَا قِصَاصَ، لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقِصَاصِ لِلْوَلَدِ فِي نَصِيبِهِ، فَلَا يُمْكِنُ الْإِيجَابُ لِلْبَاقِينَ، لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ لِلْكُلِّ. وَيُقْتَلُ الْوَلَدُ بِالْوَالِدِ لِعُمُومَاتِ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، ثُمَّ خُصَّ مِنْهَا الْوَالِدُ بِالنَّصِّ الْخَالِصِ فَبَقِيَ الْوَلَدُ دَاخِلًا تَحْتَ الْعُمُومِ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ شُرِعَ لِتَحْقِيقِ حِكْمَةِ الْحَيَاةِ بِالزَّجْرِ، وَالرَّدْعِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ فِي جَانِبِ الْوَلَدِ لَا فِي جَانِبِ الْوَالِدِ؛ لِأَنَّ الْوَالِدَ يُحِبُّ وَلَدَهُ لِوَلَدِهِ لَا لِنَفْسِهِ بِوُصُولِ النَّفْعِ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ، أَوْ يُحِبُّهُ لِحَيَاةِ الذِّكْرِ لِمَا يَحْيَا بِهِ ذِكْرُهُ، وَفِيهِ أَيْضًا زِيَادَةُ شَفَقَةٍ تَمْنَعُ الْوَالِدَ عَنْ قَتْلِهِ، فَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِنَّمَا يُحِبُّ وَالِدَهُ لَا لِوَالِدِهِ بَلْ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ وُصُولُ النَّفْعِ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ، فَلَمْ تَكُنْ مَحَبَّتُهُ وَشَفَقَتُهُ مَانِعَةً مِنْ الْقَتْلِ، فَلَزِمَ الْمَنْعُ بِشَرْعِ الْقِصَاصِ كَمَا فِي الْأَجَانِبِ، وَلِأَنَّ مَحَبَّةَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ لَمَّا كَانَتْ لِمَنَافِعَ تَصِلُ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ لَا لِعَيْنِهِ فَرُبَّمَا يَقْتُلُ الْوَالِدَ لِيَتَعَجَّلَ الْوُصُولَ إلَى أَمْلَاكِهِ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ لَا يَصِلُ النَّفْعُ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ لِعَوَارِضَ، وَمِثْلُ هَذَا يَنْدُرُ فِي جَانِبِ الْأَبِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مِلْكَ الْقَاتِلِ، وَلَا لَهُ فِيهِ شُبْهَةُ الْمِلْكِ حَتَّى لَا يُقْتَلَ الْمَوْلَى بِعَبْدِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ، وَلَا السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ» ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ لَوَجَبَ لَهُ وَالْقِصَاصُ الْوَاحِدُ كَيْفَ يَجِبُ لَهُ وَعَلَيْهِ وَكَذَا إذَا كَانَ يَمْلِكُ بَعْضَهُ فَقَتَلَهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِ الْقِصَاصِ دُونَ بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ، وَكَذَا إذَا كَانَ لَهُ فِيهِ شُبْهَةُ الْمِلْكِ كَالْمُكَاتَبِ إذَا قَتَلَ عَبْدًا مِنْ كَسْبِهِ؛ لِأَنَّ لَلْمُكَاتَبِ شُبْهَةٌ فِي أَكْسَابِهِ، وَالشُّبْهَةُ فِي هَذَا الْبَابِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ، وَلَا يُقْتَلُ الْمَوْلَى بِمُدَّبَّرِهِ، وَأُمِّ وَلَدِهِ، وَمُكَاتَبِهِ، لِأَنَّهُمْ مَمَالِيكُهُ حَقِيقَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: " كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ " عَتَقَ هَؤُلَاءِ إلَّا الْمُكَاتَبُ فَإِنَّهُ لَا يَعْتِقُ إلَّا بِالنِّيَّةِ لِقُصُورٍ فِي الْإِضَافَةِ إلَيْهِ بِالْمِلْكِ لِزَوَالِ مِلْكِ الْيَدِ. وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ بِمَوْلَاهُ، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَالْمُكَاتَبُ لِعُمُومَاتِ النُّصُوصِ، وَلِتَحْقِيقِ مَا شُرِعَ لَهُ الْقِصَاصُ، وَهُوَ الْحَيَاةُ بِالزَّجْرِ وَالرَّدْعِ، بِخِلَافِ الْمَوْلَى إذَا قَتَلَ هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّ شَفَقَةَ الْمَوْلَى عَلَى مَالِهِ تَمْنَعُهُ عَنْ الْقَتْلِ عِنْدَ سَيَحَانِ الْعَدَاوَةِ الْحَامِلِ عَلَى الْقَتْلِ إلَّا نَادِرًا، فَلَا حَاجَةَ إلَى الزَّجْرِ بِالْقِصَاصِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ، وَلَوْ اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي قَتْلِ رَجُلٍ أَحَدُهُمَا مِمَّنْ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ لَوْ انْفَرَدَ، وَالْآخَرُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لَوْ انْفَرَدَ مِمَّنْ ذَكَرْنَا كَالصَّبِيِّ مَعَ الْبَالِغِ، وَالْمَجْنُونِ مَعَ الْعَاقِلِ، وَالْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ، وَالْأَبِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ، وَالْمَوْلَى مَعَ الْأَجْنَبِيِّ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْعَاقِلِ، وَالْبَالِغِ، وَالْأَجْنَبِيِّ إلَّا الْعَامِدَ فَإِنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ إذَا شَارَكَهُ الْخَاطِئُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وُجِدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ، إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ الْوُجُوبُ عَلَى أَحَدِهِمَا لِمَعْنًى يَخُصُّهُ فَيَجِبُ عَلَى الْآخَرِ، وَلَنَا أَنَّهُ تَمَكَّنَتْ شُبْهَةُ عَدَمِ الْقَتْلِ فِي فِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَوْ انْفَرَدَ مُسْتَقِلًّا فِي الْقَتْلِ، فَيَكُونُ فِعْلُ الْآخَرِ فَضْلًا، وَيُحْتَمَلُ عَلَى الْقَلْبِ، وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ ثَابِتَةٌ فِي الشَّرِيكَيْنِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَهَا، وَأَلْحَقَهَا بِالْعَدَمِ فَتْحًا لِبَابِ الْقِصَاصِ، وَسَدًّا لِبَابِ الْعُدْوَانِ، لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ ثَمَّ يَكُونُ أَغْلَبَ، وَهَهُنَا أَنْدَرَ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَلَا يُلْحَقُ

بِهِ، وَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ لِوُجُودِ الْقَتْلِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ، ثُمَّ مَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْخَاطِئِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَمَا يَجِبُ عَلَى الْبَالِغِ وَالْعَاقِلِ وَالْعَامِدِ يَكُونُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ عَمْدٌ لَكِنْ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ وَفِي الْأَبِ، وَالْأَجْنَبِيِّ الدِّيَةُ فِي مَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ عَمْدٌ، وَفِي الْمَوْلَى مَعَ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ فِي مَالِهِ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ إذَا جَرَحَ نَفْسَهُ، وَجَرَحَهُ أَجْنَبِيٌّ فَمَاتَ لَا قِصَاصَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ مَاتَ بِجُرْحَيْنِ أَحَدُهُمَا هَدَرٌ، وَالْآخَرُ مُعْتَبَرٌ، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ تَأْتِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْصُومَ الدَّمِ مُطْلَقًا، فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ، وَلَا ذِمِّيٌّ بِالْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ، وَلَا بِالْمُرْتَدِّ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَلَا بِالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ مَا ثَبَتَتْ مُطْلَقَةً بَلْ مُؤَقَّتَةً إلَى غَايَةِ مَقَامِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ لَا لِقَصْدِ الْإِقَامَةِ بَلْ لِعَارِضِ حَاجَةٍ يَدْفَعُهَا ثُمَّ يَعُودُ إلَى وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ، فَكَانَتْ فِي عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا لِقِيَامِ الْعِصْمَةِ وَقْتَ الْقَتْلِ، وَهَلْ يُقْتَلُ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْتَأْمَنِ؟ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يُقْتَلُ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ. وَلَا يُقْتَلُ الْعَادِلُ بِالْبَاغِي لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ بِسَبَبِ الْحَرْبِ، لِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ أَمْوَالَنَا وَأَنْفُسَنَا وَيَسْتَحِلُّونَهَا، وَقَدْ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَاتِلْ دُونَ نَفْسِك» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ» ، وَلَا يُقْتَلُ الْبَاغِي بِالْعَادِلِ أَيْضًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْتَلُ، لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَعْصُومٌ مُطْلَقًا. (وَلَنَا) أَنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ فِي زَعْمِ الْبَاغِي، لِأَنَّهُ يَسْتَحِلُّ دَمَ الْعَادِلِ بِتَأْوِيلٍ، وَتَأْوِيلُهُ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لَكِنَّ لَهُ مَنَعَةً، وَالتَّأْوِيلُ الْفَاسِدُ عِنْدَ وُجُودِ الْمَنَعَةِ أُلْحِقَ بِالتَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الضَّمَانِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ، وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ دَمٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِآخَرَ: اُقْتُلْنِي، فَقَتَلَهُ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَجِبُ الْقِصَاصَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْآمِرَ بِالْقَتْلِ لَمْ يَقْدَحْ فِي الْعِصْمَةِ، لِأَنَّ عِصْمَةَ النَّفْسِ مِمَّا لَا تَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَأْثَمُ بِالْقَوْلِ؟ فَكَانَ الْأَمْرُ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ بِخِلَافِ الْأَمْرِ بِالْقَطْعِ، لِأَنَّ عِصْمَةَ الطَّرَفِ تَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ فِي الْجُمْلَةِ فَجَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ الْأَمْرُ فِيهَا، وَلَنَا أَنَّهُ تَمَكَّنَتْ فِي هَذِهِ الْعِصْمَةِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ حَقِيقَةً فَصِيغَتُهُ تُورِثُ شُبْهَةً، وَالشُّبْهَةُ فِي هَذَا الْبَاب لَهَا حُكْمُ الْحَقِيقَةِ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فَهَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ؟ فِيهَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةٍ تَجِبُ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا تَجِبُ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ هِيَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْحُرْمَةِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ، وَالشُّبْهَةُ لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ، وَلَوْ قَالَ اقْطَعْ يَدَيَّ فَقَطَعَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ، وَعِصْمَةُ الْأَمْوَالِ تَثْبُتُ حَقًّا لَهُ، فَكَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلسُّقُوطِ بِالْإِبَاحَةِ وَالْإِذْنِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: أَتْلِفْ مَالِي فَأَتْلَفَهُ، وَلَوْ قَالَ: اُقْتُلْ عَبْدِي أَوْ اقْطَعْ يَدَهُ فَقَتَلَ أَوْ قَطَعَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَبْدَهُ مَالُهُ، وَعِصْمَةُ مَالِهِ ثَبَتَتْ حَقًّا لَهُ فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِإِذْنِهِ كَمَا فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِ، وَلَوْ قَالَ: اُقْتُلْ أَخِي فَقَتَلَهُ، وَهُوَ وَارِثُهُ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَسْتَحْسِنُ أَنْ آخُذَ الدِّيَةَ مِنْ الْقَاتِلِ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْأَخَ الْآمِرَ أَجْنَبِيٌّ عَنْ دَمِ أَخِيهِ فَلَا يَصِحُّ إذْنُهُ بِالْقَتْلِ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقِصَاصَ لَوْ وَجَبَ بِقَتْلِ أَخِيهِ لَوَجَبَ لَهُ، وَالْقَتْلُ حَصَلَ بِإِذْنِهِ، وَالْإِذْنُ إنْ لَمْ يَعْمَلْ شَرْعًا لَكِنَّهُ وُجِدَ حَقِيقَةً مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ، فَوُجُودُهُ يُورِثُ شُبْهَةً كَالْإِذْنِ بِقَتْلِ نَفْسِهِ، وَالشُّبْهَةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِ الْمَالِ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِيمَنْ أَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يَقْتُلَ ابْنَهُ فَقَتَلَهُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ، وَهَذَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشُجَّهُ فَشَجَّهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَمُتْ مِنْ الشَّجَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّجَّةِ كَالْأَمْرِ بِالْقَطْعِ، وَإِنْ مَاتَ مِنْهَا كَانَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ كَذَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَيَحْتَمِلُ هَذَا أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَاصَّةً بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الشَّجَّةِ لَا يَكُونُ عَفْوًا عَنْ الْقَتْلِ عِنْدَهُ، فَكَذَا الْأَمْرُ بِالشَّجَّةِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْلِ، وَلَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْلَ، وَقَعَ قَتْلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ لَا شَجًّا، وَكَانَ

الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ، فَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الشَّجَّةِ يَكُونُ عَفْوًا عَنْ الْقَتْلِ عِنْدَهُمَا، فَكَذَا الْأَمْرُ بِالشَّجَّةِ يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْلِ. رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِيمَنْ أَمَرَ إنْسَانًا بِأَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ فَفَعَلَ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى قَاطِعِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَهُمَا خَاصَّةً، كَمَا قَالَا فِيمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ إذَا قَطَعَ طَرَفَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَمَاتَ: إنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ قَتْلًا، وَالْمَأْمُورُ بِهِ الْقَطْعُ لَا الْقَتْلُ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصَ كَمَا قَالَ فِيمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ، إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الْحَرْبِيُّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدنَا، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَهُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ قَالَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: 92] فَكَوْنُهُ مِنْ أَهْل دَارِ الْحَرْبِ أَوْرَثَ شُبْهَةً فِي عِصْمَتِهِ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَهُوَ مُكَثِّرٌ سَوَادَ الْكَفَرَةِ، وَمَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ دِينًا فَهُوَ مِنْهُمْ دَارًا فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ. وَلَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ تَاجِرَيْنِ أَوْ أَسِيرَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَلَا قِصَاصَ أَيْضًا، وَتَجِبُ الدِّيَةُ، وَالْكَفَّارَةُ فِي التَّاجِرَيْنِ، وَفِي الْأَسِيرَيْنِ خِلَافٌ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ السِّيَرِ، وَلَا يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مِثْلَ الْقَاتِلِ فِي كَمَالِ الذَّات، وَهُوَ سَلَامَةُ الْأَعْضَاءِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ فِي الشَّرَفِ، وَالْفَضِيلَةِ فَيُقْتَلُ سَلِيمُ الْأَطْرَافِ بِمَقْطُوعِ الْأَطْرَافِ، وَالْأَشَلِّ، وَيُقْتَلُ الْعَالِمُ بِالْجَاهِلِ، وَالشَّرِيفُ بِالْوَضِيعِ، وَالْعَاقِلُ بِالْمَجْنُونِ، وَالْبَالِغُ بِالصَّبِيِّ، وَالذَّكَرُ بِالْأُنْثَى، وَالْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ الَّذِي يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كَوْنُ الْمَقْتُولِ مِثْلَ الْقَاتِلِ فِي شَرَفِ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ شَرْطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَنُقْصَانُ الْكُفْرِ، وَالرِّقِّ يَمْنَعُ مِنْ الْوُجُوبِ، فَلَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ، وَلَا الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا، وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا قَتَلَ عَبْدًا ثُمَّ عَتَقَ الْقَاتِلُ اُحْتُجَّ فِي عَدَمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَلِأَنَّ فِي عِصْمَتِهِ شُبْهَةَ الْعَدَمِ لِثُبُوتِهَا مَعَ الْقِيَامِ الْمُنَافِي، وَهُوَ الْكُفْرُ؛ لِأَنَّهُ مُبِيحٌ فِي الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ جِنَايَةً مُتَنَاهِيَةً فَيُوجِبُ عُقُوبَةً مُتَنَاهِيَةً، وَهُوَ الْقَتْلُ لِكَوْنِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ قَتْلِهِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ نَقْضُ الْعَهْدِ الثَّابِتِ بِالذِّمَّةِ فَقِيَامُهُ يُورِثُ شُبْهَةً؛ وَلِهَذَا لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْمُسْتَأْمَنِ فَكَذَا الذِّمِّيُّ؛ وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ شَرْطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْن الْمُسْلِمِ، وَالْكَافِرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ مَشْهُودٌ لَهُ بِالسَّعَادَةِ، وَالْكَافِرُ مَشْهُودٌ لَهُ بِالشَّقَاءِ فَأَنَّى يَتَسَاوَيَانِ؟ . (وَلَنَا) عُمُومَاتُ الْقِصَاصِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] ، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، وَقَوْلِهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْن قَتِيلٍ وَقَتِيلٍ، وَنَفْسٍ وَنَفْسٍ، وَمَظْلُومٍ وَمَظْلُومٍ، فَمَنْ ادَّعَى التَّخْصِيصَ وَالتَّقْيِيدَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى عَزَّ مِنْ قَائِلٍ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ، وَتَحْقِيقُ مَعْنَى الْحَيَاةِ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ أَبْلَغُ مِنْهُ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ الدِّينِيَّةَ تَحْمِلُهُ عَلَى الْقَتْلِ خُصُوصًا عِنْدَ الْغَضَبِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ قَتْلُهُ لِغُرَمَائِهِ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى الزَّاجِرِ أَمَسَّ فَكَانَ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ فِيهِ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْحَيَاةِ أَبْلَغُ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «أَقَادَ مُؤْمِنًا بِكَافِرٍ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى ذِمَّتَهُ» . وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ مِنْ الْكَافِرِ الْمُسْتَأْمَنِ، لِأَنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» عَطَفَ قَوْلَهُ، «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَانَ مَعْنَاهُ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ بِهِ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " فِي عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ " مَمْنُوعٌ بَلْ دَمُهُ حَرَامٌ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ مَعَ قِيَامِ الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ دَمِ الْمُسْلِمِ مَعَ قِيَامِ الْإِسْلَامِ، وَقَوْلُهُ: " الْكُفْرُ مُبِيحٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ " مَمْنُوعٌ بَلْ الْمُبِيحُ هُوَ الْكُفْرُ الْبَاعِثُ عَلَى الْحِرَابِ، وَكُفْرُهُ لَيْسَ بِبَاعِثٍ عَلَى الْحِرَابِ فَلَا يَكُونُ مُبِيحًا، وَقَوْلُهُ: " لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ " قُلْنَا: الْمُسَاوَاةُ فِي الدِّينِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا، وَلَا

مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي الدِّينِ، لَكِنَّ الْقِصَاصَ مِحْنَةٌ اُمْتُحِنُوا الْخَلْقُ بِذَلِكَ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَقْبَلَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَشْكَرَ لِنِعَمِهِ كَانَ أَوْلَى بِهَذِهِ الْمِحْنَةِ، لِأَنَّ الْعُذْرَ لَهُ فِي ارْتِكَابِ الْمَحْذُورِ أَقَلُّ، وَهُوَ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى، وَنِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ أَكْمَلُ فَكَانَتْ جِنَايَتُهُ أَعْظَمَ، وَاحْتُجَّ فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] ، وَفُسِّرَ الْقِصَاصُ الْمَكْتُوبُ فِي صَدْرِ الْآيَةِ بِقَتْلِ الْحُرِّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدِ بِالْعَبْدِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ قَتْلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ قِصَاصًا، وَلِأَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ النَّفْسَيْنِ فِي الْعِصْمَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُرَّ آدَمِيٌّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْعَبْدَ آدَمِيٌّ مِنْ وَجْهٍ، مَالٌ مِنْ وَجْهٍ، وَعِصْمَةُ الْحُرِّ تَكُونُ لَهُ، وَعِصْمَةُ الْمَالِ تَكُونُ لِلْمَالِكِ، وَالثَّانِي: أَنَّ فِي عِصْمَةِ الْعَبْدِ شُبْهَةَ الْعَدَم؛ لِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ، وَالْكُفْرُ مُبِيحٌ فِي الْأَصْلِ فَكَانَ فِي عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَعِصْمَةُ الْحُرِّ تَثْبُتُ مُطْلَقَةً فَأَنَّى يَسْتَوِيَانِ فِي الْعِصْمَةِ، وَكَذَا لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي الْفَضِيلَةِ، وَالْكَمَالِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ يُشْعِرُ بِالذُّلِّ وَالنُّقْصَانِ، وَالْحُرِّيَّةَ تُنْبِئُ عَنْ الْعِزَّةِ، وَالشَّرَفِ. (وَلَنَا) عُمُومَاتُ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ؛ وَلِأَنَّ مَا شُرِعَ لَهُ الْقِصَاصُ، وَهُوَ الْحَيَاةُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَى الْحُرِّ بِقَتْلِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ حُصُولَهُ يَقِفُ عَلَى حُصُولِ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْقَتْلِ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ، فَلَوْ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ لَا يَخْشَى الْحُرُّ تَلَفَ نَفْسِهِ بِقَتْلِ الْعَبْدِ فَلَا يَمْتَنِعُ عَنْ قَتْلِهِ بَلْ يَقْدُمُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَسْبَابٍ حَامِلَةٍ عَلَى الْقَتْل مِنْ الْغَيْظِ الْمُفْرِطِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى الْحَيَاةِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ فِيهَا أَنَّ قَتْلَ الْحُرِّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدِ بِالْعَبْدِ قِصَاصٌ، وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ قَتْلُ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ قِصَاصًا، لِأَنَّ التَّنْصِيصَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ جَلْدُ مِائَةٍ، وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» ثُمَّ الْبِكْرُ إذَا زَنَى بِالثَّيِّبِ وَجَبَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْحَدِيثِ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِكْرِ شَكْلٍ بِشَكْلٍ تَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ، وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ، وَلَوْ كَانَ التَّنْصِيصُ عَلَى الْحُكْمِ فِي نَوْعٍ مُوجِبًا تَخْصِيصَ الْحُكْمِ بِهِ لَمَا قُتِلَ، ثَمَّ قَوْله تَعَالَى {وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّهُ قَالَ: " الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى " مُطْلَقًا فَيَقْتَضِي أَنْ تُقْتَلَ الْحُرَّةُ بِالْأَمَةِ، وَعِنْدكُمْ لَا تُقْتَلُ، فَكَانَ حُجَّةً عَلَيْكُمْ، وَقَوْلُهُ: " الْعَبْدُ آدَمِيٌّ مِنْ وَجْهٍ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ " قُلْنَا: لَا، بَلْ آدَمِيٌّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ اسْمٌ لِشَخْصٍ عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ مَنْسُوبٍ إلَى سَيِّدِنَا آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْعَبْدُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَكَانَتْ عِصْمَتُهُ مِثْلَ عِصْمَةِ الْحُرِّ بَلْ فَوْقَهَا، عَلَى أَنَّ نَفْسَ الْعَبْدِ فِي الْجِنَايَةِ لَهُ، لَا لِمَوْلَاهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقِصَاصِ وَالْحَدِّ يُؤْخَذُ بِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ بِذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ بِهِ فَكَانَ نَفْسُ الْعَبْدِ فِي الْجِنَايَةِ لَهُ لَا لِلْمَوْلَى كَنَفْسِ الْحُرِّ لِلْحُرِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " الْحُرُّ أَفْضَلُ مِنْ الْعَبْدِ " فَنَعَمْ لَكِنَّ التَّفَاوُتَ فِي الشَّرَفِ، وَالْفَضِيلَةِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ؟ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ قَتَلَ عَبْدًا ثُمَّ أُعْتِقَ الْقَاتِلُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا، وَإِنْ اسْتَفَادَ فَضْلَ الْحُرِّيَّةِ. وَكَذَا الذَّكَرُ يُقْتَلُ بِالْأُنْثَى وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ الْأُنْثَى، وَكَذَا لَا تُشْتَرَطُ الْمُمَاثَلَةُ، فِي الْعَدَدِ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي الْفِعْلِ بِمُقَابَلَةِ الْفِعْلِ زَجْرًا، وَفِي الْفَائِتِ بِالْفِعْلِ جَبْرًا، حَتَّى لَوْ قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا يُقْتَلُونَ بِهِ قِصَاصًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْعَشَرَةِ مُمَاثَلَةٌ لِوُجُودِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْفِعْلِ، وَالْفَائِتِ بِهِ زَجْرًا، وَجَبْرًا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَحَقُّ مَا يُجْعَلُ فِيهِ الْقِصَاصُ إذَا قَتَلَ الْجَمَاعَةُ الْوَاحِدَ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يُوجَدُ عَادَةً إلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّعَاوُنِ، وَالِاجْتِمَاعِ فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ فِيهِ الْقِصَاصُ لَانْسَدَّ بَابُ الْقِصَاصِ؛ إذْ كُلُّ مَنْ رَامَ قَتْلَ غَيْرِهِ اسْتَعَانَ بِغَيْرٍ يَضُمُّهُ إلَى نَفْسِهِ لِيُبْطِلَ الْقِصَاصَ عَنْ نَفْسِهِ، وَفِيهِ تَفْوِيتُ مَا شُرِعَ لَهُ الْقِصَاصُ، وَهُوَ الْحَيَاةُ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَتْلُ عَلَى الِاجْتِمَاعِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى التَّعَاقُبِ بِأَنْ شَقَّ رَجُلٌ بَطْنَهُ ثُمَّ حَزَّ آخَرُ رَقَبَتَهُ فَالْقِصَاصُ عَلَى الْحَازِّ إنْ كَانَ عَمْدًا. وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْقَاتِلُ لَا الشَّاقُّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَعِيشُ بَعْدَ شَقِّ الْبَطْنِ بِأَنْ يُخَاطَ بَطْنُهُ، وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَعِيشَ بَعْدَ حَزِّ رَقَبَتِهِ عَادَةً، وَعَلَى الشَّاقِّ أَرْشُ الشَّقِّ، وَهُوَ ثُلُثُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ جَائِفَةٌ، وَإِنْ كَانَ الشَّقُّ نَفَذَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ فَعَلَيْهِ ثُلُثَا الدِّيَةِ فِي سَنَتَيْنِ، فِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثُ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُمَا جَائِفَتَانِ، هَذَا إذَا كَانَ الشَّقُّ مِمَّا يُحْتَمَلُ أَنْ يَعِيشَ بَعْدَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إلَّا غَمَرَاتُ الْمَوْتِ، وَالِاضْطِرَابُ فَالْقِصَاصُ عَلَى الشَّاقِّ، لِأَنَّهُ الْقَاتِلُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَازِّ، لِأَنَّهُ قَتَلَ الْمَقْتُولَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لَكِنَّهُ يُعَزَّرُ لِارْتِكَابِهِ جِنَايَةً لَيْسَ لَهَا مُقَدَّرٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَهُ رَجُلٌ جِرَاحَةً مُثْخِنَةً لَا يَعِيشُ

مَعَهَا عَادَةً ثُمَّ جَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَةً أُخْرَى فَالْقِصَاصُ عَلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ الْقَاتِلُ؛ لِإِتْيَانِهِ بِفِعْلٍ مُؤَثِّرٍ فِي فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً، فَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحَتَانِ مَعًا فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّهُمَا قَاتِلَانِ. وَلَوْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَاحِدَةً، وَالْآخَرُ عَشْرَ جِرَاحَاتٍ فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا، وَلَا عِبْرَةَ بِكَثْرَةِ الْجِرَاحَاتِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَمُوتُ بِجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَمُوتُ بِجِرَاحَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَكَذَلِكَ الْوَاحِدُ يُقْتَلُ بِالْجَمَاعَةِ قِصَاصًا اكْتِفَاءً، وَلَا يَجِبُ مَعَ الْقَوَدِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُنْظَرُ إنْ قَتَلَهُمْ عَلَى التَّعَاقُبِ يُقْتَلُ بِالْأَوَّلِ قِصَاصًا، وَتُؤْخَذُ دِيَاتُ الْبَاقِينَ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَإِنْ قَتَلَهُمْ مَعًا فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ يُقْتَل، وَتَجِبُ الدِّيَةُ لِلْبَاقِينَ، وَفِي قَوْلٍ: يَجْتَمِعُ أَوْلِيَاءُ الْقَتْلَى فَيَقْتُلُونَهُ، وَتُقَسَّمُ دِيَاتُ الْبَاقِينَ بَيْنَهُمْ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ مَشْرُوطَةٌ فِي بَابِ الْقِصَاصِ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الْوَاحِدُ بِالْجَمَاعَةِ عَلَى طَرِيقِ الِاكْتِفَاءِ بِهِ، فَيُقْتَلُ الْوَاحِدُ بِالْوَاحِدِ، وَتَجِبُ الدِّيَاتُ لِلْبَاقِينَ، كَمَا لَوْ قَطَعَ وَاحِدٌ يَمِينَيْ رَجُلَيْنِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِهِمَا اكْتِفَاءً بَلْ يُقْطَعُ بِإِحْدَاهُمَا، وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْأُخْرَى؛ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْتَلَ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ قِصَاصًا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - غَيْرَ مَعْقُولٍ أَوْ مَعْقُولًا بِحِكْمَةِ الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ لِمَا يَغْلِبُ وُجُودُ الْقَتْلِ بِصِفَةِ الِاجْتِمَاعِ، فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلًا عَلَى الْكَمَالِ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ تَحْقِيقًا لِلزَّجْرِ، وَقَتْلُ الْوَاحِدِ الْجَمَاعَةَ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ بَلْ يَنْدُرُ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ، وَإِنَّا نَقُولُ: حَقُّ الْأَوْلِيَاءِ فِي الْقَتْلِ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ لَهُمْ فَلَوْ أَوْجَبْنَا مَعَهُ الْمَالَ لَكَانَ زِيَادَةً عَلَى الْقَتْلِ. وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ لَهُمْ أَنَّ التَّمَاثُلَ فِي بَابِ الْقِصَاصِ إمَّا أَنْ يُرَاعَى فِي الْفِعْلِ زَجْرًا، وَإِمَّا أَنْ يُرَاعَى فِي الْفَائِتِ بِالْفِعْلِ جَبْرًا، وَإِمَّا أَنْ يُرَاعَى فِيهِمَا جَمِيعًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ هَهُنَا، أَمَّا فِي الْفِعْلِ زَجْرًا فَلِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْوَاحِدِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ فِعْلٌ مُؤَثِّرٌ فِي فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً، وَالْمُسْتَحَقُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَتْلَى قِبَلَ الْقَاتِلِ قَتْلُهُ، فَكَانَ الْجَزَاءُ مِثْلَ الْجِنَايَةِ. وَأَمَّا فِي الْفَائِتِ جَبْرًا فَلِأَنَّهُ بِقَتْلِهِ الْجَمَاعَةَ ظُلْمًا انْعَقَدَ سَبَبُ هَلَاكِ وَرَثَةِ الْقَتْلَى؛ لِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ قَتْلَهُ طَلَبًا لِلثَّأْرِ وَتَشَفِّيًا لِلصَّدْرِ فَيَقْصِدُ هُوَ قَتْلَهُمْ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ فَتَقَعُ الْمُحَارَبَةُ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ، وَمَتَى قُتِلَ مِنْهُمْ قِصَاصًا سَكَنَتْ الْفِتْنَةُ، وَانْدَفَعَ سَبَبُ الْهَلَاكِ عَنْ وَرَثَتِهِمْ فَتَحْصُلُ الْحَيَاةُ لِكُلِّ قَتِيلٍ مَعْنًى بِبَقَاءِ حَيَاةِ وَرَثَتِهِ بِسَبَبِ الْقِصَاصِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْقَاتِلَ دَخِرَ حَيَاةَ كُلِّ قَتِيلٍ تَقْدِيرًا بِدَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ عَنْ وَرَثَتِهِ، فَيَتَحَقَّقُ الْجَبْرُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ كَمَا فِي قَتْلِ الْوَاحِدُ بِالْوَاحِدِ، وَالْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَتْلِ فَنَوْعٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُبَاشَرَةً فَإِنْ كَانَ تَسْبِيبًا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ تَسْبِيبًا لَا يُسَاوِي الْقَتْلَ مُبَاشَرَةً، وَالْجَزَاءُ قَتْلٌ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ وَمَاتَ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى الْحَافِرِ؛ لِأَنَّ الْحَفْرَ قَتْلٌ سَبَبًا لَا مُبَاشَرَةً، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ شُهُودُ الْقِصَاصِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ قَتْلِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمْ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ وَقَعَتْ قَتْلًا، لِأَنَّ الْقَتْلَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤَثِّرٍ فِي فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً، وَقَدْ وُجِدَ مِنْ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ مُؤَثِّرَةٌ فِي ظُهُورِ الْقِصَاصِ، وَالظُّهُورَ مُؤَثِّرٌ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْقَاضِي وَقَضَاءَ الْقَاضِي مُؤَثِّرٌ فِي وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَوِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ مُؤَثِّرَةٌ فِي الِاسْتِيفَاء طَبْعًا وَعَادَةً، فَكَانَتْ فَوَاتُ الْحَيَاةِ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ مُضَافَةً إلَى الشَّهَادَةِ السَّابِقَةِ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ قَتْلًا تَسْبِيبًا، وَالْقَتْلُ تَسْبِيبًا مِثْلُ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً فِي حَقّ وُجُوبِ الْقِصَاصِ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْقِصَاصَ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَتْلًا بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ لِوُقُوعِهِ قَتْلًا بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ، كَذَا هَذَا. (وَلَنَا) مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَتْلَ تَسْبِيبًا لَا يُسَاوِي الْقَتْلَ مُبَاشَرَةً؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ تَسْبِيبًا قَتْلٌ مَعْنًى لَا صُورَةً، وَالْقَتْلُ مُبَاشَرَةً قَتْلٌ صُورَةً وَمَعْنًى، وَالْجَزَاءُ قَتْلٌ مُبَاشَرَةً بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ مُبَاشَرَةً، لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ آلَةَ الْمُكْرِهِ كَأَنَّهُ أَخَذَهُ وَضَرَبَهُ عَلَى الْمُكْرَهِ عَلَى قَتْلِهِ، وَالْفِعْلُ لِمُسْتَعْمِلِ الْآلَةِ لَا لِلْآلَةِ فَكَانَ قَتْلًا مُبَاشَرَةً، وَيَضْمَنُونَ الدِّيَةَ بِوُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُمْ، وَهَلْ يَرْجِعُونَ بِهَا عَلَى الْوَلِيِّ؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ فِيهِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: لَا يَرْجِعُونَ، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُونَ، وَلَهُمَا أَنَّ الشُّهُودَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ قَامُوا مَقَامَ الْمَقْتُولِ فِي مِلْكِ بَدَلِهِ إنْ لَمْ يَقُومُوا مَقَامَهُ فِي مِلْكِ

عَيْنِهِ فَأَشْبَهَ غَاصِبَ الْمُدَبَّرِ إذَا غَصَبَ مِنْهُ فَمَاتَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ الثَّانِي أَنَّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الثَّانِي بِمَا ضَمِنَهُ الْمَالِكُ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ النَّفْسِ، وَنَفْسُ الْحُرِّ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُمْ فِي الْبَدَلِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلتَّمَلُّكِ لِكَوْنِهِ قَاتِلًا، إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِيهِ لِمُعَارِضٍ وَهُوَ التَّدْبِيرُ، فَيَثْبُتُ فِي بَدَلِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ فَوَاحِدٌ أَيْضًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مَعْلُومًا، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصَ وُجُوبٌ لِلِاسْتِيفَاءِ، وَالِاسْتِيفَاءُ مِنْ الْمَجْهُولِ مُتَعَذِّرٌ فَتَعَذَّرَ الْإِيجَابُ لَهُ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قُتِلَ الْمُكَاتَبُ، وَتَرَكَ وَفَاءً وَوَرَثَةً أَحْرَارًا غَيْرَ الْمَوْلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُشْتَبَهٌ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَارِثَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُون هُوَ الْمَوْلَى لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي مَوْتِهِ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، فَإِنْ مَاتَ حُرًّا كَانَ وَلِيُّهُ الْوَارِثَ، وَإِنْ مَاتَ عَبْدًا كَانَ وَلَيُّهُ الْمَوْلَى وَمَوْضِعُ الِاخْتِلَافِ مَوْضِعُ التَّعَارُضِ وَالِاشْتِبَاهِ، فَلَمْ يَكُنْ الْوَلِيُّ مَعْلُومًا فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ، وَإِنْ اجْتَمَعَا لَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَسْتَوْفِيَا؛ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ لَا يَزُولُ بِالِاجْتِمَاعِ هَذَا إذَا تَرَكَ وَفَاءً وَوَرَثَةً غَيْرَ الْمَوْلَى، فَأَمَّا إذَا تَرَكَ وَفَاءً وَلَمْ يَتْرُكْ وَرَثَةً غَيْرَ الْمَوْلَى فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ: عِنْدَهُمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ أَصْلًا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ فِي سَبَبِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ حُرًّا كَانَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ فَلَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِلْمَوْلَى، وَإِنْ مَاتَ عَبْدًا كَانَ السَّبَبُ هُوَ الْمِلْكُ فَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِلْمَوْلَى، فَوَقَعَ الِاشْتِبَاهُ فِي ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ فَلَا تَثْبُتُ وَلَهُمَا أَنَّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ مُتَعَيَّنٌ غَيْرُ مُشْتَبَهٍ؛ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ مُوجِبٌ الْمُزَاحِمَةَ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَوْ قُتِلَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَجَبَ الْقِصَاصُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَعْلُومٌ، وَهُوَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَمُوتُ رَقِيقًا بِلَا خِلَافٍ فَكَانَ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى كَالْعَبْدِ الْقَنِّ إذَا قُتِلَ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ، وَالْمُدَبَّرَةُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْقِنِّ؛ لِأَنَّهُمْ قُتِلُوا عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فَكَانَ الْوَلِيُّ مَعْلُومًا، وَلَوْ قُتِلَ عَبْدُ الْمُكَاتَبِ فَلَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَهُ نَوْعُ مِلْكِ، وَلِلْمَوْلَى أَيْضًا فِيهِ نَوْعُ مِلْكٍ فَاشْتَبَهَ الْوَلِيُّ فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ عَبْدٍ فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ كَانَ لِلْعَبْدِ وَارِثٌ حُرٌّ غَيْرُ الْمَوْلَى فَلَا قِصَاصَ لِاشْتِبَاهِ وَلِيِّ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ عِنْدَ الْمَوْتِ مُسْتَنِدًا إلَى الْقَطْعِ السَّابِقِ، وَالْحَقُّ عِنْدَ الْقَطْعِ لِلْمَوْلَى لَا لِلْوَرَثَةِ، وَعِنْدَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَهُوَ الْوُجُوبُ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ، الْحَقُّ لِلْوَارِثِ لَا لَلْمَوْلَى، فَاشْتَبَهَ الْمَوْلَى فَلَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، وَلَوْ اجْتَمَعَ الْمَوْلَى مَعَ الْوَارِثِ فَلَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ لَا يَزُولُ بِاجْتِمَاعِهِمَا. فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ، وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ قُتِلَ، وَاجْتَمَعَا، أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَشْتَبِهْ الْوَلِيُّ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ مِلْكًا، وَلِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ حَقًّا يُشْبِهُ الْمِلْكِ فَلَمْ يَشْتَبِهْ الْوَلِيُّ، وَهَهُنَا اشْتَبَهَ الْوَلِيُّ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْقَطْعِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَارِثِ فِيهِ حَقٌّ، وَوَقْتُ الْمَوْتِ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى فِيهِ حَقٌّ فَصَارَ الْوَلِيُّ مُشْتَبَهًا فَامْتَنَعَ الْوُجُوبَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ سِوَى الْمَوْلَى فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا: لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ وَقْتَ الْقَطْعِ، وَوَقْتَ الْمَوْتِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الِاقْتِصَاصِ لِاشْتِبَاهِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْمَوْلَى وَقْتَ الْقَطْعِ كَانَ وِلَايَةَ الْمِلْكِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَهُ وِلَايَةُ الْعَتَاقَةِ، فَاشْتَبَهَ سَبَبُ الْوِلَايَةِ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَطْعُ عَمْدًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ خَطَأً فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ غَيْرُ أَرْشِ الْيَدِ، وَهُوَ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَإِعْتَاقُهُ إيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ بُرْئِهِ فِي الْيَدِ لِتَبَدُّلِ الْمَحَلِّ حُكْمًا بِالْإِعْتَاقِ فَتَنْقَطِعُ آيَةُ السِّرَايَةِ، هَذَا إذَا أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ الْقَطْعِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُعْتِقْهُ، وَلَكِنَّهُ دَبَّرَهُ أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ عَمْدًا فَلِلْمَوْلَى الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ وَقْتَ الْقَطْعِ، وَالْمَوْتِ جَمِيعًا فَلَمْ يُشْبِهُ الْوَلِيَّ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً لَا تَنْقَطِعُ السِّرَايَةُ فَيَجِبُ نِصْفُ الْقِيمَةِ دِيَةُ الْيَدِ، وَيَجِبُ مَا نَقَصَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ لِحُصُولِ ذَلِكَ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى وَلَوْ كَاتَبَهُ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، فَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ عَمْدًا يُنْظَرُ إنْ مَاتَ عَاجِزًا فَلِلْمَوْلَى الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا. وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ يَحْجُبُ الْمَوْلَى أَوْ يُشَارِكُهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِاشْتِبَاهِ الْوَلِيِّ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ لَا غَيْرُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَ الْمَوْلَى فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ، وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ خَطَأً لَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ إلَّا أَرْشَ الْيَدِ، وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلْمَوْلَى، وَتَنْقَطِعُ السِّرَايَةُ

فصل في كيفية وجوب القصاص

هَذَا إذَا كَانَ الْقَطْعُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا فَمَاتَ فَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ عَمْدًا يُنْظَرُ إنْ مَاتَ عَاجِزًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَإِنْ كَانَ مَعَ الْمَوْلَى وَارِثٌ آخَرَ أَوْ غَيْرُهُ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ فَلَا قِصَاصَ لِاشْتِبَاهِ الْوَلِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَ الْمَوْلَى فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ خَطَأً فَإِنْ مَاتَ عَاجِزًا فَالْقِيمَةُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَالْقِيمَةُ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ حُرًّا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فَهُوَ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَيْنًا حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْوَلِيُّ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ مِنْ الْقَاتِلِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَلَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ أَوْ عَفَا الْوَلِيُّ سَقَطَ الْمُوجِبُ أَصْلًا، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ: الْقِصَاصِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَيْنًا بَلْ الْوَاجِبُ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ غَيْرَ عَيْنٍ (إمَّا) الْقِصَاصُ (وَإِمَّا) الدِّيَةُ، وَلِلْوَلِيِّ خِيَارُ التَّعْيِينِ إنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إذَا مَاتَ الْقَاتِلُ يَتَعَيَّنُ الْمَالُ وَاجِبًا، فَإِذَا عَفَا الْوَلِيُّ سَقَطَ الْمُوجِبُ أَصْلًا، وَفِي قَوْلٍ الْقِصَاصُ وَاجِبٌ عَيْنًا لَكِنْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ، وَإِذَا عَفَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ، وَإِذَا مَاتَ الْقَاتِلُ سَقَطَ الْمُوجِبُ أَصْلًا احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] . مَعْنَاهُ فَلْيَتَتَبَّعْ وَلْيُؤَدِّ الدِّيَةَ، أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى الْقَاتِلِ أَدَاءَ الدِّيَةِ إلَى الْوَلِيِّ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الرِّضَا؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الدِّيَةِ صِيَانَةُ النَّفْسِ عَنْ الْهَلَاكِ، وَإِنَّهُ وَاجِبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ يَجِبُ حَقًّا لِلْمَقْتُولِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ عَلَى حَقِّهِ فَكَانَ الْوَاجِبُ بِهَا حَقًّا لَهُ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ. وَالْمَقْتُولُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْقِصَاصِ، وَيَنْتَفِعُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ، وَتُنَفَّذُ مِنْهُ وَصَايَاهُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْرَعَ الْقِصَاصُ أَصْلًا إلَّا أَنَّهُ شُرِعَ لِحِكْمَةِ الزَّجْرِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ قَتْلِ عَدُوِّهِ خَوْفًا مِنْ لُزُومِ الْمَالِ، فَشُرِعَ ضَمَانًا زَاجِرًا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي شُرْبِ خَمْرِ الذِّمِّيِّ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ النَّفْسِ، وَفِي الْقِصَاصِ مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، وَالْبَاءُ تُسْتَعْمَلُ فِي الْإِبْدَالِ فَتُؤَدِّي إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَخُيِّرَ بَيْنَهُمَا. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] ، وَهَذَا يُفِيدُ تَعَيُّنَ الْقِصَاصِ مُوجَبًا، وَيَبْطُلُ مَذْهَبُ الْإِبْهَامِ جَمِيعًا، أَمَّا الْإِبْهَامُ فَلِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ كَوْنِ الْقِصَاصِ وَاجِبًا فَيَصْدُقُ الْقَوْلُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ وَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَحَدُ حَقَّيْنِ لَا يَصْدُقُ الْقَوْلَ عَلَى أَحَدِهِمَا بِأَنَّهُ أَوْجَبُ (وَأَمَّا) التَّعْيِينُ فَلِأَنَّهُ إذَا أَوْجَبَ الْقِصَاصَ عَلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهِ بَطَلَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ بِضَرُورَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَابَلُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِاخْتِيَارِ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ؛ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ إذَا كَانَ عَيْنَ حَقِّهِ كَانَتْ الدِّيَةُ بَدَلَ حَقِّهِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَعْدِلَ مِنْ غَيْرِ الْحَقِّ إلَى بَدَلِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَا مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ كَمَنْ عَلَيْهِ حِنْطَةٌ مَوْصُوفَةٌ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قِيمَتَهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، كَذَا هَذَا، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعَمْدُ قَوَدٌ» وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى نَحْوِ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الشَّرِيفَةِ؛ وَلِأَنَّ ضَمَان الْعُدْوَانِ الْوَارِدِ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ مُقَيَّدٌ بِالْمِثْلِ، وَالْقِصَاصُ وَهُوَ الْقَتْلُ الثَّانِي مِثْلُ الْقَتْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَنُوبُ مَنَابَ الْأَوَّلِ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ، وَمِثْلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ الَّذِي يَنُوبُ مَنَابَهُ، وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ، وَأَخْذُ الْمَالِ لَا يَنُوبُ مَنَابَ الْقَتْلِ، وَلَا يَسُدُّ مَسَدَّهُ، فَلَا يَكُونُ مِثْلًا لَهُ فَلَا يَصْلُحُ ضَمَانًا لِلْقَتْلِ الْعَمْدِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ أَصْلًا إلَّا أَنَّ الْوُجُوبَ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ ثَبَتَ شَرْعًا تَخْفِيفًا عَلَى الْخَاطِئِ نَظَرًا لَهُ إظْهَارًا لِخَطَرِ الدَّمِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ الْهَدَرِ، وَالْعَامِدُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ، وَالصِّيَانَةُ تَحْصُلُ بِالْقِصَاصِ، فَبَقِيَ ضَمَانًا أَصْلِيًّا فِي الْبَابِ. (وَأَمَّا) الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] هُوَ الْوَلِيُّ لَا الْقَاتِلُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} [البقرة: 178] ، وَالْقَاتِلُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لَا مَعْفُوٌّ لَهُ، وَلِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى اسْمُهُ {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] فَلْيَتَّبِعْ، وَإِنَّهُ أَمْرٌ لِمَنْ دَخَلَ تَحْتَ كَلِمَةِ فَمَنْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَتَّبِعُ أَحَدًا بَلْ هُوَ الْمُتَّبَعُ، وَإِنَّمَا الْمُتَّبِعُ هُوَ الْوَلِيُّ، فَكَانَ هُوَ الدَّاخِلُ تَحْتَ كَلِمَةِ فَمَنْ فَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَمَنْ بُذِلَ لَهُ، وَأُعْطِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءُ بِطَرِيقِ الْفَضْلِ، وَالسُّهُولَةِ فَلْيَتَّبِعْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْعَفْوِ بِمَعْنَى الْفَضْلِ لُغَةً قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] أَيْ الْفَضْلَ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ خُذْ مَا أَتَاكَ عَفْوًا أَيْ فَضْلًا، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ: إنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْمَالِ مِنْ الْقَاتِلِ بِرِضَاهُ، وَقِيلَ الْآيَةُ

فصل في بيان من يستحق القصاص

الشَّرِيفَةُ نَزَلَتْ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي دَمٍ بَيْن نَفَرٍ يَعْفُو أَحَدُهُمْ عَنْ الْقَاتِلِ فَلِلْبَاقِينَ أَنْ يَتَّبِعُوا بِالْمَعْرُوفِ فِي نَصِيبِهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَالَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] ، وَهُوَ الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ: أُوقِعَ الِاحْتِمَالُ فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهَا مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَقَوْلُهُ: فِي دَفْعِ الدِّيَةِ صِيَانَةُ نَفْسِ الْقَاتِلِ عَنْ الْهَلَاكِ، وَأَنَّهُ وَاجِبٌ، قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنَّ قَضِيَّتَهُ أَنْ يَصِيرَ آثِمًا بِالِامْتِنَاعِ لَا أَنْ يَمْلِكَ الْوَلِيُّ أَخْذَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ كَمَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ، وَعِنْدَ صَاحِبِهِ طَعَامٌ يَبِيعُهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ امْتَنَعَ عَنْ الشِّرَاءِ لَيْسَ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يَدْفَعَ الطَّعَامَ إلَيْهِ، وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، كَذَا هَذَا، وَقَوْلُهُ الْمَقْتُولُ: لَا يَنْتَفِعُ بِالْقِصَاصِ، قُلْنَا: مَمْنُوعٌ، بَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إحْيَاءَهُ بِإِكْفَاءِ وَرَثَتِهِ أَحْيَاءً، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِالْمَالِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ فَنَقُولُ - وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ -: الْمَقْتُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُون حُرًّا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا، فَإِنْ كَانَ حُرًّا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ، وَإِمَّا أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ فَالْمُسْتَحِقُّ لِلْقِصَاصِ هُوَ الْوَارِثُ كَالْمُسْتَحِقِّ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ، وَالْوَارِثُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى الْمَيِّتِ فَيَكُونُ لَهُ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا اسْتَحَقَّهُ، وَإِنْ كَانَ جَمَاعَةً اسْتَحَقُّوهُ عَلَى سَبِيلِ الشَّرِكَةِ كَالْمَالِ الْمَوْرُوثِ عَنْهُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا فِي تَمْهِيدِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْقِصَاصَ مُوجَبُ الْجِنَايَةِ، وَأَنَّهَا وَرَدَتْ عَلَى الْمَقْتُولِ فَكَانَ مُوجَبُهَا حَقًّا لَهُ إلَّا أَنَّهُ بِالْمَوْتِ عَجَزَ عَنْ الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ فَتَقُومُ الْوَرَثَةُ مَقَامَهُ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ عَنْهُ، وَيَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ، وَلِهَذَا تَجْرِي فِيهِ سِهَامُ الْوَرَثَةِ مِنْ النِّصْفِ، وَالثُّلُثِ، وَالسُّدُسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا تَجْرِي فِي الْمَالِ وَهَذَا آيَةُ الشَّرِكَةِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقِصَاصِ هُوَ التَّشَفِّي، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ، وَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ فَكَانَ حَقًّا لَهُمْ ابْتِدَاءً، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْكَمَالِ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ لَا عَلَى سَبِيلِ الشَّرِكَةِ أَنَّهُ حَقٌّ لَا يَتَجَزَّأُ، وَالشَّرِكَةُ فِيمَا لَا يَتَجَزَّأُ مُحَالٌ، إذْ الشَّرِكَةُ الْمَعْقُولَةُ هِيَ أَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ لِهَذَا، وَالْبَعْضُ لِذَلِكَ، كَشَرِيكِ الْأَرْضِ وَالدَّارِ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَتَبَعَّضُ مُحَالٌ. وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ الْحُقُوقِ إذَا ثَبَتَ لِجَمَاعَةٍ، وَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ، وَوِلَايَةِ الْأَمَانِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قُتِلَ إنْسَانٌ عَمْدًا، وَلَهُ وَلِيَّانِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ فَأَقَامَ الْحَاضِرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَتْلِ، ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ أَنَّهُ يُعِيدُ الْبَيِّنَةَ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُعِيدُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْقَتْلَ إذَا كَانَ خَطَأً لَا يُعِيدُ، وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ بِأَنْ كَانَ لِأَبِيهِمَا دَيْنٌ عَلَى إنْسَانٍ، وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَمَّا كَانَ الْقِصَاصُ حَقًّا ثَابِتًا لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْنَبِيًّا عَنْ صَاحِبِهِ، فَيَقَعُ إثْبَاتُ الْبَيِّنَةِ لَهُ لَا لِلْمَيِّتِ، فَلَا يَكُونُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ فِي الْإِثْبَاتِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ، وَلَمَّا كَانَ حَقًّا مَوْرُوثًا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَهُمَا، وَالْوَرَثَةُ خُلَفَاؤُهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ يَقَعُ الْإِثْبَاتُ لِلْمَيِّتِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْوَرَثَةِ خَصْمٌ عَنْ الْمَيِّتِ فِي حُقُوقِهِ كَمَا فِي الدِّيَةِ وَالدَّيْنِ، فَيَصِحُّ مِنْهُ إثْبَاتُ الْكُلِّ لِلْمَيِّتِ ثُمَّ يَخْلُفُونَهُ كَمَا فِي الْمَالِ. وَلَوْ قُتِلَ إنْسَانٌ، وَلَهُ وَلِيَّانِ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ، وَأَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْحَاضِرِ أَنَّ الْغَائِبَ قَدْ عَفَا فَالشَّاهِدُ خَصْمٌ؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْعَفْوِ مِنْ الْغَائِبِ يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الْحَاضِرِ عَنْ الْقِصَاصِ، فَكَانَ الْقَاتِلُ مُدَّعِيًا عَلَى الْحَاضِرِ بُطْلَانَ حَقِّهِ فَكَانَ خَصْمًا لَهُ، وَيَقْضِي عَلَيْهِ، وَمَتَى قَضَى عَلَيْهِ يَصِيرُ الْغَائِبُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ تَبَعًا لَهُ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاتِلِ بَيِّنَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْحَاضِرَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ غَيْرِهِ فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، أَمَّا لَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ غَيْرِهِ فِي الْيَمِينِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْقِصَاصُ إذَا كَانَ بَيْنَ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ أَنَّ لِلْكَبِيرِ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَيُنْتَظَرُ بُلُوغُ الصَّغِيرِ، وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا كَانَ الْقِصَاصُ حَقًّا ثَابِتًا لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ لِاسْتِقْلَالِ سَبَبِ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَعَدَمِ تَجَزُّئِهِ فِي نَفْسِهِ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْكَمَالِ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، فَلَا مَعْنَى لِتَوَقُّفِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى بُلُوغِ الصَّغِيرِ. وَعِنْدَهُمَا لَمَّا كَانَ حَقًّا مُشْتَرَكًا بَيْن الْكُلِّ فَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَرَكٍ بِدُونِ رِضَا شَرِيكِهِ إظْهَارًا لِعِصْمَةِ الْمَحَلِّ، وَتَحَرُّزًا عَنْ الضَّرَرِ، وَالصَّحِيحُ أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ

فصل في بيان من يلي استيفاء القصاص وشرط جواز استيفائه

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَحْتَمِلُ التَّجْزِئَةَ، وَالشَّرِكَةُ فِي غَيْرِ الْمُتَجَزِّئِ مُحَالٌ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ إذَا انْقَلَبَ مَالًا؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَحَلٌّ قَابِلٌ لِلشَّرِكَةِ عَلَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنْ سَلَّمَ أَنَّ الْقِصَاصَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْقَتْلُ بِثُبُوتِ وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْكَبِيرِ فِي نَصِيبِهِ بِطُرُقِ الْأَصَالَةِ، وَفِي نَصِيبِ الصَّغِيرِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ شَرْعًا، كَالْقِصَاصِ إذَا كَانَ بَيْنَ إنْسَانٍ وَابْنِهِ الصَّغِيرِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا حَاجَتُهُمَا إلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِاسْتِيفَاءِ النَّفْسِ، وَعَجْزُ الصَّغِيرِ عَنْ الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ، وَقُدْرَةُ الْكَبِيرِ عَلَى ذَلِكَ، وَكَوْنُ تَصَرُّفِهِ فِي النَّظَرِ، وَالشَّفَقَةُ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ مِثْلُ تَصَرُّفِ الصَّغِيرِ بِنَفْسِهِ لَوْ كَانَ أَهْلًا؛ وَلِهَذَا يَلِي الْأَبُ وَالْجَدُّ اسْتِيفَاءَ قِصَاصٍ وَجَبَ كُلُّهُ لِلصَّغِيرِ فَهَذَا أَوْلَى، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا جَرَحَ ابْنُ مُلْجِمٍ - لَعَنَهُ اللَّهُ - سَيِّدَنَا عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهَهُ فَقَالَ لِلْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنْ شِئْت فَاقْتُلْهُ، وَإِنْ شِئْت فَاعْفُ عَنْهُ وَأَنْ تَعْفُوَ خَيْرٌ لَك، فَقَتَلَهُ سَيِّدُنَا الْحَسَنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَكَانَ فِي وَرَثَةِ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَغَارٌ، وَالِاسْتِدْلَالُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِقَوْلِ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالثَّانِي بِفِعْلِ سَيِّدِنَا الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ خَيَّرَ سَيِّدَنَا الْحَسَنَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ: " إنْ شِئْت فَاقْتُلْهُ " مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ التَّقْيِيدِ بِبُلُوغِ الصِّغَارِ. (وَأَمَّا) الثَّانِي: فَلِأَنَّ الْحَسَنَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَتَلَ ابْنَ مُلْجَمٍ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَلَمْ يَنْتَظِرْ بُلُوغَ الصِّغَارِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، وَكَانَ لَهُ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَقُ فَالْمُسْتَحِقُّ لِلْقِصَاصِ هُوَ؛ لِأَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ ثُمَّ إنْ كَانَ وَاحِدًا اسْتَحَقَّ كُلَّهُ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً اسْتَحَقُّوهُ، وَإِنْ كَانَ لِلْمَقْتُولِ وَارِثٌ، وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَيْضًا فَلَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مُشْتَبَهٌ لِاشْتِبَاهِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ، فَالسَّبَبُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ هُوَ الْقَرَابَةُ، وَفِي حَقِّ الْمَوْلَى الْوَلَاءُ، وَهُمَا سَبَبَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَاشْتِبَاهُ الْوَلِيِّ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ لِلْقِصَاصِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، وَلَهُ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْوَرَثَةِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْقِصَاصَ كَمَا يَسْتَحِقُّ الْمَالَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، وَلَا لَهُ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، وَلَا مَوْلَى الْمُوَالَاةِ كَاللَّقِيطِ وَغَيْرِهِ فَالْمُسْتَحِقُّ هُوَ السُّلْطَانُ فِي قَوْلِهِمَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَسْتَحِقُّهُ إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْحُجَجُ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ عَبْدًا فَالْمُسْتَحِقُّ هُوَ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ ثَبَتَ، وَأَقْرَبُ النَّاسِ إلَى الْعَبْدِ مَوْلَاهُ ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَوْلَى، وَاحِدًا اسْتَحَقَّ كُلَّهُ، وَإِنْ كَانَ جَمَاعَةً اسْتَحَقُّوهُ لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَهُوَ الْمِلْكُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَنْ يَلِي اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ وَشَرْطِ جَوَازِ اسْتِيفَائِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَلِي اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ، وَشَرْطِ جَوَازِ اسْتِيفَائِهِ فَوِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ تَثْبُتُ بِأَسْبَابٍ: مِنْهَا: الْوِرَاثَةُ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْوَارِثَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ وَاحِدًا (وَإِمَّا) إنْ كَانُوا جَمَاعَةً، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ كَبِيرًا، وَإِمَّا أَنْ كَانَ صَغِيرًا، فَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] ، وَلِوُجُودِ سَبَبِ الْوِلَايَةِ فِي حَقِّهِ عَلَى الْكَمَالِ، وَهُوَ الْوِرَاثَةُ مِنْ غَيْرِ مُزَاحِمَةٍ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يُنْتَظَرُ بُلُوغُهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَسْتَوْفِيهِ الْقَاضِي، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ كِبَارًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ حَتَّى لَوْ قَتَلَهُ أَحَدُهُمْ صَارَ الْقِصَاصُ مُسْتَوْفًى؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إنْ كَانَ حَقَّ الْمَيِّتِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْوَرَثَةِ خَصْمًا فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّ الْمَيِّتِ كَمَا فِي الْمَالِ وَإِذَا كَانَ حَقُّ الْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، إلَّا أَنَّ حُضُورَ الْكُلِّ شَرْطُ جَوَازِ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَيْسَ لِلْبَعْضِ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ مَعَ غَيْبَةِ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ فِيهِ احْتِمَالُ اسْتِيفَاءِ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ لِاحْتِمَالِ الْعَفْوِ مِنْ الْغَائِبِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: لَا أَدْرِي لَعَلَّ الْغَائِبَ عَفَا، وَكَذَا إذَا كَانَ الْكُلُّ حُضُورًا لَا يَجُوزُ لَهُمْ، وَلَا لِأَحَدِهِمْ أَنْ يُوَكِّلَ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْغَائِبَ قَدْ عَفَا، وَلِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ رَجَاءَ الْعَفْوِ مِنْهُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ حُلُولِ الْعُقُوبَةِ بِالْقَاتِلِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] (فَأَمَّا) الِاسْتِيفَاءُ بِالْوَكِيلِ فَجَائِزٌ إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَغِيرٌ وَكَبِيرٌ، فَإِنْ كَانَ الْكَبِيرَ هُوَ الْأَبُ بِأَنْ كَانَ الْقِصَاصُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْأَبِ وَابْنِهِ الصَّغِيرِ فَلِلْأَبِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ

لَمْ يُقَاصِصْ كَانَ لِلْأَبِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ فَهَهُنَا أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْكَبِيرُ غَيْرَ الْأَبِ بِأَنْ كَانَ أَخًا فَلِلْكَبِيرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ قَبْلَ بُلُوغِ الصَّغِيرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - تَعَالَى لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ بُلُوغِ الصَّغِيرِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ بِدَلَائِلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهَا: الْأُبُوَّةُ فَلِلْأَبِ، وَالْجَدِّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ قِصَاصًا وَجَبَ لِلصَّغِيرِ فِي النَّفْسِ، وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةُ نَظَرٍ وَمَصْلَحَةٍ كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ، فَتَثْبُتَ لِمَنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِكَمَالِ النَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ. (وَأَمَّا) الْوَصِيُّ فَلَا يَلِي اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ بِأَنْ قَتَلَ شَخْصٌ عَبْدَ الْيَتِيمِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ لَا يَصْدُرُ عَنْ كَمَالِ النَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ لِقُصُورٍ فِي الشَّفَقَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَبِ، وَالْجَدِّ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَلِلْوَصِيِّ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْمَالِ. (وَمِنْهَا) الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ وَقْتَ الْقَتْلِ، فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ إذَا قُتِلَ مَمْلُوكُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إبْطَالُ حَقِّ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ ثَبَتَ لَهُ، وَهُوَ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ، وَكَذَا إذَا قُتِلَ مُدَبَّرُهُ، وَمُدَبَّرَتُهُ، وَأُمُّ وَلَدِهِ، وَوَلَدُهَا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ، وَالِاسْتِيلَادَ يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ، وَكَذَا إذَا قُتِلَ الْمُكَاتَبُ، وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً؛ لِأَنَّهُ مَاتَ رَقِيقًا، فَكَانَ مِلْكُ الْمَوْلَى قَائِمًا وَقْتَ الْقَتْلِ، وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مُعْتَقِ الْبَعْضِ إذَا قُتِلَ عَاجِزًا أَنَّهُ لَا قِصَاصَ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْمُكَاتَبِ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ مَوْت الْمُكَاتَبِ عَاجِزًا يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْكِتَابَةِ، وَجَعْلَهَا كَأَنْ لَمْ تَكُنْ فَالْقَتْلُ صَادَفَهُ وَهُوَ قِنٌّ، وَمَوْتُ مُعْتَقِ الْبَعْضِ لَا يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعِتْقِ إذْ الْإِعْتَاقُ بَعْدَ وُجُودِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَالْقَتْلُ صَادَفَهُ، وَلَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِي كُلِّهِ، وَلَوْ قُتِلَ الْمُكَاتَبُ، وَتَرَكَ وَفَاءً، وَوَرَثَةً أَحْرَارًا سِوَى الْمَوْلَى لَا قِصَاصَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْفِيه الْمَوْلَى لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي قِيَامِ الْمَوْلَى وَقْتَ الْقَتْلِ، وَلَا الْوَارِثُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ يَمُوتُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ حُرٌّ غَيْرَ الْمَوْلَى فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي إجَازَةَ الْبَيْعِ فَلَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ كَانَ لَهُ وَقْتُ الْقَتْلِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ بِالْإِجَازَةِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ، وَإِنْ اخْتَارَ فَسْخَ الْبَيْعِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لِلْبَائِعِ الْقِيمَةُ، وَلَا قِصَاصَ لَهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَهُ وَقْتَ الْقَتْلِ، وَإِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْفَسْخِ، وَالسَّبَبُ حِينَ وُجُودِهِ لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا الْحُكْمَ لَهُ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ بِمَعْنًى وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ رَدَّ الْبَيْعِ فَسْخٌ لَهُ مِنْ الْأَصْلِ، وَجَعْلُ إيَّاهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَإِذَا انْفَسَخَ مِنْ الْأَصْلِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ، وَرَدَتْ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَيُوجَبُ الْقِصَاصُ لَهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى، إنْ بِالْفَسْخِ يَظْهَرُ أَنَّ الْعَبْدَ وَقْتَ الْقَتْلِ لَمْ يَكُنْ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ الَّذِي هُوَ بَدَلُ الصَّدَاقِ فِي يَدِ الزَّوْجِ، أَوْ بَدَلُ الْخُلْعِ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ، أَوْ بَدَلُ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فِي يَدَيْ الَّذِي صَالَحَ عَلَيْهِ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلصَّدَاقِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ إنْ اخْتَارَ إتْبَاعَ الْقَاتِلِ فَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ لَهُ، وَإِنْ طَالَبَ بِالْقِيمَةِ فَالْمِلْكُ فِي الْعَبْدِ قَدْ انْفَسَخَ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ لِلْآخَرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْبَيْعِ وَلَوْ قُتِلَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، وَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الشَّرْطِ أَوْ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَالْقِصَاصُ لَلْمُشْتَرِي قَبَضَ الْبَائِعُ الثَّمَن أَوْ لَمْ يَقْبِضْ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ قَدْ سَقَطَ بِمَوْتِ الْعَبْدِ، وَانْبَرَمَ الْبَيْعُ، وَتَقَرَّرَ الْمِلْكُ فِيهِ لِلْمُشْتَرِي فَوَجَبَ الْقِصَاصُ لَهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ، كَمَا إذَا قُتِلَ فِي يَدِهِ، وَلَا خِيَارَ فِي الْبَيْعِ أَصْلًا، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَإِنْ شَاءَ أَتْبَعَ الْقَاتِلَ فَقَتَلَهُ قِصَاصًا، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ الْقِيمَةَ (وَأَمَّا) اخْتِيَارُ إتْبَاعِ الْقَاتِلِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ وَقْتَ الْقَتْلِ كَانَ مِلْكًا لَهُ. (وَأَمَّا) اخْتِيَارُ تَضَمُّنِ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ فَلِأَنَّهُ كَانَ مَضْمُونًا فِي يَدِهِ الْقِيمَةُ، أَلَا تَرَى لَوْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ فِي يَدِهِ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ؟ وَلَا قِصَاصَ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ هَلَكَ الْعَبْدُ بِالضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ، وَالْمُسْتَنَدُ يَظْهَرُ مِنْ وَجْهٍ، وَيَقْتَصِرُ مِنْ وَجْهٍ فَشِبْهُ الظُّهُورِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِصَاصِ لَهُ، وَشِبْهُ الِاسْتِنَادِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ، فَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي الْوُجُوبِ لَهُ فَلَا يَجِبُ، وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ إذَا قُتِلَ فِي يَدَيْ الْغَاصِبِ وَاخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْغَاصِبِ الْقِصَاصُ؛ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قُتِلَ عَبْدٌ مُوصًى بِرَقَبَتِهِ لِرَجُلٍ، وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ لَمْ يَنْفَرِدْ أَحَدُهُمَا بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ

فصل في بيان ما يستوفى به القصاص وكيفية الاستيفاء

لَا مِلْكَ لَهُ فِي الرَّقَبَةِ فَلَا يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ بِنَفْسِهِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ وَإِنْ مَلَكَ الرَّقَبَةَ لَكِنْ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ لَا إلَى بَدَلٍ هُوَ مَالٌ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَإِذَا اجْتَمَعَا فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ؛ لِأَنَّ الْمُطْلِقَ لِلِاسْتِيفَاءِ مَوْجُودٌ، وَهُوَ قِيَامُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَالِامْتِنَاعُ كَانَ لِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ فَإِذَا رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ. وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ (أَمَّا) الْمُرْتَهِنُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَهُ وَقْتَ الْقَتْلِ فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ ثُبُوتِ وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ فِي حَقِّهِ (وَأَمَّا) الرَّاهِنُ فَلِأَنَّ اسْتِيفَاءَهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنُ يَصِيرُ هَالِكًا مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا كَانَ رَهْنًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ، وَالْقِصَاصُ لَا يَصْلُحُ بَدَلًا عَنْ الْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَيَصِيرَ الرَّهْنُ هَالِكًا مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ فَيَسْقُطَ دَيْنُهُ فَكَانَ فِي اسْتِيفَائِهِ الْقِصَاصَ إبْطَالُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَوْ اجْتَمَعَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ كَانَ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَقَدْ رَضِيَ بِسُقُوطِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ، وَإِنْ اجْتَمَعَا عَلَى الِاسْتِيفَاءِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى قَاتِلِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ. (وَمِنْهَا) الْوَلَاءُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِمَوْلَى الْأَسْفَلِ وَارِثٌ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ سَبَبُ الْوِلَايَةِ فِي الْجُمْلَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ يُزَوِّجُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْعَصَبَاتِ، وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ يُزَوِّجُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ فَلَا قِصَاصَ لِاشْتِبَاهِ الْوَلِيِّ فَلَا يُتَصَوَّرُ الِاسْتِيفَاءُ. (وَمِنْهَا) السَّلْطَنَةُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَرَثَةِ، وَالْمِلْكِ، وَالْوَلَاءِ كَاللَّقِيطِ، وَنَحْوِهِ إذَا قُتِلَ، وَهَذَا قَوْلُهُمَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمَقْتُولَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو عَنْ وَلِيٍّ لَهُ عَادَةً إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا لَا يُعْرَفُ، وَقِيَامُ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ تَمْنَعُ وِلَايَةَ السُّلْطَانِ، وَبِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ، بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ إذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَهُمَا أَنَّ الْكَلَامَ فِي قَتِيلٍ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ وَلَيٌّ عِنْدَ النَّاسِ فَكَانَ وَلِيُّهُ السُّلْطَانَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «السُّلْطَانُ وَلَيُّ مِنْ لَا وَلَيَّ لَهُ» . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَا قُتِلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَرَجَ الْهُرْمُزَانُ، وَالْخِنْجَرُ فِي يَدِهِ فَظَنَّ عُبَيْدُ اللَّهِ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَتَلَ سَيِّدَنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَتَلَهُ فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى سَيِّدِنَا عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِسَيِّدِنَا عُثْمَانَ اُقْتُلْ عُبَيْدَ اللَّهِ فَامْتَنَعَ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ: كَيْفَ أَقْتُلُ رَجُلًا قُتِلَ أَبُوهُ أَمْسِ؟ لَا أَفْعَلُ، وَلَكِنْ هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَأَنَا وَلِيُّهُ أَعْفُو عَنْهُ، وَأُؤَدِّي دِيَتَهُ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ أَعْفُو عَنْهُ، وَأُؤَدِّي دِيَتَهُ الصُّلْحَ عَلَى الدِّيَةِ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى الدِّيَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ بِدَلِيلِ أَنَّ مِيرَاثَهُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا الْإِمَامُ نَائِبٌ عَنْهُمْ فِي الْإِقَامَةِ، وَفِي الْعَفْوِ إسْقَاطُ حَقِّهِمْ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ، وَالْجَدُّ، وَإِنْ كَانَا يَمْلِكَانِ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ، وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى الدِّيَةِ كَمَا فَعَلَ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ بِالصَّوَابِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يُسْتَوْفَى بِهِ الْقِصَاصُ وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِيفَاءِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْتَوْفَى بِهِ الْقِصَاصُ، وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِيفَاءِ فَالْقِصَاصُ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِالسَّيْفِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ، فَإِنْ مَاتَ، وَإِلَّا تُحَزُّ رَقَبَتُهُ حَتَّى لَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْوَلِيَّ يَقْتُلُهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ تُقْطَعُ يَدُهُ، فَإِنْ مَاتَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي مَاتَ الْأَوَّلُ فِيهَا، وَإِلَّا تُحَزُّ رَقَبَتُهُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ مَبْنَى الْقِصَاصِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْفِعْلِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا، وَهُوَ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ هُوَ، وَالْمَوْجُودُ مِنْهُ الْقَطْعُ فَيَجِبُ أَنْ يُجَازَى بِالْقَطْعِ، وَالظَّاهِرُ فِي الْقَطْعِ عَدَمُ السِّرَايَةِ، فَإِنْ اتَّفَقَتْ السِّرَايَةُ، وَإِلَّا تُحَزُّ رَقَبَتُهُ، وَيَكُونُ الْحَزُّ تَتْمِيمًا لِلْفِعْلِ الْأَوَّلِ لَا حَزًّا مُبْتَدَأً. (وَلَنَا) قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» وَالْقَوَدُ هُوَ الْقِصَاصُ، وَالْقِصَاصُ هُوَ الِاسْتِيفَاءُ، فَكَانَ هَذَا نَفْيُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِالسَّيْفِ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ إذَا اتَّصَلَتْ بِهِ السِّرَايَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ فَلَا يُجَازَى إلَّا بِالْقَتْلِ فَلَوْ قُطِعَ ثُمَّ اُحْتِيجَ إلَى الْحَزِّ كَانَ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْحَزِّ فَلَمْ

فصل في بيان ما يسقط القصاص بعد وجوبه

يَكُنْ مُجَازَاةً بِالْمِثْلِ، وَقَوْلُهُ: " الْحَزُّ يَقَعُ تَتْمِيمًا لِلْقَطْعِ " فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُتَمِّمَ لِلشَّيْءِ مِنْ تَوَابِعِهِ، وَالْحَزُّ قَتْلٌ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْقَطْعِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ تَمَامِهِ؟ وَإِنْ أَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يَقْتُلَ بِغَيْرِ السَّيْفِ لَا يُمَكَّنُ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ فَعَلَ يُعَزَّرُ لَكِنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِأَيِّ طَرِيقٍ قَتَلَهُ سَوَاءٌ قَتَلَهُ بِالْعَصَا أَوْ بِالْحَجَرِ أَوْ أَلْقَاهُ مِنْ السَّطْحِ أَوْ أَلْقَاهُ فِي الْبِئْرِ أَوْ سَاقَ عَلَيْهِ دَابَّةً حَتَّى مَاتَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ حَقُّهُ، فَإِذَا قَتَلَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، إلَّا أَنَّهُ يَأْثَمُ بِالِاسْتِيفَاءِ لَا بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ لِمُجَاوَزَتِهِ حَدَّ الشَّرْعِ، وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ بِنَفْسِهِ وَبِنَائِبِهِ بِأَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِالْقَتْلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ إمَّا لِضَعْفِ بَدَنِهِ أَوْ لِضَعْفِ قَلْبِهِ أَوْ لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ إلَيْهِ، فَيَحْتَاجُ إلَى الْإِنَابَةِ، إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ إذَا قَتَلَهُ الْمَأْمُورُ، وَالْآمِرُ حَاضِرٌ صَارَ مُسْتَوْفِيًا، وَلَا ضَمَان عَلَيْهِ، فَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ وَالْآمِرُ غَيْرُ حَاضِرٍ، وَأَنْكَرَ وَلَيُّ هَذَا الْقَتِيلِ الْأَمْرَ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ، وَلَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ عَمْدًا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْأَصْلِ فَلَوْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا إنَّمَا يَخْرُجُ بِالْأَمْرِ، وَقَدْ كَذَّبَهُ وَلَيُّ هَذَا الْقَتِيلِ فِي الْأَمْرِ، وَتَصْدِيقُ وَلَيِّ الْقِصَاصِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ بَعْدَ مَا بَطَلَ حَقُّهُ عَنْ الْقِصَاصِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ فَصَارَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ، فَلَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ فَلَمْ يَثْبُتْ الْأَمْرُ فَبَقِيَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ مُوجِبًا الْقِصَاصَ، وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي دَارِ إنْسَانٍ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ، وَمَاتَ فَادَّعَى، وَلَيُّ الْقَتِيلِ الدِّيَةَ فَقَالَ الْحَافِرُ: حَفَرْتُهُ بِإِذْنِ صَاحِبِ الدَّارِ، وَصَدَّقَهُ صَاحِبُ الدَّارِ فِي ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ، وَيُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ؛ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ فِي فِعْلٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْأَمْرِ بِهِ لِلْحَالِ، وَهُوَ الْحَفْرُ فِي مِلْكِهِ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا تَصْدِيقًا بَعْدَ فَوَاتِ الْمَحَلِّ فَاعْتُبِرَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يُسْقِطُ الْقِصَاصَ بَعْدَ وُجُوبِهِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُ الْقِصَاصَ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَالْمُسْقِطُ لَهُ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا فَوَاتُ مَحَلِّ الْقِصَاصِ بِأَنْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الشَّيْءِ فِي غَيْر مَحَلِّهِ، وَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِالْمَوْتِ لَا تَجِبُ الدِّيَةُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ هُوَ الْوَاجِبُ عَيْنًا عِنْدَنَا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ تَجِبُ الدِّيَةُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَا إذَا قُتِلَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ بِحَقٍّ بِالرِّدَّةِ وَالْقِصَاصِ بِأَنْ قَتَلَ إنْسَانًا فَقُتِلَ بِهِ قِصَاصًا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ، وَلَا يَجِبُ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ الْوَاجِبُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إذَا فَاتَ ذَلِكَ الْعُضْوُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ قُطِعَ بِغَيْرِ حَقٍّ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ مَالٍ عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ قُطِعَ بِحَقٍّ بِأَنْ قَطَعَ يَدَ غَيْرِهِ فَقُطِعَ بِهِ أَوْ سَرَقَ مَالَ إنْسَانٍ فَقُطِعَ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ أَيْضًا لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ، لَكِنْ يَجِبُ أَرْشُ الْيَدِ فَيَقَعُ الْفَرْقُ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ بِحَقٍّ. وَالثَّانِي بَيْنَ الْقَطْعِ بِغَيْرِ حَقٍ، وَبَيْنَ الْقَطْعِ بِحَقٍّ، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ إذَا قَطَعَ طَرَفَهُ بِحَقٍّ فَقَدْ قَضَى بِهِ حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ فَجُعِلَ كَالْقَائِمِ، وَجُعِلَ صَاحِبُهُ مُمْسِكًا لَهُ تَقْدِيرًا كَأَنَّهُ أَمْسَكَهُ حَقِيقَةً، وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِعُذْرِ الْخَطَأِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُنَاكَ يَجِبُ الْأَرْشُ، كَذَا هَذَا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِيمَا إذَا قُطِعَ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْضِ حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَفِي الْقَتْلِ إنْ قَضَى حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ، لَكِنْ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُجْعَلَ مُمْسِكًا لِلنَّفْسِ بَعْدَ مَوْتِهِ تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً بِخِلَافِ الطَّرَفِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمِنْهَا الْعَفْوُ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: فِي بَيَانِ رُكْنِهِ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَالثَّالِثُ: فِي بَيَانِ حُكْمِهِ أَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْعَافِي عَفَوْتُ أَوْ أَسْقَطْتُ أَوْ أَبْرَأْتُ أَوْ وَهَبْتُ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى. وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَفْوُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ وَلَا حَقَّ مُحَالٌ فَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ لِعَدَمِ الْحَقِّ، وَلَا مِنْ الْأَبِ، وَالْجَدِّ فِي قِصَاصٍ وَجَبَ لِلصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلصَّغِيرِ لَا لَهُمَا، وَإِنَّمَا لَهُمَا وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ لِلصَّغِيرِ، وَلِأَنَّ وِلَايَتَهُمَا مُقَيَّدَةٌ بِالنَّظَرِ لِلصَّغِيرِ، وَالْعَفْوُ ضَرَرٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ أَصْلًا، وَرَأْسًا فَلَا يَمْلِكَانِهِ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهُ السُّلْطَانُ فِيمَا لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَافِي عَاقِلًا. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ بَالِغًا، فَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ مِنْ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ ثَابِتًا لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمُضِرَّةِ الْمَحْضَةِ فَلَا يَمْلِكَانِهِ كَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ (وَأَمَّا) حُكْمُ الْعَفْوِ فَالْعَفْوُ فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْوَلِيِّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَجْرُوحِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْوَلِيِّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَوْ قَبْلَ الْمَوْتِ بَعْدَ الْجُرْحِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ وَاحِدًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا بِأَنْ كَانَ الْقَاتِلُ

وَالْمَقْتُولُ وَاحِدًا فَعَفَا عَنْ الْقَاتِلِ سَقَطَ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهُ لِتَحَقُّقِ مَعْنَى الْحَيَاةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ بِدُونِ الِاسْتِيفَاءِ بِالْعَفْوِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَفَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ الثَّأْرَ بَعْدَ الْعَفْوِ، فَلَا يَقْصِدُ قَتْلَ الْقَاتِلِ فَلَا يَقْصِدُ الْقَاتِلُ قَتْلَهُ فَيَحْصُلُ مَعْنَى الْحَيَاةِ بِدُونِ الِاسْتِيفَاءِ، فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ لِحُصُولِ مَا شُرِعَ لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ بِدُونِهِ، وَهَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] أَيْ مَنْ أَحْيَاهَا بِالْعَفْوِ، وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] أَنَّ ذَلِكَ الْعَفْوَ وَالصُّلْحَ عَلَى مَا قِيلَ أَنَّ حُكْمَ التَّوْرَاةِ الْقَتْلُ لَا غَيْرُ، وَحُكْمُ الْإِنْجِيلِ الْعَفْوُ بِغَيْرِ بَدَلٍ لَا غَيْرُ، فَخَفَّفَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ فَشَرَعَ الْعَفْوَ بِلَا بَدَلٍ أَصْلًا، وَالصُّلْحَ بِبَدَلٍ سَوَاءٌ عَفَا عَنْ الْكُلِّ أَوْ عَنْ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَتَجَزَّأُ وَذِكْرُ الْبَعْضِ فِيمَا لَا يَتَبَعَّضُ ذِكْرُ الْكُلِّ كَالطَّلَاقِ، وَتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ، وَغَيْرِهِمَا، وَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِالْعَفْوِ لَا يَنْقَلِبُ مَالًا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَلِيِّ فِي الْقِصَاصِ عَيْنًا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ أَسْقَطَهُ لَا إلَى بَدَلٍ، وَمَنْ لَهُ الْحَقُّ إذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ مُطْلَقًا، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ، وَالْمَحَلِّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ يَسْقُطُ مُطْلَقًا كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ الْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا، فَإِذَا عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ انْصَرَفَ الْوَاجِبُ تَصْحِيحًا لَتَصَرُّفِهِ كَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَلَا يَنْوِي أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ، فَأَبْرَأَهُ الْمَدْيُونُ عَنْ أَحَدِهِمَا، لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْآخَرِ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا، وَلَوْ عَفَا عَنْهُ ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ الْعَفْوِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يَجِبُ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] جَعَلَ جَزَاءَ الْمُعْتَدِي، وَهُوَ الْقَاتِلُ بَعْدَ الْعَفْوِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، وَهُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ - نَسْتَجِيرُ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ هَوْلِهِ - فَلَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الدُّنْيَا لَصَارَ الْمَذْكُورُ بَعْضَ الْجَزَاءِ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي الدُّنْيَا يَرْفَعُ عَذَابَ الْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ» ، وَفِيهِ نَسْخُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ. (وَلَنَا) عُمُومَاتُ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ شَخْصٍ وَشَخْصٍ، وَحَالٍ وَحَالٍ، إلَّا شَخْصًا أَوْ حَالًا قُيِّدَ بِدَلِيلٍ، وَكَذَا الْحِكْمَةُ الَّتِي لَهَا شُرِعَ الْقِصَاصُ، وَهُوَ الْحَيَاةُ عَلَى مَا بَيَّنَّا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: إنَّ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ هَهُنَا هُوَ الْقِصَاصُ فَإِنَّ الْقَتْلَ غَايَةُ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ فِي الْإِيلَامِ فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ كَانَتْ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، وَتَحْتَمِلُ هَذَا وَتَحْتَمِلُ مَا قَالُوا فَلَا تَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ أَكْثَرَ بِأَنْ قَتَلَ رَجُلَانِ وَاحِدًا، فَإِنْ عَفَا عَنْهُمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ أَصْلًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ عَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ، وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْآخَرَ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِصَاصًا كَامِلًا، وَالْعَفْوُ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ الْعَفْوَ عَنْ الْآخَرِ، وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ طَرِيقَ إيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمَا أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاتِلًا عَلَى الِانْفِرَادِ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، إذْ الْقَتْلُ تَفْوِيتُ الْحَيَاةِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ تَفْوِيتُ حَيَاةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاتِلًا عَلَى الِانْفِرَادِ، وَيُجْعَلُ قَتْلُ صَاحِبِهِ عَدَمًا فِي حَقِّهِ، فَإِذَا عَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا، وَالْعَفْوُ عَنْ الْقَاتِلِ جَعَلَ فِعْلَ الْآخَرِ عَدَمًا تَقْدِيرًا فَيُورِثُ شُبْهَةً، وَالْقِصَاصُ لَا يُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبْهَةِ. وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ إيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمَا لَيْسَ مَا ذُكِرَ، وَلَيْسَ الْقَتْلُ اسْمًا لِتَفْوِيتِ الْحَيَاةِ بَلْ هُوَ اسْمٌ لَفِعْلٍ مُؤَثِّرٌ فِي فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً، وَهَذَا حَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ، فَالْعَفْوُ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْآخَرِ، هَذَا إذَا كَانَ الْوَلِيُّ وَاحِدًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَعَفَا أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ نَصِيبُ الْعَافِي بِالْعَفْوِ فَيَسْقُطُ نَصِيبُ الْآخَرِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ إذْ الْقِصَاصُ قِصَاصٌ وَاحِدٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنٍ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَحَدٌ عَلَيْهِمْ فَيَكُونَ إجْمَاعًا، وَقِيلَ: إنَّ قَوْلَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] نَزَلَتْ فِي دَمٍ بَيْنَ شُرَكَاءَ يَعْفُو أَحَدُهُمْ عَنْ الْقَاتِلِ فَلِلْآخَرَيْنِ أَنْ يَتَّبِعُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي نَصِيبِهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] ، وَهَذَا الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ، وَيَكُونُ نَصِيبُ الْآخَرِ، وَهُوَ

نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ عَمْدٌ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ فِي سَنَتَيْنِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ نِصْفُ الدِّيَةِ فَيُؤْخَذُ فِي سَنَتَيْنِ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ خَطَأً، وَوَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِي سَنَتَيْنِ، كَذَا هَهُنَا. (وَلَنَا) أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِمَّا يُؤْخَذُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَحُكْمُ الْجُزْءِ حُكْمَ الْكُلِّ بِخِلَافِ الْقَطْعِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ كُلٌّ لَا جُزْءٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ دِيَةِ يَدٍ وَاحِدَةٍ هَذَا الْقَدْرُ، إلَّا أَنَّهُ قَدَّرَ كُلَّ دِيَتِهَا بِنِصْفِ دِيَةِ النَّفْسِ، وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ كُلَّ دِيَةِ الطَّرَفِ. وَلَوْ عَفَا أَحَدُهُمَا فَقَتَلَهُ الْآخَرُ يُنْظَرُ إنْ قَتَلَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْعَفْوِ أَوْ عَلِمَ بِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِالْحُرْمَةِ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ الْقِصَاصُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ عَادَتْ بِالْعَفْوِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ حَرَّمَ قَتْلَهُ فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْقِصَاصِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ قَبْلَ وُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُ؟ فَلَوْ سَقَطَ إنَّمَا سَقَطَ بِالشُّبْهَةِ، وَمُطْلَقُ الظَّنِّ لَا يُورِثُ شُبْهَةً كَمَا لَوْ قَتَلَ إنْسَانًا. وَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَاتِلُ أَبِي. (وَلَنَا) أَنَّ فِي عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ عَلَى ظَنِّ أَنَّ قَتْلَهُ مُبَاحٌ لَهُ، وَهُوَ ظَنٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى نَوْعِ دَلِيلٍ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِصَاصَ وَجَبَ حَقًّا لِلْمَقْتُولِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ بِسَبِيلٍ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ لِلْمَقْتُولِ، فَالْعَفْوُ مِنْ أَحَدِهِمَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي حَقِّ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ سَبَبَ وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ وُجِدَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤَثِّرَ عَفْوُ أَحَدِهِمَا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ هَذَا الدَّلِيلُ عَنْ الْعَمَلِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَقِيَامُهُ يُورِثُ شُبْهَةَ عَدَمِ الْعِصْمَةِ، وَالشُّبْهَةُ فِي هَذَا الْبَابِ تَعْمَلُ عَمَلَ الْحَقِيقَةِ فَتَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إذَا تَعَذَّرَ إيجَابُهُ لِلشُّبْهَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، كَانَ عَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ، فَصَارَ النِّصْفُ قِصَاصًا بِالنِّصْفِ فَيُوجَبُ عَلَيْهِ النِّصْفُ الْآخَرُ، وَيَكُونُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْقَتْلِ، وَهُوَ عَمْدٌ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ. وَإِنْ عِلْمَ بِالْعَفْوِ وَالْحُرْمَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْوُجُوبِ الشُّبْهَةُ، وَإِنَّهَا نَشَأَتْ عَنْ الظَّنِّ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَزَالَ الْمَانِعُ، وَلَهُ عَلَى الْمَقْتُولِ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ انْقَلَبَ نَصِيبُهُ مَالًا بِعَفْوِ صَاحِبِهِ فَبَقِيَ ذَلِكَ عَلَى الْمَقْتُولِ، هَذَا إذَا كَانَ الْقِصَاصُ الْوَاحِدُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَعَفَا أَحَدُهُمَا عَنْ نَصِيبِهِ، فَأَمَّا إذَا وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِصَاصٌ كَامِلٌ قِبَلَ الْقَاتِلِ بِأَنْ قَتَلَ وَاحِدٌ رَجُلَيْنِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا عَنْ الْقَاتِلِ لَا يَسْقُطُ قِصَاصُ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ قِصَاصًا كَامِلًا، وَلَا اسْتِحَالَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ تَفْوِيتَ الْحَيَاةِ لِيُقَالَ: إنَّ الْحَيَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا يُتَصَوَّرُ تَفْوِيتُهَا مِنْ اثْنَيْنِ بَلْ هُوَ اسْمٌ لَفِعْلٍ مُؤَثِّرٍ فِي فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً، وَهَذَا يُتَصَوَّرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ عَلَى الْكَمَالِ، فَعَفْوُ أَحَدِهِمَا عَنْ حَقِّهِ، وَهُوَ الْقِصَاصُ، لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ الْوَاحِدِ الْمُشْتَرَكِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا عَفَا الْوَلِيُّ عَنْ الْقَاتِلِ بَعْدَ مَوْتِ وَلِيِّهِ. (فَأَمَّا) إذَا عَفَا عَنْهُ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ عَفْوُهُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَصِحُّ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقَتْلِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْقَتْلِ، وَالْفِعْلُ لَا يَصِيرُ قَتْلًا إلَّا بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ عَنْ الْمَحَلِّ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَالْعَفْوُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَلَمْ يَصِحَّ، وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجُرْحَ مَتَى اتَّصَلَتْ بِهِ السِّرَايَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، فَكَانَ عَفْوًا عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ، فَيَصِحُّ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْجُرْحُ خَطَأً فَكَفَّرَ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ ثُمَّ مَاتَ جَازَ التَّكْفِيرُ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَتْلَ إنْ لَمْ يُوجَدْ لِلْحَالِ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُودِهِ، وَهُوَ الْجُرْحُ الْمُفْضِي إلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ، وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إلَى الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ كَالنَّوْمِ مَعَ الْحَدَثِ، وَالنِّكَاحِ مَعَ الْوَطْءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ إذَا وُجِدَ سَبَبُ، وُجُودِ الْقَتْلِ كَانَ الْعَفْوُ تَعْجِيلَ الْحُكْمِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَإِنَّهُ جَائِزٌ، كَالتَّكْفِيرِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ الْعَفْوُ مِنْ الْمَوْلَى وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ، وَالْعَفْوُ مِنْ الْوَارِثِ سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا إلَّا أَنَّ فِي الْقِصَاصِ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ إذَا عَفَا أَحَدُهُمَا فَلِلْآخَرِ حِصَّتُهُ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَهَهُنَا مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي دَمِ الْعَمْدِ كَالدِّيَةِ فِي دَمِ الْحُرِّ. (فَأَمَّا) فِيمَا وَرَاءَ ذَاكَ فَلَا يَخْتَلِفَانِ، هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْعَفْوُ مِنْ الْمَوْلَى أَوْ مِنْ الْوَلِيِّ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ الْمَجْرُوحِ بِأَنْ كَانَ الْمَجْرُوحُ عَفَا لَا يَصِحُّ عَفْوُهُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ حَقًّا لِلْمَوْلَى لَا لَهُ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا، فَإِنْ عَفَا عَنْ الْقَتْلِ ثُمَّ مَاتَ

صَحَّ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحُّ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ، وَالِاسْتِحْسَانِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ عَفَا عَنْ الْقَطْعِ أَوْ الْجِرَاحَةِ أَوْ الشَّجَّةِ أَوْ الْجِنَايَةِ ثُمَّ مَاتَ أَوَّلًا فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْجُرْحَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَالْمَجْرُوحُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَقُول: عَفَوْتُ عَنْ الْقَطْعِ أَوْ الْجِرَاحَةِ أَوْ الشَّجَّةِ أَوْ الضَّرْبَةِ، وَهَذَا كُلَّهُ قِسْمٌ وَاحِدٌ. (وَإِمَّا) أَنْ يَقُولَ: عَفَوْتُ عَنْ الْجِنَايَةِ، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ لَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ ذَكَر مَعَهُ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا. (وَإِمَّا) إنْ لَمْ يَذْكُرْ، وَحَالُ الْمَجْرُوحِ لَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ بَرِئَ وَصَحَّ. (وَإِمَّا) إنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ صَحَّ الْعَفْوُ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ وَقَعَ عَنْ ثَابِتٍ، وَهُوَ الْجِرَاحَةُ أَوْ مُوجِبُهَا، وَهُوَ الْأَرْشُ فَيَصِحُّ، وَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ، فَإِنْ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْجِنَايَةِ يَتَنَاوَلُ الْقَتْلَ، وَكَذَا لَفْظُ الْجِرَاحَةِ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، فَكَانَ ذَلِكَ عَفْوًا عَنْ الْقَتْلِ فَيَصِحُّ. وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَحْدُث مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ الْعَفْوُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ السِّرَايَةَ أَثَرُ الْجِرَاحَةِ، وَالْعَفْوُ عَنْ الشَّيْءِ يَكُونُ عَفْوًا عَنْ أَثَرِهِ كَمَا إذَا قَالَ عَفَوْتُ عَنْ الْجِرَاحَةِ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَفَا عَنْ غَيْرِ حَقِّهِ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِي مُوجَبِ الْجِنَايَةِ لَا فِي عَيْنِهَا؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا عَرَضٌ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ الْعَفْوُ عَنْهَا، وَلِأَنَّ عَيْنَهَا جِنَايَةٌ وُجِدَتْ مِنْ الْخَارِجِ، وَالْجِنَايَةُ لَا تَكُونُ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَكَانَ هَذَا عَفْوًا عَنْ مُوجَبِ الْجِرَاحَةِ. وَبِالسِّرَايَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا مُوجَبَ بِهَذِهِ الْجِرَاحَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ السِّرَايَةِ يَجِبُ مُوجَبُ الْقَتْلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ الْقِصَاصُ إنْ كَانَ عَمْدًا، وَالدِّيَةُ إنْ كَانَ خَطَأً، وَلَا يَجِبُ الْأَرْشُ وَقَطْعُ الْيَدِ مَعَ مُوجَبِ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَالثَّانِي: إنْ كَانَ الْعَفْوُ عَنْ الْقَطْعِ وَالْجُرْحِ صَحِيحًا لَكِنَّ الْقَطْعَ غَيْرُ، وَالْقَتْلَ غَيْرُ فَالْقَطْعُ إبَانَةُ الطَّرَفِ، وَالْقَتْلُ فِعْلٌ مُؤَثِّرٌ فِي فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً، وَمُوجَبُ أَحَدِهِمَا الْقَطْعُ وَالْأَرْشُ، وَمُوجَبُ الْآخَرِ الْقَتْلُ وَالدِّيَةُ، وَالْعَفْوُ عَنْ أَحَدِ الْغَيْرَيْنِ لَا يَكُونُ عَفْوًا عَنْ الْآخَرِ فِي الْأَصْلِ فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصَ لِوُجُودِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، وَعَدَمِ مَا يُسْقِطُهُ، إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ، وَتَكُونُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ، هَذَا إذَا كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ خَطَأً فَإِنْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ صَحَّ الْعَفْوُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوْ الْجِرَاحَةِ، وَذَكَرَ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَذْكُرْ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ فَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوْ الْجِرَاحَةِ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ إنْ كَانَ الْعَفْوُ فِي حَالِ صِحَّةِ الْمَجْرُوحِ بِأَنْ كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَلَمْ يَصِرْ صَاحِبَ فِرَاشٍ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْمَرَضِ بِأَنْ صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ يُعْتَبَرُ عَفْوُهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ، وَتَبَرُّعُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْرُ الدِّيَةِ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ سَقَطَ ذَلِكَ الْقَدْرُ عَنْ الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ كُلُّهُ مِنْ الثُّلُثِ فَثُلُثُهُ يَسْقُطُ عَنْ الْعَاقِلَةِ، وَثُلُثَاهُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ، وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ الْعَفْوُ، وَهَذَا وَقَوْلُهُ عَفَوْتُ عَنْ الْجِرَاحَةِ وَعَنْ الْجِنَايَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا سَوَاءٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْعَفْوِ صُلْحٌ بِأَنْ صَالَحَ مِنْ الْقَطْعِ أَوْ الْجِرَاحَةِ عَلَى مَالٍ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ إنْ بَرِئَ الْمَجْرُوحُ فَالصُّلْحُ صَحِيحٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَطْعُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فَيَصِحُّ، وَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ، فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا فَالصُّلْحُ صَحِيحٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ صُلْحٌ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ، وَهُوَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ، وَيُؤْخَذُ جَمِيعُ الدِّيَةِ مِنْ مَالِهِ فِي الْعَمْدِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً يُرَدُّ بَدَلُ الصُّلْحِ، وَيَجِبُ جَمِيعُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الصُّلْحِ نِكَاحٌ بِأَنْ قَطَعَتْ امْرَأَةٌ يَدَ رَجُلٍ أَوْ جَرَحَتْهُ فَتَزَوَّجَهَا عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفَاصِيلِ أَنَّهُ إنْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ جَازَ النِّكَاحُ، وَصَارَ أَرْشُ ذَلِكَ مَهْرًا لَهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ مُوجَبُ ذَلِكَ الْأَرْشُ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَطْعُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ لَا يَجْرِي فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْمَالَ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ فَقَدْ سَمَّى الْمَالَ فَكَانَ مَهْرًا لَهَا، وَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ فَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا

وَكَانَ الْقَطْعُ خَطَأً جَازَ النِّكَاحُ، وَصَارَ دَمُ الزَّوْجِ مَهْرًا لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَتْ بِهِ السِّرَايَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا مُوجِبًا لِلدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، فَكَانَ التَّزَوُّجُ عَلَى مُوجَبِ الْجِنَايَةِ، وَهُوَ الدِّيَةُ، وَسَقَطَتْ عَنْ الْعَاقِلَةِ لِصَيْرُورَتِهَا مَهْرًا لَهَا، وَهَذَا إذَا كَانَ وَقْتَ النِّكَاحِ صَحِيحًا، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَبِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ يَسْقُطُ عَنْ الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَبَرِّعٍ فِي هَذَا الْقَدْرِ. (وَأَمَّا) الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَيُنْظَرُ إنْ كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ يَسْقُطُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ فَبِقَدْرِ الثُّلُثِ يَسْقُطُ أَيْضًا، وَالزِّيَادَةُ تَكُونُ لِلزَّوْجِ تَرْجِعُ إلَى وَرَثَتِهِ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ خُرُوجُ الزِّيَادَةِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالزِّيَادَةِ، وَهُوَ مَرِيضٌ مَرَضَ الْمَوْتِ، هَذَا فِي الْخَطَأِ. (وَأَمَّا) فِي الْعَمْدِ جَازَ النِّكَاحُ، وَصَارَ عَفْوًا. (وَأَمَّا) جَوَازُ النِّكَاحِ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ لَا يَقِفُ عَلَى تَسْمِيَةِ مَا هُوَ مَالٌ. (وَأَمَّا) صَيْرُورَةُ النِّكَاحِ عَلَى الْقِصَاصِ عَفْوًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَزَوَّجَهَا عَلَى الْقِصَاصِ فَقَدْ أَزَالَ حَقَّهُ عَنْهُ، وَأَسْقَطَهُ وَهَذَا مَعْنَى الْعَفْوِ، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ مِنْ تَرِكَةِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْمَهْرِ، وَالْقِصَاصُ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، فَيَجِبُ لَهَا الْعِوَضُ الْأَصْلِيُّ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَهُمَا فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَطَلَ الْعَفْوُ إذَا كَانَ عَمْدًا، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ مِنْ مَالِهَا، فَيَتَنَاقَصَانِ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَتَضْمَنُ الْمَرْأَةُ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ، وَلَا تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهَا قَاتِلَةٌ، وَلَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَ مَكَانَ النِّكَاحِ خُلْعٌ بِأَنْ قَطَعَ يَدَ امْرَأَتِهِ أَوْ جَرَحَهَا جِرَاحَةً فَخَلَعَهَا عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا إنْ بَرِئَتْ جَازَ الْخُلْعُ، وَكَانَ بَائِنًا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ خَلَعَهَا عَلَى أَرْشِ الْيَدِ، فَصَحَّ الْخُلْعُ، وَصَارَ أَرْشُ الْيَدِ بَدَلَ الْخُلْعِ، وَالْخُلْعُ عَلَى مَالٍ طَلَاقٌ بَائِنٌ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْدُ، وَالْخَطَأُ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ، وَكَانَ خَطَأً، فَإِنْ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا جَازَ الْخُلْعُ، وَيَكُونُ بَائِنًا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ قَتْلًا، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ مُوجِبًا لِلدِّيَةِ، فَكَانَ الْخُلْعُ وَاقِعًا عَلَى مَالِهِ، وَهُوَ الدِّيَةُ، فَيَصِحُّ، وَيَكُونُ بَائِنًا، ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ صَحِيحَةً وَقْتَ الْخُلْعِ جَازَ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَتْ مَرِيضَةً صَارَتْ الدِّيَةُ بَدَلَ الْخُلْعِ، وَيُعْتَبَرُ خُرُوجُ جَمِيعِ الدِّيَةِ مِنْ الثُّلُثِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ هُنَاكَ خُرُوجُ الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَ حَالُ دُخُولِ الْبُضْعِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ، وَهَذِهِ حَالَةُ الْخُرُوجِ، وَالْبُضْعُ يُعَدُّ مَالًا حَالَ الدُّخُولِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ، وَلَا يُعَدُّ مَالًا حَالَ الْخُرُوجِ عَنْ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ سَقَطَ عَنْ الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ يَسْقُطُ، وَالثُّلُثَانِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ هَذَا فِي الْخَطَأِ، فَأَمَّا فِي الْعَمْدِ جَازَ الْعَفْوُ، وَلَا يَكُونُ مَالًا، وَخُلْعُهَا بِغَيْرِ مَالٍ يَكُونُ رَجْعِيًّا، وَإِنْ كَانَ الْخُلْعُ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا فَعِنْدَهُمَا: كَذَلِكَ الْجَوَابُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ، وَتَجِبُ جَمِيعُ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ فِي الْعَمْدِ، وَفِي الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَيَكُونُ الْخُلْعُ بِغَيْرِ مَالٍ فَيَكُونُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَمِنْهَا الصُّلْحُ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لِلْمَوْلَى، وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي حَقِّهِ اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ فَيَمْلِكُ الصُّلْحَ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، وَهُوَ الْحَيَاةُ، يَحْصُلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ عِنْدَ أَخْذِ الْمَالِ عَنْ صُلْحٍ، وَتَرَاضٍ تَسْكُنُ الْفِتْنَةُ فَلَا يَقْصِدُ الْوَلِيُّ قَتْلَ الْقَاتِلِ، فَلَا يَقْصِدُ الْقَاتِلَ قَتْلَهُ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِدُونِهِ، وَقِيلَ إنَّ قَوْلَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ وَسَوَاءٌ كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، مِنْ جِنْسِ الدِّيَةِ أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهَا، حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا، بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ جَهَالَةً مُتَفَاوِتَةً كَالْحَصَادِ، وَالدِّيَاسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ هُنَاكَ تَمَكُّنُ الرِّبَا. وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الرِّبَا يَخْتَصُّ بِمُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا شَرَائِطَ جَوَازِ الصُّلْحِ، وَمَنْ يَمْلِكُ الصُّلْحَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُهُ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ، وَلَوْ صَالَحَ الْوَلِيُّ الْقَاتِلَ عَلَى مَالٍ ثُمَّ قَتَلَهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي الْعَفْوِ، وَلَوْ كَانَ الْوَلِيُّ اثْنَيْنِ، وَالْقِصَاصُ وَاحِدٌ فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْ الْقَاتِلِ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَفْوِ، وَلَوْ قَتَلَهُ الْآخَرُ بَعْد عَفْوِ صَاحِبِهِ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ

وَالْوِفَاقِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْعَفْوِ وَلَوْ كَانَ الْقِصَاصُ أَكْثَرَ فَصَالَحَ وَلَيُّ أَحَدِ الْقَتِيلَيْنِ فَلِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ، وَكَذَا لَوْ صَالَحَ الْوَلِيُّ مَعَ أَحَدِ الْقَاتِلَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ لِلْآخَرِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَفْوِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمَوْلَى فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا وَمِنْهَا إرْثُ الْقِصَاصِ بِأَنْ وَجَبَ الْقِصَاصُ لِإِنْسَانٍ فَمَاتَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ، فَوَرِثَ الْقَاتِلُ الْقِصَاصَ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِاسْتِحَالَةِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ لَهُ وَعَلَيْهِ، فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً، وَلَوْ قَتَلَ رَجُلَانِ رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْنُ الْآخَرِ عَمْدًا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا وَارِثُ الْآخَرِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُوَكِّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلًا يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ فَيَقْتُلُهُمَا الْوَكِيلَانِ مَعًا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُقَالُ لِلْقَاضِي: ابْتَدِئْ بِأَيِّهِمَا شِئْتَ، وَسَلِّمْهُ إلَى الْآخَرِ حَتَّى يَقْتُلَهُ، وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْ الْآخَرِ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْقِصَاصَ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِوُجُودِ السَّبَبِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَمَكَّنُ اسْتِيفَاؤُهُمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا اُسْتُوْفِيَ أَحَدُهُمَا يَسْقُطُ الْآخَرُ لِصَيْرُورَةِ الْقِصَاصِ مِيرَاثًا لِلْقَاتِلِ الْآخَرِ، فَكَانَ الْخِيَارُ فِيهِ إلَى الْقَاضِي يَبْتَدِئُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَيُسَلِّمُهُ إلَى الْآخَرِ حَتَّى يَقْتُلَهُ، وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْ الْآخَرِ. (وَجْهُ) قَوْلِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ مِنْهُمَا مُمْكِنٌ بِالْوَكَالَةِ بِأَنْ يَقْتُلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَكِيلَيْنِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَتَوَارَثَانِ، كَمَا فِي الْغَرْقَى، وَالْحَرْقَى. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وُجُوبَ الِاسْتِيفَاءِ لَا يُعْقَلُ لَهُ مَعْنًى سِوَاهُ، وَلَا سَبِيلَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصَ؛ لِأَنَّهُ إذَا اُسْتُوْفِيَ أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْآخَرُ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالِاسْتِيفَاءِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، فَتَعَذَّرَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ أَصْلًا؛ وَلِأَنَّ فِي اسْتِيفَاءِ أَحَدِ الْقَصَاصَيْنِ بَقَاءُ حَقِّ أَحَدِهِمَا، وَإِسْقَاطُ حَقِّ الْآخَرِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَالْقَوْلُ بِاسْتِيفَائِهِمَا بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَيْنِ قَلَّمَا يَتَّفِقَانِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بَلْ يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ عَادَةً، وَكَذَا أَثَرُهُمَا الثَّابِتُ عَادَةً، وَهُوَ فَوَاتُ الْحَيَاةِ، وَفِي ذَلِكَ إسْقَاطُ الْقِصَاصِ عَنْ الْآخَرِ، وَقَالُوا فِي رَجُلٍ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ ابْنَ الْقَاطِعِ عَمْدًا، ثُمَّ مَاتَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ مِنْ الْقَطْعِ إنَّ عَلَى الْقَاطِعِ الْقِصَاصَ، وَهُوَ الْقَتْلُ لِوَلِيِّ الْمَقْطُوعِ يَدُهُ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى وُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُ، وَهُوَ الْقَطْعُ السَّابِقُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَطْعَ صَارَ بِالسِّرَايَةِ قَتْلًا، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاطِعِ، وَلَا يَسْقُطُ بِقَتْلِ الْمَقْطُوعِ يَدُهُ ابْنَ الْقَاطِعِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ لِحُصُولِ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ فَبِالْعَمْدِ أَوْلَى. وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلَا تَجِبُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَجِبُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِرَفْعِ الذَّنْبِ، وَمَحْوِ الْإِثْمِ؛ وَلِهَذَا وَجَبَتْ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ، وَالذَّنْبُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ أَعْظَمُ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى الدَّفْعِ أَشَدُّ. (وَلَنَا) أَنَّ التَّحْرِيرَ أَوْ الصَّوْمَ فِي الْخَطَأِ إنَّمَا وَجَبَ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ حَيْثُ سَلِمَ لَهُ أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الْحَيَاةُ، مَعَ جَوَازِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْقِصَاصِ، وَكَذَا ارْتَفَعَ فِي الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ مَعَ جَوَازِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْعَمْدِ، فَيُقَدَّرُ الْإِيجَابُ شُكْرًا أُوجِبَ لِحَقِّ التَّوْبَةِ عَنْ الْقَتْلِ بِطَرِيقِ الْخَطَأِ، وَأُلْحِقَ بِالتَّوْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِخِفَّةِ الذَّنْبِ بِسَبَبِ الْخَطَأِ، وَالذَّنْبُ هَهُنَا أَعْظَمُ فَلَا يَصْلُحُ لِتَحْرِيرِ تَوْبَةٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مِنْهَا وُجُوبُ الدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، أَمَّا وُجُوبُ الدِّيَةِ فَلِأَنَّ الْقِصَاصَ امْتَنَعَ وُجُوبُهُ مَعَ وُجُودِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ. وَأَمَّا صِفَةُ التَّغْلِيظِ فَلِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّغْلِيظِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْكَيْفِيَّةِ دَلِيلُ ثُبُوتِ الْأَصْلِ. وَأَمَّا الْوُجُوبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَلِأَنَّ الْعَاقِلَةَ إنَّمَا تَعْقِلُ الْخَطَأَ تَخْفِيفًا عَلَى الْقَاتِلِ نَظَرًا لَهُ لِوُقُوعِهِ فِيهِ لَا عَنْ قَصْدٍ، وَفِي هَذَا الْقَتْلِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْقَصْدِ لِحُصُولِهِ بِآلَةٍ لَا يُقْصَدُ بِهَا الْقَتْلُ عَادَةً، فَكَانَ مُسْتَحِقًّا لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّخْفِيفِ، وَمِنْهَا حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ، وَمِنْهَا عَدَمُ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ مُبَاشَرَةً بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةَ فِي هَذَا الْقَتْلِ؟ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا تَجِبُ، وَأَلْحَقَهُ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ الْمَحْضِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَا تَجِبُ، وَأَلْحَقَهُ بِالْعَمْدِ الْمَحْضِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ. (وَجْهُ) مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ فِي الْخَطَأِ إمَّا لِحَقِّ الشُّكْرِ أَوْ لِحَقِّ التَّوْبَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالدَّاعِي إلَى الشُّكْرِ، وَالتَّوْبَةِ هَهُنَا مَوْجُودٌ، وَهُوَ سَلَامَةُ الْبَدَنِ، وَكَوْنُ الْفِعْلِ جِنَايَةً فِيهَا نَوْعُ خِفَّةٍ لِشُبْهَةِ عَدَمِ الْقَصْدِ، فَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ

وجوب الدية

التَّحْرِيرُ فِيهِ تَوْبَةً. (وَجْهُ) الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ هَذِهِ جِنَايَةٌ مُغَلَّظَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِيهَا ثَابِتَةٌ، بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَلَا يَصْلُحُ التَّحْرِيرُ تَوْبَةً بِهَا كَمَا فِي الْعَمْدِ؟ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْقَتْلُ الْخَطَأُ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ فَنُفَصِّلُ الْكَلَامَ فِيهِ فَنَقُولُ: الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ إمَّا أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا حُرَّيْنِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا، وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا، وَإِمَّا أَنْ كَانَ الْقَاتِلُ عَبْدًا، وَالْمَقْتُولُ حُرًّا، وَإِمَّا أَنْ كَانَا جَمِيعًا عَبْدَيْنِ، فَإِنْ كَانَا حُرَّيْنِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مِنْهَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ وُجُودِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَهِيَ نَوْعَانِ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاتِلِ، وَبَعْضُهَا إلَى الْمَقْتُولِ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَاتِلِ فَالْإِسْلَامُ، وَالْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْكَافِرِ، وَالْمَجْنُونِ، وَالصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ، وَالْكَفَّارَةُ عِبَادَةٌ، وَالصَّبِيُّ، وَالْمَجْنُونُ لَا يُخَاطَبَانِ بِالشَّرَائِعِ أَصْلًا. وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْتُولِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَعْصُومًا فَلَا تَجِبُ بِقَتْلِ الْحَرْبِيِّ، وَالْبَاغِي لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ مُسْلِمًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَجِبُ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا وَسَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] إلَى قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ قَدْ سَلِمَ لَهُ الْحَيَاةُ فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، وَرُفِعَتْ عَنْهُ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْآخِرَةِ مَعَ جَوَازِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْحِكْمَةِ لِمَا فِي وُسْعِ الْخَاطِئِ فِي الْجُمْلَةِ حِفْظُ نَفْسِهِ عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْخَطَأِ، وَهَذَا أَيْضًا نِعْمَةٌ فَكَانَ وُجُوبُ الشُّكْرِ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ مُوَافِقًا لِلْعَقْلِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مِقْدَارَهُ وَجِنْسَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِيَقْدِرَ الْعَبْدُ عَلَى أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ أَصْلِ الشُّكْرِ بِتَعْظِيمِهِ الْعَقْلَ؛ وَلِأَنَّ فِعْلَ الْخَطَأِ جِنَايَةٌ، وَلِلَّهِ تَعَالَى الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّهُ مَقْدُورُ الِامْتِنَاعِ بِالتَّكَلُّفِ وَالْجَهْدِ. وَإِذَا كَانَ جِنَايَةً فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ التَّكْفِيرِ وَالتَّوْبَةِ، فَجُعِلَ التَّحْرِيرُ مِنْ الْعَبْدِ بِحَقِّ التَّوْبَةِ عَنْ الْقَتْلِ الْخَطَأِ بِمَنْزِلَةِ التَّوْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْجِنَايَاتِ، إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ التَّحْرِيرُ أَوْ الصَّوْمُ تَوْبَةً لَهُ دُونَ التَّوْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِخِفَّةِ الْجِنَايَةِ بِسَبَبِ الْخَطَأِ، إذْ الْخَطَأُ مَعْفُوٌّ فِي الْجُمْلَةِ، وَجَائِزٌ الْعَفْوُ عَنْ هَذَا النَّوْعِ فَخَفَّتْ تَوْبَتُهُ لِخِفَّةٍ فِي الْجِنَايَةِ، فَكَانَ التَّحْرِيرُ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّوْبَةِ فِي سَائِرِ الْجِنَايَاتِ وَمِنْهَا حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْقَتْلُ مُبَاشَرَةً بِغَيْرِ حَقٍّ، أَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فَلَا شَكَّ فِيهَا. وَأَمَّا الْخَطَرُ وَالْحُرْمَةُ فَلِأَنَّ فِعْلَ الْخَطَأِ جِنَايَةٌ جَائِزٌ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهَا عَقْلًا لِمَا بَيَّنَّا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ اسْمَهُ {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزَ الْمُؤَاخَذَةِ لَكَانَ مَعْنَى الدُّعَاءِ اللَّهُمَّ لَا تُجِرْ عَلَيْنَا، وَهَذَا مُحَالٌ، وَإِنَّمَا رُفِعَ حُكْمُهَا شَرْعًا بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ، وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» مَعَ بَقَاءِ وَصْفِ الْفِعْلِ عَلَى حَالِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ جِنَايَةً. [وُجُوبُ الدِّيَةِ] وَمِنْهَا وُجُوبُ الدِّيَةِ، وَالْكَلَامُ فِي الدِّيَةِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الدِّيَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا تَجِبُ مِنْهُ الدِّيَةُ مِنْ الْأَجْنَاسِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ. أَمَّا الشَّرَائِطُ فَبَعْضُهَا شَرْطُ أَصْلِ الْوُجُوبِ، وَبَعْضُهَا شَرْطُ كَمَالِ الْوَاجِبِ، أَمَّا شَرْطُ أَصْلِ الْوُجُوبِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الْعِصْمَةُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَعْصُومًا فَلَا دِيَةَ فِي قَتْلِ الْحَرْبِيِّ وَالْبَاغِي لِفَقْدِ الْعِصْمَةِ، فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الدِّيَةِ لَا مِنْ جَانِبِ الْقَاتِلِ وَلَا مِنْ جَانِبِ الْمَقْتُولِ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ أَوْ الْمَقْتُولُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا. وَكَذَلِكَ الْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ حَتَّى تَجِبَ الدِّيَةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] . وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا تَجِبُ الدِّيَةُ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] ، وَالثَّانِي: التَّقَوُّمُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مُتَقَوِّمًا، وَعَلَى هَذَا يُبْنَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ خَطَأً أَنَّهُ لَا تَجِبُ الدِّيَةَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّقَوُّمَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ بِالْإِسْلَامِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَقْرِيرَ هَذَا الْأَصْلِ فِي كِتَابِ السِّيَرِ. ثُمَّ نَتَكَلَّمُ فِي الْمَسْأَلَةِ: ابْتِدَاءً احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وَهَذَا مُؤْمِنٌ قُتِلَ خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ وَكِبْرِيَاؤُهُ {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]

وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ التَّحْرِيرَ جَزَاءَ الْقَتْلِ، وَالْجَزَاءُ يَقْتَضِي الْكِفَايَةَ فَلَوْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ مَعَهُ لَا تَقَعُ الْكِفَايَةُ بِالتَّحْرِيرِ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى جَعَلَ التَّحْرِيرَ كُلَّ الْوَاجِبِ بِقَتْلِهِ؛ لِأَنَّهُ كُلُّ الْمَذْكُورِ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا مَعَهُ الدِّيَةَ لَصَارَ بَعْضَ الْوَاجِبِ، وَهَذَا تَغْيِيرُ حُكْمِ النَّصِّ. وَأَمَّا صَدْرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُ هَذَا الْمُؤْمِنَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ الْمُؤْمِنَ مُطْلَقًا فَيَتَنَاوَلُ الْمُؤْمِنَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهُوَ الْمُسْتَأْمَنُ دِينًا، وَدَارًا، وَهَذَا مُسْتَأْمَنٌ دِينًا لَا دَارًا؛ لِأَنَّهُ مُكَثِّرٌ سَوَادَ الْكَفَرَةِ، وَمَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَفْرَدَ هَذَا الْمُؤْمِنَ بِالذَّكَرِ وَالْحُكْمِ، وَلَوْ تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ لَعَرَّفَ حُكْمَهُ بِهِ، فَكَانَ الثَّانِي تَكْرَارًا، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْمُطْلَقِ لَمْ يَكُنْ تَكْرَارًا فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى، أَوْ يُحْتَمَلْ مَا ذَكَرْنَا، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلِينَ عَمَلًا بِهِمَا جَمِيعًا، ثُمَّ عِصْمَةُ الْمَقْتُولِ تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْقَتْلِ أَمْ وَقْتَ الْمَوْتِ أَمْ فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا؟ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْقَتْلِ لَا غَيْرُ، وَعَلَى أَصْلِهِمَا تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْقَتْلِ وَالْمَوْتِ جَمِيعًا، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا غَيْرُ، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ مَسَائِلُ الرَّمْيِ إذَا رَمَى مُسْلِمًا فَارْتَدَّ الْمَرْمِيُّ إلَيْهِ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ، وَهُوَ مُرْتَدٌّ فَمَاتَ، فَعَلَى الرَّامِي الدِّيَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَ خَطَأً تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا يَكُونُ فِي مَالِهِ، وَعِنْدَهُمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَكَذَا عِنْدَ زُفَرَ، وَإِنْ رَمَى مُرْتَدًّا أَوْ حَرْبِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ وَقَعَ السَّهْمُ بِهِ، وَمَاتَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِالْقَتْلِ، وَالْفِعْلُ إنَّمَا يَصِيرُ قَتْلًا بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ، وَلَا عِصْمَةَ لِلْمَقْتُولِ وَقْتَ فَوَاتِ الْحَيَاةِ، فَكَانَ دَمُهُ هَدْرًا، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ ثُمَّ ارْتَدَّ فَمَاتَ، وَهُوَ مُرْتَدٌّ، لَهُمَا أَنَّ لِلْقَتْلِ تَعَلُّقًا بِالْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْقَاتِلِ، وَأَثَرُهُ يَظْهَرُ فِي الْمَقْتُولِ بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعِصْمَةِ فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِفِعْلِهِ، وَلَا فِعْلَ مِنْهُ سِوَى الرَّمْيِ السَّابِقِ فَكَانَ الرَّمْيُ السَّابِقُ عِنْدَ وُجُودِ زُهُوقِ الرُّوحِ قَتْلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، وَالْمَحِلُّ كَانَ مَعْصُومًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ. وَلِهَذَا لَوْ كَانَ مُرْتَدًّا أَوْ حَرْبِيًّا وَقْتَ الرَّمْيِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَأَصَابَهُ السَّهْمُ وَهُوَ مُسْلِمٌ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَيْهِمَا فِي اعْتِبَارِ وَقْتِ الرَّمْيِ لَا غَيْرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي بَابِ الصَّيْدِ يُعْتَبَرُ وَقْتُ الرَّمْيِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، حَتَّى لَوْ كَانَ الرَّامِي مُسْلِمًا وَقْتَ الرَّمْيِ ثُمَّ ارْتَدَّ فَأَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ، وَهُوَ مُرْتَدٌّ، يُؤْكَلُ، وَإِنْ كَانَ الْبَابُ بَابَ الِاحْتِيَاطِ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ كَانَ مَجُوسِيًّا وَقْتَ الرَّمْيِ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ وَقَعَ السَّهْمُ بِالصَّيْدِ وَهُوَ مُسْلِمٌ لَا يُؤْكَلُ، وَكَذَلِكَ حَلَالٌ رَمَى صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ ثُمَّ أَصَابَهُ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ رَمَى وَهُوَ مُحْرِمٌ ثُمَّ حَلَّ فَأَصَابَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ حُجَجُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي اعْتِبَارِ وَقْتِ الْفِعْلِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا يَرْجِعُ إلَى الْأَهْلِيَّةِ تُعْتَبَرُ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الْفَاعِلِ وَقْتَ الْفِعْلِ بِلَا خِلَافٍ، وَمَا كَانَ رَاجِعًا إلَى الْمَحِلِّ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا جَرَحَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَجْرُوحُ فَمَاتَ وَهُوَ مُرْتَدٌّ أَنَّهُ يُهْدَرُ دَمُهُ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ السَّابِقَ انْقَلَبَ قَتْلًا بِالسِّرَايَةِ، وَقَدْ تَبَدَّلَ الْمَحِلُّ حُكْمًا بِالرِّدَّةِ، فَيُوجِبُ انْقِطَاعَ السِّرَايَةِ عَنْ ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ كَتَبَدُّلِ الْمَحِلِّ حَقِيقَةً، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَسْأَلَتِنَا. وَلَوْ رَمَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ فَمَاتَ فَلَا دِيَةَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ قِيمَتَهُ لِمَوْلَاهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ عَلَى الرَّامِي لِمَوْلَى الْعَبْدِ فَضْلُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مَرْمِيًّا إلَى غَيْرِ مَرْمِيٍّ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا رَمَى إلَيْهِ فَقَدْ صَارَ نَاقِصًا بِالرَّمْيِ فِي مِلْكِ مَوْلَاهُ قَبْلَ وُقُوعِ السَّهْمِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ بِتَوَجُّهِ السَّهْمِ إلَيْهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ جَرَحَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَانْقَطَعَتْ السِّرَايَةُ، وَلَا يَضْمَنُ الدِّيَةَ، وَلَا الْقِيمَةَ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ النُّقْصَانَ كَذَا هَذَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ، وَهُوَ اعْتِبَارُ وَقْتِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاتِلًا بِالرَّمْيِ السَّابِقِ، وَهُوَ كَانَ مِلْكُ الْمَوْلَى حِينَئِذٍ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الَّذِي تَجِبُ مِنْهُ الدِّيَةَ وَتُقْضَى مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْنَاسٍ: الْإِبِلُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَعِنْدَهُمَا سِتَّةُ أَجْنَاسٍ: الْإِبِلُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالْحُلَلُ، وَاحْتَجَّا بِقَضِيَّةِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ قَضَى بِالدِّيَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاس

بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» جَعَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْوَاجِبَ مِنْ الْإِبِلِ عَلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهَا، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ مِنْهَا عَلَى التَّعْيِينِ، إلَّا أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الصِّنْفَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ آخَرَ، فَمَنْ ادَّعَى الْوُجُوبَ مِنْ الْأَصْنَافِ الْأُخَرِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. وَأَمَّا قَضِيَّةُ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ إنَّمَا قَضَى بِذَلِكَ حِينَ كَانَتْ الدِّيَاتُ عَلَى الْعَوَاقِلِ، فَلَمَّا نَقَلَهَا إلَى الدِّيوَانِ قَضَى بِهَا مِنْ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ. وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ مَا يُدَلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَوْ صَالَحَ الْوَلِيُّ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ لَمْ يَجُزْ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الدِّيَةِ لَجَازَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ، وَبَيَانُ صِفَتِهِ فَقَدْرُ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ يَخْتَلِفُ بِذُكُورَةِ الْمَقْتُولِ وَأُنُوثَتِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَلَا خِلَافَ، فِي أَنَّ الْوَاجِبَ بِقَتْلِهِ مِنْ الْإِبِلِ مِائَةٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَعَلَ «دِيَةَ كُلِّ ذِي عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ أَلْفَ دِينَارٍ» ، وَالتَّقْدِيرُ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ يَكُونُ تَقْدِيرًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى. وَأَمَّا الْوَاجِبُ مِنْ الْفِضَّةِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: عَشَرَةُ آلَافٍ دِرْهَمٍ وَزْنًا وَزْنُ سَبْعَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: اثْنَا عَشْرَ أَلْفًا، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ الدِّيَةُ عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَيَكُونَ إجْمَاعًا مَعَ مَا أَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا تُعْرَفُ إلَّا سَمَاعًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْرُ الْوَاجِبِ مِنْ الْبَقَرِ عِنْدَهُمَا مِائَتَا بَقَرَةٍ، وَمِنْ الْحُلَلِ مِائَتَا حُلَّةٍ، وَمِنْ الْغَنَمِ أَلْفَا شَاةٍ، ثُمَّ دِيَةُ الْخَطَأِ مِنْ الْإِبِلِ أَخْمَاسٌ بِلَا خِلَافٍ، عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «دِيَةُ الْخَطَأِ أَخْمَاسٌ عِشْرُونَ بَنَاتُ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بَنُو مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بَنُو لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ حِقَّةٌ، وَعِشْرُونَ جَذَعَةٌ» ، وَعِنْدَهُمَا قَدْرُ كُلِّ بَقَرَةٍ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَقَدْرُ كُلِّ حُلَّةٍ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَالْحُلَّةُ اسْمٌ لِثَوْبَيْنِ إزَارٌ وَرِدَاءٌ، وَقِيمَةُ كُلِّ شَاةٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ. وَدِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ أَرْبَاعٌ، عِنْدَهُمَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَثْلَاثٌ، ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً. وَأَرْبَعُونَ مَا بَيْنَ ثَنِيَّةٍ إلَى بَازِلِ عَامِهَا كُلِّهِ خِلْفَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ سَيِّدِنَا عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: فِي شِبْهِ الْعَمْدِ أَثْلَاثٌ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ خِلْفَةً، وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَتَى اخْتَلَفَتْ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ يَجِبُ تَرْجِيحُ قَوْلِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، وَالتَّرْجِيحُ هَهُنَا لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِالْقَبُولِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» ، وَفِي إيجَابِ الْحَوَامِلِ إيجَابُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَةِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ أَصْلٌ مِنْ وَجْهٍ، وَالثَّانِي: أَنَّ مَا قَالَهُ أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ مَعْنًى مَوْهُومٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً فَإِنَّ انْتِفَاخَ الْبَطْنِ قَدْ يَكُونُ لِلْحَمْلِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلدَّاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَدِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ، وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي دِيَةِ الْمَرْأَةِ: إنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي مِيرَاثِهَا، وَشَهَادَتِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ الرَّجُلِ فَكَذَلِكَ فِي دِيَتِهَا وَهَلْ يَخْتَلِفُ قَدْرُ الدِّيَةِ بِالْإِسْلَامِ، وَالْكُفْرِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لَا يَخْتَلِفُ وَدِيَةُ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَالشَّعْبِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَالزُّهْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَخْتَلِفُ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانِمِائَةٍ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ جَعَلَ دِيَةَ هَؤُلَاءِ عَلَى هَذِهِ الْمَرَاتِبِ» وَلِأَنَّ الْأُنُوثَةَ لَمَّا أَثَّرَتْ فِي نُقْصَانِ الْبَدَلِ فَالْكُفْرُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ نَقِيصَةَ الْكُفْرِ فَوْقَ كُلِّ نَقِيصَةٍ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] أَطْلَقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

من تجب عليه الدية

الْقَوْلَ بِالدِّيَةِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فَدَلَّ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْكُلِّ عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ (وَرَوَيْنَا) أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَعَلَ «دِيَةَ كُلِّ ذِي عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ أَلْفَ دِينَارٍ» (وَرُوِيَ) " أَنَّ «عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ قَتَلَ مُسْتَأْمَنَيْنِ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمَا بِدِيَةِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ» ، وَعَنْ الزُّهْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَضَى سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ وَسَيِّدُنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي دِيَةِ الذِّمِّيِّ بِمِثْلِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ دِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ كَمَالِ الدِّيَةِ يَعْتَمِدُ كَمَالَ حَالِ الْقَتِيلِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَهِيَ الذُّكُورَةُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْعِصْمَةُ، وَقَدْ وُجِدَ، وَنُقْصَانُ الْكُفْرِ يُؤَثِّرُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا. [مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ] (وَأَمَّا) بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فَالدِّيَةُ تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْقَتْلُ، وَإِنَّهُ وُجِدَ مِنْ الْقَاتِلِ، ثُمَّ (الدِّيَةُ) الْوَاجِبَةُ عَلَى الْقَاتِلِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَنَوْعٌ يَجِبُ عَلَيْهِ كُلِّهِ، وَتَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْعَاقِلَةُ، بَعْضَهُ بِطَرِيقِ التَّعَاوُنِ إذَا كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ، وَكُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ الْخَطَأِ أَوْ شِبْهِ الْعَمْدِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَمَا لَا فَلَا، فَلَا تَعْقِلُ الصُّلْحَ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ مَا وَجَبَ بِالْقَتْلِ بَلْ بِعَقْدِ الصُّلْحِ، وَلَا الْإِقْرَارَ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ لَا بِالْقَتْلِ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَلَا يَصْدُقُ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ، حَتَّى لَوْ صَدَقُوا عَقَلُوا، وَلَا الْعَبْدَ بِأَنْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ الدَّفْعُ لَا الْفِدَاءُ. وَالْفِدَاءُ يَجِبُ بِاخْتِيَارِ الْمَوْلَى لَا بِنَفْسِ الْقَتْلِ، وَلَا الْعَمْدَ بِأَنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ فَلَمْ تَجِبْ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ أَوْ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّحَمُّلَ مِنْ الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى طَرِيقِ التَّخْفِيفِ عَلَى الْخَاطِئِ، وَالْعَامِدُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ» وَقِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " وَلَا عَبْدًا " أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْعَبْدُ الْمَقْتُولُ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُ مَوْلَاهُ، وَهُوَ مَأْذُونٌ مَدْيُونٌ، أَوْ الْمُكَاتَبُ لَا الْعَبْدُ الْقَاتِلُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةَ عَنْ عَبْدٍ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: عَقَلْتُ عَنْ فُلَانٍ إذَا كَانَ فُلَانٌ قَاتِلًا، وَعَقَلْتُ فُلَانًا إذَا كَانَ فُلَانٌ مَقْتُولًا. كَذَا فَرَّقَ الْأَصْمَعِيُّ ثُمَّ الْوُجُوبُ عَلَى الْقَاتِلِ فِيمَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ قَوْلُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُّ الدِّيَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ تَجِبُ عَلَى الْكُلِّ ابْتِدَاءً، الْقَاتِلُ وَالْعَاقِلَةُ جَمِيعًا وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] ، وَمَعْنَاهُ فَلْيَتَحَرَّرْ، وَلْيُودِ، وَهَذَا خِطَابٌ لِلْقَاتِلِ لَا لِلْعَاقِلَةِ دَلَّ أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْقَاتِلِ، وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْقَتْلُ. وَأَنَّهُ وُجِدَ مِنْ الْقَاتِلِ لَا مِنْ الْعَاقِلَةِ فَكَانَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَإِنَّمَا الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ دِيَةً وَاجِبَةً عَلَيْهِ، ثُمَّ دُخُولُ الْقَاتِلِ مَعَ الْعَاقِلَةِ فِي التَّحَمُّلِ مَذْهَبُنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْقَاتِلُ لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ بَلْ تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ الْكُلَّ دُونَ الْقَاتِلِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ يَتَحَمَّلُ الْقَاتِلُ دُونَ الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَاخَذَ أَحَدٌ بِذَنْبِ غَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] وَقَالَ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] وَلِهَذَا لَمْ تَتَحَمَّلْ الْعَاقِلَةُ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ، وَلَا مَا دُونَ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ، كَذَا هَذَا. (وَلَنَا) أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَضَى بِالْغُرَّةِ عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبَةِ» ، وَكَذَا قَضَى سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. وَأَمَّا الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ فَنَقُولُ بِمُوجَبِهَا لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَخْذٌ بِغَيْرِ ذَنْبٍ؟ ، فَإِنَّ حِفْظَ الْقَاتِلِ وَاجِبٌ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَحْفَظُوا فَقَدْ فَرَّطُوا، وَالتَّفْرِيطُ مِنْهُمْ ذَنْبٌ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا يَقْتُلُ بِظَهْرِ عَشِيرَتِهِ فَكَانُوا كَالْمُشَارِكِينَ لَهُ فِي الْقَتْلِ، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ مَالٌ كَثِيرٌ فَإِلْزَامُ الْكُلَّ الْقَاتِلَ إجْحَافٌ بِهِ فَيُشَارَكُهُ الْعَاقِلَةُ فِي التَّحَمُّلِ تَخْفِيفًا، وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ التَّخْفِيفَ؛ لِأَنَّهُ خَاطِئٌ، وَبِهَذَا فَارَقَ ضَمَانَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمَالِ لَا يَكْثُرُ عَادَةً فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّخْفِيفِ، وَمَا دُونَ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ ضَمَانِ الْأَمْوَالِ. (وَأَمَّا) الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ» فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْقَاتِلُ، وَإِنَّا نَقُولُ نَعَمْ، لَكِنْ مَعْلُولًا بِالنُّصْرَةِ وَالْحِفْظِ، وَذَلِكَ عَلَى الْقَاتِلِ أَوْجَبُ فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّحَمُّلِ. ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الْعَاقِلَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي تَفْسِيرِ الْعَاقِلَةِ مَنْ هُمْ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ الْقَدْرِ الَّذِي تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ مِنْ الدِّيَةِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالْقَاتِلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ، وَإِمَّا إنْ كَانَ مُعْتَقًا، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ، فَإِنْ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ فَعَاقِلَتُهُ أَهْلُ دِيوَانِهِ إنْ كَانَ

كيفية وجوب الدية

مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ، وَهُمْ الْمُقَاتِلَةُ مِنْ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ الْعَاقِلِينَ تُؤْخَذُ مِنْ عَطَايَاهُمْ، وَهَذَا عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ مِنْ النَّسَبِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ الدِّيَاتُ عَلَى الْقَبَائِلِ فَلَمَّا وَضَعَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الدَّوَاوِينَ جَعَلَهَا عَلَى أَهْلِ الدَّوَاوِينِ، فَإِنْ قِيلَ: «قَضَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ النَّسَبِ إذْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دِيوَانٌ» فَكَيْفَ يُقْبَلُ قَوْلُ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مُخَالِفَتِهِ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَالْجَوَابُ لَوْ كَانَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعَلَ ذَلِكَ وَحْدَهُ لَكَانَ يَجِبُ حَمْلُ فِعْلِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ وَكَانَ فِعْلُهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَا يُظَنُّ مِنْ عُمُومِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مُخَالَفَةُ فِعْلِهِ؟ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَدَلَّ أَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّهُ كَانَ مَعْلُولًا بِالنُّصْرَةِ، وَإِذَا صَارَتْ النُّصْرَةُ فِي زَمَانِهِمْ الدِّيوَانَ نَقَلُوا الْعَقْلَ إلَى الدِّيوَانِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُخَالَفَةَ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّحَمُّلَ مِنْ الْعَاقِلَةِ لِلتَّنَاصُرِ، وَقَبْلَ وَضْعِ الدِّيوَانِ كَانَ التَّنَاصُرُ بِالْقَبِيلَةِ، وَبَعْدَ الْوَضْعِ صَارَ التَّنَاصُرُ بِالدِّيوَانِ، فَصَارَ عَاقِلَةُ الرَّجُلِ أَهْلَ دِيوَانِهِ. وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ النِّسَاءِ، وَالصَّبِيَّانِ، وَالْمَجَانِينِ، وَالرَّقِيقِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ، وَلِأَنَّ هَذَا الضَّمَانَ صِلَةٌ، وَتَبَرُّعٌ بِالْإِعَانَةِ، وَالصِّبْيَانُ، وَالْمَجَانِينُ، وَالْمَمَالِيكُ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دِيوَانٌ فَعَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ مِنْ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ اسْتِنْصَارَهُ بِهِمْ. وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُعْتَقًا أَوْ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ فَعَاقِلَتُهُ مَوْلَاهُ، وَقَبِيلَةُ مَوْلَاهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» ثُمَّ عَاقِلَةُ الْمَوْلَى الْأَعْلَى قَبِيلَتُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ، فَكَذَا عَاقِلَةُ مَوْلَاهُ، وَلِأَنَّ اسْتِنْصَارَهُ بِمَوْلَاهُ وَقَبِيلَتِهِ فَكَانُوا عَاقِلَتَهُ، هَذَا إذَا كَانَ لِلْقَاتِلِ عَاقِلَةٌ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ كَاللَّقِيطِ، وَالْحَرْبِيِّ أَوْ الذِّمِّيِّ الَّذِي أَسْلَمَ فَعَاقِلَتُهُ بَيْتُ الْمَالِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ لَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْوُجُوبُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وُجِدَتْ مِنْهُ، وَإِنَّمَا الْأَخْذُ مِنْ الْعَاقِلَةِ بِطَرِيقِ التَّحَمُّلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ يُرَدُّ الْأَمْرُ فِيهِ إلَى حُكْمِ الْأَصْلِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِمَكَانِ التَّنَاصُرِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ كَانَ اسْتِنْصَارُهُ بِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيْتُ الْمَالِ مَالُهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ عَاقِلَتُهُ (وَأَمَّا) بَيَانُ مِقْدَارِ مَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ مِنْ الدِّيَةِ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَلَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الصِّلَةِ وَالتَّبَرُّعِ تَخْفِيفًا عَلَى الْقَاتِلِ، فَلَا يَجُوزُ التَّغْلِيظُ عَلَيْهِمْ بِالزِّيَادَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ عَنْ هَذَا الْقَدْرِ إذَا كَانَ فِي الْعَاقِلَةِ كَثْرَةٌ، فَإِنْ قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ حَتَّى أَصَابَ الرَّجُلُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يُضَمُّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ إلَيْهِمْ مِنْ النَّسَبِ سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ أَوْ لَا، وَلَا يَعْسُرُ عَلَيْهِمْ، وَيَدْخُلُ الْقَاتِلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ وَيَكُونُ فِيمَا يُؤَدِّي كَأَحَدِهِمْ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ جِنَايَةً وُجِدَتْ مِنْهُ، وَضَمَانًا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَكَانَ هُوَ أَوْلَى بِالتَّحَمُّلِ. [كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الدِّيَةِ] (وَأَمَّا) بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الدِّيَةِ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ تَجِبُ مُؤَجَّلَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَضَى بِذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ خَالَفَهُ أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا. وَتُؤْخَذُ مِنْ ثَلَاثِ عَطَايَا إنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَطِيَّةً، فَإِنْ تَعَجَّلَ الْعَطَايَا الثَّلَاثَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ يُؤْخَذُ الْكُلُّ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ تَأَخَّرَتْ يَتَأَخَّرُ حَقُّ الْأَخْذِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ تُؤْخَذُ مِنْهُ وَمِنْ قَبِيلَتِهِ مِنْ النَّسَبِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الدِّيَةَ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ تَجِبُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَتْلِ إخْبَارٌ عَنْ وُجُودِ الْقَتْلِ، وَإِنَّهُ يُوجِبُ حَقًّا مُؤَجَّلًا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَيَجِبُ مُؤَجَّلًا فِي مَالِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ، وَالْعَمْدِ الَّذِي دَخَلَتْهُ شُبْهَةٌ، وَهُوَ الْأَبُ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا، قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إنَّهَا تَجِبُ مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ إلَّا أَنَّ دِيَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَدِيَةُ الْعَمْدِ فِي مَالِ الْأَبِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دِيَةُ الدَّمِ كَدِيَةِ الْعَمْدِ تَجِبُ حَالًا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وُجِدَ حَالًا فَتَجِبُ الدِّيَةَ حَالًا، إذْ الْحُكْمُ يَثْبُتُ عَلَى وَفْقِ السَّبَبِ هُوَ الْأَصْلُ، إلَّا أَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الْخَطَأِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْأَصْلِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَوْ يَثْبُتُ مَعْلُولًا بِالتَّخْفِيفِ عَلَى الْقَاتِلِ حَتَّى تَحْمِلَ عَنْهُ الْعَاقِلَة. وَالْعَامِدُ يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ فِي مَالِهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ. (وَلَنَا) أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْلُهُ

بيان من يجب عليه ومن يتحملها

تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ بِلَفْظِ الْخَطَأِ لَكِنَّ غَيْرَهُ مُلْحَقٌ بِهِ، إلَّا أَنَّهُ مُجْمَلٌ فِي بَيَانِ الْقَدْرِ، وَالْوَصْفِ فَبَيَّنَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْرَ الدِّيَةِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَبَيَانُ الْوَصْفِ وَهُوَ الْأَجَلُ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِقَضِيَّةِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَحْضَرٍ مِنْهُمْ فَصَارَ الْأَجَلُ وَصْفًا لِكُلِّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِالنَّصِّ، وَقَوْلُهُ: دِيَةُ الْخَطَأِ وَجَبَتْ بِطَرِيقِ التَّخْفِيفِ وَالْعَامِدُ يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ، قُلْنَا: وَقَدْ غَلَّظْنَا عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِإِيجَابِ دِيَةٍ مُغَلَّظَةٍ، وَالثَّانِي: بِالْإِيجَابِ فِي مَالِهِ، وَالْجَانِي لَا يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ الدِّيَةِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ أَوْ تَجِبُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ فَذَلِكَ الْجُزْءُ تَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، كَالْعَشَرَةِ إذَا قَتَلُوا رَجُلًا خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، فَعَاقِلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَتَحَمَّلُ عُشْرَهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. وَكَذَلِكَ الْعَشَرَةُ إذَا قَتَلُوا رَجُلًا وَأَحَدُهُمْ أَبُوهُ حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي مَالِهِمْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرُهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مِنْ دِيَةٍ مُؤَجَّلَةٍ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، فَكَانَ تَأْجِيلُ الدِّيَةِ تَأْجِيلًا لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا إذْ الْجُزْءُ لَا يُخَالِفُ الْكُلَّ فِي وَصْفِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ يَجِبُ فِي مَالِهِ حَالًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِالْقَتْلِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ فَلَا يَتَأَجَّلُ إلَّا بِالشَّرْطِ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً وَاخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ يَجِبُ الْفِدَاءُ حَالًا؛ لِأَنَّ الْفِدَاءَ لَمْ يَجِبْ بِالْقَتْلِ بَدَلًا مِنْ الْقَتِيلِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بَدَلًا عَنْ دَفْعِ الْعَبْدِ، وَالْعَبْدُ لَوْ دَفَعَ يَدْفَعُ حَالًا، فَكَذَلِكَ بَدَلُهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا، وَالْمَقْتُولُ حُرًّا. [بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ وَمَنْ يَتَحَمَّلُهَا] فَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا فَالْعَبْدُ الْمَقْتُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ عَبْدَ أَجْنَبِيٍّ (وَإِمَّا) أَنْ كَانَ عَبْدًا لِقَاتِلٍ، فَإِنْ كَانَ عَبْدَ أَجْنَبِيٍّ فَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْقَتْلِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ الْقِيمَةِ، وَالْكَلَامُ فِي الْقِيمَةِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهَا، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَتَحَمَّلُهُ، وَفِي بَيَان كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْعَبْدُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ قَلِيلَ الْقِيمَةِ. (وَإِمَّا) إنْ كَانَ كَثِيرَ الْقِيمَةِ، فَإِنْ كَانَ قَلِيلَ الْقِيمَةِ بِأَنْ كَانَ قِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ يَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ أَوْ أَكْثَرَ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَجِبُ عَشَرَةُ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ يَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلُ مَذْهَبِنَا. وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مِثْلُ مَذْهَبِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَبْدَ آدَمِيٌّ وَمَالٌ؛ لِوُجُودِ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ فِيهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَبَرٌ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ وَالْقِيمَةِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ، وَبِالْقَتْلِ فَوْتُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا، وَلَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الضَّمَانِ بِمُقَابَلَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فَلَا بُدَّ مِنْ إيجَابِهِ بِمُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا وَإِهْدَارِ الْآخَرِ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي التَّرْجِيحِ، فَادَّعَى الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّرْجِيحَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَاجِبَ مَالٌ، وَمُقَابَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ أَوْلَى مِنْ مُقَابَلَةِ الْمَالِ بِالْآدَمِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ الْوَارِدِ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِالْمِثْلِ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمَالِ وَالْآدَمِيِّ، فَكَانَ إيجَابُهُ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِ مُوَافِقًا لِلْأَصْلِ، فَكَانَ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّمَانَ وَجَبَ حَقًّا لِلْعَبْدِ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ تَجِبُ بِطَرِيقِ الْجَبْرِ. وَفِي إيجَابِ الضَّمَانِ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِيَّةِ جَبْرُ حَقِّ الْمُفَوَّتِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. (وَلَنَا) النَّصُّ وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وَهَذَا مُؤْمِنٌ قُتِلَ خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ، وَالدِّيَةُ ضَمَانُ الدَّمِ، وَضَمَانُ الدَّمِ لَا يُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ بِالْإِجْمَاعِ. (وَأَمَّا) دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ أَنَّا أَجْمَعنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقِصَاصِ يَصِحُّ وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمَوْلَى، لَوْلَا أَنَّ التَّرْجِيحَ لِمَعْنَى الْآدَمِيَّةِ لَمَا صَحَّ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ إقْرَارُهُ إهْدَارًا لِمَالِ الْمَوْلَى قَصْدًا مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ. (وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْآدَمِيَّةَ فِيهِ أَصْلٌ، وَالْمَالِيَّةَ عَارِضٌ، وَتَبَعٌ، وَالْعَارِضُ لَا يُعَارِضُ وَالتَّبَعُ لَا يُعَارِضُ الْأَصْلَ، وَالتَّبَعُ لَا يُعَارِضُ الْأَصْلَ الْمَتْبُوعَ، وَدَلِيلُ أَصَالَةِ الْآدَمِيَّةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ خُلِقَ خَلْقًا آدَمِيًّا ثُمَّ ثَبَتَ فِيهِ وَصْفُ الْمَالِيَّةِ بِعَارِضِ الرِّقِّ، وَالثَّانِي: أَنَّ قِيَامَ الْمَالِيَّةِ فِيهِ بِالْآدَمِيَّةِ وُجُودًا وَبَقَاءً لَا عَلَى الْقَلْبِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَالَ خُلِقَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ، وَالنَّفْسُ مَا خُلِقَتْ وِقَايَةً لِلْمَالِ، فَكَانَتْ الْآدَمِيَّةُ فِيهِ أَصْلًا وُجُودًا

أحكام جناية الحر على العبد

وَبَقَاءً وَعَرَضًا، وَالثَّانِي: أَنَّ حُرْمَةَ الْآدَمِيِّ فَوْقَ حُرْمَةِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ لِغَيْرِهِ، وَحُرْمَةَ الْآدَمِيِّ لِعَيْنِهِ، فَكَانَ اعْتِبَارُ النَّفْسِيَّةِ، وَإِهْدَارُ الْمَالِيَّةِ أَوْلَى مِنْ الْقَلْبِ، إلَّا أَنَّهُ نَقَصَتْ دِيَتُهُ عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ لِكَوْنِ الْكُفْرِ مُنْقِصًا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِظْهَارًا لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ، وَتَقْدِيرُ النُّقْصَانِ بِالْعَشَرَةِ ثَبَتَ تَوْفِيقًا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُنْقَصُ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَقَادِيرِ، أَوْ لِأَنَّ هَذَا أَدْنَى مَالٍ لَهُ فِي خَطَرِ الشَّرْعِ كَمَا فِي نِصَابِ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ قَوْلُهُ: " الْمَالُ لَيْسَ بِمِثْلٍ لِلْآدَمِيِّ " قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنْ لِشَرَفِ الْآدَمِيِّ وَجْهُ الْمَالِ لَمْ يُجْعَلْ مِثْلًا لَهُ عِنْدَ إمْكَانِ إيجَابِ مَا هُوَ مِثْلٌ لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهُوَ النَّفْسُ، فَأَمَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ اعْتِبَارِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَاعْتِبَارُ الْمِثْلِ مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى مِنْ الْإِهْدَارِ، وَقَوْلُهُ: " الْجَبْرُ فِي الْمَالِ أَبْلَغُ " قُلْنَا: بَلَى، لَكِنَّ فِيهِ إهْدَارَ الْآدَمِيِّ، وَمُقَابَلَةُ الْجَابِرِ بِالْآدَمِيِّ الْفَائِتِ أَوْلَى مِنْ الْمُقَابَلَةِ بِالْمَالِ الْهَالِكِ، وَإِنْ كَانَ الْجَبْرُ ثَمَّةَ أَكْثَرَ لَكِنْ فِيهِ اعْتِبَارَ جَانِبِ الْمَوْلَى فَيَكُونُ لِغَيْرِهِ، وَفِيمَا قُلْنَا الْجَبْرُ أَقَلُّ لَكِنَّ فِيهِ اعْتِبَارُ جَانِبِ نَفْسِ الْآدَمِيِّ، وَهُوَ الْعَبْدُ، وَحُرْمَةُ الْآدَمِيِّ لَعَيْنِهِ، فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى. وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ أَمَةً فَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةَ الْقِيمَةِ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ آلَافٍ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ بِقَدْرِ قِيمَتِهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةُ الْقِيمَةِ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا خَمْسَةَ آلَافٍ أَوْ أَكْثَرَ يَجِبُ خَمْسَةُ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ، فَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَبْلُغُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ. وَالْكَلَامُ فِي الْأَمَةِ كَالْكَلَامِ فِي الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا يَنْقُصُ مِنْهَا عَشَرَةٌ كَمَا نَقَصَتْ مِنْ دِيَةِ الْعَبْدِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ دِيَةُ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ فِي الْأَمَةِ فَيَنْقُصُ فِي الْعَبْدِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ تَزِيدُ نِصْفُ قِيمَتُهُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافٍ أَنَّهُ تَجِبُ خَمْسَةُ آلَافٍ إلَّا خَمْسَةً؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ لَيْسَ بِدِيَةٍ كَامِلَةٍ، بَلْ هُوَ بَعْضُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ مِنْهُ نِصْفٌ، فَيَجِبُ نِصْفُ مَا يَجِبُ فِي الْكُلِّ، وَالْوَاجِبُ فِي الْأُنْثَى لَيْسَ بَعْضَ دِيَةِ الذَّكَرِ بَلْ هُوَ دِيَةٌ كَامِلَةٌ فِي نَفْسِهَا، لَكِنَّهَا دِيَةُ الْأُنْثَى. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ وَمَنْ يَتَحَمَّلُهَا فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ مِنْهُ، وَهُوَ الْقَتْلُ، وَتَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ فِي قَوْلِهِمَا، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَجِبُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا: أَنَّ عِنْدَهُمَا ضَمَانَ الْعَبْدِ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ، وَضَمَانَ النَّفْسِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ. وَكَدِيَةِ الْحُرِّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِيَّةِ، وَضَمَانَ الْمَالِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ بَلْ يَكُونُ فِي مَالِ الْمُتْلِفِ كَضَمَانِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي كَثِيرِ الْقِيمَةِ أَنْ يُقَدَّرَ عَشَرَةَ آلَافٍ تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِيَّةِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا لَا تَعْقِلُهُ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِيَّةِ. (وَأَمَّا) كَيْفِيَّةُ وُجُوبِ الْقِيمَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ عِنْدَنَا، وَقَدْرُ مَا يَتَحَمَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَمَا ذَكَرْنَا فِي دِيَةِ الْحُرِّ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [أَحْكَام جِنَايَة الحر عَلَى الْعَبْد] وَالثَّانِي: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ مُدَبَّرَ إنْسَانٍ أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ أَوْ مُكَاتَبَهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقِنِّ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا، وَإِنْ كَانَ عَبْدَ الْقَاتِلِ فَجِنَايَةُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ هَدْرٌ. وَكَذَا لَوْ كَانَ مُدَبَّرُهُ أَوْ أُمُّ وَلَدِهِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَوْ وَجَبَتْ لَوَجَبَتْ لَهُ عَلَيْهِ. وَهَذَا مُمْتَنِعٌ، وَإِنْ كَانَ مُكَاتَبَهُ فَجِنَايَةُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ لَازِمَةٌ، وَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى كَسْبِهِ وَأَرْشِ جِنَايَتِهِ حُرٌّ فَكَانَ كَسْبُهُ، وَأَرْشُهُ لَهُ فَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ، وَلَا تَعْقِلُهَا الْعَاقِلَةُ بَلْ تَكُونُ عَلَى مَالِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا» ، وَالْمُكَاتَبُ عِنْدَنَا عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ؛ وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهُ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ جِنَايَتَهُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ. وَالْعَقْدُ ثَابِتٌ بَيْنَهُمَا غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ، وَلِهَذَا لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ الِاعْتِرَافَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ جِنَايَةُ الْمَوْلَى عَلَى رَقِيقِ الْمُكَاتَبِ، وَعَلَى مَالِهِ لَازِمَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ الْمَوْلَى، وَالْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ فِيهِ. وَكَذَا إذَا كَانَ مَأْذُونًا مَدْيُونًا فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِرَقَبَتِهِ، وَبِالْقَتْلِ أَبْطَلَ مَحَلَّ حَقِّهِمْ فَتَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَتَكُونُ فِي مَالِهِ بِالنَّصِّ، وَتَكُونُ حَالَّةً؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ إتْلَافِ الْمَالِ. هَذَا إذَا كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَاتِلُ عَبْدًا وَالْمَقْتُولُ حُرًّا فَالْحُرُّ الْمَقْتُولُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ أَجْنَبِيًّا أَوْ يَكُونَ وَلِيَ الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَالْعَبْدُ الْقَاتِلُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبًا، فَإِنْ كَانَ قُلْنَا: يَدْفَعُ إذَا ظَهَرَتْ جِنَايَتُهُ إلَّا أَنْ

يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَا تَظْهَرُ بِهِ هَذِهِ الْجِنَايَةُ، وَبَيَانِ حُكْمِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ، وَبَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ، وَبَيَانِ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ، وَشَرْطِ صِحَّةِ الِاخْتِيَارِ، وَبَيَانِ صِفَةِ الْفِدَاءِ الْوَاجِبِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهَذِهِ الْجِنَايَةُ تَظْهَرُ بِالْبَيِّنَةِ وَإِقْرَارِ الْمَوْلَى وَعِلْمِ الْقَاضِي، وَلَا تَظْهَرُ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ مَحْجُورًا كَانَ أَوْ مَأْذُونًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ بِالْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ مَا كَانَ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ، وَالْإِقْرَارُ بِالْجِنَايَةِ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ لَا يُؤْخَذُ بِهِ لَا فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ إقْرَارِهِ لَا يَلْزَمُهُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مَوْلَاهُ، فَكَانَ هَذَا إقْرَارًا عَلَى الْمَوْلَى حَتَّى لَوْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى صَحَّ إقْرَارَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بَعْدَ الْعَتَاقِ أَنَّهُ كَانَ جَنَى فِي حَالِ الرِّقِّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا إقْرَارٌ لَهُ عَلَى الْمَوْلَى، أَلَّا يُرَى لَوْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى وَأَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ؟ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا حُكْمُ هَذِهِ الْجِنَايَةِ فَوَجَبَ دَفْعُ الْعَبْدِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حُكْمُهَا تَعَلُّقُ الْأَرْشِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ يُبَاعُ فِيهِ وَيُسْتَوْفَى الْأَرْشُ مِنْ ثَمَنِهِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَالْفَضْلُ لِلْمَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَفِ ثَمَنُهُ بِالْأَرْشِ يُتْبَعُ بِمَا بَقِيَ بَعْدَ الْعَتَاقِ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْلِصَهُ، وَيُؤَدِّيَ الْأَرْشَ مِنْ مَالٍ آخَرَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي ضَمَانِ الْجِنَايَةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْجَانِي، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَالِهِ أَوْ تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ عَنْهُ، وَالْعَبْدُ لَا مَالَ لَهُ، وَلَا عَاقِلَةَ فَتَعَذَّرَ الْإِيجَابُ عَلَيْهِ، فَتَجِبُ فِي رَقَبَتِهِ، يُبَاعُ فِيهِ كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ فِي الْأَمْوَالِ. (وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِثْلُ مَذْهَبِنَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَمْ يُنْقَلْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَيَكُونَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِمُعَارَضَةِ الْإِجْمَاعِ، وَدَيْنُ الِاسْتِهْلَاكِ فِي بَابِ الْأَمْوَالِ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ عَلَى مَا عُرِفَ. وَأَمَّا صِفَةُ هَذَا الْحُكْمِ فَصَيْرُورَةُ الْعَبْدِ وَاجِبُ الدَّفْعِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ، كَثُرَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَوْ قَلَّتْ، وَعِنْدَ اخْتِيَارِ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ يَنْتَقِلُ الْحَقُّ مِنْ الدَّفْعِ إلَى الْفِدَاءِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ وَاحِدًا دَفَعَ إلَيْهِ، وَيَصِيرُ كُلُّهُ مَمْلُوكًا لَهُ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً يَدْفَعُ إلَيْهِمْ، وَكَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أُرُوشِ جِنَايَتِهِمْ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَقْتَ الْجِنَايَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ. إذَا مَاتَ الْعَبْدُ الْجَانِي قَبْلَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ بَطَلَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ دَفْعُ الْعَبْدِ عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ، وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ هَلَاكِ الْعَبْدِ فَيَسْقُطُ الْحَقُّ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: " حُكْمُ هَذِهِ الْجِنَايَةِ تَخَيُّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ، وَالْفِدَاءِ " لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَعَيَّنَ الْفِدَاءُ عِنْدَ هَلَاكِ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَصْلًا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمُخَيَّرِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْآخَرُ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ لَا يَبْرَأُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَقَدْ انْتَقَلَ الْحَقُّ مِنْ رَقَبَتِهِ إلَى ذِمَّةِ الْمَوْلَى فَلَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِهَلَاكِ الْعَبْدِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَقَلُّ مِنْ الدِّيَةِ فَلَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى إلَّا الدَّفْعُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّفْعِ حُكْمُهُ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ قَلِيلِ الْقِيمَةِ وَكَثِيرِهَا فَلَوْ جَنَى الْعَبْدُ عَلَى جَمَاعَةٍ، فَإِنْ شَاءَ الْمَوْلَى دَفَعَهُ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِلْأَوَّلِ لَا يَمْنَعُ حَقَّ الثَّانِي وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ التَّعَلُّقَ فَالْحَقُّ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ، وَإِذَا دَفَعَهُ إلَيْهِمْ كَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ قَدْرَ أُرُوشِ جِنَايَتِهِمْ، فَإِنَّ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الْعَبْدِ عِوَضٌ عَنْ الْفَائِتِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْفَائِتِ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ الْعَبْدَ، وَغُرِّمَ الْجِنَايَاتِ بِكَمَالِ أُرُوشِهَا، وَلَوْ أَرَادَ الْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَ مِنْ الْعَبْدِ إلَى بَعْضِهِمْ مِقْدَارَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُ وَيَفْدِي بَعْضَ الْجِنَايَاتِ لَهُ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْقَتِيلُ وَاحِدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَأَرَادَ الْمَوْلَى دَفْعَ الْعَبْدِ إلَى أَحَدِهِمَا، وَالْفِدَاءَ إلَى الْآخَرِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ هُنَاكَ وَاحِدَةٌ، وَلَهَا حُكْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ وُجُوبُ الدَّفْعِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَعِنْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ وُجُوبُ الْفِدَاءِ عَلَى التَّعْيِين، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ فِي جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَ حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا جَنَى عَلَى جَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ هُنَاكَ مُتَعَدِّدَةٌ، وَلَهُ خِيَارُ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالدَّفْعُ فِي الْبَعْضِ وَالْفِدَاءُ فِي الْبَعْضِ لَا يَكُونُ جَمَعَا بَيْنَ حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا، وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ، فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَهُ إلَيْهِمَا أَثَلَاثًا لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمَا بِالْعَبْدِ أَثْلَاثًا، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى عَنْ كُلِّ جِنَايَةٍ بِأَرْشِهَا، وَكَذَلِكَ إذَا شَجَّ إنْسَانًا شِجَاجًا مُخْتَلِفَةً أَنَّهُ إنْ دَفَعَ الْعَبْدَ إلَيْهِمْ كَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ جِنَايَاتِهِمْ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى عَنْ الْكُلِّ

بِأَرْشِهَا. وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا، وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ، وَالْفِدَاءِ، وَلَا يَبْطُلُ الدَّيْنُ بِحُدُوثِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ وُجُوبُ الدَّفْعِ، وَتَعَلُّقُ الدَّيْنَ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الدَّفْعِ إلَّا أَنَّهُ يَدْفَعُهُ مَشْغُولًا بِالدَّيْنِ، فَإِنْ فَدَى بِالدِّيَةِ يُبَاعُ الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَدَى فَقَدْ طَهُرَتْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ عَنْ الْجِنَايَةِ فَيُبَاعُ، إلَّا أَنْ يَسْتَخْلِصَهُ الْمَوْلَى لِنَفْسِهِ، وَيَقْضِيَ دَيْنَ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِمْ يُبَاعُ لِأَجْلِ الْغُرَمَاءِ فِي دَيْنِهِمْ، وَإِنَّمَا بُدِئَ بِالدَّفْعِ لَا بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ الْحَقَّيْنِ: حَقَّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ، وَحَقَّ أَصْحَابِ الدَّيْنِ بِالْبَيْعِ لَهُمْ. وَلَوْ بُدِئَ بِالدَّيْنِ فَبَيْعَ بِهِ لَبَطُلَ حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ فِي الدَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ يَصِيرُ مِلْكًا لَلْمُشْتَرِي، لِذَلِكَ بُدِئَ بِالدَّفْعِ، وَفَائِدَةُ الدَّفْعِ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ ثُمَّ الْبَيْعُ هِيَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُمْ حَقُّ اسْتِخْلَاصِ الْعَبْدِ بِالْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ لِلنَّاسِ أَغْرَاضًا فِي الْأَعْيَانِ، ثُمَّ إذَا بِيعَ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ كَانَ الْفَضْلُ لِأَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِيعَ عَلَى مِلْكِهِمْ لِصَيْرُورَتِهِ مِلْكًا لَهُمْ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَفِ ثَمَنُهُ بِالدِّينِ يَتَأَخَّرُ مَا بَقِيَ إلَى مَا بَعْدِ الْعَتَاقِ، كَمَا لَوْ بِيعَ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى الْأَوَّلِ، وَلَا يَضْمَنُ الْمَوْلَى لِأَصْحَابِ الدَّيْنِ بِدَفْعِ الْعَبْدِ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ شَيْئًا اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِمْ تَمْلِيكٌ مِنْهُمْ بَعْدَ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُمْ، وَلَوْ بَاعَهُ مِنْهُمْ لَضَمِنَ، كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الدَّفْعَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ رِعَايَةِ الْحَقَّيْنِ لِمَا بَيَّنَّا، وَمَنْ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لَا يَضْمَنُ، وَلَوْ حَضَرَ الْغُرَمَاءُ أَوَّلًا فَبَاعَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي يُنْظَرُ إنْ كَانَ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ، وَلَزِمَهُ الْأَرْشُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالَمٍ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ الْأَرْشِ، وَهُوَ الدِّيَةُ، وَإِنْ كَانَ رُفِعَ إلَى الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي عَالَمًا بِالْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُ الْعَبْدَ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ فَبَاعَهُ بِالدَّيْنِ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عِنْدَهُ أَوْ بِعِلْمِهِ ثُمَّ حَضَرَ أَوْلِيَاءُ الْجِنَايَةِ وَلَا فَضْلَ فِي الثَّمَنِ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ، وَسَقَطَ حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى بِغَيْرِ رِضَاهُ، فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَضْمِينِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَصْنَعُهُ أَمِينٌ فَلَا تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ، وَلَا سَبِيلَ إلَى فَسْخِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَسَخَ الْبَيْعَ وَدَفَعَ بِالْجِنَايَةِ لَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْبَيْعِ ثَانِيًا، فَتَعَذَّرَ الْقَوْلُ بِالْفَسْخِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ، وَلَوْ مَاتَ لَبَطَلَ حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ أَصْلًا، كَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ الْجَانِيَ قَبْلَ الدَّفْعِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا يَأْخُذُ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ، وَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إنْ كَانَ وَاحِدًا، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً يَدْفَعُهَا إلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلُ الْعَبْدِ فَتَقُومُ مَقَامَهُ إلَّا أَنَّهُ لَا خِيَارَ لِلْمَوْلَى بَيْنَ الْقِيمَةِ وَالْفِدَاءِ حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ، وَلَوْ تَصَرَّفَ فِي الْعَبْدِ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ الْأَرْشِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّخْيِيرِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ الْأَرْشِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَارُ الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَلِيلَ الْقِيمَةِ فَلِلنَّاسِ رَغَائِبُ فِي الْأَعْيَانِ، وَكَذَلِكَ قَتَلَهُ عَبْدُ أَجْنَبِيٍّ فَخُيِّرَ مَوْلَاهُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، وَفَدَى بِقِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ أَنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُ الْقِيمَةَ وَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ دَفَعَ الْقَاتِلَ إلَى مَوْلَى الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ يُخَيَّرُ مَوْلَى الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ فِي الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْقَاتِلَ قَامَ مَقَامَ الْمَقْتُولِ لَحْمًا وَدَمًا، فَكَانَ الْأَوَّلُ قَائِمًا، وَإِنْ قَتَلَهُ عَبْدٌ آخَرُ لِمَوْلَاهُ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى فِي شَيْئَيْنِ فِي الْعَبْدِ الْقَاتِلِ: بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ بِالْعَبْدِ جَعَلَ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ، فَصَارَ كَأَنَّ عَبْدَ أَجْنَبِيٍّ قَتَلَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ، وَهُنَاكَ يُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ، كَذَا هَهُنَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ عَبْدٌ رَجُلًا خَطَأً، وَقَتَلَتْ أَمَةٌ لِمَوْلَاهُ هَذَا الْعَبْدَ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ دَفْعِهَا وَفِدَائِهَا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً، وَقَتَلَتْ أَمَةٌ لِمَوْلَاهُ رَجُلًا آخَرَ خَطَأً ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْأَمَةَ خُيِّرَ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى بِالدِّيَةِ وَقِيمَةِ الْأَمَةِ، وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ ضَرَبَ فِيهِ أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْعَبْدِ بِالدِّيَةِ، وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأَمَةِ بِقِيمَةِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَيْهَا كَالْجِنَايَةِ عَلَى أَمَةِ أَجْنَبِيٍّ قَتَلَتْ رَجُلًا خَطَأً، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَمَةِ أَلْفًا كَانَ الْعَبْدُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا: سَهْمٌ لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأَمَةِ، وَعَشَرَةُ أَسْهُمٍ لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْعَبْدِ، فَإِنْ قَطَعَ عَبْدٌ لِأَجْنَبِيٍّ يَدَ الْعَبْدِ الْجَانِي أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ أَوْ جَرَحَهُ جِرَاحَةً فَخُيِّرَ مَوْلَى الْعَبْدِ الْقَاطِعِ أَوْ الْفَاقِئِ أَوْ الْجَارِحِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، فَإِنْ دَفَعَ عَبْدَهُ أَوْ فَدَاهُ بِالْأَرْشِ فَمَوْلَى الْعَبْدِ الْمَقْطُوعِ يُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ، وَالْفِدَاءِ، فَإِنْ

شَاءَ دَفَعَ عَبْدَهُ الْمَقْطُوعَ مَعَ الْعَبْدِ الْقَاطِعِ أَوْ مَعَ أَرْشِ يَدِ عَبْدِهِ الْمَقْطُوعِ، وَإِنْ شَاءَ فَدَى عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْأَرْشِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَقْطُوعَ كَانَ وَاجِبَ الدَّفْعِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَأَرْشُ يَدِهِ بَدَلُ جُزْئِهِ، وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَدْفُوعُ قَائِمٌ مَقَامَ يَدِهِ، فَكَانَ وَاجِبَ الدَّفْعِ، إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْفِدَاءَ فَيُنْقَلُ الْحَقُّ مِنْ الْعَبْدِ إلَى الْأَرْشِ، وَلَوْ كَسَبَ الْعَبْدُ الْجَانِي كَسْبًا أَوْ كَانَ الْجَانِي أَمَةً فَوَلَدَتْ بَعْدَ الْجِنَايَةِ فَاخْتَارَ الْمَوْلَى الدَّفْعَ لَمْ يَدْفَعْ الْكَسْبَ وَلَا الْوَلَدَ، بِخِلَافِ الْأَرْشِ أَنَّهُ يُدْفَعُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَرْشَ بَدَلُ جُزْءٍ كَانَ وَاجِبَ الدَّفْعِ، وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ بِخِلَافِ الْكَسْبِ وَالْوَلَدِ، وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ فَأَخَذَ الْمَوْلَى الْأَرْشَ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ فَادَّعَى الْمَوْلَى أَنَّ الْقَطْعَ كَانَ قَبْلَ جِنَايَتِهِ. وَأَنَّ الْأَرْشَ سَالِمٌ لَهُ، وَادَّعَى وَلِيُّ الْجِنَايَةِ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَهَا، وَأَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الدَّفْعِ مَعَ الْعَبْدِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ مِلْكُ الْمَوْلَى كَالْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ، فَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ يَدَّعِي عَلَيْهِ وُجُوبَ تَمْلِيكِ مَالٍ هُوَ مِلْكُهُ مِنْهُ، وَهُوَ يُنْكِرُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُ عَبْدٍ أَوْ فُقِئَتْ عَيْنُهُ، وَأَخَذَ الْمَوْلَى الْأَرْشَ ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً، فَإِنْ شَاءَ الْمَوْلَى اخْتَارَ الْفِدَاءَ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْعَبْدَ كَذَلِكَ نَاقِصًا، وَسَلَّمَ لَهُ مَا كَانَ أَخَذَ مِنْ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّفْعِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ، وَهُوَ كَانَ عِنْدَ الْجِنَايَةِ نَاقِصًا بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ أَنَّهُ يَدْفَعُ مَعَ أَرْشِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَقْتَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ كَانَ وَاجِبَ الدَّفْعِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَالْأَرْشُ بَدَلُ الْجُزْءِ فَيَجِبُ دَفْعُهُ مَعَ الْعَبْدِ. وَلَوْ قَتَلَ قَتِيلًا خَطَأً ثُمَّ قُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ قَتَلَ قَتِيلًا آخَرَ خَطَأً فَأَرْشُ يَدِهِ يُسَلَّمُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَقْتَ الْجِنَايَةِ، وَالْأَرْشُ بَدَلُ الْجُزْءِ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ فَيَسْلَمُ لَهُ، فَأَمَّا حَقُّ الثَّانِي فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْجُزْءِ لِانْعِدَامِهِ وَقْتَ الْجِنَايَةِ، ثُمَّ يُدْفَعُ الْعَبْدُ فَيَكُونُ بَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ عَلَى تِسْعَةٍ، وَثَمَانِينَ جُزْءًا؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَنَقُولُ: حَقُّ وَلِيِّ كُلِّ جِنَايَةٍ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، وَقَدْ اسْتَوْفَى وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى مِنْ حَقِّهِ خَمْسَمِائَةٍ فَيُجْعَلُ كُلُّ خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا فَيَكُونُ كُلُّ الْعَبْدِ أَرْبَعِينَ سَهْمًا، حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي عِشْرِينَ، وَقَدْ أَخَذَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى مِنْ حَقِّهِ خَمْسَمِائَةٍ، أَوْ بَقِيَ حَقُّهُ فِي تِسْعَةِ عَشَرَ سَهْمًا وَلَمْ يَأْخُذْ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ شَيْئًا، فَبَقِيَ حَقُّهُ فِي عِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ الْعَبْدِ. وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجِنَايَتَيْنِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَرْشُهَا. وَلَوْ شَجَّ إنْسَانًا مُوضِحَةً، وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ، وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجِنَايَتَيْنِ بِأَرْشِهَا، وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَهُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا: سَهْمٌ لِصَاحِبِ الْمُوضِحَةِ، وَعِشْرُونَ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قِسْمَةَ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ تَعَلُّقِ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ، وَصَاحِبُ الْمُوضِحَةِ حَقُّهُ فِي خَمْسِمِائَةٍ. وَحَقُّ وَلِيِّ الْقَتِيلِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ فَيُجْعَلُ كُلُّ خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا، فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ، وَمَا حَدَثَ مِنْ زِيَادَةِ الْقِيمَةِ لِلْعَبْدِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الشَّرِكَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا صِفَةُ الْأَصْلِ، وَإِذَا ثَبَتَتْ الشَّرِكَةُ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَتْ فِي الصِّفَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً، وَقِيمَتُهُ وَقْتَ الْقَتْلِ أَلْفَانِ ثُمَّ عَمِّي بَعْدَ الْقَتْلِ قَبْلَ الشَّجَّةِ ثُمَّ شَجَّ إنْسَانًا مُوضِحَةً كَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ. وَمَا حَدَثَ فِيهِ مِنْ النُّقْصَانِ فَهُوَ عَلَى الشَّرِكَةِ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ جَنَى جِنَايَةً فَفَدَاهُ الْمَوْلَى ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى خُيِّرَ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ، وَالْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَدَى فَقَدْ طَهَّرَ الْعَبْدَ عَنْ الْجِنَايَةِ، وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ، فَإِذَا جَنَى بَعْدَ ذَلِكَ فَهَذِهِ جِنَايَةٌ مُبْتَدَأَةٌ، فَيُبْتَدَأُ بِحُكْمِهَا، وَهُوَ الدَّفْعُ أَوْ الْفِدَاءُ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَنَى ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى قَبْلَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ أَنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا أَوْ يَفْدِي؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَفْدِ لِلْأُولَى حَتَّى جَنَى ثَانِيًا فَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعَلَّقَ بِالْعَبْدِ، فَيَدْفَعُ إلَيْهِمَا أَوْ يَفْدِي، وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى أَحَدِهِمَا فَقَتَلَ عَبْدُهُ رَجُلًا آخَرَ ثُمَّ حَضَرُوا، يُقَالُ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ ادْفَعْ نِصْفَ الْعَبْدِ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي أَوْ نِصْفَ الدِّيَةِ. وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَى الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى الَّذِي لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ. (أَمَّا) وُجُوبُ دَفْعِ نِصْفِ الْعَبْدِ عَلَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِيَ أَوْ الْفِدَاءِ فَلِأَنَّهُ مَلَكَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِالدَّفْعِ، فَيُخَيَّرُ فِي جِنَايَتِهِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ. (وَأَمَّا) وُجُوبُ رَدِّ نِصْفِ الْعَبْدِ إلَى الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ» وَلَا يُخَيَّرُ الْمَوْلَى فِي النِّصْفِ بَيْنَ الدَّفْعِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ وَبَيْنَ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْجِنَايَةِ الْأُولَى كَانَ كُلُّ الْعَبْدِ عَلَى مِلْكِهِ، وَوَقْتَ وُجُودِ الثَّانِيَةِ كَانَ نِصْفُهُ عَلَى مِلْكِهِ فَيُوجَبُ الدَّفْعُ أَوْ الْفِدَاءُ

فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الدِّيَةِ، وَإِنْ دَفَعَ دَفَعَ نِصْفَ الْعَبْدِ إلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ عَلَى قَدْرِ تَعَلُّقِ الْحَقِّ، وَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَعَلَّقَ بِنِصْفٍ، فَيَكُونُ نِصْفُ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَقَدْ كَانَ، وَصَلَ النِّصْفُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ، وَوَصَلَ إلَيْهِ بِالدَّفْعِ مِنْ الْمَوْلَى الرُّبْعُ فَسَلِمَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ، وَسَلِمَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى الَّذِي لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ الْعَبْدُ الرُّبْعُ، فَصَارَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا: ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَرُبْعُهُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى، وَبَقِيَ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ الرُّبْعُ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ الْمَوْلَى دَفَعَ كُلَّ الْعَبْدِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِقَضَاءٍ لَا يَضْمَنُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إذَا كَانَ بِقَضَاءٍ كَانَ هُوَ مُضْطَرًّا فِي الدَّفْعِ فَلَا يَضْمَنُ، وَلَا سَبِيلَ إلَى تَضْمِينِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ فِيمَا يَصْنَعُ أَمِينٌ فَلَا تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ، وَيُضَمَّنُ الْقَابِضُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْقَبْضُ بِغَيْرِ حَقٍّ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ كَقَبْضِ الْغَصْبِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ الضَّمَانِ بِالرَّدِّ إلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَبَضَ الْعَبْدَ فَارِغًا، وَرَدَّهُ مَشْغُولًا، وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ الَّذِي لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ الْعَبْدُ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْوَلِيَّ رُبْعَ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَابِضَ؛ لِيَسْلَمَ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ، رُبْعُهُ لَحْمٌ وَدَمٌ، وَرُبْعُهُ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: الدَّفْعُ مِنْ الْمَوْلَى، وَالْقَبْضُ مِنْ الْقَابِضِ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمَوْلَى فَالْمَوْلَى يَرْجِعُ عَلَى الْقَابِضِ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْقَابِضِ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ حَاصِلَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ قَتِيلَيْنِ خَطَأً فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى أَحَدِ وَلِيَّيْ الْقَتِيلَيْنِ فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا آخَرَ وَاجْتَمَعُوا. فَإِنَّ الْقَابِضَ يَدْفَعُ نِصْفَ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ أَوْ يَفْدِي نِصْفَ الْجِنَايَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْمَوْلَى: ادْفَعْ النِّصْفَ الْبَاقِي إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّالِثَةِ، أَوْ افْدِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ خَمْسَةَ آلَافٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ نِصْفُ الْعَبْدِ، وَبَقِيَ حَقُّهُ فِي النِّصْفِ، وَيَفْدِي لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ بِكَمَالِ الدِّيَةِ عَشَرَةَ آلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ حَقِّهِ، وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ نِصْفَ الْعَبْدِ إلَيْهِمَا. فَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِمَا كَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا، فَيَضْرِبُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فِيهِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّالِثَةِ بِخَمْسَةِ آلَافٍ، فَيَصِيرُ نِصْفُ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا: ثُلُثَاهُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَثُلُثَهُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّالِثَةِ، وَبَقِيَ مِنْ حَقِّ الثَّانِي السُّدْسُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ ثُلُثَا النِّصْفِ، وَهُوَ ثُلُثُ كُلِّ الْعَبْدِ، فَبَقِيَ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ السُّدُسُ، فَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ضَمَّنَ الْقَابِضُ الْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ. فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمَوْلَى، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْقَابِضُ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ إنْسَانًا، وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ فَدَفَعَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ إلَى الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ فَقَتَلَ فِي يَدِهِ قَتِيلًا يُقَالُ لِلْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ ادْفَعْ ثُلُثَ الْعَبْدِ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي أَوْ افْدِهِ بِالثُّلُثِ، وَرُدَّ الثُّلُثَيْنِ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ الثُّلُثَ بِحَقِّ مِلْكِهِ، وَأَخَذَ الثُّلُثَيْنِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَى الْمَوْلَى، ثُمَّ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى لِلْأَوَّلِ بِتَمَامِ الدِّيَةِ عَشَرَةِ آلَافٍ، وَلِلثَّانِي بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ سِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَ إلَيْهِمَا مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا فَيَتَضَارَبَانِ، يَضْرِبُ الْأَوَّلُ بِتَمَامِ الدِّيَةِ عَشَرَةِ آلَافٍ، وَالثَّانِي بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ سِتَّةِ آلَافٍ وَسِتَّةٍ وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ، فَاجْعَلْ كُلَّ أَلْفٍ سَهْمًا وَسِتَّمِائَةٍ، فَيَصِيرُ ثُلُثَا الدِّيَةِ بَيْنَهُمَا عَلَى سِتَّةِ عَشَرَ سَهْمًا وَثُلُثَيْنِ، فَيَكُونُ كُلُّ الْعَبْدِ عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، وَقَدْ أَخَذَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ الثَّانِي مِنْهُ ثُلُثَهُ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَثُلُثٌ، وَبَقِيَ ثُلُثَاهُ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ عَشَرَةٌ، وَلِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي سِتَّةٌ، وَثُلُثَانِ، ثُمَّ وَلِيُّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ يَرْجِعُ عَلَى الْقَابِضِ وَهُوَ الْمَفْقُوءَةُ عَيْنُهُ بِسِتَّةِ أَجْزَاءٍ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ جُزْءًا، وَثُلُثَيْ جُزْءٍ مِنْ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ كَانَ حَقَّهُ، وَقَدْ فَاتَ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْقَابِضِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ هَلَكَ عِنْدَهُ فَيَضْمَنُهُ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ، كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَطَرِيقَةٌ أُخْرَى فِي الْحِسَابِ أَنَّهُ إذَا دَفَعَ ثُلُثَيْ الْعَبْدِ إلَيْهِمَا، وَضَرَبَ أَحَدَهُمَا بِالدِّيَةِ، وَالْآخَرَ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ يُجْعَلُ كُلُّ ثُلُثٍ سَهْمًا فَيَصِيرُ كُلُّ الدِّيَةِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، وَثُلُثَا الدِّيَةِ سَهْمَيْنِ، فَيَصِيرُ ثُلُثَا الْعَبْدِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ لِلْأَوَّلِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْآخَرِ سَهْمَانِ، وَيَصِيرُ الثُّلُثُ الْآخَرُ سَهْمَيْنِ وَنِصْفَ، فَيَصِيرُ جَمِيعُ الْعَبْدِ عَلَى سَبْعَةٍ وَنِصْفٍ، فَوَقَعَ فِيهِ كَسْرٌ فَيُضَعَّفُ فَيَصِيرُ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَالثُّلُثُ مِنْهُ خَمْسَةٌ، وَقَدْ دُفِعَ إلَى الْآخَرِ، وَثُلُثَا الْعَبْدِ عَشَرَةٌ فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا فَيُضْرَبُ الْأَوَّلُ بِثَلَاثَةِ أَخْمَاسِهِ، وَهُوَ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَالْآخَرُ بِأَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، ثُمَّ

بيان ما يصير به المولى مختارا للفداء وبيان صحة الاختيار

يَرْجِعُ الْأَوَّلُ عَلَى الْقَابِضِ بِخُمُسِ ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ قَتَلَتْ أَمَةٌ رَجُلًا ثُمَّ وَلَدَتْ بِنْتًا فَقَتَلَتْ الْبِنْتُ رَجُلًا ثُمَّ إنَّ الْبِنْتَ قَتَلَتْ أُمَّهَا فَالْمَوْلَى يُخَيَّرُ بَيْنَ دَفْعِ الْبِنْتِ إلَى وَلِيَّيْ الْجِنَايَتَيْنِ، وَبَيْنَ الْفِدَاءِ، فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى، لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ بِالدِّيَةِ، وَلِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ بِقِيمَةِ الْأُمِّ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ تَعَلَّقَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَهُوَ حَقُّ الدَّفْعِ أُلْحِقَ الْمَوْلَى بِالْأَجْنَبِيِّ، فَتَصِيرُ كَأَنَّهَا جَنَتْ عَلَى جَارِيَةٍ أُخْرَى لِأَجْنَبِيٍّ، وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ ضَرَبَ أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْبِنْتِ بِالدِّيَةِ، وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأُمِّ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ فَيُقْسَمُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى إحْدَى عَشَرَ سَهْمًا، كُلُّ أَلْفِ دِرْهَمٍ سَهْمٌ، سَهْمٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ، وَعَشَرَةُ أَسْهُمٍ لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ، وَلَوْ كَانَتْ الْبِنْتُ فَقَأَتْ عَيْنَ الْأُمِّ وَلَمْ تَقْتُلْهَا فَالْمَوْلَى يُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ لَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ يَخْتَارَ دَفْعَهُمَا جَمِيعًا. (وَإِمَّا) أَنْ يَخْتَارَ فِدَاءَهُمَا جَمِيعًا. (وَإِمَّا) أَنْ يَخْتَارَ فِدَاءَ الْبِنْتِ وَدَفْعَ الْأُمِّ. (وَإِمَّا) أَنْ يَخْتَارَ فِدَاءَ الْأُمِّ وَدَفْعَ الْبِنْتِ، فَإِنْ اخْتَارَ دَفَعَهُمَا جَمِيعًا يَدْفَعُ الْأُمَّ إلَى أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَيَدْفَعُ الْبِنْتَ إلَى أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ وَإِلَى أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ. وَكَانَتْ مَقْسُومَةً بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ فَيَتَضَارَبُونَ فِيهَا، يَضْرِبُ أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْبِنْتِ فِيهَا بِالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَعَلَّقَ بِكُلِّ الْبِنْتِ، وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأُمِّ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا فَقَأَتْ إحْدَى عَيْنَيْهَا، وَالْعَيْنُ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ، فَإِنْ اخْتَارَ فِدَاءَهُمَا جَمِيعًا فَدَى الْكُلَّ فَرِيقٌ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَتَيْنِ بِتَمَامِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَرْشُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجِنَايَتَيْنِ، وَسَقَطَتْ جِنَايَةُ الْبِنْتِ عَلَى الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِلْكُ الْمَوْلَى، وَقَدْ طَهُرَتَا عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ، وَخَلَصَ مِلْكُ الْمَوْلَى فِيهِمَا، فَبَقِيَتْ جِنَايَةُ الْبِنْتِ عَلَيْهِمَا جِنَايَةُ مِلْكِ الْمَوْلَى عَلَى مِلْكِهِ، فَتَكُونُ هَدْرًا، وَإِنْ اخْتَارَ دَفْعَ الْأُمِّ وَفِدَاءَ الْبِنْتِ دَفَعَ الْأُمَّ إلَى أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ، ثُمَّ يَفْدِيَ الْبِنْتَ، يَفْدِي لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ بِالدِّيَةِ، وَلِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ اخْتَارَ دَفْعَ الْبِنْتِ وَفِدَاءَ الْأُمِّ يَدْفَعُ الْبِنْتَ إلَى أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ، وَيَفْدِي لِأَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْأُمِّ بِكَمَالِ الدِّيَةِ، وَبَطَلَتْ جِنَايَةُ الْبِنْتِ عَلَى الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ طَهُرَتْ بِالْفِدَاءِ، وَخَلَصَ مِلْكُ الْمَوْلَى فِيهَا فَصَارَ جِنَايَةُ الْبِنْتِ عَلَى أُمِّهَا جِنَايَةَ مِلْكِ الْمَوْلَى عَلَى مِلْكِهِ، فَتَكُونُ هَدْرًا، وَلَوْ أَنَّ الْأُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَأَتْ عَيْنَ الْبِنْتِ قَبْلَ أَنْ تُدْفَعَ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا فَإِنَّ الْمَوْلَى يُخَيَّرُ فِيهِمَا جَمِيعًا فَيَبْدَأُ بِالْبِنْتِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي بَدَأَتْ بِالْجِنَايَةِ، فَيَدْفَعُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَتَيْنِ، فَيَتَضَارَبُونَ فِيهَا، فَيَضْرِبُ فِيهَا أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْبِنْتِ بِالدِّيَةِ، وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأُمِّ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. ثُمَّ يَدْفَعُ الْأُمَّ إلَيْهِمْ فَيَتَضَارَبُونَ فِيهَا، فَيَضْرِبُ فِيهَا أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأُمِّ بِالدِّيَةِ إلَّا مَا وَصَلَ إلَيْهِمْ مِنْ أَرْشِ الْبِنْتِ، وَيَضْرِبُ فِيهَا أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْبِنْتِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْبِنْتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَنَتْ جِنَايَتَيْنِ فَتُدْفَعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِجِنَايَتِهَا طُعِنَ فِي هَذَا الْجَوَابِ، وَقِيلَ يَنْبَغِي إذَا دَفَعَ الْبِنْتَ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ يَضْرِبَ فِيهَا أَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْأُمِّ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ، وَأَوْلِيَاءُ قَتِيلِ الْبِنْتِ بِالدِّيَةِ إلَّا مَا يَصِلُ إلَيْهِمْ فِي الْمُسْتَأْنَفِ؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ إلَيْهِمْ بَعْضُ الْأُمِّ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْرِبُوا بِتَمَامِ الدِّيَةِ، وَالصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْبِنْتَ حِينَ دُفِعَتْ كَانَ حَقُّ أَوْلِيَاءِ قَتِيلِ الْبِنْتِ فِي تَمَامِ الدِّيَةِ، وَلَمْ يَكُنْ وَصَلَ إلَيْهِمْ شَيْءٌ فَوَجَبَ أَنْ يَضْرِبُوا بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَالزِّيَادَةُ الَّتِي تَظْهَرُ لَهُمْ فِي الْمُسْتَأْنَفِ لَا عِبْرَةَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قَدْ صَحَّتْ وَقْتَ الدَّفْعِ فَلَا تَتَغَيَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا قَالُوا فِي رَجُلٍ مَاتَ وَعَلَيْهِ لِرَجُلٍ أَلْفٌ وَلِآخَرَ أَلْفَانِ، وَتَرَك أَلْفًا فَاقْتَسَمَاهَا أَثْلَاثًا ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْأَلْفَيْنِ أَبْرَأَ الْمَيِّتَ عَنْ أَلْفٍ: إنَّ الْقِسْمَةَ الْأُولَى لَا تُنْتَقَضُ، كَذَا هَذَا، وَلَوْ جَنَتْ الْأَمَةُ جِنَايَةً ثُمَّ، وَلَدَتْ وَلَدًا فَقَطَعَ وَلَدُهَا يَدَهَا يَدْفَعُ الْوَلَدَ مَعَ الْأُمِّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلَدَ فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَصَارَ كَأَنَّ عَبْدَ أَجْنَبِيٍّ قَطَعَ يَدَهَا، وَدُفِعَ بِالْجِنَايَةِ، وَهُنَاكَ يُدْفَعُ الْعَبْدُ مَعَ الْجَارِيَةِ لِكَوْنِهِ قَائِمًا مَقَام يَدِ الْجَارِيَةِ، كَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَبَيَانُ صِحَّةِ الِاخْتِيَارِ] (وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ، وَبَيَانُ صِحَّةِ الِاخْتِيَارِ، فَنَقُولُ: مَا يَصِيرُ بِهِ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ نَوْعَانِ: نَصٌّ وَدَلَالَةٌ. (أَمَّا) النَّصُّ فَهُوَ الصَّرِيحُ بِلَفْظِ الِاخْتِيَارِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: اخْتَرْتُ الْفِدَاءَ، أَوْ آثَرْتُهُ، أَوْ رَضِيتُ بِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْلَى مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيَسَارُ الْمَوْلَى لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الِاخْتِيَارِ عِنْدَهُ، حَتَّى لَوْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ فَقِيرٌ مُعْسِرٌ صَحَّ اخْتِيَارُهُ، وَصَارَتْ الدِّيَةُ دَيْنًا عَلَيْهِ (وَعِنْدَهُمَا) يَسَارُ الْمَوْلَى شَرْطُ صِحَّةِ اخْتِيَارِهِ الْفِدَاءَ، وَلَا يَصِحُّ اخْتِيَارُهُ إذَا كَانَ مُعْسِرًا إلَّا بِرِضَا الْأَوْلِيَاءِ، وَيُقَالُ لَهُ إمَّا أَنْ تَدْفَعَ أَوْ تَفْدِيَ حَالًا، كَذَا ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ

فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَذَكَر الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي جَوَازِ الِاخْتِيَارِ. وَقَالَ: إلَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ الدِّيَةُ تَكُونُ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ يَبِيعُهُ فِيهَا الْمَوْلَى لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ هُوَ لُزُومُ الدَّفْعِ، وَعِنْدَ الِاخْتِيَارِ يَنْتَقِلُ إلَى الذِّمَّةِ فَيَتَقَيَّدُ الِاخْتِيَارُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، وَلَا سَلَامَةَ مَعَ الْإِعْسَارِ فَلَا يَنْتَقِلُ إلَيْهَا فَيَبْقَى الْعَبْدُ وَاجِبُ الدَّفْعِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْعَزِيمَةَ مَا قَالَا، وَهُوَ وُجُوبُ الدَّفْعِ لَكِنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ لَهُ الْفِدَاءَ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ، وَالْإِعْسَارُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاخْتِيَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي الْأَهْلِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ، وَقَدْ وُجِدَ الِاخْتِيَارُ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ السَّلَامَةِ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إلَّا بِدَلِيلٍ. (وَأَمَّا) الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمَوْلَى فِي الْعَبْدِ تَصَرُّفًا يُفَوِّتُ الدَّفْعَ أَوْ يَدُلُّ عَلَى إمْسَاكِ الْعَبْدِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ، فَكُلُّ تَصَرُّفٍ يُفَوِّتُ الدَّفْعَ أَوْ يَدُلُّ عَلَى إمْسَاكِ الْعَبْدِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ يَكُونُ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَبْدِ، وَهُوَ حَقُّ الدَّفْعِ، وَفِي تَفْوِيتِ الدَّفْعِ تَفْوِيتُ حَقِّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَرْضَى بِتَفْوِيتِ حَقِّهِ مَعَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ إلَّا بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَهُوَ الْفِدَاءُ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَيْهِ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ الْمَسَائِلُ: إذَا بَاعَ الْعَبْدَ بَيْعًا بَاتًّا، وَهُوَ عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مُزِيلٌ لِلْمِلْكِ فَيَفُوتُ الدَّفْعُ، وَكَذَا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ خِيَارِ الْمُشْتَرِي، أَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَلَا يَشْكُلُ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي. (وَأَمَّا) عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي إنْ كَانَ يَمْنَعُ دُخُولَ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَمْنَعُ زَوَالَهُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَهَذَا يَكْفِي دَلَالَةَ الِاخْتِيَارِ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ الدَّفْعُ، وَلَوْ بَاعَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَإِنْ مَضَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ كَانَ مُخْتَارًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ انْبَرَمَ قَبْلَ الدَّفْعِ، وَلَوْ نَقَضَ الْبَيْعَ لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَزُلْ فَلَمْ يَفُتْ الدَّفْعُ، وَلَوْ عَرَضَ الْعَبْدَ عَلَى الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اخْتِيَارًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَكُونُ اخْتِيَارًا (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْعَرْضَ عَلَى الْبَيْعِ دَلِيلُ اسْتِيفَاءِ الْمِلْكِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا عَرَضَ الْمُشْتَرَى عَلَى الْبَيْعِ بَطَلَ اخْتِيَارُهُ فَكَانَ دَلِيلَ إمْسَاكِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ لِمَا بَيَّنَّا. (وَلَنَا) أَنَّ الْعَرْضَ عَلَى الْبَيْعِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ فَلَا يَفُوتُ الدَّفْعُ، وَلَيْسَ دَلِيلَ إمْسَاكِ الْعَبْدِ أَيْضًا بَلْ هُوَ دَلِيلُ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْمِلْكِ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءَ، وَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا حَتَّى يُسَلِّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَزُولُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَلَا يَفُوتُ الدَّفْعُ، وَلَوْ وَهَبَهُ مِنْ إنْسَانٍ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ صَارَ مُخْتَارًا؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالتَّسْلِيمَ يُزِيلَانِ الْمِلْكَ فَيَفُوتُ الدَّفْعُ، وَلَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَوَهَبَهُ الْمَوْلَى مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا، وَلَا شَيْء عَلَى الْمَوْلَى، وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَانَ مُخْتَارًا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ بِالْهِبَةِ فِي مَعْنَى الدَّفْعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَوَقَعَتْ الْهِبَةُ مَوْقِعَ الدَّفْعِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ، وَالدَّفْعُ تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ، فَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْبَيْعِ مِنْهُ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى إنْسَانٍ أَوْ عَلَى الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ فَهُوَ وَالْهِبَةُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ كَانَتْ أَمَةٌ فَاسْتَوْلَدَهَا، وَهُوَ عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ تُفَوِّتُ الدَّفْعَ إذْ الدَّفْعُ تَمْلِيكٌ، وَإِنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ التَّمْلِيكِ، فَكَانَتْ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ، وَلَوْ كَانَتْ جِنَايَةُ الْعَبْدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَأَمَرَ الْمَوْلَى الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِإِعْتَاقِهِ وَهُوَ عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ بِأَمْرِهِ مُضَافٌ إلَيْهِ فَكَانَ دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ قَتَلْتَ فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَقَتَلَهُ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَكُونُ مُخْتَارًا. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ إنَّمَا صَارَ مُعْتَقًا بِالْقَوْلِ السَّابِقِ، وَهُوَ قَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ، وَلَا جِنَايَةَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَبَعْدَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ لَا إعْتَاقَ فَكَيْفَ يَصِيرُ مُخْتَارًا. (وَلَنَا) أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَصِيرُ مُنَجَّزًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِتَنْجِيزٍ مُبْتَدَأٍ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ بَعْدَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ: أَنْتَ حُرٌّ، وَنَظِيرُهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ: إذَا مَرِضْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَمَرِضَ حَتَّى وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا يَصِيرُ فَارًّا عَنْ الْمِيرَاثِ حَتَّى تَرِثَهُ الْمَرْأَةُ وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ لَمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا وَلَوْ أَخْبَرَ الْمَوْلَى إنْسَانٌ أَنَّ عَبْدَهُ قَدْ جَنَى فَأَعْتَقَهُ، فَإِنْ صَدَّقَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَأَعْتَقَهُ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا لَمْ يَكُنْ الْمُخْبِرَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ

وَاحِدٌ عَدْلٌ، وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِي الْمُخْبِرِ، وَلَا عَدَالَتُهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ. وَلَوْ كَاتَبَهُ وَهُوَ عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا اخْتِيَارًا عَلَى التَّوَقُّفِ لِفَوَاتِ الدَّفْعِ فِي الْحَالِ عَلَى التَّوَقُّفِ، فَإِنْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَعَتَقَ تَقَرَّرَ الِاخْتِيَارُ، وَإِنْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إنْ خُوصِمَ قَبْلَ أَنْ يَعْجِزَ فَقَضَى بِالدِّيَةِ ثُمَّ عَجَزَ لَا يَرْتَفِعُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ كَانَتْ وَجَبَتْ بِالْكِتَابَةِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَتَقَرَّرَ الْوُجُوبُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُخَاصَمْ حَتَّى عَجَزَ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَهُ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ كَأَنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَعْجِزَ، فَإِنْ عَجَزَ جُعِلَ كَأَنَّ الْكِتَابَةَ لَمْ تَكُنْ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَصِيرُ مُخْتَارًا بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ لِتَعَذُّرِ الدَّفْعِ بِنَفْسِهَا لِزَوَالِ يَدِهِ عَنْهُ، ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ وَهُوَ الْعَجْزُ، وَلَوْ كَاتَبَهُ كِتَابَةً فَاسِدَةً كَانَ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا بِدُونِ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الْفَاسِدَةَ، وَهِيَ تَعَلُّقُ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ تَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ لَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ بَلْ بِوَاسِطَةِ التَّسْلِيمِ. (وَأَمَّا) الْإِجَارَةُ، وَالرَّهْنُ، وَالتَّزْوِيجُ بِأَنْ زَوَّجَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ امْرَأَةً أَوْ زَوَّجَ الْأَمَةَ الْجَانِيَةَ إنْسَانًا فَهَلْ يَكُونُ اخْتِيَارًا؟ ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ لَمْ يَفُتْ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَائِمٌ فَكَانَ الدَّفْعُ مُمْكِنًا فِي الْجُمْلَةِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَكُونُ اخْتِيَارًا؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ لِلْحَالِ مُتَعَذِّرٌ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، وَالتَّزْوِيجُ تَعْيِيبٌ فَأَشْبَهَ التَّعْيِيبَ حَقِيقَةً. وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا، كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِهِ لِغَيْرِهِ لَا يُفَوِّتُ الدَّفْعَ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ مُخَاطَبٌ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يَكُونُ مُخْتَارًا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِهِ لِغَيْرِهِ فِي مَعْنَى التَّمْلِيكِ مِنْهُ إذْ الْعَبْدُ مِلْكُهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْمِلِكِ وَهُوَ الْيَدُ، فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ فَكَأَنَّهُ مَلَكَهُ مِنْهُ، وَلَوْ قَتَلَهُ الْمَوْلَى صَارَ مُخْتَارًا؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الدَّفْعَ بِالْقَتْلِ، وَلَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ فَإِنْ كَانَ عَمْدًا بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتُلَهُ قِصَاصًا؛ لِأَنَّهُ فَاتَ مَحَلُّ الدَّفْعِ لَا إلَى خَلَفٍ هُوَ مَالٌ فَتَبْطُلَ الْجِنَايَةُ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً يَأْخُذُ الْمَوْلَى الْقِيمَةَ، وَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، وَلَا يُخَيَّرُ الْمَوْلَى فِي الْقِيمَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ الْمَوْلَى وَلَكِنْ عَيَّبَهُ بِأَنْ قَطَعَ يَدَهُ أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ أَوْ جَرَحَهُ جِرَاحَةً أَوْ ضَرَبَهُ ضَرْبًا أَثَّرَ فِيهِ وَنَقَّصَهُ، وَهُوَ عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ بِالنُّقْصَانِ حَبَسَ عَنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ جُزْءًا مِنْ الْعَبْدِ، وَحَبْسُ الْكُلِّ دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ إمْسَاكِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ، فَكَذَا حَبْسُ الْجُزْءِ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْجُزْءِ حُكْمُ الْكُلِّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ ضَرَبَ الْمَوْلَى عَيْنَهُ فَابْيَضَّتْ، وَهُوَ عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ حَتَّى جُعِلَ مُخْتَارًا ثُمَّ ذَهَبَ الْبَيَاضُ، فَإِنْ ذَهَبَ قَبْلَ أَنْ يُخَاصَمَ فِيهِ بَطُلَ الِاخْتِيَارُ، وَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا جُعِلَ مُخْتَارًا لِأَجْلِ النُّقْصَانِ، وَقَدْ زَالَ فَجُعِلَ كَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ خُوصِمَ فِي حَالِ الْبَيَاضِ فَضَمَّنَهُ الْقَاضِي الْقِيمَةَ ثُمَّ زَالَ الْبَيَاضُ فَقَضَاءُ الْقَاضِيَ نَافِذٌ لَا يُرَدُّ، وَلَا يَبْطُلُ اخْتِيَارُهُ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ وَقَعَ صَحِيحًا، وَوَجَبَ الدَّيْنُ، وَقَدْ اسْتَقَرَّ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ، وَإِنْ اسْتَخْدَمَهُ، وَهُوَ عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُ الدَّفْعُ بِالِاسْتِخْدَامِ؛ لِقِيَامِ الْمِلْكِ، وَكَذَا الِاسْتِخْدَامُ لَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ، وَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى إمْسَاكِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ عَطِبَ فِي الْخِدْمَةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَبَطَلَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ لَيْسَ بِاخْتِيَارٍ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَصَرُّفٌ آخَرُ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِيَارِ فَصَارَ كَأَنَّهُ عَطِبَ قَبْلَ الِاسْتِخْدَامِ. وَلَوْ كَانَ الْجَانِي أَمَةً فَوَطِئَهَا الْمَوْلَى، فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَقَدْ صَارَ مُخْتَارًا؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ جُزْءًا مِنْهَا حَقِيقَةً بِإِزَالَةِ الْبَكَارَةِ، وَهِيَ إزَالَةُ الْعُذْرَةِ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، فَإِنْ عَلِقَتْ مِنْهُ صَارَ مُخْتَارًا، وَإِنْ لَمْ تَعْلَقْ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا، وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَصِيرُ مُخْتَارًا سَوَاءٌ عَلِقَتْ مِنْهُ أَوْ لَمْ تَعْلَقْ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْمِلْكِ إمَّا مِلْكُ النِّكَاحِ أَوْ مِلْكُ الْيَمِينِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا مِلْكُ النِّكَاحِ، فَتَعَيَّنَ مِلْكُ الْيَمِينِ لِثُبُوتِ الْحِلِّ، فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى الْوَطْءِ دَلِيلًا عَلَى إمْسَاكِهَا لِنَفْسِهِ فَكَانَ دَلِيلَ الِاخْتِيَارِ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوَطْءَ لَيْسَ إلَّا اسْتِيفَاءَ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ، وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الْعَيْنِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ لَا جُزْءًا مِنْ الْعَيْنِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهَا أُلْحِقَتْ بِالْأَجْزَاءِ، وَقُدِّرَ النُّقْصَانُ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ إظْهَارًا لِخَطَرِ الْبُضْعِ، وَالِاسْتِيفَاءُ هَهُنَا حَصَلَ فِي الْمِلْكِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِلْحَاقِ، فَانْعَدَمَ النُّقْصَانُ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَرَكِبَهُ دَيْنٌ لَمْ يَصِرْ الْمَوْلَى مُخْتَارًا، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ. (أَمَّا) عَدَمُ صَيْرُورَتِهِ مُخْتَارًا فَلِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يُوجِبُ تَعَذُّرَ الدَّفْعِ لَا قَبْلَ لُحُوقِ الدَّيْنِ، وَلَا بَعْدَهُ وَأَمَّا لُزُومُ

بيان أصل الواجب بجناية العبد

الْقِيمَةِ فَلِأَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ يُوجِبُ نُقْصَانًا فِيهِ بِسَبَبٍ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى، وَهُوَ الْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ فَتَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ، حِينَ لَوْ رَضِيَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ بِقَبُولِهِ مَعَ النُّقْصَانِ لَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْلَى، ثُمَّ جَمِيعُ مَا يَصِيرُ بِهِ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ مِمَّا ذَكَرْنَا إذَا فَعَلَهُ وَهُوَ عَالَمٌ بِالْجِنَايَةِ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ هَهُنَا اخْتِيَارُ الْإِيثَارِ، وَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِمَا يَخْتَارُهُ، وَهُوَ الْفِدَاءُ عَنْ الْجِنَايَةِ، وَاخْتِيَارُ الْفِدَاءِ عَنْ الْجِنَايَةِ اخْتِيَارُ الْإِيثَارَ، وَاخْتِيَارُ الْإِيثَارِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ مُحَالٌ، ثُمَّ الْجِنَايَةُ إنْ كَانَتْ عَلَى النَّفْسِ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الْأَرْشِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الدَّفْعَ الْمُسْتَحَقَّ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ فَيَضْمَنُ الْقِيمَةَ وَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا بَاتًّا، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَلَمْ يُخَاصَمْ فِيهَا حَتَّى رُدَّ الْعَبْدُ إلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ أَوْ شَرْطٍ يُقَالُ لَهُ ادْفَعْ أَوْ افْدِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْجِنَايَةِ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الْعِلْمِ فَعَلَيْهِ الْفِدَاءُ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَاعَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ فَقَدْ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِتَعَذُّرِ الدَّفْعِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ فَلَا يَعُودُ بِالرَّدِّ، وَهَذَا مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ، وَسَيَتَّضِحُ الْمَعْنَى فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ، وَلَوْ قَطَعَ الْعَبْدُ يَدَ إنْسَانٍ أَوْ جَرَحَهُ جِرَاحَةً فَخُيِّرَ فِيهِ فَاخْتَارَ الدَّفْعَ ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَالدَّفْعُ عَلَى حَالِهِ لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّفْعِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ ثُمَّ مَاتَ يَبْطُلُ الِاخْتِيَارُ ثُمَّ يُخَيِّرُ ثَانِيًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبْطُلَ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرُ. وَلَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلُهُ مِثْلَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَلَوْ كَانَ اخْتَارَ الْفِدَاءَ بِالْإِعْتَاقِ بِأَنْ عَتَقَ الْعَبْدَ لِلْحَالِ حَتَّى صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لَا يَبْطُلُ الِاخْتِيَارُ، وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الدِّيَةِ قِيَاسًا، وَاسْتِحْسَانًا. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَوْلَى لَمَّا اخْتَارَ الْفِدَاءَ عَنْ أَصْلِ الْجِنَايَةِ فَقَدْ صَحَّ اخْتِيَارُهُ، وَلَزِمَهُ مُوجَبُهَا، وَبِالسِّرَايَةِ لَمْ يَتَغَيَّرْ أَصْلُ الْجِنَايَةِ، وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ وَصْفُهَا، وَالْوَصْفُ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فَكَانَ اخْتِيَارُ الْفِدَاءِ عَنْ الْمَتْبُوعِ اخْتِيَارًا عَنْ التَّابِعِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ اخْتِيَارَ الْفِدَاءَ عَنْ الْقَطْعِ لَمَا سَرَى إلَى النَّفْسِ، وَمَاتَ فَقَدْ صَارَ قَتْلًا، وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ، فَاخْتِيَارُ الْفِدَاءِ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا عَنْ الْآخَرِ فَيُخَيَّرُ اخْتِيَارًا مُسْتَقْبَلًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الِاخْتِيَارُ بِالْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ رُبَّمَا يَسْرِي إلَى النَّفْسِ فَيَلْزَمُهُ كُلُّ الدِّيَةِ، وَلَا يُمْكِنْهُ الدَّفْعُ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ دَلَالَةُ اخْتِيَارِ الْكُلِّ وَالرِّضَا بِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ هَهُنَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مَا كَانَ ثَابِتًا وَقْتَ الِاخْتِيَارِ، وَالْعَبْدُ لِلْحَالِ مَحَلٌّ لِلدَّفْعِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ (وَأَمَّا) صِفَةُ الْفِدَاءِ الْوَاجِبِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ فَهُوَ أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِ حَالًا لَا مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ هُوَ وُجُوبُ الدَّفْعِ، وَالْفِدَاءُ كَالْخَلَفِ عَنْهُ فَيَكُونُ عَلَى نَعْتِ الْأَصْلِ، ثُمَّ الدَّفْعُ يَجِبُ حَالًا فِي مَالِهِ لَا مُؤَجَّلًا فَكَذَلِكَ الْفِدَاءُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ هَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ الْقَاتِلُ قِنًّا. [بَيَانُ أَصْلِ الْوَاجِبِ بِجِنَايَةِ الْعَبْد] فَإِنْ كَانَ مُدَبَّرًا فَجِنَايَتُهُ عَلَى مَوْلَاهُ إذَا ظَهَرَتْ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ مَا تَظْهَرُ بِهِ جِنَايَتُهُ، وَفِي بَيَانِ أَصْلِ الْوَاجِبِ، وَمَنْ عَلَيْهِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَجِنَايَتَهُ تَظْهَرُ بِمَا تَظْهَرُ بِهِ جِنَايَةُ الْقِنِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَلَا تَظْهَرُ بِإِقْرَارِهِ حَتَّى لَا يَلْزَمَ الْمَوْلَى شَيْءٌ، وَلَا يَتْبَعُ الْمُدَبَّرَ بَعْدَ الْعَتَاقِ كَجِنَايَةِ الْقِنِّ؛ لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ عَلَى الْمَوْلَى فَلَا يَصِحُّ. (وَأَمَّا) بَيَانُ أَصْلِ الْوَاجِبِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ فَأَصْلُ الْوَاجِبِ بِهَا قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ عَلَى الْمَوْلَى لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَضَيَا بِجِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ عَلَى مَوْلَاهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ. وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِمُقَابَلَةِ الْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ هُوَ وُجُوبُ الدَّفْعِ عَلَى الْمَوْلَى، وَبِالتَّدْبِيرِ مَنْعٌ مِنْ الدَّفْعِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ، وَالْمَنْعُ مِنْ الدَّفْعِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ يُوجِبُ الْقِيمَةَ عَلَى الْمَوْلَى كَمَا لَوْ دَبَّرَ الْقِنَّ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ الْجِنَايَةَ. (وَأَمَّا) مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ إنْ كَانَتْ هِيَ الْأَقَلُّ فَلَا حَقَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَقَلَّ فَلَمْ يُمْنَعْ الْمَوْلَى بِالتَّدْبِيرِ إلَّا الرَّقَبَةَ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ الدِّيَةِ فَعَلَيْهِ قَدْرُ قِيمَتِهِ لِمَا كَانَ قِنًّا، وَلَا يُخَيَّرُ بَيْنَ قِيمَتِهِ وَبَيْنَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ، وَأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ قَضِيَّةِ الْحِكْمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ أَوْ مِثْلَ

الدِّيَةِ فَعَلَيْهِ قَدْرُ الدِّيَةِ، وَيُنْقَصُ مِنْهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ فِي الْجِنَايَةِ لَا تُزَادُ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ بَلْ يُنْقَصُ مِنْهَا عَشَرَةٌ، وَسَوَاءٌ قَلَّتْ جِنَايَتُهُ أَوْ كَثُرَتْ لَا يَلْزَمُ الْمَوْلَى مِنْ جِنَايَاتِهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْمَنْعُ عِنْدَ الْجِنَايَةِ. وَالْمَنْعُ مَنْعٌ وَاحِدٌ فَكَانَ الْوَاجِبُ قِيمَةً وَاحِدَةً، وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْنِ فِي جِنَايَةِ الْقِنِّ قَلَّتْ جِنَايَتُهُ أَوْ كَثُرَتْ، وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ مَعَ الدَّفْعِ، كَذَلِكَ هَهُنَا، وَتُقَسَّمُ قِيمَتُهُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَاتِ عَلَى قَدْرِ جِنَايَاتِهِمْ، يَسْتَوِي فِيهَا الْأَوَّلُ وَالثَّانِي؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي دَفْعِ الْعَيْنِ هَكَذَا، فَكَذَلِكَ قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ، وَسَوَاءٌ قَبَضَ مَا عَلَى الْمَوْلَى أَوْ لَمْ يَقْبِضْ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ فَيَتَضَارَبُونَ بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَوْمَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لَا يَوْمَ التَّدْبِيرِ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ هُوَ الْمَنْعُ، وَهُوَ التَّدْبِيرُ السَّابِقُ لَكِنْ إنَّمَا يَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الْجِنَايَةُ فَكَأَنَّهُ أَنْشَأَ التَّدْبِيرَ عِنْدَهُمَا، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ: إذَا مَاتَ الْمُدَبَّرُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ لَمْ تَبْطُلْ عَلَى الْمَوْلَى الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ جِنَايَتِهِ يَلْزَمُ مَوْلَاهُ فَيَسْتَوِي فِيهِ بَقَاءُ الْمُدَبَّرِ، وَهَلَاكُهُ بِخِلَافِ الْقِنِّ إذَا جَنَى ثُمَّ هَلَكَ أَنَّهُ يَبْطُلُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ جِنَايَتِهِ وُجُوبُ الدَّفْعِ، وَبِالْمَوْتِ خَرَجَ عَنْ احْتِمَالِ الدَّفْعِ، وَلَوْ انْتَقَصَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ بِأَنْ جَنَى وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ثُمَّ عَمِيَ لَمْ يُحَطُّ عَنْ الْمَوْلَى شَيْءٌ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَهُ هَلَاكُ جُزْءٍ مِنْهُ ثُمَّ هَلَاكُ كُلِّهِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ شَيْئًا فَكَذَا هَلَاكُ الْبَعْضِ، وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ لَا يَلْزَمُ الْمَوْلَى إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَا قُلْنَا. وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَى جِنَايَاتٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ هُوَ الْمَنْعُ، وَأَنَّهُ مُتَّحِدٌ، فَكَانَ وُجُودُ الْإِعْتَاقِ، وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً ثُمَّ دَفَعَ الْمَوْلَى الْقِيمَةَ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ فَالدَّفْعُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا سَبِيل لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَجْبُورًا عَلَى الدَّفْعِ، وَالْمَجْبُورُ مَعْذُورٌ، وَلَهُ أَنْ يَتْبَعَ وَلِيَّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ نِصْفَ الْقِيمَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَتَانِ مُخْتَلِفَتَيْنِ بِإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا نَفْسًا، وَالْأُخْرَى مَا دُونَ النَّفْسِ فَالثَّانِي يَتْبَعُ الْأَوَّلَ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَوَلِيُّ الْقَتِيلِ الثَّانِي بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمَوْلَى نِصْفَ الْقِيمَةِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ وَلِيَّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُتَعَدٍّ فِي دَفْعِ الْعَبْدِ، وَالْقَابِضَ مُتَعَدٍّ فِي قَبْضِهِ، فَإِنْ ضَمِنَ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْقَابِضِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْقَابِضُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى. وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً فَدَفَعَ الْقِيمَةَ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ، وَالْأَمْرُ فِيهِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَعِنْدَهُمَا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي أَنْ يُضَمِّنَ الْمَوْلَى، وَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ وَلِيَّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كَانَ الدَّفْعُ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَهُمَا فَرَّقَا بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا. (وَجْهُ) الْفَرْقِ لَهُمَا أَنَّ الْمَوْلَى هَهُنَا لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ فِي حَقِّ وَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الثَّانِيَةَ كَانَتْ مُنْعَدِمَةً وَقْتَ الدَّفْعِ فَلَا سَبِيلَ إلَى تَضْمِينِهِ، وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ كَانَتْ الْجِنَايَتَانِ مَوْجُودَتَيْنِ وَقْتَ الدَّفْعِ، فَكَانَ الدَّفْعُ مِنْهُ إلَى الْأَوَّلِ تَعَدِّيًا فَيُضَمَّنُ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا ذَكَرْنَا أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمَوْلَى هُوَ الْمَنْعُ، وَالْمَنْعُ مَنْعٌ وَاحِدٌ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي جَمِيعًا، فَصَارَ كَأَنَّ الْجِنَايَاتِ كُلَّهَا مَوْجُودَةٌ وَقْتَ الدَّفْعِ فَيَصِيرُ الْمَوْلَى مُتَعَدِّيًا فِي الدَّفْعِ فَكَانَ لَهُ تَضْمِينُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الدَّفْعُ بِقَضَاءٍ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي صَيَّرَهُ مَجْبُورًا فِي الدَّفْعِ، هَذَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْجِنَايَتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً بِأَنْ قَتَلَ رَجُلًا وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ثُمَّ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ فَصَارَتْ أَلْفَيْنِ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ يَضْمَنُ الْمَوْلَى لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي أَلْفًا آخَرَ، وَلَا حَقَّ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ فِي الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَوَّلِ فَيُسَلِّمُ الزِّيَادَةَ إلَى الثَّانِي، وَيُقَسِّمُ تِلْكَ الْقِيمَةَ وَهِيَ الْأَلْفُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي يَتَضَارَبُونَ فِيهَا فَيَضْرِبُ الْأَوَّلُ فِيهَا بِعَشَرَةِ آلَافٍ، وَالثَّانِيَ بِتِسْعَةِ آلَافٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ أَلْفٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ فَكَانَتْ قِسْمَةُ تِلْكَ الْأَلْفِ عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا: عَشَرَةُ أَسْهُمٍ لِلْأَوَّلِ، وَتِسْعَةُ أَسْهُمٍ لِلثَّانِي، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ وَقْتَ قَتْلِ الْأَوَّلِ أَلْفَيْنِ، وَوَقْتَ قَتْلِ الثَّانِي أَلْفًا لَا يَضْمَنُ الْمَوْلَى شَيْئًا، وَالْأَلْفُ تَكُونُ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ سَالِمًا، وَالْأَلْفُ لِلْآخَرِ تُقَسَّمُ بَيْنهمَا عَلَى تِسْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا: عَشَرَةُ أَسْهُمٍ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي، وَتِسْعَةُ أَسْهُمٍ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا

صفة الواجب بجناية العبد

وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ثُمَّ ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ، وَصَارَتْ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ فَزِيَادَةُ الْخَمْسمِائَةِ سَالِمَةٌ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي لَا حَقَّ فِيهَا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْجِنَايَةِ الْأُولَى، وَالْأَلْفُ تَكُونُ بَيْنَ وَلِيِّ الْقَتِيلَيْنِ يَتَضَارَبُونَ فِيهَا، فَيَضْرِبُ وَلِيُّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ بِتَمَامِ الدِّيَةِ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَالثَّانِي بِتِسْعَةِ آلَافٍ وَخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ فَكَانَتْ قِسْمَةُ الْأَلْفِ بَيْنَهُمَا عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا؛ لِأَنَّا نَجْعَلُ كُلَّ خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا، تِسْعَةُ عَشَرَ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الثَّانِي، وَعِشْرُونَ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [صِفَةُ الْوَاجِبِ بِجِنَايَةِ الْعَبْد] (وَأَمَّا) صِفَةُ الْوَاجِبِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ فَهِيَ أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِ الْمَوْلَى حَالًا؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ الْمَنْعِ مِنْ الدَّفْعِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْقِيمَةَ فِي مَالِ الْمَوْلَى حَالًا كَمَا لَوْ دَبَّرَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ ضَمَانَ الْمَنْعِ كَالْخَلَفِ عَنْ ضَمَانِ الدَّفْعِ، وَالدَّفْعُ يَجِبُ مِنْ مَالِهِ حَالًا، كَذَلِكَ هَهُنَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ أُمَّ وَلَدٍ فَأُمُّ الْوَلَدِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا وَالْمُدَبَّرُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي جِنَايَتِهِمَا ضَمَانُ الْمَنْعِ أَيْضًا، إلَّا أَنَّ جِهَةَ الْمَنْعِ تَخْتَلِفُ، فَالْمَنْعُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ بِالِاسْتِيلَادِ، وَفِي الْمُدَبَّرِ بِالتَّدْبِيرِ؛ لِذَلِكَ اسْتَوَيَا فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُكَاتَبًا فَقَتَلَ أَجْنَبِيًّا خَطَأً فَجِنَايَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ إذَا ظَهَرَتْ لَا عَلَى مَوْلَاهُ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِيمَا تَظْهَرُ بِهِ جِنَايَتُهُ، وَفِي بَيَانِ أَصْلِ الْوَاجِبِ، وَمَنْ عَلَيْهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَجِنَايَتُهُ تَظْهَرُ بِمَا تَظْهَرُ بِهِ جِنَايَةُ الْقِنِّ، وَالْمُدَبَّرِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَتَظْهَرُ أَيْضًا بِإِقْرَارِهِ بِالْجِنَايَةِ بِخِلَافِ جِنَايَتِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ عَلَى الْمَوْلَى فَلَمْ يَصِحَّ أَصْلًا، وَإِقْرَارُ الْمُكَاتَبِ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ الْمَوْلَى فَيَجُوزُ إقْرَارُهُ. وَكَذَا يَجُوزُ صُلْحُهُ مِنْ الْجِنَايَةِ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّهُ صَالَحَ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ لَهُ ظَاهِرًا، وَلَوْ أَقَرَّ وَصَالَحَ ثُمَّ عَجَزَ فَحُكْمُهُ نَذْكُرهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا أَصْلُ الْوَاجِبِ بِجِنَايَتِهِ، وَمَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ فَالْوَاجِبُ هُوَ قِيمَةُ نَفْسِهِ عَلَيْهِ لَا عَلَى مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ لِنَفْسِهِ لَا لِمَوْلَاهُ، فَكَانَ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِ لَا عَلَى مَوْلَاهُ لِيَكُونَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ، بِخِلَافِ الْقِنِّ، وَالْمُدَبَّرِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الدَّفْعِ حَصَلَ بِشَيْءٍ مِنْ قِبَلِهِ، وَهُوَ قَبُولُ الْكِتَابَةِ، فَكَانَتْ قِيمَتُهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْقِنِّ، وَالْمُدَبَّرِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ. (وَأَمَّا) كَيْفِيَّةُ الْوُجُوبِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ: إنَّ قِيمَتَهُ تَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَطْعِ، وَالْبَتَاتِ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا جَنَى ثُمَّ عَجَزَ عَقِيبَ الْجِنَايَةِ بِلَا فَصْلٍ أَنَّهُ يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُبَاعُ وَيُدْفَعُ ثَمَنُهُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ. وَكَذَلِكَ إذَا جَنَى ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى عَقِيبَ الْأُولَى بِلَا فَصْلٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةٌ أُخْرَى عَقِيبَ الْأُولَى، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا جَنَى جِنَايَةً، وَقَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةٌ أُخْرَى، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى بِالْقِيمَةِ فِي الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَقَدْ صَارَتْ الْقِيمَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ حَتْمًا مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ، وَالْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ صَادَفَتْ رَقَبَةً فَارِغَةً فَتُقْضَى بِقِيمَةٍ أُخْرَى. وَأَمَّا قَبْلَ الْقَضَاءِ فَالرَّقَبَةُ مَشْغُولَةٌ بِالْأُولَى، وَالْمَشْغُولُ لَا يُشْغَلُ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْقِيمَةِ عَلَى الْمُكَاتَبِ هُوَ امْتِنَاعُ الدَّفْعِ لِحَقٍّ ثَبَتَ لِلْمُكَاتَبِ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الدَّفْعِ إذَا كَانَ لِحَقِّهِ كَانَتْ الْقِيمَةُ عَلَيْهِ، إذْ لَا خَرَاجَ مَعَ الضَّمَانِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي. (وَلَنَا) أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ هُوَ وُجُوبُ الدَّفْعِ، وَامْتِنَاعُهُ هَهُنَا لِعَارِضٍ لَمْ يَقَعْ الْيَأْسُ عَنْ زَوَالِهِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ، لِاحْتِمَالِ الْعَجْزِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَعْجِزُ فَيُرَدُّ فِي الرِّقِّ، فَيَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ صَدَرَتْ مِنْ الْقِنِّ فَلَا يُمْكِنُ قَطْعُ الْقَوْلِ بِصَيْرُورَةِ قِيمَتِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ إلَّا مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَالْأَمْرُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى التَّوَقُّفِ، وَإِنَّمَا يَرْتَفِعُ التَّوَقُّفُ بِإِحْدَى مَعَانٍ: إمَّا بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَإِذَا أَدَّى فَقَدْ وَصَلَ الْحَقُّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ فَلَا يُسْتَرَدُّ مِنْهُ أَوْ بِالْعِتْقِ (إمَّا) بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ (وَإِمَّا) بِالْإِعْتَاقِ الْمُبْتَدَأِ وَبِالْمَوْتِ عَنْ وَفَاءٍ أَوْ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ، وَإِذَا عَتَقَ يَتَقَرَّرُ حَقُّهُ فِي كَسْبِهِ، وَيَقَعُ الْيَأْسُ عَنْ الدَّفْعِ فَتَتَقَرَّرُ الْقِيمَةُ، وَإِذَا تَرَكَ وَلَدًا وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَعَقْدُ الْكِتَابَةِ يَبْقَى بِبَقَاءِ الْوَلَدِ، فَيَسْعَى عَلَى نُجُومِ أَبِيهِ، فَيُؤَدِّي فَيَعْتِقُ وَيَعْتِقُ أَبُوهُ، وَيَسْتَنِدُ عِتْقُهُ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً، وَتَقَرَّرَ الْوُجُوبُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ أَوْ بِالصُّلْحِ عَلَى الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ، هَذَا إذَا ظَهَرَتْ جِنَايَةٌ بِالْمُعَايَنَةِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ. (فَأَمَّا) إذَا ظَهَرَتْ بِإِقْرَارِهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّى الْقِيمَةَ ثُمَّ عَجَزَ لَمْ يَبْطُلْ إقْرَارُهُ

وَلَا يَسْتَرِدُّ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّهُ وَصَّلَ الْحَقَّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ فَلَا يُسْتَرَدُّ. وَكَذَا إذَا لَمْ يُؤَدِّ، وَلَكِنَّهُ عَتَقَ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ أَوْ بِإِعْتَاقِ مُبْتَدَأٍ أَوْ بِمَوْتِ الْمُكَاتِبِ عَنْ وَفَاءٍ أَوْ، وَلَدٍ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ لَمْ يَعْتِقْ، وَلَكِنَّهُ عَجَزَ، فَإِنْ كَانَ عَجْزُهُ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ - فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِلَا خِلَافٍ حَتَّى لَا يُؤْخَذَ بِهِ لِلْحَالِ، وَلَكِنْ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ، لِأَنَّهُ لَمَّا عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَقَدْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصْلِ، وَعَادَ قِنًّا كَمَا كَانَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى مَوْلَاهُ، وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ عَلَى الْمَوْلَى بَاطِلٌ إلَّا أَنَّهُ يُتْبَعُ بَعْدَ الْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ صَحِيحُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ - بَطَلَ إقْرَارَهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ لِلْحَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَة - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَيُتْبَعُ بَعْدَ الْعَتَاقِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْطُلُ إقْرَارَهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَيُؤْخَذُ بِهِ لِلْحَالِ، وَيُبَاعُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا: إنَّ الْقِيمَةَ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ لِصِحَّةِ إقْرَارِهِ ظَاهِرًا أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي تَقَرَّرَ الْوُجُوبُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ بِالْعَجْزِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ عَجَزَ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ لَمْ تَكُنْ لِمَكَانِ الْكِتَابَةِ، لِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْكِتَابَةِ مَا كَانَ مِنْ التِّجَارَةِ، وَالْإِقْرَارُ بِالْجِنَايَةِ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ لِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ مِنْ الْمَوْلَى، فَإِذَا عَجَزَ فَقَدْ صَارَ الْمَوْلَى أَحَقَّ بِإِكْسَابِهِ فَبَطَلَ إقْرَارُهُ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْإِقْرَارِ صُلْحٌ بِأَنْ جَنَى الْمُكَاتَبِ جِنَايَةً خَطَأً فَصَالَحَ مِنْهَا عَلَى مَالٍ جَازَ صُلْحَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ثُمَّ إنْ كَانَ قَدْ أَدَّى بَدَلَ الصُّلْحِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَوْ كَانَ لَمْ يُؤَدِّ لَكِنَّهُ عَتَقَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ فَقَدْ تَقَرَّرَ الصُّلْحُ، وَلَا يَبْطُلُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤَدَّ بَدَلَ الصُّلْحِ، وَلَا عَتَقَ حَتَّى عَجَزَ بَطَلَ الْمَالُ عَنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَيُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْطُلُ، وَيَصِيرُ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَتَلَ الْمُكَاتَبُ إنْسَانًا عَمْدًا ثُمَّ صَالَحَ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى مَالٍ ثُمَّ عَجَزَ قَبْلَ أَدَاءِ بَدَلِ الصُّلْحِ إنَّهُ يَبْطُلُ الصُّلْحُ، وَلَا يُؤْخَذُ لِلْحَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْطُلُ، وَيُؤْخَذُ لِلْحَالِ، وَلَوْ كَانَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ اثْنَيْنِ فَصَالَحَ الْمُكَاتَبُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى مَنْ صَالَحَهُ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا فَيَغْرَمُ الْمُكَاتَبُ لَهُ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَمِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ الْجِنَايَةِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ الدِّيَةِ، فَالْوَاجِبُ فِي نِصْفِهَا الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَمِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا لِلنِّصْفِ بِالْكُلِّ فَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَنَصِيبُ الْمُصَالِحِ لَا يُؤْخَذُ لِلْحَالِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بَعْدَ الْعَتَاقِ. وَأَمَّا نَصِيبُ الْآخَرِ فَيُقَالُ لِلْمَوْلَى: ادْفَعْ نِصْفَ الْعَبْدِ أَوْ افْدِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ قَدْ بَطَلَ عِنْدَهُ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَدْفَعُ نِصْفَ الْعَبْدِ أَوْ يَفْدِيَ بِنِصْفِ الدِّيَةِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يُبَاعُ فِي حِصَّةِ الْمَصَالِحِ أَوْ يَقْضِيَ عَنْهُ الْمَوْلَى. (وَأَمَّا) الْقِنُّ إذَا قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا، وَلَهُ وَلِيَّانِ فَصَالَحَ الْعَبْدُ أَحَدَهُمَا يَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا، وَنَصِيبُ الْمُصَالِحِ يُؤْخَذُ بَعْدَ الْعَتَاقِ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمَصَالِحِ فَيُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِدَفْعِ نِصْفِ الْعَبْدِ إلَيْهِ، أَوْ الْفِدَاءِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ، وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا أَصْلًا أَوْ لَمْ يَتْرُكْ، وَفَاءً بِالْكِتَابَةِ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ عَاجِزًا فَقَدْ مَاتَ قِنًّا، وَالْقِنُّ إذَا جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ مَاتَ تَبْطُلُ الْجِنَايَةُ أَصْلًا وَرَأْسَا، وَمَا تَرَكَهُ يَكُونُ لِلْوَلِيِّ، إذَا مَاتَ عَبْدًا كَانَ الْمَتْرُوكُ مَالَ الْمَوْلَى فَيَكُونَ لَهُ وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ، وَتَرَكَ مَالًا، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَكِتَابَةٌ يُبْدَأُ بِدَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْمَوْلَى دَيْنٌ ضَعِيفٌ؛ إذْ لَا يَجِبْ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْأَقْوَى أَوْلَى. وَحُكِيَ عَنْ قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ الْمُسَيِّبِ: إنَّ شُرَيْحًا يَقُولُ: الْأَجْنَبِيُّ، وَالْمَوْلَى يَتَحَاصَّانِ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَخْطَأَ شُرَيْحٌ، وَإِنْ كَانَ قَاضِيًا قَضَاءَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَوْلَى، وَكَانَ زَيْدٌ يَقُولُ يُبْدَأُ بِدَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَخْفَى قَضَاؤُهُ عَلَى الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا، وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ، وَتَرَكَ وَفَاءً بِالْكِتَابَةِ، وَجِنَايَةً فَالْجِنَايَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَقْوَى، وَلَوْ مَاتَ، وَتَرَكَ مَالًا، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَكِتَابَةٌ، وَجِنَايَةٌ، فَإِنْ كَانَ قَضَى عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ فَصَاحِبُ الْجِنَايَةِ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا قُضِيَ بِهَا صَارَتْ دَيْنًا فَهُمَا دَيْنَانِ فَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا بِالْبِدَايَةِ بِهِ أَوْلَى مِنْ صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ يُبْدَأُ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّتِهِ، وَدَيْنُ الْجِنَايَةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذِمَّتِهِ بَعْدُ، فَكَانَ الْأَوَّلُ آكَدَ وَأَقْوَى، فَيُبْدَأُ بِهِ، وَيُقْضَى الدَّيْنُ مِنْهُ ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى مَا بَقِيَ فَإِنْ كَانَ بِهِ وَفَاءٌ بِالْكِتَابَةِ فَصَاحِبُ الْجِنَايَةِ أَوْلَى فَيُبْدَأُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَفَاءٌ بِالْكِتَابَةِ فَمَا بَقِيَ يَكُونُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَمُوتُ قِنًّا عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْمَوْتِ إنَّ الْمُكَاتَبَ يَبْدَأُ بِأَيِّ الدُّيُونِ شَاءَ، إنْ شَاءَ بِدَيْنِ الْأَجْنَبِيّ، وَإِنْ

شَاءَ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ شَاءَ بِمَالِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي مِنْ كَسْبِهِ، وَالتَّدْبِيرُ فِي إكْسَابِهِ إلَيْهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِأَيِّ دُيُونِهِ شَاءَ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ فَتَرَكَ وَلَدًا: إنَّ وَلَدَهُ يَبْدَأُ مِنْ كَسْبِهِ بِأَيِّ الدُّيُونِ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمُكَاتَبِ، فَتَدْبِيرُ كَسْبِهِ إلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ، وَلَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي مَوْتِهِ إلَى الْقَاضِي فَيُبْدَأُ بِالْأَوْلَى فَالْأَوْلَى، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ فِي قِيمَتِهِ وَقْتَ الْجِنَايَةِ - فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ يُنْظَرُ إلَى قِيمَتِهِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ الْحَالَ يَصْلُحُ حُكْمًا فِي الْمَاضِي فَيَحْكُمُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ الْأَخِيرِ: أَنَّ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ يَدَّعِي زِيَادَةَ الضَّمَانِ، وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ (وَأَمَّا) قَدْرُ الْوَاجِبِ بِجِنَايَتِهِ فَهُوَ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ إنْ كَانَ أَقَلَّ فَلَا حَقَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَقَلَّ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْكَاتِبِ مَنْعُ الزِّيَادَةِ فَلَا تَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ الدِّيَةِ، وَجَبَتْ قِيمَتُهُ وَلَا يُخَيَّرُ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ أَوْ قَدْرَ الدِّيَةِ يَنْقُصُ مِنْ الدِّيَةِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَتَقَوَّمُ فِي الْجِنَايَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ كَالْبَدَلِ عَنْ الدَّفْعِ، وَالدَّفْعُ يَجِبُ عِنْدَ الْجِنَايَةِ. وَكَذَا الْمَنْعُ بِالْكِتَابَةِ السَّابِقَةِ لِحَقِّ الْمُكَاتَبِ إنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ فَيُعْتَبَرُ الْحُكْمُ، وَهُوَ وُجُوبِ الْقِيمَةِ عِنْدَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) صِفَةُ الْوَاجِبِ فَهِيَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ حَالًّا لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ هُوَ الدَّفْعُ، وَهَذَا كَالْخَلْفِ عَنْهُ، وَالدَّفْعُ يَجِبُ عَلَيْهِ حَالًّا لَا مُؤَجَّلًا فَكَذَا الْخُلْفُ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. هَذَا إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ أَجْنَبِيًّا (فَأَمَّا) إذَا كَانَ مَوْلَى الْقَاتِلِ فَالْقَاتِلُ لَا يَخْلُو: (إمَّا) إنْ كَانَ قِنًّا (وَإِمَّا) إنْ كَانَ مُدَبَّرًا (وَإِمَّا) إنْ كَانَ أُمَّ وَلَدٍ (وَإِمَّا) إنْ كَانَ مُكَاتَبًا فَإِنْ كَانَ قِنًّا فَقَتَلَ مَوْلَاهُ خَطَأً - فَجِنَايَتُهُ هَدَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ، وَإِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِمَا مَرَّ، وَلَوْ قَتَلَهُ عَمْدًا، وَلَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا حَتَّى سَقَطَ الْقِصَاصُ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ، وَلَا يَجِبُ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ شَيْءٌ فِي قَوْلِهِمَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُقَالُ لِلَّذِي عَفَا: إمَّا أَنْ تَدْفَعَ نِصْفَ نُصِيبُكَ، وَهُوَ رُبْعُ الْعَبْدِ إلَى الَّذِي لَمْ يَعْفُ أَوْ تَفْدِيَهُ بِرُبْعِ الدِّيَةِ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْقِصَاصَ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ، فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمَا فَقَدْ سَقَطَ نِصْفُ الْقِصَاصَ، وَانْقَلَبَ نَصِيبُ صَاحِبِهِ، وَهُوَ النِّصْفِ مَالًا شَائِعًا فِي النِّصْفَيْنِ نِصْفُهُ، وَهُوَ الرُّبْعُ فِي نَصِيبِهِ وَنِصْفُهُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ فَمَا كَانَ فِي نَصِيبِهِ يَسْقُطُ، وَمَا كَانَ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ يَثْبُتُ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الدِّيَةَ إمَّا أَنْ تَجِبُ حَقًّا لِلْمَوْلَى، وَالْوَارِثُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي اسْتِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِبَ حَقًّا لِلْوَرَثَةِ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ. وَكَيْفَ مَا كَانَ فَالْمَوْلَى لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ، وَإِنْ كَانَ مُدَبَّرًا فَقَتَلَ مَوْلَاهُ خَطَأً فَجِنَايَتُهُ هَدَرٌ، وَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ لَوَجَبَتْ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَى أَجْنَبِيٍّ لَوَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِ فَهَهُنَا أَوْلَى، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ لَهُ، وَعَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ يَسْعَى فِي قِيمَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ؟ ، وَالْوَصِيَّةُ لَا تُسَلَّمُ لِلْقَاتِلِ إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَوَجَبَ عَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ، وَلَوْ قَتَلَهُ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَيَسْعَى فِي قِيمَتِهِ لِمَا قُلْنَا، وَوَرَثَتُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا عَجَّلُوا اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ، وَبَطَلَتْ السِّعَايَةُ، وَإِنْ شَاءُوا اسْتَوْفَوْا السِّعَايَةَ ثُمَّ قَتَلُوهُ قِصَاصًا؛ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ ثَبَتَا لَهُمْ، وَاخْتِيَارُ السِّعَايَةِ لَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ السِّعَايَةَ لَيْسَتْ بِعِوَضٍ عَنْ الْمَقْتُولِ بَلْ هِيَ بَدَلٌ عَنْ الرِّقِّ، وَلَوْ كَانَ لِلْمَوْلَى وَلِيَّانِ عَفَا أَحَدُهُمَا - يَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا بِخِلَافِ الْقِنِّ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ، وَلَيْسَ يَجِبُ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ، وَهَهُنَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ يَعْتِقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهِ فَيَسْعَى، وَهُوَ حُرُّ فَلَمْ يَكُنْ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَيْهِ إيجَابُ الدَّيْنِ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَإِنْ كَانَ أُمَّ وَلَدٍ فَقَتَلَتْ مَوْلَاهَا خَطَأً أَوْ عَمْدًا فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُدَبَّرِ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي السِّعَايَةِ فَأُمُّ الْوَلَدِ لَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا، وَالْمُدَبَّرُ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ هُنَاكَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، وَعِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ لَيْسَ بِوَصِيَّةٍ حَتَّى لَا يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ، وَلَوْ قَتَلَتْ أُمُّ الْوَلَدِ مَوْلَاهَا عَمْدًا، وَلَهُ ابْنَانِ مِنْ غَيْرِهَا فَعَفَا أَحَدُهُمَا سَعَتْ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ قَدْ سَقَطَ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا، وَانْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهَا السِّعَايَةُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لَا فِي نِصْفِ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ حُرَّةً وَقْتَ وُجُوبِ السِّعَايَةِ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا

القتل الذي هو في معنى القتل الخطأ نوعان

وَتَسْعَى، وَهِيَ حُرَّةٌ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً وَقْتَ الْجِنَايَةِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ الْحَالَيْنِ حَالَ وُجُودِ الْجِنَايَةِ، وَحَالَ وُجُوبِ السِّعَايَةِ، وَلَوْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً فِي الْحَالَيْنِ بِأَنْ قَتَلَتْ أَجْنَبِيًّا خَطَأً لَوَجَبَتْ الْقِيمَةُ. وَكَانَتْ عَلَى الْمَوْلَى لَا عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً حَالَ الْجِنَايَةِ حُرَّةً حَالِ السِّعَايَةِ اعْتَبَرْنَا بِالْحَالَيْنِ فَأَوْجَبْنَا نِصْفَ الْقِيمَةِ اعْتِبَارًا إلَى وُجُودِ الْجِنَايَةِ. وَأَوْجَدْنَا ذَلِكَ عَلَيْهَا لَا عَلَى الْمَوْلَى اعْتِبَارًا بِحَالِ وُجُوبِ السِّعَايَةِ اعْتِبَارًا لِلْحَالَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ مِنْهَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهَا، وَسَعَتْ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهَا أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ - فَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَلَا يُمْكِنُ الْإِيجَابُ فِي نَصِيبِ وَلَدِهَا؛ إذْ لَا يَجِبُ لِلْوَلَدِ عَلَى أُمِّهِ قِصَاصُ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ احْتِرَامًا لِلْأُمِّ (وَأَمَّا) لُزُومُ السِّعَايَةِ فَلِأَنَّ الْقِصَاصَ سَقَطَ لِلتَّعَذُّرِ، وَلَا تَعَذُّرَ فِي الْقِيمَةِ فَتَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهَا، وَتَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ مُكَاتَبًا فَقَتَلَ مَوْلَاهُ خَطَأً فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمُكَاتَبِ عَلَى مَوْلَاهُ لَازِمَةٌ كَجِنَايَةِ مَوْلَاهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إكْسَابِهِ، وَأَرْشُ جِنَايَاتِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِإِكْسَابِهِ مِنْ الْمَوْلَى، وَتَجِبُ الْقِيمَةَ حَالَّةً؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِالْمَنْعِ مِنْ الدَّفْعِ فَتَكُونُ حَالَّةً كَمَا تَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى بِجِنَايَةِ مُدَبَّرِهِ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (هَذَا) إذَا كَانَ الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ حُرَّيْنِ أَوْ كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا أَوْ كَانَ الْقَاتِلُ عَبْدًا وَالْمَقْتُولُ حُرًّا. فَأَمَّا إذَا كَانَا عَبْدَيْنِ بِأَنْ قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدًا خَطَأً فَالْمَقْتُولُ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ كَانَ عَبْدًا لِأَجْنَبِيٍّ، وَإِمَّا إنْ كَانَ عَبْدًا لِمَوْلَى الْقَاتِلِ، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا لِأَجْنَبِيِّ بِأَنْ كَانَ الْقَاتِلُ قِنًّا يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبًا، وَهَذَا وَمَا إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ حُرًّا أَجْنَبِيًّا سَوَاءٌ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يُخَاطِبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ بِالْفِدَاءِ بِالدِّيَةِ، وَهَهُنَا يُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ بِالْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَةُ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا كَمَا إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ حُرًّا أَجْنَبِيًّا وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُكَاتَبًا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبًا كَمَا إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ حُرًّا أَجْنَبِيًّا، هَذَا إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ عَبْدًا لِأَجْنَبِيٍّ فَإِنْ كَانَ عَبْدًا لِوَلِيِّ الْقَاتِلِ فَجِنَايَةُ الْقَاتِلِ عَلَيْهِ هَدَرٌ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبًا، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُكَاتَبًا فَجِنَايَتُهُ عَلَيْهِ لَازِمَةٌ كَائِنًا مَنْ كَانَ الْمَقْتُولُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ هَذَا إذَا قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدًا خَطَأً فَإِنْ قَتَلَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ كَائِنًا مَنْ كَانَ الْمَقْتُولُ، وَاَللَّهُ - جَلَّ شَأْنُهُ - الْمُوفِقُ. [الْقَتْلُ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْقَتْلِ الْخَطَأِ نَوْعَانِ] (وَأَمَّا) الْقَتْلُ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْقَتْلِ الْخَطَأِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ، وَنَوْعٌ هُوَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ طَرِيقِ التَّسْبِيبِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَنَحْوُ النَّائِمِ يَنْقَلِبُ عَلَى إنْسَانٍ فَيَقْتُلَهُ فَهَذَا الْقَتْلُ فِي مَعْنَى الْقَتْلِ الْخَطَأِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِوُجُودِهِ لَا عَنْ قَصْدٍ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِثِقَلِهِ فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ وَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ هُنَاكَ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً. وَكَذَلِكَ لَوْ سَقَطَ إنْسَانٌ مِنْ سَطْحٍ عَلَى قَاعِدٍ فَقَتَلَهُ (أَمَّا) وُجُوبُ الدِّيَةِ فَلِوُجُودِ مَعْنَى الْخَطَأِ، وَهُوَ عَدَمُ الْقَصْدِ (وَأَمَّا) وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ فَلِوُجُودِ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِثِقَلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاعِدُ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ أَوْ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَلَوْ مَاتَ السَّاقِطُ دُونَ الْقَاعِدِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ قُعُودَهُ فِيهِ جِنَايَةً لَا شَيْءَ عَلَى الْقَاعِدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ فِي الْقُعُودِ فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَيُهْدَرُ دَمُ السَّاقِطِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ قُعُودُهُ فِيهِ جِنَايَةً فَدِيَةُ السَّاقِطِ عَلَى الْقَاعِدِ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْقُعُودِ فَالْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِحُصُولِ الْقَتْلِ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ كَمَا فِي الْبِئْرِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ حَامِلًا سَيْفًا أَوْ حَجَرًا أَوْ لَبِنَةً أَوْ خَشَبَةً فَسَقَطَ مِنْ يَدِهِ فَقَتَلَهُ لِوُجُودِ مَعْنَى الْخَطَأِ فِيهِ وَحُصُولِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَاشَرَةِ لِوُصُولِ الْآلَةِ لِبَشَرَةِ الْمَقْتُولِ (وَلَوْ) كَانَ لَابِسًا سَيْفًا فَسَقَطَ عَلَى غَيْرِهِ فَقَتَلَهُ أَوْ سَقَطَ عَنْهُ ثَوْبُهُ أَوْ رِدَاؤُهُ أَوْ طَيْلَسَانُهُ أَوْ عِمَامَتُهُ، وَهُوَ لَابِسُهُ عَلَى إنْسَانٍ فَتَعَقَّلَ بِهِ فَتَلِفَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ فِي اللَّبْسِ ضَرُورَةً؛ إذْ النَّاسُ يَحْتَاجُونَ إلَى لُبْسِ هَذِهِ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ السُّقُوطِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ، فَكَانَتْ الْبَلِيَّةُ فِيهِ عَامَّةً فَتَعَذَّرَ التَّضْمِينُ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْحَمْلِ، وَالِاحْتِرَازُ عَنْ سُقُوطِ الْمَحْمُولِ مُمْكِنٌ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ الَّذِي لَبِسَهُ مِمَّا لَا يُلْبَسُ عَادَةً فَهُوَ ضَامِنٌ. وَكَذَلِكَ الرَّاكِبُ إذَا كَانَ يَسِيرُ فِي الطَّرِيقِ

الْعَامَّةِ فَوَطِئَتْ دَابَّتُهُ رَجُلًا بِيَدَيْهَا أَوْ بِرِجْلِهَا لِوُجُودِ مَعْنَى الْخَطَأِ فِي هَذَا الْقَتْلِ وَحُصُولِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَاشَرَةِ؛ لِأَنَّ ثِقَلَ الرَّاكِبِ عَلَى الدَّابَّةِ، وَالدَّابَّةُ آلَةٌ لَهُ فَكَانَ الْقَتْلُ الْحَاصِلِ بِثِقَلِهَا مُضَافًا إلَى الرَّاكِبِ فَكَانَ قَتْلًا مُبَاشَرَةً، وَلَوْ كُدِمَتْ أَوْ صُدِمَتْ أَوْ خُبِطَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ إلَّا أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ، وَالْوَصِيَّةَ لِحُصُولِ الْقَتْلِ عَلَى سَبِيلِ التَّسَبُّبِ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى السَّائِقِ، وَالْقَائِدِ، وَلَا يُحْرَمَانِ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ السَّوْقِ وَالْقَوَدِ يُقَرِّبُ الدَّابَّةَ مِنْ الْقَتْلِ فَكَانَ قَتْلًا تَسْبِيبًا لَا مُبَاشَرَةَ، وَالْقَتْلُ تَسَبُّبًا لَا مُبَاشَرَةً لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ بِخِلَافِ الرَّاكِبِ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ مُبَاشَرَةً عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالرَّدِيفُ وَالرَّاكِبُ سَوَاءٌ، وَعَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةُ، وَيُحْرَمَانِ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّ ثِقَلَهُمَا عَلَى الدَّابَّةِ، وَالدَّابَّةُ آلَةٌ لَهُمَا فَكَانَا قَاتِلَيْنِ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ، وَلَوْ نَفَحَتْ الدَّابَّةُ بِرِجْلِهَا أَوْ بِذَنَبِهَا، وَهُوَ يَسِيرُ فَلَا ضَمَانَ فِي ذَلِكَ عَلَى رَاكِبٍ وَلَا سَائِقٍ وَلَا قَائِدٍ، وَالْأَصْلُ أَنَّ السَّيْرَ وَالسَّوْقَ وَالْقَوْدَ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ مَأْذُونٌ فِيهِ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ فَمَا لَمْ تَسْلَمْ عَاقِبَتُهُ - لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ فَالْمُتَوَلَّدُ مِنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا إلَّا إذَا كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِسَدِّ بَابِ الِاسْتِطْرَاقِ عَلَى الْعَامَّةِ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَالْوَطْءُ وَالْكَدْمُ وَالصَّدْمُ وَالْخَبْطُ فِي السَّيْرِ وَالسَّوْقِ وَالْقَوْدِ مِمَّا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِحِفْظِ الدَّابَّةِ وَذَوْدِ النَّاسِ، وَالنَّفْحُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزَ عَنْهُ وَكَذَا الْبَوْلُ وَالرَّوْثُ وَاللُّعَابِ، فَسَقَطَ اعْتِبَارَهُ وَالْتُحِقَ بِالْعَدَمِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَالَ: الرِّجْلُ جُبَارٌ أَيْ نَفْحُهَا» وَلِهَذَا أُسْقِطَ اعْتِبَارُ مَا ثَارَ مِنْ الْغُبَارِ مِنْ مَشْي الْمَاشِي حَتَّى لَوْ أَفْسَدَ مَتَاعًا لَمْ يَضْمَنْ. وَكَذَا مَا أَثَارَتْ الدَّابَّةُ بِسَنَابِكِهَا مِنْ الْغُبَارِ أَوْ الْحَصَى الصِّغَارِ، وَلَا ضَمَانَ فِيهِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. وَأَمَّا الْحَصَى الْكِبَارُ فَيَجِبُ الضَّمَانَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ التَّحَرُّزَ عَنْ إثَارَتِهَا؛ إذْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِتَعْنِيفٍ فِي السَّوْقِ، وَلَوْ كَبَحَ الدَّابَّةَ بِاللِّجَامِ فَنَفَحَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ بِذَنَبِهَا فَهُوَ هَدَرٌ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ، وَلَوْ أَوْقَفَ الدَّابَّةَ فِي الطَّرِيقِ فَقَتَلَتْ إنْسَانًا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ كَطَرِيقِ الْعَامَّةِ - فَهُوَ ضَامِنٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ سَوَاءٌ وَطِئَتْ بِيَدَيْهَا أَوْ بِرِجْلِهَا أَوْ كَدَمَتْ أَوْ صَدَمَتْ أَوْ خَبَطَتْ بِيَدَيْهَا أَوْ نَفَحَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ بِذَنَبِهَا أَوْ عَطِبَ شَيْءٌ بِرَوْثِهَا أَوْ بَوْلِهَا أَوْ لُعَابِهَا، كُلُّ ذَلِكَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ رَاكِبًا أَوْ لَا؛ لِأَنَّ رَوْثَ الدَّابَّةِ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ لَيْسَ بِمَأْذُونٍ فِيهِ شَرْعًا إنَّمَا الْمَأْذُونُ فِيهِ هُوَ الْمُرُورُ لَا غَيْرُ؛ إذْ النَّاسُ يَتَضَرَّرُونَ بِالْوُقُوفِ وَلَا ضَرُورَةَ فِيهِ فَكَانَ الْوُقُوفُ فِيهِ تَعَدِّيًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ أَوْ لَا يُمْكِنُ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ رَاكِبًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْوَطْءِ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ؛ لِكَوْنِهِ قَاتِلًا مِنْ طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاكِبًا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِوُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُ تَسْبِيبًا لَا مُبَاشَرَةً. وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْقَفَ دَابَّةً عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَهُوَ مِثْلُ وَقْفِهِ فِي الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْوَقْفِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ جَعَلَ لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ مَوْقِفًا يَقِفُونَ فِيهِ دَوَابَّهُمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا أَصَابَتْ فِي وُقُوفِهَا؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ النَّاسُ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي الْوُقُوفِ فَأَشْبَهَ الْوُقُوفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ إلَّا إذَا كَانَ رَاكِبًا فَوَطِئَتْ دَابَّتُهُ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَتْلٌ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ فَيَسْتَوِي فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ يَضْمَنُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْقَفَ دَابَّتَهُ فِي مَوْضِعٍ أَذِنَ الْإِمَامُ بِالْوُقُوفِ فِيهِ كَمَا فِي سُوقِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ إذَا أَوْقَفَ دَابَّتَهُ فِي الْفَلَاةِ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ فِي الْفَلَاةِ مُبَاحٌ لِعَدَمِ الْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِيهِ. وَكَذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ إنْ كَانَ وَقَفَ فِي الْمُحَجَّةِ فَالْوُقُوفُ فِيهَا كَالْوُقُوفِ فِي سَائِرِ الطُّرُقِ الْعَامَّةِ، وَلَوْ كَانَ سَائِرًا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي أَذِنَ الْإِمَامُ فِيهَا بِالْوُقُوفِ لِلنَّاسِ أَوْ سَائِقًا أَوْ قَائِدًا فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْإِذْنِ فِي سُقُوطِ ضَمَانِ الْوَقْفِ لَا فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْوَقْفِ فِيهَا اُسْتُفِيدَ بِالْإِذْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا قَبْلَهُ، فَأَمَّا إبَاحَةُ السَّيْرِ وَالسَّوَقِ وَالْقَوْدِ فَلَمْ يَثْبُتْ بِالْإِذْنِ مِنْ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَهُ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْإِذْنِ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ أَوْ السَّيْرُ أَوْ السَّوْقُ أَوْ الْقَوْدُ فِي مِلْكِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ إلَّا فِيمَا وَطِئَتْ دَابَّتُهُ بِيَدَيْهَا أَوْ بِرِجْلِهَا، وَهُوَ رَاكِبٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ تَقَعُ تَعَدِّيًا فِي الْمِلْكِ، وَالتَّسْبِيبُ إذَا لَمْ يَكُنْ تَعَدِّيًا لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ. فَأَمَّا الْوَطْءُ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ فِي حَالِ السَّيْرِ أَوْ الْوُقُوفِ فَهُوَ قَتْلٌ مُبَاشَرَةً لَا تَسْبِيبًا حَتَّى تَجِبَ الْكَفَّارَةُ لِوُجُودِ الضَّمَانِ عَلَى كُلٍّ سَوَاءٌ كَانَ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الَّذِي لَحِقَتْهُ الْجِنَايَةُ مَأْذُونًا فِي الدُّخُولِ أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ مُبَاشَرَةً، وَمَنْ دَخَلَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يُبَاحُ إتْلَافُهُ، وَلَوْ رَبَطَ الدَّابَّةَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَمَا دَامَتْ تَجُولُ فِي رِبَاطِهَا إذَا أَصَابَتْ شَيْئًا بِيَدَيْهَا

أَوْ بِرِجْلِهَا أَوْ رَاثَتْ أَوْ بَالَتْ فَعَطِبَ بِهِ شَيْءٌ - فَذَلِكَ كُلُّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْوُقُوفِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، وَلَوْ انْفَتَحَ الرِّبَاطُ وَذَهَبَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَمَا عَطِبَ بِهِ شَيْءٌ فَهُوَ هَدْرٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعَدِّي قَدْ زَالَ بِزَوَالِهَا مِنْ مَوْضِعِ الْوُقُوفِ، وَإِنْ أَوْقَفَهَا غَيْرَ مَرْبُوطَةٍ فَزَالَتْ عَنْ مَوْضِعِهَا بَعْدَ مَا أَوْقَفَهَا ثُمَّ جَنَتْ عَلَى إنْسَانٍ أَوْ عَطِبَ بِهَا شَيْءٌ فَهُوَ هَدَرٌ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا زَالَتْ عَنْ مَوْضِعِ الْوَقْفِ فَقَدْ زَالَ التَّعَدِّي فَكَأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِنَفْسِهَا وَجَنَتْ، وَلَوْ نَفَرَتْ الدَّابَّةُ مِنْ الرَّجُلِ أَوْ انْفَلَتَتْ مِنْهُ فَمَا أَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا ذَلِكَ - فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» أَيْ الْبَهِيمَةُ جُرْحُهَا جُبَارٌ وَلِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي نِفَارِهَا وَانْفِلَاتِهَا، وَلَا يُمْكِنْهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ فِعْلِهَا، فَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا، وَلَوْ أَرْسَلَ دَابَّتَهُ فَمَا أَصَابَتْ مِنْ فَوَرِهَا ضَمِنَ؛ لِأَنَّ سَيْرهَا فِي فَوْرِهَا مُضَافٌ إلَى إرْسَالِهَا، فَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْإِرْسَالِ، فَصَارَ كَالدَّافِعِ لَهَا أَوْ كَالسَّائِقِ، فَإِنْ عَطَفَتْ يَمِينًا وَشِمَالًا ثُمَّ أَصَابَتْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَرِيقٌ إلَّا ذَلِكَ - فَذَلِكَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُرْسِلِ؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى حُكْمِ الْإِرْسَالِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا طَرِيقٌ آخَرُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهَا عَطَفَتْ بِاخْتِيَارِهَا فَيَنْقَطِعُ حُكْمُ الْإِرْسَالِ، وَصَارَتْ كَالْمُنْفَلِتَةِ، وَلَوْ أَرْسَلَ طَيْرًا فَأَصَابَ شَيْئًا فِي فَوْرِهِ ذَلِكَ لَا يَضْمَنُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ فِيمَنْ أَرْسَلَ بَازِيًا فِي الْحَرَمِ فَأَتْلَفَ طِيبَةَ الْحَرَمِ إنَّهُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ يَفْعَلُ بِاخْتِيَارِهِ وَفِعْلُهُ جُبَارٌ، وَلَوْ أَغْرَى بِهِ كَلْبًا حَتَّى عَقَرَ رَجُلًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا لَوْ أَرْسَلَ طَيْرًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْمَنُ كَمَا لَوْ أَرْسَلَ الْبَهِيمَةَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ كَانَ سَائِقًا لَهُ أَوْ قَائِدًا يَضْمَنُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَهُ وَلَا قَائِدًا لَا يَضْمَنُ، وَبِهِ أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَقْرَ فِعْلُ الْكَلْبِ بِاخْتِيَارِهِ فَالْأَصْلُ هُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ، وَفِعْلُهُ جُبَارٌ إلَّا أَنَّهُ بِالسَّوْقِ أَوْ الْقَوْدِ يَصِيرُ مُغْرِيًا إيَّاهُ إلَى الْإِتْلَافِ فَيَصِيرُ سَبَبًا لِلتَّلَفِ فَأَشْبَهَ سَوْقِ الدَّابَّةِ وَقَوْدِهَا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ إغْرَاءَ الْكَلْبِ بِمَنْزِلَةِ إرْسَالِ الْبَهِيمَةِ، فَالْمُصَابُ عَلَى فَوْرِ الْإِرْسَالِ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُرْسِلِ، فَكَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ الْكَلْبَ يَعْقِرُ بِاخْتِيَارِهِ، وَالْإِغْرَاءُ لِلتَّحْرِيضِ، وَفِعْلُهُ جُبَارٌ، وَلَوْ دَخَلَ رَجُلٌ دَارَ غَيْرِهِ فَعَقَرَهُ كَلْبَهُ لَا يَضْمَنُ، سَوَاءٌ دَخَلَ دَارِهِ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْكَلْبِ جُبَارٌ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ صَاحِبِهِ التَّسْبِيبُ إلَى الْعَقْرِ؛ إذْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا الْإِمْسَاكُ فِي الْبَيْتِ وَأَنَّهُ مُبَاحٌ قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ، وَلَوْ أَلْقَى حَيَّةً أَوْ عَقْرَبًا فِي الطَّرِيقِ فَلَدَغَتْ إنْسَانًا - فَضَمَانُهُ عَلَى الْمُلْقِي؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْإِلْقَاءِ إلَّا إذَا عَدَلَتْ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا يَضْمَنُ لِارْتِفَاعِ التَّعَدِّي بِالْعُدُولِ إذَا اصْطَدَمَ فَارِسَانِ فَمَاتَا فَدِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآخَرِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاتَ بِفِعْلَيْنِ: فِعْلِ نَفْسِهِ، وَفِعْلِ صَاحِبِهِ، وَهُوَ صَدْمَةُ صَاحِبِهِ، وَصَدْمَةُ نَفْسِهِ فَيُهْدَرَ مَا حَصَلَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ، وَيُعْتَبَرُ مَا حَصَلَ بِفِعْلِ صَاحِبِهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَاقِلَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ دِيَةِ الْآخَرِ، كَمَا لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ، وَجَرَحَهُ أَجْنَبِيُّ فَمَاتَ أَنَّ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ مِثْلَ مَذْهَبِنَا؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَاتَ مِنْ صَدْمِ صَاحِبِهِ إيَّاهُ فَيَضْمَنُ صَاحِبَهُ كَمَنْ بَنَى حَائِطًا فِي الطَّرِيقِ، فَصَدَمَ رَجُلًا فَمَاتَ إنَّ الدِّيَةَ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ كَذَا هَذَا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ صَدْمَةَ نَفْسِهِ مَعَ صَدْمِ صَاحِبِهِ إيَّاهُ فِيهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ إذْ لَوْ اُعْتُبِرَ لَمَا لَزِمَ بَانِي الْحَائِطِ عَلَى الطَّرِيقِ جَمِيعُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ مَشَى إلَيْهِ وَصَدْمَهُ. وَكَذَلِكَ حَافِرُ الْبِئْرِ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَاشِي قَدْ مَشَى إلَيْهَا رَجُلَانِ مَدَّا حَبْلًا حَتَّى انْقَطَعَ فَسَقَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ سَقَطَا عَلَى ظَهْرِهِمَا فَمَاتَا - فَلَا ضَمَانَ أَصْلًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَمُتْ مِنْ فِعْلِ صَاحِبِهِ؛ إذْ لَوْ مَاتَ مِنْ فِعْلِ صَاحِبِهِ لَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، فَلَمَّا سَقَطَ عَلَى قَفَاهُ عُلِمَ أَنَّهُ سَقَطَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ، وَهُوَ مَدُّهُ، فَقَدْ مَاتَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ سَقَطَا عَلَى وَجْهَيْهِمَا فَمَاتَا فَدِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ عُلِمَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ جَذْبِهِ، وَإِنْ سَقَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى ظَهْرِهِ، وَالْآخَرُ عَلَى وَجْهِهِ فَمَاتَا جَمِيعًا - فَدِيَةُ الَّذِي سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِ، وَهُوَ جَذْبُهُ، وَدِيَةُ الَّذِي سَقَطَ عَلَى ظَهْرِهِ هَدَرٌ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ، وَلَوْ قَطَعَ قَاطِعٌ الْحَبْلَ فَسَقَطَا جَمِيعًا فَمَاتَا فَالضَّمَانُ عَلَى الْقَاطِعِ

لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ فِي إتْلَافِهِمَا وَالْإِتْلَافُ تَسْبِيبًا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَحَفْرِ الْبِئْرِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ: صَبِيٌّ فِي يَدِ أَبِيهِ جَذَبَهُ رَجُلٌ مِنْ يَدِهِ، وَالْأَبُ يُمْسِكُهُ حَتَّى مَاتَ فَدِيَتُهُ عَلَى الَّذِي جَذَبَهُ وَيَرِثَهُ أَبُوهُ؛ لِأَنَّ الْأَبَ مُحِقٌّ فِي الْإِمْسَاكِ وَالْجَاذِبُ مُتَعَدٍّ فِي الْجَذْبِ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَجَاذَبَ رَجُلَا صَبِيًّا، وَأَحَدُهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ، وَالْآخَرُ يَدَّعِي أَنَّهُ عَبْدُهُ، فَمَاتَ مِنْ جَذْبِهِمَا - فَعَلَى الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ عَبْدُهُ دِيَتَهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْجَذْبِ؛ لِأَنَّ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي الصَّبِيِّ، إذَا زَعَمَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَبُوهُ - فَهُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ عَبْدُهُ - فَكَانَ إمْسَاكُهُ بِحَقٍّ، وَجَذْبُ الْآخَرِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَيَضْمَنُ. رَجُلٌ فِي يَدِهِ ثَوْبٌ تَشَبَّثَ بِهِ رَجُلٌ فَجَذَبَهُ صَاحِبُ الثَّوْبِ مِنْ يَدِهِ فَخَرَقَ الثَّوْبَ ضَمِنَ الْمُمْسِكُ نِصْفَ الْخَرْقِ؛ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الثَّوْبِ فِي دَفْعِ الْمُمْسِكِ، وَعَلَيْهِ دَفْعُهُ بِغَيْرِ جَذْبٍ فَإِذَا جَذَبَ فَقَدْ حَصَلَ التَّلَفُ مِنْ فِعْلِهِمَا فَانْقَسَمَ الضَّمَانُ بَيْنَهُمَا رَجُلٌ عَضَّ ذِرَاعَ رَجُلٍ فَجَذَبَ الْمَعْضُوضُ ذِرَاعَهُ مِنْ فِيهِ؛ فَسَقَطَتْ أَسْنَانُ الْعَاضِّ، وَذَهَبَ لَحْمُ ذِرَاعِ هَذَا - تُهْدَرُ دِيَةُ الْأَسْنَانِ، وَيَضْمَنُ الْعَاضُّ أَرْشَ الذِّرَاعِ؛ لِأَنَّ الْعَاضَّ مُتَعَدٍّ فِي الْعَضِّ، وَالْجَاذِبُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْجَذْبِ؛ لِأَنَّ الْعَضَّ ضَرَرٌ، وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ رَجُلٌ جَلَسَ إلَى جَنْبِ رَجُلٍ فَجَلَسَ عَلَى ثَوْبِهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، فَقَامَ صَاحِبُ الثَّوْبِ فَانْشَقَّ ثَوْبُهُ مِنْ جُلُوسِ هَذَا عَلَيْهِ يَضْمَنُ الْجَالِسُ نِصْفَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ مِنْ الْجُلُوسِ وَالْجَذْبِ، وَالْجَالِسُ مُتَعَدٍّ فِي الْجُلُوسِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهِ، فَكَانَ التَّلَفُ حَاصِلًا مِنْ فِعْلَيْهِمَا فَيَنْقَسِمُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا. رَجُلٌ أَخَذَ بِيَدِ إنْسَانٍ، فَصَافَحَهُ، فَجَذَبَ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ، فَانْقَلَبَ، فَمَاتَ - فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْآخِذَ غَيْرُ مُعْتَدٍ فِي الْأَخْذِ لِلْمُصَافَحَةِ بَلْ هُوَ مُقِيمٌ سُنَّةً، وَإِنَّمَا الْجَاذِبُ هُوَ الَّذِي تَعَدَّى عَلَى نَفْسِهِ حَيْثُ جَذَبَ يَدَهُ لَا لِدَفْعِ ضَرَرٍ لَحِقَهُ مِنْ الْآخِذِ، وَإِنْ كَانَ أَخَذَ يَدَهُ لِيَعْصِرَهَا، فَآذَاهُ، فَجَرَّ يَدَهُ - ضَمِنَ الْآخِذُ دِيَتَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَدِّي، وَإِنَّمَا صَاحِبُ الْيَدِ دَفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْجَرِّ، وَلَهُ ذَلِكَ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتَعَدِّي، فَإِنْ انْكَسَرَتْ يَدُ الْمُمْسِكِ، وَهُوَ الْآخِذُ بِالْجَذْبِ - لَمْ يَضْمَنْ الْجَاذِبُ؛ لِأَنَّ التَّعَدِّيَ مِنْ الْمُمْسِكِ، فَكَانَ جَانِيًا عَلَى نَفْسِهِ - فَلَا ضَمَانَ عَلَى غَيْرِهِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الثَّانِي فَنَحْوُ جِنَايَةِ الْحَافِرِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ مِمَّنْ يُحْدِثُ شَيْئًا فِي الطَّرِيقِ أَوْ الْمَسْجِدِ، وَجِنَايَةُ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ، وَجِنَايَةُ النَّاخِسِ، وَجِنَايَةُ الْحَائِطِ (أَمَّا) جِنَايَةُ الْحَافِرِ، فَالْحَفْرُ لَا يَخْلُو (إمَّا) إنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ أَصْلًا (وَأَمَّا) إنْ كَانَ فِي الْمِلْكِ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ بِأَنْ كَانَ فِي الْمَفَازَةِ - لَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ؛ لِأَنَّ الْحَفْرَ لَيْسَ بِقَتْلٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ تَسْبِيبٌ إلَى الْقَتْلِ إلَّا أَنَّ التَّسْبِيبَ قَدْ يُلْحَقُ بِالْقَتْلِ إذَا كَانَ الْمُسَبِّبُ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسْبِيبِ، وَالْمُتَسَبِّبُ هَهُنَا لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ؛ لِأَنَّ الْحَفْرَ فِي الْمَفَازَةِ مُبَاحٌ مُطْلَقٌ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ، فَانْعَدَمَ الْقَتْلُ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانَ، وَإِنْ كَانَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَمَاتَ - فَلَا يَخْلُو: أَمَّا إنْ مَاتَ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ. وَإِمَّا إنْ مَاتَ غَمًّا أَوْ جُوعًا، فَإِنْ مَاتَ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ فَالْحَافِرُ لَا يَخْلُو: إمَّا إنْ كَانَ حُرًّا، وَإِمَّا إنْ كَانَ عَبْدًا، فَإِنْ كَانَ حُرًّا يَضْمَنُ الدِّيَةَ؛ لِأَنَّ حَفْرَ الْبِئْرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ سَبَبٌ لِوُقُوعِ الْمَارِّ فِيهَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسْبِيبِ، فَيَضْمَنُ الدِّيَةَ، وَتَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ الْمُطْلَقِ لِلتَّخْفِيفِ عَلَى الْقَاتِلِ نَظَرًا لَهُ، وَالْقَتْلُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ دُونَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ، فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّخْفِيفِ أَبْلُغَ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْقَتْلِ مُبَاشَرَةً. وَالْحَفْرُ لَيْسَ بِقَتْلٍ أَصْلًا حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالْقَتْلِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الدِّيَةِ فَبَقِيَ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْخَطَأِ الْمُطْلَقِ إنَّمَا وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْحَيَاةِ بِالسَّلَامَةِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ فَوْتِ السَّلَامَةِ، وَذَلِكَ بِالْقَتْلِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَجِبْ الشُّكْرَ. وَكَذَا لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ، إنْ كَانَ وَارِثًا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَلَا الْوَصِيَّةَ إنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا؛ لِأَنَّ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَتْلِ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ» وَلَمْ يُوجَدْ الْقَتْلُ حَقِيقَةً، وَإِنْ مَاتَ غَمًّا أَوْ جُوعًا فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَضْمَنُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَضْمَنُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ مَاتَ غَمًّا يَضْمَنُ وَإِنْ مَاتَ جُوعًا لَا يَضْمَنُ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الضَّمَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ بِسَبَبِ السُّقُوطِ إنَّمَا وَجَبَ لِكَوْنِ الْحَفْرُ تَسْبِيبًا إلَى الْهَلَاكِ، وَمَعْنَى التَّسْبِيبِ مَوْجُودٌ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ سَبَبُ الْغَمِّ وَالْجُوعِ؛ لِأَنَّ الْبِئْرَ يَأْخُذُ نَفْسَهُ، وَإِذَا طَالَ مُكْثُهُ يَلْحَقُهُ الْجُوعُ، وَالْوُقُوعُ بِسَبَبِ الْحَفْرِ، فَكَانَ مُضَافًا إلَيْهِ، كَمَا إذَا حَبَسَهُ فِي مَوْضِعٍ حَتَّى مَاتَ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْغَمَّ مِنْ آثَارِ

الْوُقُوعِ، فَكَانَ مُضَافًا إلَى الْحَفْرِ، فَأَمَّا الْجُوعُ فَلَيْسَ مِنْ آثَارِهِ، فَلَا يُضَافُ إلَى الْحَفْرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا صُنْعَ لِلْحَافِرِ فِي الْغَمِّ، وَلَا فِي الْجُوعِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُمَا يَحْدُثَانِ بِخَلْقِ اللَّهِ - تَعَالَى - لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِمَا أَصْلًا لَا مُبَاشَرَةً، وَلَا تَسْبِيبًا أَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فَلَا شَكَّ فِي انْتِقَائِهَا. وَأَمَّا التَّسْبِيبُ فَلِأَنَّ الْحَفْرَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْجُوعِ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْشَأُ مِنْهُ بَلْ مِنْ سَبَبٍ آخَرَ، وَالْغَمُّ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الْبِئْرِ فَإِنَّهَا قَدْ تَغُمُّ، وَقَدْ لَا تَغُمُّ، فَلَا يُضَافُ ذَلِكَ إلَى الْحَفْرِ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَضَمَانُهَا عَلَى الْحَافِرِ؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ، وَالْوُقُوعُ بِسَبَبِ الْحَفْرِ، ثُمَّ إنْ بَلَغَ الْقَدْرَ الَّذِي تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ حَمَلَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَيَكُونُ فِي مَالِهِ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْوَاقِعُ غَيْرَ بَنِي آدَمَ؛ لِأَنَّ ضَمَانُ الْمَالِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ كَمَا لَا تَتَحَمَّلُ سَائِرَ الدُّيُونِ ثُمَّ إنَّ جِنَايَاتِ الْحَفْرِ، وَإِنْ كَثُرَتْ مِنْ الْحُرِّ يَجِبُ عَلَيْهِ لِكُلِّ جِنَايَةٍ أَرْشُهَا وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَلَا يُشْرَكُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ بِالْحَفْرِ جَنَى عَلَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحِيَالِهِ، فَيُؤْخَذُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجِنَايَاتِ بِحِيَالِهَا، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَإِنْ كَانَ الْحَافِرُ عَبْدًا، فَإِنْ كَانَ قِنًّا فَجِنَايَتُهُ بِالْحَفْرِ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ بِيَدِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنْ يُخَاطِبَ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ، قَلَّتْ جِنَايَتُهُ أَوْ كَثُرَتْ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَاحِدًا يَدْفَعُ إلَيْهِ أَوْ يَفْدِي، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً يَدْفَعُ إلَيْهِمْ أَوْ يَفْدِي بِجَمِيعِ الْأُرُوشِ؛ لِأَنَّ جِنَايَاتِ الْقِنِّ فِي رَقَبَتِهِ يُقَالُ لِلْمَوْلَى: ادْفَعْ أَوْ أَفْدِ، وَالرَّقَبَةُ تَتَضَايَقُ عَنْ الْحُقُوقِ فَيَتَضَارَبُونَ فِي الرَّقَبَةِ، وَالْوَاجِبُ بِجِنَايَةِ الْحُرِّ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْعَاقِلَةِ، وَالذِّمَّةُ لَا تَتَضَايَقُ عَنْ الْحُقُوقِ، فَإِنْ وَقَعَ فِيهَا وَاحِدٌ فَمَاتَ فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى وَلِيِّ جِنَايَتِهِ ثُمَّ وَقَعَ آخَرُ يُشَارِكُ الْأَوَّلَ فِي الرَّقَبَةِ الْمَدْفُوعَةِ. وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فَكُلَّمَا يَحْدُثُ مِنْ جِنَايَةٍ بَعْدَ الدَّفْعِ فَإِنَّهُمْ يُشَارِكُونَ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ الْأَوَّلَ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَضْرِبُ بِقَدْرِ جِنَايَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ إلَى الْأَوَّلِ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَخَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ ثُمَّ الْجِنَايَةُ فِي حَقِّ الثَّانِي وَالثَّالِثِ حَصَلَتْ بِسَبَبِ الْحَفْرِ أَيْضًا، وَالْحُكْمُ فِيهَا وُجُوبُ الدَّفْعِ، فَكَانَ الدَّفْعُ إلَى الْأَوَّلِ دَفْعًا إلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ كَأَنَّهُ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَوْ حَفَرَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ الْحَفْرِ قَبْلَ الْوُقُوعِ ثُمَّ لَحِقَتْ الْجِنَايَاتُ، فَذَلِكَ عَلَى الْمَوْلَى فِي قِيمَتِهِ يَوْمَ عَتَقَ يَشْتَرِكُ فِيهَا أَصْحَابُ الْجِنَايَاتِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْعِتْقِ وَبَعْدَهُ يَضْرِبُ فِي ذَلِكَ كُلَّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْقِنِّ، وَإِنْ كَثُرَتْ - فَالْوَاجِبُ فِيهَا الدَّفْعُ وَالْوَلِيُّ بِالْإِعْتَاقِ فَوَّتَ الدَّفْعَ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ فَوَاتَ الدَّفْعِ حَصَلَ بِالْإِعْتَاقِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْإِعْتَاقِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ التَّدْبِيرِ بَلْ يَوْمَ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ كَانَ فَوَاتُ الدَّفْعِ بِالتَّدْبِيرِ، لَكِنَّ التَّدْبِيرَ إنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الْجِنَايَةُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ حِينَئِذٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ الْحَافِرُ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ قَلَّتْ الْجِنَايَةُ أَوْ كَثُرَتْ وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْجِنَايَةِ، وَهُوَ يَوْمُ الْحَفْرِ وَلَا تُعْتَبَرُ زِيَادَةُ الْقِيمَةِ وَنُقْصَانُهَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ جَانِيًا بِسَبَبِ الْحَفْرِ عِنْدَ الْوُقُوعِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْجِنَايَةِ كَمَا إذَا جَنَى بِيَدِهِ، وَإِنْ كَانَ مُكَاتَبًا فَجِنَايَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى مَوْلَاهُ، كَمَا إذَا جَنَى بِيَدِهِ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْحَفْرِ؛ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ، فَجَاءَ إنْسَانٌ، وَدَفَعَ إنْسَانًا، وَأَلْقَاهُ فِيهَا - فَالضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ لَا عَلَى الْحَافِرِ؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ قَاتِلٌ مُبَاشَرَةً وَلَوْ وَضَعَ رَجُلٌ حَجَرًا فِي قَعْرِ الْبِئْرِ فَسَقَطَ إنْسَانٌ فِيهَا لَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ مَعَ الْوَاضِعِ هَهُنَا كَالدَّافِعِ مَعَ الْحَافِرِ، وَلَوْ جَاءَ رَجُلٌ فَحَفَرَ مِنْ أَسْفَلِهَا ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَالضَّمَان عَلَى الْأَوَّلِ كَذَا ذَكَر الْكَرْخِيُّ وَذَكَر مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَضْمَنَ الْأَوَّلُ ثُمَّ قَالَ: وَبِهِ نَأْخُذُ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِحْسَانَ، وَذَكَر الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الِاسْتِحْسَانِ: الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْجِنَايَةِ، وَهِيَ الْحَفْرُ فَيَشْتَرِكَانِ فِي الضَّمَانِ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ: أَنَّ سَبَبَ الْوُقُوعِ حَصَلَ مِنْ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْحَفْرُ بِإِزَالَةِ الْمَسْكَةِ، وَالْحَفْرُ مِنْ الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ نَصْبِ السِّكِّينِ أَوْ وَضْعِ الْحَجَرِ فِي قَعْرِ الْبِئْرِ، فَكَانَ الْأَوَّلُ كَالدَّافِعِ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَلَوْ حَفَرَ رَجُلٌ بِئْرًا فَجَاءَ إنْسَانٌ وَوَسَّعَ رَأْسَهَا فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ - فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ هَكَذَا أَطْلَقَ فِي الْكِتَابِ، وَلَمْ يُفَصَّلْ، وَقِيلَ: جَوَابُ الْكِتَابِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا وَسَّعَ قَلِيلًا بِحَيْثُ يَقَعُ رَجُلٌ فِي حَفْرِهِمَا (فَأَمَّا) إذَا وَسَّعَ كَثِيرًا بِحَيْثُ يَقَعُ قَدَمُهُ فِي حَفْرِ الثَّانِي فَالضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي لَا عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ التَّوَسُّعَ إذَا كَانَ قَلِيلًا بِحَيْثُ يَقَعُ قَدَمُهُ فِي حَفْرِهِمَا كَانَ الْوُقُوعُ بِسَبَبٍ

وُجِدَ مِنْهُمَا، وَهُوَ حَفْرُهُمَا فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا وَإِذَا كَانَ كَثِيرًا كَانَ الْوُقُوعُ بِسَبَبٍ وُجِدَ مِنْ الثَّانِي فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا ثُمَّ كَبَسَهَا فَجَاءَ رَجُلٌ، وَأَخْرَجَ مَا كُبِسَ، فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ - فَالْكَبْسُ لَا يَخْلُو: إمَّا إنْ كَانَ بِالتُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ (وَأَمَّا) إنْ كَانَ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، فَإِنْ كَانَ بِالْأَوَّلِ فَالضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ بِالثَّانِي فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْكَبْسَ بِالتُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ يُعَدُّ طَمًّا لِلْبِئْرِ، وَإِلْحَاقًا لَهُ بِالْعَدَمِ، فَكَانَ إخْرَاجُ ذَلِكَ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ إخْرَاجِ بِئْرٍ أُخْرَى (فَأَمَّا) الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَنَحْوِهِمَا - فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ طَمًّا بَلْ يُعَدُّ شَغْلًا لَهَا. أَلَا يَرَى أَنَّهُ بَقِيَ أَثَرُ الْحَفْرِ بَعْدَ الْكَبْسِ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَلَا يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ الْكَبْسِ بِالتُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ، وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا وَسَدَّ الْحَافِرَ رَأْسَهَا ثُمَّ جَاءَ إنْسَانٌ فَنَقَضَهُ، فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ - فَالضَّمَان عَلَى الْحَافِرِ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْحَفْرِ لَمْ يَنْعَدِمْ بِالسَّدِّ، لَكِنَّ السَّدَّ صَارَ مَانِعًا مِنْ الْوُقُوعِ، وَالْفَاتِحُ بِالْفَتْحِ أَزَالَ الْمَانِعَ، وَزَوَالُ الْمَانِعِ شَرْطٌ لِلْوُقُوعِ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ لَا إلَى الشَّرْطِ، وَلَوْ وَضَعَ رَجُلٌ حَجَرًا فِي الطَّرِيقِ فَتَعَثَّرَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَوَقَعَ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا آخَرُ - فَالضَّمَانُ عَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِسَبَبِ التَّعَثُّرِ، وَالتَّعَثُّرُ بِسَبَبِ وَضْعِ الْحَجَرِ، وَالْوَضْعُ تَعَدٍّ مِنْهُ فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَى وَضْعِ الْحَجَرِ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى وَاضِعِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَضَعْهُ أَحَدٌ، وَلَكِنَّهُ حِمْلُ السَّيْلِ - فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُضَافَ إلَى الْحَجَرِ لِعَدَمِ التَّعَدِّيَ مِنْهُ، فَيُضَافُ إلَى الْحَافِرِ؛ لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا فِي الْحَفْرِ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الْحَافِرُ وَوَرَثَةُ الْمَيِّتِ فَقَالَ الْحَافِرُ: هُوَ أَلْقَى نَفْسَهُ فِيهَا مُتَعَمِّدًا. وَقَالَ الْوَرَثَةُ: بَلْ وَقَعَ فِيهَا - فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَافِرِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يُلْقِي نَفْسَهُ فِي الْبِئْرِ عَمْدًا، وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ الْآخَرِ: أَنَّ حَاصِلَ الِاخْتِلَافِ يَرْجِعُ إلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ، فَالْوَرَثَةُ يَدَّعُونَ عَلَى الْحَافِرِ الضَّمَانَ، وَهُوَ يُنْكِرُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ الظَّاهِرِ مُعَارَضٌ بِظَاهِرٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَارَّ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَمْشِي فِيهِ يَرَى الْبِئْرَ فَتَعَارَضَ الظَّاهِرَانِ فَبَقِيَ الضَّمَانُ عَلَى أَصْلِ الْعَدَمِ. وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَوَقَعَ رَجُلٌ فِيهَا فَتَعَلَّقَ بِآخَرَ، وَتَعَلَّقَ الثَّانِي بِثَالِثٍ، فَوَقَعُوا، فَمَاتُوا - فَهَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: (أَمَّا) إنْ عَلِمَ حَالَ مَوْتِهِمْ بِأَنْ خَرَجُوا أَحْيَاءً فَأَخْبَرُوا عَنْ حَالِهِمْ. (وَإِمَّا) إنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَإِنْ عَلِمَ ذَلِكَ (فَأَمَّا) مَوْتُ الْأَوَّلِ فَلَا يَخْلُو مِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ (إمَّا) إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ خَاصَّةً. (وَإِمَّا) إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّانِي عَلَيْهِ خَاصَّةً. (وَإِمَّا) إنْ عَلِمَ إنْ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ خَاصَّةً. (وَإِمَّا) إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَيْهِ. (وَإِمَّا) إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّانِي عَلَيْهِ. (وَإِمَّا) إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ خَاصَّةً - فَالضَّمَان عَلَى الْحَافِرِ؛ لِأَنَّ الْحَافِرَ هُوَ الْقَاتِلُ تَسْبِيبًا، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّانِي عَلَيْهِ خَاصَّةً فَدَمُهُ هَدَرٌ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ حَيْثُ جَرَّهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَجِنَايَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ هَدَرٌ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ خَاصَّةً - فَالضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الَّذِي جَرَّ الثَّالِثَ عَلَى الْأَوَّلِ حَتَّى أَوْقَعَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَيْهِ فَنِصْفُهُ هَدَرٌ، وَنِصْفُهُ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ جَرَّهُ الثَّانِيَ عَلَى نَفْسِهِ هَدَرٌ؛ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى نَفْسِهِ وَجَرُّ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَيْهِ مُعْتَبَرُ فَهُدِرَ النِّصْفُ وَبَقِيَ النِّصْفُ. وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعُ الثَّانِيَ عَلَيْهِ فَالنِّصْفُ عَلَى الْحَافِرِ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ مِنْهُ بِالْحَفْرِ وَالنِّصْفُ هَدَرٌ لِجَرِّهِ الثَّانِيَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ فَالنِّصْفُ عَلَى الْحَافِرِ، وَالنِّصْفُ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَرَّ الثَّالِثَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَيْهِ فَالثُّلُثُ هَدَرٌ، وَالثُّلُثُ عَلَى الْحَافِرِ، وَالثُّلُثُ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِثَلَاثِ جِنَايَاتٍ: أَحَدُهُمَا هَدَرٌ، وَهِيَ جَرُّهُ الثَّانِيَ عَلَى نَفْسِهِ فَبَقِيَتْ جِنَايَةُ الْحَافِرِ، وَجِنَايَةُ الثَّانِي بِجَرَّةِ الثَّالِثَ عَلَى الْأَوَّلِ فَتُعْتَبَرُ. (وَأَمَّا) مَوْتُ الثَّانِي فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: (إمَّا) إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ خَاصَّةً، وَإِمَّا إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَإِمَّا إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ، وَوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِسُقُوطِهِ فِي الْبِئْرِ خَاصَّةً - فَدِيَتُهُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ عَلَى الْحَافِرِ شَيْءٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي جَرَّهُ إلَى الْبِئْرِ، فَكَانَ كَالدَّافِعِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ خَاصَّةً فَدَمُهُ هَدَرٌ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِ

نَفْسِهِ حَيْثُ جَرَّ الثَّالِثَ عَلَى نَفْسِهِ فَهُدِرَ دَمُهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِسُقُوطِهِ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ فَالنِّصْفُ هَدَرٌ، وَالنِّصْفُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِعْلُ نَفْسِهِ، وَهُوَ جَرُّهُ الثَّالِثَ عَلَى نَفْسِهِ وَجِنَايَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ هَدَرٌ، وَالثَّانِي فِعْلُ غَيْرِهِ، وَهُوَ جَرُّ الْأَوَّلِ وَإِيقَاعُهُ فِي الْبِئْرِ. وَأَمَّا مَوْتُ الثَّالِثِ فَلَهُ وَجْهٌ وَاحِدٌ لَا غَيْرُ، وَهُوَ سُقُوطُهُ فِي الْبِئْرِ، وَدِيَتُهُ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَرَّهُ إلَى الْبِئْرِ وَأَوْقَعَهُ فِيهِ هَذَا كُلُّهُ إذَا عُلِمَ حَالُ وُقُوعِهِمْ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يُعْلَمْ - فَلَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ وُجِدَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِمَّا إنْ وُجِدُوا مُتَفَرِّقِينَ، فَإِنْ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ فَدِيَةُ الْأَوَّلِ عَلَى الْحَافِرِ، وَدِيَةُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَدِيَةُ الثَّالِثِ عَلَى الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ - فَالْقِيَاسُ هَكَذَا أَيْضًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ دِيَةُ الْأَوَّلِ عَلَى الْحَافِرِ، وَدِيَةُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَدِيَةُ الثَّالِثِ عَلَى الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: دِيَةُ الْأَوَّلِ أَثْلَاثٌ: ثُلُثٌ عَلَى الْحَافِرِ، وَثُلُثٌ عَلَى الثَّانِي، وَثُلُثٌ هَدَرٌ، وَدِيَةُ الثَّانِي نِصْفَانِ: نِصْفٌ هَدَرٌ وَنِصْفٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَدِيَةُ الثَّالِثِ كُلُّهَا عَلَى الثَّانِي، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّهُ قَوْلُ مَنْ وَجَّهَ الْقِيَاسَ أَنَّهُ وُجِدَ لِمَوْتِ كُلِّ وَاحِدٍ سَبَبٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ الْحَفْرُ لِلْأَوَّلِ، وَالْجَرُّ مِنْ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي، وَالْجَرُّ مِنْ الثَّانِي لِلثَّالِثِ، وَإِضَافَةُ الْأَحْكَامِ إلَى الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا صَالِحٌ لِلْمَوْتِ: وُقُوعُهُ فِي الْبِئْرِ، وَوُقُوعُ الثَّانِي، وَوُقُوعُ الثَّالِثِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ وُقُوعَ الثَّانِي عَلَيْهِ حَصَلَ بِجَرِّهِ إيَّاهُ عَلَى نَفْسِهِ فَهَدَرَ الثُّلُثُ وَبَقِيَ الثُّلُثَانِ: ثُلُثٌ عَلَى الْحَافِرِ بِحَفْرِهِ: وَثُلُثٌ عَلَى الثَّانِي بِجَرِّهِ الثَّالِثَ عَلَى نَفْسِهِ، وَوُجِدَ فِي الثَّانِي شَيْئَانِ: الْحَفْرُ، وَوُقُوعُ الثَّالِثِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ وُقُوعَهُ عَلَيْهِ حَصَلَ بِجَرِّهِ فَهَدَرَ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَبَقِيَ النِّصْفُ عَلَى الْحَافِرِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الثَّالِثِ إلَّا سَبَبٌ وَاحِدً، وَهُوَ جَرُّ الثَّانِي إيَّاهُ إلَى الْبِئْرِ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَسْبَابِ اعْتِبَارُهَا مَا أَمْكَنَ، وَاعْتِبَارُهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَحَفَرَ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ، فَإِنْ كَانَتْ الْبِئْرُ فِي فِنَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةُ الِانْتِفَاعِ بِفِنَائِهِ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ الضَّرَرَ بِالْمَارَّةِ عَلَى أَصْلِهِمَا مُطْلَقًا، وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ فَانْصَرَفَ مُطْلَقُ الْأَمْرِ بِالْحَفْرِ إلَيْهِ، فَإِذَا حَفَرَ فِي فِنَائِهِ انْتَقَلَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ إلَيْهِ كَأَنَّهُ حَفَرَ بِنَفْسِهِ، فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ - وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي فِنَائِهِ، فَإِنْ أَعْلَمَ الْمُسْتَأْجِرُ الْأَجِيرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ فِنَائِهِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ لَا عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَمْ يَحْفِرْ بِأَمْرِهِ فَبَقِيَ فِعْلَهُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ كَأَنَّهُ ابْتَدَأَ الْحَفْرُ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ فَالضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ بِالْأَمْرِ بِحَفْرِ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ مُطْلَقًا إنَّمَا يَأْمُرُ بِمَا يَمْلِكَهُ مُطْلَقًا عَادَةً، فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْغُرُورِ، وَهُوَ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ فِي الْحَقِيقَةِ كَأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْحَفْرِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الدَّرَكِ. وَلَوْ أَمَرَ عَبْدَهُ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَحَفَرَ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَإِنْ كَانَ الْحَفْرُ فِي فِنَائِهِ فَالضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْأَمْرَ بِالْحَفْرِ فِي هَذَا الْمَكَانِ فَيَنْتَقِلُ فِعْلُهُ إلَى الْمَوْلَى كَأَنَّهُ حَفَرَ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ فِنَائِهِ فَالضَّمَانُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَفْرِ لَا يَنْصَرِفُ إلَى غَيْرِ فِنَائِهِ فَصَارَ مُبْتَدِئًا فِي الْحَفْرِ بِنَفْسِهِ سَوَاءٌ أَعْلَمَ الْعَبْدَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِنَائِهِ أَوْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِخِلَافِ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى الْآمِرِ هُنَاكَ بِمَعْنَى الْغُرُورِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْغُرُورُ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ مَوْلَاهُ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ، وَإِنْ كَانَ الْحَفْرُ فِي الْمِلْكِ فَإِنْ كَانَ الْحَفْرُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِأَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي دَارِ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ يَضْمَنُ الْحَافِرُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي التَّسْبِيبِ، وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الدَّارِ: أَنَا أَمَرْتُهُ بِالْحَفْرِ وَأَنْكَرَ أَوْلِيَاءُ الْمَيِّتِ - فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُصَدَّقَ صَاحِبُ الدَّارِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يُصَدَّقُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَافِرِ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْحَفْرَ وَقَعَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ صَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ، وَأَنَّهُ مَحْظُورٌ، فَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْحَفْرِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، فَصَاحِبُ الدَّارِ بِالتَّصْدِيقِ يُرِيدُ إبْرَاءَ الْجَانِي عَنْ الضَّمَانِ فَلَا يُصَدَّقُ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الدَّارِ: أَمَرْتُهُ بِذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهُ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ لِلْحَالِ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْحَفْرِ فَيُصَدَّقُ، وَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَفْرَ مُبَاحٌ مُطْلَقٌ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسْبِيبِ، وَإِنْ كَانَ فِي فِنَائِهِ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ مُبَاحٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالسَّيْرِ فِي الطَّرِيقِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْبَعَةً يَحْفِرُونَ لَهُ بِئْرًا، فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ حَفْرِهِمْ، فَمَاتَ أَحَدُهُمْ - فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ رُبْعُ الدِّيَةِ، وَهَدَرَ

الرُّبْعُ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ أَرْبَعِ جِنَايَاتٍ إلَّا أَنَّ جِنَايَةَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ هَدَرٌ، فَبَطَلَ الرُّبْعُ، وَبَقِيَ جِنَايَاتُ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ، فَتُعْتَبَرُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ ثَلَاثُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الرُّبْعُ. وَقَدْ رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى عَلَى الْقَارِصَةِ وَالْقَامِصَةِ وَالْوَاقِصَةِ بِالدِّيَةِ أَثْلَاثًا وَهُنَّ ثَلَاثُ جَوَارٍ رَكِبَتْ إحْدَاهُنَّ الْأُخْرَى فَقَرَصَتْ الثَّالِثَةُ الْمَرْكُوبَةَ فَقَمَصَتْ فَسَقَطَتْ الرَّاكِبَةُ فَقَضَى لِلَّتِي وَقَصَتْ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ عَلَى صَاحِبَتِهَا، وَأَسْقَطَ الثُّلُثَ؛ لِأَنَّ الْوَاقِصَةَ أَعَانَتْ عَلَى نَفْسِهَا وَرُوِيَ أَنَّ عَشَرَةً مَدُّوا نَخْلَةً فَسَقَطَتْ عَلَى أَحَدِهِمْ، فَمَاتَ فَقَضَى سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعُشْرِ الدِّيَةِ، وَأَسْقَطَ الْعُشْرَ؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ أَعَانَ عَلَى نَفْسِهِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ حُرًّا وَعَبْدًا مَحْجُورًا وَمُكَاتَبًا يَحْفِرُونَ لَهُ بِئْرًا، فَوَقَعَتْ الْبِئْرُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَفْرِهِمْ، فَمَاتُوا - فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْحُرِّ وَلَا فِي الْمُكَاتَبِ، وَيَضْمَنُ قِيمَةَ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ لِمَوْلَاهُ أَمَّا الْحُرُّ وَالْمُكَاتَبُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِمَا مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَهُمَا وَقَعَ صَحِيحًا، فَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ إيَّاهُمَا فِي الْحَفْرِ بِنَاءً عَلَى عَقْدٍ صَحِيحٍ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَوُقُوعُ الْبِئْرِ عَلَيْهِمَا حَصَلَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّ اسْتِئْجَارَهُ لَمْ يَصِحَّ، فَصَارَ الْمُسْتَأْجِرُ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْحَفْرِ غَاصِبًا إيَّاهُ فَدَخَلَ فِي ضَمَانِهِ، فَإِذَا هَلَكَ فَقَدْ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَوْلَاهُ ثُمَّ إذَا دَفَعَ قِيمَتَهُ إلَى الْمَوْلَى - فَالْمَوْلَى يَدْفَعُ الْقِيمَةَ إلَى وَرَثَةِ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ فَيَتَضَارَبُونَ فِيهَا فَيَضْرِبُ وَرَثَةُ الْحُرِّ بِثُلُثِ دِيَةِ الْحُرِّ وَوَرَثَةُ الْمُكَاتَبِ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَوْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَصَلَ بِثَلَاثِ جِنَايَاتٍ: بِجِنَايَةِ نَفْسِهِ، وَجِنَايَةِ صَاحِبَيْهِ، فَصَارَ قَدْرُ الثُّلُثِ مِنْ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ تَالِفًا بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ، وَجِنَايَةُ الْقِنِّ تُوجِبُ الدَّفْعَ، وَلَوْ كَانَ قِنًّا لَوَجَبَ دَفْعُهُ إلَى وَرَثَةِ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ يَتَضَارَبُونَ فِي رَقَبَتِهِ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ، فَإِذَا هَلَكَ وَجَبَ دَفْعُ الْقِيمَةِ إلَيْهِمْ يَتَضَارَبُونَ فِيهَا أَيْضًا فَيَضْرِبُ وَرَثَةُ الْحُرِّ فِيهَا بِثُلُثِ دِيَةِ الْحُرِّ، وَوَرَثَةُ الْمُكَاتَبِ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ، وَالْمُكَاتَبَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ مَرَّةً أُخْرَى، وَيُسَلِّمُ لَهُ تِلْكَ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ رَدَّ الْمَغْصُوبَ إلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِرَدِّ قِيمَتِهِ إلَيْهِ، لَكِنَّهُ رَدَّهُ مَشْغُولًا، وَقَدْ كَانَ غَصْبُهُ فَارِغًا، فَلَمْ يَصِحَّ رَدُّهُ فِي حَقِّ الشُّغْلِ، فَيَضْمَنُ الْقِيمَةَ مَرَّةً أُخْرَى، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْعَبْدِ بِالضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ مِنْ الْحُرِّ عَلَى ثُلُثِ عَبْدِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَيَضْمَنُ ثُلُثَ قِيمَتِهِ فَتُؤْخَذُ مِنْ عَاقِلَتِهِ، وَيَأْخُذُ وَرَثَةُ الْمُكَاتَبِ أَيْضًا مِنْ عَاقِلَةِ الْحُرِّ ثُلُثَ قِيمَةَ الْمُكَاتَبِ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ مِنْ الْحُرِّ عَلَى ثُلُثِ قِيمَتِهِ فَيَضْمَنُ ثُلُثَ قِيمَتِهِ، فَتُؤْخَذُ مِنْ عَاقِلَتِهِ ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَةِ الْمُكَاتَبِ مِقْدَارُ قِيمَتِهِ فَتَكُونُ بَيْنَ وَرَثَةِ الْحُرِّ وَبَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ مِنْهُ عَلَى الْحُرِّ وَعَلَى الْعَبْدِ يَضْرِبُ وَرَثَةُ الْحُرِّ بِثُلُثِ دِيَةِ الْحُرِّ، وَيَضْرِبُ الْمُسْتَأْجِرُ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى ثُلُثِ الْحُرِّ وَعَلَى ثُلُثِ الْعَبْدِ فَأَتْلَفَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَهُ، وَالْحُرُّ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ، وَالْعَبْدُ بِالْقِيمَةِ، وَقَدْ مَلَكَ الْمُسْتَأْجِرُ الْعَبْدَ بِالضَّمَانِ، فَكَانَ ضَمَانُ الْوَارِدَةِ عَلَى مِلْكِهِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَقَالُوا فِيمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي سُوقِ الْعَامَّةِ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ وَمَاتَ: أَنَّهُ إنْ كَانَ الْحَفْرُ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ لَا يَضْمَنُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ يَضْمَنُ، وَكَذَلِكَ اتَّخَذَ قَنْطَرَةً لِلْعَامَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ (وَوَجْهُهُ) أَنَّ مَا كَانَ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ الْإِذْنُ بِهِ ثَابِتًا دَلَالَةً، وَالثَّابِتُ دَلَالَةً، كَالثَّابِتِ نَصًّا. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَا يَرْجِعُ إلَى مَصَالِحِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ حَقًّا لَهُمْ، وَالتَّدْبِيرُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ إلَى الْإِمَامِ، فَكَانَ الْحَفْرُ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَالْحَفْرِ فِي دَارِ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِ الدَّارِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الْحَافِرِ فِي الطَّرِيقِ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ فِي مَعْنَى الْحَافِرِ مِمَّنْ يُحْدِثُ شَيْئًا فِي الطَّرِيقِ، كَمَنْ أَخْرَجَ جَنَاحًا إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ نَصَبَ فِيهِ مِيزَابًا، فَصَدَمَ إنْسَانًا، فَمَاتَ، أَوْ بَنَى دُكَّانًا، أَوْ وَضَعَ حَجَرًا أَوْ خَشَبَةً أَوْ مَتَاعًا، أَوْ قَعَدَ فِي الطَّرِيقِ لِيَسْتَرِيحَ، فَعَثَرَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَاثِرٌ، فَوَقَعَ، فَمَاتَ أَوْ وَقَعَ عَلَى غَيْرِهِ، فَقَتَلَهُ أَوْ حَدَثَ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ الْعَثْرَةِ وَالسُّقُوطِ جِنَايَةٌ مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ صَبَّ مَاءً فِي الطَّرِيقِ فَزُلِقَ بِهِ إنْسَانٌ، فَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ضَامِنٌ. وَكَذَلِكَ مَا عَطِبَ بِذَلِكَ مِنْ الدَّوَابِّ؛ لِأَنَّهُ سَبَّبَ التَّلَفَ بِإِحْدَاثِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي التَّسْبِيبِ، فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ، يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، كَالْمُتَوَلِّدِ مِنْ الرَّمْيِ ثُمَّ مَا كَانَ مِنْ الْجِنَايَةِ فِي بَنِي آدَمَ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةَ إذَا بَلَغَتْ

الْقَدْرَ الَّذِي تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةَ، وَهُوَ نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ الرَّجُلِ. وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ الْقَدْرَ، أَوْ كَانَ مِنْهَا فِي غَيْرِ بَنِي آدَمَ يَكُونُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ تَحْمِيلَ الْعَاقِلَةِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ مِنْهُمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] عَرَفْنَاهُ بِنَصٍّ خَاصٍّ فِي بَنِي آدَمَ بِهَذَا الْقَدْرِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيمَا دُونَهُ، وَفِي غَيْرِ بَنِي آدَمَ عَلَى الْأَصْلِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لَوْ كَانَ وَارِثًا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَلَا الْوَصِيَّةَ لَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ الْقَتْلَ، وَقَدْ قَالُوا فِيمَنْ وَضَعَ كُنَاسَةً فِي الطَّرِيقِ فَعَطِبَ بِهَا إنْسَانٌ: إنَّهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِوَضْعِهِ، وَهُوَ فِي الْوَضْعِ مُعْتَدٍ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ وَضَعَ ذَلِكَ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ - لَمْ يَضْمَنْ لِعَدَمِ التَّعَدِّي مِنْهُ؛ إذْ الطَّرِيقُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَهْلِ السِّكَّةِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَلَوْ سَقَطَ الْمِيزَابُ الَّذِي نَصَبَهُ صَاحِبُ الدَّارِ إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ إنْ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الدَّاخِلُ فِي الْحَائِطِ - لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِيهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الْخَارِجُ إلَى الطَّرِيقِ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي إخْرَاجِهِ إلَى الطَّرِيقِ، وَإِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفَانِ جَمِيعًا يَضْمَنُ النِّصْفَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي النِّصْفِ لَا غَيْرُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَدْرِيَ - فَالْقِيَاسُ: أَنْ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الدَّاخِلُ لَا: يَضْمَنُ. وَإِنْ كَانَ أَصَابَهُ الطَّرَف الْخَارِج: يَضْمَنُ: وَالضَّمَانُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي وُجُوبِهِ فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَضْمَنُ النِّصْفَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْرِفْ الطَّرَفَ الَّذِي أَصَابَهُ إنَّهُ الدَّاخِلُ أَوْ الْخَارِجُ - يُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَصَابَهُ الطَّرَفَانِ جَمِيعًا كَمَا فِي الْغَرْقَى وَالْحَرْقَى إنَّهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ فِي مَوْتِهِمْ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمْ مَاتُوا جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي أَوَانٍ وَاحِدٍ حَتَّى لَا يَرِثَ الْبَعْضُ مِنْ الْبَعْضِ كَذَا هَذَا. وَلَوْ أَحْدَثَ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْجِدِ بِأَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ الْمَاءَ أَوْ بَنَى فِيهِ بِنَاءً: دُكَّانًا أَوْ غَيْرَهُ، فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ، فَإِنْ كَانَ الْحَافِرُ وَالْبَانِي مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ - فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ فَإِنْ فَعَلَ بِإِذْنِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَ مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ إلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ، فَمَا فَعَلُوهُ - لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِمْ، كَالْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ إذَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي دَارِ الْيَتِيمِ، وَمُتَوَلِّي الْوَقْفِ إذَا فَعَلَ فِي الْوَقْفِ. وَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي فِعْلِهِ، فَكَانَ مَضْمُونًا، وَلَوْ عَلَّقَ قِنْدِيلًا أَوْ بَسَطَ حَصِيرًا أَوْ أَلْقَى فِيهِ الْحَصَى، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، فَإِنْ فَعَلَهُ بِإِذْنِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ يَضْمَنُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا لَا يَضْمَنُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَسْجِدَ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدِ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ بِسَبِيلٍ مِنْ إقَامَةِ مَصَالِحِهِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَصَالِحَ مِنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة: 18] مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ إلَّا أَنَّ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ ضَرْبَ اخْتِصَاصٍ بِهِ فَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ بِالْحَفْرِ وَالْبِنَاءِ لَا فِي الْقِنْدِيلِ وَالْحَصِيرِ، كَالْمَالِكِ مَعَ الْمُسْتَعِيرِ أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ وِلَايَةَ بَسْطِ الْحَصِيرِ، وَتَعْلِيقِ الْقِنْدِيلِ فِي دَارِ الْإِعَارَةِ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْحَفْرِ وَالْبِنَاءِ كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ إلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ لَا إلَى غَيْرِهِمْ بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُمْ وِلَايَةَ مَنْعِ غَيْرِهِمْ عَنْ التَّعْلِيقِ وَالْبَسْطِ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ الْغَيْرُ مُتَعَدِّيًا فِي فِعْلِهِ فَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ وَضَعَ شَيْئًا فِي دَارِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ. وَلِهَذَا ضَمِنَ بِالْحَفْرِ وَالْبِنَاءِ كَذَا هَذَا. وَكَوْنُ الْمَسْجِدَ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَمْنَعُ اخْتِصَاصَ أَهْلِهِ بِالتَّدْبِيرِ وَالنَّظَرِ فِي مَصَالِحِهِ كَالْكَعْبَةِ، فَإِنَّهَا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ اُخْتُصَّ بَنُو شَيْبَةَ بِمَفَاتِحِهَا حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَخَذَ مَفَاتِحَ الْكَعْبَةِ مِنْهُمْ، وَدَفَعَهُ إلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَ طَلَبِهِ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - بِرَدِّهِ إلَى بَنِي شَيْبَةَ بِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] . وَلَوْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ إنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَضْمَنُ الْجَالِسُ سَوَاءٌ كَانَ الْجَالِسُ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِلصَّلَاةِ، فَلَوْ أُخِذَ الْمُصَلِّي بِالضَّمَانِ لَصَارَ النَّاسُ مَمْنُوعِينَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِنْ جَلَسَ لِحَدِيثٍ أَوْ نَوْمٍ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ يَضْمَنُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَفِي قَوْلِهِمَا: لَا يَضْمَنُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْجُلُوسَ فِي الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ مِنْ الْحَدِيثِ وَالنَّوْمِ مُبَاحٌ فَلَمْ

يَكُنْ الْهَلَاكُ حَاصِلًا بِسَبَبٍ هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ - فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ جَلَسَ فِي دَارِهِ فَعَبَرَ عَلَيْهِ إنْسَانٌ فَعَطِبَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِلصَّلَاةِ لَا لِلْحَدِيثِ وَالنَّوْمِ، فَإِذَا شَغَلَهُ بِذَلِكَ صَارَ مُتَعَدِّيًا فَيَضْمَنُ، كَمَا لَوْ جَلَسَ فِي الطَّرِيقِ لِلِاسْتِرَاحَةِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ أَنَّهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ جُعِلَ لِلِاجْتِيَازِ لَا لِلْجُلُوسِ، وَإِذَا جَلَسَ فَقَدْ صَارَ مُتَعَدِّيًا - فَيَضْمَنُ كَذَا هَذَا، وَقَوْلُهُمَا الْحَدِيثُ وَالنَّوْمُ مُبَاحٌ فِي الْمَسْجِدِ مُسَلَّمٌ لَكِنْ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ وَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فَكَانَ تَعَدِّيًا، وَلَوْ جَلَسَ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ أَوْ لِقِرَاءَةِ قُرْآنٍ أَوْ لِعِبَادَةٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ غَيْرِ الصَّلَاةِ فَلَا شَكَّ أَنَّ عَلَى أَصْلِهِمَا لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَلَسَ لِغَيْرِ قُرْبَةٍ لَا يَضْمَنُ فَإِذَا جَلَسَ لِقُرْبَةٍ فَهُوَ أَوْلَى. وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَظِرَ لِلصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا أُلْحِقَ بِالْمُصَلِّي فِي حَقِّ الثَّوَابِ لَا غَيْرُ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ جِنَايَةُ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ بِأَنْ سَاقَ دَابَّةً فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ قَادَهَا فَوَطِئَتْ إنْسَانًا بِيَدَيْهَا أَوْ بِرِجْلِهَا أَوْ كَدَمَتْ أَوْ صَدَمَتْ أَوْ خَبَطَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلِ أَنَّ السَّوْقَ وَالْقَوْدَ فِي الطَّرِيقِ مُبَاحٌ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، فَإِذَا حَصَلَ التَّلَفُ بِسَبَبِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فَوَقَعَ تَعَدِّيًا فَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ فِيمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزَ عَنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا، وَهَذَا مِمَّا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِأَنْ يَذُودَ النَّاسَ عَنْ الطَّرِيقِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا. وَسَوَاءٌ كَانَ السَّائِقُ أَوْ الْقَائِدُ رَاجِلًا أَوْ رَاكِبًا إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ رَاكِبًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إذَا وَطِئَتْ دَابَّتُهُ إنْسَانًا بِيَدَيْهَا أَوْ بِرِجْلِهَا، وَيُحْرَمُ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ، وَإِنْ كَانَ رَاجِلًا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ يَتَعَلَّقُ ثُبُوتِهَا بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ لَا بِالتَّسْبِيبِ وَالْمُبَاشَرَةِ مِنْ الرَّاكِبِ لَا مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا سَائِقًا وَالْآخَرُ قَائِدًا - فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي التَّسْبِيبِ فَيَشْتَرِكَانِ فِي الضَّمَانِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا سَائِقًا وَالْآخَرُ رَاكِبًا، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَائِدًا وَالْآخَرُ رَاكِبًا، - فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عَلَى الرَّاكِبِ وَحْدَهُ فِيمَا وَطِئَتْ دَابَّتُهُ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ لِوُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُ وَحْدَهُ مُبَاشَرَةً. فَإِنْ قَادَ قِطَارًا فَمَا أَصَابَ الْأَوَّلُ أَوْ الْآخِرُ أَوْ الْأَوْسَطُ إنْسَانًا بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ أَوْ صَدَمَ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ - فَهُوَ ضَامِنٌ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا هُوَ سَبَبُ حُصُولِ التَّلَفِ فَيَضْمَنُ، وَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، كَمَا إذَا وَضَعَ حَجَرًا فِي الطَّرِيقِ أَوْ حَفَرَ فِيهِ بِئْرًا، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ سَائِقٌ فِي آخِرِ الْقِطَارِ - فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبُ التَّلَفِ، وَإِنْ كَانَ السَّائِقُ فِي وَسَطِ الْقِطَارِ فَمَا أَصَابَ مِمَّا خَلْفَ هَذَا السَّائِقِ وَمَا بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْئًا - فَهُوَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ هُوَ لَهُ سَائِقٌ، وَالْأَوَّلُ لَهُ قَائِدٌ، وَمَا خَلْفَهُ هُمَا لَهُ قَائِدَانِ (أَمَّا) قَائِدُ الْقِطَارِ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُ مَرْبُوطٌ بِبَعْضٍ. (وَأَمَّا) السَّائِقُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقِطَارِ فَلِأَنَّهُ بِسَوْقِهِ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ قَائِدٌ لِمَا خَلْفَهُ لِأَنَّ مَا خَلْفَهُ يَنْقَادُ بِسَوْقِهِ، فَكَانَ قَائِدًا لَهُ، وَالْقَوْدُ وَالسَّوْقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَ أَحْيَانًا فِي وَسَطِ الْقِطَارِ، وَأَحْيَانًا يَتَأَخَّرُ، وَأَحْيَانًا يَتَقَدَّمُ، وَهُوَ يَسُوقُهَا فِي ذَلِكَ - فَهُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ سَائِقٌ وَقَائِدٌ وَالسَّوْقُ وَالْقَوْدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً أَحَدُهُمْ فِي مُقَدَّمَةِ الْقِطَارِ، وَالْآخَرُ فِي مُؤَخَّرَةِ الْقِطَارِ، وَآخَرُ فِي وَسَطِهِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي الْوَسَطِ وَالْمُؤَخَّرِ لَا يَسُوقَانِ، وَلَكِنَّ الْمُقَدَّمَ يَقُودُ فَمَا أَصَابَ الَّذِي قُدَّامُ الْوَسَطِ شَيْئًا فَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْقَائِدِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِسَبَبِ الْقَوْدِ، وَمَا أَصَابَ الَّذِي خَلْفَهُ - فَذَلِكَ عَلَى الْقَائِدِ الْأَوَّلِ وَعَلَى الَّذِي فِي الْوَسَطِ؛ لِأَنَّهُمَا قَائِدَانِ لِمَا بَيَّنَّا وَعَلَى الْمُؤَخَّرِ أَيْضًا إنْ كَانَ يَسُوقُ هُوَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسُوقُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ، وَإِنْ كَانُوا جَمِيعًا يَسُوقُونَ فَمَا تَلِفَ بِذَلِكَ فَضَمَانُهُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا لِوُجُودِ التَّسْبِيبِ مِنْهُمْ جَمِيعًا، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكَيْسَانِيَّاتِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا يَقُودُ قِطَارًا، وَآخَرُ مِنْ خَلْفِ الْقِطَارِ يَسُوقُهُ يَزْجُرُ الْإِبِلَ فَيَنْزَجِرْنَ بِسَوْقِهِ، وَعَلَى الْإِبِلِ قَوْمٌ فِي الْمَحَامِلِ نِيَامٌ، فَوَطِئَ بَعِيرٌ مِنْهَا إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَائِدِ وَالسَّائِقِ وَالرَّاكِبِ عَلَى الْبَعِيرِ الَّذِي وَطِئَ، وَعَلَى الرَّاكِبِينَ عَلَى الَّذِينَ قُدَّامَ الْبَعِيرِ الَّذِي وَطِئَ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ جَمِيعًا عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ، وَالْكَفَّارَةُ عَلَى رَاكِبِ الْبَعِيرِ الَّذِي وَطِئَ خَاصَّةً، أَمَّا السَّائِقُ وَالْقَائِدُ فَلِأَنَّهُمَا مُقَرِّبَانِ الْقِطَارَ إلَى الْجِنَايَةِ، فَكَانَا مُسَبِّبَيْنِ لِلتَّلَفِ. (وَأَمَّا) الرَّاكِبُ لِلْبَعِيرِ الَّذِي وَطِئَ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ

وَأَمَّا) الرَّاكِبُونَ أَمَام الْبَعِيرِ الَّذِي وَطِئَ فَلِأَنَّهُمْ قَادَةٌ لِجَمِيعِ مَا خَلْفَهُمْ، فَكَانُوا قَائِدِينَ لِلْبَعِيرِ الْوَاطِئِ ضَرُورَةً، فَكَانُوا مُسَبِّبِينَ لِلتَّلَفِ أَيْضًا فَاشْتَرَكُوا فِي سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَانْقَسَمَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ. وَإِنَّمَا كَانَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى رَاكِبِ الْبَعِيرِ الَّذِي وَطِئَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ بِالْمُبَاشَرَةِ لِحُصُولِ التَّلَفِ بِثِقَلِهِ وَثِقَلِ الدَّابَّةِ إلَّا أَنَّ الدَّابَّةَ آلَةٌ لَهُ، فَكَانَ الْأَثَرُ الْحَاصِلُ بِفِعْلِهِ مُضَافًا إلَيْهِ، فَكَانَ قَاتِلًا بِالْمُبَاشَرَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ الرُّكْبَانِ خَلْفَ الْبَعِيرِ الَّذِي وَطِئَ لَا يَزْجُرُ الْإِبِلَ، وَلَا يَسُوقُهَا رَاكِبًا عَلَى بَعِيرٍ مِنْهَا أَوْ غَيْرِ رَاكِبٍ - فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ؛ إذْ لَمْ يَسْرِقُوا الْبَعِيرَ الَّذِي وَطِئَ، وَلَمْ يَقُودُوهُ فَصَارُوا كَالْمَتَاعِ عَلَى الْإِبِلِ، وَلَوْ قَادَ قِطَارًا، وَعَلَى بَعِيرٍ فِي وَسَطِ الْقِطَارِ رَاكِبٌ لَا يَسُوقُ مِنْهُ شَيْئًا - فَضَمَانُ مَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى الْقَائِدِ خَاصَّةً، وَضَمَانُ مَا خَلْفَهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ غَيْرُ سَائِقٍ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ رُكُوبَهُ لِهَذَا الْبَعِيرِ لَا يَكُونُ سَوْقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا أَنَّ مَشْيَهُ إلَى جَانِبِ الْبَعِيرِ لَا يَكُونُ سَوْقًا إيَّاهُ إذَا لَمْ يَسُقْهُ، وَلَكِنَّهُ سَائِقٌ لِمَا رَكِبَهُ؛ لِأَنَّ الْبَعِيرَ إنَّمَا يَسِيرُ بِرُكُوبِ الرَّاكِبِ وَحَثِّهِ، وَإِذَا كَانَ سَائِقًا لَهُ كَانَ قَائِدًا لِمَا خَلْفَهُ، فَكَانَ ضَمَانُهُ عَلَيْهِمَا. وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَقُودُ قِطَارًا، فَجَاءَ رَجُلٌ، وَرَبَطَ إلَيْهِ بَعِيرًا فَوَطِئَ الْبَعِيرُ إنْسَانًا - فَالْقَائِدُ لَا يَخْلُو: إمَّا إنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ بِرَبْطِهِ، وَإِمَّا إنْ عَلِمَ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَالدِّيَةُ عَلَى الْقَائِدِ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ عَاقِلَتُهُ ثُمَّ عَاقِلَتُهُ يَرْجِعُونَ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ (أَمَّا) وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى الْقَائِدِ فَلِأَنَّهُ قَاتِلٌ تَسْبِيبًا، وَضَمَانُ الْقَتْلِ ضَمَانُ إتْلَافٍ وَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ (وَأَمَّا) رُجُوعُ عَاقِلَةِ الْقَائِدِ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ فَلِأَنَّ الرَّابِطَ مُتَعَدٍّ فِي الرَّبْطِ، وَهُوَ السَّبَبُ فِي لُزُومِ الضَّمَانِ لِلْقَائِدِ، فَكَانَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْإِبِلُ وُقُوفًا لَا تُقَادُ، فَجَاءَ رَجُلٌ وَرَبَطَ إلَيْهَا بَعِيرًا، وَالْقَائِدُ لَا يَعْلَمُ فَقَادَ الْبَعِيرَ مَعَهَا فَوَطِئَ الْبَعِيرُ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَالدِّيَةُ عَلَى الْقَائِدِ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ عَاقِلَتُهُ إلَّا أَنَّ هَهُنَا لَا تَرْجِعُ عَاقِلَةُ الْقَائِدِ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ؛ لِأَنَّ الرَّابِطَ، وَإِنَّ تَعَدَّى فِي الرَّبْطِ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لَكِنَّ الْقَائِدَ لَمَّا قَادَ الْبَعِيرَ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَقَدْ أَزَالَ تَعَدِّيَهُ فَيَزُولُ الضَّمَانُ عَنْهُ، وَيَتَعَلَّقُ بِالْقَائِدِ كَمَنْ وَضَعَ حَجَرًا فِي الطَّرِيق، فَجَاءَ إنْسَانٌ فَدَحْرَجَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ ثُمَّ عَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ - فَالضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي لَا عَلَى الْأَوَّلِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ وُجِدَ الرَّبْطُ وَالْإِبِلُ سَائِرَةٌ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ مَكَانُ التَّعَدِّي؛ لِيَزُولَ بِالِانْتِقَالِ عَنْهُ فَبَقِيَ التَّعَدِّيَ بِبَقَاءِ الرَّبْطِ، وَإِنْ كَانَ الْقَائِدُ عَلِمَ بِالرَّبْطِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا فَقَادَهُ عَلَى ذَلِكَ فَوَطِئَ الْبَعِيرُ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَالدِّيَةُ عَلَى الْقَائِدِ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ عَاقِلَتُهُ وَلَا تَرْجِعُ عَاقِلَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَادَ مَعَ عِلْمِهِ بِالرَّبْطِ فَقَدْ رَضِيَ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي ذَلِكَ فَصَارَ عِلْمُهُ بِالرَّبْطِ بِمَنْزِلَةِ أَمْرِهِ بِالرَّبْطِ، وَلَوْ رَبَطَ بِأَمْرِهِ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا كَذَا هَذَا. وَلَوْ سَقَطَ سَرْجُ دَابَّةٍ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَالدِّيَةُ عَلَى السَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ؛ لِأَنَّ السُّقُوطَ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ فِي شَدِّ الْحِزَامِ، فَكَانَ مُسَبِّبًا لِلْقَتْلِ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسْبِيبِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ جِنَايَةُ النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّ الدَّابَّةَ الْمَنْخُوسَةَ أَوْ الْمَضْرُوبَةَ (إمَّا) أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا رَاكِبٌ (وَإِمَّا) إنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهَا رَاكِبٌ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا رَاكِبٌ فَالرَّاكِبُ لَا يَخْلُو: إمَّا إنْ كَانَ سَائِرًا، وَإِمَّا إنْ كَانَ وَاقِفًا، وَالسَّيْرُ وَالْوُقُوفُ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ أُذِنَ لَهُ بِذَلِكَ. (وَإِمَّا) أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بِهِ، وَالنَّاخِسُ أَوْ الضَّارِبُ لَا يَخْلُو: مِنْ أَنْ يَكُونَ نَخَسَ أَوْ ضَرَبَ بِغَيْرِ أَمْرِ الرَّاكِبِ، أَوْ بِأَمْرِهِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِ الرَّاكِبِ فَنَفَحَتْ الدَّابَّةُ بِرِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا أَوْ نَفَرَتْ فَصَدَمَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ، فَإِنْ فَعَلَتْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى فَوْرِ النَّخْسَةِ وَالضَّرْبَةِ - فَالضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ يَتَحَمَّلُ عَنْهُمَا عَاقِلَتُهُمَا لَا عَلَى الرَّاكِبِ، سَوَاءٌ كَانَ الرَّاكِبُ وَاقِفًا أَوْ سَائِرًا، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي سَيْرِهِ أَوْ وُقُوفِهِ فِيمَا أُذِنَ لَهُ بِالسَّيْرِ فِيهِ وَالْوُقُوفِ، أَوْ فِيمَا لَمْ يُؤْذَنْ بِأَنْ كَانَ يَسِيرُ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ كَانَ يَقِفُ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي سُوقِ الْخَيْلِ وَنَحْوِهِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِسَبَبِ النَّخْسِ أَوْ الضَّرْبِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي السَّبَبِ فَيَضْمَنُ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ كَمَا لَوْ دَفَعَ الدَّابَّةَ عَلَى غَيْره، وَالرَّاكِبُ الْوَاقِفُ عَلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا أَيْضًا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ فِي التَّعَدِّي، وَالنَّاخِسُ مُتَعَدٍّ فِي التَّعَدِّي. وَكَذَا الضَّارِبُ فَأَشْبَهَ الدَّافِعَ مَعَ الْحَافِرِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ ضَمَّنَ النَّاخِسَ دُونَ الرَّاكِبِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَعَلَ هَكَذَا وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يُعْرَفْ

الْإِنْكَارُ مِنْ أَحَدٍ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا شُرِطَ الْفَوْرُ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ عِنْدَ سُكُونِ الْفَوْرِ يَكُونُ مُضَافًا إلَى الدَّابَّةِ لَا إلَى النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ، وَلَوْ نَخَسَهَا أَوْ ضَرَبَهَا، وَهُوَ سَائِرٌ عَلَيْهَا فَوَطِئَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ لَمْ يُذْكَرْ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِثِقَلِ الرَّاكِبِ وَفِعْلِ النَّاخِسِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَقَدْ اشْتَرَكَا فِي سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ وَاقِفًا عَلَيْهَا لِمَا قُلْنَا، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الرَّاكِبِ لِوُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُ مُبَاشَرَةً كَمَا قُلْنَا فِي الرَّاكِبِ مَعَ السَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ، وَلَوْ نَخَسَهَا أَوْ ضَرَبَهَا فَوَثَبَتْ وَأَلْقَتْ الرَّاكِبَ فَالنَّاخِسُ أَوْ الضَّارِبُ ضَامِنٌ لِحُصُولِ التَّلَفِ بِسَبَبٍ هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ، وَهُوَ النَّخْسُ وَالضَّرْبُ، فَيَضْمَنُ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ تُلْقِهِ، وَلَكِنَّهَا جَمَحَتْ بِهِ فَمَا أَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا ذَلِكَ فَعَلَى النَّاخِسِ أَوْ الضَّارِبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَعَ سَبَبًا لِلْهَلَاكِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي التَّسْبِيبِ، فَإِنْ نَفَحَتْ الدَّابَّةُ النَّاخِسَ أَوْ الضَّارِبَ فَقَتَلَتْهُ فَدَمُهُ هَدَرٌ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ مِنْ جِنَايَةِ نَفْسِهِ، وَجِنَايَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ هَدَرٌ، هَذَا إذَا نَخَسَ أَوْ ضَرَبَ بِغَيْرِ أَمْرِ الرَّاكِبِ. فَأَمَّا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ الرَّاكِبِ فَإِنْ كَانَ الرَّاكِبُ سَائِرًا فِيمَا أُذِنَ لَهُ بِالسَّيْرِ فِيهِ بِأَنْ كَانَ يَسِيرُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ وَاقِفًا فِيمَا أُذِنَ لَهُ بِالْوُقُوفِ بِأَنْ وَقَفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، أَوْ فِي سُوقِ الْخَيْلِ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي أُذِنَ بِالْوُقُوفِ فِيهَا، فَنَفَحَتْ الدَّابَّةُ بِرِجْلِهَا إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى النَّاخِسِ، وَلَا عَلَى الضَّارِبِ، وَلَا عَلَى الرَّاكِبِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِمَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ فَصَحَّ أَمْرُهُ بِهِ؛ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَخَسَ أَوْ ضَرَبَ بِنَفْسِهِ، فَنَفَحَتْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النَّفْحَةَ فِي حَالِ السَّيْرِ، وَالْوُقُوفَ فِي مَوْضِعٍ أُذِنَ بِالسَّيْرِ أَوْ الْوُقُوفِ فِيهِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى أَحَدٍ لَا عَلَى الرَّاكِبِ، وَلَا عَلَى السَّائِقِ، وَلَا عَلَى الْقَائِدِ، وَإِنْ كَانَ الرَّاكِبُ سَائِرًا فِيمَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بِالسَّيْرِ بِأَنْ كَانَ يَسِيرُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، أَوْ كَانَ وَاقِفًا فِيمَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بِالْوُقُوفِ فِيهِ، كَمَا إذَا كَانَ وَاقِفًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، فَنَفَحَتْ - فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ: نِصْفٌ عَلَى النَّاخِسِ أَوْ الضَّارِبِ، وَنِصْفٌ عَلَى الرَّاكِبِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا كَذَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى ابْنَ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الرَّاكِبِ. وَوَجْهُهُ: أَنَّ النَّاخِسَ أَوْ الضَّارِبَ نَخَسَ أَوْ ضَرَبَ لَهَا بِإِذْنِ الرَّاكِبِ، وَهُوَ رَاكِبٌ، وَهُوَ يَمْلِكُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَانْتَقَلَ فِعْلُهُ إلَيْهِ، فَكَانَ فِعْلَهُ بِنَفْسِهِ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ النَّاخِسَ أَوْ الضَّارِبَ مَعَ الرَّاكِبِ اشْتَرَكَا فِي سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ أَمَّا النَّاخِسُ أَوْ الضَّارِبُ فَلَا يُشْكَلُ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ الْقَتْلِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّعَدِّي. (وَأَمَّا) الرَّاكِبُ فَلِأَنَّهُ صَارَ بِالْأَمْرِ بِالنَّخْسِ أَوْ الضَّرْبِ نَاخِسًا أَوْ ضَارِبًا، وَالنَّفْحَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنْ نَخْسِهِ وَضَرْبِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا لِحُصُولِ الْقَتْلِ بِالتَّسْبِيبِ لَا بِالْمُبَاشَرَةِ، هَذَا إذَا نَفَحَتْ، فَأَمَّا إذَا صَدَمَتْ، فَإِنْ كَانَ الرَّاكِبُ سَائِرًا أَوْ وَاقِفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ - فَلَا ضَمَانَ عَلَى النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ، وَلَا عَلَى الرَّاكِبِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ النَّخْسِ وَالضَّرْبِ مُضَافٌ إلَى الرَّاكِبِ لِحُصُولِهِ بِأَمْرِهِ، وَالصَّدْمَةُ فِي الْمِلْكِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى الرَّاكِبِ سَوَاءٌ كَانَ سَائِرًا أَوْ وَاقِفًا، وَإِنْ كَانَ سَيْرُهُ أَوْ وُقُوفُهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي النَّفْحَةِ إذَا كَانَ الرَّاكِبُ وَاقِفًا فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُؤْذَنْ بِالْوُقُوفِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الصَّدْمَةَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الرَّاكِبِ، إذَا كَانَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَاقِفًا كَانَ أَوْ سَائِرًا. وَكَذَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، فَيَأْتِي فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي النَّفْحَةِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ هَذَا إذَا نَفَحَتْ أَوْ صَدَمَتْ، فَأَمَّا إذَا وَطِئَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ - فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ كَانَ الرَّاكِبُ سَائِرًا أَوْ وَاقِفًا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ فِيمَا أُذِنَ فِيهِ أَوْ لَمْ يُؤْذَنْ؛ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي سَبَبِ الْقَتْلِ لِحُصُولِ الْمَوْتِ بِثِقَلِ الرَّاكِبِ وَالدَّابَّةِ وَفِعْلِ النَّاخِسِ، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الرَّاكِبِ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ مُبَاشَرَةً فَصَارَ الرَّاكِبُ مَعَ النَّاخِسِ كَالرَّاكِبِ مَعَ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ أَنَّ الدِّيَةَ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ، وَالْكَفَّارَةُ عَلَى الرَّاكِبِ خَاصَّةً، كَذَا هَهُنَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَ عَلَى الدَّابَّةِ الْمَنْخُوسَةِ أَوْ الْمَضْرُوبَةِ رَاكِبٌ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا رَاكِبٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا سَائِقٌ وَلَا قَائِدٌ، فَنَخَسَهَا إنْسَانٌ أَوْ ضَرَبَهَا فَمَا أَصَابَتْ شَيْئًا عَلَى فَوْرِ النَّخْسَةِ وَالضَّرْبَةِ فَضَمَانُهُ عَلَى النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَتْ الدَّابَّةُ؛ لِأَنَّهُ سَبَّبَ الْإِتْلَافَ بِالنَّخْسِ وَالضَّرْبِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي التَّسْبِيبِ فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا سَائِقٌ أَوْ قَائِدٌ فَنَخَسَ أَوْ ضَرَبَ

فصل في وجوب الضمان إذا وقع عليه حائط وسبب الوجوب

بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَنَفَحَتْ أَوْ نَفَرَتْ فَصَدَمَتْ أَوْ وَطِئَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَالضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ أَوْ الضَّارِبِ لَا عَلَى السَّائِقِ وَالْقَائِدِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ النَّاخِسُ وَالْقَائِدُ؛ لِأَنَّ النَّاخِسَ مَعَ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ كَالدَّافِعِ مَعَ الْحَافِرِ؛ لِأَنَّهُ بِالنَّخْسِ أَوْ الضَّرْبِ كَأَنَّهُ دَفَعَ الدَّابَّةَ عَلَى غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ، يَقُودُ أَحَدُهُمَا، وَيَسُوقُ الْآخَرُ، فَنَخَسَ أَوْ ضَرَبَ بِغَيْرِ إذْنِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا - فَالضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ لَا عَلَيْهِمَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ النَّاخِسُ وَالْقَائِدُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّاخِسَ مُتَعَمِّدٌ كَالدَّافِعِ لِلدَّابَّةِ. وَكَذَا الضَّارِبُ وَلَا تَعَمُّدَ مِنْ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَنَفَحَتْ، فَإِنْ كَانَ سَوْقُهُ أَوْ قَوْدُهُ فِيمَا أُذِنَ لَهُ بِالسَّوْقِ وَالْقَوْدِ فِيهِ - فَلَا ضَمَانَ عَلَى النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ السَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ، فَإِنْ كَانَ يَسُوقُ أَوْ يَقُودُ فِيمَا أُذِنَ لَهُ بِالسَّوْقِ وَالْقَوْدِ فِيهِ بِأَنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ يُضَافُ إلَيْهِ كَالسَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ، وَإِنْ كَانَ يَسُوقُ أَوْ يَقُودُ فِيمَا أُذِنَ لَهُ بِذَلِكَ بِأَنْ كَانَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ - فَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: الضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ، وَعَلَى السَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا، وَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: الضَّمَانُ عَلَى السَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ خَاصَّةً، وَإِنْ صَدَمَتْ فَقَتَلَتْ إنْسَانًا، فَإِنْ كَانَ السَّائِقُ يَسُوقُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ - فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَ النَّاخِسِ أَوْ الضَّارِبِ بِأَمْرِ السَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ مُضَافٌ إلَيْهِ، وَالصَّدْمَةُ فِي الْمِلْكِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى السَّائِقِ وَالْقَائِدِ وَالرَّاكِبِ، وَإِنْ كَانَ يَسُوقُ أَوْ يَقُودُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ - فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَإِنْ وَطِئَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ - فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ أَيْضًا سَوَاءٌ كَانَ سَوْقُهُ أَوْ قَوْدُهُ فِيمَا أُذِنَ لَهُ بِالسَّوْقِ أَوْ الْقَوْدِ فِيهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْوَطْأَةَ مَضْمُونَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَإِنْ وَطِئَتْ تَجِبُ الْقِيمَةُ بِلَا خِلَافٍ، لَكِنْ فِي قِيَاسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى النَّاخِسِ وَالضَّارِبِ، وَعَلَى السَّائِقِ وَالْقَائِدِ نِصْفَانِ، وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: عَلَى السَّائِقِ وَالْقَائِدِ خَاصَّةً، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ جِنَايَةُ الْحَائِطِ الْمَائِلِ إذَا سَقَطَ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ، أَوْ عَلَى مَتَاعٍ، فَأَفْسَدَهُ، أَوْ عَلَى دَارٍ فَهَدَمَهَا أَوْ عَلَى حَيَوَانٍ فَعَطِبَ بِهِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّ الْحَائِطَ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ بُنِيَ مُسْتَوِيًا مُسْتَقِيمًا ثُمَّ مَالَ (وَإِمَّا) إنْ بُنِيَ مَائِلًا مِنْ الْأَصْلِ، فَإِنْ بُنِيَ مُسْتَقِيمًا ثُمَّ مَالَ فَمَيَلَانُهُ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ إلَى الطَّرِيقِ. (وَإِمَّا) أَنْ يَكُونَ إلَى مِلْكِ إنْسَانٍ، فَإِنْ كَانَ إلَى الطَّرِيقِ لَا يَخْلُو: مِنْ أَنْ يَكُونَ نَافِذًا، وَهُوَ طَرِيقُ الْعَامَّةِ أَوْ غَيْرَ نَافِذٍ، وَهُوَ السِّكَّةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِنَافِذَةٍ، فَإِنْ كَانَ نَافِذًا فَسَقَطَ فَعَطِبَ بِهِ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ إذَا وُجِدَ شَرَائِطُ وُجُوبِهِ، فَيَقَعُ الْكَلَامَ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مَا هِيَةِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ وَكَيْفِيَّتِهِ (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَسَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ هُوَ التَّعَدِّي بِالتَّسْبِيبِ إلَى الْإِتْلَافِ بِتَرْكِ النَّقْضِ الْمُسْتَحَقِّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّقْضِ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَالَ إلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ فَقَدْ حَصَلَ الْهَوَاءُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْحَائِطِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ حَقُّ الْعَامَّةِ كَنَفْسِ الطَّرِيقِ فَقَدْ حَصَلَ حَقُّ الْغَيْرِ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، فَإِذَا طُولِبَ بِالنَّقْضِ فَقَدْ لَزَمَهُ إزَالَةُ يَدِهِ عَنْهُ بِهَدْمِ الْحَائِطِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ مَعَ الْإِمْكَانِ، فَقَدْ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِاسْتِبْقَاءِ يَدِهِ عَلَيْهِ كَثَوْبٍ هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ فَأَلْقَتْهُ فِي دَارِ إنْسَانٍ فَطُولِبَ بِهِ فَامْتَنَعَ مِنْ الرَّدِّ مَعَ إمْكَانِ الرَّدِّ حَتَّى هَلَكَ - يَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِثْلِ الشُّعَبِيِّ وَشُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمْ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُمْ قَالُوا: إذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ فِي الْحَائِطِ فَلَمْ يَهْدِمْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [فَصْلٌ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ إذَا وَقَعَ عَلَيْهِ حَائِطٌ وَسَبَبُ الْوُجُوبِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَمِنْهَا الْمُطَالَبَةُ بِالنَّقْضِ حَتَّى لَوْ سَقَطَ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ فَعَطِبَ بِهِ شَيْءٌ لَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِتَرْكِ النَّقْضِ الْمُسْتَحَقِّ؛ لِأَنَّ بِهِ يَصِيرُ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسْبِيبِ إلَى الْإِتْلَافِ، وَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِدُونِ الْمُطَالَبَةِ، وَصُورَةُ الْمُطَالَبَةِ: هِيَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْ عَرَضِ النَّاسِ فَيَقُولُ لَهُ: إنَّ حَائِطَكَ هَذَا مَائِلٌ أَوْ مَخُوفٌ فَارْفَعْهُ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ لَزِمَهُ رَفْعُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقُّ الْعَامَّةِ، فَإِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ صَارَ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ سَوَاءٌ كَانَ الَّذِي تَقَدَّمَ إلَيْهِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا حُرًّا أَوْ عَبْدًا بَعْدَ إنْ كَانَ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا بَعْدَ إنْ كَانَ عَاقِلًا، وَقَدْ أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ حَقُّ جَمِيعِ أَهْلِ الدَّارِ، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِإِزَالَةِ سَبَبِ الضَّرَرِ عَنْهُ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَقْلِ الطَّالِبِ وَكَوْنِهِ مَأْذُونًا بِالتَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْمَجْنُونِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الشَّرْعِ، فَكَانَ

مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَيَنْبَغِيَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الطَّلَبِ وَتَفْسِيرُ الْإِشْهَادِ مَا ذَكَره مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ تَقَدَّمْتُ إلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي هَدْمِ حَائِطِهِ، هَذَا وَالْإِشْهَادُ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ لِجَوَازِ أَنْ يُنْكِرَ صَاحِبُ الْحَائِطِ الْمُطَالَبَةَ بِالنَّقْضِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْإِشْهَادِ لِإِثْبَاتِ الطَّلَبِ عِنْدَ الْقَاضِي لَا لِصِحَّةِ الطَّلَبِ فَإِنَّ الطَّلَبَ يَصِحُّ بِدُونِ الْإِشْهَادِ حَتَّى لَوْ اعْتَرَفَ صَاحِبُ الدَّارِ بِالطَّلَبِ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ. وَكَذَا إذَا أَنْكَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَنَظِيرُهُ مَا قُلْنَا فِي الشُّفْعَةِ: أَنَّ الشَّرْطَ فِيهَا الطَّلَبُ لَا الْإِشْهَاد، وَإِنَّمَا الْإِشْهَادُ لِلْحَاجَةِ إلَى إثْبَاتِ الطَّلَبِ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِنْكَارِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ الْمُشْتَرِيَ بِالطَّلَبِ يَثْبُتُ حَقُّ الشُّفْعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَى الطَّلَبِ وَكَذَا لَوْ جَحَدَ الطَّلَبَ يَثْبُتُ الْحَقُّ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَكَذَا الْإِشْهَادُ فِي بَابِ اللُّقْطَةِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ، وَلَوْ طُولِبَ صَاحِبُ الْحَائِطِ بِالنَّقْضِ فَلَمْ يَنْقُضْ حَتَّى سَقَطَ عَلَى الطَّرِيقِ فَعَثَرَ بِنَقْضِهِ إنْسَانٌ فَعَطِبَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ طُولِبَ بِدَفْعِ النَّقْضِ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ إذَا طُولِبَ بِالرَّفْعِ لَزِمَهُ الرَّفْعُ فَإِذَا لَمْ يَرْفَعْ صَارَ مُتَعَدِّيًا فَيَضْمَنُ مَنْ تَوَلَّدَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُطَالَبْ بِرَفْعِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: يَضْمَنُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا طُولِبَ بِالنَّقْضِ فَلَمْ يَنْقُضْ حَتَّى سَقَطَ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ فَحَصَلَ التَّلَفُ بِسَبَبٍ هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَيَضْمَنُ؛ وَلِهَذَا ضَمِنَ إذَا وَقَعَ عَلَى إنْسَانٍ كَذَا إذَا عَطِبَ بِنَقْضِهِ إنْسَانٌ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَائِطَ قَدْ زَالَ عَنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي طُولِبَ فِيهِ لِانْتِقَالِهِ عَنْ مَحِلِّ الْجِنَايَةِ، وَهُوَ الْهَوَاءُ إلَى مَحِلٍّ آخَرَ بِغَيْرِ صُنْعِ صَاحِبِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُطَالَبَةٍ أُخْرَى كَمَنْ وَضَعَ حَجَرًا فِي الطَّرِيقِ فَدَحْرَجَتْهُ الرِّيحُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْوَاضِعِ كَذَا هَهُنَا بِخِلَافِ مَا إذَا سَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا زَالَ عَنْ مَحِلِّ الْمُطَالَبَةِ، وَهُوَ الْهَوَاءُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى مُطَالَبَةٍ أُخْرَى، وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ غَيْرَ نَافِذٍ - فَالْخُصُومَةُ إلَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ السِّكَّةِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ حَقُّهُمْ، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وِلَايَةُ التَّقَدُّمِ إلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ، وَإِنْ كَانَ مَيَلَانُ الْحَائِطِ إلَى مِلْكِ رَجُلٍ - فَالْمُطَالَبَةُ بِالنَّقْضِ وَالْإِشْهَادِ إلَى صَاحِبِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ هَوَاءٌ مَلَكَهُ حَقُّهُ، وَقَدْ شَغَلَ الْحَائِطَ حَقُّ صَاحِبِ الْمِلْكِ فَكَانَتْ الْمُطَالَبَةُ بِالتَّفْرِيغِ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الدَّارِ سَاكِنٌ كَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ فَالْمُطَالَبَةُ وَالْإِشْهَادُ إلَى السَّاكِنِ، فَيُشْتَرَطُ طَلَبُ السَّاكِنِ أَوْ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ السَّاكِنَ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِإِزَالَةِ مَا يَشْغَلُ الدَّارَ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِإِزَالَةِ مَا يُشْغِلُ الْهَوَاءَ أَيْضًا، وَلَوْ طُولِبَ صَاحِبُ الْحَائِطِ بِالنَّقْضِ فَاسْتَأْجَلَ الَّذِي طَالَبَهُ أَوْ اسْتَأْجَلَ الْقَاضِيَ فَأَجَّلَهُ، فَإِنْ كَانَ مَيَلَانُ الْحَائِطِ إلَى الطَّرِيقِ فَالتَّأْجِيلُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مَيَلَانُهُ إلَى دَارِ رَجُلٍ فَأَجَّلَهُ صَاحِبُ الدَّارِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ سَاكِنُ الدَّارِ فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ بِالْحَائِطِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَقَّ فِي الطَّرِيقِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا طَالَبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِالنَّقْضِ فَقَدْ تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِالْحَائِطِ لِحَقِّ الْجَمَاعَةِ، فَكَانَ التَّأْجِيلُ وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطًا لِحَقِّ الْجَمَاعَةِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَيَلَانُ إلَى دَارِ إنْسَانٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْحَقَّ لِصَاحِبِ الدَّارِ خَاصَّةً. وَكَذَلِكَ السَّاكِنُ فَكَانَ التَّأْجِيلُ وَالْإِبْرَاءُ مِنْهُ إسْقَاطًا لِحَقِّ نَفْسِهِ فَيَمْلِكَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ وَضَعَ رَجُلٌ فِي دَارِ غَيْرِهِ حَجَرًا أَوْ حَفَرَ فِيهَا بِئْرًا أَوْ بَنَى فِيهَا بِنَاءً وَأَبْرَأَهُ صَاحِبُ الدَّارِ مِنْهُ كَانَ بَرِيئًا، وَلَا يَلْزَمُهُ مَا عَطِبَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ عَطِبَ بِهِ صَاحِبُ الدَّارِ أَوْ دَاخِلٌ دَخَلَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ فَيَمْلِكُ إسْقَاطَهُ كَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمُطَالَبُ بِالنَّقْضِ مِمَّنْ يَلِي النَّقْضَ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالنَّقْضِ مِمَّنْ لَا يَلِي النَّقْضَ سَفَهٌ، فَكَانَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا تَصِحُّ مُطَالَبَةُ الْمُسْتَوْدَعِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ وِلَايَةُ النَّقْضِ فَتَصِحُّ مُطَالَبَةُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ النَّقْضِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فَيَنْقُضُ وَيَقْضِيَ الدِّينَ، فَيَصِيرُ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ، وَتَصِحُّ مُطَالَبَةُ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ فِي هَدْمِ حَائِطِ الصَّغِيرِ لِثُبُوتِ وِلَايَةِ النَّقْضِ لَهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَنْقُضَا حَتَّى سَقَطَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ بِتَرْكِ النَّقْضِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَى الْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ مُضَافٌ إلَى الصَّبِيِّ لِقِيَامِهِمَا مَقَامَ الصَّبِيِّ، وَالصَّبِيُّ مُؤَاخَذٌ بِأَفْعَالِهِ، فَيَضْمَنُ وَتَتَحَمَّلُ عَنْهُ عَاقِلَتُهُ فِيمَا تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ، وَيَكُونُ فِي مَالِهِ فِيمَا لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ كَالْبَالِغِ سَوَاءٌ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا كَانَ الْحَائِطُ الْمَائِلُ لِجَمَاعَةٍ فَطُولِبَ بَعْضُهُمْ بِالنَّقْضِ فَلَمْ يَنْقُضْ حَتَّى سَقَطَ فَعَطِبَ بِهِ شَيْءٌ أَنَّ الْقِيَاسَ

فصل في بيان ماهية الضمان الواجب بهذه الجناية

أَنْ لَا يَضْمَنَ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَضْمَنُ الَّذِي طُولِبَ. وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ تَرَكَ النَّقْضَ الْمُسْتَحَقَّ (أَمَّا) الَّذِينَ لَمْ يُطَالَبُوا بِالنَّقْضِ فَظَاهِرٌ (وَإِمَّا) الَّذِي طُولِبَ بِهِ فَلِأَنَّ أَحَدَ الشُّرَكَاءِ لَا يَلِي النَّقْضَ بِدُونِ الْبَاقِينَ: وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُطَالَبَ بِالنَّقْضِ تَرَكَ النَّقْضَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنهُ أَنْ يُخَاصِمَ الشُّرَكَاءَ وَيُطَالِبَهُمْ بِالنَّقْضِ إنْ كَانُوا حُضُورًا، وَإِنْ كَانُوا غُيَّبًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي حَتَّى يَأْمُرَهُ الْقَاضِي بِالنَّقْضِ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَقًّا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْإِمَامُ يَتَوَلَّى ذَلِكَ لَهُمْ فَيَأْمُرُ الْحَاضِرَ بِنَقْضِ نَصِيبِهِ وَنَصِيبِ الْغَائِبِينَ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ - فَقَدْ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ الْمُسْتَحَقِّ، فَيَضْمَنُ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ لَكِنْ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الْحَائِطِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا: عَلَيْهِ ضَمَانُ النِّصْفِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أَنْصِبَاءَ الشُّرَكَاءِ الْآخَرِينَ لَمْ يَجِبْ بِهَا ضَمَانٌ، فَكَانَتْ كَنَصِيبِ وَاحِدٍ، كَمَنْ جَرَحَهُ رَجُلٌ، وَعَقَرَهُ سَبْعٌ، وَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ، فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ عَلَى الْجَارِحِ النِّصْفَ؛ لِأَنَّ عَقْرَ السَّبْعِ وَنَهْشَ الْحَيَّةِ لَمْ يَجِبْ بِهِمَا ضَمَانٌ، فَكَانَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِثِقَلِ الْحَائِطِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْنًى مُخْتَلِفًا فِي نَفْسِهِ فَيَضْمَنُ بِمِقْدَارِ نَصِيبِهِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَمِنْهَا قِيَامُ وِلَايَةِ النَّقْضِ وَقْتَ السُّقُوطِ، وَلَا يَكْتَفِي بِثُبُوتِهَا وَقْتَ الْمُطَالَبَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ عِنْدَ السُّقُوطِ كَأَنَّهُ أَسْقَطَهُ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ وِلَايَةُ النَّقْضِ عِنْدَ السُّقُوطِ - لَمْ يَصِرْ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا طُولِبَ بِالنَّقْضِ فَلَمْ يَنْقُضْ حَتَّى بَاعَ الدَّارَ الَّتِي فِيهَا الْحَائِطُ مِنْ إنْسَانٍ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ ثُمَّ سَقَطَ عَلَى شَيْءٍ، فَعَطِبَ بِهِ - أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِانْعِدَامِ وِلَايَةِ النَّقْضِ وَقْتَ السُّقُوطِ بِخُرُوجِ الْحَائِطِ عَنْ مِلْكِهِ، وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي أَيْضًا لِانْعِدَامِ الْمُطَالَبَةِ فِي حَقِّهِ فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا شَرَعَ جَنَاحًا إلَى الطَّرِيقِ ثُمَّ بَاعَ الدَّارَ مَعَ الْجَنَاحِ ثُمَّ وَقَعَ عَلَى إنْسَانٍ إنَّهُ يَضْمَنُ الْبَائِعَ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ هُنَاكَ عَلَى الْبَائِعِ قُبَيْلَ الْبَيْعِ لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا بِإِشْرَاعِ الْجَنَاحِ، وَالْإِشْرَاعُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَلَا يَتَغَيَّرُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الضَّمَانِ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا بِتَرْكِ النَّقْضِ الْمُسْتَحَقِّ، وَذَلِكَ عِنْدَ سُقُوطِ الْحَائِطِ، وَقَدْ بَطَلَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْبَيْعِ، فَلَمْ يُوجَدْ التَّعَدِّي عِنْدَ السُّقُوطِ بِتَرْكِ النَّقْضِ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا طُولِبَ الْأَبُ بِنَقْضِ حَائِطِ الصَّغِيرِ، فَلَمْ يَنْقُضْ حَتَّى مَاتَ الْأَبُ أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ ثُمَّ سَقَطَ الْحَائِطُ إنَّهُ لَا ضَمَانَ فِيهِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْوِلَايَةِ وَقْتَ السُّقُوطِ شَرْطٌ، وَقَدْ بَطَلَتْ بِالْمَوْتِ وَالْبُلُوغِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) : إمْكَانُ النَّقْضِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سُقُوطُ الْحَائِطِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ بِالنَّقْضِ فِي مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ نَقْضُهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِتَرْكِ النَّقْضِ الْوَاجِبِ، وَلَا وُجُوبَ بِدُونِ الْإِمْكَانِ حَتَّى لَوْ طُولِبَ بِالنَّقْضِ فَلَمْ يُفَرِّطْ فِي نَقْضِهِ، وَلَكِنَّهُ ذَهَبَ يَطْلُبُ مَنْ يَنْقُضُهُ، فَسَقَطَ الْحَائِطُ، فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ - لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَمَكَّنُ مِنْ النَّقْضِ لَمْ يَكُنْ بِتَرْكِ النَّقْضِ مُتَعَدِّيًا، فَبَقِيَ حَقُّ الْغَيْرِ حَاصِلًا فِي يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَاهِيَّةِ الضَّمَان الواجب بِهَذِهِ الْجِنَايَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَاهِيَّةِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ وَكَيْفِيَّتِهِ فَالْوَاجِبُ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ بِجِنْسِهَا مِنْ جِنَايَةِ الْحَافِرِ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ، وَجِنَايَةُ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ وَالنَّاخِسِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْجِنَايَةَ إنْ كَانَتْ عَلَى بَنِي آدَمَ وَكَانَتْ نَفْسًا - فَالْوَاجِبُ بِهَا الدِّيَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مَا دُونَ النَّفْسِ فَالْوَاجِبُ بِهَا الْأَرْشُ فَإِذَا بَلَغَ الْوَاجِبُ بِهَا نِصْفَ عُشْرِ دِيَةِ الذَّكَرِ، وَهُوَ عُشْرُ دِيَةِ الْأُنْثَى فَمَا فَوْقَهُ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَلَا تَتَحَمَّلُ مَا دُونَ ذَلِكَ، وَلَا مَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى غَيْرِ بَنِي آدَمَ بَلْ يَكُونُ فِي مَالِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ إلَّا أَنَّ ظُهُورَ الْمِلْكِ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ فِي الدَّارِ عِنْدَ الْإِنْكَارِ بِحَجَّةٍ مُطْلَقَةٍ، وَهِيَ الْبَيِّنَةُ شَرْطُ تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ، حَتَّى لَوْ أَنْكَرَتْ الْعَاقِلَةُ كَوْنَ الدَّارِ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْحَائِطِ لَا عَقْلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُقِيمَ صَاحِبُ الدَّارِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ كَذَا ذَكَر مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: لَا تَضْمَنُ الْعَاقِلَةَ حَتَّى يَشْهَدُ الشُّهُودُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: عَلَى التَّقْدِيمِ إلَيْهِ مِنْ سُقُوطِ الْحَائِطِ، وَعَلَى أَنَّ الدَّارَ لَهُ يُرِيدُ بِهِ عِنْدَ الْإِنْكَارِ، أَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الْمِلْكِ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا لَهُ بِظَاهِرِ الْيَدِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ حَقٌّ عَلَى غَيْرِهِ؛ إذْ هُوَ حُجَّةٌ لِلدَّفْعِ لَا حُجَّةُ الِاسْتِحْقَاقِ لِحَيَاةِ الْمَفْقُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةَ بِظَاهِرِ الْيَدِ، وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الشُّفْعَةِ، (وَأَمَّا) الشَّهَادَةُ عَلَى الْمُطَالَبَةِ

فصل في القسامة

لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ شَرْطُ وُجُوبِ الضَّمَانِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ - فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِهَا بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْإِنْكَارِ. (وَأَمَّا) الشَّهَادَةُ عَلَى الْمَوْتِ مِنْ سُقُوطِ الْحَائِطِ فَلِأَنَّ بِهِ يَظْهَرُ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَهُوَ التَّعَدِّي؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ السُّقُوطِ لَا يُعْلَمُ كَوْنَ صَاحِبِ الْحَائِطِ مُتَعَدِّيًا عَلَيْهِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الْقَسَامَةِ] فِي الْقَسَامَةِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ قَتْلِ نَفْسٍ عُلِمَ قَاتِلُهَا، فَأَمَّا حُكْمُ نَفْسٍ لَمْ يُعْلَمْ قَاتِلُهَا - فَوُجُوبُ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وُجُوبُ الْقَسَامَةِ وَالْقِصَاصِ، وَالْكَلَامُ فِي الْقَسَامَةِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الْقَسَامَةِ، وَبَيَانِ مَحَلِّهَا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ، وَفِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَكُونُ إبْرَاءً عَنْ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ أَمَّا تَفْسِيرُ الْقَسَامَةِ، وَبَيَانُ مَحَلِّهَا - فَالْقَسَامَةُ فِي اللُّغَةِ: تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْوَسَامَةِ، وَهُوَ الْحُسْنُ وَالْجَمَالُ، يُقَالُ: فُلَانٌ قَسِيمٌ أَيْ حَسَنٌ جَمِيلٌ، وَفِي صِفَاتِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَسِيمٌ، وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْقَسَمِ، وَهُوَ الْيَمِينُ إلَّا أَنَّ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - بِسَبَبٍ مَخْصُوصٍ وَعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، وَعَلَى شَخْصٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ خَمْسُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِيهَا: بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عِلْمنَا لَهُ قَاتِلًا، فَإِذَا حَلَفُوا يَغْرَمُونَ الدِّيَةَ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ يُسْتَحْلَفُ الْأَوْلِيَاءُ خَمْسِينَ يَمِينًا فَإِذَا حَلَفُوا يُقْتَصُّ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَتَفْسِيرُ اللَّوْثِ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ عَلَامَةُ الْقَتْلِ فِي وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ أَوْ يَكُونَ هُنَاكَ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ أَيْ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَكَانَ بَيْنَ دُخُولِهِ الْمَحَلَّةَ وَبَيْنَ وُجُودِهِ قَتِيلًا مُدَّةٌ يَسِيرَةٌ يُقَالُ لِلْوَلِيِّ: عَيِّنْ الْقَاتِلَ، فَإِنْ عَيَّنَ الْقَاتِلَ يُقَالُ لِلْوَلِيِّ احْلِفْ خَمْسِينَ يَمِينًا، فَإِنْ حَلَفَ فَلَهُ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ يُقْتَلُ الْقَاتِلُ الَّذِي عَيَّنَهُ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلٍ يُغَرِّمُهُ الدِّيَةَ، فَإِنْ عَدِمَ أَحَدَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا يَحْلِفُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ فَإِذَا حَلَفُوا لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى احْتَجَّا لِوُجُوبِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْمُدَّعِي بِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ قَالَ: «وَجَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ قَتِيلًا فِي قَلِيبِ خَيْبَرَ فَجَاءَ أَخُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ وَعَمَّاهُ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ عِنْدَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْكُبْرَ الْكُبْرَ فَتَكَلَّمَ أَحَدُ عَمَّيْهِ: إمَّا حُوَيِّصَةُ وَإِمَّا مُحَيِّصَةُ الْكَبِيرُ مِنْهُمَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا وَجَدْنَا عَبْدَ اللَّهِ قَتِيلًا فِي قَلِيبٍ مِنْ قَلِيبِ خَيْبَرَ وَذَكَرَ عَدَاوَةَ الْيَهُودِ لَهُمْ فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَحْلِفُ لَكُمْ الْيَهُودُ خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوهُ فَقَالُوا: كَيْفَ نَرْضَى بِأَيْمَانِهِمْ، وَهُمْ مُشْرِكُونَ فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَيُقْسِمُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ فَقَالُوا: كَيْفَ نُقْسِمُ عَلَى مَا لَمْ نَرَهُ فَوَدَاهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ عِنْدِهِ» وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَرَضَ الْأَيْمَانَ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ فَدَلَّ أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّهُ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي وَجَدْتُ أَخِي قَتِيلًا فِي بَنِي فُلَانٍ فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اجْمَعْ مِنْهُمْ خَمْسِينَ فَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلُوهُ وَلَا عَلِمُوا لَهُ قَاتِلًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ لِي مِنْ أَخِي إلَّا هَذَا؟ فَقَالَ: بَلْ لَكَ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى وُجُوبِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ لَا عَلَى الْمُدَّعِي، وَعَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ مَعَ الْقَسَامَةِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «وُجِدَ قَتِيلٌ بِخَيْبَرَ فَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أُخْرُجُوا مِنْ هَذَا الدَّمِ فَقَالَتْ الْيَهُودُ: قَدْ كَانَ وُجِدَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى عَهْدِ سَيِّدِنَا مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَضَى فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَاقْضِ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا ثُمَّ يَغْرَمُونَ الدِّيَةَ فَقَالُوا: قَضَيْتَ بِالنَّامُوسِ» أَيْ بِالْوَحْيِ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - غَرَّمَهُمْ الدِّيَةَ لَا الْقِصَاصَ، وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْقِصَاصَ لَغَرَّمَهُمْ الْقِصَاصَ لَا الدِّيَةَ وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَكَمَ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ فَطَرَحَهُ عَلَى أَقْرَبِهِمَا وَأَلْزَمَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يُنْقَلْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَيَكُونُ إجْمَاعًا. (وَأَمَّا) حَدِيثُ سَهْلٍ فَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الثُّبُوتِ؛ وَلِهَذَا ظَهَرَ النَّكِيرُ فِيهِ مِنْ السَّلَفِ؛ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ

فصل في شرائط وجوب القسامة والدية

- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَعَاهُمْ إلَى أَيْمَانِ الْيَهُودِ فَقَالُوا: كَيْفَ نَرْضَى بِأَيْمَانِهِمْ، وَهُمْ مُشْرِكُونَ؟ وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى الرَّدِّ لِمَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ مَعَ مَا أَنَّ رِضَا الْمُدَّعِي لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُمْ: يَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ قَالُوا: كَيْفَ نَحْلِفُ عَلَى مَا لَمْ نَشْهَدْ، وَهَذَا أَيْضًا يَجْرِي مَجْرَى الرَّدِّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثُمَّ إنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ اسْتَخَارَ عَرْضَ الْيَمِينِ عَلَيْهِمْ، وَلَئِنْ ثَبَتَ فَهُوَ مُؤَوَّلٌ، وَتَأْوِيلُهُ: أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: لَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ فَقَالَ لَهُمْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ أَيْ: أَيَحْلِفُ؟ إذْ الِاسْتِفْهَامُ قَدْ يَكُونُ بِحَذْفِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ - {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67] أَيْ أَتُرِيدُونَ كَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ سَهْلٍ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ عَلَى سَبِيلِ الرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50] حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَا، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» جَعَلَ جِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ قِيلَ رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ» اسْتَثْنَى الْقَسَامَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَكُونَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْقَسَامَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى يُخَالِفُ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ - فَالْجَوَابُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَوْ ثَبَتَ فَلَهُ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ مَنْ لَمْ يُدَّعَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِعَيْنِهِ، وَالثَّانِي: الْيَمِينُ كُلُّ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ فَإِنَّهُ تَجِبُ مَعَهَا الدِّيَةُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَإِنَّمَا جَمَعْنَا فِي الْقَسَامَةِ بَيْنَ الْيَمِينِ الْبَتَاتِ وَالْعِلْمِ إلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّ إحْدَى الْيَمِينَيْنِ كَانَتْ عَلَى فِعْلِهِمْ، فَكَانَتْ عَلَى الْبَتَاتِ، وَالْأُخْرَى عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِمْ، فَكَانَتْ عَلَى الْعِلْمِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ فَائِدَةٍ فِي الِاسْتِحْلَافِ عَلَى الْعِلْمِ، وَهُمْ لَوْ عَلِمُوا الْقَاتِلَ فَأَخْبَرُوا بِهِ لَكَانَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُسْقِطُونَ بِهِ الضَّمَانَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَكَانُوا مُتَّهَمِينَ دَافِعِينَ الْغُرْمَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا شَهَادَةَ لِجَارِ الْمَغْنَمِ وَلَا لِدَافِعِ الْمَغْرَمِ» ؟ قِيلَ: إنَّمَا اُسْتُحْلِفُوا عَلَى الْعِلْمِ إتْبَاعًا لِلسَّنَةِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ هَكَذَا وَرَدَتْ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ فَاتَّبَعْنَا السُّنَّةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَعْقِلَ فِيهِ الْمَعْنَى، ثُمَّ فِيهِ فَائِدَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ عَبْدًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَيُقِرُّ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ صَحِيحٌ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْفَعْهُ أَوْ أَفْدِهِ وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ، فَكَانَ التَّحْلِيفُ عَلَى الْعِلْمِ مُفِيدًا، وَجَائِزٌ أَنْ يُقِرَّ عَلَى عَبْدِ غَيْرِهِ، وَيُصَدِّقَهُ مَوْلَاهُ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ، فَكَانَ مُفِيدًا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ التَّحْلِيفُ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ ثُمَّ بَقِيَ هَذَا الْحُكْمُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْ الْحَالَيْنِ عَبْدٌ كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كَانَ يَرْمُلُ فِي الطَّوَافِ» إظْهَارًا لِلْجَلَادَةِ وَالْقُوَّةِ مِرْآة لِلْكَفَرَةِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَظْهَرَ الْيَوْمَ الْجَلَادَةَ مِنْ نَفْسِهِ» ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ الْيَوْمُ ثُمَّ بَقِيَ الرَّمَلُ سَنَةً فِي الطَّوَافِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَرْمُلُ فِي الطَّوَافِ، وَيَقُولُ مَا أَهُزُّ كَتِفِي، وَلَا أَحَدًا رَأَيْتُهُ لَكِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ ذَلِكَ كَذَا هَذَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَمَرَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ يَلْزَمُهُ فِي مَالِهِ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا عَلِمْتَ لَهُ قَاتِلًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: عَلِمْتَ لَهُ قَاتِلًا، وَهُوَ الصَّبِيُّ الَّذِي أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ لَكَانَ حَاصِلُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ، فَكَانَ مُفِيدًا وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ قَتِيلًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ مِنْ جِرَاحَةٍ أَوْ أَثَرِ ضَرْبٍ أَوْ خَنْقٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ، وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ، فَإِذَا اُحْتُمِلَ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَاحْتُمِلَ أَنَّهُ قُتِلَ احْتِمَالًا عَلَى السَّوَاءِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ؛ وَلِهَذَا لَوْ وُجِدَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا حَتَّى يُغَسَّلَ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: إذَا وُجِدَ وَالدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ أَوْ مِنْ أَنْفِهِ أَوْ مِنْ دُبُرِهِ أَوْ ذَكَرِهِ لَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً بِدُونِ الضَّرْبِ بِسَبَبِ الْقَيْءِ وَالرُّعَافِ وَعَارِضٍ آخَرَ فَلَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ قَتِيلًا، وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ عَيْنِهِ أَوْ أُذُنِهِ فَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الدَّمَ

لَا يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً فَكَانَ الْخُرُوجُ مُضَافًا إلَى ضَرْبٍ حَادِثٍ، فَكَانَ قَتِيلًا؛ وَلِهَذَا لَوْ وُجِدَ هَكَذَا فِي الْمَعْرَكَةِ كَانَ شَهِيدًا، وَفِي الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ شَهِيدًا، وَلَوْ مَرَّ فِي مَحَلَّةٍ فَأَصَابَهُ سَيْفٌ أَوْ خَنْجَرٌ فَجَرَحَهُ وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ أَصَابَهُ فَحُمِلَ إلَى أَهْلِهِ فَمَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ - فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَبِيلَةِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَلَا قَسَامَةَ، وَلَا دِيَةَ وَهَذَا قَوْلُهُمَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا ضَمَانَ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الْمَجْرُوحَ إذَا لَمْ يَمُتْ فِي الْمَحَلَّةِ كَانَ الْحَاصِلُ فِي الْمَحَلَّةِ مَا دُونَ النَّفْسِ وَلَا قَسَامَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كَمَا لَوْ وُجِدَ مَقْطُوعَ الْيَدِ فِي الْمَحَلَّةِ؛ وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الْفِرَاشِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا لَمْ يَبْرَأْ عَنْ الْجِرَاحَةِ. وَكَانَ لَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ الْجِرَاحَةِ فَعُلِمَ أَنَّ الْجِرَاحَةَ حَصَلَتْ قَتْلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهَا، فَكَانَ قَتِيلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَأَنَّهُ مَاتَ فِي الْمَحَلَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ فِرَاشٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَصِرْ صَاحِبَ فِرَاشٍ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ مِنْ الْجِرَاحَةِ فَلَمْ يُوجَدْ قَتِيلًا فِي الْمَحَلَّةِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمَهُ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا وُجِدَ مِنْ الْقَتِيلِ أَكْثَرُ بَدَنِهِ أَنَّ فِيهِ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى قَتِيلًا؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ، وَلَوْ وُجِدَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ أَوْ وُجِدَ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الْبَدَنِ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ لَا يُسَمَّى قَتِيلًا وَلِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا فِي هَذَا الْقَدْرِ الْقَسَامَةَ لَأَوْجَبْنَا فِي الْبَاقِي قَسَامَةً أُخْرَى فَيُؤَدِّي إلَى اجْتِمَاعِ قَسَامَتَيْنِ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِنْ وُجِدَ النِّصْفُ، فَإِنْ كَانَ النِّصْفُ الَّذِي فِيهِ الرَّأْسُ - فَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ، وَإِنْ كَانَ النِّصْفُ الْآخَرَ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ إذَا كَانَ مَعَهُ يُسَمَّى قَتِيلًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَا يُسَمَّى قَتِيلًا؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ أَصْلٌ وَلِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا فِي النِّصْفِ الَّذِي لَا رَأْسَ فِيهِ لَلَزِمَنَا الْإِيجَابُ فِي النِّصْفِ الَّذِي مَعَهُ الرَّأْسُ فَيُؤَدِّي إلَى مَا قُلْنَا، وَإِنْ وُجِدَ الرَّأْسُ وَحْدَهُ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ وَحْدَهُ لَا يُسَمَّى قَتِيلًا، وَإِنْ وُجِدَ النِّصْفُ مَشْقُوقًا فَلَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الْمَشْقُوقَ لَا يُسَمَّى قَتِيلًا، وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهِ إيجَابَ الْقَسَامَتَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَنَظِيرُ هَذَا مَا قُلْنَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ: إذَا وُجِدَ أَكْثَرُ الْبَدَنِ أَوْ أَقَلُّهُ أَوْ نِصْفُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) : أَنْ لَا يُعْلَمَ قَاتِلُهُ، فَإِنْ عُلِمَ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ، وَلَكِنْ يَجِبُ الْقِصَاصُ إنْ كَانَ قَتِيلًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ إنْ كَانَ قَتِيلًا يُوجِبُ الدِّيَةَ وَقَدْ ذَكَرْنَا جَمِيعَ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الْقَتِيلُ مِنْ بَنِي آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَا قَسَامَةَ فِي بَهِيمَةٍ وُجِدَتْ فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ وَلَا غُرْمَ فِيهَا؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْقَسَامَةَ فِي نَفْسِهَا أَمْرٌ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ الْيَمِينِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَاعْتِبَارُ عَدَدِ الْخَمْسِينَ غَيْرُ مَعْقُولٍ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، وَكَذَا وُجُوبُ الدِّيَةِ مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي الشَّرْعِ جُعِلَتْ دَافِعَةً لِلِاسْتِحْقَاقِ بِنَفْسِهَا كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ فِي بَنِي آدَمَ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيمَا وَرَاءَهُمْ عَلَى الْأَصْلِ؛ وَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ الْقَسَامَةُ وَالْغَرَامَةُ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ، كَذَا فِي الْبَهَائِمِ، وَتَجِبُ فِي الْعَبْدِ الْقَسَامَةُ وَالْقِيمَةُ إذَا وُجِدَ قَتِيلًا فِي غَيْرِ مِلْكِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ، وَالْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ، وَتَغْرَمُ الْعَاقِلَةُ قِيمَتَهُ فِي الْخَطَأِ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا، فَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُ مَضْمُونٌ بِالْخَطَأِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: تَجِبُ قِيمَتُهُ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَلَا تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْبَهِيمَةِ. وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ لِمَا قُلْنَا وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَتِيلُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَطْلَقَ الْقَضِيَّةَ بِالْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ فِي مُطْلَقِ قَتِيلٍ أُخْبِرَ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ، وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ لَاسْتَفْسَرُوا؛ لِأَنَّ دَمَ هَؤُلَاءِ مَضْمُونٌ بِالْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ، وَسَوَاءٌ وُجِدَ الْمُسْلِمُ قَتِيلًا فِي مَحَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي مَحَلَّةٍ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وُجِدَ قَتِيلًا فِي قَلِيبٍ مِنْ قَلِيبِ خَيْبَرَ وَأَوْجَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَسَامَةَ عَلَى الْيَهُودِ. وَكَذَا الذِّمِّيُّ؛ لِأَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ إلَّا مَا نُصَّ بِدَلِيلٍ. (وَمِنْهَا) : الدَّعْوَى مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ يَمِينٌ، وَالْيَمِينُ لَا تَجِبُ بِدُونِ الدَّعْوَى كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا:) إنْكَارُ الْمُدَّعَى

عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَظِيفَةُ الْمُنْكِرِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» جَعَلَ جِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِ فَيَنْفِي وُجُوبَهَا عَلَى غَيْرِ الْمُنْكِرِ. (وَمِنْهَا) : الْمُطَالَبَةُ بِالْقَسَامَةِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي، وَحَقُّ الْإِنْسَانِ يُوَفَّى عِنْدَ طَلَبِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَيْمَانِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الِاخْتِيَارُ فِي حَالِ الْقَسَامَةِ إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ حَقُّهُمْ فَلَهُمْ أَنْ يَخْتَارُوا مَنْ يَتَّهِمُونَهُ وَيَسْتَحْلِفُونَ صَالِحِي الْعَشِيرَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَحْلِفُونَ كَذِبًا، وَلَوْ طُولِبَ مَنْ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ بِهَا فَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي بَابِ الْقَسَامَةِ حَقٌّ مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ لَا أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ الدِّيَةُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدِّيَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ الْأَزْمَعِ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَبْذُلُ أَيْمَانَنَا وَأَمْوَالَنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَرُوِيَ أَنَّ الْحَارِثَ قَالَ: أَمَا تُجْزِي هَذِهِ عَنْ هَذِهِ؟ فَقَالَ: لَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: فَبِمَ يَبْطُلُ دَمُ صَاحِبِكُمْ؟ فَإِذَا كَانَتْ مَقْصُودَةً بِنَفْسِهَا فَمَنْ امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ حَقٍّ مَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْأَدَاءِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ، كَمَنْ امْتَنَعَ عَنْ قَضَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقَضَاءِ بِخِلَافِ الْيَمِينِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مَقْصُودَةً بِنَفْسِهَا بَلْ هِيَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ الْمَالُ الْمُدَّعَى. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا؟ بَلْ إذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَرِئَ، أَوْ لَا تَرَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَحْلِفْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَمْ يُقِرَّ وَبَذَلَ الْمَالَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؟ وَهَهُنَا لَوْ لَمْ يَحْلِفُوا، وَلَمْ يُقِرُّوا، وَبَذَلُوا الدِّيَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ الْقَسَامَةُ فَدَلَّ أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا فَيُجْبَرُونَ عَلَيْهَا بِالْحَبْسِ، {وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ} أَنَّهُمْ لَا يُحْبَسُونَ، وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَيِسَ عَنْ الْحَلْفِ وَسَأَلَهُ الْأَوْلِيَاءُ أَنْ يُغَرِّمَهُمْ الدِّيَةَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيلِ مِلْكًا لِأَحَدٍ أَوْ فِي يَدِ أَحَدٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَا فِي يَدِ أَحَدٍ أَصْلًا فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدٍ، يَدُ الْعُمُومِ، لَا يَدُ الْخُصُوصِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَا لِجَمَاعَةٍ يُحْصَوْنَ - لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ أَوْ الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِتَرْكِ الْحِفْظِ اللَّازِمِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِلْكَ أَحَدٍ، وَلَا فِي يَدِ أَحَدٍ أَصْلًا لَا يَلْزَمُ أَحَدًا حِفْظُهُ - فَلَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ، وَإِذَا كَانَ فِي يَدِ الْعَامَّةِ فَحِفْظُهُ عَلَى الْعَامَّةِ لَكِنْ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْكُلِّ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكُلِّ، وَأَمْكَنَ إيجَابُ الدِّيَةِ عَلَى الْكُلِّ؛ لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُمْ بِالْأَخْذِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ مَالُهُمْ، فَكَانَ الْأَخْذُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ اسْتِيفَاءً مِنْهُمْ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ لَيْسَ بِمِلْكٍ لِأَحَدٍ أَنَّهُ لَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ الصَّوْتُ مِنْ الْأَمْصَارِ، وَلَا مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ الْقُرَى، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْقُرَى، فَعَلَى أَقْرَبِ الْقُرَى، وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْمِصْرِ - فَعَلَى أَقْرَبِ مَحَالِّ الْمِصْرِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ الصَّوْتُ وَالْغَوْثُ لَا يُلْحَقُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ، فَلَمْ يَكُنْ الْمَوْضِعُ فِي يَدِ أَحَدٍ، فَلَمْ يُوجَدْ الْقَتِيلُ فِي مِلْكِ أَحَدٍ، وَلَا فِي يَدِ أَحَدٍ أَصْلًا فَلَا تَجِبُ فِيهِ الْقَسَامَةُ، وَلَا الدِّيَةُ، وَإِذَا كَانَتْ بِحَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ وَالْغَوْثُ يُلْحَقُ، فَكَانَ مِنْ تَوَابِعِ أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ، وَقَدْ وَرَدَ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ حَدِيثٌ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَضَى بِهِ أَيْضًا سَيِّدُنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَلَوْ وُجِدَ فِي نَهْرٍ عَظِيمٍ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَسَيْحُونُ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ كَانَ النَّهْرُ يَجْرِي بِهِ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّ النَّهْرَ الْعَظِيمَ لَيْسَ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَا فِي يَدِ أَحَدٍ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَجِبُ عَلَى أَقْرَبِ الْقُرَى مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كَمَا إذَا وُجِدَ عَلَى الدَّابَّةِ، وَهِيَ تَسِيرُ، وَلَيْسَتْ فِي يَدِ أَحَدٍ، وَهَذَا الْقِيَاسُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي تَسِيرُ فِيهِ الدَّابَّةُ تَابِعٌ لِأَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ، فَكَانَ فِي يَدِ أَهْلِهِ بِخِلَافِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ يَدِ أَحَدٍ لَا بِالْأَصَالَةِ وَلَا بِالتَّبَعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ النَّهْرُ لَا يَجْرِي بِهِ وَلَكِنَّهُ كَانَ مُحْتَسَبًا فِي الشَّطِّ أَوْ مَرْبُوطًا عَلَى الشَّطِّ أَوْ مُلْقَى عَلَى الشَّطِّ، فَإِنْ كَانَ الشَّطُّ مِلْكًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْأَرْضِ الْمَمْلُوكَةِ أَوْ الدَّارِ الْمَمْلُوكَةِ، إذَا وُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ، وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ فَعَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ مِنْ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى مِنْ حَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ: الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَقُونَ مِنْهُ الْمَاءَ وَيُورِدُونَ دَوَابَّهُمْ؛ فَكَانَ لَهُمْ تَصَرُّفٌ فِي الشَّطِّ؛ فَكَانَ الشَّطُّ فِي أَيْدِيهِمْ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الْجَزِيرَةِ فَعَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَى الْجَزِيرَةِ مِنْ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى مِنْ حَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ: الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْجَزِيرَةَ تَكُونُ فِي تَصَرُّفِهِمْ، فَكَانَتْ

فصل في بيان سبب وجوب القسامة والدية

فِي أَيْدِيهِمْ، وَإِنْ وُجِدَ فِي نَهْرٍ صَغِيرٍ مِمَّا يُقْضَى فِيهِ بِالشُّفْعَةِ لِلشُّرَكَاءِ فِي الشُّرْبِ فَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ النَّهْرِ؛ لِأَنَّ النَّهْرَ مَمْلُوكٌ لَهُمْ وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَتِيلُ مُحْتَبَسًا أَوْ مَرْبُوطًا عَلَى الشَّطِّ أَوْ كَانَ النَّهْرُ يَجْرِي بِهِ بِخِلَافِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِلْكًا لِأَرْبَابِهِ - كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَجْرِي بِهِ مَمْلُوكًا لَهُمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ النَّهْرُ الْكَبِيرُ، وَلَا قَسَامَةَ فِي قَتِيلٍ يُوجَدُ فِي مَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَلَا فِي شَوَارِعِ الْعَامَّةِ، وَلَا فِي جُسُورِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْمِلْكُ، وَلَا يَدُ الْخُصُوصِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَمَصْلَحَتَهَا إلَى الْعَامَّةِ فَكَانَ حِفْظُهَا عَلَيْهِمْ فَإِذَا قَصَّرُوا ضَمَّنُوا بَيْتَ الْمَالِ مَالَهُمْ فَيُؤْخَذُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَكَذَلِكَ لَا قَسَامَةَ فِي قَتِيلٍ فِي سُوقِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ الْأَسْوَاقُ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَمْلُوكَةٍ، وَهِيَ سُوقُ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا يَدُ الْخُصُوصِ كَانَتْ كَالشَّوَارِعِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ سُوقَ السُّلْطَانِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ حِفْظَهَا وَالتَّدْبِيرَ فِيهَا إلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَضْمَنُونَ بِالتَّقْصِيرِ؛ فَبَيْتُ الْمَالِ مَالُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ. وَكَذَا إذَا وُجِدَ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَتِهِمْ، وَلَا قَسَامَةَ، وَالدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهِ، وَلَا يَدُ الْخُصُوصِ، وَيَدُ الْعُمُومِ تُوجِبُ الدِّيَةَ لَا الْقَسَامَةَ؛ لِمَا بَيَّنَّا، فَإِنْ كَانَ السَّوْقُ مِلْكًا تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ لَكِنْ عَلَى مِنْ تَجِبُ فِيهِ اخْتِلَافٌ نَذْكُرهُ فِي مَوْضِعه إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَلَا قَسَامَةَ فِي قَتِيلٍ يُوجَدُ فِي السِّجْنِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَيَدِ الْخُصُوصِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَصَرُّفَ لِأَهْلِ السِّجْنِ فِي السِّجْنِ؛ لِكَوْنِهِمْ مَقْهُورِينَ فِيهِ وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعُمُومِ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ السِّجْنِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ بُنِيَ لِاسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِمْ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ، وَيَدُ الْعُمُومِ تُوجِبُ الدِّيَةَ لَا الْقَسَامَةَ، وَهَذَا قَوْلُهُمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ السِّجْنِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ ضَرْبَ تَصَرُّفٍ فِي السِّجْنِ فَكَأَنَّ لَهُمْ يَدًا عَلَى السِّجْنِ فَعَلَيْهِمْ حِفْظُهُ. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ الْقَتِيلُ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْمِلْكِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ فَلَا قَسَامَةَ، وَلَا دِيَةَ فِي قِنٍّ أَوْ مُدَبَّرٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبٍ أَوْ مَأْذُونٍ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَوُجُودُهُ فِي دَارِهِ قَتِيلًا، كَمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ مِنْهُ، وَقَتْلُ الْمَمْلُوكِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ إلَّا أَنَّ فِي الْمُكَاتَبِ تَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى كَسْبِهِ وَأَرْشُ جِنَايَتِهِ حُرٌّ؛ فَكَانَ كَسْبُهُ وَأَرْشُهُ لَهُ، وَالْمَوْلَى فِيهِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلَا تَعْقِلَهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهُ إذًا صَارَ مَضْمُونًا بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَالْعَقْدُ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبِ لَا فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ، وَفِي الْمَأْذُونِ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِغُرَمَائِهِ إنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِيَّتِهِ، وَقَدْ اسْتَهْلَكَ حَقَّهُمْ بِالْقَتْلِ بِاسْتِهْلَاكِ مَحَلِّ الْحَقِّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِغُرَمَائِهِ، وَتَكُونُ حَالَّةً فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ ضَمَانَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ مِلْكُ الْمَوْلَى بَلْ هَذَا ضَمَانُ الْمَالِ لِتَعَلُّقِ الْغُرَمَاءُ بِمَالِيَّتِهِ، فَكَانَ هَذَا ضَمَانَ الِاسْتِهْلَاكِ، فَتَكُونُ فِي مَالِهِ حَالَّةً لَا مُؤَجَّلَةً كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ بِالْإِعْتَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ - لَا شَيْءَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَهُ عَمْدًا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ مَوْلَاهُ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ حَالَّةً وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَهُ خَطَأً وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِجِنَايَتِهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ وُجِدَ الْعَبْدُ الرَّهْنُ قَتِيلًا فِي دَارِ الرَّاهِنِ أَوْ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ الرَّاهِنِ فَلَا قَسَامَةَ، وَالْقِيمَةُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ دُونَ الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَقَتْلُ الْإِنْسَانِ مِلْكَ نَفْسِهِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِعَقْدِ الرَّهْنِ، وَالْعَقْدُ ثَبَتَ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ لَا فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ فَلَا يَلْزَمُ حُكْمَهُ الْعَاقِلَةُ، وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْمُرْتَهِنِ فَالْقَسَامَةُ وَالْقِيمَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الضَّمَانَ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ فِي دَارِهِ قَتِيلًا كَمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ مِنْهُ، كَعَبْدٍ لَيْسَ بِرَهْنٍ وُجِدَ فِي دَارِهِ قَتِيلًا، وَثَمَّةَ الْقَسَامَةُ وَالْقِيمَةُ عَلَيْهِ، كَذَا هَهُنَا. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ] (فَصْلٌ) : (وَأَمَّا) بَيَانُ سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ فَنَقُولُ: سَبَبُ وُجُوبِهِمَا هُوَ التَّقْصِيرُ فِي النُّصْرَةِ وَحِفْظُ الْمَوْضِعِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيلُ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ النُّصْرَةُ وَالْحِفْظُ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحِفْظُ فَلَمْ يُحْفَظْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحِفْظِ صَارَ مُقَصِّرًا بِتَرْكِ الْحِفْظِ الْوَاجِبِ فَيُؤَاخَذُ بِالتَّقْصِيرِ زَجْرًا عَنْ ذَلِكَ وَحَمْلًا عَلَى تَحْصِيلِ الْوَاجِبِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَخَصَّ بِالنُّصْرَةِ وَالْحِفْظ كَانَ أَوْلَى بِتَحَمُّلِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةَ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ فَكَانَ التَّقْصِيرُ مِنْهُ أَبْلَغَ، وَلِأَنَّهُ إذَا اخْتَصَّ بِالْمَوْضِعِ مِلْكًا أَوْ يَدًا بِالتَّصَرُّفِ كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ لَهُ، فَكَانَتْ النُّصْرَةُ عَلَيْهِ؛ إذْ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] وَلِأَنَّ الْقَتِيلَ إذَا وُجِدَ فِي مَوْضِعٍ اُخْتُصَّ بِهِ وَاحِدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ إمَّا بِالْمِلْكِ أَوْ بِالْيَدِ، وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِيهِ فَيُتَّهَمُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، فَالشَّرْعُ أَلْزَمَهُمْ الْقَسَامَةَ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ

وَالدِّيَةِ لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَمَا قِيلَ: أَنَبْذُلُ أَمْوَالَنَا وَأَيْمَانَنَا؟ فَقَالَ: أَمَّا أَيْمَانُكُمْ فَلِحَقْنِ دِمَائِكُمْ، وَأَمَّا أَمْوَالُكُمْ فَلِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ الْقَتِيلُ إذَا وُجِدَ فِي الْمَحَلَّةِ - فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِلْأَحَادِيثِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ حَفِظَ الْمَحَلَّةِ عَلَيْهِمْ، وَنَفْعُ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلَّةِ عَائِدٌ إلَيْهِمْ، وَهُمْ الْمُتَّهَمُونَ فِي قَتْلِهِ؛ فَكَانَتْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ. وَكَذَا إذَا وُجِدَ فِي مَسْجِدِ الْمَحَلَّةِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْمَحَلَّةِ؛ لِمَا قُلْنَا فَيَحْلِفُ مِنْهُمْ خَمْسُونَ، فَإِنْ لَمْ يَكْمُلْ الْعَدَدُ خَمْسِينَ رَجُلًا تُكَرَّرُ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَكْمُلَ خَمْسِينَ يَمِينًا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ حَلَّفَ رِجَالَ الْقَسَامَةِ فَكَانُوا تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ رَجُلًا، فَأَخَذَ مِنْهُمْ وَاحِدًا، وَكَرَّرَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ حَتَّى كَمُلَتْ خَمْسِينَ يَمِينًا. وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ خَالَفَهُ أَحَدٌ؛ فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَيْمَانَ حَقُّ وَلِي الْقَتِيلِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا مِمَّنْ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْهُ، فَإِنْ أَمْكَنَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ عَدَدِ الرِّجَالِ الْخَمْسِينَ اسْتَوْفَى، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ - يَسْتَوْفِي عَدَدَ الْأَيْمَانِ الَّتِي هِيَ حَقُّهُ، وَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ كَامِلًا فَأَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يُكَرِّرَ الْيَمِينَ عَلَى بَعْضِهِمْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ مَوْضُوعَ هَذِهِ الْأَيْمَانِ عَلَى عَدَدِ الْخَمْسِينَ فِي الْأَصْلِ لَا عَلَى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا التَّكْرَارُ عَلَى وَاحِدٍ لِضَرُورَةِ نُقْصَانِ الْعَدَدِ، وَلَا ضَرُورَةَ عِنْدَ الْكَمَالِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَحَلَّةِ قَبَائِلُ شَتَّى، فَإِنْ كَانَ فِيهَا أَهْلُ الْخُطَّةِ وَالْمُشْتَرُونَ - فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُشْتَرِينَ جَمِيعًا. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ ثَابِتٌ لِلْمُشْتَرِينَ؛ وَلِهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْخُطَّةِ أَحَدٌ كَانَتْ الْقَسَامَةُ عَلَى الْمُشْتَرِينَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ أَهْلَ الْخُطَّةِ أُصُولٌ فِي الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ ثَبَتَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا انْتَقَلَ عَنْهُمْ إلَى الْمُشْتَرِينَ، فَكَانُوا أَخَصَّ بِنُصْرَةِ الْمَحَلَّةِ وَحِفْظِهَا مِنْ الْمُشْتَرِينَ، فَكَانُوا أَوْلَى بِإِيجَابِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الْمُشْتَرِي بَيْنَهُمْ كَالْأَجْنَبِيِّ فَمَا بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لَا يُنْتَقَلُ إلَى الْمُشْتَرِي، وَقِيلَ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ بَنَى الْجَوَابَ عَلَى مَا شَاهَدَ بِالْكُوفَةِ وَكَانَ تَدْبِيرُ أَمْرِ الْمَحَلَّةِ فِيهَا إلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ، وَأَبُو يُوسُفَ رَأَى التَّدْبِيرَ إلَى الْأَشْرَفِ وَمِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْخُطَّةِ أَوْ لَا، فَبَنَى الْجَوَابَ عَلَى ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا خِلَافٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَوَّلَ عَلَى مَعْنَى الْحِفْظِ وَالنُّصْرَةِ، فَإِنْ فُقِدَ أَهْلُ الْخُطَّةِ. وَكَانَ فِي الْمَحَلَّةِ مُلَّاكٌ وَسُكَّانٌ - فَالدِّيَةُ عَلَى الْمُلَّاكِ لَا عَلَى السَّكَّانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: عَلَيْهِمْ جَمِيعًا لَهُ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ وَكَانُوا سُكَّانًا» وَلِأَنَّ لِلسَّاكِنِ اخْتِصَاصًا بِالدَّارِ يَدًا كَمَا أَنَّ لِلْمَالِكِ اخْتِصَاصًا بِهَا مِلْكًا، وَيَدُ الْخُصُوصِ تَكْفِي لِوُجُوبِ الْقَسَامَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْمَالِكَ أَخَصُّ بِحِفْظِ الْمَوْضِعِ وَنُصْرَتِهِ مِنْ السُّكَّانِ؛ لِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ اخْتِصَاصُ مِلْكٍ، وَأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ اخْتِصَاصِ الْيَدِ. أَلَا يُرَى أَنَّ السُّكَّانَ يَسْكُنُونَ زَمَانًا ثُمَّ يَنْتَقِلُونَ. وَأَمَّا إيجَابُ الْقَسَامَةِ عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ فَمَمْنُوعٌ أَنَّهُمْ كَانُوا سُكَّانًا، بَلْ كَانُوا مُلَّاكًا فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ وَوَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَمَا كَانَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كَانَ يُؤْخَذُ عَلَى وَجْهِ الْجِزْيَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْأُجْرَةِ. وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي سَفِينَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ رُكَّابٌ - فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَرْبَابِ السَّفِينَةِ، وَعَلَى مَنْ يَمُدُّهَا مِمَّنْ يَمْلِكُهَا أَوْ لَا يَمْلِكُهَا، وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ فِيهَا رُكَّابٌ فَعَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَهَذَا فِي الظَّاهِرِ يُؤَيِّدُ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي إيجَابِهِ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى الْمُلَّاكِ وَالسَّكَّانِ جَمِيعًا، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يُفَرِّقَانِ بَيْنَ السَّفِينَةِ وَالْمَحَلَّةِ؛ لِأَنَّ السَّفِينَةَ تَنْقُلُ وَتُحَوِّلُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان فَتُعْتَبَرُ فِيهَا الْيَدُ دُونَ الْمِلْكِ كَالدَّابَّةِ إذَا وُجِدَ عَلَيْهَا قَتِيلٌ، بِخِلَافِ الدَّارِ فَإِنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَالتَّحْوِيلَ، فَيُعْتَبَرُ فِيهَا الْمِلْكُ وَالتَّحْوِيلُ مَا أَمْكَنَ لَا الْيَدُ. وَكَذَلِكَ الْعَجَلَةُ حُكْمُهَا حُكْمُ السَّفِينَةِ؛ لِأَنَّهَا تَنْقُلُ وَتُحَوِّلُ، وَلَوْ وُجِدَ الْقَتِيلُ مَعَهُ رَجُلٌ يَحْمِلُهُ عَلَى ظَهْرِهِ فَعَلَيْهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْقَتِيلَ فِي يَدِهِ، وَلَوْ وُجِدَ جَرِيحٌ مَعَهُ بِهِ رَمَقٌ يَحْمِلُهُ حَتَّى أَتَى بِهِ أَهْلَهُ فَمَكَثَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ مَاتَ لَا يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَضْمَنُ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ: أَنَّ الْحَامِلَ قَدْ ثَبَتَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ مَجْرُوحًا فَإِذَا مَاتَ مِنْ الْجُرْحِ فَكَأَنَّهُ مَاتَ فِي يَدِهِ وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى مَنْ جُرِحَ فِي قَبِيلَةٍ فَتَحَامَلَ إلَى قَبِيلَةٍ أُخْرَى

فَمَاتَ فِيهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَى دَابَّةٍ، وَلَهَا سَائِقٌ أَوْ قَائِدٌ أَوْ عَلَيْهَا رَاكِبٌ - فَعَلَيْهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ، وَإِنْ اجْتَمَعَ السَّائِقُ وَالْقَائِدُ وَالرَّاكِبُ - فَعَلَيْهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْقَتِيلَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَصَارَ كَأَنَّهُ وُجِدَ فِي دَارِهِمْ، وَإِنْ وُجِدَ عَلَى دَابَّةٍ لَا سَائِقَ لَهَا وَلَا قَائِدَ وَلَا رَاكِبَ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِلْكًا لِأَحَدٍ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْمَالِكِ، وَإِنْ كَانَ لَا مَالِكَ لَهُ فَعَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ يُسْمَعُ الصَّوْتُ مِنْ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ - فَهُوَ هَدَرٌ لِمَا قُلْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ وُجِدَتْ الدَّابَّةُ فِي مَحَلَّةٍ - فَعَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ. وَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَكَانُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ مِلْكًا لِإِنْسَانٍ - فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالِكٌ فَعَلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِع إلَيْهِ مِنْ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، إذَا كَانَتْ بِحَيْثُ يَبْلُغُ الصَّوْتُ مِنْهَا إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَبْلُغُ - فَهُوَ هَدَرٌ لِمَا قُلْنَا، وَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ أَنَّهُ يُضَاف إلَى أَقْرَبِهِمَا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ بِأَنْ يُوَزَّعَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَهُمَا» وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ وَدَاعَةَ وَأَرْحَبَ، وَكَتَبَ إلَيْهِ عَامِلُهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إلَيْهِ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ قِسْ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَقْرَبَ فَأَلْزِمْهُمْ فَوَجَدَ الْقَتِيلَ إلَى وَدَاعَةَ أَقْرَبَ فَأُلْزِمُوا الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَبْلُغُ الصَّوْتُ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيلُ، كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ حَكَاهُ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْفِقْهُ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَكَذَا إذَا وُجِدَ بَيْنَ سِكَّتَيْنِ - فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَقْرَبِهِمَا، فَإِنْ وُجِدَ فِي الْمُعَسْكَرِ فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا لَهَا أَرْبَابٌ - فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَرْبَابِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُمْ أَخَصُّ بِنُصْرَةِ الْمَوْضِعِ وَحِفْظِهِ، فَكَانُوا أَوْلَى بِإِيجَابِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُعَسْكَرَ كَالسُّكَّانِ، وَالْقَسَامَةُ عَلَى الْمُلَّاكِ لَا عَلَى السَّكَّانِ عَلَى أَصْلِهِمَا (فَأَمَّا) عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَإِنْ يَكُنْ فِي مِلْكِ أَحَدٍ بِأَنْ وُجِدَ فِي خِبَاءٍ أَوْ فُسْطَاطٍ - فَعَلَى مَنْ يَسْكُنْ الْخِبَاءَ وَالْفُسْطَاطَ، وَعَلَى عَوَاقِلِهِمْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْخَيْمَةِ خُصَّ بِمَوْضِعِ الْخَيْمَةِ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الدَّارِ مَعَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ثُمَّ الْقَسَامَةُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ إذَا وُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ لَا عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، كَذَا هَهُنَا. وَإِنْ وُجِدَ خَارِجًا مِنْ الْفُسْطَاطِ وَالْخِبَاءِ فَعَلَى أَقْرَبِ الْأَخْبِيَةِ وَالْفَسَاطِيطِ مِنْهُمْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ، كَذَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْأَقْرَبَ أَوْلَى بِإِيجَابِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا وُجِدَ بَيْنَ الْخِيَامِ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ، كَالْقَتِيلِ يُوجَدُ فِي الْمَحَلَّةِ جَعَلَ الْخِيَامَ الْمَحْمُولَةَ كَالْمَحَلَّةِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَسْكَرُ لَقُوا عَدُوًّا، فَإِنْ كَانُوا قَدْ لَقُوا عَدُوًّا فَقَاتَلُوا - فَلَا قَسَامَةَ، وَلَا دِيَةَ فِي قَتِيلٍ يُوجَدُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا لَقُوا عَدُوًّا وَقَاتَلُوا فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعَدُوَّ قَتَلَهُ لَا الْمُسْلِمُونَ؛ إذْ الْمُسْلِمُونَ لَا يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ إلَى جَانِبِ قَرْيَةٍ لَيْسَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ - فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ لَا عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ أَخَصُّ بِنُصْرَةِ أَرْضِهِ وَحِفْظِهَا مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، فَكَانَ أَوْلَى بِإِيجَابِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَيْهِ، كَصَاحِبِ الدَّارِ مَعَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ. لَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي دَارِ إنْسَانٍ، وَصَاحِبُ الدَّارِ مِنْ أَهْلِ الْقَسَامَةِ - فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ الْعَاقِلَةُ حُضُورًا أَوْ غُيَّبًا، وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ الْقَسَامَةَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ حُضُورًا كَانُوا أَوْ غُيَّبًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا قَسَامَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، هَكَذَا ذَكَرَ فِيهِ وَقَالَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ كَانَتْ الْعَاقِلَةُ حُضُورًا فِي الْمِصْرِ دَخَلُوا فِي الْقَسَامَةِ، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً فَالْقَسَامَةُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ تُكَرَّرُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانُ، وَالدِّيَةُ عَلَيْهِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ أَمَّا دُخُولُ الْعَاقِلَةِ فِي الْقَسَامَةِ، إذَا كَانُوا حُضُورًا - فَهُوَ قَوْلُهُمَا، وَظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: لَا قَسَامَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَدْخُلُوا فِي الْقَسَامَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَتْهُمْ الدِّيَةُ لَزِمَتْهُمْ الْقَسَامَةُ، كَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ أَخَصُّ بِالنُّصْرَةِ وَبِالْوِلَايَةِ وَالتُّهْمَةِ فَلَا يُشَارِكَهُ الْعَاقِلَةُ كَمَا لَا يُشَارِكُ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ غَيْرُهُمْ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْعَاقِلَةَ إذَا كَانُوا حُضُورًا يَلْزَمُهُمْ حِفْظُ الدَّارِ وَنُصْرَتُهَا كَمَا يَلْزَمُ صَاحِبُ الدَّارِ. وَكَذَا يُتَّهَمُونَ بِالْقَتْلِ كَمَا يُتَّهَمُ صَاحِبُ الدَّارِ فَقَدْ شَارَكُوا فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ

فَيُشَارِكُونَهُ فِي الْقَسَامَةِ أَيْضًا وَبِهَذَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِ الْحُضُورِ وَالْغَيْبَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ مَعْنَى التُّهْمَةِ ظَاهِرُ الِانْتِفَاءِ مِنْ الْغَيْبِ. وَكَذَا مَعْنَى النُّصْرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ نُصْرَةٌ مِنْ جِهَتِهِمْ إلَّا أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالتُّهْمَةِ؛ فَإِنَّهُمْ يَتَحَمَّلُونَ عَنْ الْقَاتِلِ الْمُعَيَّنِ، إذَا كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ خَاطِئًا وَسَوَاءٌ كَانَتْ الدَّارُ فِيهَا سَاكِنٌ أَوْ كَانَتْ مُفَرَّغَةٌ مُغْلَقَةٌ فَوُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ - فَعَلَى رَبِّ الدَّارِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْمِلْكَ دُونَ السُّكْنَى؛ فَكَانَ وُجُودُ السُّكْنَى فِيهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ. (وَأَمَّا) أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّمَا يُوجِبُ عَلَى السَّاكِنِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالدَّارِ يَدًا وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمِلْكُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيلُ خَاصًّا أَوْ مُشْتَرَكًا - فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَرْبَابِ الْمِلْكِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَسَوَاءٌ اتَّفَقَ قَدْرُ أَنْصِبَاءِ الشُّرَكَاءِ أَوْ اخْتَلَفَ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا الثُّلُثَانِ وَلِلْآخِرِ الثُّلُثَ - فَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى عَاقِلَتِهِمَا نِصْفَانِ، وَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ عَدَدُ الرُّءُوسِ لَا قَدْرُ الْأَنْصِبَاءِ كَمَا فِي الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ حِفْظَ الدَّارِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْحِفْظُ لَا يَخْتَلِفُ؛ وَلِهَذَا تَسَاوَيَا فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لِدَفْعِ ضَرَرِ الدَّخِيلِ، وَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ قَدْرِ الْمِلْكِ، وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِيمَنْ بَاعَ دَارًا، وُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا الْمُشْتَرِي: أَنَّ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى الْبَائِعِ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْع خِيَارٌ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِيَارٌ - فَعَلَى مَنْ الدَّارُ فِي يَدِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: الدِّيَةُ عَلَى مَالِكِ الدَّارِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِيَارٌ فَعَلَى مَنْ تَصِيرُ الدَّارَ لَهُ وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الدِّيَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ، فَتَكُونَ الدِّيَةُ عَلَيْهِ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ: أَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خِيَارٌ. وَكَذَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ دُخُولَ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِهِ عِنْدَهُ، فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ - فَالْمِلْكُ لَهُ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ بِلَا خِلَافٍ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خِيَارٌ فَالْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا لِلْبَائِعِ صُورَةُ يَدٍ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ، وَصُورَةُ الْيَدِ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْقَسَامَةِ، كَيَدِ الْمُودِعِ، فَكَانَتْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِذَا كَانَ فِيهِ خِيَارٌ فَعَلَى مَنْ تَصِيرُ الدَّارَ لَهُ؛ لِأَنَّهَا إذَا صَارَتْ لِلْبَائِعِ - فَقَدْ انْفَسَخَ الْبَيْعُ، وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ صَارَتْ لِلْمُشْتَرِي - فَقَدْ انْبَرَمَ الْبَيْعَ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مَلَكهَا بِالْعَقْدِ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ. (وَأَمَّا) تَصْحِيحُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَمُشْكِلٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْمِلْكَ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَالتَّحْوِيلَ لَا الْيَدَ، وَإِنْ كَانَتْ الْيَدُ يَدَ تَصَرُّفٍ كَيَدِ السَّاكِنِ، وَالثَّابِتُ لِلْبَائِعِ صُورَةُ يَدٍ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَعْتَبِرَهُ، لَكِنْ لَا إشْكَالَ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِتَرْكِ الْحِفْظِ، وَالْحِفْظُ بِالْيَدِ حَقِيقَةً، إلَّا أَنَّهُ يُضَافُ الْحِفْظُ إلَى الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ بِهِ عَادَةً، فَيُقَامُ مَقَامَ الْيَدِ، فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى مَا بِهِ حَقِيقَةُ الْحِفْظِ أَوْلَى إلَّا أَنَّ مُطْلَقَ الْيَدِ لَا يُعْتَبَرُ بَلْ الْيَدُ الْمُسْتَحَقَّةُ بِالْمِلْكِ، وَهَذِهِ يَدٌ مُسْتَحَقَّةٌ بِالْمِلْكِ بِخِلَافِ يَدِ السَّاكِنِ. وَإِذَا وُجِدَ رَجُلٌ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا شَيْءَ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثْلُ قَوْلِهِمْ (وَجْهُ) قَوْلِهِمْ: أَنَّ الْقَتْلَ صَادَفَهُ، وَالدَّارُ مِلْكُهُ، وَإِنَّمَا صَارَ مِلْكَ الْوَرَثَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالْمَوْتُ لَيْسَ بِقَتْلٍ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِعْلُ الْقَاتِلِ، وَلَا صُنْعَ لِأَحَدٍ فِي الْمَوْتِ، بَلْ هُوَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فَلَمْ يُقْتَلْ فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ فَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْوَرَثَةِ وَعَوَاقِلهمْ، وَلِأَنَّ وُجُودَهُ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ بِنَفْسِهِ كَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ هَدَرًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقَسَامَةِ - وَقْتَ ظُهُورِ الْقَتِيلِ، لَا وَقْتَ وُجُودِ الْقَتْلِ بِدَلِيلِ أَنْ مَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ فِي الدِّيَةِ، وَالدَّارُ وَقْتَ ظُهُورِ الْقَتِيلِ لِوَرَثَتِهِ؛ فَكَانَتْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى عَوَاقِلهمْ تَجِبُ، كَمَا لَوْ وَجَدَ قَتِيلًا فِي دَارِ ابْنِهِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى عَوَاقِلِهِمْ، وَأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ لَهُمْ؟ فَكَيْفَ تَجِبُ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ؟ وَكَذَا عَاقِلَتُهُمْ تَتَحَمَّلُ عَنْهُمْ لَهُمْ أَيْضًا، وَفِيهِ إيجَابٌ لَهُمْ أَيْضًا وَعَلَيْهِمْ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ - فَالْجَوَابُ: مَمْنُوعٌ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ لَهُمْ بَلْ لِلْقَتِيلِ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسِهِ فَتَكُونُ لَهُ، وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ يُجَهَّزُ مِنْهَا، وَتُقْضَى مِنْهَا دُيُونَهُ، وَتُنَفَّذُ مِنْهَا وَصَايَاهُ ثُمَّ مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ تَسْتَحِقُّهُ وَرَثَتُهُ لِاسْتِغْنَاءِ الْمَيِّتِ عَنْهُ، وَالْوَرَثَةُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ وَصَارَ كَمَا لَوْ وُجِدَ الْأَبُ قَتِيلًا فِي دَارِ ابْنِهِ أَوْ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا ابْنُهُ أَلَيْسَ أَنَّهُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الِابْنِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ وَلَا

فصل في بيان من يدخل في القسامة والدية بعد وجوبهما ومن لا يدخل في ذلك

يَمْتَنِعُ ذَلِكَ؛ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا وَقْتَ وُجُودِ الْقَتْلِ - فَهُوَ مُمْكِنٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِتَقْصِيرِهِمْ فِي حِفْظِ الدَّارِ فَتَجِبُ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ حَقًّا لِلْمَقْتُولِ ثُمَّ تَنْتَقِلُ مِنْهُ إلَى وَرَثَتِهِ عِنْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَتِهِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ إذَا وُجِدَ ابْنُ الرَّجُلَ أَوْ أَخُوهُ قَتِيلًا فِي دَارِهِ أَنَّ عَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَةَ ابْنِهِ وَدِيَةَ أَخِيهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ وَارِثَهُ؛ لِمَا قُلْنَا: إنَّ وُجُودَ الْقَتِيلِ فِي الدَّارِ كَمُبَاشَرَةِ صَاحِبِهَا الْقَتْلَ فَيَلْزَمُ عَاقِلَتُهُ ذَلِكَ لِلْمَقْتُولِ ثُمَّ يَسْتَحِقُّهَا صَاحِبُ الدَّارِ بِالْإِرْثِ، وَلَوْ وُجِدَ مُكَاتَبٌ قَتِيلًا فِي دَار نَفْسِهِ فَدَمُهُ هَدَرٌ؛ لِأَنَّ دَارِهِ فِي وَقْتِ ظُهُورِ الْقَتِيلِ لَيْسَتْ لِوَرَثَتِهِ بَلْ هِيَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ نَفْسِهِ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ فَهَدَرَ دَمُهُ رَجُلَانِ كَانَا فِي بَيْتٍ لَيْسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ وُجِدَ أَحَدُهُمَا مَذْبُوحًا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَضْمَنُ الْآخَرُ الدِّيَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَتَلَهُ صَاحِبُهُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَتَلَهُ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا، وَاحْتِمَالُ خِلَافِ الظَّاهِرِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاحْتِمَالِ ثَابِتٌ فِي قَتِيلِ الْمَحَلَّةِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَنْ يَدْخُل فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ بَعْدَ وُجُوبِهِمَا وَمَنْ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ بَعْدَ وُجُوبِهِمَا، وَمَنْ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ -: الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يَدْخُلَانِ فِي الْقَسَامَةِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ وُجِدَ الْقَتِيلُ سَوَاءٌ وُجِدَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِمَا أَوْ فِي مِلْكِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ يَمِينٌ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ؛ وَلِهَذَا لَا يُسْتَحْلَفَانِ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، وَلِأَنَّ الْقَسَامَةَ تَجِبُ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ؛ فَلَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِمَا، وَتَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي مِلْكِهِمَا لِتَقْصِيرِهِمْ بِتَرْكِ النُّصْرَةِ اللَّازِمَةِ. وَهَلْ يَدْخُلَانِ فِي الدِّيَةِ مَعَ الْعَاقِلَةِ؟ فَإِنْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِمَا كَالْمَحَلَّةِ وَمِلْكِ إنْسَانٍ لَا يَدْخُلَانِ فِيهَا، وَإِنْ وُجِدَ فِي مِلْكِهِمَا يَدْخُلَانِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْقَتِيلِ فِي مِلْكِهِمَا كَمُبَاشَرَتِهِمَا الْقَتْلَ، وَهُمَا مُؤَاخَذَانِ بِضَمَانِ الْأَفْعَالِ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَدْخُلَانِ فِي الدِّيَةِ مَعَ الْعَاقِلَةِ أَصْلًا، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ الْقَتْلِ، وَالْقَتْلُ فِعْلٌ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ مُؤَاخَذَانِ بِأَفْعَالِهِمَا وَلَا يَدْخُلُ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُسْتَنْصَرُ بِهِمْ عَادَةً، وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ أَيْضًا؛ فَلَا تَلْزَمُهُمْ الدِّيَةَ. وَأَمَّا الْمَأْذُونُ وَالْمُكَاتَبُ - فَلَا يَدْخُلَانِ فِي قَسَامَةٍ وَجَبَتْ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ فِي غَيْرِ دَارِهِمَا، وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِهِمَا أَمَّا الْمَأْذُونُ - إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ - فَلَا قَسَامَةَ عَلَيْهِ، بَلْ عَلَى مَوْلَاهُ وَعَاقِلَتَهُ - اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ، وَإِذَا حَلَفَ يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ: أَنَّ الْعَبْدَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ. أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ فِي الدَّعَاوَى؟ وَوُجُودُ الْقَتِيلِ فِي دَارِهِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ خَطَأً، وَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، كَذَا هَذَا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ فَائِدَةَ الِاسْتِحْلَافِ جَرَيَانُ الْقَسَامَةِ لِسَبَبٍ هُوَ النُّكُولُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْضَى بِالنُّكُولِ فِي هَذَا الْبَابِ بَلْ يُحْبَسُ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ، وَلَوْ أَقَرَّ بِالْقَتْلِ - خَطَأً - لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى مَوْلَاهُ فَلَمْ يَكُنْ الِاسْتِحْلَافُ مُفِيدًا فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ، وَتَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّهُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ عِنْدَهُ؛ فَلَا يَمْلِكُ الدَّارَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: تَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهَا فَالْغُرَمَاءُ لَا يَمْلِكُونَهَا أَيْضًا، وَالْعَبْدُ لَا مِلْكَ لَهُ، وَالْمَوْلَى أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ، فَكَانَتْ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِ مَعَ مَا أَنَّ لِلْمَوْلَى حَقًّا فِي الدَّارِ، وَهُوَ حَقُّ اسْتِخْلَاصِهَا لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْغُرَمَاءِ، فَكَانَ أَوْلَى بِإِيجَابِ الْقَسَامَةِ (وَأَمَّا) الْمُكَاتَبُ إذَا وَجَدَ قَتِيلًا فِي دَارِهِ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ الدَّارِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْقَتِيلِ فِي دَارِهِ كَمُبَاشَرَتِهِ الْقَتْلَ فَلَا يَكُونُ عَلَى مَوْلَاهُ كَمَا لَا يَكُونُ عَلَيْهِ فِي مُبَاشَرَتِهِ. وَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ؟ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يُكَرَّرُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانُ، فَإِنْ حَلَفَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدِّيَةِ إلَّا قَدْرَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ عَاقِلَةَ الْمُكَاتَبِ نَفْسُهُ، وَتَكُونُ الْقِيمَةُ حَالَّةً؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِالْمَنْعِ مِنْ الدَّفْعِ، فَتَكُونُ حَالَّةً كَمَا تَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى بِجِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ، وَلَوْ كَانَ الْقَتِيلُ مَوْلَى الْمُكَاتَبِ كَانَ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْقَتِيلِ فِي دَارِهِ كَمُبَاشَرَتِهِ الْقَتْلُ وَتَكُونُ الْقِيمَةُ حَالَّةً لَا مُؤَجَّلَةً؛ لِمَا قُلْنَا، وَلَا تَدْخُلُ الْمَرْأَةُ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ فِي قَتِيلٍ يُوجَدُ فِي غَيْرِ مِلْكهَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُمَا بِطَرِيقِ النُّصْرَةِ وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِهَا أَوْ فِي قَرْيَةٍ لَهَا لَا يَكُونُ بِهَا غَيْرُهَا - عَلَيْهَا الْقَسَامَةُ فَتُسْتَحْلَفُ

فصل في ما يكون إبراء عن القسامة والدية

وَيُكَرَّرُ عَلَيْهَا الْأَيْمَانُ، وَهَذَا قَوْلُهُمَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهَا لَا عَلَى عَاقِلَتِهَا. وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ لُزُومَ الْقَسَامَةِ لِلُزُومِ النُّصْرَةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ فَلَا تَدْخُلُ فِي الْقَسَامَةِ؛ وَلِهَذَا لَمْ تَدْخُلْ مَعَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ عَلَى الْمَالِكِ هُوَ الْمِلْكُ مَعَ أَهْلِيَّةِ الْقَسَامَةِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي حَقِّهَا، أَمَّا الْمِلْكُ فَثَابِتٌ لَهَا. وَأَمَّا الْأَهْلِيَّةُ فَلِأَنَّ الْقَسَامَةَ يَمِينٌ، وَأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُسْتَحْلَفُ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ؟ وَمَعْنَى النُّصْرَةِ يُرَاعَى وُجُودُهُ فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي كُلِّ فَرْدٍ كَالْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ. وَهَلْ تَدْخُلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فِي الدِّيَةِ؟ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْقَاتِلَ فِي التَّحَمُّلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا عَاقِلًا بَالِغًا، فَإِذَا لَمْ تَدْخُلْ عِنْدَ وُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهَا عَيْنًا فَهَهُنَا أَوْلَى، وَأَصْحَابُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالُوا: إنَّ الْمَرْأَةَ تَدْخُلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فِي الدِّيَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنْكَرُوا عَلَى الطَّحَاوِيِّ قَوْلَهُ وَقَالُوا: إنَّ الْقَاتِلَ يَدْخُلُ فِي الدِّيَةِ بِكُلِّ حَالٍ، وَيَدْخُلُ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ الْأَعْمَى وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ وَالْكَافِرُ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْلَافِ وَالْحِفْظِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي مَا يَكُونُ إبْرَاءً عَنْ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ] وَأَمَّا مَا يَكُونُ إبْرَاءً عَنْ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ فَنَوْعَانِ: نَصٌّ وَدَلَالَةٌ، أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ كَقَوْلِهِ: أَبْرَأْتُ أَوْ أَسْقَطْتُ أَوْ عَفَوْتُ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الْإِبْرَاءِ صَدَرَ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِبْرَاءِ فِي مَحِلٍّ قَابِلٍ لِلْبَرَاءَةِ فَيَصِحُّ. وَأَمَّا الدَّلَالَةُ - فَهِيَ: أَنْ يَدَّعِيَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَيَبْرَأُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ عَنْ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ الْقَتِيلِ فِي الْمَحَلَّةِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَاتِلًا، فَإِقْدَامُ الْوَلِيِّ عَلَى الدَّعْوَى عَلَيْهِ يَكُون نَفْيًا لِلْقَتْلِ عَنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، فَيَتَضَمَّنُ بَرَاءَتَهُمْ عَنْ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِلَّا حَلَفَ، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَعِنْدَهُمَا) : يُقْضَى بِالدِّيَةِ، وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِلْوَلِيِّ بِهَذِهِ الدَّعْوَى لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا: تُقْبَلُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْقَبُولِ قَبْلَ الدَّعْوَى - كَانَتْ - التُّهْمَةُ، وَقَدْ زَالَتْ بِالْبَرَاءَةِ فَلَا مَعْنَى لِرَدِّ الشَّهَادَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ تَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ فِي شَهَادَتِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ أَبْرَأَهُمْ لِيُتَوَسَّلَ بِالْإِبْرَاءِ إلَى تَصْحِيحِ شَهَادَتِهِمْ، وَالثَّانِي أَنَّهُ أَحْسَنَ إلَيْهِمْ بِالْإِبْرَاءِ حَيْثُ أَسْقَطَ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَنْهُمْ، فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالْمُكَافَأَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَالشَّهَادَةُ تُرَدُّ بِالتُّهْمَةِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ كَانُوا خُصَمَاءَ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنْ خَرَجُوا بِالْإِبْرَاءِ عَنْ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِكَوْنِهِمْ خُصَمَاءَ قَائِمٌ، وَهُوَ وُجُودُ الْقَتِيلِ فِيهِمْ كَالْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ إذَا خَاصَمَ ثُمَّ عُزِلَ فَشَهِدَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، كَذَا هَذَا، وَلَوْ ادَّعَى وَلِيُّ الْقَتِيلِ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ بِحَالِهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْقَسَامَةَ تَسْقُطُ. وَكَذَا رَوَى مُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْقِيَاسُ أَنْ تَسْقُطَ الْقَسَامَةُ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ لِلْأَثَرِ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ تَعْيِينَ الْوَلِيِّ وَاحِدًا مِنْهُمْ - إبْرَاءً عَنْ الْبَاقِينَ - دَلَالَةٌ فَتَسْقُطُ عَنْهُمْ الْقَسَامَةُ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُمْ نَصًّا. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الْقَاتِلَ أَحَدُ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ظَاهِرًا، وَالْوَلِيُّ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ عَيَّنَ، وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي التَّعْيِينِ فَلَا يُعْتَبَرُ تَعْيِينُهُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ حُكْمُ الْقَسَامَةِ إلَّا بِهَا، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَى دَعْوَاهُ يُقْضَى بِهَا، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ، وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ، وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ مِنْ الْمَحَلَّةِ عَلَيْهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ بَعْدَ هَذِهِ الدَّعْوَى قَائِمَةٌ فَكَانَ الشَّاهِدُ خَصْمًا؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الْخُصُومَةَ عَنْ نَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ وَلَا شَهَادَةَ لِلْخَصْمِ، وَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً أُخْرَى، وَبَقِيَتْ الْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَى حَالِهَا يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالشَّاهِدَانِ مَعَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ حَتَّى يَكْمُلَ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ثُمَّ كَيْفَ يُسْتَحْلَفُ الشُّهُودُ مَعَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ؟ عِنْدَهُمَا يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مَا قَتَلْنَاهُ، وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا غَيْرَ فُلَانٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ - جَلَّ شَأْنُهُ - مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا يُزَادُونَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ قَاتِلٌ فَلَا سَبِيلَ إلَى اسْتِحْلَافهمْ عَلَى الْعِلْمِ، وَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيمَا قَالَاهُ مُرَاعَاةُ مَوْضُوعِ الْقَسَامَةِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْيَمِينِ عَلَى الْبَتَاتِ وَالْعِلْمِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فِيمَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، وَفِيمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ تَرْكُ الْيَمِينِ عَلَى الْعِلْمِ أَصْلًا فَكَانَ مَا قَالَاهُ

فصل في الجناية على ما دون النفس مطلقا وأنواعها

أَوْلَى، وَلَوْ ادَّعَى عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ تَصِحُّ دَعْوَاهُمْ، فَإِنْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ، وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ إنْ وَافَقَهُمْ الْأَوْلِيَاءُ فِي الدَّعْوَى عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقهُمْ فِي الدَّعْوَى عَلَيْهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْأَوْلِيَاءَ قَدْ أَبْرَءُوهُ حَيْثُ أَنْكَرُوا وُجُودَ الْقَتْلِ مِنْهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْقَتْلَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لَهُمْ الْبَيِّنَةُ وَحَلَفَ ذَلِكَ الرَّجُلُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ثُمَّ كَيْفَ يَحْلِفُونَ؟ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مُطْلَقًا وأنواعها] وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مُطْلَقًا فَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ يَقَعُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي بَيَانِ أَنْوَاعِهَا، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ حُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مُطْلَقًا أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: إبَانَةُ الْأَطْرَافِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الْأَطْرَافِ، وَالثَّانِي: إذْهَابُ مَعَانِي الْأَطْرَافِ مَعَ إبْقَاءِ أَعْيَانِهَا، وَالثَّالِثُ: الشِّجَاجُ، وَالرَّابِعُ: الْجِرَاحُ، أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَقَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالْأُصْبُعِ وَالظُّفْرِ وَالْأَنْفِ وَاللِّسَانِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالْأُذُنِ وَالشَّفَةِ وَفَقْءُ الْعَيْنَيْنِ وَقَطْعُ الْأَشْفَارِ وَالْأَجْفَانِ وَقَلْعُ الْأَسْنَانِ وَكَسْرُهَا وَحَلْقُ شَعْرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَالشَّارِبِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَتَفْوِيتُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَالْكَلَامِ وَالْجِمَاعِ وَالْإِيلَادِ وَالْبَطْشِ وَالْمَشْيِ، وَتَغَيُّرُ لَوْنِ السِّنِّ إلَى السَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ وَالْخُضْرَةِ وَنَحْوِهَا مَعَ قِيَامِ الْمَحَالِّ الَّذِي تَقُومُ بِهَا هَذِهِ الْمَعَانِي، وَيُلْحَقُ بِهَذَا الْفَصْلِ إذْهَابُ الْعَقْلِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: فَالشِّجَاجُ أَحَدَ عَشَرَ أَوَّلُهَا: الْخَارِصَةُ، ثُمَّ الدَّامِعَةُ، ثُمَّ الدَّامِيَةُ، ثُمَّ الْبَاضِعَةُ، ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ، ثُمَّ السِّمْحَاقُ، ثُمَّ الْمُوضِحَةُ، ثُمَّ الْهَاشِمَةُ، ثُمَّ الْمُنَقِّلَةُ، ثُمَّ الْآمَّةُ، ثُمَّ الدَّامِغَةُ. (فَالْخَارِصَةُ) : هِيَ الَّتِي تَخْرُصُ الْجِلْدَ أَيْ تَشُقُّهُ، وَلَا يَظْهَرُ مِنْهَا الدَّمُ وَالدَّامِعَةُ: هِيَ الَّتِي يَظْهَرُ مِنْهَا الدَّمُ وَلَا يَسِيلُ كَالدَّمْعِ فِي الْعَيْنِ وَالدَّامِيَةُ: هِيَ الَّتِي يَسِيلُ مِنْهَا الدَّمُ وَالْبَاضِعَةُ: هِيَ الَّتِي تَبْضَعُ اللَّحْمَ أَيْ تَقْطَعُهُ وَالْمُتَلَاحِمَةُ: هِيَ الَّتِي تَذْهَبُ فِي اللَّحْمِ أَكْثَرَ مِمَّا تَذْهَبُ الْبَاضِعَةُ فِيهِ هَكَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْمُتَلَاحِمَةُ قَبْلَ الْبَاضِعَةُ، وَهِيَ الَّتِي يَتَلَاحَمُ مِنْهَا الدَّمُ وَيَسْوَدُّ وَالسِّمْحَاقُ: اسْمٌ لَتِلْكَ الْجِلْدَةِ إلَّا أَنَّ الْجِرَاحَةَ سُمِّيَتْ بِهَا وَالْمُوضِحَةُ: الَّتِي تَقْطَعُ السِّمْحَاقَ، وَتُوَضِّحُ الْعَظْمَ أَيْ: تُظْهِرُهُ وَالْهَاشِمَةُ: هِيَ الَّتِي تُهَشِّمُ الْعَظْمَ أَيْ تُكَسِّرُهُ وَالْمُنَقِّلَةُ: هِيَ الَّتِي تَنْقُلُ الْعَظْمَ بَعْدَ الْكَسْرِ أَيْ: تُحَوِّلُهُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ وَالْآمَّةُ: هِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى أُمِّ الدِّمَاغِ، وَهِيَ جِلْدَةٌ تَحْتَ الْعَظْمِ فَوْقَ الدِّمَاغِ وَالدَّامِغَةُ: هِيَ الَّتِي تَخْرِقُ تِلْكَ الْجِلْدَةِ، وَتَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ فَهَذِهِ إحْدَى عَشْرَ شَجَّةً، وَمُحَمَّدٌ ذَكَرَ الشِّجَاجَ تِسْعًا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخَارِصَةَ وَلَا الدَّامِغَةَ؛ لِأَنَّ الْخَارِصَةَ لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ عَادَةً، وَالشَّجَّةُ الَّتِي لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ لَا حُكْمَ لَهَا فِي الشَّرْعِ، وَالدَّامِغَةُ لَا يَعِيشُ الْإِنْسَانُ مَعَهَا عَادَةً بَلْ تَصِيرُ نَفْسًا ظَاهِرًا وَغَالِبًا فَتَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ شَجَّةً فَلَا مَعْنَى لِبَيَانِ حُكْمِ الشَّجَّةِ فِيهَا؛ لِذَلِكَ تَرَكَ مُحَمَّدٌ ذِكْرَهُمَا وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) النَّوْعُ الرَّابِعُ فَالْجِرَاحُ نَوْعَانِ: جَائِفَةٌ وَغَيْرُ جَائِفَةٍ، فَالْجَائِفَةُ: هِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى الْجَوْفِ، وَالْمَوَاضِعُ الَّتِي تَنْفُذُ الْجِرَاحَةُ مِنْهَا إلَى الْجَوْفِ: هِيَ الصَّدْرُ، وَالظَّهْرُ، وَالْبَطْنُ، وَالْجَنْبَانِ، وَمَا بَيْنَ الْأُنْثَيَيْنِ وَالدُّبُرِ، وَلَا تَكُونُ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَلَا فِي الرَّقَبَةِ وَالْحَلْقِ جَائِفَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إنَّ مَا وَصَلَ مِنْ الرَّقَبَةِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي لَوْ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ الشَّرَابِ قَطْرَةٌ يَكُونُ جَائِفَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْطُرُ إلَّا إذَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ، وَلَا تَكُونُ الشَّجَّةُ إلَّا فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَفِي مَوَاضِعِ الْعَظْمِ مِثْلِ: الْجَبْهَةِ، وَالْوَجْنَتَيْنِ، وَالصُّدْغَيْنِ، وَالذَّقَنِ دُونَ الْخَدَّيْنِ، وَلَا تَكُونُ الْآمَّةُ إلَّا فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَتَخَلَّصُ مِنْهُ إلَى الدِّمَاغِ، وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ هَذِهِ الْجِرَاحَاتِ إلَّا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَثْبُتُ حُكْمَ هَذِهِ الْجِرَاحَاتِ فِي كُلِّ الْبَدَنِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ إنْ رَجَعَ فِي ذَلِكَ إلَى اللُّغَةِ فَهُوَ غَلَطُ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَفْصِلُ بَيْنَ الشَّجَّةِ وَبَيْنَ مُطْلَقِ الْجِرَاحَةِ فَتُسَمِّي مَا كَانَ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ فِي مَوَاضِعِ الْعَظْمِ مِنْهَا شَجَّةً، وَمَا كَانَ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ جِرَاحَةً، فَتَسْمِيَةُ الْكُلِّ شَجَّةً يَكُونُ غَلَطًا فِي اللُّغَةِ، وَإِنْ رَجَعَ فِيهِ إلَى الْمَعْنَى فَهُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الشِّجَاجِ يَثْبُتُ لِلشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ بِبَقَاءِ أَثَرِهَا بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ بَرِئَتْ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ لَمْ يَجِبْ بِهَا أَرْشُ وَالشَّيْنُ إنَّمَا يَلْحَقُ فِيهَا فِيمَا يَظْهَرُ فِي الْبَدَنِ، وَذَلِكَ هُوَ الْوَجْهُ وَالرَّأْسُ، وَأَمَّا مَا سِوَاهُمَا فَلَا يَظْهَرُ بَلْ لَعَلَّهَا يُغَطَّى عَادَةً فَلَا يَلْحَقُ الشَّيْنُ فِيهِ مِثْلَ مَا يَلْحَقُ فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ

فصل في أحكام كل نوع من أنواع الجناية فيما دون النفس

وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي أَحْكَام كُلّ نَوْع مِنْ أَنْوَاع الْجِنَايَة فِيمَا دُون النَّفْس] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا أَحْكَامُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ مُخْتَلِفَةُ الْأَحْكَامِ (مِنْهَا) : مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ، وَمِنْهَا مَا يَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَمِنْهَا مَا يَجِبُ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ (وَمِنْهَا) مَا يَجِبُ فِيهِ أَرْشٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ (أَمَّا) الَّذِي فِيهِ الْقِصَاصُ فَهُوَ الَّذِي اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي مَوْضِعَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : فِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقِصَاصُ (وَالثَّانِي) : فِي بَيَانِ وَقْتِ الْحُكْمِ بِالْقِصَاصِ (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ: شَرَائِطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ أَنْوَاعٌ: (بَعْضُهَا) : يَعُمُّ النَّفْسَ وَمَا دُونَهَا، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ مَا دُونَ النَّفْسِ. (أَمَّا) الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ: فَمَا ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ مِنْ كَوْنِ الْجَانِي عَاقِلًا بَالِغًا مُتَعَمِّدًا مُخْتَارًا، وَكَوْنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعْصُومًا مُطْلَقًا لَا يَكُونُ جُزْءَ الْجَانِي وَلَا مِلْكَهُ. وَكَوْنِ الْجِنَايَةِ حَاصِلَةً عَلَى طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ (وَأَمَّا) الشَّرَائِطُ الَّتِي تَخُصُّ الْجِنَايَةُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَمِنْهَا الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ فِي الْمَنَافِعِ وَالْفِعْلَيْنِ وَبَيْنَ الْأَرْشَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فَانْعِدَامُهَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا لَلنَّصُّ وَالْمَعْقُولُ (أَمَّا) النَّصُّ فَقَوْلُهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] إلَى قَوْله تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ - {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ، فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - بَيَانُ حُكْمِ مَا دُونَ النَّفْسِ، لَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، فَيَكُونُ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا، وَشَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا لَا تَلْزَمُنَا (فَالْجَوَابُ) : أَنَّ مِنْ الْقُرَّاءِ الْمَعْرُوفِينَ مَنْ ابْتَدَأَ الْكَلَامِ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] بِالرَّفْعِ إلَى قَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ} [المائدة: 45] عَلَى ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ لَا عَلَى الْإِخْبَارِ عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ، فَكَانَ هَذَا شَرِيعَتَنَا، لَا شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا عَلَى أَنَّ هَذَا إنْ كَانَ إخْبَارًا عَنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ بِكِتَابِنَا، وَلَا بِسُنَّةِ رَسُولِنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَصِيرُ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبْتَدَأَةً فَيَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةُ رَسُولِنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الرُّسُلِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ نَصًّا لَكِنَّ الْإِيجَابَ فِي الْعَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَالسِّنِّ إيجَابٌ فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ دَلَالَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِالْمَذْكُورِ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالشَّمِّ وَالسِّنِّ إلَّا صَاحِبَهُ (وَيَجُوزُ) أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ غَيْرُ صَاحِبِهِمَا، فَكَانَ الْإِيجَابُ فِي الْعُضْوِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ فِي حَقِّهِ عَلَى الْخُصُوصِ إيجَابًا فِيمَا هُوَ مُنْتَفَعٌ بِهِ فِي حَقِّهِ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأُولَى، فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ ذِكْرًا لِلْيَدِ وَالرِّجْلِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لَهُ، كَمَا فِي التَّأَفُّفِ مَعَ الضَّرْبِ فِي الشَّتْمِ عَلَى أَنَّ فِي كِتَابِنَا حُكْمُ مَا دُونَ النَّفْسِ قَالَ اللَّهُ {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) وَأَحَقُّ مَا يُعْمَلُ فِيهِ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَا دُونَ النَّفْسِ (وَقَالَ) تَبَارَكَ وَتَعَالَى {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} [غافر: 40] وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ (وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَهُوَ: أَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ لَهُ حُكْمُ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ كَالْأَمْوَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسْتَوْفَى فِي الْحِلِّ وَالْحُرَمِ كَمَا يُسْتَوْفَى الْمَالُ. وَكَذَا الْوَصِيُّ يَلِي اسْتِيفَاءَ مَا دُونَ النَّفْسِ لِلصَّغِيرِ، كَمَا يَلِي اسْتِيفَاءَ مَالِهِ فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ كَمَا تُعْتَبَرُ فِي إتْلَافِ الْأَمْوَالِ (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ مُمْكِنَ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ بِدُونِ إمْكَانِ اسْتِيفَائِهِ مُمْتَنَعٌ، فَيُمْتَنَعُ وُجُوبُ الِاسْتِيفَاءِ ضَرُورَةً، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ مَسَائِلُ (فَنَقُولُ) وَبِاَللَّهِ - تَعَالَى - التَّوْفِيقُ -: لَا يُؤْخَذُ شَيْءٌ مِنْ الْأَصْلِ إلَّا بِمِثْلِهِ فَلَا تُؤْخَذُ الْيَدُ إلَّا بِالْيَدِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْيَدِ لَيْسَ مِنْ جِنْسهَا فَلَمْ يَكُنْ مِثْلًا لَهَا؛ إذْ التَّجَانُسُ شَرْطٌ لِلْمُمَاثِلَةِ. (وَكَذَا) الرِّجْلُ وَالْأُصْبُعُ وَالْعَيْنُ وَالْأَنْفُ وَنَحْوُهَا لِمَا قُلْنَا (وَكَذَا) الْإِبْهَامُ لَا تُؤْخَذُ إلَّا بِالْإِبْهَامِ، وَلَا السَّبَّابَةُ إلَّا بِالسَّبَّابَةِ، وَلَا الْوُسْطَى إلَّا بِالْوُسْطَى، وَلَا الْبِنْصِرِ إلَّا بِالْبِنْصِرِ، وَلَا الْخِنْصَرُ إلَّا بِالْخِنْصَرِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَصَابِعِ مُخْتَلِفَةٌ؛ فَكَانَتْ كَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَكَذَلِكَ لَا تُؤْخَذُ الْيَدُ الْيَمِينُ إلَّا بِالْيَمِينِ، وَلَا الْيُسْرَى إلَّا بِالْيُسْرَى؛ لِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا عَلَى الْيَسَارِ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ يَمِينًا. وَكَذَلِكَ الرِّجْلُ. وَكَذَلِكَ أَصَابِعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لَا تُؤْخَذُ الْيَمِينُ مِنْهُمَا إلَّا بِالْيَمِينِ، وَلَا الْيُسْرَى إلَّا بِالْيُسْرَى. وَكَذَلِكَ الْأَعْيُنُ؛ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ الْأَسْنَانُ لَا تُؤْخَذُ الثَّنِيَّةُ إلَّا بِالثَّنِيَّةِ، وَلَا النَّابُ إلَّا بِالنَّابِ، وَلَا الضِّرْسُ إلَّا بِالضِّرْسِ لِاخْتِلَافِ مَنَافِعِهَا فَإِنَّ بَعْضَهَا قَوَاطِعُ وَبَعْضَهَا طَوَاحِنُ وَبَعْضَهَا ضَوَاحِكُ، وَاخْتِلَافُ الْمَنْفَعَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ يَلْحَقهُمَا بِجِنْسَيْنِ، وَلَا مُمَاثَلَةَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ. وَكَذَا لَا يُؤْخَذُ الْأَعْلَى مِنْهَا بِالْأَسْفَلِ، وَلَا الْأَسْفَلُ

بِالْأَعْلَى لِتَفَاوُتٍ بَيْنَ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَلَا يُؤْخَذُ الصَّحِيحُ مِنْ الْأَطْرَافِ إلَّا بِالصَّحِيحِ مِنْهَا فَلَا تُقْطَعُ الْيَدُ الصَّحِيحَةُ، وَلَا كَامِلَةُ الْأَصَابِعِ بِنَاقِصَةِ الْأَصَابِع، أَوْ مَفْصِلٌ مِنْ الْأَصَابِعِ. وَكَذَلِكَ الرِّجْلُ وَالْأُصْبُعُ وَغَيْرُهَا؛ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ وَالْمَعِيبِ، وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي طَرَفِ الْجَانِي فَالْمَجْنِيّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَرْشَ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْمِثْلِ، وَهُوَ السَّلِيمُ، وَلَا يُمْكِنْهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَعَ فَوَاتِ صِفَةِ السَّلَامَةِ، وَأَمْكَنَهُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ وَجْهٍ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إلْزَامِ الِاسْتِيفَاءِ حَتْمًا لِمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ نَاقِصًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَيُخَيَّرُ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِقَدْرِ حَقِّهِ، وَاسْتَوْفَاهُ نَاقِصًا، وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إلَى بَدَلِ حَقِّهِ، وَهُوَ كَمَالُ الْأَرْشِ، كَمَنْ أَتْلَفَ عَلَى إنْسَانٍ شَيْئًا لَهُ مِثْلٌ، وَالْمُتْلَفُ جَيِّدٌ، فَانْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إلَّا الرَّدِيءُ، وَإِنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ يَكُونُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَوْجُودَ نَاقِصًا، وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إلَى قِيمَةِ الْجَيِّدِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا (وَلَوْ أَرَادَ) الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ هَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى -: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. (وَقَالَ) الشَّافِعِيُّ: لَهُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: إنَّ حَقَّهُ فِي الْمِثْلِ وَلَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ هَذِهِ الْيَدِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَسْتَوْفِي حَقَّهُ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُ، وَيُضَمِّنُهُ الْبَاقِيَ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرَ شَيْئًا مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ فَانْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ إلَّا قَدْرَ بَعْضِ حَقِّهِ إنَّهُ يَأْخُذُ الْقَدْرَ الْمَوْجُودِ مِنْ الْمُتْلَفِ وَيُضَمِّنُهُ الْبَاقِيَ، كَذَا هَذَا. (وَلَنَا) أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى اسْتِيفَاءِ أَصْلِ حَقِّهِ، وَإِنَّمَا الْفَائِتُ هُوَ الْوَصْفُ، وَهُوَ صِفَةُ السَّلَامَةِ، فَإِذَا رَضِيَ بِاسْتِيفَاءِ أَصْلِ حَقِّهِ نَاقِصًا - كَانَ ذَلِكَ رِضًا مِنْهُ بِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ الصِّفَةِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَهُوَ جَيِّدٌ، فَانْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ نَوْعُ الْجَيِّدِ، وَلَا يُوجَدُ إلَّا الرَّدِيءُ مِنْهُ إنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا أَنْ يَأْخُذَهُ، أَوْ قِيمَةُ الْجَيِّدِ كَذَلِكَ هَذَا بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ حَقَّ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ بِمِثْلِ الْمُتْلِفِ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ صُورَةً وَمَعْنًى، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمَوْجُودَ، وَيَأْخُذَ قِيمَةَ الْبَاقِي، وَهَهُنَا حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ إلَّا بِالْقَطْعِ مِنْ الْمِفْصَلِ دُونَ الْأَصَابِعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ الْأَصَابِعَ، وَيَبْرَأَ عَنْ الْكَفِّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَلَمْ تَكُنْ الْأَصَابِعُ عَيْنَ حَقِّهِ، إنْ كَانَ الْبَعْضُ قَطْعَ الْأَصَابِعِ بِأَنْ كَانَتْ جَارِيَةً مَجْرَى الصِّفَةِ كَالْجَوْدَةِ فِي الْمَكِيلِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِشَيْءٍ آخَرَ كَمَا فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ. (وَلَوْ) ذَهَبَتْ الْجَارِحَةُ الْمُعَيَّنَةُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، أَخَذَهَا أَوْ قَطَعَهَا قَاطِعٌ - بَطَلَ حَقُّ الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ فِي الْقِصَاصِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ (وَهَلْ يَجِبُ) الْأَرْشُ عَلَى الْجَانِي؟ فَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِيمَا إذَا قَطَعَ يَدًا صَحِيحَةً، وَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا إنْ سَقَطَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ قُطِعَتْ ظُلْمًا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قُطِعَتْ بِحَقٍّ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ سَرِقَةٍ فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ (وَعِنْدَ) الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَيْهِ الْأَرْشُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقِصَاصُ عَيْنًا عِنْدَنَا فِي النَّفْسِ، وَمَا دُونَهُ (وَعِنْدَهُ) أَحَدُهُمَا: غَيْرُ عَيْنٍ فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ الْقِصَاصُ عَيْنًا لَكِنْ مَعَ حَقِّ الْعُدُولِ إلَى الْمَالِ (وَقَدْ) ذَكَرْنَا هَذَا الْأَصْلَ بِفُرُوعِهِ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْقَطْعُ بِحَقٍّ يَجِبُ الْأَرْشَ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِالطَّرَفِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَائِمٌ وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِعُذْرِ الْخَطَأِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الصَّحِيحَةِ فَنَقُولُ: حَقُّ الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْيَدِ الْمُعَيَّنَةِ بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ عَنْهَا إلَى الْأَرْشِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ، فَإِذَا لَمْ يَخْتَرْ حَتَّى هَلَكَتْ بَقِيَ حَقُّهُ مُتَعَلِّقًا بِالْيَدِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْأَرْشِ فَإِذَا فَاتَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ؟ قِيلَ: لَا بَلْ حَقُّهُ كَانَ فِي الْيَدِ عَلَى التَّعْيِينِ إلَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ إلَى بَدَلِهِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ، فَإِذَا هَلَكَ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ بَقِيَ حَقُّهُ فِي الْيَدِ، فَإِذَا هَلَكَتْ فَقَدْ بَطَلَ مَحَلُّ الْحَقِّ، فَبَطَلَ الْحَقُّ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - عَزَّ وَجَلَّ - الْمُوَفِّقُ (وَلَوْ كَانَتْ) يَدُ الْقَاطِعِ صَحِيحَةً وَقْتَ الْقَطْعِ ثُمَّ شُلَّتْ بَعْدَهُ فَلَا حَقَّ لِلْمَقْطُوعِ فِي الْأَرْشِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَبَتَ فِي الْيَدِ عَيْنًا بِالْقَطْعِ فَلَا يُنْتَقَلُ إلَى الْأَرْشِ بِالنُّقْصَانِ، كَمَا إذَا ذَهَبَ الْكُلُّ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّهُ أَصْلًا وَلَا يَنْتَقِلُ إلَى الْأَرْشِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَلَا قِصَاصَ إلَّا فِيمَا يُقْطَعُ مِنْ الْمَفَاصِلِ مِفْصَلِ الزَّنْدِ، أَوْ مَفْصِلِ الْمِرْفَقِ، أَوْ مِفْصَلِ الْكَتِفِ فِي الْيَدِ، أَوْ مِفْصَلِ الْكَعْبِ، أَوْ مِفْصَلِ الرُّكْبَةِ، أَوْ مِفْصَلِ الْوِرْكِ فِي الرِّجْلِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْمَفَاصِلِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ كَمَا إذَا قُطِعَ مِنْ السَّاعِدِ أَوْ الْعَضُدِ أَوْ السَّاقِ أَوْ الْفَخِذِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ مِنْ الْمَفَاصِلِ، وَلَا يُمْكِنُ مِنْ غَيْرِهَا. (وَلَيْسَ) فِي لَحْمِ السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ وَالسَّاقِ وَالْفَخِذِ، وَلَا

فِي الْأَلْيَةِ قِصَاصٌ، وَلَا فِي لَحْمِ الْخَدَّيْنِ، وَلَحْمِ الظَّهْرِ، وَالْبَطْنِ، وَلَا فِي جِلْدَةِ الرَّأْسِ، وَجِلْدَةِ الْيَدَيْنِ إذَا قُطِعَتْ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ، وَلَا فِي اللَّطْمَةِ، وَالْوَكْزَةِ، وَالْوَجْأَةِ، وَالدَّقَّةِ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يُؤْخَذُ الْعَدَدُ بِالْعَدَدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِمَّا يَجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا فِيهِ الْقِصَاصُ لَوْ انْفَرَدَ كَالِاثْنَيْنِ إذَا قَطَعَا يَدَ رَجُلٍ أَوْ رِجْلَهُ أَوْ إصْبَعَهُ أَوْ أَذْهَبَا سَمْعَهُ أَوْ بَصَرَهُ أَوْ قَلَعَا سِنًّا لَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْجَوَارِحِ الَّتِي عَلَى الْوَاحِدِ مِنْهُمَا فِيهَا الْقِصَاصُ لَوْ انْفَرَدَ بِهِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا، وَعَلَيْهِمَا الْأَرْشُ نِصْفَانِ. وَكَذَلِكَ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ مِنْ الْعَدَدِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاثْنَيْنِ، وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمْ، وَعَلَيْهِمْ الْأَرْشُ عَلَى عَدَدِهِمْ بِالسَّوَاءِ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَثُرُوا، كَمَا فِي النَّفْسِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهِ ثُمَّ جَاءَا بِآخَرَ وَقَالَا أُوهِمْنَا إنَّمَا السَّارِقُ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لَا أُصَدِّقُكُمَا عَلَى هَذَا، وَأُغَرِّمُكُمَا دِيَةَ الْأَوَّلِ، وَلَوْ عَلِمْتَ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُ أَيْدِيَكُمَا، فَقَدْ اعْتَقَدَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَطْعَ الْيَدَيْنِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الْيَدَ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ ثُمَّ الْأَنْفُسُ تُقْتَلُ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَكَذَا الْأَيْدِي تُقْطَعُ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْأَيْدِي، وَيَدٍ وَاحِدَةٍ لَا فِي الذَّاتِ، وَلَا فِي الْمَنْفَعَةِ، وَلَا فِي الْفِعْلِ (أَمَّا) فِي الذَّاتِ فَلَا شَكَّ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْعَدَدِ بَيْنَ الْفَرْدِ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ الصَّحِيحَةُ بِالشَّلَّاءِ، وَالْفَائِتُ هُوَ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ فَقَطْ فَفَوَاتُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْوَصْفِ لَمَّا مَنَعَ جَرَيَانَ الْقِصَاصِ فَفَوَاتُهَا فِي الذَّاتِ أَوْلَى (وَأَمَّا) فِي الْمَنْفَعَةِ فَلِأَنَّ مِنْ الْمَنَافِعِ مَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالْيَدَيْنِ كَالْكِتَابَةِ، وَالْخِيَاطَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَذَا مَنْفَعَةُ الْيَدَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ يَدٍ وَاحِدَةٍ عَادَةً (وَأَمَّا) فِي الْفِعْلِ فَلِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَطْعُ بَعْضِ الْيَدِ كَأَنَّهُ وَضَعَ أَحَدُهُمَا السِّكِّينَ مِنْ جَانِبٍ، وَالْآخَرَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، وَالْجَزَاءُ قَطْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَطْعُ كُلِّ الْيَدِ أَكْثَرُ مِنْ قَطْعِ بَعْضِ الْيَدِ، وَانْعِدَامُ الْمُمَاثَلَةِ مِنْ وَجْهٍ تَكْفِي لِجَرَيَانِ الْقِصَاصِ كَيْفَ وَقَدْ انْعَدَمَتْ مِنْ وُجُوهٍ؟ وَأَمَّا قَوْلُ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ السِّيَاسَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَضَافَ الْقَطْعَ إلَى نَفْسِهِ، وَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقِ السِّيَاسَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يَمِينَا رَجُلَيْنِ تُقْطَعُ يَمِينُهُ ثُمَّ إنْ حَضَرَا جَمِيعًا فَلَهُمَا أَنْ يَقْطَعَا يَمِينَهُ، وَيَأْخُذَا مِنْهُ دِيَةَ يَدٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا كَانَ عَلَى التَّعَاقُبِ يُقْطَعُ لِلْأَوَّلِ، وَيَغْرَمُ الدِّيَةَ لِلثَّانِي كَمَا قَالَ فِي الْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الِاجْتِمَاعِ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَيَقْطَعُ لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، وَيَغْرَمُ لِلْآخَرِ الدِّيَةِ كَمَا قَالَ فِي النَّفْسِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ إذَا قَطَعَ عَلَى التَّرْتِيبِ صَارَتْ يَدُهُ حَقًّا لِلْأَوَّلِ فَلَا تَصِيرُ حَقًّا لِلثَّانِي فَتَجِبُ الدِّيَةُ لِلثَّانِي، وَإِذَا قَطَعَ الْيَدَيْنِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ فَقَدْ صَارَتْ يَدُهُ حَقًّا لِأَحَدِهِمَا غَيْرَ عَيْنٍ، وَتَتَعَيَّنُ بِالْقُرْعَةِ. (وَلَنَا) أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الْقِصَاصِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَدَلِيلُ الْوَصْفِ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ قَطْعُ الْيَدِ، وَقَدْ وُجِدَ قَطْعُ الْيَدِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَطْعَ يَدِهِ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي يَدٍ وَاحِدَةٍ إلَّا قَطْعُ بَعْضِهَا فَلَمْ يَسْتَوْفِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقَطْعِ إلَّا بَعْضَ حَقِّهِ فَيُسْتَوْفَى الْبَاقِي مِنْ الْأَرْشِ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَّا اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ بِقَطْعِ الْيَدِ صَارَ الْقَاطِعُ قَاضِيًا بِبَعْضِ يَدِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ يَدَهُ قَائِمَةٌ، وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِعُذْرٍ فَتَجِبُ الدِّيَةُ (وَقَوْلُهُ) صَارَتْ يَدُهُ حَقًّا لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ مِلْكَ الْقِصَاصِ لَيْسَ مِلْكَ الْمَحَلِّ بَلْ هُوَ مِلْكُ الْفِعْلِ، وَهُوَ إطْلَاقُ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّةَ مَنْ عَلَيْهِ تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ الْخُلُوصِ. وَالْمِلْكُ فِي الْمَحَلِّ بِثُبُوتٍ فِيهِ فَيُنَافِيهِ الْخُلُوصُ (وَالدَّلِيلُ) عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ثَابِتٍ كَانَتْ الدِّيَةُ لَهُ وَلَوْ صَارَتْ يَدُهُ مَمْلُوكَةً لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ لَكَانَتْ الدِّيَةُ لَهُ دَلَّ أَنَّ مِلْكَ الْقِصَاصِ لَيْسَ هُوَ مِلْكُ الْمَحَلِّ بَلْ مِلْكُ الْفِعْلِ، وَهُوَ إطْلَاقُ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَا تَنَافِيَ فِيهِ فَإِطْلَاقُ الِاسْتِيفَاءِ لِلْأَوَّلِ لَا يَمْنَعُ إطْلَاقَ اسْتِيفَاءِ الثَّانِي. وَهَذَا بِخِلَافِ النَّفْسِ أَنَّ الْوَاحِدَ يُقْتَلُ بِالْجَمَاعَةِ اكْتِفَاءً؛ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ عَلَى الْكَمَالِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْقَتْلِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اسْتَوْفَى الْقَتْلَ بِكَمَالِهِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ حَضَرَ أَحَدُهُمَا - وَالْآخَرُ غَائِبٌ - فَلِلْحَاضِرِ

أَنْ يَقْتَصَّ، وَلَا يَنْتَظِرَ الْغَائِبَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي كُلِّ الْيَدِ، وَإِنَّمَا التَّمَانُعُ فِي اسْتِيفَاءِ الْكُلِّ بِحُكْمِ التَّزَاحُمِ بِحُكْمِ الْمُشَارَكَةِ فِي الِاسْتِيفَاءِ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا فَلَا يُزَاحِمْ الْحَاضِرُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ كَأَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ إذَا حَضَرَ يُقْضَى لَهُ بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ الْمَبِيعِ (وَلِأَنَّ) حَقَّ الْحَاضِرِ إذَا كَانَ ثَابِتًا فِي كُلِّ الْيَدِ، وَأَرَادَ الِاسْتِيفَاءَ، وَالْغَائِبُ قَدْ يَحْضُرُ وَقَدْ لَا يَحْضُرُ، وَقَدْ يُطَالِبُ بَعْضَ الْحُضُورِ، وَقَدْ يَعْفُو فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ حَقِّ الْحَاضِرِ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ لِلْحَالِ بَعْدَ طَلَبِهِ لِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ، وَلِهَذَا قُضِيَ بِالشُّفْعَةِ لِأَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ إذَا حَضَرَ وَطَلَبَ، وَلَا يُنْتَظَرُ حُضُورُ الْغَائِبِ كَذَا هَذَا. وَلِلْآخَرِ دِيَةُ يَدِهِ عَلَى الْقَاطِعِ، لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَيُصَارُ إلَى الْبَدَلِ وَلِأَنَّ الْقَاطِعَ قَضَى بِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ الدِّيَةُ، وَإِنْ عَفَا أَحَدُهُمَا بَطَلَ حَقُّهُ. وَكَانَ لِلْآخَرِ الْقِصَاصُ إذَا كَانَ الْعَفْوُ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي الْيَدِ عَلَى الْكَمَالِ فَالْعَفْوُ مِنْ أَحَدِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الْآخَرِ كَمَا فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ. وَكَذَلِكَ لَوْ عَدَا أَحَدُهُمَا عَلَى الْقَاطِعِ فَقَطَعَ يَدَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فَلِلْآخَرِ الدِّيَةُ لِمَا ذَكَرْنَا (وَأَمَّا) إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا فَلِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ فِي قَوْلِهِمَا اسْتِحْسَانًا (وَقَالَ) مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ فِي الْيَدِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَبِدِيَةِ الْيَدِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا - بَطَلَ الْقِصَاصُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا - وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي كُلِّ الْيَدِ لَكِنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى بِالْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا فَقَدْ أَثْبَتَ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا فَصَارَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْبَعْضِ، فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْبَعْضُ، وَلَا يَتَمَكَّنُ الْآخَرُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْكُلِّ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالشَّرِكَةِ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَا وَرَدَ بِوُجُوبِ الْقَطْعِ فِي بَعْضِ الْيَدِ فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ أَوْ يُجْعَلُ مَجَازًا عَنْ الْفَتْوَى كَأَنَّهُ أَفْتَى بِمَا يَجِبُ لَهُمَا، وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى الْقَطْعِ، وَيَأْخُذَ الدِّيَةَ بَيْنَهُمَا فَكَانَ عَفْوُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ كَعَفْوِهِ قَبْلَهُ وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِالدِّيَةِ بَيْنَهُمَا فَقَبَضَاهَا ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ الْقِصَاصُ وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُهُ مَالًا؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا قَبَضَا الدِّيَةَ فَقَدْ مَلَكَاهَا، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الدِّيَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَبْقَى الْحَقُّ فِي كُلِّ الْيَدِ فَسَقَطَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ نِصْفِ الْيَدِ، فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمَا لَا يَثْبُتُ لِلْآخَرِ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ كُلِّ الْيَدِ (وَكَذَلِكَ) لَوْ أَخَذَ بِالدِّيَةِ رَهْنًا؛ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ كَأَنَّهُ فِي الرَّهْنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا هَلَكَ يَسْقُطُ الدَّيْنُ فَصَارَ قَبْضُهُمَا الرَّهْنَ كَقَبْضِهِمَا الدَّيْنَ (وَلَوْ) أَخَذَ بِالدِّيَةِ كَفِيلًا ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا فَلِلْآخَرِ الْقِصَاصُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَفَالَةِ مَعْنَى الِاسْتِيفَاءِ بَلْ هُوَ لِلتَّوَثُّقِ لِجَانِبِ الْوُجُوبِ فَكَانَ الْحُكْمُ بَعْدَ الْكَفَالَةِ كَالْحُكْمِ قَبْلَهَا. (وَلَوْ قَطَعَ) مِنْ رَجُلٍ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ مُمْكِنٌ. وَلَوْ قَطَعَ مِنْ رَجُلٍ يَمِينَهُ، وَمِنْ آخَرَ يَسَارَهُ قُطِعَتْ يَمِينُهُ لِصَاحِبِ الْيَمِينِ، وَيَسَارُهُ لِصَاحِبِ الْيَسَارِ؛ لِأَنَّ تَحْقِيقَ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، وَأَنَّهُ مُمْكِنٌ (فَإِنْ قِيلَ) الْقَاطِعُ مَا أَبْطَلَ عَلَيْهِمَا مَنْفَعَةَ الْجِنْسَيْنِ فَكَيْفَ تَبْطُلُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الْجِنْسِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ إلَّا قَطْعَ يَدٍ وَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ فِي قَطْعِ يَدٍ وَاحِدَةٍ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فَكَانَ الْجَزَاءُ مِثْلَ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنَّ فَوَاتَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْفِعْلَيْنِ حَصَلَ ضَرُورَةً غَيْرَ مُضَافٍ إلَيْهِمَا. وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ كُلَّهَا مِنْ الْمَفْصِلِ ثُمَّ قَطَعَ يَدَ آخَرَ أَوْ يَدًا بِالْيَدِ ثُمَّ يَقْطَعُ الْأُصْبُعَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي يَدٍ وَاحِدَةٍ فِي الْيَمِينِ أَوْ فِي الْيَسَارِ فَلَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ جَاءَا جَمِيعًا يَطْلُبَانِ الْقِصَاصَ، وَإِمَّا إنْ جَاءَا مُتَفَرِّقَيْنِ فَإِنْ جَاءَا جَمِيعًا يُبْدَأُ بِالْقِصَاصِ فِي الْأُصْبُعِ فَتُقْطَعُ الْأُصْبُعُ بِالْأُصْبُعِ ثُمَّ يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْيَدِ فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ مَا بَقِيَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ مِنْ مَالِ الْقَاطِعِ؛ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مِثْلِ مَا قُطِعَ مِنْهُ فَحَقُّ صَاحِبِ الْيَدِ فِي قَطْعِ الْيَدِ، وَحَقُّ صَاحِبِ الْأُصْبُعِ فِي قَطْعِ الْأُصْبُعِ فَيَجِبُ إيفَاءُ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَذَلِكَ فِي الْبِدَايَةِ بِالْقِصَاصِ فِي الْأُصْبُعِ، لِأَنَّا لَوْ بَدَأْنَا بِالْقِصَاصِ فِي الْيَدِ لَبَطَلَ حَقُّ صَاحِبِ الْأُصْبُعِ فِي الْقِصَاصِ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَلَوْ بَدَأْنَا بِالْقِصَاصِ فِي الْأُصْبُعِ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الْآخَرِ فِي الْقِصَاصِ أَصْلًا وَرَأْسًا، لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ مَعَ النُّقْصَانِ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْأُصْبُعِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا خُيِّرَ صَاحِبُ الْيَدِ بَعْدَ قَطْعِ الْأُصْبُعِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّ صَارَتْ مَعِيبَةً بِقَطْعِ الْأُصْبُعِ فَوَجَدَ حَقَّهُ نَاقِصًا فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ كَالْأَشَلِّ إذَا قَطَعَ يَدَ الصَّحِيحِ. وَإِنْ جَاءَا مُتَفَرِّقَيْنِ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْيَدِ - وَصَاحِبُ الْأُصْبُعِ غَائِبٌ - تُقْطَعْ الْيَدُ لِصَاحِبِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبَ الْيَدِ ثَابِتٌ فِي الْيَدِ فَلَا يَجُوزُ مَنْعُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ لِحَقِّ غَائِبٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْضُرَ وَيُطَالَبُ وَيُحْتَمَلُ

أَنْ لَا يَحْضُرَ، وَلَا يُطَالِبَ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْأُصْبُعِ بَعْدَ ذَلِكَ أَخَذَ الْأَرْشَ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ عَلَيْهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَيَأْخُذُ بَدَلَهُ وَلِأَنَّ الْقَاطِعَ قَضَى بِطَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَائِمٌ، وَتَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ لِمَانِعٍ فَيَلْزَمُهُ الْأَرْشُ، وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْأُصْبُعِ، وَصَاحِبُ الْيَدِ غَائِبٌ تُقْطَعُ الْأُصْبُعُ لِصَاحِبِ الْأُصْبُعِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي صَاحِبِ الْيَدِ ثُمَّ إذَا جَاءَ صَاحِبُ الْيَدِ بَعْدَ ذَلِكَ أَخَذَ الْأَرْشَ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ قَطَعَ أُصْبَعَ رَجُلٍ مِنْ مَفْصِلٍ ثُمَّ قَطَعَ أُصْبَعَ رَجُلٍ آخَرَ مِنْ مَفْصِلَيْنِ ثُمَّ قَطَعَ أُصْبَعَ آخَرَ كُلَّهَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي أُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو (إمَّا) إنْ جَاءُوا جَمِيعًا يَطْلُبُونَ الْقِصَاصَ، وَإِمَّا إنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ: فَإِنْ جَاءُوا جَمِيعًا يُبْدَأُ بِقَطْعِ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى لِصَاحِبِ الْأَعْلَى ثُمَّ يُخَيِّرُ صَاحِبُ الْمَفْصِلَيْنِ فَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْأَوْسَطَ بِحَقِّهِ كُلِّهِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْأَرْشِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ ثُلُثَيْ دِيَةَ أُصْبُعِهِ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ يُخَيِّرُ صَاحِبُ الْأُصْبُعِ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مَا بَقِيَ بِأُصْبُعِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ أُصْبُعِهِ مِنْ مَالِ الَّذِي قَطَعَهَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مِثْلِ مَا قُطِعَ مِنْهُ فَيَجِبُ إيفَاءِ حُقُوقِهِمْ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَذَلِكَ فِي الْبِدَايَةِ بِمَا لَا يُسْقِطُ حَقَّ بَعْضِهِمْ، وَهُوَ أَنْ يُبْدَأَ بِقَطْعِ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى لِصَاحِبِ الْأَعْلَى؛ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ لَا تُبْطِلُ حَقَّ الْبَاقِينَ فِي الْقِصَاصِ أَصْلًا لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ حَقَّيْهِمَا مَعَ النُّقْصَانِ، وَفِي الْبِدَايَةِ بِالْقِصَاصِ فِي الْأُصْبُعِ إبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ أَصْلًا، وَرُبَّ رَجُلٍ يَخْتَارُ الْقِصَاصَ - وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا - تَشَفِّيًا لِلصَّدْرِ، وَإِذَا قُطِعَ مِنْهُ الْمَفْصِلُ الْأَعْلَى لِصَاحِبِ الْأَعْلَى يُخَيِّرُ الْبَاقِيَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجَدَ حَقَّهُ نَاقِصًا لِحُدُوثِ الْعَيْبِ بِالطَّرَفِ. وَإِنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْأُصْبُعِ أَوَّلًا تُقْطَعُ لَهُ الْأُصْبُعُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِذَا جَاءَ الْبَاقِيَانِ بَعْدَ ذَلِكَ يُقْضَى لَهُمَا بِالْأَرْشِ، لِصَاحِبِ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ، وَلِصَاحِبِ الْمَفْصِلَيْنِ ثُلُثَا دِيَةِ الْأُصْبُعِ لِمَا قُلْنَا. وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْمَفْصِلَيْنِ أَوَّلًا يُقْطَعُ لَهُ الْمَفْصِلَانِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَيُقْضَى لِصَاحِبِ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى بِالْأَرْشِ لِمَا مَرَّ، وَصَاحِبُ الْأُصْبُعِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ مَا بَقِيَ وَاسْتَوْفَى حَقَّهُ نَاقِصًا، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ الْأُصْبُعِ لِمَا مَرَّ. وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْأَعْلَى أَوَّلًا فَهُوَ كَمَا إذَا جَاءُوا مَعًا، وَقَدْ ذَكَرنَا حُكْمَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ قَطَعَ كَفَّ رَجُلٍ مِنْ مَفْصِلٍ ثُمَّ قَطَعَ يَدَ آخَرَ مِنْ الْمِرْفَقِ أَوْ بَدَأَ بِالْمِرْفَقِ ثُمَّ بِالْكَفِّ، وَهُمَا فِي يَدٍ وَاحِدَةٍ فِي الْيَمِينِ أَوْ فِي الْيَسَارِ ثُمَّ اجْتَمَعَا فَإِنَّ الْكَفَّ يُقْطَعُ لِصَاحِبِ الْكَفِّ ثُمَّ يُخَيِّرُ صَاحِبُ الْمِرْفَقِ فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ مَا بَقِيَ بِحَقِّهِ كُلِّهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ لِمَا بَيَّنَّا. وَإِنْ جَاءَ أَحَدُهُمَا، وَالْآخَرُ غَائِبٌ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْكَفِّ قُطِعَ لَهُ الْكَفُّ، وَلَا يُنْتَظَرُ الْغَائِبُ لِمَا مَرَّ ثُمَّ إذَا جَاءَ صَاحِبُ الْمِرْفَقِ أَخَذَ الْأَرْشَ، وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْمِرْفَقِ أَوَّلًا يُقْطَعُ لَهُ الْمِرْفَقُ أَوَّلًا ثُمَّ إذَا جَاءَ صَاحِبُ الْيَدِ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُ أَرْشَ الْيَدِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الْأَعْلَى مِنْ سَبَّابَةِ رَجُلٍ ثُمَّ عَادَ فَقَطَعَ الْمَفْصِلَ الثَّانِيَ مِنْهَا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ مِنْ الْمَفْصِلِ الْأَوَّلِ، وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي الْمَفْصِلِ الثَّانِي وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْأَرْشِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ مِنْ أَصْلِهَا ثُمَّ قَطَعَ الْكَفَّ الَّتِي مِنْهَا الْأُصْبُعُ كَانَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْأُصْبُعِ، وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي الْكَفِّ وَعَلَيْهِ الْأَرْشُ فِي الْكَفِّ نَاقِصَةً بِأُصْبُعٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ ثُمَّ قَطَعَ سَاعِدَهُ مِنْ الْمِرْفَقِ مِنْ الْيَدِ الَّتِي قَطَعَ مِنْهَا الْكَفَّ عَلَيْهِ فِي الْيَدِ الْقِصَاصُ، وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي السَّاعِدِ بَلْ فِيهِ أَرْشُ حُكُومَةٍ كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يُفَصِّلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ بُرْءِ الْأُولَى أَوْ قَبْلَهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - إذَا كَانَتْ الثَّانِيَةُ بَعْدَ بُرْءِ الْأُولَى فَهُمَا جِنَايَتَانِ مُتَفَرِّقَتَانِ، وَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ الْبُرْءِ فَهِيَ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ، ذَكَرَ قَوْلَهُمَا فِي الزِّيَادَاتِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ إذَا كَانَتَا قَبْلَ الْبُرْءِ فَهُمَا فِي حُكْمِ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَطَعَ الْمَفْصِلَيْنِ مَعًا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا، وَإِذَا بَرِئَتْ الْأُولَى فَقَدْ اسْتَقَرَّتْ وَاسْتَقَرَّ حُكْمُهَا فَكَانَتْ الثَّانِيَةُ جِنَايَةً مُفْرَدَةً فِي مَفْصِلٍ مُفْرَدٍ فَتُفْرَدُ بِحُكْمِهَا فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأُولَى وَالْأَرْشُ فِي الثَّانِيَةِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ وَقْتَ قَطْعِ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى كَانَتْ الْأُصْبُعَانِ صَحِيحَتَيْنِ أَعْنِي أُصْبُعَ الْقَاطِعِ وَالْمَقْطُوعِ لَهُ الْمَفْصِلُ أَوَّلًا، فَكَانَتْ بَيْنَ الْأُصْبُعَيْنِ مُمَاثَلَةٌ فَأَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُمَاثَلَةٌ وَقْتَ قَطْعِ الْمَفْصِلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ

أُصْبُعَ الْقَاطِعِ كَامِلٌ وَقْتَ الْقَطْعِ فَيَكُونُ اسْتِيفَاءَ الْكَامِلِ بِالنَّاقِصِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَإِنْ قِيلَ: وَقْتُ قَطْعِ الْمَفْصِلِ الثَّانِي كَانَ الْقِصَاصُ مُسْتَحَقًّا فِي الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى مِنْ الْقَاطِعِ، وَالْمُسْتَحَقُّ كَالْمُسْتَوْفَى فَكَانَ اسْتِيفَاءَ النَّاقِصِ بِالنَّاقِصِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا إنَّ نَفْسَ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يُوجِبُ النُّقْصَانَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ جَاءَ الْأَجْنَبِيُّ وَقَطَعَ ذَلِكَ الْمَفْصِلَ عَمْدًا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ. وَلَوْ ثَبَتَ الْقِصَاصُ بِنَفْسِ الِاسْتِحْقَاقِ لَمَا وَجَبَ فَثَبَتَ أَنَّ النُّقْصَانَ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَوْ وَجَبَ النُّقْصَانُ لَكَانَ اسْتِيفَاءَ الْكَامِلِ بِالنَّاقِصِ، وَالثَّانِي إنْ سَلَّمَ أَنَّ النُّقْصَانَ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْوُجُوبِ لَكِنْ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً، وَالْأَوَّلُ نَاقِصٌ حَقِيقَةً فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُمَاثَلَةٌ. وَلَوْ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الْأَعْلَى مِنْهَا فَاقْتُصَّ مِنْهُ ثُمَّ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الثَّانِيَ، وَبَرِئَ اُقْتُصَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ أُصْبُعَ الْقَاطِعِ كَانَتْ نَاقِصَةً وَقْتَ قَطْعِ الْمَفْصِلِ الثَّانِي فَيَكُونُ اسْتِيفَاءَ النَّاقِصِ بِالنَّاقِصِ فَتَحَقَّقَتْ الْمُمَاثَلَةُ. وَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الْأَعْلَى مِنْهَا ثُمَّ قَطَعَ هُوَ الْمَفْصِلَ الثَّانِيَ مِنْهَا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ أُصْبُعِ الْقَاطِعِ وَالْمَقْطُوعِ، وَعَلَيْهِ ثُلُثُ دِيَةِ الْيَدِ. وَلَوْ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الْأَعْلَى فَبَرِئَ ثُمَّ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الثَّانِيَ فَمَاتَ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ الْمَفْصِلَ ثُمَّ قَتَلَ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِيفَاءُ مِثْلِ حَقِّهِ فِي الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الْمَفْصِلَ وَقَتَلَ؛ لِأَنَّ فِي إتْلَاف النَّفْسِ إتْلَافُ الطَّرَفِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْجِنَايَتَانِ مِنْ رَجُلَيْنِ فَمَاتَ مِنْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَمْدًا فَعَلَى صَاحِبِ النَّفْسِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَعَلَى صَاحِبِ الْجِنَايَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ الْقِصَاصُ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ يُسْتَطَاعُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُسْتَطَاعُ فَالْأَرْشُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَطَأً فَعَلَى صَاحِبِ النَّفْسِ دِيَةُ النَّفْسِ، وَعَلَى صَاحِبِ الْجِرَاحَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ أَرْشُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا، وَالْآخَرُ خَطَأً فَعَلَى الْعَامِدِ الْقِصَاصُ، وَعَلَى الْخَاطِئِ الْأَرْشُ، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ، سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ أَوْ قَبْلَ الْبُرْءِ وَلِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ إذَا كَانَتَا مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ يُمْكِنُ جَعْلُهُمَا كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ كَأَنَّهُمَا حَصَلَا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا كَانَتَا مِنْ شَخْصَيْنِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَا كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ جَعْلَ فِعْلِ أَحَدِهِمَا فِعْلُ الْآخَرِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَا بُدَّ أَنْ نَعْتَبِرَ فِعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ، سَوَاءٌ بَرِئَتْ الْجِنَايَةُ الْأُولَى أَوْ لَمْ تَبْرَأْ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ قَطَعَ مِنْ رَجُلٍ نِصْفَ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى مِنْ السَّبَّابَةِ ثُمَّ قَطَعَ نِصْفَ الْمَفْصِلِ الْبَاقِي إنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ يُقْتَصُّ مِنْهُ فَيَقْطَعُ مِنْهُ الْمَفْصِلُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ صَارَ كَأَنَّهُ قَطَعَ الْمَفْصِلَيْنِ جَمِيعًا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ يُقْتَصُّ مِنْهُ وَيُقْطَعُ مِنْهُ الْمَفْصِلُ كُلُّهُ، كَذَا هَذَا. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَتَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ فِي كُلِّ نِصْفٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنْ نِصْفِ الْمَفْصِلِ، وَلَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَتَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ. وَلَوْ قَطَعَ مِنْ رَجُلٍ نِصْفَ الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى مِنْ السَّبَّابَةِ ثُمَّ عَادَ فَقَطَعَ الْمَفْصِلَ الثَّانِيَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْمَفْصِلِ، وَالْحُكُومَةُ فِي نِصْفِ الْمَفْصِلِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَطَعَهُمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ الْأَرْشُ فِي الْمَفْصِلِ وَحُكُومَةُ الْعَدْلِ فِي نِصْفِ الْمَفْصِلِ، كَذَا هَذَا. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْمَفْصِلِ وَحُكُومَةُ الْعَدْلِ فِي نِصْفِ الْمَفْصِلِ لِأَنَّهُ إذَا بَرِئَ الْأَوَّلُ فَقَدْ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ، وَالِاسْتِيفَاءُ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ مُمْكِنٌ فَثَبَتَ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِي نِصْفِ الْمَفْصِلِ، وَلَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَتَجِبُ فِيهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ. وَلَوْ قَطَعَ مِنْ رَجُلٍ يَمِينَهُ مِنْ الْمَفْصِلِ فَاقْتُصَّ مِنْهُ ثُمَّ إنَّ أَحَدَهُمَا قَطَعَ مِنْ الْآخَرِ الذِّرَاعَ مِنْ الْمَرْفِقِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ، وَفِيهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ الْقِصَاصُ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْخِلَافَ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ عَلَى سَبِيلِ الْمُمَاثَلَةِ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّيْنِ اسْتَوَيَا، وَالْمِرْفَقُ مَفْصِلٌ فَكَانَ الْمِثْلُ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ إلَى الْحُكُومَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ مِنْ مَفْصِلِ الزَّنْدِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْأَرْشِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ لِمَا بَيَّنَّا، وَالْمُسَاوَاةُ فِي إتْلَافِ الْأَمْوَالِ مُعْتَبَرَةٌ، وَلِهَذَا لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ طَرَفَيْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ

لِاخْتِلَافِ الْأَرْشِ، وَهَهُنَا لَا يُعْرَفُ التَّسَاوِي فِي الْأَرْشِ لِأَنَّ أَرْشَ الذِّرَاعِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا يُعْرَفُ التَّسَاوِي بَيْنَ أَرْشَيْهِمَا؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْكَفِّ يُوجِبُ وَهْنَ السَّاعِدِ وَضَعْفِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَقِيمَةُ الْوَهْنِ وَالضَّعْفِ فِيهِ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ أَرْشَيْ السَّاعِدَيْنِ فَيَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قُطِعَ يَدُ رَجُلٍ وَفِيهَا أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ، وَفِي يَدِ الْقَاطِعِ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ مِثْلُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَفِيهِمَا حُكُومَةُ الْعَدْلِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْيَدَيْنِ، وَلَهُمَا أَنَّ الْأُصْبُعَ الزَّائِدَةُ فِي الْكَفِّ نَقْصٌ فِيهَا وَعَيْبٌ، وَهُوَ نَقْصٌ يَعْرِفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْكَفَّيْنِ. وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا زَائِدَةً وَفِي يَدِهِ مِثْلُهَا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْأُصْبُعَ الزَّائِدَةَ فِي مَعْنَى التَّزَلْزُلِ، وَلَا قِصَاصَ فِي الْمُتَزَلْزِلِ؛ وَلِأَنَّهَا نَقْصٌ وَلَا تُعْرَفُ قِيمَةُ النُّقْصَانِ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَلَا تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ. وَلَوْ قَطَعَ الْكَفَّ الَّتِي فِيهَا أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأُصْبُعُ تُوهِنُ الْكَفَّ وَتَنْقُصُهَا فَلَا قِصَاصَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَنْقُصُهَا فَفِيهَا الْقِصَاصُ. وَلَا قِصَاصَ بَيْنَ الْأَشَلَّيْنِ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَقَلَّهُمَا شَلَلًا أَوْ أَكْثَرَ أَوْ هُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ زُفَرُ إنْ كَانَا سَوَاءً فَفِيهِمَا الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَقَلَّهُمَا شَلَلًا كَانَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَ الْقَاطِعِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ أَرْشَ يَدِهِ شَلَّاءَ. وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَكْثَرَهُمَا شَلَلًا فَلَا قِصَاصَ وَلَهُ أَرْشُ يَدِهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ بَعْضَ الشَّلَلِ فِي يَدَيْهِمَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ أَرْشَيْهِمَا، وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا تُعْرَف الْمُمَاثَلَةُ وَكَذَلِكَ مَقْطُوعُ الْإِبْهَامِ كُلِّهَا إذَا قَطَعَ يَدًا مِثْلَ يَدِهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا قِصَاصٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْإِبْهَامِ يُوهِنُ الْكَفَّ وَيُسْقِطُ تَقْدِيرَ الْأَرْشِ فَلَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ. وَلَوْ قَطَعَ يَدُ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَهُ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ لَا تَدْخُلُ الْيَدُ فِي النَّفْسِ بِلَا خِلَافٍ، وَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ اكْتَفَى بِالْقَتْلِ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْ النَّفْسِ وَقَطَعَ يَدَهُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِهِمَا تَدْخُلُ الْيَدُ فِي النَّفْسِ وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْبُرْءُ لَا حُكْمَ لَهَا مَعَ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ فِي الشَّرِيعَةِ بَلْ يَدْخُلُ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ كَمَا إذَا قَطَعَ يَدَهُ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ إلَّا دِيَةُ النَّفْسِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْمِثْلِ وَذَلِكَ فِي الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ، وَالِاسْتِيفَاءُ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ مُمْكِنٌ فَإِذَا قَطَعَ الْمَوْلَى يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِلْمِثْلِ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ مِثْلَ الْجِنَايَةِ جَزَاءً وِفَاقًا بِخِلَافِ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ هُنَاكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بَلْ الْمُسْتَحَقُّ غَيْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِمِثْلِ النَّفْسِ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ أَصْلًا إلَّا أَنَّ وُجُوبَهُ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْأَصْلِ عِنْدَ اسْتِقْرَارِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ حَالَ عَدَمِ اسْتِقْرَارِ السَّبَبِ لِعَدَمِ الْبُرْءِ مَرْدُودَةً إلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَا جَمِيعًا عَمْدًا فَأَمَّا إذَا كَانَا جَمِيعًا خَطَأً فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ لَا يَدْخُلُ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ، وَتَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ وَنِصْفُ دِيَةٍ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَتُؤَدَّى فِي ثَلَاثِ سِنِينَ: فِي السَّنَةِ الْأُولَى ثُلُثَا الدِّيَةِ ثُلُثٌ مِنْ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، وَثُلُثٌ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ. وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ ثُلُثٌ مِنْ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، وَسُدُسٌ مِنْ النِّصْفِ. وَفِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ تُؤَدَّى فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَنِصْفُ الدِّيَةِ يُؤَدَّى فِي سَنَتَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الْمُؤَدَّى مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَدْخُلْ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا بَرِئَ فَقَدْ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ فَكَانَ الْبَاقِي جِنَايَةَ مُبْتَدَأٍ فَيُبْتَدَأُ بِحُكْمِهَا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ يَدْخُلُ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ، وَيَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَوَّلِ لَمْ يَسْتَقِرَّ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرُ خَطَأً لَا يَدْخُلُ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ بَلْ يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ أَوْ قَبْلَهُ لِأَنَّ الْعَمْدَ مَعَ الْخَطَأِ جِنَايَتَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَا يُحْتَمَلَانِ التَّدَاخُلَ فَيُعْطَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهَا فَيَجِبُ فِي الْعَمْدِ الْقِصَاصُ، وَفِي الْخَطَأِ الْأَرْشُ هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْجَانِي وَاحِدًا فَقَطَعَ ثُمَّ قَتَلَ فَأَمَّا إذَا كَانَا اثْنَيْنِ فَقَطَعَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ الْآخَرُ فَلَا يَدْخُلُ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ كَيْفَمَا كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ أَوْ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ كُلِّ جِنَايَةٍ بِحِيَالِهَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنَايَةٌ عَلَى حِدَةٍ فَكَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ التَّدَاخُلِ

وَإِفْرَادُ كُلِّ جِنَايَةٍ بِحُكْمِهَا إلَّا أَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجَانِي، وَعَدَمِ الْبُرْءِ قَدْ يُجْعَلَانِ كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ كَأَنَّهُمَا حَصَلَا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ تَقْدِيرًا، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا التَّقْدِيرُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجَانِي لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِعْلًا لِصَاحِبِهِ حَقِيقَةً فَتَعَذَّرَ التَّقْدِيرُ فَبَقِيَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنَايَةً مُفْرَدَةً حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَيُفْرَدُ حُكْمُهَا، فَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا عَمْدًا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا خَطَأً يَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا يَتَحَمَّلُ عَنْهُمَا عَاقِلَتُهُمَا فِي الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا، وَالْآخَرُ خَطَأً يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ، وَالْأَرْشُ فِي الْخَطَأِ. وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ يَدِ رَجُلٍ عَمْدًا، وَقَطَعَ آخَرُ يَدَهُ مِنْ الزَّنْدِ فَمَاتَ فَالْقِصَاصُ عَلَى الثَّانِي فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ السِّرَايَةَ بِاعْتِبَارِ الْأَلَمِ، وَالْقَطْعُ الْأَوَّلُ اتَّصَلَ أَلَمُهُ بِالنَّفْسِ، وَتَكَامَلَ بِالثَّانِي فَكَانَتْ السِّرَايَةُ مُضَافَةً إلَى الْفِعْلَيْنِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا. (وَلَنَا) أَنَّ السِّرَايَةَ بِاعْتِبَارِ الْآلَامِ الْمُتَرَادِفَةِ الَّتِي لَا تَتَحَمَّلُهَا النَّفْسُ إلَى أَنْ يَمُوتَ، وَقَطْعُ الْيَدِ يَمْنَعُ وُصُولَ الْأَلَمِ مِنْ الْأُصْبُعِ إلَى النَّفْسِ فَكَانَ قَطْعًا لِلسِّرَايَةِ فَبَقِيَتْ السِّرَايَةُ مُضَافَةً إلَى قَطْعِ الْيَدِ، وَصَارَ كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأُصْبُعَ فَبَرِئَتْ ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ يَدَهُ فَمَاتَ، وَهُنَاكَ الْقِصَاصُ عَلَى الثَّانِي، كَذَا هَذَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْأَثَرِ، وَهُوَ وُصُولُ الْأَلَمِ إلَى النَّفْسِ فَوْقَ الْبُرْءِ إذْ الْبُرْءُ يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاصَ، وَالْقَطْعُ لَا يَحْتَمِلُ ثُمَّ زَوَالُ الْأَثَرِ بِالْبُرْءِ يَقْطَعُ السِّرَايَةَ فَزَوَالُهُ بِالْقَطْعِ كَانَ أَوْلَى وَأَحْرَى وَلَوْ جَنَى عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ فَسَرَى فَالسِّرَايَةُ لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ إلَى النَّفْسِ، وَإِمَّا إنْ كَانَتْ إلَى عُضْوٍ آخَرَ فَإِنْ كَانَتْ إلَى النَّفْسِ فَالْجَانِي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْجِنَايَةِ وَإِمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْجِنَايَةِ وَالْجِنَايَةُ بِحَدِيدٍ أَوْ بِخَشَبَةٍ تَعْمَلُ عَمَلَ السِّلَاحِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِمَّا تُوجِبُ الْقِصَاصَ لَوْ بَرِئَتْ أَوْ لَا تُوجِبُ، كَمَا إذَا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ مِنْ الزَّنْدِ أَوْ مِنْ السَّاعِدِ أَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً أَوْ آمَّةً أَوْ جَائِفَةً أَوْ أَبَانَ طَرَفًا مِنْ أَطْرَافِهِ أَوْ جَرَحَهُ جِرَاحَةً مُطْلَقَةً فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ لَمَّا سَرَى بَطَلَ حُكْمُ مَا دُونَ النَّفْسِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ حَتَّى لَوْ كَانَ قَطَعَ يَدَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فَإِنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ وَإِلَّا قَتَلَهُ. وَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ وَرَجُلَيْهِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ تُحَزُّ رَقَبَتُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ فَعَفَا الْمَقْطُوعُ عَنْ الْقَطْعِ ثُمَّ سَرَى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ فَإِنْ عَفَا عَنْ الْجِنَايَةِ أَوْ عَنْ الْقَطْعِ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ أَوْ الْجِرَاحَةُ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا فَهُوَ عَنْ النَّفْسِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ عَفَا عَنْ الْقَطْعِ أَوْ الْجِرَاحَةِ وَلَمْ يَقُلْ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا لَا يَكُونُ عَفْوًا عَنْ النَّفْسِ، وَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ النَّفْسِ فِي مَالِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا يَكُونُ عَفْوًا عَنْ النَّفْسِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِأَخَوَاتِهَا قَدْ مَرَّتْ فِي مَسَائِلِ الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ قِصَاصٌ فِي النَّفْسِ فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ عَفَا عَنْ النَّفْسِ، وَبَرِئَتْ الْيَدُ ضَمِنَ دِيَةَ الْيَدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ لَا ضَمَان عَلَيْهِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا إنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ بِالْقَتْلِ صَارَتْ حَقًّا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ، وَالنَّفْسُ اسْمٌ لِجُمْلَةِ الْأَجْزَاءِ فَإِذَا قَطَعَ يَدَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّ نَفْسِهِ فَلَا يَضْمَنُ، وَلِهَذَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْيَدِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْيَدُ حَقَّهُ لَوَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ دَلَّ أَنَّهُ بِالْقَطْعِ اسْتَوْفَى حَقَّ نَفْسِهِ فَبَعْدَ ذَلِكَ إنْ عَفَا عَنْ النَّفْسِ فَالْعَفْوُ يَنْصَرِفُ إلَى الْقَائِمِ لَا إلَى الْمُسْتَوْفِي كَمَنْ اسْتَوْفَى بَعْضَ دِيَتِهِ ثُمَّ أَبْرَأَ الْغَرِيمَ إنَّ الْإِبْرَاءَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا بَقِيَ لَا إلَى الْمُسْتَوْفِي كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ حَقَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ الْقَتْلُ لَا فِي الْمَحَلِّ وَهُوَ النَّفْسُ، أَوْ يُقَالُ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ لَكِنْ فِي الْقَتْلِ لَا فِي حَقِّ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْمِثْلِ وَالْمَوْجُودُ مِنْهُ الْقَتْلُ لَا الْقَطْعُ، وَمِثْلُ الْقَتْلِ هُوَ الْقَتْلُ فَكَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْ الْيَدِ فَإِذَا قَطَعَ الْيَدَ فَقَدْ اسْتَوْفَى مَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ وَهُوَ مُتَقَوِّمٌ فَيَضْمَنُ. وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا قَطَعَ الْيَدَ ثُمَّ قَتَلَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْيَدِ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْقَطْعِ مُسِيئًا فِيهِ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهَا مَعَ إتْلَافِ النَّفْسِ بِالْقِصَاصِ فَلَا يَضْمَنُ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْقَطْعِ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا وَلِأَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ الْعَفْوِ فَإِذَا عَفَا اسْتَنَدَ الْعَفْوُ إلَى الْأَصْلِ كَأَنَّهُ عَفَا ثُمَّ قَطَعَ فَكَانَ الْقَطْعُ اسْتِيفَاءَ غَيْرِ حَقِّهِ فَيَضْمَنُ هَذَا إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى

مَا دُونَ النَّفْسِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِيهَا فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَعْضِهَا، وَلَا تَجِبُ فِي الْبَعْضِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ: إذَا قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَقَطَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ ضَمِنَ الدِّيَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي قَوْلِهِمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَطَعَ الْإِمَامُ يَدَ السَّارِقِ فَمَاتَ مِنْهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَكَذَلِكَ الْفَصَّادُ وَالْبَزَّاغُ وَالْحَجَّامُ إذَا سَرَتْ جِرَاحَاتُهُمْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ بِالْإِجْمَاعِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا إنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِفِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ وَهُوَ الْقَطْعُ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا كَالْإِمَامِ إذَا قَطَعَ السَّارِقَ فَمَاتَ مِنْهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ اسْتَوْفَى غَيْرَ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْقَطْعِ وَهُوَ أَتَى بِالْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يُؤَثِّرُ فِي فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً، وَقَدْ وُجِدَ فَيَضْمَنُ، كَمَا إذَا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ ظُلْمًا فَسَرَى إلَى النَّفْسِ. وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةَ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْإِمَامِ أَنَّ فِعْلَهُ وَقَعَ قَتْلًا إلَّا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الضَّمَانِ لِلضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ، وَالتَّحَرُّزَ عَنْ السِّرَايَةِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ لَامْتَنَعَ الْأَئِمَّةُ عَنْ الْإِقَامَةِ خَوْفًا عَنْ لُزُومِ الضَّمَانِ، وَفِيهِ تَعْطِيلُ الْحُدُودِ، وَالْقَطْعُ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَى مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ، وَالْأَوْلَى هُوَ الْعَفْوُ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إسْقَاطِ الضَّمَانِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ. وَلَوْ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ لِلنُّشُوزِ فَمَاتَتْ مِنْهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ هُوَ التَّأْدِيبُ لَا الْقَتْلُ، وَلَمَّا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا. وَلَوْ ضَرَبَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ الصَّبِيَّ لِلتَّأْدِيبِ فَمَاتَ ضَمِنَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا لَا يَضْمَنُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ مَأْذُونَانِ فِي تَأْدِيبِ الصَّبِيِّ وَتَهْذِيبِهِ، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ الْفِعْلِ الْمَأْذُونِ فِيهِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا كَمَا لَوْ عَزَّرَ الْإِمَامُ إنْسَانًا فَمَاتَ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ التَّأْدِيبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَبْقَى الْمُؤَدَّبُ حَيًّا بَعْدَهُ فَإِذَا سَرَى تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَتْلٌ وَلَيْسَ بِتَأْدِيبٍ، وَهُمَا غَيْرُ مَأْذُونَيْنِ فِي الْقَتْلِ. وَلَوْ ضَرَبَهُ الْمُعَلِّمُ أَوْ الْأُسْتَاذُ فَمَاتَ؛ إنْ كَانَ الضَّرْبُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الضَّرْبِ، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ لَا يَضْمَنُ لِلضَّرُورَةِ لِأَنَّ الْمُعَلِّمَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ بِالسِّرَايَةِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ التَّحَرُّزُ عَنْهَا يَمْتَنِعُ عَنْ التَّعْلِيمِ فَكَانَ فِي التَّضْمِينِ سَدُّ بَابِ التَّعْلِيمِ وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ السِّرَايَةِ فِي حَقِّهِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَمْ تُوجَدْ فِي الْأَبِ؛ لِأَنَّ لُزُومَ الضَّمَانِ لَا يَمْنَعُهُ عَنْ التَّأْدِيبِ لِفَرْطِ شَفَقَتِهِ عَلَى وَلَدِهِ فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ السِّرَايَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَلَوْ قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي اعْتِبَارِ وَقْتِ الْفِعْلِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا وَرَدَتْ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ فَالسِّرَايَةُ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِالْفِعْلِ السَّابِقِ، وَالْفِعْلُ صَادَفَ مَحَلًّا غَيْرَ مَضْمُونٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ يَدَ حَرْبِيٍّ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْقَطْعِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ عَلَى مَحَلٍّ غَيْرِ مَضْمُونٍ فَلَا تَكُونُ مَضْمُونَةً. وَهَكَذَا لَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَضْمَنْ السِّرَايَةَ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فِي حَقِّهِ. وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ، وَهُوَ مُسْلِمٌ ثُمَّ ارْتَدَّ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، ثُمَّ مَاتَ فَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ الْيَدِ لَا غَيْرُ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ عِصْمَةَ نَفْسِهِ بِالرِّدَّةِ فَصَارَتْ الرِّدَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ عَنْ السِّرَايَةِ، وَلَوْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ مَاتَ فَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ النَّفْسِ فِي قَوْلِهِمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ دِيَةُ الْيَدِ لَا غَيْرُ. وَجْهُ قَوْلِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا ارْتَدَّ فَكَأَنَّهُ أَبْرَأَ الْقَاطِعَ عَنْ السِّرَايَةِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجِنَايَةَ يَتَعَلَّقُ حُكْمُهَا بِالِابْتِدَاءِ أَوْ بِالِانْتِهَاءِ، وَمَا بَيْنَهُمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، وَالْمَحَلُّ هَهُنَا مَضْمُونٌ فِي الْحَالَيْنِ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ مَضْمُونَةً فِيهِمَا فَلَا تُعْتَبَرُ الرِّدَّةُ الْعَارِضَةُ فِيمَا بَيْنَهُمَا (وَأَمَّا) قَوْلُ مُحَمَّدٍ الرِّدَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَرَاءَةِ فَنَعَمْ لَكِنْ بِشَرْطِ الْمَوْتِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرِّدَّةِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمَوْتِ، وَقَدْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مَضْمُونَةً فَوَقَفَ حُكْمُ السِّرَايَةِ أَيْضًا وَكَذَلِكَ لَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلُحُوقِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْنَا مُسْلِمًا ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْقَطْعِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَضَى بِلُحُوقِهِ ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْقَطْعِ فَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ يَدِهِ لَا غَيْرُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ لُحُوقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ يَقْطَعُ حُقُوقَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَسَّمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ بَعْدَ اللُّحُوقِ، وَلَا يُقَسَّمُ قَبْلَهُ فَصَارَ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الْجِنَايَةِ. وَلَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ خَطَأً فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ مَاتَ مِنْهَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاطِعِ غَيْرُ أَرْشِ الْيَدِ وَعِتْقُهُ كَبُرْءِ الْيَدِ لِأَنَّ السِّرَايَةَ لَوْ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْجَانِي فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ لِلْمَوْلَى (وَإِمَّا) أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ لِلْعَبْدِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَيْسَ بِمَالِكٍ لَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَلَا

وَجْهَ لِلثَّانِي؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السِّرَايَةَ تَكُونُ تَابِعَةً لِلْجِنَايَةِ فَالْجِنَايَةُ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً لِلْعَبْدِ لَا تَكُونُ سِرَايَتَهَا مَضْمُونَةً لَهُ، وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا بَاعَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ الْقَطْعِ سَقَطَ حُكْمُ السِّرَايَةِ وَلَيْسَ قَطْعُ الْيَدِ فِي هَذَا مِثْلَ الرَّمْيِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ بِالرَّمْيِ الْقِيمَةَ وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَلَمْ يُوجِبْ فِي الْقَطْعِ إلَّا أَرْشَ الْيَدِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّمْيَ سَبَبُ الْإِصَابَةِ لَا مَحَالَةَ فَصَارَ جَانِيًا بِهِ وَقْتَ الرَّمْيِ (فَأَمَّا) الْقَطْعُ فَلَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلسِّرَايَةِ لَا مَحَالَةَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ قَطَعَ يَدَ الْعَبْدِ عَمْدًا فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْجَانِيَ فِي قَوْلِهِمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَهُ يَحْجُبُهُ عَنْ مِيرَاثِهِ وَيَدْخُلُ مَعَهُ فِي مِيرَاثِهِ فَلَا قِصَاصَ لِاشْتِبَاهِ الْوَلِيِّ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَوْ لَمْ يُعْتِقْهُ بَعْدَ الْقَطْعِ وَلَكِنَّهُ دَبَّرَهُ أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا فَإِنَّهُ لَا تَنْقَطِعُ السِّرَايَةَ وَيَجِبُ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَيَجِبُ مَا نَقَصَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ هَذَا إذَا كَانَ خَطَأً، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَاتَبَهُ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَبِالْكِتَابَةِ بَرِئَ عَنْ السِّرَايَةِ فَيَجِبُ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلْمَوْلَى فَإِذَا مَاتَ وَكَانَ خَطَأً لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَقَدْ مَاتَ حُرًّا فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ يَحْجُبُ الْمَوْلَى أَوْ يُشَارِكُهُ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ لَا غَيْرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَ الْمَوْلَى فَلِلْمُوَلَّى أَنْ يَقْتَصَّ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ لَا غَيْرُ، وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ فَمَاتَ وَكَانَ الْقَطْعُ خَطَأً أَوْ مَاتَ عَاجِزًا فَالْقِيمَةُ لِلْمَوْلَى، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَالْقِيمَةُ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَإِنْ مَاتَ عَاجِزًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ مَاتَ حُرًّا ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَعَ الْمَوْلَى وَارِثٌ يَحْجُبُهُ أَوْ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ فَلَا قِصَاصَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَ الْمَوْلَى فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَتْ السِّرَايَةُ إلَى النَّفْسِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ إلَى الْعُضْوِ فَالْأَصْلُ أَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا حَصَلَتْ فِي عُضْوٍ فَسَرَتْ إلَى عُضْوٍ آخَرَ - وَالْعُضْوُ الثَّانِي لَا قِصَاصَ فِيهِ - فَلَا قِصَاصَ فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا، وَهَذَا الْأَصْلُ يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فِي مَسَائِلَ. إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا مِنْ يَدِ رَجُلٍ فَشُلَّتْ الْكَفُّ فَلَا قِصَاصَ فِيهِمَا، وَعَلَيْهِ دِيَةُ الْيَدِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْقَاطِعِ قَطْعٌ مُشِلٌّ لِلْكَفِّ، وَلَا يُقَدَّرُ الْمَقْطُوعُ عَلَى مِثْلِهِ فَلَمْ يَكُنْ الْمِثْلُ مُمْكِنَ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ فَلَا يَجِبُ بِهَا ضَمَانَانِ مُخْتَلِفَانِ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَالْمَالُ خُصُوصًا عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْكَفَّ مَعَ الْأُصْبُعِ بِمَنْزِلَةِ عُضْوٍ وَاحِدٍ. وَكَذَا إذَا قَطَعَ مَفْصِلًا مِنْ أُصْبُعٍ فَشُلَّ مَا بَقِيَ أَوْ شُلَّتْ الْكَفُّ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ قَالَ الْمَقْطُوعُ: أَنَا أَقْطَعُ الْمَفْصِلَ، وَأَتْرُكُ مَا يَبِسَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْقِصَاصِ مِنْ الْأَصْلِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَكَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْبَعْضِ اسْتِيفَاءَ مَا لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ شَجَّهُ مُنَقِّلَةً فَقَالَ الْمَشْجُوجُ أَنَا أَشُجُّهُ مُوضِحَةً وَأَتْرُكُ أَرْشَ مَا زَادَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إذَا كَسَرَ بَعْضَ سِنِّ إنْسَانٍ وَاسْوَدَّ مَا بَقِيَ فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قِصَاصٌ؛ لِأَنَّ قِصَاصَهُ هُوَ كَسْرٌ مُسْوَدٌّ لِلْبَاقِي، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ فَلَا تُوجِبُ ضَمَانَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا فَشُلَّتْ إلَى جَنْبِهَا أُخْرَى فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَيْهِ دِيَةُ الْأُصْبُعَيْنِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ فِي الْأَوَّلِ لَا قِصَاصَ وَفِي الثَّانِي الْأَرْشُ، وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْمَحَلَّ مُتَعَدِّدٌ وَالْفِعْلُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَحَلِّ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَ مُتَّحِدًا حَقِيقَةً لِتَعَدُّدِ أَثَرِهِ، وَهَهُنَا تَعَدَّدَ الْأَثَرُ فَيُجْعَلُ فِعْلَيْنِ فَيُفْرَدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ فِي الثَّانِي كَمَا لَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ إنْسَانٍ فَانْسَلَّ السِّكِّينُ إلَى أُصْبُعٍ أُخْرَى خَطَأً فَقَطَعَهَا حَتَّى يَجِبَ الْقِصَاصَ فِي الْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ فِي الثَّانِي. وَكَمَا لَوْ رَمَى سَهْمًا إلَى إنْسَانٍ فَأَصَابَهُ وَنَفَذَ مِنْهُ وَأَصَابَ آخَرَ حَتَّى يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ فِي الثَّانِي لِمَا قُلْنَا. وَكَذَلِكَ هَذَا. وَإِذَا تَعَدَّدَتْ الْجِنَايَةُ تُفْرَدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهَا فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأُولَى وَالْأَرْشُ فِي الثَّانِيَةِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ هُوَ الْمِثْلُ، وَالْمِثْلُ وَهُوَ الْقَطْعُ الْمُشِلُّ هَهُنَا غَيْرُ مَقْدُورِ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ؛ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ مُتَّحِدَةٌ حَقِيقَةً، وَهِيَ قَطْعُ الْأُصْبُعِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ ضَمَانُ الْمَالِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُ الْقِصَاصِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا عَمْدًا فَنَفَذَ السِّكِّينُ إلَى أُخْرَى خَطَأً لِأَنَّ الْمَوْجُودَ

هُنَاكَ فِعْلَانِ حَقِيقَةً فَجَازَ أَنْ يُفْرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمٍ، وَفِي مَسْأَلَةِ الرَّمْيِ جُعِلَ الْفِعْلُ الْمُتَّحِدُ حَقِيقَةً مُتَعَدِّدًا شَرْعًا بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ، وَمَنْ ادَّعَى خِلَافَ الْحَقِيقَةِ هَهُنَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ. وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا فَسَقَطَ إلَى جَنْبِهَا أُخْرَى فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا يَجِبُ فِي الْأَوَّلِ الْقِصَاصُ، وَفِي الثَّانِي الْأَرْشُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْجِرَاحَةَ الَّتِي فِيهَا الْقِصَاصُ إذَا تَوَلَّدَ مِنْهَا مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْقِصَاصُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَهَهُنَا يُمْكِنُ وَفِيمَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا فَشُلَّتْ أُخْرَى بِجَنْبِهَا لَا يُمْكِنُ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الْأُولَى وَالْأَرْشُ فِي الثَّانِيَةِ. وَجْهُ ظَاهِرِ قَوْلِهِمَا عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَحَلَّ مُتَعَدِّدٌ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ تَعَدُّدَ الْفِعْلِ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْأَثَرِ، وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا فَيُجْعَلُ كَجِنَايَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُكْمُهَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقَطْعُ الْمُسْقِطُ لِلْأُصْبُعِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ حَقِيقَةً فَلَا تُوجِبُ إلَّا ضَمَانًا وَاحِدًا، وَقَدْ وَجَبَ الْمَالُ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصَ. وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ عَمْدًا فَسَقَطَتْ الْكَفُّ مِنْ الْمَفْصِلِ فَلَا قِصَاصَ فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِيهِ دِيَةُ الْيَدِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ - وَهُوَ الْقَطْعُ الْمُسْقِطُ لِلْكَفِّ - مُتَعَذِّرٌ فَيُمْتَنَعُ الْوُجُوبُ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّ مَعَ الْأُصْبُعِ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ وَاحِدَةً حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِمَا ضَمَانُ الْمَالِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا الْقِصَاصُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُقْتَصُّ مِنْهُ فَتُقْطَعُ يَدُهُ مِنْ الْمَفْصِلِ فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ مَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا فَسَقَطَتْ أُخْرَى إلَى جَنْبِهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْأُصْبُعَ جُزْءٌ مِنْ الْكَفِّ، وَالسِّرَايَةُ تَتَحَقَّقُ مِنْ الْجُزْءِ إلَى الْجُمْلَةِ كَمَا تَتَحَقَّقُ مِنْ الْيَدِ إلَى النَّفْسِ، وَالْأُصْبُعَانِ عُضْوَانِ مُفْرَدَانِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا جُزْءَ الْآخَرِ فَلَا تَتَحَقَّقُ السِّرَايَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، وَعَلَى مَا رَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي النَّوَادِرِ يَجِبُ الْقِصَاصُ هَهُنَا أَيْضًا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اللَّهُ - لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ سَرَتْ إلَى مَا يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَطَعَ الْكَفَّ مِنْ الزَّنْدِ. وَلَوْ كَسَرَ بَعْضَ سِنِّ إنْسَانٍ فَسَقَطَتْ لَا قِصَاصَ فِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَاصُ بِكَسْرِ مُسْقِطٍ لِلسِّنِّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجِبُ الْقِصَاصُ كَمَا قَالَ فِي الْأُصْبُعِ إذَا قُطِعَتْ فَسَقَطَتْ مِنْهَا الْكَفُّ. وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَصْلِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ ضَرَبَ سِنَّ إنْسَانٍ فَتَكَسَّرَ بَعْضُهَا وَتَحَرَّكَ الْبَاقِي وَاسْتَوْفَى حَوْلًا أَنَّهَا إنْ اسْوَدَّتْ فَلَا قِصَاصَ فِيهَا لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ، وَهُوَ الْكَسْرُ الْمُسْوَدُّ، وَإِنْ سَقَطَتْ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِيهَا الْأَرْشُ لِعَدَمِ إمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ، وَهُوَ الْكَسْرُ الْمُسْقِطُ، فَيَجِبُ فِيهَا الْأَرْشُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيهَا الْقِصَاصُ كَمَا قَالَ فِي الْأُصْبُعِ إذَا قُطِعَتْ الْكَفُّ. وَلَوْ شَجَّ إنْسَانًا مُوضِحَةً مُتَعَمِّدًا فَذَهَبَ مِنْهَا بَصَرُهُ فَلَا قِصَاصَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِيهَا وَفِي الْبَصَرِ الْأَرْشُ وَقَالَا فِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ وَفِي الْبَصَرِ الدِّيَةُ، هَذِهِ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ مُحَمَّدٍ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْهُ أَنَّ فِيهِمَا جَمِيعًا الْقِصَاصَ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ إلَى عُضْوٍ يُمْكِنُ فِيهِ الْقِصَاصُ فَيَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ كَمَا إذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ وَجْهُ ظَاهِرِ قَوْلِهِمَا أَنَّ تَلَفَ الْبَصَرِ حَصَلَ مِنْ طَرِيقِ التَّسْبِيبِ لَا مِنْ طَرِيقِ السِّرَايَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّجَّةَ تَبْقَى بَعْدَ ذَهَابِ الْبَصَرِ، وَحُدُوثُ السِّرَايَةِ يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْجِنَايَةِ كَالْقَطْعِ إذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ أَنَّهُ لَا يَبْقَى قَطْعًا بَلْ يَصِيرُ قَتْلًا، وَهُنَا الشَّجَّةُ لَمْ تَتَغَيَّرْ بَلْ بَقِيَتْ شَجَّةً كَمَا كَانَتْ فَدَلَّ أَنَّ ذَهَابَ الْبَصَرِ لَيْسَ مِنْ طَرِيقِ السِّرَايَةِ بَلْ مِنْ طَرِيقِ التَّسْبِيبِ، وَالْجِنَايَةُ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ لَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَوْ ذَهَبَتْ عَيْنَاهُ وَلِسَانُهُ وَسَمْعُهُ وَجِمَاعُهُ فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَى قَوْلِهِمَا فِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ وَلَا قِصَاصَ فِي الْعَيْنَيْنِ فِي ظَاهِرِ قَوْلِهِمَا بَلْ فِيهِمَا الْأَرْشُ، وَعَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيهِمَا الْقِصَاصُ دُونَ اللِّسَانِ وَالسَّمْعِ وَالْجِمَاعِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِيهِمَا الْقِصَاصُ إذْ لَا قِصَاصَ فِي ذَهَابِ مَنْفَعَةِ اللِّسَانِ وَالسَّمْعِ وَالْجِمَاعِ فِي الشَّرْعِ، وَفِي ذَهَابِ الْبَصَرِ قِصَاصٌ فِي الشَّرِيعَةِ. وَلَوْ ضَرَبَهُ بِعَصًا فَأَوْضَحَهُ ثُمَّ عَادَ فَضَرَبَهُ أُخْرَى إلَى جَنْبِهَا ثُمَّ تَآكَلَتَا حَتَّى صَارَتْ وَاحِدَةً فَهُمَا مُوضِحَتَانِ وَلَا قِصَاصَ فِيهِمَا، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

فَلِعَدَمِ إمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ، وَهُمَا شَجَّتَانِ مُوضِحَتَانِ تَأَكَّلَ بَيْنَهُمَا (وَأَمَّا) عَلَى أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّ مَا تَأَكَّلَ بَيْنَ الْمُوضِحَتَيْنِ تَلِفَ بِسَبَبِ الْجِرَاحَةِ، وَالْإِتْلَافُ تَسْبِيبًا لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ. وَلَا قِصَاصَ فِي الْعَيْنِ إذَا قُوِّرَتْ أَوْ فُسِخَتْ لِأَنَّا إذَا فَعَلْنَا مَا فَعَلَ، وَهُوَ التَّقْوِيرُ وَالْفَسْخُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ إذْ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ، وَإِنْ أَذْهَبْنَا ضَوْءَهُ فَلَمْ نَفْعَلْ مِثْلَ مَا فَعَلَ فَتَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ وَصَارَ كَمَنْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ مِنْ السَّاعِدِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْقَطْعِ مِنْ السَّاعِدِ وَلَا مِنْ الزَّنْدِ لِمَا قُلْنَا فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ، كَذَا هَذَا. وَإِنْ ضُرِبَ عَلَيْهَا فَذَهَبَ ضَوْءُهَا مَعَ بَقَاءِ الْحَدَقَةِ عَلَى حَالِهَا لَمْ تَنْخَسِفْ فَفِيهَا الْقِصَاصُ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ عَلَى سَبِيلِ الْمُمَاثَلَةِ مُمْكِنٌ بِأَنْ يُجْعَلَ عَلَى وَجْهِهِ الْقُطْنُ الْمَبْلُولُ، وَتُحْمَى الْمِرْآةُ، وَتُقَرَّبُ مِنْ عَيْنِهِ حَتَّى يَذْهَبَ ضَوْءُهَا، وَقِيلَ أَوَّلُ مِنْ اهْتَدَى إلَى ذَلِكَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَشَارَ إلَى مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ فِي زَمَنِ سَيِّدِنَا عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَجَمَعَ الصَّحَابَةَ الْكِرَامَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَشَاوَرَهُمْ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ حُكْمُهَا حَتَّى جَاءَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَشَارَ إلَى مَا ذَكَرْنَا فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَقَضَى بِهِ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَإِنْ انْخَسَفَتْ فَلَا قِصَاصَ لِأَنَّ الثَّانِيَ قَدْ لَا يَقَعُ خَاسِفًا بِهَا فَلَا يَكُونُ مِثْلَ الْأَوَّلِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي عَيْنِ الْأَحْوَلِ؛ لِأَنَّ الْحَوَلَ نَقْصٌ فِي الْعَيْنِ فَيَكُونُ اسْتِيفَاءَ الْكَامِلِ بِالنَّاقِصِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ، وَلِهَذَا لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الصَّحِيحَةُ بِالْيَدِ الشَّلَّاءِ، كَذَا هَذَا وَلَا قِصَاصَ فِي الْأَشْفَارِ وَالْأَجْفَانِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فِيهَا (وَأَمَّا) الْأُذُنُ فَإِنْ اسْتَوْعَبَهَا فَفِيهَا الْقِصَاصُ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} [المائدة: 45] وَلِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ فِيهَا مُمْكِنٌ فَإِنْ قَطَعَ بَعْضَهَا فَإِنْ كَانَ لَهُ حَدٌّ يُعْرَفُ فَفِيهِ الْقِصَاصُ، وَإِلَّا فَلَا (وَأَمَّا) الْأَنْفُ فَإِنْ قُطِعَ الْمَارِنُ فَفِيهِ الْقِصَاصُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ} [المائدة: 45] وَلِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ فِيهِ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ لَهُ حَدًّا مَعْلُومًا، وَهُوَ مَا لَانَ مِنْهُ فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُ الْمَارِنِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ، وَإِنْ قُطِعَ قَصَبَةُ الْأَنْفِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِأَنَّهُ عَظْمٌ، وَلَا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ وَلَا فِي السِّنِّ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ اسْتَوْعَبَ فَفِيهِ الْقِصَاصُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا قِصَاصَ فِيهِ وَإِنْ اسْتَوْعَبَ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَرَادَ اسْتِيعَابَ الْمَارِنِ، وَفِيهِ الْقِصَاصُ بِلَا خِلَافٍ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَرَادَ بِهِ اسْتِيعَابَ الْقَصَبَةِ، وَلَا قِصَاصَ فِيهَا بِلَا خِلَافٍ. (وَأَمَّا) الشَّفَةُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ إذَا قَطَعَ شَفَةَ الرَّجُلِ السُّفْلَى أَوْ الْعُلْيَا. وَكَانَ يُسْتَطَاعُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فَفِيهِ الْقِصَاصُ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إنْ اسْتَقْصَاهَا بِالْقَطْعِ فَفِيهَا الْقِصَاصُ لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ عِنْدَ الِاسْتِقْصَاءِ، وَإِنْ قَطَعَ بَعْضَهَا فَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ، وَلَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ إلَّا فِي السِّنِّ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ، وَلَا يُؤْمَنُ فِيهِ عَنْ التَّعَدِّي أَيْضًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ «لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ» ، وَفِي السِّنِّ الْقِصَاصُ سَوَاءٌ كُسِرَ أَوْ قُلِعَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فِيهِ بِأَنْ يُؤْخَذَ فِي الْكَسْرِ مِنْ سِنِّ الْكَاسِرِ مِثْلُ مَا كُسِرَ بِالْمِبْرَدِ، وَفِي الْقَلْعِ يُؤْخَذُ سِنُّهُ بِالْمِبْرَدِ إلَى أَنْ يَنْتَهِي إلَى اللَّحْمِ وَيَسْقُطُ مَا سِوَى ذَلِكَ، وَقِيلَ فِي الْقَلْعِ أَنَّهُ يُقْلَعُ سِنُّهُ؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، وَالْأَوَّلُ اسْتِيفَاءٌ عَلَى وَجْهِ النُّقْصَانِ إلَّا أَنَّ فِي الْقَلْعِ احْتِمَالَ الزِّيَادَةِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ أَنْ يَفْعَلَ الْمَقْلُوعُ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَ الْقَالِعُ (وَأَمَّا) اللِّسَانُ فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُهُ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِعَدَمِ إمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ، وَإِنْ اسْتَوْعَبَ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ اللِّسَانَ لَا يُقْتَصُّ فِيهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيهِ الْقِصَاصُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْقَطْعَ إذَا كَانَ مُسْتَوْعِبًا أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فِيهِ بِالِاسْتِيعَابِ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ مِثْلَ الْجِنَايَةِ. وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ اللِّسَانَ يَنْقَبِضُ وَيَنْبَسِطُ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهِ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ، وَإِنْ قَطَعَ الْحَشَفَةَ فَفِيهَا الْقِصَاصُ لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا، وَإِنْ قَطَعَ بَعْضَهَا أَوْ بَعْضَ الذَّكَرِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا حَدَّ لِذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ الْقَطْعُ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ بَعْضَ اللِّسَانِ، وَلَوْ قَطَعَ الذَّكَرَ مِنْ أَصْلِهِ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيهِ الْقِصَاصُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ عِنْدَ الِاسْتِيعَابِ أَمْكَنَ الِاسْتِيفَاءُ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ. وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الذَّكَرَ يَنْقَبِضُ مَرَّةً وَيَنْبَسِطُ أُخْرَى فَلَا يُمْكِنُ مُرَاعَاةُ

الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ. وَلَا قِصَاصَ فِي جَزِّ شَعْرِ الرَّأْسِ وَحَلْقِهِ وَحَلْقِ الْحَاجِبَيْنِ وَالشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ وَإِنْ لَمْ يَنْبُتْ بَعْدَ الْحَلْقِ وَالنَّتْفِ (أَمَّا) الْجَزُّ فَلِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ فَلَا يُمْكِنُ أَخْذُ الْمِثْلِ (وَأَمَّا) الْحَلْقُ وَالنَّتْفُ الْمَوْجُودُ مِنْ الْحَالِقِ وَالنَّاتِفِ فَلِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ حَلْقُ وَنَتْفُ غَيْرِ مَنْبَتٍ، وَذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمَحْلُوقِ وَالْمَنْتُوفِ لِجَوَازِ أَنْ يَقَعَ حَلْقُهُ وَنَتْفُهُ مَنْبَتًا فَلَا يَكُونُ مِثْلَ الْأَوَّلِ. وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ إذَا لَمْ يَنْبُتْ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ أَمْ لَا؟ وَكَذَا لَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ الْأُنْثَيَيْنِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِمَا، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الْقِصَاصُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ مَفْصِلٌ مَعْلُومٌ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ. (وَأَمَّا) حَلَمَةُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ فِيهَا؛ لِأَنَّ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا فَيُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فِيهَا كَالْحَشَفَةِ وَلَوْ ضَرَبَ عَلَى رَأْسِ إنْسَانٍ حَتَّى ذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ سَمْعُهُ أَوْ كَلَامُهُ أَوْ شَمُّهُ أَوْ ذَوْقُهُ أَوْ جِمَاعُهُ أَوْ مَاءُ صُلْبِهِ فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُضْرَبَ ضَرْبًا تَذْهَبُ بِهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فَلَمْ يَكُنْ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ مُمْكِنًا فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ. وَكَذَلِكَ لَوْ ضَرَبَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ أَوْ رِجْلِهِ فَشُلَّتْ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُضْرَبَ ضَرْبًا مُشِلًّا فَلَمْ يَكُنْ الْمِثْلُ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا الشِّجَاجُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُوضِحَةَ فِيهَا الْقِصَاصُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُمَاثَلَةِ؛ لِأَنَّ لَهَا حَدًّا تَنْتَهِي إلَيْهِ السِّكِّينُ، وَهُوَ الْعَظْمُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيمَا بَعْدَ الْمُوضِحَةِ لِتَعَدُّدِ الِاسْتِيفَاءِ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ؛ لِأَنَّ الْهَاشِمَةَ تَهْشِمُ الْعَظْمَ، وَالْمُنَقِّلَةَ تَهْشِمُ وَتُنَقِّلُ بَعْدَ الْهَشِمِ، وَلَا قِصَاصَ فِي هَشْمِ الْعَظْمِ لِمَا بَيَّنَّا، وَالْآمَّةُ لَا يُؤْمَنُ فِيهَا مِنْ أَنْ يَنْتَهِيَ السِّكِّينُ إلَى الدِّمَاغِ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِي هَذِهِ الشِّجَاجِ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِخِلَافِ الْمُوضِحَةِ (وَأَمَّا) مَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْمُوضِحَةِ وَالسِّمْحَاقِ وَالْبَاضِعَةِ وَالدَّامِيَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي الشِّجَاجِ إلَّا فِي الْمُوضِحَةِ وَالسِّمْحَاقِ إنْ أَمْكَنَ الْقِصَاصُ فِي السِّمْحَاقِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ خُدُوشٌ وَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَعَنْ الشُّعَبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ فِيهِ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ مِمَّا ذَكَرْنَا لَا حَدَّ لَهُ يَنْتَهِي إلَيْهِ السِّكِّينُ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءُ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ فِيهِ مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ غَوْرِ الْجِرَاحَةِ بِالْمِسْبَارِ ثُمَّ إذَا عُرِفَ قَدْرُهُ بِهِ يُعْمَلُ حَدِيدَةٌ عَلَى قَدْرِهِ فَتَنْفُذُ فِي اللَّحْمِ إلَى آخِرِهَا فَيَسْتَوْفِي مِنْهُ مِثْلَ مَا فَعَلَ، ثُمَّ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ مِنْ الشِّجَاجِ لَا يُقْتَصُّ مِنْ الشَّاجِّ إلَّا فِي مَوْضِعِ الشَّجَّةِ مِنْ الْمَشْجُوجِ مِنْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَمُؤَخَّرِهِ وَوَسَطِهِ وَجَنْبَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصُ لِلشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ، وَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ مِنْ الرَّأْسِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْنَ فِي مُؤَخَّرِ الرَّأْسِ لَا يَكُونُ مِثْلَ الشَّيْنِ الَّذِي فِي مُقَدَّمِهِ؟ وَلِهَذَا يُسْتَوْفَى عَلَى مِسَاحَةِ الشَّجَّةِ مِنْ طُولِهَا وَعَرْضِهَا مَا أَمْكَنَ لِاخْتِلَافِ الشَّيْنِ بِاخْتِلَافِ الشَّجَّةِ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبْرِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً فَأَخَذَتْ الشَّجَّةُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ، وَهِيَ لَا تَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ لِصِغَرِ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ وَكِبَرِ رَأْسِ الشَّاجِّ أَنَّهُ لَا يُسْتَوْعَبُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ فِي الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ فِي الِاسْتِيعَابِ اسْتِيفَاءَ الزِّيَادَةِ، وَفِيهِ زِيَادَةُ الشَّيْنِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَكِنْ يُخَيَّرُ الْمَشْجُوجُ إنْ شَاءَ اقْتَصَّ مِنْ الشَّاجِّ حَتَّى يَبْلُغَ مِقْدَارَ شَجَّتِهِ فِي الطُّولِ ثُمَّ يَكُفُّ، وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إلَى الْأَرْشِ لِأَنَّهُ وَجَدَ حَقَّهُ نَاقِصًا؛ لِأَنَّ الشَّجَّةَ الْأُولَى وَقَعَتْ مُسْتَوْعَبَةٌ، وَالثَّانِيَةُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهَا فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ فَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى حَقَّهُ نَاقِصًا تَشَفِّيًا لِلصَّدْرِ، وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إلَى الْأَرْشِ كَمَا قُلْنَا فِي الْأَشَلِّ إذَا قَطَعَ يَدَ الصَّحِيحِ فَإِنْ اخْتَارَ الْقِصَاصَ فَلَهُ أَنْ يَبْدَأَ مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ يُبْتَدَأَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَإِنْ كَانَتْ الشَّجَّةُ تَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ وَلَا تَفْضُلُ وَهِيَ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ، وَتَفْضُلُ عَنْ قَرْنَيْهِ لِكِبَرِ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ وَصِغَرِ رَأْسِ الشَّاجِّ فَلِلْمَشْجُوجِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ، وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ؛ لِأَنَّهُ مَا زَادَ عَلَى مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ فَلَا يُزَادُ عَلَى مَا بَيْنَ قَرْنَيْهِ فَيُخَيَّرُ الْمَشْجُوجُ لِأَنَّهُ وَجَدَ حَقَّهُ نَاقِصًا إذْ الثَّانِيَةُ دُونَ الْأُولَى فِي قَدْرِ الْجِرَاحَةِ فَإِنْ شَاءَ رَضِيَ

فصل في الجناية فيما دون النفس بالسلاح

بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ نَاقِصًا، وَاقْتَصَرَ عَلَى مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ طَلَبًا لِلتَّشَفِّي. وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إلَى الْأَرْشِ، وَإِنْ كَانَتْ الشَّجَّةُ لَا تَأْخُذُ بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ، وَهِيَ تَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَوْعَبَ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ كُلِّهِ بِالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الشَّجَّةَ الْأُولَى وَقَعَتْ غَيْرَ مُسْتَوْعَبَةٍ فَالِاسْتِيعَابُ فِي الْجُزْءِ يَكُونُ زِيَادَةً، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِقْدَارَ شَجَّتِهِ فِي الْمِسَاحَةِ كَمَا لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ مَا فَضَلَ عَنْ قَرْنَيْ الشَّاجِّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِقْدَارَ الشَّجَّةِ الْأُولَى فِي الْمِسَاحَةِ وَلَهُ الْخِيَارُ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ مِثْلِ شَجَّتِهِ فِي مِقْدَارِهَا فِي الْمِسَاحَةِ فِي الطُّولِ فَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَنَقَصَ عَمَّا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَأَخَذَ الْأَرْشَ. وَإِنْ كَانَتْ الشَّجَّةُ فِي طُولِ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ، وَهِيَ تَأْخُذُ مِنْ جَبْهَتِهِ إلَى قَفَاهُ وَلَا تَبْلُغُ مِنْ الشَّاجِّ إلَى قَفَاهُ يُخَيَّرُ الْمَشْجُوجُ إنْ شَاءَ اقْتَصَّ مِقْدَارَ شَجَّتِهِ إلَى مِثْلِ مَوْضِعِهَا مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْعَبَّاسِ الرَّازِيّ أَنَّهُ قَالَ إذَا اسْتَوْعَبَتْ الشَّجَّةُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ، وَلَمْ تَسْتَوْعِبْ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ يُقْتَصُّ مِنْ الشَّاجِّ مَا بَيْنَ قَرْنَيْهِ كُلِّهِ، وَإِنْ زَادَ ذَلِكَ عَلَى طُولِ الشَّجَّةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلصِّغَرِ وَالْكِبَرِ فِي الْقِصَاصِ بَيْنَ الْعُضْوَيْنِ كَمَا فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ أَنَّهُ يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَكْبَرَ مِنْ الْأُخْرَى فَكَذَا فِي الشَّجَّةِ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ هُنَاكَ لِفَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ وَأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ. أَلَا يَرَى أَنَّ الْيَدَ الصَّغِيرَةَ قَدْ تَكُونُ أَكْثَرَ مَنْفَعَةً مِنْ الْكَبِيرَةِ فَإِذَا لَمْ يَخْتَلِفْ مَا وَجَبَ لَهُ لَمْ يَخْتَلِفْ الْوُجُوبُ بِخِلَافِ الشَّجَّةِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِيهَا لِلشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ وَأَنَّهُ يَخْتَلِفُ فَيَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الشَّجَّةِ وَيُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِهَا لِذَلِكَ افْتَرَقَ الْأَمْرَانِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (وَأَمَّا) الْجِرَاحُ فَإِنْ مَاتَ مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا الْمَجْرُوحُ وَجَبَ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْجِرَاحَةَ صَارَتْ بِالسِّرَايَةِ نَفْسًا، وَإِنْ لَمْ يَمُتْ فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ جَائِفَةً أَوْ غَيْرَهَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْجَانِي، وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حُرَّيْنِ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا أَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَا ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ عِنْدَنَا فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى فَلَا قِصَاصَ فِيهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كَمَا يُجْرَى فِي النَّفْسِ، وَهَذَانِ الشَّرْطَانِ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَنَا مُتَدَاخِلَانِ لِأَنَّهُمَا دَخَلَا فِي شَرْطِ الْمُمَاثَلَةِ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْأُرُوشِ شَرْطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحِيحَ لَا يُقْطَعُ بِالْأَشَلِّ، وَلَا كَامِلَ الْأَصَابِعِ بِنَاقِصِ الْأَصَابِعِ، وَلِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ وَالْمُمَاثَلَةُ فِي الْأَمْوَالِ فِي بَابِ الْأَمْوَالِ مُعْتَبَرَةٌ، وَلَمْ تُوجَدْ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي الْأُرُوشِ؛ لِأَنَّ أَرْشَ طَرَفِ الْعَبْدِ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ بَلْ يَجِبُ بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهِ، وَأَرْشُ طَرَفِ الْحُرِّ مُقَدَّرٌ فَلَا يُوجَدُ التَّسَاوِي بَيْنَ أَرْشَيْهِمَا، وَلَئِنْ اتَّفَقَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْقَدْرِ فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ طَرَفِ الْعَبْدِ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَلَا تُعْرَفُ الْمُسَاوَاةُ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ. وَكَذَا لَمْ يُوجَدْ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْعَبِيدِ لِأَنَّهُمْ إنْ اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُمْ فَلَمْ يُوجَدْ التَّسَاوِي فِي الْأَرْشِ، وَإِنْ اسْتَوَتْ قِيمَتُهُمْ فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ فَلَا يُعْرَفُ التَّسَاوِي فِي أُرُوشِهِمْ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ أَوَتَبْقَى فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَالشُّبْهَةُ فِي بَابِ الْقِصَاصِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ. وَلَا بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْأُنْثَى نِصْفُ أَرْشِ الذَّكَرِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُسَاوَاةُ فِي الْأُرُوشِ فِي الْأَحْرَارِ غَيْرُ مُعْتَبِرَةٍ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْقِصَاصَ جَرَى بَيْنَ نَفْسَيْهِمَا فَيَجْرِي بَيْنَ طَرَفَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الطَّرَفَ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ (وَلَنَا) أَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ أَرْشَيْهِمَا فَلَا قِصَاصَ فِي طَرَفَيْهِمَا كَالصَّحِيحِ مَعَ الْأَشَلِّ. وَلَا قِصَاصَ فِي الْأَظْفَارِ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ فِي أُرُوشِهَا لِأَنَّ أَرْشَ الظُّفْرِ الْحُكُومَةُ، وَأَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. [فَصْلٌ فِي الْجِنَايَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِالسِّلَاحِ] وَأَمَّا كَوْنُ الْجِنَايَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِالسِّلَاحِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ فَسَوَاءٌ كَانَتْ بِسِلَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شُبْهَةُ عَمْدٍ، وَإِنَّمَا فِيهِ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَاسْتَوَى فِيهِمَا السِّلَاحُ وَغَيْرُهُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا شَرَائِطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ (وَأَمَّا) بَيَانُ وَقْتِ الْحُكْمِ بِالْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَوَقْتُهُ مَا بَعْدَ الْبُرْءِ فَلَا يَحْكُمُ بِالْقِصَاصِ فِيهِ مَا لَمْ يَبْرَأْ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

في الأعضاء التي تجب فيها الدية كاملة

وَقْتُهُ مَا بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَلَا يُنْتَظَرُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ لِلْحَالِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْوَاجِبَ لِلْحَالِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «لَا يُسْتَقَادُ مِنْ الْجِرَاحَةِ حَتَّى يَبْرَأَ» . وَرُوِيَ أَنَّ «رَجُلًا جَرَحَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَخِذِهِ بِعَظْمٍ فَجَاءَ الْأَنْصَارُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَطَلَبُوا الْقِصَاصَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - انْتَظِرُوا مَا يَكُونُ مِنْ صَاحِبِكُمْ فَأَنَا وَاَللَّهِ مُنْتَظِرُهُ» ، وَهُوَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ السِّرَايَةَ، وَالْجِرَاحَةُ عِنْدَ السِّرَايَةِ تَصِيرُ قَتْلًا فَيُتَبَيَّنُ أَنَّهُ اسْتَوْفَى غَيْرَ حَقِّهِ، وَهَذَا فَرْعُ مَسْأَلَةٍ ذَكَرْنَاهَا، وَهِيَ أَنَّ الْمَجْرُوحَ إذَا مَاتَ بِالْجِرَاحَةِ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالنَّفْسِ عِنْدَنَا لَا فِي الطَّرَفِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [فِي الأعضاء الَّتِي تجب فِيهَا الدِّيَة كاملة] وَأَمَّا الَّذِي فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَالثَّانِي فِي بَيَانِ شَرَائِطِهِ. أَمَّا السَّبَبُ فَهُوَ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْ الْعُضْوِ عَلَى الْكَمَالِ، وَذَلِكَ فِي الْأَصْلِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إبَانَةُ الْعُضْوِ وَإِذْهَابُ مَعْنَى الْعُضْوِ مَعَ بَقَاءِ الْعُضْوِ صُورَةً. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَعْضَاءُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِانْتِهَاءِ كَمَالِ الدِّيَةِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةِ: نَوْعٌ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْبَدَنِ، وَنَوْعٌ فِي الْبَدَنِ مِنْهُ اثْنَانِ، وَنَوْعٌ فِي الْبَدَنِ مِنْهُ أَرْبَعَةٌ (أَمَّا) الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْبَدَنِ فَسِتَّةُ أَعْضَاءٍ أَحَدُهَا الْأَنْفُ سَوَاءٌ اسْتَوْعَبَ جَدْعًا أَوْ قُطِعَ الْمَارِنُ مِنْهُ وَحْدَهُ، وَهُوَ مَا لَانَ مِنْ الْأَنْفِ، وَالثَّانِي اللِّسَانُ سَوَاءٌ اسْتَوْعَبَ قَطْعًا أَوْ قُطِعَ مِنْهُ مَا يَذْهَبُ بِالْكَلَامِ كُلِّهِ، وَالثَّالِثُ الذَّكَرُ سَوَاءٌ اسْتَوْعَبَ قَطْعًا أَوْ قُطِعَ الْحَشَفَةُ مِنْهُ وَحْدَهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ وَفِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ» وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَتَبَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ وَفِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ» وَلِأَنَّهُ أَبْطَلَ الْمَنَافِعَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَالْجَمَالَ أَيْضًا مِنْ بَعْضِهَا فَالْمَقْصُودُ مِنْ الْأَنْفِ الشَّمُّ وَالْجَمَالُ أَيْضًا، وَمِنْ اللِّسَانِ الْكَلَامُ، وَمِنْ الذَّكَرِ الْجِمَاعُ، وَالْحَشَفَةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا مَنْفَعَةُ الْإِنْزَالِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْقَطْعِ. وَإِنْ كَانَ ذَهَبَ بَعْضُ الْكَلَامِ بِقَطْعِ بَعْضِ اللِّسَانِ دُونَ بَعْضٍ فَفِيهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ، وَقِيلَ تُقَسَّمُ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِ حُرُوفِ الْهِجَاءِ فَيَجِبُ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا فَاتَ مِنْ الْحُرُوفِ. وَنُقِلَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ اللِّسَانِ هُوَ الْكَلَامُ، وَقَدْ فَاتَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ فَيَجِبُ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِ الْفَائِتِ مِنْهَا لَكِنْ إنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ الْحُرُوفُ الَّتِي تَفْتَقِرُ إلَى اللِّسَانِ فَأَمَّا مَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى اللِّسَانِ مِنْ الشَّفَوِيَّةِ وَالْحَلْقِيَّةِ كَالْبَاءِ وَالْفَاءِ وَالْهَاءِ وَنَحْوِهِمَا فَلَا تَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ. وَالرَّابِعُ الصُّلْبُ إذَا احْدَوْدَبَ بِالضَّرْبِ وَانْقَطَعَ الْمَاءُ، وَهُوَ الْمَنِيُّ، فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ لِوُجُودِ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ. وَالْخَامِسُ مَسْلَكُ الْبَوْلِ. وَالسَّادِسُ مَسْلَكُ الْغَائِطِ مِنْ الْمَرْأَةِ إذَا أَفْضَاهَا إنْسَانٌ فَصَارَتْ لَا تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ أَوْ الْغَائِطَ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ فَإِنْ صَارَتْ لَا تَسْتَمْسِكهُمَا فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً بِالْعُضْوِ عَلَى الْكَمَالِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ (وَأَمَّا) الْأَعْضَاءُ الَّتِي فِي الْبَدَنِ مِنْهَا اثْنَانِ فَالْعَيْنَانِ، وَالْأُذُنَانِ، وَالشَّفَتَانِ، وَالْحَاجِبَانِ إذَا ذَهَبَ شَعْرُهُمَا وَلَمْ يَنْبُتْ، وَالثَّدْيَانِ وَالْحَلَمَتَانِ وَالْأُنْثَيَانِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «وَفِي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ» وَلِأَنَّ فِي الْقَطْعِ كُلَّ اثْنَيْنِ مِنْ هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً أَوَتَفْوِيتُ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ كَمَنْفَعَةِ الْبَصَرِ فِي الْعَيْنَيْنِ وَالْبَطْشِ فِي الْيَدَيْنِ وَالْمَشْيِ فِي الرِّجْلَيْنِ وَالْجَمَالِ فِي الْأُذُنَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ إذَا لَمْ يَنْبُتَا وَالشَّفَتَيْنِ وَمَنْفَعَةِ إمْسَاكِ الرِّيقِ فِي إحْدَاهُمَا وَهِيَ السُّفْلَى. وَالثَّدْيَانِ وِكَاءٌ لِلَّبَنِ، وَفِي الْحَلَمَتَيْنِ مَنْفَعَةُ الرَّضَاعِ، وَالْأُنْثَيَانِ وِكَاءُ الْمَنِيِّ (وَأَمَّا) الْأَعْضَاءُ الَّتِي مِنْهَا أَرْبَعَةٌ فِي الْبَدَنِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَشْفَارُ الْعَيْنَيْنِ، وَهِيَ مَنَابِتُ الْأَهْدَابِ إذَا لَمْ تَنْبُتْ لِمَا فِي تَفْوِيتِهَا مِنْ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْبَصَرِ وَالْجَمَالِ أَيْضًا عَلَى الْكَمَالِ، وَفِي كُلِّ شَفْرٍ مِنْهَا رُبْعُ الدِّيَةِ. وَالثَّانِي الْأَهْدَابُ، وَهِيَ شَعْرُ الْأَشْفَارِ إذَا لَمْ تَنْبُتْ لِمَا قُلْنَا (وَأَمَّا) إذْهَابُ مَعْنَى الْعُضْوِ مَعَ بَقَاءِ صُورَتِهِ فَنَحْوُ الْعَقْلِ وَالْبَصَرِ وَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَالْجِمَاعِ وَالْإِيلَادِ بِأَنْ ضُرِبَ عَلَى رَأْسِ إنْسَانٍ فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ سَمْعُهُ أَوْ كَلَامُهُ أَوْ شَمُّهُ أَوْ ذَوْقُهُ أَوْ جِمَاعُهُ أَوْ إيلَادُهُ بِأَنْ ضُرِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَذَهَبَ مَاءُ صُلْبِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى فِي رَجُلٍ وَاحِدٍ

بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ، ضُرِبَ عَلَى رَأْسِهِ فَذَهَبَ عَقْلُهُ وَكَلَامُهُ وَبَصَرُهُ وَذَكَرُهُ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْمَنَافِعَ الْمَقْصُودَةَ عَنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ (أَمَّا) الْعَقْلُ فَلِأَنَّ تَفْوِيتَهُ تَفْوِيتُ مَنَافِعِ الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ بِفَوْتِ الْعَقْلِ. أَلَا تَرَى أَنَّ أَفْعَالَ الْمَجَانِينِ تَخْرُجُ مَخْرَجَ أَفْعَالِ الْبَهَائِمِ فَكَانَ إذْهَابُهُ إبْطَالًا لِلنَّفْسِ مَعْنًى (وَأَمَّا) السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَالْجِمَاعُ وَالْإِيلَادُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَقَدْ فَوَّتَهَا كُلَّهَا. وَلَوْ ضُرِبَ عَلَى رَأْسِ رَجُلٍ فَسَقَطَ شَعْرُهُ أَوْ عَلَى رَأْسِ امْرَأَةٍ فَسَقَطَ شَعْرُهَا أَوْ حَلَقَ لَحَيَّةَ رَجُلٍ أَوْ نَتَفَهَا أَوْ حَلَقَ شَعْرَ امْرَأَةٍ وَلَمْ يَنْبُتْ فَإِنْ كَانَ حُرًّا فَفِيهِ الدِّيَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِيهِ حُكُومَةٌ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ إلَّا بِإِتْلَافِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ النَّفْسِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِذَلِكَ عِنْدَ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ كَمَا فِي قَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ يَجْعَلُ النَّفْسَ تَالِفَةً مِنْ وَجْهٍ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي حَلْقِ الشَّعْرِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهِ مَرْدُودًا إلَى الْأَصْلِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ فِي حَلْقِ شَعْرِ سَائِرِ الْبَدَنِ (وَلَنَا) أَنَّ الشَّعْرَ لِلنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ جَمَالٌ كَامِلٌ. وَكَذَا اللِّحْيَةُ لِلرِّجَالِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ «أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا مَلَائِكَةً مِنْ تَسْبِيحِهِمْ سُبْحَانَ الَّذِي زَيَّنَ الرِّجَالَ بِاللِّحَى وَالنِّسَاءَ بِالذَّوَائِبِ» وَتَفْوِيتُ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ فِي حَقِّ الْحُرِّ يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ كَالْمَارِنِ وَالْأُذُنِ الشَّاخِصَةِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا إظْهَارُ شَرَفِ الْآدَمِيِّ وَكَرَامَتِهِ، وَشَرَفُهُ فِي الْجَمَالِ فَوْقَ شَرَفِهِ فِي الْمَنَافِعِ ثُمَّ تَفْوِيتُ الْمَنَافِعِ عَلَى الْكَمَالِ لَمَّا أَوْجَبَ كَمَالَ الدِّيَةِ فَتَفْوِيتُ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ أَوْلَى بِخِلَافِ شَعْرِ سَائِرِ الْبَدَنِ لِأَنَّهُ لَا جَمَالَ فِيهِ عَلَى الْكَمَالِ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ لِلنَّاسِ فَتَفْوِيتُهُ لَا يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّأْسِ إذَا حُلِقَ فَلَمْ يَنْبُتْ الدِّيَةُ كَامِلَةً. وَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي اللِّحْيَةِ إذَا حُلِقَتْ فَلَمْ تَنْبُتْ الدِّيَةُ وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَغْلَى مَاءً فَصَبَّهُ عَلَى رَأْسِ رَجُلٍ فَانْسَلَخَ جِلْدُ رَأْسِهِ فَقَضَى سَيِّدُنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالدِّيَةِ. وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ قَالَ إنَّمَا يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ فِي اللِّحْيَةِ إذَا كَانَتْ كَامِلَةً بِحَيْثُ يُتَجَمَّلُ بِهَا فَأَمَّا إذَا كَانَتْ طَاقَاتٍ مُتَفَرِّقَةً لَا يُتَجَمَّلُ بِهَا فَلَا شَيْءَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَوَفِّرَةٍ بِحَيْثُ يَقَعُ بِهَا الْجَمَالُ الْكَامِلُ، وَلَيْسَتْ مِمَّا يَشِينُ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ. وَأَمَّا شَعْرُ الْعَبْدِ وَلِحْيَتُهُ فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ فِيهِ حُكُومَةً. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ فِيهِ الْقِيمَةَ (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْعَبِيدِ كَالدِّيَةِ فِي الْأَحْرَارِ فَلَمَّا وَجَبَتْ فِي الْحُرِّ الدِّيَةُ تَجِبُ فِي الْعَبْدِ الْقِيمَةُ (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الْجَمَالَ فِي الْعَبْدِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهُمْ الْخِدْمَةُ، وَتَفْوِيتُ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ. وَلَوْ حَلَقَ رَأْسَ إنْسَانٍ أَوْ لِحْيَتَهُ ثُمَّ نَبَتَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّابِتَ قَامَ مَقَامَ الْفَائِتِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ الْجَمَالُ أَصْلًا. وَفِي الصَّعَرِ - وَهُوَ اعْوِجَاجُ الرَّقَبَةِ - كَمَالُ الدِّيَةِ لِوُجُودِ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ وَتَفْوِيتِ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) شَرَائِطُ الْوُجُوبِ (فَمِنْهَا) أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ خَطَأً فِيمَا فِي عَمْدِهِ الْقِصَاصُ وَأَمَّا مَا لَا قِصَاصَ فِي عَمْدِهِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْد، وَالْخَطَأُ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِي عَمْدِهِ الْقِصَاصُ وَمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ فِيمَا تَقَدَّمَ (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ذَكَرًا فَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَعَلَيْهِ دِيَةُ أُنْثَى، وَهُوَ نِصْفُ دِيَةِ الذَّكَرِ سَوَاءٌ كَانَ الْجَانِي ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ تَنْصِيفُ دِيَةِ الْأُنْثَى مِنْ دِيَةِ الذَّكَرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي دِيَةِ النَّفْسِ (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حُرَّيْنِ فَإِنْ كَانَ الْجَانِي حُرًّا وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَبْدًا فَلَا دِيَةَ فِيهِ، وَفِيهِ الْقِيمَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ إنْ كَانَ قَلِيلَ الْقِيمَةِ وَجَبَتْ جَمِيعُ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرَ الْقِيمَةِ بِأَنْ بَلَغَتْ الدِّيَةُ يُنْقَصُ مِنْ قِيمَتِهِ عَشَرَةٌ كَذَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْحُرِّ فِيهِ الدِّيَةُ فَهُوَ مِنْ الْعَبْدِ فِيهِ الْقِيمَةُ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْحُرِّ فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ فَهُوَ مِنْ الْعَبْدِ فِيهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ. وَكَذَلِكَ الْجِرَاحَاتُ. وَعُمُومُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ الْحُرِّ فِيهِ قَدْرٌ مِنْ الدِّيَةِ فَمِنْ الْعَبْدِ فِيهِ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ قِيمَتِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَنْفَعَةُ كَالْعَيْنِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَبَيْنَ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْجَمَالُ وَالزِّينَةُ مِثْلُ الْحَاجِبِ وَالشَّعْرِ وَالْأُذُنِ، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْهُ أَنَّهُ إنْ حَلَقَ أَحَدَ حَاجِبَيْهِ فَلَمْ يَنْبُتْ أَوْ نَتَفَ أَشْفَارَ عَيْنَيْهِ الْأَسْفَلِ أَوْ الْأَعْلَى يَعِنِي أَهْدَابَهُ فَلَمْ تَنْبُتْ أَوْ قَطَعَ إحْدَى شَفَتَيْهِ الْعُلْيَا أَوْ السُّفْلَى أَنَّ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ نِصْفَ الْقِيمَةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ

رَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَاجِبِ الْعَبْدِ وَفِي أُذُنَيْهِ وَقَالَ فِيهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ. وَكَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ اسْتَقْبَحَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَضْمَنَ فِي أُذُنِ الْعَبْدِ نِصْفَ الْقِيمَةِ، وَهَذَا دَلِيلُ الرُّجُوعِ أَيْضًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَنْفَعَةُ هُوَ الْقِيمَةُ رِوَايَةً وَاحِدَةً عَنْهُ، وَفِيمَا يُقْصَدُ بِهِ الزِّينَةُ وَالْجَمَالُ عَنْهُ رِوَايَتَانِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ النُّقْصَانُ يُقَوَّمُ الْعَبْدُ مَجْنِيًّا عَلَيْهِ وَيُقَوَّمُ وَلَيْسَ بِهِ الْجِنَايَةُ فَيَغْرَمُ الْجَانِي مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ، وَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْعَبْدِ لَهُ حُكْمُ الْمَالِ لِأَنَّهُ خُلِقَ لِمَصْلَحَةِ النَّفْسِ كَالْمَالِ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ فَكَانَ ضَمَانُهُ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ، وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بَلْ يَجِبُ بِقَدْرِ نُقْصَانِ الْمَالِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْجَمْعِ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْعَبْدِ كَالدِّيَةِ فِي الْحُرِّ فَلَمَّا جَازَ تَقْدِيرُ ضَمَانِ جِنَايَةِ الْحُرِّ بِدِيَتِهِ جَازَ تَقْدِيرُ ضَمَانِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ بِقِيمَتِهِ وَلِأَنَّ التَّقْدِيرَ قَدْ دَخَلَ عَلَى الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ حَتَّى لَا يَبْلُغَ الدِّيَةَ إذَا كَانَ كَثِيرَ الْقِيمَةِ فَجَازَ أَنْ يَدْخُلَ فِي ضَمَانِ الْجِنَايَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كَالْحُرِّ (وَوَجْهُ) رِوَايَةِ الْفَرْقِ لَهُ أَنَّ الْجَمَالَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي الْعَبِيدِ بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهُمْ الْخِدْمَةُ فَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ فَمَقْصُودَةٌ مِنْ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ جَمِيعًا وَلِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْعَبِيدِ لَهُ شِبْهُ النَّفْسِ وَشِبْهُ الْمَالِ أَمَّا شِبْهُ النَّفْسِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ النَّفْسِ حَقِيقَةً (وَأَمَّا) شِبْهُ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ وَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ فَيُعْمَلُ بِشِبْهِ النَّفْسِ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَنْفَعَةُ بِتَقْدِيرِ ضَمَانِهِ بِالْقِيمَةِ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى النَّفْسِ وَيُعْمَلُ بِشِبْهِ الْمَالِ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ الْجَمَالُ فَلَمْ يُقَدَّرْ ضَمَانُهُ بِالْقِيمَةِ كَمَا إذَا أَتْلَفَ الْمَالَ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَمَلٌ بِشِبْهِ الْمَالِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفِي الْعَمَلَ بِشِبْهِ النَّفْسِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا جَمِيعًا، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا. ثُمَّ الْحُرُّ إذَا فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدِ إنْسَانٍ أَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَالُ الْقِيمَةِ فَمَوْلَاهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَلَّمَهُ إلَى الْفَاقِئِ وَأَخَذَ قِيمَتَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَهُ أَنْ يَمْسِكَهُ وَيَأْخُذَ مَا نَقَصَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ أَنْ يَمْسِكَهُ وَيَأْخُذَ جَمِيعَ الْقِيمَةِ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ - وَهُوَ الْقِيمَةُ - ضَمَانُ الْعُضْوَيْنِ الْفَائِتَيْنِ لَا غَيْرُ فَيَبْقَى الْبَاقِي عَلَى مِلْكِهِ كَمَا لَوْ فَقَأَ إحْدَى عَيْنَيْهِ أَوْ قَطَعَ إحْدَى يَدَيْهِ أَنَّهُ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ وَيَبْقَى الْبَاقِي عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ، كَذَا هَذَا. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الضَّمَانَ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنَيْنِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ لَكِنَّ الرَّقَبَةَ هَلَكَتْ مِنْ وَجْهٍ لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى إنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ الْهَلَاكِ وَضَمِنَهُ الْقِيمَةَ وَسَلَّمَ الْعَبْدَ إلَى الْفَاقِئِ لِوُصُولِ عِوَضِ الرَّقَبَةِ إلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ الْقِيَامِ وَأَمْسَكَهُ وَضَمِنَ النُّقْصَانَ وَهُوَ بَدَلُ الْعَيْنَيْنِ، كَمَا يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْمَالِ عِنْدَ النُّقْصَانِ الْفَاحِشِ فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إلَى الْمَوْلَى بَدَلُ النَّفْسِ فَلَوْ بَقِيَ الْعَبْدُ عَلَى مِلْكِهِ لَاجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فِيمَا يَصِحُّ تَمْلِيكُهُ بِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا غَصَبَ مُدَبَّرًا فَأَبَقَ مِنْ يَدِهِ أَنَّ الْمَوْلَى يَضْمَنُهُ قِيمَتَهُ، وَالْمُدَبَّرُ عَلَى مِلْكِهِ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ التَّمْلِيكُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَلَا تَلْزَمُ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ إذَا سَلَّمَ الْهِبَةَ، وَلَمْ يَقْبِضْ الْعِوَضَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ عَلَى مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَكُونُ عِوَضًا فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ، وَلَا يَلْزَمُ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ، وَلَمْ يُسَلِّمْ الثَّمَنَ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَيْسَ بِبَدَلٍ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إنَّمَا الْبَدَلُ الْقِيمَةُ، وَقَدْ مَلَكَهَا الْبَائِعُ حِينَ مَلَكَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِهِ. وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِجَارِيَةٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَقَبَضَ الْعَبْدَ فَأَعْتَقَهُمَا جَمِيعًا أَنَّهُ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَقَدْ اجْتَمَعَ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ عَلَى مِلْكِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْتَقَهُمَا فَسَدَ الْبَيْعُ فِي الْجَارِيَةِ وَصَارَ الْعِوَضُ عَنْ الْعَبْدِ الْقِيمَةَ، وَمَلَكَهَا الْبَائِعُ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الْعَبْدِ فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ، وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ شَيْئًا وَعَجَّلَ الْأُجْرَةَ أَنَّ الْمُؤَاجِرَ يَمْلِكُهَا، وَالْمَنَافِعُ عَلَى مِلْكِهِ فَقَدْ اجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُمْلَكُ عِنْدَنَا إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا، وَكُلَّمَا وُجِدَ جُزْءٌ مِنْهَا حَدَثَ عَلَى مِلْكِ الْمُسْتَأْجَرِ فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ عَلَى مِلْكِ الْمُؤَاجِرِ، وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا غَصَبَ عَبْدًا فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ فَجَنَى عِنْدَهُ

فصل في الجروح التي يجب فيها أرش مقدر

جِنَايَةً أُخْرَى وَدَفَعَهُ بِالْجِنَايَتَيْنِ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ عِوَضٌ عَنْ نَصْفِ الرَّقَبَةِ الَّذِي سَلَّمَ لَهُ فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي مِلْكِهِ، وَهُوَ نِصْفُ الْعَبْدِ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ اجْتِمَاعُ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ إنَّمَا يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ جِنَايَتِهِ لَا عَنْ الْمَالِ، وَاجْتِمَاعُ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِغَيْرِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ جَائِزٌ كَمَنْ اسْتَوْهَبَ الْمَبِيعَ مِنْ الْبَائِعِ وَالثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ وَرِثَهُمَا، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ الْجَانِي عَبْدًا وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حُرًّا، أَوْ كَانَا جَمِيعًا عَبْدَيْنِ فَحُكْمُ هَذِهِ الْجِنَايَةِ وُجُوبُ الدَّفْعِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي جِنَايَاتِ الْعَبِيدِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الْجُرُوحِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ] وَأَمَّا الَّذِي يَجِبُ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَفِي كُلِّ اثْنَيْنِ مِنْ الْبَدَنِ فِيهِمَا كَمَالُ الدِّيَةِ فِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ مِنْ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ إذَا لَمْ تَنْبُتْ وَالشَّفَتَيْنِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالثَّدْيَيْنِ وَالْحَلَمَتَيْنِ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كَتَبَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ» ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ الدِّيَةِ عِنْدَ قَطْعِ الْعُضْوَيْنِ يُقَسَّمُ عَلَيْهِمَا فَيَكُونُ فِي أَحَدِهِمَا النِّصْفُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْكُلِّ فِي الْعُضْوَيْنِ لِتَفْوِيتِ كُلِّ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْ الْعُضْوَيْنِ، وَالْفَائِتُ بِقَطْعِ أَحَدِهِمَا النِّصْفُ فَيَجِبُ فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْيَمِينُ وَالْيَسَارُ لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا، وَسَوَاءٌ ذَهَبَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْعَيْنِ نُورُ الْبَصَرِ دُونَ الشَّحْمَةِ أَوْ ذَهَبَ الْبَصَرُ مَعَ الشَّحْمَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعَيْنِ الْبَصَرُ، وَالشَّحْمَةُ فِيهِ تَابِعَةٌ. وَكَذَا الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى مِنْ الشَّفَتَيْنِ سَوَاءٌ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ زَيْدٍ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَهُمَا فَأَوْجَبَ فِي السُّفْلَى الثُّلُثَيْنِ وَفِي الْعُلْيَا الثُّلُثُ لِزِيَادَةِ جَمَالٍ فِي الْعُلْيَا وَمَنْفَعَةٍ فِي السُّفْلَى، وَبَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ مِثْلِ شُرَيْحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَغَيْرِهِمَا، سَوَاءٌ قَطَعَ الْحَلَمَةَ مِنْ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ قَطَعَ الثَّدْيَ وَفِيهِ الْحَلَمَةُ فَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِلْحَلَمَةِ، وَالثَّدْيُ تَبَعٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الثَّدْيِ وَهُوَ مَنْفَعَةُ الرَّضَاعِ يَفُوتُ بِفَوَاتِ الْحَلَمَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِضَرْبَةٍ أَوْ ضَرْبَتَيْنِ إذَا كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ مِنْ الْأُولَى لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَسْتَقِرُّ قَبْلَ الْبُرْءِ فَإِذَا أَتْبَعَهَا الثَّانِيَةَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِهَا صَارَ كَأَنَّهُ أَوْقَعَهُمَا مَعًا. وَفِي أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عُشْرُ الدِّيَةِ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ لَا فَضْلَ لِبَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أُصْبُعٍ وَأُصْبُعٍ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ، وَأَشَارَ إلَى الْخِنْصَرِ وَالْإِبْهَامِ، وَسَوَاءٌ قَطَعَ أَصَابِعَ الْيَدِ وَحْدَهَا أَوْ قَطَعَ الْكَفَّ وَمَعَهَا الْأَصَابِعُ. وَكَذَلِكَ الْقَدَمُ مَعَ الْأَصَابِعِ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «فِي الْأَصَابِعِ فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا قَطَعَ الْأَصَابِعَ وَحْدَهَا أَوْ قَطَعَ الْكَفَّ الَّتِي فِيهَا الْأَصَابِعُ وَلِأَنَّ الْأَصَابِعَ أَصْلٌ وَالْكَفُّ تَابِعَةٌ لَهَا لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ الْيَدِ الْبَطْشُ، وَأَنَّهَا تَحْصُلُ بِالْأَصَابِعِ فَكَانَ إتْلَافُهَا إتْلَافًا لِلْيَدِ، وَسَوَاءٌ قَطَعَ الْأَصَابِعَ أَوْ شُلَّ مِنْ الْجِرَاحَةِ أَوْ يَبِسَ فَفِيهِ عَقْلُهُ تَامًّا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ يَفُوتُ، وَمَا كَانَ مِنْ الْأَصَابِعِ فِيهِ ثَلَاثُ مَفَاصِلَ فَفِي كُلِّ مِفْصَلٍ ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ، وَمَا كَانَ فِيهِ مَفْصِلَانِ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الْإِصْبَعِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْإِصْبَعِ يَنْقَسِمُ عَلَى مَفَاصِلِهَا كَمَا يَنْقَسِمُ مَا فِي الْيَدِ عَلَى عَدَدِ الْأَصَابِعِ، وَفِي إحْدَى أَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ رُبْعُ الدِّيَةِ، وَفِي الِاثْنَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الثَّلَاثِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ إنْ لَمْ يَنْبُتْ؛ لِأَنَّ فِي الْأَشْفَارِ كُلِّهَا كُلَّ الدِّيَةِ فَتُقَسَّمُ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِهَا كَمَا تُقَسَّمُ الدِّيَةُ عَلَى الْيَدَيْنِ، وَإِنْ نَبَتَ فَلَا شَيْءَ فِيهِ سَوَاءٌ قَطَعَ الشَّفْرَ وَحْدَهُ أَوْ قَطَعَ مَعَهُ الْجَفْنَ لِأَنَّ الْجَفْنَ تَبَعٌ لِلشَّفْرِ كَالْكَفِّ وَالْقَدَمِ لِلْأَصَابِعِ. وَكَذَا أَهْدَابُ الْعَيْنَيْنِ إذَا لَمْ تَنْبُتْ حُكْمُهَا حُكْمُ الْأَشْفَارِ. وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُقَدَّمُ وَالْمُؤَخَّرُ وَالثَّنَايَا وَالْأَضْرَاسُ وَالْأَنْيَابُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «فِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ سِنٍّ وَسِنٍّ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ فَضَّلَ أَرْشَ الطَّوَاحِنِ عَلَى أَرْشِ الضَّوَاحِكِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْحَدِيثَ

لَا يُوجِبُ الْفَضْلَ وَهَذَا لَا يَجْرِي عَلَى قِيَاسِ الْأَصَابِعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ فِي كُلِّ سِنٍّ بِخَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ؛ لِأَنَّ الْأَسْنَانَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ فَيَزِيدُ الْوَاجِبُ فِي جُمْلَتِهَا عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ. وَلَوْ ضَرَبَ رَجُلًا ضَرْبَةً فَأَلْقَى أَسْنَانَهُ كُلَّهَا فَعَلَيْهِ دِيَةٌ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ الْأَسْنَانِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سِنًّا، عِشْرُونَ ضِرْسًا وَأَرْبَعَةُ أَنْيَابٍ، وَأَرْبَعُ ثَنَايَا وَأَرْبَعُ ضَوَاحِكَ فِي كُلِّ سِنٍّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ فَيَكُونُ جُمْلَتُهَا سِتَّةَ عَشْرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَهِيَ دِيَةٌ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ دِيَةٍ تُؤَدَّى هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، فِي السَّنَةِ الْأُولَى ثُلُثَا الدِّيَةِ ثُلُثٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، وَهِيَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَثُلُثٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ وَهِيَ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ الثُّلُثُ مِنْ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ وَالْبَاقِي مِنْ ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ، وَفِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَهُوَ مَا بَقِيَ مِنْ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ تُؤَدَّى فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثُهَا وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ، وَهِيَ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ تُؤَدَّى فِي سَنَتَيْنِ مِنْ السِّنِينَ الثَّلَاثِ، وَهَذَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الْمُؤَدَّى مِنْ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ وَالنَّاقِصَةِ فِي السَّنَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، وَقَدْرُ الْمُؤَدَّى مِنْ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مَا وَصَفْنَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ ضَرَبَ أَسْنَانَ رَجُلٍ وَتَحَرَّكَتْ يُنْتَظَرُ بِهَا حَوْلًا لِمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «يُسْتَأْنَى بِالْجِرَاحِ حَتَّى تَبْرَأَ» وَالتَّقْدِيرُ بِالسَّنَةِ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ يَظْهَرُ فِيهَا حَقِيقَةُ حَالِهَا مِنْ السُّقُوطِ وَالتَّغَيُّرِ وَالثُّبُوتِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَضْرُوبُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، كَذَا رُوِيَ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يُؤَجَّلُ سَنَةً سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُنْتَظَرُ فِي الصَّغِيرِ وَلَا يُنْتَظَرُ فِي الرَّجُلِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُنْتَظَرُ إذَا تَحَرَّكَتْ وَإِذَا سَقَطَتْ لَا يُنْتَظَرُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ السِّنَّ إذَا تَحَرَّكَتْ قَدْ تَثْبُتُ وَقَدْ تَسْقُطُ فَأَمَّا إذَا سَقَطَتْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تَثْبُتُ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّغِيرِ، وَالْكَبِيرِ أَنَّ سِنَّ الصَّغِيرِ يَثْبُتُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا، وَسِنُّ الْكَبِيرِ لَا تَثْبُتُ ظَاهِرًا. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ احْتِمَالَ النَّبَاتِ ثَابِتٌ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ فَإِنْ اشْتَدَّتْ وَلَمْ تَسْقُطْ فَلَا شَيْءَ فِيهَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَإِنْ تَغَيَّرَتْ فَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ إلَى السَّوَادِ أَوْ إلَى الْحُمْرَةِ أَوْ إلَى الْخُضْرَةِ فَفِيهَا الْأَرْشُ تَامًّا لِأَنَّهُ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا، وَذَهَابُ مَنْفَعَةِ الْعُضْوِ بِمَنْزِلَةِ ذَهَابِ الْعُضْوِ، وَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ إلَى الصُّفْرَةِ فَفِيهَا حُكُومَةُ الْعَدْلِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ إنْ كَانَ حُرًّا فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا فَفِيهِ الْحُكُومَةُ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَكَادُ تَصِحُّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ أَوْلَى بِإِيجَابِ الْأَرْشِ مِنْ الْعَبْدِ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الصُّفْرَةِ الْأَرْشُ تَامًّا كَمَا فِي السَّوَادِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُفَوِّتُ الْجَمَالَ. (وَلَنَا) أَنَّ الصُّفْرَةَ لَا تُوجِبُ فَوَاتَ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا تُوجِبُ نُقْصَانَهَا فَتُوجِبُ حُكُومَةَ الْعَدْلِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَثُرَتْ الصُّفْرَةُ حَتَّى تَكُونَ عَيْبًا كَعَيْبِ الْحُمْرَةِ وَالْخُضْرَةِ فَفِيهَا عَقْلُهَا تَامًّا، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا. وَإِنْ سَقَطَتْ فَإِنْ نَبَتَ مَكَانَهَا أُخْرَى يُنْظَرُ إنْ نَبَتَتْ صَحِيحَةً فَلَا شَيْءَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ الْأَرْشُ كَامِلًا، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِيهَا حُكُومَةَ الْعَدْلِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ فَوَّتَ السِّنَّ، وَالنَّابِتُ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ الْفَائِتِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعِوَضَ مِنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الضَّمَانُ الْوَاجِبُ كَمَنْ أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَزَقَ الْمُتْلَفَ عَلَيْهِ مِثْلَ الْمُتْلَفِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ السِّنَّ يُسْتَأْنَى بِهَا فَلَوْلَا أَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِالنَّبَاتِ لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِينَاءِ فِيهِ مَعْنًى لِأَنَّهُ لَمَّا نَبَتَتْ فَقَدْ عَادَتْ الْمَنْفَعَةُ وَالْجَمَالُ، وَقَامَتْ الثَّانِيَةُ مَقَام الْأُولَى كَأَنَّ الْأُولَى قَائِمَةٌ كَسِنِّ الصَّبِيِّ هَذَا إذَا نَبَتَتْ بِنَفْسِهَا فَأَمَّا إذَا رَدَّهَا صَاحِبُهَا إلَى مَكَانِهَا فَاشْتَدَّتْ وَنَبَتَ عَلَيْهَا اللَّحْمُ فَعَلَى الْقَالِعِ الْأَرْشُ بِكَمَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعَادَةَ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا لِانْقِطَاعِ الْعُرُوقِ بَلْ يَبْطُلُ بِأَدْنَى شَيْءٍ فَكَانَتْ إعَادَتُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِهَذَا جَعَلَهَا مُحَمَّدٌ فِي حُكْمِ الْمَيْتَةِ حَتَّى قَالَ إنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ مَعَهَا، وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَرَّقَ بَيْنَ سِنِّ نَفْسِهِ وَسِنِّ غَيْرِهِ فَأَجَازَ الصَّلَاةَ فِي سِنِّ نَفْسِهِ دُونَ سِنِّ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَطَعَ أُذُنَهُ فَخَاطَهَا فَالْتَحَمَتْ إنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَرْشُ لِأَنَّهَا لَا تَعُودُ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فَلَا يَعُودُ الْجَمَالُ هَذَا إذَا نَبَتَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى صَحِيحَةً فَأَمَّا إذَا نَبَتَتْ مُعْوَجَّةً فَفِيهَا حُكُومَةُ الْعَدْلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ نَبَتَتْ مُتَغَيِّرَةً بِأَنْ نَبَتَتْ سَوْدَاءَ أَوْ حَمْرَاءَ أَوْ خَضْرَاءَ أَوْ صَفْرَاءَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا لَوْ كَانَتْ قَائِمَةً فَتَغَيَّرَتْ بِالضَّرْبَةِ لِأَنَّ النَّابِتَ قَامَ مَقَامَ

الذَّاهِبِ فَكَأَنَّ الْأُولَى قَائِمَةٌ وَتَغَيَّرَتْ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ ذَلِكَ. (وَأَمَّا) سِنُّ الصَّبِيِّ إذَا ضُرِبَ عَلَيْهَا فَسَقَطَتْ فَإِنْ كَانَ قَدْ ثُغِرَ فَسِنُّهُ وَسِنُّ الْبَالِغِ سَوَاءٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُثْغَرَ فَإِنْ لَمْ تَنْبُتْ أَوْ نَبَتَتْ مُتَغَيِّرَةً فَكَذَلِكَ، وَإِنْ نَبَتَتْ صَحِيحَةً فَلَا شَيْءَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا فِي سِنِّ الْبَالِغِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهَا حُكُومَةُ الْأَلَمِ فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ سِنِّ الْبَالِغِ وَالصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ سِنَّ الصَّبِيِّ إذَا لَمْ يُثْغَرْ لَا نَبَاتَ لَهُ إلَّا عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ، بِخِلَافِ سِنِّ الْبَالِغِ، وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ مَسْأَلَةِ الشَّجَّةِ إذَا الْتَحَمَتْ وَنَبَتَ الشَّعْرُ عَلَيْهَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الشَّاجِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فِيهَا حُكُومَةُ الْأَلَمِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فِيهَا أُجْرَةُ الطَّبِيبِ. وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي بَيَانِ حُكْمِ الشِّجَاجِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ ضَرَبَ عَلَى سِنِّ إنْسَانٍ فَتَحَرَّكَ فَأَجَّلَهُ الْقَاضِي سَنَةً ثُمَّ جَاءَ الْمَضْرُوبَ وَقَدْ سَقَطَتْ سِنُّهُ فَقَالَ إنَّمَا سَقَطَتْ مِنْ ضَرْبَتِك وَقَالَ الضَّارِبُ مَا سَقَطَتْ بِضَرْبَتِي فَالْمَضْرُوبُ لَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ جَاءَ فِي السَّنَةِ (وَإِمَّا) أَنْ جَاءَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَإِنْ جَاءَ فِي السَّنَةِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الضَّارِبِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَضْرُوبِ. وَلَوْ شَجَّ رَأْسَ إنْسَانٍ مُوضِحَةً فَصَارَتْ مُنَقِّلَةً فَاخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ الْمَشْجُوجُ صَارَتْ مُنَقِّلَةً بِضَرْبَتِك وَعَلَيْك أَرْشُ الْمُنَقِّلَةِ وَقَالَ الشَّاجُّ لَا بَلْ صَارَتْ مُنَقِّلَةً بِضَرْبَةٍ أُخْرَى حَدَثَتْ فَالْقِيَاسُ عَلَى السِّنِّ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الشَّاجِّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَشْجُوجِ، وَلِلْقِيَاسِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَضْرُوبَ وَالْمَشْجُوجَ يَدَّعِيَانِ عَلَى الضَّارِبِ وَالشَّاجِّ الضَّمَانَ وَهُمَا يُنْكِرَانِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَالثَّانِي أَنَّهُ وَقَعَ التَّعَارُضَ بَيْنَ قَوْلَيْهِمَا، وَالضَّمَانُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَلَا تَجِبُ بِالشَّكِّ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ اُسْتُحْسِنَ فِي السِّنِّ لِوُرُودِ الْأَثَرِ، وَالْأَثَرُ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ مِنْ الْفَرْقِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمَضْرُوبِ فِي مَسْأَلَةِ السِّنِّ؛ لِأَنَّ سَبَبَ السُّقُوطِ حَصَلَ مِنْ الضَّارِبِ وَهُوَ الضَّرْبُ الْمُحَرِّكُ لِأَنَّ التَّحَرُّكَ سَبَبُ السُّقُوطِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمَضْرُوبِ بِخِلَافِ الشَّجَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّجَّةَ الْمُوضِحَةُ لَا تَكُون سَبَبًا لِصَيْرُورَتِهَا مُنَقِّلَةً فَلَمْ يَكُنْ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا جَرَى التَّأْجِيلُ حَوْلًا فِي السِّنِّ، وَالتَّأْجِيلُ مُدَّةَ الْحَوْلِ لِانْتِظَارِ مَا يَكُونُ مِنْ الضَّرْبَةِ فَإِذَا جَاءَ فِي الْحَوْلِ، وَقَدْ سَقَطَتْ سِنُّهُ فَقَدْ جَاءَ بِمَا وَقَعَ لَهُ الِانْتِظَارُ مِنْ الضَّرْبَةِ فِي مُدَّةِ الِانْتِظَارِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ (فَأَمَّا) الشَّجَّةُ فَلَمْ يُقَدَّرْ فِي انْتِظَارِهَا وَقْتٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الشَّاجِّ فِي قَدْرِ الشَّجَّةِ، وَإِنْ جَاءَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الضَّارِبِ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ مُدَّةَ الْحَوْلِ لِاسْتِقْرَارِ حَالِ السِّنِّ لِظُهُورِ حَالِهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عَادَةً فَإِذَا لَمْ يَجِئْ دَلَّ عَلَى سَلَامَتِهَا عَنْ السُّقُوطِ بِالضَّرْبَةِ فَكَانَ السُّقُوطُ مُحَالًا إلَى سَبَبٍ حَادِثٍ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلضَّارِبِ أَوْ لَمْ يَشْهَدْ لِأَحَدِهِمَا فَيَبْقَى الْمَضْرُوبُ مُدَّعِيًا ضَمَانًا عَلَى الضَّارِبِ، وَهُوَ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. أَوْ يَقَعُ التَّعَارُضَ فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَالضَّمَانُ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ. وَكَذَا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي زَمَانُ مَا بَعْدَ الْحَوْلِ لَمْ يُجْعَلْ لِانْتِظَارِ حَالِ السِّنِّ فَاحْتُمِلَ السُّقُوطُ مِنْ ضَرْبَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِهِ، وَاحْتُمِلَ مِنْ ضَرْبَتِهِ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ مَعَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي وُجُوبِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (وَأَمَّا) الشِّجَاجُ فَالْكَلَامُ فِي الشَّجَّةِ يَقَعُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ حُكْمِهَا بِنَفْسِهَا، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ حُكْمِهَا بِغَيْرِهَا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُوضِحَةُ إذَا بَرِئَتْ وَبَقِيَ لَهَا أَثَرٌ فَفِيهَا خَمْسٌ مِنْ الْإِبِل، وَفِي الْهَاشِمَة عَشْرٌ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَفِي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «فِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَفِي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ» ، وَلَيْسَ فِيمَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ مِنْ الشِّجَاجِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ بِأَنْ الْتَحَمَتْ، وَنَبَتَ عَلَيْهَا الشَّعْرُ فَلَا شَيْءَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ عَلَيْهِ حُكُومَةُ الْأَلَمِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ أُجْرَةَ الطَّبِيبِ إنَّمَا لَزِمَتْهُ بِسَبَبِ هَذِهِ الشَّجَّةِ فَكَأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمَالِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشَّجَّةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إهْدَارِهَا، وَقَدْ تَعَذَّرَ إيجَابُ أَرْشِ الشَّجَّةِ فَيَجِبُ أَرْشُ الْأَلَمِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَرْشَ إنَّمَا يَجِبُ بِالشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ بِالْأَثَرِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ فَسَقَطَ الْأَرْشُ

وَالْقَوْلُ بِلُزُومِ حُكُومَةِ الْأَلَمِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْأَلَمِ لَا ضَمَانَ لَهُ فِي الشَّرْعِ كَمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا ضَرْبًا وَجِيعًا، وَكَذَا إيجَابُ أُجْرَةِ الطَّبِيبِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَا تَتَقَوَّمُ مَالًا بِالْعَقْدِ أَوْ شُبْهَةِ الْعَقْدِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْجَانِي الْعَقْدُ وَلَا شُبْهَتُهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ. (وَأَمَّا) حُكْمُهَا بِغَيْرِهَا بِأَنْ شَجَّ رَأْسَ إنْسَانٍ مُوضِحَةً فَسَقَطَ شَعْرُ رَأْسِهِ أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ بَصَرُهُ أَوْ سَمْعُهُ أَوْ كَلَامُهُ أَوْ شَمُّهُ أَوْ ذَوْقُهُ أَوْ جِمَاعُهُ أَوْ إيلَادُهُ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ أَمْ يَدْخُلُ فِي أَرْشِهَا؟ عِنْدَهُمَا لَا يَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ إلَّا فِي الشَّعْرِ وَالْعَقْلِ وَلَا يَدْخُلُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْإِمْلَاءِ يَدْخُلُ فِي الْكُلِّ إلَّا فِي الْبَصَرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَدْخُلُ إلَّا فِي الشَّعْرِ فَقَطْ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَدْخُلُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الشَّجَّةَ وَإِذْهَابَ الشَّعْرِ وَالْعَقْلِ وَغَيْرِهِمَا جِنَايَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ فَلَا يَدْخُلُ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ مِنْ قَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (وَجْهُ) قَوْلِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُمَا جِنَايَتَانِ اخْتَلَفَ مَحَلُّهُمَا وَالْمَقْصُودُ مِنْهُمَا فَلَا يَدْخُلُ أَرْشُ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى كَأَرْشِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ السَّمْعَ وَالْكَلَامَ وَالشَّمَّ وَالذَّوْقَ وَنَحْوَهَا مِنْ الْبَوَاطِنِ فَيَدْخُلَ فِيهَا أَرْشُ الْمُوضِحَةِ كَالْعَقْلِ (وَأَمَّا) الْبَصَرُ فَظَاهِرٌ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُوضِحَةُ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَهَذَا الْفَرْقُ يَبْطُلُ بِالشَّعْرِ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ، وَيَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِيهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّعْرِ وَالْعَقْلِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا، وَوَجْهُهُ أَنَّ فِي الشَّعْرِ الْجِنَايَةَ حَلَّتْ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ (وَأَمَّا) اتِّحَادُ الْعُضْوِ فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَصَلَ فِي الرَّأْسِ (وَأَمَّا) الْعَقْلُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا الشَّجَّةُ (وَأَمَّا) اتِّحَادُ السَّبَبِ فَلِأَنَّ دِيَةَ الشَّعْرِ تَجِبُ بِفَوَاتِ الشَّعْرِ، وَأَرْشُ الْمُوضِحَةُ يَجِبُ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ فَكَانَ سَبَبُ وُجُوبِهَا وَاحِدًا فَيَدْخُلُ الْجُزْءُ فِي الْكُلِّ كَمَا إذَا قَطَعَ رَجُلٌ أُصْبُعَ رَجُلٍ فَشُلَّتْ الْيَدُ إنَّ أَرْشَ الْأُصْبُعِ يَدْخُلُ فِي دِيَةِ الْيَدِ، كَذَا هَذَا. وَفِي الْعَقْلِ الْوَاجِبِ دِيَةُ النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَنَافِعِ النَّفْسِ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَكَانَ تَفْوِيتُهُ تَفْوِيتَ النَّفْسِ مَعْنًى فَكَانَ الْوَاجِبُ دِيَةَ النَّفْسِ فَيَدْخُلَ فِيهِ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ كَمَا إذَا شَجَّ رَأْسَهُ مُوضِحَةً فَسَرَى إلَى النَّفْسِ فَمَاتَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) السَّمْعُ، وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَنَحْوُهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ السَّبَبُ وَالْمَحَلُّ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ فَاخْتَلَفَ الْمَحَلُّ وَالسَّبَبُ وَالْمَقْصُودُ فَامْتَنَعَ التَّدَاخُلَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى فِي شَجَّةٍ وَاحِدَةٍ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَهَابِ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَالْكَلَامِ وَالشَّمِّ فَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهَا اعْتِرَافُ الْجَانِي وَتَصْدِيقُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ نُكُولُهُ عَنْ الْيَمِينِ، وَقَدْ يُعْرَفُ الْبَصَرُ بِنَظَرِ الْأَطِبَّاءِ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ طَبِيبَانِ عَدْلَانِ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ تُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ. وَقَدْ قِيلَ يُمْتَحَنُ بِإِلْقَاءِ حَيَّةٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَفِي السَّمْعِ يُسْتَغْفَلُ الْمُدَّعِي، كَمَا رُوِيَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ امْرَأَةً فَادَّعَتْ عِنْدَهُ ذَهَابَ سَمْعِهَا فَتَشَاغَلَ عَنْهَا بِالنَّظَرِ فِي الْقَضَاءِ ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيْهَا وَقَالَ: يَا هَذِهِ غَطِّي عَوْرَتَكِ فَجَمَعَتْ ذَيْلَهَا فَعَلِمَ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ فِي دَعْوَاهَا. وَفِي الْكَلَامِ يُسْتَغْفَلُ أَيْضًا، وَفِي الشَّمِّ يُخْتَبَرُ بِالرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ، وَسَوَاءٌ ذَهَبَ جَمِيعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالشَّجَّةِ أَوْ ذَهَبَ بَعْضُهَا دُونَ الْبَعْضَ الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ فِي هَذَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ التَّدَاخُلَ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ لَيْسَ لِلْكَثْرَةِ بَلْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ، وَلَا تَدْخُلُ دِيَاتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ إلَّا عِنْدَ السِّرَايَةِ إنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَعَلَيْهِ دِيَةُ النَّفْسِ لَا غَيْرُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِهَا أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَحَلٍّ مَخْصُوصٍ وَمَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ فَلَا يُجْعَلُ تَبَعًا لِصَاحِبِهِ فِي الْأَرْشِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ أُرُوشُهَا فِي دِيَةِ النَّفْسِ عِنْدَ السِّرَايَةِ؛ لِأَنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ فَتَدْخُلُ أُرُوشُهَا فِي دِيَةِ النَّفْسِ ثُمَّ إنْ كَانَ الْأَوَّلُ خَطَأً تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَدِيَةُ النَّفْسِ فِي مَالِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الشَّجَّةُ مُوضِحَةً أَوْ هَاشِمَةً أَوْ مُنَقِّلَةً أَوْ آمَّةً فَالشِّجَاجُ كُلُّهَا فِي التَّدَاخُلِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ، وَسَوَاءٌ قَلَّتْ الشِّجَاجُ أَوْ كَثُرَتْ بَعْدَ أَنْ لَا يُجَاوِزَ أَرْشُهَا الدِّيَةَ حَتَّى لَوْ كَانَتْ آمَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ أَوَامَّ، وَذَهَبَ مِنْهَا الشَّعْرُ أَوْ الْعَقْلُ يَدْخُلُ أَرْشُهَا فِي الشَّعْرِ وَالْعَقْلِ. وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعَ أَوَامَّ

فصل في ما يلحق بمسائل التداخل في الدية والأرش

يَدْخُلُ قَدْرُ الدِّيَةِ لَا غَيْرُ، وَيَجِبُ فِيهَا دِيَةٌ وَثُلُثُ دِيَةٍ لِأَنَّ الْكَثِيرَ لَا يَتْبَعُ الْقَلِيلَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ. وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ دِيَتَانِ وَثُلُثُ دِيَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَرَى التَّدَاخُلَ فِي الشِّجَاجِ أَصْلًا وَرَأْسًا. وَلَوْ سَقَطَ بِالْمُوضِحَةِ بَعْضُ شَعْرِ رَأْسِهِ يُنْظَرُ إلَى أَرْشِ الْمُوضِحَةِ وَإِلَى حُكُومَةِ الْعَدْلِ فِي الشَّعْرِ فَإِنْ كَانَا سَوَاءً لَا يَجِبُ إلَّا أَرْشُ الْمُوضِحَةِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ يَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ أَيُّهُمَا كَانَ لِأَنَّهُمَا يَجِبَانِ لِمَعْنًى وَاحِدٍ فَيَتَدَاخَلُ الْجُزْءُ فِي الْجُمْلَةِ. وَلَوْ كَانَتْ الشَّجَّةُ فِي حَاجِبِهِ فَسَقَطَ وَلَمْ يَنْبُتْ يَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِي أَرْشِ الْحَاجِبِ، وَهُوَ نِصْفُ الدِّيَةِ كَمَا يَدْخُلُ فِي أَرْشِ الشَّعْرِ لِمَا قُلْنَا. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مِنْ الشِّجَاجِ الْخَطَأِ (فَأَمَّا) إذَا كَانَتْ الشَّجَّةُ عَمْدًا فَذَهَبَ مِنْهَا الْعَقْلُ أَوْ الشَّعْرُ أَوْ السَّمْعُ أَوْ غَيْرُهُ فَفِيهِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي مَا يُلْحَقُ بِمَسَائِلِ التَّدَاخُلِ فِي الدِّيَة والأرش] (فَصْلٌ) : وَمِمَّا يُلْحَقُ بِمَسَائِلِ التَّدَاخُلِ مَا إذَا قُطِعَتْ الْيَدُ وَفِيهَا أُصْبُعٌ وَاحِدَةٌ أَوْ أُصْبُعَانِ أَوْ ثَلَاثٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلُّ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ الْكَفُّ وَفِيهَا ثَلَاثُ أَصَابِعً فَصَاعِدًا تَجِبُ دِيَةُ الْأَصَابِعِ، وَلَا شَيْءَ فِي الْكَفِّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الْكَفَّ تَبَعٌ لِجَمِيعِ الْأَصَابِعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ الْكَفُّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْأَصَابِعِ لَا غَيْرُ، وَلَا يَجِبُ لِأَجْلِ الْكَفِّ شَيْءٌ فَإِذَا بَقِيَ أَكْثَرُ الْأَصَابِعِ فَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْ الْكَفِّ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثِ أَصَابِعً يَجِبُ أَرْشُ مَا بَقِيَ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ مَفْصِلًا وَاحِدًا، وَلَا يَجِبُ فِي الْكَفِّ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا بَقِيَ مِنْ الْأَصَابِعِ شَيْءٌ لَهُ أَرْشٌ مَعْلُومٌ وَلَوْ مَفْصِلًا وَاحِدًا دَخَلَ أَرْشُ الْيَدِ فِيهِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكَفِّ إلَّا ثُلُثُ مَفْصِلٍ مِنْ أُصْبُعٍ فِيهَا ثَلَاثُ مَفَاصِلَ فَقَطَعَ إنْسَانٌ الْكَفَّ فَعَلَيْهِ ثُلُثُ خُمُسِ دِيَةِ الْيَدِ. وَلَوْ كَانَ فِيهَا إصْبَعٌ وَاحِدَةٌ فَعَلَيْهِ خُمُسُ دِيَةِ الْيَدِ وَلَوْ كَانَ فِيهَا أُصْبُعَانِ فَعَلَيْهِ خُمُسَا دِيَةِ الْيَدِ. وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُمَا يَدْخُلُ الْقَلِيلُ فِي الْكَثِيرِ أَيُّهُمَا كَانَ فَيُنْظَرُ إلَى حُكُومَةِ الْكَفِّ وَإِلَى أَرْشِ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَصَابِعِ فَيَدْخُلُ أَقَلُّهُمَا فِي أَكْثَرِهِمَا أَيُّهُمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ يَتْبَعُ الْكَثِيرَ لَا عَكْسًا فَيَدْخُلُ الْقَلِيلُ فِي الْكَثِيرِ وَلَا يَدْخُلُ الْكَثِيرُ فِي الْقَلِيلِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَصَابِعِ أَوْ مِنْ مَفَاصِلِهَا فَهُوَ أَصْلٌ لِأَنَّ لَهُ أَرْشًا مُقَدَّرًا، وَالْكَفُّ لَيْسَ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِالْأَصَابِعِ فَيَتْبَعُهَا فِي أَرْشِهَا كَمَا يَتْبَعُ جَمِيعَ الْأَصَابِعِ أَوْ أَكْثَرَهَا. وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالُوا فِي الْقَسَامَةِ أَنَّهُ مَا بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى الْمُشْتَرِينَ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ لِوَلَدِ فُلَانٍ أَنَّهُ مَا بَقِيَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ صُلْبِهِ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا لَا يَدْخُلُ وَلَدُ الْوَلَدِ فِي الْوَصِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا قَطَعَ كَفًّا لَا أَصَابِعَ فِيهَا فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ لَا يَبْلُغُ بِهَا أَرْشَ أُصْبُعٍ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ يَتْبَعُهَا الْكَفُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالتَّبَعُ لَا يُسَاوِي الْمَتْبُوعَ فِي الْأَرْشِ. وَلَوْ قَطَعَ الْيَدَ مَعَ الذِّرَاعِ مِنْ الْمَفْصِلِ خَطَأً فَفِي الْكَفِّ مَعَ الْأَصَابِعِ الدِّيَةُ، وَفِي الذِّرَاعِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ فِي قَوْلِهِمَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ تَجِبُ دِيَةُ الْيَدِ، وَالذِّرَاعُ تَبَعٌ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاحْتَجَّا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ» وَالْيَدُ عِبَارَةٌ عَنْ الْعُضْوِ الْمَخْصُوصِ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْمَنْكِبِ وَلِأَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ إذَا اتَّصَلَ بِمَا لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ يَتْبَعُهُ فِي الْأَرْشِ كَالْكَفِّ مَعَ الْأَصَابِعِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْأَصَابِعِ، وَالْكَفُّ تَابِعَةٌ لِلْأَصَابِعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا أَفْرَدَ الْأَصَابِعَ بِالْقَطْعِ يَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ وَلَوْ قَطَعَهَا مَعَ الْكَفِّ لَا يَجِبُ إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ أَيْضًا فَلَوْ جَعَلَ الذِّرَاعَ تَبَعًا لَكَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِلْأَصَابِعِ (وَإِمَّا) أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِلْكَفِّ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا عُضْوٌ فَاصِلٌ وَهُوَ الْكَفُّ فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لَهَا، وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي لِأَنَّ الْكَفَّ تَابِعَةٌ فِي نَفْسِهَا فَلَا تَسْتَتْبِعُ غَيْرَهَا. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَطَعَ الْيَدَ مِنْ الْمَنْكِبِ، وَالرِّجْلَ مِنْ الْوَرِكِ أَوْ قَطَعَ الْيَدَ مِنْ الْعَضُدِ، وَالرِّجْلَ مِنْ الْفَخِذِ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ أَنَّ أَصَابِعَ الْيَدِ لَا يَتْبَعُهَا إلَّا الْكَفَّ فَلَا يَدْخُلُ فِي أَرْشِهَا غَيْرَ أَرْشِ الْكَفِّ. وَكَذَلِكَ أَصَابِعُ الرِّجْلِ لَا يَتْبَعُهَا غَيْرُ الْقَدَمِ فَلَا يَدْخُلُ فِي أَرْشِهَا غَيْرُ أَرْشِ الْقَدَمِ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ مَا فَوْقَ الْكَفِّ مِنْ الْيَدِ تَبَعٌ. وَكَذَا مَا فَوْقَ الْقَدَمِ مِنْ الرِّجْلِ تَبَعٌ فَيَدْخُلَ أَرْشُ التَّبَعِ فِي الْمَتْبُوعِ كَمَا يَدْخُلُ أَرْشُ الْكَفِّ فِي الْأَصَابِعِ. (وَأَمَّا) الْجِرَاحُ فَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

أَنَّهُ قَالَ «فِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ» فَإِنْ نَفَذَتْ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَهُمَا جَائِفَتَانِ وَفِيهِمَا ثُلُثَا الدِّيَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ حَكَمَ فِي جَائِفَةٍ نَفَذَتْ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ. وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا رَمَى امْرَأَةً بِحَجَرٍ فَأَصَابَ فَرْجَهَا فَأَفْضَاهَا بِهِ بِأَنْ جَعَلَ مَوْضِعَ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَاحِدًا، وَهِيَ تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ أَنَّ عَلَيْهِ ثُلُثَ الدِّيَةِ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الْجَائِفَةِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّ الْمُفْضَاةَ لَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً (وَإِمَّا) أَنْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ، وَالْإِفْضَاءُ لَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ يَكُونَ بِالْآلَةِ (وَإِمَّا) أَنْ يَكُونَ بِالْحَجَرِ أَوْ بِالْخَشَبِ أَوْ الْأُصْبُعِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً وَالْإِفْضَاءُ بِالْآلَةِ فَإِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً وَلَمْ يُوجَدْ دَعْوَى الشُّبْهَةِ لَا مِنْ الرَّجُلِ وَلَا مِنْ الْمَرْأَةِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ لِوُجُودِ الزِّنَا مِنْهُمَا، وَلَا مَهْرَ عَلَى الرَّجُلِ لِأَنَّ الْعَقْرَ مَعَ الْحَدِّ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلَا أَرْشَ لَهَا بِالْإِفْضَاءِ سَوَاءٌ كَانَتْ تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ أَوْ لَا تَسْتَمْسِكُ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ تَوَلَّدَ مِنْ فِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ قِبَلهَا فَلَا يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ كَمَا لَوْ أَذِنَتْ بِقَطْعِ يَدِهَا فَقُطِعَتْ لَا ضَمَانَ عَلَى الْقَاطِعِ، كَذَا هَذَا. وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ يَدَّعِي الشُّبْهَةَ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ وَعَنْهَا أَيْضًا، وَعَلَى الزَّوْجِ الْعَقْرُ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَخْلُو مِنْ إيجَاب حَدٍّ أَوْ غَرَامَةٍ، وَلَا أَرْشَ لَهَا بِالْإِفْضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَكْرَهَةً فَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الرَّجُلُ الشُّبْهَةَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِوُجُودِ الزِّنَا مِنْهُ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا لِعَدَمِ الزِّنَا مِنْهَا، وَلَا عَقْرَ عَلَى الرَّجُلِ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَالْحَدُّ مَعَ الْعَقْرِ لَا يَجْتَمِعَانِ. وَعَلَى الرَّجُلِ الْأَرْشُ بِالْإِفْضَاءِ لِعَدَمِ الرِّضَا مِنْهَا بِذَلِكَ ثُمَّ إنْ كَانَتْ تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَفِيهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ جَائِفَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ لِوُجُودِ إتْلَافِ الْعُضْوِ بِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْحَبْسِ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ يَدَّعِي الشُّبْهَةَ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ لِلشُّبْهَةِ وَعَنْهَا أَيْضًا لِوُجُودِ الْإِكْرَاهِ وَلَهَا الْأَرْشُ بِالْإِفْضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ إنْ كَانَتْ تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَلَهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ لِأَنَّهَا جَائِفَةٌ وَكَمَالُ الْمَهْرِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَسْتَمْسِكُ فَلَهَا الدِّيَةُ وَلَا مَهْرَ لَهَا فِي قَوْلِهِمَا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهَا الْمَهْرُ وَالدِّيَةُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْمَهْرِ وَالدِّيَةِ مُخْتَلِفٌ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِإِتْلَافِ الْمَنْفَعَةِ وَالدِّيَةَ تَجِبُ بِإِتْلَافِ الْعُضْوِ فَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ، وَلِهَذَا لَمْ يَدْخُلْ الْمَهْرُ فِي ثُلُثِ الدِّيَةِ فِيمَا إذَا كَانَتْ تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَالُ الْمَهْرِ مَعَ ثُلُثِ الدِّيَةِ، كَذَا هَذَا. وَلَهُمَا أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ مُتَّحِدٌ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ بِإِتْلَافِ هَذَا الْعُضْوِ. وَالْعَقْرُ يَجِبُ بِإِتْلَافِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ، وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ مُلْحَقَةٌ بِأَجْزَاءِ الْبُضْعِ فَكَانَ سَبَبُ وُجُوبِهِمَا وَاحِدًا فَكَانَ الْمَهْرُ عِوَضًا عَنْ جُزْءٍ مِنْ الْبُضْعِ وَضَمَانُ الْجُزْءِ وَالْكُلِّ إذَا وُجِدَ السَّبَبُ وَاحِدٌ يَدْخُلُ ضَمَانُ الْجُزْءِ فِي ضَمَانِ الْكُلِّ كَالْأَبِ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ ابْنِهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْعَقْرُ، وَيَدْخُلُ فِي قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا. وَأَمَّا وُجُوبُ كَمَالِ الْمَهْرِ مَعَ ثُلُثِ الدِّيَةِ حَالَةَ الِاسْتِمْسَاكِ فَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بَلْ الْأَقَلُّ يَدْخُلُ فِي الْأَكْثَرِ كَمَا يَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِي دِيَةِ الشَّعْرِ فَكَانَتْ الْمَسْأَلَةُ مَمْنُوعَةً. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِيَ لِضَمَانِ الْجُزْءِ هُوَ ضَمَانُ كُلِّ الْعَيْنِ وَثُلُثُ الدِّيَةِ ضَمَانُ الْجُزْءِ، وَضَمَانُ الْجُزْءِ لَا يَمْنَعُ ضَمَانَ جُزْءٍ وَاحِدٍ هَذَا إذَا كَانَ الْإِفْضَاءُ بِالْآلَةِ (فَأَمَّا) إذَا كَانَ بِغَيْرِهَا مِنْ الْحَجَرِ وَنَحْوِهِ فَالْجَوَابُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي جَمِيعِ وُجُوهِهِ كَالْجَوَابِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فِي الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الضَّمَانَيْنِ وَعَدَمُ الْجَمْعِ إلَّا أَنَّ الْأَرْشَ فِي هَذَا الْفَصْلِ يَجِبُ فِي مَالِهِ، وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ لِأَنَّ الْإِفْضَاءَ بِالْآلَةِ يَكُونُ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ وَبِغَيْرِهَا يَكُونُ عَمْدًا. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا وَجْهَ لِإِيجَابِ الْمَهْرِ فِي هَذَا الْفَصْلِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَلَمْ يُوجَدْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجِبُ وَيُلْحَقُ غَيْرُ الْآلَةِ بِالْآلَةِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْأَبْضَاعِ كَمَا أُلْحِقَ الْإِيلَاجُ بِدُونِ الْإِنْزَالِ بِالْإِيلَاجِ مَعَ الْإِنْزَالِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ مَعَ قِيَامِ شُبْهَةِ الْقُصُورِ فِي قَضَاءِ الشَّهْوَةِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِ الْفُرُوجِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَجْنَبِيَّةً (فَأَمَّا) إذَا كَانَتْ زَوْجَتَهُ فَأَفْضَاهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَتْ تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ أَوْ لَا تَسْتَمْسِكُ فِي قَوْلِهِمَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ كَانَتْ لَا تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَسْتَمْسِكُ فَعَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْوَطْءِ لَا فِي الْإِفْضَاءِ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْإِفْضَاءِ فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ (وَلَهُمَا) أَنَّ الْوَطْءَ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا فَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ لَا يَكُونُ

مَضْمُونًا كَالْبَكَارَةِ. وَلَوْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ فَمَاتَتْ فَلَا شَيْءَ فِي قَوْلِهِمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْإِفْضَاءِ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْوَطْءِ لَا فِي الْقَتْلِ، وَهَذَا قَتْلٌ فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ ضَمَانَ هَذَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَضَمَانَ الْإِفْضَاءِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْإِفْضَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمُجَاوَزَةِ عَنْ الْمُعْتَادِ فَكَانَ عَمْدًا فَكَانَ الْوَاجِبُ بِهِ فِي مَالِهِ (فَأَمَّا) الْقَتْلُ فَغَيْرُ مَقْصُودٍ بِهَذَا الْفِعْلِ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فَتَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ (وَأَمَّا) وَجْهُ قَوْلِهِمَا فَعَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْإِفْضَاءِ. وَلَوْ وَطِئَهَا فَكَسَرَ فَخِذَهَا ضَمِنَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْكَسْرَ لَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الْوَطْءِ الْمَأْذُونِ فِيهِ بَلْ هُوَ فِعْلٌ مُبْتَدَأٌ فَكَانَ فِعْلًا مُتَعَدِّيًا مَحْضًا فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) سَائِرُ جِرَاحِ الْبَدَنِ إذَا بَرِئَتْ وَبَقِيَ لَهَا أَثَرٌ فَفِيهَا حُكُومَةُ الْعَدْلِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ فَلَا شَيْءَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الشَّجَّةِ، وَإِنْ مَاتَ فَالْجِرَاحَةُ لَا تَخْلُو (إمَّا) أَنْ كَانَتْ مِنْ وَاحِدٍ (وَإِمَّا) أَنْ كَانَتْ مِنْ عَدَدٍ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ وَاحِدٍ فَفِيهَا الْقِصَاصُ إنْ كَانَتْ عَمْدًا، وَالدِّيَةُ إنْ كَانَتْ خَطَأً. وَإِنْ كَانَتْ مِنْ عَدَدٍ فَالْجِرَاحَةُ الْمُجْتَمِعَةُ مِنْ أَعْدَادٍ (إمَّا) أَنْ كَانَتْ كُلَّهَا مَضْمُونَةً (وَإِمَّا) إنْ كَانَ بَعْضُهَا مَضْمُونًا وَالْبَعْضُ غَيْرَ مَضْمُونٍ فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ مَضْمُونًا بِأَنْ جَرَحَهُ رَجُلٌ جِرَاحَةً وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَةً أُخْرَى خَطَأً فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، وَسَوَاءٌ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَاحِدَةً، وَالْآخَرُ جَرَحَهُ جِرَاحَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ لَا يُنْظَرُ إلَى عَدَدِ الْجِرَاحَاتِ وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى الْجَارِحِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَمُوتُ مِنْ جِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَسْلَمُ مِنْ عَشَرَةٍ، وَقَدْ يَمُوتُ مِنْ عَشَرَةٍ وَيَسْلَمُ مِنْ وَاحِدَةٍ حَتَّى لَوْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَاحِدَةً وَالْآخَرُ عَشْرَ جِرَاحَاتٍ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كَانَتْ الدِّيَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِمَا قُلْنَا. وَكَذَلِكَ إذَا جَرَحَهُ رَجُلٌ جِرَاحَةً وَاحِدَةً وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَتَيْنِ، وَآخَرُ ثَلَاثًا فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ كَانَتْ الدِّيَةُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِمَا قُلْنَا، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا جَرَحَهُ رَجُلٌ جِرَاحَةً وَاحِدَةً وَجَرَحَهُ آخَرُ عَشْرَ جِرَاحَاتٍ فَعَفَا الْمَجْرُوحُ لِلْجَارِحِ عَنْ جِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعَشْرِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ عَلَى صَاحِبِ الْجِرَاحَةِ الْوَاحِدَةِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَعَلَى صَاحِبِ الْعَشَرَةِ الرُّبُعَ، وَيَسْقُطُ الرُّبُعُ لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُ عَدَدِ الْجِرَاحَاتِ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ الْوَاحِدَةُ كَالْعَشْرِ فِي الضَّمَانِ ثُمَّ لَمَّا عَفَا عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجِرَاحَاتِ الْعَشْرِ انْقَسَمَتْ الْعَشْرُ فَيَتَغَيَّرُ حُكْمُهَا فَصَارَ لِتِسْعَةٍ مِنْهَا الرُّبْعُ وَلِلْوَاحِدَةِ الرُّبْعُ فَسَقَطَ بِالْعَفْوِ عَنْ الْوَاحِدَةِ مِنْ الْعَشَرَةِ الرُّبُعُ وَبَقِيَ الرُّبُعُ تَبَعًا لِلتِّسْعَةِ. وَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ مَضْمُونًا، وَالْبَعْضُ غَيْرَ مَضْمُونٍ يَنْقَسِمُ الضَّمَانُ فَيَسْقُطُ بِقَدْرِ مَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ وَيَبْقَى بِقَدْرِ الْمَضْمُونِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا جَرَحَ رَجُلًا جِرَاحَةً وَجَرَحَهُ سَبُعٌ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَنِصْفُهَا هَدَرٌ لِأَنَّهُ مَاتَ بِجِرَاحَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مَضْمُونَةٌ وَالْأُخْرَى لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ فَانْقَسَمَ الضَّمَانُ فَسَقَطَ بِقَدْرِ غَيْرِ الْمَضْمُونِ وَبَقِيَ بِقَدْرِ الْمَضْمُونِ. وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَهُ الرَّجُلُ جِرَاحَتَيْنِ وَالسَّبُعُ جِرَاحَةً وَاحِدَةً أَوْ جَرَحَهُ السَّبُعُ جِرَاحَتَيْنِ وَالرَّجُلُ جِرَاحَةً وَاحِدَةً فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَيُهْدَرُ النِّصْفُ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِكَثْرَةِ الْجِرَاحَةِ لِمَا بَيَّنَّا. وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَهُ رَجُلٌ جِرَاحَةً وَعَقَرَهُ سَبُعٌ وَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ، وَخَرَجَ بِهِ خُرَّاجٌ، وَأَصَابَهُ حَجَرٌ رَمَتْ بِهِ الرِّيحُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَيُهْدَرُ النِّصْفُ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يَجْعَلُ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا حُكْمٌ يَلْزَمُ أَحَدًا كَجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جِرَاحَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مَضْمُونَةٌ وَالْأُخْرَى غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فَيَلْزَمُ الرَّجُلَ نِصْفُ الدِّيَةِ وَيَبْطُلُ نِصْفُهَا، سَوَاءٌ كَثُرَ عَدَدُ الْهَدْرِ أَوْ قَلَّ، هُوَ كَجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْهَدْرَ لَهُ حُكْمٌ وَاحِدٌ فَصَارَ كَجِرَاحَاتِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ إنَّهَا فِي الْحُكْمِ كَجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ، كَذَا هَذَا وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَهُ رَجُلٌ جِرَاحَةً وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَةً أُخْرَى ثُمَّ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ يَلْزَمُ فَاعِلَهُ فَإِنَّ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَيُهْدَرُ الثُّلُثُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْهَدْرَ مِنْ الْجِرَاحَاتِ وَإِنْ كَثُرَ فَهُوَ كَجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ جِرَاحَتَيْ الرَّجُلَيْنِ مَضْمُونَةٌ فَقَدْ مَاتَ مِنْ ثَلَاثِ جِرَاحَاتِ جِرَاحَتَانِ مِنْهَا مَضْمُونَتَانِ وَجِرَاحَةٌ هَدَرٌ فَتُقَسَّمُ الدِّيَةُ أَثْلَاثًا فَيَسْقُطُ قَدْرُ مَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ وَهُوَ الثُّلُثُ وَيَبْقَى قَدْرُ الْمَضْمُونِ وَهُوَ الثُّلُثَانِ فَإِنْ كَانَ لِبَعْضِ الْجُنَاةِ جِنَايَاتٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَحْكَامِ فَإِنَّهُ يُقَسَّمُ مَا يَخُصُّهُ عَلَى جِنَايَاتِهِ بَعْدَ مَا قَسَّمَ عَدَدَ الْجِنَايَةِ عَلَى أَحْكَامِ الْجِنَايَاتِ، وَذَلِكَ نَحْوُ رَجُلٍ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ لِعِلَّةٍ بِهَا

ثُمَّ إنَّ الْمَأْمُورَ جَرَحَ الْآمِرَ جِرَاحَةً أُخْرَى بِغَيْرِ أَمْرِهِ ثُمَّ جَرَحَهُ رَجُلَانِ آخَرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِرَاحَةً ثُمَّ عَقَرَهُ سَبُعٌ ثُمَّ نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ، وَخَرَجَ بِهِ خُرَّاجٌ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ تُقَسَّمُ الدِّيَةُ أَرْبَاعًا؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ مِنْ أَرْبَعِ جِنَايَاتٍ؛ لِأَنَّ الْهَدَرَ مِنْ الْجِنَايَاتِ لَهَا حُكْمُ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ، وَجِرَاحَتَا الْمَأْمُورِ وَإِنْ اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا فَإِنَّهُمَا حَصَلَا مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَا يَثْبُتُ لَهُمَا فِي حَقِّ شُرَكَائِهِ إلَّا حُكْمَ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ مِنْ أَرْبَعِ جِنَايَاتٍ فَكَانَتْ قِسْمَةُ الدِّيَةِ أَرْبَاعًا، هُدِرَ الرُّبْعُ مِنْهَا وَبَقِيَتْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ تُقَسَّمُ عَلَى الْجِنَايَاتِ الثَّلَاثَةِ فَيَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الرُّبْعُ ثُمَّ مَا أَصَابَ الْمَأْمُور بِالْقَطْعِ تُقَسَّمُ حِصَّتُهُ، وَهِيَ الرُّبْعُ عَلَى جِرَاحَتَيْهِ فَإِحْدَاهُمَا مَضْمُونَةٌ، وَهِيَ الَّتِي فَعَلَهَا بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَجْرُوحِ وَالْأُخْرَى غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، وَهِيَ الَّتِي فَعَلَهَا بِأَمْرِهِ، وَهِيَ الْقَطْعُ فَيَسْقُطُ بِقَدْرِ مَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ وَهُوَ نِصْفُ الرُّبْعِ وَهُوَ الثُّمُنُ، وَبَقِيَ قَدْرُ مَا هُوَ مَضْمُونُ وَهُوَ نِصْفُ الرُّبْعِ الْآخَرِ وَهُوَ الثُّمُنُ الْآخَرُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ عَشَرَةً أَنْ يَضْرِبُوا عَبْدَهُ أَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَضْرِبَهُ سَوْطًا فَضَرَبَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا أَمَرَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ رَجُلٌ آخَرُ - لَمْ يَأْمُرْهُ - سَوْطًا فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَعَلَى الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ أَرْشُ السَّوْطِ الَّذِي ضَرَبَهُ مِنْ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا جُزْءٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا أَحَدَ عَشْرَ سَوْطًا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ (أَمَّا) وُجُوبُ أَرْشِ السَّوْطِ الَّذِي ضَرَبَهُ فَلِأَنَّهُ نَقَصَهُ بِالضَّرْبِ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ (وَأَمَّا) اعْتِبَارُ قِيمَةِ الْعَبْدِ مَضْرُوبًا عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ فَلِأَنَّهُ ضَرَبَهُ بَعْدَمَا اُنْتُقِصَ مِنْ ضَرْبِ الْعَشَرَةِ، وَذَلِكَ حَصَلَ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَهُ سَوْطُهُ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ قِيمَتِهِ لِذَلِكَ اُعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ، وَهُوَ مَضْرُوبٌ عَشَرَةً فَيُقَوَّمُ وَهُوَ غَيْرُ مَضْرُوبٍ وَيُقَوَّمُ وَهُوَ مَضْرُوبٌ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ فَيَلْزَمُ الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ بِالضَّرْبِ ذَلِكَ الْقَدْرَ (وَأَمَّا) وُجُوبُ جُزْءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ قِيمَتِهِ فَلِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَوْطًا كُلُّ سَوْطٍ حَصَلَ مِمَّنْ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ حُكْمٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ الْآدَمِيُّ فَانْقَسَمَ الضَّمَانُ عَلَى عَدَدِهِمْ ثُمَّ مَا أَصَابَ الْعَشَرَةَ سَقَطَ عَنْهُمْ لِحُصُولِهِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَمَا أَصَابَ الْحَادِيَ عَشَرَ ضَمِنَهُ الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ بِالضَّرْبِ لِأَنَّهُ ضَرَبَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ (وَأَمَّا) اعْتِبَارُ تَضْمِينِهِ مَضْرُوبًا بِأَحَدَ عَشَرَ سَوْطًا فَلِأَنَّ الْبَعْضَ الْحَاصِلَ بِضَرْبِ الْعَشَرَةِ حَصَلَ بِفِعْلِ غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ (وَأَمَّا) السَّوْطُ الْحَادِيَ عَشَرَ فَلِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ نُقْصَانُهُ مَرَّةً فَلَا يَضْمَنُهُ ثَانِيًا، وَإِنَّمَا لَمْ يَدْخُلْ نُقْصَانُ السَّوْطِ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَمَانُ الْجُزْءِ، وَضَمَانُ الْجُزْءِ إذَا تَعَلَّقَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ لَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا ضَرَبَهُ وَاحِدٌ وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ إنَّهُ يَضْمَنُ الْقِيمَةَ دُونَ النُّقْصَانِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ هُنَاكَ ضَمَانُ جُزْءٍ وَضَمَانُ كُلٍّ فَيَدْخُلُ ضَمَانُ الْجُزْءِ فِي ضَمَانِ الْكُلِّ لِاتِّحَادِ سَبَبِ الضَّمَانَيْنِ هَذَا إذَا أَمَرَ الْمَوْلَى عَشَرَةً أَنْ يَضْرِبَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَوْطًا فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي ضَرَبَهُ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ بِيَدِهِ ثُمَّ ضَرَبَهُ أَجْنَبِيٌّ سَوْطًا ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ مَا نَقَصَهُ السَّوْطُ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا بِعَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا نِصْفُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا أَحَدَ عَشَرَ سَوْطًا أَمَّا وُجُوبُ ضَمَانِ نُقْصَانِ السَّوْطِ، وَاعْتِبَارُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا بِعَشَرَةِ أَسْوَاطٍ فَلِمَا ذَكَرْنَا (وَأَمَّا) وُجُوبُ نِصْفِ قِيمَتِهِ فَلِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ سَوْطَيْنِ فِي الْحَاصِلِ؛ لِأَنَّ ضَرْبَ الْأَسْوَاطِ الْعَشَرَةِ مِنْ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَالْجِنَايَاتُ مِنْ وَاحِدٍ وَإِنْ كَثُرَتْ فَهِيَ فِي حُكْمِ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ مِنْ سَوْطَيْنِ سَوْطِ الْمَوْلَى وَسَوْطِ الْأَجْنَبِيِّ، وَسَوْطُ الْمَوْلَى لَيْسَ بِمَضْمُونٍ، وَسَوْطُ الْأَجْنَبِيِّ مَضْمُونٌ فَسَقَطَ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَثَبَتَ نِصْفُهَا (وَأَمَّا) اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا أَحَدَ عَشَرَ سَوْطًا وَعَدَمُ دُخُولِ ضَمَانِ النُّقْصَانِ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ فَلِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. رَجُلٌ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يَجْرَحَهُ جِرَاحَةً وَاحِدَةً فَجَرَحَهُ عَشْرَ جِرَاحَاتٍ وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَةً أُخْرَى وَاحِدَةً بِغَيْرِ أَمْرٍ ثُمَّ عَفَا الْمَجْرُوحُ لِصَاحِبِ الْعَشَرَةِ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْ التِّسْعِ الَّتِي كَانَتْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَعَلَى صَاحِبِ الْجِرَاحَةِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَعَلَى صَاحِبِ الْعَشَرَةِ ثُمُنُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الدِّيَةِ عَلَى صَاحِبِ الْجِرَاحَةِ الْوَاحِدَةِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ تَعَلَّقَ بِصَاحِبِ الْعَشَرَةِ وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِأَمْرِ الْمَجْرُوحِ فَصَارَ عَلَيْهِ الرُّبُعُ ثُمَّ انْقَسَمَ ذَلِكَ بِالْعَفْوِ فَسَقَطَ نِصْفُهُ، وَهُوَ الثُّمُنُ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ الثُّمُنُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حُرًّا

فصل في شرائط وجوب الدية

ذَكَرًا فَأَمَّا إذَا كَانَ أُنْثَى حُرَّةً فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْهَا بِدِيَتِهَا كَدِيَتِهَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: تُعَاقِلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ فِيمَا كَانَ أَرْشُهُ نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ كَالسِّنِّ وَالْمُوضِحَةِ أَيْ مَا كَانَ أَرْشُهُ هَذَا الْقَدْرَ فَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِيهِ سَوَاءٌ لَا فَضْلَ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: تُعَاقِلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ دِيَتِهَا أَيْ أَرْشُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إلَى ثُلُثِ دِيَتِهَا سَوَاءٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَيَرْوُونَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «تُعَاقِلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ دِيَتِهَا» وَهَذَا نَصٌّ لَا يَتَحَمَّلُ التَّأْوِيلَ. وَاحْتَجَّ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِحَدِيثِ الْغُرَّةِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَضَى فِي الْجَنِينِ بِالْغُرَّةِ» وَهِيَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَلَمْ يَفْصِلْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَيَدُلُّ عَلَى اسْتِوَاءِ أَرْشِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي هَذَا الْقَدْرِ. (وَلَنَا) أَنَّهُ بِنِصْفِ بَدَلِ النَّفْسِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ الدِّيَةُ، فَكَذَا بَدَلُ مَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْمُنَصِّفَ فِي الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْأُنُوثَةُ، وَلِهَذَا يُنَصَّفُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَكَذَا الثُّلُثُ وَمَا دُونَهُ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِمَا قَالَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِقِلَّةِ الْأَرْشِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْجِنَايَةِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَعْرُوفُ بِرَبِيعَةِ الرَّأْيِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ رَجُلٍ قَطَعَ أُصْبُعَ الْمَرْأَةِ فَقَالَ: فِيهَا عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ، قَالَ: فَإِنْ قَطَعَ ثَلَاثَةً؟ قَالَ: فَفِيهَا ثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِل، قَالَ: فَإِنْ قَطَعَ أَرْبَعَةً؟ فَقَالَ: عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِل، فَقَالَ رَبِيعَةُ: لَمَّا كَثُرَتْ جُرُوحُهَا، وَعَظُمَتْ مُصِيبَتُهَا قَلَّ أَرْشُهَا؟ فَقَالَ: أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا، بَلْ جَاهِلٌ مُتَعَلِّمٌ أَوْ عَالِمٌ مُتَبَيِّنٌ، فَقَالَ: هَكَذَا السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي. وَعَنَى بِهِ سُنَّةَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَشَارَ رَبِيعَةُ إلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى، وَقَبْلَهُ سَعِيدٌ حَيْثُ لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ وَأَحَالَ الْحُكْمَ إلَى السُّنَّةِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ رِوَايَتَهُمْ عَنْهُ عَلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ تَصِحَّ إذْ لَوْ صَحَّتْ لَمَا اشْتَبَهَ الْحَدِيثُ عَلَى مِثْلِ سَعِيدٍ، وَلِأَحَالَ الْحُكْمُ إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا إلَى سُنَّةِ زَيْدٍ فَدَلَّ أَنَّ الرِّوَايَةَ لَا تَكَادُ تَثْبُتُ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَأَمَّا حَدِيثُ الْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ فَنَقُولُ بِمُوجَبِهِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي أَرْشِ الْجَنِينِ لَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَرْشِ الْمَوْلُودِ، وَالْحَدِيثُ سَاكِتٌ عَنْ بَيَانِهِ، ثُمَّ نَقُولُ: اُحْتُمِلَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَفْصِلْ فِي الْجَنِينِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ لِتَعَذُّرِ الْفَصْلِ لِعَدَمِ اسْتِوَاءِ الْخِلْقَةِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَ الْجَانِي حُرًّا وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حُرًّا فَأَمَّا إذَا كَانَ الْجَانِي حُرًّا وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَبْدًا فَالْأَصْلُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ الْحُرِّ فِيهِ قَدْرٌ مِنْ الدِّيَةِ فَمِنْ الْعَبْدِ فِيهِ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ قِيمَتِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَنْفَعَةُ أَوْ الْجَمَالُ وَالزِّينَةُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ الْجَمَالُ وَالزِّينَةُ يَجِبُ النُّقْصَانُ، وَعِنْدَهُمَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ يَجِبُ النُّقْصَانُ فَيُقَوَّمُ الْعَبْدُ مَجْنِيًّا عَلَيْهِ، وَيُقَوَّمُ غَيْرَ مَجْنِيٍّ عَلَيْهِ فَيَغْرَمُ الْجَانِي فَضْلَ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَوَجْهَ قَوْلِهِمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ وُجُوبِ الدِّيَة] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ خَطَأً إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِيمَا فِي عَمْدِهِ الْقِصَاصُ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا قِصَاصَ فِي عَمْدِهِ يَسْتَوِي فِيهِ الْخَطَأُ وَالْعَمْدُ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ الْجِنَايَاتِ الَّتِي فِي عَمْدِهَا الْقِصَاصُ، وَمَا لَا قِصَاصَ فِي عَمْدِهَا. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ الْجِنَايَةِ الَّتِي تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ وَاَلَّتِي لَا تَتَحَمَّلُهَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ الْجِنَايَةِ الَّتِي تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ، وَاَلَّتِي لَا تَتَحَمَّلُهَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْأَحْرَارِ نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ فَصَاعِدًا، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ فِي الذُّكُورِ وَمِائَتَانِ وَخَمْسُونَ فِي الْإِنَاثِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: يَكُونُ فِي مَالِ الْجَانِي وَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ التَّحَمُّلَ مِنْ الْعَاقِلَةِ لِتَفْرِيطٍ مِنْهُمْ فِي الْحِفْظِ وَالنُّصْرَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى التَّحَمُّلَ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَرْشِ الْجَنِينِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَهُوَ الْغُرَّةُ، وَهِيَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَلِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ بِنَفْسِهِ فَأَشْبَهَ ضَمَانَ الْأَمْوَالِ فَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ كَمَا لَا تَتَحَمَّلُ ضَمَانَ الْمَالِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَرْشُ الْأُنْمُلَةِ فَإِنَّ لَهَا أَرْشًا

فصل في الجنايات التي تجب فيها أرش غير مقدر

مُقَدَّرًا، هُوَ ثُلُثُ دِيَةِ الْإِصْبَعِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَحَمَّلَهُ الْعَاقِلَةُ لِأَنَّ الْأُنْمُلَةَ لَيْسَ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْإِصْبَعِ فَكَانَتْ جُزْءًا مِمَّا لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَهُوَ الْإِصْبَعِ فَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ ثُمَّ مَا كَانَ أَرْشُهُ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ يُؤْخَذُ مِنْ الْعَاقِلَةِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ اسْتِدْلَالًا بِكَمَالِ الدِّيَةِ فَإِنَّ كُلَّ الدِّيَةِ تُؤْخَذُ مِنْ الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ إجْمَاعًا فَكُلَّمَا كَانَ مِنْ الْأَرْشِ قَدْرُ ثُلُثِ الدِّيَةِ يُؤْخَذُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ فِي الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ هَكَذَا فَإِذَا ازْدَادَ الْأَرْشُ عَلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ فَقَدْرُ الثُّلُثِ يُؤْخَذُ فِي سَنَةٍ، وَالزِّيَادَةُ فِي سَنَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ فِي كُلِّ الدِّيَةِ تُؤْخَذُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَكَذَلِكَ إذَا انْفَرَدَتْ فَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ فَالثُّلُثَانِ فِي سَنَتَيْنِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فِي السَّنَةِ قِيَاسًا عَلَى كُلِّ الدِّيَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْعَبِيدِ فَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْعَبِيدِ لَهُ حُكْمُ الْأَمْوَالِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ، وَضَمَانُ الْمَالِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الْجِنَايَاتِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا أَرْشٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الَّذِي يَجِبُ فِيهِ أَرْشٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْحُكُومَةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي. بَيَانِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الْحُكُومَةُ، وَفِي تَفْسِيرِ الْحُكُومَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَا لَا قِصَاصَ فِيهِ مِنْ الْجِنَايَاتِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ وَلَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَفِيهِ الْحُكُومَةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْجِنَايَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى مَحَلٍّ مَعْصُومٍ اعْتِبَارُهَا بِإِيجَابِ الْجَابِرِ أَوْ الزَّاجِرِ مَا أَمْكَنَ إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي كَسْرِ الْعِظَامِ كُلِّهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ إلَّا السِّنَّ خَاصَّةً لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ فِيمَا سِوَى السِّنِّ مُتَعَذَّرٌ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ فِيهِ بِأَرْشٍ مُقَدَّرٍ فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ، وَأَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ فِي السِّنِّ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ فِيهَا بِأَرْشٍ مُقَدَّرٍ أَيْضًا فَلَمْ تَجِبْ فِيهَا الْحُكُومَةُ. وَفِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ وَالْعَيْنِ الْقَائِمَةِ الذَّاهِبِ نُورُهَا وَالسِّنِّ السَّوْدَاءِ الْقَائِمَةِ وَالْيَدِ الشَّلَّاءِ وَالرِّجْلِ الشَّلَّاءِ وَذَكَرِ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ - حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَهُنَا الْمَنْفَعَةُ، وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهَا وَلَا زِينَةَ أَيْضًا لِأَنَّ الْعَيْنَ الْقَائِمَةَ الذَّاهِبَ نُورُهَا لَا جَمَالَ فِيهَا عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُهَا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَنْفَعَةُ، وَمَعْنَى الزِّينَةِ فِيهَا تَابِعٌ فَلَا يَتَقَدَّرُ الْأَرْشُ لِأَجْلِهِ. وَفِي الْإِصْبَعِ وَالسِّنِّ الزَّائِدَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهَا، وَلَيْسَ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ أَيْضًا لِانْعِدَامِ الْمَنْفَعَةِ وَالزِّينَةِ لَكِنَّهَا جُزْءٌ مِنْ النَّفْسِ، وَأَجْزَاءُ النَّفْسِ مَضْمُونَةٌ مَعَ عَدَمِ الْمَنْفَعَةِ وَالزِّينَةِ لِمَا ذَكَرْنَا (وَأَمَّا) الصَّغِيرُ الَّذِي لَمْ يَمْشِ وَلَمْ يَقْعُدْ وَرِجْلُهُ وَلِسَانُهُ وَأُذُنَهُ وَأَنْفُهُ وَعَيْنُهُ وَذَكَرُهُ: فَفِي أَنْفِهِ وَأُذُنِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ فِي يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ إذَا كَانَ يُحَرِّكُهُمَا. وَكَذَا فِي ذَكَرِهِ إذَا كَانَ يَتَحَرَّكُ، وَفِي لِسَانِهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لَا الدِّيَةُ وَإِنْ اسْتَهَلَّ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ صِيَاحٌ وَأَمَّا الْعَيْنَانِ فَإِنْ كَانَ يُسْتَدَلُّ بِشَيْءٍ عَلَى بَصَرِهِمَا فَفِيهِمَا مِثْلُ عَيْنِ الْكَبِيرِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ (أَمَّا) الْأَنْفُ وَالْأُذُنُ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا الْجَمَالُ لَا الْمَنْفَعَةُ، وَذَلِكَ يُوجَدُ فِي الصَّغِيرِ بِكَمَالِهِ كَمَا يُوجَدُ فِي الْكَبِيرِ (وَأَمَّا) الْأَعْضَاءُ الَّتِي يُقْصَدَ بِهَا الْمَنْفَعَةُ فَلَا يَجِبُ فِيهَا أَرْشٌ كَامِلٌ حَتَّى يُعْلَمَ صِحَّتُهَا بِمَا ذَكَرْنَا فَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ فَيَجِبُ فِيهِ أَرْشٌ كَامِلٌ فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ يَقَعُ الشَّكُّ فِي وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ كَمَالِ الْأَرْشِ فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ، وَلَا يُقَالُ إنَّ الْأَصْلَ هُوَ الصِّحَّةُ وَالْآفَةُ عَارِضٌ فَكَانَتْ الصِّحَّةُ ثَابِتَةً ظَاهِرًا لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ هَذَا الْأَصْلَ فِي الصَّغِيرِ بَلْ الْأَصْلُ فِيهِ عَدَمُ الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ لِأَنَّهُ كَانَ نُطْفَةً وَعَلَقَةً وَمُضْغَةً فَمَا لَمْ يُعْلَمْ صِحَّةُ الْعُضْوِ فَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ مُتَعَارِضٌ لِأَنَّ بَرَاءَةَ ذِمَّةِ الْجَانِي أَصْلٌ أَيْضًا فَتَعَارَضَ الْأَصْلَانِ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِالْأَصْلِ عَلَى الصِّحَّةِ عَلَى أَنَّ الصِّحَّةَ إنْ كَانَتْ ثَابِتَةً ظَاهِرًا بِحُكْمِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ حُجَّةُ الدَّفْعِ لَا حُجَّةُ الِاسْتِحْقَاقِ كَحَيَاةِ الْمَفْقُودِ أَنَّهَا تَصْلُحُ لِدَفْعِ الْإِرْثِ لَا لِاسْتِحْقَاقِهِ، وَفِي الظُّفْرِ إذَا نَبَتَ لَا شَيْءَ فِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهُ عَادَتْ الْمَنْفَعَةُ وَالزِّينَةُ. وَإِنْ مَاتَ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ وَلَا لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَكَذَا إذَا نَبَتَ عَلَى عَيْبٍ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ دُونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّابِتَ عِوَضٌ عَنْ الذَّاهِبِ فَكَأَنَّ الْأَوَّلَ قَائِمٌ وَدَخَلَهُ عَيْبٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا نَبَتَ أَسْوَدُ إنَّ فِيهِ حُكُومَةً لِمَا أَصَابَ مِنْ الْأَلَمِ بِالْجِرَاحَةِ الْأُولَى بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْأَلَمَ مَضْمُونٌ. وَفِي ثَدْيِ الرَّجُلِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ

وَلَا أَرْشَ مُقَدَّرٌ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَلَا جَمَالَ فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ فِيهِمَا، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَفِي حَلَمَةِ ثَدْيَيْهِ حُكْمُ عَدْلٍ دُونَ مَا فِي ثَدْيَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَثَدْيُ الْمَرْأَةِ تَبَعٌ لِلْحَلَمَةِ حَتَّى لَوْ قَطَعَ الْحَلَمَةَ ثُمَّ الثَّدْيَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ لَا يَجِبُ إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ يَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي الْحَلَمَةِ وَالْحُكُومَةُ فِي الثَّدْيِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الثَّدْيِ الرَّضَاعُ وَذَلِكَ يَبْطُلُ بِقَطْعِ الْحَلَمَةِ. وَكَذَلِكَ الْأَنْفُ مَعَ الْمَارِنِ حَتَّى لَوْ قَطَعَ الْمَارِنَ دُونَ الْأَنْفِ تَجِبُ الدِّيَةُ. وَلَوْ قَطَعَ مَعَ الْمَارِنِ لَا تَجِبُ إلَّا دِيَةٌ. وَاحِدَةٌ. وَلَوْ قَطَعَ الْمَارِنَ ثُمَّ الْأَنْفَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ تَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ فَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْأَنْفِ الْحُكُومَةُ، وَكَذَلِكَ الْجَفْنُ مَعَ الْأَشْفَارِ حَتَّى لَوْ قَطَعَ الشَّفْرَ بِدُونِ الْجَفْنِ يَجِبُ الْأَرْشُ الْمُقَدَّرُ. وَلَوْ قَطَعَ الْجَفْنَ مَعَهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ الْأَرْشُ كَالْكَفِّ مَعَ الْأَصَابِعِ وَلَوْ قَطَعَ الشَّفْرَ ثُمَّ الْجَفْنَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ يَجِبُ فِي الشَّفْرِ أَرْشُهُ. وَفِي الْجَفْنِ الْحُكُومَةُ لِأَنَّهُ قَطَعَ الشَّفْرَ وَهُوَ كَامِلُ الْمَنْفَعَةِ، وَقَطَعَ الْجَفْنَ وَهُوَ نَاقِصُ الْمَنْفَعَةِ فَلَا يَجِبُ إلَّا الْأَرْشُ النَّاقِصُ، وَهُوَ الْحُكُومَةُ وَلَوْ قَطَعَ أَنْفًا مَقْطُوعَ الْأَرْنَبَةِ فَفِيهِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَنْفِ الْجَمَالُ، وَقَدْ نَقَصَ جَمَالُهُ بِقَطْعِ الْأَرْنَبَةِ فَيَنْتَقِصُ أَرْشُهُ. وَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ كَفًّا مَقْطُوعَةَ الْأَصَابِعِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَفِّ الْبَطْشُ وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْأَصَابِعِ. وَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ ذَكَرًا مَقْطُوعَ الْحَشَفَةِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الذَّكَرِ تَزُولُ بِزَوَالِهَا فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ أَرْشٍ مُقَدَّرٍ، وَلَا قِصَاصَ فِيهِ فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ (وَلَوْ) قَطَعَ الذَّكَرَ، وَالْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ قَطَعَهُمَا مَعًا بِأَنْ قَطَعَهُمَا مِنْ جَانِبٍ عَرْضًا يَجِبُ دِيَتَانِ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَنْفَعَةَ الْجِمَاعِ بِقَطْعِ الذَّكَرِ وَمَنْفَعَةَ الْإِنْزَالِ بِقَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ فَقَدْ وُجِدَ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فِي قَطْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَإِنْ قَطَعَ إحْدَاهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ بِأَنْ قَطَعَهُمَا طُولًا فَإِنْ قَطَعَ الذَّكَرَ أَوَّلًا تَجِبُ دِيَتَانِ أَيْضًا: دِيَةٌ بِقَطْعِ الذَّكَرِ لِوُجُودِ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِمَاعِ، وَدِيَةٌ بِقَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّ بِقَطْعِ الذَّكَرِ لَا تَنْقَطِعُ مَنْفَعَةُ الْأُنْثَيَيْنِ وَهُوَ الْإِنْزَالُ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ يَتَحَقَّقُ مَعَ عَدَمِ الذَّكَرِ، وَإِنْ بَدَأَ بِقَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ ثُمَّ الذَّكَرِ فَفِي الْأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأُنْثَيَيْنِ كَانَتْ كَامِلَةً وَقْتَ قَطْعِهِمَا، وَمَنْفَعَةُ الذَّكَرِ تَفُوتُ بِقَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ إذْ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِنْزَالُ بَعْدَ قَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ فَنَقَصَ أَرْشُهُ وَلَوْ حَلَقَ رَأْسَ رَجُلٍ فَنَبَتَ أَبْيَضَ فَلَا شَيْءَ فِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (وَقَالَ) أَبُو يُوسُفَ فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَفِيهِ مَا نَقَصَ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الشَّعْرِ الزِّينَةُ، وَالزِّينَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْأَحْرَارِ، وَلَا زِينَةَ فِي الشَّعْرِ الْأَبْيَضِ فَلَا يَقُومُ النَّابِتُ مَقَامَ الْفَائِتِ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّيْبَ فِي الْأَحْرَارِ لَيْسَ بِعَيْبٍ بَلْ هُوَ جَمَالٌ وَكَمَالٌ فَلَا يَجِبُ بِهِ أَرْشٌ بِخِلَافِ الْعَبِيدِ فَإِنَّ الشَّيْبَ فِيهِمْ عَيْبٌ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يُنْقِصُ الثَّمَنَ فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْجَانِي؟ . وَفِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ مِنْ الشِّجَاجِ حُكُومَةُ عَدْلٍ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ: مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ خُدُوشٌ فِيهَا حُكْمُ عَدْلٍ (وَكَذَلِكَ) رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ، وَالشَّرْعُ مَا وَرَدَ فِيهِ بِأَرْشٍ مُقَدَّرٍ فَتَجِبُ فِيهِ الْحُكُومَةُ، وَالْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْمُتَلَاحِمَةِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَى الْمَعْنَى بَلْ إلَى الِاسْمِ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الشَّجَّةُ الَّتِي قَبْلَ الْبَاضِعَةِ أَقَلَّ مِنْهَا أَرْشًا. وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ لَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ أَرْشُ الشَّجَّةِ الَّتِي ذَهَبَتْ فِي اللَّحْمِ أَكْثَرَ مِمَّا ذَهَبَتْ الْبَاضِعَةُ زَائِدًا عَلَى أَرْشِ الْبَاضِعَةِ فَكَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي الْعِبَارَةِ. وَفِيمَا سِوَى الْجَائِفَةِ مِنْ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي فِي الْبَدَنِ إذَا انْدَمَلَتْ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ لَا شَيْءَ فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيهِ أَرْشُ الْأَلَمِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أُجْرَةُ الطَّبِيبِ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ وَإِنْ بَقِيَ لَهَا أَثَرٌ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ. وَكَذَا فِي شَعْرِ سَائِرِ الْبَدَنِ إذَا لَمْ يَنْبُتْ حُكُومَةُ عَدْلٍ وَإِنْ نَبَتَ لَا شَيْءَ فِيهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) تَفْسِيرُ الْحُكُومَةِ فَإِنْ كَانَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَبْدًا يُقَوَّمُ الْعَبْدُ مَجْنِيًّا عَلَيْهِ وَغَيْرَ مَجْنِيٍّ عَلَيْهِ فَيَجِبُ نُقْصَانُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حُرًّا فَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُقَوَّمُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ عَبْدًا وَلَا جِنَايَةَ بِهِ، وَيُقَوَّمُ وَبِهِ الْجِنَايَةُ فَيُنْظَرُ كَمْ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ فَعَلَيْهِ الْقَدْرُ مِنْ الدِّيَةِ (وَقَالَ) الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُقَرَّبُ هَذِهِ الْجِنَايَةُ إلَى أَقْرَبِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَيَنْظُرُ ذَوَا عَدْلٍ مِنْ أَطِبَّاءِ الْجِرَاحَاتِ كَمْ مِقْدَارُ هَذِهِ هَهُنَا فِي قِلَّةِ الْجِرَاحَاتِ وَكَثْرَتِهَا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَيَأْخُذُ الْقَاضِي بِقَوْلِهِمَا وَيَحْكُمُ مِنْ

فصل في الجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه

الْأَرْشِ بِمِقْدَارِهِ مِنْ أَرْشِ الْجِرَاحَةِ الْمُقَدَّرَةِ (وَجْهُ) مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْعَبْدِ كَالدِّيَةِ فِي الْحُرِّ فَيُقَدَّرُ الْعَبْدُ حُرًّا فَمَا أَوْجَبَ نَقْصًا فِي الْعَبْدِ يُعْتَبَرُ بِهِ الْحُرُّ. وَكَانَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُنْكِرُ هَذَا الْقَوْلَ وَيَقُولُ: هَذَا يُؤَدِّي إلَى أَمْرٍ فَظِيعٍ، وَهُوَ أَنْ يَجِبَ فِي قَلِيلِ الشِّجَاجِ أَكْثَرُ مِمَّا يَجِبُ فِي كَثِيرِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ شَجَّةِ السِّمْحَاقِ فِي الْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ قِيمَتِهِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ لَأَوْجَبْنَا فِي السِّمْحَاقِ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ فِي الْمُوضِحَةِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا هُوَ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى مَا هُوَ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَهُوَ الْجَنِينُ بِأَنْ ضُرِبَ عَلَى بَطْنِ حَامِلٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا فَيَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْجَنِينَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حُرًّا بِأَنْ كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً عَلِقَتْ مِنْ مَوْلَاهَا أَوْ مِنْ مَغْرُورٍ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَقِيقًا، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا وَإِمَّا أَنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا فَإِنْ كَانَ حُرًّا وَأَلْقَتْهُ مَيِّتًا فَفِيهِ الْغُرَّةُ. وَالْكَلَامُ فِي. الْغُرَّةِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ وُجُوبِهَا وَفِي تَفْسِيرِهَا وَتَقْدِيرِهَا وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ لَهُ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْغُرَّةُ وَاجِبَةٌ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَى الضَّارِبِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَقْتَ الضَّرْبِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ لَمْ تُخْلَقْ فِيهِ الْحَيَاةُ بَعْدُ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ شَيْءٌ إلَّا نُقْصَانُ الْبَهِيمَةِ، كَذَا هَذَا، إلَّا أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ بِالسُّنَّةِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «كُنْتُ بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبَةِ بِالدِّيَةِ وَبِغُرَّةِ الْجَنِينِ» وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ اُخْتُصِمَ إلَيْهِ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ الْجَنِينَ فَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْشُدُكُمْ اللَّهَ تَعَالَى هَلْ سَمِعْتُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ شَيْئًا؟ فَقَامَ الْمُغِيرَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: كُنْتُ بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ وَذَكَرَ الْخَبَرَ وَقَالَ فِيهِ: فَقَامَ عَمُّ الْجَنِينِ فَقَالَ إنَّهُ أَشْعَرَ، وَقَامَ وَالِدُ الضَّارِبَةِ فَقَالَ: كَيْفَ نَدِي مَنْ لَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَلَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ، وَدَمُ مِثْلِ ذَلِكَ يُطَلُّ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ. وَرُوِيَ كَسَجْعِ الْأَعْرَابِ، فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ» ، فَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ شَهِدَ مَعَكَ بِهَذَا؟ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ فَشَهِدَ، فَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ فِيهَا بِرَأْيِنَا وَفِيهَا سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ أَيْضًا حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ وَلِأَنَّ الْجَنِينَ إنْ كَانَ حَيًّا فَقَدْ فَوَّتَ الضَّارِبُ حَيَاتَهُ، وَتَفْوِيتُ الْحَيَاةِ قَتْلٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا فَقَدْ مَنَعَ مِنْ حُدُوثِ الْحَيَاةِ فِيهِ فَيَضْمَنُ كَالْمَغْرُورِ لَمَّا مَنَعَ مِنْ حُدُوثِ الرِّقِّ فِي الْوَلَدِ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أَوْ بَعْضُ خَلْقِهِ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَضَى بِالْغُرَّةِ وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ فَدَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ. وَإِنْ لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَنِينٍ إنَّمَا هُوَ مُضْغَةٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى لِمَا قُلْنَا. وَلِأَنَّ عِنْدَ عَدَمِ اسْتِوَاءِ الْخِلْقَةِ يَتَعَذَّرُ الْفَصْلُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِيهِ. (وَأَمَّا) تَفْسِيرُ الْغُرَّةِ فَالْغُرَّةُ فِي اللُّغَةِ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَكَذَا فَسَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ» فَسَّرَ الْغُرَّةَ بِالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَضَى فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ أَوْ خَمْسِمِائَةٍ» . وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ خَرَجَتْ تَفْسِيرًا لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى فَصَارَتْ الْغُرَّةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمًا لِعَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ يَعْدِلُ خَمْسَمِائَةٍ أَوْ بِخَمْسِمِائَةٍ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ خَرَجَتْ تَفْسِيرًا لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى ثُمَّ تَقْدِيرُ الْغُرَّةِ بِالْخَمْسِمِائَةِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَقْدِرَةٌ بِسِتِّمِائَةٍ. وَهَذَا فَرْعُ أَصْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الدِّيَةِ فَالدِّيَةُ مِنْ الدَّرَاهِمِ عِنْدَنَا مَقْدِرَةٌ بِعَشْرَةِ آلَافٍ فَكَانَ نِصْفُ عُشْرِهَا خَمْسَمِائَةٍ وَعِنْدَهُ مُقَدَّرَةٌ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا فَكَانَ نِصْفُ عُشْرِهَا سِتَّمِائَةٍ ثُمَّ ابْتَدَأَ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَضَى فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ أَوْ خَمْسِمِائَةٍ» ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ. (وَأَمَّا) بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْغُرَّةُ فَالْغُرَّةُ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَضَى عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبَةِ بِالدِّيَةِ وَبِغُرَّةِ الْجَنِينِ» . وَرُوِيَ أَنَّ عَاقِلَةَ الضَّارِبَةِ قَالُوا: أَنَدِي مَنْ لَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَلَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ، وَدَمُ مِثْلِ هَذَا بَطَلَ؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بِالدِّيَةِ كَانَ عَلَيْهِمْ

حَيْثُ أَضَافُوا الدِّيَةَ إلَى أَنْفُسِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ وَلِأَنَّهَا بَدَلُ نَفْسٍ فَكَانَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَالدِّيَةِ (وَأَمَّا) مَنْ تَجِبُ لَهُ فَهِيَ مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَةِ الْجَنِينِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا لَا تُورَثُ وَهِيَ لِلْأُمِّ خَاصَّةً (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْأُمِّ فَكَانَ الْأَرْشُ لَهَا كَسَائِرِ أَجْزَائِهَا. (وَلَنَا) أَنَّ الْغُرَّةَ بَدَلُ نَفْسِ الْجَنِينِ، وَبَدَلُ النَّفْسِ يَكُونُ مِيرَاثًا كَالدِّيَةِ (وَالدَّلِيلُ) عَلَى أَنَّهَا بَدَلُ نَفْسِ الْجَنِينِ لَا بَدَلُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي جَنِينِ أُمِّ الْوَلَدِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ جَنِينَ أُمِّ الْوَلَدِ جُزْءٌ وَلَوْ كَانَ فِي حُكْمِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْأُمِّ لَكَانَ جُزْءًا مِنْ الْأُمِّ حُرًّا، وَبَقِيَّةُ أَجْزَائِهَا أَمَةً، وَهَذَا لَا يَجُوزُ (وَالدَّلِيلُ) عَلَيْهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَضَى بِدِيَةِ الْأُمِّ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَبِغُرَّةِ الْجَنِينِ» ، وَلَوْ كَانَ فِي مَعْنَى أَجْزَاءِ الْأُمِّ لَمَا أَفْرَدَ الْجَنِينَ بِحُكْمٍ بَلْ دَخَلَتْ الْغُرَّةُ فِي دِيَةِ الْأَمَةِ كَمَا إذَا قُطِعَتْ يَدُ الْأُمِّ فَمَاتَتْ أَنَّهُ تَدْخُلُ دِيَةُ الْيَدِ فِي النَّفْسِ. وَكَذَا لَمَّا أَنْكَرَتْ عَاقِلَةُ الضَّارِبَةِ حَمْلَ الدِّيَةِ إيَّاهُمْ فَقَالَتْ: أَنَدِي مَنْ لَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَلَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَمِثْلُ دَمِهِ يُطَلُّ؟ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنِّي أَوْجَبْت ذَلِكَ بِجِنَايَةِ الضَّارِبَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا بِجِنَايَتِهَا عَلَى الْجَنِينِ وَلَوْ كَانَ وُجُوبُ الْأَرْشِ فِيهِ لِكَوْنِهِ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ لَرُفِعَ إنْكَارُهُمْ بِمَا قُلْنَا فَدَلَّ أَنَّ الْغُرَّةَ وَجَبَتْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ لَا بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْأُمِّ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً بِنَفْسِهِ لَا بِالْأُمِّ. وَلَا يَرِثُ الضَّارِبُ مِنْ الْغُرَّةِ شَيْئًا لِأَنَّهُ قَاتِلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ أَسْبَابِ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى الضَّارِبِ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا قَضَى بِالْغُرَّةِ عَلَى الضَّارِبَةِ لَمْ يَذْكُرْ الْكَفَّارَةَ مَعَ أَنَّ الْحَالَ حَالُ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَبَيَّنَهَا وَلِأَنَّ وُجُوبَهَا مُتَعَلِّقُ بِالْقَتْلِ وَأَوْصَافٍ أُخْرَى لَمْ يُعْرَفْ وُجُودُهَا فِي الْجَنِينِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] أَيْ كَانَ الْمَقْتُولُ، وَلَمْ يُعْرَفْ قَتْلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ تُعْرَفْ حَيَاتُهُ وَكَذَا إيمَانُهُ وَكُفْرُهُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا (أَمَّا) الْحَقِيقَةُ فَلَا شَكَّ فِي انْتِفَائِهَا؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ لَا يَتَحَقَّقَانِ مِنْ الْجَنِينِ. وَكَذَلِكَ حُكْمًا لِأَنَّ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْحَيَاةِ وَلَمْ تُعْرَفْ حَيَاتُهُ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مِنْ بَابِ الْمَقَادِيرِ، وَالْمَقَادِيرُ لَا تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ بَلْ بِالتَّوْقِيفِ، وَهُوَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَالسَّنَةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْجَنِينِ الَّذِي أُلْقِيَ مَيِّتًا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَلِأَنَّ وُجُوبَهَا مُتَعَلِّقٌ بِالنَّفْسِ الْمُطْلَقَةِ، وَالْجَنِينُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ مَعَ مَا أَنَّ الضَّرْبَ لَوْ وَقَعَ قَتْلُ نَفْسٍ لَكَانَ قَتْلًا تَسْبِيبًا لَا مُبَاشَرَةً. وَالْقَتْلُ تَسْبِيبًا لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ كَحَفْرِ الْبِئْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: وَلَا كَفَّارَة عَلَى الضَّارِبِ وَإِنْ سَقَطَ كَامِلَ الْخَلْقِ مَيِّتًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَاجِبٌ وَلْيَتَقَرَّبْ إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمَا يَشَاءُ إنْ اسْتَطَاعَ وَيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِمَّا صَنَعَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَوْلُنَا كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا فَنُدِبَ إلَى أَنْ يَتَقَرَّبَ بِالْكَفَّارَةِ لِمَحْوِهِ هَذَا إذَا أَلْقَتْهُ مَيِّتًا، فَأَمَّا إذَا أَلْقَتْهُ حَيًّا فَمَاتَ فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً لَا يَرِثُ الضَّارِبُ مِنْهَا شَيْئًا، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ (أَمَّا) حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ فَلِمَا قُلْنَا وَأَمَّا وُجُوبُ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ فَلِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ حَيًّا فَمَاتَ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا وَقْتَ الضَّرْبِ فَحَصَلَ الضَّرْبُ قُتِلَ النَّفْسُ، وَأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ هَذَا إذَا أَلْقَتْ جَنِينًا وَاحِدًا. فَأَمَّا إذَا أَلْقَتْ جَنِينَيْنِ فَإِنْ كَانَا مَيِّتَيْنِ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غُرَّةٌ، وَإِنْ كَانَا حَيَّيْنِ ثُمَّ مَاتَا فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةٌ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ الْإِتْلَافُ إلَّا أَنَّهُ أَتْلَفَهُمَا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ وَمَنْ أَتْلَفَ شَخْصَيْنِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا لَوْ أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالضَّرْبِ كَمَا فِي الْكَبِيرَيْنِ فَإِنْ أَلْقَتْ أَحَدَهُمَا مَيِّتًا وَالْآخَرَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ فِي الْمَيِّتِ الْغُرَّةُ وَفِي الْحَيِّ الدِّيَةُ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ الْمَيِّتِ وَالدِّيَةِ فِي الْجَنِينِ الْحَيِّ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْجَمْعُ فِي الْإِتْلَافِ وَالْإِفْرَادِ فِيهِ فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ مِنْ الضَّرْبَةِ وَخَرَجَ الْجَنِينُ بَعْدَ ذَلِكَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ دِيَتَانِ دِيَةٌ فِي الْأُمِّ وَدِيَةٌ فِي الْجَنِينِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِمَا وَهُوَ قَتْلُ شَخْصَيْنِ. فَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ مَوْتِهَا مَيِّتًا فَعَلَيْهِ دِيَةُ الْأُمِّ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْجَنِينِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْجَنِينِ الْغُرَّةُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ إنْ أَتْلَفهُمَا جَمِيعًا فَيُؤَاخَذُ بِضَمَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا لَوْ خَرَجَ الْجَنِينُ مَيِّتًا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ. (وَلَنَا) أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى كَوْنُ الْجَنِينِ مَضْمُونًا أَصْلًا

كتاب الخنثى

لِمَا بَيَّنَّا مِنْ احْتِمَالِ عَدَمِ الْحَيَاةِ، وَازْدَادَ هَهُنَا احْتِمَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِالضَّرْبِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِمَوْتِ الْأُمِّ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا الضَّمَانَ فِيهِ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ بِالضَّمَانِ فِي حَالٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهِيَ مَا إذَا خَرَجَ مَيِّتًا قَبْلَ مَوْتِ الْأُمِّ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فَيَتَعَيَّنُ الثَّانِي فِي نَفْيِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ هَذَا إذَا كَانَ الْجَنِينُ حُرًّا فَأَمَّا إذَا كَانَ رَقِيقًا فَإِنْ خَرَجَ فَفِيهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ ذَكَرًا، وَعُشْرُ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ أُنْثَى. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ مَا نَقَصَ الْأُمَّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ. أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَبِنَاءً عَلَى أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّ ضَمَانَ الْجِنَايَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْعَبْدِ ضَمَانُ النَّفْسِ أَمْ ضَمَانُ الْمَالِ؟ فَعَلَى أَصْلِهِمَا ضَمَانُ النَّفْسِ حَتَّى قَالَا أَنَّهُ لَا تُزَادُ قِيمَتُهُ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ بَلْ تَنْقُصُ هَهُنَا. وَكَذَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَعَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ضَمَانُهَا ضَمَانُ الْمَالِ حَتَّى قَالَ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ فَصَارَ جَنِينُهَا كَجَنِينِ الْبَهِيمَةِ، وَهُنَاكَ لَا يَجِبُ إلَّا نُقْصَانُ الْأُمِّ كَذَا هَهُنَا (وَأَمَّا) الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجَنِينَ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ أَمْ بِأُمِّهِ؟ وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلَائِلَ عَلَى أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ لَا بِأُمِّهِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ ضَمَانَ جَنِينِ الْحُرَّةِ مَوْرُوثٌ عَنْهُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ. وَلَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا بِأُمِّهِ لَسَلِمَ لَهَا كَمَا يَسْلَمُ لَهَا أَرْشُ عُضْوِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجَنِينَ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ وَأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ ضَمَانٌ فَهَذَا الِاعْتِبَارُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ إذَا كَانَ رَقِيقًا نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ ذَكَرًا، وَعُشْرُ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ أُنْثَى؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْجَنِينِ الْحُرِّ خَمْسُمِائَةٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَهِيَ نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ الذَّكَرِ وَعُشْرُ دِيَةِ الْأُنْثَى، وَالْقِيمَةُ فِي الرَّقِيقِ كَالدِّيَةِ فِي الْحُرِّ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَنِينِ الرَّقِيقِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ ذَكَرًا اعْتِبَارًا بِالْحُرِّ وَعُشْرُ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ أُنْثَى اعْتِبَارًا بِالْحُرَّةِ. وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ قِيمَتُهُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجَنِينِ الْحُرِّ فَإِنْ أَلْقَتْ جَنِينَيْنِ مَيِّتَيْنِ أَوْ جَنِينَيْنِ حَيَّيْنِ ثُمَّ مَاتَا فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ مَا فِيهِ حَالَ الِانْفِرَادِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجَنِينِ الْحُرِّ فَإِنْ أَلْقَتْ أَحَدَهُمَا مَيِّتًا وَالْآخَرَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا هُوَ ضَمَانُهُ حَالَةَ الِانْفِرَادِ لِمَا مَرَّ فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ مِنْ الضَّرْبِ وَخَرَجَ الْجَنِينُ بَعْدَ ذَلِكَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ قِيمَتَانِ قِيمَةٌ فِي الْأُمِّ وَقِيمَةٌ فِي الْجَنِينِ، وَإِنْ خَرَجَ الْجَنِينُ مَيِّتًا بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ فَعَلَيْهِ فِي الْأُمِّ الْقِيمَةُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْجَنِينِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالْأَصْلُ أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَجِبُ فِي الْجَنِينِ الْحُرِّ الْغُرَّةُ فَفِي الرَّقِيقِ نَصِفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ ذَكَرًا وَعُشْرُ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ أُنْثَى، وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَجِبُ فِي الْمَضْرُوبَةِ - إذَا كَانَتْ حُرَّةً - الدِّيَةُ فَفِي الْأَمَةِ الْقِيمَةُ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا يَجِبُ فِي الْجَنِينِ هُنَاكَ شَيْءٌ لَا يَجِبُ هُنَا شَيْءٌ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي جَانِبِ الْحُرِّ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ إلَّا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ يَكُونُ فِي مَالِ الضَّارِبِ يُؤْخَذُ مِنْهُ حَالًّا وَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَالْوَاجِبُ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ يَكُونُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الْعَاقِلِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ وَرَدَ بِالتَّحَمُّلِ فِي الْغُرَّةِ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ الْخُنْثَى] [تَفْسِير الْخُنْثَى] (كِتَابُ الْخُنْثَى) (الْكَلَامُ) فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي تَفْسِيرِ الْخُنْثَى، وَفِي بَيَانِ مَا يُعْرَفُ بِهِ أَنَّهُ ذَكَرٌ، أَوْ أُنْثَى، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ. (أَمَّا الْأَوَّلُ) فَالْخُنْثَى مَنْ لَهُ آلَةُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ ذَكَرًا وَأُنْثَى حَقِيقَةً، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أُنْثَى. [فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يُعْرَفُ بِهِ الْخُنْثَى أَنَّهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُعْرَفُ بِهِ أَنَّهُ ذَكَرٌ، أَوْ أُنْثَى، فَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْعَلَامَةِ، وَعَلَامَةُ الذُّكُورَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ نَبَاتُ اللِّحْيَةِ، وَإِمْكَانُ الْوُصُولِ إلَى النِّسَاءِ وَعَلَامَةُ الْأُنُوثَةِ فِي الْكِبَرِ نُهُودُ ثَدْيَيْنِ كَثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ وَنُزُولُ اللَّبَنِ فِي ثَدْيَيْهِ وَالْحَيْضُ وَالْحَبَلُ، وَإِمْكَانُ الْوُصُولِ إلَيْهَا مِنْ فَرْجِهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرْنَا يَخْتَصُّ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فَكَانَتْ عَلَامَةً صَالِحَةً لِلْفَصْلِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَأَمَّا الْعَلَامَةُ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ فَالْمَبَالُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْخُنْثَى مِنْ حَيْثُ يَبُولُ» ، فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ الذُّكُورِ فَهُوَ ذَكَرٌ، وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ النِّسَاءِ فَهُوَ أُنْثَى " وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْهُمَا جَمِيعًا يُحَكَّمُ السَّبْقُ؛ لِأَنَّ سَبْقَ الْبَوْلِ مِنْ أَحَدِهِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَخْرَجُ الْأَصْلِيُّ وَأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الْآخَرِ بِطَرِيقِ الِانْحِرَافِ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ لَا يَسْبِقُ

فصل في حكم الخنثى المشكل

أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَتَوَقَّفَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ: هُوَ خُنْثَى مُشْكِلٌ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ فِقْهِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ التَّوَقُّفَ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ وَاجِبٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تُحَكَّمُ الْكَثْرَةُ؛ لِأَنَّهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَخْرَجِ الْأَصْلِيِّ كَالسَّبْقِ فَيَجُوزُ تَحْكِيمُهُ. وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةِ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّ كَثْرَةَ الْبَوْلِ وَقِلَّتَهُ لِسَعَةِ الْمَحِلِّ وَضَيْقِهِ فَلَا يَصْلُحُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، بِخِلَافِ السَّبَقِ، وَحُكِيَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ أَبَا حَنِيفَةَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي تَحْكِيمِ الْكَثْرَةِ لَمْ يَرْضَ بِهِ، وَقَالَ: هَلْ رَأَيْت حَاكِمًا يَزِنُ الْبَوْلَ، فَإِنْ اسْتَوَيَا تَوَقَّفَا أَيْضًا، وَقَالَا هُوَ خُنْثَى مُشْكِلٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي حُكْمُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ فَلَهُ فِي الشَّرْعِ أَحْكَامٌ: حُكْمُ الْخِتَانِ وَحُكْمُ الْغُسْلِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ. أَمَّا حُكْمُ الْخِتَانِ فَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْتِنَهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أُنْثَى وَلَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَى عَوْرَتِهَا وَلَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ أَنْ تَخْتِنَهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ فَلَا يَحِلُّ لَهَا النَّظَرُ إلَى عَوْرَتِهِ فَيَجِبُ الِاحْتِيَاطُ فِي ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مِنْ مَالِهِ جَارِيَةً تَخْتِنُهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أُنْثَى فَالْأُنْثَى تُخْتَنُ بِالْأُنْثَى عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَتَخْتِنُهُ أَمَتُهُ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهَا النَّظَرُ إلَى فَرْجِ مَوْلَاهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَشْتَرِي لَهُ الْإِمَامُ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ جَارِيَةً خَتَّانَةً فَإِذَا خَتَنَتْهُ بَاعَهَا وَرَدَّ ثَمَنَهَا إلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْخِتَانَ مِنْ سُنَّةِ الْإِسْلَامِ وَهَذَا مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَيُقَامُ مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، ثُمَّ تُبَاعُ وَيُرَدُّ ثَمَنُهَا إلَى بَيْتِ الْمَالِ لِانْدِفَاعِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، وَقِيلَ: يُزَوِّجُهُ الْإِمَامُ امْرَأَةً خَتَّانَةً؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ ذَكَرًا فَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْتِنَ زَوْجَهَا، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَالْمَرْأَةُ تَخْتِنُ الْمَرْأَةَ عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَأَمَّا حُكْمُ غُسْلِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُغَسِّلَهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى وَلَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُغَسِّلَهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ ذَكَرٌ وَلَكِنَّهُ يُيَمَّمُ، كَانَ الْمُيَمِّمُ رَجُلًا، أَوْ امْرَأَةً، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ يَمَّمَهُ مِنْ غَيْرِ خِرْقَةٍ، وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا يَمَّمَهُ بِالْخِرْقَةِ وَيَكُفُّ بَصَرَهُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ. وَأَمَّا حُكْمُ الْوُقُوفِ فِي الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَقِفُ بَعْدَ صَفِّ الرِّجَالِ وَالصَّبِيَّانِ قَبْلَ صَفِّ النِّسَاءِ احْتِيَاطًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا حُكْمُ إمَامَتِهِ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا فَقَدْ مَرَّ فَلَا يَؤُمُّ الرِّجَالَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أُنْثَى وَيَؤُمُّ النِّسَاءَ. وَأَمَّا حُكْمُ وَضْعِ الْجَنَائِزِ عَلَى التَّرْتِيبِ فَتُقَدَّمُ جِنَازَتُهُ عَلَى جِنَازَةِ النِّسَاءِ وَتُؤَخَّرُ عَنْ جِنَازَةِ الرِّجَالِ وَالصَّبِيَّانِ عَلَى مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ لِجَوَازِ أَنَّهُ ذَكَرٌ فَيُسْلَكُ مَسْلَكُ الِاحْتِيَاطِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَأَمَّا حُكْمُ الْغَنَائِمِ فَلَا يُعْطَى سَهْمًا وَلَكِنْ يُرْضَخُ لَهُ كَأَنَّهُ امْرَأَةٌ؛ لِأَنَّ فِي اسْتِحْقَاقِ الزِّيَادَةِ شَكًّا، فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ. وَأَمَّا حُكْمُ الْمِيرَاثِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُعْطَى لَهُ أَقَلَّ الْأَنْصِبَاءِ وَهُوَ نَصِيبُ الْأُنْثَى إلَّا أَنْ يَكُونَ أَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يُجْعَلَ ذَكَرًا فَحِينَئِذٍ يُجْعَلُ ذَكَرًا حُكْمًا، وَبَيَانُ هَذَا فِي مَسَائِلَ: إذَا مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنًا مَعْرُوفًا وَوَلَدًا خُنْثَى فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - يُقَسَّمُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ الثُّلُثَانِ وَلِلْخُنْثَى الثُّلُثُ وَيُجْعَلُ الْخُنْثَى هَاهُنَا أُنْثَى كَأَنَّهُ تَرَكَ ابْنًا وَبِنْتًا، وَلَوْ تَرَكَ وَلَدًا خُنْثَى وَعَصَبَةً فَالنِّصْفُ لِلْخُنْثَى وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ وَيُجْعَلُ الْخُنْثَى أُنْثَى كَأَنَّهُ تَرَكَ بِنْتًا وَعَصَبَةً، وَلَوْ تَرَكَ أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَخُنْثَى لِأَبٍ، وَعَصَبَةً فَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ، وَالْخُنْثَى لِأَبٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ، وَيُجْعَلُ الْخُنْثَى أَيْضًا هَاهُنَا أُنْثَى كَأَنَّهُ تَرَكَ أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأُخْتًا لِأَبٍ، وَعَصَبَةً. فَإِنْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ، وَأُمٍّ وَخُنْثَى لِأَبٍ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَلَا شَيْءَ لِلْخُنْثَى وَيُجْعَلُ هَاهُنَا ذَكَرًا؛ لِأَنَّ هَذَا أَسْوَأُ أَحْوَالِهِ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ أُنْثَى لَأَصَابَ السُّدُسَ وَتَعُولُ الْفَرِيضَةُ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ ذَكَرًا لَا يُصِيبُ شَيْئًا كَأَنَّهَا تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخًا لِأَبٍ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ - تَعَالَى. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُعْطَى نِصْفَ مِيرَاثِ الذَّكَرِ وَنِصْفَ مِيرَاثِ الْأُنْثَى؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى فَيُعْطَى لَهُ نِصْفَ مِيرَاثِ الرِّجَالِ وَنِصْفَ مِيرَاثِ النِّسَاءِ (وَالصَّحِيحُ) قَوْلُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ - تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ، وَفِي الْأَكْثَرِ شَكٌّ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ ذَكَرًا فَلَهُ الْأَكْثَرُ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَلَهَا الْأَقَلُّ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ الْأَقَلِّ ثَابِتًا بِيَقِينٍ وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْأَكْثَرِ شَكٌّ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ مَعَ الشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي غَيْرِ الثَّابِتِ بِيَقِينِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ، وَلِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ كُلِّ الْمَالِ ثَابِتٌ لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ ذَكَرٌ فِيهِ وَإِنَّمَا يُنْتَقَصُ حَقُّهُ بِمُزَاحِمَةِ الْآخَرِ فَإِذَا اُحْتُمِلَ أَنَّهُ ذَكَرٌ وَاحْتُمِلَ أَنَّهُ أُنْثَى وَقَعَ الشَّكُّ فِي سُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي

الثَّابِتِ بِيَقِينِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ. وَاخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَتَخْرِيجِهِ فِيمَا إذَا تَرَكَ ابْنًا مَعْرُوفًا وَوَلَدًا خُنْثَى فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ: يُقَسَّمُ الْمَالُ عَلَى سَبْعَةٍ: أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ مِنْهَا لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ، وَثَلَاثَةٌ لِلْخُنْثَى. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ: يُقَسَّمُ الْمَالُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا: سَبْعَةٌ مِنْهَا لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ، وَخَمْسَةٌ لِلْخُنْثَى، وَجْهُ تَفْسِيرِ مُحَمَّدٍ وَتَخْرِيجِهِ لِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ لِلْخُنْثَى فِي حَالٍ سَهْمًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَهْمٌ، وَلَهُ فِي حَالٍ ثُلُثَا سَهْمٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَهْمٌ وَثُلُثُ سَهْمٍ فَيُعْطَى نِصْفَ مَا يَسْتَحِقُّهُ فِي حَالَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ ذَكَرًا وَأُنْثَى وَلَيْسَتْ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيُعْطَى نِصْفَ مَا يَسْتَحِقُّهُ فِي الْحَالَتَيْنِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ سَهْمِ وَانْكَسَرَ الْحِسَابُ بِالْأَسْدَاسِ فَيَصِيرُ كُلُّ سَهْمٍ سِتَّةً فَيَصِيرُ جَمِيعُ الْمَالِ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا لِلْخُنْثَى مِنْهَا خَمْسَةٌ وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَبْعَةٌ، أَوْ يُقَالُ إذَا جَعَلْنَا جَمِيعَ الْمَالِ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا فَالْخُنْثَى يَسْتَحِقُّ فِي حَالٍ سِتَّةً مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا وَفِي حَالٍ أَرْبَعَةً مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى فَالْأَرْبَعَةُ ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ، وَسَهْمَانِ يَثْبُتَانِ فِي حَالٍ وَلَا يَثْبُتَانِ فِي حَالٍ وَلَيْسَتْ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيُنَصَّفُ. وَذَلِكَ سَهْمٌ فَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ لِلْخُنْثَى. وَأَمَّا الِابْنُ الْمَعْرُوفُ فَالسِّتَّةُ مِنْ الِاثْنَيْ عَشَرَ ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ وَسَهْمَانِ يَثْبُتَانِ فِي حَالٍ وَلَا يَثْبُتَانِ فِي حَالٍ فَيُنَصَّفُ وَذَلِكَ سَهْمٌ فَذَلِكَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَتَخْرِيجُهُ لِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُنْثَى، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَلَهُ نَصِيبُ ابْنٍ وَهُوَ سَهْمٌ، وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَهْمٌ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَلَهُ نَصِيبُ بِنْتٍ وَهُوَ نِصْفُ سَهْمٍ وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَهْمٌ فَلَهُ فِي حَالٍ سَهْمٌ تَامٍّ وَفِي حَالٍ نِصْفُ سَهْمٍ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيُعْطَى نِصْفَ مَا يَسْتَحِقُّهُ فِي حَالَتَيْنِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ سَهْمٍ، وَلِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ سَهْمٌ تَامٌّ فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ لِلِابْنِ الْمَعْرُوفِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْخُنْثَى ثَلَاثَةٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَوَجَدْتُ) فِي شَرْحِ مَسَائِلِ الْمُجَرَّدِ الْمَنْسُوبِ إلَى الْإِمَامِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَيْهَقِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّذِي اخْتَصَرَ الْمَبْسُوطَ وَالْجَامِعَيْنِ وَالزِّيَادَاتِ فِي مُجَلَّدَةٍ وَاحِدَةٍ وَشَرَحَهُ بِكِتَابٍ لَقَبُهُ الشَّامِلُ بَابًا فِي الْخُنْثَى فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُلْحِقَهُ بِهَذَا الْفَصْلِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ الشَّيْخِ وَهُوَ بَابُ الْخُنْثَى. (قَالَ) ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُوَرَّثُ الْخُنْثَى مِنْ حَيْثُ يَبُولُ» وَهُوَ مَذْهَبُنَا، الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ مُعْتَبَرٌ بِالنِّسَاءِ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ إذَا كَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِلْحَاقِ بِهِنَّ، وَبِالرِّجَالِ إذَا كَانَ الِاحْتِيَاطُ فِيهِ، فَحُكْمُهُ فِي الصَّلَاةِ حُكْمُ الْمَرْأَةِ فِي الْقُعُودِ وَالسَّتْرِ، وَفِي الْوُقُوفِ بِجَنْبِ الرِّجَالِ فِي إفْسَادِ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَيَقُومُ خَلْفَ الرِّجَالِ وَقُدَّامَ النِّسَاءِ وَلَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ إلْحَاقًا بِالرِّجَالِ، وَفِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِثْلُ الْمَرْأَةِ، وَلَوْ مَاتَ يُمِّمَ بِالصَّعِيدِ وَلَا يُغَسِّلُهُ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ وَيُسَجَّى قَبْرُهُ وَيَدْخُلُ قَبْرَهُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ. فَإِنْ قَبَّلَهُ رَجُلٌ بِشَهْوَةٍ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِأُمِّهِ، وَلَوْ زَوَّجَهُ أَبُوهُ امْرَأَةً يُؤَجَّلُ كَالْعِنِّينِ سَنَةً وَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ اعْتِبَارًا بِالْمَجْبُوبِ وَالرَّتْقَاءِ، وَفِي الْكُلِّ يُعْتَبَرُ الِاحْتِيَاطُ قَالَ: " كُلُّ عَبْدٍ لِي حُرٌّ " وَقَالَ: " كُلُّ أَمَةٍ " لَمْ يَعْتِقْ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، وَلَوْ قَالَ الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا عَتَقَ لِمَا عُرِفَ. (وَقَوْلُهُ) أَنَا ذَكَرٌ، أَوْ أُنْثَى لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ وَيَشْتَرِي امْرَأَةً بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أَمَةً مِنْ مَالِهِ لِلْخِدْمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَمِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَصَالِحِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. (مَاتَ) وَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ إنَّهَا كَانَتْ امْرَأَتَهُ وَكَانَتْ تَبُولُ مِنْ مَبَالِ النِّسَاءِ، وَامْرَأَةٌ أَنَّهُ كَانَ زَوْجَهَا وَكَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ الرِّجَالِ لَمْ يُقْضَ لِأَحَدِهِمَا إلَّا إنْ ذَكَرَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ وَقْتًا أَقْدَمَ فَيُقْضَى لَهُ وَفِي حَبْسِهِ فِي الدَّعَاوَى، وَلَا يُفْرَضُ لَهُ فِي الدِّيوَانِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الرَّجُلِ الْمُقَاتِلِ، فَإِنْ شَهِدَ الْقِتَالَ يُرْضَخُ لَهُ؛ لِأَنَّ الرَّضْخَ نَوْعُ إعَانَةٍ. وَإِنْ أُسِرَ لَمْ يُقْتَلْ، وَلَا يَدْخُلُ فِي قَسَامَةٍ وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الرِّجَالِ أَوْصَى رَجُلٌ لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إنْ كَانَ غُلَامًا، وَبِخَمْسِمِائَةٍ إنْ كَانَتْ جَارِيَةً وَكَانَ مُشْكِلًا لَمْ يَزِدْ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَعِنْدَهُمَا - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَهُ نِصْفُ الْأَلْفِ وَالْخَمْسُمِائَةِ، قَالَ: وَخُرُوجُ اللِّحْيَةِ دَلِيلُ أَنَّهُ رَجُلٌ، وَالثَّدْيُ عَلَى مِثَالِ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ مَعَ عَدَمِ اللِّحْيَةِ وَالْحَيْضُ دَلِيلُ كَوْنِهِ امْرَأَةً. زُوِّجَ خُنْثَى

كتاب الوصايا

مِنْ خُنْثَى مُشْكِلَانِ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا رَجُلٌ وَالْآخَرَ امْرَأَةٌ صَحَّ الْوَقْفُ فِي النِّكَاحِ حَتَّى تَتَبَيَّنَ، فَإِنْ مَاتَا قَبْلَ الْبَيَانِ لَمْ يَتَوَارَثَا لِمَا مَرَّ شَهِدَ شُهُودٌ عَلَى خُنْثَى أَنَّهُ غُلَامٌ، وَشُهُودٌ أَنَّهُ جَارِيَةٌ، وَالْمَطْلُوبُ مِيرَاثٌ، قَضَيْتُ بِشَهَادَةِ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى مَهْرًا قَضَيْتُ بِكَوْنِهَا جَارِيَةً، وَإِنْ كَانَ الْمُقِيمُ لَا يَطْلُبُ شَيْئًا لَمْ تُسْمَعْ الْبَيِّنَةُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْوَصَايَا] [بَيَان جَوَازِ الْوَصِيَّة] (كِتَابُ الْوَصَايَا) الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِ الْوَصِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ رُكْنِ الْوَصِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ عَقْدِ الْوَصِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ، وَفِي بَيَانِ مَا تَبْطُلُ بِهِ الْوَصِيَّةُ. (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَوْتُ مُزِيلٌ لَلْمِلْكِ فَتَقَعُ الْإِضَافَةُ إلَى زَمَانِ زَوَالِ الْمِلْكِ فَلَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ تَمْلِيكًا فَلَا يَصِحُّ، إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا جَوَازَهَا بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْكَرِيمَةِ وَالْإِجْمَاعِ، أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] إلَى قَوْلِهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] وَ {يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] وَ {يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] وَ {تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] شُرِعَ الْمِيرَاثُ مُرَتَّبًا عَلَى الْوَصِيَّةِ فَدَلَّ أَنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 106] ، نَدَبَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى الْإِشْهَادِ عَلَى حَالِ الْوَصِيَّةِ فَدَلَّ أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ. (وَأَمَّا) السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ كَانَ مَرِيضًا فَعَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أُوصِي بِجَمِيعِ مَالِي؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَبِنِصْفِ مَالِي؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَبِثُلُثِ مَالِي؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» . وَرُوِيَ: فُقَرَاءُ يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فَقَدْ جَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ. وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً عَلَى أَعْمَالِكُمْ فَضَعُوهُ حَيْثُ شِئْتُمْ» . أَخْبَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَنَا أَخَصَّ بِثُلُثِ أَمْوَالِنَا فِي آخِرِ أَعْمَارِنَا لِنَكْسِبَ بِهِ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِنَا. وَالْوَصِيَّةُ تَصَرُّفٌ فِي ثُلُثِ الْمَالِ فِي آخِرِ الْعُمْرِ زِيَادَةٌ فِي الْعَمَلِ فَكَانَتْ مَشْرُوعَةً. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَإِنَّ الْأُمَّةَ مِنْ لَدُنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا يُوصُونَ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ مِنْ أَحَدٍ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَالسُّنَّةِ الْكَرِيمَةِ وَالْإِجْمَاعِ مَعَ مَا أَنَّ ضَرْبًا مِنْ الْقِيَاسِ يَقْتَضِي الْجَوَازَ وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ خَتَمَ عَمَلَهُ بِالْقُرْبَةِ زِيَادَةً عَلَى الْقُرَبِ السَّابِقَةِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ أَوْ تَدَارُكًا لِمَا فَرَّطَ فِي حَيَاتِهِ وَذَلِكَ بِالْوَصِيَّةِ، وَهَذِهِ الْعُقُودُ مَا شُرِعَتْ إلَّا لِحَوَائِجِ الْعِبَادِ، فَإِذَا مَسَّتْ حَاجَتُهُمْ إلَى الْوَصِيَّةِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهَا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مِلْكَ الْإِنْسَانِ لَا يَزُولُ بِمَوْتِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَلَا يَرَى: أَنَّهُ بَقِيَ فِي قَدْرِ جِهَازِهِ مِنْ الْكَفَنِ، وَالدَّفْنِ وَبَقِيَ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ لِحَاجَةٍ إلَى ذَلِكَ كَذَلِكَ هَهُنَا، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةٌ لَمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَهُ مَالٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ» . وَفِي نَفْسِ الْحَدِيثِ مَا يَنْفِي الْوُجُوبَ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْرِيمَ تَرْكِ الْإِيصَاءِ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِيصَاءِ، وَالْوَاجِبُ لَا يَقِفُ وُجُوبُهُ عَلَى إرَادَةِ مَنْ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ، أَوْ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالْوَصِيَّةُ بِهَا وَاجِبَةٌ - عِنْدَنَا - عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَرَدَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الثُّبُوتِ فَلَا يُقْبَلُ، وَقِيلَ إنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً فِي الِابْتِدَاءِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] ، ثُمَّ نُسِخَتْ وَاخْتُلِفَ فِي النَّاسِخِ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَسَخَهَا الْحَدِيثُ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

فصل في ركن الوصية

عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَالْكِتَابُ الْعَزِيزُ قَدْ يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا يُنْسَخُ الْكِتَابَ عِنْدَكُمْ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَهَذَا مِنْ الْآحَادِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُتَوَاتِرٌ غَيْرَ أَنَّ التَّوَاتُرَ ضَرْبَانِ: تَوَاتُرٌ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ أَنْ يَرْوِيَهُ جَمَاعَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَتَوَاتُرٌ مِنْ حَيْثُ ظُهُورِ الْعَمَلِ بِهِ قَرْنًا فَقَرْنًا مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ الْمَنْعِ وَالنَّكِيرُ عَلَيْهِمْ فِي الْعَمَلِ بِهِ إلَّا أَنَّهُمْ مَا رَوَوْهُ عَلَى التَّوَاتُرِ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ الْعَمَلِ بِهِ أَغْنَاهُمْ عَنْ رِوَايَتِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ الْعَمَلُ بِهَذَا مَعَ ظُهُورِ الْقَوْلِ أَيْضًا مِنْ الْأَئِمَّةِ بِالْفَتْوَى بِهِ بِلَا تَنَازُعٍ مِنْهُمْ، وَمِثْلُهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ قَطْعًا، فَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِهِ كَمَا يَجُوزُ بِالْمُتَوَاتِرِ فِي الرِّوَايَةِ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّ جَاحِدَ الْمُتَوَاتِرِ فِي الرِّوَايَةِ يُكَفَّرُ وَجَاحِدَ الْمُتَوَاتِرِ فِي ظُهُورِ الْعَمَلِ لَا يُكَفَّرُ لِمَعْنَى عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ، وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَقَوْلُهُ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ أَيْ: كُلَّ حَقِّهِ فَقَدْ أَشَارَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى أَنَّ الْمِيرَاثَ الَّذِي أُعْطِيَ لِلْوَارِثِ كُلُّ حَقِّهِ، فَيَدُلُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْوَصِيَّةِ، وَتَحَوُّلِ حَقِّهِ مِنْ الْوَصِيَّةِ إلَى الْمِيرَاثِ وَإِذَا تَحَوَّلَ فَلَا يَبْقَى لَهُ حَقٌّ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ كَالْقِبْلَةِ لَمَّا تَحَوَّلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى الْكَعْبَةِ لَمْ يَبْقَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ قِبْلَةً. وَكَالدَّيْنِ إذَا تَحَوَّلَ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ لَا يَبْقَى فِي الذِّمَّةِ الْأُولَى. وَكَمَا فِي الْحَوَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْوَصِيَّةُ بَقِيَتْ وَاجِبَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ غَيْرِ الْوَارِثِينَ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَالرِّقِّ وَالْآيَةُ، وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً فِي الْمَخْرَجِ لَكِنْ خُصَّ مِنْهَا الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ الْوَارِثُونَ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» فَكَانَ الْحَدِيثُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْكِتَابِ لَا نَاسِخًا وَالْحَمْلُ عَلَى التَّخْصِيصِ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى النَّسْخِ إلَّا أَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ قَالُوا: إنَّ الْوَصِيَّةَ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَتْ فَرِيضَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِحَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ، أَوْ زَكَاةٌ، أَوْ كَفَّارَةٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَالْوَصِيَّةُ بِذَلِكَ وَاجِبَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بَلْ جَائِزَةٌ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ (وَأَمَّا) الْكَلَامُ فِي الِاسْتِحْبَابِ فَقَدْ قَالُوا: إنْ كَانَ مَالُهُ قَلِيلًا، وَلَهُ وَرَثَةٌ فُقَرَاءُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُوصِيَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «إنَّكَ إنْ تَرَكْتَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَكُونُ صِلَةً بِالْأَجَانِبِ، وَالتَّرْكَ يَكُونُ صِلَةً بِالْأَقَارِبِ، فَكَانَ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ كَثِيرًا، فَإِنْ كَانَتْ وَرَثَتُهُ فُقَرَاءَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُوصِيَ بِمَا دُونَ الثُّلُثِ وَيَتْرُكَ الْمَالَ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ غُنْيَةً الْوَرَثَةِ تَحْصُلُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إذَا كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا وَلَا تَحْصُلُ عِنْدَ قِلَّتِهِ. وَالْوَصِيَّةُ بِالْخُمُسِ أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالرُّبْعِ، وَالْوَصِيَّةُ بِالرُّبُعِ أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أُوصِيَ بِالْخُمُسِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ، وَلَأَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالثُّلُثِ، وَمَنْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا أَيْ: لَمْ يَتْرُكْ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ حَقُّهُ، فَإِذَا أَوْصَى بِالثُّلُثِ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا لَهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ، وَسَيِّدِنَا عُمَرَ، وَسَيِّدِنَا عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: الْخُمُسُ اقْتِصَادٌ، وَالرُّبُعُ جَهْدٌ، وَالثُّلُثُ حَيْفٌ، وَإِنْ كَانَ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ، فَالْأَفْضَلُ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ، ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ لِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِهِ لِلْأَجَانِبِ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْقَرِيبِ الْمُعَادِي أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرِيبِ الْمُوَالِي؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمُعَادِي تَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْإِخْلَاصِ وَأَبْعَدَ عَنْ الرِّيَاءِ، وَنَظِيرُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِذَلِكَ الَّذِي اشْتَرَى عَبْدًا، فَأَعْتَقَهُ، فَإِنْ شَكَرَكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَشَرٌّ لَكَ، وَإِنْ كَفَرَكَ، فَهُوَ شَرٌّ لَهُ وَخَيْرٌ لَكَ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمُعَادِي سَبَبٌ لِزَوَالِ الْعَدَاوَةِ، وَصِيَانَةٌ لِلْقَرَابَةِ عَنْ الْقَطِيعَةِ فَكَانَتْ أَوْلَى هَذَا إذَا اسْتَوَى الْفَرِيقَانِ فِي الْفَضْلِ، وَالدِّينِ وَالْحَاجَةِ، وَأَحَدُهُمَا مُعَادِي (فَأَمَّا) إذَا كَانَ الْمُوَالِي مِنْهُمَا أَعَفَّهُمَا، وَأَصْلَحَهُمَا وَأَحْوَجَهُمَا، فَالْوَصِيَّةُ لَهُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ تَقَعُ إعَانَةً عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. [فَصْلٌ فِي رُكْنُ الْوَصِيَّةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا رُكْنُ الْوَصِيَّةِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: هُوَ الْإِيجَابُ، وَالْقَبُولُ الْإِيجَابُ مِنْ الْمُوصِي، وَالْقَبُولُ مِنْ الْمُوصَى لَهُ فَمَا لَمْ يُوجَدَا جَمِيعًا لَا يَتِمُّ الرُّكْنُ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: رُكْنُ الْوَصِيَّةِ الْإِيجَابُ مِنْ الْمُوصِي، وَعَدَمُ الرَّدِّ مِنْ الْمُوصَى لَهُ وَهُوَ أَنْ يَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ رَدِّهِ، وَهَذَا أَسْهَلُ لِتَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ عَلَى مَا نَذْكُرُ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الرُّكْنُ هُوَ

الْإِيجَابُ مِنْ الْمُوصِي فَقَطْ. (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ مِلْكَ الْمُوصَى لَهُ بِمَنْزِلَةِ مِلْكِ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمِلْكَيْنِ يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ، ثُمَّ مِلْكُ الْوَارِثِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى قَبُولِهِ. وَكَذَا مِلْكُ الْمُوصَى لَهُ (وَلَنَا) : قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] فَظَاهِرُهُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ شَيْءٌ بِدُونِ سَعْيِهِ فَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ لَثَبَتَ مِنْ غَيْرِ سَعْيِهِ، وَهَذَا مَنْفِيٌّ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ يُؤَدِّي إلَى الْإِضْرَارِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّهُ يَلْحَقُهُ ضَرَرُ الْمِنَّةِ؛ وَلِهَذَا تَوَقَّفَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى قَبُولِهِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمِنَّةِ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُوصَى بِهِ قَدْ يَكُونُ شَيْئًا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُوصَى لَهُ، كَالْعَبْدِ الْأَعْمَى وَالزَّمِنِ، وَالْمُقْعَدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ: أَرَيْتَ لَوْ أَوْصَى بِعَبِيدٍ عُمْيَانَ أَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ شَاءَ، أَوْ أَبَى، وَتَلْحَقُهُ نَفَقَتُهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْهُمْ نَفْعٌ فَلَوْ لِزَمَهِ الْمِلْكُ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ لَلَحِقَهُ الضَّرَرُ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِهِ وَإِلْزَامِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ إذْ لَيْسَ لِلْمُوصِي وِلَايَةُ إلْزَامِ الضَّرَرِ، فَلَا يَلْزَمُهُ، بِخِلَافِ مِلْكِ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ اللُّزُومَ هُنَاكَ بِإِلْزَامِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ، وَهُوَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فَلَمْ يَقِفْ عَلَى الْقَبُولِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَلْزَمُ بِإِلْزَامِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ الْمُوصَى لَهُ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقْبَلْ، أَوْ يَمُتْ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَا عِتْقَ بِدُونِ الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ بِدُونِ الْقَبُولِ، أَوْ بِدُونِ عَدَمِ الرَّدِّ، وَوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْهُ، وَلَمْ يُوجَدْ الْقَبُولُ مِنْهُ، وَلَا وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ الرَّدِّ مَا دَامَ حَيًّا فَلَا يُعْتَقُ. وَلَوْ مَاتَ الْمُوصِي، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ صَارَ الْمُوصَى بِهِ مِلْكًا لِوَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ: أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ وَيَكُونَ لِوَرَثَتِهِ الْخِيَارُ إنْ شَاءُوا قَبِلُوا، وَإِنْ شَاءُوا رَدُّوا (وَجْهُ) الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَبُولَ أَحَدُ رُكْنَيْ الْعَقْدِ، وَقَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ، فَيَبْطُلُ الرُّكْنُ الْآخَرُ كَمَا إذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ، ثُمَّ مَاتَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبُولِ، أَوْ أَوْجَبَ الْهِبَةَ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ، أَنَّهُ يَبْطُلُ الْإِيجَابُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا (وَجْهُ) الْقِيَاسِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُوصَى لَهُ فِي حَيَاتِهِ كَانَ لَهُ الْقَبُولُ، وَالرَّدُّ فَإِذَا مَاتَ تَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ أَحَدَ الرُّكْنَيْنِ مِنْ جَانِبِ الْمُوصَى لَهُ هُوَ عَدَمُ الرَّدِّ مِنْهُ، وَذَلِكَ بِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَلَى الرَّدِّ مِنْهُ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ فَتَمَّ الرُّكْنُ. (وَأَمَّا) عَلَى عِبَارَةِ الْقَبُولِ فَنَقُولُ: إنَّ الْقَبُولَ مِنْ الْمُوصَى لَهُ لَا يُشْتَرَطُ لَعَيْنِهِ بَلْ لِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ الرَّدِّ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَوْصَى لَهُ بِجَارِيَتِهِ الَّتِي وَلَدَتْ مِنْ الْمُوصَى لَهُ بِالنِّكَاحِ أَنَّهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ مَا لَمْ يَقْبَلْ الْوَصِيَّةَ، أَوْ يَمُوتُ قَبْلَ الْقَبُولِ، فَإِذَا مَاتَ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ جَارِيَةً قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ، فَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُوصَى لَهُ بِالْوَصِيَّةِ حَتَّى مَاتَ، أَوْ عَلِمَ وَلَمْ يَقْبَلْ حَتَّى مَاتَ فَهُوَ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا، وَلَوْ كَانَ حَيًّا وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْوَصِيَّةِ، وَهُوَ يَطَؤُهَا بِالنِّكَاحِ حَتَّى وَلَدَتْ أَوْلَادًا، ثُمَّ عَلِمَ بِالْوَصِيَّةِ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ الْوَصِيَّةَ، فَكَانَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَأَوْلَادُهَا أَحْرَارٌ إنْ كَانُوا يَخْرُجُونَ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ فَلَا تَكُونُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ قَبُولَهُ شَرْطٌ، فَإِنْ قَبِلَ، فَقَدْ صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْقَبُولِ، وَمَنْ اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ بِالنِّكَاحِ، ثُمَّ مَلَكَهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَأَوْلَادُهَا أَحْرَارٌ إنْ كَانُوا يُخْرَجُونَ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْقَبُولِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لَهُ فِي الْجَارِيَةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ أَنَّ عِنْدَ الْإِجَازَةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ، وَهُوَ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ كَذَا هَهُنَا وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي يُحْكَمُ بِفَسَادِ النِّكَاحِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَوْلَادَ وُلِدُوا عَلَى فِرَاشِ مِلْكِ الْيَمِينِ، فَدَخَلُوا تَحْتَ الْوَصِيَّةِ فَيَمْلِكُهُمْ بِالْقَبُولِ فَيُعْتَقُونَ إذَا كَانُوا يَخْرُجُونَ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ الْجَارِيَةُ مِلْكًا لِوَرَثَةِ الْمُوصِي، وَالْأَوْلَادُ أَرِقَّاءُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعَ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ، وَالْحُرِّيَّةِ. وَلَوْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ لِرَجُلَيْنِ وَمَاتَ الْمُوصِي فَرَدَّ أَحَدُهُمَا وَقَبِلَ الْآخَرُ الْوَصِيَّةَ كَانَ لِلْآخَرِ حِصَّتُهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الثُّلُثَ إلَيْهِمَا، وَقَدْ صَحَّتْ الْإِضَافَةُ فَانْصَرَفَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الثُّلُثِ فَإِذَا رَدَّ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّةَ ارْتَدَّ فِي نِصْفِهِ وَبَقِيَ النِّصْفُ الْآخَرُ لِصَاحِبِهِ الَّذِي قَبِلَ كَمَنْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ لِرَجُلَيْنِ فَرَدَّ أَحَدُهُمَا إقْرَارَهُ ارْتَدَّ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً، وَكَانَ لَلْآخَرِ نِصْفُ الْإِقْرَارِ كَذَا هَهُنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِالثُّلُثِ لِهَذَا، وَالثُّلُثِ لِهَذَا فَرَدَّ أَحَدُهُمَا وَقَبِلَ الْآخَرُ أَنَّ كُلَّ الثُّلُثِ لِلَّذِي قَبِلَ إلَّا أَنَّهُ إذَا قَبِلَ صَاحِبُهُ يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا لِضَرُورَةِ الْمُزَاحَمَةِ إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَإِذَا رَدَّ أَحَدُهُمَا زَالَتْ الْمُزَاحَمَةُ فَكَانَ جَمِيعُ الثُّلُثِ لَهُ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَبُولَ رُكْنٌ فِي عَقْدِ الْوَصِيَّةِ

فصل في معنى الوصية

فَوَقْتُ الْقَبُولِ مَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَلَا حُكْمَ لِلْقَبُولِ وَالرَّدِّ قَبْلَ مَوْتِهِ حَتَّى لَوْ رَدَّ قَبْلَ الْمَوْتِ، ثُمَّ قَبِلَ بَعْدَهُ صَحَّ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابُ الْمِلْكِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْقَبُولُ أَوْ الرَّدُّ يُعْتَبَرُ، كَذَا الْإِيجَابُ؛ لِأَنَّهُ جَوَابٌ، وَالْجَوَابُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ السُّؤَالِ. وَنَظِيرُهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ الْقَبُولُ أَوْ الرَّدُّ إذَا جَاءَ غَدٌ كَذَا هَذَا، فَإِذَا كَانَ التَّصَرُّفُ يَقَعُ إيجَابًا بَعْدَ الْمَوْتِ يُعْتَبَرُ الْقَبُولُ بَعْدَهُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ فَالْوَصِيَّةُ اسْمٌ لِمَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي فِي مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَبِهِ تَنْفَصِلُ عَنْ الْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْهِبَةِ؛ لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِيجَابَ بَعْدَ الْمَوْتِ أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَوْ أَوْجَبَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ بَطَلَ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - فِي حَدِّ الْوَصِيَّةِ مَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي فِي مَالِهِ تَطَوُّعًا بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقَوْلُهُ: مَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي فِي مَالِهِ تَطَوُّعًا بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَشْمَلُ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْوَصَايَا فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْوَصِيَّةَ بِالْقُرَبِ الْوَاجِبَةِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ: كَالْحَجِّ، وَالزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَنَحْوِهَا فَلَمْ يَكُنْ الْحَدُّ جَامِعًا. وَقَوْلُهُ: أَوْ فِي مَرَضِهِ حَدٌّ مُقَسَّمٌ وَأَنَّهُ فَاسِدٌ، وَكَذَا تَبَرُّعُ الْإِنْسَانِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ مِنْ الْإِعْتَاقِ، وَالْهِبَةِ وَالْمُحَابَاةِ، وَالْكَفَالَةِ وَضَمَانِ الدَّرَكِ لَا يَكُونُ وَصِيَّةً حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ حُكْمَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مُنَجَّزٌ نَافِذٌ فِي الْحَالِ قَبْلَ الْمَوْتِ. وَحُكْمُ الْوَصِيَّةِ يَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ مِنْ الْمَرِيضِ وَصِيَّةً حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهَا تُعْتَبَرُ بِالْوَصَايَا فِي حَقِّ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ، فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّةً حَقِيقَةً فَلَا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، أَوْ رُبُعِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ قَدْرًا مِنْ مَالِهِ مُشَاعًا، أَوْ مُعَيَّنًا أَنَّ قَدْرَ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى لَهُ مِنْ مَالٍ هُوَ: مَالُهُ الَّذِي عِنْدَ الْمَوْتِ لَا مَا كَانَ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، وَمَالُهُ يَوْمَ أَوْصَى ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَيَوْمَ مَاتَ ثَلَثُمِائَةٍ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى لَهُ إلَّا مِائَةً، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَوْمَ أَوْصَى، ثُمَّ اكْتَسَبَ مَالًا، ثُمَّ مَاتَ فَلَهُ ثُلُثُ الْمَالِ يَوْمَ مَاتَ. وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَوْمَ أَوْصَى فَمَاتَ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ بَطَلَتْ، وَصِيَّتُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ؛ فَيَسْتَحِقُّ الْمُوصَى لَهُ مَا كَانَ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي عِنْدَ مَوْتِهِ، وَيَصِيرُ الْمُضَافُ إلَى الْوَقْتِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَهُ كَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الْمَوْتِ: لِفُلَانٍ ثُلُثُ مَالِي فَيُعْتَبَرُ مَا يَمْلِكُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا مَا قَبْلَهُ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَ: إذَا أَوْصَى رَجُلٌ فَقَالَ: لِفُلَانٍ شَاةٌ مِنْ غَنَمِي، أَوْ نَخْلَةٌ مِنْ نَخْلِي، أَوْ جَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِيَّ، وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ غَنَمِي هَذِهِ، وَلَا مِنْ جَوَارِيَّ هَؤُلَاءِ، وَلَا مِنْ نَخْلِي هَذِهِ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ فِي هَذَا تَقَعُ يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَلَا تَقَعُ يَوْمَ أَوْصَى حَتَّى لَوْ مَاتَتْ غَنَمُهُ تِلْكَ، أَوْ بَاعَهَا فَاشْتَرَى مَكَانَهَا أُخْرَى، أَوْ مَاتَتْ جَوَارِيهِ فَاشْتَرَى غَيْرَهُنَّ، أَوْ بَاعَ النَّخْلَ، وَاشْتَرَى غَيْرَهَا، فَإِنَّ لِلْمُوصَى لَهُ نَخْلَةً مِنْ نَخْلِهِ يَوْمَ يَمُوتُ. وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ غَيْرَ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ مُضَافٌ إلَى الْمَوْتِ فَكَانَّهُ قَالَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ: لِفُلَانٍ شَاةٌ مِنْ غَنَمِي فَيَسْتَحِقُّ شَاةً مِنْ الْمَوْجُودِ دُونَ مَا قَبْلَهُ قَالَ: فَإِنْ وَلَدَتْ الْغَنَمُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ الْمُوصِي، أَوْ وَلَدَتْ الْجَوَارِي قَبْلَ مَوْتِهِ، فَلَحِقَتْ الْأَوْلَادُ الْأُمَّهَاتِ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي فَإِنَّ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ إنْ شَاءُوا مِنْ الْأُمَّهَاتِ، وَإِنْ شَاءُوا مِنْ الْأَوْلَادِ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ عِنْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ الْمُسْتَفَادُ بِالْوِلَادَةِ كَالْمُسْتَفَادِ بِالشِّرَاءِ قَالَ فَإِنْ اخْتَارَ الْوَرَثَةُ أَنْ يُعْطُوهُ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ، وَلَهَا وَلَدٌ قَدْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَإِنَّ وَلَدَهَا يَتْبَعُهَا. وَكَذَلِكَ صُوفُهَا، وَلَبَنُهَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِشَاةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ لَكِنَّ التَّعْيِينَ مِنْ الْوَرَثَةِ يَكُونُ بَيَانًا أَنَّ الشَّاةَ الْمُعَيَّنَةَ، هِيَ مِنْ الْمُوصَى بِهَا كَأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ بِهَذِهِ الْمُعَيَّنَةِ ابْتِدَاءً فَمَا حَدَثَ مِنْ نَمَائِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ قَالَ: فَأَمَّا مَا وَلَدَتْ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ اعْتِبَارُهَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَالْحَادِثُ قَبْلَ الْمَوْتِ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ، وَكَذَلِكَ الصُّوفُ الْمُنْفَصِلُ، وَاللَّبَنُ الْمُنْفَصِلُ قَبْلَ الْمَوْتِ لِمَا قُلْنَا، فَأَمَّا إنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِهَا فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ، وَإِنْ حَدَثَ قَبْلَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ عَنْهَا بِالتَّمْلِيكِ قَالَ: وَلَوْ اسْتَهْلَكَتْ الْوَرَثَةُ لَبَنَ الشَّاةِ، أَوْ صُوفَهَا، وَقَدْ حَدَثَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَعَلَيْهِمْ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ مَلَكَهُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ قَالَ: وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِي هَذِهِ، أَوْ بِجَارِيَةٍ مِنْ جَوَارِيَّ هَؤُلَاءِ، أَوْ قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ لَهُ بِإِحْدَى جَارِيَتَيَّ هَاتَيْنِ فَهَذَا عَلَى هَذِهِ الْغَنَمِ، وَهَؤُلَاءِ الْجَوَارِي؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَ الْمُوصَى بِهِ، وَهُوَ الشَّاةُ مِنْ الْغَنَمِ الْمُشَارُ إلَيْهَا حَتَّى لَوْ مَاتَتْ الْغَنَمُ، أَوْ بَاعَهَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ كَمَا لَوْ قَالَ أَوْصَيْتُ بِهَذِهِ الشَّاةِ، أَوْ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ فَهَلَكَتْ. وَلَوْ وَلَدَتْ الْغَنَمُ أَوْ الْجَوَارِي فِي حَالِ

فصل في شرائط ركن الوصية

حَيَاةِ الْمُوصِي، ثُمَّ أَرَادَ الْوَرَثَةُ أَنْ يُعْطُوهُ مِنْ الْأَوْلَادِ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَعَلَّقَتْ بِعَيْنٍ مُشَارٍ إلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِيهَا يَنْزِلُ فِي غَيْرِهَا، فَإِنْ دَفَعَ الْوَرَثَةُ إلَيْهِ جَارِيَةً مِنْ الْجَوَارِي لَمْ يَسْتَحِقَّ مَا وَلَدَتْ قَبْلَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَكُنْ، وَجَبَتْ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْوَصِيَّةِ إنَّمَا يُنْقَلُ بِالْمَوْتِ فَمَا حَدَثَ قَبْلَ الْمَوْتِ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ، فَيَكُونُ لِلْوَرَثَةِ، وَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْمَوْتِ فَحَدَثَ الْوَلَدُ عَلَى مِلْكِهِ قَالَ: فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ كُلُّهَا إلَّا وَاحِدَةً تَعَيَّنَتْ الْوَصِيَّةُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَنْ يُزَاحِمُهَا فِي تَعَلُّقِ الْوَصِيَّةِ فَتَعَيَّنَتْ ضَرُورَةُ انْتِفَاءِ الْمُزَاحِمِ، فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ كُلُّهَا، وَقَدْ بَقِيَ لَهَا أَوْلَادٌ حَدَثَتْ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَوْ أُحْرِقَ النَّخْلُ، وَبَقِيَ لَهَا ثَمَرٌ حَدَثَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَعَلَى الْوَرَثَةِ أَنْ يَدْفَعُوا إلَيْهِ وَلَدَ جَارِيَةٍ، وَثَمَرَةَ نَخْلَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِهَا فَيَظْهَرُ الِاسْتِحْقَاقُ فِي الْوَلَدِ الْحَادِثِ بَعْدَهُ، فَإِذَا هَلَكَتْ الْأُمُّ بَقِيَ الْحَقُّ فِي الْوَلَدِ عَلَى حَالِهِ، وَلَا يَظْهَرُ فِيمَا حَدَثَ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ رُكْن الْوَصِيَّةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوصِي، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوصَى لَهُ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوصَى بِهِ (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ مُوَافِقًا لِلْإِيجَابِ، فَإِنْ خَالَفَ الْإِيجَابَ لَمْ يَصِحَّ الْقَبُولُ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَالَفَهُ لَمْ يَرْتَبِطْ فَبَقِيَ الْإِيجَابُ بِلَا قَبُولٍ فَلَا يَتِمُّ الرُّكْنُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ إذَا قَالَ لِرَجُلَيْنِ: أَوْصَيْتُ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لَكُمَا فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَرَدَّ الْآخَرُ لَمْ يَصِحَّ الْقَبُولُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُمَا جَمِيعًا فَكَانَ وَصِيَّةً لِكُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الْجَارِيَةِ. وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ بَيْنَهُمَا لَوْ قَبِلَا فَإِذَا رَدَّ أَحَدُهُمَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ، وَهُوَ قَبُولُهُمَا جَمِيعًا، فَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، وَلَوْ أَوْصَى بِهَا لِإِنْسَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِهَا لِآخَرَ، فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَرَدَّ الْآخَرُ فَالنِّصْفُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَالنِّصْفُ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِيَالِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْقَبُولِ، فَإِذَا رَدَّ أَحَدُهُمَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي لَمْ يَتِمَّ الرُّكْنُ فِي حَقِّهِ، بَلْ بَطَلَ الْإِيجَابُ فِي حَقِّهِ فَعَادَ نَصِيبُهُ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي فَصَحَّ الْقَبُولُ مِنْ الْآخَرِ فَاسْتَحَقَّ نِصْفَ الْوَصِيَّةِ كَالشَّفِيعَيْنِ إذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا الشُّفْعَةَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالشُّفْعَةِ أَنَّ ذَلِكَ النِّصْفَ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي، وَلَا يَكُونُ لِلشَّفِيعِ الْآخَرِ. [الشَّرْط الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوصِي] (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوصِي فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِذَلِكَ تَبَرُّعٌ بِإِيجَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ فَلَا تَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ لِكَوْنِهِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ إذْ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ دُنْيَوِيٌّ، وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ فِي الْقُرَبِ صَحِيحَةٌ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجَازَ، وَصِيَّةَ غُلَامٍ يَافِعٍ، وَهُوَ الَّذِي قَرُبَ إدْرَاكُهُ؛ وَلِأَنَّ فِي وَصِيَّتِهِ نَظَرًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يُوصِ لَزَالَ مِلْكُهُ إلَى الْوَارِثِ مِنْ غَيْرِ ثَوَابٍ؛ لِأَنَّهُ يَزُولُ عَنْهُ جَبْرًا شَاءَ، أَوْ أَبَى فَكَانَ هَذَا تَصَرُّفًا نَافِعًا فِي حَقِّهِ فَأَشْبَهَ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ، وَصَوْمَ التَّطَوُّعِ، وَالْجَوَابُ إمَّا إجَازَةُ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيَحْتَمِلُ أَنَّ وَصِيَّةَ ذَلِكَ الصَّبِيِّ كَانَتْ لِتَجْهِيزِهِ، وَتَكْفِينِهِ، وَدَفْنِهِ. وَوَصِيَّةُ الصَّبِيِّ فِي مِثْلِهِ جَائِزَةٌ - عِنْدَنَا - لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ (وَأَمَّا) قَوْلُهُ: يَحْصُلُ لَهُ عِوَضٌ، وَهُوَ الثَّوَابُ فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ دُنْيَوِيٍّ، فَلَا يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ كَالصَّدَقَةِ مَعَ مَا أَنَّ هَذَا فِي حَدِّ التَّعَارُضِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يُثَابُ عَلَى الْوَصِيَّةِ يُثَابُ عَلَى التَّرْكِ لِلْوَارِثِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَسَوَاءٌ مَاتَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ، أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهَا، وَقَعَتْ بَاطِلَةً، فَلَا تَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ بِالْإِدْرَاكِ إلَّا بِالِاسْتِئْنَافِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ، أَوْ مَحْجُورًا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ إذْ التِّجَارَةُ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَلَوْ أَضَافَ الْوَصِيَّةَ إلَى مَا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ بِأَنْ قَالَ: إذَا أَدْرَكْتُ، ثُمَّ مِتُّ فَثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ عِبَارَتَهُ لَمْ تَقَعْ صَحِيحَةً، فَلَا تُعْتَبَرُ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، وَالْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، وَلَوْ أَوْصَيَا، ثُمَّ أُعْتِقَا وَمَلَكَا مَالًا، ثُمَّ مَاتَا: لَمْ تَجُزْ لِوُقُوعِهَا بَاطِلَةً مِنْ الِابْتِدَاءِ، وَلَوْ أَضَافَ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّةَ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ بِأَنْ قَالَ: إذَا أُعْتِقْتُ، ثُمَّ مِتَّ فَثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ: صَحَّ فَرْقًا بَيْنَ الْعَبْدِ، وَالصَّبِيِّ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ عِبَارَةَ الصَّبِيِّ فِيمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ مُلْحَقَةٌ بِالْعَدَمِ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِ فَلَمْ تَصِحَّ عِبَارَتُهُ مِنْ الْأَصْلِ، بَلْ بَطَلَتْ. وَالْبَاطِلُ لَا حُكْمَ لَهُ بَلْ هُوَ ذَاهِبٌ مُتَلَاشٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، فَأَمَّا عِبَارَةُ الْعَبْدِ: فَصَحِيحَةٌ لِصُدُورِهَا عَنْ عَقْلٍ مُمَيِّزٍ إلَّا أَنَّ امْتِنَاعَ تَبَرُّعِهِ لَحِقَ الْمَوْلَى فَإِذَا

الشرط الذي يرجع إلى الموصى له

عَتَقَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَمِنْهَا رِضَا الْمُوصِي؛ لِأَنَّهَا إيجَابُ مِلْكٍ، أَوْ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمِلْكِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الرِّضَا كَإِيجَابِ الْمِلْكِ بِسَائِرِ الْأَشْيَاءِ فَلَا تَصِحُّ، وَصِيَّةُ الْهَازِلِ، وَالْمُكْرَهِ، وَالْخَاطِئِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ تُفَوِّتُ الرِّضَا. وَأَمَّا إسْلَامُ الْمُوصِي فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ وَصِيَّتِهِ فَتَصِحُّ وَصِيَّةُ الَّذِي بِالْمَالِ لِلْمُسْلِمِ، وَالذِّمِّيِّ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ التَّمْلِيكِ أَلَا تَرَى: أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُ الْكَافِرِ، وَهِبَتُهُ فَكَذَا وَصِيَّتُهُ وَكَذَا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ إذَا أَوْصَى لِلْمُسْلِمِ، أَوْ الذِّمِّيِّ يَصِحُّ فِي الْجُمْلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ دَخَلَ وَارِثُهُ مَعَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ وَقَفَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عَلَى إجَازَةِ وَارِثِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالدُّخُولِ مُسْتَأْمَنًا الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، أَوْ أَلْزَمَهُ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِهِ لِإِمْكَانِ إجْرَاءِ الْإِحْكَامِ عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِمَّنْ لَهُ وَارِثٌ تَقِفُ عَلَى إجَازَةِ وَارِثِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ أَصْلًا: تَصِحُّ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، كَمَا فِي الْمُسْلِمِ، وَالذِّمِّيِّ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ لَكِنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ. وَحَقُّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومٍ؛ لِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ فَلَأَنْ لَا يَكُونَ لِحَقِّهِمْ الَّذِي فِي مَالِ مُورِثِهِمْ عِصْمَةٌ أَوْلَى. وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَلَوْ أَوْصَى الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِوَصِيَّةٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ، أَوْ صَارُوا ذِمَّةً، ثُمَّ اخْتَصَمَا إلَيَّ فِي تِلْكَ الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا أَجَزْتُهَا، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ اُسْتُهْلِكَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَبْطَلْتُهَا؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ مِنْ أَهْلِ التَّمْلِيكِ. أَلَا يَرَى: أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ كَالْبَيْعِ، وَنَحْوِهِ فَكَانَتْ وَصِيَّتُهُ جَائِزَةً فِي نَفْسِهَا إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا وِلَايَةُ إجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَتَنْفِيذِهَا فِي دَارِهِمْ، فَإِذَا أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً قَدَرْنَا عَلَى التَّنْفِيذِ فَنُنَفِّذُهَا مَا دَامَ الْمُوصَى بِهِ قَائِمًا، فَأَمَّا إذَا صَارَ مُسْتَهْلَكًا أَبْطَلْنَا الْوَصِيَّةَ، وَأَلْحَقْنَاهَا بِالْعَدَمِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ إذَا أَسْلَمُوا، أَوْ صَارُوا ذِمَّةً لَا يُؤَاخَذُونَ بِمَا اسْتَهْلَكَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَبِمَا اغْتَصَبَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بَلْ يَبْطُلُ ذَلِكَ كَذَا هَذَا، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُوصِي دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِتَرِكَتِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - قَدَّمَ الدَّيْنَ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَالْمِيرَاثِ لِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ، وَتَعَالَى - فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] وَ {يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ، وَ {يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ، وَقَدْ «شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَأَ بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ» أَشَارَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الذِّكْرِ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ فِي الْحُكْمِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنَّكَ تَأْمُرُ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ، وَقَدْ بَدَأَ اللَّهُ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى بِالْحَجِّ، فَقَالَ - تَبَارَكَ، وَتَعَالَى - {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] فَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَيْفَ تَقْرَءُونَ آيَةَ الدَّيْنِ، فَقَالُوا مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ، فَقَالَ: وَبِمَاذَا تَبْدَءُونَ قَالُوا بِالدَّيْنِ قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ ذَاكَ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ، وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعُ وَالْوَاجِبُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّبَرُّعِ، وَمَعْنَى تَقَدُّمِ الدَّيْنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ أَنَّهُ يُقْضَى الدَّيْنُ أَوَّلًا، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ يُصْرَفُ إلَى الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ، وَإِلَّا فَلَا (وَأَمَّا) مَعْنَى تَقَدُّمِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الْمِيرَاثِ، فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يُخْرِجَ الثُّلُثَ، وَيُعْزَلُ عَنْ التَّرِكَةِ، وَيَبْدَأُ بِدَفْعِهِ إلَى الْمُوصَى لَهُ، ثُمَّ يُدْفَعُ الثُّلُثَانِ إلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ تَكُونُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ عَلَى الشَّرِكَةِ وَالْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى لَهُ مِنْ الثُّلُثِ شَيْئًا قَلَّ، أَوْ كَثُرَ إلَّا. وَيَسْتَحِقُّ مِنْهُ الْوَرَثَةُ ثُلُثَيْهِ، وَيَكُونُ فَرْضُهُمَا مَعًا لَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ شَيْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ يُهْلَكُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ جَمِيعًا، وَلَا يُعْطَى الْمُوصَى لَهُ كُلَّ الثُّلُثِ مِنْ الْبَاقِي بَلْ الْهَالِكُ يَهْلِكُ عَلَى الْحَقَّيْنِ وَالْبَاقِي يَبْقَى عَلَى الْحَقَّيْنِ، كَمَا إذَا هَلَكَ شَيْءٌ مِنْ الْمَوَارِيثِ بَعْدَ الْوَصَايَا، بِخِلَافِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ إذَا هَلَكَ بَعْضُ التَّرِكَةِ، وَبَقِيَ الْبَعْضُ يُسْتَوْفَى كُلُّ الدَّيْنِ مِنْ الْبَاقِي وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُحْسَبُ قَدْرُ الْوَصِيَّةِ مِنْ جُمْلَةِ التَّرِكَةِ، أَوَّلًا؛ لِتَظْهَرَ سِهَامُ الْوَرَثَةِ، كَمَا تُحْسَبُ سِهَامُ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ، أَوَّلًا لِيَظْهَرَ الْفَاضِلُ لِلْعَصَبَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى يُوصِيكُمْ {اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ} [النساء: 11] إلَى قَوْله تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا} [النساء: 11] أَيْ سِوَى مَا لَكُمْ أَنْ تُوصُوهُ مِنْ الثُّلُثِ أَوْصَاكُمْ اللَّهُ بِكَذَا وَتَكُونُ بَعْدُ بِمَعْنَى سِوَى وَاَللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ. [الشَّرْط الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوصَى لَهُ] (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوصَى لَهُ، فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَعْدُومِ لَا تَصِحُّ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ إنَّهَا، إنْ وَلَدَتْ لِمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ؛ صَحَتْ الْوَصِيَّةُ وَإِلَّا فَلَا

وَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إذَا وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعِنْدَ الطَّحَاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ وَقْتِ وُجُودِ الْوَصِيَّةِ وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْوَصِيَّةُ، فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ وَقْتَ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ وَاعْتِبَارِهَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَقْتُ الْمَوْتِ، فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لَأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ، أَوْ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ تَيَقَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا إذْ الْمَرْأَةُ لَا تَلِدُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ فِي الْبَطْنِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا عَلِقَتْ بَعْدَهُ. فَلَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ بِالشَّكِّ إلَّا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُعْتَدَّةً مِنْ زَوْجِهَا مِنْ طَلَاقٍ، أَوْ وَفَاةٍ، فَوَلَدَتْ إلَى سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا، أَوْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا، فَلَهُ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ مِنْ زَوْجِهَا إلَى سَنَتَيْنِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ثَبَاتِ النَّسَبِ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي فُرِّقَ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ لِمَا فِي الْبَطْنِ وَبَيْنَ الْهِبَةِ لِمَا فِي الْبَطْنِ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَصِحُّ، وَالْوَصِيَّةُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا صِحَّةَ لَهَا بِدُونِ الْقَبْضِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَالْوَصِيَّةُ لَا تَقِفُ صِحَّتُهَا عَلَى الْقَبْضِ. وَلَوْ قَالَ: إنْ كَانَ فِي بَطْنِ فُلَانَةَ جَارِيَةٌ؛ فَلَهَا وَصِيَّةُ أَلْفٍ وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا غُلَامٌ؛ فَلَهُ وَصِيَّةُ أَلْفَانِ، فَوَلَدَتْ جَارِيَةً لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ إلَّا يَوْمًا وَوَلَدَتْ غُلَامًا بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمَيْنِ؛ فَلَهُمَا جَمِيعُ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمَا أُوصِي لَهُمَا جَمِيعًا لَكِنْ لِأَحَدِهِمَا بِأَلْفٍ وَلِلْآخَرِ بِأَلْفَيْنِ، وَقَدْ عُلِمَ كَوْنُهُمَا فِي الْبَطْنِ أَمَّا الْجَارِيَةُ، فَلَا شَكَّ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا وُلِدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْمُوصِي فَعُلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْبَطْنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَكَذَا الْغُلَامُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ لَأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِيَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْبَطْنِ مَعَ الْجَارِيَةِ؛ لِأَنَّهُ تَوْأَمٌ، فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ أَحَدِهِمَا فِي الْبَطْنِ كَوْنُ الْآخَرِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا عَلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامَيْنِ وَجَارِيَتَيْنِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَذَلِكَ إلَى الْوَرَثَةِ يُعْطُونَ أَيَّ الْغُلَامَيْنِ شَاءُوا وَأَيَّ الْجَارِيَتَيْنِ شَاءُوا إلَّا أَنَّهُ مَا أَوْصَى لَهُمَا جَمِيعًا، وَإِنَّمَا أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، فَكَانَ الْبَيَانُ إلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ، وَقِيلَ إنَّ هَذَا الْجَوَابَ عَلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ مَا إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِفُلَانٍ وَفُلَانٌ أَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّهَا صَحِيحَةٌ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا جَمِيعًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَحَدِهِمَا وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَى الْوَرَثَةِ يُعْطُونَ أَيَّهمَا شَاءُوا، فَقَاسُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى تِلْكَ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا، وَهُوَ جَهَالَةُ الْمُوصَى لَهُ، وَمِنْهُمْ مِنْ قَالَ: هَهُنَا يَجُوزُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَفَرَّقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْجَهَالَةَ هُنَاكَ مُقَارِنَةٌ لِلْعَقْدِ، وَهَهُنَا طَارِئَةٌ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ هُنَاكَ حَالَ وُجُودِهَا أُضِيفَتْ إلَى مَا فِي الْبَطْنِ لَا إلَى أَحَدِ الْغُلَامَيْنِ وَإِحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ، ثُمَّ طَرَأَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْوِلَادَةِ. وَالْبَقَاءُ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ كَالْعِدَّةِ إذَا قَارَنَتْ النِّكَاحَ مَنَعَتْهُ مِنْ الِانْعِقَادِ، فَإِذَا طَرَأَتْ عَلَيْهِ لَا تَرْفَعُهُ كَذَا هَهُنَا، وَلَوْ قَالَ: إنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِ فُلَانَةَ غُلَامًا؛ فَلَهُ أَلْفَانِ، وَإِنْ كَانَ جَارِيَةً؛ فَلَهَا أَلْفٌ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً، فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ مِنْ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ اسْتِحْقَاقِ الْوَصِيَّةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ هُوَ كُلُّ مَا فِي الْبَطْنِ بِقَوْلِهِ إنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِهَا كَذَا فَلَهُ كَذَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ هُوَ كُلُّ مَا فِي الْبَطْنِ بَلْ بَعْضُ مَا فِيهِ، فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ صِحَّةِ اسْتِحْقَاقِ الْوَصِيَّة، فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدُهُمَا شَيْئًا، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ كَانَ فِي بَطْنِ فُلَانَةَ جَارِيَةٌ؛ فَلَهَا كَذَا، وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا غُلَامٌ؛ فَلَهُ كَذَا لَيْسَ فِيهِ شَرْطٌ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ كُلَّ مَا فِي الْبَطْنِ بَلْ الشَّرْطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ فِي بَطْنِهَا غُلَامٌ، وَأَنْ يَكُونَ فِي بَطْنِهَا جَارِيَةٌ، وَقَدْ كَانَ فِي بَطْنِهَا غُلَامٌ وَجَارِيَةٌ، فَوُجِدَ شَرْطُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى بِمَا فِي بَطْنِ دَابَّةِ فُلَانٍ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِ، أَنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ إذَا قَبِلَ صَاحِبُهَا، وَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُدَّةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا هَذَا هُوَ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ لِمَا فِي الْبَطْنِ، فَأَمَّا حُكْمُ الْإِقْرَارِ بِمَالٍ لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ، فَهَذَا فِي الْأَصْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ (أَمَّا) إنْ بَيَّنَ السَّبَبَ (وَأَمَّا) إنْ لَمْ يُبَيِّنْ بَلْ أَطْلَقَ، فَإِنْ بَيَّنَ السَّبَبَ (فَإِمَّا) إنْ بَيَّنَ سَبَبًا هُوَ جَائِزُ الْوُجُودِ. (وَإِمَّا) إنْ بَيَّنَ سَبَبًا هُوَ مُسْتَحِيلُ الْوُجُودِ عَادَةً، فَإِنْ بَيَّنَ سَبَبًا هُوَ جَائِزُ الْوُجُودِ عَادَةً بِأَنْ قَالَ: لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنِّي اسْتَهْلَكْتُ مَالَهُ، أَوْ غَصَبْتُ أَوْ سَرَقَتْ؛ جَازَ إقْرَارُهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وَإِنْ بَيَّنَ سَبَبًا، هُوَ مُسْتَحِيلُ الْوُجُودِ عَادَةً بِأَنْ قَالَ: لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ

عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِأَنِّي اسْتَقْرَضْتُ مِنْهُ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ أَسْنَدَ إقْرَارَهُ إلَى سَبَبٍ هُوَ مُحَالٌ عَادَةً، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ لِلْإِقْرَارِ سَبَبًا بَلْ سَكَتَ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، فَهَذَا الْإِقْرَارُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِهِمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ صَحِيحٌ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ يُحْمَلُ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ؛ وَأَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِالْحَمْلِ عَلَى سَبَبٍ مُتَصَوَّرِ الْوُجُودِ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَصْحِيحًا لَهُ؛ وَلَهُمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ الْمُطْلَقَ بِالدَّيْنِ يُرَادُ بِهِ الْإِقْرَارُ بِسَبَبِ الْمُدَايَنَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ الْمَوْضُوعُ لِثُبُوتِ الدَّيْن، وَإِنَّهُ فِي الدَّيْنِ هَهُنَا مُحَالٌ عَادَةً، وَالْمُسْتَحِيلُ عَادَةً كَالْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي حَتَّى لَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ، فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي وَلَدًا مَيِّتًا لَا وَصِيَّةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ الْوَصِيَّةِ، كَمَا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِأَنْ وُلِدَ مَيِّتًا، وَإِنَّهَا أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَلَوْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ حَيًّا وَمَيِّتًا، فَجَمِيعُ الْوَصِيَّةِ لِلْحَيِّ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَصْلُحُ مَحِلًّا لِوَضْعِ الْوَصِيَّةِ فِيهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَوْصَى لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ كَانَ كُلُّ الْوَصِيَّةِ لِلْحَيِّ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِآدَمِيٍّ وَحَائِطٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ وَارِثُ الْمُوصِي وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَإِنْ كَانَ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَفِي هَذَا حِكَايَةٌ، وَهِيَ مَا حُكِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ الْأَعْمَشِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ مَرِيضًا، فَعَادَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَوَجَدَهُ يُوصِي لِابْنَيْهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ، فَقَالَ: وَلِمَ يَا أَبَا حَنِيفَةَ فَقَالَ: لِأَنَّكَ رَوَيْتَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» فَقَالَ سُلَيْمَانُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَا مَعْشَرَ الْفُقَهَاءِ أَنْتُمْ الْأَطِبَّاءُ وَنَحْنُ الصَّيَادِلَةُ. فَقَدْ نَفَى الشَّارِعُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يَكُونَ لِوَارِثٍ وَصِيَّةٌ نَصًّا. وَأَشَارَ إلَى تَحَوُّلِ الْحَقِّ مِنْ الْوَصِيَّةِ إلَى الْمِيرَاثِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا الْوَصِيَّةَ لِلْوَرَثَةِ؛ لَكَانَ لِلْمُوصِي أَنْ يُؤْثِرَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ، وَفِيهِ إيذَاءُ الْبَعْضِ وَإِيحَاشُهُمْ، فَيُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ، وَإِنَّهُ حَرَامٌ وَمَا أَفْضَى إلَى الْحَرَامِ، فَهُوَ حَرَامٌ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ، ثُمَّ الشَّرْطُ أَنْ لَا يَكُونَ وَارِثُ الْمُوصِي وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِأَخِيهِ وَلَهُ ابْنٌ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ، وَهُوَ الْأَخُ صَارَ وَارِثَ الْمُوصِي عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَوْ أَوْصَى لِأَخِيهِ وَلَا ابْنَ لَهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ ابْنٌ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْأَخَ لَيْسَ بِوَارِثِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ لِصَيْرُورَتِهِ مَحْجُوبًا بِالِابْنِ. وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ الْوِرَاثَةُ وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي لَا وَقْتَ وَصِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَيْسَتْ بِتَمْلِيكٍ لِلْحَالِ لِيُعْتَبَرَ كَوْنُهُ وَارِثًا وَقْتَ وُجُودِهَا، بَلْ هِيَ تَمْلِيكٌ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ فِي الْمَرَضِ بِأَنْ وَهَبَ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ شَيْئًا، ثُمَّ مَاتَ إنَّهُ يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا لَهُ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا وَقْتَ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الْمَرِيضِ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ حَتَّى تُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذْ أَوْصَى لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ صَحِيحٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا إنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ بِدَيْنٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا جَازَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا تَصِيرُ مِلْكًا عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَيُعْتَبَرُ كَوْنُهَا وَارِثَةً لَهُ حِينَئِذٍ، وَهِيَ وَارِثَتُهُ عِنْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَلَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ (فَأَمَّا) الْإِقْرَارُ فَاعْتِبَارُهُ حَالَ وُجُودِهِ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ حَالَ وُجُودِهِ فَاعْتِرَاضُ الزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُهُ وَكَذَا لَوْ وَهَبَ لَهَا هِبَةً فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَطَلَتْ الْهِبَةُ؛ لِأَنَّ تَبَرُّعَاتِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ تُعْتَبَرُ بِالْوَصَايَا وَلَوْ أَوْصَى وَهُوَ مَرِيضٌ، أَوْ صَحِيحٌ لِابْنِهِ النَّصْرَانِيِّ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَارِثِهِ، فَلَوْ أَسْلَمَ الِابْنُ قَبْلَ مَوْتِهِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ لِمَا قُلْنَا أَنَّ اعْتِبَارَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ وَارِثٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ لِابْنِهِ النَّصْرَانِيِّ، ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ - تَعَالَى وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَصِحُّ (وَجْهُ) قَوْلِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَرْأَةِ أَنَّ الْإِقْرَارَ يُعْتَبَرُ حَالَ وُقُوعِهِ وَإِنَّهُ غَيْرُ وَارِثٍ وَقْتَ الْإِقْرَارِ، فَاعْتِرَاضُ الْوِرَاثَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الدَّيْنَ الثَّابِتَ، كَمَا قُلْنَا فِي الْمَرْأَةِ. (وَلَنَا) أَنَّ الْوِرَاثَةَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْإِقْرَارِ لَكِنَّ سَبَبَهَا كَانَ قَائِمًا وَهُوَ الْقَرَابَةُ لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَمَلُهَا لِلْحَالِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ الْكُفْرُ، فَعِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ يَلْحَقُ بِالْعَدَمِ مِنْ الْأَصْلِ، وَيُعْمَلُ السَّبَبُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ لَا مِنْ وَقْتِ زَاوَلَ الْمَانِعِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إنَّ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ يُعْمَلُ السَّبَبُ، وَهُوَ الْبَيْعُ فِي الْحُكْمِ مِنْ، وَقْتِ وُجُودِهِ لَا مِنْ وَقْتِ

سُقُوطِ الْخِيَارِ، وَالْجَامِعُ أَنَّ الْعَامِلَ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الْمَانِعِ ذَاتَ الْبَيْعِ وَذَاتَ الْقَرَابَةِ فَتَسْتَنِدُ السَّبَبِيَّةُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ ذَاتِهِ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ لِوَارِثِهِ فَلَمْ يَصِحَّ، أَوْ يُقَالُ إنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ إنَّمَا يُرَدُّ لِلتُّهْمَةِ، وَسَبَبُ التُّهْمَةِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ مَوْجُودٌ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ سَبَبَ الْقَرَابَةِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الزَّوْجِيَّةُ، وَلَمْ تَكُنْ وَقْتَ الْإِقْرَارِ، وَإِنَّمَا وُجِدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبَعْدَ وُجُودِهَا لَا تَحْتَمِلُ الِاسْتِنَادَ، فَيُقْتَصَرُ عَلَى حَالِ وُجُودِهَا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إقْرَارًا لِوَارِثِهِ فَيَصِحَّ، وَيَثْبُتَ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ، فَلَا يَسْقُطُ بِحُدُوثِ الزَّوْجِيَّةِ، وَعَلَى التَّقْرِيبِ الثَّانِي لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ التُّهْمَةِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَيَصِحَّ، وَلَوْ كَانَ ابْنُهُ مُسْلِمًا، لَكِنَّهُ مَمْلُوكٌ، فَأَوْصَى لَهُ، ثُمَّ أُعْتِقَ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَوَانَ اعْتِبَارِ الْوَصِيَّةِ أَوَانَ الْمَوْتِ، وَهُوَ وَارِثُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِالدَّيْنِ وَهُوَ مَرِيضٌ، أَوْ وَهَبَ لَهُ هِبَةً، فَقَبَضَهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَانَ الْإِقْرَارُ وَالْهِبَةُ لِمَوْلَاهُ وَإِنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمُوصِي، فَجَازَ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ وَالْهِبَةَ يَقَعَانِ لَهُ لَا لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ يَقْضِي مِنْهُ دُيُونَهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِقْرَارَ كَانَ لِوَارِثِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِنَادِ، فَلَا يَصِحُّ، أَوْ لَا يَصِحُّ لِقِيَامِ سَبَبِ شُبْهَةِ التُّهْمَةِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْإِقْرَارِ لِابْنِهِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَ. وَلَوْ أَوْصَى لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ، فَأَجَازَ الْبَاقُونَ؛ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْجَوَازِ كَانَ لَحَقِّهِمْ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ الْأَذَى وَالْوَحْشَةِ بِإِيثَارِ الْبَعْضِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِجَازَةِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ يُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ» ، وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ، فَإِنْ أَجَازَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ؛ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا جَمِيعًا. وَكَانَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَبَيْنَ الْوَارِثِ نِصْفَيْنِ، وَإِنْ رَدُّوا، جَازَتْ فِي حِصَّةِ الْأَجْنَبِيِّ، وَبَطَلَتْ فِي حِصَّةِ الْوَارِثِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يُصْرَفُ الثُّلُثُ كُلُّهُ إلَى الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْوَصِيَّةِ فَالْتَحَقَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ بِالْعَدَمِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ إنَّ الْوَصِيَّةَ كُلَّهَا لِلْحَيِّ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ لَيْسَتْ وَصِيَّةٌ بَاطِلَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اتَّصَلَتْ بِهَا الْإِجَازَةُ جَازَتْ، وَالْبَاطِلُ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِالْإِجَازَةِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَارِثَ مَحَلٌّ لِلْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْمُضَافَ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ يَكُونُ بَاطِلًا دَلَّ أَنَّهُ مَحَلٌّ، وَأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَيْهِ وَقَعَتْ صَحِيحَةً إلَّا أَنَّهَا تَبْطُلُ فِي حِصَّتِهِ بِرَدِّ الْبَاقِينَ، وَإِذَا وَقَعَتْ صَحِيحَةً، فَقَدْ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الثُّلُثِ، ثُمَّ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ بِالرَّدِّ، فَبَقِيَتْ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى حَالِهَا، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِأَجْنَبِيَّيْنِ؛ فَرَدَّ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ، كَمَا إذْ أَقَرَّ لَهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْوَارِثُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ تَصَادَقَا إنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُمَا الْإِقْرَارُ أَصْلًا لَا لِلْوَارِثِ، وَلَا لِلْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ، فَبُطْلَانُهُ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ الْبُطْلَانَ فِي حَقِّ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الشَّرِكَةَ، وَالْإِقْرَارُ لَهُمَا بِالدَّيْنِ إخْبَارٌ عَنْ دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ صَحَّ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ؛ لَكَانَ فِيهِ قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَنَّهَا بَاطِلَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ إخْبَارًا عَنْ دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا فَالْوَارِثُ يُشَارِكُ الْأَجْنَبِيَّ فِيمَا يَقْبِضُ، ثُمَّ تَبْطُلُ حِصَّتُهُ وَفِيهِ إقْرَارٌ لِلْوَارِثِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّ الْوَارِثَ لَا يُشَارِكُ الْأَجْنَبِيَّ. وَإِذَا بَطَلَ الْإِقْرَارُ أَصْلًا تُقَسَّمُ التَّرِكَةُ بَيْن وَرَثَةِ الْمُقِرِّ فَمَا أَصَابَ الْوَارِثَ الْمُقِرَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ إلَى تَمَامِ الْإِقْرَارِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا تَصَادَقَا، فَمِنْ زَعَمِهِمَا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ دَيْنٌ عَلَى الْمَيِّتِ، وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ هَذَا إذَا تَصَادَقَا، فَإِنْ تَكَاذَبَا، أَوْ أَنْكَرَ الْأَجْنَبِيُّ شَرِكَةَ الْوَارِثِ، أَوْ رَدَّ الْوَرَثَةُ إقْرَارَهُ فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِذَا بَطَلَ كَانَ الْمَالُ مِيرَاثًا بَيْنَ وَرَثَةِ الْمُقِرِّ، فَمَا أَصَابَ الْوَارِثَ، فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ وَلَا شَرِكَةَ لِلْأَجْنَبِيِّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ، وَيَكُونُ لَهُ خَمْسُمِائَةٍ وَإِنْ كَانَ الْأَجْنَبِيُّ يُكَذِّبُ الْوَارِثَ، وَالْوَارِث يُصَدِّقُهُ فِي ذَلِكَ فَالْخَمْسمِائَةِ مِمَّا أَصَابَهُ لِلْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُ الْوَارِثُ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ خَمْسُمِائَةٍ دِينٌ وَأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ إلَّا أَنَّهُ ادَّعَى الشَّرِكَةَ فِيهِ وَهُوَ يُكَذِّبُهُ فِي الشَّرِكَةِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْأَجْنَبِيِّ، وَيَأْخُذُ تِلْكَ الْخَمْسمِائَةِ كُلَّهَا، وَلَوْ أَوْصَى لِعَبْدٍ وَارِثُهُ لَا يَصِحُّ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ. (أَمَّا) إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَقَعُ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لَهُ، فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ فَالْوَصِيَّةُ تَقَعُ لِمَوْلَاهُ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ عَنْهُ الدَّيْنُ يَصِيرُ الْمُوصَى بِهِ لِلْوَارِثِ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ فَكَانَ وَصِيَّةً لِلْوَارِثِ مِنْ

وَجْهٍ، فَلَا تَصِحُّ إلَّا إذَا عَتَقَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابُ الْمِلْكِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَهُوَ كَانَ حُرًّا عِنْدَ مَوْتِهِ. وَكَذَا إذَا أَوْصَى لِعَبْدِ نَفْسِهِ فَأَعْتَقَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ لَهُ، فَإِنْ مَاتَ وَهُوَ عَبْدٌ بَطَلَتْ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ لِمَوْلَاهُ وَمَوْلَاهُ وَارِثُهُ، وَلَوْ أَوْصَى لِمُكَاتَبِ وَارِثِهِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْوَصِيَّةِ تَحْصُلُ لِوَارِثِهِ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ، فِي الْحَالِ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَفِي الْمَآلِ بِالْعَجْزِ، وَلَوْ أَوْصَى لَمُكَاتَبِ نَفْسِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ (إمَّا) أَنْ يُعْتَقَ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَيَصِيرَ أَجْنَبِيًّا، فَتَجُوزَ لَهُ الْوَصِيَّةُ (وَإِمَّا) أَنْ يَعْجَزَ وَيُرَدَّ فِي الرِّقِّ، فَيَصِيرَ مِيرَاثًا لِجَمِيعِ وَرَثَتِهِ لَا لِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، فَلَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ إيثَارُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ عَلَى بَعْضٍ، فَتَجُوزُ، كَمَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِوَرَثَتِهِ. (وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ قَاتَلَ الْمُوصِي قَتْلًا حَرَامًا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَاشَرَةِ، فَإِنْ كَانَ؛ لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ لَهُ عِنْدَنَا وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ، وَاحْتَجَّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ، وَتَمَلُّكٌ وَالْقَتْلُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ التَّمْلِيكِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ» وَهَذَا نَصٌّ وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ» ذَكَرَ الشَّيْءَ نَكِرَةً فِي مَحَلِّ النَّفْيِ فَتَعُمُّ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ جَمِيعًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَاتِلَ مَخْصُوصٌ عَنْ عُمُومَاتِ الْوَصِيَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَلَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا لَمْ يَجْعَلَا لِلْقَاتِلِ مِيرَاثًا وَعَنْ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَرِثُ قَاتِلٌ بَعْدَ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ وَيُرْوَى لَا يُوَرَّثُ قَاتِلٌ بَعْدَ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ. وَهَذَا مِنْهُ بَيَانٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ زَمَنِ سَيِّدِنَا مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى زَمَنِ التَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ، وَذَكَر مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذِهِ الْآثَارَ فِي الْأَصْلِ. وَقَالَ: وَالْوَصِيَّةُ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ ذَلِكَ لَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ؛ وَلِأَنَّ الْوَرَثَةَ تَتَأَذَّى بِوَضْعِ الْوَصِيَّةِ فِي الْقَاتِلِ، كَمَا يَتَأَذَّى الْبَعْضُ بِوَضْعِهَا فِي الْبَعْضِ فَيُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ، وَإِنَّهُ حَرَامٌ؛ وَلِأَنَّ الْمَجْرُوحَ إذَا صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ، فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ نَظَرًا لَهُمْ لِئَلَّا يُزِيلَ الْمُوَرِّثُ مِلْكَهُ إلَى غَيْرِهِمْ لِعَدَاوَةٍ، أَوْ أَذًى لَحِقَهُ مِنْ جِهَتِهِمْ فَيَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ لَكِنْ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِ الْمُورَثِ نَظَرًا لَهُ لِحَاجَتِهِ إلَى دَفْعِ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَسَبَبُ ثُبُوتِ حَقِّهِمْ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مَا هُوَ سَبَبُ ثُبُوتِ مِلْكِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْلِكَ التَّبَرُّعَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ إلَّا أَنَّهُ مَلَكَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْقَاتِلِ وَالْوَارِثِ. بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، فَيَبْقَى الْأَمْرُ فِيهِمَا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ؛ وَلِأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ جِنَايَةٌ عَظِيمَةٌ، فَتَسْتَدْعِي الزَّجْرَ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ، وَحِرْمَانُ الْوَصِيَّةِ يَصْلُحُ زَاجِرًا لِحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ فَيَثْبُتُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ الْخَطَأَ قَتْلٌ وَإِنَّهُ جَازَ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهِ عَقْلًا وَسَوَاءٌ أَوْصَى لَهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ أَوْ قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا تَقَعُ تَمْلِيكًا بَعْدَ الْمَوْتِ فَتَقَعُ وَصِيَّةً لِلْقَاتِلِ تَقَدَّمَتْ الْجِنَايَةُ، أَوْ تَأَخَّرَتْ وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِعَبْدِ الْقَاتِلِ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ وَلَا لَمُكَاتَبِهِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي عَبْدِ الْوَارِثِ وَمُكَاتَبِهِ وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِابْنِ الْقَاتِلِ وَلِأَبَوَيْهِ وَلِجَمِيعِ قَرَابَتِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَصِلٌ عَنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ، فَلَا تَكُونُ الْوَصِيَّةُ لِأَحَدِهِمَا وَصِيَّةً لِصَاحِبِهِ. وَلَوْ اشْتَرَكَ عَشَرَةٌ فِي قَتْلِ رَجُلٍ، فَأَوْصَى لِبَعْضِهِمْ بَعْدَ الْجِنَايَةِ لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ عَلَى الْكَمَالِ حِينَ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَكَانَتْ وَصِيَّةً لِقَاتِلِهِ، فَلَمْ تَصِحَّ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ عَبْدَ الْمُوصِي فَأَوْصَى لِبَعْضِهِمْ بَعْدَ الْجِنَايَةِ، وَأَعْتَقَ عَبْدَهُ، ثُمَّ مَاتَ، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، وَلَا يَبْطُلُ الْعِتْقُ، وَلَكِنَّ الْعَبْدَ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ (وَأَمَّا) بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ، فَكَانَ الْمُوصَى لَهُ قَاتِلًا، فَلَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ لَهُ (وَأَمَّا) صِحَّةُ الْإِعْتَاقِ وَنَفَّاذُهُ فَفِيهِ ضَرْبُ إشْكَالٍ وَهُوَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ حَصَلَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَالْإِعْتَاقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ لَا تَصِحُّ، وَالْعَبْدُ قَاتِلٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ إعْتَاقُهُ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدَهُمَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لَيْسَ بِوَصِيَّةٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ وَالْإِعْتَاقُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ وَإِزَالَتُهُ لَا إلَى أَحَدِهِمَا مُتَغَايِرَانِ بَلْ مُتَنَافِيَانِ حَقِيقَةً، وَكَذَا الْإِعْتَاقُ يُنْجَرُ حُكْمُهُ لِلْحَالِ وَحُكْمُ الْوَصِيَّةِ يَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَمْ يَكُنْ الْإِعْتَاقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةً حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ يُشْبِهُ الْوَصِيَّةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ لَا غَيْرُ وَالثَّانِي إنْ كَانَ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ فَالْوَصِيَّةُ بِالْإِعْتَاقِ مَرْدُودَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَإِنْ كَانَتْ نَافِذَةً صُورَةً أَلَا

تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ وَالسِّعَايَةُ قِيمَةُ الرَّقَبَةِ، فَكَانَتْ السِّعَايَةُ رَدًّا لِلْوَصِيَّةِ مَعْنًى، وَالْعِتْقُ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ صُورَةً يَحْتَمِلُهُ مَعْنًى بِرَدِّ السِّعَايَةِ الَّتِي هِيَ قِيمَةُ الرَّقَبَةِ. وَلَوْ أَوْصَى لِعَبْدِهِ بِالثُّلُثِ، ثُمَّ قَتَلَهُ الْعَبْدُ لَمْ تَصِحَّ وَصِيَّتُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ يُعْتَقُ، وَيَسْعَى فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ أَمَّا بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ فَلِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ لِلْقَاتِلِ. وَأَمَّا نَفَاذُ الْعِتْقِ فَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ لَيْسَتْ بِبَاطِلَةٍ، بَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، فَإِذَا أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَقَدْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ رَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ مِنْ مَالِهِ، فَدَخَلَتْ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ، فَلَمَّا مَاتَ الْمُوصَى مَلَكَ ثُلُثَ رَقَبَتِهِ وَتَمْلِيكُ ثُلُثِ رَقَبَتِهِ مِنْهُ يَكُونُ إعْتَاقًا لِثُلُثِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَيُعْتَقُ ثُلُثُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ يُنْقَضُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِرَدِّ السِّعَايَةِ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ نَصًّا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، أَوْ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِالتَّدْبِيرِ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِثُلُثِ الرَّقَبَةِ. لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ فَيُعْتَقُ ثُلُثُ رَقَبَتِهِ وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَقُ الْبَعْضِ وَيَسْعَى فِي ذَلِكَ الثُّلُثِ الَّذِي عَتَقَ رَدًّا لِلْوَصِيَّةِ مَعْنًى بِالسِّعَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ فَيُرَدُّ بِرَدِّ السِّعَايَةِ، وَعِنْدَهُمَا وَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِكُلِّ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا، وَمَتَى عَتَقَ كُلُّهُ يَسْعَى فِي كُلِّ قِيمَتِهِ رَدًّا لِلْوَصِيَّةِ مَعْنًى فَاتَّفَقَ الْجَوَابُ، وَهُوَ السِّعَايَةُ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الطَّرِيقُ، وَلَوْ أَوْصَى لِلْقَاتِلِ، ثُمَّ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصَى ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ، وَسَكَتَ عَنْ قَوْلِهِمَا، فَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -، لِأَبِي يُوسُفَ مَا رَوَيْنَا عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَيْسَ لَقَاتِلٍ شَيْءٌ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالِ الْإِجَازَةِ وَعَدَمِهَا. وَلِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ هُوَ الْقَتْلُ، وَالْإِجَازَةُ لَا تَمْنَعُ الْقَتْلَ، وَلَهُمَا أَنَّ امْتِنَاعَ الْجَوَازِ كَانَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَأَذَّوْنَ بِوَضْعِ الْوَصِيَّةِ فِي الْقَاتِلِ أَكْثَرُ مِمَّا يَتَأَذَّى الْبَعْضُ بِإِيثَارِ الْبَعْضِ بِالْوَصِيَّةِ، ثُمَّ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْبَعْضِ بِإِجَازَةِ الْبَاقِينَ، فَهَهُنَا أَوْلَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ هُوَ حَقُّ الْوَرَثَةِ أَنَّ الْوَرَثَةَ يَنْتَفِعُونَ بِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ، وَحَقُّ الْإِنْسَانِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، فَإِذَا جَازُوا، فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ، فَجَازَتْ؛ وَلِهَذَا جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ بِإِجَازَةِ الْبَاقِينَ كَذَا هَذَا، وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ قِصَاصًا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلٍ حَرَامٍ. وَكَذَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ، فَكَذَا حِرْمَانُ الْوَصِيَّةِ. وَكَذَا الْقَتْلُ تَسْبِيبًا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْوَصِيَّةِ، كَمَا لَا يَمْنَعُ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ. وَأَمَّا الْإِقْرَارُ لِلْقَاتِلِ بِالدَّيْنِ، فَإِنْ صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ يَذْهَبُ، وَيَجِيءُ؛ جَازَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِوَارِثِهِ، كَمَا لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ لَهُ، وَإِذَا كَانَ يَذْهَبُ، وَيَجِيءُ كَانَ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ فَيَجُوزُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لِوَارِثِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَكَذَا الْهِبَةُ فِي الْمَرَضِ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ، فَلَا تَصِحُّ لِلْقَاتِلِ، وَعَفْوُ الْمَرِيضِ عَنْ الْقَاتِلِ فِي دَمِ الْعَمْدِ جَائِزٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالِ الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ نَفَاذِ تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ هُوَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْوَرَثَةِ، أَوْ الْغُرَمَاءِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِالْمَالِ، وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَبِهَذَا عَلَّلَ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً؛ يَجُوزُ الْعَفْوُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ الْخَطَأَ يُوجِبُ الْمَالَ، فَكَانَ عَفْوُهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ وَإِنَّهَا جَائِزَةٌ مِنْ الثُّلُثِ وَدَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ كُلَّهَا تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ مِنْ الثُّلُثِ فِي حِصَّةِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَصِيَّةً لِلْقَاتِلِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَلَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ، وَلَمَّا جَازَ الْعَفْوُ هَهُنَا مِنْ الثُّلُثِ عُلِمَ أَنَّ الدِّيَةَ لَا تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ حَتَّى تَكُونَ وَصِيَّةً لِعَاقِلَةِ الْقَاتِلِ، ثُمَّ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ إنَّمَا لَا تَجُوزُ إذَا لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ، فَإِنْ أَجَازُوا؛ جَازَتْ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ اخْتِلَافًا وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ إنَّهَا لَا تَجُوزُ، وَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ، وَسَكَتَ عَنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ - تَعَالَى وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ هُوَ الْقَتْلُ، وَإِنَّهُ لَا يَنْعَدِمُ بِالْإِجَازَةِ؛ وَلِهَذَا حَرَّمَ الْمِيرَاثَ أَجَازَتْهُ الْوَرَثَةُ أَوْ لَا؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ صَارَ كَالْحَرْبِيِّ وَالْوَصِيَّةُ لِلْحَرْبِيِّ لَا تَجُوزُ، أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ أَمْ لَمْ تُجِزْ كَذَا الْقَاتِلُ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ لِمَكَانِ حَقِّ الْوَرَثَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَصِيَّةِ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ، فَيَجُوزُ عِنْدَ إجَازَتِهِمْ، كَمَا جَازَتْ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ عِنْدَ إجَازَةِ الْبَاقِينَ

بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ وَهُوَ مَالِكٌ، وَلَا أَحَدٌ يَقُولُ بِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ، فَلَمَّا لَحِقَتْهَا الْإِجَازَةُ هُنَاكَ فَلَأَنْ تَلْحَقَهَا هَهُنَا أَوْلَى. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ حَرْبِيًّا عِنْدَ مُسْتَأْمَنٍ، فَإِنْ كَانَ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ بِتَمْلِيكِ الْمَالِ إيَّاهُ يَكُونُ إعَانَةً لَهُ عَلَى الْخَرَابِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ مُسْلِمًا، فَلَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ كَانَ ذِمِّيًّا، فَأَوْصَى لَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ؛ جَازَ. وَكَذَا لَوْ أَوْصَى ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فَإِذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلِلْمُسْلِمِ» أَنْ يُوصِيَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا كَذَا لَهُمْ، وَسَوَاءٌ أَوْصَى لِأَهْلِ مِلَّتِهِ أَوْ لِغَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ؛ وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْوَصِيَّةِ، فَهَذَا أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا، فَأَوْصَى لَهُ مُسْلِمٌ، أَوْ ذِمِّيٌّ. ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ فِي عَهْدِنَا، فَأَشْبَهَ الذِّمِّيَّ الَّذِي هُوَ فِي عَهْدِنَا، وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلذِّمِّيِّ. وَكَذَا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ بِقَوْلِ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: أَشْبَهُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُ الْكَفَّارَةِ وَالنَّذْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ إلَى الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْحِرَابِ، وَيَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّا مَا نُهِينَا عَنْ بِرِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8] وَقِيلَ إنَّ فِي التَّبَرُّعِ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ بِالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَصْحَابِنَا، فَالْوَصِيَّةُ لَهُ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَتَيْنِ أَيْضًا وَكَذَا كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ أَوْصَى مُسْلِمٌ بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْمَسْجِدِ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِ فِي إصْلَاحِهِ وَعِمَارَتِهِ وَتَجْصِيصِهِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْمُسْلِمِ مِنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِإِخْرَاجِ مَالِهِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا التَّمْلِيكَ إلَى أَحَدٍ وَلَوْ أَوْصَى الْمُسْلِمُ لِبَيْعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ بِوَصِيَّةٍ، فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ. وَلَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْبَيْعَةِ، أَوْ لِكَنِيسَةٍ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهَا فِي إصْلَاحِهَا. أَوْ أَوْصَى لِبَيْتِ النَّارِ أَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُذْبَحَ لِعِيدِهِمْ، أَوْ لِلْبَيْعَةِ أَوْ لِبَيْتِ النَّارِ ذَبِيحَةً جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي وَصَايَا أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّهَا لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ أَمْرًا، هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ، أَوْ كَانَ أَمْرًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا لَا عِنْدَهُمْ وَأَمَّا إنْ كَانَ أَمْرًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ لَا عِنْدَنَا. فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ شَيْئًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ بِإِنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، أَوْ بِعِتْقِ الرِّقَابِ، أَوْ بِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَنَحْوِ ذَلِكَ جَازَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ. وَإِنْ كَانَ شَيْئًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ عِنْدَهُمْ بِأَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ، أَوْ أَوْصَى أَنْ يَبْنِيَ مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَكَانَ مُسْتَهْزِئًا فِي وَصِيَّتِهِ، وَالْوَصِيَّةُ يُبْطِلُهَا الْهَزْلُ وَالْهَزْلُ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ لَا عِنْدَنَا بِأَنْ أَوْصَى بِأَرْضٍ لَهُ تُبْنَى بَيْعَةً أَوْ كَنِيسَةً، أَوْ بَيْتَ نَارٍ أَوْ بِعِمَارَةِ الْبِيعَةِ، أَوْ الْكَنِيسَةِ، أَوْ بَيْتِ النَّارِ، أَوْ بِالذَّبْحِ لِعِيدِهِمْ، أَوْ لِلْبَيْعَةِ أَوْ لِبَيْتِ النَّارِ ذَبِيحَةً، فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا إنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَصِيَّةٌ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَعَاصِي لَا تَصِحُّ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي وَصِيَّتِهِمْ مَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ لَا مَا هُوَ قُرْبَةٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ الْحَقِيقَةِ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَوْصَى بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا، وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ عِنْدَهُمْ لَمْ تَجُزْ وَصِيَّتُهُ كَالْحَجِّ وَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَدَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ وُجِدَ وَلَكِنَّا أُمِرْنَا أَنْ لَا نَتَعَرَّضَ لَهُمْ فِيمَا يَدِينُونَ، كَمَا لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي عِبَادَةِ الصَّلِيبِ وَبَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ. وَلَوْ بَنَى الذِّمِّيُّ فِي حَيَّاتِهِ بَيْعَةً أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ كَانَ مِيرَاثًا بَيْنَ وَرَثَتِهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ أَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا، فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ. وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ وَالْمُسْلِمُ لَوْ جَعَلَ دَارًا وَقْفًا إنْ مَاتَ؛ صَارَتْ مِيرَاثًا كَذَا هَذَا، فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يُجْعَلُ حُكْمُ الْبَيْعَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَحُكْمِ الْمَسْجِدِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَالْجَوَابُ أَنَّ حَالَ الْمَسْجِدِ يُخَالِفُ حَالَ الْبَيْعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ صَارَ خَالِصًا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَانْقَطَعَتْ عَنْهُ مَنَافِعُ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا الْبَيْعَةُ، فَإِنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مَنَافِعِهِمْ، فَإِنَّهُ يَسْكُنُ فِيهَا أَسَاقِفَتُهُمْ وَيُدْفَنُ فِيهَا مَوْتَاهُمْ، فَكَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى مَنَافِعِهِمْ، فَأَشْبَهَ الْوَقْفَ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْوَقْفُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يُزِيلُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ عِنْدَهُ، فَكَذَا هَذَا. وَلَوْ أَوْصَى مُسْلِمٌ بِغَلَّةِ جَارِيَتِهِ أَنْ تَكُونَ فِي نَفَقَةِ الْمَسْجِدِ وَمُؤْنَتِهِ

فَانْهَدَمَ الْمَسْجِدُ، وَقَدْ اجْتَمَعَ مِنْ غَلَّتِهَا شَيْءٌ أُنْفِقَ ذَلِكَ فِي بِنَائِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالِانْهِدَامِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا، وَقَدْ أَوْصَى لَهُ بِغَلَّتِهَا، فَتُنْفَقُ فِي بِنَائِهِ وَعِمَارَتِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْمُوصِي إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ مُسَمَّاةٍ، أَوْ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ مَالِهِ سِوَى رَقَبَةِ الْعَبْدِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِعَبْدِهِ بِدَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ مُسَمَّاةٍ، أَوْ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ مَالِهِ سِوَى رَقَبَةِ الْعَبْدِ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ إذْ ذَاكَ يَكُونُ مُوصِيًا لِنَفْسِهِ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ رَقَبَتِهِ بِأَنْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ رَقَبَتِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ بِثُلُثِ رَقَبَتِهِ تَمْلِيكُ ثُلُثِ رَقَبَتِهِ مِنْهُ، وَتَمْلِيكُ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْهُ يَكُونُ إعْتَاقًا، فَيَصِيرُ ثُلُثُهُ مُدَبَّرَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ كُلُّهُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ كَالْإِعْتَاقِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ؛ جَازَتْ وَصِيَّتُهُ، وَعَتَقَ ثُلُثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ دَخَلَتْ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مَالُهُ، فَوَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ عَلَيْهَا وَعَلَى سَائِرِ أَمْلَاكِهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَالُهُ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ يُنْظَرُ إلَى ثُلُثِي الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ ثُلُثِي الْعَبْدِ مِثْلَ مَا وَجَبَ لَهُ فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِ صَارَ قِصَاصًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ زِيَادَةٌ تُدْفَعُ إلَيْهِ الزِّيَادَةُ، وَإِنْ كَانَ فِي ثُلُثِي قِيمَةِ الْعَبْدِ زِيَادَةٌ تُدْفَعُ الزِّيَادَةُ إلَى الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ عُرُوضًا لَا تَصِيرُ قِصَاصًا إلَّا بِالتَّرَاضِي لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي ثُلُثِي قِيمَتِهِ، وَلَهُ الثُّلُثُ مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ، وَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَبِيعُوا الثُّلُثَ مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ حَتَّى تَصِلَ إلَيْهِمْ السِّعَايَةُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَمَّا عِنْدَهُمَا صَارَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا، فَإِذَا مَاتَ عَتَقَ كُلُّهُ وَيَكُونُ الْعِتْقُ مُقَدَّمًا عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا. فَإِنْ زَادَ الثُّلُثُ عَلَى مِقْدَارِ قِيمَتِهِ، فَعَلَى الْوَرَثَةِ أَنْ يَدْفَعُوا إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي الْفَضْلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَجْهُولًا جَهَالَةً لَا يُمْكِنُ إزَالَتُهَا، فَإِنْ كَانَ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الَّتِي لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا تَمْنَعُ مِنْ تَسْلِيمِ الْمُوصَى بِهِ إلَى الْمُوصَى لَهُ، فَلَا تُفِيدُ الْوَصِيَّةُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ مِنْ النَّاسِ إنَّهُ لَا يَصِحُّ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ أَوْصَى لِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ لَا يَصِحُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَصِيَّةُ تَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْخِيَارُ إلَى الْوَارِثِ يُعْطَى أَيُّهُمَا شَاءَ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِيجَابَ وَقَعَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا، وَلَكِنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ تُمْكِنُ إزَالَتُهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُوصِي لَوْ عَيَّنَ أَحَدَهُمَا حَالَ حَيَّاتِهِ لَتَعَيَّنَ، ثُمَّ إنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ: لَمَّا مَاتَ عَجَزَ عَنْ التَّعْيِينِ بِنَفْسِهِ، فَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي التَّعْيِينِ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: لَمَّا مَاتَ قَبْلَ التَّعْيِينِ شَاعَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ كَمَنْ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ إنَّ الْعِتْقَ يَشِيعُ فِيهِمَا جَمِيعًا فَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ كَذَا هَهُنَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْوَصِيَّةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَتَسْتَدْعِي كَوْنَ الْمُوصَى لَهُ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْمُوصَى لَهُ عِنْدُ الْمَوْتِ مَجْهُولٌ، فَلَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ مِنْ الْأَصْلِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِوَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالشُّيُوعِ وَلَا يُقَامُ الْوَارِثُ مَقَامَ الْمُوصِي فِي الْبَيَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ الْإِيجَابِ الصَّحِيحِ. وَلَمْ يَصِحَّ إلَّا أَنَّ الْمُوصِي لَوْ بَيَّنَ الْوَصِيَّةَ فِي أَحَدِهِمَا حَالَ حَيَاتِهِ صَحَّتْ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ إنْشَاءُ الْوَصِيَّةِ لِأَحَدِهِمَا فَكَانَ وَصِيَّةً مُسْتَأْنَفَةً لِأَحَدِهِمَا عَيْنًا، وَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ. وَلَوْ كَانَ عَبْدَانِ فَأَوْصَى بِأَرْفَعِهِمَا لِرَجُلٍ وَبِأَخَسِّهِمَا لِآخَرَ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ، وَلَا يُدْرَى أَيُّهُمَا هُوَ فَالْوَصِيَّةُ بَطَلَتْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - اجْتَمَعَا عَلَى أَخْذِ الْبَاقِي أَوْ لَمْ يَجْتَمِعَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ اجْتَمَعَا عَلَى أَخْذِ الْبَاقِي، فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا عَلَى أَخْذِهِ، فَلَا شَيْءَ لَهُمَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ اجْتَمَعَا، أَوْ لَمْ يَجْتَمِعَا، وَعَلَى هَذَا يُخْرِجُ الْوَصِيَّةَ لِقَوْمٍ لَا يُحْصَوْنَ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ، وَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ تَمْلِيكًا مِنْهُمْ، وَهُمْ مَجْهُولُونَ، وَالتَّمْلِيكُ مِنْ الْمَجْهُولِ جَهَالَةٌ لَا يُمْكِنُ إزَالَتُهَا لَا يَصِحُّ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْإِحْصَاءِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ إلَّا بِكِتَابٍ أَوْ حِسَابٍ فَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ إنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ فَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ، وَقِيلَ إنْ كَانُوا بِحَيْثُ لَا يَحْصِيهِمْ مُحْصٍ حَتَّى يُولَدَ مِنْهُمْ مَوْلُودٌ، وَيَمُوتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ، فَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ، وَقِيلَ يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي، وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ كَانَ وَصِيَّتُهُ بِالصَّدَقَةِ، وَهِيَ إخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَاحِدٌ مَعْلُومٌ فَصَحَّتْ

الْوَصِيَّةُ، ثُمَّ إذَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ فَالْأَفْضَلُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُعْطِيَ الثُّلُثَ لِمَنْ يَقْرُبُ إلَيْهِمْ مِنْهُمْ، فَإِنْ جَعَلَهُ فِي، وَاحِدٍ فَمَا زَادَ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُعْطِيَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ فَصَاعِدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ وَاحِدًا إلَّا نِصْفَ الْوَصِيَّةِ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُحْصَوْنَ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ فَوَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ تَمْلِيكًا مِنْ مَجْهُولٍ، فَلَمْ تَصِحَّ. وَلَوْ أَوْصَى لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ لِمَسَاكِينِهِمْ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ لَكِنْ عِنْدَهُمْ اسْمُ الْفَقِيرِ. وَالْمِسْكِينِ يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى طَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ لَا لِمَرْضَاةِ الْفَقِيرِ، فَيَقَعُ الْمَالُ لِلَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ الْفُقَرَاءُ يَتَمَلَّكُونَ بِتَمْلِيكِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ وَاحِدٌ مَعْلُومٌ؛ وَلِذَا كَانَ إيجَابُ الصَّدَقَةِ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى مِنْ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ صَحِيحًا، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ، وَإِذَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، فَلَوْ صَرَفَ الْوَصِيُّ جَمِيعَ الثُّلُثِ إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُعْطِيَ مِنْهُمْ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ وَاحِدًا مِنْهُمْ إلَّا نِصْفُ الثُّلُثِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْفُقَرَاءَ اسْمُ جَمْعٍ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ إلَّا أَنَّهُ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الِاثْنَيْنِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ يَقُومَانِ مَقَامَ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَقَامَ الثِّنْتَيْنِ مِنْ الْبَنَاتِ مَقَامَ الثَّلَاثِ مِنْهُنَّ فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ. وَكَذَا الِاثْنَانِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ يَقُومَانِ مَقَامَ الثَّلَاثِ فِي نَقْصِ حَقِّ الْأُمِّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى قِيَامِ الْوَاحِدِ مَقَامَ الْجَمَاعَةِ مَعَ مَا أَنَّ الْجَمْعَ مَأْخُوذٌ مِنْ الِاجْتِمَاعِ، وَأَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الِاجْتِمَاعُ اثْنَانِ، وَمُرَاعَاةُ مَعْنَى الِاسْمِ، وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْوَصِيَّةِ، وَصِيَّةٌ بِالصَّدَقَةِ، وَهِيَ إلْزَامُ الْمَالِ حَقًّا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَجِنْسُ الْفُقَرَاءِ مَصْرِفٌ مَا يَجِبُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، فَكَانَ ذِكْرُ الْفُقَرَاءِ لِبَيَانِ الْمَصْرِفِ لَا لِإِيجَابِ الْحَقِّ لَهُمْ، فَيَجِبُ الْحَقُّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ثُمَّ يُصْرَفُ إلَى مَنْ ظَهَرَ رِضَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِصَرْفِ حَقِّهِ الْمَآلُ إلَيْهِ، وَقَدْ حَصَلَ بِصَرْفِهِ إلَى، فَقِيرٍ وَاحِدٍ؛ وَلِهَذَا جَازَ صَرْفُ مَا وَجَبَ مِنْ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ بِإِيجَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ بِلَفْظِ الْجَمَاعَةِ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] . وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّ مُرَاعَاةَ مَعْنَى الْجَمْعِ إنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، فَأَمَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ، فَلَا بَلْ يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى مُطْلَقِ الْجِنْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ، وَاَللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَوْلِهِ إنْ كَلَّمْتُ بَنِي آدَمَ، أَوْ إنْ اشْتَرَيْتُ الْعَبِيدَ إنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْجِنْسِ، وَلَا يُرَاعَى فِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِ حَتَّى يَحْنَثَ بِوُجُودِ الْفِعْلِ مِنْهُ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْجِنْسِ، وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا غَايَةَ لَهُ، وَلَا نِهَايَةَ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْجِنْسِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِمَوَالِيهِ، وَلَهُ مَوْلًى وَاحِدٌ أَنَّهُ لَا يُصْرَفُ كُلُّ الثُّلُثِ إلَيْهِ بَلْ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا الْتَزَمَ الْمَالَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ بَلْ مَلَّكَهُ لِلْمَوَالِي، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ. وَكَذَا ذَلِكَ الْجَمْعُ لَهُ غَايَةٌ وَنِهَايَةٌ، فَكَانَ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْجَمْعِ مُمْكِنًا، فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْحَمْلِ عَلَى الْجِنْسِ، بِخِلَافِ جَمْعِ الْفُقَرَاءِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِفُقَرَاءِ بَنِي فُلَانٍ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ، وَبَنُو فُلَانٍ قَبِيلَةٌ لَا تُحْصَى، وَلَا يُحْصَى فُقَرَاؤُهُمْ، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ لِمَا قُلْنَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ كَثْرَتِهِمْ، فَلَأَنْ تَصِحَّ لِفُقَرَاءِ الْقَبِيلَةِ أَوْلَى. فَإِنْ لَمْ يَقُلْ لِفُقَرَائِهِمْ، وَلَكِنَّهُ أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ، وَجْهَيْنِ: (إمَّا) إنْ كَانَ فُلَانٌ أَبَا قَبِيلَةٍ. (وَإِمَّا) إنْ لَمْ يَكُنْ أَبَا قَبِيلَةٍ بَلْ هُوَ رَجُلٌ مِنْ النَّاسِ يُعْرَفُ بِأَبِي فُلَانٍ فَإِنْ كَانَ أَبَا قَبِيلَةٍ مِثْلَ تَمِيمٍ، وَأَسَدٍ، وَوَائِلٍ، فَإِنْ كَانَ بَنُوهُ يُحْصَوْنَ؛ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ، فَقَدْ قَصَدَ الْمُوصِي تَمْلِيكَ الْمَالِ مِنْهُمْ لَا الْإِخْرَاجَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مَعْلُومًا، فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِأَغْنِيَاءِ بَنِي فُلَانٍ، وَهُمْ يُحْصَوْنَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى أَبُ الْقَبِيلَةِ إضَافَةُ النِّسْبَةِ كَالْإِضَافَةِ إلَى الْقَبِيلَةِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مِنْ يُنْتَسَبُ إلَى فُلَانٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، وَصَارَ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِقَبِيلَةِ فُلَانٍ، وَلَوْ كَانَ لِبَنِي فُلَانٍ مَوَالِي عَتَاقَةٌ يَدْخُلُونَ فِي الْوَصِيَّةِ، وَكَذَا مَوَالِي مَوَالِيهِمْ وَحُلَفَائِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ. وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُمْ مَوَالِي الْمُوَالَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ بَنِي فُلَانٍ إذَا كَانَ فُلَانٌ أَبَا قَبِيلَةٍ هُوَ الْقَبِيلَةُ لَا أَبْنَاؤُهُ حَقِيقَةً، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى هَذِهِ الْقَبِيلَةِ، وَالْمُنْتَمُونَ إلَيْهِمْ، وَالْحُلَفَاءُ، وَالْمَوَالِي

يَنْتَسِبُونَ إلَى الْقَبِيلَةِ، وَيَنْتَمُونَ إلَيْهِمْ فِي الْعُرْفِ، وَالشَّرْعِ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْهُمْ» . وَفِي رِوَايَةٍ «مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَحَلِيفُهُمْ مِنْهُمْ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ: وَعَبِيدُهُمْ مِنْهُمْ؛ وَلِأَنَّ بَنِي فُلَانٍ إذَا كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ سَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ الْبُنُوَّةِ، فَصَارَ عِبَارَةً عَمَّنْ يَقَعُ بِهِمْ لَهُمْ التَّنَاصُرُ، وَالْمَوَالِي يَقَعُ بِهِمْ لَهُمْ التَّنَاصُرُ. وَكَذَا الْحَلِيفُ، وَالْعَدِيدُ إذْ الْحَلِيفُ هُوَ الَّذِي حَلَفَ لِلْقَبِيلَةِ أَنَّهُ يَنْصُرُهُمْ، وَيَذُبُّ عَنْهُمْ كَمَا يَذُبُّ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُمْ حَلَفُوا لَهُ كَذَلِكَ، وَالْعَدِيدُ هُوَ الَّذِي يَلْحَقُ بِهِمْ مِنْ غَيْرِ حَلِفٍ. وَلَوْ أَوْصَى لِقَبِيلَةِ فُلَانٍ دَخَلَ فِيهِ الْمَوَالِي؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْقَبِيلَةِ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إلَيْهِ وَالْمَوَالِي يُنْسَبُونَ إلَيْهِ هَذَا إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ، فَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِمَا قُلْنَا فِي الْوَصِيَّةِ لِبَنِي فُلَانٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ، وَهُمْ يُحْصَوْنَ، وَفُلَانٌ أَبٌ خَاصٌّ لَهُمْ، وَلَيْسَ بِأَبِي قَبِيلَةٍ حَيْثُ كَانَ الثُّلُثُ لِبَنِي صُلْبِهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَوَالِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَا جَرَى الْعُرْفُ هُنَاكَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ الْمُنْتَسِبَ إلَيْهِمْ، فَبَقِيَتْ اللَّفْظَةُ مَحْمُولَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ بَنُو بَنِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّ زَيْدًا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَا يَقُولُ الْمُعْتَقُ أَنَا مِنْ بَنِي زَيْدٍ إذَا كَانَ زَيْدٌ أَبًا خَاصًّا، وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ أَبَا قَبِيلَةٍ يَقُولُ: الْمُعْتَقُ أَنَا مِنْ بَنِي زَيْدٍ هَذَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَهُمْ، وَلِأَنَّ بَنِي فُلَانٍ إذَا كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ، وَقَعَتْ لَهُمْ تَمْلِيكَ الْمَالِ مِنْهُمْ، وَهُمْ مَجْهُولُونَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا، وَصِيَّةً بِالصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِ الِابْنِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ لُغَةً، فَلَا يَصِحُّ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِجَهَالَةِ الْمِلْكِ مِنْهُ، وَلَمْ يُجْعَلْ وَصِيَّةً بِالصَّدَقَةِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَ أَبَا نَسَبٍ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ النَّاسِ يُعْرَفُ كَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَابْنِ سِيرِينَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ ذُكُورًا دَخَلُوا فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ اسْمِ الْبَنِينَ لِلذُّكُورِ؛ لِأَنَّهُ جَمْعُ الِابْنِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ، وَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ إنَاثًا لَا يَدْخُلُ فِيهِ، وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُهُنَّ عِنْدَ انْفِرَادِهِنَّ، وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: الْوَصِيَّةُ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ يَدْخُلُ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَوَاهُ يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيُّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَصَاحِبِيهِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الذُّكُورَ مَعَ الْإِنَاثِ إذَا اجْتَمَعَا غَلَبَ الذُّكُورُ الْإِنَاثَ، وَيَتَنَاوَلُ اسْمَ الذُّكُورِ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَنَاوَلُهُنَّ حَالَةَ الِانْفِرَادِ؛ وَلِهَذَا تَتَنَاوَلُ الْخِطَابَاتِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِاسْمِ الْجَمْعِ الذُّكُورَ، وَالْإِنَاثَ جَمِيعًا، فَكَذَا فِي الْوَصِيَّةِ، وَلَهُمَا اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْبَنِينَ جَمْعُ ابْنٍ، وَالِابْنُ اسْمٌ لِلذَّكَرِ حَقِيقَةً. وَكَذَا الْبَنُونَ، فَلَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الذُّكُورَ، وَلِهَذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُنَّ حَالَةَ الِانْفِرَادِ، فَكَذَا حَالَةُ الِاجْتِمَاعِ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي خِطَابَاتِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إنَّ خِطَابَ الذُّكُورِ لَا يَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ بِصِيغَتِهِ بَلْ بِدَلِيلٍ زَائِدٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النِّسَاءَ شَكَوْنَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى يُخَاطِبُ الرِّجَالَ دُونَنَا، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] الْآيَةَ، فَلَوْ كَانَ خِطَابُ الرِّجَالِ يَتَنَاوَلُهُنَّ لَمْ يَكُنْ لِشِكَايَتِهِنَّ مَعْنًى، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فُلَانٌ أَبَا قَبِيلَةٍ أَوْ بَطْنٍ أَوْ فَخِذٍ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْقَبِيلَةِ، وَالْبَطْنِ وَالْفَخِذِ لَا يُرَادُ بِهَا الْأَعْيَانُ. وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهَا الْإِنْسَانُ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَى الْقَبِيلَةِ، وَالْبَطْنِ وَالْفَخِذِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي النِّسْبَةِ عَلَى السَّوَاءِ، وَلِهَذَا يَتَنَاوَلُ الِاسْمُ الْإِنَاثَ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِنَّ ذَكَرٌ، وَلَا يَتَنَاوَلُ الِاسْمُ مِنْ وَلَدِ الرَّجُلِ الْمَعْرُوفِ الْإِنَاثَ اللَّاتِي لَا ذَكَرَ مَعَهُنَّ، فَإِنْ كَانَ لِفُلَانٍ بَنُو صُلْبٍ وَبَنُو ابْنٍ، فَالْوَصِيَّةُ لِبَنِي الصُّلْبِ؛ لِأَنَّهُمْ بَنُوهُ فِي الْحَقِيقَةِ (وَأَمَّا) بَنُو الِابْنِ، فَبَنُو بَنِيهِ حَقِيقَةً لَا بَنُوهُ، وَإِنَّمَا يُسَمَّوْنَ بَنِيهِ مَجَازًا، وَإِطْلَاقُ اللَّفْظِ يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَا أَمْكَنَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَنُو الصُّلْبِ، فَالْوَصِيَّةُ لِبَنِي الِابْنِ؛ لِأَنَّهُمْ بَنُوهُ مَجَازًا، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ. وَأَمَّا أَبْنَاءُ الْبَنَاتِ، فَلَا يَدْخُلُونَ فِي الْوَصِيَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ -، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ كَأَبْنَاءِ الْبَنِينَ، وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنَانِ لِصُلْبِهِ، فَالْوَصِيَّةُ لَهُمَا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ يَتَنَاوَلُ الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، فَقَدْ وُجِدَ مَنْ يَسْتَحِقُّ كُلَّ الْوَصِيَّةِ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنٌ وَاحِدٌ لِصُلْبِهِ؛ صُرِفَ نِصْفُ الثُّلُثِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَلَيْسَ فِي الْوَاحِدِ مَعْنَى الْجَمْعِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْوَاحِدُ كُلَّ الْوَصِيَّةِ بَلْ النِّصْفَ، وَيُرَدُّ النِّصْفُ الْبَاقِي إلَى، وَرَثَةِ الْمُوصِي، وَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنٌ، وَاحِدٌ لِصُلْبِهِ وَابْنُ

ابْنِهِ، فَالنِّصْفُ لِابْنِهِ، وَالْبَاقِي يُرَدُّ عَلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا النِّصْفُ لِابْنِهِ، وَمَا بَقِيَ، فَلِابْنِ ابْنِهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا صَارَتْ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً سَقَطَ الْمَجَازُ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ اسْمٌ لِلثَّابِتِ الْمُسْتَقِرِّ فِي مَوْضِعِهِ، وَالْمَجَازُ مَا انْتَقَلَ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي مَحَلِّهِ، وَمُنْتَقِلًا عَنْ مَحَلِّهِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ بَنَاتٌ وَبَنُو ابْنٍ، فَلَا شَيْءَ لِلْفَرِيقَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا هُوَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَدُ الصُّلْبِ إذَا كَانَ حَيًّا يَسْقُطُ مَعَهُ، وَلَدُ الْوَلَدِ غَيْرَ أَنَّ وَلَدَ الصُّلْبِ هَهُنَا الْبَنَاتُ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَاسْمُ الْبَنِينَ لَا يَتَنَاوَلُ الْبَنَاتِ عَلَى الِانْفِرَادِ، فَلَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ فِي الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، وَعَلَى أَصْلِهِمَا تُحْمَلُ الْوَصِيَّةُ عَلَى وَلَدِ الْوَلَدِ إذَا لَمْ يُجَزْ أَوْلَادُ الْوَلَدِ بِالْوَصِيَّةِ، وَيَتَنَاوَلُهُمَا الِاسْمُ عَلَى الِاشْتِرَاكِ، وَصَارُوا كَالْبَطْنِ الْوَاحِدِ، فَيَشْتَرِكُ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ، وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِإِخْوَةِ فُلَانٍ، وَهُمْ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ، فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - هُوَ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوَاءِ لَا يُزَادُ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى، وَالْحُجَجُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَلَوْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ، فَالذَّكَرُ فِيهِ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ اسْمٌ لِلْمَوْلُودِ، وَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ، وَالْأُنْثَى، وَلَوْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ حَامِلٌ دَخَلَ مَا فِي بَطْنِهَا فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْتِ، ثُمَّ الْحَمْلُ يَدْخُلُ فِي الْمِيرَاثِ، فَيَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ بَنَاتٌ وَبَنُو ابْنٍ، فَالْوَصِيَّةُ لِبَنَاتِهِ دُونَ بَنِي ابْنِهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ لِلْبَنَاتِ بِانْفِرَادِهِنَّ حَقِيقَةٌ وَلِأَوْلَادِ الِابْنِ مَجَازٌ، وَمَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدُ صُلْبٍ، فَالْوَصِيَّةُ لِوَلَدِ الِابْنِ يَسْتَوِي فِيهِ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ، فَيُعْمَلُ بِالْمَجَازِ تَصْحِيحًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ، وَلَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَذَكَرَ الْخَصَّافُ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ وَلَدَ الْبَنَاتِ يَدْخُلُونَ فِيهَا كَوَلَدِ الْبَنِينَ، وَذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ إذَا أَخَذَ الْأَمَانَ لِنَفْسِهِ، وَوَلَدِهِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ، فَصَارَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَتَانِ (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْخَصَّافِ أَنَّ الْوَلَدَ يُنْسَبُ إلَى أَبَوَيْهِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ وَلَدُ أَبِيهِ وَوَلَدُ أُمِّهِ حَقِيقَةً لِانْخِلَاقِهِ مِنْ مَائِهِمَا جَمِيعًا، ثُمَّ وَلَدُ ابْنِهِ يُنْسَبُ إلَيْهِ، فَكَذَا وَلَدُ بِنْتِهِ؛ وَلِهَذَا يُضَافُ أَوْلَادُ سَيِّدَتِنَا، فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إلَى أَبِيهَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ ابْنِي هَذَا لَسَيِّدٌ، وَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَالَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنَّ ابْنَيَّ لَسَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» . وَكَذَا يُقَالُ لِسَيِّدِنَا عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُنْتَسَبُ إلَيْهِ إلَّا مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ يُنْسَبُونَ إلَى آبَائِهِمْ لَا إلَى أَبُ الْأُمِّ قَالَ الشَّاعِرُ بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا ... بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ (وَأَمَّا) قَوْلُهُ إنَّ الْوَلَدَ يُنْسَبُ إلَى أَبِيهِ وَإِلَى أُمِّهِ قُلْنَا: نَعَمْ، وَبِنْتُ الرَّجُلِ وَلَدُهُ حَقِيقَةً، فَكَانَ وَلَدُهَا وَلَدَهُ حَقِيقَةً بِوَاسِطَتِهَا حَتَّى تَثْبُتَ جَمِيعُ أَحْكَامِ الْأَوْلَادِ فِي حَقِّهِ، كَمَا تَثْبُتُ فِي أَوْلَادِ الْبَنِينَ إلَّا أَنَّ النَّسَبَ إلَى الْأُمَّهَاتِ مَهْجُورٌ عَادَةً، فَلَا يُنْسَبُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ إلَى آبَاءِ الْأُمَّهَاتِ بِوَسَاطَتِهِنَّ، وَلَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ النِّسْبَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَأَوْلَادُ سَيِّدَتِنَا، فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - لَمْ تُهْجَرْ نِسْبَتُهُمْ إلَيْهَا، فَيُنْسَبُونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَاسِطَتِهَا، وَقِيلَ إنَّهُمْ خُصُّوا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَشْرِيفًا وَإِكْرَامًا لَهُمْ، وَقَدْ رَوَى بَعْضُ مَشَايِخِنَا عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ بَنِي بِنْتٍ بَنُو أَبِيهِمْ إلَّا أَوْلَادَ، فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فَإِنَّهُمْ أَوْلَادِي» ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا وَلَدٌ وَاحِدٌ، فَالثُّلُثُ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَتَنَاوَلُ الْوَلَدَ الْوَاحِدَ، فَمَا زَادَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، وَلَا يَتَنَاوَلُ الْجَمْعَ قَالَ هِشَامٌ: سَأَلَتْ مُحَمَّدًا عَنْ رَجُلٍ لَهُ ابْنٌ وَبِنْتٌ، فَقَالَ: أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ ابْنَيَّ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي، فَكَمْ يُجْعَلُ لِلْمُوصَى لَهُ قَالَ: ذَلِكَ إلَى الْوَرَثَةِ إنْ شَاءُوا أَعْطُوهُ أَقَلَّ الْأَنْصِبَاءِ قُلْت لَهُ: فَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنَتَانِ، وَابْنٌ قَالَ: فَكَذَلِكَ أَيْضًا قُلْت

فَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنَانِ وَبِنْتٌ أَوْ ابْنَانِ وَبِنْتَانِ أَوْ بَنُونَ وَبَنَاتٌ، فَقَالَ: قَدْ أَوْصَيْت: لِفُلَانٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ ابْنِي، فَقَالَ: يُعْطَى الْمُوصَى لَهُ فِي هَذَا نَصِيبُ ابْنٍ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: أَحَدَ ابْنِي وَلَهُ ابْنٌ وَبِنْتٌ عُلِمَ أَنَّهُ سَمَّى الْأُنْثَى ابْنًا لِاجْتِمَاعِهَا مَعَ الذَّكَرِ، فَدَخَلَتْ فِي الْكَلَامِ، فَكَانَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَحْمِلُوا الْوَصِيَّةَ عَلَى نَصِيبِهِمَا، وَإِذَا كَانَ لَهُ بَنُونَ، وَبَنَاتٌ أَوْ ابْنَانِ وَبَنَاتٌ فَقَالَ: أَحَدُ بَنِيَّ يَقَعُ عَلَى الذُّكُورِ، فَتُحْمَلُ الْوَصِيَّةُ عَلَى نَصِيبِ، وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ نَصِيبِ الْبَنَاتِ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَإِذَا كَانَ لَهُ بِنْتٌ وَابْنٌ أَوْ ابْنٌ وَبِنْتَانِ أَوْ ابْنٌ وَبَنَاتٌ فَالِابْنُ وَحْدَهُ لَا يَكُونُ بَنِينَ. وَالْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ لَا يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ، فَلَا بُدَّ مِنْ إدْخَالِ الْإِنَاثِ مَعَهُ، فَحُمِلَتْ الْوَصِيَّةُ عَلَى نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى اعْتِبَارِهِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَإِنَّ الِاسْمَ يُحْمَلُ عَلَى الذُّكُورِ إلَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ. وَلَوْ أَوْصَى لِيَتَامَى بَنِي فُلَانٍ فَإِنْ كَانَ يَتَامَاهُمْ يُحْصَوْنَ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ، وَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ؛ لِكَوْنِهِمْ مَعْلُومِينَ، فَأَمْكَنَ إيقَاعُهَا تَمْلِيكًا مِنْهُمْ، فَصَحَّتْ كَمَا لَوْ أَوْصَى لِيَتَامَى هَذِهِ السِّكَّةِ، أَوْ هَذِهِ الدَّارِ، وَيَسْتَوِي فِيهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ؛ لِأَنَّ الْيَتِيمَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَنْ مَاتَ أَبُوهُ، وَلَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ، وَهَذَا لَا يَتَعَرَّضُ لِلْفَقْرِ وَالْغِنَى. وَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى خَيْرًا كَيْ لَا تَأْكُلَهَا الصَّدَقَةُ» قَدْ سُمُّوا يَتَامَى، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ، فَكُلُّ صَغِيرٍ مَاتَ أَبُوهُ يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ، وَمَنْ لَا فَلَا، فَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، وَتُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهَا لَوْ صُرِفَتْ إلَى الْأَغْنِيَاءِ لَبَطَلَتْ لِجَهَالَةِ الْمُوصَى لَهُ، وَلَوْ صُرِفَتْ إلَى الْفُقَرَاءِ لَجَازَتْ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِالصَّدَقَةِ، وَإِخْرَاجٌ لِلْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ مَعْلُومٌ، وَأَمْكَنَ أَنْ تُجْعَلَ الْوَصِيَّةُ لِلْفُقَرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ لُغَةً لَكِنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ سَبَبِ الْحَاجَةِ، وَعَمَّا يُوجِبُ الْحَاجَةَ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ الصِّغَرَ وَالِانْفِرَادَ عَنْ الْأَبِ أَعْظَمُ أَسْبَابِ الْحَاجَةِ إذْ الصَّغِيرُ عَاجِزٌ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِمَّنْ يَقُومُ بِإِيصَالِ مَنَافِعَ مَالِهِ إلَيْهِ، وَكَذَا هُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْقِيَامِ بِحِفْظِ مَالِهِ، واسْتِنْمائِهِ، وَلَا بَقَاءَ لِلْمَالِ عَادَةً إلَّا بِالْحِفْظِ وَالِاسْتِنْمَاء، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَيَصِيرُ فِي الْحُكْمِ كَمَنْ انْقَطَعَتْ عَلَيْهِ مَنَافِعُ مَالِهِ بِسَبَبِ بُعْدِهِ عَنْ مَالِهِ، وَهُوَ ابْنُ السَّبِيلِ، فَصَارَ الِاسْم بِهَذِهِ الْوَسَاطَةِ مُنْبِئًا عَنْ الْحَاجَةِ؛ وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَلَ اللَّهُ لِلْيَتَامَى سَهْمًا مِنْ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} [الأنفال: 41] . وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} [الحشر: 7] ، وَأَرَادَ بِهِ الْمُحْتَاجِينَ مِنْهُمْ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ تَصْحِيحُ هَذَا التَّصَرُّفِ بِجَعْلِهِ إيصَاءً بِالصَّدَقَةِ. وَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى لِزَمْنَى بَنِي فُلَانٍ أَوْ لِعُمْيَانِهِمْ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَدُلُّ عَلَى سَبَبِ الْحَاجَةِ عَادَةً، وَهُوَ الزَّمَانَةُ، وَالْعَمَى، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ، وَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ إنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَكِّنُ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ بِجَهَالَةِ الْمُوصَى لَهُمْ، وَلَا بِطَرِيقِ الْإِيصَاءِ بِالصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِ الِابْنِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، وَلَا مَا يُوجِبُ الْحَاجَةَ، وَهَهُنَا، بِخِلَافِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ، ثُمَّ إذَا صَحَّتْ، وَانْصَرَفَتْ الْوَصِيَّةُ إلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ الْيَتَامَى، فَإِنْ صُرِفَ إلَى اثْنَيْنِ مِنْهُمْ فَصَاعِدًا؛ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ صُرِفَ جَمِيعُ الثُّلُثِ إلَى، وَاحِدٍ؛ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَالْأَفْضَلُ لِلْمُوصِي أَنْ يَصْرِفَ إلَى كُلِّ مَنْ قَدَرَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْعَمَلِ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظُ، وَتَحْقِيقِ مَقْصُودِ الْمُوصِي، وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَرَامِلِ بَنِي فُلَانٍ؛ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ سَوَاءٌ كُنَّ يُحْصَيْنَ، أَوْ لَا يُحْصَيْنَ أَمَّا إذَا كُنَّ يُحْصَيْنَ، فَلَا يُشْكِلُ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ تَمْلِيكًا مِنْهُنَّ بِأَعْيَانِهِنَّ؛ لِكَوْنِهِنَّ مَعْلُومَاتٍ. وَكَذَلِكَ إذَا كُنَّ لَا يُحْصَيْنَ؛ لِأَنَّ فِي الِاسْمِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْمَلَةَ اسْمٌ لِامْرَأَةٍ بَالِغَةٍ، فَارَقَتْ زَوْجَهَا بِطَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ كَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيُّ: الْأَرْمَلَةُ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا مِنْ قَوْلِهِمْ أَرْمَلَ الْقَوْمُ، فَهُمْ مُرْمِلُونَ إذَا فَنِيَ زَادُهُمْ وَمَنْ فَنِيَ زَادُهُ كَانَ مُحْتَاجًا، فَكَانَ فِي الِاسْمُ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، فَتَقَعُ وَصِيَّةً بِالصَّدَقَةِ، وَإِخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحِدٌ مَعْلُومٌ وَهَلْ يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الرِّجَالُ الَّذِينَ فَارَقُوا أَزْوَاجَهُمْ؟ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَا يَدْخُلُونَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَدْخُلُ فِي كُلِّ مَنْ خَرَجَ مِنْ كَرْمَةِ فُلَانٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقُتَبِيُّ، وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ جَرِيرٍ الشَّاعِرِ

هَذِي الْأَرَامِلُ قَدْ قَضَيْتَ حَاجَتَهَا ... فَمَنْ لِحَاجَةِ هَذَا الْأَرْمَلِ الذَّكَرِ أَطْلَقَ اسْمَ الْأَرْمَلِ عَلَى الرَّجُلِ. (وَلَنَا) أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الِاسْمِ لِلْمَرْأَةِ لِمَا ذَكَرْنَا عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَهْلِ اللُّغَةِ رَوَى عَنْهُ أَبُو عَبِيدٍ وَأَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ وَأَقْرَانُهُمْ كَمَا رُوِينَا عَنْ الْخَلِيلِ، وَالْأَصْمَعِيِّ، وَأَقْرَانِهِمَا. وَقَالَ الْخَلِيلُ: يُقَالُ: امْرَأَةٌ أَرْمَلَةُ، وَلَا يُقَالُ: رَجُلٌ أَرْمَلُ إلَّا فِي الْمَلِيحِ مِنْ الشِّعْرِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُقَالُ: رَجُلٌ أَرْمَلُ إلَّا فِي الشِّعْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الِاسْمَ لَمَّا كَانَ مُشْتَقًّا مِنْ قَوْلِهِمْ أَرْمَلَ الْقَوْمُ إذَا، فَنِيَ زَادُهُمْ، فَالْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي فَنِيَ زَادُهَا بِمَوْتِ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ لَا عَلَى الْمَرْأَةِ، فَإِذَا مَاتَ، فَقَدْ فَنِيَ زَادُهَا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ جَرِيرٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَلِيحِ الشِّعْرِ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ أَوْ هُوَ شَاذٌّ كَمَا قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، أَوْ لِازْدِوَاجِ الْكَلَامِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] . وَقَالَ تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] . وَكَمَا قَالَ الشَّاعِر: ، فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإِنْ تَتَأَيَّمِي ... مَدَى الدَّهْرِ مَا لَمْ تَنْكِحِي أَتَأَيَّمْ (وَمَعْلُومٌ) أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُسَمَّى أَيِّمًا لَكِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لِازْدِوَاجِهِ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ تَتَأَيَّمِي كَذَا هَهُنَا، وَإِطْلَاقُ الِاسْمِ لَا يَنْصَرِفُ إلَى مَا لَا يُذْكَرُ إلَّا لِضَرُورَةِ تَمْلِيحِ الشِّعْرِ، وَازْدِوَاجِ الْكَلَامِ، أَوْ فِي الشُّذُوذِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا تَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْأَفْهَام وَالْأَوْهَامُ، وَذَلِكَ مَا قُلْنَا، وَلَوْ أَوْصَى لِأَيَامَى بَنِي فُلَانٍ، فَإِنْ كُنَّ يُحْصَيْنَ؛ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كُنَّ لَا يُحْصَيْنَ لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِ الْأَيِّمِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ لِتُجْعَلَ، وَصِيَّتَهُ بِالصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ الْأَيِّمَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِامْرَأَةٍ جُومِعَتْ فِي قُبُلِهَا، وَفَارَقَهَا زَوْجُهَا، وَشَرَحَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ الْأَيِّمُ كُلُّ امْرَأَةٍ جُومِعَتْ بِنِكَاحٍ جَائِزٍ أَوْ فَاسِدٍ أَوْ فُجُورٍ، وَلَا زَوْجَ لَهَا غَنِيَّةً كَانَتْ أَوْ فَقِيرَةً صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، فَلَا يَكُونُ إيصَاءً بِالتَّصَدُّقِ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَرَامِلِ بَنِي فُلَانٍ، وَهُنَّ لَا يُحْصَيْنَ إنَّهَا جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْأَرْمَلَةِ يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَجُعِلَ وَصِيَّةً بِالصَّدَقَةِ، ثُمَّ إذَا كُنَّ يُحْصَيْنَ حَتَّى جَازَتْ الْوَصِيَّةُ يَدْخُلُ فِيهَا الصَّغِيرَةُ، وَالْبَالِغَةُ، وَالْغَنِيَّةُ وَالْفَقِيرَةُ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ فِي اللُّغَةِ لَا يَتَعَرَّضُ لِمَا سِوَى الْأُنُوثَةِ وَحُلُولِ الْجِمَاعِ بِهَا فِي قُبُلِهَا وَفِرَاقِهَا زَوْجَهَا. وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] ، وَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْكَبِيرَةَ وَالصَّغِيرَةَ حَتَّى يَجُوزَ إنْكَاحُ الصِّغَارِ، كَمَا يَجُوزُ إنْكَاحُ الْكِبَارِ، وَكَذَا لَا يَتَعَرَّضُ لِلْفَقْرِ وَالْغِنَى؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] ، وَلَوْ كَانَ مُتَعَرِّضًا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ} [النور: 32] مَعْنًى، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَيِّمَ اسْمٌ لِامْرَأَةِ جُومِعَتْ فِي قُبُلهَا، فَارَقَهَا زَوْجُهَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ الْبَلْخِيّ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - إنَّ الْجِمَاعَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ هَذَا الِاسْمِ. وَكَذَا الْأُنُوثَةُ بَلْ يَقَعُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا وَعَلَى الْبِكْرِ، وَيَقَعُ عَلَى الرَّجُلِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ إنَّ الْقُبُورَ تَنْكِحُ الْأَيَامَى ... النِّسْوَةَ الْأَرَامِلَ الْيَتَامَى ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَبْرَ يَضُمُّ الْبِكْرَ إلَى نَفْسِهِ كَمَا يَضُمُّ الثَّيِّبَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإِنْ تَتَأَيَّمِي ... مَدَى الدَّهْرِ مَا لَمْ تَنْكِحِي أَتَأَيَّمْ أَيْ أَمْكُثُ بِلَا زَوْجٍ مَا مَكَثْتِ أَنْتِ بِلَا زَوْجٍ. وَقَالَ آخَرُ: فَلَا تَنْكِحَنْ جَبَّارَةً إنَّ شَرَّهَا ... عَلَيْك حَرَامٌ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَيَّمَا ، وَالْجَوَابُ أَنَّ حَقِيقَةَ اللُّغَةِ مَا حَكَيْنَا عَنْ نَقَلَةِ اللُّغَةِ، وَهُمْ أَهْلُ دَقَائِقِ الْأَلْفَاظِ، فَيُقْبَلُ نَقْلُهُمْ إيَّاهُ فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ، وَمَا وَرَدَ فِي اسْتِعْمَالِ بَعْضِ الْفُصَحَاءِ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ تِلْكَ الْحَقَائِقِ، فَحُمِلَ عَلَى الْمَجَازِ إمَّا بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ، وَالِازْدِوَاجِ أَوْ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْمَعَانِي الَّتِي وُضِعَ لَهَا الِاسْمُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأُنُوثَةَ أَصْلٌ، وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ أَنَّهُ لَا يُدْخَلُ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ فِيهِ يُقَالُ: امْرَأَةٌ أَيِّمٌ، وَلَا يُقَالُ أَيِّمَةٌ، وَلَوْ كَانَ الِاسْمُ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ، وَالْأُنْثَى لَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِإِدْخَالِ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ فِي الْمَرْأَةِ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي صِفَةِ الْأَيِّمِ جُومِعَتْ بِفُجُورٍ، أَوْ غَيْرِ فُجُورٍ مَذْهَبُهُمَا، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الَّتِي جُومِعَتْ بِفُجُورٍ لَا تَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الَّتِي جُومِعَتْ بِفُجُورٍ بِكْرٌ لَا أَيِّمٌ عِنْدَهُ حَتَّى

تُزَوَّجَ، كَمَا تُزَوَّجُ الْأَبْكَارُ عِنْدَهُ، وَمِنْهُمْ مِنْ قَالَ: هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهَا أَيِّمٌ حَقِيقَةً لِوُجُودِ الْجِمَاعِ إلَّا أَنَّهَا تُزَوَّجُ كَمَا تُزَوَّجُ الْأَبْكَارُ عِنْدَهُ لِمُشَارَكَتِهَا الْأَبْكَارَ عِنْدَهُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أُقِيمَ فِيهِ السُّكُوتُ مَقَامَ الرِّضَا نُطْقًا فِي حَقِّهَا بِاعْتِبَارِ السُّكُوتِ، وَهُوَ الْحَيَاءُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَلَوْ أَوْصَى لِكُلِّ ثَيِّبٍ مِنْ بَنِي فُلَانٍ إنْ كُنَّ يُحْصَيْنَ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ كُلُّ امْرَأَةٍ جُومِعَتْ بِحَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ لَهَا زَوْجٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ بَلَغَتْ مَبْلَغَ النِّسَاءِ، أَوْ لَمْ تَبْلُغْ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْفَقِيرَةُ وَالْغَنِيَّةُ وَالصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَعَرَّضُ لِذَلِكَ. وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5] أَدْخَلَ فِيهِ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ، وَالْفَقِيرَاتِ وَالْغَنِيَّاتِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُنَّ دَخَلْنَ فِيمَا يُقَابِلُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَبْكَارًا فَكَذَا فِي قَوْله تَعَالَى ثَيِّبَاتٍ فَدَلَّ الْأَمْرُ عَلَى اشْتِرَاطِ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهُ قَابَلَ الثَّيِّبَاتِ بِالْأَبْكَارِ، وَهُنَّ اللَّاتِي لَمْ يُجَامَعْنَ، فَكَانَتْ الثَّيِّبَاتُ اللَّاتِي جُومِعْنَ لِتَصِحَّ الْمُقَابَلَةُ، وَلَا تُشْتَرَطُ مُفَارَقَتُهَا زَوْجَهَا، بِخِلَافِ الْأَرْمَلَةِ؛ لِأَنَّ اللُّغَةَ كَذَا تَقْتَضِي، فَيُتَّبَعُ فِيهِ وَضْعُ أَرْبَابِ اللُّغَةِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَا يَتَنَاوَلُ الرَّجُلَ حَقِيقَةً، وَإِنْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إطْلَاقٌ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِلِازْدِوَاجِ وَالْمُقَابَلَةِ، وَإِنْ كُنَّ لَا يُحْصَيْنَ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الِاسْمِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ اسْمٌ لِأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جُومِعَتْ، وَلَيْسَ فِي الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِّ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، فَلَا يُرَادُ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ إلَّا التَّمْلِيكُ وَالْمُتَمَلِّكُ مَجْهُولٌ، فَلَا يَصِحُّ، وَلَوْ أَوْصَى لِكُلِّ بِكْرٍ مِنْ بَنِي فُلَانٍ يَجُوزُ إذَا كُنَّ مَحْصُوَّاتٍ لَمَا قُلْنَا، وَيَدْخُلُ فِيهِ الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ الْغَنِيَّةُ وَالْفَقِيرَةُ إذْ الْبِكْرُ اسْمٌ لِامْرَأَةٍ لَمْ تُجَامَعْ بِنِكَاحٍ، وَلَا غَيْرِهِ كَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَى الذَّكَرِ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ» بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَهُوَ الْمَجَازُ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ وَالِازْدِوَاجِ، أَوْ كَانَ لَهَا حَقِيقَةً، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مُتَعَارَفِ الْخَلْقِ عَلَى الْأُنْثَى، فَصَارَ بِحَالٍ لَا تَنْصَرِفُ أَوْهَامُ النَّاسِ عِنْدَ إطْلَاقِهِ إلَّا إلَى الْأُنْثَى، فَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى الْمَجَازِ، وَلَوْ كَانَتْ عُذْرَتُهَا زَالَتْ بِالْوُضُوءِ أَوْ بِالْوَثْبَةِ، أَوْ بِذَرُورِ الدَّمِ تَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُجَامَعْ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ خَالَفَ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالُوا إنَّ هَذِهِ أَيْضًا لَا تَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِكْرٍ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمَا ذَكَرْنَا، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الَّتِي زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِفُجُورٍ لَا تَكُونُ بِكْرًا، وَلَا تَكُونُ لَهَا، وَصِيَّةٌ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا مِنْهُمْ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّ هَذَا قَوْلَهُمَا (فَأَمَّا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَإِنَّهَا بِكْرٌ، وَتَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِكْرٍ حَقِيقَةً لِعَدَمِ حَدِّ الْبَكَارَةِ، وَإِنَّمَا تُزَوَّجُ تَزَوُّجَ الْأَبْكَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَلَوْ أَوْصَى لِذَوِي قَرَابَتِهِ أَوْ قَرَابَاتِهِ، أَوْ لِأَنْسَابِهِ أَوْ لِأَرْحَامِهِ، أَوْ لِذَوِي أَرْحَامِهِ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْخَمْسَةُ سَوَاءٌ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَصِيَّةُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِلْأَقْرَبِ، فَالْأَقْرَبِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - يُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ الرَّحِمُ الْمَحْرَمُ وَالْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ وَجَمْعُ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا، وَأَنْ يَكُونَ سِوَى الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَرِثُ، وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَالْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إلَى أَقْصَى أَبٍ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِلْعَلَوِيَّةِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ يُصْرَفُ الثُّلُثُ إلَى مَنْ اتَّصَلَ بِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ، وَبِسَيِّدِنَا الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا إلَى مَنْ فَوْقَهُمَا مِنْ الْآبَاءِ، وَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ: اعْتِبَارُ جَمْعِ الْوَصِيَّةِ وَأَنْ لَا يَكُونَ وَالِدًا وَلَا وَلَدًا وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَرِثُ (أَمَّا) الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ لَفْظَ ذَوِي: لَفْظُ جَمْعٍ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَفِي بَابِ الْمِيرَاثِ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الثِّنْتَيْنِ مِنْ الْبَنَاتِ، وَالْأَخَوَاتِ أُلْحِقَتَا بِالثَّلَاثِ، فَصَاعِدًا فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ، وَحَجْبُ الْأُمِّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ عَلَى مَا مَرَّ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِذَوِي قَرَابَتِهِ اسْتَحَقَّ الْوَاحِدُ فَصَاعِدًا كُلَّ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ ذِي لَيْسَ بِلَفْظِ جَمْعٍ. وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَلِأَنَّ الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ لَا يُسَمَّيَانِ قَرَابَتَيْنِ عُرْفًا وَحَقِيقَةً أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَصْلٌ، وَالْوَلَدَ فَرْعُهُ وَجُزْؤُهُ، وَالْقَرِيبُ مَنْ يَقْرُبُ مِنْ غَيْرِهِ لَا مِنْ نَفْسِهِ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْقَرِيبِ. وَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] عَطَفَ الْأَقْرَبَ عَلَى الْوَالِدِ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايِرَةَ فِي الْأَصْلِ، وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ فِي

هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، فَهَلْ يَدْخُلُ فِيهَا الْجَدُّ وَوَلَدُ الْوَلَدِ؟ ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُمَا يَدْخُلَانِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا، وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُمَا لَا يَدْخُلَانِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ، وَوَلَدَ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ، فَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا الْوَالِدُ، وَالْوَلَدُ كَذَا الْجَدُّ وَوَلَدُ الْوَلَدِ (وَأَمَّا) الثَّالِثُ فَلِمَا رُوِينَا عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا، وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْمَحْرَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُعْتَبَرُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ، فَالْأَقْرَبُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُعْتَبَرُ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَرِيبَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ مَعْنَى، وَهُوَ الْقُرْبُ، وَقَدْ وُجِدَ الْقُرْبُ، فَيَتَنَاوَلُ الرَّحِمَ الْمَحْرَمَ، وَغَيْرَهُ وَالْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ، وَصَارَ كَمَا لَوْ أَوْصَى لِإِخْوَتِهِ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْإِخْوَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْإِخْوَةُ لِأَبٍ وَالْإِخْوَةُ لِأُمٍّ؛ لِكَوْنِهِ اسْمًا مُشْتَقًّا مِنْ الْأُخُوَّةِ كَذَا هَذَا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ «لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرَيْشًا، فَخَصَّ، وَعَمَّ، فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ضَرًّا وَلَا نَفْعًا يَا مَعْشَرَ بَنِي قُصَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ ضَرًّا، وَلَا نَفْعًا» ، وَكَذَلِكَ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ وَذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَغَيْرُ الْمَحْرَمِ، فَدَلَّ أَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ قَرِيبٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ لِتَعَذُّرِ إدْخَالِ أَوْلَادِ سَيِّدِنَا آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهِ، فَتُعْتَبَرُ النِّسْبَةُ إلَى أَقْصَى أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ الْإِسْلَامُ صَارَتْ الْمَعْرِفَةُ بِالْإِسْلَامِ، وَالشَّرَفُ بِهِ، فَصَارَ الْجَدُّ الْمُسْلِمُ هُوَ النَّسَبُ، فَتَشَرَّفُوا بِهِ، فَلَا يُعْتَبَرُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ بِاسْمِ الْقَرَابَةِ أَوْ الرَّحِمِ، فَالْقَرَابَةُ الْمُطْلَقَةُ هِيَ قَرَابَةُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ؛ وَلِأَنَّ مَعْنَى الِاسْمِ يَتَكَامَلُ بِهَا. وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا مِنْ الرَّحِمِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ فَنَاقِصٌ، فَكَانَ الِاسْمُ لِلرَّحِمِ الْمُحْرَمِ لَا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً لِغَيْرِهِ، فَأَمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ الِاسْمُ مُشْتَرَكًا أَوْ عَامًّا، وَلَا سَبِيلَ إلَى الِاشْتِرَاكِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مُتَجَانِسٌ، وَلَا إلَى الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مُتَفَاوِتٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ لِمَا قُلْنَا حَقِيقَةً، وَلِغَيْرِهِ مَجَازًا، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِإِخْوَتِهِ؛ لِأَنَّ مَأْخَذَ الِاسْمِ، وَهُوَ الْإِخْوَةُ لَا يَتَفَاوَتُ، فَكَانَ اسْمًا عَامًا، فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ هُوَ صِلَةُ الْقَرَابَةِ، وَهَذِهِ الْقَرَابَةُ هِيَ وَاجِبَةُ الْوَصْلِ مُحَرَّمَةُ الْقَطْعِ لَا تِلْكَ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ الدَّيِّنِ الْمُسَارَعَةُ إلَى إقَامَةِ الْوَاجِبِ، فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِإِخْوَتِهِ؛ لِأَنَّ قَرَابَةَ الْإِخْوَةِ وَاجِبَةُ الْوَصْلِ مُحَرَّمَةُ الْقَطْعِ عَلَى اخْتِلَافِ جِهَاتِهَا، فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، وَجَوَابُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - عَلَى زَعْمِهِمَا كَانَ يَسْتَقِيمُ فِي زَمَانِهِمَا؛ لِأَنَّ أَقْصَى أَبِ الْإِسْلَامِ كَانَ قَرِيبًا يَصِلُ إلَيْهِ بِثَلَاثَةِ آبَاءٍ أَوْ أَرْبَعَةِ آبَاءٍ، فَكَانَ الْمُوصَى لَهُ مَعْلُومًا، فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا، فَلَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّ عَهْدَ الْإِسْلَامِ قَدْ طَالَ، فَتَقَعُ الْوَصِيَّةُ لِقَوْمٍ مَجْهُولِينَ، فَلَا تَصِحُّ إلَّا أَنْ نَقُولَ أَنَّهُ يُصْرَفُ إلَى أَوْلَادِ أَبِيهِ وَأَوْلَادِ جَدِّهِ وَأَوْلَادِ جَدِّ أَبِيهِ وَإِلَى أَوْلَادِ أُمِّهِ وَأَوْلَادِ جَدَّتِهِ وَجَدَّةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا، فَيُصْرَفُ إلَيْهِمْ، فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، فَإِنْ تَرَكَ عَمَّيْنِ وَخَالَيْنِ، وَهُمْ لَيْسُوا بِوَرَثَتِهِ بِأَنْ مَاتَ، وَتَرَكَ ابْنًا وَعَمَّيْنِ وَخَالَيْنِ، فَالْوَصِيَّةُ لِلْعَمَّيْنِ لَا لِلْخَالَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ، فَالْأَقْرَبُ، وَالْعَمَّانِ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ الْخَالَيْنِ، فَكَانَا أَوْلَى بِالْوَصِيَّةِ، وَعِنْدَهُمَا الْوَصِيَّةُ تَكُونُ بَيْنَ الْعَمَّيْنِ، وَالْخَالَيْنِ أَرْبَاعًا؛ لِأَنَّ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ سَوَاءٌ عِنْدَهُمَا. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَاحِدٌ وَخَالَانِ، فَلِلْعَمِّ نِصْفُ الثُّلُثِ، وَلِلْخَالَيْنِ النِّصْفُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ حَصَلَتْ بِاسْمِ الْجَمْعِ، وَأَقَلُّ مَنْ يَدْخُلُ تَحْتَ اسْمِ الْجَمْعِ فِي الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعَمُّ الْوَاحِدُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مَنْ يَنْضَمُّ إلَيْهِ مِثْلُهُ، وَإِذَا اسْتَحَقَّ هُوَ النِّصْفَ بَقِيَ النِّصْفُ الْآخَرُ لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ أَقْرَبَ مِنْ الْخَالَيْنِ، فَكَانَ لَهُمَا، وَعِنْدَهُمَا يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَاحِدٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهُ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، فَنِصْفُ الثُّلُثِ لِعَمِّهِ، وَالنِّصْفُ يُرَدُّ عَلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْعَمَّ الْوَاحِدَ لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ، فَبَقِيَ النِّصْفُ الْآخَرُ لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ، فَتَبْطُلُ فِيهِ الْوَصِيَّةُ، وَعِنْدَهُمَا يُصْرَفُ النِّصْفُ الْآخَرُ إلَى ذِي الرَّحِمِ الَّذِي لَيْسَ بِمَحْرَمٍ. وَلَوْ أَوْصَى لِأَهْلِ بَيْتِهِ يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ جَمْعِهِ آبَاؤُهُمْ أَقْصَى أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ حَتَّى أَنَّ الْمُوصِيَ لَوْ كَانَ عَلَوِيًّا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ كُلُّ مَنْ يُنْسَبُ إلَى سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَ عَبَّاسِيًّا يَدْخُلُ فِيهَا كُلُّ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ قِبَلِ الْأَبِ سَوَاءٌ كَانَ بِنَفْسِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى بَعْدَ إنْ كَانَتْ نِسْبَتُهُ إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ، وَلَا يَدْخُلُ مَنْ كَانَتْ نِسْبَتُهُ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَهْلُ بَيْتِ النَّسَبِ وَالنَّسَبُ إلَى الْآبَاءِ وَأَوْلَادِ النِّسَاءِ آبَاؤُهُمْ قَوْمٌ آخَرُونَ، فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ لِأَهْلِ بَيْتِهِ أَبُوهُ وَجَدُّهُ إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يَرِثُ؛ لِأَنَّ بَيْتَ الْإِنْسَانِ أَبُوهُ وَمَنْ يُنْسَبُ إلَى بَيْتِهِ، فَالْأَبُ أَصْلُ الْبَيْتِ، فَيَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ مَنْ تَقَرَّبَ إلَى الْإِنْسَانِ بِغَيْرِهِ لَا بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي أَبٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِنَسَبِهِ أَوْ حَسَبِهِ، فَهُوَ عَلَى قَرَابَتِهِ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إلَى أَقْصَى أَبٍ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ حَتَّى لَوْ كَانَ آبَاؤُهُ عَلَى غَيْرِ دِينِهِ دَخَلُوا فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ عِبَارَةٌ عَمَّنْ يُنْسَبُ إلَى الْأَبِ دُونَ الْأُمِّ. وَكَذَلِكَ الْحَسَبُ، فَإِنَّ الْهَاشِمِيَّ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً، فَوَلَدَتْ مِنْهُ يُنْسَبُ الْوَلَدُ إلَيْهِ لَا إلَى أُمِّهِ، وَحَسْبُهُ أَهْلُ بَيْتِ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ النَّسَبَ وَالْحَسَبَ يَخْتَصُّ بِالْأَبِ دُونَ الْأُمِّ. وَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى لِجِنْسِ فُلَانٍ، فَهُمْ بَنُو الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَجَنَّسُ بِأَبِيهِ، وَلَا يَتَجَنَّسُ بِأُمِّهِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ جِنْسَهُ فِي النَّسَبِ. وَكَذَلِكَ اللُّحْمَةُ عِبَارَةٌ عَنْ الْجِنْسِ، وَذَكَر الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا أَوْصَى لِقَرَابَتِهِ، فَالْقَرَابَةُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْجِنْسُ وَاللُّحْمَةُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ مَنْ يَتَقَرَّبُ إلَى الْإِنْسَانِ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الطَّرَفَيْنِ، بِخِلَافِ الْجِنْسِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ لِآلِ فُلَانٍ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ لِأَهْلِ بَيْتِ فُلَانٍ، فَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْ قَرَابَةِ الْأُمِّ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، وَلَوْ أَوْصَى لِأَهْلِ فُلَانٍ، فَالْوَصِيَّةُ لِزَوْجَةِ فُلَانٍ خَاصَّةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا هَذَا عَلَى جَمِيعِ مَنْ يَعُولُهُمْ فُلَانٌ مِمَّنْ تَضُمُّهُ نَفَقَتُهُ مِنْ الْأَحْرَارِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ زَوْجَتُهُ وَالْيَتِيمُ فِي حِجْرِهِ، وَالْوَلَدُ إذَا كَانَ يَعُولُهُ، فَإِنْ كَانَ كَبِيرًا قَدْ اعْتَزَلَ عَنْهُ، أَوْ كَانَ بِنْتًا قَدْ تَزَوَّجَتْ، فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَمَالِيكُهُ، وَلَا وَارِثُ الْمُوصِي، وَلَا الْمُوصَى لِأَهْلِهِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَهْلَ عِبَارَةٌ عَمَّنْ يُنْفَقُ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَبَرًا عَنْ نَبِيِّهِ سَيِّدِنَا نُوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] . وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قِصَّةِ لُوطٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} [الأنبياء: 76] ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَهْلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُرَادُ بِهِ الزَّوْجَةُ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ يُقَال: فُلَانٌ مُتَأَهِّلٌ وَفُلَانٌ لَمْ يَتَأَهَّلْ، وَفُلَانٌ لَهُ أَهْلٌ، وَفُلَانٌ لَيْسَ لَهُ أَهْلٌ، وَيُرَادُ بِهِ الزَّوْجَةُ، فَتُحْمَلُ الْوَصِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَمَالِيكُ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الْمَوْلَى، وَلَا يَدْخُل فِيهِ وَارِثُ الْمُوصِي؛ لِأَنَّهُ إنْ خَرَجَ مِنْهُ لَا يَدْخُلُ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَوْلَى، وَلَا يَدْخُلُ فُلَانٌ الَّذِي أَوْصَى لِأَهْلِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ لِلْمُضَافِ إلَيْهِ، وَالْمُضَافُ غَيْرُ الْمُضَافِ إلَيْهِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ كَمَا لَوْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ إنَّ فُلَانًا لَا يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِإِخْوَتِهِ، وَلَهُ سِتَّةُ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَلَهُ أَوْلَادٌ يَحُوزُونَ مِيرَاثَهُ، فَالثُّلُثُ بَيْنَ إخْوَتِهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الِاسْمِ سَوَاءٌ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَقْرِبَاءِ فُلَانِ أَنَّهُ يُصْرَفُ إلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ تَحْتَمِلُ التَّفَاوُتَ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ. وَأَمَّا الْأُخُوَّةُ، فَلَا تَحْتَمِلُ التَّفَاوُتَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ هَذَا أَقْرَبُ مِنْ فُلَانٍ، وَلَا يُقَالُ هَذَا أَكْثَرُ أُخُوَّةٍ مِنْ فُلَانٍ هَذَا إذَا كَانَ لَهُ، وَلَدٌ يَحُوزُ مِيرَاثَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؛ فَلَا شَيْءَ لِلْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُمْ وَرَثَةٌ، وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَلِلْإِخْوَةِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ ثُلُثُ ذَلِكَ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ، وَلَا يُقَالُ: إذَا لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ لِلْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَلِلْإِخْوَةِ لِأُمٍّ يَنْبَغِي أَنْ يُصْرَفَ كُلُّ الثُّلُثِ إلَى الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ لِأَنَّا نَقُولُ نَعَمْ هَكَذَا لَوْ لَمْ تَصِحَّ الْإِضَافَة إلَى الْإِخْوَةِ لِأَبٍ، وَأُمٍّ وَإِلَى الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ، وَالْإِضَافَةُ إلَيْهِمْ وَقَعَتْ صَحِيحَةً بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ؛ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ، وَصَارَ هَذَا كَرَجُلٍ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ، فَمَاتَ اثْنَانِ مِنْهُمْ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَلِلْبَاقِي مِنْهُمْ ثُلُثُ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَيْهِمْ، وَقَعَتْ صَحِيحَةً كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَأَحَدُهُمَا مَيِّتٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْإِضَافَةَ لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْوَصِيَّةِ أَصْلًا، فَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْإِضَافَةِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فِي الصِّلَةِ وَلَهُ إخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ وَبَنُو أَخٍ وَبَنُو أُخْتٍ: يُوضَعُ الثُّلُثُ فِي جَمِيعِ قَرَابَتِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَمَنْ وُلِدَ مِنْهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ الصِّلَةَ يُرَادُ بِهَا صِلَةُ الرَّحِمِ، فَكَأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ، وَمَنْ وُلِدَ مِنْهُمْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَيَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

فِي الزِّيَادَاتِ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَخْتَانِهِ، ثُمَّ مَاتَ، فَالْأَخْتَانُ أَزْوَاجُ الْبَنَاتِ، وَالْأَخَوَات، وَالْعَمَّاتِ، وَالْخَالَاتِ، فَكُلُّ امْرَأَةٍ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمُوصِي، فَزَوْجُهَا مِنْ أَخْتَانِهِ، وَكُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ زَوْجِهَا مِنْ ذَكَرٍ، وَأُنْثَى، فَهُوَ أَيْضًا مِنْ أَخْتَانِهِ، وَلَا يَكُونُ الْأَخْتَانُ إلَّا أَزْوَاجَ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِهِمْ مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَلَا يَكُونُ مِنْ الْأَخْتَانِ مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ نِسَاءِ الْمُوصِي أَيْ: زَوْجَاتِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الزَّوْجَةِ، فَهُوَ صِهْرٌ، وَلَيْسَ بِخَتَنٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْإِمْلَاءِ أَيْضًا إذَا قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ لِأَخْتَانِي، فَأَخْتَانُهُ أَزْوَاجُ كُلِّ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ أُخْتٌ، وَبِنْتُ أُخْتٍ، وَخَالَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ زَوْجٌ، وَلِزَوْجِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَبٌ، فَكُلُّهُمْ جَمِيعًا أَخْتَانٌ، وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ الذَّكَرُ، وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ، أُمُّ الزَّوْجِ، وَأَخْتَانُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ فِيهِ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَوْضِعَيْنِ عَلَى أَنَّ الْأَخْتَانَ مَا ذُكِرَ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ. وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: إذَا قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِأَصْهَارِي، فَهُوَ عَلَى كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ زَوْجَتِهِ، وَزَوْجَةِ أَبِيهِ، وَزَوْجَةِ ابْنِهِ، وَزَوْجَةِ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أَصْهَارُهُ، وَلَا تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الزَّوْجَةُ، وَلَا امْرَأَةُ أَبِيهِ، وَلَا امْرَأَةُ أَخِيهِ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ، وَالدَّلِيلُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْأَصْهَارَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَةِ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَتَزَوَّجَهَا أَعْتَقَ مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا إكْرَامًا لَهَا» . وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ أَصْهَارَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا أَوْصَى فَقَالَ: ثُلُثُ مَالِي لِجِيرَانِي، فَهُوَ لِجِيرَانِهِ الْمُلَاصِقِينَ لِدَارِهِ مِنْ السُّكَّانِ عَبِيدًا كَانُوا أَوْ أَحْرَارًا نِسَاءً كَانُوا أَوْ رِجَالًا ذِمَّةً كَانُوا أَوْ مُسْلِمِينَ بِالسَّوِيَّةِ قَرُبَتْ الْأَبْوَابُ، أَوْ بَعُدَتْ إذَا كَانُوا مُلَاصِقِينَ لِلدَّارِ، وَعِنْدَهُمَا الثُّلُثُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِغَيْرِهِمْ مِنْ الْجِيرَانِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ مِمَّنْ يَضُمُّهُمْ مَسْجِدٌ، أَوْ جَمَاعَةٌ وَاحِدَةٌ، وَدَعْوَةٌ وَاحِدَةٌ، فَهَؤُلَاءِ جِيرَانُهُ فِي كَلَامِ النَّاسِ. وَقَالَ فِي الزِّيَادَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا أَوْصَى لِجِيرَانِهِ، فَقِيَاسُهُ أَنْ يَكُونَ لَلْمُلَاصِقِينَ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الثُّلُثُ لَلسَّكَّانِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَسْكُنُ تِلْكَ الدُّورَ الَّتِي تَجِبُ لِأَجْلِهَا الشُّفْعَةُ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَهُ دَارٌ فِي تِلْكَ الدُّورِ، وَلَيْسَ بِسَاكِنٍ فِيهَا، فَلَيْسَ مِنْ جِيرَانِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَأَمَّا أَنَا، فَأَسْتَحْسِنُ أَنْ أَجْعَلَ الْوَصِيَّةَ لِجِيرَانِهِ الْمُلَاصِقِينَ مِمَّنْ يَمْلِكُ الدُّورَ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُهَا، وَلِمَنْ يَجْمَعُهُ مَسْجِدُ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ الَّتِي فِيهَا الْمُوصِي مِنْ الْمُلَاصِقِينَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ السُّكَّانِ مِمَّنْ فِي تِلْكَ الْمَحَلَّةِ، وَغَيْرِهِمْ سَوَاءٌ فِي الْوَصِيَّةِ الْأَقْرَبُونَ، وَالْأَبْعَدُونَ، وَالْكَافِرُ، وَالْمُسْلِمُ، وَالصَّبِيُّ، وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ لِلْمَمَالِيكِ، وَالْمُدَبَّرِينَ، وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ (وَأَمَّا) الْمُكَاتَبُونَ، فَهُمْ فِي الْوَصِيَّةِ إذَا كَانُوا سُكَّانًا فِي الْمَحَلَّةِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: إنَّ اسْمَ الْجَارِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الْمُلَاصِقِ يَقَعُ عَلَى الْمُقَابِلِ، وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يَجْمَعُهُمَا مَسْجِدٌ وَاحِدٌ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَمَّى جَارًا. وَقَالَ «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» (وَرُوِيَ) أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسَّرَ ذَلِكَ، فَقَالَ: هُمْ الَّذِينَ يَجْمَعُهُمْ مَسْجِدٌ وَاحِدٌ؛ وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُوصِي مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْجَارِ هُوَ الْبِرُّ بِهِ، وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْمُلَاصِقِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْجِوَارَ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ الِاتِّصَالُ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ بِلَا حَائِلٍ بَيْنَهُمَا هُوَ حَقِيقَةُ الْمُجَاوَرَةِ، فَأَمَّا مَعَ الْحَائِلِ، فَلَا يَكُونُ مُجَاوِرًا حَقِيقَةً، وَلِهَذَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِلْمُلَاصِقِ لَا لِلْمُقَابِلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَارٍ حَقِيقَةً (وَمُطْلَقُ) الِاسْمِ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ وَلِأَنَّ الْجِيرَانَ الْمُلَاصِقِينَ هُمْ الَّذِينَ يَكُونُ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ حُقُوقٌ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا حَالَ حَيَاتِهِمْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ قَضَاءَ حَقٍّ كَانَ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَتَنْصَرِفُ الْوَصِيَّةُ إلَى الْجِيرَانِ الْمُلَاصِقِينَ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ السُّكْنَى فِي الْمِلْكِ الْمُلَاصِقِ لِمِلْكِ الْمُوصِي، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ صَارَ كَأَنَّهُ جَارٌ لَهُ، فَيَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ جَارُ الْمَسْجِدِ، وَجَارُ الْمَسْجِدِ فَسَّرَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَإِذَا أَوْصَى لِمَوَالِي فُلَانٍ، وَهُوَ أَبُو فَخِذٍ أَوْ قَبِيلَةٍ، أَوْ لِبَنِي فُلَانٍ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: لِمَوَالِي قَبِيلَةِ فُلَانٍ، وَلِبَنِي قَبِيلَةِ فُلَانٍ، وَيُرِيدُ بِهِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِمْ بِالنَّسَبِ، وَالْمُنْتَمِينَ إلَيْهِمْ بِالْوَلَاءِ هَذَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ، وَيَصِيرُ كَالْمَنْطُوقِ بِمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَهُمْ، وَلَوْ قَالَ: نَصُّ هَذَا ثَبَتَ الْمَالُ لِلْمُنْتَسِبِينَ إلَى هَذِهِ الْقَبِيلَةِ، وَالْمُنْتَمِينَ إلَيْهِمْ بِالْوَلَاءِ كَانَ الْجَوَابُ مَا قُلْنَا كَذَا هَهُنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ فُلَانٌ أَبَا فَخِذٍ أَوْ قَبِيلَةٍ

الشرط الذي يرجع إلى الموصى به

فَإِنَّ هُنَاكَ لَا عُرْفَ فَعُمِلَ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَلَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِالدَّلِيلِ الظَّاهِرِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ؛ لِأَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا قَالَ: ثُلُثُ مَالِي لِمَوَالِي فُلَانٍ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ جَمِيعُ مَنْ نَجَّزَ عَتَاقَهُ فِي صِحَّتِهِ، وَفِي مَرَضِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ أَوْ بَعْدَهَا؛؛ لِأَنَّ نَفَاذَ الْوَصِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَوْتِ، وَكُلُّ مَنْ أَعْتَقَهُ فِي الْمَرَضِ أَوْ فِي الصِّحَّةِ بَعْدَ أَنْ نَجَّزَ إعْتَاقُهُ صَارَ مَوْلًى بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ، فَأَمَّا الْمُدَبَّرُونَ، وَأُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ، فَهَلْ يَدْخُلُونَ تَحْتَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ؟ (رُوِيَ) عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ، وَرُوِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ تَعَلُّقَ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ أَوَانَ الْمَوْتِ، وَهُمْ مَوَالِيهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْوَصِيَّةَ (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ أَوَانَ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ، وَهُوَ وَقْتُ الْمَوْتِ أَوَانُ عِتْقِهِمْ، فَيُعْتَقُونَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، ثُمَّ يَصِيرُونَ مَوَالِيهِ بَعْدَهُ، وَالْوَصِيَّةُ تَنَاوَلَتْ مَنْ كَانَ مَوْلًى عِنْدَ مَوْتِهِ، وَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَيْسُوا بِمَوَالِيهِ، فَلَا يَدْخُلُونَ فِي الْوَصِيَّةِ (وَلَوْ كَانَ) قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَضْرِبْكَ، فَأَنْتَ حُرٌّ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَضْرِبَهُ عَتَقَ، وَدَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ لِتَحَقُّقِ عَدَمِ الضَّرْبِ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ حُصُولِهِ مِنْ قِبَلِهِ، فَيَصِيرُ مَوْلًى لَهُ، ثُمَّ يَعْتِقُهُ الْمَوْتُ، ثُمَّ تُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ، فَكَانَ مَوْلًى وَقْتَ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ، وَوُجُوبِهَا، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [الشَّرْط الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوصَى بِهِ] (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوصَى بِهِ، فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَالًا، أَوْ مُتَعَلِّقًا بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابُ الْمِلْكِ، أَوْ إيجَابُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْإِعْتَاقِ، وَمَحَلُّ الْمِلْكِ هُوَ الْمَالُ، فَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ مِنْ أَحَدٍ، وَلِأَحَدٍ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ أَحَدٍ، وَلَا بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ. (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُتَقَوِّمًا، فَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمَالٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ كَالْخَمْرِ فَإِنَّهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَالًا حَتَّى تُوَرَّثَ لَكِنَّهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ حَتَّى لَا تَكُونَ مَضْمُونَةً بِالْإِتْلَافِ، فَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَلَهُ بِالْخَمْرِ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ كَالْخَلِّ، وَتَجُوزُ بِالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ؛ لِأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَنَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَهِبَتُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ عَيْنًا، أَوْ مَنْفَعَةً عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى تَجُوزَ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ مِنْ خِدْمَةِ الْعَبْدِ، وَسُكْنَى الدَّارِ، وَظَهْرِ الْفَرَسِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَنَافِعِ وَصِيَّةٌ بِمَالِ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ نَفَاذَ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ تَحْصُلُ الْمَنَافِعُ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ مِلْكُهُمْ، وَمِلْكُ الْمَنَافِعِ تَابِعٌ لَمِلْكِ الرَّقَبَةِ، فَكَانَتْ الْمَنَافِعُ مِلْكَهُمْ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ مِلْكُهُمْ، فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ وَصِيَّةً مِنْ مَالِ الْوَارِثِ، فَلَا تَصِحُّ؛ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَنَافِعِ فِي مَعْنَى الْإِعَارَةِ إذْ الْإِعَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ كَذَلِكَ، وَالْعَارِيَّةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُعِيرِ، فَالْمَوْتُ لَمَّا أَثَّرَ فِي بُطْلَانِ الْعَقْدِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ بَعْدَ صِحَّتِهِ، فَلَأَنْ يَمْنَعَ مِنْ الصِّحَّةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ. (وَلَنَا) أَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ تَمَلَّكَ حَالَ حَيَاتِهِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَالْإِعَارَةِ، فَلَأَنْ يَمْلِكَ بِعَقْدِ الْوَصِيَّةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَوْسَعُ الْعُقُودِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَحْتَمِلُ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ سَائِرُ الْعُقُودِ مِنْ عَدَمِ الْمَحَلِّ، وَالْحَظْرِ، وَالْجَهَالَةِ، ثُمَّ لَمَا جَازَ تَمْلِيكُهَا بِبَعْضِ الْعُقُودِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ بِهَذَا الْعَقْدِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ (وَأَمَّا) قَوْلُهُ إنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ بِمَالِ الْوَارِثِ، فَمَمْنُوعٌ، وَقَوْلُهُ: مِلْكُ الرَّقَبَةِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي مُسَلَّمٌ لَكِنَّ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ يَتْبَعُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ إذَا أُفْرِدَ الْمَنْفَعَةُ بِالتَّمْلِيكِ وَإِذَا لَمْ يُفْرَدْ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ وَهُنَا أُفْرِدَ بِالتَّمْلِيكِ فَلَا يَتْبَعُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُوصِي إذَا أُفْرِدَ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ بِالْوَصِيَّةِ، فَقَدْ جَعَلَهُ مَقْصُودًا بِالتَّمْلِيكِ، وَلَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ، فَلَا يَبْقَى تَبَعًا لِمِلْكِ الذَّاتِ بَلْ يَصِيرُ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْإِعَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمُعِيرَ، وَإِنْ جَعَلَ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ مَقْصُودًا بِالتَّمْلِيكِ لَكِنْ فِي الْحَالِ لَا بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعَارُ الشَّيْءُ لِلِانْتِفَاعِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ عَادَةً لَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيَنْتَفِي الْعَقْدُ بِالْمَوْتِ. وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ، فَتَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَكَانَ قَصْدُهُ تَمْلِيكَهُ الْمَنْفَعَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَكَانَتْ الْمَنَافِعُ مَقْصُودَةً بِالتَّمْلِيكِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَهُوَ الْفَرْقُ، وَنَظِيرُهُ مَنْ وَكَّلَ وَكِيلًا فِي حَالِ حَيَاتِهِ، فَمَاتَ الْمُوَكِّلُ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ، وَلَوْ أَضَافَ الْوَكَالَةَ إلَى مَا بَعْدِ مَوْتِهِ؛ جَازَ حَتَّى يَكُونَ وَصِيًّا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ مِنْ سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ، أَوْ كَانَتْ مُطْلَقَةً عَنْ التَّوْقِيت؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَنَافِعِ فِي مَعْنَى الْإِعَارَةِ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، ثُمَّ الْإِعَارَةُ تَصِحُّ مُؤَقَّتَةً، وَمُطْلَقَةً عَنْ الْوَقْتِ. وَكَذَا الْوَصِيَّةُ غَيْرَ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ

مُطْلَقَةً، فَلِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْعَيْنِ مَا عَاشَ، وَإِذَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ، فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِذَا جَازَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ يُعْتَبَرُ فِيهَا خُرُوجُ الْعَيْنِ الَّتِي أَوْصَى بِمَنْفَعَتِهَا مِنْ الثُّلُثِ، وَلَا يُضَمُّ إلَيْهَا قِيمَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ هُوَ الْمَنْفَعَةُ، وَالْعَيْنُ مِلْكٌ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ؛؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ بِوَصِيَّتِهِ بِالْمَنَافِعِ مَنَعَ الْعَيْنَ عَنْ الْوَارِثِ، وَحَبَسَهَا عَنْهُ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْعَيْنِ، وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِهَا، فَصَارَتْ مَمْنُوعَةً عَنْ الْوَارِثِ مَحْبُوسَةً عَنْهُ، وَالْمُوصِي لَا يَمْلِكُ مَنْعَ مَا زَادَ عَنْ الثُّلُثِ عَلَى الْوَارِثِ، فَاعْتُبِرَ خُرُوجُ الْعَيْنِ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ (وَلِهَذَا) لَوْ أَجَّلَ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ دَيْنًا مُعَجَّلًا لَهُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الثُّلُثِ، وَإِنْ كَانَ التَّأْجِيلُ لَا يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ مِلْكِ الدَّيْنِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهِ مَنْعُ الْوَارِثِ عَنْ الدَّيْنِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ لَمْ يَصِحَّ إلَّا فِي قَدْرِ الثُّلُثِ كَذَا هَهُنَا، وَإِذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ خُرُوجَ الْعَيْنِ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ الثُّلُثِ؛ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ فِي جَمِيعِ الْمَنَافِعِ، فَلِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا، فَيَسْتَخْدِمَ الْعَبْدَ، وَيَسْكُنَ الدَّارَ مَا عَاشَ إنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ مُطْلَقَةً عَنْ الْوَقْتِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ انْتَقَلَتْ إلَى مِلْكِ صَاحِبِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَنْفَعَةِ قَدْ بَطَلَتْ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْإِعَارَةِ، فَتَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَالِكِ إيَّاهُ كَمَا تَبْطُلُ الْإِعَارَةُ بِمَوْتِ الْمُسْتَعِيرِ عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ بِانْفِرَادِهَا لَا تَحْتَمِلُ الْإِرْثَ، وَإِنْ كَانَ تَمَلُّكُهَا بِعِوَضٍ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَإِجَارَةِ فُلَانٍ لَا يُحْتَمَلُ فِيمَا هُوَ تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْلَى، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِغَلَّةِ دَارِهِ، أَوْ ثَمَرَةِ نَخْلِهِ، فَمَاتَ الْمُوصَى لَهُ، وَفِي النَّخْلِ ثَمَرٌ. وَكَانَ وَجَبَ بِمَا اسْتَغَلَّ الدَّارَ آخَرُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لِوَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْنٌ مَلَكَهَا الْمُوصَى لَهُ، وَتَرَكَهُ بِالْمَوْتِ، فَيَصِيرُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ، وَفِي الْمَنْفَعَةِ لَا حَتَّى أَنَّ مَا يَحْصُلُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ بَلْ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُوصَى لَهُ، فَلَا يُوَرَّثُ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ لَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ فِي الْمَنَافِعِ فِي قَدْرِ مَا تَخْرُجُ الْعَيْنُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ سِوَى الْعَيْنِ مِنْ الْعَبْدِ، وَالدَّارِ، تُقَسَّمُ الْمَنْفَعَةُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ، وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ أَثْلَاثًا ثُلُثُهَا لِلْمُوصَى لَهُ، وَثُلُثَاهَا لِلْوَرَثَةِ، فَيَسْتَخْدِمُ الْمُوصَى لَهُ الْعَبْدَ يَوْمًا، وَالْوَرَثَةُ يَوْمَيْنِ، وَفِي الدَّارِ يَسْكُنُ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَهَا، وَالْوَرَثَةُ ثُلُثَيْهَا مَا دَامَ الْمُوصَى لَهُ حَيًّا، فَإِذَا مَاتَ تُرَدُّ الْمَنْفَعَةُ إلَى الْوَرَثَةِ، وَحَكَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِسُكْنَى دَارِهِ لِرَجُلٍ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرَهَا، وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ إنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَصِحَّ فِي الثُّلُثَيْنِ، وَالشُّيُوعُ شَائِعٌ فِي الثُّلُثَيْنِ، وَالشُّيُوعُ يُؤَثِّرُ فِي الْمَنَافِعِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ (وَهَذَا) لَا يَتَفَرَّعُ عَلَى أَصْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَنَافِعِ بَاطِلَةٌ عَلَى أَصْلِهِ، فَتَبْقَى السُّكْنَى كُلُّهَا عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ، وَلَوْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ بَيْعَ الثُّلُثَيْنِ، أَوْ الْقِسْمَةَ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ (عِنْدَ) أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَهُمْ ذَلِكَ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّ الْمِلْكَ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا الِامْتِنَاعُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ، وَحَقُّ الْغَيْرِ هَهُنَا تَعَلَّقَ بِالثُّلُثِ لَا بِالثُّلُثَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَعَلَّقَتْ بِالثُّلُثِ لَا غَيْرَ، فَخَلَا ثُلُثَا الدَّارِ عَنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهَا، فَكَانَ لَهُمْ وِلَايَةُ الْبَيْعِ، وَالْقِسْمَةِ. وَكَذَا الْحَاجَةُ دَعَتْ إلَى الْقِسْمَةِ لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَنَافِعِ كُلِّ الدَّارِ عَلَى الشُّيُوعِ، وَذَلِكَ بِمَنْعِ جَوَازِ الْبَيْعِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، فَإِنَّ رَقَبَةَ الْمُسْتَأْجَرِ مِلْكُ الْمُؤَجِّرِ لَكِنْ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ مَنَعَ جَوَازَ الْبَيْعِ، وَنَفَاذَهُ بِدُونِ إجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ كَذَا هَهُنَا. وَكَذَا فِي الْقِسْمَةِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ هَذَا إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ مُطْلَقَةً عَنْ الْوَقْتِ، فَإِنْ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً، فَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَنْتَفِعُ بِهَا إلَى الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ، فَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ سَنَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، فَيَنْتَفِعُ بِهَا الْمُوصَى لَهُ سَنَةً كَامِلَةً، ثُمَّ يَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ فَبِقَدْرِ مَا يَخْرُجُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ، وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ أَثْلَاثًا يَخْدُمُ الْعَبْدُ يَوْمًا لِلْمُوصَى لَهُ، وَيَوْمَيْنِ لِلْوَرَثَةِ، فَيَسْتَوْفِي الْمُوصَى لَهُ خِدْمَةَ السَّنَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهَا دَارًا يَسْكُنُ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَهَا، وَالْوَرَثَةُ ثُلُثَيْهَا يُهَايِئَانِ مَكَانًا؛ لِأَنَّ التَّهَايُؤَ بِالْمَكَانِ فِي الدَّارِ مُمْكِنٌ، وَفِي الْعَبْدِ لَا يُمْكِنُ لِاسْتِحَالَةِ خِدْمَةِ الْعَبْدِ بِثُلُثِهِ لِأَحَدِهِمَا، وَبِثُلُثَيْهِ لِلْآخَرِ، فَمَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْمُهَايَئَات زَمَانًا، وَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ مِنْ الْوَقْتِ سَنَةً بِعَيْنِهَا بِأَنْ قَالَ: سَنَةَ كَذَا، أَوْ شَهْرَ كَذَا، فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ خِدْمَةَ الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ يَنْتَفِعُ بِهَا تِلْكَ السَّنَةَ أَوْ الشَّهْرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ، فَفِي الْعَبْدِ يَنْتَفِعُ بِهِ الْوَرَثَةُ يَوْمَيْنِ

وجود الموصى به عند موت الموصي هل هو شرط بقاء الوصية

وَالْمُوصَى لَهُ يَوْمًا، وَفِي الدَّارِ يَسْكُنُ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَهَا، وَالْوَرَثَةُ ثُلُثَيْهَا عَلَى طَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ، فَإِذَا مَضَتْ تِلْكَ السَّنَةُ، أَوْ ذَلِكَ الشَّهْرُ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ يَحْصُلُ لِلْمُوصَى لَهُ مَنْفَعَةُ السَّنَةِ أَوْ الشَّهْرِ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُكْمِلَ ذَلِكَ مِنْ سَنَةٍ أُخْرَى، أَوْ مِنْ شَهْرٍ آخَرَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُضِيفَتْ إلَى تِلْكَ السَّنَةِ، أَوْ ذَلِكَ الشَّهْرِ لَا إلَى غَيْرِهِمَا. وَلَوْ عَيَّنَ الشَّهْرَ الَّذِي هُوَ فِيهِ أَوْ السَّنَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا بِأَنْ قَالَ: هَذَا الشَّهْرُ، أَوْ هَذِهِ السَّنَةُ يُنْظَرُ إنْ مَاتَ بَعْدَ مُضِيِّ ذَلِكَ الشَّهْرِ، أَوْ تِلْكَ السَّنَةِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ نَفَاذُهَا عِنْدَ مَوْتِهِ، وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ الشَّهْرُ، أَوْ تِلْكَ السَّنَةُ قَبْلَ مَوْتِهِ فَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ ذَلِكَ الشَّهْرُ، أَوْ السَّنَةُ، فَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ يَنْتَفِعُ بِهَا فَمَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ، أَوْ السَّنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَخْرُجُ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ آخَرُ فَفِي الْعَبْدِ يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُوصَى لَهُ يَوْمًا، وَالْوَرَثَةُ يَوْمَيْنِ إلَى أَنْ يَمْضِيَ ذَلِكَ الشَّهْرُ، أَوْ السَّنَةُ، وَفِي الدَّارِ يَسْكُنَاهَا أَثْلَاثًا عَلَى طَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَوْ أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ لِإِنْسَانٍ، وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ، أَوْ بِسُكْنَى دَارِهِ لِإِنْسَانٍ، وَبِرَقَبَتِهَا لِآخَرَ، وَالرَّقَبَةُ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَالرَّقَبَةُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ، وَالْخِدْمَةُ كُلُّهَا لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَمَّا احْتَمَلَتْ الْإِفْرَادَ مِنْ الرَّقَبَةِ بِالْوَصِيَّةِ حَتَّى لَا تُمَلَّكَ الْوَرَثَةُ الرَّقَبَةَ، وَالْمُوصَى لَهُ الْمَنْفَعَةَ، فَيَسْتَوِي فِيهَا الْإِفْرَادُ بِاسْتِيفَاءِ الرَّقَبَةِ لِنَفْسِهِ، وَتَمْلِيكِهَا مِنْ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا مُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ، وَالْآخَرُ بِالْمَنْفَعَةِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُوصَى مَلَكَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ الرَّقَبَةَ، وَصَاحِبُ الْمَنْفَعَةِ الْمَنْفَعَةَ، وَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى بِرَقَبَةِ شَجَرَةٍ أَوْ بُسْتَانٍ لِإِنْسَانٍ، وَبِثَمَرَتِهِ لِآخَرَ، أَوْ بِرَقَبَةِ أَرْضٍ لِرَجُلٍ، وَبِغَلَّتِهَا لِآخَرَ، أَوْ بِأَمَةٍ لِرَجُلٍ، وَبِمَا فِي بَطْنِهَا لِآخَرَ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَ، وَالْغَلَّةَ، وَالْحَمْلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَحْتَمِلُ الْإِفْرَادَ بِالْوَصِيَّةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَبْقِيَ الْأَصْلَ لِنَفْسِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَمْلِكَهُ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُوصَى بِهِ مَوْجُودًا وَقْتَ كَلَامِ الْوَصِيَّةِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَهُ، فَالْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ إلَّا إذَا كَانَ فِي كَلَامِ الْمُوصِي مَا يَقْتَضِي الْوُجُودَ لِلْحَالِ، فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ عِنْدَ كَلَامِ الْوَصِيَّةِ. وَكَذَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ، أَوْ بِغَلَّةِ أَرْضِهِ، أَوْ بِغَلَّةِ أَشْجَارِهِ أَوْ بِغَلَّةِ عَبْدِهِ، أَوْ بِسُكْنَى دَارِهِ، أَوْ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ، وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ، أَوْ دَابَّتِهِ، وَبِالصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ غَنَمِهِ،، وَبِاللَّبَنِ فِي ضَرْعِهَا، وَثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ، وَثَمَرَةِ أَشْجَارِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَوْجُودًا لِلْحَالِ. [وُجُودُ الْمُوصَى بِهِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي هَلْ هُوَ شَرْطُ بَقَاءِ الْوَصِيَّةِ] (وَأَمَّا) وُجُودُهُ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَهَلْ هُوَ شَرْطُ بَقَاءِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الصِّحَّةِ؟ (فَأَمَّا) فِي الثُّلُثِ، وَالْعَيْنِ الْمُشَارِ إلَيْهَا فَشَرْطٌ، حَتَّى لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلَهُ مَالٌ عِنْدَ كَلَامِ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ هَلَكَ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصَى بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ. وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِمَا فِي الْبَطْنِ، وَالضَّرْعِ، وَبِمَا عَلَى الظَّهْرِ مِنْ الصُّوفِ، وَاللَّبَنِ، وَالْوَلَدِ، حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمُوصَى بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَوْجُودًا وَقْتَ مَوْتِهِ. وَأَمَّا فِي الْوَصِيَّةِ بِالثَّمَرَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ بِغَلَّةِ الدَّارِ، وَالْعَبْدِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ جِنْسَ هَذِهِ الْوَصَايَا عَلَى أَقْسَامٍ بَعْضُهَا يَقَعُ عَلَى الْمَوْجُودِ وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَاَلَّذِي يُوجَدُ بَعْدَ مَوْتِهِ سَوَاءٌ ذَكَرَ الْمُوصِي فِي وَصِيَّتِهِ الْأَبَدَ، أَوْ لَمْ يَذْكُرْ، وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِالْغَلَّةِ، وَسُكْنَى الدَّارِ، وَخِدْمَةِ الْعَبْدِ، وَبَعْضُهَا يَقَعُ عَلَى الْمَوْجُودِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَلَا يَقَعُ عَلَى مَا يَحْدُثُ بَعْدَ مَوْتِهِ سَوَاءٌ ذَكَرَ الْأَبَدَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ، وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِمَا فِي الْبَطْنِ، وَالضَّرْعِ، وَبِمَا عَلَى الظَّهْرِ، فَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا، وَلَدٌ، وَفِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ، وَعَلَى ظَهْرِهَا صُوفٌ وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَفِي بَعْضِهَا إنْ ذَكَرَ لَفْظَ الْأَبَدِ يَقَعُ عَلَى الْمَوْجُودِ، وَالْحَادِثِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ، فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي يَقَعُ عَلَى الْمَوْجُودِ، وَلَا يَقَعُ عَلَى الْحَادِثِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ كَمَا فِي الصُّوفِ، وَالْوَلَدِ، وَاللَّبَنِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَبْطُلُ، وَتَقَعُ عَلَى مَا يَحْدُثُ كَمَا لَوْ ذَكَرَ الْأَبَدَ، وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ بِثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ. وَالشَّجَرِ إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا تَجُوزُ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ، أَوْ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ عَقْدٍ مِنْ الْعُقُودِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، وَالْحَادِثُ مِنْ الْوَلَدِ، وَأَخَوَاتِهِ لَا يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ، وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ عَقْدٍ مِنْ الْعُقُودِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ، بِخِلَافِ الْغَلَّةِ فَإِنَّ لَهُ نَظِيرًا فِي الْعُقُودِ، وَهُوَ عَقْدُ الْمُعَامَلَةِ، وَالْإِجَارَةِ،. وَكَذَلِكَ سُكْنَى الدَّارِ، وَخِدْمَةُ الْعَبْدِ يَدْخُلَانِ تَحْتَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَالْإِعَارَةِ فَكَانَ لَهُمَا نَظِيرٌ فِي الْعُقُودِ. وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ، وَالشَّجَرِ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا تَقَعُ عَنْ الْمَوْجُودِ وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَالْحَادِثُ بَعْدَ مَوْتِهِ إنْ ذَكَرَ الْأَبَدَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الثَّمَرَةِ يَقَعُ عَلَى الْمَوْجُودِ، وَالْحَادِثِ، وَالْحَادِثُ مِنْهَا يَحْتَمِلُ الدُّخُولَ تَحْتَ بَعْضِ الْعُقُودِ، وَهُوَ عَقْدُ الْمُعَامَلَةِ، وَالْوَقْفِ، فَإِذَا ذَكَرَ الْأَبَدَ يَتَنَاوَلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْأَبَدَ، فَإِنْ كَانَ وَقْتَ مَوْتِ

الْمُوصِي ثَمَرَةٌ مَوْجُودَةٌ دَخَلَتْ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ، وَلَا يَدْخُلُ مَا يَحْدُثُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ مَا يَحْدُثُ، وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَتَنَاوَلُهُ، وَلَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ. (وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الثَّمَرَةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ، وَالصُّوفِ، وَاللَّبَنِ، وَالْوَصِيَّةُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَادِثَ كَذَا الثَّمَرَةُ. (وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الِاسْم يَحْتَمِلُ الْحَادِثَ، وَفِي حَمْلِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهِ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ، وَيُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ؛ لِأَنَّ لَهُ نَظِيرًا مِنْ الْعُقُودِ، وَهُوَ الْوَقْفُ، وَالْمُعَامَلَةُ، وَلِهَذَا لَوْ نَصَّ عَلَى الْأَبَدِ يَتَنَاوَلُهُ، بِخِلَافِ الْوَلَدِ، وَالصُّوفِ، وَاللَّبَنِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ فَلَمْ يَكُنْ مُمْكِنَ التَّصْحِيحِ، وَلِهَذَا لَوْ نَصَّ عَلَى الْأَبَدِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَادِثَ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ، وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِبُسْتَانِهِ يَوْمَ يَمُوتُ، وَلَيْسَ لَهُ يَوْمَ أَوْصَى بُسْتَانٌ، ثُمَّ اشْتَرَى بُسْتَانًا، ثُمَّ مَاتَ فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَالِ إيجَابُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُرَاعَى وُجُودُ الْمُوصَى بِهِ وَقْتَ الْمَوْتِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لَهُ بِعَيْنِ الْبُسْتَانِ، وَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ الْبُسْتَانُ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ مَلَكَهُ، ثُمَّ مَاتَ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِغَلَّةِ بُسْتَانِي، وَلَا بُسْتَانَ لَهُ فَاشْتَرَى بَعْدَ ذَلِكَ ذَلِكَ وَمَاتَ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ قَوْلَهُ بُسْتَانِي يَقْتَضِي وُجُودَ الْبُسْتَانِ لِلْحَالِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَصِحَّ. (وَالصَّحِيحُ) مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابُ الْمِلْكِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَسْتَدْعِي وُجُودَ الْمُوصَى بِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا وَقْتَ كَلَامِ الْوَصِيَّةِ، وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ غَنَمِهِ فَهَلَكَتْ الْغَنَمُ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ مِنْ الْأَصْلِ فَمَاتَ وَلَا غَنَمَ لَهُ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ. وَكَذَلِكَ الْعُرُوض كُلُّهَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَا غَنَمَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ وَقْتَ كَلَامِ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ اسْتَفَادَ بَعْدَ ذَلِكَ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ غَنَمِي يَقْتَضِي غَنَمًا مَوْجُودَةً وَقْتَ الْوَصِيَّةِ كَمَا قُلْنَا فِي الْبُسْتَانِ. وَعَلَى رِوَايَةِ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْبُسْتَانِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَوْصَيْتُ لَهُ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِي، أَوْ بِقَفِيزٍ مِنْ حِنْطَتِي، ثُمَّ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ غَنَمٌ وَلَا حِنْطَةٌ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَنَمٌ، وَلَا حِنْطَةٌ ثُمَّ اسْتَفَادَ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ، فَهُوَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا، وَبِمِثْلِهِ لَوْ قَالَ: شَاةٌ مِنْ مَالِي أَوْ قَفِيزُ حِنْطَةٍ مِنْ مَالِي، وَلَيْسَ لَهُ غَنَمٌ، وَلَا حِنْطَةٌ فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، وَيُعْطَى قِيمَةَ الشَّاةِ؛ لِأَنَّهُ لِمَا أَضَافَ إلَى الْمَالِ، وَعَيْنُ الشَّاةِ لَا تُوجَدُ فِي الْمَالِ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ قَدْرَ مَالِيَّةِ الشَّاةِ، وَهِيَ قِيمَتُهَا، وَلَوْ أَوْصَى بِشَاةٍ، وَلَمْ يَقُلْ مِنْ غَنَمِي، وَلَا مِنْ مَالِي فَمَاتَ وَلَيْسَ لَهُ غَنَمٌ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْفَصْلَ فِي الْكِتَابِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ اسْمٌ لِلصُّورَةِ. وَالْمَعْنَى جَمِيعًا إلَّا أَنَّا حَمَلْنَا هَذَا الِاسْمَ عَلَى الْمَعْنَى فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ بِقَرِينَةِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمَالِ، وَلَمْ تُوجَدْ هَهُنَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ إذَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي مَالِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَالِيَّةَ الشَّاةِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ فَيُعْطَى قِيمَةَ شَاةٍ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَسْأَلَةً تُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ، وَهِيَ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا نَفَلَ سَرِيَّةً فَقَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ جَارِيَةٌ مِنْ السَّبَايَا. فَإِنْ كَانَ فِي السَّبْيِ جَارِيَةٌ يُعْطَى مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي السَّبْيِ جَارِيَةٌ لَا يُعْطَى شَيْئًا، وَلَوْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ جَارِيَةٌ، وَلَمْ يَقُلْ مِنْ السَّبْيِ فَإِنَّهُ يُعْطَى مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا قَدْرَ مَالِيَّةِ الْجَارِيَةِ كَذَا هَهُنَا. وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِسُكْنَى دَارِهِ، أَوْ خِدْمَةِ عَبْدِهِ أَوْ ظَهْرِ فَرَسِهِ لِلْمَسَاكِينِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ -، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِإِنْسَانٍ مَعْلُومٍ. وَعِنْدَهُمَا - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِذَلِكَ كُلِّهِ لِلْمَسَاكِينِ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَالْوَصِيَّةُ بِسُكْنَى الدَّارِ، وَخِدْمَةِ الْعَبْدِ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الِاخْتِلَافَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ فِي الْوَصِيَّةِ بِظَهْرِ الْفَرَسِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَسَاكِينِ وَصِيَّةٌ بِطَرِيقِ الصَّدَقَةِ، وَالصَّدَقَةُ إخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَاحِدٌ مَعْلُومٌ، وَلِهَذَا جَازَتْ الْوَصِيَّةُ بِسَائِرِ الْأَعْيَانِ لِلْمَسَاكِينِ فَكَذَا بِالْمَنَافِعِ،، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ. وَالرُّكُوبِ، وَالسُّكْنَى تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ عَلَى الْعَبْدِ، وَالْفَرَسِ، وَالدَّارِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ إلَّا بَعْدَ بَقَاءِ الدَّيْنِ، وَلَا يَبْقَى عَادَةً بِدُونِ النَّفَقَةِ فَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَلْزَمَهُ النَّفَقَةُ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ تَلْزَمْهُ النَّفَقَةُ لَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا عَلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ لَهُ الْمَنْفَعَةُ، وَالْمَنْفَعَةُ لِلْمُوصَى لَهُ لَا لِلْوَرَثَةِ، وَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِغْلَالُ بِأَنْ يَسْتَغِلَّ فَيُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَقَعْ بِالْغَلَّةِ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِغْلَالَ يَقَعُ تَبْدِيلًا لِلْوَصِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَتَعَذَّرَ تَنْفِيذُ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ لَزِمَهُ النَّفَقَةُ فَكَانَ هَذَا مُعَاوَضَةً مَعْنًى

لَا وَصِيَّةً، وَلَا صَدَقَةً. وَالْجَهَالَةُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْمُعَاوَضَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْأَعْيَانِ، وَفِي الْوَصِيَّةِ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ، وَقِيلَ: إنَّ الْوَصِيَّةَ بِظَهْرِ فَرَسِهِ لِلْمَسَاكِينِ، أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فُرَيْعَةُ مَسْأَلَةِ الْوَقْفِ، أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ جَعَلَ فَرَسَهُ لِلْمَسَاكِينِ وَقْفًا فِي حَالِ الْحَيَاةِ لَا يَجُوزُ، وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ. وَعِنْدَهُمَا لَوْ جَعَلَهُ وَقْفًا فِي حَالِ حَيَاتِهِ جَازَ فَكَذَا إذَا أَوْصَى بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُوصَى بِهِ مَعْلُومًا، أَوْ مَجْهُولًا فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ تُمْكِنُ إزَالَتُهَا مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي مَا دَامَ حَيًّا، وَمِنْ جِهَةِ وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأَشْبَهَتْ جَهَالَةَ الْمُقَرِّ بِهِ فِي حَالِ الْإِقْرَارِ، وَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ، بِخِلَافِ جَهَالَةِ الْمُقَرِّ لَهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ كَذَا جَهَالَةُ الْمُوصَى لَهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا. وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى. بَيَانِ قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى لَهُ مِنْ الْوَصَايَا الَّتِي فِيهَا ضَرْبُ إبْهَامٍ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى بَيَانِ اسْتِخْرَاجِ الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ الْوَصِيَّةِ الْمَجْهُولِ بِالْحِسَابِ، وَهِيَ الْمَسَائِلُ الْحِسَابِيَّةُ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَسَائِلَ مِنْهَا مَا إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِنَصِيبٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِبَعْضٍ أَوْ بِشِقْصٍ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ بَيَّنَ فِي حَيَاتِهِ شَيْئًا، وَإِلَّا أَعْطَاهُ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ مَا شَاءُوا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تَحْتَمِلُ الْقَلِيلَ، وَالْكَثِيرَ، فَيَصِحُّ الْبَيَانُ فِيهِ مَادَامَ حَيًّا، وَمِنْ وَرَثَتِهِ إذَا مَاتَ؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ لَوْ أَوْصَى بِأَلْفٍ إلَّا شَيْئًا، أَوْ إلَّا قَلِيلًا، أَوْ إلَّا يَسِيرًا، أَوْ زُهَاءَ أَلْفٍ، أَوْ جُلَّ هَذِهِ الْأَلْفِ، أَوْ عِظَمَ هَذَا الْأَلْفِ، وَذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَلَهُ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ، وَزِيَادَةٌ. وَمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ فَهُوَ إلَى الْوَرَثَةِ يُعْطُونَ مِنْهُ مَا شَاءُوا؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ، وَالْكَثِيرَ، وَالْيَسِيرَ مِنْ أَسْمَاءِ الْمُقَابَلَةِ فَلَا يَكُونُ قَلِيلًا إلَّا، وَبِمُقَابَلَتِهِ أَكْثَرُ مِنْهُ، فَيَقْتَضِي وُجُودَ الْأَكْثَرِ، وَهُوَ النِّصْفُ، وَزِيَادَةٌ عَلَيْهِ، وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ مَجْهُولَةٌ فَيُعْطِيهِ الْوَرَثَةُ مِنْ الزِّيَادَةِ مَا شَاءُوا. وَالشَّيْءُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ يُرَادُ بِهِ الْيَسِيرُ، وَقَوْلُهُ: جُلَّ هَذِهِ الْأَلْفِ، وَعَامَّةَ هَذِهِ الْأَلْفِ، وَعِظَمَ هَذِهِ الْأَلْفِ عِبَارَاتٌ عَنْ أَكْثَرِ الْأَلْفِ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى النِّصْفِ، وَزُهَاءُ أَلْفٍ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَرِيبِ مِنْ الْأَلْفِ، وَأَكْثَرُ الْأَلْفِ قَرِيبٌ مِنْ الْأَلْفِ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ فَلَهُ مِثْلُ أَخَسِّ الْأَنْصِبَاءِ يُزَادُ عَلَى الْفَرِيضَةِ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى السُّدُسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَعِنْدَهُمَا - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الثُّلُثِ كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ، وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَهُ مِثْلُ نَصِيبِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ، وَلَا يُزَادُ عَلَى السُّدُسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُزَادُ عَلَى الثُّلُثِ، فَعَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ يَجُوزُ النُّقْصَانُ عَنْ السُّدُسِ عِنْدَهُ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا يَجُوزُ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا مَاتَ الْمُوصِي، وَتَرَك زَوْجَةً، وَابْنًا، فَلِلْمُوصَى لَهُ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَخَسُّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ، وَهُوَ الثُّمُنُ، وَيُزَادُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ سَهْمٌ آخَرُ فَيَصِيرُ تِسْعَةً فَيُعْطَى تِسْعَةَ الْمَالِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يُعْطَى السُّدُسُ؛ لِأَنَّهُ أَخَسُّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ. وَلَوْ تَرَكَ زَوْجَةً، وَأَخًا لِأَبٍ، وَأُمٍّ، أَوْ لِأَبٍ فَلِلْمُوصَى لَهُ السُّدُسُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ أَخَسَّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ الرُّبُعُ هَهُنَا، وَهُوَ لَا يُجَوِّزُ الزِّيَادَةُ عَلَى السُّدُسِ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ الرُّبُعُ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ، وَأَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ الثُّلُثِ فَزَادَ عَلَى أَرْبَعَةٍ مِثْلَ رُبُعِهَا، وَذَلِكَ سَهْمٌ، وَهُوَ خُمُسُ الْمَالِ. وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَتْ امْرَأَةٌ، وَتَرَكَتْ زَوْجًا، وَابْنًا، وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَلَهُ السُّدُسُ عِنْدِهِ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ. وَكَذَلِكَ إنْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنِينَ، فَإِنْ تَرَكَ خَمْسَةَ بَنِينَ فَلَهُ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يُجْعَلُ الْمَالُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، ثُمَّ يُزَادُ عَلَيْهِ سَهْمٌ فَيُعْطَى أَرْبَعَةً إذًا، وَإِنْ أَقَرَّ بِسَهْمٍ مِنْ دَارِهِ لِإِنْسَانٍ فَلَهُ السُّدُسُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا الْبَيَانُ إلَى الْمُقِرِّ. وَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ سَهْمًا مِنْ عَبْدِهِ يُعْتَقُ سُدُسُهُ عِنْدَهُ لَا غَيْرُ، وَعِنْدَهُمَا يُعْتَقُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ السَّهْمَ اسْمٌ لِنَصِيبٍ مُطْلَقٍ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مُقَدَّرٌ بَلْ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ كَاسْمِ الْجُزْءِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسَمَّى سَهْمًا إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَيُقَدَّرُ بِوَاحِدٍ مِنْ أَنْصِبَاءِ الْوَرَثَةِ، وَالْأَقَلُّ مُتَيَقَّنٌ فَيُقَدَّرُ بِهِ إلَّا إذَا كَانَ يَزِيدُ ذَلِكَ عَلَى الثُّلُثِ فَيُزَادُ إلَى الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا جَوَازَ لَهَا بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ،، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (مَا رُوِيَ) عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ فَقَالَ لَهُ السُّدُسُ. (وَالظَّاهِرُ) أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بَلَغَتْهُمْ فَتْوَاهُ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا. وَرُوِيَ عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: السَّهْمُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ السُّدُسُ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ أَيْضًا فِي أَحَدِ سِهَامِ الْوَرَثَةِ، وَالْأَقَلُّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ فَيُصْرَفُ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ لَا يَبْلُغُ بِهِ السُّدُسَ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ السُّدُسَ، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مُطْلَقَ سَهْمٍ مِنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ، فَلَا يُزَادُ عَلَى أَقَلِّ سِهَامِهِمْ بِالشَّكِّ

وَالِاحْتِمَالِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ إلَّا دِرْهَمٍ، أَوْ بِكُرِّ حِنْطَةٍ إلَّا دِرْهَمٌ أَوْ إلَّا مَحْتُومُ شَعِيرٍ جَائِزَ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: دَارِي هَذِهِ، أَوْ عَبْدِي هَذَا إلَّا مِائَة دِرْهَمٍ جَازَ عَنْ الثُّلُثِ، وَبَطَلَ عَنْهُ قِيمَةُ مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمُقَدَّرِ مِنْ الْمُقَدَّرِ فِي الْجِنْسِ، وَخِلَافِ الْجِنْسِ بَعْدَ إنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُقَدَّرًا بَعْدَ إنْ كَانَ مِنْ الْمَكِيلَاتِ، أَوْ الْمَوْزُونَات، أَوْ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ صَحِيحٌ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْجِنْسِ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ. وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ وَالْعِشْرِينَ، أَوْ مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إلَى الْعِشْرِينَ، أَوْ مِنْ الْعَشَرَةِ إلَى عِشْرِينَ فَهُوَ سَوَاءٌ، وَلَهُ تِسْعَةَ عَشْرَ دِرْهَمًا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَا بَيْنَ الْمِائَةِ، وَالْمِائَتَيْنِ، أَوْ مَا بَيْنَ الْمِائَةِ إلَى الْمِائَتَيْنِ، أَوْ مِنْ الْمِائَةِ إلَى الْمِائَتَيْنِ، فَلَهُ مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَهُ فِي الْأَوَّلِ عِشْرُونَ، وَفِي الثَّانِي مِائَتَانِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَهُ ثَمَانِيَةَ عَشْرَ فِي الْأَوَّلِ، وَمِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَتِسْعُونَ فِي الثَّانِي، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْغَايَتَيْنِ يَدْخُلَانِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَدْخُلَانِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - تَدْخُلُ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ،، وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ. وَلَوْ أَوْصَى لِفُلَانٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي عَشَرَةٍ وَنَوَى الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ فَلَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ،، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ أَوْصَى لِفُلَانٍ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ دَارِهِ فَلَهُ مِائَةُ ذِرَاعٍ مُكَسَّرَةٍ. (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ أَنَّ الضَّرْبَ يُرَادُ بِهِ تَكْسِيرُ الْأَجْزَاءِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْمِسَاحَةَ فِي الطُّولِ، وَالْعَرْضِ، وَذَلِكَ يُوجَدُ فِي الدَّارِ، وَالدَّرَاهِمُ مَوْزُونَةٌ، وَلَيْسَ لَهَا طُولٌ، وَلَا عَرْضٌ، فَلَا يُرَادُ بِالضَّرْبِ فِيهَا تَكْسِيرُ أَجْزَائِهَا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: الْمُكَسَّرَةُ، أَيْ: الْمُكَسَّرَةُ فِي الْمِسَاحَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ طُولُهَا عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَعَرْضُهَا عَشَرَةً. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثَوْبٍ سَبْعَةٌ فِي أَرْبَعَةٍ فَلَهُ كَمَا قَالَ، وَهُوَ ثَوْبٌ طُولُهُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ، وَعَرْضُهُ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ هَذَا اللَّفْظِ فِي الثَّوْبِ هَذَا فَيَنْصَرِفُ اللَّفْظُ إلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: عَبْدَيَّ هَذَا وَهَذَا لِفُلَانٍ وَصِيَّةً وَهُمَا يُخْرَجَانِ مِنْ الثُّلُثِ كَانَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ أَيَّهُمَا شَاءُوا؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِي جَهَالَةٍ يُمْكِنُ إزَالَتُهَا، وَلَوْ كَانَ الْمُوَرِّثُ حَيًّا كَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ فَإِذَا مَاتَ قَامَ الْوَارِثُ مَقَامَهُ، وَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْوَرَثَةُ تَقُومُ مَقَامَهُ فِي التَّمْلِيكِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: عَبْدِي هَذَا، أَوْ هَذَا حُرٌّ أَنَّ الْبَيَانَ إلَيْهِ لَا إلَى الْوَرَثَةِ، وَيَنْقَسِمُ الْعِتْقُ عَلَيْهِمَا؛؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ بَلْ هُوَ إتْلَافُ الْمِلْكِ، وَقَدْ انْقَسَمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْبَيَانَ مِنْ جِهَةِ الْوَارِثِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِحِنْطَةٍ فِي جَوَالِقَ فَلَهُ الْحِنْطَةُ دُونَ الْجَوَالِقِ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى بِهِ الْحِنْطَةُ دُونَ الْجَوَالِقِ، وَالْجَوَالِقُ لَيْسَ مِنْ تَوَابِعِ الْحِنْطَةِ أَلَا يَرَى لَوْ بَاعَ الْحِنْطَةَ فِي الْجَوَالِقِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْجَوَالِقُ، وَبَيْعُ الْحِنْطَةِ مَعَ الْجَوَالِقِ لَيْسَ بِمُعْتَادٍ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِهَذَا الْجِرَابِ الْهَرَوِيِّ فَلَهُ الْجِرَابُ، وَمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْجِرَابَ يُعَدُّ تَابِعًا لِمَا فِيهِ عَادَةً حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْبَيْعِ فَكَذَا فِي الْوَصِيَّةِ. وَكَذَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِهَذَا الدَّنِّ مِنْ الْخَلِّ فَلَهُ الدَّنُّ، وَالْخَلُّ. وَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِقَوْصَرَّةِ تَمْرٍ فَلَهُ الْقَوْصَرَّةُ، وَمَا فِيهَا؛ لِأَنَّ الدَّنَّ يُعَدُّ تَابِعًا لِلْخَلِّ، وَالْقَوْصَرَّةُ لِلتَّمْرِ، وَلِهَذَا يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ كَذَا فِي الْوَصِيَّةِ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِالسَّيْفِ فَلَهُ السَّيْفُ بِجَفْنِهِ، وَحَمَائِلِهِ (وَقَالَ) أَبُو يُوسُفَ: لَهُ النَّصْلُ دُونَ الْجَفْنِ، وَالْحَمَائِلِ، فَأَصْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الِاتِّصَالُ، وَالِانْفِصَالُ فَمَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ يَدْخُلُ، وَمَا كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْهُ لَا يَدْخُلُ، وَالْجَفْنُ، وَالْحَمَائِلُ مُنْفَصِلَانِ عَنْ السَّيْفِ فَلَا يَدْخُلَانِ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ بِهِ. وَلِهَذَا لَوْ أَوْصَى بِدَارٍ لَا يَدْخُلُ مَا فِيهَا مِنْ الْمَتَاعِ كَذَا هَذَا، وَالْمُعْتَبَرُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ التَّبَعِيَّةُ، وَالْأَصَالَةُ فِي الْعُرْفِ، وَالْعَادَةِ، وَالْجَفْنُ، وَالْحَمَائِلُ يُعَدَّانِ تَابِعَانِ لِلسَّيْفِ عُرْفًا، وَعَادَةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَدْخُلَانِ فِي الْبَيْعِ كَذَا فِي الْوَصِيَّةِ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِسَرْجٍ فَلَهُ السَّرْجُ، وَتَوَابِعُهُ مِنْ اللِّبَدِ، وَالرِّفَادَةِ، وَالطَّفْرِ، وَالرِّكَابَات، وَاللَّبَبِ فِي ظَاهِر الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِالسَّرْجِ إلَّا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَكَانَتْ مِنْ تَوَابِعِهِ فَتَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ بِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهُ الدَّفَّتَانِ، وَالرِّكَابَانِ، وَاللَّبَبُ، وَلَا يَكُونُ لَهُ اللِّبَدُ، وَلَا الرِّفَادَةُ، وَلَا الطَّفْرُ؛ لِأَنَّهَا مُنْفَصِلَةٌ عَنْ السَّرْجِ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِمُصْحَفٍ، وَلَهُ غِلَافٌ فَلَهُ الْمُصْحَفُ دُونَ الْغِلَافِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَهُ الْمُصْحَفُ، وَالْغِلَافُ أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ؛ فَلِأَنَّ الْغِلَافَ مُنْفَصِلٌ

عَنْ الْمُصْحَفِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ غَيْر تَسْمِيَةٍ،، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ لَيْسَ بِتَابِعٍ لِلْمُصْحَفِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلْجُنُبِ، وَالْمُحْدِثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِغِلَافِهِ فَلَا يَدْخُلُ، وَزُفَرُ يَقُولُ: هُوَ تَابِعٌ لِلْمُصْحَفِ فَيَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَلَوْ أَوْصَى بِمِيزَانٍ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهُ الْكِفَّتَانِ، وَالْعَمُودُ الَّذِي فِيهِ الْكِفَّتَانِ، وَاللِّسَانِ، وَلَيْسَ لَهُ الطِّرَازْدَانُ، وَالصَّنَجَاتُ (وَأَمَّا) الشَّاهِينُ فَلَهُ الْكِفَّتَانِ، وَالْعَمُودُ، وَلَيْسَ لَهُ الصَّنَجَاتُ، وَالتَّخْتُ. (وَقَالَ) زُفَرُ: إذَا أَوْصَى بِمِيزَانٍ فَلَهُ الطِّرَازْدَانُ، وَالصَّنَجَاتِ، وَالْكِفَّتَانِ، وَإِنْ أَوْصَى لَهُ بِشَاهِينِ فَلَهُ التَّخْتُ وَالصَّنْجَاتُ (1) فَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الصَّنْجَةَ وَالطِّرَازْدَانَ شَيْئَانِ مُنْفَصِلَانِ فَلَا يَدْخُلَانِ فِي الْوَصِيَّةِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ،، وَزُفَرُ يَجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ تَوَابِعِ الْمِيزَانِ لِمَا أَنَّ الِانْتِفَاعَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْجَمِيعِ فَصَارَ كَتَوَابِعِ السَّرْجِ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِالْقَبَّانِ وَالْفرسطون فَلَهُ الْعَمُودُ، وَالْحَدِيدُ، وَالرُّمَّانَةُ، وَالْكِفَّةُ الَّتِي يُوضَعُ فِيهَا الْمَتَاعُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ اسْمَ الْقَبَّانِ يَشْمَلُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فَيُسْتَوَى فِيهَا الِاتِّصَالُ، وَالِانْفِصَالُ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِقُبَّةٍ فَلَهُ عِيدَانُ الْقُبَّةِ دُونَ كِسْوَتِهَا؛ لِأَنَّ الْقُبَّةَ اسْمٌ لِلْخَشَبِ لَا لِلثِّيَابِ، وَإِنَّمَا الثِّيَابُ اسْمٌ لِلزِّينَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: كِسْوَةُ الْقُبَّةِ، وَالشَّيْءُ لَا يُضَافُ إلَى نَفْسِهِ هُوَ الْأَصْلُ. وَكَذَا الْكِسْوَةُ مُنْفَصِلَةٌ مِنْهَا عَلَى أَصْلِ مَنْ يَعْتَبِرُ الِاتِّصَالَ. وَلَوْ أَوْصَى بِقُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ، وَهِيَ مَا يُقَالُ لَهَا بِالْعَجَمِيَّةِ: خركاه فَلَهُ الْقُبَّةُ مَعَ الْكِسْوَةِ، وَهِيَ اللُّبُودُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَال لَهَا قُبَّةٌ تُرْكِيَّةٌ إلَّا بِلُبُودِهَا، بِخِلَافِ الْقُبَّةِ الْبَلَدِيَّةِ، وَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْعُرْفُ، وَالْعَادَةُ، وَيَخْتَلِفُ الْجَوَابُ بِاخْتِلَافِ الْعُرْفِ، وَالْعَادَةِ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِحَجَلَةٍ فَلَهُ الْكِسْوَةُ دُونَ الْعِيدَانِ؛ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِلْكِسْوَةِ فِي الْعُرْفِ. وَلَوْ أَوْصَى بِسَلَّةِ زَعْفَرَانٍ فَلَهُ الزَّعْفَرَانُ دُونَ السَّلَّةِ هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مُحَمَّدًا إنَّمَا أَجَابَ فِيهِ عَلَى عَادَةِ زَمَانِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ لَا تُبَاعُ السَّلَّةُ مَعَ الزَّعْفَرَانِ بَلْ كَانَتْ تُفْرَدُ عَنْهُ فِي الْبَيْعِ. وَأَمَّا الْآنَ فِي الْعَادَةِ أَنَّ الزَّعْفَرَانَ يُبَاعُ بِظُرُوفِهِ فَيَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَالتَّعْوِيلُ فِي الْبَابِ عَلَى الْعُرْفِ، وَالْعَادَةِ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِهَذَا الْعَسَلِ وَهُوَ فِي زِقٍّ فَلَهُ الْعَسَلُ دُونَ الزِّقِّ. وَكَذَلِكَ السَّمْنُ، وَالزَّيْتُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِالْعَسَلِ لَا بِالزِّقِّ، وَالْعَسَلُ يُبَاعُ بِدُونِ ظَرْفِهِ عَادَةً فَلَا يَتْبَعُهُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ أَوْصَى بِنَصِيبِ ابْنِهِ أَوْ ابْنَتِهِ لِإِنْسَانٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنٌ أَوْ ابْنَةٌ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ ابْنِهِ أَوْ ابْنَتِهِ ثَابِتٌ بِنَصٍّ قَاطِعٍ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّحْوِيلَ إلَى غَيْرِهِ بِالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ، أَوْ ابْنَةٌ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَتَضَمَّنْ تَحْوِيلَ نَصِيبٍ ثَابِتٍ، فَكَانَ وَصِيَّةً بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ أَوْ ابْنَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ ابْنٌ أَوْ ابْنَةٌ، وَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ لِمَا نَذْكُرُ، وَإِنْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ أَوْ ابْنَتِهِ، وَلَهُ ابْنٌ أَوْ ابْنَةٌ جَازَتْ؛ لِأَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ غَيْرُهُ لَا عَيْنُهُ فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ تَحْوِيلُ نَصِيبٍ ثَابِتٍ إلَى الْمُوصَى لَهُ بَلْ يَبْقَى نَصِيبُهُ، وَيُزَادُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ فَيُعْطَى الْمُوصَى لَهُ، ثُمَّ إنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ تَحْتَاجُ الزِّيَادَةُ إلَى الْإِجَازَةِ. وَإِنْ كَانَ ثُلُثًا أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ لَا تَحْتَاجُ إلَى الْإِجَازَةِ، حَتَّى لَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ، وَلَهُ ابْنٌ وَاحِدٌ فَلِلْمُوصَى لَهُ نِصْفُ الْمَالِ، وَلِابْنِهِ النِّصْفُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ مِثْلَ نَصِيبِهِ، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلِابْنِ نَصِيبٌ، وَأَنْ يَكُونَ نَصِيبُ الْمُوصَى لَهُ مِثْلَ نَصِيبِهِ، وَذَلِكَ هُوَ النِّصْفُ فَكَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَا ابْنَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ هَهُنَا تَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الِابْنِ إنْ أَجَازَ جَازَتْ الزِّيَادَةُ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنَانِ فَلِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لِلْمُوصَى لَهُ مِثْلَ نَصِيبِ ابْنٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا يَكُونُ لَهُ مِثْلُ نَصِيبِ ابْنٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا، وَأَنْ يَكُونَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَلَا يَحْتَاجُ هَهُنَا إلَى الْإِجَازَةِ، وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ بِنْتِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ بِنْتٌ وَاحِدَةٌ فَلِلْمُوصَى لَهُ نِصْفُ الْمَالِ إنْ أَجَازَتْ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ النِّصْفُ، فَكَانَ مِثْلُ نَصِيبِهَا النِّصْفَ، فَكَانَ لَهُ النِّصْفُ إنْ أَجَازَتْ، وَإِلَّا فَالثُّلُثُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ بِنْتَانِ فَلِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُمَا الثُّلُثَانِ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الثُّلُثُ، وَقَدْ جَعَلَ نَصِيبَهُ مِثْلَ نَصِيبِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَنَصِيبُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الثُّلُثُ فَكَانَ نَصِيبُهُ أَيْضًا الثُّلُثَ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِنَصِيبِ ابْنٍ لَوْ كَانَ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ، وَلَهُ نِصْفُ الْمَالِ إنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنٍ لَوْ كَانَ فَلِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبٍ مُقَدَّرٍ لِابْنٍ مُقَدَّرٍ، وَنَصِيبُ الِابْنِ الْمُقَدَّرِ سَهْمٌ فَمِثْلُ نَصِيبِهِ يَكُونُ سَهْمًا، فَكَانَ هَذَا وَصِيَّةً لَهُ بِسَهْمٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيهِ وَلَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ آخَرَ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ

النُّصُبِ فَالْمَسْأَلَةُ تَخْرُجُ مِنْ ثَلَاثَةِ، وَثَلَاثِينَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ ثَمَانِيَةٌ، وَلِلْمُوصَى لَهُ الْآخَرِ سَهْمٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَنِينَ ثَمَانِيَةٌ أَمَّا تَخْرِيجُهَا بِطَرِيقَةِ الْحَشْوِ فَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَزِدْ عَلَيْهِ وَاحِدًا لِأَجْلِ الْوَصِيَّةِ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ الْبَنِينَ؛ لِأَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ يُزَادُ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةً ثُمَّ اضْرِبْ الْأَرْبَعَةَ فِي ثَلَاثَةٍ لِأَجْلِ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النُّصُبِ فَيَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ تَطْرَحُ مِنْهَا سَهْمًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ الثَّانِيَةَ تُوجِبُ النُّقْصَانَ فِي نَصِيبِ الْوَرَثَةِ. وَنَصِيبُ الْمُوصَى لَهُ الْأَوَّلِ شَائِعًا فِي كُلِّ الْمَالِ فَتُنْقِصُ مِنْ كُلِّ ثُلُثٍ سَهْمًا؛ وَلِأَنَّك لَوْ لَمْ تُنْقِصْ لَا يَسْتَقِيمُ الْحِسَابُ لَوْ اعْتَبَرْتَهُ لَوَجَدْتَهُ كَذَلِكَ، فَإِذَا أَنْقَصْتَ سَهْمًا مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ بَقِيَ أَحَدَ عَشَرَ هُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَثُلُثَاهُ، وَهُوَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ، وَجَمِيعُ الْمَالِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ النَّصِيبِ فَخُذْ النَّصِيبَ الَّذِي كَانَ، وَذَلِكَ سَهْمٌ وَاحِدٌ، وَاضْرِبْهُ فِي ثَلَاثَةٍ كَمَا ضَرَبْتَ أَصْلَ الْمَالِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ اضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي ثَلَاثَةٍ كَمَا ضَرَبْتَ أَصْلَ الْمَالِ؛ لِأَنَّكَ احْتَجْتَ إلَى ضَرْبِ أَصْلِ الْمَالِ فِي ثَلَاثَةٍ مَرَّةً أُخْرَى حَتَّى بَلَغَ جَمِيعُ الْمَالِ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ، فَإِذَا ضَرَبْت ثَلَاثَةً فِي ثَلَاثَةٍ صَارَ تِسْعَةً، ثُمَّ اطْرَحْ مِنْهَا سَهْمًا كَمَا طَرَحْتَ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ فَيَبْقَى ثَمَانِيَةٌ فَهُوَ نَصِيبُ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ، ثُمَّ أَعْطِ لِلْمُوصَى لَهُ نَصِيبَهُ، وَهُوَ ثُلُثُ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ سَهْمٌ يَبْقَى إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ سَهْمَانِ ضَمَّهُمَا ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ اثْنَانِ، وَعِشْرُونَ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً، وَعِشْرِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ ثَمَانِيَةٌ فَاسْتَقَامَ الْحِسَابُ بِحَمْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. (وَأَمَّا) تَخْرِيجُهَا عَلَى طَرِيقِ الْخَطَأَيْنِ فَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ عَدَدًا لَوْ أَعْطَيْتَ مِنْهُ النَّصِيبَ، وَهُوَ سَهْمٌ، يَبْقَى، وَرَاءَهُ عَدَدٌ لَهُ ثُلُثٌ لِحَاجَتِك إلَى تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ الْأُخْرَى، وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ، وَأَقَلُّهُ أَرْبَعَةٌ فَإِذَا جَعَلْتَ ثُلُثَ الْمَالِ أَرْبَعَةً أَعْطِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ سَهْمًا مِنْ أَرْبَعَةٍ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ فَأَعْطِ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ ثُلُثَ مَا بَقِيَ، وَذَلِكَ سَهْمٌ، يَبْقَى سَهْمَانِ ضُمَّهُمَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ؛ لِأَنَّ ثُلُثَ الْمَالِ لَمَّا كَانَ أَرْبَعَةً كَانَ ثُلُثَاهُ مِثْلَيْهِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ، وَمَتَى ضَمَمْتَ اثْنَيْنِ إلَى ثَمَانِيَةٍ صَارَتْ عَشَرَةً، وَحَاجَتُكَ إلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لَا غَيْرُ لِلْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّك قَدْ أَعْطَيْتَ الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ سَهْمًا، فَظَهَرَ أَنَّكَ قَدْ أَخْطَأْتَ بِزِيَادَةِ سَبْعَةٍ فَزِدْ فِي النَّصِيبِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ هَذَا الْخَطَأَ مَا جَاءَ إلَّا مِنْ قِبَلِ نُقْصَانِ النَّصِيبِ، فَظَهَرَ أَنَّ النَّصِيبَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَزْيَدَ مِنْ سَهْمٍ فَزِدْ فِي النَّصِيبِ فَاجْعَلْهُ سَهْمَيْنِ. فَيَصِيرُ الثُّلُثُ خَمْسَةً فَأَعْطِ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ سَهْمَيْنِ، ثُمَّ أَعْطِ لِلْمُوصَى لَهُ الْآخَرِ سَهْمًا مِمَّا بَقِيَ، يَبْقَى سَهْمَانِ ضُمَّهُمَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَتَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ، وَحَاجَتُكَ إلَى سِتَّةٍ فَظَهَرَ أَنَّكَ أَخْطَأْتَ فِي هَذِهِ الْكَرَّةِ بِزِيَادَةِ سِتَّةِ أَسْهُمٍ. وَكَانَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ بِزِيَادَةِ سَبْعَةٍ فَانْتَقَصَ بِزِيَادَةِ سَهْمٍ فِي النَّصِيبِ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْخَطَأِ، فَعَلِمْتَ أَنَّك مَهْمَا زِدْتَ فِي النَّصِيبِ سَهْمًا يَنْتَقِصُ مِنْ سِهَامِ الْخَطَأِ سَهْمٌ، وَأَنَّكَ تَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَذْهَبَ مَا بَقِيَ مِنْ سِهَامِ الْخَطَأِ، وَالْبَاقِي مِنْ سِهَامِ الْخَطَأِ سِتَّةٌ فَاَلَّذِي يَذْهَبُ بِهِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ مِنْ الْخَطَأِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ مِنْ النَّصِيبِ فَزِدْ فِي النَّصِيبِ سِتَّةَ أَسْهُمٍ، فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةً فَهَذَا هُوَ النَّصِيبُ،، وَبَقِيَ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ أَعْطِ مِنْهَا سَهْمًا لِلْمُوصَى لَهُ الْآخَرِ يَبْقَى سَهْمَانِ ضُمَّهُمَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ اثْنَانِ، وَعِشْرُونَ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً، وَعِشْرِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَنِينَ ثَمَانِيَةٌ، وَطَرِيقَةُ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ، أَوْ الْأَكْبَرِ، أَوْ الصَّغِيرِ، أَوْ الْكَبِيرِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ. أَمَّا طَرِيقَةُ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ أَوْ الصَّغِيرِ: فَهِيَ أَنَّهُ إذَا تَبَيَّنَ لَك أَنَّك أَخْطَأْت مَرَّتَيْنِ، وَأَرَدْتَ مَعْرِفَةَ الثُّلُثِ فَاضْرِبْ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي، وَالثُّلُثَ الثَّانِي فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ فَمَا اجْتَمَعَ فَاطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ فَمَا بَقِيَ فَهُوَ الثُّلُثُ، وَإِنْ أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ النَّصِيبِ فَاضْرِبْ النَّصِيبَ الْأَوَّلَ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي، وَاضْرِبْ النَّصِيبَ الثَّانِي فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ فَمَا بَقِيَ فَهُوَ النَّصِيبُ، وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الثُّلُثُ الْأَوَّلُ أَرْبَعَةٌ، وَالْخَطَأُ الثَّانِي سِتَّةٌ فَاضْرِبْ أَرْبَعَةً فِي سِتَّةٍ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً، وَعِشْرِينَ، وَالثُّلُثُ الثَّانِي خَمْسَةٌ، وَالْخَطَأُ الْأَوَّلُ سَبْعَةٌ فَاضْرِبْ خَمْسَةً فِي سَبْعَةٍ فَتَكُونُ خَمْسَةً، وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ اطْرَحْ أَرْبَعَةً، وَعِشْرِينَ مِنْ خَمْسَةٍ، وَثَلَاثِينَ فَيَبْقَى أَحَدَ عَشَرَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَالنَّصِيبُ الْأَوَّلُ سَهْمٌ، وَالْخَطَأُ الثَّانِي سِتَّةٌ فَاضْرِبْ سَهْمًا فِي سِتَّةٍ تَكُونُ سِتَّةً، وَالنَّصِيبُ الثَّانِي سَهْمَانِ، وَالْخَطَأُ الْأَوَّلُ سَبْعَةٌ فَاضْرِبْ سَهْمَيْنِ فِي سَبْعَةٍ فَتَكُونُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَاطْرَحْ الْأَقَلَّ، وَهُوَ سِتَّةٌ

مِنْ الْأَكْثَرِ، وَهُوَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَيَبْقَى ثَمَانِيَةٌ فَهُوَ النَّصِيبُ. (وَأَمَّا) طَرِيقَةُ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، أَوْ الْأَكْبَرِ: فَهِيَ أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ لَك الْخَطَأُ الْأَوَّلُ فَلَا تَزِدْ فِي النَّصِيبِ، وَلَكِنْ ضَعِّفْ مَا وَرَاءَ النَّصِيبِ مِنْ الثُّلُثِ، ثُمَّ اُنْظُرْ فِي الْخَطَأَيْنِ، وَاعْمَلْ مَا عَمِلْتَ فِي طَرِيقَةِ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ، إذَا عَرَفْتَ هَذَا فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ظَهَرَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ سَبْعَةٌ فَضَعِّفْ مَا وَرَاءَ النَّصِيبِ مِنْ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَزِيدَ عَلَيْهِ مِثْلَهُ فَتَصِيرُ سِتَّةً فَصَارَ الثُّلُثُ مَعَ النَّصِيبِ سَبْعَةً فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ سَهْمًا، وَأَعْطِ بِالْوَصِيَّةِ الْأُخْرَى ثُلُثَ الْبَاقِي، وَذَلِكَ سَهْمَانِ يَبْقَى أَرْبَعَةٌ ضُمَّ ذَلِكَ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَحَاجَتُك إلَى ثَلَاثَةٍ فَظَهَرَ الْخَطَأُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ الثُّلُثِ فَخُذْ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ، وَاضْرِبْهُ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي، وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَتَصِيرُ سِتِّينَ، وَخُذْ الثُّلُثَ الثَّانِي، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَاضْرِبْهُ فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ فَتَصِيرُ تِسْعَةً، وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ، وَذَلِكَ تِسْعَةٌ، وَأَرْبَعُونَ مِنْ الْأَكْثَرِ، وَذَلِكَ سِتُّونَ، يَبْقَى أَحَدَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ، وَإِنْ أَرَدْت مَعْرِفَةَ النَّصِيبِ فَخُذْ النَّصِيبَ الْأَوَّلَ، وَذَلِكَ سَهْمٌ، وَاضْرِبْهُ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي، وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَتَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَخُذْ النَّصِيبَ الثَّانِي، وَذَلِكَ سَهْمٌ، وَاضْرِبْهُ فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ ثُمَّ اطْرَحْ سَبْعَةً مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ تَبْقَى ثَمَانِيَةٌ فَهُوَ النَّصِيبُ. وَلَوْ كَانَ لَهُ خَمْسُ بَنِينَ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ، أَحَدِهِمْ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ آخَرَ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ، فَالْفَرِيضَةُ مِنْ أَحِدٍ، وَخَمْسِينَ سَهْمًا لِصَاحِبِ النَّصِيبِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ ثُلُثِ مَا بَقِيَ ثُلُثُهُ، وَلِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ. (أَمَّا) تَخْرِيجُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى طَرِيقِ الْحَشْوِ: فَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ، وَتُفْرِزُ نَصِيبَهُمْ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَتَزِيدُ عَلَيْهِ سَهْمًا آخَرَ لِأَجْلِ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ غَيْرُهُ فَتَصِيرُ سِتَّةً فَاضْرِبْهَا فِي مَخْرَجِ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ لِأَجْلِ وَصِيَّتِهِ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، ثُمَّ اطْرَحْ مِنْهَا سَهْمًا وَاحِدًا لِأَجْلِ الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ زَادَ فِي الْوَصِيَّةِ، وَالزِّيَادَةُ فِي الْوَصِيَّةِ تُوجِبُ نُقْصَانًا فِي نَصِيبِ الْمُوصَى لَهُ الْأَوَّلِ، وَثُلُثُ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ ثَمَانِيَةٌ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الثُّلُثِ مِنْ كُلِّ ثُلُثٍ سَهْمٌ فَوَجَبَ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ هَذَا الثُّلُثِ سَهْمٌ؛ لِذَلِكَ قُلْنَا: إنَّهُ يُطْرَحُ مِنْ هَذَا الثُّلُثِ سَهْمٌ فَيَبْقَى سَبْعَةَ عَشَرَ فَاجْعَلْ هَذَا ثُلُثَ الْمَالِ، وَثُلُثَا الْمَالِ مِثْلَاهُ. وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَجَمِيعُ الْمَالِ أَحَدٌ، وَخَمْسُونَ وَثُلُثُ الْمَالِ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَإِذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ قَدْرَ النَّصِيبِ فَخُذْ النَّصِيبَ، وَذَلِكَ سَهْمٌ، وَاضْرِبْهُ فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ اضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي ثَلَاثَةٍ لِقَوْلِهِ: ثُلُثُ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَتَصِيرُ تِسْعَةً ثُمَّ اُنْقُصْ مِنْهَا وَاحِدًا لِأَجْلِ الْمُوصَى لَهُ كَمَا نَقَصْتَ فِي الِابْتِدَاءِ، فَيَبْقَى ثَمَانِيَةٌ فَذَلِكَ نَصِيبُ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ يَبْقَى إلَى تَمَامِ الْمَالِ تِسْعَةٌ فَأَعْطِ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ ثُلُثَهَا، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فَيَبْقَى سِتَّةٌ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ فَتَصِيرُ أَرْبَعِينَ سَهْمًا فَتُقَسَّمُ بَيْنَ الْبَنِينَ الْخَمْسِ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَمَانِيَةٌ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ. (وَأَمَّا) التَّخْرِيجُ عَلَى طَرِيقَةِ الْخَطَأَيْنِ: فَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ عَدَدًا لَوْ أَعْطَيْتَ مِنْهُ سَهْمًا، وَهُوَ النَّصِيبُ يَبْقَى وَرَاءَهُ عَدَدٌ لَهُ ثُلُثٌ لِحَاجَتِكَ إلَى إعْطَاءِ الْمُوصَى لَهُ الْآخَرِ ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدِ النَّصِيبِ، وَأَقَلُّهُ أَرْبَعَةٌ فَاجْعَلْ ثُلُثَ الْمَالِ أَرْبَعَةً فَأَنْفِذْ مِنْهُ الْوَصِيَّتَيْنِ، فَأَعْطِ الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ سَهْمًا، وَالْآخَرَ ثُلُثَ مَا بَقِيَ، وَهُوَ سَهْمٌ آخَرُ فَيَبْقَى وَرَاءَهُ سَهْمَانِ ضُمَّهُمَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ فَتَصِيرُ عَشَرَةً بَيْنَ الْبَنِينَ الْخَمْسِ فَتَبَيَّنَ أَنَّك قَدْ أَخْطَأْتَ بِخَمْسَةٍ؛ لِأَنَّ حَاجَتَكَ إلَى خَمْسَةٍ؛ لِأَنَّكَ قَدْ أَعْطَيْت لِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ سَهْمًا فَلَا تَحْتَاجُ إلَّا إلَى خَمْسَةٍ فَأَزِلْ هَذَا الْخَطَأَ، وَذَلِكَ بِالزِّيَادَةِ فِي النَّصِيبِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْخَطَأَ إنَّمَا جَاءَ مِنْ قِبَلِ نُقْصَانِ النَّصِيبِ فَزِدْ فِي النَّصِيبِ سَهْمًا فَتَصِيرُ الثُّلُثَ عَلَى خَمْسَةٍ، فَنَفِّذْ مِنْهَا الْوَصِيَّتَيْنِ فَأَعْطِ الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ. وَالْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى سَهْمًا يَبْقَى سَهْمَانِ ضُمَّهُمَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَتَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ بَيْنَ الْبَنِينَ الْخَمْسِ فَيَظْهَرُ أَنَّكَ أَخْطَأْتَ بِسَهْمَيْنِ؛ لِأَنَّ حَاجَتَكَ إلَى عَشَرَةٍ. وَكَانَ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ خَمْسَةً فَذَهَبَ مِنْ سِهَامِ الْخَطَأِ ثَلَاثَةٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّكَ مَهْمَا زِدْتَ فِي النَّصِيبِ سَهْمًا تَمَامًا يَذْهَبُ مِنْ سِهَامِ الْخَطَأِ ثَلَاثَةٌ، وَأَنَّك تَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَذْهَبَ مَا بَقِيَ مِنْ سِهَامِ الْخَطَأِ، وَهُوَ سَهْمَانِ، وَطَرِيقَةُ أَنْ تَزِيدَ عَلَى النَّصِيبِ ثُلُثَيْ سَهْمٍ حَتَّى يَذْهَبَ الْخَطَأُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ بِزِيَادَةِ سَهْمٍ تَامٍّ إذَا كَانَ يَذْهَبُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ سِهَامِ الْخَطَأِ

يُعْلَمُ ضَرُورَةً أَنَّ بِزِيَادَةِ كُلِّ ثُلُثٍ عَلَى النَّصِيبِ يَذْهَبُ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْخَطَأِ، فَيَذْهَبُ بِزِيَادَةِ ثُلُثَيْ سَهْمٍ سَهْمَانِ فَصَارَ النَّصِيبُ سَهْمَيْنِ، وَثُلُثَيْ سَهْمٍ، وَتَمَامُ الثُّلُثِ وَرَاءَهُ ثَلَاثَةٌ فَصَارَ الثُّلُثُ كُلُّهُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ، وَثُلُثَيْ سَهْمٍ فَانْكَسَرَ فَاضْرِبْ خَمْسَةً، وَثُلُثَيْنِ فِي ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ سَبْعَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ خَمْسَةً فِي ثَلَاثَةٍ تَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَثُلُثَانِ فِي ثَلَاثَةِ تَكُونُ سَهْمَيْنِ فَذَلِكَ سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثَانِ مِثْلَا ذَلِكَ فَتَصِيرُ أَحَدًا، وَخَمْسِينَ، وَالنَّصِيبُ سَهْمَانِ، وَثُلُثَا سَهْمٍ مَضْرُوبٌ فِي ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةً. ؛ لِأَنَّ سَهْمَيْنِ فِي ثَلَاثَةٍ سِتَّةٌ، وَثُلُثَانِ فِي ثُلُثَيْنِ سَهْمَانِ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةً فَذَلِكَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ بَقِيَ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ تِسْعَةٌ فَأَعْطِ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ ثُلُثَهَا، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ يَبْقَى سِتَّةٌ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ فَتَصِيرُ أَرْبَعِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ ثَمَانِيَةٌ. (وَأَمَّا) تَخْرِيجُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ لَك الْخَطَأُ فَلَا تَزِيدْ عَلَى النَّصِيبِ شَيْئًا، وَلَكِنْ اضْرِبْ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي، وَالثُّلُثَ الثَّانِي فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ فَمَا بَلَغَ فَاطْرَحْ مِنْهُ أَقَلَّهُمَا مِنْ أَكْثَرِهِمَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَالثُّلُثُ الْأَوَّلُ هَهُنَا كَانَ أَرْبَعَةً، وَالْخَطَأُ الثَّانِي كَانَ سَهْمَيْنِ فَاضْرِبْ سَهْمَيْنِ فِي أَرْبَعَةٍ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةً، وَالثُّلُثُ الثَّانِي خَمْسَةٌ، وَالْخَطَأُ الْأَوَّلُ كَانَ خَمْسَةً فَاضْرِبْ خَمْسَةً فِي خَمْسَةٍ فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ فَاطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ، وَعِشْرِينَ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ فَيَبْقَى سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَهَكَذَا اعْمَلْ فِي النَّصِيبِ، وَهُوَ أَنَّك تَضْرِبُ النَّصِيبَ الْأَوَّلَ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي، وَالنَّصِيبَ الثَّانِي فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ فَمَا بَلَغَ فَاطْرَحْ مِثْلَ أَقَلِّهِمَا مِنْ أَكْثَرِهِمَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ النَّصِيبُ، وَالنَّصِيبُ الْأَوَّلُ سَهْمٌ، وَالْخَطَأُ الثَّانِي سَهْمَانِ فَسَهْمٌ فِي سَهْمَيْنِ يَكُونُ سَهْمَيْنِ، وَالنَّصِيبُ الثَّانِي سَهْمَانِ، وَالْخَطَأُ الْأَوَّلُ خَمْسَةٌ فَاضْرِبْ سَهْمَيْنِ فِي خَمْسَةٍ تَكُونُ عَشْرَةً، ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ، وَهُوَ سَهْمَانِ مِنْ الْأَكْثَرِ، وَهُوَ عَشَرَةٌ فَيَبْقَى ثَمَانِيَةٌ وَهُوَ النَّصِيبُ، وَالْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا، وَاخْتَارَ الْحُسَّابُ فِي الْخَطَأَيْنِ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ اللِّينِ، وَالسُّهُولَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ زِيدَ عَلَى النَّصِيبِ بَعْدَ ظُهُورِ الْخَطَأَيْنِ يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ زَادَ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْأَجْزَاءِ مِنْ الثُّلُثِ، وَالثُّلُثَيْنِ، ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى الضَّرْبِ، وَفِيهِ نَوْعُ عُسْرٍ. (وَأَمَّا) التَّخْرِيجُ عَلَى طَرِيقَةِ الْجَامِعِ الْأَكْبَرِ: فَهُوَ أَنَّهُ إذَا تَبَيَّنَ لَك الْخَطَأَ الْأَوَّلَ فَلَا تَزِدْ عَلَى النَّصِيبِ، وَلَكِنْ ضَعِّفْ مَا وَرَاءَ النَّصِيبِ وَوَرَاءَ النَّصِيبِ هَهُنَا ثَلَاثَةٌ فَإِذَا ضَعَّفْتَ الثَّلَاثَةَ صَارَتْ سِتَّةً، وَالثُّلُثُ سَبْعَةٌ فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ سَهْمًا، وَبِثُلُثِ مَا يَبْقَى سَهْمَيْنِ، يَبْقَى أَرْبَعَةٌ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَهُوَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَيَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ بَيْنَ الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ، وَحَاجَتُك إلَى خَمْسَةٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّك قَدْ أَخْطَأْتَ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ، ثُمَّ اضْرِبْ هَذَا الْخَطَأَ فِي الثُّلُثِ الْأَوَّلِ يَصِيرُ اثْنَيْنِ، وَخَمْسِينَ، وَاضْرِبْ الْخَطَأَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ خَمْسَةٌ فِي الثُّلُثِ الثَّانِي، وَهُوَ سَبْعَةٌ فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ فَتَصِيرُ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَفِي النَّصِيبِ اعْمَلْ هَكَذَا فَاضْرِبْ النَّصِيبَ الْأَوَّلَ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَالنَّصِيبَ الثَّانِي فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ فَتَصِيرُ خَمْسَةً ثُمَّ اطْرَحْ خَمْسَةً مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَمَا بَقِيَ فَهُوَ النَّصِيبُ، وَطَرِيقَةُ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ أَسْهَلُ. وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ، أَحَدِهِمْ وَلِآخَرَ بِرُبُعِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدِ النَّصِيبِ، فَالْمَسْأَلَةُ تُخَرَّجُ مِنْ تِسْعَةٍ، وَسِتِّينَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ أَحَدَ عَشَرَ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِرُبُعِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ أَحَدَ عَشَرَ. (أَمَّا) التَّخْرِيجُ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَشْوِ فَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ، وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَتَزِيدَ عَلَيْهَا سَهْمًا لِأَجْلِ صَاحِبِ النَّصِيبِ فَتَصِيرُ سِتَّةً ثُمَّ اضْرِبْ السِّتَّةَ فِي مَخْرَجِ الرُّبُعِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ لِأَجْلِ صَاحِبِ الرُّبْعِ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، ثُمَّ اطْرَحْ مِنْهَا سَهْمًا لِمَا ذَكَرْنَا فَيَبْقَى ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَجُمْلَةُ الْمَالِ تِسْعَةٌ وَسِتُّونَ، وَالنَّصِيبُ سَهْمٌ مَضْرُوبٌ فِي أَرْبَعَةٍ، ثُمَّ الْأَرْبَعَةُ فِي ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ اطْرَحْ مِنْهُ سَهْمًا يَبْقَى أَحَدَ عَشَرَ فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ، فَيَبْقَى إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ اثْنَا عَشَرَ فَأَعْطِ مِنْهَا رُبْعَ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ يَبْقَى تِسْعَةٌ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ بَيْنَ الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ لِكُلِّ وَاحِد أَحَدَ عَشَرَ فَاسْتَقَامَ الْحِسَابُ. (وَأَمَّا) التَّخْرِيجُ عَلَى طَرِيقَةِ الْخَطَّائِينَ: فَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ عَدَدًا لَوْ أَعْطَيْتَ مِنْهُ النَّصِيبَ يَبْقَى وَرَاءَهُ عَدَدٌ لَهُ رُبْعٌ، وَأَقَلُّهُ خَمْسَةٌ فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ سَهْمًا يَبْقَى أَرْبَعَةٌ فَأَعْطِ رُبْعَ مَا يَبْقَى سَهْمًا، وَيَبْقَى ثَلَاثَةٌ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ

عَشَرَ، وَحَاجَتُك إلَى خَمْسَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَنِينَ سَهْمٌ لِيَكُونَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلَ نَصِيبِ صَاحِبِ النَّصِيبِ، فَظَهَرَ أَنَّكَ أَخْطَأْت بِثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ فَزِدْ فِي النَّصِيبِ سَهْمًا فَيَصِيرُ الثُّلُثُ سِتَّةً فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ، وَبِرُبْعِ مَا يَبْقَى سَهْمًا يَبْقَى ثَلَاثَةٌ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ فَيَصِيرُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَظَهَرَ لَك أَنَّكَ أَخْطَأْتَ بِخَمْسَةٍ؛ لِأَنَّ حَاجَتَك إلَى عَشَرَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ سَهْمَانِ كَمَا لِلْمُوصَى لَهُ النَّصِيبُ إلَّا أَنَّهُ انْتَقَصَ مِنْ سِهَامِ الْخَطَأِ فِي هَذِهِ الْكَرَّةِ ثَلَاثَةً؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ الْأَوَّلَ كَانَ بِثَمَانِيَةٍ، وَفِي هَذِهِ الْكَرَّةِ بِخَمْسَةٍ، فَتَبَيَّنَ أَنَّك مَهْمَا زِدْتَ فِي النَّصِيبِ سَهْمًا كَامِلًا يَذْهَبُ مِنْ سِهَامِ الْخَطَأِ ثَلَاثَةٌ فَزِدْ ثُلُثَيْ سَهْمٍ عَلَى سَهْمَيْنِ حَتَّى يَذْهَبَ الْخَطَأُ كُلُّهُ، فَصَارَ النَّصِيبُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، وَثُلُثَيْ سَهْمٍ وَوَرَاءَهُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ فَيَصِيرُ الثُّلُثُ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ، وَثُلُثَيْ سَهْمٍ. وَانْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ فَاضْرِبْ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ، وَثُلُثَيْ سَهْمٍ فِي ثَلَاثَةٍ لِيَزُولَ الْكَسْرُ فَيَصِيرُ ثَلَاثَةً، وَعِشْرِينَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ، وَهُوَ سِتَّةٌ، وَأَرْبَعُونَ، فَكُلُّ الْمَالِ تِسْعَةٌ وَسِتُّونَ، وَالنَّصِيبُ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثَانِ مَضْرُوبًا فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ، وَالْبَاقِي إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ اثْنَا عَشَرَ، ثَلَاثَةٌ مِنْهَا وَهِيَ رُبْعُ مَا بَقِيَ مِنْ كُلِّ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ، فَيَبْقَى تِسْعَةٌ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ فَيَصِيرُ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَنِينَ أَحَدَ عَشْرَ، وَالتَّخْرِيجُ عَلَى طَرِيقَةِ الْأَصْغَرِ، وَالْأَكْبَرِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا. وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَلِآخَرَ بِخُمْسِ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ، فَالْمَسْأَلَةُ تَخْرُجُ مِنْ سَبْعَةٍ وَثَمَانِينَ لِصَاحِبِ النَّصِيبِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَلِصَاحِبِ الْخُمُسِ ثَلَاثَةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ. (أَمَّا) التَّخْرِيجُ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَشْوِ: فَعَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّك تَأْخُذُ عَدَدَ الْبَنِينَ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ، وَتَزِيدُ عَلَيْهَا وَاحِدًا كَمَا فَعَلْتَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَتَصِيرُ سِتَّةً ثُمَّ اضْرِبْ سِتَّةً فِي مَخْرَجِ الْخَمْسِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ فَتَصِيرُ ثَلَاثِينَ، ثُمَّ اُنْقُصْ مِنْهَا وَاحِدًا لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا فَيَبْقَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَاجْعَلْ هَذَا ثُلُثَ الْمَالِ، وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَخَمْسُونَ، وَجَمِيعُ الْمَالِ سَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ النَّصِيبَ فَخُذْ النَّصِيبَ، وَذَلِكَ سَهْمٌ فَاضْرِبْهُ فِي خَمْسَةٍ، ثُمَّ اضْرِبْ خَمْسَةً فِي ثَلَاثَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَيَصِيرُ خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ اُنْقُصْ مِنْهَا سَهْمًا فَيَبْقَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَهَذَا هُوَ النَّصِيبُ. فَأَعْطِ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ النَّصِيبِ، يَبْقَى إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَأَعْطِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخُمُسِ خُمُسَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ يَبْقَى هُنَاكَ اثْنَا عَشَرَ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَخَمْسُونَ فَتَصِيرُ سَبْعِينَ فَاقْسِمْهَا بَيْنَ الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ لِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِثْلُ مَا كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ. (وَأَمَّا) التَّخْرِيجُ عَلَى طَرِيقَةِ الْخَطَّائِينَ فَعَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا أَنَّك تَجْعَلُ ثُلُثَ الْمَالِ عَدَدًا لَوْ أَعْطَيْنَا مِنْهُ نَصِيبًا يَبْقَى وَرَاءَهُ عَدَدٌ لَهُ خُمْسٌ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ سِتَّةٌ فَتُعْطِي مِنْهَا سَهْمًا بِالنَّصِيبِ، وَسَهْمًا بِخُمْسِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ، فَيَبْقَى وَرَاءَهُ أَرْبَعَةٌ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ فَتَصِيرُ سِتَّةَ عَشَرَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّك أَخْطَأْت بِأَحَدَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ حَاجَتَكَ إلَى خَمْسَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَنِينَ سَهْمٌ مِثْلُ مَا كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ، فَزِدْ فِي النَّصِيبِ سَهْمًا فَيَصِيرُ الثُّلُثُ سَبْعَةً فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ، ثُمَّ أَعْطِ بِخُمْسِ مَا بَقِيَ سَهْمًا فَيَبْقَى هُنَاكَ أَرْبَعَةٌ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّك أَخْطَأْت فِي هَذِهِ الْكَرَّةِ بِزِيَادَةِ ثَمَانِيَةٍ؛ لِأَنَّ حَاجَتَك إلَى عَشَرَةٍ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ كَمَا كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ، فَظَهَرَ لَك أَنَّ بِزِيَادَةِ كُلِّ سَهْمٍ عَلَى النَّصِيبِ يَذْهَبُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ الْخَطَأِ، وَأَنَّك تَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَذْهَبَ مَا بَقِيَ مِنْ سِهَامِ الْخَطَأِ، وَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ فَزِدْ سَهْمَيْنِ، وَثُلُثَيْ سَهْمٍ عَلَى سَهْمَيْنِ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، وَثُلُثَيْ سَهْمٍ. وَمَا وَرَاءَهُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ فَصَارَ الثُّلُثُ تِسْعَةَ أَسْهُمٍ، وَثُلُثَيْ سَهْمٍ فَاضْرِبْ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ فَتَصِيرُ جُمْلَةُ الْمَالِ سَبْعَةً وَثَمَانِينَ، فَالنَّصِيبُ أَرْبَعَةٌ، وَثُلُثَانِ مَضْرُوبٌ فِي ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَالْبَاقِي إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَأَخْرِجْ مِنْهَا الْخُمْسَ، وَضُمَّ الْبَاقِي إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ عَلَى مَا عَلَّمْنَاكَ، وَطَرِيقُنَا الْجَامِعُ الْأَصْغَرُ، وَالْأَكْبَرُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إلَّا ثُلُثَ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَالْمَسْأَلَةُ تُخَرَّجُ مِنْ سَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ، فَالنَّصِيبُ عَشَرَةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ ثَلَاثَةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ. (أَمَّا) عَلَى طَرِيقَةِ الْحَشْوِ فَهُوَ أَنَّك تَأْخُذُ نَصِيبَ الْوَرَثَةِ عَلَى عَدَدِهِمْ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ، وَتَزِيدُ عَلَيْهَا وَاحِدًا فَتَصِيرُ سِتَّةً ثُمَّ اضْرِبْ سِتَّةً فِي ثَلَاثَةٍ لِقَوْلِهِ: إلَّا ثُلُثَ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، ثُمَّ زِدْ عَلَيْهَا سَهْمًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ وَصِيَّتِهِ يُوجِبُ زِيَادَةً

فِي نَصِيبِ الْوَرَثَةِ، وَهِيَ شَائِعَةٌ فِي كُلِّ الْمَالِ فَتَزِيدُ عَلَى كُلِّ ثُلُثٍ سَهْمًا كَمَا كُنْتَ تُنْقِصُ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ كُلِّ ثُلُثٍ سَهْمًا؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ هُنَاكَ مَا كَانَ لِذَاتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِاسْتِقَامَةِ الْحِسَابِ، وَهَهُنَا لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا بِالزِّيَادَةِ فَتُزَادُ فَتَصِيرُ تِسْعَةَ عَشَرَ، فَاجْعَلْ هَذَا ثُلُثَ الْمَالِ، وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَجَمِيعُ الْمَالِ سَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ. وَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ النَّصِيبِ فَالنَّصِيبُ كَانَ وَاحِدًا فَاضْرِبْهُ فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ اضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي ثَلَاثَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا فَتَصِيرُ تِسْعَةً ثُمَّ زِدْ عَلَيْهَا وَاحِدًا كَمَا زِدْتَ فِي الِابْتِدَاءِ فَتَصِيرُ عَشَرَةً فَهَذَا هُوَ النَّصِيبُ، وَبَقِيَ إلَى تَمَامِ ثُلُثِ الْمَالِ تِسْعَةٌ فَاسْتَثْنِ مِنْ النَّصِيبِ مِقْدَارَ ثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فَإِذَا اسْتَثْنَيْتَ مِنْ الْعَشَرَةِ ثَلَاثَةً يَبْقَى لِلْمُوصَى لَهُ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ فَضُمَّ الْمُسْتَثْنَى، وَهُوَ الثَّلَاثَةُ مَعَ مَا بَقِيَ، وَهُوَ تِسْعَةٌ وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ فَتَصِيرُ خَمْسِينَ فَاقْسِمْهَا عَلَى الْبَنِينَ الْخَمْسِ لِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ، مِثْلُ مَا كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ. وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْخَطَّائِينَ: فَهِيَ أَنْ تَجْعَلَ الثُّلُثَ عَلَى عَدَدٍ لَوْ أَعْطَيْتَ مِنْهُ نَصِيبًا يَبْقَى وَرَاءَهُ ثَلَاثَةٌ، وَلَوْ اسْتَثْنَيْتَ مِنْ النَّصِيبِ ثُلُثَ مَا يَبْقَى يَبْقَى وَرَاءَهُ سَهْمٌ. وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يَجْعَلَ الثُّلُثَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ فَأَعْطِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ، ثُمَّ اسْتَثْنِ مِنْهُ مِثْلَ ثُلُثِ مَا يَبْقَى، وَهُوَ وَاحِدٌ، وَضُمَّهُ إلَى مَا بَقِيَ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً فَضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَهُوَ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا. وَحَاجَتُكَ إلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ مِثْل مَا أَعْطَيْتَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ، فَظَهَرَ أَنَّكَ أَخْطَأْتَ بِزِيَادَةِ أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، فَزِدْ فِي النَّصِيبِ سَهْمًا فَتَصِيرُ ثَلَاثَةً وَوَرَاءَهُ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ اسْتَثْنِ مِنْهُ سَهْمًا، وَضُمَّهُ إلَى مَا بَقِيَ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً ثُمَّ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَتَصِيرُ سِتَّةَ عَشَرَ، وَحَاجَتُكَ إلَى خَمْسَةَ عَشَرَ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةٌ، مِثْلُ مَا أَعْطَيْتَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ، فَظَهَرَ أَنَّكَ أَخْطَأْتَ بِسَهْمٍ، وَالْخَطَأُ الْأَوَّلُ كَانَ بِأَرْبَعَةٍ، فَظَهَرَ أَنَّ بِزِيَادَةِ سَهْمٍ عَلَى النَّصِيبِ يَذْهَبُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ الْخَطَأِ، فَتَعْلَمُ أَنَّ بِزِيَادَةِ ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ أُخَرَ يَذْهَبُ مَا بَقِيَ مِنْ الْخَطَأِ، فَرُدَّ ثُلُثًا آخَرَ فَيَصِيرُ النَّصِيبُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، وَثُلُثَ سَهْمٍ، وَمَا بَقِيَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فَتَصِيرُ سِتَّةَ أَسْهُمٍ، وَثُلُثَ سَهْمٍ، فَاضْرِبْهَا فِي ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ تِسْعَةَ عَشَرَ فَهَذَا ثُلُثُ الْمَالِ، وَالنَّصِيبُ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثُ سَهْمٍ مَضْرُوبٍ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ عَشَرَةً، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ ثَلَاثَةٌ فَذَلِكَ سَبْعَةٌ، وَهِيَ لِلْمُوصَى لَهُ، وَلِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ فَخَرَجَتْ الْفَرِيضَةُ مِنْ سَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ. وَهَذَا إذَا اسْتَثْنَى ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ، فَأَمَّا إذَا اسْتَثْنَى رُبْعَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ، بِأَنْ أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيهِ الْخَمْسِ إلَّا رُبْعَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ، فَالْفَرِيضَةُ مِنْ خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ، النَّصِيبُ مِنْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ ثَلَاثَةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ. (أَمَّا) طَرِيقَةُ الْحَشْوِ: فَمَا ذَكَرْنَا أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ، وَتَزِيدَ عَلَيْهِ سَهْمًا فَتَصِيرُ سِتَّةً ثُمَّ اضْرِبْهُ فِي مَخْرَجِ الرُّبْعِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، ثُمَّ زِدْ عَلَيْهَا وَاحِدًا لِمَا ذَكَرْنَا فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ فَاجْعَلْ هَذَا ثُلُثَ الْمَالِ، وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ، وَجَمِيعُ الْمَالِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ، هَذَا لِمَعْرِفَةِ أَصْلِ الْمَالِ. (وَأَمَّا) مَعْرِفَةُ النَّصِيبِ: فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَاضْرِبْهُ فِي أَرْبَعَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةً ثُمَّ اضْرِبْ أَرْبَعَةً فِي ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ فَزِدْ عَلَيْهَا وَاحِدًا لِمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا، فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ هَذَا هُوَ النَّصِيبُ، فَيَبْقَى إلَى تَمَامِ ثُلُثِ الْمَالِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَعِشْرُونَ اثْنَا عَشَرَ فَاسْتَرْجِعْ مِنْ النَّصِيبِ بِحُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ رُبْعَ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فَبَقِيَ لِلْمُوصَى لَهُ عَشَرَةٌ، ثُمَّ ضُمَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ فَاسْتَرْجِعْ مِنْ النَّصِيبِ بِحُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ رُبْع ذَلِكَ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فَبَقِيَ لِلْمُوصَى لَهُ عَشَرَةٌ، ثُمَّ ضُمَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ فَتَصِيرُ خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ تَضُمُّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ خَمْسُونَ فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَسِتِّينَ، فَاقْسِمْ بَيْنَ الْبَنِينَ الْخَمْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، مِثْلُ مَا كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ. (وَأَمَّا) طَرِيقَةُ الْخَطَّائِينَ: فَهِيَ أَنْ تَجْعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ عَدَدًا إذَا أَعْطَيْتَ مِنْهُ النَّصِيبَ يَبْقَى وَرَاءَهُ أَرْبَعَةٌ، وَإِذَا اسْتَثْنَيْتَ مِنْ النَّصِيبِ مِثْلَ رُبْعِ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ يَبْقَى وَرَاءَهُ سَهْمٌ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ سِتَّةٌ فَاجْعَلْهَا ثُلُثَيْ الْمَالِ، فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ، ثُمَّ اسْتَرْجِعْ مِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِثْلَ رُبْعِ مَا بَقِيَ، وَذَلِكَ سَهْمٌ، وَضُمَّهُ إلَى مَا بَقِيَ فَتَصِيرُ خَمْسَةً ثُمَّ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَتَصِيرُ سَبْعَةَ عَشَرَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّك أَخْطَأْتَ بِزِيَادَةِ سَبْعَةٍ، وَإِنَّ حَاجَتَكَ إلَى الْعَشَرَةِ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ، مِثْلُ مَا أَعْطَيْتَ لِصَاحِبِ النَّصِيبِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِثْلُ نُصِبْهُمْ فَزِدْ فِي النَّصِيبِ سَهْمًا فَتَصِيرُ ثَلَاثَةً فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، ثُمَّ اسْتَرْجِعْ مِنْهُ مِثْلَ رُبْعِ مَا يَبْقَى، وَهُوَ سَهْمٌ، وَضُمَّهُ إلَى مَا بَقِيَ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَتَصِيرُ خَمْسَةً فَضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَتَصِيرُ تِسْعَةَ عَشَرَ فَيَظْهَرُ أَنَّك أَخْطَأْتَ فِي

هَذِهِ الْكَرَّةِ بِأَرْبَعَةٍ؛ لِأَنَّ حَاجَتَكَ إلَى خَمْسَةَ عَشَرَ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةٌ مِثْلُ مَا أَعْطَيْتَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ، وَتَبَيَّنَ لَكَ أَنَّك مَهْمَا زِدْتَ فِي النَّصِيبِ سَهْمًا انْتَقَصَ مِنْ سِهَامِ الْخَطَأِ ثَلَاثَةٌ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ سِهَامِ الْخَطَأِ أَرْبَعَةٌ، وَأَنَّكَ تَحْتَاجُ إلَى إذْهَابِهَا، فَزِدْ فِي النَّصِيبِ قَدْرَ مَا يَذْهَبُ بِهِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَزِدْ فِي النَّصِيبِ سَهْمًا، وَثُلُثَ سَهْمٍ حَتَّى تَذْهَبَ بِهِ سِهَامُ الْخَطَأِ كُلُّهَا فَصَارَ النَّصِيبُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، وَثُلُثَ سَهْمٍ، وَمَا بَقِيَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةَ أَسْهُمٍ، وَثُلُثَ سَهْمٍ فَاضْرِبْهَا فِي ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ خَمْسَةً، وَعِشْرِينَ، وَهِيَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ، وَجُمْلَتُهُ خَمْسَةٌ، وَسَبْعُونَ، وَالنَّصِيبُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَثُلُثُ سَهْمٍ مَضْرُوبٌ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ اسْتَثْنِ مِنْهَا ثَلَاثَةً فَيَبْقَى عَشَرَةٌ، ثُمَّ ضُمَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ يَصِيرُ خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ تَضُمُّ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَسِتِّينَ، وَاقْسِمْهُ بَيْنَ الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، مِثْلُ مَا كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالتَّخْرِيجُ عَلَى طَرِيقَةِ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ، وَالْأَكْبَرِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ كَانَ ثَلَاثُ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إلَّا ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ، فَالْمَسْأَلَةُ تُخَرَّجُ مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ الثُّلُثُ مِنْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَالنَّصِيبُ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ تِسْعَةٌ، وَتَخْرِيجُهَا عَلَى طَرِيقَةِ الْحَشْوِ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ زِدْ عَلَيْهَا سَهْمًا لِأَجْلِ النَّصِيبِ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً ثُمَّ اضْرِبْ الْأَرْبَعَةَ فِي ثَلَاثَةٍ؛؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى ثَلَاثَةٌ فَتَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ زِدْ وَاحِدًا فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ عَشْرَ فَهَذَا ثُلُثُ الْمَالِ، وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ. (وَأَمَّا) مَعْرِفَةُ النَّصِيبِ الْكَامِلِ فَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَ، وَذَلِكَ سَهْمٌ وَاحِدٌ، وَاضْرِبْهُ فِي مَخْرَجِ الثُّلُثِ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةً، ثُمَّ اضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي ثَلَاثَةٍ لِمَكَانِ الثُّلُثِ فَتَصِيرُ تِسْعَةً، ثُمَّ زِدْ عَلَيْهَا وَاحِدًا كَمَا زِدْت فِي الثُّلُثِ فَتَصِيرُ عَشَرَةً فَهُوَ النَّصِيبُ الْكَامِلُ، فَأَعْطِ لِصَاحِبِ النَّصِيبِ عَشَرَةً مِنْ الثُّلُثِ، وَهُوَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَيَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ اسْتَرْجِعْ مِنْ النَّصِيبِ بِسَبَبِ الِاسْتِثْنَاءِ ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ وَاحِدٌ، وَضُمَّهُ إلَى مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ، فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً. فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ فَضَلَتْ عَنْ الْوَصِيَّةِ فَضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ فَتَصِيرُ ثَلَاثِينَ لِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ مِثْلُ النَّصِيبِ الْكَامِلِ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَحَصَلَ لِلْمُوصَى لَهُ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ تِسْعَةٌ. (وَأَمَّا) التَّخْرِيجُ عَلَى طَرِيقَةِ الْخَطَّائِينَ: فَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ عَدَدًا لَوْ أَعْطَيْتَ بِالنَّصِيبِ شَيْئًا، ثُمَّ اسْتَرْجَعْتَ مِنْ النَّصِيبِ بِالِاسْتِثْنَاءِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ، يَبْقَى فِي يَدِ الْمُوصَى لَهُ شَيْءٌ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ خَمْسَةٌ فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ، ثُمَّ اسْتَرْجِعْ مِنْهُ سَهْمًا لِمَكَانِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَضُمَّهُ إلَى مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً فَهِيَ فَاضِلَةٌ مِنْ الْوَصِيَّةِ فَضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَصَارَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَحَاجَتُك إلَى سِتَّةٍ؛ لِأَنَّك أَعْطَيْتَ بِالنَّصِيبِ الْكَامِلِ سَهْمَيْنِ فَظَهَرَ أَنَّك أَخْطَأْتَ بِثَمَانِيَةٍ، فَزِدْ عَلَى النَّصِيبِ سَهْمًا آخَرَ حَتَّى إذَا أَعْطَيْت بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةً يَبْقَى بَعْدَهُ مَالُهُ ثُلُثٌ لِمَكَانِ الِاسْتِثْنَاءِ. فَاجْعَلْ الثُّلُثَ سِتَّةً فَأَعْطِ النَّصِيبَ ثَلَاثَةً يَبْقَى ثَلَاثَةٌ ثُمَّ اسْتَرْجِعْ مِنْ النَّصِيبِ سَهْمًا فَصَارَ مَعَك أَرْبَعَةٌ فَضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَصَارَ سِتَّةَ عَشَرَ، وَحَاجَتُك إلَى تِسْعَةٍ؛ لِأَنَّك أَعْطَيْت بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةً فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ ابْنٍ مِثْلُ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فَظَهَرَ أَنَّك أَخْطَأْت فِي هَذِهِ الْكَرَّةِ بِزِيَادَةِ سَبْعَةٍ، وَالْخَطَأُ الْأَوَّلُ كَانَ بِزِيَادَةِ ثَمَانِيَةٍ، فَتَبَيَّنَ لَك أَنَّ كُلَّ سَهْمٍ زِيدَ عَلَى الثُّلُثِ يُذْهِبُ سَهْمًا مِنْ الْخَطَأِ، فَزِدْ سَبْعَةً عَلَى الثُّلُثِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ سِتَّةٌ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ، فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ عَشَرَةً يَبْقَى إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ اسْتَرْجِعْ سَهْمًا فَصَارَ أَرْبَعَةً فَضُمَّهَا إلَى ثُلُثِ الْمَالِ، وَهُوَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ فَتَصِيرُ ثَلَاثِينَ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا، وَطَرِيقَةُ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَهُوَ أَنْ لَا تَزِيدَ عَلَى النَّصِيبِ عِنْدَ ظُهُورِ الْخَطَأَيْنِ، وَلَكِنْ خُذْ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ، وَاضْرِبْهُ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَثَلَاثُونَ، ثُمَّ خُذْ الثُّلُثَ الثَّانِي، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَاضْرِبْهُ فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ يَصِيرُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ يَبْقَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ. (وَأَمَّا) مَعْرِفَةُ النَّصِيبِ: فَخُذْ النَّصِيبَ الْأَوَّلَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَذَلِكَ سَهْمٌ، وَاضْرِبْهُ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ فَتَصِيرُ سَبْعَةً ثُمَّ خُذْ النَّصِيبَ الثَّانِي، وَذَلِكَ سَهْمَانِ، وَاضْرِبْهُ فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ فَتَصِيرُ سِتَّةَ عَشَرَ، ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ يَبْقَى تِسْعَةٌ فَهُوَ النَّصِيبُ، ثُمَّ الْبَاقِي عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا. (وَأَمَّا) طَرِيقَةُ الْجَامِعِ الْأَكْبَرِ: فَهُوَ أَنْ تُضَعِّفَ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ سِوَى النَّصِيبِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَضَعِّفْهَا فَتَصِيرُ

ثَمَانِيَةً ثُمَّ زِدْ عَلَيْهِ النَّصِيبَ، وَذَلِكَ سَهْمٌ فَتَصِيرُ تِسْعَةً فَهُوَ الثُّلُثُ الثَّانِي، فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةً يَبْقَى سِتَّةٌ فَثُلُثُ مَا بَقِيَ سَهْمَانِ، ثُمَّ اسْتَرْجِعْ مِنْ النَّصِيبِ ثُلُثَ مَا يَبْقَى، وَذَلِكَ سَهْمَانِ، وَضُمَّهُمَا إلَى مَا مَعَكَ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةً فَهِيَ فَاضِلَةٌ عَنْ الْوَصِيَّةِ، وَضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَتَصِيرُ سِتَّةً وَعِشْرِينَ، وَحَاجَتُك إلَى تِسْعَةٍ؛ لِأَنَّك أَعْطَيْت بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةً فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةٌ فَظَهَرَ أَنَّك أَخْطَأْت بِزِيَادَةِ سَبْعَةَ عَشَرَ فِي طَرِيقَةِ الْجَامِعِ الْأَكْبَرِ، وَالْخَطَأُ الْأَوَّلُ فِي طَرِيقَةِ الْخَطَّائِينَ كَانَ بِزِيَادَةِ ثَمَانِيَةٍ، فَخُذْ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ فِي طَرِيقَةِ الْخَطَّائِينَ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ، وَاضْرِبْهُ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي، وَذَلِكَ سَبْعَةَ عَشَرَ فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَثَمَانِينَ، ثُمَّ خُذْ الثُّلُثَ الثَّانِي، وَذَلِكَ تِسْعَةٌ، وَاضْرِبْهُ فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ فَتَصِيرُ اثْنَيْنِ، وَسَبْعِينَ، ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ يَبْقَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ. (وَأَمَّا) مَعْرِفَةُ النَّصِيبِ: فَخُذْ النَّصِيبَ الْأَوَّلَ مِنْ طَرِيقِ الْخَطَّائِينَ، وَذَلِكَ سَهْمٌ، وَاضْرِبْهُ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي مِنْ الْجَامِعِ الْأَكْبَرِ، وَذَلِكَ سَبْعَةَ عَشَرَ بِسَبْعَةَ عَشَرَ، وَخُذْ النَّصِيبَ الثَّانِي، وَذَلِكَ سَهْمٌ مِنْ طَرِيقَةِ الْجَامِعِ الْأَكْبَرِ، وَاضْرِبْهُ فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ بِثَمَانِيَةٍ، وَاطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ فَيَبْقَى تِسْعَةٌ فَهُوَ النَّصِيبُ يَبْقَى ثَلَاثُونَ بَيْنَ الْبَنِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ، هَذَا إذَا قَالَ: إلَّا ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ (فَأَمَّا) إذَا قَالَ: إلَّا ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، فَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّ فِي تَخْرِيجِهِ ضَرْبُ تَفَاوُتٍ. (أَمَّا) عَلَى طَرِيقَةِ الْحَشْوِ: فَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ، وَتَزِيدَ عَلَيْهِ وَاحِدًا، ثُمَّ تَضْرِبُهَا فِي مَخْرَجِ النِّصْفِ، وَهُوَ سَهْمَانِ، وَإِنَّمَا ضَرَبْنَا هَذَا فِي سَهْمَيْنِ، وَالْأَوَّلَ فِي ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُوصِي هَهُنَا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى بَعْدَ الْوَصِيَّةِ الْحَاصِلَةِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الِاسْتِرْجَاعِ مَعَهُ سَهْمَانِ، حَتَّى إذَا اسْتَرْجَعْت مِنْهُ شَيْئًا يَكُونُ الْمُسْتَرْجَعُ ثُلُثَ مَا بَقِيَ، وَمَقْصُودُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى بَعْدَ النَّصِيبِ قَبْلَ الِاسْتِرْجَاعِ مِثْلَ ثَلَاثَةٍ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ قَبْلَ الِاسْتِرْجَاعِ، حَتَّى إذَا اسْتَرْجَعْت شَيْئًا يَكُونُ الْمُسْتَرْجَعُ رُبْعَهُ، فَإِذَا ضَرَبْت أَرْبَعَةً فِي اثْنَيْنِ بَلَغَ ثَمَانِيَةً ثُمَّ تَزِيدُ وَاحِدًا فَتَصِيرُ تِسْعَةً فَهَذَا ثُلُثُ الْمَالِ، وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ، وَهُوَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. (فَأَمَّا) مَعْرِفَةُ النَّصِيبِ فَخُذْ النَّصِيبَ، وَذَلِكَ وَاحِدٌ، وَاضْرِبْهُ فِي مَخْرَجِ الثُّلُثِ، فَتَصِيرُ ثَلَاثَةً فَاضْرِبْ الثَّلَاثَةَ فِي مَخْرَجِ النِّصْفِ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ فَتَصِيرُ سِتَّةً ثُمَّ زِدْ عَلَيْهِ سَهْمًا فَتَصِيرُ سَبْعَةً فَهُوَ النَّصِيبُ، فَأَعْطِ صَاحِبَ النَّصِيبِ سَبْعَةً يَبْقَى إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ سَهْمَانِ، ثُمَّ اسْتَرْجِعْ مِنْهُ سَهْمًا فَضُمَّهُ إلَى ذَلِكَ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةً فَضُمَّهَا إلَى ثُلُثِ الْمَالِ فَيَصِيرُ وَاحِدًا وَعِشْرِينَ لِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ. (وَأَمَّا) طَرِيقَة الْخَطَّائِينَ: فَهِيَ أَنْ تَجْعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ عَدَدًا لَوْ أَعْطَيْت مِنْهُ نَصِيبًا، وَاسْتَرْجَعْت مِنْهُ شَيْئًا يَكُونُ الْمُسْتَرْجَعُ مِثْلَ نِصْفٍ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ ادْفَعْ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ، ثُمَّ اسْتَرْجِعْ مِنْهُ سَهْمًا، ضُمَّهُ إلَى مَا بَقِيَ، وَهِيَ اثْنَانِ وَمَا بَقِيَ وَهُوَ سَهْمُ الْمَالِ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةً فَضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ فَتَصِيرُ أَحَدَ عَشَرَ، وَحَاجَتُك إلَى سِتَّةٍ؛ لِأَنَّك أَعْطَيْت بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ فَظَهَرَ أَنَّك أَخْطَأْت بِزِيَادَةِ خَمْسَةٍ فَزِدْ فِي النَّصِيبِ سَهْمًا، وَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةً ثُمَّ اسْتَرْجِعْ مِنْهُ سَهْمًا، وَضُمَّهُ إلَى مَا بَقِيَ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةً فَضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَحَاجَتُك إلَى تِسْعَةٍ؛ لِأَنَّك أَعْطَيْت بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةً فَظَهَرَ أَنَّك قَدْ أَخْطَأْت بِزِيَادَةِ أَرْبَعَةٍ، فَظَهَرَ أَنَّك كُلَّمَا زِدْت دِرْهَمًا يَزُولُ خَطَأُ دِرْهَمٍ، فَزِدْ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى النَّصِيبِ قَدْرَ خَطَأِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ فَبَلَغَ سَبْعَةً، وَبَقِيَ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ سَهْمَانِ فَاسْتَرْجِعْ مِنْهُ سَهْمًا، وَضُمَّهُ مَعَ الْبَاقِي إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَهُوَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَصَارَ أَحَدًا، وَعِشْرِينَ، فَأَعْطِ لِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةً، وَلِلْمُوصَى لَهُ سِتَّةً هَذَا إذَا قَيَّدَ قَوْلَهُ: إلَّا ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بِالنَّصِيبِ، أَوْ بِالْوَصِيَّةِ. (فَأَمَّا) إذَا أَطْلَقَ بِأَنْ قَالَ: إلَّا ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ عَامَّةُ الْحُسَّابِ يَعْنِي: الْمَعْرُوفِينَ بِعِلْمِ الْحِسَابِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، وَغَيْرِهِ: هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَا إذَا قَالَ: إلَّا ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَصْلِ الثَّانِي، وَهُوَ مَا إذَا قَالَ: إلَّا ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ. (وَجْهُ) قَوْلِ الْعَامَّةِ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَوْصَيْت لَك بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيَّ، فَقَدْ أَتَى بِوَصِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَاسْتَحَقَّ رُبْعَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ نَصِيبَهُ مِثْلَ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيهِ كَأَنَّهُ أَحَدُ بَنِيهِ، فَلَمَّا قَالَ: إلَّا ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ، فَقَدْ اسْتَخْرَجَ بِالِاسْتِثْنَاءِ بَعْضَ الْوَصِيَّةِ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ

يُحْتَمَلُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ بَعْدَ النَّصِيبِ إلَّا أَنَّ الْمُسْتَخْرَجَ بِالِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ النَّصِيبِ أَقَلُّ، وَالْمُسْتَخْرَجُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ أَكْثَرُ، وَالْأَقَلُّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ فِي اسْتِخْرَاجِهِ، وَفِي اسْتِخْرَاجِ الزِّيَادَةِ شَكٌّ فَلَا يَثْبُتُ اسْتِخْرَاجُ الزِّيَادَةِ بِالشَّكِّ، بَلْ تَبْقَى الزِّيَادَةُ دَاخِلَةً تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَيْسَ بِاسْتِخْرَاجِ بَعْضِ الْكَلَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّنَاقُضِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، بَلْ هُوَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا فَلَمْ يَدْخُلْ الْمُسْتَثْنَى فِي صَدْرِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ بِكَلَامِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَلَفْظُ الْوَصِيَّةِ هَهُنَا مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَالْمُسْتَثْنَى يَحْتَمِلُ الْأَقَلَّ، وَالْأَكْثَرَ، فَلَا يَتَنَاوَلُ اللَّفْظُ إلَّا الْقَدْرَ الْمُتَيَقَّنَ بِهِ، وَهُوَ الْأَقَلُّ. وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إلَّا رُبْعَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَالْمَسْأَلَةُ تُخَرَّجُ مِنْ أَحَدٍ وَخَمْسِينَ، النَّصِيبُ إثْنَاء عَشَرَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ خَمْسَةٌ، وَلِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ. (أَمَّا) تَخْرِيجُهَا عَلَى طَرِيقَةِ الْحَشْوِ: فَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَتَزِيدَ عَلَيْهِ وَاحِدًا فَيَصِيرُ أَرْبَعَةً فَاضْرِبْ أَرْبَعَةً فِي مَخْرَجِ السَّهْمِ الْمُسْتَثْنَى، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَتَصِيرُ سِتَّةَ عَشَرَ، ثُمَّ زِدْ سَهْمًا فَتَصِيرُ سَبْعَةَ عَشَرَ هَذَا ثُلُثُ الْمَالِ، وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ فَجُمْلَتُهُ وَاحِدٌ وَخَمْسُونَ، هَذَا لِمَعْرِفَةِ أَصْلِ الْمَالِ. (وَأَمَّا) مَعْرِفَةُ النَّصِيبِ: فَهِيَ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَ، وَذَلِكَ سَهْمٌ، وَتَضْرِبُهُ فِي مَخْرَجِ الثُّلُثِ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةً ثُمَّ تَضْرِبُ الثَّلَاثَةَ فِي مَخْرَجِ السَّهْمِ الْمُسْتَثْنَى، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَتَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ تَزِيدُ عَلَيْهِ سَهْمًا فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ هَذَا هُوَ النَّصِيبُ، بَقِيَ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، ثُمَّ اسْتَرْجِعْ مِثْلَ رُبْعِ مَا بَقِيَ، وَهُوَ سَهْمٌ، وَضُمَّهُ إلَى مَا بَقِيَ فَصَارَ خَمْسَةً فَضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ فَيَبْلُغُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ، فَأَعْطِ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ كَمَا أَعْطَيْت بِالنَّصِيبِ قَبْلَ الِاسْتِرْجَاعِ. (وَأَمَّا) التَّخْرِيجُ عَلَى طَرِيقَةِ الْخَطَّائِينَ: فَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ سِتَّةٍ لِيَبْقَى بَعْدَ إعْطَاءِ النَّصِيبِ، وَالِاسْتِرْجَاعِ مِنْهُ مِثْلُ رُبْعِ مَا يَبْقَى فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ، ثُمَّ اسْتَرْجِعْ مِنْهُ مِثْلَ رُبْعِ مَا يَبْقَى، وَذَلِكَ سَهْمٌ، وَضُمَّهُ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَتَصِيرُ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَحَاجَتُك إلَى سِتَّةٍ؛ لِأَنَّك أَعْطَيْت بِالنَّصِيبِ سَهْمَيْنِ فَظَهَرَ أَنَّك أَخْطَأْت بِزِيَادَةِ أَحَدَ عَشَرَ، فَزِدْ فِي النَّصِيبِ سَهْمًا تَصِيرُ ثَلَاثَةً فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةً ثُمَّ اسْتَرْجِعْ مِنْهُ سَهْمًا، وَضُمَّهُ مَعَ الْبَاقِي إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَتَصِيرُ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَحَاجَتُك إلَى تِسْعَةٍ؛ لِأَنَّك أَعْطَيْت بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةً. فَظَهَرَ أَنَّك أَخْطَأْت بِزِيَادَةِ عَشَرَةٍ، وَظَهَرَ أَنَّ كُلَّ سَهْمٍ زَائِدٍ يُزِيلُ خَطَأَ سَهْمٍ، فَزِدْ عَلَى النَّصِيبِ قَدْرَ الْخَطَأِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ لِيَزُولَ الْخَطَأُ، فَصَارَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةَ عَشْرَ، ثُمَّ اسْتَرْجِعْ مِنْهُ سَهْمًا، وَضُمَّهُ إلَى مَا بَقِيَ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ فَضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ فَتَصِيرُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ كَمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ كَانَ لَهُ خُمْسَ بَنِينَ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إلَّا ثُلُثَ وَرُبْعَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ، فَتَخْرِيجُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَشْوِ: أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ خَمْسَةً، وَتَزِيدَ عَلَيْهَا وَاحِدًا فَتَصِيرُ سِتَّةً ثُمَّ تَضْرِبُ سِتَّةً فِي مُخْرَجِ الْجُزْءِ الْمُسْتَثْنَى، وَهُوَ مِثْلُ الثُّلُثِ، وَالرُّبْعِ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَتَصِيرُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، ثُمَّ تَزِيدُ ثُلُثَ مُخْرَجِ الْمُسْتَثْنَى، وَرُبْعَهُ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ، وَثُلُثُهُ، وَرُبْعُهُ سَبْعَةٌ فَتَصِيرُ تِسْعَةً وَسَبْعِينَ فَهَذَا ثُلُثُ الْمَالِ، وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٍ وَخَمْسُونَ. (وَأَمَّا) مَعْرِفَةُ النَّصِيبِ: فَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَ، وَذَلِكَ سَهْمٌ، وَتَضْرِبَهُ فِي مُخْرَجِ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةً ثُمَّ تَضْرِبُ الثَّلَاثَةَ فِي مُخْرَجِ السَّهْمِ الْمُسْتَثْنَى، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَتَصِيرُ سِتَّةً، وَثَلَاثَةً ثُمَّ تَزِيدُ عَلَيْهِ مِثْلَ ثُلُثِهِ وَرُبْعِهِ، وَهُوَ سَبْعَةٌ فَتَصِيرُ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ فَهُوَ النَّصِيبُ، بَقِيَ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ، وَأَعْطِ بِالنَّصِيبِ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ اسْتَرْجِعْ مِثْلَ ثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَرُبْعِهِ بَعْدَ النَّصِيبِ، وَذَلِكَ وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ، وَضُمَّهَا إلَى مَا بَقِيَ، وَهُوَ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ فَتَصِيرُ سَبْعَةً وَخَمْسِينَ، ثُمَّ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَخَمْسُونَ فَتَبْلُغُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسَةَ عَشَرَ، فَأَعْطِ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ مِثْلَ مَا أَعْطَيْت بِالنَّصِيبِ قَبْلَ الِاسْتِرْجَاعِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ. وَلَوْ قَالَ: إلَّا ثُلُثَ، وَرُبْعَ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ الْحَاصِلَةِ فَتَخْرِيجُهَا عَلَى طَرِيقَةِ الْحَشْوِ: أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ خَمْسَةً ثُمَّ زِدْ عَلَيْهِ وَاحِدًا فَتَصِيرُ سِتَّةً ثُمَّ تَضْرِبُهُ فِي خَمْسَةٍ لِمَا بَيَّنَّا فَتَصِيرُ ثَلَاثِينَ، ثُمَّ زِدْ عَلَيْهِ مُخْرَجَ الثُّلُثِ، وَالرُّبْعِ، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ فَتَصِيرُ سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ فَهُوَ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ وَسَبْعُونَ. (وَأَمَّا) مَعْرِفَةُ النَّصِيبِ: فَخُذْ النَّصِيبَ، وَذَلِكَ وَاحِدٌ، وَاضْرِبْهُ فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ ثَلَاثَةً فِي خَمْسَةٍ فَصَارَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ

ثُمَّ زِدْ عَلَيْهِ مِثْلَ مُخْرَجِ الثُّلُثِ، وَالرُّبْعِ، وَهُوَ سَبْعَةٌ فَتَصِيرُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ. وَبَقِيَ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَأَعْطِ صَاحِبَ النَّصِيبِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ اسْتَرْجِعْ مِنْهُ مِثْلَ ثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَرُبْعِهِ بَعْدَ النَّصِيبِ، وَذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، وَضُمَّهَا إلَى مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ، وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَتَصِيرُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَسَبْعُونَ تَبْلُغُ مِائَةً، وَعَشَرَةً لِكُلِّ ابْنٍ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ مِثْلُ مَا أَعْطَيْت صَاحِبَ الْوَصِيَّةِ قَبْلَ الِاسْتِرْجَاعِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ دِرْهَمٌ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. وَلَوْ تَرَكَ خَمْسَةَ بَنِينَ وَقَدْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَثُلُثَيْ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ فَالثُّلُثُ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَالنَّصِيبَيْنِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَالْبَاقِي بَعْدَ النَّصِيبَيْنِ مِنْ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ تُعْطِي ثُلُثَيْ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ سَهْمَانِ مِنْ ذَلِكَ يَبْقَى سَهْمٌ يُرَدُّ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ، فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ، وَتَخْرِيجُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَشْوِ: أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ، وَتَزِيدَ عَلَيْهِ بِالنَّصِيبَيْنِ سَهْمَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الِابْنَيْنِ، فَكَانَ الْبَنُونَ سَبْعَةً فَتَصِيرُ الْفَرِيضَةُ مِنْ سَبْعَةٍ. ثُمَّ اضْرِبْهَا فِي ثَلَاثَةٍ لِأَجْلِ الثُّلُثِ فَتَصِيرُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ اطْرَحْ مِنْهُ أَرْبَعَةً: سَهْمَيْنِ بِالْوَصِيَّةِ بِالنَّصِيبَيْنِ، وَسَهْمَيْنِ بِثُلُثَيْ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ لِتَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ فَيَبْقَى سَبْعَةَ عَشَرَ، وَهُوَ الثُّلُثُ، وَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ النَّصِيبِ. فَالْوَجْهُ فِيهِ أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَيْنِ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ، وَتَضْرِبَهُمَا فِي ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرَ سِتَّةً؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ، ثُمَّ اضْرِبْهُ فِي ثَلَاثَةٍ لِأَجْلِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ فَيَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، ثُمَّ اطْرَحْ مِنْهُ أَرْبَعَةً مِثْلَ مَا طَرَحْتَ مِنْ الْأَوَّلِ يَبْقَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَهُوَ النَّصِيبَانِ، يَبْقَى إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ. فَأَعْطِ بِثُلُثَيْ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ سَهْمَيْنِ، يَبْقَى سَهْمٌ فَاضِلٌ عَنْ الْوَصَايَا يُرَدُّ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ بَيْنَ الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ لِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ، وَهُوَ نِصْفُ النَّصِيبَيْنِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) التَّخْرِيجُ عَلَى طَرِيقَةِ الْخَطَّائِينَ: فَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ سِهَامًا لَوْ أَعْطَيْت بِالنَّصِيبَيْنِ سَهْمَيْنِ يَبْقَى بَعْدَهُ مَا يُخَرَّجُ مِنْهُ ثُلُثَانِ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ فَأَعْطِ بِالنَّصِيبَيْنِ سَهْمَيْنِ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ فَأَعْطِ بِثُلُثَيْ مَا يَبْقَى سَهْمَيْنِ يَبْقَى سَهْمٌ يُرَدُّ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَتَصِيرُ أَحَدَ عَشَرَ، وَحَاجَتُنَا إلَى خَمْسَةٍ حَتَّى يَكُونَ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمٌ، فَظَهَرَ أَنَّك أَخْطَأْت بِزِيَادَةِ سِتَّةٍ فَزِدْ فِي ثُلُثَيْ الْمَالِ سَهْمَيْنِ فَتَصِيرُ سَبْعَةً فَأَعْطِ بِالنَّصِيبَيْنِ أَرْبَعَةً يَبْقَى ثَلَاثَةٌ فَأَعْطِ بِثُلُثَيْ مَا يَبْقَى سَهْمَيْنِ يَبْقَى سَهْمٌ فَزِدْهُ إلَى ثُلُثِ الْمَالِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَيَصِيرُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَحَاجَتُك إلَى عَشَرَةٍ؛ لِأَنَّك أَعْطَيْت بِالنَّصِيبَيْنِ أَرْبَعَةً فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ، وَهُمْ خَمْسَةٌ فَيَكُونُ لَهُمْ عَشَرَةٌ، فَظَهَرَ أَنَّك أَخْطَأْت فِي هَذِهِ الْكَرَّةِ بِزِيَادَةِ خَمْسَةٍ، وَالْخَطَأُ الْأَوَّلُ كَانَ سِتَّةً فَمَتَى زِدْت سَهْمَيْنِ ذَهَبَ بِهِ مِنْ الْخَطَأِ سَهْمٌ، فَعُلِمَ أَنَّ كُلَّ سَهْمٍ يُزَادُ عَلَى الثُّلُثِ يَذْهَبُ بِهِ سَهْمٌ مِنْ الْخَطَأِ، فَيُزَادُ اثْنَا عَشَرَ عَلَى الثُّلُثِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ حَتَّى يَزُولَ الْخَطَأُ كُلُّهُ فَتَصِيرُ سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ، ثُمَّ الْبَاقِي إلَى آخِرِهِ. وَأَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ، فَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَاضْرِبْهُ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي، وَهُوَ خَمْسَةٌ فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَتَأْخُذُ الثُّلُثَ الثَّانِي، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ، وَتَضْرِبُهُ فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَتَصِيرُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ يَبْقَى سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ. (وَالْوَجْهُ) فِي مَعْرِفَةِ النَّصِيبِ: أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَ الْأَوَّلَ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ، وَتَضْرِبُهُ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ، فَتَصِيرُ عَشَرَةً، ثُمَّ تَضْرِبُ النَّصِيبَ الثَّانِي، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ فَيَبْقَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَهُوَ النَّصِيبَانِ. (وَأَمَّا) عَلَى طَرِيقَةِ الْجَامِعِ الْأَكْبَرِ: فَهُوَ أَنْ تُضَعِّفَ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ إلَّا النَّصِيبَيْنِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ فَتَصِيرُ سِتَّةً ثُمَّ زِدْ عَلَيْهِ النَّصِيبَيْنِ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةً، وَهَذَا هُوَ الثُّلُثُ فَأَعْطِ بِالنَّصِيبَيْنِ سَهْمَيْنِ فَيَبْقَى سِتَّةٌ، وَأَعْطِ ثُلُثَيْ مَا يَبْقَى أَرْبَعَةً يَبْقَى سَهْمَانِ، يُرَدُّ إلَى ثُلُثَيْ الْمَال، وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَحَاجَتُك إلَى خَمْسَةٍ؛ لِأَنَّك أَعْطَيْت بِالنَّصِيبَيْنِ سَهْمَيْنِ فَيَجِب أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمٌ، فَالْخَطَأُ الثَّانِي فِي الْجَامِعِ الْأَكْبَرِ زِيَادَةُ ثَلَاثَةٍ، وَالْخَطَأُ الْأَوَّلُ فِي الْخَطَأَيْنِ كَانَ زِيَادَةَ سِتَّةٍ، فَخُذْ الثُّلُثَ الْأَوَّلَ فِي الْخَطَأَيْنِ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ، وَاضْرِبْهُ فِي الْخَطَأِ الثَّانِي، وَذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَتَصِيرَ خَمْسَةً وَسِتِّينَ، وَخُذْ الثُّلُثَ الثَّانِي فِي الْجَامِعِ الْأَكْبَرِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ، وَاضْرِبْهُ فِي الْخَطَأِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ اطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ يَبْقَى سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ. (وَالْوَجْهُ) فِي مَعْرِفَةِ النَّصِيبِ أَنْ تَأْخُذَ مَا جُمِعَ مِنْ الْخَطَأَيْنِ أَحَدُهُمَا سِتَّةٌ، وَالْآخِرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَاطْرَحْ الْأَقَلَّ مِنْ الْأَكْثَرِ، فَإِذَا طَرَحَتْ سِتَّةً

مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَبْقَى سَبْعَةٌ فَهُوَ النَّصِيبُ، وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَا يَبْقَى، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَالْفَرِيضَةُ مِنْ سَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ، وَالثُّلُثُ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَالنَّصِيبَانِ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثُ مَا يَبْقَى وَاحِدٌ. (وَتَخْرِيجُهَا) عَلَى طَرِيقَةِ الْحَشْوِ: أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ خَمْسَةً ثُمَّ زِدْ عَلَيْهَا النَّصِيبَيْنِ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ فَتَصِيرُ سَبْعَةً ثُمَّ اضْرِبْهَا فِي ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ اطْرَحْ مِنْهَا النَّصِيبَيْنِ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ يَبْقَى تِسْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ، فَقَدْ طَرَحَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سَهْمَيْنِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ طَرَحَ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمَيْنِ بِالنَّصِيبَيْنِ، وَسَهْمَيْنِ بِثُلُثَيْ مَا يَبْقَى، فَعَلَى قِيَاسِ مَا ذُكِرَ هُنَاكَ يَجِبُ أَنْ يَطْرَحَ هَهُنَا أَيْضًا أَرْبَعَةً. (وَالْوَجْهُ) فِي مَعْرِفَةِ النَّصِيبِ: أَنْ تَأْخُذَ النَّصِيبَيْنِ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ، وَتَضْرِبْهُمَا فِي ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ سِتَّةً ثُمَّ تَضْرِبُ سِتَّةً فِي ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، ثُمَّ اطْرَحْ مِنْهُ سَهْمَيْنِ يَبْقَى سِتَّةَ عَشَرَ فَهُوَ النَّصِيبُ، وَبَقِيَ إلَى تَمَامِ ثُلُثِ الْمَالِ ثَلَاثَةٌ فَأَعْطِ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى ثُلُثَهُ، وَذَلِكَ سَهْمٌ، يَبْقَى سَهْمَانِ يُرَدُّ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ فَتَصِيرُ أَرْبَعِينَ تُقَسَّمُ بَيْنَ الْبَنِينَ لِكُلِّ ابْنٍ ثَمَانِيَةٌ. (وَأَمَّا) التَّخْرِيجُ عَلَى طَرِيقَةِ الْخَطَّائِينَ: فَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ خَمْسَةً فَأَعْطِ بِالنَّصِيبَيْنِ سَهْمَيْنِ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ فَأَعْطِ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى سَهْمًا يَبْقَى سَهْمٌ تُرَدُّ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَتَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ، وَحَاجَتُك إلَى خَمْسَةٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّكَ أَخْطَأْتَ بِزِيَادَةِ سَبْعَةٍ فَزِدْ عَلَى الثُّلُثِ سَهْمَيْنِ فَتَصِيرُ سَبْعَةً، فَأَعْطِ بِالنَّصِيبَيْنِ أَرْبَعَةً يَبْقَى ثَلَاثَةٌ فَأَعْطِ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى سَهْمًا يَبْقَى سَهْمَانِ تُضَمُّ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَتَصِيرُ سِتَّةَ عَشَرَ، وَحَاجَتُك إلَى عَشَرَةٍ، فَظَهَرَ أَنَّك أَخْطَأْت فِي هَذِهِ الْكَرَّةِ بِزِيَادَةِ سِتَّةٍ، وَالْخَطَأُ الْأَوَّلُ كَانَ زِيَادَةَ سَبْعَةٍ، فَعَلِمْت أَنَّ كُلَّ سَهْمَيْنِ تُزَادُ فِي الثُّلُثِ تُذْهِبُ مِنْ الْخَطَأِ سَهْمًا، فَزِدْ فِي الثُّلُثِ الْأَوَّلِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا، حَتَّى يَزُولَ الْخَطَأُ كُلُّهُ، فَإِذَا زِدْت عَلَى خَمْسَةٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ تَصِيرُ تِسْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ الثُّلُثُ، ثُمَّ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا. (وَالتَّخْرِيجُ) عَلَى طَرِيقَةِ الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ، وَالْأَكْبَرِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا. فَإِذَا مَاتَ رَجُلٌ، وَتَرَك أُمًّا وَابْنَتَيْنِ وَامْرَأَتَيْنِ وَعُصْبَةً وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ إحْدَى ابْنَتَيْهِ، وَبِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ لِآخَرَ، فَالْفَرِيضَةُ مِنْ سِتَّةٍ وَسِتِّينَ، وَالنَّصِيبُ سِتَّةَ عَشَرَ، وَثُلُثُ الْبَاقِي اثْنَانِ وَلِلْبِنْتَيْنِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ، وَلِلْأُمِّ ثَمَانِيَةٌ، وَلِلْمَرْأَةِ سِتَّةٌ، وَلِلْعَصَبَةِ سَهْمَانِ، هَكَذَا خَرَّجَهَا مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَصْلِ، وَمَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - خَرَّجُوهَا مِنْ نِصْف مَا خَرَّجَهَا فِي الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ كَسْرٍ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ. (وَطَرِيقُ) هَذَا التَّخْرِيجِ أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِحَاجَتِك إلَى الثُّمْنِ، وَالثُّلُثَيْنِ، وَالسُّدُسِ، فَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْعَصَبَةِ سَهْمٌ، فَالْبِنْتَانِ يَسْتَحِقَّانِ السَّهْمَيْنِ، وَهُوَ الثُّلُثَانِ، وَالْبَاقُونَ يَسْتَحِقُّونَ سَهْمًا وَاحِدًا، وَهُوَ الثُّلُثُ، فَصَارَ فِي الْمَعْنَى كَأَنَّ عَدَدَ الْوَرَثَةِ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّ سِهَامَهُمْ ثَلَاثَةٌ فَاجْعَلْ كَأَنَّ لَهُ ثَلَاثَةَ بَنِينَ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَبِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ. وَلَوْ كَانَ هَكَذَا فَالْجَوَابُ سَهْلٌ، وَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ الْبَنِينَ ثَلَاثَةً، وَتَزِيدَ عَلَيْهَا سَهْمًا لِأَجْلِ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى، وَتَضْرِبَهَا فِي ثَلَاثَةٍ لِأَجْلِ الْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ فَتَصِيرَ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ اطْرَحْ مِنْهَا سَهْمًا لِأَجْلِ الْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ، فَيَصِيرُ ثُلُثُ الْمَالِ أَحَدَ عَشَرَ، وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ، وَذَلِكَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ فَتَصِيرُ جُمْلَةُ الْمَالِ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ، وَالنَّصِيبُ سَهْمٌ وَاحِدٌ مَضْرُوبٌ فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ فِي ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ تِسْعَةً ثُمَّ اطْرَحْ مِنْهَا سَهْمًا فَيَبْقَى ثَمَانِيَةٌ فَأَعْطِ لِصَاحِبِ النَّصِيبِ ثَمَانِيَةً، وَأَعْطِ ثُلُثَ مَا يَبْقَى، وَذَلِكَ سَهْمٌ وَاحِدٌ فَتَصِيرُ تِسْعَةً، وَبَقِيَ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ سَهْمَانِ ضُمَّهَا إلَى الثُّلُثَيْنِ، وَهُوَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَمَانِيَةٌ مِثْلُ مَا أَعْطَيْت لِصَاحِبِ النَّصِيبِ، وَلِلْأُمِّ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْعَصَبَةِ سَهْمٌ فَخُرِّجَتْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ نِصْفِ مَا خُرِّجَ فِي الْكِتَابِ. وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ إحْدَى الْبِنْتَيْنِ إلَّا ثُلُثَ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ النَّصِيبِ فَالْفَرِيضَةُ مِنْ سِتِّمِائِةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَالنَّصِيبُ مِائَةٌ وَسِتُّونَ، وَثُلُثُ الْبَاقِي سِتَّةَ عَشَرَ، وَطَرِيقُ التَّخْرِيجِ أَنْ تَجْعَلَ كَأَنَّ عَدَدَ الْوَرَثَةِ ثَلَاثَةٌ زِدْ عَلَيْهَا سَهْمًا لِأَجْلِ الْوَصِيَّةِ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً ثُمَّ اضْرِبْ أَرْبَعَةً فِي ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ زِدْ عَلَيْهَا سَهْمًا فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَاجْعَلْ هَذَا ثُلُثَ الْمَالِ، وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ فَتَصِيرُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ، وَالنَّصِيبُ سَهْمٌ فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ فِي ثَلَاثَةٍ فَذَلِكَ تِسْعَةٌ ثُمَّ زِدْ عَلَيْهَا سَهْمًا فَتَصِيرُ عَشَرَةً، ثُمَّ اسْتَثْنِ مِنْهَا سَهْمًا مِثْلَ ثُلُثِ مَا يَبْقَى، وَضُمَّهُ إلَى مَا بَقِيَ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً ثُمَّ ضُمَّ الْأَرْبَعَةَ إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ فَتَصِيرُ ثَلَاثِينَ لِكُلِّ بِنْتٍ عَشَرَةٌ مِثْلُ مَا أُعْطِيت قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ خَمْسَةٌ بَقِيَ خَمْسَةٌ

بَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَالْعَصَبَةِ أَرْبَاعًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَرْأَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، وَحَقَّ الْعَصَبَةِ فِي سَهْمٍ فَيَكُونُ حَقُّهَا ثَلَاثَةَ أَضْعَافِ حَقِّ الْعَصَبَةِ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِالْكَسْرِ فَاجْعَلْ الْخَمْسَةَ الْبَاقِيَةَ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا، وَإِنْ لَمْ تَرْضَ فَاضْرِبْ أَصْلَ الْحِسَابِ فِي أَرْبَعَةٍ فَتَكُونُ مِائَةً وَسِتَّةً وَخَمْسِينَ مِنْهَا تُخَرَّجُ السِّهَامُ عَلَى الصِّحَّةِ، وَهُوَ رُبْعُ مَا خَرَّجَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ. وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ الْمَرْأَةِ، وَبِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ، فَالْفَرِيضَةُ مِنْ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعَةٍ وَثَلَاثِينَ، وَالنَّصِيبُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَثُلُثُ الْبَاقِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَطَرِيقُهُ أَنْ تَجْعَلَ كَأَنَّ عَدَدَ الْوَرَثَةِ ثَمَانِيَةٌ لِأَنَّ السِّهَامَ ثَمَانِيَةٌ فَكَأَنَّهُ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، فَزِدْ عَلَيْهِ سَهْمًا فَتَصِيرُ تِسْعَةً ثُمَّ اضْرِبْهَا فِي ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، ثُمَّ اطْرَحْ مِنْهَا سَهْمًا فَيَبْقَى سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ فَهَذَا ثُلُثُ الْمَالِ، وَجَمِيعُ الْمَالِ ثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ، وَالنَّصِيبُ سَهْمٌ مَضْرُوبٌ فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ فِي ثَلَاثَةٍ فَتَصِيرُ تِسْعَةً ثُمَّ اطْرَحْ مِنْهَا سَهْمًا فَيَبْقَى ثَمَانِيَةٌ، وَثُلُثُ مَا يَبْقَى سِتَّةٌ فَيَبْقَى اثْنَا عَشَرَ ضُمَّهَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ، وَذَلِكَ اثْنَانِ وَخَمْسُونَ فَتَصِيرُ أَرْبَعَةً وَسِتِّينَ لِلْمَرْأَةِ مِنْهَا ثَمَانِيَةٌ وَتَبَيَّنَ أَنَّكَ. أَعْطَيْت لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِهَا مِثْلَ نَصِيبِهَا ثَمَانِيَةً فَيَبْقَى سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ لَا تَسْتَقِيمُ بَيْنَ الْأُمِّ، وَالْبِنْتَيْنِ، وَالْعَصَبَةُ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْبِنْتَيْنِ ثُلُثَا أَرْبَعَةٍ وَسِتِّينَ. وَلَيْسَ لَهَا ثُلُثٌ صَحِيحٌ، وَلِلْأُمِّ سُدُسُهَا، وَلَيْسَ لَهَا سُدُسٌ صَحِيحٌ أَيْضًا غَيْرَ أَنَّ بَيْنَ مُخْرَجِ السُّدُسِ وَحِسَابِنَا مُوَافَقَةٌ بِنِصْفٍ، وَنِصْفٍ، فَاضْرِبْ أَحَدَهُمَا فِي وَفْقِ الْآخَرِ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ فِي ثَلَاثَةٍ، فَيَبْلُغُ الْحِسَابُ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ سَهْمٌ فِي الْحِسَابِ الْأَوَّلِ صَارَ لَهُ ثَلَاثَةٌ فِي الْحِسَابِ الثَّانِي، كَانَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ فِي ثَمَانِيَةٍ فَصَارَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَحَقُّ الْبِنْتَيْنِ فِي اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ فَصَارَ مِائَةً وَثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ، وَحَقُّ الْأُمِّ فِي عَشَرَةٍ، وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ مَضْرُوبًا فِي ثَلَاثَةٍ، فَيَكُونُ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَحَقُّ الْعَصَبَةِ فِي دِرْهَمَيْنِ، وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ مَضْرُوب فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ. وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ خَمْسَةُ بَنِينَ فَأَوْصَى لِأَحَدِهِمْ بِكَمَالِ الرُّبُعِ، بِنَصِيبِهِ وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ فَأَجَازُوا، فَالْفَرِيضَةُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ النَّصِيبُ اثْنَانِ، وَتَكْمِلَةُ الرُّبْعِ سَهْمٌ وَاحِدٌ، وَثُلُثُ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ صَحِيحَةٌ عِنْدَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَتَفَاوُتُ مَا بَيْنَ نَصِيبِهِ، وَالرُّبْعِ سَهْمٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هَهُنَا وَصِيَّةٌ لِأَجْنَبِيٍّ لَكَانَ لَهُ الرُّبْعُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْبَنِينَ الْأَرْبَعَةِ أَرْبَاعًا فَاحْتَجْنَا إلَى حِسَابٍ لَهُ رُبْعٌ، وَلِبَاقِيهِ رُبْعٌ، وَأَقَلُّهُ سِتَّةَ عَشَرَ فَيُعْطَى لَهُ رُبْعُ الْمَالِ أَرْبَعَةٌ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْبَنِينَ الْأَرْبَعَةِ أَرْبَاعًا لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةٌ، وَلَهُ أَرْبَعَةٌ فَتَبَيَّنَّ أَنَّهُ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا سَهْمًا. فَإِذَا أَوْصَى لِغَيْرِهِ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ فَخُذْ حِسَابًا لَهُ ثُلُثٌ، وَرُبْعٌ، وَأَقَلُّهُ اثْنَا عَشَرَ فَثُلُثُهُ أَرْبَعَةٌ، وَرُبْعُهُ ثَلَاثَةٌ فَأَعْطِ لِلْمُوصَى لَهُ بِكَمَالِ الرُّبْعِ سَهْمَانِ، وَلِلْآخَرِ سَهْمًا؛ لِأَنَّ ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ كَمَالِ الرُّبْعِ سَهْمٌ بَقِيَ اثْنَانِ ضُمَّهُمَا إلَى ثُلُثَيْ الْمَالِ فَتَصِيرُ بَيْنَ الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ. (فَتَبَيَّنَّ) أَنَّا إذَا أَعْطَيْنَا لَهُ رُبْعَ الْمَالِ فَنَصِيبُهُ بِنَصِيبِهِ سَهْمَانِ مِثْلُ مَا أَصَابَ هَؤُلَاءِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَمِنْهَا) التَّقْدِيرُ بِثُلُثِ الْمَالِ إذَا كَانَ هُنَاكَ وَارِثٌ، وَلَمْ يُجِزْ الزِّيَادَةَ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِجَازَةِ، وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُوصِي بِجَمِيعِ مَالِي؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: فَبِثُلُثَيْهِ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: فَبِنِصْفِهِ؟ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لَا، قَالَ: فَبِثُلُثِهِ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إنَّك إنْ تَدَعْ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ آخِرَ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ» ؛ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَالِ إيجَابُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ حَقُّ الْوَرَثَةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِهِ إلَّا فِي قَدْرِ الثُّلُثِ، فَالْوَصِيَّةُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ تَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ إجَازَتِهِمْ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ وَصِيَّتُهُ فِي الْمَرَضِ، أَوْ فِي الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابٌ مُضَافٌ إلَى زَمَانِ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ وَقْتُ الْمَوْتِ لَا وَقْتُ وُجُودِ الْكَلَامِ. وَاعْتِبَارُهَا وَقْتَ الْمَوْتِ يُوجِبُ اعْتِبَارَهَا مِنْ الثُّلُثِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ وَقْتُ تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِالتَّرِكَةِ، إذْ الْمَوْتُ لَا يَخْلُو عَنْ مُقَدِّمَةِ مَرَضٍ، وَحَقُّهُمْ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ إلَّا فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى، وَهُوَ الثُّلُثُ فَرْقٌ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ التَّبَرُّعَاتِ كَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَاكَ وَقْتَ الْعَقْدِ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا تَجُوزُ فِي جَمِيعِ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا لَا تَجُوزُ إلَّا فِي الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ، وَالصَّدَقَةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إيجَابُ الْمِلْكِ

لِلْحَالِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِمَا حَالَ الْعَقْدِ، فَإِذَا كَانَ صَحِيحًا فَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي مَالِهِ فَيَجُوزُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَإِذَا كَانَ مَرِيضًا كَانَ حَقُّ الْوَرَثَةِ مُتَعَلِّقًا بِمَالِهِ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا فِي قَدْرِ الثُّلُثِ، وَكَذَا الْإِعْتَاقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَالْبَيْعُ، وَالْمُحَابَاةُ قَدْرَ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، وَإِبْرَاءُ الْغَرِيمِ، وَالْعَفْوُ عَنْ دَمِ الْخَطَأِ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الثُّلُثِ كَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ فِيمَا وَرَاءَ الثُّلُثِ. وَيَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ. وَكَذَا إنْ شَاءَ الْكَفَالَةَ بِالدِّينِ فِي حَالِ الْمَرَضِ، وَضَمَانِ الدَّرْكِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِالْتِزَامِ الدَّيْنِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا تُعْتَبَرُ الْهِبَةُ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِيهِ كَمَا يُتَّهَمُ فِي الْهِبَةِ. وَلَوْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِكَفَالَتِهِ بِالدَّيْنِ حَالَ صِحَّتِهِ فَحُكْمُ هَذَا الدَّيْنِ حُكْمُ دَيْنِ الْمَرَضِ حَتَّى لَا يُصَدَّقَ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ، وَيَكُونُ الْمَكْفُولُ لَهُ مَعَ غُرَمَاءِ الْمَرَضِ سَوَاءً، وَلَوْ كَفَلَ فِي صِحَّتِهِ، وَأَضَافَ ذَلِكَ إلَى مَا يُسْتَقْبَلُ بِأَنْ قَالَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ: كُفِلْتَ بِمَا يَذُوبُ لَك عَلَى فُلَانٍ، ثُمَّ وَجَبَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ دِينٌ فِي حَالِ مَرَضِ الْكَفِيلِ فَحُكْمُ هَذَا الدِّينِ، وَحُكْمُ دَيْنِ الصِّحَّةِ سَوَاءٌ حَتَّى يَضْرِبَ الْمَكْفُولُ لَهُ بِجَمِيعِ مَا يَضْرِبُ بِهِ غَرِيمُ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَة وُجِدَتْ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ أَوْصَى لِأُمِّ وَلَدِهِ فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ، ثُمَّ مَاتَ أَنَّهُ مِيرَاثٌ، وَلَوْ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ لَهَا بِوَصِيَّةٍ فَهِيَ لَهَا مِنْ الثُّلُثِ، وَالْأَوَّلُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَعْطَاهَا شَيْئًا فِي حَيَاتِهِ عَلَى وَجْهِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْهَا لَا تُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً لِكَوْنِهَا تَمْلِيكًا، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْمِلْك؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ، وَالثَّانِي يُجْرَى عَلَى ظَاهِرِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَالِ إيجَابُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَهِيَ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ لِكَوْنِهَا حُرَّةً، فَكَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ لَهَا. وَلَوْ أَوْصَى بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَلَا وَارِثَ لَهُ تَجُوزُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَجُوزُ إلَّا مِنْ الثُّلُث، وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ وَأَجَازَ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاع النَّفَاذِ فِي الزِّيَادَةِ لَحِقَهُ، وَإِلَّا فَالْمَنْفَذُ لِلتَّصَرُّفِ، وَهُوَ الْمِلْكُ - قَائِمٌ فَإِذَا أَجَازَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ، ثُمَّ إذَا جَازَتْ بِإِجَازَتِهِ فَالْمُوصَى لَهُ يَمْلِكُ الزِّيَادَةَ مِنْ قِبَلِ الْمُوصِي لَا مِنْ قِبَلِ الْوَارِثِ، فَالزِّيَادَةُ جَوَازُهَا جَوَازُ وَصِيَّتِهِ مِنْ الْمُوصِي، لَا جَوَازُ عَطِيَّةٍ مِنْ الْوَارِثِ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جَوَازُهَا جَوَازُ هِبَةٍ، وَعَطِيَّةٍ حَتَّى يَقِفَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِيهَا عَلَى الْقَبْضِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا لَا يَقِفُ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ النَّفَاذَ لَمَّا، وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الْوَارِثِ فَدَلَّ أَنَّ الْإِجَازَةَ هِبَةٌ مِنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْوَارِثَ لَوْ أَجَازَ الْوَصِيَّةَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ تُعْتَبَرُ إجَازَتُهُ مِنْ ثُلُثِهِ وَثَبَتَ أَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْهُ. (وَلَنَا) أَنَّ الْمُوصِيَ بِالْوَصِيَّةِ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ النَّفَاذُ لِصُدُورِ التَّصَرُّفِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ، وَإِنَّمَا الِامْتِنَاعُ لِمَانِعٍ، وَهُوَ حَقُّ الْوَارِثِ، فَإِذَا أَجَازَ فَقَدْ أَزَالَ الْمَانِعَ، وَيَنْفُذُ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ لَا بِإِزَالَةِ الْمَانِعِ؛ لِأَنَّ إزَالَتَهُ شَرْطٌ، وَالْحُكْمُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ لَا إلَى الشَّرْطِ، وَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى السَّبَبِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوطَ كُلَّهَا شُرُوطُ الْأَسْبَابِ، لَا شُرُوطُ الْأَحْكَام عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَدْ خُرِّجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذُكِرَ. (وَأَمَّا) إجَازَتُهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ - فَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ مِنْ ثُلُثِهِ لَا لِكَوْنِ الْإِجَازَةِ مِنْهُ تَمْلِيكًا، وَإِيجَابًا لِلْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ لَا تُنَبِّئُ عَنْ التَّمْلِيكِ بَلْ هِيَ إزَالَةُ الْمَانِعِ عَنْ وُقُوعِ التَّصَرُّفِ تَمْلِيكًا بِإِسْقَاطِ الْحَقِّ عَنْ مَالِ التَّصَرُّفِ، وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِي هَذَا الْإِسْقَاطِ فَيُعْتَبَرُ تَبَرُّعُهُ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا يُعْتَبَرُ تَبَرُّعُهُ بِالتَّمْلِيكِ بِالْهِبَةِ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنْ أَجَازَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ، وَرَدَّ بَعْضُهُمْ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ بِقَدْرِ حِصَّةِ الْمُجِيزِ مِنْهُمْ، وَبَطَلَتْ بِقَدْرِ أَنْصِبَاءِ الرَّادِّينَ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وِلَايَةَ الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ فِي قَدْرِ حِصَّتِهِ فَتَصَرُّفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَصِيبِهِ صَدَرَ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَيَنْفُذُ، ثُمَّ إنَّمَا تُعْتَبَرُ إجَازَةُ مَنْ أَجَازَ إذَا كَانَ الْمُجِيزُ مِنْ أَهْلِ الْإِجَازَةِ بِأَنْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا. فَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا لَا يَعْقِلُ لَا تُعْتَبَرُ إجَازَتُهُ، فَإِنْ كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا لَكِنَّهُ مَرِيضٌ مَرَضَ الْمَوْتِ - جَازَتْ إجَازَتُهُ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا كَانَتْ إجَازَتُهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْوَصِيَّةِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ وَارِثَهُ لَا تَجُوزُ إجَازَتُهُ إلَّا أَنْ تُجِيزَهَا وَرَثَةُ الْمَرِيضِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا تَجُوزُ إجَازَتُهُ، وَتُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، ثُمَّ وَقْتُ الْإِجَازَةِ هُوَ مَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَلَا تُعْتَبَرُ الْإِجَازَةُ حَالَ حَيَاتِهِ حَتَّى إنَّهُمْ لَوْ أَجَازُوا فِي حَيَاتِهِ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَجُوزُ إجَازَتُهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَحَالَ حَيَاتِهِ، وَإِذَا أَجَازُوا فِي حَيَاتِهِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمْ إذَا أَجَازُوا بَعْدَ مَوْتِهِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ

يَرْجِعُوا بَعْدَ ذَلِكَ. (وَجْهُ) قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: أَنَّ إجَازَتَهُمْ فِي حَالِ الْحَيَاةِ صَادَفَتْ مَحِلَّهَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ كَوْنُ هَذَا الْمَرَضِ مَرَضَ الْمَوْتِ إلَّا بِالْمَوْتِ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَرَضَ الْمَوْتِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ حَقَّهُمْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَالِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَسْقَطُوا حَقَّهُمْ بِالْإِجَازَةِ فَجَازَتْ إجَازَتُهُمْ. (وَلَنَا) أَنَّ حَقَّهُمْ إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْلَمُ بِكَوْنِ الْمَرَضِ مَرَضَ الْمَوْتِ عِنْد الْمَوْتِ، فَإِذَا مَاتَ الْآنَ عُلِمَ كَوْنُهُ مَرَضَ الْمَوْتِ فَيَثْبُتُ حَقُّهُمْ الْآنَ إلَّا أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ حَقُّهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ اسْتَنَدَ الْحَقُّ الثَّابِتُ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ، وَالِاسْتِنَادُ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي الْقَائِمِ لَا فِي الْمَاضِي، وَإِجَازَتُهُمْ قَدْ مَضَتْ لَغْوًا ضَائِعًا؛ لِانْعِدَامِ الْحَقِّ حَالَ وُجُودِهَا فَلَا تَلْحَقُهَا الْإِجَازَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ لَا يَثْبُتُ فِي حَالِ الْمَرَضِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ: أَنَّ الْمَرِيضَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ، وَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ عِنْدَ الْمَوْتِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ لَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَطِئَ مِلْكَ غَيْرِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ حَرَامًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ فِي إثْبَاتِ الْحَقِّ فِي الْمَرَضِ عَلَى طَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ إبْطَالَ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ الْحَقِّ لِلْحَالِ؛ لِإِبْطَالِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَكَانَ اعْتِبَارُهُ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِنَادِ فَيَظْهَرُ فِي الْقَائِمِ لَا فِي الْمَاضِي. وَلَوْ أَوْصَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِ رَجُلٍ، أَوْ عَبْدٍ أَوْ شَيْءٍ آخَرَ لَهُ فَأَجَازَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ مَا لَمْ يَدْفَعْهُ إلَى الْمُوصَى لَهُ، فَإِذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ جَازَ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ لَيْسَ بِجَوَازِ وَصِيَّتِهِ؛ إذْ لَا وِلَايَةَ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ، وَإِنَّمَا جَوَازُهُ جَوَازُ هِبَةٍ مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ فَلَمْ تَكُنْ إجَازَتُهُ إجَازَةَ إسْقَاطِ حَقٍّ بَلْ هُوَ عَقْدُ هِبَةٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمُوصِي صَادَفَ مِلْكَ غَيْرِهِ، فَوَقَفَ عَلَى إجَازَتِهِ، فَإِذَا أَجَازَهُ الْغَيْرُ فَوَقَعَ هِبَةً مِنْ جِهَتِهِ لَا وَصِيَّةً مِنْ الْمُوصِي كَأَنَّهُ وَهَبَهُ ابْتِدَاءً، فَإِنْ سَلَّمَ جَازَتْ الْهِبَةُ، وَإِلَّا فَلَا، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إذَا أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ إنَّهَا تَجُوزُ. وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّسْلِيمُ إلَى الْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ هُنَاكَ وَقَعَ وَصِيَّةً لِمُصَادِفَتِهِ مِلْكَ نَفْسِهِ فَلَا يُفْتَقَرُ إلَى التَّسْلِيمِ، وَإِنَّمَا يُفْتَقَرُ إلَى الْإِجَازَةِ، فَإِذَا وُجِدَتْ الْإِجَازَةُ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ، وَنُفِّذَتْ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُوصَى بِهِ جُزْءًا مُسَمًّى كَالثُّلُثِ، وَالنِّصْفِ، أَوْ كَانَ جَمِيعَ الْمَالِ، أَوْ كَانَ عَيْنًا مُشَارًا إلَيْهَا بِأَنْ أَوْصَى بِعَبْدٍ لَهُ أَوْ ثَوْبٍ لَهُ إنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ الثُّلُثُ، فَإِنْ كَانَ يُخْرِجُ مِنْ ثُلُثِ جَمِيعِ مَالِهِ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُخْرِجُ فَلَهُ مِنْهُ قَدْرُ مَا يُخْرِجُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ فَلَهُ ثُلُثُهُ، وَالثُّلُثَانِ لِلْوَرَثَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ وَاحِدَةً أَوْ اجْتَمَعَتْ الْوَصَايَا إنَّهُ يُنَفَّذُ الْكُلُّ مِنْ الثُّلُثِ إنْ أَمْكَنَ تَنْفِيذُ الْكُلِّ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ الْكُلِّ يَتَضَارَبُ فِيهِ، وَيُقَدَّمُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ التَّقَدُّمِ. وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: أَنَّ الْوَصَايَا إذَا اجْتَمَعَتْ فَالثُّلُثُ لَا يَخْلُو: إمَّا إنْ كَانَ يَسَعُ كُلَّ الْوَصَايَا، وَإِمَّا أَنْ لَا يَسَعَ الْكُلَّ، فَإِنْ كَانَ يَسَعُ الْكُلَّ تُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ مِنْ الثُّلُثِ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَعَلَّقَتْ بِالْكُلِّ، وَأَمْكَنَ تَنْفِيذُهَا فِي الْكُلِّ فَتُنَفَّذُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْوَصَايَا لِلَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - كَالْوَصِيَّةِ بِالْقُرَبِ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ الْفَرْضِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَالْأُضْحِيَّةَ، وَحَجِّ التَّطَوُّعِ وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ، وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَإِعْتَاقِ النَّسَمَةِ، وَذَبْحِ الْبَدَنَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ كَانَتْ لِلْعِبَادِ كَالْوَصِيَّةِ لِزَيْدٍ، وَعَمْرٍو، وَبِكْرٍ، وَخَالِدٍ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الثُّلُث لَا يَسَعُ الْكُلَّ لَكِنْ الْوَرَثَةُ أَجَازَتْ (فَأَمَّا) إذَا كَانَ الثُّلُثُ لَا يَسَعُ، وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ؛ فَالْوَصَايَا لَا تَخْلُو: (إمَّا) إنْ كَانَتْ كُلُّهَا لِلَّهِ - تَعَالَى - عَزَّ وَجَلَّ -، وَهِيَ الْوَصِيَّةُ بِالْقُرَبِ، أَوْ كَانَ بَعْضُهَا لِلَّهِ - تَعَالَى -، وَالْبَعْضُ لِلْعِبَادِ، فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ لِلَّهِ - تَعَالَى - فَلَا يَخْلُو (إمَّا) إنْ كَانَ الْكُلُّ فَرَائِضَ أَوْ وَاجِبَاتٍ، أَوْ نَوَافِلَ أَوْ اجْتَمَعَ فِي الْوَصَايَا مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ، وَالتَّطَوُّعَاتِ. فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ فَرَائِضَ مُتَسَاوِيَةً يَبْدَأُ بِمَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي؛ لِأَنَّ عِنْدَ تَسَاوِيهِمَا لَا يُمْكِنُ التَّرْجِيحُ بِالذَّاتِ فَيُرَجَّحُ بِالْبِدَايَةِ؛ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ دَلِيلُ اهْتِمَامِهِ بِمَا بَدَأَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَبْدَأُ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ عَادَةً، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْحَجِّ، وَالزَّكَاةِ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْحَجِّ، وَإِنْ أَخَّرَهُ الْمُوصِي فِي الذِّكْرِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالزَّكَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى: أَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، وَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ، وَالْعِبَادَةُ الْبَدَنِيَّةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّفْسَ أَنْفَسُ، وَأَعَزُّ مِنْ الْمَالِ فَكَانَ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - بِأَعَزِّ الْأَشْيَاءِ، وَأَنْفَسِهَا عِنْدَهُ فَكَانَ أَقْوَى فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِهِ أَوْلَى عَلَى أَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْمَالِ، وَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْبَدَنِ فَكَانَ الْحَجُّ أَقْوَى فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّقَدُّمِ. (وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: أَنَّ الْحَجَّ تَمَحَّضَ حَقًّا لِلَّهِ - تَعَالَى -. وَالزَّكَاةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْعَبْدِ فَيُقَدَّمُ لِحَاجَةِ الْعَبْدِ، وَغِنَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. وَقَالُوا فِي الْحَجِّ، وَالزَّكَاةِ: إنَّهُمَا

يُقَدَّمَانِ عَلَى الْكَفَّارَاتِ؛ لِأَنَّهُمَا وَاجِبَانِ بِإِيجَابِ اللَّهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقِ وُجُوبِهِمَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ، وَالْكَفَّارَاتُ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِأَسْبَابٍ تُوجَدُ مِنْ الْعَبْدِ مِنْ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ، وَالْيَمِين، وَالْوَاجِبُ ابْتِدَاءً أَقْوَى فَيُقَدَّم، وَالْكَفَّارَاتُ مُتَقَدِّمَة عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ، وَالْكَفَّارَاتُ فَرَائِضُ، وَالْفَرْضُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَاجِبِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَلَا نَصَّ فِي الْكِتَابِ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَإِنَّمَا عُرِفَتْ بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، فَكَانَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَقْوَى فَكَانَ أَوْلَى وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُضْحِيَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُضْحِيَّةَ أَيْضًا وَاجِبَةً عِنْدَنَا لَكِنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ مُتَّفَقٌ عَلَى وُجُوبِهَا، وَالْأُضْحِيَّةَ وُجُوبُهَا مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَالْمُتَّفَقُ عَلَى الْوُجُوبِ أَقْوَى فَكَانَ بِالْبِدَايَةِ أَوْلَى، وَكَذَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى كَفَّارَةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ تِلْكَ الْكَفَّارَةِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ ثَبَتَ وُجُوبُهَا بِأَخْبَارٍ مَشْهُورَةٍ. وَالثَّابِتُ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ أَقْوَى فَيُقَدَّمُ. وَقَالُوا: إنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تُقَدَّمُ عَلَى الْمَنْذُورِ بِهِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِإِيجَابِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - ابْتِدَاءً، وَالْمَنْذُورُ بِهِ، وَجَبَ بِإِيجَابِ الْعَبْدِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ أَيْضًا بِسَبَبِ مُبَاشَرَةِ الْعَبْدِ فَتُقَدَّمُ الصَّدَقَةُ، وَالْإِشْكَالُ عَلَيْهِ: أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ لَا مِنْ الْفَرَائِضِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ بَلْ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَلِهَذَا لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ، وَالْوَفَاءُ بِالْمَنْذُورِ بِهِ فَرْضٌ؛ لِأَنَّهُ وُجُوبَهُ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَهُوَ النَّصُّ الْمُفَسَّرُ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] ، وَالْفَرْضُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَاجِبِ، وَلِهَذَا يَكْفُرُ جَاحِدُ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 76] {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] ، وَالْمَنْذُورُ بِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأُضْحِيَّةَ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبُ الْوَفَاءِ بِيَقِينٍ وَفِي وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةَ شُبْهَةُ الْعَدَمِ لِكَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ. وَالْأُضْحِيَّةُ تُقَدَّمُ عَلَى النَّوَافِلِ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَهُمَا، وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالْوَاجِبُ، وَالسُّنَّةُ الْمُؤَكَّدَةُ أَوْلَى مِنْ النَّافِلَةِ، فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُوصِي أَنَّهُ قَصَدَ تَقْدِيمَهَا عَلَى النَّافِلَةِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَهُ سَهْوًا فَيُقَدَّمُ بِدَلَالَةِ حَالَةِ التَّقْدِيمِ، وَإِنْ أَخَّرَهُ بِالذِّكْرِ عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْوَصَايَا بِالْقُرَبِ إعْتَاقٌ مُنَجَّزٌ، وَهُوَ الْإِعْتَاقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، أَوْ إعْتَاقٌ مُعَلَّقٌ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ التَّدْبِيرُ، فَإِنْ كَانَ تَقَدَّمَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ الْمُنَجَّزَ، وَالْمُعَلَّقَ بِالْمَوْتِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَكَانَ أَقْوَى فَيُقَدَّمُ. (وَأَمَّا) الْوَصِيَّةُ بِالْإِعْتَاقِ، فَإِنْ كَانَ إعْتَاقًا وَاجِبًا فِي كَفَّارَةٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكَفَّارَاتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْوَصَايَا الْمُتَنَفَّلِ بِهَا مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَحَجِّ التَّطَوُّعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْإِعْتَاقِ يَلْحَقُهَا الْفَسْخ كَمَا يَلْحَقُ سَائِرَ الْوَصَايَا فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْإِعْتَاقِ غَيْرَ وَاجِبَةٍ مِثْلَ سَائِرِ الْوَصَايَا فَلَا تُقَدَّمُ، بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ الْمُنَجَّزِ فِي الْمَرَضِ، وَالْمُعَلَّقِ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُمَا الْفَسْخُ فَكَانَ أَقْوَى فَيُقَدَّمُ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا. وَإِنْ كَانَتْ الْوَصَايَا بَعْضُهَا لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَبَعْضُهَا لِلْعِبَادِ، فَإِنْ أَوْصَى لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ يَتَضَارَبُونَ بِوَصَايَاهُمْ فِي الثُّلُثِ، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْعِبَادَ فَهُوَ لَهُمْ لَا يُقَدَّمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ لِمَا نُبَيِّنُ، وَمَا كَانَ لِلَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - يَجْمَعُ ذَلِكَ فَيَبْدَأُ مِنْهَا بِالْفَرَائِضِ، ثُمَّ بِالْوَاجِبَاتِ، ثُمَّ بِالنَّوَافِلِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْوَصَايَا لِلَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَصِيَّةٌ لِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الْعِبَادِ فَإِنَّهُ يَضْرِبُ بِمَا أَوْصَى لَهُ بِهِ مَعَ الْوَصَايَا بِالْقُرَبِ، وَيَجْعَلُ كُلَّ جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْقُرْبِ مُفْرَدَةً بِالضَّرْبِ، فَإِنْ قَالَ: ثُلُثُ مَالِي فِي الْحَجِّ، وَالزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَلِزَيْدٍ فَإِنَّ الثُّلُثَ يُقَسَّمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ، وَسَهْمٌ لِلْحَجِّ، وَسَهْمٌ لِلزَّكَاةِ، وَسَهْمٌ لِلْكَفَّارَاتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جِهَةٍ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ غَيْرُ الْأُخْرَى فَتُفْرَدُ كُلُّ جِهَةٍ بِسَهْمٍ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ، فَإِنْ قِيلَ: جِهَاتُ الْقُرَبِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا كُلِّهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ طَلَبُ مَرِضَاتِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَابْتِغَاءِ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْرِبَ لِلْمُوصَى لَهُ بِسَهْمٍ، وَالْقُرَبِ بِسَهْمٍ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا، وَهُوَ ابْتِغَاءُ وَجْهِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَطَلَبُ مَرْضَاتِهِ لَكِنَّ الْجِهَةَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ، وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، إنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَضْرِبُ بِسَهْمِهِ، وَإِنْ

كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْكُلِّ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ الْجِهَةُ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا اُعْتُبِرَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ كَذَا هَهُنَا هَذَا؛ إذْ كَانَتْ الْوَصَايَا كُلّهَا لِلَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - أَوْ بَعْضهَا لِلَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَبَعْضُهَا لِلْعِبَادِ. (فَأَمَّا) إذَا كَانَتْ كُلُّهَا لِلْعِبَادِ فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: (إمَّا) إنْ كَانَتْ كُلُّهَا فِي الثُّلُثِ لَمْ يُجَاوِزْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا قَدْرَ الثُّلُثِ. (وَإِمَّا) إنْ جَاوَزَتْ، فَإِنْ لَمْ تُجَاوِزْ بِأَنْ أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِالرُّبْعِ، وَلِآخَرَ بِالسُّدُسِ فَإِنَّهُمْ يَتَضَارَبُونَ فِي الثُّلُثِ بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ فَيَضْرِبُ صَاحِبُ الثُّلُثِ بِثُلُثِ الثُّلُثِ. وَصَاحِبُ الرُّبْعِ بِرُبْعِ الثُّلُثِ، وَصَاحِبُ السُّدُسِ بِسُدُسِ الثُّلُثِ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِد مِنْهُمْ بِقَدْرِ فَرِيضَتِهِ مِنْ الثُّلُثِ فَلَا يُقَدَّم بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا إذَا كَانَ مَعَ هَذِهِ الْوَصَايَا أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ: الْإِعْتَاقُ الْمُنَجَّزُ فِي الْمَرَض، أَوْ الْمُعَلَّقُ بِالْمَوْتِ فِي الْمَرَضِ أَوْ فِي الصِّحَّةِ، وَهُوَ التَّدْبِيرُ أَوْ الْبَيْعُ بِالْمُحَابَاةِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فِي الْمَرَضِ فَيُقَدَّمُ هُوَ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا الَّتِي هِيَ لِلْعِبَادِ كَمَا يُقَدَّمُ عَلَى الْوَصَايَا بِالْقُرَبِ فَيَبْدَأُ بِذَلِكَ قَبْلَ كُلِّ وَصِيَّةٍ ثُمَّ يَتَضَارَبُ أَهْلُ الْوَصَايَا فِيمَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ وَصَايَاهُمْ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يُقَدَّمُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْض فِي غَيْرِ الْمَوَاضِعِ الْمُسْتَثْنَاةِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْمُرَجَّحِ، وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْوَصَايَا كُلَّهَا اسْتَوَتْ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلُ سَبَبِ صَاحِبِهِ، وَالِاسْتِوَاءُ فِي السَّبَبِ يُوجِبُ الِاسْتِوَاءَ فِي الْحُكْمِ، وَلَا اسْتِوَاءَ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي مَوَاضِعِ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ الْمُنَجَّزَ، وَالْمُعَلَّقَ بِالْمَوْتِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَالْمُحَابَاةُ تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ ضَمَانٍ، وَهُوَ الْبَيْعُ؛ إذْ هُوَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَكَانَ الْبَيْعُ مَضْمُونًا بِالثَّمَنِ، وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ فَكَانَتْ الْمُحَابَاةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِعَقْدِ الضَّمَانِ أَقْوَى فَكَانَتْ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ. وَإِنْ اجْتَمَعَ الْعِتْقُ، وَالْمُحَابَاة وَضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهُمَا فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ كَانَتْ الْمُحَابَاةُ قَبْلَ الْعِتْقِ يَبْدَأُ بِالْمُحَابَاةِ، وَإِلَّا اسْتَوَيَا هَكَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَبْدَأ بِالْعِتْقِ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْعِتْقَ أَقْوَى مِنْ الْمُحَابَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَالْمُحَابَاةُ تَحْتَمِلُ، وَفِي بَابِ الْوَصَايَا يُقَدَّمُ الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى إذَا كَانَ الثُّلُثُ لَا يَسَعُ الْكُلَّ، وَلِهَذَا قُدِّمَ الْعِتْقُ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالتَّقْدِيمِ فِي الذِّكْرِ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا، وَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّمَةً فِي الذِّكْرِ عَلَى الْعِتْقِ عَلَى أَنَّ التَّقَدُّمَ فِي الذِّكْرِ يُعْتَبَرُ تَرْجِيحًا، وَالتَّرْجِيحُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي رُكْنِ الْعِلَّةِ، وَلَا اسْتِوَاءَ هَهُنَا لِمَا بَيَّنَّا، فَبَطَلَ التَّرْجِيحُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ الْمُحَابَاةَ أَقْوَى مِنْ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهَا تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ ضَمَانٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَالْعِتْقُ تَبَرُّعٌ مَحَضٌ، فَلَا يُزَاحِمُهَا. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الْعِتْقِ تَقَدَّمَتْ فِي الذِّكْرِ أَوْ تَأَخَّرَتْ إلَّا أَنَّ مُزَاحَمَةَ الْعِتْقِ إيَّاهَا حَالَةَ التَّأْخِيرِ ثَبَتَ لِضَرُورَةِ التَّعَارُضِ حَالَةَ التَّقَدُّمِ عَلَى مَا نَذْكُرهُ (وَأَمَّا) قَوْلُهُمَا: إنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَبَعْضُ الْمَشَايِخِ قَالُوا: إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي فَإِنَّ مَنْ بَاعَ مَالَهُ بِالْمُحَابَاةِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ لَا يَمْلِكُ فَسْخَهُ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ فَسْخَهُ فَاسْتَوَيَا فِي عَدَمِ احْتِمَالِ الْفَسْخِ مِنْ جِهَة الْمُوصِي، وَهُوَ الْمُعْتَقُ، وَالْبَائِعُ، فَإِذَا كَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْمُحَابَاةِ تَرَجَّحَتْ بِالْبِدَايَةِ لِكَوْنِ الْبِدَايَةِ بِهَا دَلِيلَ الِاهْتِمَامِ، وَلَا يُمْكِنُ تَرْجِيحُ الْعِتْقِ عِنْدَ الْبِدَايَةِ بِهِ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْمُحَابَاةِ بِعَقْدِ الضَّمَانِ يَقْتَضِيَ تَرْجِيحَهَا عَلَى الْعِتْقِ الَّذِي هُوَ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ، فَتَعَارَضَ الْوَجْهَانِ، فَسَقَطَا وَالْتَحَقَا بِالْعَدَمِ، فَبَقِيَ أَصْلُ التَّعَارُضِ بِلَا تَرْجِيحٍ، فَتَقَعُ الْمُزَاحَمَةُ بَيْنَ الْمُحَابَاةِ، وَالْعِتْقِ، فَيُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالْمُحَابَاةِ تَصَرُّفٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فِي نَفْسِهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَيُفْسَخُ بِخِيَارِ الْعَيْبِ، وَالرُّؤْيَةِ، وَالشَّرْطِ، وَالْإِقَالَةِ؛ إذْ هِيَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فَكَانَتْ الْمُحَابَاةُ مُحْتَمِلَةً لِلْفَسْخِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْعِتْقُ لَا يَحْتَمِلُهُ رَأْسًا، فَكَانَ أَقْوَى مِنْ الْمُحَابَاةِ، فَيَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهَا، كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمَا (وَمِنْهُمْ) مَنْ قَالَ: إنَّ عَدَمَ احْتِمَالِ الْعِتْقِ لِلْفَسْخِ إنْ كَانَ يَقْتَضِي تَرْجِيحَهُ عَلَى الْمُحَابَاةِ، كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعَلُّقِ الْمُحَابَاةِ بِعَقْدِ الضَّمَانِ يَقْتَضِي تَرْجِيحًا عَلَى الْعِتْقِ، فَوَقَعَ التَّعَارُضُ، فَتُرَجَّحُ الْمُحَابَاةُ بِالْبِدَايَةِ، وَإِذَا لَمْ يَبْدَأْ بِهَا، فَلَمْ يُوجَدْ التَّرْجِيحُ، فَبَقِيَتْ الْمُعَارَضَةُ، فَثَبَتَتْ الْمُزَاحَمَةُ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَلَزِمَ تَقْدِيمُ الْعِتْقِ عَلَى الْمُحَابَاةِ؛ إذَا بَدَأَ بِالْعِتْقِ لِوُجُودِ الْمُرَجِّحِ لِلْعِتْقِ عِنْدَ وُقُوعِ التَّعَارُضِ، وَلَا يُقَدَّمُ غَيْرُهُ بَلْ يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا (وَمِنْهُمْ) مِنْ قَالَ: تَعَلُّقُ الْمُحَابَاةِ بِعَقْدِ الضَّمَانِ مِنْ حَيْثُ اسْتِحْقَاقُهَا بِهِ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ مِنْ الْعِتْقِ مِنْ

حَيْثُ عَدَمِ احْتِمَالِ الْفَسْخِ بِدَلِيلِ أَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِعْتَاقِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا مُسْتَغْرَقًا بِالدَّيْنِ لَا يُنَفَّذُ، وَإِنْ كَانَ الْإِعْتَاقُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَالْمُعَارَضَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِلْفَسْخِ لِكَوْنِهَا عَقْدَ ضَمَانٍ، فَلَا يُعَارِضُهَا الْعِتْقُ إلَّا عِنْدَ الْبِدَايَة، وَعَلَى الْجُمْلَةِ تَقْرِيرُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْإِضَافَةِ إلَى عُقُولِنَا مُشْكِلٌ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ، وَفَرَّعَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى هَذَا، فَقَالَ: إذَا أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ - يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْعِتْقِ الْأَوَّلِ، وَبَيْنَ الْمُحَابَاةِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ مَا أَصَابَ الْعِتْقَ الْأَوَّلَ يُقَسَّمُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْعِتْقِ الثَّانِي لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُوَّةِ، وَلَوْ حَابَى ثُمَّ أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُحَابَّتَيْنِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ مَا أَصَابَ الْمُحَابَاةَ الْأَخِيرَةَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَ الْعِتْقِ نِصْفَيْنِ، كَمَا إذَا أَعْتَقَ ثُمَّ حَابَى، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ مَعَ الْوَصَايَا لِلْعِبَادِ عِتْقٌ أَوْ مُحَابَاةٌ. ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَضْرِبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ حَقِّهِ مِنْ الثُّلُثِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِالسُّدُسِ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ - يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا: سَهْمَانِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، وَسَهْمٌ لِصَاحِبِ السُّدُسِ، أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ سِتَّةٍ: ثُلُثُ الْمَالِ ثَلَاثَةٌ، وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَجُمْلَةُ الْمَالِ تِسْعَةٌ ثُلُثُهُ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ لِلْمُوصَى لَهُمَا بِالثُّلُثِ، وَالسُّدُسُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَثُلُثَاهُ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ لِلْوَرَثَةِ، فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثَانِ، وَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمَانِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سَهْمٌ، وَالْبَاقِي، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ مِنْ سِتَّةٍ لِلْوَرَثَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِالثُّلُثِ وَلِآخَرَ بِالرُّبُعِ، وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ: لِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ، وَلِصَاحِبِ الرُّبْعِ ثَلَاثَةٌ. أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُهَا، وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَيَكُونُ كُلُّ الْمَالِ أَحَدًا وَعِشْرِينَ: الثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ سَبْعَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ، وَالثُّلُثَانِ، وَهُوَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مَا أَوْصَى لَهُ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ مَا أَوْصَى لَهُ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَالْبَاقِي، وَهُوَ خَمْسَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ لِلْوَرَثَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِالثُّلُثِ وَلِآخَرَ بِالرُّبْعِ وَلِآخَرَ بِالسُّدُسِ، فَثُلُثُ الْمَالِ تِسْعَةٌ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ: لِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ، وَلِصَاحِبِ الرُّبْعِ ثَلَاثَةٌ، وَلِصَاحِبِ السُّدُسِ سَهْمَانِ، وَذَلِكَ تِسْعَةٌ، وَثُلُثَا الْمَالِ مِثْلَاهُ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، سِهَامُ الْوَصِيَّةِ مِنْهَا تِسْعَةٌ: ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعَةٌ، وَسَهْمَانِ، وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ، سِهَامُ الْوَرَثَةِ، هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْوَصَايَا مَا يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ. ، فَإِنْ كَانَ بِأَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَآخَرَ بِالنِّصْفِ، فَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ فَالثُّلُث لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ، وَالنِّصْفُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ، أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ سِتَّةٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمَانِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ ثَلَاثَةٌ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ، وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ مِنْ سِتَّةٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - عَلَى خَمْسَةٍ: لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ، وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ الثُّلُثُ سَهْمَانِ. وَإِنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِرُبُعِ، مَالِهِ وَلِآخَرَ بِنِصْفِ مَالِهِ، فَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ فَالرُّبْعُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ، وَالنِّصْفُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ وَالرُّبْعُ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ حَقُّ الْوَرَثَةِ، وَقَدْ زَالَ بِإِجَازَتِهِمْ، وَإِنْ رَدُّوا فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ لَمْ تُنَفَّذْ، وَإِنْ نُفِّذَتْ فَفِي الثُّلُثِ لَا غَيْرُ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الثُّلُثِ بَيْنَهُمَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى: يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ ثَلَاثَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ: عَلَى ثَلَاثَةٍ سَهْمَانِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ لَا يَضْرِبُ إلَّا بِالثُّلُثِ عِنْدَهُ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ يَضْرِبُ بِالرُّبْعِ، فَيُحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ، وَرُبْعٌ، وَأَقَلُّهُ اثْنَا عَشَرَ ثُلُثُهَا أَرْبَعَةٌ، وَرُبْعُهَا ثَلَاثَةٌ فَتُجْعَلُ وَصِيَّتُهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ، وَذَلِكَ ثُلُثُ الْمِيرَاثِ، وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَجَمِيعُ الْمَالِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ: سَبْعَةٌ مِنْهَا لِلْمُوصَى لَهُمَا: أَرْبَعَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ، وَثَلَاثَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ: يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ عِنْدَهُمَا، وَالْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ يَضْرِبُ بِالرُّبْعِ، وَالرُّبْعُ مِثْلُ نِصْفِ النِّصْفِ فَيَجْعَلُ كُلَّ رُبْعٍ سَهْمًا، فَالنِّصْفُ يَكُونُ سَهْمَيْنِ، وَالرُّبْعُ سَهْمًا، فَيَكُونُ ثَلَاثَةً فَيَصِيرُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمَانِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ، وَسَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبْعِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ: أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَا يَضْرِبُ فِي الثُّلُثِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

تَعَالَى - إلَّا فِي خَمْسِ مَوَاضِعَ: فِي الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ، وَفِي الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ، وَفِي الْمُحَابَاةِ فِي الْمَرَضِ، وَفِي الْوَصِيَّةِ بِالْمُحَابَاةِ، وَفِي الْوَصِيَّةِ بِالدَّرَاهِمِ الْمُرْسَلَةِ، فَإِنَّهُ يَضْرِبُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِجَمِيعِ وَصِيَّةٍ مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ. وَصُورَةُ ذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ إذَا كَانَ لَهُ عَبْدَانِ لَا مَال لَهُ غَيْرُهُمَا أَوْصَى بِعِتْقِهِمَا، وَقِيمَةُ أَحَدِهِمَا أَلْفٌ، وَقِيمَةُ الْآخَرِ أَلْفَانِ، وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ - عَتَقَا مِنْ الثُّلُثِ، وَثُلُثُ مَالِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَالْأَلْفُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْر، وَصِيَّتِهِمَا ثُلُثَا الْأَلْفِ لِلَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَيُعْتَقُ ثُلُثُهُ، وَيَسْعَى فِي الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ، وَالثُّلُثُ لِلَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفٌ فَيُعْتَقُ ثُلُثُهُ، وَيَسْعَى فِي الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ عَتَقَا جَمِيعًا، وَصُورَةُ ذَلِكَ فِي الْمُحَابَاةِ إذَا كَانَ لَهُ عَبْدَانِ أَوْصَى بِأَنْ يُبَاعَ أَحَدُهُمَا مِنْ فُلَانٍ، وَالْآخَرُ مِنْ فُلَانٍ آخَرَ - بَيْعًا بِالْمُحَابَاةِ، وَقِيمَةُ أَحَدِهِمَا مَثَلًا أَلْفٌ، وَمِائَةٌ، وَقِيمَةُ الْآخَرِ سِتُّمِائَةٍ، فَأَوْصَى بِأَنْ يُبَاعَ الْأَوَّلُ مِنْ فُلَانٍ بِمِائَةٍ، وَالْآخَرُ مِنْ فُلَانٍ آخَرَ بِمِائَةٍ، فَهَهُنَا حَصَلَتْ الْمُحَابَاةُ لِأَحَدِهِمَا بِأَلْفٍ، وَلِلْآخَرِ بِخَمْسِمِائَةٍ، وَذَلِكَ كُلُّهُ وَصِيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ، فَإِنْ خَرَجَ ذَلِكَ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، وَلَا أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ جَازَتْ مُحَابَاتُهُمَا بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ وَصِيَّتِهِمَا يَضْرِبُ أَحَدُهُمَا فِيهَا بِأَلْفٍ، وَالْآخَرُ بِخَمْسِمِائَةٍ. وَصُورَةُ ذَلِكَ فِي الدَّرَاهِمِ الْمُرْسَلَةِ، إذَا أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِأَلْفٍ وَلِلْآخَرِ بِالدَّيْنِ، وَثُلُثُ مَالِهِ أَلْفٌ فَالثُّلُثُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي الْوَصِيَّةِ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ كَالرُّبْعِ، وَالسُّدُسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ بِاسْمِ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ النِّصْفِ، وَنَحْوِهِ، فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا مَا أَمْكَنَ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهَا فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَأَنَّهُ إضْرَارٌ بِهِمْ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا فِي حَقِّ الضَّرْبِ، وَأَنَّهُ يُمْكِنُ؛ إذْ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَلِهَذَا اُعْتُبِرَتْ التَّسْمِيَةُ فِي حَقِّ الضَّرْبِ. فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَ رَدِّ الْوَرَثَةِ وَصِيَّةٌ بَاطِلَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِيَقِينٍ. وَالضَّرْبُ بِالْوَصِيَّةِ الْبَاطِلَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِيَقِينٍ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ الْوَصِيَّةَ بِالزِّيَادَةِ وَصِيَّةٌ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا فِي قَدْرِ الزِّيَادَةِ صَادَفَتْ حَقَّ الْوَرَثَةِ إلَّا أَنَّهَا وَقَفَتْ عَلَى الْإِجَازَةِ، وَالرَّدِّ، فَإِذَا رَدُّوا تَبَيَّنَ أَنَّهَا وَقَعَتْ بَاطِلَةً، وَقَوْلُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَعْنِي بِهِ اسْتِحْقَاقًا، وَتَسْمِيَةً، وَهِيَ تَسْمِيَةُ النِّصْفِ فَالْكُلِّ، فَلَمْ تَقَعْ الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةً فِي مَخْرَجِهَا، وَقَوْلُنَا: بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهَا لَا يَحْتَمِلُ النَّفَاذَ لِحَالٍ. أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ لَنُفِّذَتْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ، وَهِيَ الْوَصِيَّةُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ بِخِلَافِ الْمَوَاضِعِ الْخَمْسِ فَإِنَّ هُنَاكَ مَا وَقَعَتْ بَاطِلَةً بِيَقِينٍ بَلْ تَحْتَمِلُ التَّنْفِيذَ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَظْهَرَ مَالٌ آخَرُ لِلْمَيِّتِ يُخْرَجُ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الثُّلُث فَبَيَّنَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ مَا وَقَعَتْ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ، فَلَمْ تَقَعْ بَاطِلَةً بِيَقِينٍ. وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مَالٌ آخَرُ يَدْخُلُ ذَلِكَ الْمَالُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَلَا يُخْرَجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يُشْكِلُ بِالْوَصِيَّةِ بِيَقِينٍ، فَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ عَلَى الثُّلُثِ بِأَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ عَبْدٍ لِرَجُلٍ، وَبِثُلُثَيْهِ لِآخَرَ، وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ فَرَدَّتْ الْوَرَثَةُ أَنَّ صَاحِبَ الثُّلُثَيْنِ لَا يَضْرِبُ بِالثُّلُثِ الزَّائِدِ عِنْدَنَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً بِيَقِينٍ لِجَوَازِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ مَالٌ آخَرُ فَتُنَفَّذُ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ فَيَنْتَفِي أَنْ يَضْرِبَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثَيْنِ بِالثُّلُثِ الزَّائِدِ، وَمَعَ هَذَا لَا يَضْرِبُ عِنْدَنَا، فَأُشْكِلَ الْقَدْرُ، وَبِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْأَقَلِّ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ هُنَاكَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً فِي مَخْرَجِهَا مِنْ حَيْثُ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ وَقَعَتْ بِالرُّبْعِ، وَالسُّدُسِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَخَارِجُ الْوَصِيَّةِ بِالتَّسْمِيَةِ صَادَفَتْ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْوَصِيَّتَيْنِ، فَإِذَا رَدَّتْ الْوَرَثَةُ فَالرَّدُّ وَرَدَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِمَا. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ ثُمَّ أَوْصَى لِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ فَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّتَيْنِ جَمِيعًا فَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ يَأْخُذُ الثُّلُثَيْنِ خَاصَّةً، وَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَ صَاحِبِ الْجَمِيعِ، وَبَيْنَ صَاحِبِ الثُّلُثِ. وَقَالَ حَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: لَيْسَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ لِلْمُوصَى لَهُ رُبْعَ الْمَالِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى فِيهَا مَا رَوَى عَنْهُ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ قِسْمَةٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْمُنَازَعَةِ، وَمَا ذَكَرَ حَسَنٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْتِبَارَ الْعَوْلِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْقِسْمَةُ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَوْلِ، وَالْمُضَارَبَةُ مِنْ أُصُولِهِمَا لَا مِنْ أَصْلِهِ فَإِنَّ مِنْ أَصْلِهِ اعْتِبَارَ الْمُنَازَعَةِ فِي الْقِسْمَةِ (وَوَجْهُهُ) هَهُنَا أَنَّ مَا زَادَ عَلَى

الثُّلُثِ يُعْطَى كُلُّهُ لِلْمُوصَى لَهُ بِجَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ. وَأَمَّا قَدْرُ الثُّلُثِ فَيُنَازِعُهُ فِيهِ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ - فَاسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِيهِ؛ إذْ لَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَيَكُونُ أَصْلُ مَسْأَلَةِ الْحِسَابِ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِحَاجَتِنَا إلَى الثُّلُثِ: الثُّلُثَانِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ، وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ إلَّا أَنَّهُ يَنْكَسِرُ الْحِسَابُ فَيَضْرِبُ اثْنَيْنِ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَصِيرُ سِتَّةً فَيُسَلَّمُ ثُلُثَاهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ، وَثُلُثُهَا، وَهُوَ سَهْمَانِ يُنَازِعُهُ فِيهِ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا، فَحَصَلَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ خَمْسَةٌ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمٌ. وَأَمَّا الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ، وَالْمُضَارَبَةِ عِنْدَهُمَا هَهُنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ فَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ يَضْرِبُ بِالثُّلُثِ، وَهُوَ سَهْمٌ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ يَضْرِبُ بِكُلِّ الْمَالِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فَيُجْعَلُ الْمَالُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ: لِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ، وَلِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةٌ هَذَا إذَا أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ، فَإِنْ رَدَّتْ الْوَرَثَةُ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ مِنْ الثُّلُثِ ثُمَّ الثُّلُثُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَا يَضْرِبُ إلَّا بِالثُّلُثِ، إذَا لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَضْرِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ أَرْبَاعًا عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - الْمُوَفِّقُ هَذَا إذَا اجْتَمَعَتْ الْوَصَايَا فِيمَا سِوَى الْعَيْنِ. ، فَإِنْ اجْتَمَعَتْ الْوَصَايَا فِي الْعَيْنِ، فَإِنْ اجْتَمَعَتْ فِي عَيْنٍ مُشَارٍ إلَيْهَا بِأَنْ أَوْصَى بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ لِاثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ بِجَمِيعِ الْعَيْنِ - فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تُقَسَّمُ الْعَيْنُ بَيْنَ أَصْحَابِ الْوَصَايَا عَلَى عَدَدِهِمْ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْقَدْرِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ بِالْقِسْمَةِ،، وَلَا يَضْرِبُ بِجَمِيعِ تِلْكَ الْعَيْنِ، وَإِنْ وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ بِجَمِيعِ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: أَوْصَيْتُ بِعَبْدِي هَذَا لِفُلَانٍ ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ أَوْصَيْتُ بِعَبْدِي هَذَا لِفُلَانٍ آخَرَ، وَالْعَبْدُ يُخْرَجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى عَدَدِهِمَا، وَهُمَا اثْنَانِ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الْعَبْدِ، وَلَا يَضْرِبُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إنْ أَوْصَى بِهِ لِثَلَاثَةٍ أَوْ لِأَرْبَعَةٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ، وَيَتَّفِقُ الْجَوَابُ فِي تَقْدِيمِ مَا يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَبْدِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَكِنْ بِنَاءً عَلَى أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ثَمَرَةُ اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ فِيمَا إذَا انْضَمَّتْ إلَى الْوَصِيَّةِ لَهُمَا وَصِيَّةٌ لِثَالِثٍ بِأَنْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ، وَأَلْفَا دِرْهَمٍ سِوَى ذَلِكَ فَأَوْصَى بِالْعَبْدِ لِإِنْسَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِآخَرَ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ آخَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ بِنِصْفِ الْعَبْدِ، وَهَذَا بِنِصْفِهِ، وَهَذَا بِنِصْفِهِ، وَيَضْرِبُ الْمُوصَى لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِأَلْفٍ، فَيَقْتَسِمُونَ بِالثُّلُثِ أَرْبَاعًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ،، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوصَى لَهُمَا بِالْعَبْدِ بِجَمِيعِ الْعَبْد، وَالْمُوصَى لَهُ بِأَلْفِ يَضْرِبُ بِأَلْفٍ فَيَقْتَسِمُونَ الثُّلُث أَثْلَاثًا بِنَاءً عَلَى الْأَصْل الَّذِي ذَكَرنَا فِيمَا تَقَدَّمَ: أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَا يَضْرِبُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُث عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَضْرِبُ بِجَمِيعِ وَصِيَّتِهِ، فَهُمَا يَقُولَانِ:؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَة وَقَعَتْ لِجَمِيعِ الْعَيْنِ إلَّا أَنَّهَا لَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ فَتَظْهَرُ فِي حَقِّ الضَّرْبِ، كَمَا فِي أَصْحَابِ الدُّيُونِ، وَأَصْحَابِ الْعَوْلِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّ الْمُوصَى قَدْ أَبْطَلَ وَصِيَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ الْعَيْنِ فَلَهُ وِلَايَةُ الْإِبْطَالِ. أَلَا يُرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فَيُبْطِلَ اسْتِحْقَاقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الْعَيْنِ، فَالضَّرْبُ بِالْجَمِيعِ يَكُونُ ضَرَبًا بِوَصِيَّةٍ بَاطِلَةٍ فَكَانَ بَاطِلًا، بِخِلَافِ الْغُرَمَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَلِأَنَّهُ إبْطَالِ حَقِّهِمْ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِكُلِّ حَقِّهِ، وَبِخِلَافِ أَصْحَابِ الْعَوْلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْ جِهَةِ الْمَيِّتِ سَبَبٌ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُمْ فَيَضْرِبُونَ بِجَمِيعِ مَا ثَبَتَ حَقُّهُمْ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ آخَرُ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَأَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَوْصَى بِعَبْدٍ لِرَجُلٍ وَأَوْصَى لِرَجُلِ آخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ فَالثُّلُثُ، وَهُوَ قَدْرُ أَلْفِ دِرْهَمٍ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ: خَمْسُمِائَةٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِجَمِيعِ الْعَبْدِ وَخَمْسُمِائَةٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ غَيْر أَنَّ مَا أَصَابَهُ الْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ يَكُونُ فِي الْعَبْد، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ، وَمَا أَصَابَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ يَكُونُ بَعْضُهُ فِي الْعَبْدِ، وَهُوَ سُدُسُ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ، وَهُوَ عُشْرُ الْعَبْدِ، وَالْبَعْضُ فِي الدَّرَاهِمِ، وَهُوَ خُمْسُ الْأَلْفَيْنِ، فَيَضْرِبُ الْمُوصَى لَهُ بِجَمِيعِ الْعَبْدِ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِهِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ يَضْرِبُ بِسُدُسِ الْعَبْدِ، وَبِخُمْسِ الْأَلْفَيْنِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْعَبْدِ، وَصِيَّتَانِ: وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهِ، وَوَصِيَّةٌ بِثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِثُلُثِ الْمَالِ تَنَاوَلَتْ الْعَبْدَ لِكَوْنِهِ مَالًا فَاجْتَمَعَتْ فِي الْعَبْدِ وَصِيَّتَانِ فَسُلِّمَ لِلْمُوصَى لَهُ بِجَمِيعِ الْعَبْدِ: ثُلُثَاهُ بِلَا مُنَازَعَةٍ، وَالثُّلُثُ يُنَازِعُهُ فِيهِ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ، فَيَكُونُ عَلَى الْحِسَاب مِنْ ثَلَاثَةٍ؛ لِحَاجَتِنَا إلَى الثُّلُثِ، وَأَقَلُّ حِسَابٍ يَخْرُجُ

مِنْهُ الثُّلُثُ ثَلَاثَةٌ: قِسْمَانِ خَلَيَا عَنْ مُنَازَعَةِ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فَسُلِّمَ ذَلِكَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ بَقِيَ سَهْمٌ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِيهِ فَيَكُونُ بَيْنهمَا فَيَنْكَسِرُ فَنَضْرِبُ اثْنَيْنِ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ سِتَّةً فَثُلُثَا السِّتَّةِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ سُلِّمَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ، وَثُلُثُهَا، وَهُوَ سَهْمَانِ يُنَازِعُهُ فِيهِ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ، وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِيهِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ، وَإِذَا صَارَ الْعَبْدُ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ عَلَى سِتَّةٍ يَصِيرُ كُلُّ أَلْفٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ عَلَى سِتَّةٍ فَصَارَ الْأَلْفَانِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْهُمَا: أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ فَصَارَ لَهُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ: أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ الدَّرَاهِم، وَسَهْمٌ مِنْ الْعَبْدِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ كُلّهَا فِي الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لَهُ فِي الدَّرَاهِمِ فَصَارَتْ وَصِيَّتُهُمَا جَمِيعًا عَشَرَةُ أَسْهُمٍ فَاجْعَلْ ثُلُثَ الْمَالِ عَلَى عَشْرَةِ أَسْهُمٍ، فَالثُّلُثَانِ عِشْرُونَ سَهْمًا فَالْكُلُّ ثَلَاثُونَ سَهْمًا، وَالْعَبْدُ ثُلُثُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَارَ الْعَبْدُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ، وَالْأَلْفَانِ عَلَى عِشْرِينَ سَهْمًا فَادْفَعْ وَصِيَّتَهُمَا مِنْ الْعَبْدِ فَوَصِيَّةُ الْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ خَمْسَةٌ، وَهُوَ نِصْفُ الْعَبْدِ، وَوَصِيَّةُ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمٌ، وَذَلِكَ خُمْسُ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ، وَادْفَعْ وَصِيَّةَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَذَلِكَ عِشْرُونَ سَهْمًا: أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَهُوَ خُمْسُ الْأَلْفَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ فَبَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ لَا وَصِيَّةَ فِيهَا فَيَدْفَعُ إلَى الْوَرَثَةِ فَيَكْمُلُ لَهُمْ الثُّلُثَانِ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ قَدْ أَخَذَ مِنْ الْأَلْفَيْنِ أَرْبَعمِائَةِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَحَصَلَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ مِنْ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ نِصْفُهُ، وَحَصَلَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ أَرْبَعُمِائَةٍ مِنْ الدَّرَاهِم، وَذَلِكَ خُمْسُهَا؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا الْأَلْفَيْنِ عَلَى عِشْرِينَ سَهْمًا، وَأَرْبَعَةٌ مِنْ عِشْرِينَ خُمْسُهَا، وَحَصَلَ لَهُ مِنْ الْعَبْدِ سَهْمٌ، وَذَلِكَ خُمْسُ الْعَبْدِ، وَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ عِشْرُونَ سَهْمًا، وَهِيَ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا، وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ الْعَبْدِ، وَذَلِكَ خُمُسَاهُ، هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَأَمَّا) عَلَى قَوْلِهِمَا فَيُقْسَمُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ، وَالْمُضَارَبَةِ، فَصَاحِبُ الْعَبْدِ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ ثُلُثِهِ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ يَضْرِبُ بِالثُّلُثِ سَهْمًا، فَيَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ فَصَاحِبُ الْعَبْدِ يَضْرِبُ بِالْجَمِيعِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ يَضْرِبُ بِالثُّلُثِ، وَذَلِكَ سَهْمٌ فَصَارَ الْعَبْدُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، وَإِذَا صَارَ الْعَبْدُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ مَعَ الْعَوْل صَارَ كُلُّ أَلْفٍ عَلَى ثَلَاثَةٍ بِغَيْرِ عَوْلٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الْعَوْلِ فِي الْأَلْفِ فَصَارَتْ الْأَلْفَانِ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُهَا، وَذَلِكَ سَهْمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ وَصِيَّتَهُمَا سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَصِيَّةُ صَاحِبِ الْعَبْدِ ثَلَاثَةٌ كُلُّهَا فِي الْعَبْدِ، وَوَصِيَّةُ صَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ أَسْهُمٍ: سَهْمَانِ فِي الدَّرَاهِم، وَسَهْمٌ فِي الْعَبْدِ فَاجْعَلْ ذَلِكَ ثُلُثَ الْمَالِ وَاجْعَلْ الْعَبْدَ ثُلُثَ الْمَالِ، وَاجْعَلْ الْعَبْدَ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ، وَادْفَعْ إلَيْهِمَا وَصِيَّتَهُمَا مِنْ الْعَبْدِ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ بَقِيَ سَهْمَانِ فَاضِلَانِ لَا وَصِيَّةَ فِيهِمَا فَادْفَعْ ذَلِكَ إلَى الْوَرَثَةِ حَتَّى يَكْمُلَ لَهُمْ الثُّلُثَانِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الثُّلُثِ قَدْ أَخَذَ سَهْمَيْنِ مِنْ الدَّرَاهِم، وَانْتَقَصَ نَصِيبُ الْوَرَثَةِ مِنْ الدَّرَاهِم، فَيَدْفَعُ سَهْمَيْنِ مِنْ الْعَبْدِ إلَيْهِمْ حَتَّى يَكْمُلَ لَهُمْ الثُّلُثَانِ، وَقَدْ جَعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ، وَهُوَ الْعَبْدُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ فَالثُّلُثَانِ يَكُونَانِ اثْنَيْ عَشَرَ، فَادْفَعْ وَصِيَّةَ صَاحِبِ الثُّلُثِ مِنْ ذَلِكَ سَهْمَيْنِ ثُمَّ ضُمَّ السَّهْمَيْنِ مِنْ الْعَبْدِ الَّذِي لَا وَصِيَّةَ فِيهِمَا إلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ حَتَّى يَكْمُلَ لَهُمْ الثُّلُثَانِ فَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَسَهْمَانِ مِنْ الْعَبْدِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَذَلِكَ نِصْفُ الْعَبْدِ، كُلُّهُ فِي الْعَبْدِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمٌ فِي الْعَبْدِ، وَذَلِكَ سُدُسُ الْعَبْدِ، وَسُدُسُ الْأَلْفَيْنِ، وَهُمَا سَهْمَانِ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدَانِ قِيمَتُهُمَا وَاحِدَةٌ لَا مَال لَهُ غَيْرُهُمَا فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، وَلِآخَر بِثُلُثِ مَالِهِ فَإِنَّ الثُّلُثَ يُقْسَمُ بَيْنهمَا عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّ الثُّلُثَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُنَازَعَةِ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَهُمَا عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَا يَضْرِبُ إلَّا بِالثُّلُثِ إلَّا فِي مَوَاضِع الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا إذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْقِسْمَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي الْعَبْدِ وَصِيَّتَانِ: وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهِ، وَوَصِيَّةٌ بِثُلُثِهِ، وَالثُّلُثَانِ يُسَلَّمَانِ لِصَاحِبِ الْجَمِيع بِلَا مُنَازَعَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ صَاحِبُ الثُّلُثِ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَالثُّلُثُ، وَهُوَ سَهْمٌ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِيهِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ سَهْمٍ فَانْكَسَرَ فَنَضْرِبُ اثْنَيْنِ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَصِيرُ سِتَّةً قُلْنَا: السِّتَّةُ تُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَالثُّلُثُ، وَهُوَ سَهْمَانِ اسْتَوَتْ

فصل في صفة عقد الوصية

مُنَازَعَتُهُمَا فِيهِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ فَصَارَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ فَلَمَّا صَارَ هَذَا الْعَبْدُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ صَارَ الْعَبْدُ الْآخَرُ عَلَى سِتَّةٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْهُمَا سَهْمَانِ فَصَارَ وَصِيَّةُ صَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمَانِ فِي الْعَبْدِ الَّذِي لَا وَصِيَّةَ فِيهِ، وَسَهْمٌ فِي الْعَبْدِ الَّذِي فِيهِ وَصِيَّةٌ، وَوَصِيَّةُ صَاحِبِ الْعَبْدِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ جَمِيع الْمَالِ اثْنَا عَشَرَ فَثُلُثُهَا أَرْبَعَةٌ. وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَا يَضْرِبُ لَهُ إلَّا بِالثُّلُثِ فَنَطْرَحُ مِنْ وَصِيَّتِهِ سَهْمًا فَتَصِيرُ وَصِيَّتُهُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، وَوَصِيَّةُ الْآخَرِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَذَلِكَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ فَاجْعَلْ هَذَا ثُلُثَ الْمَالِ، وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَجَمِيعُ الْمَالِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ، وَمَالُهُ عَبْدَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ عَبْدٍ عَلَى عَشَرَةٍ، وَنِصْفٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَبْدٍ مِقْدَارُ نِصْفِ الْمَالِ فَيَدْفَعُ مِنْ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِهِ وَصِيَّتَهُمَا فِيهِ، وَيَدْفَعُ إلَيْهِمَا بِوَصِيَّةِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ فِي الْعَبْدِ فَيَدْفَعُ ذَلِكَ إلَيْهِ، وَوَصِيَّةُ صَاحِبِ الْعَبْدِ سَهْمٌ وَاحِد فِي الْعَبْدِ، فَيَدْفَع ذَلِكَ إلَيْهِ فَبَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَنِصْفٌ فَادْفَعْ ذَلِكَ إلَى الْوَرَثَةِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَيُؤْخَذُ مِنْ الْعَبْدِ الَّذِي لَا وَصِيَّةَ فِيهِ سَهْمَانِ، وَيَدْفَعُ إلَى الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فَيَبْقَى مِنْ هَذَا الْعَبْدِ ثَمَانِيَةٌ وَنِصْفٌ يَدْفَعُ إلَى الْوَرَثَةِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَصَارَتْ كُلُّهَا سَبْعَةَ أَسْهُمٍ، وَهِيَ ثُلُثُ الْمَالِ، فَحَصَلَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ مِنْهُمَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمَانِ، وَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ مِنْ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِهِ خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ، وَمِنْ الْعَبْدِ الَّذِي لَا وَصِيَّةَ فِيهِ ثَمَانِيَةٌ وَنِصْفٌ فَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَهِيَ ثُلُثَا الْمَالِ فَاسْتَقَامَ الْحِسَابُ عَلَى الثُّلُثِ، وَالثُّلُثَيْنِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ: فَيُقْسَمُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فَنَقُولُ: اجْتَمَعَ فِي الْعَبْدِ وَصِيَّتَانِ: وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهِ، وَوَصِيَّةٌ بِثُلُثِهِ، وَمَخْرَجُ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يَضْرِبُ بِالْجَمِيعِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَصَاحِبُ الثُّلُثِ يَضْرِب بِثُلُثِهِ، وَهُوَ سَهْمٌ فَصَارَ الْعَبْدُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، وَهُوَ مَعْنَى الْعَوْلِ فَلَمَّا صَارَ هَذَا الْعَبْدُ عَلَى أَرْبَعَةٍ بِالْعَوْلِ يُجْعَلُ الْعَبْدُ الْآخَرُ عَلَى ثَلَاثَةٍ بِغَيْرِ عَوْلٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الْعَوْلِ فِي ذَلِكَ الْعَبْدِ فَسَهْمٌ مِنْ ذَلِكَ الْعَبْدِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فَصَارَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمَيْنِ: سَهْمٌ مِنْ الْعَبْدِ الَّذِي فِيهِ الْوَصِيَّةُ، وَسَهْمٌ مِنْ الْعَبْدِ الَّذِي لَا وَصِيَّةَ فِيهِ، وَوَصِيَّةُ صَاحِبِ الْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ فَاجْعَلْ هَذَا ثُلُثَ الْمَالِ، وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ، وَالْجَمِيعُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَمَالَهُ عَبْدَانِ فَيَصِيرُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى سَبْعَةٍ، وَنِصْفٍ فَيَدْفَعُ وَصِيَّةَ صَاحِبِ الْعَبْدِ مِنْ الْعَبْدِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ، وَوَصِيَّةُ صَاحِبِ الثُّلُثِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ سَهْمٌ يَبْقَى مِنْ هَذَا الْعَبْدِ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ فَيُدْفَعُ ذَلِكَ إلَى الْوَرَثَةِ، وَيُدْفَعُ مِنْ الْعَبْدِ الْآخَرِ سَهْمٌ إلَى الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ يَبْقَى سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَنِصْفٌ مِنْ الْعَبْدِ الَّذِي فِيهِ الْوَصِيَّةُ وَسِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَنِصْفٌ مِنْ الْعَبْدِ الْآخَرِ فَاسْتَقَامَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى الثُّلُثِ، وَالثُّلُثَيْنِ، وَاَللَّه - تَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي صِفَةِ عَقْدِ الْوَصِيَّةَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صِفَةُ هَذَا الْعَقْدِ فَلَهُ صِفَتَانِ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْوُجُودِ، وَالْأُخْرَى بَعْدَ الْوُجُودِ، أَمَّا الَّتِي هِيَ قَبْلَ الْوُجُودِ فَهِيَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَاجِبَةٌ، وَبِمَا وَرَاءَهَا جَائِزَةٌ، وَمَنْدُوبٌ إلَيْهَا، وَمُسْتَحَبَّةٌ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَعِنْد بَعْضِ النَّاسِ: الْكُلُّ وَاجِبٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي صَدْر الْكِتَابِ. وَأَمَّا الَّتِي هِيَ بَعْدَ الْوُجُودِ فَهِيَ أَنَّ هَذَا عَقَدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ الْمُوصَى حَتَّى يَمْلِكَ الرُّجُوعَ عِنْدنَا مَا دَامَ حَيًّا؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ قَبْلَ مَوْتِهِ مُجَرَّدُ إيجَابٍ، وَأَنَّهُ مُحْتَمَلُ الرُّجُوعِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَهِيَ بِالتَّبَرُّعِ أَوْلَى كَمَا فِي الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ إلَّا التَّدْبِيرَ الْمُطْلَقَ خَاصَّةً فَإِنَّهُ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ وَصِيَّةً؛ لِأَنَّهُ إيجَابٌ يُضَافُ إلَى الْمَوْتِ، وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْعِتْقِ، وَالْعِتْقُ لَازِمٌ. وَكَذَا سَبَبُهُ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ حُكْمٍ لَازِمٍ. وَكَذَا التَّدْبِيرُ الْمُقَيَّدُ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ نَصًّا، وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُهُ دَلَالَةً بِالتَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِيهِ تَعَلَّقَ بِمَوْتٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ، وَقَدْ لَا تُوجَدُ تِلْكَ الصِّفَةُ فَلَمْ يَسْتَحْكِمْ السَّبَبُ، ثُمَّ الرُّجُوعُ قَدْ يَكُونُ نَصًّا، وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَة، وَقَدْ يَكُونُ ضَرُورَةً، أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ أَنْ يَقُول الْمُوصِي: رَجَعْتُ، أَمَّا الدَّلَالَةُ فَقَدْ تَكُونُ فِعْلًا، وَقَدْ تَكُونُ قَوْلًا، وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ فِي الْمُوصَى بِهِ فِعْلًا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الرُّجُوعِ أَوْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الرُّجُوعِ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا فَعَلَ فِي الْمُوصَى بِهِ فِعْلًا لَوْ فَعَلَهُ فِي الْمَغْصُوبِ لَانْقَطَعَ بِهِ مِلْكُ الْمَالِكِ - كَانَ رُجُوعًا كَمَا إذَا أَوْصَى بِثَوْبٍ ثُمَّ قَطَعَهُ، وَخَاطَهُ قَمِيصًا أَوْ قَبَاءً أَوْ بِقُطْنٍ ثُمَّ غَزَلَهُ أَوْ لَمْ يَغْزِلْهُ ثُمَّ نَسَجَهُ أَوْ بِحَدِيدَةٍ ثُمَّ صَنَعَ مِنْهَا إنَاءً أَوْ سَيْفًا أَوْ سِكِّينًا أَوْ بِفِضَّةٍ ثُمَّ صَاغَ مِنْهَا حُلِيًّا، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَمَّا

أَوْجَبَتْ بُطْلَانَ حُكْمٍ ثَابِتٍ فِي الْمَحَلِّ، وَهُوَ الْمِلْكُ؛ فَلَأَنْ تُوجِبَ بُطْلَانَ مُجَرَّدِ كَلَامٍ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ أَصْلًا أَوْلَى، ثُمَّ وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهَا عَلَى التَّفْصِيلِ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا تَبْدِيلُ الْعَيْنِ، وَتَصْيِيرُهَا شَيْئًا آخَرَ مَعْنًى، وَاسْمًا، فَكَانَ اسْتِهْلَاكًا لَهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَكَانَ دَلِيلَ الرُّجُوعِ فَصَارَ كَالْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا فَعَلَ فِي الْمَبِيعِ فِعْلًا يَدُلُّ عَلَى إبْطَالِ الْخِيَارِ يَبْطُلُ خِيَارُهُ، وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ الدَّلَالَةِ إشَارَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ لِلْمُخَيَّرَةِ «إنْ وَطِئَكِ زَوْجُكِ فَلَا خِيَارَ لَكِ» . وَلَوْ أَوْصَى بِقَمِيصٍ ثُمَّ نَقَضَهُ فَجَعَلَهُ قَبَاءً فَهُوَ رُجُوعٌ؛ لِأَنَّ الْخِيَاطَةَ فِي ثَوْبٍ غَيْرِ مَنْقُوضٍ دَلِيلُ الرُّجُوعِ فَمَعَ النَّقْضِ أَوْلَى، وَإِنْ نَقَضَهُ، وَلَمْ يَخُطَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِرُجُوعٍ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ بَعْدَ النَّقْضِ قَائِمَةٌ تَصْلُحُ لِمَا كَانَتْ تَصْلُحُ لَهُ قَبْلَ النَّقْضِ. وَلَوْ بَاعَ الْمُوصَى بِهِ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ - كَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَقَعَتْ صَحِيحَةً لِمُصَادَفَتِهَا مِلْكَ نَفْسِهِ فَأَوْجَبَتْ زَوَالَ الْمِلْكِ فَلَوْ بَقِيَتْ الْوَصِيَّةُ مَعَ وُجُودِهَا لَتَعَيَّنَتْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ. وَلَوْ بَاعَ الْمُوصَى بِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ أَوْ وَهَبَهُ، وَسَلَّمَ، وَرَجَعَ فِي الْهِبَةِ - لَا تَعُودُ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَطَلَتْ بِالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ مَعَ التَّسْلِيمِ لِزَوَالِ الْمِلْكِ، وَالْعَائِدُ مِلْكٌ جَدِيدٌ غَيْرُ مُوصًى بِهِ فَلَا يَصِيرُ مُوصًى بِهِ إلَّا بِوَصِيَّةٍ جَدِيدَةٍ. وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدٍ فَغَصَبَهُ رَجُلٌ ثُمَّ رَدَّهُ بِعَيْنِهِ فَالْوَصِيَّةُ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ لَيْسَ فِعْلَ الْمُوصِي، وَالْمُوصَى بِهِ عَلَى حَالِهِ فَبَقِيَتْ الْوَصِيَّةُ إلَّا إذَا اسْتَهْلَكَهُ الْغَاصِبُ أَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ لِبُطْلَانِ مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ. وَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِعَبْدٍ ثَمَّ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ، أَوْ بَاعَ نَفْسَهُ مِنْهُ كَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إعْتَاقٌ مِنْ وَجْهٍ أَوْ مُبَاشَرَةُ سَبَبٍ لَازِمٍ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَالنَّقْضَ، وَكُلُّ ذَلِكَ دَلِيلُ الرُّجُوعِ، وَالْمُكَاتَبَةُ مُعَاوَضَةٌ إلَّا أَنَّ الْعِوَضَ مُتَأَخِّرٌ إلَى وَقْتِ أَدَاءِ الْبَدَلِ، فَكَانَ دَلِيلَ الرُّجُوعِ كَالْبَيْعِ، وَبَيْعُ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْهُ إعْتَاقٌ فَكَانَ رُجُوعًا. وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدٍ لِإِنْسَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ مِنْ إنْسَانٍ آخَرَ - لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْوَصِيَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ إلَّا أَنَّ إحْدَاهُمَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَالْأُخْرَى تَمْلِيكٌ بِبَدَلٍ فَيَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا: نِصْفُهُ لِلْمُوصَى لَهُ بِهِ، وَنِصْفُهُ يُبَاعُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْبَيْعِ. وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَبْدُهُ، ثُمَّ أَوْصَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُبَاعَ مِنْ فُلَانٍ أَوْ أَوْصَى أَوَّلًا بِالْبَيْعِ ثُمَّ أَوْصَى بِالْإِعْتَاقِ - كَانَ رُجُوعًا لِمَا بَيْنَ الْوَصِيَّتَيْنِ مِنْ التَّنَافِي؛ إذْ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِعْتَاقِ، وَالْبَيْعِ، فَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الثَّانِيَةِ دَلِيلَ الرُّجُوعِ عَنْ الْأُولَى، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِوَصِيَّتَيْنِ مُتَنَافِيَتَيْنِ كَانَتْ الثَّانِيَةُ مُبْطِلَةً لِلْأُولَى، وَهُوَ مَعْنَى الرُّجُوعِ، وَإِنْ كَانَتَا غَيْرَ مُتَنَافِيَتَيْنِ نَفَذَتَا جَمِيعًا. وَلَوْ أَوْصَى بِشَاةٍ ثُمَّ ذَبَحَهَا كَانَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالشَّاةُ الْمَذْبُوحَةُ لَا تَبْقَى إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ عَادَةً بَلْ تَفْسُدُ، فَكَانَ الذَّبْحُ دَلِيلَ الرُّجُوعِ. وَلَوْ أَوْصَى بِثَوْبٍ ثُمَّ غَسَلَهُ أَوْ بِدَارٍ ثُمَّ جَصَّصَهَا أَوْ هَدَمَهَا - لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ رُجُوعًا؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ إزَالَةُ الدَّرَنِ، وَالْوَصِيَّةُ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ فَلَمْ يَكُنِ الْغَسْلُ تَصَرُّفًا فِي الْمُوصَى بِهِ، وَتَجْصِيصُ الدَّارِ لَيْسَ تَصَرُّفًا فِي الدَّارِ بَلْ فِي الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ، وَالْبِنَاءُ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ فَيَكُونَ تَبَعًا لِلدَّارِ، وَالتَّصَرُّفُ فِي التَّبَعِ لَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ الْأَصْلِ، وَنَقْضُ الْبِنَاءِ تَصَرُّفٌ فِي الْبِنَاءِ، وَالْبِنَاءُ صِفَةٌ، وَأَنَّهَا تَابِعَةٌ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا بِعَيْنِهِ ثُمَّ رَجَعَ الْعَبْدُ إلَى الْمُوصِي بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ مِيرَاثٍ - فَالْوَصِيَّةُ لَا تَبْطُلُ، وَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مَا وَقَعَتْ بِثَمَنِ الْعَبْدِ بَلْ بِعَيْنِ الْعَبْدِ، وَهُوَ مَقْصُودُ الْمُوصَى، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشِّرَاءَ لِلتَّوَصُّلِ بِهِ إلَى مِلْكِهِ، وَقَدْ مَلَكَهُ فَتُنَفَّذُ فِيهِ الْوَصِيَّةُ. وَلَوْ أَوْصَى بِشَيْءٍ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِآخَرَ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ إذَا أَعَادَ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى، وَالْمُوصَى لَهُ الثَّانِي مَحَلٌّ قَابِلٌ لِلْوَصِيَّةِ - كَانَ رُجُوعًا. وَكَانَ إشْرَاكًا فِي الْوَصِيَّةِ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِفُلَانٍ ثُمَّ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِفُلَانٍ آخَرَ مِمَّنْ تَجُوزُ لَهُ الْوَصِيَّةُ - فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِهَذَا الْعَبْدِ لِفُلَانٍ، وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، ثُمَّ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ آخَرَ مِمَّنْ تَجُوزُ لَهُ الْوَصِيَّةُ - كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِفُلَانٍ أَوْ بِعَبْدِي هَذَا لِفُلَانٍ ثُمَّ قَالَ: الَّذِي أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ أَوْ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ فَهُوَ لِفُلَانٍ - كَانَ رُجُوعًا عَنْ الْأُولَى، وَإِمْضَاءً لِلثَّانِيَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَصِيَّةِ بِشَيْءٍ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِهِ لِآخَرَ هُوَ الْإِشْرَاكُ؛ لِأَنَّ فِيهِ عَمَلًا بِالْوَصِيَّتَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ،، وَالْأَصْلُ فِي تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ صِيَانَتُهُ عَنْ الْإِبْطَالِ مَا أَمْكَنَ، وَفِي الْحَمْلِ عَلَى الرُّجُوعِ إبْطَالُ إحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَفِي الْحَمْلِ عَلَى

الْإِشْرَاكِ عَمَلٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ مَا أَمْكَنَ، وَعِنْدَ الْإِعَادَةِ. وَكَوْنُ الثَّانِي مَحَلًّا لِلْوَصِيَّةِ لَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَى الْإِشْرَاكِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَعَادَ عَلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ نَقْلَ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ مِنْ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي، وَلَا يَنْتَقِلُ إلَّا بِالرُّجُوعِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ رُجُوعًا هَذَا إذَا قَالَ: الْوَصِيَّةُ الَّتِي أَوْصَيْتُ بِهَا لِفُلَانٍ فَهِيَ لِفُلَانٍ. وَكَذَا إذَا قَالَ: الْوَصِيَّةُ الَّتِي أَوْصَيْتُ بِهَا لِفُلَانٍ قَدْ أَوْصَيْتُهَا لِفُلَانٍ أَوْ فَقَدْ أَوْصَيْتُهَا لِفُلَانٍ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: وَقَدْ أَوْصَيْتُ بِهَا لِفُلَانٍ، فَهَذَا يَكُونُ إشْرَاكًا؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلشَّرِكَةِ، وَلِلِاجْتِمَاعِ. وَلَوْ قَالَ: كُلُّ وَصِيَّةٍ أَوْصَيْتُ بِهَا لِفُلَانٍ فَهِيَ بَاطِلَةٌ فَهَذَا رُجُوعٌ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى إبْطَالِ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِبْطَالِ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لَلْبُطْلَانِ فَتَبْطُلُ، وَهُوَ مَعْنَى الرُّجُوعِ. وَلَوْ قَالَ: كُلُّ وَصِيَّةٍ أَوْصَيْتُ بِهَا لِفُلَانٍ فَهِيَ حَرَامٌ أَوْ هِيَ رِبًا لَا يَكُونُ رُجُوعًا؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تُنَافِي الْوَصِيَّةَ فَلَمْ يَكُنْ دَلِيلَ الرُّجُوعِ. وَلَوْ قَالَ: كُلُّ وَصِيَّةٍ أَوْصَيْتُ بِهَا لِفُلَانٍ فَهِيَ لِفُلَانٍ وَارِثِي كَانَ هَذَا رُجُوعًا عَنْ وَصِيَّتِهِ لِفُلَانٍ، وَوَصِيَّتُهُ لِلْوَارِثِ فَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ نَقَلَ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى بِعَيْنِهَا إلَى مَنْ يَصِحُّ النَّقْلُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ صَحِيحَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَقِفُ عَلَى إجَازَةِ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ، وَالْبَاطِلُ لَا يَحْتَمِلُ التَّوَقُّفَ، وَإِذَا انْتَقَلَتْ إلَيْهِ لَمْ يَبْقَ لِلْأَوَّلِ ضَرُورَةٌ، وَهَذَا مَعْنَى الرُّجُوعِ ثُمَّ إنْ أَجَازَتْ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ الْوَصِيَّةَ لِهَذَا الْوَارِثِ نَفَذَتْ وَصَارَ الْمُوصَى بِهِ لِلْمُوصَى لَهُ، وَإِنْ رَدُّوا بَطَلَتْ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ الْأَوَّلُ لِصِحَّةِ الرُّجُوعِ لِانْتِقَالِ الْوَصِيَّةِ مِنْهُ، وَصَارَ مِيرَاثًا لِوَرَثَةِ الْمُوصَى كَمَا لَوْ رَجَعَ صَرِيحًا. وَلَوْ قَالَ: الْوَصِيَّةُ الَّتِي أَوْصَيْتُ بِهَا لِفُلَانٍ فَهِيَ لِعَمْرِو بْنِ فُلَانٍ، وَعَمْرٌو حَيٌّ يَوْمَ قَالَ الْمُوصِي هَذِهِ الْمَقَالَةَ كَانَ رُجُوعًا عَنْ وَصِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِعَمْرٍو وَقَعَتْ صَحِيحَةً؛ لِأَنَّهُ كَانَ حَيًّا وَقْتَ كَلَامِ الْوَصِيَّةِ فَيَصِحُّ النَّقْلُ إلَيْهِ فَصَحَّ الرُّجُوعُ، وَلَوْ كَانَ عَمْرٌو مَيِّتًا يَوْمَ كَلَامِ الْوَصِيَّةِ لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْوَصِيَّةِ فَلَمْ يَصِحَّ إيجَابُ الْوَصِيَّةِ لَهُ فَلَمْ يَثْبُتْ مَا فِي ضِمْنِهِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ، وَلَوْ كَانَ عَمْرٌو حَيًّا يَوْمَ الْوَصِيَّةِ حَتَّى صَحَّتْ، ثُمَّ مَاتَ عَمْرٌو قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ نَفَاذَهَا عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَتَعَذَّرَ تَنْفِيذُهَا عِنْدَ مَوْتِهِ؛ لِكَوْنِ الْمُوصَى لَهُ مَيِّتًا، فَكَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْوَرَثَةِ. وَلَوْ قَالَ: الثُّلُثُ الَّذِي أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ فَهُوَ لِعَقِبِ عَمْرٍو، فَإِذَا عَمْرٌو حَيٌّ، وَلَكِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي - فَالثُّلُثُ لِعَقِبِهِ. وَكَانَ رُجُوعًا عَنْ وَصِيَّةِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِعَقِبِ عَمْرٍو وَقَعَ صَحِيحًا إذَا كَانَ لِعَمْرٍو عَقِبٌ يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّ عَقِبَ الرَّجُلِ مَنْ يَعْقُبُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهُوَ وَلَدُهُ فَلَمَّا مَاتَ عَمْرٌو قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي - فَقَدْ صَارَ وَلَدُهُ عَقِبًا لَهُ يَوْمَ نَفَاذِ الْإِيجَابِ، وَهُوَ يَوْمُ مَوْتِ الْمُوصِي فَصَحَّتْ الْوَصِيَّةُ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِوَلَدِ فُلَانٍ، وَلَا وَلَدَ لَهُ يَوْمئِذٍ ثُمَّ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي - إنَّ الثُّلُثَ يَكُونُ لَهُ كَذَا هَهُنَا ثُمَّ إذَا صَحَّ إيجَابُ الثُّلُثِ لَهُ بَطَلَ حَقُّ الْأَوَّلِ؛ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ مَاتَ عَقِبُ عَمْرٍو بَعْدَ مَوْتِ عَمْرٍو قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي - رَجَعَ الثُّلُثُ إلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ لَهُمْ قَدْ صَحَّ لِكَوْنِهِمْ عَقِبًا لِعَمْرٍو، فَثَبَتَ الرُّجُوعُ عَنْ الْأَوَّلِ ثُمَّ بَطَلَ اسْتِحْقَاقُهُمْ بِمَوْتِهِمْ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَلَا يَبْطُلُ الرُّجُوعُ. وَلَوْ مَاتَ الْمُوصِي فِي حَيَاةِ عَمْرٍو فَالثُّلُثُ لِلْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ قَدْ مَاتَ، وَلَمْ يَثْبُتْ لِلْمُوصَى لَهُمْ اسْمُ الْعَقِبِ بَعْدُ فَبَطَلَ الْإِيجَابُ لَهُمْ أَصْلًا، فَبَطَلَ مَا كَانَ ثَبَتَ فِي ضِمْنِهِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ عَنْ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى. وَلَوْ أَوْصَى ثُمَّ جَحَدَ الْوَصِيَّةَ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا قَالَ الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي نَوَادِرِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ ثُمَّ عُرِضَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْغَدِ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ، قَالَ: هَذَا رُجُوعٌ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَمْ أُوصِ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ قَالَ: وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَكُونُ الْجَحْدُ رُجُوعًا، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: اشْهَدُوا أَنِّي لَمْ أُوصِ لِفُلَانٍ بِقَلِيلٍ، وَلَا كَثِيرٍ - لَمْ يَكُنْ هَذَا رُجُوعًا مِنْهُ عَنْ وَصِيَّةِ فُلَانٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ. (وَجْهُ) مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ: أَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْوَصِيَّةِ يَسْتَدْعِي سَابِقِيَّةَ وُجُودِ الْوَصِيَّةِ، وَالْجُحُودُ إنْكَارُ وُجُودِهَا أَصْلًا، فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الرُّجُوعِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ رُجُوعًا، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ جُحُودُ النِّكَاحِ طَلَاقًا؛ وَلِأَنَّ إنْكَارَ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ وُجُودِهَا يَكُونُ كَذِبًا مَحْضًا، فَكَانَ بَاطِلًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ كَالْإِقْرَارِ الْكَاذِبِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بِجَارِيَةٍ لِإِنْسَانٍ كَاذِبًا، وَالْمُقَرُّ لَهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ - لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ حَتَّى لَا يَحِلَّ وَطْؤُهَا. وَكَذَا سَائِرُ الْأَقَارِيرِ الْكَاذِبَةِ إنَّهَا بَاطِلَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَا الْإِنْكَارُ الْكَاذِبُ

وَجْهُ) مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ: أَنَّ مَعْنَى الرُّجُوعِ عَنْ الْوَصِيَّةِ هُوَ فَسْخُهَا، وَإِبْطَالُهَا، وَفَسْخُ الْعَقْدِ كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا بِالْعَقْدِ السَّابِقِ، وَبِثُبُوتِ حُكْمِهِ، وَالْجُحُودِ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْجَاحِدَ لِتَصَرُّفٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ، وَبِثُبُوتِ حُكْمِهِ فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْفَسْخِ فَحَصَلَ مَعْنَى الرُّجُوعِ. وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى بِوَصَايَا إلَى رَجُلٍ فَقِيلَ لَهُ: إنَّكَ سَتَبْرَأُ فَأَخِّرْ الْوَصِيَّةَ فَقَالَ: أَخَّرْتُهَا - فَهَذَا لَيْسَ بِرُجُوعٍ، وَلَوْ قِيلَ لَهُ: اُتْرُكْهَا، فَقَالَ: قَدْ تَرَكْتُهَا - فَهَذَا رُجُوعٌ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْوَصِيَّةِ هُوَ إبْطَالُ الْوَصِيَّةِ، وَالتَّأْخِيرُ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْإِبْطَالِ، وَالتَّرْكُ يُنْبِئُ عَنْهُ. أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَخَّرْتُ الدَّيْنَ كَانَ تَأْجِيلًا لَهُ لَا إبْطَالًا؟ ، وَلَوْ قَالَ: تَرَكْتُهُ كَانَ إبْرَاءً؟ . رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ مُسَمًّى، وَأَخْبَرَ الْمُوصِي أَنَّ ثُلُثَ مَالِهِ أَلْفٌ أَوْ قَالَ: هُوَ هَذَا، فَإِذَا ثُلُثُ مَالِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفٍ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: أَنَّ لَهُ الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، وَالتَّسْمِيَةُ الَّتِي سَمَّى بَاطِلَةٌ - لَا يَنْقُضُ الْوَصِيَّةَ خَطَؤُهُ فِي مَالِهِ إنَّمَا غَلِطَ فِي الْحِسَابِ، وَلَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ (وَهَذَا) قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَقَدْ أَتَى بِوَصِيَّةٍ صَحِيحَةٍ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ لَا تَقِفُ عَلَى بَيَانِ مِقْدَارِ الْمُوصَى بِهِ، فَوَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةً بِدُونِهِ ثُمَّ بَيَّنَ الْمِقْدَارَ، وَغَلِطَ فِيهِ، وَالْغَلَطُ فِي قَدْرِ الْمُوصَى بِهِ لَا يَقْدَحُ فِي أَصْلِ الْوَصِيَّةِ فَبَقِيَتْ الْوَصِيَّةُ مُتَعَلِّقَةً بِثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ؛ وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا رُجُوعًا عَنْ الزِّيَادَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَلَطًا، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ، فَلَا تَبْطُلُ مَعَ الشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ أَنَّ الثَّابِتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِغَنَمِي كُلِّهَا وَهِيَ مِائَةُ شَاةٍ، فَإِذَا هِيَ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةٍ وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ - فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَوْصَى بِجَمِيعِ غَنَمِهِ ثُمَّ غَلِطَ فِي الْعَدَدِ قَالَ: وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِغَنَمِي، وَهِيَ هَذِهِ، وَلَهُ غَنَمٌ غَيْرُهَا تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنَّ هَذَا فِي الْقِيَاسِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَكِنِّي أَدَعُ الْقِيَاسَ فِي هَذَا، وَأَجْعَلُ لَهُ الْغَنَمَ الَّتِي تُسَمَّى مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ التَّسْمِيَةِ، وَالْإِشَارَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتَّعْيِينِ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْإِشَارَةَ أَقْوَى؛ لِأَنَّهَا تَحْصُرُ الْعَيْنَ، وَتَقْطَعُ الشَّرِكَةَ، فَتَعَلَّقَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى لَهُ غَيْرَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِثُلُثِ مَالِي، وَهُوَ هَذَا، وَلَهُ مَالٌ آخَرُ غَيْرُهُ إنَّهُ يَسْتَحِقُّ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ هُنَاكَ لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: ثُلُثُ مَالِي، وَالثُّلُثُ اسْمٌ لِلشَّائِعِ وَالْمُعَيَّنُ غَيْرُ الشَّائِعِ فَلَغَتْ الْإِشَارَةُ فَتَعَلَّقَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمُسَمَّى، وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَهَهُنَا صَحَّتْ، وَصِيَّةُ الْإِشَارَةِ، وَهِيَ أَقْوَى مِنْ التَّسْمِيَةِ فَتَعَلَّقَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِرَقِيقِي، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ فَإِذَا هُمْ خَمْسَةٌ جَعَلْتُ الْخَمْسَةَ كُلَّهُمْ فِي الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِرَقِيقِهِ كُلِّهِمْ لَكِنَّهُ غَلِطَ فِي عَدَدِهِمْ، وَالْغَلَطُ فِي الْعَدَدِ لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الْكُلِّ بِالْوَصِيَّةِ الْعَامَّةِ. وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِبَنِي عَمْرِو بْنِ حَمَّادٍ وَهُمْ سَبْعَةٌ فَإِذَا بَنُوهُ خَمْسَةٌ كَانَ الثُّلُثُ كُلُّهُ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثُّلُثَ لِبَنِي عَمْرِو بْنِ حَمَّادٍ ثُمَّ وَصَفَ بَنِيهِ، وَهُمْ خَمْسَةٌ بِأَنَّهُمْ سَبْعَةٌ غَلَطًا فَيَلْغُو الْغَلَطُ، وَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَهُمْ سَبْعَةٌ، وَلَمْ يَكُونُوا إلَّا خَمْسَةً فَقَدْ أَوْصَى لِخَمْسَةٍ مَوْجُودِينَ، وَلِمَعْدُومِينَ، وَمَتَى جَمَعَ بَيْنَ مَوْجُودٍ، وَمَعْدُومٍ، وَأَوْصَى لَهُمَا يَلْغُو ذِكْرُ الْمَعْدُومِ، وَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ لِلْمَوْجُودِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِعَمْرٍو، وَخَالِدٍ ابْنَيْ فُلَانٍ، فَإِذَا أَحَدُهُمَا مَيِّتٌ إنَّ الثُّلُثَ كُلَّهُ لِلْحَيِّ مِنْهُمَا كَذَا هَذَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِبَنِي فُلَانٍ، وَهُمْ خَمْسَةٌ فَإِذَا هُمْ ثَلَاثَةٌ أَوْ قَالَ: وَهُمْ سَبْعَةٌ، فَإِذَا هُمْ ثَلَاثَةٌ أَوْ اثْنَانِ؛ لِمَا قُلْنَا. وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِبَنِي فُلَانٍ وَلَهُ ثَلَاثُ بَنِينَ أَوْ ابْنَانِ كَانَ جَمِيعُ الثُّلُثِ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُونَ، وَالِاثْنَانِ فِي هَذَا الْبَابِ مُلْحَقٌ بِالْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَهُنَاكَ أُلْحِقَ الِاثْنَتَانِ بِالثَّلَاثِ فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ كَذَا هَذَا وَلَوْ كَانَ لِفُلَانٍ ابْنٌ وَاحِدٌ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثُّلُثَ لِلْبَنِينَ، وَالْوَاحِدُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَنِينَ لُغَةً، وَلَا لَهُ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ، وَالْمِيرَاثِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْكُلَّ، وَإِنَّمَا صُرِفَ إلَيْهِ نِصْفُ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ كَمَالَ الثُّلُثِ فِي هَذَا الْبَابِ اثْنَانِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ آخَرُ لَصُرِفَ إلَيْهِمَا كَمَالُ الثُّلُثِ، فَإِذَا كَانَ، وَحْدَهُ يُصْرَفُ إلَيْهِ نِصْفُ الثُّلُثِ. وَلَوْ قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِابْنَيْ فُلَانٍ عَمْرٍو وَحَمَّادٍ، فَإِذَا لَيْسَ لَهُ إلَّا عَمْرٌو كَانَ جَمِيعُ الثُّلُثِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ عَمْرًا، وَحَمَّادًا بَدَلَيْنِ عَنْ قَوْلِهِ ابْنِي فُلَانٍ، كَمَا يُقَالُ: جَاءَنِي أَخُوكَ عَمْرٌو، وَالْبَدَلُ عِنْدَ أَهْلِ النَّحْوِ: هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَالْأَخْذُ بِالثَّانِي، فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الثَّانِي، وَالْأَوَّلُ يَلْغُو، كَمَا إذَا قُلْتَ: جَاءَنِي أَخُوكَ زَيْدٌ يَصِيرُ كَأَنَّكَ قُلْتَ جَاءَنِي زَيْدٌ، وَاعْتَمَدْتَ عَلَيْهِ، وَأَعْرَضْتَ

عَنْ قَوْلِكَ: أَخُوكَ إلَى هَذَا ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ مِنْ النَّحْوِيِّينَ وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ الْمُوصِي مُعْتَمِدًا عَلَى قَوْلِهِ: عَمْرٍو، وَحَمَّادٍ، مُعْرِضًا عَنْ قَوْلِهِ: ابْنَيْ فُلَانٍ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِعَمْرٍو، وَحَمَّادٍ، وَحَمَّادٌ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَصَرَفَ كُلَّ الثُّلُثِ إلَى عَمْرٍ وَكَذَا هَهُنَا، وَالْإِشْكَالُ عَلَى هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: عَمْرٍو، وَحَمَّادٍ، كَمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ قَوْلِهِ: ابْنِي فُلَانٍ، يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي عَطْفِ الْبَيَانِ: الْمَذْكُورُ أَوَّلًا، وَالثَّانِي يُذْكَرُ لِإِزَالَةِ الْجَهَالَةِ عَنْ الْأَوَّلِ، كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ جَاءَنِي أَخُوكَ زَيْدٌ إذَا كَانَ فِي إخْوَتِهِ كَثْرَةٌ - كَانَ زَيْدٌ مَذْكُورًا بِطَرِيقِ عَطْفِ الْبَيَانِ لِإِزَالَةِ الْجَهَالَةِ الْمُتَمَكَّنَةِ فِي قَوْلِهِ: أَخُوكَ لِكَثْرَةِ الْإِخْوَةِ بِمَنْزِلَةِ النَّعْتِ، وَإِذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: ابْنَيْ فُلَانٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِفُلَانٍ إلَّا ابْنٌ، وَاحِدٌ، وَهُوَ عَمْرٌو، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ إلَّا نِصْفُ الثُّلُثِ، وَالْجَوَابُ: نَعَمْ، هَذَا الْكَلَامُ يَصْلُحُ لَهُمَا جَمِيعًا لَكِنَّ الْحَمْلَ عَلَى مَا قُلْنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ تَصْحِيحَ جَمِيعِ تَصَرُّفِهِ، وَهُوَ تَمْلِيكُهُ جَمِيعَ الثُّلُثِ، وَأَنَّهُ أَوْصَى بِتَمْلِيكِ جَمِيعِ الثُّلُثِ، وَفِي الْحَمْلِ عَلَى عَطْفِ الْبَيَانِ: إثْبَاتُ تَمْلِيكِ النِّصْفِ، فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ عَطْفِ الْبَيَانِ: أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مَعْلُومًا، كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ جَاءَنِي أَخُوكَ زَيْدٌ كَانَ زَيْدٌ مَعْلُومًا، فَزَالَ بِهِ وَصْفُ الْجَهَالَةِ الْمُعْتَرَضَةِ فِي قَوْلِهِ: أَخُوكَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْإِخْوَةِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا: الثَّانِي غَيْرُ مَعْلُومٍ؛ لِأَنَّ اسْمَ حَمَّادٍ لَيْسَ لَهُ مُسَمًّى مَوْجُودٌ لَهُ لِيَكُونَ مَعْلُومًا، فَيَحْصُلُ بِهِ بِإِزَالَةِ الْجَهَالَةِ فَتَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى عَطْفِ الْبَيَانِ فَيُجْعَلَ بَدَلًا لِلضَّرُورَةِ. (وَلَوْ) قَالَ: أَوْصَيْتُ لِبَنِي فُلَانٍ وَهُمْ خَمْسَةٌ وَلِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ بِثُلُثِ مَالِي، فَإِذَا بَنُو فُلَانٍ ثَلَاثَةٌ فَإِنَّ لِبَنِي فُلَانٍ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الثُّلُثِ، وَلِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ رُبْعَ الثُّلُثِ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ، وَهُمْ خَمْسَةٌ لَغْوٌ إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً فَبَقِيَ قَوْلُهُ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِبَنِي فُلَانٍ، وَلِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ، فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا لِحُصُولِ الْوَصِيَّةِ لِأَرْبَعَةٍ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا؛ لِاسْتِوَاءِ كُلِّ سَهْمٍ فِيهَا. (وَلَوْ) قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ لِبَنِي فُلَانٍ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ بِثُلُثِ مَالِي، فَإِذَا بَنُو فُلَانٍ خَمْسَةٌ - فَالثُّلُثُ لِثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِبَنِي فُلَانٍ اسْمٌ عَامٌّ، وَقَوْلَهُ: وَهُمْ ثَلَاثَةٌ تَخْصِيصٌ أَيْ: أَوْصَيْتُ لِثَلَاثَةٍ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، فَصَحَّ الْإِيصَاءُ لِثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مَحْصُورَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَهَا مُمْكِنٌ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِأَوْلَادِ فُلَانٍ. وَكَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ لَا يَدْرِي كَمْ يَكُونُ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي؟ بِخِلَافِ مَا أَوْصَى لِوَاحِدٍ مِنْ عَرَضِ النَّاسِ حَيْثُ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْجَهَالَةَ غَيْرُ مُسْتَدْرَكَةٍ. وَكَذَا لَوْ أَوْصَى لِقَبِيلَةٍ لَا يُحْصَوْنَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا، وَالْخِيَارُ فِي تَعْيِينِ الثَّلَاثَةِ مِنْ بَنِيهِ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ، وَالْبَيَانُ كَانَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُبْهَمُ، فَلَمَّا مَاتَ عَجَزَ عَنْ الْبَيَانِ بِنَفْسِهِ، فَقَامَ مَنْ يَخْلُفُهُ مَقَامَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِمَوَالِيهِ حَيْثُ لَمْ تَصِحَّ، وَلَمْ تَقُمْ الْوَرَثَةُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ تَخَلَّفَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْوَصِيَّةِ، وَلَا يَقِفُ عَلَى مَقْصُودِ الْمُوصِي أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ زِيَادَةً فِي الْإِنْعَامِ أَوْ الشُّكْرِ أَوْ مُجَازَاةَ أَحَدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ، فَلَا يُمْكِنُهُمْ التَّعْيِينُ، وَهَهُنَا الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ، وَاسْتَشْهَدَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِصِحَّةِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ فَقَالَ: أَلَا يُرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِبَنِي فُلَانٍ، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ: فُلَانٌ،، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ، فَإِذَا بَنُو فُلَانٍ غَيْرُ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ - إنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ لِمَنْ سَمَّى؛ لِأَنَّهُ خَصَّ الْبَعْضَ فَكَذَا هَهُنَا. أَوْضَحَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَوَازَ تَخْصِيصِ ثَلَاثَةٍ مَجْهُولِينَ بِعِلْمِهِ لِجَوَازِ تَخْصِيصِ ثَلَاثَةٍ مُعَيَّنِينَ، وَأَنَّهُ إيضَاحٌ صَحِيحٌ، وَلَوْ قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِبَنِي فُلَانٍ، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ، وَلِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ، فَإِذَا بَنُو فُلَانٍ خَمْسَةٌ - فَلِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ رُبْعُ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ صَحِيحٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ فَصَارَ مُوصِيًا بِثُلُثِ مَالِهِ لِثَلَاثَةٍ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، وَلِفُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ، فَكَانَ فُلَانٌ رَابِعَهُمْ، فَكَانَ لَهُ رُبْعُ الثُّلُثِ، وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِثَلَاثَةٍ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِائَةٍ، وَلِرَجُلٍ آخَرَ بِمِائَةٍ ثُمَّ قَالَ لِآخَرَ: قَدْ أَشْرَكْتُكَ مَعَهُمَا فَلَهُ ثُلُثُ كُلِّ مِائَةٍ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي التَّسَاوِيَ، وَقَدْ أَضَافَهَا إلَيْهِمَا فَيَقْتَضِي أَنْ يَسْتَوِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ إلَّا بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثَا الْمِائَةِ فَتَحْصُلُ الْمُسَاوَاةُ، وَإِنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَرْبَعِمِائَةٍ، وَلِآخَرَ بِمِائَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لِآخَرَ: قَدْ أَشْرَكْتُكَ مَعَهُمَا فَلَهُ نِصْفُ مَا أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ تَحْقِيقَ الْمُشَارَكَةِ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْجُمْلَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِاخْتِلَافِ الْأَنْصِبَاءِ، فَيَتَحَقَّقُ التَّسَاوِي عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ تَحْقِيقًا لِمُقْتَضَى الشَّرِكَةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ (وَكَذَا) لَوْ أَوْصَى لِاثْنَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ جَارِيَةٌ ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهِمَا ثَالِثًا كَانَ لَهُ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا؟ لِمَا ذَكَرْنَا

أَنَّ إثْبَاتَ الِاسْتِوَاءِ عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ غَيْرُ مُمْكِنٌ. (وَلَوْ قَالَ:) سُدُسُ مَالِي لِفُلَانٍ، ثُمَّ قَالَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ: ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ، فَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ - فَلَهُ ثُلُثُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُوصِي أَثْبَتَ الثُّلُثَ، فَثَبَتَ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ السُّدُسَ، فَثَبَتَ الْمُتَضَمَّنُ بِهِ بِثُبُوتِ الْمُتَضَمِّنِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَعَادَ الْأَوَّلَ زِيَادَةً. وَلَوْ قَالَ: سُدُسُ مَالِي لِفُلَانٍ وَصِيَّةً سُدُسُ مَالِي لِفُلَانٍ - فَإِنَّمَا هُوَ سُدُسٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إذَا كُرِّرَتْ كَانَ الْمُرَادُ بِالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، وَالسُّدُسُ هَهُنَا ذُكِرَ مَعْرِفَةً لِإِضَافَتِهِ إلَى الْمَالِ الْمَعْرُوفِ بِالْإِضَافَةِ إلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا أَوْصَى بِخَاتَمٍ لِفُلَانٍ وَبِفَصِّهِ لِفُلَانٍ آخَرَ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو: إمَّا إنْ كَانَتْ الْوَصِيَّتَانِ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ مُتَّصِلٍ، وَإِمَّا إنْ كَانَتَا فِي كَلَامٍ مُنْفَصِلٍ، فَإِنْ كَانَتَا فِي كَلَامٍ مُنْفَصِلٍ - فَالْحَلْقَةُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخَاتَمِ، وَالْفَصُّ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْفَصِّ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَتَا فِي كَلَامٍ مُنْفَصِلٍ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقِيلَ: إنَّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى أَيْضًا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْحَلْقَةُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخَاتَمِ، وَالْفَصُّ بَيْنَهُمَا (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخَاتَمِ تَتَنَاوَلُ الْحَلْقَةَ، وَالْفَصَّ، وَبِالْوَصِيَّةِ لِآخَرَ بِالْفَصِّ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ الْفَصَّ لَمْ يَدْخُلْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَقِيَ الْفَصُّ دَاخِلًا فِي الْوَصِيَّةِ بِالْخَاتَمِ، وَإِذَا أَوْصَى بِالْفَصِّ لِآخَرَ فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي الْفَصِّ وَصِيَّتَانِ، فَيَشْتَرِكَانِ فِيهِ، وَيُسَلِّمُ الْحَلْقَةَ لِلْأَوَّلِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنَّ اسْمَ الْخَاتَمِ يَتَنَاوَلُ الْفَصَّ الَّذِي فِيهِ، إمَّا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَاتَمِ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ، وَإِمَّا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لَكِنْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَإِذَا أَفْرَدَ الْبَعْضَ بِالْوَصِيَّةِ لِآخَرَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ حَيْثُ جَعَلَهُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَوْ مَقْصُودًا بِالْوَصِيَّةِ - فَبَطَلَتْ التَّبَعِيَّةُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ نَصًّا فَوْقَ الثَّابِتِ ضِمْنًا، وَتَبَعًا. وَالْأَصْلُ فِي الْوَصَايَا أَنْ يُقَدَّمَ الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِإِنْسَانٍ، وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ إنَّ الرَّقَبَةَ تَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ الْأَوَّلِ، وَالْخِدْمَةَ لِلْمُوصَى لَهُ الثَّانِي؟ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ نَظِيرَ اللَّفْظِ الْعَامِّ، إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ التَّخْصِيصُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ بِحُرُوفِهِ، فَيَصِيرُ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، وَهَهُنَا كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَاتَمِ لَا يَصِيرُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بِذِكْرِ الْخَاتَمِ. أَلَا يَرَى أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَاتَمِ لَا يُسَمَّى خَاتَمًا كَمَا لَا يُسَمَّى كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْإِنْسَانِ إنْسَانًا، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا نَظِيرَ اللَّفْظِ الْعَامِّ، فَلَا يَسْتَقِيمُ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ مَعَ مَا أَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ فِي الْعَامِّ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ، وَمُنْفَصِلٍ، وَالْبَيَانُ الْمُتَأَخِّرُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لَا مَحَالَةَ بَلْ قَدْ يَكُونُ نَسْخًا، وَقَدْ يَكُونُ تَخْصِيصًا عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخَاتَمِ، وَإِنْ تَنَاوَلَتْ الْحَلْقَةَ، وَالْفَصَّ لَكِنَّهُ لَمَّا أَوْصَى بِالْفَصِّ لِآخَرَ فَقَدْ رَجَعَ عَنْ وَصِيَّتِهِ بِالْفَصِّ لِلْأَوَّلِ، وَالْوَصِيَّةُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ مَا دَامَ الْمُوصِي حَيًّا فَتَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ. أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ عَنْ كُلِّ مَا أَوْصَى بِهِ فَفِي الْبَعْضِ أَوْلَى، فَيُجْعَلُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ بِالْفَصِّ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخَاتَمِ. وَعَلَى هَذَا إذَا أَوْصَى بِهَذِهِ الْأَمَةِ لِفُلَانٍ، وَبِمَا فِي بَطْنِهَا لِآخَرَ أَوْ أَوْصَى بِهَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ، وَبِبِنَائِهَا لِآخَرَ أَوْ أَوْصَى بِهَذِهِ الْقَوْصَرَّةِ لِفُلَانٍ، وَبِالثَّمَرِ الَّذِي فِيهَا لِآخَرَ إنَّهُ إنْ كَانَ مَوْصُولًا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ مَفْصُولًا، فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَلَوْ أَوْصَى بِهَذَا الْعَبْدِ لِفُلَانٍ، وَبِخِدْمَتِهِ لِفُلَانٍ آخَرَ، أَوْ أَوْصَى بِهَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ، وَبِسُكْنَاهَا لِآخَرَ، وَبِهَذِهِ الشَّجَرَةِ لِفُلَانٍ، وَثَمَرَتِهَا لِآخَرَ أَوْ بِهَذِهِ الشَّاةِ لِفُلَانٍ، وَبِصُوفِهَا لِآخَرَ - فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا سَمَّى لَهُ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ كَانَ مَوْصُولًا أَوْ مَفْصُولًا؛ لِأَنَّ اسْمَ الْعَبْدِ لَا يَتَنَاوَلُ الْخِدْمَةَ. وَاسْمَ الدَّارِ لَا يَتَنَاوَلُ السُّكْنَى، وَاسْمَ الشَّجَرَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الثَّمَرَةَ لَا بِطَرِيقِ الْعُمُومِ، وَلَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنْ أَجْزَاءِ الْعَيْنِ إلَّا أَنَّ الْحُكْمَ مَتَى ثَبَتَ فِي الْعَيْنِ ثَبَتَ فِيهَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لَكِنْ إذَا لَمْ يُفْرَدْ التَّبَعُ بِالْوَصِيَّةِ، فَإِذَا أُفْرِدَتْ صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْوَصِيَّةِ، فَلَمْ تَبْقَ تَابِعَةً، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ أَوْ تُجْعَلُ الْوَصِيَّةُ الثَّابِتَةُ رُجُوعًا عَنْ الْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ، وَالسُّكْنَى، وَالثَّمَرَةِ، وَالْوَصِيَّةُ تَقْبَلُ الرُّجُوعَ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ حُجَّةُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَلَوْ ابْتَدَأَ بِالتَّبَعِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ ثُمَّ بِالْأَصْلِ بِأَنْ أَوْصَى بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ لِفُلَانٍ ثُمَّ بِالْعَبْدِ لِآخَرَ أَوْ أَوْصَى بِسُكْنَى هَذِهِ الدَّارِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ بِالدَّارِ لِآخَرَ، أَوْ بِالثَّمَرَةِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ بِالشَّجَرَةِ لِآخَرَ، فَإِذَا ذُكِرَ مَوْصُولًا - فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ، وَإِنْ ذُكِرَ مَفْصُولًا - فَالْأَصْلُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْأَصْلِ، وَالتَّبَعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ الثَّابِتَةَ

تَنَاوَلَتْ الْأَصْلَ، وَالتَّبَعَ جَمِيعًا، فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي التَّبَعِ وَصِيَّتَانِ، فَيَشْتَرِكَانِ فِيهِ، وَيُسَلِّمُ الْأَصْلَ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ، وَهَذَا حُجَّةُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ أَوْصَى بِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ ثُمَّ أَوْصَى لَهُ بِالْعَبْدِ بَعْد مَا أَوْصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ، أَوْ أَوْصَى بِخَاتَمِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ أَوْصَى بِفَصِّهِ لِآخَرَ ثُمَّ أَوْصَى لَهُ بِالْخَاتَمِ بَعْد مَا أَوْصَى لَهُ بِالْفَصِّ أَوْ أَوْصَى بِجَارِيَتِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ أَوْصَى بِوَلَدِهَا لِآخَرَ ثُمَّ أَوْصَى لَهُ بِالْجَارِيَةِ بَعْد مَا أَوْصَى لَهُ بِوَلَدِهَا - فَالْأَصْلُ، وَالتَّبَعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ: نِصْفُ الْعَبْدِ لِهَذَا، وَنِصْفُهُ لِلْآخَرِ، وَلِهَذَا نِصْفُ خِدْمَتِهِ، وَلِلْآخَرِ نِصْفُ خِدْمَتِهِ، وَكَذَا فِي الْجَارِيَةِ مَعَ وَلَدِهَا، وَالْخَاتَمِ مَعَ الْفَصِّ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا بِالْأَصْلِ وَصِيَّةٌ بِالتَّبَعِ، وَيَبْطُلُ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ بِالتَّبَعِ بِانْفِرَادِهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ بِالْأَصْلِ، وَالتَّبَعِ نَصًّا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاشْتَرَكَا فِي الْأَصْلِ، وَالتَّبَعِ كَذَا هَذَا، فَإِنْ كَانَ أَوْصَى لِلثَّانِي بِنِصْفِ الْعَبْدِ يُقْسَمُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا. وَكَانَ لِلثَّانِي نِصْفُ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْصَى لَهُ بِنِصْفِ الْعَبْدِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ فِي خِدْمَةِ ذَلِكَ النِّصْفِ لِدُخُولِهَا تَحْتَ الْوَصِيَّةِ بِنِصْفِ الْعَبْدِ، وَبَقِيَتْ وَصِيَّتُهُ بِالْخِدْمَةِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَجَعَ عَنْ هَذَا. وَقَالَ: إذَا أَوْصَى بِالْعَبْدِ لِرَجُلٍ، وَأَوْصَى بِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ ثُمَّ أَوْصَى بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ أَيْضًا لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ بَيْنَهُمَا، وَالْخِدْمَةَ كُلَّهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ لِإِفْرَادِهِ بِالْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ، فَوَقَعَ صَحِيحًا، فَلَا تَبْطُلُ بِالْوَصِيَّةِ بِالرَّقَبَةِ، فَصَارَ الْمُوصَى لَهُ الثَّانِي مُوصًى لَهُ بِالرَّقَبَةِ، وَالْخِدْمَةُ عَلَى الِانْفِرَادِ، فَيَسْتَحِقُّ نِصْفَ الرَّقَبَةِ لِمُسَاوَاتِهِ صَاحِبَهُ فِي الْوَصِيَّةِ بِهَا، وَيَنْفَرِدُ بِالْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ. وَقَالَ: لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَأَوْصَى لِآخَرَ بِمَا فِي بَطْنِهَا، وَأَوْصَى بِهَا أَيْضًا لِلَّذِي أَوْصَى لَهُ بِمَا فِي الْبَطْنِ، فَالْأَمَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَالْوَلَدُ كُلُّهُ لِلَّذِي أَوْصَى لَهُ بِهِ خَاصَّةً لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ صَاحِبُهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي اسْتِحْقَاقِ الرَّقَبَةِ، وَانْفَرَدَ صَاحِبُ الْوَلَدِ بِالْوَصِيَّةِ بِهِ خَاصَّةً. وَلَوْ أَوْصَى بِالدَّارِ لِرَجُلٍ وَأَوْصَى بِبَيْتٍ فِيهَا بِعَيْنِهِ لِآخَرَ، فَإِنَّ الْبَيْتَ بَيْنَهُمَا بِالْحِصَصِ. وَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا لِرَجُلٍ، وَأَوْصَى بِمِائَةٍ مِنْهَا لِآخَرَ كَانَ تِسْعُمِائَةٍ لِصَاحِبِ الْأَلْفِ، وَالْمِائَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ يَتَنَاوَلُ الْبُيُوتَ الَّتِي فِيهَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ. وَكَذَا اسْمُ الْأَلْفِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مِائَةٍ مِنْهَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ،. وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلًا فِي كَوْنِهِ مُوصًى بِهِ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَى طَرِيقِ الْمُضَارَبَةِ، فَيُقَسَّمُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ: لِصَاحِبِ الْمِائَةِ جُزْءٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ فِي الْمِائَةِ، وَلِصَاحِبِ الْأَلْفِ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ فِي جَمِيعِ الْأَلْفِ. وَكَذَلِكَ الدَّارُ، وَالْبَيْتُ. وَلَوْ أَوْصَى بِبَيْتٍ بِعَيْنِهِ لِرَجُلٍ، وَسَاحَتِهِ لِآخَرَ كَانَ الْبِنَاءُ بَيْنَهُمَا بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ لَا يُسَمَّى بَيْتًا بِدُونِ الْبِنَاءِ، فَكَانَتْ وَصِيَّةُ الْأَوَّلِ مُتَنَاوِلَةً لِلْبِنَاءِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، فَيُشَارِك الْمُوصَى لَهُ بِالسَّاحَةِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِدَارٍ لِإِنْسَانٍ، وَبِبِنَائِهَا لِآخَرَ أَنَّهُمَا لَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْبِنَاءِ بَلْ تَكُونُ الْعَرْصَةُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالدَّارِ، وَالْبِنَاءُ لِآخَرَ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لَا يَتَنَاوَلُ الْبِنَاءَ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ بَلْ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ؛ إذْ الدَّارُ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ فِي اللُّغَةِ، وَالْبِنَاءُ فِيهَا تَبَعٌ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُسَمَّى دَارًا بَعْدَ زَوَالِ الْبِنَاءِ، فَكَانَ دُخُولُ الْبِنَاءِ فِي الْوَصِيَّةِ بِالدَّارِ مِنْ طَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، فَكَانَتْ الْعَرْصَةُ لِلْأَوَّلِ، وَالْبِنَاءُ لِلثَّانِي، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) . الرُّجُوعُ الثَّابِتُ مِنْ طَرِيق الضَّرُورَةِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَّصِلَ بِالْعَيْنِ الْمُوصَى بِهِ زِيَادَةٌ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ بِدُونِهَا، كَمَا إذَا أَوْصَى بِسَوِيقٍ ثُمَّ لَتَّهُ بِالسَّمْنِ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى بِهِ اتَّصَلَ بِمَا لَيْسَ بِمُوصًى بِهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ بِدُونِهِ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا، فَثَبَتَ الرُّجُوعُ ضَرُورَةً. وَكَذَا إذَا وَصَّى بِدَارٍ ثُمَّ بَنَى فِيهَا أَوْ أَوْصَى بِقُطْنٍ ثُمَّ حَشَاهُ جُبَّةً فِيهِ أَوْ أَوْصَى بِبِطَانَةٍ، ثُمَّ بَطَّنَ بِهَا أَوْ بِظَهَارَةٍ، ثُمَّ ظَهَّرَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْمُوصَى بِهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ مَا اتَّصَلَ بِهِ، وَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِالنَّقْضِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى التَّكْلِيفِ بِالنَّقْضِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، فَجُعِلَ رُجُوعًا مِنْ طَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَيُمْكِنُ إثْبَاتُ الرُّجُوعِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ الْمُوصَى بِهِ بِغَيْرِهِ حَصَلَ بِصُنْعِ الْمُوصِي، فَكَانَ تَعَدُّدُ التَّسْلِيمِ مُضَافًا إلَى فِعْلِهِ، وَكَانَ رُجُوعًا مِنْهُ دَلَالَةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَغَيَّرَ الْمُوصَى بِهِ بِحَيْثُ يَزُولُ مَعْنَاهُ، وَاسْمُهُ سَوَاءٌ كَانَ التَّغْيِيرُ إلَى الزِّيَادَةِ أَوْ إلَى النُّقْصَانِ، كَمَا إذَا أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِثَمَرِ هَذَا النَّخْلِ ثُمَّ لَمْ يَمُتْ الْمُوصِي حَتَّى صَارَ بُسْرًا أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهَذَا الْبُسْرِ ثُمَّ صَارَ رُطَبًا أَوْ أَوْصَى بِهَذَا الْعِنَبِ، فَصَارَ زَبِيبًا، أَوْ بِهَذَا السُّنْبُلِ، فَصَارَ حِنْطَةً، أَوْ بِهَذَا الْقَصِيلِ، فَصَارَ شَعِيرًا أَوْ بِالْحِنْطَةِ الْمَبْذُورَةِ فِي

فصل في حكم الوصية

الْأَرْضِ، فَنَبَتَتْ وَصَارَتْ بَقْلًا أَوْ بِالْبَيْضَةِ، فَصَارَتْ فَرْخًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فِيمَا أَوْصَى بِهِ، فَيَثْبُتُ الرُّجُوعُ ضَرُورَةً هَذَا إذَا تَغَيَّرَ الْمُوصَى بِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّهُ صَارَ شَيْئًا آخَرَ لِزَوَالِ مَعْنَاهُ، وَاسْمِهِ، فَتَعَذَّرَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِيمَا أَوْصَى بِهِ. وَأَمَّا إذَا تَغَيَّرَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَحُكْمُهُ يُذْكَرُ فِي بَيَانِ مَا تَبْطُلُ بِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى، وَلَوْ أَوْصَى بِرُطَبِ هَذَا النَّخْلِ، فَصَارَ بُسْرًا فَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ لِتَغَيُّرِ الْمُوصَى بِهِ، وَهُوَ الرُّطَبُ مِنْ الرُّطُوبَةِ إلَى الْيُبُوسَةِ. وَزَوَالِ اسْمِهِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الذَّاتِ لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ بَقِيَ مِنْ وَجْهٍ. أَلَا يَرَى أَنَّ غَاصِبًا لَوْ غَصَبَ رُطَبَ إنْسَانٍ، فَصَارَ تَمْرًا فِي يَدِهِ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ بَلْ يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ تَمْرًا، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ رُطَبًا مِثْلَ رُطَبِهِ. [فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ فَالْوَصِيَّةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: وَصِيَّةٌ بِالْمَالِ، وَوَصِيَّةٌ بِفِعْلٍ مُتَعَلِّقٍ بِالْمَالِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمَالِ، أَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْمَالِ فَحُكْمُهَا ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْمَالِ الْمُوصَى بِهِ لِلْمُوصَى لَهُ. وَالْمَالُ قَدْ يَكُونُ عَيْنًا، وَقَدْ يَكُونُ مَنْفَعَةً، وَيَتَعَلَّقُ بِالْمِلْكِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحْكَامٌ أَمَّا مِلْكُ الْعَيْنِ فَحُكْمُ مُطْلَقِ مِلْكِهِ، وَحُكْمُ سَائِرِ الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ بِالْأَسْبَابِ الْمَوْضُوعَةِ لَهَا سَوَاءٌ كَالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَنَحْوِهَا، فَيَمْلِكُ الْمُوصَى لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهَا بِالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهَا، وَالتَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِهِ بَيْعًا، وَهِبَةً، وَوَصِيَّةً؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ بِسَبَبٍ مُطْلَقٍ، فَيَظْهَر فِي الْأَحْكَامِ كُلِّهَا، وَيَظْهَرُ فِي الزَّوَائِدِ الْمُتَّصِلَةِ أَوْ الْمُنْفَصِلَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي سَوَاءٌ حَدَثَتْ بَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ أَوْ قَبْلَ قَبُولِهِ بِأَنْ حَدَثَتْ ثَمَّ قَبِلَ الْوَصِيَّةَ، أَمَّا بَعْدَ الْقَبُولِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهَا حَدَثَتْ بَعْدَ مِلْكِ الْأَصْلِ، وَمِلْكُ الْأَصْلِ مُوجِبٌ مِلْكَ الزِّيَادَةِ. (وَأَمَّا) قَبْلَ الْقَبُولِ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ بَعْدَ الْقَبُولِ ثَبَتَ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ صَارَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْأَصْلِ وَقْتَ الْمَوْتِ لِكَوْنِهِ مُضَافًا إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، فَصَارَ سَبَبًا عِنْدَ الْمَوْتِ، فَإِذَا قُبِلَ ثَبَتَ الْمِلْكُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِوُجُودِ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَالْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي إذَا وَلَدَتْ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ثُمَّ أَجَازَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ إنَّهُ يَمْلِكُ الْوَلَدَ؛ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا. وَكَانَتْ الزَّوَائِدُ مُوصًى بِهَا حَتَّى يُعْتَبَرَ خُرُوجُهَا مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا بِوَاسِطَةِ مِلْكِ الْأَصْلِ مُضَافٌ إلَى كَلَامٍ سَابِقٍ كَأَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهَلْ يَكُونُ مُوصًى بِهَا بَعْدَ الْقَبُولِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ؟ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْأَصْلِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكُونُ حَتَّى لَا يُعْتَبَرَ فِيهَا الثُّلُثُ. وَيَكُونُ فِي جَمِيعِ الْمَالِ كَمَا لَوْ حَدَثَتْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهَا حَدَثَتْ بَعْدَ مِلْكِ الْأَصْلِ. وَقَالَ عَامَّتُهُمْ: يَكُونُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْأَصْلِ، وَإِنْ ثَبَتَ لَكِنَّهُ لَمْ يَتَأَكَّدْ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ ثُلُثُ التَّرِكَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ بِحَيْثُ لَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ كَانَتْ لَهُ الْجَارِيَةُ بِقَدْرِ ثُلُثِ الْبَاقِي، وَيَسْتَوِي فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الْأَصْلِ أَوْ فِي مَعْنَى الْمُتَوَلِّدَةِ كَالْوَلَدِ، وَالْأَرْشِ، وَالْعُقْرِ وَمَا لَمْ يَكُنْ مُتَوَلِّدًا مِنْ الْأَصْلِ رَأْسًا كَالْكَسْبِ. وَالْغَلَّةِ فَرْقًا بَيْنَ الْوَصِيَّةِ، وَبَيْنَ الْبَيْعِ حَيْثُ أَلْحَقَ الْكَسْبَ، وَالْغَلَّةَ بِالْمُتَوَلَّدِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَلَمْ يُلْحِقْهُمَا فِي الْبَيْعِ، وَالْفَرْقُ: أَنَّ الْكَسْبَ، وَالْغَلَّةَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَنْفَعَةُ تُمَلَّكُ بِالْوَصِيَّةِ مَقْصُودًا كَذَا بَدَلُهَا، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ثُمَّ إذَا صَارَتْ الزَّوَائِدُ مُوصًى بِهَا حَتَّى يُعْتَبَرَ خُرُوجُهَا مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ مَعَ الزِّيَادَةِ يَخْرُجَانِ مِنْ الثُّلُثِ يُعْطَيَانِ لِلْمُوصَى لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجَانِ جَمِيعًا مِنْ الثُّلُثِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُعْطَى لِلْمُوصَى لَهُ الْجَارِيَةَ أَوَّلًا مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ يُعْطَى مِنْ الزِّيَادَةِ بِقَدْرِ مَا فَضَلَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يُعْطَى الثُّلُثَ مِنْهُمَا جَمِيعًا بِقَدْرِ الْحِصَصِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الزِّيَادَةَ إنْ صَارَتْ مُوصًى بِهَا صَارَتْ كَالْمَوْجُودَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَيُعْطَى الثُّلُثَ مِنْهُمَا جَمِيعًا. أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ: أَنَّ فِيهِ تَغْيِيرَ حُكْمِ الْعَقْدِ فِي الْأَصْلِ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ لَكِنَّ هَذَا جَائِزٌ، كَمَا فِي الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَنَّ الْقَوْلَ بِانْقِسَامِ الثُّلُثِ عَلَى الْأَصْلِ، وَالزِّيَادَةِ إضْرَارٌ بِالْمُوصَى لَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، بَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ حُكْمَ الْوَصِيَّةِ فِي الْأَصْلِ قَبْلَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ كَانَ سَلَامَةَ كُلِّ الْجَارِيَةِ لِلْمُوصَى لَهُ، وَبَعْدَ الِانْقِسَامِ لَا تَسْلَمُ الْجَارِيَةُ لَهُ بَلْ تَصِيرُ مُشْتَرَكَةً، وَالشَّرِكَةُ فِي الْأَعْيَانِ عَيْبٌ خُصُوصًا فِي الْجَوَارِي، فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُوصَى لَهُ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إلْحَاقِ هَذَا الضَّرَرِ لِإِمْكَانِ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ فِي الْأَصْلِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ، فَإِنَّ هُنَاكَ ضَرُورَةً لِتَعَذُّرِ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ فِي الْأَصْلِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّمْيِيزِ، فَمَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى التَّنْفِيذِ فِيهِمَا مِنْ الثُّلُثِ. وَأَمَّا الزَّوَائِدُ الْحَادِثَةُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَلَا يَمْلِكُهَا الْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّهَا حَدَثَتْ قَبْلَ

مِلْكِ الْأَصْلِ، وَقَبْلَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ إنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا عِنْدَ الْمَوْتِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُوصِي مَلَكَهَا الْوَرَثَةُ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ بِالْوَصِيَّةِ الْمُضَافَةِ إلَيْهَا مَقْصُودًا، فَيَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَنَذْكُرُهَا، فَنَقُولُ -، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: إنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَنْفَعَةِ ثَبَتَ مُوَقَّتًا لَا مُطْلَقًا، فَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ مُؤَقَّتَةً إلَى مُدَّةٍ تَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَيَعُودُ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ إلَى الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ إنْ كَانَ قَدْ أَوْصَى بِالرَّقَبَةِ إلَى إنْسَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَعُودُ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي، وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً تَثْبُتُ إلَى وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ إنْ كَانَ هُنَاكَ مُوصًى لَهُ بِالرَّقَبَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي وَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ، وَالسُّكْنَى أَنْ يُؤَاجِرَ الْعَبْدَ أَوْ الدَّارَ مِنْ غَيْرِهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَهُ ذَلِكَ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ قَدْ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ كَالْمُسْتَأْجِرِ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْ غَيْرِهِ كَذَا هَذَا، وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْإِعَارَةَ كَذَا الْإِجَارَةُ (وَلَنَا) أَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّكْنَى، وَالْخِدْمَةِ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَلَا يُحْتَمَلُ التَّمْلِيكُ بِعِوَضٍ كَالْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْمُسْتَعِيرِ بِالْإِعَارَةِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْإِجَارَةَ كَذَا هَذَا أَوْ يَخْدِمَ الْعَبْدَ بِنَفْسِهِ. وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ الدَّارِ وَالْعَبْدِ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْكُنَ بِنَفْسِهِ أَوْ يَسْتَخْدِمَ الْعَبْدَ بِنَفْسِهِ هَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْأَصْلِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ: لَهُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ لَا بِالسُّكْنَى، وَالْخِدْمَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْعَبْدَ مِنْ الْكُوفَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْمُوصَى لَهُ فِي غَيْرِ الْكُوفَةِ، فَلَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ إلَى أَهْلِهِ لِيَخْدِمَهُ هُنَاكَ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخِدْمَةِ تَقَعُ عَلَى الْخِدْمَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُتْعَارَفَة، وَهِيَ الْخِدْمَةُ عِنْدَ أَهْلِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مَأْذُونًا فِيهِ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ حَقَّ الْحِفْظِ، وَالصِّيَانَةِ. وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ إذَا كَانَتْ الْخِدْمَةُ بِحَضْرَتِهِ، هَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ إلَى مَصِيرٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ يَخْدِمُ الْمُوصَى لَهُ يَوْمًا، وَالْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ، فَيَكُونُ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، فَلَا يَمْلِكُ إخْرَاجَهُ؛ لِمَا فِي الْإِخْرَاجِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْوَرَثَةِ. وَمَا وَهَبَ لِلْعَبْدِ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ اكْتَسَبَهُ - فَهُوَ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالُ الْعَبْدِ، وَالْعَبْدُ فِي الْحَقِيقَةِ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ، فَكَانَ كَسْبُهُ لَهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِبَائِعِهِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ» ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْعَبْدِ أَمَةٌ، فَوَلَدَتْ وَلَدًا - فَهُوَ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الرَّقَبَةِ، وَالرَّقَبَةُ لَهُ؛ وَلِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِخِدْمَةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَسْتَحِقُّ خِدْمَةَ شَخْصَيْنِ. وَنَفَقَةُ الْعَبْدِ الْعَبْدُ وَكِسْوَتُهُ عَلَى صَاحِبِ الْخِدْمَةِ إنْ كَانَ الْعَبْدُ كَبِيرًا؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ لَهُ، فَكَانَتْ النَّفَقَةُ، وَالْكِسْوَةُ عَلَيْهِ؛ إذْ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ، وَلِهَذَا كَانَتْ نَفَقَةُ الْعَبْدِ الْمُسْتَعَارِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ كَذَا هَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ الرَّهْنِ إنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى الرَّاهِنِ لَا عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ لِلرَّاهِنِ. أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ يَسْقُطُ عَنْهُ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِهِ، كَذَا لَهُ أَنْ يَفْتِكَهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ فَيَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ صَغِيرًا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، فَنَفَقَتُهُ عَلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ إلَى أَنْ يُدْرِكَ الْخِدْمَةَ. وَيَصِيرَ مِنْ أَهْلِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ لِلْحَالِ، وَمَنْفَعَةُ النَّمَاءِ، وَالزِّيَادَةِ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ، فَكَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْخِدْمَةَ فَإِذَا بَلَغَ، فَنَفَقَتُهُ عَلَى صَاحِبِ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَحْصُلُ لَهُ. وَعَلَى هَذَا إذَا أَوْصَى بِغَلَّةِ نَخْلٍ أُبِّرَ لِرَجُلٍ وَلِآخَرَ بِرَقَبَتِهِ وَلَمْ تُدْرِكْ، أَوْ لَمْ تَحْمِلْ - فَالنَّفَقَةُ فِي سَقْيِهَا، وَالْقِيَامُ عَلَيْهَا عَلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ، فَإِذَا أَثْمَرَتْ فَالنَّفَقَةُ عَلَى صَاحِبِ الْغَلَّةِ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تُدْرِكْ أَوْ لَمْ تَحْمِلْ، فَصَاحِبُ الْغَلَّةِ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا، فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا. وَكَانَتْ عَلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ لِإِصْلَاحِ مِلْكِهِ إلَى أَنْ تُثْمِرَ، فَإِذَا أَثْمَرَتْ فَقَدْ صَارَتْ مُنْتَفَعًا بِهَا فِي حَقِّ صَاحِبِ الْغَلَّةِ، فَكَانَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا، فَإِنْ حَمَلَتْ عَامًا وَاحِدًا ثُمَّ حَالَتْ وَلَمْ تَحْمِلْ شَيْئًا - فَالْقِيَاسُ: أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا فِي الْعَامِ الَّذِي حَالَتْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا فِيهِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا؛ لِأَنَّ بِانْعِدَامِ حَمْلِهَا عَامًا لَا تُعَدُّ مُنْقَطِعَةَ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْأَشْجَارِ مَا لَا يَحْمِلُ كُلَّ عَامٍ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ انْقِطَاعَ النَّفْعِ بَلْ يُعَدُّ نَفْعًا، وَنَمَاءً، كَذَا الْأَشْجَارُ وَلَا تُخْرِجُ إلَّا فِي بَعْضِ فُصُولِ السَّنَةِ. وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ انْقِطَاعَ النَّفْعِ بَلْ يُعَدُّ نَفْعًا، وَنَمَاءً حَتَّى كَانَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ، فَكَذَا هَذَا، فَإِنْ لَمْ يُنْفِقْ الْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ، وَأَنْفَقَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ عَلَيْهَا حَتَّى حَمَلَتْ فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي نَفَقَتَهُ مِنْ ذَلِكَ الْحَمْلِ، وَمَا يَبْقَى مِنْ الْحَمْلِ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ مُضْطَرًّا لِإِصْلَاحِ مِلْكِ نَفْسِهِ، وَدَفْعِ الْفَسَادِ عَنْ مَالِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا حَمَلَتْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَصَّلَ هَذِهِ الْفَائِدَةَ بِسَبَبِ نَفَقَتِهِ. وَلَوْ هَلَكَتْ الْغَلَّةُ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إلَى صَاحِبِ الْغَلَّةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ

عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُفْتَى بِهِ وَلَا يُقْضَى. وَلَوْ جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً فَالْفِدَاءُ عَلَى صَاحِبِ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الرَّقَبَةِ لَهُ، فَكَانَ الْفِدَاءُ عَلَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» ، وَصَارَ كَعَبْدِ الرَّهْنِ إذَا جَنَى جِنَايَةً إنَّ الْفِدَاءَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ بِحَبْسِهِ فِي دَيْنِهِ أَوْ يُقَالُ: إنَّ الْفِدَاءَ عَلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ مِنْ الرَّقَبَةِ حَقِيقَةً، وَالرَّقَبَةُ لَهُ، وَلَكِنْ يُقَالُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ: إنَّ حَقَّكَ يَفُوتُ لَوْ فَدَى صَاحِبُ الرَّقَبَةِ، أَوْ دَفَعَ، وَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تُحْيِيَ حَقَّكَ فَافْدِ، وَهَكَذَا يُقَالُ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْعَبْدِ الرَّهْنِ إذَا جَنَى؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ لِلرَّاهِنِ، فَإِذَا فَدَى صَاحِبُ الْخِدْمَةِ فَقَدْ طَهَّرَهُ عَنْ الْجِنَايَةِ، فَتَكُونُ الْخِدْمَةُ عَلَى حَالِهَا. وَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْدِيَ يُقَالُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ: ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ لَهُ، وَأَيَّ شَيْءٍ اخْتَارَهُ بَطَلَ حَقُّ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ فِي الْخِدْمَةِ، أَمَّا إذَا دَفَعَ، فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بَطَلَ مِلْكُ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ بِالدَّفْعِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْخِدْمَةَ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا أَفْدَى؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُشْتَرِي مِنْهُمْ الرَّقَبَةَ، فَيَتَجَدَّدُ الْمِلْكُ، وَيَبْطُلُ حُكْمُ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ فِيهِ، فَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ، وَقَدْ فَدَى قَبْلَ ذَلِكَ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ؛ لِمَا قُلْنَا: إنَّ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ بِالْوَصِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ مِلْكِ الْمُسْتَعِيرِ، وَالْعَارِيَّةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّ الْمُعِيرَ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ كَذَا هَهُنَا، وَيُقَالُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ: أَدِّ إلَى وَرَثَتِهِ الْفِدَاءَ الَّذِي فَدَى؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِدَاءَ كَانَ عَلَيْهِ لَا عَلَى صَاحِبِ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ ذَلِكَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ كُلَّ مَنْفَعَةِ الرَّقَبَةِ مَصْرُوفٌ إلَيْهِ، وَمَتَى ظَهَرَ أَنَّهُ مَصْرُوفٌ إلَى غَيْرِهِ ظَهَرَ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ تَحَمَّلَ عَنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ إحْيَاءً لِمِلْكِهِ، وَهُوَ مُضْطَرٌّ فِيهِ، فَرَجَعَ عَلَيْهِ (وَلَيْسَ) لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مَا لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِمْ مَا دَفَعَ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ مِنْ الْفِدَاءِ، فَإِنْ أَبَى صَاحِبُ الرَّقَبَةِ دَفْعَ ذَلِكَ الْفِدَاءِ إلَى وَرَثَةِ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ - بِيعَ الْعَبْدُ فِيهِ. وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ فِي عِتْقِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الدَّيْنَ وَجَبَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي رَقَبَتِهِ، فَصَارَ كَسَائِرِ الدُّيُونِ. وَلَوْ لَمْ يَجْنِ الْعَبْدُ وَلَكِنْ قَتَلَهُ رَجُلٌ خَطَأً - فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ قِيمَتُهُ يَشْتَرِي بِهَا عَبْدًا يَخْدِمُ صَاحِبَ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ كَالْعَبْدِ الرَّهْنِ إذَا قُتِلَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَغَرِمَ الْقَاتِلُ قِيمَتَهُ يَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ إذَا قُتِلَ، وَغَرِمَ الْقَاتِلُ الْقِيمَةَ إنَّهُ لَا يَشْتَرِي بِهَا عَبْدًا آخَرَ حَتَّى يَسْتَعْمِلَهُ الْمُسْتَأْجِرُ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ يَغْرَمُ الْقِيمَةَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَالدَّرَاهِمُ، وَالدَّنَانِيرُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْنَافُ عَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا، فَلَا يَبْقَى عَلَيْهَا الْعَقْدُ، فَتَبْطُلُ، وَيَجُوزُ اسْتِئْنَافُ عَقْدِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ، فَجَازَ أَنْ تَبْقَى عَلَيْهَا، فَيَشْتَرِي بِهَا عَبْدًا آخَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْأَوَّلِ (وَإِنْ) كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ إلَّا أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَى ذَلِكَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ وَصَاحِبُ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ مِلْكًا، وَلِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ حَقًّا يُشْبِهُ الْمِلْكَ، فَصَارَ كَعَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ قُتِلَ عَمْدًا إنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ كَذَا هَذَا، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ بِأَنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِصَاصَ وَلَمْ يَطْلُبْ الْآخَرُ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ، وَصَارَ مَالًا، فَصَارَ بِمَعْنَى الْخَطَأِ، فَيَشْتَرِي بِهِ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ كَمَا لَوْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً. (وَلَوْ) فَقَأَ رَجُلٌ عَيْنَيْهِ أَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ دَفَعَ إلَيْهِ الْعَبْدَ، وَأَخَذَ قِيمَتَهُ صَحِيحًا فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدًا مَكَانَهُ؛؛ لِأَنَّ فَقْءَ الْعَيْنَيْنِ، وَقَطْعَ الْيَدَيْنِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِهْلَاكِهِ إلَّا أَنَّهُ مِمَّا يَصْلُحُ خَرَاجًا بِضَمَانٍ، فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ، وَيَأْخُذُهُ خَرَاجًا بِضَمَانِهِ ثُمَّ يَفْعَلُ بِالْقِيمَةِ مَا وَصَفْنَا، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ. (وَلَوْ) فُقِئَتْ عَيْنُهُ أَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ أَوْ شُجَّ مُوضِحَتُهُ، فَأَدَّى الْقَاتِلُ أَرْشَ ذَلِكَ - فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ تُنْقِصُ الْخِدْمَةَ، وَإِمَّا أَنْ كَانَتْ لَا تُنْقِصُ، فَإِنْ كَانَتْ تُنْقِصُ، فَإِنْ اتَّفَقَ الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِالْأَرْشِ عَبْدًا بِأَنْ كَانَ الْأَرْشُ يَبْلُغُ قِيمَةَ عَبْدٍ حَتَّى يَخْدِمَ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ مَعَ الْعَبْدِ الْأَوَّلِ فَعَلَا ذَلِكَ وَجَازَ (وَإِنْ) اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُبَاعَ هَذَا الْعَبْدُ، وَيُضَمَّ ثَمَنُهُ إلَى ذَلِكَ الْأَرْشِ فَاشْتَرَيَا بِهِمَا عَبْدًا آخَرَ جَازَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا كَانَتْ تُنْقِصُ الْخِدْمَةَ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ فِي ذَلِكَ الْأَرْشِ، فَكَانَ لَهُمَا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ (وَإِنْ) اخْتَلَفَا، وَلَمْ يَتَّفِقَا فَلَا يُبَاعُ الْعَبْدُ الْمُوصَى بِهِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا، فَلَا يُبَاعُ إلَّا بِرِضَاهُمَا، وَيُشْتَرَى بِالْأَرْشِ عَبْدٌ لِخِدْمَتِهِمَا حَتَّى يَقُومَ مَقَامَ الْجُزْءِ الْفَائِتِ، فَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ بِالْأَرْشِ عَبْدٌ يُوقَفُ ذَلِكَ حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهِ، فَإِنْ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَقْتَسِمَاهُ نِصْفَيْنِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، وَإِذَا اقْتَسَمَاهُ جَازَ ذَلِكَ (وَإِنْ لَمْ) يَصْطَلِحَا لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِشَيْءٍ وَلَكِنْ يُوقَفُ ذَلِكَ الْمَالُ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ لَا تُنْقِصُ الْخِدْمَةَ فَوَصِيَّتُهُ عَلَى حَالِهَا، وَالْأَرْشُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ بَدَلُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الرَّقَبَةِ، فَيَكُونُ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ. (وَلَوْ) كَانَ لِرَجُلٍ

ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ فَأَوْصَى بِرَقَبَةِ أَحَدِهِمْ لِرَجُلٍ وَأَوْصَى بِخِدْمَةِ آخَرَ لِرَجُلٍ آخَرَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ، وَقِيمَةُ الَّذِي أَوْصَى بِخِدْمَتِهِ خَمْسُمِائَةٍ، وَقِيمَةُ الَّذِي أَوْصَى بِرَقَبَتِهِ ثَلَاثُمِائَةٍ، وَقِيمَةُ الْبَاقِي أَلْفُ دِرْهَمٍ - فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، وَالْأَصْلُ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخِدْمَةِ تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ كَالْوَصِيَّةِ بِالرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخِدْمَةِ وَصِيَّةٌ بِحَبْسِ الرَّقَبَةِ عَنْ الْوَارِثِ، فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَجَمِيعُ مَالِ الْمَيِّتِ أَلْفٌ وَثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ: ثُلُثُهَا سِتُّمِائَةٍ، وَجَمِيعُ سِهَامِ الْوَصَايَا ثَمَانِمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ سِهَامُ الْوَصَايَا عَلَى ثُلُثِ الْمَالِ مِائَتَيْنِ، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى سِهَامِ الْوَصَايَا رُبْعُهَا، فَيَنْقُصُ مِنْ وَصِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِثْلُ رُبْعِهَا، وَيُنَفَّذُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا، فَيَكُونُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ وَصِيَّتِهِمَا، وَثُلُثُ الْمَالِ سَوَاءً، فَأَمَّا قِيمَةُ الْعَبْدِ الْمُوصَى لَهُ بِرَقَبَتِهِ فَثَلَاثُمِائَةٍ، فَيَنْقُصُ مِنْهُ رُبْعُهَا، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ، وَتُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا، وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَقِيمَةُ الْعَبْدِ الْمُوصَى لَهُ بِخِدْمَتِهِ خَمْسُمِائَةٍ، فَيَنْقُصُ مِنْهُ رُبْعُهَا، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَتُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا، وَذَلِكَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ، فَيُضَمُّ إلَى وَصِيَّةِ صَاحِبِ الرَّقَبَةِ، وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ، فَيَصِيرَ سِتَّمِائَةٍ، وَذَلِكَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ مِنْ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ يُضَمُّ إلَى الْعَبْدِ الْبَاقِي، وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَصَارَ أَلْفًا، وَمِائَتَيْنِ، وَذَلِكَ ثُلُثَا الْمَالِ، فَاسْتَقَامَ عَلَى الثُّلُثِ، وَالثُّلُثَيْنِ. (وَإِذَا) نَفَذَتْ الْوَصِيَّةُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ يَخْدِمُ الْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالْوَرَثَةَ يَوْمًا وَاحِدًا، فَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ اسْتَكْمَلَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ عَبْدَهُ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ وَصِيَّةَ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ قَدْ بَطَلَتْ بِمَوْتِهِ، وَبَقِيَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ الرَّقَبَةِ، وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، فَتَكُونُ لَهُ (وَكَذَلِكَ) إنْ مَاتَ الْعَبْدُ الَّذِي كَانَ يَخْدِمَهُ كَانَ الْعَبْدُ الْآخَرُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ التَّوْزِيعَ، وَالتَّقْسِيمَ إنَّمَا كَانَ بَيْنَهُمَا لِثُبُوتِ حَقِّهِمَا، فَإِذَا ذَهَبَ أَحَدُهُمَا صَارَ كَأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ وَحْدَهُ، فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ (وَلَوْ) كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبِيدِ سَوَاءٌ كَانَ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ نِصْفُ خِدْمَةِ الْعَبْدِ، وَلِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ نِصْفُ رَقَبَةِ الْآخَرَ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ خَمْسُمِائَةٍ، وَقِيمَةَ الْعَبْدَيْنِ اللَّذَيْنِ أَوْصَى بِهِمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ خَمْسُمِائَةٍ، فَصَارَ ثُلُثُ مَالِهِ خَمْسَمِائَةٍ، فَيُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا، فَصَحَّ مِنْ وَصِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَانِ، فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ نِصْفُ الرَّقَبَةِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ نِصْفُ الْخِدْمَةِ يَخْدِمُهُ يَوْمًا، وَالْوَرَثَةَ يَوْمًا (وَإِنَّمَا) يُضْرَبُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ، كَمَا يُضْرَبُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ؟ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَوْصَى بِحَبْسِ الرَّقَبَةِ عَنْ الْوَارِثِ، فَكَأَنَّهُ أَوْصَى بِالتَّمْلِيكِ لِانْقِطَاعِ حَقِّ الْوَرَثَةِ، فَهِيَ، وَالْوَصِيَّةُ بِالتَّمْلِيكِ سَوَاءٌ. (وَلَوْ) أَوْصَى بِالْعَبِيدِ كُلِّهِمْ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ وَبِخِدْمَةِ أَحَدِهِمْ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ لَمْ يَضْرِب صَاحِبُ الرِّقَابِ إلَّا بِقِيمَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَيَضْرِبُ الْآخَرُ بِخِدْمَةِ الْآخَرِ، فَيَكُون كَالْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ (وَهَذَا) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالرِّقَابِ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِرَقَبَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي أَوْصَى بِخِدْمَتِهِ لِغَيْرِهِ هُوَ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِحَقِّ غَيْرِهِ، فَمَا دَامَ مَشْغُولًا جُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يُوصِ لَهُ بِهِ. (وَمِنْ) أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَا يُضْرَبُ لَهُ إلَّا بِالثُّلُثِ فَالْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدَيْنِ هَهُنَا لَا يُضْرَبُ لَهُ إلَّا بِالثُّلُثِ، وَهُوَ عَبْدٌ وَاحِدٌ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ يُضْرَبُ أَيْضًا بِعَبْدٍ وَاحِدٍ، فَيَصِيرُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الرَّقَبَةِ، فَاَلَّذِي أَوْصَى لَهُ بِالْعَبْدَيْنِ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ فِي الْعَبْدَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْعَبْدَيْنِ، فَيَكُون لَهُ مِنْ كُلِّ عَبْدٍ رُبْعُهُ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ الَّذِي أَوْصَى لَهُ بِخِدْمَتِهِ يَخْدِمُ الْمُوصَى لَهُ يَوْمًا، وَالْوَرَثَةَ يَوْمًا، كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. (وَأَمَّا) عَلَى قَوْلِهِمَا الْمُوصَى لَهُ بِالرِّقَابِ يَضْرِبُ بِالْعَبْدَيْنِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ يَضْرِبُ بِعَبْدٍ وَاحِدٍ، فَيَصِيرُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا: سَهْمَانِ لِصَاحِبِ الرِّقَابِ، وَسَهْمٌ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ، فَلَمَّا صَارَ الثُّلُثُ عَلَى ثَلَاثَةٍ صَارَ الثُّلُثَانِ عَلَى سِتَّةٍ، وَالْجَمِيعُ تِسْعَةٌ: كُلُّ عَبْدٍ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالرِّقَابِ سَهْمَانِ فِي الْعَبْدَيْنِ مِنْ كُلِّ رَقَبَةٍ سَهْمٌ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ سَهْمٌ فِي الْعَبْدِ الَّذِي أَوْصَى لَهُ بِخِدْمَتِهِ يَخْدِمُ الْعَبْدُ الْمُوصَى بِهِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ يَوْمًا، وَلِلْوَرَثَةِ يَوْمَيْنِ، فَحَصَلَ لِلْمُوصَى لَهُمَا ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْوَرَثَةِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ (وَلَوْ) كَانُوا يَخْرُجُونَ مِنْ الثُّلُثِ كَانَ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ، وَلِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِلُ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، فَأَوْصَى بِثُلُثِ كُلِّ عَبْدٍ مِنْهُمْ لِفُلَانٍ وَأَوْصَى بِخِدْمَةِ أَحَدِهِمْ

لِفُلَانٍ فَإِنَّهُ يُقَسِّمُ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الثُّلُثِ فِي خِدْمَةِ ذَلِكَ الْعَبْدِ يَخْدِمُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَيَخْدِمُ الْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ؛ فَيَكُونَ لِلْآخَرِ خُمْسُ الثُّلُثِ فِي الْعَبْدَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خُمْسُ رَقَبَتِهِ (وَجْهُ) ذَلِكَ: أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الرِّقَابِ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالرِّقَابِ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْعَبْدِ الَّذِي أَوْصَى بِخِدْمَتِهِ مَا دَامَ الْمُوصَى لَهُ بَاقِيًا، فَصَارَ كَأَنَّهُ أَوْصَى بِخِدْمَةِ أَحَدِهِمْ لِرَجُلٍ، وَبِثُلُثِ الْعَبْدَيْنِ الْآخَرَيْنِ لِرَجُلٍ، فَاجْعَلْ كُلَّ ثُلُثٍ سَهْمًا، فَيَضْرِبُ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ بِثُلُثِ كُلِّ عَبْدٍ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ، وَيَضْرِبُ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ بِالْجَمِيعِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، فَاجْعَلْ ثُلُثَ الْمَالِ عَلَى خَمْسَةٍ، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ سَهْمَانِ فِي كُلِّ عَبْدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ سَهْمٌ وَلِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فِي الْعَبْدِ الْمُوصَى لَهُ بِخِدْمَتِهِ، فَيَخْدِمُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلِلْوَرَثَةِ يَوْمَيْنِ، فَجَمِيعُ مَا حَصَلَ لِلْمُوصَى لَهُمَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ: سَهْمَانِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ، وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ، وَجَمِيعُ مَا حَصَلَ لِلْوَرَثَةِ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ: ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ فِي الْعَبْدَيْنِ فِي كُلِّ عَبْدٍ أَرْبَعَةٌ، وَسَهْمَانِ مِنْ الْعَبْدِ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ، فَاسْتَقَامَ عَلَى الثُّلُثِ، وَالثُّلُثَيْنِ. وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِصَاحِبِ الرِّقَابِ، وَبِخِدْمَةِ أَحَدِهِمْ بِعَيْنِهِ لِصَاحِبِ، الْخِدْمَةِ وَلَا مَالَ غَيْرُهُمْ لَهُ قَسَّمَ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ اجْتَمَعَ فِيهِ وَصِيَّتَانِ: وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهِ، وَوَصِيَّةٌ بِثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَخِدْمَةُ الْعَبْدِ مَالٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَوْصَى لِآخَرَ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ مِنْ الثُّلُثِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّهُ إذَا أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ الرِّقَابِ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالرِّقَابِ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْعَبْدِ الَّذِي أَوْصَى بِخِدْمَتِهِ مَا دَامَ الْمُوصَى لَهُ بَاقِيًا؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ، وَالْخِدْمَةُ لَيْسَتْ مِنْ الرَّقَبَةِ فِي شَيْءٍ، وَهَهُنَا أَوْصَى لَهُ بِالْمَالِ، وَالْخِدْمَةُ مَالٌ؛ فَلِذَلِكَ قُلْنَا: إنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ فِي الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ وَصِيَّتَانِ: وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهِ، وَوَصِيَّةٌ بِثُلُثِهِ فَالثُّلُثَانِ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ بِلَا مُنَازَعَةٍ، وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، فَيُجْعَلُ الْعَبْدُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ: أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ خَلَتْ عَنْ دَعْوَى صَاحِبِ الثُّلُثِ، وَسُلِّمَتْ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ بِلَا مُنَازَعَةٍ، وَسَهْمَانِ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِيهِمَا، فَيَنْقَسِمُ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ. فَصَارَ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ، فَإِذَا صَارَ هَذَا الْعَبْدُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ صَارَ الْعَبْدَانِ الْآخَرَانِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ: فَثُلُثُهَا أَرْبَعَةٌ ضُمَّتْ إلَى سِتَّةٍ، فَتَصِيرُ عَشَرَةً، فَهَذِهِ جُمْلَةُ وَصَايَاهُمْ، فَاجْعَلْ هَذَا ثُلُثَ الْمَالِ، وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ عِشْرُونَ، وَجَمِيعُ الْمَالِ ثَلَاثُونَ، فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ كُلَّ عَبْدٍ صَارَ عَشَرَةً، فَالْعَبْدُ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ عَشْرَةً يَخْدِمُ الْمُوصَى لَهُ بِخِدْمَتِهِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ وَلِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، وَيَخْدِمُ صَاحِبَ الثُّلُثِ يَوْمًا وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ مِنْ الْعَبْدَيْنِ الْآخَرَيْنِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، فَتَصِيرُ الْوَصِيَّةُ عَشَرَةً: سِتَّةٌ فِي الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ فِي الْعَبْدَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ، وَلِلْوَرَثَةِ عِشْرُونَ فِي كُلِّ عَبْدٍ مِنْ الْبَاقِيَيْنِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ وَأَرْبَعَةٌ مِنْ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ، فَاسْتَقَامَ عَلَى الثُّلُثِ، وَالثُّلُثَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَأَمَّا) عَلَى قَوْلِهِمَا فَإِنَّهُمَا يَسْلُكَانِ مَسْلَكَ الْعَوْلِ، فَالْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَى بِخِدْمَتِهِ اجْتَمَعَ فِيهِ وَصِيَّتَانِ: وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهِ، وَوَصِيَّةٌ بِثُلُثِهِ، وَمَخْرَجُ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يُضْرَبُ لَهُ بِالْجَمِيعِ ثَلَاثَةٌ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ يُضْرَبُ لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمٌ وَصَارَ هَذَا الْعَبْدُ عَلَى أَرْبَعَةٍ، فَلَمَّا صَارَ هَذَا الْعَبْدُ عَلَى أَرْبَعَةٍ صَارَ الْعَبْدَانِ الْآخَرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ بِغَيْرِ عَوْلٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الْعَوْلِ فِي ذَلِكَ، فَالثُّلُث بَيْنَهُمَا سَهْمَانِ ضَمَّهُ إلَى أَرْبَعَةٍ، فَيَصِيرَ سِتَّةً فَاجْعَلْ هَذَا ثُلُثَ الْمَالِ، وَثُلُثَاهُ مِثْلَاهُ اثْنَا عَشَرَ، وَالْجَمِيعُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ صَارَ عَلَى سِتَّةٍ: يَخْدِمُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلِلْآخَرِ يَوْمًا وَلِلْوَرَثَةِ يَوْمَيْنِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ الْعَبْدَيْنِ الْآخَرَيْنِ سَهْمَانِ، فَصَارَتْ الْوَصِيَّةُ سِتَّةً: أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ فِي الْعَبْدِ الْمُوصَى لَهُ بِخِدْمَتِهِ، وَسَهْمَانِ فِي الْعَبْدَيْنِ، وَلِلْوَرَثَةِ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا: سَهْمَانِ فِي الْعَبْدِ الْمُوصَى لَهُ بِخِدْمَتِهِ، وَعَشَرَةُ أَسْهُمٍ فِي الْعَبْدَيْنِ، فَاسْتَقَامَ عَلَى الثُّلُثِ، وَالثُّلُثَيْنِ. وَلَوْ أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ لِرَجُلٍ وَبِغَلَّتِهِ لِآخَرَ، وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنَّهُ يَخْدِمُ صَاحِبَ الْخِدْمَةِ شَهْرًا، وَعَلَيْهِ طَعَامُهُ، وَلِصَاحِبِ الْغَلَّةِ شَهْرًا، وَعَلَيْهِ طَعَامُهُ، وَكِسْوَتُهُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخِدْمَةِ وَصِيَّةٌ بِحَبْسِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِخْدَامُ إلَّا بَعْدَ حَبْسِهَا، وَالْوَصِيَّةُ بِالْغَلَّةِ أَيْضًا وَصِيَّةٌ بِالْقُرْبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِغْلَالُهُ إلَّا بَعْدَ حَبْسِ الرَّقَبَةِ، فَقَدْ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الرَّقَبَةِ، وَحَظُّهُمَا سَوَاءٌ، فَيَخْدِمُ هَذَا شَهْرًا، وَيَسْتَغِلُّهُ الْآخَرُ شَهْرًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ بِالْأَجْزَاءِ، فَيُقَسَّمُ بِالْأَيَّامِ، وَطَعَامُهُ فِي مُدَّةِ الْخِدْمَةِ عَلَى صَاحِبِ

الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ دُونَ صَاحِبِ الْغَلَّةِ، وَالنَّفَقَةُ عَلَى مَنْ يَحْصُلُ لَهُ الْمَنْفَعَةُ، وَفِي مُدَّةِ الْغَلَّةِ عَلَى صَاحِبِ الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ تَحْصُلُ لَهُ (وَأَمَّا) الْكِسْوَةُ فَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا لِأَنَّ الْكِسْوَةَ لَا تَتَقَدَّرُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَلَا تَتَجَدَّدُ الْحَاجَةُ إلَيْهَا بِانْقِضَاءِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمُدَّةِ، كَمَا تَتَجَدَّدُ إلَى الطَّعَامِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ، فَكَانَتْ الْكِسْوَةُ عَلَيْهِمَا؛ لِهَذَا الْمَعْنَى. فَإِنْ جَنَى هَذَا الْعَبْدُ جِنَايَةً قِيلَ لَهُمَا: افْدِيَاهُ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ لَهُمَا فَيُخَاطَبَانِ بِهِ كَمَا يُخَاطَبُ بِهِ الْمُرْتَهِنُ فِي الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ، فَإِنْ فَدَيَاهُ كَانَا عَلَى حَالِهِمَا، وَإِنْ أَبَيَا الْفِدَاءَ، فَفَدَاهُ الْوَرَثَةُ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا أَبَيَا الْفِدَاءَ، فَقَدْ رَضِيَا بِهَلَاكِ الرَّقَبَةِ، فَبَطَلَ حَقُّهُمَا، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ مِنْ غَلَّةِ عَبْدِهِ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ الْعَبْدِ، فَإِنَّ ثُلُثَ الْمَالِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لِلْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ بِجَمِيعِ الرَّقَبَةِ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ ذَلِكَ مِنْ غَلَّتِهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ إلَّا بِحَبْسِ الرَّقَبَةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَا يُضْرَبُ إلَّا بِالثُّلُثِ، فَالثُّلُثُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، وَيَخْرُجُ الْحِسَابُ مِنْ سِتَّةٍ، فَالثُّلُثِ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا سَهْمٌ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ يُعْطَى لَهُ مِنْ الرَّقَبَةِ، وَسَهْمٌ لِصَاحِبِ الْغَلَّةِ يُسْتَغَلُّ، وَحُسِبَتْ عَلَيْهِ غَلَّتُهُ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْهَا كُلَّ شَهْرٍ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّهُ هَكَذَا أَوْصَى، وَأَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ مِنْ الرَّقَبَةِ لِلْوَرَثَةِ. فَإِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْغَلَّةِ شَيْءٌ رُدَّ ذَلِكَ إلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ. وَكَذَلِكَ مَا حُبِسَ لَهُ مِنْ ثَمَنِ الرَّقَبَةِ يُرَدُّ عَلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّهُ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ بِمَوْتِهِ، فَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ: صَاحِبُ الْغَلَّةِ يُضْرَبُ بِالْجَمِيعِ ثَلَاثَةٌ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ يُضْرَبُ بِالثُّلُثِ سَهْمٌ وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِغَلَّةِ دَارِهِ، وَلِآخَرَ بِعَبْدٍ وَلِآخَرَ بِثَوْبٍ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ تَخْرُجَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مِنْ الثُّلُثِ، أَوْ لَا تَخْرُجَ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنْ كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِالْجَمِيعِ، وَالْوَصِيَّةُ بِغَلَّةِ الدَّارِ وَصِيَّةٌ بِحَبْسِ رَقَبَتِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ لَكِنَّ الْوَرَثَةَ أَجَازُوا فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ ضُرِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ حَقِّهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّةَ أَحَدِهِمْ تَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ، فَلَا يُضْرَبُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِذَا مَاتَ صَاحِبُ الْغَلَّةِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ، وَقُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ؟ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ دَارِهِ لِرَجُلٍ وَبِسُكْنَاهَا لِآخَرَ، وَبِرَقَبَتِهَا لِآخَرَ، وَهِيَ الثُّلُثُ، فَهَدَمَهَا رَجُلٌ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي غَرِمَ قِيمَةَ مَا هَدَمَهُ مِنْ بِنَائِهَا ثُمَّ تُبْنَى مَسَاكِنَ، كَمَا كَانَتْ، فَتُؤَاجَرُ، وَيَأْخُذُ غَلَّتَهَا صَاحِبُ الْغَلَّةِ، وَيَسْكُنُهَا الْآخَرُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْغَلَّةِ، وَالسُّكْنَى لَا تَبْطُلُ بِهَدْمِ الدَّارِ لِقِيَامِ الْقِيمَةِ مَقَامَ الدَّارِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ لِرَجُلٍ، وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ إذَا قُتِلَ: إنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ، وَيَشْتَرِي بِقِيمَتِهِ عَبْدًا آخَرَ لِخِدْمَتِهِ، وَكَذَا الْبُسْتَانُ إذَا أَوْصَى بِغَلَّتِهِ لِرَجُلٍ، وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ، فَقَطَعَ رَجُلٌ نَخْلَهُ أَوْ شَجَرَهُ يَغْرَمُ قِيمَتَهَا، فَيَشْتَرِي بِهَا أَشْجَارًا مِثْلَهَا، فَتُغْرَسُ. فَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِغَلَّةِ دَارِهِ وَقِيمَةُ الدَّارِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَلَهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ سِوَى ذَلِكَ فَلِصَاحِبِ الْغَلَّةِ نِصْفُ غَلَّةِ الدَّارِ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ نِصْفُ الثُّلُثِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ، وَالدَّارِ، خُمْسُ ذَلِكَ فِي الدَّارِ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فِي الْمَالِ. (وَوَجْهُ) ذَلِكَ: أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْوَصِيَّةَ بِثُلُثِ الْمَالِ وَصِيَّةٌ بِثُلُثِ الْغَلَّةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ مَالُ الْمَيِّتِ يُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالدَّارُ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الدَّارِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَلَهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ سِوَى ذَلِكَ، فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي الدَّارِ وَصِيَّتَانِ: وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِهَا، وَوَصِيَّةٌ بِثُلُثِهَا، فَيَجْعَلُ الدَّارَ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَيُقَسِّمُ بَيْنَهُمَا عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ لَا يَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، وَهُوَ سَهْمٌ وَاحِدٌ، وَالثُّلُثَانِ سَهْمَانِ لِصَاحِبِ الْغَلَّةِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْغَلَّةِ وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِ الدَّارِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَحْبِسُ جَمِيعَ الدَّارِ لِأَجْلِهِ. وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِي سَهْمٍ وَاحِدٍ. وَكَانَ بَيْنَهُمَا، فَانْكَسَرَ عَلَى سَهْمَيْنِ، فَاضْرِبْ سَهْمَيْنِ فِي ثَلَاثَةٍ، فَيَصِيرَ سِتَّةً فَصَاحِبُ الثُّلُثِ لَا يَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ سَهْمَيْنِ، وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ خَلَتْ عَنْ دَعْوَاهُ، وَسُلِّمَتْ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْغَلَّةِ بِلَا مُنَازَعَةٍ، وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِي سَهْمَيْنِ، فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ. وَإِذَا صَارَتْ الدَّارُ، وَهِيَ الثُّلُثُ عَلَى سِتَّةٍ، وَالْأَلْفَانِ اثْنَا عَشَرَ فَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ فَضُمَّهَا إلَى سِتَّةٍ تَصِيرُ سِهَامُ الْوَصَايَا عَشَرَةً، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ثَلَاثُونَ، فَنَقُولُ: ثُلُثُ الْمَالِ عَشَرَةٌ، فَنُقَسِّمُهَا بَيْنَهُمْ لِصَاحِبِ الْغَلَّةِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ كُلُّهَا فِي الدَّارِ

وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ: أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ فِي الْأَلْفَيْنِ، وَسَهْمٌ فِي الدَّارِ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْأَصْلِ لِصَاحِبِ الْغَلَّةِ نِصْفُ غَلَّةِ الدَّارِ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا الدَّارَ عَلَى عَشَرَةٍ. وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ نِصْفُ الثُّلُثِ خَمْسَةٌ: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فِي الْمَالِ، وَخُمْسُ ذَلِكَ فِي الدَّارِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَلَى قَوْلِهِمَا تُقَسَّمُ الدَّارُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ، فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يُضْرَبُ بِالْجَمِيعِ، وَصَاحِبُ الثُّلُثِ يُضْرَبُ بِالثُّلُثِ، وَمَخْرَجُ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يُضْرَبُ بِالْجَمِيعِ ثَلَاثَةٌ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ يُضْرَبُ بِسَهْمٍ، فَاجْعَلْ الدَّارَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ. وَإِذَا صَارَتْ الدَّارُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ مَعَ الْعَوْلِ صَارَ كُلُّ أَلْفٍ مِنْ الْأَلْفَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ غَيْرِ عَوْلٍ فَالْأَلْفَانِ تَصِيرُ سِتَّةَ أَسْهُمٍ، فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ سَهْمَانِ ضُمَّ ذَلِكَ إلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، فَيَصِيرَ سِتَّةً فَاجْعَلْ هَذَا ثُلُثَ الْمَالِ، وَالثُّلُثَانِ اثْنَا عَشَرَ، وَالْجَمِيعُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَلِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ ثُلُثُ الْأَلْفَيْنِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، وَذَلِكَ ثُلُثَا الثُّلُثِ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا الثُّلُثَ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ، وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ سِتَّةٍ ثُلُثَاهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْأَصْلِ: وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: ثُلُثَا ذَلِكَ فِي ثُلُثِ الْمَالِ. وَقَالَ أَيْضًا: ثَلَاثَةٌ فِي الدَّارِ؛ لِأَنَّكَ جَعَلْتَ الدَّارَ عَلَى ثَلَاثَةٍ قَبْلَ الْعَوْلِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمٌ مِنْ الدَّارِ وَذَلِكَ ثُلُثُ الدَّارِ، فَإِنَّ مَاتَ صَاحِبُ الْغَلَّةِ فَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثُلُثُ الدَّارِ، وَالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ، وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُوصِ لَهُ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا أَوْصَى لِصَاحِبِ الثُّلُثِ بِثُلُثِ الْمَالِ، وَالدَّارِ، فَيَكُونُ لَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ بَطَلَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ الْغَلَّةِ، وَأَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثِ ثُلُثَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ اسْتِغْلَالَهَا بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهَا وَلَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ وَلَكِنَّهَا انْهَدَمَتْ قِيلَ لِصَاحِبِ الْغَلَّةِ: ابْنِ نَصِيبَكَ فِيهَا، وَيَبْنِي صَاحِبُ الثُّلُثِ نَصِيبَهُ، وَالْوَرَثَةُ نَصِيبَهُمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ، فَيَبْنِي كُلُّ وَاحِدٍ نَصِيبَهُ، وَأَيُّهُمْ أَبَى أَنْ يَبْنِيَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُجْبَرُ عَلَى إصْلَاحِ حَقِّهِ، وَلَمْ يَمْنَعْ الْآخَرَ أَنْ يَبْنِيَ نَصِيبَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَيُؤَاجِرَهُ، وَيُسْكِنَهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي امْتَنَعَ مِنْ الْبِنَاءِ رَضِيَ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ، فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ بُطْلَانَ حَقِّ صَاحِبِهِ، وَلَيْسَ هَذَا كَالسُّفْلِ إذَا كَانَ لِرَجُلٍ، وَعُلْوِهِ لِآخَرَ، فَانْهَدَمَا، وَأَبَى صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَبْنِيَ سُفْلَهُ إنَّهُ يُقَالُ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ: ابْنِ سُفْلَهُ مِنْ مَالِكَ ثُمَّ ابْنِ عِلْيَةَ الْعُلْوِ، فَإِذَا أَرَادَ صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالسُّفْلِ، فَامْنَعْهُ حَتَّى يَدْفَعَ إلَيْك قِيمَةَ السُّفْلِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ بِنَاءُ الْعُلْوِ إلَّا بَعْدَ بِنَاءِ السُّفْلِ، فَكَانَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ سُفْلَهُ حَتَّى يُمْكِنَهُ بِنَاءُ الْعُلْوِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا هَهُنَا، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَسِّمَ عَرْصَةَ الدَّارِ، فَيَبْنِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَصِيبِهِ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُكْنَى دَارِهِ أَوْ بِغَلَّتِهَا، فَادَّعَاهَا رَجُلٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ، فَشَهِدَ الْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ أَوْ السُّكْنَى أَنَّهُ أَقَرَّ بِهَا لِلْمَيِّتِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ إلَى نَفْسِهِ مَغْنَمًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لَسَلِمَتْ لَهُ الْوَصِيَّةُ وَلَا شَهَادَةَ لِجَارِّ الْمَغْنَمِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَذَا إذَا شَهِدَ لِلْمَيِّتِ بِمَالٍ أَوْ بِقَتْلٍ خَطَأٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَهْمَا كَثُرَ مَالُ الْمَيِّتِ كَثُرَتْ وَصِيَّتُهُ. وَكَانَ بِشَهَادَتِهِ جَارًّا الْمَغْنَمَ إلَى نَفْسِهِ، فَلَا تُقْبَلُ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ غَلَّةِ بُسْتَانِهِ أَبَدًا وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، فَقَاسَمَ الْوَرَثَةُ الْبُسْتَانَ، فَأَغَلَّ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ، وَلَمْ يَغُلَّ الْآخَرَ، فَإِنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِيمَا خَرَجَ مِنْ الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّ قِسْمَتَهُ وَقَعَتْ بَاطِلَةً؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةَ الْبُسْتَانِ، وَالْقِسْمَةُ فِيمَا لَيْسَ بِمِلْكٍ لَهُ بَاطِلَةٌ، وَالثَّمَرَةُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقِسْمَةُ الْمَعْدُومِ بَاطِلَةٌ وَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَبِيعُوا ثُلُثَيْ الْبُسْتَانِ؛ فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي شَرِيكَ صَاحِبِ الْغَلَّةِ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يَبِيعَ ثُلُثَيْ الْبُسْتَان مُشَاعًا؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ مَشْغُولٌ بِحَقِّ صَاحِبِ الْغَلَّةِ، وَالْوَرَثَةُ مَمْنُوعُونَ عَنْ ذَلِكَ الثُّلُثِ مَا دَامَ الْمُوصَى لَهُ حَيًّا، فَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَّا فِي مِقْدَارِ نَصِيبِهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ نَصِيبِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرَرٌ بِالْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ تُنْقِصُ الْغَلَّةَ، وَتَعِيبُ. وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ الَّذِي فِيهِ لِرَجُلٍ وَأَوْصَى لَهُ بِغَلَّتِهِ أَيْضًا أَبَدًا، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، وَالْغَلَّةُ الْقَائِمَةُ لِلْحَالِ تَسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَالْبُسْتَانُ يُسَاوِي ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَلِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ الْغَلَّةِ فِيهِ، وَثُلُثُ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْغَلَّةِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ هَكَذَا، فَإِنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ الْقَائِمَةِ لِلْحَالِ، وَبِالْغَلَّةِ الَّتِي تَحْدُثُ أَبَدًا، فَيُعْتَبَر فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُهُ، وَلَا يُسَلِّمُ إلَيْهِ كُلَّ الْغَلَّةِ الْقَائِمَةِ فِي الْحَال، وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ أَيْضًا بِثُلُثِ مَا يَخْرُجُ مِنْ بُسْتَانِهِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، وَإِذَا ضُمَّتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ إلَى هَذِهِ الْوَصِيَّةِ زَادَتْ الْوَصِيَّةُ عَلَى الثُّلُثِ.

وَلَوْ أَوْصَى بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا مِنْ غَلَّتِهِ كُلَّ سَنَةٍ وَلَوْ أَوْصَى بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا مِنْ غَلَّتِهِ كُلَّ سَنَةٍ لِرَجُلٍ، فَأَغَلَّ سَنَةً قَلِيلًا وَسَنَةً كَثِيرًا، فَلَهُ ثُلُثُ الْغَلَّةِ يَحْبِس، وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ مِنْ ذَلِكَ عِشْرُونَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا مِنْ غَلَّتِهِ وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِ الْغَلَّةِ لِجَوَازِ أَنْ يَطُولَ عُمْرُهُ فَيَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَلِذَلِكَ جَازَ فِي ثُلُثِهِ، وَتُحْبَسُ غَلَّتُهُ حَتَّى يُنْفَقَ عَلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا إلَى أَنْ يَمُوتَ. وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ كُلَّ شَهْرٍ مِنْ عَرَضِ مَالِهِ وَعَلَى آخَرَ خَمْسَةٌ كُلَّ شَهْرٍ مِنْ غَلَّةِ، بُسْتَانِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ الْبُسْتَانِ فَثُلُثُ غَلَّةِ الْبُسْتَانِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، يُبَاعُ سُدُسُ غَلَّةِ الْبُسْتَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيُوقَفُ ثَمَنُهُ عَلَى يَدِ الْوَصِيِّ. أَوْ عَلَى يَدِ ثِقَةٍ إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَصِيٌّ، وَيُنْفَقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا سَمَّى. وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِإِنْفَاقِ دِرْهَمٍ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْأَقَلِّ. وَالْأَكْثَرِ لِجَوَازِ أَنْ يَعِيشَ صَاحِبُ الْأَقَلِّ أَكْثَرَ مِمَّا يَعِيشُ صَاحِبُ الْأَكْثَرِ فَيُبَاعُ سُدُسُ الْغَلَّةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيُوقَفُ ثَمَنُهُ، وَيُنْفَقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا سَمَّى لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ عَرَضِ مَالِهِ، وَالْبُسْتَانُ مَالُهُ وَلَا يُسَلَّمُ الْمَالُ إلَيْهِمَا بَلْ يُوضَعُ عَلَى يَدِ الْوَصِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَصِيٌّ فَالْقَاضِي يَضَعُهُ عَلَى يَدِ ثِقَةٍ عَدْلٍ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يُوصِ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِمَا، فَإِنْ مَاتَا، وَقَدْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ رُدَّ عَلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ بَطَلَتْ بِمَوْتِهِ فَيَعُودُ إلَى الْوَرَثَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: يُنْفَقُ عَلَى فُلَانٍ أَرْبَعَةٌ وَعَلَى فُلَانٍ، وَفُلَانٍ خَمْسَةٌ حُبِسَ السُّدُسُ عَلَى الْمُنْفَرِدِ، وَالسُّدُسُ الْآخَرُ عَلَى الْمَجْمُوعَيْنِ فِي النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَرْبَعَةَ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَأَضَافَ الْخَمْسَةَ إلَى شَخْصَيْنِ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ أَوْصَى بِأَنْ يُنْفَقَ عَلَى فُلَانٍ أَرْبَعَةٌ، وَعَلَى فُلَانٍ خَمْسَةٌ؛ لِذَلِكَ يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ: سُدُسٌ يُوقَفُ لِلْمُنْفَرِدِ، وَسُدُسٌ لِلْمَجْمُوعَيْنِ. وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ لِرَجُلٍ وَبِنِصْفِ غَلَّتِهِ لِآخَرَ، وَهُوَ ثُلُثُ مَالِهِ قَسَّمَ ثُلُثَ الْغَلَّةِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كُلَّ سَنَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ لَا تَجُوزُ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَوْصَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالثُّلُثِ، فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا. وَلَوْ كَانَ الْبُسْتَانُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ فَإِنَّهُ يُقَسِّمُ غَلَّةَ الْبُسْتَانِ بَيْنَهُمَا عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ صَاحِبَ النِّصْفِ لَا يَدَّعِي إلَّا النِّصْفَ، فَالنِّصْفُ خَلَا عَنْ دَعْوَاهُ فَسُلِّمَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِيهِ فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَيَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ لَهُ نِصْفٌ، وَلِنِصْفِهِ نِصْفٌ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ فَصَاحِبُ النِّصْفِ لَا يَدِّعِي أَكْثَرَ مِنْ سَهْمَيْنِ فَسَهْمَانِ خَلَيَا عَنْ دَعْوَاهُ سَلِمَا لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ، وَسَهْمَانِ آخَرَانِ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِيهِمَا فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ، فَصَارَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ سَهْمٌ. وَعَلَى قَوْلِهِمَا يُقَسَّمُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ، فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يُضْرَبُ بِالْجَمِيعِ، وَصَاحِبُ النِّصْفِ يُضْرَبُ بِالنِّصْفِ، وَالْحِسَابُ الَّذِي لَهُ نِصْفُ سَهْمَانِ، فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يُضْرَبُ بِسَهْمَيْنِ وَصَاحِبُ النِّصْفِ يُضْرَبُ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ، فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا: سَهْمَانِ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ، وَسَهْمٌ لِصَاحِبِ النِّصْفِ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِآخَرَ بِقِيمَةِ عَبْدُهُ وَقِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ، وَلَهُ سِوَى ذَلِكَ ثَلَاثُمِائَةٍ، فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِصَاحِبِ الْعَبْدِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ فِي الْعَبْدِ، وَلِصَاحِبِ الْبُسْتَانِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ فِي غَلَّتِهِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَالِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَالثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ سِتُّمِائَةٍ، وَوَصِيَّةُ صَاحِبِ الْبُسْتَانِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ الثُّلُثِ. وَمِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَا يُضْرَبُ إلَّا بِالثُّلُثِ، فَاطْرَحْ مَا زَادَ عَلَى سِتِّمِائَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى الثُّلُثِ، فَصَاحِبُ الْبُسْتَانِ يُضْرَبُ بِسِتِّمِائَةٍ وَصَاحِبُ الْعَبْدِ يُصْرَفُ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَاجْعَلْ ثُلُثَ الْمَالِ، وَهُوَ سِتُّمِائَةٍ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا، لِصَاحِبِ الْبُسْتَانِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، فَمَا أَصَابَ صَاحِبُ الْبُسْتَانِ كَانَ فِي الْبُسْتَانِ فِي غَلَّتِهِ، وَمَا أَصَابَ صَاحِبُ الْعَبْدِ كَانَ فِي الْعَبْدِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَى قَوْلِهِمَا صَاحِبُ الْبُسْتَانِ يُضْرَبُ بِجَمِيعِ الْبُسْتَانِ، وَهُوَ أَلْفٌ وَصَاحِبُ الْعَبْدِ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَيُقَسَّمُ ثُلُثُ الْمَالِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِغَلَّةِ أَرْضِهِ وَلَيْسَ فِيهَا نَخْلٌ وَلَا شَجَرٌ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا، فَإِنَّهَا تُؤَاجَرُ، فَتَكُونُ تِلْكَ الْغَلَّةُ لَهُ. وَلَوْ كَانَ فِيهَا شَجَرٌ أُعْطِيَ ثُلُثَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ اسْمَ الْغَلَّةِ يَقَعُ عَلَى الثَّمَرَةِ، وَعَلَى الْأُجْرَةِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا ثَمَرٌ انْصَرَفَتْ الْوَصِيَّةُ إلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِمَا يَخْرُجُ إذَا كَانَ

فِي الْأَرْضِ أَشْجَارٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَجَرٌ فَالْوَصِيَّةُ بِالْغَلَّةِ وَصِيَّةٌ بِالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ، وَذَلِكَ هِيَ الْأُجْرَةُ، فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ شَجَرٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَزْرَعَهَا فَيَسْتَوْفِيَ زَرْعَهَا، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَوْ زَرَعَ لَحَصَلَ لَهُ مِلْكُ الْخَارِجِ بِبَذْرِهِ، وَالْمُوصَى بِهِ غَلَّةُ أَرْضِهِ لَا غَلَّةُ بَذْرِهِ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِغَلَّةِ أَرْضِهِ وَلِآخَرَ بِرَقَبَتِهَا وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، فَبَاعَهَا صَاحِبُ الرَّقَبَةِ وَسَلَّمَ صَاحِبُ الْغَلَّةِ الْمَبِيعَ جَازَ، وَبَطَلَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ الْغَلَّةِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الثَّمَنِ، أَمَّا جَوَازُ الْوَصِيَّةِ بِالْغَلَّةِ فَلِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا جَوَازُ بَيْعِ الرَّقَبَةِ مِنْ صَاحِبِهَا إذَا سَلَّمَ صَاحِبُ الْغَلَّةِ الْمَبِيعَ فَلِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي النَّفَاذَ إلَّا أَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الْغَلَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، فَإِذَا أَجَازَ فَقَدْ رَضِيَ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ، فَزَالَ الْمَانِعُ فَنَفَذَ، وَبَطَلَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَوْصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ، وَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ الرَّقَبَةِ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الرَّقَبَةِ وَلَا مِلْكَ لَهُ فِي الرَّقَبَةِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ فَأَغَلَّ الْبُسْتَانُ سَنَتَيْنِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ تِلْكَ الْغَلَّةِ شَيْءٌ إنَّمَا لَهُ الْغَلَّةُ الَّتِي فِيهِ يَوْمَ يَمُوتُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَتَكُونُ لَهُ الثَّمَرَةُ الَّتِي فِيهِ يَوْمَ الْمَوْتِ، وَمَا يَحْدُثُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا مَا كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ. فَإِنْ اشْتَرَى الْمُوصَى لَهُ الْبُسْتَانَ مِنْ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ جَازَ الشِّرَاءُ، وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَيْنَ بِالشِّرَاءِ، فَاسْتَغْنَى بِمِلْكِهَا عَنْ الْوَصِيَّةِ كَمَنْ اسْتَعَارَ شَيْئًا، ثُمَّ اشْتَرَاهُ أَنَّهُ تَبْطُلُ الْإِعَارَةُ. وَكَمَنْ تَزَوَّجَ أَمَةَ إنْسَانٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَوْهُ شَيْئًا عَلَى أَنْ يَبْرَأَ مِنْ الْغَلَّةِ. وَكَذَلِكَ سُكْنَى الدَّارِ، وَخِدْمَةُ الْعَبْدِ إذَا صَالَحُوهُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ جَازَ، وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقًّا، وَقَدْ أُسْقِطَ حَقُّهُ بِعِوَضٍ، فَجَازَ كَالْخُلْعِ، وَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَأَمَّا) الْوَصِيَّةُ بِأَمْرٍ مُتَعَلِّقٍ بِالْمَالِ فَالْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْإِعْتَاقِ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْإِنْفَاقِ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْقُرَبِ مِنْ الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ، وَالنَّوَافِلِ (أَمَّا) الْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ فَحُكْمُهَا ثُبُوتُ الْعِتْقِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي بِلَا فَصْلٍ، كَمَا إذَا قَالَ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ صَحِيحٌ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ قَالَ: دَبَّرْتُك أَوْ أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ إنْ مِتَّ مِنْ مَرْضِي هَذَا أَوْ فِي سَفَرِي هَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ، فَمَاتَ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ أَوْ سَفَرِهِ ذَلِكَ يُعْتَقُ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى إعْتَاقِ أَحَدٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ بَعْدَ مَوْتِي مِنْ هَذَا الْمَرَضِ، أَوْ فِي هَذَا السَّفَرِ، وَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ الثُّلُثُ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ يَخْرُجُ كُلُّهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ يُعْتَقْ كُلُّهُ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ كُلُّهُ يُعْتَقْ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ يُعْتَقْ ثُلُثُهُ، وَيَسْعَى فِي الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ وَصِيَّةٌ، فَلَا تُنَفَّذُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ. (وَأَمَّا) الْوَصِيَّةُ بِالْإِعْتَاقِ فَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْإِعْتَاقِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَلَا يُعْتَقُ مِنْ غَيْرِ إعْتَاقٍ مِنْ الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ أَوْ الْقَاضِي، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ عِتْقٍ تَأَخَّرَ عَنْ مَوْتِ الْمُوصِي وَلَوْ بِسَاعَةٍ، لَا يَثْبُتُ، وَلَا يُعْتَقُ مِنْ غَيْرِ إعْتَاقٍ، كَمَا إذَا قَالَ: هُوَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِسَاعَةٍ أَوْ بِأَقَلَّ أَوْ بِأَكْثَرَ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُوصِي هُوَ عِتْقُ الْعَبْدِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعِتْقُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْإِعْتَاقِ وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْمُوصِي مُعْتِقًا بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ أَمْرًا بِالْإِعْتَاقِ دَلَالَةً، فَيُعْتِقُ الْوَارِثُ أَوْ الْوَصِيُّ أَوْ الْقَاضِي. (وَأَمَّا) الْوَصِيَّةُ بِإِعْتَاقِ نَسَمَةٍ، وَهِيَ أَنْ يُوصِيَ بِأَنْ يُشْتَرَى رَقَبَةٌ، فَتُعْتَقَ عَنْهُ، وَالنَّسَمَةُ اسْمٌ لِرَقَبَةٍ تُشْتَرَى لِلْعِتْقِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ وُجُوبِ الشِّرَاءِ، وَالْإِعْتَاقُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ. وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ نَسَمَةٌ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَبْلُغْ ثُلُثُ مَالِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ لَمْ يُعْتَقْ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُعْتَقُ عَنْهُ بِالثُّلُثِ. وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِمِائَةٍ وَثُلُثُ مَالِهِ لَا يَبْلُغُ مِائَةً، فَإِنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ بِالْإِجْمَاعِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَالتَّقْدِيرُ بِالْمِائَةِ لَا يَقْتَضِي التَّنْفِيذَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنَّمَا قَدَّرَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ ثُلُثَ مَالِهِ يَبْلُغُ ذَلِكَ أَوْ رَجَاءَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ يَجِبُ تَنْفِيذُهَا فِيمَا دُونَ ذَلِكَ، كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدٍ يُشْتَرَى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَوْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي عَبْدٍ يُشْتَرَى بِخَمْسِينَ كَانَ ذَلِكَ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ لِغَيْرِ مَنْ أَوْصَى لَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْعَبْدِ فِي الْحَقِيقَةِ فَهُوَ الْمُوصَى لَهُ، وَقَدْ جَعَلَ الْوَصِيَّةَ بِعَبْدٍ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ يُشْتَرَى بِمِائَةٍ، وَالْمُشْتَرَى بِدُونِ الْمِائَةِ غَيْرُ الْمُشْتَرَى بِمِائَةٍ، فَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لَهُ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ فَإِنَّهَا وَصِيَّةٌ بِالْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِالْحَجِّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ الثُّلُثَ. وَعَلَى هَذَا إذَا أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ نَسَمَةٌ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَلَمْ تُجِزْ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ لَمْ يُشْتَرَ بِهِ شَيْءٌ، وَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَهُمَا يُشْتَرَى بِالثُّلُثِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْقَوْلَيْنِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (وَأَمَّا) الْوَصِيَّةُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى فُلَانٍ، وَأَوْصَى بِالْقُرَبِ فَحُكْمُهَا وُجُوبُ فِعْلِ مَا دَخَلَ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ هَكَذَا أَوْصَى، وَيُعْتَبَرُ

فصل في بيان ما تبطل به الوصية

ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الثُّلُثِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا تَبْطُلُ بِهِ الْوَصِيَّةُ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَيَانُ مَا تَبْطُلُ بِهِ الْوَصِيَّةُ فَالْوَصِيَّةُ تَبْطُلُ بِالنَّصِّ عَلَى الْإِبْطَالِ، وَبِدَلَالَةِ الْإِبْطَالِ، وَبِالضَّرُورَةِ (أَمَّا) النَّصُّ فَنَحْوَ أَنْ يَقُولَ: أَبْطَلْتُ الْوَصِيَّةَ الَّتِي أَوْصَيْتُهَا لِفُلَانٍ أَوْ فَسَخْتُهَا أَوْ نَقَضْتُهَا فَتَبْطُلَ إلَّا التَّدْبِيرَ خَاصَّةً، فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْإِبْطَالِ مُطْلَقًا كَانَ التَّدْبِيرُ أَوْ مُقَيَّدًا إلَّا أَنَّ الْمُقَيَّدَ مِنْهُ يَبْطُلُ مِنْهُ بِدَلَالَةِ الْإِبْطَالِ بِالتَّمْلِيكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، كَذَا إذَا قَالَ: رَجَعْتُ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْوَصِيَّةِ إبْطَالٌ لَهَا فِي الْحَقِيقَةِ. (وَأَمَّا) الدَّلَالَةُ، وَالضَّرُورَةُ فَعَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الرُّجُوعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْوَصِيَّةِ. وَمَا لَا يَكُونُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَتَبْطُلُ بِجُنُونِ الْمُوصِي جُنُونًا مُطْبَقًا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ جَائِزٌ كَالْوَكَالَةِ، فَيَكُونُ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ كَالْوَكَالَةِ فَتُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، كَمَا تُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الْأَمْرِ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ. وَالْجُنُونُ الْمُطْبَقُ هُوَ أَنْ يَمْتَدَّ شَهْرًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ سَنَةً،، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ. وَلَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ لَا يُزِيلُ الْعَقْلَ، وَلِهَذَا لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ بِالْإِغْمَاءِ وَتَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ فَلَا يُمْكِنُ إبْقَاؤُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَتَبْطُلُ بِهَلَاكِ الْمُوصَى بِهِ إذَا كَانَ عَيْنًا مُشَارًا إلَيْهَا لِبُطْلَانِ مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ أَعْنِي مَحَلَّ حُكْمِهِ، وَيَسْتَحِيلُ ثُبُوتُ حُكْمِ التَّصَرُّفِ أَوْ بَقَاؤُهُ بِدُونِ وُجُودِ مَحَلِّهِ أَوْ بَقَائِهِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ أَوْ بِهَذِهِ الشَّاةِ، فَهَلَكَتْ الْجَارِيَةُ، وَالشَّاةُ. وَهَلْ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِاسْتِثْنَاءِ كُلِّ الْمُوصَى بِهِ فِي كَلَامٍ مُتَّصِلٍ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ؛ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا تَبْطُلُ، وَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلِلْمُوصَى لَهُ جَمِيعُ مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ، وَيَلْزَمُ الْمُقِرَّ جَمِيعُ مَا أَقَرَّ بِهِ. (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هَهُنَا رُجُوعٌ عَمَّا أَوْصَى بِهِ، وَالْوَصِيَّةُ مُحْتَمِلَةٌ لِلرُّجُوعِ، فَيُحْمَلُ عَلَى الرُّجُوعِ. وَبِهَذَا فَارَقَتْ الْإِقْرَارَ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمَالِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ فَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَبْقَى الْمُقَرُّ بِهِ عَلَى حَالِهِ. وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ، وَلَا رُجُوعٍ، فَيَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ رَأْسًا، وَتَبْقَى الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةً. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، وَاسْتِخْرَاجِ بَعْضِ الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي اسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ، وَالرُّجُوعُ فَسْخُ الْوَصِيَّةِ، وَإِبْطَالُهَا، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ، وَلِهَذَا شَرَطْنَا لِجَوَازِ النَّسْخِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ النَّصُّ النَّاسِخُ مُتَرَاخِيًا عَنْ الْمَنْسُوخِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْقَرْضِ] [رُكْنِ الْقَرْضِ] (كِتَابُ الْقَرْضِ) الْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ رُكْنِ الْقَرْضِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْقَرْضِ. (أَمَّا) رُكْنُهُ فَهُوَ الْإِيجَابُ، وَالْقَبُولُ، وَالْإِيجَابُ قَوْلُ الْمُقْرِضِ: أَقْرَضْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ، أَوْ خُذْ هَذَا الشَّيْءَ قَرْضًا، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَالْقَبُولُ هُوَ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَقْرِضُ: اسْتَقْرَضْتُ، أَوْ قَبِلْتُ، أَوْ رَضِيتُ، أَوْ مَا يَجْرِي هَذَا الْمُجْرَى، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أُخْرَى: أَنَّ الرُّكْنَ فِيهِ الْإِيجَابُ. (وَأَمَّا) الْقَبُولُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ، حَتَّى لَوْ حَلَفَ: لَا يُقْرِضُ فُلَانًا، فَأَقْرَضَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ؛ لَمْ يَحْنَثْ، عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى يَحْنَثُ. (وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِقْرَاضَ إعَارَةٌ؛ لِمَا نَذْكُرُ، وَالْقَبُولُ لَيْسَ بِرُكْنٍ فِي الْإِعَارَةِ. (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَقْرِضِ مِثْلُ الْمُسْتَقْرَضِ؛ فَلِهَذَا اُخْتُصَّ جَوَازُهُ بِمَا لَهُ مِثْلٌ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ، فَكَانَ الْقَبُولُ رُكْنًا فِيهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ حَلَفَ: لَا يَسْتَقْرِضُ مِنْ فُلَانٍ، فَاسْتَقْرَضَ مِنْهُ، فَلَمْ يُقْرِضْهُ؛ أَنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ هُوَ الِاسْتِقْرَاضُ، وَهُوَ طَلَبُ الْقَرْضِ كَالِاسْتِيَامِ فِي الْبَيْعِ، وَهُوَ طَلَبُ الْبَيْعِ، فَإِذَا اسْتَقْرَضَ فَقَدْ طَلَبَ الْقَرْضَ، فَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ؛ فَيَحْنَثُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي شَرَائِط رُكْن الْقَرْضِ] (فَصْلٌ) : ، الْقَرْضِ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ، بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُقْرِضِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُقْرَضِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَرْضِ. (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُقْرِضِ فَهُوَ أَهْلِيَّتُهُ لِلتَّبَرُّعِ؛ فَلَا يَمْلِكُهُ مَنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ، مِنْ الْأَبِ، وَالْوَصِيِّ، وَالصَّبِيِّ، وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ، وَالْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ لِلْمَالِ تَبَرُّعٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ لِلْحَالِ؛ فَكَانَ تَبَرُّعًا لِلْحَالِ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا مِمَّنْ يَجُوزُ مِنْهُ التَّبَرُّعُ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ؛ فَلَا يَمْلِكُونَ الْقَرْضَ. (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُقْرَضِ: فَمِنْهَا

الْقَبْض؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ هُوَ الْقَطْعُ فِي اللُّغَةِ، سُمِّيَ هَذَا الْعَقْدُ قَرْضًا لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ طَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ، وَذَلِكَ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ؛ فَكَانَ مَأْخَذُ الِاسْمِ دَلِيلًا عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ كَالْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، فَلَا يَجُوزُ قَرْضُ مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ الْمَذْرُوعَاتِ، وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ رَدِّ الْعَيْنِ وَلَا إلَى إيجَابِ رَدِّ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِاخْتِلَافِ الْقِيمَةِ بِاخْتِلَافِ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ؛ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ فِيهِ رَدَّ الْمِثْلِ؛ فَيَخْتَصُّ جَوَازُهُ بِمَا لَهُ مِثْلٌ. وَلَا يَجُوزُ الْقَرْضُ فِي الْخُبْزِ - لَا وَزْنًا، وَلَا عَدَدًا - عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ عَدَدًا، وَمَا قَالَاهُ هُوَ الْقِيَاسُ؛ لِتَفَاوُتٍ فَاحِشٍ بَيْنَ خُبْزٍ، وَخُبْزٍ لِاخْتِلَافِ الْعَجْنِ، وَالنُّضْجِ، وَالْخِفَّةِ، وَالثِّقَلِ فِي الْوَزْنِ، وَالصِّغَرِ، وَالْكِبَرِ فِي الْعَدَدِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ السَّلَمُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ، فَالْقَرْضُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ السَّلَمَ أَوْسَعُ جَوَازًا مِنْ الْقَرْضِ، وَالْقَرْضُ أَضْيَقُ مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الثِّيَابِ وَلَا يَجُوزُ الْقَرْضُ فِيهَا فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ السَّلَمُ فِيهِ؛ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ الْقَرْضُ أَوْلَى إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَحْسَنَ فِي جَوَازِهِ عَدَدًا؛ لِعُرْفِ النَّاسِ، وَعَادَاتِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَتَرَكَ الْقِيَاسَ؛ لِتَعَامُلِ النَّاسِ فِيهِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ يُقْرِضُونَ الرَّغِيفَ، فَيَأْخُذُونَ أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَيَجُوزُ الْقَرْضُ فِي الْفُلُوسِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالْجَوْزِ، وَالْبَيْضِ، وَلَوْ اسْتَقْرَضَ فُلُوسًا، فَكَسَدَتْ؛ فَعَلَيْهِ مِثْلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - عَلَيْهِ قِيمَتُهَا. (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي بَابِ الْقَرْضِ رَدُّ مِثْلِ الْمَقْبُوضِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ كَانَ ثَمَنًا، وَقَدْ بَطَلَتْ الثَّمَنِيَّةَ بِالْكَسَادِ، فَعَجَزَ عَنْ رَدِّ الْمِثْلِ؛ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ اسْتَقْرَضَ رُطَبًا، فَانْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ؛ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ؛ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رَدَّ الْمِثْلِ كَانَ وَاجِبًا، وَالْفَائِتُ بِالْكَسَادِ لَيْسَ إلَّا وَصْفُ الثَّمَنِيَّةِ، وَهَذَا وَصْفٌ لَا تَعَلُّقَ لِجَوَازِ الْقَرْضِ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ بَعْدَ الْكَسَادِ ابْتِدَاءً -، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ كَوْنِهِ ثَمَنًا، فَلَأَنْ يَجُوزَ بَقَاءُ الْقَرْضِ فِيهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الدَّرَاهِمِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَيْهَا الْغِشُّ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْفُلُوسِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَنْكَرَ اسْتِقْرَاضَ الدَّرَاهِمِ الْمُكَحَّلَةِ، وَالْمُزَيَّفَةِ. وَكَرِهَ إنْفَاقَهَا -، وَإِنْ كَانَتْ تُنْفَقُ بَيْنَ النَّاسِ - لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْعَامَّةِ، وَإِذَا نُهِيَ عَنْهَا. وَكَسَدَتْ؛ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْفُلُوسِ إذَا كَسَدَتْ. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَرَاهِمُ جِيَادٌ، فَأَخَذَ مِنْهُ مُزَيَّفَةً أَوْ مُكَحَّلَةً أَوْ زُيُوفًا أَوْ بَهْرَجَةً أَوْ سَتُّوقَةً؛ جَازَ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بِدُونِ حَقِّهِ؛ فَكَانَ كَالْحَطِّ عَنْ حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَرْضَى بِهِ، وَأَنْ يُنْفِقَهُ -، وَإِنْ بَيَّنَ وَقْتَ الْإِنْفَاقِ - إذْ لَا يَخْلُو عَنْ ضَرَرِ الْعَامَّةِ بِالتَّلْبِيسِ، وَالتَّدْلِيسِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: كُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ، وَيُعَاقَبَ صَاحِبُهُ إذَا أَنْفَقَهُ، وَهُوَ يَعْرِفُهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ احْتِسَابٌ حَسَنٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَلَوْ اسْتَقْرَضَ دَرَاهِمَ تِجَارِيَّةً، فَالْتَقَيَا فِي بَلَدٍ لَا يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى التِّجَارِيَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ تُنْفَقُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ؛ فَصَاحِبُ الْحَقِّ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ انْتَظَرَ مَكَانَ الْأَدَاءِ، وَإِنْ شَاءَ أَجَّلَهُ قَدْرَ الْمَسَافَةِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا، وَاسْتَوْثَقَ مِنْهُ بِكَفِيلٍ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ نَافِقَةً لَمْ تَتَغَيَّرْ؛ بَقِيَتْ فِي الذِّمَّةِ كَمَا كَانَتْ. وَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ، إنْ شَاءَ لَمْ يَرْضَ بِالتَّأْخِيرِ، وَأَخَذَ الْقِيمَةَ؛ لِمَا فِي التَّأْخِيرِ مِنْ تَأْخِيرِ حَقِّهِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِ كَمَنْ عَلَيْهِ الرُّطَبُ إذَا انْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ، أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ صَاحِبَهُ بَيْنَ التَّرَبُّصِ، وَالِانْتِظَارِ لِوَقْتِ الْإِدْرَاكِ، وَبَيْنَ أَخْذِ الْقِيمَةِ لِمَا قَالُوا، كَذَا هَذَا. وَإِنْ كَانَ لَا يُنْفَقُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ؛ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَرْضِ: فَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ جَرُّ مَنْفَعَةٍ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَجُزْ، نَحْوُ مَا إذَا أَقْرَضَهُ دَرَاهِمَ غَلَّةٍ، عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ صِحَاحًا، أَوْ أَقْرَضَهُ وَشَرَطَ شَرْطًا لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا» ؛ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمَشْرُوطَةَ تُشْبِهُ الرِّبَا؛ لِأَنَّهَا فَضْلٌ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ حَقِيقَةِ الرِّبَا، وَعَنْ شُبْهَةِ الرِّبَا وَاجِبٌ هَذَا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ مَشْرُوطَةً فِي الْقَرْضِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ غَيْرَ مَشْرُوطَةٍ فِيهِ وَلَكِنَّ الْمُسْتَقْرِضَ أَعْطَاهُ أَجْوَدَهُمَا؛ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرِّبَا اسْمٌ لِزِيَادَةٍ مَشْرُوطَةٍ فِي الْعَقْدِ، وَلَمْ تُوجَدْ، بَلْ هَذَا مِنْ بَابِ حُسْنِ الْقَضَاءِ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خِيَارُ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» . «وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عِنْدَ قَضَاءِ دَيْنٍ لَزِمَهُ - لِلْوَازِنِ: زِنْ، وَأَرْجِحْ» . وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ مَسْأَلَةُ السَّفَاتِجِ، الَّتِي يَتَعَامَلُ بِهَا التُّجَّارُ، أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ؛ لِأَنَّ التَّاجِرَ يَنْتَفِعُ بِهَا بِإِسْقَاطِ خَطَرِ الطَّرِيقِ؛ فَتُشْبِهُ قَرْضًا جَرَّ نَفْعًا فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقْرِضُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ بِالْكُوفَةِ، وَهَذَا انْتِفَاعٌ بِالْقَرْضِ بِإِسْقَاطِ

فصل في حكم القرض

خَطَرِ الطَّرِيقِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ السَّفْتَجَةَ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوطَةً فِي الْقَرْضِ مُطْلَقًا، ثُمَّ تَكُونُ السَّفْتَجَةُ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَالْأَجَلُ لَا يَلْزَمُ فِي الْقَرْضِ - سَوَاءٌ كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ أَوْ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ - بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ، وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ الْقَرْضَ تَبَرُّعٌ. أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ لِلْحَالِ. وَكَذَا لَا يَمْلِكُهُ مَنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ؛ فَلَوْ لَزِمَ فِيهِ الْأَجَلُ؛ لَمْ يَبْقَ تَبَرُّعًا؛ فَيَتَغَيَّرُ الْمَشْرُوطُ، بِخِلَافِ الدُّيُونِ -، وَالثَّانِي - أَنَّ الْقَرْضَ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُ الْعَارِيَّةِ، وَالْأَجَلُ لَا يَلْزَمُ فِي الْعَوَارِيّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكُ الْعَارِيَّةِ: أَنَّهُ لَا يَخْلُو، إمَّا أَنْ يُسْلَكَ بِهِ مَسْلَكُ الْمُبَادَلَةِ -، وَهِيَ تَمْلِيكُ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ - أَوْ يُسْلَكَ بِهِ مَسْلَكُ الْعَارِيَّةِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِمِثْلِهِ نَسِيئَةً، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ عَارِيَّةً؛ فَجُعِلَ التَّقْدِيرُ كَأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ انْتَفَعَ بِالْعَيْنِ مُدَّةً، ثُمَّ رَدَّ عَيْنَ مَا قَبَضَ، وَإِنْ كَانَ يَرُدُّ بَدَلَهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَجُعِلَ رَدُّ بَدَلِ الْعَيْنِ بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْعَيْنِ - بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ - وَقَدْ يَلْزَمُ الْأَجَلُ فِي الْقَرْضِ بِحَالٍ؛ بِأَنْ يُوصِيَ بِأَنْ يُقْرِضَ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فُلَانًا أَلْفَ دِرْهَمٍ، إلَى سَنَةٍ، فَإِنَّهُ يُنَفِّذُ وَصِيَّتَهُ، وَيُقْرِضُ مِنْ مَالِهِ - كَمَا أَمَرَ -، وَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يُطَالِبُوا قَبْلَ السَّنَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ [فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْقَرْضِ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا حُكْمُ الْقَرْضِ فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُسْتَقْرِضِ فِي الْمُقْرَضِ لِلْحَالِ، وَثُبُوتُ مِثْلِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَقْرِضِ لِلْمُقْرِضِ لِلْحَالِّ، وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي النَّوَادِرِ لَا يُمْلَكُ الْقَرْضُ بِالْقَبْضِ مَا لَمْ يُسْتَهْلَكْ. حَتَّى لَوْ أَقْرَضَ كُرًّا مِنْ، طَعَامٍ وَقَبَضَهُ الْمُسْتَقْرِضُ، ثُمَّ إنَّهُ اشْتَرَى الْكُرَّ الَّذِي عَلَيْهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ جَازَ الْبَيْعُ، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُقْرِضَ بَاعَ الْمُسْتَقْرِضَ الْكُرَّ الَّذِي عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْكُرُّ؛ فَكَانَ هَذَا بَيْعَ الْمَعْدُومِ؛ فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ الْكُرَّ الَّذِي فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ كُرٌّ، وَجَازَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مَا فِي ذِمَّتِهِ؛ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ الْكُرَّ الَّذِي فِي الْبَيْتِ، وَفِي الْبَيْتِ كُرٌّ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْكُرُّ الْمُقْرَضُ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُسْتَقْرِضِ؛ كَانَ الْمُسْتَقْرِضُ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ دَفَعَ إلَيْهِ هَذَا الْكُرَّ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ إلَيْهِ كُرًّا آخَرَ. وَلَوْ أَرَادَ الْمُقْرِضُ أَنْ يَأْخُذَ هَذَا الْكُرَّ مِنْ الْمُسْتَقْرِضِ، وَأَرَادَ الْمُسْتَقْرِضُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَيُعْطِيَهُ كُرًّا آخَرَ مِثْلَهُ؛ لَهُ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي النَّوَادِرِ أَنْ لَا خِيَارَ لِلْمُسْتَقْرِضِ، وَيُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ ذَلِكَ الْكُرِّ إذَا طَالَبَ بِهِ الْمُقْرِضُ، وَعَلَى هَذَا فُرُوعٌ ذُكِرَتْ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ. (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الْإِقْرَاضَ إعَارَةٌ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِيهِ الْأَجَلُ، وَلَوْ كَانَ مُعَاوَضَةً لَلَزِمَ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ. وَكَذَا لَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ، وَالْوَصِيُّ، وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ، وَالْمُكَاتَبُ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُونَ الْمُعَاوَضَاتِ. وَكَذَا إقْرَاضُ الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ لَا يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مُبَادَلَةً لَبَطَلَ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ، وَالصَّرْفُ يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ. وَكَذَا إقْرَاضُ الْمَكِيلِ لَا يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ وَلَوْ كَانَ مُبَادَلَةً لَبَطَلَ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَكِيلِ بِمَكِيلٍ مِثْلِهِ فِي الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ؛ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ الْإِقْرَاضَ إعَارَةٌ، فَبَقِيَ الْعَيْنُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُقْرِضِ. (وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ بِنَفْسِ الْقَبْضِ صَارَ بِسَبِيلٍ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْقَرْضِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمُقْرِضِ بَيْعًا، وَهِبَةً وَصَدَقَةً، وَسَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِذَا تَصَرَّفَ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُقْرِضِ، وَهَذِهِ أَمَارَاتُ الْمِلْكِ. وَكَذَا مَأْخَذُ الِاسْمِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْقَرْضَ قَطْعٌ، فِي اللُّغَةِ؛ فَيَدُلُّ عَلَى انْقِطَاعِ مِلْكِ الْمُقْرِضِ بِنَفْسِ التَّسْلِيمِ. (وَأَمَّا) قَوْلُهُ: إعَارَةٌ، وَالْإِعَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ لَا تَمْلِيكُ الْعَيْنِ، فَنَعَمْ، لَكِنْ مَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ بِقِيَامِ عَيْنِهِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ صَارَ قَبْضُ الْعَيْنِ قَائِمًا مَقَامَ قَبْضِ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَنْفَعَةُ فِي بَابِ " الْإِعَارَةُ تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ "؛ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ بِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ، فَكَذَا مَا هُوَ مُلْحَقٌ بِهَا، وَهُوَ الْعَيْنُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ

§1/1